الكامل في التاريخ

ابن الأثير، أبو الحسن

مقدمة المؤلف

[مقدمة المؤلف] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْقَدِيمِ فَلَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ الدَّائِمِ الْكَرِيمِ فَلَا آخِرَ لِبَقَائِهِ وَلَا نِهَايَةَ لِجُودِهِ الْمَلِكِ حَقًّا فَلَا تُدْرِكُ الْعُقُولُ حَقِيقَةَ كُنْهِهِ الْقَادِرِ فَكُلُّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنْ أَثَرِ قُدْرَتِهِ الْمُقَدَّسِ فَلَا تَقْرَبُ الْحَوَادِثُ حِمَاهُ الْمُنَزَّهِ عَنِ التَّغْيِيرِ فَلَا يَنْجُو مِنْهُ سِوَاهُ مُصَرِّفِ الْخَلَائِقِ بَيْنَ رَفْعٍ وَخَفْضٍ وَبَسْطٍ وَقَبْضٍ وَإِبْرَامٍ وَنَقْضٍ وَإِمَاتَةٍ وَإِحْيَاءٍ وَإِيجَادٍ وَإِفْنَاءٍ وَإِسْعَادٍ وَإِضْلَالٍ وَإِعْزَازٍ وَإِذْلَالٍ يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مُبِيدِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ وَالْأُمَمِ الْخَالِفَةِ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْهُ مَا اتَّخَذُوهُ مَعْقَلًا وَحِرْزًا فَـ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] ، بِتَقْدِيرِهِ النَّفْعُ وَالضَّرُّ (لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَوْلَى مِنْ نِعَمِهِ وَأَجْذَلَ لِلنَّاسِ مِنْ قَسْمِهِ وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ الْمَبْعُوثِ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَعْلَامِ الْهُدَى وَمَصَابِيحِ الظُّلَمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي لَمْ أَزَلْ مُحِبًّا لِمُطَالَعَةِ كُتُبِ التَّوَارِيخِ وَمَعْرِفَةِ مَا فِيهَا مُؤْثِرًا لِلِاطِّلَاعِ عَلَى الْجَلِيِّ مِنْ حَوَادِثِهَا وَخَافِيهَا، مَائِلًا إِلَى الْمَعَارِفِ وَالْآدَابِ وَالتَّجَارِبِ الْمُودَعَةِ فِي مَطَاويهَا، فَلَمَّا تَأَمَّلْتُهَا رَأَيْتُهَا مُتَبَايِنَةً فِي تَحْصِيلِ الْغَرَضِ يَكَادُ جَوْهَرُ الْمَعْرِفَةِ بِهَا يَسْتَحِيلُ

إِلَى الْعَرَضِ، فَمِنْ بَيْنِ مُطَوِّلٍ قَدِ اسْتَقْصَى الطُّرُقَ وَالرِّوَايَاتِ، وَمُخْتَصِرٍ قَدْ أَخَلَّ بِكَثِيرٍ مِمَّا هُوَ آتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكَ كُلُّهُمُ الْعَظِيمَ مِنَ الْحَادِثَاتِ وَالْمَشْهُورَ مِنَ الْكَائِنَاتِ، وَسَوَّدَ كَثِيرٌ مِنْهُمُ الْأَوْرَاقَ بِصَغَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي الْإِعْرَاضُ عَنْهَا أَوْلَى، وَتَرْكُ تَسْطِيرِهَا أَحْرَى، كَقَوْلِهِمْ خُلِعَ فُلَانٌ الذِّمِّيُّ صَاحِبُ الْعِيَارِ وَزَادَ رَطْلًا فِي الْأَسْعَارِ، وَأُكْرِمَ فُلَانٌ وَأُهِينَ فُلَانٌ، وَقَدْ أَرَّخَ كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى زَمَانِهِ وَجَاءَ بَعْدَهُ مَنْ ذَيَّلَ عَلَيْهِ وَأَضَافَ الْمُتَجَدِّدَاتِ بَعْدَ تَارِيخِهِ إِلَيْهِ. وَالشَّرْقِيُّ مِنْهُمْ قَدْ أَخَلَّ بِذِكْرِ أَخْبَارِ الْغَرْبِ، وَالْغَرْبِيُّ قَدْ أَهْمَلَ أَحْوَالَ الشَّرْقِ؛ فَكَانَ الطَّالِبُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَالِعَ تَارِيخًا مُتَّصِلًا إِلَى وَقْتِهِ يَحْتَاجُ إِلَى مُجَلَّدَاتٍ كَثِيرَةٍ وَكُتُبٍ مُتَعَدِّدَةٍ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْإِخْلَالِ وَالْإِمْلَالِ. فَلَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ كَذَلِكَ شَرَعْتُ فِي تَأْلِيفِ تَارِيخٍ جَامِعٍ لِأَخْبَارِ مُلُوكِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ وَمَا بَيْنَهُمَا، لِيَكُونَ تَذْكِرَةً لِي أُرَاجِعُهُ خَوْفَ النِّسْيَانِ، وَآتِي فِيهِ بِالْحَوَادِثِ وَالْكَائِنَاتِ مِنْ أَوَّلِ الزَّمَانِ، مُتَتَابِعَةً يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا إِلَى وَقْتِنَا هَذَا. وَلَا أَقُولُ إِنِّي أَتَيْتُ عَلَى جَمِيعِ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّارِيخِ، فَإِنَّ مَنْ هُوَ بِالْمَوْصِلِ لَا بُدَّ أَنْ يَشِذَّ عَنْهُ مَا هُوَ بِأَقْصَى الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ وَلَكِنْ أَقُولُ إِنَّنِي قَدْ جَمَعْتُ فِي كِتَابِي هَذَا مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي كِتَابٍ وَاحِدٍ وَمَنْ تَأَمَّلَهُ عَلِمَ صِحَّةَ ذَلِكَ. فَابْتَدَأْتُ بِالتَّارِيخِ الْكَبِيرِ الَّذِي صَنَّفَهُ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ إِذْ هُوَ الْكِتَابُ الْمُعَوَّلُ عِنْدَ الْكَافَّةِ عَلَيْهِ وَالْمَرْجُوعُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ إِلَيْهِ، فَأَخَذْتُ مَا فِيهِ مِنْ جَمِيعِ

تَرَاجِمِهِ لَمْ أُخِلَّ بِتَرْجَمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَقَدْ ذَكَرَ هُوَ فِي أَكْثَرِ الْحَوَادِثِ رِوَايَاتٍ ذَوَاتَ عَدَدٍ كُلُّ رِوَايَةٍ مِنْهَا مِثْلُ الَّتِي قَبْلَهَا أَوْ أَقَلُّ مِنْهَا وَرُبَّمَا زَادَ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ أَوْ نَقَصَهُ فَقَصَدْتُ أَتَمَّ الرِّوَايَاتِ فَنَقَلْتُهَا وَأَضَفْتُ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِهَا مَا لَيْسَ فِيهَا وَأَوْدَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مَكَانَهُ فَجَاءَ جَمِيعُ مَا فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ عَلَى اخْتِلَافِ طُرُقِهَا سِيَاقًا وَاحِدًا عَلَى مَا تَرَاهُ. فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهُ وَأَخَذْتُ غَيْرَهُ مِنَ التَّوَارِيخِ الْمَشْهوُرَةِ فَطَالَعْتُهَا وَأَضَفْتُ مِنْهَا إِلَى مَا نَقَلْتُهُ مِنْ تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ مَا لَيْسَ فِيهِ وَوَضَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا مَوْضِعَهُ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا جَرَى بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنِّي لَمْ أُضِفْ إِلَى مَا نَقَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ شَيْئًا إِلَّا مَا فِيهِ زِيَادَةُ بَيَانٍ أَوِ اسْمُ إِنْسَانٍ أَوْ مَا لَا يُطْعَنُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي نَقْلِهِ، وَإِنَّمَا اعْتَمَدْتُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِ الْمُؤَرِّخِينَ إِذْ هُوَ الْإِمَامُ الْمُتْقِنُ حَقًّا الْجَامِعُ عِلْمًا وَصِحَّةَ اعْتِقَادٍ وَصِدْقًا. عَلَى أَنِّي لَمْ أَنْقُلْ إِلَّا مِنَ التَّوَارِيخِ الْمَذْكُورَةِ وَالْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ مِمَّنْ يُعْلَمُ بِصِدْقِهِمْ فِيمَا نَقَلُوهُ وَصِحَّةِ مَا دَوَّنُوهُ، وَلَمْ أَكُنْ كَالْخَابِطِ فِي ظَلْمَاءِ اللَّيَالِي وَلَا كَمَنْ يَجْمَعُ الْحَصْبَاَ وَاللَّآلِيَ. وَرَأَيْتُهُمْ أَيْضًا يَذْكُرُونَ الْحَادِثَةَ الْوَاحِدَةَ فِي سِنِينَ وَيَذْكُرُونَ مِنْهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ أَشْيَاءَ فَتَأْتِي الْحَادِثَةُ مُقَطَّعَةً لَا يُحْصَلُ مِنْهَا عَلَى غَرَضٍ وَلَا تُفْهَمُ إِلَّا بَعْدَ إِمْعَانِ النَّظَرِ، فَجَمَعْتُ أَنَا الْحَادِثَةَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَذَكَرْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا فِي أَيِّ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ كَانَتْ فَأَتَتْ مُتَنَاسِقَةً مُتَتَابِعَةً قَدْ أَخَذَ بَعْضُهَا بِرِقَابِ بَعْضٍ. وَذَكَرْتُ فِي كُلِّ سَنَةٍ لِكُلِّ حَادِثَةٍ كَبِيرَةٍ مَشْهُورَةٍ تَرْجَمَةً تَخُصُّهَا فَأَمَّا الْحَوَادِثُ

الصِّغَارُ الَّتِي لَا يُحْتَمَلُ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ تَرْجَمَةً فَإِنَّنِي أَفْرَدْتُ لِجَمِيعِهَا تَرْجَمَةً وَاحِدَةً فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ فَأَقُولُ: ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَإِذَا ذَكَرْتُ بَعْضَ مَنْ نَبَغَ وَمَلَكَ قُطْرًا مِنَ الْبِلَادِ وَلَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ فَإِنِّي أَذْكُرُ جَمِيعَ حَالِهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ لِأَنَّ إِذَا تَفَرَّقَ خَبَرُهُ لَمْ يُعْرَفْ لِلْجَهْلِ بِهِ. وَذَكَرْتُ فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنْ مَشْهُورِي الْعُلَمَاءِ وَالْأَعْيَانِ وَالْفُضَلَاءِ وَضَبَطْتُ الْأَسْمَاءَ الْمُشْتَبِهَةَ الْمُؤْتَلِفَةَ فِي الْخَطِّ الْمُخْتَلِفَةَ فِي اللَّفْظِ الْوَارِدَةَ فِيهِ بِالْحُرُوفِ ضَبْطًا يُزِيلُ الْإِشْكَالَ وَيُغْنِي عَنِ الْإِنْقَاطِ وَالْأَشْكَالِ. فَلَمَّا جَمَعْتُ أَكْثَرَهُ أَعْرَضْتُ عَنْهُ مُدَّةً طَوِيلَةً لِحَوَادِثَ تَجَدَّدَتْ وَقَوَاطِعَ تَوَالَتْ وَتَعَدَّدَتْ وَلِأَنَّ مَعْرِفَتِي بِهَذَا النَّوْعِ كَمُلَتْ وَتَمَّتْ. ثُمَّ إِنَّ نَفَرًا مِنْ إِخْوَانِي وَذَوِي الْمَعَارِفِ وَالْفَضَائِلِ مِنْ خُلَّانِي مِمَّنْ أَرَى مُحَادَثَتَهُمْ نِهَايَةَ أَوْطَارِي وَأَعُدُّهُمْ مِنْ أَمَاثِلِ مُجَالِسِيَّ وَسُمَّارِي رَغِبُوا إِلَيَّ فِي أَنْ يَسْمَعُوهُ مِنِّي لِيَرْوُوهُ عَنِّي فَاعْتَذَرْتُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَعَدَمِ الْفَرَاغِ مِنْهُ، فَإِنَّنِي لَمْ أُعَاوِدْ مُطَالَعَةَ مُسَوَّدَتِهِ وَلَمْ أُصْلِحْ مَا أُصْلِحَ فِيهَا مِنْ غَلَطٍ وَسَهْوٍ وَلَا أَسْقَطْتُ مِنْهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَى إِسْقَاطٍ وَمَحْوٍ، وَطَالَتِ الْمُرَاجَعَةُ مُدَّةً وَهُمْ لِلطَّلَبِ مُلَازِمُونَ وَعَنِ الْإِعْرَاضِ مُعْرِضُونَ وَشَرَعُوا فِي سَمَاعِهِ قَبْلَ إِتْمَامِهِ وَإِصْلَاحِهِ وَإِثْبَاتِ مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَحَذْفِ مَا لَا بُدَّ مِنِ اطِّرَاحِهِ وَالْعَزْمُ عَلَى إِتْمَامِهِ فَاتِرٌ وَالْعَجْزُ ظَاهِرٌ لِلِاشْتِغَالِ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِعَدَمِ الْمُعِينِ وَالْمُظَاهِرِ وَلِهُمُومٍ تَوَالَتْ وَنَوَائِبَ تَتَابَعَتْ فَأَنَا مُلَازِمُ الْإِهْمَالِ والتَّوَانِي، فَلَا أَقُولُ: إِنِّي لَأَسِيرُ إِلَيْهِ سَيْرَ الشَّوَانِي. فَبَيْنَمَا الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِذْ بَرَزَ أَمْرُ مَنْ طَاعَتُهُ فَرْضٌ وَاجِبٌ وَاتِّبَاعُ أَمْرِهِ حُكْمٌ لَازِبٌ، مَنْ

أَعْلَاقُ الْفَضْلِ بِإِقْبَالِهِ عَلَيْهَا نَافِقَةٌ وَأَرْوَاحُ الْجَهْلِ بِإِعْرَاضِهِ عَنْهَا نَافِقَةٌمَنْ أَحْيَا الْمَكَارِمَ وَكَانَتْ أَمْوَاتًا وَأَعَادَهَا خَلْقًا جَدِيدًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ رُفَاتًا مَنْ عَمَّ رَعِيَّتَهُ عَدْلُهُ وَنَوَالُهُ وَشَمَلَهُمْ إِحْسَانُهُ وَإِفْضَالُهُ، مَوْلَانَا مَالِكُ الْمُلْكِ الرَّحِيمُ الْعَالِمُ الْمُؤَيَّدُ الْمَنْصُورُ الْمُظَفَّرُ بَدْرُ الدِّينِ رُكْنُ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مُحْيِي الْعَدْلِ فِي الْعَالَمِينَ خَلَّدَ اللَّهُ دَوْلَتَهُ. فَحِينَئِذٍ أَلْقَيْتُ عَنِّي جِلْبَابَ الْمَهَلِ وَأَبْطَلْتُ رِدَاءَ الْكَسَلِ وَأَلْقَيْتُ الدَّوَاةَ وَأَصْلَحْتُ الْقَلَمَ وَقُلْتُ: هَذَا أَوَانُ الشَّدِّ فَاشْتَدِّي زِيَمْ وَجَعَلْتُ الْفَرَاغَ أَهَمَّ مَطْلَبٍ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًايَّأَ لَهُ السَّبَبَ وَشَرَعْتُ فِي إِتْمَامِهِ مُسَابِقًا، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ السِّكِّيتَ يَرُومُ أَنْ يَجِيءَ سَابِقًا وَنَصَبْتُ نَفْسِي غَرَضًا لِلسِّهَامِ وَجَعَلْتُهَا مَظَنَّةً لِأَقْوَالِ اللُّوَّامِ لِأَنَّ الْمَآخِذَ إِذَا كَانَتْ تَتَطَرَّقُ إِلَى التَّصْنِيفِ الْمُهَذَّبِ وَالِاسْتِدْرَاكَاتِ تَتَعَلَّقُ بِالْمَجْمُوعِ الْمُرَتَّبِ الَّذِي تَكَرَّرَتْ مُطَالَعَتُهُ وَتَنْقِيحُهُ وَأُجِيدَ تَأْلِيفُهُ وَتَصْحِيحُهُ فَهِيَ بِغَيْرِهِ أَوْلَى وَبِهِ أَحْرَى عَلَى أَنِّي مُقِرٌّ بِالتَّقْصِيرِ فَلَا أَقُولُ إِنَّ الْغَلَطَ سَهْوٌ جَرَى بِهِ الْقَلَمُ، بَلْ أَعْتَرِفُ بِأَنَّ مَا أَجْهَلُ أَكْثَرُ مِمَّا أَعْلَمُ. وَقَدْ سَمَّيْتُهُ اسْمًا يُنَاسِبُ مَعْنَاهُ وَهُوَ: الْكَامِلُ فِي التَّارِيخِ وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَمَاعَةً مِمَّنْ يَدَّعِي الْمَعْرِفَةَ وَالدِّرَايَةَ وَيَظُنُّ بِنَفْسِهِ التَّبَحُّرَ فِي الْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ يَحْتَقِرُ التَّوَارِيخَ وَيَزْديهَا وَيُعْرِضُ عَنْهَا وَيَلْغِيهَا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ غَايَةَ فَائِدَتِهَا إِنَّمَا هُوَ الْقِصَصُ وَالْأَخْبَارُ، وَنِهَايَةُ مَعْرِفَتِهَا الْأَحَادِيثُ وَالْأَسْمَارُ وَهَذِهِ حَالُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْقِشْرِ دُونَ اللُّبِّ نَظَرُهُ، وَأَصْبَحَ مُخْشَلَبًا جَوْهَرُهُ، وَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ طَبْعًا سَلِيمًا وَهَدَاهُ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا عَلِمَ أَنَّ فَوَائِدَهَا كَثِيرَةٌ وَمَنَافِعَهَا الدُّنْيَوِيَّةَ وَالْأُخْرَوِيَّةَ جَمَّةٌ غَزِيرَةٌ، وَهَا نَحْنُ نَذْكُرُ شَيْئًا مِمَّا ظَهَرَ لَنَا فِيهَا وَنَكِلُ إِلَى قَرِيحَةِ النَّاظِرِ فِيهِ مَعْرِفَةَ بَاقِيهَا. فَأَمَّا فَوَائِدُهَا الدُّنْيَوِيَّةُ فَمِنْهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يُحِبُّ الْبَقَاءَ وَيُؤْثِرُ أَنْ يَكُونَ

فِي زُمْرَةِ الْأَحْيَاءِ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي! أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَا رَآهُ أَمْسِ أَوْ سَهُ وَبَيْنَ مَا قَرَأَهُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَضَمِّنَةِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ وَحَوَادِثَ الْمُتَقَدِّمِينَ؟ فَإِذَا طَالَعَهَا فَكَأَنَّهُ عَاصَرَهُمْ، وَإِذَا عَلِمَهَا فَكَأَنَّهُ حَاضَرَهُمْ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُلُوكَ وَمَنْ إِلَيْهِمُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِذَا وَقَفُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ سِيرَةِ أَهْلِ الْجَوْرِ وَالْعُدْوَانِ وَرَآهَا مُدَوَّنَةً فِي الْكُتُبِ يَتَنَاقَلُهَا النَّاسُ فَيَرْوِيهَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، وَنَظَرُوا إِل مَا أَعْقَبَتْ مِنْ سُوءِ الذِّكْرِ وَقَبِيحِ الْأُحْدُوثَةِ وَخَرَابِ الْبِلَادِ وَهَلَاكِ الْعِبَادِ وَذَهَابِ الْأَمْوَالِ وَفَسَادِ الْأَحْوَالِ اسْتَقْبَحُوهَا وَأَعْرَضُوا عَنْهَا وَاطَّرَحُوهَا. وَإِذَا رَأَوْا سِيرَةَ الْوُلَاةِ الْعَادِلِينَ وَحُسْنَهَا وَمَا يَتْبَعُهُمْ مِنَ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ بَعْدَ ذَهَابِهِمْ، وَأَنَّ بِلَادَهُمْ وَمَمَالِكَهُمْ عَمَرَتْ وَأَمْوَالُهُمْ دَرَّتِ اسْتَحْسَنُوا ذَلِكَ وَرَغِبُوا فِيهِ وَثَابَرُوا عَلَيْهِ وَتَرَكُوا مَا يُنَافِيهِ هَذَا سِوَى مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ الْآرَاءِ الصَّائِبَةِ الَّتِي دَفَعُوا بِهَا مَضَرَّاتِ الْأَعْدَاءِ وَخَلَصُوا بِهَا مِنَ الْمَهَالِكِ وَاسْتَصَانُوا نَفَائِسَ الْمُدُنِ وَعَظِيمَ الْمَمَالِكِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا غَيْرُ هَذَا لَكَفَى بِهِ فَخْرًا. وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ مِنَ التَّجَارِبِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْحَوَادِثِ وَمَا تَصِيرُ إِلَيْهِ عَوَاقِبُهَا، فَإِنَّهُ لَا يَحْدُثُ أَمْرٌ إِلَّا قَدْ تَقَدَّمَ هُوَ أَوْ نَظِيرُهُ فَيَزْدَادُ بِذَلِكَ عَقْلًا وَيُصْبِحُ لِأَنْ يُقْتَدَى بِهِ أَهْلًا، وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ حَيْثُ يَقُولُ شِعْرًا: رَأَيْتُ الْعَقْلَ عَقْلَيْنِ ... فَمَطْبُوعٌ وَمَسْمُوعُ فَلَا يَنْفَعُ مَسْمُوعٌ ... إِذَا لَمْ يَكُ مَطْبُوعُ كَمَا لَا تَنْفَعُ الشَّمْسُ ... وُضَوْءُ الْعَيْنِ مَمْنُوعُ يَعْنِي بِالْمَطْبُوعِ الْعَقْلَ الْغَرِيزِيَّ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْإِنْسَانِ وَبِالْمَسْمُوعِ مَا يَزْدَادُ بِهِ الْعَقْلُ الْغَرِيزِيُّ مِنَ التَّجْرِبَةِ وَجَعَلَهُ عَقْلًا ثَانِيًا تَوَسُّعًا وَتَعْظِيمًا لَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي عَقْلِهِ الْأَوَّلِ. وَمِنْهَا مَا يَتَجَمَّلُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي الْمَجَالِسِ وَالْمَحَافِلِ مِنْ ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ مَعَارِفِهَا وَنَقْلِ طَرِيفَةٍ مِنْ طَرَائِفِهَا فَتَرَى الْأَسْمَاعَ مُصْغِيَةً إِلَيْهِ وَالْوُجُوهَ مُقْبِلَةً عَلَيْهِ وَالْقُلُوبَ مُتَأَمِّلَةً مَايُورِدُهُ وَيُصْدِرُهُ مُسْتَحْسِنَةً مَا يَذْكُرُهُ.

وَأَمَّا الْفَوَائِدُ الْأُخْرَوِيَّةُ: فَمِنْهَا أَنَّ الْعَاقِلَ اللَّبِيبَ إِذَا تَفَكَّرَ فِيهَا وَرَأَى تَقَلُّبَ الدُّنْيَا بِأَهْلِهَا وَتَتَابُعَ نَكَبَاتِهَا إِلَى أَعْيَانِ قَاطِنِيهَا، وَأَنَّهَا سَلَبَتْ نُفُوسَه وَذَخَائِرَهُمْ وَأَعْدَمَتْ أَصَاغِرَهُمْ وَأَكَابِرَهُمْ فَلَمْ تُبْقِ عَلَى جَلِيلٍ وَلَا حَقِيرٍ وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ نَكَدِهَا غَنِيٌّ وَلَا فَقِيرٌ، زَهَدَ فِيهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا وَأَقْبَلَ عَلَى التَّزَوُّدِ لِلْآخِرَةِ مِنْهَا، وَرَغِبَ فِي دَارٍ تَنَزَّهَتْ عَنْ هَذِهِ الْخَصَائِصِ وَسَلِمَ أَهْلُهَا مِنْ هَذِهِ النَّقَائِصِ، وَلَعَلَّ قَائِلًا يَقُولُ: مَا نَرَى نَاظِرًا فِيهَا زَهَدَ فِي الدُّنْيَا وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخِرَةِ وَرَغِبَ فِي دَرَجَاتِهَا الْعُلْيَا، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَمْ رَأَى هَذَا الْقَائِلُ قَارِئًا لِلْقُرْآنِ الْعَزِيزِ وَهُوَ سَيِّدُ الْمَوَاعِظِ وَأَفْصَحُ الْكَلَامِ يَطْلُبُ بِهِ الْيَسِيرَ مِنْ هَذَا الْحُطَامِ فَإِنَّ الْقُلُوبَ مُولَعَةٌ بِحُبِّ الْعَاجِلِ. وَمِنْهَا التَّخَلُّقُ بِالصَّبْرِ وَالتَّأَسِّي وَهُمَا مِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ إِذَا رَأَى أَنَّ مُصَابَ الدُّنْيَا لَمْ يَسْلَمْ مِنْهُ نَبِيٌّ مُكَرَّمٌ وَلَا مَلِكٌ مُعَظَّمٌ بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ عَلِمَ أَنَّهُ يُصيبُهُ مَا أَصَابَهُمْ وَيَنُوبُهُ مَا نَابَهُمْ. شِعْرًا: وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ وَرَدَتِ الْقَصَصُ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] . فَإِنْ ظَنَّ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ بِذِكْرِهَا الَاتِ وَالْأَسْمَارَ فَقَدْ تَمَسَّكَ مِنْ أَقْوَالِ الزَّيْغِ بِمُحْكَمِ سَبَبِهَا حَيْثُ قَالُوا: هَذِهِ {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان: 5] . نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَنَا قَلْبًا عَقُولًا وَلِسَانًا صَادِقًا وَيُوَفِّقَنَا لِلسَّدَادِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

ذكر الوقت الذي ابتدئ فيه بعمل التاريخ في الإسلام

[ذِكْرُ الْوَقْتِ الَّذِي ابْتُدِئَ فِيهِ بِعَمَلِ التَّارِيخِ فِي الْإِسْلَامِ] قِيلَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَ بِعَمَلِ التَّارِيخِ. وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ بِوَضْعِ التَّارِيخِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ: إِنَّهُ يَأْتِينَا مِنْكَ كُتُبٌ لَيْسَ لَهَا تَارِيخٌ. فَجَمَعَ النَّاسَ لِلْمَشُورَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرِّخْ لِمَبْعَثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرِّخْ لِمُهَاجَرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ نُؤَرِّخُ لِمُهَاجَرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ مُهَاجَرَتَهُ فَرْقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: رُفِعَ إِلَى عُمَرَ صَكٌّ مَحِلُّهُ شَعْبَانُ، فَقَالَ: أَيُّ شَعْبَانَ؟ أَشَعْبَانُ الَّذِي هُوَ آتٍ أَمْ شَعْبَانُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ؟ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ضَعُوا لِلنَّاسِ شَيْئًا يَعْرِفُونَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اكْتُبُوا عَلَى تَارِيخِ الرُّومِ فَإِنَّهُمْ يُؤَرِّخُونَ مِنْ عَهْدِ ذِي الْقَرْنَيْنِ. فَقَالَ: هَذَا يَطُولُ. فَقَالَ اكْتُبُوا عَلَى تَارِيخِ الْفُرْسِ. فَقِيلَ: إِنَّ الْفُرْسَ كُلَّمَا قَامَ مَلِكٌ طَرَحَ تَارِيخَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ. فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَنْظُرُوا كَمْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

بِالْمَدِينَةِ، فَوَجَدُوهُ عَشْرَ سِنِينَ، فَكَتَبُوا مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: أَرِّخُوا. فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرِّخُوا؟ فَقَالَ: شَيْءٌ تَفْعَلُهُ الْأَعَاجِمُ فِي شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا. فَقَالَ عُمَرُ: حَسَنٌ، فَأَرِّخُوا. فَاتَّفَقُوا عَلَى الْهِجْرَةِ، ثُمَّ قَالُوا: مِنْ أَيِّ الشُّهُورِ؟ فَقَالُوا: مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَالُوا: فَالْمُحَرَّمُ هُوَ مُنْصَرَفُ النَّاسِ مِنْ حَجِّهِمْ، وَهُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ، فَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: جَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ فَقَالَ: مِنْ أَيِّ يَوْمٍ نَكْتُبُ التَّارِيخَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: مِنْ مُهَاجَرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِرَاقِهِ أَرْضَ الشِّرْكِ. فَفَعَلَهُ عُمَرُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَوَّلُ مَنْ أَرَّخَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ وَهُوَ بِالْيَمَنِ. وَأَمَّا قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ كَانَ بَنُو إِبْرَاهِيمَ يُؤَرِّخُونَ مِنْ نَارِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى بُنْيَانِ الْبَيْتِ حَتَّى بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ، وَإِسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - ثُمَّ أَرَّخَ بَنُو إِسْمَاعِيلَ مِنْ بُنْيَانِ الْبَيْتِ حَتَّى تَفَرَّقُوا، فَكَانَ كُلَّمَا خَرَجَ قَوْمٌ مِنْ تِهَامَةَ أَرَّخُوا بِمَخْرَجِهِمْ، وَمَنْ بَقِيَ بِتِهَامَةَ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ يُؤَرِّخُونَ مِنْ خُرُوجِ سَعْدٍ، وَنَهْدٍ، وَجُهَيْنَةَ بَنِي زَيْدٍ مِنْ تِهَامَةَ حَتَّى مَاتَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ، وَأَرَّخُوا مِنْ مَوْتِهِ إِلَى الْفِيلِ، ثُمَّ كَانَ التَّارِيخُ مِنَ الْفِيلِ حَتَّى أَرَّخَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ.

القول في الزمان

وَقَدْ كَانَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَرَبِ تُؤَرِّخُ بِالْحَادِثَاتِ الْمَشْهُورَةِ فِيهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَارِيخٌ يَجْمَعُهُمْ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: هَا أَنَا ذَا آمُلُ الْخُلُودَ وَقَدْ ... أَدْرَكَ عَقْلِي وَمَوْلِدِي حُجْرَا وَقَالَ الْجَعْدِيُّ: فَمَنْ يَكُ سَائِلًا عَنِّي فَإِنِّي ... مِنَ الشُّبَّانِ أَيَّامَ الْخُنَانِ وَقَالَ آخَرُ: وَمَا هِيَ إِلَّا فِي إِزَارٍ وَعُقْلَةٍ ... بِغَارِ ابْنِ هَمَّامٍ عَلَى حَيِّ خَثْعَمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ أَرَّخَ بِحَادِثٍ مَشْهُورٍ عِنْدَهُمْ، فَلَوْ كَانَ لَهُمْ تَارِيخٌ يَجْمَعُهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي التَّارِيخِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الْقَوْلُ فِي الزَّمَانِ]

الزَّمَانُ عِبَارَةٌ عَنْ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقَدْ يُقَالُ ذَلِكَ لِلطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ مِنْهُمَا. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَتَيْتُكَ زَمَانَ الصِّرَامِ، وَزَمَانُ الصِّرَامِ يَعْنِي بِهِ وَقْتَ الصِّرَامِ. وَكَذَلِكَ: أَتَيْتُكَ أَزْمَانَ الْحَجَّاجِ أَمِيرٍ. وَيَجْمَعُونَ الزَّمَانَ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ إِمَارَتِهِ زَمَنٌ مِنَ الْأَزْمِنَةِ. الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ الْمُنَبِّهِ: سِتَّةُ آلَافِ سَنَةٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ الْخَبَرُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ قَبْلَكُمْ، مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ» . وَرَوَى نَحْوَ هَذَا الْمَعْنَى أَنَسٌ، وَأَبُو سَعِيدٍ إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا إِنَّهُ قَالَ: إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَبَدَلَ صَلَاةِ الْعَصْرِ: بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى» .

وَرَوَى نَحْوَهُ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، وَأَنَسٌ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَبُرَيْدَةُ، وَالْمُسْتَوْرِدُ بْنُ شَدَّادٍ، وَأَشْيَاخٌ مِنَ الْأَنْصَارِ كُلُّهُمْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذِهِ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ. قَالَ: وَقَدْ زَعَمَ الْيَهُودُ أَنَّ جَمِيعَ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ لَدُنْ خَلْقِ آدَمَ إِلَى الْهِجْرَةِ أَرْبَعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَسِتُّمِائَةٍ وَاثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَالَتِ الْيُونَانِيَّةُ مِنَ النَّصَارَى: إِنَّ مِنْ خَلْقِ آدَمَ إِلَى الْهِجْرَةِ خَمْسَةَ آلَافِ سَنَةٍ وَتِسْعَمِائَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً وَشَهْرًا. وَزَعَمَ قَائِلٌ أَنَّ الْيَهُودَ إِنَّمَا نَقَصُوا مِنَ السِّنِينَ دَفْعًا مِنْهُمْ لِنُبُوَّةِ عِيسَى، إِذْ كَانَتْ صِفَتُهُ وَمَبْعَثُهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَقَالُوا: لَمْ يَأْتِ الْوَقْتُ الَّذِي فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ عِيسَى يَكُونُ فِيهِ، فَهُمْ يَنْتَظِرُونَ بِزَعْمِهِمْ خُرُوجَهُ وَوَقْتَهُ. قَالَ: وَأَحْسَبُ أَنَّ الَّذِي يَنْتَظِرُونَهُ وَيَدَّعُونَ أَنَّ صِفَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ مُثْبَتَةٌ هُوَ الدَّجَّالُ. وَقَالَتِ الْمَجُوسُ: إِنَّ قَدْرَ مُدَّةِ الزَّمَانِ مِنْ لَدُنْ مُلْكِ جُيُومَرْثَ إِلَى وَقْتِ الْهِجْرَةِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَمِائَةٌ وَتِسْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَهُمْ لَا يَذْكُرُونَ مَعَ ذَلِكَ شَيْئًا يُعْرَفُ فَوْقَ جُيُومَرْثَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ آدَمُ. وَأَهْلُ الْأَخْبَارِ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَمِنْ قَائِلٍ مِثْلَ قَوْلِ الْمَجُوسِ، وَمِنْ قَائِلٍ: إِنَّهُ يُسَمَّى بِآدَمَ بَعْدَ أَنْ مَلَكَ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ وَإِنَّهُ حَامُ بْنُ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، وَكَانَ بَارًّا بِنُوحٍ، فَدَعَا لَهُ وَلِذُرِّيَّتِهِ بِطُولِ الْعُمُرِ، وَالتَّمْكِينِ فِي الْبِلَادِ، وَاتِّصَالِ الْمُلْكِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ. فَمَلَكَ جُيُومَرْثُ وَوَلَدُهُ الْفُرْسَ. وَلَمْ يَزَلِ الْمُلْكُ فِيهِمْ إِلَى أَنْ دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْمَدَائِنَ وَغَلَبُوهُمْ

عَلَى مُلْكِهِمْ، وَمِنْ قَائِلٍ غَيْرَ ذَلِكَ، كَذَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ. قُلْتُ: ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ بَعْدَ هَذَا فُصُولًا تَتَضَمَّنُ الدَّلَالَةَ عَلَى حُدُوثِ الْأَزْمَانِ، وَالْأَوْقَاتِ، وَهَلْ خَلَقَ اللَّهُ قَبْلَ خَلْقِ الزَّمَانِ شَيْئًا أَمْ لَا؟ وَعَلَى فَنَاءِ الْعَالَمِ، وَأَنْ لَا يَبْقَى إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ أَحْدَثَ كُلَّ شَيْءٍ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِالتَّوَارِيخِ لَا سِيَّمَا الْمُخْتَصَرَاتِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ بِعِلْمِ الْأُصُولِ أَوْلَى. وَقَدْ فَرَغَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْهُ فِي كُتُبِهِمْ، فَرَأَيْنَا تَرْكَهُ أَوْلَى. (بُرَيْدَةُ: بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ وَآخِرُهُ هَاءٌ)

القول في ابتداء الخلق، وما كان أوله

[الْقَوْلُ فِي ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ، وَمَا كَانَ أَوَّلَهُ] صَحَّ فِي الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَلَمُ، وَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ» . وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى النُّورُ، وَالظُّلْمَةُ، فَجَعَلَ الظُّلْمَةَ لَيْلًا أَسْوَدَ، وَجَعَلَ النُّورَ نَهَارًا أَبْيَضَ مُضِيئًا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِلْحَدِيثِ، وَابْنُ إِسْحَاقَ لَمْ يُسْنِدْ قَوْلَهُ إِلَى أَحَدٍ. وَاعْتَرَضَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا رَوَى سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ عَلَى عَرْشِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا، فَكَانَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنْ كَانَ صَحِيحًا فَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ أَيْضًا عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى عَرْشِهِ» ، بَلْ رَوَى أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ» .

الْقَوْلُ فِيمَا خُلِقَ بَعْدَ الْقَلَمِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ - بَعْدَ الْقَلَمِ، وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ - سَحَابًا رَقِيقًا، وَهُوَ الْغَمَامُ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ «سَأَلَهُ أَبُو رَزِينٍ الْعَقِيلِيُّ: أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ؟ فَقَالَ: فِي غَمَامٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ» . وَهُوَ الْغَمَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] . قُلْتُ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَلَمُ، وَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ بَعْدَ الْقَلَمِ، وَبَعْدَ أَنْ جَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ سَحَابًا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ آلَةٍ يُكْتَبُ بِهَا، وَهُوَ الْقَلَمُ، وَمِنْ شَيْءٍ يُكْتَبُ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ هَهُنَا بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ ثَانِيًا لِلْقَلَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ ذِكْرَهُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ بِطَرِيقَةِ الْمُلَازَمَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ خَلَقَ اللَّهُ بَعْدَ الْغَمَامِ، فَرَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَرْشُ، فَاسْتَوَى عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: خَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ قَبْلَ الْعَرْشِ، وَخَلَقَ الْعَرْشَ فَوَضَعَهُ عَلَى الْمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ الْقَلَمِ الْكُرْسِيُّ، ثُمَّ الْعَرْشُ، ثُمَّ الْهَوَاءُ، ثُمَّ الظُّلُمَاتُ، ثُمَّ الْمَاءُ فَوَضَعَ الْعَرْشَ عَلَيْهِ. قَالَ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَاءَ خُلِقَ قَبْلَ الْعَرْشِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَاءَ كَانَ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ حِينَ خُلِقَ الْعَرْشُ ; قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ خُلِقَا قَبْلَ الْعَرْشِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْقَلَمَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا بِأَلْفِ عَامٍ.

وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْيَوْمِ الَّذِي ابْتَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَكَعْبٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُجَاهِدٌ: ابْتِدَاءُ الْخَلْقِ يَوْمَ الْأَحَدِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ابْتِدَاءُ الْخَلْقِ يَوْمَ السَّبْتِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا خُلِقَ كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ الْخَلْقَ يَوْمَ الْأَحَدِ، فَخَلَقَ الْأَرَضِينَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْأَقْوَاتَ، وَالرَّوَاسِيَ فِي الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ، فَفَرَغَ آخِرَ سَاعَةٍ مِنَ الْجُمُعَةِ فَخَلَقَ فِيهَا آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَتِلْكَ السَّاعَةُ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا السَّاعَةُ. وَمِثْلَهُ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا خَلْقَ آدَمَ، وَلَا السَّاعَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ بِأَقْوَاتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْحُوَهَا، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي هُوَ الصَّوَابُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الْبَيْتَ عَلَى الْمَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الدُّنْيَا بِأَلْفَيْ عَامٍ، ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ. وَمِثْلَهُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ. وَرَوَى السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مِمَّا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ. فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ أَخْرَجَ مِنَ الْمَاءِ

دُخَانًا، فَارْتَفَعَ فَوْقَ الْمَاءِ، فَسَمَا عَلَيْهِ، فَسَمَّاهُ سَمَاءً، ثُمَّ أَيْبَسَ الْمَاءَ فَجَعَلَهُ أَرْضًا وَاحِدَةً، ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْعَ أَرَضِينَ فِي يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْأَحَدِ، وَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ. فَخَلَقَ الْأَرْضَ عَلَى حُوتٍ، وَالْحُوتُ النُّونُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: ن وَالْقَلَمِ وَالْحُوتُ فِي الْمَاءِ، وَالْمَاءُ عَلَى ظَهْرِ صَفَاةٍ، وَالصَّفَاةُ عَلَى ظَهْرِ مَلَكٍ، وَالْمَلَكُ عَلَى صَخْرَةٍ، وَالصَّخْرَةُ فِي الرِّيحِ، وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا لُقْمَانُ لَيْسَتْ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، فَتَحَرَّكَ الْحُوتُ، فَاضْطَرَبَتْ، وَتَزَلْزَلَتِ الْأَرْضُ، فَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَ، فَقَرَّتْ. وَالْجِبَالُ تَفْخَرُ عَلَى الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُجَاهِدٌ، وَكَعْبٌ، وَغَيْرُهُمْ: كُلُّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَأَلْفِ سَنَةٍ. قُلْتُ: أَمَّا مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمِ كَذَا، فَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ، وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْوَقْتَ أَيَّامٌ وَلَيَالٍ، لِأَنَّ الْأَيَّامَ عِبَارَةٌ عَمَّا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا، وَاللَّيَالِي عِبَارَةٌ عَمَّا بَيْنَ غُرُوبِهَا وَطُلُوعِهَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْوَقْتَ سَمَاءٌ، وَلَا شَمْسٌ. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِمِقْدَارِ يَوْمٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ بُكْرَةٌ وَعَشِيٌّ. (سَلَامٌ: وَالِدُ عَبْدِ اللَّهِ، بِتَخْفِيفِ اللَّامِ) . الْقَوْلُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَيُّهُمَا خُلِقَ قَبْلَ صَاحِبِهِ؟ قَدْ ذَكَرْنَا مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الْأَوْقَاتِ، وَأَنَّ الْأَزْمِنَةَ وَالْأَوْقَاتَ إِنَّمَا هِيَ سَاعَاتُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ قَطْعُ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ دَرَجَاتِ الْفَلَكِ.

فَلْنَذْكُرِ الْآنَ بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ الِابْتِدَاءُ، أَبِاللَّيْلِ أَمْ بِالنَّهَارِ؟ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّيْلَ خُلِقَ قَبْلَ النَّهَارِ، وَيَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ النَّهَارَ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ، فَإِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ جَاءَ اللَّيْلُ فَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّهَارَ - وَهُوَ النُّورُ - وَارِدٌ عَلَى الظُّلْمَةِ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ. وَإِذَا لَمْ يَرِدْ نُورُ الشَّمْسِ كَانَ اللَّيْلُ ثَابِتًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّيْلَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ النَّهَارُ قَبْلَ اللَّيْلِ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ، وَلَا لَيْلَ وَلَا نَهَارَ، وَأَنَّ نُورَهُ كَانَ يُضِيءُ بِهِ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ حَتَّى خَلَقَ اللَّيْلَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ، وَلَا نَهَارٌ. نُورُ السَّمَاوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا - رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا - وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات: 27 - 29] فَبَدَأَ بِاللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ. قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ الْحَارِثِيُّ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيٍّ فَسَأَلَهُ ابْنُ الْكَوَّاءِ عَنِ السَّوَادِ الَّذِي فِي الْقَمَرِ، فَقَالَ: ذَلِكَ آيَةٌ مُحِيَتْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا، لِذَلِكَ خَلَقَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الشَّمْسُ أَنْوَرُ مِنَ الْقَمَرِ. قُلْتُ: وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ هَاهُنَا حَدِيثًا طَوِيلًا فِي عِدَّةِ أَوْرَاقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَلْقِ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَسَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُمَا عَلَى عَجَلَتَيْنِ، لِكُلِّ عَجَلَةٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ عُرْوَةً، يَجُرُّهَا بِعَدَدِهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّهُمَا يَسْقُطَانِ عَنِ الْعَجَلَتَيْنِ فَيَغُوصَانِ فِي بَحْرٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَذَلِكَ كُسُوفُهُمَا، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُخْرِجُونَهَا فَذَلِكَ تَجْلِيَتُهُمَا مِنَ الْكُسُوفِ. وَذَكَرَ الْكَوَاكِبَ، وَسَيْرَهَا، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ مَدِينَةً

بِالْمَغْرِبِ تُسَمَّى جَابَرْسَ وَأُخْرَى بِالْمَشْرِقِ تُسَمَّى جَابَلْقَ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَشَرَةُ آلَافِ بَابٍ، يَحْرُسُ كُلَّ بَابٍ مِنْهَا عَشَرَةُ آلَافِ رَجُلٍ، لَا تَعُودُ الْحِرَاسَةُ إِلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَذَكَرَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَمَنْسَكَ وَثَارِيسَ، إِلَى أَشْيَاءَ أُخَرَ لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهَا، فَأَعْرَضْتُ عَنْهَا لِمُنَافَاتِهَا الْعُقُولَ. وَلَوْ صَحَّ إِسْنَادُهَا لَذَكَرْنَاهَا، وَقُلْنَا بِهِ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَمِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَطَّرَ فِي الْكُتُبِ بِمِثْلِ هَذَا الْإِسْنَادِ الضَّعِيفِ. وَإِذَا كُنَّا قَدْ بَيَّنَّا مِقْدَارَ مُدَّةِ مَا بَيْنَ أَوَّلِ ابْتِدَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِنْشَاءِ مَا أَرَادَ إِنْشَاءَهُ مِنْ خَلْقِهِ إِلَى حِينِ فَرَاغِهِ مِنْ إِنْشَاءِ جَمِيعِهِ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا وَمُدَّةِ أَزْمَانِهَا، وَكَانَ الْغَرَضُ فِي كِتَابِنَا هَذَا ذِكْرَ مَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّا ذَاكِرُوهُ مِنْ تَارِيخِ الْمُلُوكِ الْجَبَابِرَةِ، وَالْعَاصِيَةِ رَبَّهَا وَالْمُطِيعَةِ رَبَّهَا، وَأَزْمَانِ الرُّسُلِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَكُنَّا قَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْرِ مَا تَصِحُّ بِهِ التَّأْرِيخَاتُ وَتُعْرَفُ بِهِ الْأَوْقَاتُ، وَهُوَ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، فَلْنَذْكُرِ الْآنَ أَوَّلَ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مُلْكًا، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ فَكَفَرَ نِعْمَتَهُ، وَجَحَدَ رُبُوبِيَّتَهُ، وَاسْتَكْبَرَ، فَسَلَبَهُ اللَّهُ نِعْمَتَهُ، وَأَخْزَاهُ، وَأَذَلَّهُ، ثُمَّ نُتْبِعْهُ ذِكْرَ مَنِ اسْتَنَّ سُنَّتَهُ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ بِهِ نِعْمَتَهُ، وَنَذْكُرْ مَنْ كَانَ بِإِزَائِهِ أَوْ بَعْدَهُ مِنَ الْمُلُوكِ الْمُطِيعَةِ رَبَّهَا الْمَحْمُودَةِ آثَارُهَا، وَمِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قصة إبليس لعنه الله وابتداء أمره وإطغائه آدم عليه السلام

[قِصَّةُ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَإِطْغَائِهِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ] فَأَوَّلُهُمْ، وَإِمَامُهُمْ، وَرَئِيسُهُمْ إِبْلِيسُ. وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَسَّنَ خَلْقَهُ، وَشَرَّفَهُ، وَمَلَّكَهُ عَلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَالْأَرْضِ فِيمَا ذُكِرَ، وَجَعَلَهُ مَعَ ذَلِكَ خَازِنًا مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ، فَاسْتَكْبَرَ عَلَى رَبِّهِ، وَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَدَعَا مَنْ كَانَ تَحْتَ يَدِهِ إِلَى عِبَادَتِهِ، فَمَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى شَيْطَانًا رَجِيمًا، وَشَوَّهَ خَلْقَهُ، وَسَلَبَهُ مَا كَانَ خَوَّلَهُ، وَلَعَنَهُ، وَطَرَدَهُ عَنْ سَمَاوَاتِهِ فِي الْعَاجِلِ، ثُمَّ جَعَلَ مَسْكَنَهُ، وَمَسْكَنَ أَتْبَاعِهِ فِي الْآخِرَةِ نَارَ جَهَنَّمَ، نَعُوذُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَضَبِهِ، وَمِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ. وَنَبْدَأُ بِذِكْرِ الْأَخْبَارِ عَنِ السَّلَفِ بِمَا كَانَ اللَّهُ أَعْطَاهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَبِادِّعَائِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ، وَنُتْبِعُ ذَلِكَ بِذِكْرِ أَحْدَاثٍ فِي سُلْطَانِهِ وَمُلْكِهِ إِلَى حِينِ زَوَالِ ذَلِكَ عَنْهُ، وَالسَّبَبِ الَّذِي بِهِ زَالَ عَنْهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ الْأَخْبَارِ بِمَا كَانَ لِإِبْلِيسَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - مِنَ الْمُلْكِ، وَذِكْرُ الْأَحْدَاثِ فِي مُلْكِهِ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ لَهُ مُلْكُ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ. وَإِنَّمَا سُمُّوا الْجِنَّ لِأَنَّهُمْ خُزَّانُ الْجَنَّةِ. وَكَانَ إِبْلِيسُ مَعَ

مُلْكِهِ خَازِنًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ إِنَّهُ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى فَمَسَخَهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء: 29] إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي إِبْلِيسَ خَاصَّةً لَمَّا قَالَ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا، وَقَالَ: {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29] وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِثْلُهُ. وَأَمَّا الْأَحْدَاثُ الَّتِي كَانَتْ فِي مُلْكِهِ، وَسُلْطَانِهِ فَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ خَازِنًا مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ، قَالَ: وَخُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَتِ الْجِنُّ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ لِسَانُ النَّارِ الَّذِي يَكُونُ فِي طَرَفِهَا إِذَا الْتَهَبَتْ. وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ طِينٍ، فَأَوَّلُ مَنْ سَكَنَ فِي الْأَرْضِ الْجِنُّ، فَاقْتَتَلُوا فِيهَا، وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ إِبْلِيسَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ هَذَا الْحَيُّ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، فَقَاتَلَهُمْ إِبْلِيسُ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى أَلْحَقَهُمْ بِجَزَائِرِ الْبُحُورِ، وَأَطْرَافِ الْجِبَالِ. فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ اغْتَرَّ فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ: قَدْ صَنَعْتُ مَا لَمْ يَصْنَعْهُ أَحَدٌ. فَاطَّلَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَلْبِهِ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ نَحْوُهُ. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَالَا: لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، فَجَعَلَ إِبْلِيسَ عَلَى مُلْكِ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ مِنْ قَبِيلٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، وَإِنَّمَا سُمُّوا الْجِنَّ لِأَنَّهُمْ مِنْ خَزَنَةِ الْجَنَّةِ. وَكَانَ إِبْلِيسُ مَعَ مُلْكِهِ خَازِنًا فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ كِبْرٌ، وَقَالَ: مَا أَعْطَانِي اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا لِمَزِيَّةٍ لِي عَلَى الْمَلَائِكَةِ. فَاطَّلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ فَقَالَ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلَ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ الْمَلَائِكَةِ اجْتِهَادًا وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا، فَدَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى الْكِبْرِ. وَهَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي سَبَبِ كِبْرِهِ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ خَلْقًا، فَقَالَ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ. فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، ثُمَّ خَلَقَ خَلْقًا آخَرَ، فَقَالَ: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَاسْجُدُوا لِآدَمَ. فَأَبَوْا، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، ثُمَّ خَلَقَ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ، فَقَالَ: اسْجُدُوا لِآدَمَ. قَالُوا: نَعَمْ. وَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يَسْجُدُوا. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: إِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ سَكَنُوا الْأَرْضَ، وَطَرَدَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَسَرَهُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُ ذَلِكَ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فُسُوقُهُ مِنْ إِعْجَابِهِ بِنَفْسِهِ لِكَثْرَةِ عِبَادَتِهِ، وَاجْتِهَادِهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ مِنَ الْجِنِّ. (وَمُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ، بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ نِسْبَةً إِلَى هَمْدَانَ: قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الْيَمَنِ)

ذكر خلق آدم عليه السلام

[ذِكْرُ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ] وَمِنَ الْأَحَادِيثِ فِي سُلْطَانِهِ خَلْقُ أَبِينَا آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَذَلِكَ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطْلِعَ مَلَائِكَتَهُ عَلَى مَا عَلِمَ مِنَ انْطِوَاءِ إِبْلِيسَ عَلَى الْكِبْرِ وَلَمْ يَعْلَمْهُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى دَنَا أَمْرُهُ مِنَ الْبَوَارِ وَمُلْكُهُ مِنَ الزَّوَالِ، فَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] . فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ ذَلِكَ لِلَّذِي كَانُوا عَهِدُوا مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْجِنِّ الَّذِينَ كَانُوا سُكَّانَ الْأَرْضِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالُوا لِرَبِّهِمْ تَعَالَى: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يَكُونُ مِثْلَ الْجِنِّ الَّذِينَ كَانُوا يَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ فِيهَا وَيُفْسِدُونَ وَيَعْصُونَكَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] ، يَعْنِي مِنَ انْطِوَاءِ إِبْلِيسَ عَلَى الْكِبْرِ وَالْعَزْمِ عَلَى خِلَافِ أَمْرِي وَاغْتِرَارِهِ، وَأَنَا مُبْدٍ ذَلِكَ لَكُمْ مِنْهُ لِتَرَوْهُ عِيَانًا. فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ أَمَرَ جَبْرَائِيلَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِطِينٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَقَالَتِ الْأَرْضُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ أَنْ تَنْقُصَ مِنِّي وَتَشِينَنِي. فَرَجَعَ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّهَا عَاذَتْ بِكَ فَأَعَذْتَهَا. فَبَعَثَ مِيكَائِيلَ، فَاسْتَعَاذَتْ مِنْهُ فَأَعَاذَهَا، فَرَجَعَ وَقَالَ مِثْلَ جَبْرَائِيلَ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا مَلَكَ الْمَوْتِ فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَقَالَ: أَنَا أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَرْجِعَ وَلَمْ أُنَفِّذْ أَمْرَ رَبِّي، فَأَخَذَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ فَخَلَطَهُ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ وَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةٍ حَمْرَاءَ، وَبَيْضَاءَ، وَسَوْدَاءَ، وَطِينًا لَازِبًا، فَلِذَلِكَ خَرَجَ بَنُو آدَمَ مُخْتَلِفِينَ. وَرَوَى أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ، وَالْأَسْوَدُ، وَالْأَبْيَضُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزَنُ، وَالْخَبِيثُ، وَالطَّيِّبُ، ثُمَّ بَلَتْ طِينَتُهُ حَتَّى صَارَتْ

طِينًا لَازِبًا، ثُمَّ تُرِكَتْ حَتَّى صَارَتْ حَمَأً مَسْنُونًا، ثُمَّ تُرِكَتْ حَتَّى صَارَتْ صَلْصَالًا، كَمَا قَالَ رَبُّنَا، تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] » . وَاللَّازِبُ: الطِّينُ الْمُلْتَزِبُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى تَغَيَّرَ، وَأَنْتَنَ، وَصَارَ حَمَأً مَسْنُونًا، يَعْنِي مُنْتِنًا، ثُمَّ صَارَ صَلْصَالًا، وَهُوَ الَّذِي لَهُ صَوْتٌ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ آدَمَ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّهُ بِتُرْبَةِ آدَمَ فَرُفِعَتْ، فَخَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، وَإِنَّمَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا بَعْدَ الْتِزَابٍ فَخَلَقَ مِنْهُ آدَمَ بِيَدِهِ لِئَلَّا يَتَكَبَّرَ إِبْلِيسُ عَنِ السُّجُودِ لَهُ. قَالَ: فَمَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ سَنَةً، جَسَدًا مُلْقًى، فَكَانَ إِبْلِيسُ يَأْتِيهِ فَيَضْرِبُهُ بِرِجْلِهِ فَيُصَلْصِلُ، أَيْ يُصَوِّتُ، قَالَ: فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14] ، يَقُولُ: مُنْتِنٌ كَالْمَنْفُوخِ الَّذِي لَيْسَ بِمُصْمَتٍ، ثُمَّ يَدْخُلُ مِنْ فِيهِ فَيَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ، وَيَدْخُلُ مِنْ دُبُرِهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، ثُمَّ يَقُولُ: لَسْتَ شَيْئًا، وَلِشَيْءٍ مَا خُلِقْتَ، وَلَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْكَ لَأُهْلِكَنَّكَ، وَلَئِنْ سُلِّطْتَ عَلِيَّ لَأَعْصِيَنَّكَ. فَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَمُرُّ بِهِ فَتَخَافُهُ، وَكَانَ إِبْلِيسُ أَشَدَّهُمْ مِنْهُ خَوْفًا. فَلَمَّا بَلَغَ الْحِينُ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] فَلَمَّا نَفَخَ الرُّوحَ فِيهِ دَخَلَتْ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، وَكَانَ لَا يَجْرِي شَيْءٌ مِنَ الرُّوحِ فِي جَسَدِهِ إِلَّا صَارَ لَحْمًا، فَلَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ رَأْسَهُ عَطَسَ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: بَلْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ التَّحْمِيدَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: رَحِمَكَ رَبُّكَ يَا آدَمُ. فَلَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ عَيْنَيْهِ نَظَرَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا بَلَغَتْ جَوْفَهُ اشْتَهَى الطَّعَامَ، فَوَثَبَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ رِجْلَيْهِ عَجْلَانَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:

{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] . فَسَجَدَ لَهُ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ. فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، فَلَمْ يَسْجُدْ كِبْرًا، وَبَغْيًا، وَحَسَدًا. فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: {يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] إِلَى قَوْلِهِ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] . فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ إِبْلِيسَ وَمُعَاتَبَتِهِ، وَأَبَى إِلَّا الْمَعْصِيَةَ، وَأَوْقَعَ اللَّعْنَةَ، وَأَيْأَسَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَجَعَلَهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: أُنْزِلَ إِبْلِيسُ مُشْتَمِلَ الصَّمَّاءِ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ أَعْوَرَ فِي إِحْدَى رِجْلَيْهِ نَعْلٌ. وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ: نَزَلَ إِبْلِيسُ مُخْتَصِرًا فَلِذَلِكَ كُرِهَ الِاخْتِصَارُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمَّا أُنْزِلَ قَالَ: يَا رَبِّ، أَخْرَجْتَنِي مِنَ الْجَنَّةِ لِأَجْلِ آدَمَ، وَإِنِّي لَا أَقْوَى عَلَيْهِ إِلَّا بِسُلْطَانِكَ. قَالَ: فَأَنْتَ مُسَلَّطٌ. قَالَ: زِدْنِي. قَالَ: لَا يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ إِلَّا وُلِدَ لَكَ مِثْلُهُ. قَالَ: زِدْنِي. قَالَ: صُدُورُهُمْ مَسَاكِنُ لَكَ، وَتَجْرِي مِنْهُمْ مَجْرَى الدَّمِ. قَالَ: زِدْنِي. قَالَ: أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجْلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ. قَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ، قَدْ أَنْظَرْتَهُ، وَسَلَّطْتَهُ عَلِيَّ، وَإِنَّنِي لَا أَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِكَ. قَالَ: لَا يُولَدُ لَكَ وَلَدٌ إِلَّا وَكَّلْتُ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ. قَالَ: يَا رَبِّ، زِدْنِي. قَالَ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَأَزِيدُهَا، وَالسَّيِّئَةُ بِوَاحِدَةٍ، وَأَمْحُوهَا. قَالَ: يَا رَبِّ، زِدْنِي. قَالَ: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] قَالَ: يَا رَبِّ، زِدْنِي. قَالَ: التَّوْبَةُ لَا أَمْنَعُهَا مِنْ وَلَدِكَ مَا كَانَتْ فِيهِمُ الرُّوحُ. قَالَ: يَا رَبِّ، زِدْنِي. قَالَ: أَغْفِرُ وَلَا أُبَالِي. قَالَ: حَسْبِي. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ لِآدَمَ: إِيتِ أُولَئِكَ النَّفَرَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقُلِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَأَتَاهُمْ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ بَيْنَهُمْ. فَلَمَّا امْتَنَعَ إِبْلِيسُ مِنَ السُّجُودِ وَظَهَرَ لِلْمَلَائِكَةِ مَا كَانَ مُسْتَتِرًا عَنْهُمْ عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا. الْأَسْمَاءُ الَّتِي عَلَّمَهَا اللَّهُ آدَمَ

وَاخْتَلَفَتِ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَسْمَاءِ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا الَّتِي تَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ: إِنْسَانٌ، وَدَابَّةٌ، وَأَرْضٌ، وَسَهْلٌ، وَجَبَلٌ، وَفَرَسٌ، وَحِمَارٌ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، حَتَّى الْفَسْوَةُ، وَالْفُسَيَّةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: عُلِّمَ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: عُلِّمَ أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ خَاصَّةً. فَلَمَّا عُلِّمَهَا عَرَضَ اللَّهُ أَهْلَ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31] إِنِّي إِنْ جَعَلْتُ الْخَلِيفَةَ مِنْكُمْ أَطَعْتُمُونِي، وَقَدَّسْتُمُونِي، وَلَمْ تَعْصُونِي، وَإِنْ جَعَلْتُهُ مِنْ غَيْرِكُمْ أَفْسَدَ فِيهَا، وَسَفَكَ الدِّمَاءَ، فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ وَأَنْتُمْ تُشَاهِدُونَهُمْ فَبِأَنْ لَا تَعْلَمُوا مَا يَكُونُ مِنْكُمْ وَمِنْ غَيْرِكُمْ وَهُوَ مُغَيَّبٌ عَنْكُمْ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرِوَايَةُ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَمَّا عَلَّمَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِخَلْقِ آدَمَ، وَاسْتِخْلَافِهِ وَ {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] وَ {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: لِيَخْلُقْ رَبُّنَا مَا يَشَاءُ فَلَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ، وَأَعْلَمَ مِنْهُ. فَلَمَّا خَلَقَهُ وَأَمَرَهُمْ بِالسُّجُودِ لَهُ عَلِمُوا أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَأَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: إِنْ يَكُ خَيْرًا مِنَّا وَأَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَّا فَنَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُ. فَلَمَّا أُعْجِبُوا بِعِلْمِهِمُ ابْتُلُوا بِأَنْ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31] إِنِّي لَا أَخْلُقُ أَكْرَمَ مِنْكُمْ وَلَا أَعْلَمَ مِنْكُمْ فَفَزِعُوا إِلَى التَّوْبَةِ، وَإِلَيْهَا يَفْزَعُ كُلُّ مُؤْمِنٍ {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] .

قَالَا: وَعَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ: الْخَيْلُ، وَالْبِغَالُ، وَالْإِبِلُ، وَالْجِنُّ، وَالْوَحْشُ، وَكُلَّ شَيْءٍ. ذِكْرُ إِسْكَانِ آدَمَ الْجَنَّةَ وَإِخْرَاجِهِ مِنْهَا فَلَمَّا ظَهَرَ لِلْمَلَائِكَةِ مِنْ مَعْصِيَةِ إِبْلِيسَ وَطُغْيَانِهِ مَا كَانَ مُسْتَتِرًا عَنْهُمْ وَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ بِتَرْكِهِ السُّجُودَ لِآدَمَ، فَأَصَرَّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَأَقَامَ عَلَى غَيِّهِ، لَعَنَهُ اللَّهُ وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَطَرَدَهُ مِنْهَا وَسَلَبَهُ مَا كَانَ إِلَيْهِ مِنْ مُلْكِ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَالْأَرْضِ وَخَزْنِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ - وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 34 - 35] ، وَأَسْكَنَ آدَمَ الْجَنَّةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: فَلَمَّا أَسْكَنَ آدَمَ الْجَنَّةَ كَانَ يَمْشِي فِيهَا فَرْدًا لَيْسَ لَهُ زَوْجٌ يَسْكُنُ إِلَيْهَا، فَنَامَ نَوْمَةً وَاسْتَيْقَظَ فَإِذَا عِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةٌ قَاعِدَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ ضِلْعِهِ، فَسَأَلَهَا، فَقَالَ: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: امْرَأَةٌ. قَالَ: وَلِمَ خُلِقْتِ؟ قَالَتْ: لِتَسْكُنَ إِلَيَّ. قَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ لِيَنْظُرُوا مَبْلَغَ عِلْمِهِ: مَا اسْمُهَا؟ قَالَ: حَوَّاءُ. قَالُوا: وَلِمَ سُمِّيَتْ حَوَّاءَ؟ قَالَ: لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ حَيٍّ. وَقَالَ اللَّهُ لَهُ: {يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35] . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا بَلَغَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: أَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى آدَمَ النَّوْمَ وَأَخَذَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ مِنْ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ وَلَأَمَ مَكَانَهُ لَحْمًا وَخَلَقَ مِنْهُ حَوَّاءَ وَآدَمُ نَائِمٌ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ رَآهَا إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: لَحْمِي، وَدَمِي، وَرُوحِي، فَسَكَنَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا زَوَّجَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَ لَهُ سَكَنًا مِنْ نَفْسِهِ، قَالَ لَهُ: {يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ - وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35] . وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ مِثْلَهُ. فَلَمَّا أَسْكَنَ اللَّهُ آدَمَ وَزَوْجَتَهُ الْجَنَّةَ أَطْلَقَ لَهُمَا أَنْ يَأْكُلَا كُلَّ مَا أَرَادَا مِنْ كُلِّ ثِمَارِهِ غَيْرَ ثَمَرَةِ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، ابْتِلَاءً مِنْهُ لَهُمَا وَلِيَمْضِيَ قَضَاؤُهُ فِيهِمَا وَفِي ذُرِّيَّتِهِمَا. فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ. وَكَانَ سَبَبُ وُصُولِهِ إِلَيْهِمَا أَنَّهُ أَرَادَ دُخُولَ الْجَنَّةِ فَمَنَعَتْهُ الْخَزَنَةُ، فَأَتَى كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّ الْأَرْضِ

وَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا أَنَّهَا تَحْمِلُهُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ لِيُكَلِّمَ آدَمَ وَزَوْجَتَهُ. فَكُلُّ الدَّوَابِّ أَبَى عَلَيْهِ حَتَّى أَتَى الْحَيَّةَ، وَقَالَ لَهَا: أَمْنَعُكِ مِنِ ابْنِ آدَمَ، فَأَنْتِ فِي ذِمَّتِي إِنْ أَنْتِ أَدْخَلْتِنِي، فَجَعَلَتْهُ بَيْنَ نَابَيْنِ مِنْ أَنْيَابِهَا، ثُمَّ دَخَلَتْ بِهِ، وَكَانَتْ كَاسِيَةً عَلَى أَرْبَعِ قَوَائِمَ مِنْ أَحْسَنِ دَابَّةٍ خَلْقَهَا اللَّهُ كَأَنَّهَا بُخْتِيَّةٌ، فَأَعْرَاهَا اللَّهُ وَجَعَلَهَا تَمْشِي عَلَى بَطْنِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اقْتُلُوهَا حَيْثُ وَجَدْتُمُوهَا وَاخْفِرُوا ذِمَّةَ عَدُوِّ اللَّهِ فِيهَا. فَلَمَّا دَخَلَتِ الْحَيَّةُ الْجَنَّةَ خَرَجَ إِبْلِيسُ مِنْ فِيهَا فَنَاحَ عَلَيْهِمْا نِيَاحَةً أَحْزَنَتْهُمَا حِينَ سَمِعَاهَا، فَقَالَا لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي عَلَيْكُمَا تَمُوتَانِ فَتُفَارِقَانِ مَا أَنْتُمَا فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْكَرَامَةِ. فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمَا. ثُمَّ أَتَاهُمَا فَوَسْوَسَ لَهُمَا وَقَالَ: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى، وَقَالَ {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ - وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 20 - 21] أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ، أَوْ تُخَلَّدَانِ إِنْ لَمْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ فِي نِعْمَةِ الْجَنَّةِ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22] . وَكَانَ انْفِعَالُ حَوَّاءَ لِوَسْوَسَتِهِ أَعْظَمَ، فَدَعَاهَا آدَمُ لِحَاجَتِهِ. فَقَالَتْ: لَا، إِلَّا أَنْ تَأْتِيَ هَهُنَا. فَلَمَّا أَتَى قَالَتْ: لَا! إِلَّا أَنْ تَأْكُلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَهِيَ الْحِنْطَةُ. قَالَ: فَأَكَلَا مِنْهَا، فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا، وَكَانَ لِبَاسُهُمَا الظَّفْرَ، فَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمْا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، قِيلَ: كَانَ وَرَقَ التِّينِ، وَكَانَتِ الشَّجَرَةُ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا أَحْدَثَ. وَذَهَبَ آدَمُ هَارِبًا فِي الْجَنَّةِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: أَنْ يَا آدَمُ مِنِّي تَفِرُّ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ حَيَاءً مِنْكَ. فَقَالَ: يَا آدَمُ، مِنْ أَيْنَ أُتِيتَ؟ قَالَ: مِنْ قِبَلِ حَوَّاءَ يَا رَبِّ. فَقَالَ اللَّهُ: فَإِنَّ عَلَيَّ أَنْ أُدْمِيَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ وَأَنْ أَجْعَلَهَا سَفِيهَةً، وَقَدْ كُنْتُ خَلَقْتُهَا حَلِيمَةً، وَأَنْ أَجْعَلَهَا تَحْمِلُ كُرْهًا وَتَضَعُ كُرْهًا وَتُشْرِفُ عَلَى الْمَوْتِ مِرَارًا، قَدْ كُنْتُ جَعَلْتُهَا تَحْمِلُ يُسْرًا وَتَضَعُ يُسْرًا، وَلَوْلَا بَلِيَّتُهَا لَكَانَ النِّسَاءُ لَا يَحِضْنَ، وَلَكُنَّ حَلِيمَاتٍ وَلَكُنَّ يَحْمِلْنَ يُسْرًا، وَيَضَعْنَ يُسْرًا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: لَأَلْعَنَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي خُلِقَتْ مِنْهَا لَعْنَةً يَتَحَوَّلُ بِهَا ثِمَارُهَا شَوْكًا. وَلَمْ يَكُنْ فِي الْجَنَّةِ وَلَا فِي الْأَرْضِ شَجَرَةٌ أَفْضَلَ مِنَ الطَّلْحِ وَالسِّدْرِ.

وَقَالَ لِلْحَيَّةِ: دَخَلَ الْمَلْعُونُ فِي جَوْفِكِ حَتَّى غَرَّ عَبْدِي، مَلْعُونَةٌ أَنْتِ لَعْنَةً يَتَحَوَّلُ بِهَا قَوَائِمُكِ فِي بَطْنِكِ، وَلَا يَكُونُ لَكِ رِزْقٌ إِلَّا التُّرَابَ. أَنْتِ عَدُوَّةُ بَنِي آدَمَ وَهُمْ أَعْدَاؤُكِ، حَيْثُ لَقِيتِ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَخَذْتِ بِعَقِبِهِ وَحَيْثُ لَقِيَكِ شَدَخَ رَأْسَكِ، اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ: آدَمُ، وَإِبْلِيسُ، وَالْحَيَّةُ. فَأَهْبَطَهُمْ إِلَى الْأَرْضِ، وَسَلَبَ اللَّهُ آدَمَ وَحَوَّاءَ كُلَّ مَا كَانَا فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ، وَالْكَرَامَةِ. قِيلَ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ وَهُوَ يَعْقِلُ، وَلَكِنْ سَقَتْهُ حَوَّاءُ الْخَمْرَ حَتَّى سَكِرَ فَلَمَّا سَكِرَ قَادَتْهُ إِلَيْهَا فَأَكَلَ. قُلْتُ: وَالْعَجَبُ مِنْ سَعِيدٍ كَيْفَ يَقُولُ هَذَا وَاللَّهُ يَقُولُ فِي صِفَةِ خَمْرِ الْجَنَّةِ {لَا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] . ذِكْرُ الْيَوْمِ الَّذِي أُسْكِنَ آدَمُ فِيهِ الْجَنَّةَ، وَالْيَوْمِ الَّذِي أُخْرِجَ فِيهِ مِنْهَا، وَالْيَوْمِ الَّذِي نَابَ فِيهِ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُسْكِنَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُهْبِطَ مِنْهَا، وَفِيهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَفِيهِ سَاعَةٌ - يُقَلِّلُهَا - لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: قَدْ عَلِمْتُ أَيَّ سَاعَةٍ هِيَ، هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ» . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أُخْرِجَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ لِلسَّاعَةِ التَّاسِعَةِ، أَوِ الْعَاشِرَةِ مِنْهُ، وَأُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ لِتِسْعِ سَاعَاتٍ مَضَيْنَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَكَانَ مُكْثُهُ فِي الْجَنَّةِ خَمْسَ سَاعَاتٍ مِنْهُ، وَقِيلَ: كَانَ مُكْثُهُ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ أَرَادَ أَنَّهُ سَكَنَ الْفِرْدَوْسَ لِسَاعَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ عَلَى مَا هِيَ بِهِ الْيَوْمَ، فَلَمْ يَبْعُدْ قَوْلُهُ مِنَ الصَّوَابِ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ كَذَا كَانَتْ وَارِدَةً عَنِ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ آدَمَ خُلِقَ آخِرَ سَاعَةٍ مِنَ الْيَوْمِ السَّادِسِ الَّتِي مِقْدَارُ الْيَوْمِ مِنْهَا أَلْفُ سَنَةٍ مِنْ سِنِينِنَا، فَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّاعَةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ عَامًا مِنْ أَعْوَامِنَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ آدَمَ بَعْدَ أَنْ خَمَّرَ رَبُّنَا طِينَتَهُ بَقِيَ قَبْلَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ

الرُّوحَ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَذَلِكَ لَا شَكَّ أَنَّهُ عَنَى بِهِ أَعْوَامَنَا، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ إِلَى أَنْ تَنَاهَى أَمْرُهُ، وَأُسْكِنَ الْجَنَّةَ، وَأُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ، غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ ذَلِكَ مِنْ سِنِينِنَا قَدْرَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّهُ سَكَنَ الْجَنَّةَ لِسَاعَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ نَهَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي مِقْدَارُ الْيَوْمِ مِنْهَا أَلْفُ سَنَةٍ مِنْ سِنِينِنَا، فَقَدْ قَالَ غَيْرَ الْحَقِّ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ قَوْلٌ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ إِنَّهُ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ آخِرَ نَهَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُكْثَ آدَمَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ نِصْفَ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ، وَهَذَا أَيْضًا خِلَافُ مَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنِ الْعُلَمَاءِ. ذِكْرُ الْمَوْضِعِ الَّذِي أُهْبِطَ فِيهِ آدَمُ، وَحَوَّاءُ مِنَ الْأَرْضِ قِيلَ: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْبَطَ آدَمَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي خَلَقَهُ فِيهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، مَعَ زَوْجَتِهِ حَوَّاءَ مِنَ السَّمَاءِ. فَقَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ: إِنَّهُ أُهْبِطَ بِالْهِنْدِ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ نَوْذٌ مِنْ أَرْضِ سَرَنْدِيبَ، وَحَوَّاءُ بِجُدَّةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَجَاءَ فِي طَلَبِهَا فَكَانَ كُلَّمَا وَضَعَ قَدَمَهُ بِمَوْضِعٍ صَارَ قَرْيَةً، وَمَا بَيْنَ خُطْوَتَيْهِ مَفَاوِزُ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى جَمْعًا فَازْدَلَفَتْ إِلَيْهِ حَوَّاءُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةَ، وَتَعَارَفَا بِعَرَفَاتٍ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ، وَاجْتَمَعَا بِجَمْعٍ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ جَمْعًا. وَأُهْبِطَتِ الْحَيَّةُ بِأَصْفَهَانَ، وَإِبْلِيسُ بِمَيْسَانَ. وَقِيلَ: أُهْبِطَ آدَمُ بِالْبَرِّيَّةِ، وَإِبْلِيسُ بِالْأُبُلَّةِ.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مَا لَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ صِحَّتِهِ إِلَّا بِخَبَرٍ يَجِيءُ مَجِيءَ الْحُجَّةِ، وَلَا نَعْلَمُ خَبَرًا فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا وَرَدَ فِي هُبُوطِ آدَمَ بِالْهِنْدِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَدْفَعُ صِحَّتَهُ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ عَلَى جَبَلِ نَوْذٍ كَانَتْ رِجْلَاهُ تَمَسَّانِ الْأَرْضَ وَرَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ يَسْمَعُ تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَتْ تَهَابُهُ، فَسَأَلَتِ اللَّهَ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ طُولِهِ فَنَقَصَ طُولَهُ إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا، فَحَزِنَ آدَمُ لِمَا فَاتَهُ مِنَ الْأُنْسِ بِأَصْوَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَتَسْبِيحِهِمْ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، كُنْتُ جَارَكَ فِي دَارِكَ لَيْسَ لِي رَبٌّ غَيْرَكَ أَدْخَلْتَنِي جَنَّتَكَ آكُلُ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُ، وَأَسْكُنُ حَيْثُ شِئْتُ، فَأَهْبَطْتَنِي إِلَى الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ فَكُنْتُ أَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْمَلَائِكَةِ وَأَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، فَحَطَطْتَنِي إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا، فَقَدِ انْقَطَعَ عَنِّي الصَّوْتُ، وَالنَّظَرُ، وَذَهَبَتْ عَنِّي رِيحُ الْجَنَّةِ! فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بِمَعْصِيَتِكَ يَا آدَمُ فَعَلْتُ بِكَ ذَلِكَ. فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ تَعَالَى عُرْيَ آدَمَ وَحَوَّاءَ أَمَرَهُ أَنْ يَذْبَحَ كَبْشًا مِنَ الضَّأْنِ مِنَ الثَّمَانِيَةِ الْأَزْوَاجِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَخَذَ كَبْشًا، فَذَبَحَهُ، وَأَخَذَ صُوفَهُ. فَغَزَلَتْهُ حَوَّاءُ، وَنَسَجَهُ آدَمُ، فَعَمِلَ لِنَفْسِهِ جُبَّةً، وَلِحَوَّاءَ دِرْعًا، وَخِمَارًا، فَلَبِسَا ذَلِكَ. وَقِيلَ: أَرْسَلَ إِلَيْهِمَا مَلَكًا يُعَلِّمُهُمَا مَا يَلْبَسَانِهِ مِنْ جُلُودِ الضَّأْنِ، وَالْأَنْعَامِ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ لِبَاسَ أَوْلَادِهِ، وَأَمَّا هُوَ وَحَوَّاءُ فَكَانَ لِبَاسُهُمَا مَا كَانَا خَصْفًا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى آدَمَ: إِنَّ لِي حَرَمًا حِيَالَ عَرْشِي فَانْطَلِقْ، وَابْنِ لِي بَيْتًا فِيهِ، ثُمَّ حُفَّ بِهِ كَمَا رَأَيْتَ مَلَائِكَتِي يَحُفُّونَ بِعَرْشِي، فَهُنَالِكَ أَسْتَجِيبُ لَكَ، وَلِوَلَدِكَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي طَاعَتِي. فَقَالَ آدَمُ يَا رَبِّ، وَكَيْفَ لِي بِذَلِكَ! لَسْتُ أَقْوَى عَلَيْهِ وَلَا أَهْتَدِي إِلَيْهِ. فَقَيَّضَ اللَّهُ مَلَكًا فَانْطَلَقَ بِهِ نَحْوَ مَكَّةَ، وَكَانَ آدَمُ إِذَا مَرَّ بِرَوْضَةٍ قَالَ لِلْمَلَكِ: انْزِلْ بِنَا هَهُنَا. فَيَقُولُ الْمَلَكُ: مَكَانَكَ، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَكَانَ كُلُّ مَكَانٍ نَزَلَهُ آدَمُ عُمْرَانًا، وَمَا عَدَاهُ مَفَاوِزَ. فَبَنَى الْبَيْتَ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ: مِنْ طُورِ سِينَا، وَطُورِ زَيْتُونٍ، وَلُبْنَانَ، وَالْجُودِيِّ، وَبَنَى قَوَاعِدَهُ مِنْ حِرَاءٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَائِهِ خَرَجَ بِهِ الْمَلَكُ إِلَى عَرَفَاتٍ، فَأَرَاهُ الْمَنَاسِكَ الَّتِي يَفَعَلُهَا النَّاسُ الْيَوْمَ، ثُمَّ قَدِمَ بِهِ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْهِنْدِ فَمَاتَ عَلَى نَوْذٍ.

فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أُهْبِطَ حَوَّاءُ وَآدَمُ جَمِيعًا، وَإِنَّ آدَمَ بَنَى الْبَيْتَ، وَهَذَا خِلَافُ الَّذِي نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ: أَنَّ الْبَيْتَ أُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ. وَقِيلَ: حَجَّ آدَمُ مِنَ الْهِنْدِ أَرْبَعِينَ حَجَّةً مَاشِيًا. وَلَمَّا نَزَلَ إِلَى الْهِنْدِ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْأَرْضِ يَبِسَ فَتَسَاقَطَ وَرَقُهُ فَنَبَتَتْ مِنْهُ أَنْوَاعُ الطِّيبِ بِالْهِنْدِ. وَقِيلَ: بَلِ الطِّيبُ مِنَ الْوَرَقِ الَّذِي خَصَفَهُ آدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمْا. وَقِيلَ: لَمَّا أُمِرَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ جَعَلَ لَا يَمُرُّ بِشَجَرَةٍ مِنْهَا إِلَّا أَخَذَ مِنْهَا غُصْنًا فَهَبَطَ وَتِلْكَ الْأَغْصَانُ مَعَهُ فَكَانَ أَصْلُ الطِّيبِ بِالْهِنْدِ مِنْهَا، وَزَوَّدَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَثِمَارُنَا هَذِهِ مِنْهَا، غَيْرَ هَذِهِ تَتَغَيَّرُ، وَتِلْكَ لَا تَتَغَيَّرُ، وَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ كُلِّ شَيْءٍ، وَنَزَلَ مَعَهُ مِنْ طِيبِ الْجَنَّةِ، وَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَكَانَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ، وَكَانَ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، وَنَزَلَ مَعَهُ عَصَا مُوسَى، وَهِيَ مِنْ آسِ الْجَنَّةِ، وَمِنْ لُبَانٍ، وَأَنْزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَلَاةَ، وَالْمِطْرَقَةَ، وَالْكَلْبَتَانِ. وَكَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ لَا يُشْبِهُهُ مِنْ وَلَدِهِ غَيْرُ يُوسُفَ. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ جَبْرَائِيلَ بِصُرَّةٍ فِيهَا حِنْطَةٌ، فَقَالَ آدَمُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنَ الْجَنَّةِ فَقَالَ: مَا أَصْنَعُ بِهِ؟ فَقَالَ: انْثُرْهُ فِي الْأَرْضِ. فَفَعَلَ، فَأَنْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ سَاعَتِهِ، ثُمَّ حَصَدَهُ، وَجَمَعَهُ، وَفَرَكَهُ، وَذَرَاهُ، وَطَحَنَهُ، وَعَجَنَهُ، وَخَبَزَهُ، كُلُّ ذَلِكَ بِتَعْلِيمِ جَبْرَائِيلَ، وَجَمَعَ لَهُ جَبْرَائِيلُ الْحَجَرَ وَالْحَدِيدَ، فَقَدَحَهُ، فَخَرَجَتْ مِنْهُ النَّارُ، وَعَلَّمَهُ جَبْرَائِيلُ صَنْعَةَ الْحَدِيدِ، وَالْحِرَاثَةَ، وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ ثَوْرًا، فَكَانَ يَحْرُثُ عَلَيْهِ، قِيلَ هُوَ الشَّقَاءُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117] . ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ آدَمَ مِنَ الْجَبَلِ وَمَلَّكَهُ الْأَرْضَ وَجَمِيعَ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْجِنِّ، وَالدَّوَابِّ، وَالطَّيْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَشَكَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ: يَا رَبِّ، أَمَا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مَنْ يُسَبِّحُكَ غَيْرِي، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَأُخْرِجُ مِنْ صُلْبِكَ مَنْ يُسَبِّحُنِي، وَيَحْمَدُنِي، وَسَأَجْعَلُ فِيهَا بُيُوتًا تُرْفَعُ لِذِكْرِي، وَأَجْعَلُ فِيهَا بَيْتًا أَخْتَصُّهُ بِكَرَامَتِي، وَأُسَمِّيهِ بَيْتِي، وَأَجْعَلُهُ حَرَمًا آمِنًا، فَمَنْ حَرَّمَهُ بِحُرْمَتِي فَقَدِ اسْتَوْجَبَ كَرَامَتِي، وَمَنْ أَخَافَ أَهْلَهُ فِيهِ فَقَدْ خَفَرَ ذِمَّتِي، وَأَبَاحَ حُرْمَتِي،

أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فَمَنِ اعْتَمَدَهُ لَا يُرِيدُ غَيْرَهُ فَقَدْ وَفَدَ إِلَيَّ، وَزَارَنِي، وَضَافَنِي، وَيَحِقُّ عَلَى الْكَرِيمِ أَنْ يُكْرِمَ وَفْدَهُ، وَأَضْيَافَهُ، وَأَنْ يُسْعِفَ كُلًّا بِحَاجَتِهِ، تَعْمُرُهُ أَنْتَ يَا آدَمُ مَا كُنْتَ حَيًّا، ثُمَّ تَعْمُرُهُ الْأُمَمُ، وَالْقُرُونُ، وَالْأَنْبِيَاءُ مِنْ وَلَدِكَ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ. ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ أَنْ يَأْتِيَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَكَانَ قَدْ أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ يَاقُوتَةً وَاحِدَةً، وَقِيلَ: دُرَّةً وَاحِدَةً، وَبَقِيَ كَذَلِكَ حَتَّى أَغْرَقَ اللَّهُ قَوْمَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَرُفِعَ وَبَقِيَ أَسَاسُهُ، فَبَوَّأَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَبَنَاهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَسَارَ آدَمُ إِلَى الْبَيْتِ لِيَحُجَّهُ، وَيَتُوبَ عِنْدَهُ، وَكَانَ قَدْ بَكَى هُوَ وَحَوَّاءُ عَلَى خَطِيئَتِهِمَا، وَمَا فَاتَهُمَا مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَلَمْ يَأْكُلَا وَلَمْ يَشْرَبَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ أَكَلَا وَشَرِبَا بَعْدَهَا، وَمَكَثَ آدَمُ لَمْ يَقْرَبْ حَوَّاءَ مِائَةَ عَامٍ، فَحَجَّ الْبَيْتَ، وَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] . (نُودٌ بِضَمِّ النُّونِ، وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَآخِرُهُ دَالٌ مُهْمَلَةٌ) . ذِكْرُ إِخْرَاجِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ وَأَخْذِ الْمِيثَاقِ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِنَعْمَانَ مِنْ عَرَفَةَ فَأَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قَبْلًا وَقَالَ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 172] إِلَى قَوْلِهِ: {بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173] . (نَعْمَانُ بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى) . وَقِيلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: إِنَّهُ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بِدَحْنَا، مَوْضِعٌ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَخْرَجَ اللَّهُ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ وَلَمْ يُهْبِطْهُ إِلَى الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِهِ الْيُمْنَى، فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً كَهَيْئَةِ الذَّرِّ بَيْضَاءَ مِثْلَ اللُّؤْلُؤِ، فَقَالَ لَهُمُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَمَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِهِ الْيُسْرَى فَأَخْرَجَ مِنْهَا كَهَيْئَةِ الذَّرِّ سَوْدَاءَ، فَقَالَ: ادْخُلُوا النَّارَ وَلَا أُبَالِي، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: " أَصْحَابُ الْيَمِينِ " وَ " أَصْحَابُ الشِّمَالِ "، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ فَقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، فَأَعْطَوْهُ الْمِيثَاقَ، طَائِفَةً طَائِعِينَ، وَطَائِفَةً عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ. ذِكْرُ الْأَحْدَاثِ الَّتِي كَانَتْ فِي عَهْدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَكَانَ أَوَّلُ ذَلِكَ قَتْلَ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ أَخَاهُ هَابِيلَ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ مُخْتَلِفُونَ فِي اسْمِ قَابِيلَ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: قَيْنُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: قَائِينُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ قَايِنُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: قَابِيلُ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي سَبَبِ قَتْلِهِ، فَقِيلَ: كَانَ سَبَبُهُ أَنَّ آدَمَ كَانَ يَغْشَى حَوَّاءَ فِي الْجَنَّةِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَ الْخَطِيئَةَ فَحَمَلَتْ لَهُ فِيهَا بِقَابِيلَ بْنِ آدَمَ وَتَوْأَمَتِهِ، فَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِمْا وَحَمًا، وَلَا وَصَبًا، وَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِمْا طَلْقًا حِينَ وَلَدَتْهُمَا وَلَمْ تَرَ مَعَهُمَا دَمًا لِطُهْرِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ، وَهَبَطَا إِلَى الْأَرْضِ فَاطْمَأَنَّا بِهَا تَغَشَّاهَا فَحَمَلَتْ بِهَابِيلَ، وَتَوْأَمَتِهِ، فَوَجَدَتْ عَلَيْهِمْا الْوَحَمَ، وَالْوَصَبَ، وَالطَّلْقَ حِينَ وَلَدَتْهُمَا، وَرَأَتْ مَعَهُمَا الدَّمَ، وَكَانَتْ حَوَّاءُ فِيمَا يَذْكُرُونَ لَا تَحْمَلُ إِلَّا تَوْأَمًا ذَكَرًا وَأُنْثَى، فَوَلَدَتْ حَوَّاءُ لِآدَمَ أَرْبَعِينَ وَلَدًا لِصُلْبِهِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى فِي عِشْرِينَ بَطْنًا، وَكَانَ الْوَلَدُ مِنْهُمْ أَيَّ أَخَوَاتِهِ شَاءَ تَزَوَّجَ إِلَّا تَوْأَمَتَهُ الَّتِي تُولَدُ مَعَهُ، فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ نِسَاءٌ إِلَّا أَخَوَاتُهُمْ، وَأُمُّهُمْ حَوَّاءُ، فَأَمَرَ آدَمُ ابْنَهُ قَابِيلَ أَنْ يَنْكِحَ تَوْأَمَةَ هَابِيلَ، وَأَمَرَ هَابِيلَ أَنْ يَنْكِحَ تَوْأَمَةَ أَخِيهِ قَابِيلَ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ آدَمُ غَائِبًا، وَكَانَ لَمَّا أَرَادَ السَّيْرَ قَالَ لِلسَّمَاءِ: احْفَظِي وَلَدِي بِالْأَمَانَةِ، فَأَبَتْ، وَقَالَ لِلْأَرْضِ فَأَبَتْ، وَلِلْجِبَالِ فَأَبَتْ، وَقَالَ لِقَابِيلَ، فَقَالَ: نَعَمْ تَذْهَبُ وَتَرْجِعُ وَسَتَجِدُهُ كَمَا يَسُرُّكَ. فَانْطَلَقَ آدَمُ فَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ.

وَفِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] . فَلَمَّا قَالَ آدَمُ لِقَابِيلَ وَهَابِيلَ فِي مَعْنَى نِكَاحِ أُخْتَيْهِمَا مَا قَالَ لَهُمَا سَلَّمَ هَابِيلُ لِذَلِكَ وَرَضِيَ بِهِ، وَأَبَى ذَلِكَ قَابِيلُ وَكَرِهَهُ تَكَرُّهًا عَنْ أُخْتِ هَابِيلَ وَرَغِبَ بِأُخْتِهِ عَنْ هَابِيلَ، وَقَالَ: نَحْنُ مِنْ وِلَادَةِ الْجَنَّةِ وَهُمَا مِنْ وِلَادَةِ الْأَرْضِ فَأَنَا أَحَقُّ بِأُخْتِي. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ أُخْتَ قَابِيلَ كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ فَضَنَّ بِهَا عَلَى أَخِيهِ، وَأَرَادَهَا لِنَفْسِهِ، وَإِنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا مِنْ وِلَادَةِ الْجَنَّةِ إِنَّمَا كَانَا مِنْ وِلَادَةِ الْأَرْضِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ آدَمُ: يَا بُنَيَّ، إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَكَ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْ أَبِيهِ. فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ، فَقَرِّبْ قُرْبَانًا، وَيُقَرِّبُ أَخُوكَ هَابِيلُ قُرْبَانًا، فَأَيُّكُمَا قَبِلَ اللَّهُ قُرْبَانَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا. وَكَانَ قَابِيلُ عَلَى بَذْرِ الْأَرْضِ وَهَابِيلُ عَلَى رِعَايَةِ الْمَاشِيَةِ، فَقَرَّبَ قَابِيلُ قَمْحًا، وَقَرَّبَ هَابِيلُ أَبْكَارَ غَنَمِهِ. وَقِيلَ: قَرَّبَ بَقَرَةً، فَأَرْسَلَ اللَّهُ نَارًا بَيْضَاءَ فَأَكَلَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ، وَتَرَكَتْ قُرْبَانَ قَابِيلَ، وَبِذَلِكَ كَانَ يُقْبَلُ الْقُرْبَانُ إِذَا قَبِلَهُ اللَّهُ، فَلَمَّا قَبِلَ اللَّهُ قُرْبَانَ هَابِيلَ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْقَضَاءُ لَهُ بِأُخْتِ قَابِيلَ، غَضِبَ قَابِيلُ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْكِبْرُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ، وَقَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ حَتَّى لَا تَنْكِحَ أُخْتِي. قَالَ هَابِيلُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة: 27 - 28] إِلَى قَوْلِهِ {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} [المائدة: 30] فَاتَّبَعَهُ وَهُوَ فِي مَاشِيَتِهِ فَقَتَلَهُ، فَهُمَا اللَّذَانِ قَصَّ اللَّهُ خَبَرَهُمَا فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} [المائدة: 27] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.

قَالَ: فَلَمَّا قَتَلَهُ سُقِطَ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُوَارِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31] إِلَى قَوْلِهِ {لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32] . فَلَمَّا قَتَلَ أَخَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا قَابِيلُ، أَيْنَ أَخُوكَ هَابِيلُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، مَا كُنْتُ عَلَيْهِ رَقِيبًا! فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ صَوْتَ دَمِ أَخِيكَ يُنَادِينِي مِنَ الْأَرْضِ الْآنَ، أَنْتَ مَلْعُونٌ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا فَبَلَعَتْ دَمَ أَخِيكَ، فَإِذَا أَنْتَ عَمِلْتَ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهَا لَا تَعُودُ تُعْطِيكَ حَرْثَهَا حَتَّى تَكُونَ فَزِعًا تَائِهًا فِي الْأَرْضِ. فَقَالَ قَابِيلُ: عَظُمَتْ خَطِيئَتِي إِنْ لَمْ تَغْفِرْهَا. قِيلَ: كَانَ قَتْلُهُ عِنْدَ عَقَبَةِ حِرَاءٍ. ثُمَّ نَزَلَ مِنَ الْجَبَلِ آخِذًا بِيَدِ أُخْتِهِ قُلَيْمَا فَهَرَبَ بِهَا إِلَى عَدَنَ مِنَ الْيَمَنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَتَلَ أَخَاهُ أَخَذَ بِيَدِ أُخْتِهِ ثُمَّ هَبَطَ بِهَا مِنْ جَبَلِ نُودٍ إِلَى الْحَضِيضِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: اذْهَبْ فَلَا تَزَالُ مَرْعُوبًا لَا تَأْمَنُ مَنْ تَرَاهُ. فَكَانَ لَا يَمُرُّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهِ إِلَّا رَمَاهُ، فَأَقْبَلَ ابْنٌ لِقَابِيلَ أَعْمَى وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ لِلْأَعْمَى ابْنُهُ: هَذَا أَبُوكَ قَابِيلُ فَارْمِهِ، فَرَمَى الْأَعْمَى أَبَاهُ قَابِيلَ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ ابْنُ الْأَعْمَى لِأَبِيهِ: قَتَلْتَ أَبَاكَ! فَرَفَعَ الْأَعْمَى يَدَهُ فَلَطَمَ ابْنَهُ فَمَاتَ. فَقَالَ: يَا وَيْلَتِي قَتَلْتُ أَبِي بِرَمْيَتِي وَبُنَيَّ بِلَطْمَتِي. وَلَمَّا قُتِلَ هَابِيلُ كَانَ عُمْرُهُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ لِقَابِيلَ يَوْمَ قَتَلَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الرَّجُلَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} [المائدة: 27] مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُونَا مِنْ بَنِي آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَكَانَ آدَمُ أَوَّلَ مَنْ مَاتَ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا ابْنَا آدَمَ لِصُلْبِهِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ

النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ فَبَانَ لِهَذَا أَنَّهُمَا لِصُلْبِ آدَمَ، فَإِنَّ الْقَتْلَ مَازَالَ بَيْنَ بَنِي آدَمَ قَبْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ» . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ قَبْلَهُ مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف: 189] إِلَى قَوْلِهِ: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190] . عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدَّيِّ، وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: كَانَتْ حَوَّاءُ تَلِدُ لِآدَمَ فَتُعَبِّدُهُمْ، أَيْ تُسَمِّيهِمْ عَبْدَ اللَّهِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَيُصِيبُهُمُ الْمَوْتُ، فَأَتَاهَا إِبْلِيسُ فَقَالَ: لَوْ سَمَّيْتِهِمَا بِغَيْرِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَعَاشَ وَلَدُكُمَا. فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، وَهُوَ اسْمُ إِبْلِيسَ، فَنَزَلَتْ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف: 189] الْآيَاتِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا. قُلْتُ: إِنَّمَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يُمِيتُ أَوْلَادَهُمْ أَوَّلًا، وَأَحْيَا هَذَا الْمُسَمَّى بِعَبْدِ الْحَارِثِ امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ بِغَيْرِ امْتِحَانٍ، لَكِنْ عِلْمًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ وَالْمَقْتُولَ ابْنَا آدَمَ لِصُلْبِهِ مَا رَوَاهُ الْعُلَمَاءُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ آدَمَ قَالَ لَمَّا قُتِلَ هَابِيلُ: تَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا ... فَوَجْهُ الْأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحْ تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي طَعْمٍ وَلَوْنٍ ... وَقَلَّ بَشَاشَةُ الْوَجْهِ الْمَلِيحْ فِي أَبْيَاتٍ غَيْرِهَا.

وَقَدْ زَعَمَ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْفُرْسِ أَنَّ جُيُومَرْثَ هُوَ آدَمُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ مِنْ حَوَّاءَ، وَقَالُوا فِيهِ أَقْوَالًا كَثِيرَةً يَطُولُ بِذِكْرِهَا الْكِتَابُ إِذْ كَانَ قَصْدُنَا ذِكْرَ الْمُلُوكِ وَأَيَّامِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي نَسَبِ مَلِكٍ مِنْ جِنْسٍ مَا أَنْشَأْنَا لَهُ الْكِتَابَ، فَإِنْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلِتَعْرِيفِ مَنْ ذَكَرْنَا لِيَعْرِفَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهِ. وَقَدْ خَالَفَ عُلَمَاءَ الْفُرْسِ فِيمَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ آخَرُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّهُ آدَمُ، وَوَافَقَ عُلَمَاءُ الْفُرْسِ عَلَى اسْمِهِ، وَخَالَفَهُمْ فِي عَيْنِهِ وَصِفَتِهِ، فَزَعَمَ أَنَّ جُيُومَرْثَ الَّذِي زَعَمَتِ الْفُرْسُ أَنَّهُ آدَمُ، إِنَّمَا هُوَ حَامُ بْنُ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، وَأَنَّهُ كَانَ مُعَمَّرًا سَيِّدًا نَزَلَ جَبَلَ دُنْبَاوَنْدَ مِنْ جِبَالِ طَبَرِسْتَانَ مِنْ أَرْضِ الْمَشْرِقِ، وَتَمَلَّكَ بِهَا وَبِفَارِسَ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ وَأَمْرُ وَلَدِهِ حَتَّى مَلَكُوا بَابِلَ، وَمَلَكُوا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ الْأَقَالِيمَ كُلَّهَا، وَابْتَنَى جُيُومَرْثُ الْمُدُنَ، وَالْحُصُونَ، وَأَعَدَّ السِّلَاحَ، وَاتَّخَذَ الْحِيَلَ، وَتَجَبَّرَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ، وَتَسَمَّى بِآدَمَ، وَقَالَ: مَنْ سَمَّانِي بِغَيْرِهِ قَتَلْتُهُ، وَتَزَوَّجَ ثَلَاثِينَ امْرَأَةً، فَكَثُرَ مِنْهُنَّ نَسْلُهُ، وَأَنَّ مَارِيَ ابْنَهُ وَمَارِيَانَةَ أُخْتَهُ مِمَّنْ كَانَا وُلِدَا فِي آخِرِ عُمُرِهِ، فَأُعْجِبَ بِهِمَا وَقَدَّمَهُمَا، فَصَارَ الْمُلُوكُ مِنْ نَسْلِهِمَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ مِنْ أَمْرِ جُيُومَرْثَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا ذَكَرْتُ لِأَنَّهُ لَا تَدَافُعَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ أَنَّهُ أَبُو الْفُرْسِ مِنَ الْعَجَمِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ، أَمْ غَيْرُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَلِأَنَّ مُلْكَهُ وَمُلْكَ أَوْلَادِهِ لَمْ يَزَلْ مُنْتَظِمًا عَلَى سِيَاقٍ مُتَّصِلٍ بِأَرْضِ الْمَشْرِقِ وَجِبَالِهَا إِلَى أَنْ قُتِلَ يَزْدَجِرْدُ بْنُ شَهْرَيَارَ بِمَرْوَ أَيَّامَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَالتَّارِيخُ عَلَى أَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ أَسْهَلُ بَيَانًا، وَأَقْرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ مِنْهُ عَلَى أَعْمَارِ مُلُوكِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، إِذْ لَا يُعْلَمُ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إِلَى آدَمَ دَامَتْ لَهُمُ الْمَمْلَكَةُ وَاتَّصَلَ الْمُلْكُ لِمُلُوكِهِمْ يَأْخُذُهُ آخِرُهُمْ عَنْ أَوَّلِهِمْ، وَغَابِرُهُمْ عَنْ سَالِفِهِمْ سِوَاهُمْ. وَأَنَا ذَاكِرٌ مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي عُمُرِ آدَمَ، وَأَعْمَارِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ وَلَدِهِ مِنَ الْمُلُوكِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَجُيُومَرْثَ أَبِي الْفُرْسِ، فَأَذْكُرُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَمْرِهِمْ إِلَى الْحَالِ الَّتِي اجْتَمَعُوا

عَلَيْهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى مَلِكٍ مِنْهُمْ فِي زَمَانٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ هُوَ الْمَلِكُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَانَ آدَمُ مَعَ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مُلْكِ الْأَرْضِ نَبِيًّا رَسُولًا إِلَى وَلَدِهِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ صَحِيفَةً كَتَبَهَا آدَمُ بِيَدِهِ عَلَّمَهُ إِيَّاهَا جَبْرَائِيلُ. «وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمِ الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا، يَعْنِي كَثِيرًا، طَيِّبًا قَالَ: قُلْتُ: مَنْ أَوَّلُهُمْ؟ قَالَ: آدَمُ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، ثُمَّ سَوَّاهُ قَبْلًا، وَكَانَ مِمَّنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَحُرُوفُ الْمُعْجَمِ فِي إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَرَقَةً» .

ذكر ولادة شيث

[ذِكْرُ وِلَادَةِ شِيثٍ] وَمِنَ الْأَحْدَاثِ فِي أَيَّامِهِ وِلَادَةُ شِيثٍ، وَكَانَتْ بَعْدَ مُضِيِّ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً لِآدَمَ، وَبَعْدَ قَتْلِ هَابِيلَ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَقِيلَ: وُلِدَ فَرْدًا بِغَيْرِ تَوْأَمٍ. وَتَفْسِيرُ شِيثٍ: هِبَةُ اللَّهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ خَلَفٌ مِنْ هَابِيلَ، وَهُوَ وَصِيُّ آدَمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ مَعَهُ تَوْأَمٌ. وَلَمَّا حَضَرَتْ آدَمَ الْوَفَاةُ عَهِدَ إِلَى شِيثٍ وَعَلَّمَهُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ، وَعِبَادَةَ الْخَلْوَةِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْهَا وَأَعْلَمَهُ بِالطُّوفَانِ، وَصَارَتِ الرِّيَاسَةُ بَعْدَ آدَمَ إِلَيْهِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَحِيفَةً، وَإِلَيْهِ أَنْسَابُ بَنِي آدَمَ كُلِّهِمُ الْيَوْمَ. وَأَمَّا الْفُرْسُ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ جُيُومَرْثَ هُوَ آدَمُ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: وُلِدَ لِجُيُومَرْثَ ابْنَتُهُ مَيْشَانُ أُخْتُ مَيْشَى، وَتَزَوَّجَ مَيْشَى أُخْتَهُ مَيْشَانَ، فَوَلَدَتْ لَهُ سِيَامِكَ، وَسِيَامِي، فَوُلِدَ لِسِيَامِكَ بْنِ جُيُومَرْثَ أَفَرُوَالُ، وَدَقَسُ، وَبُوَاسِبُ، وَأَجْرَابُ، وَأَوْرَاشُ، وَأُمُّهُمْ

جَمِيعًا سِيَامِي ابْنَةُ مَيْشَى، وَهِيَ أُخْتُ أَبِيهِمْ. وَذَكَرُوا أَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا سَبْعَةُ أَقَالِيمَ، فَأَرْضُ بَابِلَ وَمَا يُوَصِّلُ إِلَيْهِ مِمَّا يَأْتِيهِ النَّاسُ بَرًّا وَبَحْرًا فَهُوَ مِنْ إِقْلِيمٍ وَاحِدٍ وَسُكَّانُهُ وَلَدُ أَفَرُوَالَ بْنِ سِيَامِكَ مِنْ أَفَرَى ابْنَةِ سِيَامِكَ أُوشْهَنْجَ بِيشَدَادَ الْمَلِكِ، وَهُوَ الَّذِي خَلَفَ جَدَّهُ جُيُومَرْثَ فِي الْمُلْكِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنُ جَمَعَ مُلْكَ الْأَقَالِيمِ السَّبْعَةِ، وَسَنَذْكُرُ أَخْبَارَهُ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ أُوشْهَنْجَ هَذَا هُوَ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ مِنْ حَوَّاءَ. وَأَمَّا ابْنُ الْكَلْبِيِّ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ مَلَكَ الْأَرْضَ أُوشْهَنْجُ بْنُ عَابِرِ بْنِ شَالَخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، قَالَ: وَالْفُرْسُ تَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ آدَمَ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ بَعْدَ نُوحٍ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ، وَلَمْ تَعْرِفِ الْفُرْسُ مَا كَانَ قَبْلَ نُوحٍ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ أُوشْهَنْجَ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْفُرْسِ، وَكُلُّ قَوْمٍ أَعْلَمُ بِأَنْسَابِهِمْ، وَأَيَّامِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ. قَالَ: وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَسَّابَةِ الْفُرْسِ أَنَّ أُوشْهَنْجَ هَذَا هُوَ مَهْلَائِيلُ، وَأَنَّ أَبَاهُ أَفَرُوَالُ هُوَ قَيْنَانُ، وَأَنَّ سِيَامِكَ هُوَ أَنْوَشُ أَبُو فَيْنَانَ، وَأَنَّ مَيْشَى هُوَ شِيثٌ أَبُو أَنْوَشَ، وَأَنَّ جُيُومَرْثَ هُوَ آدَمُ. فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ فَلَا شَكَّ أَنَّ أُوشْهَنْجَ كَانَ فِي زَمَنِ آدَمَ رَجُلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَهْلَائِيلَ فِيمَا ذُكِرَ فِي الْكُتُبِ الْأُولَى كَانَتْ وِلَادَةُ أُمِّهِ دِينَةَ ابْنَةِ بِرَاكِيلَ بْنِ مَحْوِيلَ بْنِ

ذكر وفاة آدم عليه السلام

حُنُوخَ بْنِ قَيْنِ بْنِ آدَمَ إِيَّاهُ بَعْدَمَا مَضَى مِنْ عُمُرِ آدَمَ ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَقَدْ كَانَ لَهُ حِينَ وَفَاةِ أَبِيهِ آدَمَ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، عَلَى حِسَابِ أَنَّ عُمُرَ آدَمَ كَانَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَقَدْ زَعَمَتِ الْفُرْسُ أَنَّ مُلْكَ أُوشْهَنْجَ كَانَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ النَّسَّابَةُ الَّذِي ذَكَرْتُ عَنْهُ مَا ذَكَرْتُ فَمَا يَبْعُدُ مَنْ قَالَ: إِنَّ مُلْكَهُ كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ آدَمَ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ. [ذِكْرُ وَفَاةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ] ذِكْرُ أَنَّ آدَمَ مَرِضَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَوْصَى إِلَى ابْنِهِ شِيثٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْفِيَ عِلْمَهُ عَنْ قَابِيلَ، وَوَلَدِهِ لِأَنَّهُ قَتَلَ هَابِيلَ حَسَدًا مِنْهُ لَهُ حِينَ خَصَّهُ آدَمُ بِالْعِلْمِ، فَأَخْفَى شِيثٌ وَوَلَدُهُ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ قَابِيلَ وَوَلَدِهِ عِلْمٌ يَنْتَفِعُونَ بِهِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِآدَمَ حِينَ خَلَقَهُ: ائْتِ أُولَئِكَ النَّفَرَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قُلِ السَّلَامُ عَلَيْكَمْ، فَأَتَاهُمْ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا لَهُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ قَبَضَ لَهُ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ خُذْ وَاخْتَرْ. فَقَالَ: أَحْبَبْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، فَفَتَحَهَا لَهُ فَإِذَا فِيهَا صُورَةُ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ كُلِّهِمْ، وَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ أَجَلُهُ، وَإِذَا آدَمُ قَدْ كُتِبَ لَهُ عُمُرُ أَلْفِ سَنَةٍ، وَإِذَا قَوْمٌ عَلَيْهِمُ النُّورُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَلَيْهِمُ النُّورُ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ الَّذِينَ أُرْسِلُهُمْ إِلَى عِبَادِي، وَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ هُوَ مِنْ أَضْوَئِهِمْ نُورًا وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنَ الْعُمُرِ إِلَّا أَرْبَعُونَ سَنَةً. فَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ، هَذَا مِنْ أَضْوَئِهِمْ وَلَمْ تَكْتُبْ لَهُ إِلَّا أَرْبَعِينَ سَنَةً، بَعْدَ أَنْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ دَاوُدُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: ذَلِكَ مَا كَتَبْتُ لَهُ. فَقَالَ: يَا رَبِّ، انْقُصْ لَهُ مِنْ عُمُرِي سِتِّينَ سَنَةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَلَمَّا أُهْبِطَ إِلَى

الْأَرْضِ كَانَ يَعُدُّ أَيَّامَهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ لِقَبْضِهِ قَالَ لَهُ آدَمُ: عَجِلْتَ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ! قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي سِتُّونَ سَنَةً. فَقَالَ لَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ: مَا بَقِيَ شَيْءٌ، سَأَلْتَ رَبَّكَ أَنْ يَكْتُبَهُ لِابْنِكَ دَاوُدَ. فَقَالَ: مَا فَعَلْتُ! " فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَجَحَدَ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ فَحِينَئِذٍ وَضَعَ اللَّهُ الْكِتَابَ وَأَمَرَ بِالشُّهُودِ» ". وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الدَّيْنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ ثَلَاثَ مِرَارٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَهُ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا هُوَ ذَارٌّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَجَعَلَ يَعْرِضُهُمْ عَلَى آدَمَ، فَرَأَى مِنْهُمْ رَجُلًا يُزْهِرُ، قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَيُّ بَنِيَّ هَذَا؟ قَالَ: ابْنُكَ دَاوُدُ. قَالَ: كَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً. قَالَ: زِدْهُ مِنَ الْعُمُرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا، إِلَّا أَنْ تَزِيدَهُ أَنْتَ. وَكَانَ عُمُرُ آدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَوَهَبَ لَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَكَتَبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ، فَلَمَّا احْتُضِرَ آدَمُ أَتَتْهُ الْمَلَائِكَةُ لِتَقْبِضَ رُوحَهُ، فَقَالَ: قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً. قَالُوا: إِنَّكَ قَدْ وَهَبْتَهَا لِابْنِكَ دَاوُدَ. قَالَ: مَا فَعَلْتُ، وَلَا وَهَبْتُ لَهُ شَيْئًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَأَقَامَ الْمَلَائِكَةَ شُهُودًا. فَأَكْمَلَ لِآدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَكْمَلَ لِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ» ". وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عُمُرُ آدَمَ تِسْعَمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَأَهْلُ التَّوْرَاةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ عُمُرَ آدَمَ تِسْعُمِائَةِ سَنَةٍ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَالْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَالْعُلَمَاءِ مَا ذَكَرْنَا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمُ الْخَلْقِ. وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّتِي فِيهَا أَنَّ آدَمَ وَهَبَ دَاوُدَ مِنْ عُمُرِهِ سِتِّينَ سَنَةً لَمْ يَكُنْ كَثِيرُ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَنَّ عُمُرَهُ كَانَ تِسْعَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَلَعَلَّ اللَّهَ ذَكَرَ عُمُرَهُ فِي التَّوْرَاةِ سِوَى مَا وَهَبَهُ لِدَاوُدَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ آدَمَ حِينَ مَاتَ بَعَثَ

اللَّهُ بِكَفَنِهِ وَحَنُوطِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وَلِيَتِ الْمَلَائِكَةُ قَبْرَهُ وَدَفْنَهُ حَتَّى غَيَّبُوهُ. وَرَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ آدَمَ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ بِحَنُوطِهِ، وَكَفَنِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا رَأَتْ حَوَّاءُ الْمَلَائِكَةَ ذَهَبَتْ لِتَدْخُلَ دُونَهُمْ، فَقَالَ: خَلِّي عَنِّي، وَعَنْ رُسُلِ رَبِّي، فَمَا لَقِيتُ مَا لَقِيتُ إِلَّا مِنْكِ، وَلَا أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي إِلَّا فِيكِ. فَلَمَّا قُبِضَ غَسَّلُوهُ بِالسِّدْرِ وَالْمَاءِ وِتْرًا، وَكَفَّنُوهُ فِي وِتْرٍ مِنَ الثِّيَابِ، ثُمَّ لَحَدُوا لَهُ وَدَفَنُوهُ، ثُمَّ قَالُوا: هَذِهِ سُنَّةُ وَلَدِ آدَمَ مِنْ بَعْدِهِ» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا مَاتَ آدَمُ قَالَ شِيثٌ لِجَبْرَائِيلَ: صَلِّ عَلَيْهِ. فَقَالَ: تَقَدَّمْ أَنْتَ فَصَلِّ عَلَى أَبِيكَ. فَكَبَّرَ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً، فَأَمَّا خَمْسٌ فَهِيَ الصَّلَاةُ، وَأَمَّا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَتَفْضِيلًا لِآدَمَ. وَقِيلَ: دُفِنَ فِي غَارٍ فِي جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ يُقَالُ لَهُ غَارُ الْكَنْزِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا خَرَجَ نُوحٌ مِنَ السَّفِينَةِ دَفَنَ آدَمَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَذُكِرَ أَنَّ حَوَّاءَ عَاشَتْ بَعْدَهُ سَنَةً، ثُمَّ مَاتَتْ فَدُفِنَتْ مَعَ زَوْجِهَا فِي الْغَارِ الَّذِي ذَكَرْتُ إِلَى وَقْتِ الطُّوفَانِ، وَاسْتَخْرَجَهُمَا نُوحٌ، وَجَعَلَهُمَا فِي تَابُوتٍ، ثُمَّ حَمَلَهُمَا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ، فَلَمَّا غَاضَتِ الْأَرْضُ الْمَاءَ رَدَّهُمَا إِلَى مَكَانِهِمَا الَّذِي كَانَا فِيهِ قَبْلَ الطُّوفَانِ، قَالَ: وَكَانَتْ حَوَّاءُ فِيمَا ذُكِرَ قَدْ غَزَلَتْ، وَنَسَجَتْ، وَعَجَنَتْ، وَخَبَزَتْ، وَعَمِلَتْ أَعْمَالَ النِّسَاءِ كُلَّهَا. وَإِذْ قَدْ فَرَغْنَا مِنْ ذِكْرِ آدَمَ وَعَدُوِّهِ إِبْلِيسَ، وَذِكْرِ أَخْبَارِهِمَا، وَمَا صَنَعَ اللَّهُ بِعَدُوِّهِ إِبْلِيسَ حِينَ تَجَبَّرَ، وَتَكَبَّرَ مِنْ تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ، وَطَغَى وَبَغَى، مِنَ الطَّرْدِ، وَالْإِبْعَادِ، وَالنَّظِرَةِ إِلَى يَوْمِ

الدِّينِ، وَمَا صَنَعَ بِآدَمَ إِذْ أَخْطَأَ وَنَسِيَ مِنْ تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لَهُ، ثُمَّ تَغَمُّدِهِ إِيَّاهُ بِالرَّحْمَةِ إِذْ تَابَ مِنْ زَلَّتِهِ - فَأَرْجِعُ إِلَى ذِكْرِ قَابِيلَ وَشِيثٍ ابْنَيْ آدَمَ وَأَوْلَادِهِمَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ذكر شيث بن آدم عليه السلام

[ذِكْرُ شِيثِ بْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ] قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ أَمْرِهِ وَأَنَّهُ كَانَ وَصِيَّ آدَمَ فِي مُخَلِّفِيهِ بَعْدَ مُضِيِّهِ لِسَبِيلِهِ. وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الصُّحُفِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِمَكَّةَ يَحُجُّ وَيَعْتَمِرُ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَإِنَّهُ كَانَ جَمَعَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِيهِ آدَمَ مِنَ الصُّحُفِ وَعَمِلَ بِمَا فِيهَا، وَإِنَّهُ بَنَى الْكَعْبَةَ بِالْحِجَارَةِ وَالطِّينِ. وَأَمَّا السَّلَفُ مِنْ عُلَمَائِنَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ تَزَلِ الْقُبَّةُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لِآدَمَ مَكَانَ الْبَيْتِ إِلَى أَيَّامِ الطُّوفَانِ فَرَفَعَهَا اللَّهُ حِينَ أَرْسَلَ الطُّوفَانَ. وَقِيلَ: إِنَّ شِيثًا لَمَّا مَرِضَ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ أَنْوَشَ وَمَاتَ فَدُفِنَ مَعَ أَبَوَيْهِ بِغَارِ أَبِي قُبَيْسٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ لِمُضِيِّ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِ آدَمَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ تِسْعُمِائَةِ سَنَةٍ وَاثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَامَ أَنْوَشُ بْنُ شِيثٍ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ بِسِيَاسَةِ الْمُلْكِ وَتَدْبِيرِ مَنْ تَحْتَ يَدَيْهِ مِنْ رَعِيَّتِهِ مَقَامَ أَبِيهِ لَا يُوقَفُ مِنْهُ تَغْيِيرٌ، وَلَا تَبْدِيلٌ، فَكَانَ جَمِيعُ عُمُرِ أَنُوشَ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسَ سِنِينَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ بَعْدَ أَنْ أَمْضَى مِنْ عُمُرِ أَبِيهِ شِيثٍ سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسَ سِنِينَ، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وُلِدَ لِشِيثٍ أَنْوَشُ وَوُلِدَ مَعَهُ نَفَرٌ كَثِيرٌ، وَإِلَيْهِ أَوْصَى شِيثٌ، ثُمَّ وُلِدَ لِأَنْوَشَ بْنِ شِيثٍ ابْنُهُ قَيْنَانُ مِنْ أُخْتِهِ نِعْمَةَ بِنْتِ شِيثٍ بَعْدَ مُضِيِّ تِسْعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِ

أَنْوَشَ، وَوُلِدَ مَعَهُ نَفَرٌ كَثِيرٌ، وَإِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، وَوَلَدَ قَيْنَانُ مَهْلَائِيلَ، وَنَفَرًا كَثِيرًا مَعَهُ، وَإِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، وَوَلَدَ مَهْلَائِيلُ يَرْدَ، وَهُوَ الْيَارَدُ. وَنَفَرًا مَعَهُ، وَإِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، فَوَلَدَ يَرْدُ حَنُوخَ، وَهُوَ إِدْرِيسُ النَّبِيُّ، وَنَفَرًا مَعَهُ، وَإِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، وَوَلَدَ حَنُوخُ مَتُوشَلَخَ وَنَفَرًا مَعَهُ، وَإِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ. وَأَمَّا التَّوْرَاةُ فَفِيهَا أَنَّ مَهْلَائِيلَ وُلِدَ بَعْدَ أَنْ مَضَى مِنْ عُمُرِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَمِنْ عُمُرِ قَيْنَانَ سَبْعُونَ، وَوُلِدَ يَرْدُ لِمَهْلَائِيلَ بَعْدَمَا مَضَى مِنْ عُمُرِ آدَمَ أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً، فَكَانَ عَلَى مِنْهَاجِ أَبِيهِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَحْدَاثَ بَدَأَتْ فِي زَمَانِهِ.

ذكر الأحداث التي كانت من لدن ملك شيث إلى أن ملك يرد

[ذِكْرُ الْأَحْدَاثِ الَّتِي كَانَتْ مِنْ لَدُنْ مُلْكِ شِيثٍ إِلَى أَنْ مَلَكَ يَرْدُ] ذِكْرُ أَنَّ قَابِيلَ لَمَّا قَتَلَ هَابِيلَ وَهَرَبَ مِنْ أَبِيهِ آدَمَ إِلَى الْيَمَنِ أَتَاهُ إِبْلِيسُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَابِيلَ إِنَّمَا قُبِلَ قُرْبَانُهُ وَأَكَلَتْهُ النَّارُ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدُمُ النَّارَ وَيَعْبُدُهَا، فَانْصِبْ أَنْتَ نَارًا تَكُونُ لَكَ وَلِعَقِبِكَ. فَبَنَى بَيْتَ نَارٍ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَصَبَ نَارًا وَعَبَدَهَا. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ قَيْنًا، وَهُوَ قَابِيلُ، نَكَحَ أُخْتَهُ أَشُوثَ بِنْتَ آدَمَ فَوَلَدَتْ لَهُ رَجُلًا وَامْرَأَةً: حَنُوخَ بْنَ قَيْنَ وَعَذْبَ بِنْتَ قَيْنَ، فَنَكَحَ حَنُوخُ أُخْتَهُ عَذْبَ فَوَلَدَتْ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَامْرَأَةً: غِيرَدَ وَمَحْوِيلَ، وَأُنُوشِيلَ، وَمُولِيثَ ابْنَةَ حَنُوخَ، فَنَكَحَ أُنُوشِيلُ بْنُ حَنُوخَ أُخْتَهُ مُولِيثَ، وَوَلَدَتْ لَهُ رَجُلًا اسْمُهُ لَامَكَ، فَنَكَحَ لَامَكُ امْرَأَتَيْنِ اسْمُ إِحْدَاهِمَا عَدَّى وَالْأُخْرَى صَلَّى، فَوَلَدَتْ عَدَّى تُولِينَ بْنَ لَامَكَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَكَنَ الْقِبَابَ وَاقْتَنَى الْمَالَ، وَتُوبْلِينَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ بِالْوَنَجِ وَالصَّنْجِ، وَوَلَدَتْ رَجُلًا اسْمُهُ تُوبْلَقِينَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَمِلَ النُّحَاسَ، وَالْحَدِيدَ، وَكَانَ أَوْلَادُهُمْ فَرَاعِنَةً وَجَبَابِرَةً، وَكَانُوا قَدْ أُعْطُوا بَسْطَةً فِي الْخَلْقِ. قَالَ: ثُمَّ انْقَرَضَ وَلَدُ قَيْنَ، وَلَمْ يَتْرُكُوا عَقِبًا إِلَّا قَلِيلًا، وَذُرِّيَّةُ آدَمَ كُلُّهَا جَهِلَتْ أَنْسَابَهُمْ، وَانْقَطَعَ نَسْلُهُمْ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ شِيثٍ، فَمِنْهُ كَانَ النَّسْلُ، وَأَنْسَابُ النَّاسِ الْيَوْمَ كُلِّهِمْ إِلَيْهِ دُونَ أَبِيهِ آدَمَ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ أَمْرِ قَابِيلَ وَوَلَدِهِ إِلَّا مَا حَكَيْتُ.

وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ: إِنَّ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ الْمَلَاهِيَ مِنْ وَلَدِ قَابِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ثَوْبَالُ بْنُ قَابِيلَ، اتَّخَذَهَا فِي زَمَانِ مَهْلَائِيلَ بْنِ قَيْنَانَ، اتَّخَذَ الْمَزَامِيرَ، وَالطَّنَابِيرَ، وَالطُّبُولَ، وَالْعِيدَانَ، وَالْمَعَازِفَ، فَانْهَمَكَ وَلَدُ قَابِيلَ فِي اللَّهْوِ. وَتَنَاهَى خَبَرُهُمْ إِلَى مَنْ بِالْجَبَلِ مِنْ وَلَدِ شِيثٍ، فَهَمَّ مِنْهُمْ مِائَةُ رَجُلٍ بِالنُّزُولِ إِلَيْهِمْ وَبِمُخَالَفَةِ مَا أَوْصَاهُمْ بِهِ آبَاؤُهُمْ، وَبَلَغَ ذَلِكَ يَارَدَ فَوَعَظَهُمْ وَنَهَاهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَنَزَلُوا إِلَى وَلَدِ قَابِيلَ فَأُعْجِبُوا بِمَا رَأَوْا مِنْهُمْ، فَلَمَّا أَرَادُوا الرُّجُوعَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ لِدَعْوَةٍ سَبَقَتْ مِنْ آبَائِهِمْ فَلَمَّا أَبْطَئُوا ظَنَّ مَنْ بِالْجَبَلِ مِمَّنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ زَيْغٌ أَنَّهُمْ أَقَامُوا اغْتِبَاطًا، فَتَسَلَّلُوا يَنْزِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ وَرَأَوُا اللَّهْوَ فَأَعْجَبَهُمْ، وَوَافَقُوا نِسَاءً مِنْ وَلَدِ قَابِيلَ مُتَشَرِّعَاتٍ إِلَيْهِمْ وَصِرْنَ مَعَهُمْ، وَانْهَمَكُوا فِي الطُّغْيَانِ، وَفَشَتِ الْفَحْشَاءُ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ فِيهِمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الْحَقِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ سَلَفِ عُلَمَائِنَا الْمُسْلِمِينَ نَحْوٌ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا بَيَّنُوا زَمَانَ مَنْ حَدَثَ ذَلِكَ فِي مُلْكِهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِيمَا بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ مِثْلُهُ. وَمِثْلَهُ رَوَى الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ مَعَ اخْتِلَافٍ قَرِيبٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَا نَسَّابُو الْفُرْسِ فَقَدْ ذَكَرْتُ مَا قَالُوا فِي مَهْلَائِيلَ بْنِ قَيْنَانَ، وَأَنَّهُ هُوَ أُوشْهَنْجُ الَّذِي مَلَكَ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ، وَبَيَّنْتُ قَوْلَ مَنْ خَالَفَهُمْ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ بَنَى الْبِنَاءَ، وَاسْتَخْرَجَ الْمَعَادِنَ وَأَمَرَ أَهْلَ زَمَانِهِ بِاتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ، وَبَنَى مَدِينَتَيْنِ كَانَتَا أَوَّلَ مَا بُنِيَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَدَائِنِ، وَهُمَا مَدِينَةُ بَابِلَ، وَهِيَ بِالْعِرَاقِ، وَمَدِينَةُ السُّوسِ بِخُوزِسْتَانَ، وَكَانَ مُلْكُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَنْبَطَ الْحَدِيدَ وَعَمِلَ مِنْهُ الْأَدَوَاتِ لِلصِّنَاعَاتِ، وَقَدَّرَ الْمِيَاهَ فِي مَوَاقِعِ الْمَنَافِعِ، وَحَضَّ النَّاسَ عَلَى الزِّرَاعَةِ، وَاعْتِمَادِ الْأَعْمَالِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ السِّبَاعِ الضَّارِيَةِ، وَاتِّخَاذِ الْمَلَابِسِ مِنْ جُلُودِهَا وَالْمَفَارِشِ، وَبِذَبْحِ الْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالْوَحْشِ، وَأَكْلِ لُحُومِهَا، وَإِنَّهُ بَنَى مَدِينَةَ الرَّيِّ.

قَالُوا: وَهِيَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ بُنِيَتْ بَعْدَ مَدِينَةِ جُيُومَرْثَ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا بِدُنْبَاوَنْدَ. وَقَالُوا: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْأَحْكَامَ، وَالْحُدُودَ. وَكَانَ مُلَقَّبًا بِذَلِكَ يُدْعَى بِيشَدَادَ، وَمَعْنَاهُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِالْعَدْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ " بِيشَ " مَعْنَاهُ أَوَّلُ، وَ " دَادَ " مَعْنَاهُ عَدَلَ وَقَضَى. وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَخْدَمَ الْجَوَارِيَ وَأَوَّلُ مَنْ قَطَعَ الشَّجَرَ وَجَعَلَهُ فِي الْبِنَاءِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ نَزَلَ الْهِنْدَ وَتَنَقَّلَ فِي الْبِلَادِ وَعَقَدَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجًا، وَذَكَرُوا أَنَّهُ قَهَرَ إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ وَمَنْعَهُمُ الِاخْتِلَاطَ بِالنَّاسِ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَتَلَ مَرَدَتَهُمْ، فَهَرَبُوا مِنْ خَوْفِهِ إِلَى الْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ، فَلَمَّا مَاتَ عَادُوا. وَقِيلَ: إِنَّهُ سَمَّى شِرَارَ النَّاسِ شَيَاطِينَ وَاسْتَخْدَمَهُمْ، وَمَلَكَ الْأَقَالِيمَ كُلَّهَا. وَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ مَوْلِدِ أُوشْهَنْجَ وَمَوْتِ جُيُومَرْثَ مِائَتَا سَنَةٍ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. (عُتَيْبَةُ بِالْعَيْنِ، وَبَعْدَهَا تَاءٌ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ، وَيَاءٌ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَبَاءٌ مُوَحَّدَةٌ) .

ذكر يرد

[ذِكْرُ يَرْدَ] وَقِيلَ يَارَدُ بْنُ مَهْلَائِيلَ، أُمُّهُ خَالَتُهُ سَمْعَنُ ابْنَةُ بِرَاكِيلَ بْنِ مَحْوِيلَ بْنِ حَنُوخَ بْنِ قَيْنَ بْنِ آدَمَ، وُلِدَ بَعْدَمَا مَضَى مِنْ عُمُرِ آدَمَ أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَفِي أَيَّامِهِ عُمِلَتِ الْأَصْنَامُ، وَعَادَ مَنْ عَادَ عَنِ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ نَكَحَ يَرْدُ، فِي قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ - وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً - بِرِكْتَا ابْنَةَ الدَّرَمْسِيلِ بْنِ مَحْوِيلَ بْنِ حَنُوخَ بْنِ قَيْنَ بْنِ آدَمَ، فَوَلَدَتْ لَهُ حَنُوخَ، وَهُوَ إِدْرِيسُ النَّبِيُّ، فَكَانَ أَوَّلَ بَنِي آدَمَ أُعْطِيَ النُّبُوَّةَ وَخَطَّ بِالْقَلَمَ، وَأَوَّلَ مَنْ نَظَرَ فِي عُلُومِ النُّجُومِ، وَالْحِسَابِ. وَحُكَمَاءُ الْيُونَانِيِّينَ يُسَمُّونَهُ هِرْمِسَ الْحَكِيمَ، وَهُوَ عَظِيمٌ عِنْدَهُمْ، فَعَاشَ يَرْدُ بَعْدَ مَوْلِدِ إِدْرِيسَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، فَكَانَ عُمُرُهُ تِسْعَمِائَةِ سَنَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَقِيلَ: أُنْزِلَ عَلَى إِدْرِيسَ ثَلَاثُونَ صَحِيفَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَطَعَ الثِّيَابَ وَخَاطَهَا، وَأَوَّلُ مَنْ سَبَى مِنْ وَلَدِ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ فَاسْتَرَقَّ مِنْهُمْ، وَكَانَ وَصِيَّ وَالِدِهِ يَرْدَ فِيمَا كَانَ آبَاؤُهُ وَصَّوْا بِهِ إِلَيْهِ، وَفِيمَا أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَتُوُفِّيَ آدَمُ بَعْدَ أَنْ مَضَى مِنْ عُمُرِ إِدْرِيسَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَمَانِي سِنِينَ. وَدَعَا إِدْرِيسُ قَوْمَهُ وَوَعَظَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْصِيَةِ الشَّيْطَانِ، وَأَنْ لَا يُلَابِسُوا وَلَدَ قَابِيلَ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ. قَالَ: وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ إِدْرِيسَ بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً مِنْ

عُمُرِهِ، وَبَعْدَ أَنْ مَضَى مِنْ عُمُرِ أَبِيهِ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وَسَبْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَعَاشَ أَبُوهُ بَعْدَ ارْتِفَاعِهِ أَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً تَمَامَ تِسْعِمِائَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا أَبَا ذَرٍّ، مِنَ الرُّسُلِ أَرْبَعَةٌ سُرْيَانِيُّونَ: آدَمُ، وَشِيثٌ، وَنُوحٌ، وَحَنُوخُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً» . وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي زَمَانِهِ، وَجَمَعَ لَهُ عِلْمَ الْمَاضِينَ وَزَادَهُ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَلَكَ بِيوَرَاسِبُ فِي عَهْدِ إِدْرِيسَ، وَكَانَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ آدَمَ، فَاتَّخَذَهُ سِحْرًا، وَكَانَ بِيوَرَاسِبُ يَعْمَلُ بِهِ. (يَارَدُ بِيَاءٍ مُعْجَمَةٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا، وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ. وَحَنُوخُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ، وَنُونٍ بَعْدَهَا وَاوٌ، وَخَاءٍ مُعْجَمَةٍ، وَقِيلَ بِخَائَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ) .

ذكر ملك طهمورث

[ذِكْرُ مُلْكِ طَهْمُورُثَ] زَعَمَتِ الْفُرْسُ أَنَّهُ مَلَكَ بَعْدَ مَوْتِ أُوشْهَنْجَ طَهْمُورُثُ بْنُ وَيُونْجَهَانَ، يَعْنِي خَيْرَ أَهْلِ الْأَرْضِ، ابْنُ حَبَايِدَادَ بْنِ أُوشْهَنْجَ، وَقِيلَ فِي نَسَبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ. وَزَعَمَ الْفُرْسُ أَيْضًا أَنَّهُ مَلَكَ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ وَعَقَدَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجًا، وَكَانَ مَحْمُودًا فِي مُلْكِهِ مُشْفِقًا عَلَى رَعِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ ابْتَنَى سَابُورَ مِنْ فَارِسَ وَنَزَلَهَا وَتَنَقَّلَ فِي الْبُلْدَانِ، وَأَنَّهُ وَثَبَ بِإِبْلِيسَ حَتَّى رَكِبَهُ فَطَافَ عَلَيْهِ فِي أَدَانِي الْأَرْضِ، وَأَقَاصِيهَا، وَأَفْزَعَهُ وَمَرَدَتَهُ حَتَّى تَفَرَّقُوا، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ الصُّوفَ، وَالشَّعَرَ لِلُّبْسِ، وَالْفَرْشِ وَأَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ زِينَةَ الْمُلُوكِ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، وَأَمَرَ بِاتِّخَاذِ الْكِلَابِ فَحَفِظَ الْمَوَاشِيَ وَغَيْرَهَا، وَأَخَذَ الْجَوَارِحَ لِلصَّيْدِ، وَكَتَبَ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَأَنَّ بِيَوْرَاسِبَ ظَهَرَ فِي أَوَّلِ سَنَةٍ مِنْ مُلْكِهِ وَدَعَا إِلَى مِلَّةِ الصَّابِئِينَ. كَذَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ رَكِبَ إِبْلِيسَ وَطَافَ عَلَيْهِ، وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا نَحْنُ نَقَلْنَا مَا قَالُوهُ. قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: أَوَّلُ مُلُوكِ الْأَرْضِ مِنْ بَابِلَ طَهْمُورُثُ، وَكَانَ لِلَّهِ مُطِيعًا، وَكَانَ مُلْكُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَفِي أَيَّامِهِ عُبِدَتِ الْأَصْنَامُ، وَأَوَّلُ مَا عُرِفَ الصَّوْمُ فِي مُلْكِهِ. وَسَبَبُهُ أَنَّ قَوْمًا فُقَرَاءَ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمُ الْقُوتُ فَأَمْسَكُوا نَهَارًا، وَأَكَلُوا لَيْلًا مَا يُمْسِكُ رَمَقَهُمْ، ثُمَّ اعْتَقَدُوهُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ وَجَاءَتِ الشَّرَائِعُ بِهِ.

ذكر حنوخ وهو إدريس عليه السلام

[ذِكْرُ حَنُوخَ وَهُوَ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ] ثُمَّ نَكَحَ حَنُوخُ بْنُ يَرْدَ هُدَانَةَ - وَتُقَالُ أَذَانَةَ - ابْنَةَ بَاوِيلَ بْنِ مَحْوِيلَ بْنِ حَنُوخَ بْنِ قَيْنَ بْنِ آدَمَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، فَوَلَدَتْ لَهُ مَتُوشَلَخَ بْنَ حَنُوخَ، فَعَاشَ بَعْدَمَا وُلِدَ مَتُوشَلَخَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ رُفِعَ وَاسْتَخْلَفَهُ حَنُوخُ عَلَى أَمْرِ وَلَدِهِ، وَأَمْرِ اللَّهِ، وَأَوْصَاهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ اللَّهَ سَوْفَ يُعَذِّبُ وَلَدَ قَابِيلَ وَمَنْ خَالَطَهُمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ، وَإِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ رَكِبَ الْخَيْلَ ; لِأَنَّهُ سَلَكَ رَسْمَ أَبِيهِ حَنُوخَ فِي الْجِهَادِ، ثُمَّ نَكَحَ مَتُوشَلَخَ عَرْبَا ابْنَةَ عَزَازِيلَ بْنِ أَنُوشِيلَ بْنِ حَنُوخَ بْنِ قَيْنَ، وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَسَبْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَوَلَدَتْ لَهُ لَمَكَ بْنَ مَتُوشَلَخَ، فَعَاشَ بَعْدَمَا وُلِدَ لَهُ لَمَكُ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، فَكَانَ كُلُّ مَا عَاشَ مَتُوشَلَخَ تِسْعَمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. ثُمَّ مَاتَ وَأَوْصَى إِلَى ابْنِهِ لَمَكَ فَكَانَ لَمَكُ يَعِظُ قَوْمَهُ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ مُخَالَطَةِ وَلَدِ قَابِيلَ، فَلَمْ يَقْبَلُوا حَتَّى نَزَلَ إِلَيْهِمْ جَمِيعُ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ فِي الْجَبَلِ. وَقِيلَ: كَانَ لِمَتُوشَلَخَ ابْنٌ آخَرُ غَيْرُ لَمَكَ يُقَالُ لَهُ صَابِي، وَبِهِ سُمِّيَ الصَّابِئُونَ. قُلْتُ: مَحْوِيلُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَبَاءٍ مُعْجَمَةٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتٍ. وَقَيْنُ بِقَافٍ، وَيَاءٍ مُعْجَمَةٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتٍ. وَمَتُوشَلَخَ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَبِالتَّاءِ الْمُعْجَمَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقٍ، وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَبِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَقِيلَ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ.

وَنَكَحَ لَمَكُ بْنُ مَتُوشَلَخَ قِينُوشَ ابْنَةَ بِرَاكِيلَ بْنِ مَحْوِيلَ بْنِ حَنُوخَ بْنِ قَيْنَ، وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَسَبْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، فَوَلَدَتْ لَهُ نُوحَ بْنَ لَمَكَ، وَهُوَ النَّبِيُّ، فَعَاشَ لَمَكُ بَعْدَ مَوْلِدِ نُوحٍ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ ثُمَّ مَاتَ. وَنَكَحَ نُوحُ بْنُ لَمَكَ عِزْرَةَ بِنْتَ بِرَاكِيلَ بْنِ مَحْوِيلَ بْنِ حَنُوخَ بْنِ قَيْنَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدَهُ سَامًا، وَحَامًا، وَيَافِثَ بَنِي نُوحٍ. وَكَانَ مَوْلِدُ نُوحٍ بَعْدَ مَوْتِ آدَمَ بِمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَلَمَّا أَدْرَكَ قَالَ لَهُ أَبُوهُ لَمَكُ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي هَذَا الْجَبَلِ غَيْرُنَا فَلَا تَسْتَوْحِشْ وَلَا تَتَّبِعِ الْأُمَّةَ الْخَاطِئَةَ. وَكَانَ نُوحٌ يَدْعُو قَوْمَهُ وَيَعِظُهُمْ فَيَسْتَخِفُّونَ بِهِ. وَقِيلَ: كَانَ نُوحٌ فِي عَهْدٍ بِيَوْرَاسِبَ وَكَانُوا قَوْمَهُ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ تِسْعَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَخَمْسِينَ سَنَةً كُلَّمَا مَضَى قَرْنٌ اتَّبَعَهُمْ قَرْنٌ عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكُفْرِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ: فَوَلَدَ لَمَكَ نُوحًا، وَكَانَ لَهُ يَوْمَ وُلِدَ نُوحٌ اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَحَدٌ يَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نُوحًا وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً فَدَعَاهُمْ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ بِصَنْعَةِ الْفُلْكِ فَصَنَعَهَا، وَرَكِبَهَا وَهُوَ ابْنُ سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ، وَغَرِقَ مَنْ غَرِقَ، ثُمَّ مَكَثَ مِنْ بَعْدِ السَّفِينَةِ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى مِلَّةِ الْحَقِّ، وَأَنَّ الْكُفْرَ بِاللَّهِ حَدَثَ فِي الْقَرْنِ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ إِلَيْهِمْ نُوحٌ، فَأَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ بِالْإِنْذَارِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ.

ذكر ملك جمشيد

[ذِكْرُ مُلْكِ جَمْشِيدَ] وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْفُرْسِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: مَلَكَ بَعْدَ طَهْمُورُثَ جَمْشِيدُ، وَالشِّيدُ عِنْدَهُمُ الشُّعَاعُ، وَجَمُّ الْقَمَرُ، لَقَّبُوهُ بِذَلِكَ لِجَمَالِهِ، وَهُوَ جَمُّ بْنُ وَيُونْجَهَانَ، وَهُوَ أَخُو طَهْمُورُثَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَلَكَ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ وَسُخِّرَ لَهُ مَا فِيهَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَعَقَدَ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَمَرَ لِسَنَةِ مَضَتْ مِنْ مُلْكِهِ إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ مِنْهُ بِعَمَلِ السُّيُوفِ وَالدُّرُوعِ وَسَائِرِ الْأَسْلِحَةِ وَآلَةِ الصُّنَّاعِ مِنَ الْحَدِيدِ، وَمِنْ سَنَةِ خَمْسِينَ مِنْ مُلْكِهِ إِلَى سَنَةِ مِائَةٍ بِعَمَلِ الْإِبَرَيْسَمِ، وَغَزْلِهِ، وَالْقُطْنِ، وَالْكَتَّانِ، وَكُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ غَزْلُهُ وَحِيَاكَةُ ذَلِكَ وَصَبْغُهُ أَلْوَانًا وَلُبْسُهُ، وَمِنْ سَنَةِ مِائَةٍ إِلَى سَنَةِ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ صَنَّفَ النَّاسَ أَرْبَعَ طَبَقَاتٍ: طَبَقَةَ مُقَاتِلَةٍ، وَطَبَقَةَ فُقَهَاءَ، وَطَبَقَةَ كُتَّابٍ، وَصُنَّاعٍ، وَطَبَقَةَ حَرَّاثِينَ، وَاتَّخَذَ مِنْهُمْ خَدَمًا، وَوَضَعَ لِكُلِّ أَمْرٍ خَاتَمًا مَخْصُوصًا بِهِ، فَكَتَبَ عَلَى خَاتَمِ الْحَرْبِ: الرِّفْقُ وَالْمُدَارَاةُ، وَعَلَى خَاتَمِ الْخَرَاجِ: الْعِمَارَةُ وَالْعَدْلُ، وَعَلَى خَاتَمِ الْبَرِيدِ وَالرُّسُلِ: الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ، وَعَلَى خَاتَمِ الْمَظَالِمِ: السِّيَاسَةُ وَالِانْتِصَافُ، وَبَقِيَتْ رُسُومُ الْخَوَاتِيمِ حَتَّى مَحَاهَا الْإِسْلَامُ. وَمِنْ سَنَةِ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ إِلَى سَنَةِ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ حَارَبَ الشَّيَاطِينَ وَأَذَلَّهُمْ وَقَهَرَهُمْ وَسُخِّرُوا لَهُ. وَمِنْ سَنَةِ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَكَّلَ الشَّيَاطِينَ بِقَطْعِ الْأَحْجَارِ وَالصُّخُورِ مِنَ الْجِبَالِ وَعَمَلِ الرُّخَامِ، وَالْجَصِّ، وَالْكَلْسِ، وَالْبِنَاءِ بِذَلِكَ الْحَمَّامَاتِ، وَالنَّقْلِ مِنَ الْبِحَارِ، وَالْجِبَالِ، وَالْمَعَادِنِ، وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَسَائِرِ مَا يُذَابُ مِنَ الْجَوَاهِرِ، وَأَنْوَاعِ الطِّيبِ، وَالْأَدْوِيَةِ، فَنَفَّذُوا فِي ذَلِكَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ أَمَرَ فَصُنِعَتْ لَهُ عَجَلَةٌ مِنَ

الزُّجَاجِ، فَأَصْفَدَ فِيهَا الشَّيَاطِينَ، وَرَكِبَهَا، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا فِي الْهَوَاءِ مِنْ دُنْبَاوَنْدَ إِلَى بَابِلَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ يَوْمُ هُرْمُزْرُوزَ وَافُرُوزَ دِينْ مَاهْ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ. وَكَتَبَ إِلَى النَّاسِ فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ قَدْ سَارَ فِيهِمْ بِسِيرَةٍ ارْتَضَاهَا اللَّهُ، فَكَانَ مِنْ جَزَائِهِ إِيَّاهُ عَلَيْهَا أَنَّهُ قَدْ جَنَّبَهُمُ الْحَرَّ، وَالْبَرْدَ، وَالْأَسْقَامَ، وَالْهَرَمَ، وَالْحَسَدَ، فَمَكَثَ النَّاسُ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةِ وَالسِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً لَا يُصِيبُهُمْ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ. ثُمَّ بَنَى قَنْطَرَةً عَلَى دِجْلَةَ فَبَقِيَتْ دَهْرًا طَوِيلًا حَتَّى خَرَّبَهَا الْإِسْكَنْدَرُ، وَأَرَادَ الْمُلُوكُ عَمَلَ مِثْلِهَا فَعَجَزُوا فَعَدَلُوا إِلَى عَمَلِ الْجُسُورِ مِنَ الْخَشَبِ. ثُمَّ إِنَّ جَمًّا بَطِرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَجَمَعَ الْإِنْسَ، وَالْجِنَّ، وَالشَّيَاطِينَ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ وَلِيُّهُمْ، وَمَانِعُهُمْ بِقُوَّتِهِ مِنَ الْأَسْقَامِ، وَالْهَرَمِ، وَالْمَوْتِ، وَتَمَادَى فِي غَيِّهِ، فَلَمْ يُحِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ جَوَابًا، وَفَقَدَ مَكَانُهُ بَهَاءَهُ وَعِزَّهُ، وَتَخَلَّتْ عَنْهُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانَ اللَّهُ أَمَرَهُمْ بِسِيَاسَةِ أَمْرِهِ، فَأَحَسَّ بِذَلِكَ بِيَوْرَاسِبُ الَّذِي تَسَمَّى الضَّحَّاكَ، فَابْتَدَرَ إِلَى جَمٍّ لِيَنْتَهِسَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ، ثُمَّ ظَفِرَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْرَاسِبُ فَاسْتَرَطَ أَمْعَاءَهُ، وَنَشَرَهُ بِمِنْشَارٍ. وَقِيلَ إِنَّهُ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ فَوَثَبَ عَلَيْهِ أَخُوهُ لِيَقْتُلَهُ، وَاسْمُهُ أَسِغْتُورُ، فَتَوَارَى عَنْهُ مِائَةَ سَنَةٍ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ فِي تَوَارِيهِ بِيَوْرَاسِبُ فَغَلَبَهُ عَلَى مُلْكِهِ. وَقِيلَ كَانَ مُلْكُهُ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. قُلْتُ: وَهَذَا الْفَصْلُ مِنْ حَدِيثِ جَمٍّ قَدْ أَتَيْنَا بِهِ تَامًّا بَعْدَ أَنْ كُنَّا عَازِمِينَ عَلَى تَرْكِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَمُجُّهَا الْأَسْمَاعُ، وَتَأْبَاهَا الْعُقُولُ، وَالطِّبَاعُ، فَإِنَّهَا مِنْ خُرَافَاتِ الْفُرْسِ مَعَ أَشْيَاءَ أُخَرَ قَدْ تَقَدَّمَتْ قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا لِيُعْلَمَ جَهْلُ الْفُرْسِ، فَإِنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يُشَنِّعُونَ عَلَى الْعَرَبِ بِجَهْلِهِمْ، وَمَا بَلَغُوا هَذَا وَلِأَنَّا لَوْ كُنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْفَصْلَ لَخَلَا مِنْ شَيْءٍ نَذْكُرُهُ مِنْ أَخْبَارِهِمْ.

ذكر الأحداث التي كانت في زمن نوح عليه السلام

[ذِكْرُ الْأَحْدَاثِ الَّتِي كَانَتْ فِي زَمَنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ] قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي دِيَانَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ نُوحٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ رُكُوبِ الْفَوَاحِشِ، وَالْكُفْرِ، وَشُرْبِ الْخُمُورِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالْمَلَاهِي عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ طَاعَةٍ. وَبِيَوْرَاسِبُ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْقَوْلَ بِمَذْهَبِ الصَّابِئِينَ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ نُوحٌ، وَسَنَذْكُرُ أَخْبَارَ بِيَوْرَاسِبَ فِيمَا بَعْدُ. وَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ، قَالَ: فَيَنْطِقُ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 23] . قُلْتُ: لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ الْحَقَّ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا، كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّابِئِينَ، فَإِنَّ أَصْلَ مَذْهَبِ الصَّابِئِينَ عِبَادَةُ الرَّوْحَانِيِّينَ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لِتُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى زُلْفَى، فَإِنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِصَانِعِ الْعَالَمِ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ قَادِرٌ مُقَدَّسٌ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا الْوَاجِبُ عَلَيْنَا مَعْرِفَةُ الْعَجْزِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَةِ جَلَالِهِ، وَإِنَّمَا نَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالْوَسَائِطِ الْمُقَرَّبَةِ لَدَيْهِ، وَهُمُ الرَّوْحَانِيُّونَ، وَحَيْثُ لَمْ يُعَايِنُوا الرَّوْحَانِيِّينَ تَقَرَّبُوا إِلَيْهِمْ بِالْهَيَاكِلِ، وَهِيَ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ السَّيَّارَةُ لِأَنَّهَا مُدَبِّرَةٌ لِهَذَا الْعَالَمِ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَشْخَاصِ، حَيْثُ رَأَوْا أَنَّ الْهَيَاكِلَ تَطْلُعُ وَتَغْرُبُ وَتُرَى لَيْلًا وَلَا تُرَى نَهَارًا - إِلَى وَضْعِ الْأَصْنَامِ لِتَكُونَ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ لِيَتَوَسَّلُوا بِهَا إِلَى الْهَيَاكِلِ، وَالْهَيَاكِلُ إِلَى الرَّوْحَانِيِّينَ، وَالرَّوْحَانِيُّونَ إِلَى صَانِعِ الْعَالَمِ، فَهَذَا كَانَ أَصْلَ وَضْعِ الْأَصْنَامِ أَوَّلًا، وَقَدْ كَانَ أَخِيرًا فِي الْعَرَبِ مَنْ هُوَ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] فَقَدْ حَصَلَ مِنْ عِبَادَةِ

الْأَصْنَامِ مَذْهَبُ الصَّابِئِينَ، وَالْكُفْرُ وَالْفَوَاحِشُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي. فَلَمَّا تَمَادَى قَوْمُ نُوحٍ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَعِصْيَانِهِمْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نُوحًا يُحَذِّرُهُمْ بَأْسَهُ، وَنِقْمَتَهُ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ، وَالْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأُرْسِلَ نُوحٌ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِينَ سَنَةً، فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا. وَقَالَ عَوْنُ بْنُ أَبِي شَدَّادٍ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ نُوحًا وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: إِنَّ قَوْمَ نُوحٍ كَانُوا يَبْطِشُونَ بِهِ فَيَخْنُقُونَهُ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ، فَإِذَا أَفَاقَ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ! حَتَّى إِذَا تَمَادَوْا فِي مَعْصِيَتِهِمْ وَعَظُمَتْ مِنْهُمُ الْخَطِيئَةُ، وَتَطَاوَلَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الشَّأْنُ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ، وَانْتَظَرَ النَّجْلَ بَعْدَ النَّجْلِ فَلَا يَأْتِي قَرْنٌ إِلَّا كَانَ أَخْبَثَ مِنَ الْذِي كَانَ قَبْلَهُ حَتَّى إِنْ كَانَ الْآخَرُ لَيَقُولَ: قَدْ كَانَ هَذَا مَعَ آبَائِنَا، وَأَجْدَادِنَا مَجْنُونًا لَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ يُضْرَبُ وَيُلَفُّ، وَيُلْقَى فِي بَيْتِهِ، يَرَوْنَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَإِذَا أَفَاقَ اغْتَسَلَ وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَرَأَى الْأَوْلَادَ شَرًّا مِنَ الْآبَاءِ قَالَ: رَبِّ قَدْ تَرَى مَا يَفْعَلُ بِي عِبَادُكَ، فَإِنْ تَكُ لَكَ فِيهِمْ حَاجَةٌ فَاهْدِهِمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرُ ذَلِكَ فَصَيِّرْنِي إِلَى أَنْ تَحْكُمَ فِيهِمْ. فَأَوْحَى إِلَيْهِ: إِنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، فَلَمَّا يَئِسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ دَعَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] ، إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. فَلَمَّا شَكَا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَنْصَرَهُ عَلَيْهِمْ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ: اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ. فَأَقْبَلَ نُوحٌ عَلَى عَمَلِ الْفُلْكِ وَلَهَا عَنْ دُعَاءِ قَوْمِهِ وَجَعَلَ يُهَيِّئُ عَتَادَ الْفُلْكِ مِنَ الْخَشَبِ، وَالْحَدِيدِ، وَالْقَارِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يُصْلِحُهُ سِوَاهُ، وَجَعَلَ قَوْمُهُ يَمُرُّونَ بِهِ وَهُوَ فِي عَمَلِهِ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُ، فَيَقُولُ: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [هود: 38] . قَالَ: وَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ قَدْ صِرْتَ نَجَّارًا بَعْدَ النُّبُوَّةِ! وَأَعْقَمَ اللَّهُ أَرْحَامَ النِّسَاءِ فَلَا يُولَدُ

لَهُمْ، وَصَنَعَ الْفُلْكَ مِنْ خَشَبِ السَّاجِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ طُولَهُ ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، وَعَرْضَهُ خَمْسِينَ ذِرَاعًا، وَطُولَهُ فِي السَّمَاءِ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ طُولُهَا ثَلَاثَمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهَا خَمْسِينَ ذِرَاعًا، وَطُولُهَا فِي السَّمَاءِ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ طُولُهَا أَلْفَ ذِرَاعٍ وَمِائَتَيْ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهَا سِتَّمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَرَ نُوحًا أَنْ يَجْعَلَهُ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ: سُفْلَى، وَوُسْطَى، وَعُلْيَا، فَفَعَلَ نُوحٌ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُ، وَقَدْ عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40] ، وَقَدْ جَعَلَ التَّنُّورَ آيَةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. فَلَمَّا فَارَ التَّنُّورُ وَكَانَ فِيمَا قِيلَ مِنْ حِجَارَةٍ كَانَ لِحَوَّاءَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ ذَلِكَ تَنُّورًا مِنْ أَرْضِ الْهِنْدِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ: كَانَ التَّنُّورُ بِأَرْضِ الْكُوفَةِ، وَأَخْبَرَتْهُ زَوْجَتُهُ بِفَوَرَانِ الْمَاءِ مِنَ التَّنُّورِ، وَأَمَرَ اللَّهُ جَبْرَائِيلَ فَرَفَعَ الْكَعْبَةَ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، وَكَانَتْ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَخَبَّأَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ بِجَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ، فَبَقِيَ فِيهِ إِلَى أَنْ بَنَى إِبْرَاهِيمُ الْبَيْتَ فَأَخَذَهُ فَجَعَلَهُ مَوْضِعَهُ، وَلَمَّا فَارَ التَّنُّورُ حَمَلَ نُوحٌ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِحَمْلِهِ، وَكَانُوا أَوْلَادَهُ الثَّلَاثَةَ: سَامَ، وَحَامَ، وَيَافِثَ، وَنِسَاءَهُمْ، وَسِتَّةَ أَنَاسِيَّ، فَكَانُوا مَعَ نُوحٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِي السَّفِينَةِ ثَمَانُونَ رَجُلًا، أَحَدُهُمْ جُرْهُمُ، كُلُّهُمْ بَنُو شِيثٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا ثَمَانِيَةَ أَنْفُسٍ: نُوحٌ، وَامْرَأَتُهُ، وَثَلَاثَةٌ بَنُوهُ، وَنِسَاؤُهُمْ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: كَانُوا سَبْعَةً، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِمْ زَوْجَ نُوحٍ. وَحَمَلَ مَعَهُ جَسَدَ آدَمَ، ثُمَّ أَدْخَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَتَخَلَّفَ عَنْهُ ابْنُهُ يَامُ، وَكَانَ كَافِرًا، وَكَانَ آخِرَ مَنْ دَخَلَ السَّفِينَةَ الْحِمَارُ، فَلَمَّا دَخَلَ صَدْرُهُ تَعَلَّقَ إِبْلِيسُ بِذَنَبِهِ فَلَمْ تَرْتَفِعْ رِجْلَاهُ، فَجَعَلَ نُوحٌ يَأْمُرُهُ بِالدُّخُولِ فَلَا يَسْتَطِيعُ حَتَّى قَالَ: ادْخُلْ وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ مَعَكَ. فَقَالَ كَلِمَةً زَلَّتْ عَلَى لِسَانِهِ، فَلَمَّا قَالَهَا دَخَلَ الشَّيْطَانُ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ نُوحٌ: مَا أَدْخَلَكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَقُلِ ادْخُلْ وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ مَعَكَ؟ فَتَرَكَهُ. وَلَمَّا أُمِرَ نُوحٌ بِإِدْخَالِ الْحَيَوَانِ السَّفِينَةَ قَالَ: أَيْ رَبِّ، كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْأَسَدِ وَالْبَقَرَةِ؟ وَكَيْفَ أَصْنَعُ بِالْعَنَاقِ وَالذِّئْبِ، وَالطَّيْرِ وَالْهِرِّ؟ قَالَ: الَّذِي أَلْقَى بَيْنَهُمَا الْعَدَاوَةُ هُوَ يُؤَلِّفُ بَيْنَهَا. فَأَلْقَى الْحُمَّى عَلَى الْأَسَدِ، وَشَغَلَهُ بِنَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: وَمَا الْكَلْبُ مَحْمُومًا وَإِنْ طَالَ عُمْرُهُ ... وَلَكِنَّمَا الْحُمَّى عَلَى الْأَسَدِ الْوَرْدِ وَجَعَلَ نُوحٌ الطَّيْرَ فِي الطَّبَقِ الْأَسْفَلِ مِنَ السَّفِينَةِ، وَجَعَلَ الْوَحْشَ فِي الطَّبَقِ الْأَوْسَطِ، وَرَكِبَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي الطَّبَقِ الْأَعْلَى. فَلَمَّا اطْمَأَنَّ نُوحٌ فِي الْفُلْكِ، وَأَدْخَلَ فِيهِ كُلَّ مَنْ أُمِرَ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ عُمُرِهِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَحَمَلَ مَعَهُ مَنْ حَمَلَ - جَاءَ الْمَاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ - وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 11 - 12] . فَكَانَ بَيْنَ أَنْ أُرْسِلَ الْمَاءُ وَبَيْنَ أَنِ احْتَمَلَ الْمَاءُ الْفُلْكَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً، وَكَثُرَ، وَاشْتَدَّ، وَارْتَفَعَ، وَطَمَى، وَغَطَّى نُوحٌ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ

طَبَقَ السَّفِينَةِ، وَجَعَلَتِ الْفُلْكُ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ، وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ الَّذِي هَلَكَ، وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ: {يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42] وَكَانَ كَافِرًا، {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43] ، وَكَانَ عَهِدَ الْجِبَالَ وَهِيَ حِرْزٌ وَمَلْجَأٌ. فَقَالَ نُوحٌ {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43] . وَعَلَا الْمَاءُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَكَانَ عَلَى أَعْلَى جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، فَهَلَكَ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا نُوحٌ وَمَنْ مَعَهُ، وَإِلَّا عَوْجُ بْنُ عُنُقَ، فِيمَا زَعَمَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ، وَكَانَ بَيْنَ إِرْسَالِ الْمَاءِ وَبَيْنَ أَنْ غَاضَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْسَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَأَقْبَلَتِ الْوَحْشُ حِينَ أَصَابَهَا الْمَطَرُ وَالطِّينُ إِلَى نُوحٍ وَسُخِّرَتْ لَهُ، فَحَمَلَ مِنْهَا كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، فَرَكِبُوا فِيهَا لِعَشْرِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ رَجَبٍ، وَكَانَ ذَلِكَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ آبَ، وَخَرَجُوا مِنْهَا يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَلِذَلِكَ صَامَ مَنْ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. وَكَانَ الْمَاءُ نِصْفَيْنِ: نِصْفٌ مِنَ السَّمَاءِ وَنِصْفٌ مِنَ الْأَرْضِ، وَطَافَتِ السَّفِينَةُ بِالْأَرْضِ كُلِّهَا لَا تَسْتَقِرُّ حَتَّى أَتَتِ الْحَرَمَ فَلَمْ تَدْخُلْهُ، وَدَارَتْ بِالْحَرَمِ أُسْبُوعًا، ثُمَّ ذَهَبَتْ فِي الْأَرْضِ تَسِيرُ بِهِمْ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى الْجُودِيِّ، وَهُوَ جَبَلٌ بِقَرْدَى بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ، فَقِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ: {بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44] ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ قِيلَ: {يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ} [هود: 44] ، نَشَّفَتْهُ الْأَرْضُ، وَأَقَامَ نُوحٌ فِي الْفُلْكِ إِلَى أَنْ غَاضَ الْمَاءُ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْهَا اتَّخَذَ بِنَاحِيَةٍ مِنْ قَرْدَى مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ مَوْضِعًا وَابْتَنَى قَرْيَةً سَمَّوْهَا ثَمَانِينَ؛ وَهِيَ الْآنَ تُسَمَّى بِسُوقِ الثَّمَانِينِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّنْ مَعَهُ بَنَى لِنَفْسِهِ بَيْتًا، وَكَانُوا ثَمَانِينَ رَجُلًا. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ: لَمْ يُولَدْ لِنُوحٍ إِلَّا بَعْدَ الطُّوفَانِ.

وَقِيلَ: إِنَّ سَامًا وُلِدَ قَبْلَ الطُّوفَانِ بِثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَ وَلَدِهِ الَّذِي أُغْرِقَ كَانَ كَنْعَانَ وَهُوَ يَامُ. وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الطُّوفَانَ وَيَقُولُونَ لَمْ يَزَلِ الْمُلْكُ فِينَا مِنْ عَهْدِ جُيُومَرْثَ، وَهُوَ آدَمُ، قَالُوا: وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ نَسَبُ الْقَوْمِ قَدِ انْقَطَعَ وَمُلْكُهُمْ قَدِ اضْمَحَلَّ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُقِرُّ بِالطُّوفَانِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ فِي إِقْلِيمِ بَابِلَ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ، وَأَنَّ مَسَاكِنَ وَلَدِ جُيُومَرْثَ كَانَتْ بِالْمَشْرِقِ فَلَمْ يَصِلْ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى أَصْدَقُ فِي أَنَّ ذُرِّيَّةَ نُوحٍ هُمُ الْبَاقُونَ فَلَمْ يُعَقِّبْ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ غَيْرَ وَلَدِهِ سَامٍ، وَحَامٍ، وَيَافِثَ. وَلَمَّا حَضَرَتْ نُوحًا الْوَفَاةُ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ رَأَيْتَ الدُّنْيَا؟ قَالَ: كَبَيْتٍ لَهُ بَابَانِ دَخَلْتُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَخَرَجْتُ مِنَ الْآخَرِ. وَأَوْصَى إِلَى ابْنِهِ سَامٍ، وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِهِ.

ذكر بيوراسب وهو الازدهاق الذي يسميه العرب الضحاك

[ذِكْرُ بِيَوْرَاسِبَ وَهُوَ الِازْدِهَاقُ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الضَّحَّاكَ] وَأَهْلُ الْيَمَنِ يَدَّعُونَ أَنَّ الضَّحَّاكَ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ الْفَرَاعِنَةِ، وَكَانَ مَلِكَ مِصْرَ لَمَّا قَدِمَهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ. وَالْفُرْسُ تَذْكُرُ أَنَّهُ مِنْهُمْ وَتَنْسُبُهُ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ بِيَوْرَاسِبُ بْنُ أَرُونْدَاسِبَ بْنِ رِينْكَارَ بْنِ وُنْدَرِيشْتِكَ بْنِ يَارِينَ بْنِ فَرُوَالَ بْنِ سِيَامِكَ بْنِ مَيْشَى بْنِ جُيُومَرْثَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْسُبُهُ غَيْرَ هَذِهِ النِّسْبَةِ، وَزَعَمَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ مَلَكَ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ، وَأَنَّهُ كَانَ سَاحِرًا فَاجِرًا. قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: مَلَكَ الضَّحَّاكُ بَعْدَ جَمٍّ فِيمَا يَزْعُمُونَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَلْفَ سَنَةٍ، وَنَزَلَ السَّوَادَ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا بُرْسُ فِي نَاحِيَةِ طَرِيقِ الْكُوفَةِ، وَمَلَكَ الْأَرْضَ كُلَّهَا، وَسَارَ بِالْجَوْرِ وَالْعَسْفِ، وَبَسَطَ يَدَهُ فِي الْقَتْلِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الصَّلْبَ، وَالْقَطْعَ، وَأَوَّلَ مَنْ وَضَعَ الْعُشُورَ، وَضَرَبَ الدَّرَاهِمَ، وَأَوَّلَ مَنْ تَغَنَّى وَغُنِّيَ لَهُ. قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّ الضَّحَّاكَ هُوَ نُمْرُودُ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وُلِدَ فِي زَمَانِهِ، وَأَنَّهُ صَاحِبُهُ الَّذِي أَرَادَ إِحْرَاقَهُ.

وَتَزْعُمُ الْفُرْسُ أَنَّ الْمُلْكَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِلْبَطْنِ الَّذِي مِنْهُ أُوشْهَنْجُ، وَجَمٌّ، وَطَهْمُورُثُ، وَأَنَّ الضَّحَّاكَ كَانَ غَاضِبًا، وَأَنَّهُ غَصَبَ أَهْلَ الْأَرْضِ بِسِحْرِهِ، وَخُبْثِهِ، وَهَوَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْحَيَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ: إِنَّ الَّذِي كَانَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ كَانَ لُحْمَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَرَأْسِ الثُّعْبَانِ، وَكَانَ يَسْتُرُهُمَا بِالثِّيَابِ، وَيَذْكُرُ عَلَى طَرِيقِ التَّهْوِيلِ أَنَّهُمَا حَيَّتَانِ تَقْتَضِيَانِهِ الطَّعَامَ، وَكَانَتَا تَتَحَرَّكَانِ تَحْتَ ثَوْبِهِ إِذَا جَاعَتَا، وَلَقِيَ النَّاسُ مِنْهُ جُهْدًا شَدِيدًا، وَذَبَحَ الصِّبْيَانَ لِأَنَّ اللُّحْمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ كَانَتَا تَضْطَرِبَانِ فَإِذَا طَلَاهُمَا بِدِمَاغِ إِنْسَانٍ سَكَنَتَا، فَكَانَ يَذْبَحُ كُلَّ يَوْمٍ رَجُلَيْنِ، فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ كَذَلِكَ حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ هَلَاكَهُ وَثَبَ رَجُلٌ مِنَ الْعَامَّةِ مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ يُقَالُ لَهُ كَابِي بِسَبَبِ ابْنَيْنِ لَهُ أَخَذَهُمَا أَصْحَابُ بِيَوْرَاسِبَ بِسَبَبِ اللُّحْمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَأَخَذَ كَابِي عَصًا كَانَتْ بِيَدِهِ فَعَلَّقَ بِطَرَفِهَا جِرَابًا كَانَ مَعَهُ ثُمَّ نَصَبَ ذَلِكَ كَالْعَلَمِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى مُجَاهَدَةِ بِيَوْرَاسِبَ وَمُحَارَبَتِهِ. فَأَسْرَعَ إِلَى إِجَابَتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ لِمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَفُنُونِ الْجَوْرِ. فَلَمَّا غَلَبَ كَابِي تَفَاءَلَ النَّاسُ بِذَلِكَ الْعَلَمِ فَعَظَّمُوهُ، وَزَادُوا فِيهِ حَتَّى صَارَ عِنْدَ مُلُوكِ الْعَجَمِ عَلَمَهُمُ الْأَكْبَرَ الَّذِي يَتَبَرَّكُونَ بِهِ وَسَمَّوْهُ دِرَفْشَ كَابِيَانَ، فَكَانُوا لَا يُسَيِّرُونَهُ إِلَّا فِي الْأُمُورِ الْكِبَارِ الْعِظَامِ، وَلَا يُرْفَعُ إِلَّا لِأَوْلَادِ الْمُلُوكِ إِذَا وُجِّهُوا فِي الْأُمُورِ الْكِبَارِ. وَكَانَ مِنْ خَبَرِ كَابِي أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ، فَثَارَ بِمَنِ اتَّبَعَهُ، فَالْتَفَتَ الْخَلَائِقُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا أَشْرَفَ الضَّحَّاكُ قَذَفَ فِي قَلْبِ الضَّحَّاكِ مِنْهُ الرُّعْبَ، فَهَرَبَ عَنْ مَنَازِلِهِ وَخَلَّى مَكَانَهُ. فَاجْتَمَعَ الْأَعْجَامُ إِلَى كَابِي، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْمُلْكِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُمَلِّكُوا بَعْضَ وَلَدِ جَمٍّ لِأَنَّهُ ابْنُ الْمَلِكِ أُوشْهَنْقَ الْأَكْبَرِ بْنِ فَرُوَالَ الَّذِي رَسَمَ الْمُلْكَ وَسَبَقَ فِي الْقِيَامِ بِهِ. وَكَانَ أَفْرِيدُونُ بْنُ أَثْغِيَانَ مُسْتَخْفِيًا مِنَ الضَّحَّاكِ، فَوَافَى كَابِي وَمَنْ مَعَهُ، فَاسْتَبْشَرُوا بِمُوَافَاتِهِ فَمَلَّكُوهُ، وَصَارَ كَابِي وَالْوُجُوهُ لِأَفْرِيدُونَ أَعْوَانًا عَلَى أَمْرِهِ.

فَلَمَّا مَلَكَ وَأَحْكَمَ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمُلْكِ احْتَوَى عَلَى مَنَازِلِ الضَّحَّاكِ وَسَارَ فِي أَسْرِهِ فَأَسَرَهُ بِدُنْبَاوَنْدَ فِي جِبَالِهَا. وَبَعْضُ الْمَجُوسِ تَزْعُمُ أَنَّهُ وَكَّلَ بِهِ قَوْمًا مِنَ الْجِنِّ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَقِيَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ، وَحَبَسَهُ سُلَيْمَانُ فِي جَبَلِ دُنْبَاوَنْدَ، وَكَانَ ذَلِكَ الزَّمَانَ بِالشَّامِ، فَمَا بَرِحَ بِيَوْرَاسِبُ بِحَبْسِهِ يَجُرُّهُ حَتَّى حَمَلَهُ إِلَى خُرَاسَانَ. فَلَمَّا عَرَفَ سُلَيْمَانُ ذَلِكَ أَمَرَ الْجِنَّ فَأَوْثَقُوهُ حَتَّى لَا يَزُولَ، وَعَمِلُوا عَلَيْهِ طَلْسَمًا كَرَجُلَيْنِ يَدُقَّانِ بَابَ الْغَارِ الَّذِي حُبِسَ فِيهِ أَبَدًا لِئَلَّا يَخْرُجَ، فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ لَا يَمُوتُ. وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَكَاذِيبِ الْفُرْسِ الْبَارِدَةِ، وَلَهُمْ فِيهِ أَكَاذِيبُ أَعْجَبُ مِنْ هَذَا تَرَكْنَا ذِكْرَهَا. وَبَعْضُ الْفُرْسِ يَزْعُمُ أَنَّ أَفْرِيدُونَ قَتَلَهُ يَوْمَ النَّيْرُوزِ، فَقَالَ الْعَجَمُ عِنْدَ قَتْلِهِ: إِمْرُوزُ نَوْرُوزُ، أَيِ اسْتَقْبَلْنَا الدَّهْرَ بِيَوْمٍ جَدِيدٍ، فَاتَّخَذُوهُ عِيدًا، وَكَانَ أَسْرُهُ يَوْمَ الْمِهْرَجَانِ، فَقَالَ الْعَجَمُ: آمَدْ مِهْرَجَانُ لِقَتْلِ مَنْ كَانَ يَذْبَحُ. وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا فِي أُمُورِ الضَّحَّاكِ بِشَيْءٍ يُسْتَحْسَنُ غَيْرَ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ بَلِيَّتَهُ لَمَّا اشْتَدَّتْ وَدَامَ جَوْرُهُ وَتَرَاسَلَ الْوُجُوهُ فِي أَمْرِهِ فَأَجْمَعُوا عَلَى الْمَصِيرِ إِلَى بَابِهِ فَوَافَاهُ الْوُجُوهُ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ كَابِي الْأَصْبَهَانِيُّ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسَلِّمْ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَيَّ السَّلَامِ أُسَلِّمُ عَلَيْكَ؟ سَلَامُ مَنْ يَمْلِكُ الْأَقَالِيمَ كُلَّهَا أَمْ سَلَامُ مَنْ يَمْلِكُ هَذَا الْإِقْلِيمَ؟ فَقَالَ: بَلْ سَلَامُ مَنْ يَمْلِكُ الْأَقَالِيمَ لِأَنِّي مَلِكُ الْأَرْضِ. فَقَالَ كَابِي: إِذْ كُنْتَ تَمْلِكُ الْأَقَالِيمَ كُلَّهَا فَلِمَ خَصَصَتْنَا بِأَثْقَالِكَ، وَأَسْبَابِكَ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَلِمَ لَا تُقَسِّمُ الْأُمُورَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ وَعَدَّدَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، فَصَدَّقَهُ، فَعَمِلَ كَلَامُهُ فِي الضَّحَّاكِ، فَأَقَرَّ بِالْإِسَاءَةِ وَتَأَلَّفَ الْقَوْمَ، وَوَعَدَهُمْ بِمَا يُحِبُّونَ وَأَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ لِيَعُودُوا وَيَقْضِيَ حَوَائِجَهُمْ، ثُمَّ يَنْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِهِمْ. وَكَانَتْ أُمُّهُ حَاضِرَةً تَسْمَعُ مُعَاتَبَتَهُمْ، وَكَانَتْ شَرًّا مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ الْقَوْمُ دَخَلَتْ مُغْتَاظَةً مِنَ احْتِمَالِهِ وَحِلْمِهِ عَنْهُمْ فَوَبَّخَتْهُ وَقَالَتْ لَهُ: أَلَا أَهْلَكْتَهُمْ، وَقَطَّعْتَ أَيْدِيَهُمْ؟ فَلَمَّا أَكْثَرَتْ

عَلَيْهِ قَالَ لَهَا: يَا هَذِهِ، لَا تُفَكِّرِي فِي شَيْءٍ إِلَّا سَبَقْتُ إِلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ بَدَهُونِي بِالْحَقِّ وَقَرَّعُونِي بِهِ، فَكُلَمَّا هَمَمْتُ بِهِمْ تَخَيَّلَ لِيَ الْحَقُّ بِمَنْزِلَةِ جَبَلٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَمَا أَمْكَنَنِي فِيهِ شَيْءٌ. ثُمَّ جَلَسَ لِأَهْلِ النَّوَاحِي فَوَفَّى لَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ وَقَضَى أَكْثَرَ حَوَائِجِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ مُلْكُهُ سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ عُمُرُهُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَإِنَّهُ كَانَ فِي بَاقِي عُمُرِهِ شَبِيهًا بِالْمَلِكِ لِقُدْرَتِهِ وَنُفُوذِ أَمْرِهِ، وَقِيلَ: كَانَ مُلْكُهُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمِائَةَ سَنَةٍ. وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا خَبَرَ بِيَوْرَاسِبَ هَهُنَا لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ نُوحًا كَانَ فِي زَمَانِهِ، وَإِنَّمَا أُرْسِلَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ. وَقِيلَ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَى مَدِينَةَ بَابِلَ، وَمَدِينَةَ صُوَرَ، وَمَدِينَةَ دِمَشْقَ.

ذكر ذرية نوح عليه السلام

[ذِكْرُ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ] «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] ، إِنَّهُمْ سَامٌ، وَحَامٌ، وَيَافِثُ» وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّ سَامَ بْنَ نُوحٍ أَبُو الْعَرَبِ، وَفَارِسَ، وَالرُّومِ، وَإِنَّ حَامًا أَبُو السُّودَانِ، وَإِنَّ يَافِثَ أَبُو التُّرْكِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. وَقِيلَ إِنَّ الْقِبْطَ مِنْ وَلَدِ قُوطِ بْنِ حَامٍ، وَإِنَّمَا كَانَ السَّوَادُ مِنْ نَسْلِ حَامٍ لِأَنَّ نُوحًا نَامَ فَانْكَشَفَتْ سَوْءَتُهُ فَرَآهَا حَامٌ فَلَمْ يُغَطِّهَا وَرَآهَا سَامٌ وَيَافِثُ فَأَلْقَيَا عَلَيْهَا ثَوْبًا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عَلِمَ مَا صَنَعَ حَامٌ، وَإِخْوَتُهُ فَدَعَا عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانَتِ امْرَأَةُ سَامِ بْنِ نُوحٍ صُلْبَ ابْنَةَ بَتَاوِيلَ بْنِ مَحْوِيلَ بْنِ حَانُوخَ بْنِ قَيْنَ بْنِ آدَمَ فَوَلَدَتْ لَهُ نَفَرًا: أَرْفَخْشَذَ، وَأَسْوَدَ، وَلَاوُدَ، وَإِرَمَ. قَالَ: وَلَا أَدْرِي أَإِرْمُ لِأُمِّ أَرْفَخْشَذَ وَإِخْوَتِهِ أَمْ لَا؟ فَمِنْ وَلَدِ لَاوُدَ بْنِ سَامِ فَارِسُ، وَجُرْجَانُ، وَطَسْمُ، وَعِمْلِيقُ، وَهُوَ أَبُو الْعَمَالِيقِ، وَمِنْهُمْ كَانَتِ الْجَبَابِرَةُ بِالشَّامِ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمُ الْكَنْعَانِيُّونَ، وَالْفَرَاعِنَةُ بِمِصْرَ، وَكَانَ أَهْلُ الْبَحْرَيْنِ، وَعُمَانُ مِنْهُمْ وَيُسَمَّوْنَ جَاشِمَ. وَكَانَ مِنْهُمْ بَنُو أُمَيْمِ بْنِ لَاوُدَ أَهْلُ وَبَارَ بِأَرْضِ الرَّمْلِ، وَهِيَ بَيْنَ الْيَمَامَةِ وَالشِّحْرِ، وَكَانُوا قَدْ كَثُرُوا فَأَصَابَتْهُمْ نِقْمَةٌ مِنَ اللَّهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ أَصَابُوهَا فَهَلَكُوا وَبَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ، وَهُمُ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمُ النَّسْنَاسُ، وَكَانَ طَسْمُ سَاكِنِي الْيَمَامَةِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، فَكَانَتْ طَسْمُ، وَالْعَمَالِيقُ

وَأُمَيْمٌ، وَجَاشِمٌ قَوْمًا عَرَبًا لِسَانُهُمْ عَرَبِيٌّ، وَلَحِقَتْ عَبِيلُ بِيَثْرِبَ قَبْلَ أَنْ تُبْنَى. وَلَحِقَتِ الْعَمَالِيقُ بِصَنْعَاءَ قَبْلَ أَنْ تُسَمَّى صَنْعَاءَ. وَانْحَدَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى يَثْرِبَ فَأَخْرَجُوا مِنْهَا عَبِيلًا فَنَزَلُوا مَوْضِعَ الْجُحْفَةِ، فَأَقْبَلَ سَيْلٌ فَاجْتَحَفَهُمْ، أَيْ أَهْلَكَهَمْ، فَسُمِّيَتِ الْجَحْفَةَ. قَالَ: وَوَلَدَ إِرَمُ بْنُ سَامٍ عَوْضًا وَغَاثِرًا وَحَوِيلًا، فَوَلَدَ عَوْضٌ غَاثِرًا، وَعَادًا، وَعَبِيلًا، وَوَلَدَ غَاثِرُ بْنُ إِرَمَ ثَمُودَ وَجَدِيسًا، وَكَانُوا عَرَبًا يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا اللِّسَانِ الْمُضَرِيِّ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِهَذِهِ الْأُمَمِ وَلِجُرْهُمَ الْعَرَبَ الْعَارِبَةَ. وَيَقُولُونَ لِبَنِي إِسْمَاعِيلَ الْعَرَبَ الْمُعَرَّبَةَ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا تَكَلَّمُوا بِلِسَانِ هَذِهِ الْأُمَمِ حِينَ سَكَنُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ. فَكَانَتْ عَادٌ بِهَذَا الرَّمْلِ إِلَى حَضْرَمَوْتَ. وَكَانَتْ ثَمُودُ بِالْحِجْرِ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ إِلَى وَادِي الْقُرَى. وَلَحِقَتْ جَدِيسٌ بِطَسْمَ، وَكَانُوا مَعَهُمْ بِالْيَمَامَةِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَاسْمُ الْيَمَامَةِ إِذْ ذَاكَ جَوٌّ. وَسَكَنَتْ جَاشِمٌ عُمَانَ. وَالنَّبَطُ مِنْ وَلَدِ نَبِيطِ بْنِ مَاشِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامٍ. وَالْفُرْسُ بَنُو فَارِسَ بْنِ تِيرَشَ بْنِ مَاسُورَ بْنِ سَامٍ. قَالَ: وَوُلِدَ لِأَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامٍ ابْنُهُ قَيْنَانُ، كَانَ سَاحِرًا، وَوُلِدَ لَقَيْنَانَ شَالَخُ بْنُ أَرْفَخْشَذَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ قَيْنَانَ لِمَا ذُكِرَ مِنْ سِحْرِهِ. وَوُلِدَ لِشَالَخَ غَابِرٌ، وَلِغَابِرٍ فَالَغُ، وَمَعْنَاهُ الْقَاسِمُ، لِأَنَّ الْأَرْضَ قُسِّمَتْ وَالْأَلْسُنَ تَبَلْبَلَتْ فِي أَيَّامِهِ، وَقَحْطَانُ بْنُ غَابِرٍ، فَوُلِدَ لِقَحْطَانَ يَعْرُبُ وَيَقْظَانُ، فَنَزَلَا الْيَمَنَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَكَنَ الْيَمَنَ، وَأَوَّلَ مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ بِـ أَبَيْتَ اللَّعْنَ. وَوُلِدَ لِفَالَغِ بْنِ غَابِرٍ أَرْغُو، وَوُلِدَ لِأَرْغُوَ سَارُوغُ، وَوُلِدَ لِسَارُوغُ نَاخُورُ، وَوُلِدَ

لِنَاخُورَ تَارَخُ، وَاسْمُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ آزَرُ. وَوُلِدَ لَآزَرَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَوُلِدَ لِأَرْفَخْشَذَ أَيْضًا نُمْرُودُ، وَقِيلَ هُوَ نُمْرُودُ بْنُ كُوشِ بْنِ حَامِ بْنِ نُوحٍ. قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: السِّنْدُ، وَالْهِنْدُ بَنُو تُوقِيرَ بْنِ يَقْطُنَ بْنِ غَابِرِ بْنِ شَالَخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَجُرْهُمُ مِنْ وَلَدِ يَقْطُنَ بْنِ غَابِرٍ. وَحَضْرَمَوْتُ بْنُ يَقْطُنَ، وَيَقْطُنُ هُوَ قَحْطَانُ فِي قَوْلِ مَنْ نَسَبَهُ إِلَى غَيْرِ إِسْمَاعِيلَ. وَالْبَرْبَرُ مِنْ وَلَدِ ثَمِيلَا بْنِ مَارِبَ بْنِ فَارَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِمْلِيقَ بْنِ لَاوُدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، مَا خَلَا صَنْهَاجَةَ وَكَتَّامَةَ، فَإِنَّهُمَا بَنُو فُرَيْقِشَ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ سَبَإٍ. وَأَمَّا يَافِثُ فَمِنْ وَلَدِهِ جَامِرٌ، وَمَوْعِعُ، وَمَوْرِكُ، وَبَوَّانُ، وَفَوْبَا، وَمَاشِجُ، وَتِيرَشُ، فَمِنْ وَلَدِ جَامِرٍ مُلُوكُ فَارِسَ فِي قَوْلٍ، وَمِنْ وَلَدِ تِيرَشَ التُّرْكُ، وَالْخَزَرُ، وَمِنْ وَلَدِ مَاشِجَ الْأَشْبَانُ، وَمِنْ وَلَدِ مَوْعِعَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَمِنْ وَلَدِ بَوَّانَ الصَّقَالِبَةُ وَبُرْجَانُ. وَالْأَشْبَانُ كَانُوا فِي الْقَدِيمِ بِأَرْضِ الرُّومِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ بِهَا مَنْ وَقَعَ مِنْ وَلَدِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَصَدَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ سَامٌ، وَحَامٌ، وَيَافِثُ أَرْضًا فَسَكَنُوهَا وَدَفَعُوا غَيْرَهُمْ عَنْهَا. وَمِنْ وَلَدِ يَافِثَ الرُّومُ، وَهُمْ بَنُو لَنْطَى بْنِ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. وَأَمَّا حَامٌ فَوُلِدَ لَهُ كُوشُ، وَمِصْرَايِمُ، وَقُوطُ، وَكَنْعَانُ، فَمِنْ وَلَدِ كُوشَ نُمْرُودُ بْنُ كُوشَ،

وَقِيلَ: هُوَ مِنْ وَلَدِ سَامٍ، وَصَارَتْ بَقِيَّةُ وَلَدِ حَامٍ بِالسَّوَاحِلِ مِنَ النُّوبَةِ، وَالْحَبَشَةِ، وَالزَّنْجِ، وَيُقَالُ: إِنَّ مِصْرَايِمَ وَلَدَ الْقِبْطَ وَالْبَرْبَرَ. وَأَمَّا قُوطُ فَقِيلَ إِنَّهُ سَارَ إِلَى الْهِنْدِ، وَالسِّنْدِ فَنَزَلَهَا وَأَهْلُهَا مِنْ وَلَدِهِ. وَأَمَّا الْكَنْعَانِيُّونَ فَلَحِقَ بَعْضُهُمْ بِالشَّامِ، ثُمَّ جَاءَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَقَتَلُوهُمْ بِهَا وَنَفَوْهُمْ عَنْهَا وَصَارَ الشَّامُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ وَثَبَتِ الرُّومُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَجْلَوْهُمْ عَنِ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ. ثُمَّ جَاءَتِ الْعَرَبُ فَغَلَبُوا عَلَى الشَّامِ. وَكَانَ يُقَالُ لِعَادٍ عَادُ إِرَمَ، فَلَمَّا هَلَكُوا قِيلَ لِثَمُودَ ثَمُودُ إِرَمَ قَالَ: وَزَعَمَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ أَنَّ أَرْفَخْشَذَ وُلِدَ لِسَامٍ بَعْدَ أَنْ مَضَى مِنْ عُمُرِ سَامٍ مِائَةُ سَنَةٍ وَسَنَتَانِ، وَكَانَ جَمِيعُ عُمُرِ سَامٍ سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ. ثُمَّ وُلِدَ لِأَرْفَخْشَذَ قَيْنَانُ بَعْدَ أَنْ مَضَى مِنْ عُمُرِ أَرْفَخْشَذَ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَ عُمُرُهُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَثَمَانِيًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. ثُمَّ وُلِدَ لَقَيْنَانَ شَالَخُ بَعْدَ أَنْ مَضَى مِنْ عُمُرِهِ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَلَمْ تُذْكَرْ مُدَّةُ عُمُرِ قَيْنَانَ فِي الْكُتُبِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ سِحْرِهِ. ثُمَّ وُلِدَ لِشَالَخَ غَابِرٌ بَعْدَمَا مَضَى مِنْ عُمُرِهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَ عُمُرُهُ كُلُّهُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. ثُمَّ وُلِدَ لِغَابِرٍ فَالَغُ، وَأَخُوهُ قَحْطَانُ، وَكَانَ مَوْلِدُ فَالَغَ بَعْدَ الطُّوفَانِ بِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ عُمُرُهُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَأَرْبَعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. ثُمَّ وُلِدَ لِفَالَغَ أَرْغُو بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِ فَالَغَ، وَكَانَ عُمُرُهُ مِائَتَيْنِ وَتِسْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَوُلِدَ لِأَرْغُو سَارُوغُ بَعْدَمَا مَضَى مِنْ عُمُرِهِ اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَ عُمُرُهُ مِائَتَيْنِ وَتِسْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ لِسَارُوغَ نَاخُورُ بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ، وَكَانَ عُمُرُهُ كُلُّهُ مِائَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. ثُمَّ وُلِدَ لِنَاخُورَ تَارِخُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ

بَعْدَمَا مَضَى مِنْ عُمُرِهِ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَكَانَ عُمُرُهُ كُلُّهُ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَوُلِدَ لِتَارِخَ - وَهُوَ آزَرُ - إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَ بَيْنَ الطُّوفَانِ وَمَوْلِدِ إِبْرَاهِيمَ أَلْفُ سَنَةٍ وَمِائَتَا سَنَةٍ وَثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ بِثَلَاثَةِ آلَافِ سَنَةٍ وَثَلَاثِمَائَةٍ وَسَبْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَوُلِدَ لِقَحْطَانَ بْنِ غَابِرٍ يَعْرُبُ، فَوُلِدَ لِيَعْرُبَ يَشْجُبُ، فَوَلَدَ يَشْجُبُ سَبَأً، فَوَلَدَ سَبَأٌ حِمْيَرَ، وَكَهْلَانَ، وَعَمْرًا، وَالْأَشْعَرَ، وَأَنْمَارَ، وَمُرًّا، فَوَلَدَ عَمْرُو بْنُ سَبإٍ عَدِيًّا، وَوَلَدَ عَدِيٌّ لَخْمًا، وَجُذَامًا.

ذكر ملك أفريدون

[ذِكْرُ مُلْكِ أَفْرِيدُونَ] وَهُوَ أَفْرِيدُونُ بْنُ أَثْغِيَانَ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ جَمِّ شِيدَ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَسَّابَةِ الْفُرْسِ أَنَّ نُوحًا هُوَ أَفْرِيدُونُ الَّذِي قَهَرَ الضَّحَّاكَ، وَسَلَبَهُ مُلْكَهُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَفْرِيدُونَ هُوَ ذُو الْقَرْنَيْنِ صَاحِبُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كَلَامِهِ الْعَزِيزِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ قِصَّتَهُ فِي أَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ نُوحٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي وَلِحُسْنِ سِيرَتِهِ، وَهَلَاكِ الضَّحَّاكِ عَلَى يَدَيْهِ، وَلِأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ هَلَاكَ الضَّحَّاكِ كَانَ عَلَى يَدِ نُوحٍ. وَأَمَّا بَاقِي نَسَّابَةِ الْفُرْسِ فَإِنَّهُمْ يَنْسُبُونَ أَفْرِيدُونَ إِلَى جَمِّ شِيدَ الْمَلِكِ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا عَشَرَةُ آبَاءٍ كُلُّهُمْ يُسَمَّى أَثْغِيَانَ خَوْفًا مِنَ الضَّحَّاكِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَمَيَّزُونَ بِأَلْقَابٍ لُقِّبُوهَا، فَكَانَ يُقَالُ لِأَحَدِهِمْ أَثْغِيَانُ صَاحِبُ الْبَقَرِ الْحُمْرِ، وَأَثْغِيَانُ صَاحِبُ الْبَقَرِ الْبُلْقِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَكَانَ أَفْرِيدُونُ أَوَّلَ مَنْ ذَلَّلَ الْفِيَلَةَ، وَامْتَطَاهَا، وَنَتَجَ الْبِغَالَ، وَاتَّخَذَ الْإِوَزَّ، وَالْحَمَامَ، وَعَمِلَ التِّرْيَاقَ، وَرَدَّ الْمَظَالِمَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَالْإِنْصَافِ، وَالْإِحْسَانِ، وَرَدَّ عَلَى النَّاسِ مَا كَانَ الضَّحَّاكُ غَصَبَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَغَيْرِهَا، إِلَّا مَا لَمْ يَجِدْ لَهُ صَاحِبًا فَإِنَّهُ وَقَفَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ الصُّوفِيَّ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَظَرَ فِي عِلْمِ الطِّبِّ. وَمَكَانٌ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، اسْمُ الْأَكْبَرِ شَرْمُ، وَالثَّانِي طُوجُ، وَالثَّالِثُ إِيرَجُ، فَخَافَ أَنْ يَخْتَلِفُوا بَعْدَهُ فَقَسَّمَ مُلْكَهُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَجَعَلَ ذَلِكَ فِي سِهَامٍ كَتَبَ أَسْمَاءَهُمْ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَخَذَ

سَهْمًا، فَصَارَتِ الرُّومُ، وَنَاحِيَةُ الْعَرَبِ لِشَرْمَ، وَصَارَتِ التُّرْكُ، وَالصِّينُ لِطُوجَ، وَصَارَتِ الْعِرَاقُ، وَالسِّنْدُ، وَالْهِنْدُ، وَالْحِجَازُ، وَغَيْرُهَا لِإِيرَجَ، وَهُوَ الثَّالِثُ، وَكَانَ يُحِبُّهُ، وَأَعْطَاهُ التَّاجَ وَالسَّرِيرَ، وَمَاتَ أَفْرِيدُونُ وَنَشِبَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَلَمْ يَزَلِ التَّحَاسُدُ يَنْمُو بَيْنَهُمْ إِلَى أَنْ وَثَبَ طُوجُ، وَشَرْمُ عَلَى أَخِيهِمَا إِيرَجَ، فَقَتَلَاهُ، وَقَتَلَا ابْنَيْنِ كَانَا لِإِيرَجَ، وَمَلَكَا الْأَرْضَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ. وَلَمْ يَزَلْ أَفْرِيدُونُ يَتْبَعُ مَنْ بَقِيَ بِالسَّوَادِ مِنْ آلِ نُمْرُودَ وَالنَّبَطِ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى أَتَى عَلَى وُجُوهِهِمْ وَمَحَا أَعْلَامَهُمْ، وَكَانَ مُلْكُهُ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ.

ذكر الأحداث التي كانت بين نوح وإبراهيم

[ذِكْرُ الْأَحْدَاثِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ] قَدْ ذَكَرْنَا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ نُوحٍ، وَأَمْرِ وَلَدِهِ وَاقْتِسَامِهِمُ الْأَرْضَ بَعْدَهُ، وَمَسَاكِنِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، فَكَانَ مِمَّنْ طَغَى وَبَغَى فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، هَذَانِ الْحَيَّانِ مِنْ وَلَدِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، أَحَدُهُمَا عَادٌ، وَالثَّانِي ثَمُودُ. فَأَمَّا عَادٌ فَهُوَ عَادُ بْنُ عُوضِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامٍ بْنِ نُوحٍ، وَهُوَ عَادٌ الْأُولَى، وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمْ مَا بَيْنَ الشِّحْرِ، وَعُمَانَ، وَحَضْرَمَوْتَ بِالْأَحْقَافِ، فَكَانُوا جَبَّارِينَ طِوَالَ الْقَامَةِ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُمْ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هُودَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحِ بْنِ الْجُلُودِ بْنِ عَادِ بْنِ عُوضٍ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ هُودٌ وَهُوَ غَابِرُ بْنُ شَالَخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكَانُوا أَهْلَ أَوْثَانٍ ثَلَاثَةٍ، يُقَالُ لِأَحَدِهَا ضُرَا، وَلِلْآخَرِ ضَمُورُ، وَلِلثَّالِثِ الْهَبَا، فَدَعَاهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَتَرْكِ ظُلْمِ النَّاسِ، فَكَذَّبُوهُ، وَقَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً! وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهُودٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ. وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: إِنَّ عَادًا أَصَابَهُمْ قَحْطٌ تَتَابَعَ عَلَيْهِمْ بِتَكْذِيبِهِمْ هُودًا، فَلَمَّا أَصَابَهُمْ قَالُوا: جَهِّزُوا مِنْكُمْ وَفْدًا إِلَى مَكَّةَ يَسْتَسْقُونَ لَكُمْ، فَبَعَثُوا

قَيْلَ بْنَ عِيرٍ، وَلُقَيْمَ بْنَ هَزَّالٍ، وَمَرْثَدَ بْنَ سَعْدٍ، وَكَانَ مُسْلِمًا يَكْتُمُ إِسْلَامَهُ، وَجَلْهَمَةَ بْنَ الْخَيْبَرِيِّ خَالَ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، وَلُقْمَانَ بْنَ عَادِ بْنِ فُلَانِ بْنِ عَادٍ الْأَكْبَرَ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ نَزَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ بِظَاهِرِ مَكَّةَ خَارِجًا عَنِ الْحَرَمِ، فَأَكْرَمَهُمْ، وَكَانُوا أَخْوَالَهُ وَصِهْرَهُ لِأَنَّ لُقَيْمَ بْنَ هَزَّالٍ كَانَ تَزَوَّجَ هُزَيْلَةَ بِنْتَ بَكْرٍ أُخْتَ مُعَاوِيَةَ، فَأَوْلَدَهَا أَوْلَادًا كَانُوا عِنْدَ خَالِهِمْ مُعَاوِيَةَ بِمَكَّةَ، وَهُمْ عُبَيْدٌ، وَعَمْرٌو، وَعَامِرٌ، وَعُمَيْرٌ بَنُو لُقَيْمٍ، وَهُوَ عَادٌ الْآخِرَةُ الَّتِي بَقِيَتْ بَعْدَ عَادٍ الْأُولَى، فَلَمَّا نَزَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ أَقَامُوا عِنْدَهُ شَهْرًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَتُغَنِّيهِمُ الْجَرَادَتَانِ - قَيْنَتَانِ لِمُعَاوِيَةَ - فَلَمَّا رَأَى مُعَاوِيَةُ طُولَ مُقَامِهِمْ وَتَرْكَهُمْ مَا أُرْسِلُوا لَهُ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَلَكَ أَخْوَالِي، وَاسْتَحْيَا أَنْ يَأْمُرَ الْوَفْدَ بِالْخُرُوجِ إِلَى مَا بُعِثُوا لَهُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلْجَرَادَتَيْنِ فَقَالَتَا: قُلْ شِعْرًا نُغَنِّيهِمْ بِهِ لَا يَدْرُونَ مَنْ قَائِلُهُ لَعَلَّهُمْ يَتَحَرَّكُونَ ; فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَلَا يَا قَيْلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ ... لَعَلَّ اللَّهَ يُصْبِحُنَا غَمَامَا فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إِنَّ عَادًا ... قَدَ امْسَوْا لَا يُبِينُونَ الْكَلَامَا فِي أَبْيَاتٍ ذَكَرَهَا. وَالْهَيْنَمَةُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ. فَلَمَّا غَنَّتْهُمُ الْجَرَادَتَانِ ذَلِكَ الشِّعْرَ وَسَمِعَهُ الْقَوْمُ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمُ، بَعَثَكُمْ قَوْمُكُمْ يَتَغَوَّثُونَ بِكُمْ مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ فَأَبْطَأْتُمْ عَلَيْهِمْ فَادْخُلُوا الْحَرَمَ، وَاسْتَسْقُوا لِقَوْمِكُمْ. فَقَالَ مَرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ: إِنَّهُمْ وَاللَّهِ لَا يُسْقَوْنَ بِدُعَائِهِمْ، وَلَكِنْ أَطِيعُوا نَبِيَّكُمْ، فَأَنْتُمْ تُسْقَوْنَ، وَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ عِنْدَ ذَلِكَ. فَقَالَ جَلْهَمَةُ بْنُ الْخَيْبَرِيِّ خَالُ مُعَاوِيَةَ، لِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ: احْبِسْ عَنَّا مَرْثَدَ بْنَ سَعْدٍ. وَخَرَجُوا إِلَى مَكَّةَ يَسْتَسْقُونَ بِهَا لِعَادٍ، فَدَعَوُا اللَّهَ تَعَالَى لِقَوْمِهِمْ، وَاسْتَسْقَوْا، فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَائِبَ ثَلَاثًا بَيْضَاءَ، وَحَمْرَاءَ، وَسَوْدَاءَ، وَنَادَى مُنَادٍ مِنْهَا: يَا قَيْلُ، اخْتَرْ لِنَفْسِكَ وَقَوْمِكَ. فَقَالَ: قَدِ اخْتَرْتُ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ فَإِنَّهَا أَكْثَرُ مَاءً، فَنَادَاهُ

مُنَادٍ اخْتَرْ رَمَادًا رِمْدَادًا، لَا تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا، لَا وَلَدًا تَتْرُكُ وَلَا وَالِدًا إِلَّا جَعَلَتْهُ هَمَدًا، إِلَّا بَنِي اللُّوذِيَّةِ الْمُهْدَى. وَبَنُو اللُّوذِيَّةِ: بَنُو لُقَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ، كَانُوا بِمَكَّةَ عِنْدَ خَالِهِمْ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ. وَسَاقَ اللَّهُ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ إِلَى عَادٍ، فَخَرَجَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ يُقَالُ لَهُ الْمُغِيثُ، فَلَمَّا رَأَوْهَا اسْتَبْشَرُوا بِهَا وَقَالُوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ - تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 24 - 25] أَيْ كُلَّ شَيْءٍ أُمِرَتْ بِهِ. وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ رَأَى مَا فِيهَا وَعَرَفَ أَنَّهَا رِيحٌ مُهْلِكَةٌ امْرَأَةً مِنْ عَادٍ يُقَالُ لَهَا فَهْدَدُ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا فِيهَا صَاحَتْ وَصُعِقَتْ، فَلَمَّا أَفَاقَتْ قَالُوا: مَاذَا رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ رِيحًا فِيهَا كَشُهُبِ النَّارِ أَمَامَهَا رِجَالٌ يَقُودُونَهَا، فَلَمَّا خَرَجَتِ الرِّيحُ مِنَ الْوَادِي قَالَ سَبْعَةُ رَهْطٍ مِنْهُمْ، أَحَدُهُمُ الْخَلَجَانُ: تَعَالَوْا حَتَّى نَقُومَ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي فَنَرُدَّهَا. فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَدْخُلُ تَحْتَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ فَتَحْمِلُهُ فَتَدُقُّ عُنُقَهُ، وَبَقِيَ الْخَلَجَانُ فَمَالَ إِلَى الْجَبَلِ وَقَالَ: لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْخَلَجَانُ نَفْسُهُ ... يَا لَكَ مِنْ يَوْمٍ دَهَانِي أَمْسُهُ بِثَابِتِ الْوَطْءِ شَدِيدٍ وَطْسُهُ ... لَوْ لَمْ يَجِئْنِي جِئْتُهُ أَجُسُّهُ فَقَالَ لَهُ هُودٌ: أَسْلِمْ تَسْلَمْ. فَقَالَ: وَمَا لِي؟ قَالَ: الْجَنَّةُ. فَقَالَ: فَمَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فِي السَّحَابِ كَأَنَّهُمُ الْبُخْتُ؟ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ. قَالَ: أَيُعِيذُنِي رَبُّكَ مِنْهُمْ إِنْ أَسْلَمْتُ؟ قَالَ: هَلْ رَأَيْتَ مَلِكًا يُعِيذُ مَنْ جَنَّدَهُ؟ قَالَ: لَوْ فَعَلَ مَا رَضِيتُ. ثُمَّ جَاءَتِ الرِّيحُ وَأَلْحَقَتْهُ بِأَصْحَابِهِ وَ {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7] ، كَمَا قَالَ تَعَالَى. وَالْحُسُومُ: الدَّائِمَةُ. فَلَمْ تَدَعْ مِنْ عَادٍ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ، وَاعْتَزَلَ هُودٌ وَالْمُؤْمِنُونَ فِي حَظِيرَةٍ لَمْ يُصِبْهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْهَا إِلَّا تَلْيِينُ الْجُلُودِ، وَإِنَّهَا لَتَمُرُّ

مِنْ عَادٍ بِالظَّعْنِ وَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَتَدْمَغُهُمْ بِالْحِجَارَةِ. وَعَادَ وَفْدُ عَادٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ فَنَزَلُوا عَلَيْهِ، فَأَتَاهُمْ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ فَأَخْبَرَهُمْ بِمُصَابِ عَادٍ وَسَلَامَةِ هُودٍ. قَالَ: وَكَانَ قَدْ قِيلَ لِلُقْمَانَ بْنِ عَادٍ: اخْتَرْ لِنَفْسِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْخُلُودِ. فَقَالَ: يَا رَبِّ أَعْطِنِي عُمُرًا. فَقِيلَ لَهُ: اخْتَرْ. فَاخْتَارَ عُمُرَ سَبْعَةِ أَنْسُرٍ. فَعُمِّرَ فِيمَا يَزْعُمُونَ عُمُرَ سَبْعَةِ أَنْسُرٍ، فَكَانَ يَأْخُذُ الْفَرْخَ الذَّكَرَ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْضَتِهِ حَتَّى إِذَا مَاتَ أَخَذَ غَيْرَهُ، وَكَانَ يَعِيشُ كُلُّ نَسْرٍ ثَمَانِينَ سَنَةً، فَلَمَّا مَاتَ السَّابِعُ مَاتَ لُقْمَانُ مَعَهُ، وَكَانَ السَّابِعُ يُسَمَّى لُبَدًا. قَالَ: وَكَانَ عُمُرُ هُودٍ مِائَةً وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَقَبْرُهُ بِحَضْرَمَوْتَ، وَقِيلَ بِالْحِجْرِ مِنْ مَكَّةَ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَرْسَلَ اللَّهُ طَيْرًا سُودًا فَنَقَلَتْهُمْ إِلَى الْبَحْرِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25] . وَلَمْ تَخْرُجْ رِيحٌ قَطُّ إِلَّا بِمِكْيَالٍ إِلَّا يَوْمَئِذٍ فَإِنَّهَا عَتَتْ عَلَى الْخَزَنَةِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] . وَكَانَتِ الرِّيحُ تَقْلَعُ الشَّجَرَةَ الْعَظِيمَةَ بِعُرُوقِهَا وَتَهْدِمُ الْبَيْتَ عَلَى مَنْ فِيهِ. وَأَمَّا ثَمُودُ فَهُمْ وَلَدُ ثَمُودَ بْنِ جَاثِرِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامٍ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُ ثَمُودَ بِالْحِجْرِ بَيْنَ الْحِجَازِ، وَالشَّامِ، وَكَانُوا بَعْدَ عَادٍ قَدْ كَثُرُوا، وَكَفَرُوا، وَعَتَوْا، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ صَالِحَ بْنَ عُبَيْدِ بْنِ أَسِفِ بْنِ مَاشِجَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ جَادِرِ بْنِ ثَمُودَ، وَقِيلَ: أَسِفِ بْنِ كَمَاشِجَ بْنِ إِرَمَ بْنِ ثَمُودَ - يَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ فَقَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا الْآيَةَ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَطَالَ أَعْمَارَهُمْ حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ يَبْنِي الْبَيْتَ مِنَ الْمَدَرِ فَيَنْهَدِمُ وَهُوَ حَيٌّ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ اتَّخَذُوا مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَنَحَتُوهَا، وَكَانُوا فِي سَعَةٍ مِنْ مَعَايِشِهِمْ، وَلَمْ يَزَلْ صَالِحٌ يَدْعُوهُمْ فَلَمْ يَتْبَعْهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ، فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِمْ بِالدُّعَاءِ، وَالتَّحْذِيرِ، وَالتَّخْوِيفِ سَأَلُوهُ، فَقَالُوا: يَا صَالِحُ، اخْرُجْ

مَعَنَا إِلَى عِيدِنَا، وَكَانَ لَهُمْ عِيدٌ يَخْرُجُونَ إِلَيْهِ بِأَصْنَامِهِمْ، فَأَرِنَا آيَةً فَتَدْعُو إِلَهَكَ وَنَدْعُو آلِهَتَنَا، فَإِنِ اسْتُجِيبَ لَكَ اتَّبَعْنَاكَ وَإِنِ اسْتُجِيبَ لَنَا اتَّبَعْتَنَا. فَقَالَ: نَعَمْ، فَخَرَجُوا بِأَصْنَامِهِمْ، وَصَالِحٌ مَعَهُمْ، فَدَعَوْا أَصْنَامَهُمْ أَنْ لَا يُسْتَجَابَ لِصَالِحٍ مَا يَدْعُو بِهِ، وَقَالَ لَهُ سَيِّدُ قَوْمِهِ: يَا صَالِحُ، أَخْرِجْ لَنَا مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ لِصَخْرَةٍ مُنْفَرِدَةٍ نَاقَةً جَوْفَاءَ عُشَرَاءَ، فَإِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ صَدَّقْنَاكَ. فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَوَاثِيقَ بِذَلِكَ، وَأَتَى الصَّخْرَةَ، وَصَلَّى، وَدَعَا رَبَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فَإِذَا هِيَ تَتَمَخَّضُ كَمَا تَتَمَخَّضُ الْحَامِلُ، ثُمَّ انْفَجَرَتْ وَخَرَجَتْ مِنْ وَسَطِهَا النَّاقَةُ كَمَا طَلَبُوا وَهُمْ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ نَتَجَتْ سَقْبًا مِثْلَهَا فِي الْعِظَمِ، فَآمَنَ بِهِ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَاسْمُهُ جُنْدَعُ بْنُ عَمْرٍو، وَرَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمَّا خَرَجَتِ النَّاقَةُ قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] ، وَمَتَى عَقَرْتُمُوهَا أَهْلَكَكُمُ اللَّهُ. فَكَانَ شِرْبُهَا يَوْمًا وَشِرْبُهُمْ يَوْمًا مَعْلُومًا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهَا خَلَّوْا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَاءِ وَحَلَبُوهَا لَبَنَهَا، وَمَلَأُوا كُلَّ وِعَاءٍ، وَإِنَاءٍ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهِمْ صَرَفُوهَا عَنِ الْمَاءِ فَلَمْ تَشْرَبْ مِنْهُ شَيْئًا وَتَزَوَّدُوا مِنَ الْمَاءِ لِلْغَدِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى صَالِحٍ أَنَّ قَوْمَكَ سَيَعْقِرُونَ النَّاقَةَ، فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: مَا كُنَّا لِنَفْعَلَ. قَالَ: إِلَّا تَعْقِرُوهَا أَنْتُمْ يُوشِكُ أَنْ يُولَدَ فِيكُمْ مَوْلُودٌ يَعْقِرُهَا. قَالُوا: وَمَا عَلَامَتُهُ؟ فَوَاللَّهِ لَا نَجِدُهُ إِلَّا قَتَلْنَاهُ! قَالَ: فَإِنَّهُ غُلَامٌ أَشْقَرُ، أَزْرَقُ، أَصْهَبُ، أَحْمَرُ. قَالَ: فَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ شَيْخَانِ عَزِيزَانِ مَنِيعَانِ لِأَحَدِهِمَا ابْنٌ رَغِبَ لَهُ عَنِ الْمَنَاكِحِ، وَلِلْآخَرِ ابْنَةٌ لَا يَجِدُ لَهَا كُفُؤًا فَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا ابْنَهُ بِابْنَةِ الْآخَرِ فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا الْمَوْلُودُ، فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ إِنَّمَا يَعْقِرُهَا مَوْلُودٌ فِيكُمُ اخْتَارُوا قَوَابِلَ مِنَ الْقَرْيَةِ وَجَعَلُوا مَعَهُنَّ شُرَطًا يَطُوفُونَ الْقَرْيَةَ فَإِذَا وَجَدُوا امْرَأَةً تَلِدُ نَظَرُوا وَلَدَهَا مَا هُوَ، فَلَمَّا وَجَدُوا ذَلِكَ الْمَوْلُودَ صَرَخَ النِّسْوَةُ، وَقُلْنَ: هَذَا الَّذِي يُرِيدُ نَبِيُّ اللَّهِ صَالِحٌ، فَأَرَادَ الشُّرَطُ أَنْ يَأْخُذُوهُ فَحَالَ جِدَّاهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ وَقَالَا: لَوْ أَرَادَ صَالِحٌ هَذَا لَقَتَلْنَاهُ. فَكَانَ شَرَّ مَوْلُودٍ وَكَانَ يَشِبُّ فِي الْيَوْمِ شَبَابَ غَيْرِهِ فِي الْجُمُعَةِ، فَاجْتَمَعَ تِسْعَةُ رَهْطٍ مِنْهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ، كَانُوا قَتَلُوا أَبْنَاءَهُمْ حِينَ وُلِدُوا خَوْفًا أَنْ يَكُونَ عَاقِرَ النَّاقَةِ مِنْهُمْ، ثُمَّ نَدِمُوا فَأَقْسَمُوا لَيَقْتُلُنَّ صَالِحًا، وَأَهْلَهُ، وَقَالُوا: نَخْرُجُ فَتَرَى النَّاسُ أَنَّنَا نُرِيدُ السَّفَرَ فَنَأْتِي الْغَارَ الَّذِي عَلَى طَرِيقِ صَالِحٍ فَنَكُونُ فِيهِ، فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ وَخَرَجَ صَالِحٌ إِلَى مَسْجِدِهِ قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى الْغَارِ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا إِلَى رِحَالِنَا، وَقُلْنَا مَا شَهِدْنَا قَتْلَهُ فَيُصَدِّقُنَا قَوْمُهُ. وَكَانَ صَالِحٌ لَا يَبِيتُ مَعَهُمْ، كَانَ يَخْرُجُ إِلَى مَسْجِدٍ لَهُ

يُعْرَفُ بِمَسْجِدِ صَالِحٍ فَيَبِيتُ فِيهِ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْغَارَ سَقَطَتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ فَقَتَلَتْهُمْ، فَانْطَلَقَ رِجَالٌ مِمَّنْ عَرَفَ الْحَالَ إِلَى الْغَارِ فَرَأَوْهُمْ هَلْكَى، فَعَادُوا يَصِيحُونَ: إِنَّ صَالِحًا أَمَرَهُمْ بِقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ قَتَلَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ تَقَاسُمُ التِّسْعَةِ عَلَى قَتْلِ صَالِحٍ بَعْدَ عَقْرِ النَّاقَةِ وَإِنْذَارِ صَالِحٍ إِيَّاهُمْ بِالْعَذَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ التِّسْعَةَ الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ قَالُوا: تَعَالَوْا فَلْنَقْتُلْ صَالِحًا فَإِنْ كَانَ صَادِقًا عَجَّلْنَا قَتْلَهُ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا أَلْحَقْنَاهُ بِالنَّاقَةِ، فَأَتَوْهُ لَيْلًا فِي أَهْلِهِ فَدَمَغَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْحِجَارَةِ فَهَلَكُوا، فَأَتَى أَصْحَابُهُمْ فَرَأَوْهُمْ هَلْكَى فَقَالُوا لِصَالِحٍ: أَنْتَ قَتَلْتَهُمْ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَمَنَعَهُمْ عَشِيرَتُهُ وَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ أَنْذَرَكُمُ الْعَذَابَ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا تَزِيدُوا رَبَّكُمْ غَضَبًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَنَحْنُ نُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ، فَعَادُوا عَنْهُ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ التِّسْعَةُ الَّذِينَ تَقَاسَمُوا غَيْرَ الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ، وَالثَّانِي أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا سَبَبُ قَتْلِ النَّاقَةِ فَقِيلَ: إِنَّ قُدَارَ بْنَ سَالِفٍ جَلَسَ مَعَ نَفَرٍ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى مَاءٍ يَمْزُجُونَ بِهِ خَمْرَهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمُ شِرْبِ النَّاقَةِ، فَحَرَّضَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى قَتْلِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ ثَمُودًا كَانَ فِيهِمُ امْرَأَتَانِ يُقَالُ لِإِحْدَاهُمَا قَطَامُ، وَلِلْأُخْرَى قُبَالُ، وَكَانَ قِدَارُ يَهْوَى قَطَامَ، وَمُصَدَّعُ يَهْوَى قُبَالَ، وَيَجْتَمِعَانِ بِهِمَا، فَفِي بَعْضِ اللَّيَالِي قَالَتَا لِقُدَارَ وَمُصَدَّعَ: لَا سَبِيلَ لَكُمَا إِلَيْنَا حَتَّى تَقْتُلَا النَّاقَةَ، فَقَالَا: نَعَمْ، وَخَرَجَا وَجَمَعَا أَصْحَابَهُمَا وَقَصَدَا النَّاقَةَ وَهِيَ عَلَى حَوْضِهَا، فَقَالَ الشَّقِيُّ لِأَحَدِهِمْ: اذْهَبْ فَاعْقِرْهَا، فَأَتَاهَا، فَتَعَاظَمَهُ ذَلِكَ، فَأَضْرَبَ عَنْهُ، وَبَعَثَ آخَرُ فَأَعْظَمَ ذَلِكَ وَجَعَلَ لَا يَبْعَثُ أَحَدًا إِلَّا تَعَاظَمَهُ قَتْلُهَا حَتَّى مَشَى هُوَ إِلَيْهَا فَتَطَاوَلَ فَضَرَبَ عُرْقُوبَهَا، فَوَقَعَتْ تَرْكُضُ، وَكَانَ قَتْلُهَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَاسْمُهُ بِلُغَتِهِمْ جَبَّارُ، وَكَانَ هَلَاكُهُمْ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَهُوَ عِنْدُهُمْ أَوَّلُ، فَلَمَّا قُتِلَتْ أَتَى رَجُلٌ مِنْهُمْ صَالِحًا فَقَالَ: أَدْرِكِ النَّاقَةَ فَقَدْ عَقَرُوهَا، فَأَقْبَلَ وَخَرَجُوا يَتَلَقَّوْنَهُ، وَيَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّمَا عَقَرَهَا فُلَانٌ، إِنَّهُ لَا ذَنْبَ لَنَا! قَالَ: انْظُرُوا هَلْ تُدْرِكُونَ فَصِيلَهَا؟ فَإِنْ أَدْرَكْتُمُوهُ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنْكُمُ الْعَذَابَ. فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَهُ، وَلَمَّا رَأَى الْفَصِيلُ أُمَّهُ تَضْطَرِبُ قَصَدَ جَبَلًا يُقَالُ لَهُ الْقَارَّةُ قَصِيرًا فَصَعِدَهُ، وَذَهَبُوا يَطْلُبُونَهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْجَبَلِ فَطَالَ فِي

السَّمَاءِ حَتَّى مَا يَنَالُهُ الطَّيْرُ، وَدَخَلَ صَالِحٌ الْقَرْيَةَ، فَلَمَّا رَآهُ الْفَصِيلُ بَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ صَالِحًا فَرَغَا ثَلَاثًا، فَقَالَ صَالِحٌ: لِكُلِّ رَغْوَةٍ أَجَلُ يَوْمٍ {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] ، وَآيَةُ الْعَذَابِ أَنَّ وُجُوهَكُمْ تُصْبِحُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مُصْفَرَّةً، وَتُصْبِحُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مُحَمَّرَةً، وَتُصْبِحُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مُسْوَدَّةً. فَلَمَّا أَصْبَحُوا إِذَا وُجُوهُهُمْ كَأَنَّمَا طُلِيَتْ بِالْخَلُوقِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إِذَا وُجُوهُهُمْ مُحَمَّرَةٌ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إِذَا وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ كَأَنَّمَا طُلِيَتْ بِالْقَارِ، فَتَكَفَّنُوا وَتَحَنَّطُوا، وَكَانَ حَنُوطُهُمُ الصَّبْرَ، وَالْمُرَّ، وَكَانَتْ أَكْفَانُهُمُ الْأَنْطَاعَ، ثُمَّ أَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلَى الْأَرْضِ فَجَعَلُوا يُقَلِّبُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَتَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فِيهَا صَوْتٌ كَالصَّاعِقَةِ، فَتَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 67] وَأَهْلَكَ اللَّهُ مَنْ كَانَ بَيْنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلًا كَانَ فِي الْحَرَمِ فَمَنَعَهُ الْحَرَمُ. قِيلَ: وَمَنْ هُوَ؟ قِيلَ: هُوَ أَبُو رِغَالٍ، وَهُوَ أَبُو ثَقِيفٍ فِي قَوْلٍ. وَلَمَّا سَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى تَبُوكَ أَتَى عَلَى قَرْيَةِ ثَمُودَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: «لَا يَدْخُلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْقَرْيَةَ وَلَا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا، وَأَرَاهُمْ مُرْتَقَى الْفَصِيلِ فِي الْجَبَلِ، وَأَرَاهُمُ الْفَجَّ الَّذِي كَانَتِ النَّاقَةُ تَرِدُ مِنْهُ الْمَاءَ» . وَأَمَّا صَالِحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى الشَّامِ، فَنَزَلَ فِلَسْطِينَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا يَعْبُدُ اللَّهَ حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ قَدْ أَقَامَ فِي قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ عِشْرِينَ سَنَةً. وَأَمَّا أَهْلُ التَّوْرَاةِ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا ذِكْرَ لِعَادٍ، وَهُودٍ، وَثَمُودَ، وَصَالِحٍ فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ: وَأَمْرُهُمْ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ كَشُهْرَةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قُلْتُ: وَلَيْسَ إِنْكَارُهُمْ ذَلِكَ بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْكَارِهِمْ نُبُوَّةَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَرِسَالَتَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْكَارِهِمْ حَالَ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.

ذكر إبراهيم الخليل عليه السلام ومن كان في عصره من ملوك العجم

[ذِكْرُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ] وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ تَارِخَ بْنِ نَاخُورَ بْنِ سَارُوغَ بْنِ أَرْغُو بْنِ فَالَغَ بْنِ غَابِرِ بْنِ شَالَخَ بْنِ قَيْنَانَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَاخْتُلِفَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَالْمَوْضِعِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ، فَقِيلَ: وُلِدَ بِالسُّوسِ مِنْ أَرْضِ الْأَهْوَازِ، وَقِيلَ: وُلِدَ بِبَابِلَ، وَقِيلَ: بِكُوثَى، وَقِيلَ: بَحَرَّانَ، وَلَكِنَّ أَبَاهُ نَقَلَهُ. قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَانَ مَوْلِدُهُ فِي عَهْدِ نُمْرُودَ بْنِ كُوشَ. وَيَقُولُ عَامَّةُ أَهْلِ الْأَخْبَارِ: إِنَّ نُمْرُودَ كَانَ عَامِلًا لِلِازْدِهَاقَ الَّذِي زَعَمَ بَعْضُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ نُوحًا أُرْسِلَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا جَمَاعَةُ مَنْ سَلَفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: كَانَ مَلِكًا بِرَأْسِهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مُلْكُهُ قَدْ أَحَاطَ بِمَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَكَانَ بِبَابِلَ، قَالَ: وَيُقَالُ: لَمْ يَجْتَمِعْ مُلْكُ الْأَرْضِ إِلَّا لِثَلَاثَةِ مُلُوكٍ: نُمْرُودَ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَأَضَافَ غَيْرُهُ إِلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ، وَسَنَذْكُرُ بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ. فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ إِبْرَاهِيمَ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ وَرَسُولًا إِلَى عِبَادِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُوحٍ نَبِيٌّ إِلَّا هُودٌ، وَصَالِحٌ، فَلَمَّا تَقَارَبَ زَمَانُ إِبْرَاهِيمَ أَتَى أَصْحَابُ النُّجُومِ نُمْرُودَ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا نَجِدُ غُلَامًا يُولَدُ فِي قَرْيَتِكَ هَذِهِ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ يُفَارِقُ دِينَكُمْ وَيَكْسِرُ

أَصْنَامَكُمْ فِي شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا. فَلَمَّا دَخَلَتِ السَّنَةُ الَّتِي ذَكَرُوا حَبَسَ نُمْرُودُ الْحَبَالَى عِنْدَهُ إِلَّا أُمَّ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِحَبَلِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهَا أَثَرُهُ، فَذَبَحَ كُلَّ غُلَامٍ وُلِدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. فَلَمَّا وَجَدَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ الطَّلْقَ خَرَجَتْ لَيْلًا إِلَى مَغَارَةٍ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْهَا فَوَلَدَتْ إِبْرَاهِيمَ، وَأَصْلَحَتْ مِنْ شَأْنِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمَوْلُودِ، ثُمَّ سَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَغَارَةَ، ثُمَّ سَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا رَاجِعَةً، ثُمَّ كَانَتْ تُطَالِعُهُ لِتَنْظُرَ مَا فَعَلَ، فَكَانَ يَشِبُّ فِي الْيَوْمِ مَا يَشِبُّ غَيْرُهُ فِي الشَّهْرِ، وَكَانَتْ تَجِدُهُ حَيًّا يَمُصُّ إِبْهَامَهُ جَعَلَ اللَّهُ رِزْقَهُ فِيهَا. وَكَانَ آزَرُ سَأَلَ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ عَنْ حَمْلِهَا فَقَالَتْ: وَلَدْتُ غُلَامًا فَمَاتَ، فَصَدَّقَهَا، وَقِيلَ: بَلْ عَلِمَ آزَرُ بِوِلَادَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَتَمَهُ حَتَّى نَسِيَ الْمَلِكُ ذِكْرَ ذَلِكَ، فَقَالَ آزَرُ: إِنَّ لِيَ ابْنًا قَدْ خَبَّأْتُهُ أَفَتَخَافُونَ عَلَيْهِ الْمَلِكَ إِنْ أَنَا جِئْتُ بِهِ؟ فَقَالُوا: لَا. فَانْطَلَقَ فَأَخْرَجَهُ مِنَ السَّرَبِ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى الدَّوَابِّ، وَإِلَى الْخَلْقِ، وَلَمْ يَكُنْ رَأَى قَبْلَ ذَلِكَ غَيْرَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، جَعَلَ يَسْأَلُ أَبَاهُ عَمَّا يَرَاهُ، فَيَقُولُ أَبُوهُ: هَذَا بَعِيرٌ، أَوْ بَقَرَةٌ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. فَقَالَ: مَا لِهَؤُلَاءِ الْخَلْقِ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ رَبٌّ! وَكَانَ خُرُوجُهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا هُوَ بِالْكَوْكَبِ وَهُوَ الْمُشْتَرِي، فَقَالَ: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] . فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ غَابَ، فَقَالَ: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76] . وَكَانَ خُرُوجُهُ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَلِهَذَا رَأَى الْكَوْكَبَ قَبْلَ الْقَمَرِ. وَقِيلَ: كَانَ تَفَكَّرَ وَعُمُرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ شَهْرًا، قَالَ لِأُمِّهِ وَهُوَ فِي الْمَغَارَةِ أَخْرِجِينِي أَنْظُرْ، فَأَخْرَجَتْهُ عِشَاءً فَنَظَرَ فَرَأَى الْكَوْكَبَ وَتَفَكَّرَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَالَ فِي الْكَوْكَبِ مَا تَقَدَّمَ، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77] . فَلَمَّا جَاءَ النَّهَارُ وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ رَأَى نُورًا أَعْظَمَ مِنْ كُلِّ مَا رَأَى فَقَالَ: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78] . ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَبِيهِ وَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ وَبَرِئَ مِنْ دِينِ قَوْمِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنَادِهِمْ بِذَلِكَ، فَأَخْبَرَتْهُ أُمُّهُ بِمَا كَانَتْ صَنَعَتْ مِنْ كِتْمَانِ حَالِهِ، فَسَّرَهُ ذَلِكَ. وَكَانَ آزَرُ يَصْنَعُ الْأَصْنَامَ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَيُعْطِيهَا إِبْرَاهِيمَ لِيَبِيعَهَا، فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ: مَنْ يَشْتَرِي مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ؟ فَلَا يَشْتَرِيهَا مِنْهُ أَحَدٌ، وَكَانَ يَأْخُذُهَا، وَيَنْطَلِقُ بِهَا إِلَى

نَهْرٍ فَيُصَوِّبُ رُءُوسَهَا فِيهِ وَيَقُولُ: اشْرَبِي! اسْتِهْزَاءً بِقَوْمِهِ. حَتَّى فَشَا ذَلِكَ عَنْهُ فِي قَوْمِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ خَبَرُهُ نُمْرُودَ. فَلَمَّا بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ أَنْ يَدْعُوَ قَوْمَهُ إِلَى تَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَيَأْمُرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى دَعَا أَبَاهُ إِلَى التَّوْحِيدِ فَلَمْ يُجِبْهُ، وَدَعَا قَوْمَهُ، فَقَالُوا: مَنْ تَعْبُدُ أَنْتَ؟ قَالَ: رَبَّ الْعَالَمِينَ. قَالُوا: نُمْرُودُ؟ قَالَ: بَلْ أَعْبُدُ الَّذِي خَلَقَنِي. فَظَهَرَ أَمْرُهُ. وَبَلَغَ نُمْرُودَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَرَادَ أَنْ يُرِيَ قَوْمَهُ ضَعْفَ الْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا لِيُلْزِمَهُمُ الْحُجَّةَ، فَجَعَلَ يَتَوَقَّعُ فُرْصَةً يَنْتَهِي بِهَا لِيَفْعَلَ بِأَصْنَامِهِمْ ذَلِكَ، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، أَيْ طَعِينٌ، لِيَهْرُبُوا مِنْهُ إِذَا سَمِعُوا بِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ إِبْرَاهِيمُ لِيَخْرُجُوا عَنْهُ لِيَبْلُغَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ. وَكَانَ لَهُمْ عِيدٌ يَخْرُجُونَ إِلَيْهِ جَمِيعُهُمْ. فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمْ إِلَى الْعِيدِ، وَخَالَفَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ وَهُوَ يَقُولُ: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] فَسَمِعَهُ ضَعْفَى النَّاسِ وَمَنْ هُوَ فِي آخِرِهِمْ، وَرَجَعَ إِلَى الْأَصْنَامِ وَهِيَ فِي بَهْوٍ عَظِيمٍ بَعْضُهَا إِلَى جَنْبِ بَعْضٍ لِكُلِّ صَنَمٍ يَلِيهِ أَصْغَرُ مِنْهُ حَتَّى بَلَغُوا بَابَ الْبَهْوِ وَإِذَا هُمْ قَدْ جَعَلُوا طَعَامًا بَيْنَ يَدَيْ آلِهَتِهِمْ، وَقَالُوا: نَتْرُكُ الْآلِهَةَ إِلَى حِينِ نَرْجِعُ فَتَأْكُلُهُ. فَلَمَّا نَظَرَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الطَّعَامِ قَالَ: أَلَا تَأْكُلُونَ فَلَمَّا لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ قَالَ: {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ - فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 92 - 93] ، فَكَسَرَهَا بِفَأْسٍ فِي يَدِهِ حَتَّى إِذَا بَقِيَ أَعْظَمُ صَنَمٍ مِنْهَا رَبَطَ الْفَأْسَ بِيَدِهِ ثُمَّ تَرَكَهُنَّ. فَلَمَّا رَجَعَ قَوْمُهُ، وَرَأَوْا مَا فُعِلَ بِأَصْنَامِهِمْ رَاعَهُمْ ذَلِكَ، وَأَعْظَمُوهُ، وَقَالُوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ - قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 59 - 60] يَعْنُونَ يَسُبُّهَا وَيَعِيبُهَا، وَلَمْ نَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ الَّذِي نَظُنُّهُ صَنَعَ بِهَا هَذَا. وَبَلَغَ ذَلِكَ نُمْرُودَ وَأَشْرَفَ قَوْمُهُ، فَقَالُوا: {فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء: 61] مَا نَفْعَلُ بِهِ، وَقِيلَ: يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ، كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، فَلَمَّا أُتِيَ بِهِ، وَاجْتَمَعَ لَهُ قَوْمُهُ عِنْدَ مَلِكِهِمْ نُمْرُودَ، وَقَالُوا: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ - قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 62 - 63] ، غَضِبَ مِنْ أَنْ يَعْبُدُوا هَذِهِ الصِّغَارَ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا فَكَسَرَهَا،

فَارْعَوَوْا وَرَجَعُوا عَنْهُ فِيمَا ادَّعَوْا عَلَيْهِ مِنْ كَسْرِهَا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَقَالُوا: لَقَدْ ظَلَمْنَاهُ وَمَا نَرَاهُ إِلَّا كَمَا قَالَ. ثُمَّ قَالُوا، وَعَرَفُوا أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَبْطِشُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65] ، أَيْ لَا يَتَكَلَّمُونَ، فَتُخْبِرُنَا مَنْ صَنَعَ هَذَا بِهَا وَمَا تَبْطِشُ بِالْأَيْدِي فَنُصَدِّقُكَ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 65] فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ قَوْلِهِمْ " مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ": {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66] ثُمَّ إِنَّ نُمْرُودَ قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ: أَرَأَيْتَ إِلَهَكَ الَّذِي تَعْبُدُ وَتَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهِ مَا هُوَ؟ قَالَ: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] . قَالَ نُمْرُودُ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: آخُذُ رَجُلَيْنِ قَدِ اسْتَوْجَبَا الْقَتْلَ فَأَقْتُلُ أَحَدَهُمَا فَأَكُونُ قَدْ أَمَتُّهُ، وَأَعْفُو عَنِ الْآخَرِ فَأَكُونُ قَدْ أَحْيَيْتُهُ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ} [البقرة: 258] عِنْدَ ذَلِكَ نُمْرُودُ وَلَمْ يُرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا. ثُمَّ إِنَّهُ وَأَصْحَابَهُ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالُوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 68] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَشَارَ بِتَحْرِيقِهِ رَجُلٌ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ، قِيلَ لَهُ: وَلِلْفُرْسِ أَعْرَابٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْأَكْرَادُ هُمْ أَعْرَابُهُمْ. قِيلَ: كَانَ اسْمُهُ هِيزَنَ فَخُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَأَمَرَ نُمْرُودُ بِجَمْعِ الْحَطَبِ مِنْ أَصْنَافِ الْخَشَبِ حَتَّى إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ لَتَنْذُرُ بِـ: إِنْ بَلَغَتْ مَا تَطْلُبُ لَتَحْتَطِبَ لِنَارِ إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُلْقُوهُ فِيهَا قَدَّمُوهُ، وَأَشْعَلُوا النَّارَ حَتَّى إِنْ كَانَتِ الطَّيْرُ لَتَمُرُّ بِهَا فَتَحْتَرِقُ مِنْ شِدَّتِهَا وَحَرِّهَا، فَلَمَّا أَجْمَعُوا لِقَذْفِهِ فِيهَا صَاحَتِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ إِلَى اللَّهِ صَيْحَةً وَاحِدَةً: أَيْ رَبَّنَا! إِبْرَاهِيمُ، لَيْسَ فِي أَرْضِكَ مَنْ يَعْبُدُكَ غَيْرُهُ يُحْرَقُ بِالنَّارِ فِيكَ فَأْذَنْ لَنَا فِي نَصْرِهِ! قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِ اسْتَغَاثَ بِشَيْءٍ مِنْكُمْ فَلْيَنْصُرْهُ وَإِنْ لَمْ يَدْعُ غَيْرِي فَأَنَا لَهُ. فَلَمَّا رَفَعُوهُ عَلَى

رَأْسِ الْبُنْيَانِ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْوَاحِدُ فِي السَّمَاءِ وَأَنْتَ الْوَاحِدُ فِي الْأَرْضِ، حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَعَرَضَ لَهُ جَبْرَائِيلُ وَهُوَ يُوثَقُ فَقَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ يَا إِبْرَاهِيمُ؟ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. فَقَذَفُوهُ فِي النَّارِ فَنَادَاهَا، فَقَالَ: {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] . وَقِيلَ: نَادَاهَا جَبْرَائِيلُ، فَلَوْ لَمْ يَتْبَعْ بَرْدَهَا سَلَامٌ لَمَاتَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهَا، فَلَمْ يَبْقَ يَوْمَئِذٍ نَارٌ إِلَّا طُفِئَتْ ظَنَّتْ أَنَّهَا هِيَ. وَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكَ الظِّلِّ فِي صُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فَقَعَدَ فِيهَا إِلَى جَنْبِهِ يُؤْنِسُهُ. فَمَكَثَ نُمْرُودُ أَيَّامًا لَا يَشُكُّ أَنَّ النَّارَ قَدْ أَكَلَتْ إِبْرَاهِيمَ، فَرَأَى كَأَنَّهُ نَظَرَ فِيهَا وَهِيَ تُحْرِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَإِبْرَاهِيمُ جَالِسٌ إِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ مِثْلُهُ. فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَقَدْ رَأَيْتُ كَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَيٌّ وَلَقَدْ شُبِّهَ عَلَيَّ، ابْنُوا لِي صَرْحًا يُشْرِفُ بِي عَلَى النَّارِ، فَبَنَوْا لَهُ وَأَشْرَفَ مِنْهُ فَرَأَى إِبْرَاهِيمَ جَالِسًا وَإِلَى جَانِبِهِ رَجُلٌ فِي صُورَتِهِ، فَنَادَاهُ نُمْرُودُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، كَبِيرٌ إِلَهُكَ الَّذِي بَلَغَتْ قُدْرَتُهُ وَعِزَّتُهُ أَنْ حَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا أَرَى، هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَتَخْشَى إِنْ أَقَمْتَ فِيهَا أَنْ تَضُرَّكَ؟ قَالَ: لَا. فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ فَخَرَجَ مِنْهَا، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي رَأَيْتُ مَعَكَ مِثْلَ صُورَتِكَ؟ قَالَ: ذَلِكَ مَلَكُ الظِّلِّ أَرْسَلَهُ إِلَيَّ رَبِّي لِيُؤْنِسَنِي. قَالَ نُمْرُودُ: إِنِّي مُقَرِّبٌ مِنْ إِلَهِكَ قُرْبَانًا لِمَا رَأَيْتُ مِنْ قُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ وَمَا صَنَعَ بِكَ حِينَ أَبَيْتَ إِلَّا عِبَادَتَهُ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذًا لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْكَ مَا كُنْتَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِكَ. فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، لَا أَسْتَطِيعُ تَرْكَ مُلْكِي. وَقَرَّبَ أَرْبَعَةَ آلَافِ بَقَرَةٍ وَكَفَّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهُ. وَآمَنَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ رَأَوْا مَا صَنَعَ اللَّهُ بِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ نُمْرُودَ وَمَلَئِهِمْ، وَآمَنَ لَهُ لُوطُ بْنُ هَارَانَ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ لَهُمْ أَخٌ ثَالِثٌ يُقَالُ لَهُ نَاخُورُ بْنُ تَارِخَ، وَهُوَ أَبُو بِتْوِيلَ، وَبِتْوِيلُ أَبُو لَابَانَ وَأَبُو رَبْقَا امْرَأَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أُمِّ يَعْقُوبَ، وَلَابَانُ أَبُو لَيَّا وَرَاحِيلَ زَوْجَتَيْ يَعْقُوبَ. وَآمَنَتْ بِهِ سَارَةُ، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّهِ،

وَهِيَ سَارَةُ ابْنَةُ هَارَانَ الْأَكْبَرِ عَمِّ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: كَانَتِ ابْنَةَ مَلِكِ حَرَّانَ. فَآمَنَتْ بِاللَّهِ تَعَالَى مَعَ إِبْرَاهِيمَ. ذِكْرُ هِجْرَةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوا أَمْرَهُ أَجْمَعُوا عَلَى فِرَاقِ قَوْمِهِمْ، فَخَرَجَ مُهَاجِرًا حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ وَبِهَا فِرْعَوْنُ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ الْأُولَى كَانَ اسْمُهُ سِنَانَ بْنَ عِلْوَانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَوْلَجَ بْنِ عِمْلَاقَ بْنِ لَاوُذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَقِيلَ: كَانَ أَخَا الضَّحَّاكِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى مِصْرَ، وَكَانَتْ سَارَةُ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ وَجْهًا، وَكَانَتْ لَا تَعْصِي إِبْرَاهِيمَ شَيْئًا، فَلَمَّا وُصِفَتْ لِفِرْعَوْنَ أَرْسَلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ الَّتِي مَعَكَ؟ قَالَ: أُخْتِي، يَعْنِي فِي الْإِسْلَامِ، وَتَخَوَّفَ إِنْ قَالَ هِيَ امْرَأَتِي أَنْ يَقْتُلَهُ. فَقَالَ لَهُ: زَيِّنْهَا وَأَرْسِلْهَا إِلَيَّ. فَأَمَرَ بِذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ، فَتَزَيَّنَتْ، وَأَرْسَلَهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَهْوَى بِيَدِهِ إِلَيْهَا، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ أَرْسَلَهَا قَامَ يُصَلِّي، فَلَمَّا أَهْوَى إِلَيْهَا أُخِذَ أَخْذًا شَدِيدًا، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ وَلَا أَضُرُّكِ. فَدَعَتْ لَهُ، فَأُرْسِلَ فَأَهْوَى إِلَيْهَا، فَأُخِذَ أَخْذًا شَدِيدًا، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ وَلَا أَضُرُّكِ. فَدَعَتْ لَهُ، فَأُرْسِلَ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ الثَّالِثَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَ الْمَرَّتَيْنِ، فَدَعَا أَدْنَى حُجَّابِهِ فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ وَإِنَّكَ أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ! أَخْرِجْهَا، وَأَعْطِهَا هَاجَرَ، فَفَعَلَ، فَأَقْبَلَتْ بِهَاجَرَ، فَلَمَّا أَحَسَّ إِبْرَاهِيمُ بِهَا انْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ، فَقَالَ: مَهْيَمْ! فَقَالَتْ: كَفَى اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِينَ وَأَخْدَمَ هَاجَرَ. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، اثْنَتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] ، وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] ، وَقَوْلُهُ فِي سَارَةَ: هِيَ أُخْتِي» .

ذكر ولادة إسماعيل عليه السلام وحمله إلى مكة

[ذِكْرُ وِلَادَةِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَمْلِهِ إِلَى مَكَّةَ] قِيلَ: كَانَتْ هَاجَرُ جَارِيَةً ذَاتَ هَيْئَةٍ فَوَهَبَتْهَا سَارَةُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَقَالَتْ: خُذْهَا لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُكَ مِنْهَا وَلَدًا، وَكَانَتْ سَارَةُ قَدْ مُنِعَتِ الْوَلَدَ حَتَّى أَسَنَّتْ، فَوَقَعَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى هَاجَرَ فَوَلَدَتْ إِسْمَاعِيلَ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا اسْتَفْتَحْتُمْ مِصْرَ فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا» ، يَعْنِي وِلَادَةَ هَاجَرَ. فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ خَرَجَ بِهَا إِلَى الشَّامِ مِنْ مِصْرَ خَوْفًا مِنْ فِرْعَوْنَ، فَنَزَلَ السَّبْعَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، وَنَزَلَ لُوطٌ بِالْمُؤْتَفِكَةِ، وَهِيَ مِنَ السَّبْعِ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدِ اتَّخَذَ بِالسَّبْعِ بِئْرًا وَمَسْجِدًا وَكَانَ مَاءُ الْبِئْرِ مَعِينًا طَاهِرًا، فَآذَاهُ أَهْلُ السَّبْعِ، فَانْتَقَلَ عَنْهُمْ، فَنَضَبَ الْمَاءُ فَاتَّبَعُوهُ يَسْأَلُونَهُ الْعَوْدَ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَأَعْطَاهُمْ سَبْعَةَ أَعْنُزٍ، وَقَالَ: إِذَا أَوْرَدْتُمُوهَا الْمَاءَ ظَهَرَ حَتَّى يَكُونَ مَعِينًا طَاهِرًا فَاشْرَبُوا مِنْهُ، وَلَا تَغْتَرِفْ مِنْهُ امْرَأَةٌ حَائِضٌ. فَخَرَجُوا بِالْأَعْنُزِ، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَى الْمَاءِ ظَهَرَ إِلَيْهَا، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْهُ، إِلَى أَنْ غَرَفَتْ مِنْهُ امْرَأَةٌ طَامِثٌ فَعَادَ الْمَاءُ إِلَى الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ. وَأَقَامَ إِبْرَاهِيمُ بَيْنَ الرَّمْلَةِ، وَإِيلِيَا بِبَلَدٍ يُقَالُ لَهُ قَطُّ أَوْ قِطُّ. قَالَ: فَلَمَّا وُلِدَ إِسْمَاعِيلُ حَزِنَتْ سَارَةُ حُزْنًا شَدِيدًا، فَوَهَبَهَا اللَّهُ إِسْحَاقَ، وَعُمُرُهَا سَبْعُونَ سَنَةً، فَعُمُرُ إِبْرَاهِيمَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَلَمَّا كَبِرَ إِسْمَاعِيلُ، وَإِسْحَاقُ اخْتَصَمَا، فَغَضِبَتْ سَارَةُ عَلَى هَاجَرَ فَأَخْرَجَتْهَا، ثُمَّ أَعَادَتْهَا، فَغَارَتْ مِنْهَا فَأَخْرَجَتْهَا، وَحَلَفَتْ لَتَقْطَعَنَّ مِنْهَا بَضْعَةً، فَتَرَكَتْ أَنْفَهَا وَأُذُنَهَا لِئَلَّا تَشِينَهَا، ثُمَّ خَفَضَتْهَا، فَمِنْ ثَمَّ خَفْضُ النِّسَاءِ.

وَقِيلَ: كَانَ إِسْمَاعِيلُ صَغِيرًا، وَإِنَّمَا أَخْرَجَتْهَا سَارَةُ غَيْرَةً مِنْهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَتْ سَارَةُ: لَا تُسَاكِنُنِي فِي بَلَدٍ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَنْ تَأْتِيَ بِمَكَّةَ، وَلَيْسَ بِهَا يَوْمَئِذٍ نَبْتٌ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ هَاجَرَ فَوَضَعَهُمَا بِمَكَّةَ بِمَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَلَمَّا مَضَى نَادَتْهُ هَاجَرُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، مَنْ أَمَرَكَ أَنْ تَتْرُكَنَا بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا زَرْعٌ، وَلَا ضَرْعٌ، وَلَا مَاءٌ، وَلَا زَادٌ، وَلَا أَنِيسٌ؟ قَالَ: رَبِّي أَمَرَنِي. قَالَتْ: فَإِنَّهُ لَنْ يُضَيِّعَنَا. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] الْآيَةَ. فَلَمَّا ظَمِئَ إِسْمَاعِيلُ جَعَلَ يَدْحَضُ الْأَرْضَ بِرِجْلِهِ، فَانْطَلَقَتْ هَاجَرُ حَتَّى صَعِدَتِ الصَّفَا لِتَنْظُرَ هَلْ تَرَى شَيْئًا فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، فَانْحَدَرَتْ إِلَى الْوَادِي فَسَعَتْ حَتَّى أَتَتِ الْمَرْوَةَ، فَاسْتَشْرَفَتْ هَلْ تَرَى شَيْئًا فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَذَلِكَ أَصْلُ السَّعْيِ، ثُمَّ جَاءَتْ إِلَى إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ يَدْحَضُ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْهِ وَقَدْ نَبَعَتِ الْعَيْنُ، وَهِيَ زَمْزَمُ، فَجَعَلَتْ تَفْحَصُ الْأَرْضَ بِيَدِهَا عَنِ الْمَاءِ، وَكُلَمَّا اجْتَمَعَ أَخَذَتْهُ وَجَعَلَتْهُ فِي سِقَائِهَا. قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَرْحَمُهَا اللَّهُ! لَوْ تَرَكَتْهَا لَكَانَتْ عَيْنًا سَائِحَةً» . وَكَانَتْ جُرْهُمُ بِوَادٍ قَرِيبٍ مِنْ مَكَّةَ وَلَزِمَتِ الطَّيْرُ الْوَادِيَ حِينَ رَأَتِ الْمَاءَ، فَلَمَّا رَأَتْ جُرْهُمُ الطَّيْرَ لَزِمَتِ الْوَادِيَ، قَالُوا: مَا لَزِمَتْهُ إِلَّا وَفِيهِ مَاءٌ، فَجَاءُوا إِلَى هَاجَرَ، فَقَالُوا: لَوْ شِئْتِ لَكُنَّا مَعَكِ فَآنَسْنَاكِ وَالْمَاءُ مَاؤُكِ. قَالَتْ: نَعَمْ. فَكَانُوا مَعَهَا حَتَّى شَبَّ إِسْمَاعِيلُ وَمَاتَتْ هَاجَرُ، فَتَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ امْرَأَةً مِنْ جُرْهُمَ فَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ هُوَ وَأَوْلَادُهُ، فَهُمُ الْعَرَبُ الْمُتَعَرِّبَةُ. وَاسْتَأْذَنَ إِبْرَاهِيمُ سَارَةَ أَنْ يَأْتِيَ هَاجَرَ، فَأَذِنَتْ لَهُ وَشَرَطَتْ عَلَيْهِ أَلَا يَنْزِلَ، فَقَدِمَ وَقَدْ مَاتَتْ هَاجَرُ، فَذَهَبَ إِلَى بَيْتِ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَيْنَ صَاحِبُكِ؟ قَالَتْ: لَيْسَ هَهُنَا، ذَهَبَ يَتَصَيَّدُ. وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ يَتَصَيَّدُ، ثُمَّ يَرْجِعُ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: هَلْ عِنْدَكِ ضِيَافَةٌ؟ قَالَتْ: لَيْسَ عِنْدِي ضِيَافَةٌ وَمَا عِنْدِي أَحَدٌ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَأَقْرِئِيهِ السَّلَامَ، وَقُولِي لَهُ فَلْيُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ. وَعَادَ إِبْرَاهِيمُ، وَجَاءَ إِسْمَاعِيلُ فَوَجَدَ رِيحَ أَبِيهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَلْ عِنْدَكِ أَحَدٌ؟

قَالَتْ: جَاءَنِي شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، كَالْمُسْتَخِفَّةِ بِشَأْنِهِ، قَالَ: فَمَا قَالَ لَكِ؟ قَالَتْ: أَقْرِئِي زَوْجَكِ السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ فَلْيُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ أُخْرَى. فَلَبِثَ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ سَارَةَ أَنْ يَزُورَ إِسْمَاعِيلَ، فَأَذِنَتْ لَهُ وَشَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْزِلَ. فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابِ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ أَيْنَ صَاحِبُكِ؟ قَالَتْ: ذَهَبَ لِيَتَصَيَّدَ وَهُوَ يَجِيءُ الْآنَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَانْزِلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَقَالَ لَهَا: فَعِنْدَكِ ضِيَافَةٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ عِنْدَكِ خُبْزٌ، أَوْ بُرٌّ، أَوْ شَعِيرٌ، أَوْ تَمْرٌ؟ قَالَ: فَجَاءَتْ بِاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ، فَدَعَا لَهُمَا بِالْبَرَكَةِ، وَلَوْ جَاءَتْ يَوْمَئَذٍ بِخُبْزٍ، أَوْ تَمْرٍ، أَوْ بُرٍّ، أَوْ شَعِيرٍ لَكَانَتْ أَكْثَرَ أَرْضِ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَتِ: انْزِلْ حَتَّى أَغْسِلَ رَأْسَكَ. فَلَمْ يَنْزِلْ. فَجَاءَتْهُ بِالْمَقَامِ بِالْإِنَاءِ فَوَضَعَتْهُ عِنْدَ شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، فَوَضَعَ قَدَمَهُ عَلَيْهِ فَبَقِيَ أَثَرُ قَدَمِهِ فِيهِ، فَغَسَلَتْ شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنَ، ثُمَّ حَوَّلَتِ الْمَقَامَ إِلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ فَفَعَلَتْ بِهِ كَذَلِكَ. فَقَالَ لَهَا: إِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَأَقْرِئِيهِ عَنِّي السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ: قَدِ اسْتَقَامَتْ عَتَبَةُ بَابِكَ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ وَجَدَ رِيحَ أَبِيهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَلْ جَاءَكِ أَحَدٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، شَيْخٌ أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا وَأَطْيَبُهُمْ رِيحًا، فَقَالَ لِي كَذَا وَكَذَا. وَقُلْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا، وَغَسَلْتُ رَأْسَهُ، وَهَذَا مَوْضِعُ قَدَمِهِ، وَهُوَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ: قَدِ اسْتَقَامَتْ عَتَبَةُ بَابِكَ. قَالَ: ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي أَنْبَعَ الْمَاءَ جَبْرَائِيلُ، فَإِنَّهُ نَزَلَ إِلَى هَاجَرَ وَهِيَ تَسْعَى فِي الْوَادِي فَسَمِعَتْ حِسَّهُ فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَنِي فَأَغِثْنِي فَقَدْ هَلَكْتُ أَنَا وَمَنْ مَعِي. فَجَاءَ بِهَا إِلَى مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَضَرَبَ بِقَدَمِهِ، فَفَارَتْ عَيْنًا، فَتَعَجَّلَتْ، فَجَعَلَتْ تَفْرَغُ فِي شَنِّهَا. فَقَالَ لَهَا: لَا تَخَافِي الظَّمَأَ.

ذكر عمارة البيت الحرام بمكة

[ذِكْرُ عِمَارَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ] قِيلَ: ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَضَاقَ بِذَلِكَ ذَرْعًا فَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّكِينَةَ، وَهِيَ رِيحٌ خَجُوجُ، وَهِيَ اللَّيِّنَةُ الْهُبُوبِ، لَهَا رَأْسَانِ، فَسَارَ مَعَهَا إِبْرَاهِيمُ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ فَتَطَوَّتْ عَلَيْهِ كَطَيِّ الْحُجْفَةِ، فَأُمِرَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يَبْنِيَ حَيْثُ تَسْتَقِرُّ السَّكِينَةُ، فَبَنَى إِبْرَاهِيمُ. وَقِيلَ: أَرْسَلَ اللَّهُ مِثْلَ الْغَمَامَةِ لَهُ رَأْسٌ فَكَلَّمَهُ وَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، ابْنِ عَلَى ظِلِّي، أَوْ عَلَى قَدْرِي، وَلَا تَزِدْ، وَلَا تَنْقُصْ، فَبَنَى. وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ نُقِلَا عَنْ عَلِيٍّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الَّذِي دَلَّهُ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ هُوَ جَبْرَائِيلُ. فَسَارَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا وَصَلَهَا وَجَدَ إِسْمَاعِيلَ يُصْلِحُ نَبْلًا لَهُ وَرَاءَ زَمْزَمَ، فَقَالَ لَهُ: يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا. قَالَ إِسْمَاعِيلُ: فَأَطِعْ رَبَّكَ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تُعِينَنِي عَلَى بِنَائِهِ. قَالَ: إِذَنْ أَفْعَلُ. فَقَامَ مَعَهُ فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِيهِ، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ. ثُمَّ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِإِسْمَاعِيلَ: إِيتِنِي بِحَجَرٍ حَسَنٍ أَضَعُهُ عَلَى الرُّكْنِ فَيَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَمًا. فَنَادَاهُ أَبُو قُبَيْسٍ: إِنَّ لَكَ عِنْدِي وَدِيعَةً، وَقِيلَ: بَلْ جَبْرَائِيلُ أَخْبَرَهُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فَأَخَذَهُ وَوَضَعَهُ مَوْضِعَهُ، وَكَانَا كُلَمَّا بَنَيَا دَعَوَا اللَّهَ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] . فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْبُنْيَانُ وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ رَفْعِ الْحِجَارَةِ قَامَ عَلَى حَجَرٍ، وَهُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، فَجَعَلَ يُنَاوِلُهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ، وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ قَالَ: أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ. فَنَادَى: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْكَمُ الْحَجَّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ! فَسَمِعَهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا مِنْ أَصْلَابِ

الرِّجَالِ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، فَأَجَابَهُ مَنْ آمَنَ مِمَّنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ يَحُجَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأُجِيبَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ! ثُمَّ خَرَجَ بِإِسْمَاعِيلَ مَعَهُ إِلَى التَّرْوِيَةِ فَنَزَلَ بِهِ مِنًى، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَصَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ، فَصَلَّى بِهِمُ الْفَجْرَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَرَفَةَ، فَأَقَامَ بِهِمْ هُنَاكَ حَتَّى إِذَا مَالَتِ الشَّمْسُ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، ثُمَّ رَاحَ بِهِمْ إِلَى الْمَوْقِفِ مِنْ عَرَفَةَ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ، فَوَقَفَ بِهِ عَلَى الْأَرَاكِ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ دَفَعَ بِهِ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَجَمَعَ بِهَا الصَّلَاتَيْنِ الْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، ثُمَّ بَاتَ بِهَا وَمَنْ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى الْغَدَاةَ، ثُمَّ وَقَفَ عَلَى قُزَحَ حَتَّى إِذَا أَسْفَرَ دَفَعَ بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ يُرِيهِ، وَيُعَلِّمُهُ كَيْفَ يَصْنَعُ، حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ، وَأَرَاهُ الْمَنْحَرَ، ثُمَّ نَحَرَ وَحَلَقَ، وَأَرَاهُ كَيْفَ يَطُوفُ، ثُمَّ عَادَ بِهِ إِلَى مِنًى لِيُرِيَهُ كَيْفَ رَمْيُ الْجِمَارِ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْحَجِّ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ جَبْرَائِيلَ هُوَ الَّذِي أَرَى إِبْرَاهِيمَ كَيْفَ يَحُجُّ» ، وَرَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عُمَرَ. وَلَمْ يَزَلِ الْبَيْتُ عَلَى مَا بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى أَنْ هَدَمَتْهُ قُرَيْشٌ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ مِنْ مَوْلِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ذكر قصة الذبح

[ذِكْرُ قِصَّةِ الذَّبْحِ] وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الذَّبِيحِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ إِسْحَاقُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِلَا الْقَوْلَيْنِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِمَا صَحِيحٌ لَمْ نَعْدُهُ إِلَى غَيْرِهِ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ فِي أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ فَقَدْ رَوَى الْأَحْنَفُ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ ذَكَرَ فِيهِ: « {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] هُوَ إِسْحَاقُ» ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ الْعَبَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَرْفَعْهُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فِي أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ فَقَدَ رَوَى الصُّنَابِحِيُّ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَذَكَرُوا الذَّبِيحَ فَقَالَ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتُمْ، كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عُدَّ عَلَيَّ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ، فَضَحِكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ لِمُعَاوِيَةَ، وَمَا الذَّبِيحَانِ؟ فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ نَذَرَ إِنْ سَهَّلَ اللَّهُ حَفْرَ زَمْزَمَ أَنْ يَذْبَحَ أَحَدَ أَوْلَادِهِ، فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ أَبِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفَدَاهُ بِمِائَةِ بَعِيرٍ» ، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالذَّبِيحُ الثَّانِي إِسْمَاعِيلُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ إِسْحَاقُ ذَهَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيٌّ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ عِكْرِمَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَكَعْبٌ، وَابْنُ سَابِطٍ، وَابْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ، وَمَسْرُوقٌ إِلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.

حَدَّثَ عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَبِي أَسِيدِ بْنِ أَبِي جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ أَنَّ كَعْبًا قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: أَلَا أُخْبِرُكَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ كَعْبٌ: لَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ ذَبْحَ إِسْحَاقَ قَالَ الشَّيْطَانُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ أَفْتَتِنْ أَحَدًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا، فَتَمَثَّلَ رَجُلًا يَعْرِفُونَهُ فَأَقْبَلَ حَتَّى إِذَا خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بِإِسْحَاقَ لِيَذْبَحَهُ دَخَلَ عَلَى سَارَةَ امْرَأَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ أَصْبَحَ إِبْرَاهِيمُ غَادِيًا بِإِسْحَاقَ؟ قَالَتْ: لِبَعْضِ حَاجَتِهِ. قَالَ: لَا وَاللَّهِ إِنَّمَا غَدَا بِهِ لِيَذْبَحَهُ! قَالَتْ سَارَةُ: لَمْ يَكُنْ لِيَذْبَحَ وَلَدَهُ. قَالَ الشَّيْطَانُ: بَلَى وَاللَّهِ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ. قَالَتْ سَارَةُ: فَهَذَا أَحْسَنُ أَنْ يُطِيعَ رَبَّهُ. ثُمَّ خَرَجَ الشَّيْطَانُ، فَأَدْرَكَ إِسْحَاقَ وَهُوَ مَعَ أَبِيهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَكَ. قَالَ إِسْحَاقُ: مَا كَانَ لِيَفْعَلَ. قَالَ: بَلَى وَاللَّهِ إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ. قَالَ إِسْحَاقُ: فَوَاللَّهِ لَئِنْ أَمَرَهُ رَبُّهُ بِذَلِكَ لَيُطِيعَنَّهُ! فَتَرَكَهُ وَلَحِقَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: أَيْنَ أَصْبَحْتَ غَادِيًا بِابْنِكَ؟ قَالَ: لِبَعْضِ حَاجَتِي. قَالَ: لَا وَاللَّهِ إِنَّمَا تُرِيدُ ذَبْحَهُ! قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ زَعَمْتَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذَلِكَ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَوَاللَّهِ إِنْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَنِي بِذَلِكَ لَأَفْعَلَنَّ. فَلَمَّا أَخَذَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ لِيَذْبَحَهُ أَعْفَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَفَدَاهُ بِذَبْحٍ عَظِيمٍ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِسْحَاقَ: إِنِّي مُعْطِيكَ دَعْوَةً أَسْتَجِيبُ لَكَ فِيهَا. قَالَ إِسْحَاقُ: اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا عَبْدٍ لَقِيَكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَا يُشْرِكُ بِكَ شَيْئًا فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ. قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ يَقُولُونَ يَا إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، فَبِمَ نَالُوا ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَعْدِلْ بِي شَيْئًا قَطُّ إِلَّا اخْتَارَنِي، وَإِنَّ إِسْحَاقَ جَادَ لِي بِالذَّبْحِ وَهُوَ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَجْوَدُ، وَإِنَّ يَعْقُوبَ كُلَمَّا زِدْتُهُ بَلَاءً زَادَنِي حُسْنَ ظَنٍّ بِي. (أَسِيدٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَكَسْرِ السِّينِ. وَجَارِيَةُ بِالْجِيمِ) . ذِكْرُ مَنْ قَالَ إِنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَيُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ، وَقَالَ: زَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَكَذَبَتِ الْيَهُودُ.

وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ، وَالشَّعْبِيُّ: رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ فِي الْكَعْبَةِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِهِ مِنْ بَنِيهِ إِسْمَاعِيلُ، وَإِنَّا لِنَجِدُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي قِصَّةِ الْخَبَرِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ ذَبْحِهِ ابْنَهُ أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ فَرَغَ مِنْ قِصَّةِ الْمَذْبُوحِ مِنِ ابْنِي إِبْرَاهِيمَ قَالَ: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] ، وَيَقُولُ: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} [الصافات: 112] ، {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] بِابْنٍ وَابْنِ ابْنٍ، فَلَمْ يَكُنْ يَأْمُرُهُ بِذَبْحِ إِسْحَاقَ، وَلَهُ فِيهِ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مَا وَعَدَهُ، وَمَا الَّذِي أُمِرَ بِذَبْحِهِ إِلَّا إِسْمَاعِيلُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ لِعُمُرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَا كُنْتُ أَنْظُرُ فِيهِ وَإِنِّي لَأُرَاهُ كَمَا قُلْتَ. ذِكْرُ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِالذَّبْحِ وَصِفَةِ الذَّبْحِ قِيلَ: أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَبْحِ ابْنِهِ فِيمَا ذُكِرَ أَنَّهُ دَعَا اللَّهَ أَنْ يَهَبَ لَهُ وَلَدًا ذَكَرًا صَالِحًا، فَقَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100] . فَلَمَّا بَشَّرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ قَالَ: إِذَنْ هُوَ ذَبِيحٌ. فَلَمَّا وُلِدَ الْغُلَامُ وَبَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قِيلَ لَهُ: أَوْفِ نَذْرَكَ الَّذِي نَذَرْتَ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ، وَقَائِلُ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالشَّامِ عَلَى مِيلَيْنِ مِنْ إِيلِيَا. وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ فَيَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَكَّةَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لِابْنِهِ حِينَ أُمِرَ بِذَبْحِهِ: يَا بُنَيَّ، خُذِ الْحَبْلَ وَالْمُدْيَةَ ثُمَّ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى هَذَا الشِّعْبِ لِنَحْتَطِبَ لِأَهْلِكَ. فَلَمَّا تَوَجَّهَ اعْتَرَضَهُ إِبْلِيسُ لِيَصُدَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي يَا عَدُوَّ اللَّهِ! فَوَاللَّهِ لَأَمْضِيَنَّ لِأَمْرِ اللَّهِ! فَاعْتَرَضَ إِسْمَاعِيلَ فَأَعْلَمَهُ مَا يُرِيدُ إِبْرَاهِيمُ يَصْنَعُ بِهِ، فَقَالَ: سَمْعًا لِأَمْرِ رَبِّي وَطَاعَةً. فَذَهَبَ إِلَى هَاجَرَ فَأَعْلَمَهَا، فَقَالَتْ: إِنْ كَانَ رَبُّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَتَسْلِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ. فَرَجَعَ بِغَيْظِهِ لَمْ يُصِبْ مِنْهُمْ شَيْئًا. فَلَمَّا خَلَا إِبْرَاهِيمُ بِالشِّعْبِ، وَهُوَ شِعْبُ ثَبِيرٍ، قَالَ لَهُ: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] .

ثُمَّ قَالَ لَهُ يَا أَبَتِ إِنْ أَرَدْتَ ذَبْحِي فَاشْدُدْ رِبَاطِي لَا يُصِبْكَ مِنْ دَمِي شَيْءٌ فَيَنْتَقِصَ أَجْرِي، فَإِنَّ الْمَوْتَ شَدِيدٌ، وَاشَحَذْ شَفْرَتَكَ حَتَّى تُرِيحَنِي، فَإِذَا أَضْجَعْتَنِي فَكُبَّنِي عَلَى وَجْهِي فَإِنِّي أَخْشَى إِنْ نَظَرْتَ فِي وَجْهِي أَنَّكَ تُدْرِكُ رَحْمَةً فَتَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَمْرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرُدَّ قَمِيصِي إِلَى هَاجَرَ أُمِّي فَعَسَى أَنْ يَكُونَ أَسْلَى لَهَا عَنِّي، فَافْعَلْ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: نِعْمَ الْمُعِينُ أَنْتَ، أَيْ بُنَيَّ، عَلَى أَمْرِ اللَّهِ! فَرَبَطَهُ كَمَا أَمَرَهُ، ثُمَّ حَدَّ شَفْرَتَهُ {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] ، ثُمَّ أَدْخَلَ الشَّفْرَةَ لِحَلْقِهِ، فَقَلَبَهَا اللَّهُ لِقَفَاهَا، ثُمَّ اجْتَذَبَهَا إِلَيْهِ لِيَفْرُغَ مِنْهُ، فَنُودِيَ: {أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104] ، هَذِهِ ذَبِيحَتُكَ فِدَاءً لِابْنِكَ فَاذْبَحْهَا. وَقِيلَ: جَعَلَ اللَّهُ عَلَى حَلْقِهِ صَحِيفَةَ نُحَاسٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَرَجَ عَلَيْهِ كَبْشٌ مِنَ الْجَنَّةِ قَدْ رَعَى فِيهَا أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَقِيلَ: هُوَ الْكَبْشُ الَّذِي قَرَّبَهُ هَابِيلُ، وَقَالَ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: كَانَ كَبْشًا أَقْرَنَ أَعْيَنَ أَبْيَضَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا فُدِيَ إِسْمَاعِيلُ إِلَّا بِتَيْسٍ مِنَ الْأَرْوَى هَبَطَ عَلَيْهِ مِنْ ثَبِيرٍ فَذَبَحَهُ، قِيلَ بِالْمَقَامِ، وَقِيلَ: بِمِنًى فِي الْمَنْحَرِ. ذِكْرُ مَا امْتَحَنَ اللَّهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ابْتِلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِمَا كَانَ مِنْ نُمْرُودَ، وَذَبْحِ وَلَدِهِ بَعْدَ أَنْ رَجَا نَفْعَهُ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي أَخْبَرَ أَنَّهُ ابْتَلَاهُ بِهِنَّ فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] .

وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] : لَمْ يُبْتَلَ أَحَدٌ بِهَذَا الدِّينِ فَأَقَامَهُ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ. وَقَالَ اللَّهُ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] ، قَالَ: وَالْكَلِمَاتُ عَشْرٌ فِي " بَرَاءَةٌ "، وَهِيَ: {الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} [التوبة: 112] الْآيَةَ، وَعَشْرٌ فِي " الْأَحْزَابِ "، وَهِيَ {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] الْآيَةَ، وَعَشْرٌ فِي " الْمُؤْمِنِينَ " مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34] . وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ عَشْرُ خِصَالٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ طَاوُسٍ، وَغَيْرِهِ عَنْهُ: الْكَلِمَاتُ عَشْرٌ، وَهِيَ خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَالْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَالسِّوَاكُ، وَفَرْقُ شَعَرِ الرَّأْسِ، وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ، وَهِيَ: تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالْخِتَانُ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَغَسْلُ أَثَرِ الْغَائِطِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مَنَاسِكُ الْحَجِّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] وَهُوَ قَوْلُ أَبِي صَالِحٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ سِتَّةٌ، وَهِيَ: الْكَوَاكِبُ، وَالْقَمَرُ، وَالشَّمْسُ، وَالنَّارُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْخِتَانُ. وَذَبْحُ ابْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، قَالَ: ابْتَلَاهُ بِذَلِكَ فَعَرَفَ أَنَّ رَبَّهُ دَائِمٌ لَا يَزُولُ فَوَجَّهَ وَجْهَهُ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهَاجَرَ مِنْ وَطَنِهِ، وَأَرَادَ ذَبْحَ ابْنِهِ وَخَتَنَ نَفْسَهُ.

وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي التَّارِيخِ الْمُخْتَصَرِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا الْقَدْرَ لِئَلَّا يَخْلُوَ مِنْ فُصُولِ الْكِتَابِ.

ذكر عدو الله نمرود وهلاكه

[ذِكْرُ عَدُوِّ اللَّهِ نُمْرُودَ وَهَلَاكِهِ] وَنَرْجِعُ الْآنَ إِلَى خَبَرِ عَدُوِّ اللَّهِ نُمْرُودَ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ فِي دُنْيَاهُ، وَتَمَرُّدِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِمْلَاءِ اللَّهِ لَهُ، وَكَانَ أَوَّلَ جَبَّارٍ فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ إِحْرَاقُهُ إِبْرَاهِيمَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، فَأَخْرَجَ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ مَدِينَتِهِ وَحَلَفَ أَنَّهُ يَطْلُبُ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ، فَأَخَذَ أَرْبَعَةَ أَفْرُخِ نُسُورٍ فَرَبَّاهُنَّ بِاللَّحْمِ، وَالْخَمْرِ حَتَّى كَبِرْنَ، وَغَلُظْنَ، فَقَرَنَهُنَّ بِتَابُوتٍ وَقَعَدَ فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ فَأَخَذَ مَعَهُ رَجُلًا وَمَعَهُ لَحْمٌ لَهُنَّ، فَطِرْنَ بِهِ حَتَّى إِذَا ذَهَبْنَ أَشْرَفَ يَنْظُرُ إِلَى الْأَرْضِ فَرَأَى الْجِبَالَ تَدِبُّ كَالنَّمْلِ، ثُمَّ رَفَعَ لَهُنَّ اللَّحْمَ وَنَظَرَ إِلَى الْأَرْضِ فَرَآهَا يُحِيطُ بِهَا بَحْرٌ كَأَنَّهَا فَلَكٌ فِي مَاءٍ، ثُمَّ رَفَعَ طَوِيلًا فَوَقَعَ فِي ظُلْمَةٍ فَلَمْ يَرَ مَا فَوْقَهُ وَمَا تَحْتَهُ، فَفَزِعَ وَأَلْقَى اللَّحْمَ، فَاتَّبَعَتْهُ النُّسُورُ مُنْقَضَّاتٍ، فَلَمَّا نَظَرَتِ الْجِبَالُ إِلَيْهِنَّ وَقَدْ أَقْبَلْنَ مُنْقَضَّاتٍ وَسَمِعْنَ حَفِيفَهُنَّ فَزِعَتِ الْجِبَالُ وَكَادَتْ تَزُولُ وَلَمْ يَفْعَلْنَ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46] . وَكَانَتْ طَيْرُورَتُهُنَّ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَوُقُوعُهُنَّ فِي جَبَلِ الدُّخَانِ. فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يُطِيقُ شَيْئًا أَخَذَ فِي بُنْيَانِ الصَّرْحِ فَبَنَاهُ حَتَّى عَلَا وَارْتَقَى فَوْقَهُ يَنْظُرُ إِلَى إِلَهِ إِبْرَاهِيمَ بِزَعْمِهِ وَأَحْدَثَ، وَلَمْ يَكُنْ يُحْدِثُ، وَأَخَذَ اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ مِنْ أَسَاسِ الصَّرْحِ فَسَقَطَ وَتَبَلْبَلَتِ الْأَلْسُنُ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْفَزَعِ، فَتَكَلَّمُوا بِثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ لِسَانًا، وَكَانَ لِسَانُ النَّاسِ قَبْلَ ذَلِكَ سُرْيَانِيًّا. هَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الطَّبْعَ الْبَشَرِيَّ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ حَتَّى الْأَنْبِيَاءُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَهُمْ أَكْثَرُ اتِّصَالًا بِالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَأَشْرَفُ أَنْفُسًا، وَمَعَ هَذَا فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَبُولُونَ وَيَتَغَوَّطُونَ، فَلَوْ نَجَا مِنْهُ أَحَدٌ لَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ أَوْلَى

لِشَرَفِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِنْ كَانَ لِكَثْرَةِ مُلْكِهِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ مُسْتَقِلًّا، وَلَوْ مَلَكَ مُسْتَقِلًّا لَكَانَ الْإِسْكَنْدَرُ أَكْثَرَ مُلْكًا مِنْهُ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَقُلْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إِلَى نُمْرُودَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ مَلَكًا يَدْعُوهُ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَأَبَى، وَقَالَ: أَرَبٌّ غَيْرِي؟ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: اجْمَعْ جُمُوعَكَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَجَمَعَ جُمُوعَهُ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابًا مِنَ الْبَعُوضِ، فَطَلَعَتِ الشَّمْسُ فَلَمْ يَرَوْهَا مِنْ كَثْرَتِهَا فَبَعَثَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَكَلَتْهُمْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْعِظَامُ، وَالْمَلِكُ كَمَا هُوَ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعُوضَةً فَدَخَلَتْ فِي مِنْخَرِهِ فَمَكَثَ يَضْرِبُ رَأْسَهُ بِالْمَطَارِقِ فَأَرْحَمُ النَّاسِ بِهِ مَنْ يَجْمَعُ يَدَيْهِ وَيَضْرِبُ بِهِمَا رَأْسَهُ، وَكَانَ مُلْكُهُ ذَلِكَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَأَمَاتَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ الَّذِي بَنَى الصَّرْحَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّ نُمْرُودَ بْنَ كَنْعَانَ مَلَكَ مَشْرِقَ الْأَرْضِ وَمَغْرِبَهَا، وَهَذَا قَوْلٌ يَدْفَعُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ، وَأَخْبَارِ الْمُلُوكِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ مَوْلِدَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أَيَّامَ الضَّحَّاكِ الَّذِي ذَكَرْنَا بَعْضَ أَخْبَارِهِ فِيمَا مَضَى، وَأَنَّهُ كَانَ مَلَكَ شَرْقَ الْأَرْضِ وَغَرْبَهَا. وَقَوْلُ الْقَائِلِ إِنَّ الضَّحَّاكَ الَّذِي مَلَكَ الْأَرْضَ هُوَ نُمْرُودُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ الْمُتَقَدِّمِينَ يَذْكُرُونَ أَنَّ نَسَبَ نُمْرُودَ فِي النَّبَطِ مَعْرُوفٌ، وَأَنَّ نَسَبَ الضَّحَّاكِ فِي الْفُرْسِ مَشْهُورٌ، وَإِنَّمَا الضَّحَّاكُ اسْتَعْمَلَ نُمْرُودَ عَلَى السَّوَادِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً وَجَعَلَهُ وَوَلَدَهُ عُمَّالًا عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ هُوَ يَتَنَقَّلُ فِي الْبِلَادِ، وَكَانَ وَطَنُهُ وَوَطَنُ أَجْدَادِهِ دُنْبَاوَنْدَ مِنْ جِبَالِ طَبَرِسْتَانَ، وَهُنَاكَ رَمَى بِهِ أَفْرِيدُونُ حِينَ ظَفِرَ بِهِ، وَكَذَلِكَ بُخْتُنَصَّرُ. ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَلَكَ الْأَرْضَ جَمِيعَهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ إِصْبَهْبَذَ مَا بَيْنَ الْأَهْوَازَ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ مِنْ غَرْبِيِّ دِجْلَةَ مِنْ قِبَلِ لَهُرَاسِبَ، لِأَنَّ لَهُرَاسِبَ كَانَ مُشْتَغِلًا بِقِتَالِ

التُّرْكِ مُقِيمًا بِإِزَائِهِمْ بِبَلْخَ، وَهُوَ بَنَاهَا لَمَّا تَطَاوَلَ مَقَامُهُ هُنَاكَ لِحَرْبِ التُّرْكِ، وَلَمْ يَمْلِكْ أَحَدٌ مِنَ النَّبَطِ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ مُسْتَقِلًّا بِرَأْسِهِ فَكَيْفَ الْأَرْضَ جَمِيعَهَا؟ ! وَإِنَّمَا تَطَاوَلَتْ مُدَّةُ نُمْرُودَ بِالسَّوَادِ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ ثُمَّ دَخَلَ مِنْ نَسْلِهِ بَعْدَ هَلَاكِهِ جِيلٌ يُقَالُ لَهُ نَبَطُ بْنُ قَعُودٍ مَلَكَ بَعْدَهُ مِائَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ كَدَاوُصُ بْنُ نَبَطٍ ثَمَانِينَ سَنَةً، ثُمَّ بَالَشُ بْنُ كَدَاوُصَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ نُمْرُودُ بْنُ بَالَشَ سَنَةً وَشَهْرًا، فَذَلِكَ سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ وَسَنَةٌ وَشَهِدَ أَيَّامَ الضَّحَّاكِ، وَظَنَّ النَّاسُ فِي نُمْرُودَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا مَلَكَ أَفْرِيدُونُ وَقَهَرَ الِازْدِهَاقَ قَتَلَ نُمْرُودَ بْنَ بَالَشَ وَشَرَّدَ النَّبَطَ وَقَتَلَ فِيهِمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً.

ذكر قصة لوط وقومه

[ذِكْرُ قِصَّةِ لُوطٍ وَقَوْمِهِ] قَدْ ذَكَرْنَا مُهَاجِرَ لُوطٍ مَعَ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى مِصْرَ، وَعَوْدَهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَمُقَامَ لُوطٍ بِسَدُومَ. فَلَمَّا أَقَامَ بِهَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِهَا، وَكَانُوا أَهْلَ كُفْرٍ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَرُكُوبِ فَاحِشَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ - أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 28 - 29] . فَكَانَ قَطْعُهُمُ السَّبِيلَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْمُسَافِرَ إِذَا مَرَّ بِهِمْ وَيَعْمَلُونَ بِهِ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْخَبِيثَ، وَهُوَ اللِّوَاطَةُ، وَأَمَّا إِتْيَانُهُمُ الْمُنْكَرُ فِي نَادِيهِمْ فَقِيلَ كَانُوا يَحْذِفُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: كَانُوا يَتَضَارَطُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَقِيلَ: كَانَ يَأْتِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي مَجَالِسِهِمْ. وَكَانَ لُوطٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي يَكْرَهُهَا اللَّهُ مِنْهُمْ مِنْ قَطْعِ السَّبِيلِ، وَرُكُوبِ الْفَوَاحِشِ، وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ فِي الْأَدْبَارِ، وَيَتَوَعَّدُهُمْ عَلَى إِصْرَارِهِمْ، وَتَرْكِ التَّوْبَةِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، فَلَا يَزْجُرُهُمْ ذَلِكَ وَلَا يَزِيدُهُمْ وَعْظُهُ إِلَّا تَمَادِيًا، وَاسْتِعْجَالًا لِعِقَابِ اللَّهِ إِنْكَارًا مِنْهُمْ لِوَعِيدِهِ، وَيَقُولُونَ لَهُ: ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. حَتَّى سَأَلَ لُوطٌ النُّصْرَةَ عَلَيْهِمْ لَمَّا تَطَاوَلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ وَتَمَادِيهِمْ فِي غَيِّهِمْ.

فَبَعَثَ اللَّهُ، لَمَّا أَرَادَ هَلَاكَهَمْ وَنَصْرَ رَسُولِهِ، جَبْرَائِيلَ وَمَلَكَيْنِ آخَرَيْنِ مَعَهُ، أَحَدُهُمَا مِيكَائِيلُ، وَالْآخَرُ إِسْرَافِيلُ، فَأَقْبَلُوا فِيمَا ذُكِرَ مُشَاةً فِي صُورَةِ رِجَالٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَبْدَءُوا بِإِبْرَاهِيمَ، وَسَارَةَ وَيُبَشِّرُونَ بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ. فَلَمَّا نَزَلُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ الضَّيْفُ قَدْ أَبْطَأَ عَنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُضِيفُ مَنْ نَزَلَ بِهِ، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ الرِّزْقَ، فَرِحَ بِهِمْ وَرَأَى ضَيْفًا لَمْ يَرَ مِثْلَهُمْ حُسْنًا وَجَمَالًا، فَقَالَ: لَا يَخْدُمُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ أَحَدٌ إِلَّا أَنَا بِيَدَيَّ. فَخَرَجَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ قَدْ حَنَذَهُ، أَيْ أَنْضَجَهُ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، فَأَمْسَكُوا أَيْدِيَهُمْ عَنْهُ، {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ} [هود: 70] سَارَةُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ لِمَا عَرَفَتْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَلِمَا تَعْلَمُ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] فَقَالَتْ وَصَكَّتْ وَجْهَهَا: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} [هود: 72] ، إِلَى قَوْلِهِ: {حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73] . وَكَانَتِ ابْنَةَ تِسْعِينَ سَنَةً وَإِبْرَاهِيمُ ابْنَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ. {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} [هود: 74] ذَهَبَ يُجَادِلُ جَبْرَائِيلَ فِي قَوْمِ لُوطٍ، فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِيهِمْ خَمْسُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالُوا: وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ خَمْسُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِمَ يُعَذِّبُهُمْ؟ قَالَ: وَأَرْبَعُونَ. قَالُوا: وَأَرْبَعُونَ؟ قَالَ: وَثَلَاثُونَ، حَتَّى بَلَغَ عَشَرَةً. قَالُوا: وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ عَشَرَةٌ؟ قَالَ: مَا قَوْمٌ لَا يَكُونُ فِيهِمْ عَشَرَةٌ فِيهِمْ خَيْرٌ! ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 32] . ثُمَّ مَضَتِ الْمَلَائِكَةُ نَحْوَ سَدُومَ قَرْيَةِ لُوطٍ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهَا لَقُوا لُوطًا فِي أَرْضٍ لَهُ يَعْمَلُ فِيهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ: لَا تُهْلِكُوهُمْ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ لُوطٌ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: إِنَّا مُتَضَيِّفُوكَ اللَّيْلَةَ، فَانْطَلَقَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَشَى سَاعَةً الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُمْ:

أَمَا تَعْلَمُونَ مَا يَعْمَلُ أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ إِنْسَانًا أَخْبَثَ مِنْهُمْ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. وَقِيلَ: بَلْ لَقُوا ابْنَتَهُ فَقَالُوا: يَا جَارِيَةُ هَلْ مِنْ مَنْزِلٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، مَكَانَكُمْ لَا تَدْخُلُوا حَتَّى آتِيَكُمْ. خَافَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهَا، فَأَتَتْ أَبَاهَا فَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ أَدْرِكْ فِتْيَانًا عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ مَا رَأَيْتُ أَصْبَحَ وُجُوهًا مِنْهُمْ لِئَلَّا يَأْخُذَهُمْ قَوْمُكَ فَيَفْضَحُوهُمْ. وَكَانَ قَوْمُهُ قَدْ نَهَوْهُ أَنْ يُضَيِّفَ رَجُلًا، فَجَاءَ بِهِمْ فَلَمْ يَعْلَمْ إِلَّا أَهْلُ بَيْتِ لُوطٍ، فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ فَأَخْبَرَتْ قَوْمَهَا، وَقَالَتْ لَهُمْ: قَدْ نَزَلَ بِنَا قَوْمٌ مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ وُجُوهًا مِنْهُمْ، وَلَا أَطْيَبَ رَائِحَةً. فَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ. فَقَالَ: يَا قَوْمِ {اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] . فَنَهَاهُمْ وَرَغَّبَهُمْ وَقَالَ: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] مِمَّا تُرِيدُونَ. {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ - أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [الحجر: 79 - 70] ، فَلَمَّا لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] يَعْنِي لَوْ أَنَّ لِي أَنْصَارًا أَوْ عَشِيرَةً يَمْنَعُونِي مِنْكُمْ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ وَجَدَ عَلَيْهِ الرُّسُلُ، فَقَالُوا: إِنَّ رُكْنَكَ لَشَدِيدٌ وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ. وَأَغْلَقَ لُوطٌ الْبَابَ، فَعَالَجُوهُ، وَفَتَحَ لُوطٌ الْبَابَ، فَدَخَلُوا، وَاسْتَأْذَنَ جَبْرَائِيلُ رَبَّهُ فِي عُقُوبَتِهِمْ فَأَذِنَ لَهُ فَبَسَطَ جَنَاحَيْهِ فَفَقَأَ أَعْيُنَهُمْ وَخَرَجُوا يَدُوسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عُمْيَانًا يَقُولُونَ: النَّجَاءَ النَّجَاءَ! فَإِنَّ فِي بَيْتِ لُوطٍ أَسْحَرَ قَوْمٍ فِي الْأَرْضِ! وَقَالُوا لِلُوطٍ: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ - وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ - وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [الحجر: 81 - 65] . فَأَخْرَجَهُمُ اللَّهُ إِلَى الشَّامِ، وَقَالَ لُوطٌ: أَهْلِكُوهُمُ السَّاعَةَ، فَقَالُوا لَمْ نُؤْمَرْ إِلَّا بِالصُّبْحِ، {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81] . فَلَمَّا كَانَ الصُّبْحُ أَدْخَلَ جَبْرَائِيلُ - وَقِيلَ مِيكَائِيلُ - جَنَاحَهُ فِي أَرْضِهِمْ وَقُرَاهُمُ الْخَمْسِ فَرَفَعَهَا حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ صِيَاحَ دِيَكَتِهِمْ وَنُبَاحَ

كِلَابِهِمْ، ثُمَّ قَلَبَهَا فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ فَأَهْلَكَتْ مَنْ لَمْ يَكُنْ بِالْقُرَى. وَسَمِعَتِ امْرَأَةُ لُوطٍ الْهَدَّةَ فَقَالَتْ: وَاقَوْمَاهْ! فَأَدْرَكَهَا حَجَرٌ فَقَتَلَهَا. وَنَجَّى اللَّهُ لُوطًا وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ. وَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَتَشَرَّفُ عَلَيْهَا وَيَقُولُ: سَدُومُ يَوْمًا هَالِكٌ. وَمَدَائِنُ قَوْمِ لُوطٍ خَمْسٌ: سَدُومُ، وَصَبْعَةُ، وَعَمْرَةُ، وَدَوْمَا، وَصَعْوَةُ، وَسَدُومُ هِيَ الْقَرْيَةُ الْعُظْمَى. قَوْلُهُ {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} [هود: 78] ، هُوَ مَشْيٌ بَيْنَ الْهَرْوَلَةِ وَالْجَمْزِ.

ذكر وفاة سارة زوج إبراهيم عليه السلام وذكر أولاده وأزواجه

[ذِكْرُ وَفَاةِ سَارَةَ زَوْجِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذِكْرُ أَوْلَادِهِ وَأَزْوَاجِهِ] لَا يَدْفَعُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ سَارَةَ تُوُفِّيَتْ بِالشَّامِ وَلَهَا مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ بِقَرْيَةِ الْجَبَابِرَةِ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ، وَقِيلَ: عَاشَتْ هَاجَرُ بَعْدَ سَارَةَ مُدَّةً. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَاجَرَ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ سَارَةَ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي مَسِيرِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى مَكَّةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَلَمَّا مَاتَتْ سَارَةُ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا قَطُورَا ابْنَةَ يَقْطُنَ امْرَأَةً مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ فَوَلَدَتْ لَهُ سِتَّةَ نَفَرٍ: نَفْشَانَ، وَمُرَّانَ، وَمَدْيَانَ، وَمُدَنَ، وَنَشَقَ، وَسَرَحَ، وَكَانَ جَمِيعُ أَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ، وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ بِكْرَهُ، وَقِيلَ فِي عَدَدِ أَوْلَادِهِ غَيْرُ ذَلِكَ. فَالْبَرْبَرُ مِنْ وَلَدِ نَفْشَانَ، وَأَهْلُ مَدْيَنَ قَوْمُ شُعَيْبٍ مِنْ وَلَدِ مَدْيَانَ. وَقِيلَ: تَزَوَّجَ بَعْدَ قَطُورًا امْرَأَةً أُخْرَى اسْمُهَا حَجُونُ ابْنَةُ أَهِيرَ. ذِكْرُ وَفَاةِ إِبْرَاهِيمَ، وَعَدَدِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ قِيلَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ قَبْضَ رُوحِ إِبْرَاهِيمَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَلَكَ الْمَوْتِ فِي صُورَةِ شَيْخٍ هَرِمٍ، فَرَآهُ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ يُطْعِمُ النَّاسَ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ فِي الْحَرِّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِحِمَارٍ فَرَكِبَهُ حَتَّى أَتَاهُ، فَجَعَلَ الشَّيْخُ يَأْخُذُ اللُّقْمَةَ يُرِيدُ أَنْ يُدْخِلَهَا فَاهُ فَيُدْخِلَهَا فِي عَيْنِهِ وَأُذُنِهِ، ثُمَّ يُدْخِلَهَا فَاهُ، فَإِذَا دَخَلَتْ جَوْفَهُ خَرَجَتْ مِنْ دُبُرِهِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ لَا يَقْبِضَ رُوحَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُهُ الْمَوْتَ، فَقَالَ: يَا شَيْخُ مَالَكَ تَصْنَعُ هَذَا؟ قَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ الْكِبَرُ. قَالَ: ابْنُ

كَمْ أَنْتَ؟ فَزَادَ عَلَى عُمْرِ إِبْرَاهِيمَ سَنَتَيْنِ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّمَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَصِيرَ هَكَذَا سَنَتَانِ، اللَّهُمَّ اقْبِضْنِي إِلَيْكَ! فَقَامَ الشَّيْخُ وَقَبَضَ رُوحَهُ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ مِائَتَيْ سَنَةٍ. وَقِيلَ: مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ رَأَى مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ بِسَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ عَاشَ مِائَتَيْ سَنَةٍ كَيْفَ لَا يَرَى مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ بِهَذَا الْقَدْرِ الْقَرِيبِ؟ وَلَكِنْ هَكَذَا رُوِيَ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَ عُمْرَ نُوحٍ وَلَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ مِمَّا رَأَى بِذَلِكَ الرَّجُلِ. وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا كَانَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: كَانَتْ أَمْثَالًا كُلُّهَا: أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ الْمُبْتَلَى الْمَغْرُورُ إِنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَكِنْ بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنِّي لَا أَرُدُّهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ. وَكَانَ فِيهَا أَمْثَالٌ، مِنْهَا: وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ، سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُفَكِّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللَّهِ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا بِحَاجَتِهِ مِنَ الْحَلَالِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ. وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ ظَاعِنًا إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: تَزَوُّدٍ لِمَعَادِهِ، وَمَرَمَّةٍ لِمَعَاشِهِ، وَلَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ، مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ، وَمَنْ حَسَبَ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ.» وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اخْتَتَنَ، وَأَوَّلُ مَنْ أَضَافَ الضَّيْفَ، وَأَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ السَّرَاوِيلَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقَاوِيلِ.

ذكر خبر ولد إسماعيل بن إبراهيم

[ذِكْرُ خَبَرِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ] قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى سَبَبَ إِسْكَانِ إِسْمَاعِيلَ الْحَرَمَ وَتَزَوُّجَهُ امْرَأَةً مِنْ جُرْهُمَ، وَفِرَاقَهُ إِيَّاهَا بِأَمْرِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْرَى، وَهِيَ السَّيِّدَةُ بِنْتُ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيِّ، وَهِيَ الَّتِي قَالَ لَهَا: قُولِي لِزَوْجِكِ: قَدْ رَضِيتُ لَكَ عَتَبَةَ بَابِكَ، فَوَلَدَتْ لِإِسْمَاعِيلَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا: نَابِتَ، وَقَيْدَارَ، وَإِذِيلَ، وَمَيْشَا، وَمَسْمَعَ، وَرَمَا، وَمَاشَ، وَآذَرَ، وَقَطُورَا، وَقَافِسَ، وَطَمْيَا، وَقَيْدَمَانَ. وَكَانَ عُمُرُ إِسْمَاعِيلَ فِيمَا يَزْعُمُونَ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ. وَمِنْ نَابِتَ وَقَيْدَارَ ابْنَيْ إِسْمَاعِيلَ نَشَرَ اللَّهُ الْعَرَبَ، وَأَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْعَمَالِيقِ وَقَبَائِلِ الْيَمَنِ. وَقَدْ يُنْطَقُ أَوْلَادُ إِسْمَاعِيلَ بِغَيْرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذَكَرْتُ. وَلَمَّا حَضَرَتْ إِسْمَاعِيلَ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى أَخِيهِ إِسْحَاقَ، وَزَوْجِ ابْنَتِهِ مِنَ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ أُمِّهِ هَاجَرَ بِالْحِجْرِ.

ذكر إسحاق بن إبراهيم وأولاده

[ذِكْرُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَأَوْلَادِهِ] قِيلَ: وَنَكَحَ إِسْحَاقُ رِفْقَا بِنْتَ بِتْوِيلَ فَوَلَدَتْ لَهُ عِيصًا وَيَعْقُوبَ تَوْأَمَيْنِ، وَإِنَّ عِيصًا كَانَ أَكْبَرَهُمَا، وَكَانَ عُمُرُ إِسْحَاقَ لَمَّا وُلِدَ لَهُ سِتِّينَ سَنَةً. ثُمَّ نَكَحَ عِيصُ بْنُ إِسْحَاقَ نَسْمَةَ بِنْتَ عَمِّهِ إِسْمَاعِيلَ فَوَلَدَتْ لَهُ الرُّومَ بْنَ عِيصٍ، وَكُلُّ بَنِي الْأَصْفَرِ مِنْ وَلَدِهِ، وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ أَشْبَانَ مِنْ وَلَدِهِ. وَنَكَحَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ إِسْرَائِيلُ، ابْنَةَ خَالِهِ لَيَّا بِنْتَ لَبَانَ بْنِ بِتْوِيلَ فَوَلَدَتْ لَهُ رُوبِيلَ، وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِهِ، وَشَمْعُونَ، وَلَاوِيَ وَيَهُوذَا، وَزِبَالُونَ، وَلَشْحَرَ، وَقِيلَ وَيَشْحَرَ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ لَيَّا فَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا رَاحِيلَ فَوَلَدَتْ لَهُ يُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ، وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ شَدَّادٌ، وَوُلِدَ لَهُ مِنْ سُرِّيَّتَيْنِ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ: دَانُ، وَنَفْتَالِي، وَجَادُ، وَآشَرُ، وَكَانَ لِيَعْقُوبَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا. قَالَ السُّدِّيُّ: تَزَوَّجَ إِسْحَاقُ بِجَارِيَةٍ فَحَمَلَتْ بِغُلَامَيْنِ، فَلَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَضَعَ أَرَادَ يَعْقُوبُ أَنْ يَخْرُجَ قَبْلَ عِيصٍ، فَقَالَ عِيصٌ: وَاللَّهِ لَئِنْ خَرَجْتَ قَبْلِي لَأَعْتَرِضَنَّ فِي بَطْنِ أُمِّي

وَلَأَقْتُلَنَّهَا. فَتَأَخَّرَ يَعْقُوبُ وَخَرَجَ عِيصٌ، وَأَخَذَ يَعْقُوبُ بِعَقِبِ عِيصٍ، فَسُمِّيَ يَعْقُوبَ وَسُمِّيَ أَخُوهُ عِيصًا لِعِصْيَانِهِ. وَكَانَ عِيصٌ أَحَبَّهُمَا إِلَى أَبِيهِ وَيَعْقُوبُ أَحَبَّهُمَا إِلَى أُمِّهِ. وَكَانَ عِيصٌ صَاحِبَ صَيْدٍ، فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ لَمَّا كَبِرَ وَعَمِيَ. يَا بُنَيَّ أَطْعِمْنِي لَحْمَ صَيْدٍ وَاقْتَرِبْ مِنِّي أَدْعُو لَكَ بِدُعَاءٍ دَعَا لِي بِهِ أَبِي. وَكَانَ عِيصٌ رَجُلًا أَشْعَرَ، وَكَانَ يَعْقُوبُ أَجْرَدَ، وَسَمِعَتْ أُمُّهُمَا ذَلِكَ وَقَالَتْ لِيَعْقُوبَ: يَا بُنَيَّ، اذْبَحْ شَاةً، وَاشْوِهَا، وَالْبَسْ جِلْدَهَا وَقَرِّبْهَا إِلَى أَبِيكَ، وَقُلْ لَهُ: أَنَا ابْنُكَ عِيصٌ، فَفَعَلَ ذَلِكَ يَعْقُوبُ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: يَا أَبَتَاهُ كُلْ. قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا ابْنُكَ عِيصٌ. فَمَسَحَهُ إِسْحَاقُ، فَقَالَ: الْمَسُّ مَسُّ عِيصٍ وَالرِّيحُ رِيحُ يَعْقُوبَ. قَالَتْ أُمُّهُ: إِنَّهُ عِيصٌ فَكُلْ. فَأَكَلَ وَدَعَا لَهُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُلُوكَ. وَقَامَ يَعْقُوبُ وَجَاءَ عِيصٌ، وَكَانَ فِي الصَّيْدِ، فَقَالَ لِأَبِيهِ: قَدْ جِئْتُكَ بِالصَّيْدِ الَّذِي طَلَبْتَ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ قَدْ سَبَقَكَ أَخُوكَ. فَحَلَفَ عِيصٌ لَيَقْتُلَنَّ يَعْقُوبَ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، قَدْ بَقِيَتْ لَكَ دَعْوَةٌ، فَدَعَا لَهُ أَنْ يَكُونَ ذُرِّيَّتَهُ عَدَدَ التُّرَابِ وَأَنْ لَا يَمْلِكَهُمْ غَيْرُهُمْ. وَهَرَبَ يَعْقُوبُ خَوْفًا مِنْ أَخِيهِ إِلَى خَالِهِ، وَكَانَ يَسْرِي بِاللَّيْلِ وَيَكْمُنُ بِالنَّهَارِ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ إِنَّ يَعْقُوبَ تَزَوَّجَ ابْنَتَيْ خَالِهِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] . وَوُلِدَ لَهُ مِنْهُمَا، فَمَاتَتْ رَاحِيلُ فِي نِفَاسِهَا بِبِنْيَامِينَ. وَأَرَادَ يَعْقُوبُ الرُّجُوعَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَعْطَاهُ خَالُهُ قَطِيعَ غَنَمٍ، فَلَمَّا ارْتَحَلُوا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَفَقَةٌ، فَقَالَتْ زَوْجَةُ يَعْقُوبَ لِيُوسُفَ: اسْرِقْ صَنَمًا مِنْ أَصْنَامِ أَبِي نَسْتَنْفِقْ مِنْهُ. فَسَرَقَ صَنَمًا مِنْ أَصْنَامِ أَبِيهَا. وَأَحَبَّ يَعْقُوبُ يُوسُفَ وَأَخَاهُ بِنْيَامِينَ حُبًّا شَدِيدًا لِيُتْمِهِمَا، وَقَالَ يَعْقُوبُ لِرَاعٍ مِنَ الرُّعَاةِ: إِذَا أَتَاكُمْ أَحَدٌ يَسْأَلُكُمْ مَنْ أَنْتُمْ، فَقُولُوا: نَحْنُ لِيَعْقُوبَ عَبْدِ عِيصٍ. فَلَقِيَهُمْ عِيصٌ، فَسَأَلَهُمْ فَأَجَابَهُ الرَّاعِي بِذَلِكَ الْجَوَابِ، فَكَفَّ عِيصٌ عَنْ يَعْقُوبَ وَنَزَلَ يَعْقُوبُ الشَّامَ، وَمَاتَ إِسْحَاقُ بِالشَّامِ، وَعُمُرُهُ مِائَةٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.

قصة أيوب عليه السلام

[قِصَّةُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ] وَهُوَ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ مِنْ وَلَدِ عِيصٍ، وَهُوَ أَيُّوبُ بْنُ مُوصِ بْنِ رَازَجَ بْنِ عِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: مُوصِ بْنِ رُوعِيلَ بْنِ عِيصٍ. وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ الَّتِي أُمِرَ أَنْ يَضْرِبَهَا بِالضِّغْثِ لَيَّا ابْنَةَ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، وَقِيلَ: هِيَ رَحْمَةُ ابْنَةُ أَفْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ وَلَدِ لُوطٍ، وَكَانَ دِينُهُ التَّوْحِيدَ وَالْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِذَا أَرَادَ حَاجَةً سَجَدَ ثُمَّ طَلَبَهَا. وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِ وَسَبَبِ بَلَائِهِ أَنَّ إِبْلِيسَ سَمِعَ تَجَاوُبَ الْمَلَائِكَةِ بِالصَّلَاةِ عَلَى أَيُّوبَ حِينَ ذَكَرَهُ اللَّهُ فَحَسَدَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُسَلِّطَهُ عَلَيْهِ لِيَفْتِنَهُ عَنْ دِينِهِ، فَسَلَّطَهُ عَلَى مَالِهِ حَسْبَ، فَجَمَعَ إِبْلِيسُ عُظَمَاءَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْعَفَارِيتِ، وَكَانَ لِأَيُّوبَ الْبَثَنِيَّةُ جَمِيعُهَا مِنْ

أَعْمَالِ دِمَشْقَ بِمَا فِيهَا، وَكَانَ لَهُ فِيهَا أَلْفُ شَاةٍ بِرُعَاتِهَا وَخَمْسُمِائَةِ فَدَّانٍ يَتْبَعُهَا خَمْسُمِائَةِ عَبْدٍ لِكُلِّ عَبْدٍ امْرَأَةٌ وَوَلَدٌ وَمَالٌ، وَيَحْمِلُ آلَةَ الْفَدَّانِ أَتَانٌ، وَلِكُلِّ أَتَانٍ وَلَدٌ، وَاثْنَانِ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ، فَلَمَّا جَمَعَهُمْ إِبْلِيسُ قَالَ: مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَإِنِّي قَدْ تَسَلَّطْتُ عَلَى مَالِ أَيُّوبَ. فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ قَوْلًا، فَأَرْسَلَهُمْ، فَأَهْلَكُوا مَالَهُ كُلَّهُ، وَأَيُّوبُ يَحْمَدُ اللَّهَ وَلَا يَرْجِعُ عَنِ الْجِدِّ فِي عِبَادَتِهِ، وَالشُّكْرِ لَهُ عَلَى مَا أَعْطَاهُ، وَالصَّبْرِ عَلَى مَا ابْتَلَاهُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ إِبْلِيسُ مِنْ أَمْرِهِ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُسَلِّطَهُ عَلَى وَلَدِهِ، فَسَلَّطَهُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ سُلْطَانًا عَلَى جَسَدِهِ وَلَا عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ، فَأَهْلَكَ وَلَدَهُ كُلَّهُمْ، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ مُتَمَثِّلًا بِمُعَلِّمِهِمُ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُمُ الْحِكْمَةَ جَرِيحًا مَشْدُوخًا يُرَقِّقُهُ حَتَّى رَقَّ أَيُّوبُ فَبَكَى وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ فَسُرَّ بِذَلِكَ إِبْلِيسُ. ثُمَّ إِنَّ أَيُّوبَ نَدِمَ لِذَلِكَ وَجَدَّ وَاسْتَغْفَرَ، فَصَعِدَ حَفَظَتُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِتَوْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ إِبْلِيسَ، فَلَمَّا لَمْ يَرْجِعْ أَيُّوبُ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَا ابْتَلَاهُ بِهِ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُسَلِّطَهُ عَلَى جَسَدِهِ، فَسَلَّطَهُ عَلَى جَسَدِهِ، فَسَلَّطَهُ عَلَيْهِ خَلَا لِسَانَهُ وَقَلْبَهُ وَعَقْلَهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ سُلْطَانًا. فَجَاءَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ فَنَفَخَ فِي مِنْخَرِهِ نَفْخَةً اشْتَعَلَ مِنْهَا جَسَدُهُ وَصَارَ أَمْرُهُ إِلَى أَنِ انْتَثَرَ لَحْمُهُ وَامْتَلَأَ جَسَدُهُ دُودًا، فَإِنْ كَانَتِ الدُّودَةُ لَتَسْقُطُ مِنْ جَسَدِهِ فَيَرُدُّهَا إِلَيْهِ وَيَقُولُ: كُلِي مِنْ رِزْقِ اللَّهِ، وَأَصَابَهُ الْجُذَامُ، وَكَانَ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ فِي جَسَدِهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ يَتَفَقَّأُ، وَأَنْتَنَ حَتَّى لَمْ يُطِقْ أَحَدٌ يَشُمُّ رِيحَهُ، فَأَخْرَجَهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ مِنْهَا إِلَى الْكُنَاسَةِ خَارِجَ الْقَرْيَةِ لَا يَقْرَبُهُ أَحَدٌ إِلَّا زَوْجَتُهُ، وَكَانَتْ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ بِمَا يُصْلِحُهُ، فَبَقِيَ مَطْرُوحًا عَلَى الْكُنَاسَةِ سَبْعَ سِنِينَ مَا يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ مَا بِهِ، وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ بَلَائِهِ أَنَّ أَرْضَ الشَّامِ أَجْدَبَتْ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ إِلَى أَيُّوبَ أَنْ هَلُمَّ إِلَيْنَا فَإِنَّ لَكَ عِنْدَنَا سَعَةً، فَأَقْبَلَ بِأَهْلِهِ وَخَيْلِهِ وَمَاشِيَتِهِ، فَأَقْطَعَهُمْ فِرْعَوْنُ الْقَطَائِعَ. ثُمَّ إِنَّ شُعَيْبًا النَّبِيَّ دَخَلَ إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَ: يَا فِرْعَوْنُ، أَمَا تَخَافُ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ غَضْبَةً

فَيَغْضَبَ لِغَضَبِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَأَهْلُ الْأَرْضِ وَالْبِحَارُ، وَالْجِبَالُ؟ وَأَيُّوبُ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، فَلَمَّا خَرَجَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَيُّوبَ: يَا أَيُّوبُ، سَكَتَّ عَنْ فِرْعَوْنَ لِذَهَابِكَ إِلَى أَرْضِهِ، اسْتَعِدَّ لِلْبَلَاءِ. فَقَالَ أَيُّوبُ: أَمَا كُنْتُ أَكْفُلُ الْيَتِيمَ وَأُؤْوِي الْغَرِيبَ، وَأُشْبِعُ الْجَائِعَ، وَأَكْفِي الْأَرْمَلَةَ؟ فَمَرَّتْ سَحَابَةٌ يُسْمَعُ فِيهَا عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ الصَّوَاعِقِ يَقُولُونَ: مَنْ فَعَلَ بِكَ ذَلِكَ يَا أَيُّوبُ؟ فَأَخَذَ تُرَابًا فَوَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: أَنْتَ يَا رَبِّ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: اسْتَعِدَّ لِلْبَلَاءِ. قَالَ: فَدِينِي؟ قَالَ: أُسَلِّمُهُ لَكَ. قَالَ: فَمَا أُبَالِي. وَقِيلَ: كَانَ السَّبَبُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهُوَ نَحْوٌ مِمَّا ذَكَرْنَا. فَلَمَّا ابْتَلَاهُ اللَّهُ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنَّكَ رَجُلٌ مُجَابَ الدَّعْوَةِ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَكَ. فَقَالَ: كُنَّا فِي النَّعْمَاءِ سَبْعِينَ سَنَةً فَلْنَصْبِرْ فِي الْبَلَاءِ سَبْعِينَ سَنَةً، وَاللَّهِ لَئِنْ شَفَانِي اللَّهُ لَأَجْلِدَنَّكِ مِائَةَ جَلْدَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَقْسَمَ لَيَجْلِدَنَّهَا لِأَنَّ إِبْلِيسَ ظَهَرَ لَهَا وَقَالَ: بِمَ أَصَابَكُمْ مَا أَصَابَكُمْ؟ قَالَتْ: بِقَدَرِ اللَّهِ. قَالَ: وَهَذَا أَيْضًا بِقَدَرِ اللَّهِ فَاتَّبِعِينِي، فَاتَّبَعَتْهُ، فَأَرَاهَا جَمِيعَ مَا ذَهَبَ مِنْهُمْ فِي وَادٍ، وَقَالَ: اسْجُدِي لِي وَأَرُدُّهُ عَلَيْكَمْ. فَقَالَتْ: إِنَّ لِي زَوْجًا أَسْتَأْمِرُهُ. فَلَمَّا أَخْبَرَتْ أَيُّوبَ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمِي أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ؟ لَئِنْ شُفِيتُ لَأَجْلِدَنَّكِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَأَبْعَدَهَا، وَقَالَ لَهَا: طَعَامُكِ وَشَرَابُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَذُوقُ مِمَّا تَأْتِينِي بِهِ شَيْئًا فَابْعُدِي عَنِّي فَلَا أَرَاكِ. فَذَهَبَتْ عَنْهُ، فَلَمَّا رَأَى أَيُّوبُ أَنَّ امْرَأَتَهُ قَدْ طَرَدَهَا وَلَيْسَ عِنْدَهُ طَعَامٌ، وَلَا شَرَابٌ، وَلَا صَدِيقٌ خَرَّ سَاجِدًا، وَقَالَ: رَبِّ {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] كَرَّرَ ذَلِكَ. فَقِيلَ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فَقَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ، {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] ، وَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ جَسَدَهُ وَصُورَتَهُ.

وَأَمَّا امْرَأَتُهُ فَقَالَتْ: كَيْفَ أَتْرُكُهُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ، يَمُوتُ جُوعًا وَتَأْكُلُهُ السِّبَاعُ؟ فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ فَرَأَتْ أَيُّوبَ وَقَدْ عُوفِيَ، فَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَعَجِبَتْ حَيْثُ لَمْ تَرَهُ عَلَى حَالِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَلْ رَأَيْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ هَهُنَا؟ قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفِينَهُ إِذَا رَأَيْتِهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: هُوَ أَنَا. فَعَرَفَتْهُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: مَسَّنِيَ الضُّرُّ لَمَّا وَصَلَ الدُّودُ إِلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ خَافَ أَنْ يَبْطُلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْفِكْرِ. وَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، قِيلَ هُمْ بِأَعْيَانِهِمْ، وَقِيلَ: رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَرَدَّ إِلَيْهَا شَبَابَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ ذَكَرًا وَأَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ، إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ لِصَبْرِكَ عَلَى الْبَلَاءِ. اخْرُجْ إِلَى أَنْدَرِكَ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ سَحَابَةً فَأَلْقَتْ عَلَيْهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَتِ الْجَرَادَةُ تَذْهَبُ فَيَتْبَعُهَا حَتَّى يَرُدَّهَا فِي أَنْدَرِهِ، فَقَالَ الْمَلَكُ: أَمَا تَشْبَعُ مِنَ الدَّاخِلِ حَتَّى تَتْبَعَ الْخَارِجَ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْبَرَكَةَ مِنْ بَرَكَاتِ رَبِّي لَسْتُ أَشْبَعُ مِنْهَا. وَعَاشَ أَيُّوبُ بَعْدَ أَنْ رُفِعَ عَنْهُ الْبَلَاءُ سَبْعِينَ سَنَةً، وَلَمَّا عُوفِيَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْخُذَ عُرْجُونًا مِنَ النَّخْلِ فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَيَضْرِبَ بِهِ زَوْجَتَهُ لِيَبَرَّ مِنْ يَمِينِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. وَقَوْلُ أَيُّوبَ: رَبِّ إِنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ، دُعَاءٌ لَيْسَ بِشَكْوَى، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء: 84] . وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ أَيُّوبَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ جَارٍ عَيْنُهُ تَرَانِي إِنْ رَأَى حَسَنَةً سَتَرَهَا وَإِنْ رَأَى سَيِّئَةً ذَكَرَهَا. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ دُعَائِهِ أَنَّهُ كَانَ قَدِ اتَّبَعَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَلَى دِينِهِ اسْمُ أَحَدِهِمْ بَلْدَدُ

وَالْآخَرُ الِيفَرُ، وَالثَّالِثُ صَافَرُ، فَانْطَلَقُوا إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الْبَلَاءِ فَبَكَّتُوهُ أَشَدَّ تَبْكِيتٍ، وَقَالُوا لَهُ: لَقَدْ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا مَا أَذَنَبَهُ أَحَدٌ، فَلِهَذَا لَمْ يُكْشَفِ الْعَذَابُ عَنْكَ. وَطَالَ الْجِدَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَقَالَ فَتًى كَانَ مَعَهُمْ لَهُمْ كَلَامًا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قَدْ تَرَكْتُمْ مِنَ الْقَوْلِ أَحْسَنَهُ، وَمِنَ الرَّأْيِ أَصْوَبَهُ، وَمِنَ الْأَمْرِ أَجْمَلَهُ، وَقَدْ كَانَ لِأَيُّوبَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْحَقِّ وَالذِّمَامِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي وَصَفْتُمْ، فَهَلْ تَدْرُونَ حَقَّ مَنِ انْتَقَصْتُمْ وَحُرْمَةَ مَنِ انْتَهَكْتُمْ، وَمَنِ الرَّجُلُ الَّذِي عِبْتُمْ؟ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَيُّوبَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ يَوْمَكُمْ هَذَا؟ ثُمَّ لَمْ تَعْلَمُوا وَلَمْ يَعْلَمْكُمُ اللَّهُ أَنَّهُ سَخِطَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ وَلَا أَنَّهُ نَزَعَ شَيْئًا مِنَ الْكَرَامَةِ الَّتِي كَرَّمَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ وَلَا أَنَّ أَيُّوبَ فَعَلَ غَيْرَ الْحَقِّ فِي طُولِ مَا صَحِبْتُمُوهُ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَاءُ هُوَ الَّذِي أَزْرَى بِهِ عِنْدَكُمْ وَوَضَعَهُ فِي نُفُوسِكُمْ، فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءَ، وَالصَّالِحِينَ وَلَيْسَ بَلَاؤُهُ لِأُولَئِكَ دَلِيلًا عَلَى سُخْطِهِ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى هَوَانِهِمْ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهَا كَرَامَةٌ وَخَيْرَةٌ لَهُمْ. وَأَطَالَ فِي هَذَا النَّحْوِ مِنَ الْكَلَامِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: وَقَدْ كَانَ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَذِكْرِ الْمَوْتِ مَا يَكِلُّ أَلْسِنَتَكُمْ وَيَكْسِرُ قُلُوبَكُمْ وَيَقْطَعُ حُجَّتَكُمْ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا أَسْكَتَتْهُمْ خَشْيَتُهُ عَنِ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ عَيٍّ وَلَا بَكَمٍ؟ وَإِنَّهُمْ لَهُمُ الْفُصَحَاءُ الْأَلِبَّاءُ الْعَالِمُونَ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا عَظْمَةَ اللَّهِ انْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ، وَانْقَطَعَتْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَطَاشَتْ أَحْلَامُهُمْ، وَعُقُولُهُمْ فَزَعًا مِنَ اللَّهِ وَهَيْبَةً لَهُ، فَإِذَا أَفَاقُوا اسْتَبَقُوا إِلَى اللَّهِ بِالْأَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ مَعَ الظَّالِمِينَ وَإِنَّهُمْ لَأَبْرَارٌ، وَمَعَ الْمُقَصِّرِينَ وَإِنَّهُمْ لَأَكْيَاسٌ أَتْقِيَاءُ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَكْثِرُونَ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - الْكَثِيرَ وَلَا يَرْضَوْنَ لَهُ الْقَلِيلَ وَلَا يُدِلُّونَ عَلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ فَهُمْ أَيْنَمَا لَقِيتَهُمْ خَائِفُونَ مَهِيمُونَ وَجِلُونَ. فَلَمَّا سَمِعَ أَيُّوبُ كَلَامَهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَزْرَعُ الْحِكْمَةَ بِالرَّحْمَةِ فِي قَلْبِ الصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرِ، فَمَتَّى كَانَتْ فِي الْقَلْبِ ظَهَرَتْ عَلَى اللِّسَانِ وَلَا تَكُونُ الْحِكْمَةُ مِنْ قِبَلِ السِّنِّ، وَالشَّيْبَةِ، وَلَا طُولِ التَّجْرِبَةِ، وَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدًا حَكِيمًا عِنْدَ الصِّبَا لَمْ تَسْقُطْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ الْحُكَّامِ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الثَّلَاثَةِ، فَقَالَ: رَهِبْتُمْ قَبْلَ أَنْ تُسْتَرْهَبُوا، وَبَكَيْتُمْ قَبْلَ أَنْ

تُضْرَبُوا، كَيْفَ بِكُمْ لَوْ قُلْتُ لَكُمْ تَصَدَّقُوا عَنِّي بِأَمْوَالِكُمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخَلِّصَنِي، أَوْ قَرِّبُوا قُرْبَانًا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَقَبَّلَ وَيَرْضَى عَنِّي؟ وَإِنَّكُمْ قَدْ أَعْجَبَتْكُمْ أَنْفُسُكُمْ فَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ عُوفِيتُمْ بِإِحْسَانِكُمْ فَبَغَيْتُمْ وَتَعَزَّزْتُمْ، لَوْ صَدَقْتُمْ وَنَظَرْتُمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ لَوَجَدْتُمْ لَكُمْ عُيُوبًا سَتَرَهَا اللَّهُ بِالْعَافِيَةِ، وَقَدْ كُنْتُ فِيمَا خَلَا وَالرِّجَالُ يُوَقِّرُونَنِي وَأَنَا مَسْمُوعٌ كَلَامِي، مَعْرُوفٌ مِنْ حَقِّي، مُنْتَصَفٌ مِنْ خَصْمِي، فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ وَلَيْسَ لِي رَأْيٌ وَلَا كَلَامٌ مَعَكُمْ، فَأَنْتُمْ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ مُصِيبَتِي. ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَأَقْبَلَ عَلَى رَبِّهِ مُسْتَغِيثًا بِهِ مُتَضَرِّعًا إِلَيْهِ، فَقَالَ: رَبِّ، لِأَيِّ شَيْءٍ خَلَقْتَنِي! لَيْتَنِي إِنْ كَرِهْتَنِي لَمْ تَخْلُقْنِي، يَا لَيْتَنِي كُنْتُ حَيْضَةً مُلْقَاةً، وَيَا لَيْتَنِي عَرَفْتُ الذَّنْبَ الَّذِي أَذْنَبْتُ فَصَرَفْتَ وَجْهَكَ الْكَرِيمَ عَنِّي! لَوْ كُنْتَ أَمَتَّنِي فَالْمَوْتُ أَجْمَلُ بِي! أَلَمْ أَكُنْ لِلْغَرِيبِ دَارًا، وَلِلْمِسْكِينِ قَرَارًا، وَلِلْيَتِيمِ وَلِيًّا، وَلِلْأَرْمَلَةِ قَيِّمًا؟ إِلَهِي أَنَا عَبْدٌ ذَلِيلٌ إِنْ أَحْسَنْتُ فَالْمَنُّ لَكَ، وَإِنْ أَسَأْتُ فَبِيَدِكَ عُقُوبَتِي! جَعَلْتَنِي لِلْبَلَاءِ غَرَضًا فَقَدْ وَقَعَ عَلِيَّ الْبَلَاءُ لَوْ سَلَّطْتَهُ عَلَى جَبَلٍ لَضَعُفَ عَنْ حَمْلِهِ فَكَيْفَ يَحْمِلُهُ ضَعْفِي! ذَهَبَ الْمَالُ فَصِرْتُ أَسْأَلُ بِكَفِّي فَيُطْعِمُنِي مَنْ كُنْتُ أَعُولُهُ اللُّقْمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَمُنُّهَا عَلَيَّ وَيُعَيِّرُنِي! هَلَكَ أَوْلَادِي، وَلَوْ بَقِيَ أَحَدُهُمْ أَعَانَنِي. فَقَدْ مَلَّتْنِي أَهْلِي وَعَقَّنِي أَرْحَامِي فَتَنَكَّرَتْ مَعَارِفِي، وَرَغِبَ عَنِّي صَدِيقِي، وَجُحِدَتْ حُقُوقِي، وَنُسِيَتْ صَنَائِعِي. أَصْرُخُ فَلَا يُصْرِخُونَنِي، وَأَعْتَذِرُ فَلَا يَعْذِرُونَنِي. دَعَوْتُ غُلَامِي فَلَمْ يُجِبْنِي، وَتَضَرَّعْتُ إِلَى أَمَتِي فَلَمْ تَرْحَمْنِي، وَإِنَّ قَضَاءَكَ هُوَ الَّذِي آذَانِي وَأَقْمَأَنِي، وَإِنَّ سُلْطَانَكَ هُوَ الَّذِي أَسْقَمَنِي. فَلَوْ أَنَّ رَبِّي نَزَعَ الْهَيْبَةَ الَّتِي فِي صَدْرِي وَأَطْلَقَ لِسَانِي حَتَّى أَتَكَلَّمَ مِلْءَ فَمِي، ثُمَّ كَانَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُحَاجَّ مَوْلَاهُ عَنْ نَفْسِهِ - لَرَجَوْتُ أَنْ تُعَافِيَنِي عِنْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ أَلْقَانِي وَعَلَا عَنِّي فَهُوَ يَرَانِي وَلَا أَرَاهُ، وَيَسْمَعُنِي وَلَا أَسْمَعُهُ، لَا نَظَرَ إِلَيَّ فَرَحِمَنِي، وَلَا دَنَا مِنِّي فَأَتَكَلَّمَ بِبَرَاءَتِي وَأُخَاصِمَ عَنْ نَفْسِي. فَلَمَّا قَالَ أَيُّوبُ ذَلِكَ أَظَلَّتْهُمْ غَمَامَةٌ وَنُودِيَ مِنْهَا: يَا أَيُّوبُ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ قَدْ دَنَوْتُ مِنْكَ وَلَمْ أَزَلْ مِنْكَ قَرِيبًا، فَقُمْ فَأَدْلِ بِحُجَّتِكَ، وَتَكَلَّمْ بِبَرَاءَتِكَ، وَقُمْ مَقَامَ جَبَّارٍ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَاصِمَنِي إِلَّا جَبَّارٌ. تَجْعَلُ الزِّيَارَ فِي فَمِ الْأَسَدِ، وَاللِّجَامَ فِي فَمِ التِّنِّينِ،

وَتَكِيلُ مِكْيَالًا مِنَ النُّورِ، وَتَزِنُ مِثْقَالًا مِنَ الرِّيحِ، وَتُصِرُّ صُرَّةً مِنَ الشَّمْسِ، وَتَرُدُّ أَمْسِ. لَقَدْ مَنَّتْكَ نَفْسُكَ أَمْرًا لَا تَبْلُغُهُ بِمِثْلِ قُوَّتِكَ. أَرَدْتَ أَنْ تُكَابِرَنِي بِضَعْفِكَ أَمْ تُخَاصِمَنِي بِعَيِّكَ أَمْ تُحَاجِّنِي بِخَطَلِكَ! أَيْنَ أَنْتَ مِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ الْأَرْضَ؟ هَلْ عَلِمْتَ بِأَيِّ مِقْدَارٍ قَدَّرْتُهَا؟ أَيْنَ كُنْتَ مَعِي يَوْمَ رَفَعْتُ السَّمَاءَ سَقْفًا فِي الْهَوَاءِ لَا بِعَلَائِقَ وَلَا بِدَعَائِمَ تَحْمِلُهَا؟ هَلْ تَبْلُغُ حِكْمَتُكَ أَنْ تُجْرِيَ نُورَهَا، أَوْ تُسَيِّرَ نُجُومَهَا، أَوْ يَخْتَلِفَ بِأَمْرِكَ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا؟ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ مَصْنُوعَاتِ اللَّهِ. فَقَالَ أَيُّوبُ: قَصَّرْتُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ! لَيْتَ الْأَرْضَ انْشَقَّتْ لِي فَذَهَبْتُ فِيهَا وَلَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ يُسْخِطُكَ! إِلَهِي اجْتَمَعَ عَلَيَّ الْبَلَاءُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الَّذِي ذَكَرْتَ صُنْعُ يَدَيْكَ، وَتَدْبِيرُ حِكْمَتِكَ لَا يُعْجِزُكَ شَيْءٌ وَلَا تَخْفَى عَلَيْكَ خَافِيَةٌ، تَعْلَمُ مَا تُخْفِي الْقُلُوبُ، وَقَدْ عَلِمْتَ بَلَائِي مَا لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُهُ. كُنْتُ أَسْمَعُ بِسَطْوَتِكَ سَمْعًا فَأَمَّا الْآنَ فَهُوَ نَظَرُ الْعَيْنِ. وَإِنَّمَا تَكَلَّمْتُ بِمَا تَكَلَّمْتُ بِهِ لِتَعْذِرَنِي، وَسَكَتُّ لِتَرْحَمَنِي، وَقَدْ وَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى فَمِي، وَعَضِضْتُ عَلَى لِسَانِي، وَأَلْصَقْتُ بِالتُّرَابِ خَدِّي فَدَسَسْتُ فِيهِ وَجْهِي فَلَا أَعُودُ لِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ. وَدَعَا. فَقَالَ اللَّهُ: يَا أَيُّوبُ، نَفَذَ فِيكَ حُكْمِي، وَسَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، قَدْ غَفَرْتُ لَكَ وَرَدَدْتُ عَلَيْكَ أَهْلَكَ، وَمَالَكَ، وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَعِبْرَةً لِأَهْلِ الْبَلَاءِ وَعَزَاءً لِلصَّابِرِينَ، فَـ {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] فِيهِ شِفَاءٌ، وَقَرِّبْ عَنْ أَصْحَابِكَ قُرْبَانًا وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوْنِي فِيكَ. فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَانْفَجَرَتْ لَهُ عَيْنُ مَاءٍ، فَاغْتَسَلَ فِيهَا، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ الْبَلَاءَ، ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ وَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فَسَأَلَتْهُ عَنْهُ فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفِينَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، مَالِي لَا أَعْرِفُهُ! فَتَبَسَّمَ، فَعَرَفَتْهُ بِضَحِكِهِ، فَاعْتَنَقَتْهُ فَلَمْ تُفَارِقْهُ مِنْ عِنَاقِهِ حَتَّى مَرَّ بِهِمَا كُلُّ مَالٍ لَهُمَا وَوَلَدٍ. وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ قَبْلَ يُوسُفَ وَقِصَّتِهِ لِمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَمْرِهِ وَأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا فِي عَهْدِ يَعْقُوبَ.

وَذُكِرَ أَنَّ عُمُرَ أَيُّوبَ كَانَ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَأَنَّهُ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ إِلَى ابْنِهِ حَوْمَلَ، وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ بَعْدَهُ ابْنَهُ بِشْرَ بْنَ أَيُّوبَ نَبِيًّا وَسَمَّاهُ ذَا الْكِفْلِ، وَكَانَ مُقِيمًا بِالشَّامِ حَتَّى مَاتَ، وَكَانَ عُمُرُهُ خَمْسًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، فَأَوْصَى إِلَى ابْنِهِ عَبْدَانَ، وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ بَعْدَهُ شُعَيْبَ بْنَ ضَيْعُونَ بْنِ عُنُقَا بْنِ ثَابِتِ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.

ذكر قصة يوسف عليه السلام

[ذِكْرُ قِصَّةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ] ذَكَرُوا أَنَّ إِسْحَاقَ تُوُفِّيَ وَعُمُرُهُ سِتُّونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ، وَقَبْرُهُ عِنْدَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، قَبَرَهُ ابْنَاهُ يَعْقُوبُ وَعِيصٌ فِي مَزْرَعَةِ حَبْرُونَ، وَكَانَ عُمُرُ يَعْقُوبَ مِائَةً وَسَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ ابْنُهُ يُوسُفُ قَدْ قُسِمَ لَهُ وَلِأُمِّهِ شَطْرُ الْحُسْنِ، وَكَانَ يَعْقُوبُ قَدْ دَفَعَهُ إِلَى أُخْتِهِ ابْنَةِ إِسْحَاقَ تَحْضُنُهُ، فَأَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا وَأَحَبَّهُ يَعْقُوبُ أَيْضًا حُبًّا شَدِيدًا، فَقَالَ لِأُخْتِهِ: يَا أُخَيَّةُ، سَلِّمِي إِلَيَّ يُوسُفَ فَوَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ أَنْ يَغِيبَ عَنِّي سَاعَةً. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَنَا بِتَارِكَتِهِ سَاعَةً. فَأَصَرَّ يَعْقُوبُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهَا، فَقَالَتْ: اتْرُكْهُ عِنْدِي أَيَّامًا لَعَلَّ ذَلِكَ يُسَلِّينِي، ثُمَّ عَمَدَتْ إِلَى مِنْطَقَةِ إِسْحَاقَ، وَكَانَتْ عِنْدَهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ أَكْبَرَ وَلَدِهِ، فَحَزَمَتْهَا عَلَى وَسَطِ يُوسُفَ ثُمَّ قَالَتْ: قَدْ فَقَدْتُ الْمِنْطَقَةَ فَانْظُرُوا مَنْ أَخَذَهَا. فَالْتُمِسَتْ، فَقَالَتْ: اكْشِفُوا أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ. فَكَشَفُوهُمْ فَوَجَدُوهَا مَعَ يُوسُفَ، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ صَاحِبَ السَّرِقَةِ يَأْخُذُ السَّارِقَ لَهُ لَا يُعَارِضُهُ فِيهِ أَحَدٌ، فَأَخَذَتْ يُوسُفَ فَأَمْسَكَتْهُ عِنْدَهَا حَتَّى مَاتَتْ وَأَخَذَهُ يَعْقُوبُ بَعْدَ مَوْتِهَا. فَهَذَا الَّذِي تَأَوَّلَ إِخْوَةُ يُوسُفَ: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77] وَقِيلَ فِي سَرِقَتِهِ غَيْرُ هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ. فَلَمَّا رَأَى إِخْوَةُ يُوسُفَ مَحَبَّةَ أَبِيهِمْ لَهُ وَإِقْبَالَهُ عَلَيْهِ حَسَدُوهُ وَعَظُمَ عِنْدَهُمْ.

ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ تَسْجُدُ لَهُ، فَقَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ، وَكَانَ عُمُرُهُ حِينَئِذٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: {يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5] . ثُمَّ عَبَرَ لَهُ رُؤْيَاهُ. فَقَالَ {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 6] . وَسَمِعَتِ امْرَأَةُ يَعْقُوبَ مَا قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ فَقَالَ لَهَا يَعْقُوبُ: اكْتُمِي مَا قَالَ يُوسُفُ وَلَا تُخْبِرِي أَوْلَادَكِ. قَالَتْ: نَعَمْ. فَلَمَّا أَقْبَلَ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ مِنَ الرَّعْيِ أَخْبَرَتْهُمْ بِالرُّؤْيَا، فَازْدَادُوا حَسَدًا وَكَرَاهَةً لَهُ، وَقَالُوا: مَا عَنَى بِالشَّمْسِ غَيْرَ أَبِينَا، وَلَا بِالْقَمَرِ غَيْرَكِ، وَلَا بِالْكَوَاكِبِ غَيْرَنَا، إِنَّ ابْنَ رَاحِيلَ يُرِيدُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْنَا وَيَقُولَ أَنَا سَيِّدُكُمْ. وَتَآمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَقَالُوا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 8] فِي خَطَإٍ بَيِّنٍ فِي إِيثَارِهِمَا عَلَيْنَا {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9] أَيْ تَائِبِينَ. فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ يَهُودَا، وَكَانَ أَفْضَلَهُمْ وَأَعْقَلَهُمْ: لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فَإِنَّ الْقَتْلَ عَظِيمٌ، {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} [يوسف: 10] ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعُهُودَ أَنَّهُمْ لَا يَقْتُلُونَهُ، فَأَجْمَعُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَى يَعْقُوبَ وَيُكَلِّمُوهُ فِي إِرْسَالِ يُوسُفَ مَعَهُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، وَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ وَوَقَفُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ إِذَا أَرَادُوا مِنْهُ حَاجَةً، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: مَا حَاجَتُكُمْ؟ {قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] نَحْفَظُهُ حَتَّى نَرُدَّهُ {أَرْسِلْهُ مَعَنَا} [يوسف: 12] إِلَى الصَّحْرَاءِ {غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12] . فَقَالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13] لَا تَشْعُرُونَ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ يُوسُفَ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَكَأَنَّ عَشَرَةً مِنَ الذِّئَابِ قَدْ شَدُّوا عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ، وَإِذَا ذِئْبٌ مِنْهَا يَحْمِي عَنْهُ، وَكَأَنَّ الْأَرْضَ انْشَقَّتْ فَذَهَبَ فِيهَا فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَلِذَلِكَ خَافَ عَلَيْهِ الذِّئْبَ.

فَقَالَ لَهُ بَنُوهُ: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} [يوسف: 14] . فَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ يُوسُفُ: يَا أَبَتِ أَرْسِلْنِي مَعَهُمْ، قَالَ: أَوَ تُحِبُّ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَذِنَ لَهُ، فَلَبِسَ ثِيَابَهُ وَخَرَجَ مَعَهُمْ وَهُمْ يُكْرِمُونَهُ، فَلَمَّا بَرَزُوا إِلَى الْبَرِّيَّةِ أَظْهَرُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ وَجَعَلَ بَعْضُ إِخْوَتِهِ يَضْرِبُهُ فَيَسْتَغِيثُ بِالْآخَرِ فَيَضْرِبُهُ، فَجَعَلَ لَا يَرَى مِنْهُمْ رَحِيمًا، فَضَرَبُوهُ حَتَّى كَادُوا يَقْتُلُونَهُ، وَجَعَلَ يَصِيحُ: يَا أَبَتَاهُ يَا يَعْقُوبُ، لَوْ تَعْلَمُ مَا يَصْنَعُ بِابْنِكَ بَنُو الْإِمَاءِ. فَلَمَّا كَادُوا يَقْتُلُونَهُ قَالَ لَهُمْ يَهُودَا: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتُمُونِي مَوْثِقًا أَلَّا تَقْتُلُوهُ؟ فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى الْجُبِّ، فَأَوْثَقُوهُ كِتَافًا وَنَزَعُوا قَمِيصَهُ، وَأَلْقَوْهُ فِيهِ، فَقَالَ: يَا إِخْوَتَاهْ، رُدُّوا عَلَيَّ قَمِيصِي أَتَوَارَى بِهِ فِي الْجُبِّ! فَقَالُوا: ادْعُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا تُؤْنِسُكَ. قَالَ: إِنِّي لَمْ أَرَ شَيْئًا، فَدَلَّوْهُ فِي الْجُبِّ، فَلَمَّا بَلَغَ نِصْفَهُ أَلْقَوْهُ، أَرَادُوا أَنْ يَمُوتَ، وَكَانَ فِي الْبِئْرِ مَاءٌ، فَسَقَطَ فِيهِ ثُمَّ أَوَى إِلَى صَخْرَةٍ فَأَقَامَ عَلَيْهَا، ثُمَّ نَادَوْهُ فَظَنَّ أَنَّهُمْ قَدْ رَحِمُوهُ فَأَجَابَهُمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يَرْضَخُوهُ بِالْحِجَارَةِ فَمَنَعَهُمْ يَهُودَا. ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15] بِالْوَحْيِ، وَقِيلَ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُ يُوسُفُ. وَالْجُبُّ بِأَرْضِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعْرُوفٌ. ثُمَّ عَادُوا إِلَى أَبِيهِمْ عِشَاءً يَبْكُونَ فَقَالُوا: {يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 17] . فَقَالَ لَهُمْ أَبُوهُمْ: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] . ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَرُونِي قَمِيصَهُ. فَأَرَوْهُ. فَقَالَ: تَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ ذِئْبًا أَحْلَمَ مِنْ هَذَا! أَكَلَ ابْنِي وَلَمْ يَشُقَّ قَمِيصَهُ! ثُمَّ صَاحَ وَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ سَاعَةً، فَلَمَّا أَفَاقَ بَكَى بُكَاءً طَوِيلًا فَأَخَذَ الْقَمِيصَ يُقَبِّلُهُ وَيَشُمُّهُ. وَأَقَامَ يُوسُفُ فِي الْجُبِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ مَلَكًا فَحَلَّ كِتَافَهُ، ثُمَّ {جَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} [يوسف: 19] ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ إِلَى الْمَاءِ، {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف: 19] إِلَى الْبِئْرِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ

يُوسُفُ فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْجُبِّ، وَ {قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} [يوسف: 19] يَعْنِي الْوَارِدَ وَأَصْحَابَهُ خَافُوا أَنْ يَقُولُوا اشْتَرَيْنَاهُ فَيَقُولَ الرُّفْقَةُ أَشْرِكُونَا فِيهِ فَقَالُوا: إِنَّ أَهْلَ الْمَاءِ اسْتَبْضَعُونَا هَذَا الْغُلَامَ. وَجَاءَ يَهُودَا بِطَعَامٍ لِيُوسُفَ فَلَمْ يَرَهُ فِي الْجُبِّ فَنَظَرَ فَرَآهُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْمَنْزِلِ فَأَخْبَرَ إِخْوَتَهُ بِذَلِكَ، فَأَتَوْا مَالِكًا وَقَالُوا: هَذَا عَبْدٌ آبِقٌ مِنَّا. وَخَافَهُمْ يُوسُفُ فَلَمْ يَذْكُرْ حَالَهُ، وَاشْتَرَوْهُ مِنْ إِخْوَتِهِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ، قِيلَ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَقِيلَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مِصْرَ، فَكَسَاهُ مَالِكٌ، وَعَرَضَهُ لِلْبَيْعِ، فَاشْتَرَاهُ قُطْفِيرُ وَقِيلَ أُطْفِيرُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ، وَكَانَ عَلَى خَزَائِنِ مِصْرَ، وَالْمَلِكُ يَوْمَئِذٍ الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ رَجُلٌ مِنَ الْعَمَالِقَةِ، قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْمَلِكَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى آمَنَ بِيُوسُفَ وَمَاتَ وَيُوسُفُ حَيٌّ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ قَابُوسُ بْنُ مُصْعَبٍ، فَدَعَاهُ يُوسُفُ فَلَمْ يُؤْمِنْ. فَلَمَّا اشْتَرَى يُوسُفَ وَأَتَى بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ قَالَ لِامْرَأَتِهِ، وَاسْمُهَا رَاعِيلُ {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} [يوسف: 21] [فَيَكْفِيَنَا] إِذَا [هُوَ بَلَغَ وَ] فَهِمَ الْأُمُورَ بَعْضَ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21] ، وَكَانَ لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ حَسْنَاءَ نَاعِمَةً فِي مُلْكٍ وَدُنْيَا. فَلَمَّا خَلَا مِنْ عُمُرِ يُوسُفَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً آتَاهُ اللَّهُ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَرَاوَدَتْهُ رَاعِيلُ عَنْ نَفْسِهِ وَأَغْلَقَتِ الْأَبْوَابَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا وَدَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا، فَقَالَ: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي} [يوسف: 23] يَعْنِي أَنَّ زَوْجَكِ سَيِّدِي {أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23] ، يَعْنِي أَنَّ خِيَانَتَهُ ظُلْمٌ، وَجَعَلَتْ تَذْكُرُ مَحَاسِنَهُ وَتُشَوِّقُهُ إِلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: يَا يُوسُفُ مَا أَحْسَنَ شَعْرَكَ! قَالَ: هُوَ أَوَّلُ مَا يَنْتَثِرُ مِنْ جَسَدِي. قَالَتْ: يَا يُوسُفُ مَا أَحْسَنَ عَيْنَيْكَ! قَالَ: هُمَا أَوَّلُ مَا يَسِيلُ مِنْ جَسَدِي. قَالَتْ: مَا أَحْسَنَ وَجْهَكَ! قَالَ: هُوَ لِلتُّرَابِ. فَلَمْ تَزَلْ بِهِ حَتَّى هَمَّتْ وَهَمَّ بِهَا وَذَهَبَ لِيَحُلَّ سَرَاوِيلَهُ، فَإِذَا هُوَ بِصُورَةِ يَعْقُوبَ قَدْ عَضَّ عَلَى إِصْبُعِهِ

يَقُولُ: يَا يُوسُفُ لَا تُوَاقِعْهَا إِنَّمَا مَثَلُكَ مَا لَمْ تُوَاقِعْهَا مَثَلُ الطَّيْرِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ لَا يُطَاقُ، وَمَثَلُكَ إِذَا وَاقَعْتَهَا مَثَلُهُ إِذَا مَاتَ وَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ: جَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا فَرَأَى فِي الْحَائِطِ: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] . فَقَامَ حِينَ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ هَارِبًا يُرِيدُ الْبَابَ، فَأَدْرَكَتْهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنَ الْبَابِ فَجَذَبَتْ قَمِيصَهُ مِنْ قِبَلِ ظَهْرِهِ فَقَدَّتْهُ، {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25]- وَابْنَ عَمِّهَا مَعَهُ، فَقَالَتْ لَهُ - {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ} [يوسف: 25] . قَالَ يُوسُفُ: بَلْ {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف: 26] فَهَرَبْتُ مِنْهَا فَأَدْرَكَتْنِي فَقَدَّتْ قَمِيصِي. قَالَ لَهَا ابْنُ عَمِّهَا: تِبْيَانُ هَذَا فِي الْقَمِيصِ فَإِنْ كَانَ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ، وَإِنْ كَانَ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ، فَأُتِيَ بِالْقَمِيصِ فَوَجَدَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَقَالَ: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] . وَقِيلَ: كَانَ الشَّاهِدُ صَبِيًّا فِي الْمَهْدِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ فِي الْمَهْدِ وَهُمْ صِغَارٌ، ابْنُ مَاشِطَةِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. وَقَالَ زَوْجُهَا لِيُوسُفَ: {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود: 76] أَيْ ذِكْرِ مَا كَانَ مِنْهَا فَلَا تَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ، ثُمَّ قَالَ لِزَوْجَتِهِ. {اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29] وَتَحَدَّثَتِ النِّسَاءُ بِأَمْرِ يُوسُفَ وَامْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ، {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31] يَتَّكِئْنَ عَلَيْهِ [مِنْ] وَسَائِدَ، وَحَضَرْنَ، وَقَدَّمَتْ لَهُنَّ أُتْرُنْجًا وَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا لِقَطْعِ الْأُتْرُنْجِ، وَقَدْ أَجْلَسَتْ يُوسُفَ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي هُنَّ فِيهِ وَقَالَتْ لَهُ: {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} [يوسف: 31]- فَخَرَجَ - {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31]- وَأَعْظَمْنَهُ - {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 31]

بِالسَّكَاكِينِ وَلَا يَشْعُرْنَ، وَقُلْنَ: مَعَاذَ اللَّهِ {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] فَلَمَّا حَلَّ بِهِنَّ مَا حَلَّ مِنْ قَطْعِهِنَّ أَيْدِيَهُنَّ وَذَهَابِ عُقُولِهِنَّ، وَعَرَفْنَ خَطَأَهُنَّ فِيمَا قُلْنَ أَقَرَّتْ عَلَى نَفْسِهَا، وَقَالَتْ: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف: 32] . فَاخْتَارَ يُوسُفُ السَّجْنَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَقَالَ: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف: 33] . {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف: 34] . ثُمَّ بَدَا لِلْعَزِيزِ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَى الْآيَاتِ مِنَ الْقَمِيصِ، وَخَمْشِ الْوَجْهِ، وَشَهَادَةِ الطِّفْلِ، وَتَقْطِيعِ النِّسْوَةِ أَيْدِيَهُنَّ فِي تَرْكِ يُوسُفَ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: إِنَّهَا شَكَتْ إِلَى زَوْجِهَا، وَقَالَتْ: إِنَّ هَذَا الْعَبْدَ قَدْ فَضَحَنِي فِي النَّاسِ يُخْبِرُهُمْ أَنَّنِي رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَسَجَنَهُ سَبْعَ سِنِينَ. فَلَمَّا حُبِسَ يُوسُفُ أُدْخِلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ مِنْ أَصْحَابِ فِرْعَوْنِ مِصْرَ، أَحَدُهُمَا صَاحِبُ طَعَامِهِ، وَالْآخَرُ صَاحِبُ شَرَابِهِ، لِأَنَّهُمَا نُقِلَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا يُرِيدَا أَنْ يَسُمَّا الْمَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ يُوسُفُ السِّجْنَ قَالَ: إِنِّي أَعْبُرُ الْأَحْلَامَ. فَقَالَ أَحَدُ الْفَتَيَيْنِ لِلْآخَرِ: هَلُمَّ فَلْنُجَرِّبْهُ. قَالَ الْخَبَّازُ: {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} [يوسف: 36] وَقَالَ الْآخَرُ {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] . فَقَالَ لَهُمَا يُوسُفُ: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف: 37] . كَرِهَ أَنْ يَعْبُرَ لَهُمَا مَا سَأَلَاهُ عَنْهُ، وَأَخَذَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَقَالَ: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] وَكَانَ اسْمُ الْخَبَّازِ مَخْلَتَ، وَاسْمُ الْآخَرِ نَبْوَ، فَلَمْ يَدَعَاهُ حَتَّى أَخْبَرَهُمَا بِتَأْوِيلِ مَا سَأَلَاهُ عَنْهُ، فَقَالَ: {أَمَّا أَحَدُكُمَا} [يوسف: 41] ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَعْصِرُ الْخَمْرَ، {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف: 41] ، يَعْنِي سَيِّدَهُ الْمَلِكَ، {وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} [يوسف: 41]

فَلَمَّا عَبَرَ لَهُمَا قَالَا: مَا رَأَيْنَا شَيْئًا! قَالَ: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] . ثُمَّ قَالَ لِنَبْوَ، وَهُوَ الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] الْمَلِكِ، وَأَخْبِرْهُ أَنِّي مَحْبُوسٌ ظُلْمًا. {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42] غَفْلَةٌ عَرَضَتْ لِيُوسُفَ مِنْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا يُوسُفُ، اتَّخَذْتَ مِنْ دُونِي وَكِيلًا! لَأُطِيلَنَّ حَبْسَكَ. فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ سَبْعَ سِنِينَ. ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ، وَهُوَ الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْهَرَوَانِ بْنِ أَرَاشَةَ بْنِ فَارَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِمْلَاقِ بْنِ لَاوُذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، رَأَى رُؤْيَا هَائِلَةً، رَأَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ، وَرَأَى سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ، فَجَمَعَ السَّحَرَةَ وَالْكَهَنَةَ وَالْحَازَةَ وَالْعَافَةَ فَقَصَّهَا عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ - وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 44 - 45]- أَيْ حِينٍ - {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي} [يوسف: 45] . فَأَرْسَلُوهُ إِلَى يُوسُفَ، فَقَصَّ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا، فَقَالَ: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ - ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ - ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 47 - 49] ، فَإِنَّ الْبَقَرَ السِّمَانَ: السِّنُونَ الْمَخَاصِيبُ، وَالْبَقَرَاتُ الْعِجَافُ: السِّنُونَ الْمُحُولُ، وَكَذَلِكَ السُّنْبُلَاتُ الْخُضْرُ وَالْيَابِسَاتُ، فَعَادَ نَبْوُ إِلَى الْمَلِكِ فَأَخْبَرَهُ، فَعَلِمَ أَنَّ قَوْلَ يُوسُفَ حَقٌّ، فَقَالَ: {ائْتُونِي بِهِ} [يوسف: 50] . فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ وَدَعَاهُ إِلَى الْمَلِكِ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ وَقَالَ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50] فَلَمَّا رَجَعَ الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِ يُوسُفَ سَأَلَ الْمَلِكُ أُولَئِكَ النِّسْوَةَ فَقُلْنَ: {حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف: 51] وَلَكِنَّ امْرَأَةَ

الْعَزِيزِ خَبَّرَتْنَا أَنَّهَا رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 51] . فَقَالَ يُوسُفُ: إِنَّمَا رَدَدْتُ الرُّسُلَ لِيَعْلَمَ سَيِّدِي {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52] فِي زَوْجَتِهِ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ، قَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ: وَلَا حِينَ هَمَمْتَ بِهَا؟ فَقَالَ يُوسُفُ: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] . فَلَمَّا ظَهَرَ لِلْمَلِكِ بَرَاءَةُ يُوسُفَ وَأَمَانَتُهُ قَالَ: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف: 54] . فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ خَرَجَ مَعَهُ وَدَعَا لِأَهْلِ السِّجْنِ وَكَتَبَ عَلَى بَابِهِ: هَذَا قَبْرُ الْأَحْيَاءِ وَبَيْتُ الْأَحْزَانِ وَتَجْرِبَةُ الْأَصْدِقَاءِ وَشَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ. ثُمَّ اغْتَسَلَ وَلَبِسَ ثِيَابَهُ وَقَصَدَ الْمَلِكَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ وَ {كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] . فَقَالَ يُوسُفُ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف: 55] . فَاسْتَعْمَلَهُ بَعْدَ سَنَةٍ وَلَوْ لَمْ يَقُلِ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ لَاسْتَعْمَلَهُ مِنْ سَاعَتِهِ، فَسَلَّمَ خَزَائِنَهُ كُلَّهَا بَعْدَ سَنَةٍ وَجَعَلَ الْقَضَاءَ إِلَيْهِ وَحُكْمَهُ نَافِذًا، وَرَدَّ إِلَيْهِ عَمَلَ قُطْفِيرَ سَيِّدِهِ بَعْدَ أَنْ هَلَكَ، وَكَانَ هَلَاكُهُ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي، وَقِيلَ: بَلْ عَزَلَهُ فِرْعَوْنُ وَوَلَّى يُوسُفَ عَمَلَهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ يُوسُفَ تَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَلَمَّا وَلِيَ يُوسُفُ عَمَلَ مِصْرَ دَعَا الْمَلِكَ رَيَّانَ إِلَى الْإِيمَانِ، فَآمَنَ ثُمَّ تُوُفِّيَ، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ مِصْرَ قَابُوسُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ نُمَيِرِ بْنِ السَّلْوَاسِ بْنِ فَارَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِمْلَاقٍ، فَدَعَاهُ يُوسُفُ إِلَى الْإِيمَانِ، فَلَمْ يُؤْمِنْ، وَتُوَفِّيَ يُوسُفُ فِي مُلْكِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ الرَّيَّانَ زَوَّجَ يُوسُفَ رَاعِيلَ امْرَأَةَ سَيِّدِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ بِهَا قَالَ: أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِمَّا كُنْتِ تُرِيدِينَ؟ فَقَالَتْ: أَيُّهَا الصِّدِّيقُ لَا تَلُمْنِي فَإِنِّي كُنْتُ امْرَأَةً حَسْنَاءَ جَمِيلَةً فِي

مُلْكٍ وَدُنْيَا وَكَانَ صَاحِبِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ وَكُنْتَ كَمَا جَعَلَكَ اللَّهُ فِي حُسْنِكَ فَغَلَبَتْنِي نَفْسِي. وَوَجَدَهَا بِكْرًا، فَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدَيْنِ إِفْرَائِيمَ وَمَنْشَا. فَلَمَّا وَلِيَ يُوسُفُ خَزَائِنَ أَرْضِهِ وَمَضَتِ السِّنُونَ السَّبْعُ الْمُخْصِبَاتُ وَجَمَعَ فِيهَا الطَّعَامَ فِي سُنْبُلِهِ وَدَخَلَتِ السِّنُونَ الْمُجْدِبَةُ وَقَحَطَ النَّاسُ، وَأَصَابَهُمُ الْجُوعُ، وَأَصَابَ بِلَادَ يَعْقُوبَ الَّتِي هُوَ بِهَا بَعَثَ بَنِيهِ إِلَى مِصْرَ وَأَمْسَكَ بِنْيَامِينَ أَخَا يُوسُفَ لِأُمِّهِ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ عَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، وَإِنَّمَا أَنْكَرُوهُ لِبُعْدِ عَهْدِهِمْ مِنْهُ وَلِتَغَيُّرِ لُبْسَتِهِ، فَإِنَّهُ لَبِسَ ثِيَابَ الْمُلُوكِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمْ قَالَ: أَخْبِرُونِي مَا شَأْنُكُمْ. قَالُوا: نَحْنُ مِنَ الشَّامِ جِئْنَا نَمْتَارُ الطَّعَامَ. قَالَ: كَذَبْتُمْ، أَنْتُمْ عُيُونٌ، فَأَخْبِرُونِي خَبَرَكُمْ. قَالُوا: نَحْنُ عَشَرَةُ أَوْلَادِ رَجُلٍ وَاحِدٍ صِدِّيقٍ، كُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ، وَإِنَّهُ كَانَ لَنَا أَخٌ فَخَرَجَ مَعَنَا فِي الْبَرِّيَّةِ فَهَلَكَ، وَكَانَ أَحَبَّنَا إِلَى أَبِينَا. قَالَ: فَإِلَى مَنْ سَكَنَ أَبُوكُمْ بَعْدَهُ؟ قَالُوا: إِلَى أَخٍ لَنَا أَصْغَرَ مِنْهُ. قَالَ: فَأْتُونِي بِهِ أَنْظُرْ إِلَيْهِ {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ - قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} [يوسف: 60 - 61] . قَالَ: فَاجْعَلُوا بَعْضَكُمْ عِنْدِي رَهِينَةً حَتَّى تَرْجِعُوا. فَوَضَعُوا شَمْعُونَ، أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ، وَجَهَّزَهُمْ يُوسُفُ بِجَهَازِهِمْ، وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ: اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ، يَعْنِي ثَمَنَ الطَّعَامِ، فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، لَمَّا عَلِمَ أَنَّ أَمَانَتَهُمْ وَدِيَانَتَهُمْ تَحْمِلُهُمْ عَلَى رَدِّ الْبِضَاعَةِ فَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِ لِأَجْلِهَا. وَقِيلَ: رَدَّ مَالَهُمْ لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَ أَبِيهِ مَا يَرْجِعُونَ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى، فَإِذَا رَأَوْا مَعَهُمْ بِضَاعَةً عَادُوا. وَكَانَ يُوسُفُ حِينَ رَأَى مَا بِالنَّاسِ مِنَ الْجُهْدِ قَدْ أَسَى بَيْنَهُمْ، وَكَانَ لَا يَحْمِلُ لِلرَّجُلِ إِلَّا بَعِيرًا. فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ بِأَحْمَالِهِمْ قَالُوا: يَا أَبَانَا إِنَّ عَزِيزَ مِصْرَ قَدْ أَكْرَمَنَا كَرَامَةً لَوْ أَنَّهُ بَعْضُ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ مَا زَادَ عَلَى كَرَامَتِهِ، وَإِنَّهُ ارْتَهَنَ شَمْعُونَ، وَقَالَ: ائْتُونِي بِأَخِيكُمُ الَّذِي عَطَفَ عَلَيْهِ أَبُوكُمْ بَعْدَ أَخِيكُمْ، {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ} [يوسف: 60] .

قَالَ: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ - وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ - قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [يوسف: 64 - 65] ، قَالَ يَعْقُوبُ: {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} [يوسف: 65] ، فَقَالَ يَعْقُوبُ: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف: 66] . ثُمَّ أَوْصَاهُمْ أَبُوهُمْ بَعْدَ أَنْ أَذِنَ لِأَخِيهِمْ فِي الرَّحِيلِ مَعَهُمْ {وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 67] ، خَافَ عَلَيْهِمُ الْعَيْنَ، وَكَانُوا ذَوِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ، فَفَعَلُوا كَمَا أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ، {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف: 69] وَعَرَفَهُ وَأَنْزَلَهُمْ مَنْزِلًا وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ الْوَظَائِفَ وَقَدَّمَ لَهُمُ الطَّعَامَ وَأَجْلَسَ كُلَّ اثْنَيْنِ عَلَى مَائِدَةٍ، فَبَقِيَ بِنْيَامِينُ وَحْدَهُ، فَبَكَى وَقَالَ: لَوْ كَانَ أَخِي يُوسُفُ حَيًّا لَأَجْلَسَنِي مَعَهُ! فَقَالَ يُوسُفُ: لَقَدْ بَقِيَ أَخُوكُمْ هَذَا وَحِيدًا، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ وَقَعَدَ يُؤَاكِلُهُ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَهُمْ بِالْفِرَاشِ وَقَالَ: لِيَنَمْ كُلُّ أَخَوَيْنِ مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشٍ، وَبَقِيَ بِنْيَامِينُ وَحْدَهُ، فَقَالَ: هَذَا يَنَامُ مَعِي، فَبَاتَ مَعَهُ عَلَى فِرَاشِهِ، فَبَقِيَ يَشُمُّهُ وَيَضُمُّهُ إِلَيْهِ حَتَّى أَصْبَحَ، وَذَكَرَ لَهُ بِنْيَامِينُ حُزْنَهُ عَلَى يُوسُفَ، فَقَالَ لَهُ: أَتُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَخَاكَ عِوَضَ أَخِيكَ الذَّاهِبِ؟ فَقَالَ بِنْيَامِينُ: وَمَنْ يَجِدُ أَخًا مِثْلَكَ! وَلَكِنْ لَمْ يَلِدْكَ يَعْقُوبُ وَلَا رَاحِيلُ. فَبَكَى يُوسُفُ وَقَامَ إِلَيْهِ فَعَانَقَهُ، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يُوسُفُ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا فَعَلُوهُ بِنَا فِيمَا مَضَى، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا، وَلَا تُعْلِمْهُمْ بِمَا عَلَّمْتُكَ. وَقِيلَ: لَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ نَقَرَ الصُّوَاعَ وَقَالَ: إِنَّهُ يُخْبِرُنِي أَنَّكُمْ كُنْتُمُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَأَنَّكُمْ بِعْتُمْ أَخَاكُمْ. فَلَمَّا سَمِعَهُ بِنْيَامِينُ سَجَدَ لَهُ وَقَالَ: سَلْ صُوَاعَكَ هَذَا عَنْ أَخِي أَحِيٌّ هُوَ؟ فَنَقَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ حَيٌّ، وَسَتَرَاهُ. قَالَ: فَاصْنَعْ بِي مَا شِئْتَ فَإِنَّهُ إِنْ عَلِمَ بِي فَسَوْفَ يَسْتَقِدُّنِي، قَالَ: فَدَخَلَ يُوسُفُ فَبَكَى ثُمَّ تَوَضَّأَ وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، قَالَ: فَلَمَّا حَمَّلَ يُوسُفُ إِبِلَ إِخْوَتِهِ مِنَ الْمِيرَةِ جَعَلَ الْإِنَاءَ الَّذِي يَكِيلُ بِهِ الطَّعَامَ، وَهُوَ الصُّوَاعُ، وَكَانَ مِنْ فِضَّةٍ، فِي رَحْلِ أَخِيهِ.

وَقِيلَ: كَانَ إِنَاءً يَشْرَبُ فِيهِ. وَلَمْ يَشْعُرْ أَخُوهُ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ بِنْيَامِينَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ يُوسُفَ أَخُوهُ قَالَ: لَا أُفَارِقُكَ. قَالَ يُوسُفُ: أَخَافُ غَمَّ أَبَوَيْنَا وَلَا يُمْكِنُنِي حَبْسُكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أُشْهِرَكَ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ. قَالَ: افْعَلْ. قَالَ: فَإِنِّي أَجْعَلُ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِكَ، ثُمَّ أُنَادِي عَلَيْكَ بِالسَّرِقَةِ لِآخُذَكَ مِنْهُمْ. قَالَ: افْعَلْ: فَلَمَّا ارْتَحَلُوا {أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] . {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف: 73] لِأَنَّنَا رَدَدْنَا ثَمَنَ الطَّعَامِ إِلَى يُوسُفَ. فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ - قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 74 - 75] تَأْخُذُونَهُ لَكُمْ. {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ} [يوسف: 76] فَفَتَّشَهَا {قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76] . فَقَالُوا: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77] ، يَعْنُونَ يُوسُفَ، وَكَانَتْ سَرِقَتُهُ حِينَ سَرَقَ صَنَمًا لِجَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ فَكَسَرَهُ فَعَيَّرُوهُ بِذَلِكَ، وَقِيلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمِنْطَقَةِ. فَلَمَّا اسْتُخْرِجَتِ السَّرِقَةُ مِنْ رَحْلِ الْغُلَامِ قَالَ إِخْوَتُهُ: يَا بَنِي رَاحِيلَ، لَا يَزَالُ لَنَا مِنْكُمْ بَلَاءٌ! فَقَالَ بِنْيَامِينُ: بَلْ بَنُو رَاحِيلَ مَا يَزَالُ لَهُمْ مِنْكُمْ بَلَاءٌ! وَضَعَ هَذَا الصُّوَاعَ فِي رَحْلِيَ الَّذِي وَضَعَ الدَّرَاهِمَ فِي رِحَالِكُمْ. فَأَخَذَ يُوسُفُ أَخَاهُ بِحُكْمِ إِخْوَتِهِ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِ سَأَلُوهُ أَنْ يَتْرُكَهُ لَهُمْ وَ {قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف: 78] . فَقَالَ: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79] . فَلَمَّا أَيِسُوا مِنْ خَلَاصِهِ خَلَصُوا نَجِيًّا لَا يَخْتَلِطُ بِهِمْ غَيْرُهُمْ، فَقَالَ كَبِيرُهُمْ، وَهُوَ شَمْعُونُ: {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} [يوسف: 80]

أَنْ نَأْتِيَهُ بِأَخِينَا إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِنَا، وَمِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْمَرَّةِ {مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف: 80] بِالْخُرُوجِ، وَقِيلَ: بِالْحَرْبِ، فَارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُصُّوا عَلَيْهِ خَبَرَكُمْ. فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ فَأَخْبَرُوهُ بِخَبَرِ بِنْيَامِينَ وَتَخَلَّفَ شَمْعُونُ {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83] بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ وَشَمْعُونَ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَقَالَ: وَاحُزْنَاهْ عَلَى يُوسُفَ! {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84] مَمْلُوءٌ مِنَ الْحُزْنِ وَالْغَيْظِ فَقَالَ لَهُ بَنُوهُ: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} [يوسف: 85]- أَيْ: دَنِفًا - {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف: 85] . فَأَجَابَهُمْ يَعْقُوبُ فَقَالَ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86] مِنْ صِدْقِ رُؤْيَا يُوسُفَ. وَقِيلَ: بَلَغَ مِنْ وَجْدِ يَعْقُوبَ وَجْدَ سَبْعِينَ مُبْتَلًى، وَأُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرَ مِائَةِ شَهِيدٍ. قِيلَ: دَخَلَ عَلَى يَعْقُوبَ جَارٌ لَهُ فَقَالَ: يَا يَعْقُوبُ، قَدِ انْهَشَمْتَ وَفَنِيتَ وَلَمْ تَبْلُغْ مِنَ السِّنِّ مَا بَلَغَ أَبُوكَ! فَقَالَ: هَشَمَنِي وَأَفْنَانِي مَا ابْتَلَانِي اللَّهُ بِهِ مِنْ هَمِّ يُوسُفَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَتَشْكُونِي إِلَى خَلْقِي؟ قَالَ: يَا رَبِّ خَطِيئَةٌ فَاغْفِرْهَا. قَالَ: قَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ. فَكَانَ يَعْقُوبُ إِذَا سُئِلَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: لَوْ كَانَا مَيِّتَيْنِ لَأَحْيَيْتُهُمَا لَكَ، إِنَّمَا ابْتَلَيْتُكَ لِأَنَّكَ قَدْ شَوَيْتَ وَقَتَّرْتَ عَلَى جَارِكَ وَلَمْ تُطْعِمْهُ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ ابْتِلَائِهِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ بَقَرَةٌ لَهَا عُجُولٌ فَذَبَحَ عُجُولَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَهِيَ تَخُورُ فَلَمْ يَرْحَمْهَا يَعْقُوبُ، فَابْتُلِيَ بِفَقْدِ أَعَزِّ وَلَدِهِ عِنْدَهُ، وَقِيلَ: ذَبَحَ شَاةً، فَقَامَ بِبَابِهِ مِسْكِينٌ فَلَمْ يُطْعِمْهُ مِنْهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ

وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ سَبَبُ ابْتِلَائِهِ، فَصَنَعَ طَعَامًا وَنَادَى: مَنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُفْطِرْ عِنْدَ يَعْقُوبَ. ثُمَّ إِنَّ يَعْقُوبَ أَمَرَ بَنِيهِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَيْهِ مِنْ مِصْرَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا وَتَجَسُّسِ الْأَخْبَارِ عَنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ، فَرَجَعُوا إِلَى مِصْرَ فَدَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ، وَقَالُوا: {يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف: 88]- يَعْنِي قَلِيلَةً - {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} [يوسف: 88] ، قِيلَ: كَانَتْ بِضَاعَتُهُمْ دَرَاهِمَ زُيُوفًا، وَقِيلَ: كَانَتْ سَمْنًا وَصُوفًا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] بِفَضْلِ مَا بَيْنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ، وَقِيلَ: بِرَدِّ أَخِينَا عَلَيْنَا. فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُمْ غَلَبَتْهُ نَفْسُهُ فَارْفَضَّ دَمْعُهُ بَاكِيًا ثُمَّ بَاحَ لَهُمْ بِالَّذِي كَانَ يَكْتُمُ، وَقِيلَ: إِنَّمَا أَظْهَرَ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّ أَبَاهُ كَتَبَ إِلَيْهِ، حِينَ قِيلَ لَهُ إِنَّهُ أَخَذَ ابْنَهُ لِأَنَّهُ سَرَقَ - كِتَابًا: مِنْ يَعْقُوبَ إِسْرَائِيلِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ إِلَى عَزِيزِ مِصْرَ الْمُظْهِرِ الْعَدْلَ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ مُوَكَّلٌ بِنَا الْبَلَاءُ، وَأَمَّا جَدِّي فَشُدَّتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، وَأُلْقِيَ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا اللَّهُ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَأَمَّا أَبِي فَشُدَّتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، وَوُضِعَ السِّكِّينُ عَلَى حَلْقِهِ لِيُذْبَحَ فَفَدَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا أَنَا فَكَانَ لِيَ ابْنٌ وَكَانَ أَحَبَّ أَوْلَادِي إِلَيَّ فَذَهَبَ بِهِ إِخْوَتُهُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ فَعَادُوا وَمَعَهُمْ قَمِيصُهُ مُلَطَّخًا بِدَمٍ، وَقَالُوا: أَكَلَهُ الذِّئْبُ، وَكَانَ لِيَ ابْنٌ آخَرُ أَخُوهُ لِأُمِّهِ فَكُنْتُ أَتَسَلَّى بِهِ فَذَهَبُوا بِهِ، ثُمَّ رَجَعُوا، وَقَالُوا: إِنَّهُ سَرَقَ وَإِنَّكَ حَبَسْتَهُ، وَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَسْرِقُ، وَلَا نَلِدُ سَارِقًا، فَإِنْ رَدَدْتَهُ عَلَيَّ وَإِلَّا دَعَوْتُ عَلَيْكَ دَعْوَةً تُدْرِكُ السَّابِعَ مِنْ وَلَدِكَ. فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَكَى وَأَظْهَرَ لَهُمْ فَقَالَ: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ - قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 89 - 90] بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَنَا، فَاعْتَذَرُوا وَ {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ - قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 91 - 92] .

أَيْ لَا أَذْكُرُ لَكُمْ ذَنْبَكُمْ، {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92] ، ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ أَبِيهِ، فَقَالُوا: لَمَّا فَاتَهُ بِنْيَامِينُ عَمِيَ مِنَ الْحُزْنِ، فَقَالَ: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93] . فَقَالَ يَهُودَا: أَنَا أَذْهَبُ بِهِ لِأَنِّي ذَهَبْتُ إِلَيْهِ بِالْقَمِيصِ مُلَطَّخًا بِالدَّمِ وَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ يُوسُفَ أَكَلَهُ الذِّئْبُ، فَأَنَا أُخْبِرُهُ أَنَّهُ حَيٌّ فَأُفْرِحُهُ كَمَا أَحْزَنْتُهُ. وَكَانَ هُوَ الْبَشِيرَ. {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} [يوسف: 94] عَنْ مِصْرَ حَمَلَتِ الرِّيحُ إِلَى يَعْقُوبَ رِيحَ يُوسُفَ، وَبَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ فَرْسَخًا، يُوسُفُ بِمِصْرَ وَيَعْقُوبُ بِأَرْضِ كَنْعَانَ. فَقَالَ يَعْقُوبُ: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94] ؟ فَقَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَوْلَادِهِ: {تَاللَّهِ إِنَّكَ} [يوسف: 95] مِنْ ذِكْرِ يُوسُفَ {لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ - فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 95 - 96] بِقَمِيصِ يُوسُفَ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِ يَعْقُوبَ فَعَادَ بَصِيرًا وَ {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 96] ، يَعْنِي تَصْدِيقَ اللَّهِ تَأْوِيلَ رُؤْيَا يُوسُفَ، وَ {لَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96] قَالَ لَهُ يَعْقُوبُ: كَيْفَ تَرَكْتَ يُوسُفَ؟ قَالَ: إِنَّهُ مَلِكُ مِصْرَ. قَالَ: مَا أَصْنَعُ بِالْمُلْكِ! عَلَى أَيِّ دِينٍ تَرَكْتَهُ؟ قَالَ: عَلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ: الْآنَ تَمَّتِ النِّعْمَةُ. فَلَمَّا رَأَى مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَوْلَادِهِ قَمِيصَ يُوسُفَ وَخَبَرَهُ قَالُوا لَهُ: {يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا - قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ} [يوسف: 97 - 98] أَخَّرَ الدُّعَاءَ إِلَى السَّحَرِ مِنْ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ. ثُمَّ ارْتَحَلَ يَعْقُوبُ وَوَلَدُهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مِصْرَ خَرَجَ يُوسُفُ يَتَلَقَّاهُ وَمَعَهُ أَهْلُ مِصْرَ، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهُ، فَلَمَّا دَنَا أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ نَظَرَ يَعْقُوبُ إِلَى النَّاسِ وَالْخَيْلِ، وَكَانَ يَعْقُوبُ يَمْشِي وَيَتَوَكَّأُ عَلَى ابْنِهِ يَهُودَا، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ هَذَا فِرْعَوْنُ مِصْرَ. قَالَ: لَا، هَذَا ابْنُكَ يُوسُفُ. فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ أَرَادَ يُوسُفُ أَنْ يَبْدَأَهُ بِالسَّلَامِ، فَمُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ:

السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُذْهِبَ الْأَحْزَانِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُفَارِقْهُ الْحُزْنُ وَالْبُكَاءُ مُدَّةَ غَيْبَةِ يُوسُفَ عَنْهُ. قَالَ: فَلَمَّا دَخَلُوا مِصْرَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ، يَعْنِي أُمَّهُ وَأَبَاهُ، وَقِيلَ: كَانَتْ خَالَتَهُ. وَكَانَتْ أَمُّهُ قَدْ مَاتَتْ، وَخَرَّ لَهُ يَعْقُوبُ وَأُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ سُجَّدًا، وَكَانَ السُّجُودُ تَحِيَّةَ النَّاسِ لِلْمُلُوكِ، وَلَمْ يُرِدْ بِالسُّجُودِ وَضْعَ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْخُضُوعَ وَالتَّوَاضُعَ وَالِانْحِنَاءَ عِنْدَ السَّلَامِ كَمَا يُفْعَلُ الْآنَ بِالْمُلُوكِ. وَالْعَرْشُ: السَّرِيرُ. وَقَالَ: {يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100] . وَكَانَ بَيْنَ رُؤْيَا يُوسُفَ وَمَجِيءِ يَعْقُوبَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ سَنَةً، فَإِنَّهُ أُلْقِيَ فِي الْجُبِّ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَقِيَهُ وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَعَاشَ بَعْدَ جَمْعِ شَمْلِهِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَأَوْصَى إِلَى أَخِيهِ يَهُودَا. وَقِيلَ كَانَتْ غَيْبَةُ يُوسُفَ عَنْ يَعْقُوبَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ دَخَلَ مِصْرَ وَلَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَاسْتَوْزَرَهُ فِرْعَوْنُ بَعْدَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ قُدُومِهِ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَتْ مُدَّةُ غَيْبَتِهِ عَنْ يَعْقُوبَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ مُقَامُ يَعْقُوبَ بِمِصْرَ وَأَهْلِهِ مَعَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا مَاتَ يَعْقُوبُ أَوْصَى إِلَى يُوسُفَ أَنْ يَدْفِنَهُ مَعَ أَبِيهِ إِسْحَاقَ، فَفَعَلَ يُوسُفُ، فَسَارَ بِهِ إِلَى الشَّامِ فَدَفَنَهُ عِنْدَ أَبِيهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ وَأَوْصَى يُوسُفُ أَنْ يُحْمَلَ مِنْ مِصْرَ وَيُدْفَنَ عِنْدَ آبَائِهِ، فَحَمَلَهُ مُوسَى لَمَّا خَرَجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَوَلَدَ يُوسُفُ إِفْرَائِيمَ وَمَنْشَى، فَوُلِدَ لِإِفْرَائِيمَ نُونٌ، وَلِنُونَ يُوشَعُ فَتَى مُوسَى، وَوُلِدَ لِمَنْشَى مُوسَى، قَبْلَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَزَعَمَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ أَنَّهُ مُوسَى الْخَضِرُ، وَوُلِدَ لَهُ رَحْمَةُ امْرَأَةُ أَيُّوبَ فِي قَوْلٍ.

قصة شعيب عليه السلام

[قِصَّةُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ] قِيلَ: إِنَّ اسْمَ شُعَيْبٍ يَثْرُونُ بْنُ صَيْفُونَ بْنِ عُنُقَا بْنِ ثَابِتِ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: هُوَ شُعَيْبُ بْنُ مِيكِيلَ مِنْ وَلَدِ مَدْيَنَ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ شُعَيْبٌ مَنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّمَا هُوَ وَلَدُ بَعْضِ مَنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ وَهَاجَرَ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ، وَلَكِنَّهُ ابْنُ بِنْتِ لُوطٍ، فَجَدَّةُ شُعَيْبٍ ابْنَةُ لُوطٍ، وَكَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} [هود: 91] ، أَيْ ضَرِيرَ الْبَصَرِ.

وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ: «ذَاكَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ» ، بِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ قَوْمَهُ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ. وَالْأَيْكَةُ: شَجَرٌ مُلْتَفٌّ، وَكَانُوا أَهْلَ كُفْرٍ بِاللَّهِ، وَبَخْسٍ لِلنَّاسِ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ، وَإِفْسَادِ أَمْوَالِهِمْ، وَكَانَ اللَّهُ وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ وَبَسَطَ لَهُمْ فِي الْعَيْشِ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ مِنْهُ مَعَ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، فَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84] . فَلَمَّا طَالَ تَمَادِيهِمْ فِي غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَلَمْ يَزِدْهُمْ تَذْكِيرُ شُعَيْبٍ إِيَّاهُمْ وَتَحْذِيرُهُ عَذَابَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ إِلَّا تَمَادِيًا، وَلَمَّا أَرَادَ إِهْلَاكَهُمْ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ عَذَابَ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189] . فَقَالَ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقْدَةً وَحَرًّا شَدِيدًا فَأَخَذَ بِأَنْفُسِهِمْ، فَخَرَجُوا مِنَ الْبُيُوتِ هِرَابًا إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَحَابَةً فَأَظَلَّتْهُمْ مِنَ الشَّمْسِ، فَوَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَلَذَّةً فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى اجْتَمَعُوا تَحْتَهَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: فَذَلِكَ {عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189] . وَقَالَ قَتَادَةُ: بَعَثَ اللَّهُ شُعَيْبًا إِلَى أُمَّتَيْنِ: إِلَى قَوْمِهِ أَهْلِ مَدْيَنَ، وَإِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَكَانَتِ الْأَيْكَةُ مِنْ شَجَرٍ مُلْتَفٍّ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بَعَثَ عَلَيْهِمْ حَرًّا شَدِيدًا وَرَفَعَ لَهُمُ الْعَذَابَ كَأَنَّهُ سَحَابَةٌ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنْهُمْ خَرَجُوا إِلَيْهَا رَجَاءَ بَرْدِهَا، فَلَمَّا كَانُوا تَحْتَهَا أَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ نَارًا، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189] . وَأَمَّا أَهْلُ مَدْيَنَ فَمِنْهُمْ مِنْ وَلَدِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، فَعَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِالرَّجْفَةِ، وَهِيَ الزَّلْزَلَةُ، فَأُهْلِكُوا. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانَ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَطَّلُوا حَدًّا، فَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ، ثُمَّ عَطَّلُوا حَدًّا فَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ، فَجَعَلُوا كُلَمَّا عَطَّلُوا حَدَّا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ، حَتَّى إِذَا أَرَادَ هَلَاكَهُمْ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ حَرًّا لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَتَقَارُّوا وَلَا يَنْفَعَهُمْ ظِلٌّ وَلَا مَاءٌ حَتَّى ذَهَبَ ذَاهِبٌ مِنْهُمْ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ ظُلَّةٍ فَوَجَدَ رَوْحًا فَنَادَى أَصْحَابَهُ: هَلُمُّوا

إِلَى الرَّوْحِ، فَذَهَبُوا إِلَيْهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا إِلَيْهَا أَلْهَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا، فَذَلِكَ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. وَقَدْ رَوَى عَامِرٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: مَنْ حَدَّثَكَ مَا عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ فَكَذِّبْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ هُوَ إِظْلَالُ الْعَذَابِ عَلَى قَوْمِ شُعَيْبٍ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87] ، قَالَ: مِمَّا كَانَ يَنْهَاهُمْ عَنْهُ قَطْعُ الدَّرَاهِمِ.

قصة الخضر وخبره مع موسى

[قِصَّةُ الْخَضِرِ وَخَبَرُهُ مَعَ مُوسَى] قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: إِنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ هُوَ مُوسَى بْنُ مَنْشَى بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَكَانَ الْخَضِرُ مِمَّنْ كَانَ أَيَّامَ أَفْرِيدُونَ الْمَلِكِ بْنِ أَثْغِيَانَ فِي قَوْلِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُتُبِ الْأُوَلِ قَبْلَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ بَلَغَ مَعَ ذِي الْقَرْنَيْنِ الْأَكْبَرِ الَّذِي كَانَ فِي أَيَّامِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَإِنَّهُ بَلَغَ مَعَ ذِي الْقَرْنَيْنِ نَهْرَ الْحَيَاةِ فَشَرِبَ مِنْ مَائِهِ وَلَا يَعْلَمُ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَمَنْ مَعَهُ، فَخُلِّدَ وَهُوَ حَيٌّ عِنْدَهُمْ إِلَى الْآنِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ كَانَ مِنْ وَلَدِ مَنْ آمَنَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَهَاجَرَ مَعَهُ، وَاسْمُهُ بَلْيَا بْنُ مَلْكَانَ بْنِ فَالَغَ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالَخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكَانَ أَبُوهُ مَلِكًا عَظِيمًا. وَقَالَ آخَرُونَ: ذُو الْقَرْنَيْنِ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ أَفْرِيدُونُ بْنُ أَثْغِيَانَ، وَعَلَى

مَقْدَمَتِهِ كَانَ الْخَضِرُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَوْذَبٍ: الْخَضِرُ مِنْ وَلَدِ فَارِسَ، وَإِلْيَاسُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَلْتَقِيَانِ كُلَّ عَامٍ بِالْمَوْسِمِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: اسْتَخْلَفَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ نَاشِيَةُ بْنُ أَمُوصَ، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُمُ الْخَضِرَ مَعَهُ نَبِيًّا، قَالَ: وَاسْمُ الْخَضِرِ فِيمَا يَقُولُ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَا، وَكَانَ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ، وَبَيْنَ هَذَا الْمَلِكِ وَبَيْنَ أَفْرِيدُونَ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ عَامٍ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْخَضِرَ كَانَ فِي أَيَّامِ أَفْرِيدُونَ وَذِي الْقَرْنَيْنِ الْأَكْبَرِ قَبْلَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ أَشْبَهُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِطَلَبِ الْخَضِرِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِالْكَائِنِ مِنَ الْأُمُورِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَضِرُ عَلَى مَقْدَمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ قَبْلَ مُوسَى، وَأَنَّهُ شَرِبَ مِنْ مَاءِ الْحَيَاةِ فَطَالَ عُمُرُهُ، وَلَمْ يُرْسَلْ فِي أَيَّامِ إِبْرَاهِيمَ، وَبُعِثَ فِي أَيَّامِ نَاشِيَةَ بْنِ أَمُوصَ، وَكَانَ نَاشِيَةُ هَذَا فِي أَيَّامِ بَشْتَاسِبَ بْنِ لَهُرَاسِبَ، وَالْحَدِيثُ مَا رَوَاهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِـ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا يَزْعُمُ أَنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ بِصَاحِبِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ. قَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ مُوسَى قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ خَطِيبًا، فَقِيلَ لَهُ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، هَلْ هُنَاكَ أَعْلَمُ مِنِّي؟ قَالَ: بَلَى، عَبْدٌ لِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُ تَفْقِدُهُ فَهُوَ هُنَاكَ. فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ، ثُمَّ قَالَ لِفَتَاهُ: إِذَا فَقَدْتَ هَذَا الْحُوتَ فَأَخْبِرْنِي. فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ، وَذَلِكَ الْمَاءَ، وَهُوَ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ خُلِّدَ وَلَا يُقَارِبُهُ شَيْءٌ مَيِّتٌ إِلَّا حَيِيَ، فَمَسَّ الْحُوتُ مِنْهُ فَحَيِيَ، وَكَانَ مُوسَى رَاقِدًا، وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جَرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ مِثْلَ الطَّاقِ، فَصَارَ لِلْحُوتِ سَرَبٌ، وَكَانَ لَهُمَا عَجَبًا، ثُمَّ انْطَلَقَا، فَلَمَّا كَانَ

حِينُ الْغَدَاءِ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] ) . قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصْبَ حَتَّى تَجَاوَزَ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا - قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 63 - 64] . قَالَ: يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ، فَإِذَا رَجُلٌ نَائِمٌ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، فَسَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ. فَقَالَ: وَأَنَّى بِأَرْضِنَا السَّلَامُ! قَالَ: أَنَا مُوسَى. قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ لَا أَعْلَمُهُ. قَالَ: فَإِنِّي أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا. {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 70] . فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ ثُمَّ رَكِبَا سَفِينَةً، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَقَعَدَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْمَاءِ، فَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى مَا يَنْقُصُ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِقْدَارَ مَا نَقَرَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ. قَالَ: فَبَيْنَا هُمْ فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ مُوسَى إِلَّا وَهُوَ يُوتِدُ وَتِدًا أَوْ يَنْزِعُ تَخْتًا مِنْهَا. فَقَالَ لَهُ مُوسَى: حَمَلَنَا بِغَيْرِ نَوْلٍ فَتَخْرِقُهَا {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71] {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا - قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف: 72 - 73] . قَالَ: وَكَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا. قَالَ: فَخَرَجَا فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ فَأَبْصَرَا غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف: 74] {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا - قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا - فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 75 - 77] فَلَمْ

يَجِدَا أَحَدًا يُطْعِمُهُمَا وَلَا يَسْقِيهِمَا، {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] فَقَالَ لَهُ مُوسَى: لَمْ يُضَيِّفُونَا وَلَمْ يُنْزِلُونَا، {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا - قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا - أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 77 - 79]- وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: سَفِينَةٌ صَالِحَةٌ {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا - وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 80 - 82] إِلَى {مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82] .» فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا كَانَ الْكَنْزُ إِلَّا عِلْمًا. قِيلَ لِـ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ نَسْمَعْ لِفَتَى مُوسَى بِذِكْرٍ، فَقَالَ: شَرِبَ الْفَتَى مِنَ الْمَاءِ فَخُلِّدَ، فَأَخَذَهُ الْعَالِمُ فَطَابَقَ بِهِ سَفِينَتَهُ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهَا لَتَمُوجُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ كَانَ قَبْلَ مُوسَى وَفِي أَيَّامِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى خَطَإِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ إِرْمِيَا، لِأَنَّ إِرْمِيَا كَانَ أَيَّامَ بُخْتُنَصَّرَ، وَبَيْنَ أَيَّامِ مُوسَى وَبُخْتُنَصَّرَ مِنَ الْمُدَّةِ مَا لَا يُشْكِلُ عَلَى عَالِمٍ بِأَيَّامِ النَّاسِ، فَإِنَّ مُوسَى إِنَّمَا نُبِّئَ فِي أَيَّامِ مِنُوجِهْرَ، وَكَانَ مُلْكُهُ بَعْدَ جَدِّهِ أَفْرِيدُونَ.

ذكر الخبر عن منوجهر والحوادث في أيامه

[ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ مِنُوجِهْرَ وَالْحَوَادِثِ فِي أَيَّامِهِ] ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ أَفْرِيدُونَ بْنِ أَثْغِيَانَ بْنِ كَاوَ مِنُوجِهْرُ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ إِيرَجَ بْنِ أَفْرِيدُونَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِدُنْبَاوَنْدَ، وَقِيلَ بِالرَّيِّ فَلَمَّا وُلِدَ مِنُوجِهْرُ أَخْفَى أَمَرَهُ خَوْفًا مِنْ طُوجَ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَبِرَ مِنُوجِهْرُ سَارَ إِلَى جَدِّهِ أَفْرِيدُونَ فَتَوَسَّمَ فِيهِ الْخَيْرَ، وَجَعَلَ لَهُ مَا كَانَ جَعَلَهُ لِجَدِّهِ إِيرَجَ مِنَ الْمَمْلَكَةِ وَتَوَجَّهُ بِتَاجِهِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنُوجِهْرَ بْنَ شَجَرِ بْنِ أَفْرِيقِشَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ انْتَقَلَ إِلَيْهِ الْمُلْكُ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ جَرِيرِ بْنِ عَطِيَّةَ:

وَأَبْنَاءُ إِسْحَاقَ اللُّيُوثُ إِذَا ارْتَدَوْا ... حَمَائِلَ مَوْتٍ لَابِسِينَ السَّنَوَّرَا إِذَا انْتَسَبُوا عَدُّوا الصَّبَهْبَذَ مِنْهُمُ ... وَكِسْرَى وَعَدُّوا الْهُرْمُزَانَ وَقَيْصَرَا وَكَانَ كِتَابٌ فِيهِمُ وَنُبُوَّةٌ ... وَكَانُوا بِإِصْطَخْرَ الْمُلُوكَ وَتُسْتَرَا فَيَجْمَعُنَا وَالْغُرَّ أَبْنَاءُ فَارِسٍ أَبٌ ... لَا نُبَالِي بَعْدَهُ مَنْ تَأَخَّرَا أَبُونَا خَلِيلُ اللَّهِ وَاللَّهُ رَبُّنَا رَضِينَا ... بِمَا أَعْطَى الْإِلَهُ وَقَدَّرَا وَأَمَّا الْفُرْسُ فَتُنْكِرُ هَذَا النَّسَبَ وَلَا تَعْرِفُ لَهُ مُلْكًا إِلَّا فِي أَوْلَادِ أَفْرِيدُونَ وَلَا تُقِرُّ بِالْمُلْكِ لِغَيْرِهِمْ. قُلْتُ: وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْفُرْسُ، فَإِنَّ أَسْمَاءَ مُلُوكِهِمْ قَبْلَ الْإِسْكَنْدَرِ مَعْرُوفَةٌ وَبَعْدَ أَيَّامِهِ مُلُوكُ الطَّوَائِفِ، وَإِذَا كَانَ مِنُوجِهْرُ أَيَّامَ مُوسَى، وَكُلُّ مَا بَيْنَ مُوسَى وَإِسْحَاقَ خَمْسَةُ آبَاءٍ مَعْرُوفُونَ، وَلَمْ يَزَالُوا بِمِصْرَ، فَفِي أَيِّ زَمَانٍ كَثُرُوا وَانْتَشَرُوا، وَمَلَكُوا بِلَادَ الْفُرْسِ؟ وَمِنْ أَيْنَ لِجَرِيرٍ هَذَا الْعِلْمُ حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ حُجَّةً، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ جَعَلَ الْجَمِيعَ أَبْنَاءَ إِسْحَاقَ! قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: مَلَكَ طُوجُ وَسَلْمٌ الْأَرْضَ بَعْدَ أَخِيهِمَا إِيرَجَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ مَلَكَ مِنُوجِهْرُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ وَثَبَ بِهِ ابْنٌ لِطُوجَ التُّرْكِيِّ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِينَ

سَنَةً فَنَفَاهُ عَنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ أُدِيلَ مِنْهُ مِنُوجِهْرُ فَنَفَاهُ عَنْ بِلَادِهِ وَعَادَ إِلَى مُلْكِهِ، وَمَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَكَانَ مِنُوجِهْرُ يُوصَفُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَنْدَقَ الْخَنَادِقَ وَجَمَعَ آلَةَ الْحَرْبِ، وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الدَّهْقَنَةَ فَجَعَلَ لِكُلِّ قَرْيَةٍ دِهْقَانًا وَأَمَرَ أَهْلَهَا بِطَاعَتِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ مُوسَى ظَهَرَ فِي سَنَةِ سِتِّينَ مِنْ مُلْكِهِ. وَقَالَ غَيْرُ هِشَامٍ: إِنَّهُ لَمَّا مَلَكَ سَارَ نَحْوَ بِلَادِ التُّرْكِ طَالِبًا بِدَمِ جَدِّهِ إِيرَجَ بْنِ أَفْرِيدُونَ، فَقَتَلَ طُوجَ بْنَ أَفْرِيدُونَ وَأَخَاهُ سَلْمًا، ثُمَّ إِنَّ أَفْرَاسِيَابَ بْنَ فَشْنَجَ بْنِ رُسْتَمَ بْنِ تُرْكٍ، الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْأَتْرَاكُ مِنْ وَلَدِ طُوجَ بْنِ أَفْرِيدُونَ، حَارَبَ مِنُوجِهْرَ بَعْدَ قَتْلِهِ طُوجَ بِسِتِّينَ سَنَةً وَحَاصَرَهُ بِطَبَرِسْتَانَ، ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَجْعَلَا حَدَّ مَا بَيْنَ مُلْكَيْهِمَا مُنْتَهَى رَمْيَةِ سَهْمِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ مِنُوجِهْرَ اسْمُهُ إِيرِشَى، وَكَانَ رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ، فَرَمَى سَهْمًا مِنْ طَبَرِسْتَانَ فَوَقَعَ بِنَهْرِ بَلْخَ، وَصَارَ النَّهْرُ حَدَّ مَا بَيْنَ التُّرْكِ وَلَدِ طُوجَ وَعَمَلِ مِنُوجِهْرَ. قُلْتُ: وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ مَا يَتَدَاوَلُهُ الْفُرْسُ فِي أَكَاذِيبِهِمْ، أَنَّ رَمْيَةَ سَهْمٍ تَبْلُغُ هَذَا كُلَّهُ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ مِنُوجِهْرَ اشْتَقَّ مِنَ الْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ وَنَهْرِ بَلْخَ أَنْهَارًا عِظَامًا وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: إِنَّ التُّرْكَ تَنَاوَلَتْ مِنْ أَطْرَافِ رَعِيَّتِهِ بَعْدَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً مِنْ مُلْكِهِ، فَوَبَّخَ قَوْمَهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ لَمْ تَلِدُوا النَّاسَ كُلَّهُمْ وَإِنَّمَا النَّاسُ نَاسٌ مَا عَقَلُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَدَفَعُوا الْعَدُوَّ عَنْهُمْ، وَقَدْ نَالَتِ التُّرْكُ مِنْ أَطْرَافِكُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِتَرْكِكُمْ

جِهَادَ عَدُوِّكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ أَعْطَانَا هَذَا الْمُلْكَ لِيَبْلُوَنَا أَنَشْكُرُ أَمْ نَكْفُرُ فَيُعَاقِبُنَا، فَإِذَا كَانَ غَدٌ فَاحْضُرُوا. فَحَضَرَ النَّاسُ وَالْأَشْرَافُ، فَقَامَ عَلَى قَدَمَيْهِ، فَقَامَ لَهُ النَّاسُ، فَقَالَ: اقْعُدُوا، إِنَّمَا قُمْتُ لِأَسْمَعَكُمْ. فَجَلَسُوا. فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا الْخَلْقُ لِلْخَالِقِ وَالشُّكْرُ لِلْمُنْعِمِ، وَالتَّسْلِيمُ لِلْقَادِرِ، وَلَا بُدَّ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ، وَإِنَّهُ لَا أَضْعَفَ مِنْ مَخْلُوقٍ طَالِبًا كَانَ أَوْ مَطْلُوبًا، وَلَا أَقْوَى مِنْ خَالِقٍ وَلَا أَقْدَرَ مِمَّنْ طِلْبَتُهُ فِي يَدِهِ، وَلَا أَعْجَزَ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِ طَالِبِهِ، وَإِنَّ التَّفَكُّرَ نُورٌ، وَالْغَفْلَةَ ظُلْمَةٌ، فَالضَّلَالَةُ جَهَالَةٌ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَوَّلُ وَلَا بُدَّ لِلْآخَرِ مِنَ اللَّحَاقِ بِالْأَوَّلِ. إِنَّ اللَّهَ أَعْطَانَا هَذَا الْمُلْكَ فَلَهُ الْحَمْدُ وَنَسْأَلُهُ إِلْهَامَ الرُّشْدِ، وَالصِّدْقَ وَالْيَقِينَ، وَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِلْمَلِكِ عَلَى أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ حَقٌّ وَلِأَهْلِ مَمْلَكَتِهِ عَلَيْهِ حَقٌّ، فَحَقُّ الْمَلِكِ عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَيُنَاصِحُوهُ، وَيُقَاتِلُوا عَدُوَّهُ، وَحَقُّهُمْ عَلَى الْمَلِكِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ فِي أَوْقَاتِهَا إِذْ لَا مُعَوَّلَ لَهُمْ إِلَّا عَلَيْهَا، وَإِنَّهُ خَازِنُهُمْ، وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْمَلِكِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِمْ وَيَرْفُقَ بِهِمْ وَلَا يَحْمِلَهُمْ عَلَى مَا لَا يُطِيقُونَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ تَنْقُصُ مِنْ ثِمَارِهِمْ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُمْ خَرَاجَ مَا نَقَصَ، وَإِنِ اجْتَاحَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أَنْ يُعَوِّضَهُمْ مَا يُقَوِّيهِمْ عَلَى عِمَارَتِهِمْ، ثُمَّ يَأْخُذَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْرَ مَا لَا يُجْحِفُ بِهِمْ فِي سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ. أَلَا وَإِنَّ الْمَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: أَنْ يَكُونَ صَدُوقًا لَا يَكْذِبُ، وَأَنْ يَكُونَ سَخِيًّا لَا يَبْخَلُ، وَأَنْ يَمْلِكَ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ فَإِنَّهُ مُسَلَّطٌ وَيَدُهُ مَبْسُوطَةٌ، وَالْخَرَاجُ يَأْتِيهِ، فَلَا يَسْتَأْثِرُ عَنْ جُنْدِهِ وَرَعِيَّتِهِ بِمَا هُمْ أَهْلٌ لَهُ، وَأَنْ يُكْثِرَ الْعَفْوَ فَإِنَّهُ لَا مَلِكَ أَقْوَى وَلَا أَبْقَى مِنْ مَلِكِ الْعَفْوِ، فَإِنَّ الْمَلِكَ إِنْ يُخْطِئْ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ. أَلَا وَإِنَّ التُّرْكَ قَدْ طَمِعَتْ فِيكُمْ فَاكْفُونَا، فَإِنَّمَا تَكْفُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَقَدْ أَمَرْتُ لَكُمْ بِالسِّلَاحِ وَالْعُدَّةِ وَأَنَا شَرِيكُكُمْ فِي الرَّأْيِ، وَإِنَّمَا لِي مِنْ هَذَا الْمُلْكِ اسْمُهُ مَعَ الطَّاعَةِ مِنْكُمْ. أَلَا وَإِنَّمَا الْمَلِكُ مَلِكٌ إِذَا أُطِيعَ، فَإِنْ خُولِفَ فَهُوَ مَمْلُوكٌ وَلَيْسَ بِمَلِكٍ. أَلَا وَإِنَّ أَكْمَلَ الْأَدَاةِ عِنْدَ الْمُصِيبَاتِ الْأَخْذُ بِالصَّبْرِ، وَالرَّاحَةُ إِلَى الْيَقِينِ، فَمَنْ قُتِلَ فِي مُجَاهَدَةِ الْعَدُوِّ رَجَوْتُ لَهُ بِفَوْزِ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا سَفَرٌ لِأَهْلِهَا لَا يَحِلُّونَ عُقَدَ الرِّحَالِ إِلَّا فِي غَيْرِهَا. وَهِيَ خُطْبَةٌ طَوِيلَةٌ.

ثُمَّ أَمَرَ بِالطَّعَامِ فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، وَخَرَجُوا وَهُمْ لَهُ شَاكِرُونَ مُطِيعُونَ. وَكَانَ مُلْكُهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَزَعَمَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ أَنَّ الرَّايِشَ، وَاسْمُهُ الْحَرْثُ بْنُ قَيْسِ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ سَبَإِ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، وَكَانَ قَدْ مَلَكَ الْيَمَنَ بَعْدَ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، كَانَ مُلْكُهُ بِالْيَمِنِ أَيَّامَ مُلْكِ مِنُوجِهْرَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الرَّايِشَ لِغَنِيمَةٍ غَنِمَهَا فَأَدْخَلَهَا الْيَمَنَ فَسُمِّيَ الرَّايِشَ، ثُمَّ غَزَا الْهِنْدَ فَقَتَلَ بِهَا وَأَسَرَ وَغَنِمَ، وَرَجَعَ إِلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ سَارَ عَلَى جَبَلَيْ طَيِّئٍ، ثُمَّ عَلَى الْأَنْبَارِ، ثُمَّ عَلَى الْمَوْصِلِ وَوَجَّهَ مِنْهَا خَيْلَهُ وَعَلَيْهَا رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ شِمْرُ بْنُ الْعَطَّافِ، فَدَخَلَ عَلَى التُّرْكِ بِأَرْضِ أَذْرَبِيجَانَ فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ وَكَتَبَ مَا كَانَ مِنْ مَسِيرِهِ عَلَى حَجَرَيْنِ، وَهُمَا مَعْرُوفَانِ بِأَذْرَبِيجَانَ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبْرَهَةُ، وَلَقَبُهُ ذُو الْمَنَارِ، وَإِنَّمَا لُقِّبَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ غَزَا بِلَادَ الْمَغْرِبِ، وَوَغَلَ فِيهَا بَرًّا وَبَحْرًا، وَخَافَ عَلَى جَيْشِهِ الضَّلَالَ عِنْدَ قُفُولِهِ فَبَنَى الْمَنَارَ لِيَهْتَدُوا بِهَا. وَقَدْ زَعَمَ أَهْلُ الْيَمِنِ انَّهُ وَجَّهَ ابْنَهُ الْعَبْدَ بْنَ أَبَرْهَةَ فِي غَزَوَاتِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ أَقَاصِي الْمَغْرِبِ فَغَنِمَ، وَقَدِمَ بِسَبْيٍ لَهُ وَحْشَةٌ مُنْكَرَةٌ، فَذُعِرَ النَّاسُ مِنْهُمْ، فَسُمِّيَ ذُو الْأَذْعَارِ، فَأَبْرَهَةُ أَحَدُ مُلُوكِهِمُ الَّذِينَ تَوَغَّلُوا فِي الْبِلَادِ. وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ مَنْ ذَكَرْتُ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ هَهُنَا لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّايِشَ كَانَ أَيَّامَ مِنُوجِهْرَ وَأَنَّ مُلُوكَ الْيَمَنِ كَانُوا عُمَّالًا لِمُلُوكِ فَارِسَ.

قصة موسى عليه السلام ونسبه وما كان في أيامه من الأحداث

[قِصَّةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَسَبُهُ وَمَا كَانَ فِي أَيَّامِهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ] قِيلَ: هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَوُلِدَ لَاوِي لِيَعْقُوبَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ قَاهِثُ لِلَاوِي وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ لِقَاهِثَ يَصْهَرُ، وَوُلِدَ عِمْرَانُ لِيَصْهَرَ وَلَهُ سِتُّونَ سَنَةً، وَكَانَ عُمُرُهُ جَمِيعُهُ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَأُمُّ مُوسَى يُوخَابِدُ. وَاسْمُ امْرَأَتِهِ صَفُورَا بِنْتُ شُعَيْبٍ النَّبِيِّ. وَكَانَ فِرْعَوْنُ مِصْرَ فِي أَيَّامِهِ قَابُوسَ بْنَ مُصْعَبِ بْنِ مُعَاوِيَةَ صَاحِبَ يُوسُفَ الثَّانِي، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الرَّيَّانِ بْنِ الْوَلِيدِ فِرْعَوْنِ يُوسُفَ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: كَانَتْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا نُودِيَ مُوسَى أُعْلِمَ أَنَّ قَابُوسَ فِرْعَوْنَ مِصْرَ مَاتَ وَقَامَ أَخُوهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبٍ مَكَانَهُ، وَكَانَ عُمُرُهُ طَوِيلًا، وَكَانَ أَعْتَى مِنْ قَابُوسَ وَأَفْجَرَ، وَأُمِرَ أَنْ يَأْتِيَهُ هُوَ وَهَارُونُ بِالرِّسَالَةِ. وَيُقَالُ: إِنَّ الْوَلِيدَ تَزَوَّجَ آسِيَةَ بَعْدَ أَخِيهِ، ثُمَّ سَارَ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا مَعَ

هَارُونَ، فَكَانَ مِنْ مَوْلِدِ مُوسَى إِلَى أَنْ أُخْرِجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ ثَمَانُونَ سَنَةً. ثُمَّ سَارَ إِلَى التِّيهِ بَعْدَ أَنْ مَضَى وَعَبَرَ الْبَحَرَ، وَكَانَ مُقَامُهُمْ هُنَالِكَ إِلَى أَنْ خَرَجُوا مَعَ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَكَانَ مَا بَيْنَ مَوْلِدِ مُوسَى إِلَى وَفَاتِهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُ، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَبَضَ يُوسُفَ وَهَلَكَ الْمَلِكُ الَّذِي كَانَ مَعَهُ وَتَوَارَثَتِ الْفَرَاعِنَةُ مُلْكَ مِصْرَ وَنَشَرَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَحْتَ يَدِ الْفَرَاعِنَةِ وَهُمْ عَلَى بَقَايَا مِنْ دِينِهِمْ مِمَّا كَانَ يُوسُفُ، وَيَعْقُوبُ، وَإِسْحَاقُ، وَإِبْرَاهِيمُ شَرَعُوا فِيهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ حَتَّى كَانَ فِرْعَوْنُ مُوسَى، وَكَانَ أَعْتَاهُمْ عَلَى اللَّهِ وَأَعْظَمَهُمْ قَوْلًا وَأَطْوَلَهُمْ عُمُرًا، وَاسْمُهُ فِيمَا ذُكِرَ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبٍ، وَكَانَ سَيِّئَ الْمَلَكَةِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ يُعَذِّبُهُمْ وَيَجْعَلُهُمْ خَوَلًا وَيَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ. فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَسْتَنْقِذَهُمْ بَلَغَ مُوسَى الْأَشُدَّ وَأُعْطِيَ الرِّسَالَةَ، وَكَانَ شَأْنُ فِرْعَوْنَ قَبْلَ وِلَادَةِ مُوسَى أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ نَارًا أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى اشْتَمَلَتْ عَلَى بُيُوتِ مِصْرَ فَأَحْرَقَتِ الْقِبْطَ وَتَرَكَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَخْرَبَتْ بُيُوتَ مِصْرَ، فَدَعَا السَّحَرَةَ، وَالْحُزَاةَ، وَالْكَهَنَةَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ رُؤْيَاهُ، فَقَالُوا: يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ، يَعْنُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، الَّذِي جَاءَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْهُ، رَجُلٌ يَكُونُ عَلَى وَجْهِهِ هَلَاكُ مِصْرَ، فَأَمَرَ أَنْ لَا يُولَدَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَوْلُودٌ إِلَّا ذُبِحَ وَيُتْرَكَ الْجَوَارِي. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا تَقَارَبَ زَمَانُ مُوسَى أَتَى مُنَجِّمُو فِرْعَوْنَ وَحُزَاتُهُ إِلَيْهِ فَقَالُوا: اعْلَمْ أَنَّا نَجِدُ فِي عِلْمِنَا أَنَّ مَوْلُودًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُهُ الَّذِي يُولَدُ فِيهِ يَسْلُبُكَ مُلْكَكَ وَيَغْلِبُكَ عَلَى سُلْطَانِكَ، وَيُبَدِّلُ دِينَكَ. فَأَمَرَ بِقَتْلِ كُلِّ مَوْلُودٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ: بَلْ تَذَاكَرَ فِرْعَوْنُ وَجُلَسَاؤُهُ مَعًا مَا وَعَدَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانُوا يَظُنُّونَهُ يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ، فَلَمَّا هَلَكَ قَالُوا: لَيْسَ هَكَذَا وَعْدُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ فِرْعَوْنُ: كَيْفَ

تَرَوْنَ؟ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَبْعَثَ رِجَالًا يَقْتُلُونَ كُلَّ مَوْلُودٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ لِلْقِبْطِ: انْظُرُوا مَمَالِيكَكُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ خَارِجًا فَأَدْخِلُوهُمْ وَاجْعَلُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ يَلُونَ ذَلِكَ، فَجَعَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَعْمَالِ غِلْمَانِهِمْ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} [القصص: 4] ، فَجَعَلَ لَا يُولَدُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَوْلُودٌ إِلَّا ذُبِحَ وَكَانَ يَأْمُرُ بِتَعْذِيبِ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ، فَكَانَ يَشُقُّ الْقَصَبَ وَيُوقِفُ الْمَرْأَةَ عَلَيْهِ فَيَقْطَعُ أَقْدَامَهُنَّ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَضَعُ فَتَتَّقِي بِوَلَدِهَا الْقَصَبَ، وَقَذَفَ اللَّهُ الْمَوْتَ فِي مَشْيَخَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَخَلَ رُءُوسُ الْقِبْطِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَكَلَّمُوهُ، وَقَالُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ وَقَعَ فِيهِمُ الْمَوْتُ فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ الْعَمَلُ عَلَى غِلْمَانِنَا، تَذْبَحُ الصِّغَارَ وَتُفْنِي الْكِبَارَ، فَلَوْ أَنَّكَ كَتَبْتَ تُبْقِي مِنْ أَوْلَادِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا سَنَةً وَيَتْرُكُوا سَنَةً، فَلَمَّا كَانَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ الَّتِي تَرَكُوا فِيهَا وُلِدَ هَارُونُ، وَوُلِدَ مُوسَى فِي السَّنَةِ الَّتِي يَقْتُلُونَ فِيهَا، وَهِيَ السَّنَةُ الْمُقْبِلَةُ. فَلَمَّا أَرَادَتْ أُمُّهُ وَضْعَهُ حَزِنَتْ مِنْ شَأْنِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا، أَيْ أَلْهَمَهَا: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص: 7]- وَهُوَ النِّيلُ - {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] . فَلَمَّا وَضَعَتْهُ أَرْضَعَتْهُ ثُمَّ دَعَتْ نَجَّارًا فَجَعَلَ لَهُ تَابُوتًا، وَجَعَلَ مِفْتَاحَ التَّابُوتِ مِنْ دَاخِلٍ وَجَعَلَتْهُ فِيهِ وَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ، فَلَمَّا تَوَارَى عَنْهَا أَتَاهَا إِبْلِيسُ، فَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا: مَا الَّذِي صَنَعْتُ بِنَفْسِي! لَوْ ذُبِحَ عِنْدِي فَوَارَيْتُهُ وَكَفَّنْتُهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُلْقِيَهُ بِيَدِي إِلَى حِيتَانِ الْبَحْرِ وَدَوَابِّهِ. فَلَمَّا أَلْقَتْهُ قَالَتْ لِأُخْتِهِ - وَاسْمُهَا مَرْيَمُ - قُصِّيهِ - يَعْنِي قُصِّي أَثَرَهُ - {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص: 11] أَنَّهَا أُخْتُهُ، فَأَقْبَلَ الْمَوْجُ بِالتَّابُوتِ يَرْفَعُهُ مَرَّةً وَيَخْفِضُهُ أُخْرَى حَتَّى أَدْخَلَهُ بَيْنَ أَشْجَارٍ عِنْدَ دُورِ فِرْعَوْنَ، فَخَرَجَ جَوَارِي آسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يَغْتَسِلْنَ فَوَجَدْنَ التَّابُوتَ فَأَدْخَلْنَهُ إِلَى آسِيَةَ، وَظَنَنَّ أَنَّ فِيهِ مَالًا، فَلَمَّا فُتِحَ وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ آسِيَةُ وَقَعَتْ عَلَيْهَا رَحْمَتُهُ وَأَحَبَّتْهُ، فَلَمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ فِرْعَوْنَ، وَأَتَتْهُ بِهِ قَالَتْ: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ} [القصص: 9] . فَقَالَ فِرْعَوْنُ: يَكُونُ لَكِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ.

قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوْ أَقَرَّ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُرَّةَ عَيْنٍ كَمَا أَقَرَّتْ لَهَدَاهُ اللَّهُ كَمَا هَدَاهَا» . وَأَرَادَ أَنْ يَذْبَحَهُ فَلَمْ تَزَلْ آسِيَةُ تُكَلِّمُهُ حَتَّى تَرَكَهُ لَهَا وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي عَلَى يَدَيْهِ هَلَاكُنَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] . وَأَرَادُوا لَهُ الْمُرْضِعَاتِ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ} [القصص: 12]- أُخْتُهُ مَرْيَمُ - {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12] . فَأَخَذُوهَا، وَقَالُوا: مَا يُدْرِيكِ مَا نُصْحُهُمْ لَهُ؟ هَلْ يَعْرِفُونَهُ؟ حَتَّى شَكُّوا فِي ذَلِكَ. فَقَالَتْ: نُصْحُهُمْ لَهُ، وَشَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ، وَرَغْبَتُهُمْ فِي قَضَاءِ حَاجَةِ الْمَلِكِ، وَرَجَاءُ مَنْفَعَتِهِ. فَانْطَلَقَتْ إِلَى أُمِّهِ فَأَخْبَرَتْهَا الْخَبَرَ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ، فَلَمَّا أَعْطَتْهُ ثَدْيَهَا أَخَذَهُ مِنْهَا، فَكَادَتْ تَقُولُ: هَذَا ابْنِي، فَعَصَمَهَا اللَّهُ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ مُوسَى لِأَنَّهُ وُجِدَ فِي مَاءٍ وَشَجَرٍ، وَالْمَاءُ بِالْقِبْطِيَّةِ مو، وَالشَّجَرُ سا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [القصص: 13] . وَكَانَ غَيْبَتُهُ عَنْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَخَذَتْهُ مَعَهَا إِلَى بَيْتِهَا، وَاتَّخَذَهُ فِرْعَوْنُ وَلَدًا فَدُعِيَ ابْنَ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا تَحَرَّكَ الْغُلَامُ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ إِلَى آسِيَةَ، فَأَخَذَتْهُ تُرَقِّصُهُ وَتَلْعَبُ بِهِ وَنَاوَلَتْهُ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا أَخَذَهُ إِلَيْهِ أَخَذَ الْغُلَامُ بِلِحْيَتِهِ فَنَتَفَهَا، قَالَ فِرْعَوْنُ: عَلَيَّ بِالذَّبَّاحِينَ يَذْبَحُونَهُ، هُوَ هَذَا! قَالَتْ آسِيَةُ: {لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص: 9] ، إِنَّمَا هُوَ صَبِيٌّ لَا يَعْقِلُ وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا مِنْ جَهْلٍ، وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مِصْرَ امْرَأَةٌ أَكْثَرَ حُلِيًّا مِنِّي، أَنَا أَضَعُ لَهُ حُلِيًّا مِنْ يَاقُوتٍ وَجَمْرًا فَإِنْ أَخَذَ الْيَاقُوتَةَ فَهُوَ يَعْقِلُ فَاذْبَحْهُ وَإِنَّ أَخَذَ الْجَمْرَ فَإِنَّمَا هُوَ صَبِيٌّ، فَأَخْرَجَتْ لَهُ يَاقُوتَهَا وَوَضَعَتْ لَهُ طَشْتًا مِنْ جَمْرٍ فَجَاءَ جِبْرِيلُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَمْرَةٍ فَأَخَذَهَا فَطَرَحَهَا مُوسَى فِي فَمِهِ، فَأَحْرَقَتْ لِسَانَهُ، فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27] . فَدَرَأَتْ عَنْ مُوسَى الْقَتْلَ. وَكَبِرَ مُوسَى، وَكَانَ يَرْكَبُ مَرْكَبَ فِرْعَوْنَ وَيَلْبَسُ مَا يَلْبَسُ، وَإِنَّمَا يُدْعَى مُوسَى بْنَ

فِرْعَوْنَ، وَامْتَنَعَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَبْقَ قِبْطِيٌّ يَظْلِمُ إِسْرَائِيلِيًّا خَوْفًا مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ فِرْعَوْنَ رَكِبَ مَرْكِبًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ مُوسَى فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى قِيلَ لَهُ: فِرْعَوْنُ قَدْ رَكِبَ، فَرَكِبَ مُوسَى فِي أَثَرِهِ فَأَدْرَكَهُ الْمَقِيلُ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا مَنْفُ - وَهَذِهِ مَنْفُ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ) - مِصْرُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي هِيَ مِصْرُ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ، وَهِيَ الْآنُ قَرْيَةٌ كَبِيرَةٌ، فَدَخَلَ نِصْفُ النَّهَارِ، وَقَدْ أَغْلَقَتْ أَسْوَاقَهَا، {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} [القصص: 15] يَقُولُ هَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ قِيلَ إِنَّهُ السَّامِرِيُّ {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] يَقُولُ مِنَ الْقِبْطِ {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] ، فَغَضِبَ مُوسَى لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْزِلَةَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَحِفْظَهُ لَهُمْ، وَكَانَ قَدْ حَمَاهُمْ مِنَ الْقِبْطِ، وَكَانَ النَّاسُ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْهُمْ بَلْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ. فَلَمَّا اشْتَدَّ غَضَبُهُ وَكَزَهُ فَقَضَى عَلَيْهِ، قَالَ: إِنَّ {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ - قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 15 - 16] ، أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى: وَعِزَّتِي لَوْ أَنَّ النَّفْسَ الَّتِي قَتَلْتَ أَقَرَّتْ لِي سَاعَةً وَاحِدَةً أَنِّي خَالِقٌ رَازِقٌ لَأَذَقْتُكَ الْعَذَابَ. {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17] . فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ أَنْ يُؤْخَذَ، {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} [القصص: 18]- يَقُولُ يَسْتَعِينُهُ - {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18] . ثُمَّ أَقْبَلَ لِيَنْصُرَهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى مُوسَى وَقَدْ أَقْبَلَ نَحْوَهُ لِيَبْطِشَ بِالرَّجُلِ الَّذِي يُقَاتِلُ الْإِسْرَائِيلِيَّ خَافَ أَنْ يَقْتُلَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَغْلَظَ لَهُ فِي الْكَلَامِ قَالَ: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: 19] . فَتَرَكَ الْقِبْطِيَّ، فَذَهَبَ فَأَفْشَى عَلَيْهِ أَنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي قَتَلَ الرَّجُلَ، فَطَلَبَهُ فِرْعَوْنُ، وَقَالَ: خُذُوهُ فَإِنَّهُ صَاحِبُنَا. فَجَاءَ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ، وَقَالَ لَهُ: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} [القصص: 20] . قِيلَ: كَانَ حِزْقِيلَ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ، كَانَ عَلَى بَقِيَّةٍ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِمُوسَى. فَلَمَّا أَخْبَرَهُ خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ {خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21] . وَأَخَذَ فِي ثَنَيَاتِ الطَّرِيقِ، فَجَاءَهُ مَلَكٌ عَلَى فَرَسٍ

وَفِي يَدِهِ عَنَزَةٌ، وَهِيَ الْحَرْبَةُ الصَّغِيرَةُ، فَلَمَّا رَآهُ مُوسَى سَجَدَ لَهُ مِنَ الْفَرَقِ. فَقَالَ لَهُ: لَا تَسْجُدْ لِي وَلَكِنِ اتَّبِعْنِي، فَهَدَاهُ نَحْوَ مَدْيَنَ. وَقَالَ مُوسَى وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهَا: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22] . فَانْطَلَقَ بِهِ الْمَلَكُ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى مَدْيَنَ، فَكَانَ قَدْ سَارَ وَلَيْسَ مَعَهُ طَعَامٌ، وَكَانَ يَأْكُلُ وَرَقَ الشَّجَرِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الْمَشْيِ، فَمَا بَلَغَ مَدْيَنَ حَتَّى سَقَطَ خُفُّ قَدَمِهِ. {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ} [القصص: 23]- قَصَدَ الْمَاءَ - {مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص: 23] ، أَيْ تَحْبِسَانِ غَنَمَهُمَا، وَهُمَا ابْنَتَا شُعَيْبٍ النَّبِيِّ، وَقِيلَ: ابْنَتَا يَثْرُونَ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي شُعَيْبٍ، فَلَمَّا رَآهُمَا مُوسَى سَأَلَهُمَا: {مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23] . فَرَحِمَهُمَا مُوسَى فَأَتَى الْبِئْرَ فَاقْتَلَعَ صَخْرَةً عَلَيْهَا كَانَ النَّفَرُ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَرْفَعُوهَا فَسَقَى لَهُمَا غَنَمَهُمَا، فَرَجَعَتَا سَرِيعًا، وَكَانَتَا إِنَّمَا تَسْقِيَانِ مِنْ فُضُولِ الْحِيَاضِ. وَقَصَدَ مُوسَى شَجَرَةً هُنَاكَ لِيَسْتَظِلَّ بِهَا فَقَالَ: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ قَالَ مُوسَى ذَلِكَ وَلَوْ شَاءَ إِنْسَانٌ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى خُضْرَةِ أَمْعَائِهِ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ لَفَعَلَ وَمَا سَأَلَ إِلَّا أَكْلَةً. فَلَمَّا رَجَعَ الْجَارِيَتَانِ إِلَى أَبِيهِمَا سَرِيعًا سَأَلَهُمَا فَأَخْبَرَتَاهُ، فَأَعَادَ إِحْدَاهُمَا إِلَى مُوسَى تَسْتَدْعِيهِ، فَأَتَتْهُ، وَقَالَتْ لَهُ: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25] . فَقَامَ مَعَهَا، فَمَشَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَضَرَبَتِ الرِّيحُ ثَوْبَهَا فَحَكَى عَجِيزَتَهَا، فَقَالَ لَهَا: امْشِي خَلْفِي وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيقِ، فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَنْظُرُ فِي أَعْقَابِ النِّسَاءِ. فَلَمَّا أَتَاهُ {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25] . قَالَتْ إِحْدَاهُمَا، وَهِيَ الَّتِي أَحْضَرَتْهُ: {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] . قَالَ لَهَا أَبُوهَا: الْقُوَّةُ قَدْ رَأَيْتِهَا فَمَا يُدْرِيكِ بِأَمَانَتِهِ؟ فَذَكَرَتْ لَهُ مَا أَمَرَهَا بِهِ مِنَ الْمَشْيِ خَلْفَهُ. فَقَالَ لَهُ أَبُوهَا: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} [القصص: 27]- نَفْسَكَ - {ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27] . فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28] . فَأَقَامَ عِنْدَهُ

يَوْمَهُ، فَلَمَّا أَمْسَى أَحْضَرَ شُعَيْبٌ الْعَشَاءَ، فَامْتَنَعَ مُوسَى مِنَ الْأَكْلِ، فَقَالَ: وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ لَا نَأْخُذُ عَلَى الْيَسِيرِ مِنْ عَمَلِ الْآخِرَةِ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا. فَقَالَ شُعَيْبٌ: لَيْسَ لِذَلِكَ أَطْعَمْتُكَ إِنَّمَا هَذِهِ عَادَتِي وَعَادَةُ آبَائِي، فَأَكَلَ، وَازْدَادَتْ رَغْبَةُ شُعَيْبٍ فِي مُوسَى فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ الَّتِي أَحْضَرَتْهُ، وَاسْمُهَا صَفُورَا، وَأَمَرَهَا أَنْ تَأْتِيَهُ بِعَصًا، وَكَانَتْ تِلْكَ الْعَصَا قَدِ اسْتَوْدَعَهَا إِيَّاهُ مَلَكٌ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، فَدَفَعَتْهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهَا أَبُوهَا أَمَرَهَا بِرَدِّهَا، وَالْإِتْيَانِ بِغَيْرِهَا، فَأَلْقَتْهَا وَأَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ غَيْرَهَا، فَلَمْ تَقَعْ بِيَدِهَا سِوَاهَا، وَجَعَلَ يَرْدُدُهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ بِيَدِهَا غَيْرُهَا، فَأَخَذَهَا مُوسَى لِيَرْعَى بِهَا فَنَدِمَ أَبُوهَا حَيْثُ أَخَذَهَا وَخَرَجَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهَا مِنْهُ حَيْثُ هِيَ وَدِيعَةٌ، فَلَمَّا رَآهُ مُوسَى يُرِيدُ أَخْذَهَا مِنْهُ مَانَعَهُ، فَحَكَّمَا أَوَّلَ رَجُلٍ يَلْقَاهُمَا، فَأَتَاهُمَا مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَقَضَى بَيْنَهُمَا أَنْ يَضَعَهَا مُوسَى فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ حَمَلَهَا فَهِيَ لَهُ، فَأَلْقَاهَا مُوسَى فَلَمْ يُطِقْ أَبُوهَا حَمْلَهَا وَأَخَذَهَا مُوسَى بِيَدِهِ فَتَرَكَهَا لَهُ، وَكَانَتْ مِنْ عَوْسَجٍ لَهَا شُعْبَتَانِ وَفِي رَأْسِهَا مِحْجَنٌ. وَقِيلَ: كَانَتْ مِنْ آسِ الْجَنَّةِ، حَمَلَهَا آدَمُ مَعَهُ. وَقِيلَ فِي أَخْذِهَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَقَامَ مُوسَى عِنْدَ شُعَيْبٍ يَرْعَى لَهُ غَنَمَهُ عَشْرَ سِنِينَ، وَسَارَ بِأَهْلِهِ فِي زَمَنِ شِتَاءٍ وَبَرْدٍ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَرَادَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِمُوسَى كَرَامَتَهُ، وَابْتِدَاءَهُ فِيهَا بِنُبُوَّتِهِ، وَكَلَامِهِ أَخْطَأَ فِيهَا الطَّرِيقَ حَتَّى لَا يَدْرِيَ أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ حَامِلًا، فَأَخَذَهَا الطَّلْقُ فِي لَيْلَةٍ شَاتِيَةٍ ذَاتِ مَطَرٍ، وَرَعْدٍ، وَبَرْقٍ، فَأَخْرَجَ زَنْدَهُ لِيَقْدَحَ نَارًا لِأَهْلِهِ لِيَصْطَلُوا وَيَبِيتُوا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَعْلَمَ وَجْهَ طَرِيقِهِ، فَأَصْلَدَ زَنْدَهُ فَقَدَحَ حَتَّى أَعْيَا، فَرُفِعَتْ لَهُ نَارٌ، فَلَمَّا رَآهَا ظَنَّ أَنَّهَا نَارٌ، وَكَانَتْ مِنْ نُورِ اللَّهِ، فَـ {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [القصص: 29] ، فَإِنْ لَمْ أَجِدْ خَبَرًا {آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل: 7] . فَحِينَ قَصَدَهَا رَآهَا نُورًا مُمْتَدًّا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى شَجَرَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْعَوْسَجِ، وَقِيلَ مِنَ الْعُنَّابِ، فَتَحَيَّرَ مُوسَى وَخَافَ حِينَ رَأَى نَارًا عَظِيمَةً بِغَيْرِ دُخَانٍ وَهِيَ تَلْتَهِبُ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ لَا تَزْدَادُ النَّارُ إِلَّا عِظَمًا، وَلَا تَزْدَادُ الشَّجَرَةُ إِلَّا خُضْرَةً، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا اسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ، فَفَزِعَ وَرَجَعَ، فَنُودِيَ مِنْهَا، فَلَمَّا سَمِعَ الصَّوْتَ اسْتَأْنَسَ فَعَادَ، {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص: 30] .

{أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا - يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 8 - 30] ، فَلَمَّا سَمِعَ النِّدَاءَ وَرَأَى تِلْكَ الْهَيْبَةَ عَلِمَ أَنَّهُ رَبُّهُ تَعَالَى، فَخَفَقَ قَلْبُهُ وَكَلَّ لِسَانُهُ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، وَصَارَ حَيًّا كَمَيِّتٍ إِلَّا أَنَّ الرُّوحَ يَتَرَدَّدُ فِيهِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا يَشُدُّ قَلْبَهُ، فَلَمَّا ثَابَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ نُودِيَ: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12] ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ لِأَنَّهُمَا كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ، وَقِيلَ: لِيَنَالَ قَدَمُهُ الْأَرْضَ الْمُبَارَكَةَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ تَسْكِينًا لِقَلْبِهِ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى - قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه: 17 - 18] ، يَقُولُ: أَضْرِبُ الشَّجَرَ فَيَسْقُطُ وَرَقُهُ لِلْغَنَمِ، {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18] أَحْمِلُ عَلَيْهَا الْمِزْوَدَ وَالسِّقَاءَ. وَكَانَتْ تُضِيءُ لِمُوسَى فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ، وَكَانَتْ إِذَا أَعْوَزَهُ الْمَاءُ أَدْلَاهَا فِي الْبِئْرِ فَيَنَالُ الْمَاءَ وَيَصِيرُ فِي رَأْسِهَا شِبْهُ الدَّلْوِ، وَكَانَ إِذَا اشْتَهَى فَاكِهَةً غَرَسَهَا فِي الْأَرْضِ فَنَبَتَتْ لَهَا أَغْصَانٌ تَحْمِلُ الْفَاكِهَةَ لِوَقْتِهَا. قَالَ لَهُ: أَلْقِهَا يَا مُوسَى. فَأَلْقَاهَا مُوسَى، فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى عَظِيمَةُ الْجُثَّةِ فِي خِفَّةِ حَرَكَةِ الْجَانِّ، فَلَمَّا رَآهَا مُوسَى {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل: 10] ، فَنُودِيَ: {يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10] ، أَقْبِلْ (وَلَا تَخَفْ {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه: 21] عَصًا، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِإِلْقَاءِ الْعَصَا حَتَّى إِذَا أَلْقَاهَا عِنْدَ فِرْعَوْنَ لَا يَخَافُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ: خُذْهَا وَلَا تَخَفْ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي فِيهَا. وَكَانَ عَلَى مُوسَى جُبَّةُ صُوفٍ، فَلَفَّ يَدَهُ بِكُمِّهِ وَهُوَ لَهَا هَائِبٌ، فَنُودِيَ أَلْقِ كُمَّكَ عَنْ يَدِكَ، فَأَلْقَاهُ، وَأَدْخَلَ يَدَهُ بَيْنَ لَحْيَيْهَا، فَلَمَّا أَدْخَلَ يَدَهُ عَادَتْ عَصًا كَمَا كَانَتْ لَا يُنْكِرُ مِنْهَا شَيْئًا. ثُمَّ قَالَ لَهُ: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: 12] ، يَعْنِي بَرَصًا، فَأَدْخَلَهَا وَأَخْرَجَهَا بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ مِثْلَ الثَّلْجِ لَهَا نُورٌ، ثُمَّ رَدَّهَا فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ. فَقِيلَ لَهُ: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ - قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ - وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص: 32 - 34] ، أَيْ يُبَيِّنُ لَهُمْ عَنِّي مَا أُكَلِّمُهُمْ بِهِ، فَإِنَّهُ يَفْهَمُ عَنِّي مَا لَا يَفْهَمُونَ.

{قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35] . فَأَقْبَلَ مُوسَى إِلَى أَهْلِهِ فَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ مِصْرَ حَتَّى أَتَاهَا لَيْلًا، فَتَضَيَّفَ عَلَى أُمِّهِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُمْ وَلَا يَعْرِفُونَهُ، فَجَاءَ هَارُونُ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ ضَيْفٌ، فَدَعَاهُ فَأَكَلَ مَعَهُ، وَسَأَلَهُ هَارُونُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى. فَاعْتَنَقَا. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَرَكَ مُوسَى سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ قَالَ: أَجِبْ رَبَّكَ فِيمَا كَلَّمَكَ. فَقَالَ: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25] الْآيَاتِ. فَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُهُ مَكَانَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا فَعَلَ حَتَّى مَرَّ رَاعٍ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ فَعَرَفَهُمْ فَاحْتَمَلَهُمْ إِلَى مَدْيَنَ، فَكَانُوا عِنْدَ شُعَيْبٍ حَتَّى بَلَغَهُمْ خَبَرُ مُوسَى بَعْدَمَا فَلَقَ الْبَحْرَ، فَسَارُوا إِلَيْهِ. وَأَمَّا مُوسَى فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى مِصْرَ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَارُونَ يُعْلِمُهُ بِقُفُولِ مُوسَى وَيَأْمُرُهُ بِتَلَقِّيهِ، فَخَرَجَ مِنْ مِصْرَ فَالْتَقَى بِهِ، قَالَ مُوسَى: يَا هَارُونُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَرْسَلَنَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَانْطَلِقْ مَعِي إِلَيْهِ. قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً، فَلَمَّا جَاءَ إِلَى بَيْتِ هَارُونَ وَأَظْهَرَ أَنَّهُمَا يَنْطَلِقَانِ إِلَى فِرْعَوْنَ سَمِعَتْ ذَلِكَ ابْنَةُ هَارُونَ فَصَاحَتْ أُمُّهُمَا فَقَالَتْ: أُنْشِدُكُمَا اللَّهَ أَنْ لَا تَذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَيَقْتُلَكُمَا جَمِيعًا! فَأَبَيَا فَانْطَلَقَا إِلَيْهِ لَيْلًا، فَضَرَبَا بَابَهُ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ لِبَوَّابِهِ: مَنْ هَذَا الَّذِي يَضْرِبُ بَابِي هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْا الْبَوَّابُ فَكَلَّمَهُمَا، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: إِنَّا رَسُولَا رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأَخْبَرَ فِرْعَوْنَ، فَأُدْخِلَا إِلَيْهِ. وَقِيلَ إِنَّ مُوسَى وَهَارُونَ مَكَثَا سَنَتَيْنِ يَغْدُوَانِ إِلَى بَابِ فِرْعَوْنَ وَيَرُوحَانِ يَلْتَمِسَانِ الدُّخُولَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ يُخْبِرُهُ بِشَأْنِهِمَا، حَتَّى أَخْبَرَهُ مَسْخَرَةٌ كَانَ يُضْحِكُهُ بِقَوْلِهِ، فَأَمَرَ حِينَئِذٍ فِرْعَوْنُ بِإِدْخَالِهِمَا. فَلَمَّا دَخَلَا قَالَ لَهُ مُوسَى: {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 104] . فَعَرَفَهُ فِرْعَوْنُ، فَقَالَ لَهُ: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ - وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ - قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ - فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} [الشعراء: 18 - 21]- يَعْنِي النُّبُوَّةَ - {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 21] . فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ - فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 106 - 107]

قَدْ فَتَحَ فَاهُ فَوَضَعَ اللَّحْيَ الْأَسْفَلَ فِي الْأَرْضِ وَالْأَعْلَى عَلَى الْقَصْرِ وَتَوَجَّهَ نَحْوَ فِرْعَوْنَ لِيَأْخُذَهُ، فَخَافَهُ فِرْعَوْنُ وَوَثَبَ فَزِعًا فَأَحْدَثَ فِي ثِيَابِهِ، ثُمَّ بَقِيَ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا يَجِيءُ بَطْنُهُ حَتَّى كَادَ يَهْلِكُ، وَنَاشَدَهُ فِرْعَوْنُ بِرَبِّهِ تَعَالَى أَنْ يَرُدَّ الثُّعْبَانَ، فَأَخَذَهُ مُوسَى فَعَادَ عَصًا. ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ وَأَخْرَجَهَا بَيْضَاءَ كَالثَّلْجِ لَهَا نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، ثُمَّ رَدَّهَا فَعَادَتْ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ لَوْنِهَا، ثُمَّ أَخْرَجَهَا الثَّانِيَةَ لَهَا نُورٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ تَكِلُّ مِنْهُ الْأَبْصَارُ قَدْ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا يَدْخُلُ نُورُهَا الْبُيُوتَ وَيُرَى مِنَ الْكُوَى وَمِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ فِرْعَوْنُ النَّظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ رَدَّهَا مُوسَى فِي جَيْبِهِ وَأَخْرَجَهَا فَإِذَا هِيَ عَلَى لَوْنِهَا. وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ أَنْ قُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: هَلْ لَكَ فِي أَنْ أُعْطِيَكَ شَبَابَكَ فَلَا تَهْرَمَ، وَمُلْكَكَ فَلَا يُنْزَعَ، وَأَرُدَّ إِلَيْكَ لَذَّةَ الْمَنَاكِحِ، وَالْمَشَارِبِ، وَالرُّكُوبِ، فَإِذَا مِتَّ دَخَلْتَ الْجَنَّةَ وَتُؤْمِنَ بِي؟ فَقَالَ: لَا حَتَّى يَأْتِيَ هَامَانُ، فَلَمَّا حَضَرَ هَامَانُ عَرَضَ عَلَيْهِ قَوْلَ مُوسَى، فَعَجَّزَهُ، وَقَالَ لَهُ: تَصِيرُ تَعْبُدُ بَعْدَ أَنْ كُنْتَ تُعْبَدُ! ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَنَا أَرُدُّ عَلَيْكَ شَبَابَكَ، فَعَمِلَ لَهُ الْوَسْمَةَ فَخَضَّبَهُ بِهَا، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَضَّبَ بِالسَّوَادِ، فَلَمَّا رَآهُ مُوسَى هَالَهُ ذَلِكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: لَا يَهُولَنَّكَ مَا تَرَى فَلَنْ يَلْبَثَ إِلَّا قَلِيلًا. فَلَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ خَرَجَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 109] . وَأَرَادَ قَتْلَهُ. فَقَالَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَاسْمُهُ خِرْبِيلُ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 28] وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء: 36] . فَفَعَلَ وَجَمَعَ السَّحَرَةَ، فَكَانُوا سَبْعِينَ سَاحِرًا، وَقِيلَ: اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا،

فَوَعَدَهُمْ فِرْعَوْنُ وَاتَّعَدُوا يَوْمَ عِيدٍ كَانَ لِفِرْعَوْنَ، فَصَفَّهُمْ فِرْعَوْنُ وَجَمَعَ النَّاسَ، وَجَاءَ مُوسَى وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ وَبِيَدِهِ عَصَاهُ حَتَّى أَتَى الْجَمْعُ وَفِرْعَوْنُ فِي مَجْلِسِهِ مَعَ أَشْرَافِ قَوْمِهِ، فَقَالَ مُوسَى لِلسَّحَرَةِ حِينَ جَاءَهُمْ: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه: 61] . فَقَالَ السَّحَرَةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا هَذَا بِقَوْلِ سَاحِرٍ! ثُمَّ قَالُوا: لَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ لَمْ تَرَ مِثْلَهُ، {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44] . فَقَالَ لَهُ السَّحَرَةُ: {يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف: 115] . قَالَ: {بَلْ أَلْقُوا} [طه: 66] . {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} [الشعراء: 44] فَإِذَا هِيَ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ حَيَّاتٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ قَدْ مَلَأَتِ الْوَادِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَأَوْجَسَ مُوسَى خَوْفًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا، فَأَلْقَى عَصَاهُ مِنْ يَدِهِ فَصَارَتْ ثُعْبَانًا عَظِيمًا فَاسْتَعْرَضَتْ مَا أَلْقَوْا مِنْ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ، وَهِيَ كَالْحَيَّاتِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، فَجَعَلَتْ تَلْقَفُهَا وَتَبْتَلِعُهَا حَتَّى لَمْ تُبْقِ مِنْهَا شَيْئًا، ثُمَّ أَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ فِي يَدِهِ كَمَا كَانَتْ. وَكَانَ رَئِيسُ السَّحَرَةِ أَعْمَى، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: إِنَّ عَصَا مُوسَى صَارَتْ ثُعْبَانًا عَظِيمًا وَتَلْقَفُ حِبَالَنَا وَعِصِيَّنَا. فَقَالَ لَهُمْ: وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ وَلَا عَادَتْ إِلَى حَالِهَا الْأَوَّلِ؟ فَقَالُوا: لَا. فَقَالَ: هَذَا لَيْسَ بِسِحْرٍ. فَخَرَّ سَاجِدًا وَتَبِعَهُ السَّحَرَةُ أَجْمَعُونَ، وَ {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 121 - 122] قَالَ فِرْعَوْنُ {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] . فَقَطَّعَهُمْ وَقَتَلَهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126] ، فَكَانُوا أَوَّلَ النَّهَارِ كُفَّارًا وَآخِرَ النَّهَارِ شُهَدَاءَ. وَكَانَ خِرْبِيلُ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، قِيلَ: كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقِيلَ:

كَانَ مِنَ الْقِبْطِ، وَقِيلَ: هُوَ النَّجَّارُ الَّذِي صَنَعَ التَّابُوتَ الَّذِي جُعِلَ فِيهِ مُوسَى وَأُلْقِيَ فِي النِّيلِ، فَلَمَّا رَأَى غَلَبَةَ مُوسَى السَّحَرَةَ أَظْهَرَ إِيمَانَهُ، وَقِيلَ: أَظْهَرَ إِيمَانَهُ قَبْلُ فَقُتِلَ وَصُلِبَ مَعَ السَّحَرَةِ، وَكَانَ لَهُ امْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ تَكْتُمُ إِيمَانَهَا أَيْضًا، وَكَانَتْ مَاشِطَةَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، فَبَيْنَمَا هِيَ تُمَشِّطُهَا إِذْ وَقَعَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا، فَقَالَتْ بِسْمِ اللَّهِ. فَقَالَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ قَالَتْ: لَا بَلْ رَبِّي وَرَبُّكِ وَرَبُّ أَبِيكِ. فَأَخْبَرَتْ أَبَاهَا بِذَلِكَ، فَدَعَا بِهَا وَبِوَلَدِهَا، وَقَالَ لَهَا: مَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتْ: رَبِّي وَرَبُّكُ اللَّهُ. فَأَمَرَ بِتَنُّورٍ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَ لِيُعَذِّبَهَا وَأَوْلَادَهَا. فَقَالَتْ: لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَتْ: تَجْمَعُ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فَتَدْفِنُهَا. قَالَ: ذَلِكَ لَكِ، فَأَمَرَ بِأَوْلَادِهَا فَأُلْقُوا فِي التَّنُّورِ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَكَانَ آخِرُ أَوْلَادِهَا صَبِيًّا صَغِيرًا، فَقَالَ: اصْبِرِي يَا أُمَّاهْ، فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ، فَأُلْقِيَتْ فِي التَّنُّورِ مَعَ وَلَدِهَا. وَكَانَتْ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقِيلَ: كَانَتْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَتْ مُؤْمِنَةً تَكْتُمُ إِيمَانَهَا، فَلَمَّا قُتِلَتِ الْمَاشِطَةُ رَأَتْ آسِيَةُ الْمَلَائِكَةَ تَعْرُجُ بِرُوحِهَا، كَشَفَ اللَّهُ عَنْ بَصِيرَتِهَا، وَكَانَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهَا وَهِيَ تُعَذَّبُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَلَائِكَةَ قَوِيَ إِيمَانُهَا وَازْدَادَتْ يَقِينًا وَتَصْدِيقًا لِمُوسَى، فَبَيْنَمَا هِيَ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهَا فِرْعَوْنُ فَأَخْبَرَهَا خَبَرَ الْمَاشِطَةِ. قَالَتْ لَهُ آسِيَةُ: الْوَيْلُ لَكَ! مَا أَجْرَأَكَ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ لَهَا: لَعَلَّكِ اعْتَرَاكِ الْجُنُونُ الَّذِي اعْتَرَى الْمَاشِطَةَ؟ فَقَالَتْ: مَا بِي جُنُونٌ، وَلَكِنِّي آمَنْتُ بِاللَّهِ تَعَالَى رَبِّي وَرَبِّكِ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ. فَدَعَا فِرْعَوْنُ أُمَّهَا، وَقَالَ لَهَا: إِنَّ ابْنَتَكِ قَدْ أَصَابَهَا مَا أَصَابَ الْمَاشِطَةَ فَأُقْسِمُ لَتَذُوقَنَّ الْمَوْتَ أَوْ لَتَكْفُرَنَّ بِإِلَهِ مُوسَى. فَخَلَتْ بِهَا أُمُّهَا، وَأَرَادَتْهَا عَلَى مُوَافَقَةِ فِرْعَوْنَ، فَأَبَتْ وَقَالَتْ: أَمَّا أَنْ أَكْفُرَ بِاللَّهِ فَلَا وَاللَّهِ! فَأَمَرَ فِرْعَوْنُ حَتَّى مُدَّتْ بَيْنَ يَدَيْهِ أَرْبَعَةُ أَوْتَادٍ وَعُذِّبَتْ حَتَّى مَاتَتْ، فَلَمَّا عَايَنَتِ الْمَوْتَ قَالَتْ: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11] . فَكَشَفَ اللَّهُ عَنْ بَصِيرَتِهَا فَرَأَتِ الْمَلَائِكَةَ وَمَا أُعِدَّ لَهَا مِنَ الْكَرَامَةِ، فَضَحِكَتْ فَقَالَ فِرْعَوْنُ: انْظُرُوا إِلَى الْجُنُونِ الَّذِي بِهَا! تَضْحَكُ

وَهِيَ فِي الْعَذَابِ! ثُمَّ مَاتَتْ. وَلَمَّا رَأَى فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ قَدْ دَخَلَهُمُ الرُّعْبُ مِنْ مُوسَى خَافَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَتْرُكُوا عِبَادَتَهُ فَاحْتَالَ لِنَفْسِهِ، وَقَالَ لِوَزِيرِهِ: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا. فَأَمَرَ هَامَانُ بِعَمَلِ الْآجُرِّ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَهُ، وَجَمَعَ الصُّنَّاعَ وَعَمِلَهُ فِي سَبْعِ سِنِينَ، وَارْتَفَعَ الْبُنْيَانُ ارْتِفَاعًا لَمْ يَبْلُغْهُ بُنْيَانٌ آخَرُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مُوسَى وَاسْتَعْظَمَهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ دَعْهُ وَمَا يُرِيدُ فَإِنِّي مُسْتَدْرِجُهُ وَمُبْطِلٌ مَا عَمِلَهُ سَاعَةً وَاحِدَةً. فَلَمَّا تَمَّ بِنَاؤُهُ أَمَرَ اللَّهُ جَبْرَائِيلَ فَخَرَّبَهُ وَأَهْلَكَ كُلَّ مَنْ عَمَلِ فِيهِ مِنْ صَانِعٍ وَمُسْتَعْمَلٍ. فَلَمَّا رَأَى فِرْعَوْنُ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالشِّدَّةِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعَلَى مُوسَى، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَصَارُوا يُكَلِّفُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُونَهُ، وَكَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي شِدَّةٍ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يُطْعِمُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا اسْتَعْمَلُوهُمْ، فَصَارُوا لَا يُطْعِمُونَهُمْ شَيْئًا، فَيَعُودُونَ بِأَسْوَإِ حَالٍ يُرِيدُونَ يَكْسِبُونَ مَا يَقُوتُهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ لَهُمُ: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف: 128] ، {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] ، {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] . فَلَمَّا أَبَى فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ إِلَّا الثَّبَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، تَابَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْآيَاتِ، فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ، وَهُوَ الْمَطَرُ الْمُتَتَابِعُ، فَغَرِقَ كُلُّ شَيْءٍ لَهُمْ. فَقَالُوا: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عَنَّا هَذَا وَنَحْنُ نُؤْمِنْ بِكَ وَنُرْسِلْ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَنَبَتَتْ زُرُوعُهُمْ، فَقَالُوا: مَا يَسُرُّنَا أَنَّا لَمْ نُمْطَرْ. فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ فَأَكَلَ زُرُوعَهُمْ،، فَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَكْشِفَ مَا بِهِمْ وَيُؤْمِنُوا بِهِ، فَدَعَا اللَّهَ فَكَشَفَهُ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا وَقَالُوا: قَدْ بَقِيَ مِنْ زُرُوعِنَا بَقِيَّةٌ. فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّبَا، وَهُوَ الْقُمَّلُ، فَأَهْلَكَ الزُّرُوعَ وَالنَّبَاتَ أَجْمَعَ، وَكَانَ يُهْلِكُ أَطْعِمَتَهُمْ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَحْتَرِزُوا مِنْهُ، فَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمْ، فَفَعَلَ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الضَّفَادِعَ، وَكَانَتْ تَسْقُطُ فِي قُدُورِهِمْ وَأَطْعِمَتِهِمْ وَمَلَأَتِ الْبُيُوتَ عَلَيْهِمْ، فَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمْ لِيُؤْمِنُوا بِهِ فَفَعَلَ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّمَ، فَصَارَتْ مِيَاهُ الْفِرْعَوْنِيِّينَ دَمًا، وَكَانَ الْفِرْعَوْنِيُّ وَالْإِسْرَائِيلِيُّ يَسْتَقِيَانِ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، فَيَأْخُذُ الْإِسْرَائِيلِيُّ مَاءً وَيَأْخُذُ الْفِرْعَوْنِيُّ دَمًا، وَكَانَ الْإِسْرَائِيلِيُّ يَأْخُذُ الْمَاءَ مِنْ فَمِهِ فَيَمُجُّهُ فِي فَمِ الْفِرْعَوْنِيِّ فَيَصِيرُ دَمًا، فَبَقِيَ ذَلِكَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمْ

لِيُؤْمِنُوا، فَفَعَلَ فَلَمْ يُؤْمِنُوا. فَلَمَّا يَئِسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ وَمِنْ إِيمَانِ فِرْعَوْنَ دَعَا مُوسَى وَأَمَّنَ هَارُونُ فَقَالَ: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] . فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُمَا، فَمَسَخَ اللَّهُ أَمْوَالَهُمْ، مَا عَدَا خَيْلَهُمْ وَجَوَاهِرَهُمْ وَزِينَتَهُمْ حِجَارَةً، وَالنَّخْلَ، وَالْأَطْعِمَةَ، وَالدَّقِيقَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَكَانَتْ إِحْدَى الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى. فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ عَلَى مُوسَى أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ تَابُوتَ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ وَيَدْفِنَهُ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَسَأَلَ مُوسَى عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ إِلَّا امْرَأَةٌ عَجُوزٌ فَأَرَتْهُ مَكَانَهُ فِي النِّيلِ، فَاسْتَخْرَجَهُ مُوسَى، وَهُوَ فِي صُنْدُوقٍ مَرْمَرٍ، فَأَخَذَهُ مَعَهُ فَسَارَ، وَأَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسْتَعِيرُوا مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ مَا أَمْكَنَهُمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَأَخَذُوا شَيْئًا كَثِيرًا. وَخَرَجَ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا وَالْقِبْطُ لَا يَعْلَمُونَ، وَكَانَ مُوسَى عَلَى سَاقَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَارُونُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِمْ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمَّا سَارُوا مِنْ مِصْرَ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا وَتَبِعَهُمْ فِرْعَوْنُ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ هَامَانُ، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] يَا مُوسَى! {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129] ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَانُوا يَذْبَحُونَ أَبْنَاءَنَا وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَنَا، وَأَمَّا الْآنَ فَيُدْرِكُنَا فِرْعَوْنُ فَيَقْتُلُنَا. قَالَ مُوسَى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] . وَبَلَغَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى الْبَحْرِ وَبَقِيَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَفِرْعَوْنُ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَأَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ، فَتَقَدَّمَ مُوسَى فَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ فَانْفَلَقَ، {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] ، وَصَارَ فِيهِ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ، فَقَالَ كُلُّ سِبْطٍ: قَدْ هَلَكَ أَصْحَابُنَا. فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَاءَ فَصَارَ كَالشُّبَّاكِ، فَكَانَ كُلُّ سِبْطٍ يَرَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ حَتَّى خَرَجُوا، وَدَنَا فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْبَحْرِ فَرَأَى الْمَاءَ عَلَى هَيْئَتِهِ وَالطُّرُقَ فِيهِ، فَقَالَ

لِأَصْحَابِهِ: أَلَا تَرَوْنَ الْبَحْرَ قَدْ فَرَقَ مِنِّي وَانْفَتَحَ لِي حَتَّى أُدْرِكَ أَعْدَائِي؟ فَلَمَّا وَقَفَ فِرْعَوْنُ عَلَى أَفْوَاهِ الطُّرُقِ لَمْ تَقْتَحِمْهُ خَيْلُهُ، فَنَزَلَ جَبْرَائِيلُ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى وَدِيقٍ، فَشَمَّتَ الْحُصُنُ رِيحَهَا فَاقْتَحَمَتْ فِي أَثَرِهَا حَتَّى إِذَا هَمَّ أَوَّلُهُمْ أَنْ يَخْرُجَ وَدَخَلَ آخِرُهُمْ أُمِرَ الْبَحْرُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ فَالْتَطَمَ عَلَيْهِمْ فَأَغْرَقَهُمْ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ. وَانْفَرَدَ جَبْرَائِيلُ بِفِرْعَوْنَ يَأْخُذُ مِنْ حَمْأَةِ الْبَحْرِ فَيَجْعَلُهَا فِي فِيهِ، وَقَالَ حِينَ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَغَرِقَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِيكَائِيلَ يُعَيِّرُهُ، فَقَالَ لَهُ: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] . وَقَالَ جَبْرَائِيلُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا أَدُسُّ مِنْ حَمْأَةِ الْبَحْرِ فِي فَمِ فِرْعَوْنَ مَخَافَةَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةً يَرْحَمُهُ اللَّهُ بِهَا. فَلَمَّا نَجَا بَنُو إِسْرَائِيلَ قَالُوا: إِنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَغْرَقْ. فَدَعَا مُوسَى فَأَخْرَجَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ غَرِيقًا، فَأَخَذَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَتَمَثَّلُونَ بِهِ، ثُمَّ سَارُوا فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَقَالُوا {يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] . فَتَرَكُوا ذَلِكَ. ثُمَّ بَعَثَ مُوسَى جُنْدَيْنِ عَظِيمَيْنِ كُلُّ جُنْدٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا إِلَى مَدَائِنِ فِرْعَوْنَ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ خَالِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا قَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ عُظَمَاءَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ، وَلَمْ يُبْقِ غَيْرَ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ وَالزَّمْنَى، وَالْمَرْضَى، وَالْمَشَايِخِ، وَالْعَاجِزِينَ، فَدَخَلُوا الْبِلَادَ وَغَنِمُوا الْأَمْوَالَ وَحَمَلُوا مَا أَطَاقُوا وَبَاعُوا مَا عَجَزُوا عَنْ حَمْلِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ عَلَى الْجُنْدَيْنِ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَكَالَبُ بْنُ يُوفَنَّا. وَكَانَ مُوسَى قَدْ وَعَدَهُ اللَّهُ وَهُوَ بِمِصْرَ أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْهَا وَأَهْلَكَ اللَّهُ عَدُوَّهُمْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِكِتَابٍ فِيهِ مَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُونَ، فَلَمَّا أَهْلَكَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَأَنْجَى بَنِي

إِسْرَائِيلَ قَالُوا: يَا مُوسَى ائْتِنَا بِالْكِتَابِ الَّذِي وَعَدْتَنَا. فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَيَتَطَهَّرَ وَيُطَهِّرَ ثِيَابَهُ وَيَأْتِيَ إِلَى الْجَبَلِ - جَبَلِ طَوْرِ سِينَا - لِيُكَلِّمَهُ وَيُعْطِيَهُ الْكِتَابَ، فَصَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوَّلُهَا أَوَّلُ ذِي الْقَعْدَةِ، وَسَارَ إِلَى الْجَبَلِ وَاسْتَخْلَفَ أَخَاهُ هَارُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا قَصَدَ الْجَبَلَ أَنْكَرَ رِيحَ فَمِهِ فَتَسَوَّكَ بِعُودِ خُرْنُوبٍ، وَقِيلَ: تَسَوَّكَ بِلِحَاءِ شَجَرَةٍ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدِي مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ؟ وَأَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أُخْرَى، فَصَامَهَا، وَهِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] . فَفِي تِلْكَ اللَّيَالِي الْعَشْرِ افْتَتَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِأَنَّ الثَلَاثِينَ انْقَضَتْ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ مُوسَى، وَكَانَ السَّامِرِيُّ مِنْ أَهْلِ بَاجَرْمَى، وَقِيلَ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ هَارُونُ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّ الْغَنَائِمَ لَا تَحِلُّ لَكُمْ، وَالْحُلِيَّ الَّذِي اسْتَعَرْتُمُوهُ مِنَ الْقِبْطِ غَنِيمَةٌ، فَاحْفِرُوا حُفْرَةً وَأَلْقُوهُ فِيهَا حَتَّى يَرْجِعَ مُوسَى فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَجَاءَ السَّامِرِيُّ بِقَبْضَةٍ مِنَ التُّرَابِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ أَثَرِ حَافِرِ فَرَسِ جَبْرَائِيلَ، فَأَلْقَاهُ فِيهِ فَصَارَ الْحُلِيُّ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحُلِيَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَذَابَ فَأَلْقَى السَّامِرِيُّ ذَلِكَ التُّرَابَ فَصَارَ الْحُلِيُّ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، وَقِيلَ: كَانَ يَخُورُ، وَيَمْشِي، وَقِيلَ: مَا خَارَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَعُدْ، وَقِيلَ: إِنَّ السَّامِرِيَّ صَاغَ الْعِجْلَ مِنْ ذَلِكَ الْحُلِيِّ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ قَذَفَ فِيهِ التُّرَابَ، فَقَامَ لَهُ خُوَارٌ. فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه: 88] مُوسَى وَتَرَكَهُ

هَهُنَا وَذَهَبَ يَطْلُبُهُ، فَعَكَفُوا عَلَيْهِ يَعْبُدُونَهُ، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: {يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه: 90] ، فَأَطَاعَهُ بَعْضُهُمْ وَعَصَاهُ بَعْضُهُمْ، فَأَقَامَ بِمَنْ مَعَهُ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ. وَلَمَّا نَاجَى اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى قَالَ لَهُ: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى - قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} [طه: 83 - 85]- يَا مُوسَى - {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه: 85] . فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّي هَذَا السَّامِرِيُّ قَدْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا الْعِجْلَ، مَنْ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ؟ قَالَ: أَنَا. قَالَ: فَأَنْتَ إِذًا أَضْلَلْتَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ مُوسَى لَمَّا كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] . وَأَعْطَاهُ الْأَلْوَاحَ فِيهَا الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَالْمَوَاعِظُ، وَعَادَ مُوسَى وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَجْعَلُ عَلَيْهِ حَرِيرَةً نَحْوَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكْشِفُهَا لِمَا تَغَشَّاهُ مِنَ النُّورِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قَوْمِهِ وَرَأَى عِبَادَتَهُمُ الْعَجَلَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ وَلِحْيَتِهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، {قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94] . فَتَرَكَ هَارُونَ وَأَقْبَلَ عَلَى السَّامِرِيِّ، وَقَالَ: {فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ - قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي - قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ} [طه: 95 - 97] . ثُمَّ أَخَذَ الْعِجْلَ وَبَرَدَهُ بِالْمَبَارِدِ وَأَحْرَقَهُ، وَأَمَرَ السَّامِرِيَّ فَبَالَ عَلَيْهِ، وَذَرَّاهُ فِي الْبَحْرِ. فَلَمَّا أَلْقَى مُوسَى الْأَلْوَاحَ ذَهَبَ سِتَّةُ أَسْبَاعِهَا وَبَقِيَ سُبْعٌ، وَطَلَبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ التَّوْبَةَ

فَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: {يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] ، فَاقْتَتَلَ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَالَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوهُ، فَكَانَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ شَهِيدًا، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَقَامَ مُوسَى، وَهَارُونُ يَدْعُوَانِ اللَّهَ، فَعَفَا عَنْهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ وَتَابَ عَلَيْهِمْ، وَأَرَادَ مُوسَى قَتْلَ السَّامِرِيِّ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِتَرْكِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ سَخِيٌّ، فَلَعَنَهُ مُوسَى. ثُمَّ إِنَّ مُوسَى اخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ أَخْيَارِهِمْ، وَقَالَ لَهُمُ: انْطَلِقُوا مَعِي إِلَى اللَّهِ فَتُوبُوا مِمَّا صَنَعْتُمْ، وَصُومُوا، وَتَطَهَّرُوا. وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سِينَا لِلْمِيقَاتِ الَّذِي وَقَّتَهُ اللَّهُ لَهُ. فَقَالُوا: اطْلُبْ أَنْ نَسْمَعَ كَلَامَ رَبِّنَا، فَقَالَ: أَفْعَلُ. فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ الْغَمَامُ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلَ كُلَّهُ وَدَخَلَ فِيهِ مُوسَى، وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوا، فَدَنَوْا حَتَّى دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ، فَوَقَعُوا سُجُودًا، فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ، فَلَمَّا فَرَغَ انْكَشَفَ عَنْ مُوسَى الْغَمَامُ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لِمُوسَى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فَمَاتُوا جَمِيعًا. فَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيَدْعُوهُ وَيَقُولُ: يَا رَبِّ، اخْتَرْتُ أَخْيَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَعُودُ إِلَيْهِمْ وَلَيْسُوا مَعِي فَلَا يُصَدِّقُونَنِي. وَلَمْ يَزَلْ يَتَضَرَّعُ حَتَّى رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ فَعَاشُوا رَجُلًا رَجُلًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كَيْفَ يَحْيَوْنَ. فَقَالُوا: يَا مُوسَى أَنْتَ تَدْعُو اللَّهَ فَلَا تَسْأَلُهُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاكَهُ، فَادْعُهُ يَجْعَلُنَا أَنْبِيَاءَ. فَدَعَا اللَّهَ فَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ. وَقِيلَ: أَمْرُ السَبْعِينَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا مَضَوْا لِلْمِيقَاتِ وَاعْتَذَرُوا قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَعَهُ التَّوْرَاةُ أَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوهَا وَيَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا لِلْأَثْقَالِ وَالشِّدَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا، وَأَمَرَ اللَّهُ جَبْرَائِيلَ فَقَطَعَ جَبَلًا مِنْ فِلَسْطِينَ عَلَى قَدْرِ عَسْكَرِهِمْ، وَكَانَ فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ، وَرَفَعَهُ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ مِقْدَارَ قَامَةِ الرَّجُلِ مِثْلَ الظُّلَّةِ،

وَبَعَثَ نَارًا مِنْ قِبَلِ وُجُوهِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْبَحْرُ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا فَإِنْ قَبِلْتُمُوهُ وَفَعَلْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَإِلَّا رُضِخْتُمْ بِهَذَا الْجَبَلِ وَغَرِقْتُمْ فِي هَذَا الْبَحْرِ وَأُحْرِقْتُمْ بِهَذِهِ النَّارِ. فَلَمَّا رَأَوْا أَنْ لَا مَهْرَبَ لَهُمْ قَبِلُوا ذَلِكَ وَسَجَدُوا عَلَى شِقِّ وُجُوهِهِمْ وَجَعَلُوا يُلَاحِظُونَ الْجَبَلَ وَهُمْ سُجُودٌ، فَصَارَتْ سُنَّةً فِي الْيَهُودِ يَسْجُدُونَ عَلَى جَانِبِ وُجُوهِهِمْ وَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى مِنَ الْمُنَاجَاةِ بَقِيَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا مَاتَ، وَقِيلَ: مَا رَآهُ إِلَّا عَمِيَ، فَجَعَلَ عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ بُرْنُسًا لِئَلَّا يُرَى وَجْهُهُ. ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلَ ابْنَ عَمٍّ لَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَهُ لِيَرِثَ مَالَهُ وَحَمَلَهُ وَأَلْقَاهُ بِمَوْضِعٍ آخَرَ، ثُمَّ أَصْبَحَ يَطْلُبُ دَمَهُ عِنْدَ مُوسَى مِنْ بَعْضِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَجَحَدُوا فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً، فَقَالُوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] الْمُسْتَهْزِئِينَ. فَقَالُوا لَهُ: مَا هِيَ؟ وَلَوْ ذَبَحُوا بَقَرَةً مَا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ تَشْدِيدُهُمْ لِأَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ كَانَ بَرًّا بِأُمِّهِ وَكَانَ لَهُ بَقَرَةٌ عَلَى النَّعْتِ الْمَذْكُورِ فَنَفَعَهُ بِرُّهُ بِأُمِّهِ، فَلَمْ يَجِدُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا بَقَرَتَهُ، فَبَاعَهَا مِنْهُمْ بِمِلْءِ جِلْدِهَا ذَهَبًا، فَلَمَّا سَأَلُوا مُوسَى عَنْهَا قَالَ {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} [البقرة: 68] يَقُولُ: لَا كَبِيرَةٌ وَلَا صَغِيرَةٌ نَصَفٌ بَيْنَ السِّنِينَ. {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا - قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ - قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 69 - 70] ، {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة: 71]- يَعْنِي لَا عَيْبَ فِيهَا، وَقِيلَ لَا بَيَاضَ فِيهَا - {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71] . وَطَلَبُوهَا فَلَمْ يَجِدُوا إِلَّا بَقَرَةَ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْبَارِّ بِأُمِّهِ، فَاشْتَرَوْهَا، فَغَالَ بِهَا حَتَّى أَخَذَ مِلْءَ جِلْدِهَا ذَهَبًا، فَذَبَحُوهَا وَضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِلِسَانِهَا، وَقِيلَ: بِغَيْرِهِ، فَحَيِيَ وَقَامَ وَقَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ. ثُمَّ مَاتَ.

ذكر أمر بني إسرائيل في التيه ووفاة هارون عليه السلام

[ذِكْرُ أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ وَوَفَاةِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ] ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَسِيرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أَرِيحَا بَلَدِ الْجَبَّارِينَ، وَهِيَ أَرْضُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَسَارُوا حَتَّى كَانُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَبَعَثَ مُوسَى اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْ سَائِرِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسَارُوا لِيَأْتُوا بِخَبَرِ الْجَبَّارِينَ، فَلَقِيَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ يُقَالُ لَهُ عَوْجُ بْنُ عِنَاقٍ فَأَخَذَ الِاثْنَيْ عَشَرَ فَحَمَلَهُمْ وَانْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: انْظُرِي إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَقْتُلُونَا، وَأَرَادَ أَنْ يَطَأَهُمْ بِرِجْلِهِ، فَمَنَعَتْهُ امْرَأَتُهُ، وَقَالَتْ: أَطْلِقْهُمْ لِيَرْجِعُوا وَيُخْبِرُوا قَوْمَهُمْ بِمَا رَأَوْا، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّكُمْ إِنْ أَخْبَرْتُمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِخَبَرِ هَؤُلَاءِ لَا يَقْدَمُوا عَلَيْهِمْ، فَاكْتُمُوا الْأَمْرَ عَنْهُمْ، وَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ وَرَجَعُوا، فَنَكَثَ عَشَرَةٌ مِنْهُمُ الْعَهْدَ وَأَخْبَرُوا بِمَا رَأَوْا، وَكَتَمَ رَجُلَانِ مِنْهُمْ، وَهَمَا: يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَكَالَبُ بْنُ يُوفَنَّا خَتَنُ مُوسَى، وَلَمْ يُخْبِرُوا إِلَّا مُوسَى وَهَارُونَ، فَلَمَّا سَمِعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْخَبَرَ عَنِ الْجَبَّارِينَ امْتَنَعُوا عَنِ الْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ. فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ - قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ - قَالَ رَجُلَانِ} [المائدة: 21 - 23]- وَهُمَا يُوشَعُ، وَكَالَبُ - {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ - قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 23 - 24] .

فَغَضِبَ مُوسَى، فَدَعَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] ، وَكَانَتْ عَجَلَةً مِنْ مُوسَى. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26] . فَنَدِمَ مُوسَى حِينَئِذٍ. فَقَالُوا لَهُ: فَكَيْفَ لَنَا بِالطَّعَامِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى. فَأَمَّا الْمَنُّ فَقِيلَ هُوَ كَالصَّمْغِ وَطَعْمُهُ كَالشَّهْدِ يَقَعُ عَلَى الْأَشْجَارِ، وَقِيلَ: هُوَ التَّرَنْجَبِينُ، وَقِيلَ: هُوَ الْخُبْزُ الرِّقَاقُ، وَقِيلَ: هُوَ عَسَلٌ كَانَ يَنْزِلُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ صَاعٌ، وَأَمَّا السَّلْوَى فَهُوَ طَائِرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى. فَقَالُوا: أَيْنَ الشَّرَابُ؟ فَأَمَرَ مُوسَى فَضَرَبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [البقرة: 60] لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ. فَقَالُوا: أَيْنَ الظِّلُّ؟ فَظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فَقَالُوا: أَيْنَ اللِّبَاسُ؟ فَكَانَتْ ثِيَابُهُمْ تَطُولُ مَعَهُمْ وَلَا يَتَمَزَّقُ لَهُمْ ثَوْبٌ. ثُمَّ قَالُوا: {يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] . فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ التِّيهِ رُفِعَ عَنْهُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى. ثُمَّ إِنَّ مُوسَى الْتَقَى هُوَ وَعَوْجُ بْنُ عِنَاقٍ، فَوَثَبَ مُوسَى عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَكَانَتْ عَصَاهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَكَانَ طُولُهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، فَأَصَابَ كَعْبَ عَوْجٍ فَقَتَلَهُ. وَقِيلَ: عَاشَ عَوْجٌ ثَلَاثَةَ آلَافِ سَنَةٍ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى مُوسَى: إِنِّي مُتَوَفٍّ هَارُونَ فَأْتِ بِهِ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا. فَانْطَلَقَا نَحْوَهُ فَإِذَا هُمْ فِيهِ بِشَجَرَةٍ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهَا وَفِيهِ بَيْتٌ مَبْنِيٌّ، وَسَرِيرٌ عَلَيْهِ فُرُشٌ، وَرِيحٌ طَيِّبَةٌ،

فَلَمَّا رَآهُ هَارُونُ أَعْجَبَهُ، قَالَ: يَا مُوسَى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَنَامَ عَلَى هَذَا السَّرِيرِ. فَقَالَ لَهُ مُوسَى: نَمْ. قَالَ: إِنِّي أَخَافُ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ أَنْ يَأْتِيَ فَيَغْضَبَ عَلَيَّ. قَالَ مُوسَى: لَا تَخَفْ أَنَا أَكْفِيكَ. قَالَ: فَنَمْ مَعِي. فَلَمَّا نَامَا أَخَذَ هَارُونَ الْمَوْتُ، فَلَمَّا وَجَدَ حِسَّهُ قَالَ: يَا مُوسَى خَدَعْتَنِي! فَتُوُفِّيَ وَرُفِعَ عَلَى السَّرِيرِ إِلَى السَّمَاءِ. وَرَجَعَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنَّكَ قَتَلْتَ هَارُونَ لِحُبِّنَا إِيَّاهُ. فَقَالَ: وَيَحْكَمُ أَفَتَرَوْنَ أَنِّي أَقْتُلُ أَخِي! فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ صَلَّى وَدَعَا اللَّهَ، فَنَزَلَ بِالسَّرِيرِ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مَاتَ وَأَنَّ مُوسَى لَمْ يَقْتُلْهُ، فَصَدَّقُوهُ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي التِّيهِ.

ذكر وفاة موسى عليه السلام

[ذِكْرُ وَفَاةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ] قِيلَ: بَيْنَمَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَمْشِي وَمَعَهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ فَتَاهَ إِذْ أَقْبَلَتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا يُوشَعُ ظَنَّ أَنَّهَا السَّاعَةُ، فَالْتَزَمَ مُوسَى، وَقَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ وَأَنَا مُلْتَزِمٌ نَبِيَّ اللَّهِ، فَاسْتُلَّ مُوسَى مِنْ تَحْتِ الْقَمِيصِ وَبَقِيَ الْقَمِيصُ فِي يَدَيْ يُوشَعَ. فَلَمَّا جَاءَ يُوشَعُ بِالْقَمِيصِ أَخَذَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَقَالُوا: قَتَلْتَ نَبِيَّ اللَّهِ! فَقَالَ: مَا قَتَلْتُهُ وَلَكِنَّهُ اسْتُلَّ مِنِّي. فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ. قَالَ: فَإِذَا لَمْ تُصَدِّقُونِي فَأَخِّرُونِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَوَكَّلُوا بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ، فَدَعَا اللَّهَ، فَأَتَى كُلُّ رَجُلٍ كَانَ يَحْرُسُهُ فِي الْمَنَامِ فَأَخْبَرَ أَنَّ يُوشَعَ لَمْ يَقْتُلْ مُوسَى، وَأَنَّا قَدْ رَفَعْنَاهُ إِلَيْنَا، فَتَرَكُوهُ. وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى كَرِهَ الْمَوْتَ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُحَبِّبَ إِلَيْهِ الْمَوْتَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَكَانَ يَغْدُو عَلَيْهِ وَيَرُوحُ، وَيَقُولُ لَهُ مُوسَى: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ لَهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَمْ أَصْحَبْكَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً، فَهَلْ كُنْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا أَحْدَثَ اللَّهُ لَكَ؟ وَلَا يَذْكُرُ لَهُ شَيْئًا. فَلَمَّا رَأَى مُوسَى ذَلِكَ كَرِهَ الْحَيَاةَ وَأَحَبَّ الْمَوْتَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَرَّ مُنْفَرِدًا بِرَهْطٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفِرُونَ قَبْرًا، فَعَرَفَهُمْ فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَلَمْ يَرَ مِثْلَ مَا فِيهِ مِنَ الْخُضْرَةِ وَالْبَهْجَةِ. فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَلَائِكَةَ اللَّهِ، لِمَنْ تَحْفِرُونَ هَذَا الْقَبْرَ؟ فَقَالُوا: نَحْفِرُهُ لِعَبْدٍ كَرِيمٍ عَلَى رَبِّهِ. فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْعَبْدَ لَهُ مَنْزِلٌ كَرِيمٌ مَا رَأَيْتُ مَضْجَعًا، وَلَا مَدْخَلًا مِثْلَهُ. فَقَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَكَ؟ قَالَ: وَدِدْتُ. قَالُوا: فَانْزِلْ وَاضْطَجِعْ فِيهِ وَتَوَجَّهْ إِلَى رَبِّكَ وَتَنَفَّسْ أَسْهَلَ تَنَفُّسٍ تَتَنَفَّسُهُ. فَنَزَلَ فِيهِ وَتَوَجَّهَ إِلَى رَبِّهِ، ثُمَّ تَنَفَّسَ، فَقَبَضَ اللَّهُ رُوحَهُ، ثُمَّ سَوَّتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِ التُّرَابَ.

وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ يَسْتَظِلُّ فِي عَرِيشٍ وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مِنْ نَقِيرٍ مِنْ حَجَرٍ تَوَاضُعًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مَلَكَ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَعَادَ، وَقَالَ: يَا رَبِّ، أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُحِبُّ الْمَوْتَ. قَالَ اللَّهُ: ارْجِعْ لَهُ وَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى ظَهْرِ ثَوْرٍ وَلَهُ بِكُلِّ شَعَرَةٍ تَحْتَ يَدِهِ سَنَةٌ، وَخَيِّرْهُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ يَمُوتَ الْآنَ. فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَخَيَّرَهُ، فَقَالَ لَهُ: فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: الْمَوْتُ. قَالَ: فَالْآنَ إِذَنْ. فَقَبَضَ رُوحَهُ» . وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ قَدْ صَحَّ النَّقْلُ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ مَوْتُهُ فِي التِّيهِ أَيْضًا. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ الَّذِي فَتَحَ مَدِينَةَ الْجَبَّارِينَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَكَانَ جَمِيعُ عُمُرِ مُوسَى مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، مِنْ ذَلِكَ فِي مُلْكِ أَفْرِيدُونَ عِشْرُونَ، وَفِي مُلْكِ مِنُوجِهْرَ مِائَةُ سَنَةٍ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِ مُنْذُ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَنْ قَبَضَهُ فِي مُلْكِ مِنُوجِهْرَ. ثُمَّ نُبِّئَ بَعْدَهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ فَكَانَ فِي زَمَنِ مِنُوجِهْرَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَفِي زَمِنِ أَفْرَاسِيَابَ سَبْعَ سِنِينَ.

ذكر يوشع بن نون عليه السلام وفتح مدينة الجبارين

[ذِكْرُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفَتْحِ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ] لَمَّا تُوُفِّيَ بَعَثَ اللَّهُ يُوشَعَ بْنَ نُونِ بْنِ إِفْرَائِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَبِيًّا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى أَرِيحَا مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فَتْحِهَا عَلَى يَدِ مَنْ كَانَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ مُوسَى، وَهَارُونَ تُوُفِّيَا فِي التِّيهِ، وَتُوُفِّيَ فِيهِ كُلُّ مَنْ دَخَلَهُ، وَقَدْ جَاوَزَ الْعِشْرِينَ سَنَةً، غَيْرَ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ وَكَالَبَ بْنِ يُوفَنَّا، فَلَمَّا انْقَضَى أَرْبَعُونَ سَنَةً أَوْحَى اللَّهُ إِلَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ فَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهَا وَفَتْحِهَا، فَفَتَحَهَا، وَمِثْلَهُ قَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَعِكْرِمَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ مُوسَى عَاشَ حَتَّى خَرَجَ مِنَ التِّيهِ، وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ، وَعَلَى مَقْدَمَتِهِ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ فَفَتَحَهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: سَارَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ لِقِتَالِ الْجَبَّارِينَ، فَقَدِمَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَكَالَبُ بْنُ يُوفَنَّا، وَهُوَ صِهْرُهُ عَلَى أُخْتِهِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، فَلَمَّا بَلَغُوهَا اجْتَمَعَ الْجَبَّارُونَ إِلَى بُلْعُمَ بْنِ بَاعُورَ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ لُوطٍ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ مُوسَى قَدْ جَاءَ لِيَقْتُلَنَا وَيُخْرِجَنَا مِنْ دِيَارِنَا فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ بُلْعُمُ يَعْرِفُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ، فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ أَدْعُو عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمَعَهُمُ الْمَلَائِكَةُ؟ ! فَرَاجَعُوهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ، فَأَتَوُا امْرَأَتَهُ وَأَهْدَوْا لَهَا هَدِيَّةً، فَقَبِلَتْهَا، وَطَلَبُوا إِلَيْهَا أَنْ تُحَسِّنَ لِزَوْجِهَا أَنْ يَدْعُوَ

عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَامْتَنَعَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَالَ: أَسْتَخِيرُ اللَّهَ. فَاسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى، فَنَهَاهُ فِي الْمَنَامِ، فَأَخْبَرَهَا بِذَلِكَ، فَقَالَتْ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَعَاوِدْ الِاسْتِخَارَةَ فَلَمْ يَرِدْ إِلَيْهِ جَوَابٌ. فَقَالَتْ: لَوْ أَرَادَ رَبُّكَ لَنَهَاكَ، وَلَمْ تَزَلْ تَخْدَعُهُ حَتَّى أَجَابَهُمْ، فَرَكِبَ حِمَارًا لَهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى جَبَلٍ مُشْرِفٍ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَقِفَ عَلَيْهِ وَيَدْعُوَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا سَارَ عَلَيْهِ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى رَبَضَ الْحِمَارُ، فَنَزَلَ عَنْهُ وَضَرَبَهُ حَتَّى قَامَ فَرَكِبَهُ فَسَارَ بِهِ قَلِيلًا فَبَرَكَ، فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا اشْتَدَّ ضَرَبَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَنْطَقَهُ اللَّهُ فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا بُلْعُمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ؟ أَمَا تَرَى الْمَلَائِكَةَ تَرُدُّنِي؟ فَلَمْ يَرْجِعْ، فَأَطْلَقَ اللَّهُ الْحِمَارَ حِينَئِذٍ، فَسَارَ عَلَيْهِ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ يَنْصَرِفُ لِسَانُهُ إِلَى الدُّعَاءِ لَهُمْ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِقَوْمِهِ انْقَلَبَ دُعَاؤُهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ غَلَبَنَا اللَّهُ عَلَيْهِ، وَانْدَلَعَ لِسَانُهُ فَوَقَعَ عَلَى صَدْرِهِ، فَقَالَ: الْآنَ قَدْ ذَهَبَتْ مِنِّيَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الْمَكْرِ وَالْحِيلَةِ. وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُزَيِّنُوا نِسَاءَهُمْ وَيُعْطُوهُنَّ السِّلَعَ لِلْبَيْعِ وَيُرْسِلُوهُنَّ إِلَى الْعَسْكَرِ، وَلَا تَمْنَعَ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا مِمَّنْ يُرِيدُهَا. وَقَالَ: إِنْ زَنَى مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ كُفِيتُمُوهُمْ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَدَخَلَ النِّسَاءُ عَسْكَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخَذَ رَمْزَى بْنُ شَلُومَ، وَهُوَ رَأْسُ سِبْطِ شَمْعُونَ بْنِ يَعْقُوبَ امْرَأَةً وَأَتَى بِهَا مُوسَى، فَقَالَ لَهُ: أَظُنُّكَ تَقُولُ هَذَا حَرَامٌ فَوَاللَّهِ لَا نُطِيعُكَ، ثُمَّ أَدْخَلَهَا خَيْمَتَهُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطَّاعُونَ، وَكَانَ فَنْحَاصُ بْنُ الْعِزَارِ بْنِ هَارُونَ صَاحِبُ أَمْرِ عَمِّهِ مُوسَى غَائِبًا، فَلَمَّا جَاءَ رَأَى الطَّاعُونَ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأُخْبِرَ الْخَبَرَ، وَكَانَ ذَا قُوَّةٍ وَبَطْشٍ، فَقَصَدَ زَمْرَى فَرَآهُ وَهُوَ مُضَاجِعُ الْمَرْأَةِ، فَطَعَنَهَا بِحَرْبَةٍ فِي يَدِهِ فَانْتَظَمَهَا، وَرُفِعَ الطَّاعُونُ، وَقَدْ هَلَكَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَقِيلَ: سَبْعُونَ أَلْفًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي بُلْعُمَ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175] . ثُمَّ إِنَّ مُوسَى قَدَّمَ يُوشَعَ إِلَى أَرِيحَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَدَخَلَهَا وَقَتَلَ بِهَا الْجَبَّارِينَ، وَبَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ، وَقَدْ قَارَبَتِ الشَّمْسُ الْغُرُوبَ، فَخَشِيَ أَنْ يُدْرِكَهُ اللَّيْلُ فَيُعْجِزُوهُ، فَدَعَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَحْبِسَ عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ، فَفَعَلَ وَحَبَسَهَا حَتَّى اسْتَأْصَلَهُمْ، وَدَخَلَهَا مُوسَى فَأَقَامَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ، وَقَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ لَا يَعْلَمُ بِقَبْرِهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ.

وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُوسَى كَانَ قَدْ تُوُفِّيَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يُوشَعَ بِالْمَسِيرِ إِلَى مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ، فَسَارَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَفَارَقَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ بُلْعُمُ بْنُ بَاعُورَ، وَكَانَ يَعْرِفُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَسَاقَ مِنْ حَدِيثِهِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. فَلَمَّا ظَفِرَ يُوشَعُ بِالْجَبَّارِينَ أَدْرَكَهُ الْمَسَاءُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَدَعَا اللَّهَ فَرَدَّ الشَّمْسَ عَلَيْهِ وَزَادَ فِي النَّهَارِ سَاعَةً فَهَزَمَ الْجَبَّارِينَ وَدَخَلَ مَدْيَنَتَهُمْ، وَجَمَعَ غَنَائِمَهُمْ لِيَأْخُذَهَا الْقُرْبَانُ، فَلَمْ تَأْتِ النَّارُ، فَقَالَ يُوشَعُ: فِيكُمْ غُلُولٌ فَبَايِعُونِي، فَبَايَعُوهُ، فَلَصِقَتْ يَدُهُ فِي يَدِ مَنْ غَلَّ، فَأَتَاهُ بِرَأْسِ ثَوْرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلٍ بِالْيَاقُوتِ فَجَعَلَهُ فِي الْقُرْبَانِ وَجَعَلَ الرَّجُلَ مَعَهُ، فَجَاءَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهُمَا. وَقِيلَ: بَلْ حَصَرَهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا كَانَ السَّابِعُ تَقَدَّمُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَصَاحُوا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَسَقَطَ السُّورُ، فَدَخَلُوهَا وَهَزَمُوا الْجَبَّارِينَ، وَقَتَلُوا فِيهِمْ فَأَكْثَرُوا. ثُمَّ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُلُوكِ الشَّامِ، وَقَصَدُوا يُوشَعَ فَقَاتَلَهُمْ، وَهَزَمَهُمْ، وَهَرَبَ الْمُلُوكُ إِلَى غَارٍ، فَأَمَرَ بِهِمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، فَقُتِلُوا، وَصُلِبُوا. ثُمَّ مَلَكَ الشَّامَ جَمِيعَهُ فَصَارَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَفَرَّقَ عُمَّالَهُ فِيهِ. ثُمَّ تَوَفَّاهُ اللَّهُ فَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالَبَ بْنَ يُوفَنَّا، وَكَانَ عُمُرُ يُوشَعَ مِائَةً وَسِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ قِيَامُهُ بِالْأَمْرِ بَعْدَ مُوسَى سَبْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَأَمَّا مَنْ بَقِيَ مِنَ الْجَبَّارِينَ فَإِنَّ إِفْرِيقِشَ بْنَ قَيْسِ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ سَبَإِ بْنِ كَعْبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حِمْيَرَ بْنِ سَبَإِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ مَرَّ بِهِمْ مُتَوَجِّهًا إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ فَاحْتَمَلَهُمْ مِنْ سَوَاحِلِ الشَّامِ فَقَدِمَ بِهِمْ إِفْرِيقِيَّةَ فَافْتَتَحَهَا، وَقَتَلَ مَلِكَهُ جُرْجِيرَ، وَأَسْكَنَهُمْ إِيَّاهَا، فَهُمُ الْبَرَابِرَةُ. وَأَقَامَ مِنْ حِمْيِرَ فِي الْبَرْبَرِ صَنْهَاجَةُ وَكُتَامَةُ، فَهُمْ فِيهِمْ إِلَى الْيَوْمِ.

ذكر أمر قارون

[ذِكْرُ أَمْرِ قَارُونَ] وَكَانَ قَارُونُ بْنُ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ بْنِ قَاهِثَ، وَقِيلَ: كَانَ عَمَّ مُوسَى، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَكَانَ عَظِيمَ الْمَالِ كَثِيرَ الْكُنُوزِ. قِيلَ إِنَّ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِهِ كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَى أَرْبَعِينَ بَغْلًا، فَبَغَى عَلَى قَوْمِهِ بِكَثْرَةِ مَالِهِ، فَوَعَظُوهُ، وَنَهَوْهُ، وَقَالُوا لَهُ مَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ - وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 76 - 77] ، فَأَجَابَهُمْ جَوَابَ مُغْتَرٍّ لِحِلْمِ اللَّهِ عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ - يَعْنِي الْمَالَ وَالْخَزَائِنَ - عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي، قِيلَ عَلَى خَبَرٍ وَمَعْرِفَةٍ مِنِّي، وَقِيلَ: لَوْلَا رِضَا اللَّهِ عَنِّي وَمَعْرِفَتُهُ بِفَضْلِي مَا أَعْطَانِي هَذَا. فَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ غَيِّهِ وَلَكِنَّهُ تَمَادَى فِي طُغْيَانِهِ حَتَّى خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، وَهِيَ أَنَّهُ رَكِبَ بِرْذَوْنًا أَبْيَضَ بِمَرَاكِبِ الْأُرْجُوَانِ الْمُذَهَّبَةِ، وَعَلَيْهِ الثِّيَابُ الْمُعَصْفَرَةُ، وَقَدْ حَمَلَ مَعَهُ ثَلَاثَمِائَةِ جَارِيَةٍ عَلَى مِثْلِ بِرْذَوْنِهِ وَأَرْبَعَةَ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَبَنَى دَارَهُ، وَضَرَبَ عَلَيْهَا صَفَائِحَ الذَّهَبِ، وَعَمِلَ لَهَا بَابًا مِنْ ذَهَبٍ، فَتَمَنَّى أَهْلُ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْلِ مِثْلَ مَا لَهُ، فَنَهَاهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِاللَّهِ.

وَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالزَّكَاةِ، فَجَاءَ إِلَى مُوسَى مِنْ كُلِّ أَلْفِ دِينَارٍ دِينَارٌ، وَعَلَى هَذَا مِنْ كُلِّ أَلْفِ شَيْءٍ شَيْءٌ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى بَيْتِهِ وَجَدَهُ كَثِيرًا، فَجَمَعَ نَفَرًا يَثِقُ بِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: إِنَّ مُوسَى أَمَرَكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ فَأَطَعْتُمُوهُ، وَهُوَ الْآنَ يُرِيدُ أَخْذَ أَمْوَالِكُمْ. فَقَالُوا: أَنْتَ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، فَمُرْنَا بِمَا شِئْتَ. فَقَالَ: آمُرُكُمْ أَنْ تُحْضِرُوا فُلَانَةً الْبَغِيَّ فَتَجْعَلُوا لَهَا جُعْلًا فَتَقْذِفُهُ بِنَفْسِهَا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَأَجَابَتْهُمْ إِلَيْهِ. ثُمَّ أَتَى مُوسَى، فَقَالَ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ لِتَأْمُرَهُمْ وَتَنْهَاهُمْ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَنْ سَرَقَ قَطَعْنَاهُ، وَمَنِ افْتَرَى جَلَدْنَاهُ، وَمَنْ زَنَى وَلَيْسَ لَهُ امْرَأَةٌ جَلَدْنَاهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ رَجَمْنَاهُ حَتَّى يَمُوتَ. فَقَالَ لَهُ قَارُونُ: وَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ فَجَرْتَ بِفُلَانَةَ. فَقَالَ ادْعُوهَا فَإِنْ قَالَتْ فَهُوَ كَمَا قَالَتْ. فَلَمَّا جَاءَتْ قَالَ لَهَا مُوسَى: أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ إِلَّا صَدَقْتِ: أَنَا فَعَلْتُ بِكِ مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ؟ قَالَتْ: لَا، كَذَبُوا، وَلَكِنْ جَعَلُوا لِي جُعْلًا عَلَى أَنْ أَقْذِفَكَ. فَسَجَدَ وَدَعَا عَلَيْهِمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: مُرِ الْأَرْضَ بِمَا شِئْتَ تُطِعْكَ. فَقَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ بَلَغَ مُوسَى، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: مُرِ الْأَرْضَ بِمَا شِئْتَ تُطِعْكَ. فَجَاءَ مُوسَى إِلَى قَارُونَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عَرَفَ الشَّرَّ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُوسَى ارْحَمْنِي. فَقَالَ مُوسَى: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ. فَاضْطَرَبَتْ دَارُهُ وَسَاخَتْ بِقَارُونَ، وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا مُوسَى ارْحَمْنِي. قَالَ يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ، فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى رُكَبِهِمْ. فَلَمْ يَزَلْ يَسْتَعْطِفُهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ، حَتَّى خُسِفَ بِهِمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: مَا أَفَظَّكَ! أَمَا وَعِزَّتِي لَوْ إِيَّايَ نَادَى لَأَجَبْتُهُ، وَلَا أُعِيدُ الْأَرْضَ تُطِيعُ أَحَدًا أَبَدًا بَعْدَكَ، فَهُوَ يُخْسَفُ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ نِقْمَتَهُ حَمِدَ الْمُؤْمِنُونَ اللَّهَ، وَعَرَفَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ خَطَأَ أَنْفُسِهِمْ وَاسْتَغْفَرُوا، وَتَابُوا.

ذكر من ملك من الفرس بعد منوجهر

[ذِكْرُ مَنْ مَلَكَ مِنَ الْفُرْسِ بَعْدَ مِنُوجِهْرَ] لَمَّا هَلَكَ مِنُوجِهْرُ مَلِكُ فَارِسَ سَارَ أَفْرَاسِيَابُ بْنُ فَشْنَجَ بْنِ رُسْتَمَ مِلْكُ التُّرْكِ إِلَى مَمْلَكَةِ الْفُرْسِ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَسَارَ إِلَى أَرْضِ بَابِلَ وَأَكْثَرَ الْمُقَامَ بِهَا وَبِمِهْرِجَانَقْذَقَ، وَأَكْثَرَ الْفَسَادَ فِي مَمْلَكَةِ فَارِسَ، وَعَظُمَ ظُلْمُهُ، وَأَخْرَبَ مَا كَانَ عَامِرًا، وَدَفَنَ الْأَنْهَارَ، وَالْقِنَى، وَقَحَطَ النَّاسُ سَنَةَ خَمْسٍ مِنْ مُلْكِهِ، إِلَى أَنْ خَرَجَ عَنْ مَمْلَكَةِ فَارِسَ وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ مِنْهُ فِي أَعْظَمِ الْبَلِيَّةِ إِلَى أَنْ مَلَكَ زَوُّ بْنُ طَهْمَاسِبَ. وَكَانَ مِنُوجِهْرُ قَدْ سَخِطَ عَلَى وَلَدِهِ طَهْمَاسِبَ وَنَفَاهُ عَنْ بِلَادِهِ، فَأَقَامَ فِي بِلَادِ التُّرْكِ عِنْدَ مَلِكٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: وَامَنُ، وَتَزَوَّجَ ابْنَتَهُ، فَوَلَدَتْ لَهُ زَوَّ بْنَ طَهْمَاسِبَ، وَكَانَ الْمُنَجِّمُونَ قَدْ قَالُوا لِأَبِيهَا: إِنَّ ابْنَتَهُ تَلِدُ وَلَدًا يَقْتُلُهُ، فَسَجَنَهَا، فَلَمَّا تَزَوَّجَهَا طَهْمَاسِبُ وَوَلَدَتْ مِنْهُ كَتَمَتْ أَمْرَهَا وَوَلَدَهَا، ثُمَّ إِنَّ مِنُوجِهْرَ رَضِيَ عَنْ طَهْمَاسِبَ، وَأَحْضَرَهُ إِلَيْهِ، فَاحْتَالَ فِي إِخْرَاجِ زَوْجَتِهِ وَابْنِهِ زَوٍّ مِنْ مَحْبِسِهِمَا، فَوَصَلَتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ زَوًّا فِيمَا ذُكِرَ قَتَلَ جَدَّهُ وَامَنَ فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ التُّرْكِ وَطَرَدَ أَفْرَاسِيَابَ التُّرْكِيَّ عَنْ مَمْلَكَةِ فَارِسَ حَتَّى رَدَّهُ إِلَى التُّرْكِ بَعْدَ حُرُوبٍ جَرَتْ بَيْنَهُمَا، فَكَانَتْ غَلَبَةُ أَفْرَاسِيَابَ عَلَى أَقَالِيمِ بَابِلَ وَمَمْلَكَةِ الْفُرْسِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ لَدُنْ تَوَفِّي مِنُوجِهْرَ إِلَى أَنْ أَخْرَجَهُ عَنْهَا زَوٌّ، وَكَانَ إِخْرَاجُهُ عَنْهَا رُوزَابَانَ مِنْ شَهْرِ أَبَانَ مَاهٍ، فَاتَّخَذَ لَهُمْ هَذَا الْيَوْمَ عِيدًا وَجَعَلُوهُ الثَّالِثَ لِعِيدَيْهِمُ النَّوْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ.

وَكَانَ زَوٌّ مَحْمُودًا فِي مُلْكِهِ مُحْسِنًا إِلَى رَعِيَّتِهِ فَأَمَرَ بِإِصْلَاحِ مَا كَانَ أَفَرْسِيَابُ أَفْسَدَهُ مِنْ مَمْلَكَتِهِمْ، وَبِعِمَارَةِ الْحُصُونِ، وَإِخْرَاجِ الْمِيَاهِ الَّتِي غَوَّرَ طُرُقَهَا، حَتَّى عَادَتِ الْبِلَادُ إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانَتْ. وَوَضَعَ عَنِ النَّاسِ الْخَرَاجَ سَبْعَ سِنِينَ، فَعَمُرَتِ الْبِلَادُ فِي مُلْكِهِ وَكَثُرَتِ الْمَعَايِشُ، وَاسْتَخْرَجَ بِالسَّوَادِ نَهْرًا وَسَمَّاهُ الزَّابَ، وَبَنَى عَلَيْهِ مَدِينَةً وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْعَتِيقَةَ، وَجَعَلَ لَهَا طَسُّوجَ الزَّابِ الْأَعْلَى، وَطَسُّوجَ الزَّابِ الْأَوْسَطِ، وَطَسُّوجَ الزَّابِ الْأَسْفَلِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ أَلْوَانَ الطَّبِيخِ وَأَمَرَ بِهَا وَبِأَصْنَافِ الْأَطْعِمَةِ، وَأَعْطَى جُنُودَهُ مَا غَنِمَ مِنَ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ جَمِيعُ مُلْكِهِ إِلَى أَنِ انْقَضَتْ مُدَّتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَكَانَ كَرْشَاسِبُ بْنُ أَنُوطَ وَزِيرَهُ فِي مُلْكِهِ وَمُعِينَهُ فِيهِ، وَقِيلَ: كَانَ شَرِيكَهُ فِي الْمُلْكِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَكَانَ عَظِيمَ الشَّأْنِ فِي فَارِسَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ.

ذكر ملك كيقباذ

[ذِكْرُ مُلْكِ كَيْقُبَاذَ] ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ زَوٍّ كَيْقُبَاذُ بْنُ رَاعِ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ نَوْذَرَ بْنِ مِنُوجِهْرَ، وَقَدَّرَ مِيَاهَ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ لِشُرْبِ الْأَرْضِ، وَسَمَّى الْبِلَادَ بِأَسْمَائِهَا، وَحَدَّهَا بِحُدُودِهَا، وَكَوَّرَ الْكُوَرَ، وَبَيَّنَ حَيِّزَ كُلِّ كُورَةٍ، وَأَخَذَ الْعُشْرَ مِنْ غَلَّاتِهَا لِأَرْزَاقِ الْجُنْدِ، وَكَانَ - فِيمَا ذُكِرَ - كَيْقُبَاذُ حَرِيصًا عَلَى عِمَارَةِ الْبِلَادِ، وَمَنْعِهَا مِنَ الْعَدُوِّ، كَثِيرَ الْكُنُوزِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُلُوكَ الْكَيَانِيَّةَ وَأَبْنَاءَهُمْ مِنْ نَسْلِهِ. جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التُّرْكِ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، فَكَانَ مُقِيمًا بِالْقُرْبِ مِنْ نَهْرِ بَلْخَ، وَهُوَ جَيْحُونُ، لِمَنْعِ التُّرْكِ مِنْ تَطَرُّقِ شَيْءٍ مِنْ بِلَادِهِ. وَكَانَ مُلْكُهُ مِائَةَ سَنَةٍ.

ذكر الأحداث في بني إسرائيل في عهد زو وكيقباذ ونبوة حزقيل

[ذِكْرُ الْأَحْدَاثِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عَهْدِ زَوٍّ وَكَيْقُبَاذَ وَنُبُوَّةِ حِزْقِيلَ] لَمَّا تُوَفِّيَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ قَامَ بِأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَهُ كَالَبُ بْنُ يُوفَنَّا، ثُمَّ حِزْقِيلُ بْنُ نَوْرَى، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَجُوزِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّهُ سَأَلَتِ اللَّهَ الْوَلَدَ وَقَدْ كَبِرَتْ، فَوَهَبَهُ اللَّهُ لَهَا، وَهُوَ الَّذِي دَعَا لِلْقَوْمِ الْمَوْتَى فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ قَرْيَةً يُقَالُ لَهَا دَاوَرْدَانُ وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ، فَهَرَبَ عَامَّةُ أَهْلِهَا وَنَزَلُوا نَاحِيَةً، فَهَلَكَ أَكْثَرُ مَنْ بَقِيَ بِالْقَرْيَةِ وَسَلِمَ الْآخَرُونَ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ الطَّاعُونُ رَجَعُوا. فَقَالَ الَّذِينَ بَقُوا: أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ كَانُوا أَحْزَمَ مِنَّا وَلَوْ صَنَعْنَا مَا صَنَعُوا بَقِينَا. فَوَقَعَ الطَّاعُونُ مِنْ قَابِلَ، فَهَرَبَ عَامَّةُ أَهْلِهَا، وَهُمْ بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَقِيلَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، حَتَّى نَزَلُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ، فَصَاحَ بِهِمْ مَلَكٌ فَمَاتُوا وَنَخِرَتْ عِظَامُهُمْ، فَمَرَّ بِهِمْ حِزْقِيلُ، فَلَمَّا رَآهُمْ جَعَلَ يَتَفَكَّرُ فِي بَعْثِهِمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَتُرِيدُ أَنْ أُرِيَكَ كَيْفَ أُحْيِيهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقِيلَ: نَادِ، فَنَادَى: يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي، فَجَعَلَتِ الْعِظَامُ تَطِيرُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى صَارَتْ أَجْسَادًا مِنْ عِظَامٍ. ثُمَّ نَادَى يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكِ أَنْ تَكْتَسِيَ فَاكْتَسَتْ لَحْمًا وَدَمًا وَثِيَابَهَا الَّتِي مَاتَتْ فِيهَا. ثُمَّ نَادَى: يَا أَيَّتُهَا الْأَرْوَاحُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَعُودِي إِلَى أَجْسَادِكِ. فَعَادَتِ الْأَجْسَادُ أَحْيَاءً، وَقَالُوا حِينَ أُحْيُوا: سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ! فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ أَحْيَاءً يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَوْتَى، سِحْنَةُ الْمَوْتِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، لَا يَلْبَسُونَ ثَوْبًا إِلَّا عَادَ كَفَنًا دَسَمًا، ثُمَّ مَاتُوا ثُمَّ مَاتَ حِزْقِيلُ، وَلَمْ تُذْكَرْ مُدَّتُهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَقِيلَ: كَانُوا قَوْمَ حِزْقِيلَ، فَلَمَّا أَنْ مَاتُوا بَكَى حِزْقِيلُ، وَقَالَ: يَا رَبِّ، كُنْتُ فِي قَوْمٍ يَعْبُدُونَكَ وَيَذْكُرُونَكَ، فَبَقِيتُ وَحِيدًا! فَقَالَ اللَّهُ: أَتُحِبُّ أَنْ أُحْيِيَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ حَيَاتَهُمْ إِلَيْكَ. فَقَالَ حِزْقِيلُ: احْيَوْا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَاشُوا.

ذكر إلياس عليه السلام

[ذِكْرُ إِلْيَاسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ] لَمَّا تُوُفِّيَ حِزْقِيلُ كَثُرَتِ الْأَحْدَاثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَرَكُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَبَدُوا الْأَوْثَانَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِلْيَاسَ بْنَ يَاسِينَ بْنِ فَنْحَاصَ بْنِ الْعِزَازِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ نَبِيًّا، وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ يُبْعَثُونَ بِتَجْدِيدِ مَا نَسُوا مِنَ التَّوْرَاةِ. وَكَانَ إِلْيَاسُ مَعَ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِهِمْ يُقَالُ لَهُ أَخَابُ، وَكَانَ يَسْمَعُ مِنْهُ وَيُصَدِّقُهُ، وَكَانَ إِلْيَاسُ يُقِيمُ لَهُ أَمْرَهُ وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَدِ اتَّخَذُوا صَنَمًا يَعْبُدُونَهُ يُقَالُ لَهُ بَعْلُ، فَجَعَلَ إِلْيَاسُ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِلَّا مِنْ ذَلِكَ الْمَلِكِ، وَكَانَ مُلُوكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَفَرِّقَةً كُلُّ مَلِكٍ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى نَاحِيَةٍ يَأْكُلُهَا، فَقَالَ ذَلِكَ الْمَلِكُ الَّذِي كَانَ إِلْيَاسُ مَعَهُ: وَاللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ بَاطِلًا لِأَنِّي أَرَى فُلَانًا وَفُلَانًا - يَعُدُّ مُلُوكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ - قَدْ عَبَدُوا الْأَوْثَانَ فَلَمْ يَضُرَّهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا، يَأْكُلُونَ، وَيَشْرَبُونَ، وَيَتَمَتَّعُونَ مَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَمَا نَرَى لَنَا عَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلٍ. فَفَارَقَهُ إِلْيَاسُ وَهُوَ يَسْتَرْجِعُ، فَعَبَدَ ذَلِكَ الْمَلِكُ الْأَوْثَانَ أَيْضًا، وَكَانَ لِلْمَلِكِ جَارٌ صَالِحٌ مُؤْمِنٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَلَهُ بُسْتَانٌ إِلَى جَانِبِ دَارِ الْمَلِكِ وَالْمَلِكُ يُحْسِنُ جِوَارَهُ، وَلِلْمَلِكِ زَوْجَةٌ عَظِيمَةُ الشَّرِّ وَالْكُفْرِ، فَقَالَتْ لَهُ لِيَأْخُذَ بُسْتَانَ الرَّجُلِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَكَانَتْ تَخْلُفُ زَوْجَهَا إِذَا سَارَ عَنْ بَلَدِهِ وَتَظْهَرُ لِلنَّاسِ، فَغَابَ مَرَّةً فَوَضَعَتِ امْرَأَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الْبُسْتَانِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَبَّ الْمَلِكَ، فَقَتَلَتْهُ وَأَخَذَتْ بُسْتَانَهُ، فَلَمَّا عَادَ الْمَلِكُ غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَعْظَمَهُ وَأَنْكَرَهُ فَقَالَتْ: فَاتَ أَمْرُهُ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِلْيَاسَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَقُولَ لِلْمَلِكِ وَامْرَأَتِهِ أَنْ يَرُدَّا الْبُسْتَانَ عَلَى وَرَثَةِ صَاحِبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلَا غَضِبَ عَلَيْهِمْا، وَأَهْلَكَهُمَا فِي

الْبُسْتَانِ وَلَمْ يَتَمَتَّعَا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا. فَأَخْبَرَهُمَا إِلْيَاسُ بِذَلِكَ فَلَمْ يُرَاجِعَا الْحَقَّ. فَلَمَّا رَأَى إِلْيَاسُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَبَوْا إِلَّا الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ دَعَا عَلَيْهِمْ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَهَلَكَتِ الْمَاشِيَةُ، وَالطُّيُورُ، وَالْهَوَامُّ، وَالشَّجَرُ، وَجَهِدَ النَّاسُ جَهْدًا شَدِيدًا، وَاسْتَخْفَى إِلْيَاسُ خَوْفًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ يَأْتِيهِ رِزْقُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ أَوَى لَيْلَةً إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهَا ابْنٌ يُقَالُ لَهُ الْيَسَعُ بْنُ أَخُطُوبَ بِهِ ضُرٌّ شَدِيدٌ، فَدَعَا لَهُ فَعُوفِيَ مِنَ الضُّرِّ الَّذِي كَانَ بِهِ وَاتَّبَعَ إِلْيَاسَ، وَكَانَ مَعَهُ وَصَحِبَهُ وَصَدَّقَهُ، وَكَانَ إِلْيَاسُ قَدْ كَبِرَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّكَ قَدْ أَهْلَكْتَ كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَالدَّوَابِّ، وَالطَّيْرِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يَعْصِ سِوَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ إِلْيَاسُ: أَيْ رَبِّي، دَعْنِي أَكُنْ أَنَا الَّذِي أَدْعُو لَهُمْ وَأَبْتَهِجُ بِالْفَرَجِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. فَجَاءَ إِلْيَاسُ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ قَدْ هَلَكْتُمْ وَهَلَكَتِ الدَّوَابُّ بِخَطَايَاكُمْ، فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَاخِطٌ عَلَيْكَمْ بِفِعْلِكُمْ، وَأَنَّ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ فَاخْرُجُوا بِأَصْنَامِكُمْ وَادْعُوهَا ; فَإِنِ اسْتَجَابَتْ لَكُمْ فَذَلِكَ الْحَقُّ كَمَا تَقُولُونَ، وَإِنْ هِيَ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّكُمْ عَلَى بَاطِلٍ فَنَزَعْتُمْ وَدَعَوْتُ اللَّهَ فَفَرَّجَ عَنْكُمْ. قَالُوا: أَنْصَفْتَ. فَخَرَجُوا بِأَصْنَامِهِمْ فَدَعَوْهَا فَلَمْ تَسْتَجِبْ لَهُمْ، وَلَمْ يُفَرَّجْ عَنْهُمْ. فَقَالُوا لِإِلْيَاسَ: إِنَّا قَدْ هَلَكْنَا فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. فَدَعَا لَهُمْ بِالْفَرَجِ وَأَنْ يُسْقَوْا، فَخَرَجَتْ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، وَعَظُمَتْ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ مِنْهَا الْمَطَرَ، فَحَيِيَتْ بِلَادُهُمْ، وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ، فَلَمْ يَنْزِعُوا وَلَمْ يُرَاجِعُوا الْحَقَّ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ إِلْيَاسُ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْبِضَهُ فَيُرِيحَهُ مِنْهُمْ، فَكَسَاهُ اللَّهُ الرِّيشَ وَأَلْبَسَهُ النُّورَ، وَقَطَعَ عَنْهُ لَذَّةَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، فَصَارَ مَلَكِيًّا إِنْسِيًّا سَمَاوِيًّا أَرْضِيًّا، وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَى الْمَلِكِ وَقَوْمِهِ عَدُوًّا فَظَفِرَ بِهِمْ، وَقَتَلَ الْمَلِكَ وَزَوْجَتَهُ بِذَلِكَ الْبُسْتَانِ وَأَلْقَاهُمَا فِيهِ حَتَّى بَلِيَتْ لُحُومُهُمَا.

ذكر نبوة اليسع عليه السلام وأخذ التابوت من بني إسرائيل

[ذِكْرُ نُبُوَّةِ الْيَسَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَخْذِ التَّابُوتِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ] فَلَمَّا انْقَطَعَ إِلْيَاسُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعَثَ اللَّهُ الْيَسَعَ، فَكَانَ فِيهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَعِنْدَهُمُ التَّابُوتُ يَتَوَارَثُونَهُ، فِيهِ السَّكِينَةُ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَكَانُوا لَا يَلْقَاهُمْ عَدُوٌّ فَيُقَدِّمُونَ التَّابُوتَ إِلَّا هَزَمَ اللَّهُ الْعَدُوَّ، وَكَانَتِ السَّكِينَةُ شِبْهَ رَأْسِ هِرٍّ، فَإِذَا صَرَخَتْ فِي التَّابُوتِ بِصُرَاخِ هِرٍّ أَيْقَنُوا بِالنَّصْرِ وَجَاءَهُمُ الْفَتْحُ. ثُمَّ خَلَّفَ فِيهَا مَلِكٌ يُقَالُ لَهُ إِيلَافُ، وَكَانَ اللَّهُ يَمْنَعُهُمْ وَيَحْمِيهِمْ، فَلَمَّا عَظُمَتْ أَحْدَاثُهُمْ نَزَلَ بِهِمْ عَدُوٌّ فَخَرَجُوا إِلَيْهِ وَأَخْرَجُوا التَّابُوتَ، فَاقْتَتَلُوا فَغَلَبَهُمْ عَدُوُّهُمْ عَلَى التَّابُوتِ وَأَخَذَهُ مِنْهُمْ وَانْهَزَمُوا، فَلَمَّا عَلِمَ مَلِكُهُمْ أَنَّ التَّابُوتَ أُخِذَ مَاتَ كَمَدًا، وَدَخَلَ الْعَدُوُّ أَرْضَهُمْ وَنَهَبَ وَسَبَى، وَعَادَ، فَمَكَثُوا عَلَى اضْطِرَابٍ مِنْ أَمْرِهِمْ وَاخْتِلَافٍ، وَكَانُوا يَتَمَادَوْنَ أَحْيَانًا فِي غَيِّهِمْ فَيُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَنْتَقِمُ مِنْهُمْ، فَإِذَا رَاجَعُوا التَّوْبَةَ كَفَّ اللَّهُ عَنْهُمْ شَرَّ عَدُوِّهِمْ، فَكَانَ هَذَا حَالَهُمْ مِنْ لَدُنْ تَوَفِّي يُوشَعَ بْنِ نُونٍ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ أَشْمُوِيلَ وَمَلِكَهُمْ طَالُوتَ، وَرَدَّ عَلَيْهِمُ التَّابُوتَ. وَكَانَتْ مُدَّةُ مَا بَيْنَ وَفَاةِ يُوشَعَ، الَّذِي كَانَ يَلِي أَمْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْضَهَا الْقُضَاةُ، وَبَعْضَهَا الْمُلُوكُ، وَبَعْضَهَا الْمُتَغَلِّبُونَ إِلَى أَنْ ثَبَتَ الْمُلْكُ فِيهِمْ وَرَجَعَتِ النُّبُوَّةُ إِلَى أَشْمُوِيلَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مَنْ نَسْلِ لُوطٍ يُقَالُ لَهُ كُوشَانُ فَقَهَرَهُمْ وَأَذَلَّهُمْ

ثَمَانِيَ سِنِينَ، ثُمَّ أَنْقَذَهُمْ مِنْ يَدِهِ أَخٌ لِكَالَبَ الْأَصْغَرِ يُقَالُ لَهُ عِتْنِيلُ فَقَامَ بِأَمْرِهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً. ثُمَّ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ مَلِكٌ يُقَالُ لَهُ عَجْلُونُ، فَمَلَكَهُمْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ اسْتَنْقَذَهُمْ مِنْهُ رَجُلٌ مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ يُقَالُ لَهُ أَهُوذُ، وَقَامَ بِأَمْرِهِمْ ثَمَانِينَ سَنَةً. ثُمَّ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ يُقَالُ لَهُ يَابِينُ، فَمَلَكَهُمْ عِشْرِينَ سَنَةً وَاسْتَنْقَذَهُمْ مِنْهُ امْرَأَةٌ مَنْ بَنِي أَنْبِيَائِهِمْ يُقَالُ لَهَا دَبُورَا، وَدَبَّرَ الْأَمْرَ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِهَا يُقَالُ لَهُ بَارَاقُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. ثُمَّ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ مِنْ نَسْلِ لُوطٍ فَمَلَكُوهُمْ سَبْعَ سِنِينَ، وَاسْتَنْقَذَهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جَدْعُونُ بْنُ بَوَاشَ مَنْ وَلَدِ نَفْتَالِي بْنِ يَعْقُوبَ، فَدَبَّرَ أَمْرَهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَتُوُفِّيَ، وَدَبَّرَ أَمْرَهُمْ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبِيمَالَخُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ دَبَّرَهُمْ بَعْدَهُ فَوْلَعُ بْنُ فَوَّا ابْنُ خَالِ أَبِيمَالَخَ، وَيُقَالُ ابْنُ عَمِّهِ، ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ دَبَّرَ أَمْرَهُمْ بَعْدَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ يَائِيرُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ بَنِي عَمُّونَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ قَامَ بِأَمْرِهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ يَفْتَحُ سِتَّ سِنِينَ. ثُمَّ دَبَّرَ أَمْرَهُمْ بَعْدَهُ يُبَحْسُونُ سَبْعَ سِنِينَ. ثُمَّ بَعْدَهُ آلُوَنُ عَشْرَ سِنِينَ. ثُمَّ بَعْدَهُ لِتْرُونُ، وَيُسَمِّيهِ بَعْضُهُمْ عِكْرُونَ ثَمَانِيَ سِنِينَ ثُمَّ قَهَرَهُمْ أَهْلُ فِلَسْطِينَ وَمَلَكُوهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً. ثُمَّ وَلِيَهُمْ شَمْسُونُ عِشْرِينَ سَنَةً. ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ

عَشْرَ سِنِينَ بِغَيْرِ مُدَبِّرٍ وَلَا رَئِيسٍ. ثُمَّ قَامَ بِأَمْرِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَالِي الْكَاهِنُ. وَفِي أَيَّامِهِ غَلَبَ أَهْلُ فِلَسْطِينَ عَلَى التَّابُوتِ فِي قَوْلٍ، فَلَمَّا مَضَى مِنْ وَقْتِ قِيَامِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً بُعِثَ أَشْمُوِيلُ نَبِيًّا فَدَبَّرَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ. ثُمَّ سَأَلُوا أَشْمُوِيلَ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا يُقَاتِلُ بِهِمْ أَعْدَاءَهُمْ.

ذكر حال أشمويل وطالوت

[ذِكْرُ حَالِ أَشْمُوِيلَ وَطَالُوتَ] كَانَ مِنْ خَبَرِ أَشْمُوِيلَ بْنِ بَالِي أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ وَطَمِعَ فِيهِمُ الْأَعْدَاءُ، وَأُخِذَ التَّابُوتُ مِنْهُمْ، فَصَارُوا بَعْدَهُ لَا يَلْقَوْنَ مَلِكًا إِلَّا خَائِفِينَ، فَقَصَدَهُمْ جَالُوتُ مَلِكُ الْكَنْعَانِيِّينَ، وَكَانَ مُلْكُهُ مَا بَيْنَ مِصْرَ وَفِلَسْطِينَ، فَظَفِرَ بِهِمْ فَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ التَّوْرَاةَ، فَدَعَوُا اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ نَبِيًّا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ، وَكَانَ سِبْطُ النُّبُوَّةِ هَلَكُوا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ غَيْرُ امْرَأَةٍ حُبْلَى، فَحَبَسُوهَا فِي بَيْتٍ خِيفَةَ أَنْ تَلِدَ جَارِيَةً فَتُبَدِّلَهَا بِغُلَامٍ لِمَا تَرَى مِنْ رَغْبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي وَلَدِهَا، فَوَلَدَتْ غُلَامًا سَمَّتْهُ أَشْمُوِيلَ، وَمَعْنَاهُ: سَمِعَ اللَّهُ دُعَائِي. وَسَبَبُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّهَا كَانَتْ عَاقِرًا، وَكَانَ لِزَوْجِهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى قَدْ وَلَدَتْ لَهُ عَشَرَةَ أَوْلَادٍ فَبَغَتَ عَلَيْهَا بِكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ، فَانْكَسَرَتِ الْعَجُوزُ وَدَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهَا وَلَدًا، فَرَحِمَ اللَّهُ انْكِسَارَهَا وَحَاضَتْ لِوَقْتِهَا وَقَرُبَ مِنْهَا زَوْجُهَا، فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْحَمْلِ وَلَدَتْ غُلَامًا فَسَمَّتْهُ أَشْمُوِيلَ، فَلَمَّا كَبِرَ أَسْلَمَتْهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَتَعَلَّمُ التَّوْرَاةَ، وَكَفَلَهُ شَيْخٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَتَبَنَّاهُ. فَلَمَّا بَلَغَ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا أَتَاهُ جَبْرَائِيلُ وَهُوَ يُصَلِّي فَنَادَاهُ بِصَوْتٍ يُشْبِهُ صَوْتَ الشَّيْخِ، فَجَاءَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا تُرِيدُ؟ فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ لَمْ أَدْعُكَ فَيَفْزَعَ، فَقَالَ: ارْجِعْ

فَنَمْ. فَرَجَعَ، فَعَادَ جَبْرَائِيلُ لِمِثْلِهَا، فَجَاءَ إِلَى الشَّيْخِ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ عُدْ فَإِذَا دَعَوْتُكَ فَلَا تُجِبْنِي. فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ ظَهَرَ لَهُ جَبْرَائِيلُ وَأَمَرَهُ بِإِنْذَارِ قَوْمِهِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ رَسُولًا، فَدَعَاهُمْ فَكَذَّبُوهُ، ثُمَّ أَطَاعُوهُ، وَأَقَامَ يُدِيرُ أَمْرَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَكَانَ الْعَمَالِقَةُ مَعَ مَلِكِهِمْ جَالُوتَ قَدْ عَظُمَتْ نِكَايَتُهُمْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى كَادُوا يُهْلِكُونَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى بَنُو إِسْرَائِيلَ ذَلِكَ قَالُوا: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة: 246] . فَدَعَا اللَّهَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَصًا وَقَرْنًا فِيهِ دُهْنٌ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ يَكُونُ فِي طُولِهِ طُولُ هَذِهِ الْعَصَا، وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْكَ رَجُلٌ فَنَشَّ الدُّهْنَ الَّذِي فِي الْقَرْنِ فَهُوَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَادِّهِنْ رَأْسَهُ بِهِ وَمَلِّكْهُ عَلَيْهِمْ، فَقَاسُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعَصَا فَلَمْ يَكُونُوا مِثْلَهَا، وَكَانَ طَالُوتُ دَبَّاغًا. وَقِيلَ كَانَ سَقَّاءً يَسْقِي الْمَاءَ وَيَبِيعُهُ، فَضَلَّ حِمَارُهُ فَانْطَلَقَ يَطْلُبُهُ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِالْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ أَشْمُوِيلُ دَخَلَ يَسْأَلُهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ لِيَرُدَّ اللَّهُ حِمَارَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ نَشَّ الدُّهْنَ، فَقَاسُوهُ بِالْعَصَا فَكَانَ مِثْلَهَا، {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247] ، وَهُوَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ شَاوَلُ بْنُ قَيْسِ بْنِ أَنْمَارَ بْنِ ضِرَارِ بْنِ يَحْرُفَ بْنِ يَفْتَحَ بْنِ أَيْشَ بْنِ بِنْيَامِينَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ.

فَقَالُوا لَهُ: مَا كُنْتَ قَطُّ أَكْذَبَ مِنْكَ السَّاعَةَ وَنَحْنُ مِنْ سِبْطِ الْمَمْلَكَةِ وَلَمْ يُؤْتَ طَالُوتُ سَعَةً مِنَ الْمَالِ فَنَتَّبِعَهُ. فَقَالَ أَشْمُوِيلُ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247] . فَقَالُوا إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأْتِ بِآيَةٍ. فَقَالَ: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 248] . وَالسَّكِينَةُ رَأْسُ هِرٍّ، وَقِيلَ طَشْتٌ مِنْ ذَهَبٍ يُغْسَلُ فِيهَا قُلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَفِيهِ الْأَلْوَاحُ وَهِيَ مِنْ دُرٍّ، وَيَاقُوتٍ، وَزَبَرْجَدٍ، وَأَمَّا الْبَقِيَّةُ فَهِيَ عَصَا مُوسَى، وَرَضَاضَةُ الْأَلْوَاحِ. فَحَمَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَأَتَتْ بِهِ إِلَى طَالُوتَ نَهَارًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، فَأَخْرَجَهُ طَالُوتُ إِلَيْهِمْ، فَأَقَرُّوا بِمُلْكِهِ سَاخِطِينَ وَخَرَجُوا مَعَهُ كَارِهِينَ، وَهُمْ ثَمَانُونَ أَلْفًا. فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ لَهُمْ طَالُوتُ: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] . وَهُوَ نَهَرُ فِلَسْطِينَ، وَقِيلَ: الْأُرْدُنُّ، فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا، وَهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ عَطِشَ وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ إِلَّا غُرْفَةً رَوِيَ، {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة: 249] . لَقِيَهُمْ جَالُوتُ، وَكَانَ ذَا بَأْسٍ شَدِيدٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ رَجَعَ أَكْثَرُهُمْ وَ {قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة: 249] ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ غَيْرُ ثَلَاثِمَائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ عَدَدُ أَهْلِ بَدْرٍ، فَلَمَّا رَجَعَ مَنْ رَجَعَ قَالُوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] . وَكَانَ فِيهِمْ إِيشَى أَبُو دَاوُدَ وَمَعَهُ مِنْ أَوْلَادِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ابْنًا، وَكَانَ دَاوُدُ أَصْغَرَ بَنِيهِ، وَقَدْ خَلَّفَهُ يَرْعَى لَهُمْ وَيَحْمِلُ لَهُمُ الطَّعَامَ، وَكَانَ قَدْ قَالَ لِأَبِيهِ ذَاتَ يَوْمٍ: يَا أَبَتَاهْ، مَا أَرْمِي

بِقَذَّافَتِي شَيْئًا إِلَّا صَرَعْتُهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: لَقَدْ دَخَلْتُ بَيْنَ الْجِبَالِ فَوَجَدْتُ أَسَدًا رَابِضًا فَرَكِبْتُ عَلَيْهِ وَأَخَذْتُ بِأُذُنَيْهِ فَلَمْ أَخَفْهُ، ثُمَّ أَتَاهُ يَوْمًا آخَرَ فَقَالَ: إِنِّي لَأَمْشِي بَيْنَ الْجِبَالِ فَأُسَبِّحُ فَلَا يَبْقَى جَبَلٌ إِلَّا سَبَّحَ مَعِي. فَقَالَ لَهُ: أَبْشِرْ، فَإِنَّ هَذَا خَيْرٌ أَعْطَاكَهُ اللَّهُ. فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَى النَّبِيِّ الَّذِي مَعَ طَالُوتَ قَرْنًا فِيهِ دُهْنٌ وَتَنُّورٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى طَالُوتَ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ صَاحِبَكُمُ الَّذِي يَقْتُلُ جَالُوتَ يُوضَعُ هَذَا الدُّهْنُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَغْلِي حَتَّى يَسِيلَ مِنَ الْقَرْنِ، وَلَا يُجَاوِزَ رَأْسَهُ إِلَى وَجْهِهِ وَيَبْقَى عَلَى رَأْسِهِ كَهَيْئَةِ الْإِكْلِيلِ، وَيَدْخُلَ فِي هَذَا التَّنُّورِ فَيَمْلَأَهُ. فَدَعَا طَالُوتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَرَّبَهُمْ، فَلَمْ يُوَافِقْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَأُحْضِرَ دَاوُدُ مِنْ رَعْيِهِ، فَمَرَّ فِي طَرِيقِهِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَكَلَّمَتْهُ وَقُلْنَ: خُذْنَا يَا دَاوُدُ تَقْتُلْ بِنَا جَالُوتَ، فَأَخَذَهُنَّ فَجَعَلَهُنَّ فِي مِخْلَاتِهِ، وَكَانَ طَالُوتُ قَدْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ جَالُوتَ زَوَّجْتُهُ ابْنَتِي وَأَجْرَيْتُ خَاتَمَهُ فِي مَمْلَكَتِي. فَلَمَّا جَاءَ دَاوُدُ، وَضَعُوا الْقَرْنَ عَلَى رَأْسِهِ، فَغَلَى حَتَّى ادَّهَنَ مِنْهُ وَلَبِسَ التَّنُّورَ فَمَلَأَهُ، وَكَانَ دَاوُدُ مِسْقَامًا أَزْرَقَ مِصْفَارًا، فَلَمَّا دَخَلَ فِي التَّنُّورِ تَضَايَقَ عَلَيْهِ حَتَّى مَلَأَهُ، فَرِحَ أَشْمُوِيلُ وَطَالُوتُ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ بِذَلِكَ وَتَقَدَّمُوا إِلَى جَالُوتَ، وَتَصَافُّوا لِلْقِتَالِ، وَخَرَجَ دَاوُدُ نَحْوَ جَالُوتَ وَأَخَذَ الْأَحْجَارَ وَوَضَعَهَا فِي قَذَّافَتِهِ وَرَمَى بِهَا جَالُوتَ، فَوَقَعَ الْحَجَرُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَنَقَبَ رَأْسَهُ فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَزَلِ الْحَجَرُ يَقْتُلُ كُلَّ مَنْ أَصَابَهُ يَنْفُذُ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ جَالُوتَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَرَجَعَ طَالُوتُ فَأَنْكَحَ ابْنَتَهُ دَاوُدَ وَأَجْرَى خَاتَمَهُ فِي مُلْكِهِ، فَمَالَ النَّاسُ إِلَى دَاوُدَ وَأَحَبُّوهُ. فَحَسَدَهُ طَالُوتُ، وَأَرَادَ قَتْلَهُ غِيلَةً، فَعَلِمَ ذَلِكَ دَاوُدُ فَفَارَقَهُ، وَوَضَعَ فِي مَضْجَعِهِ زِقَّ خَمْرٍ وَسَجَّاهُ، وَدَخَلَ طَالُوتُ إِلَى مَنَامِ دَاوُدَ، وَقَدْ هَرَبَ دَاوُدُ، فَضَرَبَ الزِّقَّ ضَرْبَةً خَرَقَهُ، فَوَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنَ الْخَمْرِ فِي فِيهِ، فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ دَاوُدَ مَا كَانَ أَكْثَرَ شُرْبِهِ الْخَمْرَ! فَلَمَّا أَصْبَحَ طَالُوتُ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، فَخَافَ دَاوُدُ أَنْ يَغْتَالَهُ فَشَدَّدَ حُجَّابَهُ وَحُرَّاسَهُ. ثُمَّ إِنَّ دَاوُدَ أَتَاهُ مِنَ الْقَابِلَةِ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فَوَضَعَ سَهْمَيْنِ فَوْقَ رَأْسِهِ وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَالُوتُ بَصَرَ بِالسِّهَامِ فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ دَاوُدَ! هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، ظَفِرْتُ

بِهِ وَأَرَدْتُ قَتْلَهُ وَظَفِرَ بِي فَكَفَّ عَنِّي. وَأَذْكَى عَلَيْهِ الْعُيُونَ فَلَمْ يَظْفَرُوا بِهِ. وَرَكِبَ طَالُوتُ يَوْمًا فَرَأَى دَاوُدَ فَرَكَضَ فِي أَثَرِهِ، فَهَرَبَ دَاوُدُ مِنْهُ وَاخْتَفَى فِي غَارٍ فِي الْجَبَلِ، فَعَمَّى اللَّهُ أَثَرَهُ عَلَى طَالُوتَ. ثُمَّ إِنَّ طَالُوتَ قَتَلَ الْعُلَمَاءَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَةٌ كَانَتْ تَعْرِفُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ فَسَلَّمَهَا إِلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهَا، فَرَحِمَهَا وَتَرَكَهَا وَأَخْفَى أَمْرَهَا. ثُمَّ إِنَّ طَالُوتَ نَدِمَ وَأَرَادَ التَّوْبَةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْبُكَاءِ حَتَّى رَحِمَهُ النَّاسُ، فَكَانَ كُلَّ لَيْلَةٍ يَخْرُجُ إِلَى الْقُبُورِ فَيَبْكِي وَيَقُولُ: أَنْشُدُ اللَّهَ عَبْدًا عَلِمَ لِي تَوْبَةً إِلَّا أَخْبَرَنِي بِهَا. فَلَمَّا أَكْثَرَ نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ الْقُبُورِ: يَا طَالُوتُ أَمَا رَضِيتَ قَتْلَنَا أَحْيَاءً حَتَّى تُؤْذِيَنَا أَمْوَاتًا! فَازْدَادَ بُكَاءً وَحُزْنًا، فَرَحِمَهُ الرَّجُلُ الَّذِي أَمَرَهُ بِقَتْلِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ فَقَالَ لَهُ: إِنْ دَلَلْتُكَ عَلَى عَالِمٍ لَعَلَّكَ تَقْتُلُهُ! قَالَ: لَا. فَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فَقَالَ: سَلْهَا هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَحَضَرَ عِنْدَهَا وَسَأَلَهَا هَلْ لَهُ عِنْدَهَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَتْ: مَا أَعْلَمُ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ، وَلَكِنْ هَلْ تَعْلَمُونَ قَبْرَ نَبِيٍّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَبْرَ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ. فَانْطَلَقَتْ وَهُمْ مَعَهَا فَدَعَتْ، فَخَرَجَ يُوشَعُ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: مَا بَالُكُمْ؟ قَالُوا: جِئْنَا نَسْأَلُكَ هَلْ لِطَالُوتَ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُ لَهُ تَوْبَةً إِلَّا أَنْ يَتَخَلَّى مِنْ مُلْكِهِ وَيَخْرُجَ هُوَ وَوَلَدُهُ فَيُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى تُقْتَلَ أَوْلَادُهُ، ثُمَّ يُقَاتِلَ هُوَ حَتَّى يُقْتَلَ، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَوْبَةٌ، ثُمَّ سَقَطَ مَيِّتًا. وَرَجَعَ طَالُوتُ أَحْزَنَ مِمَّا كَانَ يَخَافُ أَلَّا يُتَابِعَهُ وَلَدُهُ، فَبَكَى حَتَّى سَقَطَتْ أَشْفَارُ عَيْنَيْهِ وَنَحَلَ جِسْمُهُ، فَسَأَلَهُ بَنُوهُ عَنْ حَالِهِ، فَأَخْبَرَهُمْ، فَتَجَهَّزُوا لِلْغَزْوِ فَقَاتَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى قُتِلُوا، ثُمَّ قَاتَلَ هُوَ بَعْدَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. وَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ الَّذِي بُعِثَ لِطَالُوتَ حَتَّى أَخْبَرَهُ بِتَوْبَتِهِ الْيَسَعُ، وَقِيلَ: أَشْمُوِيلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِ طَالُوتَ إِلَى أَنْ قُتِلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.

ذكر ملك داود

[ذِكْرُ مُلْكِ دَاوُدَ] هُوَ دَاوُدُ بْنُ إِيشَى بْنِ عَوِيدَ بْنِ بَاعَزَ بْنِ سَلْمُونَ بْنِ نَحْشُونَ بْنِ عَمِّيِّ نَوْذَبِ بْنِ رَامَ بْنِ حَصْرُونَ بْنِ فَارِضَ بْنِ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، وَكَانَ قَصِيرًا أَزْرَقَ قَلِيلَ الشَّعَرِ. فَلَمَّا قُتِلَ طَالُوتُ أَتَى بَنُو إِسْرَائِيلَ دَاوُدَ، فَأَعْطَوْهُ خَزَائِنَ طَالُوتَ وَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ دَاوُدَ مَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَ جَالُوتَ، وَسَبَبُ مُلْكِهِ حِينَئِذٍ أَنَّ اللَّهَ أَوْصَى إِلَى أَشْمُوِيلَ لِيَأْمُرَ طَالُوتَ بِغَزْوِ مَدْيَنَ وَقَتْلِ مَنْ بِهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا وَقَتَلَ مَنْ بِهَا إِلَّا مَلِكَهُمْ، فَإِنَّهُ أَخَذَهُ أَسِيرًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَشْمُوِيلَ: قُلْ لِطَالُوتَ آمُرُكَ بِأَمْرٍ فَتَرَكْتَهُ! لَأَنْزِعَنَّ الْمُلْكَ مِنْكَ وَمِنْ بَنِيكَ ثُمَّ لَا يَعُودُ فِيكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَمَرَ أَشْمُوِيلَ بِتَمْلِيكِ دَاوُدَ، فَمَلَّكَهُ وَسَارَ إِلَى جَالُوتَ فَقَتَلَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَلَمَّا مَلَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَعَلَهُ اللَّهُ نَبِيًّا وَمَلِكًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الزَّبُورَ، وَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَهَا، وَأَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ، وَأَمَرَ الْجِبَالَ وَالطَّيْرَ يُسَبِّحُونَ مَعَهُ إِذَا سَبَّحَ، وَلَمْ يُعْطِ اللَّهُ أَحَدًا مِثْلَ صَوْتِهِ، كَانَ إِذَا قَرَأَ الزَّبُورَ تَدْنُو الْوُحُوشُ حَتَّى يَأْخُذَ بِأَعْنَاقِهَا وَإِنَّهَا لَمُصِيخَةٌ تَسْمَعُ صَوْتَهُ. وَكَانَ شَدِيدَ الِاجْتِهَادِ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْبُكَاءِ، وَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ، وَكَانَ يَحْرُسُهُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ. وَفِي مُلْكِهِ مُسِخَ أَهْلُ أَيْلَةَ قِرْدَةً، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا تَأْتِيهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ حِيتَانُ الْبَحْرِ كَثِيرًا، فَإِذَا كَانَ غَيْرُ يَوْمِ السَّبْتِ لَا يَجِيءُ إِلَيْهِمْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَعَمِلُوا عَلَى جَانِبِ الْبَحْرِ حِيَاضًا كَبِيرَةً، وَأَجْرَوْا إِلَيْهَا الْمَاءَ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ نَهَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَتَحُوا الْمَاءَ إِلَى الْحِيَاضِ فَتَدْخُلُهَا الْحِيتَانُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْهَا، فَيَأْخُذُونَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، فَنَهَاهُمْ بَعْضُ أَهْلِهَا فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً وَبَقُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهَلَكُوا. ذِكْرُ فِتْنَتِهِ بِزَوْجَةِ أُورِيَّا ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ ابْتَلَاهُ بِزَوْجَةِ أُورِيَّا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ قَسَّمَ زَمَانَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يَوْمًا يَقْضِي فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَوْمًا يَخْلُو فِيهِ لِلْعِبَادَةِ، وَيَوْمًا يَخْلُو فِيهِ مَعَ نِسَائِهِ، وَكَانَ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً، وَكَانَ يَحْسُدُ فَضْلَ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّي، أَرَى الْخَيْرَ قَدْ ذَهَبَ بِهِ آبَائِي فَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُمْ! فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ آبَاءَكَ ابْتُلُوا بِبَلَاءٍ فَصَبَرُوا، ابْتُلِيَ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ ابْنِهِ، وَابْتُلِيَ إِسْحَاقُ بِذَهَابِ بَصَرِهِ، وَابْتُلِيَ يَعْقُوبُ بِحُزْنِهِ عَلَى يُوسُفَ. فَقَالَ: رَبِّ ابْتَلِنِي بِمِثْلِ مَا ابْتَلَيْتَهُمْ، وَأَعْطِنِي بِمِثْلِ مَا أَعْطَيْتَهُمْ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّكَ مُبْتَلًى فَاحْتَرِسْ.

وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ الْبَلِيَّةِ أَنَّهُ حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنَّهُ يُطِيقُ أَنْ يَقْطَعَ يَوْمًا بِغَيْرِ مُقَارَفَةِ سُوءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي يَخْلُو فِيهِ لِلْعِبَادَةِ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَقْطَعَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِغَيْرِ سُوءٍ وَأَغْلَقَ بَابَهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ، فَإِذَا هُوَ بِحَمَامَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا كُلُّ لَوْنٍ حَسَنٍ قَدْ وَقَعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَهْوَى لِيَأْخُذَهَا، فَطَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَيْأَسَ مِنْ أَخْذِهَا، فَمَا زَالَ يَتْبَعُهَا وَهِيَ تَفِرُّ مِنْهُ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى امْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ فَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَلَمَّا رَأَتْ ظِلَّهُ فِي الْأَرْضِ جَلَّلَتْ نَفْسَهَا بِشَعْرِهَا فَاسْتَتَرَتْ بِهِ، فَزَادَهُ ذَلِكَ رَغْبَةً، فَسَأَلَ عَنْهَا، فَأُخْبِرَ أَنَّ زَوْجَهَا بِثَغْرِ كَذَا فَبَعَثَ إِلَى صَاحِبِ الثَّغْرِ بِأَنْ يُقَدِّمَ أُورِيَّا بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ فِي الْحَرْبِ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ يَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ لَا يَنْهَزِمُ، إِمَّا أَنْ يَظْفَرَ أَوْ يُقْتَلَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِ فَقُتِلَ. وَقِيلَ: إِنَّ دَاوُدَ لَمَّا نَظَرَ إِلَى الْمَرْأَةِ فَأَعْجَبَتْهُ سَأَلَ عَنْ زَوْجِهَا، فَقِيلَ: إِنَّهُ فِي جَيْشِ كَذَا، فَكَتَبَ إِلَى صَاحِبِ الْجَيْشِ أَنْ يَبْعَثَهُ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى عَدُوِّ كَذَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَى دَاوُدَ فَأَمَرَ دَاوُدُ أَنْ يُرْسَلَ أَيْضًا إِلَى عَدُوِّ كَذَا أَشَدَّ مِنْهُ، فَفَعَلَ، فَظَفِرَ، فَأَمَرَ دَاوُدُ أَنْ يُرْسَلَ إِلَى عَدُوٍّ ثَالِثٍ، فَفَعَلَ، فَقُتِلَ أُورِيَّا فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَلَمَّا قُتِلَ تَزَوَّجَ دَاوُدُ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ أُمُّ سُلَيْمَانَ فِي قَوْلِ قَتَادَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ خَطِيئَةَ دَاوُدَ كَانَتْ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ حُسْنُ امْرَأَةِ أُورِيَّا تَمَنَّى أَنْ تَكُونَ لَهُ حَلَالًا، فَاتَّفَقَ أَنَّ أُورِيَّا سَارَ إِلَى الْجِهَادِ فَقُتِلَ فَلَمْ يَجِدْ لَهُ مِنَ الْهَمِّ مَا وَجَدَهُ لِغَيْرِهِ، فَبَيْنَمَا دَاوُدُ فِي الْمِحْرَابِ يَوْمَ عِبَادَتِهِ وَقَدْ أَغْلَقَ الْبَابَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ أَرْسَلَهُمَا اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ الْبَابِ، فَرَاعَهُ ذَلِكَ فَقَالَا: {لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ - إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 22 - 23] ، أَيْ قَهَرَنِي، وَأَخَذَ نَعْجَتِي، فَقَالَ لِلْآخَرِ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ: صَدَقَ، إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُكْمِلَ نِعَاجِي مِائَةً فَأَخَذْتُ نَعْجَتَهُ. فَقَالَ دَاوُدُ: إِذًا لَا نَدَعُكَ

وَذَاكَ، فَقَالَ الْمَلَكُ: مَا أَنْتَ بِقَادِرٍ عَلَيْهِ. قَالَ دَاوُدُ: فَإِنْ لَمْ تَرُدَّ عَلَيْهِ مَالَهُ ضَرَبْنَا مِنْكَ هَذَا وَهَذَا، وَأَوْمَأَ إِلَى أَنْفِهِ وَجَبْهَتِهِ. قَالَ: يَا دَاوُدُ أَنْتَ أَحَقُّ أَنْ يُضْرَبَ مِنْكَ هَذَا وَهَذَا حَيْثُ لَكَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً وَلَمْ يَكُنْ لَأُورِيَّا إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَمْ تَزَلْ بِهِ حَتَّى قُتِلَ وَتَزَوَّجْتَ امْرَأَتَهُ. ثُمَّ غَابَا عَنْهُ. فَعَرَفَ مَا ابْتُلِيَ بِهِ وَمَا وَقَعَ فِيهِ، فَخَرَّ سَاجِدًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَّا لِحَاجَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَأَدَامَ الْبُكَاءَ حَتَّى نَبَتَ مِنْ دُمُوعِهِ عُشْبٌ غَطَّى رَأْسَهُ، ثُمَّ نَادَى: يَا رَبِّ، قَرُحَ الْجَبِينُ، وَجَمُدَتِ الْعَيْنُ، وَدَاوُدُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ فِي خَطِيئَتِهِ بِشَيْءٍ. فَنُودِيَ: أَجَائِعٌ فَتُطْعَمَ، أَمْ مَرِيضٌ فَتُشْفَى، أَمْ مَظْلُومٌ فَتُنْصَرَ؟ قَالَ: فَنَحِبَ نَحْبَةً هَاجَ مَا نَبَتَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ. قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ غَفَرْتَ لِي؟ وَأَنْتَ حَكَمٌ عَدْلٌ لَا تَحِيفُ فِي الْقَضَاءِ إِذَا جَاءَ أُورِيَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذًا رَأْسَهُ بِيَمِينِهِ تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا قِبَلَ عَرْشِكَ يَقُولُ: يَا رَبِّ، سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ دَعَوْتُهُ وَأَسْتَوْهِبُكَ مِنْهُ فَيَهَبُكَ لِي فَأَهَبُهُ بِذَلِكَ الْجَنَّةَ. قَالَ: يَا رَبِّ الْآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ قَدْ غَفَرْتَ لِي. قَالَ: فَمَا اسْتَطَاعَ دَاوُدُ بَعْدَهَا أَنْ يَمْلَأَ عَيْنَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ حَيَاءً مِنْ رَبِّهِ حَتَّى قُبِضَ. وَنَقَشَ خَطِيئَتَهُ فِي يَدِهِ، فَكَانَ إِذَا رَآهَا اضْطَرَبَتْ يَدُهُ، وَكَانَ يُؤْتَى بِالشَّرَابِ لِيَشْرَبَهُ فَكَانَ يَشْرَبُ نِصْفَهُ أَوْ ثُلُثَيْهِ فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ فَيَنْتَحِبُ حَتَّى تَكَادَ مَفَاصِلُهُ يَزُولُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ يَمْلَأُ الْإِنَاءَ مِنْ دُمُوعِهِ. وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّ دَمْعَةَ دَاوُدَ تَعْدِلُ دُمُوعَ الْخَلَائِقِ، وَهُوَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَخَطِيئَتُهُ مَكْتُوبَةٌ فِي كَفِّهِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، ذَنْبِي قَدِّمْنِي، فَيُقَدَّمُ، فَلَا يَأْمَنُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَخِّرْنِي، فَلَا يَأْمَنُ. وَأَزَالَتِ الْخَطِيئَةُ طَاعَةَ دَاوُدَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاسْتَخَفُّوا بِأَمْرِهِ، وَوَثَبَ عَلَيْهِ ابْنٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ إِيشَى، وَأُمُّهُ ابْنَةُ طَالُوتَ فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى دَاوُدَ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ فَحَارَبَ ابْنَهُ حَتَّى هَزَمَهُ

وَوَجَّهَ إِلَيْهِ بَعْضَ قُوَّادِهِ وَأَمَرَهُ بِالرِّفْقِ بِهِ وَالتَّلَطُّفِ لَعَلَّهُ يَأْسِرُهُ وَلَا يَقْتُلُهُ، وَطَلَبَهُ الْقَائِدُ وَهُوَ مُنْهَزِمٌ فَاضْطَرَّهُ إِلَى شَجَرَةٍ فَقَتَلَهُ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ دَاوُدُ حُزْنًا شَدِيدًا وَتَنَكَّرَ لِذَلِكَ الْقَائِدِ. ذِكْرُ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَوَفَاةِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ قِيلَ: أَصَابَ النَّاسَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ طَاعُونٌ جَارِفٌ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى مَوْضِعِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ يَرَى الْمَلَائِكَةَ تَعْرُجُ مِنْهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَلِهَذَا قَصَدَهُ لِيَدْعُوَ فِيهِ، فَلَمَّا وَقَفَ مَوْضِعَ الصَّخْرَةِ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى فِي كَشْفِ الطَّاعُونِ عَنْهُمْ، فَاسْتَجَابَ لَهُ وَرُفِعَ الطَّاعُونُ، فَاتَّخَذُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَسْجِدًا، وَكَانَ الشُّرُوعُ فِي بِنَائِهِ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً مَضَتْ مِنْ مُلْكِهِ، وَتُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَتِمَّ بِنَاءَهُ، وَأَوْصَى إِلَى سُلَيْمَانَ بِإِتْمَامِهِ وَقَتْلِ الْقَائِدِ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ إِيشَى بْنَ دَاوُدَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ دَاوُدُ، وَدَفَنَهُ سُلَيْمَانُ، تَقَدَّمَ بِإِنْفَاذِ أَمْرِهِ، فَقَتَلَ الْقَائِدَ، وَاسْتَتَمَّ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ، بَنَاهُ بِالرُّخَامِ، وَزَخْرَفَهُ بِالذَّهَبِ، وَرَصَّعَهُ بِالْجَوَاهِرِ، وَقَوِيَ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعِهِ بِالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، فَلَمَّا فَرَغَ اتَّخَذَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا عَظِيمًا، وَقَرَّبَ قُرْبَانًا، فَتَقَبَّلَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ أَوَّلًا بِبِنَاءِ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا ابْتَدَأَ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي صِفَةِ الْبِنَاءِ مِمَّا يُسْتَبْعَدُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ دَاوُدُ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ هَذَا بَيْتٌ مُقَدَّسٌ وَإِنَّكَ قَدْ صَبَغْتَ يَدَكَ فِي الدِّمَاءِ فَلَسْتَ بِبَانِيهِ، وَلَكِنَّ ابْنَكَ سُلَيْمَانَ يَبْنِيهِ لِسَلَامَتِهِ مِنَ الدِّمَاءِ. فَلَمَّا مَلَكَ سُلَيْمَانُ بَنَاهُ. ثُمَّ إِنَّ دَاوُدَ تُوُفِّيَ وَكَانَ لَهُ جَارِيَةٌ تُغْلِقُ الْأَبْوَابَ كُلَّ لَيْلَةٍ وَتَأْتِيهِ بِالْمَفَاتِيحِ فَيَقُومُ إِلَى عِبَادَتِهِ، فَأَغْلَقَتْهَا لَيْلَةً فَرَأَتْ فِي الدَّارِ رَجُلًا فَقَالَتْ: مَنْ أَدْخَلَكَ الدَّارَ؟ فَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَدْخُلُ عَلَى الْمُلُوكِ بِغَيْرِ إِذْنٍ. فَسَمِعَ دَاوُدُ قَوْلَهُ فَقَالَ: أَنْتَ مَلَكُ الْمَوْتِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ لِأَسْتَعِدَّ لِلْمَوْتِ؟ قَالَ: قَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ كَثِيرًا. قَالَ: مَنْ كَانَ رَسُولَكَ؟ قَالَ: أَيْنَ أَبُوكَ، وَأَخُوكَ، وَجَارُكَ، وَمَعَارِفُكَ؟ قَالَ: مَاتُوا. قَالَ: فَهُمْ كَانُوا رُسُلِي إِلَيْكَ لِأَنَّكَ تَمُوتُ كَمَا مَاتُوا! ثُمَّ قَبَضَهُ. فَلَمَّا مَاتَ وَرِثَ سُلَيْمَانُ مُلْكَهُ وَعِلْمَهُ وَنُبُوَّتَهُ.

وَكَانَ لَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا، فَوَرِثَهُ سُلَيْمَانُ دُونَهُمْ. وَكَانَ عُمُرُ دَاوُدَ لَمَّا تُوُفِّيَ مِائَةَ سَنَةٍ، صَحَّ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً.

ذكر ملك سليمان بن داود عليه السلام

[ذِكْرُ مُلْكِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ] لَمَّا تُوُفِّيَ دَاوُدُ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ ابْنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَآتَاهُ اللَّهُ مَعَ الْمُلْكِ النُّبُوَّةَ، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ وَسَخَّرَ لَهُ الْإِنْسَ، وَالْجِنَّ، وَالشَّيَاطِينَ، وَالطَّيْرَ، وَالرِّيحَ، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى مَجْلِسِهِ عَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَقَامَ لَهُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ حَتَّى يَجْلِسَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ، وَالْجِنَّ، وَالشَّيَاطِينَ، وَالطَّيْرَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ زَالَ مُلْكُهُ، وَأَعَادَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَيْهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَكَانَ أَبْيَضَ جَسِيمًا كَثِيرَ الشَّعَرِ يَلْبَسُ الْبَيَاضَ، وَكَانَ أَبُوهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي حَيَاتِهِ وَيَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] ، الْآيَةَ. وَكَانَ خَبَرُهُ: أَنَّ غَنَمًا دَخَلَتْ كَرْمًا فَأَكَلَتْ عَنَاقِيدَهُ وَأَفْسَدَتْهُ، فَقَضَى دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ: أَنْ تُسَلِّمَ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ فَيَقُومَ

عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ وَتَدْفَعَ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ فَيُصِيبَ مِنْهَا إِلَى أَنْ يَعُودَ كَرْمُهُ إِلَى حَالِهِ، ثُمَّ يَأْخُذَ كَرْمَهُ، وَيَدْفَعَ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِهَا. فَأَمْضَى دَاوُدُ قَوْلَهُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْأَحْكَامِ الْفُرُوعِيَّةِ مُصِيبٌ، فَإِنَّ دَاوُدَ أَخْطَأَ الْحُكْمَ الصَّحِيحَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَصَابَهُ سُلَيْمَانُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] . وَكَانَ سُلَيْمَانُ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْغَزْوِ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْغَزْوَ أَمَرَ بِعَمَلِ بِسَاطٍ مِنْ خَشَبٍ يَسَعُ عَسْكَرَهُ وَيَرْكَبُونَ عَلَيْهِ هُمْ وَدَوَابُّهُمْ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ الرِّيحَ فَحَمَلَتْهُ فَسَارَتْ فِي غَدْوَتِهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَفِي رَوْحَتِهِ كَذَلِكَ، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ زَوْجَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ، وَأَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرًا أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ إِلَّا حَمَلَتْهُ الرِّيحُ إِلَيْهِ فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ. ذِكْرُ مَا جَرَى لَهُ مَعَ بِلْقِيسَ نَذْكُرُ أَوَّلًا مَا قِيلَ فِي نَسَبِهَا وَمُلْكِهَا، ثُمَّ مَا جَرَى لَهُ مَعَهَا، فَنَقُولُ قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْمِ آبَائِهَا، فَقِيلَ: إِنَّهَا هِيَ بِلْقَمَةُ ابْنَةُ لَيْشَرَحَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ سَبَإِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، وَقِيلَ: هِيَ بِلْقَمَةُ ابْنَةُ هَادَدَ، وَاسْمُهُ لَيْشَرَحَ بْنُ تُبَّعٍ ذِي الْأَذْعَارِ بْنِ تُبَّعٍ ذِي الْمَنَارِ بْنِ تُبَّعٍ الرَّايِشِ، وَقِيلَ فِي نَسَبِهَا غَيْرُ ذَلِكَ لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّبَابِعَةِ وَتَقْدِيمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَزِيَادَةٍ فِي عَدَدِهِمْ وَنُقْصَانٍ، اخْتِلَافًا لَا يَحْصُلُ النَّاظِرُ فِيهِ عَلَى طَائِلٍ، وَكَذَا أَيْضًا اخْتَلَفُوا فِي نَسَبِهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الرُّوَاةِ: إِنَّ أُمَّهَا جِنِّيَّةٌ ابْنَةُ مَلِكِ الْجِنِّ وَاسْمُهَا رَوَاحَةُ بَنَتُ السَّكَنِ. وَقِيلَ: اسْمُ أُمِّهَا يَلْقَمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الْجِنِّيِّ، وَإِنَّمَا نَكَحَ أَبُوهَا إِلَى الْجِنِّ لِأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْإِنْسِ لِي كُفُوَةٌ، فَخَطَبَ إِلَى الْجِنِّ فَزَوَّجُوهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ وُصُولِهِ إِلَى الْجِنِّ حَتَّى خَطَبَ إِلَيْهِمْ فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لَهِجًا بِالصَّيْدِ، فَرُبَّمَا اصْطَادَ الْجِنَّ عَلَى صُوَرِ الظِّبَاءِ فَيُخَلِّي عَنْهُنَّ فَظَهَرَ لَهُ مَلَكُ الْجِنِّ وَشَكَرَهُ عَلَى ذَلِكَ وَاتَّخَذَهُ صَدِيقًا، فَخَطَبَ ابْنَتَهُ، فَأَنْكَحَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ سَاحِلَ الْبَحْرِ مَا بَيْنَ يَبْرِينَ إِلَى عَدَنَ، وَقِيلَ: إِنَّ أَبَاهَا خَرَجَ يَوْمًا مُتَصَيِّدًا فَرَأَى حَيَّتَيْنِ تَقْتَتِلَانِ بَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ وَقَدْ ظَهَرَتِ السَّوْدَاءُ عَلَى الْبَيْضَاءِ فَأَمَرَ بِقَتْلِ السَّوْدَاءِ، وَحَمَلَ الْبَيْضَاءَ وَصَبَّ عَلَيْهَا الْمَاءَ، فَأَفَاقَتْ، فَأَطْلَقَهَا وَعَادَ إِلَى دَارِهِ وَجَلَسَ مُنْفَرِدًا، وَإِذَا مَعَهُ شَابٌّ جَمِيلٌ، فَذُعِرَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَخَفْ أَنَا الْحَيَّةُ الَّتِي أَنْجَيْتَنِي، وَالْأَسْوَدُ الَّذِي قَتَلْتَهُ غُلَامٌ لَنَا تَمَرَّدَ عَلَيْنَا وَقَتَلَ عِدَّةً مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْمَالَ وَعِلْمَ الطِّبِّ، فَقَالَ: أَمَّا الْمَالُ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهِ، وَأَمَّا الطِّبُّ فَهُوَ قَبِيحٌ بِالْمَلِكِ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ لَكَ بِنْتٌ فَزَوِّجْنِيهَا، فَزَوَّجَهُ عَلَى شَرْطِ أَنْ لَا يُغَيِّرَ عَلَيْهَا شَيْئًا تَعْمَلُهُ وَمَتَى غَيَّرَ عَلَيْهَا فَارَقَتْهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَحَمَلَتْ مِنْهُ فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا فَأَلْقَتْهُ فِي النَّارِ فَجَزَعَ لِذَلِكَ وَسَكَتَ لِلشَّرْطِ، ثُمَّ حَمَلَتْ مِنْهُ فَوَلَدَتْ جَارِيَةً فَأَلْقَتْهَا إِلَى كَلْبَةٍ فَأَخَذَتْهَا، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَصَبَرَ لِلشَّرْطِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَصَى عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَجَمَعَ عَسْكَرَهُ فَسَارَ إِلَيْهِ لِيُقَاتِلَهُ وَهِيَ مَعَهُ، فَانْتَهَى إِلَى مَفَازَةٍ، فَلَمَّا تَوَسَّطَهَا

رَأَى جَمِيعَ مَا مَعَهُمْ مِنَ الزَّادِ يُخْلَطُ بِالتُّرَابِ، وَإِذَا الْمَاءُ يُصَبُّ مِنَ الْقِرَبِ وَالْمَزَاوِدِ. فَأَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ وَعَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ فِعَالِ الْجِنِّ عَنْ أَمْرِ زَوْجَتِهِ فَضَاقَ ذَرْعًا عَنْ حَمْلِ ذَلِكَ، فَأَتَاهَا وَجَلَسَ وَأَوْمَأَ إِلَى الْأَرْضِ وَقَالَ: يَا أَرْضُ، صَبَرْتُ لَكِ عَلَى إِحْرَاقِ ابْنِي وَإِطْعَامِ الْكَلْبَةِ ابْنَتِي، ثُمَّ أَنْتِ الْآنَ قَدْ فَجَعْتِنَا بِالزَّادِ وَالْمَاءِ وَقَدْ أَشْرَفْنَا عَلَى الْهَلَاكِ! فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَوْ صَبَرْتَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ، وَسَأُخْبِرُكَ: إِنَّ عَدُوَّكَ خَدَعَ وَزِيرَكَ فَجَعَلَ السُّمَّ فِي الْأَزْوَادِ وَالْمِيَاهِ لِيَقْتُلَكَ وَأَصْحَابَكَ، فَمُرْ وَزِيرَكَ لِيَشْرَبَ مِنَ الْمَاءِ وَيَأْكُلَ مِنَ الزَّادِ، فَأَمَرَهُ فَامْتَنَعَ، فَقَتَلَهُ، وَدَلَّتْهُمْ عَلَى الْمَاءِ وَالْمِيرَةِ مِنْ قَرِيبٍ وَقَالَتْ: أَمَّا ابْنُكَ فَدَفَعْتُهُ إِلَى حَاضِنَةٍ تُرَبِّيهِ وَقَدْ مَاتَ، وَأَمَّا ابْنَتُكَ فَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَإِذَا بِجُوَيْرِيَةٍ قَدْ خَرَجَتْ مِنَ الْأَرْضِ، وَهِيَ بِلْقِيسُ، وَفَارَقَتْهُ امْرَأَتُهُ وَسَارَ إِلَى عَدُوِّهِ فَظَفِرَ بِهِ. وَقِيلَ فِي سَبَبِ نِكَاحِهِ إِلَيْهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْجَمِيعُ حَدِيثُ خُرَافَةٍ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا حَقِيقَةَ. وَأَمَّا مُلْكُهَا الْيَمَنَ فَقِيلَ: إِنَّ أَبَاهَا فَوَّضَ إِلَيْهَا الْمُلْكَ فَمَلَكَتْ بَعْدَهُ، وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ بِالْمُلْكِ لِأَحَدٍ فَأَقَامَ النَّاسُ ابْنَ أَخٍ لَهُ، وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا فَاسِقًا لَا يَبْلُغُهُ عَنْ بِنْتِ قَيْلٍ وَلَا مَلِكٍ ذَاتِ جَمَالٍ إِلَّا أَحْضَرَهَا وَفَضَحَهَا، حَتَّى انْتَهَى إِلَى بِلْقِيسَ بِنْتِ عَمِّهِ، فَأَرَادَ ذَلِكَ مِنْهَا فَوَعَدَتْهُ أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهَا إِلَى قَصْرِهَا وَأَعَدَّتْ لَهُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَقَارِبِهَا وَأَمَرَتْهُمَا بِقَتْلِهِ إِذَا دَخَلَ إِلَيْهَا وَانْفَرَدَ بِهَا، فَلَمَّا دَخَلَ إِلَيْهَا وَثَبَا عَلَيْهِ فَقَتَلَاهُ. فَلَمَّا قُتِلَ أَحْضَرَتْ وُزَرَاءَهُ فَقَرَّعَتْهُمْ، فَقَالَتْ: أَمَا كَانَ فِيكُمْ مَنْ يَأْنَفُ لِكَرِيمَتِهِ، وَكَرَائِمِ عَشِيرَتِهِ! ثُمَّ أَرَتْهُمْ إِيَّاهُ قَتِيلًا، وَقَالَتِ: اخْتَارُوا رَجُلًا تُمَلِّكُونَهُ. فَقَالُوا: لَا نَرْضَى بِغَيْرِكِ، فَمَلَّكُوهَا. وَقِيلَ: إِنَّ أَبَاهَا لَمْ يَكُنْ مَلِكًا، وَإِنَّمَا كَانَ وَزِيرَ الْمَلِكِ، وَكَانَ الْمَلِكُ خَبِيثًا، قَبِيحَ السِّيرَةِ يَأْخُذُ بَنَاتِ الْأَقْيَالِ، وَالْأَعْيَانِ، وَالْأَشْرَافِ، وَإِنَّهَا قَتَلَتْهُ، فَمَلَّكَهَا النَّاسُ عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا عَظَّمُوا مُلْكَهَا وَكَثْرَةِ جُنْدِهَا فَقِيلَ: كَانَ تَحْتَ يَدِهَا أَرْبَعُمِائَةِ مَلِكٍ، كُلُّ مَلِكٍ مِنْهُمْ عَلَى كُورَةٍ، مَعَ كُلِّ مَلِكٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ لَهَا ثَلَاثُمِائَةِ وَزِيرٍ يَتَدَبَّرُونَ مُلْكَهَا، وَكَانَ لَهَا اثْنَا عَشَرَ قَائِدًا يَقُودُ كُلُّ قَائِدٍ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ.

وَبَالَغَ آخَرُونَ مُبَالَغَةً تَدُلُّ عَلَى سُخْفِ عُقُولِهِمْ وَجَهْلِهِمْ، قَالُوا: كَانَ لَهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَيْلٍ، تَحْتَ يَدِ كُلِّ قَيْلٍ مِائَةُ أَلْفٍ مُقَاتِلٍ، مَعَ كُلِّ مُقَاتِلٍ سَبْعُونَ أَلْفَ جَيْشٍ، فِي كُلِّ جَيْشٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مُبَارِزٍ، لَيْسَ فِيهِمْ إِلَّا أَبْنَاءُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ رَاوِي هَذَا الْكَذِبِ الْفَاحِشِ عَرَفَ الْحِسَابَ حَتَّى يَعْلَمَ مِقْدَارَ جَهْلِهِ، وَلَوْ عَرَفَ مَبْلَغَ الْعَدَدِ لَأَقْصَرَ عَنْ إِقْدَامِهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ السَّخِيفِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ لَا يَبْلُغُونَ جَمِيعُهُمْ، شَبَابُهُمْ وَشُيُوخُهُمْ، وَصِبْيَانُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ هَذَا الْعَدَدَ، فَكَيْفَ أَنْ يَكُونُوا أَبْنَاءَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً! فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَمْ يَكُونُ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَسْنَانِهِمْ، وَكَمْ تَكُونُ الرَّعِيَّةُ وَأَرْبَابُ الْحِرَفِ وَالْفِلَاحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْجُنْدُ بَعْضُ أَهْلِ الْبِلَادِ، وَإِنْ كَانَ الْحَاصِلُ مِنَ الْيَمَنِ قَدْ قَلَّ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّ رُقْعَةَ أَرْضِهِ لَمْ تَصْغُرْ، وَهِيَ لَا تَسَعُ هَذَا الْعَدَدَ قِيَامًا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى جَانِبِ الْآخَرِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ قَالُوا: أَنْفَقَتْ عَلَى كُوَّةِ بَيْتِهَا الَّتِي تَدْخُلُ الشَّمْسُ مِنْهَا فَتَسْجُدُ لَهَا ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ أُوقِيَّةٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَقَالُوا غَيْرَ ذَلِكَ، وَذَكَرُوا مِنْ أَمْرِ عَرْشِهَا مَا يُنَاسِبُ كَثْرَةَ جَيْشِهَا، فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ. وَقَدْ تَوَاطَئُوا عَلَى الْكَذِبِ وَالتَّلَاعُبِ بِعُقُولِ الْجُهَّالِ وَاسْتَهَانُوا بِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ اسْتِجْهَالِ الْعُقَلَاءِ لَهُمْ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا عَلَى قُبْحِهِ لِيَقِفَ بَعْضُ مَنْ كَانَ يُصَدِّقُ بِهِ عَلَيْهِ فَيَنْتَهِيَ إِلَى الْحَقِّ. وَأَمَّا سَبَبُ مَجِيئِهَا إِلَى سُلَيْمَانَ وَإِسْلَامِهَا فَإِنَّهُ طَلَبَ الْهُدْهُدَ فَلَمْ يَرَهُ، وَإِنَّمَا طَلَبَهُ لِأَنَّ الْهُدْهُدَ يَرَى الْمَاءَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ فَيَعْلَمُ هَلْ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ مَاءٌ أَمْ لَا، وَهَلْ هُوَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ، فَبَيْنَمَا سُلَيْمَانُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ احْتَاجَ إِلَى الْمَاءِ فَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ مِمَّنْ مَعَهُ بُعْدَهُ، فَطَلَبَ الْهُدْهُدَ لِيَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَهُ. وَقِيلَ: بَلْ نَزَلَتِ الشَّمْسُ إِلَى سُلَيْمَانَ، فَنَظَرَ لِيَرَى مِنْ أَيْنَ نَزَلَتْ لِأَنَّ الطَّيْرَ كَانَتْ تُظِلُّهُ، فَرَأَى مَوْضِعَ الْهُدْهُدِ فَارِغًا، فَقَالَ: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21] .

وَكَانَ الْهُدْهُدُ قَدْ مَرَّ عَلَى قَصْرِ بِلْقِيسَ فَرَأَى بُسْتَانًا لَهَا خَلْفَ قَصْرِهَا، فَمَالَ إِلَى الْخُضْرَةِ، فَرَأَى فِيهِ هُدْهُدًا فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ أَنْتَ عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَا تَصْنَعُ هَهُنَا؟ فَقَالَ لَهُ: وَمَنْ سُلَيْمَانُ؟ فَذَكَرَ لَهُ حَالَهُ وَمَا سُخِّرَ لَهُ مِنَ الطَّيْرِ وَغَيْرِهِ، فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ هُدْهُدُ سُلَيْمَانَ: وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كَثْرَةَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ تَمْلِكُهُمُ امْرَأَةٌ {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] . وَجَعَلُوا الشُّكْرَ لِلَّهِ أَنْ سَجَدُوا لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِهِ، وَكَانَ عَرْشُهَا سَرِيرًا مِنْ ذَهَبٍ، مُكَلَّلٌ بِالْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ مِنَ الْيَوَاقِيتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَاللُّؤْلُؤِ. ثُمَّ إِنَّ الْهُدْهُدَ عَادَ إِلَى سُلَيْمَانَ فَأَخْبَرَهُ بِعُذْرِهِ فِي تَأْخِيرِهِ، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهَا، فَوَافَاهَا وَهِيَ فِي قَصْرِهَا فَأَلْقَاهُ فِي حِجْرِهَا، فَأَخَذَتْهُ وَقَرَأَتْهُ، وَأَحْضَرَتْ قَوْمَهَا وَقَالَتْ: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ - إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ - يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ} [النمل: 29 - 32] . . . . {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32] {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33] قَالَتْ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَإِنْ قَبِلَهَا فَهُوَ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا فَنَحْنُ أَعَزُّ مِنْهُ وَأَقْوَى، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا فَهُوَ نَبِيٌّ مِنَ اللَّهِ. فَلَمَّا جَاءَتِ الْهَدِيَّةُ إِلَى سُلَيْمَانَ قَالَ لِلرُّسُلِ: {أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل: 36]- إِلَى قَوْلِهِ -: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37] ، فَلَمَّا رَجَعَ الرُّسُلُ إِلَيْهَا سَارَتْ إِلَيْهِ وَأَخَذَتْ مَعَهَا الْأَقْيَالَ مِنْ قَوْمِهَا، وَهُمُ الْقُوَّادُ، وَقَدِمَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَارَبَتْهُ وَصَارَتْ مِنْهُ عَلَى نَحْوِ فَرْسَخٍ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ - قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل: 38 - 39] ،

يَعْنِي قَبْلَ أَنْ تَقُومَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَقْصِدُ فِيهِ بَيْتَكَ لِلْغَدَاءِ. قَالَ سُلَيْمَانُ: أُرِيدُ أَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ. فَـ {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل: 40]- وَهُوَ آصَفُ بْنُ بَرْخِيَا، وَكَانَ يَعْرِفُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ - {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] ، وَقَالَ لَهُ انْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ وَأَدِمِ النَّظَرَ فَلَا تَرُدَّ طَرْفَكَ حَتَّى أُحْضِرَهُ عِنْدَكَ. وَسَجَدَ وَدَعَا، فَرَأَى سُلَيْمَانُ الْعَرْشَ قَدْ نَبَعَ مِنْ تَحْتِ سَرِيرِهِ، فَقَالَ: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ} [النمل: 40] إِذْ أَتَانِي بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيَّ طَرْفِي {أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40] إِذْ جَعَلَ تَحْتَ يَدِي مَنْ هُوَ أَقْدَرُ مِنِّي عَلَى إِحْضَارِهِ. فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل: 42] وَلَقَدْ تَرَكْتُهُ فِي حُصُونٍ وَعِنْدَهُ جُنُودٌ تَحْفَظُهُ فَكَيْفَ جَاءَ إِلَى هَهُنَا؟ فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلشَّيَاطِينِ: ابْنُوا لِي صَرْحًا تَدْخُلُ عَلَيَّ فِيهِ بِلْقِيسُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ سُلَيْمَانَ قَدْ سُخِّرَ لَهُ مَا سُخِّرَ وَبِلْقِيسُ مَلِكَةُ سَبَإٍ يَنْكِحُهَا فَتَلِدُ غُلَامًا فَلَا نَنْفَكُّ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ أَبَدًا، وَكَانَتِ امْرَأَةً شَعْرَاءَ السَّاقَيْنِ، فَقَالَ لِلشَّيَاطِينِ: ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا يُرَى ذَلِكَ مِنْهَا فَلَا يَتَزَوَّجُهَا، فَبَنَوْا لَهُ صَرْحًا مِنْ قَوَارِيرَ خُضْرٍ وَجَعَلُوا لَهُ طَوَابِيقَ مِنْ قَوَارِيرَ بِيضٍ، فَبَقِيَ كَأَنَّهُ الْمَاءُ، وَجَعَلُوا تَحْتَ الطَّوَابِيقِ صُوَرَ دَوَابِّ الْبَحْرِ مِنَ السَّمَكِ وَغَيْرِهِ، وَقَعَدَ سُلَيْمَانُ عَلَى كُرْسِيٍّ، ثُمَّ أَمَرَ فَأُدْخِلَتْ بِلْقِيسُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَدْخُلَهُ وَرَأَتْ صُوَرَ السَّمَكِ وَدَوَابَّ الْمَاءِ حَسِبَتْهُ لُجَّةَ مَاءٍ فَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا لِتَدْخُلَ، فَلَمَّا رَآهَا سُلَيْمَانُ صَرَفَ نَظَرَهُ عَنْهَا وَقَالَ {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] . فَاسْتَشَارَ سُلَيْمَانُ فِي شَيْءٍ يُزِيلُ الشَّعَرَ وَلَا يَضُرُّ الْجَسَدَ، فَعَمِلَ لَهُ الشَّيَاطِينُ النُّورَةَ، فَهِيَ أَوَّلُ مَا عَمِلَتِ النُّورَةَ،

وَنَكَحَهَا سُلَيْمَانُ وَأَحَبَّهَا حُبًّا شَدِيدًا وَرَدَّهَا إِلَى مُلْكِهَا بِالْيَمَنِ، فَكَانَ يَزُورُهَا كُلَّ شَهْرٍ مَرَّةً يُقِيمُ عِنْدَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تَنْكِحَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهَا فَامْتَنَعَتْ وَأَنِفَتْ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا ذَلِكَ. فَقَالَتْ: إِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ فَزَوِّجْنِي ذَا تُبَّعٍ مَلِكَ هَمْدَانَ، فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى الْيَمَنِ، وَسَلَّطَ زَوْجَهَا ذَا تُبَّعٍ عَلَى الْمُلْكِ، وَأَمَرَ الْجِنَّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ بِطَاعَتِهِ، فَاسْتَعْمَلَهُمْ ذُو تُبَّعٍ، فَعَمِلُوا لَهُ عِدَّةَ حُصُونٍ بِالْيَمَنِ، مِنْهَا سَلَحِينُ، وَمَرَاوِحُ، وَفِلْيُونُ، وَهُنَيْدَةُ، وَغَيْرُهَا، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ لَمْ يُطِيعُوا ذَا تُبَّعٍ وَانْقَضَى مُلْكُ ذِي تُبَّعٍ، وَمُلْكُ بِلْقِيسَ مَعَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: إِنَّ بِلْقِيسَ مَاتَتْ قَبْلَ سُلَيْمَانَ بِالشَّامِ وَإِنَّهُ دَفَنَهَا بِتَدْمُرَ، وَأَخْفَى قَبْرَهَا. ذِكْرُ غَزْوَتِهِ أَبَا زَوْجَتِهِ جَرَادَةَ وَنِكَاحِهَا، وَعِبَادَةِ الصَّنَمِ فِي دَارِهِ، وَأَخْذِ خَاتَمِهِ، وَعَوْدِهِ إِلَيْهِ قِيلَ: سَمِعَ سُلَيْمَانُ بِمَلِكٍ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ وَشِدَّةِ مُلْكِهِ، وَعِظَمِ شَأْنِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ إِلَيْهِ سَبِيلٌ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ إِلَى تِلْكَ الْجَزِيرَةِ وَحَمَلَتْهُ الرِّيحُ حَتَّى نَزَلَ بِجُنُودِهِ بِهَا فَقَتَلَ مَلِكَهَا وَغَنِمَ مَا فِيهَا وَغَنِمَ بِنْتًا لِلْمَلِكِ لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهَا حُسْنًا وَجَمَالًا فَاصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ وَدَعَاهَا لِلْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَتْ عَلَى قِلَّةِ رَغْبَةٍ فِيهِ، وَأَحَبَّهَا حُبًّا شَدِيدًا، وَكَانَتْ لَا يَذْهَبُ حُزْنُهَا وَلَا تَزَالُ تَبْكِي، فَقَالَ لَهَا: وَيْحَكِ مَا هَذَا الْحُزْنُ، وَالدَّمْعُ الَّذِي لَا يَرْقَأُ؟ قَالَتْ: إِنِّي أَذْكُرُ أَبِي وَمُلْكَهُ وَمَا أَصَابَهُ فَيُحْزِنُنِي ذَلِكَ. قَالَ: فَقَدْ أَبْدَلَكِ اللَّهُ مُلْكًا خَيْرًا مِنْ مُلْكِهِ وَهَدَاكِ إِلَى الْإِسْلَامِ. قَالَتْ: إِنَّهُ كَذَلِكَ وَلَكِنِّي إِذَا ذَكَرْتُهُ أَصَابَنِي مَا تَرَى، فَلَوْ أَمَرْتَ الشَّيَاطِينَ فَصَوَّرُوا صُورَتَهُ فِي دَارِي أَرَاهَا بِكُرَةً وَعَشِيَّةً لَرَجَوْتُ أَنْ يُذْهِبَ ذَلِكَ حُزْنِي.

فَأَمَرَ الشَّيَاطِينَ فَعَمِلُوا لَهَا مِثْلَ صُورَتِهِ لَا تُنْكِرُ مِنْهَا شَيْئًا، وَأَلْبَسَتْهَا ثِيَابًا مِثْلَ ثِيَابِ أَبِيهَا، وَكَانَتْ إِذَا خَرَجَ سُلَيْمَانُ مِنْ دَارِهَا تَغْدُو عَلَيْهِ فِي جَوَارِيهَا فَتَسْجُدُ لَهُ وَيَسْجُدْنَ مَعَهَا، وَتَرُوحُ عَشِيَّةً وَيَرُحْنَ، فَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا يَعْلَمُ سُلَيْمَانُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهَا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا. وَبَلَغَ الْخَبَرُ آصَفَ بْنَ بَرْخِيَّا، وَكَانَ صَدِيقًا، وَكَانَ لَا يَرِدُ مِنْ مَنَازِلِ سُلَيْمَانَ أَيَّ وَقْتٍ أَرَادَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ سَوَاءٌ كَانَ سُلَيْمَانُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا. فَأَتَاهُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ كَبِرَ سِنِّي وَدَقَّ عَظْمِي، وَقَدْ حَانَ مِنِّي ذَهَابُ عُمُرِي وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَقُومَ مَقَامًا أَذْكُرُ فِيهِ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَأُثْنِي عَلَيْهِمْ بِعِلْمِي فِيهِمْ، وَأُعَلِّمُ النَّاسَ بَعْضَ مَا يَجْهَلُونَ. قَالَ: افْعَلْ. فَجَمَعَ لَهُ سُلَيْمَانُ النَّاسَ، فَقَامَ آصَفُ خَطِيبًا فِيهِمْ فَذَكَرَ مَنْ مَضَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: مَا كَانَ أَحْلَمَكَ فِي صِغَرِكَ، وَأَبْعَدَكَ مِنْ كُلِّ مَا يُكْرَهُ فِي صِغَرِكَ. ثُمَّ انْصَرَفَ. فَمُلِئَ سُلَيْمَانُ غَضَبًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: يَا آصَفُ لَمَّا ذَكَرْتَنِي جَعَلْتَ تُثْنِي عَلَيَّ فِي صِغَرِي وَسَكَتَّ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ، فَمَا الَّذِي أَحْدَثْتُ فِي آخِرِ أَمْرِي؟ قَالَ: إِنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَيُعْبَدُ فِي دَارِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي هَوَى امْرَأَةٍ. قَالَ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ مَا قُلْتُ إِلَّا عَنْ شَيْءٍ بَلَغَكَ، وَدَخَلَ دَارَهُ وَكَسَرَ الصَّنَمَ وَعَاقَبَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ وَجَوَارِيَهَا. ثُمَّ أَمَرَ بِثِيَابِ الطَّهَارَةِ فَأُتِيَ بِهَا، وَهِيَ ثِيَابٌ تَغْزِلُهَا الْأَبْكَارُ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَلَمْ تَمَسَّهَا امْرَأَةٌ ذَاتُ دَمٍ، فَلَبِسَهَا وَخَرَجَ إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَفَرَشَ الرَّمَادَ، ثُمَّ أَقْبَلَ تَائِبًا إِلَى اللَّهِ وَتَمَعَّكَ فِي الرَّمَادِ بِثِيَابِهِ تَذَلُّلًا لِلَّهِ تَعَالَى وَتَضَرُّعًا، وَبَكَى وَاسْتَغْفَرَ يَوْمَهُ ذَلِكَ ثُمَّ عَادَ إِلَى دَارِهِ. وَكَانَتْ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ لَا يَثِقُ إِلَّا بِهَا يُسَلِّمُ خَاتَمَهُ إِلَيْهَا، وَكَانَ لَا يَنْزِعُهُ إِلَّا عِنْدَ دُخُولِهِ الْخَلَاءَ، وَإِذَا أَرَادَ يُصِيبُ امْرَأَةً فَيُسَلِّمُهُ إِلَيْهَا حَتَّى يَتَطَهَّرَ، وَكَانَ مُلْكُهُ فِي خَاتَمِهِ، فَدَخَلَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الْخَلَاءَ وَسَلَّمَ خَاتَمَهُ إِلَيْهَا، فَأَتَاهَا شَيْطَانٌ اسْمُهُ صَخْرٌ فِي صُورَةِ سُلَيْمَانَ فَأَخَذَ الْخَاتَمَ وَخَرَجَ إِلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ فِي صُورَةِ سُلَيْمَانَ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالطَّيْرُ. وَخَرَجَ سُلَيْمَانُ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَالَتُهُ وَهَيْئَتُهُ، فَقَالَ: خَاتَمِي! قَالَتْ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا سُلَيْمَانُ. قَالَتْ: كَذَبْتَ لَسْتَ

بِسُلَيْمَانَ! قَدْ جَاءَ سُلَيْمَانُ وَأَخَذَ خَاتَمَهُ مِنِّي وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِهِ! فَعَرَفَ سُلَيْمَانُ خَطِيئَتَهُ فَخَرَجَ وَجَعَلَ يَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَا سُلَيْمَانُ، فَيَحْثُونَ عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَصَدَ الْبَحْرَ وَجَعَلَ يَنْقُلُ سَمَكَ الصَّيَّادِينَ وَيُعْطُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَمَكَتَيْنِ يَبِيعُ إِحْدَاهُمَا بِخُبْزٍ وَيَأْكُلُ الْأُخْرَى، فَبَقِيَ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. ثُمَّ إِنَّ آصَفَ وَعُظَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْكَرُوا حُكْمَ الشَّيْطَانِ الْمُشْتَبَهِ بِسُلَيْمَانَ، فَقَالَ آصَفُ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، هَلْ رَأَيْتُمْ مِنَ اخْتِلَافِ حُكْمِ سُلَيْمَانَ مَا رَأَيْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَمْهِلُونِي حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ وَأَسْأَلَهُنَّ هَلْ أَنْكَرْنَ مَا أَنْكَرْنَا مِنْهُ. فَدَخَلَ عَلَيْهِنَّ وَسَأَلَهُنَّ، فَذَكَرْنَ أَشَدَّ مِمَّا عِنْدَهُ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَخْبَرَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى الشَّيْطَانُ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا بِهِ طَارَ مِنْ مَجْلِسِهِ فَمَرَّ بِالْبَحْرِ فَأَلْقَى الْخَاتَمَ فِيهِ، فَبَلَعَتْهُ سَمَكَةٌ، وَاصْطَادَهَا صَيَّادٌ، وَحَمَلَ لَهُ سُلَيْمَانُ يَوْمَهُ ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ سَمَكَتَيْنِ، تِلْكَ السَّمَكَةُ إِحْدَاهُمَا. فَأَخَذَهَا فَشَقَّهَا لِيُصْلِحَهَا، وَيَأْكُلَهَا فَرَأَى خَاتَمَهُ فِي جَوْفِهَا، فَأَخَذَهُ وَجَعَلَهُ فِي إِصْبُعِهِ وَخَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالطَّيْرُ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَرَجَعَ إِلَى مُلْكِهِ، وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَبَثَّ الشَّيَاطِينَ فِي إِحْضَارِ صَخْرٍ الَّذِي أَخَذَ الْخَاتَمَ، فَأَحْضَرُوهُ، فَثَقَبَ لَهُ صَخْرَةً، وَجَعَلَهُ فِيهَا وَسَدَّ النَّقَبَ بِالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، وَأَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ. وَكَانَ مُقَامُهُ فِي الْمُلْكِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، بِمِقْدَارِ عِبَادَةِ الصَّنَمِ فِي دَارِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: كَانَ السَّبَبُ فِي ذَهَابِ مُلْكِهِ أَنَّ امْرَأَةً لَهُ كَانَتْ أَبَرَّ نِسَائِهِ عِنْدَهُ تُسَمَّى جَرَادَةَ وَلَا يَأْتَمِنُ عَلَى خَاتَمِهِ سِوَاهَا، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ أَخِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ حُكُومَةٌ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَقْضِيَ لَهُ. فَقَالَ: أَفْعَلُ، وَلَمْ يَفْعَلْ، فَابْتُلِيَ، وَأَعْطَاهَا خَاتَمَهُ، وَدَخَلَ الْخَلَاءَ، فَخَرَجَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَتِهِ فَأَخَذَهُ، وَخَرَجَ سُلَيْمَانُ بَعْدَهُ فَطَلَبَ الْخَاتَمَ، فَقَالَتْ: أَلَمْ تَأْخُذْهُ؟ قَالَ: لَا، وَخَرَجَ مِنْ مَكَانِهِ تَائِهًا وَبَقِيَ الشَّيْطَانُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ، فَفَطِنُوا لَهُ وَأَحْدَقُوا بِهِ وَنَشَرُوا التَّوْرَاةَ فَقَرَءُوهَا، فَطَارَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَأَلْقَى الْخَاتَمَ فِي الْبَحْرِ، فَابْتَلَعَهُ حُوتٌ، ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ قَصَدَ صَيَّادًا وَهُوَ جَائِعٌ فَاسْتَطْعَمَهُ، وَقَالَ: أَنَا سُلَيْمَانُ، فَكَذَّبَهُ، وَضَرَبَهُ فَشَجَّهُ، فَجَعَلَ يَغْسِلُ الدَّمَ، فَلَامَ الصَّيَّادُونَ صَاحِبَهُمْ، وَأَعْطَوْهُ سَمَكَتَيْنِ

إِحْدَاهُمَا الَّتِي ابْتَلَعَتِ الْخَاتَمَ، فَشَقَّ بَطْنَهَا، وَأَخَذَ الْخَاتَمَ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ مُلْكَهُ، فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: لَا أَحْمَدُكُمْ عَلَى عُذْرِكُمْ وَلَا أَلُومُكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ. وَسَخَّرَ اللَّهُ لَهُ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ وَالرِّيحَ، وَلَمْ يَكُنْ سَخَّرَهَا لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ - فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ - وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ - وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [ص: 35 - 38] . وَقِيلَ فِي سَبَبِ زَوَالِ مُلْكِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ وَفَاةِ سُلَيْمَانَ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِلَى سُلَيْمَانَ الْمُلْكَ لَبِثَ فِيهِ مُطَاعًا، وَالْجِنُّ تَعْمَلُ لَهُ {مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُعَذِّبُ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ شَاءَ وَيَطْلُبُ مَنْ شَاءَ، حَتَّى إِذَا دَنَا أَجَلُهُ وَكَانَ عَادَتُهُ إِذَا صَلَّى كُلَّ يَوْمٍ رَأَى شَجَرَةً نَابِتَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَقُولُ: مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ: كَذَا. فَيَقُولُ: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ فَإِنْ كَانَتْ لِغَرْسٍ غُرِسَتْ وَإِنْ كَانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ رَأَى شَجَرَةً بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ فَقَالَتِ: الْخُرْنُوبَةُ. فَقَالَ لَهَا: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ قَالَتْ: لِخَرَابِ هَذَا الْبَيْتِ - يَعْنِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ - فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُخْرِبَهُ وَأَنَا حَيٌّ، أَنْتِ الَّتِي عَلَى وَجْهِكِ هَلَاكِي وَخَرَابُ الْبَيْتِ! وَقَلَعَهَا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ عَمِّ عَلَى الْجِنِّ مَوْتِي حَتَّى يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ يَتَجَرَّدُ لِلْعِبَادَةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ، وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ، يُدْخِلُ مَعَهُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَأَدْخَلَهُ فِي الْمَرَّةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصَاهُ أَدْرَكَهُ أَجَلُهُ فَمَاتَ، وَلَا تَعْلَمُ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَلَا الْجِنُّ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْمَلُونَ خَوْفًا مِنْهُ، فَأَكَلَتِ الْأَرَضَةُ عَصَاهُ فَانْكَسَرَتْ فَسَقَطَ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ مَاتَ، وَعَلِمَ النَّاسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ وَلَوْ عَلِمُوا الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ

وَمُقَاسَاةِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ. وَلَمَّا سَقَطَ أَرَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْلَمُوا مُذْ كَمْ مَاتَ، فَوَضَعُوا الْأَرَضَةَ عَلَى الْعَصَا يَوْمًا وَلَيْلَةً فَأَكَلَتْ مِنْهَا، فَحَسَبُوا بِنِسْبَتِهِ فَكَانَ أَكْلُ تِلْكَ الْعَصَا فِي سَنَةٍ، ثُمَّ إِنَّ الشَّيَاطِينَ قَالُوا لِلْأَرَضَةِ: لَوْ كُنْتِ تَأْكُلِينَ الطَّعَامَ لَأَتَيْنَاكِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ، وَلَوْ كُنْتِ تَشْرَبِينَ الشَّرَابَ لَأَتَيْنَاكِ بِأَطْيَبِ الشَّرَابِ، وَلَكِنَّا سَنَنْقُلُ لَكِ الْمَاءَ وَالطِّينَ، فَهُمْ يَنْقُلُونَ إِلَيْهَا ذَلِكَ حَيْثُ كَانَتْ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الطِّينِ يَكُونُ فِي وَسَطِ الْخَشَبَةِ؟ فَهُوَ مَا يَنْقُلُونَهُ لَهَا! قِيلَ: إِنَّ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ شَكَوْا مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ التَّعَبِ، وَالنَّصَبِ إِلَى بَعْضِ أُولِي التَّجْرِبَةِ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: كَانَ إِبْلِيسُ، فَقَالَ لَهُمْ: أَلَسْتُمْ تَنْصَرِفُونَ بِأَحْمَالٍ وَتَعُودُونَ بِغَيْرِ أَحْمَالٍ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَلَكُمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ رَاحَةٌ، فَحَمَلَتِ الرِّيحُ الْكَلَامَ، فَأَلْقَتْهُ فِي أُذُنِ سُلَيْمَانَ، فَأَمَرَ الْمُوَكَّلِينَ بِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا جَاءُوا بِالْأَحْمَالِ، وَالْآلَاتِ الَّتِي يُبْنَى بِهَا إِلَى مَوْضِعِ الْبِنَاءِ، وَالْعَمَلِ يُحَمِّلُهُمْ مَنْ هُنَاكَ فِي عَوْدِهِمْ مَا يَلْقَوْنَهُ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا الْأَعْمَالُ لِيَكُونَ أَشَقَّ عَلَيْهِمْ وَأَسْرَعَ فِي الْعَمَلِ، فَاجْتَازُوا بِذَلِكَ الَّذِي شَكَوْا إِلَيْهِ حَالَهُمْ فَأَعْلَمُوهُ حَالَهُمْ فَقَالَ لُهَمُ: انْتَظِرُوا الْفَرَجَ فَإِنَّ الْأُمُورَ إِذَا تَنَاهَتْ تَغَيَّرَتْ، فَلَمْ تَطُلْ مُدَّةُ سُلَيْمَانَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، وَكَانَ مُدَّةُ عُمُرِهِ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمُلْكُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً.

ذكر من ملك من الفرس بعد كيقباذ

[ذِكْرُ مَنْ مَلَكَ مِنَ الْفُرْسِ بَعْدَ كَيْقُبَاذَ] لَمَّا تُوُفِّيَ كَيْقُبَاذُ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ كَيْكَاوُوسُ بْنُ كِينِيَّةَ بْنِ كَيْقُبَاذَ، فَلَمَّا مَلَكَ حَمَى بِلَادَهُ وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ عُظَمَاءِ الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُ، وَكَانَ يَسْكُنُ بِنَوَاحِي بَلْخَ، وَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ سَمَّاهُ سِيَاوَخْشَ وَضَمَّهُ إِلَى رُسْتَمَ الشَّدِيدِ بْنِ دَاسْتَانَ بْنِ نِرِيمَانَ بْنِ جَوْذَنْكَ بْنِ كَرْشَاسِبَ، وَكَانَ إِصْبَهْبَذَ سِجِسْتَانَ وَمَا يَلِيهَا، وَجَعَلَهُ عِنْدَهُ لِيُرَبِّيَهُ، فَأَحْسَنَ تَرْبِيَتَهُ وَعَلَّمَهُ الْعُلُومَ وَالْفُرُوسِيَّةَ وَالْآدَابَ وَمَا يَحْتَاجُ الْمُلُوكُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَمَلَ مَا أَرَادَ حَمَلَهُ إِلَى أَبِيهِ، فَلَمَّا رَآهُ سُرَّ بِهِ صُورَةً وَمَعْنًى. وَكَانَ أَبُوهُ كَيْكَاْوُوسُ قَدْ تَزَوَّجَ ابْنَةَ أَفْرَاسِيَابَ مَلِكِ التُّرْكِ، وَقِيلَ إِنَّهَا ابْنَةُ مَلِكِ الْيَمَنِ، فَهَوِيَتْ سِيَاوَخْشَ وَدَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَ، فَسَعَتْ بِهِ إِلَى أَبِيهِ حَتَّى أَفْسَدَتْهُ عَلَيْهِ، فَسَأَلَ سِيَاوَخْشُ رُسْتَمَ الشَّدِيدَ لِيَتَوَصَّلَ مَعَ أَبِيهِ لِيُنْفِذَهُ إِلَى مُحَارَبَةِ أَفْرَاسِيَابَ بِسَبَبِ مَنْعِهِ بَعْضَ مَا كَانَ قَدِ اسْتَقَرَّ بَيْنَهُمَا، وَأَرَادَ الْبُعْدَ عَنْ أَبِيهِ لِيَأْمَنَ كَيْدَ امْرَأَتِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ رُسْتَمُ، فَسَيَّرَهُ أَبُوهُ وَضَمَّ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا فَسَارَ إِلَى بِلَادِ التُّرْكِ لِلِقَاءِ أَفْرَاسِيَابَ، فَلَمَّا سَارَ إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ جَرَى بَيْنَهُمَا صُلْحٌ، فَكَتَبَ سِيَاوَخْشُ إِلَى أَبِيهِ يُعَرِّفُهُ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَفْرَاسِيَابَ مِنَ الصُّلْحِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ وَالِدُهُ يَأْمُرُهُ بِمُنَاهَضَةِ أَفْرَاسِيَابَ وَمُحَارَبَتِهِ وَفَسْخِ الصُّلْحِ، فَاسْتَقْبَحَ سِيَاوَخْشُ الْغَدْرَ وَأَنِفَ مِنْهُ، فَلَمْ يُنَفِّذْ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ زَوْجَةِ وَالِدِهِ لِيَقْبُحَ فِعْلُهُ، فَرَاسَلَ أَفْرَاسِيَابَ فِي الْأَمَانِ لِنَفْسِهِ لِيَنْتَقِلَ إِلَيْهِ،

فَأَجَابَهُ أَفْرَاسِيَابُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ السَّفِيرُ فِي ذَلِكَ قِيرَانَ بْنَ وَيْسَعَانَ، وَدَخَلَ سِيَاوَخْشُ إِلَى بِلَادِ التُّرْكِ، فَأَكْرَمَهُ أَفْرَاسِيَابُ وَأَنْزَلَهُ وَأَجْرَى عَلَيْهِ وَزَوَّجَهُ بِنْتًا لَهُ يُقَالُ لَهَا وُسْفَافَرِيدُ، وَهِيَ أُمُّ كَيْخِسْرُو، فَظَهَرَ لَهُ مِنْ أَدَبِ سِيَاوَخْشَ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْمُلْكِ وَشَجَاعَتِهِ مَا خَافَ عَلَى مُلْكِهِ مِنْهُ، وَزَادَ الْفَسَادَ بَيْنَهُمَا بِسَعْيِ ابْنَيْ أَفْرَاسِيَابَ وَأَخِيهِ كَيْدَرَ حَسَدًا مِنْهُمْ لِسِيَاوَخْشَ، فَأَمَرَهُمْ أَفْرَاسِيَابُ بِقَتْلِهِ فَقَتَلُوهُ وَمَثَّلُوا بِهِ، وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ ابْنَةُ أَفْرَاسِيَابَ حَامِلَةً مِنْهُ بِابْنِهِ كَيْخِسْرُو فَطَلَبُوا الْحِيلَةَ فِي إِسْقَاطِ مَا فِي بَطْنِهَا، فَلَمْ يَسْقُطْ، فَأَنْكَرَ قِيرَانُ الَّذِي كَانَ أَمَانُ سِيَاوَخْشَ عَلَى يَدِهِ قَتْلَهُ وَحَذَّرَ عَاقِبَتَهُ، وَالْأَخْذَ بِثَأْرِهِ مِنْ وَالِدِهِ كَيْكَاوُوسَ وَمِنْ رُسْتَمَ، وَأَخَذَ زَوْجَةَ سِيَاوَخْشَ إِلَيْهِ لِتَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا وَيَقْتُلَهُ، فَلَمَّا وَضَعَتْ رَقَّ قِيرَانُ لَهَا وَلِلْمَوْلُودِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ وَسَتَرَ أَمْرَهُ حَتَّى بَلَغَ، فَسَيَّرَ كَيْكَاوُوسُ إِلَى بِلَادِ التُّرْكِ مَنْ كَشَفَ أَمَرَهُ وَأَخَذَهُ إِلَيْهِ. وَحِينَ بَلَغَ خَبَرُ قَتْلِهِ إِلَى فَارِسَ لَبِسَ شَادُوسُ بْنُ جَوْدَرْزَ السَّوَادَ حُزْنًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ لَبِسَهُ، وَدَخَلَ عَلَى كَيْكَاوُوسَ فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ ظَلَامٍ وَسَوَادٍ. ثُمَّ إِنَّ كَيْكَاوُوسَ لَمَّا عَلِمَ بِقَتْلِ ابْنِهِ سَيَّرَ الْجُيُوشَ مَعَ رُسْتَمَ الشَّدِيدِ وَطُوسِ إِصْبَهْبَذَ أَصْبَهَانَ لِمُحَارَبَةِ أَفْرَاسِيَابَ، فَدَخَلَا بِلَادَ التُّرْكِ، فَقَتَلَا وَأَسَرَا وَأَثْخَنَا فِيهَا، وَجَرَى لَهُمَا مَعَ أَفْرَاسِيَابَ حُرُوبٌ شَدِيدَةٌ قُتِلَ فِيهَا ابْنَا أَفْرَاسِيَابَ وَأَخُوهُ الَّذِينَ أَشَارُوا بِقَتْلِ سِيَاوَخْشَ. وَزَعَمَتِ الْفُرْسُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ مُسَخَّرَةً لَهُ، وَأَنَّهَا بَنَتْ لَهُ مَدِينَةً طُولُهَا فِي زَعْمِهِمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَرْسَخٍ وَبَنَوْا عَلَيْهَا سُورًا مِنْ صُفْرٍ وَسُورًا مِنْ شَبَهٍ، وَسُورًا مِنْ فِضَّةٍ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَنْقُلُهَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ كَيْكَاوُوسَ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يُحْدِثُ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَنْ يُخَرِّبُهَا فَعَجَزَتِ الشَّيَاطِينُ عَنِ

الْمَنْعِ عَنْهَا، فَقَتَلَ كَيْكَاوُوسُ جَمَاعَةً مِنْ رُؤَسَائِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّمَا سُخِّرَ لَهُ فِعْلُ الشَّيَاطِينِ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَكَانَ مُظَفَّرًا لَا يُنَاوِئُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُلُوكِ إِلَّا ظَهَرَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِالصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ، فَسَارَ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى بَابِلَ، وَأَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى قُوَّةً ارْتَفَعَ بِهَا وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى بَلَغُوا السَّحَابَ، ثُمَّ سَلَبَهُمُ اللَّهُ تِلْكَ الْقُوَّةَ، فَسَقَطُوا وَهَلَكُوا وَأَفْلَتَ بِنَفْسِهِ وَأَحْدَثَ يَوْمَئِذٍ. وَهَذَا جَمِيعُهُ مِنْ أَكَاذِيبِ الْفُرْسِ الْبَارِدَةِ. ثُمَّ إِنَّ كَيْكَاوُوسَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ تَمَزَّقَ مُلْكُهُ وَكَثُرَتِ الْخَوَارِجُ عَلَيْهِ وَصَارُوا يَغْزُونَهُ، فَيَظْفَرُ مَرَّةً وَيَظْفَرُونَ أُخْرَى. ثُمَّ غَزَا بِلَادَ الْيَمَنِ وَمَلِكُهَا يَوْمَئِذٍ ذُو الْأَذْعَارِ بْنُ أَبَرْهَةَ ذِي الْمَنَارِ بْنِ الرَّايِشِ، فَلَمَّا وَرَدَ الْيَمَنَ خَرَجَ إِلَيْهِ ذُو الْأَذْعَارِ، وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُ الْفَالِجُ، فَلَمْ يَكُنْ يَغْزُو، فَلَمَّا وَطِئَ كَيْكَاوُوسُ بِلَادَهُ خَرَجَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَعَسَاكِرِهِ وَظَفِرَ بِكَيْكَاوُوسَ فَأَسَرَهُ وَاسْتَبَاحَ عَسْكَرَهُ، وَحَبَسَهُ فِي بِئْرٍ وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ. فَسَارَ رُسْتَمُ مِنْ سِجِسْتَانَ إِلَى الْيَمَنِ وَأَخْرَجَ كَيْكَاوُوسَ وَأَخَذَهُ، وَأَرَادَ ذُو الْأَذْعَارِ مَنْعَهُ فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَأَرَادَ الْقِتَالَ ثُمَّ خَافَ الْبَوَارَ فَاصْطَلَحَا عَلَى أَخْذِ كَيْكَاوُوسَ وَالْعَوْدِ إِلَى بِلَادِ الْفُرْسِ، فَأَخَذَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى مُلْكِهِ، فَأَقْطَعَهُ كَيْكَاوُوسُ سِجِسْتَانَ وَزَابُلِسْتَانَ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ غَزْنَةَ، وَأَزَالَ عَنْهُ اسْمَ الْعُبُودِيَّةِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ كَيْكَاوُوسُ، وَكَانَ مُلْكُهُ خَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً.

ذكر خبر كيخسرو بن سياوخش بن كيكاووس

[ذِكْرُ خَبَرِ كَيْخِسْرُو بْنِ سِيَاوَخْشَ بْنِ كَيْكَاوُوسَ] لَمَّا مَاتَ كَيْكَاوُوسُ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُ ابْنِهِ كَيْخِسْرُو بْنُ سِيَاوَخْشَ بْنِ كَيْكَاوُوسَ وَأُمُّهُ وُسْفَافَرِيدُ ابْنَةُ أَفْرَاسِيَابَ مَلِكِ التُّرْكِ، فَلَمَّا مَلَكَ كَتَبَ إِلَى الْإِصْبَهْبَذِينَ جَمِيعِهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِعَسَاكِرِهِمْ جَمِيعِهَا، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَهَّزُوا ثَلَاثِينَ أَلْفًا مَعَ طُوسَ، وَأَمَرَهُ بِدُخُولِ بِلَادِ التُّرْكِ، وَأَنْ لَا يَمُرَّ بِقَرْيَةٍ وَلَا مَدِينَةٍ لَهُمْ إِلَّا قَتَلَ كُلَّ مَنْ فِيهَا إِلَّا مَدِينَةً مِنْ مُدُنِهِمْ كَانَ بِهَا أَخٌ لَهُ اسْمُهُ فِيرُوزَدُ بْنُ سِيَاوَخْشَ، كَانَ أَبُوهُ قَدْ تَزَوَّجَ أُمَّهُ فِي بَعْضِ مَدَائِنِ التُّرْكِ، فَاجْتَازَ طُوسَ بِهَا فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِيرُوزَدَ حَرْبٌ قُتِلَ فِيهَا فِيرُوزَدُ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ كَيْخِسْرُو فَعَظُمَ عَلَيْهِ وَكَتَبَ إِلَى عَمٍّ لَهُ كَانَ مَعَ طُوسَ يَأْمُرُهُ بِالْقَبْضِ عَلَى طُوسَ وَإِرْسَالِهِ مُقَيَّدًا وَالْقِيَامِ بِأَمْرِ الْجَيْشِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ وَسَارَ بِالْعَسْكَرِ نَحْوَ أَفْرَاسِيَابَ، فَسَيَّرَ أَفْرَاسِيَابُ الْعَسَاكِرَ إِلَيْهِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا كَثُرَتْ فِيهِ الْقَتْلَى وَانْحَازَتِ الْفُرْسُ إِلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَعَادُوا إِلَى كَيْخِسْرُو، فَوَبَّخَ عَمَّهُ وَلَامَهُ وَاهْتَمَّ بِغَزْوِ التُّرْكِ، فَأَمَرَ بِجَمْعِ الْعَسَاكِرِ جَمِيعِهَا وَأَنْ لَا يَخْتَلِفَ أَحَدٌ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ قَصْدَ بِلَادِ التُّرْكِ مِنْ أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ، فَسَيَّرَ جَوْدَرْزَ فِي أَعْظَمِ الْعَسَاكِرِ وَأَمَرَهُ بِالدُّخُولِ إِلَى بِلَادِ التُّرْكِ مِمَّا يَلِي بَلْخَ، وَأَعْطَاهُ دِرْفَشَ كَابِيَانَ، وَهُوَ الْعَلَمُ الْأَكْبَرُ الَّذِي لَهُمْ، وَكَانُوا لَا يُرْسِلُونَهُ إِلَّا مَعَ بَعْضِ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَسَيَّرَ عَسْكَرًا آخَرَ مِنْ نَاحِيَةِ الصِّينِ، وَسَيَّرَ عَسْكَرًا آخَرَ مِمَّا يَلِي الْخَزَرَ، وَعَسْكَرًا آخَرَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْعَسْكَرَيْنِ، فَدَخَلَتِ الْعَسَاكِرُ بِلَادَ التُّرْكِ مِنْ كُلِّ جِهَاتِهَا وَأَخْرَبَتْهَا، لَا سِيَّمَا جَوْدَرْزُ، فَإِنَّهُ قَتَلَ وَأَخْرَبَ وَسَبَى، وَتَبِعَهُ كَيْخِسْرُو بِنَفْسِهِ فِي طَرِيقِهِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ وَقَدْ قَتَلَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ أَهْلِ أَفْرَاسِيَابَ وَأَثْخَنَ فِيهِمْ، وَرَآهُ قَدْ قَتَلَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ وَنَيِّفًا وَسِتِّينَ

أَلْفًا وَأَسَرَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَغَنِمَ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُحْصَى، وَعَرَضَ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَ مِنْ أَهْلِ أَفْرَاسِيَابَ وَطَرَاخِنَتِهِ، فَعَظُمَ جَوْدَرْزُ عِنْدَهُ، وَشَكَرَهُ، وَقَطَعَهُ أَصْبَهَانَ، وَجُرْجَانَ، وَوَرَدَتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ الْوَارِدَةُ مِنْ عَسَاكِرِهِ الدَّاخِلَةِ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ إِلَى التُّرْكِ بِمَا قَتَلُوا وَغَنِمُوا، وَأَخْرَبُوا وَأَنَّهُمْ هَزَمُوا لِأَفْرَاسِيَابَ عَسْكَرًا بَعْدَ عَسْكَرٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَجِدُّوا فِي مُحَارَبَتِهِمْ وَيُوَافُوهُ بِمَوْضِعٍ سَمَّاهُ لَهُمْ. فَلَمَّا بَلَغَ أَفْرَاسِيَابَ قَتْلُ مَنْ قُتِلَ مِنْ طَرَاخِنَتِهِ، وَأَهْلِهِ، وَعَسَاكِرِهِ عَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَسُقِطَ فِي يَدَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ أَوْلَادِهِ غَيْرُ وَلَدِهِ شِيدَهْ، فَوَجَّهَهُ فِي جَيْشٍ نَحْوَ كَيْخِسْرُو، فَسَارَ إِلَيْهِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ انْهَزَمَتِ التُّرْكُ وَتَبِعَهُمُ الْفُرْسُ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْسِرُونَ، وَأَدْرَكُوا ابْنَ أَفْرَاسِيَابَ فَقَتَلُوهُ، وَسَمِعَ أَفْرَاسِيَابُ بِالْحَادِثَةِ وَقَتْلِ ابْنِهِ، فَأَقْبَلَ فَيَمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ فَلَقِيَ كَيْخِسْرُو فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ فَانْهَزَمَ أَفْرَاسِيَابُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي التُّرْكِ فَقُتِلَ مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ، وَجَدَّ كَيْخِسْرُو فِي طَلَبِ أَفْرَاسِيَابَ، وَلَمْ يَزَلْ يَهْرُبُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى بَلَغَ أَذْرَبِيجَانَ فَاسْتَتَرَ، وَظُفِرَ بِهِ وَأُتِيَ بِهِ إِلَى كَيْخِسْرُو، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ سَأَلَهُ عَنْ غَدْرِهِ بِأَبِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ وَلَا عُذْرٌ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَذُبِحَ كَمَا ذَبَحَ سِيَاوَخْشَ، ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ مُظَفَّرًا مَنْصُورًا فَرِحًا. فَلَمَّا قُتِلَ أَفْرَاسِيَابُ مَلَكَ التُّرْكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ كَيْ سَوَاسِفُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ جَرَازَسْفُ، وَكَانَ جَبَّارًا عَاتِيًا فَلَمَّا فَرَغَ كَيْخِسْرُو مِنَ الْأَخْذِ بِثَأْرِ أَبِيهِ وَاسْتَقَرَّ فِي مُلْكِهِ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا وَتَرَكَ الْمُلْكَ، وَتَنَسَّكَ، وَاجْتَهَدَ أَهْلُهُ، وَأَصْحَابُهُ بِهِ لِيُلَازِمَ الْمُلْكَ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَقَالُوا: فَاعْهَدْ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِالْمُلْكِ بَعْدَكَ فَعَهِدَ إِلَى لَهْرَاسِبَ، وَفَارَقَهُمْ كَيْخِسْرُو وَغَابَ عَنْهُمْ، فَلَا يُدْرَى مَا كَانَ مِنْهُ وَلَا أَيْنَ مَاتَ. وَبَعْضٌ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَكَانَ مُلْكُهُ سِتِّينَ سَنَةً، وَمَلَكَ بَعْدَهُ لَهْرَاسِبُ.

ذكر أمر بني إسرائيل بعد سليمان

[ذِكْرُ أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ سُلَيْمَانَ] قِيلَ ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ سُلَيْمَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ابْنُهُ رُحُبْعُمُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَكَانَ مُلْكُهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ افْتَرَقَتْ مَمَالِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ رُحُبْعُمَ، فَمَلَكَ أَبِيَّا بْنُ رُحُبْعُمَ سِبْطَ يَهُوذَا وَبِنْيَامِينَ دُونَ سَائِرِ الْأَسْبَاطِ، وَذَلِكَ أَنَّ سَائِرَ الْأَسْبَاطِ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ يُورَبْعَمَ بْنَ بَايِعَا عَبْدَ سُلَيْمَانَ بِسَبَبِ الْقُرْبَانِ الَّذِي كَانَتْ جَرَادَةُ زَوْجَةُ سُلَيْمَانَ فِيمَا زَعَمُوا قَرَّبَتْهُ فِي دَارِهِ لِلصَّنَمِ، فَتَوَعَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَنْزِعَ بَعْضَ الْمُلْكِ عَنْ وَلَدِهِ، فَكَانَ مُلْكُ أَبِيَّا بْنِ رُحُبْعُمَ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ أُسَّا بْنُ أَبِيَّا أَمْرَ السِّبْطَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَ أَبُوهُ يَمْلِكُهُمَا إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ سَنَةً،

وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَكَانَ أَعْرَجَ. ذِكْرُ مُحَارِبَةِ أُسَّا بْنِ أَبِيَّا وَرَزَحَ الْهِنْدِيِّ قِيلَ: كَانَ أُسَّا بْنُ أَبِيَّا رَجُلًا صَالِحًا، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَتِهَا، فَلَمَّا مَلَكَ ابْنُهُ أُسَّا أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: أَلَا إِنَّ الْكُفْرَ قَدْ مَاتَ وَأَهْلُهُ، وَعَاشَ الْإِيمَانُ وَأَهْلُهُ، فَلَيْسَ كَافِرٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يَطْلُعُ رَأْسُهُ بِكُفْرٍ إِلَّا قَتَلْتُهُ، فَإِنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يُغْرِقِ الدُّنْيَا وَأَهْلَهَا وَلَمْ يَخْسِفْ بِالْقُرَى وَلَمْ تُمْطَرِ الْحِجَارَةُ وَالنَّارُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِتَرْكِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالْعَمَلِ بِمَعْصِيَتِهِ! وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ. فَأَتَى بَعْضُهُمْ مِمَّنْ كَانَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَيَعْمَلُ بِالْمَعَاصِي إِلَى أُمِّ أُسَّا الْمَلِكِ، وَكَانَتْ تَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، فَشَكَوْا إِلَيْهَا، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ وَنَهَتْهُ عَمَّا كَانَ يَفَعَلُهُ وَبَالَغَتْ فِي زَجْرِهِ، فَلَمْ يُصْغِ إِلَى قَوْلِهَا بَلْ تَهَدَّدَهَا عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَأَظْهَرَ الْبَرَاءَةَ مِنْهَا، فَحِينَئِذٍ أَيِسَ النَّاسُ مِنْهُ وَانْتَزَحَ مَنْ كَانَ يَخَافُهُ وَسَارُوا إِلَى الْهِنْدِ. وَكَانَ بِالْهِنْدِ مَلِكٌ يُقَالُ لَهُ رَزَحُ، وَكَانَ جَبَّارًا عَاتِيًا عَظِيمَ السُّلْطَانِ قَدْ أَطَاعَهُ أَكْثَرُ الْبِلَادِ، وَكَانَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَتِهِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَشَكَوْا إِلَيْهِ مَلِكَهُمْ وَوَصَفُوا لَهُ الْبِلَادَ وَكَثْرَتَهَا وَقِلَّةَ عَسْكَرِهَا، وَضَعْفَ مَلِكِهَا، وَأَطْمَعُوهُ فِيهَا. فَأَرْسَلَ الْجَوَاسِيسَ فَأَتَوْهُ بِأَخْبَارِهَا، فَلَمَّا تَيَقَّنَ الْخَيْرَ جَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ إِلَى الشَّامِ فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ لَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنَّ لِأُسَّا صَدِيقًا يَنْصُرُهُ وَيُعِينُهُ، قَالَ: فَأَيْنَ أُسَّا وَصَدِيقُهُ مِنْ كَثْرَةِ عَسَاكِرِي وَجُنُودِي!

وَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى أُسَّا، فَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ وَأَظْهَرَ الضَّعْفَ وَالْعَجْزَ عَنِ الْهِنْدِيِّ وَسَأَلَ اللَّهَ النُّصْرَةَ عَلَيْهِ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَأَرَاهُ فِي الْمَنَامِ: إِنِّي سَأُظْهِرُ مِنْ قُدْرَتِي فِي رَزَحَ الْهِنْدِيِّ وَعَسَاكِرِهِ مَا أَكْفِيكَ شَرَّهُمْ وَأُغْنِمُكُمْ أَمْوَالَهُمْ حَتَّى يَعْلَمَ أَعْدَاؤُكَ أَنَّ صَدِيقَكَ لَا يُطَاقُ وَلِيُّهُ وَلَا يَنْهَزِمُ جُنْدُهُ. ثُمَّ سَارَ رَزَحُ حَتَّى أَرْسَى بِالسَّاحِلِ، وَسَارَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا صَارَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْهُ فَرَّقَ عَسَاكِرَهُ، فَامْتَلَأَتْ مِنْهُمْ تِلْكَ الْأَرْضُ وَمُلِئَتْ قُلُوبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ رُعْبًا، وَبَعَثَ أُسَّا الْعُيُونَ فَعَادُوا وَأَخْبَرُوهُ مِنْ كَثْرَتِهِمْ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَسَمِعَ الْخَبَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَصَاحُوا، وَبَكَوْا، وَوَدَّعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَعَزَمُوا عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى رَزَحَ وَيَسْتَسْلِمُوا إِلَيْهِ وَيَنْقَادُوا لَهُ. فَقَالَ لَهُمْ مَلِكُهُمْ: إِنَّ رَبِّي وَعَدَنِي بِالظَّفَرِ وَلَا خُلْفَ لِوَعْدِهِ، فَعَاوَدُوا الدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ. فَفَعَلُوا وَدَعَوْا جَمِيعُهُمْ وَتَضَرَّعُوا، فَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ: يَا أُسَّا، إِنَّ الْحَبِيبَ لَا يُسْلِمُ حَبِيبَهُ، وَأَنَا الَّذِي أَكْفِيكَ عَدُوَّكَ فَإِنَّهُ لَا يَهُونُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيَّ، وَلَا يَضْعُفُ مَنْ تَقَوَّى بِي وَقَدْ كُنْتَ تَذْكُرُنِي فِي الرَّخَاءِ فَلَا أُسْلِمُكَ فِي الشِّدَّةِ، وَسَأُرْسِلُ بَعْضَ الزَّبَانِيَةِ يَقْتُلُونَ أَعْدَائِي. فَاسْتَبْشِرْ وَأَخْبِرْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَاسْتَبْشَرُوا وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَكَذَّبُوهُ. وَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى رَزَحَ فِي عَسَاكِرِهِ، فَخَرَجَ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَوَقَفُوا عَلَى رَابِيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ يَنْظُرُونَ إِلَى عَسَاكِرِهِ، فَلَمَّا رَآهُمْ رَزَحُ احْتَقَرَهُمْ وَاسْتَصْغَرَهُمْ وَقَالَ: إِنَّمَا خَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي وَجَمَعْتُ عَسَاكِرِي وَأَنْفَقْتُ أَمْوَالِي لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ! وَدَعَا النَّفَرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قَصَدُوهُ، وَالْجَوَاسِيسَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ لِيَخْتَبِرُوا لَهُ وَقَالَ: كَذَبْتُمُونِي، وَأَخْبَرْتُمُونِي بِكَثْرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى جَمَعْتُ الْعَسَاكِرَ، وَفَرَّقْتُ أَمْوَالِي! ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا، وَأَرْسَلَ إِلَى أُسَّا يَقُولُ لَهُ: أَيْنَ صَدِيقُكَ الَّذِي يَنْصُرُكَ وَيُخَلِّصُكَ مِنْ سَطْوَتِي؟ فَأَجَابَهُ أُسَّا: يَا شَقِيُّ، إِنَّكَ لَا تَعْلَمُ مَا تَقُولُ! أَتُرِيدُ أَنْ تُغَالِبَ اللَّهَ بِقُوَّتِكَ أَمْ تُكَاثِرُهُ بِقِلَّتِكَ؟ وَهُوَ مَعِي فِي مَوْقِفِي هَذَا، وَلَنْ يُغْلَبَ أَحَدٌ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ، وَسَتَعْلَمُ مَا يَحِلُّ بِكَ! فَغَضِبَ رَزَحُ مِنْ قَوْلِهِ وَصَفَّ عَسَاكِرَهُ وَخَرَجَ إِلَى قِتَالِ أُسَّا وَأَمَرَ الرُّمَاةَ فَرَمَوْهُمْ بِالسِّهَامِ، وَبَعَثَ اللَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَدَدًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخَذُوا السِّهَامَ وَرَمَوْا بِهَا الْهُنُودَ، فَقَتَلَتْ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ نَشَّابَتُهُ، فَقُتِلَ جَمِيعُ الرُّمَاةِ، فَضَجَّ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ، وَتَرَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ لِلْهُنُودِ، فَلَمَّا رَآهُمْ رَزَحُ أَلْقَى اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قَلْبِهِ وَسُقِطَ فِي يَدِهِ وَنَادَى

فِي عَسَاكِرِهِ يَأْمُرُهُمْ بِالْحَمْلَةِ عَلْيَهِمْ، فَفَعَلُوا فَقَتَلَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ غَيْرُ رَزَحَ وَعَبِيدِهِ وَنِسَائِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ وَلَّى هَارِبًا وَهُوَ يَقُولُ: قَتَلَنِي صَدِيقُ أُسَّا. فَلَمَّا رَآهُ أُسَّا مُدْبِرًا قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ لَمْ تُهْلِكْهُ اسْتَنْفِرْ عَلَيْنَا نَائِبَهُ. وَبَلَغَ رَزَحُ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْبَحْرِ فَرَكِبُوا السُّفُنَ، فَلَمَّا سَارَتْ بِهِمْ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرِّيَاحَ فَأَغْرَقَتْهُمْ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ أُسَّا ابْنُهُ سَافَاطُ إِلَى أَنْ هَلَكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَتْ عَزْلِيَا بِنْتُ عَمْرَمَ أُمُّ أَخْزِيَا، وَكَانَتْ قَتَلَتْ أَوْلَادَ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا يُوَاشُ بْنُ أَخْزِيَا، وَهُوَ ابْنُ ابْنِهَا، فَإِنَّهُ سَتَرَ عَنْهَا، ثُمَّ قَتَلَهَا يُوَاشُ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ مَلَكَهَا سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ يُوَاشُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. ثُمَّ قَتَلَهُ أَصْحَابُهُ وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ جَدَّتَهُ، ثُمَّ مَلَكَ عُوزِيَا بْنُ أَمْصِيَا بْنِ يُوَاشَ. وَيُقَالُ لَهُ غُوزِيَا، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً.

ثُمَّ مَلَكَ يُوثَامُ بْنُ عُوزِيَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ. سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ حِزْقِيَا بْنُ أَحَازَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ. فَيُقَالُ: إِنَّهُ صَاحِبُ شَعْيَا الَّذِي أَعْلَمُهُ شَعْيَا انْقِضَاءَ عُمُرِهِ، فَتَضَرَّعَ إِلَى رَبِّهِ فَزَادَهُ، وَأَمَرَ شَعْيَا بِإِعْلَامِهِ ذَلِكَ، وَقِيلَ إِنَّ صَاحِبَ شَعْيَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ اسْمُهُ صِدْقِيَا، عَلَى مَا يَرِدُ ذِكْرُهُ.

ذكر شعيا والملك الذي معه من بني إسرائيل ومسير سنحاريب إلى بني إسرائيل

[ذِكْرُ شَعْيَا وَالْمَلِكِ الَّذِي مَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَسِيرِ سَنْحَارِيبَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ] قِيلَ: كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَوْحَى إِلَى مُوسَى مَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا - فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا - ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا - إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا - عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 4 - 8] . فَكَثُرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْأَحْدَاثُ وَالذُّنُوبُ، وَكَانَ اللَّهُ يَتَجَاوَزُ عَنْهُمْ مُتَعَطِّفًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ مِنْ أَوَّلِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ عُقُوبَةً لِذُنُوبِهِمْ أَنَّ مَلِكًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ صِدْقِيَةُ، وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ إِذَا مَلَكَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ نَبِيًّا يُرْشِدُهُ وَيُوحِي إِلَيْهِ مَا يُرِيدُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَيْرُ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، فَلَمَّا مَلَكَ صِدْقِيَةُ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ شَعْيَا، وَهُوَ الَّذِي بَشَّرَ بِعِيسَى وَبِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فَلَمَّا قَارَبَ أَنْ يَنْقَضِيَ مُلْكُهُ عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَنْحَارِيبَ مَلِكَ بَابِلَ فِي عَسَاكِرَ يَغَصُّ بِهَا الْفَضَاءُ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَحَاطَ بِهِ وَمَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَرِيضٌ فِي سَاقِهِ قُرْحَةٌ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ شَعْيَا وَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُوصِيَ وَتَعْهَدَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، فَأَقْبَلَ الْمَلِكُ عَلَى الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ لَهُ إِلَى شَعْيَا أَنَّهُ قَدْ زَادَ فِي عُمُرِ الْمَلِكِ

صِدْقِيَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَنْجَاهُ مِنْ عَدُوِّهِ سَنْحَارِيبَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ زَالَ عَنْهُ الْأَلَمُ وَجَاءَتْهُ الصِّحَّةُ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ عَلَى عَسَاكِرِ سَنْحَارِيبَ مَلَكًا صَاحَ بِهِمْ فَمَاتُوا غَيْرَ سِتَّةِ نَفَرٍ، مِنْهُمْ: سَنْحَارِيبُ، وَخَمْسَةٌ مِنْ كُتَّابِهِ، أَحَدُهُمْ بُخْتُنَصَّرُ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. فَخَرَجَ صِدْقِيَةُ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ فَغَنِمُوا مَا فِيهِ وَالْتَمَسُوا سَنْحَارِيبَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأَرْسَلَ الطَّلَبَ فِي أَثَرِهِ فَوَجَدُوهُ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَأَخَذُوهُمْ وَقَيَّدُوهُمْ وَحَمَلُوهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِسَنْحَارِيبَ: كَيْفَ رَأَيْتَ صُنْعَ رَبِّنَا بِكَ؟ فَقَالَ: قَدْ أَتَانِي خَبَرُ رَبِّكُمْ وَنَصْرَهُ إِيَّاكُمْ فَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ، فَطَافَ بِهِمْ حَوْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ سَجَنَهُمْ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى شَعْيَا يَأْمُرُ الْمَلِكَ بِإِطْلَاقِ سَنْحَارِيبَ وَمَنْ مَعَهُ، فَأَطْلَقَهُمْ، فَعَادُوا إِلَى بَابِلَ وَأَخْبَرَهُمْ قَوْمُهُمْ بِمَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ وَبِعَسَاكِرِهِمْ، وَبَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ مَاتَ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَارَ إِلَيْهِمْ قَبْلَ سَنْحَارِيبَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ بَابِلَ يُقَالُ لَهُ كَفْرُو، وَكَانَ بُخْتُنَصَّرُ ابْنَ عَمِّهِ وَكَاتِبَهُ، وَأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَأَهْلَكَتْ جَيْشَهُ وَأَفْلَتَ هُوَ وَكَاتِبُهُ، وَأَنَّ هَذَا الْبَابِلِيَّ قَتَلَهُ ابْنٌ لَهُ، وَأَنَّ بُخْتُنَصَّرَ غَضِبَ لِصَاحِبِهِ فَقَتَلَ ابْنَهُ الَّذِي قَتَلَهُ، وَأَنَّ سَنْحَارِيبَ سَارَ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَ مُلْكُهُ بِنِينَوَى وَغَزَا مَعَ مَلِكِ أَذْرَبِيجَانَ يَوْمَئِذٍ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ ثُمَّ اخْتَلَفَ سَنْحَارِيبُ وَمَلِكُ أَذْرَبِيجَانَ وَتَحَارَبَا حَتَّى تَفَانَى عَسْكَرُهُمَا، فَخَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَغَنِمُوا مَا مَعَهُمْ. وَقِيلَ: كَانَ مُلْكُ سَنْحَارِيبَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي حَصَرَهُ سَنْحَارِيبُ حِزْقِيَّا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ حِزْقِيَّا مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مَنْشَى خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً.

ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ آمُونُ إِلَى أَنْ قَتَلَهُ أَصْحَابُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ ابْنُهُ يُوشِّيَا إِلَى أَنْ قَتَلَهُ فِرْعَوْنُ مِصْرَ الْأَجْدَعُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ يَاهُو أَحَازَ بْنُ يُوشِيَّا، فَعَزَلَهُ فِرْعَوْنُ الْأَجْدَعُ وَاسْتَعْمَلَ بَعْدَهُ يُويَاقِيمَ بْنَ يَاهُو أَحَازَ وَوَظَّفَ عَلَيْهِ خَرَاجًا يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ مُلْكُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ يُويَاحِينُ، فَغَزَاهُ بُخْتُنَصَّرُ وَأَشْخَصَهُ إِلَى بَابِلَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُلْكِهِ، وَمَلَّكَ بَعْدَهُ يَقُونِيَّا ابْنَ عَمِّهِ، وَسَمَّاهُ صِدْقِيَةَ، وَخَالَفَهُ فَغَزَاهُ وَظَفِرَ بِهِ وَحَمَلَهُ إِلَى بَابِلَ وَذَبَحَ وَلَدَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَمَلَ عَيْنَيْهِ، وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَالْهَيْكَلَ، وَسَبَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحَمَلَهُمْ إِلَى بَابِلَ، فَمَكَثُوا إِلَى أَنْ عَادُوا إِلَيْهِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَانَ جَمِيعُ مُلْكِ صِدْقِيَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّ شَعْيَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ لِيَقُومَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُذَكِّرُهُمْ بِمَا يُوحِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ لَمَّا كَثُرَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ، فَفَعَلَ، فَعَدَوْا عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ، فَلَقِيَتْهُ شَجَرَةٌ فَانْفَلَقَتْ لَهُ، فَدَخَلَهَا، وَأَخَذَ الشَّيْطَانُ بِهُدْبِ ثَوْبِهِ وَأَرَاهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَوَضَعُوا الْمِنْشَارَ عَلَى الشَّجَرَةِ فَنَشَرُوهَا حَتَّى قَطَعُوهُ فِي وَسَطِهَا. وَقِيلَ فِي أَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ، تَرَكْنَاهُ كَرَاهَةَ التَّطْوِيلِ وَلِعَدَمِ الثِّقَةِ بِصِحَّةِ النَّقْلِ بِهِ.

ذكر ملك لهراسب وابنه بشتاسب وظهور زرادشت

[ذِكْرُ مُلْكِ لَهْرَاسِبَ وَابْنِهِ بَشْتَاسِبَ وَظُهُورِ زَرَادُشْتَ] قَدْ ذَكَرْنَا أَنْ كَيْخِسْرُو لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عَهِدَ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ لَهْرَاسِبَ بْنِ كَيُوخَى بْنِ كَيْكَاوُوسَ، فَهُوَ ابْنُ كَيْكَاوُوسَ، فَلَمَّا مَلَكَ اتَّخَذَ سَرِيرًا مِنْ ذَهَبٍ وَكَلَّلَهُ بِأَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ وَبُنِيَتْ لَهُ بِأَرْضِ خُرَاسَانَ مَدِينَةُ بَلْخَ وَسَمَّاهَا الْحَسْنَاءَ، وَدَوَّنَ الدَّوَاوِينَ، وَقَوَّى مُلْكَهُ بِانْتِخَابِهِ الْجُنُودَ، وَعَمَّرَ الْأَرْضَ، وَجَبَى الْخَرَاجَ لِأَرْزَاقِ الْجُنْدِ. وَاشْتَدَّتْ شَوْكَةُ التُّرْكِ فِي زَمَانِهِ فَنَزَلَ مَدِينَةَ بَلْخَ لِقِتَالِهِمْ، وَكَانَ مَحْمُودًا عِنْدَ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ شَدِيدَ الْقَمْعِ لِأَعْدَائِهِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُ، شَدِيدَ التَّفَقُّدِ لِأَصْحَابِهِ، بَعِيدَ الْهِمَّةِ، عَظِيمَ الْبُنْيَانِ، وَشَقَّ عِدَّةَ أَنْهَارٍ، وَعَمَّرَ الْبِلَادَ وَحَمَلَ إِلَيْهِ مُلُوكُ الْهِنْدِ، وَالرُّومِ، وَالْمَغْرِبِ الْخَرَاجَ، وَكَاتَبُوهُ بِالتَّمْلِيكِ هَيْبَةً لَهُ وَحَذَرًا مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَنَسَّكَ، وَفَارَقَ الْمُلْكَ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ، وَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ بَشْتَاسِبَ فِي الْمُلْكِ، وَكَانَ مُلْكُهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ بَشْتَاسِبُ، وَفِي أَيَّامِهِ ظَهَرَ زَرَادُشْتُ بْنُ سَقِيمَانَ الَّذِي ادَّعَى

النُّبُوَّةَ وَتَبِعَهُ الْمَجُوسُ. وَكَانَ زَرَادُشْتُ فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ يَخْدُمُ لِبَعْضِ تَلَامِذَةِ إِرْمِيَا النَّبِيِّ خَاصًّا بِهِ، فَخَانَهُ وَكَذَبَ عَلَيْهِ، فَدَعَا اللَّهَ عَلَيْهِ فَبَرِصَ وَلَحِقَ بِبِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ وَشَرَّعَ بِهَا دِينَ الْمَجُوسِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنَ الْعَجَمِ. وَصَنَّفَ كِتَابًا وَطَافَ بِهِ الْأَرْضَ، فَمَا عَرَفَ أَحَدٌ مَعْنَاهُ، وَزَعَمَ أَنَّهَا لُغَةٌ سَمَاوِيَّةٌ خُوطِبَ بِهَا، وَسَمَّاهُ: أَشْتَا، فَسَارَ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى فَارِسَ، فَلَمْ يَعْرِفُوا مَا فِيهِ وَلَمْ يَقْبَلُوهُ، فَسَارَ إِلَى الْهِنْدِ وَعَرَضَهُ عَلَى مُلُوكِهَا، ثُمَّ أَتَى الصِّينَ وَالتُّرْكَ فَلَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدٌ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَقَصَدَ فَرْغَانَةَ، فَأَرَادَ مَلِكُهَا أَنْ يَقْتُلَهُ فَهَرَبَ مِنْهَا وَقَصَدَ بَشْتَاسِبَ بْنَ لَهْرَاسِبَ، فَأَمَرَ بِحَبْسِهِ، فَحُبِسَ مُدَّةً. وَشَرَحَ زَرَادُشْتُ كِتَابَهُ وَسَمَّاهُ: زَنْدَ، وَمَعْنَاهُ: التَّفْسِيرُ، ثُمَّ شَرَحَ الزَّنْدَ بِكِتَابٍ سَمَّاهُ: بَازَنْدَ، يَعْنِي: تَفْسِيرَ التَّفْسِيرِ. وَفِيهِ عُلُومٌ مُخْتَلِفَةٌ كَالرِّيَاضِيَّاتِ، وَأَحْكَامِ النُّجُومِ، وَالطِّبِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ الَمَاضِيَةِ وَكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ. وَفِي كِتَابِهِ: تَمَسَّكُوا بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ إِلَى أَنْ يَجِيئَكُمْ صَاحِبُ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، يَعْنِي مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ عَلَى أَلْفِ سَنَةٍ وَسِتِّمِائَةِ سَنَةٍ. وَبِسَبَبِ ذَلِكَ وَقَعَتِ الْبَغْضَاءُ بَيْنَ الْمَجُوسِ وَالْعَرَبِ. ثُمَّ يَذْكُرُ عِنْدَ أَخْبَارِ سَابُورَ ذِي الْأَكْتَافِ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِغَزْوِهِ الْعَرَبَ هَذَا الْقَوْلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّ بَشْتَاسِبَ أَحْضَرَ زَرَادُشْتَ، وَهُوَ بِبَلْخَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ شَرَّعَ لَهُ دِينَهُ، فَأَعْجَبَهُ وَاتَّبَعَهُ وَقَهَرَ النَّاسَ عَلَى اتِّبَاعِهِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا حَتَّى قَبِلُوهُ وَدَانُوا بِهِ.

وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَيَزْعُمُونَ أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ، وَأَنَّهُ نَزَلَ عَلَى الْمَلِكِ مِنْ سَقْفِ إِيوَانِهِ، وَبِيَدِهِ كُبَّةٌ مِنْ نَارٍ يَلْعَبُ بِهَا وَلَا تَحْرِقُهُ، وَكُلُّ مَنْ أَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ لَمْ تَحْرِقْهُ، وَأَنَّهُ اتَّبَعَهُ الْمَلِكُ، وَدَانَ بِدِينِهِ، وَبَنَى بُيُوتَ النِّيرَانِ فِي الْبِلَادِ، وَأَشْعَلَ مِنْ تِلْكَ النَّارِ فِي بُيُوتِ النِّيرَانِ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ النِّيرَانَ الَّتِي فِي بُيُوتِ عِبَادَاتِهِمْ مِنْ تِلْكَ إِلَى الْآنَ. وَكَذَبُوا فَإِنَّ النَّارَ الَّتِي لِلْمَجُوسِ طُفِئَتْ فِي جَمِيعِ الْبُيُوتِ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَ ظُهُورُ زَرَادُشْتَ بَعْدَ مُضِيِّ ثَلَاثِينَ سَنَةً مِنْ مُلْكِ بَشْتَاسِبَ، وَأَتَاهُ بِكِتَابٍ زَعَمَ أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُتِبَ فِي جِلْدِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ بَقَرَةٍ حَفْرًا وَنَقْشًا بِالذَّهَبِ، فَجَعَلَهُ بَشْتَاسِبُ فِي مَوْضِعٍ بِإِصْطَخْرَ وَمَنَعَ مِنْ تَعْلِيمِهِ الْعَامَّةَ. وَكَانَ بَشْتَاسِبُ وَآبَاؤُهُ قَبْلَهُ يَدِينُونَ بِدِينِ الصَّابِئَةِ. وَسَيَرِدُ بَاقِي أَخْبَارِهِ.

ذكر مسير بختنصر إلى بني إسرائيل

[ذِكْرُ مَسِيرِ بُخْتُنَصَّرَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ] قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُرْسِلَ فِيهِ بُخْتُنَصَّرُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقِيلَ: كَانَ فِي عَهْدِ إِرْمِيَا النَّبِيِّ، وَدَانْيَالَ، وَحَنَانِيَا، وَعَزَارِيَا، وَمِيَشَائِيلَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا. وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِ بُخْتُنَصَّرَ مَا ذَكَرَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ، فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء: 5] . قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَرِنِي هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي جَعَلْتَ هَلَاكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى يَدِهِ، فَأُرِي فِي الْمَنَامِ مِسْكِينًا يُقَالُ لَهُ بُخْتُنَصَّرُ بِبَابِلَ فَسَارَ عَلَى سَبِيلِ التِّجَارَةِ إِلَى بَابِلَ، وَجَعَلَ يَدْعُو الْمَسَاكِينَ وَيَسْأَلُ عَنْهُمْ حَتَّى دَلُّوهُ عَلَى بُخْتُنَصَّرَ، فَأَرْسَلَ مَنْ يُحْضِرُهُ، فَرَآهُ صُعْلُوكًا مَرِيضًا فَقَامَ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ يُعَالِجُهُ حَتَّى بَرَأَ، فَلَمَّا بَرَأَ أَعْطَاهُ نَفَقَةً وَعَزَمَ عَلَى السَّفَرِ، فَقَالَ لَهُ بُخْتُنَصَّرُ وَهُوَ يَبْكِي: فَعَلْتَ مَعِي مَا فَعَلْتَ وَلَا أَقْدِرُ عَلَى مُجَازَاتِكَ! قَالَ

الْإِسْرَائِيلِيُّ: بَلَى تَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ تَكْتُبُ لِي كِتَابًا إِنْ مَلَكْتَ أَطْلَقْتَنِي. فَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي؟ فَقَالَ: إِنَّمَا هَذَا أَمْرٌ لَا مَحَالَةَ كَائِنٌ. ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ الْفُرْسِ أَحَبَّ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى أَحْوَالِ الشَّامِ، فَأَرْسَلَ إِنْسَانًا يَثِقُ بِهِ لِيَتَعَرَّفَ لَهُ أَخْبَارَ وَحَالَ مَنْ فِيهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ بُخْتُنَصَّرُ فَقِيرٌ لَمْ يَخْرُجْ إِلَّا لِلْخِدْمَةِ. فَلَمَّا قَدِمَ الشَّامَ رَأَى أَكْبَرَ بِلَادِ اللَّهِ خَيْلًا، وَرِجَالًا، وَسِلَاحًا، فَفَتَّ ذَلِكَ فِي ذَرْعِهِ، فَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ شَيْءٍ، وَجَعَلَ بُخْتُنَصَّرُ يَجْلِسُ مَجَالِسَ أَهْلِ الشَّامِ فَيَقُولُ لَهُمْ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَغْزُوا بَابِلَ، فَلَوْ غَزَوْتُمُوهَا مَا دُونَ بَيْتِ مَالِهَا شَيْءٌ! فَكُلُّهُمْ يَقُولُ لَهُ: لَا نُحْسِنُ الْقِتَالَ، وَلَا نَرَاهُ فَلَمَّا عَادُوا أَخْبَرَ الطَّلِيعَةُ بِمَا رَأَوْا مِنَ الرِّجَالِ وَالسِّلَاحِ وَالْخَيْلِ، وَأَرْسَلَ بُخْتُنَصَّرُ إِلَى الْمَلِكِ يَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يُحْضِرَهُ لِيُعَرِّفَهُ جَلِيَّةَ الْحَالِ، فَأَحْضَرَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ جَمِيعُهُ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ عَسْكَرًا إِلَى الشَّامِ أَرْبَعَةَ آلَافِ رَاكِبِ جَرِيدَةً، وَاسْتَشَارَ فِيمَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ، فَأَشَارُوا بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: لَا بَلْ بُخْتُنَصَّرُ، فَجَعَلَهُ عَلَيْهِمْ. فَسَارُوا فَغَنِمُوا وَأَوْقَعُوا بِبَعْضِ الْبِلَادِ وَعَادُوا سَالِمِينَ. ثُمَّ إِنَّ لَهْرَاسِبَ اسْتَعْمَلَهُ إِصْبَهْبَذًا عَلَى مَا بَيْنَ الْأَهْوَازِ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ مِنْ غَرْبِيِّ دِجْلَةَ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي مَسِيرِهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَعْمَلَهُ لَهْرَاسِبُ كَمَا ذَكَرْنَا سَارَ إِلَى الشَّامِ فَصَالَحَهُ أَهْلُ دِمَشْقَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَعَادَ عَنْهُمْ وَأَخَذَ رَهَائِنَهُمْ، فَلَمَّا عَادَ مِنَ الْقُدْسِ إِلَى طَبَرِيَّةَ وَثَبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى مَلِكِهِمُ الَّذِي صَالَحَ بُخْتُنَصَّرَ فَقَتَلُوهُ، وَقَالُوا: دَاهَنْتَ أَهْلَ بَابِلَ وَخَذَلْتَنَا، فَلَمَّا سَمِعَ بُخْتُنَصَّرُ بِذَلِكَ قَتَلَ الرَّهَائِنَ الَّذِينَ مَعَهُ وَعَادَ إِلَى الْقُدْسِ فَأَخْرَبَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ إِنَّمَا كَانَ الْمَلِكَ بَهْمَنَ بْنَ بَشْتَاسِبَ بْنِ لَهْرَاسِبَ، وَكَانَ بُخْتُنَصَّرُ قَدْ خَدَمَ جَدَّهُ، وَأَبَاهُ، وَخَدَمَهُ، وَعُمِّرَ عُمُرًا طَوِيلًا. فَأَرْسَلَ بَهْمَنُ رُسُلًا إِلَى مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَتَلَهُمُ الْإِسْرَائِيلِيُّ، فَغَضِبَ بَهْمَنُ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَعْمَلَ

بُخْتُنَصَّرَ عَلَى أَقَالِيمِ بَابِلَ وَسَيَّرَهُ فِي الْجُنُودِ الْكَثِيرَةِ، فَعَمِلَ بِهِمْ مَا نَذْكُرُهُ. هَذِهِ الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ الْكُلِّيُّ الَّذِي أَحْدَثَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الْمُوجِبَةَ لِلِانْتِقَامِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ مَعْصِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَمُخَالَفَةُ أَوَامِرِهِ، وَكَانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ إِذَا مَلَّكَ عَلَيْهِمْ مَلِكًا أَرْسَلَ مَعَهُ نَبِيًّا يُرْشِدُهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ مَسِيرِ بُخْتُنَصَّرَ إِلَيْهِمْ كَثُرَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَالْمَعَاصِي، وَكَانَ الْمَلِكُ فِيهِمْ يَقُونِيَا بْنُ يُويَاقِيمَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ إِرْمِيَا، قِيلَ: هُوَ الْخَضِرُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَقَامَ فِيهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي وَيَذْكُرُ لَهُمْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِإِهْلَاكِ سَنْحَارِيبَ، فَلَمْ يَرْعَوُوا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُحَذِّرَهُمْ عُقُوبَتَهُ وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُرَاجِعُوا الطَّاعَةَ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ يَقْتُلُهُمْ وَيَسْبِي ذَرَارِيَّهُمْ وَيُخَرِّبُ مَدْيَنَتَهُمْ، وَيَسْتَعْبِدُهُمْ وَيَأْتِيهِمْ بِجُنُودٍ يَنْزِعُ مِنْ قُلُوبِهِمُ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ، فَلَمْ يُرَاجِعُوهَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ: لَأُقَيِّضَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً تَذَرُ الْحَلِيمَ حَيْرَانَ فِيهَا وَيَضِلُّ فِيهَا رَأْيُ ذِي الرَّأْي، وَحِكْمَةُ الْحَكِيمِ، وَلَأُسَلِّطَنَّ عَلَيْهِمْ جَبَّارًا قَاسِيًا عَاتِبًا أُلْبِسُهُ الْهَيْبَةَ وَأَنْزِعُ مِنْ صَدْرِهِ الرَّحْمَةَ، يَتْبَعُهُ عَدَدٌ مِثْلُ سَوَادِ اللَّيْلِ، وَعَسَاكِرُ مِثْلُ قِطَعِ السَّحَابِ، يُهْلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيَنْتَقِمُ مِنْهُمْ وَيُخَرِّبُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. فَلَمَّا سَمِعَ إِرْمِيَا ذَلِكَ صَاحَ وَبَكَى وَشَقَّ ثِيَابَهُ. وَجَعَلَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ وَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ فِي رَفْعِ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي أَيَّامِهِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: وَعِزَّتِي لَا أُهْلِكُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ مِنْ قِبَلِكَ ذَلِكَ. فَفَرِحَ إِرْمِيَا، وَقَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَ مُوسَى وَأَنْبِيَاءَهُ بِالْحَقِّ لَا آمُرُ بِهَلَاكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبَدًا. وَأَتَى مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَعْلَمَهُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَاسْتَبْشَرَ وَفَرِحَ، ثُمَّ لَبِثُوا بَعْدَ هَذَا الْوَحْيِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَلَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا مَعْصِيَةً وَتَمَادِيًا فِي الشَّرِّ، وَذَلِكَ حِينَ اقْتَرَبَ هَلَاكُهُمْ،

فَقَلَّ الْوَحْيُ حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا هُمْ يَتَذَكَّرُونَ. فَقَالَ لَهُمْ مَلِكُهُمْ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، انْتَهُوا عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمْ عَذَابُ اللَّهِ! فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِ بُخْتُنَصَّرَ أَنْ يَسِيرَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَسَارَ فِي الْعَسَاكِرِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَمْلَأُ الْفَضَاءَ. وَبَلَغَ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْخَبَرُ، فَاسْتَدْعَى إِرْمِيَا النَّبِيَّ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ قَالَ لَهُ: يَا إِرْمِيَا، أَيْنَ مَا زَعَمَتْ أَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى إِلَيْكَ أَنْ لَا يُهْلِكَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ مِنْكَ؟ فَقَالَ إِرْمِيَا: إِنَّ رَبِّي لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَأَنَا بِهِ وَاثِقٌ. فَلَمَّا قَرُبَ الْأَجَلُ وَدَنَا انْقِطَاعُ مُلْكِهِمْ، وَأَرَادَ اللَّهُ إِهْلَاكَهُمْ أَرْسَلَ اللَّهُ مَلَكًا فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ إِلَى إِرْمِيَا، وَقَالَ لَهُ: اسْتَفْتِهِ، فَأَتَاهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا إِرْمِيَا، أَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَسْتَفْتِيكَ فِي ذَوِي رَحِمِي، وَصَلْتُ أَرْحَامَهُمْ بِمَا أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ وَأَتَيْتُ لَهُمْ حَسَنًا، وَكَرَامَةً فَلَا تَزِيدُهُمْ كَرَامَتِي إِيَّاهُمْ إِلَّا سُخْطًا لِي وَسُوءَ سِيرَةٍ مَعِي فَأَفْتِنِي فِيهِمْ. فَقَالَ لَهُ: أَحْسِنْ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ وَصِلْ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ أَنْ تَصِلَهُ. فَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمَلَكُ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَيَّامٍ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ، فَقَالَ لَهُ إِرْمِيَا: أَمَا طَهُرَتْ أَخْلَاقُهُمْ وَمَا رَأَيْتَ مِنْهُمْ مَا تُرِيدُ؟ فَقَالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَعْلَمُ كَرَامَةً يَأْتِيهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى ذَوِي رَحِمِهِ إِلَّا وَقَدْ أَتَيْتُهَا إِلَيْهِمْ، وَأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا سُوءَ سِيرَةٍ. فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ، وَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ. فَقَامَ الْمَلَكُ مِنْ عِنْدِهِ فَلَبِثَ أَيَّامًا، وَنَزَلَ بُخْتُنَصَّرُ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِأَكْثَرَ مِنَ الْجَرَادِ، فَفَزِعَ مِنْهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ مَلِكُهُمْ لِإِرْمِيَا: أَيْنَ مَا وَعَدَكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي بِرَبِّي وَاثِقٌ. ثُمَّ إِنَّ الْمَلَكَ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ يَسْتَفْتِي إِرْمِيَا عَادَ إِلَيْهِ وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى جِدَارِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَشَكَا أَهْلَهُ وَجَوْرَهُمْ وَقَالَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كُلُّ شَيْءٍ كُنْتُ أَصْبِرُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْيَوْمِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِيهِ سُخْطِي، وَقَدْ رَأَيْتُهُمُ الْيَوْمَ عَلَى عَمَلٍ عَظِيمٍ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ كَانُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ الْيَوْمَ لَمْ يَشْتَدَّ عَلَيْهِ غَضَبِي، وَإِنَّمَا غَضِبْتُ الْيَوْمَ لِلَّهِ وَأَتَيْتُكَ لِأُخْبِرَكَ خَبَرَهُمْ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِلَّا مَا دَعَوْتَ اللَّهَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَهْلِكُوا. فَقَالَ إِرْمِيَا: يَا مَلِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ وَصَوَابٍ فَأَبْقِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى سُخْطِكَ وَعَمَلٍ لَا تَرْضَاهُ فَأَهْلِكْهُمْ. فَلَمَّا خَرَجَتِ الْكَلِمَةُ مِنْ فِيهِ أَرْسَلَ اللَّهُ صَاعِقَةً مِنَ السَّمَاءِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالْتَهَبَ مَكَانُ الْقُرْبَانِ وَخُسِفَ بِسَبْعَةِ أَبْوَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ إِرْمِيَا صَاحَ وَشَقَّ ثِيَابَهُ وَنَبَذَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: يَا مَلِكَ

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ! أَيْنَ مِيعَادُكَ، أَيَا رَبِّ، الَّذِي وَعَدْتَنِي بِهِ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَهُمْ إِلَّا بِفُتْيَاكَ الَّتِي أَفْتَيْتَ رَسُولَنَا، فَاسْتَيْقَنَ أَنَّهَا فُتْيَاهُ وَأَنَّ السَّائِلَ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَخَرَجَ إِرْمِيَا حَتَّى خَالَطَ الْوَحْشَ. وَدَخَلَ بُخْتُنَصَّرُ وَجُنُودُهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَوَطِئَ الشَّامَ وَقَتَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَفْنَاهُمْ، وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَمَرَ جُنُودَهُ، فَحَمَلُوا التُّرَابَ وَأَلْقَوْهُ فِيهِ حَتَّى مَلَئُوهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى بَابِلَ وَأَخَذَ مَعَهُ سَبَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَرَهُمْ فَجَمَعُوا مَنْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ كُلَّهُمْ، فَاجْتَمَعُوا وَاخْتَارَ مِنْهُمْ مِائَةَ أَلْفِ صَبِيٍّ فَقَسَمَهُمْ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْقُوَّادِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، وَكَانَ مِنْ أُولَئِكَ الْغِلْمَانِ دَانْيَالُ النَّبِيُّ، وَحَنَانِيَا، وَعَزَارِيَا، وَمِيشَائِيلُ، وَقَسَّمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَقَتَلَ ثُلُثًا، وَأَقَرَّ بِالشَّامِ ثُلُثًا، وَسَبَى ثُلُثًا، ثُمَّ عَمَّرَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِرْمِيَا، فَهُوَ الَّذِي رُئِيَ بِفَلَوَاتِ الْأَرْضِ وَالْبُلْدَانِ. ثُمَّ إِنَّ بُخْتُنَصَّرَ عَادَ إِلَى بَابِلَ وَأَقَامَ فِي سُلْطَانِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ. ثُمَّ رَأَى رُؤْيَا، فَبَيْنَمَا هُوَ قَدْ أَعْجَبَهُ مَا رَأَى إِذْ رَأَى شَيْئًا أَنْسَاهُ مَا رَأَى، فَدَعَا دَانْيَالَ، وَحَنَانِيَا، وَعَزَارِيَا، وَمِيشَائِيلَ، وَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ رُؤْيَا رَأَيْتُهَا فَأُنْسِيتُهَا. وَلَئِنْ لَمْ تُخْبِرُونِي بِهَا وَبِتَأْوِيلِهَا لَأَنْزِعَنَّ أَكْتَافَكُمْ! فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ وَدَعَوُا اللَّهَ وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُعْلِمَهُمْ إِيَّاهَا، فَأَعْلَمَهُمُ الَّذِي سَأَلَهُمْ عَنْهُ، فَجَاءُوا إِلَى بُخْتُنَصَّرَ فَقَالُوا رَأَيْتَ تِمْثَالًا. قَالَ: صَدَقْتُمْ. قَالُوا: قَدَمَاهُ، وَسَاقَاهُ مِنْ فَخَّارٍ، وَرُكْبَتَاهُ وَفَخِذَاهُ مِنْ نُحَاسٍ، وَبَطْنُهُ مِنْ فِضَّةٍ، وَصَدْرُهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَرَأْسُهُ وَعُنُقُهُ مِنْ حَدِيدٍ، فَبَيْنَمَا أَنْتَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ قَدْ أَعْجَبَكَ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ صَخْرَةً مِنَ السَّمَاءِ فَدَقَّتْهُ، وَهِيَ الَّتِي أَنْسَتْكَ الرُّؤْيَا! قَالَ: صَدَقْتُمْ، فَمَا تَأْوِيلُهَا؟ قَالُوا: أُرِيتَ مُلْكَ الْمُلُوكِ، وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَلْيَنَ مُلْكًا مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَحْسَنَ مُلْكًا مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهُمْ أَشَدَّ، وَكَانَ أَوَّلَ الْمُلْكِ الْفَخَّارُ، وَهُوَ أَضْعَفُهُ وَأَلْيَنُهُ، ثُمَّ كَانَ فَوْقَهُ النُّحَاسُ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَشَدُّ، ثُمَّ كَانَ فَوْقَ النُّحَاسِ الْفِضَّةُ، وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ وَأَحْسَنُ، ثُمَّ كَانَ فَوْقَهَا الذَّهَبُ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنَ الْفِضَّةِ وَأَفْضَلُ، ثُمَّ كَانَ الْحَدِيدُ، وَهُوَ مُلْكُكَ، فَهُوَ أَشَدُّ الْمُلُوكِ وَأَعَزُّ، وَكَانَتِ الصَّخْرَةُ الَّتِي رَأَيْتَ قَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ فَدَقَّتْ ذَلِكَ جَمِيعَهُ نَبِيًّا يَبْعَثُهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ وَيَصِيرُ الْأَمْرُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا عَبَرَ دَانْيَالُ وَمَنْ مَعَهُ رُؤْيَا بُخْتُنَصَّرَ قَرَّبَهُمْ وَأَدْنَاهُمْ وَاسْتَشَارَهُمْ فِي أَمْرِهِ،

فَحَسَدَهُمْ أَصْحَابُهُ، وَسَعَوْا بِهِمْ إِلَيْهِ، وَقَالُوا عَنْهُمْ مَا أَوْحَشَهُ مِنْهُمْ فَأَمَرَ، فَحُفِرَ لَهُمْ أُخْدُودٌ، وَأَلْقَاهُمْ فِيهِ، وَهُمْ سِتَّةُ رِجَالٍ، وَأَلْقَى مَعَهُمْ سَبُعًا ضَارِيًا لِيَأْكُلَهُمْ، ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُ بُخْتُنَصَّرَ: انْطَلِقُوا فَلْنَأْكُلْ وَلْنَشْرَبْ، فَذَهَبُوا فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، ثُمَّ رَاحُوا فَوَجَدُوهُمْ جُلُوسًا وَالسَّبُعُ مُفْتَرِشٌ ذِرَاعَيْهِ بَيْنَهُمْ لَمْ يَخْدِشْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَوَجَدُوا مَعَهُمْ رَجُلًا سَابِعًا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ السَّابِعُ، وَكَانَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَلَطَمَ بُخْتُنَصَّرَ لَطْمَةً فَمَسَخَهُ وَصَارَ فِي الْوَحْشِ فِي صُورَةِ أَسَدٍ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعْقِلُ مَا يَعْقِلُهُ الْإِنْسَانُ، ثُمَّ رَدَّهُ اللَّهُ إِلَى صُورَةِ الْإِنْسِ وَأَعَادَ عَلَيْهِ مُلْكَهُ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى مُلْكِهِ كَانَ دَانْيَالُ وَأَصْحَابُهُ أَكْرَمَ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَعَادَ الْفُرْسُ وَسَعَوْا بِهِمْ إِلَى بُخْتُنَصَّرَ، وَقَالُوا لَهُ فِي سِعَايَتِهِمْ: إِنَّ دَانْيَالَ إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ كَثْرَةِ الْبَوْلِ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ عَارًا، فَصَنَعَ لَهُمْ بُخْتُنَصَّرُ طَعَامًا وَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ وَقَالَ لِلْبَوَّابِ: انْظُرْ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ لِيَبُولَ فَاقْتُلْهُ، وَإِنْ قَالَ لَكَ: أَنَا بُخْتُنَصَّرُ، فَقُلْ لَهُ: كَذَبْتَ، بُخْتُنَصَّرُ أَمَرَنِي بِقَتْلِكَ وَاقْتُلْهُ. فَحَبَسَ اللَّهُ عَنْ دَانْيَالَ الْبَوْلَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَامَ مِنَ الْجَمْعِ بُخْتُنَصَّرُ فَقَامَ مُدِلًّا أَنَّهُ الْمَلِكُ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، فَلَمَّا رَآهُ الْبَوَّابُ شَدَّ عَلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَنَا بُخْتُنَصَّرُ! فَقَالَ: كَذَبْتَ، بُخْتُنَصَّرُ أَمَرَنِي بِقَتْلِكَ، وَقَتَلَهُ. وَقِيلَ فِي سَبَبِ قَتْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ عَلَيْهِ بَعُوضَةً فَدَخَلَتْ فِي مِنْخَرِهِ وَصَعِدَتْ إِلَى رَأْسِهِ، فَكَانَ لَا يَقَرُّ وَلَا يَسْكُنُ حَتَّى يُدَقَّ رَأْسُهُ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِأَهْلِهِ: شُقُّوا رَأْسِي فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي قَتَلَنِي، فَلَمَّا مَاتَ شَقُّوا رَأْسَهُ فَوَجَدُوا الْبَعُوضَةَ بِأُمِّ رَأْسِهِ، لِيُرِيَ اللَّهُ الْعِبَادَ قُدْرَتَهُ وَسُلْطَانَهُ وَضَعْفَ بُخْتُنَصَّرَ، لَمَّا تَجَبَّرَ قَتَلَهُ بِأَضْعَفِ مَخْلُوقَاتِهِ، تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. وَأَمَّا دَانْيَالُ فَإِنَّهُ أَقَامَ بِأَرْضِ بَابِلَ، وَانْتَقَلَ عَنْهَا، وَمَاتَ وَدُفِنَ بِالسُّوسِ مِنْ أَعْمَالِ خُوزِسْتَانَ.

وَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ بُخْتُنَصَّرُ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّهُ عَاشَ بَعْدَ تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فِي قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ أُولْمَرْدَجُ، فَلَمَّا مَلَكَ تَخَلَّطَ فِي أَمْرِهِ، فَعَزَلَهُ مَلِكُ الْفُرْسِ حِينَئِذٍ، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاسْتَعْمَلَ بَعْدَهُ دَارِيُوشَ عَلَى بَابِلَ، وَالشَّامِ، وَبَقِيَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ عَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ مَكَانَهُ أَخْشُوِيرَشَ، فَبَقِيَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ ابْنُهُ كِيرَشُ الْعِلْمِيُّ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ قَدْ تَعَلَّمَ التَّوْرَاةَ وَدَانَ بِالْيَهُودِيَّةِ، وَفَهِمَ عَنْ دَانْيَالَ وَمَنْ مَعَهُ مِثْلَ حَنَانِيَا، وَعَزَارِيَا، وَغَيْرِهِمَا، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ بَقِيَ مِنْكُمْ أَلْفُ نَبِيٍّ مَا فَارَقْتُكُمْ، وَوَلَّى دَانْيَالَ الْقَضَاءَ وَجَعَلَ إِلَيْهِ جَمِيعَ أَمْرِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَسِّمَ مَا غَنِمَهُ بُخْتُنَصَّرُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُ بِعِمَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَعُمِّرَ فِي أَيَّامِهِ، وَعَادَ إِلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَهَذِهِ الْمُدَّةُ لِهَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ مَعْدُودَةٌ مِنْ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَنْسُوبَةٌ إِلَى بُخْتُنَصَّرَ، وَكَانَ مُلْكُ كِيرَشَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي أَمَرَ بِعَوْدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الشَّامِ بَشْتَاسِبُ بْنُ لَهْرَاسِبَ، وَكَانَ قَدْ

بَلَغَهُ خَرَابُ بِلَادِ الشَّامِ، وَأَنَّهَا لَمْ يَبْقَ مِنْهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَحَدٌ فَنَادَى فِي أَرْضِ بَابِلَ: مَنْ شَاءَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الشَّامِ فَلْيَرْجِعْ. وَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ آلِ دَاوُدَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَمِّرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَجَعُوا وَعَمَّرُوهُ. وَكَانَ إِرْمِيَا بْنُ خِلْقِيَا مِنْ سِبْطِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ، فَلَمَّا وَطِئَ بُخْتُنَصَّرُ الشَّامَ وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَقَتَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَسَبَاهُمْ، فَارَقَ الْبِلَادَ وَاخْتَلَطَ بِالْوَحْشِ، فَلَمَّا عَادَ بُخْتُنَصَّرُ إِلَى بَابِلَ أَقْبَلَ إِرْمِيَا عَلَى حِمَارٍ لَهُ مَعَهُ عَصِيرُ عِنَبٍ وَفِي يَدِهِ سَلَّةُ تِينٍ فَرَأَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ خَرَابًا، فَقَالَ: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ} [البقرة: 259] ثُمَّ أَمَاتَ حِمَارَهُ، وَأَعْمَى عَنْهُ الْعُيُونَ، فَلَمَّا انْعَمَرَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَحْيَا اللَّهُ مِنْ إِرْمِيَا عَيْنَيْهِ، ثُمَّ أَحْيَا جَسَدَهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ لَهُ: {كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة: 259] . قِيلَ: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259]- وَيَتَغَيَّرُ {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} [البقرة: 259] فَنَظَرَ إِلَى عِظَامِ حِمَارِهِ وَهِيَ تَجْتَمِعُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ كُسِيَ لَحْمًا، ثُمَّ قَامَ حَيًّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَنَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهِيَ تُبْنَى، وَقَدْ كَثُرَ فِيهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ وَتَرَاجَعُوا إِلَيْهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَ عَهْدُهُمْ خَرَابًا، وَأَهْلُهَا مَا بَيْنَ قَتِيلٍ وَأَسِيرٍ، فَلَمَّا رَآهَا عَامِرَةً {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] . وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي أَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ أَحْيَاهُ كَانَ عُزَيْرًا، فَلَمَّا عَاشَ قَصَدَ مَنْزِلَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى وَهْمٍ مِنْهُ فَرَأَى عِنْدَهُ عَجُوزًا عَمْيَاءَ زَمِنَةً كَانَتْ جَارِيَةً لَهُ، وَلَهَا مِنَ الْعُمُرِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَقَالَ لَهَا: هَذَا مَنْزِلُ عُزَيْرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَبَكَتْ وَقَالَتْ: مَا أَرَى أَحَدًا يَذْكُرُ عُزَيْرًا غَيْرَكَ! فَقَالَ: أَنَا عُزَيْرٌ. فَقَالَتْ: إِنَّ عُزَيْرًا كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، فَادْعُ اللَّهَ لِي بِالْعَافِيَةِ، فَدَعَا لَهَا فَعَادَ بَصَرُهَا وَقَامَتْ وَمَشَتْ، فَلَمَّا رَأَتْهُ عَرَفَتْهُ. وَكَانَ لِعُزَيْرٍ وَلَدٌ وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ مِائَةٌ وَثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَهُ أَوْلَادٌ شُيُوخٌ، فَذَهَبَتْ

إِلَيْهِمُ الْجَارِيَةُ وَأَخْبَرَتْهُمْ بِهِ، فَجَاءُوا، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَرَفَهُ ابْنُهُ بِشَامَةٍ كَانَتْ فِي ظَهْرِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ عُزَيْرًا كَانَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْعِرَاقِ، فَعَادَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَجَدَّدَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ التَّوْرَاةَ لِأَنَّهُمْ عَادُوا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمُ التَّوْرَاةُ لِأَنَّهَا كَانَتْ قَدْ أُخِذَتْ فِيمَا أُخِذَ وَأُحْرِقَتْ وَعُدِمَتْ، وَكَانَ عُزَيْرٌ قَدْ أُخِذَ مَعَ السَّبْيِ، فَلَمَّا عَادَ عُزَيْرٌ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَعَلَ يَبْكِي لَيْلًا نَهَارًا وَانْفَرَدَ عَنِ النَّاسِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ فِي حُزْنِهِ إِذْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، وَهُوَ جَالِسٌ، فَقَالَ: يَا عُزَيْرُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَعَهْدَهُ كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَعُدِمَ. قَالَ: فَتُرِيدُ أَنْ يَرُدَّهُ اللَّهُ عَلَيْكَمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَارْجِعْ، وَصُمْ، وَتَطَهَّرْ، وَالْمِيعَادُ بَيْنَنَا غَدًا هَذَا الْمَكَانُ. فَفَعَلَ عُزَيْرٌ ذَلِكَ وَأَتَى الْمَكَانَ فَانْتَظَرَهُ، وَأَتَاهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ، وَكَانَ مَلَكًا بَعَثَهُ اللَّهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، فَسَقَاهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ، فَتَمَثَّلَتِ التَّوْرَاةُ فِي صَدْرِهِ، فَرَجَعَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَوَضَعَ لَهُمُ التَّوْرَاةَ يَعْرِفُونَهَا بِحَلَالِهَا وَحَرَامِهَا وَحُدُودِهَا، فَأَحَبُّوهُ حُبًّا شَدِيدًا لَمْ يُحِبُّوا شَيْئًا قَطُّ مِثْلَهُ، وَأَصْلَحَ أَمَرَهُمْ، وَأَقَامَ عُزَيْرٌ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ، وَحَدَثَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وَلَمْ يَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَعَادُوا وَكَثُرُوا حَتَّى غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الرُّومُ زَمَنَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَمْرِ بُخْتُنَصَّرَ، وَعِمَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا تَرَكْنَا ذِكْرَهُ اخْتِصَارًا. ذِكْرُ غَزْوِ بُخْتُنَصَّرَ الْعَرَبَ قِيلَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى بَرْخِيَّا بْنِ حَنِيَّا يَأْمُرُهُ أَنْ يَقُولَ لَبُخْتُنَصَّرَ لِيَغْزُوَ الْعَرَبَ فَيَقْتُلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَيَسْبِيَ ذَرَارِيَّهُمْ، وَيَسْتَبِيحَ أَمْوَالَهُمْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. فَقَالَ بَرْخِيَّا لَبُخْتُنَصَّرَ مَا أُمِرَ بِهِ، فَابْتَدَأَ بِمَنْ فِي بِلَادِهِ مِنْ تُجَّارِ الْعَرَبِ فَأَخَذَهُمْ وَبَنَى لَهُمْ حَيْرًا

بِالنَّجَفِ وَحَبَسَهُمْ فِيهِ وَوَكَّلَ بِهِمْ، وَانْتَشَرَ الْخَبَرُ فِي الْعَرَبِ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ الطَّوَائِفُ مِنْهُمْ مُسْتَأْمِنِينَ، فَقَبِلَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ فَأَنْزَلَهُمُ السَّوَادَ، فَابْتَنَوُا الْأَنْبَارَ وَخَلَّى عَنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ فَاتَّخَذُوهَا مَنْزِلًا حَيَاةَ بُخْتُنَصَّرَ. فَلَمَّا مَاتَ انْضَمُّوا إِلَى أَهْلِ الْأَنْبَارِ، وَهَذَا أَوَّلُ سُكْنَى الْعَرَبِ السَّوَادَ بِالْحِيرَةِ وَالْأَنْبَارِ. وَسَارَ إِلَى الْعَرَبِ بِنَجْدٍ وَالْحِجَازِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى بَرْخِيَّا وَإِرْمِيَا يَأْمُرُهُمَا أَنْ يَسِيرًا إِلَى مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ فَيَأْخُذَاهُ وَيَحْمِلَاهُ إِلَى حَرَّانَ، وَأَعْلَمَهُمَا أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ نَسْلِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يَخْتِمُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ، فَسَارَا تُطْوَى لَهُمَا الْمَنَازِلُ وَالْأَرْضُ حَتَّى سَبَقَا بُخْتُنَصَّرَ إِلَى مَعَدٍّ فَحَمَلَاهُ إِلَى حَرَّانَ فِي سَاعَتِهِمَا، وَلِمَعَدٍّ حِينَئِذٍ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَسَارَ بُخْتُنَصَّرُ فَلَقِيَ جُمُوعَ الْعَرَبِ فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَسَارَ إِلَى الْحِجَازِ فَجَمَعَ عَدْنَانُ الْعَرَبَ وَالْتَقَى هُوَ وَبُخْتُنَصَّرُ بِذَاتِ عِرْقٍ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ عَدْنَانُ وَتَبِعَهُ بُخْتُنَصَّرُ إِلَى حُصُونٍ هُنَاكَ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَخَنْدَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَكَمَّنَ بُخْتُنَصَّرُ كَمِينًا، وَهُوَ أَوَّلُ كَمِينٍ عُمِلَ، وَأَخَذَتْهُمُ السُّيُوفُ، فَنَادَوْهُ بِالْوَيْلِ، وَنَهَى عَدْنَانُ عَنْ بُخْتُنَصَّرَ، وَبُخْتُنَصَّرُ عَنْ عَدْنَانَ، فَافْتَرَقَا. فَلَمَّا رَجَعَ بُخْتُنَصَّرُ خَرَجَ مَعَدُّ بْنُ عَدْنَانَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَأَقَامَ أَعْلَامَهَا، وَحَجَّ مَعَهُ الْأَنْبِيَاءُ، وَخَرَجَ مَعَدٌّ حَتَّى أَتَى رَيْسُوتَ وَسَأَلَ عَمَّنْ بَقِيَ مَنْ وَلَدِ الْحَرْثِ بْنِ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيِّ، فَقِيلَ لَهُ: بَقِيَ جَوْشَمُ بْنُ جُلْهَمَةَ، فَتَزَوَّجَ مَعَدٌّ ابْنَتَهُ مُعَانَةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ نِزَارَ بْنَ مَعَدٍّ.

ذكر بشتاسب والحوادث في ملكه وقتل أبيه لهراسب

[ذِكْرُ بَشْتَاسِبَ وَالْحَوَادِثِ فِي مُلْكِهِ وَقَتْلِ أَبِيهِ لَهْرَاسِبَ] لَمَّا مَلَكَ بَشْتَاسِبُ بْنُ لَهْرَاسِبَ ضَبَطَ الْمُلْكَ وَقَرَّرَ قَوَانِينَهُ وَابْتَنَى بِفَارِسَ مَدِينَةَ فَسَا وَرَتَّبَ سَبْعَةً مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ مَرَاتِبَ وَمَلَّكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَمْلَكَةً عَلَى قَدْرِ مَرْتَبَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى مَلِكِ التُّرْكِ، وَاسْمُهُ خُرْزَاسِفُ، وَهُوَ أَخُو أَفْرَاسِيَابَ، وَصَالَحَهُ، وَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِبَشْتَاسِبَ دَابَّةٌ وَاقِفَةٌ عَلَى بَابِ مَلِكِ التُّرْكِ لَا تَزَالُ عَلَى عَادَتِهَا عَلَى أَبْوَابِ الْمُلُوكِ، فَلَمَّا جَاءَ زَرَادُشْتُ إِلَى بَشْتَاسِبَ وَاتَّبَعَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَشَارَ زَرَادُشْتُ عَلَى بَشْتَاسِبَ بِنَقْضِ الصُّلْحِ مَعَ مَلِكِ التُّرْكِ، وَقَالَ: أَنَا أُعَيِّنُ لَكَ طَالِعًا تَسِيرُ فِيهِ إِلَى الْحَرْبِ فَتَظْفَرُ، وَهَذَا أَوَّلُ وَقْتٍ وُضِعَتْ فِيهِ الِاخْتِيَارَاتُ لِلْمُلُوكِ بِالنُّجُومِ. وَكَانَ زَرَادُشْتُ عَالِمًا بِالنُّجُومِ جَيِّدَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا، فَأَجَابَهُ بَشْتَاسِبُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الدَّابَّةِ الَّتِي بِبَابِ مَلِكِ التُّرْكِ وَإِلَى الْمُوَكَّلِ بِهَا فَصَرَفَهُمَا، فَغَضِبَ مَلَكُ التُّرْكِ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَتَهَدَّدُهُ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَيَأْمُرُهُ بِإِنْفَاذِ زَرَادُشْتَ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ غَزَاهُ وَقَتَلَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ بَشْتَاسِبُ كِتَابًا غَلِيظًا يُؤْذِنُهُ فِيهِ بِالْحَرْبِ، وَسَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ وَالْتَقَيَا، وَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى التُّرْكِ، وَقُتِلُوا قَتْلًا ذَرِيعًا. وَمَرُّوا مُنْهَزِمِينَ، وَعَادَ بَشْتَاسِبُ إِلَى بَلْخَ، وَعَظُمَ أَمْرُ زَرَادُشْتَ عِنْدَ الْفُرْسِ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ حَيْثُ كَانَ هَذَا الظَّفَرُ بِقَوْلِهِ. وَكَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ غِنَاءً فِي هَذِهِ الْحَرْبِ إِسْفِنْدِيَارُ بْنُ بَشْتَاسِبَ، فَلَمَّا انْجَلَتِ

الْحَرْبُ سَعَى النَّاسُ بَيْنَ بَشْتَاسِبَ وَابْنِهِ إِسْفِنْدِيَارَ، وَقَالُوا: يُرِيدُ الْمُلْكَ لِنَفْسِهِ، فَنَدَبَهُ لِحَرْبٍ بَعْدَ حَرْبٍ، ثُمَّ أَخَذَهُ وَحَبَسَهُ مُقَيَّدًا. ثُمَّ إِنَّ بَشْتَاسِبَ سَارَ إِلَى نَاحِيَةِ كَرْمَانَ، وَسِجِسْتَانَ، وَسَارَ إِلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ طُمْبَدَرُ لِدِرَاسَةِ دِينِهِ، وَالتَّنَسُّكِ هُنَاكَ، وَخَلَّفَ أَبَاهُ لَهْرَاسِبَ بِبَلْخَ شَيْخًا قَدْ أَبْطَلَهُ الْكِبَرُ وَتَرَكَ بِهَا خَزَائِنَهُ، وَأَوْلَادَهُ، وَنِسَاءَهُ، فَبَلَغَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى مَلِكِ التُّرْكِ خُرْزَاسِفُ، فَلَمَّا تَحَقَّقَهَا جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَحَشَدَ وَسَارَ إِلَى بَلْخَ، وَانْتَهَزَ الْفُرْصَةَ بِغَيْبَةِ بَشْتَاسِبَ عَنْ مَمْلَكَتِهِ، وَلَمَّا بَلَغَ بَلْخَ مَلَكَهَا وَقَتَلَ لَهْرَاسِبَ وَوَلَدَيْنِ لِبَشْتَاسِبَ وَالْهَرَابِذَةَ، وَأَحْرَقَ الدَّوَاوِينَ وَهَدَمَ بُيُوتَ النِّيرَانِ، وَأَرْسَلَ السَّرَايَا إِلَى الْبِلَادِ، فَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَأَخْرَبُوا، وَسَبَى ابْنَتَيْنِ لِبَشْتَاسِبَ إِحْدَاهُمَا خُمَانَى، وَأَخَذَ عَلَمَهُمُ الْأَكْبَرَ الْمَعْرُوفَ بِدِرَفْشَ كَابِيَانِ، وَسَارَ مُتَّبِعًا لِبَشْتَاسِبَ، وَهَرَبَ بَشْتَاسِبُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَتَحَصَّنَ بِتِلْكَ الْجِبَالِ مِمَّا يَلِي فَارِسَ، وَضَاقَ ذَرْعًا بِمَا نَزَلَ بِهِ. فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِهِ إِسْفِنْدِيَارَ مَعَ عَالِمِهِمْ جَامَاسِبَ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ مَحْبِسِهِ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ وَوَعَدَهُ أَنْ يَعْهَدَ إِلَيْهِ بِالْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ إِسْفِنْدِيَارُ كَلَامَهُ سَجَدَ لَهُ وَنَهَضَ مِنْ عِنْدِهِ وَجَمَعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْجُنْدِ وَبَاتَ لَيْلَتَهُ مَشْغُولًا بِالتَّجَهُّزِ وَسَارَ مِنَ الْغَدِ نَحْوَ عَسْكَرِ التُّرْكِ وَمَلِكِهِمْ، وَالْتَقَوْا، وَاقْتَتَلُوا، وَالْتَحَمَتِ الْحَرْبُ، وَحَمِيَ الْوَطِيسُ، وَحَمَلَ إِسْفِنْدِيَارُ عَلَى جَانِبٍ مِنَ الْعَسْكَرِ فَأَثَّرَ فِيهِ وَوَهَنَهُ وَتَابَعَ الْحَمَلَاتِ، وَفَشَا فِي التُّرْكِ أَنَّ إِسْفِنْدِيَارَ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِحَرْبِهِمْ، فَانْهَزَمُوا لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَانْصَرَفَ إِسْفِنْدِيَارُ وَقَدِ ارْتَجَعَ دِرَفْشَ كَابِيَانَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ اسْتَبْشَرَ بِهِ وَأَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ التُّرْكِ، وَوَصَّاهُ بِقَتْلِ مَلِكِهِمْ وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ، وَيَقْتُلُ مِنَ التُّرْكِ مَنْ أَمْكَنَهُ قَتْلُهُ وَأَنْ يَسْتَنْفِذَ السَّبَايَا، وَالْغَنَائِمَ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَسَارَ إِسْفِنْدِيَارُ، وَدَخَلَ بِلَادَ التُّرْكِ وَقَتَلَ وَسَبَى وَأَخْرَبَ وَبَلَغَ مَدْيَنَتَهُمُ الْعُظْمَى وَدَخَلَهَا عَنْوَةً، وَقَتَلَ الْمَلِكَ وَإِخْوَتَهُ، وَمُقَاتِلَتَهُ، وَاسْتَبَاحَ أَمْوَالَهُ، وَسَبَى نِسَاءَهُ، وَاسْتَنْقَذَ أُخْتَيْهِ وَدَوَّخَ الْبِلَادَ، وَانْتَهَى إِلَى آخِرِ حُدُودِ بِلَادِ التُّرْكِ وَإِلَى التُّبَّتِ، وَأَقْطَعَ بِلَادَ التُّرْكِ، وَجَعَلَ كُلَّ نَاحِيَةٍ إِلَى رَجُلٍ مِنْ وُجُوهِ التُّرْكِ بَعْدَ أَنْ آمَنَهُمْ وَوَظَّفَ عَلَيْهِمْ خَرَاجًا يَحْمِلُونَهُ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أَبِيهِ بَشْتَاسِبَ،

ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلْخَ. فَحَسَدَهُ أَبُوهُ بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنْ حِفْظِ الْمُلْكِ وَالظَّفَرِ بِالتُّرْكِ، وَأَسَرَّ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، وَأَمَرَهُ بِالتَّجَهُّزِ وَالْمَسِيرِ إِلَى قِتَالِ رُسْتَمَ الشَّدِيدِ بِسِجِسْتَانَ، وَقَالَ لَهُ: هَذَا رُسْتَمُ مُتَوَسِّطٌ بِلَادِنَا وَلَا يُعْطِينَا الطَّاعَةَ لِأَنَّ الْمَلِكَ كَيْكَاوُوسَ أَعْتَقَهُ فَأَقْطَعَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي مُلْكِ كَيْكَاوُوسَ، وَكَانَ غَرَضُ بَشْتَاسِبَ أَنْ يَقْتُلَهُ رُسْتَمُ أَوْ يَقْتُلَ هُوَ رُسْتَمَ، فَإِنَّهُ كَانَ أَيْضًا شَدِيدَ الْكَرَاهَةِ لِرُسْتَمَ، فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ إِلَى رُسْتَمَ لِيَنْزِعَ سِجِسْتَانَ مِنْهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رُسْتَمُ وَقَاتَلَهُ فَقُتِلَ إِسْفِنْدِيَارُ؛ قَتَلَهُ رُسْتَمُ. وَمَاتَ بَشْتَاسِبُ، وَكَانَ مُلْكُهُ مِائَةَ سَنَةٍ وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ مِائَةً وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ زَعَمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ أُرْسِلَ إِلَيْهِ وَاجْتَمَعَ بِهِ بِبَلْخَ، فَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْعِبْرِيِّ، وَزَرَادُشْتُ نَبِيُّ الْمَجُوسِ يُعَبِّرُ عَنْهُ، وَجَامَاسِبُ الْعَالِمُ هُوَ حَاضِرٌ مَعَهُمْ يُتَرْجِمُ أَيْضًا عَنِ الْإِسْرَائِيلِيِّ، وَكَانَ بَشْتَاسِبُ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ آبَائِهِ وَسَائِرِ الْفُرْسِ يَدِينُونَ بِدِينِ الصَّابِئَةِ قَبْلَ زَرَادُشْتَ.

ذكر الخبر عن ملوك بلاد اليمن من أيام كيكاووس إلى أيام بهمن بن إسفنديار

[ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ مُلُوكِ بِلَادِ الْيَمَنِ مِنْ أَيَّامِ كَيْكَاوُوسَ إِلَى أَيَّامِ بَهْمَنَ بْنِ إِسْفِنْدِيَارَ] قَدْ مَضَى ذِكْرُ الْخَبَرِ عَمَّنْ زَعَمَ أَنَّ كَيْكَاوُوسَ كَانَ فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ كَانَ فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ وَالْخَبَرَ عَنْ بِلْقِيسَ بِنْتِ إِيلْشَرَحَ، وَصَارَ الْمُلْكُ بَعْدَ بِلْقِيسَ إِلَى يَاسِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ يَعْفُرَ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ أَنْعَمُ لِإِنْعَامِهِ. قَالَ أَهْلُ الْيَمَنِ: إِنَّهُ سَارَ غَازِيًا نَحْوَ الْمَغْرِبِ حَتَّى بَلَغَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ وَادِي الرَّمْلِ. وَلَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ لَمْ يَجِدْ وَرَاءَهُ مَجَازًا لِكَثْرَةِ الرَّمْلِ، فَبَيْنَمَا هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ إِذِ انْكَشَفَ الرَّمْلُ فَأَمَرَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ عَمْرٌو أَنْ يَعْبُرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَعَبَرُوا، فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَمَرَ بِنَصْبِ صَنَمٍ نُحَاسٍ، فَصُنِعَ ثُمَّ نُصِبَ عَلَى صَخْرَةٍ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي وَكَتَبَ عَلَى صَدْرِهِ بِالْمُسْنَدِ، هَذَا الصَّنَمُ لِيَاسِرِ أَنْعَمَ الْحِمْيَرِيِّ، لَيْسَ وَرَاءَهُ مَذْهَبٌ فَلَا يَتَكَلَّفَنَّ أَحَدٌ ذَلِكَ فَيُعْطَبَ. وَقِيلَ: إِنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ الرَّمْلِ قَوْمًا مِنْ أُمَّةِ مُوسَى، وَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ تُبَّعٌ، وَهُوَ تُبَّانُ، وَهُوَ أَسْعَدُ، وَهُوَ أَبُو كَرْبِ بْنُ مَلْكِيكَرْبَ تُبَّعِ بْنِ

زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تُبَّعٍ، وَهُوَ ذُو الْأَذْعَارِ بْنُ أَبَرْهَةَ تُبَّعُ ذِي الْمَنَارِ بْنِ الرَّايِشِ بْنِ قَيْسِ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ سَبَإٍ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الزَّايِدُ، وَكَانَ تُبَّعٌ هَذَا فِي أَيَّامِ بَشْتَاسِبَ، وَأَرْدَشِيرَ بَهْمَنَ بْنِ إِسْفِنْدِيَارَ بْنِ بَشْتَاسِبَ، وَأَنَّهُ شَخَصَ مُتَوَجِّهًا مِنَ الْيَمَنِ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكَهُ الرَّايِشُ حَتَّى خَرَجَ عَلَى جَبَلَيْ طَيِّئٍ، ثُمَّ سَارَ يُرِيدُ الْأَنْبَارَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَوْضِعِ الْحِيرَةِ تَحَيَّرَ، وَكَانَ لَيْلًا، فَأَقَامَ بِمَكَانِهِ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَكَانُ بِالْحِيرَةِ، وَخَلَّفَ بِهِ قَوْمًا مِنَ الْأَزْدِ، وَلَخْمَ، وَجُذَامَ وَعَامِلَةَ، وَقُضَاعَةَ، فَبَنَوْا وَأَقَامُوا بِهِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ نَاسٌ مِنْ طَيِّئٍ، وَكَلْبٍ، وَالسَّكُونِ، وَبَلْحَرْثَ بْنِ كَعْبٍ، وَإِيَادٍ، ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى الْمَوْصِلِ، ثُمَّ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، فَلَقِيَ التُّرْكَ فَهَزَمَهُمْ، فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْيَمَنِ، فَهَابَتْهُ الْمُلُوكُ وَأَهْدَوْا إِلَيْهِ. وَقَدِمَتْ عَلَيْهِ هَدِيَّةُ مَلِكِ الْهِنْدِ، وَفِيهَا تُحَفٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْحَرِيرِ وَالْمِسْكِ وَالْعُودِ وَسَائِرِ طُرَفِ الْهِنْدِ، فَرَأَى مَا لَمْ يَرَ مِثْلَهُ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: كُلُّ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ؟ فَقَالَ: أَكْثَرُهُ مِنْ بَلَدِ الصِّينِ، وَوَصَفَ لَهُ بِلَادَ الصِّينِ فَحَلَفَ لَيَغْزُوَنَّهَا، فَسَارَ بِحِمْيَرَ حَتَّى أَتَى إِلَى الرَّكَائِكِ وَأَصْحَابِ الْقَلَانِسِ السُّودِ، وَوَجَّهَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ ثَابِتٌ نَحْوَ الصِّينِ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ، فَأُصِيبَ، فَسَارَ تُبَّعٌ حَتَّى دَخَلَ الصِّينَ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهَا، وَاكْتَسَحَ مَا وَجَدَ فِيهَا، وَكَانَ مَسِيرُهُ وَمُقَامُهُ، وَرَجْعَتُهُ فِي سَبْعِ سِنِينَ. ثُمَّ إِنَّهُ خَلَّفَ بِالتُّبَّتِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ مِنْ حِمْيَرَ، فَهُمْ أَهْلُ التُّبَّتِ، وَيَزْعُمُونَ

أَنَّهُمْ عَرَبٌ، وَأَلْوَانُهُمْ أَلْوَانُ الْعَرَبِ وَخُلُقُهُمْ. هَكَذَا ذُكِرَ، وَقَدْ خَالَفَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَالَفَ الْآخَرَ، وَقَدَّمَ بَعْضُهُمْ مَنْ أَخَّرَهُ الْآخَرُ، فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ كَثِيرُ فَائِدَةٍ، وَلَكِنْ نَنْقُلُ مَا وَجَدْنَا مُخْتَصَرًا.

ذكر خبر أردشير بهمن وابنته خمانى

[ذِكْرُ خَبَرِ أَرْدَشِيرَ بَهْمَنَ وَابْنَتِهِ خُمَانَى] ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ بَشْتَاسِبَ ابْنُ ابْنِهِ أَرْدَشِيرُ بَهْمَنُ بْنُ إِسْفِنْدِيَارَ، وَكَانَ مُظَفَّرًا فِي مُغَازِيهِ، وَمَلَكَ أَكْثَرَ مِنْ أَبِيهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْتَنَى بِالسَّوَادِ مَدِينَةً وَسَمَّاهَا أَيَاوَانَ أَرْدَشِيرَ، وَهِيَ الْقَرْيَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِهُمَيْنِيَا بِالزَّابِ الْأَعْلَى، وَابْتَنَى بِكُوَرِ دِجْلَةَ الْأُبُلَّةَ، وَسَارَ إِلَى سِجِسْتَانَ طَالِبًا بِثَأْرِ أَبِيهِ، فَقَتَلَ رُسْتَمَ وَأَبَاهُ دِسْتَانَ وَابْنَهُ فُرَامُرْزَ. وَبَهْمَنُ هُوَ أَبُو دَارَا الْأَكْبَرِ، وَأَبُو سَاسَانَ أَبِي مُلُوكِ الْفُرْسِ الْأَحْرَارِ أَرْدَشِيرَ بْنِ بَابِكَ وَوَلَدِهِ، وَأُمُّ دَارَا خُمَانَى ابْنَةُ بَهْمَنَ، فَهِيَ أُخْتُهُ وَأُمُّهُ. وَغَزَا بَهْمَنُ رُومِيَّةَ الدَّاخِلَةَ فِي أَلْفِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ مُلُوكُ الْأَرْضِ يَحْمِلُونَ إِلَيْهِ الْإِتَاوَةَ، وَكَانَ أَعْظَمَ مُلُوكِ الْفُرْسِ شَأْنًا وَأَفْضَلَهُمْ تَدْبِيرًا. وَكَانَتْ أُمُّ بَهْمَنَ مِنْ نَسْلِ بِنْيَامِينَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَأُمُّ ابْنِهِ سَاسَانَ مِنْ نَسْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ.

وَكَانَ مُلْكُ بَهْمَنَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانِينَ سَنَةً، وَكَانَ مُتَوَاضِعًا مَرْضِيًّا فِيهِمْ، وَكَانَتْ كُتُبُهُ تَخْرُجُ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ خَادِمِ اللَّهِ السَّائِسِ لِأُمُورِكُمْ. ثُمَّ مَلَكَتْ بَعْدَهُ ابْنَتُهُ خُمَانَى، مَلَّكُوهَا حُبًّا لِأَبِيهَا وَلِعَقْلِهَا وَفُرُوسِيَّتِهَا، وَكَانَتْ تُلَقَّبُ بِشَهْرَزَادَ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مَلَكَتْ لِأَنَّهَا حِينَ حَمَلَتْ مِنْهُ دَارَا الْأَكْبَرَ سَأَلَتْهُ أَنْ يَعْقِدَ التَّاجَ لَهُ فِي بَطْنِهَا وَيُؤْثِرَهُ بِالْمُلْكِ، فَفَعَلَ بَهْمَنُ وَعَقَدَ التَّاجَ عَلَيْهِ حَمْلًا فِي بَطْنِهَا، وَسَاسَانُ بْنُ بَهْمَنَ رَجُلٌ يَتَصَنَّعُ لِلْمُلْكِ، فَلَمَّا رَأَى فِعْلَ أَبِيهِ لَحِقَ بِإِصْطَخْرَ وَتَزَهَّدَ وَلَحِقَ بِرُءُوسِ الْجِبَالِ وَاتَّخَذَ غَنَمًا، وَكَانَ يَتَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ، فَاسْتَبْشَعَتِ الْعَامَّةُ ذَلِكَ مِنْهُ. وَهَلَكَ بَهْمَنُ وَابْنُهُ دَارَا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَمَلَّكُوهَا، وَوَضَعَتْهُ بَعْدَ أَشْهُرٍ مِنْ مُلْكِهَا، فَأَنِفَتْ مِنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ وَجَعَلَتْهُ فِي تَابُوتٍ وَجَعَلَتْ مَعَهُ جَوَاهِرَ وَأَجْرَتْهُ فِي نَهْرِ الْكَرِّ مِنْ إِصْطَخْرَ، وَقِيلَ: بِنَهْرِ بَلْخَ. وَسَارَ التَّابُوتُ إِلَى طَحَّانٍ مِنْ أَهْلِ إِصْطَخْرَ، فَفَرِحَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ، فَحَضَنَتْهُ امْرَأَتُهُ، ثُمَّ ظَهَرَ أَمْرُهُ حِينَ شَبَّ، فَأَقَرَّتْ خُمَانَى بِإِسَاءَتِهَا، فَلَمَّا تَكَامَلَ امْتُحِنَ فَوُجِدَ عَلَى غَايَةِ مَا يَكُونُ أَبْنَاءُ الْمُلُوكِ، فَحَوَّلَتِ التَّاجَ إِلَيْهِ وَسَارَتْ إِلَى فَارِسَ وَبَنَتْ مَدِينَةَ إِصْطَخْرَ، وَكَانَتْ قَدْ أُوتِيَتْ ظَفَرًا وَأَغْزَتِ الرُّومَ وَشَغَلَتِ الْأَعْدَاءَ مِنْ تَطَرُّقِ بِلَادِهَا، وَخَفَّفَتْ عَنْ رَعِيَّتِهَا الْخَرَاجَ، وَكَانَ مُلْكُهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّ خُمَانَى أُمَّ دَارَا حَضَنَتْهُ حَتَّى كَبِرَ فَسَلَّمَتِ الْمُلْكَ إِلَيْهِ وَعَزَلَتْ نَفْسَهَا، فَضَبَطَ الْمُلْكَ بِشَجَاعَةٍ وَحَزْمٍ. وَنَرْجِعُ إِلَى

ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُقَابَلَةِ تَارِيخِ أَيَّامِهِمْ إِلَى حِينِ تَصَرُّمِهَا وَمُدَّةِ مَنْ كَانَ أَيَّامَهُمْ مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ. قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى سَبَبَ انْصِرَافِ مَنِ انْصَرَفَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ سَبَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانَ بُخْتُنَصَّرُ سَبَاهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ كِيرَشَ بْنِ أَخْشُوِيرَشَ، وَمُلْكُهُ بِبَابِلَ مِنْ قِبَلِ بَهْمَنَ، وَأَرْبَعُ سِنِينَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي مُلْكِ ابْنَتِهِ خُمَانَى، وَكَانَتْ مُدَّةُ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ لَدُنْ خَرَّبَهُ بُخْتُنَصَّرُ مِائَةَ سَنَةٍ، كُلُّ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ بَهْمَنَ بَعْضُهُ وَفِي أَيَّامِ ابْنَتِهِ خُمَانَى بَعْضُهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ كِيرَشَ هُوَ بَشْتَاسِبُ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَلَمْ يَمْلِكْ كِيرَشُ مُنْفَرِدًا قَطُّ. وَلَمَّا عُمِّرَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَرَجَعَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ كَانَ فِيهِمْ عَزِيزٌ، وَكَانَ الْمَلِكُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْفُرْسِ إِمَّا رَجُلٌ مِنْهُمْ وَإِمَّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِلَى أَنْ صَارَ الْمُلْكُ بِنَاحِيَتِهِمْ لِلْيُونَانِيَّةِ وَالرُّومِ لِسَبَبِ غَلَبَةِ الْإِسْكَنْدَرِ عَلَى النَّاحِيَةِ حِينَ قَتَلَ دَارَا بْنَ دَارَا وَكَانَ جُمْلَةُ مُدَّةِ ذَلِكَ فِيمَا قِيلَ ثَمَانِيًا وَثَمَانِينَ سَنَةً.

ذكر خبر دارا الأكبر وابنه دارا الأصغر وكيف كان هلاكه مع خبر ذي القرنين

[ذِكْرُ خَبَرِ دَارَا الْأَكْبَرِ وَابْنِهِ دَارَا الْأَصْغَرِ وَكَيْفَ كَانَ هَلَاكُهُ مَعَ خَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ] وَمَلَكَ دَارَا بْنُ بَهْمَنَ بْنِ إِسْفِنْدِيَارَ، وَكَانَ يُلَقَّبُ جَهْرَازَادَ، يَعْنِي كَرِيمَ الطَّبْعِ، فَنَزَلَ بِبَابِلَ، وَكَانَ ضَابِطًا لِمُلْكِهِ قَاهِرًا لِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْمُلُوكِ، يُؤَدُّونَ إِلَيْهِ الْخَرَاجَ، وَبَنَى بِفَارِسَ مَدِينَةً سَمَّاهَا دَارَابِجِرْدَ، وَحَذَفَ دَوَابَّ الْبُرُدِ وَرَتَّبَهَا، وَكَانَ مُعْجَبًا بِابْنِهِ دَارَا وَمِنْ حُبِّهِ لَهُ سَمَّاهُ بِاسْمِ نَفْسِهِ وَصَيَّرَ لَهُ الْمُلْكَ بَعْدَهُ. وَكَانَ مُلْكُهُ اثْنَتَيْ وَعَشَرَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ دَارَا وَبَنَى بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ بِالْقُرْبِ مِنْ نَصِيبِينَ مَدِينَةَ دَارَا وَهِيَ مَشْهُورَةٌ إِلَى الْآنَ، وَاسْتَوْزَرَ إِنْسَانًا لَا يَصْلُحُ لَهَا، فَأَفْسَدَ قَلْبَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَتَلَ رُؤَسَاءَ عَسْكَرِهِ وَاسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، وَكَانَ شَابًّا غَرَّا جَمِيلًا حَقُودًا جَبَّارًا سَيِّئَ السِّيرَةِ فِي رَعِيَّتِهِ. وَكَانَ مُلْكُهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً.

ذكر إسكندر ذي القرنين

[ذِكْرُ إِسْكَنْدَرَ ذِي الْقَرْنَيْنِ] كَانَ فَيْلُفُوسُ أَبُو الْإِسْكَنْدَرِ الْيُونَانِيِّ مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا مَقْدُونِيَّةُ، كَانَ مَلِكًا عَلَيْهَا وَعَلَى بِلَادٍ أُخْرَى، فَصَالَحَ دَارَا عَلَى خَرَاجٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ. فَلَمَّا هَلَكَ فَيْلُفُوسَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْإِسْكَنْدَرُ وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِ الرُّومِ أَجْمَعَ، فَقَوِيَ عَلَى دَارَا فَلَمْ يَحْمِلْ إِلَيْهِ مِنَ الْخَرَاجِ شَيْئًا وَكَانَ الْخَرَاجُ الَّذِي يَحْمِلُهُ بَيْضًا مِنْ ذَهَبٍ فَسَخِطَ عَلَيْهِ دَارَا وَكَتَبَ إِلَيْهِ يُؤَنِّبُهُ بِسُوءِ صَنِيعِهِ فِي تَرْكِ حَمْلِ الْخَرَاجِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِصَوْلَجَانٍ وَكُرَةٍ وَقَفِيزٍ مِنْ سِمْسِمٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّهُ صَبِيٌّ، وَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْعَبَ بِالصَّوْلَجَانِ، وَالْكُرَةِ، وَيَتْرُكَ الْمُلْكَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَاسْتَعْصَى عَلَيْهِ بَعَثَ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ فِي وَثَاقٍ، وَإِنَّ عِدَّةَ جُنُودِهِ كَعِدَّةِ حَبِّ السِّمْسِمِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْإِسْكَنْدَرُ: إِنَّهُ قَدْ فَهِمَ مَا كَتَبَ بِهِ، وَقَدْ نَظَرَ إِلَى مَا ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ إِرْسَالِهِ الصَّوْلَجَانَ، وَالْكُرَةَ، وَتَيَمَّنَ بِهِ لِإِلْقَاءِ الْمُلْقِي الْكُرَةَ إِلَى الصَّوْلَجَانِ وَاحْتِرَازِهِ إِيَّاهَا، وَشَبَّهَ الْأَرْضَ بِالْكُرَةِ، وَأَنَّهُ يَجُرُّ مُلْكَ دَارَا إِلَى مُلْكِهِ، وَتَيَمُّنُهُ بِالسِّمْسِمِ الَّذِي بَعَثَ كَتَيَمُّنِهِ بِالصَّوْلَجَانِ، وَالْكُرَةِ لِدَسَمِهِ وَبُعْدِهِ مِنَ الْمَرَارَةِ وَالْحَرَافَةِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِصُرَّةٍ فِيهَا خَرْدَلٌ، وَأَعْلَمَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا بُعِثَ بِهِ إِلَيْهِ قَلِيلٌ وَلَكِنَّهُ مُرٌّ حَرِّيفٌ، وَأَنَّ جُنُودَهُ مِثْلَهُ. فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ إِلَى دَارَا تَأَهَّبَ لِمُحَارَبَتِهِ.

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ أَنَّ الْإِسْكَنْدَرَ الَّذِي حَارَبَ دَارَا بْنَ دَارَا هُوَ أَخُو دَارَا الْأَصْغَرُ الَّذِي حَارَبَهُ، وَأَنَّ أَبَاهُ دَارَا الْأَكْبَرَ كَانَ تَزَوَّجَ أُمَّ الْإِسْكَنْدَرِ، وَهِيَ ابْنَةُ مَلِكِ الرُّومِ، فَلَمَّا حُمِلَتْ إِلَيْهِ وَجَدَ نَتَنَ رِيحَهَا وَسَهَكَهَا، فَأَمَرَ أَنْ يُحْتَالَ لِذَلِكَ مِنْهَا، فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فِي مُدَاوَاتِهَا عَلَى شَجَرَةٍ يُقَالُ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ سَنْدَرُ، فَغُسِلَتْ بِمَائِهَا فَأَذْهَبَ ذَلِكَ كَثِيرًا مِنْ نَتَنِهَا وَلَمْ يَذْهَبْ كُلُّهُ، وَانْتَهَتْ نَفْسُهُ عَنْهَا، فَرَدَّهَا إِلَى أَهْلِهَا، وَقَدْ عَلِقَتْ مِنْهُ فَوَلَدَتْ عِنْدَ أَهْلِهَا غُلَامًا فَسَمَّتْهُ بِاسْمِ الشَّجَرَةِ الَّتِي غُسِلَتْ بِمَائِهَا مُضَافًا إِلَى اسْمِهَا. وَقَدْ هَلَكَ أَبُوهَا وَمَلَكَ الْإِسْكَنْدَرُ بَعْدَهُ، فَمَنَعَ الْخَرَاجَ الَّذِي كَانَ يُؤَدِّيهِ جَدُّهُ إِلَى دَارَا، فَأَرْسَلَ يَطْلُبُهُ، وَكَانَ بَيْضًا مِنْ ذَهَبٍ، فَأَجَابَهُ إِنِّي قَدْ ذَبَحْتُ الدَّجَاجَةَ الَّتِي كَانَتْ تَبِيضُ ذَلِكَ الْبَيْضَ وَأَكَلْتُ لَحْمَهَا، فَإِنْ أَحْبَبْتَ وَادَعْنَاكَ، وَإِنْ أَحْبَبْتَ نَاجَزْنَاكَ. ثُمَّ خَافَ الْإِسْكَنْدَرُ مِنَ الْحَرْبِ فَطَلَبَ الصُّلْحَ، فَاسْتَشَارَ دَارَا أَصْحَابَهُ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْحَرْبِ لِفَسَادِ قُلُوبِهِمْ عَلَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَاجَزَهُ دَارَا الْقِتَالَ، فَكَتَبَ الْإِسْكَنْدَرُ إِلَى حَاجِبَيْ دَارَا وَحَكَّمَهُمَا عَلَى الْفَتْكِ بِدَارَا، فَاحْتَكَمَا شَيْئًا، وَلَمْ يَشْتَرِطَا أَنْفُسَهُمَا. فَلَمَّا الْتَقَيَا لِلْحَرْبِ طَعَنَ دَارَا حَاجِبَاهُ فِي الْوَقْعَةِ، وَكَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمَا سَنَةً، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ دَارَا وَلَحِقَهُ الْإِسْكَنْدَرُ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ. وَقِيلَ: بَلْ فَتَكَ بِهِ رَجُلَانِ مِنْ حَرَسِهِ مِنْ أَهْلِ هَمَذَانَ حُبًّا لِلرَّاحَةِ مِنْ ظُلْمِهِ، وَكَانَ فَتْكُهُمَا بِهِ لَمَّا رَأَيَا عَسْكَرَهُ قَدِ انْهَزَمَ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْإِسْكَنْدَرِ، وَكَانَ قَدْ أَمَرَ الْإِسْكَنْدَرُ مُنَادِيًا يُنَادِي عِنْدَ هَزِيمَةِ عَسْكَرِ دَارَا أَنْ يُؤْسَرَ دَارَا وَلَا يُقْتَلَ، فَأُخْبِرَ بِقَتْلِهِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ وَمَسَحَ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ وَجَعَلَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا قَتَلَكَ أَصْحَابُكَ وَإِنَّنِي لَمْ أَهُمَّ بِقَتْلِكَ قَطُّ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَرْغَبُ بِكَ يَا شَرِيفَ الْأَشْرَافِ وَيَا مَلِكَ الْمُلُوكِ وَحُرَّ الْأَحْرَارِ عَنْ هَذَا الْمَصْرَعِ، فَأَوْصِ بِمَا أَحْبَبْتَ، فَأَوْصَاهُ دَارَا أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهُ رُوشَنْكَ وَيَرْعَى حَقَّهَا وَيُعَظِّمَ قَدْرَهَا، وَيَسْتَبْقِيَ أَحْرَارَ فَارِسَ وَيَأْخُذَ لَهُ بِثَأْرِهِ مِمَّنْ قَتَلَهُ. فَفَعَلَ الْإِسْكَنْدَرُ ذَلِكَ أَجْمَعَ وَقَتَلَ حَاجِبَيْ دَارَا، وَقَالَ لَهُمَا: إِنَّكُمَا لَمْ تَشْتَرِطَا نُفُوسَكُمَا، فَقَتَلَهُمَا بَعْدَ أَنْ وَفَى لَهُمَا بِمَا ضَمِنَ لَهُمَا، وَقَالَ: لَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَبْقَى قَاتِلُ الْمُلُوكِ إِلَّا بِذِمَّةٍ لَا تُخْفَرُ.

وَكَانَ الْتِقَاؤُهُمَا بِنَاحِيَةِ خُرَاسَانَ مِمَّا يَلِي الْخَزَرَ، وَقِيلَ بِبِلَادِ الْجَزِيرَةِ عِنْدَ دَارَا. وَكَانَ مُلْكُ الرُّومِ قَبْلَ الْإِسْكَنْدَرِ مُتَفَرِّقًا فَاجْتَمَعَ، وَمُلْكُ فَارِسَ مُجْتَمِعًا فَتَفَرَّقَ. وَحَمَلَ الْإِسْكَنْدَرُ كُتُبًا، وَعُلُومًا لِأَهْلِ فَارِسَ مِنْ عُلُومٍ، وَنُجُومٍ، وَحِكْمَةٍ، وَنَقَلَهُ إِلَى الرُّومِيَّةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ الْإِسْكَنْدَرَ أَخُو دَارَا لِأَبِيهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الرُّومِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَنْسَابِ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ فَيْلُفُوسَ، وَقِيلَ: فَيْلُبُوسُ بْنُ مَطَرْيُوسَ، وَقِيلَ: ابْنُ مَصْرَيِمِ بْنِ هِرْمِسَ بْنِ هِرْدِسَ بْنِ مُنْطَوْنَ بْنِ رُومِيِّ بْنِ لَيْطَى بْنِ يُونَاقَ بْنِ يَافِثَ بْنِ ثَوْبَةَ بْنِ سَرْحُونَ بْنِ رُومِيطَ بْنِ زَنَطَ بْنِ تُوقِيلَ بْنِ رُومِيِّ بْنِ الْأَصْفَرِ بْنِ أَلِيفَزِ بْنِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. فَجَمَعَ بَعْدَ هُلْكِ دَارَا مُلْكَ دَارَا فَمَلَكَ الْعِرَاقَ، وَالشَّامَ، وَالرُّومَ، وَمِصْرَ، وَالْجَزِيرَةَ، وَعَرَضَ جُنْدَهُ فَوَجَدَهُمْ عَلَى مَا قِيلَ أَلْفَ أَلْفٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ، مِنْهُمْ مِنْ جُنْدِهِ ثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ، وَمِنْ جُنْدِ دَارَا سِتُّمِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ، وَتَقَدَّمَ بِهَدْمِ حُصُونِ فَارِسَ وَبُيُوتِ النِّيرَانِ وَقَتَلَ الْهَرَابِذَةَ، وَأَحْرَقَ كُتُبَهُمْ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَمْلَكَةِ فَارِسَ رِجَالًا، وَسَارَ قُدُمًا إِلَى أَرْضِ الْهِنْدِ، فَقَتَلَ مَلِكَهَا، وَفَتَحَ مُدَنَهَا، وَخَرَّبَ بُيُوتَ الْأَصْنَامِ، وَأَحْرَقَ كُتُبَ عُلُومِهِمْ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى الصِّينِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا أَتَاهُ حَاجِبُهُ فِي اللَّيْلِ وَقَالَ: هَذَا رَسُولُ مَلِكِ الصِّينِ، فَأَحْضَرَهُ فَسَلَّمَ وَطَلَبَ الْخَلْوَةَ، فَفَتَّشُوهُ فَلَمْ يَرَوْا مَعَهُ شَيْئًا، فَخَرَجَ مَنْ كَانَ

عِنْدَ الْإِسْكَنْدَرِ، فَقَالَ: أَنَا مَلِكُ الصِّينِ جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنِ الَّذِي تُرِيدُهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ عَمَلُهُ عَمِلْتُهُ وَتَرَكْتَ الْحَرْبَ. فَقَالَ لَهُ الْإِسْكَنْدَرُ: مَا الَّذِي آمَنَكَ مِنِّي؟ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّكَ عَاقِلٌ حَكِيمٌ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَدَاوَةٌ وَلَا ذَحْلٌ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ إِنْ قَتَلْتَنِي لَمْ يَكُنْ قَتْلِي سَبَبًا لِتَسْلِيمِ أَهْلِ الصِّينِ مُلْكِي إِلَيْكَ، ثُمَّ إِنَّكَ تُنْسَبُ إِلَى الْغَدْرِ. فَعَلِمَ أَنَّهُ عَاقِلٌ فَقَالَ لَهُ: أُرِيدُ مِنْكَ ارْتِفَاعَ مُلْكِكَ لِثَلَاثِ سِنِينَ عَاجِلًا وَنِصْفَ الِارْتِفَاعِ لِكُلِّ سَنَةٍ. قَالَ: قَدْ أَجَبْتُكَ وَلَكِنِ اسْأَلْنِي كَيْفَ حَالِي، قَالَ: كَيْفَ حَالُكَ؟ قَالَ: أَكُونُ أَوَّلَ قَتِيلٍ لِمُحَارِبٍ وَأَوَّلَ أَكْلَةٍ لِمُفْتَرِسٍ. قَالَ: فَإِنْ قَنِعْتُ مِنْكَ بِارْتِفَاعِ سَنَتَيْنِ؟ قَالَ: يَكُونُ حَالِي أَصْلَحَ قَلِيلًا. قَالَ: فَإِنْ قَنِعْتُ مِنْكَ بِارْتِفَاعِ سَنَةٍ؟ قَالَ: يَبْقَى مُلْكِي وَتَذْهَبُ لَذَّاتِي. قَالَ: وَأَنَا أَتْرُكُ لَكَ مَا مَضَى وَآخَذُ الثُّلُثَ كُلَّ سَنَةٍ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُكَ قَالَ: يَكُونُ السُّدُسُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمَصَالِحِ الْبِلَادِ، وَالسُّدُسُ لِي، وَالثُّلُثُ لِلْعَسْكَرِ، وَالثُّلُثُ لَكَ. قَالَ: قَدْ قَنِعْتُ مِنْكَ بِذَلِكَ. فَشَكَرَهُ وَعَادَ، وَسَمِعَ الْعَسْكَرُ بِذَلِكَ فَفَرِحُوا بِالصُّلْحِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ خَرَجَ مَلِكُ الصِّينِ بِعَسْكَرٍ عَظِيمٍ أَحَاطَ بِعَسْكَرِ الْإِسْكَنْدَرِ، فَرَكِبَ الْإِسْكَنْدَرُ وَالنَّاسُ، فَظَهَرَ مَلِكُ الصِّينِ عَلَى الْفِيلِ وَعَلَى رَأْسِهِ التَّاجُ، فَقَالَ لَهُ الْإِسْكَنْدَرُ: أَغَدَرْتَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أُطِعْكَ مِنْ ضَعْفٍ وَلَكِنِّي لَمَّا رَأَيْتُ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ مُقْبِلًا عَلَيْكَ أَرَدْتُ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِكَ، وَالْقُرْبَ مِنْهُ بِالْقُرْبِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهُ الْإِسْكَنْدَرُ: لَا يُسَامُ مِثْلُكَ الْجِزْيَةَ، فَمَا رَأَيْتُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْفَضْلَ وَالْوَصْفَ بِالْعَقْلِ غَيْرَكَ، وَقَدْ أَعْفَيْتُكَ مِنْ جَمِيعِ مَا أَرَدْتُهُ مِنْكَ وَأَنَا مُنْصَرِفٌ عَنْكَ. فَقَالَ لَهُ مَلِكُ الصِّينِ: فَلَسْتَ تَخْسَرُ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِضِعْفِ مَا كَانَ قَرَّرَهُ، وَسَارَ الْإِسْكَنْدَرُ عَنْهُ مِنْ يَوْمِهِ وَدَانَتْ لَهُ عَامَّةُ الْأَرَضِينَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ وَمَلَكَ التُّبَّتَ وَغَيْرَهَا.

فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ وَمَا بَيْنَهُمَا قَصَدَ بِلَادَ الشَّامِ، وَمَلَكَ تِلْكَ الْبِلَادَ، وَدَانَ لَهُ مَنْ بِهَا مِنَ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ إِلَى أَنِ اتَّصَلَ بِدِيَارِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ فِيهِمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ نَوْعٌ مِنَ التُّرْكِ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَفِيهِمْ شَرٌّ، وَهُمْ كَثِيرُونَ، وَكَانُوا يُفْسِدُونَ فِيمَا يُجَاوِرُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَيُخَرِّبُونَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ، وَيُؤْذُونَ مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُمْ. فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ الْإِسْكَنْدَرَ شَكَوْا إِلَيْهِ مِنْ شَرِّهِمْ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا - حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا - قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا - قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 92 - 95] . يَقُولُ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ مِنْ خُرْجِكُمْ، وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِالْقُوَّةِ، وَالْقُوَّةُ الْفَعَلَةُ وَالصُّنَّاعُ، وَالْآلَةُ الَّتِي يُبْنَى بِهَا، فَقَالَ: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف: 96] ، أَيْ قِطَعَ الْحَدِيدِ، فَآتَوْهُ بِهَا، فَحَفَرَ الْأَسَاسَ حَتَّى بَلَغَ الْمَاءَ، ثُمَّ جَعَلَ الْحَدِيدَ وَالْحَطَبَ صُفُوفًا بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} [الكهف: 96] ، وَهُمَا جَبَلَانِ، أَشْعَلَ النَّارَ فِي الْحَطَبِ فَحَمِيَ الْحَدِيدُ وَأَفْرَغَ عَلَيْهِ الْقِطْرَ، وَهُوَ النُّحَاسُ الْمُذَابُ، فَصَارَ مَوْضِعَ الْحَطَبِ وَبَيْنَ قِطَعِ الْحَدِيدِ، فَبَقِيَ كَأَنَّهُ بُرْدٌ مُحَبَّرٌ مِنْ حُمْرَةِ النُّحَاسِ وَسَوَادِ الْحَدِيدِ، وَجَعَلَ أَعْلَاهُ شَرَفًا مِنَ الْحَدِيدِ فَامْتَنَعَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97] . فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ السَّدِّ دَخَلَ الظُّلُمَاتِ مِمَّا يَلِي الْقُطْبَ الشَّمَالِيَّ، وَالشَّمْسُ

جَنُوبِيَّةٌ، فَلِهَذَا كَانَتْ ظُلْمَةً، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعٌ إِلَّا وَتَطْلُعُ الشَّمْسُ عَلَيْهِ أَبَدًا. فَلَمَّا دَخَلَ الظُّلُمَاتِ أَخَذَ مَعَهُ أَرْبَعَمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَطْلُبُ عَيْنَ الْخُلْدِ، فَسَارَ فِيهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ وَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا، وَكَانَ الْخَضِرُ عَلَى مَقْدَمَتِهِ، فَظَفِرَ بِهَا وَسَبَحَ فِيهَا وَشَرِبَ مِنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَجَعَ إِلَى الْعِرَاقِ فَمَاتَ فِي طَرِيقِهِ بَشَهْرَزُورَ بِعِلَّةِ الْخَوَانِيقِ، وَكَانَ عُمُرُهُ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً فِي قَوْلٍ، وَدُفِنَ فِي تَابُوتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُرَصَّعٍ بِالْجَوَاهِرِ، وَطُلِيَ بِالصَّبْرِ لِئَلَّا يَتَغَيَّرَ وَحُمِلَ إِلَى أُمِّهِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَكَانَ مُلْكُهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَتَلَ دَارَا فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ مُلْكِهِ. وَبَنَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَدِينَةً، مِنْهَا: أَصْبَهَانُ، وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا جَيُّ، وَمَدِينَةَ هَرَاةَ، وَمَرْوَ، وَسَمَرْقَنْدَ، وَبَنَى بِالسَّوَادِ مَدِينَةً لِرُوشَنْكَ ابْنَةِ دَارَا، وَبِأَرْضِ الْيُونَانِ مَدِينَةً، وَبِمِصْرَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ. فَلَمَّا مَاتَ الْإِسْكَنْدَرُ طَافَ بِهِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْحُكَمَاءِ الْيُونَانِيِّينَ وَالْفُرْسِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ، فَكَانَ يَجْمَعُهُمْ وَيَسْتَرِيحُ إِلَى كَلَامِهِمْ، فَوَقَفُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ كَبِيرُهُمْ: لِيَتَكَلَّمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِكَلَامٍ يَكُونُ لِلْخَاصَّةِ مُعَزِّيًا وَلِلْعَامَّةِ وَاعِظًا، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى التَّابُوتِ، وَقَالَ: أَصْبَحَ آسِرُ الْأُسَرَاءِ أَسِيرًا. وَقَالَ آخَرُ: هَذَا الْمَلِكُ كَانَ يُخَبِّئُ الذَّهَبَ فَقَدْ صَارَ الذَّهَبُ يُخَبِّؤُهُ. وَقَالَ آخَرُ: مَا أَزْهَدَ النَّاسَ فِي هَذَا الْجَسَدِ وَمَا أَرْغَبَهُمْ فِي التَّابُوتِ. وَقَالَ آخَرُ: مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ أَنَّ الْقَوِيَّ قَدْ غُلِبَ، وَالضُّعَفَاءَ لَاهُونَ مُغْتَرُّونَ. وَقَالَ آخَرُ: هَذَا الَّذِي جَعَلَ أَجَلَهُ ضَمَانًا وَجَعَلَ أَمَلَهُ عِيَانًا، هَلَّا بَاعَدْتَ مِنْ أَجَلِكَ لِتَبْلُغَ بَعْضَ أَمَلِكَ، بَلْ هَلَّا حَقَّقْتَ مِنْ أَمَلِكَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ فَوْتِ أَجْلِكَ.

وَقَالَ آخَرُ: أَيُّهَا السَّاعِي الْمُنْتَصِبُ، مَا خَذَلَكَ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، فَغُودِرَتْ عَلَيْكَ أَوْزَارُهُ، وَقَارَفْتَ آثَامَهُ، فَجَمَعْتَ لِغَيْرِكَ وَإِثْمُهُ عَلَيْكَ. وَقَالَ آخَرُ: قَدْ كُنْتَ لَنَا وَاعِظًا فَمَا وَعَظْتَنَا مَوْعِظَةً أَبْلَغَ مِنْ وَفَاتِكَ، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَعْقُولٌ فَلْيَعْقِلْ، وَمَنْ كَانَ مُعْتَبِرًا فَلْيَعْتَبِرْ. وَقَالَ آخَرُ: رُبَّ هَائِبٍ لَكَ يَخَافُكَ مِنْ وَرَائِكَ وَهُوَ الْيَوْمَ بِحَضْرَتِكَ وَلَا يَخَافُكَ. رُبَّ حَرِيصٍ عَلَى سُكُوتِكَ إِذْ لَا تَسْكُتُ، وَهُوَ الْيَوْمَ حَرِيصٌ عَلَى كَلَامِكَ إِذْ لَا تَتَكَلَّمُ. وَقَالَ آخَرُ: كَمْ أَمَاتَتْ هَذِهِ النَّفْسُ لِئَلَّا تَمُوتَ وَقَدْ مَاتَتْ. وَقَالَ آخَرُ، وَكَانَ صَاحِبَ كُتُبِ الْحِكْمَةِ: قَدْ كُنْتَ تَأْمُرُنِي أَنْ لَا أَبْعُدَ عَنْكَ فَالْيَوْمَ لَا أَقْدِرُ عَلَى الدُّنُوِّ مِنْكَ. وَقَالَ آخَرُ: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَقْبَلَ مِنْ شَرِّهِ مَا كَانَ مُدْبِرًا، وَأَدْبَرَ مِنْ خَيْرِهِ مَا كَانَ مُقْبِلًا، فَمَنْ كَانَ بَاكِيًا عَلَى مَنْ زَالَ مُلْكُهُ فَلْيَبْكِ. وَقَالَ آخَرُ: يَا عَظِيمَ السُّلْطَانِ اضْمَحَلَّ سُلْطَانُكَ كَمَا اضْمَحَلَّ ظِلُّ السَّحَابِ، وَعَفَتْ آثَارُ مَمْلَكَتِكَ كَمَا عَفَتْ آثَارُ الذُّبَابِ. وَقَالَ آخَرُ: يَا مَنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ طُولًا وَعَرْضًا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَالُكَ بِمَا احْتَوَى عَلَيْكَ مِنْهَا! وَقَالَ آخَرُ: اعْجَبُوا مِمَّنْ كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ كَيْفَ شَهَرَ نَفْسَهُ بِجَمْعِ الْأَمْوَالِ الْحُطَامِ الْبَائِدِ، وَالْهَشِيمِ النَّافِذِ. وَقَالَ آخَرُ: أَيُّهَا الْجَمْعُ الْحَافِلُ، وَالْمُلْقَى الْفَاضِلُ لَا تَرْغَبُوا فِيمَا لَا يَدُومُ سُرُورُهُ، وَتَنْقَطِعُ لَذَّتُهُ، فَقَدْ بَانَ لَكُمُ الصَّلَاحُ، وَالرَّشَادُ مِنَ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ. وَقَالَ آخَرُ انْظُرُوا إِلَى حُلْمِ النَّائِمِ كَيْفَ انْقَضَى، وَظِلِّ الْغَمَامِ كَيْفَ انْجَلَى. وَقَالَ آخَرُ: يَا مَنْ كَانَ غَضَبُهُ الْمَوْتَ هَلَّا غَضِبْتَ عَلَى الْمَوْتِ!

وَقَالَ آخَرُ: قَدْ رَأَيْتُمْ هَذَا الْمَلِكَ الَمَاضِيَ فَلْيَتَّعِظْ بِهِ هَذَا الْمَلِكُ الْبَاقِي. وَقَالَ آخَرُ: إِنَّ الَّذِي كَانَتِ الْآذَانُ تُنْصِتُ لَهُ قَدْ سَكَتَ فَلْيَتَكَلَّمِ الْآنَ كُلُّ سَاكِتٍ. وَقَالَ آخَرُ: سَيَلْحَقُ بِكَ مَنْ سَرَّهُ مَوْتُكَ كَمَا لَحِقْتَ بِمَنْ سَرَّكَ مَوْتُهُ. وَقَالَ آخَرُ: مَا لَكَ لَا تُقِلُّ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِكَ وَقَدْ كُنْتَ تَسْتَقِلُّ بِمُلْكِ الْأَرْضِ! بَلْ مَا لَكَ لَا تَرْغَبُ عَنْ ضِيقِ الْمَكَانِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ وَقَدْ كُنْتَ تَرْغَبُ عَنْ رُحْبِ الْبِلَادِ! وَقَالَ آخَرُ: إِنَّ دُنْيَا يَكُونُ هَذَا فِي آخِرِهَا فَالزُّهْدُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِهَا. وَقَالَ صَاحِبُ مَائِدَتِهِ: قَدْ فُرِشَتِ النَّمَارِقُ، وَنُضِّدَتِ النَّضَائِدُ، وَلَا أَرَى عَمِيدَ الْقَوْمِ. وَقَالَ صَاحِبُ بَيْتِ مَالِهِ: قَدْ كُنْتَ تَأْمُرُنِي بِالِادِّخَارِ فَإِلَى مَنْ أَدْفَعُ ذَخَائِرَكَ؟ وَقَالَ آخَرُ: هَذِهِ الدُّنْيَا الطَّوِيلَةُ الْعَرِيضَةُ قَدْ طَوَيْتَ مِنْهَا سَبْعَةَ أَشْبَارٍ وَلَوْ كُنْتَ بِذَلِكَ مُوقِنًا لَمْ تَحْمِلْ عَلَى نَفْسِكَ فِي الطَّلَبِ. وَقَالَتْ زَوْجَتُهُ رُوشَنْكُ: مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ غَالِبَ دَارَا يُغْلَبُ، فَإِنَّ الْكَلَامَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْكُمْ فِيهِ شَمَاتَةٌ، فَقَدْ خَلَّفَ الْكَأْسَ الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ لِيَشْرَبَهُ الْجَمَاعَةُ. وَقَالَتْ أُمُّهُ حِينَ بَلَغَهَا مَوْتُهُ: لَئِنْ فَقَدْتُ مِنَ ابْنِي أَمْرَهُ لَمْ يُفْقَدْ مِنْ قَلْبِي ذِكْرُهُ. فَهَذَا كَلَامُ الْحُكَمَاءِ فِيهِ مَوَاعِظُ وَحِكَمٌ حَسَنَةٌ فَلِهَذَا أُثْبِتُهَا. وَمِنْ حِيَلِ الْإِسْكَنْدَرِ فِي حُرُوبِهِ أَنَّهُ لَمَّا حَارَبَ دَارَا خَرَجَ إِلَى بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ الْفُرْسِ، قَدْ عَلِمْتُمْ مَا كَتَبْتُمْ إِلَيْنَا وَمَا كَتَبْنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الْأَمَانِ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ عَلَى الْوَفَاءِ فَلْيَعْتَزِلْ فَإِنَّهُ يَرَى مِنَّا الْوَفَاءَ. فَاتَّهَمَتِ الْفُرْسُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَاضْطَرَبُوا. وَمِنْ حِيَلِهِ أَنَّهُ تَلَقَّاهُ مَلِكُ الْهِنْدِ بِالْفِيَلَةِ، فَنَفَرَتْ خَيْلُ أَصْحَابِهِ عَنْهَا، فَعَادَ عَنْهُ وَأَمَرَ بِاتِّخَاذِ فِيَلَةٍ مِنْ نُحَاسٍ وَأَلْبَسَهَا السِّلَاحَ وَجَعَلَهَا مَعَ الْخَيْلِ حَتَّى أَلِفَتْهَا، ثُمَّ عَادَ

إِلَى الْهِنْدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ مَلِكُ الْهِنْدِ، فَأَمَرَ الْإِسْكَنْدَرَ بِتِلْكَ الْفِيَلَةِ فَمُلِئَتْ بُطُونُهَا مِنَ النِّفْطِ وَالْكِبْرِيتِ، وَجَرَتْ عَلَى الْعَجَلِ فِي وَسَطِ الْمَعْرَكَةِ وَمَعَهَا جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا نَشِبَتِ الْحَرْبُ أَمَرَ بِإِشْعَالِ النَّارِ فِي تِلْكَ الْفِيَلَةِ، فَلَمَّا حَمِيَتِ انْكَشَفَ أَصْحَابُهُ عَنْهَا وَغَشِيَتْهَا فِيَلَةُ الْهِنْدِ، فَضَرَبَتْهَا بِخَرَاطِيمِهَا فَاحْتَرَقَتْ وَوَلَّتْ هَارِبَةً رَاجِعَةً إِلَى الْهِنْدِ، فَانْهَزَمُوا بَيْنَ يَدَيْهَا. وَمِنْ حِيَلِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى مَدِينَةٍ حَصِينَةٍ وَكَانَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأَقْوَاتِ وَبِهَا عُيُونُ مَاءٍ، فَعَادَ عَنْهَا فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا قَوْمًا عَلَى هَيْئَةِ التُّجَّارِ وَمَعَهُمْ أَمْتِعَةٌ يَبِيعُونَهَا وَأَمَرَهُمْ بِمُشْتَرَى الطَّعَامِ وَالْمَغَالَاتِ فِي ثَمَنِهَا، فَإِذَا صَارَ عِنْدَهُمْ أَحْرَقُوهُ وَهَرَبُوا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَهَرَبُوا إِلَيْهِ فَأَنْفَذَ السَّرَايَا إِلَى سَوَادِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَأَمَرَهُمْ بِالْغَارَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَهَرَبُوا وَدَخَلُوا الْبَلَدَ لِيَحْتَمُوا بِهِ، فَسَارَ الْإِسْكَنْدَرُ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَمْتَنِعُوا عَلَيْهِ. وَكَتَبَ إِلَى أَرِسْطَا طَالِيسَ يَذْكُرُ لَهُ أَنَّهُ مِنْ خَاصَّةِ الرُّومِ جَمَاعَةٌ لَهُمْ هِمَمٌ بَعِيدَةٌ وَنُفُوسٌ كَبِيرَةٌ وَشُجَاعَةٌ، وَأَنَّهُ يَخَافُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَيَكْرَهُ قَتْلَهُمْ بِالظِّنَّةِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَرِسْطَا طَالِيسُ: فَهِمْتُ كِتَابَكَ، فَإِنَّ مَا ذَكَرْتَ مِنْ بُعْدِ هِمَمِهِمْ فَإِنَّ الْوَفَاءَ مِنْ بُعْدِ الْهِمَّةِ وَكِبَرِ النَّفْسِ، وَالْغَدْرَ مِنْ دَنَاءَةِ النَّفْسِ وَخِسَّتِهَا، وَأَمَّا شَجَاعَتُهُمْ وَنَقْصُ عُقُولِهِمْ، فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ فَرَفِّهْهُ فِي مَعِيشَتِهِ وَاخْصُصْهُ بِحِسَانِ النِّسَاءِ، فَإِنَّ رَفَاهِيَةَ الْعَيْشِ تُمِيتُ الشَّجَاعَةَ، وَتُحَبِّبُ السَّلَامَةَ، وَإِيَّاكَ وَالْقَتْلَ فَإِنَّهُ ذِلَّةٌ لَا تُسْتَقَالُ وَذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ، وَعَاقِبْ بِدُونِ الْقَتْلِ تَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْعَفْوِ، فَمَا أَحْسَنَ الْعَفْوَ مِنَ الْقَادِرِ، وَلْيَحْسُنْ خُلُقُكَ تَخْلُصْ لَكَ النِّيَّاتُ بِالْمَحَبَّةِ، وَلَا تُؤْثِرْ نَفْسَكَ عَلَى أَصْحَابِكَ، فَلَيْسَ مَعَ الِاسْتِئْثَارِ مَحَبَّةٌ، وَلَا مَعَ الْمُؤَاسَاةِ بُغْضَةٌ. وَكَتَبَ إِلَى أَرِسْطَا طَالِيسَ أَيْضًا لَمَّا مَلَكَ بِلَادَ فَارِسَ يَذْكُرُ أَنَّهُ رَأَى بِإِيرَانِ شَهْرَ رِجَالًا ذَوِي رَأْيٍ، وَصَرَامَةٍ، وَشَجَاعَةٍ، وَجَمَالٍ، وَأَنْسَابٍ رَفِيعَةٍ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا مَلَكَهُمْ بِالْحَظِّ

وَالْإِنْفَاقِ، وَأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ - إِنْ سَافَرَ عَنْهُمْ فَأَفْرَغَهُمْ - وُثُوبَهُمْ وَأَنَّهُ لَا يُكْفَى شَرَّهُمْ بِبَوَارِهِمْ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: قَدْ فَهِمْتُ كِتَابَكَ فِي رِجَالِ فَارِسَ، فَأَمَّا قَتْلُهُمْ فَهُوَ مِنَ الْفَسَادِ وَالْبَغْيِ الَّذِي لَا يُؤْمَنُ عَاقِبَتُهُ، وَلَوْ قَتَلْتَهُمْ لَأَنَبْتَ أَهْلَ الْبَلَدِ أَمْثَالَهُمْ وَصَارَ جَمِيعُ أَهْلِ الْبَلَدِ أَعْدَاءَكَ بِالطَّبْعِ وَأَعْدَاءَ عَقِبِكَ لِأَنَّكَ تَكُونُ قَدْ وَتَرْتَهُمْ بِغَيْرِ حَرْبٍ، وَأَمَّا إِخْرَاجُكَ إِيَّاهُمْ مِنْ عَسْكَرِكَ فَمُخَاطَرَةٌ بِنَفْسِكَ وَأَصْحَابِكَ، وَلَكِنِّي أُشِيرُ عَلَيْكَ بِرَأْيٍ هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْقَتْلِ، وَهُوَ أَنْ تَسْتَدْعِيَ مِنْهُمْ أَوْلَادَ الْمُلُوكِ وَمَنْ يَصْلُحُ لِلْمُلْكِ فَتُقَلِّدَهُمُ الْبُلْدَانَ وَتَجْعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَلِكًا بِرَأْسِهِ فَتَتَفَرَّقَ كَلِمَتُهُمْ وَيَقَعَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَحَبَّةِ لَكَ وَيَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ صَنِيعَتَكَ. فَفَعَلَ الْإِسْكَنْدَرُ ذَلِكَ، فَهُمْ مُلُوكُ الطَّوَائِفِ، وَقِيلَ فِي مُلُوكِ الطَّوَائِفِ غَيْرُ هَذَا السَّبَبِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ذكر من ملك من قومه بعد الإسكندر

[ذِكْرُ مَنْ مَلَكَ مِنْ قَوْمِهِ بَعْدَ الْإِسْكَنْدَرِ] لَمَّا مَاتَ الْإِسْكَنْدَرُ عُرِضَ الْمُلْكُ عَلَى ابْنِهِ الْإِسْكَنْدَرُوسِ، فَأَبَى وَاخْتَارَ الْعِبَادَةَ، فَمَلَّكَتِ الْيُونَانُ فِيمَا قِيلَ بَطْلَيْمُوسَ بْنَ لَاغُوسَ، وَكَانَ مُلْكُهُ ثَمَانِيًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ بَطْلَيْمُوسُ فِيلُوذُفُوسُ، وَكَانَ مُلْكُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ بَطْلَيْمُوسُ أُورَاغَاطَسُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ بَطْلَيْمُوسُ فِيلَافَطَرُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ بَطْلَيْمُوسُ إِفِيفَانُسُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً.

ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ بَطْلَيْمُوسُ أُورَاغَاطَسُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ بَطْلَيْمُوسُ سَاطِرُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ بَطْلَيْمُوسُ الْإِخْشَنْدَرُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ بَطْلَيْمُوسُ الَّذِي اخْتَفَى عَنْ مُلْكِهِ ثَمَانِيَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَتْ بَعْدَهُ قَالُوبَطْرَى سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ مِنَ الْحُكَمَاءِ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنَ الْيُونَانَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ بَعْدَ الْإِسْكَنْدَرِ كَانَ يُدْعَى بَطْلَيْمُوسَ كَمَا كَانَتْ تُدْعَى مُلُوكُ فَارِسَ أَكَاسِرَةَ وَمُلُوكُ الرُّومِ قَيَاصِرَةَ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ بَطْلَيْمُوسَ صَاحِبَ الْمِجِسْطِي وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَيَّامَ مُلُوكِ الرُّومِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ مَلَكَ الشَّامَ فِيمَا بَعْدَ قَالُوبَطْرَى مُلُوكُ الرُّومِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ مَلَكَ مِنْهُمْ جَايُوسَ يُولُوسَ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ أُغُسْطُوسُ سِتًّا وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَلَمَّا مَضَى مِنْ مُلْكِهِ اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وُلِدَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقِيلَ: كَانَ بَيْنَ مَوْلِدِهِ وَقِيَامِ الْإِسْكَنْدَرِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثُ سِنِينَ.

ذكر أخبار ملوك الفرس بعد الإسكندر وهم ملوك الطوائف

[ذِكْرُ أَخْبَارِ مُلُوكِ الْفُرْسِ بَعْدَ الْإِسْكَنْدَرِ وَهُمْ مُلُوكُ الطَّوَائِفِ] لَمَّا مَاتَ الْإِسْكَنْدَرُ مَلَكَ بِلَادَ الْفُرْسِ بَعْدَهُ مُلُوكُ الطَّوَائِفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ السَّبَبِ فِي تَمْلِيكِهِمْ. وَقِيلَ: كَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْكَنْدَرَ لَمَّا مَلَكَ بِلَادَ الْفُرْسِ وَوَصَلَ إِلَى مَا أَرَادَ كَتَبَ إِلَى أَرِسْطَاطَالِيسَ الْحَكِيمِ: إِنِّي قَدْ وَتَرْتُ جَمِيعَ مَنْ فِي بِلَادِ الْمَشْرِقِ وَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَتَّفِقُوا بَعْدِي عَلَى قَصْدِ بِلَادِنَا وَإِيذَاءِ قَوْمِنَا، وَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَقْتُلَ أَوْلَادَ مَنْ قَتَلْتُ مِنَ الْمُلُوكِ وَأُلْحِقُهُمْ بِآبَائِهِمْ، فَمَا تَرَى؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّكَ إِنْ قَتَلْتَ أَبْنَاءَ الْمُلُوكِ أَفْضَى الْمُلْكُ إِلَى السُّفْلِ وَالْأَنْذَالِ، وَالسُّفْلُ إِذَا مَلَكُوا قَدَرُوا، وَإِذَا قَدَرُوا طَغَوْا وَبَغَوْا وَظَلَمُوا، وَمَا يُخْشَى مِنْ مَعَرَّتِهِمْ أَكْثَرُ، وَالرَّأْيُ أَنْ تَجْمَعَ أَبْنَاءَ الْمُلُوكِ فَتُمَلِّكُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَلَدًا وَاحِدًا وَكُورَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُومُ فِي وَجْهِ الْآخَرِ يَمْنَعُهُ عَنْ بُلُوغِ غَرَضِهِ خَوْفًا عَلَى مَا بِيَدِهِ فَتَتَوَلَّدُ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمْ فَيَشْتَغِلُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَلَا يَتَفَرَّغُونَ إِلَى مَنْ بَعُدَ عَنْهُمْ. فَعِنْدَهَا قَسَّمَ الْإِسْكَنْدَرُ بِلَادَ الْمَشْرِقِ عَلَى مُلُوكِ الطَّوَائِفِ وَنَقَلَ عَنْ بُلْدَانِهِمُ النُّجُومَ وَالْحِكْمَةَ، وَكَانَ مِنْ حَالِهِمْ بَعْدَ الْإِسْكَنْدَرِ مَا ذَكَرَهُ أَرِسْطَاطَالِيسُ، وَاشْتَغَلُوا عَنْ قَصْدِ الْيُونَانِ. وَكَانَ أَرِسْطَاطَالِيسُ مِنْ أَفْضَلِ الْحُكَمَاءِ وَأَعْلَمِهِمْ، وَكَانَ الْإِسْكَنْدَرُ يَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِ وَأَخَذَ الْحِكْمَةَ عَنْ أَفْلَاطُونَ تِلْمِيذِ سُقْرَاطَ، وَسُقْرَاطُ تِلْمِيذُ أُوسِيَلَاوُسَ فِي الطَّبِيعِيَّاتِ دُونَ غَيْرِهَا، وَمَعْنَاهُ رَأْسُ السِّبَاعِ، وَكَانَ أُوسِيَلَاوُسُ تِلْمِيذَ أَنْكِسَاغُورَسَ، إِلَّا أَنَّ أَرِسْطَاطَالِيسَ

خَالَفَ أُسْتَاذَهُ فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: أَفَلَاطُونُ صَدِيقٌ وَالْحَقُّ صَدِيقٌ، إِلَّا أَنَّ الْحَقَّ أَوْلَى بِالصَّدَاقَةِ مِنْهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ بَعْدَ الْإِسْكَنْدَرِ وَعَدَدِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ مَلَكُوا إِقْلِيمَ بَابِلَ، فَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ وَغَيْرُهُ: مَلَكَ بَعْدَ الْإِسْكَنْدَرِ بَلَاقَسُ سَلَبْقَسُ، ثُمَّ أَنْطِيخَسُ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ. وَكَانَ فِي أَيْدِي هَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ سَوَادُ الْكُوفَةِ أَرْبَعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانُوا يَتَطَرَّقُونَ الْجِبَالَ، وَنَاحِيَةَ الْأَهْوَازِ، وَفَارِسَ. ذِكْرُ مُلْكِ أَشَكَ بْنِ أَشْكَانَ ثُمَّ خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَشَكُ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ دَارَا الْأَكْبَرِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ وَمَنْشَؤُهُ بِالرَّيِّ، فَجَمَعَ جَمْعًا كَبِيرًا وَسَارَ يُرِيدُ أَنْطِيخَسَ، وَزَحَفَ إِلَيْهِ أَنْطِيخَسُ وَالْتَقَيَا بِبِلَادِ الْمَوْصِلِ، فَقُتِلَ أَنْطِيخَسُ، وَمَلَكَ أَشَكُ السَّوَادَ وَصَارَ بِيَدِهِ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَى الرَّيِّ، وَأَصْبَهَانَ، وَعَظَّمَتْهُ سَائِرُ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ لِنَسَبِهِ وَشَرَفِهِ وَفِعْلِهِ، وَبَدَءُوا بِهِ كُتُبَهُمْ، وَسَمَّوْهُ مَلِكًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْزِلَ أَحَدًا مِنْهُمْ، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ سَابُورُ بْنُ أَشَكَ. ذِكْرُ مُلْكِ جَوْدَرْزُ ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ سَابُورَ جَوْدَرْزُ بْنُ أَشْكَانَ، وَهُوَ الَّذِي غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ.

وَسَبَبُ تَسْلِيطِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَيْهِمْ قَتْلُهُمْ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ، فَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ، فَلَمْ يَعُدْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ كَجَمَاعَتِهِمُ الْأُولَى، وَرَفَعَ اللَّهُ مِنْهُمُ النُّبُوَّةَ وَنَزَلَ بِهِمُ الذُّلُّ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ طِيطُوسُ بْنُ إِسْفِيَانُوسَ مَلِكُ الرُّومِ فَقَتَلَهُمْ وَسَبَاهُمْ وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَقَدْ كَانَتِ الرُّومُ غَزَتْ بِلَادَ فَارِسَ يَطْلُبُونَ ثَأْرَ أَنْطِيخَسَ، وَمَلَكَ بَابِلَ حِينَئِذٍ " بِلَاشُ أَبُو أَرْدُوَانَ " الَّذِي قَتَلَهُ " أَرْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ "، فَكَتَبَ بِلَاشُ إِلَى مُلُوكِ الطَّوَائِفِ يُعْلِمُهُمْ مَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الرُّومُ مِنْ غَزْوِ بِلَادِهِمْ وَمَا حَشَدُوا وَجَمَعُوا وَأَنَّهُ إِنْ عَجَزَ مِنْهُمْ ظَفِرُوا بِهِمْ جَمِيعًا. فَوَجَّهَ كُلُّ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ إِلَى بِلَاشَ مِنَ الرِّجَالِ وَالسِّلَاحِ وَالْمَالِ بِقَدْرِ قُوَّتِهِ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ، فَوَلَّى عَلَيْهِمْ صَاحِبَ الْحَضَرِ، وَكَانَ لَهُ مَا بَيْنَ السَّوَادِ وَالْجَزِيرَةِ، فَلَقِيَ الرُّومَ وَقَتَلَ مَلِكَهُمْ وَاسْتَبَاحَ عَسْكَرَهُمْ، وَذَلِكَ الَّذِي هَيَّجَ الرُّومَ عَلَى بِنَاءِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَنَقْلِ الْمُلْكِ مِنْ رُومِيَّةَ إِلَيْهَا، وَكَانَ الَّذِي أَنْشَأَهَا قُسْطَنْطِينُ الْمَلِكُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَنَصَّرَ مِنْ مُلُوكِ الرُّومِ وَأَجْلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ فِلَسْطِينَ وَالشَّامِ لِقَتْلِهِمْ عِيسَى بِزَعْمِهِمْ، وَأَخَذَ الْخَشَبَةَ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ صَلَبُوا الْمَسِيحَ عَلَيْهَا، فَعَظَمَّهَا الرُّومُ وَأَدْخَلُوهَا خَزَائِنَهُمْ وَهِيَ عِنْدَهُمْ إِلَى الْيَوْمِ. وَلَمْ يَزَلْ مُلْكُ فَارِسَ مُتَفَرِّقًا حَتَّى مَلَكَ أَرْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ. وَلَمْ يُبَيِّنْ هِشَامٌ مُدَّةَ مُلْكِهِمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ فَارِسَ: مَلَكَ بِلَادَهُمْ بَعْدَ الْإِسْكَنْدَرِ مُلُوكٌ مِنْ غَيْرِ الْفُرْسِ كَانُوا يُطِيعُونَ كُلَّ مَنْ مَلَكَ بِلَادَ الْجَبَلِ، وَهُمُ الْأَشْغَانِيُّونَ الَّذِينَ يُدْعَوْنَ مُلُوكَ الطَّوَائِفِ، وَكَانَ مُلْكُهُمْ مِائَتَيْ سَنَةٍ، وَقِيلَ: كَانَ مُلْكُهُمْ ثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، مَلَكَ مِنْ هَذِهِ السِّنِينَ أَشَكُ بْنُ أَشْكَانَ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ ابْنُهُ سَابُورُ سِتِّينَ سَنَةً، وَفِي إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ مُلْكِهِ ظَهَرَ الْمَسِيحُ

عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنَّ " تِيطُوسَ بْنَ إِسْفِيَانُوسَ " مَلِكَ رُومِيَّةَ غَزَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْمَسِيحِ بِنَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَمَلَكَ الْمَدِينَةَ وَقَتَلَ، وَسَبَى، وَأَخْرَبَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ مَلَكَ جَوْدَرْزُ بْنُ أَشْغَانَانَ الْأَكْبَرُ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ بِيرَنُ الْأَشْغَانِيُّ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ جَوْدَرْزُ الْأَشْغَانِيُّ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ نَرْسِي الْأَشْغَانِيُّ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ هُرْمُزُ الْأَشْغَانِيُّ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ أُرْدُوَانُ الْأَشْغَانِيُّ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ كِسْرَى الْأَشْغَانِيُّ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بِلَاشُ الْأَشْغَانِيُّ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ أُرْدُوَانُ الْأَصْغَرُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ أَرْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَلَكَ بِلَادَ الْفُرْسِ بَعْدَ الْإِسْكَنْدَرِ مُلُوكُ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ فَرَّقَ الْإِسْكَنْدَرُ الْمَمْلَكَةَ بَيْنَهُمْ، وَتَفَرَّدَ بِكُلِّ نَاحِيَةٍ مَنْ مُلِّكَ عَلَيْهَا مِنْ حِينِ مَلَّكَهُ عَلَيْهَا مَا خَلَا السَّوَادَ، فَإِنَّهُ كَانَ أَرْبَعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً بَعْدَ هَلَاكِ الْإِسْكَنْدَرِ فِي يَدِ الرُّومِ.

وَكَانَ فِي مُلُوكِ الطَّوَائِفِ رَجُلٌ مِنْ نَسْلِ الْمُلُوكِ قَدْ مَلَكَ الْجِبَالَ وَأَصْبَهَانَ، ثُمَّ غُلِبَ وَلَدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى السَّوَادِ، وَكَانُوا مُلُوكًا عَلَيْهَا، وَعَلَى الْمَاهَاتِ، وَالْجِبَالِ، وَأَصْبَهَانَ كَالرَّئِيسِ عَلَى سَائِرِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِتَقْدِيمِهِ وَتَقْدِيمِ وَلَدِهِ، وَلِذَلِكَ قُصِدَ لِذِكْرِهِمْ فِي كُتُبِ سِيَرِ الْمُلُوكِ، فَاقْتَصَرْنَا عَلَى ذِكْرِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَكَانَتْ مُدَّةُ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: خَمْسَمِائَةٍ وَثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَمِنَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ مَلَكُوا الْجِبَالَ ثُمَّ تَهَيَّأَتْ بَعْدَ أَوْلَادِهِمُ الْغَلَبَةُ عَلَى السَّوَادِ أَشَكُ بْنُ حَرَّهْ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ إِسْفِنْدِيَارَ بْنِ بَشْتَاسِبَ فِي قَوْلٍ، وَبَعْضُ الْفُرْسِ زَعَمَ أَنْ أَشَكَ بْنَ دَارَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَشَكُ بْنُ أَشَكْانَ الْكَبِيرُ، هُوَ مِنْ وَلَدِ كَيْكَاوُوسَ، وَكَانَ مُلْكُهُ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ أَشَكَ ابْنُهُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ ابْنُهُ سَابُورُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ ابْنُهُ جَوْدَرْزُ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ ابْنُهُ بِيرُنُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ ابْنُهُ جَوْدَرْزُ الْأَصْغَرُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ ابْنُهُ نَرْسِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ هُرْمُزُ بْنُ بِلَاشَ بْنِ أَشْكَانَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ أُرْدُوَانَ الْأَكْبَرُ بْنُ أَشْكَانَ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً،

ثُمَّ كِسْرَى بْنُ أَشْكَانَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ أُرْدُوَانُ الْأَصْغَرُ بْنُ بِلَاشَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَ أَعْظَمَ مُلُوكِ الْأَشْكَانِيَّةِ وَأَظْهَرَهُمْ، وَأَعَزَّهُمْ قَهْرًا لِلْمُلُوكِ، ثُمَّ مَلَكَ أَرْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ وَجَمَّعَ مَمْلَكَةَ الْفُرْسِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ عَدَّ بَعْضُهُمْ فِي أَسْمَاءِ الْمُلُوكِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِطَالَةِ بِذِكْرِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ مَا قِيلَ عِنْدَ مُلْكِ أَرْدَشِيرَ بْنِ بَابَكَ.

ذكر الأحداث أيام ملوك الطوائف فمن ذلك ذكر المسيح عيسى ابن مريم ويحيى بن زكرياء عليه السلام

[ذِكْرُ الْأَحْدَاثِ أَيَّامَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ فَمِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ عَلَيْهِ السَّلَامُ] إِنَّمَا جَمَعْنَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِتَعَلُّقِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، فَنَقُولُ كَانَ عِمْرَانُ بْنُ مَاثَانَ مِنْ وَلَدِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَكَانَ آلُ مَاثَانَ رُءُوسَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَحْبَارَهُمْ، وَكَانَ مُتَزَوِّجًا بِحَنَّةَ بَنْتِ فَاقُودَ، وَكَانَ زَكَرِيَّاءُ بْنُ بَرْخِيَّا مُتَزَوِّجًا بِأُخْتِهَا إِيشَاعَ، وَقِيلَ: كَانَتْ إِيشَاعُ أُخْتَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَكَانَتْ حَنَّةُ قَدْ كَبِرَتْ وَعَجَزَتْ وَلَمْ تَلِدْ وَلَدًا، فَبَيْنَمَا هِيَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ أَبْصَرَتْ طَائِرًا يَزُقُّ فَرْخًا لَهُ فَاشْتَهَتِ الْوَلَدَ فَدَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَهَبَ لَهَا وَلَدًا وَنَذَرَتْ إِنْ يَرْزُقْهَا وَلَدًا أَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ سَدَنَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَخَدَمِهِ، فَحَرَّرَتْ مَا فِي بَطْنِهَا، وَلَمْ تَعْلَمْ مَا هُوَ، وَكَانَ النَّذْرُ الْمُحَرَّرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُجْعَلَ لِلْكَنِيسَةِ يَقُومُ بِخِدْمَتِهَا وَلَا يَبْرَحُ مِنْهَا حَتَّى يَبْلُغَ الْحُلُمَ، فَإِذَا بَلَغَ خُيِّرَ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُقِيمَ فِيهَا أَقَامَ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ ذَهَبَ حَيْثُ شَاءَ. وَلَمْ يَكُنْ يُحَرَّرُ إِلَّا الْغِلْمَانُ، لِأَنَّ الْإِنَاثَ لَا يَصْلُحْنَ لِذَلِكَ لِمَا يُصِيبُهُنَّ مِنَ الْحَيْضِ وَالْأَذَى. ثُمَّ هَلَكَ عِمْرَانُ وَحَنَّةُ حَامِلٌ بِمَرْيَمَ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا إِذَا [هِيَ] أُنْثَى فَقَالَتْ عِنْدَ ذَلِكَ {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36] فِي

خِدْمَةِ الْكَنِيسَةِ وَالْعِبَادِ الَّذِينَ فِيهَا، {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران: 36] ، وَهِيَ بِلُغَتِهِمُ الْعِبَادَةُ. ثُمَّ لَفَّتْهَا فِي خِرْقَةٍ وَحَمَلَتْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَوَضَعَتْهَا عِنْدَ الْأَحْبَارِ أَبْنَاءِ هَارُونَ، وَهُمْ يَلُونَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَا يَلِي بَنُو شَيْبَةَ مِنَ الْكَعْبَةِ. فَقَالَتْ: دُونَكُمْ هَذِهِ الْمَنْذُورَةَ فَتَنَافَسُوا فِيهَا لِأَنَّهَا بِنْتُ إِمَامِهِمْ وَصَاحِبِ قُرْبَانِهِمْ. فَقَالَ زَكَرِيَّاءُ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا لِأَنَّ خَالَتَهَا عِنْدِي. فَقَالُوا لَكِنَّا نَقْتَرِعُ عَلَيْهَا. فَأَلْقَوْا أَقْلَامَهُمْ فِي نَهْرٍ جَارٍ، قِيلَ هُوَ نَهْرُ الْأُرْدُنِّ، فَأَلْقَوْا فِيهِ أَقْلَامَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ، فَارْتَفَعَ قَلَمُ زَكَرِيَّاءَ فَوْقَ الْمَاءِ وَرَسَبَتْ أَقْلَامُهُمْ، فَأَخَذَهَا وَكَفَّلَهَا وَضَمَّهَا إِلَى خَالَتِهَا أُمِّ يَحْيَى وَاسْتَرْضَعَ لَهَا حَتَّى كَبِرَتْ، فَبَنَى لَهَا غُرْفَةً فِي الْمَسْجِدِ لَا يُرْقَى إِلَيْهَا إِلَّا بِسُلَّمٍ وَلَا يَصْعَدُ إِلَيْهَا غَيْرُهُ، وَكَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، فَيَقُولُ: أَنَّى لَكِ هَذَا؟ فَتَقُولُ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَلَمَّا رَأَى زَكَرِيَّاءُ ذَلِكَ مِنْهَا دَعَا اللَّهَ تَعَالَى وَرَجَا الْوَلَدَ حَيْثُ رَأَى فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي فَعَلَ هَذَا بِمَرْيَمَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُصْلِحَ زَوْجَتِي حَتَّى تَلِدَ. فَـ {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38] . فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي فِي الْمَذْبَحِ الَّذِي لَهُمْ إِذَا هُوَ بَرْجَلٍ شَابٍّ، وَهُوَ جَبْرَائِيلُ، فَفَزِعَ زَكَرِيَّاءُ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 39] ، يَعْنِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيَحْيَى أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى وَصَدَّقَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ حَامِلًا بِهِ فَاسْتَقْبَلَتْ مَرْيَمَ وَهِيَ حَامِلٌ بِعِيسَى فَقَالَتْ لَهَا: يَا مَرْيَمُ أَحَامِلٌ أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: لِمَاذَا تَسْأَلِينِي؟ فَقَالَتْ إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ، فَذَلِكَ تَصْدِيقُهُ. وَقِيلَ: صَدَّقَ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَهُ ثَلَاثُ سِنِينَ، وَسَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى [يَحْيَى] وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ مَنْ تَسَمَّى هَذَا الِاسْمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم: 7] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 15] . قِيلَ: أَوْحَشُ مَا يَكُونُ ابْنُ آدَمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، فَسَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وَحْشَتِهَا، وَإِنَّمَا وُلِدَ يَحْيَى قَبْلَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ لَا يَأْتِي

النِّسَاءَ، وَلَا يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ. {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} [آل عمران: 40] ؟ وَكَانَ عُمُرُهُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ ابْنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً. فَقِيلَ لَهُ: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40] . وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ اسْتِخْبَارًا هَلْ يُرْزَقُ الْوَلَدَ مِنِ امْرَأَتِهِ الْعَاقِرِ أَمْ غَيْرِهَا، لَا إِنْكَارًا لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41] . قَالَ: أَمْسَكَ اللَّهُ لِسَانَهُ عُقُوبَةً لِسُؤَالِهِ الْآيَةَ، وَالرَّمْزُ الْإِشَارَةُ. فَلَمَّا وُلِدَ رَآهُ أَبُوهُ حَسَنَ الصُّورَةِ، قَلِيلَ الشَّعَرِ، قَصِيرَ الْأَصَابِعِ، مَقْرُونَ الْحَاجِبَيْنِ، دَقِيقَ الصَّوْتِ، قَوِيًّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ مُذْ كَانَ صَبِيًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] . قِيلَ: إِنَّهُ قَالَ لَهُ يَوْمًا الصِّبْيَانُ أَمْثَالُهُ: يَا يَحْيَى اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبْ. فَقَالَ لَهُمْ: مَا لِلَّعِبِ خُلِقْتُ. وَكَانَ يَأْكُلُ الْعُشْبَ وَأَوْرَاقَ الشَّجَرِ، وَقِيلَ كَانَ يَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ، وَمَرَّ بِهِ إِبْلِيسُ وَمَعَهُ رَغِيفُ شَعِيرٍ فَقَالَ: أَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ زَاهِدٌ وَقَدِ ادَّخَرْتَ رَغِيفَ شَعِيرٍ؟ فَقَالَ يَحْيَى: يَا مَلْعُونُ هُوَ الْقُوتُ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: إِنَّ الْأَقَلَّ مِنَ الْقُوتِ يَكْفِي لِمَنْ يَمُوتُ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: اعْقِلْ مَا يَقُولُ لَكَ. وَنُبِّئَ صَغِيرًا فَكَانَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَلُبْسِ الشَّعَرِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ وَلَا مَسْكَنٌ يَسْكُنُ إِلَيْهِ، أَيْنَمَا جَنَّهُ اللَّيْلُ أَقَامَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَبْدٌ وَلَا أَمَةٌ، وَاجْتَهَدَ فِي الْعِبَادَةِ، فَنَظَرَ يَوْمًا إِلَى بَدَنِهِ وَقَدْ نَحَلَ فَبَكَى، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَا يَحْيَى أَتَبْكِي لِمَا نَحَلَ مِنْ جِسْمِكَ؟ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَوِ اطَّلَعْتَ فِي النَّارِ اطِّلَاعَةً لَتَدَرَّعْتَ الْحَدِيدَ عِوَضَ الشَّعَرِ! فَبَكَى حَتَّى أَكَلَتِ الدُّمُوعُ لَحْمَ خَدَّيْهِ وَبَدَتْ أَضْرَاسُهُ لِلنَّاظِرِينَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهُ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ وَأَقْبَلَ زَكَرِيَّاءُ وَمَعَهُ الْأَحْبَارُ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ مَا يَدْعُوكَ إِلَى هَذَا؟ قَالَ: أَنْتَ أَمَرْتَنِي بِذَلِكَ حَيْثُ قُلْتَ: إِنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ عَقْبَةً لَا يَجُوزُهَا إِلَّا الْبَاكُونَ مِنْ خَشْيَةِ

اللَّهِ. فَقَالَ: فَابْكِ وَاجْتَهِدْ إِذَنْ. فَصَنَعَتْ لَهُ أُمُّهُ قِطْعَتَيْ لِبْدٍ عَلَى خَدَّيْهِ تُوَارِيَانِ أَضْرَاسَهُ، فَكَانَ يَبْكِي حَتَّى يَبُلَّهُمَا، وَكَانَ زَكَرِيَّاءُ إِذَا أَرَادَ يَعِظُ النَّاسَ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ يَحْيَى حَاضِرًا لَمْ يَذْكُرْ جَنَّةً وَلَا نَارًا. وَبَعَثَ اللَّهُ عِيسَى رَسُولًا نَسَخَ بَعْضَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، فَكَانَ مِمَّا نَسَخَ أَنَّهُ حَرَّمَ نِكَاحَ بِنْتِ الْأَخِ، وَكَانَ لِمَلِكِهِمْ - وَاسْمُهُ هِيرُودَسُ - بِنْتُ أَخٍ تُعْجِبُهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَنَهَاهُ يَحْيَى عَنْهَا، وَكَانَ لَهَا كُلَّ يَوْمٍ حَاجَةٌ يَقْضِيهَا لَهَا فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهَا قَالَتْ لَهَا: إِذَا سَأَلَكِ الْمَلِكُ مَا حَاجَتُكِ فَقُولِي أَنْ تَذْبَحَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ. فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَسَأَلَهَا مَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُرِيدُ أَنْ تَذْبَحَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ. فَقَالَ: اسْأَلِي غَيْرَ هَذَا. قَالَتْ: مَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ. فَلَمَّا أَبَتْ دَعَا بِيَحْيَى وَدَعَا بِطَسْتٍ فَذَبَحَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الرَّأْسَ قَالَتِ: الْيَوْمَ قَرَّتْ عَيْنِي! فَصَعِدَتْ إِلَى سَطْحِ قَصْرِهَا فَسَقَطَتْ مِنْهُ إِلَى الْأَرْضِ وَلَهَا كِلَابٌ ضَارِيَةٌ تَحْتَهُ، فَوَثَبَتِ الْكِلَابُ عَلَيْهَا وَأَكَلَتْهَا وَهِيَ تَنْظُرُ، وَكَانَ آخِرَ مَا أُكِلَ مِنْهَا عَيْنَاهَا لِتَعْتَبِرَ. فَلَمَّا قُتِلَ بُذِرَتْ قَطْرَةٌ مِنْ دَمِهِ عَلَى الْأَرْضِ، فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ بُخْتُنَصَّرَ عَلَيْهِمْ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَدَلَّتْهُ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ، فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِهِ أَنْ يَقْتُلَ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ حَتَّى يَسْكُنَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا حَتَّى سَكَنَ الدَّمُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ نَحْوَ هَذَا، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَرَادَ الْمَلِكُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ امْرَأَةٍ لَهُ، فَنَهَاهُ يَحْيَى عَنْ ذَلِكَ، فَطَلَبَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْمَلِكَ قَتْلَ يَحْيَى، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ وَأَحْضَرَ رَأْسَهُ فِي طَسْتٍ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: لَا تَحِلُّ لَكَ، فَبَقِيَ دَمُهُ يَغْلِي، فَطُرِحَ عَلَيْهِ تُرَابٌ حَتَّى بَلَغَ سُورَ الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يَسْكُنِ الدَّمُ. فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ فَحَصَرَهُمْ فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِمْ، فَأَرَادَ الرُّجُوعَ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ الْعَوْدَ! قَالَ: نَعَمْ، قَدْ طَالَ الْمُقَامُ وَجَاعَ النَّاسُ وَقَلَّتِ الْمِيرَةُ بِهِمْ وَضَاقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَتْ: إِنْ فَتَحْتُ لَكَ الْمَدِينَةَ أَتَقْتُلُ مَنْ آمُرُكَ بِقَتْلِهِ وَتَكُفُّ إِذَا أَمَرْتُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتِ: اقْسِمْ جُنْدَكَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ عَلَى نَوَاحِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ إِلَى السَّمَاءِ وَقُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَفْتِحُكَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، فَفَعَلُوا، فَخَرِبَ سُورُ الْمَدِينَةِ، فَدَخَلُوهَا، فَأَمَرَتْهُمُ الْعَجُوزُ أَنْ يَقْتُلُوا عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ حَتَّى يَسْكُنَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقْتُلُ حَتَّى قَتَلَ سَبْعِينَ

أَلْفًا وَسَكَنَ الدَّمُ، فَأَمَرَتْهُ بِالْكَفِّ، وَكَفَّ. وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَأَمَرَ أَنْ تُلْقَى فِيهِ الْجِيَفُ، وَعَادَ وَمَعَهُ دَانْيَالُ وَغَيْرُهُ مِنْ وُجُوهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنْهُمْ عِزْرِيَا، وَمِيشَائِيلُ، وَرَأْسُ الْجَالُوتِ. فَكَانَ دَانْيَالُ أَكْرَمَ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَحَسَدَهُمُ الْمَجُوسُ وَسَعَوْا بِهِمْ إِلَى بُخْتُنَصَّرَ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِلْقَائِهِمْ إِلَى السَّبُعِ وَنُزُولِ الْمَلَكِ عَلَيْهِمْ وَمَسْخِ بُخْتُنَصَّرَ وَمُقَامِهِ فِي الْوَحْشِ سَبْعَ سِنِينَ. وَهَذَا الْقَوْلُ وَمَا لَمْ نَذْكُرْهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ مِنْ أَنَّ بُخْتُنَصَّرَ هُوَ الَّذِي خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَقَتَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ قَتْلِهِمْ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ بَاطِلٌ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ وَالتَّارِيخِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ بِأُمُورِ الَمَاضِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ بُخْتُنَصَّرَ غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ قَتْلِهِمْ نَبِيَّهُمْ شَعْيَا فِي عَهْدِ إِرْمِيَا بْنِ حَلْقِيًّا، وَبَيْنَ عَهْدِ إِرْمِيَا وَقَتْلِ يَحْيَى أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَيَذْكُرُونَ أَنَّ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ مُبَيَّنٌ، وَتُوَافِقُهُمُ الْمَجُوسُ فِي مُدَّةِ غَزْوِ بُخْتُنَصَّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى مَوْتِ الْإِسْكَنْدَرِ، وَتُخَالِفُهُمْ فِي مُدَّةِ مَا بَيْنَ مَوْتِ الْإِسْكَنْدَرِ وَمَوْلِدِ يَحْيَى، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ مُدَّةَ ذَلِكَ كَانَتْ إِحْدَى وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ: الْحَقُّ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَمَرُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ مَرْجِعِهِمْ مِنْ بَابِلَ وَكَثُرُوا، ثُمَّ عَادُوا يُحْدِثُونَ الْأَحْدَاثَ وَيَعُودُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ وَيَبْعَثُ فِيهِمُ الرُّسُلَ، فَفَرِيقًا يُكَذِّبُونَ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ، حَتَّى كَانَ آخِرَ مَنْ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ زَكَرِيَّاءُ وَابْنُهُ يَحْيَى وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فَقَتَلُوا يَحْيَى وَزَكَرِيَّاءَ، فَابْتَعَثَ

اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَابِلَ يُقَالُ لَهُ جُودَرْسُ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِمُ الشَّامَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَالَ لِقَائِدٍ عَظِيمٍ مِنْ عَسْكَرِهِ اسْمُهُ نُبُوزَاذَانُ، وَهُوَ صَاحِبُ الْفِيلِ: إِنِّي كُنْتُ حَلَفْتُ لَئِنْ أَنَا ظَفِرْتُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَأَقْتُلَنَّهُمْ حَتَّى تَسِيلَ دِمَاؤُهُمْ فِي وَسَطِ عَسْكَرِي إِلَى أَنْ أَجِدَ مَنْ لَا أَقْتُلُهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ وَيَقْتُلَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَدَخَلَ نُبُوزَاذَانُ الْمَدِينَةَ فَأَقَامَ فِي الْمَدِينَةِ الَّتِي يُقَرِّبُونَ فِيهَا قُرْبَانَهُمْ، فَوَجَدَ فِيهَا دَمًا يَغْلِي، فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، مَا شَأْنُ هَذَا الدَّمِ يَغْلِي؟ فَقَالُوا: هَذَا دَمُ قُرْبَانٍ لَنَا لَمْ يُقْبَلْ فَلِذَلِكَ هُوَ يَغْلِي. فَقَالَ: مَا صَدَقْتُمُونِي الْخَبَرَ! فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ مِنَّا الْمُلْكُ وَالنُّبُوَّةُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ مِنَّا. فَذَبَحَ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ سَبْعَمِائَةٍ وَسَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ رُءُوسِهِمْ، فَلَمْ يَهْدَأْ، فَأَمَرَ بِسَبْعِمِائَةٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَذُبِحُوا عَلَى الدَّمِ، فَلَمْ يَهْدَأْ. فَلَمَّا رَأَى الدَّمَ لَا يَبْرُدُ قَالَ لَهُمْ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اصْدُقُونِي وَاصْبِرُوا عَلَى أَمْرِ رَبِّكُمْ، فَقَدْ طَالَ مَا مَلَكْتُمْ فِي الْأَرْضِ تَفْعَلُونَ مَا شِئْتُمْ، قَبْلَ أَنْ لَا أَدَعَ مِنْكُمْ نَافِخَ نَارٍ أُنْثَى وَلَا ذَكَرًا إِلَّا قَتَلْتُهُ. فَلَمَّا رَأَوُا الْجَهْدَ وَشِدَّةَ الْقَتْلِ صَدَقُوهُ الْخَبَرَ وَقَالُوا: هَذَا [دَمُ] نَبِيٍّ كَانَ يَنْهَانَا عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا يُسْخِطُ اللَّهَ، وَيُخْبِرُنَا بِخَبَرِكُمْ، فَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَقَتَلْنَاهُ فَهَذَا دَمُهُ. فَقَالَ: مَا كَانَ اسْمُهُ؟ قَالُوا: يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ. قَالَ: الْآنَ صَدَقْتُمُونِي، لِمِثْلِ هَذَا انْتَقَمَ رَبُّكُمْ مِنْكُمْ، وَخَرَّ سَاجِدًا، وَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: أَغْلِقُوا أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ، وَأَخْرِجُوا مَنْ هَهُنَا مِنْ جَيْشِ جُودَرْسَ. فَفَعَلُوا، وَخَلَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ قَالَ لِلدَّمِ: يَا يَحْيَى، قَدْ عَلِمَ رَبِّي وَرَبُّكَ مَا قَدْ أَصَابَ قَوْمَكَ مِنْ أَجْلِكَ وَمَا قُتِلَ مِنْهُمْ، فَاهْدَأْ بِإِذْنِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ لَا يَبْقَى مِنْ قَوْمِكَ أَحَدٌ. فَسَكَنَ الدَّمُ، وَرَفَعَ نُبُوزَاذَانُ الْقَتْلَ، وَقَالَ: آمَنْتُ بِمَا آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَصَدَّقْتُ بِهِ وَأَيْقَنْتُ أَنَّهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ. ثُمَّ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ جُودَرْسَ أَمَرَنِي أَنْ

أَقْتُلَ فِيكُمْ حَتَّى تَسِيلَ دِمَاؤُكُمْ فِي عَسْكَرِهِ، وَلَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَعْصِيَهُ. قَالُوا: افْعَلْ. فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْفِرُوا حُفَيْرَةً، وَأَمَرَ بِالْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالْإِبِلِ فَذَبَحَهَا حَتَّى كَثُرَ الدَّمُ وَأَجْرَى عَلَيْهِ مَاءً، فَسَارَ الدَّمُ فِي الْعَسْكَرِ، فَأَمَرَ بِالْقَتْلَى الَّذِينَ كَانَ قَتَلَهُمْ، فَأُلْقُوا فَوْقَ الْمَوَاشِي، فَلَمَّا نَظَرَ جُودَرْسُ إِلَى الدَّمِ قَدْ بَلَغَ عَسْكَرَهُ أَرْسَلَ إِلَى نُبُوزَاذَانَ: أَنِ ارْفَعِ الْقَتْلَ عَنْهُمْ فَقَدِ انْتَقَمْتُ مِنْهُمْ بِمَا فَعَلُوا. وَهِيَ الْوَقْعَةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا - فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا - ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا - إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا - عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 4 - 8] ، وَ " عَسَى " [وَعْدٌ] مِنَ اللَّهِ حَقٌّ. وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ الْأُولَى بُخْتُنَصَّرَ وَجُنُودَهُ، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمُ الْكَرَّةَ، ثُمَّ كَانَتِ الْوَقْعَةُ الْأَخِيرَةُ جُودَرْسَ وَجُنُودَهُ، وَكَانَتْ أَعْظَمَ الْوَقْعَتَيْنِ، فَبِهَا كَانَ خَرَابُ بِلَادِهِمْ وَقَتْلُ رِجَالِهِمْ وَسَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَائِهِمْ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7] . وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَتْلَ يَحْيَى كَانَ أَيَّامَ أَرْدَشِيرَ بْنِ بَابَكَ، وَقِيلَ: كَانَ قَتْلُهُ قَبْلَ رَفْعِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِسَنَةٍ وَنِصْفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ قَتْلِ زَكَرِيَّاءَ لَمَّا قُتِلَ يَحْيَى وَسَمِعَ أَبُوهُ بِقَتْلِهِ فَرَّ هَارِبًا فَدَخَلَ بُسْتَانًا عِنْدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِيهِ أَشْجَارٌ، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ فِي طَلَبِهِ، فَمَرَّ زَكَرِيَّاءُ بِالشَّجَرَةِ. فَنَادَتْهُ: هَلُمَّ إِلَيَّ يَا نَبِيَّ اللَّهِ! فَلَمَّا أَتَاهَا انْشَقَّتْ فَدَخَلَهَا، فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِ وَبَقِيَ فِي وَسَطِهَا. فَأَتَى عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ فَأَخَذَ

هُدْبَ رِدَائِهِ فَأَخْرَجَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ لِيُصَدِّقُوهُ إِذَا أَخْبَرَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا نَلْتَمِسُ زَكَرِيَّاءَ. فَقَالَ: إِنَّهُ سَحَرَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَانْشَقَّتْ لَهُ فَدَخَلَهَا، قَالُوا: لَا نُصَدِّقُكَ! قَالَ: فَإِنَّ لِي عَلَامَةً تُصَدِّقُونِي بِهَا، فَأَرَاهُمْ طَرَفَ رِدَائِهِ، فَأَخَذُوا الْفُئُوسَ وَقَطَعُوا الشَّجَرَةَ بِاثْنَتَيْنِ وَشَقُّوهَا بِالْمِنْشَارِ، فَمَاتَ زَكَرِيَّاءُ فِيهَا، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَخْبَثَ أَهْلِ الْأَرْضِ فَانْتَقَمَ بِهِ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ السَّبَبَ فِي قَتْلِهِ أَنَّ إِبْلِيسَ جَاءَ إِلَى مَجَالِسِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَذَفَ زَكَرِيَّاءَ بِمَرْيَمَ وَقَالَ لَهُمْ: مَا أَحْبَلَهَا غَيْرُهُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا، فَطَلَبُوهُ فَهَرَبَ، وَذَكَرَ مِنْ دُخُولِهِ الشَّجَرَةَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.

ذكر ولادة المسيح عليه السلام ونبوته إلى آخر أمره

[ذِكْرُ وِلَادَةِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنُبُوَّتِهِ إِلَى آخِرِ أَمْرِهِ] كَانَتْ وِلَادَةُ الْمَسِيحِ أَيَّامَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ. قَالَتِ الْمَجُوسُ: كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً مِنْ غَلَبَةِ الْإِسْكَنْدَرِ عَلَى أَرْضِ بَابِلَ، وَبَعْدَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ سَنَةً مَضَتْ مِنْ مُلْكِ الْأَشْكَانِيِّينَ. وَقَالَتِ النَّصَارَى: إِنَّ وِلَادَتَهُ كَانَتْ لِمُضِيِّ ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً مِنْ وَقْتِ غَلَبَةِ الْإِسْكَنْدَرِ عَلَى أَرْضِ بَابِلَ، وَزَعَمُوا أَنَّ مَوْلِدَ يَحْيَى كَانَ قَبْلَ مَوْلِدِ الْمَسِيحِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَأَنَّ مَرْيَمَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ، حَمَلَتْ بِعِيسَى وَلَهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: عِشْرُونَ، وَأَنَّ عِيسَى عَاشَ إِلَى أَنْ رُفِعَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَيَّامًا، وَأَنَّ مَرْيَمَ عَاشَتْ بَعْدَهُ سِتَّ سِنِينَ، فَكَانَ جَمِيعُ عُمُرِهَا إِحْدَى وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَأَنَّ يَحْيَى قُتِلَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ الْمَسِيحُ، وَأَتَتِ الْمَسِيحَ النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ وَعُمُرُهُ ثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا حَالَ مَرْيَمَ فِي خِدْمَةِ الْكَنِيسَةِ، وَكَانَتْ هِيَ وَابْنُ عَمِّهَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ مَاثَانَ النَّجَّارُ يَلِيَانِ خِدْمَةَ الْكَنِيسَةِ، وَكَانَ يُوسُفُ حَكِيمًا نَجَّارًا يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ وَيَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ. وَقَالَتِ النَّصَارَى: إِنَّ مَرْيَمَ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا يُوسُفُ ابْنُ عَمِّهَا إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْرَبْهَا إِلَّا بَعْدَ رَفْعِ الْمَسِيحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَتْ مَرْيَمُ إِذَا نَفِدَ مَاؤُهَا وَمَاءُ يُوسُفَ ابْنِ عَمِّهَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُلَّتَهُ

وَانْطَلَقَ إِلَى الْمَغَارَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ يَسْتَعْذِبَانِ مِنْهُ ثُمَّ يَرْجِعَانِ إِلَى الْكَنِيسَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي لَقِيَهَا فِيهِ جِبْرِيلُ نَفِدَ مَاؤُهَا فَقَالَتْ لِيُوسُفَ لِيَذْهَبَ مَعَهَا إِلَى الْمَاءِ، فَقَالَ: عِنْدِي مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِينِي إِلَى غَدٍ، فَأَخَذَتْ قُلَّتَهَا وَانْطَلَقَتْ وَحْدَهَا حَتَّى دَخَلَتِ الْمَغَارَةَ، فَوَجَدَتْ جَبْرَائِيلَ قَدْ مَثَّلَهُ اللَّهُ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، فَقَالَ لَهَا: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَنِي إِلَيْكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا. {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18] أَيْ مُطِيعًا لِلَّهِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، وَتَحْسَبُهُ رَجُلًا، {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا - قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 19 - 20]- أَيْ زَانِيَةً - {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} [مريم: 21] ، إِلَى قَوْلِهِ {أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 21] فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ اسْتَسْلَمَتْ لِقَضَاءِ اللَّهِ، وَنَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهَا وَقَدْ حَمَلَتْ بِالْمَسِيحِ، وَمَلَأَتْ قُلَّتَهَا وَعَادَتْ، وَكَانَ لَا يُعْلَمُ فِي أَهْلِ زَمَانِهَا أَعْبَدُ مِنْهَا وَمِنِ ابْنِ عَمِّهَا يُوسُفَ النَّجَّارِ، وَكَانَ مَعَهَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَ حَمْلَهَا، فَلَمَّا رَأَى الَّذِي بِهَا اسْتَعْظَمَهُ وَلَمْ يَدْرِ عَلَى مَاذَا يَضَعُ ذَلِكَ مِنْهَا، فَإِذَا أَرَادَ يَتَّهِمُهَا ذَكَرَ صَلَاحَهَا وَأَنَّهَا لَمْ تَغِبْ عَنْهُ سَاعَةً قَطُّ، وَإِذَا أَرَادَ يُبَرِّئُهَا رَأَى الَّذِي بِهَا، فَلَمَّا اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَلَّمَهَا فَكَانَ أَوَّلُ كَلَامِهِ لَهَا أَنْ قَالَ لَهَا: إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ مِنْ أَمْرِكِ شَيْءٌ قَدْ حَرَصْتُ عَلَى أَنْ أُمِيتَهُ وَأَكْتُمَهُ فَغَلَبَنِي. فَقَالَتْ: قُلْ قَوْلًا جَمِيلًا. فَقَالَ: حَدِّثِينِي هَلْ يَنْبُتُ زَرْعٌ بِغَيْرِ بَذْرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ يَنْبُتُ شَجَرٌ بِغَيْرِ غَيْثٍ يُصِيبُهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ بِغَيْرِ ذَكَرٍ؟ قَالَتْ لَهُ: نَعَمْ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ أَنْبَتَ الزَّرْعَ يَوْمَ خَلَقَهُ بِغَيْرِ بَذْرٍ! أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الشَّجَرَ مِنْ غَيْرِ مَطَرٍ! وَأَنَّهُ جَعَلَ بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ الْغَيْثَ حَيَاةً لِلشَّجَرِ بَعْدَمَا خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ! أَوَ تَقُولُ لَنْ يَقْدِرَ اللَّهُ عَلَى أَنْ يُنْبِتَ حَتَّى يَسْتَعِينَ بِالْبَذْرِ وَالْمَطَرِ! قَالَ يُوسُفُ: لَا أَقُولُ هَكَذَا وَلَكِنِّي أَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ، إِنَّمَا يَقُولُ لِذَلِكَ كُنْ فَيَكُونُ. قَالَتْ لَهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى! قَالَ: بَلَى، فَلَمَّا قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الَّذِي بِهَا شَيْءٌ مِنَ اللَّهِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَسْأَلَهَا عَنْهُ لِمَا رَأَى مِنْ كِتْمَانِهَا لَهُ.

وَقِيلَ: إِنَّهَا خَرَجَتْ إِلَى جَانِبِ الْحُجُرَاتِ لِحَيْضٍ أَصَابَهَا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا مِنَ الْجُدْرَانِ، فَلَمَّا طَهُرَتْ إِذَا بِرَجُلٍ مَعَهَا، وَذَكَرَ الْآيَاتِ، فَلَمَّا حَمَلَتْ أَتَتْهَا خَالَتُهَا امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ لَيْلَةً تَزُورُهَا، فَلَمَّا فَتَحَتْ لَهَا الْبَابَ الْتَزَمَتْهَا، فَقَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ: إِنِّي حُبْلَى. فَقَالَتْ لَهَا مَرْيَمُ: وَأَنَا أَيْضًا حُبْلَى. قَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ: فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ. وَوَلَدَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مُدَّةِ حَمْلِهَا، فَقِيلَ: تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَهُوَ قَوْلُ النَّصَارَى، وَقِيلَ ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، فَكَانَ ذَلِكَ آيَةً أُخْرَى لِأَنَّهُ لَمْ يَعِشْ مَوْلُودٌ لِثَمَانِيَةِ أَشْهُرِ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ، وَقِيلَ: سَاعَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} [مريم: 22] عَقَبَةُ بِالْفَاءَ. فَلَمَّا أَحَسَّتْ مَرْيَمُ خَرَجَتْ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ الشَّرْقِيِّ فَأَتَتْ أَقْصَاهُ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ - وَهِيَ تُطْلِقُ مِنَ الْحَبَلِ اسْتِحْيَاءً مِنَ النَّاسِ - يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، يَعْنِي نُسِيَ ذِكْرِي وَأَثَرِي فَلَا يُرَى لِي أَثَرٌ وَلَا عَيْنٌ. قَالَتْ مَرْيَمُ: كُنْتُ إِذَا خَلَوْتُ حَدَّثَنِي عِيسَى وَحَدَّثْتُهُ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَنَا إِنْسَانٌ سَمِعْتُ تَسْبِيحَهُ فِي بَطْنِي. فَنَادَاهَا جَبْرَائِيلُ مِنْ تَحْتِهَا - أَيْ مِنْ أَسْفَلِ الْجَبَلِ - أَنْ لَا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ، أَجْرَاهُ تَحْتَهَا، فَمَنْ قَرَأَ: مِنْ تَحْتِهَا، بِكَسْرِ الْمِيمِ، جَعَلَ الْمُنَادِي جَبْرَائِيلَ، وَمَنْ فَتَحَهَا قَالَ إِنَّهُ عِيسَى، أَنْطَقَهُ اللَّهُ،

وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ، كَانَ جِذْعًا مَقْطُوعًا فَهَزَّتْهُ فَإِذَا هُوَ نَخْلَةٌ، وَقِيلَ: كَانَ مَقْطُوعًا فَلَمَّا أَجْهَدْهَا الطَّلْقُ احْتَضَنَتْهُ فَاسْتَقَامَ وَاخْضَرَّ وَأَرْطَبَ، فَقِيلَ لَهَا: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] فَهَزَّتْهُ فَتَسَاقَطَ الرُّطَبُ فَقَالَ لَهَا: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] ، وَكَانَ مَنْ صَامَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى يُمْسِيَ. فَلَمَّا وَلَدَتْهُ ذَهَبَ إِبْلِيسُ فَأَخْبَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مَرْيَمَ قَدْ وَلَدَتْ، فَأَقْبَلُوا يَشْتَدُّونَ بِدَعْوَتِهَا، فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ وَقِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ النَّجَّارَ تَرَكَهَا فِي مَغَارَةٍ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِلَى أَهْلِهَا، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا لَهَا: {يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا - يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 27 - 28] فَمَا بَالُكِ أَنْتِ؟ وَكَانَ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، كَذَا قِيلَ. قُلْتُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ إِنَّمَا هِيَ مَنْ سِبْطِ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ مِنْ نَسْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُدْعَوْنَ بِالصَّالِحِينَ، وَهَارُونُ مِنْ وَلَدِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ. قَالَتْ لَهُمْ مَا أَمَرَهَا اللَّهُ بِهِ، فَلَمَّا أَرَادُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْكَلَامِ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ، فَغَضِبُوا وَقَالُوا: لَسُخْرِيَتُهَا بِنَا أَشُدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَائِهَا. {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29] ، فَتَكَلَّمَ عِيسَى فَقَالَ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا - وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 30 - 31] . فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْعُبُودِيَّةُ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إِلَهٌ.

وَكَانَ قَوْمُهَا قَدْ أَخَذُوا الْحِجَارَةَ لِيَرْجُمُوهَا، فَلَمَّا تَكَلَّمَ ابْنُهَا تَرَكُوهَا. ثُمَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ بَعْدَهَا حَتَّى كَانَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنَ الصِّبْيَانِ، وَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: مَا أَحْبَلَهَا غَيْرُ زَكَرِيَّاءَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهَا، فَطَلَبُوهُ لِيَقْتُلُوهُ، فَفَرَّ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَدْرَكُوهُ فَقَتَلُوهُ. وَقِيلَ فِي سَبَبِ قَتْلِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا دَنَا نِفَاسُهَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا: أَنِ اخْرُجِي مِنْ أَرْضِ قَوْمِكِ فَإِنَّهُمْ إِذَا ظَفِرُوا بِكِ عَيَّرُوكِ وَقَتَلُوكِ وَوَلَدَكِ. فَاحْتَمَلَهَا يُوسُفُ النَّجَّارُ وَسَارَ بِهَا إِلَى أَرْضِ مِصْرَ، فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى تُخُومِ مِصْرَ أَدْرَكَهَا الْمَخَاضُ، فَلَمَّا وَضَعَتْ وَهِيَ مَحْزُونَةٌ قِيلَ لَهَا: لَا تَحْزَنِي الْآيَةَ إِلَى (إِنْسِيًّا) ، فَكَانَ الرُّطَبُ يَتَسَاقَطُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ فِي الشِّتَاءِ، وَأَصْبَحَتِ الْأَصْنَامُ مَنْكُوسَةً عَلَى رُءُوسِهَا، وَفَزِعَتِ الشَّيَاطِينُ فَجَاءُوا إِلَى إِبْلِيسَ، فَلَمَّا رَأَى جَمَاعَتَهُمْ سَأَلَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ حَادِثٌ، فَطَارَ عِنْدَ ذَلِكَ وَغَابَ عَنْهُمْ فَمَرَّ بِالْمَكَانِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ عِيسَى فَرَأَى الْمَلَائِكَةَ مُحْدِقِينَ فِيهِ، فَعَلِمَ أَنَّ الْحَدَثَ فِيهِ، وَلَمْ تُمَكِّنْهُ الْمَلَائِكَةُ مِنَ الدُّنُوِّ مِنْ عِيسَى، فَعَادَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَأَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ وَقَالَ لَهُمْ: مَا وَلَدَتِ امْرَأَةٌ إِلَّا وَأَنَا حَاضِرٌ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَضِلَّ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّنْ يَهْتَدِي. وَاحْتَمَلَتْهُ مَرْيَمُ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ فَمَكَثَتِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً تَكْتُمُهُ مِنَ النَّاسِ، فَكَانَتْ تَلْتَقِطُ السُّنْبُلَ وَالْمَهْدُ فِي مَنْكِبَيْهَا. قُلْتُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ فِي وِلَادَتِهِ بِأَرْضِ قَوْمِهَا لِلْقُرْآنِ أَصَحُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم: 27] ، وَقَوْلِهِ {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29] . وَقِيلَ: إِنَّ مَرْيَمَ حَمَلَتِ الْمَسِيحَ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ وِلَادَتِهِ وَمَعَهَا يُوسُفُ النَّجَّارُ، وَهِيَ الرَّبْوَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ: الرَّبْوَةُ دِمَشْقُ، وَقِيلَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، فَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ الْخَوْفَ مِنْ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ مِنَ الرُّومِ، وَاسْمُهُ

هِيرُودَسُ، فَإِنَّ الْيَهُودَ أَغْرَوْهُ بِقَتْلِهِ، فَسَارُوا إِلَى مِصْرَ وَأَقَامُوا بِهَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَى أَنْ مَاتَ ذَلِكَ الْمَلِكُ، وَعَادُوا إِلَى الشَّامِ، وَقِيلَ: إِنَّ هِيرُودَسُ لَمْ يُرِدْ قَتْلَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ رَفْعِهِ، وَإِنَّمَا خَافُوا الْيَهُودَ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ وَبَعْضِ مُعْجِزَاتِهِ لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ بِمِصْرَ نَزَلَتْ عَلَى دِهْقَانَ، وَكَانَتْ دَارُهُ يَأْوِي إِلَيْهَا الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، فَسُرِقَ لَهُ مَالٌ، فَلَمْ يَتَّهِمِ الْمَسَاكِينَ، فَحَزِنَتْ مَرْيَمُ فَلَمَّا رَأَى عِيسَى حُزْنَ أُمِّهِ قَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ أَدُلَّهُ عَلَى مَالِهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّهُ أَخْذَهُ الْأَعْمَى وَالْمُقْعَدُ، اشْتَرَكَا فِيهِ، حَمَلَ الْأَعْمَى الْمُقْعَدَ فَأَخَذَهُ، فَقِيلَ لِلْأَعْمَى لِيَحْمِلَ الْمُقْعَدَ، فَأَظْهَرَ الْعَجْزَ، فَقَالَ لَهُ الْمَسِيحُ: كَيْفَ قَوِيتَ عَلَى حَمْلِهِ الْبَارِحَةَ لَمَّا أَخَذْتُمَا الْمَالَ؟ فَاعْتَرَفَا وَأَعَادَاهُ. وَنَزَلَ بِالدِّهْقَانِ أَضْيَافٌ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَرَابٌ، فَاهْتَمَّ لِذَلِكَ، فَلَمَّا رَآهُ عِيسَى دَخَلَ بَيْتًا لِلدِّهْقَانِ فِيهِ صَفَّانِ مِنْ جِرَارٍ فَأَمَرَّ عِيسَى يَدَهُ عَلَى أَفْوَاهِهَا وَهُوَ يَمْشِي، فَامْتَلَأَتْ شَرَابًا، وَعُمُرُهُ حِينَئِذٍ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً. وَكَانَ فِي الْكُتَّابِ يُحَدِّثُ الصِّبْيَانَ بِمَا يَصْنَعُ أَهْلُوهُمْ وَبِمَا كَانُوا يَأْكُلُونَ. قَالَ وَهْبٌ: بَيْنَمَا عِيسَى يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ إِذْ وَثَبَ غُلَامٌ عَلَى صَبِيٍّ فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ فَقَتَلَهُ فَأَلْقَاهُ بَيْنَ رِجْلَيِ الْمَسِيحِ مُتَلَطِّخًا بِالدَّمِ، فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ فَقَالُوا: قَتَلَ صَبِيًّا، فَسَأَلَهُ الْحَاكِمُ، فَقَالَ: مَا قَتَلْتُهُ. فَأَرَادُوا أَنْ يَبْطِشُوا بِهِ، فَقَالَ: إِيتُونِي بِالصَّبِيِّ حَتَّى أَسْأَلَهُ مَنْ قَتَلَهُ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ قَوْلِهِ، وَأَحْضَرُوا عِنْدَهُ الْقَتِيلَ، فَدَعَا اللَّهَ فَأَحْيَاهُ، فَقَالَ: مَنْ قَتَلَكَ؟ فَقَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ، يَعْنِي الَّذِي قَتَلَهُ. فَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِلْقَتِيلِ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ مَاتَ الْغُلَامُ مِنْ سَاعَتِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: سَلَّمَتْ مَرْيَمُ عِيسَى إِلَى صَبَّاغٍ يَتَعَلَّمُ عِنْدَهُ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَ الصَّبَّاغِ ثِيَابٌ

وَعَرَضَ لَهُ حَاجَةٌ، فَقَالَ لِلْمَسِيحِ: هَذِهِ ثِيَابٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ وَقَدْ جَعَلْتُ فِي كُلِّ ثَوْبٍ مِنْهَا خَيْطًا عَلَى اللَّوْنِ الَّذِي يُصْبَغُ بِهِ فَاصْبُغْهَا حَتَّى أَعُودَ مِنْ حَاجَتِي هَذِهِ. فَأَخَذَهَا الْمَسِيحُ وَأَلْقَاهَا فِي جُبٍّ وَاحِدٍ، فَلَمَّا عَادَ الصَّبَّاغُ سَأَلَهُ عَنِ الثِّيَابِ فَقَالَ: صَبَغْتُهَا. فَقَالَ: أَيْنَ هِيَ؟ قَالَ: فِي هَذَا الْجُبِّ، فَقَالَ: كُلُّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَقَدْ أَفْسَدْتَهَا عَلَى أَصْحَابِهَا! وَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَسِيحُ: لَا تَعْجَلْ وَانْظُرْ إِلَيْهَا، وَقَامَ وَأَخْرَجَهَا كُلُّ ثَوْبٍ مِنْهَا عَلَى اللَّوْنِ الَّذِي أَرَادَ صَاحِبُهُ، فَتَعَجَّبَ الصَّبَّاغُ مِنْهُ وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا عَادَ عِيسَى وَأُمُّهُ إِلَى الشَّامِ نَزَلَا بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةُ، وَبِهَا سُمِّيَتِ النَّصَارَى، فَأَقَامَ إِلَى أَنْ بَلَغَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَبْرُزَ لِلنَّاسِ وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيُدَاوِيَ الْمَرْضَى وَالزَّمْنَى وَالْأَبْرَصَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْمَرْضَى، فَفَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَأَحَبَّهُ النَّاسُ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ وَعَلَا ذِكْرُهُ. وَحَضَرَ يَوْمًا طَعَامَ بَعْضِ الْمُلُوكِ كَانَ دَعَا النَّاسَ إِلَيْهِ، فَقَعَدَ عَلَى قَصْعَةٍ يَأْكُلُ مِنْهَا وَلَا تَنْقُصُ، فَقَالَ الْمَلِكُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. فَنَزَلَ الْمَلِكُ عَنْ مُلْكِهِ وَاتَّبَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَانُوا الْحَوَارِيِّينَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْحَوَارِيِّينَ هُمُ الصَّبَّاغُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَأَصْحَابٌ لَهُ، وَقِيلَ: كَانُوا صَيَّادِينَ، وَقِيلَ: قَصَّارِينَ، وَقِيلَ: مَلَّاحِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَتْ عِدَّتُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَكَانُوا إِذَا جَاعُوا أَوْ عَطِشُوا قَالُوا: يَا رُوحَ اللَّهِ قَدْ جُعْنَا وَعَطِشْنَا، فَيَضْرِبُ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ فَيَخْرُجُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ رَغِيفَيْنِ وَمَا يَشْرَبُونَ. فَقَالُوا: مَنْ أَفْضَلُ مِنَّا، إِذَا شِئْنَا أَطْعَمْتَنَا وَسَقَيْتَنَا! فَقَالَ: أَفْضَلُ مِنْكُمْ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ، فَصَارُوا يَغْسِلُونَ الثِّيَابَ بِالْأُجْرَةِ. وَلَمَّا أَرْسَلَهُ اللَّهُ أَظْهَرَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أَنَّهُ صَوَّرَ مِنْ طِينٍ صُورَةَ طَائِرٍ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ

فَيَصِيرُ طَائِرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقِيلَ هُوَ الْخُفَّاشُ. وَكَانَ غَالِبًا عَلَى زَمَانِهِ الطِّبُّ فَأَتَاهُمْ بِمَا أَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأَحْيَا الْمَوْتَى تَعْجِيزًا لَهُمْ، فَمِمَّنْ أَحْيَاهُ " عَازَرُ "، وَكَانَ صَدِيقًا لِعِيسَى، فَمَرِضَ، فَأَرْسَلَتْ أُخْتُهُ إِلَى عِيسَى أَنَّ عَازَرَ يَمُوتُ، فَسَارَ إِلَيْهِ وَبَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَوَصَلَ وَقَدْ مَاتَ مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَأَتَى قَبْرَهُ فَدَعَا لَهُ فَعَاشَ، وَبَقِيَ حَتَّى وُلِدَ لَهُ. وَأَحْيَا امْرَأَةً وَعَاشَتْ وَوَلَدَ لَهَا. وَأَحْيَا سَامَ بْنَ نُوحٍ، كَانَ يَوْمًا مَعَ الْحَوَارِيِّينَ يَذْكُرُ نُوحًا وَالْغَرَقَ وَالسَّفِينَةَ فَقَالُوا: لَوْ بَعَثْتَ لَنَا مَنْ شَهِدَ ذَلِكَ! فَأَتَى تَلًّا وَقَالَ: هَذَا قَبْرُ سَامِ بْنِ نُوحٍ، ثُمَّ دَعَا اللَّهَ فَعَاشَ، وَقَالَ: قَدْ قَامَتِ الْقِيَامَةُ؟ فَقَالَ الْمَسِيحُ: لَا وَلَكِنْ دَعَوْتُ اللَّهَ فَأَحْيَاكَ، فَسَأَلُوهُ، فَأَخْبَرَهُمْ، ثُمَّ عَادَ مَيِّتًا. وَأَحْيَا عُزَيْرًا النَّبِيَّ، قَالَ لَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ: أَحْيِ لَنَا عُزَيْرًا وَإِلَّا أَحْرَقْنَاكَ. فَدَعَا اللَّهَ فَعَاشَ، فَقَالُوا: مَا تَشْهَدُ لِهَذَا الرَّجُلِ؟ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. وَأَحْيَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ. وَكَانَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ. ذِكْرُ نُزُولِ الْمَائِدَةِ وَكَانَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةِ نُزُولُ الْمَائِدَةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ قَالُوا لَهُ: يَا عِيسَى {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112] فَدَعَا عِيسَى فَقَالَ: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114] فَأَنْزَلَ اللَّهُ الَمَّائِدَةَ عَلَيْهَا خُبْزٌ وَلَحْمٌ يَأْكُلُونَ مِنْهَا وَلَا تَنْفَدُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهَا مُقِيمَةٌ مَا لَمْ تَدَّخِرُوا مِنْهَا. فَمَا مَضَى يَوْمُهُمْ حَتَّى ادَّخَرُوا.

وَقِيلَ: أَقْبَلَتِ الْمَلَائِكَةُ تَحْمِلُ الْمَائِدَةَ عَلَيْهَا سَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَبْعَةُ أَحْوَاتٍ حَتَّى وَضَعُوهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَأَكَلَ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كَمَا أَكَلَ أَوَّلُهُمْ، وَقِيلَ: كَانَ عَلَيْهَا مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: كَانَتْ تُمَدُّ بِكُلِّ طَعَامٍ إِلَّا اللَّحْمَ، وَقِيلَ: كَانَتْ سَمَكَةً فِيهَا طَعْمُ كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا أَكَلُوا مِنْهَا، وَهُمْ خَمْسَةُ آلَافٍ، وَزَادَتْ حَتَّى بَلَغَ الطَّعَامُ رُكَبَهُمْ، قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ. فَكَذَّبَ بِهِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهُ، وَقَالُوا: سَحَرَ أَعْيُنَكُمْ، فَافْتَتَنَ بَعْضُهُمْ وَكَفَرَ، فَمُسِخُوا خَنَازِيرَ لَيْسَ فِيهِمُ امْرَأَةٌ وَلَا صَبِيٌّ، فَبَقُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ هَلَكُوا وَلَمْ يَتَوَالَدُوا. وَقِيلَ: كَانَتِ الَمَّائِدَةُ سُفْرَةً حَمْرَاءَ تَحْتَهَا غَمَامَةٌ وَفَوْقَهَا غَمَامَةٌ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا تَنْزِلُ حَتَّى سَقَطَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَبَكَى عِيسَى وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الشَّاكِرِينَ! اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً وَلَا تَجْعَلْهَا مُثْلَةً وَلَا عُقُوبَةً! وَالْيَهُودُ يَنْظُرُونَ إِلَى شَيْءٍ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ وَلَمْ يَجِدُوا رِيحًا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِهَا. فَقَالَ شَمْعُونُ: يَا رُوحَ اللَّهِ، أَمِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا أَمْ مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ الْمَسِيحُ: لَا مِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا وَلَا مِنْ طَعَامِ الْآخِرَةِ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ خَلَقَهُ اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ. فَقَالَ لَهُمْ: كُلُوا مِمَّا سَأَلْتُمْ. فَقَالُوا لَهُ: كُلْ أَنْتَ يَا رُوحُ. فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ آكُلَ مِنْهَا! فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَأْكُلُوا مِنْهَا، فَدَعَا الْمَرْضَى، وَالزَّمْنَى، وَالْفُقَرَاءَ، فَأَكَلُوا مِنْهَا، وَهُمْ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ، فَشَبِعُوا، وَهِيَ بِحَالِهَا لَمْ تَنْقُصْ، فَصَحَّ الْمَرْضَى، وَالزَّمْنَى، وَاسْتَغْنَى الْفُقَرَاءُ، ثُمَّ صَعِدَتْ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا حَتَّى تَوَارَتْ، وَنَدِمَ الْحَوَارِيُّونَ حَيْثُ لَمْ يَأْكُلُوا مِنْهَا. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، كَانَتْ تَنْزِلُ يَوْمًا وَتَنْقَطِعُ يَوْمًا، وَأَمَرَ اللَّهُ عِيسَى أَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهَا الْفُقَرَاءَ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَاشْتَدَّ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَجَحَدُوا نُزُولَهَا وَشَكُّوا فِي ذَلِكَ وَشَكَّكُوا غَيْرَهُمْ فِيهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي شَرَطْتُ أَنْ أُعَذِّبَ الْمُكَذِّبِينَ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُ بِهِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَمَسَخَ مِنْهُمْ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا فَأَصْبَحُوا خَنَازِيرَ. فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ فَزِعُوا إِلَى عِيسَى وَبَكَوْا، وَبَكَى عِيسَى عَلَى الْمَمْسُوخِينَ. فَلَمَّا أَبْصَرَتِ الْخَنَازِيرُ عِيسَى بَكَوْا وَطَافُوا وَهُوَ يَدْعُوهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَيُشِيرُونَ

بِرُءُوسِهِمْ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْكَلَامِ، فَعَاشُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ هَلَكُوا. ذِكْرُ رَفْعِ الْمَسِيحِ إِلَى السَّمَاءِ وَنُزُولِهِ إِلَى أُمِّهِ وَعَوْدِهِ إِلَى السَّمَاءِ قِيلَ: إِنَّ عِيسَى اسْتَقْبَلَهُ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: قَدْ جَاءَ السَّاحِرُ ابْنُ السَّاحِرَةِ الْفَاعِلُ ابْنُ الْفَاعِلَةِ! وَقَذَفُوهُ وَأُمَّهُ، فَسَمِعَ ذَلِكَ وَدَعَا عَلَيْهِمْ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَمَسْخَهُمْ خَنَازِيرَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَأْسُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَزِعَ وَخَافَ وَجَمَعَ كَلِمَةَ الْيَهُودِ عَلَى قَتْلِهِ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُكُمْ، فَغَضِبُوا مِنْ مَقَالَتِهِ، وَثَارُوا إِلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَبْرَائِيلَ فَأَدْخَلَهُ فِي خَوْخَةٍ إِلَى بَيْتٍ فِيهَا رَوْزَنَةٌ فِي سَقْفِهَا فَرَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ تِلْكَ الرَّوْزَنَةِ، فَأَمَرَ رَأْسُ الْيَهُودِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ اسْمُهُ " قَطِيبَانُوسُ " أَنْ يَدْخُلَ إِلَيْهِ فَيَقْتُلَهُ. فَدَخَلَ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا، وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ شَبَحَ الْمَسِيحِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَظَنُّوهُ عِيسَى، فَقَتَلُوهُ، وَصَلَبُوهُ. وَقِيلَ: إِنَّ عِيسَى قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَيُّكُمْ يُرِيدُ أَنْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي وَهُوَ مَقْتُولٌ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَنَا يَا رُوحَ اللَّهِ. فَأُلْقِي عَلَيْهِ شَبَهُهُ، فَقُتِلَ وَصُلِبَ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي شُبِّهَ بِعِيسَى وَصُلِبَ رَجُلٌ إِسْرَائِيلِيٌّ اسْمُهُ يُوشَعُ أَيْضًا. وَقِيلَ: لَمَّا أَعْلَمَ اللَّهُ الْمَسِيحَ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الدُّنْيَا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ فَدَعَا الْحَوَارِيِّينَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا فَقَالَ: احْضُرُونِي اللَّيْلَةَ فَإِنَّ لِي إِلَيْكُمْ حَاجَةً. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عَشَّاهُمْ، وَقَامَ يَخْدُمُهُمْ. فَلَمَّا فَرَغُوا أَخَذَ يَغْسِلُ أَيْدِيَهُمْ بِيَدِهِ وَيَمْسَحُهَا بِثِيَابِهِ، فَتَعَاظَمُوا ذَلِكَ وَكَرِهُوا. فَقَالَ: مَنْ يَرُدُّ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ شَيْئًا مِمَّا أَصْنَعُ فَلَيْسَ مِنِّي، فَأَقَرُّوهُ حَتَّى فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا مَا خَدَمْتُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ وَغَسَلْتُ بِيَدَيَّ فَلْيَكُنْ لَكُمْ بِي أُسْوَةٌ فَلَا يَتَعَاظَمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَمَّا حَاجَتِيَ الَّتِي أَسْتَغِيثُكُمْ عَلَيْهَا فَتَدْعُونَ اللَّهَ

لِي وَتَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يُؤَخِّرَ أَجَلِي. فَلَمَّا نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلدُّعَاءِ أَخَذَهُمُ النَّوْمُ حَتَّى مَا يَسْتَطِيعُونَ الدُّعَاءَ، فَجَعَلَ يُوقِظُهُمْ وَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَصْبِرُونَ لِي لَيْلَةً! قَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي مَا لَنَا، لَقَدْ كُنَّا نَسْمَرُ فَنُكْثِرُ السَّمَرَ، وَمَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ، وَكُلَمَّا أَرَدْنَا الدُّعَاءَ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. فَقَالَ: يُذْهَبُ بِالرَّاعِي وَيَتَفَرَّقُ الْغَنَمُ، وَجَعَلَ يَنْعَى نَفْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَيَكْفُرَنَّ بِي أَحَدُكُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَيَبِيعَنِّي أَحَدُكُمْ بِدَرَاهِمَ يَسِيرَةٍ وَلَيَأْكُلَنَّ ثَمَنِي. فَخَرَجُوا وَتَفَرَّقُوا، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَطْلُبُهُ، فَأَخَذُوا شَمْعُونَ، أَحَدَ الْحَوَارِيِّينَ، وَقَالُوا: هَذَا صَاحِبُهُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَوْتِهِ قَبْلَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَقِيلَ: رُفِعَ وَلَمْ يَمُتْ، وَقِيلَ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ وَقِيلَ سَبْعَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ أَحْيَاهُ وَرَفَعَهُ، وَلَمَّا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ اللَّهُ لَهُ: انْزِلْ، فَلَمَّا قَالُوا لِشْمَعُونَ عَنِ الْمَسِيحِ جَحَدَ، وَقَالَ: مَا أَنَا بِصَاحِبِهِ! فَتَرَكُوهُ. فَعَلُوا ذَلِكَ ثَلَاثًا. فَلَمَّا سَمِعَ صِيَاحَ الدِّيكِ بَكَى وَأَحْزَنَهُ ذَلِكَ. وَأَتَى أَحَدُ الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْيَهُودِ فَدَلَّهُمْ عَلَى الْمَسِيحِ، وَأَعْطَوْهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَأَتَى مَعَهُمْ إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ الْمَسِيحُ، فَدَخَلَهُ، فَرَفَعَ اللَّهُ الْمَسِيحَ، وَأَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى الَّذِي دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، فَأَخَذُوهُ، وَأَوْثَقُوهُ، وَقَادُوهُ، وَهُمْ يَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ كُنْتَ تُحْيِي الْمَوْتَى، وَتَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فَهَلَّا تُنْجِي نَفْسَكَ؟ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي أَدُلُّكُمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُصْغُوا إِلَى قَوْلِهِ، وَوَصَلُوا بِهِ إِلَى الْخَشَبَةِ وَصَلَبُوهُ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ لَمَّا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ الْحَوَارِيُّ اتَّبَعُوهُ، وَأَخَذُوهُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ لِيَصْلُبُوهُ، فَأَظْلَمَتِ الْأَرْضُ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ مَلَائِكَةً فَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَأَلْقَى شَبَهَ الْمَسِيحِ عَلَى الَّذِي دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، فَأَخَذُوهُ لِيَصْلُبُوهُ، فَقَالَ: أَنَا الَّذِي دَلَّكُمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ عَلَيْهَا. وَرَفَعَ اللَّهُ الْمَسِيحَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ تَوَفَّاهُ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ،

وَقِيلَ: سَبْعَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ أَحْيَاهُ وَرَفَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: انْزِلْ إِلَى مَرْيَمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْكِ عَلَيْكَ أَحَدٌ بُكَاءَهَا وَلَمْ يَحْزَنْ أَحَدٌ حُزْنَهَا. فَنَزَلَ عَلَيْهَا بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، فَاشْتَعَلَ الْجَبَلُ حِينَ هَبَطَ نُورًا، وَهِيَ عِنْدَ الْمَصْلُوبِ تَبْكِي وَمَعَهَا امْرَأَةٌ كَانَ أَبْرَأَهَا مِنَ الْجُنُونِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمَا تَبْكِيَانِ؟ قَالَتَا: عَلَيْكَ! قَالَ: إِنِّي رَفَعَنِي اللَّهُ إِلَيْهِ وَلَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خَيْرٌ، وَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ شُبِّهَ لَهُمْ، وَأَمَرَهَا فَجَمَعَتْ لَهُ الْحَوَارِيِّينَ، فَبَثَّهُمْ فِي الْأَرْضِ رُسُلًا عَنِ اللَّهِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُبَلِّغُوا عَنْهُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَأَكْسَاهُ الرِّيشَ، وَأَلْبَسَهُ النُّورَ، وَقَطَعَ عَنْهُ لَذَّةَ الْمَطْعَمِ، وَالْمَشْرَبِ، وَطَارَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ مَعَهُمْ، فَصَارَ إِنْسِيًّا مَلَكِيًّا سَمَاوِيًّا أَرْضِيًّا. فَتَفَرَّقَ الْحَوَارِيُّونَ حَيْثُ أَمَرَهُمْ، فَتِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتِي أَهْبَطَهُ اللَّهُ فِيهَا هِيَ الَّتِي تُدَخِّنُ فِيهَا النَّصَارَى. وَتَعَدَّى الْيَهُودُ عَلَى بَقِيَّةِ الْحَوَارِيِّينَ يُعَذِّبُونَهُمْ وَيَشْتُمُونَهُمْ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ مَلِكُ الرُّومِ، وَاسْمُهُ " هِيرُودَسُ "، وَكَانُوا تَحْتَ يَدِهِ، وَكَانَ صَاحِبَ وَثَنٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رَجُلًا كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ يَفْعَلُ الْآيَاتِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَخَلْقِ الطَّيْرِ مِنَ الطِّينِ وَالْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ فَعَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ الْمَلِكُ: وَيْحَكُمْ مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا هَذَا مِنْ أَمْرِهِ، فَوَاللَّهِ لَوْ عَلِمْتُ مَا خَلَّيْتُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ! ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ فَانْتَزَعَهُمْ مِنْ أَيْدِي الْيَهُودِ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ دِينِ عِيسَى، فَأَخْبَرُوهُ، وَتَابَعَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَاسْتَنْزَلَ الْمَصْلُوبَ الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ فَغَيَّبَهُ، وَأَخَذَ الْخَشَبَةَ الَّتِي صُلِبَ عَلَيْهَا فَأَكْرَمَهَا، وَصَانَهَا وَعَدَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ قَتْلَى كَثِيرَةً، فَمِنْ هُنَاكَ كَانَ أَصْلُ النَّصْرَانِيَّةِ فِي الرُّومِ. وَقِيلَ: كَانَ هَذَا الْمَلِكُ هِيرُودَسُ يَنُوبُ عَنِ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ الْمُلَقَّبِ قَيْصَرَ، وَاسْمُهُ طِيبَارِيُوسُ، وَكَانَ هَذَا أَيْضًا يُسَمَّى مَلِكًا. وَكَانَ مُلْكُ طِيبَارِيُوسَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، مِنْهَا إِلَى ارْتِفَاعِ الْمَسِيحِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَيَّامٌ.

ذكر من ملك من الروم بعد رفع المسيح إلى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

[ذِكْرُ مَنْ مَلَكَ مِنَ الرُّومِ بَعْدَ رَفْعِ الْمَسِيحِ إِلَى عَهْدِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] زَعَمُوا أَنَّ مُلْكَ الشَّامِ جَمِيعِهِ صَارَ بَعْدَ طِيبَارِيُوسَ إِلَى وَلَدِهِ جَايُوسَ وَكَانَ مُلْكُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنٌ لَهُ آخَرُ اسْمُهُ قُلُودِيُوسُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ نِيرُونُ الَّذِي قَتَلَ بُطْرَسَ وَبُولُسَ فَصَلَبَهُمَا مُنَكَّسَيْنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ بُوطِلَايِسُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ إِسْفِسْيَانُوسُ، وَهَذَا الَّذِي وَجَّهَ ابْنَهُ طِيطُوسَ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ فَهَدَمَهُ وَقَتَلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَضَبًا لِلْمَسِيحِ، ثُمَّ مَلَكَ ابْنُهُ طِيطُوسُ، ثُمَّ مَلَكَ أَخُوهُ دُومِطْيَانُوسُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً.

ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ نَارُوَاسُ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ مِنْ بَعْدِهِ طَرَايَانُوسُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ هِدْرِيَانُوسُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ مِنْ بَعْدِهِ أَنْطُونِينُوسُ بْنُ بِطْيَانُوسَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ مَرْقُوسُ وَأَوْلَادُهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ قُومُودُوسُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ مِنْ بَعْدِهِ فَرْطِينَاجُوسُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ سِيوَارُوشُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ أَنْطِينَاوُسُ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ مِنْ بَعْدِهِ مَرْقِيَانُوسُ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ مِنْ بَعْدِهِ أَنْطِينَانُوسُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَفِي مُلْكِهِ مَاتَ جَالِينُوسُ الطَّبِيبُ.

ثُمَّ مَلَكَ الْخَسَنْدَرُوسُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ مَكْسِيمَانُوسُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ جُورْدِيَانُوسُ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ فَيْلُفُوسُ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ دَاقِيوُسُ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ قَالُوسُ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ وَالَرِيبَانُوسُ وَقَالِينُوسُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ قُلُودِيُوسُ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ قِرِيطَالِيُوسُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ مَلَكَ أُورِلْيَانُوسُ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ طِيقُطُوسُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مَلَكَ فُولُورُنُوسُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ مَلَكَ فُرُوبُوسُ سِتَّ سِنِينَ.

ثُمَّ مَلَكَ دِقْلَطْيَانُوسُ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ مَخْسِيمِيَانُوسُ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ قُسْطَنْطِينُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ يُلْيَانُوسُ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ مَلَكَ يُويَانُوسُ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ وَالِنْطِيَانُوسُ وَغِرْطِيَانُوسُ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ خِرْطِيَانُوسُ وَوَالِنْطِيَانُوسُ الصَّغِيرُ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ تِيَادَاسِيسُ الْأَكْبَرُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ أُرْقَادِيُوسُ وَأَنُورْيُوسُ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ تِيَادَاسِيسُ الْأَصْغَرُ وَوَالِنْطِيَانُوسُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ مُرْقِيَانُوسُ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ لَاوْ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ زَانُونُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ أَنِسْطَاسُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ يُوسْطِنْيَانُوسُ تِسْعَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ يُوسْطِنْيَانُوسُ الشَّيْخُ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ يُوسْطِينَسُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ طِيبَارِيُوسُ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ مَرِيقِيشُ وَتَادَاسِيسُ ابْنُهُ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ فَوْقَا الَّذِي قُتِلَ سَبْعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ هِرَقْلُ الَّذِي كَتَبَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ سِنِينَ. فَمِنْ لَدُنْ عُمِّرَ الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ بَعْدَ أَنْ أَخْرَبَهُ بُخْتُنَصَّرُ إِلَى الْهِجْرَةِ، عَلَى قَوْلِهِمْ،

أَلْفُ سَنَةٍ وَنَيِّفٌ، وَمِنْ مُلْكِ الْإِسْكَنْدَرِ إِلَيْهَا تِسْعُمِائَةٍ وَنَيِّفٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَمِنْ ذَلِكَ مِنْ وَقْتِ ظُهُورِهِ إِلَى مَوْلِدِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ وَثَلَاثُ سِنِينَ، وَمِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى ارْتِفَاعِهِ اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَمِنْ وَقْتِ ارْتِفَاعِهِ اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَمِنْ وَقْتِ ارْتِفَاعِهِ إِلَى الْهِجْرَةِ خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَأَشْهُرٌ. هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ عَدَدِ مُلُوكِ الرُّومِ، وَقَدْ أَخْلَى ذِكْرَهُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَيَّامِهِمْ، وَقَدْ سَطَّرَهَا غَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالتَّارِيخِ وَخَالَفَهُ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا وَوَافَقَهُ فِي الْبَاقِي مَعَ مُخَالَفَةِ الِاسْمِ وَأَضَافَ إِلَى أَسْمَائِهِمْ ذِكْرَ شَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي أَيَّامِهِمْ، وَأَنَا أَذْكُرُهُ مُخْتَصَرًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ذكر ملوك الروم وهم ثلاث طبقات، فالطبقة الأولى الصابئون

[ذِكْرُ مُلُوكِ الرُّومِ وَهُمْ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ، فَالطَّبَقَةُ الْأُولَى الصَّابِئُونَ] ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ أَنَّ الرُّومَ غَلَبَتِ الْيُونَانَ، وَهُمْ وَلَدُ صُوفِيرَ، وَالْإِسْرَائِيلِيُّونَ يَدَّعُونَ أَنَّ صُوفِيرَ هُوَ الْأَصْفَرُ بْنُ نَفَرِ بْنِ عِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانُوا يُنْزِلُونَ رُومِيَّةَ قَبْلَ غَلَبَتِهِمْ عَلَى الْيُونَانِ، وَكَانُوا يَدِينُونَ قَبْلَ النَّصْرَانِيَّةِ بِمَذْهَبِ الصَّابِئِينَ، وَلَهُمْ أَصْنَامٌ يَعْبُدُونَهَا عَلَى عَادَةِ الصَّابِئِينَ. فَكَانَ أَوَّلَ مُلُوكِهِمْ بِرُومِيَّةَ غَالِيُوسُ، وَكَانَ مُلْكُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: كَانَ مَلَكَ قَبْلَهُ رُومَلْسُ وَأَرْمَانُوسُ، وَهُمَا بَنَيَاهَا، وَإِلَيْهِمَا نُسِبَتْ، وَأُضِيفَ الرُّومُ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا غَالِيُوسُ أَوَّلُ مَنْ يُعَدُّ فِي التَّارِيخِ لِشُهْرَتِهِ، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ يُولْيُوسُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مَلَكَ أُوغُسْطُسُ، وَمَعْنَاهُ الصِّبَاءُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ قَيْصَرَ. وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ شُقَّ عَنْهُ بَطْنُ أُمِّهِ لِأَنَّهَا مَاتَتْ وَهِيَ حَامِلٌ بِهِ، فَأُخْرِجَ مِنْ بَطْنِهَا، ثُمَّ صَارَ ذَلِكَ لَقَبًا لِمُلُوكِهِمْ، وَكَانَ مُلْكُهُ سِتًّا وَخَمْسِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَأَكْثَرُ الْمُؤَرِّخِينَ يَبْتَدِئُونَ بِاسْمِهِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَرَجَ مِنْ رُومِيَّةَ وَسَيَّرَ الْجُنُودَ بَرًّا وَبَحْرًا، وَغَزَا الْيُونَانِيِّينَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى مُلْكِهِمْ، وَقَتَلَ قُلُوبَطْرَةَ آخِرَ مُلُوكِهِمْ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَنَقَلَ مَا فِيهَا إِلَى رُومِيَّةَ، وَمَلَكَ الشَّامَ، وَاضْمَحَلَّ مُلْكُ الْيُونَانِيِّينَ، وَدَخَلُوا فِي الرُّومِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ هِيرُودَسَ بْنَ أَنْطِيقُوسَ، وَلِاثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ مُلْكِهِ كَانَتْ وِلَادَةُ الْمَسِيحِ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى قَيْصَارِيَّةَ.

ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ طِيبَارِيُوسُ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ الَّذِي بَنَى مَدِينَةَ طَبَرِيَّةَ، فَأُضِيفَتْ إِلَيْهِ، وَعَرَّبَهَا الْعَرَبُ، وَفِي مُلْكِهِ رُفِعَ الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَلَكَ بَعْدَ رَفْعِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ غَالِيُوسُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ إِصْطِفَنُوسَ رَئِيسَ الشَّمَامِسَةِ عِنْدَ النَّصَارَى وَيَعْقُوبَ أَخَا يُوحَنَّا بْنِ زَبْدِيٍّ، وَهُمَا مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنَ النَّصَارَى، وَهُوَ أَوَّلُ الْمُلُوكِ مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ قَتَلَ النَّصَارَى. ثُمَّ مَلَكَ قُلُودِيُوسُ بْنُ طِيبَارِيُوسَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِي مُلْكِهِ حُبِسَ شَمْعُونُ الصَّفَا، ثُمَّ خَلَصَ شَمْعُونُ مِنَ الْحَبْسِ وَسَارَ إِلَى أَنْطَاكِيَّةَ، فَدَعَا إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى رُومِيَّةَ فَدَعَا أَهْلَهَا أَيْضًا، فَأَجَابَتْهُ زَوْجَةُ الْمَلِكِ وَسَارَتْ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ وَأَخْرَجَتِ الْخَشَبَةَ الَّتِي تَزْعُمُ النَّصَارَى أَنَّ الْمَسِيحَ صُلِبَ عَلَيْهَا، وَكَانَتْ فِي أَيْدِي الْيَهُودِ، فَأَخَذَتْهَا وَرَدَّتْهَا إِلَى النَّصَارَى. ثُمَّ مَلَكَ نِيرُونُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَفِي آخِرِ مُلْكِهِ قَتَلَ بُطْرُسَ وَبُولُسَ بِمَدِينَةِ رُومِيَّةَ وَصَلَبَهُمَا مُنَكَّسَيْنِ، وَفِي أَيَّامِهِ ظَفِرَتِ الْيَهُودُ بِيَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، وَهُوَ أَوَّلُ الْأَسَاقِفَةِ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا خَشَبَةَ الصَّلِيبِ فَدَفَنُوهَا، وَفِي أَيَّامِهِ كَانَ مَارِينُوسُ الْحَكِيمُ صَاحِبُ كِتَابِ الْجُغْرَافِيَا فِي صُورَةِ الْأَرْضِ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ غَلْبَاسُ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مَلَكَ أُوثُونُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مَلَكَ بِيطَالِيسُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ مَلَكَ إِسْبَاسِيَانُوسُ تِسْعَ سِنِينَ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَفِي أَيَّامِهِ خَالَفَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ قَيْصَرُ فَحَصَرَهُمْ وَافْتَتَحَ الْمَدِينَةَ عَنْوَةً وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا مِنَ الْيَهُودِ

وَالنَّصَارَى وَعَمَّهُمُ الْأَذَى فِي أَيَّامِهِ. ثُمَّ مَلَكَ ابْنُهُ طِيطُوسُ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَفِي أَيَّامِهِ أَظْهَرَ مَرْقِيُونُ مَقَالَتَهُ بِالِاثْنَيْنِ، وَهُمَا: الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَبُعْدٌ ثَالِثٌ بَيْنَهُمَا، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْمَرْقُونِيَّةُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ. ثُمَّ مَلَكَ ذُومَطْيَانُشُ بْنُ إِسْبَاسِيَانُوسَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ، وَلِتِسْعِ سِنِينَ مِنْ مُلْكِهِ نَفَى يُوحَنَّا الْحَوَارِيَّ كَاتِبَ الْإِنْجِيلِ إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ ثُمَّ رَدَّهُ. ثُمَّ مَلَكَ نَرْوَاسُ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ مَلَكَ طَرَايَانُوسُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِي السَّادِسَةِ مِنْ مُلْكِهِ تُوُفِّيَ يُوحَنَّا كَاتِبُ الْإِنْجِيلِ بِمَدِينَةِ أَفَسَيِسَ. ثُمَّ مَلَكَ إِيلِيَا أَنْدَرْيَانُوسُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَقَتَلَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى خَلْقًا كَثِيرًا لِخِلَافٍ كَانَ مِنْهُمْ عَلَيْهِ، وَأَخْرَبَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، وَهُوَ آخِرُ خَرَابِهِ، فَلَمَّا مَضَى مِنْ مُلْكِهِ ثَمَانِي سِنِينَ عَمَّرَهُ أَيْضًا وَسَمَّاهُ إِيلِيَا، فَبَقِيَ الِاسْمُ عَلَيْهِ فَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُسَمَّى أُورْشَلْمَ، وَأَسْكَنَ الْمَدِينَةَ جَمَاعَةً مِنَ الرُّومِ وَالْيُونَانِ، وَبَنَى هَيْكَلًا عَظِيمًا لِلزُّهْرَةِ، وَكَانَ عَالِيَ الْبُنْيَانِ، فَهُدِمَ مِنْ أَعْلَاهُ كَثِيرٌ. وَهُوَ بَاقٍ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَهُوَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ، وَهُوَ مُحْكَمُ الْبِنَاءِ، وَلَا أَدْرِي كَيْفَ نُسِبَ إِلَى دَاوُدَ وَقَدْ بُنِيَ بَعْدَهُ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ، عَلَى أَنَّنِي سَمِعْتُ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ مِنْ جَمَاعَةٍ يَذْكُرُونَ أَنَّ دَاوُدَ بَنَاهُ وَكَانَ يَتَفَرَّغُ فِيهِ لِعِبَادَتِهِ. وَفِي أَيَّامِ هَذَا الْمَلِكِ كَانَ سَاقَيْدَسُ الْفَيْلَسُوفُ الصَّامِتُ.

ثُمَّ مَلَكَ أَنْطُنْيَنْسُ بِيُوسُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَفِي أَيَّامِهِ كَانَ بَطْلَيْمُوسُ صَاحِبُ الْمَجِسْطِي وَالْجُغْرَافِيَا وَغَيْرِهِمَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ وَلَدِ قُلُودِيُوسَ، وَلِهَذَا قِيلَ لَهُ الْقُلُودِيُّ نِسْبَةً إِلَيْهِ، وَهُوَ السَّادِسُ مِنْ مُلُوكِ الرُّومِ. وَدَلِيلُ كَوْنِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَلَيْسَ مِنْ مُلُوكِ الْيُونَانِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْمَجِسْطِي أَنَّهُ رَصَدَ الشَّمْسَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ سَنَةَ ثَمَانِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ لِبُخْتُنَصَّرَ، وَكَانَ مِنْ مُلْكِ بُخْتُنَصَّرَ إِلَى قَتْلِ دَارَا أَرْبَعُمِائَةٍ وَتِسْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَمِنْ قَتْلِ دَارَا إِلَى زَوَالِ مُلْكِ قُلُوبَطْرَةَ الْمَلِكَةِ آخِرِ مُلُوكِ الْيُونَانِ عَلَى يَدِ أُوغُسْطُسَ مِائَتَا سَنَةٍ وَسِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَمُذْ غَلَبَةِ أُوغُسْطُسَ إِلَى أَنْطُنِينُوسَ مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، فَمُذْ مَلَكَ بُخْتُنَصَّرُ إِلَى أَدْرِيَانُوسَ ثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً تَقْرِيبًا، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا حَكَاهُ بَطْلَيْمُوسُ. قَالَ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ ابْنَ قُلُوبَطْرَةَ آخِرِ مُلُوكِ الْيُونَانِيِّينَ فَقَدْ أَبْطَلَ ذِكْرَ هَذَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالتَّارِيخِ وَعَدَّ مُلُوكَ الْيُونَانِ وَذَكَرَ مُدَّةَ مُلْكِهِمْ عَلَى مَا قَالَ، وَأَمَّا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي مُدَّةِ مُلْكِهِمْ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَسَبْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ مُرْقُسُ، وَيُسَمَّى أُورُلْيُوسَ، تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِي مُلْكِهِ أَظْهَرَ ابْنُ دِيصَانَ مَقَالَتَهُ، وَكَانَ أُسْقُفًا بِالرُّهَاءِ، وَهُوَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالِاثْنَيْنِ، وَنُسِبَ إِلَى نَهْرٍ عَلَى بَابِ الرُّهَاءِ يُسَمَّى دِيصَانَ وُجِدَ عَلَيْهِ مَنْبُوذًا، وَبَنَى عَلَى هَذَا النَّهْرِ كَنِيسَةً. ثُمَّ مَلَكَ قُومُودُوسُ اثْنَتَيْ عَشْرَةً سَنَةً، وَفِي أَيَّامِهِ كَانَ جَالِينُوسُ قَدْ أَدْرَكَ

بَطْلَيْمُوسَالْقَلُّودِيَّ، وَكَانَ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ قَدْ ظَهَرَ فِي أَيَّامِهِ وَذَكَرَهُمْ فِي كِتَابِهِ: فِي جَوَامِعِ كِتَابِ أَفْلَاطُونَ فِي السِّيَاسَةِ. ثُمَّ مَلَكَ بَرْطِينْقَشُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مَلَكَ يُولْيَانُوسُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ مَلَكَ سِيوَارَسُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَشَمِلَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أَيَّامِهِ الْقَتْلُ وَالتَّشْرِيدُ، وَبَنَى بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ هَيْكَلًا عَظِيمًا سَمَّاهُ هَيْكَلَ الْآلِهَةِ. ثُمَّ مَلَكَ أَنْطُونْيُوسُ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ مَقْرُونِيُوسُ سَنَةً وَشَهْرَيْنِ، ثُمَّ مَلَكَ أَنْطُونْيُوسُ الثَّانِي أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ الْأَكْصَنْدَرُوسُ، وَيُلَقَّبُ مَامِيَاسَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ مَقْسِمْيَانُوسُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ مَقْسِمُوسُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مَلَكَ غَرْدِيَانُوسُ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ فِيلِبُوسُ سِتَّ سِنِينَ، وَتَنَصَّرَ وَتَرَكَ دِينَ الصَّابِئِينَ وَتَبِعَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ وَاخْتَلَفُوا لِذَلِكَ، وَكَانَ فِيمَنْ خَالَفَهُ بِطْرِيقٌ يُقَالُ لَهُ دَاقُيُوسُ، قَتَلَ فِيلِبُوسَ وَاسْتَوْلَى عَلَى الْمُلْكِ.

ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ فِيلِبُوسَ دَاقُيُوسُ سَنَتَيْنِ وَتَتَبَّعَ النَّصَارَى، فَهَرَبَ مِنْهُ أَصْحَابُ الْكَهْفِ إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ شَرْقِيِّ مَدِينَةِ أَفْسِيسَ، وَقَدْ خُرِّبَتِ الْمَدِينَةُ، وَكَانَ لُبْثُهُمْ فِيهِ مِائَةً وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا السِّيَاقِ مِنْ حِينِ رُفِعَ الْمَسِيحُ إِلَى الْآنِ نَحْوُ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ لُبْثُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا فَذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ظُهُورُهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِنَحْوِ سِتِّينَ سَنَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ لَدُنْ ظُهُورِهِمْ إِلَى الْهِجْرَةِ زِيَادَةً عَلَى مِائَتَيْ سَنَةٍ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَكْثَرُ مِنَ الْفَتْرَةِ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَالنَّبِيِّ - عَلَيْهِمْا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِلَّا أَنَّ هَذَا النَّاقِلَ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ غَيْبَتَهُمْ كَانَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ سَنَةً عَلَى مَا نَرَاهُ مَذْكُورًا، وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْقُرْآنِ، وَلَوْلَا نَصُّ الْقُرْآنِ لَكَانَ اسْتَقَامَ لَهُ مَا يُرِيدُ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ غَالِيُوسُ سَنَتَيْنِ، وَكَانَ شَرِيكُهُ فِي الْمُلْكِ يُولْيَانُوسُ، مَلَكَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ قُلُودِيُوسُ، ثُمَّ مَلَكَ ابْنُهُ أُورْلِيَانُوسُ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ طَافِسْطُوسُ وَأَخُوهُ فُورَسُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ بُرُوبَسُ تِسْعَ سِنِينَ.

ثُمَّ مَلَكَ قَارُوسُ سَنَتَيْنِ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مَلَكَ دِقْلَطْيَانُوسُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ مَقْسِيمَانُوسُ وَشَارَكَهُ مَقْسَنْطِيُوسُ، ثُمَّ اقْتَتَلَا فَاقْتَسَمَا الْمُلْكَ، فَمَلَكَ الْأَبُ عَلَى الشَّامِ وَبِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَبَعْضِ الرُّومِ، وَمَلَكَ الِابْنُ رُومِيَّةَ وَمَا اتَّصَلَ بِهَا مِنْ أَرْضِ الْفِرِنْجِ، وَمَلَكَا تِسْعَ سِنِينَ، وَتَمَلَّكَ مَعَهُمَا قُسْطَنْسُ أَبُو قُسْطَنْطِينَ بِلَادَ بُوزَنْطِيَا وَمَا يَلِيهَا، وَهِيَ نَوَاحِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَلَمْ تَكُنْ بُنِيَتْ حِينَئِذٍ، ثُمَّ مَاتَ قُسْطَنْسُ وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ قُسْطَنْطِينُ الْمَعْرُوفُ بِأُمِّهِ هِيلَانَى، وَهُوَ الَّذِي تَنَصَّرَ. قَالَ: وَمِنْ أَوَّلِ مُلُوكِ الرُّومِ إِلَى هَاهُنَا كَانُوا شَبِيهًا بِمُلُوكِ الطَّوَائِفِ، لَا يَنْضَبِطُ عَدَدُهُمْ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِمْ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُعَوِّلُ عَلَيْهِ مِنْ قُسْطَنْطِينَ إِلَى هِرَقْلَ الَّذِي بُعِثَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَيَّامِهِ، وَلَقَدْ صَدَقَ قَائِلُ هَذَا فَإِنَّ فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ مَا ذَكَرْنَا بَعْضَهُ عِنْدَ ذِكْرِ دِقْيُوسَ وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ يَذْكُرِ الطَّبَرِيُّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ فِي زَمَانِ أَيِّ الْمُلُوكِ كَانُوا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ نَحْنُ لِمَا فِي أَيَّامِ الْمُلُوكِ مِنَ الْحَوَادِثِ.

الطبقة الثانية من ملوك الروم المتنصرة

[الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مُلُوكِ الرُّومِ الْمُتَنَصِّرَةِ] ثُمَّ مَلَكَ قُسْطَنْطِينُ الْمَعْرُوفُ بِأُمِّهِ هِيلَانَى فِي جَمِيعِ بِلَادِ الرُّومِ، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِقْسِيمَانُوسَ وَابْنِهِ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، فَلَمَّا مَاتَا اسْتَوْلَى عَلَى الْمُلْكِ وَتَفَرَّدَ بِهِ، وَكَانَ مُلْكُهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَهُوَ الَّذِي تَنَصَّرَ مِنْ مُلُوكِ الرُّومِ وَقَاتَلَ عَلَيْهَا حَتَّى قَبِلَهَا النَّاسُ وَدَانُوا بِهَا إِلَى هَذَا الْوَقْتِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ تَنَصُّرِهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ بِهِ بَرَصٌ وَأَرَادُوا نَزْعَهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ وُزَرَائِهِ مِمَّنْ كَانَ يَكْتُمُ النَّصْرَانِيَّةَ بِإِحْدَاثِ دِينٍ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ ثُمَّ حَسَّنَ لَهُ النَّصْرَانِيَّةَ لِيُسَاعِدَهُ مَنْ دَانَ بِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. فَتَبِعَهُ النَّصَارَى مِنَ الرُّومِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَخَاصَّتِهِ، فَقَوِيَ بِهِمْ وَقَهَرَ مَنْ خَالَفَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ سَيَّرَ عَسَاكِرَ عَلَى أَسْمَاءِ أَصْنَامِهِمْ، فَانْهَزَمَتِ الْعَسَاكِرُ، وَكَانَ لَهُمْ سَبْعَةُ أَصْنَامٍ عَلَى أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ عَلَى عَادَةِ الصَّابِئِينَ، فَقَالَ لَهُ وَزِيرٌ لَهُ يَكْتُمُ النَّصْرَانِيَّةَ فِي هَذَا وَأَزْرَى بِالْأَصْنَامِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِالنَّصْرَانِيَّةِ. فَأَجَابَهُ، فَظَفِرَ، وَدَامَ مُلْكُهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَهُوَ الَّذِي بَنَى مَدِينَةَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ لِثَلَاثِ سِنِينَ خَلَتْ مِنْ مُلْكِهِ بِمَكَانِهَا الْآنَ، اخْتَارَهُ لِحَصَانَتِهِ، وَهِيَ عَلَى الْخَلِيجِ الْآخِذِ مِنَ الْبَحْرِ الْأَسْوَدِ إِلَى بَحْرِ الرُّومِ، وَالْمَدِينَةُ

عَلَى الْبَرِّ الْمُتَّصِلِ بِرُومِيَّةَ وَبِلَادِ الْفِرِنْجِ وَالْأَنْدَلُسِ، وَالرُّومُ تُسَمِّيهَا اسْتَنْبُولَ، يَعْنِي مَدِينَةَ الْمُلْكِ. وَلِعِشْرِينَ سَنَةً مَضَتْ مِنْ مُلْكِهِ كَانَ السَّنْهُودَسُ الْأَوَّلُ بِمَدِينَةِ نِيقِيَّةَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَمَعْنَاهُ الِاجْتِمَاعُ، فِيهِ أَلْفَانِ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ أُسْقُفًا، فَاخْتَارَ مِنْهُمْ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ أُسْقُفًا مُتَّفِقِينَ غَيْرَ مُخْتَلِفِينَ، فَحَرَّمُوا آرِيُوسَ الْإِسْكَنْدَرَانِيَّ الَّذِي يُضَافُ إِلَيْهِ الْآرِيُوسِيَّةُ مِنَ النَّصَارَى، وَوَضَعَ شَرَائِعَ النَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، وَكَانَ رَئِيسُ هَذَا الْمَجْمَعِ بَطْرَقَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَفِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ مِنْ مُلْكِهِ سَارَتْ أُمُّهُ هِيلَانَى الرُّهَاوِيَّةُ، كَانَ أَبُوهُ سَبَاهَا مِنَ الرُّهَاءِ، فَأَوْلَدَهَا هَذَا الْمَلِكَ، فَسَارَتْ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ وَأَخْرَجَتِ الْخَشَبَةَ الَّتِي تَزْعُمُ النَّصَارَى أَنَّ الْمَسِيحَ صُلِبَ عَلَيْهَا، وَجَعَلَتْ ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، فَهُوَ عِيدُ الصَّلِيبِ، وَبَنَتِ الْكَنِيسَةَ الْمَعْرُوفَةَ بِقُمَامَةَ، وَتُسَمَّى الْقِيَامَةَ، وَهِيَ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا يَحُجُّهَا أَنْوَاعُ النَّصَارَى. وَقِيلَ: كَانَ مَسِيرُهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَهَا دَانَ النَّصْرَانِيَّةَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً مِنْ مُلْكِهِ. وَفِي السَّنَةِ الْحَادِيَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ مُلْكِهِ طَبَّقَ جَمِيعَ مَمَالِيكِهِ بِالْبِيَعِ هُوَ وَأُمُّهُ، مِنْهَا: كَنِيسَةُ حِمْصَ، وَكَنِيسَةُ الرُّهَاءِ، وَهِيَ مِنَ الْعَجَائِبِ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ قُسْطَنْطِينُ أَنْطَاكِيَّةَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً بِعَهْدٍ مِنْ أَبِيهِ إِلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَإِلَى أَخِيهِ قُسْطَنْسَ أَنْطَاكِيَّةَ، وَالشَّامَ، وَمِصْرَ، وَالْجَزِيرَةَ، وَإِلَى أَخِيهِ قَسْطُوسَ رُومِيَّةَ وَمَا يَلِيهَا مِنْ بِلَادِ الْفِرِنْجِ وَالصَّقَالِبَةِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمْا الْمَوَاثِيقَ بِالِانْقِيَادِ لِأَخِيهِمَا قُسْطَنْطِينَ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ يُولْيَانُوسُ ابْنُ أَخِيهِ سَنَتَيْنِ، وَكَانَ يَدِينُ بِمَذْهَبِ الصَّابِئِينَ وَيُخْفِي ذَلِكَ. فَلَمَّا مَلَكَ أَظْهَرَهَا وَخَرَّبَ الْبِيَعَ وَقَتَلَ النَّصَارَى، وَهُوَ الَّذِي سَارَ إِلَى الْعِرَاقِ أَيَّامَ

سَابُورَ بْنِ أَرْدَشِيرَ فَقَتَلَ بِسَهْمٍ غَرْبٍ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ خَبَرَ هَذَا الْمَلِكِ مَعَ سَابُورَ ذِي الْأَكْتَافِ وَهُوَ بَعْدَ سَابُورَ بْنِ أَرْدَشِيرَ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ يُونْيَانُوسُ سَنَةً فَأَظْهَرَ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ وَدَانَ بِهَا وَعَادَ مِنَ الْعِرَاقِ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ وَلَنْطِيُوشُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مَلَكَ وَالَنْسُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مَلَكَ وَالَنْطِيَانُوسُ ثَلَاثَ سِنِينَ. ثُمَّ مَلَكَ تَدُوسُ الْكَبِيرُ، وَمَعْنَاهُ عَطِيَّةُ اللَّهِ، تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِي مُلْكِهِ كَانَ السَّنْهُودَسُ الثَّانِي بِمَدِينَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، اجْتَمَعَ فِيهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ أُسْقُفًا لَعَنُوا مَقْدُونِسَ وَأَشْيَاعَهُ، وَكَانَ فِيهِ بَطْرَقُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَبَطْرَقُ أَنْطَاكِيَّةَ وَبَطْرَقُ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَالْمُدُنُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا كَرَاسِيُّ الْبَطْرَقُ أَرْبَعٌ: إِحْدَاهُمَا رُومِيَّةُ، وَهِيَ لِبُطْرُسَ الْحَوَارِيِّ، وَالثَّانِيَةُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ، وَهِيَ لِمُرْقُسَ أَحَدِ أَصْحَابِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ، وَالثَّالِثَةُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، وَالرَّابِعَةُ أَنْطَاكِيَّةُ، وَهِيَ لِبُطْرُسَ أَيْضًا، وَلِثَمَانِي سِنِينَ مِنْ مُلْكِهِ ظَهَرَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ. ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَهُ أَرْقَادِيُوسُ بْنُ تَدُوسَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ تَدُوسُ الصَّغِيرُ بْنُ تَدُوسَ الْكَبِيرِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلِإِحْدَى وَعِشْرِينَ

سَنَةً مِنْ مُلْكِهِ كَانَ السَّنْهُودَسُ الثَّالِثُ بِمَدِينَةِ أَفْسُسْ، وَحَضَرَ هَذَا الْمَجْمَعَ مِائَتَا أَسْقُفٍ، وَكَانَ سَبَبُهُ مَا ظَهَرَ مِنْ نَسْطُورَسْ بَطْرَقِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَهُوَ رَأْسُ النَّسْطُورِيَّةِ مِنَ النَّصَارَى، مِنْ مُخَالَفَةِ مَذْهَبِهِمْ فَلَعَنُوهُ وَنَفَوْهُ، فَسَارَ إِلَى صَعِيدِ مِصْرَ فَأَقَامَ بِبِلَادِ إِخْمِيمَ، وَمَاتَ بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا سَيَصْلُحْ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، وَصَارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُخَالِفِيهِمْ حَرْبٌ وَقِتَالٌ، ثُمَّ دُثِرَتْ مَقَالَتُهُ إِلَى أَنْ أَحْيَاهَا بُرْصُومَا مُطْرَانْ نَصِيبِينَ قَدِيمًا. وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ الشَّهْرِسْتَانِيَّ مُصَنِّفَ كِتَابِ: " نِهَايَةِ الْإِقْدَامِ فِي الْأُصُولِ "، وَمُصَنِّفَ كِتَابِ: " الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ "، فِي ذِكْرِ الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ، ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ نَسْطُورْ كَانَ أَيَّامَ الْمَأْمُونِ، وَهَذَا تَفَرَّدَ بِهِ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُ فِي ذَلِكَ مُوَافِقًا. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ مَرْقَيَانْ سِتَّ سِنِينَ، وَفِي أَوَّلِ سَنَةٍ مِنْ مُلْكِهِ كَانَ السَّنْهُودَسُ الرَّابِعُ عَلَى تَسْقَرَسْ بَطْرَقِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثُونَ أَسْقُفًا، وَفِي هَذَا الْمَجْمَعِ خَالَفَتِ الْيَعْقُوبِيَّةُ سَائِرَ النَّصَارَى. ثُمَّ مَلَكَ لِيُونُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ لِيُونُ الصَّغِيرُ سَنَةً، وَكَانَ يَعْقُوبِيَّ الْمَذْهَبِ، ثُمَّ مَلَكَ زِينُونْ سَبْعَ سِنِينَ، وَكَانَ يَعْقُوبِيًّا، فَزَهِدَ فِي الْمُلْكِ فَاسْتَخْلَفَ ابْنًا لَهُ

فَهَلَكَ، فَعَادَ إِلَى الْمُلْكِ، ثُمَّ مَلَكَ نِسْطَاسُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَعْقُوبِيَّ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى عَمُورِيَّةَ، فَلَمَّا حَفَرَ أَسَاسَهَا أَصَابَ فِيهِ مَالًا وَفَّى بِالنَّفَقَةِ عَلَى بِنَائِهَا وَفَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ بَنَى بِهِ بِيَعًا وَأَدْيِرَةً. ثُمَّ مَلَكَ يُوسْطِينْ سَبْعَ سِنِينَ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِي الْيَعْقُوبِيَّةِ. ثُمَّ مَلَكَ يُوسْطَانُوسْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَبَنَى بِالرُّهَاءِ كَنِيسَةً عَجِيبَةً، وَفِي أَيَّامِهِ كَانَ السَّنْهُودَسُ الْخَامِسُ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَحَرَّمُوا أَدْرِيحَا أَسْقُفَ مَنْبِجْ لِقَوْلِهِ بِتَنَاسُخِ الْأَرْوَاحِ فِي أَجْسَادِ الْحَيَوَانِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ذَلِكَ جَزَاءَ مَا ارْتَكَبُوهُ. وَفِي أَيَّامِهِ كَانَ بَيْنَ الْيَعَاقِبَةِ وَالْمَلَكِيَّةِ بِبِلَادِ مِصْرَ فِتَنٌ، وَفِي أَيَّامِهِ ثَارَ الْيَهُودُ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ وَجَبَلِ الْخَلِيلِ عَلَى النَّصَارَى فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَبَنَى الْمَلِكُ مِنَ الْبِيَعِ وَالْأَدْيِرَةِ شَيْئًا كَثِيرًا. ثُمَّ مَلَكَ يُوسْطِينُوسْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِي أَيَّامِهِ كَانَ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانْ، ثُمَّ مَلَكَ طَبَايُوسْ ثَلَاثَ سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنُوشِرْوَانْ مُرَاسَلَاتٌ وَمُهَادَاةٌ، وَكَانَ مُغْرًى بِالْبِنَاءِ وَتَحْسِينِهِ وَتَزْوِيقِهِ. ثُمَّ مَلَكَ مُورِيقْ عِشْرِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَفِي أَيَّامِهِ ظَهَرَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ

ذكر الطبقة الثالثة من ملوك الروم بعد الهجرة

حَمَاةَ يُعْرَفُ بِمَارُونْ إِلَيْهِ تُنْسَبُ الْمَارُونِيَّةُ مِنَ النَّصَارَى، وَأَحْدَثَ رَأْيًا يُخَالِفُ مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَتَبِعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِالشَّامِ، ثُمَّ إِنَّهُمُ انْقَرَضُوا وَلَمْ يُعْرَفِ الْآنَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَهَذَا مُورِيقْ هُوَ الَّذِي قَصَدَهُ كِسْرَى أَبْرَوِيزْ حِينَ انْهَزَمَ مِنْ بَهْرَامَ جُوبِينْ فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ وَأَمَدَّهُ بِعَسَاكِرِهِ وَأَعَادَهُ إِلَى مُلْكِهِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ فُوقَاسْ، وَكَانَ مِنْ بَطَارِقَةِ مُورِيقْ، فَوَثَبَ بِهِ فَاغْتَالَهُ فَقَتَلَهُ وَمَلَكَ الرُّومَ بَعْدَهُ، وَكَانَ مُلْكُهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَلَمَّا مَلَكَ تَتَبَّعَ وَلَدَ مُورِيقْ وَحَاشِيَتَهُ بِالْقَتْلِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَبْرَوِيزْ غَضِبَ وَسَيَّرَ الْجُنُودَ إِلَى الشَّامِ وَمِصْرَ فَاحْتَوَى عَلَيْهِمَا وَقَتَلُوا مِنَ النَّصَارَى خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَيَرِدُ ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ أَبْرَوِيزْ. ثُمَّ مَلَكَ هِرَقْلُ، وَكَانَ سَبَبَ مُلْكِهِ أَنَّ عَسَاكِرَ الْفُرْسِ لَمَّا فَتَكَتْ فِي الرُّومِ سَارُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى خَلِيجِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَحَصَرُوهَا، وَكَانَ هِرَقْلُ يَحْمِلُ الْمِيرَةَ فِي الْبَحْرِ إِلَى أَهْلِهَا، فَحَسُنَ مَوْقِعُ ذَلِكَ مِنَ الرُّومِ وَبَانَتْ شَهَامَتُهُ وَشَجَاعَتُهُ وَأَحَبَّهُ الرُّومُ فَحَمَلَهُمْ عَلَى الْفَتْكِ بِفُوقَاسْ، وَذَكَّرَهُمْ سُوءَ آثَارِهِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَقَتَلُوهُ وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ هِرَقْلَ. [ذِكْرُ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ مُلُوكِ الرُّومِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ]

فَأَوَّلُهُمْ هِرَقْلُ، قَدْ ذُكِرَ سَبَبُ مُلْكِهِ، وَكَانَ مُدَّةُ مُلْكِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَفِي أَيَّامِهِ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْهُ مَلَكَ الْمُسْلِمُونَ الشَّامَ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ قُسْطَنْطِينُ، وَقِيلَ: هُوَ ابْنُ أَخِيهِ قُسْطَنْطِينَ، وَكَانَ مُلْكُهُ تِسْعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَسَيَرِدُ خَبَرُهُ عِنْدَ ذِكْرِ غَزَاةِ الصَّوَارِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَفِي أَيَّامِهِ كَانَ السَّنْهُودَسُ السَّادِسُ عَلَى لَعْنِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ قُورَسْ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ خَالَفَ الْمَلَكِيَّةَ وَوَافَقَ الْمَارُونِيَّةَ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ قَسْطَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمُعَاوِيَةَ. ثُمَّ مَلَكَ هِرَقْلُ الْأَصْغَرُ بْنُ قُسْطَنْطِينَ أَرْبَعَ سِنِينَ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ مَلَكَ قُسْطَنْطِينُ بْنُ قَسْطَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً بَعْضَ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ وَأَيَّامِ يَزِيدَ وَابْنِهِ مُعَاوِيَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَصَدْرًا مِنْ أَيَّامِ عَبْدِ الْمَلِكِ.

ثُمَّ مَلَكَ أَسْطِينَانْ، الْمَعْرُوفُ بِالْأَخْرَمِ، تِسْعَ سِنِينَ أَيَّامَ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ خَلَعَهُ الرُّومُ وَخَرَمُوا أَنْفَهُ وَحُمِلَ إِلَى بَعْضِ الْجَزَائِرِ، فَهَرَبَ وَلَحِقَ بِمَلِكِ الْخَزَرِ وَاسْتَنْجَدَهُ فَلَمْ يُنْجِدْهُ، فَانْتَقَلَ إِلَى مَلِكِ بُرْجَانْ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ لُونْطَشْ ثَلَاثَ سِنِينَ أَيَّامَ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ تَرَكَ الْمُلْكَ وَتَرَهَّبَ. ثُمَّ مَلَكَ ابْسَمِيرْ، الْمَعْرُوفُ بِالطَّرَسُوسِيِّ، سَبْعَ سِنِينَ، فَقَصَدَهُ أَسْطِينَانْ وَمَعَهُ بُرْجَانْ وَجَرَى بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَظَفِرَ بِهِ أَسْطِينَانْ وَخَلَعَهُ وَعَادَ إِلَى مُلْكِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَيَّامَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَاسْتَقَرَّ أَسْطِينَانْ، وَكَانَ قَدْ شَرَطَ لِمَلِكِ بُرْجَانْ أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِ خَرَاجًا كُلَّ سَنَةٍ، فَعَسَفَ الرُّومَ وَقَتَلَ بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَقَتَلُوهُ، فَكَانَ مُلْكُهُ الثَّانِي سَنَتَيْنِ وَنِصْفًا، وَكَانَ قَتْلُهُ أَوَّلَ دَوْلَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. ثُمَّ مَلَكَ نِسْطَاسُ بْنُ فِيلَفُوسْ، وَكَانَ فِي أَيَّامِهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الرُّومِ فَخَلَعُوهُ وَنَفَوْهُ. ثُمَّ مَلَكَ تِيدُوسْ الْمَعْرُوفُ بِالْأَرْمَنِيِّ فِي أَيَّامِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي حَصَرَهُ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ الْيُونُ بْنُ قُسْطَنْطِينَ لِضَعْفِهِ عَنِ الْمُلْكِ، وَضَمِنَ الْيُونُ لِلرُّومِ رَدَّ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَمَلَّكُوهُ، فَكَانَ مُلْكُهُ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَمَاتَ فِي السَّنَةِ الَّتِي بُويِعَ فِيهَا الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ قُسْطَنْطِينُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَفِي أَيَّامِهِ انْقَرَضَتِ الدَّوْلَةُ الْأُمَوِيَّةُ وَتُوُفِّيَ لِعَشْرِ سِنِينَ مَضَتْ مِنْ أَيَّامِ الْمَنْصُورِ.

ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْيُونُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَقِيَّةَ أَيَّامِ الْمَنْصُورِ، وَتُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ الْمَهْدِيِّ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ رِينِي امْرَأَةُ الْيُونَ بْنِ قُسْطَنْطِينَ، وَمَعَهَا ابْنُهَا قُسْطَنْطِينُ بْنُ الْيُونَ، وَهِيَ تُدَبِّرُ الْأَمْرَ بَقِيَّةَ أَيَّامِ الْمَهْدِيِّ وَالْهَادِي وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ الرَّشِيدِ. فَلَمَّا كَبِرَ ابْنُهَا أَفْسَدَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّشِيدِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مُهَادِنَةً لَهُ، فَقَصَدَهُ الرَّشِيدُ وَجَرَى لَهُ مَعَهُ وَقْعَةٌ، فَانْهَزَمَ وَكَادَ يُؤْخَذُ، فَكَحَّلَتْهُ أُمُّهُ وَانْفَرَدَتْ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ خَمْسَ سِنِينَ وَهَادَنَتِ الرَّشِيدَ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهَا نَقَفُورْ، أَخَذَ الْمُلْكَ مِنْهَا، وَكَانَ مُلْكُهُ سَبْعَ سِنِينَ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَهُوَ نَقَفُورْ أَبُو اسْتَبْرَاقْ، وَكُنْتُ قَدْ رَأَيْتُهُ مَضْبُوطًا بِكَثِيرٍ مِنَ الْكُتُبِ بِسُكُونِ الْقَافِ، حَتَّى رَأَيْتُ رَجُلًا زَعَمَ أَنَّ اسْمَهُ نَقَفُورْ، بِفَتْحِ الْقَافِ. وَعَهِدَ نَقَفُورْ إِلَى ابْنِهِ اسْتَبْرَاقْ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الرُّومِ، وَلَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ قَبْلَهُ، وَكَانَتْ مُلُوكُ الرُّومِ قَبْلَ نَقَفُورْ تَحْلِقُ لِحَاهَا، وَكَذَلِكَ مَلِكُ الْفُرْسِ، فَلَمْ يَفْعَلْهُ نَقَفُورْ. وَكَانَتْ مُلُوكُ الرُّومِ قَبْلَهُ تَكْتُبُ: مِنْ فُلَانٍ مَلِكِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَكَتَبَ نَقَفُورْ: مِنْ فُلَانٍ مَلِكِ الرُّومِ، وَقَالَ: لَسْتُ مَلِكَ النَّصْرَانِيَّةِ كُلِّهَا. وَكَانَتِ الرُّومُ تُسَمِّي الْعَرَبَ سَارَقْيُوسْ، يَعْنِي عَبِيدَ سَارَّةَ، بِسَبَبِ هَاجَرَ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَجَرَى بَيْنَ نَقَفُورْ وَبَيْنَ بُرْجَانْ حَرْبٌ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ فَقُتِلَ فِيهَا. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ اسْتَبْرَقْ بِعَهْدٍ مِنْ أَبِيهِ إِلَيْهِ، وَكَانَ مُلْكُهُ شَهْرَيْنِ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ مِيخَائِيلُ بْنُ جِرْجِسَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ نَقَفُورْ، وَقِيلَ: ابْنُ اسْتَبْرَقَ، وَكَانَ مُلْكُهُ سَنَتَيْنِ فِي أَيَّامِ الْأَمِينِ، وَقِيلَ: أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَوَثَبَ بِهِ الْيُونُ الْمَعْرُوفُ بِالْبَطْرِيقِ، وَغَلَبَ عَلَى الْأَمْرِ وَحَبَسَهُ.

ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ الْيُونُ الْبَطْرِيقُ سَبْعَ سِنِينَ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَوَثَبَ بِهِ أَصْحَابُ مِيخَائِيلَ فِي خَلَاصِ صَاحِبِهِمْ، وَقُتِلَ الْيُونُ ثُمَّ فُتِحَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَعَادَ مِيخَائِيلُ إِلَى الْمُلْكِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ قَدْ تَرَهَّبَ أَيَّامَ الْيُونَ، وَكَانَ مُلْكُهُ هَذِهِ الدُّفْعَةَ الثَّانِيَةَ تِسْعَ سِنِينَ، وَقِيلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ نُوفِيلُ بْنُ مِيخَائِيلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ الَّذِي فَتَحَ زِبَطْرَةَ، وَسَارَ الْمُعْتَصِمُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَفَتَحَ عَمُورِيَّةَ، وَكَانَ مَوْتُهُ أَيَّامَ الْوَاثِقِ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مِيخَائِيلُ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ أُمُّهُ تُدَبِّرُ الْمُلْكَ مَعَهُ، وَأَرَادَ قَتْلَهَا فَتَرَهَّبَتْ، وَخَرَجَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ عَمُورِيَّةَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ السَّالِفَةِ يُعْرَفُ بِابْنِ بُقْرَاطَ، فَلَقِيَهُ مِيخَائِيلُ فِيمَنْ عِنْدَهُ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، فَظَفِرَ بِهِ مِيخَائِيلُ فَمَثَّلَ بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِ بُسَيْلُ الصَّقْلَبِيُّ فَاسْتَوْلَى عَلَى الْمُلْكِ، وَقَتَلَ مِيخَائِيلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ بُسَيْلُ الصَّقْلَبِيُّ عِشْرِينَ سَنَةً أَيَّامَ الْمُعْتَزِّ وَالْمُهْتَدِي وَصَدْرًا مِنْ أَيَّامِ الْمُعْتَمِدِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ صَقْلَبِيَّةٌ فَنُسِبَ إِلَيْهَا. وَقَدْ خَلَطَ " حَمْزَةُ الْأَصْفَهَانِيُّ " فِيهِ فَقَالَ عِنْدَ ذِكْرِ مِيخَائِيلَ: ثُمَّ انْتَقَلَ الْمُلْكُ عِنْدَ الرُّومِ وَصَارَ فِي الصَّقْلَبِ، فَقَتَلَهُ بُسَيْلُ الصَّقْلَبِيُّ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ صَقْلَبِيًّا.

ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْيُونُ بْنُ بُسَيْلَ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً أَيَّامَ الْمُعْتَمِدِ وَالْمُعْتَضِدِ وَالْمُكْتَفِي وَصَدْرًا مِنْ أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ، وَقِيلَ: إِنَّ وَفَاتَهُ كَانَتْ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. ثُمَّ مَلَكَ أَخُوهُ الْإِكْسَنْدَرُوسُ سَنَةً وَشَهْرَيْنِ، وَمَاتَ بِالدُّبَيْلَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ اغْتِيلَ لِسُوءِ سِيرَتِهِ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ قُسْطَنْطِينُ بْنُ الْيُونَ، وَهُوَ صَبِيٌّ، وَتَوَلَّى لَهُ الْأَمْرَ بَطْرِيقُ الْبَحْرِ، وَاسْمُهُ ارْمَانُوسْ، وَشَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ شُرُوطًا، مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ الْمُلْكَ وَلَا يَلْبَسُ التَّاجَ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَلَمْ يَمْضِ غَيْرُ سَنَتَيْنِ حَتَّى خُوطِبَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ بِالْمُلُوكِ، وَجَلَسَ مَعَ قُسْطَنْطِينَ عَلَى السَّرِيرِ، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، فَخَصَى أَحَدَهُمْ وَجَعَلَهُ بَطْرَقًا لِيَأْمَنَ مِنَ الْمُنَازَعَةِ، فَإِنَّ الْبَطْرَقَ يَحْكُمُ عَلَى الْمَلِكِ، فَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ

مِنَ الْهِجْرَةِ، فَاتَّفَقَ ابْنَاهُ مَعَ قُسْطَنْطِينَ عَلَى إِزَالَةِ أَبِيهِمَا، فَدَخَلَا عَلَيْهِ وَقَبَضَاهُ، وَسَيَّرَاهُ إِلَى دَيْرٍ لَهُ فِي جَزِيرَةٍ بِالْقُرْبِ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرَادَا الْفَتْكَ بِهِ، فَسَبَقَهُمَا إِلَى ذَلِكَ وَقَبَضَ عَلَيْهِمَا وَسَيَّرَهُمَا إِلَى جَزِيرَتَيْنِ فِي الْبَحْرِ، فَوَثَبَ أَحَدُهُمَا بِالْمُوَكَّلِ بِهِ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَهُ أَهْلُ تِلْكَ الْجَزِيرَةِ فَقَتَلُوهُ وَأَرْسَلُوا رَأْسَهُ إِلَى قُسْطَنْطِينَ الْمَلِكِ، فَجَزِعَ لِقَتْلِهِ. وَأَمَّا ارْمَانُوسْ فَقَدْ مَاتَ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ تَرَهُّبِهِ. وَدَامَ مُلْكُ قُسْطَنْطِينَ بَقِيَّةَ أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ وَالْقَاهِرِ وَالرَّاضِي وَالْمُسْتَكْفِي وَبَعْضَ أَيَّامِ الْمُطِيعِ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى قُسْطَنْطِينَ هَذَا قُسْطَنْطِينُ بْنُ أَنْدَرُونَقَسْ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الْمُكْتَفِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَأَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ وَتُوُفِّيَ. فَهَرَبَ ابْنُهُ هَذَا عَلَى طَرِيقِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، فَسَارَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَنَازَعَ الْمَلِكَ قُسْطَنْطِينَ فِي مُلْكِهِ، وَذَلِكَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَظَفِرَ بِهِ الْمَلِكُ فَقَتَلَهُ. وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ أَيْضًا صَاحِبُ رُومِيَّةَ، وَهِيَ كُرْسِيُّ مَلِكِ الْإِفْرِنْجِ، وَتُسَمَّى بِالْمُلْكِ، وَلَبِسَ ثِيَابَ الْمُلُوكِ. وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يُطِيعُونَ مُلُوكَ الرُّومِ أَصْحَابَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَيَصْدُرُونَ عَنْ أَمْرِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ قَوِيَ مُلْكُ رُومِيَّةَ، فَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قُسْطَنْطِينُ الْعَسَاكِرَ يُقَاتِلُونَهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَتِ الرُّومُ وَعَادَتْ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مَنْكُوبَةً فَكَفَّ حِينَئِذٍ قُسْطَنْطِينُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَرَضِيَ بِالْمُسَالَمَةِ وَجَرَى بَيْنَهُمَا مُصَاهَرَةٌ، فَزَوَّجَ قُسْطَنْطِينُ ابْنَهُ أَرْمَانُوسْ بِابْنَةِ مَلِكِ رُومِيَّةَ. وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُ الْإِفْرِنْجِ بَعْدَ هَذَا يَقْوَى وَيَزْدَادُ وَيَتَّسِعُ مُلْكُهُمْ كَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ وَكَأَخْذِهِمْ جَزِيرَةَ صِقِلِّيَةَ وَبِلَادَ سَاحِلِ الشَّامِ وَالْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ مَلَكُوا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ بِهَذَا أَنَّ الطَّوَائِفَ مِنَ التُّرْكِ اجْتَمَعَتْ، مِنْهُمُ الْبَجْنَاكُ وَالْبُخْتِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَصَدُوا مَدِينَةً لِلرُّومِ قَدِيمَةً تُسَمَّى وَلِيدُرْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ

وَثَلَاثِمِائَةٍ وَحَصَرُوهَا، فَبَلَغَ خَبَرُهُمْ إِلَى أَرْمِيَانُوسْ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا كَثِيفًا فِيهِمْ مِنَ الْمُتَنَصِّرَةِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ الرُّومُ، وَاسْتَوْلَى التُّرْكُ عَلَى الْمَدِينَةِ وَخَرَّبُوهَا بَعْدَ أَنْ أَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهَا وَالسَّبْيَ وَالنَّهْبَ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَحَصَرُوهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَغَارُوا عَلَى بِلَادِ الرُّومِ وَاتَّصَلَتْ غَارَاتُهُمْ إِلَى بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ، ثُمَّ عَادُوا رَاجِعِينَ.

ذكر وصول قبائل العرب إلى العراق ونزولهم الحيرة

[ذِكْرُ وُصُولِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ إِلَى الْعِرَاقِ وَنُزُولِهِمُ الْحِيرَةَ] قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ لَمَّا مَاتَ بُخْتُ نَصَّرَ انْضَمَّ الَّذِينَ أَسْكَنَهُمُ الْحِيرَةَ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى أَهْلِ الْأَنْبَارِ، وَبَقِيَتِ الْحِيرَةُ خَرَابًا دَهْرًا طَوِيلًا، وَأَهْلُهَا بِالْأَنْبَارِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ قَادِمٌ، فَلَمَّا كَثُرَ أَوْلَادُ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَمَزَّقَتْهُمُ الْحُرُوبُ، خَرَجُوا يَطْلُبُونَ الرِّيفَ فِيمَا يَلِيهِمْ مِنَ الْيَمَنِ وَمَشَارِفِ الشَّامِ، وَأَقْبَلَتْ مِنْهُمْ قَبَائِلُ حَتَّى نَزَلُوا بِالْبَحْرَيْنِ وَبِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَزْدِ. وَكَانَ الَّذِينَ أَقْبَلُوا مِنْ تِهَامَةَ مَالِكٌ وَعَمْرٌو ابْنَا فَهْمِ بْنِ تَيْمِ أَسَدَ بْنِ وَبَرَةَ بْنِ قُضَاعَةَ، وَمَالِكُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ فَهْمٍ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَالْحَيْقَادُ بْنُ الْحَنَقِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ قَبِيصَ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ فِي قَبِيصَ كُلِّهَا، وَلَحِقَ بِهِمْ غَطَفَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الطَّمْثَانِ بْنِ عَوْذِ مَنَاةَ بْنِ يَقْدَمَ بْنِ أَفْصَى بْنِ دَعْمِيِّ بْنِ إِيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ وَغَيْرُهُ مِنْ إِيَادٍ، فَاجْتَمَعَ بِالْبَحْرَيْنِ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ وَتَحَالَفُوا عَلَى التَّنُوخِ، وَهُوَ الْمَقَامُ، وَتَعَاقَدُوا عَلَى التَّنَاصُرِ وَالتَّسَاعُدِ، فَصَارُوا يَدًا وَاحِدَةً وَضَمَّهُمُ اسْمُ تَنُوخَ، وَتَنَخَ عَلَيْهِمْ بُطُونٌ مِنْ نُمَارَةَ بْنِ لَخْمٍ، وَدَعَا مَالِكُ بْنُ زُهَيْرٍ جَذِيمَةَ الْأَبْرَشَ بْنَ مَالِكِ بْنِ فَهْمِ بْنِ غَانِمِ بْنِ دَوْسٍ الْأَزْدِيَّ إِلَى التَّنُوخِ مَعَهُ، وَزَوَّجَهُ أُخْتَهُ لَمِيسَ، فَتَنَخَ جَذِيمَةُ، وَكَانَ

اجْتِمَاعُهُمْ أَيَّامَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، وَإِنَّمَا سُمُّوا مُلُوكَ الطَّوَائِفِ لِأَنَّ كُلَّ مَلِكٍ مِنْهُمْ كَانَ مُلْكُهُ عَلَى طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ: ثُمَّ تَطَلَّعَتْ أَنْفُسُ مَنْ كَانَ بِالْبَحْرَيْنِ إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ، فَطَمِعُوا فِي غَلَبَةِ الْأَعَاجِمِ عَلَى مَا يَلِي بِلَادَ الْعَرَبِ مِنْهُ أَوْ مُشَارَكَتِهِمْ فِيهِ لِاخْتِلَافٍ بَيْنَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ طَلَعَ مِنْهُمُ الْحِيقَادُ ابْنُ الْحَنَقِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَأَخْلَاطٍ مِنَ النَّاسِ، فَوَجَدُوا الْأَرْمَانِيِّينَ - وَهُمُ الَّذِينَ مَلَكُوا أَرْضَ بَابِلَ وَمَا يَلِيهَا إِلَى نَاحِيَةِ الْمَوْصِلِ - يُقَاتِلُونَ الْأُرْدُوَانِيِّينَ - وَهُمْ مُلُوكُ الطَّوَائِفِ - وَهُوَ مَا بَيْنَ نِفَّرَ - وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ سَوَادِ الْعِرَاقِ إِلَى الْأُبُلَّةِ - فَدَفَعُوهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ، وَالْأَرْمَانِيُّونَ مِنْ بَقَايَا إِرَمَ فَلِهَذَا سُمُّوا الْأَرْمَانِيِّينَ، وَهُمْ نَبَطُ السَّوَادِ. ثُمَّ طَلَعَ مَالِكٌ وَعَمْرٌو ابْنَا فَهْمِ بْنِ تَيْمِ اللَّهِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ تَنُوخَ إِلَى الْأَنْبَارِ عَلَى مُلْكِ الْأَرْمَانِيِّينَ، وَطَلَعَ نَمَارَةُ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى نِفَّرٍ عَلَى مُلْكِ الْأُرْدُوَانِيِّينَ، وَكَانُوا لَا يَدِينُونَ لِلْأَعَاجِمِ حَتَّى قَدِمَهَا تُبَّعٌ، وَهُوَ أَسْعَدُ أَبُو كَرْبِ بْنُ مَلْكِيكَرِبَ فِي جُيُوشِهِ، فَخَلَّفَ بِهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ مِنْ عَسْكَرِهِ، وَسَارَ تُبَّعٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ فَأَقَرَّهُمْ عَلَى حَالِهِمْ، وَرَجَعَ إِلَى الْيَمَنِ وَفِيهِمْ مِنْ كُلِّ الْقَبَائِلِ، وَنَزَلَتْ تَنُوخُ مِنَ الْأَنْبَارِ إِلَى الْحِيرَةِ فِي الْأَخْبِيَةِ لَا يَسْكُنُونَ بُيُوتَ الْمَدَرِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ مَلَكَ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ فَهْمٍ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ مِمَّا يَلِي الْأَنْبَارَ. ثُمَّ مَاتَ مَالِكٌ، فَمَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ عَمْرُو بْنُ فَهْمِ بْنِ غَانِمِ بْنِ دَوْسٍ الْأَزْدِيُّ، ثُمَّ مَاتَ فَمَلَكَ بَعْدَهُ جَذِيمَةُ الْأَبْرَشُ بْنُ مَالِكِ بْنِ فَهْمٍ. وَقِيلَ: إِنَّ جَذِيمَةَ مِنَ الْعَادِيَّةِ الْأُولَى مِنْ بَنِي وَبَارِ بْنِ أُمَيْمِ بْنِ لَوْذِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ جَذِيمَةَ الْأَبْرَشِ

قَالَ: وَكَانَ جَذِيمَةُ مِنْ أَفْضَلِ مُلُوكِ الْعَرَبِ رَأْيًا، وَأَبْعَدِهِمْ مَغَارًا، وَأَشَدِّهِمْ نِكَايَةً، وَأَوَّلِ مَنِ اجْتَمَعَ لَهُ الْمُلْكُ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ الْعَرَبَ، وَغَزَا بِالْجُيُوشِ، وَكَانَ بِهِ بَرَصٌ فَكَنَتِ الْعَرَبُ عَنْهُ، فَقِيلَ: الْوَضَّاحُ، وَالْأَبْرَشُ، إِعْظَامًا لَهُ. وَكَانَتْ مَنَازِلُهُ مَا بَيْنَ الْحِيرَةِ وَالْأَنْبَارِ وَبَقَّةَ وَهِيتَ وَعَيْنِ التَّمْرِ وَأَطْرَافِ الْبَرِّ إِلَى الْعُمَيْرِ وَخَفِيَّةَ، وَتُجْبَى إِلَيْهِ الْأَمْوَالُ، وَتَفِدُ إِلَيْهِ الْوُفُودُ. وَكَانَ غَزَا طَسْمًا وَجَدِيسًا فِي مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْيَمَامَةِ، فَأَصَابَ حَسَّانُ بْنُ تُبَّعٍ أَسْعَدَ أَبِي كَرْبٍ قَدْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ فَعَادَ بِمَنْ مَعَهُ، وَأَصَابَ حَسَّانُ سِرِّيَّةً لِجَذِيمَةَ فَاجْتَاحَهَا. وَكَانَ لَهُ صَنَمَانِ يُقَالُ لَهُمَا الضَّيْزَنَانِ، وَكَانَتْ إِيَادُ بِعَيْنِ أُبَاغٍ، فَذُكِرَ لِجَذِيمَةَ غُلَامٌ مِنْ لَخْمٍ فِي أَخْوَالِهِ مِنْ إِيَادٍ يُقَالُ لَهُ: عِدِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ رَبِيعَةَ، لَهُ جَمَالٌ وَظَرْفٌ، فَغَزَاهُمْ جَذِيمَةُ، فَبَعَثَتْ إِيَادُ مَنْ سَرَقَ صَنَمَيْهِ وَحَمَلَهُمَا إِلَى إِيَادٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: إِنَّ صَنَمَيْكَ أَصْبَحَا فِينَا زُهْدًا فِيكَ وَرَغْبَةً فِينَا، فَإِنْ أَوْثَقْتَ لَنَا أَنْ لَا تَغْزُونَا دَفَعْنَاهُمَا إِلَيْكَ. قَالَ: وَتَدْفَعُونَ مَعَهُمَا عَدِيَّ بْنَ نَصْرٍ، فَأَجَابُوهُ

إِلَى ذَلِكَ وَأَرْسَلُوهُ مَعَ الصَّنَمَيْنِ فَضَمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ وَوَلَّاهُ شَرَابَهُ. فَأَبْصَرَتْهُ رَقَاشُ أُخْتُ جَذِيمَةَ فَعَشِقَتْهُ وَرَاسَلَتْهُ لِيَخْطُبَهَا إِلَى جَذِيمَةَ، فَقَالَ: لَا أَجْتَرِئُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا أَطْمَعُ فِيهِ. قَالَتْ: إِذَا جَلَسَ عَلَى شَرَابِهِ فَاسْقِهِ صِرْفًا وَاسْقِ الْقَوْمَ مَمْزُوجًا، فَإِذَا أَخَذَتِ الْخَمْرُ فِيهِ فَاخْطُبْنِي إِلَيْهِ فَلَنْ يَرُدَّكَ، فَإِذَا زَوَّجَكَ فَأَشْهِدِ الْقَوْمَ. فَفَعَلَ عَدِيٌّ مَا أَمَرَتْهُ، فَأَجَابَهُ جَذِيمَةُ وَأَمْلَكَهُ إِيَّاهَا، فَانْصَرَفَ إِلَيْهَا فَأَعْرَسَ بِهَا مِنْ لَيْلَتِهِ وَأَصْبَحَ بِالْخَلُوقِ، فَقَالَ لَهُ جَذِيمَةُ، وَأَنْكَرَ مَا رَأَى بِهِ: مَا هَذِهِ الْآثَارُ يَا عَدِيُّ؟ قَالَ: آثَارُ الْعُرْسِ. قَالَ: أَيُّ عُرْسٍ؟ قَالَ: عُرْسُ رَقَاشٍ. قَالَ: مَنْ زَوَّجَكُمَا وَيْحَكَ! قَالَ: الْمَلِكُ. فَنَدِمَ جَذِيمَةُ وَأَكَبَّ عَلَى الْأَرْضِ مُتَفَكِّرًا، وَهَرَبَ عَدِيٌّ، فَلَمْ يُرَ لَهُ أَثَرٌ وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا جَذِيمَةُ: خَبِّرِينِي وَأَنْتِ لَا تَكْذِبِينِي أَبِحُرٍّ زَنَيْتِ أَمْ بِهَجِينِ أَمْ بِعَبْدٍ فَأَنْتِ أَهْلٌ لِعَبْدٍ أَمْ بِدُونٍ فَأَنْتِ أَهْلٌ لِدُونِ. فَقَالَتْ: لَا بَلْ أَنْتَ زَوَّجْتَنِي امْرَأً عَرَبِيًّا حَسِيبًا وَلَمْ تَسْتَأْمِرْنِي فِي نَفْسِي. فَكَفَّ عَنْهَا وَعَذَرَهَا. وَرَجَعَ عَدِيٌّ إِلَى إِيَادٍ فَكَانَ فِيهِمْ. فَخَرَجَ يَوْمًا مَعَ فِتْيَةٍ مُتَصَيِّدِينَ، فَرَمَى بِهِ فَتًى مِنْهُمْ فِي مَا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَتَنَكَّسَ فَمَاتَ. فَحَمَلَتْ رَقَاشُ فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَسَمَّتْهُ عَمْرًا، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ وَشَبَّ أَلْبَسَتْهُ وَعَطَّرَتْهُ وَأَزَارَتْهُ خَالَهُ، فَلَمَّا رَآهُ أَحَبَّهُ وَجَعَلَهُ مَعَ وَلَدِهِ، وَخَرَجَ جَذِيمَةُ مُتَبَدِّيًا بِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فِي سَنَةٍ خَصِيبَةٍ، فَأَقَامَ فِي رَوْضَةٍ ذَاتِ زَهْرٍ وَغُدُرٍ، فَخَرَجَ وَلَدُهُ وَعَمْرٌو مَعَهُمْ يَجْتَنُونَ الْكَمْأَةَ، فَكَانُوا إِذَا أَصَابُوا كَمْأَةً جَيِّدَةً أَكَلُوهَا، وَإِذَا أَصَابَهَا عَمْرٌو خَبَّأَهَا، فَانْصَرَفُوا إِلَى جَذِيمَةَ يَتَعَادُونَ، وَعَمْرٌو يَقُولُ: هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ ... إِذْ كُلُّ جَانٍ يَدُهُ فِي فِيهِ.

فَضَمَّهُ جَذِيمَةُ إِلَيْهِ وَالْتَزَمَهُ وَسُرَّ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَأَمَرَ فَجُعِلَ لَهُ حُلِيٌّ مِنْ فِضَّةٍ وَطَوْقٌ، فَكَانَ أَوَّلَ عَرَبِيٍّ أُلْبِسَ طَوْقًا. فَبَيْنَا هُوَ عَلَى أَحْسَنِ حَالَةٍ إِذِ اسْتَطَارَتْهُ الْجِنُّ، فَطَلَبَهُ جَذِيمَةُ فِي الْآفَاقِ زَمَانًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَلْقِينِ قُضَاعَةَ، يُقَالُ لَهُمَا: مَالِكٌ وَعَقِيلٌ ابْنَا فَارِجِ بْنِ مَالِكٍ مِنَ الشَّامِ يُرِيدَانِ جَذِيمَةَ، وَأَهْدَيَا لَهُ طُرَفًا، فَنَزَلَا مَنْزِلًا وَمَعَهُمَا قَيْنَةٌ لَهُمَا تُسَمَّى أُمَّ عَمْرٍو، فَقَدَّمَتْ طَعَامًا. فَبَيْنَمَا هُمَا يَأْكُلَانِ إِذْ أَقْبَلَ فَتًى عُرْيَانٌ قَدْ تَلَبَّدَ شَعْرُهُ وَطَالَتْ أَظَافِرُهُ وَسَاءَتْ حَالُهُ، فَجَلَسَ نَاحِيَةً عَنْهُمَا وَمَدَّ يَدَهُ يَطْلُبُ الطَّعَامَ، فَنَاوَلَتْهُ الْقَيْنَةُ كُرَاعًا فَأَكَلَهَا، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ ثَانِيَةً، فَقَالَتْ: لَا تُعْطِ الْعَبْدَ كُرَاعًا فَيَطْمَعَ فِي الذِّرَاعِ! فَذَهَبَتْ مَثَلًا، ثُمَّ سَقَتْهُمَا مِنْ شَرَابٍ مَعَهَا وَأَوْكَتْ زِقَّهَا، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَدِيٍّ: صَدَدْتِ الْكَأْسَ عَنَّا أُمَّ عَمْرٍو ... وَكَانَ الْكَأْسُ مَجْرَاهَا الْيَمِينَا وَمَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ أُمَّ عَمْرٍو ... بِصَاحِبِكِ الَّذِي لَا تُصْبِحِينَا فَسَأَلَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ: إِنْ تُنْكِرَانِي أَوْ تُنْكِرَا نَسَبِي، فَإِنِّي أَنَا عَمْرُو بْنُ عَدِيِّ بْنِ تَنُوخِيَةَ اللَّخْمِيُّ، وَغَدًا مَا تَرَيَانِي فِي نُمَارَةَ غَيْرَ مَعْصِيٍّ. فَنَهَضَا وَغَسَلَا رَأَسَهُ وَأَصْلَحَا حَالَهُ وَأَلْبَسَاهُ ثِيَابًا وَقَالَا: مَا كُنَّا لِنَهْدِيَ لِجَذِيمَةَ أَنْفَسَ مِنِ ابْنِ أُخْتِهِ! فَخَرَجَا بِهِ إِلَى جَذِيمَةَ، فَسُرَّ بِهِ سُرُورًا شَدِيدًا وَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَوْمَ ذَهَبَ وَعَلَيْهِ طَوْقٌ، فَمَا ذَهَبَ مِنْ عَيْنِي وَقَلْبِي إِلَى السَّاعَةِ، وَأَعَادُوا عَلَيْهِ الطَّوْقَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ: " شَبَّ عَمْرٌو عَنِ الطَّوْقِ "، وَأَرْسَلَهَا مَثَلًا، وَقَالَ لِمَالِكٍ وَعَقِيلٍ: حُكْمُكُمَا. قَالَا: حُكْمُنَا مُنَادَمَتُكَ مَا بَقِينَا وَبَقِيتَ، فَهُمَا نُدْمَانَا جَذِيمَةَ اللَّذَانِ يُضْرَبَانِ مَثَلًا.

وَكَانَ مَلِكُ الْعَرَبِ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَمَشَارِفِ الشَّامِ عَمْرَو بْنَ الظَّرِبِ بْنِ حَسَّانَ بْنِ أُذَيْنَةَ الْعِمْلِيقِيَّ مِنْ عَامِلَةِ الْعَمَالِقَةِ، فَتَحَارَبَ هُوَ وَجَذِيمَةُ، فَقُتِلَ عَمْرٌو وَانْهَزَمَتْ عَسَاكِرُهُ، وَعَادَ جَذِيمَةُ سَالِمًا. وَمَلَكَتْ بَعْدَ عَمْرٍو ابْنَتُهُ الزَّبَّاءُ، وَاسْمُهَا نَائِلَةُ، وَكَانَ جُنُودُ الزَّبَّاءِ بَقَايَا الْعَمَالِيقِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ لَهَا مِنَ الْفُرَاتِ إِلَى تَدْمُرَ. فَلَمَّا اسْتَجْمَعَ لَهَا أَمْرُهَا وَاسْتَحْكَمَ مُلْكُهَا اجْتَمَعَتْ لِغَزْوِ جَذِيمَةَ تَطْلُبُ بِثَأْرِ أَبِيهَا، فَقَالَتْ لَهَا أُخْتُهَا رَبِيبَةُ، وَكَانَتْ عَاقِلَةً: إِنْ غَزَوْتِ جَذِيمَةَ فَإِنَّمَا هُوَ يَوْمٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، وَأَشَارَتْ بِتَرْكِ الْحَرْبِ وَإِعْمَالِ الْحِيلَةِ. فَأَجَابَتْهَا إِلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَتْ إِلَى جَذِيمَةَ تَدْعُوهُ إِلَى نَفْسِهَا وَمُلْكِهَا، وَكَتَبَتْ إِلَيْهِ أَنَّهَا لَمْ تَجِدْ مُلْكَ النِّسَاءِ إِلَّا قُبْحًا فِي السَّمَاعِ وَضَعْفًا فِي السُّلْطَانِ، وَأَنَّهَا لَمْ تَجِدْ لِمُلْكِهَا وَلَا لِنَفْسِهَا كُفُوًا غَيْرَهُ. فَلَمَّا انْتَهَى كِتَابُ الزَّبَّاءِ إِلَيْهِ اسْتَخَفَّ مَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ وَجَمَعَ إِلَيْهِ ثِقَاتِهِ، وَهُوَ بِبَقِيَّةٍ مِنْ شَاطِئِ الْفُرَاتِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ مَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ وَاسْتَشَارَهُمْ، فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهَا وَيَسْتَوْلِيَ عَلَى مُلْكِهَا. وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ قَصِيرُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ لَخْمٍ، وَكَانَ سَعْدٌ تَزَوَّجَ أَمَةً لِجَذِيمَةَ فَوَلَدَتْ لَهُ قَصِيرًا، وَكَانَ أَرِيبًا حَازِمًا نَاصِحًا لِجَذِيمَةَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَخَالَفَهُمْ فِيمَا أَشَارُوا بِهِ عَلَيْهِ وَقَالَ: رَأْيٌ فَاتِرٌ، وَغَدْرٌ حَاضِرٌ، فَذَهَبَتْ مَثَلًا، وَقَالَ لِجَذِيمَةَ: اكْتُبْهَا إِلَيْهَا فَإِنْ كَانَتْ صَادِقَةً فَلْتُقْبِلْ إِلَيْكَ وَإِلَّا لَمْ تُمَكِّنْهَا مِنْ نَفْسِكَ وَقَدْ وَتَرْتَهَا وَقَتَلْتَ أَبَاهَا. فَلَمْ يُوَافِقْ جَذِيمَةُ مَا أَشَارَ بِهِ قَصِيرٌ وَقَالَ لَهُ: لَا وَلَكِنَّكَ امْرُؤٌ رَأْيُكَ فِي الْكَنِّ لَا فِي الضَّحِّ، فَذَهَبَتْ مَثَلًا. وَدَعَا جَذِيمَةُ ابْنَ أُخْتِهِ عَمْرَو بْنَ عَدِيٍّ فَاسْتَشَارَهُ، فَشَجَّعَهُ عَلَى الْمَسِيرِ وَقَالَ: إِنَّ نُمَارَةَ قَوْمِي مَعَ الزَّبَّاءِ فَلَوْ رَأَوْكَ صَارُوا مَعَكَ، فَأَطَاعَهُ.

فَقَالَ قَصِيرٌ: لَا يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ. وَقَالَتِ الْعَرَبُ: بِبَقَّةَ أُبْرِمَ الْأَمْرُ فَذَهَبَتَا مَثَلًا. وَاسْتَخْلَفَ جَذِيمَةُ عَمْرَو بْنَ عَدِيٍّ عَلَى مُلْكِهِ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْجِنِّ عَلَى خُيُولِهِ مَعَهُ، وَسَارَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْفُرْضَةَ قَالَ لِقَصِيرٍ: مَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: بِبَقَّةَ تَرَكْتُ الرَّأْيَ، فَذَهَبَتْ مَثَلًا. وَاسْتَقْبَلَهُ رُسُلُ الزَّبَّاءِ بِالْهَدَايَا وَالْأَلْطَافِ، فَقَالَ: يَا قَصِيرُ كَيْفَ تَرَى؟ قَالَ: خَطَرٌ يَسِيرٌ، وَخَطْبٌ كَبِيرٌ، فَذَهَبَتْ مَثَلًا، وَسَتَلْقَاكَ الْخُيُولُ، فَإِنْ سَارَتْ أَمَامَكَ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ صَادِقَةٌ، وَإِنْ أَخَذَتْ جَنْبَيْكَ وَأَحَاطَتْ بِكَ فَإِنَّ الْقَوْمَ غَادِرُونَ، فَارْكَبِ الْعَصَا، وَكَانَتْ فَرَسًا لِجَذِيمَةَ لَا تُجَارَى، فَإِنِّي رَاكِبُهَا وَمُسَايِرُكَ عَلَيْهَا. فَلَقِيَتْهُ الْكَتَائِبُ فَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَصَا، فَرَكِبَهَا قَصِيرٌ، وَنَظَرَ إِلَيْهِ جَذِيمَةُ مُوَلِّيًا عَلَى مَتْنِهَا، فَقَالَ: " وَيْلَ أُمِّهِ حَزْمًا عَلَى مَتْنِ الْعَصَا! " فَذَهَبَتْ مَثَلًا. وَقَالَ: " يَا ضَلَّ مَنْ تَجْرِي بِهِ الْعَصَا " وَجَرَتْ بِهِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، ثُمَّ نَفَقَتْ وَقَدْ قَطَعَتْ أَرْضًا بَعِيدَةً، فَبَنَى عَلَيْهَا بُرْجًا يُقَالُ لَهُ بُرْجُ الْعَصَا، مَثَلٌ تَضْرِبُهُ. وَقَالَتِ الْعَرَبُ: " خَيْرُ مَا جَاءَتْ بِهِ الْعَصَا ". مَثَلٌ تَضْرِبُهُ. وَسَارَ جَذِيمَةُ وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ الْخُيُولُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الزَّبَّاءِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ تَكَشَّفَتْ، فَإِذَا هِيَ مَضْفُورَةُ الْإِسْبِ، وَالْإِسْبُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ هُوَ شَعْرُ الْإِسْتِ، وَقَالَتْ لَهُ: " يَا جَذِيمَةُ أَدْأَبُ عَرُوسٍ تَرَى؟ " فَذَهَبَتْ مَثَلًا. فَقَالَ: " بَلَغَ الْمَدَى، وَجَفَّ الثَّرَى، وَأَمْرُ غَدْرٍ أَرَى " فَذَهَبَتْ مَثَلًا. فَقَالَتْ لَهُ: " أَمَا وَإِلَهِي مَا بِنَا مِنْ عَدَمِ مُوَاسٍ، وَلَا قِلَّةِ أُوَاسٍ، وَلَكِنَّهَا شِيمَةٌ مِنْ أُنَاسٍ ". فَذَهَبَتْ مَثَلًا. وَقَالَتْ لَهُ: أُنْبِئْتُ أَنَّ

دِمَاءَ الْمُلُوكِ شِفَاءٌ مِنَ الْكَلْبِ. ثُمَّ أَجْلَسَتْهُ عَلَى نِطْعٍ، وَأَمَرَتْ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَأُعِدَّ لَهُ، وَسَقَتْهُ الْخَمْرَ حَتَّى أَخَذَتْ مِنْهُ مَأْخَذَهَا ثُمَّ أَمَرَتْ بِرَاهِشَيْهِ فَقُطِعَا، وَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ الطَّسْتَ، وَقَدْ قِيلَ لَهَا: إِنْ قَطَرَ مِنْ دَمِهِ شَيْءٌ فِي غَيْرِ الطَّسْتِ طُلِبَ بِدَمِهِ. وَكَانَتِ الْمُلُوكُ لَا تَقْتُلُ بِضَرْبِ الرَّقَبَةِ إِلَّا فِي قِتَالٍ تَكْرِمَةً لِلْمُلْكِ. فَلَمَّا ضَعُفَتْ يَدَاهُ سَقَطَتَا، فَقُطِرَ مِنْ دَمِهِ فِي غَيْرِ الطَّسْتِ، فَقَالَتْ: لَا تُضَيِّعُوا دَمَ الْمَلِكِ! فَقَالَ جَذِيمَةُ: " دَعُوا دَمًا ضَيَّعَهُ أَهْلُهُ ". فَذَهَبَتْ مَثَلًا. فَهَلَكَ جَذِيمَةُ، وَخَرَجَ قَصِيرٌ مِنَ الْحَيِّ الَّذِينَ هَلَكَتِ الْعَصَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، حَتَّى قِدَمَ عَلَى عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ، وَهُوَ بِالْحِيرَةِ، فَوَجَدَهُ قَدِ اخْتَلَفَ هُوَ وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْجِنِّ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا، وَأَطَاعَ النَّاسُ عَمْرَو بْنَ عَدِيٍّ، وَقَالَ لَهُ قَصِيرٌ: تَهَيَّأْ وَاسْتَعِدَّ وَلَا تُطِلْ دَمَ خَالِكَ. فَقَالَ: " كَيْفَ لِي بِهَا وَهِيَ أَمْنَعُ مِنْ عُقَابِ الْجَوِّ؟ " فَذَهَبَتْ مَثَلًا. وَكَانَتِ الزَّبَّاءُ سَأَلَتْ كَهَنَةً عَنْ أَمْرِهَا وَهَلَاكِهَا، فَقَالُوا لَهَا: نَرَى هَلَاكَكِ بِسَبَبِ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ، وَلَكِنَّ حَتْفَكِ بِيَدِكِ، فَحَذِرَتْ عَمْرًا وَاتَّخَذَتْ نَفَقًا مِنْ مَجْلِسِهَا إِلَى حِصْنٍ لَهَا دَاخِلَ مَدِينَتِهَا، ثُمَّ قَالَتْ: إِنْ فَجَأَنِي أَمْرٌ دَخَلْتُ النَّفَقَ إِلَى حِصْنِي، وَدَعَتْ رَجُلًا مُصَوِّرًا حَاذِقًا، فَأَرْسَلَتْهُ إِلَى عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ مُتَنَكِّرًا وَقَالَتْ لَهُ: صَوِّرْهُ جَالِسًا وَقَائِمًا وَمُتَفَضِّلًا وَمُتَنَكِّرًا وَمُتَسَلِّحًا بِهَيْئَتِهِ وَلُبْسِهِ وَلَوْنِهِ ثُمَّ أَقْبِلْ إِلَيَّ. فَفَعَلَ الْمُصَوِّرُ مَا أَوْصَتْهُ الزَّبَّاءُ وَعَادَ إِلَيْهَا، وَأَرَادَتْ أَنْ تَعْرِفَ عَمْرَو بْنَ عَدِيٍّ فَلَا تَرَاهُ عَلَى حَالٍ إِلَّا عَرَفَتْهُ وَحَذِرَتْهُ. وَقَالَ قَصِيرٌ لِعَمْرٍو: اجْدَعْ أَنْفِي وَاضْرِبْ ظَهْرِي وَدَعْنِي وَإِيَّاهَا. فَقَالَ عَمْرٌو: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. فَقَالَ قَصِيرٌ: " خَلِّ عَنِّي إِذًا وَخَلَاكَ ذَمٌّ "، فَذَهَبَتْ مَثَلًا. فَقَالَ عَمْرٌو: فَأَنْتَ أَبْصَرُ، فَجَدَعَ قَصِيرٌ أَنْفَهُ وَدَقَّ بِظَهْرِهِ وَخَرَجَ كَأَنَّهُ هَارِبٌ، وَأَظْهَرَ أَنَّ عَمْرًا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ، وَسَارَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى الزَّبَّاءِ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّ قَصِيرًا بِالْبَابِ، فَأَمَرَتْ بِهِ فَأُدْخِلَ عَلَيْهَا، فَإِذَا أَنْفُهُ قَدْ جُدِعَ وَظَهْرُهُ قَدْ ضُرِبَ، فَقَالَتْ: " لِأَمْرٍ مَا جَدَعَ قَصِيرٌ أَنْفَهُ "، فَذَهَبَتْ مَثَلًا. قَالَتْ: مَا الَّذِي أَرَى بِكَ يَا قَصِيرُ؟ قَالَ: زَعَمَ عَمْرٌو أَنِّي غَدَرْتُ خَالَهُ وَزَيَّنْتُ لَهُ الْمَسِيرَ إِلَيْكِ وَمَالَأْتُكِ عَلَيْهِ ; فَفَعَلَ بِي مَا تَرَيْنَ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكِ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَا أَكُونُ مَعَ أَحَدٍ

هُوَ أَثْقَلُ عَلَيْهِ مِنْكِ. فَأَكْرَمَتْهُ، وَأَصَابَتْ عِنْدَهُ بَعْضَ مَا أَرَادَتْ مِنَ الْحَزْمِ وَالرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِأُمُورِ الْمُلْكِ. فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهَا قَدِ اسْتَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَوَثِقَتْ بِهِ، قَالَ لَهَا: إِنَّ لِي بِالْعِرَاقِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَلِي بِهَا طَرَائِفُ وَعِطْرٌ، فَابْعَثِينِي لِأَحْمِلَ مَالِي وَأَحْمِلَ إِلَيْكِ مِنْ طَرَائِفِهَا وَصُنُوفِ مَا يَكُونُ بِهَا مِنَ التِّجَارَاتِ فَتُصِيبِينَ أَرْبَاحًا وَبَعْضَ مَا لَا غَنَاءَ لِلْمُلُوكِ عَنْهُ. فَسَرَّحَتْهُ وَدَفَعَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالًا وَجَهَّزَتْ مَعَهُ عِيرًا، فَسَارَ حَتَّى قَدِمَ الْعِرَاقَ وَأَتَى عَمْرَو بْنَ عَدِيٍّ مُتَخَفِّيًا وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَقَالَ: جَهِّزْنِي بِالْبَزِّ وَالطُّرَفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَعَلَّ اللَّهَ يُمَكِّنُ مِنَ الزَّبَّاءِ فَتُصِيبَ ثَأْرَكَ وَتَقْتُلَ عَدُوَّكَ. فَأَعْطَاهُ حَاجَتَهُ، فَرَجَعَ بِذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى الزَّبَّاءِ فَعَرَضَهُ عَلَيْهَا، فَأَعْجَبَهَا وَسَرَّهَا وَازْدَادَتْ بِهِ ثِقَةً، ثُمَّ جَهَّزَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِمَّا جَهَّزَتْهُ بِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى. فَسَارَ حَتَّى قَدِمَ الْعِرَاقَ وَحَمَلَ مِنْ عِنْدِ عَمْرٍو حَاجَتَهُ وَلَمْ يَدَعْ طُرْفَةً وَلَا مَتَاعًا قَدَرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَادَ الثَّالِثَةَ فَأَخْبَرَ عَمْرًا الْخَبَرَ وَقَالَ: اجْمَعْ لِي ثِقَاتِ أَصْحَابِكَ وَجُنْدَكَ وَهَيِّءْ لَهُمُ الْغَرَائِرَ - وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَهَا - وَاحْمِلْ كُلَّ رَجُلَيْنِ عَلَى بَعِيرٍ فِي غِرَارَتَيْنِ وَاجْعَلْ مُعَقَّدَ رُءُوسِهِمَا مِنْ بَاطِنِهِمَا. وَقَالَ لَهُ: إِذَا دَخَلْتُ مَدِينَةَ الزَّبَّاءِ أَقَمْتُكَ عَلَى بَابِ نَفَقِهَا، وَخَرَجَتِ الرِّجَالُ مِنَ الْغَرَائِرِ فَصَاحُوا بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَمَنْ قَاتَلَهُمْ قَاتَلُوهُ، وَإِنْ أَقْبَلَتِ الزَّبَّاءُ تُرِيدُ نَفَقَهَا قَتَلْتَهَا. فَفَعَلَ عَمْرٌو ذَلِكَ وَسَارُوا، فَلَمَّا كَانُوا قَرِيبًا مِنَ الزَّبَّاءِ، تَقَدَّمَ قَصِيرٌ إِلَيْهَا فَبَشَّرَهَا وَأَعْلَمَهَا كَثْرَةَ مَا حَمَلَ مِنَ الثِّيَابِ وَالطَّرَائِفِ، وَسَأَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَتَنْظُرَ إِلَى الْإِبِلِ وَمَا عَلَيْهَا، وَكَانَ قَصِيرٌ يَكْمُنُ النَّهَارَ وَيَسِيرُ اللَّيْلَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَخَرَجَتِ الزَّبَّاءُ فَأَبْصَرَتِ الْإِبِلَ تَكَادُ قَوَائِمُهَا تَسُوخُ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَتْ: يَا قَصِيرُ مَا لِلْجِمَالِ مَشْيُهَا وَئِيدَا ... أَجَنْدَلًا يَحْمِلْنَ أَمْ حَدِيدَا أَمْ صَرَفَانًا بَارِدًا شَدِيدَا ... أَمِ الرِّجَالَ جُثَّمًا قُعُودَا

ذكر طسم وجديس وكانوا أيام ملوك الطوائف

وَدَخَلَتِ الْإِبِلُ الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتْهَا أُنِيخَتْ وَخَرَجَ الرِّجَالُ مِنَ الْغَرَائِرِ، وَدَلَّ قَصِيرٌ عَمْرًا عَلَى بَابِ النَّفَقِ وَصَاحُوا بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَوَضَعُوا فِيهِمُ السِّلَاحَ، وَقَامَ عَمْرٌو عَلَى بَابِ النَّفَقِ. وَأَقْبَلَتِ الزَّبَّاءُ تُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنَ النَّفَقِ، فَلَمَّا أَبْصَرَتْ عَمْرًا قَائِمًا عَلَى بَابِ النَّفَقِ عَرَفَتْهُ بِالصُّورَةِ الَّتِي عَمِلَهَا الْمُصَوِّرُ، فَمَصَّتْ سُمًّا كَانَ فِي خَاتَمِهَا، فَقَالَتْ: " بِيَدِي لَا بِيَدِ عَمْرٍو "! فَذَهَبَتْ مَثَلًا. وَتَلَقَّاهَا عَمْرٌو بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهَا وَأَصَابَ مَا أَصَابَ مِنَ الْمَدِينَةِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْعِرَاقِ. وَصَارَ الْمُلْكُ بَعْدَ جَذِيمَةَ لِابْنِ أُخْتِهِ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ سُعُودِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُمَارَةَ بْنِ لَخْمٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْحِيرَةَ مَنْزِلًا مِنْ مُلُوكِ الْعَرَبِ، فَلَمْ يَزَلْ مَلِكًا حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: مِائَةٌ وَثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةٍ، مِنْهَا أَيَّامُ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ خَمْسٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَأَيَّامُ أَرْدَشِيرَ بْنِ بَابَكَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَشْرَةَ أَشْهُرٍ، وَأَيَّامُ ابْنِهِ سَابُورَ بْنِ أَرْدَشِيرَ ثَمَانِي سِنِينَ وَشَهْرَانِ، وَكَانَ مُنْفَرِدًا بِمُلْكِهِ يَغْزُو الْمَغَازِيَ، وَلَا يَدِينُ لِمُلُوكِ الطَّوَائِفِ إِلَى أَنْ مَلَكَ أَرْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ أَهْلَ فَارِسَ. وَلَمْ يَزَلِ الْمُلْكُ فِي وَلَدِهِ إِلَى أَنْ كَانَ آخِرَهُمُ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ، إِلَى أَيَّامِ مُلُوكِ كِنْدَةَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقِيلَ فِي سَبَبِ مَسِيرِ وَلَدِ نَصْرِ بْنِ رَبِيعَةَ إِلَى الْعِرَاقِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ رُؤْيَا رَآهَا رَبِيعَةُ، وَسَيَرِدُ ذِكْرُهَا عِنْدَ أَمْرِ الْحَبَشَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [ذِكْرُ طَسْمٍ وَجَدِيسٍ وَكَانُوا أَيَّامَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ]

كَانَ طَسْمُ بْنُ لَوْذِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَجَدِيسُ بْنُ عَامِرِ بْنِ أَزْهَرَ بْنِ سَامٍ ابْنَيْ عَمٍّ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمْ مَوْضِعَ الْيَمَامَةِ، وَكَانَ اسْمُهَا حِينَئِذٍ جَوَا، وَكَانَتْ مِنْ أَخْصَبِ الْبِلَادِ وَأَكْثَرِهَا خَيْرًا، وَكَانَ مَلِكُهُمْ أَيَّامَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ عِمْلِيقْ، وَكَانَ ظَالِمًا قَدْ تَمَادَى فِي الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ وَالسِّيرَةِ الْكَثِيرَةِ الْقُبْحِ، وَإِنَّ امْرَأَةً مِنْ جَدِيسٍ يُقَالُ لَهَا هَزِيلَةُ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَأَرَادَ أَخْذَ وَلَدِهَا مِنْهَا فَخَاصَمَتْهُ إِلَى عِمْلِيقْ وَقَالَتْ: أَيُّهَا الْمَلِكُ حَمَلْتُهُ تِسْعًا، وَوَضَعْتُهُ دَفْعًا، وَأَرْضَعْتُهُ شَفْعًا، حَتَّى إِذَا تَمَّتْ أَوْصَالُهُ، وَدَنَا فِصَالُهُ، أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنِّي كُرْهًا، وَيَتْرُكَنِي بَعْدَهُ وَرِهًا. فَقَالَ زَوْجُهَا: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهَا أُعْطِيَتْ مَهْرَهَا كَامِلًا، وَلَمْ أُصِبْ مِنْهَا طَائِلًا، إِلَّا وَلِيدًا خَامِلًا، فَافْعَلْ مَا كُنْتَ فَاعِلًا. فَأَمَرَ الْمَلِكُ بِالْغُلَامِ فَصَارَ فِي غِلْمَانِهِ، وَأَنْ تُبَاعَ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا فَيُعْطَى الزَّوْجُ خُمْسَ ثَمَنِهَا وَتُعْطَى الْمَرْأَةُ عُشْرَ ثَمَنِ زَوْجِهَا، فَقَالَتْ هَزِيلَةُ: أَتَيْنَا أَخَا طَسْمٍ لِيَحْكُمَ بَيْنَنَا ... فَأَنْفَذَ حُكْمًا فِي هَزِيلَةَ ظَالِمَا لَعَمْرِي لَقَدْ حَكَّمْتَ لَا مُتَوَرِّعَا ... وَلَا كُنْتَ فِيمَنْ يُبْرِمُ الْحُكْمَ عَالِمَا نَدِمْتُ وَلَمْ أَنْدَمْ وَأَنَّى بِعِتْرَتِي ... وَأَصْبَحَ بَعْلِي فِي الْحُكُومَةِ نَادِمَا فَلَمَّا سَمِعَ عِمْلِيقْ قَوْلَهَا، أَمَرَ أَنْ لَا تُزَوَّجَ بِكْرٌ مِنْ جَدِيسٍ وَتُهْدَى إِلَى زَوْجِهَا حَتَّى

يَفْتَرِعَهَا، فَلَقُوا مِنْ ذَلِكَ بَلَاءً وَجَهْدًا وَذُلًّا، وَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى زُوِّجَتِ الشَّمُوسُ، وَهِيَ عَفِيرَةُ بِنْتُ عَبَّادٍ أُخْتُ الْأَسْوَدِ، فَلَمَّا أَرَادُوا حَمْلَهَا إِلَى زَوْجِهَا انْطَلَقُوا بِهَا إِلَى عِمْلِيقْ لِيَنَالَهَا قَبْلَهُ، وَمَعَهَا الْفِتْيَانُ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ افْتَرَعَهَا وَخَلَّى سَبِيلَهَا، فَخَرَجَتْ إِلَى قَوْمِهَا فِي دِمَائِهَا وَقَدْ شَقَّتْ دِرْعَهَا مِنْ قُبُلٍ وَدُبُرٍ وَالدَّمُ يَبِينُ وَهِيَ فِي أَقْبَحِ مَنْظَرٍ تَقُولُ: لَا أَحَدَ أَذَلُّ مِنْ جَدِيسِ ... أَهَكَذَا يُفْعَلُ بِالْعَرُوسِ يَرْضَى بِذَا يَا قَوْمِ بَعْلٌ حُرُّ ... أَهْدَى وَقَدْ أَعْطَى وَسِيقَ الْمَهْرُ وَقَالَتْ أَيْضًا لِتُحَرِّضَ قَوْمَهَا: أَيَجْمُلُ مَا يُؤْتَى إِلَى فَتَيَاتِكُمْ ... وَأَنْتُمْ رِجَالٌ فِيكُمُ عَدَدُ النَّمْلِ وَتُصْبِحُ تَمْشِي فِي الدِّمَاءِ عَفِيرَةٌ جَهَارًا ... وَزُفَّتْ فِي النِّسَاءِ إِلَى بَعْلِ وَلَوْ أَنَّنَا كُنَّا رِجَالًا وَكُنْتُمُ ... نِسَاءً لَكُنَّا لَا نُقِرُّ بِذَا الْفِعْلِ فَمُوتُوا كِرَامًا أَوْ أَمِيتُوا عَدُوَّكُمْ ... وَدِبُّوا لِنَارِ الْحَرْبِ بِالْحَطَبِ الْجَزْلِ وَإِلَّا فَخَلُّوا بَطْنَهَا وَتَحَمَّلُوا ... إِلَى بَلَدٍ قَفْرٍ وَمُوتُوا مِنَ الْهَزْلِ فَلَلْبَيْنُ خَيْرٌ مِنْ مُقَامٍ عَلَى الْأَذَى ... وَلَلْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ مُقَامٍ عَلَى الذُّلِّ وَإِنْ أَنْتُمُ لَمْ تَغْضَبُوا بَعْدَ هَذِهِ فَكُونُوا ... نِسَاءً لَا تُعَابُ مِنَ الْكُحْلِ

وَدُونَكُمُ طِيبُ النِّسَاءِ فَإِنَّمَا خُلِقْتُمْ لِأَثْوَابِ الْعَرُوسِ وَلِلْغُسْلِ ... فَبُعْدًا وَسُحْقًا لِلَّذِي لَيْسَ دَافِعًا وَيَخْتَالُ يَمْشِي بَيْنَنَا مِشْيَةَ الْفَحْلِ فَلَمَّا سَمِعَ أَخُوهَا الْأَسْوَدُ قَوْلَهَا، وَكَانَ سَيِّدًا مُطَاعًا، قَالَ لِقَوْمِهِ: يَا مَعْشَرَ جَدِيسٍ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَيْسُوا بِأَعَزَّ مِنْكُمْ فِي دَارِكُمْ إِلَّا بِمُلْكِ صَاحِبِهِمْ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، وَلَوْلَا عَجْزُنَا لَمَا كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا، وَلَوِ امْتَنَعْنَا لَانْتَصَفْنَا مِنْهُ، فَأَطِيعُونِي فِيمَا آمُرُكُمْ فَإِنَّهُ عِزُّ الدَّهْرِ. وَقَدْ حَمِيَ جَدِيسٌ لِمَا سَمِعُوا مِنْ قَوْلِهَا فَقَالُوا: نُطِيعُكَ وَلَكِنَّ الْقَوْمَ أَكْثَرُ مِنَّا! قَالَ: فَإِنِّي أَصْنَعُ لِلْمَلِكِ طَعَامًا وَأَدْعُوهُ وَأَهْلَهُ إِلَيْهِ، فَإِذَا جَاءُوا يَرْفُلُونَ فِي الْحُلَلِ أَخَذْنَا سُيُوفَنَا وَقَتَلْنَاهُمْ. فَقَالُوا: افْعَلْ. فَصَنَعَ طَعَامًا فَأَكْثَرَ وَجَعَلَهُ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ وَدَفَنَ هُوَ وَقَوْمُهُ سُيُوفَهُمْ فِي الرَّمْلِ وَدَعَا الْمَلِكَ وَقَوْمَهُ، فَجَاءُوا يَرْفُلُونَ فِي حُلَلِهِمْ، فَلَمَّا أَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ وَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ يَأْكُلُونَ، أَخَذَتْ جَدِيسٌ سُيُوفَهُمْ مِنَ الرَّمْلِ وَقَتَلُوهُمْ وَقَتَلُوا مَلِكَهُمْ وَقَتَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ السَّفَلَةَ. ثُمَّ إِنَّ بَقِيَّةَ طَسْمٍ قَصَدُوا حَسَّانَ بْنَ تُبَّعٍ مَلِكَ الْيَمَنِ فَاسْتَنْصَرُوهُ، فَسَارَ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْهَا عَلَى مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ لِي أُخْتًا مُتَزَوِّجَةً مِنْ جَدِيسٍ يُقَالُ لَهَا الْيَمَامَةُ تُبْصِرُ الرَّاكِبَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تُنْذِرَ الْقَوْمَ بِكَ، فَمُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَقْطَعْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ شَجَرَةً فَلْيَجْعَلْهَا أَمَامَهُ. فَأَمَرَهُمْ حَسَّانُ بِذَلِكَ، فَنَظَرَتِ الْيَمَامَةُ فَأَبْصَرَتْهُمْ فَقَالَتْ لِجَدِيسٍ: لَقَدْ سَارَتْ إِلَيْكُمْ حِمْيَرُ. قَالُوا: وَمَا تَرَيْنِ؟ قَالَتْ: أَرَى رَجُلًا فِي شَجَرَةٍ مَعَهُ كَتِفٌ يَتَعَرَّقُهَا أَوْ نَعْلٌ يَخْصِفُهَا، وَكَانَ كَذَلِكَ، فَكَذَّبُوهَا، فَصَبَّحَهُمْ حَسَّانُ فَأَبَادَهُمْ، وَأُتِيَ حَسَّانُ بِالْيَمَامَةِ فَفَقَأَ عَيْنَهَا، فَإِذَا فِيهَا عُرُوقٌ سُودٌ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَتْ: حَجَرٌ أَسْوَدُ كُنْتُ أَكْتَحِلُ بِهِ يُقَالُ لَهُ الْإِثْمِدُ، وَكَانَتْ أَوَّلَ مَنِ اكْتَحَلَ بِهِ. وَبِهَذِهِ الْيَمَامَةِ سُمِّيَتِ الْيَمَامَةُ، وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ ذِكْرَهَا فِي أَشْعَارِهِمْ.

وَلَمَّا هَلَكَتْ جَدِيسٌ هَرَبَ الْأَسْوَدُ قَاتِلُ عِمْلِيقْ إِلَى جَبَلَيْ طَيِّءٍ فَأَقَامَ بِهِمَا، ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَهُمَا طَيِّءٌ، وَكَانَتْ طَيِّءٌ تَنْزِلُ الْجُرْفَ مِنَ الْيَمَنِ، وَهُوَ الْآنَ لِمُرَادٍ وَهَمْدَانَ. وَكَانَ يَأْتِي إِلَى طَيِّءٍ بَعِيرٌ أَزْمَانَ الْخَرِيفِ عَظِيمُ السِّمَنِ وَيَعُودُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مِنْ أَيْنَ يَأْتِي، ثُمَّ إِنَّهُمُ اتَّبَعُوهُ يَسِيرُونَ بِسَيْرِهِ حَتَّى هَبَطَ بِهِمْ عَلَى أَجَأَ وَسُلْمَى جَبَلَيْ طَيِّءٍ، وَهُمَا بِقُرْبِ فَيْدٍ، فَرَأَوْا فِيهِمَا النَّخْلَ وَالْمَرَاعِيَ الْكَثِيرَةَ وَرَأَوُا الْأَسْوَدَ بْنَ عِفَارٍ، فَقَتَلُوهُ، وَأَقَامَتْ طَيِّءٌ بِالْجَبَلَيْنِ بَعْدَهُ، فَهُمْ هُنَاكَ إِلَى الْآنَ، وَهَذَا أَوَّلُ مَخْرَجِهِمْ إِلَيْهِمَا.

ذكر أصحاب الكهف وكانوا أيام ملوك الطوائف

[ذِكْرُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَكَانُوا أَيَّامَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ] كَانَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ أَيَّامَ مَلِكٍ اسْمُهُ دِقْيُوسْ، وَيُقَالُ دِقْيَانُوسْ، وَكَانُوا بِمَدِينَةٍ لِلرُّومِ اسْمُهَا أَفْسُوسْ، وَمَلِكَهُمْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَكَانُوا فَتِيَّةً آمَنُوا بِرَبِّهِمْ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ - تَعَالَى فَقَالَ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف: 9] ، وَالرَّقِيمُ خَبَرُهُمْ كُتِبَ فِي لَوْحٍ، وَجُعِلَ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ الَّذِي أَوَوْا إِلَيْهِ، وَقِيلَ: كَتَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ زَمَانِهِمْ وَجَعَلَهُ فِي الْبِنَاءِ وَفِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَفِي أَيَّامِ مَنْ كَانُوا وَسَبَبُ وُصُولِهِمْ إِلَى الْكَهْفِ. وَكَانَتْ عِدَّتُهُمْ، فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ، سَبْعَةً وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَقَالَ: إِنَّا مِنَ الْقَلِيلِ الَّذِينَ تَعْلَمُونَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانُوا ثَمَانِيَةً، فَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ تَاسِعُهُمْ كَلْبَهُمْ. وَكَانُوا مِنَ الرُّومِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، فَهَدَاهُمُ اللَّهُ، وَكَانَتْ شَرِيعَتُهُمْ شَرِيعَةَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ أَعْلَمُ قَوْمِهِ بِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَهُمْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ بَعْدَ رَفْعِ الْمَسِيحِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَكَانَ سَبَبَ إِيمَانِهِمْ أَنَّهُ جَاءَ حَوَارِيٌّ مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى إِلَى مَدِينَتِهِمْ فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَلَى بَابِهَا صَنَمًا لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ حَتَّى يَسْجُدَ لَهُ، فَلَمْ يَدْخُلْهَا وَأَتَى حَمَّامًا قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَعْمَلُ فِيهِ، فَرَأَى صَاحِبُ الْحَمَّامِ الْبَرَكَةَ وَعَلِقَهُ

الْفِتْيَةُ، فَجَعَلَ يُخْبِرُهُمْ خَبَرَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَخَبَرَ الْآخِرَةِ حَتَّى آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ. فَكَانَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جَاءَ ابْنُ الْمَلِكِ بِامْرَأَةٍ فَدَخَلَ بِهَا الْحَمَّامَ، فَعَيَّرَهُ الْحِوَارِيُّ فَاسْتَحْيَا، ثُمَّ رَجَعَ مَرَّةً أُخْرَى فَعَيَّرَهُ فَسَبَّهُ وَانْتَهَرَهُ وَدَخَلَ الْحَمَّامَ وَمَعَهُ الْمَرْأَةُ، فَمَاتَا فِي الْحَمَّامِ، فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: إِنَّ الَّذِي بِالْحَمَّامِ قَتَلَهُمَا، فَطُلِبَ فَلَمْ يُوجَدْ، فَقِيلَ: مَنْ كَانَ يَصْحَبُهُ؟ فَذُكِرَ الْفِتْيَةُ، فَطُلِبُوا فَهَرَبُوا، فَمَرُّوا بِصَاحِبٍ لَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ فِي زَرْعٍ لَهُ فَذَكَرُوا لَهُ أَمْرَهُمْ. فَسَارَ مَعَهُمْ وَتَبِعَهُمُ الْكَلْبُ الَّذِي لَهُ، حَتَّى آوَاهُمُ اللَّيْلُ إِلَى الْكَهْفِ، فَقَالُوا: نَبِيتُ هَهُنَا حَتَّى نُصْبِحَ ثُمَّ نَرَى رَأْيَنَا، فَدَخَلُوهُ فَرَأَوْا عِنْدَهُ عَيْنَ مَاءٍ وَثِمَارًا، فَأَكَلُوا مِنَ الثِّمَارِ وَشَرِبُوا مِنَ الْمَاءِ، فَلَمَّا جَنَّهُمُ اللَّيْلُ ضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ وَوَكَّلَ بِهِمْ مَلَائِكَةً يُقَلِّبُونَهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ لِئَلَّا تَأْكُلَ الْأَرْضُ أَجْسَادَهُمْ، وَكَانَتِ الشَّمْسُ تَطْلُعُ عَلَيْهِمْ. وَسَمِعَ الْمَلِكُ دِقْيَانُوسْ خَبَرَهُمْ فَخَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَتْبَعُونَ أَثَرَهُمْ حَتَّى وَجَدَهُمْ قَدْ دَخَلُوا الْكَهْفَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالدُّخُولِ إِلَيْهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ. فَكُلَّمَا أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَدْخُلَ فَأُرْعِبَ فَعَادَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَيْسَ لَوْ كُنْتَ ظَفِرْتَ بِهِمْ قَتَلْتَهُمْ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَابْنِ عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ وَدَعْهُمْ يَمُوتُوا جُوعًا وَعَطَشًا. فَفَعَلَ، فَبَقُوا زَمَانًا بَعْدَ زَمَانٍ. ثُمَّ إِنَّ رَاعِيًا أَدْرَكَهُ الْمَطَرُ فَقَالَ: لَوْ فَتَحْتُ بَابَ هَذَا الْكَهْفِ فَأَدْخَلْتُ غَنَمِي فِيهِ، فَفَتَحَهُ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ مِنَ الْغَدِ حِينَ أَصْبَحُوا، فَبَعَثُوا أَحَدَهُمْ بِوَرِقٍ لِيَشْتَرِيَ لَهُمْ طَعَامًا، وَاسْمُهُ تَمْلِيخَا، فَلَمَّا أَتَى بَابَ الْمَدِينَةِ رَأَى مَا أَنْكَرَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ: بِعْنِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ طَعَامًا. فَقَالَ: فَمِنْ أَيْنَ لَكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ؟ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَصْحَابٌ لِي أَمْسِ ثُمَّ أَصْبَحُوا فَأَرْسَلُونِي. فَقَالَ: هَذِهِ الدَّرَاهِمُ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ الْمَلِكِ الْفُلَانِيِّ. فَرَفَعَهُ إِلَى الْمَلِكِ، وَكَانَ مَلِكًا صَالِحًا، فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَأَعَادَ عَلَيْهِ حَالَهُمْ. فَقَالَ الْمَلِكُ: أَيْنَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: انْطَلِقُوا مَعِي. فَانْطَلَقُوا مَعَهُ حَتَّى أَتَوْا بَابَ الْكَهْفِ، فَقَالَ: دَعُونِي أَدْخُلْ إِلَى أَصْحَابِي قَبْلَكُمْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَيَخَافُوا ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ دِقْيَانُوسْ قَدْ عَلِمَ بِهِمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ وَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، فَسَجَدُوا شُكْرًا لِلَّهِ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَتَوَفَّاهُمْ، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ. فَضَرَبَ عَلَى أُذُنِهِ وَآذَانِهِمْ، وَأَرَادَ الْمَلِكُ الدُّخُولَ عَلَيْهِمْ فَكَانُوا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ أُرْعِبَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، فَعَادَ عَنْهُمْ، فَبَنَوْا عَلَيْهِمْ كَنِيسَةً يُصَلُّونَ فِيهَا.

قَالَ عِكْرِمَةُ: لَمَّا بَعَثَهُمُ اللَّهُ كَانَ الْمَلِكُ حِينَئِذٍ مُؤْمِنًا، وَكَانَ قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ فِي الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَبَعْثِهِمَا، فَقَالَ قَائِلٌ: يَبْعَثُ اللَّهُ الرُّوحَ دُونَ الْجَسَدِ. وَقَالَ قَائِلٌ: يُبْعَثَانِ جَمِيعًا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَلِكِ فَلَبِسَ الْمُسُوحَ وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ الْحَقَّ، فَبَعَثَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْكَهْفِ بُكْرَةً، فَلَمَّا بَزَغَتِ الشَّمْسُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَدْ غَفَلْنَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَنِ الْعِبَادَةِ، فَقَامُوا إِلَى الْمَاءِ، وَكَانَ عِنْدَ الْكَهْفِ عَيْنٌ وَشَجَرَةٌ، فَإِذَا الْعَيْنُ قَدْ غَارَتْ وَالْأَشْجَارُ قَدْ يَبِسَتْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ أَمْرَنَا لَعَجَبٌ! هَذِهِ الْعَيْنُ غَارَتْ وَهَذِهِ الْأَشْجَارُ يَبِسَتْ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ! وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجُوعَ، فَقَالُوا أَيُّكُمْ يَذْهَبُ {إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19] . فَدَخَلَ أَحَدُهُمْ يَشْتَرِي الطَّعَامَ، فَلَمَّا رَأَى السُّوقَ عَرَفَ طُرُقَهَا وَأَنْكَرَ الْوُجُوهَ وَرَأَى الْإِيمَانَ ظَاهِرًا بِهَا، فَأَتَى رَجُلًا يَشْتَرِي مِنْهُ، فَأَنْكَرَ الدَّرَاهِمَ، فَرَفَعَهُ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ الْفَتَى: أَلَيْسَ مَلِكَكُمْ فُلَانٌ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا بَلْ فُلَانٌ فَعَجِبَ لِذَلِكَ. فَلَمَّا أُحْضِرَ عِنْدَ الْمَلِكِ أَخْبَرَهُ بِخَبَرِ أَصْحَابِهِ، فَجَمَعَ الْمَلِكُ النَّاسَ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ قَدِ اخْتَلَفْتُمْ فِي الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ آيَةً هَذَا الرَّجُلُ مِنْ قَوْمِ فُلَانٍ، يَعْنِي الْمَلِكَ الَّذِي مَضَى. فَقَالَ الْفَتَى: انْطَلِقُوا بِي إِلَى أَصْحَابِي، فَرَكِبَ الْمَلِكُ وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْكَهْفِ قَالَ الْفَتَى لِلْمَلِكِ: ذَرُونِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى أَصْحَابِي أُعَرِّفُهُمْ خَبَرَكُمْ لِئَلَّا يَخَافُوا إِذَا سَمِعُوا وَقْعَ حَوَافِّ دَوَابِّكُمْ وَأَصْوَاتَكُمْ فَيَظُنُّوكُمْ دِقْيَانُوسْ. فَقَالَ: افْعَلْ، فَسَبَقَهُمْ إِلَى أَصْحَابِهِ وَدَخَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، فَعَلِمُوا حِينَئِذٍ مِقْدَارَ لَبْثِهِمْ فِي الْكَهْفِ وَبَكَوْا فَرَحًا وَدَعَوُا اللَّهَ أَنْ يُمِيتَهُمْ وَلَا يَرَاهُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ جَاءَهُمْ، فَمَاتُوا لِسَاعَتِهِمْ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِهِ وَآذَانِهِمْ مَعَهُ. فَلَمَّا اسْتَبْطَأُوهُ دَخَلُوا إِلَى الْفِتْيَةِ فَإِذَا أَجْسَادُهُمْ لَا يُنْكِرُونَ مِنْهَا شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهَا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا، فَقَالَ الْمَلِكُ: هَذِهِ آيَةٌ لَكُمْ. وَرَأَى الْمَلِكُ تَابُوتًا مِنْ نُحَاسٍ مَخْتُومًا بِخَاتَمٍ، فَفَتَحَهُ، فَرَأَى فِيهِ لَوْحًا مِنْ رَصَاصٍ مَكْتُوبَا فِيهِ أَسْمَاءُ الْفِتْيَةِ، وَأَنَّهُمْ هَرَبُوا مِنْ دِقْيَانُوسْ الْمَلِكِ مَخَافَةً عَلَى نُفُوسِهِمْ وَدِينِهِمْ فَدَخَلُوا هَذَا الْكَهْفَ. فَلَمَّا عَلِمَ دِقْيَانُوسْ بِمَكَانِهِمْ بِالْكَهْفِ سَدَّهُ عَلَيْهِمْ. فَلْيَعْلَمْ مَنْ يَقْرَأُ كِتَابَنَا هَذَا شَأْنَهُمْ. فَلَمَّا قَرَأُوهُ عَجِبُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ تَعَالَى الَّذِي أَرَاهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ لِلْبَعْثِ وَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ.

وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلِكَ وَمَنْ مَعَهُ دَخَلُوا عَلَى الْفِتْيَةِ فَرَأَوْهُمْ أَحْيَاءً مُشْرِقَةً وُجُوهُهُمْ وَأَلْوَانُهُمْ لَمْ تُبْلَ ثِيَابُهُمْ، وَأَخْبَرَهُمُ الْفِتْيَةُ بِمَا لَقُوا مِنْ مَلِكِهِمْ دِقْيَانُوسْ، وَاعْتَنَقَهُمُ الْمَلِكُ، وَقَعَدُوا مَعَهُ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَيَذْكُرُونَهُ. ثُمَّ قَالُوا لَهُ: نَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ. وَرَجَعُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ كَمَا كَانُوا، فَعَمِلَ الْمَلِكُ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تَابُوتًا مِنَ الذَّهَبِ، فَلَمَّا نَامَ رَآهُمْ فِي مَنَامِهِ وَقَالُوا: إِنَّنَا لَمْ نُخْلَقْ مِنَ الذَّهَبِ إِنَّمَا خُلِقْنَا مِنَ التُّرَابِ وَإِلَيْهِ نَصِيرُ، فَعَمِلَ لَهُمْ حِينَئِذٍ تَوَابِيتَ مِنْ خَشَبٍ، فَحَجَبَهُمُ اللَّهُ بِالرُّعْبِ، وَبَنَى الْمَلِكُ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ مَسْجِدًا وَجَعَلَ لَهُمْ عِيدًا عَظِيمًا. وَأَسْمَاءُ الْفِتْيَةِ: مَكْسِلْمِينْيَا وَيَمْلِيخَا وَمَرْطُوسْ وَنِيرُوِيسْ وَكَسْطُومَسْ وَدَيْنَمُوسْ وَرِيطُوفَسْ وَقَالُوسْ وَمَخْسِيلْمِينْيَا، وَهَذِهِ تِسْعَةُ أَسْمَاءٍ، وَهِيَ أَتَمُّ الرِّوَايَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَلْبُهُمْ قِطْمِيرُ.

ذكر يونس بن متى

[ذِكْرُ يُونُسَ بْنِ مَتَّى] وَكَانَ أَمْرُهُ مِنَ الْأَحْدَاثِ أَيَّامَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ. قِيلَ: لَمْ يُنْسَبْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى أُمِّهِ إِلَّا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ وَيُونُسَ بْنَ مَتَّى، وَهِيَ أُمُّهُ، وَكَانَ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْمَوْصِلِ يُقَالُ لَهَا نِينَوَى، وَكَانَ قَوْمُهُ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَتِهَا وَالْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ، فَأَقَامَ فِيهَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً يَدْعُوهُمْ، فَلَمْ يُؤْمِنْ غَيْرُ رَجُلَيْنِ، فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ دَعَا عَلَيْهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: مَا أَسْرَعَ مَا دَعَوْتَ عَلَى عِبَادِي! ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَادْعُهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَدَعَاهُمْ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَلَمْ يُجِيبُوهُ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْعَذَابَ يَأْتِيكُمْ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَلْوَانُكُمْ تَتَغَيَّرُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمْ، فَقَالُوا: قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مَا قَالَ يُونُسُ وَلَمْ نُجَرِّبْ عَلَيْهِ كَذِبًا فَانْظُرُوا فَإِنْ بَاتَ فِيكُمْ فَأْمَنُوا مِنَ الْعَذَابِ، وَإِنْ لَمْ يَبِتْ فَاعْلَمُوا أَنَّ الْعَذَابَ يُصَبِّحُكُمْ. فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْأَرْبَعِينَ أَيْقَنَ يُونُسُ بِنُزُولِ الْعَذَابِ، فَخَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ تَغَشَّاهُمُ الْعَذَابُ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ، خَرَجَ عَلَيْهِمْ غَيْمٌ أَسْوَدُ هَائِلٌ يُدَخِّنُ دُخَانًا شَدِيدًا، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَاسْوَدَّتْ مِنْهُ سُطُوحُهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ أَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ، فَطَلَبُوا يُونُسَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأَلْهَمَهُمُ اللَّهُ التَّوْبَةَ، فَأَخْلَصُوا النِّيَّةَ فِي ذَلِكَ وَقَصَدُوا شَيْخًا وَقَالُوا لَهُ: قَدْ نَزَلَ بِنَا مَا تَرَى فَمَا نَفْعَلُ؟ فَقَالَ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَتُوبُوا وَقُولُوا: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا حَيُّ حِينَ لَا حَيَّ، يَا حَيُّ مُحْيِي الْمَوْتَى، يَا حَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. فَخَرَجُوا مِنَ الْقَرْيَةِ إِلَى مَكَانٍ رَفِيعٍ فِي بِرَازٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ دَابَّةِ وَوَلَدِهَا، ثُمَّ عَجُّوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَقَالُوهُ

وَرَدُّوا الْمَظَالِمَ جَمِيعًا حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَقْلَعُ الْحَجَرَ مِنْ بِنَائِهِ فَيَرُدُّهُ إِلَى صَاحِبِهِ. فَكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَكَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَقِيلَ: لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَانْتَظَرَ يُونُسُ الْخَبَرَ عَنِ الْقَرْيَةِ وَأَهْلِهَا حَتَّى مَرَّ بِهِ مَارٌّ فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ؟ فَقَالَ: تَابُوا إِلَى اللَّهِ فَقَبِلَ مِنْهُمْ وَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ. فَغَضِبَ يُونُسُ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ كَذَّابًا! ، وَلَمْ تَكُنْ قَرْيَةٌ رَدَّ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بَعْدَمَا غَشِيَهُمْ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ، وَمَضَى غَاضِبًا لِرَبِّهِ. وَكَانَ فِي حِدَّةٍ وَعَجَلَةٍ وَقِلَّةِ صَبْرٍ، وَلِذَلِكَ نُهِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] . وَلَمَّا مَضَى ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، أَيْ يَقْضِي عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ، وَقِيلَ: يُضَيِّقُ عَلَيْهِ الْحَبْسَ، فَسَارَ حَتَّى رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ فَأَصَابَ أَهْلَهَا عَاصِفٌ مِنَ الرِّيحِ، وَقِيلَ: بَلْ وَقَفَتْ فَلَمْ تَسِرْ، فَقَالَ مَنْ فِيهَا: هَذِهِ بِخَطِيئَةِ أَحَدِكُمْ! فَقَالَ يُونُسُ: هَذِهِ خَطِيئَتِي فَأَلْقُونِي فِي الْبَحْرِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ حَتَّى أَفَاضُوا بِسِهَامِهِمْ {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] ، فَلَمْ يُلْقُوهُ، وَفَعَلُوا ذَلِكَ ثَلَاثًا وَلَمْ يُلْقُوهُ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، وَذَلِكَ تَحْتَ اللَّيْلِ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْحُوتِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا يَخْمِشَ لَهُ لَحْمًا وَلَا يَكْسِرَ لَهُ عَظْمًا، فَأَخَذَهُ وَعَادَ إِلَى مَسْكَنِهِ مِنَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ سَمِعَ يُونُسُ حِسًّا فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا هَذَا؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: إِنَّ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابِّ الْبَحْرِ، فَسَبَّحَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَسَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ تَسْبِيحَهُ، فَقَالُوا: رَبَّنَا نَسْمَعُ صَوْتًا ضَعِيفًا بِأَرْضٍ غَرِيبَةٍ. فَقَالَ: ذَلِكَ عَبْدِي يُونُسُ عَصَانِي فَحَبَسْتُهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ. فَقَالُوا: الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ عَمَلٌ صَالِحٌ؟ فَشَفَعُوا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]- ظُلْمَةُ الْبَحْرِ وَظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ -! وَكَانَ قَدْ سَبَقَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ - لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144] وَذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ إِذَا عَثَرَ {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات: 145] ، أُلْقِيَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ

وَهُوَ كَالصَّبِيِّ الْمَنْفُوسِ، وَمَكَثَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: عِشْرِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وَهُوَ الْقَرْعُ، يَتَقَطَّرُ إِلَيْهِ مِنَ اللَّبَنِ، وَقِيلَ: هَيَّأَ اللَّهُ لَهُ أَرْوِيَةً وَحْشِيَّةً، فَكَانَتْ تُرْضِعُهُ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً حَتَّى رَجَعَتْ إِلَيْهِ قُوَّتُهُ وَصَارَ يَمْشِي، فَرَجَعَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى الشَّجَرَةِ فَوَجَدَهَا قَدْ يَبِسَتْ، فَحَزِنَ وَبَكَى عَلَيْهَا، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ، وَقِيلَ لَهُ: أَتَبْكِي وَتَحْزَنُ عَلَى الشَّجَرَةِ وَلَا تَحْزَنُ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ وَزِيَادَةٍ أَرَدْتَ أَنْ تُهْلِكَهُمْ! . ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمَهُ فَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَابَ عَلَيْهِمْ، فَعَمَدَ إِلَيْهِمْ، فَلَقِيَ رَاعِيًا، فَسَأَلَهُ عَنْ قَوْمِ يُونُسَ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ عَلَى رَجَاءٍ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ رَسُولُهُمْ، قَالَ: فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّكَ قَدْ لَقِيتَ يُونُسَ. قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ إِلَّا بِشَاهِدٍ فَسَمَّى لَهُ عَنْزًا مِنْ غَنَمِهِ وَالْبُقْعَةَ الَّتِي كَانَا فِيهَا وَشَجَرَةً هُنَاكَ، وَقَالَ: كُلُّ هَذِهِ تَشْهَدُ لَكَ، فَرَجَعَ الرَّاعِي إِلَى قَوْمِهِ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ رَأَى يُونُسَ، فَهَمُّوا بِهِ، فَقَالَ: لَا تَعْجَلُوا حَتَّى أُصْبِحَ. فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا بِهِمْ إِلَى الْبُقْعَةِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا يُونُسَ فَاسْتَنْطَقَهَا، فَشَهِدَتْ لَهُ، وَكَذَلِكَ الشَّاةُ وَالشَّجَرَةُ وَكَانَ يُونُسُ قَدِ اخْتَفَى هُنَاكَ. فَلَمَّا شَهِدَتِ الشَّاةُ قَالَتْ لَهُمْ: إِنْ أَرَدْتُمْ نَبِيَّ اللَّهِ فَهُوَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَأَتَوْهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَأَدْخَلُوهُ الْمَدِينَةَ بَعْدَ امْتِنَاعٍ، فَمَكَثَ مَعَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَخَرَجَ سَائِحًا، وَخَرَجَ الْمَلِكُ مَعَهُ يَصْحَبُهُ، وَسَلَّمَ الْمَلِكُ إِلَى الرَّاعِي، فَأَقَامَ يُدَبِّرُ أَمْرَهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ يُونُسَ أَتَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: كَانَتْ رِسَالَةُ يُونُسَ بَعْدَمَا نَبَذَهُ الْحُوتُ، وَقَالَا: كَذَلِكَ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فَإِنَّهُ قَالَ: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ - وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ - وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 145 - 147] . وَقَالَ شَهْرٌ: إِنَّ جِبْرَائِيلَ أَتَى يُونُسَ فَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى فَأَنْذِرْهُمُ الْعَذَابَ فَإِنَّهُ قَدْ حَضَرَهُمْ. قَالَ: أَلْتَمِسُ دَابَّةً. قَالَ: الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: قَالَ: أَلْتَمِسُ حِذَاءً. قَالَ: الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَغَضِبَ وَانْطَلَقَ إِلَى السَّفِينَةِ فَرَكِبَ، فَلَمَّا رَكِبَ احْتَبَسَتْ، قَالَ: فَسَاهَمُوا، فَسُهِمَ، فَجَاءَتِ الْحُوتُ، فَنُودِيَ الْحُوتُ: إِنَّا لَمْ نَجْعَلْ يُونُسَ مِنْ رِزْقِكَ إِنَّمَا جَعَلْنَاكَ لَهُ حِرْزًا، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَانْطَلَقَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ حَتَّى مَرَّ بِهِ الْأُبُلَّةَ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ عَلَى دِجْلَةَ حَتَّى أَلْقَاهُ بِنِينَوَى.

ومما كان من الأحداث أيام ملوك الطوائف

[وَمِمَّا كَانَ مِنَ الْأَحْدَاثِ أَيَّامَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ] إِرْسَالُ اللَّهِ تَعَالَى الرُّسُلَ الثَّلَاثَةَ إِلَى مَدِينَةِ أَنْطَاكِيَّةَ، وَكَانُوا مِنَ الْحَوَارِيِّينَ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ، وَأَرْسَلَ أَوَّلًا اثْنَيْنِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَسْمَائِهِمَا، فَقَدِمَا أَنْطَاكِيَّةَ فَرَأَيَا عِنْدَهَا شَيْخًا يَرْعَى غَنَمًا، وَهُوَ حَبِيبٌ النَّجَّارُ، فَسَلَّمَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمَا؟ قَالَا: رَسُولَا عِيسَى نَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: مَعَكُمَا آيَةٌ؟ قَالَا: نَعَمْ، نَحْنُ نَشْفِي الْمَرْضَى وَنُبَرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِ اللَّهِ. قَالَ حَبِيبٌ إِنَّ لِي ابْنًا مَرِيضًا مُنْذُ سِنِينَ، وَأَتَى بِهِمَا مَنْزِلَهُ، فَمَسَحَا ابْنَهُ، فَقَامَ فِي الْوَقْتِ صَحِيحًا، فَفَشَا الْخَبَرُ فِي الْمَدِينَةِ، وَشَفَى اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمَا كَثِيرًا مِنَ الْمَرْضَى، وَكَانَ لَهُمْ مَلِكٌ اسْمُهُ أَنْطِيخَسْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، فَبَلَغَ إِلَيْهِ خَبَرُهُمَا، فَدَعَاهُمَا، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمَا؟ قَالَا: رُسُلُ عِيسَى نَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: فَمَا آيَتُكُمَا؟ قَالَا: نُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَنَشْفِي الْمَرْضَى بِإِذْنِ اللَّهِ. فَقَالَ: قُومَا حَتَّى نَنْظُرَ فِي أَمْرِكُمَا، فَقَامَا، فَضَرَبَهُمَا الْعَامَّةُ. وَقِيلَ: إِنَّهُمَا قَدِمَا الْمَدِينَةَ فَبَقِيَا مُدَّةً لَا يَصِلَانِ إِلَى الْمَلِكِ، فَخَرَجَ الْمَلِكُ يَوْمًا، فَكَبَّرَا وَذَكَرَا اللَّهَ، فَغَضِبَ وَحَبَسَهُمَا وَجَلَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَلَمَّا كُذِّبَا وَضُرِبَا بَعَثَ الْمَسِيحُ شَمْعُونَ رَأْسَ الْحَوَارِيِّينَ لِيَنْصُرَهُمَا، فَدَخَلَ الْبَلَدَ مُتَنَكِّرًا وَعَاشَرَ حَاشِيَةَ الْمَلِكِ، فَرَفَعُوا خَبَرَهُ إِلَى الْمَلِكِ، فَأَحْضَرَهُ وَرَضِيَ عِشْرَتَهُ وَأَنِسَ بِهِ وَأَكْرَمَهُ، فَقَالَ لَهُ يَوْمًا: أَيُّهَا الْمَلِكُ بَلَغَنِي أَنَّكَ حَبَسْتَ رَجُلَيْنِ فِي السِّجْنِ وَضَرَبْتَهُمَا حِينَ دَعَوَاكَ إِلَى دِينِهِمَا فَهَلْ كَلَّمْتَهُمَا وَسَمِعْتَ قَوْلَهُمَا؟ فَقَالَ الْمَلِكُ: حَالَ الْغَضَبُ بَيْنِي وَبَيْنَ ذَلِكَ. قَالَ: فَإِنْ رَأَى الْمَلِكُ أَنْ يُحْضِرَهُمَا حَتَّى نَسْمَعَ كَلَامَهُمَا، فَدَعَاهُمَا الْمَلِكُ، فَقَالَ لَهُمَا شَمْعُونُ: مَنْ أَرْسَلَكُمَا؟ قَالَا: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَلَا شَرِيكَ لَهُ. قَالَ: فَوَصَفَاهُ وَأَوْجَزَا. قَالَا: إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. قَالَ شَمْعُونُ: فَمَا آيَتُكُمَا؟ قَالَا: مَا تَتَمَنَّاهُ.

فَأَمَرَ الْمَلِكُ، فَجِيءَ بِغُلَامٍ مَطْمُوسِ الْعَيْنَيْنِ مَوْضِعُهُمَا كَاللُّحْمَةِ، فَمَا زَالَا يَدْعُوَانِ رَبَّهُمَا حَتَّى انْشَقَّ مَوْضِعُ الْبَصَرِ، وَأَخَذَا بُنْدُقَتَيْنِ مِنَ الطِّينِ فَوَضَعَاهُمَا فِي حَدَقَتَيْهِ فَصَارَتَا مُقْلَتَيْنِ يُبْصِرُ بِهِمَا. فَعَجِبَ الْمَلِكُ لِذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ قَدَرَ إِلَهُكُمَا الَّذِي تَعْبُدَانِهِ عَلَى إِحْيَاءِ مَيِّتٍ آمَنَّا بِهِ وَبِكُمَا. قَالَا: إِنَّ إِلَهَنَا قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. فَقَالَ الْمَلِكُ: إِنَّ هَاهُنَا مَيِّتًا مُنْذُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ فَلَمْ نَدْفِنْهُ حَتَّى يَرْجِعَ أَبُوهُ وَهُوَ غَائِبٌ، فَأُحْضِرَ الْمَيِّتُ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ رِيحُهُ، فَدَعَوَا اللَّهَ تَعَالَى عَلَانِيَةً وَشَمْعُونُ يَدْعُو سِرًّا، فَقَامَ الْمَيِّتُ فَقَالَ لِقَوْمِهِ: إِنِّي مُتُّ مُشْرِكًا وَأُدْخِلْتُ فِي أَوْدِيَةٍ مِنَ النَّارِ وَأَنَا أُحَذِّرُكُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ: فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَنَظَرْتُ فَرَأَيْتُ شَابًّا حَسَنَ الْوَجْهِ يَشْفَعُ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ. فَقَالَ الْمَلِكُ: وَمَنْ هُمْ؟ فَقَالَ: هَذَا، وَأَوْمَأَ إِلَى شَمْعُونَ، وَهَذَانِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِمَا، فَعَجِبَ الْمَلِكُ، فَحِينَئِذٍ دَعَا شَمْعُونُ الْمَلِكَ إِلَى دِينِهِ، فَآمَنَ قَوْمُهُ، وَكَانَ الْمَلِكُ فِيمَنْ آمَنَ وَكَفَرَ آخَرُونَ. وَقِيلَ: بَلْ كَفَرَ الْمَلِكُ وَأَجْمَعَ هُوَ وَقَوْمُهُ عَلَى قَتْلِ الرُّسُلِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ حَبِيبًا النَّجَّارَ، وَهُوَ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ يَسْعَى إِلَيْهِمْ فَيُذَكِّرُهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ الْمُرْسَلِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] ، وَهُوَ شَمْعُونُ، فَأَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِرْسَالَ إِلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَرْسَلَهُمُ الْمَسِيحُ لِأَنَّهُ أَرْسَلَهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. فَلَمَّا كَذَّبَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، حَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ، فَقَالَ أَهْلُهَا لِلرُّسُلِ: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس: 18] ، فَلَمَّا حَضَرَ حَبِيبٌ، وَكَانَ مُؤْمِنًا يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَكَانَ يَجْمَعُ كَسْبَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيُنْفِقُ عَلَى عِيَالِهِ نِصْفَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِنِصْفِهِ، فَقَالَ: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20] . فَقَالَ قَوْمُهُ: وَأَنْتَ مُخَالِفٌ لِرَبِّنَا وَمُؤْمِنٌ بِإِلَهِ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22] ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ قَتَلُوهُ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ الْجَنَّةَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ - بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26 - 27]

وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ صَيْحَةً فَمَاتُوا. وَمِمَّا كَانَ مِنَ الْأَحْدَاثِ شَمْسُونْ وَكَانَ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الرُّومِ قَدْ آمَنَ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَكَانَ عَلَى أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَغْزُوهُمْ وَحْدَهُ وَيُقَاتِلُهُمْ بِلَحْيِ جَمَلٍ. فَكَانَ إِذَا عَطِشَ انْفَجَرَ لَهُ مِنَ الْحَجَرِ الَّذِي فِيهِ مَاءٌ عَذْبٌ فَيَشْرَبُ مِنْهُ، وَكَانَ قَدْ أُعْطِيَ قُوَّةً لَا يُوثِقُهُ حَدِيدٌ وَلَا غَيْرُهُ، وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ يُجَاهِدُهُمْ وَيُصِيبُ مِنْهُمْ وَلَا يَقْدِرُونَ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ، فَجَعَلُوا لِامْرَأَتِهِ جَعْلًا لِتُوثِقَهُ لَهُمْ، فَأَجَابَتْهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَأَعْطَوْهَا حَبْلًا وَثِيقًا، فَتَرَكَتْهُ حَتَّى نَامَ وَشَدَّتْ يَدَيْهِ، فَاسْتَيْقَظَ وَجَذَبَهُ، فَسَقَطَ الْحَبْلُ مِنْ يَدَيْهِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَأَعْلَمَتْهُمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهَا بِجَامِعَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَتَرَكَتْهَا فِي يَدَيْهِ وَعُنُقِهِ وَهُوَ نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظَ وَجَذَبَهَا فَسَقَطَتْ مِنْ عُنُقِهِ وَيَدَيْهِ، فَقَالَ لَهَا فِي الْمَرَّتَيْنِ: مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ؟ فَقَالَتْ: أُرِيدُ أُجَرِّبَ قُوَّتَكَ وَمَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ فِي الدُّنْيَا فَهَلْ فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ يَغْلِبُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَلَمْ تَزَلْ تَسْأَلُهُ حَتَّى قَالَ لَهَا: وَيْحَكِ لَا يَضْبُطُنِي إِلَّا شَعْرِي! فَلَمَّا نَامَ أَوْثَقَتْ يَدَيْهِ بِشَعْرِ رَأْسِهِ، وَكَانَ كَثِيرًا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ، فَجَاءُوا فَأَخَذُوهُ فَجَدَعُوا أَنْفَهُ وَأُذُنَيْهِ وَفَقَأُوا عَيْنَيْهِ وَأَقَامُوهُ لِلنَّاسِ. وَجَاءَ الْمَلِكُ لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ عَلَى أَسَاطِينَ، فَدَعَا اللَّهَ شَمْسُونْ أَنْ يُسَلِّطَهُ عَلَيْهِمْ، فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِعَمُودَيْنِ مِنْ عُمُدِ الْمَدِينَةِ فَيَجْذِبَهُمَا، وَرَدَّ إِلَيْهِ بَصَرَهُ وَمَا أَصَابُوهُ مِنْ جَسَدِهِ، وَجَذَبَ الْعَمُودَيْنِ فَوَقَعَتِ الْمَدِينَةُ بِالْمَلِكِ وَالنَّاسِ وَهَلَكَ مَنْ فِيهَا هَدْمًا. وَكَانَ شَمْسُونْ أَيَّامَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ. وَمِمَّا كَانَ مِنَ الْأَحْدَاثِ أَيْضًا جِرْجِيسُ قِيلَ: كَانَ بِالْمَوْصِلِ مَلِكٌ يُقَالُ لَهُ دَازَانَهْ، وَكَانَ جَبَّارًا عَاتِيًا، وَكَانَ جِرْجِيسُ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَهْلِ فَلَسْطِينَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ صَالِحِينَ، وَكَانُوا قَدْ أَدْرَكُوا بَقَايَا مِنْ

الْحَوَارِيِّينَ فَأَخَذُوا عَنْهُمْ، وَكَانَ جِرْجِيسُ كَثِيرَ التِّجَارَةِ عَظِيمَ الصَّدَقَةِ، وَرُبَّمَا نَفَدَ مَالُهُ فِي الصَّدَقَةِ ثُمَّ يَعُودُ يَكْتَسِبُ مِثْلَهُ، وَلَوْلَا الصَّدَقَةُ لَكَانَ الْفَقْرُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْغِنَى، وَكَانَ يَخَافُ بِالشَّامِ أَنْ يُفْتَتَنَ عَنْ دِينِهِ، فَقَصَدَ الْمَوْصِلَ وَمَعَهُ هَدِيَّةٌ لِمَلِكِهَا لِئَلَّا يَجْعَلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ سَبِيلًا، فَجَاءَهُ حِينَ جَاءَهُ، وَقَدْ أَحْضَرَ عُظَمَاءَ قَوْمِهِ وَأَوْقَدَ نَارًا وَأَعَدَّ أَصْنَافًا مِنَ الْعَذَابِ وَأَمَرَ بِصَنَمٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ أَفَلُّونُ فَنُصِبَ، فَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ لَهُ عَذَّبَهُ وَأُلْقِيَ فِي النَّارِ. فَلَمَّا رَأَى جِرْجِيسُ مَا يَصْنَعُ اسْتَعْظَمَهُ وَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِجِهَادِهِ، فَعَمِدَ إِلَى الْمَالِ الَّذِي مَعَهُ فَقَسَمَهُ فِي أَهْلِ مِلَّتِهِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْغَضَبِ فَقَالَ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّكَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا تَمْلِكُ لِنَفْسِكَ شَيْئًا وَلَا لِغَيْرِكَ شَيْئًا، وَأَنَّ فَوْقَكَ رَبًّا هُوَ الَّذِي خَلَقَكَ وَرَزَقَكَ، فَأَخَذَ فِي ذِكْرِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَيَّبَ صَنَمَهُ. فَأَجَابَهُ الْمَلِكُ بِأَنْ سَأَلَهُ مَنْ هُوَ؟ وَمِنْ أَيْنَ هُوَ؟ . فَقَالَ جِرْجِيسُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ مِنَ التُّرَابِ خُلِقْتُ وَإِلَيْهِ أَعُودُ. فَدَعَاهُ الْمَلِكُ إِلَى عِبَادَةِ صَنَمِهِ وَقَالَ لَهُ: لَوْ كَانَ رَبُّكَ مَلِكَ الْمَلَكُوتِ لَرُؤِيَ عَلَيْكَ أَثَرُهُ كَمَا تَرَى عَلَى مَنْ حَوْلِي مِنْ مُلُوكِ قَوْمِي. فَأَجَابَهُ جِرْجِيسُ بِتَعْظِيمِ أَمْرِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ وَقَالَ لَهُ: تَعْبُدُ أَفَلُّونَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمْ تَعْبُدُ الَّذِي قَامَتْ بِأَمْرِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، أَمْ تَعْبُدُ طَرْقَلِينَا عَظِيمَ قَوْمِكَ مِنَ النَّاسِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهُ كَانَ آدَمِيًّا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَأَكْرَمَهُ اللَّهُ بِأَنْ جَعَلَهُ إِنْسِيًّا مَلَكِيًّا، أَمْ تَعْبُدُ عَظِيمَ قَوْمِكَ مَخْلِيطِيسْ أَيْضًا وَمَا نَالَ بِوِلَايَتِكَ مِنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ! وَذَكَرَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: إِنَّكَ أَتَيْتَنَا بِأَشْيَاءَ لَا نَعْلَمُهَا! ثُمَّ خَيَّرَهُ بَيْنَ الْعَذَابِ وَالسُّجُودِ

لِلصَّنَمِ. فَقَالَ جِرْجِيسُ: إِنْ كَانَ صَنَمُكَ هُوَ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ، وَعَدَّدَ أَشْيَاءَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَدْ أَصَبْتَ وَنَصَحْتَ، وَإِلَّا فَاخْسَأْ أَيُّهَا الْمَلْعُونُ. فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ أَمَرَ بِحَبْسِهِ، وَمُشِطَ جَسَدُهُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ حَتَّى تَقَطَّعَ لَحْمُهُ وَعُرُوقُهُ، وَيُنْضَحُ بِالْخَلِّ وَالْخَرْدَلِ، فَلَمْ يَمُتْ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ لَمْ يَقْتُلْهُ أَمَرَ بِسِتَّةِ مَسَامِيرَ مِنْ حَدِيدٍ فَأُحْمِيَتْ حَتَّى صَارَتْ نَارًا ثُمَّ سَمَّرَ بِهَا رَأْسَهُ، فَسَالَ دِمَاغُهُ، فَحَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ لَمْ يَقْتُلْهُ أَمَرَ بِحَوْضٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأَوْقَدَ عَلَيْهِ حَتَّى جَعَلَهُ نَارًا ثُمَّ أَدْخَلَهُ فِيهِ وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ حَتَّى بَرَدَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ لَمْ يَقْتُلْهُ دَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: أَلَمْ تَجِدْ أَلَمَ هَذَا الْعَذَابِ؟ قَالَ: إِنَّ إِلَهِي حَمَلَ عَنِّي عَذَابَكَ وَصَبَّرَنِي لِيَحْتَجَّ عَلَيْكَ. فَأَيْقَنَ الْمَلِكُ بِالشَّرِّ وَخَافَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمُلْكِهِ فَأَجْمَعَ رَأْيَهُ عَلَى أَنْ يُخَلِّدَهُ فِي السِّجْنِ، فَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ: إِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَهُ فِي السِّجْنِ طَلِيقًا يُكَلِّمُ النَّاسَ وَيَمِيلُ بِهِمْ عَلَيْكَ، وَلَكِنْ يُعَذَّبُ بِعَذَابٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْكَلَامِ. فَأَمَرَ بِهِ فَبُطِحَ فِي السِّجْنِ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أَوْتَدَ فِي يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أَوْتَادًا مِنْ حَدِيدٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِأُسْطُوَانٍ مِنْ رُخَامٍ حَمَلَهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَوُضِعَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَظَلَّ يَوْمَهُ ذَلِكَ تَحْتَ الْحَجَرِ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا، وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا أُيِّدَ بِالْمَلَائِكَةِ، فَأَوَّلُ مَا جَاءَهُ الْوَحْيُ قَلَعَ عَنْهُ الْحَجَرَ وَنَزَعَ الْأَوْتَادَ وَأَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ وَبَشَّرَهُ وَعَزَّاهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْرَجَهُ مِنَ السِّجْنِ فَقَالَ لَهُ: الْحَقْ بِعَدُوِّكَ فَجَاهِدْهُ، فَإِنِّي قَدِ ابْتَلَيْتُكَ بِهِ سَبْعَ سِنِينَ يُعَذِّبُكَ وَيَقْتُلُكَ فِيهِنَّ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ أَرُدُّ إِلَيْكَ رُوحَكَ، فَإِذَا كَانَتِ الْقَتْلَةُ الرَّابِعَةُ تَقَبَّلْتُ رُوحَكَ وَأَوْفَيْتُكَ أَجْرَكَ. فَلَمْ يَشْعُرِ الْمَلِكُ إِلَّا وَقَدْ وَقَفَ جِرْجِيسُ عَلَى رَأْسِهِ يَدْعُوهُ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: أَجِرْجِيسُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَنْ أَخْرَجَكَ مِنَ السِّجْنِ؟ قَالَ: أَخْرَجَنِي مَنْ سُلْطَانُهُ فَوْقَ سُلْطَانِكَ! فَمُلِئَ غَيْظًا وَدَعَا بِأَصْنَافِ الْعَذَابِ وَمَدُّوهُ بَيْنَ خَشَبَتَيْنِ وَوَضَعُوا عَلَى رَأْسِهِ سَيْفًا ثُمَّ وَشَرُوهُ حَتَّى سَقَطَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَصَارَ جِزْلَتَيْنِ، ثُمَّ قَطَعُوهُمَا قِطَعًا، وَكَانَ لَهُ سَبْعَةُ أُسْدٍ ضَارِيَةٍ فِي جُبٍّ فَأَلْقَوْا جَسَدَهُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا رَأَتْهُ خَضَعَتْ بِرُءُوسِهَا وَقَامَتْ عَلَى بَرَاثِنِهَا لَا تَأْلُو أَنْ تَقِيَهُ الْأَذَى الَّذِي تَحْتَهَا، فَظَلَّ يَوْمَهُ تَحْتَهَا مَيِّتًا، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَيْتَةٍ

ذَاقَهَا. فَلَمَّا أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ جَمَعَ اللَّهُ جَسَدَهُ وَسَوَّاهُ وَرَدَّ فِيهِ رُوحَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ قَعْرِ الْجُبِّ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَقْبَلَ جِرْجِيسُ، وَهُمْ فِي عِيدٍ لَهُمْ صَنَعُوهُ فَرَحًا بِمَوْتِ جِرْجِيسَ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ مُقْبِلًا قَالُوا: مَا أَشْبَهَ هَذَا بِجِرْجِيسَ! قَالَ الْمَلِكُ: هُوَ هُوَ! قَالَ جِرْجِيسُ: أَنَا هُوَ حَقًّا، بِئْسَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ! قَتَلْتُمْ وَمَثَّلْتُمْ فَرَدَّ اللَّهُ رُوحِي إِلَيَّ! هَلُمُّوا إِلَى هَذَا الرَّبِّ الْعَظِيمِ الَّذِي أَرَاكُمْ قُدْرَتَهُ. فَقَالُوا: سَاحِرٌ سَحَرَ أَعْيُنَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُ، فَجَعَلُوا مَنْ بِبِلَادِهِمْ مِنَ السَّحَرَةِ، فَلَمَّا جَاءُوا قَالَ الْمَلِكُ لِكَبِيرِهِمْ: اعْرِضْ عَلَيَّ مِنْ سِحْرِكَ مَا يُسَرَّى بِهِ عَنِّي. فَدَعَا بِثَوْرٍ فَنَفَخَ فِي أُذُنَيْهِ فَإِذَا هُوَ ثَوْرَانِ، وَدَعَا بِبَذْرٍ فَحُرِثَ وَزُرِعَ وَحُصِدَ وَدُقَّ وَذُرِّيَ وَطُحِنَ وَخُبِزَ وَأُكِلَ مِنْ سَاعَتِهِ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: هَلْ تَقْدِرُ أَنْ تَمْسَخَهُ كَلْبًا؟ قَالَ: ادْعُ لِي بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُتِيَ بِهِ، فَنَفَثَ فِيهِ السَّاحِرُ ثُمَّ قَالَ الْمَلِكُ لِجِرْجِيسَ: اشْرَبْهُ، فَشَرِبَهُ جِرْجِيسُ حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهِ. فَقَالَ لَهُ السَّاحِرُ: مَاذَا تَجِدُ؟ قَالَ: مَا أَجِدُ إِلَّا خَيْرًا! كُنْتُ عَطْشَانَ فَلَطَفَ اللَّهُ بِي فَسَقَانِي. وَأَقْبَلَ السَّاحِرُ عَلَى الْمَلِكِ وَقَالَ: لَوْ كُنْتَ تُقَاسِي جَبَّارًا مِثْلَكَ لِغَلَبْتَهُ وَإِنَّمَا تُقَاسِي جَبَّارَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَكَانَتْ أَتَتْ جِرْجِيسَ امْرَأَةٌ مِنَ الشَّامِ، وَهُوَ فِي أَشَدِّ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِي مَالٌ إِلَّا ثَوْرًا أَعِيشُ بِهِ مِنْ حَرْثِهِ فَمَاتَ، وَجِئْتُكَ لِتَرْحَمَنِي وَتَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يُحْيِيَ ثَوْرِي. فَأَعْطَاهَا عَصًا وَقَالَ: اذْهَبِي إِلَى ثَوْرِكِ فَاضْرِبِيهِ بِهَذِهِ الْعَصَا وَقُولِي لَهُ: احْيَ بِإِذْنِ اللَّهِ. فَأَخَذَتِ الْعَصَا وَأَتَتْ مَصْرَعَ الثَّوْرِ فَرَأَتْ رَوْقَيْهِ وَشَعْرَ ذَنَبِهِ فَجَمَعَتْهَا ثُمَّ قَرَعَتْهَا بِالْعَصَا وَقَالَتْ مَا أَمَرَهَا بِهِ جِرْجِيسُ، فَعَاشَ ثَوْرُهَا، وَجَاءَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ. فَلَمَّا قَالَ السَّاحِرُ مَا قَالَ، قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَلِكِ، وَكَانَ أَعْظَمَهُمْ بَعْدَ الْمَلِكِ: اسْمَعُوا مِنِّي. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّكُمْ قَدْ وَضَعْتُمْ أَمْرَهُ عَلَى السِّحْرِ، وَإِنَّهُ لَمْ يُعَذَّبْ وَلَمْ يُقْتَلْ، فَهَلْ رَأَيْتُمْ سَاحِرًا قَطُّ قَدَرَ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ أَحْيَا مَيِّتًا؟ وَذَكَرَ الثَّوْرَ وَإِحْيَاءَهُ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ كَلَامَكَ كَلَامُ رَجُلٍ قَدْ أَصْغَى إِلَيْهِ. فَقَالَ: قَدْ آمَنْتُ بِهِ وَأُشْهِدُ اللَّهَ أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ! فَقَامَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ وَأَصْحَابُهُ بِالْخَنَاجِرِ فَقَطَعُوا لِسَانَهُ بِالْخَنَاجِرِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ،

وَقِيلَ: أَصَابَهُ الطَّاعُونُ فَأَعْجَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَكَتَمُوا شَأْنَهُ، فَكَشَفَهُ جِرْجِيسُ لِلنَّاسِ، فَاتَّبَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَهُوَ مَيِّتٌ، فَقَتَلَهُمُ الْمَلِكُ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ حَتَّى أَفْنَاهُمْ، وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ أَصْحَابِ الْمَلِكِ: يَا جِرْجِيسُ إِنَّكَ زَعَمْتَ أَنَّ إِلَهَكَ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ أَمْرًا إِنْ فَعَلَهُ إِلَهُكَ آمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُكَ وَكَفَيْتُكَ قَوْمِي. هَذَا تَحْتَنَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مُنِيرًا وَمَائِدَةٌ وَأَقْدَاحٌ وَصِحَافٌ مِنْ خَشَبٍ يَابِسٍ، وَهُوَ مِنْ أَشْجَارٍ شَتَّى، فَادْعُ رَبَّكَ أَنْ يُعِيدَهَا خُضْرًا كَمَا بَدَأَهَا، يُعْرَفُ كُلُّ عُودٍ بِلَوْنِهِ وَوَرَقِهِ وَزَهْرِهِ وَثَمَرِهِ. قَالَ جِرْجِيسُ: قَدْ سَأَلْتَ أَمْرًا عَزِيزًا عَلَيَّ وَعَلَيْكَ، وَإِنَّهُ عَلَى اللَّهِ يَسِيرُ، وَدَعَا اللَّهَ فَمَا بَرِحُوا حَتَّى اخْضَرَّتْ وَسَاخَتْ عُرُوقُهَا وَتَشَعَّبَتْ وَنَبَتَ وَرَقُهَا وَزَهْرُهَا حَتَّى عَرَفُوا كُلَّ عُودٍ بِاسْمِهِ. فَقَالَ الَّذِي سَأَلَهُ هَذَا: أَنَا أَتَوَلَّى عَذَابَهُ. فَعَمَدَ إِلَى نُحَاسٍ فَصَنَعَ مِنْهُ صُورَةَ ثَوْرٍ مُجَوَّفٍ ثُمَّ حَشَاهَا نِفْطًا وَرَصَاصًا وَكِبْرِيتًا وَزِرْنِيخًا وَأَدْخَلَ جِرْجِيسَ فِي وَسَطِهَا ثُمَّ أَوْقَدَ تَحْتَ الصُّورَةِ النَّارَ حَتَّى الْتَهَبَتْ وَذَابَ كُلُّ شَيْءٍ فِيهَا وَاخْتَلَطَ وَمَاتَ جِرْجِيسُ فِي جَوْفِهَا. فَلَمَّا مَاتَ أَرْسَلَ اللَّهُ رِيحًا عَاصِفًا وَرَعْدًا وَبَرْقًا وَسَحَابًا مُظْلِمًا وَأَظْلَمَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَبَقُوا أَيَّامًا مُتَحَيِّرِينَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ مِيكَائِيلَ، فَاحْتَمَلَ تِلْكَ الصُّورَةَ، فَلَمَّا أَقَلَّهَا ضَرَبَ بِهَا الْأَرْضَ، فَفَزِعَ مِنْ رَوْعَتِهَا كُلُّ مَنْ سَمِعَهَا وَانْكَسَرَتْ، وَخَرَجَ مِنْهَا جِرْجِيسُ حَيًّا، فَلَمَّا وَقَفَ وَكَلَّمَهُمُ انْكَشَفَتِ الظُّلْمَةُ وَأَسْفَرَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. قَالَ لَهُ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَائِهِمُ: ادْعُ اللَّهَ بِأَنْ يُحْيِيَ مَوْتَانَا مِنْ هَذِهِ الْقُبُورِ. فَأَمَرَ جِرْجِيسُ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ وَهِيَ عِظَامٌ رُفَاتٌ، ثُمَّ دَعَا فَلَمْ يَبْرَحُوا حَتَّى نَظَرُوا إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ إِنْسَانًا، تِسْعَةِ رِجَالٍ وَخَمْسِ نِسْوَةٍ وَثَلَاثَةِ صِبْيَةٍ وَفِيهِمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ. فَقَالَ لَهُ جِرْجِيسُ: مَتَى مُتَّ؟ فَقَالَ: فِي زَمَانِ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا هُوَ أَرْبَعُمِائَةِ عَامٍ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمَلِكُ قَالَ: لَمْ يَبْقَ مِنْ عَذَابِكُمْ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ عَذَّبْتُمُوهُ وَأَصْحَابَهُ بِهِ إِلَّا الْجُوعَ وَالْعَطَشَ، فَعَذِّبُوهُ بِهِ. فَعَمَدُوا إِلَى بَيْتِ عَجُوزٍ فَقِيرَةٍ، وَكَانَ لَهَا ابْنٌ أَعْمَى أَبْكَمُ مُقْعَدٌ، فَحَصَرُوهُ فِيهِ، فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ.

فَلَمَّا جَاعَ قَالَ لِلْعَجُوزِ: هَلْ عِنْدَكِ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ؟ قَالَتْ: لَا وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ مَا لَنَا عَهْدٌ بِالطَّعَامِ مِنْ كَذَا وَكَذَا وَسَأَخْرُجُ لِأَلْتَمِسَ لَكَ شَيْئًا. فَقَالَ لَهَا: هَلْ تَعْبُدِينَ اللَّهَ؟ قَالَتْ: لَا. فَدَعَاهَا فَآمَنَتْ، وَانْطَلَقَتْ تَطْلُبُ لَهُ شَيْئًا، وَفِي بَيْتِهَا دِعَامَةٌ مِنْ خَشَبَةٍ يَابِسَةٍ تَحْمِلُ خَشَبَ الْبَيْتِ، فَدَعَا اللَّهَ فَاخْضَرَّتْ تِلْكَ الدِّعَامَةُ وَأَنْبَتَتْ كُلَّ فَاكِهَةٍ تُؤْكَلُ وَتُعْرَفُ، فَظَهَرَ لِلدِّعَامَةِ فُرُوعٌ مِنْ فَوْقِ الْبَيْتِ تُظِلُّهُ وَمَا حَوْلَهُ، وَعَادَتِ الْعَجُوزُ وَهُوَ يَأْكُلُ رَغْدًا. فَلَمَّا رَأَتِ الَّذِي حَدَثَ فِي بَيْتِهَا قَالَتْ: آمَنْتُ بِالَّذِي أَطْعَمَكَ فِي بَيْتِ الْجُوعِ، فَادْعُ هَذَا الرَّبَّ الْعَظِيمَ أَنْ يَشْفِيَ ابْنِي. قَالَ: أَدْنِيهِ مِنِّي، فَأَدْنَتْهُ، فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَأَبْصَرَ، فَنَفَثَ فِي أُذُنَيْهِ فَسَمِعَ. قَالَتْ لَهُ: أَطْلِقْ لِسَانَهُ وَرِجْلَيْهِ. قَالَ لَهَا: أَخِّرِيهِ فَإِنَّ لَهُ يَوْمًا عَظِيمًا. وَرَأَى الْمَلِكُ الشَّجَرَةَ فَقَالَ: أَرَى شَجَرَةً مَا كُنْتُ أَعْهَدُهَا! قَالُوا: تِلْكَ الشَّجَرَةُ نَبَتَتْ لِذَلِكَ السَّاحِرِ الَّذِي أَرَدْتَ أَنْ تُعَذِّبَهُ بِالْجُوعِ وَقَدْ شَبِعَ مِنْهَا وَأَشْبَعَتِ الْعَجُوزَ، وَشَفَى لَهَا ابْنَهَا. فَأَمَرَ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، وَبِالشَّجَرَةِ أَنْ تُقْطَعَ، فَلَمَّا هَمُّوا بِقَطْعِهَا أَيْبَسَهَا اللَّهُ وَتَرَكُوهَا. وَأَمَرَ بِجِرْجِيسَ فَبُطِحَ عَلَى وَجْهِهِ، وَأَمَرَ بِعِجْلٍ فَأُوقِرَ أُسْطُوَانًا وَجَعَلَ فِي أَسْفَلِ الْعِجْلِ خَنَاجِرَ وَشِفَارًا ثُمَّ دَعَا بِأَرْبَعِينَ ثَوْرًا فَنَهَضَ بِالْعِجْلِ نَهْضَةً وَاحِدَةً وَجِرْجِيسُ تَحْتَهَا، فَانْقَطَعَ ثَلَاثَ قِطَعٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِقِطَعِهِ فَأُحْرِقَتْ حَتَّى صَارَتْ رَمَادًا، وَبَعَثَ بِالرَّمَادِ مَعَ رِجَالٍ فَذَرُّوهُ فِي الْبَحْرِ، فَلَمْ يَبْرَحُوا حَتَّى سَمِعُوا صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ: يَا بَحْرُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَحْفَظَ مَا فِيكَ مِنْ هَذَا الْجَسَدِ الطَّيِّبِ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعِيدَهُ. فَأَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَجَمَعَتْهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَذُرُّوهُ، وَالَّذِينَ ذَرُّوهُ قِيَامٌ لَمْ يَبْرَحُوا، وَخَرَجَ جِرْجِيسُ حَيًّا مُغَبَّرًا، فَرَجَعُوا وَرَجَعَ مَعَهُمْ وَأَخْبَرُوا الْمَلِكَ خَبَرَ الصَّوْتِ وَالرِّيَاحِ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: هَلْ لَكَ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ لِي وَلَكَ؟ وَلَوْلَا أَنْ يُقَالَ إِنَّكَ غَلَبْتَنِي لَآمَنْتُ بِكَ، وَلَكِنِ اسْجُدْ لِصَنَمِي سَجْدَةً وَاحِدَةً أَوِ اذْبَحْ لَهُ شَاةً وَاحِدَةً وَأَنَا أَفْعَلُ مَا يَسُرُّكَ. فَطَمِعَ جِرْجِيسُ فِي إِهْلَاكِ الصَّنَمِ حِينَ يَرَاهُ وَإِيمَانِ الْمَلِكِ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: أَفْعَلُ - خَدِيعَةً مِنْهُ - وَأَدْخِلْنِي عَلَى صَنَمِكَ أَسْجُدُ لَهُ وَأَذْبَحُ. فَفَرِحَ الْمَلِكُ بِذَلِكَ وَقَبَّلَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ عِنْدَهُ، فَفَعَلَ، فَأَخْلَى لَهُ الْمَلِكُ بَيْتًا وَدَخَلَهُ جِرْجِيسُ، فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْلُ قَامَ يُصَلِّي وَيَقْرَأُ الزَّبُورَ، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ، فَلَمَّا سَمِعَتْهُ امْرَأَةُ الْمَلِكِ اسْتَجَابَتْ لَهُ وَآمَنَتْ بِهِ وَكَتَمَتْ إِيمَانَهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا بِهِ إِلَى بَيْتِ الْأَصْنَامِ لِيَسْجُدَ لَهَا.

وَقِيلَ لِلْعَجُوزِ: إِنَّ جِرْجِيسَ قَدِ افْتُتِنَ وَطَمِعَ فِي الْمُلْكِ. فَخَرَجَتْ تَحْمِلُ ابْنَهَا عَلَى عَاتِقِهَا فِي أَعْرَاضِهِمْ تُوَبِّخُ جِرْجِيسَ، فَلَمَّا دَخَلَ بَيْتَ الْأَصْنَامِ نَظَرَ فَإِذَا الْعَجُوزُ وَابْنُهَا أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَدَعَا ابْنَهَا، فَأَجَابَهُ وَمَا تَكَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ قَطُّ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى عَاتِقِ أُمِّهِ يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْهِ سَوِيَّتَيْنِ وَمَا وَطِئَ الْأَرْضَ قَطُّ. فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ جِرْجِيسَ قَالَ لَهُ: ادْعُ لِي هَذِهِ الْأَصْنَامَ، وَهِيَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَاحِدٌ وَسَبْعُونَ صَنَمًا، وَهُمْ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مَعَهَا، فَدَعَاهَا، فَأَقْبَلَتْ تَتَدَحْرَجُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا انْتَهَتْ إِلَيْهِ رَكَضَ بِرِجْلِهِ الْأَرْضَ فَخُسِفَ بِهَا وَبِمَنَابِرِهَا، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: يَا جِرْجِيسُ خَدَعْتَنِي وَأَهْلَكْتَ أَصْنَامِي! فَقَالَ لَهُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ عَمْدًا لِتَعْتَبِرَ وَتَعْلَمَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ آلِهَةً لَامْتَنَعَتْ مِنِّي. فَلَمَّا قَالَ هَذَا قَالَتِ امْرَأَةُ الْمَلِكِ وَأَظْهَرَتْ إِسْلَامَهَا، وَعَدَّتْ عَلَيْهِمْ أَفْعَالَ جِرْجِيسَ وَقَالَتْ: مَا تَنْظُرُونَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ إِلَّا دَعْوَةً فَتَهْلَكُونَ كَمَا هَلَكَتْ أَصْنَامُكُمْ. فَقَالَ الْمَلِكُ: مَا أَسْرَعَ مَا أَضَلَّكِ هَذَا السَّاحِرُ! ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ عَلَى خَشَبَةٍ، ثُمَّ مَشَّطَ لَحْمَهَا بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ، فَلَمَّا آلَمَهَا الْعَذَابُ قَالَتْ لِجِرْجِيسَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُخَفِّفَ عَلَيَّ الْأَلَمَ. فَقَالَ: انْظُرِي فَوْقَكِ. فَنَظَرَتْ فَضَحِكَتْ. فَقَالَ لَهَا الْمَلِكُ: مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَتْ: أَرَى عَلَى رَأْسِي مَلَكَيْنِ مَعَهُمَا تَاجٌ مِنْ حُلِيِّ الْجَنَّةِ يَنْتَظِرَانِ خُرُوجَ رُوحِي لِيُزَيِّنَانِي بِهِ وَيَصْعَدَا بِهَا إِلَى الْجَنَّةِ. فَلَمَّا مَاتَتْ أَقْبَلَ جِرْجِيسُ عَلَى الدُّعَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَكْرَمْتَنِي بِهَذَا الْبَلَاءِ لِتُعْطِيَنِي أَفْضَلَ مَنَازِلِ الشُّهَدَاءِ، وَهَذَا آخِرُ أَيَّامِي، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُنْزِلَ بِهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ مِنْ سَطْوَتِكَ وَعُقُوبَتِكَ مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ، فَأَمْطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّارَ فَأَحْرَقَتْهُمْ. فَلَمَّا احْتَرَقُوا بِحَرِّهَا عَمَدُوا إِلَيْهِ فَضَرَبُوهُ بِالسُّيُوفِ فَقَتَلُوهُ، وَهِيَ الْقَتْلَةُ الرَّابِعَةُ. فَلَمَّا احْتَرَقَتِ الْمَدِينَةُ بِجَمِيعِ مَا فِيهَا رُفِعَتْ مِنَ الْأَرْضِ وَجُعِلَ عَالِيهَا سَافِلَهَا، فَلَبِثَ زَمَانًا يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِهَا دُخَانٌ مُنْتِنٌ. وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ آمَنَ بِهِ وَقُتِلَ مَعَهُ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَامْرَأَةَ الْمَلِكِ.

ذكر خالد بن سنان العبسي

[ذِكْرُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْعَبْسِيِّ] وَمِمَّنْ كَانَ فِي الْفَتْرَةِ خَالِدُ بْنُ سِنَانٍ الْعَبْسِيُّ، قِيلَ: كَانَ نَبِيًّا، وَكَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ أَنَّ نَارًا ظَهَرَتْ بِأَرْضِ الْعَرَبِ فَافْتُتِنُوا بِهَا وَكَادُوا يَتَمَجَّسُونَ، فَأَخَذَ خَالِدٌ عَصَاهُ وَدَخَلَهَا حَتَّى تَوَسَّطَهَا فَفَرَّقَهَا، وَهُوَ يَقُولُ: بَدَّا بَدَّا، كُلُّ هُدًى مُؤَدَّى، لَأَدْخُلَنَّهَا وَهِيَ تَلَظَّى، وَلَأَخْرُجَنَّ مِنْهَا وَثِيَابِي تَنَدَّى. ثُمَّ إِنَّهَا طُفِئَتْ وَهُوَ فِي وَسَطِهَا. فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِأَهْلِهِ: إِذَا دُفِنْتُ فَإِنَّهُ سَتَجِيءُ عَانَةٌ مِنْ حِمْيَرَ يَقْدُمُهَا عَيْرٌ أَبْتَرُ فَيَضْرِبُ قَبْرِي بِحَافِرِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَانْبِشُوا عَنِّي فَإِنِّي سَأُخْبِرُكُمْ بِجَمِيعِ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا مَاتَ وَدَفَنُوهُ رَأَوْا مَا قَالَ، فَأَرَادُوا نَبْشَهُ، فَكَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ قَالُوا: نَخَافُ إِنْ نَبَشْنَاهُ أَنْ تَسُبَّنَا الْعَرَبُ بِأَنَّا نَبَشْنَا مَيِّتًا لَنَا فَتَرَكُوهُ. فَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِيهِ: ( «ذَلِكَ نَبِيٌّ ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ» ) .

ذكر طبقات ملوك الفرس

وَأَتَتِ ابْنَتُهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَآمَنَتْ بِهِ. كَذَا قِيلَ إِنَّهُ آخِرُ الْحَوَادِثِ أَيَّامَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ مَنْ أَدْرَكَتِ ابْنَتُهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ بَعْدَ اجْتِمَاعِ الْمُلْكِ لِأَرْدَشِيرَ بْنِ بَابَكَ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ. وَنَرْجِعُ إِلَى أَخْبَارِ مُلُوكِ الْفُرْسِ لِسِيَاقِ التَّارِيخِ، وَنُقَدِّمُ قَبْلَ ذِكْرِهِمْ عَدَدَ الْمُلُوكِ الْأَشْغَانِيَّةِ مِنْ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ وَطَبَقَاتِ مُلُوكِ الْفُرْسِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [ذِكْرُ طَبَقَاتِ مُلُوكِ الْفُرْسِ] الطَّبَقَةُ الْأُولَى الْفِيشْدَاذِيَّةُ

مُلُوكُ الْأَرْضِ بَعْدَ جِيُومَرْثَ أُوشْهَنْجَ، وَمَلَكَ فِيشْدَاذْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمَعْنَى فِيشْدَاذْ أَوَّلُ حَاكِمٍ. مَلَكَ بَعْدَهُ طَهْمُورَثُ بْنُ يُوجَهَانَ ثَلَاثِينَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ أَخُوهُ جَمْشِيدْ سَبْعَمِائَةٍ وَسِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ بِيُورَاسِفُ بْنُ أَرُونْدَاسِفْ أَلْفَ سَنَةٍ. ثُمَّ مَلَكَ أَفْرِيدُونُ بْنُ أَثْغِيَانْ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ. ثُمَّ مَلَكَ مَنُوجَهْرُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ أَفْرَاسْيَابُ التُّرْكِيُّ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً.

ثُمَّ مَلَكَ زَوُّ بْنُ تَهْمَاسِفَ ثَلَاثَ سِنِينَ. ثُمَّ مَلَكَ كَرْشَاسِبْ تِسْعَ سِنِينَ. الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ الْكَيَّانِيَّةُ ثُمَّ مَلَكَ كَيْقَبَاذْ مِائَةً وَسِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ كَيْكَاوُوسْ مِائَةً وَخَمْسِينَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ كَيْخِسْرُو ثَمَانِينَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ كَيْ لُهْرَاسِبْ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ كَيْ بَشْتَاسَبْ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ كَيْ بَهْمَنْ مِائَةً وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَتْ خُمَانِي جَهْرَزَادْ ثَلَاثِينَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ أَخُوهَا دَارُ بْنُ بَهْمَنْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ ابْنُهُ دَارَا بْنُ دَارَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ الْإِسْكَنْدَرَ الْمُلْكَ مِنْهُ.

وَكَانَ مُلْكُ الْإِسْكَنْدَرِ بَعْدَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ الْأَشْغَانِيَّةُ وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَوْلَوْا عَلَى الْعِرَاقِ وَالْجِبَالِ، وَكَانَ سَائِرُ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ يُعَظِّمُونَهُمْ. فَأَوَّلُ مُلُوكِ الْأَشْغَانِيِّينَ أَيَّامَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ أَشْكُ مَلَكَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ ابْنُهُ شَابُورُ بْنُ أَشْكَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ ابْنُهُ جَوْذَرْزُ بْنُ شَابُورَ، وَهُوَ الَّذِي غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ قَتْلِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، خَمْسِينَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ ابْنُ أَخِيهِ وَبْحَنُ بْنُ بِلَاشٍ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ جَوْذَرْزُ بْنُ وَبْحَنَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ أَخُوهُ نَرْسِي ثَلَاثِينَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ عَمُّهُ هُرْمُزَانُ بْنُ بَلَاشَ بْنِ شَابُورَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ ابْنُهُ فَيْرُوزُ بْنُ هُرْمُزَانَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ ابْنُهُ خِسْرُو أَرْبَعِينَ سَنَةً.

ذكر أخبار أردشير بن بابك وملوك الفرس

ثُمَّ مَلَكَ أَخُوهُ بَلَاشُ بْنُ فَيْرُوزَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. ثُمَّ مَلَكَ ابْنُهُ أَرْدُوَانُ بْنُ بَلَاشَ خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَلَكَ بَعْدَ هُرْمُزَانَ بْنِ بَلَاشَ أَرْدُوَانُ الْأَكْبَرُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ فِي عَدَدِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْفُرْسُ تَعْتَرِفُ بِاضْطِرَابِ التَّارِيخِ عَلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ وَمَلَكَ بِيُورَاسَفْ وَمَلَكَ أَفْرَاسْيَابْ التُّرْكِيُّ لِأَنَّهُمْ زَالَ الْمُلْكُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُهُ. الطَّبَقَةُ الرَّابِعَةُ السَّاسَانِيَّةُ فَأَوَّلُهُمْ أَرْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ. [ذِكْرُ أَخْبَارِ أَرْدَشِيرَ بْنِ بَابَكَ وَمُلُوكِ الْفُرْسِ]

قِيلَ: لَمَّا مَضَى مِنْ لَدُنْ مَلَكَ الْإِسْكَنْدَرُ أَرْضَ بَابِلَ، فِي قَوْلِ النَّصَارَى وَأَهْلِ الْكُتُبِ الْأُوَلِ، خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَفِي قَوْلِ الْمَجُوسِ: مِائَتَانِ وَسِتٌّ وَسِتُّونَ، وَثَبَ أَرْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ بْنِ سَاسَانَ الْأَصْغَرِ بْنِ بَابَكَ بْنِ سَاسَانَ بْنِ بَابَكَ بْنِ مَهَرْمِسَ بْنِ سَاسَانَ بْنِ بَهْمَنَ الْمَلِكِ بْنِ إِسْفِنْدِيَارَ بْنِ بَشْتَاسْبَ - وَقِيلَ فِي نِسْبَتِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، يُرِيدُ الْأَخْذَ بِثَأْرِ الْمَلِكِ دَارَا بْنِ دَارَا، وَرَدَّ الْمُلْكِ إِلَى أَهْلِهِ، وَإِلَى مَا لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَيَّامَ سَلَفِهِ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ وَجَمْعَهُ لِرَئِيسٍ وَاحِدٍ. وَذَكَرَ أَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى إِصْطَخْرَ يُقَالُ لَهَا: طَيْزُودَهْ مِنْ رُسْتَاقِ إِصْطَخْرَ، وَكَانَ جَدُّهُ سَاسَانُ شُجَاعًا مُغْرًى بِالصَّيْدِ، وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ نَسْلِ مُلُوكِ فَارِسَ يُعْرَفُونَ بِالْبَادَرَنْجِيِّينَ، وَكَانَ قَيِّمًا عَلَى بَيْتِ نَارٍ بِإِصْطَخْرَ يُقَالُ لَهَا بَيْتُ نَارَهِيدْ، فَوَلَدَتْ لَهُ بَابَكَ، فَلَمَّا كَبِرَ قَامَ بِأَمْرِ النَّاسِ بَعْدَ أَبِيهِ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ ابْنُهُ أَرْدَشِيرُ. وَكَانَ مَلَكَ إِصْطَخْرَ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ مِنَ الْبَادَرَنْجِيِّينَ يُقَالُ لَهُ جُوزِهْرُ، وَكَانَ لَهُ خَصِيٌّ اسْمُهُ تِيرَى قَدْ صَيَّرَهُ أَرْجَيْدًا بِدَارَبَجِرْدَ. فَلَمَّا أَتَى لِأَرْدَشِيرَ سَبْعُ سِنِينَ قَدَّمَهُ أَبُوهُ إِلَى

جُوزِهْرَ وَسَأَلَهُ أَنْ يَضُمَّهُ إِلَى تِيرَى لِيَكُونَ رَبِيبًا لَهُ وَأَرْجَيْدًا بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَأَجَابَهُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى تِيرَى، فَقَبِلَهُ وَتَبَنَّاهُ. فَلَمَّا هَلَكَ تِيرَى تَقَلَّدَ أَرْدَشِيرُ الْأَمْرَ وَحَسُنَ قِيَامُهُ بِهِ، وَأَعْلَمَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَجِّمِينَ صَلَاحَ مَوْلِدِهِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ الْبِلَادَ، فَازْدَادَ فِي الْخَيْرِ، وَرَأَى فِي مَنَامِهِ مَلَكًا جَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يُمَلِّكُكَ الْبِلَادَ، فَقَوِيَتْ نَفْسُهُ قُوَّةً لَمْ يَعْهَدْهَا، وَكَانَ أَوَّلَ مَا فَعَلَ أَنَّهُ سَارَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْ دَارَابْجِرْدَ يُسَمَّى خُوبَابَانْ فَقَتَلَ مَلِكَهَا، وَاسْمُهُ فَاسِينْ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ كَوْسَنُ فَقَتَلَ مَلِكَهَا، وَاسْمُهُ مِنُوجِهْرُ ثُمَّ سَارَ إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ لَزْوِيزُ فَقَتَلَ مَلِكَهَا، وَاسْمُهُ دَارَا وَجَعَلَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ قَوْمًا مِنْ قِبَلِهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ بِمَا كَانَ مِنْهُ، وَأَمَرَهُ بِالْوُثُوبِ بِجُوزِهْرَ، وَهُوَ بِالْبَيْضَاءِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَقَتَلَ جُوزِهْرَ وَأَخَذَ تَاجَهُ، وَكَتَبَ إِلَى أَرْدُوَانْ مَلِكِ الْجِبَالِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا يَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ وَيَسْأَلُهُ فِي تَتْوِيجِ ابْنِهِ سَابُورَ بِتَاجِ جُوزِهْرَ، فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَهَدَّدَهُ، فَلَمْ يَحْفِلْ بَابَكُ بِذَلِكَ وَهَلَكَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَتَتَوَّجَ سَابُورُ بْنُ بَابَكَ بِالتَّاجِ وَمَلَكَ مَكَانَ أَبِيهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَرْدَشِيرَ يَسْتَدْعِيهِ، فَامْتَنَعَ، فَغَضِبَ سَابُورُ وَجَمَعَ جُمُوعًا وَسَارَ بِهِمْ نَحْوَهُ لِيُحَارِبَهُمْ، وَخَرَجَ مِنْ إِصْطَخْرَ وَبِهَا عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ وَأَقَارِبِهِ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ، فَأَخَذُوا التَّاجَ وَالسَّرِيرَ وَسَلَّمُوهَا إِلَى أَرْدَشِيرَ، فَتَتَوَّجَ وَافْتَتَحَ أَمْرَهُ بِجِدٍّ وَقُوَّةٍ وَجَعَلَ لَهُ وَزِيرًا وَرَتَّبَ مَوْبَذَانْ مَوْبَذْ، وَأَحَسَّ مِنْ إِخْوَتِهِ وَقَوْمٍ كَانُوا مَعَهُ بِالْفَتْكِ بِهِ، فَقَتَلَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْهُمْ، وَعَصَى عَلَيْهِ أَهْلُ دَارَابْجِرْدَ فَعَادَ إِلَيْهِمْ فَافْتَتَحَهَا وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى كَرْمَانَ وَبِهَا مَلِكٌ يُقَالُ لَهُ بَلَاشُ فَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَاتَلَ أَرْدَشِيرُ بِنَفْسِهِ وَأَسَرَ بَلَاشَ، فَاسْتَوْلَى عَلَى الْمَدِينَةِ وَجَعَلَ فِيهَا ابْنًا لَهُ اسْمُهُ أَرْدَشِيرُ أَيْضًا. وَكَانَ فِي سَوَاحِلِ بَحْرِ فَارِسَ مَلِكٌ اسْمُهُ اسْيُونْ يُعَظَّمُ فَسَارَ إِلَيْهِ أَرْدَشِيرُ فَقَتَلَهُ

وَقَتَلَ مَنْ مَعَهُ وَاسْتَخْرَجَ لَهُ أَمْوَالًا عَظِيمَةً. وَكَتَبَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُلُوكِ، مِنْهُمْ: مِهْرَكُ صَاحِبُ ابْرِسَاسْ مِنْ أَرْدَشِيرَ خُرَّةَ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَقَتَلَ مِهْرَكَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى جَوْرٍ فَأَسَّسَهَا وَبَنَى الْجَوْسَقَ الْمَعْرُوفَ بِالطِّرْبَالِ وَبَيْتَ نَارٍ هُنَاكَ. فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ وَرَدَ إِلَيْهِ رَسُولُ أَرْدُوَانْ بِكِتَابٍ، فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا فِيهِ: إِنَّكَ عَدَوْتَ قَدْرَكَ وَاجْتَلَبْتَ حَتْفَكَ أَيُّهَا الْكُرْدِيُّ! مَنْ أَذِنَ لَكَ فِي التَّاجِ وَالْبِلَادِ؟ وَمَنْ أَمَرَكَ بِبِنَاءِ الْمَدِينَةِ؟ وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ وَجَّهَ إِلَيْهِ مَلِكَ الْأَهْوَازِ لِيَأْتِيَهُ بِهِ فِي وَثَاقٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ اللَّهَ حَبَانِي بِالتَّاجِ وَمَلَّكَنِي الْبِلَادَ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُمَكِّنَنِي مِنْكَ فَأَبْعَثَ بِرَأْسِكَ إِلَى بَيْتِ النَّارِ الَّذِي أَسَّسْتُهُ. وَسَارَ أَرْدَشِيرُ نَحْوَ إِصْطَخْرَ وَخَلَّفَ وَزِيرَهُ أَبْرِسَامْ بِأَرْدَشِيرَ خُرَّةَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى وَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابُ أَبْرِسَامْ بِمُوَافَاةِ مَلِكِ الْأَهْوَازِ وَعَوْدِهِ مَنْكُوبًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ فَمَلَكَهَا وَقَتَلَ مَلِكَهَا، وَعَادَ إِلَى فَارِسَ وَتَوَجَّهَ إِلَى مُحَارَبَةِ نِيرُوفَرْ صَاحِبِ الْأَهْوَازِ، وَسَارَ إِلَى أَرَّجَانَ وَإِلَى مَيْسَانَ وَطَاسَارَ، ثُمَّ إِلَى سُرَّقَ، فَوَقَفَ عَلَى شَاطِئِ دُجَيْلٍ فَظَفِرَ بِالْمَدِينَةِ، وَابْتَنَى مَدِينَةَ سُوقِ الْأَهْوَازِ، وَعَادَ إِلَى فَارِسَ بِالْغَنَائِمِ، ثُمَّ عَادَ مِنْ فَارِسَ إِلَى الْأَهْوَازِ عَلَى طَرِيقِ جِرْهِ وَكَازَرُونْ، وَقَتَلَ مَلِكَ مَيْسَانَ، وَبَنَى هُنَاكَ كَرْخَ مَيْسَانَ وَعَادَ إِلَى فَارِسَ. فَأَرْسَلَ إِلَى أَرْدُوَانْ يُؤْذِنُهُ بِالْحَرْبِ وَيَقُولُ لَهُ لِيُعَيِّنَ مَوْضِعًا لِلْقِتَالِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَرْدُوَانْ: إِنِّي أُوَافِيكَ فِي صَحْرَاءِ هُرْمُزْجَانَ لِانْسِلَاخِ مِهْرَمَاهَ. فَوَافَاهُ أَرْدَشِيرُ قَبْلَ الْوَقْتِ

وَخَنْدَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَاحْتَوَى عَلَى الْمَاءِ، وَوَافَاهُ أَرْدُوَانْ وَمَلِكَ الْأَرْمَانِيِّينَ، وَكَانَا يَتَحَارَبَانِ عَلَى الْمُلْكِ فَاصْطَلَحَا عَلَى أَرْدَشِيرَ وَحَارَبَاهُ، وَهُمَا مُتَسَانِدَانِ يُقَاتِلُهُ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ بَابَا مَلِكِ الْأَرْمَانِيِّينَ لَمْ يَقُمْ لَهُ أَرْدَشِيرُ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ أَرْدُوَانْ لَمْ يَقُمْ لِأَرْدَشِيرَ، فَصَالَحَ أَرْدَشِيرُ مَلِكَ الْأَرْمَانِيِّينَ عَلَى أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ وَيَفْرُغَ أَرْدَشِيرُ لَأَرْدُوَانْ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَتَلَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَى مَا كَانَ لَهُ، وَأَطَاعَهُ بَابَا وَسُمِّي أَرْدَشِيرُ: شَاهِنْشَاهْ. ثُمَّ سَارَ إِلَى هَمَذَانَ فَافْتَتَحَهَا، وَإِلَى الْجَبَلِ وَأَذْرَبِيجَانَ وَأَرْمِينِيَّةَ وَالْمَوْصِلِ فَفَتَحَهَا عَنْوَةً، وَسَارَ إِلَى السَّوَادِ مِنَ الْمَوْصِلِ فَمَلَكَهُ، وَبَنَى عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ قُبَالَةَ طَيْسَفُونَ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ الَّتِي فِي شَرْقِ الْمَدَائِنِ مَدِينَةٌ غَرِيبَةٌ، وَسَمَّاهَا بِهِ أَرْدَشِيرُ، وَعَادَ مِنَ السَّوَادِ إِلَى إِصْطَخْرَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى سِجِسْتَانَ، ثُمَّ إِلَى جُرْجَانَ، ثُمَّ إِلَى نَيْسَابُورَ وَمَرْوٍ وَبَلْخٍ وَخُوَارِزْمَ، وَعَادَ إِلَى فَارِسَ، وَنَزَلَ جَوْرٌ فَجَاءَهُ رُسُلُ مَلِكِ كُوسَانَ وَمَلِكِ طُورَانَ وَمَلِكِ مُكْرَانَ بِالطَّاعَةِ. ثُمَّ سَارَ مِنْ جَوْرٍ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، فَاضْطُرَّ مَلِكُهَا إِلَى أَنْ رَمَى بِنَفْسِهِ مِنْ حِصْنِهِ فَهَلَكَ. وَعَادَ إِلَى الْمَدَائِنِ فَتَوَّجَ ابْنَهُ سَابُورَ بِتَاجِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَنَى ثَمَانِيَ مُدُنٍ، مِنْهَا: مَدِينَةُ الْخَطِّ بِالْبَحْرَيْنِ، وَمَدِينَةُ بَهْرَسِيرْ مُقَابِلَ الْمَدَائِنِ. وَكَانَ اسْمُهُ بِهْ أَرْدَشِيرَ فَعُرِّبَتْ بِهْ سِيرُ، وَأَرْدَشِيرُ خُرَّةَ، هِيَ مَدِينَةُ فَيْرُوزَابَاذَ، سَمَّاهَا عَضُدُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهٍ كَذَلِكَ، وَبَنَى بِكَرْمَانَ مَدِينَةَ أَرْدَشِيرَ عَلَى دِجْلَةَ عِنْدَ الْبَصْرَةِ، وَالْبَصْرِيُّونَ يُسَمُّونَهَا بَهْمَنْ شِيرَ، وَفُرَاتُ مَيْسَانَ أَيْضًا، وَبَنَى رَامَهُرْمُزَ بِخُوزِسْتَانَ، وَبَنَى سُوقَ الْأَهْوَازِ، وَبِالْمَوْصِلِ بُودَرْ أَرْدَشِيرَ، وَهِيَ حَزَّةٌ. وَلَمْ يَزَلْ مَحْمُودَ السِّيرَةِ مُظَفَّرًا مَنْصُورًا لَا تُرَدُّ لَهُ رَايَةٌ، وَمَدَّنَ الْمُدُنَ، وَكَوَّرَ الْكُوَرَ، وَرَتَّبَ الْمَرَاتِبَ وَعَمَّرَ الْبِلَادَ. وَكَانَ مُلْكُهُ مِنْ قَتْلِهِ أَرْدُوَانَ إِلَى أَنْ هَلَكَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ. وَلَمَّا اسْتَوْلَى أَرْدَشِيرُ عَلَى الْعِرَاقِ كَرِهَ كَثِيرٌ مِنْ تَنُوخَ الْمُقَامَ فِي مَمْلَكَتِهِ، فَخَرَجَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ قُضَاعَةَ إِلَى الشَّامِ، وَدَانَ لَهُ أَهْلُ الْحِيرَةِ وَالْأَنْبَارِ، وَقَدْ كَانَتِ الْحِيرَةُ

وَالْأَنْبَارُ بُنِيَتَا زَمَنَ بُخْتَ نَصَّرَ، فَخَرُبَتِ الْحِيرَةُ لِتَحَوُّلِ أَهْلِهَا إِلَى الْأَنْبَارِ، وَعَمُرَتِ الْأَنْبَارُ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً إِلَى أَنْ عَمُرَتِ الْحِيرَةُ زَمَنَ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ، فَعَمُرَتْ خَمْسَمِائَةٍ وَبِضْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً إِلَى أَنْ وُضِعَتِ الْكُوفَةُ وَنَزَلَهَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ. ذِكْرُ مُلْكِ سَابُورَ بْنِ أَرْدَشِيرَ بْنِ بَابَكَ وَلَمَّا هَلَكَ أَرْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ قَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ ابْنُهُ سَابُورُ، وَكَانَ أَرْدَشِيرُ قَدْ أَسْرَفَ فِي قَتْلِ الْأَشْكَانِيَّةِ حَتَّى أَفْنَاهُمْ بِسَبَبِ أَلِيَةٍ آلَاهَا جَدُّهُ سَاسَانُ بْنُ أَرْدَشِيرَ بْنِ بَهْمَنَ، فَإِنَّهُ أَقْسَمَ أَنَّهُ إِنْ مَلَكَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَسْتَبْقِ مِنْ نَسْلِ أَشْكَ بْنِ خَزَّةَ أَحَدًا، وَأَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَى عَقِبِهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ مَلَكَ مِنْ عَقِبِهِ أَرْدَشِيرُ، فَقَتَلَهُمْ جَمِيعًا نِسَاءَهُمْ وَرِجَالَهُمْ، غَيْرَ أَنَّ جَارِيَةً وَجَدَهَا فِي دَارِ الْمَمْلَكَةِ فَأَعْجَبَتْهُ، وَكَانَتِ ابْنَةَ الْمَلِكِ الْمَقْتُولِ، فَسَأَلَهَا عَنْ نَسَبِهَا، فَذَكَرَتْ أَنَّهَا خَادِمٌ لِبَعْضِ نِسَاءِ الْمَلِكِ. فَسَأَلَهَا أَبِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا بِكْرٌ، فَاتَّخَذَهَا لِنَفْسِهِ وَوَاقَعَهَا، فَعَلِقَتْ مِنْهُ، فَلَمَّا أَمِنَتْ مِنْهُ بِحَبَلِهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا مِنْ وَلَدِ أَشْكَ، فَنَفَرَ مِنْهَا وَدَعَا هَرْجَدَ بْنَ أَسَامَ، وَكَانَ شَيْخًا مُسِنًّا، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَقَالَ لَهُ لِيَقْتُلْهَا لِيَبِرَّ قَسَمَ جَدِّهِ. فَأَخَذَهَا الشَّيْخُ لِيَقْتُلَهَا، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا حُبْلَى، فَأَتَى بِالْقَوَابِلِ فَشَهِدْنَ بِحَبَلِهَا، فَأَوْدَعَهَا سَرَبًا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ قَطَعَ مَذَاكِيرَهُ وَوَضَعَهَا فِي حُقٍّ وَخَتَمَ عَلَيْهِ، وَحَضَرَ عِنْدَ الْمَلِكِ فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: اسْتَوْدَعْتُهَا بَطْنَ الْأَرْضِ، وَدَفَعَ الْحُقَّ إِلَيْهِ، وَسَأَلَ أَنْ يَخْتِمَهُ بِخَاتَمِهِ وَيُودِعَهُ بَعْضَ خَزَائِنِهِ، فَفَعَلَ. ثُمَّ وَضَعَتِ الْجَارِيَةُ غُلَامًا، فَكَرِهَ الشَّيْخُ أَنْ يُسَمَّى ابْنُ الْمَلِكِ دُونَهُ، وَخَافَ يُعْلِمُهُ بِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَأَخَذَ لَهُ الطَّالِعَ وَسَمَّاهُ شَابُورَ، وَمَعْنَاهُ ابْنُ الْمَلِكِ، فَيَكُونُ اسْمًا وَصِفَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ. وَبَقِيَ أَرْدَشِيرُ لَا يُولَدُ لَهُ، فَدَخَلَ الشَّيْخُ الَّذِي عِنْدَهُ الصَّبِيُّ يَوْمًا فَوَجَدَهُ مَحْزُونًا، فَقَالَ لَهُ: مَا يُحْزِنُ الْمَلِكَ؟ فَقَالَ: ضَرَبْتُ بِسَيْفِي مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ حَتَّى ظَفِرْتُ وَصَفَا لِي مُلْكُ آبَائِي ثُمَّ أَهْلِكُ وَلَيْسَ لِي عَقِبٌ فِيهِ. فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: سَرَّكَ اللَّهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ وَعَمَّرَكَ! لَكَ عِنْدِي وَلَدٌ طَيِّبٌ نَفِيسٌ، فَادْعُ لِي بِالْحُقِّ الَّذِي اسْتَوْدَعْتُكَ أُرِكَ

بُرْهَانَ ذَلِكَ. فَدَعَا أَرْدَشِيرُ بِالْحُقِّ وَفَتَحَهُ، فَوَجَدَ فِيهِ مَذَاكِيرَ الشَّيْخِ وَكِتَابًا فِيهِ: لَمَّا أَخْبَرَتْنِي ابْنَةُ الْمَلِكِ أَشْكَ الَّتِي عَلِقَتْ مِنْ مَلِكِ الْمُلُوكِ حِينَ أَمَرَ بِقَتْلِهَا لَمْ أَسْتَحِلَّ إِتْلَافَ زَرْعِ الْمَلِكِ الطَّيِّبِ فَأَوْدَعْتُهَا بَطْنَ الْأَرْضِ كَمَا أَمَرَ وَتَبَرَّأْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنْفُسِنَا لِئَلَّا يَجِدَ عَاضِهٌ إِلَى عَضَهِهَا سَبِيلًا. فَأَمَرَهُ أَرْدَشِيرُ أَنْ يَجْعَلَ مَعَ سَابُورَ مِائَةَ غُلَامٍ، وَقِيلَ: أَلْفُ غُلَامٍ مِنْ أَشْبَاهِهِ فِي الْهَيْئَةِ وَالْقَامَةِ، ثُمَّ يُدْخِلَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ زِيٌّ، فَفَعَلَ الشَّيْخُ. فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمْ أَرْدَشِيرُ قَبِلَتْ نَفْسُهُ ابْنَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، ثُمَّ أُعْطُوا صَوَالِجَةً وَكُرَةً، فَلَعِبُوا بِالْكُرَةِ وَهُوَ فِي الْإِيوَانِ، فَدَخَلَتِ الْكُرَةُ الْإِيوَانَ، فَهَابَ الْغِلْمَانُ أَنْ يَدْخُلُوهُ، وَأَقْدَمَ سَابُورُ مِنْ بَيْنِهِمْ وَدَخَلَ، فَاسْتَدَلَّ بِإِقْدَامِهِ مَعَ مَا كَانَ مِنْ قَبُولِهِ لَهُ حِينَ رَآهُ أَنَّهُ ابْنُهُ، فَقَالَ لَهُ أَرْدَشِيرُ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: شَاهْ بُورْ. فَلَمَّا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ ابْنُهُ شَهَرَ أَمْرَهُ وَعَقَدَ لَهُ التَّاجَ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ عَاقِلًا بَلِيغًا فَاضِلًا، فَلَمَّا مَلَكَ وَوَضَعَ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ فَرَّقَ الْأَمْوَالَ عَلَى النَّاسِ مِنْ قُرْبٍ وَمِنْ بُعْدٍ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، فَبَانَ فَضْلُ سِيرَتِهِ وَفَاقَ جَمِيعَ الْمُلُوكِ. وَبَنَى مَدِينَةَ نَيْسَابُورَ، وَمَدِينَةَ سَابُورَ بِفَارِسَ، وَبَنَى فَيْرُوزَ سَابُورَ، وَهِيَ الْأَنْبَارُ، وَبَنَى جُنْدَيْسَابُورْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ حَاصَرَ الرُّومَ بِنَصِيبِينَ، وَفِيهَا جَمْعٌ مِنَ الرُّومِ مُدَّةً، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ نَاحِيَةِ خُرَاسَانَ مَا احْتَاجَ إِلَى مُشَاهَدَتِهِ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَأَحْكَمَ أَمْرَهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى نَصِيبِينَ، فَزَعَمُوا أَنَّ سُورَهَا تَصَدَّعَ وَانْفَرَجَتْ مِنْهُ فُرْجَةٌ دَخَلَ مِنْهَا، وَقَتَلَ وَسَبَى وَغَنِمَ وَتَجَاوَزَهَا إِلَى بِلَادِ الشَّامِ فَافْتَتَحَ مِنْ مَدَائِنِهَا مُدُنًا كَثِيرَةً، مِنْهَا فَالُوقِيَّةُ وَقَدُوقِيَّةُ، وَحَاصَرَ مَلِكًا لِلرُّومِ بِأَنْطَاكِيَّةَ، فَأَسَرَهُ وَحَمَلَهُ وَجَمَاعَةً كَثِيرَةً مَعَهُ فَأَسْكَنَهُمْ مَدِينَةَ جُنْدَيْسَابُورْ.

ذِكْرُ خَبَرِ مَدِينَةِ الْحَضْرِ كَانَتْ بِجِبَالِ تَكْرِيتَ بَيْنَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ مَدِينَةٌ يُقَالُ لَهَا الْحَضْرُ، وَكَانَ بِهَا مَلِكٌ يُقَالُ لَهُ السَّاطِرُونَ، وَكَانَ مِنَ الْجَرَامِقَةِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ الضَّيْزَنَ، وَهُوَ مِنْ قُضَاعَةَ، وَكَانَ قَدْ مَلَكَ الْجَزِيرَةَ وَكَثُرَ جُنْدُهُ، وَإِنَّهُ تَطَرَّقَ بَعْضَ السَّوَادِ إِذْ كَانَ سَابُورُ بِخُرَاسَانَ، فَلَمَّا عَادَ سَابُورُ أُخْبِرَ بِمَا كَانَ مِنْهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ وَحَاصَرَهُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَقِيلَ: سَنَتَيْنِ، لَا يَقْدِرُ عَلَى هَدْمِ حِصْنِهِ وَلَا الْوُصُولِ إِلَيْهِ. وَكَانَ لِلضَّيْزَنِ بِنْتٌ تُسَمَّى النَّضِيرَةُ، فَحَاضَتْ، فَأُخْرِجَتْ إِلَى رَبَضِ الْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يُفْعَلُ بِالنِّسَاءِ، وَكَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ، وَكَانَ سَابُورُ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ، فَرَأَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فَتَعَاشَقَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: مَا تَجْعَلُ لِي إِنْ دَلَلْتُكَ عَلَى مَا تَهْدِمُ بِهِ سُورَ الْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ: أُحَكِّمُكِ وَأَرْفَعُكِ عَلَى نِسَائِي. فَقَالَتْ: عَلَيْكَ بِحَمَامَةٍ وَرْقَاءَ مُطَوَّقَةٍ فَاكْتُبْ عَلَى رِجْلِهَا بِحَيْضِ جَارِيَةٍ بِكْرٍ زَرْقَاءَ، ثُمَّ أَرْسِلْهَا فَإِنَّهَا تَقَعُ عَلَى سُورِ الْمَدِينَةِ فَيُخَرَّبُ، وَكَانَ ذَلِكَ طَلْسَمَ ذَلِكَ الْبَلَدِ. فَفَعَلَ وَتَدَاعَتِ الْمَدِينَةُ، فَدَخَلَهَا عَنْوَةً وَقَتَلَ الضَّيْزَنَ وَأَصْحَابَهُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ يُعْرَفُ الْيَوْمَ، وَأَخْرَبَ الْمَدِينَةَ وَاحْتَمَلَ النَّضِيرَةَ فَأَعْرَسَ بِهَا بِعَيْنِ التَّمْرِ، فَلَمْ تَزَلْ لَيْلَتَهَا تَتَضَوَّرُ، فَالْتَمَسَ مَا يُؤْذِيهَا فَإِذَا وَرَقَةُ آسٍ مُلْتَزِقَةٌ بِعُكْنَةٍ مِنْ عُكَنِ بَطْنِهَا، فَقَالَ لَهَا: مَا كَانَ يَغْذُوكِ بِهِ أَبُوكِ؟ قَالَتْ: بِالزُّبْدِ وَالْمُخِّ وَشَهْدِ الْأَبْكَارِ مِنَ النَّحْلِ وَصَفْوِ الْخَمْرِ. فَقَالَ: وَأَبِيكِ لَأَنَا أَحْدَثُ عَهْدًا بِكِ وَآثَرُ لَكِ مِنْ أَبِيكِ! فَأَمَرَ رَجُلًا فَرَكِبَ فَرَسًا جَمُوحًا ثُمَّ عَصَبَ غَدَائِرَهَا بِذَنَبِهِ ثُمَّ اسْتَرْكَضَهَا فَقَطَّعَهَا قِطَعًا، وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ ذِكْرَ الضَّيْزَنِ فِي أَشْعَارِهِمْ.

وَفِي أَيَّامِ سَابُورَ ظَهَرَ مَانِي الزِّنْدِيقُ وَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَتَبِعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَهُمُ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ الْمَانَوِيَّةَ. وَكَانَ مُلْكُهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ: إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ. ذِكْرُ مُلْكِ ابْنِهِ هُرْمُزَ بْنِ سَابُورَ بْنِ أَرْدَشِيرَ بْنِ بَابَكَ وَكَانَ يُشَبَّهُ فِي خَلْقِهِ بِأَرْدَشِيرَ غَيْرَ لَاحِقٍ بِهِ فِي تَدْبِيرِهِ، وَكَانَ مِنَ الْبَطْشِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَنَاتِ مِهْرَكَ الْمَلِكِ الَّذِي قَتَلَهُ أَرْدَشِيرُ وَتَتَبَّعَ نَسْلَهُ فَقَتَلَهُمْ، لِأَنَّ الْمُنَجِّمِينَ أَخْبَرُوهُ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ نَسْلِهِ مَنْ يَمْلِكُ، فَهَرَبَتْ أُمُّهُ إِلَى الْبَادِيَةِ وَأَقَامَتْ عِنْدَ بَعْضِ الرِّعَاءِ، وَخَرَجَ سَابُورُ مُتَصَيِّدًا، فَاشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ وَارْتَفَعَتْ لَهُ الْأَخْبِيَةُ الَّتِي فِيهَا أُمُّ هُرْمُزَ، فَقَصَدَهَا وَطَلَبَ الْمَاءَ، فَنَاوَلَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَرَأَى مِنْهَا جَمَالًا فَائِقًا، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ حَضَرَ الرِّعَاءُ فَسَأَلَهُمْ سَابُورُ عَنْهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا ابْنَتُهُ، فَتَزَوَّجَهَا وَسَارَ بِهَا إِلَى مَنْزِلِهِ، وَكُسِيَتْ وَنُظِّفَتْ، فَأَرَادَهَا فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ مُدَّةً، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ سَأَلَهَا عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا ابْنَةُ مِهْرَكَ، وَأَنَّهَا تَفْعَلُ ذَلِكَ إِبْقَاءً عَلَيْهِ مِنْ أَرْدَشِيرَ، فَعَاهَدَهَا عَلَى سَتْرِ أَمْرِهَا، وَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ هُرْمُزَ، فَسَتَرَ أَمْرَهُ حَتَّى صَارَ لَهُ سُنُونٌ. فَرَكِبَ أَرْدَشِيرُ يَوْمًا إِلَى مَنْزِلِ ابْنِهِ سَابُورَ لِشَيْءٍ أَرَادَ ذِكْرَهُ لَهُ، فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ مُفَاجَأَةً، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ خَرَجَ هُرْمُزُ وَبِيَدِهِ صَوْلَجَانٌ وَهُوَ يَصِيحُ فِي أَثَرِ الْكُرَةِ، فَلَمَّا رَآهُ أَرْدَشِيرُ أَنْكَرَهُ وَوَقَفَ عَلَى الْمَشَابِهِ الَّتِي فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْوَجْهِ وَعَبَالَةِ الْخَلْقِ وَأُمُورٍ غَيْرِهَا، فَاسْتَدْنَاهُ أَرْدَشِيرُ وَسَأَلَ عَنْهُ سَابُورَ، فَخَرَجَ مُفَكِّرًا عَلَى سَبِيلِ الْإِقْرَارِ بِالْخَطَإِ، وَأَخْبَرَ أَبَاهُ أَرْدَشِيرَ الْخَبَرَ، فَسُرَّ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُنَجِّمُونَ فِي وَلَدِ مِهْرَكَ، وَأَنَّ ذَلِكَ

قَدْ سَلَّى مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ وَأَذْهَبَهُ. فَلَمَّا مَلَكَ سَابُورُ وَلَّى هُرْمُزَ خُرَاسَانَ وَسَيَّرَهُ إِلَيْهَا، فَقَهَرَ الْأَعْدَاءَ وَاسْتَقَلَّ بِالْأَمْرِ، فَوَشَى بِهِ الْوُشَاةُ إِلَى سَابُورَ أَنَّهُ عَلَى عَزْمٍ أَنْ يَأْخُذَ الْمُلْكَ مِنْهُ، وَسَمِعَ هُرْمُزُ بِذَلِكَ فَقِيلَ إِنَّهُ قَطَعَ يَدَهُ وَأَرْسَلَهَا إِلَى أَبِيهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِمَا بَلَغَهُ وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ إِزَالَةً لِلتُّهْمَةِ لِأَنَّ رَسْمَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُمَلِّكُونَ ذَا عَاهَةٍ، فَلَمَّا وَصَلَتْ يَدُهُ إِلَى سَابُورَ تَقَطَّعَ أَسَفًا، وَأَرْسَلَ إِلَى هُرْمُزَ يُعْلِمُهُ مَا نَالَهُ لِذَلِكَ، وَعَقَدَ لَهُ عَلَى الْمُلْكِ وَمَلَّكَهُ، وَلَمَّا مَلَكَ عَدَلَ فِي رَعِيَّتِهِ، وَكَانَ صَادِقًا، وَسَلَكَ سَبِيلَ آبَائِهِ وَكَوَّرَ كُورَةَ رَامَهُرْمُزَ. وَكَانَ مُلْكُهُ سَنَةً وَعَشْرَةَ أَيَّامٍ. ذِكْرُ مُلْكِ ابْنِهِ بَهْرَامَ بْنِ هُرْمُزَ بْنِ سَابُورَ وَكَانَ حَلِيمًا مُتَأَنِّيًا حَسَنَ السِّيرَةِ، وَقَتَلَ مَانِي الزِّنْدِيقَ وَسَلَخَهُ وَحَشَا جِلْدَهُ تِبْنًا وَعُلِّقَ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابٍ جُنْدَيْسَابُورْ يُسَمَّى بَابَ مَانِي. وَكَانَ مُلْكُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَكَانَ عَامِلَ سَابُورَ بْنِ أَرْدَشِيرَ وَابْنِهِ هُرْمُزَ وَبَهْرَامَ بْنِ هُرْمُزَ - بَعْدَ مَهْلِكِ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ عَلَى رَبِيعَةَ وَمُضَرَ وَسَائِرُ مَنْ بِبَادِيَةِ الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَالْجَزِيرَةِ يَوْمَئِذٍ - ابْنٌ لِعَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ، يُقَالُ لَهُ امْرُؤُ الْقَيْسِ الْبَدْءُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَنَصَّرَ مِنْ آلِ نَصْرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَعُمَّالِ الْفُرْسِ، وَعَاشَ مُمَلَّكًا فِي عَمَلِهِ مِائَةَ سَنَةٍ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، مِنْهَا فِي زَمَنِ سَابُورَ بْنِ أَرْدَشِيرَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَشَهْرًا، وَفِي زَمَنِ هُرْمُزَ بْنِ سَابُورَ سَنَةً وَعَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَفِي زَمَنِ بَهْرَامَ ثَلَاثَ سِنِينَ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِي زَمَنِ بَهْرَامَ بْنِ بَهْرَامَ بْنِ هُرْمُزَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. ذِكْرُ مُلْكِ ابْنِهِ بَهْرَامَ بْنِ بَهْرَامَ بْنِ هُرْمُزَ بْنِ سَابُورَ بْنِ أَرْدَشِيرَ

وَكَانَ مُلْكُهُ حَسَنًا، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأُمُورِ، فَلَمَّا عُقِدَ لَهُ التَّاجُ وَعَدَهُمْ بِحُسْنِ السِّيرَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي سِنِيِّ مُلْكِهِ، فَقِيلَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ مُلْكِ ابْنِهِ بَهْرَامَ بْنِ بَهْرَامَ بْنِ بَهْرَامَ بْنِ هُرْمُزَ بْنِ سَابُورَ فَلَمَّا عُقِدَ التَّاجُ عَلَى رَأْسِهِ دَعَا لَهُ الْعُظَمَاءُ، فَأَحْسَنَ الرَّدَّ، وَكَانَ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى إِلَيْهِ مُمَلَّكًا عَلَى سِجِسْتَانَ، وَكَانَ مُلْكُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ. ذِكْرُ مُلْكِ نَرْسِي بْنِ بَهْرَامَ وَهُوَ أَخُو بَهْرَامَ الثَّالِثِ، فَلَمَّا عُقِدَ التَّاجُ عَلَى رَأْسِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَشْرَافُ وَالْعُظَمَاءُ فَدَعَوْا لَهُ، فَوَعَدَهُمْ خَيْرًا وَسَارَ فِيهِمْ بِأَعْدَلِ السِّيرَةِ، وَقَالَ: لَنْ نُضَيِّعَ شُكْرَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا. وَكَانَ مُلْكُهُ تِسْعَ سِنِينَ. ذِكْرُ مُلْكِ هُرْمُزَ بْنِ نَرْسِي بْنِ بَهْرَامَ بْنِ بَهْرَامَ بْنِ هُرْمُزَ وَكَانَ النَّاسُ قَدْ وَجِلُوا مِنْهُ لِفَظَاظَتِهِ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ بِمَا كَانُوا يَخَافُونَ مِنْ شِدَّةِ

وِلَايَتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْفَظَاظَةِ رِقَّةً وَرَأْفَةً، وَسَاسَهُمْ أَرَقَّ سِيَاسَةٍ، وَكَانَ حَرِيصًا عَلَى انْتِعَاشِ الضُّعَفَاءِ وَعِمَارَةِ الْبِلَادِ وَالْعَدْلِ، ثُمَّ هَلَكَ وَلَا وَلَدَ لَهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، فَسَأَلُوا عَنْ نِسَائِهِ، فَذُكِرَ لَهُمْ أَنَّ بَعْضَهُنَّ حُبْلَى، وَقِيلَ: إِنَّ هُرْمُزَ كَانَ أَوْصَى بِالْمُلْكِ لِذَلِكَ الْحَمْلِ، وَوَلَدَتِ الْمَرْأَةُ سَابُورَ ذَا الْأَكْتَافِ. وَكَانَ مُلْكُ هُرْمُزَ سِتَّ سِنِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ سَبْعَ سِنِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ. وَأَسْمَاءُ الْمُلُوكِ مِنْ سَابُورَ بْنِ أَرْدَشِيرَ إِلَى هَاهُنَا لَمْ يُحْذَفْ مِنْهَا شَيْءٌ. ذِكْرُ مُلْكِ ابْنِهِ سَابُورَ ذِي الْأَكْتَافِ وَهُوَ سَابُورُ بْنُ هُرْمُزَ بْنِ نَرْسِي بْنِ بَهْرَامَ بْنِ هُرْمُزَ بْنِ سَابُورَ بْنِ أَرْدَشِيرَ بْنِ بَابَكَ، وَقِيلَ: مَلَكَ بِوَصِيَّةِ أَبِيهِ لَهُ، فَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِوِلَادَتِهِ وَبَثُّوا خَبَرَهُ فِي الْآفَاقِ، وَتَقَلَّدَ الْوُزَرَاءُ وَالْكُتَّابُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي مُلْكِ أَبِيهِ. وَسَمِعَ الْمُلُوكُ أَنَّ مَلِكَ الْفُرْسِ صَغِيرٌ فِي الْمَهْدِ، فَطَمِعَتْ فِي مَمْلَكَتِهِمُ التُّرْكُ وَالْعَرَبُ وَالرُّومُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ أَقْرَبَ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ، فَسَارَ جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنْهُمْ فِي الْبَحْرِ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ وَالْبَحْرَيْنِ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ وَسَوَاحِلِ أَرْدَشِيرَ خُرَّةَ، وَغَلَبُوا أَهْلَهَا عَلَى مَوَاشِيهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ، وَأَكْثَرُوا الْفَسَادَ، وَغَلَبَتْ إِيَادُ عَلَى سَوَادِ الْعِرَاقِ وَأَكْثَرُوا الْفَسَادَ فِيهِمْ، فَمَكَثُوا حِينًا لَا يَغْزُوهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْفُرْسِ لِصِغَرِ مَلِكِهِمْ. فَلَمَّا تَرَعْرَعَ سَابُورُ وَكَبِرَ كَانَ أَوَّلَ مَا عُرِفَ مِنْ حُسْنِ فَهْمِهِ أَنَّهُ سَمِعَ فِي الْبَحْرِ ضَوْضَاءَ وَأَصْوَاتًا فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ: إِنَّ النَّاسَ يَزْدَحِمُونَ فِي الْجِسْرِ الَّذِي عَلَى دِجْلَةَ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ، فَأَمَرَ بِعَمَلِ جِسْرٍ آخَرَ يَكُونُ أَحَدُهُمَا لِلْمُقْبِلِينَ وَالْآخَرُ لِلْمُدْبِرِينَ، فَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِذَلِكَ.

فَلَمَّا بَلَغَ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَقَوِيَ عَلَى حَمْلِ السِّلَاحِ، جَمَعَ رُؤَسَاءَ أَصْحَابِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ مَا اخْتَلَّ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ الذَّبَّ عَنْهُمْ وَيَشْخَصَ إِلَى بَعْضِ الْأَعْدَاءِ، فَدَعَا لَهُ النَّاسُ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُقِيمَ بِمَوْضِعِهِ وَيُوَجِّهَ الْقُوَّادَ وَالْجُنُودَ لِيَكْفُوهُ مَا يُرِيدُ، فَأَبَى وَاخْتَارَ مِنْ عَسْكَرِهِ أَلْفَ رَجُلٍ، فَسَأَلُوهُ الِازْدِيَادَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَسَارَ بِهِمْ وَنَهَاهُمْ عَلَى الْإِبْقَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَقَصَدَ بِلَادَ فَارِسَ فَأَوْقَعَ بِالْعَرَبِ وَهُمْ غَارُّونَ فَقَتَلَ وَأَسَرَ وَأَكْثَرَ. ثُمَّ قَطَعَ الْبَحْرَ إِلَى الْخَطِّ فَقَتَلَ مَنْ بِالْبَحْرَيْنِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى غَنِيمَةٍ، وَسَارَ إِلَى هَجَرَ وَبِهَا نَاسٌ مِنْ تَمِيمٍ وَبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَعَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ حَتَّى سَالَتْ دِمَاؤُهُمْ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَبَادَ عَبْدَ الْقَيْسِ، وَقَصَدَ الْيَمَامَةَ وَأَكْثَرَ فِي أَهْلِهَا الْقَتْلَ، وَغَوَّرَ مِيَاهَ الْعَرَبِ، وَقَصَدَ بَكْرًا وَتَغْلِبَ فِيمَا بَيْنَ مَنَاظِرِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ فَقَتَلَ وَسَبَى، وَغَوَّرَ مِيَاهَهُمْ، وَسَارَ إِلَى قُرْبِ الْمَدِينَةِ فَفَعَلَ كَذَلِكَ، وَكَانَ يَنْزِعُ أَكْتَافَ رُؤَسَائِهِمْ وَيَقْتُلُهُمْ إِلَى أَنْ هَلَكَ فَسَمُّوهُ سَابُورَ ذَا الْأَكْتَافِ لِهَذَا. وَانْتَقَلَتْ إِيَادٌ حِينَئِذٍ إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَصَارَتْ تُغِيرُ عَلَى السَّوَادِ، فَجَهَّزَ سَابُورُ إِلَيْهِمُ الْجُيُوشَ، وَكَانَ لَقِيطٌ الْإِيَادِيُّ مَعَهُمْ، فَكَتَبَ إِلَى إِيَادٍ: سَلَامٌ فِي الصَّحِيفَةِ مِنْ لَقِيطٍ ... إِلَى مَنْ بِالْجَزِيرَةِ مِنْ إِيَادِ. بِأَنَّ اللَّيْثَ كِسْرَى قَدْ أَتَاكُمْ فَلَا يَشْغَلْكُمْ سُوقُ النُّقَادِ.

أَتَاكُمْ مِنْهُمُ سَبْعُونَ أَلْفًا ... يَزُجُّونَ الْكَتَائِبَ كَالْجَرَادِ. فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَدَامُوا عَلَى الْغَارَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا: أَبْلِغْ إِيَادًا وَطَوِّلْ فِي سَرَاتِهِمْ أَنِّي ... أَرَى الرَّأْيَ إِنْ لَمْ أُعْصَ قَدْ نَصَعَا. وَهِيَ قَصِيدَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنْ أَجْوَدِ مَا قِيلَ فِي صِفَةِ الْحَرْبِ. فَلَمْ يَحْذَرُوا، وَأَوْقَعَ بِهِمْ سَابُورُ وَأَبَادَهُمْ قَتْلًا إِلَّا مَنْ لَحِقَ بِأَرْضِ الرُّومِ. فَهَذَا فِعْلُهُ بِالْعَرَبِ. وَأَمَّا الرُّومُ فَإِنَّ سَابُورَ كَانَ هَادَنَ مَلِكَهُمْ، وَهُوَ قُسْطَنْطِينُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَنَصَّرَ مِنْ مُلُوكِ الرُّومِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ سَبَبَ تَنَصُّرِهِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذِكْرِ سَابُورَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمَاتَ قُسْطَنْطِينُ وَفُرِّقَ مُلْكُهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ بَنِينَ كَانُوا لَهُ، فَمَلَكُوا، وَمَلَّكَتِ الرُّومُ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ قُسْطَنْطِينَ يُقَالُ لَهُ إِلْيَانُوسُ، وَكَانَ عَلَى مِلَّةِ الرُّومِ الْأُولَى وَيَكْتُمُ ذَلِكَ، فَلَمَّا مَلَكَ أَظْهَرَ دِينَهُ، وَأَعَادَ مِلَّةَ الرُّومِ، وَأَخْرَبَ الْبِيَعَ وَقَتَلَ الْأَسَاقِفَةَ، ثُمَّ جَمَعَ جُمُوعًا مِنَ الرُّومِ وَالْخَزَرِ وَسَارَ نَحْوَ سَابُورَ. وَاجْتَمَعَتِ الْعَرَبُ لِلِانْتِقَامِ مِنْ سَابُورَ، فَاجْتَمَعَ فِي عَسْكَرِ إِلْيَانُوسَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَعَادَتْ عُيُونُ سَابُورَ إِلَيْهِ فَاخْتَلَفُوا فِي الْأَخْبَارِ، فَسَارَ سَابُورُ بِنَفْسِهِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ ثِقَاتِهِ نَحْوَ الرُّومِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ يُوسَانُوسَ، وَهُوَ عَلَى مُقَدِّمَةِ إِلْيَانُوسَ، اخْتَفَى وَأَرْسَلَ بَعْضَ مَنْ مَعَهُ إِلَى الرُّومِ، فَأُخِذُوا وَأَقَرَّ بَعْضُهُمْ عَلَى سَابُورَ، فَأَرْسَلَ يُوسَانُوسُ إِلَيْهِ سِرًّا يُنْذِرُهُ، فَارْتَحَلَ سَابُورُ إِلَى عَسْكَرِهِ، وَتَحَارَبَ هُوَ وَالْعَرَبُ وَالرُّومُ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُهُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَلَكَتِ الرُّومُ مَدِينَةَ طَيْسَفُونَ، وَهِيَ الْمَدَائِنُ الشَّرْقِيَّةُ، وَمَلَكُوا أَيْضًا أَمْوَالَ سَابُورَ وَخَزَائِنَهُ.

وَكَتَبَ سَابُورُ إِلَى جُنُودِهِ وَقُوَّادِهِ يُعْلِمُهُمْ مَا لَقِيَ مِنَ الرُّومِ وَالْعَرَبِ، وَيَسْتَحِثُّهُمْ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَعَادَ وَاسْتَنْقَذَ مَدِينَةَ طَيْسَفُونَ، وَنَزَلَ إِلْيَانُوسُ مَدِينَةَ بَهْرَسِيرَ، وَاخْتَلَفَ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، فَبَيْنَمَا إِلْيَانُوسُ جَالِسٌ أَصَابَهُ سَهْمٌ لَا يُعْرَفُ رَامِيهِ فَقَتَلَهُ، فَسَقَطَ فِي أَيْدِي الرُّومِ، وَيَئِسُوا مِنَ الْخَلَاصِ مِنْ بِلَادِ الْفُرْسِ، فَطَلَبُوا مِنْ يُوسَانُوسَ أَنْ يُمَلَّكَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَأَبَى إِلَّا أَنْ يَعُودُوا إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّتِهِ، وَإِنَّمَا كَتَمُوا ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ إِلْيَانُوسَ. فَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ. وَأَرْسَلَ سَابُورُ إِلَى الرُّومِ يَتَهَدَّدُهُمْ، وَيَطْلُبُ الَّذِي مُلِّكَ عَلَيْهِمْ لِيَجْتَمِعَ بِهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ يُوسَانُوسُ فِي ثَمَانِينَ رَجُلًا، فَتَلَقَّاهُ سَابُورُ وَتَسَاجَدَا وَطَعِمَا، وَقَوَّى سَابُورُ أَمْرَ يُوسَانُوسَ بِجُهْدِهِ، وَقَالَ لِلرُّومِ: إِنَّكُمْ أَخْرَبْتُمْ بِلَادَنَا وَأَفْسَدْتُمْ فِيهَا، فَإِمَّا أَنْ تُعْطُونَا قِيمَةَ مَا أَهْلَكْتُمْ وَإِمَّا أَنْ تُعَوِّضُونَا نَصِيبِينَ، وَكَانَتْ قَدِيمًا لِلْفُرْسِ، فَغَلَبَتِ الرُّومُ عَلَيْهَا، فَدَفَعُوهَا إِلَيْهِمْ، وَتَحَوَّلَ أَهْلُهَا عَنْهَا، فَحَوَّلَ إِلَيْهَا سَابُورُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ بَيْتٍ مِنْ أَهْلِ إِصْطَخْرَ وَأَصْبَهَانَ وَغَيْرِهِمَا، وَعَادَتِ الرُّومُ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَهَلَكَ مَلِكُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَسِيرٍ. وَقِيلَ: إِنَّ سَابُورَ سَارَ إِلَى حَدِّ الرُّومِ وَأَعْلَمَ أَصْحَابَهُ أَنَّهُ عَلَى قَصْدِ الرُّومِ مُخْتَفِيًا لِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهِمْ وَأَخْبَارِ مُدُنِهِمْ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَجَالَ فِيهِمْ حِينًا، وَبَلَغَهُ أَنَّ قَيْصَرَ أَوْلَمَ وَجَمَعَ النَّاسَ فَحَضَرَ بِزِيِّ سَائِلٍ لِيَنْظُرَ إِلَى قَيْصَرَ عَلَى الطَّعَامِ، فَفَطِنَ بِهِ وَأُخِذَ وَأُدْرِجَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ. وَسَارَ قَيْصَرُ بِجُنُودِهِ إِلَى أَرْضِ فَارِسَ وَمَعَهُ سَابُورُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقَتَلَ وَأَخْرَبَ حَتَّى بَلَغَ جُنْدَيْسَابُورْ، فَتَحَصَّنَ أَهْلُهَا وَحَاصَرَهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَاصِرُهَا إِذْ غَفَلَ الْمُوَكَّلُونَ بِحِرَاسَةِ سَابُورَ، وَكَانَ بِقُرْبِهِ قَوْمٌ مِنْ سَبْيِ الْأَهْوَازِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُلْقُوا عَلَى الْقَدِّ الَّذِي عَلَيْهِ زَيْتًا كَانَ بِقُرْبِهِمْ، فَفَعَلُوا، وَلَانَ الْجِلْدُ وَانْسَلَّ مِنْهُ وَسَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَخْبَرَ حُرَّاسَهَا فَأَدْخَلُوهُ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُ أَهْلِهَا، فَاسْتَيْقَظَ الرُّومُ، وَجَمَعَ سَابُورُ مَنْ بِهَا وَعَبَّاهُمْ، وَخَرَجَ إِلَى الرُّومِ سَحَرَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَقَتَلَهُمْ وَأَسَرَ قَيْصَرَ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُ وَنِسَاءَهُ وَأَثْقَلَهُ بِالْحَدِيدِ، وَأَمَرَهُ بِعِمَارَةِ مَا أَخْرَبَ، وَأَلْزَمَهُ بِنَقْلِ التُّرَابِ مِنْ بَلَدِ الرُّومِ لِيَبْنِيَ مَا هَدَمَ الْمَنْجَنِيقُ مِنْ جُنْدَيْسَابُورْ، وَأَنْ يَغْرِسَ الزَّيْتُونَ مَكَانَ النَّخْلِ، ثُمَّ قَطَعَ عَقِبَهُ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى الرُّومِ عَلَى حِمَارٍ وَقَالَ: هَذَا جَزَاؤُكَ بِبَغْيِكَ عَلَيْنَا، فَأَقَامَ مُدَّةً ثُمَّ غَزَا فَقَتَلَ وَسَبَى سَبَايَا أَسْكَنَهُمْ مَدِينَةً بَنَاهَا بِنَاحِيَةِ السُّوسِ سَمَّاهَا إِيرَانَ شَهْرَ سَابُورَ، وَبَنَى مَدِينَةَ نَيْسَابُورَ بِخُرَاسَانَ فِي

قَوْلٍ، وَبِالْعِرَاقِ بَزْرَجَ سَابُورَ. وَكَانَ مُلْكُهُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَهَلَكَ فِي أَيَّامِهِ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ عَامِلُهُ عَلَى الْعَرَبِ، فَاسْتَعْمَلَ ابْنَهُ عَمْرَو بْنَ امْرِئِ الْقَيْسِ، فَبَقِيَ فِي عَمَلِهِ بَقِيَّةَ مُلْكِ سَابُورَ وَجَمِيعَ أَيَّامِ أَخِيهِ أَرْدَشِيرَ بْنِ هُرْمُزَ وَبَعْضَ أَيَّامِ سَابُورَ بْنِ سَابُورَ. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً. سَبَبُ تَنَصُّرِ قُسْطَنْطِينَ وَأَمَّا سَبَبُ تَنَصُّرِ قُسْطَنْطِينَ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ كَبِرَ سِنُّهُ وَسَاءَ خُلُقُهُ وَظَهَرَ بِهِ وَضَحٌ كَبِيرٌ، فَأَرَادَتِ الرُّومُ خَلْعَهُ وَتَرْكَ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَشَاوَرَ نُصَحَاءَهُ، فَقَالُوا لَهُ: لَا طَاقَةَ لَكَ بِهِمْ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى خَلْعِكَ، وَإِنَّمَا تَحْتَالُ عَلَيْهِمْ بِالدِّينِ. وَكَانَتِ النَّصْرَانِيَّةُ قَدْ ظَهَرَتْ، وَهِيَ خَفِيَّةٌ. وَقَالُوا لَهُ: اسْتَمْهِلْهُمْ حَتَّى تَزُورَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، فَإِذَا زُرْتَهُ دَخَلْتَ فِي دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ وَحَمَلْتَ النَّاسَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ، فَتُقَاتِلُ مَنْ عَصَاكَ بِمَنْ أَطَاعَكَ، وَمَا قَاتَلَ قَوْمٌ عَلَى دِينٍ إِلَّا نُصِرُوا. فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَأَطَاعَهُ عَالَمٌ عَظِيمٌ وَخَالَفَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَأَقَامُوا عَلَى دِينِ الْيُونَانِيَّةِ، فَقَاتَلَهُمْ وَظَفِرَ بِهِمْ، فَقَتَلَهُمْ فَأَحْرَقَ كُتُبَهُمْ وَحِكْمَتَهُمْ وَبَنَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَنَقَلَ النَّاسَ إِلَيْهَا، وَكَانَتْ رُومِيَّةُ دَارَ مُلْكِهِمْ، وَبَقِيَ مُلْكُهُ عَلَيْهِ، وَغَلَبَ عَلَى الشَّامِ

وَكَانَ الْأَكَاسِرَةُ قَبْلَ سَابُورَ ذِي الْأَكْتَافِ يَنْزِلُونَ طَيْسَفُونَ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ الْغَرْبِيَّةُ مِنَ الْمَدَائِنِ، فَلَمَّا نَشَأَ سَابُورُ بَنَى الْإِيوَانَ بِالْمَدَائِنِ الشَّرْقِيَّةِ وَانْتَقَلَ إِلَيْهِ وَصَارَ هُوَ دَارَ الْمُلْكِ، وَهُوَ بَاقٍ إِلَى الْآنَ، وَنَحْنُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ. ذِكْرُ مُلْكِ أَرْدَشِيرَ بْنِ هُرْمُزَ بْنِ نَرْسِي بْنِ بَهْرَامَ بْنِ سَابُورَ بْنِ أَرْدَشِيرَ بْنِ بَابَكَ أَخِي سَابُورَ فَلَمَّا مَلَكَ وَاسْتَقَرَّ لَهُ الْمُلْكُ عَطَفَ عَلَى الْعُظَمَاءِ وَذَوِي الرِّئَاسَةِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، فَخَلَعَهُ النَّاسُ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ مُلْكِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ سَابُورَ بْنِ سَابُورَ ذِي الْأَكْتَافِ فَلَمَّا مُلِّكَ بَعْدَ خَلْعِ عَمِّهِ اسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِعَوْدِ مُلْكِ أَبِيهِ إِلَيْهِ، وَكَتَبَ إِلَى الْعُمَّالِ بِالْعَدْلِ وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ وَأَمَرَ بِذَلِكَ وُزَرَاءَهُ وَحَاشِيَتَهُ، وَأَطَاعَهُ عَمُّهُ الْمَخْلُوعُ وَأَحَبَّتْهُ رَعِيَّتُهُ، ثُمَّ إِنَّ الْعُظَمَاءَ وَأَهْلَ الشَّرَفِ قَطَعُوا أَطْنَابَ خَيْمَةٍ كَانَ فِيهَا فَسَقَطَتْ عَلَيْهِ فَقَتَلَتْهُ. وَكَانَ مُلْكُهُ خَمْسَ سِنِينَ. ذِكْرُ مُلْكِ أَخِيهِ بَهْرَامَ بْنِ سَابُورَ ذِي الْأَكْتَافِ وَكَانَ يُلَقَّبُ كَرْمَانْ شَاهْ، لِأَنَّ أَبَاهُ مَلَّكَهُ كَرْمَانَ فِي حَيَاتِهِ، فَكَتَبَ إِلَى الْقُوَّادِ كِتَابًا

يَحُثُّهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَكَانَ مَحْمُودًا فِي أُمُورِهِ، وَبَنَى بِكَرْمَانَ مَدِينَةً. وَثَارَ بِهِ نَاسٌ مِنَ الْفُتَّاكِ فَقَتَلَهُ أَحَدُهُمْ بِنَشَّابَةٍ. وَكَانَ مُلْكُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً. ذِكْرُ مُلْكِ يَزْدَجِرْدَ الْأَثِيمِ بْنِ بَهْرَامَ بْنِ سَابُورَ ذِي الْأَكْتَافِ وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ يَزْدَجِرْدَ هَذَا هُوَ أَخُو بَهْرَامَ كَرْمَانْ شَاهْ بْنِ سَابُورَ لَا ابْنُهُ، وَكَانَ فَظًّا غَلِيظًا ذَا عُيُوبٍ كَثِيرَةٍ يَضَعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهِ، كَثِيرُ الرُّؤْيَةِ فِي الصَّغَائِرِ، وَاسْتِعْمَالِ كُلِّ مَا عِنْدَهُ فِي الْمُوَارَبَةِ وَالدَّهَاءِ وَالْمُخَاتَلَةِ، مَعَ فِطْنَةٍ بِجِهَاتِ الشَّرِّ وَعُجْبٍ بِهِ، وَكَانَ غَلْقًا سَيِّءَ الْخُلُقِ، لَا يَغْفِرُ الصَّغِيرَةَ مِنَ الزَّلَّاتِ، وَلَا يَقْبَلُ شَفَاعَةَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، كَثِيرَ التُّهْمَةِ، وَلَا يَأْتَمِنُ أَحَدًا عَلَى شَيْءٍ، وَلَمْ يَكُنْ يُكَافِئُ أَحَدًا عَلَى حُسْنِ الْبَلَاءِ، وَإِنْ هُوَ أَوْلَى الْخَسِيسَ مِنَ الْعُرْفِ اسْتَعْظَمَهُ، وَإِذَا بَلَغَهُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ صَافَى أَحَدًا مِنْ أَهْلِ صِنَاعَتِهِ نَحَّاهُ عَنْ خِدْمَتِهِ. وَكَانَ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ ذَكَاءُ ذِهْنٍ وَحُسْنُ أَدَبٍ، وَقَدْ مَهِرَ فِي صُنُوفٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَاسْتَوْزَرَ نَرْسِي حَكِيمَ زَمَانِهِ، وَكَانَ فَاضِلًا قَدْ كَمُلَ أَدَبُهُ، وَلَقَبُهُ هَزَارُ بِيدَهْ، فَأَمَّلَ النَّاسُ أَنْ يُصْلِحَ نَرْسِي مِنْهُ، فَكَانَ مَا أَمَّلُوهُ بَعِيدًا. فَلَمَّا اسْتَوَى لَهُ الْمُلْكُ وَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُ هَابَتْهُ الْأَشْرَافُ وَالْعُظَمَاءُ، وَحَمَلَ عَلَى الضُّعَفَاءِ فَأَكْثَرَ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ. فَلَمَّا ابْتُلِيَتِ الرَّعِيَّةُ بِهِ، شَكَوْا مَا نَزَلْ بِهِمْ مِنْهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَسَأَلُوهُ تَعْجِيلَ إِنْقَاذِهِمْ

مِنْهُ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ بِجُرْجَانَ فَرَأَى ذَاتَ يَوْمٍ فِي قَصْرِهِ فَرَسًا عَائِرًا لَمْ يَرَ مِثْلَهُ، فَأَخْبَرَ بِهِ، فَأَمَرَ أَنْ يُسْرَجَ وَيُلْجَمَ وَيُدْخَلَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ، فَأُعْلِمَ بِذَلِكَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَأَلْجَمَهُ بِيَدِهِ وَأَسْرَجَهُ، فَلَمَّا رَفَعَ ذَنَبَهُ لِيُثْفِرَهُ رَمَحَهُ عَلَى فُؤَادِهِ رَمْحَةً هَلَكَ مِنْهَا مَكَانَهُ، وَمَلَأَ الْفَرَسُ فُرُوجَهُ جَرْيًا وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ خَبَرٌ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ. وَكَانَ مُلْكُهُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَأَمَّا الْعَرَبُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا هَلَكَ عَمْرُو بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ الْبَدْءِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ فِي عَهْدِ سَابُورَ اسْتَخْلَفَ سَابُورُ عَلَى عَمَلِهِ أَوْسَ بْنَ قَلَّامٍ، وَهُوَ مِنَ الْعَمَالِيقِ، فَمَلَكَ خَمْسَ سِنِينَ وَقُتِلَ فِي عَهْدِ بَهْرَامَ بْنِ سَابُورَ، فَاسْتُخْلِفَ بَعْدَهُ فِي عَمَلِهِ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ الْبَدْءِ، فَبَقِيَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَهَلَكَ أَيَّامَ يَزْدَجِرْدَ الْأَثِيمِ. فَاسْتُخْلِفَ بَعْدَهُ فِي عَمَلِهِ ابْنُهُ النُّعْمَانُ وَأُمُّهُ شَقِيقَةُ ابْنَةِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ، وَهُوَ صَاحِبُ الْخَوَرْنَقِ. وَسَبَبُ بِنَائِهِ لَهُ أَنَّ يَزْدَجِرْدَ الْأَثِيمَ كَانَ لَا يَبْقَى لَهُ وَلَدٌ، فَسَأَلَ عَنْ مَنْزِلٍ مَرِيءٍ صَحِيحٍ، فَدُلَّ عَلَى ظَاهِرِ الْحِيرَةِ، فَدَفَعَ ابْنَهُ بَهْرَامَ جَوْرَ إِلَى النُّعْمَانِ هَذَا وَأَمَرَهُ بِبِنَاءِ الْخَوَرْنَقِ مَسْكَنًا لَهُ وَأَمَرَهُ بِإِخْرَاجِهِ إِلَى بَوَادِي الْعَرَبِ، وَكَانَ الَّذِي بَنَى الْخَوَرْنَقَ رَجُلًا اسْمُهُ سِنِمَّارَ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَائِهِ تَعَجَّبُوا مِنْهُ، فَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ تُوَفُّونَنِي أَجْرِي لَعَمِلْتُهُ يَدُورُ مَعَ الشَّمْسِ. فَقَالَ: وَإِنَّكَ تَقْدِرُ عَلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ! ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُلْقِيَ مِنْ رَأْسِ الْخَوَرْنَقِ فَهَلَكَ، فَضَرَبَتِ الْعَرَبُ بِجَزَائِهِ الْمَثَلَ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي أَشْعَارِهَا. وَغَزَا النُّعْمَانُ هَذَا الشَّامَ مِرَارًا، وَأَكْثَرَ الْمَصَائِبَ فِي أَهْلِهَا وَسَبَى وَغَنِمَ، وَجَعَلَ مَعَهُ

مَلِكُ فَارِسَ كَتِيبَتَيْنِ يُقَالُ إِحْدَاهَا دَوْسٌ وَهِيَ لِتَنُوخَ، وَلِلْأُخْرَى الشَّهْبَاءُ وَهِيَ لِفَارِسَ، فَكَانَ يَغْزُو بِهَا الشَّامَ وَمَنْ لَمْ يُطِعْهُ مِنَ الْعَرَبِ. ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ يَوْمًا فِي مَجْلِسِهِ مِنَ الْخَوَرْنَقِ، فَأَشْرَفَ مِنْهُ عَلَى النَّجَفِ وَمَا يَلِيهِ مِنَ الْبَسَاتِينِ وَالْأَنْهَارِ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الرَّبِيعِ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ لِوَزِيرِهِ: هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ هَذَا الْمَنْظَرِ قَطُّ؟ قَالَ: لَا لَوْ كَانَ يَدُومُ. قَالَ: فَمَا الَّذِي يَدُومُ؟ قَالَ: مَا عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ: فَبِمَ يُنَالُ ذَلِكَ؟ قَالَ: بِتَرْكِكَ الدُّنْيَا وَعِبَادَةِ اللَّهِ. فَتَرَكَ مُلْكَهُ مِنْ لَيْلَتِهِ وَلَبِسَ الْمُسُوحَ وَخَرَجَ هَارِبًا لَا يُعْلَمُ بِهِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَلَمْ يَرَوْهُ. وَكَانَ مُلْكُهُ إِلَى أَنْ تَرَكَهُ وَسَاحَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، مِنْ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ يَزْدَجِرْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِي زَمَنِ بَهْرَامَ جَوْرَ بْنِ يَزْدَجِرْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْفُرْسِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ غَيْرَ هَذَا، وَسَيَرِدُ ذِكْرُهُ. ذِكْرُ مُلْكِ بَهْرَامَ بْنِ يَزْدَجِرْدَ الْأَثِيمِ لَمَّا وُلِدَ يَزْدَجِرْدَ جَوْرَ اخْتَارَ لِحَضَانَتِهِ الْعَرَبَ، فَدَعَا بِالْمُنْذِرِ بْنِ النُّعْمَانِ وَاسْتَحْضَنَهُ بَهْرَامَ وَشَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ وَمَلَّكَهُ عَلَى الْعَرَبِ، فَسَارَ بِهِ الْمُنْذِرُ وَاخْتَارَ لِرَضَاعِهِ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ ذَوَاتِ أَجْسَامٍ صَحِيحَةٍ وَأَذْهَانٍ ذَكِيَّةٍ وَآدَابٍ حَسَنَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ، مِنْهُنَّ عَرَبِيَّتَانِ وَعَجَمِيَّةٌ، فَأَرْضَعْنَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ. فَلَمَّا بَلَغَ خَمْسَ سِنِينَ أَحْضَرَ لَهُ مُؤَدِّبِينَ فَعَلَّمُوهُ الْكِتَابَةَ وَالرَّمْيَ وَالْفِقْهَ بِطَلَبٍ مِنْ بَهْرَامَ بِذَلِكَ، وَأَحْضَرَ حَكِيمًا مِنْ حُكَمَاءِ الْفُرْسِ فَتَعَلَّمَ وَوَعَى كُلَّ مَا عَلِمَهُ بِأَدْنَى تَعْلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً تَعَلَّمَ كُلَّ مَا أُفِيدَ وَفَاقَ مُعَلِّمِيهِ، فَأَمَرَهُمُ الْمُنْذِرُ بِالِانْصِرَافِ، وَأَحْضَرَ مُعَلِّمِي الْفُرُوسِيَّةِ فَأَخَذَ عَنْهُمْ كُلَّ مَا يَنْبَغِي لَهُ، ثُمَّ صَرَفَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ فَأُحْضِرَتْ خَيْلُ الْعَرَبِ لِلسِّبَاقِ فَسَبَقَهَا فَرَسٌ أَشْقَرُ لِلْمُنْذِرِ وَأَقْبَلَ بَاقِي الْخَيْلِ بَدَادِ بَدَادِ، فَقَرَّبَ الْمُنْذِرُ الْفَرَسَ بِيَدِهِ إِلَيْهِ، فَقَبِلَهُ وَرَكِبَهُ يَوْمًا لِلصَّيْدِ، فَبَصُرَ بِعَانَةِ حُمُرٍ وَحْشٍ، فَرَمَى عَلَيْهَا وَقَصَدَهَا وَإِذَا هُوَ بِأَسَدٍ قَدْ أَخَذَ عِيرًا مِنْهَا فَتَنَاوَلَ ظَهْرَهُ

بِفِيهِ، فَرَمَاهُ بَهْرَامُ بِسَهْمٍ فَنَفَذَ فِي الْأَسَدِ وَالْعِيرِ وَوَصَلَ إِلَى الْأَرْضِ فَسَاخَ السَّهْمُ إِلَى ثُلُثِهِ، فَرَآهُ مَنْ مَعَهُ فَعَجِبُوا مِنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الصَّيْدِ وَاللَّهْوِ وَالتَّلَذُّذِ. فَمَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ عِنْدَ الْمُنْذِرِ، فَتَعَاهَدَ الْعُلَمَاءُ وَأَهْلُ الشَّرَفِ عَلَى أَنْ لَا يُمَلِّكُوا أَحَدًا مِنْ ذُرِّيَّةِ يَزْدَجِرْدَ لِسُوءِ سِيرَتِهِ، فَاجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى صَرْفِ الْمُلْكِ عَنْ بَهْرَامَ لِنُشُوئِهِ فِي الْعَرَبِ وَتَخَلُّقِهِ بِأَخْلَاقِهِمْ، وَلِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ يَزْدَجِرْدَ، وَمَلَّكُوا رَجُلًا مِنْ عَقِبِ أَرْدَشِيرَ بْنِ بَابَكَ يُقَالُ لَهُ كِسْرَى. فَانْتَهَى هَلَاكُ يَزْدَجِرْدَ وَتَمْلِيكُ كِسْرَى إِلَى بَهْرَامَ، فَدَعَا بِالْمُنْذِرِ وَابْنِهِ النُّعْمَانِ وَنَاسٍ مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ وَعَرَّفَهُمْ إِحْسَانَ وَالِدِهِ إِلَيْهِمْ وَشِدَّتَهُ عَلَى الْفُرْسِ، وَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ. فَقَالَ الْمُنْذِرُ: لَا يَهُولَنَّكَ ذَلِكَ حَتَّى أُلْطِفَ الْحِيلَةَ فِيهِ، وَجَهَّزَ عَشْرَةَ آلَافِ فَارِسٍ وَوَجَّهَهُمْ مَعَ ابْنِهِ النُّعْمَانِ إِلَى طَيْسَفُونَ وَبَهْرَ سِيرَ مَدِينَتَيِ الْمُلْكِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَسْكِرَ قَرِيبًا مِنْهُمَا، وَيُرْسِلَ طَلَائِعَهُ إِلَيْهِمَا، وَأَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ وَيُغِيرَ عَلَى الْبِلَادِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ عُظَمَاءُ فَارِسَ حُوَابَى صَاحِبَ رَسَائِلِ يَزْدَجِرْدَ إِلَى الْمُنْذِرِ يُعْلِمْهُ أَمْرَ النُّعْمَانِ، فَلَمَّا وَرَدَ حُوَابَى قَالَ لَهُ: الْقَ الْمَلِكَ بَهْرَامَ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَرَاعَهُ مَا رَأَى مِنْهُ، فَأَغْفَلَ السُّجُودَ دَهْشًا، فَعَرَفَ بَهْرَامُ ذَلِكَ فَكَلَّمَهُ وَوَعَدَهُ أَحْسَنَ الْوَعْدِ وَرَدَّهُ إِلَى الْمُنْذِرِ وَقَالَ لَهُ: أَجِبْهُ. فَلَمَّا سَمِعَ حُوَابَى مَقَالَةَ الْمُنْذِرِ وَتَذَكَّرَ مَا رَأَى مِنْ بَهْرَامَ عَلِمَ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ تَشَاوَرَ فِي صَرْفِ الْمُلْكِ عَنْ بَهْرَامَ مَحْجُوجٌ، فَقَالَ لِلْمُنْذِرِ: سِرْ إِلَى مَدِينَةِ الْمُلُوكِ فَيَجْتَمِعُ إِلَيْكَ الْأَشْرَافُ وَالْعُظَمَاءُ، وَتَشَاوَرُوا فِي ذَلِكَ فَلَنْ يُخَالِفُوا مَا تُشِيرُ بِهِ. وَسَارَ الْمُنْذِرُ بَعْدَ عَوْدِ حُوَابَى مِنْ عِنْدِهِ بِيَوْمٍ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنْ فُرْسَانِ الْعَرَبِ إِلَى مَدِينَتَيِ الْمَلِكِ بَهْرَامَ، فَجَمَعَ النَّاسَ، وَصَعِدَ بَهْرَامُ عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلٍ بِالْجَوَاهِرِ، وَتَكَلَّمَ عُظَمَاءُ الْفُرْسِ فَذَكَرُوا فَظَاظَةَ يَزْدَجِرْدَ - أَبِي بَهْرَامَ - وَسُوءَ سِيرَتِهِ، وَكَثْرَةَ قَتْلِهِ وَإِخْرَابَ الْبِلَادِ، وَأَنَّهُمْ لِهَذَا السَّبَبِ صَرَفُوا الْمُلْكَ عَنْ وَلَدِهِ. فَقَالَ بَهْرَامُ: لَسْتُ أُكَذِّبُكُمْ، وَمَازِلْتُ زَارِيًا عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَمْ أَزَلْ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنَّ يُمَكِّنَنِي لِأُصْلِحَ مَا أَفْسَدَ، وَمَعَ هَذَا فَإِذَا أَتَى عَلَى مُلْكِي سَنَةٌ وَلَمْ أَفِ بِمَا أَعِدُ تَبَرَّأْتُ مِنَ الْمُلْكِ طَائِعًا، وَأَنَا رَاضٍ بِأَنْ تَجْعَلُوا التَّاجَ وَزِينَةَ الْمُلْكِ بَيْنَ أَسَدَيْنِ ضَارِيَيْنِ فَمَنْ تَنَاوَلَهُمَا كَانَ الْمُلْكُ لَهُ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَوَضَعُوا التَّاجَ وَالزِّينَةَ بَيْنَ أَسَدَيْنِ، وَحَضَرَ

مُوبَذَانْ مُوبَذْ فَقَالَ بَهْرَامُ لِكِسْرَى: دُونَكَ التَّاجُ وَالزِّينَةُ. فَقَالَ كِسْرَى: أَنْتَ أَوْلَى لِأَنَّكَ تَطْلُبُ الْمُلْكَ بِوِرَاثَةٍ، وَأَنَا فِيهِ مُغْتَصِبٌ. فَحَمَلَ بَهْرَامُ جُرْزًا وَتَوَجَّهَ نَحْوَ التَّاجِ، فَبَدَرَ إِلَيْهِ أَحَدُ الْأَسَدَيْنِ فَوَثَبَ بَهْرَامُ فَعَلَا ظَهْرَهُ وَعَصَرَ جَنْبَيِ الْأَسَدِ بِفَخِذَيْهِ وَجَعَلَ يَضْرِبُ رَأْسَهُ بِالْجُرْزِ الَّذِي مَعَهُ. ثُمَّ وَثَبَ الْأَسَدُ الْآخَرُ عَلَيْهِ، فَقَبَضَ أُذُنَيْهِ بِيَدِهِ، وَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُ رَأْسَهُ بِرَأْسِ الْأَسَدِ الْآخَرِ الَّذِي تَحْتَهُ حَتَّى دَمَغَهُمَا، ثُمَّ قَتَلَهُمَا بِالْجُرْزِ الَّذِي مَعَهُ، وَتَنَاوَلَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّاجَ وَالزِّينَةَ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَطَاعَهُ كِسْرَى، وَقَالَ جَمِيعُ مَنْ حَضَرَ: قَدْ أَذْعَنَّا لَكَ وَرَضِينَا بِكَ مَلِكًا، وَإِنَّ الْعُظَمَاءَ وَالْوُزَرَاءَ وَالْأَشْرَافَ سَأَلُوا الْمُنْذِرَ لِيُكَلِّمَ بَهْرَامَ فِي الْعَفْوِ عَنْهُمْ. فَسَأَلَ الْمُنْذِرُ الْمَلِكَ بَهْرَامَ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ. وَمَلَكَ بَهْرَامُ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَأَمَرَ أَنْ يُلْزِمَ رَعِيَّتَهُ رَاحَةً وَدَعَةً، وَجَلَسَ لِلنَّاسِ يَعِدُهُمْ بِالْخَيْرِ وَيَأْمُرُهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَلَمْ يَزَلْ مُدَّةَ مُلْكِهِ يُؤْثِرُ اللَّهْوَ عَلَى مَا سِوَاهُ، حَتَّى طَمَّعَ فِيهِ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْمُلُوكِ فِي بِلَادِهِ. وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَبَقَ إِلَى قَصْدِهِ خَاقَانُ مَلِكُ التُّرْكِ، فَإِنَّهُ غَزَاهُ فِي مِائَتَيْ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا مِنَ التُّرْكِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْفُرْسِ، وَدَخَلَ الْعُظَمَاءُ عَلَى بَهْرَامَ وَحَذَّرُوهُ فَتَمَادَى فِي لَهْوِهِ، ثُمَّ تَجَهَّزَ وَسَارَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ لِيَتَنَسَّكَ فِي بَيْتِ نَارِهَا، وَيَتَصَيَّدَ بِأَرْمِينِيَّةَ فِي سَبْعَةِ رَهْطٍ مِنَ الْعُظَمَاءِ وَثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ ذَوِي الْبَأْسِ وَالنَّجْدَةِ، وَاسْتَخْلَفَ أَخَاهُ نَرْسِي، فَمَا شَكَّ النَّاسُ فِي أَنَّهُ هَرَبَ مِنْ عَدُوِّهِ، فَاتَّفَقَ رَأْيُ جُمْهُورِهِمْ عَلَى الِانْقِيَادِ إِلَى خَاقَانَ، وَبَذْلِ الْخَرَاجِ لَهُ خَوْفًا عَلَى نُفُوسِهِمْ وَبِلَادِهِمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ خَاقَانُ فَأَمَّنَ نَاحِيَتَهُمْ، وَسَارَ بَهْرَامُ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى خَاقَانَ فِي تِلْكَ الْعُدَّةِ، فَثَبَتَ لِلْقِتَالِ وَقَتَلَ خَاقَانَ بِيَدِهِ وَقَتَلَ جُنْدَهُ وَانْهَزَمَ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْقَتْلِ، وَأَمْعَنَ بَهْرَامُ فِي طَلَبِهِمْ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ وَيَغْنَمُ وَيَسْبِي، وَعَادَ جُنْدُهُ سَالِمِينَ، وَظَفِرَ بِتَاجِ خَاقَانَ وَإِكْلِيلِهِ، وَغَلَبَ عَلَى طَرَفٍ مِنْ بِلَادِهِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا مَرْزُبَانًا، وَأَتَاهُ رُسُلُ التُّرْكِ خَاضِعِينَ مُطِيعِينَ، وَجَعَلُوا بَيْنَهُمْ حَدًّا لَا يَعْدُونَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ قَائِدًا مِنْ قُوَّادِهِ فَقَتَلَ وَسَبَى وَغَنِمَ، وَعَادَ بَهْرَامُ إِلَى الْعِرَاقِ، وَوَلَّى أَخَاهُ نَرْسِي خُرَاسَانَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْزِلَ مَدِينَةَ بَلْخٍ.

وَاتَّصَلَ بِهِ أَنَّ بَعْضَ رُؤَسَاءِ الدَّيْلَمِ جَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا وَأَغَارَ عَلَى الرَّيِّ وَأَعْمَالِهَا، فَغَنِمَ وَسَبَى وَخَرَّبَ الْبِلَادَ، وَقَدْ عَجَزَ أَصْحَابُهُ فِي الثَّغْرِ عَنْ دَفْعِهِ، وَقَدْ قَرَّرُوا عَلَيْهِمْ إِتَاوَةً يَدْفَعُونَهَا إِلَيْهِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَسَيَّرَ مَرْزُبَانًا إِلَى الرَّيِّ فِي عَسْكَرٍ كَثِيفٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَضَعَ عَلَى الدَّيْلَمِيِّ مَنْ يُطْمِعُهُ فِي الْبِلَادِ وَيُغْرِيهِ بِقَصْدِهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَجَمَعَ الدَّيْلَمِيُّ جُمُوعَهُ وَسَارَ إِلَى الرَّيِّ، فَأَرْسَلَ الْمَرْزُبَانُ إِلَى بَهْرَامَ جَوْرَ يُعْلِمُهُ خَبَرَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ نَحْوَ الدَّيْلَمِيِّ وَالْمُقَامِ بِمَوْضِعٍ سَمَّاهُ لَهُ، ثُمَّ سَارَ جَرِيدَةً فِي نَفَرٍ مِنْ خَوَاصِّهِ، فَأَدْرَكَ عَسْكَرَهُ بِذَلِكَ الْمَكَانِ، وَالدَّيْلَمِيُّ لَا يَعْلَمُ بِوُصُولِهِ، وَهُوَ قَدْ قَوِيَ طَمَعُهُ لِذَلِكَ، فَعَبَّى بَهْرَامُ أَصْحَابَهُ وَسَارَ نَحْوَ الدَّيْلَمِ، فَلَقِيَهُمْ وَبَاشَرَ الْقِتَالَ بِنَفْسِهِ، فَأَخَذَ رَئِيسَهُمْ أَسِيرًا، وَانْهَزَمَ عَسْكَرُهُ، فَأَمَرَ بَهْرَامُ بِالنِّدَاءِ فِيهِمْ بِالْأَمَانِ لِمَنْ عَادَ إِلَيْهِ، فَعَادَ الدَّيْلَمُ جَمِيعُهُمْ، فَآمَنَهُمْ وَلَمْ يَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَعَادُوا إِلَى أَحْسَنِ طَاعَةٍ، وَأَبْقَى عَلَى رَئِيسِهِمْ، وَصَارَ مِنْ خَوَاصِّهِ. وَقِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ قَبْلَ حَرْبِ التُّرْكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا ظَفِرَ بِالدَّيْلَمِ أَمَرَ بِبِنَاءِ مَدِينَةٍ سَمَّاهَا فَيْرُوزَ بَهْرَامَ، فَبُنِيَتْ لَهُ هِيَ وَرُسْتَاقُهَا. وَاسْتَوْزَرَ نَرْسِي، فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ مَاضٍ إِلَى الْهِنْدِ مُتَخَفِّيًا، فَسَارَ إِلَى الْهِنْدِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ، غَيْرَ أَنَّ الْهِنْدَ يَرَوْنَ شَجَاعَتَهُ وَقَتْلَهُ السِّبَاعَ. ثُمَّ إِنَّ فِيلًا ظَهَرَ وَقَطَعَ السَّبِيلَ وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا، فَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ، فَسَمِعَ الْمَلِكُ خَبَرَهُ فَأَرْسَلَ مَعَهُ مَنْ يَأْتِيهِ بِخَبَرِهِ. فَانْتَهَى بَهْرَامُ وَالْهِنْدِيُّ مَعَهُ إِلَى الْأَجَمَةِ، فَصَعِدَ الْهِنْدِيُّ شَجَرَةً وَمَضَى بَهْرَامُ فَاسْتَخْرَجَ الْفِيلَ وَخَرَجَ وَلَهُ صَوْتٌ شَدِيدٌ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ رَمَاهُ بِسَهْمٍ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَادَ يَغِيبُ، وَوَقَذَهُ بِالنِّشَابِ وَأَخَذَ مِشْفَرَهُ، وَلَمْ يَزَلْ يَطْعَنُهُ حَتَّى أَمْكَنَ مِنْ نَفْسِهِ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ وَأَخْرَجَهُ. وَأَعْلَمَ الْهِنْدِيُّ مَلِكَهُمْ بِمَا رَأَى، فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ، فَذَكَرَ أَنَّ مَلِكَ فَارِسَ سَخِطَ عَلَيْهِ فَهَرَبَ إِلَى جِوَارِهِ، وَكَانَ لِهَذَا الْمَلِكِ عَدُوٌّ فَقَصَدَهُ، فَاسْتَسْلَمَ الْمَلِكُ وَأَرَادَ أَنْ يُطِيعَ وَيَبْذُلَ الْخَرَاجَ، فَنَهَاهُ بَهْرَامُ وَأَشَارَ بِمُحَارَبَتِهِ، فَلَمَّا الْتَقَوْا قَالَ لِأَسَاوِرَةِ الْهِنْدِيِّ: احْفَظُوا لِي ظَهْرِي، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ يَضْرِبُ فِي أَعْرَاضِهِمْ وَيَرْمِيهِمْ

بِالنِّشَابِ حَتَّى انْهَزَمُوا، وَغَنِمَ أَصْحَابُ بَهْرَامَ مَا كَانَ فِي عَسْكَرِ عَدُوِّهِ، فَأَعْطَى بَهْرَامَ الدَّيْبُلَ وَمُكْرَانَ وَأَنْكَحَهُ ابْنَتَهُ، فَأَمَرَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ فَضُمَّتْ إِلَى مَمْلَكَةِ الْفُرْسِ. وَعَادَ بَهْرَامُ مَسْرُورًا وَأَغْزَى نَرْسِي بِلَادَ الرُّومِ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُطَالِبَ مَلِكَ الرُّومِ بِالْإِتَاوَةِ، فَسَارَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَهَادَنَهُ مَلِكُ الرُّومِ، فَانْصَرَفَ بِكُلِّ مَا أَرَادَ إِلَى بَهْرَامَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَاقَانَ وَالرُّومِ، سَارَ بِنَفْسِهِ إِلَى بِلَادِ الْيَمَنِ، وَدَخَلَ بِلَادَ السُّودَانِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى لَهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَعَادَ إِلَى مَمْلَكَتِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ فِي آخِرِ مُلْكِهِ خَرَجَ إِلَى الصَّيْدِ، فَشَدَّ عَلَى عَنْزٍ فَأَمْعَنَ فِي طَلَبِهِ، فَارْتَطَمَ فِي جُبٍّ فَغَرِقَ، فَبَلَغَ وَالِدَتَهُ ذَلِكَ، فَسَارَتْ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَأَمَرَتْ بِإِخْرَاجِهِ، فَنَقَلُوا مِنَ الْجُبِّ طِينًا كَثِيرًا حَتَّى صَارَ إِكَامًا عِظَامًا وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. وَكَانَ مُلْكُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. هَكَذَا ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي اسْمِ بَهْرَامَ جَوْرَ أَنَّ أَبَاهُ أَسْلَمَهُ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ النُّعْمَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرَ عِنْدَ يَزْدَجِرْدَ الْأَثِيمِ أَنَّهُ سَلَّمَ ابْنَهُ بَهْرَامَ إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ هَذَا وَبَعْضُهُمْ قَالَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنْسَبْ كُلُّ قَوْلٍ إِلَى قَائِلِهِ. ذِكْرُ ابْنِهِ يَزْدَجِرْدَ بْنِ بَهْرَامَ جَوْرَ

لَمَّا لَبِسَ التَّاجَ جَلَسَ لِلنَّاسِ وَوَعَدَهُمْ، وَذَكَرَ أَبَاهُ وَمَنَاقِبَهُ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَقَدُوا مِنْهُ طُولَ جُلُوسِهِ لَهُمْ فَإِنَّ خَلْوَتَهُ فِي مَصَالِحِهِمْ وَكَيْدِ أَعْدَائِهِمْ، وَأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْزَرَ نَرْسِي صَاحِبَ أَبِيهِ. وَعَدَلَ فِي رَعِيَّتِهِ وَقَمَعَ أَعْدَاءَهُ وَأَحْسَنَ إِلَى جُنْدِهِ. وَكَانَ لَهُ ابْنَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا هُرْمُزُ، وَلِلْآخَرِ فَيْرُوزُ، وَكَانَ لِهُرْمُزَ سِجِسْتَانُ، فَغَلَبَ عَلَى الْمُلْكِ بَعْدَ هَلَاكِ أَبِيهِ يَزْدَجِرْدَ، فَهَرَبَ فَيْرُوزُ وَلَحِقَ بِبِلَادِ الْهَيَاطِلَةِ وَاسْتَنْجَدَ مَلِكَهُمْ، فَأَمَدَّهُ بَعْدَ أَنْ دَفَعَ لَهُ الطَّالْقَانَ، فَأَقْبَلَ بِهِمْ فَقَتَلَ أَخَاهُ بِالرَّيِّ، وَكَانَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ، وَقِيلَ: لَمْ يَقْتُلْهُ وَإِنَّمَا أَسَرَهُ وَأَخَذَ الْمُلْكَ مِنْهُ. وَكَانَ الرُّومُ مَنَعُوا الْخَرَاجَ عَنْ يَزْدَجِرْدَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ نَرْسِي فِي الْعُدَّةِ الَّتِي أَنْفَذَهُ أَبُوهُ فِيهَا فَبَلَغَ إِرَادَتَهُ. وَكَانَ مُلْكُ يَزْدَجِرْدَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. ذِكْرُ مُلْكِ فَيْرُوزَ بْنِ يَزْدَجِرْدَ بْنِ بَهْرَامَ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ أَخَاهُ هُرْمُزَ وَثَلَاثَةً مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَمَّا ظَفِرَ فَيْرُوزُ بِأَخِيهِ وَمَلَكَ، أَظْهَرَ الْعَدْلَ وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، وَكَانَ يَتَدَيَّنُ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مَحْدُودًا مَشْئُومًا عَلَى رَعِيَّتِهِ، وَقَحَطَتِ الْبِلَادُ فِي زَمَانِهِ سَبْعَ سِنِينَ مُتَوَالِيَةً، وَغَارَتِ الْأَنْهَارُ وَالْقُنِيُّ، وَقَلَّ مَاءُ دِجْلَةَ، وَمَحَلَتِ الْأَشْجَارُ، وَهَاجَتْ عَامَّةُ الزُّرُوعِ فِي السَّهْلِ وَالْجَبَلِ مِنْ بِلَادِهِ، وَمَاتَتِ الطُّيُورُ وَالْوُحُوشُ، وَعَمَّ أَهْلَ الْبِلَادِ الْجُوعُ وَالْجُهْدُ الشَّدِيدُ، فَكَتَبَ إِلَى

جَمِيعِ رَعِيَّتِهِ يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ لَا خَرَاجَ عَلَيْهِمْ وَلَا جِزْيَةَ وَلَا مَؤُونَةَ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ مَذْخُورٌ يُوَاسِي بِهِ النَّاسَ، وَأَنْ يَكُونَ حَالُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَاحِدًا، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إِنْ بَلَغَهُ أَنَّ إِنْسَانًا مَاتَ جُوعًا بِمَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ عَاقَبَهُمْ وَنَكَّلَ بِهِمْ، وَسَاسَ النَّاسَ سِيَاسَةً لَمْ يَعْطَبْ أَحَدٌ جُوعًا مَا خَلَا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْ رُسْتَاقِ أَرْدَشِيرَ خَرَّةَ، وَابْتَهَلَ فَيْرُوزُ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ، فَأَزَالَ ذَلِكَ الْقَحْطَ وَعَادَتْ بِلَادُهُ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ. فَلَمَّا حَيِيَ النَّاسُ وَالْبِلَادُ وَأَثْخَنَ فِي أَعْدَائِهِ سَارَ مُرِيدًا حَرْبَ الْهَيَاطِلَةِ، فَلَمَّا سَمِعَ إِخْشِنْوَارْ مَلِكُهُمْ خَافَهُ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ اقْطَعْ يَدِي وَرِجْلِي وَأَلْقِنِي عَلَى الطَّرِيقِ، وَأَحْسِنْ إِلَى عِيَالِي لِأَحْتَالَ عَلَى فَيْرُوزَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَاجْتَازَ بِهِ فَيْرُوزُ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قُلْتُ لِإِخْشِنْوَارْ لَا طَاقَةَ لَكَ بِفَيْرُوزَ فَفَعَلَ بِي هَذَا، وَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى طَرِيقٍ لَمْ يَسْلُكْهَا مَلِكٌ وَهِيَ أَقْرَبُ. فَاغْتَرَّ فَيْرُوزُ بِذَلِكَ وَتَبِعَهُ، فَسَارَ بِهِ وَبِجُنْدِهِ حَتَّى قَطَعَ بِهِمْ مَفَازَةً بَعْدَ مَفَازَةٍ، حَتَّى إِذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْخَلَاصِ أَعْلَمَهُمْ حَالَهُ. فَقَالَ أَصْحَابُ فَيْرُوزَ لِفَيْرُوزَ: حَذَّرْنَاكَ فَلَمْ تَحْذَرْ، فَلَيْسَ إِلَّا التَّقَدُّمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَتَقَدَّمُوا أَمَامَهُمْ فَوَصَلُوا إِلَى عَدُوِّهِمْ وَهُمْ هَلْكَى عَطْشَى وَقَتَلَ الْعَطَشُ مِنْهُمْ كَثِيرًا. فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ صَالَحُوا إِخْشِنْوَارْ عَلَى أَنْ يُخْلِيَ سَبِيلَهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ عَلَى أَنْ يَحْلِفَ لَهُ فَيْرُوزُ أَنَّهُ لَا يَغْزُو بِلَادَهُ، فَاصْطَلَحَا، وَكَتَبَ فَيْرُوزُ كِتَابًا بِالصُّلْحِ وَعَادَ. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي مَمْلَكَتِهِ حَمَلَتْهُ الْأَنَفَةُ عَلَى مُعَاوَدَةِ إِخْشِنْوَارَ، فَنَهَاهُ وُزَرَاؤُهُ عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، فَلَمْ يَقْبَلْ وَسَارَ نَحْوَهُ، فَلَمَّا تَقَارَبَا أَمَرَ إِخْشِنْوَارْ فَحَفَرَ خَلْفَ عَسْكَرِهِ خَنْدَقًا عَرْضُهُ عَشْرَةُ أَذْرُعٍ وَعُمْقُهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا وَغَطَّاهُ بِخَشَبٍ ضَعِيفٍ وَتُرَابٍ، ثُمَّ عَادَ وَرَاءَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ فَيْرُوزُ بِذَلِكَ اعْتَقَدَهُ هَزِيمَةً فَتَبِعَهُ، وَلَا يَعْلَمُ عَسْكَرُ فَيْرُوزَ بِالْخَنْدَقِ، فَسَقَطَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِيهِ فَهَلَكُوا، وَعَادَ إِخْشِنْوَارْ إِلَى عَسْكَرِ فَيْرُوزَ، وَأَخَذَ كُلَّ مَا فِيهِ، وَأَسَرَ نِسَاءَهُ وَمَوْبَذَانْ مَوْبَذْ ثُمَّ اسْتَخْرَجَ جُثَّةَ فَيْرُوزَ وَجُثَّةَ كُلِّ مَنْ سَقَطَ مَعَهُ فَجَعَلَهَا فِي النَّوَاوِيسِ. وَقِيلَ: إِنَّ فَيْرُوزَ لَمَّا انْتَهَى إِلَى الْخَنْدَقِ الَّذِي حَفَرَهُ إِخْشِنْوَارْ وَلَمْ يَكُنْ مُغَطًّى عَقَدَ عَلَيْهِ قَنَاطِرَ وَجَعَلَ عَلَيْهَا أَعْلَامًا لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ يَقْصِدُونَهَا فِي عَوْدِهِمْ وَجَازَ إِلَى الْقَوْمِ. فَلَمَّا الْتَقَى الْعَسْكَرَانِ احْتَجَّ عَلَيْهِ إِخْشِنْوَارْ بِالْعُهُودِ الَّتِي بَيْنَهُمَا، وَحَذَّرَهُ عَاقِبَةَ الْغَدْرِ، فَلَمْ يَرْجِعْ، فَنَهَاهُ أَصْحَابُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، فَضَعُفَتْ نِيَّاتُهُمْ فِي الْقِتَالِ. فَلَمَّا أَبَى إِلَّا الْقِتَالَ رَفَعَ إِخْشِنْوَارْ نُسْخَةَ الْعَهْدِ عَلَى رُمْحٍ وَقَالَ: اللَّهُمَّ خُذْ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَقَلِّدْهُ بِغَيِّهِ.

فَقَاتَلَهُ فَانْهَزَمَ فَيْرُوزُ وَعَسْكَرُهُ فَضَّلُوا عَنْ مَوَاضِعِ الْقَنَاطِرِ فَسَقَطُوا فِي الْخَنْدَقِ، فَهَلَكَ فَيْرُوزُ وَأَكْثَرُ عَسْكَرِهِ، وَغَلَبَ إِخْشِنْوَارْ عَلَى عَامَّةِ خُرَاسَانَ. فَسَارَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ يُقَالُ لَهُ سُوخْرَا، وَكَانَ فِيهِمْ عَظِيمًا وَخَرَجَ كَالْمُحْتَسِبِ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ فَيْرُوزُ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى مُلْكِهِ لَمَّا سَارَ، وَكَانَ لَهُ سِجِسْتَانُ، فَلَقِيَ صَاحِبَ الْهَيَاطِلَةِ فَأَخْرَجَهُ مِنْ خُرَاسَانَ وَاسْتَعَادَ مِنْهُ كُلَّ مَا أَخَذَ مِنْ عَسْكَرِ فَيْرُوزَ مِمَّا هُوَ فِي عَسْكَرِهِ مِنَ السَّبْيِ وَغَيْرِهِ وَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ، فَعَظَّمَتْهُ الْفُرْسُ إِلَى غَايَةٍ لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ إِلَّا الْمَلِكُ، وَكَانَتْ مَمْلَكَةُ الْهَيَاطِلَةِ طَخَارِسْتَانَ، فَكَانَ فَيْرُوزُ قَدْ أَعْطَى مُلْكَهُمْ لَمَّا سَاعَدَهُ عَلَى حَرْبِ أَخِيهِ الطَّالْقَانَ. وَكَانَ مُلْكُ فَيْرُوزَ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً.

ذكر الأحداث في العرب أيام يزدجرد وفيروز

[ذِكْرُ الْأَحْدَاثِ فِي الْعَرَبِ أَيَّامَ يَزْدَجِرْدَ وَفَيْرُوزَ] كَانَ يَخْدِمُ مُلُوكَ حِمْيَرَ أَبْنَاءُ الْأَشْرَافِ مِنْ حِمْيَرَ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ مِمَّنْ يَخْدِمُ حَسَّانَ بْنَ تُبَّعٍ عَمْرُو بْنُ حُجْرٍ الْكِنْدِيُّ سَيِّدُ كِنْدَةَ، فَلَمَّا قَتَلَ عَمْرُو بْنُ تُبَّعٍ أَخَاهُ حَسَّانَ بْنَ تُبَّعٍ اصْطَنَعَ عَمْرَو بْنَ حُجْرٍ، وَزَوَّجَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ حَسَّانَ، وَلَمْ يَطْمَعْ فِي التَّزَوُّجِ إِلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَوَلَدَتِ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو. وَمَلَكَ بَعْدَ عَمْرِو بْنِ تُبَّعٍ عَبْدُ كَلَالَ بْنُ مُثَوَّبٍ، وَإِنَّمَا مَلَّكُوهُ لِأَنَّ أَوْلَادَ عَمْرٍو كَانُوا صِغَارًا، وَكَانَ الْجِنُّ قَبْلَ ذَلِكَ قَدِ اسْتَهَامَتْ تُبَّعَ بْنَ حَسَّانَ، وَكَانَ عَبْدُ كَلَالَ عَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ الْأُولَى وَيَكْتُمُ ذَلِكَ، وَرَجَعَ تُبَّعُ بْنُ حَسَّانَ مِنَ اسْتِهَامَتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ، فَمَلَكَ الْيَمَنَ، وَهَابَتْهُ حِمْيَرُ، فَبَعَثَ ابْنَ أُخْتِهِ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حُجْرٍ فِي جَيْشٍ إِلَى الْحِيرَةِ، فَسَارَ إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَهُوَ ابْنُ الشَّقِيقَةِ، فَقَاتَلَهُ فَقَتَلَ النُّعْمَانَ وَعِدَّةً مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَأَفْلَتَ الْمُنْذِرُ بْنُ النُّعْمَانِ الْأَكْبَرُ وَأُمُّهُ مَاءُ السَّمَاءِ امْرَأَةٌ مِنَ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ، فَذَهَبَ مُلْكُ آلِ النُّعْمَانِ وَمَلَكَ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ مَا كَانُوا يَمْلِكُونَ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: مَلَكَ بَعْدَ النُّعْمَانِ الْمُنْذِرُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ النُّعْمَانِ أَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، مِنْ ذَلِكَ فِي زَمَنِ بَهْرَامَ جَوْرَ ثَمَانِي سِنِينَ، وَفِي زَمَنِ يَزْدَجِرْدَ بْنِ بَهْرَامَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً،

وَفِي زَمَنِ فَيْرُوزَ بْنِ يَزْدَجِرْدَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُنْذِرِ عِشْرِينَ سَنَةً، مِنْهَا فِي زَمَنِ فَيْرُوزَ بْنِ يَزْدَجِرْدَ عَشْرُ سِنِينَ، وَفِي زَمَنِ بَلَاشَ بْنِ فَيْرُوزَ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَفِي زَمَنِ قُبَاذَ بْنِ فَيْرُوزَ سِتُّ سِنِينَ. وَهَكَذَا ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ هَاهُنَا أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو قَتَلَ النُّعْمَانَ بْنَ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَأَخَذَ بِلَادَهُ وَانْقَرَضَ مُلْكُ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُنْذِرَ بْنَ النُّعْمَانِ أَوِ النُّعْمَانَ، عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ، هُوَ الَّذِي جَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَمَلَّكَ بَهْرَامَ جَوْرَ عَلَى الْفُرْسِ، ثُمَّ سَاقَ فِيمَا بَعْدُ مُلُوكَ الْحِيرَةِ مِنْ أَوْلَادِ النُّعْمَانِ هَذَا إِلَى آخِرِهِمْ، وَلَمْ يُقْطَعْ مُلْكُهُمْ بِالْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو، وَسَبَبُ هَذَا أَنَّ أَخْبَارَ الْعَرَبِ لَمْ تَكُنْ مَضْبُوطَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا نُقِلَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي مَقْتَلِ حُجْرِ بْنِ عَمْرٍو وَالِدِ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي أَيَّامِ الْعَرَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ مُلُوكَ كِنْدَةَ: عَمْرٌو وَالْحَارِثُ كَانُوا بِنَجْدٍ عَلَى الْعَرَبِ، وَأَمَّا اللَّخْمِيُّونَ مُلُوكُ الْحِيرَةِ الْمَنَاذِرَةُ فَلَمْ يَزَالُوا عَلَيْهَا إِلَى أَنْ مَلَكَ قُبَاذُ الْفُرْسَ وَأَزَالَهُمْ، وَاسْتَعْمَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو الْكِنْدِيَّ عَلَى الْحِيرَةِ، ثُمَّ أَعَادَ أَنُوشِرْوَانُ الْحِيرَةَ إِلَى اللَّخْمِيِّينَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مُلْكِ بَلَاشَ بْنِ فَيْرُوزَ بْنِ يَزْدَجِرْدَ ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ فَيْرُوزَ ابْنُهُ بَلَاشُ، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ قُبَاذَ مُنَازَعَةٌ اسْتَظْهَرَ فِيهَا قُبَاذُ وَمَلَكَ، فَلَمَّا مَلَكَ بَلَاشُ أَكْرَمَ سُوخْرَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ لِمَا كَانَ مِنْهُ، وَلَمْ يَزَلْ حَسَنَ السِّيرَةِ حَرِيصًا عَلَى الْعِمَارَةِ، وَكَانَ لَا يَبْلُغُهُ أَنَّ بَيْتًا خُرِّبَ وَجَلَا أَهْلُهُ إِلَّا عَاقَبَ صَاحِبَ تِلْكَ

الْقَرْيَةِ عَلَى تَرْكِهِ سَدَّ فَاقَتِهِمْ حَتَّى لَا يُضْطَرُّوا إِلَى مُفَارَقَةِ أَوْطَانِهِمْ، وَبَنَى مَدِينَةَ سَابَاطَ بِقُرْبِ الْمَدَائِنِ، وَكَانَ مُلْكُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ. ذِكْرُ مُلْكِ قُبَاذَ بْنِ فَيْرُوزَ بْنِ يَزْدَجِرْدَ وَكَانَ قُبَاذُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ الْمُلْكُ إِلَيْهِ، قَدْ سَارَ إِلَى خَاقَانَ مُسْتَنْصِرًا بِهِ عَلَى أَخِيهِ بَلَاشَ، فَمَرَّ فِي طَرِيقِهِ بِحُدُودِ نَيْسَابُورَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مُتَنَكِّرِينَ، وَفِيهِمْ زَرْمِهْرُ بْنُ سُوخْرَا، فَتَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى النِّكَاحِ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى زَرْمِهْرَ وَطَلَبَ مِنْهُ امْرَأَةً، فَسَارَ إِلَى امْرَأَةِ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ، وَكَانَ مِنَ الْأَسَاوِرَةِ، وَكَانَ لَهَا بِنْتٌ حَسْنَاءُ، فَخَطَبَهَا مِنْهَا وَأَطْمَعَهَا وَزَوَّجَهَا، فَزَوَّجَا قُبَاذَ بِهَا، فَدَخَلَ بِهَا مِنْ لَيْلَتِهِ، فَحَمَلَتْ بِأَنُوشِرْوَانَ، وَأَمَرَ لَهَا بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ وَرَدَّهَا، وَسَأَلَتْهَا أُمُّهَا عَنْ قُبَاذَ وَحَالِهِ. فَذَكَرَتْ أَنَّهَا لَا تَعْرِفُ مِنْ حَالِهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ سَرَاوِيلَهُ مَنْسُوجَةٌ بِالذَّهَبِ، فَعَلِمَتْ أَنَّهُ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ. وَمَضَى قُبَاذُ إِلَى خَاقَانَ وَاسْتَنْصَرَهُ عَلَى أَخِيهِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَهُوَ يُعِدُّهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ مَعَهُ جَيْشًا. فَلَمَّا صَارَ بِالْقُرْبِ مِنَ النَّاحِيَةِ الَّتِي بِهَا زَوْجَتُهُ سَأَلَ عَنْهَا فَأُحْضِرَتْ وَمَعَهَا أَنُوشِرْوَانُ وَأَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ ابْنُهُ. وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ الْمَكَانِ أَنَّ أَخَاهُ بَلَاشَ قَدْ هَلَكَ، فَتَيَمَّنَ بِالْمَوْلُودِ وَحَمَلَهُ وَأُمَّهُ عَلَى مَرَاكِبِ نِسَاءِ الْمُلُوكِ وَاسْتَوْثَقَ لَهُ الْمَلِكُ وَخَصَّ سُوخْرَا وَشَكَرَ لِوَلَدِهِ خِدْمَتَهُ. وَتَوَلَّى سُوخْرَا الْأَمْرَ، فَمَالَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَهَاوَنُوا بِقُبَاذَ، فَلَمْ يَحْتَمِلْ ذَلِكَ. فَكَتَبَ إِلَى سَابُورَ الرَّازِيِّ، وَهُوَ أَصْبِهْبَذَ دِيَارِ الْجَبَلِ، وَيُقَالُ لِلْبَيْتِ الَّذِي هُوَ مِنْهُ مِهْرَانُ، فَاسْتَقْدَمَهُ وَمَعَهُ جُنْدُهُ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ فَأَعْلَمَهُ عَزْمَهُ عَلَى قَتْلِ سُوخْرَا وَأَمَرَهُ بِكِتْمَانِ ذَلِكَ، فَأَتَاهُ يَوْمًا سَابُورُ وَسُوخْرَا عِنْدَ قُبَاذَ فَأَلْقَى فِي عُنُقِهِ وَهَقًا، وَأَخَذَهُ وَحَبَسَهُ ثُمَّ خَنَقَهُ قُبَاذُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى أَهْلِهِ وَقَدَّمَ عِوَضَهُ سَابُورَ الرَّازِيَّ.

وَفِي أَيَّامِهِ ظَهَرَ مَزْدَكُ، وَابْتَدَعَ وَوَافَقَ زَرَادِشْتَ فِي بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ، وَزَادَ وَنَقَصَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ حَسَبَ مَا دَعَا إِلَيْهِ زَرَادِشْتَ، وَاسْتَحَلَّ الْمَحَارِمَ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَسَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فِي الْأَمْوَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ ; حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ فِي شَيْءٍ الْبَتَّةَ، فَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ مِنَ السِّفْلَةِ وَالْأَغْتَامِ، فَصَارُوا عَشَرَاتِ أُلُوفٍ، فَكَانَ مَزْدَكُ يَأْخُذُ امْرَأَةَ هَذَا فَيُسَلِّمُهَا إِلَى الْآخَرِ، وَكَذَا فِي الْأَمْوَالِ وَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَغَيْرِهَا مِنَ الضِّيَاعِ وَالْعَقَارِ، فَاسْتَوْلَى وَعَظُمَ شَأْنُهُ وَتَبِعَهُ الْمَلِكُ قُبَاذُ. فَقَالَ يَوْمًا لِقُبَاذَ: الْيَوْمَ نَوْبَتِي مِنَ امْرَأَتِكَ أُمِّ أَنُوشِرْوَانَ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَقَامَ أَنُوشِرْوَانُ إِلَيْهِ وَنَزَعَ خُفَّيْهِ بِيَدِهِ وَقَبَّلَ رِجْلَيْهِ وَشَفَعَ إِلَيْهِ حَتَّى لَا يَتَعَرَّضَ لِأُمِّهِ، وَلَهُ حُكْمُهُ فِي سَائِرِ مُلْكِهِ، فَتَرَكَهَا. وَحَرَّمَ ذِبَاحَةَ الْحَيَوَانِ وَقَالَ: يَكْفِي فِي طَعَامِ الْإِنْسَانِ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْحَيَوَانِ كَالْبَيْضِ وَاللَّبَنِ وَالسَّمْنِ وَالْجُبْنِ، فَعَظُمَتِ الْبَلِيَّةُ بِهِ عَلَى النَّاسِ فَصَارَ الرَّجُلُ لَا يَعْرِفُ وَلَدَهُ وَالْوَلَدُ لَا يَعْرِفُ أَبَاهُ. فَلَمَّا مَضَى عَشْرُ سِنِينَ مِنْ مُلْكِ قُبَاذَ، اجْتَمَعَ مُوبَذَانْ مُوبَذْ وَالْعُظَمَاءُ وَخَلَعُوهُ وَمَلَّكُوا عَلَيْهِ أَخَاهُ جَامَسِبْ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّكَ قَدْ أَثِمْتَ بِاتِّبَاعِكَ مَزْدَكَ وَبِمَا عَمِلَ أَصْحَابُهُ بِالنَّاسِ، وَلَيْسَ يُنْجِيكَ إِلَّا إِبَاحَةُ نَفْسِكَ وَنِسَائِكَ، وَأَرَادُوهُ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ إِلَيْهِمْ لِيَذْبَحُوهُ وَيُقَرِّبُوهُ إِلَى النَّارِ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَحَبَسُوهُ وَتَرَكُوهُ لَا يَصِلُ إِلَى أَحَدٍ. فَخَرَجَ زَرْمِهْرُ بْنُ سُوخْرَا، فَقَتَلَ مِنَ الْمَزْدَكِيَّةِ خَلْقًا، وَأَعَادَ قُبَاذَ إِلَى مُلْكِهِ وَأَزَالَ أَخَاهُ جَامَسِبْ. ثُمَّ إِنَّ قُبَاذَ قَتَلَ بَعْدَ ذَلِكَ زَرْمِهْرَ. وَقِيلَ: لَمَّا حُبِسَ قُبَاذُ وَتَوَلَّى أَخُوهُ دَخَلَتْ أُخْتٌ لِقُبَاذَ عَلَيْهِ كَأَنَّهَا تَزُورُهُ، ثُمَّ لَفَّتْهُ فِي بِسَاطٍ وَحَمَلَهُ غُلَامٌ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ السِّجْنِ سَأَلَهُ السَّجَّانُ عَمَّا مَعَهُ، فَقَالَتْ: هُوَ مُوحِلٌ كُنْتُ أَحِيضُ فِيهِ، فَلَمْ يَمَسَّ الْبِسَاطَ، فَمَضَى الْغُلَامُ بِقُبَاذَ، وَهَرَبَ قُبَاذُ فَلَحِقَ بِمَلِكِ الْهَيَاطِلَةِ يَسْتَجِيشُهُ، فَلَمَّا صَارَ بِإِيرَانَ شَهْرَ، وَهِيَ نَيْسَابُورُ، نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِهَا، لَهُ ابْنَةٌ بِكْرٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ فَنَكَحَهَا، وَهِيَ أُمُّ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانُ، فَكَانَ نِكَاحُهُ إِيَّاهَا فِي هَذِهِ السَّفْرَةِ لَا فِي تِلْكَ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَعَادَ أَنُوشِرْوَانُ فَغَلَبَ أَخَاهُ جَامَسِبْ عَلَى الْمُلْكِ، وَكَانَ مُلْكُ جَامَسِبْ عَلَى سِتِّ سِنِينَ.

ذكر حوادث العرب أيام قباذ

وَغَزَا قُبَاذُ بَعْدَ ذَلِكَ الرُّومَ، فَفَتَحَ مَدِينَةَ آمِدٍ، وَبَنَى مَدِينَةَ أَرَّجَانَ وَمَدِينَةَ حُلْوَانَ وَمَاتَ، فَمَلَكَ ابْنُهُ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانُ بَعْدَهُ، فَكَانَ مُلْكُ قُبَاذَ مَعَ سِنِيِّ أَخِيهِ جَامَسِبْ ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَتَوَلَّى أَنُوشِرْوَانُ مَا كَانَ أَبُوهُ أَمَرَ لَهُ بِهِ. وَفِي أَيَّامِهِ خَرَجَتِ الْخَزَرُ فَأَغَارَتْ عَلَى بِلَادِهِ، فَبَلَغَتِ الدِّينَوَرَ، فَوَجَّهَ قُبَاذُ قَائِدًا مِنْ عُظَمَاءِ قُوَّادِهِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَوَطِئَ بِلَادَ أَرَّانَ، وَفَتَحَ مَا بَيْنَ النَّهْرِ الْمَعْرُوفِ بِالرَّسِّ إِلَى شِرْوَانَ، ثُمَّ إِنَّ قُبَاذَ لَحِقَ بِهِ، فَبَنَى بِأَرَّانَ مَدِينَةَ الْبَيْلَقَانَ وَمَدِينَةَ بَرْذَعَةَ، وَهِيَ مَدِينَةُ الثَّغْرِ كُلِّهِ، وَغَيْرَهُمَا، وَبَقِيَ الْخَزَرُ، ثُمَّ بَنَى سَدًّا لِلَانَ فِيمَا بَيْنَ أَرْضِ شِرْوَانَ وَبَابِ اللَّانِ، وَبَنَى عَلَى السَّدِّ مُدُنًا كَثِيرَةً خُرِّبَتْ بَعْدَ بِنَاءِ الْبَابِ وَالْأَبْوَابِ. [ذِكْرُ حَوَادِثِ الْعَرَبِ أَيَّامَ قُبَاذَ]

لَمَّا مَلَكَ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حُجْرٍ الْكِنْدِيُّ الْعَرَبَ وَقَتَلَ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ قُبَاذُ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ قَبْلَكَ عَهْدٌ، وَأُحِبُّ لِقَاءَكَ، وَكَانَ قُبَاذُ زِنْدِيقًا يُظْهِرُ الْخَيْرَ وَيَكْرَهُ الدِّمَاءَ وَيُدَارِي أَعْدَاءَهُ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْحَارِثُ وَالْتَقَيَا وَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ لَا يَجُوزَ الْفُرَاتَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَطَمِعَ الْحَارِثُ الْكِنْدِيُّ فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقْطَعُوا الْفُرَاتَ وَيُغِيرُوا عَلَى السَّوَادِ، فَسَمِعَ قُبَاذُ فَعَلِمَ أَنَّهُ مِنْ تَحْتِ يَدِ الْحَارِثِ، فَاسْتَدْعَاهُ فَحَضَرَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لُصُوصًا مِنَ الْعَرَبِ صَنَعَتْ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: مَا عَلِمْتُ وَلَا أَسْتَطِيعُ ضَبْطَ الْعَرَبِ إِلَّا بِالْمَالِ وَالْجُنُودِ. وَطَلَبُ مِنْهُ شَيْئًا مِنَ السَّوَادِ، فَأَعْطَاهُ سِتَّةَ طَسَاسِيجَ. وَأَرْسَلَ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى تُبَّعٍ، وَهُوَ بِالْيَمَنِ، يُطْمِعُهُ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ، فَسَارَ تُبَّعٌ حَتَّى نَزَلَ الْحِيرَةَ، وَأَرْسَلَ ابْنَ أَخِيهِ شَمِرًا ذَا الْجَنَاحِ إِلَى قُبَاذَ، فَحَارَبَهُ فَهَزَمَهُ شَمِرُ حَتَّى لَحِقَ بِالرَّيِّ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ بِهَا فَقَتَلَهُ، ثُمَّ وَجَّهَ تُبَّعُ شَمِرًا إِلَى خُرَاسَانَ، وَوَجَّهَ ابْنَهُ حَسَّانَ إِلَى السُّغْدِ، وَقَالَ: أَيُّكُمَا سَبَقَ إِلَى الصِّينِ فَهُوَ عَلَيْهَا، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ، يُقَالُ: كَانَا فِي سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا. وَأَرْسَلَ ابْنَ أَخِيهِ يَعْفُرَ إِلَى الرُّومِ، فَنَزَلَ عَلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَأَعْطَوْهُ الطَّاعَةَ وَالْإِتَاوَةَ، وَمَضَى إِلَى رُومِيَّةَ فَحَاصَرَهَا فَأَصَابَ مَنْ مَعَهُ طَاعُونٌ، فَوَثَبَ الرُّومُ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَسَارَ شِمْرٌ ذُو الْجَنَاحِ إِلَى سَمَرْقَنْدَ فَحَاصَرَهَا، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا، وَسَمِعَ أَنَّ مَلِكَهَا أَحْمَقُ وَأَنَّ لَهُ ابْنَةً، وَهِيَ الَّتِي تَقْضِي الْأُمُورَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا هَدِيَّةً عَظِيمَةً، وَقَالَ لَهَا: إِنَّنِي إِنَّمَا قَدِمْتُ لِأَتَزَوَّجَ بِكِ وَمَعِي أَرْبَعَةُ آلَافِ تَابُوتٍ مَمْلُوءَةً ذَهَبًا وَفِضَّةً وَأَنَا أَدْفَعُهَا إِلَيْكِ

وَأَمْضِي إِلَى الصِّينِ، فَإِنْ مَلَكْتُ كُنْتِ امْرَأَتِي وَإِنْ هَلَكْتُ كَانَ الْمَالُ لَكِ. فَلَمَّا بَلَغَتْهَا الرِّسَالَةُ قَالَتْ: قَدْ أَجَبْتُهُ فَلْيَبْعَثِ الْمَالَ، فَأَرْسَلَ أَرْبَعَةَ آلَافِ تَابُوتٍ فِي كُلِّ تَابُوتٍ رَجُلَانِ. وَلِسَمَرْقَنْدَ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ، وَلِكُلِّ بَابِ أَلْفَا رَجُلٍ، وَجَعَلَ الْعَلَامَةَ بَيْنَهُمَا أَنْ يَضْرِبَ بِالْجَرَسِ، فَخَرَجُوا وَمَلَكُوا الْأَبْوَابَ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فَقَتَلَ أَهْلَهَا وَحَوَى مَا فِيهَا، وَسَارَ إِلَى الصِّينِ فَهَزَمَ التُّرْكَ وَدَخَلَ بِلَادَهُمْ وَلَقِيَ حَسَّانَ بْنَ تُبَّعٍ قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَأَقَامَا بِهَا حَتَّى مَاتَا، وَكَانَ مَقَامُهُمَا فِيمَا قِيلَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: عَادَا فِي طَرِيقِهِمَا حَتَّى قَدِمَا عَلَى تُبَّعٍ بِالْغَنَائِمِ وَالسَّبْيِ وَالْجَوَاهِرِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا جَمِيعًا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَمَاتَ تُبَّعٌ بِالْيَمَنِ فَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنَ الْيَمَنِ غَازِيًا بَعْدَهُ. وَكَانَ مُلْكُهُ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ تَهَوَّدَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ تُبَّعٌ الْآخَرُ، وَهُوَ تُبَّانُ أَسْعَدَ أَبُو كَرِبٍ، حِينَ أَقْبَلَ مِنَ الْمَشْرِقِ بَعْدَ أَنْ مَلَكَ الْبِلَادَ جَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ حِينَ مَرَّ بِهَا فِي بِدَايَتِهِ لَمْ يَهِجْ أَهْلَهَا، وَخَلَّفَ عِنْدَهُمُ ابْنًا لَهُ فَقُتِلَ غِيلَةً، فَقَدِمَهَا عَازِمًا عَلَى تَخْرِيبِهَا وَاسْتِئْصَالِ أَهْلِهَا، فَجَمَعَ لَهُ الْأَنْصَارُ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ وَرَئِيسُهُمْ عَمْرُو بْنُ الطَّلَّةِ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ وَخَرَجُوا لِقِتَالِهِ، وَكَانُوا يُقَاتِلُونَهُ نَهَارًا وَيُقِرُّونَهُ لَيْلًا. فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ حَبْرَانِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ عَالِمَانِ، فَقَالَا لَهُ: قَدْ سَمِعْنَا مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ، وَإِنَّكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا ذَلِكَ حِيلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَلَمْ نَأْمَنْ عَلَيْكَ عَاجِلَ الْعُقُوبَةِ. فَقَالَ: وَلِمَ ذَلِكَ؟ فَقَالَا: إِنَّهَا مُهَاجَرُ نَبِيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ تَكُونُ دَارَهُ. فَانْتَهَى عَمَّا كَانَ يُرِيدُ وَأَعْجَبَهُ فَاتَّبَعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا، وَاسْمُهُمَا كَعْبٌ وَأَسَدٌ، وَكَانَ تُبَّعٌ وَقَوْمُهُ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ. وَسَارَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، وَهِيَ طَرِيقُهُ، فَكَسَا الْكَعْبَةَ الْوَصَائِلَ وَالْمِلَاءَ، وَكَانَ أَوَّلَ

مَنْ كَسَاهَا، وَجَعَلَ لَهَا بَابًا وَمِفْتَاحًا، وَخَرَجَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْيَمَنِ، فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ حَتَّى حَاكَمُوهُ إِلَى النَّارِ، وَكَانَتْ لَهُمْ نَارٌ تَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَزْعُمُونَ تَأْكُلُ الظَّالِمَ وَلَا تَضُرُّ الْمَظْلُومَ. فَقَالَ لِقَوْمِهِ: أَنْصَفْتُمْ. فَخَرَجَ قَوْمُهُ بِأَوْثَانِهِمْ وَخَرَجَ الْحَبْرَانِ بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا حَتَّى قَعَدُوا عِنْدَ مَخْرَجِ النَّارِ، فَخَرَجَتِ النَّارُ فَغَشِيَتْهُمْ وَأَكَلَتِ الْأَوْثَانَ وَمَا قَرَّبُوا مَعَهَا وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ مِنْ رِجَالِ حِمْيَرَ، وَخَرَجَ الْحَبْرَانِ تَعْرَقُ جِبَاهُهُمَا لَمْ تَضُرَّهُمَا، فَأَصْفَقَتْ حِمْيَرُ عَلَى دِينِهِ. وَكَانَ قَدِمَ عَلَى تُبَّعٍ قَبْلَ ذَلِكَ شَافِعُ بْنُ كُلَيْبٍ الصَّدَفِيُّ، وَكَانَ كَاهِنًا، فَقَالَ لَهُ تُبَّعٌ: هَلْ تَجِدُ لِقَوْمِي مُلْكًا يُوَازِي مُلْكِي؟ قَالَ: لَا إِلَّا لِمَلِكِ غَسَّانَ. قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ مُلْكًا يَزِيدُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَجِدُهُ لِبَارٍّ مَبْرُورٍ، أُيِّدَ بِالْقُهُورِ، وَوُصِفَ بِالزَّبُورِ، وَفُضِّلَتْ أُمَّتُهُ فِي السُّفُورِ، يُفْرِجُ الظُّلَمَ بِالنُّورِ، أَحْمَدُ النَّبِيُّ، طُوبَى لِأُمَّتِهِ حِينَ يَجِيءُ، أَحَدُ بَنِي لُؤَيٍّ، ثُمَّ أَحِدُ بَنِي قُصَيٍّ! فَنَظَرَ تُبَعٌ فِي الزَّبُورِ فَإِذَا هُوَ يَجِدُ صِفَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ تُبَّعٍ هَذَا، وَهُوَ تُبَّانُ أَسْعَدَ أَبُو كَرِبَ بْنُ مَلْكِيكَرِبَ، رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ اللَّخْمِيُّ، فَلَمَّا هَلَكَ رَبِيعَةُ رَجَعَ الْمُلْكُ بِالْيَمَنِ إِلَى حَسَّانَ بْنِ تُبَّانَ أَسْعَدَ. فَلَمَّا مَلَكَ رَبِيعَةُ رَأَى رُؤْيَا هَالَتْهُ فَلَمْ يَدَعْ كَاهِنًا وَلَا سَاحِرًا وَلَا عَائِفًا إِلَّا أَحْضَرَهُ وَقَالَ لَهُمْ: رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي فَأَخْبِرُونِي بِتَأْوِيلِهَا. فَقَالُوا: اقْصُصْهَا عَلَيْنَا. فَقَالَ: إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ بِهَا لَمْ أَطْمَئِنَّ إِلَى خَبَرِكُمْ بِتَأْوِيلِهَا، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ: إِنْ كَانَ الْمَلِكُ يُرِيدُ ذَلِكَ فَلْيَبْعَثْ إِلَى سَطِيحٍ وَشُقٍّ فَهُمَا يُخْبِرَانِكَ عَمَّا سَأَلْتَ. وَاسْمُ سَطِيحٍ رَبِيعُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الذِّئْبِيُّ نِسْبَةً إِلَى ذِئْبِ بْنِ عَدِيٍّ، وَشُقُّ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ يَشْكُرَ بْنِ أَنْمَارَ.

فَبَعَثَ إِلَيْهِمَا، فَقَدِمَ عَلَيْهِ سَطِيحٌ قَبْلَ شُقٍّ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ سَطِيحٌ سَأَلَهُ عَنْ رُؤْيَاهُ وَتَأْوِيلِهَا. فَقَالَ: رَأَيْتَ حَمْحَمَةً، خَرَجَتْ مِنْ ظُلْمَةٍ، فَوَقَعَتْ بِأَرْضٍ بُهْمَةٍ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ جُمْجُمَةٍ؟ قَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا أَخْطَأْتَ مِنْهَا شَيْئًا، فَمَا عِنْدَكَ مِنْ تَأْوِيلِهَا؟ . فَقَالَ: أَحْلِفُ مَا بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ مِنْ حَنَشْ لَيَهْبِطَنَّ أَرْضَكُمُ الْحَبَشْ فَلْيَمْلِكُنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إِلَى جُرَشْ. قَالَ الْمَلِكُ: وَأَبِيكَ يَا سَطِيحُ إِنَّ هَذَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ، فَمَتَى يَكُونُ أَفِي زَمَانِي أَمْ بَعْدَهُ؟ . قَالَ: بَلْ بَعْدَهُ بِحِينَ سِتِّينَ سَنَةً أَوْ سَبْعِينَ يَمْضِينَ مِنَ السِّنِينِ. قَالَ: هَلْ يَدُومُ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِمْ أَوْ يَنْقَطِعُ؟ . قَالَ: بَلْ يَنْقَطِعُ لِبِضْعٍ وَسَبْعِينْ يَمْضِينَ مِنَ السِّنِينْ، ثُمَّ يُقْتَلُونَ بِهَا أَجْمَعُونَ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا هَارِبِينْ. قَالَ الْمَلِكُ: وَمَنِ الَّذِي يَلِي ذَلِكَ؟ . قَالَ: يَلِيهِ إِرَمُ ذِي يَزَنْ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنْ، فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنْ. قَالَ: فَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ سُلْطَانِهِ أَوْ يَنْقَطِعُ؟ . قَالَ: بَلْ يَنْقَطِعُ، يَقْطَعُهُ نَبِيٌّ زَكِي، يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ الْعَلِي، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. قَالَ: وَهَلْ لِلدَّهْرِ مِنْ آخِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَوْمَ يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، وَيَسْعَدُ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ، وَيَشْقَى فِيهِ الْمُسِيئُونَ. قَالَ: أَحَقٌّ مَا تُخْبِرُنَا يَا سَطِيحُ؟ . قَالَ: نَعَمْ وَالشَّفَقِ وَالْغَسَقْ، وَالْفَلَقِ إِذَا اتَّسَقْ، إِنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ بِهِ لَحَقْ. ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ شُقٌّ فَقَالَ: يَا شُقُّ إِنِّي رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي فَأَخْبِرْنِي عَنْهَا وَعَنْ تَأْوِيلِهَا

وَكَتَمَهُ مَا قَالَ سَطِيحٌ لِيَنْظُرَ هَلْ يَتَّفِقَانِ أَمْ يَخْتَلِفَانِ. قَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتَ جُمْجُمَةً، خَرَجَتْ مِنْ ظُلْمَةٍ، فَوَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ نَسَمَةٍ. فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ ذَلِكَ قَالَ: مَا أَخْطَأْتَ شَيْئًا، فَمَا تَأْوِيلُهَا؟ . قَالَ: أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ مِنْ إِنْسَانْ، لِيَنْزِلَنَّ أَرْضَكُمُ السُّودَانْ، وَلِيَمْلِكُنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إِلَى نَجْرَانْ. قَالَ الْمَلِكُ: وَأَبِيكَ يَا شُقُّ! إِنَّ هَذَا لَغَائِظٌ، فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ؟ . قَالَ: بَعْدَكَ بِزَمَانْ، ثُمَّ يَسْتَنْقِظُكُمْ مِنْهُمْ عَظِيمٌ ذُو شَانْ، وَيُذِيقُكُمْ أَشَدَّ الْهَوَانْ، وَهُوَ غُلَامٌ لَيْسَ بِدَنِيٍّ وَلَا مُزَنْ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ ذِي يَزَنْ. قَالَ: فَهَلْ يَدُومُ سُلْطَانُهُ أَمْ يَنْقَطِعُ؟ . قَالَ: بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولٍ مُرْسَلٍ، يَأْتِي بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْفَصْلِ. قَالَ: وَمَا يَوْمُ الْفَصْلِ؟ . قَالَ: يَوْمَ تُجْزَى فِيهِ الْوُلَاةْ، وَيُدْعَى مِنَ السَّمَاءِ بِدَعَوَاتْ، وَيَسْمَعُ مِنْهَا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتْ، وَيَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ لِلْمِيقَاتْ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَسْأَلَتِهِمَا جَهَّزَ بَنِيهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ إِلَى الْعِرَاقِ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، فَمِنْ بَقِيَّةِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ كَانَ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ مَلِكَ الْحِيرَةِ، وَهُوَ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ ذَلِكَ الْمَلِكُ. فَلَمَّا هَلَكَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ وَاجْتَمَعَ مُلْكُ الْيَمَنِ إِلَى حَسَّانَ بْنِ تُبَّانَ بْنِ كَرِبِ بْنِ مَلْكِيكَرِبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو ذِي الْأَذْعَارِ، كَانَ مِمَّا هَيَّجَ أَمْرَ الْحَبَشَةِ، وَتَحَوَّلَ الْمُلْكُ عَنْ حِمْيَرَ أَنَّ حَسَّانَ سَارَ بِأَهْلِ الْيَمَنِ يُرِيدُ أَنْ يَطَأَ بِهِمْ أَرْضَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، كَمَا كَانَتِ التَّبَابِعَةُ تَفْعَلُ. فَلَمَّا كَانَ بِالْعِرَاقِ قَبِلَتْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ الْمَسِيرَ مَعَهُ، فَكَلَّمُوا أَخَاهُ عَمْرًا فِي قَتْلِ حَسَّانَ وَتَمْلِيكِهِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ ذِي رُعَيْنٍ الْحِمْيَرِيِّ، فَإِنَّهُ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، فَعَمَدَ ذُو رُعَيْنٍ إِلَى صَفِيحَةٍ فَكَتَبَ فِيهَا:

أَلَا مَنْ يَشْتَرِي سَهَرًا بِنَوْمٍ ؟ سَعِيدٌ مَنْ يَبِيتُ قَرِيرَ عَيْنِ. فَإِمَّا حِمْيَرٌ غَدَرَتْ وَخَانَتْ ... فَمَعْذِرَةُ الْإِلَهِ لِذِي رُعَيْنِ. ثُمَّ خَتَمَهَا وَأَتَى بِهَا عَمْرًا فَقَالَ: ضَعْ هَذِهِ عِنْدَكَ، فَفَعَلَ. فَلَمَّا بَلَغَ حَسَّانَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَخُوهُ وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ قَالَ لِعَمْرٍو: يَا عَمْرُو لَا تُعْجِلْ عَلَيَّ مَنِيَّتِي ... فَالْمُلْكُ تَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حُشُودِ. فَأَبَى إِلَّا قَتْلَهُ، فَقَتَلَهُ بِمَوْضِعِ رَحْبَةِ مَالِكٍ، فَكَانَتْ تُسَمَّى فَرْضَةَ نُعْمٍ فِيمَا قِيلَ. ثُمَّ عَادَ إِلَى الْيَمَنِ فَمُنِعَ النَّوْمُ مِنْهُ، فَسَأَلَ الْأَطِبَّاءَ وَغَيْرَهُمْ عَمَّا بِهِ وَشَكَا إِلَيْهِمُ السَّهَرَ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ مِنْهُمْ: مَا قَتَلَ أَحَدٌ أَخَاهُ أَوْ ذَا رَحِمٍ بَغْيًا إِلَّا مُنِعَ عَنْهُ النَّوْمُ. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ قَتَلَ كُلَّ مَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِقَتْلِ أَخِيهِ، حَتَّى خَلَصَ إِلَى ذِي رُعَيْنٍ، فَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ قَالَ: إِنَّ لِي عِنْدَكَ بَرَاءَةً. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ . قَالَ: أَخْرِجِ الْكِتَابَ الَّذِي اسْتَوْدَعْتُكَ. فَأَخْرَجَهُ فَإِذَا فِيهِ الْبَيْتَانِ، فَكَفَّ عَنْ قَتْلِهِ، وَلَمْ يَلْبَثْ عَمْرٌو أَنْ هَلَكَ، فَتَفَرَّقَتْ حِمْيَرُ عِنْدَ ذَلِكَ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ قَتْلِ قُبَاذَ بِالرَّيِّ، وَمُلْكِ تُبَّعٍ الْبِلَادَ مِنْ بَعْدِ قَتْلِهِ مِنَ النَّقْلِ الْقَبِيحِ وَالْغَلَطِ الْفَاحِشِ، وَفَسَادُهُ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، فَلَوْلَا أَنَّنَا شَرَطْنَا أَنْ لَا نَتْرُكَ تَرْجَمَةً مِنْ تَارِيخِهِ إِلَّا وَنَأْتِي بِمَعْنَاهَا مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ بِشَيْءٍ لَكَانَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ أَوْلَى. وَوَجْهُ الْغَلَطِ فِيهِ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ قُبَاذَ قُتِلَ بِالرَّيِّ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ مِنَ الْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ قُبَاذَ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فِي زَمَانٍ مَعْلُومٍ، وَكَانَ مُلْكُهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً، كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ قُتِلَ إِلَّا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَلَمَّا مَاتَ مَلَكَ ابْنُهُ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ بَعْدَهُ، وَهَذَا أَشْهَرُ مِنْ: قِفَا نَبْكِ، وَلَوْ كَانَ

مُلْكُ الْفُرْسِ انْتَقَلَ بَعْدَ قُبَاذَ إِلَى حِمْيَرَ، كَيْفَ كَانَ مَلَكَ ابْنُهُ بَعْدَهُ وَتَمَكَّنَ فِي الْمُلْكِ حَتَّى أَطَاعَهُ مُلُوكُ الْأُمَمِ وَحَمَلَتِ الرُّومُ إِلَيْهِ الْخَرَاجَ! . ثُمَّ ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ تُبَّعًا وَجَّهَ ابْنَهُ حَسَّانَ إِلَى الصِّينِ، وَشِمْرًا إِلَى سَمَرْقَنْدَ وَابْنَ أَخِيهِ إِلَى الرُّومِ، وَأَنَّهُ مَلَكَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَسَارَ إِلَى رُومِيَّةَ فَحَاصَرَهَا، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي! مَا هُوَ الْيَمَنُ وَحَضْرَمَوْتُ حَتَّى يَكُونَ بِهِمَا مَا يَكُونُ بَعْضُهُمْ فِي بِلَادِهِمْ لِحِفْظِهَا، وَجَيْشٌ مَعَ تُبَّعٍ، وَجَيْشٌ مَعَ حَسَّانَ يَسِيرُ بِهِمْ إِلَى مِثْلِ الصِّينِ فِي كَثْرَةِ عَسَاكِرِهِ وَمُقَاتِلَتِهِ، وَجَيْشٌ مَعَ ابْنِ أَخِيهِ تُبَّعٍ يَلْقَى بِهِ مِثْلَ كِسْرَى وَيَهْزِمُهُ وَيَمْلِكُ بِلَادَهُ، وَيُحَاصِرُ بِهِ مِثْلَ سَمَرْقَنْدَ فِي كِبَرِهَا وَعِظَمِهَا وَكَثْرَةِ أَهْلِهَا، وَجَيْشٌ مَعَ يَعْفُرَ يَسِيرُ بِهِمْ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ وَيَمْلِكُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ! وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ كَثْرَةِ مَمَالِكِهِمْ وَاتِّسَاعِهَا وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ قَدِ اجْتَهَدُوا لِيَأْخُذُوا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ أَوْ مَا يُجَاوِرُهَا، وَالْيَمَنُ مِنْ أَقَلِّ بِلَادِهِمْ عَدَدًا وَجُنُودًا، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَعْضُ عَسَاكِرِ الْيَمَنِ مَعَ تُبَّعٍ؟ ! هَذَا مِمَّا تَأْبَاهُ الْعُقُولُ، وَتَمُجُّهُ الْأَسْمَاعُ. ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: إِنَّ مُلْكَ تُبَّعٍ بِلَادَ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَالصِّينِ وَغَيْرَهَا كَانَ بَعْدَ قَتْلِ قُبَاذَ، يَعْنِي أَيَّامَ ابْنِهِ أَنُوشِرْوَانَ، وَكَانَ مُلْكُهُ سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ الْحَبَشَةَ لَمَّا مَلَكَتِ الْيَمَنَ انْقَرَضَ مُلْكُ حِمْيَرَ مِنْهُ وَكَانَ آخِرَ مُلُوكِهِمْ ذَا نُوَاسٍ. وَكَانَ مُلْكُ حِمْيَرَ قَدِ اخْتَلَّ قَبْلَ ذِي نُوَاسٍ، وَانْقَطَعَ نِظَامُهُمْ حَتَّى طَمِعَتِ الْحَبَشَةُ فِيهِ وَمَلَكَتْهُ، وَكَانَ مُلْكُهُمُ الْيَمَنَ أَيَّامَ قُبَاذٍ. وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُلْكُ الْحَبَشَةِ الَّذِي هُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ أَيَّامَ قُبَاذَ، وَيَكُونَ تُبَّعٌ هُوَ الَّذِي مَلَكَ الْيَمَنَ قَدْ قَتَلَ قُبَاذَ وَمَلَكَ بِلَادَهُ قَبْلَ أَنْ تَمْلِكَ الْحَبَشَةُ الْيَمَنَ؟ هَذَا مَرْدُودٌ مُحَالٌ وُقُوعُهُ. وَكَانَ مُلْكُ الْحَبَشَةِ الْيَمَنَ سَبْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ انْقِرَاضُ مُلْكِهِمْ فِي آخِرِ مُلْكِ أَنُوشِرْوَانَ، وَالْخَبَرُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ، وَحَدِيثُ سَيْفِ ذِي يَزَنٍ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ.

وَلَمْ يَزَلِ الْيَمَنُ بَعْدَ الْحَبَشَةِ فِي يَدِ الْفُرْسِ إِلَى أَنْ مَلَكَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَنْقَضِيَ مُلْكُ تُبَّعٍ الَّذِي هُوَ مُلْكُ بِلَادِ فَارِسَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ مُلُوكِ حِمْيَرَ وَمُلْكُ الْحَبَشَةِ وَهُوَ سَبْعُونَ سَنَةً فِي مُلْكِ أَنُوشِرْوَانَ وَكَانَ مُلْكُهُ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ وَهَذَا أَعْجَبُ إِنَّ مُدَّةَ بَعْضِهَا سَبْعُونَ سَنَةً تَنْقَضِي قَبْلَ مُضِيِّ نَيِّفٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَوْ فَكَّرَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي ذَلِكَ لَاسْتَحْيَا مِنْ نَقْلِهِ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ تُبَّعٍ هَذَا رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ اللَّخْمِيُّ، وَهَذَا رَبِيعَةُ هُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ ابْنُ أُخْتِ جَذِيمَةَ، وَكَانَ مُلْكُ عَمْرٍو الْحِيرَةَ بَعْدَ خَالِهِ جَذِيمَةَ أَيَّامَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ قَبْلَ مُلْكِ أَرْدَشِيرَ بْنِ بَابَكَ بِخَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَبَيْنَ أَرْدَشِيرَ وَقُبَاذَ وَهُوَ قَبْلَهُ بِهَذَا الدَّهْرِ الطَّوِيلِ؟ وَلَوْ لَمْ يُتَرْجِمْ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَى هَذِهِ الْحَادِثَةِ بِقَوْلِهِ: ذِكْرُ الْحَوَادِثِ أَيَّامَ قُبَاذَ، لَكَانَ يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا فِيهِ، ثُمَّ مَا قَنِعَ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ، بَعْدَ أَنْ قَصَّ مَسِيرَ تُبَّعٍ: وَقَتَلَ قُبَاذَ وَمَلَكَ الْبِلَادَ. وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ الَّذِي سَارَ إِلَى الْمَشْرِقِ مِنَ التَّبَابِعَةِ هُوَ تُبَّعٌ الْأَخِيرُ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: " تُبَّعٌ الْأَخِيرُ " أَنَّهُ آخِرُ مَنْ سَارَ إِلَى الْمَشْرِقِ وَمَلَكَ الْبِلَادَ. فَإِنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ وَغَيْرَهُ يَقُولُونَ: إِنَّ الَّذِي مَلَكَ الْبِلَادَ الْمَشْرِقِيَّةَ لَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ بَعْدَهُ عِدَّةُ تَبَابِعَةٍ، ثُمَّ اخْتَلَّ أَمْرُهُمْ زَمَانًا طَوِيلًا، حَتَّى طَمِعَتِ الْحَبَشَةُ فِيهِمْ وَخَرَجَتْ إِلَى الْيَمَنِ. فَلَيْتَ شِعْرِي إِذَا كَانَ هَذَا تُبَّعٌ فِي أَيَّامِ قُبَاذَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ تُبَّعًا الْأَخِيرَ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ الْيَمَنُ يَكُونُ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَيَكُونُ مُلْكُ الْحَبَشَةِ الْيَمَنَ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ مُلْكِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَيَكُونُ أَوَّلُ الْإِسْلَامِ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةً مِنْ مُلْكِهِمْ أَيْضًا مِمَّا بَعْدَهَا، حَتَّى يَسْتَقِيمَ هَذَا الْقَوْلُ. ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ طَلَّةَ الْأَنْصَارِيَّ خَرَجَ إِلَى تُبَّعٍ، وَعَمْرٌو هَذَا قِيلَ إِنَّهُ أَدْرَكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْخًا كَبِيرًا وَمَاتَ عِنْدَ مَرْجِعِهِ مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ.

ذكر ملك لخيعة

وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِهِ أَيْضًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا قَصَدُوا بِلَادَ الْفُرْسِ مَا زَالَتِ الْفُرْسُ تَقُولُ لَهُمْ عِنْدَ مُرَاسَلَاتِهِمْ وَمُحَاوَرَاتِهِمْ فِي حُرُوبِهِمْ: كُنْتُمْ أَقَلَّ الْأُمَمِ وَأَذَلَّهَا وَأَحْقَرَهَا، وَالْعَرَبُ تُقِرُّ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ مُلْكُ تُبَّعٍ قَرِيبَ الْعَهْدِ لَقَالَتِ الْعَرَبُ: إِنَّنَا بِالْأَمْسِ قَتَلْنَا مَلِكَكُمْ، وَمَلَكْنَا بِلَادَكُمْ، وَاسْتَبَحْنَا حَرِيمَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، فَسُكُوتُ الْعَرَبِ عِنْدَ ذَلِكَ وَإِقْرَارُهُمْ لِلْفُرْسِ دَلِيلٌ عَلَى بُعْدِ عَهْدِهِ أَوْ عَدَمِهِ، عَلَى أَنَّ الْفُرْسَ لَا تُقِرُّ بِذَلِكَ لَا فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَلَا فِي حَدِيثِهِ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ مُلْكَهُمْ لَمْ يَنْقَطِعْ مِنْ عَهْدِ جِيُومَرْثَ، الَّذِي هُوَ آدَمُ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ، إِلَّا أَيَّامَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، وَكَانَ لِمُلُوكِ الْفُرْسِ طَرَفٌ مِنَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ يَنْقَطِعِ انْقِطَاعًا كُلِّيًّا، عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ السِّيَرِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي تُبَّعٍ الَّذِي سَارَ وَمَلَكَ الْبِلَادَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَقِيلَ: شِمْرُ بْنُ غَشٍّ، وَقِيلَ: تُبَّعُ أَسْعَدَ، وَأَنَّهُ بَعَثَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ شِمْرًا ذَا الْجَنَاحِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافَاتِ الَّتِي لَا طَائِلَ فِيهَا. وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي كَشْفِ الْخَطَأِ فِيهِ. [ذِكْرُ مُلْكِ لَخِيعَةَ]

فَلَمَّا هَلَكَ عَمْرٌو وَتَفَرَّقَتْ حِمْيَرُ، وَثَبَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ بُيُوتِ الْمَمْلَكَةِ يُقَالُ لَهُ: لَخِيعَةُ نَوْفٍ ذُو شَنَاتِرَ فَمَلَكَهُمْ، فِي قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَقَتَلَ خِيَارَهُمْ وَعَبَثَ بِبُيُوتِ أَهْلِ الْمَمْلَكَةِ مِنْهُمْ، وَكَانَ امْرَأً فَاسِقًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَكَانَ إِذَا سَمِعَ بِغُلَامٍ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَوَقَعَ عَلَيْهِ فِي مَشْرَبَةٍ لِئَلَّا يَمْلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَطَّلِعُ إِلَى حَرَسِهِ وَجُنْدِهِ قَدْ أَخَذَ سِوَاكًا فِي فِيهِ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّهُ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ، ثُمَّ يُخَلِّي سَبِيلَهُ فَيَفْضَحُهُ. ذِكْرُ مُلْكِ ذِي نُوَاسٍ وَقِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ زُرْعَةُ ذُو نُوَاسِ بْنُ تُبَّانَ أَسْعَدَ بْنِ كَرِبٍ، وَكَانَ صَغِيرًا حِينَ أُصِيبَ أَخُوهُ حَسَّانُ، فَشَبَّ غُلَامًا جَمِيلًا ذَا هَيْئَةٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ لَخِيعَةُ لِيَفْعَلَ بِهِ مَا كَانَ يَفْعَلُ بِغَيْرِهِ، فَأَخَذَ سِكِّينًا لَطِيفًا فَجَعَلَهُ بَيْنَ نَعْلِهِ وَقَدَمِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَيْهِ مَعَ رَسُولِهِ، فَلَمَّا خَلَا بِهِ فِي الْمَشْرَبَةِ قَتَلَهُ ذُو نُوَاسٍ بِالسِّكِّينِ ثُمَّ احْتَزَّ رَأْسَهُ فَجَعَلَهُ فِي كُوَّةِ مَشْرَبَتِهِ الَّتِي يَطَّلِعُ مِنْهَا،

ثُمَّ أَخَذَ سِوَاكَهُ فَجَعَلَهُ فِي فِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالُوا لَهُ: ذُو نُوَاسْ أَرَطْبٌ أَمْ يَبَاسْ؟ فَقَالَ: سَلْ نَخْمَاسْ، اسْتُ رَطْبَانَ ذُو نُوَاسْ لَا بَاسْ. فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ حِينَ قَالَ لَهُمْ مَا قَالَ، فَإِذَا رَأْسُ لَخِيعَةَ مَقْطُوعٌ، فَخَرَجَتْ حِمْيَرُ وَالْحَرَسُ فِي أَثَرِ ذِي نُوَاسٍ حَتَّى أَدْرَكُوهُ فَمَلَّكُوهُ حَيْثُ أَرَاحَهُمْ مِنْ لَخِيعَةَ، وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ يَهُودِيًّا، وَبِنَجْرَانَ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَى اسْتِقَامَةٍ، لَهُمْ رَئِيسٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ، وَكَانَ أَصْلُ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَقَايَا أَهْلِ دِينِ عِيسَى يُقَالُ لَهُ فِيمْيُونْ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا مُجْتَهِدًا زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَكَانَ سَائِحًا لَا يُعْرَفُ بِقَرْيَةٍ إِلَّا خَرَجَ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ كَسْبِ يَدِهِ، وَكَانَ يَعْمَلُ الطِّينَ، وَيُعَظِّمُ الْأَحَدَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ شَيْئًا، وَيَخْرُجُ إِلَى الصَّحْرَاءِ يُصَلِّي جَمِيعَ نَهَارِهِ، فَنَزَلَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الشَّامِ يَعْمَلُ عَمَلَهُ ذَلِكَ مُسْتَخْفِيًا، فَفَطِنَ بِهِ رَجُلٌ اسْمُهُ صَالِحٌ فَأَحَبَّهُ حُبًّا شَدِيدًا، وَكَانَ يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ لَا يَفْطِنُ بِهِ فِيمْيُونْ، حَتَّى خَرَجَ مَرَّةً يَوْمَ الْأَحَدِ إِلَى الصَّحْرَاءِ وَاتَّبَعَهُ صَالِحٌ، وَفِيمْيُونْ لَا يَعْلَمُ. فَجَلَسَ صَالِحٌ مِنْهُ مَنْظَرَ الْعَيْنِ مُسْتَخْفِيًا، وَقَامَ فِيمْيُونْ يُصَلِّي، فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي إِذْ أَقْبَلَ نَحْوَهُ تِنِّينٌ، فَلَمَّا رَآهُ فِيمْيُونْ دَعَا عَلَيْهِ فَمَاتَ، وَرَآهُ صَالِحٌ وَلَمْ يَدْرِ مَا أَصَابَهُ، فَخَافَ عَلَى فِيمْيُونْ فَصَاحَ يَا فِيمْيُونْ، التِّنِّينُ قَدْ أَقْبَلَ نَحْوَكَ! فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ حَتَّى أَمْسَى، وَعَرَفَ أَنَّ صَالِحًا عَرَفَهُ، فَكَلَّمَهُ صَالِحٌ وَقَالَ لَهُ: يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّنِي مَا أَحْبَبْتُ شَيْئًا حُبَّكَ قَطُّ، وَقَدْ أَرَدْتُ صُحْبَتَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ. قَالَ: افْعَلْ. فَلَزِمَهُ صَالِحٌ. وَكَانَ إِذَا مَا جَاءَهُ الْعَبْدُ بِهِ ضُرٌّ شُفِيَ إِذَا دَعَا لَهُ، وَإِذَا دُعِيَ إِلَى أَحَدٍ بِهِ ضُرٌّ لَمْ يَأْتِهِ. وَكَانَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ ابْنٌ ضَرِيرٌ، فَجَعَلَ ابْنَهُ فِي حُجْرَةٍ أَلْقَى عَلَيْهِ ثَوْبًا ثُمَّ قَالَ لِفِيمْيُونْ: قَدْ أَرَدْتُ أَنْ تَعْمَلَ فِي بَيْتِي عَمَلًا، فَانْطَلِقْ إِلَيْهِ لِأُشَارِطَكَ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ مَعَهُ، فَلَمَّا

دَخَلَ الْحُجْرَةَ أَلْقَى الرَّجُلُ الثَّوْبَ عَنِ ابْنِهِ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ، فَدَعَا لَهُ فَأَبْصَرَ. وَعَرَفَ فِيمْيُونْ أَنَّهُ قَدْ عُرِفَ بِالْقَرْيَةِ، فَخَرَجَ هُوَ وَصَالِحٌ وَمَرَّ بِشَجَرَةٍ عَظِيمَةٍ بِالشَّامِ. فَنَادَاهُ رَجُلٌ وَقَالَ: مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُكَ، لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَقُومَ عَلَيَّ فَإِنِّي مَيِّتٌ، قَالَ: فَمَاتَ، فَوَارَاهُ فِيمْيُونْ وَانْصَرَفَ وَمَعَهُ صَالِحٌ، حَتَّى وَطِئَا بَعْضَ أَرْضِ الْعَرَبِ، وَأَخَذَهُمَا بَعْضُ الْعَرَبِ فَبَاعُوهُمَا بِنَجْرَانَ، وَأَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِ الْعَرَبِ تَعْبُدُ نَخْلَةً طَوِيلَةً بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، لَهَا عِيدٌ كُلَّ سَنَةٍ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعِيدُ عَلَّقُوا عَلَيْهَا كُلَّ ثَوْبٍ حَسَنٍ وَحُلِيٍّ جَمِيلٍ، فَعَكَفُوا عَلَيْهَا يَوْمًا، فَابْتَاعَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فِيمْيُونْ، وَابْتَاعَ رَجُلٌ آخَرُ صَالِحًا، فَكَانَ فِيمْيُونْ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ، اسْتَسْرَجَ لَهُ الْبَيْتُ حَتَّى يُصْبِحَ مِنْ غَيْرِ مِصْبَاحٍ. فَلَمَّا رَأَى سَيِّدَهُ ذَلِكَ أَعْجَبَهُ، فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِ فَأَخْبَرَهُ، وَعَابَ دِينَ سَيِّدِهِ. وَقَالَ لَهُ: لَوْ دَعَوْتُ إِلَهِي الَّذِي أَعْبُدُ لَأَهْلَكَ النَّخْلَةَ. فَقَالَ: افْعَلْ فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ دَخَلْنَا فِي دِينِكَ وَتَرَكْنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ. فَصَلَّى فِيمْيُونْ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا رِيحًا فَجَفَّفَتْهَا وَأَلْقَتْهَا، فَاتَّبَعَهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِهِ، فَحَمَلَهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ دِينِ عِيسَى وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَحْدَاثُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى أَهْلِ دِينِهِمْ بِكُلِّ أَرْضٍ. فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ أَصْلُ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: كَانَ أَهْلُ نَجْرَانَ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا سَاحِرٌ، كَانَ أَهْلُ نَجْرَانَ يُرْسِلُونَ أَوْلَادَهُمْ يُعَلِّمُهُمُ السِّحْرَ فَلَمَّا نَزَلَهَا فِيمْيُونْ، وَهُوَ رَجُلٌ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِذَا عُرِفَ فِي قَرْيَةٍ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ يُبْرِئُ الْمَرْضَى، وَلَهُ كَرَامَاتٌ، فَوَصَلَ نَجْرَانَ فَسَكَنَ خَيْمَةً بَيْنَ نَجْرَانَ وَبَيْنَ السَّاحِرِ، فَأَرْسَلَ الثَّامِرُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ مَعَ الْغِلْمَانِ إِلَى السَّاحِرِ، فَاجْتَازَ بِفِيمْيُونْ فَرَأَى مَا أَعْجَبَهُ مِنْ صَلَاتِهِ، فَجَعَلَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ وَيَسْتَمِعُ مِنْهُ، فَأَسْلَمَ مَعَهُ وَوَحَّدَ اللَّهَ تَعَالَى وَعَبَدَهُ، وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ وَكَانَ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ إِيَّاهُ وَقَالَ: لَنْ تَحْتَمِلَهُ، وَالثَّامِرُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ابْنَهُ يَخْتَلِفُ إِلَى السَّاحِرِ مَعَ الْغِلْمَانِ. فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ ضَنَّ عَلَيْهِ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ عَمَدَ إِلَى قِدَاحٍ فَكَتَبَ عَلَيْهَا أَسْمَاءَ اللَّهِ جَمِيعَهَا، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي النَّارِ وَاحِدًا وَاحِدًا، حَتَّى إِذَا أَلْقَى الْقَدَحَ الَّذِي عَلَيْهِ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ وَثَبَ مِنْهَا فَلَمْ تَضُرَّهُ شَيْئًا،

فَأَخَذَهُ وَعَادَ إِلَى صَاحِبِهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ لَهُ: أَمْسِكْ عَلَى نَفْسِكَ، وَمَا أَظُنُّ أَنْ تَفْعَلَ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِذَا أَتَى نَجْرَانَ بِهِ ضُرٌّ إِلَّا قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَدْخُلُ فِي دِينِي حَتَّى أَدْعُوَ اللَّهَ فَيُعَافِيَكَ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُوَحِّدُ اللَّهَ وَيُسْلِمُ، وَيَدْعُو لَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَيُشْفَى، حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مِمَّنْ بِهِ ضُرٌّ إِلَّا أَتَاهُ وَاتَّبَعَهُ وَدَعَا لَهُ فَعُوفِيَ. فَرُفِعَ شَأْنُهُ إِلَى مَلِكِ نَجْرَانَ، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: أَفْسَدْتَ عَلَيَّ أَهْلَ قَرْيَتِي وَخَالَفْتَ دِينِي، لَأُمَثِّلَنَّ بِكَ! فَقَالَ: لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. فَجَعَلَ يُرْسِلُهُ إِلَى الْجَبَلِ الطَّوِيلِ فَيُلْقَى مِنْ رَأْسِهِ فَيَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى مِيَاهِ نَجْرَانَ، وَهِيَ بُحُورٌ لَا يَقَعُ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَلَكَ، فَيُلْقَى فِيهَا فَيَخْرُجُ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. فَلَمَّا غَلَبَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ: إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِي حَتَّى تُوَحِّدَ اللَّهَ وَتُؤْمِنَ كَمَا آمَنْتُ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ قَتَلْتَنِي. فَوَحَّدَ اللَّهَ الْمَلِكُ، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِعَصَا بِيَدِهِ فَشَجَّهُ شَجَّةً غَيْرَ كَبِيرَةٍ فَقَتَلَهُ، فَهَلَكَ الْمَلِكُ مَكَانَهُ، وَاجْتَمَعَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ. قَالَ: فَسَارَ إِلَيْهِمْ ذُو نُوَاسٍ بِجُنُودِهِ، فَجَمَعَهُمْ ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَتْلِ، فَاخْتَارُوا الْقَتْلَ، فَخَدَّ لَهُمُ الْأُخْدُودَ، فَحَرَقَ بِالنَّارِ وَقَتَلَ بِالسَّيْفِ، حَتَّى قَتَلَ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بِنَجْرَانَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ حِمْيَرَ يُقَالُ لَهُ: ذُو نُوَاسٍ وَاسْمُهُ يُوسُفُ بْنُ شُرَحْبِيلَ، وَكَانَ قَبْلَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ حَاذِقٌ. فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ لِيُعَلِّمَهُ، فَجَعَلَ يَخْتَلِفُ إِلَى السَّاحِرِ، وَكَانَ فِي طَرِيقِهِ رَاهِبٌ حَسَنُ الْقِرَاءَةِ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ الْغُلَامُ، فَأَعْجَبَهُ أَمْرُهُ، فَكَانَ إِذَا جَاءَ إِلَى الْمُعَلِّمِ يَدْخُلُ إِلَى الرَّاهِبِ فَيَقْعُدُ عِنْدَهُ، فَإِذَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى الْمُعَلِّمِ ضَرَبَهُ وَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي حَبَسَكَ؟ وَإِذَا انْقَلَبَ إِلَى أَبِيهِ دَخَلَ إِلَى الرَّاهِبِ فَيَضْرِبُهُ أَبُوهُ وَيَقُولُ: مَا الَّذِي أَبْطَأَ بِكَ؟ فَشَكَا الْغُلَامُ ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ لَهُ: إِذَا أَتَيْتَ الْمُعَلِّمَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَبِي، وَإِذَا أَتَيْتَ أَبَاكَ فَقُلْ حَبَسَنِي الْمُعَلِّمُ. وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ قَطَعَتْ طَرِيقَ النَّاسِ، فَمَرَّ بِهَا الْغُلَامُ فَرَمَاهَا بِحَجَرٍ

فَقَتَلَهَا، وَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: إِنَّ لَكَ لَشَأْنًا، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّنَّ عَلَيَّ. وَصَارَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكَمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيَشْفِي النَّاسَ. وَكَانَ لِلْمَلِكِ ابْنُ عَمٍّ أَعْمَى، فَسَمِعَ بِالْغُلَامِ وَقَتْلِ الْحَيَّةِ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ بَصَرِي. فَقَالَ الْغُلَامُ: إِنْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ بَصَرَكَ تُؤْمِنُ بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ صَادِقًا فَارْدُدْ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، فَعَادَ إِلَيْهِ بَصَرُهُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ، فَلَمَّا رَآهُ تَعَجَّبَ مِنْهُ وَسَأَلَهُ، فَلَمْ يُخْبِرْهُ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَدَلَّهُ عَلَى الْغُلَامِ، فَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا أَرَى. فَقَالَ: أَنَا لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ، فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّهُ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَأَمَرَ بِهِ فَوُضِعَ الْمِنْشَارُ عَلَى رَأْسِهِ فَشُقَّ بِنِصْفَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لِلْغُلَامِ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَأَرْسَلَهُ إِلَى جَبَلٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ! فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ وَهَلَكُوا. وَرَجَعَ الْغُلَامُ إِلَى الْمَلِكِ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَغَاظَهُ ذَلِكَ وَأَرْسَلَهُ فِي سَفِينَةٍ إِلَى الْبَحْرِ لِيُلْقُوهُ فِيهِ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ! فَغَرِقُوا وَنَجَا، وَجَاءَ إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ: اقْتُلُوهُ بِالسَّيْفِ، فَضَرَبُوهُ فَنَبَا عَنْهُ. وَفَشَا خَبَرُهُ فِي الْيَمَنِ، فَأَعْظَمَهُ النَّاسُ وَعَلِمُوا أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، فَقَالَ الْغُلَامُ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَنْ تَقْدِرَ عَلَى قَتْلِي إِلَّا أَنْ تَجْمَعَ أَهْلَ مَمْلَكَتِكَ وَتَرْمِيَنِي بِسَهْمٍ وَتَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ. فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ! فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: قَدْ نَزَلَ بِكَ مَا تَحْذَرُ. فَأَغْلَقَ أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ وَخَدَّ أُخْدُودًا وَمَلَأَهُ نَارًا وَعَرَضَ النَّاسَ، فَمَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ تَرَكَهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ أَلْقَاهُ فِي الْأُخْدُودِ فَأَحْرَقَهُ. وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ، وَكَانَ لَهَا ثَلَاثُ بَنِينَ، أَحَدُهُمْ رَضِيعٌ، فَقَالَ لَهَا الْمَلِكُ: ارْجِعِي وَإِلَّا قَتَلْتُكِ أَنْتِ وَأَوْلَادَكِ، فَأَبَتْ، فَأَلْقَى ابْنَيْهَا الْكَبِيرَيْنِ، فَأَبَتْ، ثُمَّ أَخَذَ الصَّغِيرَ لِيُلْقِيَهُ فَهَمَّتْ بِالرُّجُوعِ. قَالَ لَهَا الصَّغِيرُ: يَا أُمَّاهُ لَا تَرْجِعِي عَنْ دِينِكِ، لَا بَأْسَ عَلَيْكِ! فَأَلْقَاهُ وَأَلْقَاهَا فِي أَثَرِهِ، وَهَذَا الطِّفْلُ أَحَدُ مَنْ تَكَلَّمَ صَغِيرًا. قِيلَ: حَفَرَ رَجُلٌ خَرِبَةً بِنَجْرَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَرَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الثَّامِرِ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى ضَرْبَةٍ فِي رَأْسِهِ، فَإِذَا رُفِعَتْ عَنْهَا يَدُهُ جَرَتْ دَمًا، وَإِذَا أُرْسِلَتْ يَدُهُ رَدَّهَا إِلَيْهَا وَهُوَ قَاعِدٌ، فَكَتَبَ فِيهِ إِلَى عُمَرَ، فَأَمَرَ بِتَرْكِهِ عَلَى حَالِهِ.

ذِكْرُ مُلْكِ الْحَبَشَةِ الْيَمَنَ قِيلَ: لَمَّا قَتَلَ ذُو نُوَاسٍ مَنْ قَتَلَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فِي الْأُخْدُودِ لِأَجْلِ الْعَوْدِ عَنِ النَّصْرَانِيَّةِ، أَفْلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: دَوْسٌ ذُو ثَعْلَبَانَ حَتَّى أَعْجَزَ الْقَوْمَ، فَقَدِمَ عَلَى قَيْصَرَ فَاسْتَنْصَرَهُ عَلَى ذِي نُوَاسٍ وَجُنُودِهِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا فَعَلَ بِهِمْ. فَقَالَ لَهُ قَيْصَرُ: بَعُدَتْ بِلَادُكَ عَنَّا، وَلَكِنْ سَأَكْتُبُ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ وَهُوَ عَلَى هَذَا الدِّينِ وَقَرِيبٌ مِنْكُمْ. فَكَتَبَ قَيْصَرُ إِلَى مَلِكِ الْحَبَشَةِ يَأْمُرُهُ بِنَصْرِهِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ مَلِكُ الْحَبَشَةِ سَبْعِينَ أَلْفًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ أَرْيَاطُ، وَفِي جُنُودِهِ أَبْرَهَةُ الْأَشْرَمُ، فَسَارُوا فِي الْبَحْرِ حَتَّى نَزَلُوا بِسَاحِلِ الْيَمَنِ، وَجَمَعَ ذُو نُوَاسٍ جُنُودَهُ فَاجْتَمَعُوا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَرْبٌ غَيْرَ أَنَّهُ نَاوَشَ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ ثُمَّ انْهَزَمُوا، وَدَخَلَهَا أَرْيَاطُ. فَلَمَّا رَأَى ذُو نُوَاسٍ مَا نَزَلْ بِهِ وَبِقَوْمِهِ اقْتَحَمَ الْبَحْرَ بِفَرَسِهِ فَغَرِقَ، وَوَطِئَ أَرْيَاطُ الْيَمَنَ فَقَتَلَ ثُلُثَ رِجَالِهِمْ، وَبَعَثَ إِلَى النَّجَاشِيِّ بِثُلُثِ سَبَايَاهُمْ، ثُمَّ أَقَامَ بِهَا وَذَلَّ أَهْلُهَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْحَبَشَةَ لَمَّا خَرَجُوا إِلَى الْمَنْدَبِ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، كَتَبَ ذُو نُوَاسٍ إِلَى أَقْيَالِ الْيَمَنِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الِاجْتِمَاعِ عَلَى عَدُوِّهِمْ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ وَقَالُوا: يُقَاتِلُ كُلُّ رَجُلٍ عَنْ بِلَادِهِ. فَصَنَعَ مَفَاتِيحَ وَحَمَلَهَا عَلَى عِدَّةٍ مِنَ الْإِبِلِ وَلَقِيَ الْحَبَشَةَ وَقَالَ: هَذِهِ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الْأَمْوَالِ بِالْيَمَنِ، فَهِيَ لَكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا الرِّجَالَ وَالذُّرِّيَّةَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى صَنْعَاءَ، فَقَالَ لِكَبِيرِهِمْ: وَجِّهْ أَصْحَابَكَ لِقَبْضِ الْخَزَائِنِ. فَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ وَدَفَعَ إِلَيْهِمُ الْمَفَاتِيحَ، وَكَتَبَ إِلَى الْأَقْيَالِ يَقْتُلُ كُلَّ ثَوْرٍ أَسْوَدَ، فَقُتِلَتِ الْحَبَشَةُ وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ. فَلَمَّا سَمِعَ النَّجَاشِيُّ جَهَّزَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ أَلْفًا مَعَ أَرْيَاطَ وَالْأَشْرَمِ، فَمَلَكَ الْبِلَادَ وَأَقَامَ بِهَا سِنِينَ، وَنَازَعَهُ أَبْرَهَةُ الْأَشْرَمُ، وَكَانَ فِي جُنْدِهِ، فَمَالَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وَبَقِيَ أَرْيَاطُ فِي طَائِفَةٍ، وَسَارَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ، وَأَرْسَلَ أَبْرَهَةُ: إِنَّكَ لَنْ تَصْنَعَ بِأَنْ تُلْقِيَ الْحَبَشَةَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضِهَا شَيْئًا، فَيَهْلِكُوا، وَلَكِنِ ابْرُزْ إِلَيَّ فَأَيُّنَا قَهَرَ صَاحِبَهُ اسْتَوْلَى عَلَى جُنْدِهِ.

ذكر ملك كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور بن يزدجرد الأثيم

فَتَبَارَزَا، فَرَفَعَ أَرْيَاطُ الْحَرْبَةَ فَضَرَبَ أَبْرَهَةَ، فَوَقَعَتْ عَلَى رَأْسِهِ فَشَرَمَتْ أَنْفَهُ وَعَيْنَهُ، فَسُمِّيَ الْأَشْرَمَ. وَحَمَلَ غُلَامٌ لِأَبْرَهَةَ يُقَالُ لَهُ عَتُودَةُ، كَانَ قَدْ تَرَكَهُ كَمِينًا مِنْ خَلْفِ أَرْيَاطَ، عَلَى أَرْيَاطَ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَوْلَى أَبْرَهَةُ عَلَى الْجُنْدِ وَالْبِلَادِ وَقَالَ لِعَتُودَةَ: احْتَكِمْ. فَقَالَ: لَا تَدْخُلُ عَرُوسٌ عَلَى زَوْجِهَا مِنَ الْيَمَنِ حَتَّى أُصِيبَهَا قَبْلَهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَبَقِيَ يَفْعَلُ بِهِمْ هَذَا الْفِعْلَ حِينًا، ثُمَّ عَدَا عَلَيْهِ إِنْسَانٌ مِنَ الْيَمَنِ فَقَتَلَهُ، فَسُرَّ أَبْرَهَةُ بِقَتْلِهِ وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَحْتَكِمُ هَكَذَا لَمْ أُحَكِّمْهُ. وَلَمَّا بَلَغَ النَّجَاشِيَّ قَتْلُ أَرْيَاطَ غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَحَلَفَ أَلَّا يَدَعَ أَبْرَهَةَ حَتَّى يَطَأَ أَرْضَهُ وَيَجُزَّ نَاصِيَتَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبْرَهَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَى النَّجَاشِيِّ مِنْ تُرَابِ الْيَمَنِ وَجَزَّ نَاصِيَتَهُ وَأَرْسَلَهَا أَيْضًا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَإِرْسَالِ شَعْرِهِ وَتُرَابِهِ لِيَبِرَّ قَسَمَهُ بِوَضْعِ التُّرَابِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَرَضِيَ عَنْهُ وَأَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِهِ. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِالْيَمَنِ بَعَثَ إِلَى أَبِي مُرَّةَ ذِي يَزَنٍ، فَأَخَذَ زَوْجَتَهُ رَيْحَانَةَ بِنْتَ ذِي جُدْنٍ وَنَكَحَهَا، فَوَلَدَتْ لَهُ مَسْرُوقًا وَكَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ لِذِي يَزَنٍ وَلَدًا اسْمُهُ مَعْدِي كَرِبَ، وَهُوَ سَيْفٌ، فَخَرَجَ ذُو يَزَنٍ مِنَ الْيَمَنِ فَقَدِمَ الْحِيرَةَ عَلَى عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ إِلَى كِسْرَى كِتَابًا يُعْلِمْهُ مَحَلَّهُ وَشَرَفَهُ وَحَاجَتَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَفِدُ إِلَى الْمَلِكِ كُلَّ سَنَةٍ وَهَذَا وَقْتُهَا، فَأَقَامَ عِنْدَهُ حَتَّى وَفَدَ مَعَهُ وَدَخَلَ إِلَى كِسْرَى مَعَهُ، فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَذَكَرَ حَاجَتَهُ وَشَكَا مَا يَلْقَوْنَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَاسْتَنْصَرَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَطْمَعَهُ فِي الْيَمَنِ وَكَثْرَةِ مَالِهَا، فَقَالَ لَهُ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ: إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أُسْعِفَكَ بِحَاجَتِكَ وَلَكِنَّ الْمَسَالِكَ إِلَيْهَا صَعْبَةٌ وَسَأَنْظُرُ، وَأَمَرَ بِإِنْزَالِهِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ حَتَّى هَلَكَ. وَنَشَأَ ابْنُهُ مَعْدِي كَرِبَ ذِي يَزَنٍ فِي حُجْرَةِ أَبْرَهَةَ، وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ أَبُوهُ، فَسَبَّهُ ابْنٌ لَأَبْرَهَةَ وَسَبَّ أَبَاهُ، فَسَأَلَ أُمَّهُ عَنْ أَبِيهِ، فَصَدَقَتْهُ، وَأَقَامَ حَتَّى مَاتَ أَبْرَهَةُ وَابْنُهُ يَكْسُومُ وَسَارَ عَنِ الْيَمَنِ، فَفَعَلَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. [ذِكْرُ مُلْكِ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ بْنِ قُبَاذَ بْنِ فَيْرُوزَ بْنِ يَزْدَجِرْدَ بْنِ بَهْرَامَ جَوْرَ بْنِ يَزْدَجِرْدَ الْأَثِيمِ]

لَمَّا لَبِسَ التَّاجَ خَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَذَكَرَ مَا ابْتُلُوا بِهِ مِنْ فَسَادِ أُمُورِهِمْ وَدِينِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يُصْلِحُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَ بِرُءُوسِ الْمَزْدَكِيَّةِ فَقُتِلُوا وَقُسِّمَتْ أَمْوَالُهُمْ فِي أَهْلِ الْحَاجَةِ. وَكَانَ سَبَبَ قَتْلِهِمْ أَنَّ قُبَاذَ كَانَ، كَمَا ذَكَرْنَا، قَدِ اتَّبَعَ مَزْدَكَ عَلَى دِينِهِ وَمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ، وَأَطَاعَهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ مِنَ الزَّنْدَقَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرْنَا أَيَّامَ قُبَاذَ، وَكَانَ الْمُنْذِرُ بْنُ مَاءِ السَّمَاءِ يَوْمَئِذٍ عَامِلًا عَلَى الْحِيرَةِ وَنَوَاحِيهَا، فَدَعَاهُ قُبَاذُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَبَى، فَدَعَا الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو الْكِنْدِيَّ، فَأَجَابَهُ، فَسَدَّدَ لَهُ مُلْكَهُ وَطَرَدَ الْمُنْذِرَ عَنْ مَمْلَكَتِهِ، وَكَانَتْ أُمُّ أَنُوشِرْوَانَ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْ قُبَاذَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَزْدَكُ. فَلَمَّا رَأَى أُمَّ أَنُوشِرْوَانَ قَالَ لِقُبَاذَ: ادْفَعْهَا إِلَيَّ لِأَقْضِيَ حَاجَتِي مِنْهَا. فَقَالَ دُونَكَهَا. فَوَثَبَ إِلَيْهِ أَنُوشِرْوَانُ، وَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ وَيَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ أَنْ يَهَبَ لَهُ أُمَّهُ حَتَّى قَبَّلَ رِجْلَهُ، فَتَرَكَهَا فَحَاكَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ. فَهَلَكَ قُبَاذُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَمَلَكَ أَنُوشِرْوَانُ، فَجَلَسَ لِلْمُلْكِ، وَلَمَّا بَلَغَ الْمُنْذِرَ هَلَاكُ قُبَاذَ أَقْبَلَ إِلَى أَنُوشِرْوَانَ، وَقَدْ عَلِمَ خِلَافَهُ عَلَى أَبِيهِ فِي مَذْهَبِهِ وَاتِّبَاعِ مَزْدَكَ، فَإِنَّ أَنُوشِرْوَانَ كَانَ مُنْكِرًا لِهَذَا الْمَذْهَبِ كَارِهًا لَهُ، ثُمَّ إِنَّ أَنُوشِرْوَانَ أَذِنَ لِلنَّاسِ إِذْنًا عَامًّا، وَدَخَلَ عَلَيْهِ مَزْدَكُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ الْمُنْذِرُ، فَقَالَ أَنُوشِرْوَانُ: إِنِّي كُنْتُ تَمَنَّيْتُ أُمْنِيَتَيْنِ، أَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدْ جَمَعَهَا إِلَيَّ. فَقَالَ مَزْدَكُ: وَمَا هُمَا أَيُّهَا الْمَلِكُ؟ .

قَالَ: تَمَنَّيْتُ أَنْ أَمْلِكَ وَأَسْتَعْمِلَ هَذَا الرَّجُلَ الشَّرِيفَ، يَعْنِي الْمُنْذِرَ، وَأَنْ أَقْتُلَ هَذِهِ الزَّنَادِقَةَ. فَقَالَ مَزْدَكُ: أَوَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَقْتُلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ؟ فَقَالَ: وَإِنَّكَ هَاهُنَا يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ! وَاللَّهِ مَا ذَهَبَ نَتَنُ رِيحِ جَوْرَبِكَ مِنْ أَنْفِي مُنْذُ قَبَّلْتُ رِجْلَكَ إِلَى يَوْمِي هَذَا. وَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ وَصُلِبَ. وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَا بَيْنَ جَازِرَ إِلَى النَّهْرَوَانِ وَإِلَى الْمَدَائِنِ فِي ضَحْوَةٍ وَاحِدَةٍ مِائَةَ أَلْفِ زِنْدِيقٍ وَصَلَبَهُمْ، وَسُمِّيَ يَوْمَئِذٍ أَنُوشِرْوَانُ. وَطَلَبَ أَنُوشِرْوَانُ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ وَهُوَ بِالْأَنْبَارِ، فَخَرَجَ هَارِبًا فِي صَحَابَتِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ، فَمَرَّ بِالثَّوِيَّةِ، فَتَبِعَهُ الْمُنْذِرُ بِالْخَيْلِ مِنْ تَغْلِبَ وَإِيَادَ وَبَهْرَاءَ، فَلَحِقَ بِأَرْضِ كَلْبٍ وَنَجَا وَانْتَهَبُوا مَالَهُ وَهَجَائِنَهُ، وَأَخَذَتْ بَنُو تَغْلِبَ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ نَفْسًا مِنْ بَنِي آكِلِ الْمُرَارِ فَقَدِمُوا بِهِمْ عَلَى الْمُنْذِرِ، فَضَرَبَ رِقَابَهُمْ بِجَفْرِ الْأَمْلَاكِ فِي دِيَارِ بَنِي مَرِينَ الْعَبَّادِيِّينَ بَيْنَ دَيْرِ بَنِي هِنْدٍ وَالْكُوفَةِ، فَذَلِكَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا ... وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا. وَفِيهِمْ يَقُولُ امْرُؤُ الْقَيْسِ: مُلُوكٌ مِنْ بَنِي حُجْرِ بْنِ عَمْرٍو ... يُسَاقُونَ الْعَشِيَّةَ يَقْتُلُونَا. فَلَوْ فِي يَوْمِ مَعْرَكَةٍ أُصِيبُوا ... وَلَكِنْ فِي دِيَارِ بَنِي مَرِينَا وَلَمْ تُغْسَلْ جَمَاجِمُهُمْ بِغُسْلٍ ... وَلَكِنْ فِي الدِّمَاءِ مُرَمَّلِينَا تَظَلُّ الطَّيْرُ عَاكِفَةً عَلَيْهِمْ ... وَتَنْتَزِعُ الْحَوَاجِبَ وَالْعَيُونَا

وَلَمَّا قَتَلَ أَنُوشِرْوَانُ مَزْدَكَ وَأَصْحَابَهُ، أَمَرَ بِقَتْلِ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ دَخَلَ عَلَى النَّاسِ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَرَدَّ الْأَمْوَالَ إِلَى أَهْلِهَا، وَأَمَرَ بِكُلِّ مَوْلُودٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَنْ يَلْحَقَ بِمَنْ هُوَ مِنْهُمْ إِذَا لَمْ يُعْرَفْ أَبُوهُ، وَأَنْ يُعْطَى نَصِيبًا مِنْ مِلْكِ الرَّجُلِ الَّذِي يُسْنَدُ إِلَيْهِ إِذَا قَبِلَهُ الرَّجُلُ، وَبِكُلِّ امْرَأَةٍ غُلِبَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَنْ يُؤْخَذَ مَهْرُهَا مِنَ الْغَالِبِ، ثُمَّ تُخَيَّرَ الْمَرْأَةُ بَيْنَ الْإِقَامَةِ عِنْدَهُ وَبَيْنَ فِرَاقِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا زَوْجٌ فَتُرَدَّ إِلَيْهِ. وَأَمَرَ بِعِيَالِ ذَوِي الْأَحْسَابِ الَّذِينَ مَاتَ قَيِّمُهُمْ فَأَنْكَحَ بَنَاتِهِمُ الْأَكْفَاءَ، وَجَهَّزَهُنَّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَنْكَحَ نِسَاءَهُمْ مِنَ الْأَشْرَافِ، وَاسْتَعَانَ بِأَبْنَائِهِمْ فِي أَعْمَالِهِ، وَعَمَّرَ الْجُسُورَ وَالْقَنَاطِرَ، وَأَصْلَحَ الْخَرَابَ، وَتَفَقَّدَ الْأَسَاوِرَةَ وَأَعْطَاهُمْ، وَبَنَى فِي الطُّرُقِ الْقُصُورَ وَالْحُصُونَ، وَتَخَيَّرَ الْوُلَاةَ وَالْعُمَّالَ وَالْحُكَّامَ، وَاقْتَدَى بِسِيرَةِ أَرْدَشِيرَ، وَارْتَجَعَ بِلَادًا كَانَتْ مَمْلَكَةَ الْفُرْسِ، مِنْهَا: السِّنْدُ وَسِنْدُوسِتْ وَالرُّخَّجُ وَزَابُلِسْتَانُ وَطَخَارِسْتَانُ، وَأَعْظَمَ الْقَتْلَ فِي الْبَازِرِ وَأَجْلَى بَقِيَّتَهُمْ عَنْ بِلَادِهِ. وَاجْتَمَعَ أَبْخَزُ وَبَنْجَرُ وَبَلَنْجَرُ وَاللَّانُ عَلَى قَصْدِ بِلَادِهِ، فَقَصَدُوا أَرْمِينِيَّةَ لِلْغَارَةِ عَلَى أَهْلِهَا، وَكَانَ الطَّرِيقُ سَهْلًا، فَأَمْهَلَهُمْ كِسْرَى حَتَّى تَوَغَّلُوا فِي الْبِلَادِ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ جُنُودًا، فَقَاتَلُوهُمْ فَأَهْلَكُوهُمْ مَا خَلَا عَشَرَةَ آلَافِ رَجُلٍ أُسِرُوا فَأُسْكِنُوا أَذْرَبِيجَانَ. وَكَانَ لِكِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ وَلَدٌ هُوَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ اسْمُهُ أَنُوشَزَادَ، فَبَلَغَهُ عَنْهُ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ، فَسَيَّرَهُ إِلَى جُنْدَيْسَابُورَ وَجَعَلَ مَعَهُ جَمَاعَةً يَثِقُ بِدِينِهِمْ لِيُصْلِحُوا دِينَهُ وَأَدَبَهُ. فَبَيْنَمَا هُمْ عِنْدَهُ إِذْ بَلَغَهُ خَبَرُ مَرَضِ وَالِدِهِ لَمَّا دَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ، فَوَثَبَ بِمَنْ عِنْدَهُ فَقَتَلَهُمْ وَأَخْرَجَ أَهْلَ السُّجُونِ فَاسْتَعَانَ بِهِمْ وَجَمَعَ عِنْدَهُ جُمُوعًا مِنَ الْأَشْرَارِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ نَائِبَ أَبِيهِ بِالْمَدَائِنِ عَسْكَرًا، فَحَصَرُوهُ بِجُنْدَيْسَابُورَ، وَأَرْسَلَ الْخَبَرَ إِلَى كِسْرَى، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْجِدِّ فِي أَمْرِهِ وَأَخْذِهِ أَسِيرًا، فَاشْتَدَّ الْحِصَارُ حِينَئِذٍ عَلَيْهِ وَدَخَلَ الْعَسَاكِرُ الْمَدِينَةَ عَنْوَةً فَقَتَلُوا بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرُوا أَنُوشَزَادَ، فَبَلَغَهُ خَبَرُ جَدِّهِ لِأُمِّهِ الدَّاوُرِ الرَّازِيِّ، فَوَثَبَ بِعَامِلِ سِجِسْتَانَ

وَقَاتَلَهُ، فَهَزَمَهُ الْعَامِلُ، فَالْتَجَأَ إِلَى مَدِينَةِ الرُّخَّجِ وَامْتَنَعَ بِهَا، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى كِسْرَى يَعْتَذِرُ وَيَسْأَلُهُ أَنْ يُنْفِذَ إِلَيْهِ مَنْ يُسَلِّمُ لَهُ الْبَلَدَ، فَفَعَلَ وَآمَنُهُ. وَكَانَ الْمَلِكُ فَيْرُوزُ قَدْ بَنَى بِنَاحِيَةِ صُولٍ وَاللَّانِ بِنَاءً يُحَصِّنُ بِهِ بِلَادَهُ، وَبَنَى عَلَيْهِ ابْنُهُ قُبَاذُ زِيَادَةً، فَلَمَّا مَلَكَ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانُ بَنَى فِي نَاحِيَةِ صُولٍ وَجُرْجَانَ بِنَاءً كَثِيرًا وَحُصُونًا حَصَّنَ بِهَا بِلَادَهُ جَمِيعَهَا. وَإِنَّ سَيْجَيُورْ خَاقَانَ قَصَدَ بِلَادَهُ، وَكَانَ أَعْظَمَ التُّرْكِ، وَاسْتَمَالَ الْخَزَرَ وَأَبْخَزَ وَبَلَنْجَرَ، فَأَطَاعُوهُ، فَأَقْبَلَ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ وَكَتَبَ إِلَى كِسْرَى يَطْلُبُ مِنْهُ الْإِتَاوَةَ وَيَتَهَدَّدُهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلَمْ يُجِبْهُ كِسْرَى إِلَى شَيْءٍ مِمَّا طَلَبَ لِتَحْصِينِهِ بِلَادَهُ، وَإِنَّ ثَغْرَ أَرْمِينِيَّةَ قَدْ حَصَّنَهُ، فَصَارَ يَكْتَفِي بِالْعَدَدِ الْيَسِيرِ، فَقَصَدَهُ خَاقَانُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَعَادَ خَائِبًا، وَهَذَا خَاقَانُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ وِرْدَ مَلِكِ الْهَيَاطِلَةِ وَأَخَذَ كَثِيرًا مِنْ بِلَادِهِمْ. ذِكْرُ مُلْكِ كِسْرَى بِلَادَ الرُّومِ كَانَ بَيْنَ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ وَبَيْنَ غَطْيَانُوسْ مَلِكِ الرُّومِ هُدْنَةٌ، فَوَقَعَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ، كَانَ مَلَّكَهُ غَطْيَانُوسْ عَلَى عَرَبِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ خَالِدُ بْنُ جَبَلَةَ، وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ لَخْمٍ كَانَ مَلَّكَهُ كِسْرَى عَلَى عُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَامَةِ إِلَى الطَّائِفِ وَسَائِرِ الْحِجَازِ يُقَالُ لَهُ الْمُنْذِرُ بْنُ النُّعْمَانِ، فِتْنَةٌ، فَأَغَارَ خَالِدٌ عَلَى ابْنِ النُّعْمَانِ، فَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَغَنِمَ أَمْوَالَهُ ; فَكَتَبَ كِسْرَى إِلَى غَطْيَانُوسْ يُذَكِّرُهُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَهْدِ وَالصُّلْحِ وَيُعْلِمُهُ مَا لَقِيَ الْمُنْذِرُ مِنْ خَالِدٍ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَأْمُرَ خَالِدًا بِرَدِّ مَا غَنِمَ إِلَى الْمُنْذِرِ، وَيَدْفَعَ لَهُ دِيَةَ مَنْ قَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَيُنْصِفَهُ مِنْ خَالِدٍ، وَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ يَنْقُضُ الصُّلْحَ. وَوَالَى الْكُتُبَ إِلَى غَطْيَانُوسْ فِي إِنْصَافِ الْمُنْذِرِ، فَلَمْ يَحْفِلْ بِهِ.

فَاسْتَعَدَّ كِسْرَى وَغَزَا بِلَادَ غَطْيَانُوسْ فِي بِضْعَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا، وَكَانَ طَرِيقُهُ عَلَى الْجَزِيرَةِ، فَأَخَذَ مَدِينَةَ دَارَا وَمَدِينَةَ الرُّهَاءِ، وَعَبَرَ إِلَى الشَّامِ فَمَلَكَ مَنْبِجَ وَحَلَبَ وَأَنْطَاكِيَّةَ، وَكَانَتْ أَفْضَلَ مَدَائِنِ الشَّامِ وَفَامِيَّةَ وَحِمْصَ وَمُدُنًا كَثِيرَةً مُتَاخِمَةً لِهَذِهِ الْمَدَائِنِ عَنْوَةً، وَاحْتَوَى كُلَّ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْعُرُوضِ، وَسَبَى أَهْلَ مَدِينَةِ أَنْطَاكِيَّةَ وَنَقَلَهُمْ إِلَى أَرْضِ السَّوَادِ، وَأَمَرَ فَبُنِيَتْ لَهُمْ مَدِينَةٌ إِلَى جَانِبِ مَدِينَةِ طَيْسَفُونَ عَلَى بِنَاءِ مَدِينَةِ أَنْطَاكِيَّةَ وَأَسْكَنَهُمْ إِيَّاهَا، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الرُّومِيَّةُ، وَكَوَّرَ لَهَا خَمْسَةَ طَسَاسِيجَ: طَسُّوجُ النَّهْرَوَانِ الْأَعْلَى، وَطَسُّوجُ النَّهْرَوَانِ الْأَوْسَطُ، وَطَسُّوجُ النَّهْرَوَانِ الْأَسْفَلُ، وَطَسُّوجُ بَادَرَايَا، وَطَسُّوجُ بَاكُسَايَا، وَأَجْرَى عَلَى السَّبْيِ الَّذِينَ نَقَلَهُمْ إِلَيْهَا مِنْ أَنْطَاكِيَّةَ الْأَرْزَاقَ، وَوَلَّى الْقِيَامَ بِأَمْرِهِمْ رَجُلًا مِنْ نَصَارَى الْأَهْوَازِ لِيَسْتَأْنِسُوا بِهِ لِمُوَافَقَتِهِ عَلَى الدِّينِ. وَأَمَّا سَائِرُ مُدُنِ الشَّامِ وَمُضَرَ فَإِنَّ غَطْيَانُوسْ ابْتَاعَهَا مِنْ كِسْرَى بِأَمْوَالٍ عَظِيمَةٍ حَمَلَهَا إِلَيْهِ، وَضَمِنَ لَهُ فِدْيَةً يَحْمِلُهَا إِلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ عَلَى أَنْ لَا يَغْزُوَ بِلَادَهُ، فَكَانُوا يَحْمِلُونَهَا كُلَّ عَامٍ. وَسَارَ أَنُوشِرْوَانُ مِنَ الرُّومِ إِلَى الْخَزَرِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ وَغَنِمَ وَأَخَذَ مِنْهُمْ بِثَأْرِ رَعِيَّتِهِ، ثُمَّ قَصَدَ الْيَمَنَ فَقَتَلَ فِيهَا وَغَنِمَ، وَعَادَ إِلَى الْمَدَائِنِ وَقَدْ مَلَكَ مَا دُونَ هِقْلَةَ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَحْرَيْنِ وَعُمَانَ. وَمَلَّكَ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ عَلَى الْحِيرَةِ وَأَكْرَمَهُ، وَسَارَ نَحْوَ الْهَيَاطِلَةِ لِيَأْخُذَ بِثَأْرِ جَدِّهِ فَيْرُوزَ، وَكَانَ أَنُوشِرْوَانُ قَدْ صَاهَرَ خَاقَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَدَخَلَ كِسْرَى بِلَادَهُمْ فَقَتَلَ مَلِكُهُمْ، وَاسْتَأْصَلَ أَهْلَ بَيْتِهِ، وَتَجَاوَزَ بَلْخَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَأَنْزَلَ جُنُودَهُ فَرْغَانَةَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَغَزَا الْبُرْجَانَ ثُمَّ رَجَعَ وَأَرْسَلَ جُنْدَهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَتَلُوا الْحَبَشَةَ وَمَلَكُوا الْبِلَادَ. وَكَانَ مُلْكُهُ ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَكَانَ مَوْلِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ مُلْكِهِ.

وَقِيلَ: وُلِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَبُو رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مَضَتْ مِنْ مُلْكِ أَنُوشِرْوَانَ، وَوُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِنْ مُلْكِهِ. قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: مَلَكَ الْعَرَبَ مِنْ قِبَلِ مُلُوكِ الْفُرْسِ بَعْدَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَخُوهُ الْمُنْذِرُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ النُّعْمَانِ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ النُّعْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ أَبُو يَعْفُرَ بْنُ عَلْقَمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيٍّ اللَّخْمِيُّ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ الْمُنْذِرُ بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ الْبَدْءِ وَلُقِّبَ ذَا الْقَرْنَيْنِ لِضَفِيرَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ، وَأُمُّهُ مَاءُ السَّمَاءِ، وَهِيَ مَاوِيَّةُ ابْنَةُ عَمْرِو بْنِ جُشَمَ بْنِ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ، تِسْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ ابْنُهُ عَمْرُو بْنُ الْمُنْذِرِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَ: وَلِثَمَانِي سِنِينَ وَثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وِلَايَتِهِ وُلِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ أَيَّامَ أَنُوشِرْوَانَ عَامَ الْفِيلِ. فَلَمَّا دَانَتْ لِكِسْرَى بِلَادُ الْيَمَنِ وَجَّهَ إِلَى سَرَنْدِيبَ مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ، وَهِيَ أَرْضُ الْجَوْهَرِ، قَائِدًا مِنْ قُوَّادِهِ مِنْ جُنْدٍ كَثِيفٍ، فَقَاتَلَ مَلِكَهَا، فَقَتَلَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَحَمَلَ إِلَى كِسْرَى مِنْهَا أَمْوَالًا عَظِيمَةً وَجَوَاهِرَ كَثِيرَةً. وَلَمْ يَكُنْ بِبِلَادِ فَارِسَ بَنَاتُ آوَى، فَجَاءَتْ إِلَيْهَا مِنْ بِلَادِ التُّرْكِ فِي مُلْكِ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ، فَشَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَأَحْضَرَ مُوبَذَانْ مُوبَذْ وَقَالَ لَهُ: قَدْ بَلَغَنَا تَسَاقُطُ هَذِهِ السِّبَاعِ إِلَى بِلَادِنَا وَقَدْ تَعَاظَمْنَا ذَلِكَ، فَأَخْبِرْنَا بِرَأْيِكَ فِيهَا. فَقَالَ: سَمِعْتُ فُقَهَاءَنَا يَقُولُونَ: مَتَى لَمْ يَغْلِبِ الْعَدْلُ الْجَوْرَ فِي الْبِلَادِ بَلْ جَارَ أَهْلُهَا، غَزَاهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ وَأَتَاهُمْ مَا يَكْرَهُونَ. فَلَمْ يَلْبَثْ كِسْرَى أَنْ أَتَاهُ أَنَّ فِتْيَانًا مِنَ التُّرْكِ قَدْ غَزَوْا أَقْصَى بِلَادِهِ، فَأَمَرَ وُزَرَاءَهُ وَعُمَّالَهُ أَنْ

لَا يَتَعَدُّوا فِيمَا هُمْ بِسَبِيلِهِ الْعَدْلَ، وَلَا يَعْمَلُوا فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا بِهِ، فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ، فَصَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ الْعَدُوَّ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ أَنُوشِرْوَانُ بِأَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ كَانَتْ أَرْمِينِيَّةُ وَأَذْرَبِيجَانُ بَعْضُهَا لِلرُّومِ وَبَعْضُهَا لِلْخَزَرِ، فَبَنَى قُبَاذُ سُورًا مِمَّا يَلِي بَعْضَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَمَلَكَ ابْنُهُ أَنُوشِرْوَانُ وَقَوِيَ أَمْرُهُ وَغَزَا فَرْغَانَةَ وَالْبُرْجَانَ، وَعَادَ بَنَى الشَّابَرَانَ وَمَدِينَةَ مَسْقَطَ وَمَدِينَةَ الْبَابِ وَالْأَبْوَابَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ أَبْوَابًا لِأَنَّهَا بُنِيَتْ عَلَى طَرِيقٍ فِي الْجَبَلِ، وَأَسْكَنَ الْمُدُنَ قَوْمًا سَمَّاهُمُ السَّيَاسَجِينَ، وَبَنَى غَيْرَ هَذِهِ الْمُدُنِ، وَبَنَى لِكُلِّ بَابٍ قَصْرًا مِنْ حِجَارَةٍ، وَبَنَى بِأَرْضِ جُرْزَانَ مَدِينَةَ سَغْدَبِيلَ وَأَنْزَلَهَا السُّغْدَ وَأَبْنَاءَ فَارِسَ، وَبَنَى بَابَ اللَّانِ، وَفَتَحَ جَمِيعَ مَا كَانَ بِأَرْضِ الرُّومِ مِنْ أَرْمِينِيَّةَ، وَعَمَّرَ مَدِينَةَ أَرْدَبِيلَ وَعِدَّةَ حُصُونٍ، وَكَتَبَ إِلَى مَلِكِ التُّرْكِ يَسْأَلُهُ الْمُوَادَعَةَ وَالِاتِّفَاقَ وَيَخْطُبُ إِلَيْهِ ابْنَتَهُ، وَرَغِبَ فِي صِهْرِهِ، وَتَزَوَّجَ كُلُّ وَاحِدٍ بِابْنَةِ الْآخَرِ. فَأَمَّا كِسْرَى فَإِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى خَاقَانَ مَلِكِ التُّرْكِ بِنْتًا كَانَتْ قَدْ تَبَنَّتْهَا بَعْضُ نِسَائِهِ وَذَكَرَ أَنَّهَا ابْنَتُهُ، وَأَرْسَلَ مَلِكُ التُّرْكِ ابْنَتَهُ، وَاجْتَمَعَا، فَأَمَرَ أَنُوشِرْوَانُ جَمَاعَةً مِنْ ثِقَاتِهِ أَنْ يَكْبِسُوا طَرَفًا مِنْ عَسْكَرِ التُّرْكِ وَيُحْرِقُوا فِيهِ، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا شَكَا مَلِكُ التُّرْكِ ذَلِكَ، فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ بَعْدَ لَيَالٍ، فَضَجَّ التُّرْكِيُّ، فَرَفُقَ بِهِ أَنُوشِرْوَانُ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ أَنُوشِرْوَانُ أَنْ تُلْقَى النَّارُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ عَسْكَرِهِ فِيهَا أَكْوَاخٌ مِنْ حَشِيشٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ شَكَا إِلَى التُّرْكِيِّ، قَالَ: كَافَأْتَنِي بِالتُّهْمَةِ! فَحَلَفَ التُّرْكِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ أَنُوشِرْوَانُ لَهُ: إِنَّ جُنْدَنَا قَدْ كَرِهُوا صُلْحَنَا لِانْقِطَاعِ الْعَطَاءِ وَالْغَارَاتِ، وَلَا آمَنُ أَنْ يُحْدِثُوا حَدَثًا يُفْسِدُ قُلُوبَنَا فَنَعُودَ إِلَى الْعَدَاوَةِ، وَالرَّأْيُ أَنْ تَأْذَنَ لِي فِي بِنَاءِ سُورٍ يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ نَجْعَلُ عَلَيْهِ أَبْوَابًا فَلَا يَدْخُلُ إِلَيْكَ إِلَّا مَنْ تُرِيدُهُ وَلَا يَدْخُلُ إِلَيْنَا إِلَّا مَنْ نُرِيدُهُ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ. وَبَنَى أَنُوشِرْوَانُ السُّورَ مِنَ الْبَحْرِ وَأَلْحَقَهُ بِرُءُوسِ الْجِبَالِ، وَعَمِلَ عَلَيْهِ أَبْوَابَ الْحَدِيدِ وَوَكَّلَ بِهِ مَنْ يَحْرُسُهُ. فَقِيلَ لِمَلِكِ التُّرْكِ: إِنَّهُ خَدَعَكَ وَزَوَّجَكَ غَيْرَ ابْنَتِهِ

وَتَحَصَّنَ مِنْكَ فَلَمْ تَقْدِرْ لَهُ عَلَى حِيلَةٍ. وَمَلَّكَ أَنُوشِرْوَانُ مُلُوكًا رَتَّبَهُمْ عَلَى النَّوَاحِي، فَمِنْهُمْ صَاحِبُ السَّرِيرِ، وَفِيلَانْ شَاهْ، وَاللَّكْزُ وَمَسْقَطُ وَغَيْرُهَا، وَلَمْ تَزَلْ أَرْمِينِيَّةُ بِأَيْدِي الْفُرْسِ حَتَّى ظَهَرَ الْإِسْلَامُ، فَرَفَضَ كَثِيرٌ مِنَ السَّيَاسَجِينُ حُصُونَهُمْ وَمَدَائِنَهُمْ حَتَّى خُرِّبَتْ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْخَزَرُ وَالرُّومُ، وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ كَذَلِكَ. ذِكْرُ أَمْرِ الْفِيلِ لَمَا دَامَ مُلْكُ أَبْرَهَةَ بِالْيَمَنِ وَتَمَكَّنَ بِهِ، بَنَى الْقُلَّيْسَ بِصَنْعَاءَ، وَهِيَ كَنِيسَةٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فِي زَمَانِهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ: إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ كَنِيسَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَلَسْتُ بِمُنْتَهٍ حَتَّى أَصْرِفَ إِلَيْهَا حَاجَّ الْعَرَبِ. فَلَمَّا تَحَدَّثَتِ الْعَرَبُ بِذَلِكَ غَضِبَ رَجُلٌ مِنَ النَّسَأَةِ مِنْ بَنِي فُقَيْمٍ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَاهَا فَقَعَدَ فِيهَا وَتَغَوَّطَ، ثُمَّ لَحِقَ بِأَهْلِهِ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبْرَهَةُ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ فِعْلُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، الَّذِي تَحُجُّهُ الْعَرَبُ بِمَكَّةَ، غَضِبَ لَمَّا سَمِعَ أَنَّكَ تُرِيدُ صَرْفَ الْحُجَّاجِ عَنْهُ فَفَعَلَ هَذَا. فَغَضِبَ أَبْرَهَةُ وَحَلَفَ لَيَسِيرَنَّ إِلَى الْبَيْتِ فَيَهْدِمَهُ، وَأَمَرَ الْحَبَشَةَ فَتَجَهَّزَتْ، وَخَرَجَ مَعَهُ بِالْفِيلِ وَاسْمُهُ مَحْمُودُ.

وَقِيلَ: كَانَ مَعَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فِيلًا وَهِيَ تَتْبَعُ مَحْمُودًا، وَإِنَّمَا وَحَّدَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - الْفِيلَ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ كَبِيرَهَا مَحْمُودًا، وَقِيلَ فِي عَدَدِهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ. فَلَمَّا سَارَ سَمِعَتِ الْعَرَبُ بِهِ، فَأَعْظَمُوهُ وَرَأَوْا جِهَادَهُ حَقًّا عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ ذُو نَفَرٍ وَقَاتَلَهُ، فَهُزِمَ ذُو نَفَرٍ وَأُخِذَ أَسِيرًا، فَأَرَادَ قَتْلَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ مَحْبُوسًا عِنْدَهُ، ثُمَّ مَضَى عَلَى وَجْهِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ فَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ نُفَيْلٌ وَأُخِذَ أَسِيرًا، فَضَمِنَ لِأَبْرَهَةَ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَتَرَكَهُ وَسَارَ حَتَّى إِذَا مَرَّ عَلَى الطَّائِفِ بَعَثَتْ مَعَهُ ثَقِيفٌ أَبَا رِغَالٍ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ حَتَّى أَنْزَلَهُ بِالْمُغَمَّسِ، فَلَمَّا نَزَلَهُ مَاتَ أَبُو رِغَالٍ، فَرَجَمَتِ الْعَرَبُ قَبْرَهُ، فَهُوَ الْقَبْرُ الَّذِي يُرْجَمُ. وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ الْأَسْوَدَ بْنَ مَقْصُودٍ إِلَى مَكَّةَ، فَسَاقَ أَمْوَالَ أَهْلِهَا وَأَصَابَ فِيهَا مِائَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ أَبْرَهَةُ حَنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إِلَى مَكَّةَ فَقَالَ: سَلْ عَنْ سَيِّدِ قُرَيْشٍ وَقُلْ لَهُ: إِنِّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ إِنَّمَا جِئْتُ لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ، فَإِنْ لَمْ تَمْنَعُوا عَنْهُ فَلَا حَاجَةَ لِي بِقِتَالِكُمْ. فَلَمَّا بَلَّغَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ مَا أَمَرَهُ قَالَ لَهُ: وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ، هَذَا بَيْتُ اللَّهِ وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنْ يَمْنَعْهُ يَمْنَعْ بَيْتَهُ وَحَرَمَهُ، وَإِنْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ دَفْعٍ، فَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ مَعِي إِلَى الْمَلِكِ. فَانْطَلَقَ مَعَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَتَّى أَتَى الْعَسْكَرَ، فَسَأَلَ عَنْ ذِي نَفَرٍ، وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا، فَدُلَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي مَحْبِسِهِ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكَ غَنَاءٌ فِيمَا نَزَلَ بِنَا؟ فَقَالَ: وَمَا غَنَاءُ رَجُلٍ أَسِيرٍ بِيَدَيْ مَلِكٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْتُلَهُ؟ وَلَكِنْ أَنِيسٌ سَائِسُ الْفِيلِ صَدِيقٌ لِي فَأُوصِيهِ بِكَ وَأُعَظِّمُ حَقَّكَ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَكَ عَلَى الْمَلِكِ، فَتُكَلِّمَهُ بِمَا تُرِيدُ، وَيَشْفَعَ لَكَ عِنْدَهُ إِنْ قَدَرَ. قَالَ: حَسْبِي. فَبَعَثَ ذُو نَفَرٍ إِلَى أُنَيْسٍ، فَحَضَرَهُ وَأَوْصَاهُ بِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ سَيِّدُ قُرَيْشٍ. فَكَلَّمَ أُنَيْسٌ أَبْرَهَةَ وَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ يَسْتَأْذِنُ، فَأَذِنَ لَهُ. وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَجُلًا عَظِيمًا وَسِيمًا، فَلَمَّا رَآهُ أَبْرَهَةُ أَجَلَّهُ وَأَكْرَمَهُ وَنَزَلَ

عَنْ سَرِيرِهِ إِلَيْهِ وَجَلَسَ مَعَهُ عَلَى بِسَاطٍ وَأَجْلَسَهُ إِلَى جَنْبِهِ وَقَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ مَا حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ لَهُ التُّرْجُمَانُ ذَلِكَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي. فَقَالَ أَبْرَهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ قَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، ثُمَّ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي، أَتُكَلِّمُنِي فِي إِبِلِكَ، وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ قَدْ جِئْتُ لِهَدْمِهِ؟ . قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ وَلِلْبَيْتِ رَبٌّ يَمْنَعُهُ. قَالَ: مَا كَانَ لِيَمْنَعَ مِنِّي، وَأَمَرَ بِرَدِّ إِبِلِهِ، فَلَمَّا أَخَذَهَا قَلَّدَهَا وَجَعَلَهَا هَدْيًا، وَبَثَّهَا فِي الْحَرَامِ لِكَيْ يُصَابَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَغْضَبَ اللَّهُ. وَانْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ وَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ، وَالتَّحَرُّزِ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ خَوْفًا مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ، ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ الْكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى أَبْرَهَةَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ: يَا رَبِّ لَا أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا ... يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكَا. إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا امْنَعْهُمْ أَنْ يُخَرِّبُوا قُرَاكَا. وَقَالَ أَيْضًا: لَاهُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ يَمْنَعُ ... رَحْلَهُ فَامْنَعْ حَلَالَكْ لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ ... وَمِحَالُهُمْ غَدْرًا مِحَالَكْ

وَلَئِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ تُتِمُّ بِهِ فِعَالَكْ ... أَنْتَ الَّذِي إِنْ جَاءَ بَا غٍ نَرْتَجِيكَ لَهُ كَذَلِكْ ... وَلَّوْا وَلَمْ يَحْوُوا سِوَى خِزْيٍ وَتُهْلِكُهُمْ هُنَالِكْ ... لَمْ أَسْتَمِعْ يَوْمًا بِأَرْجَسَ مِنْهُمُ يَبْغُوا قِتَالَكْ ... جَرُّوا جُمُوعَ بِلَادِهِمْ وَالْفِيلَ كَيْ يَسْبُوا عِيَالَكْ ... عَمَدُوا حِمَاكَ بِكَيْدِهِمْ جَهْلًا وَمَا رَقَبُوا جَلَالَكْ ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَلْقَةَ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَانْطَلَقَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى شَعَفِ الْجِبَالِ، فَتَحَرَّزُوا بِهَا يَنْتَظِرُونَ مَا يَفْعَلُ أَبْرَهَةُ بِمَكَّةَ إِذَا دَخَلَ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبْرَهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَهَيَّأَ فِيلَهُ، وَكَانَ اسْمُهُ مَحْمُودًا، وَأَبْرَهَةُ مُجْمِعٌ لِهَدْمِ الْبَيْتِ وَالْعَوْدِ إِلَى الْيَمَنِ، فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ أَقْبَلَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ فَمَسَكَ بِأُذُنِهِ وَقَالَ: ارْجِعْ مَحْمُودُ، ارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْتَ فَإِنَّكَ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ! ثُمَّ أَرْسَلَ أُذُنَهُ، فَأَلْقَى الْفِيلُ نَفْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ وَاشْتَدَّ نُفَيْلٌ فَصَعِدَ الْجَبَلَ، فَضَرَبُوا الْفِيلَ، فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَامَ يُهَرْوِلُ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ فَفَعَلَ كَذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ. وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ مِنَ الْبَحْرِ، أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ، مَعَ كُلِّ طَيْرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ تَحْمِلُهَا، حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، فَقَذَفَتْهُمْ بِهَا وَهِيَ مِثْلُ الْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ لَا تُصِيبُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا هَلَكَ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَتْ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ سَيْلًا أَلْقَاهُمْ فِي الْبَحْرِ وَخَرَجَ مَنْ سَلِمَ مَعَ أَبْرَهَةَ هَارِبًا يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ الَّذِي جَاءُوا مِنْهُ وَيَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلِ بْنِ حَبِيبٍ لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ نُفَيْلٌ حِينَ رَأَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ نِقْمَتِهِ: أَيْنَ الْمَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبْ ... وَالْأَشْرَمُ الْمَغْلُوبُ غَيْرُ الْغَالِبْ وَقَالَ أَيْضًا:

أَلَا حُيِّيتَ عَنَّا يَا رُدَيْنَا ... نَعِمْنَاكُمْ مِعَ الْإِصْبَاحِ عَيْنَا أَتَانَا قَابِسٌ مِنْكُمْ عِشَاءً ... فَلَمْ يُقْدَرْ لِقَابِسِكُمْ لَدَيْنَا رُدَيْنَةُ لَوْ رَأَيْتِ وَلَمْ تَرَيْهِ ... لَدَى جَنْبِ الْمُحَصَّبِ مَا رَأَيْنَا إِذًا لَعَذَرْتِنِي وَحَمِدْتِ رَأْيِي ... وَلَمْ تَأْسَيْ لِمَا قَدْ فَاتَ بَيْنَا حَمِدْتُ اللَّهَ إِذْ عَايَنْتُ طَيْرًا ... وَخِفْتُ حِجَارَةً تُلْقَى عَلَيْنَا وَكُلُّ الْقَوْمِ يَسْأَلُ عَنْ نُفَيْلٍ ... كَأَنَّ عَلَيَّ لِلْحُبْشَانِ دَيْنَا وَأُصِيبَ أَبْرَهَةُ فِي جَسَدِهِ فَسَقَطَتْ أَعْضَاؤُهُ عُضْوًا عُضْوًا، حَتَّى قَدِمُوا بِهِ صَنْعَاءَ وَهُوَ مِثْلُ الْفَرْخِ، فَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ. فَلَمَّا هَلَكَ مَلَكَ ابْنُهُ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَذَلَّتْ حِمْيَرُ وَالْيَمَنُ لَهُ، وَنَكَحَتِ الْحَبَشَةُ نِسَاءَهُمْ وَقَتَلُوا رِجَالَهُمْ وَاتَّخَذُوا أَبْنَاءَهُمْ تَرَاجِمَةً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَرَبِ. وَلَمَّا أَهْلَكَ اللَّهُ الْحَبَشَةَ، وَعَادَ مَلِكُهُمْ وَمَعَهُ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ، وَنَزَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مِنَ الْغَدِ إِلَيْهِمْ لِيَنْظُرَ مَا يَصْنَعُونَ وَمَعَهُ أَبُو مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ لَمْ يَسْمَعَا حِسًّا، فَدَخَلَا مُعَسْكَرَهُمْ فَرَأَيَا الْقَوْمَ هَلْكَى، فَاحْتَفَرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حُفْرَتَيْنِ مَلْأَهُمَا ذَهَبًا وَجَوْهَرًا لَهُ وَلِأَبِي مَسْعُودٍ وَنَادَى فِي النَّاسِ، فَتَرَاجَعُوا فَأَصَابُوا مِنْ فَضْلِهِمَا شَيْئًا كَثِيرًا، فَبَقِيَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي غِنًى مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ حَتَّى مَاتَ. وَبَعَثَ اللَّهُ السَّيْلَ فَأَلْقَى الْحَبَشَةَ فِي الْبَحْرِ، وَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ الْحَبَشَةَ عَنِ الْكَعْبَةِ

وَأَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ عَظَّمَتِ الْعَرَبُ قُرَيْشًا، وَقَالُوا: أَهْلُ اللَّهِ قَاتَلَ عَنْهُمْ. ثُمَّ مَاتَ يَكْسُومُ وَمَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ مَسْرُوقٌ. ذِكْرُ عَوْدِ الْيَمَنِ إِلَى حِمْيَرَ وَإِخْرَاجِ الْحَبَشَةِ عَنْهُ لَمَّا هَلَكَ يَكْسُومُ مَلَكَ الْيَمَنَ أَخُوهُ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةُ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ وَهْرِزُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ خَرَجَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنٍ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو مُرَّةَ، وَقِيلَ: كُنْيَةُ ذِي يَزَنٍ أَبُو مُرَّةَ، حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَيْصَرَ، وَتَنَكَّبَ كِسْرَى لِإِبْطَائِهِ عَنْ نَصْرِ أَبِيهِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَصَدَ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ لَمَّا أُخِذَتْ زَوْجَتُهُ يَسْتَنْصِرُهُ عَلَى الْحَبَشَةِ، فَوَعَدَهُ، فَأَقَامَ ذُو يَزَنٍ عِنْدَهُ، فَمَاتَ عَلَى بَابِهِ. وَكَانَ ابْنُهُ سَيْفٌ مَعَ أُمِّهِ فِي حِجْرِ أَبْرَهَةَ، وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ ابْنُهُ، فَسَبَّهُ وَلَدُ أَبْرَهَةَ وَسَبَّ أَبَاهُ فَسَأَلَ أُمَّهُ عَنْ أَبِيهِ فَأَعْلَمَتْهُ خَبَرَهُ بَعْدَ مُرَاجَعَةٍ بَيْنَهُمَا، فَأَقَامَ حَتَّى مَاتَ أَبْرَهَةُ وَابْنُهُ يَكْسُومُ. ثُمَّ سَارَ إِلَى الرُّومِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَ مَلِكِهِمْ مَا يُحِبُّ لِمُوَافَقَتِهِ الْحَبَشَةَ فِي الدِّينِ، فَعَادَ إِلَى كِسْرَى، فَاعْتَرَضَهُ يَوْمًا وَقَدْ رَكِبَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي عِنْدَكَ مِيرَاثًا، فَدَعَا بِهِ كِسْرَى لَمَّا نَزَلَ فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ وَمَا مِيرَاثُكَ؟ قَالَ: أَنَا ابْنُ الشَّيْخِ الْيَمَانِيِّ الَّذِي وَعَدْتَهُ النُّصْرَةَ فَمَاتَ بِبَابِكَ، فَتِلْكَ الْعِدَةُ حَقٌّ لِي وَمِيرَاثٌ. فَرَقَّ كِسْرَى لَهُ وَقَالَ لَهُ: بَعُدَتْ بِلَادُكَ عَنَّا وَقَلَّ خَيْرُهَا وَالْمَسْلَكُ إِلَيْهَا وَعْرٌ وَلَسْتُ أُغَرِّرُ بِجَيْشِي. وَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ، فَخَرَجَ وَجَعَلَ يَنْثُرُ الدَّرَاهِمَ، فَانْتَهَبَهَا النَّاسُ، فَسَمِعَ كِسْرَى فَسَأَلَهُ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: لَمْ آتِكَ لِلْمَالِ وَإِنَّمَا جِئْتُكَ لِلرِّجَالِ وَلِتَمْنَعَنِي مِنَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ، وَإِنَّ جِبَالَ بِلَادِنَا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ. فَأُعْجِبَ كِسْرَى بِقَوْلِهِ وَقَالَ: يَظُنُّ الْمِسْكِينُ أَنَّهُ أَعْرَفُ بِبِلَادِهِ مِنِّي، وَاسْتَشَارَ وُزَرَاءَهُ فِي تَوْجِيهِ الْجُنْدِ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوبَذَانْ مُوبَذْ: أَيُّهَا الْمَلِكُ: إِنَّ لِهَذَا الْغُلَامِ حَقًّا بِنُزُوعِهِ إِلَيْكَ وَمَوْتِ أَبِيهِ بِبَابِكَ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِدَتِهِ بِالنُّصْرَةِ، وَفِي سُجُونِكَ رِجَالٌ ذَوُو نَجْدَةٍ وَبَأْسٍ فَلَوْ أَنَّ الْمَلِكَ وَجَّهَهُمْ مَعَهُ فَإِنْ أَصَابُوا ظَفَرًا كَانَ لِلْمَلِكِ، وَإِنْ هَلَكُوا فَقَدِ اسْتَرَاحَ وَأَرَاحَ أَهْلَ مَمْلَكَتِهِ مِنْهُمْ. فَقَالَ كِسْرَى: هَذَا الرَّأْيُ. فَأَمَرَ بِمَنْ فِي السُّجُونِ، فَأُحْضِرُوا، فَكَانُوا ثَمَانِمِائَةٍ، فَقَوَّدَ عَلَيْهِمْ قَائِدًا مِنْ أَسَاوِرَتِهِ يُقَالُ لَهُ وَهْرِزُ.

وَقِيلَ: بَلْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّجُونِ سَخِطَ عَلَيْهِ كِسْرَى لِحَدَثٍ أَحْدَثَهُ فَحَبَسَهُ، وَكَانَ يَعْدِلُهُ بِأَلْفِ أَسْوَارٍ، وَأَمَرَ بِحَمْلِهِمْ فِي ثَمَانِي سُفُنٍ، فَرَكِبُوا الْبَحْرَ، فَغَرِقَتْ سَفِينَتَانِ وَخَرَجُوا بِسَاحِلِ حَضْرَمَوْتَ، وَلَحِقَ بِابْنِ ذِي يَزَنٍ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ مَسْرُوقٌ فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْحَبَشَةِ وَحِمْيَرَ وَالْأَعْرَابِ، وَجَعَلَ وَهْرِزُ الْبَحْرَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَأَحْرَقَ السُّفُنَ لِئَلَّا يَطْمَعَ أَصْحَابُهُ فِي النَّجَاةِ، وَأَحْرَقَ كُلَّ مَا مَعَهُمْ مِنْ زَادٍ وَكِسْوَةٍ إِلَّا مَا أَكَلُوا وَمَا عَلَى أَبْدَانِهِمْ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّمَا أَحْرَقْتُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَأْخُذَهُ الْحَبَشَةُ إِنْ ظَفِرُوا بِكُمْ، وَإِنْ نَحْنُ ظَفِرْنَا بِهِمْ فَسَنَأْخُذُ أَضْعَافَهُ، فَإِنْ كُنْتُمْ تُقَاتِلُونَ مَعِي وَتَصْبِرُونَ أَعْلَمْتُمُونِي ذَلِكَ، وَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَفْعَلُونَ اعْتَمَدْتُ عَلَى سَيْفِي حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي، فَانْظُرُوا مَا حَالُكُمْ إِذَا فَعَلَ رَئِيسُكُمْ هَذَا بِنَفْسِهِ. قَالُوا: بَلْ نُقَاتِلُ مَعَكَ حَتَّى نَمُوتَ أَوْ نَظْفَرَ. وَقَالَ لِسَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنٍ: مَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: مَا شِئْتَ مِنْ رَجُلٍ عَرَبِيٍّ وَسَيْفٍ عَرَبِيٍّ، ثُمَّ أَجْعَلُ رَجُلِي مَعَ رَجُلِكَ حَتَّى نَمُوتَ جَمِيعًا أَوْ نَظْفَرَ جَمِيعًا. قَالَ: أَنْصَفْتَ. فَجَمَعَ إِلَيْهِ سَيْفٌ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْ قَوْمِهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَحِقَهُ السَّكَاسِكَ مِنْ كِنْدَةَ، وَسَمِعَ بِهِمْ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ فَجَمَعَ إِلَيْهِ جُنْدَهُ، فَعَبَّأَ وَهْرِزُ أَصْحَابَهُ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُوتِرُوا قِسِيَّهُمْ، وَقَالَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالرَّمْيِ فَارْمُوا رَشْقًا. وَأَقْبَلَ مَسْرُوقٌ فِي جَمْعٍ لَا يُرَى طَرَفَاهُ، وَهُوَ عَلَى فِيلٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ، وَبَيْنَ عَيْنَيْهِ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ مِثْلُ الْبَيْضَةِ لَا يَرَى دُونَ الظَّفَرِ شَيْئًا. وَكَانَ وَهْرِزُ كَلَّ بَصَرُهُ، فَقَالَ: أَرُونِي عَظِيمَهُمْ. فَقَالَ: هَذَا صَاحِبُ الْفِيلِ، ثُمَّ رَكِبَ فَرَسًا، فَقَالُوا: رَكِبَ فَرَسًا، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى بَغْلَةٍ، فَقَالَ وَهْرِزُ: ذَلَّ وَذَلَّ مُلْكُهُ! وَقَالَ وَهْرِزُ: ارْفَعُوا لِي حَاجِبِي، وَكَانَ قَدْ سَقَطَا عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ، فَرَفَعُوهُمَا لَهُ بِعِصَابَةٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَشَّابَةً فِي كَبِدِ فَرَسِهِ وَقَالَ: أَشِيرُوا إِلَى مَسْرُوقٍ، فَأَشَارُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: سَأَرْمِيهِ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَصْحَابَهُ وُقُوفًا لَمْ يَتَحَرَّكُوا فَاثْبُتُوا حَتَّى أُؤْذِنَكُمْ، فَإِنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ الرَّجُلَ، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ قَدِ اسْتَدَارُوا وَلَاثُوا بِهِ فَقَدْ أَصَبْتُهُ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ. ثُمَّ رَمَاهُ فَأَصَابَ السَّهْمَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَرَمَى أَصْحَابُهُ، فَقُتِلَ مَسْرُوقٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَاسْتَدَارَتِ الْحَبَشَةُ بِمَسْرُوقٍ وَقَدْ سَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَحَمَلَتِ الْفُرْسُ عَلَيْهِمْ

فَلَمْ يَكُنْ دُونَ الْهَزِيمَةِ شَيْءٌ، وَغَنِمَ الْفُرْسُ مِنْ عَسْكَرِهِمْ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُحْصَى. وَقَالَ وَهْرِزُ: كُفُّوا عَنِ الْعَرَبِ وَاقْتُلُوا السُّودَانَ وَلَا تُبْقُوا مِنْهُمْ أَحَدًا. وَهَرَبَ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ الْتَفَتَ فَرَأَى فِي جُعْبَتِهِ نَشَّابَةً فَقَالَ: لِأُمِّكَ الْوَيْلُ! أَبُعْدٌ أَمْ طُولُ مَسِيرٍ! . وَسَارَ وَهْرِزُ حَتَّى دَخَلَ صَنْعَاءَ وَغَلَبَ عَلَى بِلَادِ الْيَمَنِ وَأَرْسَلَ عُمَّالَهُ فِي الْمَخَالِيفِ. وَكَانَ مُدَّةُ مُلْكِ الْحَبَشَةِ الْيَمَنَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، تَوَارَثَ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ مُلُوكٍ: أَرْيَاطُ، ثُمَّ أَبْرَهَةُ، ثُمَّ ابْنُهُ يَكْسُومُ، ثُمَّ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ، وَقِيلَ: كَانَ مُلْكُهُمْ نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. فَلَمَّا مَلَكَ وَهْرِزُ الْيَمَنَ، أَرْسَلَ إِلَى كِسْرَى يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَمْوَالٍ، وَكِتَبَ إِلَيْهِ كِسْرَى يَأْمُرُهُ أَنْ يُمَلِّكَ سَيْفَ بْنَ ذِي يَزَنٍ - وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: مَعْدِي كَرِبَ بْنَ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنٍ - عَلَى الْيَمَنِ وَأَرْضِهَا، وَفَرَضَ عَلَيْهِ كِسْرَى جِزْيَةً وَخَرَاجًا مَعْلُومًا فِي كُلِّ عَامٍ، فَمَلَّكَهُ وَهْرِزُ وَانْصَرَفَ إِلَى كِسْرَى، وَأَقَامَ سَيْفٌ عَلَى الْيَمَنِ مَلِكًا يَقْتُلُ الْحَبَشَةَ، وَيَبْقُرُ بُطُونَ الْحَبَالَى عَنِ الْحَمْلِ، وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلَ جَعَلَهُمْ خَوَلًا، فَاتَّخَذَ مِنْهُمْ جَمَّازِينَ يَسْعَوْنَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْحِرَابِ، فَمَكَثَ غَيْرَ كَثِيرٍ، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا وَالْحَبَشَةُ يَسْعَوْنَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِحِرَابِهِمْ فَضَرَبُوهُ بِالْحِرَابِ حَتَّى قَتَلُوهُ، فَكَانَ مُلْكُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَوَثَبَ بِهِمْ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ فَقَتَلَ بِالْيَمَنِ وَأَفْسَدَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ كِسْرَى بَعَثَ إِلَيْهِمْ وَهْرِزَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَأَمَرَهُ أَلَّا يَتْرُكَ بِالْيَمَنِ أَسْوَدَ وَلَا وَلَدَ عَرَبِيَّةٍ مِنْ أَسْوَدَ إِلَّا قَتَلَهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَلَا يَدَعَ رَجُلًا جَعْدًا قَطُّ شَرَكَ فِيهِ السُّودَانُ إِلَّا

قَتَلَهُ، وَأَقْبَلَ حَتَّى دَخَلَ الْيَمَنَ فَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ، وَكَتَبَ إِلَى كِسْرَى يُخْبِرُهُ، فَأَقَرَّهُ عَلَى مُلْكِ الْيَمَنِ، فَكَانَ يَجْبِيهَا لِكِسْرَى حَتَّى هَلَكَ، وَأَمَّرَ بَعْدَهُ كِسْرَى ابْنَهُ الْمَرْزُبَانَ بْنَ وَهْرِزَ حَتَّى هَلَكَ، ثُمَّ أَمَّرَ بَعْدَهُ كِسْرَى التَّيْنَجَانَ بْنَ الْمَرْزُبَانِ، ثُمَّ أَمَّرَ بَعْدَهُ خَرَّ خِسْرَهْ بْنَ التَّيْنَجَانِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ. ثُمَّ إِنَّ كِسْرَى أَبْرَوِيزَ غَضِبَ عَلَيْهِ فَأَحْضَرَهُ مِنَ الْيَمَنِ، فَلَمَّا قَدِمَ تَلَقَّاهُ رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْفُرْسِ فَأَلْقَى عَلَيْهِ سَيْفًا كَانَ لِأَبِي كِسْرَى، فَأَجَارَهُ كِسْرَى بِذَلِكَ مِنَ الْقَتْلِ وَعَزَلَهُ عَنِ الْيَمَنِ، وَبَعَثَ بَاذَانَ إِلَى الْيَمَنِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّ أَنُوشِرْوَانَ اسْتَعْمَلَ بَعْدَ وَهْرِزَ زَرِينَ، وَكَانَ مُسْرِفًا، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ قَتَلَ قَتِيلًا ثُمَّ سَارَ بَيْنَ أَوْصَالِهِ، فَمَاتَ أَنُوشِرْوَانُ وَهُوَ عَلَى الْيَمَنِ، فَعَزَلَهُ ابْنُهُ هُرْمُزُ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي وُلَاةِ الْيَمَنِ لِلْأَكَاسِرَةِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا لَمْ أَرَ لِذِكْرِهِ فَائِدَةً. ذِكْرُ مَا أَحْدَثَهُ قُرَيْشٌ بَعْدَ الْفِيلِ لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَصْحَابِ الْفِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَظُمَتْ قُرَيْشٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَقَالُوا لَهُمْ: أَهْلُ اللَّهِ وَقَطَنُهُ يُحَامِي عَنْهُمْ، فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ بَيْنَهَا وَقَالُوا: نَحْنُ بَنُو إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَهْلُ الْحَرَمِ وَوُلَاةُ الْبَيْتِ وَقَاطِنُو مَكَّةَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ مِثْلُ مَنْزِلَتِنَا، وَلَا يَعْرِفُ الْعَرَبُ لِأَحَدٍ مِثْلَ مَا يُعْرَفُ لَنَا، فَهَلُمُّوا فَلْنَتَّفِقْ عَلَى ائْتِلَافٍ أَنَّنَا لَا نُعَظِّمُ شَيْئًا مِنَ الْحِلِّ كَمَا يُعَظَّمُ الْحَرَمُ، فَإِنَّنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ اسْتَخَفَّتِ الْعَرَبُ بِنَا وَبِحَرَمِنَا وَقَالُوا: قَدْ عَظَّمَتْ قُرَيْشٌ مِنَ الْحِلِّ مِثْلَ مَا عَظَّمَتْ مِنَ الْحَرَمِ، فَتَرَكُوا الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَالْإِفَاضَةَ مِنْهَا، وَهُمْ يَعْرِفُونَ وَيُقِرُّونَ أَنَّهَا مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْحَجِّ وَدِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَرَوْنَ لِسَائِرِ الْعَرَبِ أَنْ

يَقِفُوا عَلَيْهَا وَأَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا. وَقَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا نُعَظِّمُ غَيْرَهُ، وَنَحْنُ الْحُمُسُ، وَأَصْلُ الْحَمَاسَةِ الشِّدَّةُ أَنَّهُمْ تَشَدَّدُوا فِي دِينِهِمْ، وَجَعَلُوا لِمَنْ وَلَدَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ سَاكِنِي الْحِلِّ مِثْلَ مَا لَهُمْ بِوِلَادَتِهِمْ، وَدَخَلَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ كِنَانَةُ وَخُزَاعَةُ وَعَامِرٌ لِوِلَادَةٍ لَهُمْ، ثُمَّ ابْتَدَعُوا فَقَالُوا: لَا يَنْبَغِي لِلْحُمُسِ أَنْ يَعْمَلُوا الْأَقِطَ، وَلَا يَسْلُأُوا السَّمْنَ وَهُمْ حُرُمٌ، وَلَا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ شَعْرٍ، وَلَا يَسْتَظِلُّوا إِلَّا بُيُوتَ الْأُدُمِ مَا كَانُوا حُرُمًا. وَقَالُوا: وَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْحِلِّ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ طَعَامٍ جَاءُوا بِهِ مَعَهُمْ مِنَ الْحِلِّ فِي الْحَرَامِ إِذَا جَاءُوا حُجَّاجًا أَوْ عُمَّارًا، وَلَا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ طَوَافَهُمْ إِذَا قَدِمُوا إِلَّا فِي ثِيَابِ الْحُمُسِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا طَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَإِنْ أَنِفَ أَحَدٌ مِنْ عُظَمَائِهِمْ أَنْ يَطُوفَ عُرْيَانًا إِذَا لَمْ يَجِدْ ثِيَابَ الْحُمُسِ فَطَافَ فِي ثِيَابِهِ أَلْقَاهَا إِذَا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ وَلَا يَمَسُّهَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهَا اللِّقَى. فَدَانَتِ الْعَرَبُ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَكَانُوا يَطُوفُونَ كَمَا شَرَعُوا لَهُمْ، وَيَتْرُكُونَ أَزْوَادَهُمُ الَّتِي جَاءُوا بِهَا مِنَ الْحِلِّ، وَيَشْتَرُونَ مِنْ طَعَامِ الْحَرَمِ وَيَأْكُلُونَهُ. هَذَا فِي الرِّجَالِ. وَأَمَّا النِّسَاءُ فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَضَعُ ثِيَابَهَا كُلَّهَا إِلَّا دِرْعَهَا مُفْرَجًا ثُمَّ تَطُوفُ فِيهِ وَتَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أَحِلُّهُ فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَسَخَهُ، فَأَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَطَافَ الْحُجَّاجُ بِالثِّيَابِ الَّتِي مَعَهُمْ مِنَ الْحِلِّ، وَأَكَلُوا مِنْ طَعَامِ الْحِلِّ، فِي الْحَرَمِ أَيَّامَ الْحَجِّ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] ، أَرَادَ بِالنَّاسِ الْعَرَبَ، أَمَرَ قُرَيْشًا أَنْ يُفِيضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي اللِّبَاسِ وَالطَّعَامِ الَّذِي مِنَ الْحِلِّ وَتَرْكَهُمْ إِيَّاهُ فِي الْحَرَمِ: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف: 31]- إِلَى قَوْلِهِ -: (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) . ذِكْرُ حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ وَالْأَحْلَافِ

قَدْ ذَكَرْنَا مَا كَانَ قُصَيٌّ أَعْطَى وَلَدَهُ عَبْدَ الدَّارِ مِنَ الْحِجَابَةِ وَالسِّقَايَةِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّدْوَةِ وَاللِّوَاءِ، ثُمَّ إِنَّ هَاشِمًا وَعَبْدَ شَمْسٍ وَالْمُطَّلِبَ وَنَوْفَلًا بَنِي عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ رَأَوْا أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ لِشَرَفِهِمْ عَلَيْهِمْ وَلِفَضْلِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ، وَأَرَادُوا أَخْذَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَتَفَرَّقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ قُرَيْشٌ، كَانَتْ طَائِفَةٌ مَعَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَطَائِفَةٌ مَعَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ مَا كَانَ قُصَيٌّ جَعَلَهُ لَهُمْ ; إِذْ كَانَ أَمْرُ قُصَيٍّ فِيهِمْ شَرْعًا مُتَّبَعًا مَعْرِفَةً مِنْهُمْ لِفَضْلِهِ تَيَمُّنًا بِأَمْرِهِ. وَكَانَ صَاحِبُ أَمْرِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ الَّذِي قَامَ فِي الْمَنْعِ عَنْهُمْ عَامِرُ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، فَاجْتَمَعَ بَنُو أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَبَنُو زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ، وَبَنُو تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ، وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ مَعَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَاجْتَمَعَ بَنُو مَخْزُومٍ، وَبَنُو سَهْمٍ، وَبَنُو جُمَحٍ، وَبَنُو عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ مَعَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَخَرَجَتْ عَامِرُ بْنُ لُؤَيٍّ وَمُحَارِبُ بْنُ فِهْرٍ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُونُوا مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَعَقَدَ كُلُّ طَائِفَةٍ بَيْنَهُمْ حِلْفًا مُؤَكَّدًا عَلَى أَنْ لَا يَتَخَاذَلُوا وَلَا يُسْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَا بَلَّ بَحْرٌ صُوفَةً، فَأَخْرَجَتْ بَنُو عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً طِيبًا، قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَخْرَجَتْهَا لَهُمْ، فَوَضَعُوهَا فِي الْمَسْجِدِ وَغَمَسُوا أَيْدِيَهُمْ فِيهَا وَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا، وَمَسَحُوا الْكَعْبَةَ بِأَيْدِيهِمْ تَوْكِيدًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَسُمُّوا بِذَلِكَ الْمُطَيَّبِينَ. وَتَعَاقَدَ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْقَبَائِلِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ عَلَى أَنْ لَا يَتَخَاذَلُوا وَلَا يُسْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَسُمُّوا الْأَحْلَافَ، ثُمَّ تَصَافُّوا لِلْقِتَالِ وَأَجْمَعُوا عَلَى الْحَرْبِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ تَدَاعَوْا لِلصُّلْحِ، عَلَى أَنْ يُعْطُوا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ، وَأَنْ تَكُونَ الْحِجَابَةُ وَاللِّوَاءُ وَالنَّدْوَةُ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَاصْطَلَحُوا وَرَضِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِذَلِكَ وَتَحَاجَزُوا عَنِ الْحَرْبِ، وَثَبَتَ كُلُّ قَوْمٍ مَعَ مَنْ حَالَفُوا حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَزِدْهُ إِلَّا شِدَّةً

وَلَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ» ) . فَوَلِيَ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ لِأَنَّ عَبْدَ شَمْسٍ كَانَ كَثِيرَ الْأَسْفَارِ قَلِيلَ الْمَالِ كَثِيرَ الْعِيَالِ، وَكَانَ هَاشِمٌ مُوسِرًا جَوَادًا. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَذْكُرَ هَذَا قَبْلَ الْفِيلِ وَمَا أَحْدَثَهُ قُرَيْشٌ، وَإِنَّمَا أَخَّرْنَاهُ لِلُزُومِ تِلْكَ الْحَوَادِثِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ كِسْرَى فِي أَمْرِ الْخَرَاجِ وَالْجُنْدِ كَانَ مُلُوكُ الْفُرْسِ يَأْخُذُونَ مِنْ غَلَّاتِ كُوَرِهِمْ قَبْلَ مُلْكِ كِسْرَى الْخُمُسَ وَالسُّدُسَ، عَلَى قَدْرِ شَرْبِهَا وَعِمَارَتِهَا، وَمِنَ الْجِزْيَةِ شَيْئًا مَعْلُومًا، فَأَمَرَ الْمَلِكُ قُبَاذُ بِمَسْحِ الْأَرَضِينَ لِيَصِحَّ الْخَرَاجُ عَلَيْهَا، فَمَاتَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا مَلَكَ أَنُوشِرْوَانُ أَمَرَ بِاسْتِتْمَامِ ذَلِكَ، وَوَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْكَرْمِ وَالرُّطَبِ وَالنَّخْلِ وَالزَّيْتُونِ وَالْأَرْزِ، عَلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ شَيْئًا مَعْلُومًا، وَيُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ فِي ثَلَاثِ أَنْجُمٍ، وَهِيَ الْوَضَائِعُ الَّتِي اقْتَدَى بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَكَتَبَ كِسْرَى إِلَى الْقُضَاةِ فِي الْبِلَادِ نُسْخَةً بِالْخَرَاجِ، لِيَمْتَنِعَ الْعُمَّالُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ أَنْ يُوضَعَ عَمَّنْ أَصَابَتْ غَلَّتَهُ جَائِحَةٌ بِقَدْرِ جَائِحَتِهِ، وَأَلْزَمُوا النَّاسَ الْجِزْيَةَ مَا خَلَا الْعُظَمَاءَ وَأَهْلَ الْبُيُوتَاتِ وَالْجُنْدَ وَالْهَرَابِذَةَ وَالْكُتَّابَ وَمَنْ فِي خِدْمَةِ الْمَلِكِ، كُلُّ إِنْسَانٍ عَلَى قُدْرَتِهِ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ، وَسِتَّةِ دَرَاهِمَ، وَأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ. وَأَسْقَطَهَا عُمَرُ عَمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ جَاوَزَ خَمْسِينَ سَنَةً. ثُمَّ إِنَّ كِسْرَى وَلَّى رَجُلًا مِنَ الْكُتَّابِ - مِنَ الْكُفَاةِ وَالنُّبَلَاءِ اسْمُهُ بَابَكُ - عَرْضَ جَيْشِهِ، فَطَلَبَ مِنْ كِسْرَى التَّمَكُّنَ مِنْ شُغْلِهِ إِلَى ذَلِكَ، فَتَقَدَّمَ بِبِنَاءِ مَصْطَبَةٍ مَوْضِعَ عَرْضِ الْجَيْشِ وَفَرَشَهَا، ثُمَّ نَادَى أَنْ يَحْضُرَ الْجُنْدُ بِسِلَاحِهِمْ وَكُرَاعِهِمْ لِلْعَرْضِ، فَحَضَرُوا، فَحَيْثُ لَمْ يَرَ مَعَهُمْ كِسْرَى أَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ، فَعَلَ ذَلِكَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَ فَنُودِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ أَحَدٌ وَلَا مَنْ أُكْرِمَ بِتَاجٍ، فَسَمِعَ كِسْرَى فَحَضَرَ وَقَدْ لَبِسَ التَّاجَ وَالسِّلَاحَ،

ثُمَّ أَتَى بَابَكَ لِيَعْرِضَ عَلَيْهِ، فَرَأَى سِلَاحَهُ تَامًّا مَا عَدَا وَتَرَيْنِ لِلْقَوْسِ كَانَ عَادَتُهُمْ أَنْ يَسْتَظْهِرُوا بِهِمَا، فَلَمْ يَرَهُمَا بَابَكُ مَعَهُ فَلَمْ يُجِزْ عَلَى اسْمِهِ وَقَالَ لَهُ: هَلُمَّ كُلَّ مَا يَلْزَمُكَ. فَذَكَرَ كِسْرَى الْوَتَرَيْنِ فَتَعَلَّقَهُمَا، ثُمَّ نَادَى مُنَادِي بَابَكَ وَقَالَ: لِلْكَمِيِّ السَّيِّدِ، سَيِّدَةِ الْكُمَاةِ، أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأَجَازَ عَلَى اسْمِهِ. فَلَمَّا قَامَ عَنْ مَجْلِسِهِ حَضَرَ عِنْدَ كِسْرَى يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ مِنْ غِلْظَتِهِ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ أَمْرَهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَا فَعَلَ. فَقَالَ كِسْرَى: مَا غَلُظَ عَلَيْنَا أَمْرٌ نُرِيدُ بِهِ إِصْلَاحَ دَوْلَتِنَا. وَمِنْ كَلَامِ كِسْرَى: الشُّكْرُ وَالنِّعْمَةُ كِفَّتَانِ كَكِفَّتَيِ الْمِيزَانِ، أَيُّهُمَا رَجَحَ بِصَاحِبِهِ احْتَاجَ الْأَخَفَّ، إِلَّا أَنْ يُزَادَ فِيهِ حَتَّى يُعَادِلَ صَاحِبَهُ، فَإِذَا كَانَتِ النِّعَمُ كَثِيرَةً وَالشُّكْرُ قَلِيلًا انْقَطَعَ الْحَمْدُ، فَكَثِيرُ النِّعَمِ يَحْتَاجُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الشُّكْرِ، وَكُلَّمَا زِيدَ فِي الشُّكْرِ ازْدَادَتِ النِّعَمُ وَجَاوَزَتْهُ، وَنَظَرْتُ فِي الشُّكْرِ فَوَجَدْتُ بَعْضَهُ بِالْقَوْلِ وَبَعْضَهُ بِالْفِعْلِ، وَنَظَرْتُ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ فَوَجَدْتُهُ الشَّيْءَ الَّذِي أَقَامَ بِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَرْسَى بِهِ الْجِبَالَ وَأَجْرَى بِهِ الْأَنْهَارَ وَبَرَأَ بِهِ الْبَرِيَّةَ، وَهُوَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ، فَلَزِمْتُهُ. وَرَأَيْتُ ثَمَرَةَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ عِمَارَةَ الْبُلْدَانِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْحَيَاةِ لِلنَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ وَجَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ. وَلَمَّا نَظَرْتُ فِي ذَلِكَ وَجَدْتُ الْمُقَاتِلَةَ أُجَرَاءَ لِأَهْلِ الْعِمَارَةِ، وَأَهْلَ الْعِمَارَةِ أُجَرَاءَ لِلْمُقَاتِلَةِ، فَأَمَّا الْمُقَاتِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أُجُورَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ وَسُكَّانِ الْبُلْدَانِ لِمُدَافَعَتِهِمْ عَنْهُمْ وَمُجَاهَدَتِهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَحَقَّ عَلَى أَهْلِ الْعِمَارَةِ أَنْ يُوَفُّوهُمْ أُجُورَهُمْ، فَإِنَّ الْعِمَارَةَ وَالْأَمْنَ وَالسَّلَامَةَ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِمْ. وَرَأَيْتُ الْمُقَاتِلَةَ لَا يَتِمُّ لَهُمُ الْمُقَامُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَتَثْمِيرُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ إِلَّا بِأَهْلِ الْخَرَاجِ وَالْعِمَارَةِ، فَأَخَذْتُ لِلْمُقَاتِلَةِ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ مَا يَقُومُ بِأَوْدِهِمْ وَتَرَكْتُ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ مِنْ مُسْتَغَلَّاتِهِمْ مَا يَقُومُ بِمَؤُونَتِهِمْ وَعِمَارَتِهِمْ وَلَمْ أُجْحِفْ بِوَاحِدٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَرَأَيْتُ الْمُقَاتِلَةَ وَأَهْلَ الْخَرَاجِ كَالْعَيْنَيْنِ الْمُبْصِرَتَيْنِ وَالْيَدَيْنِ الْمُتَسَاعِدَتَيْنِ

ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم

وَالرِّجْلَيْنِ عَلَى أَيِّهِمَا دَخَلَ الضَّرَرُ تَعَدَّى إِلَى الْأُخْرَى. وَنَظَرْنَا فِي سِيَرِ آبَائِنَا فَلَمْ نَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئًا يَقْتَرِنُ بِالثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ وَالذِّكْرِ الْجَمِيلِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْمَصْلَحَةِ الشَّامِلَةِ لِلْجُنْدِ وَالرَّعِيَّةِ إِلَّا اعْتَمَدْنَاهُ، وَلَا فَسَادًا إِلَّا أَعْرَضْنَا عَنْهُ، وَلَمْ يَدْعُنَا إِلَى حُبِّ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ حُبُّ الْآبَاءِ. وَنَظَرْتُ فِي سِيَرِ أَهْلِ الْهِنْدِ وَالرُّومِ وَأَخَذْنَا مَحْمُودَهَا، وَلَمْ تُنَازِعْنَا أَنْفُسُنَا إِلَى مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ أَهْوَاؤُنَا، وَكَتَبْنَا بِذَلِكَ إِلَى جَمِيعِ أَصْحَابِنَا وَنُوَّابِنَا فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ. فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْعِلْمِ وَتَوَفُّرِ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى مَنْعِ النَّفْسِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ اسْتَحَقَّ أَنْ يُضْرَبَ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْعَدْلِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. وَكَانَ لِكِسْرَى أَوْلَادٌ مُتَأَدِّبُونَ، فَجُعِلَ الْمُلْكُ مِنْ بَعْدِهِ لِابْنِهِ هُرْمُزَ. وَكَانَ مَوْلِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفِيلِ، وَذَلِكَ لِمُضِيِّ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ مُلْكِهِ، وَفِي هَذَا الْعَامِ كَانَ يَوْمُ ذِي جَبَلَةَ، وَهُوَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الْعَرَبِ الْمَذْكُورَةِ. [ذِكْرُ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]

قَالَ قَيْسُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَقُبَاثُ بْنُ أَشْيَمَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُلِدَ عَامَ الْفِيلِ» . قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: وُلِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَبُو رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مَضَتْ مِنْ سُلْطَانِ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ، وَوُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَأَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمُضِيِّ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ مِنْ مُلْكِ كِسْرَى أَبْرَوِيزَ بْنِ كِسْرَى هُرْمُزَ بْنِ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ، فَهَاجَرَ لِثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً مَضَتْ مِنْ مُلْكِ أَبْرَوِيزَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِالدَّارِ الَّتِي تُعْرَفُ بِدَارِ ابْنِ يُوسُفَ» . قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَبَهَا عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمْ تَزَلْ فِي يَدِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ، فَبَاعَهَا وَلَدُهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَخِي الْحَجَّاجِ، فَبَنَى دَارَهُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا دَارُ ابْنِ يُوسُفَ، وَأَدْخَلَ ذَلِكَ الْبَيْتَ فِي الدَّارِ، حَتَّى أَخْرَجَتْهُ الْخَيْزُرَانُ فَجَعَلَتْهُ مَسْجِدًا يُصَلَّى فِيهِ. وَقِيلَ: وُلِدَ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْهُ، وَقِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ آمِنَةَ ابْنَةَ وَهْبٍ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ تُحَدِّثُ أَنَّهَا أُتِيَتْ فِي مَنَامِهَا لَمَّا حَمَلَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ لَهَا: إِنَّكِ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِذَا وَقَعَ بِالْأَرْضِ قُولِي أُعِيذُهُ بِالْوَاحِدِ مِنْ شَرِّ كُلِّ حَاسِدٍ، ثُمَّ سَمِّيهِ مُحَمَّدًا. وَرَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ رَأَتْ بِهِ قُصُورَ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ. فَلَمَّا وَضَعَتْهُ أَرْسَلَتْ إِلَى جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِنَّهُ قَدْ وُلِدَ لَكَ غُلَامٌ فَأْتِهِ فَانْظُرْ إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، وَحَدَّثَتْهُ بِمَا رَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ، وَمَا قِيلَ لَهَا فِيهِ وَمَا أُمِرَتْ أَنْ تُسَمِّيَهُ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ: حَدَّثَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا شَهِدَتْ وِلَادَةَ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا شَيْءٌ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنَ الْبَيْتِ إِلَّا نُورٌ، وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى النُّجُومِ تَدْنُو حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ لَتَقَعَنَّ عَلَيَّ. وَأَوَّلُ مَنْ أَرْضَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُوَيْبَةُ مَوْلَاةُ أَبِي لَهَبٍ بِلَبَنِ ابْنٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ مَسْرُوحٌ، وَكَانَتْ قَدْ أَرْضَعَتْ قَبْلَهُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَرْضَعَتْ بَعْدَهُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيَّ، فَكَانَتْ ثُوَيْبَةُ تَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ فَيُكْرِمَهَا وَتُكْرِمُهَا خَدِيجَةُ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي لَهَبٍ أَنْ يَبِيعَهَا إِيَّاهَا لِتُعْتِقَهَا، فَأَبَى، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ أَعْتَقَهَا أَبُو لَهَبٍ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ إِلَيْهَا بِالصِّلَةِ، إِلَى أَنْ بَلَغَهُ خَبَرُ وَفَاتِهَا مُنْصَرَفَهُ مِنْ خَيْبَرَ، فَسَأَلَ عَنِ ابْنِهَا مَسْرُوحٍ، فَقِيلَ: تُوُفِّيَ قَبْلَهَا، فَسَأَلَ: هَلْ لَهَا مِنْ قَرَابَةٍ؟ فَقِيلَ: لَمْ يَبْقَ لَهَا أَحَدٌ. ثُمَّ أَرْضَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ثُوَيْبَةَ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ شِجْنَةَ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هُوزَانَ، وَاسْمُ زَوْجِهَا الَّذِي أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِهِ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَاسْمُ إِخْوَتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ: عَبْدُ اللَّهِ، وَأُنَيْسَةُ، وَجُذَامَةُ، وَهِيَ الشَّيْمَاءُ، عُرِفَتْ بِذَلِكَ، وَكَانَتِ الشَّيْمَاءُ تَحْضُنُهُ مَعَ أُمِّهَا حَلِيمَةَ.

وَقَدِمَتْ حَلِيمَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ، فَأَكْرَمَهَا وَوَصَلَهَا، وَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ فَتْحِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ، فَلَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ، قَدِمَتْ عَلَيْهِ أُخْتٌ لَهَا فَسَأَلَهَا عَنْهَا، فَأَخْبَرَتْهُ بِمَوْتِهَا، فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَسَأَلَهَا عَمَّنْ خَلَّفَتْ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَسَأَلَتْهُ نِحْلَةً وَحَاجَةً فَوَصَلَهَا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: كَانَتْ حَلِيمَةُ السَّعْدِيَّةُ تُحَدِّثُ أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا مَعَ نِسْوَةٍ يَلْتَمِسْنَ الرُّضَعَاءَ، وَذَلِكَ فِي سَنَةٍ شَهْبَاءَ لَمْ تُبْقِ شَيْئًا. قَالَتْ: فَخَرَجْتُ عَلَى أَتَانٍ لَنَا قَمْرَاءَ، مَعَنَا شَارِفٌ لَنَا، وَاللَّهِ مَا تَبِضُّ بِقَطْرَةٍ، وَمَا نَنَامُ لَيْلَتَنَا أَجْمَعَ مِنْ صَبِيِّنَا الَّذِي مَعِي مِنْ بُكَائِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَمَا فِي ثَدْيِي مَا يُغْنِيهِ، وَمَا فِي شَارِفِنَا مَا يَغْذُوهُ، وَلَكِنَّا نَرْجُو الْغَيْثَ وَالْفَرَجَ، فَلَقَدْ أَذَمَّتْ أَتَانِي بِالرَّكْبِ حَتَّى شَقَّ عَلَيْهِمْ ضَعْفًا وَعَجَفًا، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ فَمَا مِنَّا امْرَأَةٌ إِلَّا وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَأْبَاهُ إِذَا قِيلَ لَهَا إِنَّهُ يَتِيمٌ، وَذَلِكَ أَنَّا إِنَّمَا نَرْجُو الْمَعْرُوفَ مِنْ أَبِي الصَّبِيِّ. فَكُنَّا نَقُولُ: يَتِيمٌ فَمَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أُمُّهُ وَجَدُّهُ! فَمَا بَقِيَتِ امْرَأَةٌ مَعِي إِلَّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي، فَلَمَّا أَجْمَعْنَا الِانْطِلَاقَ قُلْتُ لِصَاحِبِي، وَكَانَ مَعِي: إِنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجِعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي وَلَمْ آخُذْ رَضِيعًا، وَاللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ إِلَى ذَلِكَ الْيَتِيمِ فَلْآخُذَنَّهُ! قَالَ: افْعَلِي فَعَسَى أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً. قَالَتْ: فَذَهَبْتُ فَأَخَذْتُهُ، فَلَمَّا أَخَذْتُهُ وَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِي أَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ مِمَّا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ حَتَّى رُوِيَ وَشَرِبَ مَعَهُ أَخُوهُ حَتَّى رُوِيَ ثُمَّ نَامَا، وَمَا كَانَ ابْنِي يَنَامُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَامَ زَوْجِي إِلَى شَارِفِنَا تِلْكَ فَإِذَا إِنَّهَا حَافِلٌ، فَحَلَبَ مِنْهَا ثُمَّ شَرِبَ حَتَّى رُوِيَ، ثُمَّ سَقَانِي فَشَرِبْتُ حَتَّى شَبِعْنَا. قَالَتْ: يَقُولُ لِي صَاحِبِي: تَعْلَمِينَ وَاللَّهِ يَا حَلِيمَةُ لَقَدْ أَخَذْتِ نَسَمَةً مُبَارَكَةً! قُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَرْجُو ذَلِكَ. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْنَا، فَرَكِبْتُ أَتَانِي وَحَمَلْتُهُ عَلَيْهَا فَلَمْ يَلْحَقْنِي شَيْءٌ مِنْ حُمُرِهِمْ حَتَّى إِنَّ صَوَاحِبِي لَيَقُلْنَ لِي: يَا ابْنَةَ أَبِي ذُؤَيْبٍ ارْبِعِي عَلَيْنَا، أَلَيْسَتْ هَذِهِ أَتَانَكِ الَّتِي كُنْتِ خَرَجْتِ عَلَيْهَا؟ فَأَقُولُ: بَلَى وَاللَّهِ لَهِيَ هِيَ، فَيَقُلْنَ: إِنَّ لَهَا شَأْنًا، ثُمَّ

قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ بَنِي سَعِدٍ، وَمَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ اللَّهِ أَجْدَبَ مِنْهَا، فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عَلَيَّ حِينَ قَدِمْنَا شِبَاعًا لُبَّنًا فَنَحْلِبُ وَنَشْرَبُ وَمَا يَحْلِبُ إِنْسَانٌ قَطْرَةً وَلَا يَجِدُهَا فِي ضَرْعٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ الْحَاضِرُ مِنْ قَوْمِنَا لَيَقُولُونَ لِرُعْيَانِهِمْ: وَيْلَكُمُ اسْرَحُوا حَيْثُ يَسْرَحُ رَاعِي ابْنَةِ أَبِي ذُؤَيْبٍ! فَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا تَبِضُّ بِقَطْرَةٍ مِنْ لَبَنٍ، وَتَرُوحُ غَنَمِي شِبَاعًا لُبَّنًا. فَلَمْ نَزَلْ نَتَعَرَّفُ الْبَرَكَةَ مِنَ اللَّهِ وَالزِّيَادَةَ فِي الْخَيْرِ حَتَّى مَضَتْ سَنَتَانِ وَفَصَلْتُهُ، وَكَانَ يَشِبُّ شَبَابًا لَا يَشِبُّهُ الْغِلْمَانُ، فَلَمْ يَبْلُغْ سَنَتَيْهِ حَتَّى كَانَ غُلَامًا جَفْرًا، فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمِّهِ وَنَحْنُ أَحْرَصُ شَيْءٍ عَلَى مُكْثِهِ عِنْدَنَا لِمَا كُنَّا نَرَى مِنْ بَرَكَتِهِ، فَكَلَّمْنَا أُمَّهُ فِي تَرْكِهِ عِنْدَنَا، فَأَجَابَتْ. قَالَتْ: فَرَجَعْنَا بِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ بَعْدَ مَقْدِمِنَا بِهِ بِأَشْهُرٍ مَرَّ مَعَ أَخِيهِ فِي بُهْمٍ لَنَا خَلْفَ بُيُوتِنَا إِذْ أَتَانَا أَخُوهُ يَشْتَدُّ فَقَالَ لِي وَلِأَبِيهِ: ذَلِكَ أَخِي الْقُرَشِيُّ قَدْ جَاءَهُ رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ فَأَضْجَعَاهُ وَشَقَّا بَطْنَهُ وَهُمَا يَسُوطَانِهِ! قَالَتْ: فَخَرَجْنَا نَشْتَدُّ فَوَجَدْنَاهُ قَائِمًا مُنْتَقِعًا وَجْهُهُ. قَالَتْ: فَالْتَزَمْتُهُ أَنَا وَأَبُوهُ وَقُلْنَا لَهُ: مَالَكَ يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: جَاءَنِي رَجُلَانِ فَأَضْجَعَانِي فَشَقَّا بَطْنِي فَالْتَمَسَا بِهِ شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ. قَالَتْ: فَرَجَعْنَا إِلَى خِبَائِنَا، وَقَالَ لِي أَبُوهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ قَدْ أُصِيبَ فَأَلْحِقِيهِ بِأَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ. قَالَتْ: فَاحْتَمَلْنَاهُ فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمِّهِ. فَقَالَتْ: مَا أَقْدَمَكِ يَا ظِئْرُ بِهِ وَقَدْ كُنْتِ حَرِيصَةً عَلَى مُكْثِهِ عِنْدَكَ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: قَدْ بَلَّغَ اللَّهُ بِابْنِي، وَقَضَيْتُ الَّذِي عَلَيَّ، وَتَخَوَّفْتُ عَلَيْهِ الْأَحْدَاثَ فَأَدَّيْتُهُ إِلَيْكِ كَمَا تُحِبِّينَ. قَالَتْ: مَا هَذَا بِشَأْنِكِ فَاصْدُقِينِي! وَلَمْ تَدَعْنِي حَتَّى أَخْبَرْتُهَا. قَالَتْ: فَتَخَوَّفْتِ عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَتْ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَإِنَّ لِابْنِي لَشَأْنًا، أَفَلَا أُخْبِرُكِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَتْ: رَأَيْتُ حِينَ حَمَلْتُ بِهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنِّي نُورٌ أَضَاءَ لِي قُصُورَ بُصْرَى مِنَ الشَّامِ، ثُمَّ حَمَلْتُ بِهِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِنْ حَمْلٍ قَطُّ كَانَ أَخَفَّ مِنْهُ وَلَا أَيْسَرَ، ثُمَّ وَقَعَ حِينَ وَضَعْتُهُ وَإِنَّهُ لَوَاضِعٌ يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ رَافِعٌ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ. دَعِيهِ عَنْكِ وَانْطَلِقِي رَاشِدَةً. وَكَانَتْ مُدَّةُ رَضَاعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَتَيْنِ، وَرَدَّتْهُ حَلِيمَةُ إِلَى أُمِّهِ وَجَدِّهِ

عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ فِي قَوْلٍ. وَقَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَهُوَ مَلِكُ قَوْمِهِ وَسَيِّدُهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ، مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا فَمَثُلَ قَائِمًا وَقَالَ: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِنِّي أُنْبِئْتُ أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ أَرْسَلَكَ بِمَا أَرْسَلَ بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَلَا وَإِنَّكَ فُهْتَ بِعَظِيمٍ، أَلَا وَقَدْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْتَ مِمَّنْ يَعْبُدُ هَذِهِ الْحِجَارَةَ وَالْأَوْثَانَ وَمَا لَكَ وَلِلنُّبُوَّةِ، وَإِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ قَوْلِكَ وَبَدْءُ شَأْنِكَ؟ فَأُعْجِبَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمُسَاءَلَتِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَخَا بَنِي عَامِرٍ اجْلِسْ. فَجَلَسَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِي وَبَدْءَ شَأْنِي أَنِّي دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى أَخِي عِيسَى، وَكُنْتُ بِكْرَ أُمِّي، وَحَمَلَتْنِي كَأَثْقَلِ مَا تَحْمِلُ النِّسَاءُ، ثُمَّ رَأَتْ فِي مَنَامِهَا أَنَّ الَّذِي فِي بَطْنِهَا نُورٌ، قَالَتْ: فَجَعَلْتُ أُتْبِعُ بَصَرِي النُّورَ وَهُوَ يَسْبِقُ بَصَرِي حَتَّى أَضَاءَتْ لِي مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، ثُمَّ إِنَّهَا وَلَدَتْنِي فَنَشَأْتُ، فَلَمَّا نَشَأْتُ بُغِّضَتْ إِلَيَّ الْأَوْثَانُ وَالشِّعْرُ، فَكُنْتُ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ مُنْتَبِذًا مِنْ أَهْلِي مَعَ أَتْرَابٍ مِنَ الصِّبْيَانِ إِذْ أَتَانَا ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مَعَهُمْ طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءٌ ثَلْجًا فَأَخَذُونِي مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي، فَخَرَجَ أَصْحَابِي هُرَّابًا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى شَفِيرِ الْوَادِي ثُمَّ أَقْبَلُوا عَلَى الرَّهْطِ فَقَالُوا: مَا أَرَبُكُمْ إِلَى هَذَا الْغُلَامِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَبٌ وَمَا يَرُدُّ عَلَيْكُمْ قَتْلُهُ؟ فَلَمَّا رَأَى الصِّبْيَانُ الرَّهْطَ لَا يَرُدُّونَ جَوَابًا انْطَلَقُوا مُسْرِعِينَ إِلَى الْحَيِّ يُؤْذِنُونَهُمْ بِي وَيَسْتَصْرِخُونَهُمْ عَلَى الْقَوْمِ، فَعَمَدَ أَحَدُهُمْ فَأَضْجَعَنِي عَلَى الْأَرْضِ إِضْجَاعًا لَطِيفًا، ثُمَّ شَقَّ مَا بَيْنَ مَفْرِقِ صَدْرِي إِلَى مُنْتَهَى عَانَتِي، فَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ لَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ مَسًّا، ثُمَّ أَخْرَجَ أَحْشَاءَ بَطْنِي فَغَسَلَهَا بِالثَّلْجِ فَأَنْعَمَ غَسْلَهَا، ثُمَّ أَخْرَجَ قَلْبِي فَصَدَعَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْهُ مُضْغَةً سَوْدَاءَ فَرَمَى بِهَا، قَالَ بِيَدِهِ يُمْنَةً مِنْهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا، فَإِذَا أَنَا بِخَاتَمٍ فِي يَدِهِ مِنْ نُورٍ يَحَارُ النَّاظِرُونَ دُونَهُ، فَخَتَمَ بِهِ قَلْبِي، فَامْتَلَأَ نُورًا، وَذَلِكَ نُورُ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، ثُمَّ أَعَادَهُ مَكَانَهُ، فَوَجَدْتُ بَرْدَ ذَلِكَ الْخَاتَمِ فِي قَلْبِي دَهْرًا، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثُ لِصَاحِبِهِ: تَنَحَّ، فَتَنَحَّى عَنِّي، فَأَمَرَّ يَدَهُ مَا بَيْنَ مَفْرِقِ صَدْرِي إِلَى مُنْتَهَى عَانَتِي فَالْتَأَمَ ذَلِكَ الشَّقُّ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَنْهَضَنِي إِنْهَاضًا لَطِيفًا ثُمَّ قَالَ لِلْأَوَّلِ الَّذِي شَقَّ بَطْنِي: زِنْهُ بِعَشَرَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ. فَوَزَنُونِي بِهِمْ فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ. فَوَزَنُونِي بِهِمْ فَرَجَحْتُهُمْ. ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِأَلْفٍ مِنْ

أُمَّتِهِ. فَوَزَنُونِي بِهِمْ فَرَجَحْتُهُمْ. فَقَالَ: دَعُوهُ فَلَوْ وَزَنْتُهُ بِأُمَّتِهِ كُلِّهِمْ لَرَجَحَ بِهِمْ. ثُمَّ ضَمُّونِي إِلَى صُدُورِهِمْ وَقَبَّلُوا رَأْسِي وَمَا بَيْنَ عَيْنَيَّ ثُمَّ قَالُوا: يَا حَبِيبُ، لَمْ تُرَعْ، إِنَّكَ لَوْ تَدْرِي مَا يُرَادُ بِكَ مِنَ الْخَيْرِ لَقَرَّتْ عَيْنُكَ. قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ أَنَا بِالْحَيِّ قَدْ جَاءُوا بِحَذَافِيرِهِمْ، وَإِذَا ظِئْرِي أَمَامَ الْحَيِّ تَهْتِفُ بِأَعْلَى صَوْتِهَا وَهِيَ تَقُولُ: يَا ضَعِيفَاهُ! قَالَ: فَانْكَبُّوا عَلَيَّ وَقَبَّلُوا رَأْسِي وَمَا بَيْنَ عَيْنَيَّ وَقَالُوا: حَبَّذَا أَنْتَ مِنْ ضَعِيفٍ! ثُمَّ قَالَتْ ظِئْرِي: يَا وَحِيدَاهُ! فَانْكَبُّوا عَلَيَّ فَضَمُّونِي إِلَى صُدُورِهِمْ وَقَبَّلُوا مَا بَيْنَ عَيْنَيَّ وَقَالُوا حَبَّذَا أَنْتَ مِنْ وَحِيدٍ، وَمَا أَنْتَ بِوَحِيدٍ! إِنَّ اللَّهَ مَعَكَ! ثُمَّ قَالَتْ ظِئْرِي: يَا يَتِيمَاهُ اسْتُضْعِفْتَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِكَ فَقُتِلْتَ لِضَعْفِكَ! فَانْكَبُّوا عَلَيَّ وَضَمُّونِي إِلَى صُدُورِهِمْ وَقَبَّلُوا مَا بَيْنَ عَيْنَيَّ وَقَالُوا: حَبَّذَا أَنْتَ مِنْ يَتِيمٍ! مَا أَكْرَمَكَ عَلَى اللَّهِ! لَوْ تَعْلَمُ مَا يُرَادُ بِكَ مِنَ الْخَيْرِ! قَالَ: فَوَصَلُوا بِي إِلَى شَفِيرِ الْوَادِي. فَلَمَّا بَصُرَتْ بِي ظِئْرِي قَالَتْ: يَا بُنَيَّ أَلَا أَرَاكَ حَيًّا بَعْدُ! فَجَاءَتْ حَتَّى انْكَبَّتْ عَلَيَّ وَضَمَّتْنِي إِلَى صَدْرِهَا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَفِي حِجْرِهَا وَقَدْ ضَمَّتْنِي إِلَيْهَا، وَإِنَّ يَدِي فِي يَدِ بَعْضِهِمْ، فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ يُبْصِرُونَهُمْ، يَقُولُ بَعْضُ الْقَوْمِ: إِنَّ هَذَا الْغُلَامَ أَصَابَهُ لَمَمٌ أَوْ طَائِفٌ مِنَ الْجِنِّ، انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى كَاهِنِنَا حَتَّى يَنْظُرَ إِلَيْهِ وَيُدَاوِيَهُ. فَقُلْتُ: مَا هَذَا! لَيْسَ بِي شَيْءٌ مِمَّا يُذْكَرُ، إِنَّ إِرَادَتِي سَلِيمَةٌ، وَفُؤَادِي صَحِيحٌ لَيْسَ فِيَّ قَلَبَةٌ. فَقَالَ أَبِي مِنَ الرَّضَاعِ: أَلَا تَرَوْنَ كَلَامَهُ صَحِيحًا؟ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِابْنِي بَأْسٌ. فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَذْهَبُوا بِي إِلَى الْكَاهِنِ، فَذَهَبُوا بِي إِلَيْهِ. فَلَمَّا قَصُّوا عَلَيْهِ قِصَّتِي قَالَ: اسْكُتُوا حَتَّى أَسْمَعَ مِنَ الْغُلَامِ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِأَمْرِهِ مِنْكُمْ. فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ أَمْرِي مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ قَوْلِي وَثَبَ إِلَيَّ وَضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا لِلْعَرَبِ اقْتُلُوا هَذَا الْغُلَامَ وَاقْتُلُونِي مَعَهُ! فَوَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ تَرَكْتُمُوهُ فَأَدْرَكَ لَيُبَدِّلَنَّ دِينَكُمْ وَلَيُخَالِفَنَّ أَمْرَكُمْ وَلِيَأْتِينَّكُمْ بِدِينٍ لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهِ قَطُّ. فَانْتَزَعَتْنِي ظِئْرِي وَقَالَتْ: لَأَنْتَ أَجَنُّ وَأَعْتَهُ مِنِ ابْنِي هَذَا فَاطْلُبْ لِنَفْسِكَ مَنْ يَقْتُلُكَ، فَإِنَّا غَيْرُ قَاتِلِيهِ!

ثُمَّ رَدُّونِي إِلَى أَهْلِي، فَأَصْبَحْتُ مُفْزَعًا مِمَّا فُعِلَ بِي، وَأَثَرُ الشَّقِّ مَا بَيْنَ صَدْرِي إِلَى عَانَتِي كَأَنَّهُ الشِّرَاكُ، فَذَلِكَ حَقِيقَةُ قَوْلِي وَبَدْءُ شَأْنِي يَا أَخَا بَنِي عَامِرٍ. فَقَالَ الْعَامِرِيُّ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَنَّ أَمْرَكَ حَقٌّ، فَأَنْبِئْنِي بِأَشْيَاءَ أَسْأَلُكَ عَنْهَا. قَالَ: سَلْ. قَالَ: أَخْبِرْنِي مَا يَزِيدُ فِي الْعِلْمِ؟ . قَالَ: التَّعَلُّمُ. قَالَ: فَمَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ؟ . قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السُّؤَالُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي مَاذَا يَزِيدُ فِي الشَّيْءِ؟ . قَالَ: التَّمَادِي. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي هَلْ يَنْفَعُ الْبِرُّ مَعَ الْفُجُورِ؟ . قَالَ: نَعَمْ، التَّوْبَةُ تَغْسِلُ الْحَوْبَةَ، وَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، وَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ اللَّهَ عِنْدَ الرَّخَاءِ أَعَانَهُ عِنْدَ الْبَلَاءِ. فَقَالَ الْعَامِرِيُّ: فَكَيْفَ ذَلِكَ؟ . قَالَ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَجْمَعُ لِعَبْدِي أَمْنَيْنَ وَلَا أَجْمَعُ لَهُ خَوْفَيْنِ، إِنْ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ أَجْمَعُ عِبَادِي فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ، فَيَدُومُ لَهُ أَمْنُهُ، وَلَا أَمْحَقُهُ فِيمَنْ أَمَحَقُ، وَإِنْ هُوَ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا خَافَنِي يَوْمَ أَجْمَعُ عِبَادِي لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ فَيَدُومُ لَهُ خَوْفُهُ. قَالَ: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَخْبِرْنِي إِلَامَ تَدْعُو؟ . قَالَ: أَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ تَخْلَعَ الْأَنْدَادَ، وَتَكْفُرَ بِاللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَتُقِرَّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ كِتَابٍ وَرَسُولٍ، وَتُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِحَقَائِقِهِنَّ، وَتَصُومَ شَهْرًا مِنَ السَّنَةِ، وَتُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِكَ يُطَهِّرُكَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَيُطَيِّبُ لَكَ مَالَكَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ إِذَا وَجَدْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَتُؤْمِنَ بِالْمَوْتِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَبِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. قَالَ: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَمَا لِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه: 76] . فَقَالَ: هَلْ مَعَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ؟ فَإِنَّهُ يُعْجِبُنِي الْوَطْأَةُ مِنَ الْعَيْشِ.

قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: النَّصْرُ وَالتَّمَكُّنُ فِي الْبِلَادِ. فَأَجَابَ وَأَنَابَ» . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هَلَكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَبُو رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ حَامِلٌ بِهِ. قَالَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ: تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَبُو رَسُولِ اللَّهِ بَعْدَمَا أَتَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: الثَّبْتُ عِنْدَنَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ فِي عِيرٍ لِقُرَيْشٍ، وَنَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ مَرِيضٌ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى تُوُفِّيَ وَدُفِنَ بِدَارِ النَّابِغَةِ، الدَّارِ الصُّغْرَى. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَتُوُفِّيَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ وَلَهُ سِتُّ سِنِينَ بِالْأَبْوَاءِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، كَانَتْ قَدِمَتْ بِهِ الْمَدِينَةَ عَلَى أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ تُزِيرُهُ إِيَّاهُمْ فَمَاتَتْ وَهِيَ رَاجِعَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّهَا أَتَتِ الْمَدِينَةَ تَزُورُ قَبْرَ زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ، وَمَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ وَأُمُّ أَيْمَنَ حَاضِنَةُ رَسُولِ اللَّهِ، فَلَمَّا عَادَتْ مَاتَتْ بِالْأَبْوَاءِ. وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ زَارَ أَخْوَالَهُ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَحَمَلَ مَعَهُ آمِنَةَ وَرَسُولَ اللَّهِ، فَلَمَّا رَجَعَ تُوُفِّيَتْ بِمَكَّةَ، وَدُفِنَتْ فِي شِعْبِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَلَمَّا سَارَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أُحُدٍ هَمُّوا بِاسْتِخْرَاجِهَا مِنْ قَبْرِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ النِّسَاءَ عَوْرَةٌ وَرُبَّمَا أَصَابَ مُحَمَّدٌ مِنْ نِسَائِكُمْ، فَكَفَّهُمُ اللَّهُ بِهَذَا الْقَوْلِ إِكْرَامًا لِأُمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَتُوُفِّيَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ، وَقِيلَ: ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ.

ذكر قتل تميم بالمشقر

وَلَمَّا مَاتَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ صَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِجْرِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ بِوَصِيَّةٍ مِنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ لِمَا كَانَ يَرَى مِنْ بِرِّهِ بِهِ وَشَفَقَتِهِ وَحُنُوِّهَ عَلَيْهِ، فَيُصْبِحُ وَلَدُ أَبِي طَالِبٍ غُمْصًا رُمْصًا، وَيُصْبِحُ رَسُولُ اللَّهِ صَقِيلًا دَهِينًا. [ذِكْرُ قَتْلِ تَمِيمٍ بِالْمُشَقَّرِ] قَالَ هِشَامٌ: أَرْسَلَ وَهْرِزُ بِأَمْوَالٍ وَطُرَفٍ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا كَانَتْ بِبِلَادِ تَمِيمٍ دَعَا صَعْصَعَةُ بْنُ نَاجِيَةَ الْمُجَاشِعِيُّ، جَدُّ الْفَرَزْدَقِ الشَّاعِرِ، بَنِي تَمِيمٍ إِلَى الْوُثُوبِ عَلَيْهَا، فَأَبَوْا، فَقَالَ: كَأَنِّي بِأَبِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَقَدِ انْتَهَبُوا، فَاسْتَعَانُوا بِهَا عَلَى حَرْبِكُمْ، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ وَثَبُوا عَلَيْهَا وَأَخَذُوهَا، وَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِيطٍ يُقَالُ لَهُ النَّطِفُ خَرْجًا فِيهِ جَوْهَرٌ، فَكَانَ يُقَالُ: " أَصَابَ فُلَانٌ كَنْزَ النَّطِفِ " فَصَارَ مَثَلًا. وَصَارَ أَصْحَابُ الْعِيرِ إِلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ بِالْيَمَامَةِ، فَكَسَاهُمْ وَحَمَلَهُمْ وَسَارَ مَعَهُمْ حَتَّى دَخَلَ عَلَى كِسْرَى، فَأُعْجِبَ بِهِ كِسْرَى وَدَعَا بِعِقْدٍ مِنْ دُرٍّ فَعَقَدَ عَلَى رَأْسِهِ، فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ هَوْذَةُ " ذَا التَّاجِ "، وَسَأَلَهُ كِسْرَى عَنْ تَمِيمٍ هَلْ مِنْ قَوْمِهِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ سِلْمٌ؟ فَقَالَ: لَا بَيْنَنَا إِلَّا الْمَوْتُ. قَالَ: قَدْ أَدْرَكْتَ ثَأْرَكَ، وَأَرَادَ إِرْسَالَ الْجُنُودِ إِلَى تَمِيمٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مَاءَهُمْ قَلِيلٌ، وَبِلَادَهُمْ بِلَادُ سُوءٍ، وَأُشِيرَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْبَحْرَيْنِ، وَهُوَ إِزَادُ فَيْرُوزَ بْنُ جُشَيْشٍ الَّذِي سَمَّتْهُ الْعَرَبُ الْمُكَعْبِرَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْطَعُ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ، فَأَمَرَهُ بِقَتْلِ بَنِي تَمِيمٍ، فَفَعَلَ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِ رَسُولًا، وَدَعَا هَوْذَةَ وَجَدَّدَ لَهُ كَرَامَةً وَصِلَةً، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ مَعَ رَسُولِهِ، فَأَقْبَلَا إِلَى الْمُكَعْبِرِ أَيَّامَ اللُّقَاطِ، وَكَانَتْ تَمِيمٌ تَصِيرُ إِلَى هَجَرَ لِلْمِيرَةِ وَاللِّقَاطِ، فَأَمَرَ الْمُكَعْبِرُ مُنَادِيًا يُنَادِي: لِيَحْضُرْ مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَإِنَّ الْمَلِكَ قَدْ أَمَرَ لَهُمْ بِمِيرَةٍ وَطَعَامٍ. فَحَضَرُوا وَدَخَلُوا الْمُشَقَّرَ، وَهُوَ حِصْنٌ، فَلَمَّا دَخَلُوا قَتَلَ الْمُكَعْبِرُ رِجَالَهُمْ وَاسْتَبْقَى غِلْمَانَهُمْ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ قَعْنَبُ الرِّيَاحِيُّ، وَكَانَ فَارِسَ يَرْبُوعٍ، وَجَعَلَ الْغِلْمَانَ فِي السُّفُنِ وَعَبَرَ بِهِمْ إِلَى فَارِسَ.

ذكر ملك ابنه هرمز بن أنوشروان

قَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ حُدَيْرٍ الْعَدَوِيُّ: رَجَعَ إِلَيْنَا بَعْدَمَا فُتِحَتْ إِصْطَخْرُ عِدَّةٌ مِنْهُمْ، وَشَدَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ عُبَيْدُ بْنُ وَهْبٍ عَلَى سِلْسِلَةِ الْبَابِ فَقَطَعَهَا وَخَرَجَ، وَاسْتَوْهَبَ هَوْذَةُ مِنَ الْمُكَعْبِرِ مِائَةَ أَسِيرٍ مِنْهُمْ فَأَطْلَقَهُمْ. (حُدَيْرٌ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الدَّالِ) . [ذِكْرُ مُلْكِ ابْنِهِ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ] وَكَانَتْ أُمُّهُ ابْنَةَ خَاقَانَ الْأَكْبَرِ، وَكَانَ هُرْمُزُ بْنُ كِسْرَى أَدِيبًا ذَا نِيَّةٍ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى الضُّعَفَاءِ وَالْحَمْلِ عَلَى الْأَشْرَافِ، فَعَادُوهُ وَأَبْغَضُوهُ، وَكَانَ فِي نَفْسِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَكَانَ عَادِلًا بَلَغَ مِنْ عَدْلِهِ أَنَّهُ رَكِبَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى سَابَاطِ الْمَدَائِنِ فَاجْتَازَ بِكُرُومٍ، فَاطَّلَعَ أَسْوَارٌ مِنْ أَسَاوِرَتِهِ فِي كَرْمٍ وَأَخَذَ مِنْهُ عَنَاقِيدَ حُصْرُمٍ، فَلَزِمَهُ حَافِظُ الْكُرُومِ وَصَرَخَ، فَبَلَغَ مِنْ خَوْفِ الْأَسْوَارِ مِنْ عُقُوبَةِ كِسْرَى هُرْمُزَ أَنْ دَفَعَ إِلَى حَافِظِ الْكَرْمِ، مِنْطَعَةً مُحَلَّاةً بِذَهَبٍ عِوَضًا مِنَ الْحُصْرُمِ فَتَرَكَهُ. وَقِيلَ: كَانَ مُظَفَّرًا مَنْصُورًا لَا يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى شَيْءٍ إِلَّا نَالَهُ، وَكَانَ دَاهِيًا رَدِيَّ النِّيَّةِ، قَدْ نَزَعَ إِلَى أَخْوَالِهِ التُّرْكِ، وَإِنَّهُ قَتَلَ الْعُلَمَاءَ وَأَهْلَ الْبُيُوتَاتِ وَالشَّرَفِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ وَسِتَّمِائَةِ رَجُلٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ إِلَّا فِي تَأَلُّفِ السِّفْلَةِ. وَحَبَسَ كَثِيرًا مِنَ الْعُظَمَاءِ وَأَسْقَطَهُمْ وَحَطَّ مَرَاتِبَهُمْ وَحَرَمَ الْجُنُودَ، فَفَسَدَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ كَانَ حَوْلَهُ، وَخَرَجَ عَلَيْهِ شَابَهْ مَلِكُ التُّرْكِ فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ مِنْ مُلْكِهِ، فَوَصَلَ هَرَاةَ وَبَاذَغِيسَ، وَأَرْسَلَ إِلَى هُرْمُزَ وَالْفُرْسِ يَأْمُرُهُمْ بِإِصْلَاحِ الطُّرُقِ لِيَجُوزَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ.

وَوَصَلَ مَلِكُ الرُّومِ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا إِلَى الضَّوَاحِي قَاصِدًا لَهُ، وَوَصَلَ مَلِكُ الْخَزَرِ إِلَى الْبَابِ وَالْأَبْوَابِ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ، فَإِنَّ جَمْعًا مِنَ الْعَرَبِ شَنُّوا الْغَارَةَ عَلَى السَّوَادِ. فَأَرْسَلَ هُرْمُزُ بَهْرَامَ خُشْنَشْ، وَيُعْرَفُ بِجُوبِينَ، فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ اخْتَارَهُمْ مِنْ عَسْكَرِهِ، فَسَارَ مُجِدًّا وَوَاقَعَ شَابَهْ مَلِكَ التُّرْكِ فَقَتَلَهُ بِرَمْيَةٍ رَمَاهَا وَاسْتَبَاحَ عَسْكَرَهُ، ثُمَّ وَافَاهُ بَرْمُودَهْ بْنُ شَابَهْ فَهَزَمَهُ أَيْضًا وَحَصَرَهُ فِي بَعْضِ الْحُصُونِ حَتَّى اسْتَسْلَمَ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى هُرْمُزَ أَسِيرًا وَغَنِمَ مَا فِي الْحِصْنِ، فَكَانَ عَظِيمًا. ثُمَّ خَافَ بَهْرَامُ وَمَنْ مَعَهُ هُرْمُزَ، فَخَلَعُوهُ وَسَارُوا نَحْوَ الْمَدَائِنِ، وَأَظْهَرُوا أَنَّ ابْنَهُ أَبْرَوِيزَ أَصْلَحُ لِلْمُلْكِ مِنْهُ، وَسَاعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ هُرْمُزَ، وَكَانَ غَرَضُ بَهْرَامَ أَنْ يَسْتَوْحِشَ هُرْمُزُ مِنِ ابْنِهِ أَبْرَوِيزَ، وَيَسْتَوْحِشَ ابْنُهُ مِنْهُ فَيَخْتَلِفَا، فَإِنْ ظَفِرَ أَبْرَوِيزُ بِأَبِيهِ كَانَ أَمْرُهُ عَلَى بَهْرَامَ سَهْلًا، وَإِنْ ظَفِرَ أَبُوهُ بِهِ نَجَا بَهْرَامُ وَالْكَلِمَةُ مُخْتَلِفَةٌ، فَيَنَالُ مِنْ هُرْمُزَ غَرَضَهُ، وَكَانَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالِاسْتِقْلَالِ بِالْمُلْكِ. فَلَمَّا عَلِمَ أَبْرَوِيزُ ذَلِكَ خَافَ أَبَاهُ، فَهَرَبَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنَ الْمَرَازِبَةِ وَالْأَصْبَهْبَذِينَ، وَوَثَبَ الْعُظَمَاءُ بِالْمَدَائِنِ، وَفِيهِمْ بِنْدَوَيْهِ وَبِسْطَامٌ خَالَا أَبْرَوِيزَ، فَخَلَعُوا هُرْمُزَ وَسَمَلُوا عَيْنَيْهِ وَتَرَكُوهُ تَحَرُّجًا مِنْ قَتْلِهِ، وَبَلَغَ أَبْرَوِيزَ الْخَبَرُ فَأَقْبَلَ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى دَارِ الْمُلْكِ. وَكَانَ مُلْكُ هُرْمُزَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَمْ يُسْمَلْ مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ غَيْرُهُ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ. وَمِنْ مَحَاسِنِ السِّيَرِ مَا حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ دَارِهِ الَّتِي تُشْرِفُ عَلَى دِجْلَةَ مُقَابِلَ الْمَدَائِنِ عَمِلَ وَلِيمَةً عَظِيمَةً وَأَحْضَرَ النَّاسَ مِنَ الْأَطْرَافِ، فَأَكَلُوا، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: هَلْ

رَأَيْتُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَيْبًا؟ فَكُلُّهُمْ قَالَ: لَا عَيْبَ فِيهَا. فَقَامَ رَجُلٌ وَقَالَ: فِيهَا ثَلَاثَةُ عُيُوبٍ فَاحِشَةٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ النَّاسَ يَجْعَلُونَ دُورَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْتَ جَعَلْتَ الدُّنْيَا فِي دَارِكَ، فَقَدْ أَفْرَطْتَ فِي تَوْسِيعِ صُحُونِهَا وَبُيُوتِهَا، فَتَتَمَكَّنُ الشَّمْسُ فِي الصَّيْفِ وَالسَّمُومُ، فَيُؤْذِي ذَلِكَ أَهْلَهَا، وَيَكْثُرُ فِيهَا فِي الشِّتَاءِ الْبَرْدُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُلُوكَ يَتَوَصَّلُونَ فِي الْبِنَاءِ عَلَى الْأَنْهَارِ ; لِتَزُولَ هُمُومُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمِيَاهِ، وَيَتَرَطَّبَ الْهَوَاءُ، وَتُضِيءَ أَبْصَارُهُمْ، وَأَنْتَ قَدْ تَرَكْتَ دِجْلَةَ وَبَنَيْتَهَا فِي الْقَفْرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّكَ جَعَلْتَ حُجْرَةَ النِّسَاءِ مِمَّا يَلِي الشِّمَالَ مِنْ مَسَاكِنِ الرِّجَالِ، وَهُوَ أَدْوَمُ هُبُوبًا، فَلَا يَزَالُ الْهَوَاءُ يَجِيءُ بِأَصْوَاتِ النِّسَاءِ وَرِيحِ طِيبِهِنَّ، وَهَذَا مَا تَمْنَعُهُ الْغَيْرَةُ وَالْحَمِيَّةُ. فَقَالَ هُرْمُزُ: أَمَّا سِعَةُ الصُّحُونِ وَالْمَجَالِسِ فَخَيْرُ الْمَسَاكِنِ مَا سَافَرَ فِيهِ الْبَصَرُ، وَشِدَّةُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ يُدْفَعَانِ بِالْخَيْشِ وَالْمَلَابِسِ وَالنِّيرَانِ. وَأَمَّا مُجَاوَرَةُ الْمَاءِ فَكُنْتُ عِنْدَ أَبِي وَهُوَ يُشْرِفُ عَلَى دِجْلَةَ، فَغَرِقَتْ سَفِينَةٌ تَحْتَهُ فَاسْتَغَاثَ مَنْ بِهَا إِلَيْهِ، وَأَبِي يَتَأَسَّفُ عَلَيْهِمْ وَيَصِيحُ بِالسُّفُنِ الَّتِي تَحْتَ دَارِهِ لِيَلْحَقُوهُ، فَإِلَى أَنْ لَحِقُوهُمْ غَرِقَ جَمِيعُهُمْ، فَجَعَلْتُ فِي نَفْسِي أَنَّنِي لَا أُجَاوِرُ سُلْطَانًا هُوَ أَقْوَى مِنِّي. وَأَمَّا عَمَلُ حُجْرَةِ النِّسَاءِ فِي جِهَةِ الشِّمَالِ، فَقَصَدْنَا بِهِ أَنَّ الشِّمَالَ أَرَقُّ هَوَاءً، وَأَقَلُّ وَخَامَةً، وَالنِّسَاءُ يُلَازِمْنَ الْبُيُوتَ، فَعُمِلَ لِذَلِكَ. وَأَمَّا الْغَيْرَةُ فَإِنَّ الرِّجَالَ لَا يَخْلُوُنَّ بِالنِّسَاءِ، وَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ إِنَّمَا هُوَ مَمْلُوكٌ وَعَبْدٌ لِقَيِّمٍ، وَأَمَّا أَنْتَ فَمَا أَخْرَجَ هَذَا مِنْكَ إِلَّا بُغْضٌ لِي، فَأَخْبِرْنِي عَنْ سَبَبِهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: لِي قَرْيَةٌ مِلْكٌ كُنْتُ أُنْفِقُ حَاصِلَهَا عَلَى عِيَالِي، فَغَلَبَنِي الْمَرْزُبَانُ فَأَخَذَهَا مِنِّي، فَقَصَدْتُكَ أَتَظَلَّمُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ فَلَمْ أَصِلْ إِلَيْكَ، فَقَصَدْتُ وَزِيرَكَ وَتَظَلَّمْتُ إِلَيْهِ فَلَمْ يُنْصِفْنِي، وَأَنَا أُؤَدِّي خَرَاجَ الْقَرْيَةِ حَتَّى لَا يَزُولَ اسْمِي عَنْهَا، وَهَذَا غَايَةُ الظُّلْمِ أَنْ يَكُونَ غَيْرِي يَأْخُذُ دَخْلَهَا وَأَنَا أُؤَدِّي خَرَاجَهَا.

ذكر ملك كسرى أبرويز بن هرمز

فَسَأَلَ هُرْمُزُ وَزِيرَهُ فَصَدَّقَهُ وَقَالَ: خِفْتُ أُعْلِمُكَ فَيُؤْذِينِي الْمَرْزُبَانُ. فَأَمَرَ هُرْمُزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الْمَرْزُبَانِ ضِعْفُ مَا أَخَذَ، وَأَنْ يَسْتَخْدِمَهُ صَاحِبُ الْقَرْيَةِ فِي أَيِّ شُغْلٍ شَاءَ سَنَتَيْنِ، وَعَزَلَ وَزِيرَهُ، وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: إِذَا كَانَ الْوَزِيرُ يُرَاقِبُ الظَّالِمَ فَالْأَحْرَى أَنَّ غَيْرَهُ يُرَاقِبُهُ، فَأَمَرَ بِاتِّخَاذِ صُنْدُوقٍ، وَكَانَ يَقْفِلُهُ وَيَخْتِمُهُ بِخَاتَمٍ وَيُتْرَكُ عَلَى بَابِ دَارِهِ وَفِيهِ خَرْقٌ يُلْقَى فِيهِ رِقَاعُ الْمُتَظَلِّمِينَ، وَكَانَ يَفْتَحُهُ كُلَّ أُسْبُوعٍ وَيَكْشِفُ الْمَظَالِمَ، فَأَفْكَرَ وَقَالَ: أُرِيدُ أَعْرِفُ ظُلْمَ الرَّعِيَّةِ سَاعَةً فَسَاعَةً، فَاتَّخَذَ سِلْسِلَةً طَرَفُهَا فِي مَجْلِسِهِ فِي السَّقْفِ، وَالطَّرَفُ الْآخَرُ خَارِجَ الدَّارِ فِي رَوْزَنَةٍ وَفِيهَا جَرَسٌ، وَكَانَ الْمُتَظَلِّمُ يُحَرِّكُ السِّلْسِلَةَ فَيُحَرِّكُ الْجَرَسَ فَيَحْضُرُهُ وَيَكْشِفُ ظُلَامَتَهُ. [ذِكْرُ مُلْكِ كِسْرَى أَبْرَوِيزَ بْنِ هُرْمُزَ] وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ مُلُوكِهِمْ بَطْشًا، وَأَنْفَذِهِمْ رَأْيًا، وَبَلَغَ مِنَ الْبَأْسِ وَالنَّجْدَةِ وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ وَمُسَاعَدَةِ الْأَقْدَارِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ مَلِكٌ قَبْلَهُ، وَلِذَلِكَ لُقِّبَ أَبْرَوِيزَ، وَمَعْنَاهُ الْمُظَفَّرُ، وَكَانَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ قَدْ سَعَى بِهِ بَهْرَامُ جُوبِينَ إِلَى أَبِيهِ أَنَّهُ يُرِيدُ الْمُلْكَ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ سَارَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ سِرًّا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، فَلَمَّا وَصَلَهَا بَايَعَهُ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْعُظَمَاءِ، وَاجْتَمَعَ مَنْ بِالْمَدَائِنِ عَلَى خَلْعِ أَبِيهِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبْرَوِيزُ بَادَرَ الْوُصُولَ إِلَى الْمَدَائِنِ قَبْلَ بَهْرَامَ جُوبِينَ، فَدَخَلَهَا قَبْلَهُ وَلَبِسَ التَّاجَ وَجَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ، وَكَانَ قَدْ سُمِلَ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّا فُعِلَ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَرَبُهُ لِلْخَوْفِ مِنْهُ، فَصَدَّقَهُ وَسَأَلَهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ مَنْ يُؤْنِسُهُ، وَأَنْ يَنْتَقِمَ مِمَّنْ خَلَعَهُ وَسَمَلَ عَيْنَيْهِ، فَاعْتَذَرَ بِقُرْبِ بَهْرَامَ مِنْهُ فِي الْعَسَاكِرِ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْتَقِمَ مِمَّنْ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ الظَّفَرِ بِبَهْرَامَ. وَسَارَ بَهْرَامُ إِلَى النَّهْرَوَانِ وَسَارَ أَبْرَوِيزُ إِلَيْهِ، فَالْتَقَيَا هُنَاكَ، وَرَأَى أَبْرَوِيزُ مِنْ أَصْحَابِهِ فُتُورًا فِي الْقِتَالِ فَانْهَزَمَ، وَدَخَلَ عَلَى أَبِيهِ وَعَرَّفَهُ الْحَالَ، فَاسْتَشَارَهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِقَصْدِ مُورِيقَ مَلِكِ الرُّومِ، وَجَهَّزَ ثَانِيًا وَسَارَ فِي عِدَّةٍ يَسِيرَةٍ، فِيهِمْ خَالَاهُ بِنْدَوَيْهِ وَبِسْطَامٌ وَكُرْدِيٌّ أَخُو بَهْرَامَ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْمَدَائِنِ خَافَ مَنْ مَعَهُ أَنَّ بَهْرَامَ يَرُدُّ هُرْمُزَ إِلَى الْمُلْكِ

وَيُرْسِلُ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ فِي رَدِّهِمْ فَيَرُدُّهُمْ إِلَيْهِ، فَاسْتَأْذَنُوا أَبْرَوِيزَ فِي قَتْلِ أَبِيهِ هُرْمُزَ فَلَمْ يُحِرْ جَوَابًا، فَانْصَرَفَ بِنْدَوَيْهِ وَبِسْطَامٌ وَبَعْضُ مَنْ مَعَهُمْ إِلَى هُرْمُزَ فَقَتَلُوهُ خَنْقًا، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى أَبْرَوِيزَ وَسَارُوا مُجِدِّينَ إِلَى أَنْ جَاوَزُوا الْفُرَاتَ، وَدَخَلُوا دَيْرًا يَسْتَرِيحُونَ فِيهِ، فَلَمَّا دَخَلُوا غَشِيَتْهُمْ خَيْلُ بَهْرَامَ جُوبِينَ وَمُقَدِّمُهَا رَجُلٌ اسْمُهُ بَهْرَامُ بْنُ سِيَاوِشَ، فَقَالَ بِنْدَوَيْهِ لِأَبْرَوِيزَ: احْتَلْ لِنَفْسِكَ. قَالَ: مَا عِنْدِي حِيلَةٌ! قَالَ بِنْدَوَيْهِ: أَنَا أَبْذُلُ نَفْسِي دُونَكَ، وَطَلَبَ مِنْهُ بَزَّتَهُ فَلَبِسَهَا، وَخَرَجَ أَبْرَوِيزُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الدَّيْرِ وَتَوَارَوْا بِالْجَبَلِ، وَوَافَى بَهْرَامُ الدَّيْرَ فَرَأَى بِنْدَوَيْهِ فَوْقَ الدَّيْرِ وَعَلَيْهِ بَزَّةُ أَبْرَوِيزَ، فَاعْتَقَدَهُ هُوَ وَسَأَلَهُ أَنْ يُنْظِرَهُ إِلَى غَدٍ لِيَصِيرَ إِلَيْهِ سِلْمًا، فَفَعَلَ، ثُمَّ ظَهَرَ مِنَ الْغَدِ عَلَى حِيلَتِهِ فَحَمَلَهُ إِلَى بَهْرَامَ جُوبِينَ فَحَبَسَهُ، وَدَخَلَ بَهْرَامُ جُوبِينَ دَارَ الْمُلْكِ وَقَعَدَ عَلَى السَّرِيرِ وَلَبِسَ التَّاجَ، فَانْصَرَفَتِ الْوُجُوهُ عَنْهُ، لَكِنَّ النَّاسَ أَطَاعُوهُ خَوْفًا، وَوَاطَأَ بَهْرَامُ بْنُ سِيَاوِشَ بِنْدَوَيْهِ عَلَى الْفَتْكِ بِبَهْرَامَ جُوبِينَ، فَعَلِمَ بَهْرَامُ جُوبِينَ بِذَلِكَ فَقَتَلَ بَهْرَامَ وَأَفْلَتَ بِنْدَوَيْهِ فَلَحِقَ بِأَذْرَبِيجَانَ. وَسَارَ أَبْرَوِيزُ إِلَى أَنْطَاكِيَّةَ، وَأَرْسَلَ أَصْحَابَهُ إِلَى الْمَلِكِ، فَوَعَدَهُ النُّصْرَةَ وَتَزَوَّجَ أَبْرَوِيزُ ابْنَةَ الْمَلِكِ مُورِيقَ، وَاسْمُهَا مَرْيَمُ، وَجَهَّزَ مَعَهُ الْعَسَاكِرَ الْكَثِيرَةَ، فَبَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا فِيهِمْ رَجُلٌ يُعَدُّ بِأَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَرَتَّبَهُمْ أَبْرَوِيزُ وَسَارَ بِهِمْ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، فَوَافَاهُ بِنْدَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُقَدَّمِينَ وَالْأَسَاوِرَةِ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفَ فَارِسٍ مِنْ أَصْبَهَانَ وَفَارِسَ وَخُرَاسَانَ، وَسَارَ إِلَى الْمَدَائِنِ. وَخَرَجَ بَهْرَامُ جُوبِينَ نَحْوَهُ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا حَرْبٌ شَدِيدَةٌ، فَقُتِلَ فِيهَا الْفَارِسُ الرُّومِيُّ الَّذِي يُعَدُّ بِأَلْفِ فَارِسٍ. ثُمَّ انْهَزَمَ بَهْرَامُ جُوبِينَ، وَسَارَ إِلَى التُّرْكِ، وَسَارَ أَبْرَوِيزُ مِنَ الْمَعْرَكَةِ وَدَخَلَ الْمَدَائِنَ وَفَرَّقَ الْأَمْوَالَ فِي الرُّومِ، فَبَلَغَتْ جُمْلَتُهَا عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ فَأَعَادَهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ. وَأَقَامَ بَهْرَامُ جُوبِينَ عِنْدَ التُّرْكِ مُكَرَّمًا، فَأَرْسَلَ أَبْرَوِيزُ إِلَى زَوْجَةِ الْمَلِكِ، وَأَجْزَلَ لَهَا الْهَدِيَّةَ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَغَيْرِهَا، وَطَلَبَ مِنْهَا قَتْلَ بَهْرَامَ، فَوَضَعَتْ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ، فَاشْتَدَّ قَتْلُهُ عَلَى مَلِكِ التُّرْكِ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ زَوْجَتَهُ قَتَلَتْهُ فَطَلَّقَهَا. ثُمَّ إِنَّ أَبْرَوِيزَ قَتَلَ بِنْدَوَيْهِ، وَأَرَادَ قَتْلَ بِسْطَامٍ فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى طَبَرِسْتَانَ لِحَصَانَتِهَا، فَوَضَعَ أَبْرَوِيزُ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ. وَأَمَّا الرُّومُ فَإِنَّهُمْ خَلَعُوا مَلِكَهُمْ مُورِيقَ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ مُلْكِ أَبْرَوِيزَ، وَقَتَلُوهُ وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بَطْرِيقًا اسْمُهُ فُوقَاسُ، فَأَبَادَ ذُرِّيَّةَ مُورِيقَ سِوَى ابْنٍ لَهُ هَرَبَ إِلَى

كِسْرَى أَبْرَوِيزَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ الْعَسَاكِرَ وَتَوَجَّهَ وَمَلَّكَهُ عَلَى الرُّومِ وَجَعَلَ عَلَى عَسَاكِرِهِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مِنْ قُوَّادِهِ وَأَسَاوِرَتِهِ. أَمَّا أَحَدُهُمْ فَكَانَ يُقَالُ لَهُ بُورَانُ، وَجَّهَهُ فِي جَيْشٍ مِنْهَا إِلَى الشَّامِ، فَدَخَلَهَا حَتَّى دَخَلَ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَأَخَذَ خَشَبَةَ الصَّلِيبِ الَّتِي تَزْعُمُ النَّصَارَى أَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صُلِبَ عَلَيْهَا فَأَرْسَلَهَا إِلَى كِسْرَى أَبْرَوِيزَ. وَأَمَّا الْقَائِدُ الثَّانِي فَكَانَ يُقَالُ لَهُ شَاهِينُ، فَسَيَّرَهُ فِي جَيْشٍ آخَرَ إِلَى مِصْرَ، فَافْتَتَحَهَا وَأَرْسَلَ مَفَاتِيحَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ إِلَى أَبْرَوِيزَ. وَأَمَّا الْقَائِدُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَعْظَمُهُمْ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ فَرُّخَانُ، وَتُدْعَى مَرْتَبَتُهُ شَهْرَبَرَازْ، وَجَعَلَ مَرْجِعَ الْقَائِدَيْنِ الْأَوَّلِينَ إِلَيْهِ. وَكَانَتْ وَالِدَتُهُ مُنْجِبَةً لَا تَلِدُ إِلَّا نَجِيبًا، فَأَحْضَرَهَا أَبْرَوِيزُ وَقَالَ لَهَا: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوَجِّهَ جَيْشًا إِلَى الرُّومِ، أَسْتَعْمِلُ عَلَيْهِ بَعْضَ بَنِيكِ، فَأَشِيرِي عَلَيَّ أَيَّهُمْ أَسْتَعْمِلُ؟ . فَقَالَتْ: أَمَّا فُلَانٌ فَأَرْوَغُ مِنْ ثَعْلَبٍ، وَأَحْذَرُ مِنْ صَقْرٍ، وَأَمَّا فَرُّخَانُ فَهُوَ أَنْفَذُ مِنْ سِنَانٍ، وَأَمَّا شَهْرَبَرَازْ فَهُوَ أَحْلَمُ مِنْ كَذَا. فَقَالَ: قَدِ اسْتَعْمَلْتُ الْحَلِيمَ، فَوَلَّاهُ أَمْرَ الْجَيْشِ، فَسَارَ إِلَى الرُّومِ فَقَتَلَهُمْ، وَخَرَّبَ مَدَائِنَهُمْ، وَقَطَعَ أَشْجَارَهُمْ، وَسَارَ فِي بِلَادِهِمْ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، حَتَّى نَزَلَ عَلَى خَلِيجِهَا الْقَرِيبِ مِنْهَا يَنْهَبُ وَيُغِيرُ وَيُخَرِّبُ، فَلَمْ يَخْضَعْ لِابْنِ مُورِيقَ أَحَدٌ وَلَا أَطَاعَهُ، غَيْرَ أَنَّ الرُّومَ قَتَلُوا فُوقَاسَ لِفَسَادِهِ وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ هِرَقْلَ، وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الشَّامَ مِنْهُ. فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ مَا أَهَمَّ الرُّومَ مِنَ النَّهْبِ وَالْقَتْلِ وَالْبَلَاءِ تَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَدَعَاهُ، فَرَأَى فِي مَنَامِهِ رَجُلًا كَثَّ اللِّحْيَةِ رَفِيعَ الْمَجْلِسِ عَلَيْهِ بَزَّةٌ حَسَنَةٌ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا دَاخِلٌ فَأَلْقَى ذَلِكَ الرَّجُلَ عَنْ مَجْلِسِهِ وَقَالَ لِهِرَقْلَ: إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُهُ فِي يَدِكَ، فَاسْتَيْقَظَ، فَلَمْ

يَقُصَّ رُؤْيَاهُ، فَرَأَى فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ ذَلِكَ الرَّجُلَ جَالِسًا فِي مَجْلِسِهِ، وَقَدْ دَخَلَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ وَبِيَدِهِ سِلْسِلَةٌ، فَأَلْقَاهَا فِي عُنُقِ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَسَلَّمَهُ إِلَى هِرَقْلَ وَقَالَ: قَدْ دَفَعْتُ إِلَيْكَ كِسْرَى بِرُمَّتِهِ فَاغْزُهُ، فَإِنَّكَ مُدَالٌ عَلَيْهِ، وَبَالِغْ أُمْنِيَّتَكَ فِي أَعْدَائِكَ. فَقَصَّ حِينَئِذٍ هَذِهِ الرُّؤْيَا عَلَى عُظَمَاءِ الرُّومِ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ أَنْ يَغْزُوَهُ، فَاسْتَعَدَّ هِرَقْلُ وَأَخْلَفَ ابْنًا لَهُ عَلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَسَلَكَ غَيْرَ الطَّرِيقِ الَّذِي عَلَيْهِ شَهْرَبَرَازْ، وَسَارَ حَتَّى أَوْغَلَ فِي بِلَادِ أَرْمِينِيَّةَ، وَقَصَدَ الْجَزِيرَةَ فَنَزَلَ نَصِيبِينَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ كِسْرَى جُنْدًا وَأَمَرَهُمْ بِالْمُقَامِ بِالْمَوْصِلِ، وَأَرْسَلَ إِلَى شَهْرَبَرَازْ يَسْتَحِثُّهُ عَلَى الْقُدُومِ لِيَتَضَافَرَا عَلَى قِتَالِ هِرَقْلَ. وَقِيلَ فِي مَسِيرِهِ غَيْرُ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ شَهْرَبَرَازْ سَارَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فَوَطِئَ الشَّامَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَذْرُعَاتٍ، وَلَقِيَ جُيُوشَ الرُّومِ بِهَا فَهَزَمَهَا وَظَفِرَ بِهَا وَسَبَى وَغَنِمَ وَعَظُمَ شَأْنُهُ. ثُمَّ إِنَّ فَرُّخَانَ أَخَا شَهْرَبَرَازْ شَرِبَ الْخَمْرَ يَوْمًا وَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنِّي جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِ كِسْرَى، فَبَلَغَ الْخَبَرُ كِسْرَى فَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ شَهْرَبَرَازْ يَأْمُرُهُ بِقَتْلِهِ، فَعَاوَدَهُ وَأَعْلَمَهُ شَجَاعَتَهُ وَنِكَايَتَهُ فِي الْعَدُوِّ، فَعَادَ كِسْرَى وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِقَتْلِهِ، فَرَاجَعَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الثَّالِثَةَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَكَتَبَ كِسْرَى بِعَزْلِ شَهْرَبَرَازْ وَوِلَايَةِ فَرُّخَانَ الْعَسْكَرَ، فَأَطَاعَ شَهْرَبَرَازْ فَلَمَّا جَلَسَ عَلَى سَرِيرِ الْإِمَارَةِ أَلْقَى إِلَيْهِ الْقَاصِدُ بِوِلَايَتِهِ كِتَابًا صَغِيرًا مِنْ كِسْرَى يَأْمُرُهُ بِقَتْلِ شَهْرَبَرَازَ فَعَزَمَ عَلَى قَتْلِهِ، فَقَالَ لَهُ شَهْرَبَرَازُ: أَمْهِلْنِي حَتَّى أَكْتُبَ وَصِيَّتِي، فَأَمْهَلَهُ، فَأَحْضَرَ دُرْجًا وَأَخْرَجَ مِنْهُ كُتُبَ كِسْرَى الثَّلَاثَةَ وَأَطْلَعَهُ عَلَيْهَا وَقَالَ: أَنَا رَاجَعْتُ فِيكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَمْ أَقْتُلْكَ، وَأَنْتَ تَقْتُلُنِي فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَاعْتَذَرَ أَخُوهُ إِلَيْهِ وَأَعَادَهُ إِلَى الْإِمَارَةِ وَاتَّفَقَا عَلَى مُوَافَقَةِ مَلِكِ الرُّومِ عَلَى كِسْرَى، فَأَرْسَلَ شَهْرَبَرَازْ إِلَى هِرَقْلَ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً لَا يَبْلُغُهَا الْبَرِيدُ وَلَا تَسَعُهَا الصُّحُفُ، فَالْقَنِي فِي خَمْسِينَ رُومِيًّا، فَإِنِّي أَلْقَاكَ فِي خَمْسِينَ فَارِسِيًّا، فَأَقْبَلَ قَيْصَرُ فِي جُيُوشِهِ جَمِيعِهَا، وَوَضَعَ عُيُونَهُ تَأْتِيهِ بِخَبَرِ شَهْرَبَرَازْ، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ مَكِيدَةً، فَأَتَتْهُ عُيُونُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ فِي خَمْسِينَ فَارِسِيًّا، فَحَضَرَ عِنْدَهُ فِي مِثْلِهَا، وَاجْتَمَعَا وَبَيْنَهُمَا تُرْجُمَانٌ فَقَالَ لَهُ: أَنَا وَأَخِي خَرَّبْنَا بِلَادَكَ وَفَعَلْنَا مَا عَلِمْتَ، وَقَدْ حَسَدَنَا كِسْرَى وَأَرَادَ قَتْلَنَا، وَقَدْ خَلَعْنَاهُ وَنَحْنُ نُقَاتِلُ مَعَكَ. فَفَرِحَ هِرَقْلُ بِذَلِكَ وَاتَّفَقَا

عَلَيْهِ وَقَتَلَا التُّرْجُمَانَ لِئَلَّا يُفْشِيَ سِرَّهُمَا، وَسَارَ هِرَقْلُ فِي جَيْشِهِ إِلَى نَصِيبِينَ. وَبَلَغَ كِسْرَى أَبْرَوِيزَ الْخَبَرُ وَأَرْسَلَ لِمُحَارَبَةِ هِرَقْلَ قَائِدًا مِنْ قُوَّادِهِ اسْمُهُ رَاهَزَارُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ بِنِينَوَى مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ عَلَى دِجْلَةَ يَمْنَعُ هِرَقْلَ مِنْ أَنْ يَجُوزَهَا، وَأَقَامَ هُوَ بِدَسْكَرَةِ الْمُلْكِ، فَأَرْسَلَ رَاهَزَارُ الْعُيُونَ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ هِرَقْلَ فِي سَبْعِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى كِسْرَى يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَعْجَزُ عَنْ قِتَالِ هَذَا الْجَمْعِ الْكَثِيرِ، فَلَمْ يَعْذُرْهُ وَأَمَرَهُ بِقِتَالِهِ، فَأَطَاعَ وَعَبَّى جُنْدَهُ، وَسَارَ هِرَقْلُ نَحْوَ جُنُودِ كِسْرَى، وَقَطَعَ دِجْلَةَ مِنْ غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ رَاهَزَارُ، فَقَصَدَهُ رَاهَزَارُ وَلَقِيَهُ، فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ رَاهَزَارُ وَسِتَّةُ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ أَبْرَوِيزَ وَهُوَ بِدَسْكَرَةِ الْمُلْكِ، فَهَدَّهُ ذَلِكَ وَعَادَ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَتَحَصَّنَ بِهَا لِعَجْزِهِ عَنْ مُحَارَبَةِ هِرَقْلَ، وَكُتَبَ إِلَى قُوَّادِ الْجُنْدِ الَّذِينَ انْهَزَمُوا يَتَهَدَّدُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فَأَحْوَجَهُمْ إِلَى الْخِلَافِ عَلَيْهِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَسَارَ هِرَقْلُ حَتَّى قَارَبَ الْمَدَائِنَ ثُمَّ عَادَ إِلَى بِلَادِهِ. وَكَانَ سَبَبَ عَوْدِهِ أَنَّ كِسْرَى لَمَّا عَجِزَ عَنْ هِرَقْلَ أَعْمَلَ الْحِيلَةَ، فَكَتَبَ كِتَابًا إِلَى شَهْرَبَرَازْ يَشْكُرُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيَقُولُ لَهُ: أَحْسَنْتَ فِي فِعْلِ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ مِنْ مُوَاصَلَةِ مَلِكِ الرُّومِ وَتَمْكِينِهِ مِنَ الْبِلَادِ، وَالْآنَ قَدْ أَوْغَلَ وَأَمْكَنَ مِنْ نَفْسِهِ، فَتَجِيءُ أَنْتَ مِنْ خَلْفِهِ وَأَنَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَيَكُونُ اجْتِمَاعُنَا عَلَيْهِ يَوْمَ كَذَا فَلَا يُفْلِتُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. ثُمَّ جَعَلَ الْكِتَابَ فِي عُكَّازِ أَبَنُوسَ، وَأَحْضَرَ رَاهِبًا كَانَ فِي دَيْرٍ عِنْدَ الْمَدَائِنِ وَقَالَ لَهُ: لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ. فَقَالَ الرَّاهِبُ: الْمَلِكُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ إِلَيَّ حَاجَةٌ وَلَكِنَّنِي عَبْدُهُ. قَالَ: إِنَّ الرُّومَ قَدْ نَزَلُوا قَرِيبًا مِنَّا، وَقَدْ حَفِظُوا الطُّرُقَ عَنَّا، وَلِي إِلَى أَصْحَابِي الَّذِينَ بِالشَّامِ حَاجَةٌ، وَأَنْتَ نَصْرَانِيٌّ إِذَا جُزْتَ عَلَى الرُّومِ لَا يُنْكِرُونَكَ، وَقَدْ كَتَبْتُ كِتَابًا وَهُوَ فِي هَذِهِ الْعُكَّازَةِ فَتُوصِلُهُ إِلَى شَهْرَبَرَازْ، وَأَعْطَاهُ مِائَتَيْ دِينَارٍ. فَأَخَذَ الْكِتَابِ وَفَتَحَهُ وَقَرَأَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ وَسَارَ، فَلَمَّا صَارَ بِالْعَسْكَرِ وَرَأَى الرُّومَ وَالرُّهْبَانَ وَالنَّوَاقِيسَ رَقَّ قَلْبُهُ وَقَالَ: أَنَا شَرُّ النَّاسِ إِنْ أَهْلَكْتُ النَّصْرَانِيَّةَ! فَأَقْبَلَ إِلَى سُرَادِقِ الْمَلِكِ وَأَنْهَى حَالَهُ وَأَوْصَلَ الْكِتَابَ إِلَيْهِ. فَقَرَأَهُ ثُمَّ أَحْضَرَ أَصْحَابُهُ رَجُلًا قَدْ أَخَذُوهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّامِ قَدْ وَاطَأَهُ كِسْرَى وَمَعَهُ كِتَابٌ

ذكر ما رأى كسرى من الآيات بسبب رسول الله - صلى الله عليه وسلم

قَدِ افْتَعَلَهُ عَلَى لِسَانِ شَهْرَبَرَازْ إِلَى كِسْرَى يَقُولُ: إِنَّنِي مَازِلْتُ أُخَادِعُ مَلِكَ الرُّومِ، حَتَّى اطْمَأَنَّ إِلَيَّ، وَجَازَ إِلَى الْبِلَادِ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَيُعَرِّفُنِي الْمَلِكُ فِي أَيِّ يَوْمٍ يَكُونُ لِقَاؤُهُ، حَتَّى أَهْجُمَ أَنَا عَلَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ وَالْمَلِكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَلَا يَسْلَمُ هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ، وَآمَرَهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ طَرِيقًا يُؤْخَذُ فِيهَا. فَلَمَّا قَرَأَ مَلِكُ الرُّومِ الْكِتَابَ الثَّانِيَ تَحَقَّقَ الْخَبَرَ، فَعَادَ شِبْهَ الْمُنْهَزِمِ مُبَادِرًا إِلَى بِلَادِهِ، وَوَصَلَ خَبَرُ عَوْدَةِ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى شَهْرَبَرَازْ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَدْرِكَ مَا فَرَّطَ مِنْهُ، فَعَارَضَ الرُّومَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا وَكَتَبَ إِلَى كِسْرَى: إِنَّنِي عَمِلْتُ الْحِيلَةَ عَلَى الرُّومِ حَتَّى صَارُوا فِي الْعِرَاقِ، وَأَنْفَذَ مِنْ رُءُوسِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا. وَفِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الم - غُلِبَتِ الرُّومُ - فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 1 - 3] ، يَعْنِي بِأَدْنَى الْأَرْضِ أَذْرُعَاتٍ، وَهِيَ أَدْنَى أَرْضِ الرُّومِ إِلَى الْعَرَبِ، وَكَانَتِ الرُّومُ قَدْ هُزِمَتْ بِهَا فِي بَعْضِ حُرُوبِهَا. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ سَاءَهُمْ ظَفَرُ الْفُرْسِ أَوَّلًا بِالرُّومِ ; لِأَنَّ الرُّومَ أَهْلُ كِتَابٍ، وَفَرِحَ الْكُفَّارُ لِأَنَّ الْمَجُوسَ أُمِّيُّونَ مِثْلُهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ رَاهَنَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ عَلَى أَنَّ الظَّفَرَ يَكُونُ لِلرُّومِ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ، وَالرَّهْنُ مِائَةُ بَعِيرٍ، فَغَلَبَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ ذَلِكَ الْوَقْتُ حَرَامًا، فَلَمَّا ظَفِرَتِ الرُّومُ أَتَى الْخَبَرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. [ذِكْرُ مَا رَأَى كِسْرَى مِنَ الْآيَاتِ بِسَبَبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]

فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كِسْرَى أَبْرَوِيزَ سَكَنَ دِجْلَةَ الْعَوْرَاءَ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً، وَكَانَ طَاقُ مَجْلِسِهِ قَدْ بُنِيَ بُنْيَانًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، وَكَانَ عِنْدَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ رَجُلًا مِنَ الْحُزَاةِ مِنْ بَيْنِ كَاهِنٍ وَسَاحِرٍ وَمُنَجِّمٍ، وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ اسْمُهُ السَّايِبُ، بَعَثَ بِهِ بَاذَانُ مِنَ الْيَمَنِ، وَكَانَ كِسْرَى إِذَا أَحْزَنَهُ أَمْرُ جَمَعَهُمْ فَقَالَ: انْظُرُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ مَا هُوَ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْبَحَ كِسْرَى وَقَدِ انْقَصَمَ طَاقُ مُلْكِهِ مِنْ غَيْرِ ثُقْلٍ، وَانْحَرَفَتْ عَلَيْهِ دِجْلَةُ الْعَوْرَاءُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ حَزَنَهُ فَقَالَ: انْقَصَمَ طَاقُ مُلْكِي مِنْ غَيْرِ ثُقْلٍ، وَانْخَرَقَتْ دِجْلَةُ الْعَوْرَاءُ " شَاهْ بِشْكَسْتَ "، يَقُولُ: الْمُلْكُ انْكَسَرَ. ثُمَّ دَعَا كُهَّانَهُ وَسُحَّارَهُ وَمُنَجِّمِيهِ، وَفِيهِمُ السَّايِبُ، فَقَالَ لَهُمْ: انْظُرُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ. فَنَظَرُوا فِي أَمْرِهِ فَأَخَذَتْ عَلَيْهِ أَقْطَارُ السَّمَاءِ وَأَظْلَمَتِ الْأَرْضُ، فَلَمْ يَمْضِ لَهُمْ مَا رَامُوهُ، وَبَاتَ السَّايِبُ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ عَلَى رَبْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ يَنْظُرُ، فَرَأَى بَرْقًا مِنْ قِبَلِ الْحِجَازِ اسْتِطَارَ فَبَلَغَ الْمَشْرِقَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَأَى تَحْتَ قَدَمَيْهِ رَوْضَةً خَضْرَاءَ، فَقَالَ فِيمَا يَعْتَافُ: إِنْ صَدَقَ مَا أَرَى لَيَخْرُجَنَّ مِنَ الْحِجَازِ سُلْطَانٌ يَبْلُغُ الْمَشْرِقَ تَخْصُبُ عَلَيْهِ الْأَرْضُ كَأَفْضَلِ مَا أَخْصَبَتْ عَلَى مَلِكٍ. فَلَمَّا خَلُصَ الْكُهَّانُ وَالْمُنَجِّمُونَ وَالسُّحَّارُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَرَأَوْا مَا أَصَابَهُمْ، وَرَأَى السَّايِبُ مَا رَأَى، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: وَاللَّهِ مَا حِيلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عِلْمِكُمْ إِلَّا لِأَمْرٍ جَاءَ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنَّهُ لَنَبِيٌّ بُعِثَ أَوْ هُوَ مَبْعُوثٌ يَسْلُبُ هَذَا الْمُلْكَ وَيَكْسِرُهُ، وَلَئِنْ نَعَيْتُمْ لِكِسْرَى مُلْكَهُ لَيَقْتُلَنَّكُمْ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَكْتُمُوهُ الْأَمْرَ وَقَالُوا لَهُ: قَدْ نَظَرْنَا فَوَجَدْنَا أَنَّ وَضْعَ دِجْلَةَ الْعَوْرَاءَ وَطَاقَ الْمُلْكِ قَدْ وُضِعَ عَلَى النُّحُوسِ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَقَعَتِ النُّحُوسُ

مَوَاقِعَهَا فَزَالَ كُلُّ مَا وُضِعَ عَلَيْهَا، وَإِنَّا نَحْسِبُ لَكَ حِسَابًا تَضَعُ عَلَيْهِ بُنْيَانَكَ فَلَا يَزُولُ، فَحَسَبُوا وَأَمَرُوهُ بِالْبِنَاءِ، فَبَنَى دِجْلَةَ الْعَوْرَاءَ فِي ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا أَمْوَالًا جَلِيلَةً حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ لَهُمْ: أَجْلِسُ عَلَى سُورِهَا؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَجَلَسَ فِي أَسَاوِرَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ هُنَاكَ انْتَسَفَتْ دِجْلَةُ الْبُنْيَانَ مِنْ تَحْتِهِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَّا بِآخِرِ رَمَقٍ. فَلَمَّا أَخْرَجُوهُ جَمَعَ كُهَّانَهُ وَسُحَّارَهُ وَمُنَجِّمِيهِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَةٍ وَقَالَ: قَرَّبْتُكُمْ وَأَجْرَيْتُ عَلَيْكُمُ الْأَرْزَاقَ ثُمَّ أَنْتُمْ تَلْعَبُونَ بِي! فَقَالُوا: أَيُّهَا الْمَلِكُ أَخْطَأْنَا كَمَا أَخْطَأَ مَنْ قَبْلَنَا. ثُمَّ حَسَبُوا لَهُ وَبَنَاهُ وَفَرَغَ مِنْهُ وَأَمَرُوهُ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ، فَخَافَ فَرَكِبَ فَرَسًا وَسَارَ عَلَى الْبِنَاءِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ انْتَسَفَتْهُ دِجْلَةُ فَلَمْ يُدْرَكْ إِلَّا بِآخِرِ رَمَقٍ، فَدَعَاهُمْ وَقَالَ: لَأَقْتُلَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ أَوْ لَتَصْدُقُونِي. فَصَدَقُوهُ الْأَمْرَ، فَقَالَ: وَيْحَكُمْ هَلَّا بَيَّنْتُمْ لِي فَأَرَى فِيهِ رَأْيِي؟ قَالُوا: مَنَعَنَا الْخَوْفُ. فَتَرَكَهُمْ وَلَهَا عَنْ دِجْلَةَ حِينَ غَلَبَتْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْبَطَائِحِ، وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَانَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا عَامِرَةً. فَلَمَّا جَاءَتْ سَنَةُ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ إِلَى كِسْرَى، فَزَادَتِ الْفُرَاتُ وَالدِّجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً لَمْ يُرَ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا مِثْلَهَا، فَانْبَثَقَتِ الْبُثُوقُ وَانْتَسَفَتْ مَا كَانَ بَنَاهُ كِسْرَى وَاجْتَهَدَ أَنْ يَكْسِرَهَا فَغَلَبَهُ الْمَاءُ، كَمَا بَيَّنَّا، وَمَالَ إِلَى مَوْضِعِ الْبَطَائِحِ فَطَمَا الْمَاءُ عَلَى الزُّرُوعِ وَغَرِقَ عِدَّةُ طَسَاسِيجَ، ثُمَّ دَخَلَتِ الْعَرَبُ أَرْضَ الْفُرْسِ، وَشَغَلَتْهُمْ عَنْ عَمَلِهَا بِالْحُرُوبِ وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ. فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الْحَجَّاجِ تَفَجَّرَتْ بُثُوقٌ أُخَرُ فَلَمْ يَسُدَّهَا مُضَارَّةً لِلدَّهَاقِينِ لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُمْ بِمُمَالَأَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَعَظُمَ الْخَطْبُ فِيهَا وَعَجِزَ النَّاسُ عَنْ عَمَلِهَا، فَبَقِيَتْ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْآنَ. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَى كِسْرَى مَلَكًا وَهُوَ فِي بَيْتِ إِيوَانِهِ الَّذِي لَا يُدْخَلُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُعْهُ إِلَّا بِهِ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ فِي يَدِهِ عَصًا بِالْهَاجِرَةِ فِي سَاعَتِهِ الَّتِي يُقِيلُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا كِسْرَى أَتُسْلِمُ أَوْ أَكْسِرُ هَذِهِ الْعَصَا؟ فَقَالَ: بِهِلْ بِهِلْ! وَانْصَرَفَ عَنْهُ فَدَعَا بِحُرَّاسِهِ وَحُجَّابِهِ فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: مَنْ أَدْخَلَ هَذَا الرَّجُلَ؟ فَقَالُوا: مَا دَخَلَ عَلَيْنَا أَحَدٌ وَلَا رَأَيْنَاهُ! حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ أَتَاهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَقَالَ لَهُ: أَتُسْلِمُ أَوْ أَكْسِرُ الْعَصَا؟ فَقَالَ: بِهِلْ بِهِلْ! وَتَغَيَّظَ عَلَى حُجَّابِهِ وَحُرَّاسِهِ. فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ

الثَّالِثُ أَتَاهُ فَقَالَ: أَتُسْلِمُ أَوْ أَكْسِرُ الْعَصَا؟ فَقَالَ: بِهِلْ بِهِلْ! فَكَسَرَ الْعَصَا ثُمَّ خَرَجَ. فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا تَهَوُّرُ مُلْكِهِ وَانْبِعَاثُ ابْنِهِ وَالْفُرْسِ حَتَّى قَتَلُوهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: «قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى كِسْرَى فِيكَ؟ قَالَ: (بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَأَخْرَجَ يَدَهُ إِلَيْهِ مِنْ جِدَارِ بَيْتِهِ تَلَأْلَأُ نُورًا، فَلَمَّا رَآهَا فَزِعَ فَقَالَ لَهُ: لَا تُرَعْ يَا كِسْرَى! إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا فَاتَّبِعْهُ تَسْلَمْ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ. قَالَ: سَأَنْظُرُ) » . ذِكْرُ وَقْعَةِ ذِي قَارٍ وَسَبَبِهِ ذَكَرُوا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لَمَّا بَلَغَهُ مَا كَانَ مِنْ ظَفَرِ رَبِيعَةَ بِجَيْشِ كِسْرَى: (هَذَا أَوَّلُ يَوْمٍ انْتَصَفَ الْعَرَبُ فِيهِ مِنَ الْعَجَمِ وَبِي نُصِرُوا) » . فَحَفِظَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَكَانَ يَوْمَ الْوَاقِعَةِ. قَالَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ: كَانَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ التَّمِيمِيُّ وَأَخُوهُ عَمَّارٌ، وَهُوَ أُبَيٌّ، وَعَمْرٌو، وَهُوَ سُمَيٌّ، يَكُونُونَ مَعَ الْأَكَاسِرَةِ وَلَهُمْ إِلَيْهِمُ انْقِطَاعٌ، وَكَانَ الْمُنْذِرُ بْنُ الْمُنْذِرِ لَمَّا مَلَكَ جَعَلَ ابْنَهُ النُّعْمَانَ فِي حِجْرِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَ لَهُ غَيْرَ النُّعْمَانِ أَحَدَ عَشَرَ وَلَدًا وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْأَشَاهِبَ لِجَمَالِهِمْ. فَلَمَّا مَاتَ الْمُنْذِرُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَخَلَّفَ أَوْلَادَهُ أَرَادَ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ أَنْ يُمَلِّكَ عَلَى الْعَرَبِ مَنْ يَخْتَارُهُ، فَأَحْضَرَ عَدِيَّ بْنَ زَيْدٍ وَسَأَلَهُ عَنْ أَوْلَادِ الْمُنْذِرِ، فَقَالَ: هُمْ رِجَالٌ، فَأَمَرَهُ بِإِحْضَارِهِمْ. فَكَتَبَ عَدِيٌّ فَأَحْضَرَهُمْ وَأَنْزَلَهُمْ، وَكَانَ يُفَضِّلُ إِخْوَةَ النُّعْمَانِ عَلَيْهِ وَيُرِيهِمْ أَنَّهُ لَا يَرْجُو النُّعْمَانَ وَيَخْلُو بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ وَيَقُولُ لَهُ: إِذَا سَأَلَكَ الْمَلِكُ أَتَكْفُونَنِي الْعَرَبَ؟ قُولُوا: نَكْفِيكَهُمْ إِلَّا النُّعْمَانَ. وَقَالَ لِلنُّعْمَانِ: إِذَا سَأَلَكَ الْمَلِكُ عَنْ إِخْوَتِكَ فَقُلْ لَهُ: إِذَا عَجِزْتُ عَنْ إِخْوَتِي فَأَنَا عَنْ غَيْرِهِمْ أَعْجَزُ. وَكَانَ مِنْ بَنِي مَرِينَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَدِيُّ بْنُ أَوْسِ بْنِ مَرِينَا، وَكَانَ دَاهِيًا شَاعِرًا، وَكَانَ

يَقُولُ لِلْأَسْوَدِ بْنِ الْمُنْذِرِ: قَدْ عَرَفْتَ أَنِّي أَرْجُوكَ وَعَيْنِي إِلَيْكَ، وَإِنَّنِي أُرِيدُكَ أَنْ تُخَالِفَ عَدِيَّ بْنَ زَيْدٍ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَا يَنْصَحُ لَكَ أَبَدًا! فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ. فَلَمَّا أَمَرَ كِسْرَى عَدِيَّ بْنَ زَيْدٍ أَنْ يُحْضِرَهُمْ، أَحْضَرَهُمْ رَجُلًا رَجُلًا وَسَأَلَهُمْ كِسْرَى: أَتَكْفُونَنِي الْعَرَبَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ إِلَّا النُّعْمَانَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ النُّعْمَانُ رَأَى رَجُلًا دَمِيمًا أَحْمَرَ أَبْرَشَ قَصِيرًا فَقَالَ لَهُ: أَتَكْفِينِي إِخْوَتَكَ وَالْعَرَبَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ عَجَزْتُ عَنْ إِخْوَتِي فَأَنَا عَنْ غَيْرِهِمْ أَعْجَزُ. فَمَلَّكَهُ وَكَسَاهُ وَأَلْبَسَهُ تَاجًا قِيمَتُهُ سِتُّونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ عَدِيُّ بْنُ مَرِينَا لِلْأَسْوَدِ: دُونَكَ فَقَدْ خَالَفْتَ الرَّأْيَ. ثُمَّ صَنَعَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ طَعَامًا وَدَعَا عَدِيَّ بْنَ مَرِينَا إِلَيْهِ وَقَالَ: إِنِّي عَرَفْتُ أَنَّ صَاحِبَكَ الْأَسْوَدَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ صَاحِبِي النُّعْمَانِ، فَلَا تَلُمْنِي عَلَى شَيْءٍ كُنْتَ عَلَى مِثْلِهِ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَلَّا تَحْقِدَ عَلَيَّ، وَإِنَّ نَصِيبِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ لَيْسَ بِأَوْفَرَ مِنْ نَصِيبِكَ، وَحَلَفَ لِابْنِ مَرِينَا أَنْ لَا يَهْجُوهُ وَلَا يَبْغِيهِ غَائِلَةً أَبَدًا، فَقَامَ ابْنُ مَرِينَا وَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يَهْجُوهُ وَيَبْغِيهِ الْغَوَائِلَ. وَسَارَ النُّعْمَانُ حَتَّى نَزَلَ الْحِيرَةَ، وَقَالَ ابْنُ مَرِينَا لِلْأَسْوَدِ: إِذَا فَاتَكَ فَلَا تَعْجَزْ أَنْ تَطْلُبَ بِثَأْرِكَ مِنْ عَدِيٍّ فَإِنَّ مَعَدًّا لَا يَنَامُ مُكْرَهًا، وَأَمَرْتُكَ بِمَعْصِيَتِهِ فَخَالَفْتَنِي، وَأُرِيدُ أَنْ لَا يَأْتِيَكَ مِنْ مَالِكَ شَيْءٌ إِلَّا عَرَضْتَهُ عَلَيَّ. فَفَعَلَ. وَكَانَ ابْنُ مَرِينَا كَثِيرَ الْمَالِ، وَكَانَ لَا يُخَلِّي النُّعْمَانَ يَوْمًا مِنْ هَدِيَّةٍ وَطُرْفَةٍ، فَصَارَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَكَانَ إِذَا ذُكِرَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ وَصَفَهُ وَقَالَ: إِلَّا أَنَّهُ فِيهِ مَكْرٌ وَخَدِيعَةٌ، وَاسْتَمَالَ أَصْحَابَ النُّعْمَانِ، فَمَالُوا إِلَيْهِ، وَوَاضَعَهُمْ عَلَى أَنْ قَالُوا لِلنُّعْمَانِ: إِنَّ عَدِيَّ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ إِنَّكَ عَامِلُهُ، وَلَمْ يَزَالُوا بِالنُّعْمَانِ حَتَّى أَضْغَنُوهُ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَدِيٍّ يَسْتَزِيرُهُ، فَاسْتَأْذَنَ عَدِيٌّ كِسْرَى فِي ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِ حَتَّى حَبَسَهُ وَمَنَعَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ عَدِيٌّ يَقُولُ الشِّعْرَ وَهُوَ فِي السِّجْنِ، وَبَلَغَ النُّعْمَانَ قَوْلُهُ فَنَدِمَ عَلَى حَبْسِهِ إِيَّاهُ وَخَافَ مِنْهُ إِذَا أَطْلَقَهُ. فَكَتَبَ عَدِيٌّ إِلَى أَخِيهِ أُبَيٍّ أَبْيَاتًا يُعْلِمُهُ بِحَالِهِ، فَلَمَّا قَرَأَ أَبْيَاتَهُ وَكِتَابَهُ كَلَّمَ كِسْرَى فِيهِ، فَكَتَبَ إِلَى النُّعْمَانِ وَأَرْسَلَ رَجُلًا فِي إِطْلَاقِ عَدِيٍّ، وَتَقَدَّمَ أَخُو عَدِيٍّ إِلَى الرَّسُولِ بِالدُّخُولِ إِلَى عَدِيٍّ قَبْلَ النُّعْمَانِ، فَفَعَلَ وَدَخَلَ عَلَى عَدِيٍّ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ أُرْسِلَ لِإِطْلَاقِهِ،

فَقَالَ لَهُ عَدِيٌّ: لَا تَخْرُجْ مِنْ عِنْدِي وَأَعْطِنِي الْكِتَابَ حَتَّى أُرْسِلَهُ، فَإِنَّكَ إِنْ خَرَجْتَ مِنْ عِنْدِي قَتَلَنِي، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَدَخَلَ أَعْدَاءُ عَدِيٍّ عَلَى النُّعْمَانِ فَأَعْلَمُوهُ الْحَالَ وَخَوَّفُوهُ مِنْ إِطْلَاقِهِ، فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ فَخَنَقُوهُ ثُمَّ دَفَنُوهُ. وَجَاءَ الرَّسُولُ فَدَخَلَ عَلَى النُّعْمَانِ بِالْكِتَابِ فَقَالَ: نَعَمْ وَكَرَامَةٌ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ مِثْقَالٍ وَجَارِيَةٍ وَقَالَ: إِذَا أَصْبَحْتَ ادْخُلْ إِلَيْهِ فَخُذْهُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ الرَّسُولُ غَدَا إِلَى السِّجْنِ فَلَمْ يَرَ عَدِيًّا، وَقَالَ لَهُ الْحَرَسُ: إِنَّهُ مَاتَ مُنْذُ أَيَّامٍ. فَرَجَعَ إِلَى النُّعْمَانِ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَآهُ بِالْأَمْسِ وَلَمْ يَرَهُ الْيَوْمَ، فَقَالَ: كَذَبْتَ! وَزَادَهُ رِشْوَةً وَاسْتَوْثَقَ مِنْهُ أَنْ لَا يُخْبِرَ كِسْرَى، إِلَّا أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى النُّعْمَانِ. قَالَ: وَنَدِمَ النُّعْمَانُ عَلَى قَتْلِهِ، وَاجْتَرَأَ أَعْدَاءُ عَدِيٍّ عَلَى النُّعْمَانِ وَهَابَهُمْ هَيْبَةً شَدِيدَةً. فَخَرَجَ النُّعْمَانُ فِي بَعْضِ صَيْدِهِ، فَرَأَى ابْنًا لِعَدِيٍّ يُقَالُ لَهُ زَيْدٌ، فَكَلَّمَهُ وَفَرِحَ بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ أَبِيهِ وَسَيَّرَهُ، إِلَى كِسْرَى وَوَصَفَهُ لَهُ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهُ مَكَانَ أَبِيهِ، فَفَعَلَ كِسْرَى، وَكَانَ يَلِي مَا يُكْتَبُ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً، وَسَأَلَهُ كِسْرَى عَنِ النُّعْمَانِ فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، وَأَقَامَ عِنْدَ الْمَلِكِ سَنَوَاتٍ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِ، وَكَانَ يُكْثِرُ الدُّخُولَ عَلَى كِسْرَى. وَكَانَ لِمُلُوكِ الْأَعَاجِمِ صِفَةٌ لِلنِّسَاءِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُمْ، وَكَانُوا يَبْعَثُونَ فِي طَلَبِ مَنْ يَكُونُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ النِّسَاءِ وَلَا يَقْصِدُونَ الْعَرَبَ، فَقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ عَدِيٍّ: إِنِّي أَعْرِفُ عِنْدَ عَبْدِكَ النُّعْمَانِ مِنْ بَنَاتِهِ وَبَنَاتِ عَمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ امْرَأَةً عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. قَالَ: فَتَكْتُبُ فِيهِنَّ. قَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّ شَرَّ شَيْءٍ فِي الْعَرَبِ، وَفِي النُّعْمَانِ أَنَّهُمْ يَتَكَرَّمُونَ بِأَنْفُسِهِمْ عَنِ الْعَجَمِ، فَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تُعْنِتَهُنَّ، وَإِنْ قَدِمْتُ أَنَا عَلَيْهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَابْعَثْنِي وَابْعَثْ مَعِيَ رَجُلًا يَفْقَهُ الْعَرَبِيَّةَ، فَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلًا جَلْدًا، فَخَرَجَا حَتَّى بَلَغَا الْحِيرَةَ وَدَخَلَا عَلَى النُّعْمَانِ. قَالَ لَهُ زَيْدٌ: إِنَّ الْمَلِكَ احْتَاجَ إِلَى نِسَاءٍ لِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَأَرَادَ كَرَامَتَكَ فَبَعَثَ إِلَيْكَ. قَالَ: وَمَا هَؤُلَاءِ النِّسْوَةُ؟ قَالَ: هَذِهِ صِفَتُهُنَّ قَدْ جِئْنَا بِهَا. وَكَانَتِ الصِّفَةُ أَنَّ الْمُنْذِرَ أَهْدَى إِلَى أَنُوشِرْوَانَ جَارِيَةً أَصَابَهَا عِنْدَ الْغَارَةِ عَلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيِّ، وَكَتَبَ يَصِفُهَا أَنَّهَا مُعْتَدِلَةُ الْخَلْقِ، نَقِيَّةُ اللَّوْنِ وَالثَّغْرِ، بَيْضَاءُ، وَطْفَاءُ، قَمْرَاءُ، دَعْجَاءُ، حَوْرَاءُ، عَيْنَاءُ، قَنْوَاءُ، شَمَّاءُ، زَجَّاءُ

بَرْجَاءُ، أَسِيلَةُ الْخَدِّ، شَهِيَّةُ الْقَدِّ، جَثِيلَةُ الشَّعْرِ، بَعِيدَةُ مَهْوَى الْقُرْطِ، عَيْطَاءُ، عَرِيضَةُ الصَّدْرِ، كَاعِبُ الثَّدْيِ، ضَخْمَةُ مُشَاشَةِ الْمَنْكِبِ وَالْعَضُدِ، حَسَنَةُ الْمِعْصَمِ، لَطِيفَةُ الْكَفِّ، سَبْطَةُ الْبَنَانِ، لَطِيفَةُ طَيِّ الْبَطْنِ، خَمِيصَةُ الْخَصْرِ، غَرْثَى الْوِشَاحِ، رَدَاحُ الْقَبَلِ، رَابِيَةُ الْكَفَلِ، لَفَّاءُ الْفَخِذَيْنِ، رَيَّا الرَّوَادِفِ، ضَخْمَةُ الْمَأْكِمَتَيْنِ، عَظِيمَةُ الرُّكْبَةِ، مُفْعَمَةُ السَّاقِ، مُشْبَعَةُ الْخَلْخَالِ، لَطِيفَةُ الْكَعْبِ وَالْقَدَمِ، قَطُوفُ الْمَشْيِ، مِكْسَالُ الضُّحَى، بَضَّةُ الْمُتَجَرَّدِ، سَمُوعٌ لِلسَّيِّدِ، لَيْسَتْ بِخَنْسَاءَ وَلَا سَفْعَاءَ، ذَلِيلَةُ الْأَنْفِ، عَزِيزَةُ النَّفَرِ، لَمْ تُغَذَّ فِي بُؤْسٍ، حَيِيَّةٌ، رَزِينَةٌ، رَكِينَةٌ،

كَرِيمَةُ الْخَالِ، تَقْتَصِرُ بِنَسَبِ أَبِيهَا دُونَ فَصِيلَتِهَا، وَبِفَصِيلَتِهَا دُونَ جِمَاعِ قَبِيلَتِهَا، قَدْ أَحْكَمَتْهَا الْأُمُورُ فِي الْأَدَبِ، فَرَأْيُهَا رَأْيُ أَهْلِ الشَّرَفِ، وَعَمَلُهَا عَمَلُ أَهْلِ الْحَاجَةِ، صَنَاعُ الْكَفَّيْنِ، قَطِيعَةُ اللِّسَانِ، رَهْوَةُ الصَّوْتِ، تَزِينُ الْبَيْتَ وَتَشِينُ الْعَدُوَّ، إِنْ أَرَدْتَهَا اشْتَهَتْ، وَإِنْ تَرَكْتَهَا انْتَهَتْ، تُحَمْلِقُ عَيْنَاهَا، وَيَحْمَرُّ خَدَّاهَا، وَتَذَبْذَبُ شَفَتَاهَا، وَتُبَادِرُ الْوَثْبَةَ، وَلَا تَجْلِسُ إِلَّا بِأَمْرِكَ إِذَا جَلَسَتْ. فَقَبِلَهَا كِسْرَى وَأَمَرَ بِإِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَبَقِيَتْ إِلَى أَيَّامِ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ. فَقَرَأَ زَيْدٌ هَذِهِ الصِّفَةَ عَلَى النُّعْمَانِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَالَ لِزَيْدٍ، وَالرَّسُولُ يَسْمَعُ: أَمَا فِي عَيْنِ السَّوَادِ وَفَارِسَ مَا تَبْلُغُونَ حَاجَتَكُمْ! قَالَ الرَّسُولُ لِزَيْدٍ: مَا الْعَيْنُ؟ قَالَ: الْبَقَرُ. وَأَنْزَلَهُمَا يَوْمَيْنِ وَكَتَبَ إِلَى كِسْرَى: إِنَّ الَّذِي طَلَبَ الْمَلِكُ لَيْسَ عِنْدِي وَقَالَ لِزَيْدٍ اعْذُرْنِي عِنْدَهُ. فَلَمَّا عَادَ إِلَى كِسْرَى قَالَ لِزَيْدٍ: أَيْنَ مَا كُنْتَ أَخْبَرْتَنِي بِهِ؟ قَالَ: قَدْ قُلْتُ لِلْمَلِكِ وَعَرَّفْتُهُ بُخْلَهُمْ بِنِسَائِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ لِشَقَائِهِمْ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ، وَسَلْ هَذَا الرَّسُولَ عَنِ الَّذِي قَالَ، فَإِنِّي أُكْرِمُ الْمَلِكَ عَنْ ذَلِكَ. فَسَأَلَ الرَّسُولَ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَالَ: أَمَا فِي بَقَرِ السَّوَادِ وَفَارِسَ مَا يَكْفِيهِ حَتَّى يَطْلُبَ مَا عِنْدَنَا؟ فَعُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ وَقَالَ: رُبَّ عَبْدٍ قَدْ أَرَادَ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا فَصَارَ أَمْرُهُ إِلَى التَّبَابِ. وَبَلَغَ هَذَا الْكَلَامُ النُّعْمَانَ، وَسَكَتَ كِسْرَى عَلَى ذَلِكَ أَشْهُرًا وَالنُّعْمَانُ يَسْتَعِدُّ، حَتَّى أَتَاهُ كِتَابُ كِسْرَى يَسْتَدْعِيهِ. فَحِينَ وَصَلَ الْكِتَابُ أَخَذَ سِلَاحَهُ وَمَا قَوِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ

لَحِقَ بِجَبَلَيْ طَيِّءٍ، وَكَانَ مُتَزَوِّجًا إِلَيْهِمْ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ خَوْفًا مِنْ كِسْرَى، فَأَقْبَلَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْبَلُهُ، حَتَّى نَزَلَ فِي ذِي قَارٍ فِي بَنِي شَيْبَانَ سِرًّا، فَلَقِيَ هَانِئَ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ وَكَانَ سَيِّدًا مَنِيعًا، وَالْبَيْتُ مِنْ رَبِيعَةَ فِي آلِ ذِي الْجَدَّيْنِ لِقَيْسِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ ذِي الْجَدَّيْنِ، وَكَانَ كِسْرَى قَدْ أَطْعَمَهُ الْأُبُلَّةَ، فَكَرِهَ النُّعْمَانُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ أَهْلَهُ لِذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّ هَانِئًا يَمْنَعُهُ مِمَّا يَمْنَعُ مِنْهُ أَهْلَهُ، فَأَوْدَعَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَفِيهِ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْعٍ، وَقِيلَ: ثَمَانِمِائَةِ دِرْعٍ. وَتَوَجَّهَ النُّعْمَانُ إِلَى كِسْرَى فَلَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَدِيٍّ عَلَى قَنْطَرَةِ سَابَاطَ، فَقَالَ: انْجُ نُعَيْمُ. فَقَالَ: أَنْتَ يَا زَيْدُ فَعَلْتَ هَذَا! أَمَا وَاللَّهِ لَئِنِ انْفَلَتُّ لِأَفْعَلَنَّ بِكَ مَا فَعَلْتُ بِأَبِيكَ. فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: امْضِ نُعَيْمُ فَقَدْ وَاللَّهِ وَضَعْتُ لَكَ عِنْدَهُ أَخِيَّةً لَا يَقْطَعُهَا الْمُهْرُ الْأَرِنُ. فَلَمَّا بَلَغَ كِسْرَى أَنَّهُ بِالْبَابِ بَعَثَ إِلَيْهِ فَقَيَّدَهُ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى خَانِقِينَ حَتَّى وَقَعَ الطَّاعُونُ فَمَاتَ فِيهِ، قَالَ: وَالنَّاسُ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مَاتَ بِسَابَاطَ بِبَيْتِ الْأَعْشَى وَهُوَ يَقُولُ: فَذَاكَ وَمَا أَنْجَى مِنَ الْمَوْتِ رَبُّهُ ... بِسَابَاطَ حَتَّى مَاتَ وَهْوَ مُحَرْزَقُ ؟

وَكَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. فَلَمَّا مَاتَ اسْتَعْمَلَ كِسْرَى إِيَاسَ بْنَ قَبِيصَةَ الطَّائِيَّ عَلَى الْحِيرَةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ النُّعْمَانُ. وَكَانَ كِسْرَى اجْتَازَ بِهِ لَمَّا سَارَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً، فَشَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَبَعَثَ كِسْرَى بِأَنْ يَجْمَعَ مَا خَلَّفَهُ النُّعْمَانُ وَيُرْسِلَهُ إِلَيْهِ، فَبَعَثَ إِيَاسٌ إِلَى هَانِئِ بْنِ مَسْعُودٍ الشَّيْبَانِيِّ يَأْمُرُهُ بِإِرْسَالِ مَا اسْتَوْدَعَهُ النُّعْمَانُ، فَأَبَى هَانِئٌ أَنْ يُسَلِّمَ مَا عِنْدَهُ. فَلَمَّا أَبَى هَانِئٌ غَضِبَ كِسْرَى، وَعِنْدَهُ النُّعْمَانُ بْنُ زُرْعَةَ التَّغْلِبِيُّ، وَهُوَ يُحِبُّ هَلَاكَ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، فَقَالَ لِكِسْرَى: أَمْهِلْهُمْ حَتَّى يَقِيظُوا وَيَتَسَاقَطُوا عَلَى ذِي قَارٍ تَسَاقُطَ الْفَرَاشِ فِي النَّارِ فَتَأْخُذَهُمْ كَيْفَ شِئْتَ. فَصَبَرَ كِسْرَى حَتَّى جَاءُوا حِنْوَ ذِي قَارٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ كِسْرَى النُّعْمَانَ بْنَ زُرْعَةَ يُخَيِّرُهُمْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعْطُوا بِأَيْدِيهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُحَارِبُوا. فَوَلُّوا أَمْرَهُمْ حَنْظَلَةَ بْنَ ثَعْلَبَةَ الْعِجْلِيَّ، فَأَشَارَ بِالْحَرْبِ، فَآذَنُوا الْمَلِكَ بِالْحَرْبِ، فَأَرْسَلَ كِسْرَى إِيَاسَ بْنَ قَبِيصَةَ الطَّائِيَّ أَمِيرَ الْجَيْشِ، وَمَعَهُ مَرَازِبَةُ الْفُرْسِ وَالْهَامَرْزُ التُّسْتَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعَرَبِ تَغْلِبَ وَإِيَادَ وَقَيْسَ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ قَيْسِ بْنِ ذِي الْجَدَّيْنِ، وَكَانَ عَلَى طَفِّ سَفَوَانَ، فَأَرْسَلَ الْفُيُولَ، وَكَانَ قَدْ بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَسَّمَ هَانِئُ بْنُ مَسْعُودٍ دُرُوعَ النُّعْمَانِ وَسِلَاحَهُ. فَلَمَّا دَنَتِ الْفُرْسُ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ قَالَ هَانِئُ بْنُ مَسْعُودٍ: يَا مَعْشَرَ بَكْرٍ، إِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَكُمْ فِي قِتَالِ كِسْرَى فَارْكَنُوا إِلَى الْفَلَاةِ. فَسَارَعَ النَّاسُ إِلَى ذَلِكَ، فَوَثَبَ حَنْظَلَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الْعِجْلِيُّ وَقَالَ: يَا هَانِئُ أَرَدْتَ نَجَاءَنَا فَأَلْقَيْتَنَا فِي الْهَلَكَةِ، وَرَدَّ النَّاسَ وَقَطَّعَ وُضُنَ الْهَوَادِجِ، وَهِيَ الْحُزُمُ لِلرِّجَالِ، فَسُمِّيَ مُقَطِّعَ الْوُضُنِ، وَضَرَبَ عَلَى نَفْسِهِ قُبَّةً، وَأَقْسَمَ أَلَّا يَفِرَّ حَتَّى تَفِرَّ الْقُبَّةُ، فَرَجَعَ النَّاسُ وَاسْتَقَوْا مَاءً لِنِصْفِ شَهْرٍ. فَأَتَتْهُمُ الْعَجَمُ فَقَاتَلَتْهُمْ بِالْحِنْوِ، فَانْهَزَمَتِ الْعَجَمُ خَوْفًا مِنَ الْعَطَشِ إِلَى الْجُبَابَاتِ، فَتَبِعَتْهُمْ بَكْرٌ وَعِجْلٌ وَأَبْلَتْ يَوْمَئِذٍ بَلَاءً حَسَنًا، وَاضْطَمَّتْ عَلَيْهِمْ جُنُودُ الْعَجَمِ، فَقَالَ النَّاسُ: هَلَكَتْ عِجْلٌ.

ذكر ملوك الحيرة بعد عمرو بن هند

ثُمَّ حَمَلَتْ بَكْرٌ فَوَجَدَتْ عِجْلًا تُقَاتِلُ، وَامْرَأَةً مِنْهُمْ تَقُولُ: إِنْ يَظْفَرُوا يُحَرِّزُوا فِينَا الْغُرَلْ ... إِيهًا فِدَاءٌ لَكُمْ بَنِي عِجِلْ فَقَاتَلُوهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَمَالَتِ الْعَجَمُ إِلَى بَطْحَاءِ ذِي قَارٍ خَوْفًا مِنَ الْعَطَشِ، فَأَرْسَلَتْ إِيَادٌ إِلَى بَكْرٍ، وَكَانُوا مَعَ الْفُرْسِ، وَقَالُوا لَهُمْ: إِنْ شِئْتُمْ هَرَبْنَا اللَّيْلَةَ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَقَمْنَا وَنَفِرُّ حِينَ تُلَاقُونَ النَّاسَ. فَقَالُوا: بَلْ تُقِيمُونَ وَتَنْهَزِمُونَ إِذَا الْتَقَيْنَا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ حَسَّانَ السَّكُونِيُّ، وَكَانَ حَلِيفًا لَبَنِي شَيْبَانَ: أَطِيعُونِي وَاكْتُمُوا لَهُمْ فَفَعَلُوا، ثُمَّ قَاتَلُوا وَحَرَّضَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَالَتِ ابْنَةُ الْقَرِينِ الشَّيْبَانِيَّةُ: وَيْهًا بَنِي شَيْبَانَ صَفًّا بَعْدَ صَفْ ... إِنْ تُهْزَمُوا يُصَبِّغُوا فِينَا الْقُلَفْ فَقَطَعَ سَبْعُمِائَةٍ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ أَيْدِي أَقْبِيَتِهِمْ مِنْ مَنَاكِبِهِمْ لِتَخِفَّ أَيْدِيهِمْ لِضَرْبِ السُّيُوفِ، فَجَالَدُوهُمْ وَبَارَزَ الْهَامَرْزُ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ بُرْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْيَشْكُرِيُّ فَقَتَلَهُ بُرْدٌ، ثُمَّ حَمَلَتْ مَيْسَرَةُ بَكْرٍ وَمَيْمَنَتُهَا، وَخَرَجَ الْكَمِينُ فَشَدُّوا عَلَى قَلْبِ الْجَيْشِ وَفِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ الطَّائِيُّ، وَوَلَّتْ إِيَادٌ مُنْهَزِمَةً كَمَا وَعَدَتْهُمْ، فَانْهَزَمَتِ الْفُرْسُ وَاتَّبَعَتْهُمْ بَكْرٌ تَقْتُلُ وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَى سَلَبٍ وَغَنِيمَةٍ. وَقَالَ الشُّعَرَاءُ فِي وَقْعَةِ ذِي قَارٍ فَأَكْثَرُوا. [ذِكْرُ مُلُوكِ الْحِيرَةِ بَعْدَ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ]

قَدْ ذَكَرْنَا مَنْ مَلَكَ مِنْ آلِ نَصْرِ بْنِ رَبِيعَةَ إِلَى هَلَاكِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ. فَلَمَّا هَلَكَ عَمْرٌو مَلَكَ مَوْضِعَهُ أَخُوهُ قَابُوسُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَرْبَعَ سِنِينَ، مِنْ ذَلِكَ أَيَّامَ أَنُوشِرْوَانَ ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وَفِي أَيَّامِ هُرْمُزَ ثَلَاثُ سِنِينَ وَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَ قَابُوسَ السُّهْرَبُ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ الْمُنْذِرُ بْنُ النُّعْمَانِ أَرْبَعَ سِنِينَ. ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَبُو قَابُوسَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، مِنْ ذَلِكَ فِي زَمَانِ هُرْمُزَ سَبْعُ سِنِينَ وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وَفِي زَمَانِ ابْنِهِ أَبْرَوِيزَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. ثُمَّ وَلِيَ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ الطَّائِيُّ وَمَعَهُ النَّخِيرَخَانُ فِي زَمَانِ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وِلَايَةِ إِيَاسٍ بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ثُمَّ وَلِيَ ازَّادَبِهُ بْنُ مَابِيَانَ الْهَمْدَانِيُّ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، مِنْ ذَلِكَ فِي زَمَانِ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وَفِي زَمَانِ شِيرَوَيْهِ بْنِ كِسْرَى ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وَفِي زَمَنِ أَرْدَشِيرَ بْنِ شِيرَوَيْهِ سَنَةٌ وَسَبْعَةُ أَشْهُرٍ، وَفِي زَمَنِ بُورَانَ دُخْتَ ابْنَةِ كِسْرَى شَهْرًا. ثُمَّ وَلِيَ الْمُنْذِرُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الْمَغْرُورَ الَّذِي قُتِلَ بِالْبَحْرَيْنِ يَوْمَ جُوَاثَاءَ. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ إِلَى أَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْحِيرَةَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ آلِ نَصْرٍ، وَانْقَرَضَ مُلْكُهُمْ مَعَ انْقِرَاضِ مُلْكِ فَارِسَ، فَجَمِيعُ مُلُوكِ آلِ نَصْرٍ فِيمَا زَعَمَ هِشَامٌ عِشْرُونَ مَلِكًا مَلَكُوا خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ. ذِكْرُ الْمَرْوَزَانِ وَوِلَايَتِهِ الْيَمَنَ مِنْ قِبَلِ هُرْمُزَ قَالَ هِشَامٌ: اسْتَعْمَلَ كِسْرَى هُرْمُزَ الْمَرْوَزَانَ بَعْدَ عَزْلِ زَرِينَ عَنِ الْيَمَنِ، وَأَقَامَ بِالْيَمَنِ حَتَّى وُلِدَ لَهُ فِيهَا، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ الْمَضَايِعُ مَنَعُوهُ الْخَرَاجَ، فَقَصَدَهُمْ فَرَأَى جَبَلَهُمْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِحَصَانَتِهِ وَلَهُ طَرِيقٌ وَاحِدٌ يَحْمِيهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَكَانَ يُحَاذِي ذَلِكَ الْجَبَلَ جَبَلٌ آخَرُ، وَقَدْ قَارَبَ هَذَا الْجَبَلَ، فَأَجْرَى فَرَسَهُ فَعَبَرَ بِهِ ذَلِكَ الْمَضِيقَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ حِمْيَرُ قَالُوا: هَذَا شَيْطَانٌ! وَمَلَكَ حِصْنَهُمْ وَأَدَّوُا الْخَرَاجَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كِسْرَى يُعْلِمُهُ، فَاسْتَدْعَاهُ إِلَيْهِ فَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ خُرَّخُسْرَهْ عَلَى الْيَمَنِ وَسَارَ إِلَيْهِ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، وَعَزَلَ كِسْرَى خُرَّخُسْرَهْ عَنِ الْيَمَنِ وَوَلَّى بَاذَانَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ قَدِمَ الْيَمَنَ مِنْ وُلَاةِ الْعَجَمِ. ذِكْرُ قَتْلِ كِسْرَى أَبْرَوِيزَ

كَانَ كِسْرَى قَدْ طَغَى لِكَثْرَةِ مَالِهِ وَمَا فَتَحَهُ مِنْ بِلَادِ الْعَدُوِّ وَمُسَاعَدَةِ الْأَقْدَارِ وَشَرِهَ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ، فَفَسَدَتْ قُلُوبُهُمْ. وَقِيلَ: كَانَتْ لَهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ امْرَأَةٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةُ آلَافِ امْرَأَةٍ، يَطَؤُهُنَّ، وَأُلُوفٌ جِوَارٍ، وَكَانَ لَهُ خَمْسُونَ أَلْفَ دَابَّةٍ، وَكَانَ أَرْغَبَ النَّاسِ فِي الْجَوَاهِرِ وَالْأَوَانِي وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُحْصَى مَا جُبِيَ مِنْ خَرَاجِ بِلَادِهِ فِي سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ مِنْ مُلْكِهِ، فَكَانَ مِنَ الْوَرِقِ مِائَةُ أَلْفِ أَلْفِ مِثْقَالٍ وَعِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفِ مِثْقَالٍ، وَإِنَّهُ احْتَقَرَ النَّاسَ وَأَمَرَ رَجُلًا اسْمُهُ زَاذَانُ بِقَتْلِ كُلِّ مُقَيَّدٍ فِي سُجُونِهِ، فَبَلَغُوا سِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَلَمْ يُقْدِمْ زَاذَانُ عَلَى قَتْلِهِمْ، فَصَارُوا أَعْدَاءً لَهُ، وَكَانَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْمُنْهَزِمِينَ مِنَ الرُّومِ فَصَارُوا أَيْضًا أَعْدَاءً لَهُ، وَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى اسْتِخْلَاصِ بَوَاقِي الْخَرَاجِ، فَعَسَفَ النَّاسَ وَظَلَمَهُمْ، فَفَسَدَتْ نِيَّاتُهُمْ، وَمَضَى نَاسٌ مِنَ الْعُظَمَاءِ إِلَى بَابِلَ، فَأَحْضَرُوا وَلَدَهُ شِيرَوَيْهِ بْنِ أَبْرَوِيزَ، فَإِنَّ كِسْرَى كَانَ قَدْ تَرَكَ أَوْلَادَهُ بِهَا وَمَنَعَهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَجَعَلَ عِنْدَهُمْ مَنْ يُؤَدِّبُهُمْ، فَوَصَلَ إِلَى بَهْرَسِيرَ فَدَخَلَهَا لَيْلًا فَأَخْرَجَ مَنْ كَانَ فِي سُجُونِهَا، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَيْضًا الَّذِينَ كَانَ كِسْرَى أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، فَنَادَوْا قُبَاذَ شَاهِنْشَاهْ، وَسَارُوا حِينَ أَصْبَحُوا إِلَى رَحْبَةِ كِسْرَى، فَهَرَبَ حَرَسُهُ، خَرَجَ كِسْرَى إِلَى بُسْتَانٍ قَرِيبٍ مِنْ قَصْرِهِ هَارِبًا فَأُخِذَ أَسِيرًا، وَمَلَّكُوا ابْنَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِيهِ يَقْرَعُهُ بِمَا كَانَ مِنْهُ، ثُمَّ قَتَلَتْهُ الْفُرْسُ وَسَاعَدَهُمُ ابْنُهُ، وَكَانَ مُلْكُهُ ثَمَانِيًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَلِمُضِيِّ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا هَاجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. قِيلَ: وَكَانَ لِكِسْرَى أَبْرَوِيزَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَلَدًا، وَكَانَ أَكْبَرَهُمْ شَهْرِيَارُ، وَكَانَتْ شِيرِينُ قَدْ تَبَنَّتْهُ، فَقَالَ الْمُنَجِّمُونَ لِكِسْرَى: إِنَّهُ سَيُولَدُ لِبَعْضِ وَلَدِكَ غُلَامٌ يَكُونُ خَرَابُ هَذَا الْمَجْلِسِ وَذَهَابُ الْمُلْكِ عَلَى يَدَيْهِ، وَعَلَامَتُهُ نَقْصٌ فِي بَعْضِ بَدَنِهِ، فَمَنَعَ وَلَدَهُ عَنِ النِّسَاءِ لِذَلِكَ حَتَّى شَكَا شَهْرِيَارُ إِلَى شِيرِينَ الشَّبَقَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ جَارِيَةً كَانَتْ تُحَجِّمُهَا، وَكَانَتْ

تَظُنُّ أَنَّهَا لَا تَلِدُ، فَلَمَّا وَطِئَهَا عَلِقَتْ بِيَزْدَجِرْدَ فَكَتَمَتْهُ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ إِنَّهَا رَأَتْ مِنْ كِسْرَى رِقَّةً لِلصِّبْيَانِ حِينَ كَبِرَ فَقَالَتْ: أَيَسُرُّكَ أَنْ تَرَى لِبَعْضِ بَنِيكَ وَلَدًا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَتَتْهُ بِيَزْدَجِرْدَ، فَأَحَبَّهُ وَقَرَّبَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَلْعَبُ ذَاتَ يَوْمٍ ذَكَرَ مَا قِيلَ، فَأَمَرَ بِهِ، فَجُرِّدَ مِنْ ثِيَابِهِ، فَرَأَى النَّقْصَ فِي أَحَدِ وَرِكَيْهِ فَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَمَنَعَتْهُ شِيرِينُ وَقَالَتْ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْمُلْكِ قَدْ حَضَرَ فَلَا مَرَدَّ لَهُ، فَأَمَرَتْ بِهِ فَحُمِلَ إِلَى سِجِسْتَانَ، وَقِيلَ: بَلْ تَرَكَتْهُ فِي السَّوَادِ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا خَمَانِيَّةُ. وَلَمَّا قُتِلَ كِسْرَى أَبْرَوِيزُ بْنُ هُرْمُزَ مَلَكَ ابْنُهُ شِيرَوَيْهِ. ذِكْرُ مُلْكِ كِسْرَى شِيرَوَيْهِ بْنِ أَبْرَوِيزَ بْنِ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ لَمَّا مَلَكَ شِيرَوَيْهِ بْنُ أَبْرَوِيزَ وَأُمُّهُ مَرْيَمُ ابْنَةُ مُورِيقَ مَلِكُ الرُّومِ وَاسْمُهُ قُبَاذُ، دَخَلَ عَلَيْهِ الْعُظَمَاءُ وَالْأَشْرَافُ فَقَالُوا: لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ لَنَا مَلِكَانِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتُلَ كِسْرَى وَنَحْنُ عَبِيدُكَ، وَإِمَّا أَنْ نَخْلَعَكَ وَنُطِيعَهُ. فَانْكَسَرَ شِيرَوَيْهِ وَنَقَلَ أَبَاهُ مِنْ دَارِ الْمُلْكِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ حَبَسَهُ فِيهِ، ثُمَّ جَمَعَ الْعُظَمَاءَ وَقَالَ: قَدْ رَأَيْنَا الْإِرْسَالَ إِلَى كِسْرَى بِمَا كَانَ مِنْ إِسَاءَتِهِ وَنُوقِفُهُ عَلَى أَشْيَاءَ مِنْهَا. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ أُسْتَاذُ خُشْنُشْ كَانَ يَلِي تَدْبِيرَ الْمَمْلَكَةِ، وَقَالَ لَهُ: قُلْ لِأَبِينَا الْمَلِكَ عَنْ رِسَالَتِنَا: إِنَّ سُوءَ أَعْمَالِكَ فَعَلَ بِكَ مَا تَرَى، مِنْهَا جُرْأَتُكَ عَلَى أَبِيكَ، وَسَمْلُكَ عَيْنَيْهِ وَقَتْلُكَ إِيَّاهُ، وَمِنْهَا سُوءُ صَنِيعِكَ إِلَيْنَا مَعْشَرَ أَبْنَائِكَ فِي مَنْعِنَا مِنْ مُجَالَسَةِ النَّاسِ وَكُلِّ مَا لَنَا فِيهِ دَعَةٌ، وَمِنْهَا إِسَاءَتُكَ إِلَى مَنْ خَلَّدْتَ فِي السُّجُونِ، وَمِنْهَا إِسَاءَتُكَ إِلَى النِّسَاءِ تَأْخُذُهُنَّ لِنَفْسِكَ وَتَرْكُكَ الْعَطْفَ عَلَيْهِنَّ، وَمَنْعُهُنَّ مِمَّنْ يُعَاشِرُهُنَّ وَيُرْزَقْنَ مِنْهُ الْوَلَدَ، وَمِنْهَا مَا أَتَيْتَ إِلَى رَعِيَّتِكَ عَامَّةً مِنَ الْعُنْفِ وَالْغِلْظَةِ وَالْفَظَاظَةِ، وَمِنْهَا جَمْعُ الْأَمْوَالِ فِي شِدَّةٍ وَعُنْفٍ مِنْ أَرْبَابِهَا، وَمِنْهَا تَجْمِيرُكَ الْجُنُودَ فِي ثُغُورِ الرُّومِ وَغَيْرِهَا، وَتَفْرِيقُكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِيهِمْ، وَمِنْهَا غَدْرُكَ بِمُورِيقَ مَلِكِ الرُّومِ مَعَ إِحْسَانِهِ إِلَيْكَ وَحُسْنِ بَلَائِهِ عِنْدَكَ وَتَزْوِيجِهِ

إِيَّاكَ بِابْنَتِهِ، وَمَنْعُكَ إِيَّاهُ خَشَبَةَ الصَّلِيبِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ بِكَ وَلَا بِأَهْلِ بِلَادِكَ إِلَيْهَا حَاجَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَكَ حُجَّةٌ تَذْكُرُهَا فَافْعَلْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ حُجَّةٌ فَتُبْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَأْمُرَ فِيكَ بِأَمْرِهِ. قَالَ: فَجَاءَ الرَّسُولُ إِلَى كِسْرَى أَبْرَوِيزَ فَأَدَّى إِلَيْهِ الرِّسَالَةَ، فَقَالَ أَبْرَوِيزُ: قُلْ عَنِّي لِشِيرَوَيْهِ الْقَصِيرِ الْعُمْرِ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتُوبَ مِنْ أَجْلِ الصَّغِيرِ مِنَ الذَّنْبِ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَيَقَّنَهُ فَضْلًا عَنْ عَظِيمِهِ مَا ذَكَرْتَ وَكَثَّرْتَ مِنَّا، وَلَوْ كُنَّا كَمَا تَقُولُ لَمْ يَكُنْ لَكَ أَيُّهَا الْجَاهِلُ أَنْ تَنْشُرَ عَنَّا مِثْلَ هَذَا الْعَظِيمِ الَّذِي يُوجِبُ عَلَيْنَا الْقَتْلَ، لِمَا يَلْزَمُكَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْعُيُوبِ، فَإِنَّ قُضَاةَ أَهْلِ مِلَّتِكَ يَنْفُونَ وَلَدَ الْمُسْتَوْجِبِ لِلْقَتْلِ مِنْ أَبِيهِ، وَيَنْفُونَهُ مِنْ مُضَامَّةِ أَهْلِ الْأَخْيَارِ وَمُجَالَسَتِهِمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ مِنَّا بِحَمْدِ اللَّهِ مِنْ إِصْلَاحِنَا أَنْفُسَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَرَعِيَّتَنَا مَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ تَقْصِيرٌ، وَنَحْنُ نَشْرَحُ الْحَالَ فِيمَا لَزِمَنَا مِنَ الذُّنُوبِ لِتَزْدَادَ عِلْمًا بِجَهْلِكَ. فَمِنْ جَوَابِنَا: أَنَّ الْأَشْرَارَ أَغْرَوْا كِسْرَى هُرْمُزَ وَالِدَنَا بِنَا حَتَّى اتَّهَمَنَا، فَرَأَيْنَا مِنْ سُوءِ رَأْيِهِ فِينَا مَا يُخَوِّفُنَا مِنْهُ، فَاعْتَزَلْنَا بَابَهُ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَقَدِ اسْتَفَاضَ ذَلِكَ، فَلَمَّا انْتَهَكَ مِنْهُ مَا انْتَهَكَ شَخَصْنَا إِلَى بَابِهِ، فَهَجَمَ الْمُنَافِقُ بَهْرَامُ عَلَيْنَا فَأَجْلَانَا عَنِ الْمَمْلَكَةِ، فَسِرْنَا إِلَى الرُّومِ وَعُدْنَا إِلَى مُلْكِنَا وَاسْتَحْكَمَ أَمْرُنَا، فَبَدَأْنَا بِأَخْذِ الثَّأْرِ مِمَّنْ قَتَلَ أَبَانَا أَوْ شَرَكَ فِي دَمِهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِ أَبْنَائِنَا، فَإِنَّنَا وَكَّلْنَا بِكُمْ مَنْ يَكُفُّكُمْ عَنْ الِانْتِشَارِ فِيمَا لَا يَعْنِيكُمْ فَتَتَأَذَّى بِكُمُ الرَّعِيَّةُ وَالْبِلَادُ، وَكُنَّا أَقَمْنَا لَكُمُ النَّفَقَاتِ الْوَاسِعَةَ وَجَمِيعَ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا أَنْتَ خَاصَّةً فَإِنَّ الْمُنَجِّمِينَ قَضَوْا فِي مَوْلِدِكَ أَنَّكَ مُثَرِّبٌ عَلَيْنَا، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبِكَ، وَإِنَّ مَلِكَ الْهِنْدِ كَتَبَ إِلَيْكَ كِتَابًا وَأَهْدَى لَكَ هَدِيَّةً، فَقَرَأْنَا الْكِتَابَ فَإِذَا هُوَ يُبَشِّرُكَ بِالْمُلْكِ بَعْدَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً مِنْ مُلْكِنَا، وَقَدْ خَتَمْنَا عَلَى الْكِتَابِ وَعَلَى مَوْلِدِكَ وَهُمَا عِنْدَ شِيرِينَ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَقْرَأَهُمَا فَافْعَلْ، فَلَمْ يَمْنَعْنَا ذَلِكَ عَنْ بِرِّكَ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْكَ فَضْلًا عَنْ قَتْلِكَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ عَمَّنْ خَلَّدْنَاهُ فِي السُّجُونِ، فَجَوَابُنَا: إِنَّنَا لَمْ نَحْبِسْ إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ أَوْ قَطْعُ بَعْضِ الْأَطْرَافِ، وَقَدْ كَانَ الْمُوَكَّلُونَ بِهِمْ وَالْوُزَرَاءُ يَأْمُرُونَنَا بِقَتْلِ مَنْ وَجَبَ قَتْلُهُ قَبْلَ أَنْ يَحْتَالُوا لِأَنْفُسِهِمْ، فَكُنَّا بِحُبِّنَا الِاسْتِبْقَاءَ وَكَرَاهَتِنَا لِسَفْكِ الدِّمَاءِ نَتَأَنَّى

بِهِمْ وَنَكِلُ أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ أَخْرَجْتَهُمْ مِنْ مَحْبَسِهِمْ عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَلِتَجِدَنَّ غِبَّ ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّا جَمَعْنَا الْأَمْوَالَ، وَأَنْوَاعَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَمْتِعَةَ بِأَعْنَفِ جَمْعٍ وَأَشَدِّ إِلْحَاحٍ، فَاعْلَمْ أَيُّهَا الْجَاهِلُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقِيمُ الْمُلْكَ بَعْدَ اللَّهِ تَعَالَى الْأَمْوَالُ وَالْجُنُودُ، وَخَاصَّةً مُلْكُ فَارِسَ الَّذِي قَدِ اكْتَنَفَهُ الْأَعْدَاءُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى كَفِّهِمْ وَرَدْعِهِمْ عَمَّا يُرِيدُونَهُ إِلَّا بِالْجُنُودِ وَالْأَسْلِحَةِ وَالْعُدَدِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِالْمَالِ، وَقَدْ كَانَ أَسْلَافُنَا جَمَعُوا الْأَمْوَالَ وَالسِّلَاحَ وَغَيْرَ ذَلِكَ فَأَغَارَ الْمُنَافِقُ بَهْرَامُ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا الْيَسِيرَ، فَلَمَّا ارْتَجَعْنَا مُلْكَنَا وَأَذْعَنَ لَنَا الرَّعِيَّةُ بِالطَّاعَةِ، أَرْسَلْنَا إِلَى نَوَاحِي بِلَادِنَا أَصْبَهْبَذِينَ وَقَامَرْسَانِينَ، فَكَفُّوا الْأَعْدَاءَ وَأَغَارُوا عَلَى بِلَادِهِمْ، وَوَصَلَ إِلَيْنَا غَنَائِمُ بِلَادِهِمْ مِنْ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّكَ هَمَمْتَ بِتَفْرِيقِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ عَلَى رَأْيِ الْأَشْرَارِ الْمُسْتَوْجِبِينَ لِلْقَتْلِ، وَنَحْنُ نُعْلِمُكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ لَمْ تَجْتَمِعْ إِلَّا بَعْدَ الْكِدِّ وَالتَّعَبِ وَالْمُخَاطَرَةِ بِالنُّفُوسِ، فَلَا تَفْعَلْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا كَهْفُ مُلْكِكَ وَبِلَادِكَ وَقُوَّةٌ عَلَى عَدُوِّكَ. فَلَمَّا انْصَرَفَ أُسْتَاذُ خُشْنَشْ إِلَى شِيرَوَيْهِ قَصَّ عَلَيْهِ جَوَابَ أَبِيهِ، ثُمَّ إِنَّ عُظَمَاءَ الْفُرْسِ عَادُوا إِلَى شِيرَوَيْهِ فَقَالُوا: إِمَّا أَنْ تَأْمُرَ بِقَتْلِ أَبِيكَ وَإِمَّا أَنْ نُطِيعَهُ وَنَخْلَعَكَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ وَانْتَدَبَ لِقَتْلِهِ رِجَالًا مِمَّنْ وَتِرَهُمْ كِسْرَى أَبْرَوِيزُ، وَكَانَ الَّذِي بَاشَرَ قَتْلَهُ شَابٌّ يُقَالُ لَهُ مِهْرَهُرْمُزُ بْنُ مَرْدَانْشَاهْ مِنْ نَاحِيَةِ نِيمَرُوذَ. فَلَمَّا قُتِلَ شَقَّ شِيرَوَيْهِ ثِيَابَهُ وَبَكَى وَلَطَمَ وَجْهَهُ، وَحُمِلَتْ جِنَازَتُهُ وَتَبِعَهَا الْعُظَمَاءُ وَأَشْرَافُ النَّاسِ، فَلَمَّا دُفِنَ أَمَرَ شِيرَوَيْهِ بِقَتْلِ مِهْرَهُرْمُزَ قَاتِلِ أَبِيهِ. وَكَانَ مُلْكُهُ ثَمَانِيًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. ثُمَّ إِنَّ شِيرَوَيْهِ قَتَلَ إِخْوَتَهُ، فَهَلَكَ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَخًا ذَوُو شَجَاعَةٍ وَأَدَبٍ، بِمَشُورَةِ وَزِيرِهِ فَيْرُوزَ. وَابْتُلِيَ شِيرَوَيْهِ بِالْأَمْرَاضِ، وَلَمْ يَلْتَذَّ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَكَانَ هَلَاكُهُ بِدَسْكَرَةِ الْمُلْكِ، وَجَزِعَ بَعْدَ قَتْلِ إِخْوَتِهِ جَزَعًا شَدِيدًا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ قَتْلِ إِخْوَتِهِ دَخَلَتْ عَلَيْهِ بُورَانُ وَآزَرْمِيدُخْتَ أُخْتَاهُ

فَأَغْلَظَتَا لَهُ وَقَالَتَا: حَمَلَكَ الْحِرْصُ عَلَى الْمُلْكِ الَّذِي لَا يَتِمُّ لَكَ عَلَى قَتْلِ أَبِيكَ وَإِخْوَتِكَ. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ بَكَى بُكَاءً شَدِيدًا وَرَمَى التَّاجَ عَنْ رَأْسِهِ وَلَمْ يَزَلْ مَهْمُومًا مُدْنَفًا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَبَادَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. وَفَشَا الطَّاعُونُ فِي أَيَّامِهِ فَهَلَكَ مِنَ الْفُرْسِ أَكْثَرُهُمْ، ثُمَّ هَلَكَ هُوَ. وَكَانَ مُلْكُهُ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ. ذِكْرُ مُلْكِ أَرْدَشِيرَ وَكَانَ عُمْرُهُ سَبْعَ سِنِينَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ شِيرَوَيْهِ مَلَّكَ الْفُرْسُ عَلَيْهِمُ ابْنَهُ أَرْدَشِيرَ، وَحَضَنَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ بَهَادِرُ جُسْنَسْ، مَرْتَبَتُهُ رِئَاسَةُ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ، فَأَحْسَنَ سِيَاسَةَ الْمُلْكِ، فَبَلَغَ مِنْ إِحْكَامِهِ ذَلِكَ مَا لَمْ يُحَسَّ مَعَهُ بِحَدَاثَةِ سِنِّ أَرْدَشِيرَ. وَكَانَ شَهْرَبَرَازُ بِثَغْرِ الرُّومِ فِي جُنْدٍ ضَمَّهُمْ إِلَيْهِ كِسْرَى أَبْرَوِيزُ، وَكَانَ قَدْ صَلَحَ لَهُ بَعْدَهُ مَا فَعَلَ بِالرُّومِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَكَانَ يُنْفِذُ لَهُ الْخُلَعَ وَالْهَدَايَا، وَكَانَ أَبْرَوِيزُ وَشِيرَوَيْهِ يُكَاتِبَانِهِ وَيَسْتَشِيرَانِهِ، فَلَمَّا لَمْ يُشَاوِرْهُ عُظَمَاءُ الْفُرْسِ فِي تَمْلِيكِ أَرْدَشِيرَ اتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى التَّعَنُّتِ، وَبَسَطَ يَدَهُ فِي الْقَتْلِ، وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِلطَّمَعِ فِي الْمُلْكِ احْتِقَارًا لِأَرْدَشِيرَ لِصِغَرِ سِنِّهِ، فَأَقْبَلَ بِجُنْدِهِ نَحْوَ الْمَدَائِنِ، فَتَحَوَّلَ أَرْدَشِيرُ وَبَهَادِرُ جُسْنَسْ وَمَنْ بَقِيَ مِنْ نَسْلِ الْمَلِكِ إِلَى مَدِينَةِ طَيْسَفُونْ، فَحَاصَرَهُمْ شَهْرَبَرَازُ وَنَصَبَ عَلَيْهِمُ الْمَجَانِيقَ فَلَمْ يَظْفَرْ بِشَيْءٍ، فَأَتَاهَا مِنْ قِبَلِ الْمَكِيدَةِ، فَلَمْ يَزَلْ يَخْدَعُ رَئِيسَ الْحَرَسِ وَأَصْبَهْبَذَ نِيمَرُوذَ، حَتَّى فَتَحَا لَهُ بَابَ الْمَدِينَةِ فَدَخَلَهَا، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَقَتَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَرْدَشِيرَ فِي إِيوَانِ خُسْرُوشَاهْ قُبَاذَ بِأَمْرِ شَهْرَبَرَازَ. وَكَانَ مُلْكُهُ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ.

ذِكْرُ مُلْكِ شَهْرَبَرَازَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ. لَمَّا قُتِلَ أَرْدَشِيرُ جَلَسَ شَهْرَبَرَازُ، وَاسْمُهُ فَرُّخَانُ، عَلَى تَخْتِ الْمَمْلَكَةِ، فَحِينَ جَلَسَ عَلَيْهِ ضَرَبَ عَلَيْهِ بَطْنُهُ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ. ثُمَّ عُوفِيَ. وَتَعَاهَدَ ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ مِنْ أَهْلِ إِصْطَخْرَ عَلَى قَتْلِهِ غَضَبًا لِقَتْلِ أَرْدَشِيرَ، وَكَانُوا فِي حَرَسِهِ، وَكَانَ الْحَرَسُ يَقِفُونَ سِمَاطَيْنِ إِذَا رَكِبَ الْمَلِكُ عَلَيْهِمُ السِّلَاحُ وَبِأَيْدِيهِمُ السُّيُوفُ وَالرِّمَاحُ، فَإِذَا حَاذَى الْمَلِكُ بَعْضَهُمْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى تُرْسِهِ فَوْقَ التُّرْسِ كَهَيْئَةِ السُّجُودِ. فَرَكِبَ شَهْرَبَرَازُ يَوْمًا فَوَقَفَ الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ بَعْضُهُمْ قَرِيبٌ مِنْ بَعْضٍ، فَلَمَّا حَاذَاهُمْ طَعَنُوهُ فَسَقَطَ مَيِّتًا، فَشَدُّوا فِي رِجْلِهِ حَبْلًا وَجَرُّوهُ، وَسَاعَدَهُمْ بَعْضُ الْعُظَمَاءِ وَتَسَاعَدُوا عَلَى قَتْلِ جَمَاعَةٍ قَتَلُوا أَرْدَشِيرَ، وَكَانَ جَمِيعُ مُلْكِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. ذِكْرُ مُلْكِ بُورَانَ ابْنَةِ أَبْرَوِيزَ بْنِ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ لَمَّا قُتِلَ شَهْرَبَرَازُ مَلَّكَتِ الْفُرْسُ بُورَانَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا مِنْ بَيْتِ الْمَمْلَكَةِ رَجُلًا يُمَلِّكُونَهُ. فَلَمَّا مَلَكَتْ أَحْسَنَتِ السِّيرَةَ فِي رَعِيَّتِهَا وَعَدَلَتْ فِيهِمْ، فَأَصْلَحَتِ الْقَنَاطِرَ، وَوَضَعَتْ مَا بَقِيَ مِنَ الْخَرَاجِ، وَرَدَّتْ خَشَبَةَ الصَّلِيبِ عَلَى مَلِكِ الرُّومِ، وَكَانَتْ مَمْلَكَتُهَا سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ خُشَنْشَبَنْدَهْ مِنْ بَنِي عَمِّ أَبْرَوِيزَ الْأَبْعَدِينَ، وَكَانَ مُلْكُهُ أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ، وَقَتَلَهُ الْجُنْدُ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا سِيرَتَهُ. ذِكْرُ مُلْكِ آزَرْمِيدُخْتَ ابْنَةِ أَبْرَوِيزَ لَمَّا قُتِلَ خُشَنْشَبَنْدَهْ مَلَّكَتِ الْفُرْسُ آزَرْمِيدُخْتَ ابْنَةَ أَبْرَوِيزَ، وَكَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ، وَكَانَ عَظِيمُ الْفُرْسِ يَوْمَئِذٍ فَرُّخْهُرْمُزْ أَصْبَهْبَذَ خُرَاسَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا يَخْتَطِبُهَا، فَقَالَتْ: إِنَّ

التَّزَوُّجَ لِلْمَلِكَةِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَغَرَضُكَ قَضَاءُ حَاجَتِكَ مِنِّي فَصِرْ إِلَيَّ وَقْتَ كَذَا. فَفَعَلَ وَسَارَ إِلَيْهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَتَقَدَّمَتْ إِلَى صَاحِبِ حَرَسِهَا أَنْ يَقْتُلَهُ، فَقَتَلَهُ وَطُرِحَ فِي رَحْبَةِ دَارِ الْمَمْلَكَةِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا رَأَوْهُ قَتِيلًا فَغَيَّبُوهُ. وَكَانَ ابْنُهُ رُسْتُمْ، وَهُوَ الَّذِي قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَادِسِيَّةِ، خَلِيفَةَ أَبِيهِ بِخُرَاسَانَ، فَسَارَ فِي عَسْكَرٍ حَتَّى نَزَلَ بِالْمَدَائِنِ، وَسَمَلَ عَيْنَيْ آزَرْمِيدُخْتَ وَقَتَلَهَا، وَقِيلَ: بَلْ سُمَّتْ. وَكَانَ مُلْكُهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ. قِيلَ: ثُمَّ أَتَى رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِسْرَى بْنُ مِهْرُجُسْنَسْ مِنْ عَقِبِ أَرْدَشِيرَ بْنِ بَابَكَ، كَانَ يَنْزِلُ الْأَهْوَازَ، فَمَلَّكَهُ الْعُظَمَاءُ وَلَبِسَ التَّاجَ وَقُتِلَ بَعْدَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي مَلَكَ بَعْدَ آزَرْمِيدُخْتَ خُرَّزَادُ خُسْرُو مِنْ وَلَدِ أَبْرَوِيزَ، وَأُمُّهُ كُرْدِيَّةُ أُخْتُ بِسْطَامَ، وَقِيلَ: وُجِدَ بِحِصْنِ الْحِجَارَةِ بِقُرْبِ نَصِيبِينَ، فَمَكَثَ أَيَّامًا يَسِيرَةً ثُمَّ خَلَعُوهُ وَقَتَلُوهُ. وَكَانَ مُلْكُهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَقَالَ الَّذِينَ قَالُوا مَلَكَ كِسْرَى بْنُ مِهْرَجُسْنُسَ: إِنَّهُ لَمَّا قُتِلَ طَلَبَ عُظَمَاءُ الْفُرْسِ مَنْ لَهُ نَسَبٌ بَيْنَ الْمَمْلَكَةِ وَلَوْ مِنَ النِّسَاءِ، فَأَتَوْا بِرَجُلٍ كَانَ يَسْكُنُ مَيْسَانَ يُقَالُ لَهُ فَيْرُوزُ بْنُ مِهْرَانَ جُسْنُسْ، وَيُسَمَّى أَيْضًا جُسْنَسَنْدِهْ، أُمُّهُ صَهَارْ بُخْتُ ابْنَةُ يَزْدَانْزَانَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ فَمَلَّكُوهُ، وَكَانَ ضَخْمَ الرَّأْسِ. فَلَمَّا تُوِّجَ قَالَ: مَا أَضْيَقَ هَذَا التَّاجَ! فَتَطَيَّرُوا مِنْ كَلَامِهِ فَقَتَلُوهُ فِي الْحَالِ، وَقِيلَ كَانَ قَتْلُهُ بَعْدَ أَيَّامٍ. ذِكْرُ مُلْكِ يَزْدَجِرْدَ بْنِ شَهْرَيَارَ بْنِ أَبْرَوِيزَ ثُمَّ إِنَّ الْفُرْسَ اضْطَرَبَ أَمْرُهُمْ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ بِلَادَهُمْ فَطَلَبُوا أَحَدًا مِنْ بَيْنِ الْمَمْلَكَةِ لِيُمَلِّكُوهُ وَيُقَاتِلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَحْفَظُوا بِلَادَهُمْ، فَظَفِرُوا بِيَزْدَجِرْدَ بْنِ شَهْرَيَارَ بْنِ أَبْرَوِيزَ بِإِصْطَخْرَ، فَأَخَذُوهُ وَسَارُوا بِهِ إِلَى الْمَدَائِنِ فَمَلَّكُوهُ وَاسْتَقَرَّ فِي الْمُلْكِ، غَيْرَ أَنَّ مُلْكَهُ كَانَ

ذكر أيام العرب في الجاهلية

كَالْخَيَالِ عِنْدَ مُلْكِ أَهْلِ بَيْتِهِ. وَكَانَ الْوُزَرَاءُ وَالْعُظَمَاءُ يُدَبِّرُونَ مُلْكَهُ لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ وَضَعْفِ أَمْرِ مَمْلَكَةِ فَارِسَ، وَاجْتَرَأَ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءُ وَتَطَرَّقُوا بِلَادَهُمْ، وَغَزَتِ الْعَرَبُ بِلَادَهُ بَعْدَ أَنْ مَضَى مِنْ مُلْكِهِ سَنَتَانِ. وَكَانَ عُمْرُهُ كُلُّهُ إِلَى أَنْ قُتِلَ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَبَقِيَ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ فُتُوحِ الْمُسْلِمِينَ. هَذَا آخِرُ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَنَذْكُرُ بَعْدَهُ التَّوَارِيخَ الْإِسْلَامِيَّةَ عَلَى سِيَاقَةِ سِنِيِّ الْهِجْرَةِ، وَنُقَدِّمُ قَبْلَ ذَلِكَ الْأَيَّامَ الْمَشْهُورَةَ لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ نَأْتِي بَعْدَهَا بِالْحَوَادِثِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [ذِكْرُ أَيَّامِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ]

لَمْ يَذْكُرْ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ أَيَّامِهَا غَيْرَ يَوْمِ ذِي قَارٍ، وَجَذِيمَةَ الْأَبْرَشِ، وَالزَّبَّاءِ، وَطَسْمٍ، وَجِدِيسٍ، وَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ إِلَّا حَيْثُ أَنَّهُمْ مُلُوكٌ، فَأَغْفَلَ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْأَيَّامَ الْمَشْهُورَةَ وَالْوَقَائِعَ الْمَذْكُورَةَ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى جَمْعٍ كَثِيرٍ وَقِتَالٍ شَدِيدٍ، وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَى ذِكْرِ غَارَاتٍ تَشْتَمِلُ عَلَى النَّفَرِ الْيَسِيرِ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ وَيَخْرُجُ عَنِ الْحَصْرِ، فَنَقُولُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: ذِكْرُ حَرْبِ زُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ الْكَلْبِيِّ مَعَ غَطَفَانَ وَبَكْرٍ وَتَغْلِبَ وَبَنِي الْقَيْنِ كَانَ زُهَيْرُ بْنُ جَنَابِ بْنِ هُبَلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُذْرَةَ الْكَلْبِيُّ أَحَدَ مَنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ قُضَاعَةُ، وَكَانَ يُدْعَى الْكَاهِنَ لِصِحَّةِ رَأْيِهِ، وَعَاشَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً، أَوْقَعَ فِيهَا مِائَتَيْ وَقْعَةٍ، وَقِيلَ: عَاشَ أَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ شُجَاعًا مُظَفَّرًا مَيْمُونَ النَّقِيبَةِ.

وَكَانَ سَبَبَ غَزَاتِهِ غَطَفَانَ أَنَّ بَنِي بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ حِينَ خَرَجُوا مِنْ تِهَامَةَ سَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُمْ صُدَاءُ، وَهِيَ قَبِيلَةٌ مِنْ مَذْحِجٍ، فَقَاتَلُوهُمْ، وَبَنُو بَغِيضٍ سَائِرُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَقَاتَلُوهُمْ عَنْ حَرِيمِهِمْ فَظَهَرُوا عَلَى صُدَاءَ وَفَتَكُوا فِيهِمْ، فَعَزَّتْ بَغِيضٌ بِذَلِكَ وَأَثْرَتْ وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهَا. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا: وَاللَّهِ لَنَتَّخِذَنَّ حَرَمًا مِثْلَ مَكَّةَ لَا يُقْتَلُ صَيْدُهُ وَلَا يُهَاجُ عَائِذُهُ، فَبَنَوْا حَرَمًا وَوَلِيَهُ بَنُو مُرَّةَ بْنِ عَوْفٍ، فَلَمَّا بَلَغَ فِعْلُهُمْ وَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ زُهَيْرَ بْنَ جَنَابٍ قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا وَأَنَا حَيٌّ، وَلَا أُخَلِّي غَطَفَانَ تَتَّخِذُ حَرَمًا أَبَدًا. فَنَادَى فِي قَوْمِهِ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ حَالَ غَطَفَانَ وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ وَقَالَ: إِنَّ أَعْظَمَ مَأْثُرَةٍ يَدَّخِرُهَا هُوَ وَقَوْمُهُ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَأَجَابُوا، فَغَزَا بِهِمْ غَطَفَانَ وَقَاتَلَهُمْ أَبْرَحَ قِتَالٍ وَأَشَدَّهُ، وَظَفِرَ بِهِمْ زُهَيْرٌ وَأَصَابَ حَاجَتَهُ مِنْهُمْ وَأَخَذَ فَارِسًا مِنْهُمْ فِي حَرَمِهِمْ فَقَتَلَهُ وَعَطَّلَ ذَلِكَ الْحَرَمَ. ثُمَّ مَنَّ عَلَى غَطَفَانَ وَرَدَّ النِّسَاءَ وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ، وَقَالَ زُهَيْرٌ فِي ذَلِكَ: فَلَمْ تَصْبِرْ لَنَا غَطَفَانُ لَمَّا ... تَلَاقَيْنَا وَأُحْرِزَتِ النِّسَاءُ فَلَوْلَا الْفَضْلُ مِنَّا مَا رَجَعْتُمْ ... إِلَى عَذْرَاءَ شِيمَتُهَا الْحَيَاءُ فَدُونَكُمُ دُيُونًا فَاطْلُبُوهَا ... وَأَوْتَارًا وَدُونَكُمُ اللِّقَاءُ فَإِنَّا حَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ ... لُيُوثٌ حِينَ يُحْتَضَرُ اللِّوَاءُ فَقَدْ أَضْحَى لِحَيِّ بَنِي جَنَابٍ ... فَضَاءُ الْأَرْضِ وَالْمَاءُ الرَّوَاءُ نَفَيْنَا نَخْوَةَ الْأَعْدَاءِ عَنَّا ... بِأَرْمَاحٍ أَسِنَّتُهَا ظِمَاءُ وَلَوْلَا صَبْرُنَا يَوْمَ الْتَقَيْنَا ... لَقِينَا مِثْلَ مَا لَقِيَتْ صُدَاءُ غَدَاةَ تَضَرَّعُوا لِبَنِي بَغِيضٍ ... وَصِدْقُ الطَّعْنِ لِلنَّوْكَى شِفَاءُ وَأَمَّا حَرْبُهُ مَعَ بَكْرٍ وَتَغْلِبَ ابْنَيْ وَائِلٍ، فَكَانَ سَبَبَهَا أَنَّ أَبْرَهَةَ حِينَ طَلَعَ إِلَى نَجْدٍ أَتَاهُ زُهَيْرٌ، فَأَكْرَمَهُ وَفَضَّلَهُ عَلَى مَنْ أَتَاهُ مِنَ الْعَرَبِ، ثُمَّ أَمَّرَهُ عَلَى بَكْرٍ وَتَغْلِبَ ابْنَيْ وَائِلٍ،

فَوَلِيَهُمْ حَتَّى أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ مَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ، فَأَقَامَ بِهِمْ زُهَيْرٌ فِي الْحَرْبِ وَمَنَعَهُمْ مِنَ النُّجْعَةِ حَتَّى يُؤَدُّوا مَا عَلَيْهِمْ، فَكَادَتْ مَوَاشِيهِمْ تَهْلِكُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ زَيَّابَةَ أَحَدُ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَكَانَ فَاتِكًا، أَتَى زُهَيْرًا وَهُوَ نَائِمٌ، فَاعْتَمَدَ التَّيْمِيُّ بِالسَّيْفِ عَلَى بَطْنِ زُهَيْرٍ فَمَرَّ فِيهَا حَتَّى خَرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ مَارِقًا بَيْنَ الصِّفَاقِ، وَسَلِمَتْ أَمْعَاؤُهُ وَمَا فِي بَطْنِهِ، وَظَنَّ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ، وَعَلِمَ زُهَيْرٌ أَنَّهُ قَدْ سَلِمَ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ لِئَلَّا يُجْهِزَ عَلَيْهِ، فَسَكَتَ. فَانْصَرَفَ التَّيْمِيُّ إِلَى قَوْمِهِ فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ قَتَلَ زُهَيْرًا، فَسَرَّهُمْ ذَلِكَ. وَلَمْ يَكُنْ مَعَ زُهَيْرٍ إِلَّا نَفَرٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُظْهِرُوا أَنَّهُ مَيِّتٌ وَأَنْ يَسْتَأْذِنُوا بَكْرًا وَتَغْلِبَ فِي دَفْنِهِ فَإِذَا أَذِنُوا دَفَنُوا ثِيَابًا مَلْفُوفَةً وَسَارُوا بِهِ مُجِدِّينَ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ. فَأَذِنَتْ لَهُمْ بَكْرٌ وَتَغْلِبُ فِي دَفْنِهِ، فَحَفَرُوا وَعَمَّقُوا وَدَفَنُوا ثِيَابًا مَلْفُوفَةً لَمْ يَشُكَّ مَنْ رَآهَا أَنَّ فِيهَا مَيِّتًا، ثُمَّ سَارُوا مُجِدِّينَ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَجَمَعَ لَهُمْ زُهَيْرٌ الْجُمُوعَ، وَبَلَغَهُمُ الْخَبَرُ فَقَالَ ابْنُ زَيَّابَةَ: طَعْنَةً مَا طَعَنْتُ فِي غَلَسِ اللَّيْ ... لِ زُهَيْرًا وَقَدْ تَوَافَى الْخُصُومُ حِينَ يَحْمِي لَهُ الْمَوَاسِمَ بَكْرٌ ... أَيْنَ بَكْرٌ وَأَيْنَ مِنْهَا الْحُلُومُ خَانَنِي السَّيْفُ إِذْ طَعَنْتُ ... زُهَيْرًا وَهُوَ سَيْفٌ مُضَلَّلٌ مَشْؤُومُ وَجَمَعَ زُهَيْرٌ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَغَزَا بَكْرًا وَتَغْلِبَ، وَكَانُوا عَلِمُوا بِهِ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا انْهَزَمَتْ بِهِ بَكْرٌ، وَقَاتَلَتْ تَغْلِبُ بَعْدَهَا فَانْهَزَمَتْ أَيْضًا، وَأُسِرَ كُلَيْبٌ وَمُهَلْهِلٌ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأُخِذَتِ الْأَمْوَالُ وَكَثُرَتِ الْقَتْلَى فِي بَنِي تَغْلِبَ وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُرْسَانِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ، فَقَالَ زُهَيْرٌ فِي ذَلِكَ مِنْ قَصِيدَةٍ: أَيْنَ أَيْنَ الْفِرَارُ مِنْ حَذَرِ ... الْمَوْ تِ إِذَا يَتَّقُونَ بِالْأَسْلَابِ

إِذْ أَسَرْنَا مُهْلَهِلًا وَأَخَاهُ وَابْنُ ... عَمْرٍو فِي الْقَيْدِ وَابْنُ شِهَابِ وَسَبَيْنَا مِنْ تَغْلِبَ كُلَّ بَيْضَا ... ءٍ رَقُودِ الضُّحَى بَرُودِ الرُّضَابِ حِينَ تَدْعُو مُهَلْهِلًا يَالَ بَكْرٍ ... هَا أَهْذِي حَفِيظَةُ الْأَحْسَابِ وَيْحَكُمْ وَيْحَكُمْ أُبِيحَ حِمَاكُمْ يَا ... بَنِي تَغْلِبَ أَنَا ابْنُ رُضَابِ وَهُمْ هَارِبُونَ فِي كُلِّ فَجٍّ ... كَشَرِيدِ النَّعَامِ فَوْقَ الرَّوَابِي وَاسْتَدَارَتْ رَحَى الْمَنَايَا ... عَلَيْهِمْ بِلُيُوثٍ مِنْ عَامِرٍ وَجَنَابِ فَهُمْ بَيْنَ هَارِبٍ لَيْسَ يَأْلُو ... وَقَتِيلٍ مُعَفَّرٍ فِي التُّرَابِ فَضَلَّ الْعِزُّ عِزُّنَا حِينَ نَسْمُو ... مِثْلَ فَضْلِ السَّمَاءِ فَوْقَ السَّحَابِ وَأَمَّا حَرْبُهُ مَعَ بَنِي الْقَيْنِ بْنِ جَسْرٍ فَكَانَ سَبَبَهَا أَنَّ أُخْتًا لِزُهَيْرٍ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً فِيهِمْ. فَجَاءَ رَسُولُهَا إِلَى زُهَيْرٍ وَمَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا رَمْلٌ، وَصُرَّةٌ فِيهَا شَوْكُ قَتَادٍ، فَقَالَ زُهَيْرٌ: إِنَّهَا تُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ يَأْتِيكُمْ عَدُوٌّ كَثِيرٌ ذُو شَوْكَةٍ شَدِيدَةٍ، فَاحْتَمَلُوا. فَقَالَ الْجُلَاحُ بْنُ عَوْفٍ السُّحَمِيُّ: لَا نَحْتَمِلُ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، فَظَعَنَ زُهَيْرٌ وَأَقَامَ الْجُلَاحُ، وَصَبَّحَهُ الْجَيْشُ فَقَتَلُوا عَامَّةَ قَوْمِ الْجُلَاحِ وَذَهَبُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَمَالِهِ. وَمَضَى زُهَيْرٌ فَاجْتَمَعَ مَعَ عَشِيرَتِهِ مِنْ بَنِي جَنَابٍ، وَبَلَغَ الْجَيْشَ خَبَرُهُ فَقَصَدُوهُ، فَقَاتَلَهُمْ وَصَبَرَ لَهُمْ فَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ رَئِيسَهُمْ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ خَائِبِينَ. وَلَمَّا طَالَ عُمْرُ زُهَيْرٍ وَكَبِرَتْ سِنُّهُ اسْتَخْلَفَ ابْنَ أَخِيهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُلَيْمٍ، فَقَالَ زُهَيْرٌ يَوْمًا: أَلَا إِنَّ الْحَيَّ ظَاعِنٌ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَا إِنَّ الْحَيَّ مُقِيمٌ. فَقَالَ زُهَيْرٌ: مَنْ هَذَا الْمُخَالِفُ عَلَيَّ؟ .

ذكر يوم البردان

فَقَالُوا: ابْنُ أَخِيكِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُلَيْمٍ. فَقَالَ: أَعْدَى النَّاسِ لِلْمَرْءِ ابْنُ أَخِيهِ. ثُمَّ شَرِبَ الْخَمْرَ صِرْفًا حَتَّى مَاتَ. وَمِمَّنْ شَرِبَ الْخَمْرَ صِرْفًا حَتَّى مَاتَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ التَّغْلِبِيُّ، وَأَبُو عَامِرٍ مُلَاعِبُ الْأَسِنَّةِ الْعَامِرِيُّ. [ذِكْرُ يَوْمِ الْبَرَدَانِ] فَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّ زِيَادَ بْنَ الْهَبُولَةِ مَلَكَ الشَّامَ،، وَكَانَ مِنْ سَلِيحِ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ. فَأَغَارَ عَلَى حُجْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْكِنْدِيِّ، مَلِكِ عَرَبٍ بِنَجْدٍ وَنَوَاحِي الْعِرَاقِ وَهُوَ يُلَقَّبُ آكِلَ الْمُرَارِ، وَكَانَ حُجْرٌ قَدْ أَغَارَ فِي كِنْدَةَ وَرَبِيعَةَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، فَبَلَغَ زِيَادًا خَبَرُهُمْ فَسَارَ إِلَى أَهْلِ حُجْرٍ وَرَبِيعَةَ وَأَمْوَالِهِمْ، وَهُمْ خُلُوفٌ وَرِجَالُهُمْ فِي غَزَاتِهِمُ الْمَذْكُورَةِ، فَأَخَذَ الْحَرِيمَ وَالْأَمْوَالَ، وَسَبَى فِيهِمْ هِنْدًا بِنْتَ ظَالِمِ بْنِ وَهْبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ. وَسَمِعَ حُجْرٌ وَكِنْدَةُ وَرَبِيعَةُ بِغَارَةِ زِيَادٍ، فَعَادُوا عَنْ غَزْوِهِمْ فِي طَلَبِ ابْنِ الْهَبُولَةِ، وَمَعَ حُجْرٍ أَشْرَافُ رَبِيعَةَ عَوْفُ بْنُ مُحَلَّمِ بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ. وَعَمْرُو بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ وَغَيْرُهُمَا، فَأَدْرَكُوا عَمْرًا بِالْبَرَدَانِ دُونَ عَيْنِ أُبَاغٍ وَقَدْ أَمِنَ الطَّلَبَ، فَنَزَلَ حُجْرٌ فِي سَفْحِ جَبَلٍ، وَنَزَلَتْ بَكْرٌ وَتَغْلِبُ وَكِنْدَةُ مَعَ حُجْرٍ دُونَ الْجَبَلِ بِالصَّحْصَحَانِ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ حَفِيرٌ. فَتَعَجَّلَ عَوْفُ بْنُ مُحَلَّمٍ وَعَمْرُو بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ وَقَالَا لِحُجْرٍ: إِنَّا مُتَعَجِّلَانِ إِلَى زِيَادٍ لَعَلَّنَا نَأْخُذُ مِنْهُ بَعْضَ مَا أَصَابَ مِنَّا. فَسَارَا إِلَيْهِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَوْفٍ إِخَاءٌ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: يَا خَيْرَ الْفِتْيَانِ ارْدُدْ عَلَيَّ امْرَأَتِي أُمَامَةُ. فَرَدَّهَا عَلَيْهِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَوَلَدَتْ لَهُ بِنْتًا أَرَادَ عَوْفٌ أَنْ يَئِدَهَا فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ عَمْرُو بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَقَالَ:

لَعَلَّهَا تَلِدُ أُنَاسًا، فَسُمِّيَتْ أُمَّ أُنَاسٍ، فَتَزَوَّجَهَا الْحَارِثُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حُجْرٍ آكِلُ الْمُرَارِ، فَوَلَدَتْ عَمْرًا، وَيُعْرَفُ بِابْنِ أُمِّ أُنَاسٍ. ثُمَّ إِنَّ عَمْرَو بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ قَالَ لِزِيَادٍ: يَا خَيْرَ الْفِتْيَانِ ارْدُدْ عَلَيَّ مَا أَخَذْتَ مِنْ إِبِلِي. فَرَدَّهَا عَلَيْهِ وَفِيهَا فَحْلُهَا، فَنَازَعَهُ الْفَحْلُ إِلَى الْإِبِلِ، فَصَرَعَهُ عَمْرٌو فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ: يَا عَمْرُو لَوْ صَرَعْتُمْ يَا بَنِي شَيْبَانَ الرِّجَالَ كَمَا تَصْرَعُونَ الْإِبِلَ لَكُنْتُمْ أَنْتُمْ أَنْتُمْ! فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: لَقَدْ أُعْطِيتَ قَلِيلًا، وَسَمَّيْتَ جَلِيلًا، وَجَرَرْتَ عَلَى نَفْسِكَ وَيْلًا طَوِيلًا! وَلَتَجِدَنَّ مِنْهُ، وَلَا وَاللَّهِ لَا تَبْرَحُ حَتَّى أَرْوِيَ سِنَانِي مِنْ دَمِكَ! ثُمَّ رَكَضَ فَرَسُهُ حَتَّى صَارَ إِلَى حُجْرٍ، فَلَمْ يُوَضِّحْ لَهُ الْخَبَرَ، فَأَرْسَلَ سَدُوسَ بْنَ شَيْبَانَ بْنِ ذُهْلٍ وَصُلَيْعَ بْنَ عَبْدِ غَنْمٍ يَتَجَسَّسَانِ لَهُ الْخَبَرَ وَيَعْلَمَانِ عِلْمَ الْعَسْكَرِ، فَخَرَجَا حَتَّى هَجَمَا عَلَى عَسْكَرِهِ لَيْلًا وَقَدْ قَسَّمَ الْغَنِيمَةَ وَجِيءَ بِالشَّمْعِ فَأَطْعَمَ النَّاسَ تَمْرًا وَسَمْنًا، فَلَمَّا أَكَلَ النَّاسُ نَادَى: مَنْ جَاءَ بِحُزْمَةِ حَطَبٍ فَلَهُ قِدْرَةُ تَمْرٍ. فَجَاءَ سَدُوسٌ وَصُلَيْعٌ بِحَطَبٍ وَأَخَذَا قِدْرَتَيْنِ مِنْ تَمْرٍ وَجَلَسَا قَرِيبًا مِنْ قُبَّتِهِ. ثُمَّ انْصَرَفَ صُلَيْعٌ إِلَى حُجْرٍ فَأَخْبَرَهُ بِعَسْكَرِ زِيَادٍ وَأَرَاهُ التَّمْرَ. وَأَمَّا سَدُوسٌ فَقَالَ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى آتِيَهُ بِأَمْرٍ جَلِيٍّ. وَجَلَسَ مَعَ الْقَوْمِ يَتَسَمَّعُ مَا يَقُولُونَ، وَهِنْدٌ امْرَأَةُ حُجْرٍ خَلْفَ زِيَادٍ، فَقَالَتْ لِزِيَادٍ: إِنَّ هَذَا التَّمْرَ أُهْدِيَ إِلَى حُجْرٍ مِنْ هَجَرَ، وَالسَّمْنَ مِنْ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ. ثُمَّ تَفَرَّقَ أَصْحَابُ زِيَادٍ عَنْهُ، فَضَرَبَ سَدُوسٌ يَدَهُ إِلَى جَلِيسٍ لَهُ وَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ مَخَافَةَ أَنْ يَسْتَنْكِرَهُ الرَّجُلُ. فَقَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ. وَدَنَا سَدُوسٌ مِنْ قُبَّةِ زِيَادٍ بِحَيْثُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ، وَدَنَا زِيَادٌ مِنَ امْرَأَةِ حُجْرٍ فَقَبَّلَهَا وَدَاعَبَهَا وَقَالَ لَهَا: مَا ظَنُّكِ الْآنَ بِحُجْرٍ؟ فَقَالَتْ: مَا هُوَ ظَنٌّ وَلَكِنَّهُ يَقِينٌ، إِنَّهُ وَاللَّهِ لَنْ يَدَعَ طَلَبَكَ حَتَّى تُعَايِنَ الْقُصُورَ الْحُمْرَ، يَعْنِي قُصُورَ الشَّامِ، وَكَأَنِّي بِهِ فِي فَوَارِسَ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ يُذَمِّرُهُمْ وَيُذَمِّرُونَهُ، وَهُوَ شَدِيدُ الْكَلَبِ تُزْبِدُ شَفَتَاهُ كَأَنَّهُ بَعِيرٌ أَكَلَ مُرَارًا، فَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ! فَإِنَّ وَرَاءَكَ طَالِبًا حَثِيثًا، وَجَمْعًا كَثِيفًا، وَكَيْدًا مَتِينًا، وَرَأْيًا صَلِيبًا فَرَفَعَ يَدَهُ فَلَطَمَهَا ثُمَّ قَالَ لَهَا: مَا قُلْتِ هَذَا إِلَّا مِنْ عُجْبِكِ بِهِ وَحُبِّكِ لَهُ! فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَبْغَضْتُ أَحَدًا بُغْضِي لَهُ

وَلَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَحْزَمَ مِنْهُ نَائِمًا وَمُسْتَيْقِظًا، إِنْ كَانَ لَتَنَامُ عَيْنَاهُ فَبَعْضُ أَعْضَائِهِ مُسْتَيْقِظٌ! وَكَانَ إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ أَمَرَنِي أَنْ أَجْعَلَ عِنْدَهُ عُسًّا مِنْ لَبَنٍ، فَبَيْنَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةِ نَائِمٌ وَأَنَا قَرِيبٌ مِنْهُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ، إِذْ أَقْبَلَ أَسْوَدُ سَالِخٍ إِلَى رَأْسِهِ فَنَحَّى رَأْسَهُ، فَمَالَ إِلَى يَدِهِ فَقَبَضَهَا، فَمَالَ إِلَى رِجْلِهِ فَقَبَضَهَا، فَمَالَ إِلَى الْعُسِّ فَشَرِبَهُ ثُمَّ مَجَّهُ. فَقُلْتُ: يَسْتَيْقِظُ فَيَشْرَبُهُ فَيَمُوتُ فَأَسْتَرِيحُ مِنْهُ فَانْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ فَقَالَ: عَلَيَّ بِالْإِنَاءِ، فَنَاوَلْتُهُ فَشَمَّهُ ثُمَّ أَلْقَاهُ فَهُرِيقَ. فَقَالَ: أَيْنَ ذَهَبَ الْأَسْوَدُ؟ فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُهُ. فَقَالَ: كَذَبْتِ وَاللَّهِ! وَذَلِكَ كُلُّهُ يَسْمَعُهُ سَدُوسٌ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى حُجْرًا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ: أَتَاكَ الْمُرْجِفُونَ بِأَمْرِ غَيْبٍ ... عَلَى دَهْشٍ وَجِئْتُكَ بِالْيَقِينِ فَمَنْ يَكُ قَدْ أَتَاكَ بِأَمْرِ لَبْسٍ ... فَقَدْ آتِي بِأَمْرٍ مُسْتَبِينِ ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِ مَا سَمِعَ، فَجَعَلَ حُجْرٌ يَعْبَثُ بِالْمُرَارِ وَيَأْكُلُ مِنْهُ غَضَبًا وَأَسَفًا، وَلَا يَشْعُرُ أَنَّهُ يَأْكُلُهُ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ، فَلَمَّا فَرَغَ سَدُوسٌ مِنْ حَدِيثِهِ وَجَدَ حُجْرٌ الْمُرَارَ فَسُمِّيَ يَوْمَئِذٍ آكِلَ الْمُرَارِ، وَالْمُرَارُ نَبْتٌ شَدِيدُ الْمَرَارَةِ لَا تَأْكُلُهُ دَابَّةٌ إِلَّا قَتَلَهَا. ثُمَّ أَمَرَ حُجْرٌ فَنُودِيَ فِي النَّاسِ، وَرَكِبَ وَسَارَ إِلَى زِيَادٍ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ زِيَادٌ وَأَهْلُ الشَّامِ وَقُتِلُوا قَتْلًا ذَرِيعًا، وَاسْتَنْقَذَتْ بَكْرٌ وَكِنْدَةُ مَا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْغَنَائِمِ وَالسَّبْيِ، وَعَرَفَ سَدُوسٌ زِيَادًا فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَاعْتَنَقَهُ وَصَرَعَهُ وَأَخَذَهُ أَسِيرًا، فَلَمَّا رَآهُ عَمْرُو بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ حَسَدَهُ فَطَعَنَ زِيَادًا فَقَتَلَهُ. فَغَضِبَ سَدُوسٌ وَقَالَ: قَتَلْتَ أَسِيرِي وَدِيَتُهُ دِيَةُ مَلِكٍ، فَتَحَاكَمَا إِلَى حُجْرٍ، فَحَكَمَ عَلَى عَمْرٍو وَقَوْمِهِ لِسَدُوسٍ بِدِيَةِ مَلِكٍ وَأَعَانَهُمْ مِنْ مَالِهِ. وَأَخَذَ حُجْرٌ زَوْجَتَهُ هِنْدًا فَرَبَطَهَا فِي فَرَسَيْنِ ثُمَّ رَكَضَهَا حَتَّى قَطَّعَاهَا، وَيُقَالُ: بَلْ أَحْرَقَهَا، وَقَالَ فِيهَا: إِنَّ مَنْ غَرَّهُ النِّسَاءُ بِشَيْءٍ ... بَعْدَ هِنْدٍ لَجَاهِلٌ مَغْرُورُ حُلْوَةُ الْعَيْنِ وَالْحَدِيثِ وَمُرُّ ... كُلِّ شَيْءٍ أَجَنَّ مِنْهَا الضَّمِيرُ كُلُّ أُنْثَى وَإِنْ بَدَا لَكَ مِنْهَا ... آيَةُ الْحُبِّ حُبُّهَا خَيْتَعُورُ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْحِيرَةِ.

ذكر مقتل حجر أبي امرئ القيس والحروب الحادثة بمقتله إلى أن مات امرؤ القيس

قُلْتُ: هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ زِيَادَ بْنَ هَبُولَةَ السَّلِيحِيَّ مَلِكَ الشَّامِ غَزَا حُجْرًا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ مُلُوكَ سَلِيحٍ كَانُوا بِأَطْرَافِ الشَّامِ مِمَّا يَلِي الْبَرَّ مِنْ فَلَسْطِينَ إِلَى قَنْسَرِينَ وَالْبِلَادُ لِلرُّومِ، وَمِنْهُمْ أَخَذَتْ غَسَّانُ هَذِهِ الْبِلَادَ، وَكُلُّهُمْ كَانُوا عُمَّالًا لِمُلُوكِ الرُّومِ كَمَا كَانَ مُلُوكُ الْحِيرَةِ عُمَّالًا لِمُلُوكِ الْفُرْسِ عَلَى الْبَرِّ وَالْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ سَلِيحُ وَلَا غَسَّانُ مُسْتَقِلِّينَ بِمُلْكِ الشَّامِ وَلَا بِشِبْرٍ وَاحِدٍ عَلَى سَبِيلِ التَّفَرُّدِ وَالِاسْتِقْلَالِ. وَقَوْلُهُمْ: مَلِكُ الشَّامِ، غَيْرُ صَحِيحٍ، وَزِيَادُ بْنُ هَبُولَةَ السَّلِيحِيُّ مَلِكُ مَشَارِفِ الشَّامِ أَقْدَمُ مِنْ حُجْرٍ الَّذِي مَلَكَ الْحِيرَةَ وَالْعَرَبَ بِالْعِرَاقِ أَيَّامَ قُبَاذَ أَبِي أَنُوشِرْوَانَ. وَبَيْنَ مُلْكِ قُبَاذَ وَالْهِجْرَةِ نَحْوَ مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ مَلَكَتْ غَسَّانُ أَطْرَافَ الشَّامِ بَعْدَ سَلِيحٍ سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ، وَقِيلَ: خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، وَأَقَلُّ مَا سَمِعْتُ فِيهِ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانُوا بَعْدَ سَلِيحٍ وَلَمْ يَكُنْ زِيَادٌ آخِرَ مُلُوكِ سَلِيحٍ، فَتَزِيدُ الْمُدَّةُ زِيَادَةً أُخْرَى، وَهَذَا تَفَاوُتٌ كَثِيرٌ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ هَبُولَةَ الْمَلِكَ أَيَّامَ حُجْرٍ حَتَّى يُغِيرَ عَلَيْهِ؟ ! وَحَيْثُ أَطْبَقَتْ رُوَاةُ الْعَرَبِ عَلَى هَذِهِ الْغَزَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْجِيهِهَا، وَأَصْلَحُ مَا قِيلَ فِيهِ: إِنَّ زِيَادَ بْنَ هَبُولَةَ الْمُعَاصِرَ لِحُجْرٍ كَانَ رَئِيسًا عَلَى قَوْمٍ أَوْ مُتَغَلِّبًا عَلَى بَعْضِ أَطْرَافِ الشَّامِ حَتَّى يَسْتَقِيمَ هَذَا الْقَوْلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُمْ أَيْضًا: إِنَّ حُجْرًا عَادَ إِلَى الْحِيرَةِ، لَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا لِأَنَّ مُلُوكَ الْحِيرَةِ مِنْ وَلَدِ عَدِيِّ بْنِ نَصْرٍ اللَّخْمِيِّ لَمْ يَنْقَطِعْ مُلْكُهُمْ لَهَا إِلَّا أَيَّامَ قُبَاذَ، فَإِنَّهُ اسْتَعْمَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حُجْرٍ آكِلَ الْمُرَارِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. فَلَمَّا وَلِيَ أَنُوشِرْوَانُ عَزَلَ الْحَارِثَ وَأَعَادَ اللَّخْمِيِّينَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْكِنْدِيِّينَ قَدْ ذَكَرَ هَذَا تَعَصُّبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ ذَكَرَ هَذَا الْيَوْمَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ ابْنَ هَبُولَةَ مِنْ سَلِيحٍ بَلْ قَالَ: هُوَ غَالِبُ بْنُ هَبُولَةَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَوْدَهُ إِلَى الْحِيرَةِ، فَزَالَ هَذَا الْوَهْمُ. وَسَلِيحٌ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَسْرِ اللَّامِ، وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ. [ذِكْرُ مَقْتَلِ حُجْرٍ أَبِي امْرِئِ الْقَيْسِ وَالْحُرُوبِ الْحَادِثَةِ بِمَقْتَلِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ امْرُؤُ الْقَيْسِ] نَذْكُرُ أَوَّلًا سَبَبَ مُلْكِهِمُ الْعَرَبَ بِنَجْدٍ وَنَسُوقُ الْحَادِثَةَ إِلَى قَتْلِهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ فَنَقُولُ:

كَانَ سُفَهَاءُ بَكْرٍ قَدْ غَلَبُوا عَلَى عُقَلَائِهَا وَغَلَبُوهُمْ عَلَى الْأَمْرِ وَأَكَلَ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ، فَنَظَرَ الْعُقَلَاءُ فِي أَمْرِهِمْ فَرَأَوْا أَنْ يُمَلِّكُوا عَلَيْهِمْ مَلِكًا يَأْخُذُ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ. فَنَهَاهُمُ الْعَرَبُ وَعَرَفُوا أَنَّ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ بِأَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ يُطِيعُهُ قَوْمٌ وَيُخَالِفُهُ آخَرُونَ، فَسَارُوا إِلَى بَعْضِ تَبَابِعَةِ الْيَمَنِ، وَكَانُوا لِلْعَرَبِ بِمَنْزِلَةِ الْخُلَفَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُمَلِّكَ عَلَيْهِمْ مَلِكًا، فَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ حُجْرَ بْنَ عَمْرٍو آكِلَ الْمُرَارِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ وَنَزَلَ بِبَطْنِ عَاقِلٍ وَأَغَارَ بِبَكْرٍ فَانْتَزَعَ عَامَّةَ مَا كَانَ بِأَيْدِي اللَّخْمِيِّينَ مِنْ أَرْضِ بَكْرٍ وَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَاتَ فَدُفِنَ بِبَطْنِ عَاقِلٍ. فَلَمَّا مَاتَ صَارَ عَمْرُو بْنُ حُجْرٍ آكِلُ الْمُرَارِ، وَهُوَ الْمَقْصُورُ، مَلِكًا بَعْدَ أَبِيهِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْمَقْصُورُ لِأَنَّهُ قَصَرَ عَلَى مُلْكِ أَبِيهِ، وَكَانَ أَخُوهُ مُعَاوِيَةُ، وَهُوَ الْجَوْنُ، عَلَى الْيَمَامَةِ. فَلَمَّا مَاتَ عَمْرٌو مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ، وَكَانَ شَدِيدَ الْمُلْكِ بَعِيدَ الصَّوْتِ، فَلَمَّا مَلَكَ قُبَاذُ بْنُ فَيْرُوزَ الْفُرْسَ خَرَجَ فِي أَيَّامِهِ مَزْدَكُ فَدَعَا النَّاسَ إِلَى الزَّنْدَقَةِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَجَابَهُ قُبَاذُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ الْمُنْذِرُ بْنُ مَاءِ السَّمَاءِ عَامِلًا لِلْأَكَاسِرَةِ عَلَى الْحِيرَةِ وَنَوَاحِيهَا، فَدَعَاهُ قُبَاذُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُ، فَامْتَنَعَ، فَدَعَا الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو إِلَى ذَلِكَ فَأَجَابَهُ، فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْحِيرَةِ وَطَرَدَ الْمُنْذِرَ عَنْ مَمْلَكَتِهِ. وَقِيلَ فِي تَمَلُّكِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ أَيَّامَ قُبَاذَ. فَبَقُوا كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَلَكَ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانُ بْنُ قُبَاذَ بَعْدَ أَبِيهِ فَقَتَلَ مَزْدَكَ وَأَصْحَابَهُ وَأَعَادَ الْمُنْذِرَ بْنَ مَاءِ السَّمَاءِ إِلَى وِلَايَةِ الْحِيرَةِ وَطَلَبَ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو، وَكَانَ بِالْأَنْبَارِ، وَبِهَا مَنْزِلُهُ، فَهَرَبَ بِأَوْلَادِهِ وَمَالِهِ وَهَجَائِنِهِ، وَتَبِعَهُ الْمُنْذِرُ بِالْخَيْلِ مِنْ تَغْلِبَ وَإِيَادٍ وَبَهْرَاءَ فَلَحِقَ بِأَرْضِ كَلْبٍ فَنَجَا، وَانْتَهَبُوا مَالَهُ وَهَجَائِنَهُ، وَأَخَذَتْ تَغْلِبُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ نَفْسًا مِنْ بَنِي آكِلِ الْمُرَارِ، فِيهِمْ عَمْرٌو وَمَالِكٌ ابْنَا الْحَارِثِ، فَقَدِمُوا بِهِمْ عَلَى الْمُنْذِرِ، فَقَتَلَهُمْ فِي دِيَارِ بَنِي مَرِينَا، وَفِيهِمْ يَقُولُ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:

فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا ... وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا وَفِيهِمْ يَقُولُ امْرُؤُ الْقَيْسَ: مُلُوكٌ مِنْ بَنِي حُجْرِ بْنِ ... عَمْرٍو يُسَاقُونَ الْعَشِيَّةَ يُقْتَلُونَا فَلَوْ فِي يَوْمِ مَعْرَكَةٍ أُصِيبُوا ... وَلَكِنْ فِي دِيَارِ بَنِي مَرِينَا وَلَمْ تُغْسَلْ جَمَاجِمُهُمْ بِغُسْلٍ ... وَلَكِنْ فِي الدِّمَاءِ مُرَمَّلِينَا تَظَلُّ الطَّيْرُ عَاكِفَةً عَلَيْهِمْ ... وَتَنْتَزِعُ الْحَوَاجِبَ وَالْعَيُونَا وَأَقَامَ الْحَارِثُ بِدِيَارِ كَلْبٍ، فَتَزْعُمُ كَلْبٌ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، وَعُلَمَاءُ كِنْدَةَ تَزْعُمُ أَنَّهُ خَرَجَ يَتَصَيَّدُ، فَتَبِعَ تَيْسًا مِنَ الظِّبَاءِ فَأَعْجَزَهُ، فَأَقْسَمَ أَنْ لَا يَأْكُلَ شَيْئًا إِلَّا مِنْ كَبِدِهِ، فَطَلَبَتْهُ الْخَيْلُ، فَأُتِيَ بِهِ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ، وَقَدْ كَادَ يَهْلِكُ جُوعًا، فَشُوِيَ لَهُ بَطْنُهُ فَأَكَلَ فِلْذَةً مِنْ كَبِدِهِ حَارَةً فَمَاتَ. وَلَمَّا كَانَ الْحَارِثُ بِالْحِيرَةِ أَتَاهُ أَشْرَافُ عِدَّةِ قَبَائِلَ مِنْ نِزَارٍ فَقَالُوا: إِنَّا فِي طَاعَتِكَ وَقَدْ وَقَعَ بَيْنَنَا مِنَ الشَّرِّ بِالْقَتْلِ مَا تَعْلَمُ وَنَخَافُ الْفَنَاءَ فَوَجِّهْ مَعَنَا بَنِيكَ يَنْزِلُونَ فِينَا فَيَكُفُّونَ بَعْضَنَا عَنْ بَعْضٍ. فَفَرَّقَ أَوْلَادَهُ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَمَلَّكَ ابْنَهُ حُجْرًا عَلَى بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَغَطَفَانَ، وَمَلَّكَ ابْنَهُ شُرَحْبِيلَ، وَهُوَ الَّذِي قُتِلَ يَوْمَ الْكُلَابِ، عَلَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ بِأَسْرِهَا وَعَلَى غَيْرِهَا، وَمَلَّكَ ابْنَهُ مَعْدِي كَرِبَ، وَهُوَ غَلْفَاءُ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ غَلْفَاءُ لِأَنَّهُ كَانَ يُغَلِّفُ رَأْسَهُ بِالطِّيبِ، عَلَى قَيْسِ عَيْلَانَ وَطَوَائِفَ غَيْرِهِمْ، وَمَلَّكَ ابْنَهُ سَلَمَةَ عَلَى تَغْلِبَ وَالنَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ وَبَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ مِنْ تَمِيمٍ. فَبَقِيَ حُجْرٌ فِي بَنِي أَسَدٍ وَلَهُ عَلَيْهِمْ جَائِزَةٌ وَإِتَاوَةٌ كُلَّ سَنَةٍ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ دَهْرًا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَجْبِي ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَكَانُوا بِتِهَامَةَ، وَطَرَدُوا رُسُلَهُ

وَضَرَبُوهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ حُجْرًا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ بِجُنْدٍ مِنْ رَبِيعَةَ، وَجُنْدٍ مِنْ جُنْدِ أَخِيهِ مِنْ قَيْسٍ وَكِنَانَةَ، فَأَتَاهُمْ فَأَخَذَ سَرَوَاتِهِمْ وَخِيَارَهُمْ، وَجَعَلَ يَقْتُلُهُمْ بِالْعَصَا وَأَبَاحَ الْأَمْوَالَ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى تِهَامَةَ، وَحَبَسَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً مِنْ أَشْرَافِهِمْ، مِنْهُمْ عُبَيْدُ بْنُ الْأَبْرَصِ الشَّاعِرُ، فَقَالَ شِعْرًا يَسْتَعْطِفُهُ لَهُمْ، فَرَقَّ لَهُمْ وَأَرْسَلَ مَنْ يَرُدُّهُمْ، فَلَمَّا صَارُوا عَلَى يَوْمٍ مِنْهُ تَكَهَّنَ كَاهِنُهُمْ، وَهُوَ عَوْفُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرٍ الْأَسَدِيُّ، فَقَالَ لَهُمْ: مَنِ الْمَلِكُ الصَّلْهَبْ، الْغَلَّابُ غَيْرُ الْمُغَلَّبْ، فِي الْإِبِلِ كَأَنَّهَا الرَّبْرَبْ، هَذَا دَمُهُ يَتَثَعَّبْ، وَهُوَ غَدًا أَوَّلُ مَنْ يُسْتَلَبْ؟ قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: لَوْلَا تَجِيشُ نَفْسٌ خَاشِيَهْ، لَأَخْبَرْتُكُمْ أَنَّهُ حُجْرُ ضَاحِيَهْ، فَرَكِبُوا كُلَّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ حَتَّى بَلَغُوا إِلَى عَسْكَرِ حُجْرٍ فَهَجَمُوا عَلَيْهِ فِي قُبَّتِهِ فَقَتَلُوهُ، طَعَنَهُ عِلْبَاءُ بْنُ الْحَارِثِ الْكَاهِلِيُّ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ حُجْرٌ قَتَلَ أَبَاهُ، فَلَمَّا قُتِلَ قَالَتْ بَنُو أَسَدٍ: يَا مَعْشَرَ كِنَانَةَ وَقَيْسٍ أَنْتُمْ إِخْوَانُنَا وَبَنُو عَمِّنَا، وَالرَّجُلُ بَعِيدُ النَّسَبِ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَقَدْ رَأَيْتُمْ سِيرَتَهُ وَمَا كَانَ يَصْنَعُ بِكُمْ هُوَ وَقَوْمُهُ فَانْتَهِبُوهُمْ. فَشَدُّوا عَلَى هَجَائِنِهِ فَانْتَهَبُوهَا، وَلَفُّوهُ فِي رَيْطَةٍ بَيْضَاءَ وَأَلْقُوهُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَيْسٌ وَكِنَانَةُ انْتَهَبُوا أَسْلَابَهُ وَأَجَارَ عَمْرُو بْنُ مَسْعُودٍ عِيَالَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ حُجْرًا لَمَّا رَأَى اجْتِمَاعَ بَنِي أَسَدٍ عَلَيْهِ خَافَهُمْ فَاسْتَجَارَ عُوَيْمِرُ بْنُ شُجْنَةَ أَحَدَ بَنِي عُطَارِدَ بْنِ كَعْبِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ لِبِنْتِهِ هِنْدٍ بِنْتِ حُجْرٍ وَعِيَالِهِ، وَقَالَ لِبَنِي أَسَدٍ: إِنْ كَانَ هَذَا شَأْنَكُمْ فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ عَنْكُمْ وَمُخَلِّيكُمْ وَشَأْنَكُمْ. فَوَادَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَسَارَ عَنْهُمْ وَأَقَامَ فِي قَوْمِهِ مُدَّةً، ثُمَّ جَمَعَ لَهُمْ جَمْعًا عَظِيمًا وَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ مُدِلًّا بِمَنْ مَعَهُ، فَتَآمَرَ بَنُو أَسَدٍ وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ قَهَرَكُمْ لِيَحْكُمَنَّ عَلَيْكُمْ حُكْمَ الصَّبِيِّ، فَمَا خَيْرُ

الْعَيْشِ حِينَئِذٍ فَمُوتُوا كِرَامًا. فَاجْتَمَعُوا وَسَارُوا إِلَى حُجْرٍ فَلَقَوْهُ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَ صَاحِبُ أَمْرِهِمْ عِلْبَاءَ بْنَ الْحَارِثِ، فَحَمَلَ عَلَى حُجْرٍ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ، وَانْهَزَمَتْ كِنْدَةُ وَمَنْ مَعَهُمْ، وَأَسَرَ بَنُو أَسَدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ حُجْرٍ وَغَنِمُوا حَتَّى مَلَأُوا أَيْدِيَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَأَخَذُوا جَوَارِيَهُ وَنِسَاءَهُ وَمَا مَعَهُمْ فَاقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ حُجْرًا أَخَذَ أَمِيرًا فِي الْمَعْرَكَةِ وَجَعَلَ فِي قُبَّةٍ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ ابْنُ أُخْتِ عِلْبَاءَ فَضَرَبَهُ بِحَدِيدَةٍ كَانَتْ مَعَهُ لِأَنَّ حُجْرًا كَانَ قَتَلَ أَبَاهُ، فَلَمَّا جَرَحَهُ لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ، فَأَوْصَى حُجْرٌ وَدَفَعَ كِتَابَهُ إِلَى رَجُلٍ وَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى ابْنِي نَافِعٍ، وَكَانَ أَكْبَرَ أَوْلَادِهِ، فَإِنْ بَكَى وَجَزِعَ فَاتْرُكْهُ وَاسْتَقْرِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى تَأْتِيَ امْرَأَ الْقَيْسِ، وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ، فَأَيُّهُمْ لَمْ يَجْزَعْ فَادْفَعْ إِلَيْهِ خَيْلِي وَسِلَاحِي وَوَصِيَّتِي. وَقَدْ كَانَ بَيْنَ وَصِيَّتِهِ مِنْ قَتْلِهِ وَكَيْفَ كَانَ خَبَرُهُ. فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ بِوَصِيَّتِهِ إِلَى ابْنِهِ نَافِعٍ فَوَضَعَ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ أَتَاهُمْ كُلَّهُمْ، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ حَتَّى أَتَى امْرَأَ الْقَيْسِ فَوَجَدَهُ مَعَ نَدِيمٍ لَهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَلْعَبُ مَعَهُ بِالنَّرْدِ، فَقَالَ: قُتِلَ حُجْرٌ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ، وَأَمْسَكَ نَدِيمُهُ، فَقَالَ لَهُ امْرُؤُ الْقَيْسِ: اضْرِبْ، فَضَرَبَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ: مَا كُنْتُ لِأُفْسِدَ دُسْتَكَ، ثُمَّ سَأَلَ الرَّسُولَ عَنْ أَمْرِ أَبِيهِ كُلِّهِ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: الْخَمْرُ وَالنِّسَاءُ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى أَقْتُلَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ مِائَةً وَأُطْلِقُ مِائَةً. وَكَانَ حُجْرٌ قَدْ طَرَدَ امْرَأَ الْقَيْسِ لِقَوْلِهِ الشِّعْرَ، وَكَانَ يَأْنَفُ مِنْهُ، وَكَانَتْ أُمُّ امْرِئِ الْقَيْسِ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ أُخْتَ كُلَيْبِ بْنِ وَائِلٍ، وَكَانَ يَسِيرُ فِي أَحْيَاءِ الْعَرَبِ يَشْرَبُ الْخَمْرَ عَلَى الْغُدْرَانِ وَيَتَصَيَّدُ، فَأَتَاهُ خَبَرُ قَتْلِ أَبِيهِ وَهُوَ بِدَمُّونَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْخَبَرَ قَالَ: تَطَاوَلَ اللَّيْلُ عَلَيْنَا دَمُّونْ دَمُّونُ ... إِنَّا مَعْشَرٌ يَمَانُونْ إِنَّنَا لِقَوْمِنَا مُحِبُّونْ ثُمَّ قَالَ ضَيَّعَنِي صَغِيرًا وَحَمَّلَنِي دَمَهُ كَبِيرًا، لَا صَحْوَ الْيَوْمَ وَلَا سُكْرَ غَدًا، " الْيَوْمَ خَمْرٌ وَغَدًا أَمْرٌ ". فَذَهَبَتْ مَثَلًا.

ثُمَّ ارْتَحَلَ حَتَّى نَزَلَ بِبَكْرٍ وَتَغْلِبَ، فَسَأَلَهُمُ النَّصْرَ عَلَى بَنِي أَسَدٍ، فَأَجَابُوهُ. فَبَعَثَ الْعُيُونَ إِلَى بَنِي أَسَدٍ، فَنُذِرُوا بِهِ، فَلَجَأُوا إِلَى بَنِي كِنَانَةَ، وَعُيُونُ امْرِئِ الْقَيْسِ مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ عِلْبَاءُ بْنُ الْحَارِثِ: اعْلَمُوا أَنَّ عُيُونَ امْرِئِ الْقَيْسِ قَدْ عَادُوا إِلَيْهِ بِخَبَرِكُمْ وَأَنَّكُمْ عِنْدَ بَنِي كِنَانَةَ، فَارْحَلُوا بِلَيْلٍ وَلَا تُعْلِمُوا بَنِي كِنَانَةَ. فَارْتَحَلُوا. وَأَقْبَلَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ بَكْرٍ وَتَغْلِبَ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَنِي كِنَانَةَ، وَهُوَ يَظُنُّهُمْ بَنِي أَسَدٍ فَوَضَعَ السِّلَاحَ فِيهِمْ وَقَالَ: يَا لِثَارَاتِ الْهُمَامِ! فَقِيلَ لَهُ: أَبَيْتَ اللَّعْنَ! لَسْنَا لَكَ بِثَأْرٍ، نَحْنُ بَنُو كِنَانَةَ فَدُونَكَ ثَأْرَكَ فَاطْلُبْهُمْ فَإِنَّ الْقَوْمَ قَدْ سَارُوا بِالْأَمْسِ. فَتَبِعَ بَنِي أَسَدٍ، فَفَاتُوهُ لَيْلَتَهُمْ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ: أَلَا يَا لَهْفَ هِنْدٍ إِثْرَ قَوْمٍ ... هُمُ كَانُوا الشِّفَاءَ فَلَمْ يُصَابُوا وَقَاهُمْ جَدُّهُمْ بِبَنِي أَبِيهِمْ ... وَبِالْأَشْقَيْنِ مَا كَانَ الْعِقَابُ وَأَفْلَتَهُنَّ عِلْبَاءُ جَرِيضًا ... وَلَوْ أَدْرَكْنَهُ صَفِرَ الْوِطَابُ يَعْنِي بِبَنِي أَبِيهِمْ كِنَانَةَ، فَإِنَّ أَسَدًا وَكِنَانَةَ ابْنَيْ خُزَيْمَةَ هُمَا أَخَوَانِ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَدْرَكْنَهُ صَفِرَ الْوِطَابُ، قِيلَ: كَانُوا قَتَلُوهُ وَاسْتَاقُوا إِبِلَهُ فَصَفِرَتْ وِطَابُهُ مِنَ اللَّبَنِ، أَيْ خَلَتْ، وَقِيلَ: كَانُوا قَتَلُوهُ فَخَلَا جِلْدُهُ، وَهُوَ وِطَابُهُ، مِنْ دَمِهِ بِقَتْلِهِ. فَسَارَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي آثَارِ بَنِي أَسَدٍ فَأَدْرَكَهُمْ ظُهْرًا، وَقَدْ تَقَطَّعَتْ خَيْلُهُ وَهَلَكُوا عَطَشًا، وَبَنُو أَسَدٍ نَازِلُونَ عَلَى الْمَاءِ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى كَثُرَتِ الْقَتْلَى بَيْنَهُمْ وَهَرَبَتْ بَنُو أَسَدٍ. فَلَمَّا أَصْبَحَتْ بَكْرٌ وَتَغْلِبُ أَبَوْا أَنْ يَتْبَعُوهُمْ وَقَالُوا: قَدْ أَصَبْتَ ثَأْرَكَ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ. فَقَالُوا: بَلَى وَلَكِنَّكَ رَجُلٌ مَشْؤُومٌ وَكَرِهُوا قَتْلَهُمْ بَنِي كِنَانَةَ فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَمَضَى إِلَى

أَزِدْ شَنُوءَةَ يَسْتَنْصِرُهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يَنْصُرُوهُ وَقَالُوا: إِخْوَانُنَا وَجِيرَانُنَا. فَسَارَ عَنْهُمْ وَنَزَلَ بِقَيْلٍ يُدْعَى مَرْثَدَ الْخَيْرِ بْنَ ذِي جَدَنٍ الْحِمْيَرِيَّ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ. فَاسْتَنْصَرَهُ عَلَى بَنِي أَسَدٍ، فَأَمَدَّهُ بِخَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ حِمْيَرَ، وَمَاتَ مَرْثَدٌ قَبْلَ رَحِيلِ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ يُقَالُ لَهُ قَرْمَلُ، فَزَوَّدَ امْرَأَ الْقَيْسِ ثُمَّ سَيَّرَ مَعَهُ ذَلِكَ الْجَيْشَ، وَتَبِعَهُ شُذَّاذٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَاسْتَأْجَرَ غَيْرَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى بَنِي أَسَدٍ وَظَفِرَ بِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ الْمُنْذِرَ طَلَبَ امْرَأَ الْقَيْسِ وَلَجَّ فِي طَلَبِهِ وَوَجَّهَ الْجُيُوشَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِامْرِئِ الْقَيْسِ بِهِمْ طَاقَةٌ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ حِمْيَرَ وَغَيْرِهِمْ، فَنَجَا فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِهِ وَنَزَلَ بِالْحَارِثِ بْنِ شِهَابٍ الْيَرْبُوعِيِّ، وَهُوَ أَبُو عُتَيْبَةَ بْنُ الْحَارِثِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُنْذِرُ يَتَوَعَّدُهُ بِالْقِتَالِ إِنْ لَمْ يُسَلِّمْهُمْ إِلَيْهِ، فَسَلَّمَهُمْ، وَنَجَا امْرُؤُ الْقَيْسِ وَمَعَهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَابْنَتُهُ هِنْدٌ ابْنَةُ امْرِئِ الْقَيْسِ وَأَدْرَاعُهُ وَسِلَاحُهُ وَمَالُهُ، فَخَرَجَ وَنَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ الضَّبَابِ الْإِيَادِيِّ سَيِّدِ قَوْمِهِ، فَأَجَارَهُ، وَمَدَحَهُ امْرُؤُ الْقَيْسِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ عَنْهُ وَنَزَلَ عَلَى الْمُعَلَّى بْنِ تَيْمٍ الطَّائِيِّ فَأَقَامَ عِنْدَهُ وَاتَّخَذَ إِبِلًا هُنَاكَ، فَعَدَا قَوْمٌ مِنْ جَدِيلَةَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو زَيْدٍ عَلَيْهَا فَأَخَذُوهَا، فَأَعْطَاهُ بَنُو نَبْهَانَ مِعْزَى يَحْلِبُهَا فَقَالَ: إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ إِبِلٌ فَمِعْزَى ... كَأَنَّ قُرُونَ جِلَّتِهَا الْعِصِيُّ الْأَبْيَاتَ. ثُمَّ رَحَلَ عَنْهُمْ وَنَزَلَ بِعَامِرِ بْنِ جُوَيْنٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَغْلِبَ امْرَأَ الْقَيْسِ عَلَى مَالِهِ وَأَهْلِهِ، فَعَلِمَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بِذَلِكَ فَانْتَقَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ بَنِي ثُعْلٍ يُقَالُ لَهُ حَارِثَةُ بْنُ مُرٍّ فَاسْتَجَارَهُ، فَأَجَارَهُ. فَوَقَعَتْ بَيْنَ عَامِرِ بْنِ جُوَيْنٍ وَالثُّعْلِيِّ حَرْبٌ، وَكَانَتْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ، فَلَمَّا رَأَى امْرُؤُ الْقَيْسِ أَنَّ الْحَرْبَ قَدْ وَقَعَتْ بَيْنَ طَيِّءٍ بِسَبَبِهِ، خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَقَصَدَ السَّمَوْأَلَ بْنَ عَادِيَاءَ

الْيَهُودِيَّ، فَأَكْرَمَهُ وَأَنْزَلَهُ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ امْرُؤُ الْقَيْسِ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيِّ لِيُوصِلَهُ إِلَى قَيْصَرَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى الْحَارِثِ وَأَوْدَعَ أَهْلَهُ وَأَدْرَاعَهُ عِنْدَ السَّمَوْأَلِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قَيْصَرَ أَكْرَمَهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ بَنِي أَسَدٍ فَأَرْسَلُوا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ الطِّمَّاحُ، كَانَ امْرُؤُ الْقَيْسِ قَتَلَ أَخًا لَهُ، فَوَصَلَ الْأَسَدِيُّ، وَقَدْ سَيَّرَ قَيْصَرُ مَعَ امْرِئِ الْقَيْسِ جَيْشًا كَثِيفًا فِيهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ. فَلَمَّا سَارَ امْرُؤُ الْقَيْسِ، قَالَ الطِّمَّاحُ لِقَيْصَرَ: إِنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ غَوِيٌّ عَاهِرٌ، وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يُرَاسِلُ ابْنَتَكَ وَيُوَاصِلُهَا، وَقَالَ فِيهَا أَشْعَارًا أَشْهَرَهَا فِي الْعَرَبِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ قَيْصَرُ بِحُلَّةِ وَشْيٍ مَنْسُوجَةٍ بِالذَّهَبِ، مَسْمُومَةٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ بِحُلَّتِي الَّتِي كُنْتُ أَلْبَسُهَا تَكْرِمَةً لَكَ، فَالْبَسْهَا وَاكْتُبْ إِلَيَّ بِخَبَرِكَ مِنْ مَنْزِلٍ مَنْزِلٍ. فَلَبِسَهَا امْرُؤُ الْقَيْسِ وَسُرَّ بِذَلِكَ، فَأَسْرَعَ فِيهِ السُّمُّ وَسَقَطَ جِلْدُهُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ ذَا الْقُرُوحِ، فَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي ذَلِكَ: لَقَدْ طَمِحَ الطِّمَّاحُ مِنْ نَحْوِ أَرْضِهِ ... لِيُلْبِسَنِي مِمَّا يُلَبِّسُ أَبْؤُسَا فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ سَوِيَّةً ... وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أَنْفُسَا فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ يُقَالُ لَهُ أَنْقِرَةُ احْتُضِرَ بِهَا، فَقَالَ: رُبَّ خُطْبَةٍ مُسْحَنْفِرَهْ ، وَطَعْنَةٍ مُثْعَنْجِرَهْ ، وَجَفْنَةٍ مُتَحَيِّرَهْ ، حَلَّتْ بِأَرْضِ أَنْقِرَهْ. وَرَأَى قَبْرَ امْرَأَةٍ مِنْ بَنَاتِ مُلُوكِ الرُّومِ وَقَدْ دُفِنَتْ بِجَنْبِ عَسِيبٍ، وَهُوَ جَبَلٌ، فَقَالَ: أَجَارَتَنَا إِنَّ الْخُطُوبَ تَنُوبُ ... وَإِنِّي مُقِيمٌ مَا أَقَامَ عَسِيبُ

يوم خزاز

أَجَارَتَنَا إِنَّا غَرِيبَانِ هَاهُنَا ... وَكُلُّ غَرِيبٍ لِلْغَرِيبِ نَسِيبُ ثُمَّ مَاتَ فَدُفِنَ إِلَى جَنْبِ الْمَرْأَةِ، فَقَبْرُهُ هُنَاكَ. وَلَمَّا مَاتَ امْرُؤُ الْقَيْسِ سَارَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيُّ إِلَى السَّمَوْأَلِ بْنِ عَادِيَاءَ وَطَالَبَهُ بِأَدْرَاعِ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَكَانَتْ مِائَةَ دِرْعٍ، وَبِمَا لَهُ عِنْدَهُ، فَلَمْ يُعْطِهِ، فَأَخَذَ الْحَارِثُ ابْنًا لِلسَّمَوْأَلِ، فَقَالَ: إِمَّا أَنْ تُسْلِمَ الْأَدْرَاعَ وَإِمَّا قَتَلْتُ ابْنَكَ. فَأَبَى السَّمَوْأَلُ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ شَيْئًا، فَقَتَلَ ابْنَهُ، فَقَالَ السَّمَوْأَلُ فِي ذَلِكَ: وَفَيْتُ بِأَدْرُعِ الْكِنْدِيِّ ... إِنِّي إِذَا مَا ذُمَّ أَقْوَامٌ وَفَيْتُ وَأَوْصَى عَادِيًّا يَوْمًا بِأَنْ ... لَا تُهَدِّمَ يَا سَمَوْأَلُ مَا بَنَيْتُ بَنَى لِي عَادِيًا حِصْنًا حَصِينًا ... وَمَاءً كُلَّمَا شِئْتُ اسْتَقَيْتُ وَقَدْ ذَكَرَ الْأَعْشَى هَذِهِ الْحَادِثَةَ، فَقَالَ: كُنْ كَالسَّمَوْأَلِ إِذْ طَافَ الْهُمَامُ بِهِ ... فِي جَحْفَلٍ كَسَوَادِ اللَّيْلِ جَرَّارِ إِذْ سَامَهُ خُطَّتَيْ خَسْفٍ فَقَالَ ... لَهُ قُلْ مَا تَشَاءُ فَإِنِّي سَامِعٌ حَارِ فَقَالَ: غَدْرٌ وَثُكْلٌ أَنْتَ بَيْنَهُمَا ... فَاخْتَرْ فَمَا فِيهِمَا حَظٌّ لِمُخْتَارِ فَشَكَّ غَيْرَ طَوِيلٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ: اقْتُلْ أَسِيرَكَ إِنِّي مَانِعٌ جَارِي وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا. [يَوْمُ خَزَازٍ]

وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ كَانَ فِي يَدَيْهِ أُسَارَى مِنْ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ وَقُضَاعَةَ، فَوَفَدَ عَلَيْهِ وَفْدٌ مِنْ وُجُوهِ بَنِي مَعَدٍّ، مِنْهُمْ: سَدُوسُ بْنُ شَيْبَانَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَعَوْفُ بْنُ مُحَلَّمِ بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ، وَعَوْفُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جُشَمَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَنَاةَ بْنِ عَامِرٍ الضِّحْيَانِ، وَجُشَمُ بْنُ ذُهْلِ بْنِ هِلَالِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَامِرٍ الضِّحْيَانِ، فَلَقِيَهُمْ رَجُلٌ مِنْ بَهْرَاءَ يُقَالُ لَهُ عُبَيْدُ بْنُ قُرَادٍ، وَكَانَ فِي الْأُسَارَى، وَكَانَ شَاعِرًا، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يُدْخِلُوهُ فِي عِدَّةِ مَنْ يَسْأَلُونَ فِيهِ، فَكَلَّمُوا الْمَلِكَ فِيهِ وَفِي الْأُسَارَى، فَوَهَبَهُمْ لَهُمْ، فَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ قُرَادٍ الْبَهْرَاوِيُّ: نَفْسِي الْفِدَاءُ لِعَوْفِ الْفِعَالِ ... وَعَوْفِ وَلِابْنِ هِلَالٍ جُشَمْ تَدَارَكَنِي بَعْدَمَا قَدْ هَوَيْ ... تُ مُسْتَمْسِكًا بِعَرَاقَيِ الْوَذَمْ وَلَوْلَا سَدُوسٌ وَقَدْ شَمَّرَتْ ... بِيَ الْحَرْبُ زَلَّتْ بِنَعْلِيَ الْقَدَمْ وَنَادَيْتُ بَهْرَاءَ كَيْ يَسْمَعُوا ... وَلَيْسَ بِآذَانِهِمْ مِنْ صَمَمْ وَمِنْ قَبْلِهَا عَصَمَتْ قَاسِطٌ ... مَعَدًّا إِذَا مَا عَزِيزٌ أَزَمْ فَاحْتَبَسَ الْمَلِكُ عِنْدَهُ بَعْضَ الْوَفْدِ رَهِينَةً وَقَالَ لِلْبَاقِينَ: إِيتُونِي بِرُؤَسَاءِ قَوْمِكُمْ لِآخُذَ عَلَيْهِمُ الْمَوَاثِيقَ بِالطَّاعَةِ لِي وَإِلَّا قَتَلْتُ أَصْحَابَكُمْ. فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَأَخْبَرُوهُمُ الْخَبَرَ، فَبَعَثَ كُلَيْبُ وَائِلٍ إِلَى رَبِيعَةَ فَجَمَعَهُمْ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ مَعَدٌّ، وَهُوَ أَحَدُ النَّفَرِ الَّذِينَ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ مَعَدٌّ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَقْتَلِ كُلَيْبٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ سَارَ بِهِمْ وَجَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ السَّفَّاحَ التَّغْلِبِيَّ، وَهُوَ سَلَمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ تَيْمِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ

مَالِكِ بْنِ بَكْرِ بْنِ حُبَيْبِ بْنِ تَغْلِبَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُوقِدُوا عَلَى خَزَازٍ نَارًا لِيَهْتَدُوا بِهَا، وَخَزَازٌ جَبَلٌ بِطَخْفَةَ مَا بَيْنَ الْبَصْرَةِ إِلَى مَكَّةَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ سَالِعٍ، وَهُوَ جَبَلٌ أَيْضًا، وَقَالَ لَهُ: إِنْ غَشِيَتْكَ الْعَدُوُّ فَأَوْقِدْ نَارَيْنِ. فَبَلَغَ مَذْحِجًا اجْتِمَاعُ رَبِيعَةَ وَمَسِيرُهَا فَأَقْبَلُوا بِجُمُوعِهِمْ، وَاسْتَنْفَرُوا مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ وَسَارُوا إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ تِهَامَةَ بِمَسِيرِ مَذْحِجٍ انْضَمُّوا إِلَى رَبِيعَةَ، وَوَصَلَتْ مَذْحِجٌ إِلَى خَزَازٍ لَيْلًا، فَرَفَعَ السَّفَّاحُ نَارَيْنِ. فَلَمَّا رَأَى كُلَيْبٌ النَّارَيْنِ أَقْبَلَ إِلَيْهِمْ بِالْجُمُوعِ فَصَحِبَهُمْ، فَالْتَقَوْا بِخَزَازٍ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أَكْثَرُوا فِيهِ الْقَتْلَ، فَانْهَزَمَتْ مَذْحِجٌ وَانْفَضَّتْ جُمُوعُهَا، فَقَالَ السَّفَّاحُ فِي ذَلِكَ: وَلَيْلَةَ بِتُّ أُوقِدُ فِي خَزَازٍ ... هَدَيْتُ كَتَائِبًا مُتَحَيِّرَاتِ ضَلَلْنَ مِنَ السُّهَادِ وَكُنَّ لَوْلَا ... سُهَادُ الْقَوْمِ أَحْسَبُ هَادِيَاتِ وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ يُخَاطِبُ جَرِيرًا وَيَهْجُوهُ: لَوْلَا فَوَارِسُ تَغْلِبَ ابْنَةِ وَائِلٍ ... دَخَلَ الْعَدُوُّ عَلَيْكَ كُلَّ مَكَانِ ضَرَبُوا الصَّنَائِعَ وَالْمُلُوكَ ... وَأَوْقَدُوا نَارَيْنِ أَشْرَفَتَا عَلَى النِّيرَانِ وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ مَنْ كَانَ الرَّئِيسَ يَوْمَ خَزَازٍ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ كُلْثُومٍ، وَهُوَ ابْنُ ابْنَةِ كُلَيْبٍ، يَقُولُ: وَنَحْنُ غَدَاةَ أُوقِدَ فِي خَزَازٍ ... رَفَدْنَا فَوْقَ رِفْدِ الرَّافِدِينَا فَلَوْ كَانَ جَدُّهُ الرَّئِيسَ لَذَكَرَهُ وَلَمْ يَفْتَخِرْ بِأَنَّهُ رِفْدٌ، ثُمَّ جَعَلَ مَنْ شَهِدَ خَزَازًا مُتَسَانِدِينَ فَقَالَ: فَكُنَّا الْأَيْمَنَيْنِ إِذَا الْتَقَيْنَا ... وَكَانَ الْأَيْسَرَيْنِ بَنُو أَبِينَا فَصَالُوا صَوْلَةً فِيمَنْ يَلِيهِمْ ... وَصُلْنَا صَوْلَةً فِيمَنْ يَلِينَا

ذكر مقتل كليب والأيام بين بكر وتغلب

فَقَالَ لَهُ: اسْتَأْثَرْتَ عَلَى إِخْوَتِكَ، يَعْنِي مُضَرَ، وَلَمَّا ذَكَرَ جَدَّهُ فِي الْقَصِيدَةِ قَالَ: وَمِنَّا قَبْلَهُ السَّاعِي كُلَيْبٌ ... فَأَيُّ الْمَجْدِ إِلَّا قَدْ وَلِينَا فَلَمْ يَدَّعِ لَهُ الرِّيَاسَةَ يَوْمَ خَزَازٍ، وَهِيَ أَشْرَفُ مَا كَانَ يَفْتَخِرُ لَهُ بِهِ. حُبَيْبٌ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ بَاءٌ أُخْرَى مُوَحَّدَةٌ. [ذِكْرُ مَقْتَلِ كُلَيْبٍ وَالْأَيَّامِ بَيْنَ بَكْرٍ وَتَغْلِبَ] وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ الْحَرْبِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ بَكْرٍ وَتَغْلِبَ ابْنَيْ وَائِلِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْصَى بْنِ دُعْمِيِّ بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ بِسَبَبِ قَتْلِ كُلَيْبٍ، وَاسْمُهُ وَائِلُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جُشَمَ بْنِ بَكْرِ بْنِ حُبَيْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ تَغْلِبَ، وَإِنَّمَا لُقِّبَ كُلَيْبًا لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا سَارَ أَخَذَ مَعَهُ جَرْوَ كَلْبٍ، فَإِذَا مَرَّ بِرَوْضَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ يُعْجِبُهُ ضَرَبَهُ، ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَهُوَ يَصِيحُ وَيَعْوِي، فَلَا يَسْمَعُ عُوَاءَهُ أَحَدٌ إِلَّا تَجَنَّبَهُ وَلَمْ يَقْرَبْهُ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ كُلَيْبُ وَائِلٍ، ثُمَّ اخْتَصَرُوا فَقَالُوا كُلَيْبٌ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ. وَكَانَ لِوَاءُ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ لِلْأَكْبَرِ فَالْأَكْبَرِ مِنْ وَلَدِهِ، فَكَانَ اللِّوَاءُ فِي عَنَزَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَتْ سُنَّتَهُمْ أَنَّهُمْ يُصَفِّرُونَ لِحَاهُمْ وَيَقُصُّونَ شَوَارِبَهُمْ، فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ رَبِيعَةَ إِلَّا مَنْ يُخَالِفُهُمْ وَيُرِيدُ حَرْبَهُمْ. ثُمَّ تَحَوَّلَ اللِّوَاءُ فِي عَبْدِ قَيْسِ بْنِ أَفْصَى بْنِ دُعْمِيِّ بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ، وَكَانَتْ سُنَّتُهُمْ إِذَا شُتِمُوا لَطَمُوا مَنْ شَتَمَهُمْ، وَإِذَا لُطِمُوا قَتَلُوا مَنْ لَطَمَهُمْ. ثُمَّ تَحَوَّلَ اللِّوَاءُ فِي النَّمِرِ بْنِ قَاسِطِ بْنِ هِنْبٍ، وَكَانَ لَهُمْ غَيْرُ سُنَّةِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ. ثُمَّ تَحَوَّلَ اللِّوَاءُ إِلَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، فَسَاءُوا غَيْرَهُمْ فِي فَرْخِ طَائِرٍ، وَكَانُوا يُوثِقُونَ

الْفَرْخَ بِقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَإِذَا عُلِمَ بِمَكَانِهِ لَمْ يَسْلُكْ أَحَدٌ ذَلِكَ الطَّرِيقَ، وَيَسْلُكُ مَنْ يُرِيدُ الذَّهَابَ وَالْمَجِيءَ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ. ثُمَّ تَحَوَّلَ اللِّوَاءُ إِلَى تَغْلِبَ، فَوَلِيَهُ وَائِلُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَكَانَتْ سُنَّتُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَرْوِ الْكَلْبِ. وَلَمْ تَجْتَمِعْ مَعَدٌّ إِلَّا عَلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ، وَهُمْ: عَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ بَكْرِ بْنِ يَشْكُرَ بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ عَدْوَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ عَيْلَانَ، وَهُوَ النَّاسُ بْنُ مُضَرَ - بِالنُّونِ - وَهُوَ أَخُو إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، وَكَانَ قَائِدَ مَعَدٍّ حِينَ تَمَذْحَجَتْ مَذْحِجٌ وَسَارَتْ إِلَى تِهَامَةَ، وَهِيَ أَوَّلُ وَقْعَةٍ كَانَتْ بَيْنَ تِهَامَةَ وَالْيَمَنِ. وَالثَّانِي: رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جُشَمَ بْنِ بَكْرِ بْنِ حُبَيْبِ بْنِ كَلْبٍ، وَكَانَ قَائِدَ مَعَدٍّ يَوْمَ السُّلَّانِ بَيْنَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَالْيَمَنِ. وَالثَّالِثُ: وَائِلُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَكَانَ قَائِدَ مَعَدٍّ يَوْمَ خَزَازٍ، فَفَضَّ جُمُوعَ الْيَمَنِ فَهَزَمَهُمْ، وَجَعَلَتْ لَهُ مَعَدٌّ قَسَمَ الْمُلْكِ وَتَاجَهُ وَطَاعَتَهُ، وَبَقِيَ زَمَانًا مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ دَخَلَهُ زَهْوٌ شَدِيدٌ، وَبَغَى عَلَى قَوْمِهِ حَتَّى بَلَغَ مِنْ بَغْيِهِ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِي مَوَاقِعَ السَّحَابِ فَلَا يُرْعَى حِمَاهُ، وَكَانَ يَقُولُ: وَحْشُ أَرْضِ كَذَا فِي جِوَارِي، فَلَا يُصَادُ، وَلَا يُورِدُ أَحَدٌ مَعَ إِبِلِهِ وَلَا يُوقِدُ نَارًا مَعَ نَارِهِ، وَلَا يَمُرُّ أَحَدٌ بَيْنَ بُيُوتِهِ وَلَا يُحْتَبَى فِي مَجْلِسِهِ. وَكَانَتْ بَنُو جُشَمَ وَبَنُو شَيْبَانَ أَخْلَاطًا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ إِرَادَةَ الْجَمَاعَةِ وَمَخَافَةَ الْفُرْقَةِ، وَتَزَوَّجَ كُلَيْبٌ جَلِيلَةَ بِنْتَ مُرَّةَ بْنِ شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَهِيَ أُخْتُ جَسَّاسِ بْنِ مُرَّةَ، وَحَمَى كُلَيْبٌ أَرْضًا مِنَ الْعَالِيَةِ فِي أَوَّلِ الرَّبِيعِ، وَكَانَ لَا يَقْرَبُهَا إِلَّا مُحَارِبٌ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ سَعْدُ بْنُ شُمَيْسِ بْنِ طَوْقٍ الْجَرْمِيُّ نَزَلَ بِالْبَسُوسِ بِنْتِ مُنْقِذٍ التَّمِيمِيَّةِ خَالَةِ جَسَّاسِ بْنِ مُرَّةَ. وَكَانَ لِلْجَرْمِيِّ نَاقَةٌ اسْمُهَا سَرَابُ تَرْعَى مَعَ نُوقِ جَسَّاسٍ، وَهِيَ الَّتِي ضَرَبَتِ الْعَرَبُ بِهَا الْمَثَلَ فَقَالُوا: " أَشْأَمُ مِنْ سَرَابٍ "، " وَأَشْأَمُ مِنَ

الْبَسُوسِ ". فَخَرَجَ كُلَيْبٌ يَوْمًا يَتَعَهَّدُ الْإِبِلَ وَمَرَاعِيَهَا فَأَتَاهَا وَتَرَدَّدَ فِيهَا، وَكَانَتْ إِبِلُهُ وَإِبِلُ جَسَّاسٍ مُخْتَلِطَةً، فَنَظَرَ كُلَيْبٌ إِلَى سَرَابٍ فَأَنْكَرَهَا، فَقَالَ لَهُ جَسَّاسٌ، وَهُوَ مَعَهُ: هَذِهِ نَاقَةُ جَارِنَا الْجَرْمِيِّ. فَقَالَ: لَا تَعُدْ هَذِهِ النَّاقَةُ إِلَى هَذَا الْحِمَى. فَقَالَ جَسَّاسٌ: لَا تَرْعَى إِبِلِي مَرْعًى إِلَّا وَهَذِهِ مَعَهَا، فَقَالَ كُلَيْبٌ: لَئِنْ عَادَتْ لَأَضَعَنَّ سَهْمِي فِي ضَرْعِهَا، فَقَالَ جَسَّاسٌ: لَئِنْ وَضَعْتَ سَهْمَكَ فِي ضَرْعِهَا لَأَضَعَنَّ سِنَانَ رُمْحِي فِي لَبَّتِكَ! ثُمَّ تَفَرَّقَا، وَقَالَ كُلَيْبٌ لِامْرَأَتِهِ: أَتَرَيْنَ أَنَّ فِي الْعَرَبِ رَجُلًا مَانِعًا مِنِّي جَارَهُ؟ قَالَتْ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا جَسَّاسًا، فَحَدَّثَهَا الْحَدِيثَ. وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى الْحِمَى مَنَعَتْهُ وَنَاشَدَتْهُ اللَّهَ أَنْ لَا يَقْطَعَ رَحِمَهُ، وَكَانَتْ تَنْهَى أَخَاهَا جَسَّاسًا أَنْ يُسَرِّحَ إِبِلَهُ. ثُمَّ إِنَّ كُلَيْبًا خَرَجَ إِلَى الْحِمَى، وَجَعَلَ يَتَصَفَّحُ الْإِبِلَ، فَرَأَى نَاقَةَ الْجَرْمِيِّ فَرَمَى ضَرْعَهَا فَأَنْفَذَهُ، فَوَلَّتْ وَلَهَا عَجِيجٌ حَتَّى بَرَكَتْ بِفَنَاءِ صَاحِبِهَا. فَلَمَّا رَأَى مَا بِهَا صَرَخَ بِالذُّلِّ، وَسَمِعَتِ الْبَسُوسُ صُرَاخَ جَارِهَا، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ فَلَمَّا رَأَتْ مَا بِنَاقَتِهِ وَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا ثُمَّ صَاحَتْ: وَاذُلَّاهُ! وَجَسَّاسٌ يَرَاهَا وَيَسْمَعُ، فَخَرَجَ إِلَيْهَا فَقَالَ لَهَا: اسْكُتِي وَلَا تُرَاعِي، وَسَكَّنَ الْجَرْمِيَّ، وَقَالَ لَهُمَا: إِنِّي سَأَقْتُلُ جَمَلًا أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ النَّاقَةِ، سَأَقْتُلُ غِلَالًا، وَكَانَ غِلَالٌ فَحْلُ إِبِلِ كُلَيْبٍ لَمْ يُرَ فِي زَمَانِهِ مِثْلَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ جَسَّاسٌ بِمَقَالَتِهِ كُلَيْبًا. وَكَانَ لِكُلَيْبٍ عَيْنٌ يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ، فَأَعَادَ الْكَلَامَ عَلَى كُلَيْبٍ، فَقَالَ: لَقَدِ اقْتَصَرَ مِنْ يَمِينِهِ عَلَى غِلَالٍ. وَلَمْ يَزَلْ جَسَّاسٌ يَطْلُبُ غِرَّةَ كُلَيْبٍ، فَخَرَجَ كُلَيْبٌ يَوْمًا آمِنًا، فَلَمَّا بَعُدَ عَنِ الْبُيُوتِ رَكِبَ جَسَّاسٌ فَرَسَهُ وَأَخَذَ رُمْحَهُ وَأَدْرَكَ كُلَيْبًا، فَوَقَفَ كُلَيْبٌ. فَقَالَ لَهُ جَسَّاسٌ: يَا كُلَيْبُ الرُّمْحُ وَرَاءَكَ! فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَقْبِلْ إِلَيَّ مِنْ أَمَامِي، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَطَعَنَهُ فَأَرْدَاهُ عَنْ فَرَسِهِ، فَقَالَ: يَا جَسَّاسُ أَغِثْنِي بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَلَمْ يَأْتِهِ بِشَيْءٍ، وَقَضَى كُلَيْبٌ نَحْبَهُ. فَأَمَرَ جَسَّاسٌ رَجُلًا كَانَ مَعَهُ اسْمُهُ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ فَجَعَلَ عَلَيْهِ أَحْجَارًا لِئَلَّا تَأْكُلَهُ السِّبَاعُ. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ مُهَلْهِلُ بْنُ رَبِيعَةَ، أَخُو كُلَيْبٍ: قَتِيلٌ مَا قَتِيلُ الْمَرْءِ عَمْرٌو ... وَجَسَّاسُ بْنُ مُرَّةَ ذِي صَرِيمِ أَصَابَ فُؤَادَهُ بِأَصَمَّ لَدْنٍ ... فَلَمْ يَعْطِفْ هُنَاكَ عَلَى حَمِيمِ

فَإِنَّ غَدًا وَبَعْدَ غَدٍ لَرَهْنٌ ... لِأَمْرٍ مَا يُقَامُ لَهُ عَظِيمِ جَسِيمًا مَا بَكَيْتُ بِهِ كُلَيْبًا ... إِذَا ذُكِرَ الْفِعَالُ مِنَ الْجَسِيمِ سَأَشْرَبُ كَأْسَهَا صِرْفًا ... وَأَسْقِي بِكَأْسٍ غَيْرِ مِنْطَقَةٍ مُلِيمِ وَلَمَّا قَتَلَ جَسَّاسٌ كُلَيْبًا انْصَرَفَ عَلَى فَرَسِهِ يُرْكِضُهُ وَقَدْ بَدَتْ رُكْبَتَاهُ، فَلَمَّا نَظَرَ أَبُوهُ مَرَّةً إِلَى ذَلِكَ قَالَ: لَقَدْ أَتَاكُمْ جَسَّاسٌ بِدَاهِيَةٍ، مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ بَادِيَ الرُّكْبَتَيْنِ إِلَى الْيَوْمِ! فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى أَبِيهِ قَالَ: مَا لَكَ يَا جَسَّاسُ؟ قَالَ: طَعَنْتُ طَعْنَةً يَجْتَمِعُ بَنُو وَائِلٍ غَدًا لَهَا رَقْصًا. قَالَ: وَمَنْ طَعَنْتَ؟ لِأُمِّكِ الثُّكْلُ! قَالَ: قَتَلْتُ كُلَيْبًا. قَالَ: أَفَعَلْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: بِئْسَ وَاللَّهِ مَا جِئْتَ بِهِ قَوْمَكَ! فَقَالَ جَسَّاسٌ: تَأَهَّبْ عَنْكَ أُهْبَةَ ذِي امْتِنَاعٍ ... فَإِنَّ الْأَمْرَ جَلَّ عَنِ التَّلَاحِي فَإِنِّي قَدْ جَنَيْتُ عَلَيْكَ حَرْبًا ... تُغِصُّ الشَّيْخَ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ فَلَمَّا سَمِعَ أَبُوهُ قَوْلَهُ خَافَ خِذْلَانَ قَوْمِهِ لِمَا كَانَ مِنْ لَائِمَتِهِ إِيَّاهُ، فَقَالَ يُجِيبُهُ: فَإِنْ تَكُ قَدْ جَنَيْتَ عَلَيَّ حَرْبًا ... تُغِصُّ الشَّيْخَ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ جَمَعَتْ بِهَا يَدَيْكَ عَلَى كُلَيْبٍ ... فَلَا وَكْلٌ وَلَا رَثُّ السِّلَاحِ سَأَلْبَسُ ثَوْبَهَا وَأَذُودُ عَنِّي ... بِهَا عَارَ الْمَذَلَّةِ وَالْفَضَاحِ ثُمَّ إِنَّ مُرَّةَ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى نُصْرَتِهِ، فَأَجَابُوهُ وَجَلُوا الْأَسِنَّةَ وَشَحَذُوا السُّيُوفَ وَقَوَّمُوا الرِّمَاحَ وَتَهَيَّأُوا لِلرِّحْلَةِ إِلَى جَمَاعَةِ قَوْمِهِمْ. وَكَانَ هَمَّامُ بْنُ مُرَّةَ أَخُو جَسَّاسٍ، وَمُهَلْهِلٌ أَخُو كُلَيْبٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَشْرَبَانِ، فَبَعَثَ جَسَّاسٌ إِلَى هَمَّامٍ جَارِيَةً لَهُمْ تُخْبِرُهُ الْخَبَرَ، فَانْتَهَتْ إِلَيْهِمَا وَأَشَارَتْ إِلَى هَمَّامٍ، فَقَامَ إِلَيْهَا، فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ لَهُ مُهَلْهِلٌ: مَا قَالَتْ لَكَ الْجَارِيَةُ؟ وَكَانَ بَيْنَهُمَا عَهْدٌ أَلَّا يَكْتُمَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا، فَذَكَرَ لَهُ مَا قَالَتِ الْجَارِيَةُ، وَأَحَبَّ أَنْ يُعْلِمَهُ ذَلِكَ فِي مُدَاعَبَةٍ وَهَزْلٍ، فَقَالَ لَهُ مُهَلْهِلٌ: اسْتُ أَخِيكَ أَضْيَقُ مِنْ ذَلِكَ! فَأَقْبَلَا عَلَى شُرْبِهِمَا، فَقَالَ لَهُ مُهَلْهِلٌ: اشْرَبْ،

فَالْيَوْمَ خَمْرٌ وَغَدًا أَمْرٌ. فَشَرِبَ هَمَّامٌ وَهُوَ حَذِرٌ خَائِفٌ، فَلَمَّا سَكِرَ مُهَلْهِلٌ عَادَ هَمَّامٌ إِلَى أَهْلِهِ، فَسَارُوا مِنْ سَاعَتِهِمْ إِلَى جَمَاعَةِ قَوْمِهِمْ، وَظَهَرَ أَمْرُ كُلَيْبٍ، فَذَهَبُوا إِلَيْهِ فَدَفَنُوهُ، فَلَمَّا دُفِنَ شُقَّتِ الْجُيُوبُ وَخُمِشَتِ الْوُجُوهُ وَخَرَجَ الْأَبْكَارُ وَذَوَاتُ الْخُدُودِ الْعَوَائِقُ إِلَيْهِ وَقُمْنَ لِلْمَأْتَمِ، فَقَالَ النِّسَاءُ لِأُخْتِ كُلَيْبٍ: أَخْرِجِي جَلِيلَةَ أُخْتَ جَسَّاسٍ عَنَّا، فَإِنَّ قِيَامَهَا فِيهِ شَمَاتَةٌ وَعَارٌ عَلَيْنَا، وَكَانَتِ امْرَأَةَ كُلَيْبٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، فَقَالَتْ لَهَا أُخْتُ كُلَيْبٍ: اخْرُجِي عَنْ مَأْتَمِنَا، فَأَنْتِ أُخْتُ قَاتِلِنَا، وَشَقِيقَةُ وَاتِرِنَا، فَخَرَجَتْ تَجُرُّ عِطَافَهَا، فَلَقِيَهَا أَبُوهَا مُرَّةُ فَقَالَ لَهَا: مَا وَرَاءَكِ يَا جَلِيلَةُ؟ فَقَالَتْ: ثُكْلُ الْعَدَدِ، وَحُزْنُ الْأَبَدِ، وَفَقْدُ خَلِيلٍ، وَقَتْلُ أَخٍ عَنْ قَلِيلٍ، وَبَيْنَ هَذَيْنِ غَرْسُ الْأَحْقَادِ، وَتَفَتُّتُ الْأَكْبَادِ. فَقَالَ لَهَا: أَوَيَكُفُّ ذَلِكَ كَرَمُ الصَّفْحِ وَإِغْلَاءُ الدِّيَاتِ؟ فَقَالَتْ: أُمْنِيَةُ مَخْدُوعٍ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! أَلِبُدْنٍ تَدَعُ لَكَ تَغْلِبُ دَمَ رَبِّهَا! وَلَمَّا رَحَلَتْ جَلِيلَةُ قَالَتْ أُخْتُ كُلَيْبٍ: رِحْلَةُ الْمُعْتَدِي وَفِرَاقُ الشَّامِتِ، وَيْلٌ غَدًا لِآلِ مُرَّةَ مِنَ الْكَرَّةِ بَعْدَ الْكَرَّةِ. فَبَلَغَ قَوْلُهَا جَلِيلَةَ، فَقَالَتْ: وَكَيْفَ تَشْمَتُ الْحُرَّةُ بِهَتْكِ سِتْرِهَا وَتَرَقُّبِ وَتْرِهَا! أَسْعَدَ اللَّهُ أُخْتِي أَلَا قَالَتْ: نَفْرَةُ الْحَيَاءِ وَخَوْفُ الْأَعْدَاءِ! ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ: يَا ابْنَةَ الْأَقْوَامِ إِنْ شِئْتِ فَلَا ... تَعْجَلِي بِاللَّوْمِ حَتَّى تَسْأَلِي فَإِذَا أَنْتِ تَبَيَّنْتِ الَّذِي ... يُوجِبُ اللَّوْمَ فَلُومِي وَاعْذُلِي إِنْ تَكُنْ أُخْتُ امْرِئٍ لِيمَتْ عَلَى ... شَفَقٍ مِنْهَا عَلَيْهِ فَافْعَلِي جَلَّ عِنْدِي فِعْلُ جَسَّاسٍ فَيَا ... حَسْرَتَا عَمَّا انْجَلَى أَوْ يَنْجَلِي فِعْلُ جَسَّاسٍ عَلَى وَجْدِي بِهِ ... قَاطِعٌ ظَهْرِي وَمُدْنٍ أَجَلِي لَوْ بِعَيْنٍ فُقِئَتْ عَيْنٌ سِوَى ... أُخْتِهَا فَانْفَقَأَتْ لَمْ أَحْفِلِ

تَحْمِلُ الْعَيْنُ قَذَى الْعَيْنِ كَمَا ... تَحْمِلُ الْأُمُّ أَذَى مَا تَفْتَلِي يَا قَتِيلًا قَوَّضَ الدَّهْرُ بِهِ ... سَقْفَ بَيْتَيَّ جَمِيعًا مِنْ عَلِ هَدَمَ الْبَيْتَ الَّذِي اسْتَحْدَثْتُهُ ... وَانْثَنَى فِي هَدْمِ بَيْتِي الْأَوَّلِ وَرَمَانِي قَتْلُهُ مِنْ كَثَبٍ ... رَمْيَةَ الْمُصْمِي بِهِ الْمُسْتَأْصِلِ يَا نِسَائِي دُونَكُنَّ الْيَوْمَ قَدْ ... خَصَّنِي الدَّهْرُ بِرُزْءٍ مُعْضِلِ خَصَّنِي قَتْلُ كُلَيْبٍ بِلَظًى ... مِنْ وَرَائِي وَلَظًى مُسْتَقْبِلِ لَيْسَ مَنْ يَبْكِي لِيَوْمَيْهِ ... كَمَنْ إِنَّمَا يَبْكِي لِيَوْمٍ مُقْبِلِ يَشْتَفِي الْمُدْرِكُ بِالثَّأْرِ وَفِي ... دَرْكِيَ ثَأْرِيَ ثُكْلُ الْمُثْكِلِ لَيْتَهُ كَانَ دَمًا فَاحْتَلَبُوا ... دِرَرًا مِنْهُ دَمِي مِنْ أَكْحَلِي إِنَّنِي قَاتِلَةٌ مَقْتُولَةٌ ... وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْتَاحَ لِي وَأَمَّا مُهَلْهِلٌ، وَاسْمُهُ عَدِيٌّ، وَقِيلَ: امْرُؤُ الْقَيْسِ، وَهُوَ خَالُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ حُجْرٍ الْكِنْدِيِّ وَإِنَّمَا لُقِّبَ مُهَلْهِلًا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ هَلْهَلَ الشِّعْرَ وَقَصَّدَ الْقَصَائِدَ، وَأَوَّلُ مَنْ كَذَبَ فِي شِعْرِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا صَحَا لَمْ يَرُعْهُ إِلَّا النِّسَاءُ يَصْرُخْنَ: أَلَا إِنَّ كُلَيْبًا قُتِلَ، فَقَالَ، وَهُوَ أَوَّلُ شِعْرٍ قِيلَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ: كُنَّا نَغَارُ عَلَى الْعَوَاتِقِ أَنْ تُرَى ... بِالْأَمْسِ خَارِجَةً عَنِ الْأَوْطَانِ فَخَرَجْنَ حَيْثُ ثَوَى كُلَيْبٌ حُسَّرًا ... مُسْتَيْقِنَاتٍ بَعْدَهُ بِهَوَانِ فَتَرَى الْكَوَاعِبَ كَالظِّبَاءِ عَوَاطِلًا ... إِذْ حَانَ مَصْرَعُهُ مِنَ الْأَكْفَانِ يَخْمِشْنَ مِنْ أَدَمِ الْوُجُوهِ حَوَاسِرًا ... مِنْ بَعْدِهِ وَيَعِدْنَ بِالْأَزْمَانِ مُتَسَلِّبَاتٍ نَكْدَهُنَّ وَقَدْ رَوَى ... أَجْوَافَهُنَّ بِحُرْقَةٍ وَوَرَانِي وَيَقُلْنَ مَنْ لِلْمُسْتَضِيفِ إِذَا دَعَا ... أَمْ مَنْ لَخَضْبِ عَوَالِيَ الْمُرَّانِ أَمْ لِاتِّسَارٍ بِالْجَزُورِ إِذَا غَدَا ... رِيحٌ يُقَطِّعُ مَعْقِدَ الْأَشْطَانِ

أَمَّنْ لِإِسْبَاقِ الدِّيَاتِ وَجَمْعِهَا ... وَلِفَادِحَاتِ نَوَائِبِ الْحَدَثَانِ كَانَ الذَّخِيرَةَ لِلزَّمَانِ فَقَدْ أَتَى ... فُقْدَانُهُ وَأَخَلَّ رُكْنَ مَكَانِي يَا لَهْفَ نَفْسِي مِنْ زَمَانٍ فَاجِعٍ ... أَلْقَى عَلَيَّ بِكَلْكَلٍ وَجِرَانِ بِمُصِيبَةٍ لَا تُسْتَقَالُ جَلِيلَةٍ ... غَلَبَتْ عَزَاءَ الْقَوْمِ وَالنِّسْوَانِ هَدَّتْ حُصُونًا كُنَّ قَبْلُ مَلَاوِذًا ... لِذَوِي الْكُهُولِ مَعًا وَلِلشُّبَّانِ أَضْحَتْ وَأَضْحَى سُورُهَا مِنْ بَعْدِهِ ... مُتَهَدِّمَ الْأَرْكَانِ وَالْبُنْيَانِ فَابْكِينَ سَيِّدَ قَوْمِهِ وَانْدُبْنَهُ ... شُدَّتْ عَلَيْهِ قَبَاطِيَ الْأَكْفَانِ وَابْكِينَ لِلْأَيْتَامِ لَمَّا أَقْحَطُوا ... وَابْكِينَ عِنْدَ تَخَاذُلِ الْجِيرَانِ وَابْكِينَ مَصْرَعَ جِيدِهِ مُتَزَمِّلًا ... بِدِمَائِهِ فَلَذَاكَ مَا أَبْكَانِي فَلْأَتْرُكَنَّ بِهِ قَبَائِلَ تَغْلِبٍ ... قَتْلَى بِكُلِّ قَرَارَةٍ وَمَكَانِ قَتْلَى تُعَاوِرُهَا النُّسُورُ أَكُفَّهَا ... يَنْهَشْنَهَا وَحَوَاجِلُ الْغِرْبَانِ ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ كُلَيْبٌ فَرَأَى دَمَهُ، وَأَتَى قَبْرَهُ فَوَقَفَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ تَحْتَ التُّرَابِ حَزْمًا وَعَزْمًا ... وَخَصِيمًا أَلَدَّ ذَا مِعْلَاقِ حَيَّةً فِي الْوِجَارِ أَرْبُدَ لَا يَنْ ... فَعُ مِنْهُ السَّلِيمَ نَفْثُ الرَّاقِي ثُمَّ جَزَّ شَعْرَهُ، وَقَصَّرَ ثَوْبَهُ، وَهَجَرَ النِّسَاءَ، وَتَرَكَ الْغَزَلَ، وَحَرَّمَ الْقِمَارَ وَالشَّرَابَ، وَجَمَعَ إِلَيْهِ قَوْمَهُ وَأَرْسَلَ رِجَالًا مِنْهُمْ إِلَى بَنِي شَيْبَانَ، فَأَتَوْا مُرَّةَ بْنَ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ وَهُوَ فِي نَادِي قَوْمِهِ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّكُمْ أَتَيْتُمْ عَظِيمًا بِقَتْلِكُمْ كُلَيْبًا بِنَاقَةٍ وَقَطَّعْتُمُ الرَّحِمَ، وَانْتَهَكْتُمُ الْحُرْمَةَ، وَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ خِلَالًا أَرْبَعًا، لَكُمْ فِيهَا مَخْرَجٌ، وَلَنَا فِيهَا مَقْنَعٌ: إِمَّا أَنْ تُحْيِيَ لَنَا كُلَيْبًا، أَوْ تَدْفَعَ إِلَيْنَا قَاتِلَهُ جَسَّاسًا فَنَقْتُلَهُ بِهِ، أَوْ هَمَّامًا فَإِنَّهُ كُفُؤٌ لَهُ، أَوْ تُمَكِّنُنَا مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ فِيكَ وَفَاءً لِدَمِهِ.

فَقَالَ لَهُمْ: أَمَّا إِحْيَائِي كُلَيْبًا فَلَسْتُ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا دَفْعِي جَسَّاسًا إِلَيْكُمْ فَإِنَّهُ غُلَامٌ طَعَنَ طَعْنَةً عَلَى عَجَلٍ، وَرَكِبَ فَرَسَهُ، فَلَا أَدْرِي أَيَّ بِلَادٍ قَصَدَ، وَأَمَّا هَمَّامٌ فَإِنَّهُ أَبُو عَشَرَةٍ وَأَخُو عَشَرَةٍ وَعَمُّ عَشَرَةٍ كُلُّهُمْ فُرْسَانُ قَوْمِهِمْ فَلَنْ يُسْلِمُوهُ بِجَرِيرَةِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا أَنَا فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ تَجُولَ الْخَيْلُ جَوْلَةً فَأَكُونَ أَوَّلَ قَتِيلٍ فَمَا أَتَعَجَّلُ الْمَوْتَ، وَلَكِنْ لَكُمْ عِنْدِي خَصْلَتَانِ: أَمَّا إِحْدَاهُمَا فَهَؤُلَاءِ أَبْنَائِي الْبَاقُونَ فَخُذُوا أَيَّهُمْ شِئْتُمْ فَاقْتُلُوهُ بِصَاحِبِكُمْ وَأَمَّا الْأُخْرَى فَإِنِّي أَدْفَعُ إِلَيْكُمْ أَلْفَ نَاقَةٍ سُودِ الْحَدَقِ حُمْرِ الْوَبَرِ. فَغَضِبَ الْقَوْمُ وَقَالُوا: قَدْ أَسَأْتَ بِبَذْلِ هَؤُلَاءِ وَتَسُومُنَا اللَّبَنَ مِنْ دَمِ كُلَيْبٍ؟ وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ. وَلَحِقَتْ جَلِيلَةُ زَوْجَةُ كُلَيْبٍ بِأَبِيهَا وَقَوْمِهَا، وَاعْتَزَلَتْ قَبَائِلُ بَكْرٍ الْحَرْبَ وَكَرِهُوا مُسَاعَدَةَ بَنِي شَيْبَانَ عَلَى الْقِتَالِ وَأَعْظَمُوا قَتْلَ كُلَيْبٍ، فَتَحَوَّلَتْ لُجَيْمٌ وَيَشْكُرُ، وَكَفَّ الْحَارِثُ بْنُ عُبَادٍ عَنْ نَصْرِهِمْ وَمَعَهُ أَهْلُ بَيْتِهِ، وَقَالَ مُهَلْهِلٌ عِدَّةَ قَصَائِدَ يَرْثِي كُلَيْبًا مِنْهَا: كُلَيْبٌ لَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا وَمَنْ فِيهَا ... إِذْ أَنْتَ خَلَّيْتَهَا فِيمَنْ يُخَلِّيهَا كُلَيْبٌ أَيُّ فَتَى عِزٍّ وَمَكْرُمَةٍ ... تَحْتَ السَّقَائِفِ إِذْ يَعْلُوكَ سَافِيهَا نَعَى النُّعَاةُ كُلَيْبًا لِي فَقُلْتُ لَهُمْ : مَالَتْ بِنَا الْأَرْضُ أَوْ زَالَتْ رَوَاسِيهَا ... الْحَزْمُ وَالْعَزْمُ كَانَا مِنْ صَنِيعَتِهِ مَا كُلُّ آلَائِهِ يَا قَوْمِ أُحْصِيهَا ... الْقَائِدُ الْخَيْلَ تَرْدِي فِي أَعِنَّتِهَا رَهْوًا إِذَا الْخَيْلُ لَجَّتْ فِي تَعَادِيهَا ... مِنْ خَيْلِ تَغْلِبَ مَا تُلْقَى أَسِنَّتُهَا إِلَّا وَقَدْ خَضَّبُوهَا مِنْ أَعَادِيهَا ... يُهَزْهِزُونَ مِنَ الْخَطِّيِّ مُدْمَجَةً صُمًّا أَنَابِيبُهَا زُرْقًا عَوَالِيهَا ... لَيْتَ السَّمَاءَ عَلَى مَنْ تَحْتَهَا وَقَعَتْ وَانْشَقَّتِ الْأَرْضُ فَانْجَابَتْ بِمَنْ فِيهَا ... لَا أَصْلَحَ اللَّهُ مِنَّا مَنْ يُصَالِحُكُمْ مَا لَاحَتِ الشَّمْسُ فِي أَعْلَى مَجَارِيهَا فَالْتَقَوْا فِي أَوَّلِ قِتَالٍ كَانَ بَيْنَهُمْ - فِي قَوْلٍ - يَوْمَ عُنَيْزَةَ، وَهِيَ عِنْدَ فُلْجَةٍ، وَكَانَا عَلَى السَّوَاءِ، فَقَالَ مُهَلْهِلٌ:

كَأَنَّا غُدْوَةً وَبَنِي أَبِينَا ... بِجَنْبِ عُنَيْزَةٍ رَحَيَا مُدِيرِ وَلَوْلَا الرِّيحُ أُسْمِعَ أَهْلُ حُجْرٍ ... صَلِيلَ الْبِيضِ تُقْرَعُ بِالذُّكُورِ فَتَفَرَّقُوا ثُمَّ بَقُوا زَمَانًا، ثُمَّ إِنَّهُمُ الْتَقَوْا بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ النِّهْيُ، كَانَتْ بَنُو شَيْبَانَ نَازِلَةً عَلَيْهِ، وَيُرْوَى أَنَّهَا أَوَّلُ وَقْعَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ رَئِيسَ تَغْلِبَ مُهَلْهِلٌ، وَرَئِيسَ شَيْبَانَ الْحَارِثُ بْنُ مُرَّةَ، وَكَانَتِ الدَّائِرَةُ لِبَنِي تَغْلِبَ، وَكَانَتِ الشَّوْكَةُ فِي بَنِي شَيْبَانَ، وَاسْتَحَرَّ الْقِتَالُ فِيهِمْ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي مُرَّةَ. ثُمَّ الْتَقَوْا بِالذَّنَائِبِ، وَهِيَ أَعْظَمُ وَقْعَةٍ كَانَتْ لَهُمْ، فَظَفِرَتْ بَنُو تَغْلِبَ وَقَتَلَتْ بَكْرًا مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَقُتِلَ فِيهَا شَرَاحِيلُ بْنُ مُرَّةَ بْنِ هَمَّامِ بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ، وَهُوَ جَدُّ الْحَوْفَزَانِ وَجَدُّ مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ، وَقُتِلَ الْحَارِثُ بْنُ مُرَّةَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ، وَقُتِلَ مِنْ بَنِي ذُهْلِ بْنِ ثَعْلَبَةَ عَمْرُو بْنُ سَدُوسِ بْنِ شَيْبَانَ بْنِ ذُهْلٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ رُؤَسَاءِ بَكْرٍ. ثُمَّ الْتَقَوْا يَوْمَ وَارِدَاتٍ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَظَفِرَتْ تَغْلِبُ أَيْضًا، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي بَكْرٍ، فَقُتِلَ هَمَّامُ بْنُ مُرَّةَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ أَخُو جَسَّاسٍ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَمَرَّ مُهَلْهِلٌ، فَلَمَّا رَآهُ قَتِيلًا قَالَ: وَاللَّهِ مَا قُتِلَ بَعْدَ كُلَيْبٍ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْكَ، وَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ بَكْرٌ بَعْدَكُمَا عَلَى خَيْرٍ أَبَدًا. وَقِيلَ: إِنَّمَا قُتِلَ يَوْمَ الْقُصَيْبَاتِ، قَبْلَ يَوْمِ قِضَةَ، قَتَلَهُ نَاشِرَةُ، وَكَانَ هَمَّامٌ قَدِ الْتَقَطَهُ وَرَبَّاهُ وَسَمَّاهُ نَاشِرَةَ، وَكَانَ عِنْدَهُ. فَلَمَّا شَبَّ عَلِمَ أَنَّهُ تَغْلَبِيٌّ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ جَعَلَ هَمَّامٌ يُقَاتِلُ فَإِذَا عَطِشَ جَاءَ إِلَى قَرْيَةٍ لَهُ يَشْرَبُ مِنْهَا، فَتَغَفَّلَهُ نَاشِرَةُ فَقَتَلَهُ وَلَحِقَ بِقَوْمِهِ تَغْلِبَ، وَكَادَ جَسَّاسٌ يُؤْخَذُ فَسَلِمَ، فَقَالَ مُهَلْهِلٌ:

لَوْ أَنَّ خَيْلِيَ أَدْرَكَتْكَ وَجَدْتَهُمْ ... مِثْلَ اللُّيُوثِ بِسَتْرِ غُبِّ عَرِينِ وَيَقُولُ فِيهَا: وَلَأُورِدَنَّ الْخَيْلَ بَطْنَ أَرَاكَةٍ ... وَلَأَقْضِيَنَّ بِفِعْلِ ذَاكَ دُيُونِي وَلَأَقْتُلَنَّ جَحَاجِحًا مِنْ بِكْرِكُمْ ... وَلَأُبْكِيَنَّ بِهَا جُفُونَ عُيُونِ حَتَّى تَظَلَّ الْحَامِلَاتُ مَخَافَةً ... مِنْ وَقَعِنَا يَقْذِفْنَ كُلَّ جَنِينِ وَقِيلَ فِي تَرْتِيبِ الْأَيَّامِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَ أَبُو نُوَيْرَةَ التَّغْلِبِيُّ وَغَيْرُهُ طَلَائِعَ قَوْمِهِ، وَكَانَ جَسَّاسٌ وَغَيْرُهُ طَلَائِعَ قَوْمِهِمْ، وَالْتَقَى بَعْضَ اللَّيَالِي جَسَّاسٌ وَأَبُو نُوَيْرَةَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو نُوَيْرَةَ: اخْتَرْ إِمَّا الصِّرَاعَ أَوِ الطِّعَانَ أَوِ الْمُسَايَفَةَ. فَاخْتَارَ جَسَّاسٌ الصِّرَاعَ، فَاصْطَرَعَا وَأَبْطَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى أَصْحَابِ حَيِّهِ، وَطَلَبُوهُمَا فَأَصَابُوهُمَا وَهُمَا يَصْطَرِعَانِ، وَقَدْ كَادَ جَسَّاسٌ يَصْرَعُهُ، فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا. وَجَعَلَتْ تِغْلِبُ تَطْلُبُ جَسَّاسًا أَشَدَّ الطَّلَبِ، فَقَالَ لَهُ مُرَّةُ: الْحَقْ بِأَخْوَالِكَ بِالشَّامِ، فَامْتَنَعَ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ أَبُوهُ فَسَيَّرَهُ سِرًّا فِي خَمْسَةِ نَفَرٍ: وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْمُهَلْهِلِ، فَنَدَبَ أَبَا نُوَيْرَةَ وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ شُجْعَانِ أَصْحَابِهِ فَسَارُوا مُجِدِّينَ، فَأَدْرَكُوا جَسَّاسًا، فَقَاتَلَهُمْ فَقُتِلَ أَبُو نُوَيْرَةَ وَأَصْحَابُهُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ غَيْرُ رَجُلَيْنِ، وَجُرِحَ جَسَّاسٌ جُرْحًا شَدِيدًا مَاتَ مِنْهُ، وَقُتِلَ أَصْحَابُهُ فَلَمْ يَسْلَمْ غَيْرُ رَجُلَيْنِ أَيْضًا، فَعَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّالِمَيْنِ إِلَى أَصْحَابِهِ. فَلَمَّا سَمِعَ مُرَّةُ قَتْلَ ابْنِهِ جَسَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا يُحْزِنُنِي أَنْ كَانَ لَمْ يَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ قَتَلَ بِيَدِهِ أَبَا نُوَيْرَةَ رَئِيسَ الْقَوْمِ، وَقَتَلَ مَعَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مَا شَرَكَهُ مِنَّا أَحَدٌ فِي قَتْلِهِمْ وَقَتَلْنَا نَحْنُ الْبَاقِينَ، فَقَالَ: ذَلِكَ مِمَّا يُسْكِنُ قَلْبِي عَنْ جَسَّاسٍ. وَقِيلَ: إِنَّ جَسَّاسًا آخِرُ مَنْ قُتِلَ فِي حَرْبِ بَكْرٍ وَتَغْلِبَ، وَكَانَ سَبَبَ قَتْلِهِ أَنَّ أُخْتَهُ جَلِيلَةَ كَانَتْ تَحْتَ كُلَيْبِ وَائِلٍ. فَلَمَّا قُتِلَ كُلَيْبٌ عَادَتْ إِلَى أَبِيهَا وَهِيَ حَامِلٌ وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ، وَكَانَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَا كَانَ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى الْمُوَادَعَةِ بَعْدَمَا كَادَتِ الْفِئَتَانِ تَتَفَانَيَانِ، فَوَلَدَتْ أُخْتُ جَسَّاسٍ غُلَامًا فَسَمَّتْهُ هِجْرِسًا، وَرَبَّاهُ جَسَّاسٌ، وَكَانَ لَا يَعْرِفُ

أَبًا غَيْرَهُ، فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ فَوَقَعَ بَيْنَ هِجْرِسَ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ بَكْرٍ كَلَامٌ، فَقَالَ لَهُ الْبَكْرِيُّ: مَا أَنْتَ بِمُنْتَهٍ حَتَّى نُلْحِقَكَ بِأَبِيكَ. فَأَمْسَكَ عَنْهُ وَدَخَلَ إِلَى أُمِّهِ كَئِيبًا حَزِينًا فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ. فَلَمَّا نَامَ إِلَى جَنْبِ امْرَأَتِهِ رَأَتْ مِنْ هَمِّهِ وَفِكْرِهِ مَا أَنْكَرَتْهُ، فَقَصَّتْ عَلَى أَبِيهَا جَسَّاسٍ قِصَّتَهُ، فَقَالَ: ثَائِرٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! وَبَاتَ عَلَى مِثْلِ الرَّضْفِ حَتَّى أَصْبَحَ، فَأَحْضَرَ الْهِجْرِسَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا أَنْتَ وَلَدِي وَأَنْتَ مِنِّي بِالْمَكَانِ الَّذِي تَعَلَمُ، وَزَوَّجْتُكَ ابْنَتِي، وَقَدْ كَانَتِ الْحَرْبُ فِي أَبِيكَ زَمَانًا طَوِيلًا، وَقَدِ اصْطَلَحْنَا وَتَحَاجَزْنَا، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ تَدْخُلَ فِي مَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الصُّلْحِ، وَأَنْ تَنْطَلِقَ مَعِي حَتَّى نَأْخُذَ عَلَيْكَ مِثْلَ مَا أُخِذَ عَلَيْنَا. فَقَالَ الْهِجْرِسُ: أَنَا فَاعِلٌ. فَحَمَلَهُ جَسَّاسٌ عَلَى فَرَسٍ فَرَكِبَهُ وَلَبِسَ لَأْمَتَهُ وَقَالَ: مِثْلِي لَا يَأْتِي أَهْلَهُ بِغَيْرِ سِلَاحِهِ، فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا جَمَاعَةً مِنْ قَوْمِهِمَا، فَقَصَّ عَلَيْهِمْ جَسَّاسٌ الْقِصَّةَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْهِجْرِسَ يَدْخُلُ فِي الَّذِي دَخَلَ فِيهِ جَمَاعَتُهُمْ وَقَدْ حَضَرَ لِيَعْقِدَ مَا عَقَدْتُمْ. فَلَمَّا قَرَّبُوا الدَّمَ وَقَامُوا إِلَى الْعَقْدِ أَخَذَ الْهِجْرِسُ بِوَسَطِ رُمْحِهِ ثُمَّ قَالَ: وَفَرَسِي وَأُذُنَيْهِ، وَرُمْحِي وَنَصْلَيْهِ، وَسَيْفِي وَغِرَارَيْهِ لَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ طَعَنَ جَسَّاسًا فَقَتَلَهُ وَلَحِقَ بِقَوْمِهِ، وَكَانَ آخِرَ قَتِيلٍ فِي بَكْرٍ. وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. وَنَرْجِعُ إِلَى سِيَاقَةِ الْحَدِيثِ. فَلَمَّا قُتِلَ جَسَّاسٌ أَرْسَلَ أَبُوهُ مُرَّةُ إِلَى الْمُهَلْهِلِ: إِنَّكَ قَدْ تَرَكْتَ ثَأْرَكَ وَقَتَلْتَ جَسَّاسًا، فَاكْفُفْ عَنِ الْحَرْبِ وَدَعِ اللَّجَاجَ وَالْإِسْرَافَ وَأَصْلِحْ ذَاتَ الْبَيْنِ فَهُوَ أَصْلَحُ لِلْحَيَّيْنِ وَأَنْكَأُ لِعَدُوِّهِمْ، فَلَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ. وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ عُبَادٍ قَدِ اعْتَزَلَ الْحَرْبَ، فَلَمْ يَشْهَدْهَا، فَلَمَّا قُتِلَ جَسَّاسٌ وَهَمَّامٌ ابْنَا مُرَّةَ حَمَلَ ابْنَهُ بُجَيْرًا، وَهُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ عُبَادٍ أَخِي الْحَارِثِ بْنِ عُبَادٍ، فَلَمَّا حَمَلَهُ عَلَى النَّاقَةِ كَتَبَ مَعَهُ إِلَى الْمُهَلْهِلِ: إِنَّكَ قَدْ أَسْرَفْتَ فِي الْقَتْلِ وَأَدْرَكْتَ ثَأْرَكَ سِوَى مَا قَتَلْتَ مِنْ بَكْرٍ، وَقَدْ أَرْسَلْتُ ابْنِي إِلَيْكَ فَإِمَّا قَتَلْتَهُ بِأَخِيكَ وَأَصْلَحْتَ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ وَإِمَّا أَطْلَقْتَهُ وَأَصْلَحْتَ ذَاتَ الْبَيْنِ، فَقَدْ مَضَى مِنَ الْحَيَّيْنِ فِي هَذِهِ الْحُرُوبِ مَنْ كَانَ بَقَاؤُهُ خَيْرًا لَنَا وَلَكُمْ. فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى كِتَابِهِ أَخَذَ بُجَيْرًا فَقَتَلَهُ وَقَالَ: بُؤْ بِشِسْعِ نَعْلِ كُلَيْبٍ. فَلَمَّا سَمِعَ أَبُوهُ بِقَتْلِهِ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ بِأَخِيهِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ، فَقَالَ: نِعْمَ الْقَتِيلُ قَتِيلًا أَصْلَحَ بَيْنَ ابْنَيْ وَائِلٍ! فَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ: (بُؤْ بِشِسْعِ نَعْلِ كُلَيْبٍ) ، فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَارِثُ بْنُ عُبَادٍ وَقَالَ:

قَرِّبَا مَرْبَطَ النَّعَامَةِ مِنِّي لَقِحَتْ ... حَرْبُ وَائِلٍ عَنْ حِيَالِ قَرِّبَا مَرْبَطَ النَّعَامَةِ مِنِّي ... شَابَ رَأْسِي وَأَنْكَرَتْنِي رِجَالِي لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّ ... هُ وَإِنِّي بِحَرِّهَا الْيَوْمَ صَالِي فَأَتَوْهُ بِفَرَسِهِ النَّعَامَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهَا مِثْلُهَا، فَرَكِبَهَا وَوَلِيَ أَمْرَ بَكْرٍ وَشَهِدَ حَرْبَهُمْ، وَكَانَ أَوَّلَ يَوْمٍ شَهِدَهُ يَوْمُ قِضَةَ، وَهُوَ يَوْمُ تَحْلَاقِ اللِّمَمِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ تَحْلَاقُ اللِّمَمِ لِأَنَّ بَكْرًا حَلَقُوا رُءُوسَهُمْ لِيَعْرِفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا جَحْدَرَ بْنَ ضُبَيْعَةَ بْنِ قَيْسٍ أَبُو الْمَسَامِعَةِ فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا قَصِيرٌ فَلَا تَشِينُونِي، وَأَنَا أَشْتَرِي لَمَّتِي مِنْكُمْ بِأَوَّلِ فَارِسٍ يَطَّلِعُ عَلَيْكُمْ. فَطَلَعَ ابْنُ عَنَّاقٍ فَشَدَّ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ يَرْتَجِزُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَيَقُولُ: رُدُّوا عَلَيَّ الْخَيْلَ إِنْ أَلَمَّتِ ... إِنْ لَمْ أُقَاتِلْهُمْ فَجُزُّوا لِمَّتِي وَقَاتَلَ يَوْمَئِذٍ الْحَارِثُ بْنُ عُبَادٍ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَتَلَ فِي تَغْلِبَ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَفِيهِ يَقُولُ طَرَفَةُ: سَائِلُوا عَنَّا الَّذِي يَعْرِفُنَا ... بِقُوَانَا يَوْمَ تَحْلَاقِ اللِّمَمِ يَوْمَ تُبْدِي الْبِيضُ عَنْ أَسْؤُقِهَا ... وَتَلُفُّ الْخَيْلُ أَفْوَاجَ النَّعَمْ وَفِي هَذَا الْيَوْمِ أَسَرَ الْحَارِثُ بْنُ عُبَادٍ مُهَلْهِلًا، وَاسْمُهُ عَدِيٌّ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ لَهُ: دُلَّنِي عَلَى عَدِيٍّ وَأَنَا أُخَلِّي عَنْكَ. فَقَالَ لَهُ الْمُهَلْهِلُ: عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ بِذَلِكَ إِنْ دَلَلْتُكَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنَا عَدِيٌّ، فَجَزَّ نَاصِيَتَهُ وَتَرَكَهُ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ: لَهْفُ نَفْسِي عَلَى عَدِيٍّ وَلَمْ أَعْ ... رِفْ عَدِيًّا إِذْ أَمْكَنَتْنِي الْيَدَانِ

وَكَانَتِ الْأَيَّامُ الَّتِي اشْتَدَّتْ فِيهَا الْحَرْبُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ: يَوْمُ عُنَيْزَةَ تَكَافَأُوا فِيهِ وَتَنَاصَفُوا. ثُمَّ الْيَوْمُ الثَّانِي يَوْمُ وَارِدَاتٍ، كَانَ لِتَغْلِبَ عَلَى بَكْرٍ. ثُمَّ الْيَوْمُ الثَّالِثُ الْحِنْوُ، كَانَ لِبَكْرٍ عَلَى تَغْلِبَ. ثُمَّ الْيَوْمُ الرَّابِعُ يَوْمُ الْقُصَيْبَاتِ، أُصِيبَ بَكْرٌ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَقِيلُوا. ثُمَّ الْيَوْمُ الْخَامِسُ يَوْمُ قِضَةَ، وَهُوَ يَوْمُ التَّحَالُقِ، وَشَهِدَهُ الْحَارِثُ بْنُ عُبَادٍ. ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّامٌ دُونَ هَذِهِ، مِنْهَا: يَوْمُ النَّقِيَّةِ، وَيَوْمُ الْفَصِيلِ لِبَكْرٍ عَلَى تَغْلِبَ. ثُمَّ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُزَاحَفَةٌ إِنَّمَا كَانَ مُغَاوَرَاتٌ، وَدَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمَا أَرْبَعِينَ سَنَةً. ثُمَّ إِنَّ مُهَلْهِلًا قَالَ لِقَوْمِهِ: قَدْ رَأَيْتُ أَنْ تُقْبِلُوا عَلَى قَوْمِكُمْ فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ صَلَاحَكُمْ، وَقَدْ أَتَتْ عَلَى حَرْبِكُمْ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَمَا لُمْتُكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْ طَلَبِكُمْ بِوَتْرِكُمْ، فَلَوْ مَرَّتْ هَذِهِ السُّنُونَ فِي رَفَاهِيَةِ عَيْشٍ لَكَانَتْ تُمَلُّ مِنْ طُولِهَا، فَكَيْفَ وَقَدْ فَنِيَ الْحَيَّانِ وَثَكِلَتِ الْأُمَّهَاتُ وَيُتِّمَ الْأَوْلَادُ وَنَائِحَةٌ لَا تَزَالُ تَصْرُخُ فِي النَّوَاحِي، وَدُمُوعٌ لَا تُرْقَأُ، وَأَجْسَادٌ لَا تُدْفَنُ، وَسُيُوفٌ مَشْهُورَةٌ، وَرِمَاحٌ مُشْرَعَةٌ! وَإِنَّ الْقَوْمَ سَيَرْجِعُونَ إِلَيْكُمْ غَدًا بِمَوَدَّتِهِمْ وَمُوَاصَلَتِهِمْ وَتَتَعَطَّفُ الْأَرْحَامُ حَتَّى تَتَوَاسَوْا فِي قُبَالِ النَّعْلِ، فَكَانَ كَمَا قَالَ. ثُمَّ قَالَ مُهَلْهِلٌ: أَمَّا أَنَا فَمَا تَطِيبُ نَفْسِي أَنْ أُقِيمَ فِيكُمْ، وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى قَاتِلِ كُلَيْبٍ، وَأَخَافُ أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى الِاسْتِئْصَالِ وَأَنَا سَائِرٌ إِلَى الْيَمَنِ، وَفَارَقَهُمْ وَسَارَ إِلَى الْيَمَنِ وَنَزَلَ فِي جَنْبٍ، وَهِيَ حَيٌّ مِنْ مَذْحِجٍ، فَخَطَبُوا إِلَيْهِ ابْنَتَهُ، فَمَنَعَهُمْ، فَأَجْبَرُوهُ عَلَى تَزْوِيجِهَا وَسَاقُوا إِلَيْهِ صَدَاقَهَا جُلُودًا مَنْ أُدُمٍ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ: أَعْزِرْ عَلَى تَغْلِبَ بِمَا لَقِيَتْ ... أُخْتُ بَنِي الْأَكْرَمِينَ مِنْ جُشَمِ أَنْكَحَهَا فَقْدُهَا الْأَرَاقِمَ فِي ... جَنْبٍ وَكَانَ الْحِبَاءُ مِنْ أُدُمِ

ذكر الحرب بين الحارث الأعرج وبني تغلب

لَوْ بِأَبَانَيْنِ جَاءَ يَخْطُبُهَا ... ضُرَّجَ مَا أَنْفُ خَاطِبٍ بِدَمٍ الْأَرَاقِمُ بَطْنٌ مِنْ جُشَمَ بْنِ تَغْلِبَ، يَعْنِي حَيْثُ فَقَدَتِ الْأَرَاقِمَ، وَهُمْ عَشِيرَتُهَا، تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ جَنْبٍ بِأُدُمٍ. ثُمَّ إِنَّ مُهَلْهِلًا عَادَ إِلَى دِيَارِ قَوْمِهِ، فَأَخَذَهُ عَمْرُو بْنُ مَالِكِ بْنِ ضُبَيْعَةَ الْبَكْرِيُّ أَسِيرًا بِنَوَاحِي هَجَرَ فَأَحْسَنَ إِسَارَهُ، فَمَرَّ عَلَيْهِ تَاجِرٌ يَبِيعُ الْخَمْرَ قَدِمَ بِهَا مِنْ هَجَرَ، وَكَانَ صَدِيقًا لِمُهَلْهِلٍ، فَأَهْدَى إِلَيْهِ وَهُوَ أَسِيرٌ زِقًّا مِنْ خَمْرٍ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ بَنُو مَالِكٍ فَنَحَرُوا عِنْدَهُ بِكْرًا وَشَرِبُوا عِنْدَ مُهَلْهِلٍ فِي بَيْتِهِ الَّذِي أَفْرَدَ لَهُ عَمْرٌو. فَلَمَّا أَخَذَ فِيهِمُ الشَّرَابُ تَغَنَّى مُهَلْهِلٌ بِمَا كَانَ يَقُولُهُ مِنَ الشِّعْرِ وَيَنُوحُ بِهِ عَلَى أَخِيهِ كُلَيْبٍ، فَسَمِعَ مِنْهُ عَمْرٌو ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ لَرَيَّانٌ، وَاللَّهِ لَا يَشْرَبُ عِنْدِي مَاءً حَتَّى يَرِدَ زَبِيبٌ، وَهُوَ فَحْلٌ كَانَ لَهُ لَا يَرِدُ إِلَّا خَمْسًا فِي حَمَارَةِ الْقَيْظِ، فَطَلَبَ بَنُو مَالِكٍ زَبِيبًا وَهُمْ حُرَّاصٌ عَلَى أَنْ يَهْلِكَ مُهَلْهِلٌ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ مُهَلْهِلٌ عَطَشًا. وَقِيلَ: إِنَّ ابْنَةَ خَالِ الْمُهَلْهِلِ، وَهِيَ ابْنَةُ الْمُجَلَّلِ التَغْلِبِيِّ، كَانَتِ امْرَأَةَ عَمْرٍو، وَأَرَادَتْ أَنْ تَأْتِيَ مُهَلْهِلًا وَهُوَ أَسِيرٌ، فَقَالَ يَذْكُرُهَا: طِفْلَةٌ مَا ابْنَةُ الْمُجَلَّلِ بَيْضَا ... ءُ لَعُوبٌ لَذِيذَةٌ فِي الْعِنَاقِ فَاذْهَبِي مَا إِلَيْكِ غَيْرَ بَعِيدٍ لَا ... يُؤَاتِي الْعِنَاقَ مَنْ فِي الْوَثَاقِ ضَرَبَتْ نَحْرَهَا إِلَيَّ وَقَالَتْ ... يَا عَدِيٌّ لَقَدْ وَقَتْكَ الْأَوَاقِي وَهِيَ أَبْيَاتٌ ذَوَاتُ عَدَدٍ، فَنُقِلَ شِعْرُهُ إِلَى عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، فَحَلَفَ عَمْرٌو أَنْ لَا يَسْقِيَهُ الْمَاءَ حَتَّى يَرِدَ زَبِيبٌ، فَسَأَلَهُ النَّاسُ أَنْ يُورِدَ زَبِيبًا قَبْلَ وُرُودِهِ، فَفَعَلَ وَأَوْرَدَهُ وَسَقَاهُ حَتَّى يَتَحَلَّلَ مِنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سَقَى مُهَلْهِلًا مِنْ مَاءٍ هُنَاكَ هُوَ أَوْخَمُ الْمِيَاهِ، فَمَاتَ مُهَلْهِلٌ. (عُبَادٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِهَا) . [ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْحَارِثِ الْأَعْرَجِ وَبَنِي تَغْلِبَ]

قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ بَكْرًا وَتَغْلِبَ ابْنَيْ وَائِلٍ اجْتَمَعَتْ لِلْمُنْذِرِ بْنِ مَاءِ السَّمَاءِ، وَذَلِكَ بَعْدَ حَرْبِهِمْ، وَكَانَ الَّذِي أَصْلَحَ بَيْنَهُمْ قَيْسُ بْنُ شَرَاحِيلَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ هَمَّامٍ، فَغَزَا بِهِمُ الْمُنْذِرُ بَنِي آكِلِ الْمُرَارِ، وَجَعَلَ عَلَى بَنِي بَكْرٍ وَتَغْلِبَ ابْنَهُ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ، وَقَالَ: أُغْزُ أَخْوَالَكَ. فَغَزَاهُمْ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ وَأُسِرُوا، وَجَاءُوا بِهِمْ إِلَى الْمُنْذِرِ فَقَتَلَهُمْ. ثُمَّ انْتَقَضَتْ تَغْلِبُ عَلَى الْمُنْذِرِ وَلَحِقَتْ بِالشَّامِ، (وَنَحْنُ نَذْكُرُ سَبَبَ ذَلِكَ فِي أَخْبَارِ شَيْبَانَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) وَعَادَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَكْرٍ، فَخَرَجَ مَلِكُ غَسَّانَ بِالشَّامِ، وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيُّ، فَمَرَّ بِأَفَارِيقَ مِنْ تَغْلِبَ، فَلَمْ يَسْتَقْبِلُوهُ. وَرَكِبَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ التَغْلِبِيُّ فَلَقِيَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا مَنْعَ قَوْمَكَ أَنْ يَتَلَقَّوْنِي؟ فَقَالَ: لَمْ يَعْلَمُوا بِمُرُورِكَ، فَقَالَ: لَئِنْ رَجَعْتُ لَأَغْزُوَنَّهُمْ غَزْوَةً تَتْرُكُهُمْ أَيْقَاظًا لِقُدُومِي، فَقَالَ عَمْرٌو: مَا اسْتَيْقَظَ قَوْمٌ قَطُّ إِلَّا نَبُلَ رَأْيُهُمْ وَعَزَّتْ جَمَاعَتُهُمْ، فَلَا تُوقِظَنَّ نَائِمَهُمْ. فَقَالَ: كَأَنَّكَ تَتَوَعَّدُنِي بِهِمْ، أَمَّا وَاللَّهِ لِتَعْلَمُنَّ إِذَا أَجَالَتْ غَطَارِيفُ غَسَّانَ الْخَيْلَ فِي دِيَارِكُمْ أَنَّ أَيْقَاظَ قَوْمِكَ سَيَنَامُونَ نَوْمَةً لَا حُلْمَ فِيهَا، تُجْتَثُّ أُصُولُهُمْ، وَيُنْفَى فَلُّهُمْ إِلَى الْيَابِسِ الْجَرِدِ وَالنَّازِحِ الثَّمِدِ. ثُمَّ رَجَعَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ عَنْهُ، وَجَمَعَ قَوْمَهُ وَقَالَ: أَلَا فَاعْلَمْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ أَنَّا ... أَبَيْتَ اللَّعْنَ نَأْبَى مَا تُرِيدُ تَعَلَّمْ أَنَّ مَحْمَلَنَا ثَقِيلٌ ... وَأَنَّ دِبَارَ كَبَّتِنَا شَدِيدُ وَأَنَّا لَيْسَ حَيٌّ مِنْ مَعَدٍّ ... يُقَاوِمُنَا إِذَا لُبِسَ الْحَدِيدُ فَلَمَّا عَادَ الْحَارِثُ الْأَعْرَجُ غَزَا بَنِي تَغْلِبَ، فَاقْتَتَلُوا وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ انْهَزَمَ الْحَارِثُ وَبَنُو غَسَّانَ وَقُتِلَ أَخُو الْحَارِثِ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:

يوم عين أباغ

هَلَّا عَطَفْتَ عَلَى أَخِيكَ إِذَا دَعَا بِالثُّكْلِ ... وَيْلَ أَبِيكَ يَا ابْنَ أَبِي شِمْرِ فَذُقِ الَّذِي جَشَمْتَ نَفْسَكَ وَاعْتَرِفْ ... فِيهَا أَخَاكَ وَعَامِرَ بْنَ أَبِي حُجْرِ [يَوْمُ عَيْنِ أُبَاغٍ] وَهُوَ بَيْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ مَاءِ السَّمَاءِ وَبَيْنَ الْحَارِثِ الْأَعْرَجِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ جَبَلَةَ، وَقِيلَ: أَبُو شِمْرٍ عَمْرُو بْنُ جَبَلَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حُجْرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَيْهَمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَارِيَةَ الْغَسَّانِيُّ، وَقِيلَ فِي نَسَبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ أَزْدِيٌّ تَغَلَّبَ عَلَى غَسَّانَ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ، وَهُوَ الَّذِي طَلَبَ أَدْرَاعَ امْرِئِ الْقَيْسِ مِنَ السَّمَوْأَلِ بْنِ عَادِيَاءَ وَقَتَلَ ابْنَهُ، وَقِيلَ غَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُنْذِرَ بْنَ مَاءِ السَّمَاءِ مَلِكَ الْعَرَبِ سَارَ مِنَ الْحِيرَةِ فِي مَعَدٍّ كُلِّهَا حَتَّى نَزَلَ بِعَيْنِ أُبَاغٍ بِذَاتِ الْخِيَارِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْحَارِثِ الْأَعْرَجَ بْنَ جَبَلَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ جَفْنَةَ بْنِ عَمْرٍو مُزَيْقِيَاءَ بْنَ عَامِرٍ الْغَسَّانِيَّ مَلِكَ الْعَرَبِ بِالشَّامِ: إِمَّا أَنْ تُعْطِيَنِي الْفِدْيَةَ فَأَنْصَرِفَ عَنْكَ بِجُنُودِي، وَإِمَّا أَنْ تَأْذَنَ بِحَرْبٍ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْحَارِثُ: أَنْظِرْنَا نَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا. فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ نَحْوَ الْمُنْذِرِ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّا شَيْخَانِ فَلَا نُهْلِكُ جُنُودِي وَجُنُودَكَ، وَلَكِنْ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِي وَيَخْرُجُ مِنْ وَلَدِكَ، فَمَنْ قُتِلَ خَرَجَ عِوَضَهُ آخَرُ، وَإِذَا فَنِيَ أَوْلَادُنَا خَرَجْتُ أَنَا إِلَيْكَ فَمَنْ قَتَلَ صَاحِبَهُ ذَهَبَ بِالْمُلْكِ. فَتَعَاهَدَا عَلَى ذَلِكَ، فَعَمِدَ الْمُنْذِرُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ شُجْعَانِ أَصْحَابِهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ فَيَقِفَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَيُظْهِرَ أَنَّهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، فَلَمَّا خَرَجَ أَخْرَجَ إِلَيْهِ الْحَارِثُ ابْنَهُ أَبَا كَرِبٍ، فَلَمَّا رَآهُ رَجَعَ إِلَى أَبِيهِ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِابْنِ الْمُنْذِرِ إِنَّمَا هُوَ عَبْدُهُ أَوْ بَعْضُ شُجْعَانِ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ أَجَزِعْتَ مِنَ الْمَوْتِ؟ مَا كَانَ الشَّيْخُ لِيَغْدِرَ. فَعَادَ إِلَيْهِ وَقَاتَلَهُ فَقَتَلَهُ الْفَارِسُ وَأَلْقَى رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُنْذِرِ، وَعَادَ فَأَمَرَ الْحَارِثُ ابْنًا لَهُ آخَرَ بِقِتَالِهِ وَالطَّلَبِ بِثَأْرِ أَخِيهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَاقَفَهُ رَجَعَ إِلَى أَبِيهِ وَقَالَ: يَا أَبَتِ هَذَا وَاللَّهِ عَبْدُ الْمُنْذِرِ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ مَا كَانَ الشَّيْخُ لِيَغْدِرَ. فَعَادَ إِلَيْهِ فَشَدَّ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ شِمْرُ بْنُ عَمْرٍو الْحَنَفِيُّ، وَكَانَتْ أَمُّهُ غَسَّانِيَّةٌ، وَهُوَ مَعَ الْمُنْذِرِ، قَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّ الْغَدْرَ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْمُلُوكِ وَلَا الْكِرَامِ، وَقَدْ غَدَرْتَ بِابْنِ عَمِّكَ دُفْعَتَيْنِ،

يوم مرج حليمة وقتل المنذر بن المنذر بن ماء السماء

فَغَضِبَ الْمُنْذِرُ وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ، فَلَحِقَ بِعَسْكَرِ الْحَارِثِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ حَاجَتَكَ. فَقَالَ لَهُ: حُلَّتُكُ وَخَلَّتُكَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ عَبَّى الْحَارِثُ أَصْحَابَهُ وَحَرَّضَهُمْ، وَكَانَ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَاصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ الْمُنْذِرُ وَهُزِمَتْ جُيُوشُهُ، فَأَمَرَ الْحَارِثُ بِابْنَيْهِ الْقَتِيلَيْنِ فَحُمِلَا عَلَى بَعِيرٍ بِمَنْزِلَةِ الْعَدْلَيْنِ، وَجَعَلَ الْمُنْذِرَ فَوْقَهُمَا فَوَدَا وَقَالَ: " يَا لَعِلَاوَةٍ دُونَ الْعِدْلَيْنِ "! فَذَهَبَتْ مَثَلًا، وَسَارَ إِلَى الْحِيرَةِ فَأَنْهَبَهَا وَأَحْرَقَهَا وَدَفَنَ ابْنَيْهِ بِهَا وَبَنَى الْغَرِيِّينِ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقُولُ ابْنُ أَبِي الرَّعْلَاءِ الضُّبْيَانِيُّ: كَمَا تَرَكْنَا بِالْعَيْنِ عَيْنِ أُبَاغٍ ... مِنْ مُلُوكٍ وَسُوقَةٍ أَكْفَاءِ أَمْطَرَتْهُمْ سَحَائِبُ الْمَوْتِ تَتْرَى ... إِنَّ فِي الْمَوْتِ رَاحَةَ الْأَشْقِيَاءِ لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ ... إِنَّمَا الْمَيِّتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ [يَوْمُ مَرْجِ حَلِيمَةَ وَقَتْلِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ مَاءِ السَّمَاءِ] لَمَّا قُتِلَ الْمُنْذِرُ بْنُ مَاءِ السَّمَاءِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْمُنْذِرُ وَتَلَقَّبَ الْأَسْوَدَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ وَثَبَّتَ قَدَمَهُ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَى الْحَارِثِ الْأَعْرَجِ طَالِبًا بِثَأْرِ أَبِيهِ عِنْدَهُ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ: إِنَّنِي قَدْ أَعْدَدْتُ لَكَ الْكُهُولَ عَلَى الْفُحُولِ، فَأَجَابَهُ الْحَارِثُ: قَدْ أَعْدَدْتُ لَكَ الْمُرْدَ عَلَى الْجُرْدِ. فَسَارَ الْمُنْذِرُ حَتَّى نَزَلَ بِمَرْجِ حَلِيمَةَ، فَتَرَكَهُ مَنْ بِهِ مِنْ غَسَّانَ لِلْأَسْوَدِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَرْجَ حَلِيمَةَ بِحَلِيمَةَ ابْنَةِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ، وَسَنَذْكُرُ خَبَرَهَا عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ. ثُمَّ إِنَّ الْحَارِثَ سَارَ فَنَزَلَ بِالْمَرْجِ أَيْضًا، فَأَمَرَ أَهْلَ الْقُرَى الَّتِي فِي الْمَرْجِ أَنْ يَصْنَعُوا

الطَّعَامَ لِعَسْكَرِهِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَحَمَلُوهُ فِي الْجِفَانِ وَتَرَكُوهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَكَانَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ فَإِذَا أَرَادَ الطَّعَامَ جَاءَ إِلَى تِلْكَ الْجِفَانِ فَأَكَلَ مِنْهَا. فَأَقَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَسْوَدِ وَالْحَارِثِ أَيَّامًا لَمْ يَنْتَصِفْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. فَلَمَّا رَأَى الْحَارِثُ ذَلِكَ قَعَدَ فِي قَصْرِهِ وَدَعَا ابْنَتَهُ هِنْدًا وَأَمْرَهَا فَاتَّخَذَتْ طِيبًا كَثِيرًا فِي الْجِفَانِ وَطَيَّبَتْ بِهِ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ نَادَى: يَا فِتْيَانَ غَسَّانَ مَنْ قَتَلَ مَلِكَ الْحِيرَةِ زَوَّجْتُهُ ابْنَتِي هِنْدًا. فَقَالَ لَبِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْغَسَّانِيُّ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ أَنَا قَاتِلُ مَلِكِ الْحِيرَةِ أَوْ مَقْتُولٌ دُونَهُ لَا مَحَالَةَ، وَلَسْتُ أَرْضَى فَرَسِي فَأَعْطِنِي فَرَسَكَ الزَّيْتِيَّةَ. فَأَعْطَاهُ فَرَسَهُ. فَلَمَّا زَحَفَ النَّاسُ وَاقْتَتَلُوا سَاعَةً، شَدَّ لَبِيدٌ عَلَى الْأَسْوَدِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً فَأَلْقَاهُ عَنْ فَرَسِهِ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَنَزَلَ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ وَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى الْحَارِثِ، وَهُوَ عَلَى قَصْرِهِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَأَلْقَى الرَّأْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ: شَأْنَكَ بِابْنَةِ عَمِّكِ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا. فَقَالَ: بَلْ أَنْصَرِفُ فَأُوَاسِي أَصْحَابِي بِنَفْسِي فَإِذَا انْصَرَفَ النَّاسُ انْصَرَفْتُ. فَرَجَعَ فَصَادَفَ أَخَاهُ الْأَسْوَدَ قَدْ رَجَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَهُوَ يُقَاتِلُ وَقَدِ اشْتَدَّتْ نِكَايَتُهُ، فَتَقَدَّمَ لَبِيدٌ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ، وَلَمْ يُقْتَلْ فِي هَذِهِ الْحَرْبِ بَعْدَ تِلْكَ الْهَزِيمَةِ غَيْرُهُ، وَانْهَزَمَتْ لَخْمٌ هَزِيمَةً ثَانِيَةً وَقُتِلُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَانْصَرَفَتْ غَسَّانُ بِأَحْسَنِ ظَفَرٍ. وَذُكِرَ أَنَّ الْغُبَارَ فِي هَذَا الْيَوْمِ اشْتَدَّ وَكَثُرَ حَتَّى سَتَرَ الشَّمْسَ، وَحَتَّى ظَهَرَتِ الْكَوَاكِبُ الْمُتَبَاعِدَةُ عَنْ مَطَالِعِ الشَّمْسِ لِكَثْرَةِ الْعَسَاكِرِ، لِأَنَّ الْأَسْوَدَ سَارَ بِعَرَبِ الْعِرَاقِ أَجْمَعَ، وَسَارَ الْحَارِثُ بِعَرَبِ الشَّامِ أَجْمَعَ، وَهَذَا الْيَوْمُ مِنْ أَشْهَرِ أَيَّامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ فَخَرَ بِهِ بَعْضُ شُعَرَاءِ غَسَّانَ فَقَالَ: يَوْمَ وَادِي حَلِيمَةَ وَازْدَلَفْنَا ... بِالْعَنَاجِيجِ وَالرِّمَاحِ الظِّمَاءِ إِذْ شَحَنَّا أَكُفَّنَا مِنْ رِقَاقٍ ... رَقَّ مِنْ وَقْعِهَا سَنَا السَّحْنَاءِ وَأَتَتْ هِنْدٌ بِالْخَلُوقِ إِلَى مَنْ ... كَانَ ذَا نَجْدَةٍ وَفَضْلِ غَنَاءِ وَنَصَبْنَا الْجِفَانَ فِي سَاحَةِ ... الْمَرْ جِ فَمِلْنَا إِلَى جِفَانٍ مِلَاءِ وَقِيلَ فِي قَتْلِهِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ، وَنَحْنُ نَذْكُرُهُ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَكَانَ سَبَبَهُ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي شِمْرٍ جَبَلَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْأَعْرَجَ الْغَسَّانِيَّ خَطَبَ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ الْمُنْذِرِ اللَّخْمِيِّ ابْنَتَهُ وَقَصَدَ انْقِطَاعَ الْحَرْبِ بَيْنَ لَخْمٍ

وَغَسَّانَ، فَزَوَّجَهُ الْمُنْذِرُ ابْنَتَهُ هِنْدًا، وَكَانَتْ لَا تُرِيدُ الرِّجَالَ، فَصَنَعَتْ بِجِلْدِهَا شَبِيهًا بِالْبَرَصِ وَقَالَتْ لِأَبِيهَا: أَنَا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَتُهْدِينِي لِمَلِكِ غَسَّانَ؟ فَنَدِمَ عَلَى تَزْوِيجِهَا فَأَمْسَكَهَا. ثُمَّ إِنَّ الْحَارِثَ أَرْسَلَ يَطْلُبُهَا فَمَنَعَهَا أَبُوهَا وَاعْتَلَّ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ الْمُنْذِرَ خَرَجَ غَازِيًا، فَبَعَثَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شِمْرٍ جَيْشًا إِلَى الْحِيرَةِ فَانْتَهَبَهَا وَأَحْرَقَهَا. فَانْصَرَفَ الْمُنْذِرُ مِنْ غَزَاتِهِ لَمَّا بَلَغَهُ مِنَ الْخَبَرِ، فَسَارَ يُرِيدُ غَسَّانَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ الْحَارِثَ فَجَمَعَ أَصْحَابَهُ وَقَوْمَهُ فَسَارَ بِهِمْ، فَتَوَافَقُوا بِعَيْنِ أُبَاغٍ فَاصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ فَاقْتَتَلُوا وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، فَحَمَلَتْ مَيْمَنَةُ الْمُنْذِرِ عَلَى مَيْسَرَةِ الْحَارِثِ، وَفِيهَا ابْنُهُ فَقَتَلُوهُ، وَانْهَزَمَتِ الْمَيْسَرَةُ، وَحَمَلَتْ مَيْمَنَةُ الْحَارِثِ عَلَى مَيْسَرَةِ الْمُنْذِرِ فَانْهَزَمَ مَنْ بِهَا وَقُتِلَ مُقَدِّمُهَا فَرْوَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ، وَحَمَلَتْ غَسَّانُ مِنَ الْقَلْبِ عَلَى الْمُنْذِرِ فَقَتَلُوهُ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ وَأُسِرَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مِنْهُمْ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ثُمَّ مِنْ بَنِي حَنْظَلَةَ مِائَةُ أَسِيرٍ، مِنْهُمْ شَأْسُ بْنُ عَبَدَةَ، فَوَفَدَ أَخُوهُ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبَدَةَ الشَّاعِرُ عَلَى الْحَارِثِ يَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يُطْلِقَ أَخَاهُ، وَمَدَحَهُ بِقَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا: طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ ... بُعَيْدَ الشَّبَابِ عَصْرَ حَانَ مَشِيبُ تُكَلِّفُنِي لَيْلَى وَقَدْ شَطَّ أَهْلُهَا ... وَعَادَتْ عَوَادٍ بَيْنَنَا وَخُطُوبُ يَقُولُ فِيهَا: فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ ... إِذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ مَالُهُ فَلَيْسَ لَهُ فِي وُدِّهِنَّ نَصِيبُ ... يُرِدْنَ ثَرَاءَ الْمَالِ حَيْثُ وَجَدْنَهُ وَشَرْخُ الشَّبَابِ عِنْدَهُنَّ عَجِيبُ ... وَقَاتَلَ مِنْ غَسَّانَ أَهْلُ حِفَاظِهَا وَهِنْبٌ وَقَاسٌ جَالَدَتْ وَشَبِيبُ

تُخَشْخِشُ أَبْدَانُ الْحَدِيدِ عَلَيْهِمُ كَمَا ... خَشْخَشَتْ يَبْسَ الْحَصَادِ جَنُوبُ فَلَمْ تَنْجُ إِلَّا شَطْبَةٌ بِلِجَامِهَا ... وَإِلَّا طِمِرٌّ كَالْقَنَاةِ نَجِيبُ وَإِلَّا كَمِيٌّ ذُو حِفَاظٍ كَأَنَّهُ بِمَا ... ابْتَلَّ مِنْ حَدِّ الظُّبَاتِ خَضِيبُ وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ ... فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذُنُوبُ فَلَا تَحْرِمَنِّي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ ... فَإِنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ الْقِبَابِ غَرِيبُ فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ: فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذُنُوبُ، قَالَ الْمَلِكُ: إِي وَاللَّهِ وَأَذْنِبَةٌ، ثُمَّ أَطْلَقَ شَأْسًا وَقَالَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ الْحِبَاءَ وَإِنْ شِئْتَ أُسَرَاءَ قَوْمِكَ؟ وَقَالَ لِجُلَسَائِهِ: إِنِ اخْتَارَ الْحِبَاءَ عَلَى قَوْمِهِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ. فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ مَا كُنْتُ لِأَخْتَارَ عَلَى قَوْمِي شَيْئًا. فَأَطْلَقَ لَهُ الْأَسْرَى مِنْ تَمِيمٍ وَكَسَاهُ وَحَبَاهُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ بِالْأَسْرَى جَمِيعَهُمْ وَزَوَّدَهُمْ زَادًا كَثِيرًا. فَلَمَّا بَلَغُوا بِلَادَهُمْ أَعْطَوْا جَمِيعَ ذَلِكَ لِشَأْسٍ وَقَالُوا: أَنْتَ كُنْتَ السَّبَبَ فِي إِطْلَاقِنَا فَاسْتَعِنْ بِهَذَا عَلَى دَهْرِكَ، فَحَصَلَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ مِنْ إِبِلٍ وَكِسْوَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (عَبَدَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) . وَقِيلَ فِي قَتْلِهِ: إِنَّهُ جَمَعَ عَسْكَرًا ضَخْمًا وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ الشَّامَ، وَسَارَ مَلِكُ الشَّامِ، وَهُوَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شِمْرٍ، فَنَزَلَ مَرْجَ حَلِيمَةَ، وَهُوَ يُنْسَبُ إِلَى حَلِيمَةَ بِنْتِ الْمَلِكِ، وَنَزَلَ الْمَلِكُ اللَّخْمِيُّ فِي مَرْجِ الصُّفَّرِ، فَسَيَّرَ الْحَارِثُ فَارِسَيْنِ طَلِيعَةً، أَحَدُهُمَا فَارِسُ خَصَافٍ، وَكَانَتْ فَرَسُهُ تَجْرِي عَلَى ثَلَاثٍ فَلَا تُلْحَقُ، فَسَارَا حَتَّى خَالَطَا الْقَوْمَ وَقَرُبَا مِنَ الْمَلِكِ وَأَمَامَهُ شَمْعَةٌ فَقَتَلَا حَامِلَهَا. فَفَزِعَ الْقَوْمُ فَاضْطَرَبُوا بِأَسْيَافِهِمْ فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى أَصْبَحُوا، وَأَتَاهُمْ رُسُلُ الْحَارِثِ مَلِكِ غَسَّانَ يَبْذُلُ الصُّلْحَ وَالْإِتَاوَةَ وَقَالَ: إِنِّي بَاعِثٌ رُءُوسَ الْقَبَائِلِ لِتَقْرِيرِ الْحَالِ، وَنَدَبَ أَصْحَابَهُ، فَانْتُدِبَ لَهُ مِائَةُ غُلَامٍ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ غُلَامًا، فَأَلْبَسَهُمُ السِّلَاحَ وَأَمَرَ ابْنَتَهُ حَلِيمَةَ أَنْ تُطَيِّبَهُمْ وَتُلْبِسَهُمْ، فَفَعَلَتْ. فَلَمَّا مَرَّ بِهَا لَبِيدُ بْنُ عَمْرٍو فَارِسُ الزَّيْتِيَّةِ قَبَّلَهَا، فَأَتَتْ أَبَاهَا بَاكِيَةً، فَقَالَ: هُوَ أَسَدُ الْقَوْمِ وَلَئِنْ سَلِمَ لَأُنْكِحَنَّهُ إِيَّاكِ، وَأَمَّرَهُ عَلَى الْقَوْمِ وَسَارُوا، فَلَمَّا قَارَبُوا الْعَسْكَرَ الْعِرَاقِيَّ جَمَعَ الْمَلِكُ رُءُوسَ أَصْحَابِهِ. وَجَاءَ الْغَسَّانِيُّونَ وَعَلَيْهِمُ السِّلَاحُ، قَدْ لَبِسُوا فَوْقَهَا الثِّيَابَ وَالْبَرَانِسَ، فَلَمَّا تَتَامُّوا عِنْدَ الْمَلِكِ أَبْدَوُا السِّلَاحَ فَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوا، وَقُتِلَ لَبِيدُ بْنُ عَمْرٍو مَلِكُ الْعِرَاقِيِّينَ وَأُحِيطَ بِالْغَسَّانِيِّينَ فَقُتِلُوا إِلَّا لَبِيدَ بْنَ عَمْرٍو، فَإِنَّ فَرَسَهُ لَمْ تَبْرَحْ، فَاسْتَوَى عَلَيْهَا، وَعَادَ

ذكر قتل مضرط الحجارة

فَأَخْبَرَ الْمَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَنَكَحْتُكَ ابْنَتِي حَلِيمَةَ. فَقَالَ: لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنِّي فَلُّ مِائَةٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقَوْمِ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ. وَتَفَقَّدَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَشْرَافَهُمْ وَإِذَا بِهِمْ قَدْ قُتِلُوا فَضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ لِذَلِكَ وَزَحَفَتْ إِلَيْهِمْ غَسَّانُ فَانْهَزَمُوا. قُلْتُ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّسَّابُونَ وَأَهْلُ السِّيَرِ فِي مُدَّةِ الْأَيَّامِ وَتَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْمَقْتُولِ فِيهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ يَوْمَ حَلِيمَةَ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْمُنْذِرُ بْنُ مَاءِ السَّمَاءِ، وَيَوْمَ أُبَاغٍ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْمُنْذِرُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْيَوْمَيْنِ وَاحِدًا فَيَقُولُ: لَمْ يُقْتَلْ إِلَّا الْمُنْذِرُ بْنُ مَاءِ السَّمَاءِ. وَأَمَّا ابْنُهُ الْمُنْذِرُ فَمَاتَ بِالْحِيرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَقْتُولَ مِنْ مُلُوكِ الْحِيرَةِ غَيْرُهُمَا، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَقْتُولَ هُوَ الْمُنْذِرُ بْنُ مَاءِ السَّمَاءِ لَا شَكَّ فِيهِ، وَأَمَّا ابْنُهُ فَفِيهِ خِلَافٌ كَثِيرٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ، وَمَنْ أَثْبَتَ قَتْلَهُ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ اخْتِلَافَهُمْ وَالْحَادِثَةُ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ مِنْهَا قَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، فَمَتَى تَرَكْنَا أَحَدَهُمَا ظَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ مَعْرِفَةٌ أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ مِنْهَا حَادِثٌ مُسْتَقِلٌّ. وَقَدْ أَهْمَلْنَاهُ، فَأَتَيْنَا بِهِمَا جَمِيعًا لِذَلِكَ وَنَبَّهْنَا عَلَيْهِ. [ذِكْرُ قَتْلِ مُضَرِّطِ الْحِجَارَةِ] وَهُوَ عَمْرُو بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ مَاءِ السَّمَاءِ اللَّخْمِيُّ صَاحِبُ الْحِيرَةِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ مُضَرِّطَ الْحِجَارَةِ لِشِدَّةِ مُلْكِهِ وَقُوَّةِ سِيَاسَتِهِ، وَأُمُّهُ هِنْدٌ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو الْمَقْصُورِ بْنِ آكِلِ الْمُرَارِ، وَهِيَ عَمَّةُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ حُجْرِ بْنِ الْحَارِثِ. وَكَانَ سَبَبَ قَتْلِهِ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا لِجُلَسَائِهِ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِي يَأْنَفُ أَنْ تَخْدِمَ أُمُّهُ أُمِّي؟ قَالُوا: مَا نَعْرِفُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَمْرَو بْنَ كُلْثُومٍ التَغْلِبِيَّ، فَإِنَّ أُمَّهُ لَيْلَى بِنْتُ مُهَلْهِلِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعَمُّهَا كُلَيْبُ وَائِلٍ، وَزَوْجُهَا كُلْثُومٌ، وَابْنُهَا عَمْرٌو.

يوم الكلاب الأول

فَسَكَتَ مُضَرِّطُ الْحِجَارَةِ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ، وَبَعَثَ إِلَى عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ يَسْتَزِيرُهُ، وَيَأْمُرُ أَنْ تَزُورَ أُمُّهُ لَيْلَى أُمَّ نَفْسِهِ هِنْدًا بِنْتَ الْحَارِثِ. فَقَدِمَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ فِي فُرْسَانٍ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ وَمَعَهُ أُمُّهُ لَيْلَى، فَنَزَلَ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، وَبَلَغَ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ قُدُومُهُ، فَأَمَرَ فَضُرِبَتْ خِيَامُهُ بَيْنَ الْحِيرَةِ وَالْفُرَاتِ، وَأَرْسَلَ إِلَى وُجُوهِ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا ثُمَّ دَعَا النَّاسَ إِلَيْهِ فَقُرِّبَ إِلَيْهِمُ الطَّعَامُ عَلَى بَابِ السُّرَادِقِ، وَجَلَسَ هُوَ وَعَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ وَخَوَاصُّ أَصْحَابِهِ فِي السُّرَادِقِ، وَلِأُمِّهِ هِنْدٍ قُبَّةٌ فِي جَانِبِ السُّرَادِقِ، وَلَيْلَى أُمُّ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ مَعَهَا فِي الْقُبَّةِ، وَقَدْ قَالَ مُضَرِّطُ الْحِجَارَةِ لِأُمِّهِ: إِذَا فَرَغَ النَّاسُ مِنَ الطَّعَامِ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الطُّرَفُ فَنَحِّي خَدَمَكِ عَنْكِ، فَإِذَا دَنَا الطُّرَفُ فَاسْتَخْدِمِي لَيْلَى وَمُرِيهَا فَلْتُنَاوِلْكِ الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ. فَفَعَلَتْ هِنْدٌ مَا أَمَرَهَا بِهِ ابْنُهَا، فَلَمَّا اسْتُدْعِيَ الطُّرَفُ قَالَتْ هِنْدٌ لِلَيْلَى: نَاوِلِينِي هَذَا الطَّبَقَ. فَقَالَتْ: لِتَقُمْ صَاحِبَةُ الْحَاجَةِ إِلَى حَاجَتِهَا. فَأَلَحَّتْ عَلَيْهَا. فَقَالَتْ لَيْلَى: وَاذُلَّاهُ يَا آلَ تَغْلِبَ! فَسَمِعَهَا وَلَدُهَا عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ، فَثَارَ الدَّمُ فِي وَجْهِهِ وَالْقَوْمُ يَشْرَبُونَ، فَعَرَفَ عَمْرُو بْنُ هِنْدٍ الشَّرَّ فِي وَجْهِهِ، وَثَارَ ابْنُ كُلْثُومٍ إِلَى سَيْفِ ابْنِ هِنْدٍ وَهُوَ مُعَلَّقٌ فِي السُّرَادِقِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ سَيْفٌ غَيْرَهُ، فَأَخَذَهُ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ رَأْسَ مُضَرِّطِ الْحِجَارَةِ فَقَتَلَهُ، وَخَرَجَ فَنَادَى: يَا آلَ تَغْلِبَ! فَانْتَهَبُوا مَالَهُ وَخَيْلَهُ وَسَبَوُا النِّسَاءَ وَسَارُوا فَلَحِقُوا بِالْحِيرَةِ، فَقَالَ أَفْنُونُ التَغْلِبِيُّ: لَعَمْرُكَ مَا عَمْرُو بْنُ هِنْدٍ وَقَدْ دَعَا ... لِتَخْدِمَ لَيْلَى أُمَّهُ بِمُوَفَّقِ فَقَامَ ابْنُ كُلْثُومٍ إِلَى السَّيْفِ مُصْلَتًا ... وَأَمْسَكَ مِنْ نُدْمَانِهِ بِالْمُخَنَّقِ [يَوْمُ الْكُلَابِ الْأَوَّلُ]

قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: أَوَّلُ مَنِ اشْتَدَّ مُلْكُهُ مِنْ كِنْدَةَ حُجْرٌ آكِلُ الْمُرَارِ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْكِنْدِيِّ، فَلَمَّا هَلَكَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَمْرٌو مِثْلَ مُلْكِ أَبِيهِ فَسُمِّيَ الْمَقْصُورَ لِأَنَّهُ قَصَرَ عَلَى مُلْكِ أَبِيهِ، فَتَزَوَّجَ عَمْرٌو أُمَّ أُنَاسٍ بِنْتَ عَوْفِ بْنِ مُحَلَّمٍ الشَّيْبَانِيِّ، فَوَلَدَتْ لَهُ الْحَارِثَ، فَمَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: سِتِّينَ سَنَةً، فَخَرَجَ يَتَصَيَّدُ فَرَأَى عَانَةً وَهِيَ حُمُرُ الْوَحْشِ، فَشَدَّ عَلَيْهَا، فَانْفَرَدَ مِنْهَا حِمَارٌ، فَتَتَبَّعَهُ وَأَقْسَمَ أَنْ لَا يَأْكُلَ شَيْئًا قَبْلَ كَبِدِهِ وَهُوَ بِمُسْحُلَانَ، فَطَلَبَتْهُ الْخَيْلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى أَدْرَكَتْهُ، فَأُتِيَ بِهِ وَقَدْ كَادَ يَمُوتُ مِنَ الْجُوعِ، فَشُوِيَ عَلَى النَّارِ وَأُطْعِمَ مِنْ كَبِدِهِ وَهِيَ حَارَّةٌ فَمَاتَ. وَكَانَ الْحَارِثُ فَرَّقَ بَنِيهِ فِي قَبَائِلِ مَعَدٍّ، فَجَعَلَ حُجْرًا فِي بَنِي أَسَدٍ وَكِنَانَةَ وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ، وَجَعَلَ شُرَحْبِيلَ فِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَبَنِي حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ وَبَنِي أُسَيِّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ وَالرِّبَابِ، وَجَعَلَ سَلَمَةَ وَهُوَ أَصْغَرُهُمْ، فِي بَنِي تَغْلِبَ وَالنَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ وَبَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَجَعَلَ ابْنَهُ مَعْدِي كَرِبَ، وَيُعْرَفُ بِغَلْفَاءَ، فِي قَيْسِ عَيْلَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي قَتْلِ حُجْرٍ أَبِي امْرِئِ الْقَيْسِ، وَإِنَّمَا أَعَدْنَاهُ هَاهُنَا لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ. فَلَمَّا هَلَكَ الْحَارِثُ تَشَتَّتَ أَمْرُ أَوْلَادِهِ وَتَفَرَّقَتْ كَلِمَتُهُمْ وَمَشَى بَيْنَهُمُ الرِّجَالُ، وَكَانَتِ الْمُغَاوَرَةُ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ مَعَهُمْ، وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُمْ حَتَّى جَمَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِصَاحِبِهِ الْجُمُوعَ وَزَحَفَ إِلَيْهِ بِالْجُيُوشِ. فَسَارَ شُرَحْبِيلُ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ فَنَزَلَ الْكُلَابَ، وَهُوَ

مَاءٌ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ. وَأَقْبَلَ سَلَمَةُ فِيمَنْ مَعَهُ وَفِي الصَّنَائِعِ أَيْضًا، وَهُمْ قَوْمٌ كَانُوا مَعَ الْمُلُوكِ مِنْ شُذَّاذِ الْعَرَبِ، فَأَقْبَلُوا إِلَى الْكُلَابِ، وَعَلَى تَغْلِبَ السَّفَّاحُ بْنُ خَالِدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَثَبَتَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. فَلَمَّا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ خَذَلَتْ بَنُو حَنْظَلَةَ وَعَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ وَالرِّبَابُ بَكْرَ بْنَ وَائِلٍ وَانْهَزَمُوا، وَثَبَتَتْ بَكْرٌ وَانْصَرَفَتْ بَنُو سَعْدٍ وَمَنْ مَعَهَا عَنْ تَغْلِبَ وَصَبَرَتْ تَغْلِبُ، وَنَادَى مُنَادِي شُرَحْبِيلَ: مَنْ أَتَانِي بِرَأْسِ سَلَمَةَ فَلَهُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَنَادَى مُنَادِي سَلَمَةَ: مَنْ أَتَانِي بِرَأْسِ شُرَحْبِيلَ فَلَهُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ. فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ حِينَئِذٍ كُلٌّ يَطْلُبُ أَنْ يَظْفَرَ لَعَلَّهُ يَصِلُ إِلَى قَتْلِ أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ لِيَأْخُذَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، فَكَانَتِ الْغَلَبَةُ آخِرَ النَّهَارِ لِتَغْلِبَ وَسَلَمَةَ، وَمَضَى شُرَحْبِيلُ مُنْهَزِمًا، فَتَبِعَهُ ذُو السُّنَيْنَةِ التَغْلِبِيُّ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ شُرَحْبِيلُ فَضَرَبَهُ عَلَى رُكْبَتِهِ فَأَطَنَّ رِجْلَهُ. وَكَانَ ذُو السُّنَيْنَةِ أَخَا أَبِي حَنَشٍ لِأُمِّهِ، فَقَالَ لِأَخِيهِ: قَتَلَنِي الرَّجُلُ! وَهَلَكَ ذُو السُّنَيْنَةِ! فَقَالَ أَبُو حَنَشٍ لِشُرَحْبِيلَ: قَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْتُلْكَ! وَحَمَلَ عَلَيْهِ فَأَدْرَكَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا حَنَشٍ اللَّبَنَ اللَّبَنَ! يَعْنِي الدِّيَةَ. فَقَالَ: قَدْ هَرَقْتَ لَبَنًا كَثِيرًا! فَقَالَ: يَا أَبَا حَنَشٍ أَمَلِكًا بِسُوقَةٍ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي مَلِكِي. فَطَعَنَهُ فَأَلْقَاهُ عَنْ فَرَسِهِ، وَنَزَلَ إِلَيْهِ فَأَخَذَ رَأْسَهُ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى سَلَمَةَ مَعَ ابْنِ عَمٍّ لَهُ، فَأَتَاهُ بِهِ وَأَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ سَلَمَةُ: لَوْ كُنْتَ أَلْقَيْتَهُ أَرْفَقَ مِنْ هَذَا! وَعُرِفَتِ النَّدَامَةُ فِي وَجْهِ سَلَمَةَ وَالْجَزَعُ عَلَيْهِ. فَهَرَبَ أَبُو حَنَشٍ مِنْهُ، فَقَالَ سَلَمَةُ: أَلَا أَبْلِغْ أَبَا حَنَشٍ رَسُولًا ... فَمَا لَكَ لَا تَجِيءُ إِلَى الثَّوَابِ لِتَعْلَمَ أَنَّ خَيْرَ النَّاسِ طُرًّا ... قَتِيلٌ بَيْنَ أَحْجَارِ الْكُلَابِ تَدَاعَتْ حَوْلَهُ جُشَمُ بْنُ بَكْرٍ ... وَأَسْلَمَهُ جَعَاسِيسُ الرِّبَابِ فَأَجَابَهُ أَبُو حَنَشٍ فَقَالَ: أُحَاذِرُ أَنْ أَجِيئَكَ ثُمَّ تَحْبُو ... حِبَاءَ أَبِيكَ يَوْمَ صُنَيْبِعَاتِ وَكَانَتْ غَدْرَةٌ شَنْعَاءُ تَهْفُو ... تَقَلَّدَهَا أَبُوكَ إِلَى الْمَمَاتِ

وَكَانَ سَبَبَ صُنَيْبِعَاتٍ أَنَّ ابْنًا لِلْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي تَمِيمٍ وَبَكْرٍ وَلَدَغَتْهُ حَيَّةٌ فَمَاتَ، فَأَخَذَ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ تَمِيمٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ بَكْرٍ فَقَتَلَهُمْ بِهِ. وَلَمَّا قُتِلَ شُرَحْبِيلُ قَامَ بَنُو زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ دُونَ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، فَمَنَعُوهُمْ وَحَالُوا بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهُمْ، حَتَّى أَلْحَقُوهُمْ بِقَوْمِهِمْ وَمَأْمَنِهِمْ، وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ قَتْلِهِ أَخَاهُ مَعْدِي كَرِبَ، وَهُوَ غَلْفَاءُ، قَالَ يَرْثِيهِ: إِنْ جَنْبِي عَنِ الْفِرَاشِ لَنَابِي ... كَتَجَافِي الْأَسَرِّ فَوْقَ الظِّرَابِ مِنْ حَدِيثٍ نَمَى إِلَيَّ فَمَا تَرْ ... قَأُ عَيْنِي وَلَا أُسِيغُ شَرَابِي مُرَّةً كَالذُّعَافِ أَكْتُمُهَا النَّا ... سَ عَلَى حَرِّ مَلَّةٍ كَالشِّهَابِ مِنْ شُرَحْبِيلَ إِذَا تَعَاوَرَهُ الْأَرْ ... مَاحُ مِنْ بَعْدِ لَذَّةٍ وَشَبَابِ يَا ابْنَ أُمِّي وَلَوْ شَهِدْتُكَ إِذْ تَدْ ... عُو تَمِيمًا وَأَنْتَ غَيْرُ مُجَابِ ثَمَّ طَاعَنْتُ مِنْ وَرَائِكَ حَتَّى ... يُبْلَغَ الرَّحْبُ أَوْ تُبَزَّ ثِيَابِي أَحْسَنَتْ وَائِلٌ وَعَادَتُهَا الْإِحْ ... سَانُ بِالْحِنْوِ يَوْمَ ضَرْبِ الرِّقَابِ يَوْمَ فَرَّتْ بَنُو تَمِيمٍ وَوَلَّتْ ... خَيْلُهُمْ يَكْتَسِعْنَ بِالْأَذْنَابِ وَهِيَ طَوِيلَةٌ. ثُمَّ إِنَّ تَغْلِبَ أَخْرَجُوا سَلَمَةَ مِنْ بَيْنِهِمْ فَلَجَأَ إِلَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَانْضَمَّ إِلَيْهِمْ، وَلَحِقَتْ تَغْلِبُ بِالْمُنْذِرِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ اللَّخْمِيِّ. (الْكُلَابُ: بِضَمِّ الْكَافِ. أُسَيِّدُ بْنُ عَمْرٍو: بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِ. وَذُو السُّنَيْنَةِ: بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، تَصْغِيرُ سِنٍّ.

يوم أوارة الأول

وَالرِّبَابُ: بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ الْأُولَى الْمُوَحَّدَةِ. [يَوْمُ أُوَارَةَ الْأَوَّلُ] وَهُوَ يَوْمٌ كَانَ بَيْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَبَيْنَ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ. وَكَانَ سَبَبَهُ أَنَّ تَغْلِبَ لَمَّا أَخْرَجَتْ سَلَمَةَ بْنَ الْحَارِثِ عَنْهَا، الْتَجَأَ إِلَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، فَلَمَّا صَارَ عِنْدَ بَكْرٍ أَذْعَنَتْ لَهُ وَحَشَدَتْ عَلَيْهِ وَقَالُوا: لَا يَمْلِكُنَا غَيْرُكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْمُنْذِرُ يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، فَأَبَوْا ذَلِكَ، فَحَلَفَ الْمُنْذِرُ لَيَسِيرَنَّ إِلَيْهِمْ فَإِنْ ظَفِرَ بِهِمْ فَلَيَذْبَحَنَّهُمْ عَلَى قُلَّةِ جَبَلِ أُوَارَةَ حَتَّى يَبْلُغَ الدَّمُ الْحَضِيضَ. وَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي جُمُوعِهِ، فَالْتَقَوْا بِأُوَارَةَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَأَجْلَتِ الْوَاقِعَةُ عَنْ هَزِيمَةِ بَكْرٍ وَأَسْرِ يَزِيدَ بْنِ شُرَحْبِيلَ الْكِنْدِيِّ، فَأَمَرَ الْمُنْذِرُ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ، وَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَأَسَرَ الْمُنْذِرُ مِنْ بَكْرٍ أَسْرَى كَثِيرَةً فَأَمَرَ بِهِمْ فَذُبِحُوا عَلَى جَبَلِ أُوَارَةَ، فَجَعَلَ الدَّمُ يَجْمُدُ. فَقِيلَ لَهُ: أَبَيْتَ اللَّعْنَ لَوْ ذَبَحْتَ كُلَّ بَكْرِيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَمْ تَبْلُغْ دِمَاؤُهُمُ الْحَضِيضَ! وَلَكِنْ لَوْ صَبَبْتَ عَلَيْهِ الْمَاءَ! فَفَعَلَ فَسَالَ الدَّمُ إِلَى الْحَضِيضِ، وَأَمَرَ النِّسَاءَ أَنْ يُحْرَقْنَ بِالنَّارِ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ مُنْقَطِعًا إِلَى الْمُنْذِرِ، فَكَلَّمَهُ فِي سَبْيِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، فَأَطْلَقَهُنَّ الْمُنْذِرُ، فَقَالَ الْأَعْشَى يَفْتَخِرُ بِشَفَاعَةِ الْقَيْسِيِّ إِلَى الْمُنْذِرِ فِي بَكْرٍ: وَمِنَّا الَّذِي أَعْطَاهُ بِالْجَمْعِ رَبُّهُ ... عَلَى فَاقَةٍ وَلِلْمُلُوكِ هِبَاتُهَا سَبَايَا بَنِي شَيْبَانَ يَوْمَ أُوَارَةَ ... عَلَى النَّارِ إِذْ تُجْلَى لَهُ فَتَيَاتُهَا [يَوْمُ أُوَارَةَ الثَّانِي] كَانَ عَمْرُو بْنُ الْمُنْذِرِ اللَّخْمِيُّ قَدْ تَرَكَ ابْنًا لَهُ اسْمُهُ أَسْعَدُ عِنْدَ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسٍ التَّمِيمِيِّ، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ مَرَّتْ بِهِ نَاقَةٌ سَمِينَةٌ فَعَبَثَ بِهَا فَرَمَى ضَرْعَهَا، فَشَدَّ عَلَيْهِ رَبُّهَا سُوَيْدٌ

أَحَدُ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَارِمٍ التَّمِيمِيُّ فَقَتَلَهُ. وَهَرَبَ فَلَحِقَ بِمَكَّةَ فَحَالَفَ قُرَيْشًا. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْمُنْذِرِ غَزَا قَبْلَ ذَلِكَ وَمَعَهُ زُرَارَةُ فَأَخْفَقَ، فَلَمَّا كَانَ حِيَالَ جَبَلَيْ طَيِّءٍ قَالَ لَهُ زُرَارَةُ: أَيُّ مَلِكٍ إِذَا غَزَا لَمْ يَرْجِعْ وَلَمْ يُصَبْ، فَمِلْ عَلَى طَيِّءٍ فَإِنَّكَ بِحِيَالِهَا، فَمَالَ إِلَيْهِمْ فَأَسَرَ وَقَتَلَ وَغَنِمَ، فَكَانَتْ فِي صُدُورِ طَيِّءٍ عَلَى زُرَارَةَ، فَلَمَّا قَتَلَ سُوَيْدٌ أَسْعَدَ، وَزُرَارَةُ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ عَمْرٍو، قَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ مِلْقَطٍ الطَّائِيُّ يُحَرِّضُ عَمْرًا عَلَى زُرَارَةَ: مَنْ مُبْلِغٌ عَمْرًا بِأَنَّ الْ ... مَرْءَ لَمْ يُخْلَقْ صُبَارَهْ هَا إِنَّ عَجْزَةَ أُمِّهِ ... بِالسَّفْحِ أَسْفَلُ مِنْ أُوَارَهْ فَاقْتُلْ زُرَارَةَ لَا أَرَى ... فِي الْقَوْمِ أَوْفَى مِنْ زُرَارَهْ فَقَالَ عَمْرٌو يَا زُرَارَةُ مَا تَقُولُ؟ قَالَ كُذِبْتَ، قَدْ عَلِمْتَ عَدَاوَتَهُمْ فِيكَ. قَالَ: صَدَقْتَ. فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ سَارَ زُرَارَةُ مُجِدًّا إِلَى قَوْمِهِ وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَرِضَ. فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا حَاجِبُ ضُمَّ إِلَيْكَ غِلْمَتِي فِي بَنِي نَهْشَلٍ. وَقَالَ لِابْنِ أَخِيهِ عَمْرِو بْنِ عَمْرٍو: عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ مِلْقَطٍ فَإِنَّهُ حَرَّضَ عَلَيَّ الْمَلِكَ. فَقَالَ لَهُ: يَا عَمَّاهُ لَقَدْ أَسْنَدْتَ إِلَيَّ أَبْعَدَهُمَا شُقَّةً وَأَشَدَّهُمَا شَوْكَةً. فَلَمَّا مَاتَ زُرَارَةُ تَهَيَّأَ عَمْرُو بْنُ عَمْرٍو فِي جَمْعٍ وَغَزَا طَيِّئًا فَأَصَابَ الطَّرِيفَيْنِ: طَرِيفَ بْنَ مَالِكٍ، وَطَرِيفَ بْنَ عَمْرٍو، وَقَتَلَ الْمَلَاقِطَ، فَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبَدَةَ فِي ذَلِكَ: وَنَحْنُ جَلَبْنَا مِنْ ضَرِيَّةِ خَيْلِنَا ... نُجَنِّبُهَا حَدَّ الْإِكَامِ قِطَاطَا أَصَبْنَا الطَّرِيفَ وَالطَّرِيفَ بْنَ مَالِكٍ ... وَكَانَ شِفَاءَ الْوَاصِبِينَ الْمُلَاقِطَا فَلَمَّا بَلَغَ عَمْرَو بْنَ الْمُنْذِرِ وَفَاةُ زُرَارَةَ غَزَا بَنِي دَارِمٍ، وَقَدْ كَانَ حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ مِنْهُمْ مِائَةً، فَسَارَ يَطْلُبُهُمْ حَتَّى بَلَغَ أُوَارَةَ، وَقَدْ نَذَرُوا بِهِ فَتَفَرَّقُوا. فَأَقَامَ مَكَانَهُ وَبَثَّ سَرَايَاهُ فِيهِمْ،

ذكر قتل زهير بن جذيمة وخالد بن جعفر بن كلاب والحارث بن ظالم المري وذكر يوم الرحرحان

فَأَتَوْهُ بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ رَجُلًا سِوَى مَنْ قَتَلُوهُ فِي غَارَاتِهِمْ فَقَتَلَهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْبَرَاجِمِ شَاعِرٌ لِيَمْدَحَهُ فَأَخَذَهُ لِيَقْتُلَهُ لِيُتِمَّ مِائَةً، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ الشَّقِيَّ وَافِدُ الْبَرَاجِمِ "! فَذَهَبَتْ مَثَلًا. وَقِيلَ: إِنَّهُ نَذَرَ أَنْ يُحْرِقَهُمْ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ مُحْرِقًا، فَأَحْرَقَ مِنْهُمْ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَجُلًا، وَاجْتَازَ رَجُلٌ مِنَ الْبَرَاجِمِ فَشَمَّ قُتَارَ اللَّحْمِ فَظَنَّ أَنَّ الْمَلِكَ يَتَّخِذُ طَعَامًا فَقَصَدَهُ. فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَبَيْتَ اللَّعْنَ أَنَا وَافِدُ الْبَرَاجِمِ. فَقَالَ: إِنَّ الشَّقِيَّ وَافِدُ الْبَرَاجِمِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُذِفَ فِي النَّارِ، فَقَالَ جَرِيرٌ لِلْفَرَزْدَقِ: أَيْنَ الَّذِينَ بِنَارِ عَمْرٍو أُحْرِقُوا ... أَمْ أَيْنَ أَسْعَدُ فِيكُمُ الْمُسْتَرْضِعُ وَصَارَتْ تَمِيمٌ بَعْدَ ذَلِكَ يُعَيَّرُونَ بِحُبِّ الْأَكْلِ لِطَمَعِ الْبُرْجُمِيِّ فِي الْأَكْلِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا مَا مَاتَ مَيِّتٌ مِنْ تَمِيمٍ ... فَسَرَّكَ أَنْ يَعِيشَ فَجِئْ بِزَادِ بِخُبْزٍ أَوْ بِلَحْمٍ أَوْ بِتَمْرٍ ... أَوِ الشَّيْءِ الْمُلَفَّقِ فِي الْبِجَادِ تَرَاهُ يُنَقِّبُ الْبَطْحَاءَ حَوْلًا ... لِيَأْكُلَ رَأْسَ لُقْمَانَ بْنِ عَادِ قِيلَ: دَخَلَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا الشَّيْءُ الْمُلَفَّقُ فِي الْبِجَادِ يَا أَبَا بَحْرٍ؟ قَالَ: السَّخِينَةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالسَّخِينَةُ: طَعَامٌ تُعَيَّرُ بِهِ قُرَيْشٌ كَمَا كَانَتْ تُعَيَّرُ تَمِيمٌ بِالْمُلَفَّقِ فِي الْبِجَادِ. قَالَ: فَلَمْ يُرَ مُتَمَازِحَانِ أَوْقَرَ مِنْهُمَا. [ذِكْرُ قَتْلِ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ وَخَالِدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كُلَابٍ وَالْحَارِثِ بْنِ ظَالِمٍ الْمُرِّيِّ وَذِكْرُ يَوْمِ الرَّحْرَحَانِ]

كَانَ زُهَيْرُ بْنُ جَذِيمَةَ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ قَطِيعَةَ بْنِ عَبْسٍ الْعَبْسِيُّ، وَهُوَ وَالِدُ قَيْسِ بْنِ زُهَيْرٍ صَاحِبِ حَرْبِ دَاحِسَ وَالْغَبْرَاءِ، سَيِّدُ قَيْسِ عَيْلَانَ، فَتَزَوَّجَ إِلَيْهِ مَلِكُ الْحِيرَةِ، وَهُوَ النُّعْمَانُ بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ جَدُّ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ لِشَرَفِهِ وَسُؤْدُدِهِ، فَأَرْسَلَ النُّعْمَانُ إِلَى زُهَيْرٍ يَسْتَزِيرُهُ بَعْضَ أَوْلَادِهِ، فَأَرْسَلَ ابْنَهُ شَأْسًا فَكَانَ أَصْغَرَ وَلَدِهِ، فَأَكْرَمَهُ وَحَبَاهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى أَبِيهِ كَسَاهُ حُلَلًا وَأَعْطَاهُ مَالًا طَيِّبًا. فَخَرَجَ شَأْسٌ يُرِيدُ قَوْمَهُ فَبَلَغَ مَاءً مِنْ مِيَاهِ غَنِيِّ بْنِ أَعْصَرَ فَقَتَلَهُ رَبَاحُ بْنُ الْأَشَلِّ الْغَنَوِيُّ، وَأَخَذَ مَا كَانَ مَعَهُ وَهُوَ يَعْرِفُهُ. وَقِيلَ لِزُهَيْرٍ: إِنَّ شَأْسًا أَقْبَلَ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ وَكَانَ آخِرُ الْعَهْدِ بِهِ بِمَاءٍ مِنْ مِيَاهِ غَنِيٍّ. فَسَارَ زُهَيْرٌ إِلَى دِيَارِ غَنِيٍّ، وَهُمْ حُلَفَاءُ فِي بَنِي عَامِرِ ابْنِ صَعْصَعَةَ، فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ، فَسَأَلَهُمْ عَنِ ابْنِهِ، فَحَلَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا خَبَرَهُ، قَالَ: لَكِنِّي أَعْلَمُهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَامِرٍ: فَمَا الَّذِي يُرْضِيكَ مِنَّا؟ قَالَ: وَاحِدَةٌ مِنْ ثَلَاثٍ: إِمَّا تُحْيُونَ وَلَدِي، وَإِمَّا تُسْلِمُونَ إِلَيَّ غَنِيًّا حَتَّى أَقْتُلَهُمْ بِوَلَدِي، وَإِمَّا الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَا بَقِينَا وَبَقِيتُمْ. فَقَالُوا: مَا جَعَلْتَ لَنَا فِي هَذِهِ مَخْرَجًا، أَمَّا إِحْيَاءُ وَلَدِكَ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، وَأَمَّا تَسْلِيمُ غَنِيٍّ إِلَيْكَ فَهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِمَّا يَمْتَنِعُ مِنْهُ الْأَحْرَارُ، وَأَمَّا الْحَرْبُ بَيْنَنَا فَوَاللَّهِ إِنَّنَا لَنُحِبُّ رِضَاكَ وَنَكْرَهُ سُخْطَكَ، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ الدِّيَةَ، وَإِنْ شِئْتَ تَطْلُبُ قَاتِلَ ابْنِكَ فَنُسَلِّمُهُ إِلَيْكَ، أَوْ تَهَبُ دَمَهُ فَإِنَّهُ لَا يَضِيعُ فِي الْقَرَابَةِ وَالْجِوَارِ. فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ إِلَّا مَا ذَكَرْتُ. فَلَمَّا رَأَى خَالِدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ كُلَابٍ تَعَدِّيَ زُهَيْرٍ عَلَى أَخْوَالِهِ مِنْ غَنِيٍّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا كَالْيَوْمِ تَعَدِّيَ رَجُلٍ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُ زُهَيْرٌ: فَهَلْ لَكَ أَنْ تَكُونَ طِلْبَتِي عِنْدَكَ وَأَتْرُكُ غَنِيًّا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَانْصَرَفَ زُهَيْرٌ وَهُوَ يَقُولُ: فَلَوْلَا كُلَابٌ قَدْ أَخَذْتُ قَرِينَتِي ... بِرَدٍّ غَنِيٍّ أَعْبُدًا وَمَوَالِيَا

وَلَكِنْ حَمَتْهُمْ عُصْبَةٌ عَامِرِيَّةٌ يَهُزُّونَ فِي الْأَرْضِ الْقِصَارَ الْعَوَالِيَا ... مَسَاعِيرُ فِي الْهَيْجَا مَصَالِيتُ فِي الْوَغَى أَخُوهُمْ عَزِيزٌ لَا يَخَافُ الْأَعَادِيَا ... يُقِيمُونَ فِي دَارِ الْحِفَاظِ تَكَرُّمًا إِذَا مَا فَنِيَ الْقَوْمُ أَضْحَتْ خَوَالِيَا ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ امْرَأَةً وَأَمَرَهَا أَنْ تَكْتُمَ نَسَبَهَا وَأَعْطَاهَا لَحْمَ جَزُورٍ سَمِينَةٍ وَسَيَّرَهَا إِلَى غَنِيٍّ لِتَبِيعَ اللَّحْمَ بِطِيبٍ وَتَسْأَلَ عَنْ حَالِ وَلَدِهِ. فَانْطَلَقَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى غَنِيٍّ وَفَعَلَتْ مَا أَمَرَهَا، فَانْتَهَتْ إِلَى امْرَأَةِ رَبَاحِ بْنِ الْأَشَلِّ وَقَالَتْ لَهَا: قَدْ زَوَّجْتُ بِنْتًا لِي وَأَبْغِي الطِّيبَ بِهَذَا اللَّحْمِ، فَأَعْطَتْهَا طِيبًا وَحَدَّثَتْهَا بِقَتْلِ زَوْجِهَا شَأْسًا. فَعَادَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى زُهَيْرٍ وَأَخْبَرَتْهُ، فَجَمَعَ خَيْلَهُ وَجَعَلَ يُغِيرُ عَلَى غَنِيٍّ حَتَّى قَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ بَنِي عَبْسٍ وَبَنِي عَامِرٍ وَعَظُمَ الشَّرُّ. ثُمَّ إِنَّ زُهَيْرًا خَرَجَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَى عُكَاظٍ، فَالْتَقَى هُوَ وَخَالِدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ كُلَابٍ، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: لَقَدْ طَالَ شَرُّنَا مِنْكَ يَا زُهَيْرُ! فَقَالَ زُهَيْرٌ: أَمَا وَاللَّهِ مَا دَامَتْ لِي قُوَّةٌ أُدْرِكُ بِهَا ثَأْرًا فَلَا انْصِرَامَ لَهُ. وَكَانَتْ هَوَازِنُ تُؤْتِي زُهَيْرَ بْنَ جَذِيمَةَ الْإِتَاوَةَ كُلَّ سَنَةٍ بِعُكَاظٍ، وَهُوَ يَسُومُهَا الْخَسْفَ، وَفِي أَنْفُسِهَا مِنْهُ غَيْظٌ وَحِقْدٌ، ثُمَّ عَادَ خَالِدٌ وَزُهَيْرٌ إِلَى قَوْمِهِمَا، فَسَبَقَ خَالِدٌ إِلَى بِلَادِ هَوَازِنَ فَجَمَعَ إِلَيْهِ قَوْمَهُ وَنَدَبَهُمْ إِلَى قِتَالِ زُهَيْرٍ، فَأَجَابُوهُ وَتَأَهَّبُوا لِلْحَرْبِ وَخَرَجُوا يُرِيدُونَ زُهَيْرًا وَهُمْ عَلَى طَرِيقِهِ، وَسَارَ زُهَيْرٌ حَتَّى نَزَلَ عَلَى أَطْرَافِ بِلَادِ هَوَازِنَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ قَيْسٌ: انْجُ بِنَا مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ فَإِنَّا قَرِيبٌ مِنْ عَدُوِّنَا. فَقَالَ لَهُ: يَا عَاجِزٌ وَمَا الَّذِي تُخَوِّفُنِي بِهِ مِنْ هَوَازِنَ وَتَتَّقِي شَرَّهَا؟ فَأَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَا. فَقَالَ ابْنُهُ: دَعْ عَنْكَ اللَّجَاجَ وَأَطِعْنِي وَسِرْ بِنَا، فَإِنِّي خَائِفٌ عَادِيَتَهُمْ. وَكَانَتْ تُمَاضِرُ بِنْتُ الشَّرِيدِ بْنِ رِيَاحِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ عُصَيَّةَ السُّلَمِيَّةُ أُمَّ وَلَدِ زُهَيْرٍ، وَقَدْ أَصَابَ بَعْضُ إِخْوَتِهَا دَمًا فَلَحِقَ بِبَنِي عَامِرٍ، وَكَانَ فِيهِمْ، فَأَرْسَلَهُ خَالِدٌ عَيْنًا لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ زُهَيْرٍ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَاهُمْ فِي مَنْزِلِهِمْ، فَعَلِمَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ حَالَهُ، وَأَرَادَ هُوَ وَأَبُوهُ أَنْ يُوثِقُوهُ وَيَأْخُذُوهُ مَعَهُمْ إِلَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ أَرْضِ هَوَازِنَ، فَمَنَعَتْ أُخْتُهُ، فَأَخَذُوا عَلَيْهِ الْعُهُودَ

أَلَّا يُخْبِرَ بِهِمْ وَأَطْلَقُوهُ، فَسَارَ إِلَى خَالِدٍ وَوَقَفَ إِلَى شَجَرَةٍ يُخْبِرُهَا الْخَبَرَ، فَرَكِبَ خَالِدٌ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى زُهَيْرٍ، وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنْهُمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَالْتَقَى خَالِدٌ وَزُهَيْرٌ فَاقْتَتَلَا طَوِيلًا ثُمَّ تَعَانَقَا فَسَقَطَا عَلَى الْأَرْضِ، وَشَدَّ وَرْقَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ عَلَى خَالِدٍ وَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا لِأَنَّهُ قَدْ ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وَحَمَلَ جُنْدُحُ بْنُ الْبَكَّاءِ، وَهُوَ ابْنُ امْرَأَةِ خَالِدٍ، عَلَى زُهَيْرٍ فَقَتَلَهُ، وَهُوَ وَخَالِدٌ يَعْتَرِكَانِ، فَثَارَ خَالِدٌ عَنْهُ وَعَادَتْ هَوَازِنُ إِلَى مَنَازِلِهَا، وَحَمَلَ بَنُو زُهَيْرٍ أَبَاهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَقَالَ وَرْقَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ فِي ذَلِكَ: رَأَيْتُ زُهَيْرًا تَحْتَ كَلْكَلِ خَالِدٍ ... فَأَقْبَلْتُ أَسْعَى كَالْعَجُولِ أُبَادِرُ إِلَى بَطَلَيْنِ يَعْتِرَانِ كِلَاهُمَا ... يُرِيدُ رِيَاشَ السَّيْفِ وَالسَّيْفُ نَادِرُ فَشُلَّتْ يَمِينِي يَوْمَ أَضْرِبُ خَالِدًا ... وَيَمْنَعُهُ مِنِّي الْحَدِيدُ الْمُظَاهِرُ فَيَا لَيْتَ أَنِّي قَبْلَ أَيَّامِ خَالِدٍ ... وَقَبْلَ زُهَيْرٍ لَمْ تَلِدْنِي تُمَاضِرُ لَعَمْرِي لَقَدْ بُشِّرْتِ بِي إِذْ وَلَدْتِنِي ... فَمَاذَا الَّذِي رَدَّتْ عَلَيْكِ الْبَشَائِرُ؟ فَلَا يَدْعُنِي قَوْمِي صَرِيحًا بِحُرَّةٍ ... لَئِنْ كُنْتُ مَقْتُولًا وَيَسْلَمُ عَامِرُ فَطِرْ خَالِدٌ إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ طَيْرَةً ... وَلَا تَقَعَنْ إِلَّا وَقَلْبُكَ حَاذِرُ أَتَتْكَ الْمَنَايَا إِنْ بَقِيتَ بِضَرْبَةٍ ... تُفَارِقُ مِنْهَا الْعَيْشَ وَالْمَوْتُ حَاضِرُ وَقَالَ خَالِدٌ يَمُنُّ عَلَى هَوَازِنَ بِقَتْلِهِ زُهَيْرًا: أَبْلِغْ هَوَازِنَ كَيْفَ تَكْفُرُ بَعْدَمَا ... أَعْتَقْتُهُمْ فَتَوَالَدُوا أَحْرَارَا وَقَتَلْتُ رَبَّهُمُ زُهَيْرًا بَعْدَمَا ... جَدَعَ الْأُنُوفَ وَأَكْثَرَ الْأَوْتَارَا وَجَعَلْتُ مَهْرَ نِسَائِهِمْ وَدِيَاتِهِمْ ... عَقْلَ الْمُلُوكِ هَجَائِنًا وَبِكَارَا وَكَانَ زُهَيْرٌ سَيِّدَ غَطَفَانَ، فَعَلِمَ خَالِدٌ أَنَّ غَطَفَانَ سَتَطْلُبُهُ بِسَيِّدِهَا، فَسَارَ إِلَى

النُّعْمَانِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بِالْحِيرَةِ فَاسْتَجَارَهُ، فَأَجَارَهُ. فَضَرَبَ لَهُ قُبَّةً، وَجَمَعَ بَنُو زُهَيْرٍ لِهَوَازِنَ، فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمٍ الْمُرِّيُّ: اكْفُونِي حَرْبَ هَوَازِنَ فَأَنَا أَكْفِيكُمْ خَالِدَ بْنَ جَعْفَرٍ. وَسَارَ الْحَارِثُ حَتَّى قَدِمَ عَلَى النُّعْمَانِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ خَالِدٌ، وَهُمَا يَأْكُلَانِ تَمْرًا، فَأَقْبَلَ النُّعْمَانُ يُسَائِلُهُ، فَحَسَدَهُ خَالِدٌ، فَقَالَ لِلنُّعْمَانِ: أَبَيْتَ اللَّعْنَ! هَذَا رَجُلٌ لِي عِنْدَهُ يَدٌ عَظِيمَةٌ، قَتَلْتُ زُهَيْرًا وَهُوَ سَيِّدُ غَطَفَانَ فَصَارَ هُوَ سَيِّدَهَا. فَقَالَ الْحَارِثُ: سَأَجْزِيكَ عَلَى يَدِكَ عِنْدِي، وَجَعَلَ الْحَارِثُ يَتَنَاوَلُ التَّمْرَ لِيَأْكُلَهُ فَيَقَعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ مِنَ الْغَضَبِ، فَقَالَ عُرْوَةُ لِأَخِيهِ خَالِدٍ: مَا أَرَدْتَ بِكَلَامِهِ وَقَدْ عَرَفْتَهُ فَتَّاكًا؟ فَقَالَ خَالِدٌ: وَمَا يُخَوِّفُنِي مِنْهُ؟ فَوَاللَّهِ لَوْ رَآنِي نَائِمًا مَا أَيْقَظَنِي. ثُمَّ خَرَجَ خَالِدٌ وَأَخُوهُ إِلَى قُبَّتِهِمَا فَشَرَجَاهَا عَلَيْهِمَا، وَنَامَ خَالِدٌ وَعُرْوَةُ عِنْدَ رَأْسِهِ يَحْرُسُهُ، فَلَمَّا أَظْلَمَ اللَّيْلُ انْطَلَقَ الْحَارِثُ إِلَى خَالِدٍ فَقَطَعَ شَرَجَ الْقُبَّةِ وَدَخَلَهَا وَقَالَ لِعُرْوَةَ: لَئِنْ تَكَلَّمْتَ قَتَلْتُكَ! ثُمَّ أَيْقَظَ خَالِدًا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَالَ: أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: أَنْتَ الْحَارِثُ. قَالَ: خُذْ جَزَاءَ يَدِكَ عِنْدِي! وَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ الْمَعْلُوبِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْقُبَّةِ وَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَسَارَ. وَخَرَجَ عُرْوَةُ مِنَ الْقُبَّةِ يَسْتَغِيثُ وَأَتَى بَابَ النُّعْمَانِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَبَثَّ الرِّجَالَ فِي طَلَبِ الْحَارِثِ. قَالَ الْحَارِثُ: فَلَمَّا سِرْتُ قَلِيلًا خِفْتُ أَنْ أَكُونَ لَمْ أَقْتُلْهُ فَعُدْتُ مُتَنَكِّرًا وَاخْتَلَطْتُ بِالنَّاسِ وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى تَيَقَّنْتُ أَنَّهُ مَقْتُولٌ وَعُدْتُ فَلَحِقْتُ بِقَوْمِي، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْدَةَ الْكُلَابِيُّ: يَا حَارِ لَوْ نَبَّهْتَهُ لَوَجَدْتَهُ ... لَا طَائِشًا رَعِشًا وَلَا مِعْزَالَا شَقَّتْ عَلَيْهِ الْجَعْفَرِيَّةُ جَيْبَهَا ... جَزَعًا وَمَا تَبْكِي هُنَاكَ ضَلَالَا فَانْعُوا أَبَا بَحْرٍ بِكُلِّ مُجَرَّبٍ ... حَرَّانَ يُحْسَبُ فِي الْقَنَاةِ هِلَالَا

فَلَيُقْتَلَنَّ بِخَالِدٍ سَرَوَاتِكُمْ وَلَيُجْعَلَنَّ لِظَالِمٍ تِمْثَالَا فَأَجَابَهُ الْحَارِثُ: تَاللَّهِ قَدْ نَبَّهْتُهُ فَوَجَدْتُهُ ... رَخْوَ الْيَدَيْنِ مُوَاكِلًا عِسْقَالَا فَعَلَوْتُهُ بِالسَّيْفِ أَضْرِبُ رَأْسَهُ ... حَتَّى أَضَلَّ بِسَلْحِهِ السِّرْبَالَا فَجَعَلَ النُّعْمَانُ يَطْلُبُهُ لِيَقْتُلَهُ بِجَارِهِ، وَهَوَازِنُ تَطْلُبُهُ لِتَقْتُلَهُ بِسَيِّدِهَا خَالِدٍ، فَلَحِقَ بِتَمِيمٍ فَاسْتَجَارَ بِضَمْرَةَ بْنِ ضَمْرَةَ بْنِ جَابِرِ بْنِ قَطَنِ بْنِ نَهْشَلِ بْنِ دَارِمٍ، فَأَجَارَهُ عَلَى النُّعْمَانِ وَهَوَازِنَ، فَلَمَّا عَلِمَ النُّعْمَانُ ذَلِكَ جَهَّزَ جَيْشًا إِلَى بَنِي دَارِمٍ عَلَيْهِمُ ابْنُ الْخِمْسِ التَغْلِبِيُّ، وَكَانَ يَطْلُبُ الْحَارِثَ بِدَمِ أَبِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ قَتَلَهُ. ثُمَّ إِنَّ الْأَحْوَصَ بْنَ جَعْفَرٍ أَخَا خَالِدٍ جَمَعَ بَنِي عَامِرٍ وَسَارَ بِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا هُمْ وَعَسْكَرُ النُّعْمَانِ عَلَى بَنِي دَارِمٍ وَسَارُوا، فَلَمَّا صَارُوا بِأَدْنَى مِيَاهِ بَنِي دَارِمٍ رَأَوُا امْرَأَةً تَجْنِي الْكَمْأَةَ وَمَعَهَا جَمَلٌ لَهَا، فَأَخَذَهَا رَجُلٌ مِنْ غَنِيٍّ وَتَرَكَهَا عِنْدَهُ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ نَامَ فَقَامَتْ إِلَى جَمَلِهَا فَرَكِبَتْهُ، وَسَارَتْ حَتَّى صَبَّحَتْ بَنِي دَارِمٍ، وَقَصَدَتْ سَيِّدَهُمْ زُرَارَةَ بْنَ عُدَسٍ فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ وَقَالَتْ: أَخَذَنِي أَمْسِ قَوْمٌ لَا يُرِيدُونَ غَيْرَكَ وَلَا أَعْرِفُهُمْ. قَالَ: فَصِفِيهِمْ لِي. قَالَتْ: رَأَيْتُ رَجُلًا قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ فَهُوَ يَرْفَعُهُمَا بِخِرْقَةٍ، صَغِيرَ الْعَيْنَيْنِ، وَعَنْ أَمْرِهِ يَصْدُرُونَ. قَالَ: ذَاكَ الْأَحْوَصُ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَوْمِ. قَالَتْ: وَرَأَيْتُ رَجُلًا قَلِيلَ الْمَنْطِقِ إِذَا تَكَلَّمَ اجْتَمَعَ الْقَوْمُ كَمَا تَجْتَمِعُ الْإِبِلُ لِفَحْلِهَا، أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا، وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ يُلَازِمَانِهِ. قَالَ: ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ جَعْفَرٍ وَابْنَاهُ عَامِرٌ وَطُفَيْلٌ. قَالَتْ: وَرَأَيْتُ رَجُلًا جَسِيمًا كَأَنَّ لِحْيَتَهُ مُحَمَّرَةٌ مُعَصْفَرَةٌ. قَالَ: ذَاكَ عَوْفُ بْنُ الْأَحْوَصِ. قَالَتْ: وَرَأَيْتُ رَجُلًا هِلْقَامًا جَسِيمًا. قَالَ: ذَاكَ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ كُلَابٍ. قَالَتْ: وَرَأَيْتُ رَجُلًا أَسْوَدَ أَخْنَسَ قَصِيرًا.

قَالَ: ذَاكَ رَبِيعَةُ بْنُ قُرْطِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ. قَالَتْ: وَرَأَيْتُ رَجُلًا أَقْرَنَ الْحَاجِبَيْنِ، كَثِيرَ شَعْرِ السَّبْلَةِ، يَسِيلُ لُعَابُهُ عَلَى لِحْيَتِهِ إِذَا تَكَلَّمَ. قَالَ: ذَاكَ جُنْدُحُ بْنُ الْبَكَّاءِ. قَالَتْ: وَرَأَيْتُ رَجُلًا صَغِيرَ الْعَيْنَيْنِ، ضَيِّقَ الْجَبْهَةِ، يَقُودُ فَرَسًا لَهُ، مَعَهُ جَفِيرٌ لَا يُفَارِقُ يَدَهُ. قَالَ: ذَاكَ رَبِيعَةُ بْنُ عُقَيْلِ بْنِ كَعْبٍ. قَالَتْ: وَرَأَيْتُ رَجُلًا مَعَهُ ابْنَانِ أَصْهَبَانِ، إِذَا أَقْبَلَا رَمَاهُمَا النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَإِذَا أَدْبَرَا كَانَا كَذَلِكَ. قَالَ: ذَاكَ الصَّعْقُ بْنُ عَمْرِو بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ نُفَيْلٍ وَابْنَاهُ يَزِيدُ وَزُرْعَةُ. قَالَتْ: وَرَأَيْتُ رَجُلًا لَا يَقُولُ كَلِمَةً إِلَّا وَهِيَ أَحَدُّ مِنْ شَفْرَةٍ. قَالَ: ذَاكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْدَةَ بْنِ كَعْبٍ. وَأَمَرَهَا زُرَارَةُ فَدَخَلَتْ بَيْتَهَا، وَأَرْسَلَ زُرَارَةُ إِلَى الرِّعَاءِ يَأْمُرُهُمْ بِإِحْضَارِ الْإِبِلِ، فَفَعَلُوا. وَأَمَرَهُمْ فَحَمَلُوا الْأَهْلَ وَالْأَثْقَالَ وَسَارُوا نَحْوَ بِلَادِ بَغِيضٍ، وَفَرَّقَ الرُّسُلَ فِي بَنِي مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ فَأَتَوْهُ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ وَأَمَرَهُمْ، فَوَجَّهُوا أَثْقَالَهُمْ إِلَى بِلَادِ بَغِيضٍ، فَفَعَلُوا وَبَاتُوا مُعَدِّينَ. وَأَصْبَحَ بَنُو عَامِرٍ وَأَخْبَرَهُمُ الْغَنَوِيُّ حَالَ الظَّعِينَةِ وَهَرَبَهَا فَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَاجْتَمَعُوا يُدِيرُونَ الرَّأْيَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَأَنِّي بِالظَّعِينَةِ قَدْ أَتَتْ قَوْمَهَا فَأَخْبَرَتْهُمُ الْخَبَرَ، فَحَذِرُوا وَأَرْسَلُوا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَى بِلَادِ بَغِيضٍ، وَبَاتُوا مُعَدِّينَ لَكُمْ فِي السِّلَاحِ، فَارْكَبُوا بِنَا فِي طَلَبِ نَعَمِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ حَتَّى نُصِيبَ حَاجَتَنَا وَنَنْصَرِفَ. فَرَكِبُوا يَطْلُبُونَ ظُعْنَ بَنِي دَارِمٍ، فَلَمَّا أَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْ زُرَارَةَ قَالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ تَوَجَّهُوا إِلَى ظُعُنِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ فَسِيرُوا إِلَيْهِمْ. فَسَارُوا مُجِدِّينَ فَلَحِقُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى الظُّعُنِ وَالنَّعَمِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَتَلَتْ بَنُو مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ ابْنِ الْخِمْسِ التَغْلِبِيِّ رَئِيسَ جَيْشِ النُّعْمَانِ، وَأَسَرَتْ بَنُو عَامِرٍ مَعْبَدَ بْنَ زُرَارَةَ، وَصَبَرَ بَنُو دَارِمٍ حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ، وَأَقْبَلَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَانْهَزَمَتْ بَنُو عَامِرٍ وَجَيْشُ النُّعْمَانِ وَعَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَمَعْبَدٌ أَسِيرٌ مَعَ بَنِي عَامِرٍ، فَبَقِيَ مَعَهُمْ حَتَّى مَاتَ. وَفِي تِلْكَ الْأَيَّامِ أَيْضًا مَاتَ زُرَارَةُ بْنُ عُدَسٍ. وَقِيلَ فِي اسْتِجَارَةِ الْحَارِثِ بِبَنِي تَمِيمٍ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ النُّعْمَانَ طَلَبَ شَيْئًا يَغِيظُ بِهِ

الْحَارِثَ بَعْدَ قَتْلِ خَالِدٍ وَهَرَبِهِ، فَقِيلَ لَهُ: كَانَ قَصَدَ الْحِيرَةَ وَنَزَلَ عَلَى عِيَاضِ بْنِ دَيْهَثٍ التَّمِيمِيِّ وَهُوَ صَدِيقٌ لَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ النُّعْمَانُ فَأَخَذَ إِبِلًا لَهُ، فَرَكِبَ الْحَارِثُ وَأَتَى الْحِيرَةَ مُتَخَفِّيًا وَاسْتَنْقَذَ مَالَهُ مِنَ الرِّعَاءِ وَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَطَلَبَ شَيْئًا يَغِيظُ بِهِ النُّعْمَانَ، فَرَأَى ابْنَهُ غَضْبَانَ فَضَرَبَ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، وَبَلَغَ النُّعْمَانَ الْخَبَرُ فَبَعَثَ فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يُدْرَكْ، فَقَالَ الْحَارِثُ فِي ذَلِكَ: أَخُصْيَيْ حِمَارٍ بَاتَ يَكْدُمُ نَجْمَةً ... أَتُؤْكَلُ جَارَاتِي وَجَارُكَ سَالِمُ فَإِنْ تَكُ أَذْوَادًا أَصَبْتَ وَنِسْوَةً ... فَهَذَا ابْنُ سَلْمَى رَأْسُهُ مُتَفَاقِمُ عَلَوْتُ بِذِي الْحَيَّاتِ مَفْرِقَ رَأْسِهِ ... وَلَا يَرْكَبُ الْمَكْرُوهَ إِلَّا الْأَكَارِمُ فَتَكْتُ بِهِ كَمَا فَتَكْتُ بِخَالِدٍ ... وَكَانَ سِلَاحِي تَحْتَوِيهِ الْجَمَاجِمُ بَدَأْتُ بِتِلْكَ وَانْثَنَيْتُ بِهَذِهِ ... وَثَالِثَةٌ تَبْيَضُّ مِنْهَا الْمَقَادِمُ حَسِبْتَ أَبَا قَابُوسَ أَنَّكَ مُخْفِرِي ... وَلَمَّا تَذُقْ ثُكْلًا وَأَنْفُكَ رَاغِمُ

كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ شُرَحْبِيلَ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَكَانَ الْأَسْوَدُ قَدْ تَرَكَ ابْنَهُ شُرَحْبِيلَ عِنْدَ سِنَانِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيِّ تُرْضِعُهُ زَوْجَتُهُ. فَمِنْ هُنَاكَ كَانَ لِسِنَانٍ مَالٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ ابْنُهُ هَرِمٌ يُعْطَى مِنْهُ، فَجَاءَ الْحَارِثُ مُتَخَفِّيًا فَاسْتَعَارَ سَرْجَ سِنَانٍ وَلَا يَعْلَمُ سِنَانٌ، ثُمَّ أَتَى امْرَأَةَ سِنَانٍ فَقَالَ: يَقُولُ بَعْلُكِ ابْعَثِي بِشُرَحْبِيلَ بْنِ الْمَلِكِ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ ظَالِمٍ حَتَّى يَسْتَأْمِنَ بِهِ وَيَتَخَفَّرَ بِهِ، وَهَذَا سَرْجُهُ عَلَامَةٌ. فَزَيَّنَتْهُ وَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ، فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ وَهَرَبَ. فَغَزَا الْأَسْوَدُ بَنِي ذُبْيَانَ وَبَنِي أَسَدٍ بِشَطِّ أَرْبَكَ، فَقَتَلَ فِيهِمْ قَتْلًا ذَرِيعًا وَسَبَى وَاسْتَأْصَلَ الْأَمْوَالَ وَأَقْسَمَ لَيَقْتُلَنَّ الْحَارِثَ، فَسَارَ الْحَارِثُ مُتَخَفِّيًا إِلَى الْحِيرَةِ لِيَفْتِكَ بِالْأَسْوَدِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي مَنْزِلِهِ إِذْ سَمِعَ صَارِخَةً تَقُولُ: أَنَا فِي جِوَارِ الْحَارِثِ بْنِ ظَالِمٍ، وَعَرَفَ حَالَهَا، وَكَانَ الْأَسْوَدُ قَدْ أَخَذَ لَهَا صِرْمَةً مِنَ الْإِبِلِ، فَقَالَ لَهَا: انْطَلِقِي غَدًا إِلَى مَكَانِ كَذَا، وَأَتَاهُ الْحَارِثُ. فَلَمَّا وَرَدَتْ إِبِلُ النُّعْمَانِ أَخَذَ مَالَهَا فَسَلَّمَهُ إِلَيْهَا وَفِيهَا نَاقَةٌ تُسَمَّى اللَّقَاعَ، فَقَالَ الْحَارِثُ فِي ذَلِكَ: إِذَا سَمِعْتِ حَنَّةَ اللَّقَاعِ فَادْعِي ... أَبَا لَيْلَى فَنِعْمَ الدَّاعِي يَمْشِي بِغَضَبٍ صَارِمٍ قَطَّاعِ ... يَفْرِي بِهِ مَجَامِعَ الصُّدَّاعِ ثُمَّ أَقْبَلَ يَطْلُبُ مُجِيرًا، فَلَمْ يُجِرْهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَقَالُوا: يُجِيرُكَ عَلَى هَوَازِنَ وَالنُّعْمَانِ وَقَدْ قَتَلْتَ وَلَدَهُ؟ فَأَتَى زُرَارَةَ بْنَ عُدَسٍ وَضَمْرَةَ بْنَ ضَمْرَةَ فَأَجَارَاهُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ. ثُمَّ إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْإِطْنَابَةِ الْخَزْرَجِيَّ لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ خَالِدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَكَانَ صَدِيقًا لَهُ، قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ وَجَدَهُ يَقْظَانَ مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي لَقِيتُهُ. وَبَلَغَ الْحَارِثَ قَوْلُهُ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُ فِي رَحْلٍ وَلَا أَلْقَاهُ إِلَّا وَمَعَهُ سِلَاحُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الْإِطْنَابَةِ فَقَالَ أَبْيَاتًا، مِنْهَا: أَبْلِغِ الْحَارِثَ بْنَ ظَالِمٍ الْمَوْ ... عِدَ وَالنَّاذِرَ النُّذُورَ عَلَيَّا إِنَّمَا تَقْتُلُ النِّيَامَ وَلَا تَقْ ... تُلُ يَقْظَانَ ذَا سِلَاحٍ كَمِيَّا فَبَلَغَ الْحَارِثَ شِعْرُهُ فَسَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَسَأَلَ عَنْ مَنْزِلِ ابْنِ الْإِطْنَابَةِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ

نَادَى: يَا ابْنَ الْإِطْنَابَةِ أَغِثْنِي! فَأَتَاهُ عَمْرٌو فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ خَرَجْتُ أُرِيدُ بَنِي فُلَانٍ، فَعَرَضَ لِي قَوْمٌ قَرِيبًا مِنْكَ، فَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعِي فَارْكَبْ مَعِي حَتَّى نَسْتَنْقِذَهُ. فَرَكِبَ مَعَهُ وَلَبِسَ سِلَاحَهُ وَمَضَى مَعَهُ، فَلَمَّا أَبْعَدَ عَنْ مَنْزِلِهِ عَطَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: أَنَائِمٌ أَنْتَ أَمْ يَقْظَانُ؟ فَقَالَ: يَقِظَانٌ. فَقَالَ: أَنَا أَبُو لَيْلَى وَسَيْفِيَ الْمَعْلُوبُ، فَأَلْقَى ابْنُ الْإِطْنَابَةِ سَيْفَهُ، وَقِيلَ: رُمْحَهُ، وَقَالَ: قَدْ أَعْجَلْتَنِي فَأَمْهِلْنِي حَتَّى آخُذَ سَيْفِي. فَقَالَ: خُذْهُ. قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَعْجِلَنِي عَنْ أَخْذِهِ. قَالَ: لَكَ ذِمَّةُ ظَالِمٍ لَا أُعْجِلُكَ عَنْ أَخْذِهِ. قَالَ: فَوَذِمَّةِ الْإِطْنَابَةِ لَا آخُذُهُ! فَانْصَرَفَ الْحَارِثُ وَهُوَ يَقُولُ أَبْيَاتًا، مِنْهَا: بَلَغَتْنَا مَقَالَةُ الْمَرْءِ عَمْرٍو ... فَالْتَقَيْنَا وَكَانَ ذَاكَ بَدِيًّا فَهَمَمْنَا بِقَتْلِهِ إِذْ بَرَزْنَا ... وَوَجَدْنَاهُ ذَا سِلَاحٍ كَمِيَّا غَيْرَ مَا نَائِمٍ يُرَوَّعُ بِالْفَتْ ... كِ وَلَكِنْ مُقَلَّدًا مَشْرَفِيَّا فَمَنَنَّا عَلَيْهِ بَعْدَ عُلُوٍّ ... بِوَفَاءٍ وَكُنْتُ قِدْمًا وَفِيَّا ثُمَّ إِنَّ الْحَارِثَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ النُّعْمَانَ قَدْ جَدَّ فِي طَلَبِهِ، وَهَوَازِنَ لَا تَقْعُدُ عَنِ الطَّلَبِ بِثَأْرِ خَالِدٍ، خَرَجَ مُتَنَكِّرًا إِلَى الشَّامِ وَاسْتَجَارَ بِيَزِيدَ بْنِ عَمْرٍو، فَأَكْرَمَهُ وَأَجَارَهُ. وَكَانَ لِيَزِيدَ نَاقَةٌ مُحْمَاةٌ، فِي عُنُقِهَا مُدْيَةٌ وَزِنَادٌ وَمُلَحٌ لِيَمْتَحِنَ بِذَلِكَ رَعِيَّتَهُ، فَوَحِمَتْ زَوْجَةُ الْحَارِثِ وَاشْتَهَتْ شَحْمًا وَلَحْمًا، فَأَخَذَ الْحَارِثُ النَّاقَةَ فَأَدْخَلَهَا شِعْبًا فَذَبَحَهَا، وَحَمَلَ إِلَى امْرَأَتِهِ مِنْ شَحْمِهَا وَلَحْمِهَا وَرَفَعَ مِنْهُ. وَفُقِدَتِ النَّاقَةُ فَطُلِبَتْ فَوُجِدَتْ عَقِيرَةً بِالْوَادِي، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ إِلَى كَاهِنٍ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَذَكَرَ لَهُ أَنَّ الْحَارِثَ نَحَرَهَا، فَأَرْسَلَ امْرَأَةً بِطِيبٍ تَشْتَرِي مِنْ لَحْمِهَا مِنَ امْرَأَةِ الْحَارِثِ، فَأَدْرَكَهَا الْحَارِثُ وَقَدِ اشْتَرَتِ اللَّحْمَ فَقَتَلَهَا وَدَفَنَهَا فِي الْبَيْتِ. فَسَأَلَ الْمَلِكُ الْكَاهِنَ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ: قَتَلَهَا مَنْ نَحَرَ النَّاقَةَ، وَإِذَا كَرِهْتَ أَنْ تُفَتِّشَ بَيْتَهُ فَتَأْمُرُ الرَّجُلَ بِالرَّحِيلِ، فَإِذَا رَحَلَ فَتَّشْتُ بَيْتَهُ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَحَلَ الْحَارِثُ فَتَّشَ الْكَاهِنُ بَيْتَهُ فَوَجَدَ الْمَرْأَةَ، وَأَحَسَّ الْحَارِثُ بِالشَّرِّ فَعَادَ إِلَى الْكَاهِنِ فَقَتَلَهُ، فَأُخِذَ

أيام داحس والغبراء، وهي بين عبس وذبيان

الْحَارِثُ وَأُحْضِرَ عِنْدَ الْمَلِكِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ: إِنَّكَ قَدْ أَجَرْتَنِي فَلَا تَغْدِرْ بِي. فَقَالَ: إِنْ غَدَرْتُ بِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ غَدَرْتَ بِي مِرَارًا. فَقَتَلَهُ. [أَيَّامُ دَاحِسَ وَالْغَبْرَاءِ، وَهِيَ بَيْنَ عَبْسٍ وَذُبْيَانَ] وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ قَيْسَ بْنَ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ الْعَبْسِيَّ سَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُجَهِّزَ لِقِتَالِ عَامِرٍ وَالْأَخْذِ بِثَأْرِ أَبِيهِ، فَأَتَى أُحَيْحَةَ بْنَ الْجُلَاحِ يَشْتَرِي مِنْهُ دِرْعًا مَوْصُوفَةً. فَقَالَ لَهُ: لَا أَبِيعُهَا وَلَوْلَا أَنْ تَذُمَّنِي بَنُو عَامِرٍ لَوَهَبْتُهَا مِنْكَ وَلَكِنِ اشْتَرِهَا بِابْنِ لَبُونٍ. فَفَعَلَ ذَلِكَ وَأَخَذَ الدِّرْعَ، وَتُسَمَّى ذَاتِ الْحَوَاشِي، وَوَهَبَهُ أُحَيْحَةُ أَيْضًا أَدْرَاعًا، وَعَادَ إِلَى قَوْمِهِ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ جِهَازِهِ. فَاجْتَازَ بِالرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ الْعَبْسِيِّ فَدَعَاهُ إِلَى مُسَاعَدَتِهِ عَلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِهِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا أَرَادَ فِرَاقَهُ نَظَرَ الرَّبِيعُ إِلَى عَيْبَتِهِ فَقَالَ: مَا فِي حَقِيبَتِكَ؟ قَالَ: مَتَاعٌ عَجِيبٌ لَوْ أَبْصَرْتَهُ لَرَاعَكَ، وَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَأَخْرَجَ الدِّرْعَ مِنَ الْحَقِيبَةِ، فَأَبْصَرَهَا الرَّبِيعُ فَأَعْجَبَتْهُ وَلَبِسَهَا، فَكَانَتْ فِي طُولِهِ. فَمَنَعَهَا مِنْ قَيْسٍ وَلَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهَا، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَلَجَّ قَيْسٌ فِي طَلَبِهَا، وَلَجَّ الرَّبِيعُ فِي مَنْعِهَا. فَلَمَّا طَالَتِ الْأَيَّامُ عَلَى ذَلِكَ سَيَّرَ قَيْسٌ أَهْلَهُ إِلَى مَكَّةَ وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ غِرَّةَ الرَّبِيعِ. ثُمَّ إِنَّ الرَّبِيعَ سَيَّرَ إِبِلَهُ وَأَمْوَالَهُ إِلَى مَرْعًى كَثِيرِ الْكَلَإِ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ فَظَعَنُوا، وَرَكِبَ فَرَسَهُ وَسَارَ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ قَيْسًا فَسَارَ فِي أَهْلِهِ وَإِخْوَتِهِ، فَعَارَضَ ظَعَائِنَ الرَّبِيعِ، وَأَخَذَ زِمَامَ أُمِّهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْخُرْشُبِ وَزِمَامَ زَوْجَتِهِ. فَقَالَتْ فَاطِمَةُ أُمُّ الرَّبِيعِ: مَا تُرِيدُ يَا قَيْسُ؟ قَالَ: أَذْهَبُ بِكُنَّ إِلَى مَكَّةَ فَأَبِيعُكُنَّ بِهَا بِسَبَبِ دِرْعِي. قَالَتْ: وَهِيَ فِي ضَمَانِي وَخَلِّ عَنَّا، فَفَعَلَ. فَلَمَّا جَاءَتْ إِلَى ابْنِهَا قَالَتْ لَهُ فِي مَعْنَى الدِّرْعِ، فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ الدِّرْعَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى قَيْسٍ أَعْلَمَتْهُ بِمَا قَالَ الرَّبِيعُ، فَأَغَارَ عَلَى نَعَمِ الرَّبِيعِ فَاسْتَاقَ مِنْهَا

أَرْبَعَمِائَةِ بَعِيرٍ وَسَارَ بِهَا إِلَى مَكَّةَ فَبَاعَهَا وَاشْتَرَى بِهَا خَيْلًا، وَتَبِعَهُ الرَّبِيعُ فَلَمْ يَلْحَقْهُ، فَكَانَ فِيمَا اشْتَرَى مِنَ الْخَيْلِ دَاحِسٌ وَالْغَبْرَاءُ. وَقِيلَ: إِنَّ دَاحِسًا كَانَ مِنْ خَيْلِ بَنِي يَرْبُوعٍ، وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ أَخَذَ فَرَسًا لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي ضَبَّةَ يُقَالُ لَهُ أُنَيْفُ بْنُ جَبَلَةَ، وَكَانَ الْفَرَسُ يُسَمَّى السِّبْطَ، وَكَانَتْ أُمُّ دَاحِسٍ لِلْيَرْبُوعِيِّ، فَطَلَبَ الْيَرْبُوعِيُّ مِنَ الضَّبِّيِّ أَنْ يُنْزِيَ فَرَسَهُ عَلَى حِجْرِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ عَمَدَ الْيَرْبُوعِيُّ إِلَى فَرَسِ الضَّبِّيِّ فَأَخَذَهُ فَأَنْزَاهُ عَلَى فَرَسِهِ، فَاسْتَيْقَظَ الضَّبِّيُّ فَلَمْ يُرَ فَرَسُهُ فَنَادَى فِي قَوْمِهِ، فَأَجَابُوهُ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِالْيَرْبُوعِيِّ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، فَغَضِبَ ضَبَّةُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَعْجَلُوا، دُونَكُمْ نُطْفَةُ فَرَسِكُمْ فَخُذُوهَا. فَقَالَ الْقَوْمُ: قَدْ أَنْصَفَ. فَسَطَا عَلَيْهَا رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَدَسَّ يَدَهُ فِي رَحِمِهَا فَأَخَذَ مَا فِيهَا، فَلَمْ تَزِدِ الْفَرَسُ إِلَّا لِقَاحًا فَنَتَجَتْ مُهْرًا فَسُمِّيَ دَاحِسًا بِهَذَا السَّبَبِ. فَكَانَ عِنْدَ الْيَرْبُوعِيِّ ابْنَانِ لَهُ، وَأَغَارَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ عَلَى بَنِي يَرْبُوعٍ فَنَهَبَ وَسَبَى، وَرَأَى الْغُلَامَيْنِ أَحَدَهُمَا عَلَى دَاحِسٍ وَالْآخِرَ عَلَى الْغَبْرَاءِ فَطَلَبَهُمَا فَلَمْ يَلْحَقْهُمَا، فَرَجَعَ وَفِي السَّبْيِ أُمُّ الْغُلَامَيْنِ وَأُخْتَانِ لَهُمَا وَقَدْ وَقَعَ دَاحِسٌ وَالْغَبْرَاءُ فِي قَلْبِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّبِيعِ مَا وَقَعَ. ثُمَّ جَاءَ وَفْدُ بَنِي يَرْبُوعٍ فِي فِدَاءِ الْأَسْرَى وَالسَّبْيِ، فَأَطْلَقَ الْجَمِيعَ إِلَّا أُمَّ الْغُلَامَيْنِ وَأُخْتَيْهِمَا وَقَالَ: إِنْ أَتَانِي الْغُلَامَانِ بِالْمُهْرِ وَالْفَرَسِ الْغَبْرَاءِ وَإِلَّا فَلَا. فَامْتَنَعَ الْغُلَامَانِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ شَيْخٌ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ كَانَ أَسِيرًا عِنْدَ قَيْسٍ، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْغُلَامَيْنِ، وَهِيَ: إِنَّ مُهْرًا فَدَى الرِّبَابَ وَجُمْلًا ... وَسُعَادًا لَخَيْرُ مُهْرِ أُنَاسِ ادْفَعُوا دَاحِسًا بِهِنَّ سِرَاعًا ... إِنَّهَا مِنْ فِعَالِهَا الْأَكْيَاسِ دُونَهَا وَالَّذِي يَحُجُّ لَهُ النَّا ... سُ سَبَايَا يُبَعْنَ بِالْأَفْرَاسِ إِنَّ قَيْسًا يَرَى الْجَوَادَ مِنَ الْخَيْ ... لِ حَيَاةً فِي مُتْلِفِ الْأَنْفَاسِ يَشْتَرِي الطِّرْفَ بِالْجَرَاجِرَةِ الْجِ ... لَّةِ يُعْطِي عَفْوًا بِغَيْرِ مِكَاسِ فَلَمَّا انْتَهَتِ الْأَبْيَاتُ إِلَى بَنِي يَرْبُوعٍ قَادُوا الْفَرَسَيْنِ إِلَى قَيْسٍ وَأَخَذُوا النِّسَاءَ. وَقِيلَ: إِنَّ قَيْسًا أَنْزَى دَاحِسًا عَلَى فَرَسٍ لَهُ فَجَاءَتْ بِمُهْرَةٍ فَسَمَّاهَا الْغَبْرَاءَ. ثُمَّ إِنَّ قَيْسًا أَقَامَ بِمَكَّةَ فَكَانَ أَهْلُهَا يُفَاخِرُونَهُ، وَكَانَ فَخُورًا، فَقَالَ لَهُمْ: نَحُّوا كَعْبَتَكُمْ عَنَّا

وَحَرَمَكُمْ وَهَاتُوا مَا شِئْتُمْ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ: إِذَا لَمْ نُفَاخِرْكَ بِالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَبِالْحَرَمِ الْآمِنِ فَبِمَ نُفَاخِرُكَ؟ فَمَلَّ قَيْسٌ مُفَاخَرَتَهُمْ وَعَزَمَ عَلَى الرِّحْلَةِ عَنْهُمْ، وَسَرَّ ذَلِكَ قُرَيْشًا لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا كَرِهُوا مُفَاخَرَتَهُ، فَقَالَ لِإِخْوَتِهِ: ارْحَلُوا بِنَا مِنْ عِنْدِهِمْ أَوَّلًا وَإِلَّا تَفَاقَمَ الشَّرُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَالْحَقُوا بِبَنِي بَدْرٍ فَإِنَّهُمْ أَكْفَاؤُنَا فِي الْحَسَبِ، وَبَنُو عَمِّنَا فِي النَّسَبِ، وَأَشْرَافُ قَوْمِنَا فِي الْكَرَمِ، وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الرَّبِيعُ أَنْ يَتَنَاوَلَنَا مَعَهُمْ. فَلَحِقَ قَيْسٌ وَإِخْوَتُهُ بِبَنِي بَدْرٍ، وَقَالَ فِي مَسِيرِهِ إِلَيْهِمْ: أَسِيرُ إِلَى بَنِي بَدْرٍ بِأَمْرٍ ... هُمُ فِيهِ عَلَيْنَا بِالْخِيَارِ فَإِنْ قَبِلُوا الْجِوَارَ فَخَيْرُ قَوْمٍ ... وَإِنْ كَرِهُوا الْجِوَارَ فَغَيْرُ عَارِ أَتَيْنَا الْحَارِثَ الْخَيْرَ بْنَ كَعْبٍ ... بِنَجْرَانَ وَأَيُّ لَجًا بِجَارِ فَجَاوَرْنَا الَّذِينَ إِذَا أَتَاهُمْ ... غَرِيبٌ حَلَّ فِي سَعَةِ الْقَرَارِ فَيَأْمَنُ فِيهِمُ وَيَكُونُ مِنْهُمْ ... بِمَنْزِلَةِ الشِّعَارِ مِنَ الدِّثَارِ وَإِنْ نُفْرَدْ بِحَرْبِ بَنِي أَبِينَا ... بِلَا جَارٍ فَإِنَّ اللَّهَ جَارِي ثُمَّ نَزَلَ بِبَنِي بَدْرٍ فَنَزَلَ بِحُذَيْفَةَ، فَأَجَارَهُ هُوَ وَأَخُوهُ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ، وَأَقَامَ فِيهِمْ، وَكَانَ مَعَهُ أَفْرَاسٌ لَهُ وَلِإِخْوَتِهِ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَرَبِ مِثْلُهَا، وَكَانَ حُذَيْفَةُ يَغْدُو وَيَرُوحُ إِلَى قَيْسٍ فَيَنْظُرُ إِلَى خَيْلِهِ فَيَحْسُدُهُ عَلَيْهَا وَيَكْتُمُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، وَأَقَامَ قَيْسٌ فِيهِمْ زَمَانًا يُكْرِمُونَهُ وَإِخْوَتَهُ، فَغَضِبَ الرَّبِيعُ وَنَقِمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ: أَلَا أَبْلِغْ بَنِي بَدْرٍ رَسُولًا ... عَلَى مَا كَانَ مِنْ شَنَإٍ وَوَتْرِ بِأَنِّي لَمْ أَزَلْ لَكُمُ صَدِيقًا ... أُدَافِعُ عَنْ فَزَارَةَ كُلَّ أَمْرِ أُسَالِمُ سِلْمَكُمْ وَأَرُدُّ عَنْكُمْ ... فَوَارِسَ أَهْلِ نَجْرَانَ وَحَجْرِ وَكَانَ أَبِي ابْنُ عَمِّكُمُ زِيَادٌ ... صَفِيَّ أَبِيكُمُ بَدْرِ بْنِ عَمْرِو فَأَلْجَأْتُمُ أَخَا الْغَدَرَاتِ قَيْسًا ... فَقَدْ أَفْعَمْتُمُ إِيغَارَ صَدْرِي فَحَسْبِي مِنْ حُذَيْفَةَ ضَمُّ قَيْسٍ ... وَكَانَ الْبَدْءُ مِنْ حَمَلِ بْنِ بَدْرِ فَإِمَّا تَرْجِعُوا أَرْجِعْ إِلَيْكُمْ ... وَإِنْ تَأْبَوْا فَقَدْ أَوْسَعْتُ عُذْرِي فَلَمْ يَتَغَيَّرُوا عَنْ جِوَارِ قَيْسٍ. فَغَضِبَ الرَّبِيعُ وَغَضِبَتْ عَبْسٌ لِغَضَبِهِ، ثُمَّ إِنَّ حُذَيْفَةَ كَرِهَ قَيْسًا وَأَرَادَ إِخْرَاجَهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يَجِدْ حُجَّةً، وَعَزَمَ قَيْسٌ عَلَى الْعُمْرَةِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي قَدْ عَزَمْتُ عَلَى الْعُمْرَةِ فَإِيَّاكُمْ أَنْ تُلَابِسُوا حُذَيْفَةَ بِشَيْءٍ، وَاحْتَمِلُوا عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُ حَتَّى أَرْجِعَ، فَإِنِّي قَدْ عَرَفْتُ الشَّرَّ فِي وَجْهِهِ، وَلَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى حَاجَتِهِ مِنْكُمْ إِلَّا أَنْ تُرَاهِنُوهُ عَلَى الْخَيْلِ. وَكَانَ ذَا رَأْيٍ لَا يُخْطِئُ فِي مَا يُرِيدُهُ، وَسَارَ إِلَى مَكَّةَ. ثُمَّ إِنَّ فَتًى مِنْ عَبْسٍ يُقَالُ لَهُ وَرْدُ بْنُ مَالِكٍ أَتَى حُذَيْفَةَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ وَرْدٌ: لَوِ

اتَّخَذْتَ مِنْ خَيْلِ قَيْسٍ فَحْلًا يَكُونُ أَصْلًا لِخَيْلِكَ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: خَيْلِي خَيْرٌ مِنْ خَيْلِ قَيْسٍ، وَلَجَا فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ تَرَاهَنَا عَلَى فَرَسَيْنِ مِنْ خَيْلِ قَيْسٍ وَفَرَسَيْنِ مِنْ خَيْلِ حُذَيْفَةَ، وَالرَّهْنُ عَشْرَةُ أَذْوَادٍ. وَسَارَ وَرْدٌ فَقَدِمَ عَلَى قَيْسٍ بِمَكَّةَ فَأَعْلَمَهُ الْحَالَ، فَقَالَ لَهُ: أَرَاكَ قَدْ أَوْقَعْتَنِي فِي بَنِي بَدْرٍ وَوَقَعْتَ مَعِي، وَحُذَيْفَةُ ظَلُومٌ لَا تَطِيبُ نَفْسُهُ بِحَقٍّ، وَنَحْنُ لَا نُقِرُّ لَهُ بِضَيْمٍ. وَرَجَعَ قَيْسٌ مِنَ الْعُمْرَةِ، فَجَمَعَ قَوْمَهُ وَرَكِبَ إِلَى حُذَيْفَةَ وَسَأَلَهُ أَنْ يَفُكَّ الرَّهْنَ، فَلَمْ يَفْعَلْ. فَسَأَلَهُ جَمَاعَةُ فَزَارَةَ وَعَبْسٍ فَلَمْ يُجِبْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنْ أَقَرَّ قَيْسٌ أَنَّ السَّبْقَ لِي وَإِلَّا فَلَا، فَقَالَ أَبُو جَعْدَةَ الْفَزَارِيُّ: آلَ بَدْرٍ دَعُوا الرِّهَانَ فَإِنَّا ... قَدْ مَلِلْنَا اللَّجَاجَ عِنْدَ الرِّهَانِ وَدَعُوا الْمَرْءَ فِي فَزَارَةَ جَارًا ... إِنَّ مَا غَابَ عَنْكُمُ كَالْعِيَانِ لَيْتَ شِعْرِي عَنْ هَاشِمٍ وَحُصَيْنٍ ... وَابْنِ عَوْفٍ وَحَارِثٍ وَسِنَانِ حِينَ يَأْتِيهِمُ لَجَاجُكَ قَيْسًا ... رَأْيَ صَاحٍ أَتَيْتَ أَمْ نَشْوَانِ وَسَأَلَ حُذَيْفَةُ إِخْوَتَهُ وَسَادَاتِ أَصْحَابِهِ فِي تَرْكِ الرِّهَانِ وَلَجَّ فِيهِ، وَقَالَ قَيْسٌ: عَلَامَ تُرَاهِنُنِي؟ قَالَ: عَلَى فَرَسَيْكَ دَاحِسٍ وَالْغَبْرَاءِ وَفَرَسِي الْخَطَّارِ وَالْحَنْفَاءِ، وَقِيلَ: كَانَ الرَّهْنُ عَلَى فَرَسَيْ دَاحِسٍ وَالْغَبْرَاءِ. قَالَ قَيْسٌ: دَاحِسٌ أَسْرَعُ. وَقَالَ حُذَيْفَةُ: الْغَبْرَاءُ أَسْرَعُ، وَقَالَ لِقَيْسٍ: أُرِيدُ أَنْ أُعَلِّمَكَ أَنَّ بَصَرِي بِالْخَيْلِ أَثْقَبُ مِنْ بَصَرِكَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. فَقَالَ لَهُ قَيْسٌ: نَفِّسْ فِي الْغَايَةِ وَارْفَعْ فِي السَّبْقِ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: الْغَايَةُ مِنْ أُبْلَى إِلَى ذَاتِ الْإِصَادِ، وَهُوَ قَدْرُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ غَلْوَةً، وَالسَّبْقُ مِائَةُ بَعِيرٍ، وَضَمَّرُوا الْخَيْلَ. فَلَمَّا فَرَغُوا قَادُوا الْخَيْلَ إِلَى الْغَايَةِ وَحَشَدُوا وَلَبِسُوا السِّلَاحَ، وَتَرَكُوا السَّبْقَ عَلَى يَدِ عِقَالِ ابْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ الْقَيْسِيِّ، وَأَعَدُّوا الْأُمَنَاءَ عَلَى إِرْسَالِ الْخَيْلِ. وَأَقَامَ حُذَيْفَةُ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ فِي الطَّرِيقِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْقَى دَاحِسًا فِي وَادِي ذَاتِ

الْإِصَادِ إِنْ مَرَّ بِهِ سَابِقًا فَيَرْمِي بِهِ إِلَى أَسْفَلِ الْوَادِي. فَلَمَّا أُرْسِلَتِ الْخَيْلُ سَبَقَهَا دَاحِسٌ سَبْقًا بَيِّنًا، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَقَيْسٌ وَحُذَيْفَةُ عَلَى رَأْسِ الْغَايَةِ فِي جَمِيعِ قَوْمِهِمَا. فَلَمَّا هَبَطَ دَاحِسٌ فِي الْوَادِي عَارَضَهُ الْأَسَدِيُّ فَلَطَمَ وَجْهَهُ فَأَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ، فَكَادَ يَغْرَقُ هُوَ وَرَاكِبُهُ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَّا وَقَدْ فَاتَتْهُ الْخَيْلُ. وَأَمَّا رَاكِبُ الْغَبْرَاءِ فَإِنَّهُ خَالَفَ طَرِيقَ دَاحِسٍ لَمَّا رَآهُ قَدْ أَبْطَأَ وَعَادَ إِلَى الطَّرِيقِ وَاجْتَمَعَ مَعَ فَرَسَيْ حُذَيْفَةَ، ثُمَّ سَقَطَتِ الْحَنْفَاءُ وَبَقِيَ الْغَبْرَاءُ وَالْخَطَّارُ، فَكَانَا إِذَا أَحْزَنَا سَبَقَ الْخَطَّارُ وَإِذَا أَسْهَلَا سَبَقَتِ الْغَبْرَاءُ. فَلَمَّا قَرُبَا مِنَ النَّاسِ وَهُمَا فِي وَعْثٍ مِنَ الْأَرْضِ تَقَدَّمَ الْخَطَّارُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَبَقَكَ يَا قَيْسُ. " فَقَالَ رُوَيْدَكَ يَعْلُونَ الْجُدُدَ "، فَذَهَبَتْ مَثَلًا. فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِمَا الْأَرْضُ قَالَ حُذَيْفَةُ: خَدَعَ وَاللَّهِ صَاحِبُنَا. فَقَالَ قَيْسٌ: " تَرَكَ الْخِدَاعَ مَنْ أَجْرَى مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ "، فَذَهَبَتْ مَثَلًا. ثُمَّ إِنَّ الْغَبْرَاءَ جَاءَتْ سَابِقَةً وَتَبِعَهَا الْخَطَّارُ فَرَسُ حُذَيْفَةَ، ثُمَّ الْحَنْفَاءُ لَهُ أَيْضًا، ثُمَّ جَاءَ دَاحِسٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْغُلَامُ يَسِيرُ بِهِ عَلَى رِسْلِهِ، فَأَخْبَرَ الْغُلَامُ قَيْسًا بِمَا صُنِعَ بِفَرَسِهِ، فَأَنْكَرَ حُذَيْفَةُ ذَلِكَ وَادَّعَى السَّبْقَ ظَالِمًا، وَقَالَ: جَاءَ فَرَسَايَ مُتَتَابِعَيْنِ، وَمَضَى قَيْسٌ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ حَبَسُوا دَاحِسًا وَاخْتَلَفُوا. وَبَلَغَ الرَّبِيعَ بْنَ زِيَادٍ خَبَرُهُمْ فَسَّرَهُ ذَلِكَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَلَكَ وَاللَّهِ قَيْسٌ، وَكَأَنِّي بِهِ إِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ حُذَيْفَةُ وَقَدْ أَتَاكُمْ يَطْلُبُ مِنْكُمُ الْجِوَارَ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلَ مَا لَنَا مِنْ ضَمِّهِ مِنْ بُدٍّ. ثُمَّ إِنَّ الْأَسَدِيَّ نَدِمَ عَلَى حَبْسِ دَاحِسٍ فَجَاءَ إِلَى قَيْسٍ وَاعْتَرَفَ بِمَا صَنَعَ فَسَبَّهُ حُذَيْفَةُ. ثُمَّ إِنَّ بَنِي بَدْرٍ قَصَرُوا بِقَيْسٍ وَإِخْوَتِهِ وَآذُوهُمْ بِالْكَلَامِ، فَعَاتَبَهُمْ قَيْسٌ، فَلَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا بَغْيًا عَلَيْهِ وَإِيذَاءً لَهُ. ثُمَّ إِنَّ قَيْسًا وَحُذَيْفَةَ تَنَاكَرَا فِي السَّبْقِ حَتَّى هَمَّا بِالْمُؤَاخَذَةِ، فَمَنَعَهُمَا النَّاسُ، وَظَهَرَ لَهُمْ بَغْيُ حُذَيْفَةَ وَظُلْمُهُ، وَلَجَّ فِي طَلَبِ السَّبْقِ، فَأَرْسَلَ ابْنَهُ نُدْبَةَ إِلَى قَيْسٍ يُطَالِبُهُ بِهِ، فَلَمَّا أَبْلَغَهُ الرِّسَالَةَ طَعَنَهُ فَقَتَلَهُ، وَعَادَتْ فَرَسُهُ إِلَى أَبِيهِ، وَنَادَى قَيْسٌ: يَا بَنِي عَبْسٍ الرَّحِيلَ! فَرَحَلُوا كُلُّهُمْ، وَلَمَّا أَتَتِ الْفَرَسُ حُذَيْفَةَ عَلِمَ أَنَّ وَلَدَهُ قُتِلَ، فَصَاحَ فِي النَّاسِ وَرَكِبَ فِي مَنْ مَعَهُ وَأَتَى مَنَازِلَ بَنِي عَبْسٍ فَرَآهَا خَالِيَةً وَرَأَى ابْنَهُ قَتِيلًا، فَنَزَلَ إِلَيْهِ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَدَفَنُوهُ. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ زُهَيْرٍ أَخُو قَيْسٍ مُتَزَوِّجًا فِي فَزَارَةَ وَهُوَ نَازِلٌ فِيهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قَيْسٌ:

أَنِّي قَدْ قَتَلْتُ نُدْبَةَ بْنَ حُذَيْفَةَ وَرَحَلْتُ فَالْحَقْ بِنَا وَإِلَّا قُتِلْتَ. فَقَالَ: إِنَّمَا ذَنْبُ قَيْسٍ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرْحَلْ فَأَرْسَلَ قَيْسٌ إِلَى الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ يَطْلُبُ مِنْهُ الْعَوْدَ إِلَيْهِ وَالْمُقَامَ مَعَهُ إِذْ هُمْ عَشِيرَةٌ وَأَهْلٌ، فَلَمْ يُجِبْهُ وَلَمْ يَمْنَعْهُ، وَكَانَ مُفَكِّرًا فِي ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ بَنِي بَدْرٍ قَتَلُوا مَالِكَ بْنَ زُهَيْرٍ أَخَا قَيْسٍ، وَكَانَ نَازِلًا فِيهِمْ، فَبَلَغَ مَقْتَلُهُ بَنِي عَبْسٍ وَالرَّبِيعَ بْنَ زِيَادٍ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَأَرْسَلَ الرَّبِيعُ إِلَى قَيْسٍ عَيْنًا يَأْتِيهِ بِخَبَرِهِ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ: أَيَنْجُوا بَنُو بَدْرٍ بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ... وَيَخْذُلُنَا فِي النَّائِبَاتِ رَبِيعُ وَكَانَ زِيَادٌ قَبْلَهُ يُتَّقَى بِهِ ... مِنَ الدَّهْرِ إِنْ يَوْمٌ أَلَمَّ فَظِيعُ فَقُلْ لِرَبِيعٍ يَحْتَذِي فِعْلَ شَيْخِهِ ... وَمَا النَّاسُ إِلَّا حَافِظٌ وَمُضِيعُ وَإِلَّا فَمَا لِي فِي الْبِلَادِ إِقَامَةٌ ... وَأَمْرُ بَنِي بَدْرٍ عَلَيَّ جَمِيعُ فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّبِيعِ فَأَخْبَرَهُ، فَبَكَى الرَّبِيعُ عَلَى مَالِكٍ وَقَالَ: مَنَعَ الرُّقَادَ فَمَا أُغَمِّضُ سَاعَةً ... جَزَعًا مِنَ الْخَبَرِ الْعَظِيمِ السَّارِي أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ ... يَرْجُو النِّسَاءُ عَوَاقِبَ الْأَطْهَارِ مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ ... وَيَقُمْنَ قَبْلَ تَبَلُّجِ الْأَسْحَارِ يَضْرِبْنَ حُرَّ وُجُوهِهِنَّ عَلَى فَتًى ... ضَخْمِ الدَّسِيعَةِ غَيْرِ مَا خَوَّارِ قَدْ كُنَّ يُكْنِنَّ الْوُجُوهَ تَسَتُّرًا ... فَالْيَوْمَ حِينَ بَرَزْنَ لِلنُّظَّارِ وَهِيَ طَوِيلَةٌ.

فَسَمِعَهَا قَيْسٌ فَرَكِبَ هُوَ وَأَهْلُهُ وَقَصَدُوا الرَّبِيعَ بْنَ زِيَادٍ وَهُوَ يُصْلِحُ سِلَاحَهُ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ قَيْسٌ وَقَامَ الرَّبِيعُ فَاعْتَنَقَا وَبَكَيَا، وَأَظْهَرَا الْجَزَعَ لِمُصَابِ مَالِكٍ، وَلَقِيَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَنَزَلُوا. فَقَالَ قَيْسٌ لِلرَّبِيعِ: إِنَّهُ لَمْ يَهْرُبْ مِنْكَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْكَ، وَلَمْ يَسْتَغْنِ عَنْكَ مَنِ اسْتَعَانَ بِكَ، وَقَدْ كَانَ لَكَ شَرُّ يَوْمَيَّ فَلْيَكُنْ لِي خَيْرُ يَوْمَيْكَ، وَإِنَّمَا أَنَا بِقَوْمِي وَقَوْمِي بِكَ، وَقَدْ أَصَابَ الْقَوْمُ مَالِكًا، وَلَسْتُ أَهِمُّ بِسُوءٍ لِأَنِّي إِنْ حَارَبْتُ بَنِي بَدْرٍ نَصَرَتْهُمْ بَنُو ذُبْيَانَ، وَإِنْ حَارَبَتْنِي خَذَلَنِي بَنُو عَبْسٍ إِلَّا أَنَّ تَجَمُّعَهُمْ عَلَيَّ، وَأَنَا وَالْقَوْمُ فِي الدِّمَاءِ سَوَاءٌ، قَتَلْتُ ابْنَهُمْ وَقَتَلُوا أَخِي، فَإِنْ نَصَرْتَنِي طَمِعْتُ فِيهِمْ، وَإِنْ خَذَلْتَنِي طَمِعُوا فِيَّ. فَقَالَ الرَّبِيعُ: يَا قَيْسُ إِنَّهُ لَا يَنْفَعُنِي أَنْ أَرَى لَكَ مِنَ الْفَضْلِ مَا لَا أَرَاهُ لِي، وَلَا يَنْفَعُكَ أَنْ تَرَى لِي مَا لَا أَرَاهُ لَكَ، وَقَدْ مَالَ عَلَيَّ مَالِكٌ وَأَنْتَ ظَالِمٌ وَمَظْلُومٌ، ظَلَمُوكَ فِي جَوَادِكَ وَظَلَمْتَهُمْ فِي دِمَائِهِمْ، وَقَتَلُوا أَخَاكَ بِابْنِهِمْ، فَإِنْ يَبُؤِ الدَّمُ بِالدَّمِ فَعَسَى أَنْ تَلْقَحَ الْحَرْبُ أُقِمْ مَعَكَ، وَأَحَبُّ الْأَمْرَيْنِ إِلَيَّ مُسَالَمَتُهُمْ وَنَخْلُو بِحَرْبِ هَوَازِنَ. وَبَعَثَ قَيْسٌ إِلَى أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَجَاءُوا وَنَزَلُوا مَعَ الرَّبِيعِ، وَأَنْشَدَهُمْ عَنْتَرَةُ بْنُ شَدَّادٍ مَرْثِيَّتَهُ فِي مَالِكٍ: فَلِلَّهِ عَيْنًا مَنْ رَأَى مِثْلَ مَالِكٍ ... عَقِيرَةَ قَوْمٍ أَنْ جَرَى فَرَسَانِ فَلَيْتَهُمَا لَمْ يَطْعَمَا الدَّهْرَ بَعْدَهَا ... وَلَيْتَهُمَا لَمْ يُجْمَعَا لِرِهَانِ وَلَيْتَهُمَا مَاتَا جَمِيعًا بِبَلْدَةٍ ... وَأَخْطَاهُمَا قَيْسٌ فَلَا يُرَيَانِ لَقَدْ جَلَبَا جَلْبًا لِمَصْرَعِ مَالِكٍ ... وَكَانَ كَرِيمًا مَاجِدًا لِهِجَانِ وَكَانَ إِذَا مَا كَانَ يَوْمُ كَرِيهَةٍ ... فَقَدْ عَلِمُوا أَنِّي وَهُوَ فَتَيَانِ وَكُنَّا لَدَى الْهَيْجَاءِ نَحْمِي نِسَاءَنَا ... وَنَضْرِبُ عِنْدَ الْكَرْبِ كُلَّ بَنَانِ فَسَوْفَ تَرَى إِنْ كُنْتُ بَعْدَكَ بَاقِيًا ... وَأَمْكَنَنِي دَهْرِي وَطُولُ زَمَانِي فَأُقْسِمُ حَقًّا لَوْ بَقِيتَ لِنَظْرَةٍ ... لَقَرَّتْ بِهَا عَيْنَاكَ حِينَ تَرَانِي

وَبَلَغَ حُذَيْفَةَ أَنَّ الرَّبِيعَ وَقَيْسًا اتَّفَقَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَاسْتَعَدَّ لِلْبَلَاءِ، وَقِيلَ: إِنَّ بِلَادَ عَبْسٍ كَانَتْ قَدْ أَجْدَبَتْ فَانْتَجَعَ أَهْلُهَا بِلَادَ فَزَارَةَ، وَأَخَذَ الرَّبِيعُ جِوَارًا مِنْ حُذَيْفَةَ وَأَقَامَ عِنْدَهُمْ. فَلَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ مَالِكٍ قَالَ لِحُذَيْفَةَ: لِي ذِمَّتِي ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: ذَلِكَ لَكَ. فَانْتَقَلَ الرَّبِيعُ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ حَمَلَ بْنَ بَدْرٍ فَقَالَ لِحُذَيْفَةَ أَخِيهِ: بِئْسَ الرَّأْيُ رَأَيْتَ قَتَلْتَ مَالِكًا وَخَلَّيْتَ سَبِيلَ الرَّبِيعِ! وَاللَّهِ لَيُضْرِمُنَّهَا عَلَيْكَ نَارًا! فَرَكِبَا فِي طَلَبِ الرَّبِيعِ، فَفَاتَهُمَا، فَعَلِمَا أَنَّهُ قَدْ أَضْمَرَ الشَّرَّ. وَاتَّفَقَ الرَّبِيعُ وَقَيْسٌ، وَجَمَعَ حُذَيْفَةُ قَوْمَهُ وَتَعَاقَدُوا عَلَى عَبْسٍ، وَجَمَعَ الرَّبِيعُ وَقَيْسٌ قَوْمَهُمَا وَاسْتَعَدُّوا لِلْحَرْبِ، فَأَغَارَتْ فَزَارَةُ عَلَى بَنِي عَبْسٍ فَأَصَابُوا نَعَمًا وَرِجَالًا، فَحَمِيَتْ عَبْسٌ وَاجْتَمَعَتْ لِلْغَارَةِ، فَنُذِرَتْ بِهِمْ فَزَارَةُ. فَخَرَجُوا إِلَيْهِمْ فَالْتَقَوْا عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ الْعَذْقُ، وَهِيَ أَوَّلُ وَقْعَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَقُتِلَ عَوْفُ بْنُ يَزِيدَ، قَتَلَهُ جُنْدُبُ بْنُ خَلَفٍ الْعَبْسِيُّ. وَانْهَزَمَتْ فَزَارَةُ وَقُتِّلُوا قَتْلًا ذَرِيعًا، وَأَسَرَ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ حُذَيْفَةَ بْنَ بَدْرٍ، وَكَانَ حُرُّ بْنُ الْحَارِثِ الْعَبْسِيُّ قَدْ نَذَرَ إِنْ قَدَرَ عَلَى حُذَيْفَةَ أَنْ يَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ، وَلَهُ سَيْفٌ قَاطِعٌ يُسَمَّى الْأَصْرَمَ، فَأَرَادَ ضَرْبَهُ بِالسَّيْفِ لَمَّا أُسِرَ وَفَاءً بِنَذْرِهِ، فَأَرْسَلَ الرَّبِيعُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَغَيَّبَتْ سَيْفَهُ وَنَهَوْهُ عَنْ قَتْلِهِ وَحَذَّرُوهُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ، فَأَبَى إِلَّا ضَرْبَهُ، فَوَضَعُوا عَلَيْهِ الرِّجَالَ، فَضَرَبَهُ، فَلَمْ يَصْنَعِ السَّيْفُ شَيْئًا وَبَقِيَ حُذَيْفَةُ أَسِيرًا. فَاجْتَمَعَتْ غَطَفَانُ وَسَعَوْا فِي الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُهْدِرُوا دَمَ بَدْرِ بْنِ حُذَيْفَةَ بِدَمِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَيَعْقِلُوا عَوْفَ بْنَ بَدْرٍ، وَيُعْطُوا حُذَيْفَةَ عَنْ ضَرْبَتِهِ الَّتِي ضَرَبَهُ حُرٌّ مِائَتَيْنِ مِنَ الْإِبِلِ، وَأَنْ يَجْعَلُوهَا عُشَارًا كُلَّهَا، وَأَرْبَعَةَ أَعْبُدٍ، وَأَهْدَرَ حُذَيْفَةُ دِمَاءَ مَنْ قُتِلَ مِنْ فَزَارَةَ فِي الْوَقْعَةِ وَأُطْلِقَ مِنَ الْأَسْرِ. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ وَسَاءَتْ مَقَالَتُهُ فِي بَنِي عَبْسٍ، وَرَكِبَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ وَعُمَارَةُ بْنُ زِيَادٍ فَمَضَيَا إِلَى حُذَيْفَةَ وَتَحَدَّثَا مَعَهُ. فَأَجَابَهُمَا إِلَى الِاتِّفَاقِ وَأَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمَا الْإِبِلَ الَّتِي أَخَذَ مِنْهُمَا، وَكَانَتْ تَوَالَدَتْ عِنْدَهُ. فَبَيْنَا هُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ جَاءَهُمْ سِنَانُ بْنُ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيُّ فَقَبَّحَ رَأْيَ حُذَيْفَةَ فِي الصُّلْحِ وَقَالَ: إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا

فَأَعْطِهِمْ إِبِلًا عِجَافًا مَكَانَ إِبِلِهِمْ وَاحْبِسْ أَوْلَادَهَا. فَوَافَقَ ذَلِكَ رَأْيَ حُذَيْفَةَ، فَأَبَى قَيْسٌ وَعِمَارَةُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِبِلَ الَّتِي طَلَبُوهَا مِنْهُ هِيَ إِبِلٌ كَانَ قَدْ أَخَذَهَا سَبْقًا مِنْ قَيْسٍ. وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّ مَالِكَ بْنَ زُهَيْرٍ قُتِلَ بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ الْمَذْكُورَةِ، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ بَدْرٍ فِي ذَلِكَ: قَتَلْنَا بِعَوْفٍ مَالِكًا وَهْوَ ثَأْرُنَا ... وَمَنْ يَبْتَدِعْ شَيْئًا سِوَى الْحَقِّ يَظْلِمِ وَجَعَلَ سِنَانٌ يَحُثُّ حُذَيْفَةَ عَلَى الْحَرْبِ، فَتَيَسَّرُوا لَهَا. ثُمَّ إِنَّ الْأَنْصَارَ بَلَغَهُمْ مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، فَاتَّفَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، وَهُمْ عَمْرُو بْنُ الْإِطْنَابَةِ، وَمَالِكُ بْنُ عَجْلَانَ، وَأُحَيْحَةُ بْنُ الْجُلَاحِ، وَقَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ، وَغَيْرُهُمْ، وَسَارُوا لِيُصْلِحُوا بَيْنَهُمْ، فَوَصَلُوا إِلَيْهِمْ وَتَرَدَّدُوا فِي الِاتِّفَاقِ، فَلَمْ يُجِبْ حُذَيْفَةُ إِلَى ذَلِكَ وَظَهَرَ لَهُمْ بَغْيُهُ، فَحَذَّرُوهُ عَاقِبَتَهُ وَعَادُوا عَنْهُ. وَأَغَارَ حُذَيْفَةُ عَلَى عَبْسٍ، وَأَغَارَتْ عَبْسٌ عَلَى فَزَارَةَ، وَتَفَاقَمَ الشَّرُّ، وَأَرْسَلَ حُذَيْفَةُ أَخَاهُ حَمَلًا فَأَغَارَ وَأَسَرَ رَيَّانَ بْنَ الْأَسْلَعِ بْنِ سُفْيَانَ وَشَدَّهُ وَثَاقًا وَحَمَلَهُ إِلَى حُذَيْفَةَ فَأَطْلَقَهُ لِيَرْهَنَهُ ابْنَيْهِ وَجُبَيْرَ بْنَ أَخِيهِ عَمْرِو بْنِ الْأَسْلَعِ، فَفَعَلَ رَيَّانُ ذَلِكَ، ثُمَّ سَارَ قَيْسٌ إِلَى فَزَارَةَ فَلَقِيَ مِنْهُمْ جَمْعًا فِيهِمْ مَالِكُ بْنُ بَدْرٍ، فَقَتَلَهُ وَانْهَزَمَتْ فَزَارَةُ، فَأَخَذَ حِينَئِذٍ حُذَيْفَةُ وَلَدَيْ رَيَّانَ فَقَتَلَهُمَا وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ: يَا أَبَتَاهُ! حَتَّى مَاتَا، وَأَمَّا ابْنُ أَخِيهِ فَمَنَعَهُ أَخْوَالُهُ. وَلَمَّا قُتِلَ مَالِكٌ وَالْغُلَامَانِ اشْتَدَّتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَأَكْثَرُهَا فِي فَزَارَةَ وَمَنْ مَعَهَا. فَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ الْتَقَوْا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَدَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، وَأَبْصَرَ رَيَّانُ بْنُ الْأَسْلَعِ زَيْدَ بْنَ حُذَيْفَةَ فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، وَانْهَزَمَتْ فَزَارَةُ وَذُبْيَانُ، وَأُدْرِكَ الْحَارِثُ بْنُ بَدْرٍ فَقُتِلَ، وَرَجَعَتْ عَبْسٌ سَالِمَةً لَمْ يُصَبْ مِنْهَا أَحَدٌ. فَلَمَّا قُتِلَ زَيْدٌ وَالْحَارِثُ جَمَعَ حُذَيْفَةُ جَمِيعَ بَنِي ذُبْيَانَ وَبَعَثَ إِلَى أَشْجَعَ وَأَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ فَجَمَعَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ بَنِي عَبْسٍ فَضَمُّوا أَطْرَافَهُمْ، وَأَشَارَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ بِالسَّبْقِ إِلَى مَاءِ الْعَقِيقَةِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَسَارَ حُذَيْفَةُ فِي جُمُوعِهِ إِلَى عَبْسٍ، وَمَشَى السُّفَرَاءُ بَيْنَهُمْ، فَحَلَفَ حُذَيْفَةُ: أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ حَتَّى يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ الْعَقِيقَةِ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قَيْسٌ مِنْهُ فِي سِقَاءٍ وَقَالَ: لَا أَتْرُكُ حُذَيْفَةَ

يَخْدَعُنِي. وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ تُعْطِيَ بَنُو عَبْسٍ حُذَيْفَةَ دِيَاتِ مَنْ قُتِلَ لَهُ، وَوَضَعُوا الرَّهَائِنَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ يَجْمَعُوا الدِّيَاتِ، وَهِيَ عَشْرٌ، وَكَانَتِ الرَّهَائِنُ ابْنًا لِقَيْسِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَابْنًا لِلرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ، فَوَضَعُوا أَحَدَهُمَا عِنْدَ قُطْبَةَ بْنِ سِنَانٍ وَالْآخَرَ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ أَعْمَى. فَعَيَّرَ بَعْضُ النَّاسِ حُذَيْفَةَ بِقَبُولِ الدِّيَةِ، فَحَضَرَ هُوَ وَأَخُوهُ حَمَلٌ عِنْدَ قُطْبَةَ بْنِ سِنَانٍ وَالْبِكْرِيِّ وَقَالَا: ادْفَعَا إِلَيْنَا الْغُلَامَيْنِ لِنَكْسُوَهُمَا وَنُسَرِّحَهُمَا إِلَى أَهْلِهِمَا. فَأَمَّا قُطْبَةُ فَدَفَعَ إِلَيْهِمَا الْغُلَامَ الَّذِي عِنْدَهُ، وَهُوَ ابْنُ قَيْسٍ، وَأَمَّا الْبَكْرِيُّ فَامْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِ مَنْ عِنْدَهُ، فَلَمَّا أَخَذَا ابْنَ قَيْسٍ عَادَا فَلَقِيَا فِي الطَّرِيقِ ابْنًا لِعُمَارَةَ بْنِ زِيَادٍ الْعَبْسِيِّ وَابْنَ عَمٍّ لَهُ، فَأَخَذَاهُمَا وَقَتَلَاهُمَا مَعَ ابْنِ قَيْسٍ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ بَنِي عَبْسٍ أَخَذُوا مَا كَانُوا جَمَعُوا مِنَ الدِّيَاتِ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِ الرِّجَالَ وَاشْتَرَوُا السِّلَاحَ. ثُمَّ خَرَجَ قَيْسٌ فِي الْجَمَاعَةِ فَلَقُوا ابْنًا لِحُذَيْفَةَ وَمَعَهُ فَوَارِسُ مِنْ ذُبْيَانَ فَقَتَلُوهُمْ. فَجَمَعَ حُذَيْفَةُ وَسَارَ إِلَى عَبْسٍ، وَهُوَ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ عَرَاعِرُ، فَاقْتَتَلُوا، فَكَانَ الظَّفَرُ لِفَزَارَةَ وَرَجَعَتْ سَالِمَةً. وَجَدَّ حُذَيْفَةُ فِي الْحَرْبِ وَكَرِهَهَا أَخُوهُ حَمَلٌ وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ، وَقَالَ لِأَخِيهِ فِي الصُّلْحِ فَلَمْ يُجِبْ إِلَى ذَلِكَ، وَجَمَعَ الْجُمُوعَ مِنْ أَسَدٍ وَذُبْيَانَ وَسَائِرِ بُطُونِ غَطَفَانَ وَسَارَ نَحْوَ بَنِي عَبْسٍ، فَاجْتَمَعَتْ عَبْسٌ وَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ: إِنَّهُ قَدْ جَاءَكُمْ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ وَلَيْسَ لِبَنِي بَدْرٍ إِلَّا دِمَاؤُكُمْ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْكُمْ، وَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ فَلَا يُرِيدُونَ غَيْرَ الْأَمْوَالِ وَالْغَنِيمَةِ، وَالرَّأْيُ أَنَّنَا نَتْرُكُ الْأَمْوَالَ بِمَكَانِهَا وَنَتْرُكُ مَعَهَا فَارِسَيْنِ عَلَى دَاحِسٍ وَعَلَى فَرَسٍ آخَرَ جَوَادٍ وَنَرْحَلُ نَحْنُ وَنَكُونُ عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنَ الْمَالِ، فَإِذَا جَاءَ الْقَوْمُ إِلَى الْأَمْوَالِ سَارَ إِلَيْنَا الْفَارِسَانِ فَأَعْلَمَانَا وُصُولَهُمْ، فَإِنَّ الْقَوْمَ يَشْتَغِلُونَ بِالنَّهْبِ وَحِيَازَةِ الْأَمْوَالِ، وَإِنْ نَهَاهُمْ ذَوُو الرَّأْيِ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْعَامَّةَ تُخَالِفُهُمْ وَتَنْتَقِضُ تَعْبِيَتُهُمْ، وَيَشْتَغِلُ كُلُّ إِنْسَانٍ بِحِفْظِ مَا غَنِمَ وَيُعَلِّقُونَ أَسْلِحَتَهُمْ عَلَى ظُهُورِ الْإِبِلِ وَيَأْمَنُونَ. فَنَعُودُ نَحْنُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ وُصُولِ الْفَارِسَيْنِ فَنُدْرِكُهُمْ وَهُمْ عَلَى حَالِ تَفَرُّقٍ وَتَشَتُّتٍ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمْ هِمَّةٌ إِلَّا نَفْسَهُ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَجَاءَ حُذَيْفَةُ وَمَنْ مَعَهُ فَاشْتَغَلُوا بِالنَّهْبِ، فَنَهَاهُمْ حُذَيْفَةُ وَغَيْرُهُ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، وَكَانُوا عَلَى الْحَالِ الَّذِي وَصَفَ قَيْسٌ. وَعَادَتْ بَنُو عَبْسٍ وَقَدْ تَفَرَّقَتْ أَسَدٌ وَغَيْرُهُمْ، وَبَقِيَ بَنُو فَزَارَةَ فِي آخِرِ النَّاسِ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ مِنْ جَوَانِبِهِمْ فَقُتِلَ مَالِكُ بْنُ

سَبِيعٍ التَّغْلِبِيُّ سَيِّدُ غَطَفَانَ، وَانْهَزَمَتْ فَزَارَةُ وَحُذَيْفَةُ مَعَهُمْ وَانْفَرَدَ فِي خَمْسَةِ فَوَارِسَ وَجَدَّ فِي الْهَرَبِ. وَبَلَغَ خَبَرُهُ بَنِي عَبْسٍ، فَتَبِعَهُ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ، وَالرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ، وَقِرْوَاشُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْأَسْلَعِ، وَرَيَّانُ بْنُ الْأَسْلَعِ الَّذِي قَتَلَ حُذَيْفَةُ ابْنَيْهِ، وَتَبِعُوا أَثَرَهُمْ فِي اللَّيْلِ وَقَالَ قَيْسٌ: كَأَنِّي بِالْقَوْمِ وَقَدْ وَرَدُوا جَفْرَ الْهَبَاءَةِ وَنَزَلُوا فِيهِ، فَسَارُوا لَيْلَتَهُمْ كُلَّهَا حَتَّى أَدْرَكُوهُمْ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي جَفْرِ الْهَبَاءَةِ فِي الْمَاءِ، وَقَدْ أَرْسَلُوا خُيُولَهُمْ فَأَخَذُوا بِجَمْعِهَا، فَحَالَ قَيْسٌ وَأَصْحَابُهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا، وَكَانَ مَعَ حُذَيْفَةَ فِي الْجَفْرِ أَخُوهُ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ وَابْنُهُ حِصْنُ بْنُ حُذَيْفَةَ وَغَيْرُهُمْ. فَهَجَمَ عَلَيْهِمْ قَيْسٌ وَالرَّبِيعُ وَمَنْ مَعَهُمَا وَهُمْ يُنَادُونَ: لَبَّيْكُمُ لَبَّيْكُمُ! يَعْنِي أَنَّهُمْ يُجِيبُونَ نِدَاءَ الصَّبِيَّانِ لَمَّا قُتِلُوا يُنَادُونَ: يَا أَبَتَاهُ! فَقَالَ لَهُمْ قَيْسٌ: يَا بَنِي بَكْرٍ كَيْفَ رَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الْبَغْيِ؟ فَنَاشَدُوهُمُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ. وَدَارَ قِرْوَاشُ بْنُ عَمْرٍو حَتَّى وَقَفَ خَلْفَ حُذَيْفَةَ فَضَرَبَهُ فَدَقَّ صُلْبَهُ، وَكَانَ قِرْوَاشُ قَدْ رَبَّاهُ حُذَيْفَةُ حَتَّى كَبِرَ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ، وَقَتَلُوا حَمَلًا أَخَاهُ وَقَطَعُوا رَأْسَيْهِمَا وَاسْتَبْقُوا حِصْنَ بْنَ حُذَيْفَةَ لِصِبَاهُ. وَكَانَ عَدَدُ مَنْ قُتِلَ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ مِنْ فَزَارَةَ وَأَسَدٍ وَغَطَفَانَ مَا يَزِيدُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ قَتِيلٍ، وَقُتِلَ مِنْ عَبْسٍ مَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ قَتِيلًا، وَكَانَتْ فَزَارَةُ تُسَمِّي هَذِهِ الْوَقْعَةَ الْبَوَارَ، وَقَالَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ: أَقَامَ عَلَى الْهَبَاءَةِ خَيْرُ مَيْتٍ ... وَأَكْرَمُهُ حُذَيْفَةُ لَا يَرِيمُ لَقَدْ فُجِعَتْ بِهِ قَيْسٌ جَمِيعًا ... مَوَالِي الْقَوْمِ وَالْقَوْمُ الصَّمِيمُ وَعُمَّ بِهِ لِمَقْتَلِهِ بَعِيدٌ ... وَخَصَّ بِهِ لِمَقْتَلِهِ حَمِيمُ وَهِيَ طَوِيلَةٌ، وَقَالَ أَيْضًا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَمْسَى ... عَلَى جَفْرِ الْهَبَاءَةِ لَا يَرِيمُ فَلَوْلَا ظُلْمُهُ مَا زِلْتُ أَبْكِي ... عَلَيْهِ الدَّهْرَ مَا طَلَعَ النُّجُومُ وَلَكِنَّ الْفَتَى حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ ... بَغَى وَالْبَغْيُ مَرْتَعُهُ وَخِيمُ

وَأَكْثَرُوا الْقَوْلَ فِي يَوْمِ الْهَبَاءَةِ. ثُمَّ إِنَّ عَبْسًا نَدِمَتْ عَلَى مَا فَعَلَتْ يَوْمَ الْهَبَاءَةِ، وَلَامَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَاجْتَمَعَتْ فَزَارَةُ إِلَى سِنَانِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيِّ وَشَكَوْا إِلَيْهِ مَا نَزَلْ بِهِمْ، فَأَعْظَمَهُ وَذَمَّ عَبْسًا، وَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ الْعَرَبَ وَيَأْخُذَ بِثَأْرِ بَنِي بَدْرٍ وَفَزَارَةَ وَبَثَّ رُسُلَهُ. فَاجْتَمَعَ مِنَ الْعَرَبِ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصُونَ، وَنَهَى أَصْحَابَهُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْأَمْوَالِ وَالْغَنِيمَةِ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ، وَسَارُوا إِلَى بَنِي عَبْسٍ. فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَسِيرُهُمْ إِلَيْهِمْ قَالَ قَيْسٌ: الرَّأْيُ أَنَّنَا لَا نَلْقَاهُمْ، فَإِنَّنَا قَدْ وَتَرْنَاهُمْ فَهُمْ يُطَالِبُونَنَا بِالذُّحُولِ وَالطَّوَائِلِ، وَقَدْ رَأَوْا مَا نَالَهُمْ بِالْأَمْسِ بِاشْتِغَالِهِمْ بِالنَّهْبِ وَالْمَالِ فَهُمْ لَا يَتَعَرَّضُونَ إِلَيْهِ الْآنَ، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ نَفْعَلُهُ أَنَّنَا نُرْسِلُ الظَّعَائِنَ وَالْأَمْوَالَ إِلَى بَنِي عَامِرٍ، فَإِنَّ الدَّمَ لَنَا قَبْلَهُمْ فَهُمْ لَا يَتَعَرَّضُونَ لَكُمْ، وَيَبْقَى أُولُو الْقُوَّةِ وَالْجَلَدِ عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ وَنُمَاطِلُهُمُ الْقِتَالَ، فَإِنْ أَبَوْا إِلَّا الْقِتَالَ كُنَّا قَدْ أَحْرَزْنَا أَهْلِينَا وَأَمْوَالَنَا وَقَاتَلْنَاهُمْ وَصَبَرْنَا لَهُمْ، فَإِنْ ظَفِرْنَا فَهُوَ الَّذِي نُرِيدُ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى كُنَّا قَدِ احْتَرَزْنَا وَلَحِقْنَا بِأَمْوَالِنَا وَنَحْنُ عَلَى حَامِيَةٍ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَسَارَتْ ذُبْيَانُ وَمَنْ مَعَهَا فَلَحِقُوا بَنِي عَبْسٍ عَلَى ذَاتِ الْجُرَاجِرِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ وَافْتَرَقُوا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ عَادُوا إِلَى اللِّقَاءِ فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ مِنَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَظَهَرَتْ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ شَجَاعَةُ عَنْتَرَةَ بْنِ شَدَّادٍ. فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ شِدَّةَ الْقِتَالِ وَكَثْرَةَ الْقَتْلَى لَامُوا سِنَانَ بْنَ أَبِي حَارِثَةَ عَلَى مَنْعِهِ حُذَيْفَةَ عَنِ الصُّلْحِ، وَتَطَيَّرُوا مِنْهُ وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِحَقْنِ الدِّمَاءِ وَمُرَاجَعَةِ السِّلْمِ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَأَرَادَ مُرَاجَعَةَ الْحَرْبِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. فَلَمَّا رَأَى فُتُورَ أَصْحَابِهِ وَرُكُونَهُمْ إِلَى السِّلْمِ رَحَلَ عَائِدًا. فَلَمَّا عَادَ عَنْهُمْ رَحَلَ قَيْسٌ وَبَنُو عَبْسٍ إِلَى بَنِي شَيْبَانَ بْنِ بَكْرٍ وَجَاوَرُوهُمْ وَبَقَوْا مَعَهُمْ مُدَّةً، فَرَأَى قَيْسٌ مِنْ غِلْمَانِ شَيْبَانَ مَا يَكْرَهُهُ مِنَ التَّعَرُّضِ لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ فَرَحَلَا عَنْهُمْ، فَتَبِعَهُمْ جَمْعٌ مِنْ شَيْبَانَ، فَلَقِيَتْهُمْ بَنُو عَبْسٍ وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَتْ شَيْبَانُ وَسَارَتْ عَبْسٌ إِلَى هَجَرَ لِيُحَالِفُوا مَلِكَهُمْ، وَهُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِنْدِيُّ، فَعَزَمَ مُعَاوِيَةُ عَلَى الْغَارَةِ عَلَيْهِمْ لَيْلًا، فَبَلَغَهُمُ الْخَبَرُ فَسَارُوا عَنْهُ مُجِدِّينَ، وَسَارَ مُعَاوِيَةُ مُجِدًّا فِي أَثَرِهِمْ، فَتَاهَ بِهِمُ الدَّلِيلُ عَلَى عَمْدٍ لِئَلَّا يُدْرِكُوا عَبْسًا إِلَّا وَهُمْ قَدْ لَحِقَهُمْ وَدَوَابَّهُمُ النَّصَبُ، فَأَدْرَكُوهُمْ بِالْفُرُوقِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا

فَانْهَزَمَ مُعَاوِيَةُ وَأَهْلُ هَجَرَ، وَتَبِعَتْهُمْ عَبْسٌ فَأَخَذَتْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَا أَرَادُوا، وَرَجَعُوا سَائِرِينَ فَنَزَلُوا بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ عَرَاعِرُ عَلَيْهِ حَيٌّ مِنْ كَلْبٍ، فَرَكِبُوا لِيُقَاتِلُوا بَنِي عَبْسٍ، فَبَرَزَ الرَّبِيعُ وَطَلَبَ رَئِيسَهُمْ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ، وَاسْمُهُ مَسْعُودُ بْنُ مَصَادٍ. فَاقْتَتَلَا حَتَّى سَقَطَا إِلَى الْأَرْضِ، وَأَرَادَ مَسْعُودٌ قَتْلَ الرَّبِيعِ، فَانْحَسَرَتِ الْبَيْضَةُ عَنْ رَقَبَتِهِ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْسٍ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، فَثَارَ بِهِ الرَّبِيعُ فَقَطَعَ رَأْسَهُ، وَحَمَلَتْ عَبْسٌ عَلَى كَلْبٍ وَالرَّأْسُ عَلَى رُمْحٍ، فَانْهَزَمَتْ كَلْبٌ وَغَنِمَتْ عَبْسٌ أَمْوَالَهُمْ وَذَرَارِيَهُمْ، فَسَارُوا إِلَى الْيَمَامَةِ فَحَالَفُوا أَهْلَهَا مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ وَأَقَامُوا ثَلَاثَ سِنِينَ، فَلَمْ يُحْسِنُوا جِوَارَهُمْ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ فَسَارُوا عَنْهُمْ، وَقَدْ تَفَرَّقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَقُتِلَ مِنْهُمْ وَهَلَكَتْ دَوَابُّهُمْ وَوَتَرَهُمُ الْعَرَبُ، فَرَاسَلَتْهُمْ بَنُو ضَبَّةَ وَعَرَضُوا عَلَيْهِمُ الْمُقَامَ عِنْدَهُمْ لِيَسْتَعِينُوا بِهِمْ عَلَى حَرْبِ تَمِيمٍ، فَفَعَلُوا وَجَاوَرُوهُمْ. فَلَمَّا انْقَضَى الْأَمْرُ بَيْنَ ضَبَّةَ وَتَمِيمٍ تَغَيَّرَتْ ضَبَّةُ لَعَبْسٍ وَأَرَادُوا اقْتِطَاعَهُمْ، فَحَارَبَتْهُمْ عَبْسٌ فَظَفِرَتْ وَغَنِمَتْ مِنْ أَمْوَالِ ضَبَّةَ، وَسَارَتْ إِلَى بَنِي عَامِرٍ وَحَالَفُوا الْأَحْوَصَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ، فَسُرَّ بِهِمْ لِيَقْوَى بِهِمْ عَلَى حَرْبِ بَنِي تَمِيمٍ لِأَنَّهُ كَانَ بَلَغَهُ أَنَّ لَقِيطَ بْنَ زُرَارَةَ يُرِيدُ غَزْوَ بَنِي عَامِرٍ وَالْأَخْذَ بِثَأْرِ أَخِيهِ مَعْبَدٍ، فَأَقَامَتْ عَبْسٌ عِنْدَ بَنِي عَامِرٍ، فَقَصَدَتْهُمْ تَمِيمٌ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ شِعْبِ جَبَلَةَ، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ إِنَّ ذُبْيَانَ غَزَوْا بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَفِيهِمْ بَنُو عَبْسٍ فَاقْتَتَلُوا، فَهُزِمَتْ عَامِرٌ وَأُسِرَ قِرْوَاشُ بْنُ هُنِيٍّ الْعَبْسِيُّ وَلَمْ يُعْرَفْ، فَلَمَّا قَدِمُوا بِهِ الْحَيَّ عَرَفَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ، فَلَمَّا عَرَفُوهُ سَلَّمُوهُ إِلَى حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَقَتَلَهُ. ثُمَّ رَحَلَتْ عَبْسٌ عَنْ عَامِرٍ وَنَزَلَتْ بِتَيْمِ الرِّبَابِ، فَبَغَتْ تَيْمٌ عَلَيْهِمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَتَكَاثَرَتْ عَلَيْهِمْ تَيْمٌ فَقَتَلُوا مَنْ عَبْسٍ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً. وَرَحَلَتْ عَبْسٌ وَقَدْ مَلَّتِ الْحَرْبَ وَقَلَّتِ الرِّجَالُ وَالْأَمْوَالُ وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي، فَقَالَ لَهُمْ قَيْسٌ: مَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: نَرْجِعُ إِلَى أَخْوَالِنَا مِنْ ذُبْيَانَ فَالْمَوْتُ مَعَهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْبَقَاءِ مَعَ غَيْرِهِمْ. فَسَارُوا حَتَّى قَدِمُوا عَلَى الْحَارِثِ بْنِ عَوْفِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيِّ، وَقِيلَ: عَلَى هَرِمِ بْنِ سِنَانِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ لَيْلًا، وَكَانَ عِنْدَ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ. فَلَمَّا عَادَ وَرَآهُمْ رَحَّبَ بِهِمْ وَقَالَ: مَنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: إِخْوَانُكَ بَنُو عَبْسٍ، وَذَكَرُوا حَاجَتَهُمْ. فَقَالَ: نَعَمْ وَكَرَامَةٌ أُعْلِمُ حِصْنَ بْنَ حُذَيْفَةَ. فَعَادَ إِلَيْهِ وَقَالَ: طُرِقْتَ فِي حَاجَةٍ، قَالَ: أَعْطَيْتُهَا. قَالَ: بَنُو

يوم شعب جبلة

عَبْسٍ وَجَدْتُ وُفُودَهُمْ فِي مَنْزِلِي. قَالَ حِصْنٌ: صَالِحُوا قَوْمَكُمْ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَدِي وَلَا أَتَّدِي، قَدْ قَتَلَ آبَائِي وَعُمُومَتِي عِشْرِينَ مِنْ عَبْسٍ، فَعَادَ إِلَى عَبْسٍ وَأَخْبَرَهُمْ بِقَوْلِ حِصْنٍ وَأَخَذَهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ قَيْسٌ وَالرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ: نَحْنُ رُكْبَانُ الْمَوْتِ. قَالَ: بَلْ رُكْبَانُ السِّلْمِ، إِنْ تَكُونُوا اخْتَلَلْتُمْ إِلَى قَوْمِكُمْ فَقَدِ اخْتَلَّ قَوْمُكُمْ إِلَيْكُمْ. ثُمَّ خَرَجَ مَعَهُمْ حَتَّى أَتَوْا سِنَانًا فَقَالَ لَهُ: قُمْ بِأَمْرِ عَشِيرَتِكَ وَأَصْلِحْ بَيْنَهُمْ فَإِنِّي سَأُعِينُكَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ وَتَمَّ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ وَعَادَتْ عَبْسٌ. وَقِيلَ: إِنَّ قَيْسَ بْنَ زُهَيْرٍ لَمْ يَسِرْ مَعَ عَبْسٍ إِلَى ذُبْيَانَ وَقَالَ: لَا تَرَانِي غَطَفَانِيَّةٌ أَبَدًا وَقَدْ قَتَلْتُ أَخَاهَا أَوْ زَوْجَهَا أَوْ وَلَدَهَا أَوِ ابْنَ عَمِّهَا، وَلَكِنِّي سَأَتُوبُ إِلَى رَبِّي، فَتَنَصَّرَ وَسَاحَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى عُمَانَ فَتَرَهَّبَ بِهَا زَمَانًا، فَلَقِيَهُ حَوْجُ بْنُ مَالِكٍ الْعَبْدِيُّ فَعَرَفَهُ فَقَتَلَهُ، وَقَالَ لَا رَحِمَنِي اللَّهُ إِنْ رَحِمْتُكَ. وَقِيلَ: إِنَّ قَيْسًا تَزَوَّجَ فِي النُّمَيْرِ بْنِ قَاسِطٍ لَمَّا عَادَتْ عَبْسٌ إِلَى ذُبْيَانَ، وَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ اسْمُهُ فَضَالَةُ، فَقَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَقَدَ لَهُ عَلَى مَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانُوا تِسْعَةً وَهُوَ عَاشِرُهُمْ. انْقَضَى حَرْبُ دَاحِسٍ وَالْغَبْرَاءِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. [يَوْمَ شِعْبِ جَبَلَةَ] كَانَ لَقِيطُ بْنُ زُرَارَةَ قَدْ عَزَمَ عَلَى غَزْوِ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ لِلْأَخْذِ بِثَأْرِ أَخِيهِ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَوْتَهُ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا. فَبَيْنَمَا هُوَ يَتَجَهَّزُ أَتَاهُ الْخَبَرُ بِحِلْفِ بَنِي عَبْسٍ وَبَنِي عَامِرٍ، فَلَمْ يَطْمَعْ فِي الْقَوْمِ وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْسٍ ذَحْلٌ يَسْأَلُهُ الْحِلْفَ وَالتَّظَافُرَ عَلَى غَزْوِ عَبْسٍ وَعَامِرٍ. فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ وَعَمْرُو بْنُ الْجَوْنِ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ الْجَوْنِ وَاسْتَوْثَقُوا وَاسْتَكْثَرُوا وَسَارُوا، فَعَقَدَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْجَوْنِ الْأَلْوِيَةَ، فَكَانَ بَنُو أَسَدٍ وَبَنُو فَزَارَةَ بِلِوَاءٍ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْجَوْنِ، وَعَقَدَ لِعَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ مَعَ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ وَعَقَدَ لِلرِّبَابِ مَعَ حَسَّانَ بْنِ هَمَّامٍ، وَعَقَدَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ بُطُونِ تَمِيمٍ مَعَ

عَمْرِو بْنِ عُدَسٍ، وَعَقَدَ لِحَنْظَلَةَ بِأَسْرِهَا مَعَ لَقِيطِ بْنِ زُرَارَةَ، وَكَانَ مَعَ لَقِيطٍ ابْنَتُهُ دَخْتَنُوسُ، وَكَانَ يَغْزُو بِهَا مَعَهُ وَيَرْجِعُ إِلَى رَأْيِهَا. وَسَارُوا فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ لَا يَشُكُّونَ فِي قَتْلِ عَبْسٍ وَعَامِرٍ وَإِدْرَاكِ ثَأْرِهِمْ. فَلَقِيَ لَقِيطٌ فِي طَرِيقِهِ كَرِبَ بْنَ صَفْوَانَ بْنِ الْحُبَابِ السَّعْدِيَّ، وَكَانَ شَرِيفًا، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسِيرَ مَعَنَا فِي غَزَاتِنَا؟ قَالَ: أَنَا مَشْغُولٌ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لِي. قَالَ: لَا بَلْ تُرِيدُ أَنْ تُنْذِرَ بِنَا الْقَوْمَ، وَلَا أَتْرُكُكَ حَتَّى تَحْلِفَ أَنَّكَ لَا تُخْبِرُهُمْ، فَحَلَفَ لَهُ، ثُمَّ سَارَ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ. فَلَمَّا دَنَا مِنْ عَامِرٍ أَخَذَ خِرْقَةً فَصَرَّ بِهَا حَنْظَلَةً وَشَوْكًا وَتُرَابًا وَخِرْقَتَيْنِ يَمَانِيَّتَيْنِ وَخِرْقَةً حَمْرَاءَ وَعَشَرَةَ أَحْجَارٍ سُودٍ ثُمَّ رَمَى بِهَا حَيْثُ يَسْقُونَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ. فَأَخَذَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ قُشَيْرٍ، فَأَتَى بِهَا حَيْثُ الْأَحْوَصُ بْنُ جَعْفَرٍ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلًا أَلْقَاهَا وَهُمْ يَسْقُونَ. فَقَالَ الْأَحْوَصُ لِقَيْسِ بْنِ زُهَيْرٍ الْعَبْسِيِّ: مَا تَرَى فِي هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ: هَذَا مِنْ صُنْعِ اللَّهِ لَنَا، هَذَا رَجُلٌ قَدْ أُخِذَ عَلَيْهِ عَهْدٌ أَنْ لَا يُكَلِّمَكُمْ فَأَخْبَرَكُمْ أَنَّ أَعْدَاءَكُمْ قَدْ غَزَوْكُمْ عَدَدَ التُّرَابِ، وَأَنَّ شَوْكَتَهُمْ شَدِيدَةٌ، وَأَمَّا الْحَنْظَلَةُ فَهِيَ رُؤَسَاءُ الْقَوْمِ، وَأَمَّا الْخِرْقَتَانِ الْيَمَانِيَّتَانِ فَهُمَا حَيَّانِ مِنَ الْيَمَنِ مَعَهُمْ، وَأَمَّا الْخِرْقَةُ الْحَمْرَاءُ فَهِيَ حَاجِبُ بْنُ زُرَارَةَ، وَأَمَّا الْأَحْجَارُ فَهِيَ عَشْرُ لَيَالٍ يَأْتِيكُمُ الْقَوْمُ إِلَيْهَا، قَدْ أَنْذَرْتُكُمْ فَكُونُوا أَحْرَارًا فَاصْبِرُوا كَمَا يَصْبِرُ الْأَحْرَارُ الْكِرَامُ. قَالَ الْأَحْوَصُ: فَإِنَّا فَاعِلُونَ وَآخِذُونَ بِرَأْيِكَ، فَإِنَّهُ لَمْ تَنْزِلْ بِكَ شِدَّةٌ إِلَّا رَأَيْتَ الْمَخْرَجَ مِنْهَا. قَالَ: فَإِذْ قَدْ رَجَعْتُمْ إِلَى رَأْيِي فَأَدْخِلُوا نَعَمَكُمْ شِعْبَ جَبَلَةَ ثُمَّ أَظْمِئُوهَا هَذِهِ الْأَيَّامَ وَلَا تُورِدُوهَا الْمَاءَ، فَإِذَا جَاءَ الْقَوْمُ أَخْرِجُوا عَلَيْهِمُ الْإِبِلَ وَانْخَسُوهَا بِالسُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ فَتَخْرُجَ مَذَاعِيرَ عِطَاشًا فَتَشْغَلَهُمْ وَتُفَرِّقَ جَمْعَهُمْ وَاخْرُجُوا أَنْتُمْ فِي آثَارِهَا وَاشْفُوا نُفُوسَكُمْ. فَفَعَلُوا مَا أَشَارَ بِهِ. وَعَادَ كَرِبُ بْنُ صَفْوَانَ فَلَقِيَ لَقِيطًا فَقَالَ لَهُ: أَنْذَرْتَ الْقَوْمَ؟ فَأَعَادَ الْحَلِفَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ، فَخَلَّى عَنْهُ. فَقَالَتْ دَخْتَنُوسُ ابْنَةُ لَقِيطٍ لِأَبِيهَا: رُدَّنِي إِلَى أَهْلِي، وَلَا

تُعَرِّضْنِي لَعَبْسٍ وَعَامِرٍ فَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لَا مَحَالَةَ، فَاسْتَحْمَقَهَا وَسَاءَهُ كَلَامُهَا وَرَدَّهَا. وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى فَمِ الشِّعْبِ بِعَسَاكِرَ جَرَّارَةٍ كَثِيرَةِ الصَّوَاهِلِ وَلَيْسَ لَهُمْ هَمٌّ إِلَّا الْمَاءَ، فَقَصَدُوهُ. فَقَالَ لَهُمْ قَيْسٌ: أَخْرِجُوا عَلَيْهِمُ الْآنَ الْإِبِلَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَخَرَجَتِ الْإِبِلُ مَذَاعِيرَ عِطَاشًا وَهُمْ فِي أَعْرَاضِهَا وَأَدْبَارِهَا، فَخَبَطَتْ تَمِيمًا وَمَنْ مَعَهَا وَقَطَّعَتْهُمْ، وَكَانُوا فِي الشِّعْبِ، وَأَبْرَزَتْهُمْ إِلَى الصَّحْرَاءِ عَلَى غَيْرِ تَعْبِيَةٍ. وَشُغِلُوا عَنْ الِاجْتِمَاعِ إِلَى أَلْوِيَتِهِمْ، وَحَمَلَتْ عَلَيْهِمْ عَبْسٌ وَعَامِرٌ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَكَثُرَتِ الْقَتْلَى فِي تَمِيمٍ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ عَمْرُو بْنُ الْجَوْنِ، وَأُسِرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْجَوْنِ وَعَمْرُو بْنُ عَمْرِو بْنِ عُدَسٍ زَوْجُ تَخْتَنُوسْ بِنْتِ لَقِيطٍ، وَأُسِرَ حَاجِبُ بْنُ زُرَارَةَ، وَانْحَازَ لَقِيطُ بْنُ زُرَارَةَ، فَدَعَا قَوْمَهُ وَقَدْ تَفَرَّقُوا عَنْهُ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَفَرٌ يَسِيرٌ، فَتَحَرَّزَ بِرَايَتِهِ فَوْقَ جُرْفٍ ثُمَّ حَمَلَ فَقَتَلَ فِيهِمْ وَرَجَعَ وَصَاحَ: أَنَا لَقِيطٌ، وَحَمَلَ ثَانِيَةً فَقَتَلَ وَجَرَحَ وَعَادَ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ، فَانْحَطَّ الْجُرْفُ بِفَرَسِهِ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ عَنْتَرَةُ فَطَعَنَهُ طَعْنَةً قَصَمَ بِهَا صُلْبَهُ، وَضَرَبَهُ قَيْسٌ بِالسَّيْفِ فَأَلْقَاهُ مُتَشَحِّطًا فِي دَمِهِ، فَذَكَرَ ابْنَتَهُ دَخْتَنُوسَ فَقَالَ: يَا لَيْتَ شِعْرِي عَنْكِ دَخْتَنُوسُ إِذَا أَتَاهَا الْخَبَرُ الْمَرْمُوسُ أَتَحْلِقُ الْقُرُونَ أَمْ تَمِيسُ لَا بَلْ تَمِيسُ إِنَّهَا عَرُوسُ ثُمَّ مَاتَ وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى تَمِيمٍ وَغَطَفَانَ، ثُمَّ فَدَوْا حَاجِبًا بِخَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَعَادَ مَنْ سَلِمَ إِلَى أَهْلِهِ. وَقَالَتْ دَخْتَنُوسُ تَرْثِي أَبَاهَا قَصَائِدَ، مِنْهَا: عَثَرَ الْأَغَرُّ بِخَيْرِ خِنْ ... دِفَ كَهْلِهَا وَشَبَابِهَا وَأَضَرِّهَا لِعَدُوِّهَا ... وَأَفَكِّهَا لِرِقَابِهَا وَقَرِيعِهَا وَنَجِيبِهَا ... فِي الْمُطْبِقَاتِ وَنَابِهَا وَرَئِيسِهَا عِنْدَ الْمُلُو ... كِ وَزَيْنِ يَوْمِ خِطَابِهَا وَأَتَمِّهَا نَسَبًا إِذَا ... رَجَعَتْ إِلَى أَنْسَابِهَا

يوم ذات نكيف

فَرَعَى عَمُودًا لِلْعَشِي رَةِ رَافِعًا لِنِصَابِهَا ... وَيَعُولُهَا وَيَحُوطُهَا وَيَذُبُّ عَنْ أَحْسَابِهَا ... وَيَطَا مَوَاطِنَ لِلْعَدُ وِّ فَكَانَ لَا يَمْشِي بِهَا ... فِعْلَ الْمُدِلِّ مِنَ الْأُسُو دِ لِحَيْنِهَا وَتَبَابِهَا ... كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ فِي سَمَاءَ لَا يَخْفَى بِهَا ... عَبَثَ الْأَغَرُّ بِهِ وَكُ لُّ مَنِيَّةٍ لِكِتَابِهَا ... فَرَّتْ بَنُو أَسَدٍ فِرَا رَ الطَّيْرِ عَنْ أَرْبَابِهَا ... وَهَوَازِنٌ أَصْحَابُهُمْ كَالْفَأْرِ فِي أَذْنَابِهَا وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي يَوْمِ جَبَلَةَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، قَالَ: كَانَ سَبَبَهُ أَنَّ بَنِي خِنْدِفٍ كَانَ لَهُمْ عَلَى قَيْسٍ أَكْلٌ تَأْكُلُهُ الْقُعْدُدُ مِنْ خِنْدِفٍ، فَكَانَ يَنْتَقِلُ فِيهِمْ حَتَّى انْتَهَى إِلَى تَمِيمٍ، ثُمَّ مِنْ تَمِيمٍ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، وَهُمْ أَقَلُّ بَطْنٍ مِنْهُمْ وَأَذَلُّهُ، فَأَبَتْ قَيْسٌ أَنْ تُعْطِيَ الْأَكْلَ وَامْتَنَعَتْ مِنْهُ، فَجَمَعَتْ تَمِيمٌ وَحَالَفَتْ غَيْرَهَا مِنَ الْعَرَبِ وَسَارُوا إِلَى قَيْسٍ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وَخَالَفَ فِي الْبَعْضِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ وُلِدَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ الْعَامِرِيُّ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ الْمَجُوسِيَّةَ كَانَ يَدِينُ بِهَا بَعْضُ الْعَرَبِ بِالْبَحْرَيْنِ، وَكَانَ زُرَارَةُ بْنُ عُدَسٍ وَابْنَاهُ حَاجِبٌ وَلَقِيطٌ وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَغَيْرُهُمْ مَجُوسًا، وَإِنَّ لَقِيطًا تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ دَخْتَنُوسَ وَسَمَّاهَا بِهَذَا الِاسْمِ الْفَارِسِيِّ، وَإِنَّهُ قُتِلَ وَهِيَ تَحْتُهُ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ: يَا لَيْتَ شِعْرِي عَنْكِ دَخْتَنُوسُ الْأَبْيَاتَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [يَوْمُ ذَاتِ نَكِيفٍ]

كَانَ بَنُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ مُبْغِضِينَ لِقُرَيْشٍ مُضْطَغِنِينَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ مِنْ قُصَيٍّ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ مَكَّةَ مَعَ مَنْ أَخْرَجَ مِنْ خُزَاعَةَ حِينَ قَسَّمَهَا رِبَاعًا وَخُطَطًا بَيْنَ قُرَيْشٍ. فَلَمَّا كَانُوا عَلَى عَهْدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ قُرَيْشٍ مِنَ الْحَرَمِ، وَأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَغْلِبُوهُمْ عَلَيْهِ. وَعَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى نَعَمٍ لِبَنِي الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ فَاطَّرَدُوهَا، ثُمَّ جَمَعُوا جُمُوعَهُمْ وَجَمَعَتْ قُرَيْشٌ جُمُوعَهُمْ وَاسْتَعَدَّتْ، وَعَقَدَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْحِلْفَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَحَابِيشِ، وَهُمْ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ وَبَنُو الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ وَبَنُو الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ، فَلَقُوا بَنِي بَكْرٍ وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمْ، وَعَلَى النَّاسِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَاقْتَتَلُوا بِذَاتِ نَكِيفٍ، فَانْهَزَمَ بَنُو بَكْرٍ وَقُتِلُوا قَتْلًا ذَرِيعًا فَلَمْ يَعُودُوا لِحَرْبِ قُرَيْشٍ قَالَ ابْنُ شُعْلَةَ الْفِهْرِيُّ: فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ عِصَابَةٍ ... غَوَتْ غَيَّ بَكْرٍ يَوْمَ ذَاتِ نَكِيفِ أَنَاخُوا إِلَى أَبْيَاتِنَا وَنِسَائِنَا ... فَكَانُوا لَنَا ضَيْفًا بِشَرِّ مَضِيفِ فَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ بْنُ السَّفَّاحِ الْقَارِيُّ مِنَ الْقَارَةِ قَتَادَةَ بْنَ قَيْسٍ أَخَا بَلْعَاءَ بْنِ قَيْسٍ، وَاسْمُ بَلْعَاءَ مُسَاحِقٌ. وَيَوْمَئِذٍ قِيلَ: قَدْ أَنْصَفَ الْقَارَةَ مَنْ رَامَاهَا، وَالْقَارَةُ مِنْ وَلَدِ الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ عَضَلَ بْنِ الدِّيشِ، قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: دَعُونَا قَارَةً لَا تُنْفِرُونَا ... فَنُجْفِلَ مِثْلَ إِجْفَالِ الظَّلِيمِ

ذكر الفجار الأول والثاني

وَقِيلَ بِهَذَا الْبَيْتِ سُمُّوا قَارَةً، وَكَانَ يُقَالُ لِلْقَارَةِ رُمَاةُ الْحَدَقِ. [ذِكْرُ الْفِجَارِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي] أَمَّا الْفِجَارُ الْأَوَّلُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ كَثِيرُ أَمْرٍ لِيُذْكَرَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِئَلَّا يُرَى ذِكْرُ الْفِجَارِ الثَّانِي وَمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ فَيُظَنُّ أَنَّ الْأَوَّلَ مِثْلُهُ وَقَدْ أَهْمَلْنَاهُ، فَلِهَذَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ الْفِجَارُ الْأَوَّلُ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَمَنْ مَعَهَا مِنْ كِنَانَةَ كُلِّهَا وَبَيْنَ قَيْسِ عَيْلَانَ. وَسَبَبُهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ كِنَانَةَ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، فَأُعْدِمَ الْكِنَانِيُّ، فَوَافَى النَّصْرِيُّ سُوقَ عُكَاظَ بِقِرْدٍ وَقَالَ: مَنْ يَبِيعُنِي مِثْلَ هَذَا بِمَا لِي عَلَى فُلَانٍ الْكِنَانِيِّ؟ فَعَلَ ذَلِكَ تَعْيِيرًا لِلْكِنَانِيِّ وَقَوْمِهِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ كِنَانَةَ فَضَرَبَ الْقِرْدَ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ أَنَفَةً مِمَّا قَالَ النَّصْرِيُّ، فَصَرَخَ النَّصْرِيُّ فِي قَيْسٍ، وَصَرَخَ الْكِنَانِيُّ فِي كِنَانَةَ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ وَتَحَاوَرُوا حَتَّى كَادَ يَكُونُ بَيْنَهُمُ الْقِتَالُ ثُمَّ اصْطَلَحُوا. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُهُ أَنَّ فِتْيَةً مِنْ قُرَيْشٍ قَعَدُوا إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ وَهِيَ وَضِيئَةٌ عَلَيْهَا بُرْقُعٌ، فَقَالُوا لَهَا: اسْفِرِي لِنَنْظُرَ إِلَى وَجْهِكِ، فَلَمْ تَفْعَلْ. فَقَامَ غُلَامٌ مِنْهُمْ فَشَكَّ ذَيْلَ دِرْعِهَا إِلَى ظَهْرِهَا وَلَمْ تَشْعُرْ، فَلَمَّا قَامَتِ انْكَشَفَتْ دُبُرُهَا، فَضَحِكُوا وَقَالُوا: مَنَعْتِنَا النَّظَرَ إِلَى وَجْهِكِ فَقَدْ نَظَرْنَا إِلَى دُبُرِكِ. فَصَاحَتِ الْمَرْأَةُ: يَا بَنِي عَامِرٍ فُضِحْتُ! فَأَتَاهَا النَّاسُ وَاشْتَجَرُوا حَتَّى كَادَ يَكُونُ قِتَالٌ، ثُمَّ رَأَوْا أَنَّ الْأَمْرَ يَسِيرٌ فَاصْطَلَحُوا. وَقِيلَ: بَلْ قَعَدَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَعْشَرِ بْنُ مِكْرِزٍ، وَكَانَ عَازِمًا مَنِيعًا

فِي نَفْسِهِ، وَكَانَ بِسُوقِ عُكَاظَ، فَمَدَّ رِجْلَهُ ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ بَنُو مُدْرِكَةَ بْنِ خِنْدِفْ مَنْ يَطْعَنُوا فِي عَيْنِهِ لَا يَطْرِفْ وَمَنْ يَكُونُوا قَوْمَهُ يُغَطْرَفْ كَأَنَّهُ لُجَّةُ بَحْرٍ مُسْدِفْ أَنَا وَاللَّهِ أَعَزُّ الْعَرَبِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَعَزُّ مِنِّي فَلْيَضْرِبْهَا بِالسَّيْفِ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ يُقَالُ لَهُ أَحْمَرُ بْنُ مَازِنٍ فَضَرَبَهَا بِالسَّيْفِ فَخَرَشَهَا خَرْشًا غَيْرَ كَثِيرٍ، فَاخْتَصَمَ النَّاسُ ثُمَّ اصْطَلَحُوا. - بَنُو نَصْرٍ بِالنُّونِ -. وَأَمَّا الْفِجَارُ الثَّانِي، وَكَانَ بَعْدَ الْفِيلِ بِعِشْرِينَ سَنَةً، وَبَعْدَ مَوْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَمْ يَكُنْ فِي أَيَّامِ الْعَرَبِ أَشْهَرُ مِنْهُ وَلَا أَعْظَمُ، فَإِنَّمَا سُمِّيَ الْفِجَارَ لِمَا اسْتَحَلَّ الْحَيَّانِ كِنَانَةُ وَقَيْسٌ فِيهِ مِنَ الْمَحَارِمِ، وَكَانَ قَبْلَهُ يَوْمُ جَبَلَةَ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي أَيَّامِ الْعَرَبِ، وَالْفِجَارُ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ الْبَرَّاضَ بْنَ قَيْسِ بْنِ رَافِعٍ الْكِنَانِيَّ ثُمَّ الضَّمْرِيَّ كَانَ رَجُلًا فَاتِكًا خَلِيعًا قَدْ خَلَعَهُ قَوْمُهُ لِكَثْرَةِ شَرِّهِ، وَكَانَ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِفَتْكِهِ فَيُقَالُ: أَفْتَكُ مِنَ الْبَرَّاضِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْفَتَى مَنْ تَعَرَّفَتْهُ اللَّيَالِي فَهْوَ فِيهَا كَالْحَيَّةِ النَّضْنَاضِ كُلَّ يَوْمٍ لَهُ بِصِرْفِ اللَّيَالِي فَتْكَةٌ مِثْلُ فَتْكَةِ الْبَرَّاضِ فَخَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَكَانَ النُّعْمَانُ يَبْعَثُ كُلَّ عَامٍ بِلَطِيمَةٍ لِلتِّجَارَةِ إِلَى عُكَاظَ تُبَاعُ لَهُ هُنَاكَ، وَكَانَ عُكَاظُ وَذُو الْمَجَازِ وَمَجَنَّةُ أَسْوَاقًا تَجْتَمِعُ بِهَا الْعَرَبُ كُلَّ عَامٍ إِذَا حَضَرَ الْمَوْسِمُ، فَيَأْمَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى تَنْقَضِيَ أَيَّامُهَا، وَكَانَتْ مَجَنَّةُ بِالظَّهْرَانِ، وَكَانَتْ عُكَاظُ بَيْنَ نَخْلَةَ وَالطَّائِفِ، وَكَانَ ذُو الْمَجَازِ بِالْجَانِبِ الْأَيْسَرِ إِذَا وَقَفْتَ عَلَى الْمَوْقِفِ، فَقَالَ النُّعْمَانُ، وَعِنْدَهُ الْبَرَّاضُ وَعُرْوَةُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ

الْمَعْرُوفُ بِالرَّحَّالِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ رِحْلَتِهِ إِلَى الْمُلُوكِ -: مَنْ يُجِيزُ لِي لَطِيمَتِي هَذِهِ حَتَّى يُبْلِغَهَا عُكَاظَ؟ فَقَالَ الْبَرَّاضُ: أَنَا أُجِيزُهَا، أَبَيْتَ اللَّعْنَ، عَلَى كِنَانَةَ. فَقَالَ النُّعْمَانُ: إِنَّمَا أُرِيدُ مَنْ يُجِيزُهَا عَلَى كِنَانَةَ وَقَيْسٍ! فَقَالَ عُرْوَةُ: أَكَلْبٌ خَلِيعٌ يُجِيزُهَا لَكَ، أَبَيْتَ اللَّعْنَ! أَنَا أُجِيزُهَا عَلَى أَهْلِ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ وَأَهْلِ نَجْدٍ. فَقَالَ الْبَرَّاضُ، وَغَضِبَ: وَعَلَى كِنَانَةَ تُجِيزُهَا يَا عُرْوَةُ؟ قَالَ عُرْوَةُ: وَعَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ. فَدَفَعَ النُّعْمَانُ اللَّطِيمَةَ إِلَى عُرْوَةَ الرَّحَّالِ وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ بِهَا، وَخَرَجَ الْبَرَّاضُ يَتْبَعُ أَثَرَهُ، وَعُرْوَةُ يَرَى مَكَانَهُ وَلَا يَخْشَى مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ عُرْوَةُ بَيْنَ ظَهْرَيْ قَوْمِهِ بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ تَيْمَنُ بِنَوَاحِي فَدَكَ أَدْرَكَهُ الْبَرَّاضُ بْنُ قَيْسٍ فَأَخْرَجَ قِدَاحَهُ يَسْتَقْسِمُ بِهَا فِي قَتْلِ عُرْوَةَ، فَمَرَّ بِهِ عُرْوَةُ فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ يَا بَرَّاضُ؟ فَقَالَ: أَسْتَقْسِمُ فِي قَتْلِكَ أَيُؤْذَنُ لِي أَمْ لَا. فَقَالَ عُرْوَةُ: اسْتُكَ أَضْيَقُ مِنْ ذَلِكَ! فَوَثَبَ إِلَيْهِ الْبَرَّاضُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ. فَلَمَّا رَآهُ الَّذِينَ يَقُومُونَ عَلَى الْعِيرِ وَالْأَحْمَالِ قَتِيلًا انْهَزَمُوا، فَاسْتَاقَ الْبَرَّاضُ الْعِيرَ وَسَارَ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى خَيْبَرَ، وَتَبِعَهُ رَجُلَانِ مِنْ قَيْسٍ لِيَأْخُذَاهُ، أَحَدُهُمَا غَنَوِيٌّ وَالْآخَرُ غَطْفَانِيٌّ، وَاسْمُ الْغَنَوِيِّ أَسَدُ بْنُ جُوَيْنٍ، وَاسْمُ الْغَطَفَانِيِّ مُسَاوِرُ بْنُ مَالِكٍ، فَلَقِيَهُمَا الْبَرَّاضُ بِخَيْبَرَ أَوَّلَ النَّاسِ فَقَالَ لَهُمَا: مَنِ الرَّجُلَانِ؟ قَالَا: مِنْ قَيْسٍ قَدِمْنَا لِنَقْتُلَ الْبَرَّاضَ. فَأَنْزَلَهُمَا وَعَقَلَ رَاحِلَتَيْهِمَا، ثُمَّ قَالَ أَيُّكُمَا أَجْرَأُ عَلَيْهِ وَأَجْوَدُ سَيْفًا؟ قَالَ الْغَطَفَانِيُّ: أَنَا. فَأَخَذَهُ وَمَشَى مَعَهُ لِيَدُلَّهُ بِزَعْمِهِ عَلَى الْبَرَّاضِ، فَقَالَ لِلْغَنَوِيِّ: احْفَظْ رَاحِلَتَيْكُمَا، فَفَعَلَ، وَانْطَلَقَ الْبَرَّاضُ بِالْغَطَفَانِيِّ حَتَّى أَخْرَجَهُ إِلَى خَرِبَةٍ فِي جَانِبِ خَيْبَرَ خَارِجًا مِنَ الْبُيُوتِ، فَقَالَ لِلْغَطَفَانِيِّ: هُوَ فِي هَذِهِ الْخَرِبَةِ إِلَيْهَا يَأْوِي فَأَمْهِلْنِي حَتَّى أَنْظُرَ أَهُوَ فِيهَا. فَوَقَفَ وَدَخَلَ الْبَرَّاضُ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: هُوَ فِيهَا وَهُوَ نَائِمٌ، فَأَرِنِي سَيْفَكَ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ أَضَارِبٌ هُوَ أَمْ لَا، فَأَعْطَاهُ سَيْفَهُ، فَضَرَبَهُ بِهِ حَتَّى قَتَلَهُ ثُمَّ أَخْفَى السَّيْفَ، وَعَادَ إِلَى الْغَنَوِيِّ فَقَالَ لَهُ: لَمْ أَرَ رَجُلًا أَجْبَنَ مِنْ صَاحِبِكَ، تَرَكْتُهُ فِي الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ الْبَرَّاضُ وَهُوَ نَائِمٌ فَلَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ. فَقَالَ: انْظُرْ لِي مَنْ يَحْفَظُ الرَّاحِلَتَيْنِ حَتَّى أَمْضِيَ إِلَيْهِ فَأَقْتُلَهُ، فَقَالَ: دَعْهُمَا وَهُمَا عَلَيَّ، ثُمَّ انْطَلَقَا إِلَى الْخَرِبَةِ، فَقَتَلَهُ وَسَارَ بِالْعِيرِ إِلَى مَكَّةَ، فَلَقِيَ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، فَقَالَ لَهُ الْبَرَّاضُ: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ أَجْعَلَ لَكَ جَعْلًا عَلَى أَنْ تَنْطَلِقَ إِلَى حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ وَقَوْمِي فَإِنَّهُمْ قَوْمِي وَقَوْمُكَ، لِأَنَّ أَسَدَ بْنَ خُزَيْمَةَ مِنْ خِنْدِفٍ أَيْضًا، فَتُخْبِرَهُمْ أَنَّ الْبَرَّاضَ بْنَ قَيْسٍ قَتَلَ عُرْوَةَ الرَّحَّالَ، فَلْيَحْذَرُوا قَيْسًا! وَجَعَلَ لَهُ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ. فَخَرَجَ

الْأَسَدِيُّ حَتَّى أَتَى عُكَاظَ وَبِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَأَتَى حَرْبَ بْنَ أُمَيَّةَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ التَّيْمِيِّ وَإِلَى هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وَهُوَ وَالِدُ أَبِي جَهْلٍ، وَهُمَا مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ وَذَوِي السِّنِّ مِنْهُمْ، وَإِلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَحْضَرَ مِنْهَا رَجُلًا، وَإِلَى الْحُلَيْسِ بْنِ يَزِيدَ الْحَارِثِيِّ، وَهُوَ سَيِّدُ الْأَحَابِيشِ، فَأَخْبَرَهُمْ أَيْضًا. فَتَشَاوَرُوا وَقَالُوا: نَخْشَى مِنْ قَيْسٍ أَنْ يَطْلُبُوا ثَأْرَ صَاحِبِهِمْ مِنَّا فَإِنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَقْتُلُوا بِهِ خَلِيعًا مِنْ بَنِي ضِمْرَةَ. فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَأْتُوا أَبَا بَرَاءٍ عَامِرَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ مُلَاعِبَ الْأَسِنَّةِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ قَيْسٍ وَشَرِيفُهَا، فَيَقُولُوا لَهُ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ حَدَثٌ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ وَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِنَا عِلْمُهُ فَأَجُزُّ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى تَعْلَمَ وَتُعْلِمَ. فَأَتَوْهُ وَقَالُوا لَهُ ذَلِكَ، فَأَجَازَ بَيْنَ النَّاسِ وَأَعْلَمَ قَوْمَهُ مَا قِيلَ لَهُ، ثُمَّ قَامَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: يَا أَهْلَ عُكَاظَ إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِي قَوْمِنَا بِمَكَّةَ حَدَثٌ أَتَانَا خَبَرُهُ، وَنَخْشَى إِنْ تَخَلَّفْنَا عَنْهُمْ أَنْ يَتَفَاقَمَ الشَّرُّ، فَلَا يُرَوِّعَنَّكُمْ تَحَمُّلُنَا. ثُمَّ رَكِبُوا عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ إِلَى مَكَّةَ. فَلَمَّا كَانَ آخِرَ الْيَوْمِ أَتَى عَامِرَ بْنَ مَالِكٍ مُلَاعِبَ الْأَسِنَّةِ الْخَبَرُ فَقَالَ: غَدَرَتْ قُرَيْشٌ وَخَدَعَنِي حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَاللَّهِ لَا تَنْزِلُ كِنَانَةُ عُكَاظَ أَبَدًا. ثُمَّ رَكِبُوا فِي طَلَبِهِمْ حَتَّى أَدْرَكُوهُمْ بِنَخْلَةَ فَاقْتَتَلَ الْقَوْمُ، فَاشْتَعَلَتْ قُرَيْشٌ فَكَادَتْ قُرَيْشٌ تَنْهَزِمُ إِلَّا أَنَّهَا عَلَى حَامِيَتِهَا تُبَادِرُ دُخُولَ الْحَرَمِ لِيَأْمَنُوا بِهِ. فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى دَخَلُوا الْحَرَمَ مَعَ اللَّيْلِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ، وَعُمْرُهُ عِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُمْ لَمْ يَنْهَزِمُوا، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ بَعْدَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ يَنْهَزِمُ أَصْحَابُهُ وَيُقْتَلُونَ، وَإِذَا كَانَ فِي جَمْعٍ قَبْلَ الرِّسَالَةِ وَانْهَزَمُوا فَغَيْرُ بَعِيدٍ. وَلَمَّا دَخَلَتْ قُرَيْشٌ الْحَرَمَ عَادَتْ عَنْهُمْ قَيْسٌ وَقَالُوا لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّا لَا نَتْرُكُ دَمَ عُرْوَةَ وَمِيعَادُنَا عُكَاظُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَانْصَرَفَتْ إِلَى بِلَادِهَا يُحَرِّضُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَبْكُونَ عُرْوَةَ الرَّحَّالَ. ثُمَّ إِنَّ قَيْسًا جَمَعَتْ جُمُوعَهَا، وَمَعَهَا ثَقِيفٌ وَغَيْرُهَا، وَجَمَعَتْ قُرَيْشٌ جُمُوعَهَا، مِنْهُمْ كِنَانَةُ جَمِيعُهَا وَالْأَحَابِيشُ وَأَسَدُ بْنُ خُزَيْمَةَ، وَفَرَّقَتْ قُرَيْشٌ السِّلَاحَ فِي النَّاسِ، فَأَعْطَى

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ مِائَةَ رَجُلٍ سِلَاحًا تَامًّا، وَفَعَلَ الْبَاقُونَ مِثْلَهُ. وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ لِلْمَوْعِدِ، عَلَى كُلِّ بَطْنٍ مِنْهَا رَئِيسٌ، فَكَانَ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ: الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِخْوَتُهُ أَبُو طَالِبٍ وَحَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَعَلَى بَنِي أُمَيَّةَ وَأَحْلَافِهَا: حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ. وَعَلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ: عِكْرِمَةُ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ. وَعَلَى بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى: خُوَيْلِدُ بْنُ أَسَدٍ. وَعَلَى بَنِي مَخْزُومٍ: هِشَامُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَبُو أَبِي جَهْلٍ. وَعَلَى بَنِي تَيْمٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ. وَعَلَى بَنِي جُمَحَ: مَعْمَرُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ وَهْبٍ. وَعَلَى بَنِي سَهْمٍ: الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ. وَعَلَى بَنِي عَدِيٍّ: زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَالِدُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ. وَعَلَى بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ: عَمْرُو بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ وَالِدُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو. وَعَلَى بَنِي فِهْرٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَرَّاحِ وَالِدُ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَعَلَى الْأَحَابِيشِ: الْحُلَيْسُ بْنُ يَزِيدَ وَسُفْيَانُ بْنُ عُوَيْفٍ هُمَا قَائِدَاهُمْ، وَالْأَحَابِيشُ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ: كِنَانَةُ وَعَضَلُ وَالْقَارَةُ وَالدِّيشُ مِنْ بَنِي الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَالْمُصْطَلِقِ بْنِ خُزَاعَةَ، وَسُمُّوا بِذَلِكَ لِحَلِفِهِمْ بَنِي الْحَارِثِ، وَالتَّحَبُّشُ التَّجَمُّعُ. وَعَلَى بَنِي بَكْرٍ: بَلْعَاءُ بْنُ قَيْسٍ. وَعَلَى بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ مِنْ كِنَانَةَ: عُمَيْرُ بْنُ قَيْسٍ جِذْلُ الطِّعَانِ. وَعَلَى بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ: بِشْرُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ. وَكَانَ عَلَى جَمَاعَةِ النَّاسِ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ لِمَكَانِهِ مِنْ عَبْدِ مَنَافٍ سِنًّا وَمَنْزِلَةً. وَكَانَتْ قَيْسٌ قَدْ تَقَدَّمَتْ إِلَى عُكَاظَ قَبْلَ قُرَيْشٍ، فَعَلَى بَنِي عَامِرٍ مُلَاعِبُ الْأَسِنَّةِ: أَبُو

بَرَاءٍ. وَعَلَى بَنِي نَصْرٍ سَعْدٍ وَثَقِيفٍ: سُبَيْعُ بْنُ رَبِيعِ بْنِ مُعَاوِيَةَ. وَعَلَى بَنِي جُشَمَ: الصِّمَّةُ وَالِدُ دُرَيْدٍ. وَعَلَى غَطَفَانَ: عَوْفُ بْنُ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيُّ. وَعَلَى بَنِي سُلَيْمٍ: عَبَّاسُ بْنُ زَعْلِ بْنِ هَنِيِّ بْنِ أَنَسٍ. وَعَلَى فَهْمٍ وَعَدْوَانَ: كِدَامُ بْنُ عَمْرٍو. وَسَارَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلَتْ عُكَاظَ وَبِهَا قَيْسٌ. وَكَانَ مَعَ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ إِخْوَتُهُ: سُفْيَانُ وَأَبُو سُفْيَانَ وَالْعَاصُ وَأَبُو الْعَاصِ بَنُو أُمَيَّةَ، فَعَقَلَ حَرْبٌ نَفْسَهُ وَقَيَّدَ سُفْيَانُ وَأَبُو الْعَاصِ نَفْسَيْهِمَا وَقَالُوا: لَنْ يَبْرَحَ رَجُلٌ مِنَّا مَكَانَهُ حَتَّى نَمُوتَ أَوْ نَظْفَرَ، فَيَوْمَئِذٍ سُمُّوا الْعَنَابِسَ، وَالْعَنْبَسُ الْأَسَدُ. وَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَانَ الظَّفَرُ أَوَّلَ النَّهَارِ لِقَيْسٍ، وَانْهَزَمَ كَثِيرٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَقُرَيْشٍ. فَانْهَزَمَ بَنُو زُهْرَةَ وَبَنُو عَدِيٍّ، وَقُتِلَ مَعْمَرُ بْنُ حَبِيبٍ الْجُمَحِيُّ، وَانْهَزَمَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي فِرَاسٍ، وَثَبَتَ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ وَسَائِرُ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَزَلِ الظَّفَرُ لِقَيْسٍ عَلَى قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ إِلَى أَنِ انْتَصَفَ النَّهَارُ. ثُمَّ عَادَ الظَّفَرُ لِقُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ فَقَتَلُوا مِنْ قَيْسٍ فَأَكْثَرُوا، وَحَمِيَ الْقِتَالُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ تَحْتَ رَايَةِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ مِائَةُ رَجُلٍ وَهُمْ صَابِرُونَ، فَانْهَزَمَتْ قَيْسٌ، وَقُتِلَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ عَبَّاسُ بْنُ زَعْلٍ السُّلَمِيُّ وَغَيْرُهُ. فَلَمَّا رَأَى أَبُو السَّيِّدِ عَمُّ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ مَا تَصْنَعُ كِنَانَةُ مِنَ الْقَتْلِ نَادَى: يَا مَعْشَرَ بَنِي كِنَانَةَ أَسْرَفْتُمْ فِي الْقَتْلِ. فَقَالَ ابْنُ جُدْعَانَ: إِنَّا مَعْشَرٌ يُسْرِفُ. وَلَمَّا رَأَى سُبَيْعُ بْنُ رَبِيعِ بْنِ مُعَاوِيَةَ هَزِيمَةَ قَبَائِلِ قَيْسٍ عَقَلَ نَفْسَهُ وَاضْطَجَعَ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ بَنِي نَصْرٍ قَاتِلُوا عَنِّي أَوْ ذَرُوا. فَعَطَفَتْ عَلَيْهِ بَنُو نَصْرٍ، وَجُشَمَ، وَسَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَفَهْمٍ، وَعَدْوَانَ، وَانْهَزَمَ بَاقِي قَبَائِلِ قَيْسٍ، فَقَاتَلَ هَؤُلَاءِ أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ. ثُمَّ إِنَّهُمْ تَدَاعَوْا إِلَى الصُّلْحِ فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَعُدُّوا الْقَتْلَى فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ فَضَلَ لَهُ قَتْلَى أَخَذَ دِيَتَهُ مِنَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، فَتَعَادُّوا الْقَتْلَى فَوَجَدُوا قُرَيْشًا وَبَنِي كِنَانَةَ قَدْ أَفْضَلُوا عَلَى قَيْسٍ عِشْرِينَ رَجُلًا، فَرَهَنَ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ يَوْمَئِذٍ ابْنَهُ أَبَا سُفْيَانَ فِي دِيَاتِ الْقَوْمِ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا،

يوم ذي نجب

وَرَهَنَ غَيْرُهُ مِنَ الرُّؤَسَاءِ، وَانْصَرَفَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَوَضَعُوا الْحَرْبَ وَهَدَمُوا مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّرِّ، وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَنْ لَا يُؤْذِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْبَرَّاضِ وَعُرْوَةَ. [يَوْمُ ذِي نَجَبٍ] وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ يَوْمِ ذِي نَجَبٍ أَنَّ بَنِي عَامِرٍ لَمَّا أَصَابُوا مِنْ تَمِيمٍ مَا أَصَابُوا يَوْمَ جَبَلَةَ رَجَوْا أَنْ يَسْتَأْصِلُوهُمْ، فَكَاتَبُوا حَسَّانَ بْنَ كَبْشَةَ الْكِنْدِيَّ، وَكَانَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ كِنْدَةَ، وَهُوَ حَسَّانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُجْرٍ فَدَعَوْهُ إِلَى أَنْ يَغْزُوَ مَعَهُمْ بَنِي حَنْظَلَةَ مِنْ تَمِيمٍ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا فُرْسَانَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ، فَأَقْبَلَ مَعَهُمْ بِصَنَائِعِهِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ. فَلَمَّا أَتَى بَنِي حَنْظَلَةَ خَبَرُ مَسِيرِهِمْ قَالَ لَهُمْ عَمْرُو بْنُ عَمْرٍو: يَا بَنِي مَالِكٍ إِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهَذَا الْمَلِكِ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْعَدَدِ، فَانْتَقِلُوا مِنْ مَكَانِكُمْ، وَكَانُوا فِي أَعَالِي الْوَادِي مِمَّا يَلِي مَجِيءَ الْقَوْمِ، وَكَانَتْ بَنُو يَرْبُوعٍ بِأَسْفَلِهِ، فَتَحَوَّلَتْ بَنُو مَالِكٍ حَتَّى نَزَلَتْ خَلْفَ بَنِي يَرْبُوعٍ، وَصَارَتْ بَنُو يَرْبُوعٍ تَلِي الْمَلِكَ. فَلَمَّا رَأَوْا مَا صَنَعَ بَنُو مَالِكٍ اسْتَعَدُّوا وَتَقَدَّمُوا إِلَى طَرِيقِ الْمَلِكِ. فَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الصُّبْحِ وَصَلَ ابْنُ كَبْشَةَ فِيمَنْ مَعَهُ وَقَدِ اسْتَعَدَّ الْقَوْمُ فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا رَآهُمْ بَنُو مَالِكٍ وَصَبْرَهُمْ فِي الْقِتَالِ سَارُوا إِلَيْهِمْ وَشَهِدُوا مَعَهُمُ الْقِتَالَ، فَاقْتَتَلُوا مَلِيًّا فَضَرَبَ حُشَيْشُ بْنُ نِمْرَانَ الرِّيَاحِيُّ ابْنَ كَبْشَةَ الْمَلِكَ عَلَى رَأْسِهِ فَصَرَعَهُ، فَمَاتَ، وَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَانْهَزَمَ طُفَيْلُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى فَرَسِهِ قُرْزُلَ، وَقُتِلَ عَمْرُو بْنُ الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرٍ وَكَانَ رَئِيسَ عَامِرٍ، وَانْهَزَمَ بَنُو عَامِرٍ وَصَنَائِعُ ابْنِ كَبْشَةَ. قَالَ جَرِيرٌ فِي الْإِسْلَامِ يَذْكُرُ الْيَوْمَ بِذِي نَجَبٍ: بِذِي نَجَبٍ ذُدْنَا وَوَاكَلَ مَالِكٌ أَخًا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الطِّعَانِ بِوَاكِلِ وَكَانَ يَوْمُ ذِي نَجَبٍ بَعْدَ يَوْمِ ذِي جَبَلَةَ بِسَنَةٍ.

يوم نعف قشاوة

وَبَقِيَ الْأَحْوَصُ بَعْدَ ابْنِهِ عَمْرٍو يَسِيرًا وَهَلَكَ أَسَفًا عَلَيْهِ. [يَوْمُ نَعْفِ قُشَاوَةَ] وَهُوَ يَوْمٌ لَشَيْبَانَ عَلَى تَمِيمٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَغَارَ بِسْطَامُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بَنِي يَرْبُوعٍ مِنْ تَمِيمٍ وَهُوَ بِنَعْفِ قُشَاوَةَ، فَأَتَاهُمْ ضُحًى، وَهُوَ يَوْمُ رِيحٍ وَمَطَرٍ، فَوَافَقَ النَّعَمَ حِينَ سُرِّحَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا، وَتَدَاعَتْ عَلَيْهِ بَنُو يَرْبُوعٍ فَلَحِقُوهُ وَفِيهِمْ عُمَارَةُ بْنُ عُتَيْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابٍ، فَكَرَّ عَلَيْهِ بِسْطَامٌ فَقَتَلَهُ، وَلَحِقَهُمْ مَالِكُ بْنُ حِطَّانَ الْيَرْبُوعِيُّ فَقَتَلَهُ، وَأَتَاهُمْ أَيْضًا بِجُبَيْرِ بْنِ أَبِي مُلَيْلٍ فَقَتَلَهُ بِسْطَامٌ، وَقَتَلُوا مِنْ يَرْبُوعٍ جَمْعًا وَأَسَرُوا آخَرِينَ، مِنْهُمْ: مُلَيْلُ بْنُ أَبِي مُلَيْلٍ، وَسَلِمُوا وَعَادُوا غَانِمِينَ. فَقَالَ بَعْضُ الْأَسْرَى لِبِسْطَامٍ: أَيَسُرُّكَ أَنَّ أَبَا مُلَيْلٍ مَكَانِي؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنْ دَلَلْتُكَ عَلَيْهِ أَتُطْلِقُنِي الْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّ ابْنَهُ بُجَيْرًا كَانَ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ وَسَتَجِدُهُ الْآنَ مُنْكَبًّا عَلَيْهِ يُقَبِّلُهُ فَخُذْهُ أَسِيرًا. فَعَادَ بِسْطَامٌ فَرَآهُ كَمَا قَالَ، فَأَخَذَهُ أَسِيرًا وَأَطْلَقَ الْيَرْبُوعِيَّ. فَقَالَ لَهُ أَبُو مُلَيْلٍ: قَتَلْتَ بُجَيْرًا وَأَسَرْتَنِي وَابْنِي مُلَيْلًا! وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُ الطَّعَامَ أَبَدًا وَأَنَا مُوثَقٌ. فَخَشِيَ بِسْطَامٌ أَنْ يَمُوتَ فَأَطْلَقَهُ بِغَيْرِ فِدَاءٍ عَلَى أَنْ يُفَادِيَ مُلَيْلًا، وَعَلَى أَنْ لَا يَتْبَعَهُ بِدَمِ ابْنِهِ بُجَيْرٍ، وَلَا يَبْغِيهِ غَائِلَةً، وَلَا يَدُلُّ لَهُ عَلَى عَوْرَةٍ، وَلَا يُغِيرُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى قَوْمِهِ أَبَدًا، وَعَاهَدَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَطْلَقَهُ وَجَزَّ نَاصِيَتَهُ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ وَأَرَادَ الْغَدْرَ بِبِسْطَامٍ وَالنَّكْثَ بِهِ، فَأَرْسَلَ بَعْضَ بَنِي يَرْبُوعٍ إِلَى بِسْطَامٍ بِخَبَرِهِ، فَحَذَّرَهُ، وَقَالَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ: أَبْلِغْ شِهَابَ بَنِي بَكْرٍ وَسَيِّدَهَا عَنِّي بِذَاكَ أَبَا الصَّهْبَاءِ بِسْطَامَا أُرْوِي الْأَسِنَّةَ مِنْ قَوْمِي فَأُنْهِلُهَا ... فَأَصْبَحُوا فِي بَقِيعِ الْأَرْضِ نُوَّامَا

يوم الغبيط

لَا يُطْبِقُونَ إِذَا هَبَّ النِّيَامُ وَلَا فِي مَرْقَدٍ يَحْلُمُونَ الدَّهْرَ أَحْلَامَا ... أُشْجِي تَمِيمَبْنَ مُرٍّ لَا مُكَايَدَةً حَتَّى اسْتَعَادُوا لَهُ أَسْرَى وَأَنْعَامَا ... هَلَّا أَسِيرًا فَدَتْكَ النَّفْسُ تُطْعِمُهُ مِمَّا أَرَادَ وَقِدْمًا كُنْتَ مِطْعَامَا وَهِيَ أَبْيَاتٌ عِدَّةٌ. [يَوْمُ الْغَبِيطِ] وَهُوَ يَوْمٌ كَانَتِ الْحَرْبُ فِيهِ بَيْنَ بَنِي شَيْبَانَ وَتَمِيمٍ، وَأُسِرَ فِيهِ بِسْطَامُ بْنُ قَيْسٍ الشَّيْبَانِيُّ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بِسْطَامَ بْنَ قَيْسٍ وَالْحَوْفَزَانَ بْنَ شَرِيكٍ وَمَفْرُوقَ بْنَ عَمْرٍو سَارُوا فِي جَمْعٍ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ إِلَى بِلَادِ تَمِيمٍ، فَأَغَارُوا عَلَى ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ وَثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ ضَبَّةَ وَثَعْلَبَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ فَزَارَةَ وَثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ، وَكَانُوا مُتَجَاوِرِينَ بِصَحْرَاءِ فَلْجٍ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَتِ الثَّعَالِبَةُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَغَنِمَ بَنُو شَيْبَانَ أَمْوَالَهُمْ، وَمَرُّوا عَلَى بَنِي مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ مِنْ تَمِيمٍ، وَهُمْ بَيْنَ صَحْرَاءِ فَلْجٍ وَغَبِيطِ الْمَدَرَةِ فَاسْتَاقُوا إِبِلَهُمْ. فَرَكِبَتْ إِلَيْهِمْ بَنُو مَالِكٍ يَقْدُمُهُمْ عُتَيْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابٍ الْيَرْبُوعِيُّ وَفُرْسَانُ بَنِي يَرْبُوعٍ، وَسَارُوا فِي أَثَرِ بَنِي شَيْبَانَ، وَمَعَهُ مِنْ رُؤَسَاءِ تَمِيمٍ الْأُحَيْمِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأُسَيْدُ بْنُ جُبَاةَ وَحُرُّ بْنُ سَعْدٍ وَمَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ، فَأَدْرَكُوهُمْ بِغَبِيطِ الْمَدَرَةِ فَقَاتَلُوهُمْ. وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ انْهَزَمَتْ شَيْبَانُ وَاسْتَعَادَتْ تَمِيمٌ مَا كَانُوا غَنِمُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَقَتَلَتْ بَنُو شَيْبَانَ أَبَا مَرْحَبٍ رَبِيعَةَ بْنَ حَصِيَّةَ، وَأَلَحَّ عُتَيْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ عَلَى بِسْطَامِ بْنِ قَيْسٍ فَأَدْرَكَهُ فَقَالَ لَهُ: اسْتَأْسِرْ أَبَا الصَّهْبَاءِ فَأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْفَلَاةِ وَالْعَطَشِ، فَاسْتَأْسَرَ لَهُ بِسْطَامُ بْنُ قَيْسٍ. فَقَالَ بَنُو ثَعْلَبَةَ لِعُتْبَةَ: إِنَّ أَبَا مَرْحَبٍ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ أَسَرْتَ بِسْطَامًا، وَهُوَ

قَاتِلُ مُلَيْلٍ وَبُجَيْرٍ ابْنَيْ أَبِي مُلَيْلٍ وَمَالِكِ بْنِ حِطَّانَ وَغَيْرِهِمْ فَاقْتُلْهُ. قَالَ: إِنِّي مُعِيلٌ وَأَنَا أُحِبُّ اللَّبَنَ. قَالُوا: إِنَّكَ تُفَادِيهِ فَيَعُودُ فَيَحْرُبُنَا مَالَنَا، فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَسَارَ بِهِ إِلَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ لِئَلَّا يُؤْخَذَ فَيُقْتَلَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ عَامِرًا لِأَنَّ عَمَّتَهُ خَوْلَةُ بِنْتُ شِهَابٍ كَانَتْ نَاكِحًا فِيهِمْ، فَقَالَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ فِي ذَلِكَ: لِلَّهِ عَتَّابُ بْنُ مَيَّةَ إِذْ ... رَأَى إِلَى ثَأْرِنَا فِي كَفِّهِ يَتَلَدَّدُ أَتُحْيِي امْرَأً أَرْدَى بُجَيْرًا وَمَالِكًا ... وَأَتْوَى حُرَيْثًا بَعْدَمَا كَانَ يَقْصِدُ وَنَحْنُ ثَأَرْنَا قَبْلَ ذَاكَ ابْنَ أُمِّهِ ... غَدَاةَ الْكُلَابِيِّينَ وَالْجَمْعُ يَشْهَدُ فَلَمَّا تَوَسَّطَ عُتَيْبَةُ بُيُوتَ بَنِي عَامِرٍ صَاحَ بِسْطَامٌ: وَا شَيْبَانَاهُ! وَلَا شَيْبَانَ لِيَ الْيَوْمَ! فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْجَأَ إِلَى قُبَّتِي فَافْعَلْ فَإِنِّي سَأَمْنَعُكَ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاقْذِفْ نَفْسَكَ فِي الرَّكِيِّ. فَأَتَى عُتَيْبَةُ تَابِعَهُ مِنَ الْجِنِّ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَأَمَرَ بِبَيْتِهِ فَقُوِّضَ. فَرَكِبَ فَرَسَهُ وَأَخَذَ سِلَاحَهُ ثُمَّ أَتَى مَجْلِسَ بَنِي جَعْفَرٍ، وَفِيهِ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ الْغَنَوِيُّ، فَحَيَّاهُمْ وَقَالَ: يَا عَامِرُ قَدْ بَلَغَنِي الَّذِي أَرْسَلْتَ بِهِ إِلَى بِسْطَامٍ فَأَنَا مُخَيِّرُكَ فِيهِ خِصَالًا ثَلَاثًا. فَقَالَ عَامِرٌ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي خَلْعَتَكَ وَخَلْعَةَ أَهْلِ بَيْتِكَ حَتَّى أُطْلِقَهُ لَكَ، فَلَيْسَتْ خَلَعَتُكَ وَخَلْعَةُ أَهْلِ بَيْتِكَ بِشَرٍّ مِنْ خَلْعَتِهِ وَخَلْعَةِ أَهْلِ بَيْتِهِ. فَقَالَ عَامِرٌ: هَذَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ. قَالَ عُتَيْبَةُ: ضَعْ رِجْلَكَ مَكَانَ رِجْلِهِ فَلَسْتَ عِنْدِي بِشَرٍّ مِنْهُ. فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ. قَالَ عُتَيْبَةُ: تَتْبَعُنِي إِذَا جَاوَزْتُ هَذِهِ الرَّابِيَةَ فَتُقَارِعُنِي عَنْهُ عَلَى الْمَوْتِ. فَقَالَ عَامِرٌ: هَذِهِ أَبْغَضُهُنَّ إِلَيَّ. فَانْصَرَفَ بِهِ عُتَيْبَةُ إِلَى بَنِي عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فَرَأَى بِسْطَامٌ مَرْكَبَ أُمِّ عُتَيْبَةَ رَثًّا فَقَالَ: يَا عُتَيْبَةُ هَذَا رَحْلُ أُمِّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَحْلَ أُمِّ سَيِّدٍ قَطُّ مِثْلَ هَذَا. فَقَالَ عُتَيْبَةُ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا أُطْلِقُكَ حَتَّى تَأْتِنِي أُمُّكَ بِحِدْجِهَا، وَكَانَ كَبِيرًا ذَا ثَمَنٍ كَثِيرٍ، وَهَذَا الَّذِي أَرَادَ بِسْطَامٌ لِيَرْغَبَ فِيهِ فَلَا يَقْتُلَهُ. فَأَرْسَلَ بِسْطَامٌ فَأَحْضَرَ حِدْجَ أُمِّهِ وَفَادَى نَفْسَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ بَعِيرٍ،

يوم لشيبان على بني تميم

وَقِيلَ بِأَلْفِ بَعِيرٍ، وَثَلَاثِينَ فَرَسًا وَهَوْدَجِ أُمِّهِ وَحِدْجِهَا، وَخَلَصَ مِنَ الْأَسْرِ. فَلَمَّا خَلَصَ مِنَ الْأَسْرِ أَذْكَى الْعُيُونَ عَلَى عُتَيْبَةَ وَإِبِلِهِ، فَعَادَتْ إِلَيْهِ عُيُونُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهَا عَلَى أَرْبَابٍ، فَأَغَارَ عَلَيْهَا وَأَخَذَ الْإِبِلَ كُلَّهَا وَمَا لَهُمْ مَعَهَا. (عُتَيْبَةُ بِالتَّاءِ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ، وَالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ سَاكِنَةً، وَفِي آخِرِهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ) . [يَوْمٌ لِشَيْبَانَ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: خَرَجَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَأَخُوهُ فِرَاسٌ التَّمِيمِيَّانِ، وَهُمَا الْأَقْرَعَانِ، فِي بَنِي مُجَاشِعٍ مِنْ تَمِيمٍ، وَهُمَا يُرِيدَانِ الْغَارَةَ عَلَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَمَعَهُمَا الْبَرُوكُ أَبُو جَعْلٍ، فَلَقِيَهُمْ بِسْطَامُ بْنُ قَيْسٍ الشَّيْبَانِيُّ وَعِمْرَانُ بْنُ مُرَّةَ فِي بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ بِزُبَالَةَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا ظَفِرَتْ فِيهِ بَكْرٌ وَانْهَزَمَتْ تَمِيمٌ، وَأُسِرَ الْأَقْرَعَانِ وَأَبُو جَعْلٍ وَنَاسٌ كَثِيرٌ، وَافْتَدَى الْأَقْرَعَانِ نَفْسَيْهِمَا مِنْ بِسْطَامٍ، وَعَاهَدَاهُ عَلَى إِرْسَالِ الْفِدَاءِ، فَأَطْلَقَهُمَا، فَبَعُدَا وَلَمْ يُرْسِلَا شَيْئًا، وَكَانَ فِي الْأَسْرَى إِنْسَانٌ مِنْ يَرْبُوعٍ فَسَمِعَهُ بِسْطَامُ بْنُ قَيْسٍ فِي اللَّيْلِ يَقُولُ: فِدًى بِوَالِدَةٍ عَلَيَّ شَفِيقَةٍ فَكَأَنَّهَا حَرَضٌ عَلَى الْأَسْقَامِ لَوْ أَنَّهَا عَلِمَتْ فَيَسْكُنُ جَأْشُهَا ... أَنِّي سَقَطْتُ عَلَى الْفَتَى الْمِنْعَامِ إِنَّ الَّذِي تَرْجِينَ ثَمَّ إِيَابَهُ سَقَطَ ... الْعِشَاءُ بِهِ عَلَى بِسْطَامِ سَقَطَ الْعِشَاءُ بِهِ عَلَى مُتَنَعِّمِ ... سَمْحِ الْيَدَيْنِ مُعَاوِدِ الْإِقْدَامِ فَلَمَّا سَمِعَ بِسْطَامُ ذَلِكَ مِنْهُ قَالَ لَهُ: وَأَبِيكَ لَا يُخْبِرُ أُمَّكَ عَنْكَ غَيْرُكَ! وَأَطْلَقَهُ. وَقَالَ ابْنُ رُمَيْضٍ الْعَنَزِيُّ: جَاءَتْ هَدَايَا مِنَ الرَّحْمَانِ مُرْسَلَةً حَتَّى أُنِيخَتْ لَدَى أَبْيَاتِ بِسْطَامِ جَيْشُ الْهُذَيْلِ وَجَيْشُ الْأَقْرَعَيْنِ ... مَعًا وَكُبَّةُ الْخَيْلِ وَالْأَذْوَادِ فِي عَامِ مُسَوِّمٌ خَيْلَهُ تَعْدُو مَقَانِبُهُ ... عَلَى الذَّوَائِبِ مِنْ أَوْلَادِ هَمَّامِ

يوم مبائض

وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ: وَصَبَّحَنَا عَارٌ طَوِيلٌ بِنَاؤُهُ نُسَبُّ ... بِهِ مَا لَاحَ فِي الْأُفْقِ كَوْكَبُ فَلَمْ أَرَ يَوْمًا كَانَ أَكْثَرَ بَاكِيًا ... وَوَجْهًا تُرَى فِيهِ الْكَآبَةُ تَجْنُبُ أَصَابُوا الْبَرُوكَ وَابْنَ حَابِسَ عَنْوَةً ... فَظَلَّ لَهُمْ بِالْقَاعِ يَوْمٌ عَصَبْصَبُ وَإِنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ فِي حَوْمَةِ الْوَغَى ... إِذَا ازْوَرَّتِ الْأَبْطَالُ لَيْثٌ مُجَرَّبُ وَأَبُو الصَّهْبَاءِ: هُوَ بِسْطَامُ بْنُ قَيْسٍ. وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي مَدْحِ بِسْطَامِ بْنِ قَيْسٍ، تَرَكْنَا ذِكْرَهُ اخْتِصَارًا. (حَجَرٌ: بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْجِيمِ) . [يَوْمُ مَبَائِضَ] وَهُوَ لِشَيْبَانَ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: حَجَّ طَرِيفُ بْنُ تَمِيمٍ الْعَنْبَرِيُّ التَّمِيمِيُّ، وَكَانَ رَجُلًا جَسِيمًا يُلَقَّبُ مُجَدِّعًا، وَهُوَ فَارِسُ قَوْمِهِ، وَلَقِيَهُ حَمْصِيصَةُ بْنُ جَنْدَلٍ الشَّيْبَانِيُّ مِنْ بَنِي أَبِي رَبِيعَةَ، وَهُوَ شَابٌّ قَوِيٌّ شُجَاعٌ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَأَطَالَ النَّظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ طَرِيفٌ: لِمَ تَشُدُّ نَظَرَكَ إِلَيَّ؟ قَالَ حَمْصِيصَةُ: أُرِيدُ أَنْ أُثْبِتَكَ لَعَلِّي أَنْ أَلْقَاكَ فِي جَيْشٍ فَأَقْتُلَكَ. فَقَالَ طَرِيفٌ: اللَّهُمَّ لَا تُحَوِّلِ الْحَوْلَ حَتَّى أَلْقَاهُ! وَدَعَا حَمْصِيصَةُ مِثْلَهُ، فَقَالَ طَرِيفٌ: أَوَكُلَّمَا وَرَدَتْ عُكَاظَ قَبِيلَةٌ ... بَعَثُوا إِلَيَّ عَرِيفَهُمْ يَتَوَسَّمُ لَا تُنْكِرُونِي إِنَّنِي أَنَا ذَاكُمُ شَاكِي ... السِّلَاحِ وَفِي الْحَوَادِثِ مُعْلَمُ

حَوْلِي فَوَارِسُ مِنْ أُسَيْدٍ شُجْعَةٌ وَمِنَ الْهَجِيمِ وَحَوْلَ بَيْتِيَ خُصَّمُ ... تَحْتِي الْأَغَرُّ وَفَوْقَ جِلْدِيَ نَثْرَةٌ زَعْفٌ تَرُدُّ السَّيْفَ وَهُوَ مُثَلَّمُ فِي أَبْيَاتٍ. ثُمَّ إِنَّ بَنِي أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ وَبَنِي مُرَّةَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ كَانَ بَيْنَهُمْ شَرٌّ وَخِصَامٌ فَاقْتَتَلُوا شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ دَمٌ. فَقَالَ هَانِئُ بْنُ مَسْعُودٍ، رَئِيسُ بَنِي أَبِي رَبِيعَةَ، لِقَوْمِهِ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَتَفَاقَمَ الشَّرُّ بَيْنَنَا، فَارْتَحَلَ بِهِمْ فَنَزَلَ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ مَبَائِضُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مِيَاهِ بَنِي تَمِيمٍ، فَأَقَامُوا عَلَيْهِ أَشْهُرًا، وَبَلَغَ خَبَرُهُمْ بَنِي تَمِيمٍ، فَأَرْسَلَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَقَالُوا: هَذَا حَيٌّ مُنْفَرِدٌ وَإِنِ اصْطَلَمْتُمُوهُمْ أَوْهَنْتُمْ بَكْرَ بْنَ وَائِلٍ. وَاجْتَمَعُوا وَسَارُوا عَلَى ثَلَاثَةِ رُؤَسَاءَ: أَبُو الْجَدْعَاءِ الطَّهْوِيُّ عَلَى بَنِي حَنْظَلَةَ، وَابْنُ فَدْكَى الْمِنْقَرِيُّ عَلَى بَنِي سَعْدٍ، وَطَرِيفُ بْنُ تَمِيمٍ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ. فَلَمَّا قَارَبُوا بَنِي أَبِي رَبِيعَةَ بَلَغَهُمُ الْخَبَرُ فَاسْتَعَدُّوا لِلْقِتَالِ، فَخَطَبَهُمْ هَانِئُ بْنُ مَسْعُودٍ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، فَقَالَ: إِذَا أَتَوْكُمْ فَقَاتِلُوهُمْ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ ثُمَّ انْحَازُوا عَنْهُمْ، فَإِذَا اشْتَغَلُوا بِالنَّهْبِ فَعُودُوا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّكُمْ تُصِيبُونَ مِنْهُمْ حَاجَتَكُمْ. وَصَبَّحَهُمْ بَنُو تَمِيمٍ وَالْقَوْمُ حَذِرُونَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَفَعَلَتْ بَنُو شَيْبَانَ مَا أَمَرَهُمْ هَانِئٌ. فَاشْتَغَلَتْ تَمِيمٌ بِالْغَنِيمَةِ، وَمَرَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِابْنٍ لِهَانِئِ بْنِ مَسْعُودٍ صَبِيٍّ فَأَخَذَهُ وَقَالَ: حَسْبِي هَذَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَسَارَ بِهِ وَبَقِيَتْ تَمِيمٌ مَعَ الْغَنِيمَةِ وَالسَّبْيِ. فَعَادَتْ شَيْبَانُ عَلَيْهِمْ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ وَأَسَرُوهُمْ كَيْفَ شَاءُوا، وَلَمْ تُصَبْ تَمِيمٌ بِمِثْلِهَا، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَلَمْ يَلْوِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَانْهَزَمَ طَرِيفٌ فَاتَّبَعَهُ حَمْصِيصَةُ فَقَتَلَهُ. وَاسْتَرَدَّتْ شَيْبَانُ الْأَهْلَ وَالْمَالَ وَأَخَذُوا مَعَ ذَلِكَ مَا كَانَ مَعَهُمْ، وَفَادَى هَانِئُ ابْنُ مَسْعُودٍ

يوم الزويرين

ابْنَهُ بِمِائَةِ بَعِيرٍ، وَقَالَ بَعْضُ شَيْبَانَ فِي هَذَا الْيَوْمِ: وَلَقَدْ دَعَوْتَ طَرِيفُ دَعْوَةَ جَاهِلٍ ... غِرٍّ وَأَنْتَ بِمَنْظَرٍ لَا تُعْلَمُ وَأَتَيْتَ حَيًّا فِي الْحُرُوبِ مَحَلَّهُمْ ... وَالْجَيْشُ بِاسْمِ أَبِيهِمُ يَسْتَهْزِمُ فَوَجَدْتَهُمْ يَرْعَوْنَ حَوْلَ دِيَارِهِمْ ... بُسْلًا إِذَا حَامَ الْفَوَارِسُ أَقْدَمُوا وَإِذَا اعْتَزَوْا بِأَبِي رَبِيعَةَ أَقْبَلُوا ... بِكَتِيبَةٍ مِثْلَ النُّجُومِ تُلَمْلِمُ سَامُوكَ دِرْعَكَ وَالْأَغَرَّ كِلَيْهِمَا ... وَبَنُو أُسَيْدٍ أَسْلَمُوكَ وَخُصَّمُ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَوَادٍ يَرْثِي طَرِيفًا: لَا تَبْعُدَنْ يَا خَيْرَ عَمْرِو بْنِ جُنْدَبٍ ... لَعَمْرِي لَمَنْ زَارَ الْقُبُورَ لَيَبْعُدَا عَظِيمُ رَمَادِ النَّارِ لَا مُتَعَبِّسًا ... وَلَا مُؤْيِسًا مِنْهَا إِذَا هُوَ أَوْقَدَا وَمَا كَانَ وَقَّافًا إِذَا الْخَيْلُ أَحْجَمَتْ ... وَمَا كَانَ مِبْطَانًا إِذَا مَا تَجَرَّدَا [يَوْمُ الزُّوَيْرَيْنِ] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَتْ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ قَدْ أَجْدَبَتْ بِلَادُهُمْ فَانْتَجَعُوا بِلَادَ تَمِيمٍ بَيْنَ الْيَمَامَةِ وَهَجَرَ، فَلَمَّا تَدَانَوْا جَعَلُوا لَا يَلْقَى بَكْرِيٌّ تَمِيمِيًّا إِلَّا قَتَلَهُ، وَلَا يَلْقَى تَمِيمِيٌّ بَكْرِيًّا إِلَّا قَتَلَهُ، إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمَا مَالَ الْآخَرِ أَخَذَهُ، حَتَّى تَفَاقَمَ الشَّرُّ وَعَظُمَ، فَخَرَجَ الْحَوْفَزَانُ بْنُ شَرِيكٍ وَالْوَادِكُ بْنُ الْحَارِثِ الشَّيْبَانِيَّانِ لِيُغِيرَا عَلَى بَنِي دَارِمٍ، فَاتَّفَقَ أَنَّ تَمِيمًا فِي تِلْكَ الْحَالِ اجْتَمَعَتْ عَلَى جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ عَمْرِو بْنِ حَنْظَلَةَ وَالرِّبَابِ وَسَعْدٍ وَغَيْرِهِمَا وَسَارَتْ إِلَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَعَلَى تَمِيمٍ أَبُو الرَّئِيسِ الْحَنْظَلِيُّ. فَبَلَغَ خَبَرُهُمْ بَكْرَ بْنَ وَائِلٍ

فَتَقَدَّمُوا وَعَلَيْهِمُ الْأَصَمُّ عَمْرُو بْنُ قَيْسِ بْنِ مَسْعُودٍ أَبُو مَفْرُوقٍ وَحَنْظَلَةُ بْنُ سَيَّارٍ الْعِجْلِيُّ وَحُمْرَانُ بْنُ عَمْرٍو الْعَبْسِيُّ، فَلَمَّا الْتَقَوْا جَعَلَتْ تَمِيمٌ وَالرِّبَابُ بَعِيرَيْنِ وَجَلَّلُوهُمَا، وَجَعَلُوا عِنْدَهُمَا مَنْ يَحْفَظُهُمَا، وَتَرَكُوهُمَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ مَعْقُولَيْنِ وَسَمُّوهُمَا زُوَيْرَيْنِ، يَعْنِي إِلَهَيْنِ، وَقَالُوا: لَا نَفِرُّ حَتَّى يَفِرَّ هَذَانِ الْبَعِيرَانِ. فَلَمَّا رَأَى أَبُو مَفْرُوقٍ الْبَعِيرَيْنِ سَأَلَ عَنْهُمَا فَأُعْلِمَ حَالَهُمَا، فَقَالَ: أَنَا زُوَيْرُكُمْ، وَبَرَكَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَقَالَ: قَاتِلُوا عَنِّي وَلَا تَفِرُّوا حَتَّى أَفِرَّ. فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَوَصَلَتْ شَيْبَانُ إِلَى الْبَعِيرَيْنِ فَأَخَذُوهُمَا فَذَبَحُوهُمَا وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ عَلَيْهِمَا، فَانْهَزَمَتْ تَمِيمٌ وَقُتِلَ أَبُو الرَّئِيسِ مُقَدِّمُهُمْ وَمَعَهُ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَاجْتَرَفَتْ بَكْرٌ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَسَرُوا أَسْرَى كَثِيرَةً، وَوَصَلَ الْحَوْفَزَانُ إِلَى النِّسَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَعَادَ إِلَى أَصْحَابِهِ سَالِمًا، وَقَالَ الْأَعْشَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَا سَلْمَ لَا تَسْأَلِي عَنَّا فَلًا كُشِفَتْ ... عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا سُودٌ مَقَارِيفُ نَحْنُ الَّذِينَ هَزَمْنَا يَوْمَ صَبَّحْنَا ... يَوْمَ الزُّوَيْرَيْنِ فِي جَمْعِ الْأَحَالِيفِ ظَلُّوا وَظَلَّتْ تَكِرُّ الْخَيْلُ وَسْطَهُمُ ... بِالشِّيبِ مِنَّا وَبِالْمُرْدِ الْغَطَارِيفِ تَسْتَأْنِسُ الشَّرَفَ الْأَعْلَى بِأَعْيُنِهَا لَمْحَ ... الصُّقُورِ عَلَتْ فَوْقَ الْأَظَالِيفِ انْسَلَّ عَنْهَا بِسَيْلِ الصَّيْفِ فَانْجَرَدَتْ ... تَحْتَ اللُّبُودِ مُتُونٌ كَالزَّحَالِيفِ وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ فِي هَذَا الْيَوْمِ، لَا سِيَّمَا الْأَغْلَبُ الْعِجْلِيُّ، فَمِنْ ذَلِكَ أُرْجُوزَتُهُ أَوَّلُهَا: إِنْ سَرَّكَ الْعِزُّ فَجَحْجِحْ بِجُشَمْ يَقُولُ فِيهَا:

ذكر أسر حاتم طيء

جَاءُوا بِزَوْرَيْهِمْ وَجِئْنَا بِالْأَصَمْ ... شَيْخٍ لَنَا كَاللَّيْثِ مِنْ بَاقِي إِرَمْ شَيْخٌ لَنَا مُعَاوِدٌ ضَرْبَ الْبُهُمْ ... يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ إِذَا الرُّمْحُ انْقَصَمْ هَلْ غَيْرُ غَارٍ صَكَّ غَارًا فَانْهَزَمْ الْغَارَانِ: بَكْرٌ وَتَمِيمٌ. وَلَهُ الْأُرْجُوزَةُ الَّتِي أَوَّلُهَا: يَا رُبَّ حَرْبٍ ثَرَّةِ الْأَخْلَافِ يَذْكُرُ فِيهَا هَذَا الْيَوْمَ. [ذِكْرُ أَسْرِ حَاتِمِ طَيِّءٍ] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَغَارَ حَاتِمُ طَيِّءٍ بِجَيْشٍ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ فَقَاتَلُوهُمْ، وَانْهَزَمَتْ طَيِّءٌ وَقُتِلَ مِنْهُمْ وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ فِي الْأَسْرَى حَاتِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّائِيُّ، فَبَقِيَ مُوثَقًا عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ عُنَيْزَةَ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْهُمُ اسْمُهَا عَالِيَةُ بِنَاقَةٍ فَقَالَتْ لَهُ: افْصِدْ هَذِهِ، فَنَحَرَهَا، فَلَمَّا رَأَتْهَا مَنْحُورَةً صَرَخَتْ، فَقَالَ حَاتِمٌ: عَالِيَ لَا تَلْتَدُّ مِنْ عَالِيَهْ ... إِنَّ الَّذِي أَهْلَكْتُ مِنْ مَالِيَهْ إِنَّ ابْنَ أَسْمَاءَ لَكُمْ ضَامِنٌ ... حَتَّى يُؤَدِّي آنِسٌ نَاوِيَهْ لَا أَفْصِدُ النَّاقَةَ فِي أَنْفِهَا ... لَكِنَّنِي أُوجِرُهَا الْعَالِيَهْ إِنِّي عَنِ الْفَصْدِ لَفِي مَفْخَرٍ ... يَكْرَهُ مِنِّي الْمِفْصَدُ الْآلِيَهْ وَالْخَيْلُ إِنَّ شَمَّصَ فُرْسَانُهَا ... تَذْكُرُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَمْثَالِيَهْ وَقَالَ رُمَيْضٌ الْعَنَزِيُّ يَفْتَخِرُ:

وَنَحْنُ أَسَرْنَا حَاتِمًا وَابْنَ ظَالِمٍ ... فَكُلٌّ ثَوَى فِي قَيْدِنَا وَهْوَ يَخْشَعُ وَكَعْبَ إِيَادٍ قَدْ أَسَرْنَا وَبَعْدَهُ ... أَسَرْنَا أَبَا حَسَّانَ وَالْخَيْلُ تَطْمَعُ وَرَيَّانَ غَادَرْنَا بِوَجٍّ كَأَنَّهُ ... وَأَشْيَاعَهُ فِيهَا صَرِيمٌ مُصَرَّعُ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَنْصُورٍ الذُّهْلِيُّ قَصِيدَةً يَفْتَخِرُ بِأَيَّامِ قَوْمِهِ، وَهِيَ طَوِيلَةٌ، وَفِيهَا آدَابٌ حَسَنَةٌ، تَرَكْنَاهَا كَرَاهِيَةَ التَّطْوِيلِ، وَأَوَّلُهَا: أَمِنْ عِرْفَانَ مَنْزِلَةٌ وَدَارٌ ... تُعَاوِرُهَا الْبَوَارِحُ وَالسَّوَارِي وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَاءَ الْإِسْلَامُ وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِ أَحَدٌ أَعَزُّ دَارًا وَلَا أَمْنَعُ جَارًا وَلَا أَكْثَرُ حَلِيفًا مِنْ شَيْبَانَ. كَانَتْ عَنِينَةُ مِنْ لَخْمٍ فِي الْأَحْلَافِ، وَكَانَتْ دَرْمَكَةُ بْنُ كِنْدَةَ فِي بَنِي هِنْدٍ، وَكَانَتْ عِكْرِمَةُ مِنْ طَيِّءٍ، وَحَوْتَكَةُ مِنْ عُذْرَةَ وَبُنَانَةُ، كُلُّ هَؤُلَاءِ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ هَمَّامٍ، وَكَانَتْ عَائِذَةُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَضَبَّةُ وَحَوَاسُ مِنْ كِنْدَةَ، هَؤُلَاءِ فِي بَنِي أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَتْ سَلِيمَةُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْقَيْسِ فِي بَنِي أَسْعَدَ بْنِ هَمَّامٍ، وَكَانَتْ وَثِيلَةُ مِنْ ثَعْلَبَةَ، وَبَنُو خَيْبَرِيٍّ مِنْ طَيٍّءٍ فِي بَنِي تَمِيمِ بْنِ شَيْبَانَ، وَكَانَتْ عَوْفُ بْنُ حَارِثٍ مِنْ كِنْدَةَ فِي بَنِي مُحَلَّمٍ. كُلُّ هَذِهِ قَبَائِلُ وَبُطُونٌ جَاوَرَتْ شَيْبَانَ فَعَزَّتْ بِهَا وَكَثُرَتْ.

يوم مسحلان

[يَوْمُ مُسْحُلَانَ] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: غَزَا رَبِيعَةُ بْنُ زِيَادٍ الْكَلْبِيُّ فِي جَيْشٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَقِيَ جَيْشًا لِبَنِي شَيْبَانَ عَامَّتُهُمْ بَنُو أَبِي رَبِيعَةَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَظَفِرَتْ بِهِمْ بَنُو شَيْبَانَ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَذَلِكَ يَوْمُ مُسْحُلَانَ، وَأَسَرُوا نَاسًا كَثِيرًا، وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ. وَكَانَ رَئِيسَ شَيْبَانَ هَؤُلَاءِ حَيَّانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْمُحَلَّمِيُّ، وَقِيلَ: كَانَ رَئِيسَهُمْ زِيَادُ بْنُ مَرْثَدٍ مِنْ بَنِي أَبِي رَبِيعَةَ، فَقَالَ شَاعِرُهُمْ: سَائِلْ رَبِيعَةَ حَيْثُ حَلَّ بِجَيْشِهِ ... مَعَ الْحَيِّ كَلْبٌ حَيْثُ لَبَّتْ فَوَارِسُهْ عَشِيَّةَ وَلَّى جَمْعُهُمْ فَتَتَابَعُوا ... فَصَارَ إِلَيْنَا نَهْبُهُ وَعَوَانِسُهْ ثُمَّ إِنَّ الرَّبِيعَ بْنَ زِيَادٍ الْكَلْبِيَّ نَافَرَ قَوْمَهُ وَحَارَبَهُمْ فَهَزَمُوهُ. فَاعْتَزَلَهُمْ وَسَارَ حَتَّى حَلَّ بِبَنِي شَيْبَانَ، فَاسْتَجَارَ بِرَجُلٍ اسْمُهُ زِيَادٌ مِنْ بَنِي أَبِي رَبِيعَةَ، فَقَتَلَهُ بَنُو أَسْعَدَ بْنِ هَمَّامٍ، ثُمَّ إِنَّ شَيْبَانَ حَمَلُوا دِيَتَهُ إِلَى كَلْبٍ مِائَتَيْ بَعِيرٍ فَرَضُوا. [حَرْبٌ لِسُلَيْمٍ وَشَيْبَانَ] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: خَرَجَ جَيْشٌ لِبَنِي سُلَيْمٍ عَلَيْهِمُ النَّصِيبُ السُّلَمِيُّ وَهُمْ يُرِيدُونَ الْغَارَةَ عَلَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ. فَلَقِيَهُمْ رَجُلٌ مِنْ شَيْبَانَ اسْمُهُ صُلَيْعُ بْنُ عَبْدِ غَنْمٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى فَرَسٍ لَهُ يُسَمَّى الْبَحْرَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَيْنَ تَذْهَبُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ الْغَارَةَ عَلَى بَنِي شَيْبَانَ. فَقَالَ لَهُمْ: مَهْلًا فَإِنِّي لَكُمْ نَاصِحٌ، وَإِيَّاكُمْ وَبَنِي شَيْبَانَ، فَإِنِّي أُقْسِمُ لَكُمْ بِاللَّهِ لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ فَرَسٍ خَصِيٍّ سِوَى الْفُحُولِ وَالْإِنَاثِ. فَأَبَوْا إِلَّا الْغَارَةَ عَلَيْهِمْ، فَدَفَعَ صُلَيْعٌ فَرَسَهُ رَكْضًا حَتَّى أَتَى قَوْمَهُ فَأَنْذَرَهُمْ. فَرَكِبَتْ شَيْبَانُ وَاسْتَعَدُّوا، فَأَتَاهُمْ بَنُو سُلَيْمٍ وَهُمْ مُعَدُّونَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَظَفِرَتْ شَيْبَانُ وَانْهَزَمَتْ سُلَيْمٌ وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ كَثِيرَةٌ، وَأُسِرَ النَّصِيبُ رَئِيسُهُمْ، أَسَرَهُ عِمْرَانُ بْنُ مُرَّةَ الشَّيْبَانِيُّ فَضَرَبَ رَقَبَتَهُ، فَقَالَ صُلَيْعٌ:

يوم جدود

نَهَيْتُ بَنِي زَعْلٍ غَدَاةَ لَقِيتُهُمْ ... وَجَيْشَ نَصِيبٍ وَالظُّنُونُ تُطَاعُ وَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ الْحَرِيبَ وَرَاكِسًا ... بِهِ نَعَمٌ تَرْعَى الْمُرَارَ رِتَاعُ وَلَكِنَّ فِيهِ الْمَوْتَ يَرْتَعُ سِرْبُهُ ... وَحُقَّ لَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا وَيُطَاعُوا مَتَّى تَأْتِهِ تَلْقَى عَلَى الْمَاءِ حَارِثًا ... وَجَيْشًا لَهُ يُوفِي بِكُلِّ بِقَاعِ [يَوْمُ جَدُودٍ] وَهُوَ يَوْمٌ بَيْنَ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَبَنِي مِنْقَرٍ مِنْ تَمِيمٍ. وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّ الْحَوْفَزَانَ، وَاسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ شَرِيكٍ الشَّيْبَانِيُّ، كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي سَلِيطِ بْنِ يَرْبُوعٍ مُوَادَعَةٌ، فَهَمَّ بِالْغَدْرِ بِهِمْ وَجَمَعَ بَنِي شَيْبَانَ وَذُهْلًا وَاللَّهَازِمَ، وَعَلَيْهِمْ حُمْرَانُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ بِشْرِ بْنِ عَمْرٍو. ثُمَّ غَزَا وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يُصِيبَ غِرَّةً مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَنِي يَرْبُوعٍ نَذَرَ بِهِ عُتَيْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابٍ فَنَادَى فِي قَوْمِهِ، فَحَالُوا بَيْنَ الْحَوْفَزَانِ وَبَيْنَ الْمَاءِ، فَقَالَ لِعُتْبَةَ: إِنِّي لَا أَرَى مَعَكَ إِلَّا رَهْطَكَ وَأَنَا فِي طَوَائِفَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، فَلَئِنْ ظَفِرْتُ بِكُمْ قَلَّ عَدَدُكُمْ وَطَمِعَ فِيكُمْ عَدُوُّكُمْ، وَلَئِنْ ظَفِرْتُمْ بِي مَا تَقْتُلُونَ إِلَّا أَقَاصِيَ عَشِيرَتِي، وَمَا إِيَّاكُمْ أَرَدْتُ، فَهَلْ لَكَمَ أَنْ تُسَالِمُونَا وَتَأْخُذُوا مَا مَعَنَا مِنَ التَّمْرِ، وَوَاللَّهِ لَا نُرَوِّعُ يَرْبُوعًا أَبَدًا. فَأَخَذَ مَا مَعَهُمْ مِنَ التَّمْرِ وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ. فَسَارَتْ بَكْرٌ حَتَّى أَغَارُوا عَلَى بَنِي رَبِيعِ بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ مُقَاعِسٌ بِجَدُودٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ مُقَاعِسًا لِأَنَّهُ تَقَاعَسَ عَنْ حِلْفِ بَنِي سَعْدٍ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ خُلُوفٌ فَأَصَابَ سَبْيًا وَنَعَمًا، فَبَعَثَ بَنُو رَبِيعٍ صَرِيخَهُمْ إِلَى بَنِي كُلَيْبٍ، فَلَمْ يُجِيبُوهُمْ، فَأَتَى الصَّرِيخُ بَنِي مِنْقَرِ بْنِ عُبَيْدٍ فَرَكِبُوا فِي الطَّلَبِ فَلَحِقُوا بَكْرَ بْنَ وَائِلٍ وَهُمْ مُقَاتِلُونَ، فَمَا شَعَرَ الْحَوْفَزَانُ وَهُوَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ إِلَّا بِالْأَهْتَمِ بْنِ سُمَيِّ بْنِ سِنَانٍ الْمِنْقَرِيِّ وَاقِفًا عَلَى رَأْسِهِ، فَرَكِبَ فَرَسَهُ، فَنَادَى الْأَهْتَمُ: يَا آلَ سَعْدٍ! وَنَادَى الْحَوْفَزَانُ: يَا آلَ وَائِلٍ! وَلَحِقَ بَنُو مِنْقَرٍ فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَهُزِمَتْ بَكْرٌ وَخَلَّوُا السَّبْيَ وَالْأَمْوَالَ، وَتَبِعَتْهُمْ مِنْقَرٌ، فَمِنْ قَتِيلٍ وَأَسِيرٍ، وَأَسَرَ الْأَهْتَمُ حُمْرَانَ بْنَ عَبْدِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَكُنْ لِقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيِّ هِمَّةٌ إِلَّا الْحَوْفَزَانُ، فَتَبِعَهُ عَلَى

مُهْرٍ، وَالْحَوْفَزَانِ عَلَى فَرَسٍ فَارِجٍ فَلَمْ يَلْحَقْهُ وَقَدْ قَارَبَهُ. فَلَمَّا خَافَ أَنْ يَفُوتَهُ حَفَزَهُ بِالرُّمْحِ فِي ظَهْرِهِ فَاحْتَفَزَ بِالطَّعْنَةِ وَنَجَا، فَسُمِّيَ يَوْمَئِذٍ الْحَوْفَزَانَ، وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَقَالَ الْأَهْتَمُ فِي أَسْرِهِ حُمْرَانَ: نِيطَتْ بِحُمْرَانَ الْمَنِيَّةُ بَعْدَمَا ... حَشَاهُ سِنَانٌ مِنْ شُرَاعَةَ أَزْرَقُ دَعَا يَالَ قَيْسٍ وَاعْتَزَيْتُ لِمِنْقَرٍ ... وَكُنْتُ إِذَا لَاقَيْتُ فِي الْخَيْلِ أَصْدُقُ وَقَالَ سَوَّارُ بْنُ حَيَّانَ الْمِنْقَرِيُّ يَفْتَخِرُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ بَكْرٍ: وَنَحْنُ حَفَزْنَا الْحَوْفَزَانَ بِطَعْنَةٍ كَسَتْهُ ... نَجِيعًا مِنْ دَمِ الْبَطْنِ أَشْكَلَا وَحُمْرَانُ قَسْرًا أَنْزَلَتْهُ رِمَاحُنَا ... فَعَالَجَ غُلًّا فِي ذِرَاعَيْهِ مُثْقَلَا فَيَا لَكِ مِنْ أَيَّامِ صِدْقٍ نَعُدُّهَا ... كَيَوْمِ جُوَاثَا وَالنُّبَاجِ وَنَيْتَلَا قَضَى اللَّهُ أَنَّا يَوْمَ تُقْتَسَمُ الْعُلَى ... أَحَقُّ بِهَا مِنْكُمْ فَأَعْطَى فَأَجْزَلَا فَلَسْتَ بِمُسْطِيعِ السَّمَاءِ وَلَمْ ... تَجِدْ لِعِزٍّ بِنَاهُ اللَّهُ فَوْقَكَ مَنْقَلَا (مِنْقَرٌ: بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ النُّونِ، وَفَتْحِ الْقَافِ، وَرُبَيْعٌ: بِضَمِّ الرَّاءِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) .

يوم الإياد، وهو يوم أعشاش ويوم العظالى

[يَوْمُ الْإِيَادِ، وَهُوَ يَوْمُ أُعْشَاشٍ وَيَوْمُ الْعُظَالَى] وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمَ الْعُظَالَى لِأَنَّ بِسْطَامَ بْنَ قَيْسٍ وَهَانِئَ بْنَ قَبِيصَةَ وَمَفْرُوقَ بْنَ عَمْرٍو تَعَاظَلُوا عَلَى الرِّيَاسَةِ، وَكَانَتْ بَكْرٌ تَحْتَ يَدِ كِسْرَى وَفَارِسَ، وَكَانُوا يُقِرُّونَهُمْ وَيُجَهِّزُونَهُمْ، فَأَقْبَلُوا مِنْ عِنْدِ عَامِلِ عَيْنِ التَّمْرِ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مُتَسَانِدِينَ، وَهُمْ يَتَوَقَّعُونَ انْحِدَارَ بَنِي يَرْبُوعٍ فِي الْحَزْنِ، فَاجْتَمَعَ بَنُو عُتَيْبَةَ وَبَنُو عُبَيْدٍ وَبَنُو زُبَيْدٍ فِي الْحَزْنِ. فَحَلَّتْ بَنُو زُبَيْدٍ الْحَدِيقَةَ، وَحَلَّتْ بَنُو عُتَيْبَةَ وَبَنُو عُبَيْدٍ رَوْضَةَ الثَّمَدِ، فَأَقْبَلَ جَيْشُ بَكْرٍ حَتَّى نَزَلُوا هَضَبَةَ الْخَصِيِّ، فَرَأَى بِسْطَامُ السَّوَادَ بِالْحَدِيقَةِ، وَثَمَّ غُلَامٌ عَرَفَهُ بِسْطَامٌ، وَكَانَ قَدْ عَرَفَ غِلْمَانَ بَنِي ثَعْلَبَةَ حِينَ أَسَرَهُ عُتْبَةُ. فَسَأَلَهُ بِسْطَامٌ عَنِ السَّوَادِ الَّذِي بِالْحَدِيقَةِ، فَقَالَ: هُمْ بَنُو زُبَيْدٍ. قَالَ: كَمْ هُمْ مِنْ بَيْتٍ؟ قَالَ: خَمْسُونَ بَيْتًا. قَالَ: فَأَيْنَ بَنُو عُتَيْبَةَ وَبَنُو عُبَيْدٍ؟ قَالَ: هُمْ بِرَوْضَةِ الثَّمَدِ وَسَائِرُ النَّاسِ بِخِفَافٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ. فَقَالَ بِسْطَامٌ: أَتُطِيعُونِي يَا بَنِي بَكْرٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَرَى لَكُمْ أَنْ تَغْنَمُوا هَذَا الْحَيَّ الْمُتَفَرِّدَ بَنِي زُبَيْدٍ وَتَعُودُوا سَالِمِينَ. قَالُوا: وَمَا يُغْنِي بَنُو زُبَيْدٍ عَنَّا؟ قَالَ: إِنَّ فِي السَّلَامَةِ إِحْدَى الْغَنِيمَتَيْنِ. قَالُوا: إِنَّ عُتَيْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ قَدْ مَاتَ. وَقَالَ مَفْرُوقٌ: قَدِ انْتَفَخَ سَحْرُكَ يَا أَبَا الصَّهْبَاءِ! وَقَالَ هَانِئٌ: اخْسَأْ! فَقَالَ: إِنَّ أُسَيْدَ بْنَ جُبَاةَ لَا يُفَارِقُ فَرَسَهُ الشَّقْرَاءَ لَيْلًا

يوم الشقيقة وقتل بسطام بن قيس

وَنَهَارًا، فَإِذَا أَحَسَّ بِكُمْ رَكِبَهَا حَتَّى يُشْرِفَ عَلَى مُلَيْحَةَ فَيُنَادِي: يَا آلَ ثَعْلَبَةَ، فَيَلْقَاكُمْ طَعْنٌ يُنْسِيكُمُ الْغَنِيمَةَ، وَلَمْ يُبْصِرْ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَصْرَعَ صَاحِبِهِ، وَقَدْ عَصَيْتُمُونِي وَأَنَا تَابِعُكُمْ وَسَتَعْلَمُونَ. فَأَغَارُوا عَلَى بَنِي زُبَيْدٍ، وَأَقْبَلُوا نَحْوَ بَنِي عُتَيْبَةَ وَبَنِي عُبَيْدٍ، فَأَحَسَّتِ الشَّقْرَاءُ فَرَسُ أُسَيْدٍ بِوَقْعِ الْحَوَافِرِ فَنَخَسَتْ بِحَافِرِهَا، فَرَكِبَهَا أُسَيْدٌ وَتَوَجَّهَ نَحْوَ بَنِي يَرْبُوعٍ بِمُلَيْحَةَ وَنَادَى: يَا سُوءَ صَبَاحَاهُ! يَا آلَ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ! فَمَا ارْتَفَعَ الضُّحَى حَتَّى تَلَاحَقُوا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَتْ شَيْبَانُ بَعْدَ أَنْ قَتَلَتْ مِنْ تَمِيمٍ جَمَاعَةً مِنْ فُرْسَانِهِمْ، وَقُتِلَ مِنْ شَيْبَانَ أَيْضًا وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ: هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ، فَفَدَى نَفْسَهُ وَنَجَا، فَقَالَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ فِي هَذَا الْيَوْمِ: لَعَمْرِي لَنِعْمَ الْحَيُّ أَسْمَعُ غُدْوَةٌ ... أُسَيْدٌ وَقَدْ جَدَّ الصُّرَاخُ الْمُصَدِّقُ وَأَسْمَعُ فِتْيَانًا كَجِنَّةِ عَبْقَرٍ ... لَهُمْ رَيِّقٌ عِنْدَ الطِّعَانِ وَمَصْدَقُ أَخَذْنَ بِهِمْ جَنْبَيْ أُفَاقٍ وَبَطْنَهَا ... فَمَا رَجَعُوا حَتَّى أَرَقُّوا وَأَعْتَقُوا وَقَالَ الْعَوَّامُّ فِي هَذَا الْيَوْمِ: قَبَّحَ الْإِلَهُ عِصَابَةً مِنْ وَائِلٍ ... يَوْمَ الْأُفَاقَةِ أَسْلَمُوا بِسْطَامَا وَرَأَى أَبُو الصَّهْبَاءِ دُونَ سَوَامِهِمْ ... طَعْنًا يُسَلِّي نَفْسَهُ وَزِحَامَا كُنْتُمْ أُسُودًا فِي الْوَغَى فَوُجِدْتُمُ ... يَوْمَ الْأُفَاقَةِ فِي الْغَبِيطِ نَعَامَا وَأَكْثَرَ الْعَوَّامُ الشِّعْرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ. فَلَمَّا أَلَحَّ فِيهِ أَخَذَ بِسْطَامٌ إِبِلَهُ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: أَرَى كُلَّ ذِي شِعْرٍ أَصَابَ بِشِعْرِهِ ... خَلَا أَنَّ عَوَّامَا بِمَا قَالَ عَيَّلَا فَلَا يَنْطِقْنَ شِعْرًا يَكُونُ جَوَازُهُ ... كَمَا شَعْرِ عَوَّامٍ أَعَامَ وَأَرْجَلَا [يَوْمُ الشَّقِيقَةِ وَقَتْلِ بِسْطَامِ بْنِ قَيْسٍ]

هَذَا يَوْمٌ بَيْنَ شَيْبَانَ وَضَبَّةَ بْنِ أُدٍّ، قُتِلَ فِيهِ بِسْطَامُ بْنُ قَيْسٍ سَيِّدُ شَيْبَانَ. وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ بِسْطَامَ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ذِي الْجَدَّيْنِ غَزَا بَنِي ضَبَّةَ، وَمَعَهُ أَخُوهُ السَّلِيلُ بْنُ قَيْسٍ، وَمَعَهُ رَجُلٌ يَزْجُرُ الطَّيْرَ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ يُسَمَّى نُقَيْدًا. فَلَمَّا كَانَ بِسْطَامٌ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ آتِيًا أَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ: الدَّلْوُ تَأْتِي الْغَرَبَ الْمُزِلَّهْ، فَقَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى نُقَيْدٍ، فَتَطَيَّرَ وَقَالَ: أَلَا قُلْتَ: ثُمَّ تَعُودُ بَادِيًا مُبْتَلَّهْ، فَتُفَرِّطُ عَنْكَ النُّحُوسَ. وَمَضَى بِسْطَامٌ عَلَى وَجْهِهِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ نَقًا يُقَالُ لَهُ الْحَسَنُ فِي بِلَادِ ضَبَّةَ صَعِدَهُ لِيَرَى، فَإِذَا هُوَ بِنَعَمٍ قَدْ مَلَأَ الْأَرْضَ، فِيهِ أَلْفُ نَاقَةٍ لِمَالِكِ بْنِ الْمُنْتَفِقِ الضَّبِّيِّ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ ضَبَّةَ قَدْ فَقَأَ عَيْنَ فَحْلِهَا. وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِذَا بَلَغَتْ إِبِلُ أَحَدِهِمْ أَلْفَ بَعِيرٍ فَقَأُوا عَيْنَ فَحْلِهَا لِتُرَدَّ عَنْهَا الْعَيْنُ، وَهِيَ إِبِلٌ مُرْتَبِعَةٌ، وَمَالِكُ بْنُ الْمُنْتَفِقِ فِيهَا عَلَى فَرَسٍ لَهُ جَوَادٍ. فَلَمَّا أَشْرَفَ بِسْطَامٌ عَلَى النَّقَا تَخَوَّفَ أَنْ يَرَوْهُ فَيُنْذَرُوا بِهِ فَاضْطَجَعَ وَتَدَهْدَى حَتَّى بَلَغَ الْأَرْضَ وَقَالَ: يَا بَنِي شَيْبَانَ لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ قَطُّ فِي الْغِرَّةِ وَكَثْرَةِ النَّعَمِ. وَنَظَرَ نُقَيْدٌ إِلَى لِحْيَةِ بِسْطَامٍ مُعَفَّرَةً بِالتُّرَابِ لَمَّا تَدَهْدَى فَتَطَيَّرَ لَهُ أَيْضًا وَقَالَ: إِنْ صَدَقَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يُقْتَلُ، وَعَزَمَ الْأَسَدِيُّ عَلَى فِرَاقِهِ، فَأَخَذَتْهُ رِعْدَةٌ تَهَيُّبًا لِفِرَاقِهِ وَالِانْصِرَافِ عَنْهُ وَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ يَا أَبَا الصَّهْبَاءِ، فَإِنِّي أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ، فَعَصَاهُ فَفَارَقَهُ نُقَيْدٌ. وَرَكِبَ بِسْطَامٌ وَأَصْحَابُهُ وَأَغَارُوا عَلَى الْإِبِلِ وَاطَّرَدُوهَا، وَفِيهَا فَحْلٌ لِمَالِكٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو شَاعِرٍ، وَكَانَ أَعْوَرَ، فَنَجَا مَالِكٌ عَلَى فَرَسِهِ إِلَى قَوْمِهِ مِنْ ضَبَّةَ حَتَّى إِذَا أَشْرَفَ عَلَى تَعْشَارٍ نَادَى: يَا صَبَاحَاهُ! وَعَادَ رَاجِعًا. وَأَدْرَكَ الْفَوَارِسُ الْقَوْمَ وَهُمْ يَطَّرِدُونَ النَّعَمَ، فَجَعَلَ فَحْلُهُ أَبُو شَاعِرٍ يَشِذُّ مِنَ النَّعَمِ لِيَرْجِعَ وَتَتْبَعُهُ الْإِبِلُ، فَكُلَّمَا تَبِعَتْهُ نَاقَةٌ عَقَرَهَا بِسْطَامٌ. فَلَمَّا رَأَى مَالِكٌ مَا يَصْنَعُ بِسْطَامٌ وَأَصْحَابُهُ قَالَ: مَاذَا السَّفَهُ يَا بِسْطَامُ؟ لَا تَعْقِرْهَا فَإِمَّا لَنَا وَإِمَّا

لَكَ. فَأَبَى بِسْطَامٌ، وَكَانَ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ عَلَى فَرَسٍ أَدْهَمٍ يُقَالُ لَهُ الزَّعْفَرَانُ يَحْمِي أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا لَحِقَتْ خَيْلُ ضَبَّةَ قَالَ لَهُمْ مَالِكٌ: ارْمُوا رَوَايَا الْقَوْمِ. فَجَعَلُوا يَرْمُونَهَا فَيَشُقُّونَهَا. فَلَحِقَتْ بَنُو ثَعْلَبَةَ وَفِي أَوَائِلِهِمْ عَاصِمُ بْنُ خَلِيفَةَ الصَّبَاحِيُّ، وَكَانَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُعَقِّبُ قَنَاةً لَهُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا تَصْنَعُ بِهَا يَا عَاصِمُ؟ فَيَقُولُ: أَقْتُلُ عَلَيْهَا بِسْطَامًا، فَيَهْزَأُونَ مِنْهُ. فَلَمَّا جَاءَ الصَّرِيخُ رَكِبَ فَرَسَ أَخِيهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلَحِقَ الْخَيْلَ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ ضَبَّةَ: أَيُّهُمُ الرَّئِيسُ؟ قَالَ: صَاحِبُ الْفَرَسِ الْأَدْهَمِ. فَعَارَضَهُ عَاصِمٌ حَتَّى حَاذَاهُ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ بِالرُّمْحِ فِي صِمَاخِ أُذُنِهِ أَنْفَذَ الطَّعْنَةَ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَخَرَّ بِسْطَامٌ عَلَى شَجَرَةٍ يُقَالُ لَهَا الْأَلَاءَةُ. فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ شَيْبَانُ خَلُّوا سَبِيلَ النَّعَمِ وَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ، فَمِنْ قَتِيلٍ وَأَسِيرٍ. وَأَسَرَ بَنُو ثَعْلَبَةَ نِجَادَ بْنَ قَيْسٍ أَخَا بِسْطَامٍ فِي سَبْعِينَ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ غَنَمَةَ الضَّبِّيُّ مُجَاوِرًا فِي شَيْبَانَ، فَخَافَ أَنْ يُقْتَلَ فَقَالَ يَرْثِي بِسْطَامًا: لِأُمِّ الْأَرْضِ وَيْلٌ مَا أَجَنَّتْ ... غَدَاةَ أَضَرَّ بِالْحَسَنِ السَّبِيلُ يُقَسِّمُ مَالَهُ فِينَا وَنَدْعُو ... أَبَا الصَّهْبَاءِ إِذْ جَنَحَ الْأَصِيلُ أَجِدَّكِ لَنْ تَرَيْهِ وَلَنْ نَرَاهُ ... تَخِبُّ بِهِ عَذَافِرَةٌ ذَمُولُ حَقِيبَةُ بَطْنِهَا بَدَنٌ وَسِرْجٌ ... تُعَارِضُهَا مُزَبِّبَةٌ زَؤُولُ إِلَى مِيعَادِ أَرْعَنَ مُكْفَهِرٍّ ... تُضَمَّرُ فِي جَوَانِبِهِ الْخُيُولُ لَكَ الْمِرْبَاعُ مِنْهَا وَالصَّفَايَا ... وَحُكْمُكَ وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ

لَقَدْ صُمَّتْ بَنُو زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو وَلَا يُوفِي بِبِسْطَامٍ قَتِيلُ ... فَخَرَّ عَلَى الْأَلَاءَةِ لَمْ يُوَسَّدْ كَأَنَّ جَبِينَهُ سَيْفٌ صَقِيلُ ... فَإِنْ يَجْزَعْ عَلَيْهِ بَنُو أَبِيهِ فَقَدْ فُجِعُوا وَفَاتَهُمُ جَلِيلُ ... بِمِطْعَامٍ إِذَا الْأَشْوَالُ رَاحَتْ إِلَى الْحَجَرَاتِ لَيْسَ لَهَا فَصِيلُ فَلَمْ يَبْقَ فِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ بَيْتٌ إِلَّا وَأُلْقِيَ لِقَتْلِهِ لِعُلُوِّ مَحَلِّهِ، وَقَالَ شَمْعَلَةُ بْنُ الْأَخْضَرِ بْنِ هُبَيْرَةَ الضَّبِّيُّ يَذْكُرُهُ: فَيَوْمُ شَقِيقَةِ الْحَسَنَيْنِ لَاقَتْ ... بَنُو شَيْبَانَ آجَالًا قِصَارَا شَكَكْنَا بِالرِّمَاحِ، وَهُنَّ زُورٌ ... صِمَاخَيْ كَبْشِهِمْ حَتَّى اسْتَدَارَا وَأَوْجَرْنَاهُ أَسْمَرَ ذَا كُعُوبٍ ... يُشَبِّهُ طُولَهُ مَسَدًا مُغَارَا الشَّقِيقَةُ: أَرْضٌ صَلْبَةٌ بَيْنَ جَبَلَيْ رَمْلٍ. وَالْحَسَنَانِ: نَقَوَا رَمْلٍ كَانَتِ الْوَقْعَةُ عِنْدَهُمَا. وَقَالَتْ أُمُّ بِسْطَامِ بْنِ قَيْسٍ تَرِثِيهِ: لِيَبْكِ ابْنَ ذِي الْجَدَّيْنِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ ... فَقَدْ بَانَ مِنْهَا زَيْنُهَا وَجَمَالُهَا إِذَا مَا غَدَا فِيهِمْ غَدَوْا وَكَأَنَّهُمْ ... نُجُومُ سَمَاءٍ بَيْنَهُنَّ هِلَالُهَا فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِثْلَهُ فَتًى ... إِذَا الْخَيْلُ يَوْمَ الرَّوْعِ هَبَّ نِزَالُهَا عَزِيزُ الْمَكَرِّ لَا يُهَدُّ جَنَاحُهُ ... وَلَيْثٌ إِذَا الْفِتْيَانُ زَلَّتْ نِعَالُهَا وَحَمَّالُ أَثْقَالٍ وَعَائِدُ مَحْجَرٍ ... تَحُلُّ إِلَيْهِ كُلُّ ذَاكَ رِحَالُهَا سَيَبْكِيكَ عَانٍ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَفُكُّهُ ... وَيَبْكِيكَ فُرْسَانُ الْوَغَى وَرِجَالُهَا وَتَبْكِيكَ أَسْرَى طَالَمَا قَدْ فَكَكْتَهُمْ ... وَأَرْمَلَةٌ ضَاعَتْ وَضَاعَ عِيَالُهَا

يوم النسار

مُفَرِّجُ حُومَاتِ الْخُطُوبِ وَمُدْرِكُ الْ حُرُوبِ إِذَا صَالَتْ وَعَزَّ صِيَالُهَا ... تَغَشَّى بِهَا حِينًا كَذَاكَ فَفَجَّعَتْ تَمِيمٌ بِهِ أَرْمَاحُهَا وَنِبَالُهَا ... فَقَدْ ظَفِرَتْ مِنَّا تَمِيمٌ بَعْثَرَةٍ وَتِلْكَ لَعَمْرِي عَثْرَةٌ لَا تُقَالُهَا ... أُصِيبَتْ بِهِ شَيْبَانُ وَالْحَيُّ يَشْكُرُ وَطَيْرٌ يُرَى إِرْسَالُهَا وَحِبَالُهَا (عَنَمَةٌ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَالنُّونِ) . [يَوْمُ النِّسَارِ] النِّسَارُ: أَجْبُلٌ مُتَجَاوِرَةٌ، وَعِنْدَهَا كَانَتِ الْوَقْعَةُ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ بَنِي تَمِيمِ بْنِ مُرِّ بْنِ أُدٍّ كَانُوا يَأْكُلُونَ عُمُومَتَهُمْ ضَبَّةَ بْنَ أُدٍّ وَبَنِي عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ أُدٍّ، فَأَصَابَتْ ضَبَّةُ رَهْطًا مِنْ تَمِيمٍ. فَطَلَبَتْهُمْ تَمِيمٌ فَانْزَاحَتْ جَمَاعَةُ الرِّبَابِ، وَهُمْ تَيْمٌ، وَعَدِيٌّ، وَثَوْرُ أَطْحَلَ، وَعُكْلٌ بَنُو عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ أُدٍّ وَضَبَّةَ بْنِ أُدٍّ، وَإِنَّمَا سُمُّوا الرِّبَابَ لِأَنَّهُمْ غَمَسُوا أَيْدِيَهُمْ فِي الرُّبِّ حِينَ تَحَالَفُوا، فَلَحِقَتْ بِبَنِي أَسَدٍ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ حُلَفَاءٌ لِبَنِي ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضٍ. فَنَادَى صَارِخُ بْنُ ضَبَّةَ: يَا آلَ خِنْدِفٍ! فَأَصْرَخَتْهُمْ بَنُو أَسَدٍ، وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ تَخَنْدَفَتْ فِيهِ ضَبَّةُ وَاسْتَمَدُّوا حَلِيفَهُمْ طَيِّئًا وَغَطَفَانَ، فَكَانَ رَئِيسَ أَسَدٍ يَوْمَ النِّسَارِ عَوْفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ نَصْرِ بْنِ قَعِينٍ، وَقِيلَ: خَالِدُ بْنُ نَضْلَةَ، وَكَانَ رَئِيسَ الرِّبَابِ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَخُو النُّعْمَانِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَكَانَ عَلَى الْجَمَاعَةِ كُلِّهِمْ حِصْنُ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَفِيهِ يَقُولُ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى: وَمَنْ مِثْلُ حِصْنٍ فِي الْحُرُوبِ وَمِثْلُهُ ... لِإِنْدَادِ ضَيْمٍ أَوْ لِأَمْرٍ يُحَاوِلُهْ إِذَا حَلَّ أَحْيَاءُ الْأَحَالِيفِ حَوْلَهُ ... بِذِي نَجَبٍ لَجَّاتُهُ وَصَوَاهِلُهْ فَلَمَّا بَلَغَ بَنِي تَمِيمٍ ذَلِكَ اسْتَمَدُّوا بَنِي عَامِرٍ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَأَمَدُّوهُمْ. وَكَانَ حَاجِبُ بْنُ زُرَارَةَ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ، وَكَانَ عَامِرُ بْنُ صَعْصَعَةَ جَوَّابًا، وَهُوَ لَقَبُ مَالِكِ بْنِ

كَعْبٍ مِنْ بَنِي أَبِي بَكْرِ بْنِ كِلَابٍ، لِأَنَّ بَنِي جَعْفَرٍ كَانَ جَوَّابُ قَدْ أَخْرَجَهُمْ إِلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ فَحَالَفُوهُمْ، وَقِيلَ: كَانَ رَئِيسَ عَامِرٍ شُرَيْحُ بْنُ مَالِكٍ الْقُشَيْرِيُّ. وَسَارَ الْجَمْعَانِ فَالْتَقَوْا بِالنِّسَارِ وَاقْتَتَلُوا، فَصَبَرَتْ عَامِرٌ وَاسْتَحَرَّ بِهِمُ الْقَتْلُ، وَانْفَضَّتْ تَمِيمٌ فَنَجَتْ وَلَمْ يُصَبْ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، وَقُتِلَ شُرَيْحٌ الْقُشَيْرِيُّ رَأْسُ بَنِي عَامِرٍ، وَقُتِلَ عُبَيْدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِلَابٍ وَغَيْرُهُمَا، وَأَخَذَ عِدَّةً مِنْ أَشْرَافِ نِسَاءِ بَنِي عَامِرٍ، مِنْهُنَّ سَلْمَى بِنْتُ الْمُخَلَّفِ، وَالْعَنْقَاءُ بِنْتُ هَمَّامٍ وَغَيْرُهُمَا، فَقَالَتْ سَلْمَى تُعَيِّرُ جَوَّابًا وَالطُّفَيْلَ: لَحَى الْإِلَهُ أَبَا لَيْلَى ... بِفَرَّتِهِ يَوْمَ النِّسَارِ وَقُنْبُ الْعِيرِ جَوَّابَا كَيْفَ الْفَخَارُ وَقَدْ كَانَتْ بِمُعْتَرَكٍ ... يَوْمَ النِّسَارِ بَنُو ذُبْيَانَ أَرْبَابَا لَمْ تَمْنَعُوا الْقَوْمَ إِنْ أَشْلَوْا سَوَامَكُمُ ... وَلَا النِّسَاءَ وَكَانَ الْقَوْمُ أَحْرَابَا وَقَالَ رَجُلٌ يُعَيِّرُ جَوَّابًا وَالطُّفَيْلَ بِفِرَارِهِ عَنِ امْرَأَتَيْهِ: وَفَّرَ عَنْ ضَرَّتَيْهِ وَجْهُ خَارِئَةٍ وَمَالِكٌ فَرَّ قُنْبُ الْعِيرِ جَوَّابُ وَالْقُنْبُ: غِلَافُ الذَّكَرِ، وَجَوَّابٌ لَقَبٌ لِأَنَّهُ كَانَ يَجُوبُ الْآثَارَ، وَاسْمُهُ مَالِكٌ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي خَازِمٍ فِي هَزِيمَةِ حَاجِبٍ: وَأَفْلَتَ حَاجِبٌ جَوْبَ الْعَوَالِي ... عَلَى شَقْرَاءَ تَلْمَعُ فِي السَّرَابِ وَلَوْ أَدْرَكْنَ رَأْسَ بَنِي تَمِيمٍ ... عَفَرْنَ الْوَجْهَ مِنْهُ بِالتُّرَابِ وَكَانَ يَوْمُ النِّسَارِ بَعْدَ يَوْمِ جَبَلَةَ وَقَتْلِ لَقِيطِ بْنِ زُرَارَةَ. (جَوَّابٌ: بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَآخِرُهُ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ، وَخَازِمٌ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَالزَّايِ) .

يوم الجفار

[يَوْمُ الْجِفَارِ] لَمَّا كَانَ رَأْسُ الْحَوْلِ مِنْ يَوْمِ النِّسَارِ اجْتَمَعَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ كَانَ شَهِدَ النِّسَارَ، وَكَانَ رُؤَسَاؤُهُمْ بِالْجِفَارِ الرُّؤَسَاءَ الَّذِينَ كَانُوا يَوْمَ النِّسَارِ، إِلَّا أَنَّ بَنِي عَامِرٍ قِيلَ كَانَ رَئِيسَهُمْ بِالْجِفَارِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَالْتَقَوْا بِالْجِفَارِ وَاقْتَتَلُوا، وَصَبَرَتْ تَمِيمٌ، فَعَظُمَ فِيهَا الْقَتْلُ وَخَاصَّةً فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، وَكَانَ يَوْمُ الْجِفَارِ يُسَمَّى الصَّيْلَمَ لِكَثْرَةِ مَنْ قُتِلَ بِهِ، وَقَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي خَازِمٍ فِي عُصْبَةِ تَمِيمٍ لِبَنِي عَامِرٍ: غَضِبَتْ تَمِيمٌ أَنْ يُقَتَّلَ عَامِرٌ يَوْمَ ... النِّسَارِ فَأَعْقَبُوا بِالصَّيْلَمِ كُنَّا إِذَا نَفَرُوا لِحَرْبٍ نَفْرَةً ... نَشْفِي صُدَاعَهُمْ بِرَأْسٍ صِلْدِمِ نَعْلُو الْفَوَارِسَ بِالسُّيُوفِ وَنَعْتَزِي ... وَالْخَيْلُ مُشْعَلَةُ النُّحُورِ مِنَ الدَّمِ يَخْرُجْنَ مِنْ خَلَلِ الْغُبَارِ عَوَابِسًا ... خَبَبَ السِّبَاعِ بِكُلِّ لَيْثٍ ضَيْغَمِ وَهِيَ عِدَّةُ أَبْيَاتٍ، وَقَالَ أَيْضًا:. يَوْمُ الْجِفَارِ وَيَوْمُ النِّسَا رِ كَانَا عَذَابًا وَكَانَا غَرَامَا فَأَمَّا تَمِيمٌ تَمِيمُ بْنُ مُرٍّ ... فَأَلْفَاهُمُ الْقَوْمُ رَوْبَى نِيَامَا وَأَمَّا بَنُو عَامِرٍ بِالْجِفَارِ ... وَيَوْمِ النِّسَارِ فَكَانُوا نَعَامَا فَلَمَّا أَكْثَرَ بِشْرٌ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ، قِيلَ لَهُ: مَا لَكَ وَلِتَمِيمٍ وَهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ مِنْكَ أَرْحَامًا؟ فَقَالَ: إِذَا فَرَغْتُ مِنْهُمْ فَرَغْتُ مِنَ النَّاسِ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ.

يوم الصفقة والكلاب الثاني

[يَوْمُ الصَّفْقَةِ وَالْكُلَابِ الثَّانِي] أَمَّا يَوْمُ الصَّفْقَةِ وَسَبَبُهُ فَإِنَّ بَاذَانَ، نَائِبَ كِسْرَى أَبْرَوِيزَ بْنِ هُرْمُزَ بِالْيَمَنِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ حَمْلًا مِنَ الْيَمَنِ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحَمْلُ إِلَى نِطَاعٍ مِنْ أَرْضِ نَجْدٍ أَغَارَتْ تَمِيمٌ عَلَيْهِ وَانْتَهَبُوهُ وَسَلَبُوا رُسُلَ كِسْرَى وَأَسَاوِرَتَهُ. فَقَدِمُوا عَلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ مَسْلُوبِينَ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَكَسَاهُمْ. وَقَدْ كَانَ قَبْلَ هَذَا إِذَا أَرْسَلَ كِسْرَى لَطِيمَةً تُبَاعُ بِالْيَمَنِ يُجَهِّزُ رُسُلَهُ وَيُخْفِرُهُمْ وَيُحْسِنُ جِوَارَهُمْ، وَكَانَ كِسْرَى يَشْتَهِي أَنْ يَرَاهُ لِيُجَازِيَهُ عَلَى فِعْلِهِ. فَلَمَّا أَحْسَنَ أَخِيرًا إِلَى هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمْ تَمِيمٌ قَالُوا لَهُ: إِنَّ الْمَلِكَ لَا يَزَالُ يَذْكُرُكَ وَيُؤْثِرُ أَنْ تَقْدُمَ عَلَيْهِ، فَسَارَ مَعَهُمْ إِلَيْهِ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ يُحَادِثُهُ لِيَنْظُرَ عَقْلَهُ، فَرَأَى مَا سَرَّهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ كَثِيرٍ، وَتَوَّجَهُ بِتَاجٍ مِنْ تِيجَانِهِ وَأَقْطَعَهُ أَمْوَالًا بِهَجَرَ. وَكَانَ هَوْذَةُ نَصْرَانِيًّا، وَأَمَرَهُ كِسْرَى أَنْ يَغْزُوَ هُوَ وَالْمُكَعْبِرُ مَعَ عَسَاكِرِ كِسْرَى بَنِي تَمِيمٍ، فَسَارُوا إِلَى هَجَرَ وَنَزَلُوا بِالْمُشَقَّرِ. وَخَافَ الْمُكَعْبِرُ وَهَوْذَةُ أَنْ يَدْخُلَا بِلَادَ تَمِيمٍ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُهَا الْعَجَمُ وَأَهْلُهَا بِهَا مُمْتَنِعُونَ، فَبَعَثَا رِجَالًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْمِيرَةِ، وَكَانَتْ شَدِيدَةً، فَأَقْبَلُوا عَلَى كُلِّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ، فَجَعَلَ الْمُكَعْبِرُ يُدْخِلُهُمُ الْحِصْنَ خَمْسَةً خَمْسَةً وَعَشَرَةً عَشَرَةً وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ، يُدْخِلُهُمْ مِنْ بَابٍ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ آخَرَ، فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ ضُرِبَ عُنُقُهُ. فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمْ وَرَأَوْا أَنَّ النَّاسَ يَدْخُلُونَ وَلَا يَخْرُجُونَ بَعَثُوا رِجَالًا يَسْتَعْلِمُونَ الْخَبَرَ، فَشَدَّ رَجُلٌ مِنْ عَبْسٍ فَضَرَبَ السِّلْسِلَةَ فَقَطَعَهَا وَخَرَجَ مَنْ كَانَ بِالْبَابِ. فَأَمَرَ الْمُكَعْبِرُ بِغَلْقِ الْبَابِ وَقَتْلِ كُلِّ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَوْمَ الْفِصْحِ، فَاسْتَوْهَبَ هَوْذَةُ مِنْهُ مِائَةَ رَجُلٍ فَكَسَاهُمْ وَأَطْلَقَهُمْ يَوْمَ الْفِصْحِ. فَقَالَ الْأَعْشَى مِنْ قَصِيدَةٍ يَمْدَحُ هَوْذَةَ: بِهِمْ يُقَرِّبُ يَوْمَ الْفِصْحِ ضَاحِيَةً ... يَرْجُو الْإِلَهَ بِمَا أَسْدَى وَمَا صَنَعَا فَصَارَ يَوْمُ الْمُشَقَّرِ مَثَلًا، وَهُوَ يَوْمُ الصَّفْقَةِ إِصْفَاقِ الْبَابِ، وَهُوَ إِغْلَاقُهُ. وَكَانَ يَوْمُ الصَّفْقَةِ وَقَدْ بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِمَكَّةَ بَعْدُ لَمْ يُهَاجِرْ. وَأَمَّا يَوْمُ الْكُلَابِ الثَّانِي فَإِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَدِمَ أَرْضَ نَجْرَانَ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَهُمْ أَخْوَالُهُ، فَسَأَلُوهُ عَنِ النَّاسِ خَلْفَهُ فَحَدَّثَهُمْ أَنَّهُ أُصْفِقَ عَلَى

بَنِي تَمِيمٍ بَابُ الْمُشَقَّرِ، وَقُتِلَتِ الْمُقَاتِلَةُ وَبَقِيَتْ أَمْوَالُهُمْ وَذَرَارِيهِمْ فِي مَسَاكِنِهِمْ لَا مَانِعَ لَهَا. فَاجْتَمَعَتْ بَنُو الْحَارِثِ فِي مَذْحِجٍ، وَأَحْلَافِهَا مِنْ نَهْدٍ وَجَرْمِ بْنِ رَبَّانَ، فَاجْتَمَعُوا فِي عَسْكَرٍ عَظِيمٍ بَلَغُوا ثَمَانِيَةَ آلَافٍ، وَلَا يُعْلَمُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ جَيْشٌ أَكْثَرُ مِنْهُ وَمِنْ جَيْشِ كِسْرَى بِذِي قَارٍ وَمِنْ يَوْمِ جَبَلَةَ، وَسَارُوا يُرِيدُونَ بَنِي تَمِيمٍ، فَحَذَّرَهُمْ كَاهِنٌ كَانَ مَعَ بَنِي الْحَارِثِ وَاسْمُهُ سَلَمَةُ بْنُ الْمُغَفَّلِ وَقَالَ: إِنَّكُمْ تَسِيرُونَ أَعْيَانًا، وَتَغْزُونَ أَحْيَانًا، سَعْدًا وَرَيَّانًا، وَتَرِدُونَ مِيَاهَهَا جِيَابًا، فَتَلْقُونَ عَلَيْهَا ضِرَابًا، وَتَكُونُ غَنِيمَتُكُمْ تُرَابًا، فَأَطِيعُوا أَمْرِي وَلَا تَغْزُوا تَمِيمًا. فَعَصَوْهُ وَسَارُوا إِلَى عُرْوَةَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ تَمِيمًا. فَاجْتَمَعَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ إِلَى أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ مِائَةٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا جِيدَةَ حَقِّقْ هَذَا الْأَمْرَ فَإِنَّا قَدْ رَضِينَاكَ رَئِيسًا. فَقَالَ لَهُمْ: وَإِنَّ امْرَأً قَدْ عَاشَ تِسْعِينَ حَجَّةً ... إِلَى مِائَةٍ لَمْ يَسْأَمِ الْعَيْشَ جَاهِلٌ مَضَتْ مِائَتَانِ غَيْرَ عَشْرٍ وَفَاؤُهَا ... وَذَلِكَ مِنْ عَدِّ اللَّيَالِي قَلَائِلُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: لَا حَاجَةَ لِي فِي الرِّيَاسَةِ وَلَكِنِّي أُشِيرُ عَلَيْكُمْ لِيَنْزِلْ حَنْظَلَةُ بْنُ مَالِكٍ بِالدَّهْنَاءِ، وَلْيَنْزِلْ سَعْدُ بْنُ زَيْدِ مَنَاةَ وَالرِّبَابُ، وَهُمْ ضَبَّةُ بْنُ أُدٍّ وَثَوْرٌ وَعُكْلٌ وَعَدِيٌّ بَنُو عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ أُدٍّ: الْكُلَابَ، فَأَيَّ الطَّرِيقَيْنِ أَخَذَ الْقَوْمُ كَفَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: احْفَظُوا وَصِيَّتِي لَا تُحْضِرُوا النِّسَاءَ الصُّفُوفَ فَإِنَّ نَجَاةَ اللَّئِيمِ فِي نَفْسِهِ تَرْكُ الْحَرِيمِ، وَأَقِلُّوا الْخِلَافَ عَلَى أُمَرَائِكُمْ، وَدَعُوا كَثْرَةَ الصِّيَاحِ فِي الْحَرْبِ فَإِنَّهُ مِنَ الْفَشَلِ، وَالْمَرْءُ يَعْجِزُ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ أَحْمَقَ الْحُمْقِ الْفُجُورُ، وَأَكْيَسَ الْكَيْسِ التُّقَى، كُونُوا جَمِيعًا فِي الرَّأْيِ، فَإِنَّ الْجَمِيعَ مُعَزِّزٌ لِلْجَمِيعِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْخِلَافَ فَإِنَّهُ لَا جَمَاعَةَ لِمَنِ اخْتَلَفَ، وَلَا تَلْبَثُوا وَلَا تُسْرِعُوا فَإِنَّ أَحْزَمَ الْفَرِيقَيْنِ الرَّكِينُ، وَرُبَّ عَجَلَةٍ تَهَبُ رَيْثًا، وَإِذَا عَزَّ أَخُوكَ فَهُنْ، الْبَسُوا جُلُودَ النُّمُورِ وَابْرُزُوا لِلْحَرْبِ، وَادَّرِعُوا اللَّيْلَ وَاتَّخِذُوهُ جَمَلًا، فَإِنَّ اللَّيْلَ

أَخْفَى لِلْوَيْلِ، وَالثَّبَاتُ أَفْضَلُ مِنَ الْقُوَّةِ، وَأَهْنَأُ الظَّفَرِ كَثْرَةُ الْأَسْرَى، وَخَيْرُ الْغَنِيمَةِ الْمَالُ، وَلَا تَرْهَبُوا الْمَوْتَ عِنْدَ الْحَرْبِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ مِنْ وَرَائِكُمْ، وَحُبُّ الْحَيَاةِ لَدَى الْحَرْبِ زَلَلٌ، وَمِنْ خَيْرِ أُمَرَائِكُمُ النُّعْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ حَارِثِ بْنِ جَسَّاسٍ، وَهُوَ مِنْ بَنِي تَمِيمِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ أُدٍّ. فَقَبِلُوا مَشُورَتَهُ، وَنَزَلَتْ عَمْرُو بْنُ حَنْظَلَةَ الدَّهْنَاءَ، وَنَزَلَتْ سَعْدٌ وَالرِّبَابُ الْكُلَابَ، وَأَقْبَلَتْ مَذْحِجٌ وَمَنْ مَعَهَا مِنْ قُضَاعَةَ فَقَصَدُوا الْكُلَابَ، وَبَلَغَ سَعْدًا وَالرِّبَابَ الْخَبَرُ. فَلَمَّا دَنَتْ مَذْحِجٌ نَذَرَهُمْ شُمَيْتُ بْنُ زِنْبَاعَ الْيَرْبُوعِيُّ، فَرَكِبَ جَمَلَهُ وَقَصَدَ سَعْدًا وَنَادَى: يَا آلَ تَمِيمٍ يَا صَاحِبَاهُ! فَثَارَ النَّاسُ، وَانْتَهَتْ مَذْحِجٍ إِلَى النَّعَمِ فَانْتَهَبَهَا النَّاسُ، وَرَاجِزُهُمْ يَقُولُ: فِي كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ نَنْتَابُهْ ... عَلَى الْكُلَابِ غُيِّبَتْ أَصْحَابُهْ يَسْقُطُ فِي آثَارِهِ غُلَّابُهْ فَلَحِقَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ وَالنُّعْمَانُ بْنُ جَسَّاسٍ وَمَالِكُ بْنُ الْمُنْتَفِقِ فِي سُرْعَانِ النَّاسِ، فَأَجَابَهُ قَيْسٌ يَقُولُ: عَمَّا قَلِيلٍ تَلْتَحِقْ أَرْبَابُهْ ... مِثْلَ النُّجُومِ حُسَّرًا سَحَابُهْ لَيَمْنَعَنَّ النَّعَمَ اغْتِصَابُهْ ... سَعْدٌ وَفُرْسَانُ الْوَغَى أَرْبَابُهْ ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ قَيْسٌ وَهُوَ يَقُولُ: فِي كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَهُ ... يَلْقَحُهُ قَوْمٌ وَتُنْتِجُونَهُ أَرْبَابُهُ نَوْكَى فَلَا يَحْمُونَهُ ... وَلَا يُلَاقُونَ طِعَانًا دُونَهُ أَنَعَمَ الْأَبْنَاءِ تَحْسِبُونَهُ ... هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تَرْجُونَهُ

فَاقْتَتَلَ الْقَوْمُ قِتَالًا شَدِيدًا يَوْمَهُمْ أَجْمَعَ. فَحَمَلَ يَزِيدُ بْنُ شَدَّادِ بْنِ قَنَانٍ الْحَارِثِيُّ عَلَى النُّعْمَانِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَسَّاسٍ فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَصَارَتِ الرِّيَاسَةُ لِقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ، وَاقْتَتَلُوا حَتَّى حَجَزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، وَبَاتُوا يَتَحَارَسُونَ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا عَلَى الْقِتَالِ، وَرَكِبَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، وَرَكِبَتْ مَذْحِجٌ وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ مِنَ الْقِتَالِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ انْهَزَمَ مِنْ مَذْحِجٍ مُدْرِجُ الرِّيَاحِ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ الْمَجُونِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجَرْمِيُّ، وَكَانَ صَاحِبَ لِوَائِهِمْ، فَأَلْقَى اللِّوَاءَ وَهَرَبَ، فَلَحِقَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَعْدٍ فَعَقَرَ بِهِ دَابَّتَهُ، فَنَزَلَ يَهْرُبُ مَاشِيًا، وَنَادَى قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ: يَا آلَ تَمِيمٍ عَلَيْكُمُ الْفُرْسَانَ وَدَعُوا الرَّجَّالَةَ فَإِنَّهَا لَكُمْ، وَجَعَلَ يَلْتَقِطُ الْأُسَارَى، وَأُسِرَ عَبْدُ يَغُوثَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ وَقَّاصٍ الْحَارِثِيُّ رَئِيسُ مَذْحِجٍ، فَقُتِلَ بِالنُّعْمَانِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَسَّاسٍ، وَكَانَ عَبْدُ يَغُوثَ شَاعِرًا، فَشَدُّوا لِسَانَهُ قَبْلَ قَتْلِهِ لِئَلَّا يَهْجُوهُمْ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ لِيُحِلُّوا لِسَانَهُمْ وَلَا يَهْجُوهُمْ، فَحَلُّوهُ، فَقَالَ شِعْرًا: أَلَا لَا تَلُومَانِي كَفَى اللَّوْمُ مَا بِيَا ... فَمَا لَكُمَا فِي اللَّوْمِ نَفْعٌ وَلَا لِيَا أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّ الْمَلَامَةَ نَفْعُهَا قَلِيلٌ ... وَمَا لَوْمِي أَخِي مِنْ شِمَالِيَا فَيَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ... نَدَامَايَ مِنْ نَجْرَانَ أَلَّا تَلَاقِيَا أَبَا كَرِبٍ وَالْأَيْهَمَيْنِ كِلَيْهِمَا ... وَقَيْسًا بِأَعْلَى حَضْرَمَوْتَ الْيَمَانِيَا أَقُولُ وَقَدْ شَدُّوا لِسَانِي بِنِسْعَةٍ : مَعَاشِرَ تَيْمٍ أَطْلِقُوا مِنْ لِسَانِيَا ... كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا وَلَمْ أَقُلْ لِخَيْلِيَ كِرِّي كَرَّةً مِنْ وَرَائِيَا

يوم ظهر الدهناء

وَلَمْ أَسْبَإِ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ أَقُلْ ... لِأَيْسَارِ صَدْقٍ عَظِّمُوا ضَوْءَ نَارِيَا وَقَدْ عَلِمَتْ عِرْسِي مُلَيْكَةَ أَنَّنِي ... أَنَا اللَّيْثُ مَعْدُوًّا عَلَيْهِ وَعَادِيَا لَحَى اللَّهُ قَوْمًا بِالْكُلَابِ شَهِدْتُهُمْ ... صَمِيمَهُمُ وَالتَّابِعِينَ الْمَوَالِيَا وَلَوْ شِئْتُ نَجَّتْنِي مِنَ الْقَوْمِ شَطْبَةٌ ... تَرَى خَلْفَهَا الْكُمْتَ الْعِتَاقَ تَوَالِيَا وَكُنْتُ إِذَا مَا الْخَيْلُ شَمَّصَهَا الْقَنَا ... لَبِيقًا بِتَصْرِيفِ الْقَنَاةِ بَنَانِيَا فَيَا عَاصِ فُكَّ الْقَيْدَ عَنِّي فَإِنَّنِي ... صَبُورٌ عَلَى مَرِّ الْحَوَادِثِ نَاكِيَا فَإِنْ تَقْتُلُونِي تَقْتُلُوا بِيَ سَيِّدًا ... وَإِنْ تُطْلِقُونِي تَحْرِبُونِيَ مَالِيَا أَبُو كَرِبٍ: بِشْرُ بْنُ عَلْقَمَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَالْأَيْهَمَانِ: الْأَسْوَدُ بْنُ عَلْقَمَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَالْعَاقِبُ وَهُوَ عَبْدُ الْمَسِيحِ بْنُ الْأَبْيَضِ، وَقَيْسُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ، فَزَعَمُوا أَنَّ قَيْسًا قَالَ: لَوْ جَعَلَنِي أَوَّلَ الْقَوْمِ لَافْتَدَيْتُهُ بِكُلِّ مَا أَمْلِكُ. ثُمَّ قُتِلَ وَلَمْ يُقْبَلْ لَهُ فِدْيَةٌ. (رَبَّانُ بِالرَّاءِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) . [يَوْمُ ظَهْرِ الدَّهْنَاءِ] وَهُوَ يَوْمٌ بَيْنَ طَيِّءٍ وَأَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَوْسَ بْنَ حَارِثَةَ بْنِ لَأْمٍ الطَّائِيَّ كَانَ سَيِّدًا مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ وَجَوَادًا وَمِقْدَامًا، فَوَفَدَ هُوَ وَحَاتِمٌ الطَّائِيُّ عَلَى عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ، فَدَعَا عَمْرٌو أَوْسًا فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أَفْضَلُ

أَمْ حَاتِمٌ؟ فَقَالَ: أَبَيْتَ اللَّعْنَ! إِنَّ حَاتِمًا أَوْحَدُهَا وَأَنَا أَحَدُهَا، وَلَوْ مَلَكَنِي حَاتِمٌ وَوَلَدِي وَلُحْمَتِي لَوَهَبَنَا فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ. ثُمَّ دَعَا عَمْرٌو حَاتِمًا فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أَفْضَلُ أَمْ أَوْسٌ؟ فَقَالَ: أَبَيْتَ اللَّعْنَ! إِنَّمَا ذَكَرْتَ أَوْسًا وَلَأَحَدُ وَلَدِهِ أَفْضَلُ مِنِّي. فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُمَا وَحَبَاهُمَا وَأَكْرَمَهُمَا. ثُمَّ إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ حَيٍّ اجْتَمَعَتْ عِنْدَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَفِيهِمْ أَوْسٌ، فَدَعَا بِحُلَّةٍ مِنْ حُلَلِ الْمُلُوكِ وَقَالَ لِلْوُفُودِ: احْضَرُوا فِي غَدٍ فَإِنِّي مُلْبِسٌ هَذِهِ الْحُلَّةَ أَكْرَمَكُمْ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ حَضَرَ الْقَوْمُ جَمِيعًا إِلَّا أَوْسًا، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تَتَخَلَّفُ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ غَيْرِي فَأَجْمَلُ الْأَشْيَاءِ بِي أَلَّا أَكُونَ حَاضِرًا، وَإِنْ كُنْتُ الْمُرَادَ فَسَأُطْلَبُ. فَلَمَّا جَلَسَ النُّعْمَانُ وَلَمْ يَرَ أَوْسًا قَالَ: اذْهَبُوا إِلَى أَوْسٍ فَقُولُوا لَهُ: احْضَرْ آمِنًا مِمَّا خِفْتَ. فَحَضَرَ فَأُلْبِسَ الْحُلَّةَ، فَحَسَدَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالُوا لِلْحُطَيْئَةِ: اهْجُهُ وَلَكَ ثَلَاثُمِائَةِ نَاقَةٍ. فَقَالَ: كَيْفَ أَهْجُو رَجُلًا لَا أَرَى فِي بَيْتِي أَثَاثًا وَلَا مَالًا إِلَّا مِنْهُ! ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ ... مِنْ أَهْلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي فَقَالَ لَهُمْ بِشْرُ بْنُ أَبِي خَازِمٍ: أَنَا أَهْجُوهُ لَكُمْ، فَأَعْطَوْهُ النُّوقَ، وَهَجَاهُ فَأَفْحَشَ فِي هِجَائِهِ وَذَكَرَ أُمَّهُ سُعْدَى. فَلَمَّا عَرَفَ أَوْسٌ ذَلِكَ أَغَارَ عَلَى النُّوقِ فَاكْتَسَحَهَا، وَطَلَبَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ وَالْتَجَأَ إِلَى بَنِي أَسَدٍ عَشِيرَتِهِ، فَمَنَعُوهُ مِنْهُ وَرَأَوْا تَسْلِيمَهُ إِلَيْهِ عَارًا. فَجَمَعَ أَوْسٌ جَدِيلَةَ طَيِّءٍ وَسَارَ بِهِمْ إِلَى أَسَدٍ، فَالْتَقَوْا بِظَهْرِ الدَّهْنَاءِ تِلْقَاءَ تَيْمَاءَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَانْهَزَمَتْ بَنُو أَسَدٍ وَقُتِّلُوا قَتْلًا ذَرِيعًا، وَهَرَبَ بِشْرٌ فَجَعَلَ لَا يَأْتِي حَيًّا يَطْلُبُ جِوَارَهُمْ إِلَّا امْتَنَعَ مِنْ إِجَارَتِهِ عَلَى أَوْسٍ. ثُمَّ نَزَلَ عَلَى جُنْدَبِ بْنِ حِصْنٍ الْكُلَابِيِّ بِأَعْلَى الصَّمَّانِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَوْسٌ يَطْلُبُ مِنْهُ بِشْرًا، فَأَرْسَلَهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا قَدِمَ بِهِ عَلَى أَوْسٍ أَشَارَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ بِقَتْلِهِ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّهِ سُعْدَى فَاسْتَشَارَهَا، فَأَشَارَتْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَالَهُ وَيَعْفُوَ عَنْهُ وَيَحْبُوهُ فَإِنَّهُ لَا يَغْسِلُ هِجَاءَهُ إِلَّا مَدْحُهُ. فَقَبِلَ مَا أَشَارَتْ بِهِ وَخَرَجَ إِلَيْهِ وَقَالَ: يَا بِشْرُ مَا تَرَى أَنِّي صَانِعٌ بِكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو مِنْكَ يَا أَوْسُ نِعْمَةً ... وَإِنِّي لِأُخْرَى مِنْكَ يَا أَوْسُ رَاهِبُ وَإِنِّي لَأَمْحُو بِالَّذِي أَنْتَ صَادِقٌ ... بِهِ كُلَّ مَا قَدْ قُلْتُ إِذْ أَنَا كَاذِبُ

يوم الوقيط

فَهَلْ يَنْفَعُنِي الْيَوْمَ عِنْدَكَ أَنَّنِي سَأَشْكُرُ إِنْ أَنْعَمْتَ وَالشُّكْرُ وَاجِبُ ... فِدًى لِابْنِ سُعْدَى الْيَوْمَ كُلُّ عَشِيرَتِي بَنِي أَسَدٍ أَقْصَاهُمُ وَالْأَقَارِبُ ... تَدَارَكَنِي أَوْسُ بْنُ سُعْدَى بِنِعْمَةٍ وَقَدْ أَمْكَنَتْهُ مِنْ يَدِيَّ الْعَوَاقِبُ فَمَنَّ عَلَيْهِ أَوْسٌ وَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ جَوَادٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِ مَا كَانَ أُخِذَ مِنْهُ، وَأَعْطَاهُ مِنْ مَالِهِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، فَقَالَ بِشْرٌ: لَا جَرَمَ لَا مَدَحْتُ أَحَدًا، حَتَّى أَمُوتَ غَيْرَكَ، وَمَدَحَهُ بِقَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا: أَتَعْرِفُ مِنْ هُنَيْدَةَ رَسْمَ دَارٍ ... بِحَرْجَيْ ذُرْوَةٍ فَإِلَى لِوَاهَا وَمِنْهَا مَنْزِلٌ بِبِرَاقِ خَبْتٍ ... عَفَتْ حُقُبًا وَغَيَّرَهَا بِلَاهَا وَهِيَ طَوِيلَةٌ. [يَوْمُ الْوَقِيطِ] وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّ اللَّهَازِمَ تَجَمَّعَتْ، وَهِيَ قَيْسٌ وَتَيْمُ اللَّاتِ ابْنَا ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَمَعَهَا عِجْلُ بْنُ لُجَيْمٍ وَعَنَزَةُ بْنُ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ لِتُغِيرَ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ وَهُمْ غَارُّونَ. فَرَأَى ذَلِكَ الْأَعْوَرُ وَهُوَ نَاشِبُ بْنُ بَشَامَةَ الْعَنْبَرِيُّ، وَكَانَ أَسِيرًا فِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَعْطُونِي رَجُلًا أُرْسِلُهُ إِلَى أَهْلِي أُوصِيهِمْ بِبَعْضِ حَاجَتِي. فَقَالُوا لَهُ: تُرْسِلُهُ وَنَحْنُ حُضُورٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَتَوْهُ بِغُلَامٍ مُوَلَّدٍ، فَقَالَ: أَتَيْتُمُونِي بِأَحْمَقَ! فَقَالَ الْغُلَامُ: وَاللَّهِ مَا أَنَا بِأَحْمَقَ! فَقَالَ: إِنِّي أَرَاكَ مَجْنُونًا! قَالَ: وَاللَّهِ مَا بِي جُنُونٌ! قَالَ: أَتَعْقِلُ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنِّي لَعَاقِلٌ. قَالَ: فَالنِّيرَانُ أَكْثَرُ أَمِ الْكَوَاكِبُ؟ قَالَ: الْكَوَاكِبُ، وَكُلٌّ كَثِيرَةٌ، فَمَلَأَ كَفَّهُ رَمْلًا وَقَالَ: كَمْ فِي كَفِّي؟ قَالَ: لَا

أَدْرِي فَإِنَّهُ لَكَثِيرٌ. فَأَوْمَأَ إِلَى الشَّمْسِ بِيَدِهِ وَقَالَ: مَا تِلْكَ؟ قَالَ: الشَّمْسُ. قَالَ: مَا أَرَاكَ إِلَّا عَاقِلًا، اذْهَبْ إِلَى قَوْمِي فَأَبْلِغْهُمُ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُمْ لِيُحْسِنُوا إِلَى أَسِيرِهِمْ فَإِنِّي عِنْدَ قَوْمٍ يُحْسِنُونَ إِلَيَّ وَيُكْرِمُونِي، وَقُلْ لَهُمْ فَلْيُعَرُّوا جَمَلِي الْأَحْمَرَ، وَيَرْكَبُوا نَاقَتِي الْعَيْسَاءَ، وَلْيَرْعُوا حَاجَتِي فِي بَنِي مَالِكٍ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْعَوْسَجَ قَدْ أَوْرَقَ، وَأَنَّ النِّسَاءَ قَدِ اشْتَكَتْ، وَلْيَعْصُوا هَمَّامَ بْنَ بَشَامَةَ فَإِنَّهُ مَشْؤُومٌ مَجْدُودٌ، وَلْيُطِيعُوا هُذَيْلَ بْنَ الْأَخْنَسِ، فَإِنَّهُ حَازِمٌ مَيْمُونٌ، وَاسْأَلُوا الْحَارِثَ عَنْ خَبَرِي. وَسَارَ الرَّسُولُ فَأَتَى قَوْمَهُ فَأَبْلَغَهُمْ، فَلَمْ يُدْرِكُوا مَا أَرَادَ، فَأَحْضَرُوا الْحَارِثَ وَقَصُّوا عَلَيْهِ خَبَرَ الرَّسُولِ. فَقَالَ لِلرَّسُولِ: اقْصُصْ عَلَيَّ أَوَّلَ قِصَّتِكَ. فَقَصَّ عَلَيْهِ أَوَّلَ مَا كَلَّمَهُ حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهِ. فَقَالَ: أَبْلِغْهُ التَّحِيَّةَ وَالسَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُ أَنَّا نَسْتَوْصِي بِهِ. فَعَادَ الرَّسُولُ، ثُمَّ قَالَ لِبَنِي الْعَنْبَرِ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ قَدْ بَيَّنَ لَكُمْ، وَأَمَّا الرَّمْلُ الَّذِي جَعَلَ فِي كَفِّهِ فَإِنَّهُ يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ قَدْ أَتَاكُمْ عَدَدٌ لَا يُحْصَى، وَأَمَّا الشَّمْسُ الَّتِي أَوْمَأَ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ أَوْضَحُ مِنَ الشَّمْسِ، وَأَمَّا جَمَلُهُ الْأَحْمَرُ فَالصُّمَّانُ فَإِنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُعَرُّوهُ، يَعْنِي تَرْحَلُوا عَنْهُ، وَأَمَّا نَاقَتُهُ الْعَيْسَاءُ فَإِنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَحْتَرِزُوا فِي الدَّهْنَاءِ، وَأَمَّا بَنُو مَالِكٍ فَإِنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُنْذِرُوهُمْ مَعَكُمْ، وَأَمَّا إِيرَاقُ الْعَوْسَجِ فَإِنَّ الْقَوْمَ قَدْ لَبِسُوا السِّلَاحَ، وَأَمَّا اشْتِكَاءُ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ النِّسَاءَ قَدْ خَرِزْنَ الشُّكَاءَ، وَهِيَ أَسْقِيَةُ الْمَاءِ لِلْغَزْوِ. فَحَذِرَ بَنُو الْعَنْبَرِ وَرَكِبُوا الدَّهْنَاءَ وَأَنْذَرُوا بَنِي مَالِكٍ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَازِمَ وَعِجْلًا وَعَنَزَةَ أَتَوْا بَنِي حَنْظَلَةَ فَوَجَدُوا عَمْرًا قَدْ أَجْلَتْ، فَأَوْقَعُوا بِبَنِي دَارِمٍ بِالْوَقِيطِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَعَظُمَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، فَأَسَرَتْ رَبِيعَةُ جَمَاعَةً مِنْ رُؤَسَاءِ بَنِي تَمِيمٍ، مِنْهُمْ ضِرَارُ بْنُ الْقَعْقَاعِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ فَجَزُّوا نَاصِيَتَهُ وَأَطْلَقُوهُ، وَأَسَرُوا عَثْجَلَ بْنَ الْمَأْمُونِ بْنِ زُرَارَةَ، وَجُوَيْرَةَ بْنَ بَدْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَارِمٍ، وَلَمْ يَزَلْ فِي الْوَثَاقِ حَتَّى رَآهُمْ يَوْمًا يَشْرَبُونَ فَأَنْشَأَ يَتَغَنَّى يُسْمِعُهُمْ مَا يَقُولُ:

وَقَائِلَةٍ مَا غَالَهُ أَنْ يَزُورَنَا وَقَدْ ... كُنْتُ عَنْ تِلْكَ الزِّيَارَةِ فِي شَغْلِ وَقَدْ أَدْرَكَتْنِي وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... مَخَالِبُ قَوْمٍ لَا ضِعَافَ وَلَا عُزْلِ سِرَاعٍ إِلَى الْجُلَّى بِطَاءٍ عَنِ الْخَنَا رِزَانٍ ... لَدَى النَّادِيِّ الْبَاذِينَ فِي غَيْرِ مَا جَهْلِ لَعَلَّهُمْ أَنْ يُمْطِرُونِي بِنِعْمَةٍ كَمَا ... طَابَ مَاءُ الْمُزْنِ فِي الْبَلَدِ الْمَحْلِ قَدْ يُنْعِشُ اللَّهُ الْفَتَى بَعْدَ ذِلَّةٍ وَقَدْ ... تَبْتَنِي الْحُسْنَى سَرَاةُ بَنِي عِجْلِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْأَبْيَاتَ أَطْلَقُوهُ. وَأُسِرَ أَيْضًا نُعَيْمٌ وَعَوْفٌ ابْنَا الْقَعْقَاعِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ سَادَاتِ بَنِي تَمِيمٍ، وَقُتِلَ حَكِيمُ بْنُ جَذِيمَةَ بْنِ الْأُصَيْلِعِ النَّهْشَلِيُّ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْ نَهْشَلٍ غَيْرُهُ. وَعَادَتْ بَكْرٌ فَمَرَّتْ بِطَرِيقِهَا بَعْدَ الْوَقْعَةِ بِثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنْ بَنِي الْعَنْبَرِ لَمْ يَكُونُوا ارْتَحَلُوا مَعَ قَوْمِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ طَرَدُوا إِبِلَهُمْ فَأَحْرَزُوهَا مِنْ بَكْرٍ. وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي مُهْوَشٍ الْفَقْعَسِيِّ يُعَيِّرُ تَمِيمًا بِيَوْمِ الْوَقِيطِ: فَمَا قَاتَلَتْ يَوْمَ الْوَقِيطَيْنِ نَهْشَلٌ ... وَلَا الْأَنْكَدُ الشُّؤْمَى فُقَيْمُ بْنُ دَارِمِ وَلَا قَضَبَتْ عَوْفٌ رِجَالَ مُجَاشِعٍ ... وَلَا قَشَّرَ الْأَسْتَاهَ غَيْرُ الْبَرَاجِمِ وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ عَمْرُو بْنُ خَالِدِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَرْثَدٍ: حَكَّتْ تَمِيمٌ بَرْكَهَا لَمَّا الْتَقَتْ ... رَايَاتُنَا كَكَوَاسِرِ الْعِقْبَانِ دَهِمُوا الْوَقِيطَ بِجَحْفَلٍ جَمِّ الْوَغَى ... وَرِمَاحُهَا كَنَوَازِعِ الْأَشْطَانِ

يوم المروت

[يَوْمُ الْمَرُّوتِ] وَهُوَ يَوْمٌ بَيْنَ تَمِيمٍ وَعَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ. وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّهُ الْتَقَى قَعْنَبُ بْنُ عَتَّابٍ الرِّيَاحِيُّ وَبَحِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ الْعَامِرِيُّ بِعُكَاظَ، فَقَالَ بَحِيرٌ لِقَعْنَبٍ: مَا فَعَلَتْ فَرَسُكَ الْبَيْضَاءُ؟ قَالَ: هِيَ عِنْدِي، وَمَا سُؤَالُكَ عَنْهَا؟ قَالَ: لِأَنَّهَا نَجَّتْكَ مِنْ يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، فَأَنْكَرَ قَعْنَبٌ ذَلِكَ وَتَلَاعَنَا وَتَدَاعَيَا أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ مَيْتَةَ الْكَاذِبِ بِيَدِ الصَّادِقِ، فَمَكَثَا مَا شَاءَ اللَّهُ. وَجَمَعَ بَحِيرٌ بَنِي عَامِرٍ وَسَارَ بِهِمْ فَأَغَارَ عَلَى بَنِي الْعَنْبَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ بِإِرَمِ الْكَلْبَةِ وَهُمْ خُلُوفٌ، فَاسْتَاقَ السَّبْيَ وَالنَّعَمَ وَلَمْ يَلْقَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَأَتَى الصَّرِيخُ بَنِي الْعَنْبَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، وَبَنِي مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَبَنِي يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ، فَرَكِبُوا فِي الطَّلَبِ، فَتَقَدَّمَتْ عَمْرُو بْنُ تَمِيمٍ. فَلَمَّا انْتَهَى بَحِيرٌ إِلَى الْمَرُّوتِ قَالَ: يَا بَنِي عَامِرٍ انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ شَيْئًا؟ قَالُوا: نَرَى خَيْلًا عَارِضَةً رِمَاحَهَا عَلَى كَوَاهِلِ خَيْلِهَا. قَالَ: هَذِهِ عَمْرُو بْنُ تَمِيمٍ وَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ، فَلَحِقَ بِهِمْ بَنُو عَمْرٍو فَقَاتَلُوهُمْ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ ثُمَّ صَدَرُوا عَنْهُمْ، وَمَضَى بَحِيرٌ، ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي عَامِرٍ انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ شَيْئًا؟ قَالُوا: نَرَى خَيْلًا نَاصِبَةً رِمَاحَهَا. قَالَ: هَذِهِ مَالِكُ بْنُ حَنْظَلَةَ وَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ، فَلُحِقُوا فَقَاتَلُوا شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ ثُمَّ صَدَرُوا عَنْهُمْ، وَمَضَى بَحِيرٌ وَقَالَ: يَا بَنِي عَامِرٍ انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ شَيْئًا؟ قَالُوا: نَرَى خَيْلًا لَيْسَتْ مَعَهَا رِمَاحٌ وَكَأَنَّمَا عَلَيْهَا الصِّبْيَانُ. قَالَ: هَذِهِ يَرْبُوعٌ رِمَاحُهَا بَيْنَ آذَانِ خَيْلِهَا، إِيَّاكُمْ وَالْمَوْتَ الزُّؤَامَ، فَاصْبِرُوا وَلَا أَرَى أَنْ تَنْجُوا. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَحِقَ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ الْوَاقِعَةُ وَهُوَ نُعَيْمُ بْنُ عَتَّابٍ، وَكَانَ يُسَمَّى الْوَاقِعَةَ لِبَلِيَّتِهِ، فَحَمَلَ عَلَى الْمُثَلَّمِ الْقُشَيْرِيِّ فَأَسَرَهُ، وَحَمَلَتْ قُشَيْرٌ عَلَى دَوْكَسِ بْنِ وَاقِدِ بْنِ حَوْطٍ فَقَتَلُوهُ، وَأَسَرَ نُعَيْمٌ الْمُصَفَّى الْقُشَيْرِيَّ فَقَتَلَهُ، وَحَمَلَ كِدَامُ بْنُ بَجِيلَةَ الْمَازِنِيُّ عَلَى بَحِيرٍ فَعَانَقَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِقَعْنَبَ هِمَّةٌ إِلَّا بَحِيرٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَإِلَى كِدَامٍ قَدْ تَعَانَقَا فَأَقْبَلَ نَحْوَهُمَا، فَقَالَ كِدَامٌ: يَا قَعْنَبُ أَسِيرِي. فَقَالَ قَعْنَبٌ: مَازِ رَأْسَكَ وَالسَّيْفَ، يُرِيدُ: يَا مَازِنِيُّ. فَخَلَّى عَنْهُ كِدَامٌ وَشَدَّ عَلَيْهِ قَعْنَبٌ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، وَحَمَلَ قَعْنَبٌ أَيْضًا عَلَى صُهْبَانَ، وَأُمُّ صُهْبَانَ مَازِنِيَّةٌ، فَأَسَرَهُ، فَقَالَتْ بَنُو مَازِنٍ: يَا قَعْنَبُ قَتَلْتَ أَسِيرَنَا فَأَعْطِنَا ابْنَ

يوم فيف الريح

أَخِينَا مَكَانَهُ. فَدَفَعَ إِلَيْهِمْ صُهْبَانَ فِي بَحِيرٍ، فَرَضُوا بِذَلِكَ، وَاسْتَنْقَذَتْ بَنُو يَرْبُوعٍ أَمْوَالَ بَنِي الْعَنْبَرِ وَسَبْيَهُمْ مِنْ بَنِي عَامِرٍ وَعَادُوا. (بَحِيرٌ: بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ) . [يَوْمُ فَيْفِ الرِّيحِ] وَهُوَ بَيْنَ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَالْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَ خَبَرُهُ أَنَّ بَنِي عَامِرٍ كَانَتْ تَطْلُبُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ بِأَوْتَارٍ كَثِيرَةٍ، فَجَمَعَ لَهُمُ الْحُصَيْنُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ شَدَّادِ بْنِ قَنَانٍ الْحَارِثِيُّ، وَهُوَ ذُو الْغُصَّةِ، وَاسْتَعَانَ بِجُعْفِيٍّ وَزُبَيْدٍ وَقَبَائِلِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ وَمُرَادٍ وَصُدَاءٍ وَنَهْدٍ وَخَثْعَمٍ وَشَهْرَانَ وَنَاهِسٍ. ثُمَّ أَقْبَلُوا يُرِيدُونَ بَنِي عَامِرٍ وَهُمْ مُنْتَجِعُونَ مَكَانًا يُقَالُ لَهُ فَيْفُ الرِّيحِ، وَمَعَ مَذْحِجٍ النِّسَاءُ وَالذَّرَارِي حَتَّى لَا يَفِرُّوا. فَاجْتَمَعَتْ بَنُو عَامِرٍ، فَقَالَ لَهُمْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: أَغِيرُوا بِنَا عَلَى الْقَوْمِ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ نَأْخُذَ غَنَائِمَهُمْ وَنَسْبِيَ نِسَاءَهُمْ، وَلَا تَدَعُوهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْكُمْ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ وَسَارُوا إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ بَنِي الْحَارِثِ وَمَذْحِجٍ وَمَنْ مَعَهُمْ أَخْبَرَتْهُمْ عُيُونُهُمْ وَعَادَتْ إِلَيْهِمْ مَشَايِخُهُمْ، فَحَذِرُوا فَالْتَقَوْا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُغَادُونَهُمُ الْقِتَالَ بِفَيْفِ الرِّيحِ، فَالْتَقَى الصُّمَيْلُ بْنُ الْأَعْوَرِ الْكُلَابِيُّ وَعَمْرُو بْنُ صُبَيْحٍ النَّهْدِيُّ، فَطَعَنَهُ عَمْرٌو، فَاعْتَنَقَ الصُّمَيْلُ فَرَسَهُ وَعَادَ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمٍ فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ دِرْعَهُ وَفَرَسَهُ. وَشَهِدَتْ بَنُو نُمَيْرٍ يَوْمَئِذٍ مَعَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ فَأَبْلَوْا بَلَاءً حَسَنًا، وَسُمُّوا ذَلِكَ الْيَوْمَ حُرَيْجَةَ الطِّعَانِ لِأَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا بِرِمَاحِهِمْ فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْحَرَجَةِ، وَهِيَ شَجَرٌ مُجْتَمِعٌ. وَسَبَبُ اجْتِمَاعِهِمْ أَنَّ بَنِي عَامِرٍ جَالُوا جَوْلَةً إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْعُرْقُوبُ، وَالْتَفَتَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فَسَأَلَ عَنْ بَنِي نُمَيْرٍ فَوَجَدَهُمْ قَدْ تَخَلَّفُوا فِي الْمَعْرَكَةِ، فَرَجَعَ وَهُوَ يَصِيحُ: يَا صَبَاحَاهُ! يَا نُمَيْرَاهُ! وَلَا نُمَيْرَ لِي بَعْدَ الْيَوْمِ! حَتَّى اقْتَحَمَ فَرَسُهُ وَسَطَ الْقَوْمِ، فَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَعَادَتْ بَنُو عَامِرٍ وَقَدْ طُعِنَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ مَا بَيْنَ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى سُرَّتِهِ

عِشْرِينَ طَعْنَةً. وَكَانَ عَامِرٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَتَعَهَّدُ النَّاسَ فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ مَا رَأَيْتُكَ فَعَلْتَ شَيْئًا، فَمَنْ أَبْلَى فَلْيُرِنِي سَيْفَهُ أَوْ رُمْحَهُ، وَمَنْ لَمْ يُبْلِ شَيْئًا تَقَدَّمَ فَأَبْلَى، فَكَانَ كُلُّ مَنْ أَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا أَتَاهُ، فَأَرَاهُ الدَّمَ عَلَى سِنَانِ رُمْحِهِ أَوْ سَيْفِهِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْحَارِثِيِّينَ اسْمُهُ مُسْهِرٌ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَلِيٍّ انْظُرْ مَا صَنَعْتُ بِالْقَوْمِ! انْظُرْ إِلَى رُمْحِي! فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْهِ عَامِرٌ لِيَنْظُرَ، وَجَأَهُ بِالرُّمْحِ فِي وَجْنَتِهِ فَفَلَقَهَا وَفَقَأَ عَيْنَهُ وَتَرَكَ رُمْحَهُ وَعَادَ إِلَى قَوْمِهِ. وَإِنَّمَا دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ مَا رَآهُ يَفْعَلُ بِقَوْمِهِ، فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ مُبِيرُ قَوْمِي! فَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: أَتَوْنَا بِشَهْرَانَ الْعَرِيضَةِ كُلِّهَا ... وَأَكْلُبَ طُرًّا فِي جِيَادِ السَّنَوَّرِ لَعَمْرِي وَمَا عَمْرِي عَلَيَّ بِهَيِّنٍ ... لَقَدْ شَانَ حُرَّ الْوَجْهِ طَعْنَةَ مُسْهِرِ فَبِئْسَ الْفَتَى أَنْ كُنَتَ أَعْوَرَ عَاقِرًا ... جَبَانًا وَمَا أَغْنَى لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ وَأَسَرَتْ بَنُو عَامِرٍ يَوْمَئِذٍ سَيِّدَ مُرَادٍ جَرِيحًا، فَلَمَّا بَرَأَ مِنْ جِرَاحَتِهِ أُطْلِقَ. وَمِمَّنْ أَبْلَى يَوْمَئِذٍ أَرْبَدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ حُرِّ بْنِ خَالِدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ شُرَيْحِ بْنِ الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرٍ. وَقَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَيُقَالُ إِنَّهَا لِعَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ: أَتَوْنَا بِشَهْرَانَ الْعَرِيضَةِ كُلِّهَا ... وَأَكْلُبُهَا فِي مِثْلِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ فَبِتْنَا وَمَنْ يَنْزِلْ بِهِ مِثْلُ ضَيْفِنَا ... يَبِتْ عَنْ قِرَى أَضْيَافِهِ غَيْرَ غَافِلِ أَعَاذِلُ لَوْ كَانَ الْبِدَادُ لَقُوبِلُوا ... وَلَكِنْ أَتَانَا كُلُّ جِنٍّ وَخَابِلِ وَخَثْعَمُ حَيٌّ يُعْدَلُونَ بِمَذْحِجٍ فَهَلْ ... نَحْنُ إِلَّا مِثْلُ إِحْدَى الْقَبَائِلِ وَأَسْرَعَ الْقَتْلُ فِي الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ إِنَّهُمُ افْتَرَقُوا وَلَمْ يَشْتَغِلْ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِغَنِيمَةٍ، وَكَانَ الصَّبْرُ فِيهَا وَالشَّرَفُ لِبَنِي عَامِرٍ.

يوم اليحاميم ويعرف أيضا بقارات حوق

[يَوْمُ الْيَحَامِيمِ وَيُعْرَفُ أَيْضًا بِقَارَاتِ حُوقٍ] وَهُوَ بَيْنَ قَبَائِلِ طَيِّءٍ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ جَبَلَةَ الْغَسَّانِيَّ كَانَ قَدْ أَصْلَحَ بَيْنَ طَيِّءٍ. فَلَمَّا هَلَكَ عَادَتْ إِلَى حَرْبِهَا، فَالْتَقَتْ جَدِيلَةُ وَالْغَوْثُ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ غَرْثَانُ، فَقُتِلَ قَائِدُ بَنِي جَدِيلَةَ وَهُوَ أَسْبَعُ بْنُ عَمْرِو بْنِ لَأْمٍ عَمِّ أَوْسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَأْمٍ، وَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ سِنْبِسَ يُقَالُ لَهُ مُصْعَبٌ أُذُنَيْهِ فَخَصَفَ بِهِمَا نَعْلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو سَرْوَةَ السِّنْبِسِيُّ: نُخَصِّفُ بِالْآذَانِ مِنْكُمْ نِعَالَنَا ... وَنَشْرَبُ كَرْهًا مِنْكُمُ فِي الْجَمَاجِمِ وَتَنَاقَلَ الْحَيَّانِ فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا كَثِيرَةً، وَعَظُمَ مَا صَنَعَتِ الْغَوْثُ عَلَى أَوْسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ لَأْمٍ، وَعَزَمَ عَلَى لِقَاءِ الْحَرْبِ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ لَمْ يَشْهَدِ الْحُرُوبَ الْمُتَقَدِّمَةَ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ طَيِّءٍ كَحَاتِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَزَيْدِ الْخَيْلِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّؤَسَاءِ، فَلَمَّا تَجَهَّزَ أَوْسٌ لِلْحَرْبِ وَأَخَذَ فِي جَمْعِ جَدِيلَةَ وَلَفِّهَا قَالَ أَبُو جَابِرٍ: أَقِيمُوا عَلَيْنَا الْقَصْدَ يَا آلَ طَيْءٍ ... وَإِلَّا فَإِنَّ الْعِلْمَ عِنْدَ التَّحَاسُبِ فَمَنْ مِثْلُنَا إِذَا الْحَرْبُ شَمَّرَتْ ... وَمَنْ مِثْلُنَا يَوْمًا إِذَا لَمْ نُحَاسِبِ فَإِنْ تَقْطَعِينِي أَوْ تُرِيدِي مُسَاءَتِي فَقَدْ ... قَطَّعَ الْخَوْفُ الْمَخُوفُ رَكَائِبِي وَبَلَغَ الْغَوْثَ جَمْعُ أَوْسٍ لَهَا وَأَوْقَدَتِ النَّارَ عَلَى مَنَاعٍ، وَهِيَ ذُرْوَةُ أَجَأَ، وَذَلِكَ أَوَّلُ يَوْمٍ تُوقَدُ عَلَيْهِ النَّارُ. فَأَقْبَلَتْ قَبَائِلُ الْغَوْثِ، كُلُّ قَبِيلَةٍ وَعَلَيْهَا رَئِيسُهَا، مِنْهُمْ زَيْدُ الْخَيْلِ وَحَاتِمٌ، وَأَقْبَلَتْ جَدِيلَةُ مُجْتَمِعَةً عَلَى أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَأْمٍ، وَحَلَفَ أَوْسٌ أَنْ لَا يَرْجِعَ عَنْ طَيِّءٍ حَتَّى يَنْزِلَ مَعَهَا جَبَلَيْهَا أَجَأَ وَسُلْمَى وَتَجْبِي لَهُ أَهْلُهَا، وَتَزَاحَفُوا وَالْتَقَوْا بِقَارَاتِ حُوقٍ عَلَى رَايَاتِهِمْ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَدَارَتِ الْحَرْبُ

يوم ذي طلوح

عَلَى بَنِي كِبَادِ بْنِ جُنْدَبٍ فَأُبِيرُوا. قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: إِنِّي لَوَاقِفٌ يَوْمَ الْيَحَامِيمِ، وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ إِذْ نَظَرْتُ إِلَى زَيْدِ الْخَيْلِ قَدْ حَضَرَ ابْنَيْهِ مِكْنَفًا وَحُرَيْثًا فِي شِعْبٍ لَا مَنْفَذَ لَهُ وَهُوَ يَقُولُ: أَيِ ابْنَيَّ أَبْقِيَا عَلَى قَوْمِكُمَا فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ التَّفَانِي، فَإِنْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ أَعْمَامًا فَهَؤُلَاءِ أَخْوَالٌ. فَقُلْتُ: كَأَنَّكَ قَدْ كَرِهْتَ قِتَالَ أَخْوَالِكَ! قَالَ: فَاحْمَرَّتْ عَيْنَاهُ غَضَبًا، وَتَطَاوَلَ إِلَيَّ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى مَا تَحْتَهُ مِنْ سَرْجِهِ فَخِفْتُهُ، فَضَرَبْتُ فَرَسِي وَتَنَحَّيْتُ عَنْهُ، وَاشْتَغَلَ بِنَظَرِهِ إِلَيَّ عَنِ ابْنَيْهِ، فَخَرَجَا كَالصَّقْرَيْنِ، وَحَمَلَ قَيْسُ بْنُ عَازِبٍ عَلَى بَحِيرِ بْنِ زَيْدِ الْخَيْلِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَأْمٍ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ ضَرْبَةً عَنَّقَ لَهَا بَحِيرٌ فَرَسَهُ وَوَلَّى، فَانْهَزَمَتْ جَدِيلَةُ عِنْدَ ذَلِكَ وَقُتِلَ فِيهَا قَتْلٌ ذَرِيعٌ، فَقَالَ زَيْدُ الْخَيْلِ: تَجِيءُ بَنِي لَأْمٍ جِيَادٌ كَأَنَّهَا ... عَصَائِبُ طَيْرٍ يَوْمَ طَلٍّ وَحَاصِبِ فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا لَا يَزَلْ بِكَ شَامَةٌ ... أَنَاءَ حَيًا بَيْنَ الشَّجَا وَالتَّرَائِبِ وَفَرَّ ابْنُ لَأْمٍ وَاتَّقَانَا بِظَهْرِهِ ... يُرَدِّعُهُ بِالرُّمْحِ قَيْسُ بْنُ عَازِبِ وَجَاءَتْ بَنُو مَعْنٍ كَأَنَّ سُيُوفَهُمْ ... مَصَابِيحُ مِنْ سَقْفٍ فَلَيْسَ بِآيِبِ وَمَا فَرَّ حَتَّى أَسْلَمَ ابْنُ حُمَارِسٍ ... لِوَقْعَةِ مَصْقُولٍ مِنَ الْبِيضِ قَاضِبِ فَلَمْ تَبْقَ لِجَدِيلَةَ بَقِيَّةٌ لِلْحَرْبِ بَعْدَ يَوْمِ الْيَحَامِيمِ، فَدَخَلُوا بِلَادَ كَلْبٍ فَحَالَفُوهُمْ وَأَقَامُوا مَعَهُمْ. [يَوْمُ ذِي طُلُوحٍ] وَهُوَ يَوْمُ الصَّمْدِ وَيَوْمُ أُودٍ أَيْضًا، وَهُوَ بَيْنَ بَكْرٍ وَتَمِيمٍ، وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّ عَمِيرَةَ بْنَ طَارِقِ بْنِ أَرْثَمَ الْيَرْبُوعِيَّ التَّمِيمِيَّ تَزَوَّجَ مُرِّيَّةَ بِنْتَ جَابِرٍ الْعِجْلِيَّ أُخْتَ أَبْجَرَ، وَسَارَ إِلَى عِجْلٍ لِيَبْتَنِيَ بِأَهْلِهِ. وَكَانَ لَهُ فِي بَنِي تَمِيمٍ امْرَأَةٌ أُخْرَى تُعْرَفُ بِابْنَةِ

يوم أقرن

النَّطِفِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَأَتَى أَبْجَرُ أُخْتَهُ يَزُورُهَا وَزَوْجُهَا عِنْدَهَا. فَقَالَ لَهَا أَبْجَرُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ آتِيَكِ يَا ابْنَةَ النَّطِفِ امْرَأَةَ عَمِيرَةَ. فَقَالَ لَهُ: مَا أَرَاكَ تُبْقِي عَلَيَّ حَتَّى تَسْلُبَنِي أَهْلِي. فَنَدِمَ أَبْجَرُ وَقَالَ لَهُ: مَا كُنْتُ لِأَغْزُوَ قَوْمَكَ وَلَكِنَّنِي مُسْتَأْسِرٌ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ تَمِيمٍ. وَجَمَعَ أَبْجَرُ وَالْحَوْفَزَانُ بْنُ شَرِيكٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَالْحَوْفَزَانُ عَلَى شَيْبَانَ وَالْأَبْجَرُ عَلَى اللَّهَازِمِ، وَوَكَّلَا بِعَمِيرَةَ مَنْ يَحْرُسُهُ لِئَلَّا يَأْتِيَ قَوْمَهُ فَيُنْذِرَهُمْ. فَسَارَ الْجَيْشُ، فَاحْتَالَ عَمِيرَةُ عَلَى الْمُوَكَّلِ بِحِفْظِهِ وَهَرَبَ مِنْهُ وَجَدَّ السَّيْرَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى بَنِي يَرْبُوعٍ فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ غَزَاكُمُ الْجَيْشُ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، فَأَعْلَمُوا بَنِي ثَعْلَبَةَ بَطْنًا مِنْهُمْ، فَأَرْسَلُوا طَلِيعَةً مِنْهُمْ فَبَقُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَوَصَلَتْ بَكْرٌ فَرَكِبَتْ يَرْبُوعٌ وَالْتَقَوْا بِذِي طُلُوحٍ. فَرَكِبَ عَمِيرَةُ وَلَقِيَ أَبْجَرَ فَعَرَّفَهُ نَفْسَهُ، وَالْتَقَى الْقَوْمُ وَاقْتَتَلُوا فَكَانَ الظَّفَرُ لِيَرْبُوعٍ. وَانْهَزَمَتْ بَكْرٌ وَأُسِرَ الْحَوْفَزَانُ وَابْنُهُ شَرِيكٌ وَابْنُ عَنَمَةَ الشَّاعِرُ، وَكَانَ مَعَ بَنِي شَيْبَانَ فَافْتَكَّهُ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ، وَأُسِرَ أَكْثَرُ الْجَيْشِ الْبَكْرِيِّ، وَقَالَ ابْنُ عَنَمَةَ يَشْكُرُ مُتَمِّمًا: جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ عَنِّي مُتَمِّمًا ... بِخَيْرِ الْجَزَاءِ مَا أَعَفَّ وَأَجْوَدَا أُجِيرَتْ بِهِ أَبْنَاؤُنَا وَدِمَاؤُنَا ... وَشَارَكَ فِي إِطْلَاقِنَا وَتَفَرَّدَا أَبَا نَهْشَلٍ إِنِّي لَكُمْ غَيْرُ كَافِرٍ ... وَلَا جَاعِلٍ مِنْ دُونِكَ الْمَالَ سَرْمَدَا [يَوْمُ أَقْرُنَ] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: غَزَا عَمْرُو بْنُ عَمْرِو بْنِ عُدَسٍ التَّمِيمِيُّ بَنِي عَبْسٍ، فَأَخَذَ إِبِلَهُمْ وَاسْتَاقَ سَبْيَهُمْ وَعَادَ، حَتَّى إِذَا كَانَ أَسْفَلَ ثَنِيَّةِ أَقْرُنَ، نَزَلَ وَابْتَنَى بِجَارِيَةٍ مِنَ السَّبْيِ، وَلَحِقَهُ الطَّلَبُ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَتَلَ أَنَسُ الْفَوَارِسِ ابْنُ زِيَادٍ الْعَبْسِيُّ عَمْرًا وَابْنَهُ حَنْظَلَةَ، وَاسْتَرَدُّوا الْغَنِيمَةَ وَالسَّبْيَ، فَنَعَى جَرِيرٌ عَلَى بَنِي دَارِمٍ ذَلِكَ فَقَالَ: أَتَنْسُونَ عَمْرًا يَوْمَ بُرْقَةَ أَقْرُنٍ وَحَنْظَلَةَ الْمَقْتُولَ إِذْ هُوَ يَافِعَا وَكَانَ عَمْرٌو أَسْلَعَ أَبْرَصَ، وَكَانَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ قَدْ أَخْطَأُوا ثَنِيَّةَ الطَّرِيقِ فِي عَوْدِهِمْ

يوم السلان

وَسَلَكُوا غَيْرَ الطَّرِيقِ، فَسَقَطُوا مِنَ الْجَبَلِ الَّذِي سَلَكُوهُ فَلَقُوا شِدَّةً فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَنْتَرَةُ: كَأَنَّ السَّرَايَا يَوْمَ نِيقٍ وَصَارَةٍ ... عَصَائِبُ طَيْرٍ يَنْتَحِينَ لِمَشْرَبِ شَفَى النَّفْسَ مِنِّي أَوْ دَنَا لِشِفَائِهَا ... تَهَوُّرُهُمْ مِنْ حَالِقٍ مُتَصَوِّبِ وَقَدْ كُنْتُ أَخْشَى أَنْ أَمُوتَ وَلَمْ تَقُمْ ... مَرَاتِبُ عَمْرٍو وَسْطَ نَوْحٍ مُسَلِّبِ وَكَانَتْ أُمُّ سَمَاعَةَ بْنِ عَمْرٍو مِنْ عَبْسٍ، فَزَارَهُ خَالُهُ فَقَتَلَهُ بِابْنِهِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ مِسْكِينٌ الدَّارِمِيُّ: وَقَاتِلُ خَالِهِ بِأَبِيهِ مِنَّا ... سَمَاعَةُ لَمْ يَبِعْ نَسَبًا بِخَالِ [يَوْمُ السُّلَّانِ] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَ بَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ حُمْسًا، وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَنْ لَهُ فِيهِمْ وِلَادَةٌ، وَالْحُمْسُ مُتَشَدِّدُونَ فِي دِينِهِمْ، وَكَانَتْ عَامِرٌ أَيْضًا لَقَاحًا لَا يَدِينُونَ لِلْمُلُوكِ. فَلَمَّا مَلَكَ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ مَلَّكَهُ كِسْرَى أَبْرَوِيزُ، وَكَانَ يُجَهِّزُ كُلَّ عَامٍ لَطِيمَةً، وَهِيَ التِّجَارَةُ، لِتُبَاعَ بِعُكَاظَ، فَعَرَضَتْ بَنُو عَامِرٍ لِبَعْضِ مَا جَهَّزَهُ فَأَخَذُوهُ. فَغَضِبَ لِذَلِكَ النُّعْمَانُ وَبَعَثَ إِلَى أَخِيهِ لِأُمِّهِ، وَهُوَ وَبَرَةُ بْنُ رُومَانْسَ الْكَلْبِيُّ، وَبَعَثَ إِلَى صَنَائِعِهِ وَوَضَائِعِهِ، وَالصَّنَائِعُ مَنْ كَانَ يَصْطَنِعُهُ مِنَ الْعَرَبِ لِيُغْزِيَهُ، وَالْوَضَائِعُ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا شِبْهَ الْمَشَايِخِ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَنِي ضَبَّةَ بْنِ أُدٍّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرِّبَابِ وَتَمِيمٍ فَجَمَعَهُمْ، فَأَجَابُوهُ، فَأَتَاهُ ضِرَارُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ فِي تِسْعَةٍ مِنْ بَنِيهِ كُلُّهُمْ فَوَارِسُ وَمَعَهُ حُبَيْشُ بْنُ دُلَفٍ، وَكَانَ فَارِسًا شُجَاعًا، فَاجْتَمَعُوا فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ، فَجَهَّزَ النُّعْمَانُ مَعَهُمْ عِيرًا وَأَمَرَهُمْ بِتَسْيِيرِهَا وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا

فَرَغْتُمْ مِنْ عُكَاظَ وَانْسَلَخَتِ الْحُرُمُ وَرَجَعَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَاقْصِدُوا بَنِي عَامِرٍ فَإِنَّهُمْ قَرِيبٌ بِنَوَاحِي السُّلَّانِ. فَخَرَجُوا وَكَتَمُوا أَمْرَهُمْ وَقَالُوا: خَرَجْنَا لِئَلَّا يَعْرِضَ أَحَدٌ لِلَطِيمَةِ الْمَلِكِ. فَلَمَّا فَرَغَ النَّاسُ مِنْ عُكَاظَ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ بِحَالِهِمْ، فَأَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ قَاصِدًا إِلَى بَنِي عَامِرٍ يُعْلِمُهُمُ الْخَبَرَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُمْ فَحَذِرُوا وَتَهَيَّأُوا لِلْحَرْبِ وَتَحَرَّزُوا وَوَضَعُوا الْعُيُونَ، وَعَادَ عَامِرٌ عَلَيْهِمْ عَامِرُ بْنُ مَالِكٍ مُلَاعِبُ الْأَسِنَّةِ، وَأَقْبَلَ الْجَيْشُ فَالْتَقَوْا بِالسُّلَّانِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا. فَبَيْنَا هُمْ يَقْتَتِلُونَ إِذْ نَظَرَ يَزِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ خُوَيْلِدٍ الصَّعْقُ إِلَى وَبَرَةَ بْنِ رُومَانْسَ أَخِي النُّعْمَانِ فَأَعْجَبَهُ هَيْئَتُهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَأَسَرَهُ. فَلَمَّا صَارَ فِي أَيْدِيهِمْ هَمَّ الْجَيْشُ بِالْهَزِيمَةِ، فَنَهَاهُمْ ضِرَارُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ وَقَامَ بِأَمْرِ النَّاسِ فَقَاتَلَ هُوَ وَبَنُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَرَاءٍ عَامِرُ بْنُ مَالِكٍ وَمَا يَصْنَعُ بِبَنِي عَامِرٍ هُوَ وَبَنُوهُ حَمَلَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَرَاءٍ رَجُلًا شَدِيدَ السَّاعِدِ. فَلَمَّا حَمَلَ عَلَى ضِرَارٍ اقْتَتَلَا، فَسَقَطَ ضِرَارٌ إِلَى الْأَرْضِ وَقَاتَلَ عَلَيْهِ بَنُوهُ حَتَّى خَلَّصُوهُ وَرَكِبَ، وَكَانَ شَيْخًا، فَلَمَّا رَكِبَ قَالَ: " مَنْ سَرَّهُ بَنُوهُ سَاءَتْهُ نَفْسُهُ "، فَذَهَبَتْ مَثَلًا. يَعْنِي مَنْ سَرَّهُ بَنُوهُ إِذَا صَارُوا رِجَالًا كَبِرَ وَضَعُفَ فَسَاءَهُ ذَلِكَ. وَجَعَلَ أَبُو بَرَاءٍ يُلِحُّ عَلَى ضِرَارٍ طَمَعًا فِي فِدَائِهِ، وَجَعَلَ بَنُوهُ يَحْمُونَهُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو بَرَاءٍ قَالَ لَهُ: لَتَمُوتَنَّ أَوْ لَأَمُوتَنَّ دُونَكَ فَأَحِلْنِي عَلَى رَجُلٍ لَهُ فِدَاءٌ، فَأَوْمَأَ ضِرَارٌ إِلَى حُبَيْشِ بْنِ دُلَفٍ وَكَانَ سَيِّدًا، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو بَرَاءٍ فَأَسَرَهُ، وَكَانَ حُبَيْشٌ أَسْوَدَ نَحِيفًا دَمِيمًا، فَلَمَّا رَآهُ كَذَلِكَ ظَنَّهُ عَبْدًا وَأَنَّ ضِرَارًا خَدَعَهُ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ، أَعْزَزَ سَائِرَ الْقَوْمِ، أَلَا فِي الشُّؤْمِ وَقَعْتُ! فَلَمَّا سَمِعَهَا حُبَيْشٌ مِنْهُ خَافَ أَنْ يَقْتُلَهُ فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ اللَّبَنَ، يَعْنِي الْإِبِلَ، فَقَدْ أَصَبْتَهُ. فَافْتَدَى نَفْسَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ بَعِيرٍ وَهُزِمَ جَيْشُ النُّعْمَانِ. فَلَمَّا رَجَعَ الْفَلُّ إِلَيْهِ أَخْبَرُوهُ بِأَسْرِ أَخِيهِ، وَبِقِيَامِ ضِرَارٍ بِأَمْرِ النَّاسِ، وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ أَبِي بَرَاءٍ، وَافْتَدَى وَبَرَةُ بْنُ رُومَانْسَ نَفْسَهُ بِأَلْفِ بَعِيرٍ وَفَرَسٍ مِنْ يَزِيدَ بْنِ الصَّعْقِ، فَاسْتَغْنَى يَزِيدُ، وَكَانَ قَبْلَهُ خَفِيفَ الْحَالِ، وَقَالَ لَبِيدٌ يَذْكُرُ أَيَّامَ قَوْمِهِ:

يوم ذي علق

إِنِّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أَرُومَةُ عَامِرٍ ... ضَيْمِي وَقَدْ حَنِقَتْ عَلَيَّ خُصُومُ يَقُولُ فِيهَا: وَغَدَاةَ قَاعِ الْقَرْيَتَيْنِ أَتَاهُمُ رَهْوًا يَلُوحُ خِلَالَهَا التَّسْوِيمُ ... بِكَتَائِبٍ رُجُحٍ تَعَوَّدَ كَبْشُهَا نَطْحَ الْكِبَاشِ كَأَنَّهُنَّ نُجُومُ قَوْلُهُ: قَاعِ الْقَرْيَتَيْنِ، يَعْنِي يَوْمَ السُّلَّانِ. (حُبَيْشُ بْنُ دُلَفٍ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَبِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ شِينٌ مُعْجَمَةٌ) . [يَوْمُ ذِي عَلَقٍ] وَهُوَ يَوْمٌ الْتَقَى فِيهِ بَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَبَنُو أَسَدٍ بِذِي عَلَقٍ فَاقْتَتَلُوا اقْتِتَالًا شَدِيدًا عَظِيمًا. قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ رَبِيعَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كُلَابٍ الْعَامِرِيُّ أَبُو لَبِيدٍ الشَّاعِرِ وَانْهَزَمَتْ عَامِرٌ، فَتَبِعَهُمْ خَالِدُ بْنُ نَضْلَةَ الْأَسَدِيُّ وَابْنُهُ حَبِيبٌ وَالْحَارِثُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْمُضَلِّلِ، وَأَمْعَنُوا فِي الطَّلَبِ، فَلَمْ يَشْعُرُوا إِلَّا وَقَدْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَرَاءٍ عَامِرُ بْنُ مَالِكٍ مِنْ وَرَاءِ ظُهُورِهِمْ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لِخَالِدٍ: يَا أَبَا مَعْقِلٍ إِنْ شِئْتَ أَجَزْتَنَا وَأَجَزْنَاكَ حَتَّى نَحْمِلَ جَرْحَانَا وَنَدْفِنَ قَتْلَانَا. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. فَتَوَاقَفُوا. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَرَاءٍ: هَلْ عَلِمْتَ مَا فَعَلَ رَبِيعَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ تَرَكْتُهُ قَتِيلًا. قَالَ: وَمَنْ قَتَلَهُ؟ قَالَ: ضَرَبْتُهُ أَنَا وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ صَامِتُ بْنُ الْأَفْقَمِ. فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَرَاءٍ بِقَتْلِ رَبِيعَةَ حَمَلَ عَلَى خَالِدٍ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، فَمَانَعَهُمْ خَالِدٌ وَصَاحِبَاهُ وَأَخَذُوا سِلَاحَ حَبِيبِ بْنِ خَالِدٍ، وَلَحِقَهُمْ بَنُو أَسَدٍ فَمَنَعُوا أَصْحَابَهُمْ وَحَمُوهُمْ، فَقَالَ الْجُمَيْحُ: سَائِلٌ مَعَدًّا عَنِ الْفَوَارِسِ لَا ... أَوْفَوْا بِجِيرَانِهِمْ وَلَا سَلِمُوا يَسْعَى بِهِمْ قُرْزُلٌ وَيَسْتَمِعُ ال ... نَّاسُ إِلَيْهِمْ وَتُخْفِقُ اللِّمَمُ رَكْضًا وَقَدْ غَادَرُوا رَبِيعَةَ فِي ... الْأَثْآرِ لَمَّا تَقَارَبَ النَّسَمُ

يوم الرقم

فِي صَدْرِهِ صَعْدَةٌ وَيَخْلِجُهُ بِالرُّمْحِ حَرَّانَ بَاسِلًا أَضِمُ قُرْزُلٌ: فَرَسُ الطُّفَيْلِ وَالِدِ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ. وَقَالَ لَبِيدٌ مِنْ قَصِيدَةٍ يَذْكُرُ أَبَاهُ: وَلَا مِنْ رَبِيعِ الْمُقْتَرِينَ رُزِئْتُهُ ... بِذِي عَلَقٍ فَاقْنَيْ حَيَاءَكِ وَاصْبِرِي [يَوْمُ الرَّقَمِ] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: غَزَتْ عَامِرُ بْنُ صَعْصَعَةَ غَطَفَانَ، وَمَعَ بَنِي عَامِرٍ يَوْمَئِذٍ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ شَابًّا لَمْ يُرَأَّسْ بَعْدُ، فَبَلَغُوا وَادِي الرَّقَمِ، وَبِهِ بَنُو مُرَّةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ سَعْدٍ وَمَعَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَشْجَعَ بْنِ ذِئْبِ بْنِ غَطَفَانَ وَنَاسٌ مِنْ فَزَارَةَ بْنِ ذُبْيَانَ، فَنُذِرُوا بِبَنِي عَامِرٍ وَهَجَمَتْ عَلَيْهِمْ بَنُو عَامِرٍ بِالرَّقَمِ، وَهُوَ وَادٍ بِقُرْبِ تَضْرُعَ، فَالْتَقَوْا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فَرَأَى امْرَأَةً مِنْ فَزَارَةَ فَسَأَلَهَا. فَقَالَتْ: أَنَا أَسْمَاءُ بِنْتُ نَوْفَلٍ الْفَزَارِيِّ. وَقِيلَ: كَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ. فَبَيْنَا عَامِرٌ يَسْأَلُهَا خَرَجَ عَلَيْهِ الْمُنْهَزِمُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَبَنُو مُرَّةَ فِي أَعْقَابِهِمْ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَامِرٌ أَلْقَى دِرْعَهُ إِلَى أَسْمَاءَ وَوَلَّى مُنْهَزِمًا، فَأَدَّتْهَا إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَبِعَتْهُمْ مُرَّةُ وَعَلَيْهِمْ سِنَانُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيُّ، وَجَعَلَ الْأَشْجَعِيُّونَ يَذْبَحُونَ كُلَّ مَنْ أَسَرُوهُ مِنْ بَنِي عَامِرٍ لِوَقْعَةٍ كَانَتْ أَوْقَعَتْهَا بِهِمْ بَنُو عَامِرٍ، فَذَلِكَ الْبَطْنُ مِنْ بَنِي أَشْجَعَ يُسَمُّونَ بَنِي مَذْحِجٍ، فَذَبَحُوا سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ يُذَكِّرُ غَطَفَانَ وَيُعَرِّضُ بِأَسْمَاءَ: قَدْ سَاءَلَتْ أَسْمَاءُ وَهْيَ خَفِيَّةٌ ... لِضِحَائِهَا أَطُرِدْتُ أَمْ لَمْ أُطْرَدِ فَلَأَبْغِيَنَّكُمُ الْقَنَا وَعَوَارِضًا ... وَلَأُقْبِلَنَّ الْخَيْلَ لَابَةَ ضَرْغَدِ وَلَأَبْرُزَنَّ بِمَالِكٍ وَبِمَالِكٍ ... وَأَخِي الْمَرَوْرَاتِ الَّذِي لَمْ يُسْنَدِ فِي أَبْيَاتٍ عِدَّةٍ. فَلَمَّا بَلَغَ شِعْرُهُ غَطَفَانَ هَجَاهُ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَكَانَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ حِينَئِذٍ غَائِبًا عِنْدَ مُلُوكِ غَسَّانَ قَدْ هَرَبَ مِنَ النُّعْمَانِ. فَلَمَّا آمَنَهُ النُّعْمَانُ وَعَادَ سَأَلَ قَوْمَهُ عَمَّا هَجَوْا بِهِ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ، فَأَنْشَدُوهُ مَا قَالُوا فِيهِ وَمَا قَالَ فِيهِمْ، فَقَالَ: لَقَدْ أَفْحَشْتُمْ وَلَيْسَ

يوم ساحوق

مِثْلَ عَامِرٍ يُهْجَى بِمِثْلِ هَذَا، ثُمَّ قَالَ يُخَطِّئُ عَامِرًا فِي ذِكْرِهِ امْرَأَةً مِنْ عَقَائِلِهِمْ: فَإِنْ يَكُ عَامِرٌ قَدْ قَالَ جَهْلًا ... فَإِنَّ مَطِيَّةَ الْجَهْلِ الشَّبَابُ فَإِنَّكَ سَوْفَ تَحْلُمُ أَوْ تُبَاهِي ... إِذَا مَا شِبْتَ أَوْ شَابَ الْغُرَابُ فَكُنْ كَأَبِيكَ أَوْ كَأَبِي بَرَاءٍ ... تُوَافِقْكَ الْحُكُومَةُ وَالصَّوَابُ فَلَا تَذْهَبْ بِحُلْمِكَ طَامِيَاتٌ ... مِنَ الْخُيَلَاءِ لَيْسَ لَهُنَّ بَابُ إِلَى آخِرِهَا. فَلَمَّا سَمِعَهَا عَامِرٌ قَالَ: مَا هُجِيتُ قَبْلَهَا. [يَوْمُ سَاحُوقَ] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: غَزَتْ بَنُو ذُبْيَانَ بَنِي عَامِرٍ وَهُمْ بِسَاحُوقَ، وَعَلَى ذُبْيَانَ سِنَانُ بْنُ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيُّ، وَقَدْ جَهَّزَهُمْ وَأَعْطَاهُمُ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَزَوَّدَهُمْ، فَأَصَابُوا نَعَمًا كَثِيرَةً وَعَادُوا، فَلَحِقَتْهُمْ بَنُو عَامِرٍ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا. ثُمَّ انْهَزَمَتْ بَنُو عَامِرٍ وَأُصِيبَ مِنْهُمْ رِجَالٌ وَرَكِبُوا الْفَلَاةَ، فَهَلَكَ أَكْثَرُهُمْ عَطَشًا، وَكَانَ الْحَرُّ شَدِيدًا، وَجَعَلَتْ ذُبْيَانُ تُدْرِكُ الرَّجُلَ مِنْهُمْ فَيَقُولُونَ لَهُ: قِفْ وَلَكَ نَفْسُكَ وَضَعْ سِلَاحَكَ، فَيَفْعَلُ. وَكَانَ يَوْمًا عَظِيمًا عَلَى عَامِرٍ، وَانْهَزَمَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَأَخُوهُ الْحَكَمُ، ثُمَّ إِنَّ الْحَكَمَ ضَعُفَ وَخَافَ أَنْ يُؤْسَرَ، فَجَعَلَ فِي عُنُقِهِ حَبْلًا وَصَعِدَ إِلَى شَجَرَةٍ وَشَدَّهُ وَدَلَّى نَفْسَهُ فَاخْتَنَقَ، وَفَعَلَ مِثْلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي غَنِيٍّ، فَلَمَّا أَلْقَى نَفْسَهُ نَدِمَ فَاضْطَرَبَ، فَأَدْرَكُوهُ وَخَلَّصُوهُ وَعَيَّرُوهُ بِجَزَعِهِ، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الْوَرْدِ الْعَبْسِيُّ فِي ذَلِكَ: وَنَحْنُ صَبَحْنَا عَامِرًا فِي دِيَارِهَا ... عُلَالَةَ أَرْمَاحٍ وَضَرْبًا مُذَكَّرَا بِكُلِّ رُقَاقِ الشَّفْرَتَيْنِ مُهَنَّدٍ ... وَلَدْنٍ مِنَ الْخَطِّيِّ قَدْ طُرَّ أَسَمَرَا عَجِبْتُ لَهُمْ إِذْ يَخْنُقُونَ نُفُوسَهُمْ ... وَمَقْتَلُهُمْ تَحْتَ الْوَغَى كَانَ أَجْدَرَا

يوم أعيار ويوم النقيعة

[يَوْمُ أَعْيَارٍ وَيَوْمُ النَّقِيعَةِ] كَانَ الْمُثَلَّمُ بْنُ الْمُشَجَّرِ الْعَائِذِيُّ ثُمَّ الضَّبِّيُّ مُجَاوِرًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَتَقَامَرَ هُوَ وَعُمَارَةُ بْنُ زِيَادٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْكَمَلَةِ، فَقَمَرَهُ عُمَارَةُ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ أَبْكُرٍ، فَطَلَبَ مِنْهُ الْمُثَلَّمُ أَنْ يُخَلِّيَ عَنْهُ حَتَّى يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَيُرْسِلَ إِلَيْهِ بِالَّذِي لَهُ، فَأَبَى ذَلِكَ، فَرَهَنَهُ ابْنُهُ شِرْحَافُ بْنُ الْمُثَلَّمِ فَأَتَى قَوْمَهُ فَأَخَذَ الْبَكَارَةَ فَأَتَى بِهَا عُمَارَةَ وَافَتَكَّ ابْنَهُ. فَلَمَّا انْطَلَقَ بِابْنِهِ قَالَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ: يَا أَبَتَاهُ مَنْ مِعْضَالٌ؟ قَالَ: ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمِّكَ ذَهَبَ فَلَمْ يُوجَدْ إِلَى السَّاعَةِ. قَالَ شِرْحَافٌ: فَإِنِّي قَدْ عَرَفْتُ قَاتِلَهُ. قَالَ أَبُوهُ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: عُمَارَةُ بْنُ زِيَادٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ لِلْقَوْمِ يَوْمًا وَقَدْ أَخَذَ فِيهِ الشَّرَابُ إِنَّهُ قَتَلَهُ وَلَمْ يَلْقَ لَهُ طَالِبًا. وَلَبِثُوا بَعْدَ ذَلِكَ حِينًا وَشَبَّ شِرْحَافٌ. ثُمَّ إِنَّ عُمَارَةَ جَمَعَ جَمْعًا عَظِيمًا مِنْ عَبْسٍ فَأَغَارَ بِهِمْ عَلَى بَنِي ضَبَّةَ فَأَخَذُوا إِبِلَهُمْ، وَرَكِبَتْ بَنُو ضَبَّةَ فَأَدْرَكُوهُمْ فِي الْمَرْعَى. فَلَمَّا نَظَرَ شِرْحَافٌ إِلَى عُمَارَةَ قَالَ: يَا عُمَارَةُ أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا شِرْحَافٌ، أَدِّ إِلَيَّ ابْنَ عَمِّي مِعْضَالًا، لَا مِثْلَهُ يَوْمَ قَتَلْتَهُ! وَحَمَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، وَاقْتَتَلَتْ ضَبَّةُ وَعَبْسٌ قِتَالًا شَدِيدًا وَاسْتَنْقَذَتْ ضَبَّةُ الْإِبِلَ، وَقَالَ شِرْحَافٌ: أَلَا أَبْلِغْ سَرَاةَ بَنِي بَغِيضٍ بِمَا ... لَاقَتْ سَرَاةُ بَنِي زِيَادِ وَمَا لَاقَتْ جَذِيمَةُ إِذْ تُحَامِي ... وَمَا لَاقَى الْفَوَارِسُ مِنْ بِجَادِ تَرَكْنَا بِالنَّقِيعَةِ آلَ عَبْسٍ ... شَعَاعًا يُقْتَلُونَ بِكُلِّ وَادِ وَمَا إِنْ فَاتَنَا إِلَّا شَرِيدٌ ... يَؤُمُّ الْقَفْرَ فِي تِيهِ الْبِلَادِ فَسَلْ عَنَّا عُمَارَةَ آلَ عَبْسٍ ... وَسَلْ وَرْدًا وَمَا كُلُّ بَدَادِ تَرَكْتُهُمُ بِوَادِي الْبَطْنِ ... رَهْنًا لِسِيدَانِ الْقَرَارَةِ وَالْجِلَادِ

يوم النباة

[يَوْمُ النُّبَاةِ] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: خَرَجَتْ بَنُو عَامِرٍ تُرِيدُ غَطَفَانَ لِتُدْرِكَ بِثَأْرِهَا يَوْمَ الرَّقَمِ وَيَوْمَ سَاحُوقَ، فَصَادَفَتْ بَنِي عَبْسٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ أَحَدٌ مِنْ غَطَفَانَ، وَكَانَتْ عَبْسٌ لَمْ تَشْهَدْ يَوْمَ الرَّقَمِ وَلَا يَوْمَ سَاحُوقَ مَعَ غَطَفَانَ وَلَمْ يُعِينُوهُمْ عَلَى بَنِي عَامِرٍ، وَقِيلَ: بَلْ شَهِدَهَا أَشْجَعُ وَفَزَارَةُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ بَنِي غَطَفَانَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. قَالَ: وَأَغَارَتْ بَنُو عَامِرٍ عَلَى نَعَمِ بَنِي عَبْسٍ وَذُبْيَانَ وَأَشْجَعَ، فَأَخَذُوهَا وَعَادُوا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ فَضَلُّوا فِي الطَّرِيقِ، فَسَلَكُوا وَادِيَ النُّبَاةِ فَأَمْعَنُوا فِيهِ وَلَا طَرِيقَ لَهُمْ وَلَا مَطْلَعَ حَتَّى قَارَبُوا آخِرَهُ. وَكَادَ الْجَبَلَانِ يَلْتَقِيَانِ إِذَا هُمْ بِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَبْسٍ تَخْبِطُ الشَّجَرَ لَهُمْ فِي قُلَّةِ الْجَبَلِ. فَسَأَلُوهَا عَنِ الْمَطْلَعِ. فَقَالَتْ لَهُمْ: الْفَوَارِسُ الْمَطْلَعُ، وَكَانَتْ قَدْ رَأَتِ الْخَيْلَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَهِيَ عَلَى الْجَبَلِ، وَلَمْ يَرَهَا بَنُو عَامِرٍ لِأَنَّهُمْ فِي الْوَادِي، فَأَرْسَلُوا رَجُلًا إِلَى قُلَّةِ الْجَبَلِ يَنْظُرُ، فَقَالَ لَهُمْ: أَرَى قَوْمًا كَأَنَّهُمُ الصِّبْيَانُ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، أَسِنَّةُ رِمَاحِهِمْ عِنْدَ آذَانِ خَيْلِهِمْ. قَالُوا: تِلْكَ فَزَارَةُ، قَالَ: وَأَرَى قَوْمًا بِيضًا جِعَادًا كَأَنَّ عَلَيْهِمْ ثِيَابًا حُمْرًا. قَالُوا: تِلْكَ أَشْجَعُ. قَالَ: وَأَرَى قَوْمًا نُسُورًا قَدْ قَلَعُوا خُيُولَهُمْ بِسَوَادِهِمْ، كَأَنَّمَا يَحْمِلُونَهَا حَمْلًا بِأَفْخَاذِهِمْ، آخِذِينَ بِعَوَامِلِ رِمَاحِهِمْ يَجُرُّونَهَا قَالُوا: تِلْكَ عَبْسٌ، أَتَاكُمُ الْمَوْتُ الزُّؤَامُ! وَلَحِقَهُمُ الطَّلَبُ بِالْوَادِي، فَكَانَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ أَوَّلَ مَنْ سَبَقَ عَلَى فَرَسِهِ الْوَرْدَ فَفَاتَ الْقَوْمَ، وَأَعْيَا فَرَسَهُ الْوَرْدُ، وَهُوَ الْمَرْبُوقُ أَيْضًا فَعَقَرَهُ لِئَلَّا تَفْتَحِلَهُ فَزَارَةُ، وَاقْتَتَلَ النَّاسُ، وَدَامَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَانْهَزَمَتْ عَامِرٌ فَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ كَبِيرَةٌ، قُتِلَ فِيهَا مِنْ أَشْرَافِهِمُ الْبَرَاءُ بْنُ عَامِرِ بْنِ مَالِكٍ، وَبِهِ يُكَنَّى أَبُوهُ، وَقُتِلَ نَهْشَلٌ وَأَنَسٌ وَهَزَارُ بَنُو مُرَّةَ بْنِ أَنَسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَقَتَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الطُّفَيْلِ أَخَا عَامِرٍ، قَتَلَهُ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْعَبْسِيُّ، وَغَيْرُهُمْ كَثِيرٌ، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى بَنِي عَامِرٍ.

يوم الفرات

[يَوْمُ الْفُرَاتِ] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَغَارَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ عُمْرَانَ بْنِ مُرَّةَ، عَلَى بَنِي تَغْلِبَ، وَهُمْ عِنْدَ الْفُرَاتِ، وَذَلِكَ قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ، فَظَفِرَ بِهِمْ فَقَتَلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ مُقَاتِلَتِهِمْ، وَغَرِقَ مِنْهُمْ نَاسٌ كَثِيرٌ فِي الْفُرَاتِ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ شَاعِرُهُمْ فِي ذَلِكَ: وَمِنَّا الَّذِي غَشَّى الدُّلَيْكَةَ سَيْفَهُ ... عَلَى حِينِ أَنْ أَعْيَا الْفُرَاتَ كَتَائِبُهْ وَمِنَّا الَّذِي شَدَّ الرَّكِيَّ لِيَسْتَقِي ... وَيَسْقِيَ مَحْضًا غَيْرَ ضَافٍ جَوَانِبُهْ وَمِنَّا غَرِيبُ الشَّامِ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ ... أَفَكَّ لِعَانٍ قَدْ تَنَاءَى أَقَارِبُهْ الدُّلَيْكَةُ: فَرَسُ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ، وَالَّذِي شَدَّ الرَّكِيَّ مُرَّةُ بْنُ هَمَّامٍ، وَغَرِيبُ الشَّامِ ابْنُ الْقَلُوصِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. [يَوْمُ بَارِقٍ] قَالَ الْمُفَضَّلُ الضَّبِّيُّ: إِنَّ بَنِي تَغْلِبَ وَالنَّمِرَ بْنَ قَاسِطٍ وَنَاسًا مِنْ تَمِيمٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى نَزَلُوا نَاحِيَةَ بَارِقٍ، وَهِيَ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ، وَأَرْسَلُوا وَفْدًا مِنْهُمْ إِلَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يَطْلُبُونَ إِلَيْهِمُ الصُّلْحَ، فَاجْتَمَعَتْ شَيْبَانُ وَمَنْ مَعَهُمْ، وَأَرَادُوا قَصْدَ تَغْلِبَ وَمَنْ مَعَهُمْ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ الشَّيْبَانِيُّ: إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ أَخْوَالِي وَهُمُ النَّمِرُ بْنُ قَاسِطٍ، فَأَمْضَوْا جِوَارَهُ وَسَارُوا وَأَوْقَعُوا بِبَنِي تَغْلِبَ وَتَمِيمٍ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً لَمْ تُصَبْ تَغْلِبُ بِمِثْلِهَا، وَاقْتَسَمُوا الْأَسْرَى وَالْأَمْوَالَ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَيَّامِ عَلَيْهِمْ، قُتِلَ الرِّجَالُ وَنُهِبَ الْأَمْوَالُ وَسُبِيَ الْحَرِيمُ، فَقَالَ أَبُو كَلْبَةَ الشَّيْبَانِيُّ: وَلَيْلَةً بِسَعَادَى لَمْ تَدَعْ سَنَدًا ... لِتَغْلِبِيٍّ وَلَا أَنَفًا وَلَا حَسَبَا وَالنَّمِرِيُّونَ لَوْلَا سِرُّ مَنْ وُلِدُوا ... مِنْ آلِ مُرَّةَ شَاعَ الْحَيُّ مُنْتَهَبَا

يوم طخفة

[يَوْمُ طِخْفَةَ] وَهُوَ لِبَنِي يَرْبُوعٍ عَلَى عَسَاكِرِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَكَانَ سَبَبَ هَذِهِ الْحَرْبِ أَنَّ الرَّدَافَةَ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْوَزَارَةِ، وَكَانَ الرَّدِيفُ يَجْلِسُ عَنْ يَمِينِ الْمَلِكِ، كَانَتْ لِبَنِي يَرْبُوعٍ مِنْ تَمِيمٍ يَتَوَارَثُونَهَا صَغِيرًا عَنْ كَبِيرٍ. فَلَمَّا كَانَ أَيَّامُ النُّعْمَانِ، وَقِيلَ أَيَّامُ ابْنِهِ الْمُنْذِرِ، سَأَلَهَا حَاجِبُ بْنُ زُرَارَةَ الدَّارِمِيُّ التَّمِيمِيُّ النُّعْمَانَ أَنْ يَجْعَلَهَا لِلْحَارِثِ بْنِ بَيْبَةَ بْنِ قُرْطِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ الدَّارِمِيِّ التَّمِيمِيِّ، فَقَالَ النُّعْمَانُ لِبَنِي يَرْبُوعٍ فِي هَذَا، وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ، فَامْتَنَعُوا، وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ أَسْفَلَ طِخْفَةَ، فَحَيْثُ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ بَعَثَ إِلَيْهِمُ النُّعْمَانُ قَابُوسَ ابْنَهُ وَحَسَّانًا أَخَاهُ ابْنَيِ الْمُنْذِرِ، قَابُوسُ عَلَى النَّاسِ، وَحَسَّانُ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، وَضَمَّ إِلَيْهِمَا جَيْشًا كَثِيفًا، مِنْهُمُ الصَّنَائِعُ وَالْوَضَائِعُ وَنَاسٌ مِنْ تَمِيمٍ وَغَيْرِهِمْ، فَسَارُوا حَتَّى أَتَوْا طِخْفَةَ فَالْتَقَوْا هُمْ وَيَرْبُوعٌ وَاقْتَتَلُوا، وَصَبَرَتْ يَرْبُوعٌ وَانْهَزَمَ قَابُوسٌ وَمَنْ مَعَهُ، وَضَرَبَ طَارِقٌ أَبُو عَمِيرَةَ فَرَسَ قَابُوسَ فَعَقَرَهُ وَأَسَرَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَجُزَّ نَاصِيَتَهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُلُوكَ لَا تُجَزُّ نَوَاصِيَهَا، فَأَرْسَلَهُ. وَأَمَّا حَسَّانُ فَأَسَرَهُ بِشْرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جُوَيْنٍ فَمَنَّ عَلَيْهِ وَأَرْسَلَهُ. فَعَادَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى النُّعْمَانِ، وَكَانَ شِهَابُ بْنُ قَيْسِ بْنِ كِيَاسٍ الْيَرْبُوعِيُّ عِنْدَ الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ: يَا شِهَابُ أَدْرِكِ ابْنِي وَأَخِي، فَإِنْ أَدْرَكْتَهُمَا حَيَّيْنِ فَلِبَنِي يَرْبُوعٍ حُكْمُهُمْ وَأَرُدُّ عَلَيْهِمْ رِفَادَتَهُمْ، وَأَتْرُكُ لَهُمْ مَنْ قَتَلُوا وَمَا غَنِمُوا، وَأُعْطِيهِمْ أَلْفَيْ بَعِيرٍ. فَسَارَ شِهَابٌ فَوَجَدَهُمَا حَيَّيْنِ فَأَطْلَقَهُمَا، وَوَفَّى الْمَلِكُ لِبَنِي يَرْبُوعٍ بِمَا قَالَ، وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ فِي رِفَادَتِهِمْ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ: وَنَحْنُ عَقَرْنَا مُهْرَ قَابُوسَ بَعْدَمَا ... رَأَى الْقَوْمُ مِنْهُ الْمَوْتَ وَالْخَيْلُ تَلْحَبُ عَلَيْهِ دِلَاصٌ ذَاتُ نَسْجٍ وَسَيْفُهُ ... جُرَازٌ مِنَ الْهِنْدِيِّ أَبْيَضُ مِقْضَبُ

يوم النباج وثيتل

طَلَبْنَا بِهَا إِنَّا مَدَارِيكُ نَيْلِهَا إِذَا طَلَبَ الشَّأْوَ الْبَعِيدَ الْمُغَرِّبُ [يَوْمُ النِّبَاجِ وَثَيْتَلٍ] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: غَزَا قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ ثُمَّ التَّمِيمِيُّ بِمُقَاعِسَ، وَهُمْ بُطُونٌ مِنْ تَمِيمٍ، وَهُمْ صَرِيمٌ وَرَبِيعٌ وَعُبَيْدٌ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ، وَغَزَا مَعَهُ سَلَامَةُ بْنُ ظَرِبٍ الْحِمَّانِيُّ فِي الْحَارِثِ، وَهُمْ بُطُونٌ مِنْ تَمِيمٍ أَيْضًا، وَهُمْ حِمَّانُ وَرَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَالْأَعْرَجُ بَنُو كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ، فَغَزَوْا بَكْرَ بْنَ وَائِلٍ، فَوَجَدُوا اللَّهَازِمَ، وَهُمْ بَنُو قَيْسٍ وَتَيْمُ اللَّاتِ أَبْنَاءُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَمَعَهُمْ بَنُو ذُهْلِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَعِجْلُ بْنُ لُجَيْمٍ وَعَنَزَةُ بْنُ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بِالنِّبَاجِ وَثَيْتَلٍ، وَبَيْنَهُمَا رَوْحَةٌ، فَأَغَارَ قَيْسٌ عَلَى النِّبَاجِ، وَمَضَى سَلَامَةُ إِلَى ثَيْتَلٍ لِيُغِيرَ عَلَى مَنْ بِهَا. فَلَمَّا بَلَغَ قَيْسٌ إِلَى النِّبَاجِ سَقَى خَيْلَهُ ثُمَّ أَرَاقَ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْمَاءِ وَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: قَاتِلُوا فَالْمَوْتُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَالْفَلَاةُ مِنْ وَرَائِكُمْ، فَأَغَارَ عَلَى مَنْ بِهِ مِنْ بَكْرٍ صُبْحًا، فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَتْ بَكْرٌ وَأُصِيبَ مِنْ غَنَائِمِهِمْ مَا لَا يُحَدُّ كَثْرَةً. فَلَمَّا فَرَغَ قَيْسٌ مِنَ النَّهْبِ عَادَ مُسْرِعًا إِلَى سَلَامَةَ وَمَنْ مَعَهُ نَحْوَ ثَيْتَلٍ فَأَدْرَكَهُمْ، وَلَمْ يَغْزُ سَلَامَةُ عَلَى مَنْ بِهِ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ قَيْسٌ أَيْضًا، فَقَاتَلُوهُ وَانْهَزَمُوا، وَأَصَابَ مِنَ الْغَنَائِمِ نَحْوَ مَا أَصَابَ بِالنِّبَاجِ، وَجَاءَ سَلَامَةُ فَقَالَ: أَغَرْتُمْ عَلَى مَنْ كَانَ لِي، فَتَنَازَعُوا حَتَّى كَادَ الشَّرُّ يَقَعُ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى تَسْلِيمِ الْغَنَائِمِ إِلَيْهِ، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ رَبِيعَةُ بْنُ طَرِيفٍ: فَلَا يُبْعِدَنْكَ اللَّهُ قَيْسُ بْنَ عَاصِمٍ ... فَأَنْتَ لَنَا غِزٌّ عَزِيزٌ وَمَعْقِلُ وَأَنْتَ الَّذِي حَرَّبْتَ بَكْرَ بْنَ وَائِلٍ ... وَقَدْ عُضِّلَتْ مِنْهَا النِّبَاجُ وَثَيْتَلُ

يوم فلج

وَقَالَ قُرَّةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ: أَنَا ابْنُ الَّذِي شَقَّ الْمَزَادَ وَقَدْ ... رَأَى بِثَيْتَلَ أَحْيَاءَ اللَّهَازِمِ حُضَّرَا فَصَبَّحَهُمْ بِالْجَيْشِ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ ... فَلَمْ يَجِدُوا إِلَّا الْأَسِنَّةَ مَصْدَرَا سَقَاهُمْ بِهَا الذِّيفَانَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ ... وَكَانَ إِذَا مَا أَوْرَدَ الْأَمْرَ أَصْدَرَا عَلَى الْجُرْدِ يَعْلُكْنَ الشَّكِيمَ عَوَابِسًا ... إِذَا الْمَاءُ مِنْ أَعْطَافِهِنَّ تَحَدَّرَا فَلَمْ يَرَهَا الرَّاؤُونَ إِلَّا فُجَاءَةً ... يُثِرْنَ عَجَاجًا كَالدَّوَاخِنِ أَكْدَرَا وَحُمْرَانُ أَدَّتْهُ إِلَيْنَا رِمَاحُنَا ... فَنَازَعَ غُلًّا فِي ذِرَاعَيْهِ أَسَمْرَا (ثَيْتَلُ: بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَالْيَاءِ الْمُسَكَّنَةِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا، وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقِهَا) . [يَوْمُ فَلْجٍ] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا يَوْمٌ لِبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ. وَسَبَبُهُ أَنَّ جَمْعًا مِنْ بَكْرٍ سَارُوا إِلَى الصِّعَابِ فَشَتُّوا بِهَا، فَلَمَّا انْقَضَى الرَّبِيعُ انْصَرَفُوا فَمَرُّوا بِالدَّوِّ فَلَقُوا نَاسًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مِنْ بَنِي عَمْرٍو وَحَنْظَلَةَ، فَأَغَارُوا عَلَى نَعَمٍ كَثِيرٍ لَهُمْ وَمَضَوْا، وَأَتَى بَنِي عَمْرٍو وَحَنْظَلَةَ الصَّرِيخُ، فَاسْتَجَاشُوا لِقَوْمِهِمْ فَأَقْبَلُوا فِي آثَارِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، فَسَارُوا يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ حَتَّى جَهَدَهُمُ السَّيْرُ وَانْحَدَرُوا فِي بَطْنِ

فَلْجٍ، وَكَانُوا قَدْ خَلَّفُوا رَجُلَيْنِ عَلَى فَرَسَيْنِ سَابِقَيْنِ رَبِيئَةً لِيُخْبِرَاهُمْ بِخَبَرِهِمْ إِنْ سَارُوا إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا وَصَلَتْ تَمِيمٌ إِلَى الرَّجُلَيْنِ أَجْرَيَا فَرَسَيْهِمَا وَسَارَا مُجِدَّيْنِ فَأَنْذَرَا قَوْمَهُمَا، فَأَتَاهُمُ الصَّرِيخُ بِمَسِيرِ تَمِيمٍ عِنْدَ وُصُولِهِمْ إِلَى فَلْجٍ، فَضَرَبَ حَنْظَلَةُ بْنُ يَسَارٍ الْعِجْلِيُّ قُبَّتَهُ، وَنَزَلَ فَنَزَلَ النَّاسُ مَعَهُ وَتَهَيَّأُوا لِلْقِتَالِ مَعَهُ، وَلَحِقَتْ بَنُو تَمِيمٍ فَقَاتَلَتْهُمْ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ قِتَالًا شَدِيدًا، وَحَمَلَ عَرْفَجَةُ بْنُ بَحِيرٍ الْعِجْلِيُّ عَلَى خَالِدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَلَمَةَ التَّمِيمِيِّ فَطَعَنَهُ وَأَخَذَهُ أَسِيرًا، وَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ رِبْعِيُّ بْنُ مَالِكِ بْنِ سَلَمَةَ، فَانْهَزَمَتْ تَمِيمٌ وَبَلَغَتْ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ مِنْهَا مَا أَرَادَتْ، ثُمَّ إِنَّ عَرْفَجَةَ أَطْلَقَ خَالِدَ بْنَ مَالِكٍ وَجَزَّ نَاصِيَتَهُ، فَقَالَ خَالِدٌ: وَجَدْنَا الرِّفْدَ رِفْدَ بَنِي لُجَيْمٍ ... إِذَا مَا قَلَّتِ الْأَرْفَادُ زَادَا هُمُ ضَرَبُوا الْقِبَابَ بِبَطْنِ فَلْجٍ ... وَذَادُوا عَنْ مَحَارِمِهِمْ ذِيَادَا وَهُمْ مَنُّوا عَلَيَّ وَأَطْلَقُونِي ... وَقَدْ طَاوَعْتُ فِي الْجَنْبِ الْقِيَادَا أَلَيْسُوا خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَعْظَمَهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا رَمَادَا أَلَيْسَ هُمُ عِمَادُ الْحَيِّ بَكْرًا ... إِذَا نَزَلَتْ مُجَلَّلَةً شِدَادَا وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ يُعَيِّرُ خَالِدًا: لَوْ كُنْتَ حُرًّا يَا ابْنَ سُلْمَى بْنِ جَنْدَلٍ ... نَهَضْتَ وَلَمْ تَقْصِدْ لِسُلْمَى بْنِ جَنْدَلِ فَمَا بَالُ أَصْدَاءٍ بِفَلْجٍ غَرِيبَةٍ ... تُنَادِي مَعَ الْأَطْلَالِ: يَا لِابْنِ حَنْظَلِ صَوَادِيَ لَا مَوْلًى عَزِيزٌ يُجِيبُهَا ... وَلَا أُسْرَةٌ تَسْقِي صَدَاهَا بِمَنْهَلِ وَغَادَرْتَ رِبْعِيًّا بِفَلْجٍ مُلَحَّبًا ... وَأَقْبَلْتَ فِي أُولَى الرَّعِيلِ الْمُعَجَّلِ تُوَائِلُ مِنْ خَوْفِ الرَّدَى لَا وُقِيتَهُ ... كَمَا نَالَتِ الْكَدْرَاءُ مِنْ حَيْنِ أَجْدَلِ يُعَيِّرُهُ حَيْثُ لَمْ يَأْخُذْ بِثَأْرِ أَخِيهِ رِبْعِيٍّ وَمَنْ قُتِلَ مَعَهُ يَوْمَ فَلْجٍ، وَيَقُولُ: إِنَّ أَصْدَاءَهُمْ تُنَادِي وَلَا يَسْقِيهَا أَحَدٌ، عَلَى مَذْهَبِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَوْلَا التَّطْوِيلُ لَشَرَحْنَاهُ أَبْيَنَ مِنْ هَذَا.

يوم الشيطين

[يَوْمُ الشَّيِّطَيْنِ] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَ الشَّيْطَانُ لِبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، فَلَمَّا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ فِي نَجْدٍ سَارَتْ بَكْرٌ قِبَلَ السَّوَادِ، وَبَقِيَ مُقَايِسُ بْنُ عَمْرٍو الْعَائِذِيُّ بْنُ عَائِذَةَ مِنْ قُرَيْشٍ حَلِيفُ بَنِي شَيْبَانَ بِالشَّيِّطَيْنِ. فَلَمَّا أَقَامَتْ بَكْرٌ فِي السَّوَادِ لَحِقَهُمُ الْوَبَاءُ وَالطَّاعُونُ الَّذِي كَانَ أَيَّامَ كِسْرَى شِيرَوَيْهِ، فَعَادُوا هَارِبِينَ فَنَزَلُوا لَعْلَعَ، وَهِيَ مُجْدِبَةٌ، وَقَدْ أَخْصَبَ الشَّيِّطَانُ، فَسَارَتْ تَمِيمٌ فَنَزَلُوا بِهَا. وَبَلَغَتْ أَخْبَارُ الشَّيِّطَيْنِ إِلَى بَكْرٍ فَاجْتَمَعُوا وَقَالُوا: نُغِيرُ عَلَى تَمِيمٍ، فَإِنَّ فِي دِينِ ابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَعْنُونَ النَّبِيَّ، أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا قُتِلَ بِهَا، فَنُغِيرُ هَذِهِ الْغَارَةَ ثُمَّ نُسْلِمُ عَلَيْهَا، فَارْتَحَلُوا مِنْ لَعْلَعَ بِالذَّرَارِيِّ وَالْأَمْوَالِ وَرَئِيسُهُمْ بِشْرُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ، فَأَتَوُا الشَّيِّطَيْنِ فِي أَرْبَعِ لَيَالٍ، وَالَّذِي بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَمَانِي لَيَالٍ، فَسَبَقُوا كُلَّ خَبَرٍ حَتَّى صَبَّحُوهُمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا وَصَبَرَتْ تَمِيمٌ ثُمَّ انْهَزَمَتْ، فَقَالَ رَشِيدُ بْنُ رُمَيْضٍ الْعَنْبَرِيُّ يَفْخَرُ بِذَلِكَ: وَمَا كَانَ بَيْنَ الشَّيِّطَيْنِ ... وَلَعْلَعٍ لِنِسْوَتِنَا إِلَّا مَنَاقِلُ أَرْبَعُ فَجِئْنَا بِجَمْعٍ لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ ... يَكَادُ لَهُ ظَهْرُ الْوَرِيعَةِ يَظْلَعُ بِأَرْعَنَ دَهْمٍ تَنْسِلُ الْبُلْقُ وَسْطَهُ ... لَهُ عَارِضٌ فِيهِ الْمَنِيَّةُ تَلْمَعُ

أيام الأنصار وهم الأوس والخزرج التي جرت بينهم

صَبَحْنَا بِهِ سَعْدًا وَعَمْرًا وَمَالِكًا فَظَلَّ لَهُمْ يَوْمٌ مِنَ الشَّرِّ أَشْنَعُ ... وَذَا حَسَبٍ مِنْ آلِ ضَبَّةَ غَادَرُوا بِجَرْيٍ كَمَا يَجْرِي الْفَصِيلُ الْمُفَزَّعُ ... تَقَصَّعُ يَرْبُوعٌ بِسُرَّةِ أَرْضِنَا وَلَيْسَ لِيَرْبُوعٍ بِهَا مُتَقَصَّعُ ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ. (الشَّيِّطَانُ: بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا، وَبِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، آخِرُهُ نُونٌ) . [أَيَّامُ الْأَنْصَارِ وَهُمُ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُمْ] الْأَنْصَارُ لَقَبُ قَبِيلَتَيِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ابْنَيْ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْعَنْقَاءِ بْنِ عَمْرٍو مُزَيْقَاءَ بْنِ عَامِرِ مَاءِ السَّمَاءِ بْنِ حَارِثَةَ الْغِطْرِيفِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ الْبَطْرِيقِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَزْدِ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ نَبَتَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، لَقَّبَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَمَنَعُوهُ وَنَصَرُوهُ. وَأُمُّ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ قَيْلَةُ بِنْتُ كَاهِلِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ سَعْدٍ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُمْ أَبْنَاءُ قَيْلَةَ. وَإِنَّمَا لُقِّبَ ثَعْلَبَةُ الْعَنْقَاءَ لِطُولِ عُنُقِهِ، وَلُقِّبَ عَمْرٌو مُزَيْقِيَاءَ لِأَنَّهُ كَانَ يُمَزِّقُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ حُلَّةً لِئَلَّا يَلْبَسَهَا أَحَدٌ بَعْدَهُ، وَلُقِّبَ عَامِرٌ مَاءَ السَّمَاءِ لِسَمَاحَتِهِ وَبَذْلِهِ كَأَنَّهُ نَابَ مَنَابَ الْمَطَرِ، وَقِيلَ لِشَرَفِهِ، وَلُقِّبَ امْرُؤُ الْقَيْسِ الْبَطْرِيقَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اسْتَعَانَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَرَبِ بَعْدَ بَلْقِيسَ، فَبَطْرَقَهُ رُحْبُعَمُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقِيلَ لَهُ الْبَطْرِيقُ. وَكَانَتْ مَسَاكِنُ الْأَزْدِ بِمَأْرِبٍ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى أَنْ أَخْبَرَ الْكُهَّانُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ مُزَيْقِيَاءَ

ذكر غلبة الأنصار على المدينة وضعف أمر اليهود بها وقتل الفطيون

أَنَّ سَيْلَ الْعَرِمِ يُخَرِّبُ بِلَادَهُمْ، وَيُغْرِقُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا عُقُوبَةً لَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ عَمْرٌو بَاعَ مَا لَهُ مِنْ مَالٍ وَعَقَارٍ، وَسَارَ عَنْ مَأْرِبٍ هُوَ وَمَنْ تَبِعَهُ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ فَسَكَنَ كُلُّ بَطْنٍ نَاحِيَةً اخْتَارُوهَا، فَسَكَنَتْ خُزَاعَةُ الْحِجَازَ، وَسَكَنَتْ غَسَّانُ الشَّامَ. وَلَمَّا سَارَ ثَعْلَبَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فِيمَنْ مَعَهُ اجْتَازُوا بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ تُسَمَّى يَثْرِبَ، فَتَخَلَّفَ بِهَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ ابْنَا حَارِثَةَ فِيمَنْ مَعَهُمَا، وَكَانَ فِيهَا قُرًى وَأَسْوَاقٌ وَبِهَا قَبَائِلُ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَبَنُو قَيْنُقَاعَ وَبَنُو مَاسِلَةَ وَزَعْوَرَا وَغَيْرُهُمْ، وَقَدْ بَنَوْا لَهُمْ حُصُونًا يَجْتَمِعُونَ بِهَا إِذَا خَافُوا. فَنَزَلَ عَلَيْهِمُ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ فَابْتَنَوُا الْمَسَاكِنَ وَالْحُصُونَ، إِلَّا أَنَّ الْغَلَبَةَ وَالْحُكْمَ لِلْيَهُودِ إِلَى أَنْ كَانَ مِنَ الْفِطْيَوْنِ وَمَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَعَادَتِ الْغَلَبَةُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَلَمْ يَزَالُوا عَلَى حَالِ اتِّفَاقٍ وَاجْتِمَاعٍ إِلَى أَنْ حَدَثَ بَيْنَهُمْ حَرْبُ سُمَيْرٍ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [ذِكْرُ غَلَبَةِ الْأَنْصَارِ عَلَى الْمَدِينَةِ وَضَعْفِ أَمْرِ الْيَهُودِ بِهَا وَقَتْلِ الْفِطْيَوْنِ] قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ كَانَ لِلْيَهُودِ عَلَى الْمَدِينَةِ لَمَّا نَزَلَهَا الْأَنْصَارُ، وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مُلِّكَ عَلَيْهِمُ الْفِطْيَوْنُ الْيَهُودِيُّ، وَهُوَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ، وَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ فَاجِرًا، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَدِينُ لَهُ بِأَنْ لَا تَزَوَّجَ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ إِلَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ زَوْجِهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ أَيْضًا. ثُمَّ إِنَّ أُخْتًا لِمَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ السَّالِمِيِّ الْخَزْرَجِيِّ تَزَوَّجَتْ، فَلَمَّا كَانَ زِفَافُهَا خَرَجَتْ عَنْ مَجْلِسِ قَوْمِهَا وَفِيهِ أَخُوهَا مَالِكٌ وَقَدْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا. فَقَالَ لَهَا مَالِكٌ لَقَدْ جِئْتِ بِسُوءٍ. قَالَتْ: الَّذِي يُرَادُ بِي

اللَّيْلَةَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، أَدْخُلُ عَلَى غَيْرِ زَوْجِي! ثُمَّ عَادَتْ فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَخُوهَا فَقَالَ لَهَا: هَلْ عِنْدَكِ مِنْ خَبَرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: أَدْخُلُ مَعَ النِّسَاءِ فَإِذَا خَرَجْنَ وَدَخَلَ عَلَيْكِ قَتَلْتُهُ. قَالَتِ: افْعَلْ. فَلَمَّا ذَهَبَ بِهَا النِّسَاءُ إِلَى الْفِطْيَوْنِ انْطَلَقَ مَالِكٌ مَعَهُنَّ فِي زِيِّ امْرَأَةٍ وَمَعَهُ سَيْفُهُ، فَلَمَّا خَرَجَ النِّسَاءُ مِنْ عِنْدِهَا وَدَخَلَ عَلَيْهَا الْفِطْيَوْنُ قَتَلَهُ مَالِكٌ وَخَرَجَ هَارِبًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ أَبْيَاتٍ: هَلْ كَانَ لِلْفِطْيَوْنِ عُقْرُ نِسَائِكُمْ ... حُكْمَ النَّصِيبِ فَبِئْسَ حُكْمُ الْحَاكِمِ حَتَّى حَبَاهُ مَالِكٌ بِمُرِشَّةٍ ... حَمْرَاءَ تَضْحَكُ عَنْ نَجِيعٍ قَاتِمِ ثُمَّ خَرَجَ مَالِكُ بْنُ الْعَجْلَانِ هَارِبًا حَتَّى دَخَلَ الشَّامَ، فَدَخَلَ عَلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ يُقَالُ لَهُ أَبُو جُبَيْلَةَ، وَاسْمُهُ عُبَيْدُ بْنُ سَالِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَالِمٍ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي غَضْبِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ قَدْ مَلَكَهُمْ وَشَرُفَ فِيهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَلِكًا وَإِنَّمَا كَانَ عَظِيمًا عِنْدَ مَلِكِ غَسَّانَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مُلُوكَ غَسَّانَ لَمْ يُعْرَفْ فِيهِمْ هَذَا، وَهُوَ أَيْضًا مِنَ الْخَزْرَجِ عَلَى مَا ذُكِرَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ مَالِكٌ شَكَا إِلَيْهِ مَا كَانَ مِنَ الْفِطْيَوْنِ، وَأَخْبَرَهُ بِقَتْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ، فَعَاهَدَ اللَّهَ أَبُو جُبَيْلَةَ أَلَّا يَمَسَّ طِيبًا وَلَا يَأْتِيَ النِّسَاءَ حَتَّى يُذِلَّ الْيَهُودَ، وَيَكُونَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَعَزَّ أَهْلِهَا. ثُمَّ سَارَ مِنَ الشَّامِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْيَمَنَ، حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ بِذِي حُرُضٍ، وَأَعْلَمَ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى وُجُوهِ الْيَهُودِ يَسْتَدْعِيهِمْ إِلَيْهِ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ، فَأَتَاهُ أَشْرَافُهُمْ فِي حَشَمِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِبَابِهِ أَمَرَ بِهِمْ فَأُدْخِلُوا رَجُلًا رَجُلًا وَقَتَلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ. فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ صَارَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَعَزَّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَشَارَكُوا الْيَهُودَ فِي النَّخْلِ وَالدُّورِ، وَمَدَحَ الرَّمْقُ بْنُ زَيْدٍ الْخَزْرَجِيُّ أَبَا جُبَيْلَةَ بِقَصِيدَةٍ، مِنْهَا: وَأَبُو جُبَيْلَةَ خَيْرُ مَنْ ... يَمْشِي وَأَوْفَاهُمْ يَمِينَا

حرب سمير

وَأَبَرُّهُمْ بِرًّا وَأَعْ مَلُهُمْ بِهَدْيِ الصَّالِحِينَا ... أَبْقَتْ لَنَا الْأَيَّامُ وَالْ حَرْبُ الْمَهَمَّةُ تَعْتَرِينَا ... كَبْشًا لَهُ قَرْنٌ يَعَ ضُّ حُسَامُهُ الذَّكَرَ السَّنِينَا فَقَالَ أَبُو جُبَيْلَةَ: عَسَلٌ طَيِّبٌ فِي وِعَاءِ سُوءٍ، وَكَانَ الرَّمْقُ رَجُلًا ضَئِيلًا، فَقَالَ الرَّمْقُ: إِنَّمَا الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ. وَرَجَعَ أَبُو جُبَيْلَةَ إِلَى الشَّامِ. (حُرُضٌ: بِضَمِّ الْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَآخِرُهُ ضَادٌ مُعْجَمَةٌ) . [حَرْبُ سُمَيْرٍ] وَلَمْ يَزَلِ الْأَنْصَارُ عَلَى حَالِ اتِّفَاقٍ وَاجْتِمَاعٍ، وَكَانَ أَوَّلُ اخْتِلَافٍ وَقَعَ بَيْنَهُمْ وَحَرْبٌ كَانَتْ لَهُمْ حَرْبَ سُمَيْرٍ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ يُقَالُ لَهُ كَعْبُ بْنُ الْعَجْلَانِ نَزَلَ عَلَى مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ السَّالِمِيِّ فَحَالَفَهُ وَأَقَامَ مَعَهُ. فَخَرَجَ كَعْبٌ يَوْمًا إِلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَرَأَى رَجُلًا مِنْ غَطَفَانَ مَعَهُ فَرَسٌ وَهُوَ يَقُولُ: لِيَأْخُذْ هَذَا الْفَرَسَ أَعَزُّ أَهْلِ يَثْرِبَ. فَقَالَ رَجُلٌ: فُلَانٌ. وَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ: أُحَيْحَةُ بْنُ الْجُلَاحِ الْأَوْسِيُّ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْيَهُودِيُّ أَفْضَلُ أَهْلِهَا. فَدَفَعَ الْغَطَفَانِيُّ الْفَرَسَ إِلَى مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ. فَقَالَ كَعْبٌ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنَّ حَلِيفِي مَالِكًا أَفْضَلُكُمْ؟ فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْأَوْسِ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يُقَالُ لَهُ سُمَيْرٌ وَشَتَمَهُ وَافْتَرَقَا، وَبَقِيَ كَعْبٌ مَا شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ قَصَدَ سُوقًا لَهُمْ بِقُبَا فَقَصَدَهُ سُمَيْرٌ وَلَازَمَهُ حَتَّى خَلَا السُّوقُ فَقَتَلَهُ. وَأُخْبِرَ مَالِكُ بْنُ الْعَجْلَانِ بِقَتْلِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَطْلُبُ قَاتِلَهُ، فَأَرْسَلُوا: إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ قَتَلَهُ. وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ، هُوَ يَطْلُبُ سُمَيْرًا وَهُمْ يُنْكِرُونَ قَتْلَهُ، ثُمَّ عَرَضُوا عَلَيْهِ الدِّيَةَ فَقَبِلَهَا. وَكَانَتْ دِيَةُ الْحَلِيفِ فِيهِمْ نِصْفَ دِيَةِ النَّسِيبِ مِنْهُمْ. فَأَبَى مَالِكٌ إِلَّا أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً، وَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا: نُعْطِي دِيَةَ الْحَلِيفِ، وَهِيَ النِّصْفُ. وَلَجَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ حَتَّى آلَ إِلَى الْمُحَارَبَةِ، فَاجْتَمَعُوا وَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَافْتَرَقُوا. وَدَخَلَ فِيهَا سَائِرُ بُطُونِ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ الْتَقَوْا مَرَّةً أُخْرَى وَاقْتَتَلُوا حَتَّى حَجَزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، وَكَانَ الظَّفَرُ يَوْمَئِذٍ لِلْأَوْسِ.

ذكر حرب كعب بن عمرو المازني

فَلَمَّا افْتَرَقُوا أَرْسَلَتِ الْأَوْسُ إِلَى مَالِكٍ يَدْعُونَهُ إِلَى أَنْ يُحَكِّمَ بَيْنَهُمُ الْمُنْذِرَ بْنَ حَرَامٍ النَّجَّارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ جَدَّ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ. فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَأَتَوُا الْمُنْذِرَ، فَحَكَمَ بَيْنَهُمُ الْمُنْذِرُ بِأَنْ يَدُوا كَعْبًا حَلِيفَ مَالِكٍ دِيَةَ الصَّرِيحِ ثُمَّ يَعُودُوا إِلَى سُنَّتِهِمُ الْقَدِيمَةِ، فَرَضُوا بِذَلِكَ وَحَمَلُوا الدِّيَةَ وَافْتَرَقُوا، وَقَدْ شَبَّتِ الْبَغْضَاءُ فِي نُفُوسِهِمْ وَتَمَكَّنَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمْ. [ذِكْرُ حَرْبِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْمَازِنِيِّ] ثُمَّ إِنَّ بَنِي جَحْجَبَا مِنَ الْأَوْسِ وَبَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ مِنَ الْخَزْرَجِ وَقَعَ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ، كَانَ سَبَبُهَا أَنَّ كَعْبَ بْنَ عَمْرٍو الْمَازِنِيَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَالِمٍ فَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهَا. فَأَمَرَ أُحَيْحَةُ بْنُ الْجُلَاحِ سَيِّدُ بَنِي جَحْجَبَا جَمَاعَةً، فَرَصَدُوهُ حَتَّى ظَفِرُوا بِهِ فَقَتَلُوهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَخَاهُ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو، فَأَمَرَ قَوْمَهُ فَاسْتَعَدُّوا لِلْقِتَالِ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَنِي جَحْجَبَا يُؤْذِنُهُمْ بِالْحَرْبِ. فَالْتَقَوْا بِالرَّحَابَةِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَتْ بَنُو جَحْجَبَا وَمَنْ مَعَهُمْ، وَانْهَزَمَ مَعَهُمْ أُحَيْحَةُ، فَطَلَبَهُ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو فَأَدْرَكَهُ وَقَدْ دَخَلَ حِصْنَهُ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ فِي بَابِ الْحِصْنِ، فَقَتَلَ عَاصِمٌ أَخًا لِأُحَيْحَةَ. فَمَكَثُوا بَعْدَ ذَلِكَ لَيَالِيَ، فَبَلَغَ أُحَيْحَةَ أَنَّ عَاصِمًا يَتَطَلَّبُهُ لِيَجِدَ لَهُ غِرَّةً فَيَقْتُلَهُ، فَقَالَ أُحَيْحَةُ: نُبِّئْتُ أَنَّكَ جِئْتَ تَسْ ... رِي بَيْنَ دَارِيَ وَالْقُبَابَهْ فَلَقَدْ وَجَدْتُ بِجَانِبِ ال ... ضَّحْيَانِ شُبَّانًا مُهَابَهْ فِتْيَانُ حَرْبٍ فِي الْحَدِي ... دِ وَشَامِرِينَ كَأُسْدِ غَابَهْ هُمْ نَكَّبُوكَ عَنِ الطَّرِي ... قِ فَبِتَّ تَرْكَبُ كُلَّ لَابَهْ أَعُصَيْمُ لَا تَجْزَعْ فَإِ ... نَّ الْحَرْبَ لَيْسَتْ بِالدُّعَابَهْ فَأَنَا الَّذِي صَبَّحْتُكُمْ ... بِالْقَوْمِ إِذْ دَخَلُوا الرَّحَابَهْ وَقَتَلْتُ كَعْبًا قَبْلَهَا ... وَعَلَوْتُ بِالسَّيْفِ الذُّؤَابَهْ فَأَجَابَهُ عَاصِمٌ: أَبْلِغْ أُحَيْحَةَ إِنْ عَرَضْ ... تَ بِدَارِهِ عَنِّي جَوَابَهْ

وَأَنَا الَّذِي أَعْجَلْتُهُ ... عَنْ مَقْعَدٍ أَلْهَى كِلَابَهْ وَرَمَيْتُهُ سَهْمًا فَأَخْ ... طَأَهُ وَأَغْلَقَ ثَمَّ بَابَهْ فِي أَبْيَاتٍ. ثُمَّ إِنَّ أُحَيْحَةَ أَجْمَعَ أَنْ يُبَيِّتَ بَنِي النَّجَّارِ وَعِنْدَهُ سَلْمَى بِنْتُ عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ النَّجَّارِيَةُ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا رَضِيَتْ، فَلَمَّا جَنَّهَا اللَّيْلُ وَقَدْ سَهِرَ مَعَهَا أُحَيْحَةُ فَنَامَ، فَلَمَّا نَامَ سَارَتْ إِلَى بَنِي النَّجَّارِ فَأَعْلَمَتْهُمْ، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَحَذِرُوا، وَغَدَا أُحَيْحَةُ بِقَوْمِهِ مَعَ الْفَجْرِ، فَلَقِيَهُمْ بَنُو النَّجَّارِ فِي السِّلَاحِ فَكَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ مِنْ قِتَالٍ، وَانْحَازَ أُحَيْحَةُ، وَبَلَغَهُ أَنَّ سَلْمَى أَخْبَرَتْهُمْ فَضَرَبَهَا حَتَّى كَسَرَ يَدَهَا وَأَطْلَقَهَا وَقَالَ أَبْيَاتًا، مِنْهَا: لَعَمْرُ أَبِيكِ مَا يُغْنِي مَكَانِي ... مِنَ الْحُلَفَاءِ آكِلَةٌ غَفُولُ تُؤَوَّمُ لَا تُقَلَّصُ مُشْمَعِلًّا ... مَعَ الْفِتْيَانِ مَضْجَعُهُ ثَقِيلُ تَنَزَّعُ لِلْجَلِيلَةِ حَيْثُ كَانَتْ ... كَمَا يَعْتَادُ لِقْحَتَهُ الْفَصِيلُ وَقَدْ أَعْدَدْتُ لَلْحَدَثَانِ حِصْنًا ... لَوَ أَنَّ الْمَرْءَ يَنْفَعُهُ الْعُقُولُ جَلَاهُ الْقَيْنُ ثُمَّتَ لَمْ تَخُنْهُ ... مَضَارِبُهُ وَلَاطَتْهُ فُلُولُ فَهَلْ مِنْ كَاهِنٍ آوَى إِلَيْهِ ... إِذَا مَا حَانَ مِنْ آلٍ نُزُولُ يُرَاهِنُنِي وَيَرْهَنُنِي بَنِيهِ ... وَأَرْهَنُهُ بَنِيَّ بِمَا أَقُولُ فَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ وَمَا تَدْرِي وَإِنْ أَجْمَعْتَ أَمْرًا ... بِأَيِّ الْأَرْضِ يُدْرِكُكَ الْمَقِيلُ وَمَا تَدْرِي وَإِنْ أَنْتَجْتَ سَقْبًا ... لِغَيْرِكَ أَمْ يَكُونُ لَكَ الْفَصِيلُ وَمَا إِنْ إِخْوَةٌ كَبِرُوا وَطَابُوا ... لَبَاقِيَةٌ، وَأُمُّهُمُ هَبُولُ سَتَثْكَلُ أَوْ يُفَارِقُهَا بَنُوهَا ... بِمَوْتٍ أَوْ يَجِيءُ لَهُمْ قَتُولُ

ذكر الحرب بين بني عمرو بن عوف وبني الحارث وهو يوم السرارة

[ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَبَنِي الْحَارِثِ وَهُوَ يَوْمُ السَّرَارَةِ] ثُمَّ إِنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مِنَ الْأَوْسِ وَبَنِي الْحَارِثِ مِنَ الْخَزْرَجِ كَانَ بَيْنَهُمَا حَرْبٌ شَدِيدَةٌ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَمْرٍو قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ، فَغَدَا بَنُو عَمْرٍو عَلَى الْقَاتِلِ فَقَتَلُوهُ غِيلَةً، فَاسْتَكْشَفَ أَهْلُهُ فَعَلِمُوا كَيْفَ قُتِلَ، فَتَهَيَّأُوا لِلْقِتَالِ وَأَرْسَلُوا إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يُؤْذِنُونَهُمْ بِالْحَرْبِ، فَالْتَقَوْا بِالسَّرَارَةِ، وَعَلَى الْأَوْسِ حُضَيْرُ بْنُ سِمَاكٍ وَالِدُ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَعَلَى الْخَزْرَجِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلُولٍ أَبُو الْحُبَابِ الَّذِي كَانَ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ. فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا صَبَرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ انْصَرَفَتِ الْأَوْسُ إِلَى دُورِهَا فَفَخَرَتِ الْخَزْرَجُ بِذَلِكَ. وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ: فِدًى لِبَنِي النَّجَّارِ أُمِّي وَخَالَتِي ... غَدَاةَ لَقُوهُمْ بِالْمُثَقَّفَةِ السُّمْرِ وَصِرْمٍ مِنَ الْأَحْيَاءِ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ ... إِذَا مَا دَعَوْا كَانَتْ لَهُمْ دَعْوَةُ النَّصْرِ فَوَاللَّهِ لَا أَنْسَى حَيَاتِي بَلَاءَهُمْ ... غَدَاةَ رَمَوْا عَمْرًا بِقَاصِمَةِ الظَّهْرِ وَقَالَ حَسَّانُ أَيْضًا: لَعَمْرُ أَبِيكَ الْخَيْرُ بِالْحَقِّ مَا نَبَا ... عَلَيَّ لِسَانِي فِي الْخُطُوبِ وَلَا يَدِي لِسَانِي وَسَيْفِي صَارِمَانِ كِلَاهُمَا ... وَيَبْلُغُ مَا لَا يَبْلُغُ السَّيْفُ مِذْوَدِي فَلَا الْجُهْدُ يُنْسِينِي حَيَائِي وَعِفَّتِي ... وَلَا وَقَعَاتِ الدَّهْرِ يَفْلُلْنَ مِبْرَدِي أُكَثِّرُ أَهْلِي مِنْ عِيَالٍ سِوَاهُمُ ... وَأَطْوِي عَلَى الْمَاءِ الْقَرَاحِ الْمُبَرَّدِ وَمِنْهَا: وَإِنِّي لَمِنْجَاءُ الْمَطِيِّ عَلَى الْوَجَى ... وَإِنِّي لَنَزَّالٌ لِمَا لَمْ أُعَوَّدِ وَإِنِّي لَقَوَّالٌ لِذِي اللَّوْثِ مَرْحَبًا ... وَأَهْلًا إِذَا مَا رِيعَ مِنْ كُلِّ مَرْصَدِ

وَإِنِّي لَيَدْعُونِي النَّدَى فَأُجِيبُهُ ... وَأَضْرِبُ بَيْضَ الْعَارِضِ الْمُتَوَقِّدِ فَلَا تَعْجَلَنْ يَا قَيْسُ وَارْبِعْ فَإِنَّمَا ... قُصَارَاكَ أَنْ تُلْقَى بِكُلِّ مُهَنَّدِ حُسَامٌ وَأَرْمَاحٌ بِأَيْدِي أَعِزَّةٍ ... مَتَى تَرَهُمْ يَا ابْنَ الْخَطِيمِ تَلَبَّدِ أُسُودٌ لَدَى الْأَشْبَالِ يَحْمِي عَرِينُهَا ... مَدَاعِيسُ بِالْخَطِّيِّ فِي كُلِّ مَشْهَدِ وَهِيَ أَبْيَاتٌ كَثِيرَةٌ. فَأَجَابَهُ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ: تَرُوحُ عَنِ الْحَسْنَاءِ أَمْ أَنْتَ مُغْتَدِي ... وَكَيْفَ انْطِلَاقُ عَاشِقٍ لَمْ يُزَوَّدِ تَرَاءَتْ لَنَا يَوْمَ الرَّحِيلِ بِمُقْلَتَيْ ... شَرِيدٍ بِمُلْتَفٍّ مِنَ السِّدْرِ مُفْرَدِ وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّيمِ حَالٍ يُزِينُهُ ... عَلَى النَّحْرِ يَاقُوتٌ وَفَصُّ زَبَرْجَدِ كَأَنَّ الثُّرَيَّا فَوْقَ ثُغْرَةِ نَحْرِهَا ... تَوَقَّدُ فِي الظَّلْمَاءِ أَيَّ تَوَقُّدِ أَلَا إِنَّ بَيْنَ الشَّرْعَبِيِّ وَرَاتِجٍ ... ضِرَابًا كَتَجْذِيمِ السَّيَالِ الْمُصَعِّدِ لَنَا حَائِطَانِ الْمَوْتُ أَسْفَلُ مِنْهُمَا ... وَجَمْعٌ مَتَى تَصْرُخْ بِيَثْرِبَ يَصْعَدِ تَرَى اللَّابَةَ السَّوْدَاءَ يَحْمَرُّ لَوْنُهَا ... وَيَسْهُلُ مِنْهَا كُلُّ رَبْعٍ وَفَدْفَدِ فَإِنِّي لَأَغْنَى النَّاسِ عَنْ مُتَكَلِّفٍ ... يَرَى النَّاسَ ضُلَّالًا وَلَيْسَ بِمُهْتَدِ لَسَاءَ عَمْرًا ثَوْرًا شَقِيًّا مُوَعَّظًا ... أَلَدَّ كَأَنَّ رَأْسَهُ رَأْسُ أَصْيَدِ كَثِيرِ الْمُنَى بِالزَّادِ لَا صَبْرَ عِنْدَهُ ... إِذَا جَاعَ يَوْمًا يَشْتَكِيهِ ضُحَى الْغَدِ وَذِي شِيمَةٍ عَسْرَاءَ خَالَفَ شِيمَتِي ... فَقُلْتُ لَهُ دَعْنِي وَنَفْسَكَ أَرْشَدِ فَمَا الْمَالُ وَالْأَخْلَاقُ إِلَّا مُعَارَةٌ ... فَمَا اسْطَعْتَ مِنْ مَعْرُوفِهَا فَتَزَوَّدِ مَتَّى مَا تَقُدْ بِالْبَاطِلِ الْحَقَّ يَأْبَهُ ... فَإِنْ قُدْتَ بِالْحَقِّ الرَّوَاسِيَ تَنْقَدِ إِذَا مَا أَتَيْتَ الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ ... ضَلَلْتَ وَإِنْ تَدْخُلْ مِنَ الْبَابِ تَهْتَدِ وَهِيَ طَوِيلَةٌ.

حرب الحصين بن الأسلت

وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ نَاقِدٍ: لِمَنِ الدِّيَارُ كَأَنَّهُنَّ الْمَذْهَبُ ... بَلِيَتْ وَغَيَّرَهَا الدُّهُورَ تَقَلُّبُ يَقُولُ فِيهَا فِي ذِكْرِ الْوَقْعَةِ: لَكِنْ فِرَارُ أَبِي الْحُبَابِ بِنَفْسِهِ ... يَوْمَ السَّرَارَةِ سِيءَ مِنْهُ الْأَقْرَبُ وَلَّى وَأَلْقَى يَوْمَ ذَلِكَ دِرْعَهُ ... إِذْ قِيلَ جَاءَ الْمَوْتُ خَلْفَكَ يَطْلُبُ نَجَّاكَ مِنَّا بَعْدَمَا قَدْ أُشْرِعَتْ ... فِيكَ الرِّمَاحُ، هُنَاكَ شُدَّ الْمَذْهَبُ وَهِيَ طَوِيلَةٌ أَيْضًا. وَأَبُو الْحُبَابِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلُولٍ. [حَرْبُ الْحُصَيْنِ بْنِ الْأَسْلَتِ] ثُمَّ كَانَتْ حَرْبٌ بَيْنَ بَنِي وَائِلِ بْنِ زَيْدٍ الْأَوْسِيِّينَ وَبَيْنَ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ الْخَزْرَجِيِّينَ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ الْحُصَيْنَ بْنَ الْأَسْلَتِ الْأَوْسِيَّ الْوَائِلِيَّ نَازَعَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَازِنٍ، فَقَتَلَهُ الْوَائِلِيُّ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى أَهْلِهِ، فَتَبِعَهُ نَفَرٌ مِنْ بَنِي مَازِنٍ فَقَتَلُوهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَخَاهُ أَبَا قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتَ، فَجَمَعَ قَوْمَهُ وَأَرْسَلَ إِلَى بَنِي مَازِنٍ يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ عَلَى حَرْبِهِمْ. فَتَهَيَّأُوا لِلْقِتَالِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ أَحَدٌ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى كَثُرَتِ الْقَتْلَى فِي الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، وَقَتَلَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ الَّذِينَ قَتَلُوا أَخَاهُ ثُمَّ انْهَزَمَتِ الْأَوْسُ، فَلَامَ وَحْوَحُ بْنُ الْأَسْلَتِ أَخَاهُ أَبَا قَيْسٍ وَقَالَ: لَا يَزَالُ مُنْهَزِمٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، فَقَالَ أَبُو قَيْسٍ لِأَخِيهِ، وَيُكَنَّى أَبَا حُصَيْنٍ: أَبْلِغْ أَبَا حِصْنٍ وَبَعْ ... ضُ الْقَوْلِ عِنْدِي ذُو كُبَارَهْ أَنَّ ابْنَ أُمِّ الْمَرْءِ لَيْ ... سَ مِنَ الْحَدِيدِ وَلَا الْحِجَارَهْ مَاذَا عَلَيْكُمْ أَنْ يَكُو ... نَ لَكُمْ بِهَا رَحْلًا عُمَارَهْ يَحْمِي ذِمَارَكُمْ وَبَعْ ... ضُ الْقَوْمِ لَا يَحْمِي ذِمَارَهْ يَبْنِي لَكُمْ خَيْرًا وَبُنْيَا ... نُ الْكَرِيمِ لَهُ آثَارَهْ فِي أَبْيَاتٍ.

حرب ربيع الظفري

[حَرْبُ رَبِيعٍ الظَّفَرِيِّ] ثُمَّ كَانَتْ حَرْبٌ بَيْنَ بَنِي ظَفَرٍ مِنَ الْأَوْسِ وَبَيْنَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ مِنَ الْخَزْرَجِ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ رَبِيعًا الظَّفَرِيَّ كَانَ يَمُرُّ فِي مَالٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ إِلَى مِلْكٍ لَهُ، فَمَنَعَهُ النَّجَّارِيُّ، فَتَنَازَعَا، فَقَتَلَهُ رَبِيعٌ، فَجَمَعَ قَوْمُهُمَا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا كَانَ أَشَدَّ قِتَالِ بَيْنَهُمْ، فَانْهَزَمَتْ بَنُو مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ الْأَوْسِيُّ فِي ذَلِكَ: أَجَدَّ بِعَمْرَةَ غُنْيَانُهَا ... فَتَهْجُرَ أَمْ شَأْنُنَا شَأْنُهَا فَإِنْ تُمْسِ شَطَّتْ بِهَا دَارُهَا ... وَبَاحَ لَكَ الْيَوْمَ هِجْرَانُهَا فَمَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْقَطَا ... كَأَنَّ الْمَصَابِيحَ حَوْذَانُهَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا وَلَا نُزْهَةَ ... وُلُوجٍ تَكَشَّفَ أَدْجَانُهَا وَعَمْرَةُ مِنْ سَرَوَاتِ النِّسَا ... يَنْفُخُ بِالْمِسْكِ أَرْدَانُهَا مِنْهَا: وَنَحْنُ الْفَوَارِسُ يَوْمَ الرَّبِي ... عِ قَدْ عَلِمُوا كَيْفَ أَبْدَانُهَا جُنُونًا لِحَرْبٍ وَرَاءَ الصَّرِي ... خِ حَتَّى تَقَصَّدَ مُرَّانُهَا تَرَاهُنَّ يَخْلِجْنَ خَلْجَ الدِّلَا ... يُبَادِرُ بِالنَّزْعِ أَشْطَانُهَا وَهِيَ طَوِيلَةٌ. فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْخَزْرَجِيُّ بِقَصِيدَةٍ أَوَّلُهَا: لَقَدْ هَاجَ نَفْسَكَ أَشْجَانُهَا ... وَغَادَرَهَا الْيَوْمَ أَدْيَانُهَا وَمِنْهَا: وَيَثْرِبُ تَعْلَمُ أَنَّا بِهَا ... إِذَا الْتَبَسَ الْحَقُّ مِيزَانُهَا وَيَثْرِبُ تَعْلَمُ أَنَّا بِهَا ... إِذَا أَقْحَطَ الْقَطْرُ نُوآنُهَا

حرب فارع بسبب الغلام القضاعي

وَيَثْرِبُ تَعْلَمُ إِذْ حَارَبَتْ ... بِأَنَّا لَدَى الْحَرْبِ فُرْسَانُهَا وَيَثْرِبُ تَعْلَمُ أَنَّ النَّبِي ... تَ عِنْدَ الْهُزَاهِزِ ذُلَّانُهَا وَمِنْهَا: مَتَى تَرَنَا الْأَوْسُ فِي بَيْضِنَا ... نَهُزُّ الْقَنَا تَخْبُ نِيرَانُهَا وَتُعْطِ الْقِيَادَ عَلَى رُغْمِهَا ... وَتَنْزِلُ مِلْهَامَ عِقْبَانُهَا فَلَا تَفْخَرَنَّ الْتَمِسْ مَلْجَأً ... فَقَدْ عَاوَدَ الْأَوْسَ أَدْيَانُهَا [حَرْبُ فَارِعٍ بِسَبَبِ الْغُلَامِ الْقُضَاعِيِّ] وَمِنْ أَيَّامِهِمْ يَوْمُ فَارِعٍ. وَسَبَبُهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي النَّجَّارِ أَصَابَ غُلَامًا مِنْ قُضَاعَةَ ثُمَّ مِنْ بَلِيٍّ، وَكَانَ عَمُّ الْغُلَامِ جَارًا لِمُعَاذِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ الْأَوْسِيِّ وَالِدِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَأَتَى الْغُلَامُ عَمَّهُ يَزُورُهُ فَقَتَلَهُ النَّجَّارِيُّ. فَأَرْسَلَ مُعَاذٌ إِلَى بَنِي النَّجَّارِ: أَنِ ادْفَعُوا إِلَيَّ دِيَةَ جَارِي أَوِ ابْعَثُوا إِلَيَّ بِقَاتِلِهِ أَرَى فِيهِ رَأْيِي. فَأَبَوْا أَنْ يَفْعَلُوا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ: وَاللَّهِ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا لَا نَقْتُلُ بِهِ إِلَّا عَامِرَ بْنَ الْإِطْنَابَةِ، وَعَامِرٌ مِنْ أَشْرَافِ الْخَزْرَجِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَامِرًا فَقَالَ: أَلَا مَنْ مُبْلِغُ الْأَكْفَاءِ عَنِّي ... وَقَدْ تُهْدَى النَّصِيحَةُ لِلنَّصِيحِ فَإِنَّكُمُ وَمَا تَرْجُونَ شَطْرِي ... مِنَ الْقَوْلِ الْمُزَجَّى وَالصَّرِيحِ سَيَنْدَمُ بَعْضُكُمُ عَجَلًا عَلَيْهِ ... وَمَا أَثَرُ اللِّسَانِ إِلَى الْجُرُوحِ أَبَتْ لِي عِزَّتِي وَأَبَى بَلَائِي ... وَأَخْذِي الْحَمْدَ بِالثَّمَنِ الرَّبِيحِ وَإِعْطَائِي عَلَى الْمَكْرُوهِ مَالِي ... وَضَرْبِيَ هَامَةَ الْبَطَلِ الْمُشِيحِ وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ ... مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي لِأَدْفَعَ عَنْ مَآثِرِ صَالِحَاتٍ ... وَأَحْمِيَ بَعْدُ عَنْ عَرْضٍ صَحِيحِ بِذِي شُطَبٍ كَلَوْنِ الْمِلْحِ صَافٍ ... وَنَفْسٍ لَا تَقَرُّ عَلَى الْقَبِيحِ فَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ الْيَهُودِيُّ فِي عِرَاضِ قَوْلِ عَامِرِ بْنِ الْإِطْنَابَةِ:

أَلَا مَنْ مُبْلِغُ الْأَكْفَاءَ عَنِّي ... فَلَا ظُلْمٌ لَدَيَّ وَلَا افْتِرَاءُ فَلَسْتُ بِغَائِظِ الْأَكْفَاءِ ظُلْمًا ... وَعِنْدِي لِلْمُلَامَاتِ اجْتِزَاءُ فَلَمْ أَرَ مِثْلَ مَنْ يَدْنُو لِخَسْفٍ ... لَهُ فِي الْأَرْضِ سَيْرٌ وَاسْتِوَاءُ وَمَا بَعْضُ الْإِقَامَةِ فِي دِيَارٍ ... يُهَانُ بِهَا الْفَتَى إِلَّا عَنَاءُ وَبَعْضُ الْقَوْلِ لَيْسَ لَهُ عَنَاجٌ ... كَمَحْضِ الْمَاءِ لَيْسَ لَهُ إِنَاءُ وَبَعْضُ خَلَائِقِ الْأَقْوَامِ دَاءٌ ... كَدَاءِ الشُّحِّ لَيْسَ لَهُ دَوَاءُ وَبَعْضُ الدَّاءِ مُلْتَمِسٌ شِفَاءً ... وَدَاءُ النُّوكِ لَيْسَ لَهُ شِفَاءُ يُحِبُّ الْمَرْءُ أَنْ يَلْقَى نَعِيمًا ... وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا مَا يَشَاءُ وَمَنْ يَكُ عَاقِلًا لَمْ يَلْقَ بُؤْسًا ... يُنِخْ يَوْمًا بِسَاحَتِهِ الْقَضَاءُ تَعَاوَرُهُ بَنَاتُ الدَّهْرِ حَتَّى ... تُثَلِّمَهُ كَمَا ثُلِمَ الْإِنَاءُ وَكُلُّ شَدَائِدٍ نَزَلَتْ بِحَيٍّ ... سَيَأْتِي بَعْدَ شِدَّتِهَا رَخَاءُ فَقُلْ لِلْمُتَّقِي عَرْضَ الْمَنَايَا ... تَوَقَّ فَلَيْسَ يَنْفَعُكَ اتِّقَاءُ فَمَا يُعْطَى الْحَرِيصُ غِنًى بِحِرْصٍ ... وَقَدْ يُنْمِي لَدَى الْجُودِ الثَّرَاءُ وَلَيْسَ بِنَافِعٍ ذَا الْبُخْلِ مَالٌ ... وَلَا مُزْرٍ بِصَاحِبِهِ الْحِبَاءُ غَنِيُّ النَّفْسِ مَا اسْتَغْنَى بِشَيْءٍ ... وَفَقْرُ النَّفْسِ مَا عَمُرَتْ شَقَاءُ يَوَدُّ الْمَرْءُ مَا تَفِدُ اللَّيَالِي ... كَأَنَّ فَنَاءَهُنَّ لَهُ فَنَاءُ فَلَمَّا رَأَى مُعَاذُ بْنُ النُّعْمَانِ امْتِنَاعَ بَنِي النَّجَّارِ مِنَ الدِّيَةِ أَوْ تَسْلِيمِ الْقَاتِلِ إِلَيْهِ تَهَيَّأَ لِلْحَرْبِ، وَتَجَهَّزَ هُوَ وَقَوْمُهُ وَاقْتَتَلُوا عِنْدَ فَارِعٍ، وَهُوَ أُطُمُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ وَعَادُوا إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ عَامِرُ بْنُ الْإِطْنَابَةِ فِي ذَلِكَ: صَرَمَتْ ظَلِيمَةُ خُلَّتِي وَمَرَاسِلِي ... وَتَبَاعَدَتْ ضَنًا بِزَادِ الرَّاحِلِ جَهْلًا وَمَا تَدْرِي ظَلِيمَةُ أَنَّنِي ... قَدْ أَسْتَقِلُّ بِصَرْمِ غَيْرِ الْوَاصِلِ ذُلُلٌ رِكَابِي حَيْثُ شِئْتُ مُشَيَّعِي ... أَنِّي أَرُوعُ قَطَا الْمَكَانِ الْغَافِلِ

حرب حاطب

أَظَلِيمُ مَا يُدْرِيكِ رُبَّةَ خُلَّةٍ حَسَنٌ تَرَغَّمَهَا كَظَبْيِ الْحَائِلِ ... قَدْ بِتُّ مَالِكَهَا وَشَارِبَ قَهْوَةٍ دِرْيَاقَةٍ رَوَّيْتُ مِنْهَا وَاغْلِي ... بَيْضَاءُ صَافِيَةٌ يُرَى مِنْ دُونِهَا قَعْرُ الْإِنَاءِ يُضِيءُ وَجْهَ النَّاهِلِ ... وَسَرَابَ هَاجِرَةٍ قَطَعْتُ إِذَا جَرَى فَوْقَ الْإِكَامِ بِذَاتِ لَوْنٍ بَاذِلِ ... أُجُدٌ مَرَاحِلُهَا كَأَنَّ عِفَاءَهَا سِقْطَانُ مِنْ كَتِفَيْ ظَلِيمٍ جَافِلِ ... فَلْنَأْكُلَنَّ بِنَاجِزٍ مِنْ مَالِنَا وَلْنَشْرَبَنَّ بِدَيْنِ عَامٍ قَابِلِ ... إِنِّي مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ إِذَا انْتَدَوْا بَدَأُوا بِبِرِّ اللَّهِ ثُمَّ النَّائِلِ ... الْمَانِعِينَ مِنَ الْخَنَا جِيرَانَهُمْ وَالْحَاشِدِينَ عَلَى طَعَامِ النَّازِلِ ... وَالْخَالِطِينَ غَنِيَّهُمْ بِفَقِيرِهِمْ وَالْبَاذِلِينَ عَطَاءَهُمْ لِلسَّائِلِ ... وَالضَّارِبِينَ الْكَبْشَ يَبْرُقُ بَيْضُهُ ضَرْبَ الْمُهَنَّدِ عَنْ حِيَاضِ النَّاهِلِ ... وَالْعَاطِفِينَ عَلَى الْمَصَافِ خُيُولَهُمْ وَالْمُلْحِقِينَ رِمَاحَهُمْ بِالْقَاتِلِ ... وَالْمُدْرِكِينَ عَدُوَّهُمْ بِذُحُولِهِمْ وَالنَّازِلِينَ لِضَرْبِ كُلِّ مُنَازِلِ ... وَالْقَائِلِينَ مَعًا خُذُوا أَقْرَانَكُمْ إِنَّ الْمَنِيَّةَ مِنْ وَرَاءِ الْوَائِلِ ... خُزْرٍ عُيُونُهُمُ إِلَى أَعْدَائِهِمْ يَمْشُونَ مَشْيَ الْأُسْدِ تَحْتَ الْوَابِلِ ... لَيْسُوا بِأَنْكَاسٍ وَلَا مِيلٍ إِذَا مَا الْحَرْبُ شُبَّتْ أَشْعَلُوا بِالشَّاعِلِ ... لَا يَطْبَعُونَ وَهُمْ عَلَى أَحْسَابِهِمْ يَشْفُونَ بِالْأَحْلَامِ دَاءَ الْجَاهِلِ ... وَالْقَائِلِينَ فَلَا يُعَابُ خَطِيبُهُمْ يَوْمَ الْمَقَالَةِ بِالْكَلَامِ الْفَاصِلِ وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْوَقْعَةِ لِجَوْدَتِهَا وَحُسْنِهَا. [حَرْبُ حَاطِبٍ] ثُمَّ كَانَتِ الْوَقْعَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِحَاطِبٍ. وَهُوَ حَاطِبُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ الْأَوْسِيُّ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ حَرْبِ سُمَيْرٍ نَحْوَ مِائَةِ سَنَةٍ. وَكَانَ بَيْنَهُمَا أَيَّامٌ ذَكَرْنَا الْمَشْهُورَ مِنْهَا وَتَرَكْنَا مَا لَيْسَ بِمَشْهُورٍ. وَحَرْبُ حَاطِبٍ آخِرُ وَقْعَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ إِلَّا يَوْمَ بُعَاثٍ حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ.

يوم الربيع

وَكَانَ سَبَبَ هَذِهِ الْحَرْبِ أَنَّ حَاطِبًا كَانَ رَجُلًا شَرِيفًا سَيِّدًا فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ فَنَزَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ غَدَا يَوْمًا إِلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَرَآهُ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ فُسْحُمٍ، وَهِيَ أُمُّهُ، وَهُوَ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. فَقَالَ يَزِيدُ لِرَجُلٍ يَهُودِيٍّ: لَكَ رِدَائِي إِنْ كَسَعْتَ هَذَا التَّغْلِبِيَّ. فَأَخَذَ رِدَاءَهُ وَكَسَعَهُ كَسْعَةً سَمِعِهَا مَنْ بِالسُّوقِ. فَنَادَى التَّغْلِبِيُّ: يَا آلَ حَاطِبٍ كُسِعَ ضَيْفُكِ وَفُضِحَ! وَأُخْبِرَ حَاطِبٌ بِذَلِكَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ مَنْ كَسَعَهُ، فَأَشَارَ إِلَى الْيَهُودِيِّ، فَضَرَبَهُ حَاطِبٌ بِالسَّيْفِ فَلَقَ هَامَتَهُ، فَأُخْبِرَ ابْنُ فُسْحُمٍ الْخَبَرَ، وَقِيلَ لَهُ: قُتِلَ الْيَهُودِيُّ، قَتَلَهُ حَاطِبٌ، فَأَسْرَعَ خَلْفَ حَاطِبٍ فَأَدْرَكَهُ وَقَدْ دَخَلَ بُيُوتَ أَهْلِهِ، فَلَقِيَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مُعَاوِيَةَ فَقَتَلَهُ. فَثَارَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَاحْتَشَدُوا وَاجْتَمَعُوا وَالْتَقَوْا عَلَى جِسْرِ رَدْمِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. وَكَانَ عَلَى الْخَزْرَجِ هَؤُلَاءِ عَمْرُو بْنُ النُّعْمَانِ الْبَيَاضِيُّ، وَعَلَى الْأَوْسِ حُضَيْرُ بْنُ سِمَاكٍ الْأَشْهَلِيُّ. وَقَدْ كَانَ ذَهَبَ ذِكْرُ مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحُرُوبِ فِيمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ وَخِيَارُ بْنُ مَالِكِ بْنِ حَمَّادٍ الْفَزَارِيُّ، فَقَدِمَا الْمَدِينَةَ وَتَحَدَّثَا مَعَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي الصُّلْحِ، وَضَمِنَا أَنْ يَتَحَمَّلَا كُلَّ مَا يَدَّعِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَأَبَوْا، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ عِنْدَ الْجِسْرِ، وَشَهِدَهَا عُيَيْنَةُ وَخِيَارٌ. فَشَاهَدَا مِنْ قِتَالِهِمْ وَشِدَّتِهَا مَا أَيِسَا مَعَهُ مِنِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ، فَكَانَ الظَّفَرُ يَوْمَئِذٍ لِلْخَزْرَجِ. وَهَذَا الْيَوْمُ مِنْ أَشْهَرِ أَيَّامِهِمْ، وَكَانَ بَعْدَهُ عِدَّةُ وَقَائِعَ كُلُّهَا مِنْ حَرْبِ حَاطِبٍ، فَمِنْهَا: [يَوْمُ الرَّبِيعِ] ثُمَّ الْتَقَتِ الْأَنْصَارُ بَعْدَ يَوْمِ الْجِسْرِ بِالرَّبِيعِ، وَهُوَ حَائِطٌ فِي نَاحِيَةِ السَّفْحِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى كَادَ يُفْنِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَانْهَزَمَتِ الْأَوْسُ وَتَبِعَهَا الْخَزْرَجُ حَتَّى بَلَغُوا دُورَهُمْ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ إِذَا انْهَزَمَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فَدَخَلَتْ دُورَهُمْ كَفَّتِ الْأُخْرَى عَنِ اتِّبَاعِهِمْ. فَلَمَّا تَبِعَ الْخَزْرَجُ الْأَوْسَ إِلَى دُورِهِمْ طَلَبَتِ الْأَوْسُ الصُّلْحَ، فَامْتَنَعَتْ بَنُو النَّجَّارِ مِنَ الْخَزْرَجِ عَنْ إِجَابَتِهِمْ. فَحَصَّنَتِ الْأَوْسُ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ فِي الْآطَامِ، وَهِيَ الْحُصُونُ، ثُمَّ كَفَّتْ عَنْهُمُ الْخَزْرَجُ، فَقَالَ صَخْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَيَاضِيُّ: أَلَا أَبْلِغَا عَنِّي سُوَيْدَ بْنَ صَامِتٍ ... وَرَهْطَ سُوَيْدٍ بَلِّغَا وَابْنَ الَاسْلَتِ بِأَنَّا قَتَلْنَا بِالرَّبِيعِ سَرَاتَكُمْ ... وَأَفْلَتَ مَجْرُوحًا بِهِ كُلُّ مُفْلِتِ

يوم البقيع

فَلَوْلَا حُقُوقٌ فِي الْعَشِيرَةِ إِنَّهَا أَدَلَّتْ بِحَقٍّ وَاجِبٍ إِنْ أَدَلَّتِ ... لَنَالَهُمُ مِنَّا كَمَا كَانَ نَالَهُمْ مَقَانِبُ خَيْلٍ أُهْلِكَتْ حِينَ حَلَّتِ فَأَجَابَهُ سُوَيْدُ بْنُ الصَّامِتِ: أَلَا أَبْلِغَا عَنِّي صُخَيْرًا رِسَالَةً ... فَقَدْ ذُقْتَ حَرْبَ الْأَوْسِ فِيهَا ابْنَ الَاسْلَتِ قَتَلْنَا سَرَايَاكُمْ بِقَتْلَى سَرَاتِنَا ... وَلَيْسَ الَّذِي يَنْجُو إِلَيْكُمْ بِمُفْلِتِ وَمِنْهَا: [يَوْمُ الْبَقِيعِ] ثُمَّ الْتَقَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَانَ الظَّفَرُ يَوْمَئِذٍ لِلْأَوْسِ، فَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ نَاقِدٍ الْأَوْسِيُّ: لَمَّا رَأَيْتُ بَنِي عَوْفٍ وَجَمْعَهُمُ ... جَاءُوا وَجَمْعَ بَنِي النَّجَّارِ قَدْ حَفَلُوا دَعَوْتُ قَوْمِي وَسَهَّلْتُ الطَّرِيقَ لَهُمْ ... إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَصْحَابُهُ حَلَلُوا جَادَتْ بِأَنْفُسِهَا مِنْ مَالِكٍ عُصَبٌ ... يَوْمَ اللِّقَاءِ فَمَا خَافُوا وَلَا فَشِلُوا وَعَاوَرُوكُمْ كُؤُوسَ الْمَوْتِ إِذْ بَرَزُوا ... شَطْرَ النَّهَارِ وَحَتَّى أَدْبَرَ الْأُصُلُ حَتَّى اسْتَقَامُوا وَقَدْ طَالَ الْمِرَاسُ بِهِمْ ... فَكُلُّهُمْ مِنْ دِمَاءِ الْقَوْمِ قَدْ نَهِلُوا تَكَشَّفَ الْبِيضُ عَنْ قَتْلَى أُولِي رَحِمٍ ... لَوْلَا الْمُسَالِمُ وَالْأَرْحَامُ مَا نَقَلُوا تَقُولُ كُلُّ فَتَاةٍ غَابَ قَيِّمُهَا ... أَكُلُّ مَنْ خَلْفَنَا مِنْ قَوْمِنَا قُتِلُوا لَقَدْ قَتَلْتُمْ كَرِيمًا ذَا مُحَافَظَةٍ ... قَدْ كَانَ حَالَفَهُ الْقَيْنَاتُ وَالْحُلَلُ جَزْلٌ نَوَافِلُهُ حُلْوٌ شَمَائِلُهُ ... رَيَّانُ وَاغْلُهُ تَشْقَى بِهِ الْإِبِلُ الْوَاغِلُ: الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ يَشْرَبُونَ. فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ الْحَارِثِيُّ الْخَزْرَجِيُّ: لَمَّا رَأَيْتُ بَنِي عَوْفٍ وَإِخْوَتَهُمْ ... كَعْبًا وَجَمْعَ بَنِي النَّجَّارِ قَدْ حَفَلُوا

يوم الفجار الأول للأنصار

قِدْمًا أَبَاحُوا حِمَاكُمْ بِالسُّيُوفِ وَلَمْ يَفْعَلْ بِكُمْ أَحَدٌ مِثْلَ الَّذِي فَعَلُوا وَكَانَ رَئِيسَ الْأَوْسِ يَوْمَئِذٍ فِي حَرْبِ حَاطِبٍ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ الْوَائِلِيُّ، فَقَامَ فِي حَرْبِهِمْ وَهَجَرَ الرَّاحَةَ، فَشَحُبَ وَتَغَيَّرَ. وَجَاءَ يَوْمًا إِلَى امْرَأَتِهِ فَأَنْكَرَتْهُ حَتَّى عَرَفَتْهُ بِكَلَامِهِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ أَنْكَرْتُكَ حَتَّى تَكَلَّمْتَ! فَقَالَ: قَالَتْ وَلَمْ تَقْصِدْ لِقِيلِ الْخَنَا ... مَهْلًا فَقَدْ أَبْلَغْتَ أَسْمَاعِي وَاسْتَنْكَرَتْ لَهُ لَوْنًا شَاحِبًا ... وَالْحَرْبُ غُولٌ ذَاتُ أَوْجَاعِ مَنْ يَذُقِ الْحَرْبَ يَجِدْ طَعْمَهَا ... مُرًّا وَتَتْرُكُهُ بِجَعْجَاعِ قَدْ حَصَّتِ الْبَيْضَةُ رَأْسِي فَمَا ... أَطْعَمُ نَوْمًا غَيْرَ تَهْجَاعِ أَسْعَى عَلَى جُلِّ بَنِي مَالِكٍ ... كُلُّ امْرِئِ فِي شَأْنِهِ سَاعِي أَعْدَدْتُ لِلْأَعْدَاءِ مَوْضُونَةً ... فَضْفَاضَةً كَالنِّهْيِ بِالْقَاعِ أَحْفِزُهَا عَنِّي بِذِي رَوْنَقٍ ... مُهَنَّدٍ كَاللَّمْعِ قَطَّاعِ صِدْقٍ حُسَامٍ وَادِقٍ حَدُّهُ ... وَمُنْحَنٍ أَسْمَرَ قَرَّاعِ وَهِيَ طَوِيلَةٌ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا قَيْسِ بْنَ الْأَسْلَتِ جَمَعَ الْأَوْسَ وَقَالَ لَهُمْ: مَا كُنْتُ رَئِيسَ قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا هُزِمُوا، فَرَئِّسُوا عَلَيْكُمْ مَنْ أَحْبَبْتُمْ، فَرَأَّسُوا عَلَيْهِمْ حُضَيْرَ الْكَتَائِبِ بْنَ السَّمَاكِ الْأَشْهَلِيَّ، وَهُوَ وَالِدُ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ. لِوَلَدِهِ صُحْبَةٌ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ، فَصَارَ حُضَيْرٌ يَلِي أُمُورَهُمْ فِي حُرُوبِهِمْ، فَالْتَقَى الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الْغَرْسُ، فَكَانَ الظَّفَرَ لِلْأَوْسِ، ثُمَّ تَرَاسَلُوا فِي الصُّلْحِ فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَحْسِبُوا الْقَتْلَى فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْفَضْلُ أُعْطِيَ الدِّيَةَ، فَأَفْضَلَتِ الْأَوْسُ عَلَى الْخَزْرَجِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ، فَدَفَعَتِ الْخَزْرَجُ ثَلَاثَةَ غِلْمَةٍ مِنْهُمْ رَهْنًا بِالدِّيَاتِ، فَغَدَرَتِ الْأَوْسُ فَقَتَلَتِ الْغِلْمَانَ. [يَوْمُ الْفِجَارِ الْأَوَّلِ لِلْأَنْصَارِ] وَلَيْسَ بِفِجَارِ كِنَانَةَ وَقَيْسٍ. فَلَمَّا قَتَلَتِ الْأَوْسُ الْغِلْمَانَ جَمَعَتِ الْخَزْرَجُ وَحَشَدُوا وَالْتَقَوْا بِالْحَدَائِقِ، وَعَلَى الْخَزْرَجِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، وَعَلَى الْأَوْسِ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يُفْنِي بَعْضًا. وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْفِجَارِ لِغَدْرِهِمْ بِالْغِلْمَانِ،

يوم معبس ومضرس

وَهُوَ الْفِجَارُ الْأَوَّلُ، فَكَانَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ فِي حَائِطٍ لَهُ، فَانْصَرَفَ فَوَافَقَ قَوْمَهُ قَدْ بَرَزُوا لِلْقِتَالِ، فَعَجَزَ عَنْ أَخْذِ سِلَاحِهِ إِلَّا السَّيْفَ ثُمَّ خَرَجَ مَعَهُمْ، فَعَظُمَ مَقَامُهُ يَوْمَئِذٍ وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا وَجُرِحَ جِرَاحَةً شَدِيدَةً، فَمَكَثَ حِينًا يَتَدَاوَى مِنْهَا، وَأُمِرَ أَنْ يَحْتَمِيَ عَنِ الْمَاءِ، فَلِذَلِكَ يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: رَمَيْنَاكَ أَيَّامَ الْفِجَارِ فَلَمْ تَزَلْ ... حَمِيًّا فَمَنْ يَشْرَبْ فَلَسْتَ بِشَارِبِ [يَوْمُ مُعَبِّسٍ وَمُضَرِّسٍ] ثُمَّ الْتَقَوْا عِنْدَ مُعَبِّسٍ وَمُضَرِّسٍ، وَهُمَا جِدَارَانِ، فَكَانَتِ الْخَزْرَجُ وَرَاءَ مُضَرِّسٍ، وَكَانَتِ الْأَوْسُ وَرَاءَ مُعَبِّسٍ، فَأَقَامُوا أَيَّامًا يَقْتَتِلُونَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْهَزَمَتِ الْأَوْسُ حَتَّى دَخَلَتِ الْبُيُوتَ وَالْآطَامَ، وَكَانَتْ هَزِيمَةً قَبِيحَةً لَمْ يَنْهَزِمُوا مِثْلَهَا. ثُمَّ إِنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَبَنِي أَوْسِ مَنَاةَ مِنَ الْأَوْسِ وَادَعُوا الْخَزْرَجَ، فَامْتَنَعَ مِنَ الْمُوَادَعَةِ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَبَنُو ظَفَرٍ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأَوْسِ وَقَالُوا: لَا نُصَالِحُ حَتَّى نُدْرِكَ ثَأْرَنَا مِنَ الْخَزْرَجِ. فَأَلَحَّتِ الْخَزْرَجُ عَلَيْهِمْ بِالْأَذَى وَالْغَارَةِ حِينَ وَادَعَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَأَوْسِ مَنَاةَ، فَعَزَمَتِ الْأَوْسُ إِلَّا مَنْ ذَكَرْنَا عَلَى الِانْتِقَالِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَغَارَتْ بَنُو سَلَمَةَ عَلَى مَالٍ لِبَنِي الْأَشْهَلِ يُقَالُ لَهُ الرَّعْلُ، فَقَاتَلُوهُمْ عَلَيْهِ، فَجُرِحَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَشْهَلِيُّ جِرَاحَةً شَدِيدَةً، وَاحْتَمَلَهُ بَنُو سَلَمَةَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ الْخَزْرَجِيِّ، فَأَجَارَهُ وَأَجَارَ الرَّعْلَ مِنَ الْحَرِيقِ وَقَطْعِ الْأَشْجَارِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ جَازَاهُ سَعْدٌ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ سَارَتِ الْأَوْسُ إِلَى مَكَّةَ لِتُحَالِفَ قُرَيْشًا عَلَى الْخَزْرَجِ، وَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْعُمْرَةَ. وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الْعُمْرَةَ أَوِ الْحَجَّ لَمْ يَعْرِضْ إِلَيْهِ خَصْمُهُ، وَيُعَلِّقُ الْمُعْتَمِرُ عَلَى بَيْتِهِ كَرَانِيفَ النَّخْلِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَسَارُوا إِلَى مَكَّةَ فَقَدِمُوهَا وَحَالَفُوا قُرَيْشًا وَأَبُو جَهْلٍ غَائِبٌ. فَلَمَّا قَدِمَ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ لِقُرَيْشٍ: أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الْأَوَّلِ: وَيْلٌ لِلْأَهْلِ مِنَ النَّازِلِ! إِنَّهُمْ لَأَهْلُ عَدَدٍ وَجَلَدٍ، وَلَقَلَّ مَا نَزَلَ قَوْمٌ عَلَى قَوْمٍ إِلَّا أَخْرَجُوهُمْ مِنْ بَلَدِهِمْ وَغَلَبُوهُمْ عَلَيْهِ. قَالُوا: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْ حِلْفِهِمْ؟ قَالَ: أَنَا أَكْفِيكُمُوهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى جَاءَ الْأَوْسَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ حَالَفْتُمْ قَوْمِي وَأَنَا غَائِبٌ، فَجِئْتُ لِأُحَالِفَكُمْ وَأَذْكُرَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِنَا مَا تَكُونُونَ بَعْدَهُ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكُمْ. إِنَّا قَوْمٌ تَخْرُجُ إِمَاؤُنَا إِلَى أَسْوَاقِنَا وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ مِنَّا يُدْرِكُ الْأَمَةَ فَيَضْرِبَ عَجِيزَتَهَا، فَإِنْ طَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَفْعَلَ نِسَاؤُكُمْ مِثْلَ مَا تَفْعَلُ نِسَاؤُنَا حَالَفْنَاكُمْ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ ذَلِكَ فَرُدُّوا إِلَيْنَا حِلْفَنَا. فَقَالُوا: لَا نُقِرُّ بِهَذَا. وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ بِأَسْرِهَا فِيهِمْ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، فَرَدُّوا إِلَيْهِمْ حِلْفَهُمْ وَسَارُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَفْتَخِرُ بِمَا أَصَابَ قَوْمُهُ مِنَ الْأَوْسِ:

يوم الفجار الثاني للأنصار

أَلَا أَبْلِغْ أَبَا قَيْسٍ رَسُولًا ... إِذَا أَلْقَى لَهَا سَمْعًا تُبِينُ فَلَسْتُ لِحَاصِنٍ إِنْ لَمْ تَزُرْكُمْ ... خِلَالَ الدَّارِ مُسْبِلَةٌ طَحُونُ يَدِينُ لَهَا الْعَزِيزُ إِذَا رَآهَا ... وَيَهْرُبُ مِنْ مَخَافَتِهَا الْقَطِينُ تَشِيبُ النَّاهِدُ الْعَذْرَاءُ مِنْهَا ... وَيَسْقُطُ مِنْ مَخَافَتِهَا الْجَنِينُ يَطُوفُ بِكُمْ مِنَ النَّجَّارِ أُسْدٌ ... كَأُسْدِ الْغِيلِ مَسْكَنُهَا الْعَرِينُ يَظَلُّ اللَّيْثُ فِيهَا مُسْتَكِينًا ... لَهُ فِي كُلِّ مُلْتَفَتٍ أَنِينُ كَأَنَّ بَهَاءَهَا لِلنَّاظِرِيهَا ... مِنَ الْأَثْلَاتِ وَالْبِيضِ الْفَتِينُ كَأَنَّهُمُ مِنَ الْمَاذِي عَلَيْهِمْ ... جَمَالٌ حِينَ يَجْتَلِدُونَ جُونُ فَقَدْ لَاقَاكَ قَبْلَ بُعَاثَ قَتْلٌ ... وَبَعْدَ بُعَاثَ ذُلٌّ مُسْتَكِينُ وَهِيَ طَوِيلَةٌ أَيْضًا. [يَوْمُ الْفِجَارِ الثَّانِي لِلْأَنْصَارِ] كَانَتِ الْأَوْسُ قَدْ طَلَبَتْ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ أَنْ يُحَالِفُوهُمْ عَلَى الْخَزْرَجِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَزْرَجَ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ يُؤْذِنُونَهُمْ بِالْحَرْبِ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّا لَا نُرِيدُ ذَلِكَ فَأَخَذَتِ الْخَزْرَجُ رَهْنَهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ غُلَامًا مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، ثُمَّ إِنَّ يَزِيدَ بْنَ فُسْحُمَ شَرِبَ يَوْمًا فَسَكِرَ فَتَغَنَّى بِشِعْرٍ يَذْكُرُ فِيهِ ذَلِكَ: هَلُمَّ إِلَى الْأَحْلَافِ إِذْ رَقَّ عَظْمُهُمْ ... وَإِذْ أَصْلَحُوا مَالًا لِجِذْمَانَ ضَائِعَا إِذَا مَا امْرُؤٌ مِنْهُمْ أَسَاءَ عِمَارَةً ... بَعَثْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ بَنِي الْعِيرِ جَادِعَا فَأَمَّا الصَّرِيخُ مِنْهُمُ فَتَحَمَّلُوا ... وَأَمَّا الْيَهُودُ فَاتَّخَذْنَا بَضَائِعَا أَخَذْنَا مِنَ الْأُولَى الْيَهُودَ عِصَابَةً ... لِغَدْرِهِمِ كَانُوا لَدَيْنَا وَدَائِعَا

يوم بعاث

فَذَلُّوا لِرَهْنٍ عِنْدَنَا فِي جِبَالِنَا مُصَانَعَةً يَخْشُونَ مِنَّا الْقَوَارِعَا ... وَذَاكَ بِأَنَّا حِينَ نَلْقَى عَدُوَّنَا نَصُولُ بِضَرْبٍ يَتْرُكُ الْعِزَّ خَاشِعَا فَبَلَغَ قَوْلُهُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ فَغَضِبُوا. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ: نَحْنُ كَمَا قَالَ إِنْ لَمْ نُغِرْ، فَخَالَفَ الْأَوْسُ عَلَى الْخَزْرَجِ. فَلَمَّا سَمِعَتِ الْخَزْرَجُ بِذَلِكَ قَتَلُوا كُلَّ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الرَّهْنِ مِنْ أَوْلَادِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. فَأَطْلَقُوا نَفَرًا، مِنْهُمْ: سُلَيْمُ بْنُ أَسَدٍ الْقُرَظِيُّ جَدُّ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سُلَيْمٍ. وَاجْتَمَعَتِ الْأَوْسُ وَقُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ عَلَى حَرْبِ الْخَزْرَجِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْفِجَارَ الثَّانِي لِقَتْلِ الْغِلْمَانِ مِنَ الْيَهُودِ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَتْلِ الْغِلْمَانِ غَيْرُ هَذَا، وَهُوَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ النُّعْمَانِ الْبَيَاضِيَّ الْخَزْرَجِيَّ قَالَ لِقَوْمِهِ بَنِي بَيَاضَةَ: إِنَّ أَبَاكُمْ أَنْزَلَكُمْ مَنْزِلَةَ سُوءٍ، وَاللَّهِ لَا يَمَسُّ رَأْسِي مَاءٌ حَتَّى أُنْزِلَكُمْ مَنَازِلَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ أَوْ أَقْتُلَ رَهْنَهُمْ! وَكَانَتْ مَنَازِلُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ خَيْرَ الْبِقَاعِ، فَأَرْسَلَ إِلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ: إِمَّا أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِيَارِكُمْ، وَإِمَّا أَنْ نَقْتُلَ الرَّهْنَ. فَهَمُّوا بِأَنْ يَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ الْقُرَظِيُّ: يَا قَوْمُ امْنَعُوا دِيَارَكُمْ وَخَلُّوهُ يَقْتُلُ الْغِلْمَانَ، مَا هِيَ إِلَّا لَيْلَةٌ يُصِيبُ فِيهَا أَحَدُكُمُ امْرَأَةً حَتَّى يُولَدَ لَهُ مِثْلُ أَحَدِهِمْ. فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ: إِنَّا لَا نَنْتَقِلُ عَنْ دِيَارِنَا فَانْظُرُوا فِي رَهْنِنَا فَعُوا لَنَا. فَعَدَا عَمْرُو بْنُ النُّعْمَانِ عَلَى رَهْنِهِمْ فَقَتَلَهُمْ، وَخَالَفَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ فَقَالَ: هَذَا بَغْيٌ وَإِثْمٌ، وَنَهَاهُ عَنْ قَتْلِهِمْ وَقِتَالِ قَوْمِهِ مِنَ الْأَوْسِ وَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي بِكَ وَقَدْ حُمِلْتَ قَتِيلًا فِي عَبَاءَةٍ يَحْمِلُكَ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ. فَلَمْ يَقْتُلْ هُوَ وَمَنْ أَطَاعَهُ أَحَدًا مِنَ الْغِلْمَانِ وَأَطْلَقُوهُمْ، وَمِنْهُمْ: سُلَيْمُ بْنُ أَسَدٍ جَدُّ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ. وَحَالَفَتْ حِينَئِذٍ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَالْأَوْسُ عَلَى الْخَزْرَجِ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ قِتَالٌ سُمِّيَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْفِجَارِ الثَّانِي. وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِأَنْ يُسَمَّى الْيَوْمَ فِجَارًا، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّمَا قَتَلُوا الرَّهْنَ جَزَاءَ الْغَدْرِ مِنَ الْيَهُودِ فَلَيْسَ بِفِجَارٍ مِنَ الْخَزْرَجِ إِلَّا أَنْ يُسَمَّى فِجَارًا لِغَدْرِ الْيَهُودِ. [يَوْمُ بُعَاثٍ] ثُمَّ إِنَّ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ جَدَّدُوا الْعُهُودَ مَعَ الْأَوْسِ عَلَى الْمُوَازَرَةِ وَالتَّنَاصُرِ، وَاسْتَحْكَمَ أَمْرُهُمْ وَجَدُّوا فِي حَرْبِهِمْ، وَدَخَلَ مَعَهُمْ قَبَائِلُ مِنَ الْيَهُودِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْنَا. فَلَمَّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ

الْخَزْرَجُ جَمَعَتْ وَحَشَدَتْ وَرَاسَلَتْ حُلَفَاءَهَا مِنْ أَشْجَعَ وَجُهَيْنَةَ، وَرَاسَلَتِ الْأَوْسُ حُلَفَاءَهَا مِنْ مُزَيْنَةَ، وَمَكَثُوا يَوْمًا يَتَجَهَّزُونَ لِلْحَرْبِ، وَالْتَقَوْا بِبُعَاثَ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ قُرَيْظَةَ، وَعَلَى الْأَوْسِ حُضَيْرُ الْكَتَائِبِ بْنُ سِمَاكٍ وَالِدُ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَعَلَى الْخَزْرَجِ عَمْرُو بْنُ النُّعْمَانِ الْبَيَاضِيُّ، وَتَخَلَّفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ فِيمَنْ تَبِعَهُ عَنِ الْخَزْرَجِ، وَتَخَلَّفَ بَنُو حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ عَنِ الْأَوْسِ. فَلَمَّا الْتَقَوُا اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَصَبَرُوا جَمِيعًا. ثُمَّ إِنَّ الْأَوْسَ وَجَدَتْ مَسَّ السِّلَاحِ فَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ نَحْوَ الْعَرِيضِ، فَلَمَّا رَأَى حُضَيْرٌ هَزِيمَتَهُمْ بَرَكَ وَطَعَنَ قَدَمَهُ بِسِنَانِ رُمْحِهِ وَصَاحَ: وَا عَقْرَاهُ كَعَقْرِ الْجَمَلِ! وَاللَّهِ لَا أَعُودُ حَتَّى أُقْتَلَ، فَإِنْ شِئْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ أَنْ تُسْلِمُونِي فَافْعَلُوا. فَعَطَفُوا عَلَيْهِ وَقَاتَلَ عَنْهُ غِلْمَانٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ يُقَالُ لَهُمَا مَحْمُودٌ وَيَزِيدُ ابْنَا خَلِيفَةَ حَتَّى قُتِلَا، وَأَقْبَلَ سَهْمٌ لَا يُدْرَى مَنْ رَمَى بِهِ فَأَصَابَ عَمْرَو بْنَ النُّعْمَانِ الْبَيَاضِيَّ رَئِيسَ الْخَزْرَجِ فَقَتَلَهُ، فَبَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ يَتَرَدَّدُ رَاكِبًا قَرِيبًا مِنْ بُعَاثٍ يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ إِذْ طُلِعَ عَلَيْهِ بِعَمْرِو بْنِ النُّعْمَانِ قَتِيلًا فِي عَبَاءَةٍ يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ، كَمَا كَانَ قَالَ لَهُ. فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: ذُقْ وَبَالَ الْبَغْيِ! وَانْهَزَمَتِ الْخَزْرَجُ، وَوَضَعَتْ فِيهِمُ الْأَوْسُ السِّلَاحَ، فَصَاحَ صَائِحٌ: يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ أَحْسِنُوا وَلَا تُهْلِكُوا إِخْوَانَكُمْ فَجِوَارُهُمْ خَيْرٌ مِنْ جِوَارِ الثَّعَالِبِ! فَانْتَهَوْا عَنْهُمْ وَلَمْ يَسْلُبُوهُمْ. وَإِنَّمَا سَلَبَهُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، وَحَمَلَتِ الْأَوْسُ حُضَيْرًا مَجْرُوحًا فَمَاتَ. وَأَحْرَقَتِ الْأَوْسُ دُورَ الْخَزْرَجِ وَنَخِيلَهُمْ، فَأَجَارَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَشْهَلِيُّ أَمْوَالَ بَنِي سَلَمَةَ وَنَخِيلَهُمْ وَدُورَهُمْ جَزَاءً بِمَا فَعَلُوا لَهُ فِي الرَّعْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَنَجَّى يَوْمَئِذٍ الزُّبَيْرُ بْنُ إِيَاسِ بْنِ بَاطَا ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ الْخَزْرَجِيَّ، أَخَذَهُ فَجَزَّ نَاصِيَتَهُ وَأَطْلَقَهُ، وَهِيَ الْيَدُ الَّتِي جَازَاهُ بِهَا ثَابِتٌ فِي الْإِسْلَامِ يَوْمَ بَنِي الْقُرَيْظَةِ، وَسَنَذْكُرُهُ. وَكَانَ يَوْمُ الْبُعَاثِ آخِرَ الْحُرُوبِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَاتَّفَقَتِ الْكَلِمَةُ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى نَصْرِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ. وَأَكْثَرَتِ الْأَنْصَارُ الْأَشْعَارَ يَوْمَ الْبُعَاثِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ الظَّفَرِيِّ الْأَوْسِيِّ: أَتَعْرِفُ رَسْمًا كَالطِّرَازِ الْمُذَهَّبِ ... لِعَمْرَةَ رَكْبًا غَيْرَ مَوْقِفِ رَاكِبِ

دِيَارُ الَّتِي كَانَتْ وَنَحْنُ عَلَى مِنًى تَحِلُّ بِنَا لَوْلَا رَجَاءُ الرَّكَائِبِ ... تَبَدَّتْ لَنَا كَالشَّمْسِ تَحْتَ غَمَامَةٍ بَدَا حَاجِبٌ مِنْهَا وَضَنَّتْ بِحَاجِبِ وَمِنْهَا: وَكُنْتُ امْرَأً لَا أَبْعَثُ الْحَرْبَ ظَالِمًا ... فَلَمَّا أَبَوْا شَعَّلْتُهَا كُلَّ جَانِبِ أَذِنْتُ بِدَفْعِ الْحَرْبِ حَرْبًا رَأَيْتُهَا ... عَنِ الدَّفْعِ لَا تَزْدَادُ غَيْرَ تَقَارُبِ فَلَمَّا رَأَيْتُ الْحَرْبَ تَجَرَّدَتْ ... لَبِسْتُ مَعَ الْبُرْدَيْنِ ثَوْبَ الْمُحَارِبِ مُضَعَّفَةً يَغْشَى الْأَنَامِلَ رَيْعُهَا ... كَأَنَّ قَتِيرَيْهَا عُيُونَ الْجَنَادِبِ تَرَى قِصَدَ الْمُرَّانِ تُلْقَى كَأَنَّهَا ... تَذَرُّعُ خِرْصَانٍ بِأَيْدِي الشَّوَاطِبِ وَسَامَحَنِي مِلْكَاهَنِينِ وَمَالِكٌ ... وَثَعْلَبَةُ الْأَخْيَارِ رَهْطُ الْقَبَاقِبِ رِجَالٌ مَتَى يُدْعَوْا إِلَى الْحَرْبِ يُسْرِعُوا ... كَمَشْيِ الْجِمَالِ الْمُشْعِلَاتِ الْمَصَاعِبِ إِذَا مَا فَرَرْنَا كَانَ أَسْوَا فِرَارِنَا ... صُدُودُ الْخُدُودِ وَازْوِرَارُ الْمَنَاكِبِ صُدُودُ الْخُدُودِ وَالْقَنَا مُتَشَاجِرٌ ... وَلَا تَبْرَحُ الْأَقْدَامُ عِنْدَ التَّضَارُبِ ظَأَرْنَاكُمُ بِالْبِيضِ حَتَّى لَأَنْتُمُ ... أَذَلُّ مِنَ السُّقْبَانِ بَيْنَ الْحَلَائِبِ يُجَرَّدْنَ بِيضًا كُلَّ يَوْمِ كَرِيهَةٍ ... وَيَرْجِعْنَ حُمْرًا جَارِحَاتِ الْمَضَارِبِ لَقِيتُكُمُ يَوْمَ الْحَدَائِقِ حَاسِرًا ... كَأَنَّ يَدِي بِالسَّيْفِ مِخْرَاقُ لَاعِبِ وَيَوْمَ بُعَاثٍ أَسْلَمَتْنَا سُيُوفُنَا ... إِلَى حَسَبٍ فِي جِذْمِ غَسَّانَ ثَاقِبِ قَتَلْنَاكُمُ يَوْمَ الْفِجَارِ وَقَبْلَهُ ... وَيَوْمُ بُعَاثٍ كَانَ يَوْمَ التَّغَالُبِ أَتَتْ عُصَبٌ لِلْأَوْسِ تَخْطُرُ بِالْقَنَا ... كَمَشْيِ الْأُسُودِ فِي رَشَاشِ الْأَهَاضِبِ فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: أَشَاقَتْكَ لَيْلَى فِي الْخَلِيطِ الْمُجَانِبِ ... نَعَمْ، فَرَشَاشُ الدَّمْعِ فِي الصَّدْرِ غَالِبِ

ذكر غلبة ثقيف على الطائف والحرب بين الأحلاف وبني مالك

بَكَتْ إِثْرَ مَنْ شَطَّتْ نَوَاهُ وَلَمْ يَقُمْ ... لِحَاجَةِ مَخْزُونٍ شَكَا الْحُبَّ نَاصِبِ لَدُنْ غَدْوَةً حَتَّى إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ... أَرَاحَتْ لَهُ مِنْ لُبِّهِ كُلَّ عَازِبِ نُحَامِي عَلَى أَحْسَابِنَا بِتِلَادِنَا ... لِمُفْتَقِرٍ أَوْ سَائِلِ الْحَقِّ وَاجِبِ وَأَعْمَى هَدَتْهُ لِلسَّبِيلِ سُيُوفُنَا ... وَخَصْمٍ أَقَمْنَا بَعْدَمَا ثَجَّ ثَاعِبِ وَمُعْتَرَكٍ ضَنْكٍ يُرَى الْمَوْتُ وَسْطَهُ ... مَشَيْنَا لَهُ مَشْيَ الْجِمَالِ الْمَصَاعِبِ بِرَجْلٍ تَرَى الْمَاذِيَّ فَوْقَ جُلُودِهِمْ ... وَبِيضًا نَقِيًّا مِثْلَ لَوْنِ الْكَوَاكِبِ وَهُمْ حُسَّرٌ لَا فِي الدُّرُوعِ تَخَالُهُمْ ... أُسُودًا مَتَّى تُنْشَا الرِّمَاحُ تُضَارِبِ مَعَاقِلُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمِ كَرِيهَةٍ ... مَعَ الصِّدْقِ مَنْسُوبِ السُّيُوفِ الْقَوَاضِبِ وَهِيَ طَوِيلَةٌ. وَلَيْلَى الَّتِي شَبَّبَ بِهَا ابْنُ رَوَاحَةَ هِيَ أُخْتُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ. وَعَمْرَةُ الَّتِي شَبَّبَ بِهَا ابْنُ الْخَطِيمِ هِيَ أُخْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَهِيَ أُمُّ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيِّ. (بُعَاثُ: بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ كِتَابِ الْعَيْنِ وَحْدَهُ: وَهُوَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ) . [ذِكْرُ غَلَبَةِ ثَقِيفٍ عَلَى الطَّائِفِ وَالْحَرْبِ بَيْنَ الْأَحْلَافِ وَبَنِي مَالِكٍ] كَانَتْ أَرْضُ الطَّائِفِ قَدِيمًا لِعُدْوَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ. فَلَمَّا كَثُرَ بَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصْفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ غَلَبُوهُمْ عَلَى الطَّائِفِ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ. وَكَانَ بَنُو عَامِرٍ يُصَيِّفُونَ بِالطَّائِفِ، وَيُشَتُّونَ بِأَرْضِهِمْ مِنْ نَجْدٍ، وَكَانَتْ ثَقِيفُ حَوْلَ الطَّائِفِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُمْ مِنْ إِيَادٍ فَقَالَ: ثَقِيفٌ اسْمُهُ قَسِيُّ بْنُ نَبَتَ بْنِ مُنَبِّهِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ يَقْدُمَ بْنِ أَفْصَى بْنِ دُعْمِيِّ بْنِ إِيَادِ بْنِ مَعَدٍّ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُمْ

مِنْ هَوَازِنَ فَقَالَ: هُوَ قَيْسُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصْفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ. فَرَأَتْ ثَقِيفٌ الْبِلَادَ فَأَعْجَبَهُمْ نَبَاتُهَا وَطِيبُ ثَمَرِهَا، فَقَالُوا لِبَنِي عَامِرٍ: إِنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ لَا تَصْلُحُ لِلزَّرْعِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَرْضُ ضَرْعٍ، وَنَرَاكُمْ عَلَى أَنْ آثَرْتُمُ الْمَاشِيَةَ عَلَى الْغِرَاسِ، وَنَحْنُ أُنَاسٌ لَيْسَتْ لَنَا مَوَاشٍ، فَهَلْ لَكَمَ أَنْ تَجْمَعُوا الزَّرْعَ وَالضَّرْعَ بِغَيْرِ مَؤُونَةٍ؟ تَدْفَعُونَ إِلَيْنَا بِلَادَكُمْ هَذِهِ فَنُثِيرُهَا وَنَغْرِسُهَا وَنَحْفِرُ فِيهَا الْأَطْوَاءَ وَلَا نُكَلِّفُكُمْ مَؤُونَةً. نَحْنُ نَكْفِيكُمُ الْمَؤُونَةَ وَالْعَمَلَ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ إِدْرَاكِ الثَّمَرِ كَانَ لَكُمُ النِّصْفُ كَامِلًا، وَلَنَا النِّصْفُ بِمَا عَمِلْنَا. فَرَغِبَ بَنُو عَامِرٍ فِي ذَلِكَ وَسَلَّمُوا إِلَيْهِمُ الْأَرْضَ، فَنَزَلَتْ ثَقِيفٌ الطَّائِفَ وَاقْتَسَمُوا الْبِلَادَ وَعَمِلُوا الْأَرْضَ وَزَرَعُوهَا مِنَ الْأَعْنَابِ وَالثِّمَارِ، وَوَفَوْا بِمَا شَرَطُوا لِبَنِي عَامِرٍ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ، وَكَانَ بَنُو عَامِرٍ يَمْنَعُونَ ثَقِيفًا مِمَّنْ أَرَادَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ. فَلَمَّا كَثُرَتْ ثَقِيفٌ وَشَرُفَتْ حَصَّنَتْ بِلَادَهَا وَبَنَوْا أَسْوَارًا عَلَى الطَّائِفِ وَحَصَّنُوهُ، وَمَنَعُوا عَامِرًا مِمَّا كَانُوا يَحْمِلُونَهُ إِلَيْهِمْ عَنْ نِصْفِ الثِّمَارِ. وَأَرَادَ بَنُو عَامِرٍ أَخْذَهُ مِنْهُمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ فَقَاتَلُوهُمْ فَلَمْ يَظْفَرُوا، وَكَانَتْ ثَقِيفٌ بَطْنَيْنِ: الْأَحْلَافُ وَبَنِي مَالِكٍ، وَكَانَ لِلْأَحْلَافِ فِي هَذَا أَثَرٌ عَظِيمٌ، وَلَمْ تَزَلْ تَعْتَدُّ بِذَلِكَ عَلَى بَنِي مَالِكٍ فَأَقَامُوا كَذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ الْأَحْلَافَ أَثْرُوا وَكَثُرَتْ خَيْلُهُمْ، فَحَمَوْا لَهَا حِمًى مِنْ أَرْضِ بَنِي نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ يُقَالُ لَهُ جِلْذَانُ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ بَنُو نَصْرٍ وَقَاتَلُوهُمْ عَلَيْهِ، وَلَجَّتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ. وَكَانَ رَأْسُ بَنِي نَصْرٍ عُفَيْفَ بْنَ عَوْفِ بْنِ عُبَادٍ النَّصْرِيَّ ثُمَّ الْيَرْبُوعِيَّ، وَرَأْسُ الْأَحْلَافِ مَسْعُودَ بْنَ قَعْنَبٍ. فَلَمَّا لَجَّتِ الْحَرْبُ بَيْنَ بَنِي نَصْرٍ وَالْأَحْلَافِ اغْتَنَمَ ذَلِكَ بَنُو مَالِكٍ وَرَئِيسُهُمْ جُنْدَبُ بْنُ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حُطَيْطِ بْنِ جُشَمَ مِنْ ثَقِيفٍ لِضَغَائِنَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَحْلَافِ، فَحَالَفُوا بَنِي يَرْبُوعٍ عَلَى الْأَحْلَافِ. فَلَمَّا سَمِعَتِ الْأَحْلَافُ بِذَلِكَ اجْتَمَعُوا. وَكَانَ أَوَّلُ قِتَالٍ كَانَ بَيْنَ الْأَحْلَافِ وَبَيْنَ بَنِي مَالِكٍ وَحُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي نَصْرٍ يَوْمَ الطَّائِفِ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْتَصَرَ الْأَحْلَافُ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْهُ إِلَى وَادٍ مِنْ وَرَاءِ الطَّائِفِ يُقَالُ لَهُ لَحْبٌ، وَقُتِلَ مِنْ بَنِي مَالِكٍ وَبَنِي يَرْبُوعٍ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ ذَلِكَ الْجَبَلِ يُقَالُ لَهُ الْأَبَانُ. ثُمَّ اقْتَتَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّامًا

مُسَمَّيَاتٍ، مِنْهُنَّ يَوْمُ غَمْرِ ذِي كِنْدَةَ، مِنْ نَحْوِ نَخْلَةَ، وَمِنْهُنَّ يَوْمُ كُرُونَا مِنْ نَحْوِ حُلْوَانَ، وَصَاحَ عُفَيْفُ بْنُ عَوْفٍ الْيَرْبُوعِيُّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ صَيْحَةً يَزْعُمُونَ أَنَّ سَبْعِينَ حُبْلَى مِنْهُمْ أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ ثُمَّ افْتَرَقُوا. فَسَارَتْ بَنُو مَالِكٍ تَبْتَغِي الْحِلْفَ مِنْ دَوْسٍ وَخَثْعَمٍ وَغَيْرِهَا عَلَى الْأَحْلَافِ، وَخَرَجَتِ الْأَحْلَافُ إِلَى الْمَدِينَةِ تَبْتَغِي الْحِلْفَ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى بَنِي مَالِكٍ، فَقَدِمَ مَسْعُودُ بْنُ مُعَتِّبٍ عَلَى أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ أَحَدِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مِنَ الْأَوْسِ، وَكَانَ أَشْرَفَ الْأَنْصَارِ فِي زَمَانِهِ، فَطَلَبَ مِنْهُ الْحِلْفَ، فَقَالَ لَهُ أُحَيْحَةُ: وَاللَّهِ مَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ إِلَى قَوْمٍ قَطُّ بِحِلْفٍ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا أَقَرَّ لِأُولَئِكَ الْقَوْمِ بِشَرٍّ مِمَّا أَنِفَ مِنْهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ لَهُ مَسْعُودٌ: إِنِّي أَخُوكَ، وَكَانَ صَدِيقًا لَهُ، فَقَالَ: أَخُوكَ الَّذِي تَرَكْتَهُ وَرَاءَكَ فَارْجِعْ إِلَيْهِ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ وَزَوَّدَهُ بِسِلَاحٍ وَزَادٍ، وَأَعْطَاهُ غُلَامًا كَانَ يَبْنِي الْآطَامَ، يَعْنِي الْحُصُونَ، بِالْمَدِينَةِ، فَبَنَى لِمَسْعُودِ بْنِ مُتَعَّبٍ أُطُمًا فَكَانَ أَوَّلَ أُطُمٍ يُبْنَى بِالطَّائِفِ، ثُمَّ بُنِيَتِ الْآطَامُ بَعْدَهُ بِالطَّائِفِ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ تُذْكَرُ. وَقَالُوا فِي حَرْبِهِمْ أَشْعَارًا كَثِيرَةً، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مُحَبَّرٍ، وَهُوَ رَبِيعَةُ بْنُ سُفْيَانَ أَحَدُ بَنِي عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ مِنَ الْأَحْلَافِ: وَمَا كُنْتُ مِمَّنْ أَرَّثَ الشَّرَّ بَيْنَهُمْ ... وَلَكِنَّ مَسْعُودًا جَنَاهَا وَجُنْدَبَا قَرِيعَيْ ثَقِيفٍ أَنْشَبَا الشَّرَّ بَيْنَهُمْ ... فَلَمْ يَكُ عَنْهَا مَنْزِعٌ حِينَ أَنْشَبَا عَنَاقًا ضَرُوسًا بَيْنَ عَوْفٍ وَمَالِكٍ ... شَدِيدًا لَظَاهَا تَتْرُكُ الطِّفْلَ أَشْيَبَا مُضَرَّمَةً شَبًّا أَشَبَّا وَقُودَهَا ... بِأَيْدِيهِمَا مَا أَوْرَيَاهَا وَأَثْقَبَا أَصَابَتْ بَرَاءٌ مِنْ طَوَائِفِ مَالِكٍ ... وَعَوْفٍ بِمَا جَرَّا عَلَيْهَا وَأَجْلَبَا كَجُمْثُورَةٍ جَاءُوا تَخَطَّوْا مَآبَنَا ... إِلَيْهِمْ وَتَدْعُو فِي اللِّقَاءِ مُعَتَّبَا وَتَدْعُو بَنِي عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ فِي الْوَغَى ... وَتَدْعُو عِلَاجًا وَالْحَلِيفَ الْمُطَيَّبَا حُبَيْبًا وَحَيًّا مِنْ رِبَابٍ كَتَائِبًا ... وَسَعْدًا إِذَا الدَّاعِي إِلَى الْمَوْتِ ثَوَّبَا وَقَوْمًا بِمَكْرُوثَاءَ شَنَّتْ مُعَتَّبٌ ... بِغَارَتِهَا فَكَانَ يَوْمًا عَصَبْصَبَا

فَأَسْقَطَ أَحْبَالَ النِّسَاءِ بِصَوْتِهِ عُفَيْفٌ إِذَا نَادَى بِنَصْرٍ فَطَرَّبَا (عُفَيْفٌ هَذَا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْفَاءِ) .

نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر بعض أخبار آبائه وأجداده

[نَسَبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِكْرُ بَعْضِ أَخْبَارِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ] وَاسْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَمَّدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وِلَادَتِهِ فِي مُلْكِ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَيُكَنَّى عَبْدُ اللَّهِ أَبَا قَثْمٍ، وَقِيلَ: أَبَا مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ: أَبَا أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَصْغَرَ وَلَدِ أَبِيهِ، فَكَانَ هُوَ - عَبْدُ اللَّهِ - وَأَبُو طَالِبٍ - وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ - وَالزُّبَيْرُ، وَعَبْدُ الْكَعْبَةِ، وَعَاتِكَةُ، وَأُمَيْمَةُ، وَبَرَّةُ وَلَدُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أُمُّهُمْ جَمِيعُهُمْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَايِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ. وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ نَذَرَ حِينَ لَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ الْعَنَتَ فِي حَفْرِ زَمْزَمَ، كَمَا نَذْكُرُهُ، لَئِنْ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةُ نَفَرٍ وَبَلَغُوا مَعَهُ حَتَّى يَمْنَعُوهُ لَيَنْحَرَنَّ أَحَدَهُمْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَهُ تَعَالَى. فَلَمَّا بَلَغُوا عَشَرَةً وَعَرَفَ أَنَّهُمْ سَيَمْنَعُونَهُ أَخْبَرَهُمْ بِنَذْرِهِ فَأَطَاعُوهُ وَقَالُوا: كَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ يَأْخُذُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ قِدْحًا، ثُمَّ يَكْتُبُ فِيهِ اسْمَهُ. فَفَعَلُوا وَأَتَوْهُ بِالْقِدَاحِ، فَدَخَلُوا عَلَى هُبَلَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ أَعْظَمَ أَصْنَامِهِمْ، وَهُوَ عَلَى بِئْرٍ يُجْمَعُ فِيهِ مَا يُهْدَى إِلَى الْكَعْبَةِ. وَكَانَ عِنْدَ هُبَلَ سَبْعَةُ أَقْدُحٍ، فِي كُلِّ قِدْحٍ كِتَابٌ، فَقِدْحٌ فِيهِ الْعَقْلُ إِذَا اخْتَلَفُوا

فِي الْعَقْلِ مَنْ يَحْمِلُهُ مِنْهُمْ ضَرَبُوا بِالْقِدَاحِ السَّبْعَةِ، وَقِدْحٌ فِيهِ " نَعَمْ " لِلْأَمْرِ، إِذَا أَرَادُوهُ يُضْرَبُ بِهِ، فَإِنْ خَرَجَ " نَعَمْ " عَمِلُوا بِهِ، وَقِدْحٌ فِيهِ " لَا "، فَإِذَا أَرَادُوا أَمْرًا ضَرَبُوا بِهِ، فَإِذَا خَرَجَ " لَا " لَمْ يَعْمَلُوا ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَقِدْحٌ فِيهِ " مِنْكُمْ "، وَقِدْحٌ فِيهِ " مُلْصَقٌ "، وَقِدْحٌ فِيهِ " مِنْ غَيْرِكُمْ "، وَقِدْحٌ فِيهِ " الْمِيَاهُ ". إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْفِرُوا لِلْمَاءِ ضَرَبُوا بِالْقِدَاحِ، وَفِيهَا ذَلِكَ الْقِدْحُ، فَحَيْثُ مَا خَرَجَ عَمِلُوا بِهِ. وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْتِنُوا غُلَامًا، أَوْ يُنْكِحُوا جَارِيَةً، أَوْ يَدْفِنُوا مَيِّتًا، أَوْ شَكُّوا فِي نَسَبِ أَحَدٍ مِنْهُمْ ذَهَبُوا إِلَى هُبَلَ وَبِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَجَزُورٍ، فَأَعْطَوْهُ صَاحِبَ الْقِدَاحِ الَّذِي يَضْرِبُهَا، ثُمَّ قَرَّبُوا صَاحِبَهُمُ الَّذِي يُرِيدُونَ بِهِ مَا يُرِيدُونَ ثُمَّ قَالُوا: يَا إِلَهَنَا هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ قَدْ أَرَدْنَا بِهِ كَذَا وَكَذَا، فَأَخْرِجِ الْحَقَّ فِيهِ. ثُمَّ يَقُولُونَ لِصَاحِبِ الْقِدَاحِ: اضْرِبْ، فَيَضْرِبُ، فَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ " مِنْكُمْ " كَانَ وَسِيطًا، وَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ " مِنْ غَيْرِكُمْ " كَانَ حَلِيفًا، وَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ " مُلْصَقٌ " كَانَ عَلَى مَنْزِلَتِهِ مِنْهُمْ، لَا نَسَبَ لَهُ وَلَا حِلْفَ، وَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ شَيْءٌ سِوَى هَذَا مِمَّا يَعْمَلُونَ بِهِ، فَإِنْ خَرَجَ " نَعَمْ " عَمِلُوا بِهِ، وَإِنْ خَرَجَ " لَا " أَخَّرُوهُ عَامَهُمْ ذَلِكَ، حَتَّى يَأْتُوهُ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى، يَنْتَهُونَ فِي أُمُورِهِمْ إِلَى ذَلِكَ مِمَّا خَرَجَتْ بِهِ الْقِدَاحُ. وَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِصَاحِبِ الْقِدَاحِ: اضْرِبْ عَلَى بَنِيَّ بِقِدَاحِهِمْ هَذِهِ. وَأَخْبَرَهُ بِنَذْرِهِ الَّذِي نَذَرَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَصْغَرَ بَنِي أَبِيهِ وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْهِ. فَلَمَّا أَخَذَ صَاحِبُ الْقِدَاحِ يَضْرِبُ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ ضَرَبَ صَاحِبُ الْقِدَاحِ، فَخَرَجَ قِدْحٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ. فَأَخَذَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِيَدِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى إِسَافَ وَنَائِلَةَ، وَهُمَا الصَّنَمَانِ اللَّذَانِ يَنْحَرُ النَّاسُ عِنْدَهُمَا. فَقَامَتْ قُرَيْشٌ مِنْ أَنْدِيَتِهَا فَقَالُوا: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أَذْبَحُهُ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ وَبَنُوهُ: وَاللَّهِ لَا تَذْبَحُهُ أَبَدًا حَتَّى تُعْذِرَ فِيهِ، لَئِنْ فَعَلْتَ هَذَا لَا يَزَالُ الرَّجُلُ مِنَّا يَأْتِي بِابْنِهِ حَتَّى يَذْبَحَهُ. فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَحْزُومٍ: وَاللَّهِ لَا تَذْبَحُهُ حَتَّى تُعْذِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ فِدَاؤُهُ بِأَمْوَالِنَا فَدَيْنَاهُ. وَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ وَبَنُوهُ: لَا تَفْعَلْ وَانْطَلِقْ إِلَى كَاهِنَةٍ بِالْحِجْرِ فَسَلْهَا فَإِنْ أَمَرَتْكَ بِذَبْحِهِ ذَبَحْتَهُ، فَإِنْ أَمَرَتْكَ بِمَا لَكَ وَلَهُ فِيهِ فَرَجٌ قَبِلْتَهُ.

فَانْطَلَقُوا إِلَيْهَا، وَهِيَ بِخَيْبَرَ، فَقَصَّ عَلَيْهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ خَبَرَهُ، فَقَالَتِ: ارْجِعُوا الْيَوْمَ حَتَّى يَأْتِيَنِي تَابِعِي فَأَسْأَلَهُ، فَرَجَعُوا عَنْهَا. ثُمَّ غَدَوْا عَلَيْهَا فَقَالَتْ: نَعَمْ، قَدْ جَاءَنِي الْخَبَرُ، فَكَمِ الدِّيَةُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَكَانَتْ كَذَلِكَ. قَالَتْ: ارْجِعُوا إِلَى بِلَادِكُمْ وَقَرِّبُوا عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهَا وَعَلَيْهِ بِالْقِدَاحِ فَإِنْ خَرَجَ عَلَى صَاحِبِكُمْ فَزِيدُوا عَشْرًا حَتَّى يَرْضَى رَبُّكُمْ. وَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى الْإِبِلِ فَانْحَرُوهَا فَقَدْ رَضِيَ رَبُّكُمْ وَنَجَا صَاحِبُكُمْ. فَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوْا مَكَّةَ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا لِذَلِكَ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ، ثُمَّ قَرَّبُوا عَبْدَ اللَّهِ وَعَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ، فَخَرَجَتِ الْقِدَاحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَزَادُوا عَشْرًا، فَخَرَجَتِ الْقِدَاحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ. فَمَا بَرِحُوا يَزِيدُونَ عَشْرًا وَتَخْرُجُ الْقِدَاحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى بَلَغَتِ الْإِبِلُ مِائَةً، ثُمَّ ضَرَبُوا فَخَرَجَتِ الْقِدَاحُ عَلَى الْإِبِلِ. فَقَالَ مَنْ حَضَرَ: قَدْ رَضِيَ رَبُّكَ يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى أَضْرِبَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. فَضَرَبُوا ثَلَاثًا، فَخَرَجَتِ الْقِدَاحُ عَلَى الْإِبِلِ، فَنُحِرَتْ ثُمَّ تُرِكَتْ لَا يُصَدُّ عَنْهَا إِنْسَانٌ وَلَا سَبُعٌ. وَأَمَّا تَزْوِيجُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِآمِنَةَ ابْنَةِ وَهْبٍ أُمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَمَّا فَرَغَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مِنَ الْإِبِلِ انْصَرَفَ بِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِهِ، فَمَرَّ عَلَى أُمِّ قِتَالِ ابْنَةِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ أُخْتِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَهِيَ عِنْدَ الْبَيْتِ، فَقَالَتْ لَهُ حِينَ نَظَرَتْ إِلَيْهِ وَإِلَى وَجْهِهِ: أَيْنَ تَذْهَبُ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَعَ أَبِي. قَالَتْ: لَكَ عِنْدِي مِثْلَ الَّذِي نَحَرَ عَنْكَ أَبُوكَ مِنَ الْإِبِلِ وَقَعْ عَلَيَّ الْآنَ. قَالَ: إِنَّ مَعِي أَبِي لَا أَسْتَطِيعُ خِلَافَهُ وَلَا فِرَاقَهُ. فَخَرَجَ بِهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَتَّى أَتَى بِهِ وَهْبَ بْنَ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ بَنِي زُهْرَةَ، فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ، وَهِيَ لِبَرَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، وَبَرَّةُ لِأُمِّ حَبِيبٍ بِنْتِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَأُمُّ حَبِيبٍ لِبَرَّةَ بِنْتِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَيْهَا حِينَ مَلَكَهَا مَكَانَهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ

خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا حَتَّى أَتَى الْمَرْأَةَ الَّتِي عَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا بِالْأَمْسِ فَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ لَا تَعْرِضِينَ عَلَيَّ الْيَوْمَ مَا كُنْتِ عَرَضْتِ بِالْأَمْسِ؟ فَقَالَتْ: فَارَقَكَ النُّورُ الَّذِي كَانَ مَعَكَ بِالْأَمْسِ، فَلَيْسَ لِي بِكَ الْيَوْمَ حَاجَةٌ. وَقَدْ كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ أَخِيهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّهُ كَائِنٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ نَبِيٌّ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ. وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ خَرَجَ بِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ لِيُزَوِّجَهُ، فَمَرَّ بِهِ عَلَى كَاهِنَةٍ مِنْ خَثْعَمٍ يُقَالُ لَهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُرٍّ، مُتَهَوِّدَةٍ مِنْ أَهْلِ تَبَالَةَ، فَرَأَتْ فِي وَجْهِهِ نُورًا وَقَالَتْ لَهُ: يَا فَتَى هَلْ لَكَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ الْآنَ وَأُعْطِيَكَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ؟ فَقَالَ لَهَا: أَمَّا الْحَرَامُ فَالْمَمَاتُ دُونَهْ وَالْحِلُّ لَا حِلَّ فَأَسْتَبِينَهْ فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ الَّذِي تَبْغِينَهْ ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَنَا مَعَ أَبِي وَلَا أَقْدِرُ أَنْ أُفَارِقَهُ. فَمَضَى فَزَوَّجَهُ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ. فَأَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ انْصَرَفَ، فَمَرَّ بِالْخَثْعَمِيَّةِ فَدَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى مَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: هَلْ لَكِ فِيمَا كُنْتِ أَرَدْتِ؟ فَقَالَتْ: يَا فَتَى مَا أَنَا بِصَاحِبَةِ رِيبَةٍ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ فِي وَجْهِكَ نُورًا يَكُونُ لِي، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ حَيْثُ أَرَادَ، فَمَا صَنَعْتَ بَعْدِي؟ قَالَ: زَوَّجَنِي أَبِي آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ. قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُرٍّ: إِنِّي رَأَيْتُ مَخِيلَةً لَمَعَتْ ... فَتَلَأْلَأَتْ بِحَنَاتِمِ الْقَطْرِ فَلَمَأَتْهَا نُورًا يُضِيءُ لَهُ ... مَا حَوْلَهُ كَإِضَاءَةِ الْبَدْرِ

فَرَجَوْتُهُ فَخْرًا أَبُوءُ بِهِ مَا كُلُّ قَادِحِ زَنْدِهِ يُورِي ... لِلَّهِ مَا زُهْرِيَّةٍ سَلَبَتْ ثَوْبَيْكَ مَا اسْتَلَبَتْ وَمَا تَدْرِي وَقَالَتْ أَيْضًا فِي ذَلِكَ: بَنِي هَاشِمٍ قَدْ غَادَرَتْ مِنْ ... أَخِيكُمُ أَمِينَةٌ إِذْ لِلْبَاهِ تَعْتَرِكَانِ كَمَا غَادَرَ الْمِصْبَاحُ عِنْدَ خُمُودِهِ ... فَتَائِلَ قَدْ مِيثَتْ لَهُ بِدِهَانِ فَمَا كُلُّ مَا يَحْوِي الْفَتَى مِنْ ... تِلَادِهِ لِعَزْمٍ وَلَا مَا فَاتَهُ لِتَوَانِ فَأَجْمِلْ إِذَا طَالَبْتَ أَمْرًا فَإِنَّهُ ... سَيَكْفِيكَهُ جَدَّانِ يَعْتَلِجَانِ سَيَكْفِيكَهُ إِمَّا يَدٌ مُقْفَعَلَّةٌ ... وَإِمَّا يَدٌ مَبْسُوطَةٌ بِبَنَانِ وَلَمَّا حَوَتْ مِنْهُ أَمِينَةُ مَا حَوَتْ ... حَوَتْ مِنْهُ فَخْرًا مَا لِذَلِكَ ثَانِ وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي اجْتَازَ بِهَا غَيْرُ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ابن عبد المطلب

قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَرْسَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ إِلَى الْمَدِينَةِ يَمْتَارُ لَهُمْ تَمْرًا فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ فِي الشَّامِ، فَأَقْبَلَ فِي عِيرِ قُرَيْشٍ، فَنَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ مَرِيضٌ فَتُوُفِّيَ بِهَا، وَدُفِنَ فِي دَارِ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ، وَلَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَايِذُ بْنُ عِمْرَانَ: بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ. وَعَبِيدٌ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَعَوِيجُ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَكَسْرِ الْوَاوِ، وَآخِرُهُ جِيمٌ) [ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ] وَاسْمُهُ شَيْبَةُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي رَأْسِهِ لَمَّا وُلِدَ شَيْبَةٌ، وَأُمُّهُ سَلْمَى بِنْتُ عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ الْخَزْرَجِيَّةُ النَّجَّارِيَّةُ، وَيُكَنَّى أَبَا الْحَارِثِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِأَنَّ أَبَاهُ هَاشِمًا شَخَصَ فِي تِجَارَةٍ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى عَمْرِو بْنِ لَبِيدٍ الْخَزْرَجِيِّ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَرَأَى ابْنَتَهُ سَلْمَى فَأَعْجَبَتْهُ فَتَزَوَّجَهَا. وَشَرَطَ أَبُوهَا أَنْ لَا تَلِدَ وَلَدًا إِلَّا فِي أَهْلِهَا، ثُمَّ مَضَى هَاشِمٌ لِوَجْهِهِ وَعَادَ مِنَ الشَّامِ، فَبَنَى بِهَا فِي أَهْلِهَا، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى مَكَّةَ فَحَمَلَتْ. فَلَمَّا أَثْقَلَتْ رَدَّهَا إِلَى أَهْلِهَا، وَمَضَى إِلَى الشَّامِ فَمَاتَ بِغَزَّةَ. فَوَلَدَتْ لَهُ سَلْمَى عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، فَمَكَثَ بِالْمَدِينَةِ سَبْعَ سِنِينَ. ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ مَرَّ بِالْمَدِينَةِ فَإِذَا غِلْمَانُ يَنْتَضِلُونَ، فَجَعَلَ شَيْبَةُ إِذَا أَصَابَ قَالَ: أَنَا ابْنُ هَاشِمٍ، أَنَا ابْنُ سَيِّدِ الْبَطْحَاءِ. فَقَالَ لَهُ الْحَارِثِيُّ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا ابْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. فَلَمَّا أَتَى الْحَارِثِيُّ مَكَّةَ قَالَ لِلْمُطَّلِبِ، وَهُوَ بِالْحِجْرِ: يَا أَبَا الْحَارِثِ تَعْلَمُ أَنِّي وَجَدْتُ غِلْمَانًا بِيَثْرِبَ وَفِيهِمُ ابْنُ أَخِيكَ، وَلَا يَحْسُنُ تَرْكُ مِثْلِهِ. فَقَالَ الْمُطَّلِبُ: لَا أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي حَتَّى آتِيَ بِهِ. فَأَعْطَاهُ الْحَارِثِيُّ نَاقَةً فَرَكِبَهَا، وَقِدَمَ الْمَدِينَةَ عِشَاءً فَرَأَى غِلْمَانًا يَضْرِبُونَ كُرَةً، فَعَرَفَ ابْنَ أَخِيهِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ بِهِ، فَأَخَذَهُ وَأَرْكَبَهُ عَلَى عَجُزِ النَّاقَةِ.

وَقِيلَ: بَلْ أَخَذَهُ بِإِذْنِ أُمِّهِ، وَسَارَ إِلَى مَكَّةَ فَقَدِمَهَا ضَحْوَةً وَالنَّاسُ فِي مَجَالِسِهِمْ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ لَهُ: مَنْ هَذَا وَرَاءَكَ؟ فَيَقُولُ: هَذَا عَبْدِي. حَتَّى أَدْخَلَهُ مَنْزِلَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمٍ. فَقَالَتْ: مَنْ هَذَا الَّذِي مَعَكَ؟ قَالَ: عَبْدٌ لِي. وَاشْتَرَى لَهُ حُلَّةً فَلَبِسَهَا، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ الْعَشِيَّ فَجَلَسَ إِلَى مَجْلِسِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَطُوفُ بِمَكَّةَ فَيُقَالُ: هَذَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، لِقَوْلِهِ هَذَا عَبْدِي. ثُمَّ أَوْقَفَهُ الْمُطَّلِبُ عَلَى مِلْكِ أَبِيهِ فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ. فَعَرَضَ لَهُ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَهُوَ عَمُّهُ الْآخَرُ، بَعْدَ مَوْتِ الْمُطَّلِبِ، فِي رُكْحٍ لَهُ، وَهُوَ الْفِنَاءُ فَأَخَذَهُ، فَمَشَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ وَسَأَلَهُمُ النُّصْرَةَ عَلَى عَمِّهِ، فَقَالُوا لَهُ، مَا نَدْخُلُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَمِّكَ. فَكَتَبَ إِلَى أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ يَصِفُ لَهُمْ حَالَهُ، فَخَرَجَ أَبُو سَعْدِ بْنُ عُدَسٍ النَّجَّارِيُّ فِي ثَمَانِينَ رَاكِبًا حَتَّى أَتَى الْأَبْطَحَ، فَخَرَجَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَتَلَقَّاهُ، فَقَالَ لَهُ: الْمَنْزِلَ يَا خَالِ! قَالَ: حَتَّى أَلْقَى نَوْفَلًا. وَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ فِي الْحِجْرِ مَعَ مَشَايِخِ قُرَيْشٍ، فَسَلَّ سَيْفَهُ ثُمَّ قَالَ: وَرَبِّ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ لَتَرُدَّنَّ عَلَى ابْنِ أُخْتِنَا رُكْحَهُ أَوْ لَأَمْلَأَنَّ مِنْكَ السَّيْفَ! قَالَ: فَإِنِّي وَرَبِّ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ أَرُدُّ عَلَيْهِ رُكْحَهُ، فَأَشْهَدَ عَلَيْهِ مَنْ حَضَرَ ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ: الْمَنْزِلَ يَا ابْنَ أَخِي. فَأَقَامَ عِنْدَهُ ثَلَاثًا، فَاعْتَمَرُوا وَانْصَرَفُوا. فَدَعَا ذَلِكَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ إِلَى الْحِلْفِ، فَدَعَا بِشْرَ بْنَ عَمْرٍو وَوَرْقَاءَ بْنَ فُلَانٍ وَرِجَالًا مِنْ رِجَالَاتِ خُزَاعَةَ فَحَالَفَهُمْ فِي الْكَعْبَةِ وَكَتَبُوا كِتَابًا. وَكَانَ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ السِّقَايَةُ وَالرِّفَادَةُ، وَشَرُفَ فِي قَوْمِهِ وَعَظُمَ شَأْنُهُ. ثُمَّ إِنَّهُ حَفَرَ زَمْزَمَ، وَهِيَ بِئْرُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، الَّتِي أَسْقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا، فَدَفَنَتْهَا جُرْهُمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ.

سبب حفر بئر زمزم

[سَبَبُ حَفْرِ بِئْرِ زَمْزَمَ] وَكَانَ سَبَبُ حَفْرِهِ إِيَّاهَا أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ بِالْحِجْرِ إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَالَ: احْفِرْ طَيْبَةَ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا طَيْبَةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ فَرَجَعْتُ الْغَدَ إِلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فِيهِ، فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرْ بَرَّةَ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا بَرَّةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إِلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فِيهِ فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرِ الْمَضْنُونَةَ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْمَضْنُونَةُ؟ قَالَ فَذَهَبَ عَنِّي، فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرْ زَمْزَمْ، إِنَّكَ إِنْ حَفَرْتَهَا لَا تَنْدَمْ. فَقُلْتُ. وَمَا زَمْزَمُ؟ قَالَ: تُرَاثٌ مِنْ أَبِيكَ الْأَعْظَمْ، لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذَمْ، تَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَعْظَمْ، مِثْلَ نَعَامٍ جَافِلٍ لَمْ يُقْسَمْ، يُنْذِرُ فِيهَا نَاذِرٌ لِمُنْعِمْ، يَكُونُ مِيرَاثًا وَعَقْدًا مُحْكَمْ، لَيْسَ كَبَعْضِ مَا قَدْ تَعْلَمْ، وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمْ، عِنْدَ نَقْرَةِ الْغُرَابِ الْأَعْصَمْ، عِنْدَ قَرْيَةِ النَّمْلِ. فَلَمَّا بَيَّنَ لَهُ شَأْنَهَا، وَدَلَّ عَلَى مَوْضِعِهَا، وَعَرَفَ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ، غَدَا بِمِعْوَلِهِ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ غَيْرُهُ، فَحَفَرَ بَيْنَ إِسَافَ وَنَائِلَةَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَنْحَرُ فِيهِ قُرَيْشٌ لِأَصْنَامِهَا، وَقَدْ رَأَى الْغُرَابَ يَنْقُرُ هُنَاكَ. فَلَمَّا بَدَا لَهُ الطَّوِيُّ كَبَّرَ، فَعَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ حَاجَتَهُ، فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: بِئْرُ أَبِينَا إِسْمَاعِيلَ، وَإِنَّ لَنَا فِيهَا حَقًّا فَأَشْرِكْنَا مَعَكَ. قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، هَذَا أَمْرٌ خُصِصْتُ بِهِ دُونَكُمْ، قَالُوا: فَإِنَّا غَيْرُ تَارِكِيكَ حَتَّى نُخَاصِمَكَ فِيهَا، قَالَ: فَاجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مَنْ شِئْتُمْ. قَالُوا: كَاهِنَةُ بَنِي سَعْدِ بْنِ هُذَيْمٍ، وَكَانَتْ بِمَشَارِفِ الشَّامِ.

فَرَكِبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَرَكِبَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ نَفَرٌ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ تِلْكَ الْمَفَاوِزِ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ فِي مَاءِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَصْحَابِهِ، فَظَمِئُوا حَتَّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ، فَطَلَبُوا الْمَاءَ مِمَّنْ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمْ يَسْقُوهُمْ. فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالُوا: رَأَيُنَا تَبَعٌ لِرَأْيِكَ فَمُرْنَا بِمَا شِئْتَ. قَالَ: فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَحْفِرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِنَفْسِهِ حُفْرَةً، فَكُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ وَارَاهُ أَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ آخِرُكُمْ مَوْتًا وَقَدْ وَارَى الْجَمِيعَ، فَضَيْعَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَيْسَرُ مِنْ ضَيْعَةِ رَكْبٍ. قَالُوا: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ. فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ. ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: وَاللَّهِ إِنَّ إِلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا هَكَذَا لِلْمَوْتِ، لَا نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ وَنَبْتَغِي لِأَنْفُسِنَا لَعَجْزٌ. فَارْتَحَلُوا وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ رَكِبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَلَمَّا انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ انْفَجَرَتْ مِنْ تَحْتِ خُفِّهَا عَيْنٌ عَذْبَةٌ مِنْ مَاءٍ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ أَصْحَابُهُ وَشَرِبُوا وَمَلَأُوا أَسْقِيَتَهُمْ، ثُمَّ دَعَا الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ: هَلُمُّوا إِلَى الْمَاءِ فَقَدْ سَقَانَا اللَّهُ. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: لَا نَسْقِيهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْقُونَا. فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ وَقَالَ: فَنَحْنُ إِذًا مِثْلُهُمْ! فَجَاءَ أُولَئِكَ الْقُرَشِيُّونَ وَمَلَأُوا أَسْقِيَتَهُمْ وَقَالُوا: قَدْ وَاللَّهِ قَضَى اللَّهُ لَكَ عَلَيْنَا يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، وَاللَّهِ لَا نُخَاصِمُكَ فِي زَمْزَمَ أَبَدًا، إِنَّ الَّذِي سَقَاكَ هَذَا الْمَاءَ بِهَذِهِ الْفَلَاةِ لَهُوَ الَّذِي سَقَاكَ زَمْزَمَ، فَارْجِعْ إِلَى سِقَايَتِكَ رَاشِدًا. فَرَجَعُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يَصِلُوا إِلَى الْكَاهِنَةِ وَخَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حَفْرِهَا وَجَدَ الْغَزَالَيْنِ اللَّذَيْنِ دَفَنَتْهُمَا جُرْهُمُ فِيهَا، وَهُمَا مِنْ ذَهَبٍ، وَوَجَدَ فِيهَا أَسْيَافًا قَلْعِيَّةً وَأَدْرَاعًا. فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَنَا مَعَكَ فِي هَذَا شِرْكٌ وَحَقٌّ. قَالَ: لَا وَلَكِنْ هَلُمَّ إِلَى أَمْرٍ نَصَفٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، نَضْرِبُ عَلَيْهَا بِالْقِدَاحِ. فَقَالُوا: فَكَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَالَ: أَجْعَلُ لِلْكَعْبَةِ قِدْحَيْنِ، وَلَكُمْ قِدْحَيْنِ، وَلِي قِدْحَيْنِ، فَمَنْ خَرَجَ قِدَاحُهُ عَلَى شَيْءٍ أَخَذَهُ، وَمَنْ تَخَلَّفَ قِدَاحُهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ. قَالُوا: أَنْصَفْتَ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَضُرِبَتِ الْقِدَاحُ عِنْدَ هُبَلَ، فَخَرَجَ قِدْحَا الْكَعْبَةِ عَلَى الْغَزَالَيْنِ، وَخَرَجَ قِدْحَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى الْأَسْيَافِ وَالْأَدْرَاعِ، وَلَمْ يَخْرُجْ لِقُرَيْشٍ شَيْءٌ مِنَ الْقِدَاحِ. فَضَرَبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْأَسْيَافَ بَابًا لِلْكَعْبَةِ، وَجَعَلَ فِيهِ الْغَزَالَيْنِ صَفَائِحَ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَانَ أَوَّلُ ذَهَبٍ حُلِّيَتْ بِهِ الْكَعْبَةُ.

عبد المطلب وجاره اليهودي

وَقِيلَ: بَلْ بَقِيَا فِي الْكَعْبَةِ وَسُرِقَا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَأَقْبَلَ النَّاسُ وَالْحُجَّاجُ عَلَى بِئْرِ زَمْزَمَ تَبَرُّكًا بِهَا وَرَغْبَةً فِيهَا، وَأَعْرَضُوا عَمَّا سِوَاهَا مِنَ الْآبَارِ. وَلَمَّا رَأَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ تَظَاهُرَ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ نَذَرَ لِلَّهِ تَعَالَى: إِنْ يُرْزِقْهُ عَشَرَةً مِنَ الْوِلْدَانِ يَبْلُغُونَ أَنْ يَمْنَعُوهُ وَيَذُبُّوا عَنْهُ نَحَرَ أَحَدَهُمْ قُرْبَانًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ ذُكِرَ النَّذْرُ فِي اسْمِ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَوَّلُ مَنْ خَضَّبَ بِالْوَسْمَةِ، وَهُوَ السَّوَادُ، لِأَنَّ الشَّيْبَ أَسْرَعَ إِلَيْهِ. [عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَجَارُهُ الْيَهُودِيُّ] وَكَانَ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَارٌ يَهُودِيٌّ يُقَالُ لَهُ أُذَيْنَةُ يَتَّجِرُ وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَغَاظَ ذَلِكَ حَرْبَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَكَانَ نَدِيمَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَأَغْرَى بِهِ فِتْيَانًا مِنْ قُرَيْشٍ لِيَقْتُلُوهُ وَيَأْخُذُوا مَالَهُ، فَقَتَلَهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ وَصَخْرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ كَعْبٍ التَّيْمِيُّ جَدُّ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَعْرِفْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ قَاتِلِيهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْحَثُ حَتَّى عَرَفَهُمَا، وَإِذَا هُمَا قَدِ اسْتَجَارَا بِحَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَأَتَى حَرْبًا وَلَامَهُ وَطَلَبَهُمَا مِنْهُ. فَأَخْفَاهُمَا، فَتَغَالَظَا فِي الْقَوْلِ حَتَّى تَنَافَرَا إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، فَلَمْ يَدْخُلْ بَيْنَهُمَا، فَجَعَلَا بَيْنَهُمَا نُفَيْلَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى الْعَدَوِيَّ جَدَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. فَقَالَ لِحَرْبٍ: يَا أَبَا عَمْرٍو أَتُنَافِرُ رَجُلًا هُوَ أَطْوَلُ مِنْكَ قَامَةً، وَأَوْسَمُ مِنْكَ وَسَامَةً، وَأَعْظَمُ مِنْكَ هَامَةً، وَأَقَلُّ مِنْكَ مَلَامَةً، وَأَكْثَرُ مِنْكَ وَلَدًا، وَأَجْزَلُ مِنْكَ صَفَدًا، وَأَطْوَلُ مِنْكَ مَدَدًا، وَإِنِّي لَأَقُولُ هَذَا وَإِنَّكَ لَبَعِيدُ الْغَضَبْ، رَفِيعُ الصَّوْتِ فِي الْعَرَبْ، جَلْدُ الْمَرِيرَهْ، تُحِبُّكَ الْعَشِيرَهْ، وَلَكِنَّكَ نَافَرْتَ مُنَفِّرًا، فَغَضِبَ حَرْبٌ

ابن هاشم

وَقَالَ: مِنَ انْتِكَاسِ الزَّمَانِ أَنْ جُعِلْتَ حَكَمًا. فَتَرَكَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مُنَادَمَةَ حَرْبٍ وَنَادَمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعَانَ التَّيْمِيَّ، وَأَخَذَ مِنْ حَرْبٍ مِائَةَ نَاقَةٍ فَدَفَعَهَا إِلَى ابْنِ عَمِّ الْيَهُودِيِّ، وَارْتَجَعَ مَالَهُ إِلَّا شَيْئًا هَلَكَ فَعَزَمَهُ مِنْ مَالِهِ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَحَنَّثَ بِحِرَاءَ، فَكَانَ إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ صَعِدَ حِرَاءَ وَأَطْعَمَ الْمَسَاكِينَ جَمِيعَ الشَّهْرِ. وَتُوُفِّيَ وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَكَانَ قَدْ عَمِيَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. [ابْنُ هَاشِمٍ] وَاسْمُ هَاشِمٍ عَمْرٌو، وَكُنْيَتُهُ أَبُو نَضْلَةَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ هَاشِمٌ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ هَشَّمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ بِمَكَّةَ وَأَطْعَمَهُ. قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَ هَاشِمٌ أَكْبَرَ وَلَدِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَالْمُطَّلِبُ أَصْغَرَهُمْ، أُمُّهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ السُّلَمِيَّةُ، وَنَوْفَلٌ، وَأُمُّهُ وَاقِدَةُ، وَعَبْدُ شَمْسٍ، فَسَادُوا كُلُّهُمْ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُمُ الْمُجَبِّرُونَ. وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ أَخَذَ لِقُرَيْشٍ الْعِصَمَ، فَانْتَشَرُوا مِنَ الْحَرَمِ، أَخَذَ لَهُمْ هَاشِمٌ حَبْلًا مِنَ الرُّومِ وَغَسَّانَ بِالشَّامِ، وَأَخَذَ لَهُمْ عَبْدُ شَمْسٍ حَبْلًا مِنَ النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ، وَأَخَذَ لَهُمْ نَوْفَلٌ حَبْلًا مِنَ الْأَكَاسِرَةِ بِالْعِرَاقِ، وَأَخَذَ لَهُمُ الْمُطَّلِبُ حَبْلًا مِنْ حِمْيَرَ

بِالْيَمَنِ، فَاخْتَلَفَتْ قُرَيْشٌ بِهَذَا السَّبَبِ إِلَى هَذِهِ النَّوَاحِي، فَجَبَرَ اللَّهُ بِهِمْ قُرَيْشًا. وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ شَمْسٍ وَهَاشِمًا تَوْأَمَانِ، وَإِنَّ أَحَدَهُمَا وُلِدَ قَبْلَ الْآخَرِ وَإِصْبَعٌ لَهُ مُلْتَصِقَةٌ بِجَبْهَةِ صَاحِبِهِ فَنُحِّيَتْ، فَسَالَ الدَّمُ، فَقِيلَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا دَمٌ. وَوَلِيَ هَاشِمٌ بَعْدَ أَبِيهِ عَبْدِ مَنَافٍ مَا كَانَ إِلَيْهِ مِنَ السِّقَايَةِ وَالرِّفَادَةِ، فَحَسَدَهُ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ عَلَى رِيَاسَتِهِ وَلِإِطْعَامِهِ، فَتَكَلَّفَ أَنْ يَصْنَعَ صَنِيعَ هَاشِمٍ، فَعَجَزَ عَنْهُ، فَشَمِتَ بِهِ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَغَضِبَ وَنَالَ مِنْ هَاشِمٍ وَدَعَاهُ إِلَى الْمُنَافَرَةِ، فَكَرِهَ هَاشِمٌ ذَلِكَ لِسِنِّهِ وَقَدْرِهِ، فَلَمْ تَدَعْهُ قُرَيْشٌ حَتَّى نَافَرَهُ عَلَى خَمْسِينَ نَاقَةٍ وَالْجَلَاءِ عَنْ مَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، فَرَضِيَ أُمَيَّةُ وَجَعْلَا بَيْنَهُمَا الْكَاهِنَ الْخُزَاعِيَّ، وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ، وَمَنْزِلُهُ بِعُسْفَانَ. وَكَانَ مَعَ أُمَيَّةَ هَمْهَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى الْفِهْرِيُّ، وَكَانَتِ ابْنَتُهُ عِنْدَ أُمَيَّةَ، فَقَالَ الْكَاهِنُ: " وَالْقَمَرِ الْبَاهِرْ، وَالْكَوْكَبِ الزَّاهِرْ، وَالْغَمَامِ الْمَاطِرْ، وَمَا بِالْجَوِّ مِنْ طَائِرْ، وَمَا اهْتَدَى بِعَلَمٍ مُسَافِرْ، مِنْ مُنْجِدٍ وَغَائِرْ، لَقَدْ سَبَقَ هَاشِمٌ أُمَيَّةَ إِلَى الْمَآثِرْ، أَوَّلٌ مِنْهُ وَآخِرْ، وَأَبُو هَمْهَمَةَ بِذَلِكَ خَابِرْ ". فَقَضَى لِهَاشِمٍ بِالْغَلَبَةِ، وَأَخَذَ هَاشِمٌ الْإِبِلَ فَنَحَرَهَا وَأَطْعَمَهَا، وَغَابَ أُمَيَّةُ عَنْ مَكَّةَ بِالشَّامِ عَشْرَ سِنِينَ. فَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ عَدَاوَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَ هَاشِمٍ وَأُمِّيَّةَ. وَكَانَ يُقَالُ لِهَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ الْبَدْرَانِ لِجَمَالِهِمَا. وَمَاتَ هَاشِمٌ بِغَزَّةَ وَلَهُ عِشْرُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً.

ابن عبد مناف

وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ثُمَّ مَاتَ عَبْدُ شَمْسٍ بِمَكَّةَ فَقُبِرَ بِأَجْيَادَ. ثُمَّ مَاتَ، نَوْفَلٌ بِسَلْمَانَ مِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ. ثُمَّ مَاتَ الْمُطَّلِبُ بِرَدْمَانَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ وَكَانَتِ الرِّفَادَةُ وَالسِّقَايَةُ بَعْدَ هَاشِمٍ إِلَى أَخِيهِ الْمُطَّلِبِ لِصِغَرِ ابْنِهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ. [ابْنُ عَبْدِ مَنَافٍ] وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ شَمْسٍ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْقَمَرُ لِجَمَالِهِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ حِينَ وَلَدَتْهُ دَفَعَتْهُ إِلَى مَنَافٍ، صَنَمٍ بِمَكَّةَ، تَدَيُّنًا بِذَلِكَ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ عَبْدُ مَنَافٍ. وَكَانَ عَبْدُ مَنَافٍ وَعَبْدُ الْعُزَّى وَعَبْدُ الدَّارِ بَنُو قُصَيٍّ إِخْوَةً، أُمُّهُمْ حُبَّى ابْنَةُ حُلَيْلِ بْنِ حُبْشِيَّةَ بْنِ سَلُولِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ خُزَاعَةَ، وَهُوَ الَّذِي عَقَدَ الْحِلْفَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَحَابِيشَ، وَالْأَحَابِيشُ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ كِنَانَةَ، وَبَنُو الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَبَنُو الْهُونِ مِنْ خُزَيْمَةَ. وَكَانَ قُصَيٌّ يَقُولُ: وُلِدَ لِي أَرْبَعَةُ بَنِينَ فَسَمَّيْتُ ابْنَيْنِ بِإِلَهَيَّ وَهُمَا: عَبْدُ مَنَافٍ، وَعَبْدُ الْعُزَّى، وَوَاحِدًا بِدَارِي وَهُوَ: عَبْدُ الدَّارِ، وَوَاحِدًا بِي، وَهُوَ عَبْدُ قُصَيٍّ. (حُلَيْلٌ: بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى. وَحُبْشِيَّةُ: بِضَمِّ الْحَاءِ) . [ابْنُ قُصَيٍّ] وَاسْمُهُ زَيْدٌ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْمُغِيرَةِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ قُصَيٌّ لِأَنَّ رَبِيعَةَ بْنَ حَرَامِ بْنِ ضِنَّةَ بْنِ

عَبْدِ كَبِيرِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ تَزَوَّجَ أُمَّهُ فَاطِمَةَ ابْنَةَ سَعْدِ بْنِ سَيَلَ، وَاسْمُهُ جَبْرُ بْنُ جَمَالَةَ بْنِ عَوْفٍ، وَهِيَ أَيْضًا أُمُّ أَخِيهِ زُهْرَةَ، وَنَقَلَهَا إِلَى بِلَادِ عُذْرَةَ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ، وَحَمَلَتْ مَعَهَا قُصَيًّا لِصِغَرِهِ، وَتَخَلَّفَ زُهْرَةُ فِي قَوْمِهِ لِكِبَرِهِ، فَوَلَدَتْ أُمُّهُ فَاطِمَةُ لِرَبِيعَةَ بْنِ حَرَامٍ رِزَاحَ بْنَ رَبِيعَةَ، فَهُوَ أَخِي قُصَيٍّ لِأُمِّهِ. وَكَانَ لِرَبِيعَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وَهُمْ حُنُّ بْنُ رَبِيعَةَ وَمَحْمُودٌ وَجُلْهُمَةُ. وَقِيلَ: إِنَّ حُنًّا كَانَ أَخَا قُصَيٍّ لِأُمِّهِ. فَشَبَّ زَيْدٌ فِي حِجْرِ رَبِيعَةَ، فَسُمِّيَ قُصَيًّا لِبُعْدِهِ عَنْ دَارِ قَوْمِهِ، وَكَانَ قُصَيٌّ يَنْتَمِي إِلَى رَبِيعَةَ إِلَى أَنْ كَبِرَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ قُضَاعَةَ شَيْءٌ، فَعَيَّرَهُ الْقُضَاعِيُّ بِالْغُرْبَةِ، فَرَجَعَ قُصَيٌّ إِلَى أُمِّهِ وَسَأَلَهَا عَمَّا قَالَ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ أَكْرَمُ مِنْهُ نَفْسًا وَأَبًا، أَنْتَ ابْنُ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ وَقَوْمُكَ بِمَكَّةَ عِنْدَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ. فَصَبَرَ حَتَّى دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ، وَخَرَجَ مَعَ حَاجِّ قُضَاعَةَ، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ وَأَقَامَ مَعَ أَخِيهِ زُهْرَةَ، ثُمَّ خَطَبَ إِلَى حُلَيْلِ بْنِ حُبْشِيَّةَ الْخُزَاعِيِّ ابْنَتَهُ حُبَّى، فَزَوَّجَهُ، وَحُلَيْلٌ يَوْمَئِذٍ يَلِي الْكَعْبَةَ. فَوَلَدَتْ أَوْلَادَهُ: عَبْدَ الدَّارِ، وَعَبْدَ مَنَافٍ، وَعَبْدَ الْعُزَّى، وَعَبْدَ قُصَيٍّ، وَكَثُرَ مَالُهُ وَعَظُمَ شَرَفُهُ. وَهَلَكَ حُلَيْلٌ وَأَوْصَى بِوِلَايَةِ الْبَيْتِ لِابْنَتِهِ حُبَّى، فَقَالَتْ: إِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى فَتْحِ الْبَابِ وَإِغْلَاقِهِ، فَجَعَلَ فَتْحَ الْبَابِ وَإِغْلَاقِهِ إِلَى ابْنِهِ الْمُحْتَرِشِ، وَهُوَ أَبُو غَبْشَانَ. فَاشْتَرَى قُصَيٌّ مِنْهُ وِلَايَةَ الْبَيْتِ بِزِقِّ خَمْرٍ وَبِعُودٍ، فَضَرَبَتْ بِهِ الْعَرَبُ الْمَثَلَ فَقَالَتْ: " أَخْسَرُ صَفْقَةً مِنْ أَبِي غُبْشَانَ ". فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ خُزَاعَةُ كَثُرُوا عَلَى قُصَيٍّ، فَاسْتَنْصَرَ أَخَاهُ رِزَاحًا، فَحَضَرَ هُوَ وَإِخْوَتُهُ الثَّلَاثَةُ فِيمَنْ تَبِعَهُ مِنْ قُضَاعَةَ إِلَى نُصْرَتِهِ، وَمَعَ قُصَيٍّ قَوْمُهُ بَنُو النَّضْرِ، وَتَهَيَّأَ لِحَرْبِ خُزَاعَةَ وَبَنِي بَكْرٍ، وَخَرَجَتْ إِلَيْهِمْ خُزَاعَةُ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَثُرَتِ الْقَتْلَى فِي الْفَرِيقَيْنِ وَالْجِرَاحُ، ثُمَّ تَدَاعَوْا إِلَى الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُحَكِّمُوا بَيْنَهُمْ عَمْرَو بْنَ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ كِنَانَةَ، فَقَضَى بَيْنَهُمْ بِأَنَّ قُصَيًّا أَوْلَى بِالْبَيْتِ وَمَكَّةَ مِنْ

خُزَاعَةَ، وَأَنَّ كُلَّ دَمٍ أَصَابَهُ مِنْ خُزَاعَةَ وَبَنِي بَكْرَةَ مَوْضُوعٌ فَيَشْدَخُهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَأَنَّ كُلَّ دَمٍ أَصَابَتْ خُزَاعَةُ وَبَنُو بَكْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَبَنِي كِنَانَةَ فَفِي ذَلِكَ الدِّيَةُ مُؤَدَّاةٌ، فَسُمِّيَ بِعَمْرٍو الشَّدَّاخِ بِمَا شَدَخَ مِنَ الدِّمَاءِ وَمَا وَضَعَ مِنْهَا. فَوَلِيَ قُصَيٌّ الْبَيْتَ وَأَمِرَ مَكَّةَ. وَقِيلَ: إِنَّ حُلَيْلَ بْنَ حُبْشِيَّةَ أَوْصَى قُصَيًّا بِذَلِكَ وَقَالَ: أَنْتَ أَحَقُّ بِوِلَايَةِ الْبَيْتِ مِنْ خُزَاعَةَ. فَجَمَعَ قَوْمَهُ وَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ يَسْتَنْصِرُهُ، فَحَضَرَ فِي قُضَاعَةَ فِي الْمَوْسِمِ، وَخَرَجُوا إِلَى عَرَفَاتٍ، وَفَرَغُوا مِنَ الْحَجِّ وَنَزَلُوا مِنًى وَقُصَيٌّ مُجْمِعٌ عَلَى حَرْبِهِمْ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُ فَرَاغَ النَّاسِ مِنْ حَجِّهِمْ. فَلَمَّا نَزَلُوا مِنًى وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الصَّدَرَ، وَكَانَتْ صُوفَةُ تَدْفَعُ بِالنَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ وَتُجِيزُهُمْ إِذَا تَفَرَّقُوا مِنْ مِنًى، إِذَا كَانَ يَوْمُ النَّفْرِ أَتَوْا لِرَمْيِ الْجِمَارِ، وَرَجُلٌ مِنْ صُوفَةَ يَرْمِي لِلنَّاسِ لَا يَرْمُونَ حَتَّى يَرْمِيَ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ مِنًى أَخَذَتْ صُوفَةُ بِنَاحِيَتَيِ الْعَقَبَةِ وَحَبَسُوا النَّاسَ، فَقَالُوا: " أَجِيزِي صُوفَةُ "، فَإِذَا نَفَرَتْ صُوفَةُ وَمَضَتْ خُلِّيَ سَبِيلُ النَّاسِ فَانْطَلَقُوا بَعْدَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ فَعَلَتْ صُوفَةُ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ، قَدْ عَرَفَتْ لَهَا الْعَرَبُ ذَلِكَ، فَهُوَ دِينٌ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَتَاهُمْ قُصَيٌّ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ قُضَاعَةَ فَمَنَعَهُمْ وَقَالَ: نَحْنُ أَوْلَى بِهَذَا مِنْكُمْ. فَقَاتَلُوهُ وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَتْ صُوفَةُ، وَغَلَبَهُمْ قُصَيٌّ عَلَى مَا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ، وَانْحَازَتْ عِنْدَ ذَلِكَ خُزَاعَةُ وَبَنُو بَكْرٍ وَعَرَفُوا أَنَّهُ سَيَمْنَعُهُمْ كَمَا مَنَعَ صُوفَةَ. فَلَمَّا انْحَازُوا عَنْهُ بَادَأَهُمْ فَقَاتَلَهُمْ، فَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْفَرِيقَيْنِ وَأَجْلَى خُزَاعَةَ عَنِ الْبَيْتِ، وَجَمَعَ قُصَيٌّ قَوْمَهُ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْجِبَالِ، فَسُمِّيَ مُجَمِّعًا، وَنَزَّلَ بَنِي بَغِيضِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَبَنِي تَيْمِ الْأَدْرَمِ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ وَبَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ وَبَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، إِلَّا بَنِي هِلَالِ بْنِ أُهَيْبٍ رَهْطَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَإِلَّا رَهْطَ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ، بِظَوَاهِرِ مَكَّةَ، فَسُمُّوا قُرَيْشَ الظَّوَاهِرِ، وَتَسَمَّى سَائِرُ بُطُونِ قُرَيْشٍ قُرَيْشَ الْبِطَاحِ، وَكَانَتْ قُرَيْشُ الظَّوَاهِرِ تُغِيرُ وَتَغْزُو، وَتُسَمَّى قُرَيْشُ الْبِطَاحِ الضَّبَّ لِلُزُومِهَا الْحَرَمَ.

فَلَمَّا تَرَكَ قُصَيٌّ قُرَيْشًا بِمَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا مَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ. فَكَانَ أَوَّلَ وَلَدِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَصَابَ مُلْكًا أَطَاعَهُ بِهِ قَوْمُهُ، وَكَانَ إِلَيْهِ الْحِجَابَةُ وَالسِّقَايَةُ وَالرِّفَادَةُ وَالنَّدْوَةُ وَاللِّوَاءُ، فَحَازَ شَرَفَ قُرَيْشٍ كُلَّهُ، وَقَسَّمَ مَكَّةَ أَرْبَاعًا بَيْنَ قَوْمِهِ، فَبَنَوُا الْمَسَاكِنَ وَاسْتَأْذَنُوهُ فِي قَطْعِ الشَّجَرِ، فَمَنَعَهُمْ، فَبَنَوْا وَالشَّجَرُ فِي مَنَازِلِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَطَعُوهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَتَيَمَّنَتْ قُرَيْشٌ بِأَمْرِهِ فَمَا تَنْكِحُ امْرَأَةٌ وَلَا رَجُلٌ إِلَّا فِي دَارِهِ، وَلَا يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِمْ إِلَّا فِي دَارِهِ، وَلَا يَعْقِدُونَ لِوَاءً لِلْحَرْبِ إِلَّا فِي دَارِهِ، يَعْقِدُهُ بَعْضُ وَلَدِهِ، وَمَا تَدَّرِعُ جَارِيَةٌ إِذَا بَلَغَتْ أَنْ تَدَّرِعَ إِلَّا فِي دَارِهِ، وَكَانَ أَمْرُهُ فِي قَوْمِهِ كَالدِّينِ الْمُتَّبَعِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ. فَاتَّخَذَ دَارَ النَّدْوَةِ وَبَابُهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَفِيهَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقْضِي أُمُورَهَا. فَلَمَّا كَبِرَ قُصَيٌّ وَرَقَّ، وَكَانَ وَلَدُهُ عَبْدُ الدَّارِ أَكْبَرَ وَلَدِهِ، وَكَانَ ضَعِيفًا، وَكَانَ عَبْدُ مَنَافٍ قَدْ سَادَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ وَكَذَلِكَ إِخْوَتُهُ، قَالَ قُصَيٌّ لِعَبْدِ الدَّارِ: وَاللَّهِ لَأُلْحِقَنَّكَ بِهِمْ! فَأَعْطَاهُ دَارَ النَّدْوَةِ وَالْحِجَابَةَ، وَهِيَ حِجَابَةُ الْكَعْبَةِ، وَاللِّوَاءَ، وَهُوَ كَانَ يَعْقِدُ لِقُرَيْشٍ أَلْوِيَتَهُمْ وَالسِّقَايَةَ، كَانَ يَسْقِي الْحَاجَّ، وَالرِّفَادَةَ، وَهِيَ خَرْجٌ تُخْرِجُهُ قُرَيْشٌ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ مِنْ أَمْوَالِهَا إِلَى قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ فَيَصْنَعُ مِنْهُ طَعَامًا لِلْحَاجِّ يَأْكُلُهُ الْفُقَرَاءُ، وَكَانَ قُصَيٌّ قَدْ قَالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّكُمْ جِيرَانُ اللَّهِ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَإِنَّ الْحَاجَّ ضَيْفُ اللَّهِ وَزُوَّارُ بَيْتِهِ، وَهُمْ أَحَقُّ الضَّيْفِ بِالْكَرَامَةِ، فَاجْعَلُوا لَهُمْ طَعَامًا وَشَرَابًا أَيَّامَ الْحَجِّ. فَفَعَلُوا فَكَانُوا يُخْرِجُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَيَصْنَعُ بِهِ الطَّعَامَ أَيَّامَ مِنًى، فَجَرَى الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ إِلَى الْآنَ، فَهُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يَصْنَعُهُ الْخُلَفَاءُ كُلَّ عَامٍ بِمِنًى. فَأَمَّا الْحِجَابَةُ فَهِيَ فِي وَلَدِهِ إِلَى الْآنَ، وَهُمْ بَنُو شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ. وَأَمَّا اللِّوَاءُ فَلَمْ يَزَلْ فِي وَلَدِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ، فَقَالَ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلِ اللِّوَاءَ فِينَا. فَقَالَ: " الْإِسْلَامُ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ ". فَبَطَلَ. وَأَمَّا الرِّفَادَةُ وَالسِّقَايَةُ فَإِنَّ بَنِي عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ: عَبْدُ شَمْسٍ، وَهَاشِمٌ، وَالْمُطَّلِبُ، وَنَوْفَلٌ، أَجْمَعُوا أَنْ يَأْخُذُوهَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ لِشَرَفِهِمْ عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِمْ، فَتَفَرَّقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ قُرَيْشٌ، فَكَانَتْ طَائِفَةٌ مَعَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَطَائِفَةٌ مَعَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ لَا

يَرَوْنَ تَغْيِيرَ مَا فَعَلَهُ قُصَيٌّ، وَكَانَ صَاحِبُ أَمْرِ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ عَامِرَ بْنَ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ. فَكَانَ بَنُو أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَبَنُو زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ، وَبَنُو تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ، وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ مَعَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ بَنُو مَخْزُومٍ، وَبَنُو سَهْمٍ، وَبَنُو جُمَحٍ، وَبَنُو عَدِيٍّ مَعَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَتَحَالَفَ كُلُّ قَوْمٍ حِلْفًا مُؤَكَّدًا، وَأَخْرَجَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً طِيبًا فَوَضَعُوهَا عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَتَحَالَفُوا وَجَعَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي الطِّيبِ، فَسُمُّوا الْمُطَيَّبِينَ. وَتَعَاقَدَ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ وَمَنْ مَعَهُمْ وَتَحَالَفُوا فَسُمُّوا الْأَحْلَافَ، وَتَعَبَّوْا لِلْقِتَالِ، ثُمَّ تَدَاعَوْا إِلَى الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُعْطُوا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ، فَرَضُوا بِذَلِكَ وَتَحَاجَزَ النَّاسُ عَنِ الْحَرْبِ وَاقْتَرَعُوا عَلَيْهَا، فَصَارَتْ لِهَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، ثُمَّ بَعْدَهُ لِلْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، ثُمَّ لِأَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَادَّانَ مِنْ أَخِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ مَالًا فَأَنْفَقَهُ، ثُمَّ عَجِزَ عَنِ الْأَدَاءِ فَأَعْطَى الْعَبَّاسَ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ عِوَضًا عَنْ دَيْنِهِ، فَوَلِيَهَا، ثُمَّ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ دَاوُدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، ثُمَّ وَلِيَهَا الْمَنْصُورُ وَصَارَ يَلِيهَا الْخُلَفَاءُ. وَأَمَّا دَارُ النَّدْوَةِ فَلَمْ تَزَلْ لِعَبْدِ الدَّارِ، ثُمَّ لِوَلَدِهِ حَتَّى بَاعَهَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ مِنْ مُعَاوِيَةَ فَجَعَلَهَا دَارَ الْإِمَارَةِ بِمَكَّةَ، وَهِيَ الْآنَ فِي الْحَرَمِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ. ثُمَّ هَلَكَ قُصَيٌّ فَأَقَامَ أَمْرَهُ فِي قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ، وَكَانَ قُصَيٌّ لَا يُخَالَفُ سِيرَتُهُ وَأَمْرُهُ، وَلَمَّا مَاتَ دُفِنَ بِالْحَجُونِ، فَكَانُوا يَزُورُونَ قَبْرَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ. وَحَفَرَ بِمَكَّةَ بِئْرًا سَمَّاهَا الْعَجُولَ، وَهِيَ أَوَّلُ بِئْرٍ حَفَرَتْهَا قُرَيْشٌ بِمَكَّةَ.

(سَيَلُ: بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ. وَحَرَامٌ: بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ. وَرِزَاحٌ: بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَفَتْحِ الزَّايِ، وَبَعْدَ الْأَلِفِ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ. وَحُبَّى: بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَمِلْكَانُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ اللَّامِ. وَأَمَّا مَلَكَانُ بْنُ حَزْمِ بْنِ رَيَّانَ، وَمَلَكَانُ بْنُ عُبَادِ بْنِ عِيَاضٍ، فَهُمَا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ) . ابْنُ كِلَابٍ وَيُكَنَّى أَبَا زُهْرَةَ، وَأُمُّ كِلَابٍ: هِنْدٌ بِنْتُ سُرَيْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، وَلَهُ أَخَوَانِ لِأَبِيهِ مِنْ غَيْرِ أُمِّهِ، وَهُمَا تَيْمٌ وَيَقَظَةُ، أُمُّهُمَا أَسْمَاءُ بِنْتُ جَارِيَةَ الْبَارِقِيَّةُ، وَقِيلَ: يَقَظَةُ لِهِنْدٍ بِنْتِ سُرَيْرٍ أُمِّ كِلَابٍ. (يَقَظَةُ بِالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَبِفَتْحِ الْقَافِ وَالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ) . ابْنُ مُرَّةَ وَيُكَنَّى أَبَا يَقَظَةَ، وَأُمُّ مُرَّةَ: مَخْشِيَّةُ ابْنَةُ شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ، وَأَخَوَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ: هُصَيْصٌ وَعَدِيٌّ، وَقِيلَ: أُمُّ عَدِيٍّ رَقَاشُ بِنْتُ رُكْبَةَ بْنِ نَائِلَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ حَرْبِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ فَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ عَيْلَانَ. (هُصَيْصٌ: بِضَمِّ الْهَاءِ، وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَصَادٌ ثَانِيَةٌ) .

ابْنُ كَعْبٍ وَيُكَنَّى أَبَا هُصَيْصٍ، وَأُمُّ كَعْبٍ مُعَاوِيَةُ ابْنَةُ كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ بْنِ جَسْرٍ الْقُضَاعِيَّةُ، وَلَهُ أَخَوَانِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، أَحَدُهُمَا عَامِرٌ، وَالْآخَرُ سَامَةُ، وَلَهُمْ مِنْ أَبِيهِمْ أَخٌ كَانَ يُقَالُ لَهُ عَوْفٌ، أُمُّهُ الْبَارِدَةُ ابْنَةُ عَوْفِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ، وَانْتَمَى وَلَدُهُ إِلَى غَطَفَانَ، وَكَانَ خَرَجَ مَعَ أُمِّهِ الْبَارِدَةِ إِلَى غَطَفَانَ، فَتَزَوَّجَهَا سَعْدُ بْنُ ذُبْيَانَ، فَتَبَنَّاهُ سَعْدٌ. وَلِكَعْبٍ أَيْضًا أَخَوَانِ مِنْ غَيْرِ أُمِّهِ، أَحَدُهُمَا خُزَيْمَةُ، وَهُوَ عَائِذَةُ قُرَيْشٍ، وَعَائِذَةُ أَمُّهُ وَهِيَ ابْنَةُ الْخِمْسِ بْنِ قُحَافَةَ مَنْ خَثْعَمٍ، وَالْآخَرُ سَعْدٌ، وَيُقَالُ لَهُ بُنَانَةُ، وَبُنَانَةُ أُمُّهُ، فَأَهْلُ الْبَادِيَةِ مِنْهُمْ فِي بَنِي أَسْعَدَ بْنِ هَمَّامٍ فِي بَنِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَالْحَاضِرَةُ يَنْتَمُونَ إِلَى قُرَيْشٍ. وَكَانَ كَعْبٌ عَظِيمَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَلِهَذَا أَرَّخُوا لِمَوْتِهِ إِلَى عَامِ الْفِيلِ ثُمَّ أَرَّخُوا بِالْفِيلِ، وَكَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ أَيَّامَ الْحَجِّ، وَخُطْبَتُهُ مَشْهُورَةٌ يُخْبِرُ فِيهَا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (جَسْرٌ: بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَآخِرُهُ رَاءٌ) . ابْنُ لُؤَيٍّ وَيُكَنَّى أَبَا كَعْبٍ، وَأُمُّ لُؤَيٍّ عَاتِكَةُ ابْنَةُ يَخْلُدَ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَهِيَ أُولَى الْعَوَاتِكِ اللَّوَاتِي

وَلَدْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَهُ أَخَوَانِ، أَحَدُهُمَا تَيْمُ الْأَدْرَمِ، وَالدَّرَمُ نُقْصَانٌ فِي الذَّقْنِ، قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ نَاقِصَ اللَّحْيِ، وَالْآخَرُ قَيْسٌ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَآخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ، فَبَقِيَ مِيرَاثُهُ لَا يُدْرَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ. وَقِيلَ: إِنَّ أُمَّهُمْ سَلْمَى بِنْتُ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ، وَهُوَ لِحْيُ بْنُ حَارِثَةَ الْخُزَاعِيُّ. (يَخْلُدُ: بِفَتْحِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَبَعْدَ اللَّامِ دَالٌ مُهْمَلَةٌ) . ابْنُ غَالِبٍ وَيُكَنَّى أَبَا تَيْمٍ، وَأُمُّ غَالِبٍ لَيْلَى ابْنَةُ الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ، وَإِخْوَتُهُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ: الْحَارِثُ وَمُحَارِبٌ وَأَسَدٌ وَعَوْفٌ وَجَوْنٌ وَذِئْبٌ، وَكَانَتْ مُحَارِبُ وَالْحَارِثُ مِنْ قُرَيْشِ الظَّوَاهِرِ، فَدَخَلَتِ الْحَارِثُ الْأَبْطَحَ. ابْنُ فِهْرٍ وَيُكَنَّى أَبَا غَالِبٍ، وَفِهْرٌ هُوَ جُمَّاعُ قُرَيْشٍ، فِي قَوْلِ هِشَامٍ، وَأُمُّهُ جَنْدَلَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيِّ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَكَانَ فِهْرٌ رَئِيسَ النَّاسِ بِمَكَّةَ، وَكَانَ حَسَّانُ - فِيمَا قِيلَ - أَقْبَلَ مِنَ الْيَمَنِ مَعَ حِمْيَرَ

وَغَيْرِهِمْ يُرِيدُ أَنْ يَنْقُلَ أَحْجَارَ الْكَعْبَةِ إِلَى الْيَمَنِ، فَنَزَلَ بِنَخْلَةَ، فَاجْتَمَعَ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَخُزَيْمَةُ وَأَسَدٌ وَجُذَامٌ وَغَيْرُهُمْ، وَرَئِيسُهُمْ فِهْرُ بْنُ مَالِكٍ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَأُسِرَ حَسَّانُ وَانْهَزَمَتْ حِمْيَرُ، وَبَقِيَ حَسَّانُ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَافْتَدَى نَفْسَهُ وَخَرَجَ فَمَاتَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ. ابْنُ مَالِكٍ وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْحَارِثِ، وَأُمُّهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ عُدْوَانَ، وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ قَيْسِ عَيْلَانَ، وَلَقَبُهَا عِكْرِشَةُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ النَّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ كَانَ اسْمُهُ قُرَيْشًا. وَقِيلَ: لَمَّا جَمَعَهُمْ قُصَيٌّ قِيلَ لَهُمْ قُرَيْشٌ، وَالتَّقَرُّشُ التَّجَمُّعُ. وَقِيلَ لَمَّا مَلَكَ قُصَيٌّ الْحَرَمَ وَفَعَلَ أَفْعَالًا جَمِيلَةً قِيلَ لَهُ الْقُرَشِيُّ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ بِهِ، وَهُوَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ أَيْضًا، أَيْ لِاجْتِمَاعِ خِصَالِ الْخَيْرِ فِيهِ، وَقَدْ قِيلَ فِي تَسْمِيَةِ قُرَيْشٍ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهَا. وَقُصَيٌّ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ وَقُودَ النَّارِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانَتْ تُوقَدُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ بَعْدِهِ. ابْنُ النَّضْرِ وَيُكَنَّى أَبَا يَخْلُدَ، كُنِّيَ بِابْنِهِ يَخْلُدَ، وَاسْمُ النَّضْرِ قَيْسٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ النَّضْرُ لِجَمَالِهِ،

وَأُمُّهُ بَرَّةُ ابْنَةُ مُرِّ بْنِ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ أُخْتُ تَمِيمِ بْنِ مُرٍّ، وَإِخْوَتُهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ: نُضَيْرٌ وَمَالِكٌ وَمِلْكَانُ وَعَامِرٌ وَالْحَارِثُ وَعَمْرٌو وَسَعْدٌ وَعَوْفٌ وَغَنْمٌ وَمَخْزَمَةُ وَجَرْوَلُ وَغَزْوَانُ وَجُدَالٌ، وَأَخُوهُمْ لِأَبِيهِمْ عَبْدُ مَنَاةَ، وَأُمُّهُ فُكَيْهَةُ وَهِيَ الذَّفْرَاءُ، ابْنَةُ هَنِيِّ بْنِ بَلِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ، وَأَخُو عَبْدِ مَنَاةَ لِأُمِّهِ: عَلِيُّ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنٍ الْغَسَّانِيُّ، وَكَانَ قَدْ حَضَنَ أَوْلَادَ أَخِيهِ عَبْدِ مَنَاةَ فَنُسِبُوا إِلَيْهِ، فَقِيلَ لِبَنِي عَبْدِ مَنَاةَ بَنُو عَلِيٍّ، وَإِيَّاهُمْ عَنَى الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ دَرُّ بَنِي عَلِ ... يٍّ أَيِّمٍ مِنْهُمْ وَنَاكِحِ وَقِيلَ: تَزَوَّجَ امْرَأَةَ عَبْدِ مَنَاةَ فَوَلَدَتْ لَهُ، وَحَضَنَ بَنِي عَبْدِ مَنَاةَ فَغَلَبَ عَلَى نَسَبِهِمْ، ثُمَّ وَثَبَ مَالِكُ بْنُ كِنَانَةَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَتَلَهُ، فَوَدَاهُ أَسَدُ بْنُ خُزَيْمَةَ. ابْنُ كِنَانَةَ وَيُكَنَّى أَبَا النَّضْرِ، وَأُمُّ كِنَانَةَ عَوَانَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ عَيْلَانَ، وَقِيلَ: هِنْدُ ابْنَةُ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، وَإِخْوَتُهُ لِأَبِيهِ أَسَدٌ وَأَسَدَةُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَبُو جُذَامٍ وَالْهُونِ، وَأُمُّهُمْ بَرَّةُ بِنْتُ مُرٍّ، وَهِيَ أُمُّ النَّضْرِ، خَلَفَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَبِيهِ.

ابْنُ خُزَيْمَةَ وَيُكَنَّى أَبَا أَسَدٍ، وَأُمُّهُ سَلْمَى ابْنَةُ أَسْلُمَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ، وَأَخُوهُ لِأُمِّهِ: تَغْلِبُ بْنُ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ، وَأَخُو خُزَيْمَةَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ: هُذَيْلٌ، وَقِيلَ: أُمُّهُمَا سَلْمَى بِنْتُ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ. وَخُزَيْمَةُ هُوَ الَّذِي نَصَبَ هُبَلَ عَلَى الْكَعْبَةِ، فَكَانَ يُقَالُ هُبَلُ خُزَيْمَةَ (أَسْلُمُ) بِضَمِّ اللَّامِ. ابْنُ مُدْرِكَةَ وَاسْمُهُ عَمْرٌو، وَيُكَنَّى أَبَا هُذَيْلٍ، وَقِيلَ: أَبَا خُزَيْمَةَ، وَأُمُّهُ خِنْدِفٌ، وَهِيَ لَيْلَى ابْنَةُ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ، وَأُمُّهَا ضَرِيَّةُ ابْنَةُ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ، وَبِهَا سُمِّيَ حِمَى ضَرِيَّةَ. وَإِخْوَةُ مُدْرِكَةَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ: عَامِرٌ، وَهُوَ طَابِخَةُ، وَعُمَيْرٌ، وَهُوَ قَمَعَةُ، يُقَالُ: إِنَّهُ أَبُو خُزَاعَةَ. قَالَ هِشَامٌ: خَرَجَ إِلْيَاسُ فِي نُجْعَةٍ لَهُ فَنَفَرَتْ إِبِلُهُ مِنْ أَرْنَبٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهَا عَمْرٌو فَأَدْرَكَهَا فَسُمِّيَ " مُدْرِكَةَ "، وَأَخَذَهَا عَامِرٌ فَطَبَخَهَا فَسُمِّيَ طَابِخَةَ، وَانْقَمَعَ عُمَيْرٌ فِي الْخِبَاءِ فَسُمِّيَ قَمَعَةَ، وَخَرَجَتْ أُمُّهُمْ لَيْلَى تَمْشِي فَقَالَ لَهَا إِلْيَاسُ: أَيْنَ تُخَنْدِفِينَ؟ فَسُمِّيَتْ خِنْدِفًا، وَالْخَنْدَفَةُ: ضَرْبٌ مِنَ الْمَشْيِ.

ابْنُ إِلْيَاسَ وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا عَمْرٍو، وَأُمُّهُ الرَّبَابُ ابْنَةُ حَيْدَةَ بْنِ مَعَدٍّ، وَأَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ النَّاسُ، بِالنُّونِ، وَهُوَ عَيْلَانُ، وَسُمِّيَ عَيْلَانَ لِفَرَسٍ لَهُ كَانَ يُدْعَى عَيْلَانَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يُسَمَّى عَيْلَانَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ حَزِنَتْ عَلَيْهِ خِنْدِفٌ حُزْنًا شَدِيدًا، فَلَمْ تَقُمْ حَيْثُ مَاتَ، وَلَمْ يُظِلَّهَا سَقْفٌ حَتَّى هَلَكَتْ، فَضُرِبَ بِهَا الْمَثَلُ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسَ، فَكَانَتْ تَبْكِي كُلَّ خَمِيسٍ مِنْ غَدْوَةٍ إِلَى اللَّيْلِ. ابْنُ مُضَرَ وَأُمُّهُ سَوْدَةُ بِنْتُ عَكٍّ، وَأَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ إِيَادٌ، وَلَهُمَا أَخَوَانِ مِنْ أَبِيهِمَا: رَبِيعَةُ وَأَنْمَارٌ، وَأُمُّهُمَا جَدَالَةُ ابْنَةُ وَعْلَانَ مِنْ جُرْهُمٍ. وَذُكِرَ أَنَّ نِزَارَ بْنَ مَعَدٍّ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى بَنِيهِ وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: يَا بَنِيَّ هَذِهِ الْقُبَّةُ، وَهِيَ مِنْ أَدَمٍ حَمْرَاءُ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ مَالِي لِمُضَرَ فَسُمِّيَ مُضَرَ الْحَمْرَاءَ، وَهَذَا الْخِبَاءُ الْأَسْوَدُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ مَالِي لِرَبِيعَةَ، وَهَذِهِ الْخَادِمُ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ مَالِي لِإِيَادٍ، وَكَانَتْ شَمْطَاءَ، فَأَخَذَ الْبُلْقَ وَالنَّقَدَ مِنْ غَنَمِهِ، وَهَذِهِ الْبَدْرَةُ وَالْمَجْلِسُ لِأَنْمَارٍ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ أَنْمَارٌ مَا أَصَابَهُ، فَإِنْ أَشْكَلَ فِي ذَلِكَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ وَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْقِسْمَةِ فَعَلَيْكُمْ بِالْأَفْعَى الْجُرْهُمِيِّ. فَاخْتَلَفُوا فَتَوَجَّهُوا إِلَى الْأَفْعَى الْجُرْهُمِيِّ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ فِي مَسِيرِهِمْ إِذْ رَأَى مَضَرُ كَلَأً قَدْ رُعِيَ فَقَالَ: إِنَّ الْبَعِيرَ الَّذِي قَدْ رَعَى هَذَا الْكَلَأَ لَأَعْوَرُ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: هُوَ

أَزْوَرُ. وَقَالَ إِيَادٌ: هُوَ أَبْتَرُ. وَقَالَ أَنْمَارٌ: هُوَ شَرُودٌ. فَلَمْ يَسِيرُوا إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى لَقِيَهُمْ رَجُلٌ تُوضِعُ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَسَأَلَهُمْ عَنِ الْبَعِيرِ، فَقَالَ مُضَرُ: هُوَ أَعْوَرُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ رَبِيعَةُ: هُوَ أَزْوَرُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ إِيَادٌ: هُوَ أَبْتَرُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ أَنْمَارٌ: هُوَ شُرُودٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، هَذِهِ صِفَةُ بَعِيرِي، دُلُّونِي عَلَيْهِ، فَحَلَفُوا لَهُ مَا رَأَوْهُ، فَلَزِمَهُمْ، وَقَالَ: كَيْفَ أُصَدِّقُكُمْ وَهَذِهِ صِفَةُ بَعِيرِي! فَسَارُوا جَمِيعًا حَتَّى قَدِمُوا نَجْرَانَ فَنَزَلُوا عَلَى الْأَفْعَى الْجُرْهُمِيِّ، فَقَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْبَعِيرِ حَدِيثَهُ، فَقَالَ لَهُمُ الْجُرْهُمِيُّ: كَيْفَ وَصَفْتُمُوهُ وَلَمْ تَرَوْهُ؟ قَالَ مُضَرُ: رَأَيْتُهُ يَرْعَى جَانِبًا وَيَدَعُ جَانِبًا فَعَرَفْتُ أَنَّهُ أَعْوَرُ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: رَأَيْتُ إِحْدَى يَدَيْهِ ثَابِتَةً وَالْأُخْرَى فَاسِدَةَ الْأَثَرِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ أَزْوَرُ. وَقَالَ إِيَادٌ: عَرَفْتُ أَنَّهُ أَبْتَرُ بِاجْتِمَاعِ بَعْرِهِ وَلَوْ كَانَ أَذْنَبَ لَمَصَعَ بِهِ. وَقَالَ أَنْمَارٌ: وَعَرَفْتُ أَنَّهُ شَرُودٌ لِأَنَّهُ يَرْعَى الْمَكَانَ الْمُلْتَفَّ، ثُمَّ يَجُوزُهُ إِلَى مَكَانٍ أَرَقَّ مِنْهُ نَبْتًا وَأَخْبَثَ. فَقَالَ الْجُرْهُمِيُّ: لَيْسُوا بِأَصْحَابِ بَعِيرِكَ فَاطْلُبْهُ. ثُمَّ سَأَلَهُمْ مَنْ هُمْ، فَأَخْبَرُوهُ، فَرَحَّبَ بِهِمْ وَقَالَ: أَتَحْتَاجُونَ أَنْتُمْ إِلَيَّ وَأَنْتُمْ كَمَا أَرَى؟ وَدَعَا لَهُمْ بِطَعَامٍ فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا. فَقَالَ مُضَرُ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ خَمْرًا أَجْوَدَ لَوْلَا أَنَّهَا نَبَتَتْ عَلَى قَبْرٍ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ لَحْمًا أَطْيَبَ لَوْلَا أَنَّهُ رُبِّيَ بِلَبَنِ كَلْبَةٍ. وَقَالَ إِيَادٌ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ رَجُلًا أَسْرَى لَوْلَا أَنَّهُ لِغَيْرِ أَبِيهِ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَيْهِ. وَقَالَ أَنْمَارٌ: لَمْ أَرَ الْيَوْمَ كَلَامًا أَنْفَعَ لِحَاجَتِنَا مِنْ كَلَامِنَا. وَسَمِعَ الْجُرْهُمِيُّ الْكَلَامَ فَعَجِبَ، فَأَتَى أُمَّهُ وَسَأَلَهَا، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ مَلِكٍ لَا يُولَدُ لَهُ، فَكَرِهَتْ أَنْ يَذْهَبَ الْمُلْكُ فَأَمْكَنَتْ رَجُلًا مِنْ نَفْسِهَا فَحَمَلَتْ بِهِ، وَسَأَلَ الْقَهْرَمَانَ عَنِ الْخَمْرِ، فَقَالَ: مِنْ حَبَلَةٍ غَرَسْتُهَا عَلَى قَبْرِ أَبِيكَ، وَسَأَلَ الرَّاعِي عَنِ اللَّحْمِ

فَقَالَ: شَاةٌ أَرْضَعْتُهَا لَبَنَ كَلْبَةٍ. فَقِيلَ لِمُضَرَ: مِنْ أَيْنَ عَرَفْتَ الْخَمْرَ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي أَصَابَنِي عَطَشٌ شَدِيدٌ. وَقِيلَ لِرَبِيعَةَ فِيمَا قَالَ، فَذَكَرَ كَلَامًا، وَأَتَاهُمُ الْجُرْهُمِيُّ وَقَالَ: صِفُوا لِي صِفَتَكُمْ، فَقَصُّوا عَلَيْهِ قِصَّتَهُمْ، فَقَضَى بِالْقُبَّةِ الْحَمْرَاءِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْإِبِلِ، وَهِيَ حُمْرٌ، لِمُضَرَ، وَقَضَى بِالْخِبَاءِ الْأَسْوَدِ وَالْخَيْلِ الدُّهْمِ لِرَبِيعَةَ، وَقَضَى بِالْخَادِمِ، وَكَانَتْ شَمْطَاءَ، وَالْمَاشِيَةِ الْبُلْقِ لِإِيَادٍ، وَقَضَى بِالْأَرْضِ وَالدَّرَاهِمِ لِأَنْمَارَ. وَمُضَرُ أَوَّلُ مَنْ حَدَا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ سَقَطَ مِنْ بَعِيرِهِ فَانْكَسَرَتْ يَدُهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا يَدَاهُ يَا يَدَاهُ، فَأَتَتْهُ الْإِبِلُ مِنَ الْمَرْعَى، فَلَمَّا صَلَحَ وَرَكِبَ حَدَا وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا. وَقِيلَ: بَلِ انْكَسَرَتْ يَدُ مَوْلًى لَهُ فَصَاحَ، فَاجْتَمَعَتِ الْإِبِلُ، فَوَضَعَ مُضَرُ الْحِدَاءَ وَزَادَ النَّاسَ فِيهِ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ حِينَئِذٍ: " بَصْبَصْنَ إِذْ حُدِينَ بِالْأَذْنَابِ "، فَذَهَبَ مَثَلًا. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَسُبُّوا مُضَرَ وَرَبِيعَةَ فَإِنَّهُمَا مُسْلِمَانِ» . ابْنُ نِزَارٍ وَقِيلَ: كَانَ يُكَنَّى أَبَا إِيَادٍ، وَقِيلَ: أَبَا رَبِيعَةَ، وَأُمُّهُ مُعَانَةُ ابْنَةُ جَوْشَمِ بْنِ جُلْهُمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جُرْهُمٍ، وَإِخْوَتُهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ: قَنَصٌ وَقَنَّاصَةُ وَسَنَامٌ وَجَنْدَةُ وَجُنَادٌ وَجُنَادَةُ وَالْقَحْمُ وَعُبَيْدُ الرَّمَّاحِ

وَالْغَرْفُ وَالْعَوْفُ وَشَكٌّ وَقُضَاعَةُ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى مَعَدٌّ، وَعِدَّةٌ دَرَجُوا. ابْنُ مَعَدٍّ وَأُمُّهُ مُهْدَةُ ابْنَةُ اللِّهْمِ، وَيُقَالُ اللَّهَمُ، وَيُقَالُ اللَّهْمُ بْنُ جَلْحَبِ بْنِ جَدِيسٍ وَقِيلَ بْنِ طَسْمٍ، وَإِخْوَتُهُ مِنْ أَبِيهِ: الدِّيثُ، وَقِيلَ: الدِّيثُ هُوَ عَكٌّ، وَعَدَنُ بْنُ عَدْنَانَ، قِيلَ: هُوَ صَاحِبُ عَدَنٍ وَأَبْيَنَ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ أَبْيَنُ، وَدَرَجَ نَسْلُهُ وَنَسْلُ عَدَنٍ، وَأُدٌّ وَأُبَيُّ بْنُ عَدْنَانَ، وَدَرْجٌ، وَالضَّحَّاكُ وَالْغَنِيُّ. فَلَحِقَ وَلَدُ عَدْنَانَ بِالْيَمَنِ عِنْدَ حَرْبِ بُخْتَ نَصَّرَ، وَحَمَلَ إِرْمِيَا وَبَرْخِيَا مَعَدًّا إِلَى حِرَّانَ فَأَسْكَنَاهُ بِهَا. فَلَمَّا سَكَنَتِ الْحَرْبُ رَدَّاهُ إِلَى مَكَّةَ فَرَأَى إِخْوَتَهُ قَدْ لَحِقُوا بِالْيَمَنِ. ابْنُ عَدْنَانَ وَلِعَدْنَانَ أَخَوَانِ يُدْعَى أَحَدُهُمَا نَبْتًا، وَالْآخَرُ عَامِرًا، فَنَسَبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْتَلِفُ النَّاسِبُونَ فِيهِ إِلَى مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، عَلَى مَا ذَكَرْتُ، وَيَخْتَلِفُونَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا عَظِيمًا

ذكر الفواطم والعواتك

لَا يُحْصَلُ مِنْهُ عَلَى غَرَضٍ، فَتَارَةً يَجْعَلُ بَعْضُهُمْ بَيْنَ عَدْنَانَ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَرْبَعَةَ آبَاءٍ، وَيَجْعَلُ آخَرُ بَيْنَهُمَا أَرْبَعِينَ أَبًا، وَيَخْتَلِفُونَ أَيْضًا فِي الْأَسْمَاءِ أَشَدَّ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْعَدَدِ، فَحَيْثُ رَأَيْتُ الْأَمْرَ كَذَلِكَ لَمْ أُعَرِّجْ عَلَى ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَسَبِهِ حَدِيثًا يَصِلْهُ بِإِسْمَاعِيلَ، وَلَا يَصِحُّ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ. [ذِكْرُ الْفَوَاطِمِ وَالْعَوَاتِكِ] وَأَمَّا الْفَوَاطِمُ اللَّائِي وَلَدْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَمْسٌ: قُرَشِيَّةٌ وَقَيْسِيَّتَانِ وَيَمَانِيَّتَانِ. أَمَّا الْقُرَشِيَّةُ: فَأُمُّ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَايِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ الْمَخْزُومِيَّةُ. وَأَمَّا الْقَيْسِيَّتَانِ: فَأُمُّ عَمْرِو بْنِ عَايِذِ بْنِ فَاطِمَةَ ابْنَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رُزَاحِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ جَحْوَشَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، وَأُمُّهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ. وَأَمَّا الْيَمَانِيَّتَانِ: فَأُمُّ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ فَاطِمَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ سَيَلَ بْنِ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَأُمُّ حُبَّى بِنْتِ حُلَيْلِ بْنِ حُبْشِيَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلُولٍ، وَهِيَ أُمُّ وَلَدِ قُصَيٍّ فَاطِمَةُ بِنْتُ نَصْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَارِثَةَ الْخُزَاعِيَّةُ. وَأَمَّا الْعَوَاتِكُ فَاثْنَتَا عَشْرَةَ: اثْنَتَانِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَوَاحِدَةٌ مِنْ بَنِي يَخْلُدَ ابْنِ النَّضْرِ، وَثَلَاثٌ مِنْ سُلَيْمٍ، وَعَدَوِيَّتَانِ، وَهُذَلِيَّةٌ، وَقُضَاعِيَّةٌ، وَأَسْدِيَةٌ. فَأَمَّا الْقُرَشِيَّتَانِ: فَأُمُّ أُمِّهِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ بَرَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ

الدَّارِ، وَأُمُّ بَرَّةَ أُمُّ حَبِيبٍ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَأُمُّ رَيْطَةَ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ، وَأُمُّهُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّةُ، وَأُمُّهَا عَاتِكَةُ بِنْتُ هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فَهْمٍ، وَأُمُّ هِلَالٍ هِنْدٌ بِنْتُ هِلَالِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَأُمُّ أُهَيْبِ بْنِ ضَبَّةَ عَاتِكَةُ بِنْتُ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ، وَأُمُّهَا عَاتِكَةُ بِنْتُ يَخْلُدَ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ. وَأَمَّا السُّلَمِيَّاتُ: فَأُمُّ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ فَالِجِ بْنِ ذَكْوَانَ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَأُمُّ عَبْدِ مَنَافٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ هِلَالِ بْنِ فَالِجٍ، وَالثَّالِثَةُ أُمُّ جَدِّهِ لِأُمِّهِ وَهْبٍ، وَهِيَ عَاتِكَةُ بِنْتُ الْأَوْقَصِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ هِلَالٍ. قُلْتُ: هَكَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَوَاتِكَ سُلَيْمٍ، وَجَعَلَ أُمَّ عَبْدِ مَنَافٍ عَاتِكَةَ بِنْتَ مُرَّةَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ أُمَّ عَبْدِ مَنَافٍ حُبَّى بِنْتُ حُلَيْلٍ الْخُزَاعِيَّةُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أُمُّ هَاشِمٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ، وَأُمُّ مُرَّةَ بْنِ هِلَالٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ جَابِرِ بْنِ قُنْفُذَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمٍ، وَأُمُّ هِلَالِ بْنِ فَالِجٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَصِيَّةَ بْنِ خِفَافِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ. وَأَمَّا الْعَدَوِيَّتَانِ: فَمِنْ جِهَةِ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرٍو، وَأُمَّ فَاطِمَةَ تَخْمَرُ بِنْتُ عَبْدِ قُصَيٍّ، وَأُمَّهَا هِنْدٌ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ وَائِلَةَ بْنِ الظَّرِبِ. وَأَمَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ كَعْبٍ الْفَهْمِيَّةُ. وَأَمَّا عَاتِكَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ الظَّرِبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِيَاذِ بْنِ بَكْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ عَدْوَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ عَيْلَانَ، وَأُمُّ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ عَاتِكَةُ، فَهِيَ عِكْرِشَةُ، وَهِيَ الْحَصَانُ بَنْتُ عَدْوَانَ.

عدنا إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم

وَأَمَّا الْأَزْدِيَّةُ: فَأُمُّ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بِنْتُ مُرَّةَ بْنِ أُدٍّ أُخْتِ تَمِيمٍ، وَأُمُّهَا مَاوِيَّةُ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ، وَأُمُّهَا عَاتِكَةُ بِنْتُ الْأَزْدِ بْنِ الْغَوْثِ، وَقَدْ وَلَدَتْهُ هَذِهِ الْأَزْدِيَّةُ مَرَّةً أُخْرَى مِنْ قِبَلِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ، فَإِنَّ أُمَّ غَالِبٍ لَيْلَى بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ، وَأُمُّهَا سَلْمَى بِنْتُ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، وَأُمُّهَا عَاتِكَةُ بِنْتُ الْأَزْدِ هَذِهِ. وَأَمَّا الْهُذَلِيَّةُ: فَعَاتِكَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ سَيَلَ، هِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِزَامٍ جَدِّ عَمْرِو بْنِ عَايِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ لِأُمِّهِ، وَعَمْرٌو جَدُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو أُمِّهِ. وَأَمَّا الْقُضَاعِيَّةُ: فَأُمُّ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ مَاوِيَّةُ بِنْتُ الْقَيْنِ بْنِ جَسْرِ بْنِ شَيْعِ اللَّهِ بْنِ أَسَدِ بْنِ وَبَرَةِ، وَأُمُّهَا وَحْشِيَّةُ بِنْتُ رَبِيعَةَ بْنِ حَرَامِ بْنِ ضِنَّةَ الْعُذْرِيَّةُ، وَأُمُّهَا عَاتِكَةُ بِنْتُ رَشْدَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ جُهَيْنَةَ. وَأَمَّا الْأَسَدِيَةُ: فَأُمُّ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ هِنْدٌ بِنْتُ سُرَيْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِلَابٍ، وَأُمُّهَا عَاتِكَةُ بِنْتُ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ. (وَعَايِذُ بْنُ عِمْرَانَ: بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا، وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ. وَسَعْدُ بْنُ سَيَلَ: بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا الْمَفْتُوحَةِ. وَحُيَيٌّ: بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمُمَالَةِ. وَحُلَيْلٌ: بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا. وَجَسْرٌ: بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَتَسْكِينِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ. وَحَارِثَةُ: بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ. وَوَائِلَةُ بْنُ الظَّرِبِ: بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا وَضَبَّةُ بْنُ الْحَارِثِ: بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَالْبَاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُوَحَّدَةِ. وَشَيْعُ اللَّهِ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا السَّاكِنَةِ. وَحَرَامٌ: بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ. وَضِنَّةُ الْعُذْرِيُّ: بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ. وَعُصَيَّةُ: بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الْمَضْمُومَةِ، وَفَتْحِ الصَّادِ وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا) . [عُدْنَا إِلَى ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]

تُوفِّيَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بَعْدَ الْفِيلِ بِثَمَانِي سِنِينَ، وَأَوْصَى أَبَا طَالِبٍ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ أَبُو طَالِبٍ هُوَ الَّذِي قَامَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ جَدِّهِ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا أَرَادَ الْمَسِيرَ لَزِمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَقَّ لَهُ وَأَخَذَهُ مَعَهُ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعُ سِنِينَ. فَلَمَّا نَزَلَ الرَّكْبُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَبِهَا رَاهِبٌ يُقَالُ لَهُ بَحِيرَا فِي صَوْمَعَةٍ لَهُ، وَكَانَ ذَا عِلْمٍ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَلَمْ يَزَلْ بِتِلْكَ الصَّوْمَعَةِ رَاهِبٌ يَصِيرُ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ، وَبِهَا كِتَابٌ يَتَوَارَثُونَهُ. فَلَمَّا رَآهُمْ بَحِيرَا صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا كَثِيرًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رَأَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ غَمَامَةً تُظِلُّهُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ، ثُمَّ أَقْبَلُوا حَتَّى نَزَلُوا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْهُ فَنَظَرَ إِلَى الشَّجَرَةِ وَقَدْ هَصَرَتْ أَغْصَانُهَا حَتَّى اسْتَظَلَّ بِهَا، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ صَوْمَعَتِهِ وَدَعَاهُمْ. فَلَمَّا رَأَى بَحِيرَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ يَلْحَظُهُ لَحْظًا شَدِيدًا، وَيَنْظُرُ إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ جَسَدِهِ كَانَ يَجِدُهَا مِنْ صِفَتِهِ. فَلَمَّا فَرَغَ الْقَوْمُ مِنَ الطَّعَامِ وَتَفَرَّقُوا، سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ حَالِهِ فِي يَقَظَتِهِ وَنَوْمِهِ فَوَجَدَهَا بَحِيرَا مُوَافِقَةً لِمَا عِنْدَهُ مِنْ صِفَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، ثُمَّ قَالَ بَحِيرَا لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ: مَا هَذَا الْغُلَامُ مِنْكَ؟ قَالَ: ابْنِي. قَالَ: مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا. قَالَ: فَإِنَّهُ ابْنُ أَخِي، مَاتَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ حُبْلَى بِهِ. قَالَ: صَدَقْتَ، ارْجِعْ بِهِ إِلَى بَلَدِكَ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ يَهُودَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْتُ لَيَبْغُنَّهُ شَرًّا، فَإِنَّهُ كَائِنٌ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ.

فَخَرَجَ بِهِ عَمُّهُ حَتَّى أَقْدَمَهُ مَكَّةَ. وَقِيلَ: بَيْنَمَا هُوَ يَقُولُ لِعَمِّهِ فِي إِعَادَتِهِ إِلَى مَكَّةَ وَتَخَوُّفِهِمْ عَلَيْهِ مِنَ الرُّومِ إِذْ أَقْبَلَ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنَ الرُّومِ، فَقَالَ لَهُمْ بَحِيرَا: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: جَاءَنَا أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلَّا بُعِثَ إِلَيْهِ نَاسٌ، وَإِنَّا بُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ. قَالَ أَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَهُ اللَّهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ؟ قَالُوا: لَا. وَتَابَعُوا بَحِيرَا وَأَقَامُوا عِنْدَهُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ الْجَاهِلِيَّةُ يَعْمَلُونَهُ غَيْرَ مَرَّتَيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ يَحُولُ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، ثُمَّ مَا هَمَمْتُ بِهِ حَتَّى أَكْرَمَنِي بِرِسَالَتِهِ، قُلْتُ لَيْلَةً لِغُلَامٍ يَرْعَى مَعِي بِأَعْلَى مَكَّةَ: لَوْ أَبْصَرْتَ لِي غَنَمِي حَتَّى أَدْخُلَ مَكَّةَ وَأَسْمَرَ بِهَا كَمَا يَسْمَرُ الشَّبَابُ. فَقَالَ: أَفْعَلُ. فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ عِنْدَ أَوَّلِ دَارٍ بِمَكَّةَ سَمِعْتُ عَزْفًا، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: عُرْسُ فُلَانٍ بِفُلَانَةٍ، فَجَلَسْتُ أَسْمَعُ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِي فَنِمْتُ، فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا حَرُّ الشَّمْسِ، فَعُدْتُ إِلَى صَاحِبِي فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ. ثُمَّ قُلْتُ لَهُ لَيْلَةً أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ وَدَخَلْتُ مَكَّةَ، فَأَصَابَنِي مِثْلُ أَوَّلِ لَيْلَةٍ، ثُمَّ مَا هَمَمْتُ بَعْدَهُ بِسُوءٍ» . ذِكْرُ نِكَاحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَدِيجَةَ وَنَكَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَخَدِيجَةُ يَوْمَئِذٍ ابْنَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ كَانَتِ امْرَأَةً تَاجِرَةً ذَاتَ شَرَفٍ وَمَالٍ، تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ فِي مَالِهَا وَتُضَارِبُهُمْ إِيَّاهُ بِشَيْءٍ تَجْعَلُهُ لَهُمْ مِنْهُ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُجَّارًا، فَلَمَّا بَلَغَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صِدْقُ الْحَدِيثِ وَعِظَمُ الْأَمَانَةِ وَكَرَمُ الْأَخْلَاقِ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ لِيَخْرُجَ فِي مَالِهَا إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا وَتُعْطِيَهُ أَفْضَلَ مَا كَانَتْ

تُعْطِي غَيْرَهُ مَعَ غُلَامِهَا مَيْسَرَةَ، فَأَجَابَهَا وَخَرَجَ مَعَهُ مَيْسَرَةُ حَتَّى قَدِمَ الشَّامَ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ، فَأَطْلَعَ الرَّاهِبُ رَأْسَهُ إِلَى مَيْسَرَةَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ مَيْسَرَةُ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ. فَقَالَ الرَّاهِبُ: مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا نَبِيٌّ. ثُمَّ بَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاشْتَرَى وَعَادَ، فَكَانَ مَسِيرَةُ إِذَا كَانَتِ الْهَاجِرَةُ يَرَى مَلَكَيْنِ يُظِلَّانِهِ مِنَ الشَّمْسِ وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ. فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ رَبِحَتْ خَدِيجَةُ رِبْحًا كَثِيرًا، وَحَدَّثَهَا مَيْسَرَةُ عَنْ قَوْلِ الرَّاهِبِ وَمَا رَأَى مِنْ إِظْلَالِ الْمَلَكَيْنِ إِيَّاهُ. وَكَانَتْ خَدِيجَةُ امْرَأَةً حَازِمَةً عَاقِلَةً شَرِيفَةً مَعَ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ كَرَامَتِهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، وَكَانَتْ أَوْسَطَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ نَسَبًا وَأَكْثَرَهُنَّ مَالًا وَشَرَفًا، وَكُلُّ قَوْمِهَا كَانَ حَرِيصًا عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا لَوْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَعْمَامِهِ، وَخَرَجَ وَمَعَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ عُمُومَتِهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ فَخَطَبَهَا إِلَيْهِ، فَتَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادَهُ كُلَّهُمْ، إِلَّا إِبْرَاهِيمَ: زَيْنَبَ، وَرُقَيَّةَ، وَأُمَّ كُلْثُومٍ، وَفَاطِمَةَ، وَالْقَاسِمَ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَعَبْدَ اللَّهِ، وَالطَّاهِرَ، وَالطَّيِّبَ. وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ وَالطَّاهِرُ وَالطَّيِّبُ، فَأَمَّا الْقَاسِمُ وَالطَّاهِرُ وَالطَّيِّبُ فَهَلَكُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَمَّا بَنَاتُهُ فَكُلُّهُنَّ أَدْرَكْنَ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمْنَ وَهَاجَرْنَ مَعَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي زَوَّجَهَا عَمُّهَا عَمْرُو بْنُ أَسَدٍ، وَإِنَّ أَبَاهَا مَاتَ قَبْلَ الْفِجَارِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ أَبَاهَا تُوُفِّيَ قَبْلَ الْفِجَارِ. وَكَانَ مَنْزِلُ خَدِيجَةَ يَوْمَئِذٍ الْمَنْزِلَ الَّذِي يُعْرَفُ بِهَا الْيَوْمَ، فَيُقَالُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ اشْتَرَاهُ وَجَعَلَهُ مَسْجِدًا يُصَلَّى فِيهِ. وَكَانَ الرَّسُولُ بَيْنَ خَدِيجَةَ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفِيسَةَ بِنْتَ مُنْيَةَ أُخْتَ يَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ، وَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَبَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكْرَمَهَا. مُنْيَةُ بِالنُّونِ السَّاكِنَةِ، وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا.

ذِكْرُ حِلْفِ الْفُضُولِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ نَفَرٌ مِنْ جُرْهُمٍ وَقَطُورَاءَ يُقَالُ لَهُمُ: الْفُضَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ الْجُرْهُمِيُّ، وَالْفُضَيْلُ بْنُ وَدَاعَةَ الْقَطُورِيُّ، وَالْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ الْجُرْهُمِيُّ، اجْتَمَعُوا فَتَحَالَفُوا أَنْ لَا يُقِرُّوا بِبَطْنِ مَكَّةَ ظَالِمًا، وَقَالُوا لَا يَنْبَغِي إِلَّا ذَلِكَ لِمَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ حَقِّهَا، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ الْجُرْهُمِيُّ: إِنَّ الْفُضُولَ تَحَالَفُوا وَتَعَاقَدُوا أَلَّا يَقَرَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ ظَالِمُ أَمْرٌ عَلَيْهِ تَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا فَالْجَارُ وَالْمُعْتَرُّ فِيهِمْ سَالِمُ ثُمَّ دَرَسَ ذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا ذِكْرُهُ فِي قُرَيْشٍ. ثُمَّ إِنَّ قَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ تَدَاعَتْ إِلَى ذَلِكَ الْحِلْفِ، فَتَحَالَفُوا فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ لِشَرَفِهِ وَسِنِّهِ، وَكَانُوا بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَبَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَزُهْرَةَ بْنَ كِلَابٍ وَتَيَّمَ بْنَ مُرَّةَ، فَتَحَالَفُوا وَتَعَاقَدُوا أَنْ لَا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ

مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ إِلَّا قَامُوا مَعَهُ، وَكَانُوا عَلَى ظُلْمِهِ، حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ مَظْلَمَتُهُ، فَسَمَّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ، وَشَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ حِينَ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " «لَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ عُمُومَتِي حِلْفًا فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمُرَ النَّعَمِ، وَلَوْ دُعِيتُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ» ". قَالَ: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ: كَانَ بَيْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَبَيْنَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مُنَازَعَةٌ فِي مَالٍ كَانَ بَيْنَهُمَا، وَالْوَلِيدُ يَوْمَئِذٍ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ لِعَمِّهِ مُعَاوِيَةَ، فَتَحَامَلَ الْوَلِيدُ لِسُلْطَانِهِ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُنْصِفُنِي أَوْ لَآخُذَنَّ سَيْفِي ثُمَّ لَأَقُومَنَّ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لَأَعُودَنَّ بِحِلْفِ الْفُضُولِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ حَاضِرًا: وَأَنَا أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَوْ دَعَا بِهِ لَأَجَبْتُهُ حَتَّى يُنْصَفَ مِنْ حَقِّهِ أَوْ نَمُوتَ. وَبَلَغَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ الزُّهْرِيَّ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَبَلَغَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيَّ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا بَلَغَ الْوَلِيدَ ذَلِكَ أَنْصَفَ الْحُسَيْنَ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى رَضِيَ. ذِكْرُ هَدْمِ قُرَيْشٍ الْكَعْبَةَ وَبِنَائِهَا وَفِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ مِنْ مَوْلِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَدَمَتْ قُرَيْشٌ الْكَعْبَةَ. وَكَانَ سَبَبَ هَدْمِهِمْ إِيَّاهَا أَنَّهَا كَانَتْ رَضِيمَةً فَوْقَ الْقَامَةِ، فَأَرَادُوا رَفْعَهَا وَتَسْقِيفَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ سَرَقُوا كَنْزَهَا وَفِيهِ غَزَالَانِ مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَا فِي بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ. وَكَانَ أَمْرُ غَزَالَيِ الْكَعْبَةِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ فَفَعَلَا ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَأَقَامَ إِسْمَاعِيلُ بِمَكَّةَ وَكَانَ يَلِي الْبَيْتَ حَيَاتَهُ، وَبَعْدَهُ وَلِيَهُ ابْنُهُ نَبْتٌ. فَلَمَّا مَاتَ نَبْتٌ وَلَمْ يَكْثُرْ وَلَدُ إِسْمَاعِيلَ غَلَبَتْ جُرْهُمٌ عَلَى وِلَايَةِ الْبَيْتِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ وَلِيَهُ مِنْهُمْ مُضَاضُ، ثُمَّ وَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ، حَتَّى بَغَتْ جُرْهُمٌ، وَاسْتَحَلُّوا حُرْمَةَ الْبَيْتِ، فَظَلَمُوا مَنْ

دَخَلَ مَكَّةَ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ إِسَافًا وَنَائِلَةَ زَنَيَا فِي الْبَيْتِ فَمُسِخَا حَجَرَيْنِ. وَكَانَتْ خُزَاعَةُ قَدْ أَقَامَتْ بِتِهَامَةَ بَعْدَ تَفَرُّقِ أَوْلَادِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنَ الْيَمَنِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى جُرْهُمٍ الرُّعَافَ أَفْنَاهُمْ، فَاجْتَمَعَتْ خُزَاعَةُ عَلَى إِجْلَاءِ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَرَئِيسُ خُزَاعَةَ عَمْرُو بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ حَارِثَةَ، فَاقْتَتَلُوا. فَلَمَّا أَحَسَّ عَامِرُ بْنُ الْحَارِثِ الْجُرْهُمِيُّ بِالْهَزِيمَةِ خَرَجَ بِغَزَالَيِ الْكَعْبَةِ وَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ يَلْتَمِسُ التَّوْبَةَ وَهُوَ يَقُولُ: لَاهُمَّ إِنَّ جُرْهُمًا عِبَادُكْ ... النَّاسُ طَرَفٌ وَهُمْ تِلَادُكْ بِهِمْ قَدِيمًا عَمُرَتْ بِلَادُكْ فَلَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ، فَدَفَنَ غَزَالَيِ الْكَعْبَةِ بِبِئْرِ زَمْزَمَ وَطَمَّهَا وَخَرَجَ بِمَنْ بَقِيَ مِنْ جُرْهُمٍ إِلَى أَرْضِ جُهَيْنَةَ، فَجَاءَهُمْ سَيْلٌ فَذَهَبَ بِهِمْ أَجْمَعِينَ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَبَادَنَا ... صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالْجُدُودُ الْعَوَاثِرُ وَوَلِيَ الْبَيْتَ بَعْدَ جُرْهُمٍ عَمْرُو بْنُ رَبِيعَةَ، وَقِيلَ: وَلِيَهُ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيُّ، ثُمَّ خُزَاعَةُ بَعْدَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ فِي قَبَائِلِ مُضَرَ ثَلَاثُ خِلَالٍ: الْإِجَازَةُ بِالْحَجِّ مِنْ عَرَفَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الْغَوْثِ بْنِ مُرِّ بْنِ أُدٍّ، وَهُوَ صُوفَةُ. وَالثَّانِيَةُ: الْإِفَاضَةُ مِنْ جَمْعٍ إِلَى مِنًى، وَكَانَتْ إِلَى بَنِي زَيْدِ بْنِ عَدْوَانَ، وَآخِرُ مَنْ وَلِيَ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَبُو سَيَّارَةَ عَمِيلَةُ بْنُ الْأَعْزَلِ بْنِ خَالِدٍ. وَالثَّالِثَةُ: النَّسِيءُ لِلشُّهُورِ الْحُرُمِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الْقَلَمَّسِ، وَهُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ فُقَيْمِ

بْنِ كِنَانَةَ، ثُمَّ إِلَى بَنِيهِ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ صَارَ ذَلِكَ إِلَى أَبِي ثُمَامَةَ، وَهُوَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفِ بْنِ قَلَعَ بْنِ حُذَيْفَةَ، وَقَامَ الْإِسْلَامُ وَقَدْ عَادَتِ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ إِلَى أَصْلِهَا فَأَبْطَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - النَّسِيءَ. ثُمَّ وَلِيَتِ الْبَيْتَ بَعْدَ خُزَاعَةَ قُرَيْشٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ. ثُمَّ حَفَرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ زَمْزَمَ فَأَخْرَجَ الْغَزَالَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَانَ الَّذِي وُجِدَ الْغَزَالَانِ عِنْدَهُ دُوَيْكٌ، مَوْلًى لِبَنِي مُلَيْحِ بْنِ خُزَاعَةَ، فَقَطَعَتْ قُرَيْشٌ يَدَهُ، وَكَانَ فِيمَنِ اتُّهِمَ فِي ذَلِكَ: عَامِرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَأَبُو هَارِبِ بْنُ عُزَيْزٍ، وَأَبُو لَهَبِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَكَانَ الْبَحْرُ قَدْ أَلْقَى سَفِينَةً إِلَى جِدَّةَ لِتَاجِرٍ رُومِيٍّ فَتَحَطَّمَتْ، فَأَخَذُوا خَشَبَهَا فَأَعَدُّوهُ لِسَقْفِهَا، فَتَهَيَّأَ لَهُمْ بَعْضُ مَا يُصْلِحُهَا. وَكَانَتْ حَيَّةٌ تَخْرُجُ مِنْ بِئْرِ الْكَعْبَةِ الَّتِي يُطْرَحُ فِيهَا مَا يُهْدَى لَهَا كُلَّ يَوْمٍ فَتَشْرُفُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ لَا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا كَشَّتْ وَفَتَحَتْ فَاهَا، فَكَانُوا يَهَابُونَهَا، فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْمًا عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ اخْتَطَفَهَا طَائِرٌ فَذَهَبَ بِهَا، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدْ رَضِيَ مَا أَرَدْنَاهُ. وَكَانَ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَبَعْدَ الْفِجَارِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. فَلَمَّا أَرَادُوا هَدْمَهَا قَامَ أَبُو وَهْبِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ فَتَنَاوَلَ حَجَرًا مِنَ الْكَعْبَةِ فَوَثَبَ مِنْ يَدِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَا تُدْخِلُوا فِي بِنَائِهَا إِلَّا طَيِّبًا وَلَا تُدْخِلُوا فِيهِ مَهْرَ بَغِيٍّ وَلَا بَيْعَ رِبًا وَلَا مَظْلَمَةَ أَحَدٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ قَالَ هَذَا. ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ هَابُوا هَدْمَهَا فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: أَنَا أَبْدَأُكُمْ بِهِ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَهَدَمَ، فَتَرَبَّصَ النَّاسُ بِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَقَالُوا: نَنْظُرُ فَإِنْ أُصِيبَ لَمْ نَهْدِمْ مِنْهَا شَيْئًا، فَأَصْبَحَ

الْوَلِيدُ سَالِمًا وَغَدَا إِلَى عَمَلِهِ فَهَدَمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى انْتَهَى الْهَدْمُ إِلَى الْأَسَاسِ، ثُمَّ أَفْضَوْا إِلَى حِجَارَةٍ خُضْرٍ آخِذٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَأَدْخَلَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَتَلَةً بَيْنَ حَجَرَيْنِ مِنْهَا لِيَقْلَعَ بِهِ أَحَدَهُمَا. فَلَمَّا تَحَرَّكَ الْحَجَرُ انْتَقَضَتْ مَكَّةُ بِأَسْرِهَا، ثُمَّ جَمَعُوا لِبِنَائِهَا ثُمَّ بَنَوْا حَتَّى بَلَغَ الْبُنْيَانُ مَوْضِعَ الرُّكْنِ، فَأَرَادَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ رَفْعَهُ إِلَى مَوْضِعِهِ حَتَّى تَحَالَفُوا وَتَوَاعَدُوا لِلْقِتَالِ، فَقَرَّبَتْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً دَمًا، ثُمَّ تَعَاقَدُوا هُمْ وَبَنُو عَدِيٍّ عَلَى الْمَوْتِ، وَأَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي ذَلِكَ الدَّمِ، فَسُمُّوا لَعْقَةَ الدَّمِ بِذَلِكَ، فَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعَ لَيَالٍ ثُمَّ تَشَاوَرُوا. فَقَالَ أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ الْمُغِيرَةِ - وَكَانَ أَسَنَّ قُرَيْشٍ: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَمًا أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ يَقْضِي بَيْنَكُمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ قَدْ رَضِينَا بِهِ، وَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: «هَلُمُّوا إِلَيَّ ثَوْبًا، فَأُتِيَ بِهِ، فَأَخَذَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فَوَضَعَهُ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: لِتَأْخُذْ كُلُّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الثَّوْبِ ثُمَّ ارْفَعُوهُ جَمِيعًا. فَلَمَّا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ وَضَعَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ.»

ذكر الوقت الذي أرسل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم

[ذِكْرُ الْوَقْتِ الَّذِي أُرْسِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِشْرِينَ سَنَةً مَضَتْ مِنْ مُلْكِ كِسْرَى أَبْرَوِيزَ بْنِ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ، وَكَانَ عَلَى الْحِيرَةِ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ الطَّائِيُّ عَامِلًا لِلْفُرْسِ عَلَى الْعَرَبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ رَاوِيَةِ حَمْزَةَ وَعِكْرِمَةَ عَنْهُ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: «إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ رَاوِيَةِ عِكْرِمَةَ أَيْضًا عَنْهُ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إِنَّهُ «أُنْزِلَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً» . وَكَانَ نُزُولُ الْوَحْيِ عَلَيْهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ بِلَا خِلَافٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الْأَثَانِينِ كَانَ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ الْجَرْمِيُّ: أُنْزِلَ الْفُرْقَانُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ ذَلِكَ لِتِسْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ. وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ جِبْرَائِيلُ يَرَى وَيُعَايِنُ آثَارًا مِنْ آثَارِ مَنْ يُرِيدُ اللَّهُ إِكْرَامَهُ

بِفَضْلِهِ. وَكَانَ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرْتُ مِنْ شَقِّ الْمَلَكَيْنِ بَطْنَهُ وَاسْتِخْرَاجِهِمَا مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْغِلِّ وَالدَّنَسِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَمُرُّ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَكَانَ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَا يَرَى أَحَدًا، وَكَانَتِ الْأُمَمُ تَتَحَدَّثُ بِمَبْعَثِهِ وَتُخْبِرُ عُلَمَاءُ كُلِّ أُمَّةٍ قَوْمَهَا بِذَلِكَ. «قَالَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ يَقُولُ: إِنَّا لَنَنْتَظِرُ نَبِيًّا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَا أَرَانِي أُدْرِكُهُ، وَأَنَا أُومِنُ بِهِ وَأُصَدِّقُهُ وَأَشْهَدُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ وَرَأَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَسَأُخْبِرُكَ مَا نَعْتُهُ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْكَ. قُلْتُ: هَلُمَّ. قَالَ: هُوَ رَجُلٌ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ، وَلَا بِكَثْرِ الشَّعْرِ وَلَا بِقَلِيلِهِ، وَلَا يُفَارِقُ عَيْنَهُ حُمْرَةٌ، وَخَاتَمُ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَاسْمُهُ أَحْمَدُ، وَهَذَا الْبَلَدُ مَوْلِدُهُ وَمَبْعَثُهُ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ قَوْمُهُ وَيَكْرَهُونَ مَا جَاءَ بِهِ، وَيُهَاجِرُ إِلَى يَثْرِبَ فَيَظْهَرُ بِهَا أَمْرُهُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَنْخَدِعَ عَنْهُ، فَإِنِّي طُفْتُ الْبِلَادَ كُلَّهَا أَطْلُبُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ فَكُلُّ مَنْ أَسْأَلُهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ يَقُولُ: هَذَا الدِّينُ وَرَاءَكَ، وَيَنْعَتُونَهُ مِثْلَ مَا نَعَتُّهُ لَكَ، وَيَقُولُونَ: لَمْ يَبْقَ نَبِيٌّ غَيْرُهُ. قَالَ عَامِرٌ: فَلَمَّا أَسْلَمْتُ أَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَ زَيْدٍ وَأَقْرَأْتُهُ السَّلَامَ. فَرَدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُهُ فِي الْجَنَّةِ يَسْحَبُ ذُيُولًا» . وَقَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ صَنَمٍ بِبُوَانَةَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَهْرٍ. نَحَرْنَا جَزُورًا، فَإِذَا صَائِحٌ يَصِيحُ مِنْ جَوْفِ الصَّنَمِ: اسْمَعُوا إِلَى الْعَجَبْ، ذَهَبَ اسْتِرَاقُ الْوَحْيِ، وَنُرْمَى بِالشُّهُبْ، لِنَبِيٍّ بِمَكَّةَ اسْمُهُ أَحْمَدُ، مُهَاجَرُهُ إِلَى يَثْرِبْ. قَالَ: فَأَمْسَكْنَا وَعَجِبْنَا، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْأَخْبَارُ عَنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ كُتُبًا كَثِيرَةً ذَكَرُوا فِيهَا كُلَّ عَجِيبَةٍ، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا.

ذكر ابتداء الوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم

[ذِكْرُ ابْتِدَاءِ الْوَحْيِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] «قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ أَوَّلَ مَا ابْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، كَانَتْ تَجِيءُ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ بِغَارِ حِرَاءَ يَتَعَبَّدُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجْأَةِ الْحَقِّ، فَأَتَاهُ جِبْرَائِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَجَثَوْتُ لِرُكْبَتِي ثُمَّ رَجَعْتُ تَرْجُفُ بَوَادِرِي، فَدَخَلْتُ عَلَى خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي! ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي الرَّوْعُ، ثُمَّ أَتَانِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: فَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَطْرَحَ نَفْسِي مِنْ حَالِقٍ، فَتَبَدَّى لِي حِينَ هَمَمْتُ بِذَلِكَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنَا جِبْرَائِيلُ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: وَمَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَتَّنِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ قَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] ، فَقَرَأْتُ. فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: لَقَدْ أَشْفَقْتُ عَلَى نَفْسِي، وَأَخْبَرْتُهَا خَبَرِي، فَقَالَتْ: أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُقِرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِي إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا، وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ، وَقَرَأَ الْكُتُبَ، وَسَمِعَ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَقَالَتْ: اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي. فَقَالَ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، لَيْتَنِي كُنْتُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. قُلْتُ: أَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ لَمْ يَجِئْ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَلَئِنْ أَدْرَكَنِي يَوْمُكَ لَأَنْصُرَنَّكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا» .

ثُمَّ إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ اقْرَأْ: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] (وَ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، وَ {وَالضُّحَى} [الضحى: 1] . «وَقَالَتْ خَدِيجَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا تُثْبِتُهُ فِيمَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ نُبُوَّتِهِ: يَا ابْنَ عَمِّ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ إِذَا جَاءَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَجَاءَهُ جِبْرَائِيلُ، فَأَعْلَمَهَا. فَقَالَتْ: قُمْ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُسْرَى، فَقَامَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَلَسَ عَلَيْهَا. فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَتَحَوَّلْ فَاقْعُدْ عَلَى فَخِذِي الْيُمْنَى. فَجَلَسَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ نَعَمْ. فَتَحَسَّرَتْ فَأَلْقَتْ خِمَارَهَا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِجْرِهَا، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَتْ: يَا ابْنَ عَمِّ اثْبُتْ وَأَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ مَلَكٌ، وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ!» «وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ: نَزَلَتْ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] أَوَّلُ. قَالَ: قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] . قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: جَاوَرْتُ بِحِرَاءَ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ فَسَمِعْتُ صَوْتًا، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ يَسَارِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي وَأَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا هُوَ - يَعْنِي الْمَلَكَ - جَالِسٌ عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَخَشِيتُ مِنْهُ، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي، وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً فَفَعَلُوا، فَنَزَلَتْ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] » ، هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: أَتَى جِبْرَائِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلَ مَا أَتَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ وَلَيْلَةَ الْأَحَدِ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ بِرِسَالَةِ اللَّهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَعَلَّمَهُ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ، وَعَلَّمَهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] ،

ذكر المعراج برسول الله - صلى الله عليه وسلم

وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعُونَ سَنَةً. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَتَرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتْرَةً، فَحَزِنَ حُزْنًا شَدِيدًا، وَجَعَلَ يَغْدُو إِلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ لِيَتَرَدَّى مِنْهَا، فَكُلَّمَا رَقِيَ ذُرْوَةَ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرَائِيلُ فَيَقُولُ: إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ وَتَرْجِعُ نَفْسُهُ. فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُنْذِرَ قَوْمَهُ عَذَابَ اللَّهِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ دُونَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ، وَأَنْ يُحَدِّثَ بِنِعْمَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ - وَهِيَ النُّبُوَّةُ فِي قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ - فَكَانَ يَذْكُرُ ذَلِكَ سِرًّا لِمَنْ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ زَوْجَتُهُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ أَوَّلَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ اسْتَجَابَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَدِيجَةُ. ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ فَرَضَ اللَّهُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْأَوْثَانِ: الصَّلَاةُ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا فُرِضَتْ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُ جِبْرَائِيلُ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَهَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي، فَانْفَجَرَتْ فِيهِ عَيْنٌ، فَتَوَضَّأَ جِبْرَائِيلُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ الطَّهُورُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ، ثُمَّ قَامَ جِبْرَائِيلُ فَصَلَّى بِهِ، وَصَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَلَاتِهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ. وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى خَدِيجَةَ فَعَلَّمَهَا الْوُضُوءَ، ثُمَّ صَلَّى بِهَا فَصَلَّتْ بِصَلَاتِهِ. [ذِكْرُ الْمِعْرَاجِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وَقْتِ الْمِعْرَاجِ، فَقِيلَ: كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ، فَقِيلَ: كَانَ نَائِمًا بِالْمَسْجِدِ فِي الْحِجْرِ، فَأُسْرِيَ بِهِ مِنْهُ، وَقِيلَ: كَانَ نَائِمًا فِي بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَائِلُ هَذَا يَقُولُ: الْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ. وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. قَالُوا: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَانِي جِبْرَائِيلُ وَمِيكَائِيلُ فَقَالَا: بِأَيِّهِمْ أُمِرْنَا؟ فَقَالَا: أُمِرْنَا بِسَيِّدِهِمْ، ثُمَّ ذَهَبَا، ثُمَّ جَاءَا مِنَ الْقَابِلَةِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ، فَأَلْفَوْهُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَلَبُوهُ لِظَهْرِهِ وَشَقُّوا بَطْنَهُ، وَجَاءُوا بِمَاءِ زَمْزَمَ فَغَسَلُوا مَا كَانَ فِي بَطْنِهِ مِنْ غِلٍّ وَغَيْرِهِ، وَجَاءُوا بِطَسْتٍ مَمْلُوءٍ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، فَمُلِئَ قَلْبُهُ وَبَطْنُهُ إِيمَانًا وَحِكْمَةً. قَالَ: وَأَخْرَجَنِي جِبْرَائِيلُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَإِذَا أَنَا بِدَابَّةٍ، وَهِيَ الْبُرَاقُ، وَهِيَ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَقُوعُ خَطْوُهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فَقَالَ: ارْكَبْ، فَلَمَّا وَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ تَشَامَسَ وَاسْتَصْعَبَ. فَقَالَ جِبْرَائِيلُ: يَا بُرَاقُ مَا رَكِبَكَ نَبِيٌّ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ مُحَمَّدٍ، فَانْصَبَّ عَرَقًا وَانْخَفَضَ لِي حَتَّى رَكِبْتُهُ، وَسَارَ بِي جِبْرَائِيلُ نَحْوَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَأُتِيتُ بِإِنَائَيْنِ أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالْآخَرُ خَمْرٌ، فَقِيلَ لِي: اخْتَرْ أَحَدَهُمَا، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، فَقِيلَ لِي: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ شَرِبْتَ الْخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُكَ بَعْدَكَ. ثُمَّ سِرْنَا فَقَالَ لِي: انْزِلْ فَصَلِّ، فَنَزَلْتُ فَصَلَّيْتُ، فَقَالَ: هَذِهِ طِيبَةُ وَإِلَيْهَا الْمُهَاجَرُ. ثُمَّ سِرْنَا فَقَالَ لِيَ: انْزِلْ فَصَلِّ، فَنَزَلْتُ فَصَلَّيْتُ، فَقَالَ: هَذَا طُورُ سَيْنَاءَ حَيْثُ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى، ثُمَّ سِرْنَا فَقَالَ: انْزِلْ فَصَلِّ، فَنَزَلْتُ فَصَلَّيْتُ، فَقَالَ: هَذَا بَيْتُ لَحْمٍ حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى. ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَنْزَلَنِي جِبْرَائِيلُ وَرَبَطَ الْبُرَاقَ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي كَانَ يَرْبُطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ. فَلَمَّا دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ إِذَا أَنَا بِالْأَنْبِيَاءِ حَوَالَيَّ، وَقِيلَ: بِأَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللَّهُ قَبْلِي، فَسَلَّمُوا عَلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرَائِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: إِخْوَانُكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، زَعَمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا، وَزَعَمَتِ النَّصَارَى أَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا، سَلْ هَؤُلَاءِ النَّبِيِّينَ هَلْ كَانَ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - شَرِيكٌ أَوْ وَلَدٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] فَأَقَرُّوا

بِالْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ثُمَّ جَمَعَهُمْ جِبْرَائِيلُ وَقَدَّمَنِي فَصَلَّيْتُ بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْطَلَقَ بِي جِبْرَائِيلُ إِلَى الصَّخْرَةِ فَصَعِدَ بِي عَلَيْهَا، فَإِذَا مِعْرَاجٌ إِلَى السَّمَاءِ، لَا يَنْظُرُ النَّاظِرُونَ إِلَى شَيْءٍ أَحْسَنَ مِنْهُ وَمِنْهُ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ، أَصْلُهُ فِي صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَرَأْسُهُ مُلْتَصِقٌ بِالسَّمَاءِ، فَاحْتَمَلَنِي جِبْرَائِيلُ وَوَضَعَنِي عَلَى جَنَاحِهِ وَصَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ جِبْرَائِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ! فَفُتِحَ، فَدَخَلْنَا فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ تَامِّ الْخِلْقَةِ عَنْ يَمِينِهِ بَابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِيحٌ طَيِّبَةٌ وَعَنْ شِمَالِهِ بَابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِيحٌ خَبِيثَةٌ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَابِ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَابِ الَّذِي عَنْ يَسَارِهِ بَكَى. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ وَمَا هَذَانِ الْبَابَانِ؟ فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، وَالْبَابُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ بَابُ الْجَنَّةِ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَى مَنْ يَدْخُلُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ضَحِكَ، وَالْبَابُ الَّذِي عَنْ يَسَارِهِ بَابُ جَهَنَّمَ، إِذَا نَظَرَ إِلَى مَنْ يَدْخُلُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ بَكَى وَحَزِنَ. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَائِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: حَيَّاهُ اللَّهُ، مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ! فَفُتِحَ لَنَا. فَدَخَلْنَا فَإِذَا بِشَابَّيْنِ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرَائِيلُ مَنْ هَذَانِ؟ فَقَالَ: هَذَانِ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَائِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ نِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ! فَدَخَلْنَا، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ قَدْ فَضُلَ النَّاسَ بِالْحُسْنِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرَائِيلُ؟ قَالَ: هَذَا أَخُوكَ يُوسُفُ. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَائِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ! فَدَخَلْنَا، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: إِدْرِيسُ رَفَعَهُ اللَّهُ مَكَانًا عَلِيًّا. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَائِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ! فَدَخَلْنَا، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَحَوْلَهُ قَوْمٌ يَقُصُّ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا هَارُونُ وَالَّذِينَ حَوْلَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَائِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ! فَدَخَلْنَا، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَالِسٍ فَجَاوَزْنَاهُ، فَبَكَى الرَّجُلُ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرَائِيلُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى. قُلْتُ: فَمَا بَالُهُ يَبْكِي؟ قَالَ: يَزْعُمُ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنِّي أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ آدَمَ، وَهَذَا الرَّجُلُ مِنْ بَنِي آدَمَ قَدْ خَلَّفَنِي وَرَاءَهُ.

قَالَ: ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَائِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ! فَدَخَلْنَا، فَإِذَا رَجُلٌ أَشْمَطُ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، وَحَوْلَهُ قَوْمٌ بِيضُ الْوُجُوهِ أَمْثَالُ الْقَرَاطِيسِ، وَقَوْمٌ فِي أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ. فَقَامَ الَّذِينَ فِي أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ فَاغْتَسَلُوا فِي نَهْرٍ، وَخَرَجُوا وَقَدْ صَارَتْ وُجُوهُهُمْ مِثْلَ وُجُوهِ أَصْحَابِهِمْ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ، وَهَؤُلَاءِ الْبِيضُ الْوُجُوهِ قَوْمٌ لَمْ يُلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ فَقَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، فَتَابُوا فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ مُسْتَنِدٌ إِلَى بَيْتٍ، فَقَالَ: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ. قَالَ: وَأَخَذَنِي جِبْرَائِيلُ فَانْتَهَيْنَا إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَأَمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، قَالَ: وَغَشِيَهَا مِنْ نُورِ اللَّهِ مَا غَشِيَهَا، وَغَشِيَهَا الْمَلَائِكَةُ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَتَحَوَّلَتْ حَتَّى مَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْعَتَهَا، وَقَامَ جِبْرَائِيلُ فِي وَسَطِهَا، فَقَالَ جِبْرَائِيلُ: تَقَدَّمْ يَا مُحَمَّدُ. فَتَقَدَّمْتُ وَجِبْرَائِيلُ مَعِي إِلَى الْحِجَابِ، فَأَخَذَ بِي مَلَكٌ وَتَخَلَّفَ عَنِّي جِبْرَائِيلُ، فَقُلْتُ: إِلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] وَهَذَا مُنْتَهَى الْخَلَائِقِ. فَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى وَصَلْتُ إِلَى الْعَرْشِ، فَاتَّضَحَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَ الْعَرْشِ، وَكَلَّ لِسَانِي مِنْ هَيْبَةِ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ أَنْطَقَ اللَّهُ لِسَانِي فَقُلْتُ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ وَالصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ وَعَلَى أُمَّتِي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسِينَ صَلَاةً. وَرَجَعْتُ إِلَى جِبْرَائِيلَ فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَدْخَلَنِي الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ الْقُصُورَ مِنَ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، وَرَأَيْتُ نَهْرًا يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهِ مَاءٌ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، يَجْرِي عَلَى رَضْرَاضٍ مِنَ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالْمِسْكِ، فَقَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيَّ النَّارَ، فَنَظَرْتُ إِلَى أَغْلَالِهَا وَسَلَاسِلِهَا وَحَيَّاتِهَا وَعَقَارِبِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ. ثُمَّ أَخْرَجَنِي، فَانْحَدَرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا مُوسَى، فَقَالَ: مَاذَا فُرِضَ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً. قَالَ: فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُهُمْ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ

عَلَى أَقَلَّ مِنْ هَذَا فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ. فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي وَسَأَلْتُهُ، فَخَفَّفَ عَنِّي عَشْرًا. فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ وَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ. فَرَجَعْتُ فَخَفَّفَ عَنِّي عَشْرًا، فَلَمْ أَزَلْ بَيْنَ رَبِّي وَمُوسَى حَتَّى جَعَلَهَا خَمْسًا، فَقَالَ: ارْجِعْ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي وَمَا أَنَا بِرَاجِعٍ، فَنُودِيتُ: إِنِّي قَدْ فَرَضْتُ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ خَمْسِينَ صَلَاةً، وَالْخَمْسُ بِخَمْسِينَ، وَقَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي. ثُمَّ انْحَدَرْتُ أَنَا وَجِبْرَائِيلُ إِلَى مَضْجَعِي، وَكَانَ ذَلِكَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ عَلِمَ أَنَّ النَّاسَ لَا يُصَدِّقُونَهُ، فَقَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ مَغْمُومًا، فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلِ اسْتَفَدْتَ اللَّيْلَةَ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانِينَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَخَافَ أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْهُ فَيَجْحَدَهُ النَّبِيُّ، فَقَالَ: أَتُخْبِرُ قَوْمَكَ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ هَلُمُّوا، فَأَقْبَلُوا. فَحَدَّثَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْ بَيْنِ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ، وَمُصَفِّقٍ وَوَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ. وَارْتَدَّ النَّاسُ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ. وَسَعَى رِجَالٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: إِنَّ صَاحِبَكَ يَزْعُمُ كَذَا وَكَذَا! فَقَالَ: إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ صَدَقَ، إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَسُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ مِنْ يَوْمِئِذٍ. قَالُوا: فَانْعَتْ لَنَا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى. قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ، قَالَ: فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ. وَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلْتُ أَنْعَتُهُ. قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا. قَالَ: قَدْ مَرَرْتُ عَلَى عِيرِ بَنِي فُلَانٍ بِالرَّوْحَاءِ، وَقَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ وَهُمْ فِي طَلَبِهِ، فَأَخَذْتُ قَدَحًا فِيهِ مَاءٌ فَشَرِبْتُهُ، فَسَلُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَمَرَرْتُ بِعِيرِ بَنِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَرَأَيْتُ رَاكِبًا وَقُعُودًا بِذِي مَرٍّ، فَنَفَرَ بِكْرُهُمَا مِنِّي فَسَقَطَ فُلَانٌ فَانْكَسَرَتْ يَدُهُ، فَسَلُوهُمَا. قَالَ: وَمَرَرْتُ بِعِيرِكُمْ بِالتَّنْعِيمِ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ مُخَيَّطَتَانِ، تَطْلُعُ عَلَيْكُمْ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ. فَخَرَجُوا إِلَى الثَّنِيَّةِ فَجَلَسُوا يَنْظُرُونَ طُلُوعَ الشَّمْسِ لِيُكَذِّبُوهُ إِذْ قَالَ قَائِلٌ: هَذِهِ الشَّمْسُ قَدْ طَلَعَتْ. فَقَالَ آخَرُ: وَاللَّهِ هَذِهِ الْعِيرُ قَدْ طَلَعَتْ يَقْدُمُهَا بَعِيرٌ أَوْرَقُ كَمَا قَالَ. فَلَمْ يُفْلِحُوا وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ» .

ذكر الاختلاف في أول من أسلم

[ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي أَوَّلِ مَنْ أَسْلَمَ] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَوَّلِ مَنْ أَسْلَمَ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ خَدِيجَةَ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ إِسْلَامًا، فَقَالَ قَوْمٌ: أَوَّلُ ذَكَرٍ آمَنَ عَلِيٌّ. رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو رَسُولِهِ، وَأَنَا الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ لَا يَقُولُهَا بَعْدِي إِلَّا كَاذِبٌ مُفْتَرٍ، صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى عَلِيٌّ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: «بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَصَلَّى عَلِيٌّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ» . وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْأَرْقَمِ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيٌّ. وَقَالَ عُفَيْفٌ الْكِنْدِيُّ: كُنْتُ امْرَأً تَاجِرًا فَقَدِمْتُ مَكَّةَ أَيَّامَ الْحَجِّ فَأَتَيْتُ الْعَبَّاسَ، فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ فَقَامَ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ يُصَلِّي، ثُمَّ خَرَجَتِ امْرَأَةٌ تُصَلِّي مَعَهُ، ثُمَّ خَرَجَ غُلَامٌ فَقَامَ يُصَلِّي مَعَهُ. فَقُلْتُ: يَا عَبَّاسُ مَا هَذَا الدِّينُ؟ فَقَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ أَخِي، زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ وَأَنَّ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ سَتُفْتَحُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ خَدِيجَةُ آمَنَتْ بِهِ، وَهَذَا الْغُلَامُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ آمَنَ بِهِ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَعْلَمُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدًا عَلَى هَذَا الدِّينِ إِلَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ! قَالَ عُفَيْفٌ: لَيْتَنِي كُنْتُ رَابِعًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبُو حَازِمٍ الْمَدَنِيُّ

وَالْكَلْبِيُّ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ عَلِيٌّ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ عُمْرُهُ تِسْعَ سِنِينَ، وَقِيلَ: إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ عَلِيٌّ وَعُمْرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً. وَكَانَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّ قُرَيْشًا أَصَابَتْهُمْ أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرَةٍ، فَقَالَ يَوْمًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ: يَا عَمِّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ كَثِيرُ الْعِيَالِ فَانْطَلِقْ بِنَا نُخَفِّفْ عَنْ عِيَالِ أَبِي طَالِبٍ، فَانْطَلَقَا إِلَيْهِ وَأَعْلَمَاهُ مَا أَرَادَا، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: اتْرُكَا لِي عَقِيلًا وَاصْنَعَا مَا شِئْتُمَا، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا، وَأَخَذَ الْعَبَّاسُ جَعْفَرًا، فَلَمْ يَزَلْ عَلِيٌّ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَرْسَلَهُ اللَّهُ فَاتَّبَعَهُ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ انْطَلَقَ هُوَ وَعَلِيٌّ إِلَى بَعْضِ الشِّعَابِ بِمَكَّةَ فَيُصَلِّيَانِ وَيَعُودَانِ. فَعَثَرَ عَلَيْهِمَا أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا هَذَا الدِّينُ؟ قَالَ: دِينُ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، وَدِينُ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ، بَعَثَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إِلَى الْعِبَادِ، وَأَنْتَ أَحَقُّ مَنْ دَعَوْتُهُ إِلَى الْهُدَى وَأَحَقُّ مَنْ أَجَابَنِي. قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُفَارِقَ دِينَ آبَائِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا تَخْلُصُ قُرَيْشٌ إِلَيْكَ بِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ مَا حَيِيتُ. فَلَمْ يَزَلْ جَعْفَرٌ عِنْدَ الْعَبَّاسِ حَتَّى أَسْلَمَ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِعَلِيٍّ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: يَا أَبَهْ! آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَصَلَّيْتُ مَعَهُ. فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَا يَدْعُونَا إِلَّا إِلَى الْخَيْرِ فَالْزَمْهُ. وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ الشَّعْبِيُّ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ أَوَّلِ مَنْ أَسْلَمَ، فَقَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ ... فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا

خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلُهَا بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا ... الثَّانِي التَّالِي الْمَحْمُودُ مَشْهَدُهُ وَأَوَّلُ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُكَاظَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ تَبِعَكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ: تَبِعَنِي عَلَيْهِ حُرٌّ وَعَبْدٌ، أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ. فَأَسْلَمْتُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي رُبُعَ الْإِسْلَامِ. وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي رُبُعَ الْإِسْلَامِ، لَمْ يُسْلِمْ قَبْلِي إِلَّا النَّبِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: أَبُو بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ. وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَعُمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَكَانَ هُوَ وَعَلِيٌّ يَلْزَمَانِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَخْرُجُ إِلَى الْكَعْبَةِ أَوَّلَ النَّهَارِ وَيُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَى، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تُنْكِرُهَا، وَكَانَ إِذَا صَلَّى غَيْرَهَا قَعَدَ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَرْصُدَانِهِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَوَّلُ ذَكَرٍ أَسْلَمَ بَعْدَ النَّبِيِّ: عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ، وَكَانَ مَانِعًا لِقَوْمِهِ مُحَبًّا فِيهِمْ، وَكَانَ أَعْلَمَهُمْ بِأَنْسَابِ قُرَيْشٍ وَمَا كَانَ فِيهَا، وَكَانَ تَاجِرًا يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ قَوْمُهُ، فَجَعَلَ يَدْعُو مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ عُثْمَانُ

ذكر أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإظهار دعوته

بْنُ عَفَّانَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَجَاءَ بِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ اسْتَجَابُوا لَهُ فَأَسْلَمُوا وَصَلَّوْا. وَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ هُمُ الَّذِينَ سَبَقُوا إِلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ حَتَّى فَشَا ذِكْرُ الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ وَتَحَدَّثَ بِهِ النَّاسُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَأَسْلَمَ أَبُو ذَرٍّ، قَالُوا رَابِعًا أَوْ خَامِسًا، وَأَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ رَابِعًا أَوْ خَامِسًا، وَقِيلَ: إِنَّ الزُّبَيْرَ أَسْلَمَ رَابِعًا أَوْ خَامِسًا، وَأَسْلَمَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ خَامِسًا. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَسْلَمَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ هُمَيْنَةُ بِنْتُ خَلَفِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ مِنْ خُزَاعَةَ بَعْدَ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ. [ذِكْرُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِظْهَارِ دَعْوَتِهِ] ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَبْعَثِهِ بِثَلَاثِ سِنِينَ أَنْ يَصْدَعَ بِمَا يُؤْمَرُ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي السِّنِينَ مُسْتَتِرًا بِدَعْوَتِهِ لَا يُظْهِرُهَا إِلَّا لِمَنْ يَثِقُ بِهِ، فَكَانَ أَصْحَابُهُ إِذَا أَرَادُوا الصَّلَاةَ ذَهَبُوا إِلَى الشِّعَابِ فَاسْتَخْفَوْا، فَبَيْنَمَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَمَّارٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَخَبَّابٌ وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ يُصَلُّونَ فِي شِعْبٍ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ نَفَرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنْهُمْ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وَغَيْرُهُمَا، فَسَبُّوهُمْ وَعَابُوهُمْ حَتَّى قَاتَلُوهُمْ، فَضَرَبَ سَعْدٌ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِلِحْيِ جَمَلٍ فَشَجَّهُ، فَكَانَ أَوَّلَ دَمٍ أُرِيقَ فِي

الْإِسْلَامِ فِي قَوْلٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَعِدَ عَلَى الصَّفَا فَهَتَفَ: يَا صَبَاحَاهُ! فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا بَنِي فُلَانٍ، يَا بَنِي فُلَانٍ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ! فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ. فَقَالَ: أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ بِسَفْحِ الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا. قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ! أَمَا جَمَعْتَنَا إِلَّا لِهَذَا؟ ثُمَّ قَامَ، فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] السُّورَةَ» وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَكَمِ: «لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَضَاقَ بِهِ ذَرْعًا، فَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ كَالْمَرِيضِ، فَأَتَتْهُ عَمَّاتُهُ يَعُدْنَهُ، فَقَالَ: مَا اشْتَكَيْتُ شَيْئًا وَلَكِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُنْذِرَ عَشِيرَتِي الْأَقْرَبِينَ. فَقُلْنَ لَهُ: فَادْعُهُمْ وَلَا تَدْعُ أَبَا لَهَبٍ فِيهِمْ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُجِيبِكَ. فَدَعَاهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَضَرُوا وَمَعَهُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَكَانُوا خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا، فَبَادَرَهُ أَبُو لَهَبٍ وَقَالَ: هَؤُلَاءِ هُمْ عُمُومَتُكَ وَبَنُو عَمِّكَ، فَتَكَلَّمْ وَدَعِ الصُّبَاةَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لِقَوْمِكَ فِي الْعَرَبِ قَاطِبَةً طَاقَةٌ، وَأَنَّ أَحَقَّ مَنْ أَخَذَكَ فَحَبَسَكَ بَنُو أَبِيكَ، وَإِنْ أَقَمْتَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَيْسَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَثِبَ بِكَ بُطُونُ قُرَيْشٍ وَتَمُدَّهُمُ الْعَرَبُ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا جَاءَ عَلَى بَنِي أَبِيهِ بِشَرٍّ مِمَّا جِئْتَهُمْ بِهِ. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. ثُمَّ دَعَاهُمْ ثَانِيَةً وَقَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ وَأُومِنُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ "، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ الرَّائِدَ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً وَإِلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَاللَّهِ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتُبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ، وَلَتُحَاسَبُنَّ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَإِنَّهَا الْجَنَّةُ أَبَدًا وَالنَّارُ أَبَدًا ". فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: مَا أَحَبَّ إِلَيْنَا مُعَاوَنَتَكَ وَأَقْبَلَنَا لِنَصِيحَتِكَ وَأَشَدَّ تَصْدِيقَنَا لِحَدِيثِكَ،

وَهَؤُلَاءِ بَنُو أَبِيكَ مُجْتَمِعُونَ، وَإِنَّمَا أَنَا أَحَدُهُمْ، غَيْرَ أَنِّي أَسْرَعُهُمْ إِلَى مَا تُحِبُّ، فَامْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ فَوَاللَّهِ لَا أَزَالُ أَحُوطُكَ وَأَمْنَعُكَ، غَيْرَ أَنَّ نَفْسِي لَا تُطَاوِعُنِي عَلَى فِرَاقِ دِينِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: هَذِهِ وَاللَّهِ السَّوْأَةُ! خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ غَيْرُكُمْ. فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعَنَّهُ مَا بَقِينَا» . «وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] دَعَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " يَا عَلِيُّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُنْذِرَ عَشِيرَتِي الْأَقْرَبِينَ، فَضِقْتُ ذَرْعًا وَعَلِمْتُ أَنِّي مَتَى أُبَادِرُهُمْ بِهَذَا الْأَمْرِ أَرَ مِنْهُمْ مَا أَكْرَهُ، فَصَمَتُّ عَلَيْهِ حَتَّى جَاءَنِي جِبْرَائِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِلَّا تَفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ يُعَذِّبْكَ رَبُّكَ. فَاصْنَعْ لَنَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِ رِجْلَ شَاةٍ، وَامْلَأْ لَنَا عُسًّا مِنْ لَبَنٍ، وَاجْمَعْ لِي بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى أُكَلِّمَهُمْ وَأُبَلِّغَهُمْ مَا أُمِرْتُ بِهِ. فَفَعَلْتُ مَا أَمَرَنِي بِهِ ثُمَّ دَعَوْتُهُمْ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلًا يَزِيدُونَ رَجُلًا أَوْ يَنْقُصُونَهُ، فِيهِمْ أَعْمَامُهُ أَبُو طَالِبٍ وَحَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ وَأَبُو لَهَبٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ دَعَانِي بِالطَّعَامِ الَّذِي صَنَعْتُهُ لَهُمْ. فَلَمَّا وَضَعْتُهُ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُزَّةً مِنَ اللَّحْمِ فَنَتَفَهَا بِأَسْنَانِهِ ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي نُوَاحِي الصَّحْفَةِ، ثُمَّ قَالَ: خُذُوا بِاسْمِ اللَّهِ، فَأَكَلَ الْقَوْمُ حَتَّى مَا لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ حَاجَةٍ، وَمَا أَرَى إِلَّا مَوَاضِعَ أَيْدِيهِمْ، وَايْمُ اللَّهِ الَّذِي نَفْسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيَأْكُلُ مَا قَدَّمْتُ لِجَمِيعِهِمْ! ثُمَّ قَالَ: " اسْقِ الْقَوْمَ "، فَجِئْتُهُمْ بِذَلِكَ الْعُسِّ فَشَرِبُوا مِنْهُ حَتَّى رَوَوْا جَمِيعًا، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ لَيَشْرَبُ مِثْلَهُ! فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُكَلِّمَهُمْ بَدَرَهُ أَبُو لَهَبٍ إِلَى الْكَلَامِ فَقَالَ: لَهَدَّ مَا سَحَرَكُمْ بِهِ صَاحِبُكُمْ. فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " الْغَدَ يَا عَلِيُّ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ سَبَقَنِي إِلَى مَا سَمِعْتَ مِنَ الْقَوْلِ، فَتَفَرَّقُوا قَبْلَ أَنْ أُكَلِّمَهُمْ، فَعُدْ لَنَا مِنَ الطَّعَامِ بِمِثْلِ مَا صَنَعْتَ ثُمَّ اجْمَعْهُمْ إِلَيَّ ". فَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْأَمْسِ، فَأَكَلُوا، وَسَقَيْتُهُمْ ذَلِكَ الْعُسَّ، فَشَرِبُوا حَتَّى رَوَوْا جَمِيعًا وَشَبِعُوا، ثُمَّ تَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ شَابًّا فِي الْعَرَبِ جَاءَ قَوْمَهُ بِأَفْضَلَ مِمَّا قَدْ جِئْتُكُمْ بِهِ، قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ أَمَرَنِي

اللَّهُ تَعَالَى أَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَيْهِ، فَأَيُّكُمْ يُؤَازِرُنِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخِي وَوَصِيَّتِي وَخَلِيفَتِي فِيكُمْ؟ فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ عَنْهَا جَمِيعًا، وَقُلْتُ - وَإِنِّي لَأَحْدَثُهُمْ سِنًّا، وَأَرْمَصُهُمْ عَيْنًا، وَأَعْظَمُهُمْ بَطْنًا وَأَحْمَشُهُمْ سَاقًا: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَكُونُ وَزِيرَكَ عَلَيْهِ. فَأَخَذَ بِرَقَبَتِي ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا أَخِي وَوَصِيِّي وَخَلِيفَتِي فِيكُمْ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا. قَالَ فَقَامَ الْقَوْمُ يَضْحَكُونَ فَيَقُولُونَ لِأَبِي طَالِبٍ: قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تَسْمَعَ لِابْنِكَ وَتُطِيعَ» . وَأُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَصْدَعَ بِمَا جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنْ يُبَادِئَ النَّاسَ بِأَمْرِهِ وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَكَانَ يَدْعُو فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ ثَلَاثَ سِنِينَ مُسْتَخْفِيًا إِلَى أَنْ أُمِرَ بِالظُّهُورِ لِلدُّعَاءِ، ثُمَّ صَدَعَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَبَادَأَ قَوْمَهُ بِالْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَبْعُدُوا مِنْهُ وَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ إِلَّا بَعْضَ الرَّدِّ، حَتَّى ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ وَعَابَهَا. فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَهُمْ قَلِيلٌ مُسْتَخْفُونَ. وَحَدَبَ عَلَيْهِ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ وَمَنَعَهُ وَقَامَ دُونَهُ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَمْرِ اللَّهِ مُظْهِرًا لِأَمْرِهِ لَا يَرُدُّهُ شَيْءٌ. فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُعْتِبُهُمْ مِنْ شَيْءٍ يَكْرَهُونَهُ، وَأَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ قَامَ دُونَهُ وَلَمْ يُسْلِمْهُ لَهُمْ، مَشَى رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ إِلَى أَبِي طَالِبٍ: عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَمَنْ مَشَى مِنْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ قَدْ سَبَّ آلِهَتَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَسَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَضَلَّلَ آبَاءَنَا، فَإِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ عَنَّا، وَإِمَّا أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنَّكَ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ. فَقَالَ لَهُمْ أَبُو طَالِبٍ قَوْلًا جَمِيلًا وَرَدَّهُمْ رَدًّا رَفِيقًا فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا هُوَ عَلَيْهِ. ثُمَّ شَرِيَ الْأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حَتَّى تَبَاعَدَ الرِّجَالُ فَتَضَاغَنُوا، وَأَكْثَرَتْ قُرَيْشٌ ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَذَامَرُوا فِيهِ، فَمَشَوْا إِلَى أَبِي طَالِبٍ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ إِنَّ لَكَ سِنًّا وَشَرَفًا، وَإِنَّا قَدِ اشْتَهَيْنَاكَ أَنْ تَنْهَى ابْنَ أَخِيكَ فَلَمْ تَفْعَلْ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا وَآبَائِنَا وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا، حَتَّى تَكُفَّهُ عَنَّا أَوْ نُنَازِلَهُ وَإِيَّاكَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَهْلِكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ، أَوْ كَمَا قَالُوا، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ. فَعَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ فِرَاقُ قَوْمِهِ وَعَدَاوَتُهُمْ لَهُ وَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِإِسْلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخِذْلَانِهِ، وَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْلَمَهُ مَا قَالَتْ قُرَيْشٌ وَقَالَ لَهُ: أَبْقِ عَلَى

نَفْسِكَ وَعَلَيَّ وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنَ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ. فَظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ بُدُوٌّ، وَأَنَّهُ خَذَلَهُ وَقَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَا عَمَّاهُ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ ". ثُمَّ بَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَامَ. فَلَمَّا وَلَّى نَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ: اذْهَبْ يَا ابْنَ أَخِي فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أُسْلِمُكَ لِشَيْءٍ أَبَدًا» . فَلَمَّا عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَا يَخْذُلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ يَجْمَعُ لِعَدَاوَتِهِمْ، مَشَوْا بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ هَذَا عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ فَتَى قُرَيْشٍ وَأَجْمَلُهُمْ، فَخُذْهُ فَلَكَ عَقْلُهُ وَنُصْرَتُهُ فَاتَّخِذْهُ وَلَدًا، وَأَسْلِمْ لَنَا ابْنَ أَخِيكَ هَذَا الَّذِي سَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَخَالَفَ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ، وَفَرَّقَ جَمَاعَةَ قَوْمِكَ نَقْتُلُهُ، فَإِنَّمَا رَجُلٌ بِرَجُلٍ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَبِئْسَ مَا تَسُومُونَنِي، أَتُعْطُونَنِي ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ لَكُمْ وَأُعْطِيكُمُ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ؟ هَذَا وَاللَّهِ لَا يَكُونُ أَبَدًا! فَقَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَنْصَفَكَ قَوْمُكَ، وَمَا أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ! فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ مَا أَنْصَفُونِي، وَلَكِنَّكَ قَدْ أَجْمَعْتَ خِذْلَانِي وَمُظَاهَرَةَ الْقَوْمِ عَلَيَّ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ. فَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَتَنَابَذَ الْقَوْمُ، وَاشْتَدَّتْ عَلَى مَنْ فِي الْقَبَائِلِ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، فَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُعَذِّبُونَهُمْ وَيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَمَنَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَامَ أَبُو طَالِبٍ فِي بَنِي هَاشِمٍ فَدَعَاهُمْ إِلَى مَنْعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ، وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ. فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ مِنْ قَوْمِهِ مَا سَرَّهُ، أَقْبَلَ يَمْدَحُهُمْ وَيَذْكُرُ فَضْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ. «وَقَدْ مَشَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ مَوْتِهِ وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، فَأَنْصِفْنَا مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَمُرْهُ فَلْيَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، وَنَدَعُهُ وَإِلَهَهُ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: هَؤُلَاءِ سَرَوَاتُ قَوْمِكَ يَسْأَلُونَكَ أَنْ تَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِهِمْ، وَيَدَعُوَكَ وَإِلَهَكَ. قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيْ عَمِّ! أَوَلَا أَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهَا، كَلِمَةٌ يَقُولُونَهَا تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ وَيَمْلِكُونَ رِقَابَ الْعَجَمِ؟ " فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: مَا هِيَ وَأَبِيكَ لَنُعْطِيَنَّكَهَا وَعَشْرَ أَمْثَالِهَا؟ قَالَ: تَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَنَفَرُوا وَتَفَرَّقُوا وَقَالُوا: سَلْ غَيْرَهَا. فَقَالَ: " لَوْ جِئْتُمُونِي بِالشَّمْسِ حَتَّى تَضَعُوهَا فِي يَدِي مَا سَأَلْتُكُمْ غَيْرَهَا ". قَالَ: فَغَضِبُوا وَقَامُوا مِنْ عِنْدِهِ غِضَابَى وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَنَشْتُمَنَّكَ وَإِلَهَكَ الَّذِي يَأْمُرُكَ بِهَذَا! {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6] ،

ذكر تعذيب المستضعفين من المسلمين

إِلَى قَوْلِهِ: (إِلَّا اخْتِلَاقٌ) ، وَأَقْبَلَ عَلَى عَمِّهِ فَقَالَ: " قُلْ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". قَالَ: لَوْلَا أَنْ تَعِيبَكُمْ بِهَا الْعَرَبُ وَتَقُولَ: جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ لَأَعْطَيْتُكَهَا، وَلَكِنْ عَلَى مِلَّةِ الْأَشْيَاخِ، فَنَزَلَتْ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] » . [ذِكْرُ تَعْذِيبِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ] وَهُمُ الَّذِينَ سَبَقُوا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا عَشَائِرَ لَهُمْ تَمْنَعُهُمْ، وَلَا قُوَّةَ لَهُمْ يُمْنَعُونَ بِهَا، فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ لَهُ عَشِيرَةٌ تَمْنَعُهُ فَلَمْ يَصِلِ الْكُفَّارُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوُا امْتِنَاعَ مَنْ لَهُ عَشِيرَةٌ، وَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنْ مُسْتَضْعَفِي الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلُوا يَحْبِسُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ بِالضَّرْبِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَرَمْضَاءِ مَكَّةَ وَالنَّارِ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَفْتَتِنُ مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَلَّبُ فِي دِينِهِ وَيَعْصِمُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ. فَمِنْهُمْ: بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ الْحَبَشِيُّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ سَبْيِ الْحَبَشَةِ، وَأُمُّهُ حَمَامَةُ سَبِيَّةٌ أَيْضًا، وَهُوَ مِنْ مُوَلَّدِي السَّرَاةِ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، فَصَارَ بِلَالٌ لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ، فَكَانَ إِذَا حَمِيَتِ الشَّمْسُ وَقْتَ الظَّهِيرَةِ يُلْقِيهِ فِي الرَّمْضَاءِ عَلَى وَجْهِهِ وَظَهْرِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُلْقَى عَلَى صَدْرِهِ، وَيَقُولُ: لَا تَزَالُ هَكَذَا حَتَّى تَمُوتَ، أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ وَتَعْبُدَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، فَكَانَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَمُرُّ بِهِ وَهُوَ يُعَذَّبُ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. فَيَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ وَاللَّهِ يَا بِلَالُ. ثُمَّ يَقُولُ لِأُمَيَّةَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذَا لَأَتَّخِذَنَّهُ حَنَانًا. فَرَآهُ أَبُو بَكْرٍ يُعَذَّبُ فَقَالَ لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي

هَذَا الْمِسْكِينِ؟ فَقَالَ: أَنْتَ أَفْسَدْتَهُ فَأَبْعَدْتَهُ. فَقَالَ: عِنْدِي غُلَامٌ عَلَى دِينِكَ أَسْوَدُ أَجْلَدُ مِنْ هَذَا أُعْطِيكَهُ بِهِ. قَالَ: قَبِلْتُ. فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ غُلَامَهُ وَأَخَذَ بِلَالًا فَأَعْتَقَهُ، فَهَاجَرَ وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهُمْ: عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ أَبُو الْيَقْظَانِ الْعَنْسِيُّ، وَهُوَ بَطْنٌ مِنْ مُرَادٍ - وَعَنْسٌ هَذَا بِالنُّونِ - أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُوهُ وَأُمُّهُ وَأَسْلَمَ قَدِيمًا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَارِ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ بَعْدَ بِضْعَةٍ وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، أَسْلَمَ هُوَ وَصُهَيْبٌ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ يَاسِرٌ حَلِيفًا لِبَنِي مَخْزُومٍ، فَكَانُوا يُخْرِجُونَ عَمَّارًا وَأَبَاهُ وَأُمَّهُ إِلَى الْأَبْطَحِ إِذَا حَمِيَتِ الرَّمْضَاءُ يُعَذِّبُونَهُمْ بِحَرِّ الرَّمْضَاءِ، فَمَرَّ بِهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " «صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ» ". فَمَاتَ يَاسِرٌ فِي الْعَذَابِ، وَأَغْلَظَتِ امْرَأَتُهُ سُمَيَّةُ الْقَوْلَ لِأَبِي جَهْلٍ، فَطَعَنَهَا فِي قُبُلِهَا بِحَرْبَةٍ فِي يَدَيْهِ فَمَاتَتْ، وَهِيَ أَوَّلُ شَهِيدٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَشَدَّدُوا الْعَذَابَ عَلَى عَمَّارٍ، بِالْحَرِّ تَارَةً، وَبِوَضْعِ الصَّخْرِ عَلَى صَدْرِهِ أُخْرَى، وَبِالتَّغْرِيقِ أُخْرَى فَقَالُوا: لَا نَتْرُكُكَ حَتَّى تَسُبَّ مُحَمَّدًا وَتَقُولَ فِي اللَّاتِ وَالْعُزَّى خَيْرًا، فَفَعَلَ، فَتَرَكُوهُ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْكِي. فَقَالَ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَانَ الْأَمْرُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ قَالَ: أَجِدُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ. فَقَالَ: يَا عَمَّارُ فَعُدْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] فَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ

وَقُتِلَ بِصِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ، قِيلَ بِثَلَاثٍ، وَقِيلَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ. وَمِنْهُمْ: خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ، كَانَ أَبُوهُ سَوَادِيًّا مِنْ كَسْكَرَ، فَسَبَاهُ قَوْمٌ مِنْ رَبِيعَةَ، وَحَمَلُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَاعُوهُ مِنْ سِبَاعِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى الْخُزَاعِيِّ حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ، وَسِبَاعٌ هُوَ الَّذِي بَارَزَهُ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَخَبَّابٌ تَمِيمِيٌّ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ قَدِيمًا، قِيلَ: سَادِسُ سِتَّةٍ قَبْلَ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ، فَأَخَذَهُ الْكُفَّارُ وَعَذَّبُوهُ عَذَابًا شَدِيدًا، فَكَانُوا يُعَرُّونَهُ وَيُلْصِقُونَ ظَهْرَهُ بِالرَّمْضَاءِ ثُمَّ بِالرَّضْفِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمُحْمَاةُ بِالنَّارِ، وَلَوَوْا رَأْسَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا أَرَادُوا مِنْهُ، وَهَاجَرَ وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَزَلَ الْكُوفَةَ، وَمَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. وَمِنْهُمْ: صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ الرُّومِيُّ، وَلَمْ يَكُنْ رُومِيًّا، وَإِنَّمَا نُسِبَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ سَبَوْهُ وَبَاعُوهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ أَحْمَرَ اللَّوْنِ، وَهُوَ مِنَ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ، كَنَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا يَحْيَى قَبْلَ أَنْ يُولَدَ لَهُ، وَكَانَ مِمَّنْ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ، فَعُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا. وَلَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ مَنَعَتْهُ قُرَيْشٌ، فَافْتَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِمَالِهِ أَجْمَعَ، وَجَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَ مَوْتِهِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ إِلَى أَنْ يَسْتَخْلِفَ بَعْضَ أَهْلِ الشُّورَى، وَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَعُمُرُهُ سَبْعُونَ سَنَةً. وَأَمَّا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، فَهُوَ مَوْلَى الطُّفَيْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيِّ، وَكَانَ الطُّفَيْلُ أَخَا عَائِشَةَ

لِأُمِّهَا أُمِّ رُومَانَ، أَسْلَمَ قَدِيمًا قَبْلَ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ، وَكَانَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ، وَاشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ وَأَعْتَقَهُ، فَكَانَ يَرْعَى غَنَمًا لَهُ، وَكَانَ يَرُوحُ بِغَنَمِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى أَبِي بَكْرٍ لَمَّا كَانَا فِي الْغَارِ، وَهَاجَرَ مَعَهُمَا إِلَى الْمَدِينَةِ يَخْدِمُهُمَا، وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا، وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَلَمَّا طُعِنَ قَالَ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! وَلَمْ تُوجَدْ جُثَّتُهُ لِتُدْفَنَ مَعَ الْقَتْلَى، فَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ دَفَنَتْهُ. وَمِنْهُمْ: أَبُو فُكَيْهَةَ، وَاسْمُهُ أَفْلَحُ، وَقِيلَ يَسَارٌ، وَكَانَ عَبْدًا لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ، أَسْلَمَ مَعَ بِلَالٍ، فَأَخَذَهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَرَبَطَ فِي رِجْلِهِ حَبْلًا، وَأَمَرَ بِهِ فَجُرَّ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي الرَّمْضَاءِ، وَمَرَّ بِهِ جُعَلٌ فَقَالَ لَهُ أُمَيَّةُ: أَلَيْسَ هَذَا رَبَّكَ؟ فَقَالَ: اللَّهُ رَبِّي وَرَبُّكَ وَرَبُّ هَذَا، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، وَمَعَهُ أَخُوهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ يَقُولُ: زِدْهُ عَذَابًا حَتَّى يَأْتِيَ مُحَمَّدٌ فَيُخَلِّصَهُ بِسِحْرِهِ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَمَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَاشْتَرَاهُ وَأَعْتَقَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ كَانُوا يُعَذِّبُونَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ مَوْلًى لَهُمْ، وَكَانُوا يَضَعُونَ الصَّخْرَةَ عَلَى صَدْرِهِ حَتَّى دُلِعَ لِسَانُهُ فَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ، وَهَاجَرَ وَمَاتَ قَبْلَ بَدْرٍ. وَمِنْهُمْ: لُبَيْنَةُ جَارِيَةُ بَنِي مُؤَمَّلِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَسْلَمَتْ قَبْلَ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَ عُمَرُ يُعَذِّبُهَا حَتَّى تُفْتَنَ ثُمَّ يَدَعُهَا، وَيَقُولُ: إِنِّي لَمْ أَدَعْكِ إِلَّا سَآمَةً، فَتَقُولُ: كَذَلِكَ يَفْعَلُ اللَّهُ بِكَ إِنْ لَمْ تُسْلِمْ، فَاشْتَرَاهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهَا. وَمِنْهُمْ: زِنِّيرَةُ، كَانَتْ لِبَنِي عَدِيٍّ، وَكَانَ عُمَرُ يُعَذِّبُهَا، وَقِيلَ: كَانَتْ لَبَنِي مَخْزُومٍ، وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يُعَذِّبُهَا حَتَّى عَمِيَتْ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ اللَّاتَ وَالْعُزَّى فَعَلَا بِكِ. فَقَالَتْ: وَمَا

ذكر المستهزئين ومن كان أشد الأذى للنبي - صلى الله عليه وسلم

يَدْرِي اللَّاتُ وَالْعُزَّى مَنْ يَعْبُدُهُمَا؟ وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنَ السَّمَاءِ وَرَبِّي قَادِرٌ عَلَى رَدِّ بَصَرِي، فَأَصْبَحَتْ مِنَ الْغَدِ وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ بَصَرَهَا، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا سِحْرُ مُحَمَّدٍ، فَاشْتَرَاهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهَا. (زِنِّيرَةُ بِكَسْرِ الزَّايِ، وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَتَسْكِينِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا، وَفَتْحِ الرَّاءِ) . وَمِنْهُمُ: النَّهْدِيَّةُ، مَوْلَاةٌ لِبَنِي نَهْدٍ، فَصَارَتْ لِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَأَسْلَمَتْ، وَكَانَتْ تُعَذِّبُهَا وَتَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَقْلَعْتُ عَنْكِ أَوْ يَبْتَاعُكِ بَعْضُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَابْتَاعَهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهَا. وَمِنْهُمْ: أُمُّ عُبَيْسٍ، بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقِيلَ: عُنَيْسٌ، بِالنُّونِ، وَهِيَ أَمَةٌ لِبَنِي زُهْرَةَ، فَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ يُعَذِّبُهَا، فَابْتَاعَهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهَا. وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يَأْتِي الرَّجُلَ الشَّرِيفَ وَيَقُولُ لَهُ: أَتَتْرُكُ دِينَكَ وَدِينَ أَبِيكَ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ! وَيُقَبِّحُ رَأْيَهُ وَفِعْلَهُ وَيُسَفِّهُ حِلْمَهُ وَيَضَعُ شَرَفَهُ، وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا يَقُولُ: سَتَكْسَدُ تِجَارَتُكَ وَيَهْلَكُ مَالُكَ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا أَغْرَى بِهِ حَتَّى يُعَذَّبَ. [ذِكْرُ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَمَنْ كَانَ أَشَدَّ الْأَذَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَمِنْهُمْ: عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كَانَ شَدِيدًا عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، عَظِيمَ التَّكْذِيبِ لَهُ، دَائِمَ الْأَذَى، فَكَانَ يَطْرَحُ الْعَذِرَةَ وَالنَّتَنَ عَلَى بَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ جَارَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَيُّ جِوَارٍ هَذَا يَا بَنِي عَبْدِ

الْمُطَّلِبِ! فَرَآهُ يَوْمًا حَمْزَةُ فَأَخَذَ الْعَذِرَةَ وَطَرَحَهَا عَلَى رَأْسِ أَبِي لَهَبٍ فَجَعَلَ يَنْفُضُهَا عَنْ رَأْسِهِ وَيَقُولُ: " صَاحِبِي أَحْمَقُ! " وَأَقْصَرَ عَمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ، لَكِنَّهُ يَضَعُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَمَاتَ أَبُو لَهَبٍ بِمَكَّةَ عِنْدَ وُصُولِ الْخَبَرِ بِانْهِزَامِ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ بِمَرَضٍ يُعْرَفُ بِالْعَدَسَةِ. وَمِنْهُمُ: الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، وَهُوَ ابْنُ خَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَكَانَ إِذَا رَأَى فَقُرَاءَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَؤُلَاءِ مُلُوكُ الْأَرْضِ الَّذِينَ يَرِثُونَ مُلْكَ كِسْرَى. وَكَانَ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا كُلِّمْتَ الْيَوْمَ مِنَ السَّمَاءِ يَا مُحَمَّدُ! وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَخَرَجَ مِنْ أَهْلِهِ فَأَصَابَهُ السَّمُومُ فَاسْوَدَّ وَجْهُهُ، فَلَمَّا عَادَ إِلَيْهِمْ لَمْ يَعْرِفُوهُ وَأَغْلَقُوا الْبَابَ دُونَهُ، فَرَجَعَ مُتَحَيِّرًا حَتَّى مَاتَ عَطَشًا. وَقِيلَ: إِنَّ جِبْرَائِيلَ أَوْمَأَ إِلَى السَّمَاءِ فَأَصَابَتْهُ الْأَكَلَةُ فَامْتَلَأَ قَيْحًا فَمَاتَ. وَمِنْهُمُ: الْحَارِثُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ السَّهْمِيُّ، كَانَ أَحَدَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ الْغَيْطَلَةِ، وَهِيَ أُمُّهُ، وَكَانَ يَأْخُذُ حَجَرًا يَعْبُدُهُ، فَإِذَا رَأَى أَحْسَنَ مِنْهُ تَرَكَ الْأَوَّلَ وَعَبَدَ الثَّانِيَ. وَكَانَ يَقُولُ: قَدْ غَرَّ مُحَمَّدٌ أَصْحَابَهُ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَحْيَوْا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَاللَّهِ مَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ، وَفِيهِ نَزَلَتْ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] ، وَأَكَلَ حُوتًا مَمْلُوحًا فَلَمْ يَزَلْ يَشْرَبُ الْمَاءَ حَتَّى مَاتَ، وَقِيلَ: أَخَذَتْهُ الذُّبَحَةُ، وَقِيلَ: امْتَلَأَ رَأْسُهُ قَيْحًا فَمَاتَ. وَمِنْهُمُ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَخْزُومٍ، وَكَانَ الْوَلِيدُ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، وَهُوَ الْعِدْلُ، لِأَنَّهُ كَانَ عِدْلَ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، لِأَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَكْسُو الْبَيْتَ جَمِيعُهَا

وَكَانَ الْوَلِيدُ يَكْسُوهُ وَحْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ قُرَيْشًا وَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَأْتُونَكُمْ أَيَّامَ الْحَجِّ فَيَسْأَلُونَكُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ فَتَخْتَلِفُ أَقْوَالُكُمْ فِيهِ، فَيَقُولُ هَذَا: سَاحِرٌ، وَيَقُولُ هَذَا: كَاهِنٌ، وَيَقُولُ هَذَا: شَاعِرٌ، وَيَقُولُ هَذَا: مَجْنُونٌ، وَلَيْسَ يُشْبِهُ وَاحِدًا مِمَّا يَقُولُونَ، وَلَكِنَّ أَصْلَحَ مَا قِيلَ فِيهِ سَاحِرٌ ; لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ وَزَوْجَتِهِ. وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ سَبَّ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا سَبَبْنَا إِلَهَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] . وَمَاتَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْحَجُونِ، وَكَانَ مَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ يَرِيشُ نَبْلًا لَهُ فَوَطِئَ عَلَى سَهْمٍ مِنْهَا فَخَدَشَهُ، ثُمَّ أَوْمَأَ جِبْرَائِيلُ إِلَى ذَلِكَ الْخَدْشِ بِيَدِهِ فَانْتَقَضَ وَمَاتَ مِنْهُ، فَأَوْصَى إِلَى بَنِيهِ أَنْ يَأْخُذُوا دِيَتَهُ مِنْ خُزَاعَةَ، فَأَعْطَتْ خُزَاعَةُ دِيَتَهُ. وَمِنْهُمْ: أُمَيَّةُ وَأُبَيٌّ ابْنَا خَلَفٍ، وَكَانَا عَلَى شَرِّ مَا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَذَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَكْذِيبِهِ، جَاءَ أُبَيٌّ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَظْمِ فَخِذٍ فَفَتَّهُ فِي يَدِهِ وَقَالَ: زَعَمْتَ أَنَّ رَبَّكَ يُحْيِي هَذَا الْعَظْمَ، فَنَزَلَتْ: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] . وَصَنَعَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ طَعَامًا وَدَعَا إِلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا أَحْضُرُهُ حَتَّى تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَفَعَلَ، فَقَامَ مَعَهُ. فَقَالَ لَهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ: أَقُلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِطَعَامِنَا، فَنَزَلَتْ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] . وَقُتِلَ أُمَيَّةُ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، قَتَلَهُ خُبَيْبٌ وَبِلَالٌ، وَقِيلَ: قَتَلَهُ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَأَمَّا أَخُوهُ أُبَيٌ فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ، رَمَاهُ بِحَرْبَةٍ فَقَتَلَهُ. وَمِنْهُمْ: أَبُو قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُعِينُ أَبَا

جَهْلٍ عَلَى أَذَاهُ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَمِنْهُمُ: الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وَالِدُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَكَانَ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَهُوَ الْقَائِلُ لَمَّا مَاتَ الْقَاسِمُ ابْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مُحَمَّدًا أَبْتَرُ لَا يَعِيشُ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ، فَأَنْزَلَ: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] . فَرَكِبَ حِمَارًا لَهُ فَلَمَّا كَانَ بِشِعْبٍ مِنْ شِعَابِ مَكَّةَ رَبَضَ بِهِ حِمَارُهُ، فَلُدِغَ فِي رِجْلِهِ فَانْتَفَخَتْ حَتَّى صَارَتْ كَعُنُقِ الْبَعِيرِ، فَمَاتَ مِنْهَا بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَانِيَ شَهْرٍ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَمِنْهُمُ: النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، يُكَنَّى أَبَا قَائِدٍ، وَكَانَ أَشَدَّ قُرَيْشٍ فِي تَكْذِيبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَذَى لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ. وَكَانَ يَنْظُرُ فِي كُتُبِ الْفُرْسِ وَيُخَالِطُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَسَمِعَ بِذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُرْبِ مَبْعَثِهِ، فَقَالَ: إِنْ جَاءَنَا نَذِيرٌ لَنَكُونَنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، فَنَزَلَتْ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [فاطر: 42] ، الْآيَةَ. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ مُحَمَّدٌ بِأَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، فَنَزَلَ فِيهِ عِدَّةُ آيَاتٍ. أَسَرَهُ الْمِقْدَادُ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ صَبْرًا بِالْأُثَيْلِ. وَمِنْهُمْ: أَبُو جَهْلِ ابْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكْثَرَهُمْ أَذًى لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ، وَاسْمُهُ عَمْرٌو، وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْحَكَمِ، وَأَمَّا أَبُو جَهْلٍ فَالْمُسْلِمُونَ كَنَّوْهُ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ سُمَيَّةَ أُمَّ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَأَفْعَالُهُ مَشْهُورَةٌ، وَقُتِلَ بِبَدْرٍ، قَتَلَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ، وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَمِنْهُمْ: نُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ السَّهْمِيَّانِ، وَكَانَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُمَا مِنْ أَذَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ، وَكَانَا يَلْقَيَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: أَمَا وَجَدَ اللَّهُ مَنْ يَبْعَثُهُ غَيْرَكَ؟ إِنَّ هَاهُنَا مَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْكَ وَأَيْسَرُ. فَقُتِلَ مُنَبِّهٌ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِبَدْرٍ، وَقُتِلَ

أَيْضًا الْعَاصُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قَتَلَهُ أَيْضًا عَلِيٌّ بِبَدْرٍ، وَهُوَ صَاحِبُ ذِي الْفِقَارِ، وَقِيلَ: مُنَبِّهُ بْنُ الْحَجَّاجِ صَاحِبُهُ، وَقِيلَ: نُبَيْهٌ. (نُبَيْهٌ بِضَمِّ النُّونِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) . وَمِنْهُمْ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ أَخُو أُمِّ سَلَمَةَ لِأَبِيهَا، وَأُمُّهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ مِمَّنْ يُظْهِرُ تَكْذِيبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَرُدُّ مَا جَاءَ بِهِ وَيَطْعَنُ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ مِمَّنْ أَعَانَ عَلَى نَقْضِ الصَّحِيفَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَوْتِهِ فَقِيلَ: سَارَ إِلَى بَدْرٍ فَمَرِضَ فَمَاتَ، وَقِيلَ: أُسِرَ بِبَدْرٍ فَأَطْلَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا عَادَ مَاتَ بِمَكَّةَ، وَقِيلَ: حَضَرَ وَقْعَةَ أُحُدٍ فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَمَاتَ مِنْهُ، وَقِيلَ: سَارَ إِلَى الْيَمَنِ بَعْدَ الْفَتْحِ فَمَاتَ هُنَاكَ كَافِرًا. وَمِنْهُمْ: عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَاسْمُ أَبِي مُعَيْطٍ أَبَانُ بْنُ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَيُكَنَّى أَبَا الْوَلِيدِ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ أَذًى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَاوَةً لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، عَمَدَ إِلَى مِكْتَلٍ فَجَعَلَ فِيهِ عَذِرَةً وَجَعَلَهُ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَصُرَ بِهِ طُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، وَأُمُّهُ أَرْوَى بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَأَخَذَ الْمِكْتَلَ مِنْهُ وَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهُ وَأَخَذَ بِأُذُنَيْهِ، فَشَكَاهُ عُقْبَةُ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَ: قَدْ صَارَ ابْنُكِ يَنْصُرُ مُحَمَّدًا. فَقَالَتْ: وَمَنْ أَوْلَى بِهِ مِنَّا؟ أَمْوَالُنَا وَأَنْفُسُنَا دُونَ مُحَمَّدٍ. وَأُسِرَ عُقْبَةُ بِبَدْرٍ فَقُتِلَ صَبْرًا، قَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ لِلصِّبْيَةِ؟ قَالَ: النَّارُ. قُتِلَ بِالصَّفْرَاءِ، وَقِيلَ بِعَرَقِ الظَّبْيَةِ، وَصُلِبَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَصْلُوبٍ فِي الْإِسْلَامِ. وَمِنْهُمُ: الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَكَانَ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَيُكَنَّى أَبَا زَمْعَةَ، وَكَانَ وَأَصْحَابُهُ يَتَغَامَزُونَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَيَقُولُونَ: قَدْ جَاءَكُمْ مُلُوكُ الْأَرْضِ وَمَنْ يَغْلِبُ عَلَى كُنُوزِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَيُصَفِّرُونَ بِهِ وَيُصَفِّقُونَ، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَعْمَى وَيَثْكَلَ وَلَدَهُ، فَجَلَسَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ

فَجَعَلَ جِبْرَائِيلُ يَضْرِبُ وَجْهَهُ وَعَيْنَيْهِ بِوَرَقَةٍ مِنْ وَرَقِهَا وَبِشَوْكِهَا حَتَّى عَمِيَ، وَقِيلَ: أَوْمَأَ إِلَى عَيْنَيْهِ فَعَمِيَ فَشَغَلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُتِلَ ابْنُهُ مَعَهُ بِبَدْرٍ كَافِرًا، قَتَلَهُ أَبُو دُجَانَةَ، وَقُتِلَ ابْنُ ابْنِهِ عُتَيْبٌ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ، اشْتَرَكَا فِي قَتْلِهِ، وَقُتِلَ ابْنُ ابْنِهِ الْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، قَتَلَهُ عَلِيٌّ، وَقِيلَ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهُوَ الْقَائِلُ: أَتَبْكِي أَنْ يَضِلَّ لَهَا بَعِيرٌ ... وَيَمْنَعُهَا مِنَ النَّوْمِ السُّهُودُ وَمَاتَ وَالنَّاسُ يَتَجَهَّزُونَ إِلَى أُحُدٍ وَهُوَ يُحَرِّضُ الْكُفَّارَ وَهُوَ مَرِيضٌ. وَمِنْهُمْ: طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، يُكَنَّى أَبَا الرَّيَّانِ، وَكَانَ مِمَّنْ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَشْتُمُهُ وَيَسْمَعُهُ وَيُكَذِّبُهُ، وَأُسِرَ بِبَدْرٍ، وَقُتِلَ كَافِرًا صَبْرًا، قَتَلَهُ حَمْزَةُ. وَمِنْهُمْ: مَالِكُ بْنُ الطَّلَاطِلَةِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غُبْشَانَ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَكَانَ سَفِيهًا، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَشَارَ جِبْرَائِيلُ إِلَى رَأْسِهِ فَامْتَلَأَ قَيْحًا فَمَاتَ. وَمِنْهُمْ: رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، كَانَ شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ، لَقِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ وَلَسْتَ بِكَذَّابٍ، فَإِنْ صَرَعْتَنِي عَلِمْتُ أَنَّكَ صَادِقٌ، وَلَمْ يَكُنْ يَصْرَعُهُ أَحَدٌ، فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: لَا أُسْلِمُ حَتَّى تَدْعُوَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقْبِلِي، فَأَقْبَلَتْ تَخُدُّ الْأَرْضَ. فَقَالَ رُكَانَةُ: مَا رَأَيْتُ سِحْرًا أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ، فَأَمَرَهَا فَعَادَتْ، فَقَالَ: هَذَا سِحْرٌ عَظِيمٌ. هَؤُلَاءِ أَشَدُّ عَدَاوَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ عَدَاهُمْ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ كَانُوا أَقَلَّ عَدَاوَةً مِنْ هَؤُلَاءِ، كَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَيْهِ فَأَسْلَمُوا، تَرَكْنَا ذِكْرَهُمْ لِذَلِكَ، مِنْهُمْ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ

ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة

أَخُو أُمِّ سَلَمَةَ لِأَبِيهَا، وَكَانَتْ أَمُّهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَالْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَالِدُ مَرْوَانَ، وَغَيْرُهُمْ، أَسْلَمُوا يَوْمَ الْفَتْحِ. [ذِكْرُ الْهِجْرَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ] وَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ بِمَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ قَالَ: «لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ،، فَإِنَّ فِيهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ» . فَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ وَفِرَارًا إِلَى اللَّهِ بِدِينِهِمْ، فَكَانَتْ أَوَّلَ هِجْرَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، فَخَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَوْجَتُهُ رُقَيَّةُ ابْنَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَغَيْرُهُمْ تَمَامَ عَشَرَةِ رِجَالٍ، وَقِيلَ: أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَكَانَ مَسِيرُهُمْ فِي رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَهِيَ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ إِظْهَارِ الدَّعْوَةِ، فَأَقَامُوا شَعْبَانَ وَشَهْرَ رَمَضَانَ. وَقَدِمُوا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَكَانَ سَبَبُ قُدُومِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمَّا رَأَى مُبَاعَدَةَ قَوْمِهِ لَهُ شَقَّ عَلَيْهِ، وَتَمَنَّى أَنْ يَأْتِيَهُ اللَّهُ بِشَيْءٍ يُقَارِبُهُمْ بِهِ، وَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19] ، أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ لَمَّا كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى. فَلَمَّا سَمِعَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ سَرَّهُمْ، وَالْمُسْلِمُونَ مُصَدِّقُونَ بِذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَتَّهِمُونَهُ وَلَا يَظُنُّونَ بِهِ سَهْوًا وَلَا خَطَأً. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى سَجْدَةٍ سَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ إِلَّا الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُطِقِ السُّجُودَ لِكِبَرِهِ، فَأَخَذَ كَفًّا مِنَ الْبَطْحَاءِ فَسَجَدَ عَلَيْهَا. ثُمَّ تَفَرَّقَ النَّاسُ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ مَنْ بِالْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ قُرَيْشًا أَسْلَمَتْ، فَعَادَ مِنْهُمْ قَوْمٌ وَتَخَلَّفَ قَوْمٌ، وَأَتَى جِبْرَائِيلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَرَأَ، فَحَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَافَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] ، فَذَهَبَ عَنْهُ الْحُزْنُ وَالْخَوْفُ. وَاشْتَدَّتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا قَرُبَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْحَبَشَةِ مِنْ مَكَّةَ بَلَغَهُمْ أَنَّ إِسْلَامَ أَهْلِ مَكَّةَ بَاطِلٌ، فَلَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِجِوَارٍ أَوْ مُسْتَخْفِيًا، فَدَخَلَ عُثْمَانُ فِي جِوَارِ أَبِي أُحَيْحَةَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَأَمِنَ بِذَلِكَ، وَدَخَلَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بِجِوَارِ أَبِيهِ، وَدَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ بِجِوَارِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، ثُمَّ قَالَ: أَكُونُ فِي ذِمَّةِ مُشْرِكٍ! جِوَارُ اللَّهِ أَعَزُّ، فَرَدَّ عَلَيْهِ جِوَارَهُ، وَكَانَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ يُنْشِدُ قُرَيْشًا قَوْلَهُ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ.

فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ: صَدَقْتَ، فَلَمَّا قَالَ: وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ. قَالَ: كَذَبْتَ! نَعِيمُ الْجَنَّةِ لَا يَزُولُ، فَقَالَ لَبِيدُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا كَانَتْ مَجَالِسُكُمْ هَكَذَا، وَلَا كَانَ السَّفَهُ مِنْ شَأْنِكُمْ. فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُ وَخَبَرَ ذِمَّتِهِ، فَقَامَ بَعْضُ بَنِي الْمُغِيرَةِ فَلَطَمَ عَيْنَ عُثْمَانَ، فَضَحِكَ الْوَلِيدُ شَمَاتَةً بِهِ حَيْثُ رَدَّ جِوَارَهُ، وَقَالَ لِعُثْمَانَ: مَا كَانَ أَغْنَاكَ عَنْ هَذَا! فَقَالَ إِنَّ عَيْنِي الْأُخْرَى لَمُحْتَاجَةٌ إِلَى مِثْلِ مَا نَالَتْ هَذِهِ. فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ تَعُودَ إِلَى جِوَارِي؟ قَالَ: لَا أَعُودُ إِلَى جِوَارِ غَيْرِ اللَّهِ. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ إِلَى الَّذِي لَطَمَ عَيْنَ عُثْمَانَ فَكَسَرَ أَنْفَهُ، فَكَانَ أَوَّلَ دَمٍ أُرِيقَ فِي الْإِسْلَامِ فِي قَوْلٍ. وَأَقَامَ الْمُسْلِمُونَ بِمَكَّةَ يُؤْذَوْنَ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ رَجَعُوا مُهَاجِرِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ ثَانِيًا، فَخَرَجَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَتَتَابَعَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْحَبَشَةِ، فَكَمُلَ بِهَا تَمَامُ اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ رَجُلًا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقِيمٌ بِمَكَّةَ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ سِرًّا وَجَهْرًا، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهَا إِلَيْهِ رَمَوْهُ بِالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالْجُنُونِ وَأَنَّهُ شَاعِرٌ، وَجَعَلُوا يَصُدُّونَ عَنْهُ مَنْ خَافُوا أَنْ يَسْمَعَ قَوْلَهُ. وَكَانَ أَشَدُّ مَا بَلَغُوا مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: «حَضَرَتْ قُرَيْشٌ يَوْمًا بِالْحِجْرِ فَذَكَرُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا نَالَ مِنْهُمْ وَصَبْرَهُمْ عَلَيْهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَشَى حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا، فَغَمَزُوهُ بِبَعْضِ الْقَوْلِ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَضَى فَلَمَّا مَرَّ بِهِمُ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ مِثْلَهَا، ثُمَّ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ. قَالَ: فَكَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ وَاقِعٌ حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ لَيَرْفَؤُهُ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ. وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ حَتَّى إِذَا أَتَاكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ يَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ، فَأَخَذَ عُقْبَةُ بْنُ

ذكر إرسال قريش إلى النجاشي في طلب المهاجرين

أَبِي مُعَيْطٍ بِرِدَائِهِ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ دُونَهُ يَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي: وَيْلَكُمُ! (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ» . هَذَا أَشَدُّ مَا بُلِّغْتُ عَنْهُ. [ذِكْرُ إِرْسَالِ قُرَيْشٍ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِي طَلَبِ الْمُهَاجِرِينَ] لَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَدِ اطْمَأَنُّوا بِالْحَبَشَةِ وَأَمِنُوا، وَأَنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ أَحْسَنَ صُحْبَتَهُمُ، ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ فَبَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ وَمَعَهُمَا هَدِيَّةٌ إِلَيْهِ وَإِلَى أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ، فَسَارَا حَتَّى وَصَلَا الْحَبَشَةَ، فَحَمَلَا إِلَى النَّجَاشِيِّ هَدِيَّتَهُ وَإِلَى أَصْحَابِهِ هَدَايَاهُمْ وَقَالَا لَهُمْ: إِنَّ نَاسًا مِنْ سُفَهَائِنَا فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ الْمَلِكِ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ، وَقَدْ أَرْسَلَنَا أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ إِلَى الْمَلِكِ لِيَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُرْسِلَهُمْ مَعَنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، وَخَافَا أَنْ يَسْمَعَ النَّجَاشِيُّ كَلَامَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُسَلِّمَهُمْ. فَوَعَدَهُمَا أَصْحَابُ النَّجَاشِيِّ الْمُسَاعَدَةَ عَلَى مَا يُرِيدَانِ. ثُمَّ إِنَّهُمَا حَضَرَا عِنْدَ النَّجَاشِيِّ فَأَعْلَمَاهُ مَا قَدْ قَالَاهُ، فَأَشَارَ أَصْحَابُهُ بِتَسْلِيمِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمَا. فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أُسَلِّمُ قَوْمًا جَاوَرُونِي وَنَزَلُوا بِلَادِي، وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ، حَتَّى أَدْعُوَهُمْ وَأَسْأَلَهُمْ عَمَّا يَقُولُ هَذَانِ، فَإِنْ كَانَا صَادِقَيْنِ سَلَّمْتُهُمْ إِلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ مَا يَذْكُرُ هَذَانِ مَنَعْتُهُمْ وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ. ثُمَّ أَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ إِلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَاهُمْ فَحَضَرُوا، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا سَاءَهُ وَسَرَّهُ، وَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ عَنْهُمْ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ. فَقَالَ لَهُمُ النَّجَاشِيُّ: مَا

هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي وَلَا دِينِ أَحَدٍ مِنَ الْمِلَلِ؟ فَقَالَ جَعْفَرٌ: أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنُقَطِّعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا لِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَآمَنَّا بِهِ وَصَدَّقْنَاهُ، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَحَلَّلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَتَعَدَّى عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا، وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بِلَادِكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ سَطْرًا مِنْ (كهيعص) ، فَبَكَى النَّجَاشِيُّ وَأَسَاقِفَتُهُ، وَقَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى يَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا، وَاللَّهِ لَا أُسَلِّمُهُمْ إِلَيْكُمَا أَبَدًا! . فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُ غَدًا بِمَا يُبِيدُ خَضْرَاءَهُمْ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ لِلنَّجَاشِيِّ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي عِيسَىابْنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا. فَأَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ فَسَأَلَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ فِي الْمَسِيحِ. فَقَالَ جَعْفَرٌ: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ. فَأَخَذَ النَّجَاشِيُّ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ وَقَالَ: مَا عَدَا عِيسَى مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ. فَنَخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ. وَقَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ آمِنُونَ، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي جَبَلًا مِنْ ذَهَبٍ وَأَنَّنِي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ. وَرَدَّ هَدِيَّةَ قُرَيْشٍ وَقَالَ: مَا أَخَذَ اللَّهُ الرِّشْوَةَ مِنِّي حَتَّى آخُذَهَا مِنْكُمْ، وَلَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ حَتَّى أُطِيعَهُمْ فِيهِ. وَأَقَامَ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْرِ دَارٍ. وَظَهَرَ مَلِكٌ مِنَ الْحَبَشَةِ فَنَازَعَ النَّجَاشِيَّ فِي مُلْكِهِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،

ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب

وَسَارَ النَّجَاشِيُّ إِلَيْهِ لِيُقَاتِلَهُ، وَأَرْسَلَ الْمُسْلِمُونَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ لِيَأْتِيَهُمْ بِخَبَرِهِ، وَهُمْ يَدْعُونَ لَهُ، فَاقْتَتَلُوا، فَظَفِرَ النَّجَاشِيُّ، فَمَا سُرَّ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ سُرُورَهُمْ بِظَفَرِهِ. قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْخُذِ الرِّشْوَةَ مِنِّي، أَنَّ أَبَا النَّجَاشِيِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ لَهُ عَمٌّ قَدْ أَوْلَدَ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَدًا، فَقَالَتِ الْحَبَشَةُ: لَوْ قَتَلْنَا أَبَا النَّجَاشِيِّ وَمَلَّكْنَا أَخَاهُ فَإِنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ غَيْرُ هَذَا الْغُلَامِ، وَكَانَ أَخُوهُ وَأَوْلَادُهُ يَتَوَارَثُونَ الْمُلْكَ دَهْرًا. فَقَتَلُوا أَبَاهُ وَمَلَّكُوا عَمَّهُ وَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ حِينًا، وَبَقِيَ النَّجَاشِيُّ عِنْدَ عَمِّهِ، وَكَانَ عَاقِلًا، فَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ عَمِّهِ، فَخَافَتِ الْحَبَشَةُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ جَزَاءً لِقَتْلِ أَبِيهِ، فَقَالُوا لِعَمِّهِ: إِمَّا أَنْ تَقْتُلَ النَّجَاشِيَّ، وَإِمَّا أَنْ تُخْرِجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا فَقَدْ خِفْنَاهُ. فَأَجَابَهُمْ إِلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ بِلَادِهِمْ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ، فَخَرَجُوا إِلَى السُّوقِ فَبَاعُوهُ مِنْ تَاجِرٍ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَسَارَ بِهِ التَّاجِرُ فِي سَفِينَتِهِ. فَلَمَّا جَاءَ الْعِشَاءُ هَاجَتْ سَحَابَةٌ فَأَصَابَتْ عَمَّهُ بِصَاعِقَةٍ، فَفَزِعَتِ الْحَبَشَةُ إِلَى أَوْلَادِهِ، فَإِذَا هُمْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ، فَهَرَجَ عَلَى الْحَبَشَةِ أَمْرُهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاللَّهِ لَا يُقِيمُ أَمْرَكُمْ إِلَّا النَّجَاشِيُّ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ بِالْحَبَشَةِ رَأْيٌ فَأَدْرِكُوهُ. فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ حَتَّى أَدْرَكُوهُ وَمَلَّكُوهُ. وَجَاءَ التَّاجِرُ وَقَالَ لَهُمْ: إِمَّا أَنْ تُعْطُونِي مَالِي وَإِمَّا أَنْ أُكَلِّمَهُ. فَقَالُوا: كَلِّمْهُ. فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، ابْتَعْتُ غُلَامًا بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَخَذُوا الْغُلَامَ وَالْمَالَ. فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: إِمَّا أَنْ تُعْطُوهُ دَرَاهِمَهُ وَإِمَّا أَنْ يَضَعَ الْغُلَامُ يَدَهُ فِي يَدِهِ فَلَيَذْهَبَنَّ بِهِ حَيْثُ شَاءَ. فَأَعْطَوْهُ دَرَاهِمَهُ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ. فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا عُلِمَ مِنْ عَدْلِهِ وَدِينِهِ. قَالَ: وَلَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ كَانُوا لَا يَزَالُونَ يَرَوْنَ عَلَى قَبْرِهِ نُورًا. [ذِكْرُ إِسْلَامِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ] ثُمَّ إِنَّ أَبَا جَهْلٍ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ الصَّفَا، فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ وَنَالَ مِنْهُ وَعَابَ دِينَهُ، وَمَوْلَاةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ فِي مَسْكَنٍ لَهَا تَسْمَعُ ذَلِكَ. ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ

ذكر إسلام عمر بن الخطاب

فَجَلَسَ فِي نَادِي قُرَيْشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ أَقْبَلَ مِنْ قَنْصَةٍ مُتَوَشِّحًا قَوْسَهُ، وَكَانَ إِذَا رَجَعَ لَمْ يَصِلْ إِلَى أَهْلِهِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ، وَكَانَ يَقِفُ عَلَى أَنْدِيَةِ قُرَيْشٍ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيَتَحَدَّثُ مَعَهُمْ، وَكَانَ أَعَزَّ قُرَيْشٍ وَأَشَدَّهُمْ شَكِيمَةً. فَلَمَّا مَرَّ بِالْمَوْلَاةِ، وَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ، قَالَتْ لَهُ: يَا أَبَا عُمَارَةَ لَوْ رَأَيْتَ مَا لَقِيَ ابْنُ أَخِيكَ مُحَمَّدٌ مِنْ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ، فَإِنَّهُ سَبَّهُ وَآذَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ مُحَمَّدٌ. قَالَ: فَاحْتَمَلَ حَمْزَةَ الْغَضَبُ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ، فَخَرَجَ سَرِيعًا لَا يَقِفُ عَلَى أَحَدٍ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ يُرِيدُ الطَّوَافَ بِالْكَعْبَةِ مُعِدًّا لِأَبِي جَهْلٍ إِذَا لَقِيَهُ أَنْ يَقَعَ بِهِ، حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَرَآهُ جَالِسًا فِي الْقَوْمِ، فَأَقْبَلَ نَحْوَهُ وَضَرَبَ رَأْسَهُ بِالْقَوْسِ فَشَجَّهُ شَجَّةً مُنْكَرَةً، وَقَالَ: أَتَشْتُمُهُ وَأَنَا عَلَى دِينِهِ أَقُولُ مَا يَقُولُ؟ فَارْدُدْ عَلَيَّ إِنِ اسْتَطَعْتَ. وَقَامَتْ رِجَالُ بَنِي مَخْزُومٍ إِلَى حَمْزَةَ لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ فَإِنِّي سَبَبْتُ ابْنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا. وَتَمَّ حَمْزَةُ عَلَى إِسْلَامِهِ. فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمْزَةُ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عُزَّ، وَأَنَّ حَمْزَةَ سَيَمْنَعُهُ، فَكَفُّوا عَنْ بَعْضِ مَا كَانُوا يَنَالُونَ مِنْهُ. وَاجْتَمَعَ يَوْمًا أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: مَا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ الْقُرْآنَ يُجْهَرُ لَهَا بِهِ، فَمَنْ رَجُلٌ يُسْمِعُهُمُوهُ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَا. فَقَالُوا: نَخْشَى عَلَيْكَ إِنَّمَا نُرِيدُ مَنْ لَهُ عَشِيرَةٌ يَمْنَعُونَهُ. قَالَ: إِنَّ اللَّهَ سَيَمْنَعُنِي. فَغَدَا عَلَيْهِمْ فِي الضُّحَى، حَتَّى أَتَى الْمَقَامَ وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا، ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ وَقَرَأَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَامُوا إِلَيْهِ يَضْرِبُونَهُ وَهُوَ يَقْرَأُ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَدْ أَثَّرُوا بِوَجْهِهِ، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي خَشِينَا عَلَيْكَ. فَقَالَ: مَا كَانَ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْهُمُ الْيَوْمَ، وَلَئِنْ شِئْتُمْ لَأُغَادِيَنَّهُمْ. قَالُوا: حَسْبُكَ قَدْ أَسْمَعْتَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ. [ذِكْرُ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ] ثُمَّ أَسْلَمَ عُمَرُ بَعْدَ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ امْرَأَةً، وَقِيلَ: أَسْلَمَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا، وَإِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَقِيلَ: أَسْلَمَ بَعْدَ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ امْرَأَةً.

وَكَانَ رَجُلًا جَلْدًا مَنِيعًا، وَأَسْلَمَ بَعْدَ هِجْرَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ. وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقْدِرُونَ يُصَلُّونَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ قَاتَلَ قُرَيْشًا حَتَّى صَلَّى عِنْدَهَا، وَصَلَّى مَعَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَوِيَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمَا، وَعَلِمُوا أَنَّهُمَا سَيَمْنَعَانِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ. قَالَتْ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ، وَكَانَتْ زَوْجَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: إِنَّا لَنَرْحَلُ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ عَامِرٌ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، إِذْ أَقْبَلَ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَيَّ، وَكُنَّا نَلْقَى مِنْهُ الْبَلَاءَ أَذًى وَشِدَّةً، فَقَالَ: أَتَنْطَلِقُونَ يَا أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ وَاللَّهِ لَنَخْرُجَنَّ فِي أَرْضِ اللَّهِ، فَقَدْ آذَيْتُمُونَا وَقَهَرْتُمُونَا، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَنَا فَرَجًا. قَالَتْ: فَقَالَ: صَحِبَكُمُ اللَّهُ، وَرَأَيْتُ لَهُ رِقَّةً وَحُزْنًا. قَالَتْ: فَلَمَّا عَادَ أَخْبَرْتُهُ وَقُلْتُ لَهُ: لَوْ رَأَيْتَ عُمَرَ وَرِقَّتَهُ وَحُزْنَهُ عَلَيْنَا! قَالَ: أَطَمِعْتِ فِي إِسْلَامِهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: لَا يُسْلِمُ حَتَّى يُسْلِمَ حِمَارُ الْخَطَّابِ، لِمَا كَانَ يَرَى مِنْ غِلْظَتِهِ وَشِدَّتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَأَسْلَمَ، فَصَارَ عَلَى الْكُفَّارِ أَشَدَّ مِنْهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ سَبَبُ إِسْلَامِهِ أَنَّ أُخْتَهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْخَطَّابِ كَانَتْ تَحْتَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو الْعَدَوِيِّ، وَكَانَا مُسْلِمَيْنِ يُخْفِيَانِ إِسْلَامَهُمَا مِنْ عُمَرَ، وَكَانَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّحَّامُ الْعَدَوِيُّ قَدْ أَسْلَمَ أَيْضًا وَهُوَ يُخْفِي إِسْلَامَهُ فَرَقًا مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ يَخْتَلِفُ إِلَى فَاطِمَةَ يُقْرِئُهَا الْقُرْآنَ، فَخَرَجَ عُمَرُ يَوْمًا وَمَعَهُ سَيْفُهُ يُرِيدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ عِنْدَ الصَّفَا، وَعِنْدَهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي نَحْوِ أَرْبَعِينَ رَجُلًا، فَلَقِيَهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ مُحَمَّدًا الَّذِي فَرَّقَ أَمْرَ قُرَيْشٍ وَعَابَ دِينَهَا فَأَقْتُلُهُ. فَقَالَ نُعَيْمٌ: وَاللَّهِ لَقَدْ غَرَّتْكَ نَفْسُكَ، أَتَرَى بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَارِكِيكَ تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَقَدْ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا؟ أَفَلَا تَرْجِعُ إِلَى أَهْلِكَ فَتُقِيمَ أَمْرَهُمْ؟ قَالَ: وَأَيُّ أَهْلِي؟ قَالَ: خَتَنُكَ وَابْنُ عَمَّتِكَ وَابْنُ عَمِّكَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَأُخْتُكَ فَاطِمَةُ، فَقَدْ وَاللَّهِ أَسْلَمَا. فَرَجَعَ عُمَرُ إِلَيْهِمَا وَعِنْدَهُمَا خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ يُقْرِئُهُمَا الْقُرْآنَ. فَلَمَّا سَمِعُوا حِسَّ عُمَرَ تَغَيَّبَ خَبَّابٌ، وَأَخَذَتْ فَاطِمَةُ الصَّحِيفَةَ فَأَلْقَتْهَا تَحْتَ فَخِذَيْهَا، وَقَدْ سَمِعَ عُمَرُ قِرَاءَةَ خَبَّابٍ. فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ؟ قَالَا: مَا سَمِعْتَ شَيْئًا؟ قَالَ: بَلَى، قَدْ أُخْبِرْتُ

أَنَّكُمَا تَابَعْتُمَا مُحَمَّدًا، وَبَطَشَ بِخَتَنِهِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ أُخْتُهُ لِتَكُفَّهُ، فَضَرَبَهَا فَشَجَّهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ: قَدْ أَسْلَمْنَا وَآمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ. وَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِأُخْتِهِ مِنَ الدَّمِ نَدِمَ وَقَالَ لَهَا: أَعْطِنِي هَذِهِ الصَّحِيفَةَ الَّتِي سَمِعْتُكُمْ تَقْرَأُونَ فِيهَا الْآنَ، حَتَّى أَنْظُرَ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ. قَالَتْ: إِنَّا نَخْشَاكَ عَلَيْهَا، فَحَلَفَ أَنَّهُ يُعِيدُهَا. قَالَتْ لَهُ: وَقَدْ طَمِعَتْ فِي إِسْلَامِهِ: إِنَّكَ نَجِسٌ عَلَى شِرْكِكَ، وَلَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فَقَامَ فَاغْتَسَلَ. فَأَعْطَتْهُ الصَّحِيفَةَ وَقَرَأَهَا، وَفِيهَا: (طه) ، وَكَانَ كَاتِبًا، فَلَمَّا قَرَأَ بَعْضَهَا قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَكْرَمَهُ! فَلَمَّا سَمِعَ خَبَّابٌ خَرَجَ إِلَيْهِ وَقَالَ: يَا عُمَرُ إِنِّي وَاللَّهِ لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ خَصَّكَ بِدَعْوَةِ نَبِيِّهِ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ أَمْسِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ بِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ» ، فَاللَّهَ اللَّهَ يَا عُمَرُ! فَقَالَ عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ: فَدُلَّنِي يَا خَبَّابُ عَلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى آتِيَهُ فَأُسْلِمَ. فَدَلَّهُ خَبَّابٌ، فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَنَظَرَ مِنْ خَلَلِ الْبَابِ، فَرَآهُ مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، فَقَالَ حَمْزَةُ: ائْذَنْ لَهُ، فَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ خَيْرًا بَذَلْنَاهُ لَهُ، وَإِنْ أَرَادَ شَرًّا قَتَلْنَاهُ بِسَيْفِهِ. فَأَذِنَ لَهُ، «فَنَهَضَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى لَقِيَهُ فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ رِدَائِهِ ثُمَّ جَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً وَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ مَا أَرَاكَ تَنْتَهِي حَتَّى يُنْزِلَ اللَّهُ عَلَيْكَ قَارِعَةً. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ لِأُومِنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، فَكَبَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكْبِيرَةً عَرَفَ مَنْ فِي الْبَيْتِ أَنَّ عُمَرَ أَسْلَمَ» . فَلَمَّا أَسْلَمَ قَالَ: أَيُّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟ قِيلَ: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيُّ، فَجَاءَهُ فَأَخْبَرَهُ بِإِسْلَامِهِ، فَمَشَى إِلَى الْمَسْجِدِ وَعُمَرُ وَرَاءَهُ وَصَرَخَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَلَا إِنَّ ابْنَ الْخَطَّابِ قَدْ صَبَأَ. فَيَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ: كَذَبَ وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ، فَقَامُوا، فَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ حَتَّى قَامَتِ الشَّمْسُ وَأَعْيَا، فَقَعَدَ وَهُمْ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَلَوْ كُنَّا ثَلَاثَمِائَةِ نَفَرٍ تَرَكْنَاهَا لَكُمْ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا، يَعْنِي مَكَّةَ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ عَلَيْهِ حُلَّةٌ فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: صَبَأَ عُمَرُ. قَالَ فَمَهْ، رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا فَمَاذَا تُرِيدُونَ؟ أَتَرَوْنَ بَنِي عَدِيٍّ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبَهُمْ هَكَذَا؟ خَلُّوا عَنِ الرَّجُلِ. وَكَانَ الرَّجُلُ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ. قَالَ عُمَرُ: لَمَّا أَسْلَمْتُ أَتَيْتُ بَابَ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَضَرَبْتُ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَخَرَجَ إِلَيَّ وَقَالَ: مَرْحَبًا بِابْنِ أَخِي! مَا جَاءَ بِكَ؟ قُلْتُ: جِئْتُ لِأُخْبِرَكَ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَآمَنْتُ

ذكر أمر الصحيفة

بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَدَّقْتُ مَا جَاءَ بِهِ. قَالَ: فَضَرَبَ الْبَابَ فِي وَجْهِي وَقَالَ: قَبَّحَكَ اللَّهُ، وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ! وَقِيلَ فِي إِسْلَامِهِ غَيْرُ هَذَا. [ذِكْرُ أَمْرِ الصَّحِيفَةِ] وَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ الْإِسْلَامَ يَفْشُو وَيَزِيدُ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَوُوا بِإِسْلَامِ حَمْزَةَ وَعُمَرَ، وَعَادَ إِلَيْهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ مِنَ النَّجَاشِيِّ بِمَا يَكْرَهُونَ مِنْ مَنْعِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ وَأَمْنِهِمْ عِنْدَهُ، ائْتَمَرُوا فِي أَنْ يَكْتُبُوا بَيْنَهُمْ كِتَابًا يَتَعَاقَدُونَ فِيهِ عَلَى: أَنْ لَا يُنْكِحُوا بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَا يَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ، وَلَا يَبِيعُوهُمْ وَلَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ شَيْئًا. فَكَتَبُوا بِذَلِكَ صَحِيفَةً وَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ عَلَّقُوا الصَّحِيفَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ تَوْكِيدًا لِذَلِكَ الْأَمْرِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَلَمَّا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ انْحَازَتْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَدَخَلُوا مَعَهُ فِي شِعْبِهِ وَاجْتَمَعُوا. وَخَرَجَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَبُو لَهَبِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ، فَلَقِيَ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِ نَصْرِي اللَّاتَ وَالْعُزَّى؟ قَالَتْ: لَقَدْ أَحْسَنْتَ. فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى جَهِدُوا لَا يَصِلُ إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ إِلَّا سِرًّا. وَذَكَرُوا أَنَّ أَبَا جَهْلٍ لَقِيَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ، وَمَعَهُ قَمْحٌ يُرِيدُ بِهِ عَمَّتَهُ خَدِيجَةَ، وَهِيَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشِّعْبِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا تَبْرَحُ حَتَّى أَفْضَحَكَ. فَجَاءَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهُ؟ عِنْدَهُ طَعَامٌ لِعَمَّتِهِ أَفَتَمْنَعُهُ أَنْ يَحْمِلَهُ إِلَيْهَا؟ خَلِّ سَبِيلَهُ. فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ، فَنَالَ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بِلِحْيِ جَمَلٍ فَشَجَّهُ وَوَطِئَهُ وَطْأً شَدِيدًا، وَحَمْزَةُ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَبْلُغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فَيَشْمَتَ بِهِمْ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ. وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو النَّاسَ سِرًّا وَجَهْرًا، وَالْوَحْيُ مُتَتَابِعٌ إِلَيْهِ، فَبَقُوا كَذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ.

وَقَامَ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ أَحْسَنَهُمْ بَلَاءً فِيهِ هِشَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ لُؤَيٍّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي نَضْلَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَ يَأْتِي بِالْبَعِيرِ قَدْ أَوْقَرَهُ طَعَامًا لَيْلًا وَيَسْتَقْبِلُ بِهِ الشِّعْبَ وَيَخْلَعُ خِطَامَهُ فَيَدْخُلُ الشِّعْبَ. فَلَمَّا رَأَى مَا هُمْ فِيهِ وَطُولَ الْمُدَّةِ عَلَيْهِمْ، مَشَى إِلَى زُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ، وَكَانَ شَدِيدَ الْغَيْرَةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ عَاتِكَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا زُهَيْرُ أَرَضِيتَ أَنْ تَأْكُلَ الطَّعَامَ، وَتَلْبَسَ الثِّيَابَ، وَتَنْكِحَ النِّسَاءَ وَأَخْوَالُكَ حَيْثُ عَلِمْتَ؟ أَمَا إِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَوْ كَانُوا أَخْوَالَ أَبِي الْحَكَمِ - يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ - ثُمَّ دَعَوْتَهُ إِلَى مِثْلِ مَا دَعَاكَ إِلَيْهِ مَا أَجَابَكَ أَبَدًا. فَمَاذَا أَصْنَعُ؟ وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مَعِي رَجُلٌ آخَرُ لَنَقَضْتُهَا. فَقَالَ: قَدْ وَجَدْتَ رَجُلًا. قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا. قَالَ زُهَيْرٌ: ابْغِنَا ثَالِثًا، فَذَهَبَ إِلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَقَالَ لَهُ: أَرَضِيتَ أَنْ يَهْلَكَ بَطْنَانِ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأَنْتَ شَاهِدٌ ذَلِكَ مُوَافِقٌ فِيهِ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَمْكَنْتُمُوهُمْ مِنْ هَذِهِ لَتَجِدُنَّهُمْ إِلَيْهَا مِنْكُمْ سِرَاعًا قَالَ: مَا أَصْنَعُ؟ إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ. قَالَ: قَدْ وَجَدْتَ ثَانِيًا. قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا قَالَ: ابْغِنَا ثَالِثًا. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ. قَالَ: ابْغِنَا رَابِعًا. فَذَهَبَ إِلَى أَبِي الْبَخْتَرِيِّ بْنِ هِشَامٍ، وَقَالَ لَهُ نَحْوًا مِمَّا قَالَ لِلْمُطْعِمِ، قَالَ: وَهَلْ مِنْ أَحَدٍ يُعِينُ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا وَزُهَيْرٌ وَالْمُطْعِمُ. قَالَ: ابْغِنَا خَامِسًا. فَذَهَبَ إِلَى زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، فَكَلَّمَهُ وَذَكَرَ لَهُ قَرَابَتَهُمْ، قَالَ: وَهَلْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ مُعِينٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَسَمَّى لَهُ الْقَوْمَ، فَاتَّعَدُوا خَطْمَ الْحَجُونِ الَّذِي بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَاجْتَمَعُوا هُنَالِكَ وَتَعَاهَدُوا عَلَى الْقِيَامِ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ. فَقَالَ زُهَيْرٌ: أَنَا أَبْدَأُكُمْ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إِلَى أَنْدِيَتِهِمْ، وَغَدَا زُهَيْرٌ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَنَأْكُلُ الطَّعَامَ وَنَلْبَسُ الثِّيَابَ وَبَنُو هَاشِمٍ هَلْكَى لَا يَبْتَاعُونَ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ؟ وَاللَّهِ لَا أَقْعُدُ حَتَّى تُشَقَّ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ الْقَاطِعَةُ الظَّالِمَةُ. قَالَ أَبُو جَهْلٍ: كَذَبْتَ

وَاللَّهِ لَا تُشَقُّ. قَالَ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ: أَنْتَ وَاللَّهِ أَكْذَبُ، مَا رَضِينَا بِهَا حِينَ كُتِبَتْ. قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: صَدَقَ زَمْعَةُ، لَا نَرْضَى مَا كُتِبَ فِيهَا. قَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ: صَدَقْتُمَا وَكَذَبَ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ. وَأَبُو طَالِبٍ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ. فَقَامَ الْمُطْعِمُ إِلَى الصَّحِيفَةِ لِيَشُقَّهَا فَوَجَدَ الْأَرَضَةَ قَدْ أَكَلَتْهَا إِلَّا مَا كَانَ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، كَانَتْ تُفْتَتَحُ بِهَا كُتُبُهَا، وَكَانَ كَاتِبَ الصَّحِيفَةِ مَنْصُورُ بْنُ عِكْرِمَةَ، فَشُلَّتْ يَدُهُ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِمْ مِنَ الشِّعْبِ أَنَّ الصَّحِيفَةَ لَمَّا كُتِبَتْ وَعُلِّقَتْ بِالْكَعْبَةِ اعْتَزَلَ النَّاسُ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُمَا بِالشِّعْبِ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ الْأَرَضَةَ وَأَكَلَتْ مَا فِيهَا مِنْ ظُلْمٍ وَقَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَتَرَكَتْ مَا فِيهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَجَاءَ جِبْرَائِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ لَا يَشُكُّ فِي قَوْلِهِ، فَخَرَجَ مِنَ الشِّعْبِ إِلَى الْحَرَمِ، فَاجْتَمَعَ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَالَ: إِنَّ ابْنَ أَخِي أَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ عَلَى صَحِيفَتِكُمُ الْأَرَضَةَ، فَأَكَلَتْ مَا فِيهَا مِنْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ وَظُلْمٍ، وَتَرَكَتِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَحْضِرُوهَا، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا عَلِمْتُمْ أَنَّكُمْ ظَالِمُونَ لَنَا قَاطِعُونَ لِأَرْحَامِنَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا عَلِمْنَا أَنَّكُمْ عَلَى حَقٍّ وَأَنَّا عَلَى بَاطِلٍ. فَقَامُوا سِرَاعًا وَأَحْضَرُوهَا، فَوَجَدُوا الْأَمْرَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوِيَتْ نَفْسُ أَبِي طَالِبٍ وَاشْتَدَّ صَوْتُهُ وَقَالَ: قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ أَنَّكُمْ أَوْلَى بِالظُّلْمِ وَالْقَطِيعَةِ. فَنَكَّسُوا رُءُوسَهُمْ ثُمَّ قَالُوا: إِنَّمَا يَأْتُونَنَا بِالسِّحْرِ وَالْبُهْتَانِ، وَقَامَ أُولَئِكَ النَّفَرُ فِي نَقْضِهَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي أَمْرِ الصَّحِيفَةِ وَأَكْلِ الْأَرَضَةِ مَا فِيهَا مِنْ ظُلْمٍ وَقَطِيعَةِ رَحِمٍ أَبْيَاتًا مِنْهَا: وَقَدْ كَانَ فِي أَمْرِ الصَّحِيفَةِ عِبْرَةٌ ... مَتَى مَا يُخَبَّرُ غَائِبُ الْقَوْمِ يَعْجَبُ مَحَا اللَّهُ مِنْهُمْ كُفْرَهُمْ وَعُقُوقَهُمْ ... وَمَا نَقَمُوا مِنْ نَاطِقِ الْحَقِّ مُعْرِبُ فَأَصْبَحَ مَا قَالُوا مِنَ الْأَمْرِ بَاطِلًا ... وَمَنْ يَخْتَلِقْ مَا لَيْسَ بِالْحَقِّ يَكْذِبُ

ذكر وفاة أبي طالب وخديجة وعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه على العرب

[ذِكْرُ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ وَعَرْضِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفْسَهُ عَلَى الْعَرَبِ] تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ وَخَدِيجَةُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ وَبَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الشِّعْبِ، فَتُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ فِي شَوَّالٍ أَوْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَعُمْرُهُ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ خَدِيجَةُ مَاتَتْ قَبْلَهُ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: كَانَ بَيْنَهُمَا خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا، وَقِيلَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَعَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَلَاكِهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنِّي شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ» ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَصَلُوا مِنْ أَذَاهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى مَا لَمْ يَكُونُوا يَصِلُونَ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، حَتَّى يَنْثُرَ بَعْضُهُمُ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، وَحَتَّى «إِنَّ بَعْضَهُمْ يَطْرَحُ عَلَيْهِ رَحِمَ الشَّاةِ وَهُوَ يُصَلِّي، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخْرِجُ ذَلِكَ عَلَى الْعُودِ وَيَقُولُ: أَيُّ جِوَارِ هَذَا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ! ثُمَّ يُلْقِيهِ بِالطَّرِيقِ» . فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ، خَرَجَ وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إِلَى ثَقِيفٍ يَلْتَمِسُ مِنْهُمُ النَّصْرَ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ عَمَدَ إِلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ سَادَةُ ثَقِيفٍ، وَهُمْ إِخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ: عَبْدُ يَالِيلَ وَمَسْعُودٌ وَحَبِيبٌ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَكَلَّمَهُمْ فِي نُصْرَتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالْقِيَامِ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: مَارِدٌ يَمْرُطُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ. وَقَالَ آخَرُ: أَمَا وَجَدَ اللَّهُ مَنْ يُرْسِلُهُ غَيْرَكَ! وَقَالَ الثَّالِثُ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ كَلِمَةً أَبَدًا، لَئِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ - كَمَا تَقُولُ - لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ، وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ فَمَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلِّمَكَ. «فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ، وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا أَبَيْتُمْ فَاكْتُمُوا عَلَيَّ ذَلِكَ، وَكَرِهَ أَنْ يَبْلُغَ قَوْمَهُ، فَلَمْ يَفْعَلُوا وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ. فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَأَلْجَؤُوهُ إِلَى حَائِطٍ لِعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَهُوَ الْبُسْتَانُ، وَهُمَا فِيهِ، وَرَجَعَ السُّفَهَاءُ عَنْهُ، وَجَلَسَ إِلَى

ظِلِّ حَبَلَةٍ وَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، اللَّهُمَّ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى بِعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي أَوْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي! وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ، إِنِّي أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ تُحِلَّ بِي سَخَطَكَ» ". فَلَمَّا رَأَى ابْنَا رَبِيعَةَ مَا لَحِقَهُ تَحَرَّكَتْ لَهُ رَحِمُهُمَا، فَدَعَوَا غُلَامًا لَهُمَا نَصْرَانِيًّا اسْمُهُ عَدَّاسٌ فَقَالَا لَهُ: خُذْ قِطْفًا مِنْ هَذَا الْعِنَبِ، وَاذْهَبْ بِهِ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَفَعَلَ فَلَمَّا وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَعَ يَدَهُ فِيهِ وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ أَكَلَ، فَقَالَ عَدَّاسٌ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبَلْدَةِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِنْ أَيِّ بِلَادٍ أَنْتَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ " قَالَ: أَنَا نَصْرَانِيٌّ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمِنْ قَرْيَةِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى؟ " قَالَ لَهُ: وَمَا يُدْرِيكَ مَا يُونُسُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَلِكَ أَخِي كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ "، فَأَكَبَّ عَدَّاسٌ عَلَى يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِجْلَيْهِ يُقَبِّلُهَا فَعَادَ. فَيَقُولُ ابْنَا رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: أَمَّا غُلَامُكَ فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْكَ. فَلَمَّا جَاءَ عَدَّاسٌ قَالَا لَهُ: وَيْحَكَ مَا لَكَ تُقَبِّلُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ؟ قَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ. قَالَا: وَيْحَكَ إِنَّ دِينَكَ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ! ثُمَّ «انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ قَائِمًا يُصَلِّي، فَمَرَّ بِهِ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، وَهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ، رَائِحِينَ إِلَى الْيَمَنِ فَاسْتَمَعُوا لَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَوَاتِهِ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَدْ آمَنُوا وَأَجَابُوا» . وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَادَ مِنْ ثَقِيفٍ أَرْسَلَ إِلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ لِيُجِيرَهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ فَأَجَارَهُ، وَأَصْبَحَ الْمُطْعِمُ قَدْ لَبِسَ سِلَاحَهُ هُوَ وَبَنُوهُ وَبَنُو

أَخِيهِ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: أَمُجِيرٌ أَمْ مُتَابِعٌ؟ قَالَ: بَلْ مُجِيرٌ. قَالَ: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتَ فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ وَأَقَامَ بِهَا. فَلَمَّا رَآهُ أَبُو جَهْلٍ قَالَ: هَذَا نَبِيُّكُمْ يَا عَبْدَ مَنَافٍ. فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ: وَمَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ مِنَّا نَبِيٌّ وَمَلِكٌ؟ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: " أَمَّا أَنْتَ يَا عُتْبَةُ فَمَا حَمَيْتَ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا حَمَيْتَ لِنَفْسِكَ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا جَهْلٍ فَوَاللَّهِ لَا يَأْتِي عَلَيْكَ غَيْرُ بَعِيدٍ حَتَّى تَضْحَكَ قَلِيلًا وَتَبْكِيَ كَثِيرًا، وَأَمَّا أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ فَوَاللَّهِ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ غَيْرُ كَثِيرٍ حَتَّى تَدْخُلُوا فِيمَا تُنْكِرُونَ وَأَنْتُمْ كَارِهُونَ. "، فَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ» . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِضُ نَفْسَهُ فِي الْمَوَاسِمِ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَأَتَى كِنْدَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَفِيهِمْ سَيِّدٌ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ مُلَيْحٌ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ. فَأَتَى كَلْبًا، إِلَى بَطْنٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَبْدِ اللَّهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى بَنِي حَنِيفَةَ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ أَقْبَحَ رَدًّا عَلَيْهِ مِنْهُمْ. ثُمَّ أَتَى بَنِي عَامِرٍ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، «فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَرَأَيْتَ إِنْ نَحْنُ تَابَعْنَاكَ فَأَظْهَرَكَ اللَّهُ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: الْأَمْرُ إِلَى اللَّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ» . قَالَ لَهُ: أَفَنُهْدِفُ نُحُورَنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ فَإِذَا ظَهَرْتَ كَانَ الْأَمْرُ لِغَيْرِنَا؟ لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ. فَلَمَّا رَجَعَتْ بَنُو عَامِرٍ إِلَى شَيْخٍ لَهُمْ كَبِيرٍ فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَسَبَهُ، وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي عَامِرٍ هَلْ مِنْ تَلَافٍ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا تَقَوَّلَهَا إِسْمَاعِيلِيٌّ قَطُّ وَإِنَّهَا لَحَقٌّ، وَأَيْنَ كَانَ رَأْيُكُمْ عَنْهُ! وَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى كُلِّ قَادِمٍ لَهُ اسْمٌ وَشَرَفٌ وَيَدْعُوهُ إِلَى اللَّهِ. وَكَانَ كُلَّمَا أَتَى قَبِيلَةً يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ تَبِعَهُ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ، فَإِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -

ذكر أول عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه على الأنصار وإسلامهم

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَلَامِهِ يَقُولُ لَهُمْ أَبُو لَهَبٍ: يَا بَنِي فُلَانٍ، إِنَّمَا يَدْعُوكُمْ هَذَا إِلَى أَنْ تَسْلَخُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَحُلَفَاءَكُمْ مِنَ الْجِنِّ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْبِدْعَةِ، فَلَا تُطِيعُوهُ وَلَا تَسْمَعُوا لَهُ. [ذِكْرُ أَوَّلِ عَرْضِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفْسَهُ عَلَى الْأَنْصَارِ وَإِسْلَامِهِمْ] فَقَدِمَ سُوَيْدُ بْنُ الصَّامِتِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بَطْنٌ مِنَ الْأَوْسِ مَكَّةَ حَاجًّا وَمُعْتَمِرًا، وَكَانَ يُسَمَّى الْكَامِلَ لِجَلَدِهِ وَشِعْرِهِ وَنَسَبِهِ، وَهُوَ الْقَائِلُ: أَلَا رُبَّ مَنْ تَدْعُو صَدِيقًا وَلَوْ تَرَى ... مَقَالَتَهُ بِالْغَيْبِ سَاءَكَ مَا يَفْرِي مَقَالَتُهُ كَالشَّحْمِ مَا كَانَ شَاهِدًا ... وَبِالْغَيْبِ مَأْثُورٌ عَلَى ثُغْرَةِ النَّحْرِ يَسُرُّكَ بَادِيهِ وَتَحْتَ أَدِيمِهِ ... نَمِيمَةُ غِشٍّ تَبْتَرِي عَقِبَ الظَّهْرِ تُبِينُ لَكَ الْعَيْنَانِ مَا هُوَ كَاتِمٌ ... وَمَا جُنَّ بِالْبَغْضَاءِ وَالنَّظَرِ الشَّزْرِ فَرِشْنِي بِخَيْرٍ طَالَمَا قَدْ بَرَيْتَنِي ... فَخَيْرُ الْمَوَالِي مَنْ يَرِيشُ وَلَا يَبْرِي فَتَصَدَّى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ حَسَنٌ. ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَتَلَهُ الْخَزْرَجُ، قُتِلَ يَوْمَ بُعَاثٍ، فَكَانَ قَوْمُهُ يَقُولُونَ: قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ. (بُعَاثُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَضْمُومَةِ، وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ) وَقَدِمَ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ مَكَّةَ مَعَ فِتْيَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ يَلْتَمِسُونَ الْحِلْفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، فَأَتَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ

ذكر بيعة العقبة الأولى وإسلام سعد بن معاذ

لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ؟ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ إِيَاسٌ، وَكَانَ غُلَامًا حَدَثًا: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْنَا لَهُ. فَضَرَبَ وَجْهَهُ أَبُو الْحَيْسَرِ بِحَفْنَةٍ مِنَ الْبَطْحَاءِ وَقَالَ: دَعْنَا مِنْكَ فَلَقَدْ جِئْنَا لِغَيْرِ هَذَا فَسَكَتَ إِيَاسٌ، وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَلْبَثْ إِيَاسٌ أَنْ هَلَكَ، فَسَمِعَهُ قَوْمُهُ يُهَلِّلُ اللَّهَ وَيُكَبِّرُهُ حَتَّى مَاتَ، فَمَا يَشُكُّونَ أَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا. [ذِكْرُ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الْأُولَى وَإِسْلَامِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ] فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِظْهَارَ دِينِهِ وَإِنْجَازَ وَعْدِهِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْمَوْسِمِ الَّذِي لَقِيَ فِيهِ النَّفَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ لَقِيَ رَهْطًا مِنَ الْخَزْرَجِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ، وَقَدْ كَانَتْ يَهُودُ مَعَهُمْ بِبِلَادِهِمْ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ أَهْلَ أَوْثَانٍ، فَكَانُوا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ شَرٌّ تَقُولُ الْيَهُودُ: إِنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ الْآنَ نَتَّبِعُهُ وَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَثَمُودَ. فَقَالَ أُولَئِكَ النَّفَرُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَذَا وَاللَّهِ النَّبِيُّ الَّذِي تَوَعَّدَكُمْ بِهِ الْيَهُودُ، فَأَجَابُوهُ وَصَدَّقُوهُ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ بَيْنَ قَوْمِنَا شَرًّا، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَهُمْ بِكَ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَيْكَ فَلَا رَجُلَ أَعَزُّ مِنْكَ. ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنَ الْخَزْرَجِ: أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ أَبُو أُمَامَةَ، وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ، كِلَاهُمَا مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَجْلَانَ، وَعَامِرُ بْنُ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمٍ، كِلَاهُمَا مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدِ بْنِ سَوَادٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ - سَلِمَةُ هَذَا بِكَسْرِ اللَّامِ - وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِئٍ مِنْ بَنِي غَنْمٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِيَابٍ مِنْ بَنِي عُبَيْدَةَ. (رِيَابٌ: بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِ وَالْيَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) . فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ ذَكَرُوا لَهُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى فَشَا فِيهِمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ وَافَى الْمَوْسِمَ مِنَ الْأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَلَقُوهُ بِالْعَقَبَةِ،

وَهِيَ الْعَقَبَةُ الْأُولَى، فَبَايَعُوهُ بَيْعَةَ النِّسَاءِ، وَهُمْ: أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَعَوْفٌ وَمُعَاذٌ ابْنَا الْحَارِثِ، وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَجْلَانَ، وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَيَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزَمَةَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ بَلِيٍّ حَلِيفٍ لَهُمْ، وَعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ مِنْ بَنِي سَالِمٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِئٍ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، وَهَؤُلَاءِ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَشَهِدَهَا مِنَ الْأَوْسِ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، حَلِيفٌ لِبَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ حَلِيفٌ لَهُمْ. فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَبَعَثَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِئَهُمُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمَهُمُ الْإِسْلَامَ، فَنَزَلَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَخَرَجَ بِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ فَجَلَسَ فِي دَارِ بَنِي ظَفَرٍ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمَا رِجَالٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ، فَسَمِعَ بِهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُمَا سَيِّدَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَكِلَاهُمَا مُشْرِكٌ، فَقَالَ سَعْدٌ لِأُسَيْدٍ: انْطَلِقْ إِلَى هَذَيْنِ الَّذِينَ أَتَيَا دَارَنَا فَانْهَهُمَا، فَإِنَّهُ لَوْلَا أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَهُوَ ابْنُ خَالَتِي، كَفَيْتُكَ ذَلِكَ، فَأَخَذَ أُسَيْدٌ حَرْبَتَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمَا تُسَفِّهَانِ ضُعَفَاءَنَا؟ اعْتَزِلَا عَنَّا. فَقَالَ مُصْعَبٌ: أَوْ تَجْلِسُ فَتَسْمَعُ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ كُفَّ عَنْكَ مَا تَكْرَهُ! فَقَالَ أَنْصَفْتَ. ثُمَّ جَلَسَ إِلَيْهِمَا، فَكَلَّمَهُ مُصْعَبٌ بِالْإِسْلَامِ، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَجَلَّهُ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا دَخَلْتُمْ فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا: تَغْتَسِلُ وَتُطَهِّرُ ثِيَابَكَ ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ ثُمَّ تُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَأَسْلَمَ. ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ وَرَائِي رَجُلًا إِنْ تَبِعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْكُمَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَسَأُرْسِلُهُ إِلَيْكُمَا، سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى سَعْدٍ وَقَوِمِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سَعْدٌ قَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ! فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: كَلَّمْتُ الرَّجُلَيْنِ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ بِهِمَا بَأْسًا، وَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَامَ سَعْدٌ مُغْضَبًا مُبَادِرًا لِخَوْفِهِ مِمَّا ذَكَرَ لَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُمَا مُطْمَئِنَّيْنِ عَرَفَ مَا أَرَادَ أُسَيْدٌ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا وَقَالَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ: لَوْلَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنَ الْقَرَابَةِ مَا رُمْتَ هَذَا مِنِّي. فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَوَتَقْعُدُ فَتَسْمَعُ فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ عَزَلْنَا عَنْكَ مَا تَكْرَهُ! فَعَرَضَ عَلَيْهِ مُصْعَبٌ الْإِسْلَامَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَقَالَ لَهُمَا: كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا دَخَلْتُمْ فِي هَذَا الدِّينِ؟ فَقَالَا لَهُ مَا قَالَا لِأُسَيْدٍ، فَأَسْلَمَ وَتَطَهَّرَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى نَادِي قَوْمِهِ وَمَعَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي مِنْكُمْ؟ قَالُوا: سَيِّدُنَا وَأَفْضَلُنَا. قَالَ: فَإِنَّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا

ذكر بيعة العقبة الثانية

بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى فِي دَارِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا أَوْ مُسْلِمَةً. وَرَجَعَ مُصْعَبٌ إِلَى مَنْزِلِ أَسْعَدَ، وَلَمْ يَزَلْ يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْلِمُونَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَوَائِلٍ وَوَاقِفٌ، فَإِنَّهُمْ أَطَاعُوا أَبَا قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ، فَوَقَفَ بِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ حَتَّى هَاجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَضَتْ بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ، وَعَادَ مُصْعَبٌ إِلَى مَكَّةَ. (أُسَيْدٌ: بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَفَتْحِ السِّينِ، وَحُضَيْرٌ: بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَتَسْكِينِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَفِيِ آخِرِهِ رَاءٌ) . [ذِكْرُ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ] لَمَّا فَشَا الْإِسْلَامُ فِي الْأَنْصَارِ اتَّفَقَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَخْفِينَ لَا يَشْعُرُ بِهِمْ أَحَدٌ، فَسَارُوا إِلَى مَكَّةَ فِي الْمَوْسِمِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مَعَ كُفَّارِ قَوْمِهِمْ وَاجْتَمَعُوا بِهِ وَوَاعَدُوهُ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِالْعَقَبَةِ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ خَرَجُوا بَعْدَ مُضِيِّ ثُلُثِهِ، مُسْتَخْفِينَ يَتَسَلَّلُونَ حَتَّى اجْتَمَعُوا بِالْعَقَبَةِ، وَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، مَعَهُمُ امْرَأَتَانِ: نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍأُمُّ عُمَارَةَ وَأَسْمَاءُ أُمُّ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ وَمَعَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ كَافِرٌ أَحَبَّ أَنْ يَتَوَثَّقَ لِابْنِ أَخِيهِ، فَكَانَ الْعَبَّاسُ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي الْخَزْرَجَ وَالْأَوْسَ بِهِ، إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ فِي عِزٍّ وَمَنَعَةٍ، وَإِنَّهُ قَدْ أَبَى إِلَّا الِانْقِطَاعَ إِلَيْكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ وَمَانِعُوهُ فَأَنْتُمْ وَذَلِكَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مُسْلِمُوهُ فَمِنَ الْآنَ فَدَعُوهُ فَإِنَّهُ فِي عِزٍّ وَمَنَعَةٍ. فَقَالَ الْأَنْصَارُ: قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَخُذْ لِنَفْسِكَ وَرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ.

فَتَكَلَّمَ وَتَلَا الْقُرْآنَ، وَرَغَّبَ فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ قَالَ: «تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ» . ثُمَّ أَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَحْنُ وَاللَّهِ أَهْلُ الْحَرْبِ. فَاعْتَرَضَ الْكَلَامَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ حِبَالًا، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا، يَعْنِي الْيَهُودَ، فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَظْهَرَكَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟ . فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: بَلِ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنْتُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْكُمْ، أُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ وَأُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَخْرِجُوا إِلَيَّ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ» "، فَأَخْرَجُوهُمْ تِسْعَةً مِنَ الْخَزْرَجِ وَثَلَاثَةً مِنَ الْأَوْسِ. وَقَالَ لَهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ هَلْ تَدْرُونَ عَلَامَ تُبَايِعُونَ هَذَا الرَّجُلَ؟ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ إِذَا نُهِكَتْ أَمْوَالُكُمْ مُصِيبَةً وَأَشْرَافُكُمْ قَتْلًا أَسْلَمْتُمُوهُ، فَمِنَ الْآنَ فَهُوَ وَاللَّهِ خِزْيُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ فَخُذُوهُ، فَهُوَ وَاللَّهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى مُصِيبَةِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ، فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْجَنَّةُ. قَالُوا: ابْسُطْ يَدَكَ، فَبَايَعُوهُ. وَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ ذَلِكَ إِلَّا لِيَشُدَّ الْعَقْدَ لَهُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: بَلْ قَالَهُ لِيُؤَخِّرَ الْأَمْرَ لِيَحْضُرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ فَيَكُونَ أَقْوَى لِأَمْرِ الْقَوْمِ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَقِيلَ: أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، وَقِيلَ: الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ. ثُمَّ تَتَابَعَ الْقَوْمُ فَبَايَعُوا، فَلَمَّا بَايَعُوهُ صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ: يَا

أَهْلَ الْجَبَاجِبِ، هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ وَالصُّبَاةُ مَعَهُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا وَاللَّهِ لَأَفْرُغَنَّ لَكَ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ! " ثُمَّ قَالَ: " ارْفُضُوا إِلَى رِحَالِكُمْ " فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ غَدًا عَلَى أَهْلِ مِنًى بِأَسْيَافِنَا. فَقَالَ: " لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ "، فَرَجَعُوا. فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَاءَهُمْ جُلَّةُ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ جِئْتُمْ إِلَى صَاحِبِنَا تَسْتَخْرِجُونَهُ وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مِنْ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَبْغَضُ إِلَيْنَا أَنْ تَنْشَبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الْحَرْبُ مِنْكُمْ. فَحَلَفَ مَنْ هُنَالِكَ مِنْ مُشْرِكِي الْأَنْصَارِ مَا كَانَ هَذَا شَيْءٌ. فَلَمَّا سَارَ الْأَنْصَارُ مِنْ مَكَّةَ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ! قَدْ رَأَيْتُ أَنْ لَا أَسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةَ فِي صَلَاتِي. فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَقْبِلُ الشَّامَ، فَنَحْنُ لَا نُخَالِفُهُ، فَكَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَقَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا. فَرَجَعَ إِلَى قِبْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ. فَلَمَّا بَايَعُوهُ وَرَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، كَانَ قُدُومُهُمْ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ، وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقَدَمِهَا لِاثْنَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ. وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ لَمَّا بَلَغَهُمْ إِسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ، اشْتَدُّوا عَلَى مَنْ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَحَرَصُوا عَلَى أَنْ يَفْتِنُوهُمْ، فَأَصَابَهُمْ جُهْدٌ شَدِيدٌ، وَهِيَ الْفِتْنَةُ الْآخِرَةُ، وَأَمَّا الْأُولَى فَكَانَتْ قَبْلَ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ. وَكَانَتِ الْبَيْعَةُ فِي هَذِهِ الْعَقَبَةِ عَلَى غَيْرِ الشُّرُوطِ فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى، فَإِنَّ الْأُولَى كَانَتْ عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ، وَهَذِهِ الْبَيْعَةُ كَانَتْ عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ. ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَهَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَكَانَتْ هِجْرَتُهُ قَبْلَ الْبَيْعَةِ بِسَنَةٍ، ثُمَّ هَاجَرَ بَعْدَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ مَعَ امْرَأَتِهِ لَيْلَى ابْنَةِ أَبِي حَثْمَةَ! ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَمَعَهُ أَخُوهُ أَبُو أَحْمَدَ

ذكر هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم

وَجَمِيعُ أَهْلِهِ، فَأُغْلِقَتْ دَارُهُمْ، وَتَتَابَعَ الصَّحَابَةُ، ثُمَّ هَاجَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ فَنَزَلَا فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَخَرَجَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ إِلَى عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَخَاهُمَا لِأُمِّهِمَا، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُمَّكَ قَدْ نَذَرَتْ أَنَّهَا لَا تَسْتَظِلُّ وَلَا تَمْتَشِطُ. فَرَقَّ لَهَا وَعَادَ. وَتَتَابَعَ الصَّحَابَةُ بِالْهِجْرَةِ إِلَى أَنْ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [ذِكْرُ هِجْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] لَمَّا تَتَابَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْهِجْرَةِ أَقَامَ هُوَ بِمَكَّةَ يَنْتَظِرُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَتَخَلَّفَ مَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ حَذِرُوا خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَهِيَ دَارُ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ، وَتَشَاوَرُوا فِيهَا فَدَخَلَ مَعَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ وَقَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ سَمِعْتُ بِخَبَرِكُمْ فَحَضَرْتُ، وَعَسَى أَنْ لَا تُعْدَمُوا مِنِّي رَأْيًا. وَكَانُوا: عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، وَأَبَا سُفْيَانَ، وَطُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيٍّ، وَحَبِيبَ بْنَ مُطْعِمٍ، وَالْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَأَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْنَ هِشَامٍ، وَرَبِيعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، وَأَبَا جَهْلٍ، وَنُبَيْهًا وَمُنَبِّهًا ابْنَيِ الْحَجَّاجِ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَغَيْرَهُمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، وَمَا نَأْمَنُهُ عَلَى الْوُثُوبِ عَلَيْنَا بِمَنِ اتَّبَعَهُ، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ الشُّعَرَاءَ قَبْلَهُ. فَقَالَ النَّجْدِيُّ: مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، لَوْ حَبَسْتُمُوهُ يَخْرُجُ أَمْرُهُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَأَوْشَكُوا أَنْ يَثِبُوا عَلَيْكُمْ، فَيَنْتَزِعُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ. فَقَالَ آخَرُ: نُخْرِجُهُ وَنَنْفِيهِ مِنْ بَلَدِنَا وَلَا نُبَالِي أَيْنَ وَقَعَ إِذَا غَابَ عَنَّا. فَقَالَ

النَّجْدِيُّ: أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ وَحَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ؟ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَحَلَّ عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِمْ بِحَلَاوَةِ مَنْطِقِهِ، ثُمَّ يَسِيرُ بِهِمْ إِلَيْكُمْ حَتَّى يَطَأَكُمْ وَيَأْخُذَ أَمْرَكُمْ مِنْ أَيْدِيكُمْ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَتًى نَسِيبًا، وَنُعْطِي كُلَّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا، ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَقْتُلُونَهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ كُلِّهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا، وَرَضُوا مِنَّا بِالْعَقْلِ. فَقَالَ النَّجْدِيُّ: الْقَوْلُ مَا قَالَ الرَّجُلُ، هَذَا الرَّأْيُ! فَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ. فَأَتَى جِبْرَائِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا تَبِتِ اللَّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِكَ. فَلَمَّا كَانَ الْعَتَمَةُ اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ يَرْصُدُونَهُ مَتَى يَنَامُ فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: نَمْ عَلَى فِرَاشِي وَاتَّشِحْ بِبُرْدِي الْأَخْضَرِ، فَنَمْ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُصُ إِلَيْكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا عِنْدَهُ مِنْ وَدِيعَةٍ وَأَمَانَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فَجَعَلَهُ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1] ، إِلَى قَوْلِهِ: {فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] . ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَرَوْهُ، فَأَتَاهُمْ آتٍ فَقَالَ: مَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَقَالُوا: مُحَمَّدًا. قَالَ: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ، خَرَجَ عَلَيْكُمْ وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا مِنْكُمْ إِلَّا جَعَلَ عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ! فَوَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى رُءُوسِهِمْ فَرَأَوُا التُّرَابَ، وَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ فَيَرَوْنَ عَلِيًّا نَائِمًا وَعَلَيْهِ بُرْدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَنَائِمٌ، فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا. فَقَامَ عَلِيٌّ عَنِ الْفِرَاشِ، فَعَرَفُوهُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] الْآيَةَ. وَسَأَلَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ عَلِيًّا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا أَدْرِي، أَمَرْتُمُوهُ بِالْخُرُوجِ فَخَرَجَ. فَضَرَبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَحَبَسُوهُ سَاعَةً ثُمَّ تَرَكُوهُ، وَنَجَّى اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ مَكْرِهِمْ وَأَمَرَهُ بِالْهِجْرَةِ، وَقَامَ عَلِيٌّ يُؤَدِّي أَمَانَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَفْعَلُ مَا أَمَرَهُ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُخْطِئُهُ أَحَدٌ طَرَفَيِ النَّهَارِ أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ إِمَّا بُكْرَةً أَوْ عَشِيَّةً، حَتَّى كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لِرَسُولِهِ بِالْهِجْرَةِ فَأَتَانَا بِالْهَاجِرَةِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: مَا جَاءَ هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا لِأَمْرِ حَدَثَ. فَلَمَّا دَخَلَ جَلَسَ

عَلَى السَّرِيرِ وَقَالَ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ، وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ! قَالَ: الصُّحْبَةَ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْفَرَحِ، فَاسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَرْقَدَ، مِنْ بَنِي الدَّيْلِ بْنِ بَكْرٍ، وَكَانَ مُشْرِكًا، يَدُلُّهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ وَآلِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَمَّا عَلِيٌّ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَدَائِعَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ يَلْحَقَهُ. وَخَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ، ثُمَّ عَمَدَا إِلَى غَارٍ بِثَوْرٍ فَدَخَلَاهُ، وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يَسْتَمِعَ لَهُمَا بِمَكَّةَ نَهَارَهُ ثُمَّ يَأْتِيهِمَا لَيْلًا، وَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ نَهَارَهُ ثُمَّ يَأْتِيَهُمَا بِهَا لَيْلًا، وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ تَأْتِيهِمَا بِطَعَامِهِمَا مَسَاءً، فَأَقَامَا فِي الْغَارِ ثَلَاثًا. وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ إِذَا غَدَا مِنْ عِنْدِهِمَا اتَّبَعَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ أَثَرَهُ بِالْغَنَمِ حَتَّى يُعْفِيَ عَلَيْهِ. فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ وَسَكَنَ النَّاسُ أَتَاهُمَا دَلِيلُهُمَا بِبَعِيرَيْهِمَا، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدَهُمَا بِالثَّمَنِ فَرَكِبَهُ، وَأَتَتْهُمَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ بِسُفْرَتِهِمَا وَنَسِيَتْ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا عِصَامًا فَحَلَّتْ نِطَاقَهَا فَجَعَلَتْهُ عِصَامًا وَعَلَّقَتِ السُّفْرَةَ بِهِ، وَكَانَ يُقَالُ لِأَسْمَاءَ: ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ لِذَلِكَ. ثُمَّ رَكِبَا وَسَارَا، وَأَرْدَفَ أَبُو بَكْرٍ مَوْلَاهُ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ يَخْدِمُهُمَا فِي الطَّرِيقِ، فَسَارُوا لَيْلَتَهُمْ وَمِنَ الْغَدِ إِلَى الظُّهْرِ، وَرَأَوْا صَخْرَةً طَوِيلَةً، فَسَوَّى أَبُو بَكْرٍ عِنْدَهَا مَكَانًا لِيُقِيلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِيَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَرَسَهُ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى رَحَلُوا بَعْدَمَا زَالَتِ الشَّمْسُ. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ جَعَلَتْ لِمَنْ يَأْتِي بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِيَةً، فَتَبِعَهُمْ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ فَلَحِقَهُمْ وَهُمْ فِي أَرْضٍ صُلْبَةٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَدْرَكَنَا الطَّلَبُ! فَقَالَ: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَارْتَطَمَتْ فَرَسُهُ

إِلَى بَطْنِهَا وَثَارَ مِنْ تَحْتِهَا مِثْلَ الدُّخَانِ. فَقَالَ: ادْعُ لِي مُحَمَّدُ لِيُخَلِّصَنِي اللَّهُ، وَلَكَ عَلَيَّ أَنْ أَرُدَّ عَنْكَ الطَّلَبَ، فَدَعَا لَهُ فَتَخَلَّصَ، فَعَادَ يَتْبَعُهُمْ، فَدَعَا عَلَيْهِ الثَّانِيَةَ فَسَاخَتْ قَوَائِمُ فَرَسِهِ فِي الْأَرْضِ أَشَدَّ مِنَ الْأُولَى، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا مِنْ دُعَائِكَ عَلَيَّ، فَادْعُ لِي وَلَكَ عَهْدُ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ عَنْكَ الطَّلَبَ. فَدَعَا لَهُ فَخَلُصَ وَقَرُبَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، وَإِنَّ إِبِلِي بِمَكَانِ كَذَا فَخُذْ مِنْهَا مَا أَحْبَبْتَ. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي إِبِلِكَ. فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ عَنْهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ بِكَ يَا سُرَاقَةُ إِذَا سُوِّرْتَ بِسِوَارَيْ كِسْرَى؟ قَالَ: كِسْرَىبْنُ هُرْمُزَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَعَادَ سُرَاقَةُ فَكَانَ لَا يَلْقَاهُ أَحَدٌ يُرِيدُ الطَّلَبَ إِلَّا قَالَ: كُفِيتُمْ مَا هَاهُنَا، وَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ. قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ: «لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوكِ؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي، فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ فَلَطَمَ خَدِّي لَطْمَةً طَرَحَ قُرْطِي، وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا. وَمَكَثْنَا مَلِيًّا لَا نَدْرِي أَيْنَ تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَتَى رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، وَالنَّاسُ يَتَّبِعُونَهُ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ وَهُوَ يَقُولُ: جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ هُمَا نَزَلَا بِالْهَدْيِ وَاغْتَدَيَا بِهِ ... فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ لِيَهْنِئْ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ

قَالَتْ: فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَا أَنَّ وَجْهَهُ كَانَ إِلَى الْمَدِينَةِ» . وَقَدِمَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا قُبَاءً فَنَزَلَ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِاثْنَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ حِينَ كَادَتِ الشَّمْسُ تَعْتَدِلُ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ، أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَقِيلَ: نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَكَانَ عَزَبًا، وَكَانَ يُنْزِلُ عِنْدَهُ الْعُزَّابَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ يُقَالُ لِبَيْتِهِ بَيْتُ الْعُزَّابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَنَزَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إِسَافٍ بِالسُّنْحِ، وَقِيلَ: نَزَلَ عَلَى خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. وَأَمَّا عَلِيٌّ فَإِنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَسِيرُ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُ النَّهَارَ، حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَقَدْ تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادْعُوَا لِي عَلِيًّا ". قِيلَ: لَا يَقْدِرُ أَنْ يَمْشِيَ. فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاعْتَنَقَهُ، وَبَكَى رَحْمَةً لِمَا بِقَدَمَيْهِ مِنَ الْوَرَمِ، وَتَفَلَ فِي يَدَيْهِ وَأَمَرَّهُمَا عَلَى قَدَمَيْهِ، فَلَمْ يَشْتَكِهِمَا بَعْدُ حَتَّى قُتِلَ. وَنَزَلَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى امْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا، فَرَأَى إِنْسَانًا يَأْتِيهَا كُلَّ لَيْلَةٍ وَيُعْطِيهَا شَيْئًا فَاسْتَرَابَ بِهَا، فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ: هُوَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، قَدْ عَلِمَ أَنِّي امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لِي فَهُوَ يَكْسِرُ أَصْنَامَ قَوْمِهِ وَيَحْمِلُهَا إِلَيَّ وَيَقُولُ: احْتَطِبِي بِهَذِهِ. فَكَانَ عَلِيٌّ يَذْكُرُ ذَلِكَ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقُبَاءٍ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ، وَأَسَّسَ مَسْجِدَهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ: أَقَامَ عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَدْرَكَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فَصَلَّاهَا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الْوَادِي، فَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا بِالْمَدِينَةِ. «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وُلِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَاسْتُنْبِئَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَرَفَعَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَهَاجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَقُبِضَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ» .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَقَامِهِ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَقَالَ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ - وَعَائِشَةَ: إِنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ. وَمِثْلُهُمْ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ: ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ دِينَارٍ. وَقِيلَ: أَقَامَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَمْرَةَ وَعِكْرِمَةَ أَيْضًا عَنْهُ، وَلَعَلَّ الَّذِي قَالَ أَقَامَ عَشْرَ سِنِينَ أَرَادَ بَعْدَ إِظْهَارِ الدَّعْوَةِ، فَإِنَّهُ بَقِيَ سِنِينَ يَسِيرَةً، وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُ صِرْمَةَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ الْأَنْصَارِيٍّ، شِعْرٌ: ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حَجَّةً ... يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُوَاتِيَا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَقَامِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً لِأَنَّهُ قَدْ زَادَ عَلَى عَشَرَةِ سِنِينَ، فَلَوْ كَانَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَصَحَّ الْوَزْنُ، وَكَذَلِكَ سِتَّ عَشْرَةَ وَسَبْعَ عَشْرَةَ، وَحَيْثُ لَمْ يَسْتَقِمِ الْوَزْنُ بِأَنْ يَقُولَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ قَالَ: بِضْعَ عَشْرَةَ، وَلَمْ يُنْقَلْ فِي مَقَامِهِ زِيَادَةٌ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ إِلَّا ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ ثَمَانِي سِنِينَ، وَلَمْ يُوَافِقْهُ غَيْرُهُ.

ذكر ما كان من الأمور أول سنة من الهجرة

[ذِكْرُ مَا كَانَ مِنَ الْأُمُورِ أَوَّلَ سَنَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 1 - ذِكْرُ مَا كَانَ مِنَ الْأُمُورِ أَوَّلَ سَنَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فَمِنْ ذَلِكَ تَجْمِيعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَصْحَابِهِ الْجُمُعَةَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ مِنْ قُبَاءٍ فِي بَنِي سَالِمٍ فِي بَطْنِ وَادٍ لَهُمْ، وَهِيَ أَوَّلُ جُمُعَةٍ جَمَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِسْلَامِ وَخَطَبَهُمْ، وَهِيَ أَوَّلُ خُطْبَةٍ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ قُبَاءٍ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ، فَرَكِبَ نَاقَتَهُ وَأَرْخَى زِمَامَهَا، فَكَانَ لَا يَمُرُّ بِدَارٍ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا قَالُوا: هَلُمَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ. فَيَقُولُ: خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِهِ الْيَوْمَ، فَبَرَكَتْ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مِرْبَدٌ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ، وَهُمَا سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ ابْنَا عَمْرٍو مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَلَمَّا بَرَكَتْ لَمْ يَنْزِلْ عَنْهَا، ثُمَّ وَثَبَتْ فَسَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاضِعٌ لَهَا زِمَامَهَا لَا يَثْنِيهَا بِهِ، فَالْتَفَتَتْ خَلْفَهَا ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَبْرَكِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَبَرَكَتْ فِيهِ وَوَضَعَتْ جِرَانَهَا، فَنَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحْتَمَلَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ رَحْلَهُ، وَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمِرْبَدِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ: هُوَ لِيَتِيمَيْنِ لِي، وَسَأُرْضِيهُمَا مِنْ ثَمَنِهِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ يُبْنَى مَسْجِدًا، وَأَقَامَ عِنْدَ أَبِي أَيُّوبَ حَتَّى بُنِيَ مَسْجِدُهُ وَمَسَاكِنُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ مَوْضِعَ الْمَسْجِدِ كَانَ لِبَنِي النَّجَّارِ فِيهِ نَخْلُ وَحَرْثُ وَقُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَامِنُونِي بِهِ. فَقَالُوا: لَا يُبْغَى بِهِ إِلَّا مَا عِنْدَ اللَّهِ. فَأَمَرَ بِهِ فَبُنِيَ مَسْجِدُهُ، وَكَانَ قَبْلَهُ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، وَبَنَاهُ هُوَ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.

وَفِيهَا بُنِيَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ. وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ كُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ. وَتُوُفِّيَ بَعْدَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَكَانَ نَقِيبَ بَنِي النَّجَّارِ، فَاجْتَمَعَ بَنُو النَّجَّارِ وَطَلَبُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ نَقِيبًا، فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ إِخْوَانِي وَأَنَا نَقِيبُكُمْ، فَكَانَ فَضِيلَةً لَهُمْ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو أُحَيْحَةَ بِالطَّائِفِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ بِمَكَّةَ، مُشْرِكِينَ. وَفِيهَا بَنَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَائِشَةَ بَعْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ بِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ بِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَقِيلَ: فِي شَوَّالٍ، وَكَانَ تَزَوَّجَهَا بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ بَعْدَ وَفَاةِ خَدِيجَةَ، وَهِيَ ابْنَةُ سِتِّ سِنِينَ، وَقِيلَ: ابْنَةُ سَبْعِ سِنِينَ. وَفِيهَا هَاجَرَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَزَوْجُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَنَاتُهُ مَا عَدَا زَيْنَبَ، وَهَاجَرَ أَيْضًا عِيَالُ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَهُمُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَفِيهَا زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ رَكْعَتَانِ بَعْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ بِشَهْرٍ. وَفِيهَا وُلِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقِيلَ: فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فِي شَوَّالٍ، وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ. وَكَانَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ أَوَّلَ مَوْلُودٍ لِلْأَنْصَارِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ وَزِيَادَ بْنَ أَبِيهِ وُلِدَا فِيهَا.

وَفِيهَا عَلَى رَأْسِ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ عَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمِّهِ حَمْزَةَ لِوَاءً أَبْيَضَ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، لِيَعْرِضُوا عِيرَ قُرَيْشٍ، فَلَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ، فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ، وَكَانَ يَحْمِلُ اللِّوَاءَ أَبُو مَرْثَدٍ، وَهُوَ أَوَّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ. وَفِيهَا أَيْضًا عَقَدَ لِوَاءً لِعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ أَبْيَضَ يَحْمِلُهُ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، فَالْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ، فَكَانَ بَيْنَهُمُ الرَّمْيُ دُونَ الْمُسَايَفَةِ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَوَّلَ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ مُسْلِمَيْنِ وَهُمَا بِمَكَّةَ، فَخَرَجَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَتَوَصَّلَانِ بِذَلِكَ، فَلَمَّا لَقِيَهُمُ الْمُسْلِمُونَ انْحَازَا إِلَيْهِمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ لِوَاءُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَوَّلَ لِوَاءٍ عَقَدَهُ، وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ ذَلِكَ لِقُرْبِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَكَانَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَقِيلَ: مِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ، وَقِيلَ: عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ. (وَالْأَخْيَفُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا) . وَفِيهَا عَقَدَ لِوَاءً لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَيَّرَهُ إِلَى الْأَبْوَاءِ، وَكَانَ يَحْمِلُ اللِّوَاءَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَكَانَ مَسِيرُهُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَجَمِيعُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَلَمْ يَلْقَ حَرْبًا. جَعَلَ الْوَاقِدِيُّ هَذِهِ السَّرَايَا جَمِيعَهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَجَعَلَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ: عَلَى رَأْسِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ خَرَجَ غَازِيًا، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَبَلَغَ وَدَّانَ يُرِيدُ قُرَيْشًا وَبَنِي ضَمْرَةَ مِنْ كِنَانَةَ، وَهِيَ غَزَاةُ الْأَبْوَاءِ، بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَمْيَالٍ، فَوَادَعَتْهُ فِيهَا بَنُو ضَمْرَةَ، وَرَئِيسُهُمْ مَخْشِيُّ بْنُ عَمْرٍو، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ

هَذِهِ الْغَزْوَةِ غَزْوَةَ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ، ثُمَّ غَزْوَةَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَفِيهَا كَانَ غَزَاةُ بَوَاطَ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، يَعْنِي سَنَةَ اثْنَتَيْنِ، يُرِيدُ قُرَيْشًا، حَتَّى بَلَغَ بُوَاطَ مِنْ نَاحِيَةِ رَضْوَى، وَكَانَ فِي عِيرِ قُرَيْشٍ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ فِي مِائَةِ رَجُلٍ، وَمَعَهُمْ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ، فَرَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَكَانَ يَحْمِلُ لِوَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ. (بَوَاطُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ) . وَفِيهَا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ الْعَشِيرَةِ مِنْ يَنْبُعَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، يُرِيدُ قُرَيْشًا حِينَ سَارُوا إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْعَشِيرَةَ وَادَعَ بَنِي مُدْلِجٍ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ ضَمْرَةَ، وَرَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَكَانَ يَحْمِلُ لِوَاءَهُ حَمْزَةُ، وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَنَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا أَبَا تُرَابٍ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. وَفِيهَا أَغَارَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَلَغَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ: سَفْوَانُ، مِنْ نَاحِيَةِ بَدْرٍ، وَفَاتَهُ كُرْزٌ، وَكَانَ لِوَاؤُهُ مَعَ عَلِيٍّ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ. وَفِيهَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فِي سَرِيَّةٍ ثَمَانِيَةَ رَهْطٍ، فَرَجَعَ

وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. وَفِيهَا جَاءَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ! سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي ثُمَّ أَعُودُ. فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ الْمُنَافِقُ فَقَالَ: كَرِهْتَ قِتَالَ الْخَزْرَجِ. فَقَالَ أَبُو قَيْسٍ: لَا أُسْلِمُ إِلَى سَنَةٍ، فَمَاتَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ.

ثم دخلت السنة الثانية من الهجرة

[ثُمَّ دَخَلَتِ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْهِجْرَةِ] [ذِكْرُ سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ] 2 - ثُمَّ دَخَلَتِ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْهِجْرَةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ السِّيَرِ، غَزْوَةَ الْأَبْوَاءِ، وَيُقَالُ: وَدَّانَ، وَبَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَمْيَالٍ، وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَكَانَ لِوَاؤُهُ أَبْيَضَ، مَعَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. ذِكْرُ سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ أَنْ يَتَجَهَّزَ لِلْغَزْوِ، فَتَجَهَّزَ، فَلَمَّا أَرَادَ الْمَسِيرَ بَكَى صَبَابَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، مَعَهُ ثَمَانِيَةُ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَقِيلَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ فِيهِ حَتَّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يَنْظُرَ فِيهِ فَيَمْضِيَ لِمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَلَا يُكْرِهُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَرَأَ الْكِتَابَ وَفِيهِ يَأْمُرُهُ بِنُزُولِ نَخْلَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ فَيَرْصُدُ قُرَيْشًا وَيَعْلَمُ أَخْبَارَهُمْ، فَأَعْلَمَ أَصْحَابَهُ، فَسَارُوا مَعَهُ. وَأَضَلَّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بَعِيرًا لَهُمَا يَعْتَقِبَانِهِ، فَتَخَلَّفَا فِي طَلَبِهِ، وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ وَنَزَلَ بِنَخْلَةَ، فَمَرَّتْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَغَيْرَهُ فِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَخُوهُ نَوْفَلٌ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ، فَأَشْرَفَ لَهُمْ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَقَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ. فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: عُمَّارٌ لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ آخِرُ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، فَرَمَى وَاقَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَأْسَرَ عُثْمَانَ وَالْحَكَمَ، وَهَرَبَ نَوْفَلٌ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مَا مَعَهُمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ

بْنُ جَحْشٍ: إِنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْخُمُسُ، وَكَانَتْ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَأَوَّلَ خُمُسٍ فِي الْإِسْلَامِ. وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ وَالْأَسْرَى إِلَى الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا قَدِمُوا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ» ، فَوَقَفَ الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ، فَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَعَنَّفَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ الشَّهْرَ الْحَرَامَ. وَقَالَتِ الْيَهُودُ: تَفَاءَلُ بِذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ قَتَلَهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ؛ " عَمْرٌو ": عَمَرَتِ الْحَرْبُ، وَ " الْحَضْرَمِيُّ ": حَضَرَتِ الْحَرْبُ، وَ " وَاقِدٌ ": وَقَدَتِ الْحَرْبُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] الْآيَةَ. فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ قَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِيرَ، وَكَانَتْ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ أَصَابُوهَا، وَفَدَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَسِيرَيْنِ. فَأَمَّا الْحَكَمُ فَأَقَامَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ. وَقِيلَ: كَانَ قَتْلُهُمْ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، وَأَخْذُ الْعِيرِ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى، وَأَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ. وَفِيهَا صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا فُرِضَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ، وَكَانَ يُحِبُّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ وَيَجْعَلُ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، وَكَانَ يُؤْثِرُ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ.

ذكر غزوة بدر الكبرى

وَقِيلَ: عَلَى رَأْسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ. وَفِيهَا أَيْضًا فِي شَعْبَانَ فُرِضَ صَوْمُ رَمَضَانَ، وَكَانَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ رَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ عَاشُورَاءَ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَنْهَهُمْ. وَفِيهَا أَمَرَ النَّاسَ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ. وَفِيهَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ خَرْجَةٍ خَرَجَهَا، وَحُمِلَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ الْعَنَزَةُ، وَكَانَتْ لِلزُّبَيْرِ؛ وَهَبَهَا لَهُ النَّجَاشِيُّ، وَهِيَ الْيَوْمَ لِلْمُؤَذِّنِينَ فِي الْمَدِينَةِ. [ذِكْرُ غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى] وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي السَّابِعَ عَشَرَ، وَقِيلَ: التَّاسِعَ عَشَرَ، وَكَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَكَانَ سَبَبَهَا قَتْلُ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَإِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فِي عِيرٍ لِقُرَيْشٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الشَّامِ وَفِيهَا أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَمَعَهَا ثَلَاثُونَ رَجُلًا أَوْ أَرْبَعُونَ، وَقِيلَ: قَرِيبًا مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْهُمْ: مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ، فَاخْرُجُوا

إِلَيْهَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُنَفِّلَكُمُوهَا. فَانْتَدَبَ النَّاسُ، فَخَفَّ بَعْضُهُمْ وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَنْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْقَى حَرْبًا. وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ سَمِعَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُهُ، فَحَذَّرَ وَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ، فَبَعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ يَسْتَنْفِرُ قُرَيْشًا وَيُخْبِرُهُمُ الْخَبَرَ، فَخَرَجَ ضَمْضَمٌ إِلَى مَكَّةَ. وَكَانَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ رَأَتْ قَبْلَ قُدُومِ ضَمْضَمٍ مَكَّةَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ رُؤْيَا أَفْزَعَتْهَا، فَقَصَّتْهَا عَلَى أَخِيهَا الْعَبَّاسِ وَاسْتَكْتَمَتْهُ خَبَرَهَا، قَالَتْ: رَأَيْتُ رَاكِبًا عَلَى بَعِيرٍ لَهُ حَتَّى وَقَفَ بِالْأَبْطَحِ، ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَنِ انْفِرُوا يَا آلَ غُدَرَ لِمُصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ! قَالَتْ: فَأَرَى النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَمَثَلَ بَعِيرَهُ عَلَى الْكَعْبَةِ، ثُمَّ صَرَخَ مِثْلَهَا، ثُمَّ مَثَلَ بَعِيرَهُ عَلَى رَأْسِ أَبِي قُبَيْسٍ فَصَرَخَ مِثْلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَةً عَظِيمَةً وَأَرْسَلَهَا، فَلَمَّا كَانَتْ بِأَسْفَلِ الْوَادِي ارْفَضَّتْ، فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَّا دَخَلَهُ فِلْقَةٌ مِنْهَا. فَخَرَجَ الْعَبَّاسُ فَلَقِيَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ صَدِيقَهُ، فَذَكَرَهَا لَهُ وَاسْتَكْتَمَهُ ذَلِكَ، فَذَكَرَهَا الْوَلِيدُ لِأَبِيهِ عُتْبَةَ، فَفَشَا الْخَبَرُ، فَلَقِيَ أَبُو جَهْلٍ الْعَبَّاسَ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، أَقْبِلْ إِلَيْنَا. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ طَوَافِي أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِي: مَتَى حَدَّثَتْ فِيكُمْ هَذِهِ النَّبِيَّةُ؟ وَذَكَرَ رُؤْيَا عَاتِكَةَ، ثُمَّ قَالَ: مَا رَضِيتُمْ أَنْ تَتَنَبَّأَ رِجَالُكُمْ حَتَّى تَتَنَبَّأَ نِسَاؤُكُمْ! فَسَنَتَرَبَّصُ بِكُمْ هَذِهِ الثَّلَاثَ فَإِنْ يَكُنْ حَقًّا، وَإِلَّا كَتَبْنَا عَلَيْكُمْ أَنَّكُمْ أَكْذَبُ أَهْلِ بَيْتٍ فِي الْعَرَبِ. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَمَا كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ إِلَّا أَنِّي جَحَدْتُ ذَلِكَ وَأَنْكَرْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَتَانِي نِسَاءُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقُلْنَ لِي: أَقْرَرْتُمْ لِهَذَا الْفَاسِقِ الْخَبِيثِ أَنْ يَقَعَ فِي رِجَالِكُمْ، وَقَدْ تَنَاوَلَ نِسَاءَكُمْ وَلَمْ تُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ! قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ، وَلَأَتَعَرَّضَنَّ لَهُ، فَإِنْ عَادَ كَفَيْتُكُمُوهُ. قَالَ: فَغَدَوْتُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ وَأَنَا مُغْضَبٌ أُحِبُّ أَنْ أُدْرِكَهُ، فَرَأَيْتُهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَمَشَيْتُ نَحْوَهُ أَتَعَرَّضُ لَهُ لِيَعُودَ فَأُوقِعَ بِهِ، فَخَرَجَ نَحْوَ بَابِ الْمَسْجِدِ يَشْتَدُّ، قَالَ: قُلْتُ: مَا بَالُهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ! أَكُلَّ هَذَا فَرَقًا مِنْ أَنْ أُشَاتِمَهُ! وَإِذَا هُوَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ أَسْمَعْ، صَوْتَ ضَمْضَمِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ يَصْرُخُ بِبَطْنِ الْوَادِي، وَاقِفًا عَلَى بَعِيرِهِ قَدْ جَدَعَهُ، وَحَوَّلَ

رَحْلَهُ وَشَقَّ قَمِيصَهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اللَّطِيمَةَ! أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهُ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ، لَا أَدْرِي إِنْ تُدْرِكُوهَا، الْغَوْثَ الْغَوْثَ! فَشَغَلَنِي عَنْهُ وَشَغَلَهُ عَنِّي. قَالَ: فَتَجَهَّزَ النَّاسُ سِرَاعًا وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهِمْ أَحَدٌ إِلَّا أَبَا لَهَبٍ، وَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَعَزَمَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ عَلَى الْقُعُودِ، فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخًا ثَقِيلًا بَطِيئًا، فَأَتَاهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِمِجْمَرَةٍ فِيهَا نَارٌ وَمَا يُتَبَخَّرُ بِهِ وَقَالَ: يَا أَبَا عَلِيٍّ، اسْتَجْمِرْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنَ النِّسَاءِ. فَقَالَ: قَبَّحَكَ اللَّهُ، وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ! وَتَجَهَّزَ وَخَرَجَ مَعَهُمْ. وَعَزَمَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ أَيْضًا عَلَى الْقُعُودِ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ شَيْبَةُ: إِنْ فَارَقْنَا قَوْمَنَا كَانَ ذَلِكَ سُبَّةً عَلَيْنَا، فَامْضِ مَعَ قَوْمِكَ، فَمَشَى مَعَهُمْ. فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى الْمَسِيرِ ذَكَرُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ الْحَارِثِ، فَخَافُوا أَنْ يُؤْتَوْا مِنْ خَلْفِهِمْ، فَجَاءَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشَمٍ الْمُدْلِجِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ كِنَانَةَ، وَقَالَ: أَنَا جَارٌ لَكُمْ فَاخْرُجُوا سِرَاعًا. وَكَانُوا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، وَقِيلَ: كَانُوا أَلْفَ رَجُلٍ، وَكَانَتْ خَيْلُهُمْ مِائَةَ فَرَسٍ، فَنَجَا مِنْهَا سَبْعُونَ فَرَسًا وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثِينَ فَرَسًا، وَكَانَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ سَبْعُمِائَةِ بَعِيرٍ. وَكَانَ مَسِيرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِثَلَاثِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ: بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ: كَانُوا سَبْعَةً وَسَبْعِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ وَالْبَاقُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقِيلَ: جَمِيعُ مَنْ ضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَهْمٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا، وَمِنَ الْأَوْسِ أَحَدٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا، وَمِنَ الْخَزْرَجِ مِائَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ غَيْرُ فَارِسَيْنِ، أَحَدُهُمَا الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَالثَّانِي قِيلَ: كَانَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَقِيلَ كَانَ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ، وَقِيلَ: الْمِقْدَادُ وَحْدَهُ، وَكَانَتِ الْإِبِلُ سَبْعِينَ بَعِيرًا، فَكَانُوا يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهَا الْبَعِيرُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ، فَكَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ بَعِيرٌ، وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بَعِيرٌ، وَعَلَى

مِثْلِ هَذَا. وَكَانَ فَرَسُ الْمِقْدَادِ اسْمُهُ سُبْحَةُ، وَفَرَسُ الزُّبَيْرِ اسْمُهُ السَّيْلُ، وَكَانَ لِوَاؤُهُ مَعَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرِبْنِ عَبْدِ الدَّارِ، وَرَايَتُهُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَلَى السَّاقَةِ قَيْسُ بْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ الْأَنْصَارِيُّ. «فَلَمَّا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الصَّفْرَاءِ بَعَثَ بَسْبَسَ بْنَ عَمْرٍو وَعَدِيَّ بْنَ أَبِي الزَّغْبَاءِ الْجُهَنِيَّيْنِ يَتَجَسَّسَانِ الْأَخْبَارَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَرَكَ الصَّفْرَاءَ يَسَارًا، وَعَادَ إِلَيْهِ بَسْبَسُ بْنُ عَمْرٍو يُخْبِرُهُ أَنَّ الْعِيرَ قَدْ قَارَبَتْ بَدْرًا، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ عِلْمٌ بِمَسِيرِ قُرَيْشٍ لِمَنْعِ عِيرِهِمْ، وَكَانَ قَدْ بَعَثَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَسَعْدًا يَلْتَمِسُونَ لَهُ الْخَبَرَ بِبَدْرٍ، فَأَصَابُوا رَاوِيَةً لِقُرَيْشٍ فِيهِمْ أَسْلَمُ، غُلَامُ بَنِي الْجَحْجَاحِ، وَأَبُو يَسَارٍ، غُلَامُ بَنِي الْعَاصِ. فَأَتَوْا بِهِمَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَسَأَلُوهُمَا، فَقَالَا: نَحْنُ سُقَاةُ قُرَيْشٍ بَعَثُونَا نَسْقِيهِمْ مِنَ الْمَاءِ، فَكَرِهَ الْقَوْمُ خَبَرَهُمَا وَضَرَبُوهُمَا لِيُخْبِرُوهُمَا عَنْ أَبِي سُفْيَانَ. فَقَالَا: نَحْنُ لِأَبِي سُفْيَانَ، فَتَرَكُوهُمَا. وَفَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الصَّلَاةِ وَقَالَ: إِذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا، صَدَقَا، إِنَّهُمَا لِقُرَيْشٍ، أَخْبِرَانِي أَيْنَ قُرَيْشٌ؟ قَالَا: هُمْ وَرَاءَ هَذَا الْكَثِيبِ الَّذِي تَرَى بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمِ الْقَوْمُ؟ قَالَا: كَثِيرٌ. قَالَ: كَمْ عُدَّتُهُمْ؟ قَالَا: لَا نَدْرِي. قَالَ: كَمْ يَنْحَرُونَ؟ قَالَا: يَوْمًا تِسْعًا وَيَوْمًا عَشْرًا. قَالَ: الْقَوْمُ بَيْنَ تِسْعِمِائَةٍ إِلَى الْأَلْفِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: فَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ؟ قَالَا: عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ

وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرٍ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا» . «ثُمَّ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا، إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ - يَعْنِي مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ - لَجَالَدْنَا مَعَكَ مَنْ دُونَهُ حَتَّى تَبْلُغَهُ» . فَدَعَا لَهُمْ بِخَيْرٍ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ - وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَدَدَ النَّاسِ، وَخَافَ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نُصْرَتَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ - فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجَلْ. قَالَ: قَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَأَعْطَيْنَاكَ عُهُودَنَا، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أُمِرْتَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَنَخُوضَنَّهُ مَعَكَ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ تَلْقَى الْعَدُوَّ بِنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدُقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ!» فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «أَبْشِرُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ» . ثُمَّ انْحَطَّ عَلَى بَدْرٍ فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْهَا. وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ سَاحَلَ وَتَرَكَ بَدْرًا يَسَارًا، ثُمَّ أَسْرَعَ؛ فَنَجَا، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ قَدْ أَحْرَزَ عِيرَهُ أَرْسَلَ إِلَى قُرَيْشٍ وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَجَّى عِيرَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ فَارْجِعُوا. فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا - وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ تَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهَا سُوقٌ كُلَّ عَامٍ - فَنُقِيمُ بِهَا ثَلَاثًا، فَنَنْحَرُ الْجُزُرَ، وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ،

وَنَسْقِي الْخَمْرَ، وَتَسْمَعُ بِنَا الْعَرَبُ فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا. فَقَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ الثَّقَفِيُّ - وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ - بِالْجُحْفَةِ: يَا بَنِي زُهْرَةَ، قَدْ نَجَّى اللَّهُ أَمْوَالَكُمْ وَصَاحِبَكُمْ فَارْجِعُوا، فَرَجَعُوا. فَلَمْ يَشْهَدْهَا زُهْرِيٌّ وَلَا عَدَوِيٌّ، وَشَهِدَهَا سَائِرُ بُطُونِ قُرَيْشٍ. وَلَمَّا كَانَتْ قُرَيْشٌ بِالْجُحْفَةِ رَأَى جُهَيْمُ بْنُ الصَّلْتِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ رُؤْيَا فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ رَجُلًا أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ وَمَعَهُ بَعِيرٌ لَهُ، فَقَالَ: قُتِلَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَأَبُو جَهْلٍ، وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ - وَرَأَيْتُهُ ضَرَبَ لَبَّةَ بَعِيرِهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَمَا بَقِيَ خِبَاءٌ إِلَّا أَصَابَهُ مِنْ دَمِهِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَهَذَا أَيْضًا نَبِيٌّ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ، سَيَعْلَمُ غَدًا مَنِ الْمَقْتُولُ. وَكَانَ بَيْنَ طَالِبِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ فِي الْقَوْمِ، وَبَيْنَ بَعْضِ قُرَيْشٍ مُحَاوَرَةٌ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ قَدْ عَرَفْنَا أَنَّ هَوَاكُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ. فَرَجَعَ طَالِبٌ إِلَى مَكَّةَ فِيمَنْ رَجَعَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ خَرَجَ كُرْهًا، فَلَمْ يُوجَدْ فِي الْأَسْرَى وَلَا فِي الْقَتْلَى وَلَا فِيمَنْ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: يَا رَبِّ إِمَّا يَغْوُونَ طَالِبْ ... فِي مِقْنَبٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَانِبْ فَلْيَكُنِ الْمَسْلُوبَ غَيْرَ السَّالِبْ ... وَلْيَكُنِ الْمَغْلُوبَ غَيْرَ الْغَالِبْ وَمَضَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلَتْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْوَادِي، وَبَعَثَ اللَّهُ السَّمَاءَ، وَكَانَ الْوَادِي دَهْسًا، فَأَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ مِنْهُ مَا لَبَّدَ لَهُمُ الْأَرْضَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمُ الْمَسِيرَ، وَأَصَابَ قُرَيْشًا مِنْهُ مَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَرْحَلُوا مَعَهُ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَادِرُهُمْ إِلَى الْمَاءِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نَزَلَهُ، فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهَذَا مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ أَوْ نَتَأَخَّرَ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ لَكَ بِمَنْزِلٍ، انْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ سِوَاهُ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُعَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضًا وَنَمْلَأَهُ مَاءً، فَنَشْرَبَ مَاءً وَلَا يَشْرَبُونَ

ثُمَّ نُقَاتِلَهُمْ. فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ» . فَلَمَّا نَزَلَ جَاءَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَبْنِي لَكَ عَرِيشًا مِنْ جَرِيدٍ فَتَكُونُ فِيهِ وَنَتْرُكُ عِنْدَكَ رَكَائِبَكَ، ثُمَّ نَلْقَى عَدُوَّنَا، فَإِنْ أَعَزَّنَا اللَّهُ وَأَظْهَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا أَحْبَبْنَاهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى جَلَسْتَ عَلَى رَكَائِبِكَ فَلَحِقْتَ بِمَا وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ مَا نَحْنُ بِأَشَدَّ حُبًّا لَكَ مِنْهُمْ، وَلَوْ ظَنُّوا أَنَّكَ تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلَّفُوا عَنْكَ، يَمْنَعُكَ اللَّهُ بِهِمْ، يُنَاصِحُونَكَ وَيُحَارِبُونَ مَعَكَ. فَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا» . ثُمَّ بُنِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرِيشٌ، وَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا، فَلَمَّا رَآهَا قَالَ: «اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ! اللَّهُمَّ فَنَصْرُكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي! اللَّهُمَّ أَحِنْهُمُ الْغَدَاةَ. وَرَأَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ فَقَالَ: إِنْ يَكُنْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، إِنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا» . وَكَانَ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءَ بْنِ رَحَضَةَ الْغِفَارِيُّ، أَوْ أَبُوهُ إِيمَاءُ، بَعَثَ إِلَى قُرَيْشٍ حِينَ مَرُّوا بِهِ ابْنًا لَهُ بِجَزَائِرَ، أَهْدَاهَا لَهُمْ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْمَدَدَ بِالرِّجَالِ وَالسِّلَاحِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنْ كُنَّا إِنَّمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ فَمَا بِنَا مِنْ ضَعْفٍ، وَإِنْ كُنَّا نُقَاتِلُ اللَّهَ كَمَا زَعَمَ مُحَمَّدٌ فَمَا لِأَحَدٍ بِاللَّهِ طَاقَةٌ. فَلَمَّا نَزَلَتْ قُرَيْشٌ أَقْبَلَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، حَتَّى وَرَدُوا حَوْضَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتْرُكُوهُمْ، فَمَا شَرِبَ مِنْهُ رَجُلٌ إِلَّا قُتِلَ يَوْمَئِذٍ» ، إِلَّا حَكِيمٌ نَجَا عَلَى فَرَسٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ: الْوَجِيهُ، وَأَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ يَقُولُ إِذَا اجْتَهَدَ فِي يَمِينِهِ: لَا وَالَّذِي نَجَّانِي يَوْمَ بَدْرٍ. وَلَمَّا اطْمَأَنَّتْ قُرَيْشٌ بَعَثُوا عَمْرَو بْنَ وَهْبٍ الْجُمَحِيَّ لِيَحْزِرَ الْمُسْلِمِينَ، فَجَالَ بِفَرَسِهِ حَوْلَهُمْ ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: هُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ الْوَلَايَا تَحْمِلُ الْمَنَايَا ، نَوَاضِحَ يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النَّاقِعَ، لَيْسَ لَهُمْ مَنَعَةٌ إِلَّا سُيُوفُهُمْ، وَاللَّهِ لَا

يُقْبِلُ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَّا يَقْتُلُ رَجُلًا مِنْكُمْ، فَإِذَا أَصَابُوا أَعْدَادَهُمْ، فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَرَوْا رَأْيَكُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ذَلِكَ مَشَى فِي الْقَوْمِ، فَأَتَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ، إِنَّكَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا، هَلْ لَكَ أَنْ لَا تَزَالَ تُذْكَرُ فِيهَا بِخَيْرٍ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تَرْجِعُ بِالنَّاسِ وَتَحْمِلُ دَمَ حَلِيفِكَ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، عَلَيَّ دَمُهُ وَمَا أُصِيبَ مِنْ مَالِهِ، فَأْتِ ابْنَ الْحَنْظَلِيَّةِ - يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ - فَلَا أَخْشَى أَنْ يُفْسِدَ أَمْرَ النَّاسِ غَيْرُهُ. فَقَامَ عُتْبَةُ فِي النَّاسِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِأَنْ تَلْقَوْا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ شَيْئًا، وَاللَّهِ لَئِنْ أَصَبْتُمُوهُمْ لَا يَزَالُ رَجُلٌ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ رَجُلٍ يَكْرَهُ النَّظَرَ إِلَيْهِ؛ قَتَلَ ابْنَ عَمِّهِ أَوِ ابْنَ خَالِهِ أَوْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهِ. قَالَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ فَوَجَدْتُهُ قَدْ نَشَلَ دِرْعًا وَهُوَ يُهَيِّئُهَا، فَأَعْلَمْتُهُ مَا قَالَ عُتْبَةُ، فَقَالَ: انْتَفَخَ - وَاللَّهِ - سَحْرُهُ حِينَ رَأَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَمَا بِعُتْبَةَ مَا قَالَ، وَلَكِنْ رَأَى ابْنَهُ أَبَا حُذَيْفَةَ فِيهِمْ، وَقَدْ خَافَكُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَقَالَ لَهُ: هَذَا حَلِيفُكَ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ بِالنَّاسِ، وَقَدْ رَأَيْتَ ثَأْرَكَ بِعَيْنِكَ، فَانْشُدْ خُفْرَتَكَ وَمَقْتَلَ أَخِيكَ. فَقَامَ عَامِرٌ وَصَرَخَ: وَاعَمْرَاهْ وَاعَمْرَاهْ! فَحَمِيَتِ الْحَرْبُ وَاسْتَوْسَقَ النَّاسُ عَلَى الشَّرِّ. فَلَمَّا بَلَغَ عُتْبَةَ قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ: انْتَفَخَ سَحْرُهُ، قَالَ: سَيَعْلَمُ الْمُصَفِّرُ اسْتَهُ مَنِ انْتَفَخَ سَحْرُهُ، أَنَا أَمْ هُوَ! ثُمَّ الْتَمَسَ بَيْضَةً يُدْخِلُهَا رَأْسَهُ فَمَا وَجَدَ مِنْ عِظَمِ هَامَتِهِ، فَاعْتَجَرَ بِبُرْدٍ لَهُ. وَخَرَجَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ، وَكَانَ سَيِّئَ الْخُلُقِ، فَقَالَ: أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَشْرَبَنَّ مِنْ حَوْضِهِمْ وَلَأَهْدِمَنَّهُ، أَوْ لَأَمُوتَنَّ دُونَهُ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ فَضَرَبَهُ، فَأَطَنَّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ حَبَا إِلَى الْحَوْضِ فَاقْتَحَمَ فِيهِ لِيُبِرَّ يَمِينَهُ، وَتَبِعَهُ حَمْزَةُ فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ فِي الْحَوْضِ. ثُمَّ خَرَجَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، وَدَعَوْا إِلَى الْمُبَارَزَةِ، فَخَرَجَ

إِلَيْهِمْ عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ ابْنَا عَفْرَاءَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالُوا: أَكْفَاءٌ كِرَامٌ، وَمَا لَنَا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ، لِيَخْرُجْ إِلَيْنَا أَكْفَاؤُنَا مِنْ قَوْمِنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُمْ يَا حَمْزَةُ، قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ، قُمْ يَا عَلِيُّ، فَقَامُوا وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ - وَكَانَ أَمِيرَ الْقَوْمِ - عُتْبَةَ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الْوَلِيدَ، فَأَمَّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ شَيْبَةَ أَنْ قَتَلَهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمْ يُمْهِلِ الْوَلِيدَ أَنْ قَتَلَهُ، وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْنِ كِلَاهُمَا قَدْ أَثْبَتَ صَاحِبَهُ، وَكَرَّ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ عَلَى عُتْبَةَ فَقَتَلَاهُ، وَاحْتَمَلَا عُبَيْدَةَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَقَدْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ، فَلَمَّا أَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَلَسْتُ شَهِيدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى» . قَالَ: لَوْ رَآنِي أَبُو طَالِبٍ لَعَلِمَ أَنَّنَا أَحَقُّ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ ... وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ ثُمَّ مَاتَ، وَتَزَاحَفَ الْقَوْمُ وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَأَبُو جَهْلٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَمْ نَعْرِفْ، فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ، فَكَانَ هُوَ الْمُسْتَفْتِحَ عَلَى نَفْسِهِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يَحْمِلُوا حَتَّى يَأْمُرَهُمْ، وَقَالَ: «إِنِ اكْتَنَفَكُمُ الْقَوْمُ فَانْضَحُوهُمْ عَنْكُمْ بِالنَّبْلِ. وَنَزَلَ فِي الْعَرِيشِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ، اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، فَوَضَعَهُ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. وَأَغْفَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَرِيشِ إِغْفَاءَةً، وَانْتَبَهَ ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَتَاكَ نَصْرُ اللَّهِ، هَذَا جَبْرَائِيلُ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ يَقُودُهُ عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] الْآيَةَ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ، وَحَرَّضَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ، فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ» . فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ وَبِيَدِهِ تَمَرَاتٌ يَأْكُلُهُنَّ: بَخٍ

بَخٍ! مَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا أَنْ يَقْتُلَنِي هَؤُلَاءِ! ثُمَّ أَلْقَى التَّمَرَاتِ مِنْ يَدِهِ وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَرُمِيَ مِهْجَعٌ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، بِسَهْمٍ فَقُتِلَ، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ. ثُمَّ رُمِيَ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ الْأَنْصَارِيُّ فَقُتِلَ، وَقَاتَلَ عَوْفُ بْنُ عَفْرَاءَ حَتَّى قُتِلَ، وَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا. فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَفْنَةً مِنَ التُّرَابِ وَرَمَى بِهَا قُرَيْشًا وَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ. وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: شُدُّوا عَلَيْهِمْ، فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ، فَقَتَلَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأُسِرَ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ. وَلَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَرِيشِ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَائِمٌ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ مُتَوَشِّحًا بِالسَّيْفِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخَافُونَ عَلَيْهِ كَرَّةَ الْعَدُوِّ، فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجْهِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْكَرَاهِيَةَ لِمَا يَصْنَعُ النَّاسُ مِنَ الْأَسْرِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكَأَنَّكَ تَكْرَهُ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَّلُ وَقْعَةٍ أَوْقَعَهَا اللَّهُ بِالْمُشْرِكِينَ كَانَ الْإِثْخَانُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنِ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ» . وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَقُرَيْشٌ مُحِيطَةٌ بِهِ يَقُولُونَ: لَا يُخْلَصُ إِلَى أَبِي الْحَكَمِ. قَالَ مُعَاذٌ: فَجَعَلْتُهُ مِنْ شَأْنِي، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً أَطَنَّتْ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ، وَضَرَبَنِي ابْنُهُ عِكْرِمَةُ فَطَرَحَ يَدِي مِنْ عَاتِقِي، فَتَعَلَّقَتْ بِجِلْدَةٍ مِنْ جُثَّتِي، فَقَاتَلْتُ عَامَّةَ يَوْمِي وَإِنِّي لَأَسْحَبُهَا خَلْفِي، فَلَمَّا آذَتْنِي جَعَلْتُ عَلَيْهَا رِجْلِي، ثُمَّ تَمَطَّيْتُ حَتَّى طَرَحْتُهَا. وَعَاشَ مُعَاذٌ إِلَى زَمَانِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي جَهْلٍ مُعَوِّذُ بْنُ عَفْرَاءَ فَضَرَبَهُ حَتَّى أَثْبَتَهُ، وَتَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ، «وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُلْتَمَسَ فِي الْقَتْلَى، فَوَجَدَهُ بِآخِرِ رَمَقٍ، قَالَ: فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنُقِهِ، ثُمَّ قُلْتُ: هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ قَالَ: وَبِمَاذَا أَخْزَانِي؟ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، أَخْبِرْنِي لِمَنِ الدَّائِرَةُ؟ قُلْتُ: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: لَقَدِ ارْتَقَيْتَ - يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ - مُرْتَقًى صَعْبًا! قَالَ: فَقُلْتُ: إِنِّي قَاتِلُكَ. قَالَ: مَا أَنْتَ بِأَوَّلِ عَبْدٍ قَتَلَ سَيِّدَهُ، أَمَا إِنَّ أَشَدَّ شَيْءٍ لَقِيتُهُ الْيَوْمَ قَتْلُكَ إِيَّايَ، وَأَلَّا قَتَلَنِي رَجُلٌ مِنَ الْمُطَيَّبِينَ

الْأَحْلَافِ. فَضَرَبَهُ عَبْدُ اللَّهِ، فَوَقَعَ رَأْسُهُ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، فَحَمَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ» . وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَدْ غَنِمَ أَدْرَاعًا، فَمَرَّ بِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَابْنِهِ عَلِيٍّ، فَقَالَا لَهُ: نَحْنُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ هَذِهِ الْأَدْرَاعِ. فَطَرَحَ الْأَدْرَاعَ وَأَخَذَ بِيَدِهِ وَبِيَدِ ابْنِهِ وَمَشَى بِهِمَا، فَقَالَ لَهُ أُمَيَّةُ: مَنِ الرَّجُلُ الْمُعَلَّمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ؟ قَالَ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. قَالَ أُمَيَّةُ: هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِنَا الْأَفَاعِيلَ. وَرَأَى بِلَالٌ أُمَيَّةَ، وَكَانَ يُعَذِّبُهُ بِمَكَّةَ، فَيَخْرُجُ بِهِ إِلَى رَمْضَاءِ مَكَّةَ، فَيُضْجِعُهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ، وَيَقُولُ: لَا تَزَالُ هَكَذَا حَتَّى تُفَارِقَ دِينَ مُحَمَّدٍ، فَيَقُولُ بِلَالٌ: أَحَدٌ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَآهُ بِلَالٌ قَالَ: أُمَيَّةُ! رَأْسُ الْكُفْرِ! لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا! ثُمَّ صَرَخَ: يَا أَنْصَارَ اللَّهِ، رَأْسُ الْكُفْرِ رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا! فَأَحَاطَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، وَقُتِلَ أُمَيَّةُ وَابْنُهُ عَلِيٍّ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ بِلَالًا، ذَهَبَتْ أَدْرَاعِي وَفَجَّعَنِي بِأَسِيرِيَّ. وَقُتِلَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يُقْتَلَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَكَفَّ الْقَوْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ مِمَّنِ اهْتَمَّ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ، فَلَقِيَهُ الْمُجَذَّرُ بْنُ ذِيَادٍ الْبَلَوِيُّ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ وَمَعَهُ زَمِيلٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ نَهَى عَنْ قَتْلِكَ. فَقَالَ وَزَمِيلِي؟ فَقَالَ الْمُجَذَّرُ: لَا وَاللَّهِ. قَالَ: إِذًا وَاللَّهِ لَأَمُوتَنَّ أَنَا وَهُوَ، وَلَا تَتَحَدَّثُ نِسَاءُ قُرَيْشٍ أَنِّي تَرَكْتُ زَمِيلِي حِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ. فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَبَرِهِ. «وَجِيءَ بِالْعَبَّاسِ، أَسَرَهُ أَبُو الْيَسَرِ، وَكَانَ مَجْمُوعًا، وَكَانَ الْعَبَّاسُ جَسِيمًا، فَقِيلَ لِأَبِي الْيَسَرِ: كَيْفَ أَسَرْتَهُ؟ قَالَ: أَعَانَنِي عَلَيْهِ رَجُلٌ مَا رَأَيْتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، بِهَيْئَةِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ» . «وَلَمَّا أَمْسَى الْعَبَّاسُ مَأْسُورًا بَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاهِرًا أَوَّلَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَكَ لَا تَنَامُ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ

تَضَوُّرَ الْعَبَّاسِ فِي وَثَاقِهِ، فَمَنَعَ مِنِّي النَّوْمَ. فَقَامُوا إِلَيْهِ فَأَطْلَقُوهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . «وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَئِذٍ: قَدْ عَرَفْتُ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ أُخْرِجُوا كُرْهًا، فَمَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَا يَقْتُلْهُ؛ فَإِنَّهُ أُخْرِجَ كُرْهًا. فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ: أَنَقْتُلُ أَبْنَاءَنَا وَآبَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَنَتْرُكُ الْعَبَّاسَ؟ وَاللَّهِ لَئِنْ لَقِيتُهُ لَأُلْحِمَنَّهُ بِالسَّيْفِ. فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِعُمَرَ: يَا أَبَا حَفْصٍ، أَمَا تَسْمَعُ قَوْلَ أَبِي حُذَيْفَةَ؟ أَيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ: لَا أَزَالُ خَائِفًا مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ، وَلَا يُكَفِّرُهَا عَنِّي إِلَّا الشَّهَادَةُ. فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قَدْ رَأَيْتُ جَبْرَائِيلَ وَعَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ» . «فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ: أَقْبَلْتُ أَنَا وَابْنُ عَمٍّ لِي، فَصَعِدْنَا جَبَلًا يُشْرِفُ بِنَا عَلَى بَدْرٍ وَنَحْنُ مُشْرِكَانِ، نَنْظُرُ لِمَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ فَنَنْتَهِبُ، فَدَنَتْ مِنَّا سَحَابَةٌ، فَسَمِعْتُ فِيهَا حَمْحَمَةَ الْخَيْلِ، وَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، قَالَ: فَأَمَّا ابْنُ عَمِّي فَمَاتَ مَكَانَهُ، وَأَمَّا أَنَا فَكِدْتُ أَهْلِكُ فَتَمَاسَكْتُ» . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيُّ: إِنِّي لَأَتْبَعُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَضْرِبَهُ إِذْ وَقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ سَيْفِي إِلَيْهِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَتَلَهُ غَيْرِي. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: كَانَ أَحَدُنَا يُشِيرُ بِسَيْفِهِ إِلَى الْمُشْرِكِ فَيَقَعُ رَأْسُهُ عَنْ جَسَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ السَّيْفُ. فَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ، وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُطْرَحَ الْقَتْلَى فِي الْقَلِيبِ، فَطُرِحُوا فِيهِ إِلَّا أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ؛ فَإِنَّهُ انْتَفَخَ فِي دِرْعِهِ فَمَلَأَهَا، فَذَهَبُوا بِهِ لِيُخْرِجُوهُ فَتَقَطَّعَ، وَطَرَحُوا عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ مَا غَيَّبَهُ، وَلَمَّا أُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ وَقَفَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: «يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ! كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ! ثُمَّ قَالَ: يَا عُتْبَةُ، يَا شَيْبَةُ، يَا أُمَيَّةُ بْنَ خَلَفٍ، يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ - وَعَدَّدَ مَنْ كَانَ فِي الْقَلِيبِ - هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: أَتُكَلِّمُ قَوْمًا مَوْتَى؟ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ

لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُونِي» . «وَلَمَّا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الْقَلِيبِ مَا قَالَ رَأَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ الْكَرَاهِيَةَ وَقَدْ تَغَيَّرَ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ قَدْ دَخْلَكَ مِنْ شَأْنِ أَبِيكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَكَكْتُ فِي أَبِي وَفِي مَصْرَعِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ لَهُ عَقْلٌ وَحِلْمٌ وَفَضْلٌ، فَكُنْتُ أَرْجُو لَهُ الْإِسْلَامَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ أَحْزَنَنِي ذَلِكَ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْرٍ» . «ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ فَجُمِعَ مَا فِي الْعَسْكَرِ، فَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ مَنْ جَمَعَهُ: هُوَ لَنَا. وَقَالَ الَّذِينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ: وَاللَّهِ لَوْلَا نَحْنُ مَا أَصَبْتُمُوهُ، نَحْنُ شَغَلْنَا الْقَوْمَ عَنْكُمْ حَتَّى أَصَبْتُمْ مَا أَصَبْتُمْ. وَقَالَ الَّذِينَ كَانُوا يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الْعَرِيشِ: وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ بِأَحَقَّ بِهِ مِنَّا، لَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ الْمَتَاعَ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَمْنَعُهُ، وَلَكِنْ خِفْنَا كَرَّةَ الْعَدُوِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُمْنَا دُونَهُ. فَنَزَعَ اللَّهُ الْأَنْفَالَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَجَعَلَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَسَمَّهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى سَوَاءٍ» . وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ بَشِيرًا إِلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ، وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ بَشِيرًا إِلَى أَهْلِ السَّافِلَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَوَصَلَ زِيدٌ وَقَدْ سَوَّوُا التُّرَابَ عَلَى رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ زَوْجَةَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، خَلَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهَا وَقَسَمَ لَهُ. فَلَمَّا عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيَهُ النَّاسُ يُهَنِّئُونَهُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، «فَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ الْأَنْصَارِيُّ: إِنْ لَقِينَا إِلَّا عَجَائِزَ صُلْعًا كَالْبُدْنِ الْمُعَقَّلَةِ، فَنَحَرْنَاهَا. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، أُولَئِكَ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ» . وَكَانَ فِي الْأَسْرَى النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَأَمَرَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِقَتْلِ النَّضْرِ، فَقَتَلَهُ بِالصَّفْرَاءِ، وَأَمَرَ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ بِقَتْلِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَلَمَّا أَرَادُوا قَتْلَهُ جَزِعَ مِنَ الْقَتْلِ وَقَالَ: مَا لِي أُسْوَةٌ بِهَؤُلَاءِ؟ يَعْنِي الْأَسْرَى، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ لِلصِّبْيَةِ؟ قَالَ: النَّارُ، فَقَتَلَهُ بِعِرْقِ الظَّبْيَةِ صَبْرًا. «وَكَانَ فِي الْأَسْرَى سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، أَسَرَهُ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ الْأَنْصَارِيُّ، فَلَمَّا أُتِيَ بِهِ

النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: دَعْنِي أَنْزِعُ ثَنِيَّتَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَا يَقُومُ عَلَيْكَ خَطِيبًا أَبَدًا، وَكَانَ سُهَيْلٌ أَعْلَمَ الشَّفَةِ السُّفْلَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُ يَا عُمَرُ؛ فَسَيَقُومُ مَقَامًا تَحْمَدُهُ عَلَيْهِ، فَكَانَ مَقَامُهُ ذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - وَسَنَذْكُرُهُ عِنْدَ خَبَرِ الرِّدَّةِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -. وَلَمَّا قَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ قَالَتْ لَهُ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْطَيْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ كَمَا تَفْعَلُ النِّسَاءُ، أَلَا مُتُّمْ كِرَامًا! فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَهَا فَقَالَ لَهَا: «يَا سَوْدَةُ، أَعَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ تُحَرِّضِينَ! فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مَلَكْتُ نَفْسِي حِينَ رَأَيْتُهُ أَنْ قُلْتُ مَا قُلْتُ» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالْأَسْرَى خَيْرًا» . وَكَانَ أَحَدُهُمْ يُؤْثِرُ أَسِيرَهُ بِطَعَامِهِ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ بِمُصَابِ قُرَيْشٍ الْحَيْسَمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: قُتِلَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَأَبُو الْحَكَمِ وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ - وَعَدَّدَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ - فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: وَاللَّهِ إِنْ يَعْقِلْ فَاسْأَلُوهُ عَنِّي. فَقَالُوا: مَا فَعَلَ صَفْوَانُ؟ قَالَ: هُوَ ذَاكَ جَالِسٌ فِي الْحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ حِينَ قُتِلَا. وَمَاتَ أَبُو لَهَبٍ بِمَكَّةَ بَعْدَ وُصُولِ خَبَرِ مَقْتَلِ قُرَيْشٍ بِتِسْعَةِ أَيَّامٍ، وَنَاحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهُمْ، ثُمَّ قَالُوا: لَا تَفْعَلُوا فَيَشْمَتَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ، وَلَا تَبْعَثُوا فِي فِدَاءِ أَسْرَاكُمْ، لَا يَشْتَطُّ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ. وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ قَدْ أُصِيبَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ وَلَدِهِ: زَمْعَةُ، وَعَقِيلٌ، وَالْحَارِثُ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَى بَنِيهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعَ نَائِحَةً، فَقَالَ لِغُلَامِهِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ: انْظُرْ هَلْ أُحِلَّ الْبُكَاءُ لَعَلِّي أَبْكِي عَلَى زَمْعَةَ، فَإِنَّ جَوْفِي قَدِ احْتَرَقَ. فَرَجَعَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ تَبْكِي عَلَى بَعِيرٍ لَهَا أَضَلَّتْهُ، فَقَالَ: أَتَبْكِي أَنْ يَضِلَّ لَهَا بَعِيرٌ ... وَيَمْنَعَهَا مِنَ النَّوْمِ السُّهُودُ

وَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ عَلَى بَدْرٍ تَقَاصَرَتِ الْجُدُودُ ... عَلَى بَدْرٍ سَرَاةِ بَنِي هُصَيْصٍ وَمَخْزُومٍ وَرَهْطِ أَبِي الْوَلِيدِ ... وَبَكِّي إِنْ بَكَيْتِ عَلَى عَقِيلٍ وَبَكِّي حَارِثًا أَسَدَ الْأُسُودِ ... وَبَكِّيهِمْ وَلَا تَسَمِّي جَمِيعًا فَمَا لِأَبِي حَكِيمَةَ مِنْ نَدِيدِ ... أَلَا قَدْ سَادَ بَعْدَهُمْ أُنَاسٌ وَلَوْلَا يَوْمُ بَدْرٍ لَمْ يَسُودُوا يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ. ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا أَرْسَلَتْ فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى، فَأَوَّلُ مَنْ فُدِيَ أَبُو وَدَاعَةَ السَّهْمِيُّ، فَدَاهُ ابْنُهُ الْمُطَّلِبُ، وَفَدَى الْعَبَّاسُ نَفْسَهُ وَعَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَحَلِيفَهُ عُتْبَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ جَحْدَمٍ، أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فَقَالَ: لَا مَالَ لِي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ الْمَالُ الَّذِي وَضَعْتَهُ عِنْدَ أُمِّ الْفَضْلِ وَقُلْتَ لَهَا: إِنْ أُصِبْتُ فَلِلْفَضْلِ كَذَا، وَلِعَبْدِ اللَّهِ كَذَا؟ قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عَلِمَ بِهِ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهَا، وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ! وَفَدَى نَفْسَهُ وَابْنَيْ أَخَوَيْهِ وَحَلِيفَهُ، وَكَانَ قَدْ أُخِذَ مَعَ الْعَبَّاسِ عِشْرُونَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: احْسِبْهَا فِي فِدَائِي. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا، ذَاكَ شَيْءٌ أَعْطَانَاهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -» . وَكَانَ فِي الْأُسَارَى عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، أَسَرَهُ عَلِيٌّ، فَقِيلَ لِأَبِيهِ: أَفْدِ عَمْرًا. فَقَالَ: لَا أَجْمَعُ عَلَيَّ دَمِي وَمَالِي، يُقْتَلُ ابْنِي حَنْظَلَةُ، وَأَفْدِي عَمْرًا! فَتَرَكَهُ وَلَمْ يَفُكَّهُ. ثُمَّ إِنَّ سَعْدَ بْنَ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيَّ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، فَأَخَذَهُ أَبُو سُفْيَانَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَعْرِضُ لِحَاجٍّ وَلَا مُعْتَمِرٍ. فَحَبَسَهُ أَبُو سُفْيَانَ لِيَفْدِيَ بِهِ عَمْرًا ابْنَهُ، وَقَالَ:

أَرَهْطَ ابْنِ أَكَّالٍ أَجِيبُوا دُعَاءَهُ ... تَعَاقَدْتُمْ لَا تُسْلِمُوا السَّيِّدَ الْكَهْلَا فَإِنَّ بَنِي عَمْرٍو لِئَامٌ أَذِلَّةٌ ... لَئِنْ لَمْ يَفُكُّوا عَنْ أَسِيرِهِمُ الْكَبْلَا فَمَشَى بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَطَلَبُوا مِنْهُ عَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَفَادَوْا بِهِ سَعْدًا. «وَكَانَ فِي الْأُسَارَى أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ زَوْجُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ رِجَالِ مَكَّةَ مَالًا وَأَمَانَةً وَتِجَارَةً، وَكَانَتْ أُمُّهُ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ زَوْجَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ زَيْنَبَ، فَفَعَلَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، فَلَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ آمَنَتْ بِهِ زَيْنَبُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَغْلُوبًا بِمَكَّةَ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ إِلَى بَدْرٍ خَرَجَ مَعَهُمْ فَأُسِرَ، فَلَمَّا بَعَثَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى بَعَثَتْ زَيْنَبُ فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ زَوْجِهَا بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ خَدِيجَةُ أَدْخَلَتْهَا مَعَهَا، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً وَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا، فَافْعَلُوا. فَأَطْلَقُوا لَهَا أَسِيرَهَا، وَرَدُّوا الْقِلَادَةَ» . وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وَسَارَ إِلَى مَكَّةَ، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ؛ لِيَصْحَبَا زَيْنَبَ مِنْ مَكَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو الْعَاصِ أَمَرَهَا بِاللَّحَاقِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَجَهَّزَتْ سِرًّا، وَأَرْكَبَهَا كِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ - أَخُو أَبِي الْعَاصِ - بَعِيرًا، وَأَخَذَ قَوْسَهُ وَخَرَجَ بِهَا نَهَارًا. فَسَمِعَتْ بِهَا قُرَيْشٌ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهَا فَلَحِقُوهَا بِذِي طَوًى، وَكَانَتْ حَامِلًا فَطَرَحَتْ حَمْلَهَا لَمَّا رَجَعَتْ لِخَوْفِهَا، وَنَثَرَ كِنَانَةُ أَسْهُمَهُ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَدْنُو مِنِّي أَحَدٌ إِلَّا وَضَعْتُ فِيهِ سَهْمًا! فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَقَالَ: خَرَجْتَ بِهَا عَلَانِيَةً، فَيَظُنُّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ عَنْ ذُلٍّ وَضَعْفٍ مِنَّا، وَلَعَمْرِي مَا لَنَا فِي حَبْسِهَا حَاجَةٌ، فَارْجِعْ بِالْمَرْأَةِ لِيَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّا رَدَدْنَاهَا. ثُمَّ أَخْرِجْهَا لَيْلًا وَسَلِّمْهَا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَصَاحِبِهِ، فَقَدِمَا بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقَامَتْ عِنْدَهُ. «فَلَمَّا كَانَ قُبَيْلَ الْفَتْحِ خَرَجَ أَبُو الْعَاصِ تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ بِأَمْوَالِهِ وَأَمْوَالِ رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا عَادَ لَقِيَتْهُ سَرِيَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذُوا مَا مَعَهُ وَهَرَبَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَتَى الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ، فَلَمَّا كَانَ الصُّبْحُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الصَّلَاةِ،

فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ، فَنَادَتْ زَيْنَبُ مِنْ صُفَّةِ النِّسَاءِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا عَلِمْتُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّهُ لَيُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ. وَقَالَ لِزَيْنَبَ: لَا يَخْلُصُ إِلَيْكِ، فَلَا يَحِلُّ لَكِ. وَقَالَ لِلسَّرِيَّةِ الَّذِينَ أَصَابُوهُ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تَرُدُّوا عَلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَهُوَ فَيْءُ اللَّهِ الَّذِي أَفَاءَهُ عَلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلْ نَرُدُّهُ عَلَيْهِ. فَرَدُّوا عَلَيْهِ مَالَهُ كُلَّهُ حَتَّى الشِّظَاظَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ فَرَدَّ عَلَى النَّاسِ مَا لَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنَ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ إِلَّا تَخَوُّفُ أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ أَكْلَ أَمْوَالِكُمْ. ثُمَّ خَرَجَ فَقَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ» . وَجَلَسَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بَعْدَ بَدْرٍ، وَكَانَ شَيْطَانًا مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ، وَكَانَ ابْنُ وَهْبٍ فِي الْأُسَارَى، فَقَالَ صَفْوَانُ: لَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ مَنْ أُصِيبَ بِبَدْرٍ. فَقَالَ عُمَيْرٌ: صَدَقْتَ، وَلَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ، وَعِيَالٌ أَخْشَى ضَيْعَتَهُمْ لَرَكِبْتُ إِلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى أَقْتُلَهُ. فَقَالَ صَفْوَانُ: دَيْنُكَ عَلَيَّ، وَعِيَالُكَ مَعَ عِيَالِي أُسْوَتُهُمْ. فَسَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَدِمَهَا، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِإِدْخَالِهِ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ عُمَرُ بِحَمَّالَةِ سَيْفِهِ وَقَالَ لِرِجَالٍ مَعَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ: ادْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحْذَرُوا هَذَا الْخَبِيثَ. فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعُمَرَ: اتْرُكْهُ، ثُمَّ قَالَ: ادْنُ يَا عُمَيْرُ، مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ لِهَذَا الْأَسِيرِ. قَالَ: اصْدُقْنِي. قَالَ: مَا جِئْتُ إِلَّا لِذَلِكَ. قَالَ: بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ، وَجَرَى بَيْنَكُمَا كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ عُمَيْرٌ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، هَذَا الْأَمْرُ لَمْ يَحْضُرْهُ إِلَّا أَنَا وَصَفْوَانُ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وَعَلِّمُوهُ الْقُرْآنَ، وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ. فَفَعَلُوا. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَنْتُ شَدِيدَ الْأَذَى لِلْمُسْلِمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ تَأْذَنَ لِي، فَأَقْدَمَ مَكَّةَ فَأَدْعُوَ إِلَى اللَّهِ وَأُوذِيَ الْكُفَّارَ فِي دِينِهِمْ كَمَا كُنْتُ أُوذِي أَصْحَابَكَ. فَأَذِنَ لَهُ، فَكَانَ صَفْوَانُ يَقُولُ: أَبْشِرُوا الْآنَ بِوَقْعَةٍ تَأْتِيكُمْ تُنْسِيكُمْ وَقْعَةَ بَدْرٍ. فَلَمَّا قَدِمَ عُمَيْرٌ أَقَامَ بِهَا يَدْعُو إِلَى اللَّهِ، فَأَسْلَمَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ يُؤْذِي مَنْ خَالَفَهُ.

وَقَدِمَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ فِي فِدَاءِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُشَاوِرُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا فِي الْأُسَارَى، فَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ بِالْفِدَاءِ، وَأَشَارَ عُمَرُ بِالْقَتْلِ، فَمَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْقَتْلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] إِلَى قَوْلِهِ: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] ، وَكَانَ الْأَسْرَى سَبْعِينَ، فَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُقُوبَةً بِالْمُفَادَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ، وَهُمِشَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ، وَسَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] . وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِبَدْرٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، سِتَّةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةً اسْتَصْغَرَهُمْ، مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ. وَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِثَمَانِيَةِ نَفَرٍ بِسَهْمٍ فِي الْأَنْفَالِ لَمْ يَحْضُرُوا الْوَقْعَةَ، مِنْهُمْ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلَّفَهُ عَلَى زَوْجَتِهِ رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَرَضِهَا، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، كَانَ أَرْسَلَهُمَا يَتَجَسَّسَانِ خَبَرَ الْعِيرِ، وَأَبُو لُبَابَةَ، خَلَّفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ، خَلَّفَهُ عَلَى الْعَالِيَةِ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ، رَدَّهُ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِشَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهُمْ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ، كُسِرَ بِالرَّوْحَاءِ، وَخَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، كُسِرَ فِي بَدْرٍ أَسْفَلَ سَيْفِهِ ذِي الْفَقَارِ، وَكَانَ لِمُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَقِيلَ كَانَ لِلْعَاصِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَتَلَهُ عَلِيٌّ صَبْرًا وَأَخَذَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ، فَكَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَهَبَهُ لِعَلِيٍّ. (رَحَضَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ. وَالْحُبَارُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ. وَخَدِيجٌ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ) .

ذكر غزوة بني القينقاع

[ذِكْرُ غَزْوَةِ بَنِي الْقَيْنُقَاعِ] لَمَّا عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَدْرٍ أَظْهَرَتْ يَهُودُ لَهُ الْحَسَدَ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَبَغَوْا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ، وَكَانَ قَدْ وَادَعَهُمْ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا. فَلَمَّا بَلَغَهُ حَسَدُهُمْ جَمَعَهُمْ بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَقَالَ لَهُمْ: احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ وَأَسْلِمُوا، فَإِنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ أَنِّي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، لَا يَغُرَّنَّكَ أَنَّكَ لَقِيتَ قَوْمًا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ، فَأَصَبْتَ مِنْهُمْ فُرْصَةً. فَكَانُوا أَوَّلَ يَهُودَ نَقَضُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى مُجَاهَرَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ إِذْ جَاءَتِ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ إِلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَجَلَسَتْ عِنْدَ صَائِغٍ لِأَجْلِ حُلِيٍّ لَهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَخَلَّ دِرْعَهَا إِلَى ظَهْرِهَا، وَهِيَ لَا تَشْعُرُ، فَلَمَّا قَامَتْ بَدَتْ عَوْرَتُهَا، فَضَحِكُوا مِنْهَا، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُ، وَنَبَذُوا الْعَهْدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَحَصَّنُوا فِي حُصُونِهِمْ، فَغَزَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَاصَرَهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَكُتِّفُوا وَهُوَ يُرِيدُ قَتْلَهُمْ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ فَكَلَّمَهُ فِيهِمْ، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ: وَيَحْكَ أَرْسِلْنِي. فَقَالَ: لَا أُرْسِلُكَ حَتَّى تُحْسِنَ إِلَى مَوَالِيَّ، أَرْبَعُمِائَةِ حَاسِرٍ، وَثَلَاثُمِائَةِ دَارِعٍ قَدْ مَنَعُونِي مِنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ تَحْصُدُهُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَخْشَى الدَّوَائِرَ. فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُمْ لَكَ، خَلُّوهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنَهُ مَعَهُمْ. وَغَنِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَرَضُونَ إِنَّمَا كَانُوا صَاغَةً، وَكَانَ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ الْأَنْصَارِيُّ، فَبَلَغَ بِهِمْ ذِبَابَ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى أَذْرِعَاتٍ مِنْ أَرْضِ الِشَّامِ، فَلَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى هَلَكُوا.

ذكر غزوة الكدر

وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا لُبَابَةَ، وَكَانَ لِوَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ حَمْزَةَ، وَقَسَمَ الْغَنِيمَةَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَخَمَّسَهَا، وَكَانَ أَوَّلَ خُمُسٍ أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَضَرَ الْأَضْحَى، وَخَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ أَوَّلُ صَلَاةِ عِيدٍ صَلَّاهَا، وَضَحَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاتَيْنِ، وَقِيلَ بِشَاةٍ، وَكَانَ أَوَّلَ أَضْحَى رَآهُ الْمُسْلِمُونَ، وَضَحَّى مَعَهُ ذَوُو الْيَسَارِ. وَكَانَتِ الْغَزَاةُ فِي شَوَّالٍ بَعْدَ بَدْرٍ، وَقِيلَ: كَانَتْ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ بَعْدَ غَزْوَةِ الْكُدْرِ. (ذِبَابُ بِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَبَاءَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ) . [ذِكْرُ غَزْوَةِ الْكُدْرِ] قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَتْ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ. وَكَانَ قَدْ بَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجْتِمَاعُ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى مَاءٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: الْكُدْرُ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْكُدْرِ فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَكَانَ لِوَاؤُهُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ وَعَادَ وَمَعَهُ النَّعَمُ وَالرِّعَاءُ، وَكَانَ قُدُومُهُ - فِي قَوْلٍ - لِعَشْرِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَوَّالٍ. وَبَعْدَ قُدُومِهِ أَرْسَلَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيَّ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ وَغَطَفَانَ، فَقَتَلُوا فِيهِمْ وَغَنِمُوا النَّعَمَ، وَاسْتَشْهَدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، وَعَادُوا مُنْتَصَفَ شَوَّالٍ (الْكُدْرُ بِضَمِّ الْكَافِ، وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ) .

ذكر غزوة السويق

[ذِكْرُ غَزْوَةِ السَّوِيقِ] كَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ نَذَرَ بَعْدَ بَدْرٍ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهُ مَاءٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا، فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ مِنْ قُرَيْشٍ لِيُبِرَّ يَمِينَهُ حَتَّى جَاءَ الْمَدِينَةَ لَيْلًا، وَاجْتَمَعَ بِسَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ سَيِّدِ النَّضِيرِ، فَعَلِمَ مِنْهُ خَبَرَ النَّاسِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي لَيْلَتِهِ فَبَعَثَ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتَوُا الْعُرَيْضَ فَحَرَّقُوا فِي نَخْلِهَا، وَقَتَلُوا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَحَلِيفًا لَهُ، وَاسْمُ الْأَنْصَارِيِّ مَعْبَدُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَادُوا، وَرَأَى أَنْ قَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ. وَجَاءَ الصَّرِيخُ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ فَأَعْجَزَهُمْ. وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ يُلْقُونَ جُرُبَ السَّوِيقِ يَتَخَفَّفُونَ مِنْهَا لِلنَّجَاةِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَامَّةَ زَادِهِمْ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ غَزْوَةُ السَّوِيقِ. وَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَطْمَعُ أَنْ تَكُونَ لَنَا غَزْوَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بِمَكَّةَ، وَهُوَ يَتَجَهَّزُ: كُرُّوا عَلَى يَثْرِبٍ وَجَمْعِهِمْ ... فَإِنَّ مَا جَمَعُوا لَكُمْ نَفَلُ إِنْ يَكُ يَوْمُ الْقَلِيبِ كَانَ لَهُمْ ... فَإِنَّ مَا بَعْدَهُ لَكُمْ دُوَلُ آلَيْتُ لَا أَقْرَبُ النِّسَاءِ وَلَا ... يَمَسُّ رَأْسِي وَجِلْدِي الْغُسُلُ حَتَّى تُبِيرُوا قَبَائِلَ الْأَوْسِ ... وَالْخَزْرَجِ، إِنَّ الْفُؤَادَ يَشْتَعِلُ فَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ بِقَوْلِهِ: يَا لَهْفَ أُمِّ الْمُسَبِّحِينَ عَلَى ... جَيْشِ ابْنِ حَرْبٍ بِالْحَرَّةِ الْفَشِلِ إِذْ يَطْرَحُونَ الرِّجَالَ مَنْ سَئِمَ الطَّيْ ... رَ تَرَقَّى لِقُنَّةِ الْجَبَلِ

جَاءُوا بِجَمْعٍ لَوْ قِيسَ مَبْرَكُهُ مَا كَانَ إِلَّا كَمَفْحَصِ الدُّئِلِ ... عَارٍ مِنَ النَّصْرِ وَالثَّرَاءِ وَمِنْ أَبْطَالِ أَهْلِ الْبَطْحَاءِ وَالْأَسَلِ وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مُطْغُونٍ فَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَأْسِ الْقَبْرِ حَجَرًا عَلَامَةً لِقَبْرِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وُلِدَ فِيهَا. وَقِيلَ: إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بَنَى بِفَاطِمَةَ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا فَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ الْمَعَاقِلَةَ وَقَرَّبَهُ بِسَيْفِهِ. (سَلَّامٌ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ. وَمِشْكَمٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ الْكَافِ. وَالْعُرَيْضُ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَآخِرُهُ ضَادٌ مُعْجَمَةٌ: وَادٍ بِالْمَدِينَةِ) .

ودخلت السنة الثالثة من الهجرة

[وَدَخَلَتِ السَّنَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْهِجْرَةِ] 3 - وَدَخَلَتِ السَّنَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ جَمْعًا مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ وَبَنِي مُحَارِبِ بْنِ حَفْصٍ تَجَمَّعُوا لِيُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، فَلَمَّا صَارَ بِذِي الْقَصَّةِ لَقِيَ رَجُلًا مِنْ ثَعْلَبَةَ فَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَتَاهُمْ خَبَرُهُ فَهَرَبُوا إِلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَعَادَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَكَانَ مُقَامُهُ اثْنَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، غَزَا بَنِي سُلَيْمٍ بِبَحْرَانَ، وَسَبَبُ هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَنَّ جَمْعًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ تَجَمَّعُوا بِبَحْرَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرُعِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، فَلَمَّا بَلَغَ بَحْرَانَ وَجَدَهُمْ قَدْ تَفَرَّقُوا، فَانْصَرَفَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ عَشْرَ لَيَالٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ. (الْقَصَّةُ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ. وَبَحْرَانَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ) . ذِكْرُ قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي نَبْهَانَ مِنْ طَيِّئٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ

مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانَ قَدْ كَبُرَ عَلَيْهِ قَتْلُ مَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَارَ إِلَى مَكَّةَ وَحَرَّضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَكَى أَصْحَابَ بَدْرٍ، وَكَانَ يُشَبِّبُ بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى آذَاهُمْ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لِي مِنِ ابْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَا لَكَ بِهِ، أَنَا أَقْتُلُهُ. قَالَ: فَافْعَلْ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَابُدَّ لَنَا مَا نَقُولُ. قَالَ: قُولُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ. فَاجْتَمَعَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَسِلْكَانُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، وَهُوَ أَبُو نَائِلَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانَ أَخَا كَعْبٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، ثُمَّ قَدَّمُوا إِلَى ابْنِ الْأَشْرَفِ أَبَا نَائِلَةَ، فَتَحَدَّثَ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا بْنَ الْأَشْرَفِ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكَ لِحَاجَةٍ فَاكْتُمْهَا عَلَيَّ. قَالَ: أَفْعَلُ. قَالَ: كَانَ قُدُومُ هَذَا الرَّجُلِ شُؤْمًا عَلَى الْعَرَبِ، قَطَعَ عَنَّا السُّبُلَ حَتَّى ضَاعَتِ الْعِيَالُ، وَجَهَدَتِ الْبَهَائِمُ. فَقَالَ كَعْبٌ: قَدْ كُنْتُ أَخْبَرْتُكَ بِهَذَا. قَالَ أَبُو نَائِلَةَ: وَأُرِيدُ أَنْ تَبِيعَنَا طَعَامًا وَنَرْهَنَكَ، وَنُوَثِّقَ لَكَ، وَتُحْسِنَ فِي ذَلِكَ. قَالَ: تَرْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ؟ قَالَ: أَرَدْتَ أَنْ تَفْضَحَنَا، إِنَّ مَعِي أَصْحَابِي عَلَى مِثْلِ رَأْيِي، تَبِيعُهُمْ وَتُحْسِنُ، وَنَجْعَلُ عِنْدَكَ رَهْنًا مِنَ الْحَلْقَةِ مَا فِيهِ وَفَاءٌ، وَأَرَادَ أَبُو نَائِلَةَ بِذِكْرِ الْحَلْقَةِ، وَهِيَ السِّلَاحُ، أَنْ لَا يُنْكِرَ السِّلَاحَ إِذَا جَاءَ مَعَ أَصْحَابِهِ. فَقَالَ: إِنَّ فِي الْحَلْقَةِ لَوَفَاءً. فَرَجَعَ أَبُو نَائِلَةَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ، فَأَخَذُوا السِّلَاحَ وَسَارُوا إِلَيْهِ، وَشَيَّعَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ وَدَعَا لَهُمْ. فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى حِصْنِ كَعْبٍ هَتَفَ بِهِ أَبُو نَائِلَةَ، وَكَانَ كَعْبٌ قَرِيبَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، فَوَثَبَ إِلَيْهِ، وَتَحَدَّثُوا سَاعَةً، وَسَارَ مَعَهُمْ إِلَى شِعْبِ الْعَجُوزِ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا نَائِلَةَ أَخَذَ بِرَأْسِ كَعْبٍ وَشَمَّ بِيَدِهِ وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ طِيبًا أَعْرَفَ قَطُّ. ثُمَّ مَشَى سَاعَةً وَعَادَ لِمِثْلِهَا حَتَّى اطْمَأَنَّ كَعْبٌ، ثُمَّ مَشَى سَاعَةً وَأَخَذَ بِفَوْدِ رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: اضْرِبُوا عَدُوَّ اللَّهِ! فَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ أَسْيَافُهُمْ، فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: فَذَكَرْتُ مِغْوَلًا فِي سَيْفِي فَأَخَذْتُهُ، وَقَدْ صَاحَ عَدُوُّ اللَّهِ صَيْحَةً لَمْ يَبْقَ حَوْلَنَا حِصْنٌ إِلَّا أُوقِدَتْ عَلَيْهِ نَارٌ، قَالَ: فَوَضَعْتُهُ فِي ثُنْدُؤَتِهِ، ثُمَّ تَحَامَلْتُ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغْتُ عَانَتَهُ، وَوَقَعَ عَدُوُّ اللَّهِ.

وَقَدْ أُصِيبَ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ، أَصَابَهُ أَسْيَافُنَا، قَالَ: فَخَرَجْنَا عَلَى بُعَاثٍ وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْنَا صَاحِبُنَا، فَوَقَفْنَا لَهُ سَاعَةً وَقَدْ نَزَفَهُ الدَّمُ، ثُمَّ أَتَانَا فَاحْتَمَلْنَاهُ وَجِئْنَا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَتْلِ عَدُوِّ اللَّهِ، وَتَفَلَ عَلَى جُرْحِ صَاحِبِنَا وَعُدْنَا إِلَى أَهْلِينَا وَقَدْ خَافَتْ يَهُودُ، لَيْسَ بِهَا يَهُودِيٌّ إِلَّا وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ فَاقْتُلُوهُ» ، فَوَثَبَ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى ابْنِ سُنَيْنَةَ الْيَهُودِيِّ، وَهُوَ مِنْ تُجَّارِ يَهُودَ، فَقَتَلَهُ، وَكَانَ يُبَايِعُهُمْ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ حُوَيِّصَةُ، وَهُوَ مُشْرِكٌ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ، قَتَلْتَهُ! أَمَا وَاللَّهِ لَرُبَّ شَحْمٍ فِي بَطْنِكَ مِنْ مَالِهِ! وَضَرَبَهُ، فَقَالَ مُحَيِّصَةُ: لَقَدْ أَمَرَنِي بِقَتْلِهِ مَنْ لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِكَ لَقَتَلْتُكَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنْ كَانَ لَأَوَّلَ إِسْلَامِ حُوَيِّصَةَ. فَقَالَ: إِنَّ دِينًا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى لَعَجَبٌ. ثُمَّ أَسْلَمَ. (عَبْسُ بْنُ جَبْرٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَجَبْرٌ بِالْجِيمِ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَسُنَيْنَةُ تَصْغِيرُ سِنٍّ) . وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا تَزَوَّجَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَنَى بِهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَفِيهَا وُلِدَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ ابْنُ أُخْتِ نُمَيْرٍ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ أَنْمَارَ يُقَالُ لَهَا: ذُو أَمْرٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ ابْنِ إِسْحَاقَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَفِيهَا كَانَ غَزْوَةُ الْفَرْدَةِ، وَكَانَ أَمِيرُهَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَهِيَ أَوَّلُ سَرِيَّةٍ خَرَجَ فِيهَا زَيْدٌ أَمِيرًا. وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهَا أَنَّ قُرَيْشًا خَافَتْ مِنْ طَرِيقِهَا الَّتِي كَانَتْ تَسْلُكُ إِلَى الشَّامِ بَعْدَ بَدْرٍ،

فَسَلَكُوا طَرِيقَ الْعِرَاقِ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَأَبُو سُفْيَانَ. وَكَانَ عَظِيمُ تِجَارَتِهِمُ الْفِضَّةَ، وَكَانَ دَلِيلُهُمْ فُرَاتَ بْنَ حَيَّانَ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْدًا، فَلَقِيَهُمْ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ: الْفَرْدَةُ، فَأَصَابَ الْعِيرَ وَمَا فِيهَا، وَأَعْجَزَهُ الرِّجَالُ، فَقَدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ الْخُمُسُ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَقَسَّمَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَأَتَى بِفُرَاتِ بْنِ حَيَّانَ أَسِيرًا فَأَسْلَمَ، فَأَطْلَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (الْفَرْدَةُ: مَاءٌ بِنَجْدٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ضَبْطِهِ، فَقِيلَ فَرْدَةُ بِالْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَالرَّاءِ السَّاكِنَةِ، وَبِهِ مَاتَ زَيْدُ الْخَيْلِ، وَيَرِدُ ذِكْرُهُ، وَضَبَطَهُ ابْنُ الْفُرَاتِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ قَرْدَةَ بِالْقَافِ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَسَيَّرَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلَى الْفَرْدَةِ، مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ نَجْدٍ، ضَبَطَهُ ابْنُ الْفُرَاتِ أَيْضًا بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ، فَإِنْ كَانَا مَكَانَيْنِ وَإِلَّا فَقَدَ ضَبَطَ ابْنُ الْفُرَاتِ أَحَدَهُمَا خَطَأً) . ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي رَافِعٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ قُتِلَ أَبُو رَافِعٍ سَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ الْيَهُودِيُّ، وَكَانَ يُظَاهِرُ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا قُتِلَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَكَانَ قَتَلَتُهُ مِنَ الْأَوْسِ، قَالَتِ الْخَزْرَجُ: وَاللَّهِ لَا يَذْهَبُونَ بِهَا عَلَيْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَا يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ، فَتَذَاكَرَ الْخَزْرَجُ مَنْ يُعَادِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَابْنِ الْأَشْرَفِ، فَذَكَرُوا ابْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَهُوَ بِخَيْبَرَ، فَاسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِهِ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ مِنَ الْخَزْرَجِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ سِنَانٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَخُزَاعِيُّ بْنُ الْأَسْوَدِ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ، فَخَرَجُوا حَتَّى قَدِمُوا خَيْبَرَ فَأَتَوْا دَارَ أَبِي رَافِعٍ لَيْلًا فَلَمْ يَدَعُوا بَابًا فِي الدَّارِ إِلَّا أَغْلَقُوهُ عَلَى أَهْلِهِ، وَكَانَ فِي عُلِّيَةٍ، فَاسْتَأْذَنُوا عَلَيْهِ، فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَفَرٌ مِنَ الْعَرَبِ يَلْتَمِسُونَ الْمِيرَةَ. قَالَتْ: ذَاكَ صَاحِبُكُمْ فَادْخُلُوا عَلَيْهِ، فَدَخَلُوا. فَلَمَّا دَخَلُوا أَغْلَقُوا بَابَ الْعُلِّيَةِ، وَوَجَدُوهُ عَلَى فِرَاشِهِ، وَابْتَدَرُوهُ، فَصَاحَتِ الْمَرْأَةُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُرِيدُ قَتْلَهَا،

فَيَذْكُرُ نَهْيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُمْ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَيُمْسِكُ عَنْهَا، وَضَرَبُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ، وَتَحَامَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ بِسَيْفِهِ فِي بَطْنِهِ حَتَّى أَنْفَذَهُ، ثُمَّ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ سَيِّئَ الْبَصَرِ، فَوَقَعَ مِنَ الدَّرَجَةِ فَوُثِئَتْ رِجْلُهُ وَثْأً شَدِيدًا، فَاحْتَمَلُوهُ وَاخْتَفَوْا، وَطَلَبَتْهُمْ يَهُودُ فِي كُلِّ وَجْهٍ فَلَمْ يَرَوْهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى صَاحِبِهِمْ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَيْفَ نَعْلَمُ أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ قَدْ مَاتَ؟ فَعَادَ بَعْضُهُمْ وَدَخَلَ فِي النَّاسِ، فَرَأَى النَّاسَ حَوْلَهُ وَهُوَ يَقُولُ: لَقَدْ عَرَفْتُ صَوْتَ ابْنِ عَتِيكٍ، ثُمَّ قُلْتُ: أَيْنَ ابْنُ عَتِيكٍ؟ ثُمَّ صَاحَتِ امْرَأَتُهُ وَقَالَتْ: مَاتَ وَاللَّهِ. قَالَ: فَمَا سَمِعْتُ كَلِمَةً أَلَذَّ إِلَى نَفْسِي مِنْهَا. ثُمَّ عَادَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، وَسَمِعَ صَوْتَ النَّاعِي يَقُولُ: أَنْعَى أَبَا رَافِعٍ تَاجِرَ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَسَارُوا حَتَّى قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْلِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَاتُوا أَسْيَافَكُمْ، فَجَاءُوا بِهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ لِسَيْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ: هَذَا قَتَلَهُ، أَرَى فِيهِ أَثَرَ الْعِظَامِ. وَقِيلَ فِي قَتْلِهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ إِلَى أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ، وَكَانَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَرَاحَ النَّاسُ بِسُرُجِهِمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ لِأَصْحَابِهِ: أَقِيمُوا مَكَانَكُمْ؛ فَإِنِّي أَنْطَلِقُ وَأَتَلَطَّفُ لِلْبَوَّابِ لَعَلِّي أَدْخُلُ. فَانْطَلَقَ فَأَقْبَلَ حَتَّى دَنَا مِنَ الْبَابِ فَتَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ كَأَنَّهُ يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَهَتَفَ بِهِ الْبَوَّابُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ فَادْخُلْ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُغْلِقَ الْبَابَ، فَدَخَلَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ وَعَلَّقَ الْمَفَاتِيحَ عَلَى وَتَدٍ، قَالَ: فَقُمْتُ فَأَخَذْتُهَا فَفَتَحْتُ بِهَا الْبَابَ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُسْمَرُ عِنْدَهُ فِي عِلَالِيٍّ لَهُ. فَلَمَّا أَرَادَ النَّوْمَ ذَهَبَ عَنْهُ السُّمَّارُ، فَصَعِدْتُ إِلَيْهِ، فَجَعَلْتُ كُلَّمَا فَتَحْتُ بَابًا أَغْلَقْتُهُ عَلَيَّ مِنْ دَاخِلٍ، وَقُلْتُ: إِنْ عَلِمُوا بِي لَمْ يَخْلُصُوا إِلَيَّ حَتَّى أَقْتُلَهُ. قَالَ: فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَسَطَ عِيَالِهِ، لَا أَدْرِي أَيْ هُوَ. فَقُلْتُ: أَبَا رَافِعٍ! قَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَأَهْوَيْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ وَأَنَا دَهِشٌ، فَمَا أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا وَصَاحَ، فَخَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: مَا هَذَا الصَّوْتُ؟ قَالَ: لِأُمِّكَ الْوَيْلُ! إِنَّ رَجُلًا فِي الْبَيْتِ ضَرَبَنِي بِالسَّيْفِ. قَالَ: فَضَرَبْتُهُ فَأَثْخَنْتُهُ فَلَمْ أَقْتُلْهُ، ثُمَّ وَضَعْتُ حَدَّ السَّيْفِ فِي بَطْنِهِ حَتَّى أَخْرَجْتُهُ مِنْ ظَهْرِهِ، فَعَرَفْتُ أَنِّي قَتَلْتُهُ، فَجَعَلْتُ أَفْتَحُ الْأَبْوَابَ وَأَخْرُجُ حَتَّى

ذكر غزوة أحد

انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي وَأَنَا أَظُنُّ أَنِّي انْتَهَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَوَقَعْتُ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ وَانْكَسَرَتْ سَاقِي، فَعَصَبْتُهَا بِعِمَامَتِي وَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ أَقَتَلْتُهُ أَمْ لَا. فَلَمَّا صَاحَ الدِّيكُ قَامَ النَّاعِي فَقَالَ: أَنْعَى أَبَا رَافِعٍ تَاجِرَ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَقُلْتُ: النَّجَاءُ! قَدْ قَتَلَ اللَّهُ أَبَا رَافِعٍ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَدَّثْتُهُ. فَقَالَ: ابْسُطْ رِجْلَكَ. فَبَسَطْتُهَا فَمَسَحَهَا، فَكَأَنِّي لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ. قِيلَ: كَانَ قَتْلُ أَبِي رَافِعٍ فِي ذِي الْحَجَّةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (سَلَّامٌ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ. وَحُقَيْقٌ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْقَافِ الْأُولَى، تَصْغِيرُ حَقٍّ) . وَفِيهَا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي شَعْبَانَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ تَحْتَ خُنَيْسٍ (بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَبِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ، وَبِالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتُ، وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ) وَهُوَ ابْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ، فَتُوُفِّيَ فِيهَا. [ذِكْرُ غَزْوَةِ أُحُدٍ] وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ لِسَبْعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْهُ كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ، وَقِيلَ لِلنِّصْفِ مِنْهُ، وَكَانَ الَّذِي هَاجَهَا وَقْعَةُ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ أُصِيبَ بِبَدْرٍ مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ بِهَا، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ كَانَ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ تِجَارَةٌ، وَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعِينُوهُمْ بِذَلِكَ الْمَالِ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُدْرِكُوا ثَأْرَهُمْ مِنْهُمْ فَفَعَلُوا.

وَتَجَهَّزَ النَّاسُ وَأَرْسَلُوا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ، وَهُمْ: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، وَابْنُ الزِّبَعْرَى، وَأَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ، فَسَارُوا فِي الْعَرَبِ لِيَسْتَنْفِرُوهُمْ، فَجَمَعُوا جَمْعًا مِنْ ثَقِيفٍ وَكِنَانَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ بِأَحَابِيشِهَا وَمَنْ أَطَاعَهَا مِنْ قَبَائِلِ كِنَانَةَ وَتِهَامَةَ، وَدَعَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ غُلَامَهُ وَحْشِيَّ بْنَ حَرْبٍ، وَكَانَ حَبَشِيًّا يَقْذِفُ بِالْحَرْبَةِ قَلَّ مَا يُخْطِئُ، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ مَعَ النَّاسِ، فَإِنْ قَتَلْتَ عَمَّ مُحَمَّدٍ بِعَمِّي طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيٍّ فَأَنْتَ عَتِيقٌ. وَخَرَجُوا مَعَهُمْ بِالظَّعْنِ لِئَلَّا يَفِرُّوا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَائِدَ النَّاسِ، فَخَرَجَ بِزَوْجَتِهِ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ، وَغَيْرُهُ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ خَرَجُوا بِنِسَائِهِمْ، خَرَجَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ بِزَوْجَتِهِ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ أُخْتِ خَالِدٍ، وَخَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بِبَرِيرَةَ، وَقِيلَ: بَرْزَةُ بِنْتُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّةُ أُخْتُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَهِيَ أُمُّ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ، وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِرَيْطَةَ بِنْتِ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَخَرَجَ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ بِسُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، وَهِيَ أُمُّ بَنِيهِ مُسَافِعٍ وَالْجُلَاسِ وَكِلَابٍ وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ مَعَ النِّسَاءِ الدُّفُوفُ يَبْكِينَ عَلَى قَتْلَى بَدْرٍ يُحَرِّضْنَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ. وَكَانَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُبَاعِدًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ خَمْسُونَ غُلَامًا مِنَ الْأَوْسِ، وَقِيلَ كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَكَانَ يَعِدُ قُرَيْشًا أَنَّهُ لَوْ لَقِيَ مُحَمَّدًا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ مِنَ الْأَوْسِ رَجُلَانِ. فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ بِأُحُدٍ كَانَ أَبُو عَامِرٍ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَ فِي الْأَحَابِيشِ وَعَبْدَانِ أَهْلَ مَكَّةَ، فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ، أَنَا أَبُو عَامِرٍ. فَقَالُوا: فَلَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ! فَقَالَ: لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى رَاضَخَهُمْ بِالْحِجَارَةِ. وَكَانَتْ هِنْدُ كُلَّمَا مَرَّتْ بِوَحْشِيٍّ أَوْ مَرَّ بِهَا قَالَتْ لَهُ: يَا أَبَا دُسْمَةَ، اشْفِ وَاسْتَشْفِ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا دُسْمَةَ. فَأَقْبَلُوا حَتَّى نَزَلُوا بِعَيْنَيْنِ بِجَبَلٍ بِبَطْنِ السَّبْخَةِ مِنْ قَنَاةٍ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي مِمَّا يَلِي الْمَدِينَةَ. فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ بَقَرًا فَأَوَّلْتُهَا خَيْرًا،

وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثَلْمًا، وَرَأَيْتُ أَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَدْعُوهُمْ، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مُقَامٍ، وَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِيهَا. وَكَانَ رَأْيُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ مَعَ رَأْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُ الْخُرُوجَ، وَأَشَارَ بِالْخُرُوجِ جَمَاعَةٌ مِمَّنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذٍ. وَأَقَامَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ صَلَّى الْجُمُعَةَ فَالْتَقَوْا يَوْمَ السَّبْتِ نِصْفَ شَوَّالٍ. فَلَمَّا لَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِلَاحَهُ وَخَرَجَ نَدِمَ الَّذِينَ كَانُوا أَشَارُوا بِالْخُرُوجِ إِلَى قُرَيْشٍ وَقَالُوا: اسْتَكْرَهْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُشِيرُ عَلَيْهِ، فَالْوَحْيُ يَأْتِيهِ فِيهِ، فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا: اصْنَعْ مَا شِئْتَ. فَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَلْبَسَ لَأْمَتَهُ فَيَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ. فَخَرَجَ فِي أَلْفِ رَجُلٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ عَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِثُلُثِ النَّاسِ، فَقَالَ: أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي، وَكَانَ يَذْكُرُ مَنْ تَبِعَهُ أَهْلُ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ، وَاتَّبَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَرَامٍ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ يُذَكِّرُهُمُ اللَّهَ أَنْ لَا يَخْذُلُوا نَبِيَّهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ مَا أَسْلَمْنَاكُمْ، وَانْصَرَفُوا. فَقَالَ: أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ أَعْدَاءَ اللَّهِ! فَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ! وَبَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَبْعِمِائَةٍ، فَسَارَ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ، فَمَرَّ بِمَالِ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُقَالُ لَهُ مِرْبَعُ بْنُ قَيْظِيٍّ، وَكَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ، فَلَمَّا سَمِعَ حِسَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ مَعَهُ قَامَ يَحْثِي التُّرَابَ فِي وُجُوهِهِمْ وَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ فَإِنِّي لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ حَائِطِي، وَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ وَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَا أُصِيبُ غَيْرَكَ لَضَرَبْتُ بِهِ وَجْهَكَ. فَابْتَدَرُوهُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَفْعَلُوا؛ فَهَذَا الْأَعْمَى أَعْمَى الْبَصَرِ وَالْقَلْبِ. فَضَرَبَهُ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ بِقَوْسٍ فَشَجَّهُ. وَذَبَّ فَرَسٌ بِذَنَبِهِ فَأَصَابَ كُلَّابَ سَيْفِ صَاحِبِهِ، فَاسْتَلَّهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

سُيُوفَكُمْ، فَإِنِّي أَرَى السُّيُوفَ سَتُسَلُّ الْيَوْمَ. وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَزَلَ بِعَدْوَةِ الْوَادِي، وَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، مِنْهُمْ سَبْعُمِائَةِ دَارِعٍ، وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَالظَّعْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ مِائَةَ دَارِعٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْخَيْلِ غَيْرُ فَرَسَيْنِ، فَرَسٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَرَسٌ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ، وَعَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُقَاتِلَةَ فَرَدَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَابْنَ عُمَرَ، وَأُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ، وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَعَرَابَةَ بْنَ أَوْسٍ، وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَأَجَازَ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ، وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ. وَأَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى الْأَنْصَارِ يَقُولُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ عَمِّنَا، فَنَنْصَرِفُ عَنْكُمْ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى قِتَالِكُمْ. فَرَدُّوا عَلَيْهِ بِمَا يَكْرَهُ. وَتَعَبَّأَ الْمُشْرِكُونَ فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمْ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، وَكَانَ لِوَاؤُهُمْ مَعَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ: إِنَّمَا يُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبَلِ رَايَاتِهِمْ، فَإِمَّا أَنْ تَكْفُونَا وَإِمَّا أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللِّوَاءِ. يُحَرِّضُهُمْ بِذَلِكَ. فَقَالُوا: سَتَعْلَمُ إِذَا الْتَقَيْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ. وَذَلِكَ أَرَادَ. وَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَتَرَكَ أُحُدًا خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَجَعَلَ وَرَاءَهُ الرُّمَاةَ، وَهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، أَخَا خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَالَ لَهُ: انْضَحْ عَنَّا الْخَيْلَ بِالنَّبْلِ، لَا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا، وَاثْبُتْ مَكَانَكَ إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا. وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وَأَعْطَى اللِّوَاءَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، وَأَمَّرَ الزُّبَيْرَ عَلَى الْخَيْلِ وَمَعَهُ الْمِقْدَادُ، وَخَرَجَ حَمْزَةُ بِالْجَيْشِ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَأَقْبَلَ خَالِدٌ وَعِكْرِمَةُ فَلَقِيَهُمَا الزُّبَيْرُ وَالْمِقْدَادُ فَهَزَمَا الْمُشْرِكِينَ، وَحَمَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ فَهَزَمُوا أَبَا سُفْيَانَ، وَخَرَجَ طَلْحَةُ بْنُ عُثْمَانَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ يُعْجِلُنَا بِسُيُوفِكُمْ إِلَى النَّارِ، وَيُعْجِلُكُمْ بِسُيُوفِنَا إِلَى الْجَنَّةِ، فَهَلْ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُعْجِلُهُ سَيْفِي إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ يُعْجِلُنِي سَيْفُهُ إِلَى النَّارِ؟ فَبَرَزَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، فَسَقَطَ وَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، فَنَاشَدَهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ فَتَرَكَهُ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لِعَلِيٍّ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجْهِزَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: إِنَّهُ

نَاشَدَنِي اللَّهَ وَالرَّحِمَ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. وَكَانَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيْفٌ، فَقَالَ: مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ رِجَالٌ، فَأَمْسَكَهُ عَنْهُمْ حَتَّى قَامَ أَبُو دُجَانَةَ فَقَالَ: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَضْرِبُ بِهِ الْعَدُوَّ حَتَّى تُثْخِنَ. قَالَ أَنَا آخُذُهُ. فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. وَكَانَ شُجَاعًا، وَكَانَ إِذَا أَعْلَمَ بِعِصَابَةٍ لَهُ حَمْرَاءَ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ يُقَاتِلُ، فَعَصَبَ رَأْسَهُ بِهَا وَأَخَذَ السَّيْفَ، وَجَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا مِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ. فَجَعَلَ لَا يَرْتَفِعُ لَهُ شَيْءٌ إِلَّا حَطَّمَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى نِسْوَةٍ فِي سَفْحِ الْجَبَلِ مَعَهُنَّ دُفُوفٌ لَهُنَّ فِيهِنَّ امْرَأَةٌ تَقُولُ: نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقْ ... إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ وَنَفْرِشُ النَّمَارِقْ أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ فَرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ وَتَقُولُ أَيْضًا: إِيهَا بَنِي عَبْدِ الدَّارْ ... إِيهَا حُمَاةَ الدِّيَارْ ضَرْبًا بِكُلِّ بَتَّارْ فَرَفَعَ السَّيْفَ لِيَضْرِبَهَا، ثُمَّ أَكْرَمَ سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَضْرِبَ بِهِ امْرَأَةً. وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ هِنْدَ، وَالنِّسَاءُ مَعَهَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ خَلْفَ الرِّجَالِ يُحَرِّضْنَ. وَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَأَمْعَنَ فِي النَّاسِ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ، وَأَبُو دُجَانَةَ فِي رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهَرَبَ النِّسَاءُ مُصَعِّدَاتٍ فِي الْجَبَلِ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ عَسْكَرَهُمْ يَنْهَبُونَ. فَلَمَّا نَظَرَ بَعْضُ الرُّمَاةِ

إِلَى الْعَسْكَرِ حِينَ انْكَشَفَ الْكُفَّارُ عَنْهُ أَقْبَلُوا يُرِيدُونَ النَّهْبَ، وَثَبَتَ طَائِفَةٌ وَقَالُوا: نُطِيعُ رَسُولَ اللَّهِ وَنَثْبُتُ مَكَانَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] ، يَعْنِي اتِّبَاعَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَمَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ. فَلَمَّا فَارَقَ بَعْضُ الرُّمَاةِ مَكَانَهُمْ رَأَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قِلَّةَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الرُّمَاةِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ، وَحَمَلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خَلْفِهِمْ. فَلَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ خَيْلَهُمْ تُقَاتِلُ تَبَادَرُوا، فَشَدُّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَتَلُوا أَصْحَابَ اللِّوَاءِ، فَبَقِيَ مَطْرُوحًا لَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ، فَأَخَذَتْهُ عَمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيَّةُ فَرَفَعَتْهُ، فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ حَوْلَهُ، وَأَخَذَهُ صُؤَابٌ فَقُتِلَ عَلَيْهِ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَ أَصْحَابَ اللِّوَاءِ عَلِيٌّ، قَالَهُ أَبُو رَافِعٍ، قَالَ: فَلَمَّا قَتَلَهُمْ أَبْصَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: احْمِلْ عَلَيْهِمْ، فَفَرَّقَهُمْ وَقَتَلَ فِيهِمْ، ثُمَّ أَبْصَرَ جَمَاعَةً أُخْرَى فَقَالَ لَهُ: احْمِلْ عَلَيْهِمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ وَفَرَّقَهُمْ وَقَتَلَ فِيهِمْ، فَقَالَ جِبْرَائِيلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ الْمُؤَاسَاةُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ. فَقَالَ جِبْرَائِيلُ: وَأَنَا مِنْكُمَا. قَالَ: فَسَمِعُوا صَوْتًا: لَا سَيْفَ إِلَّا ذُو الْفَقَارِ، وَلَا فَتَى إِلَّا عَلِيٌّ. وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّفْلَى، وَشُقَّتْ شَفَتُهُ، وَكُلِمَ فِي وَجْنَتِهِ وَجَبْهَتِهِ فِي أُصُولِ شِعْرِهِ، وَعَلَاهُ ابْنُ قَمِئَةَ بِالسَّيْفِ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَصَابَهُ، وَقِيلَ: أَصَابَهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ جَدُّ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ. وَقِيلَ: إِنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنَ قَمِئَةَ اللَّيْثِيَّ الْأَدْرَمِيَّ، مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ غَالِبٍ - وَكَانَ أَدْرَمَ نَاقِصَ الذَّقْنِ - وَأُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ الْجُمَحِيَّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُمَيْدٍ الْأَسَدِيَّ، أَسَدَ قُرَيْشٍ تَعَاقَدُوا عَلَى قَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَمَّا ابْنُ شِهَابٍ فَأَصَابَ

جَبْهَتَهُ، وَأَمَّا عُتْبَةُ فَرَمَاهُ بِأَرْبَعَةِ أَحْجَارٍ فَكَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ الْيُمْنَى، وَشَقَّ شَفَتَهُ، وَأَمَّا ابْنُ قَمِئَةَ، فَكَلَمَ وَجْنَتَهُ وَدَخَلَ مِنْ حِلَقِ الْمِغْفَرِ فِيهَا، وَعَلَاهُ بِالسَّيْفِ فَلَمْ يُطِقْ أَنْ يَقْطَعَهُ، فَسَقَطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجُحِشَتْ رُكْبَتُهُ، وَأَمَّا أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ فَشَدَّ عَلَيْهِ بِحَرْبَةٍ، فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ وَقَتَلَهُ بِهَا، وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ حَرْبَةَ الزُّبَيْرِ أَخَذَهَا مِنْهُ، وَقِيلَ: أَخَذَهَا مِنَ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدٍ فَقَتَلَهُ أَبُو دُجَانَةَ الْأَنْصَارِيُّ. وَلَمَّا جُرِحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ وَهُوَ يَمْسَحُهُ وَيَقُولُ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ بِالدَّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ؟ ! وَقَاتَلَ دُونَهُ نَفَرٌ خَمْسَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقُتِلُوا، وَتَرَّسَ أَبُو دُجَانَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْسِهِ، فَكَانَ يَقَعُ النَّبْلُ فِي ظَهْرِهِ وَهُوَ مُنْحَنٍ عَلَيْهِ، وَرَمَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَاوِلُهُ السَّهْمَ وَيَقُولُ: ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. وَأُصِيبَتْ يَوْمَئِذٍ عَيْنُ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ، فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ. وَقَاتَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَمَعَهُ لِوَاءُ الْمُسْلِمِينَ فَقُتِلَ، قَتَلَهُ ابْنُ قَمِئَةَ اللَّيْثِيُّ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ وَقَالَ: قَتَلْتُ مُحَمَّدًا. فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، قُتِلَ مُحَمَّدٌ. وَلَمَّا قُتِلَ مُصْعَبٌ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللِّوَاءَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ. وَقَاتَلَ حَمْزَةُ حَتَّى مَرَّ بِهِ سِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى الْغُبْشَانِيُّ، فَقَالَ لَهُ حَمْزَةُ: هَلُمَّ إِلَيَّ يَا ابْنَ مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ! وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أَنْمَارَ خَتَّانَةً بِمَكَّةَ، فَلَمَّا الْتَقَيَا ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَقَتَلَهُ. قَالَ وَحْشِيٌّ: إِنِّي وَاللَّهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَمْزَةَ وَهُوَ يَهُذُّ النَّاسَ بِسَيْفِهِ هَذَا، مَا يَلْقَى شَيْئًا يَمُرُّ بِهِ إِلَّا قَتَلَهُ، وَقَتَلَ سِبَاعَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى. قَالَ: فَهَزَزْتُ حَرْبَتِي وَدَفَعْتُهَا عَلَيْهِ فَوَقَعَتْ فِي ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ، وَأَقْبَلَ نَحْوِي فَغُلِبَ فَوَقَعَ، فَأَمْهَلْتُهُ حَتَّى مَاتَ

فَأَخَذْتُ حَرْبَتِي ثُمَّ تَنَحَّيْتُ إِلَى الْعَسْكَرِ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ حَمْزَةَ وَأَرْضَاهُ. وَقَتَلَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ مُسَافِعَ بْنَ طَلْحَةَ وَأَخَاهُ كِلَابَ بْنَ طَلْحَةَ بِسَهْمَيْنِ، فَحُمِلَا إِلَى أُمِّهِمَا سُلَافَةَ، وَأَخْبَرَاهَا أَنَّ عَاصِمًا قَتْلَهُمَا، فَنَذَرَتْ إِنْ أَمْكَنَهَا اللَّهُ مِنْ رَأْسِهِ أَنْ تَشْرَبَ فِيهِ الْخَمْرَ. وَبَرَزَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَطَلَبَ الْمُبَارَزَةَ، فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَبْرُزَ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شِمْ سَيْفَكَ، وَأَمْتِعْنَا بِكَ. وَانْتَهَى أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، إِلَى عُمَرَ وَطَلْحَةَ فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ قَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: مَا يَحْبِسُكُمْ؟ قَالُوا: قَدْ قُتِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ! مُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ. ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَوُجِدَ بِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً وَطَعْنَةً، وَمَا عَرَفَهُ إِلَّا أُخْتُهُ، عَرَفَتْهُ بِحُسْنِ بَنَانِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَنَسَ بْنَ النَّضْرِ سَمِعَ نَفَرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُتِلَ: لَيْتَ لَنَا مَنْ يَأْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ لِيَأْخُذَ لَنَا أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلُونَا. فَقَالَ لَهُمْ أَنَسٌ: يَا قَوْمُ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْتَلْ، فَقَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ، وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ! ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَبْشِرُوا! هَذَا رَسُولُ اللَّهِ حَيٌّ لَمْ يُقْتَلْ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ: أَنْصِتْ. فَلَمَّا عَرَفَهُ الْمُسْلِمُونَ نَهَضُوا نَحْوَ الشِّعْبِ وَمَعَهُ عَلِيٌّ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ وَغَيْرُهُمْ. فَلَمَّا أُسْنِدَ إِلَى الشِّعْبِ أَدْرَكَهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَهُوَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَوْتَ! فَعَطَفَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَطَعَنَهُ بِالْحَرْبَةِ فِي عُنُقِهِ، وَكَانَ أُبَيٌّ يَقُولُ بِمَكَّةَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ عِنْدِي الْعَوْدَ أَعْلِفُهُ كُلَّ يَوْمٍ فَرْقًا مِنْ ذُرَةٍ أَقْتُلُكَ عَلَيْهِ. فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ وَقَدْ خَدَشَهُ

رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَدْشًا غَيْرَ كَبِيرٍ قَالَ: قَتَلَنِي مُحَمَّدٌ. قَالُوا: وَاللَّهِ مَا بِكَ بَأْسٌ. قَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ قَالَ لِي أَنَا أَقْتُلُكَ، فَوَاللَّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي! فَمَاتَ عَدُوُّ اللَّهِ بِسَرِفَ. وَقَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ قِتَالًا شَدِيدًا، فَرَمَى بِالنَّبْلِ حَتَّى فَنِيَ نَبْلُهُ، وَانْكَسَرَتْ سِيَةُ قَوْسِهِ، وَانْقَطَعَ وَتَرُهُ. وَلَمَّا جُرِحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ عَلِيٌّ يَنْقُلُ لَهُ الْمَاءَ فِي دَرَقَتِهِ مِنَ الْمِهْرَاسِ وَيَغْسِلُهُ، فَلَمْ يَنْقَطِعِ الدَّمُ، فَأَتَتْ فَاطِمَةُ وَجَعَلَتْ تُعَانِقُهُ وَتَبْكِي، وَأَحْرَقَتْ حَصِيرًا وَجَعَلَتْ عَلَى الْجُرْحِ مِنْ رَمَادِهِ فَانْقَطَعَ الدَّمُ. وَرَمَى مَالِكُ بْنُ زُهَيْرٍ الْحَشْمِيُّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَّقَاهُ طَلْحَةُ بِيَدِهِ، فَأَصَابَ السَّهْمُ خِنْصَرَهُ، وَقِيلَ: رَمَاهُ حِبَّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ، فَقَالَ: حَسَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، لَدَخَلَ الْجَنَّةَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ يَدَهُ شُلَّتْ إِلَّا السَّبَّابَةُ وَالْوُسْطَى. وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ. وَصَعِدَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَبَلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا، فَقَاتَلَهُمْ عُمَرُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى أَهْبَطُوهُمْ، وَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الصَّخْرَةِ لِيَعْلُوَهَا، وَكَانَ عَلَيْهِ دِرْعَانِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَجَلَسَ تَحْتَهُ طَلْحَةُ حَتَّى صَعِدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْجَبَ طَلْحَةُ. وَانْتَهَتِ الْهَزِيمَةُ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فِيهِمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَغَيْرُهُ، إِلَى الْأَعْوَصِ، فَأَقَامُوا بِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ أَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُمْ حِينَ رَآهُمْ: لَقَدْ ذَهَبْتُمْ فِيهَا عَرِيضَةً. وَالْتَقَى حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ، غَسِيلُ الْمَلَائِكَةِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَلَمَّا اسْتَعْلَاهُ حَنْظَلَةُ رَآهُ شَدَّادُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَهُوَ ابْنُ شَعُوبَ، فَدَعَاهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَأَتَاهُ، فَضَرَبَ حَنْظَلَةَ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَتَغْسِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَسَلُوا أَهْلَهُ. فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ، سَمِعَ الْهَائِعَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَذْكُرُ صَبْرَهُ وَمُعَاوَنَةَ ابْنِ شَعُوبَ إِيَّاهُ عَلَى قَتْلِ حَنْظَلَةَ:

وَلَوْ شِئْتُ نَجَّتْنِي كُمَيْتٌ طِمِرَّةٌ ... وَلَمْ أَحْمِلِ النَّعْمَاءَ لِابْنِ شَعُوبِ فَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمُ ... لَدُنْ غُدْوَةٍ حَتَّى دَنَتْ لِغُرُوبِ أُقَاتِلُهُمْ وَأَدَّعِي يَالَ غَالِبٍ وَأَدْفَعُهُمْ عَنِّي ... بِرُكْنٍ صَلِيبِ فَبَكِّي وَلَا تَرْعَيْ مَقَالَةَ عَاذِلٍ وَلَا تَسْأَمِي مِنْ عِبْرَةٍ وَنَحِيبِ أَبَاكِ ... وَإِخْوَانًا لَنَا قَدْ تَتَابَعُوا وَحُقَّ لَهُمْ مِنْ عَبَرَةٍ بِنَصِيبِ وَسَلِّي الَّذِي قَدْ كَانَ فِي النَّفْسِ أَنَّنِي قَتَلْتُ مِنَ النَّجَّارِ كُلَّ نَجِيبِ ... وَمِنْ هَاشِمٍ قِرْمًا نَجِيبًا وَمُصْعَبًا وَكَانَ لَدَى الْهَيْجَاءِ غَيْرَ هَيُوبِ ... وَلَوْ أَنَّنِي لَمْ أَشْفِ مِنْهُمْ قَرُونَتِي لَكَانَتْ شَجًا فِي الْقَلْبِ ذَاتَ نُدُوبِ فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بِقَوْلِهِ: ذَكَرْتَ الْقُرُومَ الصِّيدَ مِنْ آلِ هَاشِمِ ... وَلَسْتَ لِزُورٍ قُلْتَهُ بِمُصِيبِ أَتَعْجَبُ أَنْ أَقْصَدْتَ حَمْزَةَ مِنْهُمُ عِشَاءً ... وَقَدْ سَمَّيْتَهُ بِنَجِيبِ أَلَمْ يَقْتُلُوا عَمْرًا وَعُتْبَةَ وَابْنَهُ وَشَيْبَةَ وَالْحَجَّاجَ وَابْنَ حَبِيبِ غَدَاةَ دَعَا ... الْعَاصُ عَلِيًّا فَرَاعَهُ بِضَرْبَةِ عَضْبٍ بَلَّهُ بِخَضِيبِ وَوَقَعَتْ هِنْدُ وَصَوَاحِبَاتُهَا عَلَى الْقَتْلِ يُمَثِّلْنَ بِهِمْ، وَاتَّخَذَتْ هِنْدُ مِنْ آذَانِ الرِّجَالِ وَآنَافِهِمْ خَدَمًا وَقَلَائِدَ، وَأَعْطَتْ خَدَمَهَا وَقَلَائِدَهَا وَحْشِيًّا، وَبَقَرَتْ عَنْ كَبِدِ حَمْزَةَ فَلَاكَتْهَا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُسِيغَهَا فَلَفَظَتْهَا. ثُمَّ أَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ

اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُجِيبُوهُ. ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ ثَلَاثًا. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا. فَقَالَ عُمَرُ: كَذَبْتَ، أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، قَدْ أَبْقَى اللَّهُ لَكَ مَا يُخْزِيكَ. فَقَالَ: اعْلُ هُبَلُ، اعْلُ هُبَلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إِنَّا لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عُمَرُ، أَقَتَلْنَا مُحَمَّدًا؟ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ لَا، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ كَلَامَكَ. فَقَالَ: أَنْتَ أَصْدَقُ مِنِ ابْنِ قَمِئَةَ! ثُمَّ قَالَ: هَذَا بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، أَمَا إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي قَتْلَاكُمْ مُثَلًا، وَاللَّهِ مَا رَضِيتُ وَلَا سَخِطْتُ وَلَا نَهَيْتُ وَلَا أَمَرْتُ. وَاجْتَازَ بِهِ الْحُلَيْسُ بْنُ زَبَّانَ سَيِّدُ الْأَحَابِيشِ وَهُوَ يَضْرِبُ فِي شِدْقِ حَمْزَةَ بِزُجِّ الرُّمْحِ وَيَقُولُ: ذُقْ عُقَقُ! فَقَالَ الْحُلَيْسُ: يَا بَنِي كِنَانَةَ، هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ يَصْنَعُ بِابْنِ عَمِّهِ كَمَا تَرَوْنَ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: اكْتُمْهَا عَنِّي فَإِنَّهَا زَلَّةٌ. وَكَانَتْ أُمُّ أَيْمَنَ حَاضِنَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنِسَاءٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَسْقِينَ الْمَاءَ، فَرَمَاهَا حِبَّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ ذَيْلَهَا، فَضَحِكَ، فَدَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ سَهْمًا وَقَالَ: ارْمِهِ. فَرَمَاهُ فَأَصَابَهُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: اسْتَقَادَ لَهَا سَعْدٌ، أَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَسَدَّدَ رَمْيَتَكَ. ثُمَّ انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ وَقَالَ: إِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْعَامُ الْمُقْبِلُ. ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا فِي أَثَرِهِمْ وَقَالَ: انْظُرْ فَإِنْ جَنَّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوُا الْإِبِلَ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَكَّةَ، وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأُنَاجِزَنَّهُمْ. قَالَ عَلِيٌّ: فَخَرَجْتُ فِي أَثَرِهِمْ، فَامْتَطَوُا الْإِبِلَ وَجَنَّبُوا الْخَيْلَ يُرِيدُونَ مَكَّةَ، فَأَقْبَلْتُ أَصِيحُ مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَكْتُمَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِالْكِتْمَانِ.

وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا أَنْ يَنْظُرَ فِي الْقَتْلَى، فَرَأَى سَعْدَ بْنَ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيَّ وَبِهِ رَمَقٌ، فَقَالَ لِلَّذِي رَآهُ: أَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِّي السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ، وَأَبْلِغْ قَوْمِي السَّلَامَ وَقُلْ لَهُمْ: لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ خَلُصَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذًى وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ. ثُمَّ مَاتَ. وَوُجِدَ حَمْزَةُ بِبَطْنِ الْوَادِي قَدْ بُقِرَ بَطْنُهُ عَنْ كَبِدِهِ وَمُثِّلَ بِهِ، فَحِينَ رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَوْلَا أَنْ تَحْزَنَ صَفِيَّةُ أَوْ تَكُونَ سُنَّةً بَعْدِي لَتَرَكْتُهُ حَتَّى يَكُونَ فِي أَجْوَافِ السِّبَاعِ وَحَوَاصِلِ الطَّيْرِ، وَلَئِنْ أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ لَأُمَثِّلَنَّ بِثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] الْآيَةَ، فَعَفَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَبَرَ، وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ. وَأَقْبَلَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِهَا الزُّبَيْرِ لِيَرُدَّهَا؛ لِئَلَّا تَرَى مَا بِأَخِيهَا حَمْزَةَ، فَلَقِيَهَا الزُّبَيْرُ فَأَعْلَمَهَا بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ مُثِّلَ بِأَخِي، وَذَلِكَ فِي اللَّهِ قَلِيلٌ! فَمَا أَرْضَانَا بِمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ! لَأَحْتَسِبَنَّ وَلَأَصْبِرَنَّ. فَأَعْلَمَ الزُّبَيْرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، فَقَالَ: خَلِّ سَبِيلَهَا. فَأَتَتْهُ وَصَلَّتْ عَلَيْهِ وَاسْتَرْجَعَتْ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ فَدُفِنَ. وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ اسْمُهُ قُزْمَانُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَقَاتَلَ يَوْمَ أُحُدٍ قِتَالًا شَدِيدًا فَقَتَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثَمَانِيَةً أَوْ تِسْعَةً، ثُمَّ جُرِحَ فَحُمِلَ إِلَى دَارِهِ، وَقَالَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ: أَبْشِرْ قُزْمَانُ! قَالَ: بِمَ أَبْشِرُ، وَأَنَا مَا قَاتَلْتُ إِلَّا عَنْ أَحْسَابِ قَوْمِي؟ ثُمَّ اشْتَدَّ عَلَيْهِ جُرْحُهُ، فَأَخَذَ سَهْمًا فَقَطَعَ رَوَاهِشَهُ، فَنَزَفَ الدَّمُ فَمَاتَ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ. وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ مُخَيْرِيقٌ الْيَهُودِيُّ، قَالَ ذَلِكَ الْيَوْمُ لِيَهُودَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ،

لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ نَصْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ حَقٌّ. فَقَالُوا: إِنَّ الْيَوْمَ السَّبْتُ. فَقَالَ: لَا سَبْتَ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَعُدَّتَهُ وَقَالَ: إِنْ قُتِلْتُ فَمَالِي لِمُحَمَّدٍ يَصْنَعُ بِهِ مَا يَشَاءُ، ثُمَّ غَدَا فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُخَيْرِيقٌ خَيْرُ يَهُودَ. وَقُتِلَ الْيَمَانُ أَبُو حُذَيْفَةَ، قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَفَعَهُ وَثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ وَقْشٍ مَعَ النِّسَاءِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَهُمَا شَيْخَانِ: مَا نَنْتَظِرُ؟ أَفَلَا نَأْخُذُ أَسْيَافَنَا فَنَلْحَقُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنَا الشَّهَادَةَ. فَفَعَلَا وَدَخَلَا فِي النَّاسِ وَلَا يُعْلَمُ بِهِمَا، فَأَمَّا ثَابِتٌ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَمَّا الْيَمَانُ فَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَبِي أَبِي! فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا عَرَفْنَاهُ. فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ. وَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَدِيَهُ، فَتَصَدَّقَ حُذَيْفَةُ بِدِيَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَاحْتَمَلَ بَعْضُ النَّاسِ قَتْلَاهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَفْنِهِمْ حَيْثُ صُرِعُوا، وَأَمَرَ أَنْ يُدْفَنَ الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ، وَأَنْ يُقَدَّمَ إِلَى الْقِبْلَةِ أَكْثَرُهُمْ قُرْآنًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِشَهِيدٍ جَعَلَ حَمْزَةَ مَعَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِمَا، وَقِيلَ: كَانَ يَجْمَعُ تِسْعَةً مِنَ الشُّهَدَاءِ وَحَمْزَةَ عَاشِرَهُمْ فَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ، وَنَزَلَ فِي قَبْرِهِ عَلِيٌّ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَالزُّبَيْرُ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حُفْرَتِهِ، وَأَمَرَ أَنْ يُدْفَنَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَرَامٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ: كَانَا مُتَصَافِيَيْنِ فِي الدُّنْيَا. فَلَمَّا دُفِنَ الشُّهَدَاءُ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَقِيَتْهُ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، فَنَعَى لَهَا أَخَاهَا عَبْدَ اللَّهِ، فَاسْتَرْجَعَتْ لَهُ، ثُمَّ نَعَى لَهَا خَالَهَا حَمْزَةَ فَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نَعَى لَهَا زَوْجَهَا مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، فَوَلْوَلَتْ وَصَاحَتْ، فَقَالَ: إِنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ مِنْهَا لَبِمَكَانٍ. وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَارٍ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ فَسَمِعَ الْبُكَاءَ وَالنَّوَائِحَ، فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَبَكَى وَقَالَ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بِوَاكِيَ لَهُ! فَرَجَعَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ إِلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَأَمَرَ نِسَاءَهُمْ أَنْ يَذْهَبْنَ فَيَبْكِينَ عَلَى حَمْزَةَ. وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ أُصِيبَ أَبُوهَا وَزَوْجُهَا، فَلَمَّا نُعِيَا لَهَا

ذكر غزوة حمراء الأسد

قَالَتْ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: هُوَ بِحَمْدِ اللَّهِ كَمَا تُحِبِّينَ. قَالَتْ: أَرُونِيهِ، فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيْهِ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ. وَكَانَ رُجُوعُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ السَّبْتِ يَوْمَ الْوَقْعَةِ. (نِيَارٌ بِالنُّونِ الْمَكْسُورَةِ، وَالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ رَاءٌ. وَجُبَيْرٌ بِضَمِّ الْجِيمِ، تَصْغِيرُ جَبْرٍ. وَخَوَّاتٌ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ، وَبَعْدَ الْأَلِفِ تَاءٌ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ. وَحِبَّانُ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَآخِرُهُ نُونٌ. وَالْحُلَيْسُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ تَصْغِيرُ حِلْسٍ. وَزَبَّانُ بِالزَّايِ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَآخِرُهُ نُونٌ) . [ذِكْرُ غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ] لَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْغَزْوِ وَقَالَ: لَا يَخْرُجُ مَعَنَا إِلَّا مَنْ حَضَرَ بِالْأَمْسِ، فَخَرَجَ لِيَظُنَّ الْكُفَّارُ بِهِ قُوَّةً، وَخَرَجَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ جَرْحَى يَحْمِلُونَ نُفُوسَهُمْ، وَسَارُوا حَتَّى بَلَغُوا حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ، فَأَقَامَ بِهَا الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ، وَمَرَّ بِهِ مَعْبَدٌ الْخُزَاعِيُّ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ مُسْلِمُهُمْ وَمُشْرِكُهُمْ عَيْبَةَ نُصْحٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتِهَامَةَ، وَكَانَ مَعْبَدٌ مُشْرِكًا، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، لَقَدْ عَزَّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَكَ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ بِالرَّوْحَاءِ قَدْ أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَسْتَأْصِلُوا الْمُسْلِمِينَ بِزَعْمِهِمْ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَدًا قَالَ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَدْ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَطْلُبُكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ، قَدْ جَمَعَ مَعَهُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، وَمَا تَرْحَلُ حَتَّى تَرَى نَوَاصِيَ الْخَيْلِ. قَالَ: فَوَاللَّهِ قَدْ أَجْمَعْنَا الرَّجْعَةَ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ. قَالَ: إِنِّي أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ. وَمَرَّ بِأَبِي سُفْيَانَ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَقَالَ لَهُمْ: بَلِّغُوا عَنِّي مُحَمَّدًا رِسَالَةً، وَأَحْمِلُ

لَكُمْ إِبِلَكُمْ هَذِهِ زَبِيبًا بِعُكَاظٍ. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَخْبِرُوهُ أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا السَّيْرَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ لِنَسْتَأْصِلَهُمْ. فَمَرُّوا بِالِنَبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَظَفِرَ فِي طَرِيقِهِ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَبِأَبِي عَزَّةَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْجُمَحِيِّ، وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ، سَارُوا وَتَرَكُوهُ نَائِمًا، وَكَانَ أَبُو عَزَّةَ قَدْ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَطْلَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَيْرِ فِدَاءٍ لِأَنَّهُ شَكَا إِلَيْهِ فَقْرًا وَكَثْرَةَ عِيَالٍ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ الْعُهُودَ أَنْ لَا يُقَاتِلَهُ وَلَا يُعِينَ عَلَى قِتَالِهِ، فَخَرَجَ مَعَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ وَحَرَّضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، امْنُنْ عَلَيَّ. قَالَ: الْمُؤْمِنُ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ. وَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَهُوَ الَّذِي جَدَعَ أَنْفَ حَمْزَةَ وَمَثَّلَ بِهِ مَعَ مَنْ مَثَّلَ بِهِ، وَكَانَ قَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى دَارَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَهْلَكْتَنِي وَأَهْلَكْتَ نَفْسَكَ. فَقَالَ: أَنْتَ أَقْرَبُهُمْ مِنِّي رَحِمًا، وَقَدْ جِئْتُكَ لِتُجِيرَنِي. وَأَدْخَلَهُ عُثْمَانُ دَارَهُ، وَقَصَدَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُشَفَّعَ فِيهِ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنْ مُعَاوِيَةَ بِالْمَدِينَةِ فَاطْلُبُوهُ. فَأَخْرَجُوهُ مِنْ مَنْزِلِ عُثْمَانَ، وَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عُثْمَانُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُ إِلَّا لِأَطْلُبَ لَهُ أَمَانًا فَهَبْهُ لِي، فَوَهَبَهُ لَهُ وَأَجَّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَقْسَمَ لَئِنْ أَقَامَ بَعْدَهَا لِيَقْتُلَنَّهُ، فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ وَقَالَ لَهُ: ارْتَحِلْ. وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وَأَقَامَ مُعَاوِيَةُ لِيَعْرِفَ أَخْبَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ يُصْبِحُ قَرِيبًا وَلَمْ يَبْعُدْ، فَاطْلُبُوهُ، فَطَلَبَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَعَمَّارٌ فَأَدْرَكَاهُ بِالْحُمَاةِ، فَقَتَلَاهُ. وَهَذَا مُعَاوِيَةُ جَدُّ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ لِأُمِّهِ. وَفِيهَا قِيلَ: وُلِدَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.

وَفِيهَا عَلِقَتْ فَاطِمَةُ بِالْحُسَيْنِ، وَكَانَ بَيْنَ وِلَادَتِهَا وَحَمْلِهَا خَمْسُونَ يَوْمًا. وَفِيهَا حَمَلَتْ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ غَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ فِي شَوَّالٍ.

ودخلت السنة الرابعة من الهجرة

[وَدَخَلَتِ السَّنَةُ الرَّابِعَةُ مِنَ الْهِجْرَةِ] [ذِكْرُ غَزْوَةِ الرَّجِيعِ] 4 - وَدَخَلَتِ السَّنَةُ الرَّابِعَةُ مِنَ الْهِجْرَةِ ذِكْرُ غَزْوَةِ الرَّجِيعِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرٍ كَانَتْ غَزْوَةُ الرَّجِيعِ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ رَهْطًا مِنْ عَضَلٍ وَالْقَارَّةِ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: إِنَّ فِينَا إِسْلَامًا، فَابْعَثْ لَنَا نَفَرًا يُفَقِّهُونَنَا فِي الدِّينِ، وَيُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ. فَبَعَثَ مَعَهُمْ سِتَّةَ نَفَرٍ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ، وَقِيلَ: مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ، فَلَمَّا كَانُوا بِالْهَدْأَةِ غَدَرُوا وَاسْتَصْرَخُوا عَلَيْهِمْ حَيًّا مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لِحْيَانَ، فَبَعَثُوا لَهُمْ مِائَةَ رَجُلٍ، فَالْتَجَأَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى جَبَلٍ، فَاسْتَنْزَلُوهُمْ وَأَعْطَوْهُمُ الْعَهْدَ، فَقَالَ عَاصِمٌ: وَاللَّهِ لَا أَنْزِلُ عَلَى عَهْدِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ خَبِّرْ نَبِيَّكَ عَنَّا! وَقَاتَلَهُمْ هُوَ وَمَرْثَدٌ وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ، وَنَزَلَ إِلَيْهِمُ ابْنُ الدَّثِنَةِ وَخُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ وَرَجُلٌ آخَرُ فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللَّهِ لَا أَتْبَعُكُمْ! فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ الدَّثِنَةِ فَبَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ، فَأَخَذَ خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْحَارِثَ بِأُحُدٍ، فَأَخَذُوهُ لِيَقْتُلُوهُ بِالْحَارِثِ، فَبَيْنَمَا خُبَيْبٌ عِنْدَ بَنَاتِ الْحَارِثِ اسْتَعَارَ مِنْ بَعْضِهِنَّ مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا لِلْقَتْلِ، فَدَبَّ صَبِيٌّ لَهَا فَجَلَسَ

عَلَى فَخِذِ خُبَيْبٍ وَالْمُوسَى فِي يَدِهِ، فَصَاحَتِ الْمَرْأَةُ، فَقَالَ خُبَيْبٌ: أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ إِنَّ الْغَدْرَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِنَا. فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَمَا بِمَكَّةَ ثَمَرَةٌ، وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَقِطْفًا مِنْ عِنَبٍ يَأْكُلُهُ، مَا كَانَ إِلَّا رِزْقًا رَزَقَهُ اللَّهُ خُبَيْبًا. فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ بِخُبَيْبٍ لِيَقْتُلُوهُ قَالَ: رُدُّونِي أُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ، فَصَلَّاهُمَا، فَجَرَتْ سُنَّةً لِمَنْ قُتِلَ صَبْرًا، ثُمَّ قَالَ خُبَيْبٌ: لَوْلَا أَنْ تَقُولُوا جَزِعَ، لَزِدْتُ، وَقَالَ أَبْيَاتًا، مِنْهَا: وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا! ثُمَّ صَلَبُوهُ. وَأَمَّا عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ فَإِنَّهُمْ أَرَادُوا رَأْسَهُ لِيَبِيعُوهُ مِنْ سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، وَكَانَتْ نَذَرَتْ أَنْ تَشْرَبَ الْخَمْرَ فِي رَأْسِ عَاصِمٍ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ ابْنَيْهَا بِأُحُدٍ، فَجَاءَتِ النَّحْلَ فَمُنِعَتْهُ، فَقَالُوا: دَعُوهُ حَتَّى يُمْسِيَ فَنَأْخُذَهُ. فَبَعَثَ اللَّهُ الْوَادِيَ فَاحْتَمَلَ عَاصِمًا، وَكَانَ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ لَا يَمَسَّ مُشْرِكًا وَلَا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ، فَمَنَعَهُ اللَّهُ فِي مَمَاتِهِ كَمَا مُنِعَ فِي حَيَاتِهِ. وَأَمَّا ابْنُ الدَّثِنَةِ فَإِنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَ بِهِ مَعَ غُلَامِهِ نِسْطَاسٍ إِلَى التَّنْعِيمِ، لِيَقْتُلَهُ بِابْنَيْهِ، فَقَالَ نِسْطَاسٌ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الْآنَ عِنْدَنَا مَكَانَكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ وَأَنَّكَ فِي أَهْلِكَ؟ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الْآنَ مَكَانَهُ الَّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ وَأَنَا جَالِسٌ فِي أَهْلِي. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا. ثُمَّ قَتَلَهُ نِسْطَاسٌ.

(خُبَيْبٌ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، بَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ أَيْضًا، وَالْبُكَيْرُ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، تَصْغِيرُ بَكْرٍ) . ذِكْرُ إِرْسَالِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ لِقَتْلِ أَبِي سُفْيَانَ وَلَمَّا قُتِلَ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى مَكَّةَ مَعَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمَا بِقَتْلِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ عَمْرٌو: فَخَرَجْتُ أَنَا وَمَعِي بَعِيرٌ لِي وَبِرِجْلِ صَاحِبِي عِلَّةٌ، فَكُنْتُ أَحْمِلُهُ عَلَى بَعِيرِي حَتَّى جِئْنَا بَطْنَ يَأْجِجَ، فَعَقَلْنَا بِعِيرَنَا فِي الشِّعْبِ وَقُلْتُ لِصَاحِبِي: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أَبِي سُفْيَانَ لِنَقْتُلَهُ، فَإِنْ خَشِيتَ شَيْئًا فَالْحَقْ بِالْبَعِيرِ، فَارْكَبْهُ وَالْحَقْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبِرْهُ الْخَبَرَ، وَخَلِّ عَنِّي. وَأَوْغَلَ بِالْبَلَدِ يَحُثُّ السِّيَاقَ. فَدَخَلْنَا مَكَّةَ وَمَعِي خِنْجَرٌ قَدْ أَعْدَدْتُهُ إِنْ عَاقَنِي إِنْسَانٌ ضَرَبْتُهُ بِهِ، فَقَالَ لِي صَاحِبِي: هَلْ لَكَ أَنْ نَبْدَأَ فَنَطُوفَ وَنُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَجْلِسُونَ بِأَفْنِيَتِهِمْ وَأَنَا أُعْرَفُ بِهَا. فَلَمْ نَزَلْ حَتَّى أَتَيْنَا الْبَيْتَ فَطُفْنَا وَصَلَّيْنَا، ثُمَّ خَرَجْنَا فَمَرَرْنَا بِمَجْلِسٍ لَهُمْ، فَعَرَفَنِي بَعْضُهُمْ فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ! فَثَارَ أَهْلُ مَكَّةَ إِلَيْنَا وَقَالُوا: مَا جَاءَ إِلَّا لِشَرٍّ، وَكَانَ فَاتِكًا مُتَشَيْطِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: النَّجَاءُ! هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَحْذَرُ، أَمَّا أَبُو سُفْيَانَ فَلَيْسَ إِلَيْهِ سَبِيلٌ، فَانْجُ بِنَفْسِكَ. فَخَرَجْنَا نَشْتَدُّ حَتَّى صَعِدْنَا الْجَبَلَ، فَدَخَلْنَا غَارًا فَبِتْنَا فِيهِ لَيْلَتَنَا، نَنْتَظِرُ أَنْ يَسْكُنَ الطَّلَبُ. قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِيهِ إِذْ أَقْبَلَ عُثْمَانُ بْنُ مَالِكٍ التَّيْمِيُّ يَتَخَيَّلُ بِفَرَسٍ لَهُ، فَقَامَ عَلَى بَابِ الْغَارِ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَضَرَبْتُهُ بِالْخِنْجَرِ، فَصَاحَ صَيْحَةً أَسْمَعَ أَهْلَ مَكَّةَ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ وَرَجَعْتُ إِلَى مَكَانِي، فَوَجَدُوهُ وَبِهِ رَمَقٌ، فَقَالُوا: مَنْ ضَرَبَكَ؟ قَالَ: عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَقْدِرْ يُخْبِرْهُمْ بِمَكَانِي، وَشَغَلَهُمْ قَتْلُ صَاحِبِهِمْ عَنْ طَلَبِي، فَاحْتَمَلُوهُ. وَمَكَثْنَا فِي الْغَارِ يَوْمَيْنِ حَتَّى سَكَنَ عَنَّا الطَّلَبُ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى التَّنْعِيمِ، فَإِذَا بِخَشَبَةِ خُبَيْبٍ وَحَوْلَهُ حَرَسٌ، فَصَعِدْتُ خَشَبَتَهُ وَاحْتَمَلْتُهُ عَلَى ظَهْرِي، فَمَا مَشَيْتُ بِهِ إِلَّا نَحْوَ أَرْبَعِينَ خُطْوَةً حَتَّى نَذَرُوا بِي فَطَرَحْتُهُ، فَاشْتَدُّوا فِي أَثَرِي، فَأَخَذْتُ الطَّرِيقَ فَأَعْيَوْا وَرَجَعُوا، وَانْطَلَقَ صَاحِبِي فَرَكِبَ الْبَعِيرَ وَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، وَأَمَّا خُبَيْبٌ فَلَمْ يُرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَأَنَّ الْأَرْضَ ابْتَلَعَتْهُ.

ذكر بئر معونة

قَالَ: وَسِرْتُ حَتَّى دَخَلْتُ غَارًا بِضَجْنَانَ وَمَعِي قَوْسِي وَأَسْهُمِي، فَبَيْنَا أَنَا فِيهِ إِذْ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الدُّئِلِ أَعْوَرُ، طَوِيلٌ، يَسُوقُ غَنَمًا، فَقَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ قُلْتُ: مِنْ بَنِي الدُّئِلِ، فَاضْطَجَعَ مَعِي وَرَفَعَ عَقِيرَتَهُ يَتَغَنَّى وَيَقُولُ: وَلَسْتُ بِمُسْلِمٍ مَا دُمْتُ حَيًّا ... وَلَسْتُ أَدِينُ دِينَ الْمُسْلِمِينَا ثُمَّ نَامَ فَقَتَلْتُهُ ثُمَّ سِرْتُ، فَإِذَا رَجُلَانِ بَعَثَتْهُمَا قُرَيْشٌ يَتَجَسَّسَانِ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَمَيْتُ أَحَدَهُمَا بِسَهْمٍ فَقَتَلْتُهُ وَاسْتَأْسَرْتُ الْآخَرَ، فَقَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، فَضَحِكَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبَ بِنْتَ خُزَيْمَةَ أُمَّ الْمَسَاكِينِ مِنْ بَنِي هِلَالٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ الطُّفَيْلِ بْنِ الْحَارِثِ فَطَلَّقَهَا. وَوَلِيَ الْمُشْرِكُونَ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. [ذِكْرُ بِئْرِ مَعُونَةَ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرٍ قُتِلَ جَمْعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَرَاءِ بْنِ عَازِبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ مُلَاعِبَ الْأَسِنَّةِ، سَيِّدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَهْدَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَدِيَّةً، فَلَمْ يَقْبَلْهَا وَقَالَ: يَا أَبَا بَرَاءٍ، لَا أَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَلَمْ يَبْعُدْ عَنْهُ وَلَمْ يُسْلِمْ، وَقَالَ: إِنَّ أَمْرَكَ هَذَا حَسَنٌ، فَلَوْ بَعَثْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَى أَهْلِ نَجْدٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى أَمْرِكَ لَرَجَوْتُ أَنْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْشَى عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ. فَقَالَ أَبُو بَرَاءٍ: أَنَا لَهُمْ جَارٌ.

فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعِينَ رَجُلًا، فِيهِمُ: الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ الْمُعْنِقُ لِيَمُوتَ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ، وَحَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَغَيْرُهُمْ، وَقِيلَ: كَانُوا أَرْبَعِينَ، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ بَيْنَ أَرْضِ بَنِي عَامِرٍ وَحَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَلَمَّا نَزَلُوهَا بَعَثُوا حَرَامَ بْنَ مِلْحَانَ بِكِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، فَلَمَّا أَتَاهُ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى الْكِتَابِ وَعَدَا عَلَى حَرَامٍ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا طَعَنَهُ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! وَاسْتَصْرَخَ بَنِي عَامِرٍ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ وَقَالُوا: لَنْ نُخْفِرَ أَبَا بَرَاءٍ، فَقَدْ أَجَارَهُمْ، فَاسْتَصْرَخَ بَنِي سُلَيْمٍ: عُصَيَّةَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ، فَأَجَابُوهُ وَخَرَجُوا حَتَّى أَحَاطُوا بِالْمُسْلِمِينَ، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ إِلَّا كَعْبَ بْنَ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ، فَإِنَّهُمْ تَرَكُوهُ وَبِهِ رَمَقٌ، فَعَاشَ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ. وَكَانَ فِي سَرْحِ الْقَوْمِ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَرَأَيَا الطَّيْرَ تَحُومُ عَلَى الْعَسْكَرِ فَقَالَا: إِنَّ لَهَا لَشَأْنًا، فَأَقْبَلَا يَنْظُرَانِ، فَإِذَا الْقَوْمُ صَرْعَى، وَإِذَا الْخَيْلُ وَاقِفَةٌ، فَقَالَ عَمْرٌو: نَلْحَقُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنُخْبِرُهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: لَا أَرْغَبُ بِنَفْسِي عَنْ مَوْطِنٍ فِيهِ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَأَخَذُوا عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ أَسِيرًا. فَلَمَّا عَلِمَ عَامِرٌ أَنَّهُ مِنْ سَعْدٍ أَطْلَقَهُ، وَخَرَجَ عَمْرٌو حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْقَرْقَرَةِ لَقِيَ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَنَزَلَا مَعَهُ وَمَعَهُمَا عَقْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ عَمْرٌو فَقَتَلَهُمَا، ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَبَرَ، فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ لَأُدَيَنَّهُمَا. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَكَانَ فِيمَنْ قُتِلَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، فَكَانَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ يَقُولُ: مَنِ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَمَّا قُتِلَ رُفِعَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟ قَالُوا: هُوَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ. وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُحَرِّضُ بَنِي أَبِي الْبَرَاءِ عَلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ: بَنِي أُمِّ الْبَنِينَ أَلَمْ يَرُعْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنْ ذَوَائِبِ أَهْلِ نَجْدِ ... تَهَكُّمُ عَامِرٍ بِأَبِي بَرَاءٍ لِيُخْفِرَهُ وَمَا خَطَأٌ كَعَمْدِ

ذكر إجلاء بني النضير

فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: لَقَدْ طَارَتْ شَعَاعَا كُلَّ وَجْهٍ ... خُفَارَةُ مَا أَجَارَ أَبُو بَرَاءٍ فِي أَبْيَاتٍ أُخْرَى. فَلَمَّا بَلَغَ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي بَرَاءٍ ذَلِكَ حَمَلَ عَلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ فَطَعَنَهُ، فَخَرَّ عَنْ فَرَسِهِ، فَقَالَ: إِنْ مُتُّ فَدَمِي لِعَمِّي. وَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنًا: بَلِّغُوا قَوْمَنَا عَنَّا أَنَا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ. ثُمَّ نُسِخَتْ. (مَعُونَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَبَعْدَ الْوَاوِ نُونٌ. وَحَرَامٌ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالرَّاءِ. وَمِلْحَانُ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ) . [ذِكْرُ إِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ] وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ أَرْسَلَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطْلُبُ دِيَةَ الْعَامِرِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِيهَا، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ، فَقَالُوا: نَعَمْ نُعِينُكَ عَلَى مَا أَحْبَبْتَ، ثُمَّ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَتَآمَرُوا عَلَى قَتْلِهِ، وَهُوَ جَالِسٌ إِلَى جَنْبِ جِدَارٍ، فَقَالُوا: مَنْ يَعْلُو هَذَا الْبَيْتَ فَيُلْقِي عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيَقْتُلُهُ وَيُرِيحُنَا مِنْهُ؟ فَانْتَدَبَ لَهُ عَمْرُو بْنُ جِحَاشٍ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ سَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ وَقَالَ: هُوَ يَعْلَمُ. فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، وَصَعِدَ عَمْرُو بْنُ جِحَاشٍ، فَأَتَى الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، فَقَامَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا تَبْرَحُوا حَتَّى آتِيَكُمْ. وَخَرَجَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا أَبْطَأَ قَامَ أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهِ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِحَرْبِهِمْ، وَنَزَلَ بِهِمْ، فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي الْحُصُونِ، فَقَطَعَ النَّخْلَ وَأَحْرَقَ، وَأَرْسَلَ

غزوة ذات الرقاع

إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَجَمَاعَةً مَعَهُ: أَنِ اثْبُتُوا وَتَمَنَّعُوا، فَإِنَّا لَنْ نُسْلِمَكُمْ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَإِنْ خَرَجْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ. وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجْلِيَهُمْ وَيَكُفَّ عَنْ دِمَائِهِمْ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ مِنَ الْأَمْوَالِ إِلَّا السِّلَاحَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَخَرَجُوا إِلَى خَيْبَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ إِلَى الشَّامِ، فَكَانَ مِمَّنْ سَارَ إِلَى خَيْبَرَ كِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكَانَ فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ أُمُّ عَمْرٍو صَاحِبَةُ عُرْوَةَ بْنِ الْوَرْدِ الَّتِي ابْتَاعُوا مِنْهُ، وَكَانَتْ غِفَارِيَّةً. فَكَانَتْ أَمْوَالُ النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ يَضَعُهَا حَيْثُ شَاءَ، فَقَسَّمَهَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ دُونَ الْأَنْصَارِ، إِلَّا أَنَّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ وَأَبَا دُجَانَةَ ذَكَرَا فَقْرًا فَأَعْطَاهُمَا. وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ إِلَّا يَامِينُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ عَمْرِو بْنِ جِحَاشٍ، وَأَبُو سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ، وَأَحْرَزَا أَمْوَالَهُمَا. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَتْ رَايَتُهُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. (سَلَّامٌ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ. وَمِشْكَمٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْكَافِ) . [غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ] أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ بَنِي النَّضِيرِ شَهْرَيْ رَبِيعٍ، ثُمَّ غَزَا نَجْدًا يُرِيدُ بَنِي مُحَارِبٍ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطَفَانَ، حَتَّى نَزَلَ نَخْلًا، وَهِيَ غَزْوَةُ الرِّقَاعِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَجْلِ جَبَلٍ كَانَتِ الْوَقْعَةُ بِهِ، فِيهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ وَحُمْرَةٌ، فَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَلَقِيَ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَكُنْ قِتَالٌ، وَخَافَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَنَزَلَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَهُوَ مُسْتَقْصًى فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ مُحَارِبٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى سَيْفِهِ، فَأَعْطَاهُ السَّيْفَ، فَلَمَّا أَخَذَهُ وَهَزَّهُ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا تَخَافُنِي؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَمَا تَخَافُنِي وَفِي

ذكر غزوة بدر الثانية

يَدَيِ السَّيْفُ؟ قَالَ: لَا، يَمْنَعُنِي اللَّهُ مِنْكَ، فَرَدَّ السَّيْفَ إِلَيْهِ. وَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَكَانَ زَوْجُهَا غَائِبًا، فَلَمَّا أَتَى أَهْلَهُ أُخْبِرَ الْخَبَرَ، فَحَلَفَ لَا يَنْتَهِي حَتَّى يُهَرِيقَ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَمًا، وَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟ فَانْتَدَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَقَامَا بِفَمِ شِعْبٍ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِيُّ، وَحَرَسَ الْأَنْصَارِيُّ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَقَامَ يُصَلِّي، وَجَاءَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ فَرَأَى شَخْصَهُ، فَعَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةُ الْقَوْمِ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَانْتَزَعَهُ وَثَبَتَ قَائِمًا يُصَلِّي، ثُمَّ رَمَاهُ بِسَهْمٍ آخَرَ فَأَصَابَهُ، فَنَزَعَهُ وَثَبَتَ يُصَلِّي، ثُمَّ رَمَاهُ بِالثَّالِثِ فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَانْتَزَعَهُ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ أَيْقَظَ صَاحِبَهُ وَأَعْلَمُهُ، فَوَثَبَ، فَلَمَّا رَآهُمَا الرَّجُلُ عَلِمَ أَنَّهُمَا عَلِمَا بِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَلَا أَيْقَظْتَنِي أَوَّلَ مَا رَمَاكَ؟ قَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَأُهَا، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا، فَلَمَّا تَابَعَ عَلَيَّ الرَّمْيَ أَعْلَمْتُكَ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْلَا خَوْفِي أَنْ أُضَيِّعَ ثَغْرًا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِفْظِهِ لَقَطَعَ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَقْطَعَهَا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْغَزْوَةَ كَانَتْ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. [ذِكْرُ غَزْوَةِ بَدْرٍ الثَّانِيَةِ] وَسُمِّيَتْ أَيْضًا غَزْوَةَ السَّوِيقِ. وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَدْرٍ لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ حَتَّى نَزَلَ بَدْرًا، فَأَقَامَ عَلَيْهَا ثَمَانِيَ لَيَالٍ يَنْتَظِرُ أَبَا سُفْيَانَ، وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ إِلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ، وَقِيلَ: إِلَى عُسْفَانَ، ثُمَّ رَجَعَ وَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ مَعَهُ، فَسَمَّاهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ جَيْشَ السَّوِيقِ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا خَرَجْتُمْ تَشْرَبُونَ السَّوِيقَ. وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ.

وَفِيهَا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّ سَلَمَةَ. وَفِيهَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ يَهُودَ. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَأُمُّهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ عُمْرُهُ سِتَّ سِنِينَ. وَفِيهَا وُلِدَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فِي قَوْلٍ. وَوَلِيَ الْحَجَّ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ.

الأحداث في السنة الخامسة من الهجرة

[الْأَحْدَاثُ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ] 5 - الْأَحْدَاثُ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ فِيهَا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، وَهِيَ ابْنَةُ عَمَّتِهِ، كَانَ زَوَّجَهَا مَوْلَاهُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُهُ وَعَلَى الْبَابِ سِتْرٌ مِنْ شَعَرٍ، فَرَفَعَتْهُ الرِّيحُ فَرَآهَا وَهِيَ حَاسِرَةٌ، فَأَعْجَبَتْهُ وَكُرِّهَتْ إِلَى زَيْدٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقْرَبَهَا، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: أَرَابَكَ فِيهَا شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ. فَفَارَقَهَا زَيْدٌ وَحَلَّتْ، وَأُنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَنْ يُبَشِّرُ زَيْنَبَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ زَوَّجَنِيهَا؟ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُ - تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] الْآيَةَ، فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى نِسَائِهِ وَتَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهْلُوكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ. وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ دُومَةِ الْجَنْدَلِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَسَبَبُهَا أَنَّهُ بَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ بِهَا جَمْعًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَغَزَاهُمْ، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَخَلَّفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيَّ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ إِبِلًا وَغَنَمًا وُجِدَتْ لَهُمْ. وَمَاتَتْ أُمُّ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَسَعْدٌ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ. وَفِيهَا وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ الْفَزَارِيَّ أَنْ يَرْعَى بِتَغْلَمَيْنِ وَمَا وَالَاهَا.

ذكر غزوة الخندق، وهي غزوة الأحزاب

(عُيَيْنَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ، تَصْغِيرُ عَيْنٍ) . [ذِكْرُ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَهِيَ غَزْوَةُ الْأَحْزَابِ] وَكَانَتْ فِي شَوَّالٍ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ نَفَرًا مِنْ يَهُودَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَغَيْرُهُمْ، حَزَّبُوا الْأَحْزَابَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ فَدَعَوْهُمْ إِلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: نَكُونُ مَعَكُمْ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُ، فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَوْا عَلَى غَطَفَانَ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّ قُرَيْشًا مَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَأَجَابُوهُمْ، فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَقَائِدُهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَخَرَجَتْ غَطَفَانُ وَقَائِدُهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي بَنِي فَزَارَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيُّ فِي مُرَّةَ، وَمِسْعَرُ بْنُ رُخَيْلَةَ الْأَشْجَعِيُّ فِي الْأَشْجَعِ. فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَأَشَارَ بِهِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَكَانَ أَوَّلَ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ حُرٌّ، فَعَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَغْبَةً فِي الْأَجْرِ، وَحَثًّا لِلْمُسْلِمِينَ، وَتَسَلَّلَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِغَيْرِ عِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور: 63] الْآيَةَ. وَكَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا نَابَتْهُ نَائِبَةٌ لِحَاجَةٍ لَابُدَّ مِنْهَا يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقْضِي حَاجَتَهُ ثُمَّ يَعُودُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور: 62] الْآيَةَ. وَقَسَّمَ الْخَنْدَقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاخْتَلَفَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فِي سَلْمَانَ، كُلٌّ يَدَّعِيهِ أَنَّهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَلْمَانُ مِنَّا، سَلْمَانُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ. وَجَعَلَ لِكُلِّ عَشَرَةٍ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، فَكَانَ سَلْمَانُ، وَحُذَيْفَةُ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَوْفٍ، وَسِتَّةٌ

مِنَ الْأَنْصَارِ - يَعْمَلُونَ، فَخَرَجَتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ كَسَرَتِ الْمِعْوَلَ، فَأَعْلَمُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَبَطَ إِلَيْهَا وَمَعَهُ سَلْمَانُ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، وَضَرَبَ الصَّخْرَةَ ضَرْبَةً صَدَّعَهَا، وَبَرَقَتْ مِنْهَا بَرْقَةً أَضَاءَتْ مَا بَيْنَ لَابَّتَيِ الْمَدِينَةِ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ الثَّانِيَةَ كَذَلِكَ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ كَذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ وَقَدْ صَدَّعَهَا، فَسَأَلَهُ سَلْمَانُ عَمَّا رَأَى مِنَ الْبَرْقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَضَاءَتِ الْحِيرَةَ وَقُصُورَ كِسْرَى فِي الْبَرْقَةِ الْأُولَى، وَأَخْبَرَنِي جِبْرَائِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، وَأَضَاءَ لِي فِي الثَّانِيَةِ الْقُصُورَ الْحُمْرَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَالرُّومِ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، وَأَضَاءَ لِي فِي الثَّالِثَةِ قُصُورَ صَنْعَاءَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، فَأَبْشِرُوا، فَاسْتَبْشَرَ الْمُسْلِمُونَ. وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: أَلَا تَعْجَبُونَ؟ يَعِدُكُمُ الْبَاطِلَ، وَيُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ يَنْظُرُ مِنْ يَثْرِبَ الْحِيرَةَ وَمَدَائِنَ كِسْرَى، وَأَنَّهَا تُفْتَحُ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَبْرُزُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12] . فَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلَتْ بِمُجْتَمَعِ الْأَسْيَالِ مِنْ رُومَةَ بَيْنَ الْجُرْفِ وَزَغَابَةَ، فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَحَابِيشِهِمْ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ كِنَانَةَ وَتِهَامَةَ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ وَمَنْ تَابَعَهُمْ حَتَّى نَزَلُوا إِلَى جَنْبِ أُحُدٍ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ فَجَعَلُوا ظُهُورَهُمْ إِلَى سَلْعٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَنَزَلَ هُنَاكَ، وَرَفَعَ الذَّرَارِيَّ وَالنِّسَاءَ فِي الْآطَامِ. وَخَرَجَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ حَتَّى أَتَى كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ سَيِّدَ قُرَيْظَةَ، وَكَانَ قَدْ وَادَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَوْمِهِ، فَأَغْلَقَ كَعْبٌ حِصْنَهُ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، وَقَالَ: إِنَّكَ امْرُؤٌ مَشْئُومٌ، وَقَدْ عَاهَدْتُ مُحَمَّدًا وَلَمْ أَرَ مِنْهُ إِلَّا الْوَفَاءَ. قَالَ حُيَيٌّ: يَا كَعْبُ، قَدْ جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ وَبِبَحْرٍ طَامٍ، جِئْتُكَ بِقُرَيْشٍ وَقَادَتِهَا وَسَادَتِهَا، وَغَطَفَانَ بِقَادَتِهَا، وَقَدْ عَاهَدُونِي أَنَّهُمْ لَا يَبْرَحُونَ حَتَّى يَسْتَأْصِلُوا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ كَعْبٌ: جِئْتَنِي بِذُلِّ الدَّهْرِ، وَبِجَهَامٍ قَدْ هَرَاقَ مَاءَهُ يُرْعِدُ وَيُبْرِقُ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيْحَكَ يَا حُيَيُّ! دَعْنِي وَمُحَمَّدًا. وَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ يَفْتِلُهُ فِي الذُّرْوَةِ وَالْغَارِبِ حَتَّى حَمَلَهُ عَلَى الْغَدْرِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفَعَلَ وَنَكَثَ الْعَهْدَ، وَعَاهَدَهُ حُيَيٌّ إِنْ عَادَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ وَلَمْ يُصِيبُوا مُحَمَّدًا أَنْ أَدْخُلَ مَعَكَ فِي حِصْنِكَ حَتَّى يُصِيبَنِي

مَا أَصَابَكَ. فَعَظُمَ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَلَاءُ، وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ، وَأَتَاهُمْ عَدُوُّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ مِنْ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ، وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَوْمِ حَرْبٌ إِلَّا الرَّمْيُ بِالنَّبْلِ. فَلَمَّا اشْتَدَّ الْبَلَاءُ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالْحَارِثِ بْنِ عَوْفٍ الْمُرِّيِّ، قَائِدَيْ غَطَفَانَ، فَأَعْطَاهُمَا ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَا بِمَنْ مَعَهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَابَا إِلَى ذَلِكَ، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَيْءٌ تُحِبُّ أَنْ تَصْنَعَهُ، أَمْ شَيْءٌ أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ، أَوْ شَيْءٌ تَصْنَعُهُ لَنَا؟ قَالَ: بَلْ لَكُمْ، رَأَيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ شَوْكَتَهُمْ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: قَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهُمْ عَلَى الشِّرْكِ، وَلَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنَّا تَمْرَةً إِلَّا قِرًى أَوْ بَيْعًا، فَحِينَ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا! مَا نُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. فَتَرَكَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ إِنَّ فَوَارِسَ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْهُمْ: عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وَدٍّ أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ الْفِهْرِيُّ - خَرَجُوا عَلَى خُيُولِهِمْ، وَاجْتَازُوا بِبَنِي كِنَانَةَ وَقَالُوا: تَجَهَّزُوا لِلْحَرْبِ وَسَتَعْلَمُونَ مَنِ الْفُرْسَانُ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وَدٍّ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا كَافِرًا، وَقَاتَلَ حَتَّى كَثُرَتِ الْجِرَاحُ فِيهِ، فَلَمْ يَشْهَدْ أُحُدًا وَشَهِدَ الْخَنْدَقَ مُعْلِمًا حَتَّى يُعْرَفَ مَكَانُهُ، وَأَقْبَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى وَقَفُوا عَلَى الْخَنْدَقِ، ثُمَّ تَيَمَّمُوا مَكَانًا ضَيِّقًا فَاقْتَحَمُوهُ، فَجَالَتْ بِهِمْ خُيُولُهُمْ فِي السَّبْخَةِ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَسَلْعٍ. وَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذُوا عَلَيْهِمُ الثَّغْرَةَ، وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ خَرَجَ مُعْلِمًا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا عَمْرُو، إِنَّكَ عَاهَدْتَ أَنْ لَا يَدْعُوكَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى خَصْلَتَيْنِ إِلَّا أَخَذْتَ إِحْدَاهُمَا؟ قَالَ: أَجَلْ. قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ. قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ. قَالَ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى النِّزَالِ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ. قَالَ عَلِيٌّ: وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ. فَحَمِيَ عَمْرٌو عِنْدَ ذَلِكَ، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَعَقَرَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، فَتَجَاوَلَا، وَقَتَلَهُ عَلِيٌّ، وَخَرَجَتْ خَيْلُهُمْ مُنْهَزِمَةً، وَقُتِلَ مَعَ عَمْرٍو رَجُلَانِ، قَتَلَ عَلِيٌّ أَحَدَهُمَا، وَأَصَابَ آخَرَ سَهْمٌ، فَمَاتَ مِنْهُ بِمَكَّةَ.

وَرُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ بِسَهْمٍ قَطَعَ أَكْحَلَهُ، رَمَاهُ حِبَّانُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْعَرِقَةِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، مِنْ بَنِي مَعِيصٍ، مِنْ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَالْعَرِقَةُ أُمُّهُ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا الْعَرِقَةُ لِطِيبِ رِيحِ عَرَقِهَا، وَهِيَ قِلَابَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ الْحَارِثِ. فَلَمَّا رَمَى سَعْدًا قَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَرَّقَ اللَّهُ وَجْهَكَ فِي النَّارِ، وَلَمْ يُقْطَعِ الْأَكْحَلُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا مَاتَ. فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا، فَإِنَّهُ لَا قَوْمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أُقَاتِلَهُمْ مِنْ قَوْمٍ آذَوْا نَبِيَّكَ وَكَذَّبُوهُ، اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا فَاجْعَلْهُ لِي شَهَادَةً، وَلَا تُمِتْنِي حَتَّى تَقَرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ. وَكَانُوا حُلَفَاءَهُ وَمَوَالِيَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي رَمَى سَعْدًا هُوَ أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيُّ حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومٍ، فَلَمَّا قَالَ سَعْدٌ مَا قَالَ انْقَطَعَ الدَّمُ. وَكَانَتْ صَفِيَّةُ عَمَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فَارِعٍ، حِصْنِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَكَانَ حَسَّانُ فِيهِ مَعَ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَبَانًا، قَالَتْ: فَأَتَانَا آتٍ مِنَ الْيَهُودِ فَقُلْتُ لِحَسَّانَ: هَذَا الْيَهُودِيُّ يَطُوفُ بِنَا، وَلَا نَأْمَنُهُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى عَوْرَاتِنَا، فَانْزِلْ إِلَيْهِ فَاقْتُلْهُ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنَا بِصَاحِبِ هَذَا. قَالَتْ: فَأَخَذْتُ عَمُودًا وَنَزَلْتُ إِلَيْهِ فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَقُلْتُ لِحَسَّانَ: انْزِلْ إِلَيْهِ فَخُذْ سَلَبَهُ؛ فَإِنَّنِي يَمْنَعُنِي مِنْهُ أَنَّهُ رَجُلٌ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا لِي بِسَلَبِهِ مِنْ حَاجَةٍ. ثُمَّ إِنْ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَلَمْ يَعْلَمْ قَوْمِي، فَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا مَا اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ. فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ نَدِيمًا لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إِيَّاكُمْ. فَقَالُوا: لَسْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ. قَالَ: قَدْ ظَاهَرْتُمْ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ عَلَى حَرْبِ مُحَمَّدٍ، وَلَيْسُوا كَأَنْتُمْ، الْبَلَدُ بَلَدُكُمْ، بِهِ أَمْوَالُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، لَا تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَتَحَوَّلُوا مِنْهُ، وَإِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ إِنْ رَأَوْا

نُهْزَةً وَغَنِيمَةً أَصَابُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ لَحِقُوا بِبِلَادِهِمْ وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَلَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهِ إِنْ خَلَا بِكُمْ، فَلَا تُقَاتِلُوا حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ ثِقَةً لَكُمْ حَتَّى تُنَاجِزُوا مُحَمَّدًا. قَالُوا: أَشَرْتَ بِالنُّصْحِ. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، فَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ: قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إِيَّاكُمْ، وَفِرَاقِي مُحَمَّدًا، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْظَةَ نَدِمُوا، وَقَدْ أَرْسَلُوا إِلَى مُحَمَّدٍ: هَلْ يُرْضِيكَ عَنَّا أَنْ نَأْخُذَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَنُعْطِيَكُمْ، فَتَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ، ثُمَّ نَكُونُ مَعَكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ؟ فَأَجَابَهُمْ: أَنْ نَعَمْ. فَإِنْ طَلَبَتْ قُرَيْظَةُ مِنْكُمْ رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ، فَلَا تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ رَجُلًا وَاحِدًا. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى غَطَفَانَ فَقَالَ: أَنْتُمْ أَهْلِي وَعَشِيرَتِي. وَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشٍ وَحَذَّرَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ السَّبْتِ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ كَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ أَنْ أَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَرُءُوسُ غَطَفَانَ إِلَى قُرَيْظَةَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ، وَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا لَسْنَا بِدَارِ مُقَامٍ، قَدْ هَلَكَ الْخُفُّ وَالْحَافِرُ، فَاغْدُوَا لِلْقِتَالِ حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا. فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ: إِنَّ الْيَوْمَ السَّبْتُ لَا نَعْمَلُ فِيهِ شَيْئًا، وَلَسْنَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا ثِقَةً لَنَا، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ تَرْجِعُوا إِلَى بِلَادِكُمْ، وَتَتْرُكُونَا وَالرَّجُلَ وَنَحْنُ بِبِلَادِهِ. فَلَمَّا أَبْلَغَتْهُمُ الرُّسُلُ هَذَا الْكَلَامَ، قَالَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ: وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَأَرْسَلُوا إِلَى قُرَيْظَةَ: إِنَّا وَاللَّهِ لَا نَدْفَعُ إِلَيْكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا. فَقَالَتْ قُرَيْظَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّ الَّذِي ذَكَرَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ. وَخَذَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا فِي لَيَالٍ شَاتِيَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَجَعَلَتْ تَكْفَأُ قُدُورَهُمْ، وَتَطْرَحُ أَبْنِيَتَهُمْ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتِلَافُ أَمْرِهِمْ دَعَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ لَيْلًا، فَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَيْهِمْ، وَانْظُرْ حَالَهُمْ، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا. قَالَ حُذَيْفَةُ: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِيهِمْ، وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ تَفْعَلُ فِيهِمْ مَا تَفْعَلُ، لَا يُقَرُّ لَهُمْ قِدْرٌ وَلَا بِنَاءٌ وَلَا نَارٌ. فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لِيَنْظُرِ الرَّجُلُ أَمْرَ جَلِيسِهِ، قَالَ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِي بِجَانِبِي فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانٌ. ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ لَقَدْ هَلَكَ الْخُفُّ وَالْحَافِرُ، وَأَخْلَفَتْنَا قُرَيْظَةُ، وَلَقِينَا مِنْ هَذِهِ

ذكر غزوة بني قريظة

الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ، فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ. ثُمَّ قَامَ إِلَى جَمَلِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ، وَلَوْلَا عَهْدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيَّ أَنْ لَا أُحْدِثَ شَيْئًا لَقَتَلْتُهُ. قَالَ حُذَيْفَةُ: فَرَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِرْطٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَدْخَلَنِي بَيْنَ رِجْلَيْهِ، وَطَرَحَ عَلَيَّ طَرَفَ الْمِرْطِ، فَلَمَّا سَلَّمَ خَبَّرْتُهُ الْخَبَرَ. وَسَمِعَتْ غَطَفَانُ بِمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ، فَعَادُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا عَادُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَنَا. فَكَانَ كَذَلِكَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ. [ذِكْرُ غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ] لَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَوَضَعَ الْمُسْلِمُونَ السِّلَاحَ، وَضَرَبَ عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قُبَّةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَمَّا كَانَ الظُّهْرُ أَتَى جِبْرَائِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَقَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ جِبْرَائِيلُ: مَا وَضَعَتِ الْمَلَائِكَةُ السِّلَاحَ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَأَنَا عَامِدٌ إِلَيْهِمْ. «فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ سَامِعًا مُطِيعًا فَلَا يُصَلِّيَنَّ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ. وَقَدَّمَ عَلِيًّا إِلَيْهِمْ بِرَايَتِهِ، وَتَلَاحَقَ النَّاسُ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَتَاهُ رِجَالٌ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ فَصَلَّوُا الْعَصْرَ بِهَا، وَمَا عَابَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَحَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ شَهْرًا وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحِصَارُ أَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَبْعَثَ إِلَيْنَا أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ أَنْصَارِيٌّ مِنَ الْأَوْسِ، نَسْتَشِيرُهُ، فَأَرْسَلَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَبَكَى النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَرَقَّ لَهُمْ، فَقَالُوا: نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ. فَقَالَ: نَعَمْ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ أَنَّهُ الذَّبْحُ. قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: فَمَا زَالَتْ قَدَمَايَ حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي خُنْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقَمْتُ بِمَكَانٍ عَصَيْتُ اللَّهَ فِيهِ. وَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى ارْتَبَطَ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ.

فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَطْلَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ الْأَوْسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، افْعَلْ فِي مَوَالِينَا مَا فَعَلْتَ فِي مَوَالِيِّ الْخَزْرَجِ، يَعْنِي بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. فَقَالَ: «أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ؟ قَالُوا: بَلَى. فَأَتَاهُ قَوْمُهُ فَاحْتَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ، ثُمَّ أَقْبَلُوا مَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ يَقُولُونَ: أَبَا عَمْرٍو، أَحْسِنْ إِلَى مَوَالِيكَ. فَلَمَّا كَثُرُوا عَلَيْهِ قَالَ: قَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَنْ لَا تَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، فَعَلِمَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ يَقْتُلُهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَى سَعْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ، أَوْ قَالَ: خَيْرِكُمْ، فَقَامُوا إِلَيْهِ وَأَنْزَلُوهُ، وَقَالُوا: يَا أَبَا عَمْرٍو، أَحْسِنْ إِلَى مَوَالِيكَ، فَقَدْ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُكْمَ فِيهِمْ إِلَيْكَ. فَقَالَ سَعْدٌ: عَلَيْكُمْ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ، إِنَّ الْحُكْمَ فِيهِمْ إِلَيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَالْتَفَتَ إِلَى النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي فِيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إِجْلَالًا، وَقَالَ: وَعَلَى مَنْ هَاهُنَا الْعَهْدُ أَيْضًا؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ، وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ وَالنِّسَاءُ، وَتُقَسَّمَ الْأَمْوَالُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ» . ثُمَّ اسْتُنْزِلُوا، فَحُبِسُوا فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ. ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ، فَخَنْدَقَ بِهَا خَنَادِقَ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ فِيهَا، وَفِيهِمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ سَيِّدُهُمْ، وَكَانُوا سِتَّمِائَةٍ أَوْ سَبْعَمِائَةٍ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ سَبْعِمِائَةٍ وَثَمَانِمِائَةٍ، وَأُتِي بِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَهُوَ مَكْتُوفٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَاللَّهِ مَا لُمْتُ نَفْسِي فِي عَدَاوَتِكَ، وَلَكِنْ مَنْ يَخْذِلِ اللَّهُ يُخْذَلْ. ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَمْرِ اللَّهِ، كِتَابٌ وَقَدَرٌ، وَمَلْحَمَةٌ كُتِبَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَأُجْلِسَ وَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَلَمْ تُقْتَلْ مِنْهُمْ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، قُتِلَتْ بِحَدَثٍ أَحْدَثَتْهُ، وَقُتِلَتْ أُرْفَةُ بِنْتُ عَارِضَةَ مِنْهُمْ.

وَأَسْلَمَ مِنْهُمْ ثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ، وَأُسَيْدُ بْنُ سَعْيَةَ، وَأَسَدُ بْنُ عُبَيْدٍ. ثُمَّ «قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْوَالَهُمْ، فَكَانَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ، وَلِفَارِسِهِ سَهْمٌ، وَلِلرَّاجِلِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ فَرَسٌ سَهْمٌ» ، وَكَانَتِ الْخَيْلُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ فَرَسًا، وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْخُمُسَ، وَكَانَ أَوَّلَ فَيْءٍ وَقَعَ فِيهِ السَّهْمَانِ وَالْخُمُسُ. «وَاصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ رَيْحَانَةَ بِنْتَ عَمْرِو بْنِ خُنَافَةَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَقَالَتْ: اتْرُكْنِي فِي مِلْكِكَ، فَهُوَ أَخَفُّ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ» . فَلَمَّا انْقَضَى أَمْرُ قُرَيْظَةَ انْفَجَرَ جُرْحُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وَكَانَ فِي خَيْمَتِهِ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ، فَحَضَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «سَمِعْتُ بُكَاءَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَيْهِ وَأَنَا فِي حُجْرَتِي، وَأَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ لَا يَبْكِي عَلَى أَحَدٍ، كَانَ إِذَا اشْتَدَّ وَجْدُهُ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ» . وَكَانَ فَتْحُ قُرَيْظَةَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَصَدْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْخَنْدَقِ سِتَّةُ نَفَرٍ، وَفِي قُرَيْظَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ.

ودخلت سنة ست من الهجرة

[وَدَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ] [ذِكْرُ غَزْوَةِ بَنِي لِحْيَانَ] 6 - وَدَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ ذِكْرُ غَزْوَةِ بَنِي لِحْيَانَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَنِي لِحْيَانَ يَطْلُبُ بِأَصْحَابِ الرَّجِيعِ، خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ وَأَصْحَابِهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الشَّامَ؛ لِيُصِيبَ مِنَ الْقَوْمِ غِرَّةً، وَأَغَذَّ السَّيْرَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى غَرَانِ مَنَازِلِ بَنِي لِحْيَانَ، وَهِيَ بَيْنَ أَمَجَ وَعُسْفَانَ، فَوَجَدَهُمْ قَدْ حَذِرُوا وَتَمَنَّعُوا فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَلَمَّا أَخْطَأَهُ مَا أَرَادَ مِنْهُمْ خَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ حَتَّى نَزَلَ بِعُسْفَانَ، تَخْوِيفًا لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَأَرْسَلَ فَارِسَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى بَلَغَا كُرَاعَ الْغَمِيمِ، ثُمَّ عَادَ قَافِلًا. (غَرَانُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَبَعْدَ الْأَلْفِ نُونٌ. وَأَمَجَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ، وَآخِرُهُ جِيمٌ) . [ذِكْرُ غَزَاةِ ذِي قَرَدٍ] ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، فَلَمْ يُقِمْ إِلَّا أَيَّامًا قَلَائِلَ، حَتَّى أَغَارَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي خَيْلِ غَطَفَانَ عَلَى لِقَاحِ النَّبِيِّ، وَأَوَّلُ مَنْ نَذَرَ بِهِمْ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ

الْأَسْلَمِيُّ، هَكَذَا ذَكَرَهَا أَبُو جَعْفَرٍ بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي لِحْيَانَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ سَلَمَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ مُنْصَرِفًا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَبَيْنَ الْوَقْعَتَيْنِ تَفَاوُتٌ. قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ: «أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِظَهْرِهِ مَعَ رَبَاحٍ غُلَامِهِ» ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ بِفَرَسِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ قَدْ أَغَارَ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَاقَهُ أَجْمَعَ، وَقَتَلَ رَاعِيَهُ. قُلْتُ: يَا رَبَاحُ، خُذْ هَذَا الْفَرَسَ فَأَبْلِغْهُ طَلْحَةَ، وَأَخْبِرِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَغَارُوا عَلَى سَرْحِهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلْتُ الْأَكَمَةَ فَنَادَيْتُ ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ: يَا صَبَاحَاهُ! ثُمَّ خَرَجْتُ فِي آثَارِ الْقَوْمِ أَرْمِيهِمْ بِالنَّبْلِ، وَأَرْتَجِزُ وَأَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعْ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِرُ بِهِمْ، فَإِذَا خَرَجَ إِلَيَّ فَارِسٌ قَعَدْتُ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ فَرَمَيْتُهُ فَعَقَرْتُ بِهِ، وَإِذَا دَخَلُوا فِي مَضَايِقِ الْجَبَلِ رَمَيْتُهُمْ بِالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ حَتَّى مَا تَرَكْتُ مِنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعِيرًا إِلَّا جَعَلْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي، وَخَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ رُمْحًا، وَثَلَاثِينَ بُرْدَةً يَسْتَخِفُّونَ بِهَا، لَا يُلْقُونَ شَيْئًا إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ أَمَارَةً، أَيْ عَلَامَةً، حَتَّى يَعْرِفَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إِذَا انْتَهَوْا إِلَى مُتَضَايِقٍ مِنْ ثَنِيَّةٍ أَتَاهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ مُمِدًّا، فَقَعَدُوا يَتَضَحَّوْنَ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: لَقِينَا مِنْهُ الْبَرْحَ، وَقَدِ اسْتَنْقَذَ كُلَّ مَا بِأَيْدِينَا، فَمَا بَرِحْتُ مَكَانِي حَتَّى أَبْصَرْتُ فَوَارِسَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَخَلَّلُونَ الشَّجَرَ، أَوَّلُهُمُ الْأَخْرَمُ الْأَسَدِيُّ - وَاسْمُهُ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ مِنْ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ - وَعَلَى أَثَرِهِ أَبُو قَتَادَةَ، وَعَلَى أَثَرِهِمَا الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ، فَأَخَذْتُ بِعِنَانِ الْأَخْرَمِ وَقُلْتُ: احْذَرِ الْقَوْمَ لَا يَقْتَطِعُوكَ حَتَّى تَلْحَقَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ: يَا سَلَمَةُ، إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ. قَالَ: فَخَلَّيْتُهُ، فَالْتَقَى هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُيَيْنَةَ، فَعَقَرَ الْأَخْرَمُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فَرَسَهُ، وَطَعَنَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَتَلَهُ، وَتَحَوَّلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى فَرَسِ الْأَخْرَمِ، وَلَحِقَ أَبُو قَتَادَةَ فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فَطَعَنَهُ، فَانْطَلَقُوا هَارِبِينَ، قَالَ سَلَمَةُ: فَوَالَّذِي

كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ لَأَتْبَعَنَّهُمْ أَعْدُو عَلَى رِجْلِي، حَتَّى مَا أَرَى مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ وَلَا غُبَارِهِمْ شَيْئًا. وَعَدَلُوا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى غَارٍ فِيهِ مَاءٌ، يُقَالُ لَهُ: ذُو قَرَدٍ، يَشْرَبُونَ مِنْهُ وَهُمْ عِطَاشٌ، فَنَظَرُوا إِلَيَّ أَعْدُو فِي آثَارِهِمْ، فَحَلَّيْتُهُمْ، فَمَا ذَاقُوا مِنْهُ قَطْرَةً، قَالَ: وَاشْتَدُّوا فِي ثَنِيَّةِ ذِي أَبْهَرَ، فَأَرْشُقُ بَعْضَهُمْ بِسَهْمٍ، فَيَقَعُ فِي نُغْضِ كَتِفِهِ، فَقُلْتُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعْ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ. وَإِذَا فَرَسَانِ عَلَى الثَّنِيَّةِ، فَجِئْتُ بِهِمَا أَقُودُهُمَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَحِقَنِي عَمِّي عَامِرٌ بِسَطِيحَةٍ فِيهَا مَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ، وَسَطِيحَةٍ فِيهَا مَاءٌ، فَتَوَضَّأْتُ وَصَلَّيْتُ وَشَرِبْتُ، ثُمَّ «جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي حَلَّيْتُهُمْ عَنْهُ بِذِي قَرَدٍ، وَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَخَذَ تِلْكَ الْإِبِلَ الَّتِي اسْتَنْقَذْتُ مِنَ الْعَدُوِّ، وَكُلَّ رُمْحٍ، وَكُلَّ بُرْدَةٍ، وَإِذَا بِلَالٌ قَدْ نَحَرَ لَهُمْ نَاقَةً مِنَ الْإِبِلِ وَهُوَ يَشْوِي مِنْهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَلِّنِي أَنْتَخِبُ مِائَةَ رَجُلٍ فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ. فَضَحِكَ وَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيُقْرَوْنَ بِأَرْضِ غَطَفَانَ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ فَقَالَ: نَحَرَ لَهُمْ فُلَانٌ جَزُورًا، فَلَمَّا كَشَطُوا عَنْهَا جِلْدَهَا رَأَوْا غُبَارًا، فَقَالُوا: أُتِيتُمْ، فَخَرَجُوا هَارِبِينَ. فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ فُرْسَانِنَا أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ رَجَّالِنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَ الْفَارِسِ، وَسَهْمَ الرَّاجِلِ، ثُمَّ أَرْدَفَنِي عَلَى الْعَضْبَاءِ. فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَا يُسْبَقُ شَدًّا، فَقَالَ: أَلَا مِنْ مُسَابِقٍ؟ مِرَارًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِيذَنْ لِي فَلِأُسَابِقَ الرَّجُلَ. قَالَ: إِنْ

ذكر غزوة بني المصطلق من خزاعة

شِئْتَ. قَالَ: فَطَفَرْتُ وَرَبَطْتُ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ فَأَلْحَقُهُ، فَقُلْتُ: سَبَقَتْكُ وَاللَّهِ! فَسَبَقْتُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمْ نَمْكُثْ بِهَا إِلَّا ثَلَاثًا حَتَّى خَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ» . وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ نُودِيَ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، وَلَمْ يَكُنْ يُقَالُ قَبْلَهَا. (قَرَدٌ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ) . [ذِكْرُ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ] ذُكِرَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ بَعْدَ غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ، وَكَانَتْ فِي شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ (سَنَةِ سِتٍّ) ، وَكَانَ بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ تَجَمَّعُوا لَهُ، وَكَانَ قَائِدَهُمُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ أَبُو جُوَيْرِيَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ خَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُمْ بِمَاءٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: الْمُرَيْسِيعُ، بِنَاحِيَةِ قُدَيْدٍ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَأُصِيبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَنِي لَيْثِ بْنِ بَكْرٍ اسْمُهُ هِشَامُ بْنُ صُبَابَةَ، أَخُو مِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ، أَصَابَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ رَهْطِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ بِسَهْمٍ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مِنَ الْعَدُوِّ، فَقَتَلَهُ خَطَأً. «وَأَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَايَا كَثِيرَةً، فَقَسَّمَهَا فِي الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِمْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ، فَوَقَعَتْ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ، فَكَاتَبَتْهُ عَنْ نَفْسِهَا، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَعَانَتْهُ فِي كِتَابَتِهَا، فَقَالَ لَهَا: هَلْ لَكِ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَقْضِي كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ. قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَفَعَلَ، وَسَمِعَ النَّاسُ الْخَبَرَ، فَقَالُوا: أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ، فَأَعْتَقُوا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ بَيْتٍ مِنْ أَهْلٍ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا» . وَبَيْنَمَا النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ وَرَدَتْ وَارِدَةٌ النَّاسَ، وَمَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَجِيرٌ لَهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، يُقَالُ لَهُ: جَهْجَاهٌ، فَازْدَحَمَ هُوَ وَسِنَانٌ الْجُهَنِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَوْفٍ مِنَ الْخَزْرَجِ، عَلَى الْمَاءِ، فَاقْتَتَلَا، فَصَرَخَ الْجُهَنِيُّ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! وَصَرَخَ جَهْجَاهٌ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبِيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، غُلَامٌ حَدِيثُ السِّنِّ. فَقَالَ: أَقَدْ فَعَلُوهَا! قَدْ كَاثَرُونَا فِي بِلَادِنَا! أَمَا وَاللَّهِ

{لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] ! ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ: هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ! أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِبِلَادِكُمْ، وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ! وَاللَّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوَّلُوا إِلَى غَيْرِ بِلَادِكُمْ. فَسَمِعَ ذَلِكَ زِيدٌ، فَمَشَى بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ عِنْدَ فَرَاغِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَزْوِهِ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْ بِهِ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ إِذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ! وَلَكِنْ أَذِّنْ بِالرَّحِيلِ» . فَارْتَحَلَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَرْتَحِلُ فِيهَا، لِيَقْطَعَ مَا النَّاسُ فِيهِ. فَلَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ رُحْتَ فِي سَاعَةٍ لَمْ تَكُنْ تَرُوحُ فِيهَا. فَقَالَ: أَوَمَا بَلَغَكَ مَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ؟ قَالَ: وَمَاذَا؟ قَالَ زَعَمَ إِنْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. قَالَ أُسَيْدٌ: فَأَنْتَ وَاللَّهِ تُخْرِجُهُ إِنْ شِئْتَ، فَإِنَّكَ الْعَزِيزُ وَهُوَ الذَّلِيلُ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ارْفُقْ بِهِ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ بِكَ وَإِنَّ قَوْمَهُ لَيَنْظِمُونَ لَهُ الْخَرَزَ لِيُتَوِّجُوهُ، فَإِنَّهُ لَيَرَى أَنَّكَ قَدِ اسْتَلَبْتَهُ مُلْكًا. وَسَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنَّ زَيْدًا أَعْلَمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَهُ، فَمَشَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قُلْتُ مَا قَالَ، وَلَا تَكَلَّمْتُ بِهِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَسَى أَنْ يَكُونَ الْغُلَامُ قَدْ أَخْطَأَ، «وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] تَصْدِيقًا لِزَيْدٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُذُنِ زَيْدٍ وَقَالَ: هَذَا الَّذِي أَوْفَى اللَّهُ بِأُذُنِهِ» . وَبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِيهِ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ أَبِي، فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ، فَأَنَا أَحْمِلُ إِلَيْكَ رَأْسَهُ، وَأَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ غَيْرِي بِقَتْلِهِ، فَلَا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إِلَى قَاتِلِ أَبِي يَمْشِي فِي النَّاسِ فَأَقْتُلُهُ، فَأَقْتُلُ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ فَأَدْخُلُ النَّارَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ نَرْفُقُ بِهِ، وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا. فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَحْدَثَ حَدَثًا عَاتَبَهُ قَوْمُهُ، وَعَنَّفُوهُ، وَتَوَعَّدُوهُ،

حديث الإفك

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ: كَيْفَ تَرَى ذَلِكَ يَا عُمَرُ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ أَمَرْتَنِي بِقَتْلِهِ لَأُرْعِدَتْ لَهُ آنُفٌ، لَوْ أَمَرْتَهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلَتْهُ. فَقَالَ عُمَرُ: أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ أَمْرِي» . وَفِيهَا قَدِمَ مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ مُسْلِمًا فِيمَا يَظْهَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ مُسْلِمًا، وَجِئْتُ أَطْلُبُ دِيَةَ أَخِي، وَكَانَ قُتِلَ خَطَأً، فَأَمَرَ لَهُ بِدِيَةِ أَخِيهِ هِشَامِ بْنِ صُبَابَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ قَتْلِهِ آنِفًا، فَأَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ كَثِيرٍ، ثُمَّ عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُرْتَدًّا فَقَالَ: شَفَى النَّفْسَ أَنْ قَدْ بَاتَ فِي الْقَاعِ مُسْنَدًا ... تُضَرَّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الْأَخَادِعِ وَكَانَتْ هُمُومُ النَّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ ... تُلِمُّ فَتُحْمِينِي وِطَاءَ الْمَضَاجِعِ حَلَلْتُ بِهِ نَذْرِي وَأَدْرَكْتُ ثُؤْرَتِي ... وَكُنْتُ إِلَى الْأَصْنَامِ أَوَّلَ رَاجِعِ (مِقْيَسٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الْقَافِ، وَفَتْحِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ. وَصُبَابَةُ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ، وَبِبَاءَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ. وَأُسَيْدٌ بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ. وَحُضَيْرٌ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الضَّادِ) . [حَدِيثُ الْإِفْكِ] وَكَانَ حَدِيثُ الْإِفْكِ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ: «لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجَ بِي مَعَهُ، وَكَانَتِ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلَقَ لَمْ يَتَفَكَّهْنَ

بِاللَّحْمِ، وَكُنْتُ إِذَا وَصَلَ بِعِيرِي جَلَسْتُ فِي هَوْدَجِي، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمُ الَّذِينَ يُرَحِّلُونَ بِعِيرِي، فَيَحْمِلُونَ الْهَوْدَجَ وَأَنَا فِيهِ، فَيَضَعُونَهُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ بِرَأْسِ الْبَعِيرِ وَيَسِيرُونَ. قَالَتْ فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سَفَرِهِ ذَلِكَ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ، بَاتَ بِمَنْزِلٍ بَعْضَ اللَّيْلِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ هُوَ وَالنَّاسُ، وَكُنْتُ قَدْ خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي وَفِي عُنُقِي عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارٍ، انْسَلَّ مِنْ عُنُقِي وَلَا أَدْرِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ الْتَمَسْتُ الْعِقْدَ فَلَمْ أَجِدْهُ، وَأَخَذَ النَّاسُ بِالرَّحِيلِ، فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ أَلْتَمِسُهُ فَوَجَدْتُهُ، وَجَاءَ الْقَوْمُ الَّذِينَ يُرَحِّلُونَ بِعِيرِي، فَأَخَذُوا الْهَوْدَجَ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنِّي فِيهِ، فَاحْتَمَلُوهُ عَلَى عَادَتِهِمْ وَانْطَلَقُوا، وَرَجَعْتُ إِلَى الْمُعَسْكَرِ وَمَا فِيهِ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَلَفَّفْتُ بِجِلْبَابِي وَاضْطَجَعْتُ مَكَانِي، وَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيَّ إِذَا افْتَقَدُونِي. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَمُضْطَجِعَةٌ إِذْ مَرَّ بِي صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ، وَكَانَ تَخَلَّفَ عَنِ الْعَسْكَرِ لِحَاجَتِهِ، فَلَمْ يَبِتْ مَعَ النَّاسِ، فَلَمَّا رَأَى سَوَادِي أَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيَّ فَعَرَفَنِي، وَكَانَ رَآنِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ، فَلَمَّا رَآنِي اسْتَرْجَعَ وَقَالَ: مَا خَلَّفَكِ؟ قَالَتْ: فَمَا كَلَّمْتُهُ، ثُمَّ قَرَّبَ الْبَعِيرَ وَقَالَ: ارْكَبِي. فَرَكِبْتُ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ الْبَعِيرِ مُسْرِعًا. فَلَمَّا نَزَلَ النَّاسُ وَاطْمَأَنُّوا طَلَعَ الرَّجُلُ يَقُودُنِي، فَقَالَ أَهْلُ الْإِفْكِ فِيَّ مَا قَالُوا، فَارْتَعَجَ الْعَسْكَرُ، وَلَمْ أَعْلَمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ شَكْوَى شَدِيدَةً، وَقَدِ انْتَهَى الْحَدِيثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى أَبَوَيَّ، وَلَا يَذْكُرَانِ لِي مِنْهُ شَيْئًا، إِلَّا أَنِّي أَنْكَرْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَ لُطْفِهِ، فَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيَّ وَأُمِّي تُمَرِّضُنِي قَالَ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، فَوَجَدْتُ فِي نَفْسِي مِمَّا رَأَيْتُ مِنْ جَفَائِهِ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى أُمِّي لِتُمَرِّضَنِي، فَأَذِنَ لِي، وَانْتَقَلْتُ وَلَا أَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ، حَتَّى نَقِهْتُ مِنْ وَجَعِي بَعْدَ بِضْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً. قَالَتْ: وَكُنَّا قَوْمًا عَرَبًا لَا نَتَّخِذُ فِي بُيُوتِنَا هَذِهِ الْكُنُفَ، نَعَافُهَا وَنَكْرَهُهَا، إِنَّمَا كَانَ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَخَرَجْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ حَاجَتِي وَمَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَتْ أُمُّهَا خَالَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَتَمْشِي إِذْ عَثَرَتْ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ. قَالَتْ: قُلْتُ: لَعَمْرُ اللَّهِ بِئْسَ مَا قُلْتِ لِرَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا! قَالَتْ: أَوَمَا بَلَغَكِ الْخَبَرُ؟ قُلْتُ: وَمَا الْخَبَرُ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِالَّذِي كَانَ. قَالَتْ:

فَوَاللَّهِ مَا قَدَرْتُ عَلَى أَنْ أَقْضِيَ حَاجَتِي فَرَجَعْتُ، فَمَا زِلْتُ أَبْكِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ الْبُكَاءَ سَيَصْدَعُ كَبِدِي، وَقُلْتُ لِأُمِّي: تَحَدَّثَ النَّاسُ بِمَا تَحَدَّثُوا وَلَا تَذْكُرِينَ لِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؟ قَالَتْ: أَيْ بُنَيَّةُ، خَفِّضِي عَلَيْكِ، فَوَاللَّهِ قَلَّ مَا كَانَتِ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا كَثَّرْنَ، وَكَثَّرَ النَّاسُ عَلَيْهَا. قَالَتْ: وَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ، وَلَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَا بَالُ رِجَالٍ يُؤْذُونَنِي فِي أَهْلِي، وَيَقُولُونَ عَلَيْهِنَّ غَيْرَ الْحَقِّ، وَيَقُولُونَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا دَخَلَ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِي إِلَّا مَعِي. وَكَانَ كُبْرُ ذَلِكَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ فِي رِجَالٍ مِنَ الْخَزْرَجِ، مَعَ الَّذِي قَالَ مِسْطَحٌ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَذَلِكَ أَنَّ زَيْنَبَ أُخْتَهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَشَاعَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا أَشَاعَتْ؛ تُضَارُّنِي لِأُخْتِهَا، فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِلْكَ الْمَقَالَةَ، قَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ يَكُونُوا مِنَ الْأَوْسِ نَكْفِكَهُمْ، وَإِنْ يَكُونُوا مِنْ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ فَمُرْنَا بِأَمْرِكَ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: وَاللَّهِ مَا قُلْتَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ قَوْمِكَ مَا قُلْتَ هَذَا. فَقَالَ أُسَيْدٌ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ. وَتَثَاوَرَ النَّاسُ حَتَّى كَادَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ شَرٌّ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَاسْتَشَارَهُمَا، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَثْنَى خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَقَالَ: إِنَّ النِّسَاءَ لَكَثِيرٌ، وَسَلِ الْخَادِمَ تَصْدُقُكَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَرِيرَةَ يَسْأَلُهَا، فَقَامَ إِلَيْهَا عَلِيٌّ، فَضَرَبَهَا ضَرْبًا شَدِيدًا وَهُوَ يَقُولُ: اصْدُقِي رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كُنْتُ أَعِيبُ عَلَيْهَا إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَنَامُ عَنْ عَجِينِهَا، فَيَأْتِي الدَّاجِنُ فَيَأْكُلُهُ. ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدِي أَبَوَايَ وَامْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَنَا أَبْكِي وَهِيَ تَبْكِي، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّهُ قَدْ كَانَ مَا بَلَغَكِ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ، فَإِنْ كُنْتِ قَارَفْتِ سُوءًا فَتُوبِي إِلَى اللَّهِ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ تَقَلَّصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ شَيْئًا، وَانْتَظَرْتُ أَبَوَيَّ أَنْ يُجِيبَاهُ، فَلَمْ يَفْعَلَا، فَقُلْتُ: أَلَا تُجِيبَانِهِ؟ فَقَالَا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي بِمَاذَا نُجِيبُهُ! وَمَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ دَخَلَ عَلَيْهِمْ مَا دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامِ. فَلَمَّا اسْتَعْجَمَا بَكَيْتُ ثُمَّ قُلْتُ: وَاللَّهِ لَا

أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا ذَكَرْتَ أَبَدًا، وَاللَّهِ لَئِنْ أَقْرَرْتُ - وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ - لَتُصَدِّقُنِي، وَلَئِنْ أَنْكَرْتُ لَا تُصَدِّقُنِي. ثُمَّ الْتَمَسْتُ اسْمَ يَعْقُوبَ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَقُلْتُ: وَلَكِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] ، وَلَشَأْنِي كَأَنِّي أَصَغْرُ فِي نَفْسِي أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ فِيَّ قُرْآنًا يُتْلَى، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رُؤْيَا يُكَذِّبُ اللَّهُ بِهَا عَنِّي. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا بَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى جَاءَهُ الْوَحْيُ، فَسُجِّيَ بِثَوْبِهِ، فَأَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ مَا فَزِعْتُ وَلَا بَالَيْتُ، قَدْ عَرَفْتُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ غَيْرُ ظَالِمِي، وَأَمَّا أَبَوَايَ فَمَا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى ظَنَنْتُ لَتَخْرُجَنَّ أَنْفُسُهُمَا فَرَقًا مِنْ أَنْ يُحَقِّقَ اللَّهُ مَا قَالَ النَّاسُ. قَالَتْ: ثُمَّ سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ عَنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ وَيَقُولُ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ. فَقُلْتُ: بِحَمْدِ اللَّهِ! ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ، وَذَكَرَ لَهُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ مَنِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ أَمَرَ بِمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَكَانُوا مِمَّنْ أَفْصَحَ بِالْفَاحِشَةِ، فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ، وَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ لَا يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} [النور: 22] الْآيَةَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، وَرَجَّعَ إِلَى مِسْطَحٍ نَفَقَتَهُ. ثُمَّ إِنَّ صَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطَّلِ اعْتَرَضَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ بِالسَّيْفِ فَضَرَبَهُ، ثُمَّ قَالَ: تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي ... غُلَامٌ إِذَا هُوجِيتُ لَسْتُ بِشَاعِرِ فَوَثَبَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ فَجَمَعَ يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ، وَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: ضَرَبَ حَسَّانَ وَمَا أَرَاهُ إِلَّا قَتَلَهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَلْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ مِمَّا صَنَعْتَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: لَقَدِ اجْتَرَأْتَ، أَطْلِقِ الرَّجُلَ. فَأَطْلَقَهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَا حَسَّانَ وَصَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطَّلِ، فَقَالَ صَفْوَانُ: هَجَانِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَآذَانِي، فَضَرَبْتُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَسَّانَ: أَحْسِنْ يَا حَسَّانُ. قَالَ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِوَضًا مِنْهَا بَيْرَحَاءَ - وَهِيَ قَصْرُ بَنِي حُدَيْلَةَ، بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ - وَأَعْطَاهُ شِيرِينَ - أَمَةً قِبْطِيَّةٌ، وَهِيَ أُخْتُ مَارِيَةَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ - فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ صَفْوَانُ حَصُورًا

ذكر عمرة الحديبية

لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهِيدًا» . (مِسْطَحٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالطَّاءِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ) . [ذِكْرُ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقِعْدَةِ، لَا يُرِيدُ حَرْبًا، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ، وَقِيلَ: أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثُمِائَةٍ، وَسَاقَ الْهَدْيَ مَعَهُ سَبْعِينَ بَدَنَةً؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لِلْبَيْتِ. فَلَمَّا بَلَغَ عُسْفَانَ لَقِيَهُ بُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْكَعْبِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ سَمِعُوا بِمَسِيرِكَ، فَاجْتَمَعُوا بِذِي طُوًى يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَا تَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَقَدْ قَدَّمُوا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ. وَقِيلَ: إِنَّ خَالِدًا كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْلِمًا، وَإِنَّهُ أَرْسَلَهُ، فَلَقِيَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فَهَزَمَهُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَلَمَّا بَلَّغَهُ بُسْرٌ مَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ، قَدْ أَكَلَتْهُمُ الْحَرْبُ! مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ، فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللَّهُ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَافِرِينَ، وَاللَّهِ لَا أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ. ثُمَّ خَرَجَ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي هَمَّ بِهَا، وَسَلَكَ ذَاتَ الْيَمِينِ، حَتَّى سَلَكَ ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ عَلَى مَهْبَطِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَبَرَكَتْ بِهِ نَاقَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: خَلَأَتْ. فَقَالَ: مَا خَلَأَتْ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكَّةَ، لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا. ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: انْزِلُوا. فَقَالُوا: مَا بِالْوَادِي مَاءٌ. فَأَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَأَعْطَاهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَنَزَلَ فِي قَلِيبٍ مِنْ تِلْكَ الْقُلُبِ، فَغَرَزَهُ فِي جَوْفِهِ، فَجَاشَ الْمَاءُ بِالرَّيِّ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ عَنْهُ بِعَطَنٍ» ، وَكَانَ اسْمُ الَّذِي أَخَذَ السَّهْمَ

نَاجِيَةُ بْنُ عُمَيْرٍ، سَائِقُ بُدْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ أَتَاهُمْ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ خُزَاعَةَ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تِهَامَةَ، فَقَالَ: تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ، وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ، قَدْ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنْ شَاءَتْ قُرَيْشٌ مَادَدْنَاهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، وَإِنْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي» . فَانْطَلَقَ بُدَيْلٌ إِلَى قُرَيْشٍ فَأَعْلَمَهُمْ مَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ، فَاقْبَلُوهَا، دَعُونِي آتِهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ. فَأَتَاهُ وَكَلَّمَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، جَمَعْتَ أَوْشَابَ النَّاسِ، ثُمَّ جِئْتَ بِهِمْ إِلَى بَيْضَتِكَ لِتَفُضَّهَا بِهِمْ، إِنَّهَا قُرَيْشٌ خَرَجَتْ مَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النُّمُورِ، يُعَاهِدُونَ اللَّهَ أَنَّكَ لَا تَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا، وَايْمُ اللَّهِ لَكَأَنِّي بِهَؤُلَاءِ قَدْ تَكَشَّفُوا عَنْكَ غَدًا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ! أَنَحْنُ نَنْكَشِفُ عَنْهُ؟ قَالَ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ. فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا يَدٌ لَكَ عِنْدِي لَكَفَأْتُكُ بِهَا. ثُمَّ جَعَلَ يَتَنَاوَلُ لِحْيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُكَلِّمُهُ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيدِ، فَجَعَلَ يَقْرَعُ يَدَهُ إِذَا تَنَاوَلَهَا وَيَقُولُ لَهُ: اكْفُفْ يَدَكَ قَبْلَ أَنْ لَا تَصِلَ إِلَيْكَ، فَقَالَ عُرْوَةُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا ابْنُ أَخِيكَ الْمُغِيرَةُ. فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ! وَهَلْ غَسَلْتُ سَوْءَتَكَ إِلَّا بِالْأَمْسِ؟ - وَكَانَ الْمُغِيرَةُ قَدْ قَتَلَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَالِكٍ وَهَرَبَ، فَتَهَايَجَ الْحَيَّانِ بَنُو مَالِكٍ رَهْطُ الْمَقْتُولِينَ، وَالْأَحْلَافُ رَهْطُ الْمُغِيرَةِ، فَوَدَى عُرْوَةُ لِلْمَقْتُولِينَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ دِيَةً، وَأَصْلَحَ ذَلِكَ الْأَمْرَ. وَطَالَ الْكَلَامُ بَيْنَهُمَا: فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَ مَقَالَتِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: يَا مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ قَوْمَكَ، فَهَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَصْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَجَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَاللَّهِ لَا يَتَنَخَّمُ النَّبِيُّ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ

أَحَدِهِمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِنْ أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَمَا يَحُدُّونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ؛ تَعْظِيمًا لَهُ. فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: أَيْ قَوْمُ، وَفَدْتُ عَلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيِّ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا! وَحَدَّثَهُمْ مَا رَأَى، وَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ كِنَانَةَ اسْمُهُ الْحُلَيْسُ بْنُ عَلْقَمَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ الْأَحَابِيشِ: دَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا: ائْتِهِ. فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «هَذَا فُلَانٌ، هُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ، فَابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وَجْهِهِ. فَلَمَّا رَأَى الْهَدْيَ رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ وَلَمْ يَصِلْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَقَالَ: يَا قَوْمُ، قَدْ رَأَيْتُ مَا لَا يَحِلُّ صَدُّهُ، الْهَدْيُ فِي قَلَائِدِهِ. فَقَالُوا: اجْلِسْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ أَعْرَابِيٌّ لَا عِلْمَ لَكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عَلَى هَذَا حَالَفْنَاكُمْ؛ أَنْ تَصُدُّوا عَنِ الْبَيْتِ مَنْ جَاءَ مُعَظِّمًا لَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُخَلُّنَّ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، أَوْ لَأَنْفِرَنَّ بِالْأَحَابِيشِ نَفْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. قَالَ: فَقَالُوا: مَهْ! كُفَّ عَنَّا يَا حُلَيْسُ حَتَّى نَأْخُذَ لِأَنْفُسِنَا. «فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فَقَالَ: دَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا: افْعَلْ. فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَذَا رَجُلٌ فَاجِرٌ. فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ النَّبِيُّ: سُهِّلَ أَمْرُكُمْ» . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ قُرَيْشًا إِنَّمَا بَعَثَتْ سُهَيْلًا بَعْدَ رِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. قَالَ: لَمَّا رَجَعَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إِلَى قُرَيْشٍ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِرَاشَ بْنَ أُمَيَّةَ الْخُزَاعِيَّ إِلَى قُرَيْشٍ عَلَى جَمَلٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ: الثَّعْلَبُ، لِيُبَلِّغَ عَنْهُ، فَعَقَرُوا بِهِ جَمَلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَمَنَعَتْهُ الْأَحَابِيشُ وَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ لِيُرْسِلَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: لَيْسَ بِمَكَّةَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ مَنْ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي لَهَا، وَأَخَافُهَا عَلَى نَفْسِي، فَأَرْسِلْ عُثْمَانَ فَهُوَ أَعَزُّ بِهَا مِنِّي. فَدَعَا عُثْمَانَ فَأَرْسَلَهُ لِيُبَلِّغَ عَنْهُ، فَانْطَلَقَ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَأَجَارَهُ، فَأَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا لِعُثْمَانَ حِينَ فَرَغَ مِنْ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ بِهِ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ: «لَا نَبْرَحُ حَتَّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ.

ثُمَّ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَبَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» ، وَهِيَ سَمُرَةُ، لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ رَجُلٌ مَنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ: أَبُو سِنَانٍ. ثُمَّ أَتَى الْخَبَرُ أَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يُقْتَلْ. ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو أَخَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُصَالِحَهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُمْ عَامَهُ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ سُهَيْلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَطَالَ مَعَهُ الْكَلَامَ وَتَرَاجَعَا، ثُمَّ جَرَى بَيْنَهُمُ الصُّلْحُ، «فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: اكْتُبْ بِاسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَا نَعْرِفُ هَذَا، وَلَكِنِ اكْتُبْ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَكَتَبَهَا، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو - فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ نُقَاتِلْكَ، وَلَكِنِ اكْتُبِ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ. فَقَالَ لَعَلِيٍّ: امْحُ رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: لَا أَمْحُوكَ أَبَدًا. فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ، فَكَتَبَ مَوْضِعَ رَسُولِ اللَّهِ: مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ لَعَلِيٍّ: لَتُبْلَيَنَّ بِمِثْلِهَا - اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَنِ النَّاسِ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنَّهُ مَنْ أَتَى مِنْهُمْ رَسُولَ اللَّهِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ يُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ دَخَلَ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ دَخَلَ. فَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، وَأَنْ يَرْجِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمْ عَامَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ عَامَ قَابِلٍ خَرَجْنَا عَنْكَ فَدَخَلْتَهَا بِأَصْحَابِكَ، فَأَقَمْتَ بِهَا ثَلَاثًا وَسِلَاحُ الرَّاكِبِ السُّيُوفُ فِي الْقُرُبِ. فَبَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْتُبُ الْكِتَابَ إِذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي الْحَدِيدِ، قَدِ انْفَلَتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَشُكُّونَ فِي الْفَتْحِ؛ لِرُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَأَوُا الصُّلْحَ دَخَلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتَّى كَادُوا يَهْلِكُونَ. فَلَمَّا رَأَى سُهَيْلٌ ابْنَهُ أَبَا جَنْدَلٍ أَخَذَهُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ تَمَّتِ الْقَضِيَّةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ هَذَا. قَالَ: صَدَقْتَ، وَأَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ إِلَى قُرَيْشٍ، فَصَاحَ أَبُو جَنْدَلٍ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِيَفْتِنُونِي عَنْ دِينِي! فَزَادَ النَّاسَ شَرًّا إِلَى مَا بِهِمْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ أَعْطَيْنَا الْقَوْمَ عُهُودَنَا عَلَى ذَلِكَ، فَلَا نَغْدِرُ بِهِمْ» . قَالَ: فَوَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَمْشِي مَعَ أَبِي جَنْدَلٍ، وَيَقُولُ لَهُ: اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّمَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ! وَأَدْنَى قَائِمَ السَّيْفِ مِنْهُ رَجَاءَ أَنْ يَأْخُذَهُ فَيَضْرِبَ بِهِ أَبَاهُ، قَالَ: فَبَخِلَ الرَّجُلُ بِأَبِيهِ.

وَشَهِدَ عَلَى الصُّلْحِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فِيهِمْ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَغَيْرُهُمْ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. «فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَضِيَّتِهِ قَالَ: قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا» . فَمَا قَامَ أَحَدٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، اخْرُجْ، وَلَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَحْلِقَ شَعْرَكَ، فَفَعَلَ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَحَلَقُوا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، فَمَا فُتِحَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَهُ فَتْحٌ كَانَ أَعْظَمَ مِنْهُ، حَيْثُ أَمِنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ تَيْنِكَ السَّنَتَيْنِ مِثْلُ مَا دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ. فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ جَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ عُتْبَةُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَكَانَ مِمَّنْ حُبِسَ بِمَكَّةَ، فَكَتَبَ فِيهِ الْأَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ عَوْفٍ، وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وَبَعَثَا فِيهِ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَمَعَهُ مَوْلًى لَهُمْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ عَلِمْتَ أَنَّا قَدْ أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَهْدًا، وَلَا يَصْلُحُ الْغَدْرُ فِي دِينِنَا» . فَانْطَلَقَ مَعَهُمَا إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ فَجَلَسُوا، وَأَخَذَ أَبُو بَصِيرٍ سَيْفَ أَحَدِهِمَا فَقَتَلَهُ بِهِ، وَخَرَجَ الْمَوْلَى سَرِيعًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِقَتْلِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ «أَقْبَلَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ وَفَتْ ذِمَّتُكَ وَأَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرُ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ» ! فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ أَبُو بَصِيرٍ حَتَّى نَزَلَ بِنَاحِيَةِ ذِي الْمَرْوَةِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، عَلَى طَرِيقِ قُرَيْشٍ إِلَى الشَّامِ، وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا احْتَبَسُوا بِمَكَّةَ ذَلِكَ، فَخَرَجُوا إِلَى أَبِي بَصِيرٍ، مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلٍ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا، فَضَيَّقُوا عَلَى قُرَيْشٍ يَعْتَرِضُونَ الْعِيرَ تَكُونُ لَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَاشِدُونَهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ لَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَآوَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِيهَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، وَهَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ، فِيهِنَّ أُمُّ كُلْثُومٍ ابْنَةُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَجَاءَ أَخُوهَا عُمَارَةُ وَالْوَلِيدُ يَطْلُبَانِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] الْآيَةَ، فَلَمْ يُرْسِلِ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِلَى مَكَّةَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فَطَلَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ امْرَأَتَيْنِ لَهُ،

وفيها كانت عدة من سرايا وغزوات

إِحْدَاهُمَا قَرِيبَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَالثَّانِيَةُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِيِّ، وَهُمَا مُشْرِكَتَانِ، فَتَزَوَّجَ أُمَّ كُلْثُومٍ أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ. (بُسْرٌ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَآخِرُهُ رَاءٌ. بَصِيرٌ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ، وَالْيَاءِ السَّاكِنَةِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ رَاءٌ أَيْضًا. وَأَسِيدٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَكَسْرِ السِّينِ. وَجَارِيَةُ بِالْجِيمِ. وَالْحُلَيْسُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ اللَّامِ، وَبَعْدَهُ يَاءٌ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ سِينٌ مُهْمَلَةٌ) . [وَفِيهَا كَانَتْ عِدَّةٌ مِنْ سَرَايَا وَغَزَوَاتٍ] مِنْهَا سَرِيَّةُ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا إِلَى الْغَمْرِ، فَنَذَرَ بِهِمُ الْقَوْمُ فَهَرَبُوا، فَسَعَتِ الطَّلَائِعُ فَوَجَدُوا مِائَتَيْ بَعِيرٍ، فَأَخَذُوهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ. وَمِنْهَا سَرِيَّةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَشَرَةِ فَوَارِسَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ إِلَى بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدٍ، فَكَمَنَ الْقَوْمُ لَهُ حَتَّى نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَ أَصْحَابَهُ، وَنَجَا هُوَ وَحْدَهُ جَرِيحًا. وَمِنْهَا سَرِيَّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا، فَهَرَبَ أَهْلُهُ مِنْهُمْ وَأَصَابُوا نَعَمًا وَرَجُلًا وَاحِدًا أَسْلَمَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَمِنْهَا سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ بِالْجَمُومِ، فَأَصَابَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ اسْمُهَا حَلِيمَةُ، فَدَلَّتْهُمْ عَلَى مَحَلَّةٍ مِنْ مَحَالِّ بَنِي سُلَيْمٍ، فَأَصَابُوا نَعَمًا وَشَاءً وَأَسْرَى، فِيهِمْ زَوْجُهَا، فَأَطْلَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَوْجَهَا مَعَهَا. وَمِنْهَا سَرِيَّةُ زَيْدٍ أَيْضًا إِلَى الْعِيصِ فِي جُمَادَى الْأُولَى. وَفِيهَا أُخِذَتِ الْأَمْوَالُ الَّتِي كَانَتْ مَعَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَاسْتَجَارَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَارَتْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَمِنْهَا سَرِيَّةُ زَيْدٍ أَيْضًا إِلَى الطَّرَفِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ إِلَى بَنِي ثَعْلَبَةَ، فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَهَرَبُوا مِنْهُ، وَأَصَابَ مِنْ نَعَمِهِمْ عِشْرِينَ بَعِيرًا. وَمِنْهَا سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى حِسْمَى فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَسَبَبُهَا أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدٍ الْجُذَامِيَّ، ثُمَّ الضَّبِّيَّ، قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُلَامًا وَأَسْلَمَ، فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَتَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِتَابًا إِلَى قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمُوا، ثُمَّ سَارُوا إِلَى حَرَّةِ الرَّجْلَاءِ.

ثُمَّ إِنَّ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيَّ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ مِنْ عِنْدِ قَيْصَرَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَرْضِ جُذَامَ أَغَارَ عَلَيْهِ الْهُنَيْدُ بْنُ عُوصٍ، وَابْنُهُ عُوصُ بْنُ الْهُنَيْدِ الضُّلَيْعِيَّانِ، وَهُوَ بَطْنٌ مِنْ جُذَامَ، فَأَخَذَا كُلَّ شَيْءٍ مَعَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَفَرًا مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ قَوْمِ رِفَاعَةَ مِمَّنْ كَانَ أَسْلَمَ، فَنَفَرُوا إِلَى الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ، وَاقْتَتَلُوا، فَظَفِرَ بَنُو الضُّبَيْبِ، وَاسْتَنْقَذُوا كُلَّ شَيْءٍ أُخِذَ مِنْ دِحْيَةَ، وَرَدُّوهُ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ دِحْيَةُ حَتَّى قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، وَطَلَبَ مِنْهُ دَمَ الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ عُوصٍ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فِي جَيْشٍ، فَأَغَارُوا بِالْفَضَافِضِ، وَجَمَعُوا مَا وَجَدُوا مِنْ مَالٍ، وَقَتَلُوا الْهُنَيْدَ وَابْنَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ بَنُو الضُّبَيْبِ رَهْطُ رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ، سَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَقَالُوا: إِنَّا قَوْمٌ مُسْلِمُونَ. فَقَالَ زَيْدٌ: فَاقْرَءُوا أُمَّ الْكِتَابِ، فَقَرَأَهَا حَسَّانُ بْنُ مِلَّةَ. فَقَالَ زَيْدٌ: نَادُوا فِي الْجَيْشِ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْنَا مَا أُخِذَ مِنْ طَرِيقِ الْقَوْمِ الَّتِي جَاءُوا مِنْهَا، وَأَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ سَبَايَاهُمْ، فَأَخْبَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَنْهُمْ بِمَا أَوْجَبَ أَنْ يَحْتَاطَ، فَتَوَقَّفَ فِي تَسْلِيمِ السَّبَايَا وَقَالَ: هُمْ فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَنَهَى الْجَيْشَ أَنْ يَهْبِطُوا وَادِيَهُمْ. وَعَادَ أُولَئِكَ الرَّكْبُ الْجُذَامِيُّونَ إِلَى رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ بِكُرَاعِ رَبَّةَ لَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّكَ لَجَالِسٌ تَحْلُبُ الْمَعْزَى، وَنِسَاءُ جُذَامَ أُسَارَى قَدْ غَرَّهُنَّ كِتَابُكَ الَّذِي جِئْتَ بِهِ. فَسَارَ رِفَاعَةُ وَالْقَوْمُ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَعَرَضَ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْقَتْلَى؟ فَقَالُوا: لَنَا مَنْ كَانَ حَيًّا، وَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ تَحْتُ أَقْدَامِنَا، يَعْنُونَ تَرَكُوا الطَّلَبَ بِهِ. فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَرَدَّ عَلَى الْقَوْمِ مَا لَهُمْ حَتَّى كَانُوا يَنْتَزِعُونَ لَبِدَ الْمَرْأَةِ تَحْتَ الرَّحْلِ، وَأَطْلَقَ الْأُسَارَى. (رَبَّةُ بِالرَّاءِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَالضُّبَيْبُ بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، تَصْغِيرُ ضَبٍّ، وَقِيلَ: هُوَ بِفَتْحِ الضَّادِ، وَكَسْرِ الْبَاءِ، وَآخِرُهُ نُونٌ - نِسْبَةً إِلَى ضَبِيبَةَ) . وَمِنْهَا سَرِيَّةُ زَيْدٍ أَيْضًا إِلَى وَادِي الْقُرَى فِي رَجَبٍ.

وَمِنْهَا سَرِيَّةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ إِلَى دُومَةِ الْجَنْدَلِ فِي شَعْبَانَ، فَأَسْلَمُوا، فَتَزَوَّجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ تُمَاضِرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ رَئِيسَهُمْ، وَهِيَ أُمُّ أَبِي سَلَمَةَ. وَمِنْهَا سَرِيَّةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى فَدَكٍ فِي شَعْبَانَ، فِي مِائَةِ رَجُلٍ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَغَهُ أَنَّ حَيًّا مِنْ بَنِي سَعْدٍ قَدْ تَجَمَّعُوا لَهُ، يُرِيدُونَ أَنْ يَمُدُّوا أَهْلَ خَيْبَرَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ فَأَصَابَ عَيْنًا لَهُمْ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَارَ إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ نَصْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا لَهُمْ تَمْرَ خَيْبَرَ. وَمِنْهَا سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى أُمِّ قِرْفَةَ فِي رَمَضَانَ، وَكَانَتْ عَجُوزًا كَبِيرَةً، فَلَقِيَ زَيْدَ بْنَ فَزَارَةَ بِوَادِي الْقُرَى، فَأُصِيبَ أَصْحَابُهُ وَارْتُثَّ زَيْدٌ مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى، فَنَذَرَ أَنْ لَا يَمَسَّ مَاءً مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ فَزَارَةَ، فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُمْ بِوَادِي الْقُرَى، فَأَصَابَ مِنْهُمْ وَقَتَلَ وَأَسَرَ أُمَّ قِرْفَةَ، وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَبِيعَةَ بْنِ بَدْرٍ، عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، وَبِنْتًا لَهَا، فَرَبَطَ أُمَّ قِرْفَةَ بَيْنَ بَعِيرَيْنِ فَشَقَّاهَا نِصْفَيْنِ، وَقَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِابْنَتِهَا، وَكَانَتْ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ هِبَةً، وَأَرْسَلَهَا إِلَى حَرْبِ بْنِ أَبِي وَهْبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَرْبٍ. وَأَمَّا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ فَإِنَّهُ جَعَلَ أَمِيرَ هَذِهِ السَّرِيَّةِ أَبَا بَكْرٍ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْنَا أَبَا بَكْرٍ، فَغَزَوْنَا نَاسًا مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، فَشَنَنَّا عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَأَخَذْتُ مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَسُقْتُهُمْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَفِيهَا امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ مَعَهَا بِنْتٌ لَهَا مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَبِ، فَنَفَّلَنِي أَبُو بَكْرٍ بِنْتَهَا، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسُّوقِ فَقَالَ لِي: يَا سَلَمَةَ، لِلَّهِ أَبُوكَ، هَبْ لِي الْمَرْأَةَ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا. فَسَكَتَ ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ فَوَهَبْتُهَا لَهُ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى مَكَّةَ، فَفَادَى بِهَا أُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .

ذكر مكاتبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الملوك

وَمِنْهَا سَرِيَّةُ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ الْفِهْرِيِّ إِلَى الْعُرَنِيِّينَ الَّذِينَ قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ فِي شَوَّالٍ. وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِشْرِينَ فَارِسًا. وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَمِيلَةَ بِنْتَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي أَقْلَحَ أُخْتَ عَاصِمٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَاصِمًا، فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ يَزِيدُ بْنُ جَارِيَةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ، فَهُوَ أَخُو عَاصِمٍ لِأُمِّهِ. (جَارِيَةُ بِالْجِيمِ، وَبَعْدَ الرَّاءِ يَاءٌ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ) . وَفِيهَا أَجْدَبَ النَّاسُ جَدْبًا شَدِيدًا، فَاسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ بِالنَّاسِ فِي رَمَضَانَ. [ذِكْرُ مُكَاتَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُلُوكَ] وَفِيهَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرُّسُلَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَأَرْسَلَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ بِمِصْرَ، وَأَرْسَلَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ الْأَسَدِيَّ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيِّ، وَأَرْسَلَ دِحْيَةَ إِلَى قَيْصَرَ، وَأَرْسَلَ سَلِيطَ بْنَ عَمْرٍو الْعَامِرِيَّ إِلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ، وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ إِلَى كِسْرَى، وَأَرْسَلَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ، وَأَرْسَلَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى أَخِي عَبْدِ الْقَيْسِ، وَقِيلَ: إِنَّ إِرْسَالَهُ كَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمُقَوْقِسُ فَإِنَّهُ قَبِلَ كِتَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْدَى إِلَيْهِ أَرْبَعَ جَوَارٍ، مِنْهُنَّ مَارِيَةُ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَأَمَّا قَيْصَرُ، وَهُوَ هِرَقْلُ، فَإِنَّهُ قَبِلَ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَهُ بَيْنَ فَخِذَيْهِ وَخَاصِرَتِهِ، وَكَتَبَ إِلَى رَجُلٍ بِرُومِيَّةٍ كَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ يُخْبِرُهُ شَأْنَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ رُومِيَّةَ: إِنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُهُ لَا شَكَّ فِيهِ، فَاتَّبِعْهُ وَصَدِّقْهُ. فَجَمَعَ هِرَقْلُ بِطَارِقَةَ الرُّومِ فِي الدَّسْكَرَةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُهَا، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ عِلِّيَةٍ، وَخَافَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ أَتَانِي كِتَابُ هَذَا الرَّجُلِ يَدْعُونِي إِلَى دِينِهِ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ النَّبِيُّ الَّذِي نَجِدُهُ فِي كِتَابِنَا، فَهَلُمَّ فَلْنَتْبَعْهُ وَنُصَدِّقْهُ فَتَسْلَمَ لَنَا دُنْيَانَا وَآخِرَتُنَا. فَنَخَرُوا نَخْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ ابْتَدَرُوا الْأَبْوَابَ لِيَخْرُجُوا، فَقَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وَخَافَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا قُلْتُ لَكُمْ مَا قُلْتُ لِأَنْظُرَ كَيْفَ صَلَابَتُكُمْ فِي دِينِكُمْ، وَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكُمْ مَا سَرَّنِي، فَسَجَدُوا لَهُ. وَانْطَلَقَ وَقَالَ لِدَحْيَةَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَكَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَكِنِّي أَخَافُ الرُّومَ عَلَى نَفْسِي، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاتَّبَعْتُهُ، فَاذْهَبْ إِلَى ضُغَاطِرَ الْأُسْقُفِّ الْأَعْظَمِ فِي الرُّومِ، وَاذْكُرْ لَهُ أَمْرَ صَاحِبِكَ، وَانْظُرْ مَا يَقُولُ لَكَ. فَجَاءَ دِحْيَةُ وَأَخْبَرَهُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ ضُغَاطِرُ: وَاللَّهِ إِنَّ صَاحِبَكَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، نَعْرِفُهُ بِصِفَتِهِ، وَنَجِدُهُ فِي كِتَابِنَا. ثُمَّ أَخَذَ عَصَاهُ وَخَرَجَ عَلَى الرُّومِ وَهُمْ فِي الْكَنِيسَةِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، قَدْ جَاءَنَا كِتَابٌ مِنْ أَحْمَدَ يَدْعُونَا إِلَى اللَّهِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ. فَرَجَعَ دِحْيَةُ إِلَى هِرَقْلَ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ. قَالَ: قَدْ قُلْتُ: إِنَّا نَخَافُهُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا. وَقَالَ قَيْصَرُ لِلرُّومِ: هَلُمُّوا نُعْطِيهِ الْجِزْيَةَ، فَأَبَوْا، فَقَالَ: نُعْطِيهِ أَرْضَ سُورِيَّةَ، وَهِيَ الشَّامُ، وَنُصَالِحُهُ، فَأَبَوْا، وَاسْتَدْعَى هِرَقْلُ أَبَا سُفْيَانَ، وَكَانَ بِالشَّامِ تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ فِي الْهُدْنَةِ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَجْلَسَهُمْ هِرَقْلُ خَلْفَهُ، وَقَالَ: إِنِّي سَائِلُهُ، فَإِنَّ كَذِبَ فَكَذِّبُوهُ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَوْلَا أَنْ يُؤْثَرَ عَنِّي الْكَذِبُ لَكَذَبْتُ، فَسَأَلَهُ عَنِ النَّبِيِّ، قَالَ: فَصَغَّرْتُ لَهُ شَأْنَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِي وَقَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ أَوْسَطُنَا نَسَبًا. قَالَ: هَلْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ مَنْ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ لَهُ فِيكُمْ مِلْكٌ سَلَبْتُمُوهُ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْكُمْ؟ قُلْتُ: الضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ وَالْأَحْدَاثُ. قَالَ: فَهَلْ يُحِبُّهُ مَنْ يَتْبَعُهُ وَيَلْزَمُهُ، أَوْ يَقْلِيهِ وَيُفَارِقُهُ؟ قُلْتُ: مَا تَبِعَهُ رَجُلٌ فَفَارَقَهُ. قَالَ: فَكَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ؟ قُلْتُ: سِجَالٌ، يُدَالُ عَلَيْنَا، وَنُدَالُ عَلَيْهِ. قَالَ: هَلْ يَغْدِرُ؟

قَالَ: فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَغْمِزُ بِهِ غَيْرَهَا، قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي هُدْنَةٍ، وَلَا نَأْمَنُ غَدْرَهُ. قَالَ: فَمَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقَالَ لِي هِرَقْلُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ مَنْ أَوْسَطِ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ، فَهُوَ مُتَشَبِّهٌ بِهِ، فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ سَلَبْتُمُوهُ مِلْكَهُ فَجَاءَ بِهَذَا لِتَرُدُّوا عَلَيْهِ مِلْكَهُ، فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُمُ الضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، وَكَذَلِكَ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ عَمَّنْ يَتْبَعُهُ أَيُحِبُّهُ أَمْ يُفَارِقُهُ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَهُ وَلَا يُفَارِقُونَهُ، وَكَذَلِكَ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ لَا تَدْخُلُ قَلْبًا فَتَخْرُجُ مِنْهُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ، فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَلَئِنْ صَدَقْتَنِي لَيَغْلِبَنَّ عَلَى مَا تَحْتَ قَدَميَّ هَاتَيْنِ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي عِنْدَهُ فَأَغْسِلُ قَدَمَيْهِ. انْطَلِقْ لِشَأْنِكَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ وَأَنَا أَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيَّ بِالْأُخْرَى وَأَقُولُ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ، لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، أَصْبَحَ مُلُوكُ الرُّومِ يَهَابُونَهُ فِي سُلْطَانِهِمْ. قَالَ: «وَقَدِمَ عَلَيْهِ دِحْيَةُ بِكِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الْأَكَّارِينَ عَلَيْكَ» . «وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيُّ، فَأَتَاهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ، فَلَمَّا قَرَأَهُ قَالَ: أَنَا سَائِرٌ إِلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلُهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: بَادَ مُلْكُهُ» . وَأَمَّا النَّجَاشِيُّ، فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَهُ كِتَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، وَأَسْلَمَ عَلَى يَدِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنَهُ فِي سِتِّينَ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَغَرِقُوا فِي الْبَحْرِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُزَوِّجَهُ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ مُهَاجِرَةً بِالْحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، فَتَنَصَّرَ وَتُوفِّيَ بِالْحَبَشَةِ، فَخَطَبَهَا النَّجَاشِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَابَتْ، وَزَوَّجَهَا، وَأَصْدَقَهَا النَّجَاشِيُّ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو سُفْيَانَ تَزْوِيجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَ: ذَاكَ الْفَحْلُ لَا يُقْدَعُ أَنْفُهُ.

«وَأَمَّا كِسْرَى فَجَاءَهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ، فَمَزَّقَ الْكِتَابَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُزِّقَ مُلْكُهُ. وَكَانَ كِتَابُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسٍ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدُعَاءِ اللَّهِ، وَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، لِأُنْذِرَ {مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 70] ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الْمَجُوسِ عَلَيْكَ» . فَلَمَّا قَرَأَهُ شَقَّهُ، قَالَ: يَكْتُبُ إِلَيَّ بِهَذَا وَهُوَ عَبْدِي! ثُمَّ كَتَبَ إِلَى بَاذَانَ وَهُوَ بِالْيَمَنِ: أَنِ ابْعَثْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بِالْحِجَازِ رَجُلَيْنِ مِنْ عِنْدِكَ جَلْدَيْنِ، فَلْيَأْتِيَانِي بِهِ. فَبَعَثَ بَاذَانُ نَابُوهْ، وَكَانَ كَاتِبًا حَاسِبًا، وَرَجُلًا آخَرَ مِنَ الْفُرْسِ يُقَالُ لَهُ: خُرَّخُسْرَهْ، وَكَتَبَ مَعَهُمَا يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ مَعَهُمَا إِلَى كِسْرَى، وَتَقَدَّمَ إِلَى نَابُوهْ أَنْ يَأْتِيَهُ بِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمِعَتْ قُرَيْشٌ بِذَلِكَ فَفَرِحُوا، وَقَالُوا: أَبْشِرُوا، فَقَدْ نَصَبَ لَهُ كِسْرَى مَلِكُ الْمُلُوكِ، كُفِيتُمُ الرَّجُلَ. فَخَرَجَا حَتَّى «قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ حَلَقَا لِحَاهُمَا، وَأَعْفَيَا شَوَارِبَهُمَا، فَكَرِهَ النَّظَرَ إِلَيْهِمَا وَقَالَ: وَيَلْكُمَا، مَنْ أَمَرَكُمَا بِهَذَا؟ قَالَا: رَبُّنَا - يَعْنِيَانِ الْمَلِكَ. فَقَالَ: لَكِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعْفِيَ لِحْيَتِي، وَأَقُصَّ شَارِبِي» ، فَأَعْلَمَاهُ بِمَا قَدِمَا لَهُ وَقَالَا: إِنْ فَعَلْتَ كَتَبَ بَاذَانُ فِيكَ إِلَى كِسْرَى، وَإِنْ أَبَيْتَ فَهُوَ يُهْلِكُكَ وَيُهْلِكُ قَوْمَكَ. فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْجِعَا حَتَّى تَأْتِيَانِي غَدًا. وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَلَّطَ عَلَى كِسْرَى ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ فَقَتَلَهُ، فَدَعَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَهُمَا بِقَتْلِ كِسْرَى، وَقَالَ لَهُمَا: إِنَّ دِينِي وَسُلْطَانِي سَيَبْلُغُ مُلْكَ كِسْرَى، وَيَنْتَهِي مُنْتَهَى الْخُفِّ وَالْحَافِرِ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَقُولَا لِبَاذَانَ: أَسْلِمْ، فَإِنْ أَسْلَمَ أُقِرَّهُ عَلَى مَا تَحْتَ يَدِهِ، وَأُمَلِّكْهُ عَلَى قَوْمِهِ. ثُمَّ أَعْطَى خُرَّخُسْرَهْ مِنْطَقَةَ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ أَهْدَاهَا لَهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ» . وَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى بَاذَانَ وَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هَذَا كَلَامُ مَلِكٍ، وَإِنِّي لَأُرَاهُ نَبِيًّا، وَلَنَنْظُرَنَّ، فَإِنْ كَانَ مَا قَالَ حَقًّا، فَإِنَّهُ لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَنَرَى فِيهِ رَأْيَنَا. فَلَمْ

يَلْبَثْ بَاذَانُ أَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ كِتَابُ شِيرَوَيْهِ يُخْبِرُهُ بِقَتْلِ كِسْرَى، وَأَنَّهُ قَتَلَهُ غَضَبًا لِلْفُرْسِ لِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ قَتْلِ أَشْرَافِهِمْ، وَيَأْمُرُهُ بِأَخْذِ الطَّاعَةِ لَهُ بِالْيَمَنِ، وَبِالْكَفِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمَّا أَتَاهُ كِتَابُ شِيرَوَيْهِ أَسْلَمَ، وَأَسْلَمَ مَعَهُ أَبْنَاءٌ مِنْ فَارِسَ. وَكَانَتْ حِمْيَرُ تُسَمِّي خُرَّخُسْرَهْ صَاحِبَ الْمِعْجَزَةِ، وَالْمِعْجَزَةُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ الْمِنْطَقَةُ. وَأَمَّا هَوْذَةُ بْنُ عَلِيٍّ فَكَانَ مَلِكَ الْيَمَامَةِ، فَلَمَّا أَتَاهُ سَلِيطُ بْنُ عَمْرٍو يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، أَرْسَلَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفْدًا فِيهِمْ مُجَّاعَةُ بْنُ مُرَارَةَ وَالرَّجَّالُ بْنُ عُنْفُوَةَ، يَقُولُ لَهُ: إِنْ جَعَلَ الْأَمْرَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَسْلَمَ وَسَارَ إِلَيْهِ وَنَصَرَهُ، وَإِلَّا قَصَدَ حَرْبَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا، وَلَا كَرَامَةَ، اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِ! فَمَاتَ بَعْدَ قَلِيلٍ» . وَأَمَّا مُجَّاعَةُ وَالرَّجَّالُ فَأَسْلَمَا، وَأَقَامَ الرَّجَّالُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَغَيْرَهَا، وَتَفَقَّهَ وَعَادَ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَارْتَدَّ وَشَهِدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَشْرَكَ مُسَيْلِمَةَ مَعَهُ، فَكَانَتْ فِتْنَتُهُ أَشَدَّ مِنْ فِتْنَةِ مُسَيْلِمَةَ. (مُجَّاعَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ. وَالرَّجَّالُ بِالْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ، وَقِيلَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ. وَعُنْفُوَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَسُكُونِ النُّونِ، وَضَمِّ الْفَاءِ، وَفَتْحِ الْوَاوِ) . وَأَمَّا الْمُنْذِرُ بْنُ سَاوَى وَالِي الْبَحْرَيْنِ، فَلَمَّا أَتَاهُ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ يَدْعُوهُ وَمَنْ مَعَهُ بِالْبَحْرَيْنِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْجِزْيَةِ، وَكَانَتْ وِلَايَةُ الْبَحْرَيْنِ لِلْفُرْسِ، فَأَسْلَمَ الْمُنْذِرُ بْنُ سَاوَى، وَأَسْلَمَ جَمِيعُ الْعَرَبِ بِالْبَحْرَيْنِ. فَأَمَّا أَهْلُ الْبِلَادِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فَإِنَّهُمْ صَالَحُوا الْعَلَاءَ وَالْمُنْذِرَ عَلَى الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارٌ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْبَحْرَيْنِ قِتَالٌ، إِنَّمَا بَعْضُهُمْ أَسْلَمَ، وَبَعْضُهُمْ صَالَحَ. وَوَلِيَ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمُشْرِكُونَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَتْ أُمُّ رُومَانَ، وَهِيَ أُمُّ عَائِشَةَ زَوْجَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

ودخلت سنة سبع

[وَدَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ] [ذِكْرُ غَزْوَةِ خَيْبَرَ] 7 - وَدَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ ذِكْرُ غَزْوَةِ خَيْبَرَ لَمَّا عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ ذَا الْحَجَّةِ وَبَعْضَ الْمُحَرَّمِ، وَسَارَ إِلَى خَيْبَرَ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ، مَعَهُمْ مِائَتَا فَارِسٍ، وَكَانَ مَسِيرُهُ إِلَى خَيْبَرَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيَّ، فَمَضَى حَتَّى نَزَلَ بِجَيْشِهِ بِالرَّجِيعِ؛ لِيَحُولَ بَيْنَ أَهْلِ خَيْبَرَ وَغَطَفَانَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُظَاهِرِينَ لَهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَصَدَتْ غَطَفَانُ خَيْبَرَ لِيُظَاهِرُوا يَهُودَ عَلَيْهِ، ثُمَّ خَافُوا الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُخَلِّفُوهُمْ فِي أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَرَجَعُوا، وَنَزَلُوا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَهُودَ، «فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ فِي مَسِيرِهِ لِعَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ، عَمِّ سَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ: احْدُ لَنَا، فَنَزَلَ، وَحَدَاهُمْ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَحِمَكَ اللَّهُ! فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلَّا أَمْتَعْتَنَا بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَانَ إِذَا قَالَهَا لِرَجُلٍ قُتِلَ، فَلَمَّا نَازَلُوا خَيْبَرَ بَارَزَ عَامِرٌ، فَعَادَ عَلَيْهِ سَيْفُهُ فَجَرَحَهُ جُرْحًا

شَدِيدًا، فَمَاتَ مِنْهُ، فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ سَلَمَةُ ابْنُ أَخِيهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالُوا، فَقَالَ: كَذَبُوا، بَلْ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ. فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهَا قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قِفُوا. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَمَا أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الْأَرَضِينَ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاضِ وَمَا أَذْرَيْنَ، نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا، أَقْدِمُوا بِسْمِ اللَّهِ. وَكَانَ يَقُولُ ذَلِكَ لِكُلِّ قَرْيَةٍ يَقْدَمُهَا. وَنَزَلَ خَيْبَرَ لَيْلًا وَلَمْ يَعْلَمْ أَهْلُهَا، فَخَرَجُوا عِنْدَ الصَّبَاحِ إِلَى عَمَلِهِمْ بِمِسَاحِيِّهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَادُوا وَقَالُوا: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، يَعْنُونَ الْجَيْشَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 177] » . ثُمَّ حَصَرَهُمْ وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، وَبَدَأَ بِالْأَمْوَالِ يَأْخُذُهَا مَالًا مَالًا، وَيَفْتَحُهَا حِصْنًا حِصْنًا، فَكَانَ أَوَّلَ حِصْنٍ افْتَتَحَهُ حِصْنُ نَاعِمٍ، وَعِنْدَهُ قُتِلَ مَحْمُودُ بْنُ سَلَمَةَ، أُلْقِيَ عَلَيْهِ مِنْهُ رَحًى فَقَتَلَتْهُ، ثُمَّ الْقَمُوصُ حِصْنُ بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ، وَأَصَابَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَايَا، مِنْهُمْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَكَانَتْ عِنْدَ كِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ، وَفَشَتِ السَّبَايَا فِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَكَلُوا لُحُومَ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا. وَكَانَ الزَّبِيرُ بْنُ بَاطَا الْقُرَظِيُّ قَدْ مَنَّ عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ بُعَاثَ، فَأَطْلَقَهُ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ أَتَاهُ ثَابِتٌ فَقَالَ لَهُ: أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: وَهَلْ يَجْهَلُ مِثْلِي مِثْلَكَ! قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَكَ بِيَدِكَ عِنْدِي. قَالَ: إِنَّ الْكَرِيمَ يُجِيزُ الْكَرِيمَ. فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كَانَ لِلزَّبِيرِ عِنْدِي يَدٌ أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهُ بِهَا فَهَبْهُ لِي. فَوَهَبَهُ لَهُ. فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ وَهَبَ لِي دَمَكَ فَهُوَ لَكَ. قَالَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، فَاسْتَوْهَبَ ثَابِتٌ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَهَبَهُمْ لَهُ. فَقَالَ الزَّبِيرُ: أَهْلُ بَيْتٍ بِالْحِجَازِ لَا مَالَ لَهُمْ، فَاسْتَوْهَبَ ثَابِتٌ مَالَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَهَبَهُ لَهُ، فَمَنَّ عَلَيْهِ بِالْجَمِيعِ. فَقَالَ الزَّبِيرُ: أَيْ ثَابِتُ، مَا فَعَلَ الَّذِي كَانَ وَجْهُهُ مِرْآةً صَقِيلَةً، يَتَرَاءَى فِيهَا عَذَارَى الْحَيِّ؛ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ؟ قَالَ: قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ سَيِّدُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي؛ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ؟ قَالَ: قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ مُقَدِّمَتُنَا إِذَا شَدَدْنَا، وَحَامِيَتُنَا إِذَا كَرَرْنَا؛ عَزَّالُ بْنُ سَمْوَالَ؟ قَالَ. قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْمَجْلِسَانِ؟ يَعْنِي بَنِي كَعْبِ بْنِ قُرَيْظَةَ، وَبَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ. قَالَ:

ذَهَبُوا. قَالَ: فَإِنِّي أَسْأَلُكَ يَا ثَابِتُ بِيَدِي عِنْدَكَ إِلَّا مَا أَلْحَقْتَنِي بِهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ خَيْرٌ. فَقَتَلَهُ. ثُمَّ افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِصْنَ الصَّعْبِ، وَهُوَ أَكْثَرُهَا طَعَامًا وَوَدَكًا، ثُمَّ قَصَدَ حِصْنَهُمُ الْوَطِيحَ وَالسُّلَالِمَ، وَكَانَا آخِرَ مَا افْتَتَحَ، فَخَرَجَ مِنْهُ مَرْحَبٌ الْيَهُودِيُّ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أَضْرِبُ ... إِذَا اللُّيُوثُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ كَانَ حِمَايَ كَالْحِمَى لَا يُقْرَبُ وَسَأَلَ الْمُبَارَزَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ وَقَالَ: أَنَا وَاللَّهِ الْمَوْتُورُ الثَّائِرُ، قَتَلُوا أَخِي بِالْأَمْسِ. «فَأَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُبَارَزَتِهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنْهُ عَلَيْهِ» ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَتَقَاتَلَا طَوِيلًا، ثُمَّ حَمَلَ مَرْحَبٌ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ فَضَرَبَهُ، فَاتَّقَاهُ بِالدَّرَقَةِ، فَوَقَعَ سَيْفُهُ فِيهَا، فَعَضَّتْ بِهِ فَأَمْسَكَتْهُ، وَضَرَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَتَّى قَتَلَهُ. ثُمَّ خَرَجَ أَخُوهُ يَاسِرٌ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي يَاسِرُ شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُغَاوِرُ وَطَلَبَ الْمُبَارَزَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، فَقَتَلَهُ الزُّبَيْرُ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَتَلَ مَرْحَبًا وَأَخَذَ الْحِصْنَ - عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَالْأَصَحُّ. قَالَ بُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُبَّمَا أَخَذَتْهُ الشَّقِيقَةُ، فَيَلْبَثُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ لَا يَخْرُجُ، فَلَمَّا نَزَلَ خَيْبَرَ أَخَذَتْهُ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى النَّاسِ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ الرَّايَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ نَهَضَ فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ رَجَعَ فَأَخَذَهَا عُمَرُ، فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْقِتَالِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَأُعْطِيَنَّهَا غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، يَأْخُذُهَا عَنْوَةً. وَلَيْسَ ثَمَّ عَلِيٌّ،

كَانَ قَدْ تَخَلَّفَ بِالْمَدِينَةِ لِرَمَدٍ لَحِقَهُ، فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقَالَتَهُ هَذِهِ تَطَاوَلَتْ لَهَا قُرَيْشٌ، فَأَصْبَحَ فَجَاءَ عَلِيٌّ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ حَتَّى أَنَاخَ قَرِيبًا مِنْ خِبَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَرْمَدُ، قَدْ عَصَبَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: رَمَدْتُ بَعْدَكَ. فَقَالَ لَهُ: ادْنُ مِنِّي. فَدَنَا مِنْهُ، فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، فَمَا شَكَا وَجَعًا حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ. ثُمَّ أَعْطَاهُ الرَّايَةَ» ، فَنَهَضَ بِهَا وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، فَأَتَى خَيْبَرَ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: غُلِبْتُمْ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَخَرَجَ مَرْحَبٌ صَاحِبُ الْحِصْنِ، وَعَلَيْهِ مِغْفَرٌ يَمَانِيٌّ قَدْ نَقَبَهُ مِثْلَ الْبَيْضَةِ عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ ... أَكِيلُكُمْ بِالسَّيْفِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ لَيْثٌ بِغَابَاتٍ شَدِيدٌ قَسْوَرَهْ فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَبَدَرَهُ عَلِيٌّ فَضَرَبَهُ، فَقَدَّ الْحَجَفَةَ وَالْمِغْفَرَ وَرَأَسَهُ حَتَّى وَقَعَ فِي الْأَرْضِ، وَأَخَذَ الْمَدِينَةَ. قَالَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَايَتِهِ إِلَى خَيْبَرَ» ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْحِصْنِ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ، فَقَاتَلَهُمْ، فَضَرَبَهُ يَهُودِيٌّ فَطَرَحَ تُرْسَهُ مِنْ يَدِهِ، فَتَنَاوَلَ عَلِيٌّ بَابًا كَانَ عِنْدَ الْحِصْنِ فَتَرَّسَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ وَهُوَ يُقَاتِلُ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي نَفَرٍ سَبْعَةٍ أَنَا ثَامِنُهُمْ نُجْهِدُ عَلَى أَنْ نَقْلِبَ ذَلِكَ الْبَابَ فَمَا نَقْلِبُهُ. وَكَانَ فَتْحُهَا فِي صَفَرٍ. «فَلَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ جَاءَ بِلَالٌ بِصَفِيَّةَ وَأُخْرَى مَعَهَا عَلَى قَتْلَى يَهُودَ، فَلَمَّا رَأَتْهُمُ الَّتِي مَعَ صَفِيَّةَ صَرَخَتْ وَصَكَّتْ وَجْهَهَا، وَحَثَتِ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهَا، فَاصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَفِيَّةَ، وَأَبْعَدَ الْأُخْرَى وَقَالَ: إِنَّهَا شَيْطَانَةٌ - لِأَجْلِ فِعْلِهَا. وَقَالَ لِبِلَالٍ: أَنُزِعَتْ مِنْكَ الرَّحْمَةُ؟ جِئْتَ بِهِمَا عَلَى قَتْلَاهُمَا!» وَكَانَتْ صَفِيَّةُ قَدْ رَأَتْ فِي مَنَامِهَا وَهِيَ عَرُوسٌ لِكِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ أَنَّ قَمَرًا وَقَعَ فِي حِجْرِهَا، فَعَرَضَتْ رُؤْيَاهَا عَلَى زَوْجِهَا، فَقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا أَنَّكِ تَتَمَنِّينَ مُحَمَّدًا. وَلَطَمَ وَجْهَهَا لَطْمَةً اخْضَرَّتْ عَيْنُهَا مِنْهَا، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِهَا أَثَرٌ مِنْهَا، وَسَأَلَهَا فَأَخْبَرَتْهُ، وَدَفَعَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَقَتَلَهُ بِأَخِيهِ مَحْمُودٍ. وَحَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِصْنَيْ أَهْلِ خَيْبَرَ الْوَطِيحَ وَالسُّلَالِمَ، فَلَمَّا أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ سَأَلُوهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ وَيَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ حَازَ الْأَمْوَالَ كُلَّهَا، الشِّقَّ وَنَطَاةَ وَالْكَتِيبَةَ، وَجَمِيعَ حُصُونِهِمْ. فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ فَدَكَ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ وَيُخَلُّوا لَهُ الْأَمْوَالَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَلَمَّا نَزَلَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَلَى ذَلِكَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعَامِلَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ عَلَى النِّصْفِ، وَأَنْ يُخْرِجَهُمْ إِذَا شَاءَ، فَسَاقَاهُمْ عَلَى الْأَمْوَالِ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي طَلَبُوا، وَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ أَهْلُ فَدَكَ، وَكَانَتْ خَيْبَرُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ فَدَكُ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْلِبُوا عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْدَتْ لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ امْرَأَةُ سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ شَاةً مَصْلِيَّةً مَسْمُومَةً، فَوَضَعَتْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا مُضْغَةً فَلَمْ يُسِغْهَا، وَمَعَهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، فَأَكَلَ بِشْرٌ مِنْهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذِهِ الشَّاةَ تُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ، ثُمَّ دَعَا الْمَرْأَةَ فَاعْتَرَفَتْ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَتْ: بَلَغْتَ مِنْ قَوْمِي مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَسَيُخْبَرُ، وَإِنْ كَانَ مَلِكًا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ. فَتَجَاوَزَ عَنْهَا. وَمَاتَ بِشْرٌ مِنْ تِلْكَ الْأَكْلَةِ» .

ذكر غزوة وادي القرى

«وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: هَذَا الْأَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ أَكْلَةِ خَيْبَرَ» . فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّهُ مَاتَ شَهِيدًا مَعَ كَرَامَةِ النُّبُوَّةِ. [ذِكْرُ غَزْوَةِ وَادِي الْقُرَى] وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خَيْبَرَ انْصَرَفَ إِلَى وَادِي الْقُرَى، فَحَاصَرَ أَهْلَهُ لَيَالِيَ، فَافْتَتَحَهُ عَنْوَةً، وَفِي حِصَارِهِ قُتِلَ مِدْغَمُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي أَهْدَاهُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ الْجُذَامِيُّ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلَّا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ شَمْلَتَهُ الْآنَ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا. وَكَانَ غَلَّهَا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ خَيْبَرَ. فَسَمِعَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَبْتُ شِرَاكَيْنِ لِنَعْلَيْنِ لِي كُنْتُ أَخَذْتُهُمَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُقَدُّ لَكَ مِثْلُهُمَا مِنَ النَّارِ» . وَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّخْلَ وَالْأَرْضَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْوَادِي، وَعَامَلَهُمْ نَحْوَ مَا عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ، فَبَقُوا كَذَلِكَ إِلَى أَنْ وَلِيَ عُمَرُ الْخِلَافَةَ فَأَجْلَاهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُجْلِهِمْ؛ لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْحِجَازِ. وَفِي هَذِهِ السَّفْرَةِ، أَعْنِي خَيْبَرَ، نَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ. وَشَهِدَ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَرَضَخَ لَهُنَّ مِنَ الْفَيْءِ. قِصَّةُ الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ السُّلَمِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّفْرَةِ قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ السُّلَمِيُّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِي بِمَكَّةَ مَالٌ

عِنْدَ صَاحِبَتِي أُمِّ شَيْبَةَ ابْنَةِ أَبِي طَلْحَةَ، وَهِيَ أُمُّ ابْنِهِ مُعْرِضِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَمَالٌ مُتَفَرِّقٌ بِمَكَّةَ، فَأْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَذِنَ لَهُ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَابُدَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ. قَالَ: قُلْ. فَقَدِمَ الْحَجَّاجُ مَكَّةَ، فَسَأَلَهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا صَنَعَ بِخَيْبَرَ، وَلَمْ يَكُونُوا عَلِمُوا بِإِسْلَامِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ يَهُودَ هَزَمَتْهُ وَأَصْحَابَهُ، وَقُتِلَ أَصْحَابُهُ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَأُسِرَ مُحَمَّدٌ، وَقَالَتْ يَهُودُ: لَنْ نَقْتُلَهُ حَتَّى نَبْعَثَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ فَيَقْتُلُوهُ. فَصَاحُوا بِمَكَّةَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَعِينُونِي فِي جَمْعِ مَالِي حَتَّى أَقْدَمَ خَيْبَرَ، فَأُصِيبَ مِنْ فَلِّ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التُّجَّارُ. فَجَمَعُوهُ كُلَّهُ كَأَحَثِّ شَيْءٍ. فَأَتَاهُ الْعَبَّاسُ وَسَأَلَهُ عَنِ الْخَبَرِ، فَأَخْبَرَهُ بَعْدَ أَنْ جَمَعَ مَالَهُ بِفَتْحِ خَيْبَرَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ قَدِمَ لِجَمْعِ مَالِهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُمَ عَنْهُ ثَلَاثًا خَوْفَ الطَّلَبِ. فَكَتَمَ الْعَبَّاسُ الْخَبَرَ ثَلَاثًا بَعْدَ مَسِيرِهِ، ثُمَّ لَبِسَ حُلَّةً لَهُ وَخَرَجَ، فَطَافَ بِالْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالُوا: يَا أَبَا الْفَضْلِ، هَذَا وَاللَّهِ التَّجَلُّدُ. قَالَ: كَلَّا وَاللَّهِ! لَقَدِ افْتَتَحَ مُحَمَّدٌ خَيْبَرَ، وَأَخَذَ ابْنَةَ مَلِكِهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ. وَأَخْبَرَهُمْ بِخَبَرِ الْحَجَّاجِ. فَقَالُوا: لَوْ عَلِمْنَا لَكَانَ لَهُ وَلَنَا شَأْنٌ. ذِكْرُ مَقَاسِمِ خَيْبَرَ وَقَسَّمَ مِنْ أَمْوَالِ خَيْبَرَ الشِّقَّ وَالنَّطَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتِ الْكَتِيبَةُ خُمْسُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ، وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، فَطُعِمَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطُعِمَ رِجَالٌ مَشَوْا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَهْلِ فَدَكَ بِالصُّلْحِ، وَقُسِمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأُعْطِي الْفَرَسُ سَهْمَيْنِ وَالرَّجُلُ سَهْمًا. وَأَقَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ بِخَيْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَعُمَرُ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «لَا يَجْتَمِعُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ. فَأَجْلَى عُمَرُ مِنْ يَهُودَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . (سَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَمِشْكَمٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ. وَالْحُقَيْقُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِقَافَيْنِ. وَأَخْطَبُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَآخِرُهُ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ. وَمَعْرُورٌ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَبَعْدَهُ رَاءَانِ مُهْمَلَتَانِ. وَعِلَاطٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ) .

ذكر فدك

[ذِكْرُ فَدَكَ] لَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خَيْبَرَ بَعَثَ مُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ إِلَى أَهْلِ فَدَكَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَرَئِيسُهُمْ يَوْمَئِذٍ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ الْيَهُودِيُّ، فَصَالَحُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نِصْفِ الْأَرْضِ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَكَانَ نِصْفُ فَدَكَ خَالِصًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِفِ الْمُسْمِلُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، يَصْرِفُ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا عَلَى أَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُهَا بِهَا حَتَّى اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَجْلَى يَهُودَ الْحِجَازِ، فَبَعَثَ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التَّيِّهَانِ، وَسَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَقَوَّمُوا نِصْفَ تُرْبَتِهَا بِقِيمَةِ عَدْلٍ، فَدَفَعَهَا إِلَى يَهُودَ، وَأَجْلَاهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ - يَصْنَعُونَ صَنِيعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ وَفَاتِهِ. فَلَمَّا وَلِيَ مُعَاوِيَةُ الْخِلَافَةَ أَقْطَعَهَا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، فَوَهَبَهَا مَرْوَانُ ابْنَيْهِ عَبْدَ الْمَلِكِ وَعَبْدَ الْعَزِيزِ، ثُمَّ صَارَتْ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلِلْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ ابْنِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَلَمَّا وَلِيَ الْوَلِيدُ الْخِلَافَةَ وَهَبَ نَصِيبَهُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ وَلِيَ سُلَيْمَانُ الْخِلَافَةَ، فَوَهَبَ نَصِيبَهُ مِنْهَا أَيْضًا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخِلَافَةَ خَطَبَ النَّاسَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَمْرَ فَدَكَ، وَأَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، فَوَلِيَهَا أَوْلَادُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أُخِذَتْ مِنْهُمْ. فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ رَدَّهَا الْمَأْمُونُ إِلَيْهِمْ. (مُحَيِّصَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ وَكَسْرِهَا، وَآخِرُهُ صَادٌ مُهْمَلَةٌ. وَالتَّيِّهَانُ بِفَتْحِ التَّاءِ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ) . وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، زَوْجِهَا، فِي الْمُحَرَّمِ. وَفِيهَا قَدِمَ حَاطِبٌ مِنْ عِنْدِ الْمُقَوْقِسِ بِمَارِيَةَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُخْتِهَا شِيرِينَ، وَبَغْلَتِهِ دُلْدُلَ، وَحِمَارِهِ يَعْفُورَ، وَكُسْوَةٍ، فَأَسْلَمَتْ مَارِيَةُ وَأُخْتُهَا قَبْلَ قُدُومِهِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ مَارِيَةَ لِنَفْسِهِ، وَوَهَبَ شِيرِينَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ، فَهِيَ أُمُّ

ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَهُوَ وَإِبْرَاهِيمُ ابْنَا خَالَةٍ. وَفِيهَا اتَّخَذَ مِنْبَرَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عُمِلَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَهُوَ الثَّبَتُ. وَفِيهَا «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا إِلَى عَجُزِ هَوَازِنَ» ، فَهَرَبُوا مِنْهُ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. وَفِيهَا كَانَتْ سَرِيَّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ وَالِدِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍالْأَنْصَارِيِّ إِلَى بَنِي مُرَّةَ بِفَدَكَ، فِي شَعْبَانَ، فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا، أُصِيبَ أَصْحَابُهُ، وَارْتُثَّ فِي الْقَتْلَى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَفِيهَا كَانَتْ سَرِيَّةُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيِّ إِلَى أَرْضِ بَنِي مُرَّةَ، «فَأَصَابَ مِرْدَاسُ بْنُ نَهْيِكٍ حَلِيفًا لَهُمْ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَتَلَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. قَالَ أُسَامَةُ: لَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَمْ نَنْزِعْ عَنْهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ! وَفِيهَا كَانَتْ سَرِيَّةُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا فِي مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ رَاكِبًا إِلَى بَنِي عَبْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَاقَ النَّعَمَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَفِيهَا كَانَتْ سَرِيَّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إِلَى الْيَمَنِ وَالْجِنَابِ فِي شَوَّالٍ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ حُسَيْلَ بْنَ نُوَيْرَةَ الْأَشْجَعِيَّ كَانَ دَلِيلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى

ذكر عمرة القضاء

خَيْبَرَ، قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ أَنَّ جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ بِالْجِنَابِ قَدْ أَمَدَّهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَشِيرًا فَأَصَابُوا نَعَمًا، وَقَتَلُوا مَوْلًى لِعُيَيْنَةَ، ثُمَّ لَقُوا جَمْعَ عُيَيْنَةَ، فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَانْهَزَمَ عُيَيْنَةُ، فَلَقِيَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ مُنْهَزِمًا، فَقَالَ لَهُ: قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تُقَصِّرَ عَمَّا مَضَى. (حَاطِبٌ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَآخِرُهُ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ. وَبَشِيرٌ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَآخِرُهُ رَاءٌ، وَالِدُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ. وَعُيَيْنَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ، وَبَعْدَهَا نُونٌ، تَصْغِيرُ عَيْنٍ) . [ذِكْرُ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ] لَمَّا عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خَيْبَرَ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ جُمَادَيَيْنِ وَرَجَبًا وَشَعْبَانَ وَرَمَضَانَ وَشَوَّالًا - يَبْعَثُ السَّرَايَا، ثُمَّ خَرَجَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مُعْتَمِرًا عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَسَاقَ مَعَهُ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فِي عُمْرَتِهِ الْأُولَى. فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ خَرَجُوا عَنْهُ، وَتَحَدَّثَتْ قُرَيْشٌ بَيْنَهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ فِي عُسْرٍ وَجُهْدٍ، فَاصْطَفُّوا لَهُ عِنْدَ دَارِ النَّدْوَةِ، فَلَمَّا دَخَلَهَا اضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ، فَأَخْرَجَ عَضُدَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَرَاهُمُ الْيَوْمَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً! ثُمَّ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ وَخَرَجَ يُهَرْوِلُ، وَيُهَرْوِلُ أَصْحَابُهُ مَعَهُ» ، وَكَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ آخِذًا بِخِطَامِ نَاقَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهْ ... خَلُّوا فَكُلُّ الْخَيْرِ فِي رَسُولِهْ يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهْ ... أَعْرِفُ حَقَّ اللَّهِ فِي قَبُولِهْ نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهْ ... كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهْ ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهْ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهْ وَتَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرِهِ هَذَا بِمَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثًا، فَأَرْسَلَ

الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهِ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَخْرُجَ عَنْهُمْ. فَقَالَ: مَا عَلَيْهِمْ لَوْ أَعْرَسْتُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَصَنَعْنَا لَهُمْ طَعَامًا، فَحَضَرُوهُ مَعَنَا؟ فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي طَعَامِهِ. فَخَرَجَ عَنْهُمْ وَبَنَى بِمَيْمُونَةَ بِسَرِفَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ وَشَهْرِ رَبِيعٍ، وَبَعَثَ جَيْشَهُ الَّذِي أُصِيبَ بِمُؤْتَةَ. وَوَلِيَ تِلْكَ الْحَجَّةَ الْمُشْرِكُونَ. وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيِّ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، فَلَقُوهُ فَأُصِيبَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَقِيلَ: بَلْ نَجَا، وَأُصِيبَ أَصْحَابُهُ.

ودخلت سنة ثمان

[وَدَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ] [غَزْوَةُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيِّ بَنِي الْمُلَوَّحِ] 8 - وَدَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ فِيهَا تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ. غَزْوَةُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيِّ بَنِي الْمُلَوَّحِ وَفِيهَا كَانَتْ سَرِيَّةُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيِّ الْكَلْبِيِّ، كَلْبِ اللَّيْثِ، إِلَى بَنِي الْمُلَوَّحِ، فَلَقِيَهُ الْحَارِثُ بْنُ الْبَرْصَاءِ اللَّيْثِيُّ، فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا، فَقَالَ: إِنَّمَا جِئْتُ لِأَسْلَمَ. فَقَالَ لَهُ غَالِبٌ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَلَنْ يَضُرَّكَ رِبَاطُ لَيْلَةٍ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا اسْتَوْثَقْنَا مِنْكَ. وَوَكَلَ بِهِ بَعْضَ أَصْحَابِهِ وَقَالَ لَهُ: إِنْ نَازَعَكَ فَخُذْ رَأَسَهُ، وَأَمَرَهُ بِالْمُقَامِ إِلَى أَنْ يَعُودَ، ثُمَّ سَارُوا حَتَّى أَتَوْا بَطْنَ الْكَدِيدِ، فَنَزَلُوا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَأَرْسَلُوا جُنْدُبَ بْنَ مَكِيثٍ الْجُهَنِيَّ رَبِيئَةً لَهُمْ. قَالَ: فَقَصَدْتُ تَلًّا هُنَاكَ يُطْلِعُنِي عَلَى الْحَاضِرِ، فَانْبَطَحْتُ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ لِي مِنْهُمْ رَجُلٌ فَرَآنِي مُنْبَطِحًا، فَأَخَذَ قَوْسَهُ وَسَهْمَيْنِ فَرَمَانِي بِأَحَدِهِمَا، فَوَضَعَهُ فِي جَنْبِي. قَالَ: فَنَزَعْتُهُ وَلَمْ أَتَحَرَّكْ، ثُمَّ رَمَانِي بِالثَّانِي فِي رَأْسِ مَنْكِبِي، قَالَ: فَنَزَعْتُهُ وَلَمْ أَتَحَرَّكْ. قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ خَالَطَهُ سَهْمَايَ، وَلَوْ كَانَ رَبِيئَةً لَتَحَرَّكَ. قَالَ: فَأَمْهَلْنَاهُمْ حَتَّى رَاحَتْ مَوَاشِيهِمْ وَاحْتَلَبُوا، فَشَنَنَّا عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ فَقَتَلْنَا مِنْهُمْ، وَاسْتَقْنَا مِنْهُمُ النَّعَمَ وَرَجَعْنَا سِرَاعًا. وَأَتَى صَرِيخُ الْقَوْمِ، فَجَاءَنَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا إِلَّا بَطْنُ الْوَادِي مِنْ قُدَيْدٍ بَعَثَ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ سَحَابًا، مَا رَأَيْنَا قَبْلَ ذَلِكَ مَطَرًا مِثْلَهُ، فَجَاءَ الْوَادِي بِمَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ يَجُوزُهُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْنَا مَا يَقْدِرُ أَحَدٌ يَتَقَدَّمُ، وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ. وَكَانَ شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ: أَمِتْ أَمِتْ، وَكَانَ عِدَّتُهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا.

ذكر إسلام خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة

وَفِيهَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَبِهَا الْمُنْذِرُ بْنُ سَاوَى، فَصَالَحَ الْمُنْذِرَ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَجُوسِ الْجِزْيَةَ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ إِرْسَالَهُ كَانَ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ مَعَ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمُلُوكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَفِيهَا كَانَتْ سَرِيَّةُ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَصَابُوا نَعَمًا، فَكَانَ سَهْمُ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا. وَفِيهَا كَانَتْ سَرِيَّةُ عَمْرِو بْنِ كَعْبٍ الْغِفَارِيِّ إِلَى ذَاتِ الْأَطْلَاحِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَوَجَدَ بِهَا جَمْعًا كَثِيرًا، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَوْا أَنْ يُجِيبُوا، وَقَتَلُوا أَصْحَابَ عَمْرٍو، وَنَجَا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ. وَذَاتُ الْأَطْلَاحِ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ، وَكَانُوا مِنْ قُضَاعَةَ، وَرَئِيسُهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: سَدُوسُ. [ذِكْرُ إِسْلَامِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرٍ قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مُسْلِمًا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدِمَ مَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ. وَكَانَ سَبَبُ إِسْلَامِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا انْصَرَفْنَا مَعَ الْأَحْزَابِ عَنِ الْخَنْدَقِ قُلْتُ لِأَصْحَابِي: إِنِّي أَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ يَعْلُو عُلُوًّا مُنْكَرًا، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ نَلْحَقَ بِالنَّجَاشِيِّ، فَإِنْ

ذكر غزوة ذات السلاسل

ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى قَوْمِنَا كُنَّا عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، وَإِنْ ظَهَرَ قَوْمُنَا عَلَى مُحَمَّدٍ فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عَرَفُوا. قَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّأْيُ. قَالَ: فَجَمَعْنَا لَهُ أُدُمًا كَثِيرًا، وَخَرَجْنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَإِنَّا لَعِنْدَهُ إِذْ وَصَلَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ رَسُولًا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمْرِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ. قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَطَلَبْتُ مِنْهُ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ لِأَقْتُلَهُ؛ تَقَرُّبًا إِلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ. فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامِي غَضِبَ وَضَرَبَ أَنْفَهُ ضَرْبَةً ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ كَسَرَهُ، يَعْنِي النَّجَاشِيَّ، فَخِفْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ: وَاللَّهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَكْرَهُ هَذَا مَا سَأَلْتُكَهُ. قَالَ: أَتَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَكَ رَسُولَ رَجُلٍ يَأْتِيهِ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، لِتَقْتُلَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَكَذَلِكَ هُوَ؟ قَالَ: وَيْحَكَ يَا عَمْرُو، أَطِعْنِي وَاتَّبِعْهُ؛ فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَعَلَى الْحَقِّ، وَلَيَظْهَرَنَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ. قَالَ: فَقُلْتُ: فَبَايِعْنِي لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِي وَكَتَمْتُهُمْ إِسْلَامِي، وَخَرَجْتُ عَائِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَقِيَنِي خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ، فَقُلْتُ: أَيْنَ يَا أَبَا سُلَيْمَانَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَقَامَ الْمَنْسِمُ، إِنَّ الرَّجُلَ لَنَبِيٌّ، أَذْهَبُ وَاللَّهِ أُسْلِمُ، فَحَتَّى مَتَى؟ ! فَقُلْتُ: مَا جِئْتُ إِلَّا لِلْإِسْلَامِ. فَقَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَقَدَّمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ دَنَوْتُ فَأَسْلَمْتُ، وَتَقَدَّمَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَأَسْلَمَ. [ذِكْرُ غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ] وَفِيهَا أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى أَرْضِ بَلِيٍّ وَعُذْرَةَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَلِيٍّ، فَتَأَلَّفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، فَسَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ عَلَى مَاءٍ بِأَرْضِ جُذَامَ يُقَالُ لَهُ السَّلَاسِلُ، وَبِهِ سُمِّيَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ ذَاتَ السَّلَاسِلِ، فَلَمَّا كَانَ بِهِ خَافَ، فَبَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَمِدُّهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَقَالَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ حِينَ وَجَّهَهُ: لَا تَخْتَلِفَا. فَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ عَمْرٌو: إِنَّمَا جِئْتَ مَدَدًا إِلَيَّ. فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا عَمْرُو، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَخْتَلِفَا، فَإِنْ عَصَيْتَنِي أَطَعْتُكَ. قَالَ: فَأَنَا أَمِيرٌ عَلَيْكَ. قَالَ: فَدُونَكَ. فَصَلَّى عَمْرٌو بِالنَّاسِ.

ذكر غزوة الخبط وغيرها

وَفِيهَا أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرٍ وَعِيَاذٍ، ابْنِي الْجُلُنْدَى بِعُمَانَ، فَآمَنَا وَصَدَقَا. وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ. [ذِكْرُ غَزْوَةِ الْخَبَطِ وَغَيْرِهَا] وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَبَطِ، وَأَمِيرُهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَكَانَتْ فِي رَجَبٍ، وَزَوَّدَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَقْبِضُ لَهُمْ قَبْضَةً، ثُمَّ تَمْرَةً تَمْرَةً، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَلُوكُهَا وَيَشْرَبُ عَلَيْهَا الْمَاءَ، فَنَفِدَ مَا فِي الْجِرَابِ، فَأَكَلُوا الْخَبَطَ وَجَاعُوا جُوعًا شَدِيدًا، فَنَحَرَ لَهُمْ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ تِسْعَ جَزَائِرَ فَأَكَلُوهَا، فَنَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَانْتَهَى. ثُمَّ إِنَّ الْبَحْرَ أَلْقَى إِلَيْهِمْ حُوتًا مَيِّتًا، فَأَكَلُوا مِنْهَا حَتَّى شَبِعُوا، وَنَصَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَيَمُرُّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ. فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «كُلُوا رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ» ، وَأَكَلَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرُوا صَنِيعَ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، فَقَالَ: إِنَّ الْجَوَادَ مِنْ شِيمَةِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ. وَفِيهَا كَانَتْ سَرِيَّةٌ وَجَّهَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَعْبَانَ، أَمِيرُهَا أَبُو قَتَادَةَ وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيُّ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ قَيْسٍ، أَوْ قَيْسَ بْنَ رِفَاعَةَ، فِي بَطْنٍ عَظِيمٍ مِنْ جُشَمَ نَزَلَ بِالْغَابَةِ يَجْمَعُ لِحَرْبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا قَتَادَةَ وَمَنْ مَعَهُ لِيَأْتُوا مِنْهُ بِخَبَرٍ، فَوَصَلُوا قَرِيبًا مِنَ الْحَاضِرِ مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَكَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَاحِيَةٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً، وَقِيلَ: كَانُوا سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ: فَكَانَ لَهُمْ رَاعٍ أَبْطَأَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ فِي طَلَبِهِ وَمَعَهُ سِلَاحُهُ، فَرَمَيْتُهُ بِسَهْمٍ فِي فُؤَادِهِ فَمَا تَكَلَّمَ. قَالَ: فَأَخَذْتُ رَأْسَهُ، ثُمَّ شَدَدْتُ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ وَكَبَّرْتُ، وَكَبَّرَ صَاحِبَايَ، فَوَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا النَّجَاءُ، فَأَخَذُوا نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَمَا خَفَّ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَقْنَا الْإِبِلَ الْكَثِيرَةَ وَالْغَنَمَ، فَجِئْنَا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ وَبِرَأْسِهِ مَعِي، فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا، وَكُنْتُ قَدْ تَزَوَّجْتُ وَأَخَذْتُ أَهْلِي، وَعَدَلَ الْبَعِيرَ بِعَشْرٍ مِنَ الْغَنَمِ. وَفِيهَا أَغْزَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا قَتَادَةَ أَيْضًا إِلَى إِضَمَ، وَمَعَهُ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ

ذكر غزوة مؤتة

اللَّيْثِيُّ قَبْلَ الْفَتْحِ، فَلَقِيَهُمْ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيُّ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ وَمَعَهُ مَتَاعُهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، فَأَمْسَكُوا عَنْهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ لِشَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُمَا، فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ بِعِيرَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَنَزَلَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94] ، الْآيَةَ. وَقِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ السَّرِيَّةُ حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ. [ذِكْرُ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ] كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نُقَدِّمَ هَذِهِ الْغَزْوَةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا أَخَّرْنَاهَا لِتَتَّصِلَ الْغَزَوَاتُ الْعَظِيمَةُ، فَيَتْلُوَ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَكَانَتْ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ، وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَقَالَ: «إِنْ أُصِيبَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ» . فَقَالَ جَعْفَرٌ: مَا كُنْتُ أَذْهَبُ أَنْ تَسْتَعْمِلَ عَلَيَّ زَيْدًا، فَقَالَ: امْضِ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّ ذَلِكَ خَيْرٌ. فَبَكَى النَّاسُ وَقَالُوا: هَلَّا مَتَّعْتَنَا بِهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَأَمْسَكَ، وَكَانَ إِذَا قَالَ: فَإِنْ أُصِيبَ فُلَانٌ فَالْأَمِيرُ فُلَانٌ - أُصِيبَ كُلُّ مَنْ ذَكَرَهُ. فَتَجَهَّزَ النَّاسُ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَوَدَّعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ. فَلَمَّا وَدَّعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ بَكَى عَبْدُ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: مَا بِي حُبُّ الدُّنْيَا وَلَا صَبَابَةٌ بِكُمْ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ آيَةً، وَهِيَ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] فَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ لِي بِالصَّدْرِ بَعْدَ الْوُرُودِ؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: صَحِبَكُمُ اللَّهُ، وَرَدَّكُمْ إِلَيْنَا سَالِمِينَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانِ مُجْهِزَةً ... بِحَرْبَةٍ تَنْفُذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا

حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا فَلَمَّا وَدَّعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَادَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: خَلَفَ السَّلَامُ عَلَى امْرِئٍ وَدَّعْتُهُ فِي النَّخْلِ خَيْرَ مُشَيَّعٍ وَخَلِيلِ ثُمَّ سَارُوا حَتَّى نَزَلُوا مُعَانَ، فَبَلَغَهُمْ أَنَّ هِرَقْلَ سَارَ إِلَيْهِمْ فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ، وَمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْمُسْتَعْرِبَةِ، مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ وَبُلْقِينَ وَبَلِيٍّ، عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ بَلِيٍّ يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ رَافِلَةَ، وَنَزَلُوا مَآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، فَأَقَامَ الْمُسْلِمُونَ بِمُعَانَ لَيْلَتَيْنِ يَنْظُرُونَ فِي أَمْرِهِمْ، وَقَالُوا: نَكْتُبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُخْبِرُهُ الْخَبَرَ وَنَنْتَظِرُ أَمْرَهُ، فَشَجَّعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَقَالَ: يَا قَوْمِ وَاللَّهِ إِنَّ الَّذِي تَكْرَهُونَ لَلَّذِي خَرَجْتُمْ تَطْلُبُونَ الشَّهَادَةَ، وَمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ بِعَدَدٍ وَلَا قُوَّةٍ، وَلَا نُقَاتِلُهُمْ إِلَّا بِهَذَا الدِّينِ، فَانْطَلِقُوا فَمَا هِيَ إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ. فَقَالَ النَّاسُ: صَدَقَ وَاللَّهِ، وَسَارُوا، وَسَمِعَهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ - وَكَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِهِ، وَقَدْ أَرْدَفَهُ فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ عَلَى حَقِيبَتِهِ - وَهُوَ يَقُولُ: إِذَا أَدَّيْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي ... مَسِيرَةَ أَرْبَعٍ بَعْدَ الْحِسَاءِ فَشَأْنُكِ فَانْعَمِي وَخَلَاكِ ذَمٌّ ... وَلَا أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي وَرَائِي وَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ وَغَادَرُونِي ... بِأَرْضِ الشَّامِ مُشْتَهِيَ الثَّوَاءِ وَرَدَّكِ كُلُّ ذِي نَسَبٍ قَرِيبٍ ... مِنَ الرَّحْمَنِ مُنْقَطِعِ الْإِخَاءِ هُنَالِكَ لَا أُبَالِي طَلْعَ بَعْلٍ ... وَلَا نَخْلٍ أَسَافِلُهَا رِوَاءِ فَلَمَّا سَمِعَهَا زَيْدٌ بَكَى، فَخَفَقَهُ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: مَا عَلَيْكَ يَا لُكَعُ! يَرْزُقُنِي اللَّهُ الشَّهَادَةَ، وَتَرْجِعُ بَيْنَ شُعْبَتَيِ الرَّحْلِ؟ ثُمَّ سَارُوا، فَالْتَقَتْهُمْ جُمُوعُ الرُّومِ وَالْعَرَبِ بِقَرْيَةٍ مِنَ الْبَلْقَاءِ يُقَالُ لَهَا: مَشَارِفُ، وَانْحَازَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: مُؤْتَةُ، فَالْتَقَى النَّاسُ عِنْدَهَا، وَكَانَ

عَلَى مَيْمَنَةِ الْمُسْلِمِينَ قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ الْعُذْرِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمْ عَبَايَةُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَاتَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِرَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى شَاطَ فِي رِمَاحِ الْقَوْمِ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَاتَلَ بِهَا وَهُوَ يَقُولُ: يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا ... طَيِّبَةً وَبَارِدًا شَرَابُهَا وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا ، عَلَيَّ، إِذْ لَاقَيْتُهَا، ضِرَابُهَا فَلَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَالُ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ فَعَقَرَهَا، ثُمَّ قَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ، وَكَانَ جَعْفَرٌ أَوَّلَ مَنْ عَقَرَ فَرَسَهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَوَجَدُوا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ بَيْنَ رَمْيَةٍ وَضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ، فَلَمَّا قُتِلَ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَتَرَدَّدَ بَعْضَ التَّرَدُّدِ، ثُمَّ قَالَ يُخَاطِبُ نَفْسَهُ: أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلَنَّهْ ... طَائِعَةً أَوْ لَا لَتُكْرَهِنَّهْ إِنْ أَجْلَبَ النَّاسُ وَشَدُّوا الرَّنَّهْ ... مَا لِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّهْ قَدْ طَالَ مَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّهْ ... هَلْ أَنْتِ إِلَّا نُطْفَةٌ فِي شَنَّهْ وَقَالَ أَيْضًا: يَا نَفْسُ إِنْ لَمْ تُقْتَلِي تَمُوتِي ... هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صَلِيتِ وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ ... إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ ثُمَّ نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ، وَأَتَاهُ ابْنُ عَمٍّ لَهُ بِعِرْقٍ مِنْ لَحْمٍ فَقَالَ لَهُ: شُدَّ بِهَذَا صُلْبَكَ، فَقَدْ لَقِيتَ مَا لَقِيتَ. فَأَخَذَهُ فَانْتَهَشَ مِنْهُ نَهْشَةً ثُمَّ سَمِعَ الْحَطْمَةَ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ، فَقَالَ لِنَفْسِهِ: وَأَنْتَ فِي الدُّنْيَا! ثُمَّ أَلْقَاهُ وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَتَقَدَّمَ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَكَلِبَ عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ، وَقَدْ كَانَ قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ قَتَلَ قَبْلَ ذَلِكَ مَالِكَ بْنَ رَافِلَةَ قَائِدَ الْمُسْتَعْرِبَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْخَبَرَ جَاءَ مِنَ السَّمَاءِ فِي سَاعَتِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَأَمَرَ فَنُودِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَقَالَ: بَابُ خَيْرٍ! -

ثَلَاثًا - أُخْبِرُكُمْ عَنْ جَيْشِكُمْ هَذَا الْغَازِي، إِنَّهُمْ لَقُوا الْعَدُوَّ، فَقُتِلَ زَيْدٌ شَهِيدًا - فَاسْتَغْفَرَ لَهُ - ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ جَعْفَرٌ، فَشَدَّ عَلَى الْقَوْمِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا - فَاسْتَغْفَرَ لَهُ - ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَصَمَتَ حَتَّى تَغَيَّرَتْ وُجُوهُ الْأَنْصَارِ، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ مَا يَكْرَهُونَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رُفِعُوا إِلَى الْجَنَّةِ عَلَى سُرُرٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَرَأَيْتُ فِي سَرِيرِ ابْنِ رَوَاحَةَ ازْوِرَارًا عَنْ سَرِيرَيْ صَاحِبَيْهِ، فَقُلْتُ: عَمَّ هَذَا؟ فَقِيلَ: مَضَيَا، وَتَرَدَّدَ بَعْضَ التَّرَدُّدِ ثُمَّ مَضَى» . وَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ رَوَاحَةَ أَخَذَ الرَّايَةَ ثَابِتُ بْنُ أَرْقَمَ الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اصْطَلِحُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ. فَقَالُوا: رَضِينَا بِكَ. فَقَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. فَاصْطَلَحُوا عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ، وَدَافَعَ الْقَوْمَ، وَانْحَازُوا عَنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ» ، فَعَادَ بِالنَّاسِ. فَمِنْ يَوْمِئِذٍ سُمِّيَ خَالِدٌ سَيْفَ اللَّهِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَرَّ بِي جَعْفَرٌ الْبَارِحَةَ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ جَنَاحَانِ، مُخْتَضِبَ الْقَوَادِمِ بِالدَّمِ» . قَالَتْ أَسْمَاءُ: «أَتَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ فَرَغْتُ مِنِ اشْتِغَالِي، وَغَسَلْتُ أَوْلَادَ جَعْفَرٍ وَدَهَنْتُهُمْ، فَأَخَذَهُمْ وَشَمَّهُمْ وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبَلَغَكَ عَنْ جَعْفَرٍ شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أُصِيبَ هَذَا الْيَوْمَ. ثُمَّ عَادَ إِلَى أَهْلِهِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَهُوَ أَوَّلُ مَا عُمِلَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ» . قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ: فَقُمْتُ أَصْنَعُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيَّ النِّسَاءُ. فَلَمَّا رَجَعَ الْجَيْشُ وَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ لَقِيَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَحْثُونَ التُّرَابَ عَلَى الْجَيْشِ وَيَقُولُونَ: يَا فُرَّارُ، يَا فُرَّارُ! وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسُوا بِالْفُرَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ الْكُرَّارُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -» .

ذكر فتح مكة

[ذِكْرُ فَتْحِ مَكَّةَ] وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ جُمَادَى الْآخِرَةَ وَرَجَبًا، ثُمَّ إِنَّ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ عَدَتْ عَلَى خُزَاعَةَ وَهُمْ عَلَى مَاءٍ لَهُمْ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ يُقَالُ لَهُ: الْوَتِيرُ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَكْرٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي الْحَضْرَمِيِّ اسْمُهُ مَالِكُ بْنُ عَبَّادٍ، وَكَانَ حَلِيفًا لِلْأَسْوَدِ بْنِ رَزْنٍ الدُّئِلِيِّ، ثُمَّ الْبَكْرِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَرَجَ تَاجِرًا، فَلَمَّا كَانَ بِأَرْضِ خُزَاعَةَ قَتَلُوهُ وَأَخَذُوا مَالَهُ، فَعَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ فَقَتَلُوهُ، فَعَدَتْ خُزَاعَةُ عَلَى بَنِي الْأَسْوَدِ بْنِ رَزْنٍ، وَهُمْ سَلْمَى، وَكُلْثُومٌ، وَذُؤَيْبٌ، فَقَتَلُوهُمْ بِعَرَفَةَ، وَكَانُوا مِنْ أَشْرَافِ بَنِي بَكْرٍ، فَبَيْنَمَا خُزَاعَةُ وَبَكْرٌ عَلَى ذَلِكَ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَاشْتَغَلَ النَّاسُ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَخَلَتْ بَكْرٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، اغْتَنَمَتْ بَكْرٌ تِلْكَ الْهُدْنَةَ، وَأَرَادُوا أَنْ يُصِيبُوا مِنْ خُزَاعَةَ ثَأْرَهُمْ بِقَتْلِ بَنِي الْأَسْوَدِ، فَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدُّئِلِيُّ بِمَنْ تَبِعَهُ مِنْ بَكْرٍ حَتَّى بَيَّتَ خُزَاعَةَ عَلَى مَاءِ الْوَتِيرِ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ بَكْرٍ يُنْشِدُ هِجَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَجَّهُ، فَهَاجَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ، وَثَارَتْ بَكْرٌ بِخُزَاعَةَ حَتَّى بَيَّتُوهُمْ بِالْوَتِيرِ، وَأَعَانَتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ بِسِلَاحٍ وَدَوَابَّ، وَقَاتَلَ مَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مُخْتَفِينَ، مِنْهُمْ: صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَسَهْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَانْحَازَتْ خُزَاعَةُ إِلَى الْحَرَمِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ نَفَرٌ. فَلَمَّا دَخَلَتْ خُزَاعَةُ الْحَرَمَ، قَالَتْ بَكْرٌ: يَا نَوْفَلُ، إِنَّا قَدْ دَخَلْنَا الْحَرَمَ، إِلَهَكَ إِلَهَكَ! فَقَالَ: لَا إِلَهَ لَهُ الْيَوْمَ، يَا بَنِي بَكْرٍ أَصِيبُوا ثَأْرَكُمْ، فَلَعَمْرِي إِنَّكُمْ لَتُسْرِفُونَ فِي الْحَرَمِ، أَفَلَا تُصِيبُونَ ثَأْرَكُمْ فِيهِ؟ فَلَمَّا نَقَضَتْ بَكْرٌ وَقُرَيْشٌ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ، ثُمَّ الْكَعْبِيُّ، حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:

لَاهُمَّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا فَوَالِدًا كُنَّا وَكُنْتَ وَلَدَا ... ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا فَانْصُرْ رَسُولَ اللَّهِ نَصْرًا أَعْتَدَا ... وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... أَبْيَضَ مِثْلَ الْبَدْرِ يَنْمِي صُعُدَا إِنْ سِيمَ خَسَفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا ... فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رَصَدَا ... وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا ... هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدَا فَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ نُصِرْتَ يَا عَمْرُو بْنَ سَالِمٍ! ثُمَّ عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنَانٌ مِنَ السَّمَاءِ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ السَّحَابَةَ لَتَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ» . وَكَانَ بَيْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَخُزَاعَةَ حِلْفٌ قَدِيمٌ، فَلِهَذَا قَالَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ: حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا ثُمَّ خَرَجَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، فَنَادَوْهُ وَهُوَ يَغْتَسِلُ، فَقَالَ: يَا لَبَّيْكُمْ! وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ ثُمَّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ «كَأَنَّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَ لِيُجَدِّدَ الْعَهْدَ خَوْفًا، وَيَزِيدَ فِي الْمُدَّةِ» . وَمَضَى بُدَيْلٌ فَلَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بِعُسْفَانَ يُرِيدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُجَدِّدَ الْعَهْدَ خَوْفًا مِنْهُ، فَقَالَ لِبُدَيْلٍ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خُزَاعَةَ فِي السَّاحِلِ وَبَطْنِ هَذَا الْوَادِي. قَالَ: أَوَمَا أَتَيْتَ مُحَمَّدًا؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِأَصْحَابِهِ لَمَّا رَاحَ بُدَيْلٌ: انْظُرُوا بَعْرَ نَاقَتِهِ، فَإِنْ جَاءَ الْمَدِينَةَ لَقَدْ عَلَفَ النَّوَى. فَنَظَرُوا بَعْرَ النَّاقَةِ، فَرَأَوْا فِيهِ النَّوَى.

ثُمَّ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ طَوَتْهُ عَنْهُ. فَقَالَ: أَرَغِبْتِ بِهِ عَنِّي أَمْ رَغِبْتِ بِي عَنْهُ؟ فَقَالَتْ: هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنْتَ مُشْرِكٌ نَجِسٌ، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ تَجْلِسَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: لَقَدْ أَصَابَكِ بَعْدِي شَرٌّ. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَلَّمَهُ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، ثُمَّ أَتَى أَبَا بَكْرٍ فَكَلَّمَهُ لِيُكَلِّمَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. ثُمَّ أَتَى عُمَرَ فَكَلَّمَهُ فَقَالَ: أَنَا أَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ! وَاللَّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا الذَّرَّ لَجَاهَدْتُكُمْ بِهِ. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى عَلِيًّا وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ غُلَامٌ، فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَمْرٍ لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلِّمَهُ فِيهِ. فَقَالَ لِفَاطِمَةَ: يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ، هَلْ لَكِ أَنْ تَأْمُرِي ابْنَكِ هَذَا أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ فَيَكُونَ سَيِّدَ الْعَرَبِ؟ فَقَالَتْ: مَا بَلَغَ ابْنِي أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا يُجِيرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أَحَدٌ. فَالْتَفَتَ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ لَهُ: أَرَى الْأُمُورَ قَدِ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ فَانْصَحْنِي. قَالَ: أَنْتَ سَيِّدُ كِنَانَةَ، فَقُمْ فَأَجِرْ بَيْنَ النَّاسِ وَالْحَقْ بِأَرْضِكَ. فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ. ثُمَّ رَكِبَ بَعِيرَهُ وَقَدِمَ مَكَّةَ، وَأَخْبَرَ قُرَيْشًا مَا جَرَى لَهُ وَمَا أَشَارَ بِهِ عَلِيٌّ عَلَيْهِ. فَقَالُوا لَهُ: وَاللَّهِ مَا زَادَ عَلَى أَنْ يَسْخَرَ بِكَ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَجَهَّزَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالتَّجَهُّزِ إِلَى مَكَّةَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالْأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلَادِهَا. فَكَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا إِلَى قُرَيْشٍ يُعْلِمُهُمُ الْخَبَرَ، وَسَيَّرَهُ مَعَ امْرَأَةٍ مِنْ مُزَيْنَهَ اسْمُهَا كَنُودُ، وَقِيلَ: مَعَ سَارَةَ مَوْلَاةٍ لِبَنِي الْمُطَّلِبِ. فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ، فَأَدْرَكَاهَا وَأَخَذَا مِنْهَا الْكِتَابَ، وَجَاءَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَحْضَرَ حَاطِبًا وَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، مَا بَدَّلْتُ وَلَا غَيَّرْتُ، وَلَكِنْ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَهْلٌ وَوَلَدٌ، وَلَيْسَ لِي عَشِيرَةٌ، فَصَانَعْتُهُمْ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ نَافَقَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ؟ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي حَاطِبٍ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ» . ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ حُصَيْنٍ

الْغِفَارِيَّ، وَخَرَجَ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَفَتَحَ مَكَّةَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْهُ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ مَا بَيْنَ عُسْفَانَ وَأَمَجَ، فَأَفْطَرُوا، وَاسْتَوْعَبَ مَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فَسَبَّعَتْ سُلَيْمُ، وَأَلَّفَتْ مُزَيْنَةُ، وَفِي كُلِّ الْقَبَائِلِ عَدَدٌ وَإِسْلَامٌ، وَأَدْرَكَهُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَلَقِيَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِالسُّقْيَا، وَقِيلَ: بِذِي الْحُلَيْفَةِ، مُهَاجِرًا، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرْسِلَ رَحْلَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَيَعُودَ مَعَهُ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ آخِرُ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَنَا آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ. وَلَقِيَهُ أَيْضًا مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ بِنِيقِ الْعُقَابِ، فَالْتَمَسَا الدُّخُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ فِيهِمَا وَقَالَتْ لَهُ: ابْنُ عَمِّكَ وَابْنُ عَمَّتِكَ. قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِمَا، أَمَّا ابْنُ عَمِّي فَهَتَكَ عِرْضِي، وَأَمَّا ابْنُ عَمَّتِي فَهُوَ الَّذِي قَالَ بِمَكَّةَ مَا قَالَ. فَلَمَّا سَمِعَا ذَلِكَ وَكَانَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ ابْنٌ لَهُ اسْمُهُ جَعْفَرٌ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيَأْذَنُ لِي، أَوْ لَآخُذَنَّ بِيَدِ ابْنِي هَذَا، ثُمَّ لَنَذْهَبَنَّ فِي الْأَرْضِ حَتَّى نَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا. فَرَقَّ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَدْخَلَهُمَا إِلَيْهِ، فَأَسْلَمَا. وَقِيلَ: إِنَّ عَلِيًّا قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَقُلْ لَهُ مَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لِيُوسُفَ: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] فَإِنَّهُ لَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَحْسَنَ مِنْهُ فِعْلًا وَلَا قَوْلًا، فَفَعَلَ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] ، وَقَرَّبَهُمَا، فَأَسْلَمَا، «وَأَنْشَدَهُ أَبُو سُفْيَانَ قَوْلَهُ فِي إِسْلَامِهِ وَاعْتِذَارِهِ مِمَّا مَضَى: لَعَمْرُكَ إِنِّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً ... لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللَّاتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ لَكَالْمُدْلِجِ الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ ... فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدَى وَأَهْتَدِي وَهَادٍ هَدَانِي غَيْرَ نَفْسِي وَنَالَنِي ... مَعَ اللَّهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ الْأَبْيَاتَ. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْرَهُ وَقَالَ: أَنْتَ طَرَّدْتَنِي كُلَّ مُطَرَّدٍ؟» .

وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيَاءً مِنْهُ. وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ الظَّهْرَانِ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، مِنْ بَنِي غِفَارٍ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَمِنْ مُزَيْنَةَ أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ، وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ سَبْعُمِائَةٍ، وَمِنْ جُهَيْنَةَ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ، وَسَائِرُهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ وَحُلَفَائِهِمْ، وَطَوَائِفَ مِنَ الْعَرَبِ، ثُمَّ مِنْ تَمِيمٍ وَأَسَدٍ وَقَيْسٍ. فَلَمَّا نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: يَا هَلَاكَ قُرَيْشٍ! وَاللَّهِ لَئِنْ بَغَتَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بِلَادِهَا، فَدَخَلَ عَنْوَةً، إِنَّهُ لَهَلَاكُ قُرَيْشٍ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. فَجَلَسَ عَلَى بَغْلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: أَخْرُجُ لَعَلِّي أَرَى حَطَّابًا أَوْ رَجُلًا يَدْخُلُ مَكَّةَ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَأْتُونَهُ وَيَسْتَأْمِنُونَهُ. قَالَ: فَخَرَجْتُ أَطُوفُ فِي الْأَرَاكِ إِذْ سَمِعْتُ صَوْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيِّ؛ قَدْ خَرَجُوا يَتَجَسَّسُونَ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ نِيرَانًا أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ. فَقَالَ بُدَيْلٌ: هَذِهِ نِيرَانُ خُزَاعَةَ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: خُزَاعَةُ أَذَلُّ مِنْ ذَلِكَ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا حَنْظَلَةَ - يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ كَانَ يُكَنَّى بِذَلِكَ - فَقَالَ: أَبُو الْفَضْلِ؟ ! قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: لَبَّيْكَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، مَا وَرَاءَكَ؟ فَقُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُسْلِمِينَ أَتَاكُمْ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ. قَالَ: مَا تَأْمُرُنِي؟ قُلْتُ: تَرْكَبُ مَعِي، فَأَسْتَأْمِنُ لَكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَاللَّهِ لَئِنْ ظَفِرَ بِكَ لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ. فَرَدَفَنِي، فَخَرَجْتُ أَرْكُضُ بِهِ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُلَّمَا مَرَرْتُ بِنَارٍ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ، حَتَّى مَرَرْنَا بِنَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمْكَنَ مِنْكَ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ! ثُمَّ اشْتَدَّ نَحْوَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَكَضَتِ الْبَغْلَةُ فَسَبَقْتُ عُمَرَ، وَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ وَقَالَ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ. ثُمَّ أَخَذْتُ بِرَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُلْتُ: لَا يُنَاجِيهِ الْيَوْمَ أَحَدٌ دُونِي. فَلَمَّا أَكْثَرَ فِيهِ عُمَرُ قُلْتُ: مَهْلًا يَا عُمَرُ، فَوَاللَّهِ مَا تَصْنَعُ هَذَا إِلَّا لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَوْ كَانَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ مَا قُلْتَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. فَقَالَ: مَهْلًا يَا عَبَّاسُ، فَوَاللَّهِ لَإِسْلَامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ فَقَدْ آمَنَّاهُ حَتَّى تَغْدُوَ عَلَيَّ بِهِ بِالْغَدَاةِ. فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي وَغَدَوْتُ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: بَلَى، بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا. فَقَالَ: وَيْحَكَ أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: بِأَبِي وَأُمِّي، أَمَّا هَذِهِ فَفِي النَّفْسِ مِنْهَا شَيْءٌ. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَقُلْتُ لَهُ: وَيْحَكَ، تَشَهَّدْ شَهَادَةَ الْحَقِّ قَبْلَ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُكَ! قَالَ: فَتَشَهَّدَ، وَأَسْلَمَ مَعَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْعَبَّاسِ: اذْهَبْ فَاحْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ بِمَضِيقِ الْوَادِي، حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهِ جُنُودُ اللَّهِ.

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ يُحِبُّ الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا يَكُونُ فِي قَوْمِهِ. فَقَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ. قَالَ: فَخَرَجْتُ بِهِ فَحَبَسْتُهُ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ، فَمَرَّتْ عَلَيْهِ الْقَبَائِلُ فَيَقُولُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَأَقُولُ: أَسْلَمُ. فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِأَسْلَمَ. وَيَقُولُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَأَقُولُ: جُهَيْنَةُ. فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِجُهَيْنَةَ. حَتَّى مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ مَعَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي الْحَدِيدِ، لَا يُرَى مِنْهُمْ إِلَّا الْحَدَقُ. فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. فَقَالَ: لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ عَظِيمًا، فَقُلْتُ: وَيْحَكَ، إِنَّهَا النُّبُوَّةُ. فَقَالَ: نَعَمْ إِذَنْ. فَقُلْتُ: الْحَقْ بِقَوْمِكَ سَرِيعًا فَحَذِّرْهُمْ. فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ وَمَعَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، فَصَرَخَ فِي الْمَسْجِدِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ بِمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، فَقَالُوا: فَمَهْ. قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا. فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ هِنْدُ فَأَخَذَتْ بِلِحْيَتِهِ وَقَالَتْ: يَا آلَ غَالِبٍ، اقْتُلُوا هَذَا الشَّيْخَ الْأَحْمَقَ. فَقَالَ: أَرْسِلِي لِحْيَتِي، وَأُقْسِمُ لَئِنْ أَنْتِ لَمْ تُسْلِمِي لَتُضْرَبَّنَ عُنُقُكِ، ادْخُلِي بَيْتَكِ! فَتَرَكَتْهُ. وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَثَرِهِمَا الزُّبَيْرَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ بِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ كَدَاءٍ، وَكَانَ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى، وَأَمَرَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَدْخُلَ بِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ كَدَاءٍ، فَقَالَ سَعْدٌ حِينَ وَجَّهَهُ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ. فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَأَعْلَمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَدْرِكْهُ، فَخُذِ الرَّايَةَ مِنْهُ، وَكُنْ أَنْتَ الَّذِي تَدْخُلُ بِهَا، وَأَمَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ مِنَ اللِّيطِ فِي بَعْضِ النَّاسِ، وَكَانَ مَعَهُ أَسْلَمُ، وَغِفَارُ، وَمُزَيْنَةُ، وَجُهَيْنَةُ، وَقَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ، وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ. وَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى ذِي طُوًى وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُعْتَجِرٌ بِبُرْدِ خَزٍّ

أَحْمَرَ، وَقَدْ وَضَعَ رَأْسَهُ تَوَاضُعًا لِلَّهِ - تَعَالَى - حِينَ رَأَى مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ، حَتَّى إِنَّ أَسْفَلَ لِحْيَتِهِ لَيَمَسُّ وَاسِطَةَ الرَّحْلِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ وَدَخَلَ مِنْ أَذَاخِرَ بِأَعْلَاهَا، وَضُرِبَتْ قُبَّتُهُ هُنَاكَ. وَكَانَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو - قَدْ جَمَعُوا نَاسًا بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا، وَمَعَهُمُ الْأَحَابِيشُ، وَبَنُو بَكْرٍ، وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ، فَلَقِيَهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَاتَلَهُمْ فَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَابِرُ بْنُ حُسَيْلٍ الْفِهْرِيُّ، وَحُبَيْشُ بْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ الْأَشْعَرُ الْكَعْبِيُّ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْمَيْلَاءِ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، ثُمَّ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ. وَكَانَ مَعَ عِكْرِمَةَ حِمَاسُ بْنُ خَالِدٍ الدُّئِلِيُّ، وَكَانَ قَدْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: لَآتِيَنَّكِ بِخَادِمٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا عَادَ إِلَيْهَا مُنْهَزِمًا قَالَتْ لَهُ، تَسْتَهْزِئُ بِهِ: أَيْنَ الْخَادِمُ؟ ! فَقَالَ: فَأَنْتِ لَوْ شَهِدْتِنَا بِالْخَنْدَمَهْ ... إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ وَأَبُو يَزِيدَ كَالْعَجُوزِ الْمُؤْتَمَهْ ... لَمْ تَنْطِقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ إِذْ ضَرَبَتْنَا بِالسُّيُوفِ الْمُثْلَمَهْ ... لَهُمْ زَفِيرٌ خَلْفَنَا وَغَمْغَمَهْ أَبُو يَزِيدَ هَذَا هُوَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَهِدَ إِلَى أُمَرَائِهِ أَنْ لَا يَقْتُلُوا أَحَدًا إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ، فَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، وَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ دُخُولَ مَكَّةَ - قَامَ فِي وُجُوهِهِمْ نِسَاءٌ مُشْرِكَاتٌ، يَلْطُمْنَ وُجُوهَ الْخَيْلِ بِالْخُمُرِ، وَقَدْ نَشَرْنَ شُعُورَهُنَّ، فَرَآهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى جَنْبِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ قَالَ حَسَّانُ؟ فَأَنْشَدَهُ: تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٍ ... تُلَطِّمُهُنَ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ ثَمَانِيَةِ رِجَالٍ وَأَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَأَمَّا الرِّجَالُ فَمِنْهُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، كَانَ يُشْبِهُ أَبَاهُ فِي إِيذَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَاوَتِهِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَى مُحَارَبَتِهِ، فَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ خَافَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَهَرَبَ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَسْلَمَتِ أَمِرْأَتُهُ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ، وَخَرَجَتْ فِي طَلَبِهِ وَمَعَهَا غُلَامٌ لَهَا رُومِيٌّ، فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَأَطْمَعَتْهُ وَلَمْ تُمَكِّنْهُ، حَتَّى أَتَتْ حَيًّا مِنَ الْعَرَبِ فَاسْتَعَانَتْهُمْ عَلَيْهِ، فَأَوْثَقُوهُ، وَأَدْرَكَتْ عِكْرِمَةَ وَهُوَ يُرِيدُ رُكُوبَ الْبَحْرِ فَقَالَتْ: جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ أَوْصَلِ النَّاسِ، وَأَحْلَمِهِمْ، وَأَكْرَمِهِمْ، وَقَدْ آمَنَكَ، فَرَجَعَ، وَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَ الرُّومِيِّ، فَقَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُرَّ بِهِ، فَأَسْلَمَ وَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَاسْتَغْفَرَ. وَمِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَكَانَ أَيْضًا شَدِيدًا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَرَبَ خَوْفًا مِنْهُ إِلَى جُدَّةَ، فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ صَفْوَانَ سَيِّدُ قَوْمِي، وَقَدْ خَرَجَ هَارِبًا مِنْكَ فَآمِنْهُ. قَالَ: هُوَ آمِنٌ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَتَهُ الَّتِي دَخَلَ بِهَا مَكَّةَ لِيَعْرِفَ بِهَا أَمَانَهُ، فَخَرَجَ بِهَا عُمَيْرٌ فَأَدْرَكَهُ بِجُدَّةَ، فَأَعْلَمَهُ بِأَمَانِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ أَحْلَمُ النَّاسِ وَأَوْصَلُهُمْ، وَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّكَ، وَعِزُّهُ عِزُّكَ، وَشَرَفُهُ شَرَفُكَ. قَالَ: إِنِّي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي. قَالَ: هُوَ أَحْلَمُ مِنْ ذَلِكَ. فَرَجَعَ صَفْوَانُ وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّكَ آمَنْتَنِي. قَالَ: صَدَقَ. قَالَ: اجْعَلْنِي بِالْخِيَارِ شَهْرَيْنِ. قَالَ: أَنْتَ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. فَأَقَامَ مَعَهُ كَافِرًا، وَشَهِدَ مَعَهُ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَتُوفِيَّ بِمَكَّةَ عِنْدَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الْبَصْرَةِ لِيَوْمِ الْجَمَلِ. وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَكَتَبَ الْوَحْيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ إِذَا أَمْلَى عَلَيْهِ: عَزِيزٌ حَكِيمٌ، يَكْتُبُ: عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَقَالَ لِقُرَيْشٍ: إِنِّي أَكْتُبُ أَحْرُفَ مُحَمَّدٍ فِي قُرْآنِهِ حَيْثُ شِئْتُ، وَدِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ فَرَّ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَغَيَّبَهُ عُثْمَانُ حَتَّى اطْمَأَنَّ النَّاسُ، ثُمَّ أَحْضَرَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَلَبَ لَهُ الْأَمَانَ، فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَوِيلًا ثُمَّ آمَنَهُ، فَأَسْلَمَ وَعَادَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ: لَقَدْ صَمَتُّ لِيَقْتُلَهُ أَحَدُكُمْ. فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هَلَّا أَوْمَأَتْ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: «

مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَقْتُلَ بِالْإِشَارَةِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَكُونُ لَهُمْ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ» . وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ، فَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُصَدِّقًا وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَغُلَامٌ لَهُ رُومِيٌّ قَدْ أَسْلَمَ، فَكَانَ الرُّومِيُّ يَخْدُمُهُ وَيَصْنَعُ الطَّعَامَ، فَنَسِيَ يَوْمًا أَنْ يَصْنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَتَلَهُ وَارْتَدَّ، وَكَانَ لَهُ قَيْنَتَانِ تُغْنِيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ، أَخُو عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ. وَمِنْهُمُ الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ، وَكَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ، وَيُنْشِدُ الْهِجَاءَ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ هَرَبَ مِنْ بَيْتِهِ، فَلَقِيَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَتَلَهُ. وَمِنْهُمْ مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ لِأَنَّهُ قَتَلَ الْأَنْصَارِيَّ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ هِشَامًا خَطَأً وَارْتَدَّ، فَلَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ اخْتَفَى بِمَكَانٍ هُوَ وَجَمَاعَةٌ، وَشَرِبُوا الْخَمْرَ، فَعَلِمَ بِهِ نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنَانِيُّ، فَأَتَاهُ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ. وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ، وَكَانَ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ وَيُعَظِّمُ الْقَوْلَ فِيهِ، فَهَرَبَ يَوْمَ الْفَتْحِ هُوَ وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيُّ زَوْجُ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ - إِلَى نَجْرَانَ، فَأَمَّا هُبَيْرَةُ فَأَقَامَ بِهَا مُشْرِكًا حَتَّى هَلَكَ، وَأَمَّا ابْنُ الزِّبَعْرَى فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاعْتَذَرَ، فَقَبِلَ عُذْرَهُ، فَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ: يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي ... رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ إِذْ أُبَارِي الشَّيْطَانَ فِي سُنَنِ الْغَيِّ ... وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ

آمَنَ اللَّحْمُ وَالْعِظَامُ بِرَبِّي ... ثُمَّ نَفْسِي الشَّهِيدُ أَنْتَ النَّذِيرُ فِي أَشْعَارٍ لَهُ كَثِيرَةٌ يَعْتَذِرُ فِيهَا. وَمِنْهُمْ وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ قَاتِلُ حَمْزَةَ، فَهَرَبَ يَوْمَ الْفَتْحِ إِلَى الطَّائِفِ، ثُمَّ قَدِمَ فِي وَفْدِ أَهْلِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَحْشِيُّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَخْبِرْنِي كَيْفَ قَتَلْتَ عَمِّي؟ فَأَخْبَرَهُ، فَبَكَى وَقَالَ: غَيِّبْ وَجْهَكَ عَنِّي» . وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جُلِدَ فِي الْخَمْرِ، وَأَوَّلُ مَنْ لَبِسَ الْمُعَصْفَرَ الْمَصْقُولَ فِي الشَّامِ. وَهَرَبَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، فَرَآهُ أَبُو ذَرٍّ فِي حَائِطٍ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَانِهِ، فَقَالَ: أَوَلَيْسَ قَدْ آمَنَّا النَّاسَ إِلَّا مَنْ قَدْ أَمَرْنَا بِقَتْلِهِ؟ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ فَأَسْلَمَ. قِيلَ: إِنَّهُ دَخَلَ يَوْمًا عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: يَا شَيْخُ، تَأَخَّرَ إِسْلَامُكَ. فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ بِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَكَانَ يَصُدُّنِي عَنْهُ أَبُوكَ. فَأَمَّا النِّسَاءُ فَمِنْهُنَّ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِهَا لِمَا فَعَلَتْ بِحَمْزَةَ، وَلِمَا كَانَتْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ مَعَ النِّسَاءِ مُتَخَفِّيَةً فَأَسْلَمَتْ، وَكَسَرَتْ كُلَّ صَنَمٍ فِي بَيْتِهَا وَقَالَتْ: لَقَدْ كُنَّا مِنْكُمْ فِي غُرُورٍ، وَأَهْدَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَدْيَيْنِ، وَاعْتَذَرَتْ مِنْ قِلَّةِ وِلَادَةِ غَنَمِهَا، فَدَعَا لَهَا بِالْبَرَكَةِ فِي غَنَمِهَا فَكَثُرَتْ، فَكَانَتْ تَهَبُ وَتَقُولُ: هَذَا مِنْ بَرَكَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ. وَمِنْهُنَّ سَارَةُ، وَهِيَ مَوْلَاةُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَهِيَ الَّتِي حَمَلَتْ كِتَابَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَكَانَتْ قَدِمَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْلِمَةً فَوَصَلَهَا، فَعَادَتْ إِلَى مَكَّةَ مُرْتَدَّةً، فَأَمَرَ بِقَتْلِهَا، فَقَتَلَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَمِنْهُنَّ قَيْنَتَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَلٍ، وَكَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا، فَقُتِلَتْ إِحْدَاهُمَا وَاسْمُهَا قَرِيبَةُ، وَفَّرَتِ الْأُخْرَى وَتَنَكَّرَتْ وَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فَأَسْلَمَتْ، وَبَقِيَتْ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَوْطَأَهَا رَجُلٌ فَرَسَهُ خَطَأً فَمَاتَتْ، وَقِيلَ: بَقِيَتْ إِلَى خِلَافَةِ عُثْمَانَ، فَكَسَرَ رَجُلٌ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهَا خَطَأً فَمَاتَتْ، فَأَغْرَمَهُ عُثْمَانُ دِيَتَهَا. «وَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ كَانَتْ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا كُلُّ دَمٍ أَوْ مَأْثُرَةٍ أَوْ مَالٍ يُدَّعَى فَهُوَ تَحْتُ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، إِلَّا سَدَانَةَ الْبَيْتِ، وَسِقَايَةَ الْحَجِّ. ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ: اذْهَبُوا، فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ. فَعَفَا عَنْهُمْ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَمْكَنَهُ مِنْهُمْ، وَكَانُوا لَهُ فَيْئًا، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَهْلُ مَكَّةَ الطُّلَقَاءَ. وَطَافَ بِالْكَعْبَةِ سَبْعًا، وَدَخَلَهَا وَصَلَّى فِيهَا، وَرَأَى فِيهَا صُوَرَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِهَا فَمُحِيَتْ، وَكَانَ عَلَى الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، وَكَانَ بِيَدِهِ قَضِيبٌ، فَكَانَ يُشِيرُ بِهِ إِلَى الْأَصْنَامِ وَهُوَ يَقْرَأُ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] فَلَا يُشِيرُ إِلَى صَنَمٍ مِنْهَا إِلَّا سَقَطَ لِوَجْهِهِ. وَقِيلَ: بَلْ أَمَرَ بِهَا وَخُدِمَتْ وَكُسِرَتْ» . ثُمَّ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْبَيْعَةِ عَلَى الصَّفَا وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ تَحْتَهُ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ لِبَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْإِسْلَامِ، فَكَانَ يُبَايِعُهُمْ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَاعُوا، فَكَانَتْ هَذِهِ بَيْعَةَ الرِّجَالِ. وَأَمَّا بَيْعَةُ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الرِّجَالِ بَايَعَ النِّسَاءَ، فَأَتَاهُ مِنْهُنَّ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، مِنْهُنَّ أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، وَأُمُّ حَبِيبٍ بِنْتُ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَكَانَتْ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وَدٍّ الْعَامِرِيِّ، وَأَرْوَى بِنْتُ أَبِي الْعِيصِ عَمَّةُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، وَأُخْتُهَا عَاتِكَةُ بِنْتُ أَبِي الْعِيصِ، وَكَانَتْ عِنْدَ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ السَّهْمِيِّ، وَأُمُّهُ بِنْتُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أُخْتُ عُثْمَانَ، وَكَانَتْ عِنْدَ سَعْدٍ حَلِيفِ بَنِي مَخْزُومٍ، وَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي سُفْيَانَ، وَيُسَيْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَأُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ

الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَكَانَتْ عِنْدَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَفَاخِتَةُ بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ أُخْتُ خَالِدٍ، وَكَانَتْ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَرَيْطَةُ بِنْتُ الْحَجَّاجِ، وَكَانَتْ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي غَيْرِهِنَّ، وَكَانَتْ هِنْدُ مُتَنَكِّرَةً لِصَنِيعِهَا بِحَمْزَةَ، فَهِيَ تَخَافُ أَنْ تُؤْخَذَ بِهِ، وَقَالَ لَهُنَّ: تُبَايِعْنَنِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا. قَالَتْ هِنْدُ: إِنَّكَ وَاللَّهِ لَتَأْخُذُ عَلَيْنَا مَا لَا تَأْخُذُهُ عَلَى الرِّجَالِ، فَسَنُؤْتِيكَهُ. قَالَ: وَلَا تَسْرِقْنَ. قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأُصِيبُ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ الْهَنَةَ وَالْهَنَةَ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ، وَكَانَ حَاضِرًا: أَمَّا مَا مَضَى فَأَنْتِ مِنْهُ فِي حِلٍّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَهِنْدُ؟ قَالَتْ أَنَا هِنْدُ فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ، عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. قَالَ وَلَا تَزْنِينَ. قَالَتْ: وَهَلْ تَزْنِي الْحُرَّةُ؟ قَالَ: وَلَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ. قَالَتْ: رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا، وَقَتَلْتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ كِبَارًا، فَأَنْتَ وَهُمْ أَعْلَمُ. فَضَحِكَ عُمَرُ. قَالَ: وَلَا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ. قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّ إِتْيَانَ الْبُهْتَانِ لَقَبِيحٌ، وَلَبَعْضُ التَّجَاوُزِ أَمْثَلُ. قَالَ: وَلَا تَعْصِينَنِي فِي مَعْرُوفٍ. قَالَتْ مَا جَلَسْنَا هَذَا الْمَجْلِسَ وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَعْصِيَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: «بَايِعْهُنَّ. وَاسْتَغْفَرَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمَسُّ النِّسَاءَ، وَلَا يُصَافِحُ امْرَأَةً، وَلَا تَمَسُّهُ امْرَأَةٌ إِلَّا امْرَأَةٌ أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُ، أَوْ ذَاتُ مَحْرَمٍ مِنْهُ» . وَلَمَّا جَاءَ وَقْتُ الظُّهْرِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ وَقُرَيْشٌ فَوْقَ الْجِبَالِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ أَمِنَ، فَلَمَّا أَذَّنَ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَتْ جُوَيْرَةُ بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أَبِي حِينَ لَمْ يَشْهَدْ نَهِيقَ بِلَالٍ فَوْقَ الْكَعْبَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا قَالَتْ: لَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَسَنُصَلِّي، وَلَكِّنَا لَا نُحِبُّ مَنْ قَتَلَ الْأَحِبَّةَ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ أَسَدٍ، أَخُو عُثْمَانَ بْنِ أَسَدٍ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أَبِي، فَلَمْ يَرَ هَذَا الْيَوْمَ. وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: لَيْتَنِي مُتُّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ. ثُمَّ أَسْلَمُوا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. (وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ الْمُشْكِلَةُ، فَحَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ بِالْحَاءِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَبَلْتَعَةُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَبَعْدَ اللَّامِ تَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ فَوْقِهَا. وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ

ذكر غزوة خالد بن الوليد بني جذيمة

بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَيَاءَيْنِ مُثَنَّاتَيْنِ مِنْ تَحْتُ، ثُمَّ نُونٍ، تَصْغِيرُ عَيْنٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَعَتَّابٌ بِالتَّاءِ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ. وَأَسِيدٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَكَسْرِ السِّينِ) . وَقَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ: ابْنُ عَمِّكَ وَابْنُ عَمَّتِكَ، فَتَعْنِي بِابْنِ عَمِّهِ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَابْنِ عَمَّتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ، وَهُوَ أَخُوهَا لِأَبِيهَا، وَكَانَتْ أُمُّهُ عَاتِكَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَقَوْلُهُ: قَالَ فِي مَكَّةَ مَا قَالَ: فَإِنَّهُ قَالَ بِمَكَّةَ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَرْقَى فِي السَّمَاءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ. وَقَدْ غَلِطَ هُنَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْكِبَارِ فَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِ أُمِّ سَلَمَةَ: ابْنُ عَمَّتِكَ، أَنَّ جَدَّةَ النَّبِيِّ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ كَانَتْ مَخْزُومِيَّةً، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ مَخْزُومِيٌّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ابْنَ خَالَتِهِ لَا ابْنَ عَمَّتِهِ، وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ. (وَحُبَيْشُ بْنُ خَالِدٍ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، ثُمَّ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ، وَآخِرُهُ شِينٌ مُعْجَمَةٌ. وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الْقَافِ، وَبِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِ الْمَفْتُوحَةِ، وَآخِرُهُ سِينٌ مُهْمَلَةٌ. وَصُبَابَةُ بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَبَاءَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ. خَطْمُ الْجَبَلِ رُوِيَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، فَأَمَّا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فَهُوَ الْأَنْفُ الْخَارِجُ مِنَ الْجَبَلِ، وَأَمَّا بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي ثُلِمَ مِنْهُ وَقُطِعَ، فَبَقِيَ مُنْقَطِعًا، وَقَدْ رُوِيَ حَطْمُ الْخَيْلِ بِالْحَاءِ الْمُهْمِلَةِ، وَالْخَيْلُ هَذِهِ هِيَ الَّتِي تُرْكَبُ، يَعْنِي أَنَّهُ يَحْبِسُهُ فِي الْمَوْضِعِ الضَّيِّقِ الَّذِي يُحَطِّمُ الْخَيْلُ فِيهِ بَعْضُهَا بَعْضًا لِضِيقِهِ) . [ذِكْرُ غَزْوَةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بَنِي جَذِيمَةَ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ غَزْوَةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بَنِي جَذِيمَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بَعَثَ السَّرَايَا بَعْدَ الْفَتْحِ فِيمَا حَوْلَ مَكَّةَ، يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِقِتَالٍ، وَكَانَ مِمَّنْ بَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، بَعَثَهُ دَاعِيًا، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا، فَنَزَلَ عَلَى الْغُمَيْصَاءِ مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ جَذِيمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَكَانَتْ جَذِيمَةُ أَصَابَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَوْفَ بْنَ

عَبْدِ عَوْفٍ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالْفَاكِهَ بْنَ الْمُغِيرَةِ عَمَّ خَالِدٍ، كَانَا أَقْبَلَا تَاجِرَيْنِ مِنَ الْيَمَنِ، فَأَخَذَتْ مَا مَعَهُمَا وَقَتَلَتْهُمَا، فَلَمَّا نَزَلَ خَالِدٌ ذَلِكَ الْمَاءَ أَخَذَ بَنُو جَذِيمَةَ السِّلَاحَ، فَقَالَ لَهُمْ خَالِدٌ: ضَعُوا السِّلَاحَ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا. فَوَضَعُوا السِّلَاحَ، فَأَمَرَ خَالِدٌ بِهِمْ فَكُتِّفُوا، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى السَّيْفِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ. فَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ! ثُمَّ أَرْسَلَ عَلِيًّا وَمَعَهُ مَالٌ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِهِمْ، فَوَدَى لَهُمُ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ حَتَّى إِنَّهُ لَيَدِي مِيلَغَةَ الْكَلْبِ، وَبَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْمَالِ فَضْلَةٌ، فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ: هَلْ بَقِيَ لَكُمْ مَالٌ، أَوْ دَمٌ لَمْ يُودَ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنِّي أَعْطَيْتُكُمْ هَذِهِ الْبَقِيَّةَ احْتِيَاطًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفَعَلَ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: أَصَبْتَ، وَأَحْسَنْتَ. وَقِيلَ: إِنَّ خَالِدًا اعْتَذَرَ وَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ أَمَرَهُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَانَ بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَخَالِدٍ كَلَامٌ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: عَمِلْتَ بِأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ. فَقَالَ خَالِدٌ: إِنَّمَا ثَأَرْتُ بِأَبِيكَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَذَبْتَ، قَدْ قَتَلْتُ أَنَا قَاتِلَ أَبِي، وَلَكِنَّكَ إِنَّمَا ثَأَرْتَ بِعَمِّكَ الْفَاكِهِ، حَتَّى كَانَ بَيْنَهُمَا شَرٌّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «مَهْلًا يَا خَالِدُ، دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِي، فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ لَكَ أُحُدٌ ذَهَبًا، ثُمَّ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَةَ أَحَدِهِمْ وَلَا رَوْحَتَهُ» . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيُّ: كُنْتُ يَوْمَئِذٍ فِي جُنْدِ خَالِدٍ، فَأَثَرْنَا فِي أَثَرِ ظُعُنٍ مُصْعِدَةٍ يَسُوقُ بِهِنَّ فِتْيَةٌ، فَقَالَ: أَدْرِكُوا أُولَئِكَ. قَالَ: فَخَرَجْنَا فِي أَثَرِهِمْ حَتَّى أَدْرَكْنَاهُمْ مَضَوْا، وَوَقَفَ لَنَا غُلَامٌ شَابٌّ عَلَى الطَّرِيقِ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ جَعَلَ يُقَاتِلُنَا وَيَقُولُ: ارْفَعْنَ أَطْرَافَ الذُّيُولِ وَارْتَعْنَ ... مَشْيَ حَيِيَّاتٍ كَأَنْ لَمْ تُفْزَعْنَ إِنْ تُمْنَعِ الْيَوْمَ النِّسَاءُ تُمْنَعْنَ

فَقَاتَلْنَاهُ طَوِيلًا فَقَتَلْنَاهُ، وَمَضَيْنَا حَتَّى لَحِقْنَا الظُّعُنَ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا غُلَامٌ كَأَنَّهُ الْأَوَّلُ فَجَعَلَ يُقَاتِلُنَا وَيَقُولُ: أُقْسِمُ مَا إِنْ خَادِرٌ ذُو لِبْدَهْ ... يَرْزِمُ بَيْنَ أَثْلَةٍ وَوَهْدَهْ يَفْرِسُ شُبَّانَ الرِّجَالِ وَحْدَهُ ... بِأَصْدَقِ الْغَدَاةِ مِنِّي نَجْدَهْ فَقَاتَلْنَاهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ، وَأَدْرَكْنَا الظُّعُنَ فَأَخَذْنَاهُنَّ، فَإِذَا فِيهِنَّ غُلَامٌ وَضِيءُ الْوَجْهِ، بِهِ صُفْرَةٌ كَالْمَنْهُوكِ، فَرَبَطْنَاهُ بِحَبْلٍ وَقَدَّمْنَاهُ لِنَقْتُلَهُ، فَقَالَ لَنَا: هَلْ لَكُمْ فِي خَيْرٍ؟ قُلْنَا: مَا هُوَ؟ قَالَ تُدْرِكُونَ بِي الظُّعُنَ فِي أَسْفَلِ الْوَادِي، ثُمَّ تَقْتُلُونِي. قُلْنَا: نَفْعَلُ، فَعَارَضْنَا الظُّعُنَ، فَلَمَّا كَانَ بِحَيْثُ يَسْمَعْنَ الصَّوْتَ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: اسْلَمِي حُبَيْشُ، عَلَى فَقْدِ الْعَيْشِ. فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ جَارِيَةٌ بَيْضَاءُ حُسَّانَةٌ، وَقَالَتْ: وَأَنْتَ فَاسْلَمْ عَلَى كَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ، وَشِدَّةِ الْبَلَاءِ. قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكِ دَهْرًا، وَإِنْ بَقِيتِ عَصْرًا. قَالَتْ: وَأَنْتَ سَلَامٌ عَلَيْكَ عَشْرًا، وَشَفْعًا تَتْرَى، وَثَلَاثًا وِتْرًا. فَقَالَ: إِنْ يَقْتُلُونِي يَا حُبَيْشُ فَلَمْ يَدَعْ ... هَوَاكِ لَهُمْ مِنِّي سِوَى غُلَّةِ الصَّدْرِ فَأَنْتِ الَّتِي أَخْلَيْتِ لَحْمِي مِنْ دَمِي ... وَعَظْمِي، وَأَسْبَلْتِ الدُّمُوعَ عَلَى نَحْرِي فَقَالَتْ لَهُ: وَنَحْنُ بَكَيْنَا مِنْ فِرَاقِكَ مَرَّةً ... وَأُخْرَى وَوَاسَيْنَاكَ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَأَنْتَ فَلَمْ تَبْعَدْ فَنَعِمَ فَتَى الْهَوَى ... جَمِيلُ الْعَفَافِ وَالْمَوَدَّةِ فِي سَتْرِ فَقَالَ: أَرَيْتَكِ إِذْ طَالَبَتْكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ بِحَلْيَةَ أَوْ أَلْفَيْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ ... أَلَمْ يَكُ حَقًّا أَنْ يُنَوَّلَ عَاشِقٌ تَكَلَّفَ إِدْلَاجَ السُّرَى فِي الْوَدَائِقِ

فَلَا ذَنْبَ لِي قَدْ قُلْتُ إِذْ نَحْنُ جِيرَةٌ ... أَثِيبِي بِوُدٍّ قَبْلَ إِحْدَى الصَّفَائِقِ أَثِيبِي بِوُدٍّ قَبْلَ أَنْ تَشْحَطَ النَّوَى ... وَيَنْأَى الْأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ فَإِنِّي لَا سِرًّا لَدَيَّ أَضَعْتُهُ ... وَلَا مَنْظَرٌ مُذْ غِبْتِ عَنِّي بِرَائِقِ عَلَى أَنَّ مَا نَابَ الْعَشِيرَةَ شَاغِلٌ ... وَلَا ذِكْرَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِوَامِقِ فَقَدَّمُوهُ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ. هَذَا الشِّعْرُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلْقَمَةَ الْكِنَانِيِّ، وَكَانَ مِنْ جَذِيمَةَ مَعَ حُبَيْشَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ الْكِنَانِيَّةِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ أُمِّهِ وَهُوَ غُلَامٌ نَحْوَ الْمُحْتَلِمِ لِتَزُورَ جَارَّةً لَهَا، وَكَانَ لَهَا ابْنَةٌ اسْمُهَا حُبَيْشَةُ بِنْتُ حُبَيْشٍ. فَلَمَّا رَآهَا عَبْدُ اللَّهِ هَوِيَهَا وَوَقَعَتْ فِي نَفْسِهِ، وَأَقَامَتْ أُمُّهُ عِنْدَ جَارَتِهَا، وَعَادَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى أَهْلِهِ. ثُمَّ عَادَ لِيَأْخُذَ أُمَّهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ، فَوَجَدَ حُبَيْشَةَ قَدْ تَزَيَّنَتْ لِأَمْرٍ كَانَ فِي الْحَيِّ، فَازْدَادَ بِهَا عَجَبًا، وَانْصَرَفَتْ أُمُّهُ، فَمَشَى مَعَهَا وَهُوَ يَقُولُ: وَمَا أَدْرِي، بَلَى إِنِّي لَأَدْرِي ... أَصْوَبُ الْقَطْرِ أَحْسَنُ أَمْ حُبَيْشُ حُبَيْشَةُ وَالَّذِي خَلَقَ الْبَرَايَا ... وَمَا إِنْ عِنْدَنَا لِلصَّبِّ عَيْشُ فَسَمِعَتْ أُمُّهُ فَتَغَافَلَتْ عَنْهُ. ثُمَّ إِنَّهُ رَأَى ظَبْيًا عَلَى رَبْوَةٍ فَقَالَ: يَا أُمَّتَا خَبِّرِينِي غَيْرَ كَاذِبَةٍ ... وَمَا يُرِيدُ سَئُولُ الْحَقِّ بِالْكَذِبِ

أَتِلْكَ أَحْسَنُ أَمْ ظَبْيٌ بِرَابِيَةٍ لَا بَلْ حُبَيْشَةُ فِي عَيْنَيْ وَفِي أَرَبِي فَزَجَرَتْهُ أُمُّهُ وَقَالَتْ: مَا أَنْتَ وَهَذَا؟ وَأَنَا قَدْ زَوَّجْتُكَ ابْنَةَ عَمِّكَ، فَهِيَ مِنْ أَجْمَلِ تِلْكَ النِّسَاءِ. وَأَتَتِ امْرَأَةُ عُمَيْرٍ فَأَخْبَرَتْهَا الْخَبَرَ وَقَالَتْ: زَيِّنِي ابْنَتَكِ لَهُ، فَفَعَلَتْ وَأَدْخَلَتْهَا عَلَيْهِ، فَأَطْرَقَ. فَقَالَتْ أُمُّهُ: أَيُّهُمَا الْآنَ أَحْسَنُ؟ فَقَالَ: إِذَا غُيِّبَتْ عَنِّي حُبَيْشَةُ مَرَّةً ... مِنَ الدَّهْرِ لَا أَمْلِكُ عَزَاءً وَلَا صَبْرَا كَأَنَّ الْحَشَا حَرُّ السَّعِيرِ تُحِسُّهُ ... وَقُودُ الْغَضَا وَالْقَلْبُ مُضْطَرِمٌ جَمْرَا وَجَعَلَ يُرَاسِلُ الْجَارِيَةَ وَتُرَاسِلُهُ، فَعَلِقَتْهُ كَمَا عَلِقَهَا، وَأَكْثَرَ قَوْلَ الشِّعْرِ فِيهَا، فَمِنْ ذَلِكَ: حُبَيْشَةُ هَلْ جَدِّي وَجَدُّكِ جَامِعٌ ... بِشَمْلِكُمُ شَمْلِي وَأَهْلِكُمُ أَهْلِي وَهَلْ أَنَا مُلْتَفٌّ بِثَوْبِكِ مَرَّةً ... بِصَحْرَاءَ بَيْنَ الْأُلْيَتَيْنِ إِلَى النَّخْلِ فَلَمَّا عَلِمَ أَهْلُهَا خَبَرَهُمَا حَجَبُوهَا عَنْهُ، فَازْدَادَ غَرَامُهُ. فَقَالُوا لَهَا: عِدِيهِ السَّرْحَةَ، فَإِذَا أَتَاكِ فَقُولِي لَهُ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ إِنْ أَحْبَبْتَنِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْكَ، وَنَحْنُ قَرِيبٌ نَسْمَعُ مَا تَقُولِينَ، فَوَعَدَتْهُ وَجَلَسُوا قَرِيبًا، فَأَقْبَلَ لِمَوْعِدٍ لَهَا. فَلَمَّا دَنَا دَمَعَتْ عَيْنَاهَا وَالْتَفَتَتْ إِلَى جَنْبِ أَهْلِهَا وَهُمْ جُلُوسٌ، فَعَرَفَ أَنَّهُمْ قَرِيبٌ، وَبَلَغَهُ الْحَالُ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتِ مَا قَالُوا لَقَدْ زِدْتِنِي جَوًى ... عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ سِرٌّ وَلَا سِتْرُ وَلَمْ يَكُ حُبِّي عَنْ نَوَالٍ بَذَلْتِهِ ... فَيُسْلِينِي عَنْكِ التَّجَهُّمُ وَالْهَجْرُ وَمَا أَنْسَ مِنَ الْأَشْيَاءِ لَا أَنْسَ وَمْقَهَا ... وَنَظْرَتَهَا حَتَّى يُغَيِّبَنِي الْقَبْرُ

ذكر غزوة هوازن بحنين

وَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِثْرَ ذَلِكَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَكَانَ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُلَيْكَةَ ابْنَةَ دَاوُدَ اللَّيْثِيَّةَ، وَكَانَ أَبُوهَا قُتِلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَجَاءَ إِلَيْهَا بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَ لَهَا: أَلَا تَسْتَحِينَ تَزَوَّجِينَ رَجُلًا قَتَلَ أَبَاكِ؟ فَاسْتَعَاذَتْ مِنْهُ، فَفَارَقَهَا. وَفِيهَا هَدَمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْعُزَّى بِبَطْنِ نَخْلَةَ، لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَكَانَ هَذَا الْبَيْتُ تُعَظِّمُهُ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَمُضَرُ كُلُّهَا، وَكَانَ سَدَنَتَهَا بَنُو شَيْبَانَ بْنِ سُلَيْمٍ حُلَفَاءُ بَنِي هَاشِمٍ، فَلَمَّا سَمِعَ صَاحِبُهَا بِمَسِيرِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَيْهَا عَلَّقَ عَلَيْهَا سَيْفَهُ وَقَالَ: أَيَا عُزَّ شُدِّي شَدَّةً لَا شَوَى لَهَا ... عَلَى خَالِدٍ أَلْقِي الْقِنَاعَ وَشَمِّرِي فَلَمَّا انْتَهَى خَالِدٌ إِلَيْهَا جَعَلَ السَّادِنُ يَقُولُ: أَعُزَّى، بَعْضَ غَضِبَاتِكِ، فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ حَبَشِيَّةٌ عُرْيَانَةٌ مُوَلْوِلَةٌ، فَقَتَلَهَا وَكَسَرَ الصَّنَمَ وَهَدَمَ الْبَيْتَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «تِلْكَ الْعُزَّى، لَا تُعْبَدُ أَبَدًا» . وَفِيهَا هَدَمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ سُوَاعَ، وَكَانَ بُرْهَاطَ لَهُذَيْلٍ، فَلَمَّا كَسَرَ الصَّنَمَ أَسْلَمَ سَادِنُهُ، وَلَمْ يَجِدْ فِي خِزَانَتِهِ شَيْئًا. وَفِيهَا هَدَمَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيُّ مَنَاةَ بِالْمُشَلَّلِ. [ذِكْرُ غَزْوَةِ هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ] وَكَانَتْ فِي شَوَّالٍ، وَسَبَبُهَا أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ مَكَّةَ جَمَعَهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ مِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، وَكَانُوا مُشْفِقِينَ مِنْ أَنْ يَغْزُوَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقَالُوا: لَا مَانِعَ لَهُ مِنْ غَزْوِنَا، وَالرَّأْيُ أَنْ نَغْزُوَهُ

قَبْلَ أَنْ يَغْزُوَنَا. وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ ثَقِيفٌ يَقُودُهَا قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ سَيِّدُ الْأَحْلَافِ، وَذُو الْخِمَارِ سُبَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَخُوهُ الْأَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ سَيِّدُ بَنِي مَالِكٍ، وَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ إِلَّا نَصْرٌ وَجُشَمُ وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ، وَنَاسٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ، وَلَمْ يَحْضُرْهَا كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ، وَفِي جُشَمَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ، شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إِلَّا التَّيَمُّنُ بِرَأْيِهِ، وَكَانَ شَيْخًا مُجَرِّبًا فَلَمَّا أَجْمَعَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ الْمَسِيرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَطَّ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلُوا أَوْطَاسَ جَمَعَ النَّاسَ، وَفِيهِمْ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ، فَقَالَ دُرَيْدٌ: بِأَيِّ وَادٍ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: بِأَوْطَاسَ. قَالَ: نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ، لَا حَزْنٌ شَرِسٌ، وَلَا سَهْلٌ دَهِسٌ، مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ، وَيُعَارَ الشَّاءِ، وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ؟ قَالُوا: سَاقَ مَالِكٌ مَعَ النَّاسِ ذَلِكَ. فَقَالَ: يَا مَالِكُ، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: سُقْتُهُمْ مَعَ النَّاسِ لِيُقَاتِلَ كُلُّ إِنْسَانٍ عَنْ حَرِيمِهِ وَمَالِهِ. قَالَ دُرَيْدٌ: رَاعِي ضَأْنٍ وَاللَّهِ، هَلْ يَرُدُّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ؟ إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ لَكَ لَمْ يَنْفَعْكَ إِلَّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ فُضِحْتَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ. وَقَالَ: مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ؟ قَالُوا: لَمْ يَشْهَدْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ. قَالَ: غَابَ الْجِدُّ وَالْحَدُّ، لَوْ كَانَ يَوْمُ عَلَاءٍ وَرِفْعَةٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ، وَوَدِدْتُ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَا. ثُمَّ قَالَ: يَا مَالِكُ، ارْفَعْ مَنْ مَعَكَ إِلَى عُلْيَا بِلَادِهِمْ، ثُمَّ أَلْقِ الصُّبَّاءَ عَلَى الْخَيْلِ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ لَحِقَ بِكَ مَنْ وَرَاءَكَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ كُنْتَ قَدْ أَحْرَزْتَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ. قَالَ مَالِكٌ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ، إِنَّكَ قَدْ كَبِرْتَ وَكَبِرَ عِلْمُكَ، وَاللَّهِ لَتُطِيعُنَّنِي يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، أَوْ لَأَتَّكِيَّنَ عَلَى هَذَا السَّيْفِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي. وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدٍ فِيهَا ذِكْرٌ. فَقَالَ دُرَيْدٌ: هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ، وَلَمْ يَفُتْنِي. ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِذَا رَأَيْتُمُ الْقَوْمَ فَاكْسِرُوا جُفُونَ سُيُوفِكُمْ، وَشُدُّوا عَلَيْهِمْ شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَبَعَثَ مَالِكٌ عُيُونَهُ لِيَأْتُوهُ بِالْخَبَرِ، فَرَجَعُوا إِلَيْهِ وَقَدْ تَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، فَقَالَ: مَا

شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، فَوَاللَّهِ مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ حَلَّ بِنَا مَا تَرَى! فَلَمْ يَنْهَهُ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ أَنْ مَضَى عَلَى مَا يُرِيدُ. وَلَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرُ هَوَازِنَ أَجْمَعَ الْمَسِيرَ إِلَيْهِمْ، وَبَلَغَهُ أَنَّ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَدْرَاعًا وَسِلَاحًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ: أَعِرْنَا سِلَاحَكَ نَلْقَ فِيهِ عَدُوَّنَا. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ نُؤَدِّيهَا إِلَيْكَ. قَالَ: لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ، فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِمَا يُصْلِحُهَا مِنَ السِّلَاحِ. ثُمَّ سَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ مَعَ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثْرَةَ مَنْ مَعَهُ قَالَ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25] ، وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَهَا رَجُلٌ مِنْ بَكْرٍ. وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ بِمَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ. قَالَ جَابِرٌ: فَلَمَّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِي حُنَيْنٍ انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ أَجْوَفَ حَطُوطٍ، إِنَّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا فِي عَمَايَةِ الصُّبْحِ، وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ سَبَقُونَا إِلَى الْوَادِي، فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَمَضَايِقِهِ، قَدْ تَهَيَّئُوا وَأَعَدُّوا، فَوَاللَّهِ مَا رَاعَنَا وَنَحْنُ مُنْحَطُّونَ إِلَّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَدَّتْ عَلَيْنَا شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَانْهَزَمَ النَّاسُ أَجْمَعُونَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَانْحَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ الْيَمِينِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَيَّ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ» ، قَالَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ احْتَمَلَتِ الْإِبِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَالْعَبَّاسُ، وَابْنُهُ الْفَضْلُ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَيْمَنُ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ. قَالَ: وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ أَمَامَ النَّاسِ، فَإِذَا أَدْرَكَ رَجُلًا طَعَنَهُ ثُمَّ رَفَعَ رَايَتَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ فَاتَّبَعُوهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ. وَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ تَكَلَّمَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الضِّغْنِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ، وَالْأَزْلَامُ مَعَهُ. وَقَالَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ، وَهُوَ أَخُو صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ لِأُمِّهِ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكًا: الْآنَ بَطَلَ السِّحْرُ.

فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: اسْكُتْ فَضَّ اللَّهُ فَاكَ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ! وَقَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ: الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِنْ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ أَبُوهُ قُتِلَ بِأُحُدٍ، قَالَ: فَأَدَرْتُ بِهِ لِأَقْتُلَهُ، فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتَّى تَغَشَّ فُؤَادِي، فَلَمْ أُطِقْ ذَلِكَ. وَكَانَ الْعَبَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخِذًا بِحَكَمَةِ بَغْلَتِهِ دُلْدُلَ وَهُوَ عَلَيْهَا، وَكَانَ الْعَبَّاسُ جَسِيمًا شَدِيدَ الصَّوْتِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَبَّاسُ، اصْرُخْ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ! فَفَعَلَ، فَأَجَابُوهُ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ! فَكَانَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُثْنِيَ بَعِيرَهُ فَلَا يَقْدِرُ، فَيَأْخُذُ سِلَاحَهُ ثُمَّ يَنْزِلُ عَنْهُ وَيَؤُمُّ الصَّوْتَ، فَاجْتَمَعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةُ رَجُلٍ فَاسْتَقْبَلَ بِهِمُ الْقَوْمَ وَقَاتَلَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِدَّةَ الْقِتَالِ قَالَ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَهَا. وَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَغْلَتِهِ دُلْدُلٍ: الْبُدِي دُلْدُلُ، فَوَضَعَتْ بَطْنَهَا عَلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ، فَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِهِمْ، فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ، فَمَا رَجَعَ النَّاسُ إِلَّا وَالْأُسَارَى فِي الْحِبَالِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقِيلَ: بَلْ أَقْبَلَ شَيْءٌ أَسْوَدُ مِنَ السَّمَاءِ مِثْلُ الْبِجَادِ حَتَّى سَقَطَ بَيْنَ الْقَوْمِ، فَإِذَا نَمْلٌ أَسْوَدُ مَبْثُوثٌ، فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ. وَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ قُتِلَ مِنْ ثَقِيفٍ وَبَنِي مَالِكٍ سَبْعُونَ رَجُلًا، فَأَمَّا الْأَخْلَافُ مِنْ ثَقِيفٍ فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ غَيْرُ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّهُمُ انْهَزَمُوا سَرِيعًا. وَقَصَدَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ الطَّائِفَ وَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَاتَّبَعَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُشْرِكِينَ فَقَتَلَهُمْ، فَأَدْرَكَ رَبِيعَةُ بْنُ يَرْبُوعٍ السُّلَمِيُّ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي شِجَارٍ لِكِبَرِهِ، وَأَنَاخَ بِعِيرَهُ

فَإِذَا هُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَقَالَ لَهُ دُرَيْدٌ: مَاذَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أَقْتُلُكَ. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ فَانْتَسَبَ لَهُ، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا. فَقَالَ دُرَيْدٌ: بِئْسَ مَا سَلَّحَتْكَ أُمُّكَ، خُذْ سَيْفِي فَاضْرِبْ بِهِ، ثُمَّ ارْفَعْ عَنِ الْعِظَامِ وَاخْفِضْ عَنِ الدِّمَاغِ، فَإِنِّي كَذَلِكَ كُنْتُ أَقْتُلُ الرِّجَالَ، وَإِذَا أَتَيْتَ أُمَّكَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّكَ قَتَلْتَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ، فَرُبَّ يَوْمٍ قَدْ مَنَعْتُ فِيهِ نِسَاءَكَ. فَقَتَلَهُ. فَلَمَّا أَخْبَرَ أُمَّهُ قَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْتَقَ أُمَّهَاتٍ لَكَ ثَلَاثًا. وَاسْتَلَبَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ حُنَيْنٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَحْدَهُ، وَقَتَلَهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» . وَقَتَلَ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ قَتِيلًا، وَأَجْهَضَهُ الْقِتَالُ عَنْ أَخْذِ سَلَبِهِ، فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ، فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ قَامَ أَبُو قَتَادَةَ فَقَالَ: قَتَلْتُ قَتِيلًا وَأَخَذَ غَيْرِي سَلَبَهُ. فَقَالَ الَّذِي أَخَذَ السَّلَبَ: هُوَ عِنْدِي فَارْضِهِ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَاللَّهِ، لَا تَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسُدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ تُقَاسِمُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَبَ. وَكَانَ لِبَعْضِ ثَقِيفٍ غُلَامٌ نَصْرَانِيٌّ، فَقُتِلَ، فَبَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَسْتَلِبُ قَتْلَى ثَقِيفٍ إِذْ كَشَفَ الْعَبْدَ فَرَآهُ أَغْرَلَ، فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، إِنَّ ثَقِيفًا لَا تَخْتَتِنُ. فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: لَا تَقُلْ هَذَا، إِنَّمَا هُوَ غُلَامٌ نَصْرَانِيٌّ، وَأَرَاهُ قَتْلَى ثَقِيفٍ مُخْتَتِنِينَ. «وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّرِيقِ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ، فَقَالَ: مَنْ قَتَلَهَا؟ قَالُوا: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. فَقَالَ لِبَعْضِ مَنْ مَعَهُ: أَدْرِكْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَنْهَاكَ أَنْ تَقْتُلَ امْرَأَةً أَوْ وَلِيدًا أَوْ عَسِيفًا.» وَالْعَسِيفُ الْأَجِيرُ. وَكَانَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ بِأَوْطَاسٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ، عَمَّ أَبِي مُوسَى، فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ بِسَهْمٍ، قِيلَ رَمَاهُ سَلَمَةُ بْنُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ، وَقَتَلَ أَبُو مُوسَى سَلَمَةَ هَذَا بِعَمِّهِ أَبِي عَامِرٍ، وَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ بِأَوْطَاسٍ، وَظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِالْغَنَائِمِ

ذكر حصار الطائف

وَالسَّبَايَا، فَسَاقُوا فِي السَّبْيِ الشَّيْمَاءَ ابْنَةَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، فَقَالَتْ لَهُمْ: إِنِّي وَاللَّهِ أُخْتُ صَاحِبِكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمْ يُصَدِّقُوهَا حَتَّى أَتَوْا بِهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَتْ لَهُ: إِنِّي أُخْتُكَ. قَالَ: «وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: عَضَّةٌ عَضَضْتَنِيهَا فِي ظَهْرِي وَأَنَا مُتَوَرِّكَتُكَ. فَعَرَفَهَا وَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ وَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ، وَخَيَّرَهَا فَقَالَ: إِنْ أَحْبَبْتِ فَعِنْدِي مُكَرَّمَةٌ مُحَبَّبَةٌ، وَإِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أُمَتِّعَكِ وَتَرْجِعِي إِلَى قَوْمِكِ. قَالَتْ: بَلْ تُمَتِّعُنِي وَتَرُدُّنِي إِلَى قَوْمِي، فَفَعَلَ» . وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسَّبَايَا وَالْأَمْوَالِ، فَجُمِعَتْ إِلَى الْجِعْرَانَةِ، وَجَعَلَ عَلَيْهَا بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيَّ. وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحُنَيْنٍ أَيْمَنُ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وَيَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَغَيْرُهُمَا. [ذِكْرُ حِصَارِ الطَّائِفِ] لَمَّا قَدِمَ الْمُنْهَزِمُونَ مِنْ ثَقِيفٍ وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ إِلَى الطَّائِفِ أَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ مَدِينَتَهُمْ، وَاسْتَحْصَرُوا، وَجَمَعُوا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. فَسَارَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا كَانَ بِبُحْرَةِ الرُّغَاءِ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الطَّائِفِ قَتَلَ بِهَا رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ قِصَاصًا، كَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَسَارَ إِلَى ثَقِيفٍ فَحَصَرَهُمْ بِالطَّائِفِ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَنَصَبَ عَلَيْهِمْ مَنْجَنِيقًا أَشَارَ بِهِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الشَّدْخَةِ عِنْدَ جِدَارِ الطَّائِفِ، دَخَلَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ دَبَّابَةٍ عَمِلُوهَا، ثُمَّ زَحَفُوا بِهَا إِلَى جِدَارِ الطَّائِفِ، فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ الْمُحْمَاةِ، فَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِهَا، فَرَمَاهُمْ مَنْ بِالطَّائِفِ بِالنَّبْلِ فَقَتَلُوا رِجَالًا. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ، فَقُطِعَتْ. وَنَزَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ نَفَرٌ مِنْ رَقِيقِ أَهْلِ الطَّائِفِ

فَأَعْتَقَهُمْ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: أَبُو بَكْرَةَ بِبَكْرَةٍ نَزَلَ فِيهَا، وَغَيْرُهُ. فَلَمَّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطَّائِفِ تَكَلَّمَتْ سَادَاتُ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ فِي أَنْ يَرُدَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الرِّقِّ فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ، أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللَّهِ. ثُمَّ إِنَّ خُوَيْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ، وَهِيَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ الطَّائِفَ حُلِيَّ بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ، أَوْ حُلِيَّ الْفَارِعَةِ بِنْتِ عَقِيلٍ، وَكَانَتَا مِنْ أَكْثَرِ النِّسَاءِ حُلِيًّا. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتِ إِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ لِي فِي ثَقِيفٍ يَا خُوَيْلَةُ؟ فَخَرَجَتْ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَدِيثٌ حَدَّثَتْنِيهِ خُوَيْلَةُ أَنَّكَ قَدْ قُلْتَهُ؟ قَالَ: قَدْ قُلْتُهُ. قَالَ: أَفَلَا أُؤَذِّنُ بِالرَّحِيلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَذَّنَ بِالرَّحِيلِ. وَقِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَشَارَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدُّثْلِيَّ فِي الْمُقَامِ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ، إِنْ أَقَمْتَ عَلَيْهِ أَخَذْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَضُرَّكَ، فَأَذَّنَ بِالرَّحِيلِ. فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَى ثَقِيفٍ. قَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا وَأْتِ بِهِمْ» . فَلَمَّا رَأَتْ ثَقِيفٌ النَّاسَ قَدْ رَحَلُوا عَنْهُمْ نَادَى سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الثَّقَفِيُّ: أَلَا إِنَّ الْحَيَّ مُقِيمٌ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَجَلْ وَاللَّهِ، مَجَدَةً كِرَامًا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ يَا عُيَيْنَةُ، أَتَمْدَحُهُمْ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا جِئْتُ لِأُقَاتِلَ مَعَكُمْ ثَقِيفًا، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُصِيبَ مِنْ ثَقِيفٍ جَارِيَةً، لَعَلَّهَا تَلِدُ لِي رَجُلًا، فَإِنَّ ثَقِيفًا قَوْمٌ مَنَاكِيرُ. وَاسْتُشْهِدَ بِالطَّائِفِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ، وَأُمُّهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رُمِيَ بِسَهْمٍ فَمَاتَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالسَّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيٍّ، وَغَيْرُهُمْ. (وَهَذِهِ بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ قَالَ فِيهَا هِيتٌ الْمُخَنَّثُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ فَسَلْ رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يُنَفِّلَكَ بَادِيَةَ بِنْتَ غَيْلَانَ، فَإِنَّهَا هَيْفَاءُ شَمُوعٌ نَجْلَاءُ، إِنْ تَكَلَّمَتْ تَغَنَّتْ، وَإِنْ قَامَتْ تَثَنَّتْ، وَإِنْ مَشَتِ ارْتَجَّتْ، وَإِنْ قَعَدَتْ تَبَنَّتْ، تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ، وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، بِثَغْرٍ كَالْأُقْحُوَانِ، بَيْنَ رِجْلَيْهَا كَالْقَعْبِ الْمُكْفَأِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ عَلِمْتَ

ذكر قسمة غنائم حنين

الصِّفَةَ. وَمَنَعَهُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى نِسَائِهِ) . [ذِكْرُ قِسْمَةِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ] لَمَّا رَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الطَّائِفِ سَارَ حَتَّى نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ، وَأَتَتْهُ وُفُودُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ وَقَدْ أَسْلَمُوا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ أَصَابَنَا مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَقَامَ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَهُمُ الَّذِينَ أَرْضَعُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا فِي الْحَظَائِرِ عَمَّاتُكَ وَخَالَاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ، وَلَوْ أَنَّا أَرْضَعْنَا الْحَارِثَ بْنَ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيَّ أَوِ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ لَرَجَوْنَا عَطْفَهُ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ! ثُمَّ قَالَ: امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدَّخِرُ امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ مُمَزَّقٌ شَمْلُهَا فِي دَهْرِهَا غِيَرُ فِي أَبْيَاتٍ. فَخَيَّرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ، فَاخْتَارُوا أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، فَقَالَ: أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، فَإِذَا أَنَا صَلَّيْتُ بِالنَّاسِ فَقُولُوا: إِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِالْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا، فَسَأُعْطِيكُمْ وَأَسْأَلُ فِيكُمْ. فَلَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ. وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ. وَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي تَمِيمٍ فَلَا. وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: مَا كَانَ لِي وَلِفَزَارَةَ فَلَا. وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: مَا كَانَ لِي وَلِسُلَيْمٍ فَلَا. فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ. فَقَالَ: وَهَّنْتُمُونِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَمَسَّكَ بِحَقِّهِ مِنَ السَّبْيِ فَلَهُ بِكُلِّ إِنْسَانٍ سِتُّ فَرَائِضَ، مِنْ أَوَّلِ شَيْءٍ نُصِيبُهُ، فَرَدُّوا عَلَى النَّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ. وَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ، فَقِيلَ: إِنَّهُ بِالطَّائِفِ. فَقَالَ: أَخْبِرُوهُ إِنْ أَتَانِي مُسْلِمًا رَدَدْتُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَيْتُهُ مِائَةَ بَعِيرٍ. فَأُخْبِرَ مَالِكٌ بِذَلِكَ، فَخَرَجَ مِنَ الطَّائِفِ سِرًّا وَلَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَوْمِهِ، وَعَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ الَّتِي حَوْلَ الطَّائِفِ، فَأَعْطَاهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَمِائَةَ بَعِيرٍ. وَكَانَ يُقَاتِلُ بِمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْ ثُمَالَةَ وَفَهْمٍ وَسَلَمَةَ - ثَقِيفًا، لَا يَخْرُجُ لَهُمْ سَرْحٌ إِلَّا أَغَارَ عَلَيْهِ، حَتَّى ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ. «وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رَدِّ سَبَايَا هَوَازِنَ رَكِبَ، وَاتَّبَعَهُ النَّاسُ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئَنَا، حَتَّى أَلْقَوْهُ إِلَى شَجَرَةٍ، فَاخْتُطِفَ رِدَاؤُهُ، فَقَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي أَيُّهَا النَّاسُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمٌ لَقَسَمْتُهَا عَلَيْكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذَّابًا. ثُمَّ رَفَعَ وَبَرَةً مِنْ سَنَامِ بَعِيرٍ وَقَالَ: لَيْسَ لِي مِنْ فَيْئِكُمْ وَلَا هَذِهِ الْوَبَرَةِ، إِلَّا الْخُمْسُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ» . ثُمَّ أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ، وَكَانُوا مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، يَتَأَلَّفُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ وَابْنَهُ مُعَاوِيَةَ وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، وَالْعَلَاءَ بْنَ جَارِيَةَ الثَّقَفِيَّ، وَالْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، وَمَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النَّصْرِيَّ، كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى دُونَ الْمِائَةِ رِجَالًا، مِنْهُمْ: مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الزُّهْرِيُّ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ، وَهِشَامُ بْنُ عَمْرٍو، وَسَعِيدُ بْنُ يَرْبُوعٍ، وَأَعْطَى الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ أَبَاعِرَ، فَسَخِطَهَا وَقَالَ: كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتُهَا ... بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ وَإِيقَاظِيَ الْقَوْمَ أَنْ يَرْقُدُوا ... إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعُبَيْ ... دِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَأِ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ إِلَّا أَفَائِلَ أُعْطِيتُهَا عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الْأَرْبَعِ ... وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ ... وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَضَعُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ فَأَعْطَاهُ حَتَّى رَضِيَ. «وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعَ، وَتَرَكْتَ جُعَيْلَ بْنَ

سُرَاقَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَجُعَيْلٌ خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ رِجَالًا، كُلُّهُمْ مِثْلُ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ. وَلَكِنِّي تَأَلَّفْتُهُمَا، وَوَكَلْتُ جُعَيْلًا إِلَى إِسْلَامِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَا الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيَّ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ لَمْ تَعْدِلِ الْيَوْمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ ! فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَلَا نَقْتُلُهُ؟ ! فَقَالَ: دَعُوهُ، سَتَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهُ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» . وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ فِي مَالٍ بَعَثَ بِهِ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَسَّمَهُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ: عُيَيْنَةُ، وَالْأَقْرَعُ، وَزَيْدُ الْخَيْلِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْغَنَائِمِ فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يُعْطَ الْأَنْصَارُ شَيْئًا - وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمَهُ. فَأَخْبَرَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: فَأَيْنَ أَنْتَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: أَنَا مِنْ قَوْمِي. قَالَ: فَاجْمَعْ قَوْمَكَ لِي، فَجَمَعَهُمْ. فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا، فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَفُقَرَاءَ، فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَأَعْدَاءَ، فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بِي؟ قَالُوا: بَلَى - وَاللَّهِ - يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ. فَقَالَ: أَلَا تُجِيبُونِي؟ قَالُوا: بِمَاذَا نُجِيبُكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ، فَصَدَقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَوَاسَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ، أَفَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا؛ لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ. قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا. وَتَفَرَّقُوا» . ثُمَّ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْجِعْرَانَةِ، وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ، وَتَرَكَ مَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يُفَقِّهُ النَّاسَ، وَحَجَّ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ بِالنَّاسِ، وَحَجَّ

النَّاسُ تِلْكَ السَّنَةَ عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَحُجُّ، وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ أَوْ ذِي الْحَجَّةِ. وَفِيهَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرٍ وَعِيَاذٍ ابْنَيِ الْجُلَنْدَى مِنَ الْأَزْدِ بِعُمَانَ مُصَدِّقًا، فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَرَدَّهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ، وَهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْبَلَدِ وَكَانَ الْعَرَبُ حَوْلَهَا. وَقِيلَ سَنَةَ سَبْعٍ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكِلَابِيَّةَ، وَاسْمُهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ، فَاخْتَارَتِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ فَفَارَقَهَا. وَفِيهَا وَلَدَتْ مَارِيَةُ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذِي الْحَجَّةِ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّ بُرْدَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيَّةِ فَكَانَتْ تُرْضِعُهُ، وَزَوْجُهَا الْبَرَاءُ بْنُ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَكَانَتْ قَابِلَتَهَا سَلْمَى مَوْلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَرْسَلَتْ أَبَا رَافِعٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَشِّرُهُ بِإِبْرَاهِيمَ، فَوَهَبَ لَهُ مَمْلُوكًا، وَغَارَ نِسَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَظُمَ عَلَيْهِنَّ حِينَ رُزِقَتْ مَارِيَةُ مِنْهُ وَلَدًا. وَفِيهَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَعْبَ بْنَ عُمَيْرٍ إِلَى ذَاتِ إِطْلَاحٍ مِنَ الشَّامِ، إِلَى نَفَرٍ مِنْ قُضَاعَةَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمَعَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَوَصَلَ إِلَيْهِمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ، وَكَانَ رَئِيسُ قُضَاعَةَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ سَدُوسٌ، فَقَتَلُوا الْمُسْلِمِينَ وَنَجَا عُمَيْرٌ، فَتَقَدَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَفِيهَا بَعَثَ أَيْضًا عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ الْفَزَارِيَّ إِلَى بَنِي الْعَنْبَرِ مِنْ تَمِيمٍ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ وَسَبَى مِنْهُمْ نِسَاءً، وَكَانَ عَلَى عَائِشَةَ عِتْقُ رَقَبَةٍ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا سَبْيُ بَنِي الْعَنْبَرِ يَقْدَمُ عَلَيْنَا، فَنُعْطِيكِ إِنْسَانًا فَتُعْتِقِينَهُ.

ثم دخلت سنة تسع

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ] [ذِكْرُ إِسْلَامِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ] 9 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ ذِكْرُ إِسْلَامِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ قِيلَ: خَرَجَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى، وَأَبُو سُلْمَى رَبِيعَةُ الْمُزَنِيُّ، وَمَعَهُ أَخُوهُ بُجَيْرٌ حَتَّى أَتَيَا أَبْرَقَ الْعَزَّافَ، فَقَالَ لَهُ بُجَيْرٌ: اثْبُتْ فِي غَنَمِنَا حَتَّى آتِيَ هَذَا الرَّجُلَ، يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْمَعَ مِنْهُ. فَأَقَامَ كَعْبٌ وَسَارَ بُجَيْرٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ كَعْبًا فَقَالَ: أَلَا أَبْلِغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... عَلَى أَيِّ شَيْءٍ وَيْبَ غَيْرِكَ دَلَّكًا عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا وَلَا أَبًا ... عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخًا لَكَا سَقَاكَ أَبُو بَكْرٍ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ ... فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُورُ مِنْهَا وَعَلَّكَا فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلُهُ غَضِبَ وَأَهْدَرَ دَمَهُ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ بُجَيْرٍ إِلَى أَخِيهِ بَعْدَ عَوْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الطَّائِفِ، وَقَالَ: النَّجَاءَ النَّجَاءَ، وَمَا أَدْرِي أَنْ تَتَفَلَّتَ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ: إِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَأَسْلِمْ، وَأَقْبِلْ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُ مَعَ الْإِسْلَامِ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ. فَأَسْلَمَ كَعْبٌ، وَجَاءَ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَصْحَابِهِ، قَالَ كَعْبٌ: فَعَرَفْتُهُ بِالصِّفَةِ، فَتَخَطَّيْتُ النَّاسَ إِلَيْهِ فَأَسْلَمْتُ وَقُلْتُ: الْأَمَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ. قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ. قَالَ: الَّذِي يَقُولُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ قَالَ؟ فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْيَاتَ الَّتِي أَوَّلُهَا:

أَلَا أَبْلِغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً فَقَالَ كَعْبٌ: مَا هَكَذَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قُلْتُ: سَقَاكَ أَبُو بَكْرٍ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ ... فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَأْمُونٌ وَاللَّهِ. فَتَجَهَّمَتْهُ الْأَنْصَارُ وَأَغْلَظَتْ لَهُ، وَلَانَتْ لَهُ قُرَيْشٌ وَأَحَبَّتْ إِسْلَامَهُ، فَأَنْشَدَهُ قَصِيدَتَهُ الَّتِي أَوَّلُهَا: بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: وَقَالَ كُلُّ خَلِيلٍ كُنْتُ آمُلُهُ ... لَا أُلْهِينَكَ إِنِّي عَنْهُ مَشْغُولُ نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ فِي فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلَا كُشُفٌ ... عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ لَا يَقَعُ الطَّعْنُ إِلَّا فِي نُحُورِهِمْ ... وَمَا لَهُمْ عَنْ حِياضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى قُرَيْشٍ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِمْ أَنِ اسْمَعُوا، حَتَّى قَالَ: يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُمْ ... ضَرْبٌ إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ يُعَرِّضُ بِالْأَنْصَارِ لِغِلْظَتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ، فَأَنْكَرَتْ قُرَيْشٌ قَوْلَهُ وَقَالُوا: لَمْ تَمْدَحْنَا إِذْ هَجَوْتَهُمْ، وَلَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ مِنْهُ، وَعَظُمَ عَلَى الْأَنْصَارِ هَجْوُهُ، فَشَكَوْهُ، فَقَالَ يَمْدَحُهُمْ: مَنْ سَرَّهُ كَرَمُ الْحَيَاةِ فَلَا يَزَلْ ... فِي مِقْنَبٍ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ الْبَاذِلِينَ نُفُوسَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ ... يَوْمَ الْهِيَاجِ وَسَطْوَةِ الْجَبَّارِ يَتَطَهَّرُونَ كَأَنَّهُ نُسْكٌ لَهُمْ ... بِدِمَاءِ مَنْ قَتَلُوا مِنَ الْكُفَّارِ فِي أَبْيَاتٍ. فَكَسَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ مُعَاوِيَةَ أَرْسَلَ إِلَى

ذكر غزوة تبوك

كَعْبٍ: أَنْ بِعْنَا بُرْدَةَ رَسُولِ اللَّهِ. فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ أَحَدًا. فَلَمَّا مَاتَ كَعْبٌ اشْتَرَاهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ أَوْلَادِهِ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهِيَ الْبُرْدَةُ الَّتِي عِنْدَ الْخُلَفَاءِ الْآنَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِهِ وَقَطْعِ لِسَانِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تَشَبَّبَ بِأُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ. (أَبُو سُلْمَى بِضَمِّ السِّينِ وَالْإِمَالَةِ. وَالْمَأْمُورُ بِالرَّاءِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالشَّيْءِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ: مَأْمُورٌ، بِالرَّاءِ، يُرِيدُونَ أَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ تَأْمُرُهُ بِهِ الْجِنُّ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَأْمُورًا مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَلَكِنَّهُ كَرِهَهُ لِعَادَتِهِمْ، فَلَمَّا قَالَ: الْمَأْمُونُ بِالنُّونِ، رَضِيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ عَلَى الْوَحْيِ. وَبُجَيْرٌ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَضْمُومَةِ، وَبِالْجِيمِ) . [ذِكْرُ غَزْوَةِ تَبُوكَ] لَمَّا عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ عَوْدِهِ مِنَ الطَّائِفِ مَا بَيْنَ ذِي الْحَجَّةِ إِلَى رَجَبٍ، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ بِالتَّجَهُّزِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَأَعْلَمَ النَّاسَ مَقْصِدَهُمْ لِبُعْدِ الطَّرِيقِ، وَشِدَّةِ الْحَرِّ، وَقُوَّةِ الْعَدُوِّ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَغَهُ أَنَّ هِرَقْلَ مِلْكَ الرُّومِ وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ مُتَنَصِّرَةِ الْعَرَبِ - قَدْ عَزَمُوا عَلَى قَصْدِهِ، فَتَجَهَّزَ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ وَسَارُوا إِلَى الرُّومِ. وَكَانَ الْحَرُّ شَدِيدًا، وَالْبِلَادُ مُجْدِبَةٌ، وَالنَّاسُ فِي عُسْرَةٍ، وَكَانَتِ الثِّمَارُ قَدْ طَابَتْ، فَأَحَبَّ النَّاسُ الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ، فَتَجَهَّزُوا عَلَى كُرْهٍ، فَكَانَ ذَلِكَ الْجَيْشُ يُسَمَّى جَيْشَ الْعُسْرَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمُنَافِقِينَ: هَلْ لَكَ فِي جِلَادِ بَنِي

الْأَصْفَرِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي حُبِّي لِلنِّسَاءِ، وَأَخْشَى أَنْ لَا أَصْبِرَ عَلَى نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْذَنَ لِي وَلَا تَفْتِنِّي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} [التوبة: 49] الْآيَةَ، وَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة: 81] . ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَجَهَّزَ وَأَمَرَ بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنْفَقَ أَهْلُ الْغِنَى، وَأَنْفَقَ أَبُو بَكْرٍ جَمِيعَ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ مَالِهِ، وَأَنْفَقَ عُثْمَانُ نَفَقَةً عَظِيمَةً لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ أَعْظَمَ مِنْهَا، قِيلَ: كَانَتْ ثَلَاثَمِائَةِ بَعِيرٍ وَأَلْفَ دِينَارٍ. ثُمَّ إِنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمُ الْبَكَّاءُونَ، وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ، فَاسْتَحْمَلُوهُ. فَقَالَ: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ. فَتَوَلَّوْا يَبْكُونَ، فَلَقِيَهُمْ يَامِينُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبٍ النَّضْرِيُّ، فَسَأَلَهُمْ عَمَّا يُبْكِيهِمْ فَأَعْلَمُوهُ، فَأَعْطَى أَبَا لَيْلَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ كَعْبٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيَّ بَعِيرًا، فَكَانَا يَعْتَقِبَانِهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ فَاعْتَذَرُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَعْذُرْهُمُ اللَّهُ، وَكَانَ عِدَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَخَلَّفُوا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، مِنْهُمْ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ. فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخَلَّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ الْمُنَافِقُ فِيمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، «وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ، وَعَلَى أَهْلِهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَرْجَفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: مَا خَلَّفَهُ إِلَّا اسْتِثْقَالًا لَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ عَلِيٌّ ذَلِكَ أَخَذَ سِلَاحَهُ وَلَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ مَا قَالَ الْمُنَافِقُونَ، فَقَالَ: كَذَبُوا، وَإِنَّمَا خَلَّفْتُكَ لِمَا وَرَائِي، فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِكَ، أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ

مُوسَى؟ إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» . فَرَجَعَ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ إِنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ أَقَامَ أَيَّامًا، فَجَاءَ يَوْمًا إِلَى أَهْلِهِ، وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ، وَقَدْ رَشَّتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرَّدَتْ لَهُ مَاءً، وَصَنَعَتْ طَعَامًا، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَرِّ وَالرِّيحِ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي الظِّلِّ الْبَارِدِ، وَالْمَاءِ الْبَارِدِ مُقِيمٌ! مَا هَذَا بِالنَّصَفِ، وَاللَّهِ مَا أَحَلُّ عَرِيشًا مِنْهَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَهَيَّأَ زَادَهُ وَخَرَجَ إِلَى نَاضِحِهِ فَرَكِبَهُ، وَطَلَبَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَدْرَكَهُ بِتَبُوكَ، فَقَالَ النَّاسُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَاكِبٌ مُقْبِلٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ. فَقَالُوا: هُوَ وَاللَّهِ أَبُو خَيْثَمَةَ. وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِخَبَرِهِ، فَدَعَا لَهُ» . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ مَرَّ بِالْحِجْرِ، وَهُوَ بِطَرِيقِهِ، وَهُوَ مَنْزِلُ ثَمُودَ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «لَا تَشْرَبُوا مِنْ هَذَا الْمَاءِ شَيْئًا، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْهُ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ فَأَلْقُوهُ وَاعْلِفُوهُ الْإِبِلَ، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا يَخْرُجِ اللَّيْلَةَ أَحَدٌ إِلَّا مَعَ صَاحِبٍ لَهُ» . فَفَعَلَ ذَلِكَ النَّاسُ وَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، خَرَجَ أَحَدُهُمَا لِحَاجَةٍ فَأَصَابَهُ جُنُونٌ، وَأَمَّا الَّذِي طَلَبَ بِعِيرَهُ فَاحْتَمَلَهُ الرِّيحُ إِلَى جَبَلَيْ طَيِّئٍ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ لَا يَخْرُجَ أَحَدٌ إِلَّا مَعَ صَاحِبٍ لَهُ» ؟ فَأَمَّا الَّذِي خُنِقَ فَدَعَا لَهُ فَشُفِيَ، وَأَمَّا الَّذِي حَمَلَتْهُ الرِّيحُ فَأَهْدَتْهُ طَيِّئٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ عَوْدِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَأَصْبَحَ النَّاسُ بِالْحِجْرِ وَلَا مَاءَ مَعَهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَا اللَّهَ، فَأَرْسَلَ سَحَابَةً فَأَمْطَرَتْ حَتَّى رُوِيَ النَّاسُ. وَكَانَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا جَاءَ الْمَطَرُ قَالَ لَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: هَلْ بَعُدَ هَذَا الشَّيْءُ؟ قَالَ: سَحَابَةٌ مَارَّةٌ. وَضَلَّتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، وَهُوَ عَقَبِيٌّ بَدْرِيٌّ: إِنَّ رَجُلًا قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُخْبِرُكُمُ الْخَبَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَهِيَ فِي الْوَادِي فِي شِعْبِ كَذَا، قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا، فَانْطَلَقُوا فَأَتَوْهُ بِهَا، فَرَجَعَ عُمَارَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَخَبَّرَهُمْ بِمَا قَالَ

رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ النَّاقَةِ تَعَجُّبًا مِمَّا رَأَى. وَكَانَ زَيْدُ بْنُ لُصَيْتٍ الْقَيْنُقَاعِيُّ مُنَافِقًا، وَهُوَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ قَدْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَأُخْبِرَ عُمَارَةُ بِأَنَّ زَيْدًا قَدْ قَالَهَا، فَقَامَ عُمَارَةُ يَطَأُ عُنُقَهُ وَهُوَ يَقُولُ: فِي رَحْلِي دَاهِيَةٌ وَلَا أَدْرِي! اخْرُجْ عَنِّي يَا عَدُوَّ اللَّهِ! فَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ زَيْدًا تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَقِيلَ: لَمْ يَزَلْ مُتَّهَمًا حَتَّى هَلَكَ. وَوَقَفَ بِأَبِي ذَرٍّ جَمَلُهُ فَتَخَلَّفَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍّ. فَقَالَ: ذَرُوهُ، فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ، فَكَانَ يَقُولُهَا لِكُلِّ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَوَقَفَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى جَمَلِهِ، فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ رَحْلَهُ عَنْهُ، وَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَتَبِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاشِيًا. فَنَظَرَ النَّاسُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ عَلَى الطَّرِيقِ وَحْدَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْ أَبَا ذَرٍّ. فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ النَّاسُ قَالُوا: هُوَ أَبُو ذَرٍّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ، يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ. وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ، وَيَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» . فَلَمَّا نَفَى عُثْمَانُ أَبَا ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ أَصَابَهُ بِهَا أَجَلُهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا امْرَأَتُهُ وَغُلَامُهُ، فَأَوْصَاهُمَا أَنْ يُغَسِّلَاهُ وَيُكَفِّنَاهُ، ثُمَّ يَضَعَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّ بِهِمَا يَسْتَعِينَانِ بِهِمْ عَلَى دَفْنِهِ، فَفَعَلَا ذَلِكَ، فَاجْتَازَ بِهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَعْلَمَتْهُ امْرَأَةُ أَبِي ذَرٍّ بِمَوْتِهِ. فَبَكَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمْشِي وَحْدَكَ، وَتَمُوتُ وَحْدَكَ، وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ، ثُمَّ وَارَوْهُ. وَانْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى تَبُوكَ، فَأَتَى يُوحَنَّا بْنَ رُؤْبَةَ صَاحِبَ أَيْلَةَ، فَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا، فَبَلَغَتْ جِزْيَتُهُمْ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ، ثُمَّ زَادَ فِيهَا الْخُلَفَاءُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ. فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمْ غَيْرَ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَصَالَحَ أَهْلَ أَذْرُحَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فِي كُلِّ رَجَبٍ. وَصَالَحَ أَهْلَ جَرْبَاءَ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَصَالَحَ أَهْلَ مَقْنَا عَلَى رُبْعِ ثِمَارِهِمْ. «وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدِرَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ صَاحِبِ دُومَةِ

الْجَنْدَلِ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا مِنْ كِنْدَةَ، فَقَالَ لِخَالِدٍ: إِنَّكَ تَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ» . فَخَرَجَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ عَلَى مَنْظَرِ الْعَيْنِ، وَأُكَيْدِرُ عَلَى سَطْحِ دَارِهِ، فَبَاتَتِ الْبَقَرُ تَحُكُّ بِقُرُونِهَا بَابَ الْحِصْنِ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ هَذَا قَطُّ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، ثُمَّ نَزَلَ وَرَكِبَ فَرَسَهُ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، ثُمَّ خَرَجَ يَطْلُبُ الْبَقَرَ، فَتَلَقَّتْهُمْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَتْهُ، وَقَتَلُوا أَخَاهُ حَسَّانًا، «وَأَخَذَ خَالِدٌ مِنْ أُكَيْدِرَ قَبَاءَ دِيبَاجٍ مُخَوَّصٍ بِالذَّهَبِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَلْمِسُونَهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا؟ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا» . وَقَدِمَ خَالِدٌ بِأُكَيْدِرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحُقِنَ دَمُهُ وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ. وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبُوكَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَلَمْ يُجَاوِزْهَا، وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ الرُّومُ وَالْعَرَبُ الْمُتَنَصِّرَةُ، فَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَكَانَ فِي الطَّرِيقِ مَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ وَشَلٍ لَا يَرْوِي إِلَّا الرَّاكِبَ وَالرَّاكِبَيْنِ، بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: وَادِي الْمُشَقَّقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَبَقَنَا فَلَا يَسْتَقِيَنَّ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَهُ. فَسَبَقَهُ نَفَرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَاسْتَقَوْا مَا فِيهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرُوهُ بِفِعْلِهِمْ، فَلَعَنَهُمْ وَدَعَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ تَحْتَهُ، وَجَعَلَ يَصُبُّ إِلَيْهَا يَسِيرًا مِنَ الْمَاءِ، فَدَعَا فِيهِ وَنَضَحَهُ فِي الْوَشَلِ، فَانْخَرَقَ الْمَاءُ جَرْيًا شَدِيدًا، فَشَرِبَ النَّاسُ وَاسْتَقَوْا» . وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَارَبَ الْمَدِينَةَ، فَأَتَاهُ خَبَرُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، فَأَرْسَلَ مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُمِ فَحَرَقَهُ وَهَدَمَهُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107] الْآيَاتِ. وَكَانَ الَّذِينَ بَنَوْهُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَكَانَ قَدْ أُخْرِجَ مِنْ دَارِ خِذَامِ بْنِ خَالِدٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْهُ رَهْطٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَأَتَوْهُ يَحْلِفُونَ لَهُ وَيَعْتَذِرُونَ، فَصَفَحَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَعْذُرْهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَتَخَلَّفَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الثَّلَاثَةُ، وَهُمْ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، تَخَلَّفُوا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا نِفَاقٍ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَلَامِهِمْ، فَاعْتَزَلَهُمُ النَّاسُ، فَبَقُوا كَذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التوبة: 118]

ذكر قدوم عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

الْآيَاتِ، إِلَى قَوْلِهِ: صَادِقِينَ، وَكَانَ قُدُومُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ مِنْ تَبُوكَ فِي رَمَضَانَ. (يَامِينُ النَّضْرِيُّ بِالنُّونِ، وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ. وَزَيْدُ بْنُ لُصَيْتٍ بِاللَّامِ الْمَضْمُومَةِ، وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَآخِرُهُ تَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ فَوْقِهَا. وَخِذَامُ بْنُ خَالِدٍ بِالْخَاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ. وَأُكَيْدِرٌ بِالْهَمْزَةِ الْمَضْمُومَةِ، وَالْكَافِ الْمَفْتُوحَةِ، وَالدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ، وَآخِرُهُ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ) . [ذِكْرُ قُدُومِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] وَفِيهَا قَدِمَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْلِمًا، وَقِيلَ: بَلْ أَدْرَكَهُ فِي الطَّرِيقِ مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهِ بِالْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُمْ قَاتِلُوكَ، فَقَالَ: أَنَا أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِهِمْ، وَرَجَا أَنْ يُوَافِقُوهُ لِمَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الطَّائِفِ صَعِدَ إِلَى عِلِّيَّةٍ لَهُ، وَأَشْرَفَ مِنْهَا عَلَيْهِمْ، وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ، فَرَمَوْهُ بِالنَّبْلِ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ، فَقِيلَ لَهُ: مَا تَرَى فِي دَمِكَ؟ فَقَالَ: كَرَامَةٌ أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِهَا، وَشَهَادَةٌ سَاقَهَا إِلَيَّ، لَيْسَ فِيَّ إِلَّا مَا فِي الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، فَادْفِنُونِي مَعَهُمْ. فَلَمَّا مَاتَ دَفَنُوهُ مَعَهُمْ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ: إِنَّ مَثَلَهُ فِي قَوْمِهِ كَمَثَلِ صَاحِبِ يس فِي قَوْمِهِ» . [ذِكْرُ قُدُومِ وَفْدِ ثَقِيفٍ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَمَضَانَ قَدِمَ وَفْدُ ثَقِيفٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ رَأَوْا مَنْ يُحِيطُ بِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ نَصَبُوا لَهُمُ الْقِتَالَ، وَشَنُّوا الْغَارَاتِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ أَشَدَّهُمْ فِي ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ، فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ مَالٌ إِلَّا نُهِبَ، وَلَا إِنْسَانٌ إِلَّا أُخِذَ، فَلَمَّا رَأَوْا عَجْزَهُمُ اجْتَمَعُوا وَأَرْسَلُوا عَبْدَ يَا لَيْلَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَالْحَكَمَ بْنَ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ غَيْلَانَ، وَهَؤُلَاءِ مِنَ الْأَحْلَافِ، وَأَرْسَلُوا مِنْ بَنِي مَالِكٍ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَأَوْسَ بْنَ عَوْفٍ، وَنُمَيْرَ بْنَ خَرَشَةَ، فَخَرَجُوا حَتَّى

ذكر غزوة طيئ وإسلام عدي بن حاتم

قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَهُمْ فِي قُبَّةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ يَمْشِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ مَا يَأْكُلُونَهُ مَعَ خَالِدٍ، وَكَانُوا لَا يَأْكُلُونَ طَعَامًا حَتَّى يَأْكُلَ خَالِدٌ مِنْهُ، حَتَّى أَسْلَمُوا. وَكَانَ فِيمَا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَدَعَ الطَّاغِيَةَ، وَهِيَ اللَّاتُ، لَا يَهْدِمُهَا ثَلَاثَ سِنِينَ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ، وَكَانَ قَصْدُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ يَتَسَلَّمُوا بِتَرْكِهَا مِنْ سُفَهَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَنَزَلُوا إِلَى شَهْرٍ فَلَمْ يُجِبْهُمْ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ فَقَالَ: «لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيهِ» . فَأَجَابُوا وَأَسْلَمُوا. وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ، لِمَا رَأَى مِنْ حِرْصِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ. ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ؛ لِيَهْدِمَا الطَّاغِيَةَ، فَتَقَدَّمَ الْمُغِيرَةُ فَهَدَمَهَا، وَقَامَ قَوْمُهُ مِنْ بَنِي شُعَيْبٍ دُونَهُ؛ خَوْفًا أَنْ يُرْمَى بِسَهْمٍ، وَخَرَجَ نِسَاءُ ثَقِيفٍ حُسَّرًا يَبْكِينَ عَلَيْهَا، وَأُخِذَ حُلِيُّهَا وَمَالُهَا. وَكَانَ أَبُو مَلِيحِ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَقَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ - قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قُتِلَ عُرْوَةُ وَالْأَسْوَدُ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْضِيَا مِنْهُ دَيْنَ عُرْوَةَ وَالْأَسْوَدِ ابْنَيْ مَسْعُودٍ، فَفَعَلَا، «وَكَانَ الْأَسْوَدُ مَاتَ كَافِرًا، فَسَأَلَ ابْنُهُ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ أَبِيهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَافِرٌ. فَقَالَ: يَصِلُ مُسْلِمٌ ذَا قَرَابَتِهِ» . يَعْنِي أَنَّهُ أَسْلَمَ فَيَصِلُ أَبَاهُ وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا. [ذِكْرُ غَزْوَةِ طَيِّئٍ وَإِسْلَامِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ أَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى دِيَارِ طَيِّئٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَهْدِمَ صَنَمَهُمُ الْفَلْسَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَأَغَارَ عَلَيْهِمْ، فَغَنِمَ وَسَبَى وَكَسَرَ الصَّنَمَ، وَكَانَ مُتَقَلِّدًا سَيْفَيْنِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: مِخْذَمُ، وَلِلْآخَرِ: رَسُوبُ، فَأَخَذَهُمَا عَلِيٌّ وَحَمَلَهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شِمْرٍ أَهْدَى السَّيْفَيْنِ لِلصَّنَمِ، فَعُلِّقَا عَلَيْهِ، وَأَسَرَ بِنْتًا لِحَاتِمٍ الطَّائِيِّ، وَحُمِلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ، فَأَطْلَقَهَا. وَأَمَّا إِسْلَامُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فَقَالَ عَدِيٌّ: جَاءَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذُوا أُخْتِي وَنَاسًا، فَأَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ أُخْتِي: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ، وَغَابَ الْوَافِدُ،

ذكر قدوم الوفود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ: وَمَنْ وَافِدُكِ؟ قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ. قَالَ: الَّذِي فَرَّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ! فَمَنَّ عَلَيْهَا، وَإِلَى جَانِبِهِ رَجُلٌ قَائِمٌ وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: سَلِيهِ حُمْلَانًا. فَسَأَلَتْهُ، فَأَمَرَ لَهَا بِهِ وَكَسَاهَا، وَأَعْطَاهَا نَفَقَةً» . قَالَ عَدِيٌّ: وَكُنْتُ مَلِكَ طَيِّئٍ آخُذُ مِنْهُمُ الْمِرْبَاعَ وَأَنَا نَصْرَانِيٌّ، فَلَمَّا قَدِمَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَرَبْتُ إِلَى الشَّامِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَقُلْتُ: أَكُونُ عِنْدَ أَهْلِ دِينِي، فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّامِ إِذْ جَاءَتْ أُخْتِي، وَأَخَذَتْ تَلُومُنِي عَلَى تَرْكِهَا وَهَرَبِي بِأَهْلِي دُونَهَا، ثُمَّ قَالَتْ لِي: أَرَى أَنْ تَلْحَقَ بِمُحَمَّدٍ سَرِيعًا، فَإِنْ كَانَ نَبِيًّا كَانَ لِلسَّابِقِ فَضْلُهُ، وَإِنْ كَانَ مَلِكًا كُنْتَ فِي عِزٍّ وَأَنْتَ أَنْتَ. قَالَ: «فَقَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَعَرَّفْتُهُ نَفْسِي، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى بَيْتِهِ، فَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ فَاسْتَوْقَفَتْهُ، فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلًا تُكَلِّمُهُ فِي حَاجَتِهَا، فَقُلْتُ: مَا هَذَا بِمَلِكٍ، ثُمَّ دَخَلْتُ بَيْتَهُ فَأَجْلَسَنِي عَلَى وِسَادَةٍ، وَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا هَذَا مَلِكٌ. فَقَالَ لِي: يَا عَدِيُّ، إِنَّكَ تَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ وَهُوَ لَا يَحِلُّ فِي دِينِكَ، وَلَعَلَّكَ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الْإِسْلَامِ مَا تَرَى مِنْ حَاجَتِنَا وَكَثْرَةِ عَدُوِّنَا، وَاللَّهِ لَيَفِيضَنَّ الْمَالُ فِيهِمْ حَتَّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ، وَوَاللَّهِ لَتَسْمَعَنَّ بِالْمَرْأَةِ تَسِيرُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا حَتَّى تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ، لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَوَاللَّهِ لَتَسْمَعَنَّ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ بَابِلَ وَقَدْ فُتِحَتْ. قَالَ: فَأَسْلَمْتُ، فَقَدْ رَأَيْتُ الْقُصُورَ الْبِيضَ وَقَدْ فُتِحَتْ، وَرَأَيْتُ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ إِلَى الْبَيْتِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَوَاللَّهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ لَيَفِيضَنَّ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ» . [ذِكْرُ قُدُومِ الْوُفُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ وَأَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ، وَفَرَغَ مِنْ تَبُوكَ - ضَرَبَتْ إِلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَنْتَظِرُ بِإِسْلَامِهَا قُرَيْشًا؛ إِذْ كَانُوا أَمَامَ النَّاسِ، وَأَهْلَ الْحَرَمِ، وَصَرِيحَ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا تُنْكِرُ الْعَرَبُ ذَلِكَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي نَصَبَتِ الْحَرْبَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخِلَافَهُ، فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ وَأَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ عَرَفَتِ الْعَرَبُ أَنَّهَا لَا طَاقَةَ لَهَا بِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَدَاوَتِهِ، فَدَخَلُوا فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3] .

وَقَدِمَتْ وُفُودُهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَدِمَ وَفْدُ بَنِي أَسَدٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: أَتَيْنَاكَ قَبْلَ أَنْ تُرْسِلَ إِلَيْنَا رَسُولًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات: 17] ، الْآيَةَ. وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ بَلِيٍّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ الدَّارِيِّينَ، وَهُمْ عَشَرَةُ نَفَرٍ. وَفِيهَا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ مَعَ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسٍ، وَفِيهِمْ: الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، وَالْخَتَّاتُ، وَمُعْتَمِرُ بْنُ زَيْدٍ، فِي وَفْدٍ عَظِيمٍ، وَمَعَهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ نَادَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَرَاءِ حُجُرَاتِهِ: أَنِ اخْرُجْ إِلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ، فَآذَى ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: جِئْنَا نُفَاخِرُكَ، فَأْذَنْ لِشَاعِرِنَا وَخَطِيبِنَا، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَقَامَ عُطَارِدُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْنَا الْفَضْلُ الَّذِي جَعَلَنَا مُلُوكًا، وَوَهَبَ لَنَا أَمْوَالًا عِظَامًا نَفْعَلُ فِيهَا الْمَعْرُوفَ، وَجَعَلَنَا أَعَزَّ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَأَكْثَرَهُمْ عَدَدًا، فَمَنْ يُفَاخِرُنَا فَلْيُعَدِّدْ مِثْلَ عَدَدِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: أَجِبِ الرَّجُلَ. فَقَامَ ثَابِتٌ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ خَلْقُهُ، قَضَى فِيهِنَّ أَمْرَهُ، وَوَسِعَ كُرْسِيُّهُ عِلْمَهُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَطُّ إِلَّا مِنْ فَضْلِهِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ قُدْرَتِهِ أَنْ جَعَلَنَا مُلُوكًا، وَاصْطَفَى مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ رَسُولًا، أَكْرَمَهُمْ نَسَبًا، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وَأَفْضَلَهُمْ حَسَبًا، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ، وَائْتَمَنَهُ عَلَى خَلْقِهِ، فَكَانَ خِيرَةَ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنَ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ، فَآمَنَ بِهِ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ، أَكْرَمُ النَّاسِ نَسَبًا، وَأَحْسَنُ النَّاسِ وُجُوهًا، وَخَيْرُ النَّاسِ فِعَالًا. ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ الْخَلْقِ اسْتِجَابَةً لِلَّهِ حِينَ دَعَاهُ نَحْنُ، فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَوُزَرَاءُ رَسُولِهِ، نُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مَنَعَ مَالَهُ وَدَمَهُ، وَمَنْ كَفَرَ جَاهَدْنَاهُ فِي اللَّهِ أَبَدًا، وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَيْنَا يَسِيرًا، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِشَاعِرِنَا، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَامَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ فَقَالَ:

نَحْنُ الْكِرَامُ فَلَا حَيٌّ يُعَادِلُنَا ... مِنَّا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ الْبِيَعُ وَكَمْ قَسَرْنَا مِنَ الْأَحْيَاءِ كُلِّهِمُ ... عِنْدَ النِّهَابِ وَفَضْلُ الْعُرْبِ يُتَّبَعُ وَنَحْنُ يُطْعِمُ عِنْدَ الْقَحْطِ مُطْعِمُنَا ... مِنَ الشِّوَاءِ إِذَا لَمْ يُؤْنَسِ الْقَزَعُ بِمَا تَرَى النَّاسَ تَأْتِينَا سَرَاتُهُمُ ... مِنْ كُلِّ أَرْضٍ هُوِيًّا ثُمَّ نَصْطَنِعُ فَنَنْحَرُ الْكُومَ عَبْطًا فِي أَرُومَتِنَا ... لِلنَّازِلِينَ إِذَا مَا أُنْزِلُوا شَبِعُوا فَلَا تَرَانَا إِلَى حَيٍّ نُفَاخِرُهُمْ ... إِلَّا اسْتَقَادُوا وَكَادَ الرَّأْسُ يُقْتَطَعُ إِنَّا أَبَيْنَا وَلَنْ يَأْبَى لَنَا أَحَدٌ ... إِنَّا كَذَلِكَ عِنْدَ الْفَخْرِ نَرْتَفِعُ فَمَنْ يُفَاخِرُنَا فِي ذَاكَ يَعْرِفُنَا ... فَيَرْجِعُ الْقَوْلُ وَالْأَخْبَارُ تُسْتَمَعُ قَالَ: وَكَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ غَائِبًا، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُجِيبَ شَاعِرَهُمْ. قَالَ حَسَّانُ: فَلَمَّا سَمِعْتُ قَوْلَهُ قُلْتُ عَلَى نَحْوِهِ: إِنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ ... قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ ... أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا يَرْضَى بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الْإِلَهِ، وَكُلُّ الْبِرِّ يُصْطَنَعُ سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إِنَّ الْخَلَائِقَ، فَاعْلَمْ، شَرُّهَا الْبِدَعُ إِنْ كَانَ فِي النَّاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ ... فَكُلُّ سَبْقٍ لِأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ لَا يُرْقِعُ النَّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفُّهُمُ ... عِنْدَ الدِّفَاعِ وَلَا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا إِنْ سَابَقُوا النَّاسَ يَوْمًا فَازَ سَبْقُهُمْ ... أَوْ وَازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنَّدَى مَتَعُوا أَعِفَّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحْيِ عِفَّتُهُمْ ... لَا يَطْعَبُونَ وَلَا يُزْرِي بِهِمْ طَمَعُ لَا يَبْخَلُونَ عَلَى جَارٍ بِفَضْلِهِمُ ... وَلَا يَمَسُّهُمْ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَعُ

إِذَا نَصَبْنَا لِحَيٍّ لَمْ نَدِبَّ لَهُمُ كَمَا يَدِبُّ إِلَى الْوَحْشِيَّةِ الذَّرَعُ ... كَأَنَّهُمْ فِي الْوَغَى وَالْمَوْتِ مُكْتَنِعُ أُسْدٌ بِحَلْيَةَ فِي أَرْسَاغِهَا فَدَعُ ... أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللَّهِ شِيعَتُهُمْ إِذَا تَفَرَّقَتِ الْأَهْوَاءُ وَالشِّيَعُ ... فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ الْأَحْيَاءِ كُلِّهِمُ إِنْ جَدَّ بِالنَّاسِ جِدُّ الْقَوْلِ أَوْ شَمَعُوا فَلَمَّا فَرَغَ حَسَّانُ قَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لِمُؤْتًى لَهُ، خَطِيبُهُمْ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا، وَشَاعِرُهُمْ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا، ثُمَّ أَسْلَمُوا وَأَجَازَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] الْآيَاتِ. (الْخَتَّاتُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَتَاءَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتُ، وَنُونٍ) . وَفِيهَا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُتُبُ مُلُوكِ حِمْيَرَ مُقِرِّينَ بِالْإِسْلَامِ، مَعَ رَسُولِهِمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، وَالنُّعْمَانِ - قِيلَ: ذِي رُعَيْنٍ - وَهَمْدَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ زُرْعَةُ ذُو يَزَنَ مَالِكَ بْنَ مُرَّةَ الرُّهَاوِيَّ بِإِسْلَامِهِمْ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ. وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ بَهْرَاءَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلُوا عَلَى الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو. وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ بَنِي الْبَكَّاءِ. وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ بَنِي فَزَارَةَ، فِيهِمْ خَارِجَةُ بْنُ حِصْنٍ. وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ ثَعْلَبَةَ بْنِ مُنْقِذٍ. وَفِيهَا «قَدِمَ وَفْدُ سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَكَانَ وَافِدُهُمْ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَأَسْلَمَ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ» ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: بِئْسَتِ اللَّاتُ وَالْعُزَّى! فَقَالُوا: اتَّقِ الْبَرَصَ وَالْجُذَامَ وَالْجُنُونَ. فَقَالَ: وَيْحَكُمْ! إِنَّهُمَا لَا يَضُرَّانِ وَلَا

ذكر حج أبي بكر - رضي الله عنه -

يَنْفَعَانِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا، وَقَدِ اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ. وَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ، فَمَا أَمْسَى ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ مُشْرِكٌ وَلَا امْرَأَةٌ مُشْرِكَةٌ، فَمَا سُمِعَ بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. [ذِكْرُ حَجِّ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] وَفِيهَا «حَجَّ أَبُو بَكْرٍ بِالنَّاسِ وَمَعَهُ عِشْرُونَ بَدَنَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِنَفْسِهِ خَمْسُ بَدَنَاتٍ، وَكَانَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ، فَلَمَّا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَثَرِهِ عَلِيًّا، وَأَمَرَهُ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَعَادَ أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ لَا يُبَلِّغُ عَنِّي إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنِّي، أَلَا تَرْضَى يَا أَبَا بَكْرٍ أَنَّكَ كُنْتَ مَعِي فِي الْغَارِ وَصَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ؟ قَالَ: بَلَى، فَسَارَ أَبُو بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ، فَأَقَامَ النَّاسُ الْحَجَّ، وَحَجَّتِ الْعَرَبُ الْكُفَّارُ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَلِيٌّ يُؤَذِّنُ بِ " بَرَاءَةٌ "، فَنَادَى يَوْمَ الْأَضْحَى: لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَهْدٌ؛ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ» . وَرَجَعَ الْمُشْرِكُونَ، فَلَامَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقَالُوا: مَا تَصْنَعُونَ وَقَدْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ؟ فَأَسْلَمُوا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُرِضَتِ الصَّدَقَاتُ، وَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا عُمَّالَهُ. وَفِيهَا فِي شَعْبَانَ تُوُفِّيَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ زَوْجُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَغَسَّلَتْهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقِيلَ: غَسَّلَتْهَا نِسْوَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، مِنْهُنَّ أُمُّ عَطِيَّةَ، وَصَلَّى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَزَلَ فِي حُفْرَتِهَا أَبُو طَلْحَةَ. وَفِيهَا «مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ مَرَضِهِ فِي شَوَّالٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ قَمِيصَهُ، فَأَعْطَاهُ فَكَفَّنَهُ فِيهِ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا؟ يُعَدِّدُ أَيَّامَهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَبَسَّمُ ثُمَّ قَالَ: أَخِّرْ عَنِّي عُمَرُ، قَدْ خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، قَدْ قِيلَ لِي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]

وَلَوْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ زِدْتُ عَلَى السَبْعِينِ غُفِرَ لَهُمْ لَزِدْتُ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ، وَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] الْآيَةَ» . وَفِيهَا نَعَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّجَاشِيَّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ.

ذكر الأحداث في سنة عشر

[ذِكْرُ الْأَحْدَاثِ فِي سَنَةِ عَشْرٍ] [ذِكْرُ وَفْدِ نَجْرَانَ مَعَ الْعَاقِبِ وَالسَّيِّدِ] 10 - ذِكْرُ الْأَحْدَاثِ فِي سَنَةِ عَشْرٍ ذِكْرُ وَفْدِ نَجْرَانَ مَعَ الْعَاقِبِ وَالسَّيِّدِ وَفِيهَا أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ بِنَجْرَانَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابُوا أَقَامَ فِيهِمْ وَعَلَّمَهُمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلَهُمْ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَجَابُوا وَأَسْلَمُوا، فَأَقَامَ فِيهِمْ، وَكَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْلِمُهُ إِسْلَامَهُمْ، وَعَادَ خَالِدٌ وَمَعَهُ وَفْدُهُمْ، فِيهِمْ قَيْسُ بْنُ الْحُصَيْنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ قَيْنَانَ ذِي الْغُصَّةِ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ وَغَيْرُهُمَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ عَادُوا عَنْهُ فِي بَقِيَّةِ شَوَّالٍ أَوْ فِي ذِي الْحَجَّةِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ يُعَلِّمُهُمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَيَأْخُذُ صَدَقَاتِهِمْ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا، وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمْرُو بْنُ حَزْمٍ عَلَى نَجْرَانَ. وَأَمَّا نَصَارَى نَجْرَانَ فَإِنَّهُمْ أَرْسَلُوا الْعَاقِبَ وَالسَّيِّدَ فِي نَفَرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَرَادُوا مُبَاهَلَتَهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ قَالُوا: هَذِهِ وُجُوهٌ لَوْ أَقْسَمَتْ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُزِيلَ الْجِبَالَ لَأَزَالَهَا، وَلَمْ يُبَاهِلُوهُ، وَصَالَحُوهُ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، ثَمَنُ كُلِّ حُلَّةٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَعَلَى أَنْ يُضِيفُوا رُسُلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَعَهْدَهُ أَلَّا يُفْتَنُوا عَنْ دِينِهِمْ، وَلَا يُعَشَّرُوا، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَأْكُلُوا الرِّبَا وَلَا يَتَعَامَلُوا بِهِ. فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ عَامَلَهُمْ بِذَلِكَ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ أَجْلَى أَهْلَ الْكِتَابِ عَنِ الْحِجَازِ، وَأَجْلَى أَهْلَ نَجْرَانَ، فَخَرَجَ بَعْضُهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى نَجْرَانِيَّةِ الْكُوفَةِ، وَاشْتَرَى مِنْهُمْ عَقَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ.

وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ كَثُرُوا، فَبَلَغُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَتَحَاسَدُوا بَيْنَهُمْ، فَأَتَوْا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَقَالُوا: أَجْلِنَا، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ خَافَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَاغْتَنَمَهَا، فَأَجْلَاهُمْ، فَنَدِمُوا بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَقَالُوهُ فَأَبَى، فَبَقُوا كَذَلِكَ إِلَى خِلَافَةِ عُثْمَانَ. فَلَمَّا وَلِيَ عَلِيٌّ أَتَوْهُ وَقَالُوا: نَنْشُدُكَ اللَّهَ خَطَّكَ بِيَمِينِكَ. فَقَالَ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ رَشِيدَ الْأَمْرِ، وَأَنَا أَكْرَهُ خِلَافَهُ، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ أَسْقَطَ عَنْهُمْ مِائَتَيْ حُلَّةٍ، وَكَانَ صَاحِبُ النَّجْرَانِيَّةِ بِالْكُوفَةِ يَبْعَثُ إِلَى مَنْ بِالشَّامِ وَالنَّوَاحِي مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ يَجْبُونَهُمُ الْحُلَلَ. فَلَمَّا وَلِيَ مُعَاوِيَةُ وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ شَكَوْا إِلَيْهِ تَفَرُّقَهُمْ، وَمَوْتَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ، وَإِسْلَامَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَكَانُوا قَدْ قَلُّوا، وَأَرَوْهُ كِتَابَ عُثْمَانَ، فَوَضَعَ عَنْهُمْ مِائَتَيْ حُلَّةٍ تَكْمِلَةَ أَرْبَعِمِائَةِ حُلَّةٍ. فَلَمَّا وَلِيَ الْحَجَّاجُ الْعِرَاقَ، وَخَرَجَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ - اتَّهَمَ الدَّهَاقِينَ بِمُوَالَاتِهِ، وَاتَّهَمَهُمْ مَعَهُمْ، فَرَدَّهُمْ إِلَى أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةِ حُلَّةٍ، وَأَخَذَهُمْ بِحُلَلٍ وَشَيْءٍ. فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ شَكَوْا إِلَيْهِ فَنَاءَهُمْ وَنَقْصَهُمْ، وَإِلْحَاحَ الْعَرَبِ عَلَيْهِمْ بِالْغَارَةِ، وَظُلْمَ الْحَجَّاجِ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَأُحْصَوْا، وَوُجِدُوا عَلَى الْعُشْرِ مِنْ عِدَّتِهِمُ الْأُولَى، فَقَالَ: أَرَى هَذَا الصُّلْحَ جِزْيَةً، وَلَيْسَ عَلَى أَرْضِهِمْ شَيْءٌ، وَجِزْيَةُ الْمُسْلِمِ وَالْمَيِّتِ سَاقِطَةٌ، فَأَلْزَمَهُمْ مِائَتَيْ حُلَّةٍ. فَلَمَّا تَوَلَّى يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ رَدَّهُمْ إِلَى أَمْرِهِمُ الْأَوَّلِ عَصَبِيَّةً لِلْحَجَّاجِ. فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ السَّفَّاحُ عَمَدُوا إِلَى طَرِيقِهِ يَوْمَ ظُهُورِهِ مِنَ الْكُوفَةِ، فَأَلْقَوْا فِيهَا الرَّيْحَانَ وَنَثَرُوا عَلَيْهِ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ، ثُمَّ رَفَعُوا إِلَيْهِ أَمْرَهُمْ، وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِأَخْوَالِهِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، فَكَلَّمَهُ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، فَرَدَّهُمْ إِلَى مِائَتَيْ حُلَّةٍ. فَلَمَّا وَلِيَ الرَّشِيدُ شَكَوْا إِلَيْهِ الْعُمَّالَ فَأَمَرَ أَنْ يُعْفَوْا مِنَ الْعُمَّالِ، وَأَنْ يَكُونَ مُؤَدَّاهُمْ بَيْتَ الْمَالِ. وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ سَلَامَانَ فِي شَوَّالٍ، وَهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ، رَأَسَهُمْ حَبِيبٌ السَّلَامَانِيُّ. وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ غَسَّانَ فِي رَمَضَانَ، وَوَفْدُ غَامِدٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَيْضًا.

وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ الْأَزْدِ، رَأَسَهُمْ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فِي بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَسْلَمَ، وَأَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُجَاهِدَ الْمُشْرِكِينَ، فَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ جُرَشَ، وَفِيهَا قَبَائِلُ مِنَ الْيَمَنِ فِيهِمْ خَثْعَمُ، فَحَاصَرَهُمْ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، فَامْتَنَعُوا مِنْهُ، فَرَجَعَ حَتَّى كَانَ بِجَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: كَشَرُ، فَظَنَّ أَهْلُ جُرَشَ أَنَّهُ مُنْهَزِمٌ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ فَأَدْرَكُوهُ، فَعَطَفَ عَلَيْهِمْ فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَدْ «كَانَ أَهْلُ جُرَشَ بَعَثُوا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرَانِ حَالَهُ. فَبَيْنَمَا هُمَا عِنْدَهُ إِذْ قَالَ: بِأَيِّ بِلَادِ اللَّهِ شَكَرُ؟ فَقَالَا: بِبِلَادِنَا جَبَلٌ يُقَالُ لَهُ كَشَرُ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِكَشَرَ، وَلَكِنَّهُ شَكَرُ، وَإِنَّ بُدْنَ اللَّهِ لَتُنْحَرُ عِنْدَهُ الْآنَ. فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ أَوْ عُثْمَانُ: وَيْحَكُمَا! إِنَّهُ يَنْعِي لَكُمَا قَوْمَكُمَا، فَاسْأَلَاهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ يَرْفَعُ عَنْهُمْ، فَفَعَلَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنْهُمْ، فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ إِلَى قَوْمِهِمَا، فَوَجَدَاهُمْ قَدْ أُصِيبُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالَهُمْ، وَخَرَجَ وَفْدُ جُرَشَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمُوا» . وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ مُرَادٍ مَعَ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُفَارِقًا لِمُلُوكِ كِنْدَةَ، وَقَدْ كَانَ قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ بَيْنَ مُرَادٍ وَهَمْدَانَ وَقْعَةٌ ظَفِرَتْ فِيهَا هَمْدَانُ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِي مُرَادٍ، وَكَانَ يُقَالُ لِذَلِكَ الْيَوْمِ: يَوْمُ الرَّزْمِ، وَكَانَ رَئِيسَ هَمْدَانَ الْأَجْدَعُ بْنُ مَالِكٍ وَالِدُ مَسْرُوقٍ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ فَرْوَةُ: فَإِنْ نَغْلِبْ فَغَلَّابُونَ قِدْمًا ... وَإِنْ نُهْزَمْ فَغَيْرُ مُهَزَّمِينَا وَمَا إِنْ طِبُّنَا جُبْنٌ وَلَكِنْ ... مَنَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرِينَا كَذَاكَ الدَّهْرُ دَوْلَتُهُ سِجَالٌ ... تَكُرُّ صُرُوفُهُ حِينًا وَحِينَا فَبَيْنَا مَا يُسَرُّ بِهِ وَيُرْضَى ... وَلَوْ لُبِسَتْ غَضَارَتُهُ سِنِينَا إِذِ انْقَلَبَتْ بِهِ كُرَّاتُ دَهْرٍ ... فَأَلْفَى لِلْأُولَى غَبَطُوا طَحِينًا وَمَنْ يُغْبَطْ بِرَيْبِ الدَّهْرِ مِنْهُمْ ... يَجِدْ رَيْبَ الزَّمَانِ لَهُ خَئُونًا فَلَوْ خَلَدَ الْمُلُوكُ إِذًا خَلَدْنَا ... وَلَوْ بَقِيَ الْكِرَامُ إِذًا بَقِينَا

فَأَفْنَى ذَاكُمُ سَرَوَاتِ قَوْمٍ كَمَا أَفْنَى الْقُرُونَ الْأَوَّلِينَا وَلَمَّا تَوَّجَهَ فَرْوَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُفَارِقًا لِقَوْمِهِ قَالَ: لَمَّا رَأَيْتُ مُلُوكَ كِنْدَةَ أَعْرَضَتْ ... كَالرِّجْلِ خَانَ الرِّجْلَ عِرْقَ نَسَائِهَا يَمَّمْتُ رَاحِلَتِي أَؤُمُّ مُحَمَّدًا ... أَرْجُو فَضَائِلَهَا وَحُسْنَ ثَرَائِهَا فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: يَا فَرْوَةُ، هَلْ سَاءَكَ مَا أَصَابَ قَوْمَكَ يَوْمَ الرِّزْمِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ ذَا يُصِيبُ قَوْمَهُ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمِي، وَلَمْ يَسُؤْهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يَزِيدُ قَوْمَكَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا خَيْرًا. فَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مُرَادٍ وَزُبَيْدٍ وَمَذْحِجٍ كُلِّهَا، وَبَعَثَ مَعَهُ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَكَانَ عَلَى الصَّدَقَاتِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِيهَا أَرْسَلَ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو الْجُذَامِيُّ، ثُمَّ النُّفَاثِيُّ، رَسُولًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِسْلَامِهِ، وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَانَ فَرْوَةُ عَامِلًا لِلرُّومِ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ مُعَانَ فِي أَرْضِ الشَّامِ، فَلَمَّا بَلَغَ الرُّومَ إِسْلَامُهُ طَلَبُوهُ حَتَّى أَسَرُوهُ، فَحَبَسُوهُ، فَقَالَ فِي مَحْبَسِهِ ذَلِكَ: طَرَقَتْ سُلَيْمِي مُوهِنًا فَشَجَانِي ... وَالرُّومُ بَيْنَ الْبَابِ وَالْقُرْبَانِ صَدَّ الْخَيَالُ وَسَاءَهُ مَا قَدْ رَأَى ... وَهَمَمْتُ أَنْ أُغْفِيَ وَقَدْ أَبْكَانِي لَا تُكْحِلِنَّ الْعَيْنَ بَعْدِي إِثْمِدًا ... سَلْمَى وَلَا تَدْنِنَّ لِلْإِنْسَانِ فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الرُّومُ لِصَلْبِهِ عَلَى مَاءٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: عِفْرَى، بِفِلَسْطِينَ قَالَ:

أَلَا هَلْ أَتَى سَلْمَى بِأَنَّ خَلِيلَهَا ... عَلَى مَاءِ عِفْرَى فَوْقَ إِحْدَى الرَّوَاحِلِ عَلَى نَاقَةٍ لَمْ يُلَقِّحِ الْفَحْلُ أُمَّهَا ... مُشَذَّبَةٍ أَطْرَافُهَا بِالْمَنَاجِلِ وَهَذَا مِنْ أَبْيَاتِ الْمَعَانِي. فَلَمَّا قَدَّمُوهُ لِيَصْلُبُوهُ قَالَ: بَلِّغْ سَرَاةَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنِّنِي ... سَلْمٌ لِرَبِّي أَعْظُمِي وَمَقَامِي ثُمَّ ضَرَبُوا عُنُقَهُ، وَصَلَبُوهُ. وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ زُبَيْدٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ اسْتَعْمَلَ عَلَى زُبَيْدٍ وَمُرَادٍ فَرْوَةَ بْنَ مُسَيْكٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبْلَ قُدُومِ عَمْرٍو، فَلَمَّا عَادَ عَمْرٌو مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ فِي قَوْمِهِ بَنِي زُبَيْدٍ وَعَلَيْهِمْ فَرْوَةُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْتَدَّ عَمْرٌو. وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِمُ الْجَارُودُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَنْ مَعَهُ، وَكَانَ الْجَارُودُ حَسَنَ الْإِسْلَامِ، نَهَى قَوْمَهُ عَنِ الرِّدَّةِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ارْتَدُّوا مَعَ الْغَرُورِ، وَهُوَ الْمُنْذِرُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ قَبْلَ الْفَتْحِ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى الْعَبْدِيِّ، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، ثُمَّ هَلَكَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبْلَ رِدَّةِ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ، وَالْعَلَاءُ أَمِيرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ. وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ وَفِيهِمْ مُسَيْلِمَةُ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ فِي دَارِ ابْنَةِ الْحَارِثِ، امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَاجْتَمَعَ مُسَيْلِمَةُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ عَادَ إِلَى الْيَمَامَةِ وَتَنَبَّأَ، وَتَكَذَّبَ لَهُمْ، وَادَّعَى أَنَّهُ شَرِيكُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النُّبُوَّةِ، فَاتَّبَعَهُ بَنُو حَنِيفَةَ.

وَفِيهَا «قَدِمَ وَفْدُ كِنْدَةَ مَعَ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا، فَقَالَ الْأَشْعَثُ: نَحْنُ بَنُو آكِلِ الْمِرَارِ، وَأَنْتَ ابْنُ آكِلِ الْمِرَارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ لَا نَقْفُو أُمَّنَا، وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا» . وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ مُحَارِبٍ. وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ الرَّهَاوِيِّينَ، وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ مَذْحِجٍ (وَرَهَاءُ بِفَتْحِ الرَّاءِ، قَالَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ) . وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ عَبْسٍ. وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ صَدِفٍ، وَافَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ خَوْلَانَ، وَكَانُوا عَشْرَةً. وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فِيهِمْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَأَرْبَدُ بْنُ قَيْسٍ، وَجَبَّارُ بْنُ سُلْمَى - بِضَمِّ السِّينِ وَبِالْإِمَالَةِ - بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَكَانَ عَامِرٌ يُرِيدُ الْغَدْرَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا فَأَسْلِمْ. فَقَالَ: لَا أَتْبَعُ عَقِبَ هَذَا الْفَتَى، ثُمَّ قَالَ لِأَرْبَدَ: إِذَا قَدِمْنَا عَلَيْهِ فَإِنِّي شَاغِلُهُ عَنْكَ، فَاعْلُهُ بِالسَّيْفِ مِنْ خَلْفِهِ. فَلَمَّا قَدِمُوا جَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْغَلُهُ لِيَفْتِكَ بِهِ أَرْبَدُ، فَلَمْ يَفْعَلْ أَرْبَدُ شَيْئًا، فَقَالَ عَامِرٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا وَرِجَالًا، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اكْفِنِي عَامِرًا» . فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ عَامِرٌ لِأَرْبَدَ: لِمَ لَمْ تَقْتُلْهُ؟ قَالَ: كُلَّمَا هَمَمْتُ بِقَتْلِهِ دَخَلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّى مَا أَرَى غَيْرَكَ، أَفَأَضْرِبُكَ بِالسَّيْفِ؟ وَرَجَعُوا، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ الطَّاعُونَ فَقَتَلَهُ، وَإِنَّهُ لَفِي بَيْتِ امْرَأَةٍ سَلُولِيَّةٍ، فَمَاتَ وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِي عَامِرٍ، أَغُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ، وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ! وَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَى أَرْبَدَ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُ، وَكَانَ أَرْبَدُ بْنُ قَيْسٍ أَخَا لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ لِأُمِّهِ.

ذكر إرسال علي إلى اليمن وإسلام همدان

وَفِيهَا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفْدُ طَيِّئٍ فِيهِمْ زِيدُ الْخَيْلِ، وَهُوَ سَيِّدُهُمْ، فَأَسْلَمُوا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ذُكِرَ لِي رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ بِفَضْلٍ ثُمَّ جَاءَنِي إِلَّا رَأَيْتُهُ دُونَ مَا يُقَالُ فِيهِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ زَيْدِ الْخَيْلِ. ثُمَّ سَمَّاهُ زَيْدُ الْخَيْرِ» ، وَأَقْطَعَ لَهُ فَيْدَ وَأَرَضِينَ مَعَهَا. فَلَمَّا رَجَعَ أَصَابَتْهُ الْحُمَّى بِقَرْيَةٍ مِنْ نَجْدٍ، فَمَاتَ بِهَا. وَفِيهَا كَتَبَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ أَنَّهُ شَرِيكُهُ فِي النُّبُوَّةِ، وَأَرْسَلَ الْكِتَابَ مَعَ رَسُولَيْنِ، فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ فَصَدَّقَاهُ. فَقَالَ لَهُمَا: لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمَا. وَكَانَ كِتَابُ مُسَيْلِمَةَ: مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ مَعَكَ فِي الْأَمْرِ، وَإِنَّ لَنَا نِصْفَ الْأَرْضِ وَلِقُرَيْشٍ نِصْفَهَا، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا قَوْمٌ يَعْتَدُونَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، أَمَّا بَعْدُ، فَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، فَإِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» . وَقِيلَ: إِنِّ دَعْوَى مُسَيْلِمَةَ وَغَيْرِهِ النُّبُوَّةَ كَانَتْ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَمَرْضَتِهِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا. فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ بِمَرَضِهِ وَثَبَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ بِالْيَمَنِ، وَمُسَيْلِمَةُ بِالْيَمَامَةِ، وَطُلَيْحَةُ فِي بَنِي أَسَدٍ. [ذِكْرُ إِرْسَالِ عَلِيٍّ إِلَى الْيَمَنِ وَإِسْلَامِ هَمْدَانَ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا إِلَى الْيَمَنِ، وَقَدْ كَانَ أَرْسَلَ قَبْلَهُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَأَرْسَلَ عَلِيًّا وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْقِلَ خَالِدًا وَمَنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَفَعَلَ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، فَأَسْلَمَتْ هَمْدَانُ كُلُّهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَى هَمْدَانَ، يَقُولُهُ ثَلَاثًا» . ثُمَّ تَتَابَعَ أَهْلُ الْيَمَنِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ - تَعَالَى -.

ذكر بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمراءه على الصدقات

[ذِكْرُ بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَرَاءَهُ عَلَى الصَّدَقَاتِ] وَفِيهَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَرَاءَهُ وَعُمَّالَهُ عَلَى الصَّدَقَاتِ، فَبَعَثَ الْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ إِلَى صَنْعَاءَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْعَنْسِيُّ وَهُوَ بِهَا، وَبَعَثَ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيَّ إِلَى حَضْرَمَوْتَ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ، وَبَعَثَ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ الطَّائِيَّ عَلَى صَدَقَاتِ طَيِّئٍ وَأَسَدٍ، وَبَعَثَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي حَنْظَلَةَ، وَجَعَلَ الزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ وَقَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ عَلَى صَدَقَاتِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَبَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلَى نَجْرَانَ، لِيَجْمَعَ صَدَقَاتِهِمْ وَجِزْيَتَهُمْ وَيَعُودَ، فَفَعَلَ وَعَادَ، وَلَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْجَيْشِ الَّذِي مَعَهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَسَبَقَهُمْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَقِيَهُ بِمَكَّةَ، فَعَقَدَ الرَّجُلُ إِلَى الْجَيْشِ، فَكَسَاهُمْ، كُلَّ رَجُلٍ حُلَّةً مِنَ الْبَزِّ الَّذِي مَعَ عَلِيٍّ، فَلَمَّا دَنَا الْجَيْشُ خَرَجَ عَلِيٌّ لِيَتَلَقَّاهُمْ، فَرَأَى عَلَيْهِمُ الْحُلَلَ، فَنَزَعَهَا عَنْهُمْ، فَشَكَاهُ الْجَيْشُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطِيبًا فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَشْكُوا عَلِيًّا، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَخْشَنُ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ» .

ذكر حجة الوداع

[ذِكْرُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ] خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْحَجِّ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، لَا يُذَكِّرُ النَّاسَ إِلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا كَانَ بِسَرِفَ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُحِلُّوا بِعُمْرَةٍ إِلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ وَنَاسٌ مَعَهُ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَدْ لَقِيَهُ مُحْرِمًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حِلَّ كَمَا حَلَّ أَصْحَابُكَ. فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ. فَبَقِيَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْهَدْيَ عَنْهُ وَعَنْ عَلِيٍّ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فَأَرَاهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، وَعَلَّمَهُمْ سُنَنَ حَجِّهِمْ، وَخَطَبَ خُطْبَتَهُ الَّتِي بَيَّنَ فِيهَا لِلنَّاسِ مَا بَيَّنَ، وَكَانَ الَّذِي يُبَلِّغُ عَنْهُ بِعَرَفَةَ رَبِيعَةُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، لِكَثْرَةِ النَّاسِ، فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي، فَلَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا. أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَكُلُّ رِبًا مَوْضُوعٌ، لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ، وَإِنَّ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، وَكُلُّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُ دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ، فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلُ. أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا، وَلَكِنَّهُ يُطَاعُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، وَقَدْ رَضِيَ بِمَا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ، {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] ، وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَ {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36] . أَيُّهَا النَّاسُ، اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ

خَيْرًا» . وَهِيَ خُطْبَةٌ طَوِيلَةٌ. وَقَالَ حِينَ وَقَفَ بِعَرَفَةَ: «هَذَا الْمَوْقِفُ - لِلْجَبَلِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ - وَكُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ» . وَقَالَ بِالْمُزْدَلِفَةِ: «هَذَا الْمَوْقِفُ، وَكُلُّ مُزْدَلِفَةَ مَوْقِفٌ» . وَلَمَّا نَحَرَ بِمِنَى قَالَ: «هَذَا الْمَنْحَرُ، وَكُلُّ مِنَى مَنْحَرٌ» . فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ، وَكَانَتْ حَجَّةُ الْوَدَاعِ وَحَجَّةُ الْبَلَاغِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحُجَّ بَعْدَهَا، وَأَرَى النَّاسَ مَنَاسِكَهُمْ، وَعَلَّمَهُمْ حَجَّهُمْ. ذِكْرُ عَدَدِ غَزَوَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَرَايَاهُ وَكَانَ آخِرَ غَزْوَةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْسِهِ - غَزْوَةُ تَبُوكَ، وَجَمِيعُ غَزَوَاتِهِ بِنَفْسِهِ تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: هَكَذَا يَرْوِيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ زَيْدًا غَزَا مُؤْتَةَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَهُوَ رَدِيفُهُ عَلَى رَحْلِهِ، وَلَمْ يَغْزُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ ثَلَاثِ غَزَوَاتٍ أَوْ أَرْبَعٍ، وَقِيلَ: غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِتًّا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً، وَقِيلَ: سَبْعًا وَعِشْرِينَ، فَمَنْ قَالَ سِتًّا وَعِشْرِينَ جَعَلَ غَزْوَةَ خَيْبَرَ وَوَادِيَ الْقُرَى وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا جَعَلَ غَزَوَاتِهِ سَبْعًا وَعِشْرِينَ، وَجَعَلَ خَيْبَرَ غَزْوَةً، وَوَادِيَ الْقُرَى غَزْوَةً. وَأَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا وَدَّانُ، وَهِيَ الْأَبْوَاءُ، ثُمَّ بُوَاطُ بِنَاحِيَةِ رَضْوَى، ثُمَّ الْعَشِيرَةُ، ثُمَّ بَدْرٌ الْأُولَى لِطَلَبِ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ، ثُمَّ بَدْرٌ الَّتِي قَتَلَ فِيهَا قُرَيْشًا، ثُمَّ غَزْوَةُ بَنِي سُلَيْمٍ، ثُمَّ غَزْوَةُ السَّوِيقِ، ثُمَّ غَزْوَةُ غَطَفَانَ، وَهِيَ غَزْوَةُ ذِي أَمَرٍّ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَحْرَانَ بِالْحِجَازِ، ثُمَّ غَزْوَةُ أُحُدٍ، ثُمَّ غَزْوَةُ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ، ثُمَّ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْآخِرَةِ، ثُمَّ غَزْوَةُ دُومَةِ الْجَنْدَلِ، ثُمَّ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَنِي لَحْيَانَ مِنْ هُذَيْلٍ، ثُمَّ غَزْوَةُ ذِي قَرَدٍ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، ثُمَّ غَزْوَةُ الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ غَزْوَةُ خَيْبَرَ، ثُمَّ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ، ثُمَّ غَزْوَةُ فَتْحِ مَكَّةَ، ثُمَّ غَزْوَةُ حُنَيْنٍ، ثُمَّ غَزْوَةُ الطَّائِفِ، ثُمَّ

غَزْوَةُ تَبُوكَ، قَاتَلَ مِنْهَا فِي تِسْعِ غَزَوَاتٍ: بَدْرٍ، وَأُحُدٍ، وَالْخَنْدَقِ، وَقُرَيْظَةَ، وَالْمُصْطَلِقِ، وَخَيْبَرَ، وَالْفَتْحِ، وَحُنَيْنٍ، وَالطَّائِفِ. وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِ سَرَايَاهُ، فَقِيلَ: كَانَتْ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ مَا بَيْنَ سَرِيَّةٍ وَبَعْثٍ، وَقِيلَ: ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ فِي رَمَضَانَ مُسْلِمًا، فَبَعَثَهُ إِلَى ذِي الْخَلَصَةِ فَهَدَمَهَا، وَكَانَ مِنْ حَجَرٍ أَبْيَضَ بِتَبَالَةَ، وَهُوَ صَنَمُ بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ وَأَزْدِ السَّرَاةِ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرُ هَدْمِهِ سَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ - تَعَالَى -. وَفِيهَا أَسْلَمَ بَاذَانُ بِالْيَمَنِ، وَبَعَثَ بِإِسْلَامِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ذِكْرُ عَدَدِ حَجَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُمَرِهِ «قَالَ جَابِرٌ: حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّتَيْنِ، حَجَّةً قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، وَحَجَّةً بَعْدَ مَا هَاجَرَ، مَعَهَا عُمْرَةٌ» . «وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ عُمَرٍ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَرْبَعَ عُمَرٍ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ» . ذِكْرُ صِفَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسْمَائِهِ وَخَاتَمِ النُّبُوَّةِ «قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ، ضَخْمَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ، مُشْرَبًا وَجْهُهُ حُمْرَةً، طَوِيلَ الْمَسْرُبَةِ، إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ، لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَكَانَ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ، سَبْطَ الشَّعْرِ، سَهْلَ الْخَدَّيْنِ، ذَا وَفْرَةٍ، كَأَنَّ عُنُقَهُ إِبْرِيقُ فِضَّةٍ، وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا، كَأَنَّ الْعَرَقَ فِي وَجْهِهِ اللُّؤْلُؤُ الرَّطْبُ لِطِيبِ عَرَقِهِ وَرِيحِهِ» . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، يَعْنِي أَنَّهُمَا إِلَى الْغِلَظِ أَقْرَبُ، وَقَوْلُهُ: ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ، يَعْنِي أَلْوَاحَ الْأَكْتَافِ، وَالْمَسْرُبَةُ: الشَّعْرُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَاللَّبَّةِ،

وَالصَّبَبُ: الِانْحِدَارُ، وَالدَّعَجُ فِي الْعَيْنِ السَّوَادُ، وَالسَّبْطُ مِنَ الشَّعْرِ ضِدُّ الْجَعْدِ. وَكَانَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، وَهِيَ بَضْعَةٌ نَاشِزَةٌ حَوْلَهَا شَعْرٌ. وَأَمَّا أَسْمَاؤُهُ فَهِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَالْمُقَفَّى، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ، وَالْعَاقِبُ، وَالْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ. وَالْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِهِ. وَالْعَاقِبُ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ» . وَأَمَّا شَعْرُهُ وَشَيْبُهُ فَقَالَ أَنَسٌ: لَمْ يَشِنْهُ اللَّهُ بِالشَّيْبِ، وَقِيلَ: كَانَ فِي مُقَدَّمِ لِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ، وَلَمْ يَخْضِبْ. قَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ: وَكَانَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ، إِذَا دَهَنَهُ غَطَّاهُنَّ الدُّهْنُ، وَأَخْرَجَتْ أُمُّ سَلَمَةَ شَعْرَهُ مَخْضُوبًا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. وَقَالَ أَبُو رِمْثَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْضِبُ، وَكَانَ شَعْرُهُ يَبْلُغُ كَتِفَيْهِ أَوْ مَنْكِبَيْهِ» . وَقَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: كَانَ لَهُ ضَفَائِرُ أَرْبَعُ. ذِكْرُ شَجَاعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجُودِهِ قَالَ أَنَسٌ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْجَعَ النَّاسِ، وَأَسْمَحَ النَّاسِ، وَأَحْسَنَ النَّاسِ،

وَقَعَ فِي الْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَرَكِبَ فَرَسًا عُرْيًا، فَسَبَقَ النَّاسَ إِلَيْهِ فَجَعَلَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا» . «وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: كُنَّا إِذَا اشْتَدَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ أَقْرَبَنَا إِلَى الْعَدُوِّ» . وَكَفَى بِهَذَا شَجَاعَةً أَنَّ مِثْلَ عَلِيٍّ الَّذِي هُوَ هُوَ فِي شَجَاعَتِهِ يَقُولُ هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزَوَاتِهِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَمَكُّنِهِ مِنَ الشَّجَاعَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُقَارِبْهُ فِيهَا أَحَدٌ. ذِكْرُ عَدَدِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَرَارِيِّهِ وَأَوْلَادِهِ قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ خَمْسَ عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَدَخَلَ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَجَمَعَ بَيْنَ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَتُوُفِّيَ عَنْ تِسْعٍ. وَأَوَّلُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَكَانَ تَزَوَّجَهَا قَبْلَهُ عَتِيقُ بْنُ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَخْزُومٍ، وَمَاتَ عَنْهَا، وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ عَتِيقٍ أَبُو هَالَةَ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ نَبَّاشٍ التَّمِيمِيُّ، فَوَلَدَتْ لَهُ هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ، ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا، فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَلَدَتْ لَهُ ثَمَانِيَةً: الْقَاسِمُ، وَالطَّيِّبُ، وَالطَّاهِرُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَزَيْنَبُ، وَرُقَيَّةُ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ، وَفَاطِمَةُ، فَأَمَّا الذُّكُورُ فَمَاتُوا وَهُمْ صِغَارٌ، وَأَمَّا الْإِنَاثُ فَبَلَغْنَ وَنَكَحْنَ وَوَلَدْنَ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَى خَدِيجَةَ فِي حَيَاتِهَا أَحَدًا، وَكَانَ مَوْتُهَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَمْ يُولَدْ لَهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِهَا إِلَّا إِبْرَاهِيمُ. فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ نَكَحَ بَعْدَهَا سَوْدَةَ بِنْتَ زَمَعَةَ، وَقِيلَ: عَائِشَةُ، فَأَمَّا عَائِشَةُ فَكَانَتْ يَوْمَ تَزَوَّجَهَا صَغِيرَةً بِنْتَ سِتِّ سِنِينَ، وَأَمَّا سَوْدَةُ فَكَانَتِ امْرَأَةً ثَيِّبًا، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ

السَّكْرَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ أَخِي سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ مِنْ مُهَاجَرَةِ الْحَبَشَةِ، فَتَنَصَّرَ بِهَا وَمَاتَ، فَخَلَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ الَّذِي خَطَبَهَا عَلَيْهِ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ زَوْجَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَدَخَلَ بِسَوْدَةَ بِمَكَّةَ، زَوَّجَهَا مِنْهُ أَبُوهَا زَمَعَةُ بْنُ قَيْسٍ، فَلَمَّا تَزَوَّجَهَا كَانَ أَخُوهَا عَبْدُ بْنُ زَمَعَةَ غَائِبًا، فَلَمَّا قَدِمَ جَعَلَ يَحْثِي التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ قَالَ: إِنِّي سَفِيهٌ حَيْثُ فَعَلْتُ ذَلِكَ، وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ. وَأَمَّا عَائِشَةُ فَدَخَلَ بِهَا بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعِ سِنِينَ، وَمَاتَ عَنْهَا وَهِيَ ابْنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، وَمَاتَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. ثُمَّ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ (خُنَيْسٌ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَالنُّونِ، وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ) وَكَانَ بَدْرِيًّا، وَلَمْ يَشْهَدْ مِنْ بَنِي سَهْمٍ بَدْرًا غَيْرُهُ، وَلَمْ تَلِدْ لَهُ شَيْئًا، وَمَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ. ثُمَّ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا أُمَّ سَلَمَةَ ابْنَةَ أَبِي أُمَيَّةَ زَادَ الرَّكْبِ الْمَخْزُومِيَّةَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيِّ، شَهِدَ بَدْرًا، وَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَمَاتَ مِنْهَا، وَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الْأَحْزَابِ، وَمَاتَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: بَعْدَ قَتْلِ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ثُمَّ تَزَوَّجَ زَيْنَبَ بِنْتَ خُزَيْمَةَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَيُقَالُ لَهَا: أُمُّ الْمَسَاكِينِ، وَتُوُفِّيَتْ فِي حَيَاتِهِ، وَلَمْ يَمُتْ فِي حَيَاتِهِ غَيْرُهَا، وَغَيْرُ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَكَانَتْ زَيْنَبُ قَبْلَهُ عِنْدَ الطُّفَيْلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. ثُمَّ تَزَوَّجَ عَامَ الْمُرَيْسِيعِ جُوَيْرِيَةَ ابْنَةَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ الْخُزَاعِيَّةَ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ مَالِكِ بْنِ صَفْوَانَ الْمُصْطَلِقِيِّ، لَمْ تَلِدْ لَهُ شَيْئًا. ثُمَّ تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَكَانَتْ عِنْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَكَانَ مِنْ مُهَاجَرَةِ الْحَبَشَةِ فَتَنَصَّرَ وَمَاتَ بِهَا، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى النَّجَاشِيِّ فَخَطَبَهَا عَلَيْهِ، وَتَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِالْحَبَشَةِ، وَزَوَّجَهَا مِنْهُ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَقِيلَ: بَلْ خَطَبَهَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَزَوَّجَهَا مِنْهُ، وَبَعَثَ فِيهَا إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَسَاقَ مِنْهُ الْمَهْرَ أَرْبَعَمِائَةِ

دِينَارٍ وَأَرْسَلَهَا إِلَيْهِ، وَتُوُفِّيَتْ فِي خِلَافَةِ أَخِيهَا مُعَاوِيَةَ، فَلَمْ تَلِدْ لَهُ شَيْئًا. ثُمَّ تَزَوَّجَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ، فَلَمْ تَلِدْ لَهُ شَيْئًا، فَزَوَّجَهَا اللَّهُ إِيَّاهُ وَبَعَثَ فِي ذَلِكَ جِبْرَائِيلَ، وَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقُولُ: أَنَا أَكْرَمُهُنَّ وَلِيًّا وَسَفِيرًا، وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْ أَزْوَاجِهِ، تُوُفِّيَتْ بَعْدَهُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ. ثُمَّ تَزَوَّجَ عَامَ خَيْبَرَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ تَحْتَ سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ فَتُوُفِّيَ عَنْهَا، وَخَلَفَ عَلَيْهَا كِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، فَقَتَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ صَبْرًا بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَعْتَقَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَزَوَّجَهَا سَنَةَ سِتٍّ، وَمَاتَتْ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. ثُمَّ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ ابْنَةَ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ عُمَيْرِ بْنِ عُمَرَ الثَّقَفِيِّ، وَلَمْ تَلِدْ لَهُ شَيْئًا، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا أَبُو زُهَيْرِ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى بَعْدَ عُمَيْرٍ، ثُمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ، وَهِيَ خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَتَزَوَّجَهَا فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ بِسَرِفَ. ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي كِلَابٍ يُقَالُ لَهَا النَّشَا بِنْتُ رِفَاعَةَ، وَقِيلَ: هِيَ شَنَبَا ابْنَةُ أَسْمَاءِ بْنِ الصَّلْتِ، وَقِيلَ: ابْنَةُ الصَّلْتِ بْنِ حَبِيبٍ، وَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا. ثُمَّ تَزَوَّجَ الشَّنَبَا ابْنَةَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّةَ، وَقِيلَ الْكِنَانِيَّةُ، فَمَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا مَاتَ ابْنُهُ، فَطَلَّقَهَا. ثُمَّ تَزَوَّجَ غَزِيَّةَ ابْنَةَ جَابِرٍ الْكِلَابِيَّةَ، خَطَبَهَا عَلَيْهِ أَبُو أُسَيْدٍ - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ - السَّاعِدِيُّ، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَاذَتْ بِاللَّهِ مِنْهُ، فَفَارَقَهَا. ثُمَّ تَزَوَّجَ أَسْمَاءَ ابْنَةَ النُّعْمَانِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ شَرَاحِيلَ الْكِنْدِيِّ، فَلَمَّا دَخَلَ بِهَا وَجَدَ

بِهَا بَيَاضًا، فَمَتَّعَهَا وَرَدَّهَا إِلَى أَهْلِهَا، وَقِيلَ: بَلِ اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ أَيْضًا، فَرَدَّهَا. وَالْعَالِيَةَ ابْنَةَ ظَبْيَانَ، فَجَمَعَهَا، ثُمَّ فَارَقَهَا. وَقُتَيْلَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أُخْتَ الْأَشْعَثِ، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَارْتَدَّتْ. وَفَاطِمَةَ ابْنَةَ شُرَيْحٍ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: غَزِيَّةُ هِيَ أُمُّ شَرِيكٍ. قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّهُ تَزَوَّجَ خَوْلَةَ ابْنَةَ الْهُذَيْلِ بْنِ هُبَيْرَةَ. وَلَيْلَى ابْنَةَ الْخُطَيْمِ الْأَنْصَارِيَّةَ عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ فَتَزَوَّجَهَا، فَأَخْبَرَتْ قَوْمَهَا، فَقَالُوا: أَنْتَ غَيُورٌ وَلَهُ نِسَاءٌ، فَاسْتَقِيلِيهِ، فَأَقَالَتْهُ، فَفَارَقَهَا. وَأَمَّا مَنْ خَطَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ النِّسَاءِ وَلَمْ يَنْكِحْهَا، فَمِنْهُنَّ أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، خَطَبَهَا وَلَمْ يَتَزَوَّجْهَا. وَمِنْهُنَّ ضُبَاعَةُ بِنْتُ عَامِرٍ مِنْ بَنِي قُشَيْرٍ. وَمِنْهُنَّ صَفِيَّةُ بِنْتُ بَشَّامَةَ أُخْتُ الْأَعْوَرِ الْعَنْبَرِيِّ. وَمِنْهُنَّ أُمُّ حَبِيبَةَ ابْنَةُ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ، فَوَجَدَ الْعَبَّاسَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَتَرَكَهَا. وَمِنْهُنَّ جَمْرَةُ ابْنَةُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ، خَطَبَهَا، فَقَالَ أَبُوهَا: بِهَا سُوءٌ، وَلَمْ يَكُنْ

بِهَا، فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَوَجَدَهَا قَدْ بَرِصَتْ. وَأَمَّا سَرَارِيُّهِ، فَهِيَ مَارِيَةُ ابْنَةُ شَمْعُونَ الْقِبْطِيَّةُ، وَوَلَدَتْ لَهُ إِبْرَاهِيمَ. وَرَيْحَانَةُ ابْنَةُ زَيْدٍ الْقُرَظِيَّةُ، وَقِيلَ: هِيَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ. ذِكْرُ مَوَالِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَابْنُهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَثَوْبَانُ، وَيُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَصْلُهُ مِنَ السَّرَاةِ، وَسَكَنَ حِمْصَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: سَكَنَ الرَّمْلَةَ، وَلَا عَقِبَ لَهُ. وَشُقْرَانُ، وَكَانَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَقِيلَ مِنَ الْفُرْسِ، وَاسْمُهُ صَالِحُ بْنُ عَدِيٍّ، وَاخْتُلِفَ فِي أَمْرِهِ، فَقِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ، وَقِيلَ: كَانَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَوَهَبَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْقَبَ. وَأَبُو رَافِعٍ، وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ، وَقِيلَ: أُوَيْقِعُ، فَقِيلَ: كَانَ لِلْعَبَّاسِ فَوَهَبَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: كَانَ لِأَبِي أُحَيْحَةَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَأَعْتَقَ ثَلَاثَةً مِنْ بَنِيهِ أَنْصِبَاءَهُمْ مِنْهُ، وَشَهِدَ مَعَهُمْ بَدْرًا وَهُمْ كُفَّارٌ، وَقُتِلُوا يَوْمَئِذٍ، وَوَهَبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ نَصِيبَهُ مِنْهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْتَقَهُ وَابْنَهُ الْبَهِيَّ، وَاسْمُهُ رَافِعٌ، وَأَخُوهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، كَانَ يَكْتُبُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ، وَقِيلَ: مِنْ أَهْلِ رَامَهُرْمُزَ، أَصَابَهُ سَبْيًا بَعْضٌ مِنْ كَلْبٍ، وَبِيعَ مِنْ يَهُودِيٍّ بِوَادِي الْقُرَى، فَكَاتَبَ الْيَهُودِيَّ، وَأَعَانَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى عُتِقَ. وَسَفِينَةُ، كَانَ لِأُمِّ سَلَمَةَ، فَأَعْتَقَتْهُ وَشَرَطَتْ عَلَيْهِ خِدْمَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيَاتَهُ. قِيلَ: اسْمُهُ مِهْرَانُ، وَقِيلَ: رَبَاحٌ، وَقِيلَ: كَانَ مِنْ عَجَمِ الْفُرْسِ.

وَأَنَسَةُ يُكَنَّى أَبَا مَسْرُوحٍ، وَهُوَ مِنْ مُوَلَّدِي السَّرَاةِ، وَكَانَ يَأْذَنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَهِدَ مَعَهُ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَقِيلَ: كَانَ مِنَ الْفُرْسِ. وَأَبُو كَبْشَةَ، وَاسْمُهُ سُلَيْمٌ، قِيلَ: كَانَ مِنْ مَوَالِي مَكَّةَ، وَقِيلَ: كَانَ مِنْ مُوَلَّدِي أَرْضِ دَوْسٍ، اشْتَرَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْتَقَهُ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ. وَرُوَيْقِعُ أَبُو مُوَيْهِبَةَ، كَانَ مِنْ مُوَلَّدِي مُزَيْنَةَ، فَاشْتَرَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْتَقَهُ. وَرَبَاحٌ الْأَسْوَدُ، كَانَ يَأْذَنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفَضَالَةُ نَزَلَ الشَّامَ. وَمِدْعَمُ قُتِلَ بِوَادِي الْقُرَى. وَأَبُو ضُمَيْرَةَ، قِيلَ: كَانَ مِنَ الْفُرْسِ مِنْ وَلَدِ بَشْتَاسَبِ الْمَلِكِ، فَأَصَابَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ وَقَائِعِهِ فَأَعْتَقَهُ، وَهُوَ جَدُّ أَبِي حُسَيْنٍ. وَيَسَارٌ - وَكَانَ نُوبِيًّا - أَصَابَهُ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فَأَعْتَقَهُ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ الْعُرَنِيُّونَ الَّذِينَ أَغَارُوا عَلَى لِقَاحِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِهْرَانُ مَوْلَاهُ، حَدَّثَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَانَ لَهُ خَصِيٌّ يُقَالُ لَهُ: مَابُوزُ، أَهْدَاهُ لَهُ الْمُقَوْقِسُ مَعَ مَارِيَةَ وَشِيرِينَ، قِيلَ: إِنَّهُ الَّذِي قُذِفَتْ مَارِيَةُ بِهِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا لِيَقْتُلَهُ، فَرَآهُ خَصِيًّا فَتَرَكَهُ. وَخَرَجَ إِلَيْهِ

مِنَ الطَّائِفِ وَهُوَ مُحَاصِرُهُمْ، أَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ فَأَعْتَقَهُمْ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرَةَ. ذِكْرُ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذُكِرَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يَكْتُبُ لَهُ أَحْيَانًا، وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَحْيَانًا، وَخَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ، وَالْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ. وَأَوَّلُ مَنْ كَتَبَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَكَتَبَ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَكَتَبَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَرَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ يَوْمَ الْفَتْحِ. وَكَتَبَ لَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَحَنْظَلَةُ الْأُسَيِّدِيُّ (بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، كَذَلِكَ يَقُولُهُ الْمُحَدِّثُونَ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أُسَيِّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، بِالتَّشْدِيدِ، إِجْمَاعًا. ذِكْرُ أَسْمَاءِ خَيْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ: أَوَّلُ فَرَسٍ مَلَكَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَسٌ اشْتَرَاهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أَعْرَابِيٍّ مِنْ فَزَارَةَ بِعَشْرِ أَوَاقٍ، وَسَمَّاهُ السَّكْبَ، وَأَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا عَلَيْهِ أُحُدٌ. وَفَرَسٌ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ اسْمُهُ مُلَاوِحٌ. وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ يُدْعَى الْمُرْتَجِزُ، وَهُوَ الْفَرَسُ الَّذِي شَهِدَ بِهِ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَكَانَ صَاحِبُهُ مِنْ بَنِي مُرَّةَ. وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَفْرَاسٍ: لِزَازُ، وَالظَّرِبُ، وَاللَّحِيفُ؛ فَأَمَّا لِزَازٌ فَأَهْدَاهُ لَهُ الْمُقَوْقِسُ، وَأَمَّا اللَّحِيفُ فَأَهْدَاهُ لَهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي الْبَرَاءِ، وَأَمَّا الظَّرِبُ فَأَهْدَاهُ لَهُ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو الْجُذَامِيُّ.

وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ يُقَالُ لَهُ: الْوَرْدُ، أَهْدَاهُ لَهُ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ، فَوَهَبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ. وَقِيلَ: كَانَ لَهُ فَرَسٌ اسْمُهُ الْيَعْسُوبُ. تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ: السَّكْبُ: الْكَثِيرُ الْجَرْيِ، كَأَنَّمَا يُصَبُّ جَرْيُهُ صَبًّا. وَاللَّحِيفُ: سُمِّيَ بِهِ لِطُولِ ذَنَبِهِ، كَأَنَّهُ يُلْحِفُ الْأَرْضَ بِذَنَبِهِ، أَيْ يُغَطِّيهَا. وَلِزَازٌ: سُمِّيَ بِهِ لِشِدَّةِ تَلَزُّزِهِ، وَالظَّرِبُ: سُمِّيَ بِهِ لِشِدَّةِ خَلْقِهِ، سُمِّي بِالْجَبَلِ الصَّغِيرِ. وَالْمُرْتَجِزُ: سُمِّيَ بِهِ لِحُسْنِ صَهِيلِهِ. وَالْيَعْسُوبُ: سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ أَجْوَدُ خَيْلِهِ، لِأَنَّ الْيَعْسُوبَ الرَّئِيسُ. ذِكْرُ بِغَالِهِ وَحَمِيرِهِ وَإِبِلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ لَهُ دُلْدُلُ، وَهِيَ أَوَّلُ بَغْلَةٍ رُؤِيَتْ فِي الْإِسْلَامِ، أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ وَمَعَهَا حِمَارٌ اسْمُهُ عُفَيْرٌ، وَبَقِيَتِ الْبَغْلَةُ إِلَى زَمَنِ مُعَاوِيَةَ، وَأَهْدَى لَهُ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو بَغْلَةً يُقَالُ لَهَا: فِضَّةُ، فَوَهَبَهَا لِأَبِي بَكْرٍ، وَحِمَارُهُ يَعْفُورُ بَقِيَ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَأَمَّا إِبِلُهُ فَكَانَتْ لَهُ الْقَصْوَى، وَهِيَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهَاجَرَ عَلَيْهَا، وَكَانَتْ مِنْ نَعَمِ بَنِي الْحُرَيْشِ، وَبَقِيَتْ مُدَّةً، وَهِيَ الْعَضْبَاءُ وَالْجَدْعَاءُ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ فِي أَطْرَافِ أُذُنِهَا جَدْعٌ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ بِهَا جَدْعٌ. وَأَمَّا لِقَاحُهُ فَكَانَ لَهُ عِشْرُونَ لِقْحَةً بِالْغَابَةِ، وَهِيَ الَّتِي أَغَارَ عَلَيْهَا الْقَوْمُ، يَأْتِي لَبَنُهَا أَهْلَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ. وَكَانَ لَهُ لِقَاحٌ غِزَارٌ، مِنْهُنَّ: الْحِنَّاءُ، وَالسَّمْرَاءُ، وَالْعَرِيسُ، وَالسَّعْدِيَّةُ، وَالْبَغُومُ، وَالْيَسِيرَةُ، وَالرَّيَّا، وَمُهْرَةُ، وَالشَّقْرَاءُ.

وَأَمَّا مَنَائِحُهُ فَكَانَتْ لَهُ سَبْعُ مَنَائِحَ مِنَ الْغَنَمِ: عَجْوَةُ، وَزَمْزَمُ، وَسُقْيَا، وَبَرَكَةُ، وَوَرَسَةُ، وَأَطْلَالُ، وَأَطْرَافُ، وَسَبْعُ أَعْنُزٍ يَرْعَاهُنَّ أَيْمَنُ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ. تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ: عُفَيْرٌ: تَصْغِيرُ تَرْخِيمِ الْأَعْفَرِ، وَهُوَ الْأَبْيَضُ بَيَاضًا غَيْرَ خَالِصٍ، وَمِنْهُ أَيْضًا اسْمُ حِمَارِهِ يَعْفُورُ، كَأَخْضَرَ وَيَخْضُورَ. الْبَغَامُ: صَوْتُ الْإِبِلِ، وَمِنْهُ الْبَغُومُ. وَالْبَاقِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ. ذِكْرُ أَسْمَاءِ سِلَاحِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ ذُو الْفَقَارِ، غَنِمَهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ لِمُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَقِيلَ لِغَيْرِهِ، وَغَنِمَ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ ثَلَاثَةَ أَسْيَافٍ: سَيْفًا قَلَعِيًّا، وَسَيْفًا يُدْعَى بَتَّارًا، وَسَيْفًا يُدْعَى الْحَتْفَ. وَكَانَ لَهُ الْمِخْذَمُ، وَرَسُوبُ، وَقَدِمَ مَعَهُ الْمَدِينَةَ سَيْفَانِ، شَهِدَ بِأَحَدِهِمَا بَدْرًا، يُسَمَّى الْعَضْبُ. وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْمَاحٍ، وَثَلَاثُ قِسِيٍّ، قَوْسٌ اسْمُهَا الرَّوْحَاءُ، وَقَوْسٌ تُدْعَى الْبَيْضَاءَ، وَقَوْسٌ نَبْعٌ تُدْعَى الصَّفْرَاءَ. وَكَانَ لَهُ دِرْعٌ يُقَالُ لَهَا: الصُّعْدِيَّةُ، وَكَانَ لَهُ دِرْعٌ يُقَالُ لَهَا: فِضَّةُ، غَنِمَهَا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَكَانَ لَهُ دِرْعٌ تُسَمَّى ذَاتَ الْفُضُولِ، كَانَتْ عَلَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ، هِيَ وَفِضَّةُ.

وَكَانَ لَهُ تُرْسٌ فِيهِ تِمْثَالُ رَأْسِ كَبْشٍ، فَكَرِهَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَصْبَحَ وَقَدْ أَذْهَبَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -. تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ: سُمِّيَ السَّيْفُ ذُو الْفَقَارِ لِحُفَرٍ فِيهِ، وَالسَّيْفُ الْمِخْذَمُ: الْقَاطِعُ. وَالرَّسُوبُ: الَّذِي يَمْضِي فِي الضَّرْبَةِ، وَيَثْبُتُ فِيهَا.

ذكر أحداث سنة إحدى عشرة

[ذِكْرُ أَحْدَاثِ سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ] [ذِكْرُ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَفَاتِهِ] 11 - ذِكْرُ أَحْدَاثِ سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ «ضَرَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْثًا إِلَى الشَّامِ، وَأَمِيرُهُمْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ مَوْلَاهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُوطِئَ الْخَيْلَ تُخُومَ الْبَلْقَاءِ وَالدَّارُومِ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، فَتَكَلَّمَ الْمُنَافِقُونَ فِي إِمَارَتِهِ، وَقَالُوا: أَمَّرَ غُلَامًا عَلَى جِلَّةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّهُ لَخَلِيقٌ لِلْإِمَارَةِ، وَكَانَ أَبُوهُ خَلِيقًا لَهَا. وَأَوْعَبَ مَعَ أُسَامَةَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ، مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» ، فَبَيْنَمَا النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ ابْتُدِئَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَضُهُ. ذِكْرُ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَفَاتِهِ ابْتُدِئَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَضُهُ أَوَاخِرَ صَفَرٍ، فِي بَيْتِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَكَانَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ حَتَّى اشْتَدَّ مَرَضُهُ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَجَمَعَ نِسَاءَهُ، فَأَسْتَأْذَنَهُنَّ أَنْ يَتَمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، وَوَصَلَتْ أَخْبَارٌ بِظُهُورِ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ بِالْيَمَنِ، وَمُسَيْلِمَةَ بِالْيَمَامَةِ، وَطُلَيْحَةَ فِي بَنِي أَسَدٍ، وَعَسْكَرَ بِسُمَيْرَاءَ، وَسَيَجِيءُ ذِكْرُ أَخْبَارِهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. فَتَأَخَّرَ مَسِيرُ أُسَامَةَ لِمَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِخَبَرِ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ وَمُسَيْلِمَةَ، «فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَاصِبًا رَأْسَهُ مِنَ الصُّدَاعِ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنَّ فِي عَضُدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا بِكَذَّابِ الْيَمَامَةِ وَكَذَّابِ صَنْعَاءَ. وَأَمَرَ بِإِنْفَاذِ جَيْشِ أُسَامَةَ وَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» .

وَخَرَجَ أُسَامَةُ فَضَرَبَ الْجُرُفَ الْعَسْكَرُ وَتَمَهَّلَ النَّاسُ، وَثُقِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَشْغَلْهُ شِدَّةُ مَرَضِهِ عَنْ إِنْفَاذِ أَمْرِ اللَّهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أَمْرِ الْأَسْوَدِ، فَأُصِيبَ الْأَسْوَدُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ وَفَاتِهِ بِيَوْمٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ يَحُثُّهُمْ عَلَى جِهَادِ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ. «وَقَالَ أَبُو مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْقَظَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةً وَقَالَ: إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ، فَانْطَلِقْ مَعِي. فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: لِيَهْنِئْكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ، قَدْ أَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ. ثُمَّ قَالَ: قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَالْخُلْدِ بِهَا، ثُمَّ الْجَنَّةَ، وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي، فَاخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي. ثُمَّ اسْتَغْفَرْ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَبُدِئَ بِمَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ» . «قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْبَقِيعِ وَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا وَأَنَا أَقُولُ: وَارَأْسَاهُ! قَالَ: بَلْ أَنَا وَاللَّهِ يَا عَائِشَةُ وَارَأْسَاهُ! ثُمَّ قَالَ: مَا ضَرَّكِ لَوْ مُتِّ قَبْلِي، فَقُمْتُ عَلَيْكِ وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ وَدَفَنْتُكِ؟ فَقُلْتُ: كَأَنِّي بِكَ وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ، فَرَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي فَعَرَّسْتَ بِبَعْضِ نِسَائِكَ. فَتَبَسَّمَ، وَتَتَامَّ بِهِ وَجَعُهُ، وَتَمَرَّضَ فِي بَيْتِي. فَخَرَجَ مِنْهُ يَوْمًا بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَالْآخَرُ عَلِيٌّ، قَالَ الْفَضْلُ: فَأَخْرَجْتُهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ صَلَّى عَلَى أَصْحَابِ أُحُدٍ، فَأَكْثَرَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ دَنَا مِنِّي حُقُوقُ مَنْ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، فَمَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرًا فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ أَخَذْتُ لَهُ مَالًا فَهَذَا مَالِي فَلْيَأْخُذْ مِنْهُ، وَلَا يَخْشَ الشَّحْنَاءَ مِنْ قِبَلِي، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شَأْنِي، أَلَا وَإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ مَنْ أَخَذَ

مِنِّي حَقًّا إِنْ كَانَ لَهُ، أَوْ حَلَّلَنِي فَلَقِيتُ رَبِّي وَأَنَا طَيِّبُ النَّفْسِ. ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَعَادَ لِمَقَالَتِهِ الْأُولَى. فَادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلٌ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، فَأَعْطَاهُ عِوَضًا. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيُؤَدِّهِ، وَلَا يَقُلْ: فُضُوحُ الدُّنْيَا، أَلَا وَإِنَّ فُضُوحَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ فُضُوحِ الْآخِرَةِ. ثُمَّ صَلَّى عَلَى أَصْحَابِ أُحُدٍ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ. فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِأَنْفُسِنَا وَآبَائِنَا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَبْقَيَّنَ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَفْضَلَ فِي الصُّحْبَةِ عِنْدِي مِنْهُ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ أَوْصَى بِالْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، أَصْبَحْتُمْ تَزِيدُونَ، وَأَصْبَحَتِ الْأَنْصَارُ لَا تَزِيدُ، وَالْأَنْصَارُ عَيْبَتِي الَّتِي أَوَيْتُ إِلَيْهَا، فَأَكْرِمُوا كَرِيمَهُمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ» . «قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: نَعَى إِلَيْنَا نَبِيُّنَا وَحَبِيبُنَا نَفْسَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ. فَلَمَّا دَنَا الْفِرَاقُ جَمَعَنَا فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْنَا فَشَدَّدَ، وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ وَقَالَ: مَرْحَبًا بِكُمْ، حَيَّاكُمُ اللَّهُ، رَحِمَكُمُ اللَّهُ، آوَاكُمُ اللَّهُ، حَفِظَكُمُ اللَّهُ، رَفَعَكُمُ اللَّهُ، وَفَّقَكُمُ اللَّهُ، سَلَّمَكُمُ اللَّهُ، قَبِلَكُمُ اللَّهُ، أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأُوصِي اللَّهَ بِكُمْ، وَأَسْتَخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ، وَأُؤَدِّيكُمْ إِلَيْهِ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ لِي وَلَكُمْ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] . قُلْنَا: فَمَتَى أَجَلُكَ؟ قَالَ: دَنَا الْفِرَاقُ، وَالْمُنْقَلَبُ إِلَى اللَّهِ، وَسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَالرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَجَنَّةِ الْمَأْوَى. فَقُلْنَا: مَنْ يُغَسِّلُكَ؟ قَالَ: أَهْلِي. قُلْنَا: فِيمَ نُكَفِّنُكَ؟ قَالَ: فِي ثِيَابِي أَوْ فِي بَيَاضٍ. قُلْنَا: فَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: مَهْلًا، غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ وَجَزَاكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ خَيْرًا.

فَبَكَيْنَا وَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: ضَعُونِي عَلَى سَرِيرِي عَلَى شَفِيرِ قَبْرِي، ثُمَّ اخْرُجُوا عَنِّي سَاعَةً لِيُصَلِّيَ عَلَيَّ جِبْرَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ ادْخُلُوا عَلَيَّ فَوْجًا فَصَلُّوا عَلَيَّ، وَلَا تُؤْذُونِي بِتَزْكِيَةٍ وَلَا رَنَّةٍ، أَقْرِئُوا أَنْفُسَكُمْ مِنِّي السَّلَامَ، وَمَنْ غَابَ مِنْ أَصْحَابِي فَأَقْرِئُوهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَمَنْ تَابَعَكُمْ عَلَى دِينِي فَأَقْرِئُوهُ السَّلَامَ» . «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ! - ثُمَّ جَرَتْ دُمُوعُهُ عَلَى خَدَّيْهِ - اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَضُهُ وَوَجَعُهُ، فَقَالَ: ايتُونِي بِدَوَاةٍ وَبَيْضَاءَ أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّونَ بَعْدِي أَبَدًا. فَتَنَازَعُوا - وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ - فَقَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَهْجُرُ. فَجَعَلُوا يُعِيدُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ: دَعُونِي، فَمَا أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ. فَأَوْصَى بِثَلَاثٍ: أَنْ يُخْرَجَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَنْ يُجَازَ الْوَفْدُ بِنَحْوٍ مِمَّا كَانَ يُجِيزُهُمْ. وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ عَمْدًا، أَوْ قَالَ: نَسِيتُهَا» . وَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ. فَقَالَ النَّاسُ: كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا. فَأَخَذَ بِيَدِهِ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: أَنْتَ بَعْدَ ثَلَاثٍ عَبْدُ الْعَصَا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيَتَوَفَّى فِي مَرَضِهِ هَذَا، وَإِنِّي لَأَعْرِفُ الْمَوْتَ فِي وُجُوهِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَاذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْأَلْهُ فِيمَنْ يَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ، فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا أَمْرُهُ أَوْصَى بِنَا. فَقَالَ عَلِيٌّ: لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنَعَنَاهَا، لَا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا، وَاللَّهِ لَا أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَدًا. قَالَ: فَمَا اشْتَدَّ الضُّحَى حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ: مَا وَجَعُهُ إِلَّا ذَاتُ الْجَنْبِ، فَلَوْ لَدَدْتُمُوهُ، فَفَعَلُوا. فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: لِمَ فَعَلْتُمْ هَذَا؟ قَالُوا: ظَنَنَّا أَنَّ بِكَ ذَاتَ الْجَنْبِ. قَالَ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيُسَلِّطَهَا عَلَيَّ. ثُمَّ قَالَ: لَا تُبْقُنَّ أَحَدًا لَدَدْتُمُوهُ إِلَّا عَمِّي، وَكَانَ الْعَبَّاسُ حَاضِرًا، فَفَعَلُوا» . قَالَ أُسَامَةُ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَبَطْتُ أَنَا وَمَنْ مَعِي إِلَى الْمَدِينَةِ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَقَدْ صَمَتَ فَلَا يَتَكَلَّمُ، فَجَعَلَ يَرْفَعُ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَيَّ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يَدْعُو لِي.

«قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ كَثِيرًا: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْبِضْ نَبِيًّا حَتَّى يُخَيِّرَهُ. قَالَتْ: فَلَمَّا احْتُضِرَ كَانَ آخِرُ كَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْهُ وَهُوَ يَقُولُ: بَلِ الرَّفِيقُ الْأَعْلَى. قَالَتْ: قُلْتُ: إِذًا وَاللَّهِ لَا يَخْتَارُنَا، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ تُخُيِّرَ» . وَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ أَذَّنَهُ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُومُ مَقَامَكَ لَا يُطِيقُ ذَلِكَ. فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ. فَقُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَغَضِبَ، وَقَالَ: إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ. فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِفَّةً فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ تَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ قُمْ مَقَامَكَ، فَقَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ جَالِسًا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاةِ النَّبِيِّ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ. وَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ بِالنَّاسِ سَبْعَ عَشْرَةَ صَلَاةً، وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ إِلَى النَّاسِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَكَادَ النَّاسُ يَفْتَتِنُونَ فِي صَلَاتِهِمْ؛ فَرَحًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَحًا لِمَا رَأَى مِنْ هَيْئَتِهِمْ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ رَجَعَ وَانْصَرَفَ النَّاسُ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَفَاقَ مِنْ وَجَعِهِ، وَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى مَنْزِلِهِ بِالسُّنْحِ.

«قَالَتْ عَائِشَةُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَمُوتُ وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ، يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ. قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ بَعْضُ آلِ أَبِي بَكْرٍ وَفِي يَدِهِ سِوَاكٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ نَظَرًا عَرَفْتُ أَنَّهُ يُرِيدُهُ، فَأَخَذْتُهُ فَلَيَّنْتُهُ، ثُمَّ نَاوَلْتُهُ إِيَّاهُ، فَاسْتَنَّ بِهِ ثُمَّ وَضَعَهُ، ثُمَّ ثَقُلَ فِي حِجْرِي، قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ، وَإِذَا بَصَرُهُ قَدْ شَخَصَ وَهُوَ يَقُولُ: بَلِ الرَّفِيقُ الْأَعْلَى. فَقُبِضَ» . قَالَتْ: تُوُفِّيَ وَهُوَ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، فَمِنْ سَفَهِي وَحَدَاثَةِ سِنِّي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبِضَ فِي حِجْرِي، فَوَضَعْتُ رَأْسَهُ عَلَى وِسَادَةٍ، وَقُمْتُ أَلْتَدِمُ مَعَ النِّسَاءِ وَأَضْرِبُ وَجْهِي. «وَلَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعُهُ، وَنَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ - جَعَلَ يَأْخُذُ الْمَاءَ بِيَدِهِ وَيَجْعَلُهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: وَاكَرْبَاهُ! فَتَقُولُ فَاطِمَةُ: وَاكَرْبِي لِكَرْبِكَ يَا أَبَتِي! فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَلَمَّا رَأَى شِدَّةَ جَزَعِهَا اسْتَدْنَاهَا وَسَارَّهَا، فَبَكَتْ، ثُمَّ سَارَّهَا فَضَحِكَتْ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَتْهَا عَائِشَةُ عَنْ ذَلِكَ، قَالَتْ: أَخْبَرَنِي أَنَّهُ مَيِّتٌ، فَبَكَيْتُ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنِّي أَوَّلُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ، فَضَحِكْتُ» . وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: ثُمَّ سَارَّنِي الثَّانِيَةَ، وَأَخْبَرَنِي أَنِّي سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَضَحِكْتُ. وَكَانَ مَوْتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ نِصْفَ النَّهَارِ، وَقِيلَ: مَاتَ نِصْفَ النَّهَارِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ بِمَنْزِلِهِ بِالسُّنْحِ، وَعُمَرُ حَاضِرٌ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ قَامَ عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مَاتَ، وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى رَبِّهِ كَمَا ذَهَبَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، وَاللَّهِ لَيَرْجِعَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِي

رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ مَاتَ. وَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُسَجًّى فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَبَّلَهُ، وَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَقَدْ ذُقْتَهَا. ثُمَّ رَدَّ الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ خَرَجَ وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَأَمَرَهُ بِالسُّكُوتِ فَأَبَى، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى النَّاسِ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ كَلَامَهُ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] . قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ مَا سَمِعُوهَا إِلَّا مِنْهُ. قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا إِذْ سَمِعْتُهَا فَعَقِرْتُ حَتَّى وَقَعْتُ عَلَى الْأَرْضِ مَا تَحْمِلُنِي رِجْلَايَ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ مَاتَ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَصَلَ خَبَرُهُ إِلَى مَكَّةَ، وَعَامِلِهِ عَلَيْهَا عَتَّابِ بْنِ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، اسْتَخْفَى عَتَّابُ وَارْتَجَّتْ مَكَّةُ، وَكَادَ أَهْلُهَا يَرْتَدُّونَ، فَقَامَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَصَاحَ بِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، لَا تَكُونُوا آخِرَ مَنْ أَسْلَمَ وَأَوَّلَ مَنِ ارْتَدَّ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ قَائِمًا مَقَامِي هَذَا وَحْدَهُ وَهُوَ يَقُولُ: قُولُوا مَعِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَدِنْ لَكُمُ الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّ إِلَيْكُمُ الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ، وَاللَّهِ لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - فَمِنْ بَيْنِ مُسْتَهْزِئٍ وَمُصَدِّقٍ، فَكَانَ مَا رَأَيْتُمْ، وَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ الْبَاقِي. فَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الرِّدَّةِ. وَهَذَا الْمَقَامُ الَّذِي قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أُسِرَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي بَدْرٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقَدْ ذُكِرَ هُنَاكَ.

حديث السقيفة وخلافة أبي بكر - رضي الله عنه وأرضاه

[حَدِيثُ السَّقِيفَةِ وَخِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ] لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجْتَمَعَ الْأَنْصَارُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ لِيُبَايِعُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ، فَأَتَاهُمْ وَمَعَهُ عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: مِنَّا أَمِيرٌ، وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مِنَّا الْأُمَرَاءُ، وَمِنْكُمُ الْوُزَرَاءُ. ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ عُمَرَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّكُمْ يَطِيبُ نَفْسًا أَنْ يَخْلُفَ قَدَمَيْنِ قَدَّمَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَبَايَعَهُ عُمَرُ وَبَايَعَهُ النَّاسُ. فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ أَوْ بَعْضُ الْأَنْصَارِ: لَا نُبَايِعُ إِلَّا عَلِيًّا. قَالَ: وَتَخَلَّفَ عَلِيٌّ، وَبَنُو هَاشِمٍ، وَالزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ - عَنِ الْبَيْعَةِ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ: لَا أُغْمِدُ سَيْفًا حَتَّى يُبَايَعَ عَلِيٌّ. فَقَالَ عُمَرُ: خُذُوا سَيْفَهُ وَاضْرِبُوا بِهِ الْحَجَرَ، ثُمَّ أَتَاهُمْ عُمَرُ، فَأَخَذَهُمْ لِلْبَيْعَةِ. وَقِيلَ: لَمَّا سَمِعَ عَلِيٌّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ خَرَجَ فِي قَمِيصٍ مَا عَلَيْهِ إِزَارٌ وَلَا رِدَاءٌ عَجِلًا، حَتَّى بَايَعَهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَى إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ فَتَجَلَّلَهُ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا بَايَعَ إِلَّا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: لَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَرَى عَجَاجَةً لَا يُطْفِئُهَا إِلَّا دَمٌ! يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ، فِيمَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أُمُورِكُمْ؟ أَيْنَ الْمُسْتَضْعَفَانِ؟ أَيْنَ الْأَذَلَّانِ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ؟ مَا بَالُ هَذَا الْأَمْرِ فِي أَقَلِّ حَيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ؟ ثُمَّ قَالَ لَعَلِيٍّ: ابْسُطْ

يَدَكَ أُبَايِعْكَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ شِئْتَ لَأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْهِ خَيْلًا وَرَجْلًا. فَأَبَى عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ الْمُتَلَمِّسِ: وَلَنْ يُقِيمَ عَلَى خَسْفٍ يُرَادُ بِهِ ... إِلَّا الْأَذَلَّانِ عَيْرُ الْحَيِّ وَالْوَتَدُ هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَعْكُوسٌ بِرُمَّتِهِ ... وَذَا يُشَجُّ فَلَا يَبْكِي لَهُ أَحَدُ فَزَجَرَهُ عَلِيٌّ وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ مَا أَرَدْتَ بِهَذَا إِلَّا الْفِتْنَةَ، وَإِنَّكَ وَاللَّهِ طَالَمَا بَغَيْتَ لِلْإِسْلَامِ شَرًّا! لَا حَاجَةَ لَنَا فِي نَصِيحَتِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ الْقُرْآنَ، فَحَجَّ عُمَرُ وَحَجَجْنَا مَعَهُ، فَقَالَ لِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ: شَهِدْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ بِمِنًى، وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: سَمِعْتُ فُلَانًا يَقُولُ: لَوْ مَاتَ عُمَرُ لَبَايَعْتُ فُلَانًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ أُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْتَصِبُوا النَّاسَ أَمْرَهُمْ. قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رِعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ، وَأَخَافُ أَنْ تَقُولَ مَقَالَةً لَا يَعُوهَا وَلَا يَحْفَظُوهَا وَيَطَّيَّرُوا بِهَا، وَلَكِنْ أَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةِ، وَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَقُولَ مَا قُلْتَ، فَيَعُوا مَقَالَتَكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَقُومَنَّ بِهَا أَوَّلَ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ هَجَرْتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا جَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الرَّجْمَ وَمَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ فِيهِ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ: لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بَايَعْتُ فُلَانًا، فَلَا يَغُرَّنَّ امْرَأً أَنْ يَقُولَ: إِنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فِتْنَةً، فَقَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا، وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ إِلَيْهِ الْأَعْنَاقُ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَإِنَّهُ كَانَ خَيْرَنَا حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَمَنْ مَعَهُمَا تَخَلَّفُوا عَنَّا فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ، وَتَخَلَّفَ عَنَّا الْأَنْصَارُ، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقُلْتُ لَهُ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْطَلَقْنَا نَحْوَهُمْ، فَلَقِيَنَا رَجُلَانِ صَالِحَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، أَحَدُهُمَا عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، وَالثَّانِي مَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ، فَقَالَا

لَنَا: ارْجِعُوا اقْضُوا أَمْرَكُمْ بَيْنَكُمْ. قَالَ: فَأَتَيْنَا الْأَنْصَارَ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ وَبَيْنَ أَظْهُرِهُمْ رَجُلٌ مُزَمَّلٌ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَجِعٌ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَنَحْنُ الْأَنْصَارُ، وَكَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ، وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ رَهْطٌ بَيْنَنَا، وَقَدْ دَفَّتْ إِلَيْنَا دَافَّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ، فَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُونَا الْأَمْرَ. فَلَمَّا سَكَتَ وَكُنْتُ قَدْ زَوَّرْتُ فِي نَفْسِي مَقَالَةً أَقُولُهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَى رِسْلِكَ! فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَمَا تَرَكَ شَيْئًا كُنْتُ زَوَّرْتُ فِي نَفْسِي إِلَّا جَاءَ بِهِ أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْهُ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، إِنَّكُمْ لَا تَذْكُرُونَ فَضْلًا إِلَّا وَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ، وَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْرِفُ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا لِقُرَيْشٍ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ دَارًا وَنَسَبًا، وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ. وَأَخَذَ بِيَدِي وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا كَرِهْتُ مِنْ كَلَامِهِ كَلِمَةً غَيْرَهَا، إِنْ كُنْتُ أُقَدَّمُ فَتُضْرَبُ عُنُقِي فِيمَا لَا يُقَرِّبُنِي إِلَى إِثْمٍ، أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ. فَلَمَّا قَضَى أَبُو بَكْرٍ كَلَامَهُ قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ، وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ وَاللَّغَطُ، فَلَمَّا خِفْتُ الِاخْتِلَافَ قُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ النَّاسُ، ثُمَّ نَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: قَتَلْتُمْ سَعْدًا. فَقُلْتُ: قَتَلَ اللَّهُ سَعْدًا. وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا أَمْرًا هُوَ أَقْوَى مِنْ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ، خَشِيتُ إِنْ فَارَقْتُ الْقَوْمَ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ أَنْ يُحْدِثُوا بَعْدَنَا بَيْعَةً، فَإِمَّا أَنْ نُتَابِعَهُمْ عَلَى مَا لَا نَرْضَى بِهِ، وَإِمَّا أَنْ نُخَالِفَهُمْ فَيَكُونُ فَسَادًا. وَقَالَ أَبُو عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ: لَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَأَخْرَجُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ لِيُوَلُّوهُ الْأَمْرَ، وَكَانَ مَرِيضًا فَقَالَ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، لَكُمْ سَابِقَةٌ وَفَضِيلَةٌ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ، إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِثَ فِي

قَوْمِهِ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً يَدْعُوهُمْ، فَمَا آمَنَ إِلَّا الْقَلِيلُ، مَا كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى مَنْعِهِ وَلَا عَلَى إِعْزَازِ دِينِهِ، وَلَا عَلَى دَفْعِ ضَيْمٍ، حَتَّى إِذَا أَرَادَ بِكُمُ الْفَضِيلَةَ سَاقَ إِلَيْكُمُ الْكَرَامَةَ، وَرَزَقَكُمُ الْإِيمَانَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَالْمَنْعَ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ، وَالْإِعْزَازَ لَهُ وَلِدِينِهِ، وَالْجِهَادَ لِأَعْدَائِهِ، فَكُنْتُمْ أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى عَدُوِّهِ حَتَّى اسْتَقَامَتِ الْعَرَبُ لِأَمْرِ اللَّهِ طَوْعًا وَكَرْهًا، وَأَعْطَى الْبَعِيدُ الْمُقَادَةَ صَاغِرًا، فَدَانَتْ لِرَسُولِهِ بِأَسْيَافِكُمُ الْعَرَبُ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ قَرِيرُ الْعَيْنِ. اسْتَبِدُّوا بِهَذَا الْأَمْرِ دُونَ النَّاسِ، فَإِنَّهُ لَكُمْ دُونَهُمْ. فَأَجَابُوهُ بِأَجْمَعِهِمْ: أَنْ قَدْ وُفِّقْتَ وَأَصَبْتَ الرَّأْيَ، وَنَحْنُ نُوَلِّيكَ هَذَا الْأَمْرَ، فَإِنَّكَ مَقْنَعٌ وَرِضًا لِلْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ إِنَّهُمْ تَرَادُّوا الْكَلَامَ فَقَالُوا: وَإِنْ أَبَى الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَالُوا: نَحْنُ الْمُهَاجِرُونَ وَأَصْحَابُهُ الْأَوَّلُونَ، وَعَشِيرَتُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ؟ ! فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: فَإِنَّا نَقُولُ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، وَلَنْ نَرْضَى بِدُونِ هَذَا أَبَدًا. فَقَالَ سَعْدٌ: هَذَا أَوَّلُ الْوَهَنِ. وَسَمِعَ عُمَرُ الْخَبَرَ فَأَتَى مَنْزِلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ فِيهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنِ اخْرُجْ إِلَيَّ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: إِنِّي مُشْتَغِلٌ. فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ لَابُدَّ لَكَ مِنْ حُضُورِهِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَأَعْلَمَهُ الْخَبَرَ، فَمَضَيَا مُسْرِعِينَ نَحْوَهُمْ وَمَعَهُمَا أَبُو عُبَيْدَةَ. قَالَ عُمَرُ: فَأَتَيْنَاهُمْ وَقَدْ كُنْتُ زَوَّرْتُ كَلَامًا أَقُولُهُ لَهُمْ، فَلَمَّا دَنَوْتُ أَقُولُ أَسْكَتَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَتَكَلَّمَ بِكُلِّ مَا أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ فِينَا رَسُولًا شَهِيدًا عَلَى أُمَّتِهِ لِيَعْبُدُوهُ وَيُوَحِّدُوهُ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً شَتَّى مِنْ حَجَرٍ وَخَشَبٍ، فَعَظُمَ عَلَى الْعَرَبِ أَنْ يَتْرُكُوا دِينَ آبَائِهِمْ. فَخَصَّ اللَّهُ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ قَوْمِهِ بِتَصْدِيقِهِ وَالْمُوَاسَاةِ لَهُ، وَالصَّبْرِ مَعَهُ عَلَى شِدَّةِ أَذَى قَوْمِهِمْ لَهُمْ وَتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَكُلُّ النَّاسِ لَهُمْ مُخَالِفٌ زَارٍ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَوْحِشُوا لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَشَنَفِ النَّاسِ لَهُمْ، فَهُمْ أَوَّلُ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ، وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ وَعَشِيرَتُهُ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، لَا يُنَازِعُهُمْ إِلَّا ظَالِمٌ، وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَنْ لَا يُنْكَرُ فَضْلُهُمْ فِي الدِّينِ وَلَا سَابِقَتُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، رَضِيَكُمُ اللَّهُ أَنْصَارًا لِدِينِهِ وَرَسُولِهِ، وَجَعَلَ إِلَيْكُمْ هِجْرَتَهُ، فَلَيْسَ بَعْدَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَتِكُمْ، فَنَحْنُ الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ، لَا تُفَاوَتُونَ بِمَشُورَةٍ، وَلَا تُقْضَى دُونَكُمُ الْأُمُورُ. فَقَامَ حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، امْلِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْرَكُمْ،

فَإِنَّ النَّاسَ فِي ظِلِّكُمْ، وَلَنْ يَجْتَرِئَ مُجْتَرِئٌ عَلَى خِلَافِكُمْ، وَلَا يَصْدُرُوا إِلَّا عَنْ رَأْيِكُمْ، أَنْتُمْ أَهْلُ الْعِزِّ وَأُولُو الْعَدَدِ وَالْمَنْعَةِ وَذَوُو الْبَأْسِ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ النَّاسُ مَا تَصْنَعُونَ، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيَفْسَدَ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ، أَبَى هَؤُلَاءِ إِلَّا مَا سَمِعْتُمْ، فَمِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فَقَالَ عُمَرُ: هَيْهَاتَ، لَا يَجْتَمِعُ اثْنَانِ فِي قَرْنٍ! وَاللَّهِ لَا تَرْضَى الْعَرَبُ أَنْ تُؤَمِّرَكُمْ وَنَبِيُّنَا مِنْ غَيْرِكُمْ، وَلَا تَمْتَنِعُ الْعَرَبُ أَنْ تُوَلِّيَ أَمْرَهَا مَنْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ فِيهِمْ، وَلَنَا بِذَلِكَ الْحُجَّةُ الظَّاهِرَةُ، مَنْ يُنَازِعُنَا سُلْطَانَ مُحَمَّدٍ وَنَحْنُ أَوْلِيَاؤُهُ وَعَشِيرَتُهُ؟ ! فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، امْلِكُوا عَلَى أَيْدِيكُمْ، وَلَا تَسْمَعُوا مَقَالَةَ هَذَا وَأَصْحَابِهِ فَيَذْهَبُوا بِنَصِيبِكُمْ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَإِنْ أَبَوْا عَلَيْكُمْ فَأَجْلُوهُمْ عَنْ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَتَوَلُّوا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأُمُورَ، فَأَنْتُمْ وَاللَّهِ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ بِأَسْيَافِكُمْ دَانَ النَّاسُ لِهَذَا الدِّينِ، أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ! أَنَا أَبُو شِبْلٍ فِي عَرِينَةِ الْأَسَدِ، وَاللَّهِ لَئِنْ شِئْتُمْ لَنُعِيدَنَّهَا جَذَعَةً. فَقَالَ عُمَرُ: إِذًا لَيَقْتُلُكَ اللَّهُ! فَقَالَ: بَلْ إِيَّاكَ يَقْتُلُ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، إِنَّكُمْ أَوَّلُ مَنْ نَصَرَ، فَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ! فَقَامَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ أَبُو النُّعْمَانِ بْنُ بَشِيرٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، إِنَّا وَاللَّهِ وَإِنْ كُنَّا أُولِي فَضِيلَةٍ فِي جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ، وَسَابِقَةٍ فِي الدِّينِ، مَا أَرَدْنَا بِهِ إِلَّا رِضَى رَبِّنَا، وَطَاعَةَ نَبِيِّنَا، وَالْكَدْحَ لِأَنْفُسِنَا، فَمَا يَنْبَغِي أَنْ نَسْتَطِيلَ عَلَى النَّاسِ بِذَلِكَ، وَلَا نَبْتَغِيَ بِهِ الدُّنْيَا، أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَوْمُهُ أَوْلَى بِهِ، وَايْمُ اللَّهِ لَا يَرَانِي اللَّهُ أُنَازِعُهُمْ هَذَا الْأَمْرَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخَالِفُوهُمْ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، فَإِنْ شِئْتُمْ فَبَايِعُوا. فَقَالَا: وَاللَّهِ لَا نَتَوَلَّى هَذَا الْأَمْرَ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ أَفْضَلُ الْمُهَاجِرِينَ وَخَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ، وَهِيَ أَفْضَلُ دِينِ الْمُسْلِمِينَ، ابْسُطْ يَدَكَ نُبَايِعْكَ. فَلَمَّا ذَهَبَا يُبَايِعَانِهِ سَبَقَهُمَا بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ فَبَايَعَهُ، فَنَادَاهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: عَقَّتْكَ عَقَاقِ! أَنَفِسْتَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ الْإِمَارَةَ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُنَازِعَ الْقَوْمَ حَقَّهُمْ. وَلَمَّا رَأَتِ الْأَوْسُ مَا صَنَعَ بَشِيرٌ وَمَا تَطْلُبُ الْخَزْرَجُ مِنْ تَأْمِيرِ سَعْدٍ - قَالَ بَعْضُهُمْ

لِبَعْضٍ، وَفِيهِمْ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَكَانَ نَقِيبًا: وَاللَّهِ لَئِنْ وَلِيَتْهَا الْخَزْرَجُ مَرَّةً لَا زَالَتْ لَهُمْ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ الْفَضِيلَةُ، وَلَا جَعَلُوا لَكُمْ فِيهَا نَصِيبًا أَبَدًا، فَقُومُوا فَبَايِعُوا أَبَا بَكْرٍ. فَبَايَعُوهُ، فَانْكَسَرَ عَلَى سَعْدٍ وَالْخَزْرَجِ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَأَقْبَلَ النَّاسُ يُبَايِعُونَ أَبَا بَكْرٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. ثُمَّ تَحَوَّلَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ إِلَى دَارِهِ فَبَقِيَ أَيَّامًا، وَأُرْسِلَ إِلَيْهِ لِيُبَايِعَ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ بَايَعُوا، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، حَتَّى أَرْمِيَكُمْ بِمَا فِي كِنَانَتِي، وَأَخْضِبَ سِنَانَ رُمْحِي، وَأَضْرِبَ بِسَيْفِي، وَأُقَاتِلَكُمْ بِأَهْلِ بَيْتِي وَمَنْ أَطَاعَنِي، وَلَوِ اجْتَمَعَ مَعَكُمُ الْجِنُّ وَالْأِنْسُ مَا بَايَعْتُكُمْ حَتَّى أُعْرَضَ عَلَى رَبِّي. فَقَالَ عُمَرُ: لَا تَدْعُهُ حَتَّى يُبَايِعَ. فَقَالَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: إِنَّهُ قَدْ لَجَّ وَأَبَى، وَلَا يُبَايِعُكُمْ حَتَّى يُقْتَلَ، وَلَيْسَ بِمَقْتُولٍ حَتَّى يُقْتَلَ مَعَهُ أَهْلُهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ عَشِيرَتِهِ، وَلَا يَضُرُّكُمْ تَرْكُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ وَاحِدٌ. فَتَرَكُوهُ. وَجَاءَتْ أَسْلَمُ فَبَايَعَتْ، فَقَوِيَ أَبُو بَكْرٍ بِهِمْ، وَبَايَعَ النَّاسُ بَعْدُ. قِيلَ إِنَّ عُمَرَ بْنَ حُرَيْثٍ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ: مَتَى بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهُوا أَنْ يَبْقُوا بَعْضَ يَوْمٍ وَلَيْسُوا فِي جَمَاعَةٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: بَقِيَ عَلِيٌّ وَبَنُو هَاشِمٍ وَالزُّبَيْرُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ لَمْ يُبَايِعُوا أَبَا بَكْرٍ حَتَّى مَاتَتْ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَبَايَعُوهُ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَبَايَعَهُ النَّاسُ بَيْعَةً عَامَّةً، ثُمَّ تَكَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ وُلِّيتَ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي، الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ لَهُ حَقَّهُ، وَالْقَوِيُّ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ مِنْهُ الْحَقَّ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَا يَدَعُ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْجِهَادَ، فَإِنَّهُ لَا يَدَعُهُ قَوْمٌ إِلَّا ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالذُّلِّ، أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا عَصْيَتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ، قُومُوا إِلَى صَلَاتِكُمْ - رَحِمَكُمُ اللَّهُ -. (أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَضْمُومَةِ، وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَآخِرُهُ رَاءٌ) .

ذكر تجهيز النبي - صلى الله عليه وسلم - ودفنه

[ذِكْرُ تَجْهِيزِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَفْنِهِ] فَلَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ أَقْبَلَ النَّاسُ عَلَى جَهَازِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَقِيلَ: بَقِيَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يُدْفَنْ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَكَانَ الَّذِي يَلِي غَسْلَهُ: عَلِيٌّ، وَالْعَبَّاسُ، وَالْفَضْلُ وَقُثَمُ ابْنَا الْعَبَّاسِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَشُقْرَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَضَرَهُمْ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ بَدْرِيًّا، وَكَانَ الْعَبَّاسُ وَابْنَاهُ يُقَلِّبُونَهُ، وَأُسَامَةُ وَشُقْرَانُ يَصُبَّانِ الْمَاءَ، وَعَلِيٌّ يَغْسِلُهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ وَهُوَ يَقُولُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَطْيَبُكَ حَيًّا وَمَيِّتًا! وَلَمْ يُرَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُرَى مِنْ مَيِّتٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي غَسْلِهِ فِي ثِيَابِهِ أَوْ مُجَرَّدًا، فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ النُّوَّمَ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ: أَنْ غَسِّلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ. وَكُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: ثَوْبَيْنِ صُحَارِيِّيْنِ، وَبُرْدِ حِبَرَةٍ أُدْرِجَ فِيهَا إِدْرَاجًا. وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ دَفْنِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلَّا دُفِنَ حَيْثُ قُبِضَ» ، فَرُفِعَ فِرَاشُهُ وَدُفِنَ مَوْضِعَهُ، وَحَفَرَ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ

ذكر إنفاذ جيش أسامة بن زيد

لَحْدًا، وَدَخَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ أَرْسَالًا: الرِّجَالُ، ثُمَّ النِّسَاءُ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ الْعَبِيدُ، وَدُفِنَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ. وَكَانَ الَّذِي نَزَلَ قَبْرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْفَضْلُ وَقُثَمُ ابْنَا الْعَبَّاسِ، وَشُقْرَانُ. وَقَالَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ لِعَلِيٍّ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَحَظَّنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ بِالنُّزُولِ فَنَزَلَ. وَكَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَدَّعِي أَنَّهُ أَحْدَثُ النَّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقُولُ: أَلْقَيْتُ خَاتَمِي فِي قَبْرِهِ عَمْدًا فَنَزَلْتُ لِآخُذَهُ، وَسَأَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِالْعِرَاقِ عَلِيًّا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَذَبَ الْمُغِيرَةُ، أَحْدَثُنَا عَهْدًا بِهِ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ. وَاخْتَلَفُوا فِي عُمْرِهِ يَوْمَ مَاتَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَمُعَاوِيَةُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ عُمُرُهُ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَدَغْفَلُ بْنُ حَنْظَلَةَ: كَانَ عُمْرُهُ خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَ عُمْرُهُ سِتِّينَ سَنَةً. [ذِكْرُ إِنْفَاذِ جَيْشِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ] قَدْ ذَكَرْنَا اسْتِعْمَالَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ عَلَى جَيْشٍ، وَأَمْرَهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى

الشَّامِ، وَكَانَ قَدْ ضَرَبَ الْبَعْثَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا، وَفِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَسِرِ الْجَيْشُ، وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ إِمَّا عَامَّةً أَوْ خَاصَّةً مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ، وَظَهَرَ النِّفَاقُ، وَاشْرَأَبَّتْ يَهُودُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَبَقِيَ الْمُسْلِمُونَ كَالْغَنَمِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ؛ لِفَقْدِ نَبِيِّهِمْ، وَقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ. فَقَالَ النَّاسُ لِأَبِي بَكْرٍ: إِنَّ هَؤُلَاءِ - يَعْنُونَ جَيْشَ أُسَامَةَ - جُنْدُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعَرَبُ عَلَى مَا تَرَى قَدِ انْتَقَضَتْ بِكَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُفَرِّقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ عَنْكَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّ السِّبَاعَ تَخْتَطِفُنِي لَأَنْفَذْتُ جَيْشَ أُسَامَةَ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَخَاطَبَ النَّاسَ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّجَهُّزِ لِلْغَزْوِ، وَأَنْ يَخْرُجَ كُلُّ مَنْ هُوَ مِنْ جَيْشِ أُسَامَةَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ بِالْجُرُفِ، فَخَرَجُوا كَمَا أَمَرَهُمْ، وَجَيَّشَ أَبُو بَكْرٍ مَنْ بَقِيَ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمُ الْهِجْرَةُ فِي دِيَارِهِمْ، فَصَارُوا مَسَالِحَ حَوْلَ قَبَائِلِهِمْ، وَهُمْ قَلِيلٌ. فَلَمَّا خَرَجَ الْجَيْشُ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ بِالْجُرُفِ وَتَكَامَلُوا - أَرْسَلَ أُسَامَةُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَكَانَ مَعَهُ فِي جَيْشِهِ، إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُهُ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ، وَقَالَ: إِنَّ مَعِي وُجُوهَ النَّاسِ وَحْدَهُمْ، وَلَا آمَنُ عَلَى خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَحُرُمِ رَسُولِ اللَّهِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَخَطَّفَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَقَالَ مَنْ مَعَ أُسَامَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ نَمْضِيَ فَأَبْلِغْهُ عَنَّا، وَاطْلُبْ إِلَيْهِ أَنْ يُوَلِّيَ أَمْرَنَا رَجُلًا أَقْدَمَ سِنًّا مِنْ أُسَامَةَ. فَخَرَجَ عُمَرُ بِأَمْرِ أُسَامَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ أُسَامَةُ. فَقَالَ: لَوْ خَطَفَتْنِي الْكِلَابُ وَالذِّئَابُ لَأَنْفَذْتُهُ كَمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَرُدُّ قَضَاءً قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ لَمْ يَبْقَ فِي الْقُرَى غَيْرِي لَأَنْفَذْتُهُ. قَالَ عُمَرُ: فَإِنَّ الْأَنْصَارَ تَطْلُبُ رَجُلًا أَقْدَمَ سِنًّا مِنْ أُسَامَةَ. فَوَثَبَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ جَالِسًا، وَأَخَذَ بِلِحْيَةِ عُمَرَ وَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! اسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَأْمُرُنِي أَنْ أَعْزِلَهُ؟ ! ثُمَّ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَتَاهُمْ وَأَشْخَصَهُمْ وَشَيَّعَهُمْ، وَهُوَ مَاشٍ وَأُسَامَةُ رَاكِبٌ، فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، لَتَرْكَبَنَّ أَوْ لَأَنْزِلَنَّ! فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا نَزَلْتَ وَلَا أَرْكَبُ، وَمَا عَلَيَّ أَنْ أُغَبِّرَ قَدَمَيَّ سَاعَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ! فَإِنَّ لِلْغَازِي بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا سَبْعَمِائَةِ حَسَنَةٍ تُكْتَبُ لَهُ، وَسَبْعَمِائَةِ دَرَجَةٍ تُرْفَعُ لَهُ، وَسَبْعَمِائَةِ سَيِّئَةٍ تُمْحَى عَنْهُ.

ذكر أخبار الأسود العنسي باليمن

فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ قَالَ لِأُسَامَةَ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُعِينَنِي بِعُمَرَ فَافْعَلْ، فَأَذِنَ لَهُ، ثُمَّ وَصَّاهُمْ فَقَالَ: لَا تَخُونُوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا طِفْلًا وَلَا شَيْخًا كَبِيرًا وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَعْقِرُوا نَخْلًا وَتُحْرِقُوهُ، وَلَا تَقْطَعُوا شَجَرَةً مُثْمِرَةً، وَلَا تَذْبَحُوا شَاةً وَلَا بَقَرَةً وَلَا بَعِيرًا إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ، وَسَوْفَ تَمُرُّونَ بِأَقْوَامٍ قَدْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ، فَدَعُوهُمْ وَمَا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ، وَسَوْفَ تَقْدَمُونَ عَلَى قَوْمٍ قَدْ فَحَصُوا أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ، وَتَرَكُوا حَوْلَهَا مِثْلَ الْعَصَائِبِ، فَاخْفِقُوهُمْ بِالسَّيْفِ خَفْقًا. انْدَفِعُوا بِاسْمِ اللَّهِ. وَأَوْصَى أُسَامَةَ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَسَارَ وَأَوْقَعَ بِقَبَائِلَ مِنْ نَاسِ قُضَاعَةَ الَّتِي ارْتَدَّتْ، وَغَنِمَ وَعَادَ، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: سَبْعِينَ يَوْمًا. وَكَانَ إِنْفَاذُ جَيْشِ أُسَامَةَ أَعْظَمَ الْأُمُورِ نَفْعًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ قَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِمْ قُوَّةٌ لَمَا أَرْسَلُوا هَذَا الْجَيْشَ، فَكَفُّوا عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلُوهُ. [ذِكْرُ أَخْبَارِ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ بِالْيَمَنِ] وَاسْمُهُ عَيْهَلَةُ بْنُ كَعْبِ بْنِ عَوْفٍ الْعَنْسِيُّ، بِالنُّونِ، وَعَنْسٌ بَطْنٌ مِنْ مَذْحِجٍ، وَكَانَ يُلَقَّبُ ذَا الْخِمَارِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُعْتَمًّا مُتَخَمِّرًا أَبَدًا. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جَمَعَ لِبَاذَانَ حِينَ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ أَهْلُ الْيَمَنِ - عَمَلَ الْيَمَنِ جَمِيعَهُ، وَأَمَّرَهُ عَلَى جَمِيعِ مُخَالِفِيهِ، فَلَمْ يَزَلْ عَامِلًا عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ. فَلَمَّا مَاتَ بَاذَانُ فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَرَاءَهُ فِي الْيَمَنِ، فَاسْتَعْمَلَ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ عَلَى نَجْرَانَ، وَخَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى مَا بَيْنَ نَجْرَانَ وَزَبِيدَ، وَعَامِرَ بْنَ شَهْرٍ عَلَى هَمْدَانَ، وَعَلَى صَنْعَاءَ شَهْرَ بْنَ بَاذَانَ، وَعَلَى عَكٍّ وَالْأَشْعَرِيِّينَ الطَّاهِرَ بْنَ أَبِي هَالَةَ، وَعَلَى مَأْرِبَ أَبَا مُوسَى، وَعَلَى الْجَنَدِ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ، وَكَانَ مُعَاذُ مُعَلِّمًا يَتَنَقَّلُ فِي عَمَالَةِ كُلِّ عَامِلٍ بِالْيَمَنِ وَحَضْرَمَوْتَ.

وَاسْتَعْمَلَ عَلَى أَعْمَالِ حَضْرَمَوْتَ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيَّ، وَعَلَى السَّكَاسِكِ وَالسَّكُونِ عُكَّاشَةَ بْنَ ثَوْرٍ، وَعَلَى بَنِي مُعَاوِيَةَ ابْنَ كِنْدَةَ عَبْدَ اللَّهِ أَوِ الْمُهَاجِرَ، فَاشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَذْهَبْ حَتَّى وَجَّهَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَمَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَؤُلَاءِ عُمَّالُهُ عَلَى الْيَمَنِ وَحَضْرَمَوْتَ. وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اعْتَرَضَ الْأَسْوَدَ الْكَاذِبَ - شَهْرُ، وَفَيْرُوزُ، وَدَاذَوَيْهِ، وَكَانَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ لَمَّا عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَتَمَرَّضَ مِنَ السَّفَرِ غَيْرَ مَرَضِ مَوْتِهِ بَلَغَهُ ذَلِكَ، فَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَكَانَ مُشَعْبِذًا يُرِيهِمُ الْأَعَاجِيبَ، فَاتَّبَعَتْهُ مَذْحِجٌ، وَكَانَتْ رِدَّةُ الْأَسْوَدِ أَوَّلَ رِدَّةٍ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَزَا نَجْرَانَ، فَأَخْرَجَ عَنْهَا عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ وَخَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ، وَوَثَبَ قَيْسُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ مَكْشُوحٍ عَلَى فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ، وَهُوَ عَلَى مُرَادٍ، فَأَجْلَاهُ وَنَزَلَ مَنْزِلَهُ، وَسَارَ الْأَسْوَدُ عَنْ نَجْرَانَ إِلَى صَنْعَاءَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ شَهْرُ بْنُ بَاذَانَ فَلَقِيَهُ، فَقُتِلَ شَهْرٌ لِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْ خُرُوجِ الْأَسْوَدِ، وَخَرَجَ مُعَاذٌ هَارِبًا حَتَّى لَحِقَ بِأَبِي مُوسَى وَهُوَ بِمَأْرِبَ، فَلَحِقَا بِحَضْرَمَوْتَ، وَلَحِقَ بِفَرْوَةَ مَنْ تَمَّ عَلَى إِسْلَامِهِ مِنْ مَذْحِجٍ. وَاسْتَتَبَّ لِلْأَسْوَدِ مُلْكُ الْيَمَنِ، وَلَحِقَ أُمَرَاءُ الْيَمَنِ إِلَى الطَّاهِرِ بْنِ أَبِي هَالَةَ، إِلَّا عَمْرًا وَخَالِدًا؛ فَإِنَّهُمَا رَجَعَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالطَّاهِرُ بِجِبَالِ عَكٍّ وَجِبَالِ صَنْعَاءَ، وَغَلَبَ الْأَسْوَدُ عَلَى مَا بَيْنَ مَفَازَةِ حَضْرَمَوْتَ إِلَى الطَّائِفِ، إِلَى الْبَحْرَيْنِ وَالْأَحْسَاءِ، إِلَى عَدَنَ، وَاسْتَطَارَ أَمْرُهُ كَالْحَرِيقِ، وَكَانَ مَعَهُ سَبْعُمِائَةِ فَارِسٍ يَوْمَ لَقِيَ شَهْرًا سِوَى الرُّكْبَانِ، وَاسْتَغْلَظَ أَمْرُهُ، وَكَانَ خَلِيفَتَهُ فِي مَذْحِجٍ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ، وَكَانَ خَلِيفَتَهُ عَلَى جُنْدِهِ قَيْسُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَأَمْرُ الْأَبْنَاءِ إِلَى فَيْرُوزَ وَدَاذَوَيْهِ. وَكَانَ الْأَسْوَدُ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ شَهْرِ بْنِ بَاذَانَ بَعْدَ قَتْلِهِ، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّ فَيْرُوزَ. وَخَافَ مَنْ بِحَضْرَمَوْتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، أَوْ يَظْهَرَ بِهَا كَذَّابٌ مِثْلُ الْأَسْوَدِ، فَتَزَوَّجَ مُعَاذٌ إِلَى السَّكُونِ، فَعَطَفُوا عَلَيْهِ. وَجَاءَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَنْ بِالْيَمَنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كُتُبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُهُمْ بِقِتَالِ الْأَسْوَدِ، فَقَامَ مُعَاذٌ فِي ذَلِكَ، وَقَوِيَتْ نُفُوسُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ الَّذِي قَدِمَ بِكِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَرُ

بْنُ يُحَنَّسَ الْأَزْدِيُّ، قَالَ جِشْنَسُ الدَّيْلَمِيُّ: فَجَاءَتْنَا كُتُبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا بِقِتَالِهِ، إِمَّا مُصَادَمَةً أَوْ غِيلَةً - يَعْنِي إِلَيْهِ، وَإِلَى فَيْرُوزَ وَدَاذَوَيْهِ - وَأَنْ نُكَاتِبَ مَنْ عِنْدَهُ دِينٌ. فَعَمِلْنَا فِي ذَلِكَ، فَرَأَيْنَا أَمْرًا كَثِيفًا، وَكَانَ قَدْ تَغَيَّرَ لِقَيْسِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، فَقُلْنَا: إِنَّ قَيْسًا يَخَافُ عَلَى دَمِهِ، فَهُوَ لِأَوَّلِ دَعْوَةٍ، فَدَعَوْنَاهُ وَأَبْلَغْنَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَأَنَّمَا نَزَلْنَا عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، فَأَجَابَنَا، وَكَاتَبْنَا النَّاسَ. فَأَخْبَرَهُ الشَّيْطَانُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَدَعَا قَيْسًا فَأَخْبَرَهُ أَنَّ شَيْطَانَهُ يَأْمُرُهُ بِقَتْلِهِ؛ لِمَيْلِهِ إِلَى عَدُوِّهِ، فَحَلَفَ قَيْسٌ: لَأَنْتَ أَعْظَمُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ نَفْسِي بِذَلِكَ. ثُمَّ أَتَانَا فَقَالَ: يَا جِشْنَسُ، وَيَا فَيْرُوزُ، وَيَا دَاذَوَيْهِ، فَأَخْبَرَنَا بِقَوْلِ الْأَسْوَدِ. فَبَيْنَا نَحْنُ مَعَهُ يُحَدِّثُنَا إِذْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا فَتَهَدَّدَنَا، فَاعْتَذَرْنَا إِلَيْهِ وَنَجَوْنَا مِنْهُ وَلَمْ نَكَدْ، وَهُوَ مُرْتَابٌ بِنَا وَنَحْنُ نُحَذِّرُهُ. فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ جَاءَتْنَا كُتُبُ عَامِرِ بْنِ شَهْرٍ، وَذِي زُودٍ، وَذِي مُرَّانَ، وَذِي الْكُلَاعِ، وَذِي ظُلَيْمٍ، يَبْذُلُونَ لَنَا النَّصْرَ، فَكَاتَبْنَاهُمْ وَأَمَرْنَاهُمْ أَنْ لَا يَفْعَلُوا شَيْئًا حَتَّى نُبْرِمَ أَمْرَنَا، وَإِنَّمَا اهْتَاجُوا لِذَلِكَ حِينَ كَاتَبَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَتَبَ أَيْضًا إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ فَأَجَابُوهُ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الْأَسْوَدُ، وَأَحَسَّ بِالْهَلَاكِ. قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى آزَادَ، وَهِيَ امْرَأَتُهُ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ قَتْلِ زَوْجِهَا شَهْرِ بْنِ بَاذَانَ، فَدَعَوْتُهَا إِلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَذَكَّرْتُهَا قَتْلَ زَوْجِهَا شَهْرٍ وَإِهْلَاكَ عَشِيرَتِهَا، وَفَضِيحَةَ النِّسَاءِ. فَأَجَابَتْ وَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ شَخْصًا أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ، مَا يَقُومُ لِلَّهِ عَلَى حَقٍّ، وَلَا يَنْتَهِي عَنْ مُحَرَّمٍ، فَأَعْلِمُونِي أَمْرَكُمْ أُخْبِرْكُمْ بِوَجْهِ الْأَمْرِ. قَالَ: فَخَرَجْتُ وَأَخْبَرْتُ فَيْرُوزَ وَدَاذَوَيْهِ وَقَيْسًا. قَالَ: وَإِذْ قَدْ جَاءَ رَجُلٌ فَدَعَا قَيْسًا إِلَى الْأَسْوَدِ، فَدَخَلَ فِي عَشَرَةٍ مِنْ مَذْحِجٍ وَهَمْدَانَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ مَعَهُمْ وَقَالَ لَهُ: أَلَمْ أُخْبِرْكَ الْحَقَّ، وَتُخْبِرُنِي الْكَذِبَ؟ إِنَّهُ - يَعْنِي شَيْطَانَهُ - يَقُولُ لِي: إِلَّا تَقْطَعْ مِنْ قَيْسٍ يَدَهُ يَقْطَعْ رَقَبَتَكَ. فَقَالَ قَيْسٌ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ أَهْلَكَ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَمُرْنِي بِمَا أَحْبَبْتَ أَوِ اقْتُلْنِي، فَمَوْتُةُ أَهْوَنُ مِنْ مَوْتَاتٍ. فَرَقَّ لَهُ وَتَرَكَهُ، وَخَرَجَ قَيْسٌ فَمَرَّ بِنَا وَقَالَ: اعْمَلُوا عَمَلَكُمْ. وَلَمْ يَقْعُدْ عِنْدَنَا. فَخَرَجَ عَلَيْنَا الْأَسْوَدُ فِي جَمْعٍ، فَقُمْنَا لَهُ وَبِالْبَابِ مِائَةٌ، مَا بَيْنَ بَقَرَةٍ وَبَعِيرٍ، فَنَحَرَهَا ثُمَّ خَلَّاهَا، ثُمَّ قَالَ: أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ يَا فَيْرُوزُ؟ - وَبَوَّأَ لَهُ الْحَرْبَةَ - لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْحَرَكَ. فَقَالَ: اخْتَرْتَنَا لِصِهْرِكَ وَفَضَّلْتَنَا، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا لَمَا بِعْنَا نَصِيبَنَا مِنْكَ بِشَيْءٍ، فَكَيْفَ وَقَدِ اجْتَمَعَ لَنَا بِكَ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ! فَقَالَ لَهُ: اقْسِمْ هَذِهِ، فَقَسَمَهَا، وَلَحِقَ بِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ سَعَايَةَ رَجُلٍ بِفَيْرُوزَ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: أَنَا قَاتِلُهُ غَدًا وَأَصْحَابَهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا فَيْرُوزُ، فَأَخْبَرَهُ بِقِسْمَتِهَا، وَدَخَلَ الْأَسْوَدُ وَرَجَعَ فَيْرُوزُ فَأَخْبَرَنَا الْخَبَرَ، فَأَرْسَلْنَا إِلَى قَيْسٍ فَجَاءَنَا، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى أَنْ أَعُودَ إِلَى الْمَرْأَةِ فَأُخْبِرَهَا بِعَزِيمَتِنَا وَنَأْخُذُ رَأْيَهَا، فَأَتَيْتُهَا فَأَخْبَرْتُهَا، فَقَالَتْ: هُوَ مُتَحَرِّزٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْقَصْرِ شَيْءٌ إِلَّا وَالْحَرَسُ مُحِيطُونَ بِهِ غَيْرَ هَذَا الْبَيْتِ، فَإِنَّ ظَهْرَهُ إِلَى

مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَمْسَيْتُمْ فَانْقُبُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّكُمْ مِنْ دُونِ الْحَرَسِ، وَلَيْسَ دُونَ قَتْلِهِ شَيْءٌ، وَسَتَجِدُونَ فِيهِ سِرَاجًا وَسِلَاحًا. فَتَلَقَّانِي الْأَسْوَدُ خَارِجًا مِنْ بَعْضِ مَنَازِلِهِ فَقَالَ: مَا أَدْخَلَكَ عَلَيَّ؟ وَوَجَأَ رَأْسِي حَتَّى سَقَطْتُ، وَكَانَ شَدِيدًا، فَصَاحَتِ الْمَرْأَةُ فَأَدْهَشَتْهُ، وَقَالَتْ: جَاءَنِي ابْنُ عَمِّي زَائِرًا فَفَعَلْتَ بِهِ هَذَا؟ فَتَرَكَنِي، فَأَتَيْتُ أَصْحَابِي فَقُلْتُ: النَّجَاءُ! الْهَرَبُ! وَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ. فَإِنَّا عَلَى ذَلِكَ حَيَارَى إِذْ جَاءَنَا رَسُولُهَا يَقُولُ: لَا تَدَعَنَّ مَا فَارَقْتُكَ عَلَيْهِ، فَلَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى اطْمَأَنَّ. فَقُلْنَا لِفَيْرُوزَ: إِيتِهَا فَتَثَبَّتْ مِنْهَا. فَفَعَلَ، فَلَمَّا أَخْبَرَتْهُ قَالَ: نُنَقِّبُ عَلَى بُيُوتٍ مُبَطَّنَةٍ، فَدَخَلَ فَاقْتَلَعَ الْبِطَانَةَ، وَجَلَسَ عِنْدَهَا كَالزَّائِرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا الْأَسْوَدُ فَأَخَذَتْهُ غَيْرَةٌ، فَأَخْبَرَتْهُ بِرَضَاعٍ وَقَرَابَةٍ مِنْهَا عِنْدَهُ مَحْرَمٌ، فَأَخْرَجَهُ. فَلَمَّا أَمْسَيْنَا عَمِلْنَا فِي أَمْرِنَا، وَأَعْلَمْنَا أَشْيَاعَنَا، وَعَجِلْنَا عَنْ مُرَاسِلَةِ الْهَمْدَانِيِّينَ وَالْحِمْيَرِيِّينَ فَنَقَبْنَا الْبَيْتَ وَدَخَلْنَا، وَفِيهِ سِرَاجٌ تَحْتَ جَفْنَةٍ، وَاتَّقَيْنَا بِفَيْرُوزَ، كَانَ أَشَدَّنَا، فَقُلْنَا: انْظُرْ مَاذَا تَرَى، فَخَرَجَ وَنَحْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَسِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ بَابِ الْبَيْتِ سَمِعَ غَطِيطًا شَدِيدًا، وَالْمَرْأَةُ قَاعِدَةٌ، فَلَمَّا قَامَ عَلَى بَابِ الْبَيْتِ أَجْلَسَهُ الشَّيْطَانُ وَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِهِ، وَقَالَ: مَا لِي وَلَكَ يَا فَيْرُوزُ! فَخَشِيَ إِنْ رَجَعَ أَنْ يَهْلِكَ وَتَهْلِكَ الْمَرْأَةُ، فَعَاجَلَهُ وَخَالَطَهُ وَهُوَ مِثْلُ الْجَمَلِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِهِ فَقَتَلَهُ وَدَقَّ عُنُقَهُ، وَوَضَعَ رُكْبَتَهُ فِي ظَهْرِهِ فَدَقَّهُ، ثُمَّ قَامَ لِيَخْرُجَ، فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ بِثَوْبِهِ وَهِيَ تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ. فَقَالَ: قَدْ قَتَلْتُهُ وَأَرَحْتُكِ مِنْهُ، وَخَرَجَ فَأَخْبَرَنَا، فَدَخَلْنَا مَعَهُ، فَخَارَ كَمَا يَخُورُ الثَّوْرُ، فَقَطَعْتُ رَأْسَهُ بِالشَّفْرَةِ، وَابْتَدَرَ الْحَرَسُ الْمَقْصُورَةَ يَقُولُونَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: النَّبِيُّ يُوحَى إِلَيْهِ فَخَمَدُوا، وَقَعَدْنَا نَأْتَمِرُ بَيْنَنَا، فَيْرُوزُ وَدَاذَوَيْهِ وَقَيْسٌ، كَيْفَ نُخْبِرُ أَشْيَاعَنَا، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى النِّدَاءِ، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَيْنَا بِشِعَارِنَا الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَصْحَابِنَا، فَفَزِعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْكَافِرُونَ، ثُمَّ نَادَيْنَا بِشِعَارِنَا بِالْأَذَانِ فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنْ عَيْهَلَةَ كَذَّابٌ! وَأَلْقَيْنَا إِلَيْهِمْ رَأَسَهُ، وَأَحَاطَ بِنَا أَصْحَابُهُ وَحَرَسُهُ، وَشَنُّوا الْغَارَةَ، وَأَخَذُوا صِبْيَانًا كَثِيرَةً وَانْتَهَبُوا. فَنَادَيْنَا أَهْلَ صَنْعَاءَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْهُمْ فَأَمْسِكْهُ، فَفَعَلُوا. فَلَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُهُ فَقَدُوا سَبْعِينَ رَجُلًا، فَرَاسَلُونَا، وَرَاسَلْنَاهُمْ عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا لَنَا مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَنَتْرُكَ مَا فِي أَيْدِينَا، فَفَعَلْنَا، وَلَمْ يَظْفَرُوا مِنَّا بِشَيْءٍ، وَتَرَدَّدُوا فِيمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَنَجْرَانَ. وَتَرَاجَعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَعْمَالِهِمْ، وَكَانَ يُصَلِّي بِنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَكَتَبْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَبَرِهِ، وَذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ.

وَأَتَاهُ الْخَبَرُ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَقَدِمَتْ رُسُلُنَا، وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَابَنَا أَبُو بَكْرٍ. «قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَتَى الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَتِهِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا، فَقَالَ: قُتِلَ الْعَنْسِيُّ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مُبَارَكٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مُبَارَكِينَ، قِيلَ: مَنْ قَتَلَهُ؟ قَالَ: قَتَلَهُ فَيْرُوزُ» . قِيلَ: كَانَ أَوَّلُ أَمْرِ الْعَنْسِيِّ إِلَى آخِرِهِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ قُدُومُ الْبَشِيرِ بِقَتْلِهِ فِي آخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ أَوَّلَ بِشَارَةٍ أَتَتْ أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ فَيْرُوزُ: لَمَّا قَتَلْنَا الْأَسْوَدَ عَادَ أَمْرُنَا كَمَا كَانَ، وَأَرْسَلْنَا إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فَصَلَّى بِنَا وَنَحْنُ رَاجُونَ مُؤَمِّلُونَ، لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ نَكْرَهُهُ إِلَّا تِلْكَ الْخُيُولُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَسْوَدِ، فَأَتَى مَوْتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْتَقَضَتِ الْأُمُورُ وَاضْطَرَبَتِ الْأَرْضُ. (الْعَنْسِيُّ بِالْعَيْنِ وَالنُّونِ) وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوِهَا، وَقِيلَ: تُوُفِّيَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَغَسَّلَهَا عَلِيٌّ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَصَلَّى عَلَيْهَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَدَخَلَ قَبْرَهَا الْعَبَّاسُ، وَعَلِيٌّ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ أَصَابَهُ سَهْمٌ بِالطَّائِفِ وَهُوَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَاهُ بِهِ أَبُو مِحْجَنٍ، ثُمَّ انْتَقَضَ عَلَيْهِ فَمَاتَ فِي شَوَّالٍ. وَفِي هَذَا الْعَامِ الَّذِي بُويِعَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ مَلَكَ يَزْدَجِرْدُ بِلَادَ فَارِسَ. وَفِيهِ، أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، اشْتَرَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَوْلَاهُ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ مِنْ نَاسٍ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ.

ذكر أخبار الردة

[ذِكْرُ أَخْبَارِ الرِّدَّةِ] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لَقَدْ قُمْنَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقَامًا كِدْنَا نَهْلِكُ فِيهِ، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَيْنَا بِأَبِي بَكْرٍ، أَجْمَعْنَا عَلَى أَنْ لَا نُقَاتِلَ عَلَى ابْنَةِ مَخَاضٍ وَابْنَةِ لَبُونٍ، وَأَنْ نَأْكُلَ قُرًى عَرَبِيَّةً، وَنَعْبُدَ اللَّهَ حَتَّى يَأْتِيَنَا الْيَقِينُ، فَعَزَمَ اللَّهُ لِأَبِي بَكْرٍ عَلَى قِتَالِهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا رَضِيَ مِنْهُمْ إِلَّا بِالْخُطَّةِ الْمُخْزِيَةِ أَوِ الْحَرْبِ الْمُجْلِيَةِ؛ فَأَمَّا الْخُطَّةُ الْمُخْزِيَةُ أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ فِي النَّارِ، وَمَنْ قُتِلَ مِنَّا فِي الْجَنَّةِ، وَأَنْ يَدُوا قَتْلَانَا وَنَغْنَمَ مَا أَخَذْنَا مِنْهُمْ، وَأَنَّ مَا أَخَذُوا مِنَّا مَرْدُودٌ عَلَيْنَا. وَأَمَّا الْحَرْبُ الْمُجْلِيَةُ فَأَنْ يُخْرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ. وَأَمَّا أَخْبَارُ الرِّدَّةِ فَإِنَّهُ لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَيَّرَ أَبُو بَكْرٍ جَيْشَ أُسَامَةَ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ وَتَضَرَّمَتِ الْأَرْضُ نَارًا، وَارْتَدَّتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ، عَامَّةً أَوْ خَاصَّةً، إِلَّا قُرَيْشًا وَثَقِيفًا، وَاسْتَغْلَظَ أَمْرُ مُسَيْلِمَةَ وَطُلَيْحَةَ، وَاجْتَمَعَ عَلَى طُلَيْحَةَ عَوَامُّ طَيِّئٍ وَأَسَدٍ، وَارْتَدَّتْ غَطَفَانُ تَبَعًا لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: نَبِيٌّ مِنَ الْحَلِيفَيْنِ - يَعْنِي أَسَدًا وَغَطَفَانَ - أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ نَبِيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ مَاتَ مُحَمَّدٌ وَطُلَيْحَةُ حَيٌّ. فَاتَّبَعَهُ وَتَبِعَتْهُ غَطَفَانُ. وَقَدِمَتْ رُسُلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْيَمَامَةِ وَأَسَدٍ وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ مَاتَ، فَدَفَعُوا كُتُبَهُمْ لِأَبِي بَكْرٍ، وَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ عَنْ مُسَيْلِمَةَ وَطُلَيْحَةَ، فَقَالَ: لَا تَبْرَحُوا حَتَّى تَجِيءَ رُسُلُ أُمَرَائِكُمْ وَغَيْرِهِمْ بِأَدْهَى مِمَّا وَصَفْتُمْ، فَكَانَ كَذَلِكَ، وَقَدِمَتْ كُتُبُ أُمَرَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كُلِّ مَكَانٍ بِانْتِفَاضِ الْعَرَبِ عَامَّةً أَوْ خَاصَّةً، وَتَسَلُّطِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَحَارَبَهُمْ أَبُو بَكْرٍ بِمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَارِبُهُمْ؛ بِالرُّسُلِ، فَرَدَّ رُسُلَهُمْ بِأَمْرِهِ، وَأَتْبَعَ رُسُلَهُمْ رُسُلًا، وَانْتَظَرَ بِمُصَادَمَتِهِمْ قُدُومَ أُسَامَةَ، فَكَانَ عُمَّالُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قُضَاعَةَ وَكَلْبٍ: امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ الْأَصْبَغِ الْكَلْبِيُّ، وَعَلَى الْقَيْنِ: عَمْرُو بْنُ الْحَكَمِ، وَعَلَى سَعْدِ هُذَيْمٍ: مُعَاوِيَةُ الْوَالِبِيُّ، فَارْتَدَّ وَدِيعَةُ الْكَلْبِيُّ فِيمَنْ تَبِعَهُ، وَبَقِيَ امْرُؤُ الْقَيْسِ عَلَى دِينِهِ، وَارْتَدَّ زُمَيْلُ بْنُ قُطْبَةَ الْقَيْنِيُّ، وَبَقِيَ عَمْرٌو، وَارْتَدَّ مُعَاوِيَةُ فِيمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ سَعْدِ هُذَيْمٍ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى امْرِئِ الْقَيْسِ، وَهُوَ جَدُّ سُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، فَسَارَ بِوَدِيعَةَ إِلَى عَمْرٍو، فَأَقَامَ لِزُمَيْلٍ، وَإِلَى مُعَاوِيَةَ الْعُذْرِيِّ، وَتَوَسَّطَتْ خَيْلُ أُسَامَةَ بِبِلَادِ قُضَاعَةَ، فَشَنَّ الْغَارَةَ فِيهِمْ، فَغَنِمُوا وَعَادُوا سَالِمِينَ.

ذكر خبر طليحة الأسدي

[ذِكْرُ خَبَرِ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيِّ] وَكَانَ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ قَدْ تَنَبَّأَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَّهَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضِرَارَ بْنَ الْأَزْوَرِ عَامِلًا عَلَى بَنِي أَسَدٍ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ عَلَى مَنِ ارْتَدَّ، فَضَعُفَ أَمْرُ طُلَيْحَةَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَخْذُهُ، فَضَرَبَهُ بِسَيْفٍ، فَلَمْ يَصْنَعْ فِيهِ شَيْئًا، فَظَهَرَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ السِّلَاحَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ. وَمَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ طُلَيْحَةُ يَقُولُ: إِنَّ جِبْرَائِيلَ يَأْتِينِي، وَسَجَعَ لِلنَّاسِ الْأَكَاذِيبَ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِتَرْكِ السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِتَعَفُّرِ وُجُوهِكُمْ وَتَقَبُّحِ أَدْبَارِكُمْ - شَيْئًا، اذْكُرُوا اللَّهَ أَعِفَّةً قِيَامًا. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَتَبِعَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ عَصَبِيَّةً، فَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ أَتْبَاعِهِ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ وَطَيِّئٍ. فَسَارَتْ فَزَارَةُ وَغَطَفَانُ إِلَى جَنُوبِ طِيبَةَ، وَأَقَامَتْ طَيِّئُ عَلَى حُدُودِ أَرَاضِيهِمْ، وَأَسَدٌ بِسُمَيْرَاءَ، وَاجْتَمَعَتْ عَبْسٌ وَثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْدٍ وَمُرَّةُ بِالْأَبْرَقِ مِنَ الرِّبْذَةِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمْ نَاسٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فَلَمْ تَحْمِلْهُمُ الْبِلَادُ فَافْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ، أَقَامَتْ فِرْقَةٌ بِالْأَبْرَقِ، وَسَارَتْ فِرْقَةٌ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ، وَأَمَدَّهُمْ طُلَيْحَةُ بِأَخِيهِ حِبَالٍ، فَكَانَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ مَعَهُمْ مِنِ الدُّئِلِ وَلَيْثٍ وَمُدْلِجٍ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ يَبْذُلُونَ الصَّلَاةَ وَيَمْنَعُونَ الزَّكَاةَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ. وَكَانَ عَقَلَ الصَّدَقَةَ عَلَى أَهْلِ الصَّدَقَةِ وَرَدَّهُمْ، فَرَجَعَ وَفْدُهُمْ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِقِلَّةِ مَنْ فِي الْمَدِينَةِ وَأَطْمَعُوهُمْ فِيهَا. وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ مَسِيرَةِ الْوَفْدِ عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ عَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَأَلْزَمَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِحُضُورِ الْمَسْجِدِ خَوْفَ الْغَارَةِ مِنَ الْعَدُوِّ لِقُرْبِهِمْ، فَمَا لَبِثُوا إِلَّا ثَلَاثًا حَتَّى طَرَقُوا الْمَدِينَةَ غَارَةً مَعَ اللَّيْلِ، وَخَلَّفُوا بَعْضَهُمْ بِذِي حُسًى؛ لِيَكُونُوا لَهُمْ رِدْءًا، فَوَافَوْا لَيْلًا الْأَنْقَابَ وَعَلَيْهَا الْمُقَاتِلَةُ فَمَنَعُوهُمْ، وَأَرْسَلُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالْخَبَرِ، فَخَرَجَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ عَلَى النَّوَاضِحِ، فَرَدُّوا الْعَدُوَّ وَاتَّبَعُوهُمْ حَتَّى بَلَغُوا ذَا حُسًى، فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الرِّدْءُ بِأَنْحَاءَ قَدْ نَفَخُوهَا وَفِيهَا الْحِبَالُ، ثُمَّ دَهْدَهُوهَا عَلَى الْأَرْضِ، فَنَفَرَتْ إِبِلُ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ عَلَيْهَا، وَرَجَعَتْ بِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُصْرَعْ مُسْلِمٌ. وَظَنَّ الْكُفَّارُ بِالْمُسْلِمِينَ الْوَهَنَ، وَبَعَثُوا إِلَى أَهْلِ ذِي الْقَصَّةِ بِالْخَبَرِ، فَقَدِمُوا عَلَيْهَا،

وَبَاتَ أَبُو بَكْرٍ يُعَبِّي النَّاسَ، وَخَرَجَ عَلَى تَعْبِيَةٍ يَمْشِي، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُقَرِّنٍ وَعَلَى أَهْلِ السَّاقَةِ سُوِيدُ بْنُ مُقَرِّنٍ. فَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ إِلَّا وَهُمْ وَالْعَدُوُّ عَلَى صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَمَا شَعَرُوا بِالْمُسْلِمِينَ حَتَّى وَضَعُوا فِيهِمُ السُّيُوفَ، فَمَا ذَرَّ قَرْنُ الشَّمْسِ حَتَّى وَلَّوْهُمُ الْأَدْبَارَ، وَغَلَبُوهُمْ عَلَى عَامَّةِ ظَهْرِهِمْ، وَقُتِلَ رِجَالٌ، وَاتَّبَعَهُمْ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى نَزَلَ بِذِي الْقَصَّةِ، وَكَانَ أَوَّلَ الْفَتْحِ، وَوَضَعَ بِهَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ فِي عَدَدٍ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَذَلَّ لَهُ الْمُشْرِكُونَ. فَوَثَبَ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانَ عَلَى مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوهُمْ، فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ لَيَقْتُلَنَّ فِي الْمُشْرِكِينَ بِمَنْ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَزِيَادَةً، وَازْدَادَ الْمُسْلِمُونَ قُوَّةً وَثَبَاتًا. وَطَرَقَتِ الْمَدِينَةَ صَدَقَاتُ نَفَرٍ كَانُوا عَلَى صَدَقَةِ النَّاسِ، بِهِمْ صَفْوَانُ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَذَلِكَ لِتَمَامِ سِتِّينَ يَوْمًا مِنْ مَخْرَجِ أُسَامَةَ، وَقَدِمَ أُسَامَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، وَقِيلَ: كَانَتْ غَزْوَتُهُ وَعَوْدُهُ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا. فَلَمَّا قَدِمَ أُسَامَةُ اسْتَخْلَفَهُ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْمَدِينَةِ وَجُنْدُهُ مَعَهُ؛ لِيَسْتَرِيحُوا وَيُرِيحُوا ظَهْرَهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ فِيمَنْ كَانَ مَعَهُ، فَنَاشَدَهُ الْمُسْلِمُونَ لِيُقِيمَ، فَأَبَى وَقَالَ: لَأُوَاسِيَنَّكُمْ بِنَفْسِي. وَسَارَ إِلَى ذِي حُسًى وَذِي الْقَصَّةِ حَتَّى نَزَلَ بِالْأَبْرَقِ، فَقَاتَلَ مَنْ بِهِ، فَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ وَأُخِذَ الْحُطَيْئَةُ أَسِيرًا، فَطَارَتْ عَبْسٌ وَبَنُو بَكْرٍ، وَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأَبْرَقِ أَيَّامًا، وَغَلَبَ عَلَى بَنِي ذُبْيَانَ وَبِلَادِهِمْ، وَحَمَاهَا لِدَوَابِّ الْمُسْلِمِينَ وَصَدَقَاتِهِمْ. وَلَمَّا انْهَزَمَتْ عَبْسٌ وَذُبْيَانُ رَجَعُوا إِلَى طُلَيْحَةَ وَهُوَ بِبُزَاخَةَ، وَكَانَ رَحَلَ مِنْ سُمَيْرَاءَ إِلَيْهَا، فَأَقَامَ عَلَيْهَا، وَعَادَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا اسْتَرَاحَ أُسَامَةُ وَجُنْدُهُ، وَكَانَ قَدْ جَاءَهُمْ صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ تُفْضَلُ عَلَيْهِمْ - قَطَعَ أَبُو بَكْرٍ الْبُعُوثَ وَعَقَدَ الْأَلْوِيَةِ، فَعَقَدَ أَحَدَ عَشَرَ لِوَاءً، عَقَدَ لِوَاءً لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَأَمَرَهُ بِطُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ، فَإِذَا فَرَغَ سَارَ إِلَى مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ بِالْبُطَاحِ إِنْ أَقَامَ لَهُ، وَعَقَدَ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَأَمَرَهُ بِمُسَيْلِمَةَ، وَعَقَدَ لِلْمُهَاجِرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ وَأَمَرَهُ بِجُنُودِ الْعَنْسِيِّ، وَمَعُونَةِ الْأَبْنَاءِ عَلَى قَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ، ثُمَّ يَمْضِي إِلَى كِنْدَةَ بِحَضْرَمَوْتَ، وَعَقَدَ لِخَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَبَعَثَهُ إِلَى مَشَارِفِ الشَّامِ، وَعَقَدَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَرْسَلَهُ إِلَى قُضَاعَةَ، وَعَقَدَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ مِحْصَنٍ الْغَلْفَانِيِّ وَأَمَرَهُ بِأَهْلِ دَبَا، وَعَقَدَ لِعَرْفَجَةَ

بْنِ هَرْثَمَةَ وَأَمَرَهُ بِمَهْرَةَ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَجْتَمِعَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي عَمَلِهِ. وَبَعَثَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ فِي أَثَرِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَقَالَ: إِذَا فَرَغَ مِنَ الْيَمَامَةِ فَالْحَقْ بِقُضَاعَةَ وَأَنْتَ عَلَى خَيْلِكَ تُقَاتِلُ أَهْلَ الرِّدَّةِ. وَعَقَدَ لِمَعْنِ بْنِ حَاجِزٍ وَأَمَرَهُ بِبَنِي سُلَيْمٍ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ هَوَازِنَ، وَعَقَدَ لِسُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ وَأَمَرَهُ بِتِهَامَةَ بِالْيَمَنِ، وَعَقَدَ لِلْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَأَمَرَهُ بِالْبَحْرَيْنِ، فَفَصَلَتِ الْأُمَرَاءُ مِنْ ذِي الْقَصَّةِ، وَلَحِقَ بِكُلِّ أَمِيرٍ جُنْدُهُ، وَعَهِدَ إِلَى كُلِّ أَمِيرٍ، وَكَتَبَ إِلَى جَمِيعِ الْمُرْتَدِّينَ نُسْخَةً وَاحِدَةً، يَأْمُرُهُمْ بِمُرَاجَعَةِ الْإِسْلَامِ وَيُحَذِّرُهُمْ، وَسَيَّرَ الْكُتُبَ إِلَيْهِمْ مَعَ رُسُلِهِ. وَلَمَّا انْهَزَمَتْ عَبْسٌ وَذُبْيَانُ وَرَجَعُوا إِلَى طُلَيْحَةَ بِبُزَاخَةَ أَرْسَلَ إِلَى جَدِيلَةَ وَالْغَوْثِ مِنْ طَيِّئٍ يَأْمُرُهُمْ بِاللَّحَاقِ بِهِ، فَتَعَجَّلَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَأَمَرُوا قَوْمَهُمْ بِاللَّحَاقِ بِهِمْ، فَقَدِمُوا عَلَى طُلَيْحَةَ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ بَعَثَ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَبْلَ خَالِدٍ إِلَى طَيِّئٍ، وَأَتْبَعَهُ خَالِدًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْدَأَ بَطَيِّئٍ، وَمِنْهُمْ يَسِيرُ إِلَى بُزَاخَةَ، ثُمَّ يُثَلِّثُ بِالْبُطَاحِ، وَلَا يَبْرَحُ إِذَا فَرَغَ مِنْ قَوْمٍ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ. وَأَظْهَرَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ أَنَّهُ خَارِجٌ إِلَى خَيْبَرَ بِجَيْشٍ حَتَّى يُلَاقِيَ خَالِدًا، يُرْهِبُ الْعَدُوَّ بِذَلِكَ. وَقَدِمَ عَدِيٌّ عَلَى طَيِّئٍ فَدَعَاهُمْ وَخَوَّفَهُمْ، فَأَجَابُوهُ وَقَالُوا لَهُ: اسْتَقْبِلِ الْجَيْشَ فَأَخِّرْهُ عَنَّا حَتَّى نَسْتَخْرِجَ مَنْ عِنْدَ طُلَيْحَةَ مِنَّا؛ لِئَلَّا يَقْتُلَهُمْ. فَاسْتَقْبَلَ عَدِيٌّ خَالِدًا وَأَخْبَرَهُ بِالْخَبَرِ، فَتَأَخَّرَ خَالِدٌ، وَأَرْسَلَتْ طَيِّئٌ إِلَى إِخْوَانِهِمْ عِنْدَ طُلَيْحَةَ فَلَحِقُوا بِهِمْ، فَعَادَتْ طَيِّئٌ إِلَى خَالِدٍ بِإِسْلَامِهِمْ، وَلَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ أَلْفُ رَاكِبٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ خَيْرَ مَوْلُودٍ فِي أَرْضِ طَيِّئٍ وَأَعْظَمَهُ بَرَكَةً عَلَيْهِمْ. وَأَرْسَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ وَثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ الْأَنْصَارِيَّ طَلِيعَةً، فَلَقِيَهُمَا حِبَالٌ أَخُو طُلَيْحَةَ فَقَتَلَاهُ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ طُلَيْحَةَ، فَخَرَجَ هُوَ وَأَخُوهُ سَلَمَةُ، فَقَتَلَ طُلَيْحَةُ عُكَّاشَةَ، وَقَتَلَ أَخُوهُ ثَابِتًا، وَرَجَعَا. وَأَقْبَلَ خَالِدٌ بِالنَّاسِ فَرَأَوْا عُكَّاشَةَ وَثَابِتًا قَتِيلَيْنِ، فَجَزِعَ لِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَانْصَرَفَ بِهِمْ خَالِدٌ نَحْوَ طَيِّئٍ، فَقَالَتْ لَهُ طَيِّئٌ: نَحْنُ نَكْفِيكَ قَيْسًا، فَإِنَّ بَنِي أَسَدٍ حُلَفَاؤُنَا. فَقَالَ: أَيُّ الطَّائِفَتَيْنِ شِئْتُمْ. فَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: لَوْ نَزَلَ هَذَا عَلَى الَّذِينَ هُمْ أُسْرَتِي الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ، وَاللَّهِ لَا أَمْتَنِعُ عَنْ جِهَادِ بَنِي أَسَدٍ لِحِلْفِهِمْ. فَقَالَ لَهُ

خَالِدٌ: إِنَّ جِهَادَ الْفَرِيقَيْنِ جِهَادٌ، لَا تُخَالِفْ رَأْيَ أَصْحَابِكَ، وَامْضِ بِهِمْ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمْ لِقِتَالِهِمْ أَنْشَطُ، ثُمَّ تَعَبَّى لِقِتَالِهِمْ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى الْتَقَيَا عَلَى بُزَاخَةَ، وَبَنُو عَامِرٍ قَرِيبًا يَتَرَبَّصُونَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ، قَالَ: فَاقْتَتَلَ النَّاسُ عَلَى بُزَاخَةَ. وَكَانَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ مَعَ طُلَيْحَةَ فِي سَبْعِمِائَةٍ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَطُلَيْحَةُ مُتَلَفِّفٌ فِي كِسَائِهِ يَتَنَبَّأُ لَهُمْ، فَلَمَّا اشْتَدَّتِ الْحَرْبُ كَرَّ عُيَيْنَةُ عَلَى طُلَيْحَةَ وَقَالَ لَهُ: هَلْ جَاءَكَ جِبْرَائِيلُ بَعْدُ؟ قَالَ: لَا، فَرَجَعَ فَقَاتَلَ، ثُمَّ كَرَّ عَلَى طُلَيْحَةَ فَقَالَ لَهُ: لَا أَبَا لَكَ! أَجَاءَكَ جِبْرَائِيلُ؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: حَتَّى مَتَى؟ قَدْ وَاللَّهِ بَلَغَ مِنَّا! ثُمَّ رَجَعَ فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا ثُمَّ كَرَّ عَلَى طُلَيْحَةَ فَقَالَ: هَلْ جَاءَكَ جِبْرَائِيلُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَاذَا قَالَ لَكَ؟ قَالَ: قَالَ لِي: إِنَّ لَكَ رَحًا كَرَحَاهُ، وَحَدِيثًا لَا تَنْسَاهُ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَكُونُ حَدِيثٌ لَا تَنْسَاهُ، انْصَرِفُوا يَا بَنِي فَزَارَةَ فَإِنَّهُ كَذَّابٌ، فَانْصَرَفُوا وَانْهَزَمَ النَّاسُ. وَكَانَ طُلَيْحَةُ قَدْ أَعَدَّ فَرَسَهُ وَرَاحِلَتَهُ لِامْرَأَتِهِ النَّوَّارِ، فَلَمَّا غَشَوْهُ رَكِبَ فَرَسَهُ وَحَمَلَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ نَجَا بِهَا وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ فَزَارَةَ، مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَفْعَلَ هَكَذَا وَيَنْجُوَ بِامْرَأَتِهِ فَلْيَفْعَلْ. ثُمَّ انْهَزَمَ فَلَحِقَ بِالشَّامِ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى كَلْبٍ، فَأَسْلَمَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ أَسَدًا وَغَطَفَانَ قَدْ أَسْلَمُوا، وَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا فِي كَلْبٍ حَتَّى مَاتَ أَبُو بَكْرٍ. وَكَانَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَمَرَّ بِجَنَبَاتِ الْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا طُلَيْحَةُ! فَقَالَ: مَا أَصْنَعُ بِهِ؟ قَدْ أَسْلَمَ! ثُمَّ أَتَى عُمَرَ فَبَايَعَهُ حِينَ اسْتُخْلِفَ. فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ قَاتِلُ عُكَّاشَةَ وَثَابِتٍ؟ وَاللَّهِ لَا أُحِبُّكَ أَبَدًا! فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا يُهِمُّكَ مِنْ رَجُلَيْنِ أَكْرَمَهُمَا اللَّهُ بِيَدِي، وَلَمْ يُهِنِّي بِأَيْدِيهِمَا! فَبَايَعَهُ عُمَرُ وَقَالَ لَهُ: مَا بَقِيَ مِنْ كَهَانَتِكَ؟ فَقَالَ؟ نَفْخَةٌ أَوْ نَفْخَتَانِ بِالْكِيرِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْعِرَاقِ. وَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ طُلَيْحَةَ أُسِرَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، فَقُدِمَ بِهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ لَهُ وَهُوَ مَكْتُوفٌ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ، أَكَفَرْتَ بَعْدَ إِيمَانِكَ؟ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا آمَنْتُ بِاللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فَتَجَاوَزَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَحَقَنَ دَمَهُ. وَأُخِذَ مِنْ أَصْحَابِ طُلَيْحَةَ رَجُلٌ كَانَ عَالِمًا بِهِ، فَسَأَلَهُ خَالِدٌ عَمَّا كَانَ يَقُولُ، فَقَالَ:

ذكر ردة بني عامر وهوازن وسليم

إِنَّ مِمَّا أَتَى بِهِ: وَالْحَمَامُ وَالْيَمَامُ، وَالصُّرَدُ الصُّوَّامُ، قَدْ صُمْنَ قَبْلَكُمْ بِأَعْوَامٍ، لَيَبْلُغَنَّ مُلْكُنَا الْعِرَاقَ وَالشَّامَ. قَالَ: وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ سَبْيٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَحْرَزُوا حَرِيمَهُمْ، فَلَمَّا انْهَزَمُوا أَقَرُّوا بِالْإِسْلَامِ خَشْيَةً عَلَى عِيَالَاتِهِمْ، فَآمَنَهُمْ. (حِبَالٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَبَعْدَ الْأَلْفِ لَامٌ. وَذُو الْقَصَّةِ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ. وَذُو حُسًى بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ. وَدَبَا بِفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ، وَالْبَاءَ الْمُوَحَّدَةِ. وَبُزَاخَةُ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَبِالزَّايِ، وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ) . [ذِكْرُ رِدَّةِ بَنِي عَامِرٍ وَهَوَازِنَ وَسُلَيْمٍ] وَكَانَتْ بَنُو عَامِرٍ تُقَدِّمُ إِلَى الرِّدَّةِ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى، وَتَنْظُرُ مَا تَصْنَعُ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ، فَلَمَّا أُحِيطَ بِهِمْ وَبَنُو عَامِرٍ عَلَى قَادَتِهِمْ وَسَادَتِهِمْ - كَانَ قُرَّةُ بْنُ هُبَيْرَةَ فِي كَعْبٍ وَمَنْ لَافَّهَا، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ فِي كِلَابٍ وَمَنْ لَافَّهَا، وَكَانَ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَحِقَ بِالشَّامِ بَعْدَ فَتْحِ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْبَلَ مُسْرِعًا حَتَّى عَسْكَرَ فِي بَنِي كَعْبٍ. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ سَرِيَّةً عَلَيْهَا الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَقِيلَ: بَلْ قَعْقَاعُ بْنُ سَوْرٍ، وَقَالَ لَهُ لِيُغِيرَ عَلَى عَلْقَمَةَ لَعَلَّهُ يَقْتُلُهُ أَوْ يَسْتَأْسِرُهُ. فَخَرَجَ حَتَّى أَغَارَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي عَلَيْهِ عَلْقَمَةُ، وَكَانَ لَا يَبْرَحُ إِلَّا مُسْتَعِدًّا، فَسَابَقَهُمْ عَلَى فَرَسِهِ فَسَبَقَهُمْ، وَأَسْلَمَ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ، وَأَخَذَهُمُ الْقَعْقَاعُ وَقَدِمَ بِهِمْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَجَحَدُوا أَنْ يَكُونُوا عَلَى حَالِ عَلْقَمَةَ، وَلَمْ يَبْلُغْ أَبَا بَكْرٍ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ فَارَقُوا دَارَهُمْ، وَقَالُوا لَهُ: مَا ذَنْبُنَا فِيمَا صَنَعَ عَلْقَمَةُ؟ فَأَرْسَلَهُمْ. ثُمَّ أَسْلَمَ، فَقُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ. وَأَقْبَلَتْ بَنُو عَامِرٍ بَعْدَ هَزِيمَةِ أَهْلِ بُزَاخَةَ يَقُولُونَ: نَدْخُلُ فِيمَا خَرَجْنَا مِنْهُ، وَنُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَتَوْا خَالِدًا فَبَايَعَهُمْ عَلَى مَا بَايَعَ أَهْلَ بُزَاخَةَ، وَأَعْطَوْهُ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ: عَلَيْكُمْ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَتُؤْمِنُنَّ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَتُقِيمُنَّ الصَّلَاةَ، وَلَتُؤْتُنَّ الزَّكَاةَ، وَتُبَايِعُونَ عَلَى ذَلِكَ أَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ. فَيَقُولُونَ: نَعَمْ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَسَدٍ، وَغَطَفَانَ، وَطَيِّئٍ، وَسُلَيْمٍ، وَعَامِرٍ - إِلَّا أَنْ يَأْتُوهُ بِالَّذِينَ حَرَّقُوا وَمَثَّلُوا وَعَدَوْا عَلَى

الْإِسْلَامِ فِي حَالِ رِدَّتِهِمْ، فَأَتَوْهُ بِهِمْ، فَمَثَّلَ بِهِمْ وَحَرَّقَهُمْ وَرَضَخَهُمْ بِالْحِجَارَةِ، وَرَمَى بِهِمْ مِنَ الْجِبَالِ، وَنَكَّسَهُمْ فِي الْآبَارِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يُعْلِمُهُ مَا فَعَلَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قُرَّةَ بْنَ هُبَيْرَةَ وَنَفَرًا مَعَهُ مُوَثَّقِينَ، وَزُهَيْرًا أَيْضًا. وَأَمَّا أُمُّ زَمْلٍ فَاجْتَمَعَ فُلَّالُ غَطَفَانَ وَطَيِّئٍ وَسُلَيْمٍ وَهَوَازِنَ وَغَيْرِهَا إِلَى أُمِّ زَمْلٍ سَلْمَى بِنْتِ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَكَانَتْ أُمُّهَا أُمَّ قِرْفَةَ بِنْتَ رَبِيعَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَكَانَتْ أُمُّ زَمْلٍ قَدْ سُبِيَتْ أَيَّامَ أُمِّهَا أُمِّ قِرْفَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْغَزْوَةُ، فَوَقَعَتْ لِعَائِشَةَ، فَأَعْتَقَتْهَا وَرَجَعَتْ إِلَى قَوْمِهَا وَارْتَدَّتْ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهَا الْفَلُّ، فَأَمَرَتْهُمْ بِالْقِتَالِ، وَكَثُفَ جَمْعُهَا وَعَظُمَتْ شَوْكَتُهَا. فَلَمَّا بَلَغَ خَالِدًا أَمْرُهَا سَارَ إِلَيْهَا، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أَوَّلَ يَوْمٍ وَهِيَ وَاقِفَةٌ عَلَى جَمَلٍ كَانَ لِأُمِّهَا، وَهِيَ فِي مِثْلِ عِزِّهَا، فَاجْتَمَعَ عَلَى الْجَمَلِ فَوَارِسٌ فَعَقَرُوهُ وَقَتَلُوهَا، وَقُتِلَ حَوْلَ جَمَلِهَا مِائَةُ رَجُلٍ، وَبَعَثَ بِالْفَتْحِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ. وَأَمَّا خَبَرُ الْفُجَاءَةِ السُّلَمِيِّ، وَاسْمُهُ إِيَاسُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلَ، فَإِنَّهُ جَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ: أَعِنِّي بِالسِّلَاحِ، أُقَاتِلُ بِهِ أَهْلَ الرِّدَّةِ. فَأَعْطَاهُ سِلَاحًا وَأَمَّرَهُ إِمْرَةً، فَخَالَفَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَخَرَجَ حَتَّى نَزَلَ بِالْجِوَاءِ، وَبَعَثَ نُخْبَةَ بْنَ أَبِي الْمَيْثَاءِ مِنْ بَنِي الشَّرِيدِ وَأَمَرَهُ بِالْمُسْلِمِينَ، فَشَنَّ الْغَارَةَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي سُلَيْمٍ، وَعَامِرٍ، وَهَوَازِنَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى طُرَيْفَةَ بْنِ حَاجِزٍ،، فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ وَيَسِيرَ إِلَيْهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ الْحَاسِيَّ عَوْنًا، فَنَهَضَا إِلَيْهِ وَطَلَبَاهُ، فَلَاذَ مِنْهُمَا، ثُمَّ لَقِيَاهُ عَلَى الْجِوَاءِ فَاقْتَتَلُوا، وَقُتِلَ نُخْبَةُ وَهَرَبَ الْفُجَاءَةُ، فَلَحِقَهُ طُرَيْفَةُ فَأَسَرَهُ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا قَدِمَ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ تُوقَدَ لَهُ نَارٌ فِي مُصَلَّى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ رُمِيَ بِهِ فِيهِ مَقْمُوطًا. وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي شَجَرَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى السُّلَمِيِّ، وَهُوَ ابْنُ الْخَنْسَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدِ ارْتَدَّ فِيمَنِ ارْتَدَّ مِنْ سُلَيْمٍ، وَثَبَتَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ مَعَ مَعْنِ بْنِ حَاجِزٍ، وَكَانَ أَمِيرًا لِأَبِي بَكْرٍ. فَلَمَّا سَارَ خَالِدٌ إِلَى طُلَيْحَةَ كَتَبَ إِلَى مَعْنٍ أَنْ يَلْحَقَهُ فِيمَنْ مَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَسَارَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَمَلِهِ أَخَاهُ طُرَيْفَةَ بْنَ حَاجِزٍ. فَقَالَ أَبُو شَجَرَةَ حِينَ ارْتَدَّ: صَحَا الْقَلْبُ عَنْ مَيٍّ هَوَاهُ وَأَقْصَرَا ... وَطَاوَعَ فِيهَا الْعَاذِلِينَ فَأَبْصَرَا

ذكر قدوم عمرو بن العاص من عمان

أَلَا أَيُّهَا الْمُدْلِي بِكَثْرَةِ قَوْمِهِ وَحَظُّكَ مِنْهُمْ أَنْ تُضَامَ وَتُقْهَرَا ... سَلِ النَّاسَ عَنَّا كُلَّ يَوْمِ كَرِيهَةٍ إِذَا مَا الْتَقَيْنَا دَارِعِينَ وَحُسَّرًا ... أَلَسْنَا نُعَاطِي ذَا الطِّمَاحِ لِجَامَهُ وَنَطْعَنُ فِي الْهَيْجَا إِذَا الْمَوْتُ أَقْفَرَا ... فَرَوَّيْتُ رُمْحِي مِنْ كَتِيبَةِ خَالِدٍ وَإِنِّي لَأَرْجُو بَعْدَهَا أَنْ أَعُمَّرَا ثُمَّ إِنَّ أَبَا شَجَرَةَ أَسْلَمَ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى عُمَرَ وَهُوَ يُقَسِّمُ فِي الْمَسَاكِينِ، فَقَالَ: أَعْطِنِي فَإِنِّي ذُو حَاجَةٍ، فَقَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا أَبُو شَجَرَةَ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى السُّلَمِيُّ. قَالَ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، لَا وَاللَّهِ! أَلَسْتَ الَّذِي تَقُولُ: فَرَوَّيْتُ رُمْحِي مِنْ كَتِيبَةِ خَالِدٍ ... وَإِنِّي لَأَرْجُو بَعْدَهَا أَنْ أَعُمِّرَا ؟ وَجَعَلَ يَعْلُوهُ بِالدِّرَّةِ فِي رَأْسِهِ حَتَّى سَبَقَهُ عَدْوًا إِلَى نَاقَتِهِ، فَرَكِبَهَا وَلَحِقَ بِقَوْمِهِ وَقَالَ: ضَنَّ عَلَيْنَا أَبُو حَفْصٍ بِنَائِلِهِ ... وَكُلُّ مُخْتَبِطٍ يَوْمًا لَهُ وَرَقُ فِي أَبْيَاتٍ. [ذِكْرُ قُدُومِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ عُمَانَ] كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَرْسَلَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرٍ عِنْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فَمَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمْرٌو بِعُمَانَ، فَأَقْبَلَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَحْرَيْنِ، فَوَجَدَ الْمُنْذِرَ بْنَ سَاوَى فِي الْمَوْتِ. ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُ إِلَى بِلَادِ بَنِي عَامِرٍ فَنَزَلَ بِقُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَقُرَّةُ يَقُدِّمُ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى، وَمَعَهُ عَسْكَرٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَذَبَحَ لَهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ. فَلَمَّا أَرَادَ الرِّحْلَةَ خَلَا بِهِ قُرَّةُ وَقَالَ: يَا هَذَا، إِنَّ الْعَرَبَ لَا تَطِيبُ لَكُمْ نَفْسًا بِالْإِتَاوَةِ، فَإِنْ أَعْفَيْتُمُوهَا مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِهَا فَسَتَسْمَعُ لَكُمْ وَتُطِيعُ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَا تَجْتَمِعُ عَلَيْكُمْ. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَكَفَرْتَ يَا قُرَّةُ؟ أَتُخَوِّفُنَا بِالْعَرَبِ؟ فَوَاللَّهِ لَأُوطِئَنَّ عَلَيْكَ الْخَيْلَ فِي حِفْشِ أُمِّكَ.

ذكر بني تميم وسجاح

وَالْحِفْشُ: بَيْتٌ تَنْفَرِدُ فِيهِ النُّفَسَاءُ. وَقَدِمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ فَأَخْبَرَهُمْ، فَأَطَافُوا بِهِ يَسْأَلُونَهُ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْعَسَاكِرَ مُعَسْكِرَةٌ مِنْ دَبَا إِلَى الْمَدِينَةِ. فَتَفَرَّقُوا وَتَحَلَّقُوا حِلَقًا، وَأَقْبَلَ عُمَرُ يُرِيدُ التَّسْلِيمَ عَلَى عَمْرٍو، فَمَرَّ عَلَى حِلْقَةٍ فِيهَا عَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَسَعْدٌ. فَلَمَّا دَنَا عُمَرُ مِنْهُمْ سَكَتُوا، فَقَالَ: فِيمَ أَنْتُمْ؟ فَلَمْ يُجِيبُوهُ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: مَا أَخَوْفَنَا عَلَى قُرَيْشٍ مِنَ الْعَرَبِ! قَالُوا: صَدَقْتَ. قَالَ: فَلَا تَخَافُوهُمْ، أَنَا وَاللَّهِ مِنْكُمْ عَلَى الْعَرَبِ أَخْوَفُ مِنِّي مِنَ الْعَرَبِ عَلَيْكُمْ، وَاللَّهِ لَوْ تَدْخُلُونَ، مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ، جُحْرًا لَدَخَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي آثَارِكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِيهِمْ. وَمَضَى عُمَرُ، فَلَمَّا قُدِمَ بِقُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَسِيرًا، اسْتَشْهَدَ بِعَمْرٍو عَلَى إِسْلَامِهِ، فَأَحْضَرَ أَبُو بَكْرٍ عَمْرًا فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ قُرَّةَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى ذِكْرِ الزَّكَاةِ فَقَالَ قُرَّةُ: مَهْلًا يَا عَمْرُو! فَقَالَ: كَلَّا، وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّهُ بِجَمِيعِهِ. فَعَفَا عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَقَبِلَ إِسْلَامَهُ. [ذِكْرُ بَنِي تَمِيمٍ وَسَجَاحَ] وَأَمَّا بَنُو تَمِيمٍ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ فِيهِمْ عُمَّالَهُ، فَكَانَ الزِّبْرِقَانُ مِنْهُمْ، وَسَهْلُ بْنُ مِنْجَابٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ صَفْوَانَ، وَسَبْرَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَوَكِيعُ بْنُ مَالِكٍ، وَمَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ. فَلَمَّا وَقَعَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَارَ صَفْوَانُ بْنُ صَفْوَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِصَدَقَاتِ بَنِي عَمْرٍو، وَأَقَامَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ يَنْظُرُ مَا الزِّبْرِقَانُ صَانِعٌ لِيُخَالِفَهُ، فَقَالَ حِينَ أَبْطَأَ عَلَيْهِ الزِّبْرِقَانُ فِي عَمَلِهِ: وَاوَيْلَتَاهُ مِنِ ابْنِ الْعُكْلِيَّةِ! وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَصْنَعُ، لَئِنْ أَنَا بَعَثْتُ بِالصَّدَقَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَبَايَعْتُهُ، لَيَنْحَرَنَّ مَا مَعَهُ فِي بَنِي سَعْدٍ، فَيُسَوِّدُنِي عِنْدَهُ، فَقَسَّمَهَا عَلَى الْمَقَاعِسِ وَالْبُطُونِ، وَوَافَى الزِّبْرِقَانُ فَاتَّبَعَ صَفْوَانَ بْنَ صَفْوَانَ بِصَدَقَاتِ عَوْفٍ وَالْأَبْنَاءِ، وَهَذِهِ بُطُونٌ مِنْ تَمِيمٍ. ثُمَّ نَدِمَ قَيْسٌ، فَلَمَّا أَظَلَّهُ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ أَخْرَجَ الصَّدَقَةَ فَتَلَقَّاهُ بِهَا، ثُمَّ خَرَجَ مَعَهُ وَتَشَاغَلَتْ تَمِيمٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.

وَكَانَ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيُّ تَأْتِيهِ أَمْدَادُ تَمِيمٍ، فَلَمَّا حَدَثَ هَذَا الْحَدَثُ أَضَرَّ ذَلِكَ بِثُمَامَةَ، وَكَانَ مُقَاتِلًا لِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، فَبَيْنَمَا النَّاسُ بِبِلَادِ تَمِيمٍ مُسْلِمِهِمْ بِإِزَاءِ مَنْ أَرَادَ الرِّدَّةَ وَارْتَابَ - إِذْ جَاءَتْهُمْ سَجَاحُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ عُقْفَانَ التَّمِيمِيَّةُ، قَدْ أَقْبَلَتْ مِنَ الْجَزِيرَةِ، وَادَّعَتِ النُّبُوَّةَ، وَكَانَ وَرَهْطُهَا فِي أَخْوَالِهَا مِنْ تَغْلِبَ تَقُودُ أَفَنَاءَ رَبِيعَةَ، مَعَهَا الْهُذَيْلُ بْنُ عِمْرَانَ فِي بَنِي تَغْلِبَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَتَرَكَ دِينَهُ وَتَبِعَهَا، وَعَقَّةُ بْنُ هِلَالٍ فِي النَّمِرِ، وَتَادُ بْنُ فُلَانٍ فِي إِيَادٍ، وَالسَّلِيلُ بْنُ قَيْسٍ فِي شَيْبَانَ، فَأَتَاهُمْ أَمْرٌ أَعْظَمُ مِمَّا هُمْ فِيهِ لِاخْتِلَافِهِمْ. وَكَانَتْ سَجَاحُ تُرِيدُ غَزْوَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ تَطْلُبُ الْمُوَادَعَةَ، فَأَجَابَهَا وَرَدَّهَا عَنْ غَزْوِهَا، وَحَمَلَهَا عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَأَجَابَتْهُ وَقَالَتْ: أَنَا امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ، فَإِنْ كَانَ مُلْكٌ فَهُوَ لَكُمْ. وَهَرَبَ مِنْهَا عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ، وَسَادَةُ بَنِي مَالِكٍ، وَحَنْظَلَةُ - إِلَى بَنِي الْعَنْبَرِ، وَكَرِهُوا مَا صَنَعَ وَكِيعٌ، وَكَانَ قَدْ وَادَعَهَا، وَهَرَبَ مِنْهَا أَشْبَاهُهُمْ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ، وَكَرِهُوا مَا صَنَعَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ، وَاجْتَمَعَ مَالِكٌ وَوَكِيعٌ وَسَجَاحُ فَسَجَعَتْ لَهُمْ سَجَاحُ وَقَالَتْ: " أَعِدُّوا الرِّكَابْ، وَاسْتَعِدُّوا لِلنِّهَابْ، ثُمَّ أَغِيرُوا عَلَى الرِّبَابْ، فَلَيْسَ دُونَهُمْ حِجَابْ ". فَسَارُوا إِلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُمْ ضَبَّةُ وَعَبْدُ مَنَاةٍ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى كَثِيرَةٌ، وَأُسِرَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ تَصَالَحُوا، وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ شِعْرًا ظَهَرَ فِيهِ نَدَمُهُ عَلَى تَخَلُّفِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بِصَدَقَتِهِ. ثُمَّ سَارَتْ سَجَاحُ فِي جُنُودِ الْجَزِيرَةِ حَتَّى بَلَغَتِ النِّبَاجَ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ أَوْسُ بْنُ خُزَيْمَةَ الْهُجَيْمِيُّ فِي بَنِي عَمْرٍو، فَأَسَرَ الْهُذَيْلَ وَعَقَّةَ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يُطْلِقَ أَسْرَى سَجَاحَ، وَلَا يَطَأَ أَرْضَ أَوْسٍ وَمَنْ مَعَهُ. ثُمَّ خَرَجَتْ سَجَاحُ فِي الْجُنُودِ وَقَصَدَتِ الْيَمَامَةَ، وَقَالَتْ: عَلَيْكُمْ بِالْيَمَامَهْ، وَدُفُّوا دَفِيفَ الْحَمَامَهْ، فَإِنَّهَا غَزْوَةٌ صَرَّامَهْ، لَا يَلْحَقُكُمْ بَعْدَهَا مَلَامَهْ. فَقَصَدَتْ بَنِي حَنِيفَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُسَيْلِمَةَ، فَخَافَ إِنْ هُوَ شُغِلَ بِهَا أَنْ يَغْلِبَ ثُمَامَةُ وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ وَالْقَبَائِلُ التى حَوْلَهُمْ عَلَى حَجْرٍ، وَهِيَ الْيَمَامَةُ، فَأَهْدَى لَهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ يَسْتَأْمِنُهَا عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَأْتِيَهَا، فَآمَنَتْهُ، فَجَاءَهَا فِي أَرْبَعِينَ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، فَقَالَ مُسَيْلِمَةُ: لَنَا نِصْفُ الْأَرْضِ، وَكَانَ

لِقُرَيْشٍ نِصْفُهَا لَوْ عَدَلَتْ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكِ النِّصْفَ الَّذِي رَدَّتْ قُرَيْشٌ. وَكَانَ مِمَّا شَرَعَ لَهُمْ أَنَّ مَنْ أَصَابَ وَلَدًا وَاحِدًا ذَكَرًا لَا يَأْتِي النِّسَاءَ حَتَّى يَمُوتَ ذَلِكَ الْوَلَدُ، فَيَطْلُبُ الْوَلَدَ حَتَّى يُصِيبَ ابْنًا ثُمَّ يُمْسِكُ. وَقِيلَ: بَلْ تَحَصَّنَ مِنْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: انْزِلْ، فَقَالَ لَهَا: أَبْعِدِي أَصْحَابَكِ. فَفَعَلَتْ، وَقَدْ ضَرَبَ لَهَا قُبَّةً وَجَمَّرَهَا لِتَذْكُرَ بِطِيبِ الرِّيحِ الْجِمَاعَ، وَاجْتَمَعَ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: مَا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ فَعَلَ بِالْحُبْلَى. أَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى، بَيْنَ صِفَاقٍ وَحَشًى؟ قَالَتْ: وَمَاذَا أَيْضًا؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ النِّسَاءَ أَفَرَاجَا، وَجَعَلَ الرِّجَالَ لَهُنَّ أَزْوَاجًا، فَتُولِجُ فِيهِنَّ قُعْسًا إِيلَاجًا، ثُمَّ تُخْرِجُهَا إِذْ تَشَاءُ إِخْرَاجًا، فَيُنْتِجْنَ لَنَا سِخَالًا إِنْتَاجًا. قَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ. قَالَ: هَلْ لَكِ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ وَآكُلَ بِقَوْمِي وَقَوْمِكِ الْعَرَبَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَا قُومِي إِلَى النَّيْكِ فَقَدْ هُيِّئَ لَكِ الْمَضْجَعْ فَإِنْ شِئْتِ فَفِي الْبَيْتِ وَإِنْ شِئْتِ فَفِي الْمَخْدَعْ وَإِنْ شِئْتِ سَلَقْنَاكِ وَإِنْ شِئْتِ عَلَى أَرْبَعْ وَإِنْ شِئْتِ بِثُلْثَيْهِ وَإِنْ شِئْتِ بِهِ أَجْمَعْ قَالَتْ: بَلْ بِهِ أَجْمَعَ فَإِنَّهُ أَجْمَعُ لِلشَّمْلِ. قَالَ: بِذَلِكَ أُوحِيَ إِلَيَّ. فَأَقَامَتْ عِنْدَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ انْصَرَفَتْ إِلَى قَوْمِهَا، فَقَالُوا لَهَا: مَا عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: كَانَ عَلَى الْحَقِّ فَتَبِعْتُهُ وَتَزَوَّجْتُهُ. قَالُوا: هَلْ أَصْدَقَكِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: لَا. قَالُوا: فَارْجِعِي فَاطْلُبِي الصَّدَاقَ، فَرَجَعَتْ. فَلَمَّا رَآهَا أَغْلَقَ بَابَ الْحِصْنِ وَقَالَ: مَا لَكِ؟ قَالَتْ: أَصْدِقْنِي. قَالَ: مَنْ مُؤَذِّنُكِ؟ قَالَتْ: شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ الرِّيَاحِيُّ، فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: نَادِ فِي أَصْحَابِكَ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَضَعَ عَنْكُمْ صَلَاتَيْنِ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ: صَلَاةَ الْفَجْرِ وَصَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. فَانْصَرَفَتْ وَمَعَهَا أَصْحَابُهَا، مِنْهُمْ: عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ،

ذكر مالك بن نويرة

وَغَيْلَانُ بْنُ خَرَشَةَ، وَشَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، فَقَالَ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ: أَمْسَتْ نَبِيَّتُنَا أُنْثَى نَطُوفُ بِهَا ... وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ النَّاسِ ذُكْرَانَا وَصَالَحَهَا مُسَيْلِمَةُ عَلَى غَلَّاتِ الْيَمَامَةِ، سَنَةً تَأْخُذُ النِّصْفَ وَتَتْرُكُ عِنْدَهُ مَنْ يَأْخُذُ النِّصْفَ، فَأَخَذَتِ النِّصْفَ وَانْصَرَفَتْ إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَخَلَّفَتِ الْهُذَيْلَ وَعَقَّةَ وَزِيَادًا لِأَخْذِ النِّصْفِ الْبَاقِي، فَلَمْ يُفَاجِئْهُمْ إِلَّا دُنُوُّ خَالِدٍ إِلَيْهِمْ فَارْفَضُّوا. فَلَمْ تَزَلْ سَجَاحُ فِي تَغْلِبَ حَتَّى نَقَلَهُمْ مُعَاوِيَةُ عَامَ الْجَمَاعَةِ، وَجَاءَتْ مَعَهُمْ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ وَإِسْلَامُهَا، وَانْتَقَلَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ وَمَاتَتْ بِهَا، وَصَلَّى عَلَيْهَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ وَهُوَ عَلَى الْبَصْرَةِ لِمُعَاوِيَةَ، قَبْلَ قُدُومِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ مِنْ خُرَاسَانَ وَوِلَايَتِهِ الْبَصْرَةَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمَّا قُتِلَ مُسَيْلِمَةُ سَارَتْ إِلَى أَخْوَالِهَا تَغْلِبَ بِالْجَزِيرَةِ، فَمَاتَتْ عِنْدَهُمْ وَلَمْ يُسْمَعْ لَهَا بِذِكْرٍ. [ذِكْرُ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ] لَمَّا رَجَعَتْ سَجَاحُ إِلَى الْجَزِيرَةِ ارْعَوَى مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ، وَنَدِمَ وَتَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ، وَعَرَفَ وَكِيعٌ وَسَمَاعَةُ قُبْحَ مَا أَتَيَا، فَرَاجَعَا رُجُوعًا حَسَنًا وَلَمْ يَتَجَبَّرَا، وَأَخْرَجَا الصَّدَقَاتِ فَاسْتَقْبَلَا بِهَا خَالِدًا. وَسَارَ خَالِدٌ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ فَزَارَةَ وَغَطَفَانَ وَأَسَدٍ وَطَيِّئٍ يُرِيدُ الْبُطَاحَ، وَبِهَا مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ قَدْ تَرَدَّدَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَتَخَلَّفَتِ الْأَنْصَارُ عَنْ خَالِدٍ وَقَالُوا: مَا هَذَا بِعَهْدِ الْخَلِيفَةِ إِلَيْنَا، إِنْ نَحْنُ فَرَغْنَا مِنْ بُزَاخَةَ أَنْ نُقِيمَ حَتَّى يَكْتُبَ إِلَيْنَا. فَقَالَ خَالِدٌ: قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ أَمْضِيَ، وَأَنَا الْأَمِيرُ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِ كِتَابٌ بِمَا رَأَيْتُهُ فُرْصَةً وَكُنْتُ إِنْ أَعْلَمْتُهُ فَاتَتْنِي - لَمْ أُعْلِمْهُ، وَكَذَلِكَ لَوِ ابْتُلِينَا بِأَمْرٍ لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ عَهْدٌ؛ لَمْ نَدَعْ أَنْ نَرَى أَفْضَلَ مَا يَحْضُرُنَا، ثُمَّ نَعْمَلَ بِهِ، فَأَنَا قَاصِدٌ إِلَى مَالِكٍ وَمَنْ مَعِي، وَلَسْتُ أُكْرِهُهُمْ. وَمَضَى خَالِدٌ وَنَدِمَتِ الْأَنْصَارُ وَقَالُوا: إِنْ أَصَابَ الْقَوْمُ خَيْرًا حُرِمْتُمُوهُ، وَأَنْ أُصِيبُوا لَيَجْتَنِبَنَّكُمُ النَّاسُ. فَلَحِقُوهُ. ثُمَّ سَارَ حَتَّى قَدِمَ الْبُطَاحَ، فَلَمْ يَجِدْ بِهَا أَحَدًا، وَكَانَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ قَدْ فَرَّقَهُمْ وَنَهَاهُمْ عَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَقَالَ: يَا بَنِي يَرْبُوعٍ، إِنَّا دُعِينَا إِلَى هَذَا الْأَمْرِ فَأَبْطَأْنَا عَنْهُ فَلَمْ نُفْلِحْ،

وَقَدْ نَظَرْتُ فِيهِ فَرَأَيْتُ الْأَمْرَ يَتَأَتَّى لَهُمْ بِغَيْرِ سِيَاسَةٍ، وَإِذَا الْأَمْرُ لَا يَسُوسُهُ النَّاسُ، فَإِيَّاكُمْ وَمُنَاوَأَةَ قَوْمٍ صُنِعَ لَهُمْ، فَتَفَرَّقُوا وَادْخُلُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ. فَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ الْبُطَاحَ بَثَّ السَّرَايَا، وَأَمَرَهُمْ بِدَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَأْتُوهُ بِكُلِّ مَنْ لَمْ يُجِبْ، وَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَكَانَ قَدْ أَوْصَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُؤَذِّنُوا إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا، فَإِنَّ أَذَّنَ الْقَوْمُ فَكُفُّوا عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُؤَذِّنُوا فَاقْتُلُوا وَانْهَبُوا، وَإِنْ أَجَابُوكُمْ إِلَى دَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ فَسَائِلُوهُمْ عَنِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ أَقَرُّوا فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا فَقَاتِلُوهُمْ. قَالَ: فَجَاءَتْهُ الْخَيْلُ بِمَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ، فَاخْتَلَفَتِ السَّرِيَّةُ فِيهِمْ، وَكَانَ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، فَكَانَ فِيمَنْ شَهِدَ أَنَّهُمْ قَدْ أَذَّنُوا وَأَقَامُوا وَصَلَّوْا، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أَمَرَ بِهِمْ فَحُبِسُوا فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ، فَأَمَرَ خَالِدٌ مُنَادِيًا فَنَادَى: أَدْفِئُوا أَسْرَاكُمْ، وَهِيَ فِي لُغَةِ كِنَانَةَ الْقَتْلُ، فَظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَتْلَ، وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الدِّفْءَ، فَقَتَلُوهُمْ، فَقَتَلَ ضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ مَالِكًا، وَسَمِعَ خَالِدٌ الْوَاعِيَةَ، فَخَرَجَ وَقَدْ فَرَغُوا مِنْهُمْ، فَقَالَ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا أَصَابَهُ، وَتَزَوَّجَ خَالِدٌ أُمَّ تَمِيمٍ امْرَأَةَ مَالِكٍ. فَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: إِنَّ سَيْفَ خَالِدٍ فِيهِ رَهَقٌ، وَأَكْثَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: هِيهِ يَا عُمَرُ! تَأَوَّلَ فَأَخْطَأَ، فَارْفَعْ لِسَانَكَ عَنْ خَالِدٍ، فَإِنِّي لَا أَشِيمُ سَيْفًا سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَوَدَى مَالِكًا، وَكَتَبَ إِلَى خَالِدٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ وَقَدْ غَرَزَ فِي عِمَامَتِهِ أَسْهُمًا، فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَنَزَعَهَا وَحَطَّمَهَا وَقَالَ لَهُ: قَتَلْتَ امْرَأً مُسْلِمًا، ثُمَّ نَزَوْتَ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَاللَّهِ لَأَرْجُمَنَّكَ بِأَحْجَارِكَ! وَخَالِدٌ لَا يُكَلِّمُهُ، يَظُنُّ أَنْ رَأْيَ أَبِي بَكْرٍ مِثْلُهُ، وَدَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَعَذَرَهُ وَتَجَاوَزَ عَنْهُ، وَعَنَّفَهُ فِي التَّزْوِيجِ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنْ كَرَاهَةِ أَيَّامِ الْحَرْبِ. فَخَرَجَ خَالِدٌ وَعُمَرُ جَالِسٌ فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَيَّ يَا ابْنَ أُمِّ سَلَمَةَ. فَعَرَفَ عُمَرُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ رَضِيَ عَنْهُ، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا غَشَوْا مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ لَيْلًا - أَخَذُوا السِّلَاحَ فَقَالُوا: نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ. فَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: وَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ. قَالُوا لَهُمْ: ضَعُوا السِّلَاحَ، فَوَضَعُوهُ ثُمَّ صَلَّوْا، وَكَانَ يَعْتَذِرُ فِي قَتْلِهِ أَنَّهُ قَالَ: مَا إِخَالُ صَاحِبَكُمْ إِلَّا قَالَ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ لَهُ: أَوَمَا تَعُدُّهُ لَكَ صَاحِبًا؟ ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ. وَقَدِمَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ يَطْلُبُ بِدَمِ أَخِيهِ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ،

ذكر مسيلمة وأهل اليمامة

فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ بِرَدِّ السَّبْيِ، وَوَدَى مَالِكًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ قَالَ لَهُ: مَا بَلَغَ بِكَ الْوَجْدُ عَلَى أَخِيكَ؟ قَالَ: بَكَيْتُهُ حَوْلًا حَتَّى أَسْعَدَتْ عَيْنِي الذَّاهِبَةَ عَيْنِي الصَّحِيحَةُ، وَمَا رَأَيْتُ نَارًا قَطُّ إِلَّا كِدْتُ أَنْقَطِعُ أَسَفًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُوقِدُ نَارَهُ إِلَى الصُّبْحِ مَخَافَةَ أَنْ يَأْتِيَهُ ضَيْفٌ وَلَا يَعْرِفَ مَكَانَهُ. قَالَ: فَصِفْهُ لِي. قَالَ: كَانَ يَرْكَبُ الْفَرَسَ الْحَرُونَ، وَيَقُودُ الْجَمَلَ الثِّقَالَ، وَهُوَ بَيْنَ الْمَزَادَتَيْنِ النَّضُوخَتَيْنِ فِي اللَّيْلَةِ الْقَرَّةِ، وَعَلَيْهِ شَمْلَةٌ فَلُوتٌ، مُعْتَقِلًا رُمْحًا خَطِلًا، فَيَسْرِي لَيْلَتَهُ ثُمَّ يُصْبِحُ وَكَأَنَّ وَجْهَهُ فِلْقَةُ قَمَرٍ. قَالَ: أَنْشَدَنِي بَعْضَ مَا قُلْتَ فِيهِ، فَأَنْشَدَهُ مَرْثِيَّتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا: وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا ... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ كُنْتُ أَقُولُ الشِّعْرَ لَرَثَيْتُ أَخِي زَيْدًا. فَقَالَ مُتَمِّمٌ: وَلَا سَوَاءَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ كَانَ أَخِي صُرِعَ مَصْرَعَ أَخِيكَ لَمَا بَكَيْتُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا عَزَّانِي أَحَدٌ بِأَحْسَنَ مِمَّا عَزَّيْتَنِي بِهِ. وَفِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ قُتِلَ الْوَلِيدُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ ابْنَا عُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، وَهُمَا ابْنَا أَخِي خَالِدٍ، لَهُمَا صُحْبَةٌ. [ذِكْرُ مُسَيْلِمَةَ وَأَهْلِ الْيَمَامَةِ] قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مَجِيءَ مُسَيْلِمَةَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ السَّرَايَا إِلَى الْمُرْتَدِّينَ، أَرْسَلَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فِي عَسْكَرٍ إِلَى مُسَيْلِمَةَ، وَأَتْبَعَهُ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ، فَعَجَّلَ عِكْرِمَةُ لِيَذْهَبَ بِصَوْتِهَا، فَوَاقَعَهُمْ فَنَكَبُوهُ، وَأَقَامَ شُرَحْبِيلُ بِالطَّرِيقِ حِينَ أَدْرَكَهُ الْخَبَرُ، وَكَتَبَ عِكْرِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالْخَبَرِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ: لَا أَرَيَنَّكَ وَلَا تَرَانِي، لَا تَرْجِعَنَّ فَتُوهِنَ النَّاسَ، امْضِ إِلَى حُذَيْفَةَ وَعَرْفَجَةَ فَقَاتِلْ أَهْلَ عُمَانَ وَمَهْرَةَ، ثُمَّ تَسِيرُ أَنْتَ وَجُنْدُكَ تَسْتَبْرُونَ النَّاسَ، حَتَّى تَلْقَى مُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بِالْيَمَنِ

وَحَضْرَمَوْتَ. فَكَتَبَ إِلَى شُرَحْبِيلَ بِالْمُقَامِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ خَالِدٌ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ مُسَيْلِمَةَ تَلْحَقُ بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ تُعِينُهُ عَلَى قُضَاعَةَ. فَلَمَّا رَجَعَ خَالِدٌ مِنَ الْبُطَاحِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ - قَبِلَ عُذْرَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ، وَوَجَّهَهُ إِلَى مُسَيْلِمَةَ، وَأَوْعَبَ مَعَهُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، وَعَلَى الْأَنْصَارِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَعَلَى الْمُهَاجِرِينَ أَبُو حُذَيْفَةَ وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَقَامَ خَالِدٌ بِالْبُطَاحِ يَنْتَظِرُ وُصُولَ الْبَعْثِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ سَارَ إِلَى الْيَمَامَةِ، وَبَنُو حَنِيفَةَ يَوْمَئِذٍ كَثِيرُونَ، كَانَتْ عِدَّتُهُمْ أَرْبَعِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَعَجَّلَ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، وَبَادَرَ خَالِدًا بِقِتَالِ مُسَيْلِمَةَ، فَنُكِبَ، فَلَامَهُ خَالِدٌ، وَأَمَدَّ أَبُو بَكْرٍ خَالِدًا بِسَلِيطٍ؛ لِيَكُونَ رِدْءًا لَهُ، لِئَلَّا يُؤْتَى مِنْ خَلْفِهِ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: لَا أَسْتَعْمِلُ أَهْلَ بَدْرٍ، أَدَعُهُمْ حَتَّى يَلْقَوُا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِهِمْ وَبِالصَّالِحِينَ أَكْثَرَ مِمَّا يَنْتَصِرُ بِهِمْ. وَكَانَ عُمَرُ يَرَى اسْتِعْمَالَهُمْ عَلَى الْجُنْدِ وَغَيْرِهِ. وَكَانَ مَعَ مُسَيْلِمَةَ نَهَارٌ الرَّجَّالُ بْنُ عُنْفُوَةَ، وَكَانَ قَدْ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، وَفُقِّهَ فِي الدِّينِ، وَبَعَثَهُ مُعَلِّمًا لِأَهْلِ الْيَمَامَةِ، وَلْيَشْغَبْ عَلَى مُسَيْلِمَةَ، فَكَانَ أَعْظَمَ فِتْنَةً عَلَى بَنِي حَنِيفَةَ مِنْ مُسَيْلِمَةَ، شَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ مُسَيْلِمَةَ قَدْ أُشْرِكَ مَعَهُ، فَصَدَّقُوهُ وَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ يَنْتَهِي إِلَى أَمْرِهِ، وَكَانَ يُؤَذِّنُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ النَّوَّاحَةِ، وَالَّذِي يُقِيمُ لَهُ حُجَيْرُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَكَانَ حُجَيْرٌ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ: أَفْصِحْ حُجَيْرُ، فَلَيْسَ فِي الْمُجَمْجَمَةِ خَيْرٌ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَهَا. وَكَانَ مِمَّا جَاءَ بِهِ وَذَكَرَ أَنَّهُ وَحْيٌّ: يَا ضُفْدَعُ بِنْتَ ضُفْدَعْ، نُقِّي مَا تُنَقِّينْ، أَعْلَاكِ فِي الْمَاءْ، وَأَسْفَلُكِ فِي الطِّينْ، لَا الشَّارِبَ تَمْنَعِينْ، وَلَا الْمَاءَ تُكَدِّرِينْ. وَقَالَ أَيْضًا: وَالْمُبْدَيَاتِ زَرْعًا، وَالْحَاصِدَاتِ حَصْدًا، وَالذَّارِيَاتِ قَمْحًا، وَالطَّاحِنَاتِ طَحْنًا، وَالْخَابِزَاتِ خُبْزًا، وَالثَّارِدَاتِ ثَرْدًا، وَاللَّاقِمَاتِ لُقْمًا، إِهَالَةً وَسَمْنًا، لَقَدْ فُضِّلْتُمْ عَلَى أَهْلِ الْوَبَرِ، وَمَا سَبَقَكُمْ أَهْلُ الْمَدَرِ، رِيقُكُمْ فَامْنَعُوهُ، وَالْمُعْيِيَ فَأَوُّوهُ، وَالْبَاغِي فَنَاوِئُوهُ. وَأَتَتْهُ

امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّ نَخَلْنَا لَسَحِيقٌ، وَإِنَّ آبَارَنَا لِجُرُزٌ، فَادْعُ اللَّهَ لِمَائِنَا وَنَخْلِنَا كَمَا دَعَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ هَزْمَانَ. فَسَأَلَ نَهَارًا عَنْ ذَلِكَ، فَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لَهُمْ وَأَخَذَ مِنْ مَاءِ آبَارِهِمْ فَتَمَضْمَضَ مِنْهُ وَمَجَّهُ فِي الْآبَارِ، فَفَاضَتْ مَاءً، وَأَنْجَبَتْ كُلُّ نَخْلَةٍ، وَأَطْلَعَتْ فَسِيلًا قَصِيرًا مُكَمَّمًا، فَفَعَلَ مُسَيْلِمَةُ ذَلِكَ، فَغَارَ مَاءُ الْآبَارِ وَيَبِسَ النَّخْلُ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَهْلِكِهِ. وَقَالَ لَهُ نَهَارٌ: أَمِرَّ يَدَكَ عَلَى أَوْلَادِ بَنِي حَنِيفَةَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ، فَفَعَلَ وَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَحَنَّكَهُمْ، فَقَرَعَ كُلُّ صَبِيٍّ مَسَحَ رَأْسَهُ، وَلَثِغَ كُلُّ صَبِيٍّ حَنَّكَهُ، وَإِنَّمَا اسْتَبَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَهْلِكِهِ. وَقِيلَ: جَاءَهُ طَلْحَةُ النَّمِرِيُّ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ رَجُلٌ فِي ظُلْمَةٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الْكَاذِبُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ، وَلَكِنْ كَذَّابُ رَبِيعَةَ أَحَبُّ أَلْيَنَا مِنْ صَادِقِ مُضَرَ. فَقُتِلَ مَعَهُ يَوْمَ عُقْرَبَاءَ كَافِرًا. وَلَمَّا بَلَغَ مُسَيْلِمَةَ دُنُوُّ خَالِدٍ ضَرَبَ عَسْكَرَهَ بِعُقْرَبَاءَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَخَرَجَ مُجَّاعَةُ بْنُ مُرَارَةَ فِي سَرِيَّةٍ يَطْلُبُ ثَأْرًا لَهُمْ فِي بَنِي عَامِرٍ، فَأَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَصْحَابَهُ، فَقَتَلَهُمْ خَالِدٌ وَاسْتَبْقَاهُ؛ لِشَرَفِهِ فِي بَنِي حَنِيفَةَ، وَكَانُوا مَا بَيْنَ أَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ. وَتَرَكَ مُسَيْلِمَةُ الْأَمْوَالَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ مُسَيْلِمَةَ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، قَاتِلُوا؛ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ الْغَيْرَةِ، فَإِنِ انْهَزَمْتُمْ تُسْتَرْدَفُ النِّسَاءُ سَبِيَّاتٍ، وَيُنْكَحْنَ غَيْرَ خَطِيبَاتٍ، فَقَاتِلُوا عَنْ أَحِسَابِكُمْ، وَامْنَعُوا نِسَاءَكُمْ. فَاقْتَتَلُوا بِعُقْرَبَاءَ، وَكَانَتْ رَايَةُ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَفْصِ بْنِ غَانِمٍ، فَقُتِلَ، فَقَالُوا: تَخْشَى عَلَيْنَا مِنْ نَفْسِكَ شَيْئًا فَقَالَ: بِئْسَ حَامِلُ الْقُرْآنِ أَنَا إِذًا! وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَنْصَارِ مَعَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ عَلَى رَايَاتِهِمْ، وَالْتَقَى النَّاسُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَ الْمُسْلِمِينَ نَهَارٌ الرَّجَّالُ بْنُ عُنْفُوَةَ فَقُتِلَ، قَتَلَهُ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَلَمْ يَلْقَ الْمُسْلِمُونَ حَرْبًا مِثْلَهَا قَطُّ، وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، وَخَلَصَ بَنُو حَنِيفَةَ إِلَى مَجَّاعَةَ وَإِلَى خَالِدٍ، فَزَالَ خَالِدٌ عَنِ الْفُسْطَاطِ، وَدَخَلُوا إِلَى مَجَّاعَةَ وَهُوَ عِنْدَ امْرَأَةِ خَالِدٍ، وَكَانَ سَلَّمَهُ إِلَيْهَا، فَأَرَادُوا قَتْلَهَا،

فَنَهَاهُمْ مَجَّاعَةُ عَنْ قَتْلِهَا وَقَالَ: أَنَا لَهَا جَارٌ، فَتَرَكُوهَا، وَقَالَ لَهُمْ: عَلَيْكُمْ بِالرِّجَالِ، فَقَطَعُوا الْفُسْطَاطَ. ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ تَدَاعَوْا، فَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ: بِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَنْفُسَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي أَهْلَ الْيَمَامَةِ، وَأَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا نَحُورُ بَعْدَ الرِّجَالِ، وَاللَّهِ لَا أَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ حَتَّى نَهْزِمَهُمْ، أَوْ أُقْتَلَ فَأُكَلِّمَهُ بِحُجَّتِي. غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَعَضُّوا عَلَى أَضْرَاسِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، وَاضْرِبُوا فِي عَدُوِّكُمْ، وَامْضُوا قُدُمًا. وَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِالْفِعَالِ. وَحَمَلَ خَالِدٌ فِي النَّاسِ حَتَّى رَدُّوهُمْ إِلَى أَبْعَدَ مِمَّا كَانُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَتَذَامَرَتْ بَنُو حَنِيفَةَ، وَقَاتَلَتْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَتِ الْحَرْبُ يَوْمَئِذٍ تَارَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَتَارَةً لِلْكَافِرِينَ، وَقُتِلَ سَالِمٌ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ، وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أُولِي الْبَصَائِرِ. فَلَمَّا رَأَى خَالِدٌ مَا النَّاسُ فِيهِ قَالَ: امْتَازُوا أَيُّهَا النَّاسُ لِنَعْلَمَ بَلَاءَ كُلِّ حَيٍّ، وَلِنَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ نُؤْتَى. فَامْتَازُوا، وَكَانَ أَهْلُ الْبَوَادِي قَدْ جَنَّبُوا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، وَجَنَّبَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. فَلَمَّا امْتَازُوا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: الْيَوْمَ يُسْتَحَى مِنَ الْفِرَارِ، فَمَا رُئِيَ يَوْمٌ كَانَ أَعْظَمَ نِكَايَةً مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَمْ يُدْرَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ أَعْظَمَ نِكَايَةً، غَيْرَ أَنَّ الْقَتْلَ كَانَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ الْقُرَى أَكْثَرَ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْبَوَادِي. وَثَبَتَ مُسَيْلِمَةُ فَدَارَتْ رَحَاهُمْ عَلَيْهِ، فَعَرَفَ خَالِدٌ أَنَّهَا لَا تَرْكُدُ إِلَّا بِقَتْلِ مُسَيْلِمَةَ، وَلَمْ تَحْفَلْ بَنُو حَنِيفَةَ بِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ. ثُمَّ بَرَزَ خَالِدٌ وَدَعَا إِلَى الْبِرَازِ وَنَادَى بِشِعَارِهِمْ، وَكَانَ شِعَارُهُمْ: يَا مُحَمَّدَاهُ! فَلَمْ يَبْرُزْ إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا قَتَلَهُ. وَدَارَتْ رَحَا الْمُسْلِمِينَ، وَدَعَا خَالِدٌ مُسَيْلِمَةَ فَأَجَابَهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ مِمَّا يَشْتَهِي مُسَيْلِمَةُ فَكَانَ إِذَا هَمَّ بِجَوَابِهِ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ لِيَسْتَشِيرَ شَيْطَانَهُ، فَيَنْهَاهُ أَنْ يَقْبَلَ. فَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ مَرَّةً، وَرَكِبَهُ خَالِدٌ وَأَرْهَقَهُ، فَأَدْبَرَ وَزَالَ أَصْحَابُهُ، وَصَاحَ خَالِدٌ فِي النَّاسِ فَرَكِبُوهُمْ، فَكَانَتْ هَزِيمَتُهُمْ، وَقَالُوا لِمُسَيْلِمَةَ: أَيْنَ مَا كُنْتَ تَعِدُنَا؟ فَقَالَ: قَاتِلُوا عَنْ أَحْسَابِكُمْ. وَنَادَى الْمُحَكَّمُ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، الْحَدِيقَةَ الْحَدِيقَةَ! فَدَخَلُوهَا وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ بَابَهَا.

وَكَانَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ أَخُو أَسَدِ بْنِ مَالِكٍ، إِذَا حَضَرَ الْحَرْبَ أَخَذَتْهُ رِعْدَةٌ، حَتَّى يَقْعُدَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ ثُمَّ يَبُولُ، فَإِذَا بَالَ ثَارَ كَمَا يَثُورُ الْأَسَدُ، فَأَصَابَهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا بَالَ وَثَبَ وَقَالَ: إِلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ! إِلَيَّ إِلَيَّ! وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَلَمَّا دَخَلَتْ بَنُو حَنِيفَةَ الْحَدِيقَةَ قَالَ الْبَرَاءُ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَلْقُونِي عَلَيْهِمْ فِي الْحَدِيقَةِ. فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَتَطْرَحُنَّنِي عَلَيْهِمْ بِهَا! فَاحْتُمِلَ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى الْجِدَارِ فَاقْتَحَمَهَا عَلَيْهِمْ، وَقَاتَلَ عَلَى الْبَابِ وَفَتَحَهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَدَخَلُوهَا عَلَيْهِمْ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، وَكَثُرَ الْقَتْلَى فِي الْفَرِيقَيْنِ لَا سِيَّمَا فِي بَنِي حَنِيفَةَ، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ مُسَيْلِمَةُ. وَاشْتَرَكَ فِي قَتْلِهِ وَحْشِيٌّ مَوْلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، أَمَّا وَحْشَيٌّ فَدَفَعَ عَلَيْهِ حَرْبَتَهُ، وَضَرَبَهُ الْأَنْصَارِيُّ بِسَيْفِهِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَصَرَخَ رَجُلٌ: قَتَلَهُ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ، فَوَلَّتْ بَنُو حَنِيفَةَ عِنْدَ قَتْلِهِ مُنْهَزِمَةً، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَأُخْبِرَ خَالِدٌ بِقَتْلِ مُسَيْلِمَةَ، فَخَرَجَ بِمَجَّاعَةَ يَرْسُفُ فِي الْحَدِيدِ؛ لِيَدُلَّهُ عَلَى مُسَيْلِمَةَ، فَجَعَلَ يَكْشِفُ لَهُ الْقَتْلَى حَتَّى مَرَّ بِمُحَكَّمِ الْيَمَامَةِ، وَكَانَ وَسِيمًا، فَقَالَ: هَذَا صَاحِبُكُمْ؟ فَقَالَ مَجَّاعَةُ: لَا، هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَكْرَمُ، هَذَا مُحَكَّمُ الْيَمَامَةِ، ثُمَّ دَخَلَ الْحَدِيقَةَ فَإِذَا رُوَيْجِلٌ أُصَيْفِرٌ أُخَيْنِسٌ، فَقَالَ مَجَّاعَةُ: هَذَا صَاحِبُكُمْ قَدْ فَرَغْتُمْ مِنْهُ. وَقَالَ خَالِدٌ: هَذَا الَّذِي فَعَلَ بِكُمْ مَا فَعَلَ. وَكَانَ الَّذِي قَتَلَ مُحَكَّمَ الْيَمَامَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، رَمَاهُ بِسَهْمٍ فِي نَحْرِهِ وَهُوَ يَخْطُبُ وَيُحَرِّضُ النَّاسَ، فَقَتَلَهُ. وَقَالَ مَجَّاعَةُ لِخَالِدٍ: مَا جَاءَكَ إِلَّا سَرَعَانُ النَّاسِ، وَإِنَّ الْحُصُونَ مَمْلُوَّةٌ، فَهَلُمَّ إِلَى الصُّلْحِ عَلَى مَا وَرَائِي. فَصَالَحَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ دُونَ النُّفُوسِ، وَقَالَ: أَنْطَلِقُ إِلَيْهِمْ فَأُشَاوِرُهُمْ. فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ وَلَيْسَ فِي الْحُصُونِ إِلَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَمَشْيَخَةٌ فَانِيَةٌ وَرِجَالٌ ضَعْفَى، فَأَلْبَسَهُمُ الْحَدِيدَ، وَأَمَرَ النِّسَاءِ أَنْ يَنْشُرْنَ شُعُورَهُنَّ وَيُشْرِفْنَ عَلَى الْحُصُونِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ. فَرَجَعَ إِلَى خَالِدٍ فَقَالَ: قَدْ أَبَوْا أَنْ يُجِيزُوا مَا صَنَعْتُ، فَرَأَى خَالِدٌ الْحُصُونَ مَمْلُوَّةً وَقَدْ نَهَكَتِ الْمُسْلِمِينَ الْحَرْبُ وَطَالَ اللِّقَاءُ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الظَّفَرِ، وَلَمْ يَدْرُوا مَا هُوَ كَائِنٌ، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ غَيْرِ الْمَدِينَةِ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ، وَقُتِلَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، قَطَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ رِجْلَهُ، فَأَخَذَهَا ثَابِتٌ وَضَرَبَهُ بِهَا فَقَتَلَهُ، وَقُتِلَ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ بِعُقْرَبَاءَ سَبْعَةُ آلَافٍ، وَبِالْحَدِيقَةِ مِثْلُهَا، وَفِي الطَّلَبِ نَحْوٌ مِنْهَا. وَصَالَحَهُ خَالِدٌ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالسِّلَاحِ وَنِصْفِ السَّبْيِ، وَقِيلَ: رُبْعُهُ.

فَلَمَّا فُتِحَتِ الْحُصُونُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالضُّعَفَاءُ، فَقَالَ خَالِدٌ لِمَجَّاعَةَ: وَيْحَكَ! خَدَعْتَنِي! فَقَالَ: هُمْ قَوْمِي، وَلَمْ أَسْتَطِعْ إِلَّا مَا صَنَعْتُ. وَوَصَلَ كِتَابُ أَبِي بَكْرٍ إِلَى خَالِدٍ أَنْ يَقْتُلَ كُلَّ مُحْتَلِمٍ، وَكَانَ قَدْ صَالَحَهُمْ، فَوَفَى لَهُمْ وَلَمْ يَغْدِرْ. وَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ قَالَ عُمَرُ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ مَعَهُمْ: أَلَا هَلَكْتَ قَبْلَ زَيْدٍ؟ هَلَكَ زَيْدٌ وَأَنْتَ حَيٌّ! أَلَا وَارَيْتَ وَجْهَكَ عَنِّي؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ فَأُعْطِيَهَا، وَجَهَدْتُ أَنْ تُسَاقَ إِلَيَّ فَلَمْ أُعْطَهَا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ وَقْعَةِ الْيَمَامَةِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ لِمَا رَأَى مِنْ كَثْرَةِ مَنْ قُتِلَ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ لِئَلَّا يَذْهَبَ الْقُرْآنُ، وَسَيَرِدُ مُبَيَّنًا سَنَةَ ثَلَاثِينَ. وَمِمَّنْ قُتِلَ بِالْيَمَامَةِ شَهِيدًا مِنَ الصَّحَابَةِ: عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَغَيْرَهَا. وَقُتِلَ عَبَّادُ بْنُ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ شَهِدَ أُحُدًا. وَقُتِلَ بِهَا عُمَيْرُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ شَهِدَ أُحُدًا. وَفِيهَا قُتِلَ عَامِرُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ سَلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ. وَفِيهَا قُتِلَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيُّ أَخُو عَمْرٍو، وَكَانَ بَدْرِيًّا. وَفِيهَا قُتِلَ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ لَهُ صُحْبَةٌ. وَقُتِلَ بِهَا عَائِذُ بْنُ مَاعِصٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقِيلَ: قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ. وَقُتِلَ فِيهَا فَرْوَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَقِيلَ: ابْنُ الْحَارِثِ بْنِ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا. وَفِيهَا قُتِلَ قَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ، عَمُّ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ بِأُحُدٍ. وَقُتِلَ بِهَا سَعْدُ بْنُ جَمَّازٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ أُحُدًا.

وَقُتِلَ بِهَا أَبُو دُجَانَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ، وَقِيلَ بَلْ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ وَشَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقُتِلَ بِالْيَمَامَةِ سَلَمَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَقُتِلَ فِيهَا السَّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ، وَهُوَ مِنْ مُهَاجَرَةِ الْحَبَشَةِ، وَشَهِدَ بَدْرًا. وَقُتِلَ أَيْضًا السَّائِبُ بْنُ الْعَوَّامِ أَخُو الزُّبَيْرِ لِأَبَوَيْهِ. وَقُتِلَ بِهَا الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ، شَهِدَ خَيْبَرَ. وَقُتِلَ بِهَا زُرَارَةُ بْنُ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيُّ، لَهُ صُحْبَةٌ. وَقُتِلَ فِيهَا مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ. وَقُتِلَ مَالِكُ بْنُ أُمَيَّةَ السُّلَمِيُّ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ. وَمَالِكُ بْنُ عَوْسِ بْنِ عَتِيكٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ أُحُدًا. وَقُتِلَ بِهَا مَعْنُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْجَدِّ الْبَلَوِيُّ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَغَيْرَهُمَا. وَمَسْعُودُ بْنُ سِنَانٍ الْأَسْوَدُ حَلِيفُ بَنِي غَانِمٍ، وَشَهِدَ أُحُدًا. وَفِيهَا قُتِلَ النُّعْمَانُ بْنُ عَصَرِ بْنِ الرَّبِيعِ الْبَلَوِيُّ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ. (وَقِيلَ: هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الصَّادِ، وَقِيلَ: بِفَتْحِهِمَا) . وَفِيهَا قُتِلَ صَفْوَانُ وَمَالِكٌ ابْنَا عَمْرٍو السُّلَمِيِّ، وَهُمَا بَدْرِيَّانِ. وَضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ الْأَسَدِيُّ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ بِأَمْرِ خَالِدٍ. وَفِيهَا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ السَّهْمِيُّ، وَقِيلَ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بِالطَّائِفِ هُوَ وَأَخُوهُ السَّائِبُ. وَفِيهَا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَخْرَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى الْعَامِرِيُّ عَامِرُ قَيْسٍ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَغَيْرَهَا.

ذكر ردة أهل البحرين

وَفِيهَا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ قَاتِلُ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ. وَفِيهَا قُتِلَ شُجَاعُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْأَسَدِيُّ أَسَدُ خُزَيْمَةَ، شَهِدَ بَدْرًا. وَهُرَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُطَّلِبِيُّ الْقُرَشِيُّ، وَأَخُوهُ جُنَادَةَ. وَالْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، ابْنُ عَمِّ خَالِدٍ. وَقُتِلَ وَرَقَةُ بْنُ إِيَاسِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ. وَيَزِيدُ بْنُ أَوْسٍ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ. وَأَبُو حَبَّةَ بْنُ غَزِيَّةَ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ أُحُدًا. وَأَبُو عَقِيلٍ الْبَلَوِيُّ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ. وَأَبُو قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ السَّهْمِيُّ، مِنْ مُهَاجَرَةِ الْحَبَشَةِ، شَهِدَ أُحُدًا. وَيَزِيدُ بْنُ ثَابِتٍ أَخُو زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. (الرَّجَّالُ بْنُ عُنْفُوَةَ بِالرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ، وَبِالْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ، وَقِيلَ: بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. وَمَجَّاعَةُ بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ. وَمُحَكَّمُ الْيَمَامَةِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْكَافِ الْمُشَدَّدَةِ. وَسَعْدُ بْنُ جَمَّازٍ بِالْجِيمِ، وَالْمِيمِ الْمُشَدَّدَةِ، وَآخِرُهُ زَايٌ) . [ذِكْرُ رِدَّةِ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ] لَمَّا قَدِمَ الْجَارُودُ بْنُ الْمُعَلَّى الْعَبْدِيُّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَفَقَّهَ رَدَّهُ إِلَى قَوْمِهِ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَكَانَ فِيهِمْ. فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ الْمُنْذِرُ بْنُ سَاوَى الْعَبْدِيُّ مَرِيضًا،

فَمَاتَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَلِيلٍ. فَلَمَّا مَاتَ الْمُنْذِرُ بْنُ سَاوَى ارْتَدَّ بَعْدَهُ أَهْلُ الْبَحْرَيْنِ، فَأَمَّا بَكْرٌ فَتَمَّتْ عَلَى رِدَّتِهَا، وَأَمَّا عَبْدُ الْقَيْسِ فَإِنَّهُمْ جَمَعَهُمُ الْجَارُودُ، وَكَانَ بَلَغَهُ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَمْ يَمُتْ. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَانَ لِلَّهِ أَنْبِيَاءٌ فِيمَا مَضَى؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا فَعَلُوا؟ قَالُوا: مَاتُوا. قَالَ: فَإِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ مَاتَ كَمَا مَاتُوا، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَأَسْلَمُوا وَثَبَتُوا عَلَى إِسْلَامِهِمْ. وَحَصَرَهُمْ أَصْحَابُ الْمُنْذِرِ بَعْدَهُ حَتَّى اسْتَنْقَذَهُمُ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ. وَاجْتَمَعَتْ رَبِيعَةُ بِالْبَحْرَيْنِ عَلَى الرِّدَّةِ إِلَّا الْجَارُودُ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَقَالُوا: نَرُدُّ الْمُلْكَ فِي الْمُنْذِرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَكَانَ يُسَمَّى الْغَرُورُ. فَلَمَّا أَسْلَمَ كَانَ يَقُولُ: أَنَا الْمَغْرُورُ، وَلَسْتُ بِالْغَرُورِ. وَخَرَجَ الْحُطَمُ بْنُ ضُبَيْعَةَ أَخُو بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ الْمُرْتَدِّينَ مِمَّنْ لَمْ يَزَلْ مُشْرِكًا، حَتَّى نَزَلَ الْقَطِيفَ وَهَجَرَ، وَاسْتَغَوَوُا الْخَطَّ وَمَنْ بِهَا مِنَ الزُّطِّ وَالسَّبَابِجَةِ، وَبَعَثَ بَعْثًا إِلَى دَارِينَ، وَبَعَثَ إِلَى جُوَاثَا فَحَصَرَ الْمُسْلِمِينَ، فَاشْتَدَّ الْحَصْرُ عَلَى مَنْ بِهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَذَفَ، وَقَدْ قَتَلَهُمُ الْجُوعُ: أَلَا أَبْلِغْ أَبَا بَكْرٍ رَسُولًا ... وَفِتْيَانَ الْمَدِينَةِ أَجْمَعِينَا فَهَلْ لَكُمُ إِلَى قَوْمٍ كِرَامٍ ... قُعُودٍ فِي جُوَاثَا مُحْصَرِينَا كَأَنَّ دِمَاءَهُمْ فِي كُلِّ فَجٍّ ... شُعَاعُ الشَّمْسِ يَغْشَى النَّاظِرِينَا تَوَكَّلْنَا عَلَى الرَّحْمَنِ إِنَّا ... وَجَدْنَا النَّصْرَ لِلْمُتَوَكِّلِينَا وَكَانَ سَبَبُ اسْتِنْقَاذِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ إِيَّاهُمْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ بِالْبَحْرَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ بِحِيَالِ الْيَمَامَةِ لَحِقَ بِهِ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيُّ فِي مُسْلِمَةِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَلَحِقَ بِهِ أَيْضًا قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ، وَأَعْطَاهُ بَدَلَ مَا كَانَ قُسِمَ مِنَ الصَّدَقَةِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَانْضَمَّ إِلَيْهِ عَمْرٌو وَالْأَبْنَاءُ وَسَعْدُ بْنُ تَمِيمٍ، وَالرَّبَابُ أَيْضًا لَحِقَتْهُ فِي مِثْلِ عُدَّتِهِ، فَسَلَكَ بِهِمُ الدَّهْنَاءَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا فِي بُحْبُوحَتِهَا نَزَلَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالنُّزُولِ

فِي اللَّيْلِ، فَنَفَرَتْ إِبِلُهُمْ بِأَحْمَالِهَا، فَمَا بَقِيَ عِنْدَهُمْ بَعِيرٌ وَلَا زَادٌ وَلَا مَاءٌ، فَلَحِقَهُمْ مِنَ الْغَمِّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَوَصَّى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَدَعَاهُمُ الْعَلَاءُ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي غَلَبَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْغَمِّ؟ فَقَالُوا: كَيْفَ نُلَامُ وَنَحْنُ إِنْ بَلَغْنَا غَدًا لَمْ تُحْمَ الشَّمْسُ حَتَّى نَهْلِكَ؟ ! فَقَالَ: لَنْ تُرَاعُوا، أَنْتُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنْصَارُ اللَّهِ، فَأَبْشِرُوا، فَوَاللَّهِ لَنْ تُخْذَلُوا. فَلَمَّا صَلَّوُا الصُّبْحَ دَعَا الْعَلَاءُ وَدَعَوْا مَعَهُ، فَلَمَعَ لَهُمُ الْمَاءُ، فَمَشَوْا إِلَيْهِ وَشَرِبُوا وَاغْتَسَلُوا. فَمَا تَعَالَى النَّهَارُ حَتَّى أَقْبَلَتِ الْإِبِلُ تُجْمَعُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَأَنَاخَتْ إِلَيْهِمْ فَسَقَوْهَا. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِيهِمْ، فَلَمَّا سَارُوا عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ قَالَ لِمِنْجَابِ بْنِ رَاشِدٍ: كَيْفَ عِلْمُكَ بِمَوْضِعِ الْمَاءِ؟ قَالَ: عَارِفٌ بِهِ. فَقَالَ لَهُ: كُنْ مَعِي حَتَّى تُقِيمَنِي عَلَيْهِ. قَالَ: فَرَجَعْتُ بِهِ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَلَمْ نَجِدْ إِلَّا غَدِيرَ الْمَاءِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ لَوْلَا الْغَدِيرُ لَأَخْبَرْتُكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَكَانُ، وَمَا رَأَيْتُ بِهَذَا الْمَكَانِ مَاءً قَبْلَ الْيَوْمِ، وَإِذَا إِدَاوَةٌ مَمْلُوَّةٌ مَاءً. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَذَا وَاللَّهِ الْمَكَانُ، وَلِهَذَا رَجَعْتُ بِكَ، وَمَلَأْتُ إِدَاوَتِي ثُمَّ وَضَعْتُهَا عَلَى شَفِيرِ الْغَدِيرِ وَقُلْتُ: إِنْ كَانَ مَنَّا مِنَ الْمَنِّ عَرَفْتُهُ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا عَرَفْتُهُ، فَإِذَا مَنٌّ مِنَ الْمَنِّ. فَحَمِدَ اللَّهَ. ثُمَّ سَارُوا فَنَزَلُوا بِهَجَرَ، وَأَرْسَلَ الْعَلَاءُ إِلَى الْجَارُودِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَنْزِلَ بِعَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى الْحُطَمِ مِمَّا يَلِيهِ، وَسَارَ هُوَ فِيمَنْ مَعَهُ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ مِمَّا يَلِي هَجَرَ، فَاجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ كُلُّهُمْ إِلَى الْحُطَمِ إِلَّا أَهْلَ دَارِينَ، وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْعَلَاءِ، وَخَنْدَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَالْمُشْرِكُونَ، وَكَانُوا يَتَرَاوَحُونَ الْقِتَالَ وَيَرْجِعُونَ إِلَى خَنْدَقِهِمْ، فَكَانُوا كَذَلِكَ شَهْرًا. فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ ضَوْضَاءَ هَزِيمَةٍ أَوْ قِتَالٍ، فَقَالَ الْعَلَاءُ: مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَذْفٍ: أَنَا، فَخَرَجَ حَتَّى دَنَا مِنْ خَنْدَقِهِمْ، فَأَخَذُوهُ. وَكَانَتْ أُمُّهُ عِجْلِيَّةً، فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا أَبْجَرَاهُ! فَجَاءَ أَبْجَرُ بْنُ بُجَيْرٍ فَعَرَفَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: عَلَامَ أُقْبِلُ وَحَوْلِي عَسَاكِرُ مِنْ عِجْلٍ وَتَيْمِ اللَّاتِ وَغَيْرِهِمَا؟ فَخَلَّصَهُ، فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ بِئْسَ ابْنُ أُخْتٍ أَتَيْتَ اللَّيْلَةَ أَخْوَالَكَ. فَقَالَ: دَعْنِي مِنْ هَذَا وَأَطْعِمْنِي؛ فَقَدْ مُتُّ جُوعًا. فَقَرَّبَ لَهُ طَعَامًا فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ: زَوِّدْنِي وَاحْمِلْنِي، يَقُولُ هَذَا لِرَجُلٍ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ السُّكْرُ، فَحَمَلَهُ عَلَى بَعِيرٍ وَزَوَّدَهُ وَجَوَّزَهُ، فَدَخَلَ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقَوْمَ سُكَارَى، فَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، فَوَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ كَيْفَ شَاءُوا، وَهَرَبَ الْكُفَّارُ،

فَمِنْ بَيْنِ مُرْتَدٍّ وَنَاجٍ وَمَقْتُولٍ وَمَأْسُورٍ، وَاسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْعَسْكَرِ، وَلَمْ يُفْلِتْ رَجُلٌ إِلَّا بِمَا عَلَيْهِ. فَأَمَّا أَبْجَرُ فَأَفْلَتَ، وَأَمَّا الْحُطَمُ فَقُتِلَ، قَتَلَهُ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ عَفِيفُ بْنُ الْمُنْذِرِ التَّيْمِيُّ رِجْلَهُ. وَطَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَأَسَرَ عَفِيفٌ الْمُنْذِرَ بْنَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ الْغَرُورَ فَأَسْلَمَ. وَأَصْبَحَ الْعَلَاءُ فَقَسَّمَ الْأَنْفَالَ، وَنَفَّلَ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْبَلَاءِ ثِيَابًا، فَأَعْطَى ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ خَمِيصَةً ذَاتَ أَعْلَامٍ كَانَتْ لِلْحُطَمِ يُبَاهِي بِهَا. فَلَمَّا رَجَعَ ثُمَامَةُ بَعْدَ فَتْحِ دَارِينَ رَآهَا بَنُو قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ قَتَلْتَ الْحُطَمَ! فَقَالَ: لَمْ أَقْتُلْهُ، وَلَكِنِّي اشْتَرَيْتُهَا مِنَ الْمَغْنَمِ. فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ. وَقَصَدَ عُظْمُ الْفُلَّالِ إِلَى دَارِينَ، فَرَكِبُوا إِلَيْهَا السُّفُنَ، وَلَحِقَ الْبَاقُونَ بِبِلَادِ قَوْمِهِمْ، فَكَتَبَ الْعَلَاءُ إِلَى مَنْ ثَبَتَ عَلَى إِسْلَامِهِ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، مِنْهُمْ عُتَيْبَةُ بْنُ النَّهَّاسِ وَالْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ وَغَيْرُهُمَا، يَأْمُرُهُمْ بِالْقُعُودِ لِلْمُنْهَزِمِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، فَفَعَلُوا، وَجَاءَتْ رُسُلُهُمْ إِلَى الْعَلَاءِ بِذَلِكَ، فَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، فَنَدَبَ حِينَئِذٍ النَّاسَ إِلَى دَارِينَ وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ أَرَاكُمُ اللَّهُ مِنْ آيَاتِهِ فِي الْبَرِّ لِتَعْتَبِرُوا بِهَا فِي الْبَحْرِ، فَانْهَضُوا إِلَى عَدُوِّكُمْ وَاسْتَعْرِضُوا الْبَحْرَ. وَارْتَحَلَ وَارْتَحَلُوا حَتَّى اقْتَحَمَ الْبَحْرَ عَلَى الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْحَمِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِيهِمُ الرَّاجِلُ، وَدَعَا وَدَعَوْا. وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِمْ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، يَا كَرِيمُ، يَا حَلِيمُ، يَا صَمَدُ، يَا حَيُّ، يَا مُحْيِيَ الْمَوْتَى، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ يَا رَبَّنَا! فَاجْتَازُوا ذَلِكَ الْخَلِيجَ بِإِذْنِ اللَّهِ يَمْشُونَ عَلَى مِثْلِ رَمْلَةٍ فَوْقَهَا مَاءٌ يَغْمُرُ أَخْفَافَ الْإِبِلِ، وَبَيْنَ السَّاحِلِ وَدَارِينَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لِسُفُنِ الْبَحْرِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ وَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، وَأَكْثَرَ الْمُسْلِمُونَ الْقَتْلَ فِيهِمْ فَمَا تَرَكُوا بِهَا مُخْبِرًا وَغَنِمُوا وَسَبَوْا، فَلَمَّا فَرَغُوا رَجَعُوا حَتَّى عَبَرُوا، وَضَرَبَ الْإِسْلَامُ فِيهَا بِجِرَانِهِ. وَكَتَبَ الْعَلَاءُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يُعَرِّفُهُ هَزِيمَةَ الْمُرْتَدِّينَ وَقَتْلَ الْحُطَمِ. وَكَانَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ رَاهِبٌ مِنْ أَهْلِ هَجَرَ، فَأَسْلَمَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ خَشِيتُ أَنْ يَمْسَخَنِي اللَّهُ بَعْدَهَا: فَيْضٌ فِي الرِّمَالِ، وَتَمْهِيدُ أَثْبَاجِ الْبَحْرِ، وَدُعَاءٌ سَمِعْتُهُ فِي عَسْكَرِهِمْ فِي الْهَوَاءِ سَحَرًا: اللَّهُمَّ أَنْتَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، لَا إِلَهَ غَيْرُكَ، وَالْبَدِيعُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَالدَّائِمُ غَيْرُ الْغَافِلِ، الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَخَالِقُ مَا يُرَى وَمَا لَا يُرَى، وَكُلُّ

ذكر ردة أهل عمان ومهرة

يَوْمٍ أَنْتَ فِي شَأْنٍ، عَلِمْتَ كُلَّ شَيْءٍ بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ - فَعَلِمْتُ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يُعَانُوا بِالْمَلَائِكَةِ إِلَّا وَهُمْ عَلَى حَقٍّ، فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْمَعُونَ هَذَا مِنْهُ بَعْدُ. (عُتَيْبَةُ بَعْدَ الْعَيْنِ تَاءٌ مُعْجَمَةٌ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقِهَا، وَيَاءٌ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، ثُمَّ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ. وَحَارِثَةُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَثَاءٍ مُثُلَّثَةٍ) . [ذِكْرُ رِدَّةَ أَهْلِ عُمَانَ وَمَهْرَةَ] قَدِ اخْتُلِفَ فِي تَارِيخِ حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ هَؤُلَاءِ الْمُرْتَدِّينَ، فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ فَتْحُ الْيَمَامَةِ وَالْيَمَنِ وَالْبَحْرَيْنِ وَبَعْثُ الْجُنُودِ إِلَى الشَّامِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ. وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ، وَيَزِيدُ بْنُ عِيَاضِ بْنِ جُعْدُبَةَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: إِنَّ فُتُوحَ الرِّدَّةِ كُلَّهَا لِخَالِدٍ وَغَيْرِهِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، إِلَّا أَمْرَ رَبِيعَةَ بْنِ بُجَيْرٍ؛ فَإِنَّهُ كَانَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَقِصَّتُهُ: أَنَّهُ بَلَغَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنَّ رَبِيعَةَ بِالْمُصَيِّخِ وَالْحَصِيدِ فِي جَمْعٍ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ، فَقَاتَلَهُ وَغَنِمَ وَسَبَى وَأَصَابَ ابْنَةً لِرَبِيعَةَ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَصَارَتْ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَأَمَّا عُمَانُ فَإِنَّهُ نَبَغَ بِهَا ذُو التَّاجِ لَقِيطُ بْنُ مَالِكٍ الْأَزْدِيُّ، وَكَانَ يُسَامِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْجُلُنْدَى، وَادَّعَى بِمِثْلِ مَا ادَّعَى مَنْ تَنَبَّأَ، وَغَلَبَ عَلَى عُمَانَ مُرْتَدًّا، وَالْتَجَأَ جَيْفَرٌ وَعِيَاذٌ إِلَى الْجِبَالِ، وَبَعَثَ جَيْفَرٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يُخْبِرُهُ وَيَسْتَمِدُّهُ عَلَيْهِ، وَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ حُذَيْفَةَ بْنَ مِحْصَنٍ الْغَلْفَانِيَّ مِنْ حِمْيَرَ، وَعَرْفَجَةَ الْبَارِقِيَّ مِنَ الْأَزْدِ؛ حُذَيْفَةَ إِلَى عُمَانَ، وَعَرْفَجَةَ إِلَى مَهْرَةَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَمِيرٌ عَلَى صَاحِبِهِ فِي وَجْهِهِ، فَإِذَا قَرُبَا مِنْ عُمَانَ يُكَاتِبَانِ جَيْفَرًا. فَسَارَ إِلَى عُمَانَ، وَأَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَكَانَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَأُصِيبَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَلْحَقَ بِحُذَيْفَةَ وَعَرْفَجَةَ بِمَنْ مَعَهُ يُسَاعِدُهُمَا عَلَى أَهْلِ عُمَانَ وَمَهْرَةَ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْهُمْ سَارَ إِلَى الْيَمَنِ. فَلَحِقَهُمَا عِكْرِمَةُ قِبَلَ عُمَانَ، فَلَمَّا وَصَلُوا رِجَامًا، وَهِيَ قَرِيبٌ

ذكر خبر ردة اليمن

مِنْ عُمَانَ، كَاتَبُوا جَيْفَرًا وَعِيَاذًا، وَجَمَعَ لَقِيطٌ جُمُوعَهُ وَعَسْكَرَ بِدَبَا، وَخَرَجَ جَيْفَرٌ وَعِيَاذٌ وَعَسْكَرَا بِصُحَارٍ، وَأَرْسَلَا إِلَى حُذَيْفَةَ وَعِكْرِمَةَ وَعَرْفَجَةَ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِمَا، وَكَاتَبُوا رُؤَسَاءَ مِنْ لَقِيطٍ وَارْفَضُّوا عَنْهُ، ثُمَّ الْتَقَوْا عَلَى دَبَا، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَاسْتَعْلَى لَقِيطٌ، وَرَأَى الْمُسْلِمُونَ الْخَلَلَ، وَرَأَى الْمُشْرِكُونَ الظَّفَرَ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ جَاءَتِ الْمُسَلِمِينَ مَوَادُّهُمُ الْعُظْمَى مِنْ بَنِي نَاجِيَةَ، وَعَلَيْهِمُ الْخِرِّيتُ بْنُ رَاشِدٍ، وَمِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ وَعَلَيْهِمْ سَيْحَانُ بْنُ وُصْحَانَ، وَغَيْرِهِمْ، فَقَوَّى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ، فَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ الْأَدْبَارَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَرَكِبُوهُمْ حَتَّى أَثْخَنُوا فِيهِمْ، وَسَبَوُا الذَّرَارِيَّ وَقَسَّمُوا الْأَمْوَالَ، وَبَعَثُوا بِالْخُمْسِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مَعَ عَرْفَجَةَ، وَأَقَامَ حُذَيْفَةُ بِعُمَانَ يُسَكِّنُ النَّاسَ. وَأَمَّا مَهْرَةُ فَإِنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ سَارَ إِلَيْهِمْ لَمَّا فَرَغَ مِنْ عُمَانَ وَمَعَهُ مَنِ اسْتَنْصَرَ مِنْ نَاجِيَةَ وَعَبْدِ الْقَيْسِ وَرَاسِبٍ وَسَعْدٍ، فَاقْتَحَمَ عَلَيْهِمْ بِلَادَهُمْ، فَوَافَقَ بِهَا جَمْعَيْنِ مِنْ مَهْرَةَ؛ أَحَدُهُمَا مَعَ سِخْرِيتٍ، رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَالثَّانِي مَعَ الْمُصَبَّحِ، أَحَدُ بَنِي مُحَارِبٍ، وَمُعْظَمُ النَّاسِ مَعَهُ، وَكَانَا مُخْتَلِفَيْنِ. فَكَاتَبَ عِكْرِمَةُ سِخْرِيتًا، فَأَجَابَهُ وَأَسْلَمَ، وَكَاتَبَ الْمُصَبَّحَ يَدْعُوهُ فَلَمْ يُجِبْ، فَقَاتَلَهُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ الْمُرْتَدُّونَ وَقُتِلَ رَئِيسُهُمْ، وَرَكِبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوا مَنْ شَاءُوا مِنْهُمْ، وَأَصَابُوا مَا شَاءُوا مِنَ الْغَنَائِمِ، وَبَعَثَ الْأَخْمَاسَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مَعَ سِخْرِيتٍ، وَازْدَادَ عِكْرِمَةُ وَجُنْدُهُ قُوَّةً بِالظَّهْرِ وَالْمَتَاعِ، وَأَقَامَ عِكْرِمَةُ حَتَّى اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى الَّذِي يُحِبُّ، وَبَايَعُوا عَلَى الْإِسْلَامِ. (دَبَا بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُخَفَّفَةِ، وَفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ. وَالْخِرِّيتُ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ، ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْتِهَا، وَآخِرُهُ تَاءٌ. وَسَيْحَانُ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ، وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَآخِرُهُ نُونٌ) . [ذِكْرُ خَبَرِ رِدَّةِ الْيَمَنِ] لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى مَكَّةَ وَأَرْضِهَا عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ، وَعَلَى عَكٍّ وَالْأَشْعَرِيِّينَ الطَّاهِرُ بْنُ أَبِي هَالَةَ، وَعَلَى الطَّائِفِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ، وَعُثْمَانُ عَلَى الْمُدُنِ، وَمَالِكٌ عَلَى أَهْلِ الْوَبَرِ، وَبِصَنْعَاءَ فَيْرُوزُ وَدَاذَوَيْهِ يُسَانِدُهُ،

وَقَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ، وَعَلَى الْجُنْدِ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، وَعَلَى مَأْرِبَ أَبُو مُوسَى، وَكَانَ مِنْهُمْ مَعَ الْأَسْوَدِ الْكَذَّابِ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَلَمَّا أَهْلَكَ اللَّهُ الْأَسْوَدَ الْعَنْسِيَّ بَقِيَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ صَنْعَاءَ وَنَجْرَانَ، لَا يَأْوُونَ إِلَى أَحَدٍ. وَمَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ فَارْتَدَّ النَّاسُ، فَكَتَبَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يُعَرِّفُهُ خَبَرَ مَنِ ارْتَدَّ فِي عَمَلِهِ، وَبَعَثَ عَتَّابٌ أَخَاهُ خَالِدًا إِلَى أَهْلِ تِهَامَةَ، وَبِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ مُدْلِجٍ وَخُزَاعَةَ وَأَبْنَاءِ كِنَانَةَ. وَأَمَّا كِنَانَةُ عَلَيْهِمْ جُنْدُبُ بْنُ سَلْمَى، فَالْتَقَوْا بِالْأَبَارِقِ، فَقَتَلَهُمْ خَالِدٌ وَفَرَّقَهُمْ، وَأَفْلَتَ جُنْدُبُ بْنُ سَلْمَى وَعَادَ، وَبَعَثَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بَعْثًا إِلَى شَنُوءَةَ وَبِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَزْدِ، وَبَجِيلَةُ، وَخَثْعَمُ، وَعَلَيْهِمْ حُمَيْضَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَاسْتَعْمَلَ عُثْمَانُ عَلَى السَّرِيَّةِ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، فَالْتَقَوْا بِشَنُوءَةَ، فَانْهَزَمَ الْكُفَّارُ وَتَفَرَّقُوا، وَهَرَبَ حُمَيْضَةُ فِي الْبِلَادِ. وَأَمَّا الْأَخَابِثُ مِنَ الْعَكِّ فَكَانُوا أَوَّلَ مُنْتَقِضٍ بِتِهَامَةَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ تَجَمَّعَ عَكٌّ وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَأَقَامُوا عَلَى الْأَعْلَابِ، فَسَارَ إِلَيْهِمُ الطَّاهِرُ بْنُ أَبِي هَالَةَ وَمَعَهُ مَسْرُوقٌ وَقَوْمُهُ مِنْ عَكٍّ مِمَّنْ لَمْ يَرْتَدَّ، فَالْتَقَوْا عَلَى الْأَعْلَابِ، فَانْهَزَمَتْ عَكٌّ وَمَنْ مَعَهُمْ، وَقُتِلُوا قَتْلًا ذَرِيعًا، وَكَانَ ذَلِكَ فَتْحًا عَظِيمًا. وَوَرَدَ كِتَابُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى الطَّاهِرِ يَأْمُرُهُ بِقِتَالِهِمْ، وَسَمَّاهُمُ الْأَخَابِثَ، وَسَمَّى طَرِيقَهُمْ طَرِيقَ الْأَخَابِثِ، فَبَقِيَ الِاسْمُ عَلَيْهِمْ إِلَى الْآنَ. وَأَمَّا أَهْلُ نَجْرَانَ فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَوْتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلُوا وَفْدًا لِيُجَدِّدُوا عَهْدَهُمْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ كِتَابًا. وَأَمَّا بَجِيلَةُ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَدَّ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَنْفِرَ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ ثَبَتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُقَاتِلَ بِهِمْ مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَأْتِيَ خَثْعَمَ فَيُقَاتِلَ مَنْ خَرَجَ غَضَبًا لِذِي الْخَلَصَةِ، فَخَرَجَ جَرِيرٌ وَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ، فَلَمْ يَقُمْ لَهُ أَحَدٌ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ، فَقَتَلَهُمْ وَتَتَبَّعَهُمْ. (حُمَيْضَةُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَضْمُومَةِ، وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ) . ذِكْرُ خَبَرِ رِدَّةِ الْيَمَنِ ثَانِيَةً وَكَانَ مِمَّنِ ارْتَدَّ ثَانِيَةً قَيْسُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ مَكْشُوحٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ

النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمِلَ فِي قَتْلِ فَيْرُوزَ وَجِشْنَسَ، وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ ذِي مُرَّانَ، وَإِلَى سَعِيدٍ ذِي زُودٍ، وَإِلَى الْكَلَاعِ، وَإِلَى حَوْشَبٍ ذِي ظُلَيْمٍ، وَإِلَى شَهْرٍ ذِي نِيَافٍ يَأْمُرُهُمْ بِالتَّمَسُّكِ بِدِينِهِمْ وَالْقِيَامِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِإِعَانَةِ الْأَبْنَاءِ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ، وَالسَّمْعِ لِفَيْرُوزَ، وَكَانَ فَيْرُوزُ وَدَاذَوَيْهِ وَقَيْسٌ قَبْلَ ذَلِكَ مُتَسَانِدِينَ. فَلَمَّا سَمِعَ قَيْسٌ بِذَلِكَ كَتَبَ إِلَى ذِي الْكُلَاعِ وَأَصْحَابِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى قَتْلِ الْأَبْنَاءِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِهِمْ مِنَ الْيَمَنِ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ وَلَمْ يَنْصُرُوا الْأَبْنَاءَ. فَاسْتَعَدَّ لَهُمْ قَيْسٌ، وَكَاتَبَ أَصْحَابَ الْأَسْوَدِ الْمُتَرَدِّدِينَ فِي الْبِلَادِ سِرًّا، يَدْعُوهُمْ لِيَجْتَمِعُوا مَعَهُ، فَجَاءُوا إِلَيْهِ، فَسَمِعَ بِهِمْ أَهْلُ صَنْعَاءَ، فَقَصَدَ قَيْسٌ فَيْرُوزَ وَدَاذَوَيْهِ، فَاسْتَشَارَهُمَا فِي أَمْرِهِ خَدِيعَةً مِنْهُ لِيُلَبِّسَ عَلَيْهِمَا، فَاطْمَأَنَّا إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ قِيْسًا صَنَعَ مِنَ الْغَدِ طَعَامًا وَدَعَا دَاذَوَيْهِ وَفَيْرُوزَ وَجِشْنَسَ، فَخَرَجَ دَاذَوَيْهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، وَجَاءَ إِلَيْهِ فَيْرُوزُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ سَمِعَ امْرَأَتَيْنِ تَتَحَدَّثَانِ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: هَذَا مَقْتُولٌ كَمَا قُتِلَ دَاذَوَيْهِ، فَخَرَجَ. فَطَلَبَهُ أَصْحَابُ قَيْسٍ، فَخَرَجَ يَرْكُضُ، وَلَقِيَهُ جِشْنَسُ فَرَجَعَ مَعَهُ، فَتَوَجَّهَا نَحْوَ جَبَلِ خَوْلَانَ، وَهُمْ أَخْوَالُ فَيْرُوزَ، فَصَعِدَا الْجَبَلَ، وَرَجَعَتْ خُيُولُ قَيْسٍ فَأَخْبَرُوهُ، فَثَارَ بِصَنْعَاءَ وَمَا حَوْلَهَا، وَأَتَتْهُ خُيُولُ الْأَسْوَدِ. وَاجْتَمَعَ إِلَى فَيْرُوزَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يُخْبِرُهُ، وَاجْتَمَعَ إِلَى قَيْسٍ عَوَامُّ قَبَائِلِ مَنْ كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رُؤَسَائِهِمْ، وَاعْتَزَلَ الرُّؤَسَاءُ، وَعَمَدَ قَيْسٌ إِلَى الْأَنْبَاءِ فَفَرَّقَهُمْ ثَلَاثَ فِرَقٍ: مَنْ أَقَامَ أَقَرَّ عِيَالَهُ، وَالَّذِينَ سَارُوا مَعَ فَيْرُوزَ فَرَّقَ عِيَالَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، فَوَجَّهَ إِحْدَاهَا إِلَى عَدَنَ لِيَحْمِلُوا فِي الْبَحْرِ، وَحَمَلَ الْأُخْرَى فِي الْبَرِّ، وَقَالَ لَهُمْ جَمِيعِهِمْ: الْحَقُوا بِأَرْضِكُمْ. فَلَمَّا عَلِمَ فَيْرُوزُ ذَلِكَ جَدَّ فِي حَرْبِهِ وَتَجَرَّدَ لَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى بَنِي عُقَيْلِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرٍ يَسْتَمِدُّهُمْ، وَإِلَى عَكٍّ يَسْتَمِدُّهُمْ، فَرَكِبَتْ عُقَيْلٌ، فَلَقُوا خَيْلَ قَيْسِ بْنِ عَامِرٍ وَمَعَهُمْ عِيَالَاتُ الْأَبْنَاءِ الَّذِينَ كَانَ قَدْ سَيَّرَهُمْ قَيْسٌ، فَاسْتَنْقَذُوهُمْ وَقَتَلُوا خَيْلَ قَيْسٍ. وَسَارَتْ عَكٌّ فَاسْتَنْقَذُوا طَائِفَةً أُخْرَى مِنْ عِيَالَاتِ الْأَبْنَاءِ، وَقَتَلُوا مَنْ مَعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ قَيْسٍ، وَأَمَدَّتْ عُقَيْلٌ وَعَكٌّ فَيْرُوزَ بِالرِّجَالِ. فَلَمَّا أَتَتْهُ أَمْدَادُهُمْ خَرَجَ بِهِمْ وَبِمَنِ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ، فَلَقُوا قَيْسًا دُونَ صَنْعَاءَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَ قَيْسٌ وَأَصْحَابُهُ، وَتَذَبْذَبَ أَصْحَابُ الْعَنْسِيِّ وَقَيْسٌ مَعَهُمْ فِيمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَنَجْرَانَ.

ذكر ردة حضرموت وكندة

قِيلَ: وَكَانَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْلِمًا، فَاسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صَدَقَاتِ مُرَادٍ، وَمَنْ نَازَلَهُمْ وَنَزَلَ دَارَهُمْ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ الزُّبَيْدِيُّ قَدْ فَارَقَ قَوْمَهُ سَعْدَ الْعَشِيرَةِ، وَانْحَازَ إِلَيْهِمْ وَأَسْلَمَ مَعَهُمْ، فَلَمَّا ارْتَدَّ الْعَنْسِيُّ وَمَعَهُ مَذْحِجٌ ارْتَدَّ عَمْرٌو فِيمَنِ ارْتَدَّ، وَكَانَ عَمْرٌو مَعَ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَلَمَّا ارْتَدَّ سَارَ إِلَيْهِ خَالِدٌ فَلَقِيَهُ، فَضَرَبَهُ خَالِدٌ عَلَى عَاتِقِهِ فَهَرَبَ مِنْهُ، وَأَخَذَ خَالِدٌ سَيْفَهُ الصَّمْصَامَةَ وَفَرَسَهُ، فَلَمَّا ارْتَدَّ عَمْرٌو جَعَلَهُ الْعَنْسِيُّ بِإِزَاءِ فَرْوَةَ، فَامْتَنَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْبَرَاحِ لِمَكَانِ صَاحِبِهِ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ قَدِمَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ أَبْيَنَ مِنْ مَهْرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ قِتَالِ مَهْرَةَ، وَمَعَهُ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ مَهْرَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَاسْتَبْرَى النَّخْعَ وَحِمْيَرَ، وَقَدِمَ أَيْضًا الْمُهَاجِرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ فِي جَمْعٍ مِنْ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَبَجِيلَةَ مَعَ جَرِيرٍ إِلَى نَجْرَانَ، فَانْضَمَّ إِلَيْهِ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيُّ، فَأَقْبَلَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ مُسْتَجِيبًا، حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمُهَاجِرِ مِنْ غَيْرِ أَمَانٍ، فَأَوْثَقَهُ الْمُهَاجِرُ، وَأَخَذَ قَيْسًا أَيْضًا فَأَوْثَقَهُ، وَسَيَّرَهُمَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا قَيْسُ، قَتَلْتَ عِبَادَ اللَّهِ، وَاتَّخَذْتَ الْمُرْتَدِّينَ وَلِيَجِةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ! فَانْتَفَى قَيْسٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَارَفَ مِنْ أَمْرِ دَاذَوَيْهِ شَيْئًا، وَكَانَ قَتَلَهُ سِرًّا، فَتَجَافَى لَهُ عَنْ دَمِهِ، وَقَالَ لِعَمْرٍو: أَمَا تَسْتَحِي أَنَّكَ كُلَّ يَوْمٍ مَهْزُومٌ أَوْ مَأْسُورٌ؟ لَوْ نَصَرْتَ هَذَا الدِّينَ لَرَفَعَكَ اللَّهُ، فَقَالَ: لَا جَرَمَ، لَأُقْبِلَّنَ وَلَا أَعُودُ. وَرَجَعَا إِلَى عَشَائِرِهِمَا. فَسَارَ الْمُهَاجِرُ مِنْ نَجْرَانَ وَالْتَقَتِ الْخُيُولُ عَلَى أَصْحَابِ الْعَنْسِيِّ، فَاسْتَأْمَنُوا فَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ، وَقَتَلَهُمْ بِكُلِّ سَبِيلٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى صَنْعَاءَ فَدَخَلَهَا، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِذَلِكَ. [ذِكْرُ رِدَّةِ حَضْرَمَوْتَ وَكِنْدَةَ] لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُمَّالُهُ عَلَى بِلَادِ حَضْرَمَوْتَ: زِيَادُ بْنُ أَبِي لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَلَى حَضْرَمَوْتَ، وَعَكَّاشَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَلَى السَّكَاسِكِ وَالسَّكُونِ «وَالْمُهَاجِرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَلَى كِنْدَةَ، اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهَا حَتَّى تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ إِلَى قِتَالِ مَنْ بِالْيَمَنِ، ثُمَّ الْمَسِيرُ بَعْدُ إِلَى عَمَلِهِ، وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبُوكَ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَاتِبٌ عَلَيْهِ، فَبَيْنَمَا أُمُّ سَلَمَةَ تَغْسِلُ رَأْسَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: كَيْفَ يَنْفَعُنِي عَيْشٌ وَأَنْتَ عَاتِبٌ عَلَى أَخِي؟ فَرَأَتْ

مِنْهُ رِقَّةً، فَأَوْمَأَتْ إِلَى خَادِمِهَا فَدَعَتْهُ، فَلَمْ يَزَلْ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ عُذْرَهُ حَتَّى رَضِيَ عَنْهُ وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى كِنْدَةَ. فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَسِرْ إِلَى عَمَلِهِ، ثُمَّ سَارَ بَعْدَهُ» . وَكَانَ سَبَبُ رِدَّةِ كِنْدَةَ وَإِجَابَتِهِمُ الْأَسْوَدَ الْكَذَّابَ حَتَّى لَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُلُوكَ الْأَرْبَعَةَ مِنْهُمْ - أَنَّهُمْ لَمَّا أَسْلَمُوا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُوضَعَ بَعْضُ صَدَقَةِ حَضْرَمَوْتَ فِي كِنْدَةَ، وَبَعْضُ صَدَقَةِ كِنْدَةَ فِي حَضْرَمَوْتَ، وَبَعْضُ صَدَقَةِ حَضْرَمَوْتَ فِي السَّكُونِ، وَبَعْضُ صَدَقَةِ السَّكُونِ فِي حَضْرَمَوْتَ، فَقَالَ بَعْضُ بَنِي وَلَيْعَةَ: مِنْ كِنْدَةَ لِحَضْرَمَوْتَ لَيْسَ لَنَا ظَهْرٌ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تَبْعَثُوا إِلَيْنَا بِذَلِكَ عَلَى ظَهْرٍ. قَالُوا: فَإِنَّا نَنْظُرُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ ظَهْرٌ فَعَلْنَا. فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ بَنُو وَلَيْعَةَ: أَبْلِغُونَا كَمَا وَعَدْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! فَقَالُوا: إِنْ لَكُمْ ظَهْرًا فَاحْتَمِلُوا، فَقَالُوا لِزِيَادٍ: أَنْتَ مَعَهُمْ عَلَيْنَا. فَأَبَى الْحَضْرَمِيُّونَ، وَلَحَّ الْكِنْدِيُّونَ وَرَجَعُوا إِلَى دَارِهِمْ، وَتَرَدَّدُوا فِي أَمْرِهِمْ، وَأَمْسَكَ عَنْهُمْ زِيَادٌ انْتِظَارًا لِلْمُهَاجِرِ. وَكَانَ الْمُهَاجِرُ لَمَّا تَأَخَّرَ بِالْمَدِينَةِ قَدِ اسْتَخْلَفَ زِيَادًا عَلَى عَمَلِهِ، وَسَارَ الْمُهَاجِرُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى عَمَلِهِ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ أَيْضًا، فَنَزَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْأَسْوَدِ، وَالْآخَرُ عَلَى وَائِلٍ، وَكَانَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ قَدْ وَلِيَ صَدَقَاتِ بَنِي عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ مِنْ كِنْدَةَ بِنَفْسِهِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ انْتَهَى مِنْهُمْ شَيْطَانُ بْنُ حُجْرٍ، فَأَخَذَ مِنْهُمْ بَكْرَةً وَوَسَمَهَا، فَإِذَا النَّاقَةُ لِلْعَدَّاءِ بْنِ حُجْرٍ أَخِي شَيْطَانٍ، وَكَانَ أَخُوهُ قَدْ أُوهِمَ حِينَ أَخْرَجَهَا، وَكَانَ اسْمُهَا شَذْرَةً، وَظَنَّهَا غَيْرَهَا. فَقَالَ الْعَدَّاءُ: هَذِهِ نَاقَتِي. فَقَالَ شَيْطَانٌ: صَدَقَ، فَأَطْلِقْهَا وَخُذْ غَيْرَهَا. فَاتَّهَمَهُ زِيَادٌ بِالْكُفْرِ وَمُبَاعَدَةِ الْإِسْلَامِ. فَمَنَعَهُمَا عَنْهَا وَقَالَ: صَارَتْ فِي حَقِّ اللَّهِ. فَلَجَأَ فِي أَخْذِهَا، فَقَالَ لَهَا: لَا تَكُونَنَّ شَذْرَةً عَلَيْكُمْ كَالْبَسُوسِ. فَنَادَى الْعَدَّاءُ: يَا آلَ عَمْرٍو، أُضَامُ وَأُضْطَهَدُ! إِنَّ الذَّلِيلَ مَنْ أُكِلَ فِي دَارِهِ! وَنَادَى حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، فَأَقْبَلَ إِلَى زِيَادٍ وَهُوَ وَاقِفٌ، فَقَالَ: أَطْلِقْ بَكْرَةَ الرَّجُلِ وَخُذْ غَيْرَهَا. فَقَالَ زِيَادٌ: مَا لِي إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ. فَقَالَ حَارِثَةُ: ذَاكَ إِذَا كُنْتَ يَهُودِيًّا، وَأَطْلَقَ عِقَالَهَا وَبَعَثَهَا وَقَامَ دُونَهَا، فَأَمَرَ زِيَادٌ شَبَابًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَالسَّكُونِ فَمَنَعُوهُ وَكَتَّفُوهُ، وَكَتَّفُوا أَصْحَابَهُ وَأَخَذُوا الْبَكْرَةَ، وَتَصَايَحَتْ كِنْدَةُ، وَغَضِبَتْ بَنُو مُعَاوِيَةَ لِحَارِثَةَ وَأَظْهَرُوا أَمْرَهُمْ، وَغَضِبَتْ حَضْرَمَوْتُ وَالسَّكُونُ لِزِيَادٍ، وَتَوَافَى عَسْكَرَانِ عَظِيمَانِ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَلَمْ يُحْدِثْ بَنُو مُعَاوِيَةَ شَيْئًا لِمَكَانِ أُسَرَائِهِمْ، وَلَمْ يَجِدْ أَصْحَابُ زِيَادٍ سَبِيلًا يَتَعَلَّقُونَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُمْ زِيَادٌ بِوَضْعِ السِّلَاحِ

فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَطَلَبُوا أُسَرَاءَهُمْ فَلَمْ يُطْلِقْهُمْ، وَنَهَدَ إِلَيْهِمْ لَيْلًا فَقَتَلَ مِنْهُمْ وَتَفَرَّقُوا، فَلَمَّا تَفَرَّقُوا أَطْلَقَ حَارِثَةَ وَمَنْ مَعَهُ. فَلَمَّا رَجَعَ الْأَسْرَى إِلَى أَصْحَابِهِمْ حَرَّضُوهُمْ عَلَى زِيَادٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ عَسْكَرٌ كَثِيرٌ، وَنَادَوْا بِمَنْعِ الصَّدَقَةِ، فَأَرْسَلَ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ، وَسَكَنَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَأَقَامُوا بَعْدَ ذَلِكَ يَسِيرًا. ثُمَّ إِنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ مِنْ كِنْدَةَ نَزَلُوا الْمَحَاجِرَ، وَهِيَ أَحْمَاءٌ حَمَوْهَا، فَنَزَلَ جَمَدٌ مَحْجَرًا، وَمِخْوَصٌ مَحْجَرًا، وَمِشْرَحٌ مَحْجَرًا، وَأَبْضَعَةُ مَحْجَرًا، وَأُخْتُهُمُ الْعَمَرَّدَةُ مَحْجَرًا، وَهُمُ الْمُلُوكُ الْأَرْبَعَةُ رُؤَسَاءُ عَمْرٍو الَّذِينَ لَعَنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ ذُكِرُوا قَبْلُ. وَنَزَلَتْ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَحَاجِرَهَا، فَنَزَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ مَحْجَرًا، وَالسِّمْطُ بْنُ الْأَسْوَدِ مَحْجَرًا، وَأَطْبَقَتْ بَنُو مُعَاوِيَةَ كُلُّهَا عَلَى مَنْعِ الصَّدَقَةِ، إِلَّا شُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ وَابْنَهُ، فَإِنَّهُمَا قَالَا لِبَنِي مُعَاوِيَةَ: إِنَّهُ لَقَبِيحٌ بِالْأَحْرَارِ التَّنَقُّلُ، إِنَّ الْكِرَامَ لَيَلْزَمُونَ الشُّبْهَةَ فَيَتَكَرَّمُونَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى أَوْضَحَ مِنْهَا مَخَافَةَ الْعَارِ، فَكَيْفَ الِانْتِقَالُ مِنَ الْأَمْرِ الْحَسَنِ الْجَمِيلِ وَالْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَالْقَبِيحِ! اللَّهُمَّ إِنَّا نُمَالِئُ قَوْمَنَا عَلَى ذَلِكَ. وَانْتَقَلَ وَنَزَلَ مَعَ زِيَادٍ وَمَعَهُمَا امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ عَابِسٍ، وَقَالَا لَهُ: بَيِّتِ الْقَوْمَ؛ فَإِنَّ أَقْوَامًا مِنَ السَّكَاسِكِ وَالسَّكُونِ قَدِ انْضَمُّوا إِلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ شُذَّاذٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ خَشِينَا أَنْ تَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنَّا إِلَيْهِمْ. فَأَجَابَهُمْ إِلَى تَبْيِيتِ الْقَوْمِ، فَاجْتَمَعُوا وَطَوَّقُوهُمْ فِي مَحَاجِرِهِمْ، فَوَجَدُوهُمْ جُلُوسًا حَوْلَ نِيرَانِهِمْ، فَأَكَبُّوا عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَفِيهِمُ الْعَدَدُ وَالشَّوْكَةُ - مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ، فَأَصَابُوا مِشْرَحًا وَمِخْوَصًا وَجَمَدًا وَأَبْضَعَةَ وَأُخْتَهُمُ الْعَمَرَّدَةَ، وَأَدْرَكَتْهُمْ لَعْنَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَهَرَبَ مَنْ أَطَاقَ الْهَرَبَ، وَعَادَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ بِالْأَمْوَالِ وَالسَّبْيِ، وَاجْتَازُوا بِالْأَشْعَثِ، فَثَارَ فِي قَوْمِهِ، فَاسْتَنْقَذَهُمْ وَجَمَعَ الْجُمُوعَ. وَكَتَبَ زِيَادٌ إِلَى الْمُهَاجِرِ يَسْتَحِثُّهُ، فَلَقِيَهُ الْكِتَابُ بِالطَّرِيقِ فَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْجُنْدِ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، وَتَعَجَّلَ فِي سَرَعَانِ النَّاسِ، وَقَدِمَ عَلَى زِيَادٍ وَسَارَ إِلَى كِنْدَةَ، فَالْتَقَوْا بِمَحْجَرِ الزُّرْقَانِ فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَتْ كِنْدَةُ وَقُتِلَتْ، وَخَرَجُوا هُرَّابًا فَالْتَجَئُوا إِلَى النُّجَيْرِ، وَقَدْ رَمُّوهُ وَأَصْلَحُوهُ. وَسَارَ الْمُهَاجِرُ فَنَزَلَ عَلَيْهِمْ، وَاجْتَمَعَتْ كِنْدَةُ فِي النُّجَيْرِ فَتَحَصَّنُوا بِهِ، فَحَصَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدِمَ إِلَيْهِمْ عِكْرِمَةُ، فَاشْتَدَّ الْحَصْرُ عَلَى كِنْدَةَ، وَتَفَرَّقَتِ السَّرَايَا فِي طَلَبِهِمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ، وَخَرَجَ مَنْ بِالنُّجَيْرِ مِنْ كِنْدَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ فَكَثُرَ فِيهِمُ الْقَتْلُ، فَرَجَعُوا إِلَى حِصْنِهِمْ، وَخَشَعَتْ نُفُوسُهُمْ وَخَافُوا الْقَتْلَ،

وَخَافَ الرُّؤَسَاءُ عَلَى نُفُوسِهِمْ. فَخَرَجَ الْأَشْعَثُ وَمَعَهُ تِسْعَةُ نَفَرٍ، فَطَلَبُوا مِنْ زِيَادٍ أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ وَأَهْلِيَهُمْ عَلَى أَنْ يَفْتَحُوا لَهُ الْبَابَ. فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَقَالَ: اكْتُبُوا مَا شِئْتُمْ ثُمَّ هَلُمُّوا الْكِتَابَ حَتَّى أَخْتِمَهُ. فَفَعَلُوا، وَنَسِيَ الْأَشْعَثُ أَنْ يَكْتُبَ نَفْسَهُ لِأَنَّ جَحْدَمًا وَثَبَ عَلَيْهِ بِسِكِّينٍ، فَقَالَ: تَكْتُبُنِي أَوْ أَقْتُلُكَ؟ فَكَتَبَهُ وَنَسِيَ نَفْسَهُ، فَفَتَحُوا الْبَابَ، فَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ فَلَمْ يَدَعُوا مُقَاتِلًا إِلَّا قَتَلُوهُ، وَضَرَبُوا أَعْنَاقَهُمْ صَبْرًا، وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ وَالسَّبْيَ. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْهُمْ دَعَا الْأَشْعَثُ أُولَئِكَ النَّفَرَ وَالْكِتَابَ مَعَهُمْ فَعَرَضَهُمْ، فَأَجَارَ مَنْ فِي الْكِتَابِ، فَإِذَا الْأَشْعَثُ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَقَالَ الْمُهَاجِرُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَطَّأَ فَاكَ يَا أَشْعَثُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ! قَدْ كُنْتُ أَشْتَهِي أَنْ يُخْزِيَكَ اللَّهُ! وَشَدَّهُ كِتَافًا، فَقِيلَ لَهُ: أَخِّرْهُ وَسَيِّرْهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ؛ فَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحُكْمِ فِيهِ. فَسَيَّرَهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مَعَ السَّبْيِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْحِصَارَ لَمَّا اشْتَدَّ عَلَى مَنْ بِالنُّجَيْرِ نَزَلَ الْأَشْعَثُ إِلَى الْمُهَاجِرِ وَزِيَادٍ وَالْمُسْلِمِينَ، فَسَأَلَهُمُ الْأَمَانَ عَلَى دَمِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَقْدَمُوا بِهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ، عَلَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُمُ النُّجَيْرَ وَيُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ مَنْ فِيهِ، وَغَدَرَ بِأَصْحَابِهِ، فَقَبِلُوا ذَلِكَ مِنْهُ، فَفَتَحَ لَهُمُ الْحِصْنَ، فَاسْتَنْزَلُوا مَنْ فِيهِ مِنَ الْمُلُوكِ فَقَتَلُوهُمْ وَأَوْثَقُوا الْأَشْعَثَ وَأَرْسَلُوهُ مَعَ السَّبْيِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَلْعَنُونَهُ وَيَلْعَنُهُ سَبَايَا قَوْمِهِ، وَسَمَّاهُ نِسَاءُ قَوْمِهِ عُرْفَ النَّارِ، وَهُوَ اسْمُ الْغَادِرِ عِنْدَهُمْ. فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: مَا تَرَانِي أَصْنَعُ بِكَ؟ قَالَ: لَا أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنِّي أَقْتُلُكَ. قَالَ: فَأَنَا الَّذِي رَاوَضْتُ الْقَوْمَ فِي عَشْرَةٍ فَمَا يَحِلُّ دَمِي. قَالَ: إِنَّمَا وَجَبَ الصُّلْحُ بَعْدَ خَتْمِ الصَّحِيفَةِ عَلَى مَنْ فِيهَا، وَإِنَّمَا كُنْتَ قَبْلَ ذَلِكَ مُرَاوِضًا. فَلَمَّا خَشِيَ الْقَتْلَ قَالَ: أَوَتَحْتَسِبُ فِيَّ خَيْرًا، فَتُطْلِقُ إِسَارِيْ وَتُقِيلُنِي عَثْرَتِي، وَتَفْعَلُ بِي مِثْلَ مَا فَعَلْتَ بِأَمْثَالِي، وَتَرُدُّ عَلَيَّ زَوْجَتِي؟ - وَقَدْ كَانَ خَطَبَ أُمَّ فَرْوَةَ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَّرَهَا إِلَى أَنْ يَقْدَمَ الثَّانِيَةَ، فَمَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَارْتَدَّ - فَإِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ تَجِدُنِي خَيْرَ أَهْلِ بِلَادِي لِدِينِ اللَّهِ. فَحَقَنَ دَمَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى فَتَحَ الْعِرَاقَ، وَقَسَّمَ الْغَنَائِمَ بَيْنَ النَّاسِ. وَقِيلَ: إِنَّ عِكْرِمَةَ قَدِمَ بَعْدَ الْفَتْحِ، فَقَالَ زِيَادٌ وَالْمُهَاجِرُ لِمَنْ مَعَهُمَا: إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدِمُوا مَدَدًا لَكُمْ، فَأَشْرِكُوهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ، فَفَعَلُوا وَأَشْرَكُوهُمْ. وَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنَّهُ لَقَبِيحٌ بِالْعَرَبِ أَنْ يَمْلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَفَتَحَ الْأَعَاجِمَ. وَاسْتَشَارَ فِي فِدَاءِ سَبَايَا الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ،

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة

إِلَّا امْرَأَةً وَلَدَتْ لِسَيِّدِهَا، وَجَعَلَ فِدَاءً لِكُلِّ إِنْسَانٍ سِتَّةَ أَبْعِرَةٍ أَوْ سَبْعَةً، إِلَّا حَنِيفَةَ وَكِنْدَةَ، فَإِنَّهُ خَفَّفَ عَلَيْهِمْ لِقَتْلِ رِجَالِهِمْ، فَتَتَبَّعَ النِّسَاءُ بِكُلِّ مَكَانٍ فَقَدُوهُنَّ. وَفِيهَا انْصَرَفَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مِنَ الْيَمَنِ. وَفِيهَا اسْتَقْضَى أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَكَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ خِلَافَتَهُ كُلَّهَا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ، وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. (النُّجَيْرُ - بِضَمِّ النُّونِ، وَفَتْحِ الْجِيمِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ رَاءٌ: حِصْنٌ بِالْيَمَنِ مَنِيعٌ) . [ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ] ذِكْرُ مَسِيرِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْعِرَاقِ وَصُلْحِ الْحِيرَةِ

12 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ذِكْرُ مَسِيرِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْعِرَاقِ وَصُلْحِ الْحِيرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا أَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَهُوَ بِالْيَمَامَةِ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَقِيلَ: بَلْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ الْيَمَامَةِ، فَسَيَّرَهُ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْعِرَاقِ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بِبَانِقْيَا وَبَارُوسْمَا وَأُلَّيْسَ، وَصَالَحَهُ أَهْلُهَا. وَكَانَ الَّذِي صَالَحَهُ عَلَيْهَا ابْنُ صَلُوبَا عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ سِوَى حَرَزَةِ كِسْرَى، وَكَانَتْ عَلَى كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ. ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ الْحِيرَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَشْرَافُهَا مَعَ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا بَعْدَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، فَدَعَاهُمْ خَالِدٌ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْجِزْيَةِ أَوِ الْمُحَارَبَةِ، فَاخْتَارُوا الْجِزْيَةَ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى تِسْعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَكَانَتْ أَوَّلَ جِزْيَةٍ أُخِذَتْ مِنَ الْفُرْسِ فِي الْإِسْلَامِ هِيَ وَالْقُرَيَّاتِ الَّتِي صَالَحَ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأُبُلَّةِ، وَكَتَبَ إِلَى عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ أَنْ يَقْصِدَ الْعِرَاقَ وَيَبْدَأَ بِالْمُصَيَّحِ، وَيَدْخُلَ الْعِرَاقَ مِنْ أَعْلَاهُ، وَيَسِيرَ حَتَّى يَلْقَى خَالِدًا، وَكَانَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ قَدِ اسْتَأْذَنَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَغْزُوَ بِالْعِرَاقِ فَأَذِنَ لَهُ، فَكَانَ يَغْزُوهُمْ قَبْلَ

قُدُومِ خَالِدٍ، وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدًا وَعِيَاضًا أَنْ يَسْتَنْفِرَا مَنْ قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَأَنْ لَا يَغْزُوَنَّ مَعَهُمَا مُرْتَدٌّ، فَفَعَلَا وَكَتَبَا إِلَيْهِ يَسْتَمِدَّانِهِ، فَأَمَدَّ خَالِدًا بِالْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو التَّمِيمِيِّ، فَقِيلَ لَهُ: أَتُمِدُّهُ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: لَا يُهْزَمُ جَيْشٌ فِيهِمْ مِثْلُ هَذَا. وَأَمَدَّ عِيَاضًا بِعَبْدِ بْنِ غَوْثٍ الْحِمْيَرِيِّ. وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْمُثَنَّى وَحَرْمَلَةَ وَمَعْذُورٍ وَسُلْمَى أَنْ يَلْحَقُوا بِخَالِدٍ بِالْأُبُلَّةِ. فَقَدِمَ خَالِدٌ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ مَعَ الْمُثَنَّى وَأَصْحَابِهِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ. وَلَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ فَرَّقَ جُنْدَهُ ثَلَاثَ فِرَقٍ، وَلَمْ يَحْمِلْهُمْ عَلَى طَرِيقٍ وَاحِدٍ، عَلَى مُقَدِّمَتِهِ الْمُثَنَّى وَبَعْدَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَجَاءَ خَالِدٌ بَعْدَهُمَا، وَوَعَدَهُمَا الْحَفِيرَ لِيُصَادِمُوا عَدُوَّهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَعْظَمَ فُرُوجِ فَارِسَ وَأَشَدَّهَا شَوْكَةً، فَكَانَ صَاحِبَهُ أُسْوَارُ اسْمُهُ هُرْمُزُ، فَكَانَ يُحَارِبُ الْعَرَبَ فِي الْبَرِّ وَالْهِنْدَ فِي الْبَحْرِ. فَلَمَّا سَمِعَ هُرْمُزُ بِهِمْ كَتَبَ إِلَى أَرْدَشِيرَ الْمَلِكِ بِالْخَبَرِ، وَتَعَجَّلَ هُوَ إِلَى الْكَوَاظِمِ فِي سَرَعَانِ أَصْحَابِهِ، فَسَمِعَ أَنَّهُمْ تَوَاعَدُوا الْحَفِيرَ، فَسَبَقَهُمْ إِلَيْهِ وَنَزَلَ بِهِ، وَجَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ قُبَاذَ وَأُنُوشَجَانَ، وَكَانَا مِنْ أَوْلَادِ أَرْدَشِيرَ الْأَكْبَرِ، وَاقْتَرَنُوا فِي السَّلَاسِلِ لِئَلَّا يَفْجُرُوا، فَسَمِعَ بِهِمْ خَالِدٌ، فَمَالَ بِالنَّاسِ إِلَى كَاظِمَةَ، فَسَبَقَهُ هُرْمُزُ إِلَيْهَا، وَكَانَ سَيِّئَ الْمُجَاوَرَةِ لِلْعَرَبِ، فَكُلُّهُمْ عَلَيْهِ حَنِقٌ، وَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ مَثَلًا فَيَقُولُونَ: أَكْفَرُ مِنْ هُرْمُزَ. وَقَدِمَ خَالِدٌ فَنَزَلَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ: مَا تَفْعَلُ؟ فَقَالَ لَهُمْ: لَعَمْرِي لَيَصِيرَنَّ الْمَاءُ لِأَصْبَرِ الْفَرِيقَيْنِ، فَحَطُّوا أَثْقَالَهُمْ، وَتَقَدَّمَ خَالِدٌ إِلَى الْفُرْسِ فَلَاقَاهُمْ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - فَأَغْدَرَتْ وَرَاءَ صَفِّ الْمُسْلِمِينَ، فَقَوِيَتْ قُلُوبُهُمْ، وَخَرَجَ هُرْمُزُ وَدَعَا خَالِدًا إِلَى الْبِرَازِ، وَأَوْطَأَ أَصْحَابَهُ عَلَى الْغَدْرِ بِخَالِدٍ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ خَالِدٌ وَمَشَى نَحْوَهُ رَاجِلًا، وَنَزَلَ هُرْمُزُ أَيْضًا وَتَضَارَبَا، فَاحْتَضَنَهُ خَالِدٌ، وَحَمَلَ أَصْحَابُ هُرْمُزَ، فَمَا شَغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ قَتْلِهِ، وَحَمَلَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فَأَزَاحَهُمْ، وَانْهَزَمَ أَهْلُ فَارِسَ وَرَكِبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَسُمِّيَتِ الْوَقْعَةُ ذَاتَ السَّلَاسِلِ، وَنَجَا قُبَاذُ وَأُنُوشَجَانُ، وَأَخَذَ خَالِدٌ سَلَبَ هُرْمُزَ، وَكَانَتْ قَلَنْسُوَتُهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَمَّ شَرَفُهُ فِي الْفُرْسِ، وَكَانَتْ هَذِهِ عَادَتُهُمْ، إِذَا تَمَّ شَرَفُ الْإِنْسَانِ تَكُونُ قَلَنْسُوَتُةُ بِمِائَةِ أَلْفٍ. وَبَعَثَ خَالِدٌ بِالْفَتْحِ وَالْأَخْمَاسِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بِمَوْضِعِ الْجِسْرِ الْأَعْظَمِ بِالْبَصْرَةِ، وَبَعَثَ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ فِي آثَارِهِمْ، وَأَرْسَلَ مَعْقِلَ بْنَ مُقَرِّنٍ إِلَى الْأُبُلَّةِ فَفَتَحَهَا، فَجَمَعَ الْأَمْوَالَ بِهَا وَالسَّبْيَ.

وَهَذَا الْقَوْلُ خِلَافُ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ النَّقْلِ؛ لِأَنَّ فَتْحَ الْأُبُلَّةِ كَانَ عَلَى يَدِ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَحَاصَرَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ حِصْنَ الْمَرْأَةِ، وَأَسْلَمَتْ، وَلَمْ يَعْرِضْ خَالِدٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْفَلَّاحِينَ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ. ذِكْرُ وَقْعَةِ الثِّنْيِ لَمَّا وَصَلَ كِتَابُ هُرْمُزَ إِلَى أَرْدَشِيرَ بِخَبَرِ خَالِدٍ أَمَدَّهُ بِقَارِنَ بْنِ قِرْيَانِسَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْمِذَارِ لَقِيَهُ الْمُنْهَزِمُونَ، فَاجْتَمَعُوا وَرَجَعُوا وَمَعَهُمْ قُبَاذُ وَأُنُوشَجَانُ، وَنَزَلُوا الثِّنْيَ، وَهُوَ النَّهْرُ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ خَالِدٌ فَلَقِيَهُمْ وَاقْتَتَلُوا، فَبَرَزَ قَارِنُ فَقَتَلَهُ مَعْقِلُ بْنُ الْأَعْشَى بْنِ النَّبَّاشِ، وَقَتَلَ عَاصِمٌ أُنُوشَجَانَ، وَقَتَلَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ قُبَاذَ، وَكَانَ شَرَفُ قَارِنَ انْتَهَى. وَلَمْ يُقَاتِلِ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ أَحَدًا انْتَهَى شَرَفُهُ، وَقُتِلَ مِنَ الْفُرْسِ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ يَبْلُغُونَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، سِوَى مَنْ غَرِقَ، وَمَنَعَتِ الْمِيَاهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ طَلَبِهِمْ. وَقَسَّمَ الْفَيْءَ، وَأَنْفَذَ الْأَخْمَاسَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَعْطَى الْأَسْلَابَ مَنْ سَلَبَهَا، وَكَانَتِ الْغَنِيمَةُ عَظِيمَةً، وَسَبَى عِيَالَاتِ الْمُقَاتِلَةَ، وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْفَلَّاحِينَ وَصَارُوا ذِمَّةً. وَكَانَ فِي السَّبْيِ أَبُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، وَأَمَّرَ عَلَى الْجُنْدِ سَعِيدَ بْنَ النُّعْمَانِ، وَعَلَى الْجُنْدِ سُوِيدَ بْنَ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيَّ، وَأَمَرَهُ بِنُزُولِ الْحَفِيرِ، وَأَقَامَ يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ. ذِكْرُ وَقْعَةِ الْوَلَجَةِ وَلَمَّا فَرَغَ خَالِدٌ مِنَ الثِّنْيِ وَأَتَى الْخَبَرُ أَرْدَشِيرَ بَعَثَ الْأَنْدَرْزَعَزَّ، وَكَانَ فَارِسًا مِنْ مُوَلَّدِي السَّوَادِ، وَأَرْسَلَ بَهْمَنْ جَاذَوَيْهِ فِي أَثَرِهِ فِي جَيْشٍ، وَحَشَرَ إِلَى الْأَنْدَرْزَعَزَّ مِنْ بَيْنِ الْحِيرَةِ وَكَسْكَرَ وَمِنْ عَرَبِ الضَّاحِيَةِ وَالدَّهَاقِينِ وَعَسْكَرُوا بِالْوَلَجَةِ. وَسَمِعَ بِهِمْ خَالِدٌ فَسَارَ

إِلَيْهِمْ مِنَ الثِّنْيِ فَلَقِيَهُمْ بِالْوَلَجَةِ، وَكَمَنَ لَهُمْ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ، حَتَّى ظَنَّ الْفَرِيقَانِ أَنَّ الصَّبْرَ قَدْ أُفْرِغَ، وَاسْتَبْطَأَ خَالِدٌ كَمِينَهُ، فَخَرَجُوا مِنْ نَاحِيَتَيْنِ، فَانْهَزَمَتِ الْأَعَاجِمُ، وَأَخَذَ خَالِدٌ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَالْكَمِينُ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَمَضَى الْأَنْدَرْزَعَزُّ مُنْهَزِمًا فَمَاتَ عَطَشًا، وَأَصَابَ خَالِدٌ ابْنًا لِجَابِرِ بْنِ وَائِلٍ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ الْوَلَجَةِ فِي صَفَرٍ، وَبَذَلَ الْأَمَانَ لِلْفَلَّاحِينَ، فَعَادُوا وَصَارُوا ذِمَّةً، وَسَبَى ذَرَارِيَّ الْمُقَاتِلَةِ وَمَنْ أَعَانَهُمْ. ذِكْرُ وَقْعَةِ أُلَّيْسَ وَهُوَ عَلَى الْفُرَاتِ لَمَّا أَصَابَ خَالِدٌ يَوْمَ الْوَلَجَةِ مَا أَصَابَ مِنْ نَصَارَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ الَّذِينَ أَعَانُوا الْفُرْسَ - غَضِبَ لَهُمْ نَصَارَى قَوْمِهِمْ، فَكَاتَبُوا الْفُرْسَ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى أُلَّيْسَ وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ الْأَسْوَدِ الْعِجْلِيُّ، وَكَانَ مُسْلِمُو بَنِي عِجْلٍ، مِنْهُمْ: عُتْبَةُ بْنُ النَّهَّاسِ، وَسَعِيدُ بْنُ مُرَّةَ، وَفُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ، وَمَذْعُورُ بْنُ عَدِيٍّ، وَالْمُثَنَّى بْنُ لَاحِقٍ - أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى أُولَئِكَ النَّصَارَى. وَكَتَبَ أَرْدَشِيرُ إِلَى بَهْمَنْ جَاذَوَيْهِ، وَهُوَ بِقَشْيَنَاثَا، يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَى نَصَارَى الْعَرَبِ بِأُلَّيْسَ، فَقَدِمَ بَهْمَنْ جَاذَوَيْهِ جَابَانَ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُ بِالتَّوَقُّفِ عَنِ الْمُحَارَبَةِ إِلَى أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ، وَرَجَعَ بَهْمَنْ جَاذَوَيْهِ إِلَى أَرْدَشِيرَ لِيُشَاوِرَهُ فِيمَا يَفْعَلُ، فَوَجَدَهُ مَرِيضًا، فَتَوَقَّفَ عَلَيْهِ، فَاجْتَمَعَ عَلَى جَابَانَ نَصَارَى عِجْلٍ، وَتَيْمُ اللَّاتِ وَضُبَيْعَةُ وَجَابِرُ بْنُ بُجَيْرٍ وَعَرَبُ الضَّاحِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ. وَكَانَ خَالِدٌ لَمَّا بَلَغَهُ تَجَمُّعُ نَصَارَى بَكْرٍ وَغَيْرِهِمْ سَارَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَشْعُرُ بِدُنُوِّ جَابَانَ. فَلَمَّا طَلَعَ جَابَانُ بِأُلَّيْسَ قَالَتِ الْعَجَمُ لَهُ: أَنُعَاجِلُهُمْ أَمْ نُغَدِّي النَّاسَ وَلَا نُرِيهِمْ أَنَّا نَحْفَلُ بِهِمْ، ثُمَّ نُقَاتِلُهُمْ؟ فَقَالَ جَابَانُ: إِنْ تَرَكُوكُمْ فَتَهَاوَنُوا بِهِمْ. فَعَصَوْهُ وَبَسَطُوا الطَّعَامَ، وَانْتَهَى خَالِدٌ إِلَيْهِمْ وَحَطَّ الْأَثْقَالَ، فَلَمَّا وُضِعَتْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ، وَطَلَبَ مُبَارَزَةَ عَبْدِ الْأَسْوَدِ وَابْنِ أَبْجَرَ وَمَالِكِ بْنِ قَيْسٍ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَقَتَلَهُ خَالِدٌ وَأَعْجَلَ الْأَعَاجِمَ عَنْ طَعَامِهِمْ. فَقَالَ لَهُمْ جَابَانُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ، وَاللَّهِ مَا دَخَلَتْنِي مِنْ مُقَدَّمِ جَيْشٍ وَحْشَةٌ إِلَّا هَذَا؟ وَقَالَ لَهُمْ: حَيْثُ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى الْأَكْلِ فَسُمُّوا الطَّعَامَ، فَإِنْ ظَفِرْتُمْ فَأَيْسَرُ هَالِكٍ، وَإِنْ

كَانَتْ لَهُمْ هَلَكُوا بِأَكْلِهِ. فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَالْمُشْرِكُونَ يَزِيدُهُمْ ثُبُوتًا تَوَقُّعُهُمْ قُدُومَ بَهْمَنْ جَاذَوَيْهِ، فَصَابَرُوا الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ خَالِدٌ:: اللَّهُمَّ إِنْ هَزَمْتَهُمْ فَعَلَيَّ أَنْ لَا أَسْتَبْقِيَ مِنْهُمْ مَنْ أَقْدِرُ عَلَيْهِ حَتَّى أُجْرِيَ مِنْ دِمَائِهِمْ نَهْرَهُمْ. فَانْهَزَمَتْ فَارِسُ فَنَادَى مُنَادِي خَالِدٍ: الْأُسَرَاءُ الْأُسَرَاءُ إِلَّا مَنِ امْتَنَعَ فَاقْتُلُوهُ. فَأَقْبَلَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ أُسَرَاءَ، وَوَكَّلَ بِهِمْ مَنْ يَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ يَوْمًا وَلَيْلَةً. فَقَالَ لَهُ الْقَعْقَاعُ وَغَيْرُهُ: لَوْ قَتَلْتَ أَهْلَ الْأَرْضِ لَمْ تَجْرِ دِمَاؤُهُمْ، فَأَرْسِلْ عَلَيْهَا الْمَاءَ تُبِرَّ يَمِينَكَ، فَفَعَلَ، وَسُمِّيَ نَهْرُ الدَّمِ، وَوَقَفَ خَالِدٌ عَلَى الطَّعَامِ وَقَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: قَدْ نَفَّلْتُكُمُوهُ، فَتَعَشَّى بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يَرَ الرُّقَاقَ يَقُولُ: مَا هَذِهِ الرِّقَاعُ الْبَيْضُ؟ ! وَبَلَغَ عَدَدُ الْقَتْلَى سَبْعِينَ أَلْفًا، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ فِي صَفَرٍ. ذِكْرُ وَقْعَةِ أَمْغِيشِيَّا فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أُلَّيْسَ سَارَ إِلَى أَمْغِيشِيَّا، وَقِيلَ اسْمُهَا مَنِيشِيَّا، فَأَصَابُوا فِيهَا مَا لَمْ يُصِيبُوا مِثْلَهَا؛ لِأَنَّ أَهْلَهَا أَعْجَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَنْقُلُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَثَاثَهُمْ وَكُرَاعَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالْفَتْحِ وَمَبْلَغِ الْغَنَائِمِ وَالسَّبْيِ وَأَخْرَبَ أَمْغِيشِيَّا. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: عَجَزَ النِّسَاءُ أَنْ يَلِدْنَ مِثْلَ خَالِدٍ. ذِكْرُ وَقْعَةِ يَوْمِ فُرَاتِ بَادَقْلَى، وَفَتْحِهِ الْحِيرَةَ ثُمَّ سَارَ خَالِدٌ مِنْ أَمْغِيشِيَّا إِلَى الْحِيرَةِ وَحَمَلَ الرِّحَالَ وَالْأَثْقَالَ فِي السُّفُنِ، فَخَرَجَ مَرْزُبَانُ الْحِيرَةِ، وَهُوَ الْأَزَاذَبَهْ، فَعَسْكَرَ عِنْدَ الْغَرِيِّينَ، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ فَقَطَعَ الْمَاءَ عَنِ السُّفُنِ، فَبَقِيَتْ عَلَى الْأَرْضِ. فَسَارَ خَالِدٌ فِي خَيْلٍ نَحْوَ ابْنِ الْأَزَاذَبَهْ فَلَقِيَهُ عَلَى فُرَاتِ بَادَقْلَى، فَضَرَبَهُ وَقَتَلَهُ وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ، وَسَارَ نَحْوَ الْحِيرَةِ، فَهَرَبَ مِنْهُ الْأَزَاذَبَهْ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ مَوْتُ أَرْدَشِيرَ وَقَتْلُ ابْنِهِ، فَهَرَبَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَنَزَلَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ الْغَرِيِّينَ، وَتَحَصَّنَ أَهْلُ الْحِيرَةِ فَحَصَرَهُمْ فِي قُصُورِهِمْ. وَكَانَ ضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ مُحَاصِرًا الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ وَفِيهِ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ الطَّائِيُّ، وَكَانَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ مُحَاصِرًا قَصْرَ الْغَرِيِّينَ وَفِيهِ عَدِيُّ بْنُ عَدِيٍّ

الْمَقْتُولُ، وَكَانَ ضِرَارُ بْنُ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيُّ عَاشِرَ عَشَرَةِ إِخْوَةٍ مُحَاصِرًا قَصْرَ ابْنِ مَازِنٍ وَفِيهِ ابْنُ أَكَّالٍ، وَكَانَ الْمُثَنَّى مُحَاصِرًا قَصْرَ ابْنِ بُقَيْلَةَ وَفِيهِ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْمَسِيحِ بْنِ بُقَيْلَةَ، فَدَعَوْهُمْ جَمِيعًا وَأَجْلَوْهُمْ يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَأَبَى أَهْلُ الْحِيرَةِ، وَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَافْتَتَحُوا الدُّورَ وَالدِّيرَاتِ وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ. فَنَادَى الْقِسِّيسُونَ وَالرُّهْبَانُ: يَا أَهْلَ الْقَصْرِ، مَا يَقْتُلُنَا غَيْرُكُمْ! فَنَادَى أَهْلُ الْقُصُورِ الْمُسْلِمِينَ: قَدْ قَبِلْنَا وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ، وَهِيَ إِمَّا الْإِسْلَامُ أَوِ الْجِزْيَةُ أَوِ الْمُحَارَبَةُ، فَكَفُّوا عَنْهُمْ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْمَسِيحِ بْنِ قَيْسِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ بُقَيْلَةُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بُقَيْلَةَ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ، فَقَالُوا: مَا أَنْتَ إِلَّا بُقَيْلَةُ خَضْرَاءُ، فَأَرْسَلُوهُمْ إِلَى خَالِدٍ، فَكَانَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ عَنْهُمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْمَسِيحِ، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: كَمْ أَتَى عَلَيْكَ؟ قَالَ: مِئُو سِنِينَ. قَالَ: فَمَا أَعْجَبُ مَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ الْقُرَى مَنْظُومَةً مَا بَيْنَ دِمَشْقَ وَالْحِيرَةِ، وَتَخْرُجُ الْمَرْأَةُ فَلَا تَتَزَوَّدُ إِلَّا رَغِيفًا. فَتَبَسَّمَ خَالِدٌ وَقَالَ لِأَهْلِ الْحِيرَةِ: أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّكُمْ خَبَثَةٌ خَدَعَةٌ، فَمَا بَالُكُمْ تَتَنَاوَلُونَ حَوَائِجَكُمْ بِخَرِفٍ لَا يُدْرَى مِنْ أَيْنَ جَاءَ؟ فَأَحَبَّ عَمْرٌو أَنْ يُرِيَهُ مِنْ نَفْسِهِ مَا يَعْرِفُ بِهِ عَقْلَهُ وَصِحَّةَ مَا حَدَّثَهُ بِهِ، قَالَ: وَحَقِّكَ إِنِّي لَأَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ جِئْتُ! قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ خَرَجْتَ؟ قَالَ: مِنْ بَطْنِ أُمِّي. قَالَ: فَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أَمَامِي. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْآخِرَةُ. قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أَقْصَى أَثَرِكَ؟ قَالَ: مِنْ صُلْبِ أَبِي. قَالَ: فَفِيمَ أَنْتَ؟ قَالَ: فِي ثِيَابِي. قَالَ: أَتَعْقِلُ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ وَأُقَيِّدُ. قَالَ خَالِدٌ: إِنَّمَا أَسْأَلُكَ! قَالَ: فَأَنَا أُجِيبُكَ. قَالَ: أَسِلْمٌ أَنْتَ أَمْ حَرْبٌ؟ قَالَ: بَلْ سِلْمٌ. قَالَ: فَمَا هَذِهِ الْحُصُونُ؟ قَالَ: بَنَيْنَاهَا لِلسَّفِيهِ نَحْبِسُهُ حَتَّى يَنْهَاهُ الْحَلِيمُ. قَالَ خَالِدٌ: قَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلَهَا، وَقَتَلَ أَرْضًا عَالِمُهَا، الْقَوْمُ أَعْلَمُ بِمَا فِيهِمْ. وَكَانَ مَعَ ابْنِ بُقَيْلَةَ خَادِمٌ مَعَهُ كِيسٌ فِيهِ سُمٌّ، فَأَخَذَهُ خَالِدٌ وَنَثَرَهُ فِي يَدِهِ وَقَالَ: لِمَ تَسْتَصْحِبُ هَذَا؟ قَالَ: خَشِيتُ أَنْ تَكُونُوا عَلَى غَيْرِ مَا رَأَيْتُ، فَكَانَ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ مَكْرُوهٍ أُدْخِلُهُ عَلَى قَوْمِي. فَقَالَ خَالِدٌ: إِنَّهَا لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَأْتِيَ عَلَى أَجَلِهَا، وَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الْأَسْمَاءِ، رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ دَاءٌ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَابْتَلَعَ السُّمَّ. فَقَالَ ابْنُ بُقَيْلَةَ: وَاللَّهِ لَتَبْلُغُنَّ مَا أَرَدْتُمْ مَا دَامَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَكَذَا. وَأَبَى خَالِدٌ أَنْ يُصَالِحَهُمْ إِلَّا عَلَى تَسْلِيمِ كَرَامَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَسِيحِ إِلَى شُوَيْلٍ، فَأَبَوْا، فَقَالَتْ: هَوِّنُوا عَلَيْهِمْ وَأَسْلِمُونِي، فَإِنِّي سَأَفْتَدِي. فَفَعَلُوا، فَأَخَذَهَا شُوَيْلٌ، فَافْتَدَتْ مِنْهُ بِأَلْفِ

دِرْهَمٍ، فَلَامَهُ النَّاسُ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ عَدَدًا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا. وَكَانَ سَبَبُ تَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ذَكَرَ اسْتِيلَاءَ أُمَّتِهِ عَلَى مُلْكِ فَارِسَ وَالْحِيرَةِ - سَأَلَهُ شُوَيْلٌ أَنْ يُعْطَى كَرَامَةَ ابْنَةَ عَبْدِ الْمَسِيحِ، وَكَانَ رَآهَا شَابَّةً فَمَالَ إِلَيْهَا، فَوَعَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، فَلَمَّا فُتِحَتِ الْحِيرَةُ طَلَبَهَا وَشَهِدَ لَهُ شُهُودٌ بِوَعْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ خَالِدٌ. وَصَالَحَهُمْ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ وَتِسْعِينَ أَلْفًا، وَقِيلَ: عَلَى مِائَتَيْ أَلْفٍ وَتِسْعِينَ أَلْفًا، وَأَهْدَوْا لَهُ هَدَايَا. فَبَعَثَ بِالْفَتْحِ وَالْهَدَايَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَبِلَهَا أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْجَزَاءِ، وَكَتَبَ إِلَى خَالِدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ بَقِيَّةَ الْجِزْيَةِ، وَيَحْسِبَ لَهُمُ الْهَدِيَّةَ. وَكَانَ فَتْحُ الْحِيرَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَكَتَبَ لَهُمْ خَالِدٌ كِتَابًا، فَلَمَّا كَفَرَ أَهْلُ السَّوَادِ ضَيَّعُوا الْكِتَابَ، فَلَمَّا افْتَتَحَهُ الْمُثَنَّى ثَانِيَةً عَادَ بِشَرْطٍ آخَرَ، فَلَمَّا عَادُوا كَفَرُوا، وَافْتَتَحَهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَوَضَعَ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ خَالِدٌ: مَا لَقِيتُ قَوْمًا كَأَهْلِ فَارِسَ، وَمَا لَقِيتُ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ كَأَهْلِ أُلَّيْسَ. ذِكْرُ مَا بَعْدُ الْحِيرَةِ قِيلَ: كَانَ الدَّهَاقِينُ يَتَرَبَّصُونَ بِخَالِدٍ وَيَنْظُرُونَ مَا يَصْنَعُ أَهْلُ الْحِيرَةِ، فَلَمَّا صَالَحَهُمْ وَاسْتَقَامُوا لَهُ أَتَتْهُ الدَّهَاقِينُ مِنْ تِلْكَ النَّوَاحِي، أَتَاهُ دَهْقَانُ فُرَاتٍ سِرْيَا وَصَلُوبَا ابْنُ نَسْطُونَا وَنَسْطُونَا، فَصَالَحُوهُ عَلَى مَا بَيْنَ الْفَلَالِيجِ إِلَى هُرْمُزْجَرْدَ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفٍ، وَقِيلَ: أَلْفُ أَلْفٍ سِوَى مَا كَانَ لِآلِ كِسْرَى، وَبَعَثَ خَالِدٌ عُمَّالَهُ وَمَسَالِحَهُ، وَبَعَثَ ضِرَارَ بْنَ الْأَزْوَرِ، وَضِرَارَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَالْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو، وَالْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ، وَعُتَيْبَةَ بْنَ النَّهَّاسِ، فَنَزَلُوا عَلَى السِّيبِ، وَهُمْ كَانُوا أُمَرَاءَ الثُّغُورِ مَعَ خَالِدٍ، وَأَمَرَهُمْ بِالْغَارَةِ، فَمَخَرُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ إِلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، وَكَتَبَ خَالِدٌ إِلَى أَهْلِ فَارِسَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَجَابُوا وَإِلَّا حَارَبَهُمْ، فَكَانَ الْعَجَمُ مُخْتَلِفِينَ بِمَوْتِ أَرْدَشِيرَ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَدْ أُنْزِلُوا

بَهْمَنْ جَاذَوَيْهِ بَهُرَسِيرَ وَمَعَهُ غَيْرُهُ كَأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لَهُمْ، وَجَبَى خَالِدٌ الْخَرَاجَ فِي خَمْسِينَ لَيْلَةً وَأَعْطَاهُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَبْقَ لِأَهْلِ فَارِسَ فِيمَا بَيْنَ الْحِيرَةِ وَدِجْلَةَ أَمْرٌ؛ لِاخْتِلَافِهِمْ بِمَوْتِ أَرْدَشِيرَ، إِلَّا أَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى حَرْبِ خَالِدٍ، وَخَالِدٌ مُقِيمٌ بِالْحِيرَةِ يَصْعَدُ وَيُصَوِّبُ سَنَةً قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الشَّامِ، وَالْفُرْسُ يَخْلَعُونَ وَيَمْلِكُونَ لَيْسَ إِلَّا الدَّفْعُ عَنْ بَهُرَسِيرَ، وَذَلِكَ أَنْ شِيرَى بْنَ كِسْرَى قَتَلَ كُلَّ مَنْ كَانَ يُنَاسِبُهُ إِلَى أُنُوشُرْوَانَ، وَقَتَلَ أَهْلُ فَارِسٍ بَعْدَهُ وَبَعْدَ أَرْدَشِيرَ ابْنَهُ - مَنْ كَانَ بَيْنَ أُنُوشُرْوَانَ وَبَيْنَ بَهْرَامَ جُورَ، فَبَقُوا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى مَنْ يُمَلِّكُونَهُ مِمَّنْ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ. فَلَمَّا وَصَلَهُمْ كُتُبُ خَالِدٍ تَكَلَّمَ نِسَاءُ آلِ كِسْرَى عَلَى مَنْ يُمَلِّكُونَهُ إِنْ وَجَدُوهُ. وَوَصَلَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ إِلَى خَالِدٍ بَعْدَ فَتْحِ الْحِيرَةِ، وَكَانَ سَبَبُ وُصُولِهِ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالشَّامِ، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْمَصِيرِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ لِيُكَلِّمَهُ فِي قَوْمِهِ لِيَجْمَعَهُمْ لَهُ، وَكَانُوا أَوْزَاعًا مُتَفَرِّقِينَ فِي الْعَرَبِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَهُ بِهِ وَشَهِدَ لَهُ شُهُودٌ، فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: تَرَى شُغْلَنَا وَمَا نَحْنُ فِيهِ بِغَوْثِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ بِإِزَائِهِمْ مِنْ فَارِسَ وَالرُّومِ، ثُمَّ أَنْتَ تُكَلِّفُنِي مَا لَا يُغْنِي؟ ! وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَسَارَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ بَعْدَ فَتْحِ الْحِيرَةِ، وَلَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِمَّا قَبْلَهَا بِالْعِرَاقِ، وَلَا شَيْئًا مِمَّا كَانَ خَالِدٌ فِيهِ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ. (عُتَيْبَةُ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقِهَا، وَبِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا، وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) . ذِكْرُ فَتْحِ الْأَنْبَارِ ثُمَّ سَارَ خَالِدٌ عَلَى تَعْبِيَتِهِ إِلَى الْأَنْبَارِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْأَنْبَارُ لِأَنَّ أَهْرَاءَ الطَّعَامِ كَانَتْ بِهَا أَنَابِيرُ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ. فَلَمَّا بَلَغَهَا أَطَافَ بِهَا وَأَنْشَبَ الْقِتَالَ، وَكَانَ قَلِيلَ الصَّبْرِ عَنْهُ، وَتَقَدَّمَ إِلَى رُمَاتِهِ أَنْ يَقْصِدُوا عُيُونَهُمْ، فَرَمَوْا رَشْقًا وَاحِدًا، ثُمَّ تَابَعُوا فَأَصَابُوا أَلْفَ عَيْنٍ، فَسُمِّيَتْ تِلْكَ الْوَقْعَةُ ذَاتَ الْعُيُونِ. وَكَانَ مَنْ بِهَا مِنَ الْجُنْدِ شِيرْزَادُ صَاحِبُ سَابَاطَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَرْسَلَ يَطْلُبُ الصُّلْحَ عَلَى أَمْرٍ يَرْضَهُ خَالِدٌ، فَرَدَّ رُسُلَهُ وَنَحَرَ مِنْ إِبِلِ الْعَسْكَرِ كُلَّ ضَعِيفٍ وَأَلْقَاهُ فِي خَنْدَقِهِمْ، ثُمَّ عَبَرَهُ، فَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ

فِي الْخَنْدَقِ، فَأَرْسَلَ شِيرْزَادُ إِلَى خَالِدٍ وَبَذَلَ لَهُ مَا أَرَادَ، فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُلْحِقَهُ بِمَأْمَنِهِ فِي جَرِيدَةٍ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ مَتَاعٍ شَيْءٌ، وَخَرَجَ شِيرْزَادُ إِلَى بَهْمَنْ جَاذَوَيْهِ، ثُمَّ صَالَحَ خَالِدٌ مَنْ حَوْلَ الْأَنْبَارِ وَأَهْلَ كَلْوَاذَى. ذِكْرُ فَتْحِ عَيْنِ التَّمْرِ وَلَمَّا فَرَغَ خَالِدٌ مِنَ الْأَنْبَارِ اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ، وَسَارَ إِلَى عَيْنِ التَّمْرِ وَبِهَا مِهْرَانُ بْنُ بَهْرَامَ جُوبِينَ، فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنَ الْعَجَمِ، وَعَقَّةُ بْنُ أَبِي عَقَّةَ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنَ الْعَرَبِ مِنَ النَّمِرِ وَتَغْلِبَ وَإِيَادٍ وَغَيْرِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِخَالِدٍ قَالَ عَقَّةُ لِمِهْرَانَ: إِنَّ الْعَرَبَ أَعْلَمُ بِقِتَالِ الْعَرَبِ فَدَعْنَا وَخَالِدًا. قَالَ: صَدَقْتَ، فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِقِتَالِ الْعَرَبِ، وَإِنَّكُمْ لَمِثْلُنَا فِي قِتَالِ الْعَجَمِ. فَخَدَعَهُ وَاتَّقَى بِهِ وَقَالَ: إِنِ احْتَجْتُمْ إِلَيْنَا أَعَنَّاكُمْ. فَلَامَهُ أَصْحَابُهُ مِنَ الْفُرْسِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ قَتْلِ مُلُوكِكُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَفَلَّ حَدُّكُمْ، فَاتَّقَيْتُهُ بِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ لَكُمْ عَلَى خَالِدٍ فَهِيَ لَكُمْ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى لَمْ تَبْلُغُوا مِنْهُمْ حَتَّى يَهِنُوا، فَنُقَاتِلُهُمْ وَنَحْنُ أَقْوِيَاءُ. فَاعْتَرَفُوا لَهُ، وَسَارَ عَقَّةُ إِلَى خَالِدٍ فَالْتَقَوْا، فَحَمَلَ خَالِدٌ بِنَفْسِهِ عَلَى عَقَّةَ وَهُوَ يُقِيمُ صُفُوفَهُ، فَاحْتَضَنَهُ وَأَخَذَهُ أَسِيرًا، وَانْهَزَمَ عَسْكَرُهُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ فَأُسِرَ أَكْثَرُهُمْ. فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ مِهْرَانَ هَرَبَ فِي جُنْدِهِ وَتَرَكُوا الْحِصْنَ، فَلَمَّا انْتَهَى الْمُنْهَزِمُونَ إِلَيْهِ تَحَصَّنُوا بِهِ، فَنَازَلَهُمْ خَالِدٌ، فَطَلَبُوا مِنْهُ الْأَمَانَ فَأَبَى، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَأَخَذَهُمْ أَسْرَى وَقَتَلَ عَقَّةَ ثُمَّ قَتَلَهُمْ أَجْمَعِينَ، وَسَبَى كُلَّ مَنْ فِي الْحِصْنِ وَغَنِمَ مَا فِيهِ، وَوَجَدَ فِي بَيْعَتِهِمْ أَرْبَعِينَ غُلَامًا يَتَعَلَّمُونَ الْإِنْجِيلَ، فَأَخَذَهُمْ فَقَسَّمَهُمْ فِي أَهْلِ الْبَلَاءِ، مِنْهُمْ: سِيرِينُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَنُصَيْرُ أَبُو مُوسَى، وَحُمْرَانُ مَوْلَى عُثْمَانَ. وَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالْخَبَرِ وَالْخُمْسِ.

وَفِي عَيْنِ التَّمْرِ قُتِلَ عُمَيْرُ بْنُ رِئَابٍ السَّهْمِيُّ، وَكَانَ مِنْ مُهَاجَرَةِ الْحَبَشَةِ، وَمَاتَ بِهَا بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَالِدُ النُّعْمَانِ، فَدُفِنَ بِهَا إِلَى جَانِبِ عُمَيْرٍ. ذِكْرُ خَبَرِ دُومَةِ الْجَنْدَلِ وَلَمَّا فَرَغَ خَالِدٌ مِنْ عَيْنِ التَّمْرِ أَتَاهُ كِتَابُ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ يَسْتَمِدُّهُ عَلَى مَنْ بِإِزَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَسَارَ خَالِدٌ إِلَيْهِ، فَكَانَ بِإِزَائِهِ بَهْرَاءُ وَكَلْبٌ وَغَسَّانُ وَتَنُوخُ وَالضَّجَاعِمُ، وَكَانَتْ دُومَةُ عَلَى رَئِيسَيْنِ: أُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْجُودِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ، فَأَمَّا أُكَيْدِرُ فَلَمْ يَرَ قِتَالَ خَالِدٍ وَأَشَارَ بِصُلْحِهِ خَوْفًا، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ، وَسَمِعَ خَالِدٌ بِمَسِيرِهِ فَأَرْسَلَ إِلَى طَرِيقِهِ فَأَخَذَهُ أَسِيرًا فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ مَا كَانَ مَعَهُ، وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى أَهْلِ دُومَةِ الْجَنْدَلِ، فَجَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِيَاضٍ. فَلَمَّا اطْمَأَنَّ خَالِدٌ خَرَجَ إِلَيْهِ الْجُودِيُّ فِي جَمْعٍ مِمَّنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَرَبِ لِقِتَالِهِ، وَأَخْرَجَ طَائِفَةً أُخْرَى إِلَى عِيَاضٍ، فَقَاتَلَهُمْ عِيَاضٌ فَهَزَمَهُمْ، فَهَزَمَ خَالِدٌ مَنْ يَلِيهِ، وَأَخَذَ الْجُودِيَّ أَسِيرًا وَانْهَزَمُوا إِلَى الْحِصْنِ، فَلَمَّا امْتَلَأَ أَغْلَقُوا الْبَابَ دُونَ أَصْحَابِهِمْ فَبَقُوا حَوْلَهُ، فَأَخَذَهُمْ خَالِدٌ فَقَتَلَهُمْ حَتَّى سَدَّ بَابَ الْحِصْنِ، وَقَتَلَ الْجُودِيَّ وَقَتَلَ الْأَسْرَى إِلَّا أَسْرَى كَلْبٍ، فَإِنَّ تَمِيمًا قَالُوا لِخَالِدٍ: قَدْ أَمَّنَّاهُمْ، وَكَانُوا حُلَفَاءَهُمْ، فَتَرَكَهُمْ. ثُمَّ أَخَذَ الْحِصْنَ قَهْرًا فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ، وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ وَالسَّرْحَ، فَبَاعَهُمْ، وَاشْتَرَى خَالِدٌ ابْنَةَ الْجُودِيِّ، وَكَانَتْ مَوْصُوفَةً. وَأَقَامَ خَالِدٌ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ، فَطَمِعَ الْأَعَاجِمُ، وَكَاتَبَهُمْ عَرَبُ الْجَزِيرَةِ غَضَبًا لِعَقَّةَ، فَخَرَجَ زُرْمِهْرُ وَرُوزْبَهْ يُرِيدَانِ الْأَنْبَارَ، وَاتَّعَدَا حُصَيْدًا وَالْخَنَافِسَ، فَسَمِعَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَهُوَ خَلِيفَةُ خَالِدٍ عَلَى الْحِيرَةِ، فَأَرْسَلَ أَعْبَدَ بْنَ فَدَكِيٍّ وَأَمَرَهُ بِالْحُصَيْدِ، وَأَرْسَلَ عُرْوَةَ بْنَ الْجَعْدِ الْبَارِقِيَّ إِلَى الْخَنَافِسِ، فَخَرَجَا، فَحَالَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الرِّيفِ، وَرَجَعَ خَالِدٌ إِلَى الْحِيرَةِ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ عَازِمًا عَلَى مُصَادَمَةِ أَهْلِ الْمَدَائِنِ، فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ كَرَاهِيَةُ مُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَعَجَّلَ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو وَأَبَا لَيْلَى بْنَ فَدَكِيٍّ إِلَى رُوزْبَهْ وَزُرْمِهْرَ، وَوَصَلَ إِلَى خَالِدٍ أَنَّ الْهُذَيْلَ بْنَ عِمْرَانَ قَدْ عَسْكَرَ بِالْمُصَيَّخِ، فَنَزَلَ رَبِيعَةُ بْنُ بُجَيْرٍ بِالثِّنْيِ وَبِالْبِشْرِ غَضَبًا لِعَقَّةَ، يُرِيدَانِ زُرْمِهْرَ وَرُوزْبَهْ، فَخَرَجَ خَالِدٌ وَسَارَ إِلَى الْقَعْقَاعِ وَأَبِي لَيْلَى، فَاجْتَمَعَ بِهِمَا بِالْعَيْنِ، فَبَعَثَ الْقَعْقَاعَ إِلَى حُصَيْدٍ، وَبَعَثَ أَبَا لَيْلَى إِلَى الْخَنَافِسِ.

ذِكْرُ وَقْعَةِ حُصَيْدٍ وَالْخَنَافِسِ فَسَارَ الْقَعْقَاعُ نَحْوَ حُصَيْدٍ، وَقَدِ اجْتَمَعَ بِهَا رُوزْبَهْ وَزُرْمِهْرُ، فَالْتَقَوْا بِحُصَيْدٍ، فَقُتِلَ مِنَ الْعَجَمِ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، فَقَتَلَ الْقَعْقَاعُ زُرْمِهْرَ، وَقَتَلَ عِصْمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ طَرِيفٍ الضَّبِّيِّ رُوزْبَهْ - وَكَانَ عِصْمَةُ مِنَ الْبَرَرَةِ، وَهُمْ كُلُّ فَخِذٍ هَاجَرَتْ بِأَسْرِهَا، وَالْخَيِّرَةُ كُلُّ قَوْمٍ هَاجَرُوا مِنْ بَطْنٍ - وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مَا فِي حُصَيْدٍ، وَانْهَزَمَتِ الْأَعَاجِمُ إِلَى الْخَنَافِسِ، وَسَارَ أَبُو لَيْلَى بِمَنْ مَعَهُ إِلَى الْخَنَافِسِ وَبِهَا الْمَهْبُوذَانُ عَلَى الْعَسْكَرِ، فَلَمَّا أَحَسَّ الْمَهْبُوذَانُ بِهِمْ هَرَبَ إِلَى الْمُصَيَّخِ إِلَى الْهُذَيْلِ بْنِ عِمْرَانَ. ذِكْرُ وَقْعَةِ مُصَيَّخِ بَنِي الْبَرْشَاءِ وَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى خَالِدٍ بِمُصَابِ أَهْلِ الْحُصَيْدِ وَهَرَبَ أَهْلُ الْخَنَافِسِ - كَتَبَ إِلَى الْقَعْقَاعِ وَأَبِي لَيْلَى وَأَعْبَدَ وَعُرْوَةَ، وَوَاعَدَهُمْ لَيْلَةً وَسَاعَةً يَجْتَمِعُونَ فِيهَا إِلَى الْمُصَيَّخِ، وَخَرَجَ خَالِدٌ مِنَ الْعَيْنِ قَاصِدًا إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا كَانَ تِلْكَ السَّاعَةَ مِنْ لَيْلَةِ الْمَوْعِدِ اتَّفَقُوا جَمِيعًا بِالْمُصَيَّخِ، فَأَغَارُوا عَلَى الْهُذَيْلِ وَمَنْ مَعَهُ وَهُمْ نَائِمُونَ، مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، فَقَتَلُوهُمْ، وَأَفْلَتَ الْهُذَيْلُ فِي نَاسٍ قَلِيلٍ وَكَثُرَ فِيهِمُ الْقَتْلُ، وَكَانَ مَعَ الْهُذَيْلِ الْعُزَّى بْنُ أَبِي رُهْمٍ أَخُو أَوْسِ مَنَاةَ وَلِبَيْدُ بْنُ جَرِيرٍ، وَكَانَا قَدْ أَسْلَمَا وَمَعَهُمَا كِتَابُ أَبِي بَكْرٍ بِإِسْلَامِهِمَا، فَقُتِلَا فِي الْمَعْرَكَةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ وَقَوْلُ عَبْدِ الْعُزَّى: أَقُولُ إِذْ طَرَقَ الصَّبَاحُ بِغَارَةٍ ... سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّ مُحَمَّدِ سُبْحَانَ رَبِّي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ... رَبَّ الْبِلَادِ وَرَبَّ مَنْ يَتَوَرَّدُ فَوَدَاهُمَا وَأَوْصَى بِأَوْلَادِهِمَا، فَكَانَ عُمَرُ يَعْتَدُّ بِقَتْلِهِمَا وَقَتْلِ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ عَلَى خَالِدٍ، فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: كَذَلِكَ يَلْقَى مَنْ نَازَلَ أَهْلَ الشِّرْكِ. وَقَدْ كَانَ حُرْقُوصُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ النَّمِرِ قَدْ نَصَحَهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، فَجَلَسَ مَعَ زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ يَشْرَبُونَ، فَقَالَ لَهُمْ: اشْرَبُوا شَرَابَ مُوَدِّعٍ، هَذَا خَالِدٌ بِالْعَيْنِ وَجُنُودُهُ بِالْحَصِيدِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا سَقِّيَانِي قَبْلَ خَيْلِ أَبِي بَكْرٍ ... لَعَلَّ مَنَايَانَا قَرِيبٌ وَمَا نَدْرِي فَضُرِبَ رَأْسُهُ، فَإِذَا هُوَ فِي جَفْنَةٍ فِيهَا الْخَمْرُ، وَقَتَلُوا أَوْلَادَهُ وَأَخَذُوا بَنَاتَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ قَتْلَ حُرْقُوصَ، وَهَذِهِ الْوَقْعَةَ، وَوَقْعَةَ الثِّنْيِ - كَانَ فِي مَسِيرِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مِنْ

الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ، وَسَيُذْكَرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. ذِكْرُ وَقْعَةِ الثِّنْيِ وَالزُّمَيْلِ وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ بُجَيْرٍ التَّغْلِبِيِّ بِالثِّنْيِ وَالْبِشْرِ، وَهُوَ الزُّمَيْلُ، وَهُمَا شَرْقِيِّ الرُّصَافَةِ - قَدْ خَرَجَ غَضَبًا لِعَقَّةَ، وَوَاعَدَ رُوزْبَهْ وَزُرْمِهْرَ وَالْهُذَيْلَ، وَلَمَّا أَصَابَ خَالِدٌ أَهْلَ الْمُصَيَّخِ وَاعَدَ الْقَعْقَاعَ وَأَبَا لَيْلَى لَيْلَةً، وَأَمَرَهُمَا بِالْمَسِيرِ لِيُغِيرُوا عَلَيْهِمْ، فَسَارَ خَالِدٌ مِنَ الْمُصَيَّخِ، فَاجْتَمَعَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالثِّنْيِ، فَبَيَّتَهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَجَرَّدُوا فِيهِمُ السُّيُوفَ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، وَغَنِمَ وَسَبَى وَبَعَثَ بِالْخَبَرِ وَالْخُمْسِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَاشْتَرَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - بِنْتَ رَبِيعَةَ بْنِ بُجَيْرٍ التَّغْلِبِيِّ، فَوَلَدَتْ لَهُ عُمَرَ وَرُقَيَّةَ. وَلَمَّا انْهَزَمَ الْهُذَيْلُ بِالْمُصَيَّخِ لَحِقَ بِعَتَّابِ بْنِ فُلَانٍ، وَهُوَ بِالْبِشْرِ، فِي عَسْكَرٍ ضَخْمٍ، فَبَيَّتَهُمْ خَالِدٌ بِغَارَةٍ شَعْوَاءَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ خَبَرُ رَبِيعَةَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً لَمْ يُقْتَلُوا مِثْلَهَا، وَقَسَّمَ الْغَنَائِمَ، وَبَعَثَ الْخُمْسَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَسَارَ خَالِدٌ مِنَ الْبِشْرِ إِلَى الرُّضَابِ، وَبِهَا هِلَالُ بْنُ عَقَّةَ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَسَارَ هِلَالٌ عَنْهُ فَلَمْ يَلْقَ خَالِدٌ بِهَا كَيْدًا. ذِكْرُ وَقْعَةِ الْفِرَاضِ ثُمَّ سَارَ خَالِدٌ مِنَ الرُّضَابِ إِلَى الْفِرَاضِ، وَهِيَ تُخُومُ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ، وَأَفْطَرَ بِهَا رَمَضَانَ لِاتِّصَالِ الْغَزَوَاتِ، وَحَمِيَتِ الرُّومُ وَاسْتَعَانُوا بِمَنْ يَلِيهِمْ مِنْ مَسَالِحِ الْفُرْسِ فَأَعَانُوهُمْ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُمْ تَغْلِبُ وَإِيَادٌ وَالنَّمِرُ، وَسَارُوا إِلَى خَالِدٍ. فَلَمَّا بَلَغُوا الْفُرَاتَ قَالُوا لَهُ: إِمَّا أَنْ تَعْبُرُوا إِلَيْنَا، وَإِمَّا أَنْ نَعْبُرَ إِلَيْكُمْ. قَالَ خَالِدٌ: اعْبُرُوا. قَالُوا لَهُ: تَنَحَّ عَنْ طَرِيقِنَا حَتَّى نَعْبُرَ. قَالَ: لَا أَفْعَلُ، وَلَكِنِ اعْبُرُوا أَسْفَلَ مِنَّا، فَعَبَرُوا أَسْفَلَ مِنْ خَالِدٍ، وَعَظُمَ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَقَالَتِ الرُّومُ: امْتَازُوا حَتَّى نَعْرِفَ الْيَوْمَ مَنْ يَثْبُتُ مِمَّنْ يُوَلِّي. فَفَعَلُوا، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا وَانْهَزَمَتِ الرُّومُ وَمَنْ مَعَهُمْ، وَأَمَرَ خَالِدٌ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَرْفَعُوا عَنْهُمْ، فَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَفِي الطَّلَبِ مِائَةُ أَلْفٍ، وَأَقَامَ خَالِدٌ عَلَى الْفِرَاضِ عَشْرًا، ثُمَّ أَذِنَ

بِالرُّجُوعِ إِلَى الْحِيرَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، وَجَعَلَ شَجَرَ بْنَ الْأَعَزِّ عَلَى السَّاقَةِ، وَأَظْهَرَ خَالِدٌ أَنَّهُ فِي السَّاقَةِ. ذِكْرُ حَجَّةِ خَالِدٍ ثُمَّ خَرَجَ خَالِدٌ حَاجًّا مِنَ الْفِرَاضِ سِرًّا وَمَعَهُ عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْتَسِفُ الْبِلَادَ، فَأَتَى مَكَّةَ وَحَجَّ وَرَجَعَ، فَمَا تَوَافَى جُنْدُهُ بِالْخَبَرِ حَتَّى وَافَاهُمْ مَعَ صَاحِبِ السَّاقَةِ، فَقَدِمَا مَعًا وَخَالِدٌ وَأَصْحَابُهُ مُحَلِّقُونَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَجِّهِ إِلَّا مَنْ أَعْلَمَهُ بِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ رُجُوعِهِ، فَعَتَبَ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ عُقُوبَتُهُ إِيَّاهُ أَنْ صَرَفَهُ إِلَى الشَّامِ مِنَ الْعِرَاقِ مُمِدًّا جُمُوعَ الْمُسْلِمِينَ بِالْيَرْمُوكِ، وَكَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَيَّامَ عَلِيٍّ إِذَا بَلَغَهُمْ عَنْ مُعَاوِيَةَ شَيْءٌ يَقُولُونَ: نَحْنُ أَصْحَابُ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، وَيُسَمُّونَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفِرَاضِ، وَلَا يَذْكُرُونَ مَا بَعْدَ الْفِرَاضِ احْتِقَارًا لِلَّذِي كَانَ بَعْدَهَا. وَأَغَارَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى سُوقِ بَغْدَادَ، وَوَجَّهَ الْمُثَنَّى فَأَغَارَ عَلَى سُوقٍ فِيهَا جَمْعٌ لِقُضَاعَةَ وَبَكْرٍ، وَأَغَارَ أَيْضًا عَلَى مَسْكِنَ وَقُطْرَبُّلَ، وَتَلِّ عَقْرَقُوفَ، وَبَادُورَيَا، قَالَ الشَّاعِرُ: وَلِلْمُثَنَّى بِالْعَالِ مَعْرَكَةٌ ... شَاهَدَهَا مِنْ قَبِيلِهِ بَشَرُ كَتِيبَةٌ أَفْزَعَتْ بِوَقْعَتِهَا ... كِسْرَى وَكَادَ الْإِيوَانُ يَنْفَطِرُ وَشَجَّعَ الْمُسْلِمِينَ إِذْ حَذَرُوا ... وَفِي صُرُوفِ التَّجَارِبِ الْعِبَرُ سَهَّلَ نَهْجَ السَّبِيلِ فَاقْتَفَرُوا ... آثَارَهُ وَالْأُمُورُ تُقْتَفَرُ

يَعْنِي بِالْعَالِ: الْأَنْبَارَ، وَمَسْكِنَ، وَقُطْرَبُّلَ، وَبَادُورَيَا. وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُمَرُ عَاتِكَةَ بِنْتَ زَيْدٍ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ فِي ذِي الْحَجَّةِ وَأَوْصَى إِلَى الزُّبَيْرِ، وَتَزَوَّجَ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ابْنَةَ أُمَامَةَ، وَأُمُّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِيهَا اشْتَرَى عُمَرُ أَسْلَمَ مَوْلَاهُ، فِي قَوْلٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ أَبُو بَكْرٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَقِيلَ: حَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَوْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. الْوَفَيَاتُ وَفِيهَا مَاتَ أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ، وَكَانَ ابْنُهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ قَدْ قُتِلَ بِالرَّجِيعِ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ أَيْضًا.

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ] [ذِكْرُ فُتُوحِ الشَّامِ] 13 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ. ذِكْرُ فُتُوحِ الشَّامِ قِيلَ: فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَجَّهَ أَبُو بَكْرٍ الْجُنُودَ إِلَى الشَّامِ بَعْدَ عَوْدِهِ مِنَ الْحَجِّ، فَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا سَيَّرَهُ لَمَّا سَيَّرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَكَانَ أَوَّلَ لِوَاءٍ عَقَدَهُ إِلَى الشَّامِ لِوَاءُ خَالِدٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ. وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ أَنَّهُ تَرَبَّصَ بِبَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ شَهْرَيْنِ، وَلَقِيَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَغُلِبْتُمْ عَلَيْهَا؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمُغَالَبَةً تَرَى أَمْ خِلَافَةً؟ فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يُحْقِدْهَا عَلَيْهِ، وَأَمَّا عُمَرُ فَاضْطَغَنَهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا وَلَّاهُ أَبُو بَكْرٍ لَمْ يَزَلْ بِهِ عُمَرُ حَتَّى عَزَلَهُ عَنِ الْإِمَارَةِ، وَجَعَلَهُ رِدْءًا لِلْمُسْلِمِينَ بِتَيْمَاءَ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُفَارِقَهَا إِلَّا بِأَمْرِهِ، وَأَنْ يَدْعُوَ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا مَنِ ارْتَدَّ، وَأَنْ لَا يُقَاتِلَ إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، وَبَلَغَ خَبَرُهُ الرُّومَ فَضَرَبُوا الْبَعْثَ عَلَى الْعَرَبِ الضَّاحِيَةِ بِالشَّامِ مِنْ: بَهْرَاءَ، وَسَلِيحٍ، وَغَسَّانَ، وَكَلْبٍ، وَلَخْمٍ، وَجُذَامَ، فَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ: أَقْدِمْ وَلَا تَقْتَحِمَنَّ. فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ تَفَرَّقُوا، فَنَزَلَ مَنْزِلَهُمْ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِذَلِكَ، فَأَمَرَهُ بِالْإِقْدَامِ بِحَيْثُ لَا يُؤْتَى مِنْ خَلْفِهِ. فَسَارَ حَتَّى جَازَهُ قَلِيلًا وَنَزَلَ، فَسَارَ إِلَيْهِ بَطْرِيقٌ مِنْ بَطَارِقَةِ الرُّومِ يُدْعَى بَاهَانَ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ وَقَتَلَ مِنْ جُنْدِهِ، فَكَتَبَ خَالِدٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْتَمِدُّهُ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَوَائِلُ مُسْتَنْفِرِي

الْيَمَنِ وَفِيهِمْ ذُو الْكَلَاعِ، وَقَدِمَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ تِهَامَةَ، وَعُمَانَ، وَالْبَحْرَيْنِ، وَالسَّرْوِ، فَكَتَبَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى أُمَرَاءِ الصَّدَقَاتِ أَنْ يُبْدِلُوا مَنِ اسْتَبْدَلَ، فَكُلُّهُمُ اسْتَبْدَلَ، فَسُمِّيَ جَيْشُ الْبِدَالِ، وَقَدِمُوا عَلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ. وَعَنْهَا اهْتَمَّ أَبُو بَكْرٍ بِالشَّامِ وَعَنَاهُ أَمْرُهُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ رَدَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى عَمَلِهِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَّاهُ إِيَّاهُ مِنْ صَدَقَاتِ سَعْدِ هُذَيْمٍ وَعُذْرَةَ وَغَيْرِهِمْ قَبْلَ ذَهَابِهِ إِلَى عُمَانَ، وَوَعَدَهُ أَنْ يُعِيدَهُ إِلَى عَمَلِهِ بَعْدَ عَوْدِهِ مِنْ عُمَانَ، فَأَنْجَزَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ عِدَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى قَصْدِ الشَّامِ كَتَبَ لَهُ: إِنِّي كُنْتُ قَدْ رَدَدْتُكَ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي وَلَّاكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً، وَوَعَدَكَ بِهِ أُخْرَى؛ إِنْجَازًا لِمَوَاعِيدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ وَلَيْتَهُ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُفْرِغَكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ أَحَبَّ إِلَيْكَ. فَكَتَبَ عَمْرٌو: إِنِّي سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْتَ بَعْدَ اللَّهِ الرَّامِي بِهَا وَالْجَامِعُ لَهَا، فَانْظُرْ أَشَدَّهَا وَأَخْشَاهَا وَأَفْضَلَهَا فَارْمِ بِهِ. فَأَمَرَهُ وَأَمَرَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، وَكَانَ عَلَى بَعْضِ صَدَقَاتِ قُضَاعَةَ، أَنْ يَجْمَعَا الْعَرَبَ، فَفَعَلَا، وَأَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَمْرٍو بَعْضَ مَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُ بِطَرِيقٍ سَمَّاهَا لَهُ إِلَى فِلَسْطِينَ، وَأَمَرَ الْوَلِيدَ بِالْأُرْدُنِّ وَأَمَدَّهُ بِبَعْضِهِمْ، وَأَمَّرَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى جَيْشٍ عَظِيمٍ هُوَ جُمْهُورُ مَنِ انْتَدَبَ إِلَيْهِ، فِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَشَيَّعَهُ مَاشِيًا، وَأَوْصَاهُ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ لِيَزِيدَ: إِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ لِأَبْلُوَكَ وَأُجَرِّبَكَ وَأُخَرِّجَكَ، فَإِنْ أَحْسَنْتَ رَدَدْتُكَ إِلَى عَمَلِكَ وَزِدْتُكَ، وَإِنْ أَسَأْتَ عَزَلْتُكَ، فَعَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ يَرَى مِنْ بَاطِنِكَ مِثْلَ الَّذِي مِنْ ظَاهِرِكَ، وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ أَشَدُّهُمْ تَوَلِّيًا لَهُ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ أَشَدُّهُمْ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ بِعَمَلِهِ، وَقَدْ وَلَّيْتُكَ عَمَلَ خَالِدٍ، فَإِيَّاكَ وَعُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُهَا وَيُبْغِضُ أَهْلَهَا، وَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى جُنْدِكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمْ، وَابْدَأْهُمْ بِالْخَيْرِ وَعِدْهُمْ إِيَّاهُ، وَإِذَا وَعَظْتَهُمْ فَأَوْجِزْ؛ فَإِنَّ كَثِيرَ الْكَلَامِ يُنْسِي بَعْضُهُ بَعْضًا، وَأَصْلِحْ نَفْسَكَ يَصْلُحْ لَكَ النَّاسُ، وَصَلِّ الصَّلَوَاتِ لِأَوْقَاتِهَا بِإِتْمَامِ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَالتَّخَشُّعِ فِيهَا، وَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ رُسُلُ عَدُوِّكَ فَأَكْرِمْهُمْ، وَأَقْلِلْ لُبْثَهُمْ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ عَسْكَرِكَ وَهُمْ جَاهِلُونَ بِهِ، وَلَا تُرِيَنَّهُمْ فَيَرَوْا خَلَلَكَ وَيَعْلَمُوا عِلْمَكَ،

وَأَنْزِلْهُمْ فِي ثَرْوَةِ عَسْكَرِكَ، وَامْنَعْ مَنْ قِبَلَكَ مِنْ مُحَادَثَتِهِمْ، وَكُنْ أَنْتَ الْمُتَوَلِّي لِكَلَامِهِمْ، وَلَا تَجْعَلْ سِرَّكَ لِعَلَانِيَتِكَ فَيَخْلِطُ أَمْرُكُ، وَإِذَا اسْتَشَرْتَ فَاصْدُقِ الْحَدِيثَ تُصْدَقِ الْمَشُورَةَ، وَلَا تُخْزِنْ عَنِ الْمُشِيرِ خَبَرَكَ فَتُؤْتَى مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ، وَاسْمِرْ بِاللَّيْلِ فِي أَصْحَابِكَ تَأْتِكَ الْأَخْبَارُ وَتَنْكَشِفْ عِنْدَكَ الْأَسْتَارُ، وَأَكْثِرْ حَرَسَكَ وَبَدِّدْهُمْ فِي عَسْكَرِكَ، وَأَكْثِرْ مُفَاجَأَتَهُمْ فِي مَحَارِسِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُمْ بِكَ، فَمَنْ وَجَدْتَهُ غَفَلَ عَنْ مَحْرَسِهِ فَأَحْسِنْ أَدَبَهُ وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِفْرَاطٍ، وَأَعْقِبْ بَيْنَهُمْ بِاللَّيْلِ، وَاجْعَلِ النَّوْبَةَ الْأُولَى أَطْوَلَ مِنَ الْأَخِيرَةِ؛ فَإِنَّهَا أَيْسَرُهُمَا لِقُرْبِهَا مِنَ النَّهَارِ، وَلَا تَخَفْ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُسْتَحِقِّ، وَلَا تَلِجَّنَّ فِيهَا، وَلَا تُسْرِعْ إِلَيْهَا، وَلَا تَخْذُلْهَا مَدْفَعًا، وَلَا تَغْفُلْ عَنْ أَهْلِ عَسْكَرِكَ فَتُفْسِدَهُ، وَلَا تَجَسَّسْ عَلَيْهِمْ فَتَفْضَحَهُمْ، وَلَا تَكْشِفِ النَّاسَ عَنْ أَسْرَارِهِمْ، وَاكْتَفِ بِعَلَانِيَتِهِمْ، وَلَا تُجَالِسِ الْعَبَّاثِينَ، وَجَالِسْ أَهْلَ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَاصْدُقِ اللِّقَاءَ، وَلَا تَجْبُنْ فَيَجْبُنَ النَّاسُ، وَاجْتَنِبِ الْغُلُولَ فَإِنَّهُ يُقَرِّبُ الْفَقْرَ وَيَدْفَعُ النَّصْرَ، وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ فَدَعْهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ. وَهَذِهِ مِنْ أَحْسَنِ الْوَصَايَا وَأَكْثَرِهَا نَفْعًا لِوُلَاةِ الْأَمْرِ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَعْمَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ عَلَى مَنِ اجْتَمَعَ وَأَمَرَهُ بِحِمْصَ، وَسَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى بَابٍ مِنَ الْبَلْقَاءِ فَقَاتَلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ صَالَحُوهُ، فَكَانَ أَوَّلَ صُلْحٍ فِي الشَّامِ. وَاجْتَمَعَ لِلرُّومِ جَمْعٌ بِالْعَرَبَةِ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ فَهَزَمَهُمْ، فَكَانَ أَوَّلَ قِتَالٍ بِالشَّامِ بَعْدَ سَرِيَّةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. ثُمَّ أَتَوُا الدَّائِنَ فَهَزَمَهُمْ أَبُو أُمَامَةَ أَيْضًا، ثُمَّ مَرْجَ الصُّفَّرِ اسْتُشْهِدَ فِيهَا ابْنٌ لِخَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَقِيلَ: اسْتُشْهِدَ فِيهَا خَالِدٌ أَيْضًا، وَقِيلَ: بَلْ سَلِمَ وَانْهَزَمَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ تَوْجِيهَ الْأُمَرَاءِ بِالْجُنُودِ بَادَرَ لِقِتَالِ الرُّومِ، فَاسْتَطْرَدَ لَهُ بَاهَانُ فَاتَّبَعَهُ خَالِدٌ وَمَعَهُ ذُو الْكَلَاعِ

وَعِكْرِمَةُ وَالْوَلِيدُ فَنَزَلَ مَرْجَ الصُّفَّرِ، فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ مَسَالِحُ بَاهَانَ وَأَخَذُوا الطُّرُقَ، وَخَرَجَ بَاهَانُ فَرَأَى ابْنَ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ فَقَتَلَهُ وَمَنْ مَعَهُ، فَسَمِعَ خَالِدٌ فَانْهَزَمَ، فَوَصَلَ فِي هَزِيمَتِهِ إِلَى ذِي الْمَرْوَةِ قَرِيبَ الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ بِالْمُقَامِ بِهَا، وَبَقِيَ عِكْرِمَةُ فِي النَّاسِ رِدْءًا لِلْمُسْلِمِينَ يَمْنَعُ مَنْ يَطْلُبُهُمْ. وَكَانَ قَدْ قَدِمَ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ مِنْ عِنْدِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَافِدًا، فَأَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ بِالشَّامِ وَنَدَبَ مَعَهُ النَّاسَ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى عَمَلِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ. فَأَتَى شُرَحْبِيلُ عَلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ فَفَصَلَ عَنْهُ بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَاجْتَمَعَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ نَاسٌ فَأَرْسَلَهُمْ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَمَرَهُ بِاللَّحَاقِ بِأَخِيهِ يَزِيدَ، فَلَمَّا مَرَّ بِخَالِدٍ فَصَلَ عَنْهُ بِبَاقِي أَصْحَابِهِ. فَأَذِنَ أَبُو بَكْرٍ لِخَالِدٍ بِدُخُولِ الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا وَصَلَ الْأُمَرَاءُ إِلَى الشَّامِ نَزَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْجَابِيَةَ، وَنَزَلَ يَزِيدُ الْبَلْقَاءَ، وَنَزَلَ شُرَحْبِيلُ الْأُرْدُنَّ، وَقِيلَ: بُصْرَى، وَنَزَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ الْعَرَبَةَ. فَبَلَغَ الرُّومُ ذَلِكَ فَكَتَبُوا إِلَى هِرَقْلَ، وَكَانَ بِالْقُدْسِ، فَقَالَ: أَرَى أَنْ تُصَالِحُوا الْمُسْلِمِينَ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ تُصَالِحُوهُمْ عَلَى نِصْفِ مَا يَحْصُلُ مِنَ الشَّامِ وَيَبْقَى لَكُمْ نَصِفُهُ مَعَ بِلَادِ الرُّومِ - أَحَبُّ إِلَيْكُمْ مِنْ أَنْ يَغْلِبُوكُمْ عَلَى الشَّامِ وَنِصْفِ بِلَادِ الرُّومِ. فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَعَصَوْهُ، فَجَمَعَهُمْ وَسَارَ بِهِمْ إِلَى حِمْصَ، فَنَزَلَهَا وَأَعَدَّ الْجُنُودَ وَالْعَسَاكِرَ، وَأَرَادَ إِشْغَالَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِطَائِفَةٍ مِنْ عَسْكَرِهِ؛ لِكَثْرَةِ جُنْدِهِ؛ لِتَضْعُفَ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَمَّنْ بِإِزَائِهِ، فَأَرْسَلَ تَذَارِقَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ فِي تِسْعِينَ أَلْفًا إِلَى عَمْرٍو، وَأَرْسَلَ جَرَجَةَ بْنَ تُوذَرَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَبَعَثَ الْقَيْقَارَ بْنَ نَسْطُوسَ فِي سِتِّينَ أَلْفًا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَبَعَثَ الدُّرَاقِصَ نَحْوَ شُرَحْبِيلَ، فَهَابَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَكَاتَبُوا عَمْرًا مَا الرَّأْيُ، فَأَجَابَهُمْ: إِنَّ الرَّأْيَ لِمِثْلِنَا الِاجْتِمَاعُ، فَإِنَّ مِثْلَنَا إِذَا اجْتَمَعْنَا لَا نُغْلَبُ مِنْ قِلَّةٍ، فَإِنَّ تَفَرُّقَنَا لَا يَقُومُ كُلُّ فِرْقَةٍ لَهُ بِمَنِ اسْتَقْبَلَهَا لِكَثْرَةِ عَدُوِّنَا. وَكَتَبُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَأَجَابَهُمْ مِثْلَ جَوَابِ عَمْرٍو وَقَالَ: إِنَّ مِثْلَكُمْ لَا يُؤْتَى مِنْ قِلَّةٍ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى الْعَشْرَةُ آلَافٍ مِنَ الذُّنُوبِ، فَاحْتَرِسُوا مِنْهَا، فَاجْتَمَعُوا بِالْيَرْمُوكِ مُتَسَانِدِينَ، وَلْيَصِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِأَصْحَابِهِ. فَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْيَرْمُوكِ، وَالرُّومُ أَيْضًا وَعَلَيْهِمْ

ذكر مسير خالد بن الوليد من العراق إلى الشام

التَّذَارِقُ، وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ جَرَجَةُ، وَعَلَى الْمُجَنِّبَةِ بَاهَانُ، وَلَمْ يَكُنْ وَصَلَ بَعْدُ إِلَيْهِمْ، وَالدُّرَاقِصُ عَلَى الْأُخْرَى، وَعَلَى الْحَرْبِ الْقَيْقَارُ. فَنَزَلَ الرُّومُ وَصَارَ الْوَادِي خَنْدَقًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَتَأَنَّسَ الرُّومُ بِالْمُسْلِمِينَ لِتَرْجِعَ إِلَيْهِمْ قُلُوبُهُمْ، وَنَزَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى طَرِيقِهِمْ، لَيْسَ لِلرُّومِ طَرِيقٌ إِلَّا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عَمْرٌو: أَبْشِرُوا! حُصِرَتِ الرُّومُ، وَقَلَّ مَا جَاءَ مَحْصُورٌ بِخَيْرٍ. وَأَقَامُوا صَفَرًا عَلَيْهِمْ وَشَهْرَيْ رَبِيعٍ لَا يَقْدِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْوَادِي وَالْخَنْدَقِ، وَلَا يَخْرُجُ الرُّومُ خَرْجَةً إِلَّا أُدِيلَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ. [ذِكْرُ مَسِيرِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ] لَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ مُطَاوَلَةَ الرُّومِ اسْتَمَدُّوا أَبَا بَكْرٍ، فَكَتَبَ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ، وَبِالْحَثِّ، وَأَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ النَّاسِ وَيَسْتَخْلِفَ عَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيَّ، وَلَا يَأْخُذَنَّ مَنْ فِيهِ نَجْدَةٌ إِلَّا وَيَتْرُكَ عِنْدَ الْمُثَنَّى مِثْلَهُ، وَإِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رَجَعَ خَالِدٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْعِرَاقِ. فَاسْتَأْثَرَ خَالِدٌ بِأَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُثَنَّى، وَتَرَكَ لِلْمُثَنَّى عِدَادَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقَنَاعَةِ مَنْ لَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ، ثُمَّ قَسَمَ الْجُنْدَ نِصْفَيْنِ، فَقَالَ الْمُثَنَّى: وَاللَّهِ لَا أُقِيمُ إِلَّا عَلَى إِنْفَاذِ أَمْرِ أَبِي بَكْرٍ، وَبِاللَّهِ مَا أَرْجُو النَّصْرَ إِلَّا بِأَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمَّا رَأَى خَالِدٌ ذَلِكَ أَرْضَاهُ. وَقِيلَ: سَارَ مِنَ الْعِرَاقِ فِي ثَمَانِمِائَةٍ، وَقِيلَ: فِي سِتِّمِائَةٍ، وَقِيلَ: فِي خَمْسِمِائَةٍ، وَقِيلَ: فِي تِسْعَةِ آلَافٍ، وَقِيلَ: فِي سِتَّةِ آلَافٍ. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَأْخُذَ أَهْلَ الْقُوَّةِ وَالنَّجْدَةِ، فَأَتَى حَدَوْدَاءَ فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا فَظَفِرَ بِهِمْ، وَأَتَى الْمُصَيَّخَ وَبِهِ جَمْعٌ مِنْ تَغْلِبَ فَقَاتَلَهُمْ وَظَفِرَ بِهِمْ، وَسَبَى وَغَنِمَ.

وَكَانَ مِنَ السَّبْيِ الصَّهْبَاءُ بِنْتُ حَبِيبِ بْنِ بُجَيْرٍ، وَهِيَ أُمُّ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقِيلَ فِي أَمْرِهَا مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: سَارَ خَالِدٌ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قُرَاقِرَ، وَهُوَ مَاءٌ لِكَلْبٍ، أَغَارَ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَرَادَ أَنْ يَسِيرَ مِنْهُمْ مُفَوَّزًا إِلَى سُوَى، وَهُوَ مَاءٌ لِبَهْرَاءَ بَيْنَهُمَا خَمْسُ لَيَالٍ، فَالْتَمَسَ دَلِيلًا، فَدُلَّ عَلَى رَافِعِ بْنِ عَمِيرَةَ الطَّائِيِّ، فَقَالَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ رَافِعٌ: إِنَّكَ لَنْ تُطِيقَ ذَلِكَ بِالْخَيْلِ وَالْأَثْقَالِ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّاكِبَ الْمُفْرَدَ يَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَابُدَّ لِي مِنْ ذَلِكَ لِأَخْرُجَ مِنْ وَرَاءِ جُمُوعِ الرُّومِ؛ لِئَلَّا يَحْبِسَنِي عَنْ غِيَاثِ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَرَ صَاحِبَ كُلِّ جَمَاعَةٍ أَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ لِلشُّعْبَةِ لِخَمْسٍ، وَأَنْ يُعَطِّشَ مِنَ الْإِبِلِ الشُّرُفَ مَا يَكْتَفِي بِهِ، ثُمَّ يَسْقُوهَا عَلَلًا بَعْدَ نَهَلٍ - وَالْعَلَلُ الشَّرْبَةُ الثَّانِيَةُ، وَالنَّهَلُ الْأُولَى - ثُمَّ يُصِرُّوا آذَانَ الْإِبِلِ وَيَشُدُّوا مَشَافِرَهَا؛ لِئَلَّا تَجْتَرَّ. ثُمَّ رَكِبُوا مِنْ قُرَاقِرَ، فَلَمَّا سَارُوا يَوْمًا وَلَيْلَةً شَقُّوا لِعِدَّةٍ مِنَ الْخَيْلِ بُطُونَ عَشَرَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَمَزَجُوا مَاءً فِي كُرُوشِهَا بِمَا كَانَ مِنَ الْأَلْبَانِ، وَسَقَوُا الْخَيْلَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ. فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْعَلَمَيْنِ قَالَ لِلنَّاسِ: انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ شَجَرَةَ عَوْسَجٍ كَقَعْدَةِ الرَّجُلِ؟ فَقَالُوا: مَا نَرَاهَا. فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، هَلَكْتُمْ وَاللَّهِ وَهَلَكْتُ مَعَكُمْ! وَكَانَ أَرْمَدَ. فَقَالَ لَهُمْ: انْظُرُوا وَيْحَكُمْ! فَنَظَرُوا فَرَأَوْهَا قَدْ قُطِعَتْ وَبَقِيَ مِنْهَا بَقِيَّةٌ. فَلَمَّا رَأَوْهَا كَبَّرُوا، فَقَالَ رَافِعٌ: احْفِرُوا فِي أَصْلِهَا. فَحَفَرُوا وَاسْتَخْرَجُوا عَيْنًا، فَشَرِبُوا حَتَّى رُوِيَ النَّاسُ. فَقَالَ رَافِعٌ: وَاللَّهِ مَا وَرَدْتُ هَذَا الْمَاءَ قَطُّ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً مَعَ أَبِي وَأَنَا غُلَامٌ. فَقَالَ شَاعِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: لِلَّهِ عَيْنَا رَافِعٍ أَنَّى اهْتَدَى فَوَّزَ مِنْ قُرَاقِرَ إِلَى سُوَى خَمْسًا إِذَا مَا سَارَ الْجَيْشُ بَكَى مَا سَارَهَا قَبْلَكَ إِنْسِيٌّ يُرَى

فَلَمَّا انْتَهَى خَالِدٌ إِلَى سُوَى أَغَارَ عَلَى أَهْلِهَا - وَهُمْ بَهْرَاءُ - وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَمُغَنِّيهِمْ يَقُولُ: أَلَا عَلِّلَانِي قَبْلَ جَيْشِ أَبِي بَكْرِ ... لَعَلَّ مَنَايَانَا قَرِيبٌ وَلَا نَدْرِي أَلَا عَلِّلَانِي بِالزُّجَاجِ وَكَرِّرُوا ... عَلَيَّ كُمَيْتَ اللَّوْنِ صَافِيَةً تَجْرِي أَلَا عَلِّلَانِي مِنْ سُلَافَةِ قَهْوَةٍ تُسَلِّي ... هُمُومَ النَّفْسِ مِنْ جَيِّدِ الْخَمْرِ أَظُنُّ خُيُولَ الْمُسْلِمِينَ وَخَالِدًا ... سَتَطْرُقُكُمْ قَبْلَ الصَّبَاحِ مَعَ النَّسْرِ فَهَلْ لَكُمُ فِي السَّيْرِ قَبْلَ قِتَالِكُمْ ... وَقَبْلَ خُرُوجِ الْمُعْصِرَاتِ مِنَ الْخِدْرِ فَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مُغَنِّيهِمْ وَسَالَ دَمُهُ فِي تِلْكَ الْجَفْنَةِ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، وَقُتِلَ حُرْقُوصُ بْنُ النُّعْمَانِ الْبَهْرَانِيُّ. ثُمَّ أَتَى أَرَكَ فَصَالَحُوهُ، ثُمَّ أَتَى تَدْمُرَ فَتَحَصَّنَ أَهْلُهُ ثُمَّ صَالَحُوهُ، ثُمَّ أَتَى الْقَرْيَتَيْنِ فَقَاتَلَهُمْ فَظَفِرَ بِهِمْ وَغَنِمَ، وَأَتَى حُوَّارَيْنِ فَقَاتَلَ أَهْلَهَا فَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ وَسَبَى، وَأَتَى قُصَمَ فَصَالَحَهُ بَنُو مَشْجَعَةَ مِنْ قُضَاعَةَ، وَسَارَ فَوَصَلَ إِلَى ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ عِنْدَ دِمَشْقَ نَاشِرًا رَايَتَهُ، وَهِيَ رَايَةٌ سَوْدَاءُ، وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُسَمَّى الْعُقَابُ، وَقِيلَ: كَانَتْ رَايَتُهُ تُسَمَّى الْعُقَابَ فَسُمِّيَتِ الثَّنْيَةُ بِهَا، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِعُقَابٍ مِنَ الطَّيْرِ سَقَطَتْ عَلَيْهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. ثُمَّ سَارَ فَأَتَى مَرْجَ رَاهِطٍ فَأَغَارَ عَلَى غَسَّانَ فِي يَوْمِ فِصْحِهِمْ فَقَتَلَ وَسَبَى،

ذكر وقعة اليرموك

وَأَرْسَلَ سَرِيَّةً إِلَى كَنِيسَةٍ بِالْغُوطَةِ، فَقَتَلُوا الرِّجَالَ وَسَبَوُا النِّسَاءَ وَسَاقُوا الْعِيَالَ إِلَى خَالِدٍ. ثُمَّ سَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى بُصْرَى، فَقَاتَلَ مَنْ بِهَا فَظَفِرَ بِهِمْ وَصَالَحَهُمْ، فَكَانَتْ بُصْرَى أَوَّلَ مَدِينَةٍ فُتِحَتْ بِالشَّامِ عَلَى يَدِ خَالِدٍ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ. وَبَعَثَ بِالْأَخْمَاسِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ. ثُمَّ سَارَ فَطَلَعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي رَبِيعِ الْآخَرِ، وَطَلَعَ بَاهَانُ عَلَى الرُّومِ وَمَعَهُ الشَّمَامِسَةُ وَالْقِسِّيسُونَ وَالرُّهْبَانُ يُحَرِّضُونَ الرُّومَ عَلَى الْقِتَالِ، وَخَرَجَ بَاهَانُ كَالْمُعْتَذِرِ، فَوَلِيَ خَالِدٌ قِتَالَهُ، وَقَاتَلَ الْأُمَرَاءُ مَنْ بِإِزَائِهِمْ، وَرَجَعَ بَاهَانُ وَالرُّومُ إِلَى خَنْدَقِهِمْ وَقَدْ نَالَ مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ. (عَمِيرَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ) . [ذِكْرُ وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ] فَلَمَّا تَكَامَلَ جَمْعُ الْمُسْلِمِينَ بِالْيَرْمُوكِ، وَكَانُوا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، قَدِمَ خَالِدٌ فِي تِسْعَةِ آلَافٍ، فَصَارُوا سِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا سِوَى عِكْرِمَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ رِدْءًا لَهُمْ، وَقِيلَ: بَلْ كَانُوا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا وَثَلَاثَةَ آلَافٍ مِنْ فُلَّالِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَعَشَرَةَ آلَافٍ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَصَارُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا سِوَى سِتَّةِ آلَافٍ مَعَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَقِيلَ فِي عَدَدِهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ فِيهِمْ أَلْفُ صَحَابِيٍّ، مِنْهُمْ نَحْوُ مِائَةٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا. وَكَانَ الرُّومُ فِي مِائَتَيْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مِنْهُمْ ثَمَانُونَ أَلْفَ مُقَيَّدٍ، وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ مُسَلْسَلٍ لِلْمَوْتِ، وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا مُرَبَّطُونَ بِالْعَمَائِمِ لِئَلَّا يَفِرُّوا، وَثَمَانُونَ أَلْفَ رَاجِلٍ، وَقِيلَ: كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ، وَكَانَ قِتَالُ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ عَلَى تَسَانُدٍ، كُلُّ أَمِيرٍ عَلَى أَصْحَابِهِ لَا يَجْمَعُهُمْ أَحَدٌ، حَتَّى قَدِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنَ الْعِرَاقِ، وَكَانَ الْقِسِّيسُونَ وَالرُّهْبَانُ يُحَرِّضُونَ الرُّومَ شَهْرًا، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى الْقِتَالِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ قِتَالٌ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. فَلَمَّا أَحَسَّ الْمُسْلِمُونَ بِخُرُوجِهِمْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ مُتَسَانِدِينَ، فَسَارَ فِيهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ لَا يَنْبَغِي فِيهِ الْفَخْرُ وَلَا

الْبَغْيُ، أَخْلِصُوا جِهَادَكُمْ وَأَرِيدُوا اللَّهَ بِعَمَلِكُمْ، فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ، وَلَا تُقَاتِلُوا قَوْمًا عَلَى نِظَامٍ وَتَعْبِيَةٍ وَأَنْتُمْ مُتَسَانِدُونَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ وَلَا يَنْبَغِي، وَإِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ لَوْ يَعْلَمُ عِلْمَكُمْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ هَذَا، فَاعْمَلُوا فِيمَا لَمْ تُؤْمَرُوا بِهِ بِالَّذِي تَرَوْنَ أَنَّهُ رَأْيٌ مِنْ وَالِيكُمْ وَمَحَبَّتِهِ. قَالُوا: هَاتِ، فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَبْعَثْنَا إِلَّا وَهُوَ يَرَى أَنَّا سَنَتَيَاسَرُ، وَلَوْ عَلِمَ بِالَّذِي كَانَ وَيَكُونُ، لَقَدْ جَمَعَكُمْ، إِنَّ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ أَشَدُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِمَّا قَدْ غَشِيَهُمْ، وَأَنْفَعُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَمْدَادِهِمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الدُّنْيَا فَرَّقَتْ بَيْنَكُمْ، فَاللَّهَ اللَّهَ! فَقَدْ أُفْرِدَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِبَلَدٍ لَا يَنْتَقِصُهُ مِنْهُ إِنْ دَانَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَلَا يَزِيدُهُ عَلَيْهِ إِنْ دَانُوا لَهُ. إِنَّ تَأْمِيرَ بَعْضِكُمْ لَا يَنْتَقِصُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا عِنْدَ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلُمُّوا، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ تَهَيَّئُوا، وَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ، إِنْ رَدَدْنَاهُمْ إِلَى خَنْدَقِهِمُ الْيَوْمَ لَمْ نَزَلْ نَرُدُّهُمْ، وَإِنْ هَزَمُونَا لَمْ نُفْلِحْ بَعْدَهَا. فَهَلُمُّوا فَلْنَتَعَاوَرِ الْإِمَارَةَ، فَلْيَكُنْ بَعْضُنَا الْيَوْمَ، وَالْآخَرُ بَعْدَ غَدٍ، حَتَّى تَتَأَمَّرُوا كُلُّكُمْ، وَدَعُونِي أَتَأَمَّرُ الْيَوْمَ. فَأَمَّرُوهُ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهَا كَخَرَجَاتِهِمْ، وَأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَطُولُ. فَخَرَجَتِ الرُّومُ فِي تَعْبِيَةٍ لَمْ يَرَ الرَّاءُونَ مِثْلَهَا قَطُّ، وَخَرَجَ خَالِدٌ فِي تَعْبِيَةٍ لَمْ تُعِبَّهَا الْعَرَبُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَخَرَجَ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ كُرْدُوسًا إِلَى الْأَرْبَعِينَ، وَقَالَ: إِنَّ عَدُوَّكُمْ كَثِيرٌ، وَلَيْسَ تَعْبِيَةً أَكْثَرَ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ مِنَ الْكَرَادِيسِ. فَجَعَلَ الْقَلْبَ كَرَادِيسَ، وَأَقَامَ فِيهِ أَبَا عُبَيْدَةَ، وَجَعَلَ الْمَيْمَنَةَ كَرَادِيسَ وَعَلَيْهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، وَجَعَلَ الْمَيْسَرَةَ كَرَادِيسَ وَعَلَيْهَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ عَلَى كُرْدُوسٍ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ كُرْدُوسٍ رَجُلًا مِنَ الشُّجْعَانِ، وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَكَانَ الْقَاصُّ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَعَلَى الطَّلَائِعِ قَبَاثُ بْنُ أَشْيَمَ، وَعَلَى الْأَقْبَاضِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَقَالَ رَجُلٌ لِخَالِدٍ: مَا أَكْثَرَ الرُّومَ وَأَقَلَّ الْمُسْلِمِينَ! فَقَالَ خَالِدٌ: مَا أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ وَأَقَلَّ الرُّومِ، إِنَّمَا تَكْثُرُ الْجُنُودُ بِالنَّصْرِ وَتَقِلُّ بِالْخِذْلَانِ، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ الْأَشْقَرَ - يَعْنِي

فَرَسَهُ - بَرَاءٌ مِنْ تَوَجِّيهِ، وَأَنَّهُمْ أُضْعِفُوا فِي الْعَدَدِ. وَكَانَ قَدْ حَفِيَ فِي مَسِيرِهِ. فَأَمَرَ خَالِدٌ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ وَالْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو فَأَنْشَبَا الْقِتَالَ، وَالْتَحَمَ النَّاسُ وَتَطَارَدَ الْفُرْسَانُ وَتَقَاتَلُوا، فَإِنَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَدِمُ الْبَرِيدُ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَاسْمُهُ مَحْمِيَةُ بْنُ زُنَيْمٍ، فَسَأَلُوهُ الْخَبَرَ، فَأَخْبَرَهُمْ بِسَلَامَةٍ وَأَمْدَادٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِمَوْتِ أَبِي بَكْرٍ وَتَأْمِيرِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَبَلَّغُوهُ خَالِدًا، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ أَبِي بَكْرٍ سِرًّا. وَخَرَجَ جَرَجَةُ إِلَى بَيْنِ الصَّفَّيْنِ وَطَلَبَ خَالِدًا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَآمَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَقَالَ جَرَجَةُ: يَا خَالِدُ اصْدُقْنِي وَلَا تَكْذِبْنِي، فَإِنَّ الْحُرَّ لَا يَكْذِبُ، وَلَا تُخَادِعْنِي، فَإِنَّ الْكَرِيمَ لَا يُخَادِعُ الْمُسْتَرْسِلَ، هَلْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ سَيْفًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَعْطَاكَهُ، فَلَا تَسُلَّهُ عَلَى قَوْمٍ إِلَّا هَزَمْتَهُمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَفِيمَ سُمِّيتَ سَيْفَ اللَّهِ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ فِينَا نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُنْتُ فِيمَنْ كَذَّبَهُ وَقَاتَلَهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ هَدَانِي فَتَابَعْتُهُ، فَقَالَ: أَنْتَ سَيْفُ اللَّهِ، سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَدَعَا لِي بِالنَّصْرِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي إِلَى مَا تَدْعُونِي. قَالَ خَالِدٌ: إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْجِزْيَةِ أَوِ الْحَرْبِ. قَالَ: فَمَا مَنْزِلَةُ مَنِ الَّذِي يُجِيبُكُمْ وَيَدْخُلُ فِيكُمْ؟ قَالَ: مَنْزِلَتُنَا وَاحِدَةٌ. قَالَ: فَهَلْ لَهُ مِثْلُكُمْ مِنَ الْأَجْرِ وَالذُّخْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَأَفْضَلُ؛ لِأَنَّنَا اتَّبَعْنَا نَبِيَّنَا وَهُوَ حَيٌّ، يُخْبِرُنَا بِالْغَيْبِ وَنَرَى مِنْهُ الْعَجَائِبَ وَالْآيَاتِ، وَحُقَّ لِمَنْ رَأَى مَا رَأَيْنَا وَسَمِعَ مَا سَمِعْنَا أَنْ يُسْلِمَ، وَأَنْتُمْ لَمْ تَرَوْا مِثْلَنَا وَلَمْ تَسْمَعُوا مِثْلَنَا، فَمَنْ دَخَلَ بِنِيَّةٍ وَصِدْقٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنَّا. فَقَلَبَ جَرَجَةُ تُرْسَهُ وَمَالَ مَعَ خَالِدٍ وَأَسْلَمَ، وَعَلَّمَهُ الْإِسْلَامَ وَاغْتَسَلَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ مَعَ خَالِدٍ فَقَاتَلَ الرُّومَ. وَحَمَلَتِ الرُّومُ حَمْلَةً أَزَالُوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ إِلَّا الْمُحَامِيَةَ، عَلَيْهِمْ عِكْرِمَةُ وَعَمُّهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ يَوْمَئِذٍ: قَاتَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ مَوْطِنٍ، ثُمَّ أَفِرُّ الْيَوْمَ؟ ! ثُمَّ نَادَى: مَنْ يُبَايِعُ عَلَى الْمَوْتِ؟ فَبَايَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ وَفُرْسَانِهِمْ، فَقَاتَلُوا قُدَّامَ فُسْطَاطِ خَالِدٍ حَتَّى أُثْبِتُوا جَمِيعًا جِرَاحًا، فَمِنْهُمْ مَنْ بَرَأَ وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ. وَقَاتَلَ خَالِدٌ وَجَرَجَةُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ جَرَجَةُ عِنْدَ آخِرِ النَّهَارِ، وَصَلَّى النَّاسُ الْأُولَى وَالْعَصْرَ إِيمَاءً، وَتَضَعْضَعَ الرُّومُ، وَنَهَدَ خَالِدٌ بِالْقَلْبِ حَتَّى كَانَ بَيْنَ خَيْلِهِ وَرَجْلِهِمْ، فَانْهَزَمَ الْفُرْسَانُ وَتَرَكُوا الرَّجَّالَةَ. وَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ خَيْلَ الرُّومِ قَدْ تَوَجَّهَتْ لِلْمَهْرَبِ أَفْرَجُوا لَهَا، فَتَفَرَّقَتْ وَقُتِلَ

الرَّجَّالَةُ، وَاقْتَحَمُوا فِي خَنْدَقِهِمْ، فَاقْتَحَمَهُ عَلَيْهِمْ، فَعَمَدُوا إِلَى الْوَاقُوصَةِ حَتَّى هَوَى فِيهَا الْمُقْتَرِنُونَ وَغَيْرُهُمْ، ثَمَانُونَ أَلْفًا مِنَ الْمُقْتَرِنِينَ، وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ مُطْلَقٍ، سِوَى مَنْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَتَجَلَّلَ الْفَيْقَارُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِ الرُّومِ بَرَانِسَهُمْ وَجَلَسُوا، فَقُتِلُوا مُتَزَمِّلِينَ. وَدَخَلَ خَالِدٌ الْخَنْدَقَ وَنَزَلَ فِي رِوَاقِ تَذَارِقَ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا أُتِيَ خَالِدٌ بِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ جَرِيحًا، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَبِعَمْرِو بْنِ عِكْرِمَةَ فَجَعَلَ رَأَسَهُ عَلَى سَاقِهِ، وَمَسَحَ وُجُوهَهُمَا وَقَطَّرَ فِي حُلُوقِهِمَا الْمَاءَ، وَقَالَ: زَعَمَ ابْنُ حَنْتَمَةَ - يَعْنِي عُمَرَ - أَنَّا لَا نُسْتَشْهَدُ! وَقَاتَلَ النِّسَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَأَبْلَيْنَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: كُنْتُ مَعَ أَبِي بِالْيَرْمُوكِ وَأَنَا صَبِيٌّ لَا أُقَاتِلُ، فَلَمَّا اقْتَتَلَ النَّاسُ نَظَرْتُ إِلَى نَاسٍ عَلَى تَلٍّ لَا يُقَاتِلُونَ، فَرَكِبْتُ وَذَهَبْتُ إِلَيْهِمْ وَإِذْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَمَشْيَخَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجَرَةِ الْفَتْحِ، فَرَأَوْنِي حَدَثًا فَلَمْ يَتَّقُونِي، قَالَ: فَجَعَلُوا وَاللَّهِ إِذَا مَالَ الْمُسْلِمُونَ وَرَكِبَتْهُمُ الرُّومُ يَقُولُونَ: إِيهِ بَنِي الْأَصْفَرِ! فَإِذَا مَالَتِ الرُّومُ وَرَكِبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: وَيْحَ بَنِي الْأَصْفَرِ! فَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الرُّومَ أَخْبَرْتُ أَبِي فَضْحِكَ فَقَالَ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ! أَبَوْا إِلَّا ضِغْنًا، لَنَحْنُ خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ الرُّومِ! وَفِي الْيَرْمُوكِ أُصِيبَتْ عَيْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ. وَلَمَّا انْهَزَمَتِ الرُّومُ كَانَ هِرَقْلَ بِحِمْصَ، فَنَادَى بِالرَّحِيلِ عَنْهَا قَرِيبًا، وَجَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهَا أَمِيرًا كَمَا أَمَّرَ عَلَى دِمَشْقَ. وَكَانَ مَنْ أُصِيبُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، مِنْهُمْ عِكْرِمَةُ وَابْنُهُ عَمْرٌو، وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ، وَجُنْدُبُ بْنُ عَمْرٍو، وَالطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَطُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، وَعِيَاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. (عِيَاشٌ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ) . وَفِيهَا قُتِلَ سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ السَّهْمِيُّ، وَهُوَ مِنْ مُهَاجَرَةِ الْحَبَشَةِ.

ذكر حال المثنى بن حارثة بالعراق

وَفِيهَا قُتِلَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّحَّامُ الْعَدَوِيُّ عَدِيُّ قُرَيْشٍ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ عُمَرَ. وَفِيهَا قُتِلَ النُّضَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ، وَهُوَ قَدِيمُ الْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ، وَهُوَ أَخُو النَّضْرِ الَّذِي قُتِلَ بِبَدْرٍ كَافِرًا. وَقُتِلَ فِيهَا أَبُو الرُّومِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ الْعَبْدَرِيُّ أَخُو مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَهُوَ مِنْ مُهَاجَرَةِ الْحَبَشَةِ، شَهِدَ أُحُدًا. وَقِيلَ: قُتِلُوا يَوْمَ أَجْنَادِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [ذِكْرُ حَالِ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ بِالْعِرَاقِ] وَأَمَّا الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا وَدَّعَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَارَ خَالِدٌ إِلَى الشَّامِ فِيمَنْ مَعَهُ بِالْجُنْدِ، أَقَامَ بِالْحِيرَةِ وَوَضَعَ الْمَسْلَحَةَ وَأَذْكَى الْعُيُونَ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُ فَارِسٍ بَعْدَ مَسِيرِ خَالِدٍ مِنَ الْحِيرَةِ بِقَلِيلٍ، وَذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، عَلَى شَهْرِيرَانَ بْنِ أَرْدَشِيرَ بْنِ شَهْرَيَارَ سَابُورَ، فَوَجَّهَ إِلَى الْمُثَنَّى جُنْدًا عَظِيمًا عَلَيْهِمْ هُرْمُزُ جَاذَوَيْهِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، فَخَرَجَ الْمُثَنَّى مِنَ الْحِيرَةِ نَحْوَهُ وَعَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ الْمُعَنَّى وَمَسْعُودٌ أَخَوَاهُ، فَأَقَامَ بِبَابِلَ، وَأَقْبَلَ هُرْمُزُ نَحْوَهُ، وَكَتَبَ كِسْرَى شَهْرِيرَانَ إِلَى الْمُثَنَّى كِتَابًا: إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ جُنْدًا مِنْ وَخْشِ أَهْلِ فَارِسَ، إِنَّمَا هُمْ رِعَاءُ الدَّجَاجِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلَسْتُ أُقَاتِلُكَ إِلَّا بِهِمْ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُثَنَّى: إِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا بَاغٍ، فَذَلِكَ شَرٌّ لَكَ وَخَيْرٌ لَنَا، وَإِمَّا كَاذِبٌ، فَأَعْظَمُ الْكَاذِبِينَ فَضِيحَةً عِنْدَ اللَّهِ وَفِي النَّاسِ الْمُلُوكُ، وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّنَا عَلَيْهِ الرَّأْيُ فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا أَضْرَرْتُمْ إِلَيْهِمْ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَكُمْ إِلَى رُعَاةِ الدَّجَاجِ وَالْخَنَازِيرِ. فَجَزِعَ الْفُرْسُ مِنْ كِتَابِهِ، فَالْتَقَى الْمُثَنَّى وَهُرْمُزُ بِبَابِلَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَ فِيلُهُمْ يُفَرِّقُ الْمُسْلِمِينَ، فَانْتَدَبَ لَهُ الْمُثَنَّى وَمَعَهُ نَاسٌ فَقَتَلُوهُ، وَانْهَزَمَ الْفُرْسُ وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْمَدَائِنِ يَقْتُلُونَهُمْ. وَمَاتَ شَهْرِيرَانُ لَمَّا انْهَزَمَ هُرْمُزُ جَاذَوَيْهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ فَارِسَ، وَبَقِيَ مَا دُونَ دِجْلَةَ بِيَدِ الْمُثَنَّى. ثُمَّ اجْتَمَعَتِ الْفُرْسُ عَلَى دُخْتَ زَنَانَ ابْنَةِ كِسْرَى، فَلَمْ يَنْفُذْ لَهَا أَمْرٌ وَخُلِعَتْ، وَمَلَكَ سَابُورُ بْنُ شَهْرِيرَانَ. فَلَمَّا مَلَكَ قَامَ بِأَمْرِهِ الْفَرُّخْزَادُ بْنُ الْبِنْذَوَانِ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ

ذكر وقعة أجنادين

آزَرْمِيدُخْتَ بِنْتَ كِسْرَى، فَأَجَابَهُ. فَغَضِبَتْ آزَرْمِيدُخْتَ فَأَرْسَلَتْ إِلَى سَيَاوَخَشْ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْعُرْسِ أَقْبَلَ الْفَرُّخْزَادُ حَتَّى دَخَلَ، فَثَارَ بِهِ سَيَاوَخَشْ فَقَتَلَهُ، وَقَصَدَتْ آزَرْمِيدُخْتَ وَمَعَهَا سَيَاوَخَشْ سَابُورَ فَحَصَرُوهُ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، وَمَلَكَتْ آزَرْمِيدُخْتَ ثُمَّ تَشَاغَلُوا بِذَلِكَ. وَأَبْطَأَ خَبَرُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى الْمُثَنَّى، فَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَشِيرَ بْنَ الْخَصَاصِيَّةِ وَسَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ لِيُخْبِرَهُ خَبَرَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَسْتَأْذِنَهُ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِمَنْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّهُمْ أَنْشَطُ إِلَى الْقِتَالِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَبُو بَكْرٍ مَرِيضٌ قَدْ أَشَفَى، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَاسْتَدْعَى عُمَرَ وَقَالَ لَهُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَمُوتَ يَوْمِي هَذَا، فَإِذَا مُتُّ فَلَا تُمْسِيَنَّ حَتَّى تَنْدُبَ النَّاسَ مَعَ الْمُثَنَّى، وَلَا تَشْغَلَنَّكُمْ مُصِيبَةٌ عَنْ أَمْرِ دِينِكُمْ وَوَصِيَّةِ رَبِّكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُنِي مُتَوَفَّى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا صَنَعْتُ وَمَا أُصِيبَ الْخَلْقُ بِمِثْلِهِ، وَإِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فَارْدُدْ أَهْلَ الْعِرَاقِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُهُ وَوُلَاةُ أَمْرِهِ وَأَهْلُ الْجُرْأَةِ عَلَيْهِمْ. وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ لَيْلًا فَدَفَنَهُ عُمَرُ وَنَدَبَ النَّاسَ مَعَ الْمُثَنَّى، وَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ يَسُوءُنِي أَنْ أُؤَمِّرَ خَالِدًا، فَلِهَذَا أَمَرَنِي أَنْ أَرُدَّ أَصْحَابَ خَالِدٍ، وَتَرَكَ ذِكْرَهُ مَعَهُمْ. وَإِلَى آزَرْمِيدُخْتَ انْتَهَى شَأْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَهَذَا حَدِيثُ الْعِرَاقِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [ذِكْرُ وَقْعَةِ أَجْنَادَيْنِ] قَدْ ذَكَرَهَا أَبُو جَعْفَرٍ عُقَيْبَ وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ، وَرَوَى خَبَرَهَا عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنِ اجْتِمَاعِ الْأُمَرَاءِ وَمَسِيرِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ: فَسَارَ خَالِدٌ مِنْ مَرْجِ رَاهِطٍ إِلَى بُصْرَى وَعَلَيْهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَصَالَحَهُمْ أَهْلُهَا عَلَى الْجِزْيَةِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَدِينَةٍ فُتِحَتْ بِالشَّامِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ. ثُمَّ سَارُوا جَمِيعًا إِلَى فِلَسْطِينَ مَدَدًا لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِالْعَرَبَاتِ، وَاجْتَمَعَتِ الرُّومُ بِأَجْنَادَيْنِ وَعَلَيْهِمْ تَذَارِقُ أَخُو هِرَقْلَ لِأَبَوَيْهِ، وَقِيلَ كَانَ عَلَى الرُّومِ الْقُبُقْلَارُ، وَأَجْنَادَيْنِ بَيْنَ الرَّمْلَةِ وَبَيْتِ جِبْرِينَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، وَسَارَ عَمْرُو بْنُ

الْعَاصِ حِينَ سَمِعَ بِالْمُسْلِمِينَ فَلَقِيَهُمْ، وَنَزَلُوا بِأَجْنَادَيْنِ وَعَسْكَرُوا عَلَيْهِمْ، فَبَعَثَ الْقُبُقْلَارُ عَرَبِيًّا إِلَى الْمُسْلِمِينَ يَأْتِيهِ بِخَبَرِهِمْ، فَدَخَلَ فِيهِمْ وَأَقَامَ يَوْمًا وَلَيْلَةً ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا وَرَاءَكَ؟ فَقَالَ: بِاللَّيْلِ رُهْبَانٌ وَبِالنَّهَارِ فُرْسَانٌ، وَلَوْ سَرَقَ ابْنُ مَلِكِهِمْ قَطَعُوهُ، وَلَوْ زَنَى رُجِمَ لِإِقَامَةِ الْحَقِّ فِيهِمْ. فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَنِي لَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ لِقَاءِ هَؤُلَاءِ عَلَى ظَهْرِهَا. وَالْتَقَوْا يَوْمَ السَّبْتِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ وَهُزِمَ الْمُشْرِكُونَ، وَقُتِلَ الْقُبُقْلَارُ وَتَذَارِقُ، وَاسْتُشْهِدَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِنْهُمْ: سَلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَنُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّحَامُ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ بِالْيَرْمُوكِ، وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ قَالَ: ثُمَّ جَمَعَ هِرَقْلُ لِلْمُسْلِمِينَ فَالْتَقَوْا بِالْيَرْمُوكِ، وَجَاءَهُمْ خَبَرُ وَفَاةِ أَبِي بَكْرٍ وَهُمْ مُصَافُّونَ، وَوِلَايَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ فِي رَجَبٍ. هَذِهِ سِيَاقَةُ الْخَبَرِ وَكَانَ فِيمَنْ قُتِلَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ الْفِهْرِيُّ، وَلَهُ صُحْبَةٌ، وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَهُوَ مِنْ مُهَاجَرَةِ الْحَبَشَةِ، وَقُتِلَ بِالْيَرْمُوكِ، وَمِمَّنْ قُتِلَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَقِيلَ: قُتِلَ بِمَرْجِ الصُّفَّرِ، وَقِيلَ: مَاتَ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسٍ. وَفِيهَا قُتِلَ طُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ الْقُرَشِيُّ، وَقُتِلَ بِالْيَرْمُوكِ، شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ. وَفِيهَا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَهْمٍ الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ يَوْمَ الْفَتْحِ. وَفِيهَا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ جَمْعًا مِنَ الرُّومِ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَ ثَلَاثِينَ سَنَةً. وَفِيهَا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الطُّفَيْلِ الدَّوْسِيُّ، وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِذِي النُّورِ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، قَدِيمَ الْإِسْلَامِ، هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ.

ذكر وفاة أبي بكر

(أَجْنَادَيْنِ بَعْدَ الْجِيمِ نُونٌ، وَدَالٌ مُهْمَلَةٌ مَفْتُوحَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْسِرُهَا، ثُمَّ يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتِهَا سَاكِنَةٌ، وَآخِرُهُ نُونٌ) . وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ وَقْعَةَ أَجْنَادَيْنِ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَسَيَرِدُ ذِكْرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. [ذِكْرُ وَفَاةِ أَبِي بَكْرٍ] كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِثَمَانِي لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ سَمَّهُ الْيَهُودُ فِي أَرُزٍّ، وَقِيلَ فِي حَرِيرَةٍ، وَهِيَ الْحَسْوُ، فَأَكَلَ هُوَ وَالْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ، فَكَفَّ الْحَارِثُ وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَكَلْنَا طَعَامًا مَسْمُومًا سُمَّ سَنَةً. فَمَاتَا بَعْدَ سَنَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ اغْتَسَلَ وَكَانَ يَوْمًا بَارِدًا، فَحُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَخْرُجُ إِلَى صَلَاةٍ، فَأَمَرَ عُمَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ. وَلَمَّا مَرِضَ قَالَ لَهُ النَّاسُ: أَلَا نَدْعُوَ الطَّبِيبَ؟ قَالَ: قَدْ أَتَانِي وَقَالَ لِي: أَنَا فَاعِلٌ مَا أُرِيدُ. فَعَلِمُوا مُرَادَهُ وَسَكَتُوا عَنْهُ، ثُمَّ مَاتَ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرَ لَيَالٍ، وَقِيلَ: كَانَتْ سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إِلَّا أَرْبَعَ لَيَالٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ بَعْدَ الْفِيلِ بِثَلَاثِ سِنِينَ. وَأَوْصَى أَنْ تُغَسِّلَهُ زَوْجَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْهِ وَيُشْتَرَى مَعَهُمَا ثَوْبٌ ثَالِثٌ، وَقَالَ: الْحَيُّ أَحْوَجُ إِلَى الْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ، إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ وَالصَّدِيدِ. وَدُفِنَ لَيْلًا وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، وَحُمِلَ عَلَى السَّرِيرِ الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَخَلَ قَبْرَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ، وَجُعِلَ رَأْسُهُ عِنْدَ كَتِفَيِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَلْصَقُوا لَحْدَهُ بِلَحْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجُعِلَ قَبْرُهُ مِثْلَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسَطَّحًا. وَأَقَامَتْ عَائِشَةُ عَلَيْهِ النَّوْحَ، فَنَهَاهُنَّ عَنِ الْبُكَاءِ عُمَرُ، فَأَبَيْنَ، فَقَالَ لِهِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ: ادْخُلْ فَأَخْرِجْ إِلَيَّ ابْنَةَ أَبِي قُحَافَةَ،

أسماء قضاته وعماله وكتابه

فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ أُمَّ فَرْوَةَ ابْنَةَ أَبِي قُحَافَةَ، فَعَلَاهَا بِالدِّرَّةِ ضَرَبَاتٍ، فَتَفَرَّقَ النَّوْحُ حِينَ سَمِعْنَ ذَلِكَ. وَكَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. وَكَانَ أَبْيَضَ خَفِيفَ الْعَارِضَتَيْنِ، أَحْنَى، لَا يَسْتَمْسِكُ إِزَارَهُ، مَعْرُوقَ الْوَجْهِ، نَحِيفًا، أَقْنَى، غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ، يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَكَانَ أَبُوهُ حَيًّا بِمَكَّةَ لَمَّا تُوُفِّيَ. وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ، وَقِيلَ: عَتِيقُ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، يَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ الْخَيْرِ سَلْمَى بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ. وَقِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: أَنْتَ عَتِيقٌ مِنَ النَّارِ، فَلَزِمَهُ، وَقِيلَ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُ عَتِيقٌ لِرِقَّةِ حُسْنِهِ وَجَمَالِهِ. وَأَسْلَمَتْ أُمُّهُ قَدِيمًا بَعْدَ إِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ، وَتَزَوَّجَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قُتَيْلَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ وَأَسْمَاءَ، وَتَزَوَّجَ أَيْضًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أُمَّ رُومَانَ، وَاسْمُهَا دَعْدُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنَانِيَّةُ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَعَائِشَةَ، وَتَزَوَّجَ فِي الْإِسْلَامِ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَتَزَوَّجَ أَيْضًا فِي الْإِسْلَامِ حَبِيبَةَ بِنْتَ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ أُمَّ كُلْثُومٍ. [أَسْمَاءُ قُضَاتِهِ وَعُمَّالِهِ وَكُتَّابِهِ] لَمَّا وَلِيَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنَا أَكْفِيكَ الْمَالَ. وَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنَا أَكْفِيكَ الْقَضَاءَ. فَمَكَثَ عُمَرُ سَنَةً لَا يَأْتِيهِ رَجُلَانِ. وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَكْتُبُ لَهُ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَكَانَ يَكْتُبُ لَهُ مَنْ حَضَرَ.

ذكر بعض أخباره ومناقبه

وَكَانَ عَامِلُهُ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ، وَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ، وَقِيلَ: مَاتَ بَعْدَهُ، وَكَانَ عَلَى الطَّائِفِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَعَلَى صَنْعَاءَ الْمُهَاجِرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَعَلَى حَضْرَمَوْتَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَعَلَى خَوْلَانَ يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ، وَعَلَى زَبِيدٍ وَرِمَعَ أَبُو مُوسَى، وَعَلَى الْجَنَدِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَعَلَى الْبَحْرَيْنِ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ. وَبَعَثَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى نَجْرَانَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَوْرٍ إِلَى جُرَشَ، وَعِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ إِلَى دُومَةِ الْجَنْدَلِ. وَكَانَ بِالشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ وَشُرَحْبِيلُ وَيَزِيدُ وَعَمْرٌو، وَكُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى جُنْدٍ وَعَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: نِعْمَ الْقَادِرُ اللَّهُ. وَعَاشَ أَبُوهُ بَعْدَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَمَاتَ وَلَهُ سَبْعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً. [ذِكْرُ بَعْضِ أَخْبَارِهِ وَمَنَاقِبِهِ] كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَوَّلَ النَّاسِ إِسْلَامًا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ» . وَالَّذِي وَرَدَ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَنَاقِبِ كَثِيرٌ، كَشَهَادَتِهِ لَهُ الْجَنَّةَ، وَعِتْقَهُ مِنَ النَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِخِلَافَتِهِ تَعْرِيضًا، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَرْأَةِ: «إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ» ، وَكَقَوْلِهِ: «اقْتَدُوا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ» . وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَشَاهِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْتَقَ سَبْعَةَ نَفَرٍ كُلُّهُمْ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْهُمْ: بِلَالٌ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وُزِنِّيرَةُ، وَالنَّهْدِيَّةُ وَابْنُهَا، وَجَارِيَةُ بَنِي مُؤَمَّلٍ، وَأُمُّ عُبَيْسٍ وَأَسْلَمُ. وَلَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا أَنْفَقَهَا فِي اللَّهِ مَعَ مَا كَسَبَ فِي التِّجَارَةِ. وَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ خَرَجَ شَاهِرًا سَيْفَهُ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ، فَجَاءَهُ عَلِيٌّ وَأَخَذَ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ وَقَالَ لَهُ: أَيْنَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! أَقُولُ لَكَ مَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ: شِمْ سَيْفَكَ، لَا تُفْجِعْنَا بِنَفْسِكَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ أُصِبْنَا بِكَ لَا يَكُونُ لِلْإِسْلَامِ نِظَامٌ. فَرَجَعَ وَأَمْضَى الْجَيْشَ. وَكَانَ لَهُ بَيْتُ مَالٍ بِالسُّنْحِ، وَكَانَ يَسْكُنُهُ إِلَى أَنِ انْتَقَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهُ:

أَلَا نَجْعَلُ عَلَيْهِ مَنْ يَحْرُسُهُ؟ قَالَ: لَا. فَكَانَ يُنْفِقُ جَمِيعَ مَا فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَبْقَى فِيهِ شَيْءٌ، فَلَمَّا انْتَقَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَعَلَ بَيْتَ الْمَالِ مَعَهُ فِي دَارِهِ. وَفِي خِلَافَتِهِ افْتَتَحَ مَعْدِنَ بَنِي سُلَيْمٍ، وَكَانَ يُسَوِّي فِي قِسْمَتِهِ بَيْنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَبَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَقِيلَ لَهُ: لِتُقَدِّمْ أَهْلَ السَّبْقِ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَسْلَمُوا لِلَّهِ، وَوَجَبَ أَجْرُهُمْ عَلَيْهِ يُوَفِّيهِمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا بَلَاغٌ. وَكَانَ يَشْتَرِي الْأَكْسِيَةَ وَيُفَرِّقُهَا فِي الْأَرَامِلِ فِي الشِّتَاءِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ جَمَعَ عُمَرُ الْأُمَنَاءِ وَفَتَحَ بَيْتَ الْمَالِ، فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ شَيْئًا غَيْرَ دِينَارٍ سَقَطَ مِنْ غِرَارَةٍ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ الْغِفَارِيُّ: كَانَ عُمَرُ يَتَعَهَّدُ امْرَأَةً عَمْيَاءَ فِي الْمَدِينَةِ بِاللَّيْلِ، فَيَقُومُ بِأَمْرِهَا، فَكَانَ إِذَا جَاءَهَا وَجَدَ غَيْرَهُ قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا، فَفَعَلَ مَا أَرَادَتْ. فَرَصَدَهُ عُمَرُ فَإِذَا هُوَ أَبُو بَكْرٍ، كَانَ يَأْتِيهَا وَيَقْضِي أَشْغَالَهَا سِرًّا وَهُوَ خَلِيفَةٌ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ هُوَ لَعَمْرِي! قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا بَكْرٍ الْوَفَاةُ حَضَرَتْهُ عَائِشَةُ وَهُوَ يُعَالِجُ الْمَوْتَ فَتَمَثَّلَتْ: لَعُمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ فَنَظَرَ إِلَيْهَا كَالْغَضْبَانِ ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ نَحَلْتُكِ حَائِطَ كَذَا وَفِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ، فَرُدِّيهِ عَلَى الْمِيرَاثِ، فَرَدَّتْهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ. قَالَتْ: مَنِ الثَّانِيَةُ؟ إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ. قَالَ: ذَاتُ بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ، يَعْنِي زَوْجَتَهُ، وَكَانَتْ حَامِلًا فَوَلَدَتْ أُمَّ كُلْثُومٍ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَقَالَ لَهَا: أَمَا إِنَّا مُنْذُ وَلِينَا أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ نَأْكُلْ لَهُمْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَلَكِنَّا قَدْ أَكَلْنَا مِنْ جَرِيشِ طَعَامِهِمْ، وَلَبِسْنَا مَنْ خَشِنِ ثِيَابِهِمْ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا هَذَا الْعَبْدُ وَهَذَا الْبَعِيرُ وَهَذِهِ الْقَطِيفَةُ، فَإِذَا مُتُّ فَابْعَثِي بِالْجَمِيعِ إِلَى عُمَرَ. فَلَمَّا مَاتَ بَعَثَتْهُ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا رَآهُ بَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ إِلَى الْأَرْضِ وَجَعَلَ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ! لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ. وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ. وَأَمَرَ بِرَفْعِهِ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَسْلُبُ عِيَالَ أَبِي بَكْرٍ عَبْدًا وَنَاضِحًا وَسَحَقَ قَطِيفَةٍ ثَمَنُهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَلَوْ أَمَرْتَ بِرَدِّهَا عَلَيْهِمْ. فَقَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَكُونُ هَذَا فِي وِلَايَتِي، وَلَا خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مِنْهُ وَأَتَقَلَّدُهُ أَنَا. وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُرَدَّ جَمِيعُ مَا أَخَذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِنَفَقَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ زَوْجَتَهُ اشْتَهَتْ حُلْوًا فَقَالَ: لَيْسَ لَنَا مَا نَشْتَرِي بِهِ، فَقَالَتْ: أَنَا أَسْتَفْضِلُ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ مَا نَشْتَرِي بِهِ. قَالَ: افْعَلِي، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ لَهَا فِي أَيَّامٍ

ذكر استخلافه عمر بن الخطاب

كَثِيرَةٍ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَلَمَّا عَرَّفَتْهُ لِيَشْتَرِيَ بِهِ حُلْوًا أَخَذَهُ، فَرَدَّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَقَالَ: هَذَا يَفْضُلُ عَنْ قُوتِنَا، وَأَسْقَطَ مِنْ نَفَقَتِهِ بِمِقْدَارِ مَا نَقَصَتْ كُلَّ يَوْمٍ، وَغَرَمَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ مِنْ مِلْكٍ كَانَ لَهُ. هَذَا وَاللَّهِ هُوَ التَّقْوَى الَّذِي لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ وَبِحَقٍّ قَدَّمَهُ النَّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ. وَكَانَ مَنْزِلُ أَبِي بَكْرٍ بِالسُّنْحِ عِنْدَ زَوْجَتِهِ حَبِيبَةَ بِنْتِ خَارِجَةَ، فَأَقَامَ هُنَالِكَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بَعْدَمَا بُويِعَ لَهُ، وَكَانَ يَغْدُو عَلَى رِجْلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَرُبَّمَا رَكِبَ فَرَسَهُ، فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَإِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ رَجَعَ إِلَى السُّنْحِ، وَكَانَ إِذَا غَابَ صَلَّى بِالنَّاسِ عُمَرُ. وَكَانَ يَغْدُو كُلَّ يَوْمٍ إِلَى السُّوقِ فَيَبِيعُ وَيَبْتَاعُ، وَكَانَتْ لَهُ قِطْعَةُ غَنَمٍ تَرُوحُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا خَرَجَ هُوَ بِنَفْسِهِ فِيهَا، وَرُبَّمَا رُعِيَتْ لَهُ، وَكَانَ يَحْلِبُ لِلْحَيِّ أَغْنَامَهُمْ، فَلَمَّا بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ قَالَتْ جَارِيَةٌ مِنْهُمْ: الْآنَ لَا يَحْلِبُ لَنَا مَنَائِحَ دَارِنَا، فَسَمِعَهَا فَقَالَ: بَلَى لَعَمْرِي لَأَحْلِبَنَّهَا لَكُمْ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يُغَيِّرَ بِي مَا دَخَلْتُ فِيهِ. فَكَانَ يَحْلِبُ لَهُمْ. ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ خِلَافَتِهِ وَقَالَ: مَا تَصْلُحُ أُمُورُ النَّاسِ مَعَ التِّجَارَةِ، وَمَا يَصْلُحُ إِلَّا التَّفَرُّغُ لَهُمْ وَالنَّظَرُ فِي شَأْنِهِمْ. فَتَرَكَ التِّجَارَةَ، وَأَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُصْلِحُهُ وَعِيَالَهُ يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَيَحُجُّ وَيَعْتَمِرُ، فَكَانَ الَّذِي فَرَضُوا لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَقِيلَ: فَرَضُوا لَهُ مَا يَكْفِيهِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَنْ تُبَاعَ أَرْضٌ لَهُ وَيُصْرَفَ ثَمَنُهَا عِوَضَ مَا أَخَذَهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ أَوَّلَ وَالٍ فَرَضَ لَهُ رَعِيَّتُهُ نَفَقَتَهُ، وَأَوَّلَ خَلِيفَةٍ وَلِيَ وَأَبُوهُ حَيٌّ، وَأَوَّلَ مَنْ سَمَّى مُصْحَفَ الْقُرْآنِ مُصْحَفًا، وَأَوَّلَ مَنْ سُمِّيَ خَلِيفَةً. (زِنِّيرَةُ بِكَسْرِ الزَّايِ، وَالنُّونُ مُشَدَّدَةٌ. وَعُبَيْسٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ، ثُمَّ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ، وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ. وَمُنْيَةُ بِالنُّونِ السَّاكِنَةِ، وَالْيَاءُ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ) . [ذِكْرُ اسْتِخْلَافِهِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ] لَمَّا نَزَلَ بِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَوْتُ دَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ عُمَرَ. فَقَالَ: إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ رَأْيِكَ إِلَّا أَنَّهُ فِيهِ غِلْظَةٌ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَرَانِي رَقِيقًا، وَلَوْ أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَيْهِ لَتَرَكَ كَثِيرًا مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ، وَقَدْ رَمَقْتُهُ فَكُنْتُ إِذَا غَضِبْتُ عَلَى رَجُلٍ أَرَانِي الرِّضَاءَ عَنْهُ، وَإِذَا لِنْتُ لَهُ أَرَانِي الشِّدَّةَ عَلَيْهِ. وَدَعَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَقَالَ

لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ عُمَرَ. فَقَالَ: سَرِيرَتُهُ خَيْرٌ مِنْ عَلَانِيَتِهِ، وَلَيْسَ فِينَا مِثْلُهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَهُمَا: لَا تَذْكُرَا مِمَّا قُلْتُ لَكُمَا شَيْئًا، وَلَوْ تَرَكْتُهُ مَا عَدَوْتُ عُثْمَانَ، وَالْخِيرَةُ لَهُ أَنْ لَا يَلِيَ مِنْ أُمُورِكُمْ شَيْئًا، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مِنْ أُمُورِكُمْ خِلْوًا، وَكُنْتُ فِيمَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِكُمْ. وَدَخَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: اسْتَخْلَفْتَ عَلَى النَّاسِ عُمَرَ وَقَدْ رَأَيْتَ مَا يَلْقَى النَّاسُ مِنْهُ وَأَنْتَ مَعَهُ، وَكَيْفَ بِهِ إِذَا خَلَا بِهِمْ وَأَنْتَ لَاقٍ رَبَّكَ فَسَائِلُكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ! فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَجْلِسُونِي، فَأَجْلَسُوهُ، فَقَالَ: أَبِاللَّهِ تُخَوِّفُنِي! إِذَا لَقِيتُ رَبِّي فَسَأَلَنِي قُلْتُ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَى أَهْلِكَ خَيْرَ أَهْلِكَ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَحْضَرَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ خَالِيًا لِيَكْتُبَ عَهْدَ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا عَهِدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا بَعْدُ 000 - ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ - فَكَتَبَ عُثْمَانُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَلَمْ آلُكُمْ خَيْرًا. ثُمَّ أَفَاقَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: اقْرَأْ عَلَيَّ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ، فَكَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: أَرَاكَ خِفْتَ أَنْ يَخْتَلِفَ النَّاسُ إِنْ مُتُّ فِي غَشْيَتِي. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا عَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. فَلَمَّا كُتِبَ الْعَهْدُ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى النَّاسِ، فَجَمَعَهُمْ وَأَرْسَلَ الْكِتَابَ مَعَ مَوْلًى لَهُ وَمَعَهُ عُمَرُ، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّاسِ: أَنْصِتُوا وَاسْمَعُوا لِخَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَمْ يَأْلُكُمْ نُصْحًا. فَسَكَنَ النَّاسُ، فَلَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابُ سَمِعُوا وَأَطَاعُوا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَشْرَفَ عَلَى النَّاسِ وَقَالَ: أَتَرْضُونَ بِمَنِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ؟ فَإِنِّي مَا اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ ذَا قَرَابَةٍ، وَإِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَلَوْتُ مِنْ جُهْدِ الرَّأْيِ. فَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. ثُمَّ أَحْضَرَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ، إِنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ فِي النَّهَارِ، وَحَقًّا فِي النَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ، وَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ، أَلَمْ تَرَ يَا عُمَرُ أَنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ وَثِقْلِهِ عَلَيْهِمْ، وَحُقَّ لِمِيزَانٍ لَا يُوضَعُ فِيهِ غَدًا إِلَّا حَقٌّ أَنْ يَكُونَ

ذكر فتح دمشق

ثَقِيلًا. أَلَمْ تَرَ يَا عُمَرُ أَنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ وَخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَحُقَّ لِمِيزَانٍ لَا يُوضَعُ فِيهِ غَدًا إِلَّا بَاطِلٌ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا. أَلَمْ تَرَ يَا عُمَرُ أَنَّمَا نَزَلَتْ آيَةُ الرَّخَاءِ مَعَ آيَةِ الشِّدَّةِ، وَآيَةُ الشِّدَّةِ مَعَ آيَةِ الرَّخَاءِ؛ لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ رَاغِبًا رَاهِبًا، لَا يَرْغَبُ رَغْبَةً يَتَمَنَّى فِيهَا عَلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ لَهُ، وَلَا يَرْهَبُ رَهْبَةً يَلْقَى فِيهَا بِيَدَيْهِ. أَوَلَمْ تَرَ يَا عُمَرُ أَنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ أَهْلَ النَّارِ بِأَسْوَأِ أَعْمَالِهِمْ، فَإِذَا ذَكَرْتُهُمْ قُلْتُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا أَكُونَ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ يُجَاوِزُ لَهُمْ مَا كَانَ مِنْ سَيِّئٍ، فَإِذَا ذَكَرْتُهُمْ قُلْتُ أَيْنَ عَمَلِي مِنْ أَعْمَالِهِمْ؟ فَإِنْ حَفِظْتَ وَصِيَّتِي فَلَا يَكُونَنَّ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ حَاضِرٍ مِنَ الْمَوْتِ، وَلَسْتَ بِمُعْجِزِهِ. وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا دُفِنَ صَعِدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَخَطَبَ النَّاسَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا مَثَلُ الْعَرَبِ مَثَلُ جَمَلٍ أَنِفٍ اتَّبَعَ قَائِدَهُ، فَلْيَنْظُرْ قَائِدُهُ حَيْثُ يَقُودُهُ، وَأَمَّا أَنَا فَوَرَبِّ الْكَعْبَةِ لَأَحْمِلَنَّكُمْ عَلَى الطَّرِيقِ! وَكَانَ أَوَّلَ كِتَابٍ كَتَبَهُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ بِتَوْلِيَةِ جُنْدِ خَالِدٍ، وَبِعَزْلِ خَالِدٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ سَاخِطًا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ كُلِّهَا؛ لِوَقْعَتِهِ بِابْنِ نُوَيْرَةَ، وَمَا كَانَ يَعْمَلُ فِي حَرْبِهِ، وَأَوَّلُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ عَزْلُ خَالِدٍ وَقَالَ: لَا يَلِي لِي عَمَلًا أَبَدًا، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ: إِنْ أَكْذَبَ خَالِدٌ نَفْسَهُ فَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكْذِبْ نَفْسَهُ فَأَنْتَ الْأَمِيرُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَانْزِعْ عِمَامَتَهُ عَنْ رَأْسِهِ، وَقَاسِمْهُ مَالَهُ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِخَالِدٍ، فَاسْتَشَارَ أُخْتَهُ فَاطِمَةَ، وَكَانَتْ عِنْدَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَقَالَتْ لَهُ: وَاللَّهِ لَا يُحِبُّكَ عُمَرُ أَبَدًا، وَمَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ تُكَذِّبَ نَفْسَكَ ثُمَّ يَنْزِعُكَ. فَقَبَّلَ رَأْسَهَا وَقَالَ: صَدَقْتِ، فَأَبَى أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فَنَزَعَ عِمَامَةَ خَالِدٍ وَقَاسَمَهُ مَالَهُ، ثُمَّ قَدِمَ خَالِدٌ عَلَى عُمَرَ بِالْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ أَقَامَ بِالشَّامِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ أَصَحُّ. [ذِكْرُ فَتْحِ دِمَشْقَ] قِيلَ: وَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ أَهْلَ الْيَرْمُوكِ اسْتَخْلَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى الْيَرْمُوكِ بَشِيرَ بْنَ كَعْبٍ الْحِمْيَرِيَّ، وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بِالصُّفَّرِ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ أَنَّ الْمُنْهَزِمِينَ اجْتَمَعُوا بِفِحْلٍ، وَأَتَاهُ الْخَبَرُ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَدَدَ قَدْ أَتَى أَهْلَ دِمَشْقَ مِنْ حِمْصَ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ عُمَرُ

يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَبْدَأَ بِدِمَشْقَ، فَإِنَّهَا حِصْنُ الشَّامِ وَبَيْتُ مَلِكِهِمْ، وَأَنْ يَشْغَلَ أَهْلُ فِحْلٍ بِخَيْلٍ تَكُونُ بِإِزَائِهِمْ، وَإِذَا فَتَحَ دِمَشْقَ سَارَ إِلَى فِحْلٍ، فَإِذَا فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ سَارَ هُوَ وَخَالِدٌ إِلَى حِمْصَ، وَتَرَكَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ وَعَمْرًا بِالْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ. فَأَرْسَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى فِحْلٍ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهَا، وَبَثَقَ الرُّومُ الْمَاءَ حَوْلَ فِحْلٍ فَوَحِلَتِ الْأَرْضُ، فَنَزَلَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَحْصُورٍ بِالشَّامِ أَهْلُ فِحْلٍ، ثُمَّ أَهْلُ دِمَشْقَ. وَبَعَثَ أَبُو عُبَيْدَةَ جُنْدًا فَنَزَلُوا بَيْنَ حِمْصَ وَدِمَشْقَ، وَأَرْسَلَ جُنْدًا آخَرَ، فَكَانُوا بَيْنَ دِمَشْقَ وَفِلَسْطِينَ، وَسَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَخَالِدٌ فَقَدِمُوا عَلَى دِمَشْقَ وَعَلَيْهَا نِسْطَاسُ، فَنَزَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى نَاحِيَةٍ، وَخَالِدٌ عَلَى نَاحِيَةٍ، وَعَمْرٌو عَلَى نَاحِيَةٍ، وَكَانَ هِرَقْلُ قَرِيبَ حِمْصَ، فَحَصَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ سَبْعِينَ لَيْلَةً حِصَارًا شَدِيدًا، وَقَاتَلُوهُمْ بِالزَّحْفِ وَالْمَجَانِيقِ، وَجَاءَتْ خُيُولُ هِرَقْلَ مُغِيثَةً دِمَشْقَ، فَمَنَعَتْهَا خُيُولُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي عِنْدَ حِمْصَ، فَخُذِلَ أَهْلُ دِمَشْقَ، وَطَمِعَ فِيهِمُ الْمُسْلِمُونَ. وَوُلِدَ لِلْبِطْرِيقِ الَّذِي عَلَى أَهْلِهَا مَوْلُودٌ، فَصَنَعَ طَعَامًا، فَأَكَلَ الْقَوْمُ وَشَرِبُوا، وَتَرَكُوا مَوَاقِفَهُمْ، وَلَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ خَالِدٍ، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَنَامُ وَلَا يُنِيمُ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِمْ شَيْءٌ، وَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ حِبَالًا كَهَيْئَةِ السَّلَالِيمِ وَأَوْهَاقًا، فَلَمَّا أَمْسَى ذَلِكَ الْيَوْمَ نَهَدَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنْدِهِ الَّذِينَ قُدِّمَ عَلَيْهِمْ، وَتَقَدَّمَهُمْ هُوَ وَالْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو وَمَذْعُورُ بْنُ عَدِيٍّ وَأَمْثَالُهُ، وَقَالُوا: إِذَا سَمِعْتُمْ تَكْبِيرًا عَلَى السُّورِ فَارْقَوْا إِلَيْنَا، وَاقْصُدُوا الْبَابَ. فَلَمَّا وَصَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى السُّورِ أَلْقَوُا الْحِبَالَ، فَعَلِقَ بِالشُّرَفِ مِنْهَا حَبْلَانِ، فَصَعِدَ فِيهِمَا الْقَعْقَاعُ وَمَذْعُورٌ وَأَثْبَتَا الْحِبَالَ بِالشُّرَفِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَكَانُ أَحْصَنَ مَوْضِعٍ بِدِمَشْقَ، وَأَكْثَرَهُ مَاءً، فَصَعِدَ الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ انْحَدَرَ خَالِدٌ وَأَصْحَابُهُ وَتُرِكَ بِذَلِكَ الْمَكَانِ مَنْ يَحْمِيهِ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ، فَكَبَّرُوا، فَأَتَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْبَابِ وَإِلَى الْحِبَالِ، وَانْتَهَى خَالِدٌ إِلَى مَنْ يَلِيهِ فَقَتَلَهُمْ، وَقَصَدَ الْبَابَ فَقَتَلَ الْبَوَّابِينَ، وَثَارَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَا يَدْرُونَ مَا الْحَالُ، وَتَشَاغَلَ أَهْلُ كُلِّ نَاحِيَةٍ بِمَا يَلِيهِمْ، وَفَتَحَ خَالِدٌ الْبَابَ وَقَتَلَ كُلَّ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الرُّومِ. فَلَمَّا رَأَى الرُّومُ ذَلِكَ قَصَدُوا أَبَا عُبَيْدَةَ وَبَذَلُوا لَهُ الصُّلْحَ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ وَفَتَحُوا لَهُ الْبَابَ

ذكر غزوة فحل

وَقَالُوا لَهُ: ادْخُلْ وَامْنَعْنَا مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَدَخَلَ أَهْلُ كُلِّ بَابٍ بِصُلْحٍ مِمَّا يَلِيهِمْ. وَدَخَلَ خَالِدٌ عَنْوَةً، فَالْتَقَى خَالِدٌ وَالْقُوَّادُ فِي وَسَطِهَا، هَذَا قَتْلًا وَنَهْبًا، وَهَذَا صَفْحًا وَتَسْكِينًا، فَأَجْرَوْا نَاحِيَةَ خَالِدٍ مَجْرَى الصُّلْحِ، وَكَانَ صُلْحُهُمْ عَلَى الْمُقَاسَمَةِ، وَقَسَمُوا مَعَهُمْ لِلْجُنُودِ الَّتِي عِنْدَ فِحْلٍ وَعِنْدَ حِمْصَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ رِدْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَأَرْسَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى عُمَرَ بِالْفَتْحِ، فَوَصَلَ كِتَابُ عُمَرَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ يَأْمُرُهُ بِإِرْسَالِ جُنْدِ الْعِرَاقِ نَحْوَ الْعِرَاقِ إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَأَرْسَلَهُمْ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ الْمِرْقَالَ، وَكَانُوا قَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ، فَأَرْسَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ عِوَضَ مَنْ قُتِلَ، وَكَانَ مِمَّنْ أَرْسَلَ الْأَشْتَرُ وَغَيْرُهُ، وَسَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى فِحْلٍ. [ذِكْرُ غَزْوَةِ فِحْلٍ] فَلَمَّا فُتِحَتْ دِمَشْقُ سَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى فِحْلٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى دِمَشْقَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، وَعَلَى النَّاسِ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، وَكَانَ عَلَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ أَبُو عُبَيْدَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَعَلَى الْخَيْلِ ضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ، وَعَلَى الرِّجَالِ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ، وَكَانَ أَهْلُ فِحْلٍ قَدْ قَصَدُوا بَيْسَانَ، فَهَمَّ بِهَا، فَنَزَلَ شُرَحْبِيلُ بِالنَّاسِ فِحْلًا، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّومِ تِلْكَ الْمِيَاهُ وَالْأَوْحَالُ، وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي تِلْكَ الْغَزَاةَ ذَاتَ الرَّدَغَةِ وَبَيْسَانَ وَفِحْلٍ. وَأَقَامَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ كِتَابَ عُمَرَ، فَاعْتَرَّهُمُ الرُّومُ، فَخَرَجُوا وَعَلَيْهِمْ سَقَلَّارُ بْنُ مِخْرَاقٍ، فَأَتَوْهُمْ وَالْمُسْلِمُونَ حَذِرُونَ، وَكَانَ شُرَحْبِيلُ لَا يَبِيتُ وَلَا يُصْبِحُ إِلَّا عَلَى تَعْبِيَةٍ، فَلَمَّا هَجَمُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُنَاظِرُوهُمْ فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ كَانَ لَهُمْ لَيْلَتَهُمْ وَيَوْمَهُمْ إِلَى اللَّيْلِ، وَأَظْلَمَ اللَّيْلُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ حَارُوا، فَانْهَزَمَ الرُّومُ وَهُمْ حَيَارَى، وَقَدْ أُصِيبَ رَئِيسُهُمْ سَقَلَّارُ وَالَّذِي يَلِيهِ فِيهِمْ نِسْطُورَسُ، وَظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ وَرَكِبُوهُمْ، وَلَمْ تَعْرِفِ الرُّومُ مَأْخَذَهُمْ، فَانْتَهَتْ بِهِمُ الْهَزِيمَةُ إِلَى الْوَحْلِ فَرَكِبُوهُ، وَلَحِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهُمْ، وَلَا يَمْنَعُونَ يَدَ لَامِسٍ، فَوَخَزُوهُمْ بِالرِّمَاحِ، فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ بِفِحْلٍ وَالْقَتْلُ بِالرِّدَاغِ، فَأُصِيبَ الرُّومُ وَهُمْ ثَمَانُونَ أَلْفًا، لَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ

ذكر فتح بلاد ساحل دمشق

يَصْنَعُ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمْ كَارِهُونَ، كَرِهُوا الْبُثُوقَ وَالْوَحْلَ، فَكَانَتْ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ فَاقْتَسَمُوهَا. وَانْصَرَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِخَالِدٍ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى حِمْصَ. وَمِمَّنْ قُتِلَ فِي هَذِهِ الْحَرْبِ السَّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ السَّهْمِيُّ، لَهُ صُحْبَةٌ. (فِحْلٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَآخِرُهُ لَامٌ) . [ذِكْرُ فَتْحِ بِلَادِ سَاحِلِ دِمَشْقَ] لَمَّا اسْتَخْلَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى دِمَشْقَ، وَسَارَ إِلَى فِحْلٍ - سَارَ يَزِيدُ إِلَى مَدِينَةِ صَيْدَا وَعِرْقَةَ وَجُبَيْلٍ وَبَيْرُوتَ، وَهِيَ سَوَاحِلُ دِمَشْقَ، عَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَخُوهُ مُعَاوِيَةَ، فَفَتَحَهَا فَتْحًا يَسِيرًا، وَجَلَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَتَوَلَّى فَتْحَ عِرْقَةَ مُعَاوِيَةُ بِنَفْسِهِ فِي وِلَايَةِ يَزِيدَ. ثُمَّ إِنَّ الرُّومَ غَلَبُوا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ السَّوَاحِلِ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ وَأَوَّلِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، فَقَصَدَهُمْ مُعَاوِيَةُ فَفَتَحَهَا، ثُمَّ رَمَّهَا وَشَحَنَهَا بِالْمُقَاتِلَةِ وَأَعْطَاهُمُ الْقَطَائِعَ. وَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ الْخِلَافَةَ وَجَمَعَ لِمُعَاوِيَةَ الشَّامَ وَجَّهَ مُعَاوِيَةُ سُفْيَانَ بْنَ مُجِيبٍ الْأَزْدِيَّ إِلَى طَرَابُلُسَ، وَهِيَ ثَلَاثُ مُدُنٍ مُجْتَمِعَةٌ، ثُمَّ بَنَى فِي مَرْجٍ عَلَى أَمْيَالٍ مِنْهَا حِصْنًا سُمِّيَ حِصْنَ سُفْيَانَ، وَقَطَعَ الْمَادَّةَ عَنْ أَهْلِهَا مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَحَاصَرَهُمْ، فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحِصَارُ اجْتَمَعُوا فِي أَحَدِ الْحُصُونِ الثَّلَاثَةِ وَكَتَبُوا إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُمِدَّهُمْ أَوْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ بِمَرَاكِبَ يَهْرُبُونَ فِيهَا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ بِمَرَاكِبَ كَثِيرَةٍ رَكِبُوا فِيهَا لَيْلًا وَهَرَبُوا. فَلَمَّا أَصْبَحَ سُفْيَانُ، وَكَانَ يَبِيتُ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي حِصْنِهِ ثُمَّ يَغْدُو عَلَى الْعَدُوِّ، وَجَدَ الْحِصْنَ خَالِيًا فَدَخَلَهُ، وَكَتَبَ بِالْفَتْحِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَسْكَنَهُ مُعَاوِيَةُ جَمَاعَةً كَثِيرَةً

ذكر فتح بيسان وطبرية

مِنَ الْيَهُودِ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْمِينَا الْيَوْمَ، ثُمَّ بَنَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَحَصَّنَهُ، ثُمَّ نَقَضَ أَهْلُهُ أَيَّامَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَفَتَحَهُ ابْنُهُ الْوَلِيدُ فِي زَمَانِهِ. [ذِكْرُ فَتْحِ بَيْسَانَ وَطَبَرِيَّةَ] لَمَّا قَصَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ حِمْصَ مِنْ فِحْلٍ أَرْسَلَ شُرَحْبِيلَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى بَيْسَانَ، فَقَاتَلُوا أَهْلَهَا، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ صَالَحَهُمْ مَنْ بَقِيَ عَلَى صُلْحِ دِمَشْقَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ قَدْ بَعَثَ بِالْأَعْوَرِ إِلَى طَبَرِيَّةَ يُحَاصِرُهَا، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى صُلْحِ دِمَشْقَ أَيْضًا، وَأَنْ يُشَاطِرُوا الْمُسْلِمِينَ الْمَنَازِلَ، فَنَزَلَهَا الْقُوَّادُ وَخُيُولُهَا، وَكَتَبُوا بِالْفَتْحِ إِلَى عُمَرَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ هَذِهِ الْغَزَوَاتِ كَانَ قَبْلَ الْأُخْرَى، فَقِيلَ مَا ذَكَرْنَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا فَرَغُوا مِنْ أَجْنَادَيْنِ اجْتَمَعَ الْمُنْهَزِمُونَ بِفِحْلٍ، فَقَصَدَهَا الْمُسْلِمُونَ فَظَفِرُوا بِهَا. ثُمَّ لَحِقَ الْمُنْهَزِمُونَ مِنْ فِحْلٍ بِدِمَشْقَ، فَقَصَدَهَا الْمُسْلِمُونَ فَحَاصَرُوهَا وَفَتَحُوهَا، وَقَدِمَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِعَزْلِ خَالِدٍ وَوِلَايَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَهُمْ مُحَاصِرُونَ دِمَشْقَ، فَلَمْ يُعَرِّفْهُ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَلِكَ حَتَّى فَرَغُوا مِنْ صُلْحِ دِمَشْقَ، وَكَتَبَ الْكِتَابَ بَاسِمِ خَالِدٍ، وَأَظْهَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَزْلَهُ، وَكَانَتْ فِحْلٌ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَفَتْحُ دِمَشْقَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ وَقْعَةَ الْيَرْمُوكِ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَلَمْ تَكُنْ لِلرُّومِ بَعْدَهَا وَقْعَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا لِقُرْبِ بَعْضِ ذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ.

ذكر خبر المثنى بن حارثة وأبي عبيد بن مسعود

[ذِكْرُ خَبَرِ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ وَأَبِي عُبَيْدِ بْنِ مَسْعُودٍ] قَدْ ذَكَرْنَا قُدُومَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيِّ مِنَ الْعِرَاقِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَوَصِيَّةَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرَ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى إِرْسَالِ الْجُيُوشِ مَعَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ عُمَرُ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ أَوَّلُ مَا عَمِلَ أَنْ نَدَبَ النَّاسَ مَعَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيِّ إِلَى أَهْلِ فَارِسَ، ثُمَّ بَايَعَ النَّاسَ، ثُمَّ نَدَبَ النَّاسَ وَهُوَ يُبَايِعُهُمْ، ثَلَاثًا، وَلَا يَنْتَدِبُ أَحَدٌ إِلَى فَارِسَ، وَكَانُوا أَثْقَلَ الْوُجُوهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَكْرَهَهُمْ إِلَيْهِمْ لِشِدَّةِ سُلْطَانِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ وَقَهْرِهِمُ الْأُمَمَ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ نَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَكَانَ أَوَّلَ مُنْتَدِبٍ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَهُوَ وَالِدُ الْمُخْتَارِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَسَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ، وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَتَتَابَعَ النَّاسُ. وَتَكَلَّمَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَعْظُمَنَّ عَلَيْكُمْ هَذَا الْوَجْهُ، فَإِنَّا قَدْ فَتَحْنَا رِيفَ فَارِسَ، وَغَلَبْنَاهُمْ عَلَى خَيْرِ شِقَيِّ السَّوَادِ، وَنِلْنَا مِنْهُمْ، وَاجْتَرَأْنَا عَلَيْهِمْ، وَلَنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا بَعْدَهَا. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَقِيلَ لِعُمَرَ: أَمِّرْ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنَ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَوِ الْأَنْصَارِ. قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ، إِنَّمَا رَفَعَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِسَبْقِهِمْ وَمُسَارَعَتِهِمْ إِلَى الْعَدُوِّ، فَإِذَا فَعَلَ فِعْلَهُمْ قَوْمٌ وَتَثَاقَلُوا كَانَ الَّذِينَ يَنْفِرُونَ خِفَافًا وَثِقَالًا وَيَسْبِقُونَ إِلَى الرَّفْعِ أَوْلَى بِالرِّئَاسَةِ مِنْهُمْ، وَاللَّهِ لَا أُؤَمِّرُ عَلَيْهِمْ إِلَّا أَوَّلَهُمُ انْتِدَابًا، ثُمَّ دَعَا أَبَا عُبَيْدٍ، وَسَعْدًا وَسَلِيطًا، وَقَالَ لَهُمَا: لَوْ سَبَقْتُمَاهُ لَوَلَيَّتُكُمَا، وَلَأَدْرَكْتُمَا بِهَا إِلَى مَا لَكُمَا مِنَ السَّابِقَةِ. فَأَمَّرَ أَبَا عُبَيْدٍ وَقَالَ لَهُ: اسْمَعْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَشْرِكْهُمْ فِي الْأَمْرِ، وَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أُؤَمِّرَ سَلِيطًا إِلَّا سُرْعَتُهُ إِلَى الْحَرْبِ، وَفِي التَّسَرُّعِ إِلَى الْحَرْبِ ضَيَاعُ الْأَعْرَابِ، فَإِنَّهُ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا الرَّجُلُ الْمَكِيثُ. وَأَوْصَاهُ بِجُنْدِهِ. فَكَانَ بَعْثُ أَبِي عُبَيْدٍ أَوَّلَ جَيْشٍ سَيَّرَهُ عُمَرُ، ثُمَّ بَعْدَهُ سَيَّرَ يَعْلَى بْنَ مُنْيَةَ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَمَرَهُ بِإِجْلَاءِ أَهْلِ نَجْرَانَ بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْ لَا يَجْتَمِعَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ.

ذكر خبر النمارق

[ذِكْرُ خَبَرِ النَّمَارِقِ] فَسَارَ أَبُو عُبَيْدٍ الثَّقَفِيُّ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ وَسَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّانِ، وَالْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ أَحَدُ بَنِي هِنْدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَأَمَرَ عُمَرُ الْمُثَنَّى بِالتَّقَدُّمِ إِلَى أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، وَأَمَرَهُمْ بِاسْتِنْفَارِ مَنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَسَارَ الْمُثَنَّى فَقَدِمَ الْحِيرَةَ، وَكَانَتِ الْفُرْسُ تَشَاغَلَتْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتِ شَهْرِيرَانَ حَتَّى اصْطَلَحُوا عَلَى سَابُورَ بْنِ شَهْرَيَارَ بْنِ أَرْدَشِيرَ، فَثَارَتْ بِهِ آزَرْمِيدُخْتَ، فَقَتَلَتْهُ وَقَتَلَتِ الْفَرُّخْزَادَ، وَمَلَكَتْ بُورَانَ، وَكَانَتْ عَدْلًا بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رُسْتُمَ بْنِ الْفَرُّخْزَادَ بِالْخَبَرِ وَتَحُثُّهُ عَلَى السَّيْرِ، وَكَانَ عَلَى فَرْجِ خُرَاسَانَ، فَأَقْبَلَ لَا يَلْقَى جَيْشًا لِآزَرْمِيدُخْتَ إِلَّا هَزَمَهُ، حَتَّى دَخَلَ الْمَدَائِنَ، فَاقْتَتَلُوا، وَهَزَمَ سَيَاوَخْشَ وَحَصَرَهُ وَآزَرْمِيدُخْتُ بِالْمَدَائِنِ. ثُمَّ افْتَتَحَهَا رُسْتُمُ وَقَتَلَ سَيَاوَخْشَ وَفَقَأَ عَيْنَ آزَرْمِيدُخْتَ، وَنَصَّبَ بُورَانَ عَلَى أَنْ تُمَلِّكَهُ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ يَكُونُ الْمُلْكُ فِي آلِ كِسْرَى إِنْ وَجَدُوا مِنْ غِلْمَانِهِمْ أَحَدًا، وَإِلَّا فَفِي نِسَائِهِمْ، وَدَعَتْ مَرَازِبَةَ فَارِسَ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا، وَتَوَّجَتْهُ، فَدَانَتْ لَهُ فَارِسُ قَبْلَ قُدُومِ أَبِي عُبَيْدٍ. وَكَانَ مُنَجِّمًا حَسَنَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَبِالْحَوَادِثِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ وَأَنْتَ تَرَى مَا تَرَى؟ قَالَ: حُبُّ الشَّرَفِ وَالطَّمَعُ. ثُمَّ قَدِمَ الْمُثَنَّى إِلَى الْحِيرَةِ فِي عَشْرٍ، وَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدٍ بَعْدَهُ بِشَهْرٍ. فَكَتَبَ رُسْتُمُ إِلَى الدَّهَاقِينِ أَنْ يَثُورُوا بِالْمُسْلِمِينَ، وَبَعَثَ فِي كُلِّ رُسْتَاقٍ رَجُلًا يَثُورُ بِأَهْلِهِ، فَبَعَثَ جَابَانَ إِلَى فُرَاتِ بَادَقْلَى، وَبَعَثَ نَرْسِي إِلَى كَسْكَرَ وَوَعَدَهُمْ يَوْمًا، وَبَعَثَ جُنْدًا لِمُصَادَمَةِ الْمُثَنَّى، وَبَلَغَ الْمُثَنَّى الْخَبَرُ فَحَذِرَ، وَعَجَّلَ جَابَانُ وَنَزَلَ النَّمَارِقَ، وَثَارُوا وَتَوَالَوْا عَلَى الْخُرُوجِ، وَخَرَجَ أَهْلُ الرَّسَاتِيقِ مِنْ أَعْلَى الْفُرَاتِ إِلَى أَسْفَلِهِ، وَخَرَجَ الْمُثَنَّى مِنَ الْحِيرَةِ، فَنَزَلَ خَفَّانَ لِئَلَّا يُؤْتَى مِنْ خَلْفِهِ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ، وَأَقَامَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ. فَلَمَّا قَدِمَ لَبِثَ أَيَّامًا يَسْتَرِيحُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَاجْتَمَعَ إِلَى جَابَانَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، فَنَزَلَ النَّمَارِقَ، وَسَارَ إِلَيْهِ

ذكر وقعة السقاطية بكسكر

أَبُو عُبَيْدٍ فَجَعَلَ الْمُثَنَّى عَلَى الْخَيْلِ، وَكَانَ عَلَى مُجَنِّبَتِي جَابَانَ جِشْنَسَ مَاهْ وَمَرْدَانْشَاهْ، فَاقْتَتَلُوا بِالنَّمَارِقِ قِتَالًا شَدِيدًا، فَهَزَمَ اللَّهُ أَهْلَ فَارِسَ وَأُسِرَ جَابَانُ، أَسَرَهُ مَطَرُ بْنُ فِضَّةَ التَّيْمِيُّ، وَأُسِرَ مَرْدَانْشَاهْ، أَسَرَهُ أَكْتَلُ بْنُ شَمَّاخٍ الْعُكْلِيُّ فَقَتَلَهُ. وَأَمَّا جَابَانُ فَإِنَّهُ خَدَعَ مَطَرًا وَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ تُؤَمِّنَنِي وَأُعْطِيكَ غُلَامَيْنِ أَمْرَدَيْنِ خَفِيفَيْنِ فِي عَمَلِكَ، وَكَذَا وَكَذَا؟ فَفَعَلَ، فَخَلَّى عَنْهُ، فَأَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَتَوْا بِهِ أَبَا عُبَيْدٍ وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ جَابَانُ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِقَتْلِهِ. فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ أَنْ أَقْتُلَهُ وَقَدْ آمَنُهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، وَالْمُسْلِمُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، مَا لَزِمَ بَعْضَهُمْ فَقَدْ لَزِمَ كُلَّهُمْ، وَتَرَكُوهُ. وَأَرْسَلَ فِي طَلَبِ الْمُنْهَزِمِينَ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ عَسْكَرَ نَرْسِي، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ. (أَكْتَلُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الْكَافِ، وَفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقِهَا، وَفِي آخِرِهِ لَامٌ) . [ذِكْرُ وَقْعَةِ السَّقَاطِيَّةِ بِكَسْكَرَ] وَلَحِقَ الْمُنْهَزِمُونَ نَحْوَ كَسْكَرَ وَبِهَا نَرْسِي، وَهُوَ ابْنُ خَالَةِ الْمَلِكِ، وَكَانَ لَهُ النِّرْسَيَانُ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ يَحْمِيهِ، لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا مَلِكُ الْفُرْسِ أَوْ مَنْ أَكْرَمُوهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا يَغْرِسُهُ غَيْرُهُمْ، وَاجْتَمَعَ إِلَى النَّرْسِي الْفَالَّةُ، وَهُوَ فِي عَسْكَرِهِ، فَسَارَ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّمَارِقِ، وَكَانَ عَلَى مُجَنِّبَتَيْ نَرْسِي بِنَدْوَيْهِ وَتِيرَوَيْهِ ابْنَا بِسْطَامَ خَالِ الْمَلِكِ، وَمَعَهُ أَهْلُ بَارُوسْمَا وَالزَّوَابِي. وَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ بُورَانَ وَرُسْتُمَ بِهَزِيمَةِ جَابَانَ بَعَثَا الْجَالِينُوسَ إِلَى نَرْسِي، فَلَحِقَهُ قَبْلَ الْحَرْبِ، فَعَاجَلَهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ، فَالْتَقَوْا أَسْفَلَ مِنْ كَسْكَرَ، بِمَكَانٍ يُدْعَى السَّقَاطِيَّةَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا ثُمَّ انْهَزَمَتْ فَارِسُ وَهَرَبَ نَرْسِي، وَغَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَسْكَرِهِ وَأَرْضِهِ وَجَمَعُوا الْغَنَائِمَ، فَرَأَى أَبُو عُبَيْدٍ مِنَ الْأَطْعِمَةِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَنَفَّلَهُ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْعَرَبِ، وَأَخَذُوا النِّرْسِيَانَ فَأَطْعَمُوهُ الْفَلَّاحِينَ، وَبَعَثُوا بِخُمُسِهِ إِلَى عُمَرَ وَكَتَبُوا إِلَيْهِ: إِنَّ اللَّهَ أَطْعَمَنَا مَطَاعِمَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ تَحْمِيهَا، وَأَحْبَبْنَا أَنْ تَرَوْهَا؛ لِتَشْكُرُوا إِنْعَامَ اللَّهِ وَإِفْضَالَهُ. وَأَقَامَ أَبُو عُبَيْدٍ.

ذكر وقعة الجالينوس

وَبَعَثَ أَبُو عُبَيْدٍ الْمَثَنَّى إِلَى بَارُوسْمَا، وَبَعَثَ وَالِقًا إِلَى الزَّوَابِي، وَعَاصِمًا إِلَى نَهْرِ جَوْبَرَ، فَهَزَمُوا مَنْ كَانَ تَجَمَّعَ، وَأَخْرَجُوا وَسَبَوْا أَهْلَ زَنْدَوَرْدَ وَغَيْرِهَا، وَبَذَلَ لَهُمْ فَرُّوخُ وَفَرَاوَنْدَادُ عَنْ أَهْلِ بَارُوسْمَا وَالزَّوَابِي وَكَسْكَرَ - الْجَزَاءَ مُعَجَّلًا، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ وَصَارُوا صُلْحًا، وَجَاءَ فَرُّوخُ وَفَرَاوَنْدَادُ إِلَى أَبِي عُبَيْدٍ بِأَنْوَاعِ الطَّعَامِ وَالْأَخْصِبَةِ وَغَيْرِهَا، فَقَالَ: هَلْ أَكْرَمْتُمُ الْجُنْدَ بِمِثْلِهَا؟ فَقَالُوا: لَمْ يَتَسَيَّرْ وَنَحْنُ فَاعِلُونَ. وَكَانُوا يَتَرَبَّصُونَ قُدُومَ الْجَالِينُوسِ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ، بِئْسَ الْمَرْءُ أَبُو عُبَيْدٍ إِنْ صَحِبَ قَوْمًا مِنْ بِلَادِهِمُ اسْتَأْثَرَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا اللَّهِ لَا آكُلُ مَا أَتَيْتُمْ بِهِ وَلَا مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ إِلَّا مِثْلَ مَا يَأْكُلُ أَوْسَاطُهُمْ. فَلَمَّا هُزِمَ الْجَالِينُوسُ أَتَوْهُ بِالْأَطْعِمَةِ أَيْضًا، فَقَالَ: مَا آكُلُ هَذَا دُونَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالُوا لَهُ: لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ أَتَى بِمِثْلِ هَذَا، فَأَكَلَ حِينَئِذٍ. [ذِكْرُ وَقْعَةِ الْجَالِينُوسِ] وَلَمَّا بَعَثَ رُسْتُمُ الْجَالِينُوسَ أَمَرَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِنَرْسِي، ثُمَّ يُقَاتِلَ أَبَا عُبَيْدٍ، فَبَادَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَى نَرْسِي فَهَزَمَهُ، وَجَاءَ الْجَالِينُوسُ فَنَزَلَ بِبَاقُسْيَاثَا مِنْ بَارُوسْمَا، فَسَارَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ وَهُوَ عَلَى تَعْبِيَتِهِ، فَالْتَقَوْا بِهَا، فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهَرَبَ الْجَالِينُوسُ، وَغَلَبَ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ حَتَّى قَدِمَ الْحِيرَةَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى أَرْضِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْجَبْرِيَّةِ، تُقْدِمُ عَلَى قَوْمٍ تَجَرَّءُوا عَلَى الشَّرِّ فَعَلِمُوهُ، وَتَنَاسَوُا الْخَيْرَ فَجَهِلُوهُ، فَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ، وَاحْرِزْ لِسَانَكَ، وَلَا تُفْشِيَنَّ سِرَّكَ، فَإِنَّ صَاحِبَ السِّرِّ مَا يَضْبُطُهُ مُتَحَصِّنٌ لَا يُؤْتَى مِنْ وَجْهٍ يَكْرَهُهُ، وَإِذَا ضَيَّعَهُ كَانَ بِمَضْيَعَةٍ. [ذِكْرُ وَقْعَةِ قُسِّ النَّاطِفِ وَيُقَالُ لَهَا الْجِسْرُ وَيُقَالُ الْمَرْوَحَةُ وَقَتْلِ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ مَسْعُودٍ] وَلَمَّا رَجَعَ الْجَالِينُوسُ إِلَى رُسْتُمَ مُنْهَزِمًا وَمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنْدِهِ قَالَ رُسْتُمُ: أَيُّ الْعَجَمِ

أَشَدُّ عَلَى الْعَرَبِ؟ قَالَ: بَهْمَنْ جَاذَوَيْهِ الْمَعْرُوفُ بِذِي الْحَاجِبِ - وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ ذُو الْحَاجِبِ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْصِبُ حَاجِبَيْهِ بِعِصَابَةٍ لِيَرْفَعَهُمَا كِبْرًا. فَوَجَّهَهُ وَمَعَهُ فِيَلَةٌ، وَرَدَّ الْجَالِينُوسَ مَعَهُ وَقَالَ لِبَهْمَنَ: إِنِ انْهَزَمَ الْجَالِينُوسُ ثَانِيَةً فَاضْرِبْ عُنُقَهُ. فَأَقْبَلَ بَهْمَنْ جَاذَوَيْهِ وَمَعَهُ دِرَفْشَ كَابِيَانَ رَايَةُ كِسْرَى، وَكَانَتْ مِنْ جُلُودِ النَّمِرِ، عَرْضَ ثَمَانِيَةِ أَذْرُعٍ، وَطُولَ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا، فَنَزَلَ بِقُسِّ النَّاطِفِ. وَأَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدٍ فَنَزَلَ بِالْمَرْوَحَةِ، فَرَأَتْ دَوْمَةُ - امْرَأَتُهُ أُمُّ الْمُخْتَارِ ابْنِهِ - أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ، فَشَرِبَ أَبُو عُبَيْدٍ وَمَعَهُ نَفَرٌ، فَأَخْبَرَتْ بِهَا أَبَا عُبَيْدٍ فَقَالَ: لِهَذِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ شَهَادَةٌ! وَعَهِدَ إِلَى النَّاسِ فَقَالَ: إِنْ قُتِلْتُ فَعَلَى النَّاسِ فُلَانٌ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَلَيْهِمْ فُلَانٌ، حَتَّى أَمَّرَ الَّذِينَ شَرِبُوا مِنَ الْإِنَاءِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُتِلَ فَعَلَى النَّاسِ الْمُثَنَّى. وَبَعَثَ إِلَيْهِ بَهْمَنْ جَاذَوَيْهِ: إِمَّا أَنْ تَعْبُرَ إِلَيْنَا وَنَدَعَكُمْ وَالْعُبُورَ، وَإِمَّا أَنْ تَدَعُونَا نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ. فَنَهَاهُ النَّاسُ عَنِ الْعُبُورِ، وَنَهَاهُ سَلِيطٌ أَيْضًا، فَلَجَّ وَتَرَكَ الرَّأْيَ وَقَالَ: لَا يَكُونُوا أَجْرَأَ عَلَى الْمَوْتِ مِنَّا. فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ عَلَى جِسْرٍ عَقَدَهُ ابْنُ صَلُوبَا لِلْفَرِيقَيْنِ، وَضَاقَتِ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا وَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا نَظَرَتِ الْخُيُولُ إِلَى الْفِيَلَةِ، وَالْخَيْلُ عَلَيْهَا التَّجَافِيفُ، رَأَتْ شَيْئًا مُنْكَرًا لَمْ تَكُنْ رَأَتْ مِثْلَهُ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا حَمَلُوا عَلَيْهِمْ لَمْ تُقْدِمْ عَلَيْهِمْ خُيُولُهُمْ، وَإِذَا حَمَلَتِ الْفُرْسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْفِيَلَةِ وَالْجَلَاجِلِ فَرَقَّتْ خُيُولَهُمْ وَكَرَادِيسَهُمْ وَرَمَوْهُمْ بِالنِّشَابِ. وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ بِالْمُسْلِمِينَ، فَتَرَجَّلَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالنَّاسُ، ثُمَّ مَشَوْا إِلَيْهِمْ ثُمَّ صَافَحُوهُمْ بِالسُّيُوفِ، فَجَعَلَتِ الْفِيَلَةُ لَا تَحْمِلُ عَلَى جَمَاعَةٍ إِلَّا دَفَعَتْهُمْ، فَنَادَى أَبُو عُبَيْدٍ: احْتَوِشُوا الْفِيَلَةَ وَاقْطَعُوا بِطَانَهَا وَاقْلِبُوا عَنْهَا أَهْلَهَا، وَوَثَبَ هُوَ عَلَى الْفِيلِ الْأَبْيَضِ فَقَطَعَ بِطَانَهُ وَوَقَعَ الَّذِينَ عَلَيْهِ، وَفَعَلَ الْقَوْمُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَمَا تَرَكُوا فِيلًا إِلَّا حَطُّوا رَحْلَهُ وَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ. وَأَهْوَى الْفِيلُ لِأَبِي عُبَيْدٍ، فَضَرَبَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِالسَّيْفِ، وَخَبَطَهُ الْفِيلُ بِيَدِهِ فَوَقَعَ، فَوَطِئَهُ الْفِيلُ وَقَامَ عَلَيْهِ. فَلَمَّا بَصُرَ بِهِ النَّاسُ تَحْتَ الْفِيلِ خَشَعَتْ أَنْفُسُ بَعْضِهِمْ، ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ الَّذِي كَانَ أَمَّرَهُ بَعْدَهُ، فَقَاتَلَ حَتَّى تَنَحَّى عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، فَأَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ فَأَحْرَزُوهُ، ثُمَّ قَتَلَ الْفِيلُ الْأَمِيرَ الَّذِي بَعْدَ أَبِي عُبَيْدٍ، وَتَتَابَعَ سَبْعَةُ أَنْفُسٍ مِنْ ثَقِيفٍ، كُلُّهُمْ يَأْخُذُ اللِّوَاءَ وَيُقَاتِلُ حَتَّى يَمُوتَ، ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ الْمُثَنَّى، فَهَرَبَ عَنْهُ النَّاسُ.

فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَرْثَدٍ الثَّقَفِيُّ مَا لَقِيَ أَبُو عُبَيْدٍ وَخُلَفَاؤُهُ، وَمَا يَصْنَعُ النَّاسُ بَادَرَهُمْ إِلَى الْجِسْرِ فَقَطَعَهُ وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ أُمَرَاؤُكُمْ أَوْ تَظْفَرُوا! وَحَازَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْجِسْرِ، فَتَوَاثَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْفُرَاتِ فَغَرِقَ مَنْ لَمْ يَصْبِرْ، وَأَسْرَعُوا فِيمَنْ صَبَرَ. وَحَمَى الْمُثَنَّى وَفُرْسَانٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ النَّاسَ وَقَالَ: إِنَّا دُونَكُمْ فَاعْبُرُوا عَلَى هَيْنَتِكُمْ، وَلَا تَدْهَشُوا، وَلَا تُغَرِّقُوا نُفُوسَكُمْ. وَقَاتَلَ عُرْوَةُ بْنُ زَيْدِ الْخَيْلِ قِتَالًا شَدِيدًا وَأَبُو مِحْجَنٍ الثَّقَفِيُّ، وَقَاتَلَ أَبُو زُبَيْدٍ الطَّائِيُّ حَمِيَّةً لِلْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا قَدِمَ الْحِيرَةَ لِبَعْضِ أَمْرِهِ، وَنَادَى الْمُثَنَّى: مَنْ عَبَرَ نَجَا. فَجَاءَ الْعُلُوجُ فَعَقَدُوا الْجِسْرَ وَعَبَرَ النَّاسُ. وَكَانَ آخِرَ مَنْ قُتِلَ عِنْدَ الْجِسْرِ سَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَبَرَ الْمُثَنَّى وَحَمَى جَانِبَهُ، فَلَمَّا عَبَرَ ارْفَضَّ عَنْهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَبَقِيَ الْمُثَنَّى فِي قِلَّةٍ، وَكَانَ قَدْ جُرِحَ وَأُثْبِتَ فِيهِ حَلَقٌ مِنْ دِرْعِهِ. وَأُخْبِرَ عُمَرُ عَمَّنْ سَارَ فِي الْبِلَادِ مِنَ الْهَزِيمَةِ اسْتِحْيَاءً، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ فِي حِلٍّ مِنِّي، أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ، يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدٍ! لَوْ كَانَ انْحَازَ إِلَيَّ لَكُنْتُ لَهُ فِئَةً. وَهَلَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ بَيْنَ قَتِيلٍ وَغَرِيقٍ، وَهَرَبَ أَلْفَانِ، وَبَقِيَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَقُتِلَ مِنَ الْفُرْسِ سِتَّةُ آلَافٍ. وَأَرَادَ بَهْمَنْ جَاذَوَيْهِ الْعُبُورَ خَلْفَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِاخْتِلَافِ الْفُرْسِ، وَأَنَّهُمْ قَدْ ثَارُوا بِرُسْتُمَ، وَنَقَضُوا الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَصَارُوا فَرِيقَيْنِ: الْفَهْلُوجُ عَلَى رُسْتُمَ، وَأَهْلُ فَارِسَ عَلَى الْفَيْرُزَانِ، فَرَجَعَ إِلَى الْمَدَائِنِ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ فِي شَعْبَانَ.

ذكر وقعة البويب

وَكَانَ فِيمَنْ قُتِلَ بِالْجِسْرِ عُقْبَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا قَيْظَى بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَا شَهِدَا أُحُدًا، وَقُتِلَ مَعَهُمَا أَخُوهُمَا عَبَّادٌ، وَلَمْ يَشْهَدْ مَعَهُمَا أُحُدًا، وَقُتِلَ أَيْضًا قَيْسُ بْنُ السَّكَنِ بْنِ قَيْسٍ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ لَا عَقِبَ لَهُ، وَقُتِلَ يَزِيدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْحُطَيْمِ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ أُحُدًا، وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو أُمَيَّةَ الْفَزَارِيُّ، لَهُ صُحْبَةٌ، وَالْحَكَمُ بْنُ مَسْعُودٍ أَخُو أَبِي عُبَيْدٍ، وَابْنُهُ جَبْرُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ مَسْعُودٍ. ذِكْرُ خَبَرِ أُلَّيْسَ الصُّغْرَى لَمَّا عَادَ ذُو الْحَاجِبِ لَمْ يَشْعُرْ جَابَانُ وَمَرْدَانْشَاهْ بِمَا جَاءَهُ مِنَ الْخَبَرِ، فَخَرَجَا حَتَّى أَخَذَا بِالطَّرِيقِ، وَبَلَغَ الْمُثَنَّى فِعْلُهُمَا، فَاسْتَخْلَفَ عَلَى النَّاسِ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو، وَخَرَجَ فِي جَرِيدَةِ خَيْلٍ يُرِيدُهُمَا، فَظَنَّا أَنَّهُ هَارِبٌ فَاعْتَرَضَاهُ، فَأَخَذَهُمَا أَسِيرَيْنِ، وَخَرَجَ أَهْلُ أُلَّيْسَ عَلَى أَصْحَابِهِمَا فَأَتَوْهُ بِهِمْ أَسْرَى، وَعَقَدَ لَهُمْ بِهَا ذِمَّةً، وَقَتَلَهُمَا وَقَتَلَ الْأَسْرَى. وَهَرَبَ أَبُو مِحْجَنٍ مِنْ أُلَّيْسَ، وَلَمْ يَرْجِعْ مَعَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ. [ذِكْرُ وَقْعَةِ الْبُوَيْبِ] لَمَّا بَلَغَ عُمَرَ خَبَرُ وَقْعَةِ أَبِي عُبَيْدٍ بِالْجِسْرِ نَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْمُثَنَّى، وَكَانَ فِيمَنْ نَدَبَ بَجِيلَةُ، وَأَمْرُهُمْ إِلَى جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ جَمَعَهُمْ مِنَ الْقَبَائِلِ وَكَانُوا مُتَفَرِّقِينَ فِيهَا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْمَعَهُمْ فَوَعَدَهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ طَلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ: إِنَّهُ مَنْ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى بَجِيلَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَثَبَتَ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَأَخْرِجُوهُ إِلَى جَرِيرٍ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَمَرَهُمْ عُمَرُ الْعِرَاقَ، وَأَبَوْا إِلَّا الشَّامَ، فَعَزَمَ عُمَرُ عَلَى الْعِرَاقِ، وَيُنَفِّلُهُمْ رُبْعَ الْخُمْسِ، فَأَجَابُوا، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ، وَبَعَثَ عِصْمَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيَّ فِيمَنْ تَبِعَهُ إِلَى الْمُثَنَّى، وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ فَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ إِلَّا رَمَى بِهِ الْمُثَنَّى، وَبَعَثَ الْمُثَنَّى الرُّسُلَ فِيمَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ، فَتَوَافَوْا إِلَيْهِ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ. وَكَانَ فِيمَنْ جَاءَهُ أَنَسُ بْنُ هِلَالٍ النَّمِرِيُّ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنَ النَّمِرِ نَصَارَى، وَقَالُوا: نُقَاتِلُ مَعَ قَوْمِنَا.

وَبَلَغَ الْخَبَرُ رُسْتُمَ وَالْفَيْرُزَانَ، فَبَعَثَا مِهْرَانَ الْهَمْذَانِيَّ إِلَى الْحِيرَةِ، فَسَمِعَ الْمُثَنَّى ذَلِكَ وَهُوَ بَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ وَخُفَّانَ، فَاسْتَبْطَنَ فُرَاتَ بَادَقْلَى، وَكَتَبَ إِلَى جَرِيرٍ وَعِصْمَةَ وَكُلِّ مَنْ أَتَاهُ مُمِدًّا لَهُ يُعْلِمُهُمُ الْخَبَرَ، وَيَأْمُرُهُمْ بِقَصْدِ الْبُوَيْبِ، فَهُوَ الْمَوْعِدُ، فَانْتَهَوْا إِلَى الْمُثَنَّى وَهُوَ بِالْبُوَيْبِ وَمِهْرَانُ بِإِزَائِهِ مِنْ وَرَاءِ الْفُرَاتِ، فَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْبُوَيْبِ مِمَّا يَلِي الْكُوفَةَ الْيَوْمَ، وَأَرْسَلَ مِهْرَانُ إِلَى الْمُثَنَّى يَقُولُ: إِمَّا أَنْ تَعْبُرَ إِلَيْنَا، وَإِمَّا أَنْ نَعْبُرَ إِلَيْكَ. فَقَالَ الْمُثَنَّى: اعْبُرُوا. فَعَبْرَ مِهْرَانُ، فَنَزَلَ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، وَعَبَّى الْمُثَنَّى أَصْحَابَهُ، وَكَانَ فِي رَمَضَانَ، فَأَمَرَهُمْ بِالْإِفْطَارِ لِيَقْوَوْا عَلَى عَدُوِّهِمْ، فَأَفْطَرُوا. وَكَانَ عَلَى مُجَنِّبَتَيِ الْمُثَنَّى بَشِيرُ بْنُ الْخَصَاصِيَّةِ، وَبُسْرُ بْنُ أَبِي رُهْمٍ، وَعَلَى مُجَرَّدَتِهِ الْمُعَنَّى أَخُوهُ، وَعَلَى الرَّجُلِ مَسْعُودٌ أَخُوهُ، وَعَلَى الرِّدْءِ مَذْعُورٌ، وَكَانَ عَلَى مُجَنِّبَتَيْ مِهْرَانَ بْنِ الْأَزَاذَبَهْ مَرْزُبَانُ الْحِيرَةِ وَمَرْدَانْشَاهْ. وَأَقْبَلَ الْفُرْسُ فِي ثَلَاثَةِ صُفُوفٍ، مَعَ كُلِّ صَفٍّ فِيلٌ، وَرَجْلُهُمْ أَمَامَ فِيلِهِمْ وَلَهُمْ زُجَّلٌ، فَقَالَ الْمُثَنَّى لِلْمُسْلِمِينَ: إِنَّ الَّذِي تَسْمَعُونَ فَشَلٌ، فَالْزَمُوا الصَّمْتَ. وَدَنَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَطَافَ الْمُثَنَّى فِي صُفُوفِهِ يَعْهَدُ إِلَيْهِمْ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ الشَّمُوسِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِلِينِهِ، وَكَانَ لَا يَرْكَبُهُ إِلَّا إِذَا قَاتَلَ، فَوَقَفَ عَلَى الرَّايَاتِ يُحَرِّضُهُمْ وَيَهُزُّهُمْ، وَلِكُلِّهِمْ يَقُولُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبَلِكُمُ الْيَوْمَ، وَاللَّهِ مَا يَسُرُّنِي الْيَوْمَ لِنَفْسِي شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ يَسُرُّنِي لِعَامَّتِكُمْ، فَيُجِيبُونَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَأَنْصَفَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَخَلَطَ النَّاسَ فِي الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَعِيبَ لَهُ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا، وَقَالَ: إِنِّي مُكَبِّرٌ ثَلَاثًا، فَتَهَيَّئُوا، ثُمَّ احْمِلُوا فِي الرَّابِعَةِ. فَلَمَّا كَبَّرَ أَوَّلَ تَكْبِيرَةٍ أَعْجَلَتْهُمْ فَارِسُ وَخَالَطُوهُمْ، وَرَكَدَتْ خَيْلُهُمْ وَحَرْبُهُمْ مَلِيًّا، فَرَأَى الْمُثَنَّى خَلَلًا فِي بَنِي عِجْلٍ، فَجَعَلَ يَمُدُّ لِحْيَتَهُ لِمَا يَرَى مِنْهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَقُولُ: الْأَمِيرُ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ وَيَقُولُ: لَا تَفْضَحُوا الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ. فَقَالُوا: نَعَمْ، وَاعْتَدَلُوا. فَضَحِكَ فَرَحًا. فَلَمَّا طَالَ الْقِتَالُ وَاشْتَدَّ قَالَ الْمُثَنَّى لِأَنَسِ بْنِ هِلَالٍ النَّمِرِيِّ: إِنَّكَ امْرُؤٌ عَرَبِيٌّ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى دِينِنَا، فَإِذَا حَمَلْتُ عَلَى مِهْرَانَ فَاحْمِلْ مَعِي، فَأَجَابَهُ، فَحَمَلَ الْمُثَنَّى عَلَى مِهْرَانَ فَأَزَالَهُ حَتَّى دَخَلَ فِي مَيْمَنَتِهِ، ثُمَّ خَالَطُوهُمْ وَاجْتَمَعَ الْقَلْبَانِ، وَارْتَفَعَ الْغُبَارُ وَالْمُجَنَّبَاتُ تُقْتَلُ، لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَفْرَغُوا لِنَصْرِ أَمِيرِهِمْ، لَا الْمُسْلِمُونَ وَلَا الْمُشْرِكُونَ، وَارْتَثَّ مَسْعُودٌ أَخُو الْمُثَنَّى يَوْمَئِذٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا أُصِيبَ مَسْعُودٌ تَضَعْضَعَ مَنْ

مَعَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ بَكْرٍ، ارْفَعُوا رَايَتَكُمْ رَفَعَكُمُ اللَّهُ، وَلَا يَهُولَنَّكُمْ مَصْرَعِي. وَكَانَ الْمُثَنَّى قَالَ لَهُمْ: إِذَا رَأَيْتُمُونَا أَصَبْنَا فَلَا تَدَعُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ، الْزَمُوا مَصَافَّكُمْ وَأَغْنُوا غَنَاءَ مَنْ يَلِيكُمْ. وَأَوْجَعَ قَلْبُ الْمُسْلِمِينَ فِي قَلْبِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَتَلَ غُلَامٌ نَصْرَانِيٌّ مِنْ تَغْلِبَ مِهْرَانَ وَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ، فَجَعَلَ الْمُثَنَّى سَلَبَهُ لِصَاحِبِ خَيْلِهِ، وَكَانَ التَّغْلِبِيُّ قَدْ جَلَبَ خَيْلًا هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ تَغْلِبَ، فَلَمَّا رَأَوُا الْقِتَالَ قَاتَلُوا مَعَ الْعَرَبِ، قَالَ: وَأَفْنَى الْمُثَنَّى قَلْبَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُجَنَّبَاتُ بَعْضُهَا يُقَاتِلُ بَعْضًا. فَلَمَّا رَأَوْهُ قَدْ أَزَالَ الْقَلْبَ وَأَفْنَى أَهْلَهُ وَثَبَ مُجَنَّبَاتُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مُجَنَّبَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَجَعَلُوا يَرُدُّونَ الْأَعَاجِمَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ، وَجَعَلَ الْمُثَنَّى وَالْمُسْلِمُونَ فِي الْقَلْبِ يَدْعُونَ لَهُمْ بِالنَّصْرِ، وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ مَنْ يَذْمُرُهُمْ وَيَقُولُ لَهُمْ: عَادَاتُكُمْ فِي أَمْثَالِكُمْ، انْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، حَتَّى هَزَمُوا الْفُرْسَ، وَسَبَقَهُمُ الْمُثَنَّى إِلَى الْجِسْرِ وَأَخَذَ طَرِيقَ الْأَعَاجِمِ، فَافْتَرَقُوا مُصَعِّدِينَ وَمُنْحَدِرِينَ، وَأَخَذَتْهُمْ خُيُولُ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَتَلُوهُمْ وَجَعَلُوهُمْ جُثًّا. فَمَا كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفُرْسِ وَقْعَةٌ أَبْقَى رِمَّةً مِنْهَا، بَقِيَتْ عِظَامُ الْقَتْلَى دَهْرًا طَوِيلًا، وَكَانُوا يَحْزِرُونَ الْقَتْلَى مِائَةَ أَلْفٍ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْأَعْشَارَ، أُحْصِيَ مِائَةُ رَجُلٍ قَتَلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَشْرَةً. وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ زَيْدِ الْخَيْلِ مِنْ أَصْحَابِ التِّسْعَةِ، وَغَالِبٌ الْكِنَانِيُّ وَعَرْفَجَةُ الْأَزْدِيُّ مِنْ أَصْحَابِ التِّسْعَةِ. وَقُتِلَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَ السَّكُونِ الْمُثَنَّى عَلَى أَخْذِهِ بِالْجِسْرِ وَقَالَ: عَجَزْتُ عَجْزَةً وَقَى اللَّهُ شَرَّهَا بِمُسَابَقَتِي إِيَّاهُمْ إِلَى الْجِسْرِ حَتَّى أَحْرَجْتُهُمْ، فَلَا تَعُودُوا أَيُّهَا النَّاسُ إِلَى مِثْلِهَا، فَإِنَّهَا كَانَتْ زَلَّةً، فَلَا يَنْبَغِي إِحْرَاجُ مَنْ لَا يَقْوَى عَلَى امْتِنَاعٍ. وَمَاتَ أُنَاسٌ مِنَ الْجَرْحَى، مِنْهُمْ: مَسْعُودٌ أَخُو الْمُثَنَّى، وَخَالِدُ بْنُ هِلَالٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِمُ الْمُثَنَّى وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيُهَوِّنُ وَجْدِي أَنْ صَبَرُوا وَشَهِدُوا الْبُوَيْبَ، وَلَمْ يَنْكِلُوا. وَكَانَ قَدْ أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ غَنَمًا وَدَقِيقًا وَبَقَرًا، فَبَعَثُوا بِهِ إِلَى عِيَالِ مَنْ قَدِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَهُمْ بِالْقَوَادِسِ. وَأَرْسَلَ الْمُثَنَّى الْخَيْلَ فِي طَلَبِ الْعَجَمِ، فَبَلَغُوا السِّيبَ وَغَنِمُوا مِنَ الْبَقْرِ وَالسَّبْيِ وَسَائِرِ الْغَنَائِمِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَقَسَّمَهُ فِيهِمْ، وَنَفَّلَ أَهْلَ الْبِلَادِ، وَأَعْطَى بَجِيلَةَ رُبْعَ الْخُمْسِ، وَأَرْسَلَ الَّذِينَ تَبِعُوا الْمُنْهَزِمِينَ إِلَى الْمُثَنَّى يُعَرِّفُونَهُ سَلَامَتَهُمْ، وَأَنَّهُ لَا مَانِعَ

ذكر خبر الخنافس وسوق بغداد

دُونَ الْقَوْمِ، وَيَسْتَأْذِنُونَهُ فِي الْإِقْدَامِ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَغَارُوا حَتَّى بَلَغُوا سَابَاطَ، وَتَحَصَّنَ أَهْلُهُ مِنْهُمْ وَاسْتَبَاحُوا الْقُرَى، ثُمَّ مَخَرُوا السَّوَادَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دِجْلَةَ، لَا يَخَافُونَ كَيْدًا وَلَا يَلْقَوْنَ مَانِعًا، وَرَجَعَتْ مَسَالِحُ الْعَجَمِ إِلَيْهِمْ، وَسَرَّهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا مَا وَرَاءَ دِجْلَةَ. (بُسْرُ بْنُ أَبِي رُهْمٍ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ) . [ذِكْرُ خَبَرِ الْخَنَافِسِ وَسُوقِ بَغْدَادَ] ثُمَّ خَلَّفَ الْمُثَنَّى بِالْحِيرَةِ بَشِيرَ بْنَ الْخَصَاصِيَّةِ، وَسَارَ يَمْخُرُ السَّوَادَ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَيْسَانَ وَدَسْتُمَيْسَانَ، وَأَذْكَى الْمَسَالِحَ، وَنَزَلَ أُلَّيْسَ، قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْأَنْبَارِ، وَهَذِهِ الْغَزْوَةُ تُدْعَى غَزْوَةَ الْأَنْبَارِ الْآخِرَةِ، وَغَزْوَةَ أُلَّيْسَ الْآخِرَةِ. وَجَاءَ الْمُثَنَّى رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْبَارِيٌّ فَدَلَّهُ عَلَى سُوقِ الْخَنَافِسِ، وَالثَّانِي حِيرِيٌّ دَلَّهُ عَلَى بَغْدَادَ، فَقَالَ الْمُثَنَّى: أَيَّتُهُمَا قَبْلَ صَاحِبَتِهَا؟ فَقَالَا: بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ أَيَّامٍ. قَالَ: أَيُّهُمَا أَعْجَلُ؟ قَالَا: سُوقُ الْخَنَافِسِ يَجْتَمِعُ بِهَا تُجَّارُ مَدَائِنِ كِسْرَى، وَالسَّوَادُ وَرَبِيعَةُ وَقُضَاعَةُ يَخْفِرُونَهُمْ. فَرَكِبَ الْمُثَنَّى وَأَغَارَ عَلَى الْخَنَافِسِ يَوْمَ سُوقِهَا، وَبِهَا خَيْلَانِ مِنْ رَبِيعَةَ وَقُضَاعَةَ، وَعَلَى قُضَاعَةَ رُومَانِسُ بْنُ وَبَرَةَ، وَعَلَى رَبِيعَةَ السَّلِيلُ بْنُ قَيْسٍ وَهُمُ الْخُفَرَاءُ، فَانْتَسَفَ السُّوقَ وَمَا فِيهَا، وَسَلَبَ الْخُفَرَاءَ. ثُمَّ رَجَعَ فَأَتَى الْأَنْبَارَ فَتَحَصَّنَ أَهْلُهَا مِنْهُ، فَلَمَّا عَرَفُوهُ نَزَلُوا إِلَيْهِ وَأَتَوْهُ بِالْأَعْلَافِ وَالزَّادِ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْأَدِلَّاءَ عَلَى سُوقِ بَغْدَادَ، وَأَظْهَرَ لِدِهْقَانِ الْأَنْبَارِ أَنَّهُ يُرِيدُ الْمَدَائِنَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى بَغْدَادَ لَيْلًا، وَعَبَرَ إِلَيْهِمْ وَصَبَّحَهُمْ فِي أَسْوَاقِهِمْ، فَوَضَعَ السَّيْفَ فِيهِمْ وَأَخَذَ مَا شَاءَ. وَقَالَ الْمُثَنَّى: لَا تَأْخُذُوا إِلَّا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَالْحُرَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. ثُمَّ عَادَ رَاجِعًا حَتَّى نَزَلَ بِنَهْرِ السَّالِحِينَ بِالْأَنْبَارِ، فَسَمِعَ أَصْحَابَهُ

يَقُولُونَ: مَا أَسْرَعَ الْقَوْمَ فِي طَلَبِنَا، فَخَطَبَهُمْ وَقَالَ: احْمَدُوا اللَّهَ وَسَلُوهُ الْعَافِيَةَ، وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَانْظُرُوا فِي الْأُمُورِ وَقَدِّرُوهَا ثُمَّ تَكَلَّمُوا، إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغِ النَّذِيرُ مَدِينَتَهُمْ بَعْدُ، وَلَوْ بَلَغَهُمْ لَحَالَ الرُّعْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ طَلَبِكُمْ، إِنَّ لِلْغَارَاتِ رَوْعَاتٍ تُضْعِفُ الْقُلُوبَ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ، وَلَوْ طَلَبَكُمُ الْمُحَامُونَ مِنْ رَأْيِ الْعَيْنِ مَا أَدْرَكُوكُمْ وَأَنْتُمْ عَلَى الْعِرَابِ حَتَّى تَنْتَهُوا إِلَى عَسْكَرِكُمْ، وَلَوْ أَدْرَكُوكُمْ لَقَاتَلْتُهُمُ الْتِمَاسَ الْأَجْرِ وَرَجَاءَ النَّصْرِ، فَثِقُوا بِاللَّهِ وَأَحْسِنُوا بِهِ الظَّنَّ، فَقَدْ نَصَرَكُمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ. ثُمَّ سَارَ بِهِمْ إِلَى الْأَنْبَارِ، وَكَانَ مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَمْخَرُونَ السَّوَادَ وَيَشُنُّونَ الْغَارَاتِ مَا بَيْنَ أَسْفَلَ كَسْكَرَ وَأَسْفَلَ الْفُرَاتِ، وَجَسُّوا مِثْقَبًا إِلَى عَيْنِ التَّمْرِ وَفِي أَرْضِ الْفَلَالِيجِ، وَالْمُثَنَّى بِالْأَنْبَارِ. وَلَمَّا رَجَعَ الْمُثَنَّى مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْأَنْبَارِ بَعَثَ الْمُضَارِبَ الْعِجْلِيَّ فِي جَمْعٍ إِلَى الْكَبَاثِ وَعَلَيْهِ فَارِسُ الْعُنَابِ التَّغْلِبِيُّ، ثُمَّ لَحِقَهُمُ الْمُثَنَّى فَسَارَ مَعَهُمْ، فَوَجَدُوا الْكَبَاثَ قَدْ سَارَ مَنْ كَانَ بِهِ، وَمَعَهُمْ فَارِسُ الْعُنَابِ، فَسَارَ الْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ فَلَحِقُوهُ وَقَدْ رَحَلَ مِنَ الْكَبَاثِ، فَقَتَلُوا فِي أُخْرَيَاتِ أَصْحَابِهِ وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ. فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْأَنْبَارِ سَرَّحَ فُرَاتَ بْنَ حَيَّانَ التَّغْلِبِيَّ وَعُتَيْبَةَ بْنَ النَّهَّاسِ وَأَمَرَهُمَا بِالْغَارَةِ عَلَى أَحْيَاءَ مِنْ تَغْلِبَ بِصِفِّينَ، ثُمَّ اتَّبَعَهُمَا الْمُثَنَّى وَاسْتَخْلَفَ عَلَى النَّاسِ عَمْرَو بْنَ أَبِي سُلْمَى الْهُجَيْمِيَّ. فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ صِفِّينَ فَرَّ مَنْ بِهَا وَعَبَرُوا الْفُرَاتَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَفَنِيَ الزَّادُ الَّذِي مَعَ الْمُثَنَّى وَأَصْحَابِهِ، فَأَكَلُوا رَوَاحِلَهُمْ إِلَّا مَا لَابُدَّ مِنْهُ حَتَّى جُلُودِهَا، ثُمَّ أَدْرَكُوا عِيرًا مِنْ أَهْلِ دَبَا وَحَوْرَانَ، فَقَتَلُوا مَنْ بِهَا، وَأَخَذُوا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مِنْ تَغْلِبَ كَانُوا خُفَرَاءَ، وَأَخَذُوا الْعِيرَ، فَقَالَ لَهُمْ: دُلُّونِي. فَقَالَ أَحَدُهُمْ: آمِنُونِي عَلَى أَهْلِي وَمَالِي، وَأَدُلُّكُمْ عَلَى حَيٍّ مِنْ تَغْلِبَ. فَآمَنَهُ الْمُثَنَّى وَسَارَ مَعَهُمْ يَوْمَهُ، فَهَجَمَ الْعَشِيُّ عَلَى الْقَوْمِ، وَالنَّعَمُ صَادِرَةٌ عَنِ الْمَاءِ، وَأَصْحَابُهَا جُلُوسٌ بِأَفْنِيَةِ الْبُيُوتِ، فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ، وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ، وَاسْتَاقَ الْأَمْوَالَ، وَكَانَ التَّغْلِبِيُّونَ بَنِي ذِي الرُّوَيْحِلَةِ، فَاشْتَرَى مَنْ كَانَ مَعَ الْمُثَنَّى مِنْ رَبِيعَةَ السَّبَايَا بِنَصِيبِهِ مِنَ الْفَيْءِ وَأَعْتَقُوهُمْ، وَكَانَتْ رَبِيعَةُ لَا تُسَابِي، إِذِ الْعَرَبُ يَتَسَابَوْنَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ.

ذكر الخبر عن الذي هيج أمر القادسية وملك يزدجرد

وَأُخْبِرَ الْمُثَنَّى أَنَّ جُمْهُورَ مَنْ سَلَكَ الْبِلَادَ قَدِ انْتَجَعَ شَاطِئَ دِجْلَةَ، فَخَرَجَ الْمُثَنَّى وَعَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ النُّعْمَانُ بْنُ عَوْفٍ وَمَطَرُ الشَّيْبَانِيَّانِ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْغَلْفَانِيُّ، فَسَارُوا فِي طَلَبِهِمْ فَأَدْرَكُوهُمْ بِتَكْرِيتَ، فَأَصَابُوا مَا شَاءُوا مِنَ النَّعَمِ، وَعَادَ إِلَى الْأَنْبَارِ. وَمَضَى عُتَيْبَةُ وَفُرَاتُ وَمَنْ مَعَهُمَا حَتَّى أَغَارُوا عَلَى صِفِّينَ وَبِهَا النَّمِرُ وَتَغْلِبُ مُتَسَانِدِينَ، فَأَغَارُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى رَمَوْا طَائِفَةً مِنْهُمْ فِي الْمَاءِ، فَجَعَلُوا يُنَادُونَهُمْ: الْغَرَقَ الْغَرَقَ! وَجَعَلَ عُتَيْبَةُ وَفُرَاتُ يَذْمُرَانِ النَّاسَ وَيُنَادِيَانِهِمْ: تَغْرِيقٌ بِتَحْرِيقٍ! يُذَكِّرَانِهِمْ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ أَحْرَقُوا فِيهِ قَوْمًا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ فِي غَيْضَةٍ مِنَ الْغِيَاضِ. ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْمُثَنَّى وَقَدْ غَرَّقُوهُمْ، وَقَدْ بَلَغَ الْخَبَرُ عُمَرَ فَبَعَثَ إِلَى عُتَيْبَةَ وَفُرَاتَ فَاسْتَدْعَاهُمَا، فَسَأَلَهُمَا عَنْ قَوْلِهِمَا، فَأَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا لَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ طَلَبِ ذَحْلٍ، إِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ فَاسْتَحْلَفَهُمَا وَرَدَّهُمَا إِلَى الْمُثَنَّى. (عُتَيْبَةُ بْنُ النَّهَّاسِ، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقِهَا، وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) . [ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنِ الَّذِي هَيَّجَ أَمْرَ الْقَادِسِيَّةِ وَمَلِكَ يَزْدَجِرْدَ] لَمَّا رَأَى أَهْلُ فَارِسَ مَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُونَ بِالسَّوَادِ قَالُوا لِرُسْتُمَ وَالْفَيْرُزَانَ، وَهُمَا عَلَى أَهْلِ فَارِسَ: لَمْ يَبْرَحْ بِكُمَا الِاخْتِلَافُ حَتَّى وَهَّنْتُمَا أَهْلَ فَارِسَ، وَأَطْمَعْتُمَا فِيهِمْ عَدُوَّهُمْ، وَلَمْ يَبْلُغْ مِنْ أَمْرِكُمَا أَنَّ نُقِرَّكُمَا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ، وَأَنْ تُعَرِّضَاهَا لِلْهَلَكَةِ، مَا بَعْدَ بَغْدَادَ وَسَابَاطَ وَتَكْرِيتَ إِلَّا الْمَدَائِنَ، وَاللَّهِ لَتَجْتَمِعَانِ أَوْ لَنَبْدَأَنَّ بِكُمَا، ثُمَّ نَهْلِكُ وَقَدِ اشْتَفَيْنَا مِنْكُمَا. فَقَالَ الْفَيْرُزَانُ وَرُسْتُمُ لِبُورَانَ ابْنَةِ كِسْرَى: اكْتُبِي لَنَا نِسَاءَ كِسْرَى وَسَرَارِيَّهُ وَنِسَاءَ آلِ كِسْرَى وَسَرَارِيَّهُمْ، فَفَعَلَتْ، فَأَحْضَرُوهُنَّ جَمِيعَهُنَّ، وَأَخَذُوهُنَّ بِالْعَذَابِ يَسْتَدِلُّونَهُنَّ عَلَى ذَكَرٍ مِنْ أَبْنَاءِ كِسْرَى، فَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَحَدٌ، وَقَالَ بِعَضُهُنَّ: لَمْ يَبْقَ إِلَّا غُلَامٌ يُدْعَى يَزْدَجِرْدَ مِنْ وَلَدِ شَهْرَيَارَ بْنِ كِسْرَى، وَأُمُّهُ مِنْ أَهْلِ بَادُورَيَا. فَأَرْسَلُوا إِلَيْهَا وَطَلَبُوهُ مِنْهَا، وَكَانَتْ قَدْ أَنْزَلَتْهُ أَيَّامَ شِيرَى حِينَ جَمَعَهُنَّ فَقَتَلَ الذُّكُورَ، وَأَرْسَلَتْهُ إِلَى أَخْوَالِهِ، فَلَمَّا سَأَلُوهَا عَنْهُ دَلَّتْهُمْ عَلَيْهِ، فَجَاءُوا بِهِ فَمَلَّكُوهُ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، فَاطْمَأَنَّتْ فَارِسُ وَاسْتَوْثَقُوا، وَتَبَارَى الْمَرَازِبَةُ فِي طَاعَتِهِ وَمَعُونَتِهِ، فَسَمَّى الْجُنُودَ لِكُلِّ مَسْلَحَةٍ وَثَغْرٍ، فَسَمَّى جُنْدَ الْحِيرَةِ وَالْأُبُلَّةِ وَالْأَنْبَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمُ الْمُثَنَّى وَالْمُسْلِمِينَ، فَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِمَا يَنْتَظِرُونَ

مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ، فَلَمْ يَصِلِ الْكِتَابُ إِلَى عُمَرَ حَتَّى كَفَرَ أَهْلُ السَّوَادِ مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ، فَخَرَجَ الْمُثَنَّى حَتَّى نَزَلَ بِذِي قَارٍ، وَنَزَلَ النَّاسُ بِالطَّفِّ فِي عَسْكَرٍ وَاحِدٍ. وَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُ الْمُثَنَّى إِلَى عُمَرَ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ مُلُوكَ الْعَجَمِ بِمُلُوكِ الْعَرَبِ! فَلَمْ يَدَعْ رَئِيسًا وَلَا ذَا رَأْيٍ وَذَا شَرَفٍ وَبَسْطَةٍ وَلَا خَطِيبًا وَلَا شَاعِرًا إِلَّا رَمَاهُمْ بِهِ، فَرَمَاهُمْ بِوُجُوهِ النَّاسِ وَغُرَرِهِمْ. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى الْمُثَنَّى وَمَنْ مَعَهُ يَأْمُرُهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ بَيْنِ الْعَجَمِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الْمِيَاهِ الَّتِي تَلِي الْعَجَمِ، وَأَنْ لَا يَدَعُوا فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ وَحُلَفَائِهِمْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ النَّجْدَاتِ وَلَا فَارِسًا إِلَّا أَحْضَرُوهُ إِمَّا طَوْعًا أَوْ كُرْهًا. وَنَزَلَ النَّاسُ بِالْجُلِّ وَشَرَافَ إِلَى غُضَيٍّ، وَهُوَ جَبَلُ الْبَصْرَةِ، وَبِسَلْمَانَ، بَعْضُهُمْ يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ، وَيُغِيثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ. وَأَرْسَلَ عُمَرُ فِي ذِي الْحَجَّةِ مِنَ السَّنَةِ مُخْرَجَهُ إِلَى الْحَجِّ إِلَى عُمَّالِهِ عَلَى الْعَرَبِ أَنْ لَا يَدَعُوا مَنْ لَهُ نَجْدَةٌ أَوْ فَرَسٌ أَوْ سِلَاحٌ أَوْ رَأْيٌ إِلَّا وَجَّهُوهُ إِلَيْهِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى النِّصْفِ مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ فَجَاءَ إِلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ لَمَّا عَادَ مِنَ الْحَجِّ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْعِرَاقِ فَانْضَمَّ إِلَى الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ، وَجَاءَتْ أَمْدَادُ الْعَرَبِ إِلَى عُمَرَ. وَحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالنَّاسِ، وَحَجَّ سِنِيهِ كُلَّهَا. وَكَانَ عَامِلُ عُمَرَ عَلَى مَكَّةَ هَذِهِ السَّنَةَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ فِيمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَعَلَى الطَّائِفِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَعَلَى الْيَمَنِ يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ، وَعَلَى عُمَانَ وَالْيَمَامَةِ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَعَلَى الْبَحْرَيْنِ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، وَعَلَى الشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَعَلَى فَرْجِ الْكُوفَةِ وَمَا فُتِحَ مِنْ أَرْضِهَا الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ.

وَكَانَ عَلَى الْقَضَاءِ فِيمَا ذُكِرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ أَبُو كَبْشَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ مَاتَ سَهْلُ بْنُ عَمْرٍو أَخُو سُهَيْلٍ، وَهُوَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ. وَفِي خِلَافَتِهِ مَاتَ الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيُّ. وَفِي أَوَّلِ خِلَافَتِهِ مَاتَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ قَدْ جُرِحَ فِي حِصَارِ الطَّائِفِ، ثُمَّ انْتَقَضَ عَلَيْهِ جُرْحُهُ فَمَاتَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ يَوْمَ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَخْفِيًا بِدَارِهِ بِمَكَّةَ أَوَّلَ مَا أُرْسِلَ.

ثم دخلت سنة أربع عشرة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ] [ذِكْرُ ابْتِدَاءِ أَمْرِ الْقَادِسِيَّةِ] 14 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ أَمْرِ الْقَادِسِيَّةِ لَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَى عُمَرَ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى نَزَلَ عَلَى مَاءٍ يُدْعَى صِرَارًا، فَعَسْكَرَ بِهِ، وَلَا يَدْرِي النَّاسُ مَا يُرِيدُ أَيَسِيرُ أَمْ يُقِيمُ، وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ رَمَوْهُ بِعُثْمَانَ أَوْ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ هَذَانِ عَلَى عَمَلِ شَيْءٍ مِمَّا يُرِيدُ ثَلَّثُوا بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَسَأَلَهُ عُثْمَانُ عَنْ سَبَبِ حَرَكَتِهِ، فَأَحْضَرَ النَّاسَ فَأَعْلَمَهُمُ الْخَبَرَ وَاسْتَشَارَهُمْ فِي الْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَقَالَ الْعَامَّةُ: سِرْ وَسِرْ بِنَا مَعَكَ. فَدَخَلَ مَعَهُمْ فِي رَأْيِهِمْ وَقَالَ: اغْدُوا وَاسْتَعِدُّوا، فَإِنِّي سَائِرٌ إِلَّا أَنْ يَجِيءَ رَأْيٌ هُوَ أَمْثَلُ مِنْ هَذَا. ثُمَّ جَمَعَ وُجُوهَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ، وَكَانَ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتَاهُ، وَإِلَى طَلْحَةَ، وَكَانَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ، وَإِلَى الزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَا عَلَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ، فَحَضَرَا، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فَاجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَبْعَثَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَرْمِيهِ بِالْجُنُودِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَشْتَهِي فَهُوَ الْفَتْحُ، وَإِلَّا أَعَادَ رَجُلًا وَبَعَثَ آخَرَ، فَفِي ذَلِكَ غَيْظُ الْعَدُوِّ فَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي كُنْتُ عَزَمْتُ عَلَى الْمَسِيرِ حَتَّى صَرَفَنِي ذَوُو الرَّأْيِ مِنْكُمْ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أُقِيمَ وَأَبْعَثَ رَجُلًا، فَأَشِيرُوا عَلَيَّ بِرَجُلٍ.

وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى صَدَقَاتِ هَوَازِنَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بِانْتِخَابِ ذَوِي الرَّأْيِ وَالنَّجْدَةِ وَالسِّلَاحِ، فَجَاءَهُ كِتَابُ سَعْدٍ، وَعُمَرُ يَسْتَشِيرُ فِيمَنْ يَبْعَثُهُ، يَقُولُ: قَدِ انْتَخَبْتُ لَكَ أَلْفَ فَارِسٍ كُلُّهُمْ لَهُ نَجْدَةٌ وَرَأْيٌ وَصَاحِبُ حَيْطَةٍ يَحُوطُ حَرِيمَ قَوْمِهِ، إِلَيْهِمُ انْتَهَتْ أَحْسَابُهُمْ وَرَأْيُهُمْ. فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ قَالُوا لِعُمَرَ: قَدْ وَجَدْتَهُ قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالُوا: الْأَسَدُ عَادِيًا سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، فَانْتَهَى إِلَى قَوْلِهِمْ وَأَحْضَرَهُ، وَأَمَّرَهُ عَلَى حَرْبِ الْعِرَاقِ وَوَصَّاهُ وَقَالَ: لَا يَغُرَّنَّكَ مِنَ اللَّهِ أَنْ قِيلَ: خَالُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنَّهُ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، وَلَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ نَسَبٌ إِلَّا طَاعَتُهُ، فَالنَّاسُ فِي ذَاتِ اللَّهِ سَوَاءٌ، اللَّهُ رَبُّهُمْ وَهُمْ عِبَادُهُ يَتَفَاضَلُونَ بِالْعَافِيَةِ، وَيُدْرِكُونَ مَا عِنْدَهُ بِالطَّاعَةِ، فَانْظُرِ الْأَمْرَ الَّذِي رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْزَمُهُ فَالْزَمْهُ. وَوَصَّاهُ بِالصَّبْرِ وَسَرَّحَهُ فِيمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْ نَفَرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، فِيهِمْ حُمَيْضَةُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ حُمَيْضَةَ عَلَى بَارِقٍ، وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ، وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ ذُؤَيْبٍ عَلَى مَذْحِجٍ، وَيَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ الصُّدَائِيُّ عَلَى صُدَاءَ، وَحَبِيبُ وَمُسْلِيَةُ وَبِشْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهِلَالِيُّ فِي قَيْسِ عَيْلَانَ وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عُمَرُ، فَمَرَّ بِفِتْيَةٍ مِنَ السَّكُونِ مَعَ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ دُلَمٍ سِبَاطٍ، فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ وَهَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: مَا مَرَّ بِي قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ أَكْرَهُ إِلَيَّ مِنْهُمْ. ثُمَّ أَمْضَاهُمْ فَكَانَ بَعْدُ يُذَكِّرُهُمْ بِالْكَرَاهَةِ، فَكَانَ مِنْهُمْ سُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ قَتَلَ عُثْمَانَ، وَابْنُ مُلْجِمٍ قَتَلَ عَلِيًّا، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ جَرَّدَ السَّيْفَ فِي الْمُسْلِمِينَ، يُظْهِرُ الْأَخْذَ بِثَأْرِ عُثْمَانَ، وَحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ فِي قِتَالِ عَلِيٍّ. ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ أَخَذَ بِوَصِيَّتِهِمْ وَبِعِظَتِهِمْ ثُمَّ سَيَّرَهُمْ، وَأَمَدَّ عُمَرُ سَعْدًا بَعْدَ خُرُوجِهِ بِأَلْفَيْ يَمَانِيٍّ نَجْدِيٍّ، وَكَانَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، وَسَارَ سَعْدٌ وَالْمُثَنَّى يَنْتَظِرُ قُدُومَهُ، فَمَاتَ الْمُثَنَّى قَبْلَ قُدُومِ سَعْدٍ مِنْ جِرَاحَةٍ انْتَفَضَتْ عَلَيْهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى النَّاسِ بَشِيرَ بْنَ الْخَصَاصِيَّةِ وَسَعْدٌ يَوْمَئِذٍ بِزَرُودَ، وَقَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، وَأَمَرَ عُمَرُ بَنِي أَسَدٍ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حَدِّ أَرْضِهِمْ بَيْنَ الْحَزْنِ وَالْبَسِيطَةِ، فَنَزَلُوا فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَسَارَ سَعْدٌ إِلَى

شَرَافَ فَنَزَلَهَا، وَلَحِقَهُ بِهَا الْأَشْعَبُ بْنُ قَيْسٍ فِي أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَكَانَ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَجَمِيعُ مَنْ قُسِمَ عَلَيْهِ فَيْئُهَا نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَجْرَأَ عَلَى أَهْلِ فَارِسَ مِنْ رَبِيعَةَ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَهُمْ رَبِيعَةَ الْأَسَدِ إِلَى رَبِيعَةِ الْفَرَسِ، وَلَمْ يَدَعْ عُمَرُ ذَا رَأْيٍ وَلَا شَرَفٍ وَلَا خَطِيبًا وَلَا شَاعِرًا وَلَا وَجِيهًا مِنْ وُجُوهِ النَّاسِ إِلَّا سَيَّرَهُ إِلَى سَعْدٍ. وَجَمَعَ سَعْدٌ مَنْ كَانَ بِالْعِرَاقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَسْكَرِ الْمُثَنَّى، فَاجْتَمَعَ بِشَرَافَ، فَعَبَّأَهُمْ وَأَمَّرَ الْأُمَرَاءَ، وَعَرَّفَ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ عَرِيفًا، وَجَعَلَ عَلَى الرَّايَاتِ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ السَّابِقَةِ، وَوَلَّى الْحُرُوبَ رِجَالًا عَلَى سَاقَتِهَا وَمُقَدِّمَتِهَا وَرَجْلِهَا وَطَلَائِعِهَا وَمُجَنِّبَاتِهَا، وَلَمْ يَفْصِلْ إِلَّا بِكِتَابِ عُمَرَ، فَجَعَلَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ زُهْرَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَتَادَةَ بْنِ الْحَوِيَّةِ، فَانْتَهَى إِلَى الْعُذَيْبِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُعْتَمِّ، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَيْضًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ شُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ الْكِنْدِيَّ، وَجَعَلَ خَلِيفَتَهُ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ حَلِيفَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَجَعَلَ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو التَّمِيمِيَّ عَلَى السَّاقَةِ، وَسَوَادَ بْنَ مَالِكٍ التَّمِيمِيَّ عَلَى الطَّلَائِعِ، وَسَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ عَلَى الْمُجَرَّدَةِ، وَعَلَى الرَّجَّالَةِ حَمَّالَ بْنَ مَالِكٍ الْأَسَدِيَّ، وَعَلَى الرُّكْبَانِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ذِي السَّهْمَيْنِ الْخَثْعَمِيَّ، وَجَعَلَ عُمَرُ عَلَى الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ، وَعَلَى قِسْمَةِ الْفَيْءِ أَيْضًا، وَجَعَلَ رَائِدَهُمْ وَدَاعِيَتَهُمْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ، وَالْكَاتِبَ زِيَادَ بْنَ أَبِيهِ. وَقَدِمَ الْمُعَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ وَسَلْمَى بِنْتُ خَصَفَةَ زَوْجُ الْمُثَنَّى بِشَرَافَ، وَكَانَ الْمُعَنَّى بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ قَدْ سَارَ إِلَى قَابُوسَ بْنِ قَابُوسَ بْنِ الْمُنْذِرِ بِالْقَادِسِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ بَعَثَهُ إِلَيْهَا الْفُرْسُ يَسْتَنْفِرُ الْعَرَبَ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْمُعَنَّى فَقَفَلَهُ فَأَنَامَهُ وَمَنْ مَعَهُ، وَرَجَعَ إِلَى ذِي قَارٍ، وَسَارَ إِلَى سَعْدٍ يُعْلِمُهُ بِرَأْيِ الْمُثَنَّى لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا الْفُرْسَ عَلَى حُدُودِ أَرْضِهِمْ عَلَى أَدْنَى حَجَرٍ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، وَلَا يُقَاتِلُوهُمْ بِعُقْرِ دَارِهِمْ، فَإِنْ يُظْهِرِ اللَّهُ

الْمُسْلِمِينَ فَلَهُمْ مَا وَرَاءَهُمْ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى رَجَعُوا إِلَى فِئَةٍ ثُمَّ يَكُونُوا أَعْلَمَ بِسَبِيلِهِمْ، وَأَجْرَأَ عَلَى أَرْضِهِمْ، إِلَى أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ. فَتَرَحَّمَ سَعْدٌ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْمُثَنَّى، وَجَعَلَ الْمُعَنَّى عَلَى عَمَلِهِ وَأَوْصَى بِأَهْلِ بَيْتِهِ خَيْرًا، ثُمَّ تَزَوَّجَ سَعْدٌ سَلْمَى زَوْجَ الْمُثَنَّى، وَكَانَ مَعَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ بَدْرِيًّا، وَثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ مِمَّنْ كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ فِيمَا بَيْنَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ إِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَثَلَاثُمِائَةٍ مِمَّنْ شَهِدَ الْفَتْحَ، وَسَبْعُمِائَةٍ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ. وَقَدِمَ عَلَى سَعْدٍ كِتَابُ عُمَرَ بِمِثْلِ رَأْيِ الْمُثَنَّى، وَكَتَبَ عُمَرُ أَيْضًا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ لِيَصْرِفَ أَهْلَ الْعِرَاقِ وَمَنِ اخْتَارَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ إِلَى الْعِرَاقِ. وَكَانَ لِلْفُرْسِ رَابِطَةٌ بِقَصْرِ ابْنِ مُقَاتِلٍ، عَلَيْهَا النُّعْمَانُ بْنُ قَبِيصَةَ الطَّائِيُّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ قَبِيصَةَ بْنِ إِيَاسٍ صَاحِبِ الْحِيرَةِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِمَجِيءِ سَعْدٍ سَأَلَ عَنْهُ وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانِ بْنِ خُزَيْمٍ الْأَسَدِيُّ، فَقِيلَ: رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُحَادَّنَّهُ الْقِتَالَ، فَإِنَّ قُرَيْشًا عَبِيدُ مَنْ غَلَبَ، وَاللَّهِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَّا بِخُفَّيْنِ! فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانٍ مِنْ قَوْلِهِ وَأَمْهَلَهُ حَتَّى دَخَلَ قُبَّتَهُ فَقَتَلَهُ، وَلَحِقَ بِسَعْدٍ وَأَسْلَمَ. وَسَارَ سَعْدٌ مِنْ شَرَافَ فَنَزَلَ الْعُذَيْبَ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ الْقَادِسِيَّةَ بَيْنَ الْعَتِيقِ وَالْخَنْدَقِ بِحِيَالِ الْقَنْطَرَةِ، وَقُدَيْسٍ أَسْفَلَ مِنْهَا بِمِيلٍ. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ: إِنِّي أُلْقِيَ فِي رُوعِي أَنَّكُمْ إِذَا لَقِيتُمُ الْعَدُوَّ هَزَمْتُمُوهُمْ، فَمَتَى لَاعَبَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنَ الْعَجَمِ بِأَمَانٍ أَوْ بِإِشَارَةٍ أَوْ بِلِسَانٍ كَانَ عِنْدَهُمْ أَمَانًا - فَأَجْرُوا لَهُ ذَلِكَ مَجْرَى الْأَمَانِ وَالْوَفَاءِ؛ فَإِنَّ الْخَطَأَ بِالْوَفَاءِ بَقِيَّةٌ، وَإِنَّ الْخَطَأَ بِالْغَدْرِ هَلَكَةٌ، وَفِيهَا وَهْنُكُمْ وَقُوَّةُ عَدُوِّكُمْ، فَلَمَّا نَزَلَ زُهْرَةُ فِي الْمُقَدِّمَةِ وَأَمْسَى بَعَثَ سَرِيَّةً فِي ثَلَاثِينَ مَعْرُوفِينَ بِالنَّجْدَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْغَارَةِ عَلَى الْحِيرَةِ، فَلَمَّا جَازُوا السَّيْلَحِينَ سَمِعُوا جَلَبَةً، فَمَكَثُوا حَتَّى حَاذُوهُمْ، وَإِذَا أُخْتُ آزَادُمَرْدَ بْنِ آزَاذَبَهْ مَرْزُبَانِ الْحِيرَةِ تُزَفُّ إِلَى صَاحِبِ الصِّنَّيْنِ، وَهُوَ مِنْ أَشْرَافِ الْعَجَمِ، فَحَمَلَ بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيُّ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ عَلَى شِيرَزَادَ بْنِ آزَاذَبَهْ فَدَقَّ صُلْبَهُ، وَطَارَتِ الْخَيْلُ عَلَى وُجُوهِهَا، وَأَخَذُوا الْأَثْقَالَ وَابْنَةَ آزَاذَبَهْ فِي ثَلَاثِينَ امْرَأً مِنْ

الدَّهَاقِينِ وَمِائَةٍ مِنَ التَّوَابِعِ، وَمَعَهُمْ مَا لَا يُدْرَى قِيمَتُهُ، فَاسْتَاقَ ذَلِكَ وَرَجَعَ فَصَبَّحَ سَعْدًا بِعُذَيْبِ الْهِجَانَاتِ، فَقَسَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَتَرَكَ الْحَرِيمَ بِالْعُذَيْبِ وَمَعَهَا خَيْلٌ تَحُوطُهَا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيَّ. وَنَزَلَ سَعْدٌ الْقَادِسِيَّةَ وَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا لَمْ يَأْتِهِ مِنَ الْفُرْسِ أَحَدٌ، فَأَرْسَلَ سَعْدٌ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو إِلَى مَيْسَانَ، فَطَلَبَ غَنَمًا أَوْ بَقَرًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، وَتَحَصَّنَ مِنْهُ مَنْ هُنَاكَ، فَأَصَابَ عَاصِمٌ رَجُلًا بِجَانِبِ أَجَمَةٍ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ. فَصَاحَ ثَوْرٌ مِنَ الْأَجَمَةِ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، هَا نَحْنُ! فَدَخَلَ فَاسْتَاقَ الْبَقَرَ فَأَتَى بِهَا الْعَسْكَرَ، فَقَسَّمَهُ سَعْدٌ عَلَى النَّاسِ، فَأَخْصَبُوا أَيَّامًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَجَّاجَ فِي زَمَانِهِ فَأَرْسَلَ إِلَى جَمَاعَةٍ فَسَأَلَهُمْ، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا ذَلِكَ وَشَاهَدُوهُ، فَقَالَ: كَذَبْتُمْ. قَالُوا: ذَلِكَ إِنْ كُنْتَ شَهِدْتَهَا وَغِبْنَا عَنْهَا. قَالَ: صَدَقْتُمْ، فَمَا كَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ فِي ذَلِكَ؟ قَالُوا: وَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى رِضَى اللَّهِ وَفَتْحِ عَدُوِّنَا، فَقَالَ: مَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا وَالْجَمْعُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ. قَالُوا: مَا نَدْرِي مَا أَجَنَّتْ قُلُوبُهُمْ، فَأَمَّا مَا رَأَيْنَا فَمَا رَأَيْنَا قَطُّ أَزْهَدَ فِي دُنْيَا مِنْهُمْ، وَلَا أَشَدَّ بُغْضًا لَهَا، لَيْسَ فِيهِمْ جَبَانٌ وَلَا غَارٌّ وَلَا غَدَّارٌ. وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَبَاقِرِ. وَبَثَّ سَعْدٌ الْغَارَاتِ وَالنَّهْبَ بَيْنَ كَسْكَرَ وَالْأَنْبَارِ، فَحَوَوْا مِنَ الْأَطْعِمَةِ مَا اسْتَكْفَوْا بِهِ زَمَانًا، وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْعِرَاقَ وَبَيْنَ نُزُولِ سَعْدٍ الْقَادِسِيَّةَ وَالْفَرَاغِ مِنْهَا سَنَتَانِ وَشَيْءٌ، وَكَانَ مُقَامُ سَعْدٍ بِالْقَادِسِيَّةِ شَهْرَيْنِ وَشَيْئًا حَتَّى ظَفِرَ. فَاسْتَغَاثَ أَهْلُ السَّوَادِ إِلَى يَزْدَجِرْدَ، وَأَعْلَمُوهُ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ نَزَلُوا الْقَادِسِيَّةَ وَلَا يَبْقَى عَلَى فِعْلِهِمْ شَيْءٌ، وَقَدْ أَخْرَبُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفُرَاتِ، وَنَهَبُوا الدَّوَابَّ وَالْأَطْعِمَةَ، وَإِنْ أَبْطَأَ الْغِيَاثُ أَعْطَيْنَاهُمْ بِأَيْدِينَا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الَّذِينَ لَهُمُ الضِّيَاعُ بِالطَّفِّ، وَهَيَّجُوهُ عَلَى إِرْسَالِ الْجُنُودِ، فَأَرْسَلَ يَزْدَجِرْدُ إِلَى رُسْتُمَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنَّ أُوَجِّهَكَ فِي هَذَا الْوَجْهِ، فَأَنْتَ رَجُلُ فَارِسَ الْيَوْمَ، وَقَدْ تَرَى مَا حَلَّ بِالْفُرْسِ مِمَّا لَمْ يَأْتِهِمْ مِثْلُهُ. فَأَظْهَرَ لَهُ الْإِجَابَةَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: دَعْنِي، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَزَالُ تَهَابُ الْعَجَمَ مَا لَمْ تَضْرِبْهُمْ بِي، وَلَعَلَّ الدَّوْلَةَ أَنْ تَثْبُتَ بِي إِذَا لَمْ أَحْضُرِ الْحَرْبَ، فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ كَفَى، وَنَكُونُ قَدْ أَصَبْنَا الْمَكِيدَةَ، وَالرَّأْيُ فِي الْحَرْبِ أَنْفَعُ مِنْ بَعْضِ الظَّفَرِ، وَالْأَنَاةُ خَيْرٌ مِنَ الْعَجَلَةِ، وَقِتَالُ جَيْشٍ بَعْدَ جَيْشٍ أَمْثَلُ مِنْ هَزِيمَةٍ بِمَرَّةٍ وَأَشَدُّ عَلَى عَدُوِّنَا. فَأَبَى عَلَيْهِ، وَأَعَادَ رُسْتُمُ كَلَامَهُ وَقَالَ: قَدِ اضْطَرَّنِي تَضْيِيعُ الرَّأْيِ إِلَى إِعْظَامِ نَفْسِي وَتَزْكِيَتِهَا، وَلَوْ أَجِدُ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا لَمْ أَتَكَلَّمْ بِهِ، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ

فِي نَفْسِكَ وَمُلْكِكَ دَعْنِي أَقِمْ بِعَسْكَرِي وَأُسَرِّحِ الْجَالِينُوسَ، فَإِنْ تَكُنْ لَنَا فَذَلِكَ، وَإِلَّا بَعَثْنَا غَيْرَهُ، حَتَّى إِذَا لَمْ نَجِدْ بُدًّا صَبَرْنَا لَهُمْ وَقَدْ وَهَّنَّاهُمْ وَنَحْنُ جَامُّونَ، فَإِنِّي لَا أَزَالُ مَرْجُوًّا فِي أَهْلِ فَارِسَ مَا لَمْ أُهْزَمْ. فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَسِيرَ، فَخَرَجَ حَتَّى ضَرَبَ عَسْكَرَهُ بِسَابَاطَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ لِيُعْفِيَهُ فَأَبَى. وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى سَعْدٍ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: لَا يَكْرُبَنَّكَ مَا يَأْتِيكَ عَنْهُمْ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَابْعَثْ إِلَيْهِ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْمُنَاظَرَةِ وَالرَّأْيِ وَالْجَلَدِ يَدْعُونَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ دُعَاءَهُمْ تَوْهِينًا لَهُمْ. فَأَرْسَلَ سَعْدٌ نَفَرًا، مِنْهُمْ: النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَبُسْرُ بْنُ أَبِي رُهْمٍ، وَحَمَلَةُ بْنُ حَوِيَّةَ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَفُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ، وَعَدِيُّ بْنُ سُهَيْلٍ، وَعُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ النَّبَّاشِ الْأَسَدِيُّ، وَالْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَسَّانَ، وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَالْمُعَنَّى بْنُ حَارِثَةَ - إِلَى يَزْدَجِرْدَ دُعَاةً، فَخَرَجُوا مِنَ الْعَسْكَرِ فَقَدِمُوا عَلَى يَزْدَجِرْدَ، وَطَوَوْا رُسْتُمَ وَاسْتَأْذَنُوا عَلَى يَزْدَجِرْدَ فَحُبِسُوا، وَأَحْضَرَ وُزَرَاءَهُ وَرُسْتُمَ مَعَهُمْ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَصْنَعُ وَيَقُولُهُ لَهُمْ. وَاجْتَمَعَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ وَتَحْتَهُمْ خُيُولٌ كُلُّهَا صُهَّالٌ، وَعَلَيْهِمُ الْبُرُودُ وَبِأَيْدِيهِمُ السِّيَاطُ، فَأَذِنَ لَهُمْ، وَأَحْضَرَ التُّرْجُمَانَ وَقَالَ لَهُ: سَلْهُمْ مَا جَاءَ بِكُمْ وَمَا دَعَاكُمْ إِلَى غَزْوِنَا وَالْوَلُوعِ بِبِلَادِنَا؟ أَمِنْ أَجْلِ أَنَّنَا تَشَاغَلْنَا عَنْكُمُ اجْتَرَأْتُمْ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ لِأَصْحَابِهِ: إِنْ شِئْتُمْ تَكَلَّمْتُ عَنْكُمْ، وَمَنْ شَاءَ آثَرْتُهُ. فَقَالُوا: بَلْ تَكَلَّمْ. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ رَحِمَنَا فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولًا يَأْمُرُنَا بِالْخَيْرِ وَيَنْهَانَا عَنِ الشَّرِّ، وَوَعَدَنَا عَلَى إِجَابَتِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَمْ يَدْعُ قَبِيلَةً إِلَّا وَقَارَبَهُ مِنْهَا فِرْقَةٌ وَتَبَاعَدَ عَنْهُ بِهَا فِرْقَةٌ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يَنْبِذَ إِلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْعَرَبِ، فَبَدَأَ بِهِمْ، فَدَخَلُوا مَعَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: مُكْرَهٌ عَلَيْهِ فَاغْتَبَطَ، وَطَائِعٌ أَتَاهُ فَازْدَادَ، فَعَرَفْنَا جَمِيعًا فَضْلَ مَا جَاءَ بِهِ عَلَى الَّذِي كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالضِّيقِ، ثُمَّ أَمَرَنَا أَنْ نَبْدَأَ بِمَنْ يَلِينَا مِنَ الْأُمَمِ فَنَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِنْصَافِ، فَنَحْنُ نَدْعُوكُمْ إِلَى دِينِنَا، وَهُوَ دِينٌ حَسَّنَ الْحَسَنَ وَقَبَّحَ الْقَبِيحَ كُلَّهُ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَأَمْرٌ مِنَ الشَّرِّ هُوَ أَهْوَنُ مِنْ آخَرَ شَرٌّ مِنْهُ: الْجِزْيَةُ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَالْمُنَاجَزَةُ، فَإِنْ أَجَبْتُمْ إِلَى دِينِنَا خَلَّفْنَا فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَأَقَمْنَا عَلَى أَنْ

تَحْكُمُوا بِأَحْكَامِهِ، وَنَرْجِعُ عَنْكُمْ وَشَأْنُكُمْ وَبِلَادَكُمْ، وَإِنْ بَذَلْتُمُ الْجَزَاءَ قَبِلْنَا وَمَنَعْنَاكُمْ، وَإِلَّا قَاتَلْنَاكُمْ. فَتَكَلَّمَ يَزْدَجِرْدُ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أُمَّةً أَشْقَى وَلَا أَقَلَّ عَدَدًا وَلَا أَسْوَأَ ذَاتَ بَيْنٍ مِنْكُمْ، قَدْ كُنَّا نُوكِلُ بِكُمْ قُرَى الضَّوَاحِي فَيَكْفُونَنَا أَمْرَكُمْ، وَلَا تَطْمَعُوا أَنْ تَقُومُوا لِفَارِسٍ، فَإِنْ كَانَ غَرَرٌ لَحِقَكُمْ فَلَا يَغُرَنَّكُمْ مِنَّا، وَإِنْ كَانَ الْجُهْدُ فَرَضْنَا لَكُمْ قُوتًا إِلَى خِصْبِكُمْ، وَأَكْرَمْنَا وُجُوهَكُمْ وَكَسَوْنَاكُمْ، وَمَلَّكْنَا عَلَيْكُمْ مَلِكًا يَرْفُقُ بِكُمْ. فَأَسْكَتَ الْقَوْمَ، فَقَامَ الْمُغِيرَةُ بْنُ زُرَارَةَ فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّ هَؤُلَاءِ رُءُوسُ الْعَرَبِ وَوُجُوهُهُمْ، وَهُمْ أَشْرَافٌ يَسْتَحْيُونَ مِنَ الْأَشْرَافِ، وَإِنَّمَا يُكْرِمُ الْأَشْرَافَ وَيُعَظِّمُ حَقَّهُمُ الْأَشْرَافُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا أُرْسِلُوا بِهِ قَالُوهُ، وَلَا كُلُّ مَا تَكَلَّمْتَ بِهِ أَجَابُوكَ عَلَيْهِ، فَجَاوِبْنِي لِأَكُونَ الَّذِي أُبْلِغُكَ وَهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى ذَلِكَ لِي، فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ سُوءِ الْحَالِ فَهِيَ عَلَى مَا وَصَفْتَ وَأَشَدُّ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ سُوءِ عَيْشِ الْعَرَبِ وَإِرْسَالِ اللَّهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ نَحْوَ قَوْلِ النُّعْمَانِ، وَقِتَالِ مَنْ خَالَفَهُمْ أَوِ الْجِزْيَةِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اخْتَرْ إِنْ شِئْتَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَأَنْتَ صَاغِرٌ، وَإِنْ شِئْتَ فَالسَّيْفُ، أَوْ تُسْلِمُ فَتُنْجِي نَفْسَكَ. فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمْ! لَا شَيْءَ لَكُمْ عِنْدِي. ثُمَّ اسْتَدْعَى بِوِقْرٍ مِنْ تُرَابٍ فَقَالَ: احْمِلُوهُ عَلَى أَشْرَافِ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ سُوقُوهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ بَابِ الْمَدَائِنِ، ارْجِعُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ فَأَعْلِمُوهُ أَنِّي مُرْسِلٌ إِلَيْهِ رُسْتُمَ حَتَّى يَدْفِنَهُ وَيَدْفِنَكُمْ مَعَهُ فِي خَنْدَقِ الْقَادِسِيَّةِ، ثُمَّ أُورِدُهُ بِلَادَكُمْ حَتَّى أُشْغِلَكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ بِأَشَدَّ مِمَّا نَالَكُمْ مِنْ سَابُورَ. فَقَامَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو لِيَأْخُذَ التُّرَابَ وَقَالَ: أَنَا أَشْرَفُهُمْ، أَنَا سَيِّدُ هَؤُلَاءِ. فَحَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ وَخَرَجَ إِلَى رَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا، وَأَخَذَ التُّرَابَ وَقَالَ لِسَعْدٍ: أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانَا اللَّهُ أَقَالِيدَ مُلْكِهِمْ. وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى جُلَسَاءِ الْمَلِكِ، وَقَالَ الْمَلِكُ لِرُسْتُمَ، وَقَدْ حَضَرَ عِنْدَهُ مِنْ سَابَاطَ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ فِي الْعَرَبِ مِثْلَ هَؤُلَاءِ، مَا أَنْتُمْ بِأَحْسَنَ جَوَابًا مِنْهُمْ، وَلَقَدْ صَدَقَنِي الْقَوْمُ، لَقَدْ وُعِدُوا أَمْرًا لَيُدْرِكُنَّهُ أَوْ لَيَمُوتُنَّ عَلَيْهِ، عَلَى أَنِّي وَجَدْتُ أَفْضَلَهُمْ أَحْمَقَهُمْ حَيْثُ حَمَلَ

التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ. فَقَالَ رُسْتُمُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُ أَعْقَلُهُمْ. وَتَطَيَّرَ إِلَى ذَلِكَ وَأَبْصَرَهَا دُونَ أَصْحَابِهِ، وَخَرَجَ رُسْتُمُ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ غَضْبَانَ كَئِيبًا، وَبَعَثَ فِي أَثَرِ الْوَفْدِ وَقَالَ لِثِقَتِهِ: إِنْ أَدْرَكَهُمُ الرَّسُولُ تَلَافَيْنَا أَرْضَنَا، وَإِنْ أَعْجَزَهُ سَلَبَكُمُ اللَّهُ أَرْضَكُمْ، فَرَجَعَ الرَّسُولُ مِنَ الْحِيرَةِ بِفَوَاتِهِمْ، فَقَالَ: ذَهَبَ الْقَوْمُ بِأَرْضِكُمْ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ. وَكَانَ مُنَجِّمًا كَاهِنًا. وَأَغَارَ سَوَادُ بْنُ مَالِكٍ التَّمِيمِيُّ بَعْدَ مَسِيرِ الْوَفْدِ إِلَى يَزْدَجِرْدَ عَلَى النِّجَافِ وَالْفِرَاضِ، فَاسْتَاقَ دَابَّةً مِنْ بَيْنِ بَغْلٍ وَحِمَارٍ وَثَوْرٍ وَأَوْقَرَهَا سُمْكًا، وَصَبَّحَ الْعَسْكَرَ، فَقَسَمَهُ سَعْدٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَهَذَا يَوْمُ الْحِيتَانِ، وَكَانَتِ السَّرَايَا تَسْرِي لِطَلَبِ اللُّحُومِ، فَإِنَّ الطَّعَامَ كَانَ كَثِيرًا عِنْدَهُمْ، فَكَانُوا يُسَمُّونَ الْأَيَّامَ بِهَا: يَوْمُ الْأَبَاقِرِ وَيَوْمُ الْحِيتَانِ. وَبَعَثَ سَعْدٌ سَرِيَّةً أُخْرَى فَأَغَارُوا فَأَصَابُوا إِبِلًا لِبَنِي تَغْلِبَ وَالنَّمِرِ وَاسْتَاقُوهَا وَمَنْ فِيهَا، فَنَحَرَ سَعْدٌ الْإِبِلَ وَقَسَمَهَا فِي النَّاسِ فَأَخْصَبُوا، وَأَغَارَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَلَى النَّهْرَيْنِ فَاسْتَاقَ مَوَاشِيَ كَثِيرَةً وَعَادَ. وَسَارَ رُسْتُمُ مِنْ سَابَاطَ، وَجَمَعَ آلَةَ الْحَرْبِ وَبَعَثَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ الْجَالِينُوسَ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَخَرَجَ هُوَ فِي سِتِّينَ أَلْفًا، وَفِي سَاقَتِهِ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَجَعَلَ فِي مَيْمَنَتِهِ الْهُرْمُزَانَ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ مِهْرَانَ بْنَ بَهْرَامَ الرَّازِيَّ، وَقَالَ رُسْتُمُ لِلْمَلِكِ يُشَجِّعُهُ بِذَلِكَ: إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْقَوْمَ فَتَوَجَّهْنَا إِلَى مِلْكِهِمْ فِي دَارِهِمْ حَتَّى نُشْغِلَهُمْ فِي أَصْلِهِمْ وَبِلَادِهِمْ إِلَى أَنْ يَقْبَلُوا الْمُسَالَمَةَ. وَكَانَ خُرُوجُ رُسْتُمَ مِنَ الْمَدَائِنِ فِي سِتِّينَ أَلْفَ مَتْبُوعٍ، وَمَسِيرُهُ عَنْ سَابَاطَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ مَتْبُوعٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَلَمَّا فَصَلَ رُسْتُمُ عَنْ سَابَاطَ كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ الْبِنْذَوَانِ: أَمَّا بَعْدُ فَرُمُّوا حُصُونَكُمْ وَأَعِدُّوا وَاسْتَعِدُّوا، فَكَأَنَّكُمْ بِالْعَرَبِ قَدْ قَارَعُوكُمْ عَنْ أَرْضِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ، وَقَدْ كَانَ مِنْ رَأْيِي مُدَافَعَتُهُمْ وَمُطَاوَلَتُهُمْ حَتَّى تَعُودَ سُعُودُهُمْ نُحُوسًا، فَإِنَّ السَّمَكَةَ قَدْ كَدَّرَتِ الْمَاءَ، وَإِنَّ النَّعَائِمَ قَدْ حَسُنَتْ، وَالزُّهْرَةُ قَدْ حَسُنَتْ، وَاعْتَدَلَ الْمِيزَانُ، وَذَهَبَ بَهْرَامُ، وَلَا أَرَى هَؤُلَاءِ

الْقَوْمَ إِلَّا سَيَظْهَرُونَ عَلَيْنَا، وَيَسْتَوْلُونَ عَلَى مَا يَلِينَا، وَإِنَّ أَشَدَّ مَا رَأَيْتُ أَنَّ الْمَلِكَ قَالَ: لَتَسِيرُنَّ أَوْ لَأَسِيرَنَّ بِنَفْسِي. وَلَقِيَ جَابَانُ رُسْتُمَ عَلَى قَنْطَرَةِ سَابَاطَ، وَكَانَا مُنَجِّمَيْنِ، فَشَكَا إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: أَلَا تَرَى مَا أَرَى؟ فَقَالَ لَهُ رُسْتُمُ: أَمَّا أَنَا فَأُقَادُ بِخِشَاشٍ وَزِمَامٍ، وَلَا أَجِدُ بُدًّا مِنَ الِانْقِيَادِ. ثُمَّ سَارَ فَنَزَلَ بِكُوثَى، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ لَهُ: مَا جَاءَ بِكُمْ وَمَاذَا تَطْلُبُونَ؟ فَقَالَ: جِئْنَا نَطْلُبُ مَوْعُودَ اللَّهِ بِمِلْكِ أَرْضِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ إِنْ أَبَيْتُمْ أَنْ تُسْلِمُوا. قَالَ رُسْتُمُ: فَإِنْ قُتِلْتُمْ قَبْلَ ذَلِكَ! قَالَ: مَنْ قُتِلَ مِنَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ بَقِيَ مِنَّا أَنْجَزَهُ اللَّهُ مَا وَعَدَهُ، فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ. فَقَالَ رُسْتُمُ: قَدْ وَضَعَنَا إِذَنْ فِي أَيْدِيكُمْ! فَقَالَ: أَعْمَالُكُمْ وَضَعَتْكُمْ فَأَسْلَمَكُمُ اللَّهُ بِهَا، فَلَا يَغُرَنَّكَ مَنْ تَرَى حَوْلَكَ، فَإِنَّكَ لَسْتَ تُجَاوِلُ الْإِنْسَ إِنَّمَا تُجَاوِلُ الْقَدَرَ. فَضَرَبَ عُنُقَهُ، ثُمَّ سَارَ فَنَزَلَ الْبُرْسَ، فَغَصَبَ أَصْحَابُهُ النَّاسَ أَبْنَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَوَقَعُوا عَلَى النِّسَاءِ وَشَرِبُوا الْخُمُورَ، فَضَجَّ أَهْلُهَا إِلَى رُسْتُمَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ فَارِسَ، وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقَ الْعَرَبِيُّ، وَاللَّهِ مَا أَسْلَمَنَا إِلَّا أَعْمَالُنَا، وَاللَّهِ إِنَّ الْعَرَبَ مَعَ هَؤُلَاءِ وَهُمْ لَهُمْ حَرْبٌ أَحْسَنُ سِيرَةً مِنْكُمْ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ يَنْصُرُكُمْ عَلَى الْعَدُوِّ وَيُمَكِّنُ لَكْمُ فِي الْبِلَادِ بِحُسْنِ السِّيرَةِ، وَكَفِّ الظُّلْمِ وَالْوَفَاءِ وَالْإِحْسَانِ، فَإِذَا تَغَيَّرْتُمْ فَلَا يُرَى اللَّهُ إِلَّا مُغَيِّرًا مَا بِكُمْ، وَمَا أَنَا بِآمِنٍ مِنْ أَنْ يَنْزِعَ اللَّهُ سُلْطَانَهُ مِنْكُمْ. وَأُتِيَ بِبَعْضِ مَنْ يُشْكَى مِنْهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ الْحِيرَةَ، وَدَعَا أَهْلَهَا وَتَهَدَّدَهُمْ وَهَمَّ بِهِمْ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ بُقَيْلَةَ: لَا تَجْمَعْ عَلَيْنَا أَنْ تَعْجِزَ عَنْ نُصْرَتِنَا، وَتَلُومَنَا عَلَى الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِنَا. وَلَمَّا نَزَلَ رُسْتُمُ بِالنَّجَفِ رَأَى كَأَنَّ مَلَكًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَمَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُمَرُ، فَأَخَذَ الْمَلِكُ سِلَاحَ أَهْلِ فَارِسَ فَخَتَمَهُ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَفَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عُمَرَ، فَأَصْبَحَ رُسْتُمُ حَزِينًا. وَأَرْسَلَ سَعْدٌ السَّرَايَا وَرُسْتُمُ بِالنَّجَفِ، وَالْجَالِينُوسُ بَيْنَ النَّجَفِ وَالسَّيْلَحِينِ، فَطَافَتْ فِي السَّوَادِ، فَبَعَثَ سَوَادًا وَحُمَيْضَةَ فِي مِائَةِ مِائَةٍ، فَأَغَارُوا عَلَى النَّهْرَيْنِ، وَبَلَغَ رُسْتُمَ الْخَبَرُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ خَيْلًا، وَسَمِعَ سَعْدٌ أَنَّ خَيْلَهُ قَدْ وَغَلَتْ فَأَرْسَلَ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو وَجَابِرًا

الْأَسَدِيَّ فِي آثَارِهِمْ، فَلَقِيَهُمْ عَاصِمٌ وَخَيْلُ فَارِسَ تَحُوشُهُمْ لِيُخَلِّصُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْفُرْسُ هَرَبُوا وَرَجَعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْغَنَائِمِ. وَأَرْسَلَ سَعْدٌ عَمْرَو بْنَ مَعْدِي كَرِبَ وَطُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّ طَلِيعَةً، فَسَارَا فِي عَشَرَةٍ، فَلَمْ يَسِيرُوا إِلَّا فَرْسَخًا وَبَعْضَ آخَرَ حَتَّى رَأَوْا مَسَالِحَهُمْ وَسَرْحَهُمْ عَلَى الطُّفُوفِ قَدْ مَلَئُوهَا، فَرَجَعَ عَمْرٌو وَمَنْ مَعَهُ، وَأَبَى طُلَيْحَةُ إِلَّا التَّقَدُّمَ، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ رَجُلٌ فِي نَفْسِكَ غَدْرٌ، وَلَنْ تُفْلِحَ بَعْدَ قَتْلِ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ، فَارْجِعْ مَعَنَا. فَأَبَى، فَرَجَعُوا إِلَى سَعْدٍ فَأَخْبَرُوهُ بِقُرْبِ الْقَوْمِ. وَمَضَى طُلَيْحَةُ حَتَّى دَخَلَ عَسْكَرَ رُسْتُمَ، وَبَاتَ فِيهِ يَجُوسُهُ وَيَتَوَسَّمُ، فَهَتَكَ أَطْنَابَ بَيْتِ رَجُلٍ عَلَيْهِ وَاقْتَادَ فَرَسَهُ، ثُمَّ هَتَكَ عَلَى آخَرَ بَيْتَهُ وَحَلَّ فَرَسَهُ، ثُمَّ فَعَلَ بِآخَرَ كَذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ يَعْدُو بِهِ فَرَسُهُ، وَنَذَرَ بِهِ النَّاسُ فَرَكِبُوا فِي طَلَبِهِ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَحِقَهُ فَارِسٌ مِنَ الْجُنْدِ فَقَتَلَهُ طُلَيْحَةُ، ثُمَّ آخَرُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِهِ ثَالِثٌ فَرَأَى مَصْرَعَ صَاحِبَيْهِ، وَهُمَا ابْنَا عَمِّهِ، فَازْدَادَ حَنَقًا، فَلَحِقَ طُلَيْحَةَ، فَكَرَّ عَلَيْهِ طُلَيْحَةُ وَأَسَرَهُ، وَلَحِقَهُ النَّاسُ، فَرَأَوْا فَارِسَيِ الْجُنْدِ قَدْ قُتِلَا وَأُسِرَ الثَّالِثُ وَقَدْ شَارَفَ طُلَيْحَةُ عَسْكَرَهُ، فَأَحْجَمُوا عَنْهُ، وَدَخَلَ طُلَيْحَةُ عَلَى سَعْدٍ وَمَعَهُ الْفَارِسِيُّ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَسَأَلَ التُّرْجُمَانُ الْفَارِسِيَّ، فَطَلَبَ الْأَمَانَ، فَآمَنَهُ سَعْدٌ، قَالَ: أُخْبِرُكُمْ عَنْ صَاحِبِكُمْ هَذَا قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَكُمْ عَمَّنْ قِبَلِي، بَاشَرْتُ الْحُرُوبَ مُنْذُ أَنَا غُلَامٌ إِلَى الْآنِ، وَسَمِعْتُ بِالْأَبْطَالِ، وَلَمْ أَسْمَعْ بِمِثْلِ هَذَا، أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ فَرْسَخَيْنِ إِلَى عَسْكَرٍ فِيهِ سَبْعُونَ أَلْفًا، يَخْدِمُ الرَّجُلَ مِنْهُمُ الْخَمْسَةُ وَالْعَشَرَةُ، فَلَمْ يَرْضَ أَنْ يَخْرُجَ كَمَا دَخَلَ حَتَّى سَلَبَ فُرْسَانَ الْجُنْدِ، وَهَتَكَ عَلَيْهِمُ الْبُيُوتَ، فَلَمَّا أَدْرَكْنَاهُ قَتَلَ الْأَوَّلَ وَهُوَ يُعَدُّ بِأَلْفِ فَارِسٍ، ثُمَّ الثَّانِي وَهُوَ نَظِيرُهُ، ثُمَّ أَدْرَكْتُهُ أَنَا وَلَا أَظُنُّ أَنَّنِي خَلَّفْتُ مِنْ بَعْدِي مَنْ يَعْدِلُنِي وَأَنَا الثَّائِرُ بِالْقَتِيلَيْنِ، فَرَأَيْتُ الْمَوْتَ وَاسْتُؤْسِرْتُ. ثُمَّ أَخْبَرَهُ عَنِ الْفُرْسِ، وَأَسْلَمَ وَلَزِمَ طُلَيْحَةَ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَاءِ بِالْقَادِسِيَّةِ، وَسَمَّاهُ سَعْدٌ مُسْلِمًا. ثُمَّ سَارَ رُسْتُمُ وَقَدِمَ الْجَالِينُوسُ وَذَا الْحَاجِبِ، فَنَزَلَ الْجَالِينُوسُ بِحِيَالِ زُهْرَةَ مِنْ دُونِ الْقَنْطَرَةِ، وَنَزَلَ ذُو الْحَاجِبِ بِطِيزَنَابَاذَ، وَنَزَلَ رُسْتُمُ بِالْخَرَّارَةِ، ثُمَّ سَارَ رُسْتُمُ فَنَزَلَ بِالْقَادِسِيَّةِ، وَكَانَ بَيْنَ مَسِيرِهِ مِنَ الْمَدَائِنِ وَوُصُولِهِ الْقَادِسِيَّةَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، لَا يَقْدَمُ رَجَاءَ أَنْ

يَضْجَرُوا بِمَكَانِهِمْ فَيَنْصَرِفُوا، وَخَافَ أَنْ يَلْقَى مَا لَقِيَ مَنْ قَبْلَهُ، وَطَاوَلَهُمْ لَوْلَا مَا جَعَلَ الْمَلِكُ يَسْتَعْجِلُهُ وَيُنْهِضُهُ وَيُقَدِّمُهُ، حَتَّى أَقْحَمَهُ. وَكَانَ عُمَرُ قَدْ كَتَبَ إِلَى سَعْدٍ يَأْمُرُهُ بِالصَّبْرِ وَالْمُطَاوَلَةِ أَيْضًا، فَأَعَدَّ لِلْمُطَاوَلَةِ. فَلَمَّا وَصَلَ رُسْتُمُ الْقَادِسِيَّةَ وَقَفَ عَلَى الْعَتِيقِ بِحِيَالِ عَسْكَرِ سَعْدٍ وَنَزَلَ النَّاسُ، فَمَا زَالُوا يَتَلَاحَقُونَ حَتَّى أَعْتَمُوا مِنْ كَثْرَتِهِمْ، وَالْمُسْلِمُونَ مُمْسِكُونَ عَنْهُمْ. وَكَانَ مَعَ رُسْتُمَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ فِيلًا، مِنْهَا فِيلُ سَابُورَ الْأَبْيَضُ، وَكَانَتِ الْفِيَلَةُ تَأْلَفُهُ، فَجَعَلَ فِي الْقَلْبِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فِيلًا، وَفِي الْمُجَنِّبَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ فِيلًا. فَلَمَّا أَصْبَحَ رُسْتُمُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ رَكِبَ وَسَايَرَ الْعَتِيقَ نَحْوَ خُفَّانَ، حَتَّى أَتَى عَلَى مُنْقَطَعِ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَنْطَرَةِ، فَتَأَمَّلَ الْمُسْلِمِينَ وَوَقَفَ عَلَى مَوْضِعٍ يُشْرِفُ مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفَ عَلَى الْقَنْطَرَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى زُهْرَةَ فَوَاقَفَهُ، فَأَرَادَهُ عَلَى أَنْ يُصَالِحَهُ وَيَجْعَلَ لَهُ جُعْلًا عَلَى أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصَرِّحَ لَهُ بِذَلِكَ، بَلْ يَقُولُ لَهُ: كُنْتُمْ جِيرَانَنَا، وَكُنَّا نُحْسِنُ إِلَيْكُمْ وَنَحْفَظُكُمْ. وَيُخْبِرُهُ عَنْ صَنِيعِهِمْ مَعَ الْعَرَبِ. فَقَالَ لَهُ زُهْرَةُ: لَيْسَ أَمْرُنَا أَمْرَ أُولَئِكَ، إِنَّنَا لَمْ نَأْتِكُمْ لِطَلَبِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا طَلِبَتُنَا وَهِمَّتُنَا الْآخِرَةُ، وَقَدْ كُنَّا كَمَا ذَكَرْتَ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ فِينَا رَسُولًا، فَدَعَانَا إِلَى رَبِّهِ، فَأَجَبْنَاهُ، فَقَالَ لِرَسُولِهِ: إِنِّي سَلَّطْتُ هَذِهِ الطَّائِفَةَ عَلَى مَنْ لَمْ يَدِنْ بِدِينِي، فَأَنَا مُنْتَقِمٌ بِهِ مِنْهُمْ، وَأَجْعَلُ لَهُمُ الْغَلَبَةَ مَا دَامُوا مُقِرِّينَ بِهِ، وَهُوَ دِينُ الْحَقِّ لَا يَرْغَبُ عَنْهُ أَحَدٌ إِلَّا ذَلَّ، وَلَا يَعْتَصِمُ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا عَزَّ. فَقَالَ لَهُ رُسْتُمُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: أَمَّا عَمُودُهُ الَّذِي لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِهِ فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَيْضًا؟ قَالَ: وَإِخْرَاجُ الْعِبَادِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَحَوَّاءَ إِخْوَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ. قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا! ثُمَّ قَالَ رُسْتُمُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَجَبْتُ إِلَى هَذَا وَمَعِي قَوْمِي، كَيْفَ يَكُونُ أَمْرُكُمْ، أَتَرْجِعُونَ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ. قَالَ: صَدَقْتَنِي، أَمَّا إِنَّ أَهْلَ فَارِسَ مُنْذُ وَلِيَ أَرْدَشِيرُ لَمْ يَدَعُوا أَحَدًا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ مِنَ السِّفْلَةِ، كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا خَرَجُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ تَعَدُّوا طَوْرَهُمْ وَعَادُوا أَشْرَافَهُمْ. فَقَالَ زُهْرَةُ: نَحْنُ خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ، فَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَكُونَ كَمَا تَقُولُونَ، بَلْ نُطِيعُ اللَّهَ فِي السِّفْلَةِ، وَلَا يَضُرُّنَا مَنْ عَصَى اللَّهَ فِينَا. فَانْصَرَفَ عَنْهُ وَدَعَا رِجَالَ فَارِسَ فَذَاكَرَهُمْ هَذَا فَأَنِفُوا. فَأَرْسَلَ إِلَى سَعْدٍ: أَنِ

ابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلًا نُكَلِّمُهُ وَيُكَلِّمُنَا. فَدَعَا سَعْدٌ جَمَاعَةً لِيُرْسِلَهُمْ إِلَيْهِمْ. فَقَالَ لَهُ رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ: مَتَى نَأْتِهِمْ جَمِيعًا يَرَوْا أَنَا قَدِ احْتَفَلْنَا بِهِمْ، فَلَا تَزِدْهُمْ عَلَى رَجُلٍ. فَأَرْسَلَهُ وَحْدَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَحَبَسُوهُ عَلَى الْقَنْطَرَةِ. وَأُعْلِمَ رُسْتُمُ بِمَجِيئِهِ فَأَظْهَرَ زِينَتَهُ، وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَبَسَطَ الْبُسُطَ وَالنَّمَارِقَ وَالْوَسَائِدَ الْمَنْسُوجَةَ بِالذَّهَبِ، وَأَقْبَلَ رِبْعِيٌّ عَلَى فَرَسِهِ وَسَيْفُهُ فِي خِرْقَةٍ، وَرُمْحُهُ مَشْدُودٌ بِعَصَبٍ وَقَدٍّ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْبُسُطِ قِيلَ لَهُ: انْزِلْ، فَحَمَلَ فَرَسَهُ عَلَيْهَا وَنَزَلَ، وَرَبَطَهَا بِوِسَادَتَيْنِ شَقَّهُمَا، وَأَدْخَلَ الْحَبْلَ فِيهِمَا، فَلَمْ يَنْهَوْهُ وَأَرَوْهُ التَّهَاوُنَ، وَعَلَيْهِ دِرْعٌ، وَأَخَذَ عَبَاءَةَ بِعِيرِهِ فَتَدَرَّعَهَا وَشَدَّهَا عَلَى وَسَطِهِ. فَقَالُوا: ضَعْ سِلَاحَكَ. فَقَالَ: لَمْ آتِكُمْ فَأَضَعَ سِلَاحِي بِأَمْرِكُمْ، أَنْتُمْ دَعَوْتُمُونِي. فَأَخْبَرُوا رُسْتُمَ، فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ. فَأَقْبَلَ يَتَوَكَّأُ عَلَى رُمْحِهِ وَيُقَارِبُ خَطْوَهُ، فَلَمْ يَدْعُ لَهُمْ نُمْرُقًا وَلَا بِسَاطًا إِلَّا أَفْسَدَهُ وَهَتَكَهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ رُسْتُمَ جَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ، وَرَكَّزَ رُمْحَهُ عَلَى الْبُسُطِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: إِنَّا لَا نَسْتَحِبُّ الْقُعُودَ عَلَى زِينَتِكُمْ. فَقَالَ لَهُ تُرْجُمَانُ رُسْتُمَ، وَاسْمُهُ عَبُودٌ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالَ: اللَّهُ جَاءَ بِنَا، وَهُوَ بَعَثَنَا لِنُخْرِجَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلَنَا بِدِينِهِ إِلَى خَلْقِهِ، فَمَنْ قَبِلَهُ قَبِلْنَا مِنْهُ، وَرَجَعْنَا عَنْهُ وَتَرَكْنَاهُ وَأَرْضَهُ دُونَنَا، وَمَنْ أَبَى قَاتَلْنَاهُ حَتَّى نُفْضِيَ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ الظَّفَرِ. فَقَالَ رُسْتُمُ: قَدْ سَمِعْنَا قَوْلَكُمْ، فَهَلْ لَكُمْ أَنْ تُؤَخِّرُوا هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى نَنْظُرَ فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنَّ مِمَّا سَنَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا نُمَكِّنَ الْأَعْدَاءَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، فَنَحْنُ مُتَرَدِّدُونَ عَنْكُمْ ثَلَاثًا، فَانْظُرْ فِي أَمْرِكَ، وَاخْتَرْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ الْأَجَلِ: إِمَّا الْإِسْلَامُ وَنَدَعَكَ وَأَرْضَكَ، أَوِ الْجَزَاءُ فَنَقْبَلُ وَنَكُفُّ عَنْكَ، وَإِنِ احْتَجْتَ إِلَيْنَا نَصَرْنَاكَ، أَوِ الْمُنَابَذَةُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، إِلَّا أَنْ تَبْدَأَ بِنَا، أَنَا كَفِيلٌ بِذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِي. قَالَ أَسَيِّدُهُمْ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، يُجِيرُ أَدْنَاهُمْ عَلَى أَعْلَاهُمْ. فَخَلَا رَسْتُمُ بِرُؤَسَاءِ قَوْمِهِ فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتُمْ كَلَامًا قَطُّ أَعَزَّ وَأَوْضَحَ مِنْ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ؟ فَقَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَمِيلَ إِلَى دِينِ هَذَا الْكَلْبِ! أَمَا تَرَى إِلَى ثِيَابِهِ؟ فَقَالَ: وَيْحَكُمْ! لَا تَنْظُرُوا إِلَى الثِّيَابِ، وَلَكِنِ انْظُرُوا إِلَى الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ وَالسِّيرَةِ، إِنَّ الْعَرَبَ تَسْتَخِفُّ بِاللِّبَاسِ وَتَصُونُ الْأَحْسَابَ، لَيْسُوا مِثْلَكُمْ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَرْسَلَ رُسْتُمُ إِلَى سَعْدٍ: أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا ذَلِكَ الرَّجُلَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ حَذِيفَةَ بْنَ مِحْصَنٍ، فَأَقْبَلَ فِي نَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ الزِّيِّ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَنْ فَرَسِهِ، وَوَقَفَ عَلَى

رُسْتُمَ رَاكِبًا. قَالَ لَهُ: انْزِلْ. قَالَ: لَا أَفْعَلُ. فَقَالَ لَهُ: مَا جَاءَ بِكَ وَلَمْ يَجِئِ الْأَوَّلُ؟ قَالَ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَنَا يُحِبُّ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَنَا فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَهَذِهِ نَوْبَتِي. فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ فَأَجَابَهُ مِثْلَ الْأَوَّلِ. فَقَالَ رُسْتُمُ: أَوِ الْمُوَادَعَةُ إِلَى يَوْمٍ مَا؟ قَالَ: نَعَمْ، ثَلَاثًا مِنْ أَمْسِ. فَرَدَّهُ وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: وَيْحَكُمْ! أَمَا تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ جَاءَنَا الْأَوَّلُ بِالْأَمْسِ فَغَلَبَنَا عَلَى أَرْضِنَا، وَحَقَّرَ مَا نُعَظِّمُ وَأَقَامَ فَرَسَهُ عَلَى زِبْرِجِنَا، وَجَاءَ هَذَا الْيَوْمَ فَوَقَفَ عَلَيْنَا وَهُوَ فِي يُمْنِ الطَّائِرِ، يَقُومُ عَلَى أَرْضِنَا دُونَنَا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَرْسَلَ: ابْعَثُوا إِلَيْنَا رَجُلًا. فَبَعَثَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ وَعَلَيْهِمُ التِّيجَانُ وَالثِّيَابُ الْمَنْسُوجَةُ بِالذَّهَبِ، وَبُسُطُهُمْ عَلَى غُلْوَةٍ، لَا يُوصَلُ إِلَى صَاحِبِهِمْ حَتَّى يُمْشَى عَلَيْهَا، فَأَقْبَلَ الْمُغِيرَةُ حَتَّى جَلَسَ مَعَ رُسْتُمَ عَلَى سَرِيرِهِ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ وَأَنْزَلُوهُ وَمَعَكُوهُ، وَقَالَ: قَدْ كَانَتْ تَبْلُغُنَا عَنْكُمُ الْأَحْلَامُ، وَلَا أَرَى قَوْمًا أَسْفَهَ مِنْكُمْ، إِنَّا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَا نَسْتَعْبِدُ بَعْضَنَا بَعْضًا، فَظَنَنْتُ أَنَّكُمْ تُوَاسُونَ قَوْمَكُمْ كَمَا نَتَوَاسَى، فَكَانَ أَحْسَنَ مِنَ الَّذِي صَنَعْتُمْ أَنْ تُخْبِرُونِي أَنَّ بَعْضَكُمْ أَرْبَابُ بَعْضٍ، فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَسْتَقِيمُ فِيكُمْ وَلَا يَصْنَعُهُ أَحَدٌ، وَإِنِّي لَمْ آتِكُمْ وَلَكِنْ دَعَوْتُمُونِي، الْيَوْمَ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ مُغَلَّبُونَ، وَأَنَّ مُلْكًا لَا يَقُومُ عَلَى هَذِهِ السِّيرَةِ وَلَا عَلَى هَذِهِ الْعُقُولِ. فَقَالَتِ السِّفْلَةُ: صَدَقَ وَاللَّهِ الْعَرَبِيُّ. وَقَالَتِ الدَّهَاقِينُ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَمَى بِكَلَامٍ لَا تَزَالُ عَبِيدُنَا يَنْزِعُونَ إِلَيْهِ، قَاتَلَ اللَّهُ أَوَّلِينَا حِينَ كَانُوا يُصَغِّرُونَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ! ثُمَّ تَكَلَّمَ رُسْتُمُ فَحَمِدَ قَوْمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُمْ وَقَالَ: لَمْ نَزَلْ مُتَمَكِّنِينَ فِي الْبِلَادِ، ظَاهِرِينَ عَلَى الْأَعْدَاءِ، أَشْرَافًا فِي الْأُمَمِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِثْلُ عِزِّنَا وَسُلْطَانِنَا، نُنْصَرُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُنْصَرُونَ عَلَيْنَا، إِلَّا الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَالشَّهْرَ لِلذُّنُوبِ، فَإِذَا انْتَقَمَ اللَّهُ مِنَّا وَرَضِيَ عَلَيْنَا رَدَّ لَنَا الْكَرَّةَ عَلَى عَدُوِّنَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَمِ أُمَّةٌ أَصْغَرَ عِنْدَنَا أَمْرًا مِنْكُمْ، كُنْتُمْ أَهْلَ قَشَفٍ وَمَعِيشَةٍ سَيِّئَةٍ لَا نَرَاكُمْ شَيْئًا، وَكُنْتُمْ تَقْصِدُونَنَا إِذَا قَحَطَتْ بِلَادُكُمْ، فَنَأْمُرُ لَكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ ثُمَّ نَرُدُّكُمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْكُمْ عَلَى مَا صَنَعْتُمْ إِلَّا الْجُهْدُ فِي بِلَادِكُمْ، فَأَنَا آمِرٌ لِأَمِيرِكُمْ بِكُسْوَةٍ وَبَغْلٍ وَأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَآمِرٌ لِكُلٍّ مِنْكُمْ بِوِقْرِ تَمْرٍ وَتَنْصَرِفُونَ عَنَّا، فَإِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَقْتُلَكُمْ.

فَتَكَلَّمَ الْمُغِيرَةُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَازِقُهُ، فَمَنْ صَنَعَ شَيْئًا فَإِنَّمَا هُوَ يَصْنَعُهُ، وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرْتَ بِهِ نَفْسَكَ وَأَهْلَ بِلَادِكَ فَنَحْنُ نَعْرِفُهُ، فَاللَّهُ صَنَعَهُ بِكُمْ وَوَضَعَهُ فِيكُمْ، وَهُوَ لَهُ دُونَكُمْ، وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرْتَ فِينَا مِنْ سُوءِ الْحَالِ وَالضِّيقِ وَالِاخْتِلَافِ فَنَحْنُ نَعْرِفُهُ وَلَسْنَا نُنْكِرُهُ، وَاللَّهُ ابْتَلَانَا بِهِ وَالدُّنْيَا دُوَلٌ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الشَّدَائِدِ يَتَوَقَّعُونَ الرَّخَاءَ حَتَّى يَصِيرُوا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الرَّخَاءِ يَتَوَقَّعُونَ الشَّدَائِدَ حَتَّى تَنْزِلَ بِهِمْ، وَلَوْ شَكَرْتُمْ مَا آتَاكُمُ اللَّهُ لَكَانَ شُكْرُكُمْ يُقَصِّرُ عَمَّا أُوتِيتُمْ، وَأَسْلَمَكُمْ ضُعْفُ الشُّكْرِ إِلَى تَغَيُّرِ الْحَالِ، وَلَوْ كُنَّا فِيمَا ابْتُلِينَا بِهِ أَهْلَ كُفْرٍ لَكَانَ عَظِيمُ مَا ابْتُلِينَا بِهِ مُسْتَجْلِبًا مِنَ اللَّهِ رَحْمَةً يُرَفِّهُ بِهَا عَنَّا، إِنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بَعَثَ فِينَا رَسُولًا. ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْإِسْلَامِ وَالْجِزْيَةِ وَالْقِتَالِ، وَقَالَ لَهُ: وَإِنَّ عِيَالَنَا قَدْ ذَاقُوا طَعَامَ بِلَادِكُمْ، فَقَالُوا: لَا صَبْرَ لَنَا عَنْهُ. فَقَالَ رُسْتُمُ: إِذًا تَمُوتُونَ دُونَهَا. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يَدْخُلُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا الْجَنَّةَ وَمَنْ قُتِلَ مِنْكُمُ النَّارَ، وَيَظْفَرُ مَنْ بَقِيَ مِنَّا بِمَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ. فَاسْتَشَاطَ رُسْتُمُ غَضَبًا ثُمَّ حَلَفَ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ الصُّبْحُ غَدًا حَتَّى نَقْتُلَكُمْ أَجْمَعِينَ. وَانْصَرَفَ الْمُغِيرَةُ وَخَلَصَ رُسْتُمُ بِأَهْلِ فَارِسَ وَقَالَ: أَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنْكُمْ! هَؤُلَاءِ وَاللَّهِ الرِّجَالُ، صَادِقِينَ كَانُوا أَمْ كَاذِبِينَ، وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ بَلَغَ مِنْ عَقْلِهِمْ وَصَوْنِهِمْ لِسِرِّهِمْ أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا، فَمَا قَوْمٌ أَبْلَغَ لِمَا أَرَادُوا مِنْهُمْ، وَلَئِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فَمَا يَقُومُ لِهَؤُلَاءِ شَيْءٌ! فَلُجُّوا وَتَجَلَّدُوا. فَأَرْسَلَ رُسْتُمُ مَعَ الْمُغِيرَةِ وَقَالَ لَهُ: إِذَا قَطَعَ الْقَنْطَرَةَ فَأَعْلِمْهُ أَنَّ عَيْنَهُ تُفْقَأُ غَدًا، فَأَعْلَمَهُ الرَّسُولُ ذَلِكَ: فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: بَشَّرْتَنِي بِخَيْرٍ وَأَجْرٍ، وَلَوْلَا أَنْ أُجَاهِدَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ أَشْبَاهَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَتَمَنَّيْتُ أَنَّ الْأُخْرَى ذَهَبَتْ. فَرَجَعَ إِلَى رُسْتُمَ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ: أَطِيعُونِي يَا أَهْلَ فَارِسَ، إِنِّي لَأَرَى لِلَّهِ فِيكُمْ نِقْمَةً لَا تَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ سَعْدٌ بَقِيَّةَ ذَوِي الرَّأْيِ فَسَارُوا، وَكَانُوا ثَلَاثَةً، إِلَى رُسْتُمَ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ أَمِيرَنَا يَدْعُوكَ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَنَا وَلَكَ، الْعَافِيَةُ أَنْ تَقْبَلَ مَا دَعَاكَ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَنَرْجِعُ إِلَى أَرْضِنَا، وَتَرْجِعُ إِلَى أَرْضِكَ، وَدَارُكُمْ لَكُمْ وَأَمْرُكُمْ فِيكُمْ، وَمَا أَصَبْتُمْ كَانَ زِيَادَةً لَكُمْ دُونَنَا، وَكُنَّا عَوْنًا لَكُمْ عَلَى أَحَدٍ إِنْ أَرَادَكُمْ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَلَا يَكُونَنَّ هَلَاكُ قَوْمِكَ عَلَى يَدِكَ، وَلَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَنْ تُغْبَطَ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَّا أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ، وَتَطْرُدَ بِهِ الشَّيْطَانَ عَنْكَ.

فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْأَمْثَالَ أَوْضَحُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ، إِنَّكُمْ كُنْتُمْ أَهْلَ جَهْدٍ وَقَشَفٍ لَا تَنْتَصِفُونَ وَلَا تَمْتَنِعُونَ فَلَمْ نُسِئْ جِوَارَكُمْ، وَكُنَّا نَمِيرُكُمْ وَنُحْسِنُ إِلَيْكُمْ، فَلَمَّا طَعِمْتُمْ طَعَامَنَا وَشَرِبْتُمْ شَرَابَنَا وَصَفْتُمْ لِقَوْمِكُمْ ذَلِكَ، وَدَعَوْتُمُوهُمْ ثُمَّ أَتَيْتُمُونَا، وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُنَا كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ لَهُ كَرْمٌ فَرَأَى فِيهِ ثَعْلَبًا، فَقَالَ: وَمَا ثَعْلَبٌ! فَانْطَلَقَ الثَّعْلَبُ، فَدَعَا الثَّعَالِبَ إِلَى ذَلِكَ الْكَرْمِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ سَدَّ صَاحِبُ الْكَرْمِ النَّقْبَ الَّذِي كُنَّ يَدْخُلْنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُنَّ ; فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الَّذِي حَمَلَكُمْ عَلَى هَذَا: الْحِرْصُ وَالْجَهْدُ، فَارْجِعُوا وَنَحْنُ نَمِيرُكُمْ، فَإِنِّي لَا أَشْتَهِي أَنْ أَقْتُلَكُمْ، وَمَثَلُكُمْ أَيْضًا كَالذُّبَابِ يَرَى الْعَسَلَ فَيَقُولُ: مَنْ يُوصِلُنِي إِلَيْهِ وَلَهُ دِرْهَمَانِ؟ فَإِذَا دَخَلَهُ غَرِقَ وَنَشِبَ، فَيَقُولُ: مَنْ يُخْرِجُنِي وَلَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ؟ وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ رَجُلًا وَضَعَ سَلَّةً وَجَعَلَ طَعَامًا فِيهَا، فَأَتَى الْجُرْذَانُ فَخَرَقْنَ السَّلَّةَ، فَدَخَلْنَ فِيهَا، فَأَرَادَ سَدَّهَا فَقِيلَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ إِذَنْ يَخْرِقْنَهُ، لَكِنِ انْقُبْ بِحِيَالِهِ، ثُمَّ اجْعَلْ (فِيهَا) قَصَبَةً مُجَوَّفَةً، فَإِذَا دَخَلَهَا الْجُرْذَانُ وَخَرَجْنَ مِنْهَا فَاقْتُلْ كُلَّ مَا خَرَجَ مِنْهَا، وَقَدْ سَدَدْتُ عَلَيْكُمْ (فَإِيَّاكُمْ) أَنْ تَقْتَحِمُوا الْقَصَبَةَ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا قُتِلَ، فَمَا دَعَاكُمْ إِلَى مَا صَنَعْتُمْ وَلَا أَرَى عَدَدًا وَلَا عُدَّةً! . قَالَ: فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ، وَذَكَرُوا سُوءَ حَالِهِمْ، وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِرْسَالِ رَسُولِهِ، وَاخْتِلَافِهِمْ أَوَّلًا، ثُمَّ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْجِهَادِ، وَقَالُوا: وَأَمَّا مَا ضَرَبْتَ لَنَا مِنَ الْأَمْثَالِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ غَرَسَ أَرْضًا وَاخْتَارَ لَهَا الشَّجَرَ، وَأَجْرَى إِلَيْهَا الْأَنْهَارَ، وَزَيَّنَهَا بِالْقُصُورِ، وَأَقَامَ فِيهَا فَلَّاحِينَ يَسْكُنُونَ قُصُورَهَا وَيَقُومُونَ عَلَى جِنَانِهَا، فَخَلَا الْفَلَّاحُونَ فِي الْقُصُورِ عَلَى مَا لَا يُحِبُّ، فَأَطَالَ إِمْهَالَهُمْ فَلَمْ يَسْتَحْيُوا، فَدَعَا إِلَيْهَا غَيْرَهُمْ وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، فَإِنْ ذَهَبُوا عَنْهَا تَخَطَّفَهُمُ النَّاسُ وَإِنْ أَقَامُوا فِيهَا صَارُوا خَوَلًا لِهَؤُلَاءِ فَيَسُومُونَهُمُ الْخَسْفَ أَبَدًا ; وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَا نَقُولُ حَقًّا، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا الدُّنْيَا، لَمَا صَبَرْنَا عَنِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنْ لَذِيذِ عَيْشِكُمْ، وَرَأَيْنَا مَنْ بُزُرْجُكُمْ، وَلَقَارَعْنَاكُمْ عَلَيْهِ! . فَقَالَ رُسْتُمُ: أَتَعْبُرُونَ إِلَيْنَا أَمْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ؟ فَقَالُوا: بَلِ اعْبُرُوا إِلَيْنَا. وَرَجَعُوا مِنْ عِنْدِهِ عَشِيًّا، وَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى النَّاسِ أَنْ يَقِفُوا مَوَاقِفَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: شَأْنُكَمْ وَالْعُبُورَ، فَأَرَادُوا الْقَنْطَرَةَ فَقَالَ: لَا وَلَا كَرَامَةَ! أَمَّا شَيْءٌ غَلَبْنَاكُمْ عَلَيْهِ فَلَنْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ. فَبَاتُوا يُسَكِّرُونَ الْعَتِيقَ حَتَّى الصَّبَاحِ بِالتُّرَابِ وَالْقَصَبِ وَالْبَرَاذِعِ حَتَّى جَعَلُوهُ طَرِيقًا، وَاسْتَتَمَّ بَعْدَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ.

ذكر يوم أرماث

وَرَأَى رُسْتُمُ مِنَ اللَّيْلِ كَأَنَّ مَلَكًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، فَأَخَذَ قِسِيَّ أَصْحَابِهِ، فَخَتَمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ صَعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَيْقَظَ مَهْمُومًا وَاسْتَدْعَى خَاصَّتَهُ، فَقَصَّهَا عَلَيْهِمْ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَعِظُنَا لَوِ اتَّعَظْنَا. وَلَمَّا رَكِبَ رُسْتُمُ لِيَعْبُرَ كَانَ عَلَيْهِ دِرْعَانِ وَمِغْفَرٌ، وَأَخَذَ سِلَاحَهُ وَوَثَبَ، فَإِذَا هُوَ عَلَى فَرَسِهِ لَمْ يَضَعْ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ، وَقَالَ: غَدًا نَدُقُّهُمْ دَقًّا! فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ: وَإِنْ لَمْ يَشَأْ! ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا ضَغَا الثَّعْلَبُ حِينَ مَاتَ الْأَسَدُ - يَعْنِي كِسْرَى - وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ سُنَّةَ الْقُرُودِ! فَإِنَّمَا قَالَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَوْهِينًا لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْفُرْسِ، وَإِلَّا فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْخَوْفُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَظْهَرَ ذَلِكَ إِلَى مَنْ يَثِقُ بِهِ. [ذِكْرُ يَوْمِ أَرْمَاثَ] لَمَّا عَبَرَ الْفُرْسُ الْعَتِيقَ، جَلَسَ رُسْتُمُ عَلَى سَرِيرِهِ وَضُرِبَ عَلَيْهِ طَيَّارَةٌ، وَعَبَّى فِي الْقَلْبِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فِيلًا، عَلَيْهَا صَنَادِيقُ وَرِجَالٌ، وَفِي الْمُجَنِّبَتَيْنِ ثَمَانِيَةً وَسَبْعَةً، وَأَقَامَ الْجَالِينُوسُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُسْتُمَ رِجَالًا عَلَى كُلِّ دَعْوَةٍ رَجُلًا، أَوَّلُهُمْ عَلَى بَابِ إِيوَانِهِ وَآخِرُهُمْ مَعَ رُسْتُمَ، فَكُلَّمَا فَعَلَ رُسْتُمُ شَيْئًا قَالَ الَّذِي مَعَهُ لِلَّذِي يَلِيهِ: كَانَ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ يَقُولُ الثَّانِي لِلَّذِي يَلِيهِ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى يَزْدَجِرْدَ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ. وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مَصَافَّهُمْ. وَكَانَ بِسَعْدٍ دَمَامِيلُ وَعِرْقُ النَّسَا فَلَا يَسْتَطِيعُ الْجُلُوسَ، إِنَّمَا هُوَ مُكِبٌّ عَلَى وَجْهِهِ، فِي صَدْرِهِ وِسَادَةٌ عَلَى سَطْحِ الْقَصْرِ يُشْرِفُ عَلَى النَّاسِ، وَالصَّفُّ فِي أَصْلِ حَائِطِهِ، لَوْ أَعْرَاهُ الصَّفُّ فَوَاقَ نَاقَةٍ لَأُخِذَ بِرُمَّتِهِ، فَمَا كَرَثَهُ هَوْلُ تِلْكَ الْأَيَّامِ شَجَاعَةً، وَذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ، وَعَابَهُ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ: نُقَاتِلُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ ... وَسَعْدٌ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ مُعْصَمُ فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ ... وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ

فَبَلَغَتْ أَبْيَاتُهُ سَعْدًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا كَاذِبًا وَقَالَ الَّذِي قَالَهُ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَاقْطَعْ عَنِّي لِسَانَهُ! فَإِنَّهُ لَوَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَئِذٍ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَأَصَابَ لِسَانَهُ، فَمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ تَعَالَى. فَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ، وَنَزَلَ سَعْدٌ إِلَى النَّاسِ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ وَأَرَاهُمْ مَا بِهِ مِنَ الْقُرُوحِ فِي فَخِذَيْهِ وَأَلْيَتَيْهِ، فَعَذَرَهُ النَّاسُ وَعَلِمُوا حَالَهُ، وَلَمَّا عَجَزَ عَنِ الرُّكُوبِ اسْتَخْلَفَ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ عَلَى النَّاسِ، فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ نَفَرًا مِمَّنْ شَغَبَ عَلَيْهِ فَحَبَسَهُمْ فِي الْقَصْرِ، مِنْهُمْ: أَبُو مِحْجَنٍ الثَّقَفِيُّ، وَقَيَّدَهُمْ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ حَبْسُ أَبِي مِحْجَنٍ بِسَبَبِ الْخَمْرِ، وَأَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّهُ قَدِ اسْتَخْلَفَ خَالِدًا وَإِنَّمَا يَأْمُرُهُمْ خَالِدٌ، فَسَمِعُوا وَأَطَاعُوا، وَخَطَبَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ، وَهُوَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَذَكَّرَهُمْ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَتْحِ الْبِلَادِ، وَمَا نَالَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْفُرْسِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَمِيرُ كُلِّ قَوْمٍ، وَأَرْسَلَ سَعْدٌ نَفَرًا مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ وَالنَّجْدَةِ، مِنْهُمُ: الْمُغِيرَةُ، وَحُذَيْفَةُ، وَعَاصِمٌ، وَطُلَيْحَةُ، وَقَيْسٌ الْأَسَدِيُّ، وَغَالِبٌ، وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ وَأَمْثَالُهُمْ، وَمِنَ الشُّعَرَاءِ: الشَّمَّاخُ، وَالْحُطَيْئَةُ، وَأَوْسُ بْنُ مَغْرَاءَ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ وَغَيْرُهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِتَحْرِيضِ النَّاسِ عَلَى الْقِتَالِ، فَفَعَلُوا. وَكَانَ صَفُّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شَفِيرِ الْعَتِيقِ، وَكَانَ صَفُّ الْمُسْلِمِينَ مَعَ حَائِطِ قُدَيْسٍ وَالْخَنْدَقِ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَالْعَتِيقِ، وَمَعَ الْفُرْسِ ثَلَاثُونَ أَلْفَ مُسَلْسَلٍ، وَأَمَرَ سَعْدٌ النَّاسَ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْجِهَادِ - وَهِيَ الْأَنْفَالُ - فَلَمَّا قُرِئَتْ هَشَّتْ قُلُوبُ النَّاسِ وَعُيُونُهُمْ وَعَرَفُوا السَّكِينَةَ مَعَ قِرَاءَتِهَا. فَلَمَّا فَرَغَ الْقُرَّاءُ مِنْهَا قَالَ سَعْدٌ: الْزَمُوا مَوَاقِفَكُمْ حَتَّى تُصَلُّوا الظُّهْرَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَإِنِّي مُكَبِّرٌ تَكْبِيرَةً، فَكَبِّرُوا وَاسْتَعِدُّوا، فَإِذَا سَمِعْتُمُ الثَّانِيَةَ فَكَبِّرُوا وَالْبَسُوا عُدَّتَكُمْ، ثُمَّ إِذَا كَبَّرْتُ الثَّالِثَةَ فَكَبِّرُوا، وَلْيُنَشِّطْ فُرْسَانُكُمُ النَّاسَ، فَإِذَا كَبَّرْتُ الرَّابِعَةَ فَازْحَفُوا جَمِيعًا حَتَّى تُخَالِطُوا عَدُوَّكُمْ، وَقُولُوا لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. فَلَمَّا كَبَّرَ سَعْدٌ الثَّالِثَةَ بَرَزَ أَهْلُ النَّجَدَاتِ فَأَنْشَبُوا الْقِتَالَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْفُرْسِ أَمْثَالُهُمْ، فَاعْتَوَرُوا الطَّعْنَ وَالضَّرْبَ، وَقَالَ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيُّ:

قَدْ عَلِمَتْ وَارِدَةُ الْمَشَائِحِ ... ذَاتُ اللَّبَانِ وَالْبَيَانِ الْوَاضِحِ أَنِّي سِمَامٌ بَطَلُ الْمَسَالِحِ ... وَفَارِجُ الْأَمْرِ الْمُهِمِّ الْفَادِحِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ هُرْمُزُ، وَكَانَ مِنْ مُلُوكِ الْبَابِ، وَكَانَ مُتَوَّجًا، فَأَسَرَهُ غَالِبٌ، فَجَاءَ بِهِ سَعْدًا وَرَجَعَ، وَخَرَجَ عَاصِمٌ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ بَيْضَاءُ صَفْرَاءُ اللَّبَبْ ... مِثْلُ اللُّجَيْنِ إِذْ تَغَشَّاهُ الذَّهَبْ أَنِّي امْرُؤٌ لَا مَنْ يَعِيبُهُ السَّبَبْ ... مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ يُغْرِيهِ الْعَتَبْ فَطَارَدَ فَارِسِيًّا فَانْهَزَمَ، فَاتَّبَعَهُ عَاصِمٌ حَتَّى خَالَطَ صَفَّهُمْ، فَحَمَوْهُ، فَأَخَذَ عَاصِمٌ رَجُلًا عَلَى بَغْلٍ وَعَادَ بِهِ، وَإِذَا هُوَ خَبَّازُ الْمَلِكِ مَعَهُ مِنْ طَعَامِ الْمَلِكِ وَخَبِيصٌ، فَأَتَى بِهِ سَعْدًا فَنَفَّلَهُ أَهْلَ مَوْقِفِهِ. وَخَرَجَ فَارِسِيٌّ فَطَلَبَ الْبِرَازَ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيِ كَرِبَ، فَأَخَذَهُ وَجَلَدَ بِهِ الْأَرْضَ، فَذَبَحَهُ وَأَخَذَ سِوَارَيْهِ وَمِنْطَقَتَهُ. وَحَمَلَتِ الْفِيَلَةُ عَلَيْهِمْ فَفَرَّقَتْ بَيْنَ الْكَتَائِبِ، فَنَفَرَتِ الْخَيْلُ، وَكَانَتِ الْفُرْسُ قَدْ قَصَدَتْ بَجِيلَةَ بِسَبْعَةَ عَشَرَ فِيلًا، فَنَفَرَتْ خَيْلُ بَجِيلَةَ، فَكَادَتْ بَجِيلَةُ تَهْلِكُ لِنِفَارِ خَيْلِهَا عَنْهَا وَعَمَّنْ مَعَهَا، وَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى بَنِي أَسَدٍ أَنْ دَافِعُوا عَنْ بَجِيلَةَ وَعَمَّنْ مَعَهَا مِنَ النَّاسِ. فَخَرَجَ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَحَمَّالُ بْنُ مَالِكٍ فِي كَتَائِبِهِمَا، فَبَاشَرُوا الْفِيَلَةَ حَتَّى عَدَلَهَا رُكْبَانُهَا. وَخَرَجَ إِلَى طُلَيْحَةَ عَظِيمٌ مِنْهُمْ، فَقَتَلَهُ طُلَيْحَةُ، وَقَامَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فِي كِنْدَةَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ كِنْدَةَ لِلَّهِ دَرُّ بَنِي أَسَدٍ! أَيُّ فَرْيٍّ يَفْرُونَ، وَأَيُّ هَذٍّ يَهُذُّونَ عَنْ مَوْقِفِهِمْ،

أَغْنَى كُلُّ قَوْمٍ مَا يَلِيهِمْ، وَأَنْتُمْ تَنْتَظِرُونَ مَنْ يَكْفِيكُمْ، أَشْهَدُ مَا أَحْسَنْتُمْ أُسْوَةَ قَوْمِكُمْ مِنَ الْعَرَبِ. فَنَهَدَ وَنَهَدُوا، فَأَزَالُوا الَّذِينَ بِإِزَائِهِمْ. فَلَمَّا رَأَى الْفُرْسُ مَا يَلْقَى النَّاسُ وَالْفِيَلَةُ مِنْ أَسَدٍ رَمَوْهُمْ بِحَدِّهِمْ وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ ذُو الْحَاجِبِ، وَالْجَالِينُوسُ. وَالْمُسْلِمُونَ يَنْتَظِرُونَ التَّكْبِيرَةَ الرَّابِعَةَ مِنْ سَعْدٍ، فَاجْتَمَعَتْ حَلْبَةُ فَارِسَ عَلَى أَسَدٍ وَمَعَهُمْ تِلْكَ الْفِيَلَةُ، فَثَبَتُوا لَهُمْ، وَكَبَّرَ سَعْدٌ الرَّابِعَةَ، وَزَحَفَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ وَرَحَا الْحَرْبِ تَدُورُ عَلَى أَسَدٍ، وَحَمَلَتِ الْفُيُولُ عَلَى الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ فَكَانَتِ الْخُيُولُ تَحِيدُ عَنْهَا. فَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَمْرٍو التَّمِيمِيِّ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ بَنِي تَمِيمٍ، أَمَا عِنْدَكُمْ لِهَذِهِ الْفِيَلَةِ مِنْ حِيلَةٍ؟ قَالُوا: بَلَى وَاللَّهِ! ثُمَّ نَادَى فِي رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ رُمَاةٍ، وَآخَرِينَ لَهُمْ ثَقَافَةٌ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّمَاةِ، ذُبُّوا رُكْبَانَ الْفِيَلَةِ عَنْهُمْ بِالنَّبْلِ. وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الثَّقَافَةِ، اسْتَدْبِرُوا الْفِيَلَةَ فَقَطِّعُوا وُضُنَهَا، وَخَرَجَ يَحْمِيهِمْ، وَرَحَا الْحَرْبِ تَدُورُ عَلَى أَسَدٍ، وَقَدْ جَالَتِ الْمَيْمَنَةُ وَالْمَيْسَرَةُ غَيْرَ بَعِيدٍ، وَأَقْبَلَ أَصْحَابُ عَاصِمٍ عَلَى الْفِيَلَةِ فَأَخَذُوا بِأَذْنَابِ تَوَابِيتِهَا، فَقَطَعُوا وُضُنَهَا، وَارْتَفَعَ عُوَاؤُهُمْ، فَمَا بَقِيَ لَهُمْ فِيلٌ إِلَّا أَوَى، وَقُتِلَ أَصْحَابُهَا، وَنُفِّسَ عَنْ أَسَدٍ، وَرَدُّوا فَارِسَ عَنْهُمْ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ، وَاقْتَتَلُوا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ حَتَّى ذَهَبَتْ هَدْأَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ رَجَعَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَأُصِيبَ مِنْ أَسَدٍ تِلْكَ الْعَشِيَّةَ خَمْسُمِائَةٍ، وَكَانُوا رِدْءًا لِلنَّاسِ، وَكَانَ عَاصِمٌ حَامِيَةً لِلنَّاسِ، وَهَذَا الْيَوْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ يَوْمُ أَرْمَاثَ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ شَأْسٍ الْأَسَدِيُّ: جَلَبْنَا الْخَيْلَ مِنْ أَكْنَافِ نِيقٍ ... إِلَى كِسْرَى فَوَافَقَهَا رِعَالَا تَرَكْنَ لَهُمْ عَلَى الْأَقْسَامِ شَجْوًا ... وَبِالْحَقْوَيْنِ أَيَّامًا طِوَالَا قَتَلْنَا رُسْتُمًا وَبَنِيهِ قَسْرًا ... تُشِيرُ الْخَيْلُ فَوْقَهُمُ الْهَيَالَا الْأَبْيَاتِ.

ذكر يوم أغواث

وَكَانَ سَعْدٌ قَدْ تَزَوَّجَ سَلْمَى امْرَأَةَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيِّ بَعْدَهُ بِشَرَافَ، فَلَمَّا جَالَ النَّاسُ يَوْمَ أَرْمَاثَ، وَكَانَ سَعْدٌ لَا يُطِيقُ الْجُلُوسَ، جَعَلَ سَعْدٌ يَتَمَلْمَلُ جَزَعًا فَوْقَ الْقَصْرِ، فَلَمَّا رَأَتْ سَلْمَى مَا يَصْنَعُ الْفُرْسُ قَالَتْ: وَامُثَنَّيَاهْ! وَلَا مُثَنَّى لِلْخَيْلِ الْيَوْمَ! قَالَتْ ذَلِكَ عِنْدَ رَجُلٍ ضَجِرٍ مِمَّا يَرَى فِي أَصْحَابِهِ وَنَفْسِهِ، فَلَطَمَ وَجْهَهَا وَقَالَ: أَيْنَ الْمُثَنَّى عَنْ هَذِهِ الْكَتِيبَةِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الرَّحَا! يَعْنِي أَسَدًا وَعَاصِمًا. فَقَالَتْ: أَغَيْرَةً وَجُبْنًا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَعْذِرُنِي الْيَوْمَ أَحَدٌ إِنْ لَمْ تَعْذِرِينِي وَأَنْتِ تَرَيْنَ مَا بِي! فَتَعَلَّقَهَا النَّاسُ لَمْ يَبْقَ شَاعِرٌ إِلَّا اعْتَدَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ غَيْرَ جَبَانٍ وَلَا مَلُومٍ. [ذِكْرُ يَوْمِ أَغْوَاثٍ] وَلَمَّا أَصْبَحَ الْقَوْمُ، وَكَّلَ سَعْدٌ بِالْقَتْلَى وَالْجَرْحَى مَنْ يَنْقُلُهُمْ، فَسُلِّمَ الْجَرْحَى إِلَى النِّسَاءِ لِيَقُمْنَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الْقَتْلَى فَدُفِنُوا هُنَالِكَ عَلَى مُشَرِّقٍ، وَهُوَ وَادٍ بَيْنَ الْعُذَيْبِ وَعَيْنِ الشَّمْسِ. فَلَمَّا نَقَلَ سَعْدٌ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى طَلَعَتْ نَوَاصِي الْخَيْلِ مِنَ الشَّامِ، وَكَانَ فَتْحُ دِمَشْقَ قَبْلَ الْقَادِسِيَّةِ، فَلَمَّا قَدِمَ كِتَابُ عُمَرَ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ بِإِرْسَالِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، سَيَّرَهُمْ وَعَلَيْهِمْ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلَى مُقَدَّمَتِهِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو التَّمِيمِيُّ، فَتَعَجَّلَ الْقَعْقَاعُ، فَقَدِمَ عَلَى النَّاسِ صَبِيحَةَ هَذَا الْيَوْمِ، وَهُوَ يَوْمُ أَغْوَاثٍ، وَقَدْ عَهِدَ إِلَى أَصْحَابِهِ أَنْ يَتَقَطَّعُوا أَعْشَارًا، وَهُمْ أَلْفٌ، كُلَّمَا بَلَغَ عَشَرَةٌ مَدَى الْبَصَرِ سَرَّحُوا عَشَرَةً، فَقَدِمَ أَصْحَابُهُ فِي عَشَرَةٍ، فَأَتَى النَّاسَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَبَشَّرَهُمْ بِالْجُنُودِ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَقَالَ: اصْنَعُوا كَمَا أَصْنَعُ، وَطَلَبَ الْبِرَازَ، فَقَالُوا فِيهِ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: لَا يُهْزَمُ جَيْشٌ فِيهِمْ مِثْلُ هَذَا. فَخَرَجَ إِلَيْهِ ذُو الْحَاجِبِ، فَعَرَفَهُ الْقَعْقَاعُ فَنَادَى: يَا لِثَارَاتِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَسَلِيطٍ، وَأَصْحَابِ الْجِسْرِ! وَتَضَارَبَا، فَقَتَلَهُ الْقَعْقَاعُ، وَجَعَلَتْ خَيْلُهُ تَرِدُ إِلَى اللَّيْلِ وَتُنَشِّطُ النَّاسَ، وَكَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِالْأَمْسِ مُصِيبَةٌ، وَفَرِحُوا بِقَتْلِ ذِي الْحَاجِبِ، وَانْكَسَرَتِ الْأَعَاجِمُ بِذَلِكَ. وَطَلَبَ الْقَعْقَاعُ الْبِرَازَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْفَيْرُزَانُ وَالْبَنْذَوَانُ، فَانْضَمَّ إِلَى الْقَعْقَاعِ الْحَارِثُ بْنُ ظَبْيَانِ بْنِ الْحَارِثِ - أَحَدُ بَنِي تَيْمِ اللَّاتِ - فَتَبَارَزُوا، فَقَتَلَ الْقَعْقَاعُ الْفَيْرُزَانَ، وَقَتَلَ الْحَارِثُ الْبِنْذَوَانَ، وَنَادَى الْقَعْقَاعُ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، بَاشِرُوهُمْ بِالسُّيُوفِ، فَإِنَّمَا يُحْصَدُ النَّاسُ

بِهَا! فَاقْتَتَلُوا حَتَّى الْمَسَاءِ، فَلَمْ يَرَ أَهْلُ فَارِسَ فِي هَذَا الْيَوْمِ (شَيْئًا) مِمَّا يُعْجِبُهُمْ، وَأَكْثَرَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمُ الْقَتْلَ، وَلَمْ يُقَاتِلُوا فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى فِيَلٍ، كَانَتْ تَوَابِيتُهَا تَكَسَّرَتْ بِالْأَمْسِ، فَاسْتَأْنَفُوا عَمَلَهَا فَلَمْ يَفْرَغُوا مِنْهَا حَتَّى كَانَ الْغَدُ. وَجَعَلَ الْقَعْقَاعُ كُلَّمَا طَلَعَتْ قِطْعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَبَّرَ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ، وَيَحْمِلُ وَيَحْمِلُونَ، وَحَمَلَ بَنُو عَمٍّ لِلْقَعْقَاعِ عَشَرَةً عَشَرَةً عَلَى إِبِلٍ قَدْ أَلْبَسُوهَا وَهِيَ مُجَلَّلَةٌ مُبَرْقَعَةٌ، وَأَطَافَتْ بِهِمْ خُيُولُهُمْ تَحْمِيهِمْ، وَأَمَرَهُمُ الْقَعْقَاعُ أَنْ يَحْمِلُوهَا عَلَى خَيْلِ الْفُرْسِ يَتَشَبَّهُونَ بِالْفِيَلَةِ، فَفَعَلُوا بِهِمْ هَذَا الْيَوْمَ، وَهُوَ يَوْمُ أَغْوَاثٍ، كَمَا فَعَلَتْ فَارِسُ يَوْمَ أَرْمَاثَ، فَجَعَلَتْ خَيْلُ الْفُرْسِ تَفِرُّ مِنْهَا، وَرَكِبَتْهَا خُيُولُ الْمُسْلِمِينَ. فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ اسْتَنُّوا بِهِمْ، فَلَقِيَ الْفُرْسُ مِنَ الْإِبِلِ أَعْظَمَ مِمَّا لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْفِيَلَةِ. وَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ تَمِيمٍ عَلَى رُسْتُمَ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَقُتِلَ دُونَهُ. وَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ فَارِسَ يُبَارِزُ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ الْأَعْرَفُ بْنُ الْأَعْلَمِ الْعَقِيلِيُّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ إِلَيْهِ آخَرُ فَقَتَلَهُ، وَأَحَاطَتْ بِهِ فَوَارِسُ مِنْهُمْ فَصَرَعُوهُ وَأَخَذُوا سِلَاحَهُ، فَغَبَّرَ فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ حَتَّى رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ. وَحَمَلَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو يَوْمَئِذٍ ثَلَاثِينَ حَمْلَةً، كُلَّمَا طَلَعَتْ قِطْعَةٌ حَمَلَ حَمْلَةً وَأَصَابَ فِيهَا وَقَتَلَ، كَانَ آخِرُهُمْ بُزُرْجُمِهْرَ الْهَمَذَانِيَّ. وَبَارَزَ الْأَعْوَرُ بْنُ قُطْبَةَ شَهْرَيَارَ سِجِسْتَانَ فَقَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَقَاتَلَتِ الْفُرْسَانُ إِلَى انْتِصَافِ النَّهَارِ. فَلَمَّا اعْتَدَلَ النَّهَارُ تَزَاحَفَ النَّاسُ، فاَقْتَتَلُوا حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ، فَكَانَتْ لَيْلَةُ أَرْمَاثَ تُدْعَى الْهَدْأَةَ، وَلَيْلَةُ أَغَوَاثٍ تُدْعَى السَّوَادَ، وَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ (فِي) يَوْمِ أَغْوَاثٍ الظَّفَرَ، وَقَتَلُوا فِيهِ عَامَّةَ أَعْلَامِهِمْ، وَحَالَتْ فِيهِ خَيْلُ الْقَلْبِ وَثَبَتَ رَجْلُهُمْ، فَلَوْلَا أَنَّ خَيْلَهُمْ عَادَتْ أُخِذَ رُسْتُمُ أَخْذًا. وَبَاتَ النَّاسُ عَلَى مَا بَاتَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ لَيْلَةَ أَرْمَاثَ، وَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ يَنْتَمُونَ. فَلَمَّا سَمِعَ سَعْدٌ ذَلِكَ قَالَ لِبَعْضِ مَنْ عِنْدَهُ: إِنْ تَمَّ النَّاسُ عَلَى الِانْتِمَاءِ فَلَا تُوقِظْنِي فَإِنَّهُمْ أَقْوِيَاءُ، وَإِنْ سَكَتُوا وَلَمْ يَنْتَمِ الْآخَرُونَ فَلَا تُوقِظْنِي، فَإِنَّهُمْ عَلَى السَّوَاءِ، فَإِنْ سَمِعْتَهُمْ يَنْتَمُونَ فَأَيْقِظْنِي فَإِنَّ انْتِمَائَهُمْ عَنِ السَّوْءِ. وَلَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَكَانَ أَبُو مِحْجَنٍ قَدْ حُبِسَ وَقُيِّدَ فَهُوَ فِي الْقَصْرِ، قَالَ لِسَلْمَى زَوْجِ سَعْدٍ: هَلْ لَكِ أَنْ تُخَلِّي عَنِّي وَتُعِيرِينِي الْبَلْقَاءَ؟ فَلِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكِ حَتَّى أَضَعَ رِجْلِي فِي قَيْدِي. فَأَبَتْ، فَقَالَ:

كَفَى حَزَنًا أَنْ تَرْدَى الْخَيْلُ بِالْقَنَا ... وَأُتْرَكَ مَشْدُودًا عَلَيَّ وَثَاقِيَا إِذَا قُمْتُ عَنَّانِي الْحَدِيدُ وَأُغْلِقَتْ ... مَصَارِيعُ دُونِي قَدْ تُصِمُّ الْمُنَادِيَا وَقَدْ كُنْتُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَإِخْوَةٍ ... فَقَدْ تَرَكُونِي وَاحِدًا لَا أَخَا لِيَا وَلِلَّهِ عَهْدٌ لَا أَخِيسُ بِعَهْدِهِ ... لَئِنْ فُرِّجَتْ أَنْ لَا أَزُورَ الْحَوَانِيَا فَرَقَّتْ لَهُ سَلْمَى وَأَطْلَقَتْهُ، وَأَعْطَتْهُ الْبَلْقَاءَ فَرَسَ سَعْدٍ، فَرَكِبَهَا حَتَّى إِذَا كَانَ بِحِيَالِ الْمَيْمَنَةِ كَبَّرَ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى مَيْسَرَةِ الْفُرْسِ، ثُمَّ رَجَعَ خَلْفَ الْمُسْلِمِينَ، وَحَمَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ، وَكَانَ يَقْصِفُ النَّاسَ قَصْفًا مُنْكَرًا، وَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْهُ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ أَصْحَابِ هَاشِمٍ أَوْ هَاشِمٌ نَفْسُهُ، وَكَانَ سَعْدٌ يَقُولُ: لَوْلَا مَحْبَسُ أَبِي مِحْجَنٍ لَقُلْتُ هَذَا أَبُو مِحْجَنٍ وَهَذِهِ الْبَلْقَاءُ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هَذَا الْخَضِرُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْلَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تُبَاشِرُ الْحَرْبَ لَقُلْنَا إِنَّهُ مَلَكٌ. فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ وَتَرَاجَعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْفُرْسُ عَنِ الْقِتَالِ أَقْبَلَ أَبُو مِحْجَنٍ فَدَخَلَ الْقَصْرَ وَأَعَادَ رِجْلَيْهِ فِي الْقَيْدِ وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمَتْ ثَقِيفٌ غَيْرَ فَخْرٍ بِأَنَّا نَحْنُ أَكْرَمُهُمْ سُيُوفَا وَأَكْثَرُهُمْ دُرُوعًا سَابِغَاتٍ وَأَصْبَرُهُمْ إِذَا كَرِهُوا الْوُقُوفَا

ذكر يوم عماس

وَأَنَا وَفْدُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ ... فَإِنْ عُمُّوا فَسَلْ بِهِمْ عَرِيفَا وَلَيْلَةَ قَادِسٍ لَمْ يَشْعُرُوا بِي ... وَلَمْ أُشْعِرْ بِمَخْرَجِي الزُّحُوفَا فَإِنْ أُحْبَسْ فَذَلِكُمْ بَلَائِي ... وَإِنْ أُتْرَكْ أُذِيقُهُمُ الْحُتُوفَا فَقَالَتْ لَهُ سَلْمَى: فِي أَيِّ شَيْءٍ حَبَسَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا حَبَسَنِي بِحَرَامٍ أَكَلْتُهُ وَلَا شَرِبْتُهُ، وَلَكِنَّنِي كُنْتُ صَاحِبَ شَرَابٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَا امْرُؤٌ شَاعِرٌ يَدِبُّ الشِّعْرُ عَلَى لِسَانِي، فَقُلْتُ: إِذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى أَصْلِ كَرْمَةٍ ... تُرّوِّي عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا وَلَا تَدْفِنَنِّي بِالْفَلَاةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا فَلِذَلِكَ حَبَسَنِي. فَلَمَّا أَصْبَحَتْ أَتَتْ سَعْدًا فَصَالَحَتْهُ، وَكَانَتْ مُغَاضِبَةً لَهُ، وَأَخْبَرَتْهُ بِخَبَرِ أَبِي مِحْجَنٍ، فَأَطْلَقَهُ فَقَالَ: اذْهَبْ فَمَا أَنَا مُؤَاخِذُكَ بِشَيْءٍ تَقُولُهُ حَتَّى تَفْعَلَهُ. قَالَ: لَا جَرَمَ، [وَاللَّهِ] لَا أُجِيبُ لِسَانِي إِلَى [صِفَةِ] قَبِيحٍ أَبَدًا! [ذِكْرُ يَوْمِ عِمَاسَ] ثُمَّ أَصْبَحُوا الْيَوْمَ الثَّالِثَ وَهُمْ عَلَى مَوَاقِفِهِمْ، وَبَيْنَ الصَّفَّيْنِ مِنْ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ أَلْفَانِ مِنْ جَرِيحٍ وَمَيِّتٍ، وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ عَشَرَةُ آلَافٍ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَنْقُلُونَ قَتْلَاهُمْ إِلَى الْمَقَابِرِ وَالْجَرْحَى إِلَى النِّسَاءِ، وَكَانَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَحْفِرُونَ الْقُبُورَ، وَكَانَ عَلَى الشُّهَدَاءِ حَاجِبُ بْنُ زَيْدٍ. وَأَمَّا قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ فَبَيْنَ الصَّفَّيْنِ لَمْ يُنْقَلُوا، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا

قَوَّى الْمُسْلِمِينَ، وَبَاتَ الْقَعْقَاعُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ يُسَرِّبُ أَصْحَابَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي فَارَقَهُمْ فِيهِ وَقَالَ: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأَقْبِلُوا مِائَةً مِائَةً، فَإِنْ جَاءَ هَاشِمٌ فَذَاكَ وَإِلَّا جَدَّدْتُمْ لِلنَّاسِ رَجَاءً وَجِدًّا وَلَا يَشْعُرُ بِهِ أَحَدٌ. وَأَصْبَحَ النَّاسُ عَلَى مَوَاقِفِهِمْ، فَلَمَّا ذَرَّ قَرْنُ الشَّمْسِ أَقْبَلَ أَصْحَابُ الْقَعْقَاعِ، فَحِينَ رَآهُمْ كَبَّرَ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ وَتَقَدَّمُوا وَتَكَتَّبَتِ الْكَتَائِبُ وَاخْتَلَفُوا الضَّرْبَ وَالطَّعْنَ وَالْمَدَدُ مُتَتَابِعٌ، فَمَا جَاءَ آخِرُ أَصْحَابِ الْقَعْقَاعِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ هَاشِمٌ، فَأُخْبِرَ بِمَا صَنَعَ الْقَعْقَاعُ، فَعَبَّى أَصْحَابَهُ سَبْعِينَ سَبْعِينَ، وَكَانَ فِيهِمْ قَيْسُ بْنُ هُبَيْرَةَ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الْمَعْرُوفُ بِقَيْسِ بْنِ الْمَكْشُوفِ الْمُرَادِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْأَيَّامِ إِنَّمَا كَانَ بِالْيَرْمُوكِ، فَانْتُدِبَ مَعَ هَاشِمٍ حَتَّى إِذَا خَالَطَ الْقَلْبَ كَبَّرَ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ وَقَالَ: أَوَّلُ قِتَالٍ الْمُطَارَدَةُ ثُمَّ الْمُرَامَاةُ ; ثُمَّ حَمَلَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يُقَاتِلُهُمْ حَتَّى خَرَقَ صَفَّهُمْ إِلَى الْعَتِيقِ ثُمَّ عَادَ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ بَاتُوا يَعْمَلُونَ تَوَابِيتَهُمْ، حَتَّى أَعَادُوا وَأَصْبَحُوا عَلَى مَوَاقِفِهِمْ، وَأَقْبَلَتِ الرَّجَّالَةُ مَعَ الْفِيَلَةِ يَحْمُونَهَا أَنْ تُقْطَعَ وُضُنُهَا، وَمَعَ الرَّجَّالَةِ فُرْسَانٌ يَحْمُونَهُمْ، فَلَمْ تَنْفِرِ الْخَيْلُ مِنْهُمْ كَمَا كَانَتْ بِالْأَمْسِ، لِأَنَّ الْفِيلَ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ كَانَ أَوْحَشَ، وَإِذَا طَافُوا بِهِ كَانَ آنَسَ، وَكَانَ يَوْمُ عِمَاسَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ شَدِيدًا، الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَلَا تَكُونُ بَيْنَهُمْ نُقْطَةٌ إِلَّا أَبْلَغُوهَا يَزْدَجِرْدَ بِالْأَصْوَاتِ، فَيَبْعَثُ إِلَيْهِمْ أَهْلَ النَّجَدَاتِ مِمَّنْ عِنْدَهُ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ الْقَعْقَاعَ مَا فَعَلَ فِي الْيَوْمَيْنِ وَإِلَّا كَسَرَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَاتَلَ قَيْسُ بْنُ الْمَكْشُوحِ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مَعَ هَاشِمٍ، قِتَالًا شَدِيدًا وَحَرَّضَ أَصْحَابَهُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ: إِنِّي حَامِلٌ عَلَى الْفِيلِ وَمَنْ حَوْلَهُ، لِفِيلٍ بِإِزَائِهِ، فَلَا تَدَعُونِي أَكْثَرَ مِنْ جَزْرِ جَزُورٍ، فَإِنْ تَأَخَّرْتُمْ عَنِّي فَقَدْتُمْ أَبَا ثَوْرٍ، يَعْنِي نَفْسَهُ، وَأَيْنَ لَكُمْ مِثْلُ أَبِي ثَوْرٍ! فَحَمَلَ وَضَرَبَ فِيهِمْ حَتَّى سَتَرَهُ الْغُبَارُ وَحَمَلَ بِأَصْحَابِهِ فَأَفْرَجَ الْمُشْرِكُونَ عَنْهُ بَعْدَمَا صَرَعُوهُ، وَإِنَّ سَيْفَهُ لَفِي يَدِهِ يُصَارِمُهُمْ، وَقَدْ طُعِنَ فَرَسُهُ، فَأَخَذَ بِرِجْلِ فَرَسٍ أَعْجَمِيٍّ فَلَمْ يُطِقِ الْجَرْيَ، فَنَزَلَ عَنْهُ صَاحِبُهُ إِلَى أَصْحَابِهِ وَرَكِبَ عَمْرٌو. وَبَرَزَ فَارِسِيٌّ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ شَبْرُ بْنُ عَلْقَمَةَ، وَكَانَ قَصِيرًا، فَتَرَجَّلَ الْفَارِسِيُّ إِلَيْهِ فَاحْتَمَلَهُ وَجَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ لِيَذْبَحَهُ، وَمِقْوَدُ فَرَسِهِ مَشْدُودٌ فِي مِنْطَقَتِهِ، فَلَمَّا

ذكر ليلة الهرير وقتل رستم

سَلَّ سَيْفَهُ نَفَرَ الْفَرَسُ، فَجَذَبَهُ الْمِقْوَدُ فَقَلَبَهُ عَنْهُ، وَتَبِعَهُ الْمُسْلِمُ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ سَلَبَهُ فَبَاعَهُ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. فَلَمَّا رَأَى سَعْدٌ الْفُيُولَ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْكَتَائِبِ وَعَادَتْ لِفِعْلِهَا، أَرْسَلَ إِلَى الْقَعْقَاعِ وَعَاصِمِ ابْنَيْ عَمْرٍو: اكْفِيَانِي الْأَبْيَضَ، وَكَانَتْ كُلُّهَا آلِفَةً لَهُ، وَكَانَ بِإِزَائِهِمَا، وَقَالَ لِحَمَّالٍ وَالرِّبِّيلِ: اكْفِيَانِي الْأَجْرَبَ، وَكَانَ بِإِزَائِهِمَا، فَأَخَذَ الْقَعْقَاعُ وَعَاصِمٌ رُمْحَيْنِ، وَتَقَدَّمَا فِي خَيْلٍ وَرَجْلٍ، وَفَعَلَ حَمَّالٌ وَالرِّبِّيلُ مِثْلَ فِعْلِهِمَا، فَحَمَلَ الْقَعْقَاعُ وَعَاصِمٌ فَوَضَعَا رُمْحَيْهِمَا فِي عَيْنِ الْفِيلِ الْأَبْيَضِ فَنَفَضَ رَأْسَهُ فَطَرَحَ سَائِسَهُ وَدَلَّى مِشْفَرَهُ، فَضَرَبَهُ الْقَعْقَاعُ فَرَمَى بِهِ، وَوَقَعَ لِجَنْبِهِ، وَقَتَلُوا مَنْ كَانَ عَلَيْهِ، وَحَمَلَ حَمَّالٌ وَالرِّبِّيلُ الْأَسَدِيَّانِ عَلَى الْفِيلِ الْآخَرِ فَطَعَنَهُ حَمَّالٌ فِي عَيْنِهِ، فَأَقْعَى ثُمَّ اسْتَوَى، وَضَرَبَهُ الرِّبِّيلُ فَأَبَانَ مِشْفَرَهُ، وَبَصُرَ بِهِ سَائِسُهُ فَبَقَرَ أَنْفَهَ وَجَبِينَهُ بِالطَّبْرَزِينَ، فَأَفْلَتَ الرِّبِّيلُ جَرِيحًا، فَبَقِيَ الْفِيلُ جَرِيحًا مُتَحَيِّرًا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، كُلَّمَا جَاءَ صَفَّ الْمُسْلِمِينَ وَخَزُوهُ، وَإِذَا أَتَى صَفَّ الْمُشْرِكِينَ نَخَسُوهُ. وَوَلَّى الْفِيلُ، وَكَانَ يُدْعَى الْأَجْرَبَ، وَقَدْ عَوَّرَ حَمَّالٌ عَيْنَيْهِ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْعَتِيقِ، فَاتَّبَعَتْهُ الْفِيَلَةُ فَخَرَقَتْ صَفَّ الْأَعَاجِمِ، فَعَبَرَتْ فِي أَثَرِهِ، فَأَتَتِ الْمَدَائِنَ فِي تَوَابِيتِهَا، وَهَلَكَ مَنْ فِيهَا. فَلَمَّا ذَهَبَتِ الْفِيَلَةُ وَخَلَصَ الْمُسْلِمُونَ وَالْفُرْسُ، وَمَالَ الظِّلُّ، تَزَاحَفَ الْمُسْلِمُونَ، فَاجْتَلَدُوا حَتَّى أَمْسَوْا وَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ. فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ اشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ فَخَرَجَا عَلَى السَّوَاءِ. [ذِكْرُ لَيْلَةِ الْهَرِيرِ وَقَتْلِ رُسْتُمَ] قِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَرْكِهِمُ الْكَلَامَ إِنَّمَا كَانُوا يَهِرُّونَ هَرِيرًا، وَأَرْسَلَ سَعْدٌ طُلَيْحَةَ وَعَمْرًا لَيْلَةَ الْهَرِيرِ إِلَى مَخَاضَةٍ أَسْفَلَ الْعَسْكَرِ، لِيَقُومُوا عَلَيْهَا خَشْيَةَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْقَوْمُ مِنْهَا. فَلَمَّا أَتَيَاهَا قَالَ طُلَيْحَةُ: لَوْ خُضْنَا وَأَتَيْنَا الْأَعَاجِمَ مِنْ خَلْفِهِمْ. قَالَ عَمْرٌو: بَلْ نَعْبُرُ أَسْفَلَ. فَافْتَرَقَا، وَأَخَذَ طُلَيْحَةُ وَرَاءَ الْعَسْكَرِ وَكَبَّرَ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ ذَهَبَ وَقَدِ ارْتَاعَ أَهْلُ فَارِسَ وَتَعَجَّبَ الْمُسْلِمُونَ، وَطَلَبَهُ الْأَعَاجِمُ فَلَمْ يُدْرِكُوهُ.

وَأَمَّا عَمْرٌو فَإِنَّهُ أَغَارَ أَسْفَلَ الْمَخَاضَةِ وَرَجَعَ، وَخَرَجَ مَسْعُودُ بْنُ مَالِكٍ الْأَسَدِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، وَابْنُ ذِي الْبُرْدَيْنِ الْهِلَالِيُّ، وَابْنُ ذِي السَّهْمَيْنِ، وَقَيْسُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْأَسَدِيُّ وَأَشْبَاهُهُمْ فَطَارَدُوا الْقَوْمَ، فَإِذَا هُمْ لَا يَشُدُّونَ وَلَا يُرِيدُونَ غَيْرَ الزَّحْفِ، فَقَدَّمُوا صُفُوفَهُمْ وَزَاحَفَهُمُ النَّاسُ بِغَيْرِ إِذَنْ سَعْدٍ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ زَاحَفَهُمُ الْقَعْقَاعُ، وَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ اغْفِرْهَا لَهُ وَانْصُرْهُ، فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ إِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنِّي. ثُمَّ قَالَ: أَرَى الْأَمْرَ مَا فِيهِ هَذَا، فَإِذَا كَبَّرْتُ ثَلَاثًا فَاحْمِلُوا، وَكَبَّرَ وَاحِدَةً فَلَحِقَهُمْ أَسَدٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْهَا لَهُمْ وَانْصُرْهُمْ. ثُمَّ حَمَلَتِ النَّخَعُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْهَا لَهُمْ وَانْصُرْهُمْ. ثُمَّ حَمَلَتْ بَجِيلَةُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْهَا لَهُمْ وَانْصُرْهُمْ. ثُمَّ حَمَلَتْ كِنْدَةُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْهَا لَهُمْ وَانْصُرْهُمْ. ثُمَّ زَحَفَ الرُّؤَسَاءُ وَرَحَا الْحَرْبِ تَدُورُ عَلَى الْقَعْقَاعِ، وَتَقَدَّمَ حَنْظَلَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَأُمَرَاءُ الْأَعْشَارِ، وَطُلَيْحَةُ، وَغَالِبٌ، وَحَمَّالٌ، وَأَهْلُ النَّجَدَاتِ، وَلَمَّا كَبَّرَ الثَّالِثَةَ لَحِقَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَخَالَطُوا الْقَوْمَ، وَاسْتَقَبَلُوا اللَّيْلَ اسْتِقْبَالًا بَعْدَمَا صَلَّوُا الْعِشَاءَ، وَكَانَ صَلِيلُ الْحَدِيدِ فِيهَا كَصَوْتِ الْقُيُونِ لَيْلَتَهُمْ إِلَى الصَّبَاحِ، وَأَفْرَغَ اللَّهُ الصَّبْرَ عَلَيْهِمْ إِفْرَاغًا، وَبَاتَ سَعْدٌ بِلَيْلَةٍ لَمْ يَبِتْ بِمِثْلِهَا، وَرَأَى الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ أَمْرًا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ، وَانْقَطَعَتِ الْأَخْبَارُ وَالْأَصْوَاتُ عَنْ سَعْدٍ وَرُسْتُمَ، وَأَقْبَلَ سَعْدٌ عَلَى الدُّعَاءِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ انْتَمَى النَّاسُ، فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمُ الْأَعْلَوْنَ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعَهُ نِصْفَ اللَّيْلِ الْبَاقِي صَوْتَ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ يَقُولُ: نَحْنُ قَتَلْنَا مَعْشَرًا وَزَائِدًا ... أَرْبَعَةً وَخَمْسَةً وَوَاحِدَا نُحْسَبُ فَوْقَ اللِّبَدِ وَالْأَسَاوِدَا ... حَتَّى إِذَا مَاتُوا دَعَوْتُ جَاهِدَا اللَّهُ رَبِّي وَاحْتَرَزْتُ عَامِدَا وَقَتَلَتْ كِنْدَةُ تُرْكًا الطَّبَرِيَّ، وَكَانَ مُقَدَّمًا فِيهِمْ. وَأَصْبَحَ النَّاسُ لَيْلَةَ الْهَرِيرِ وَتُسَمَّى لَيْلَةَ الْقَادِسِيَّةِ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ اللَّيَالِي وَهُمْ حَسْرَى، لَمْ يُغْمِضُوا لَيْلَتَهُمْ كُلَّهَا. فَسَارَ الْقَعْقَاعُ فِي النَّاسِ فَقَالَ: إِنَّ الدَّائِرَةَ بَعْدَ سَاعَةٍ لِمَنْ بَدَأَ الْقَوْمَ، فَاصْبِرُوا سَاعَةً وَاحْمِلُوا، فَإِنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَصَمَدُوا لِرُسْتُمَ حَتَّى خَالَطُوا الَّذِينَ دُونَهُ مَعَ الصُّبْحِ. فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ الْقَبَائِلُ قَامَ فِيهَا رُؤَسَاؤُهُمْ وَقَالُوا: لَا يَكُونَنَّ هَؤُلَاءِ أَجَدَّ فِي أَمْرِ اللَّهِ مِنْكُمْ، وَلَا هَؤُلَاءِ، يَعْنِي الْفُرْسَ، أَجْرَأَ عَلَى الْمَوْتِ مِنْكُمْ. فَحَمَلُوا فِيمَا يَلِيهِمْ، وَخَالَطُوا مَنْ بِإِزَائِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا حَتَّى

قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ زَالَ الْفَيْرُزَانُ وَالْهُرْمُزَانُ، فَتَأَخَّرَا وَثَبَتَا حَيْثُ انْتَهَيَا، وَانْفَرَجَ الْقَلْبُ، وَرَكَدَ عَلَيْهِمُ النَّقْعُ وَهَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ فَقَلَعَتْ طَيَّارَةَ رُسْتُمَ عَنْ سَرِيرِهِ، فَهَوَتْ فِي الْعَتِيقِ، وَهِيَ دَبُورُ، وَمَالَ الْغُبَارُ عَلَيْهِمْ، وَانْتَهَى الْقَعْقَاعُ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى السَّرِيرِ فَعَثَرُوا بِهِ، وَقَدْ قَامَ رُسْتُمُ عَنْهُ حِينَ أَطَارَتِ الرِّيحُ الطَّيَّارَةَ إِلَى بِغَالٍ قَدْ قَدِمَتْ عَلَيْهِ بِمَالٍ، فَهِيَ وَاقِفَةٌ، فَاسْتَظَلَّ فِي ظِلِّ بَغْلٍ وَحِمْلِهِ، وَضَرَبَ هِلَالُ بْنُ عُلَّفَةَ الْحِمْلَ الَّذِي تَحْتَهُ رُسْتُمُ، فَقَطَعَ حِبَالَهُ، وَوَقَعَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْعِدْلَيْنِ، وَلَا يَرَاهُ هِلَالٌ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ، فَأَزَالَ عَنْ ظَهْرِهِ فَقَارًا، وَضَرَبَهُ هِلَالٌ ضَرْبَةً فَنَفَحَتْ مِسْكًا. وَمَضَى رُسْتُمُ نَحْوَ الْعَتِيقِ فَرَمَى بِنَفْسِهِ فِيهِ، وَاقْتَحَمَهُ هِلَالٌ عَلَيْهِ وَأَخَذَ بِرِجْلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ فَضَرَبَ جَبِينَهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ، ثُمَّ أَلْقَاهُ بَيْنَ أَرْجُلِ الْبِغَالِ، ثُمَّ صَعِدَ السَّرِيرَ وَقَالَ: قَتَلْتُ رُسْتُمَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! إِلَيَّ إِلَيَّ! فَأَطَافُوا بِهِ وَكَبَّرُوا، فَنَفَّلَهُ سَعْدٌ سَلَبَهُ، وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُ الْمَاءُ وَلَمْ يَظْفَرْ بِقَلَنْسُوَتِهِ، وَلَوْ ظَفِرَ بِهَا لَكَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ أَلْفٍ. وَقِيلَ: إِنَّ هِلَالًا لَمَّا قَصَدَ رُسْتُمَ رَمَاهُ رُسْتُمُ بِنَشَّابَةٍ أَثْبَتْ قَدَمَهُ بِالرِّكَابِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ هِلَالٌ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ احْتَزَّ رَأْسَهُ وَعَلَّقَهُ وَنَادَى: قَتَلْتُ رُسْتُمَ! فَانْهَزَمَ قَلْبُ الْمُشْرِكِينَ. وَقَامَ الْجَالِينُوسُ عَلَى الرَّدْمِ، وَنَادَى الْفُرْسَ إِلَى الْعُبُورِ، وَأَمَّا الْمُقْتَرِنُونَ فَإِنَّهُمْ جَشِعُوا فَتَهَافَتُوا فِي الْعَتِيقِ، فَوَخَزَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِرِمَاحِهِمْ، فَمَا أَفْلَتَ مُخْبِرٌ، وَهُمْ ثَلَاثُونَ أَلْفًا. وَأَخَذَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ " دِرَقْشَ كَابِيَانَ "، وَهُوَ الْعَلَمُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ لِلْفُرْسِ، فَعُوِّضَ مِنْهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَكَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ. وَقَتَلُوا فِي الْمَعْرَكَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ سِوَى مَنْ قَتَلُوا فِي الْأَيَّامِ قَبْلَهُ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ لَيْلَةِ الْهِرِيرِ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَقُتِلَ لَيْلَةَ الْهَرِيرِ وَيَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ سِتَّةُ آلَافٍ، فَدُفِنُوا فِي الْخَنْدَقِ حِيَالَ مُشَرِّقٍ، وَدُفِنَ مَا كَانَ قَبْلَ لَيْلَةِ الْهَرِيرِ عَلَى مُشَرِّقٍ، وَجُمِعَتِ الأَسْلَابُ وَالْأَمْوَالُ فَجُمِعَ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يُجْمَعْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلُهُ. وَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى هِلَالٍ فَسَأَلَهُ عَنْ رُسْتُمَ، فَأَحْضَرَهُ، فَقَالَ: جَرِّدْهُ إِلَّا مَا شِئْتَ.

فَأَخَذَ سَلَبَهُ فَلَمْ يَدَعْ عَلَيْهِ شَيْئًا. وَأَمَرَ الْقَعْقَاعَ، وَشُرَحْبِيلَ بِاتِّبَاعِهِمْ، حَتَّى بَلَغَا مِقْدَارَ الْخَرَّارَةِ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ، وَخَرَجَ زُهْرَةُ بْنُ الْحَوِيَّةِ التَّمِيمِيُّ فِي أَثَارِهِمْ، فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ النَّاسُ فَلَحِقَ الْمُنْهَزِمِينَ وَالْجَالِينُوسُ يَجْمَعُهُمْ، فَقَتَلَهُ زُهْرَةُ وَأَخَذَ سَلَبَهُ، وَقَتَلُوا مَا بَيْنَ الْخَرَّارَةِ إِلَى السَّيْلَحِينِ إِلَى النَّجَفِ، وَعَادُوا مِنْ أَثَرِ الْمُنْهَزِمِينَ وَمَعَهُمُ الْأَسْرَى، فَرُئِيَ شَبَابٌ مِنَ النَّخَعِ وَهُوَ يَسُوقُ ثَمَانِينَ رَجُلًا أَسْرَى مِنَ الْفُرْسِ. وَاسْتَكْثَرَ سَعْدٌ سَلَبَ الْجَالِينُوسِ، فَكَتَبَ فِيهِ إِلَى عُمَرَ. فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ: تَعْمَدُ إِلَى مِثْلِ زُهْرَةَ وَقَدْ صَلِيَ بِمِثْلِ مَا صَلِيَ بِهِ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ حَرْبِكَ مَا بَقِيَ، تُفْسِدُ قَلْبَهُ، أَمْضِ لَهُ سَلَبَهُ وَفَضِّلْهُ عَلَى أَصْحَابِهِ عِنْدَ عَطَائِهِ بِخَمْسِمِائَةٍ. وَلَمَّا اتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ الْفُرْسَ كَانَ الرَّجُلُ يُشِيرُ إِلَى الْفَارِسِيِّ فَيَأْتِيهِ فَيَقْتُلُهُ، وَرُبَّمَا أَخَذَ سِلَاحَهُ فَقَتَلَهُ بِهِ، وَرُبَّمَا أَمَرَ رَجُلَيْنِ فَيَقْتُلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ. وَلَحِقَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ قَدْ نَصَبُوا رَايَةً وَقَالُوا: لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَمُوتَ، فَقَتَلَهُمْ سَلْمَانُ وَمَنْ مَعَهُ. وَكَانَ قَدْ ثَبَتَ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ كَتِيبَةً اسْتَحْيَوْا مِنَ الْفِرَارِ، وَقَصَدَهُمْ بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمُسْلِمِينَ، لِكُلِّ كَتِيبَةٍ مِنْهَا رَئِيسٌ. وَكَانَ قِتَالُ أَهْلِ الْكَتَائِبِ مِنَ الْفُرْسِ عَلَى وَجْهَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ هَرَبَ، وَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ حَتَّى قُتِلَ، وَكَانَ مِمَّنْ هَرَبَ مِنْ أُمَرَاءِ الْكَتَائِبِ الْهُرْمُزَانُ، وَكَانَ بِإِزَاءِ عُطَارِدٍ، وَمِنْهُمْ أَهْوَذُ، وَكَانَ بِإِزَاءِ حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهُوَ كَاتِبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْهُمْ زَادُ بْنُ بُهَيْشْ، وَكَانَ بِإِزَاءِ عَاصِمِ بْنِ عَمْرٍو، وَمِنْهُمْ قَارَنُ، وَكَانَ بِإِزَاءِ الْقَعْقَاعِ ; وَكَانَ مِمَّنْ ثَبَتَ وَقُتِلَ شَهْرَيَارُ بْنُ كُنَارَا، وَكَانَ بِإِزَاءِ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَابْنُ الْهِرْبِذِ، وَكَانَ بِإِزَاءِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْفُرُّخَانُ الْأَهْوَازِيُّ، وَكَانَ بِإِزَاءِ بُسْرِ بْنِ أَبِي رُهْمٍ الْجُهَنِيِّ، وَمِنْهُمْ خُشْدَسُومُ الْهَمَذَانِيُّ، وَكَانَ بِإِزَاءِ ابْنِ الْهُذَيْلِ الْكَاهِلِيِّ.

وَتَرَاجَعَ النَّاسُ مِنْ طَلَبِ الْمُنْهَزِمِينَ، وَقَدْ قُتِلَ مُؤَذِّنُهُمْ، فَتَشَاجَّ الْمُسْلِمُونَ فِي الْأَذَانِ حَتَّى كَادُوا يَقْتَتِلُونَ، وَأَقْرَعَ سَعْدٌ بَيْنَهُمْ فَخَرَجَ سَهْمُ رَجُلٍ، فَأَذَّنَ. وَفُضِّلَ أَهْلُ الْبَلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ عِنْدَ الْعَطَاءِ بِخَمْسِمِائَةٍ خَمْسِمِائَةٍ، وَهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، مِنْهُمْ: زُهْرَةُ وَعِصْمَةُ الضَّبِّيُّ وَالْكَلَجُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْأَيَّامِ قَبْلَهَا فَإِنَّهُمْ فُرِضَ لَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ، فُضِّلُوا عَلَى أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ، فَقِيلَ لِعُمَرَ: لَوْ أَلْحَقْتَ بِهِمْ أَهْلَ الْقَادِسِيَّةِ. فَقَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأُلْحِقَ بِهِمْ مَنْ لَمْ يُدْرِكْهُمْ. وَقِيلَ لَهُ: لَوْ فَضَّلْتَ مَنْ بَعُدَتْ دَارُهُ عَلَى مَنْ قَاتَلَهُمْ بِفِنَائِهِ. قَالَ: كَيْفَ أُفَضِّلُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ شَجَنُ الْعَدُوِّ! فَهَلَّا فَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ بِالْأَنْصَارِ هَذَا! وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَوَقَّعُ وَقْعَةَ الْعَرَبِ وَأَهْلِ فَارِسَ بِالْقَادِسِيَّةِ، فِيمَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ إِلَى عَدَنَ أَبْيَنَ، وَفِيمَا بَيْنَ الْأُبُلَّةِ وَأَيْلَةَ، يَرَوْنَ أَنَّ ثَبَاتَ مُلْكِهِمْ وَزَاوَلَهُ بِهَا ; وَكَانَتْ فِي كُلِّ بَلَدٍ مُصِيخَةٌ إِلَيْهَا، تَنْظُرُ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهَا. فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ الْقَادِسِيَّةِ سَارَتْ بِهَا الْجِنُّ، فَأَتَتْ بِهَا أُنَاسًا مِنَ الْإِنْسِ، فَسَبَقَتْ أَخْبَارُ الْإِنْسِ [إِلَيْهِمْ] . وَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عَمْرٍو بِالْفَتْحِ، وَبِعِدَّةِ مَنْ قُتِلُوا، وَبِعِدَّةِ مَنْ أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - وَسَمَّى مَنْ يَعْرِفُ - مَعَ سَعْدِ بْنِ عُمَيْلَةَ الْفَزَارِيِّ. وَكَانَ عُمَرُ يَسْأَلُ الرُّكْبَانَ مِنْ حِينِ يُصْبِحُ إِلَى انْتِصَافِ النَّهَارِ عَنْ أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ وَمَنْزِلِهِ، قَالَ: فَلَمَّا لَقِيَ الْبَشِيرَ سَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ؟ فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ حَدِّثْنِي. قَالَ: هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ. وَعُمَرُ يَخِبُّ مَعَهُ يَسْأَلُهُ، وَالْآخَرُ يَسِيرُ عَلَى نَاقَتِهِ، لَا يَعْرِفُهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَإِذَا النَّاسُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ الْبَشِيرُ: هَلَّا أَخْبَرْتَنِي - رَحِمَكَ اللَّهُ - أَنَّكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ عُمَرُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ يَا أَخِي. وَأَقَامَ الْمُسْلِمُونَ بِالْقَادِسِيَّةِ فِي انْتِظَارِ قُدُومِ الْبَشِيرِ، وَأَمَرَ عُمَرُ النَّاسَ أَنْ يَقُومُوا عَلَى أَقْبَاضِهِمْ، وَيُصْلِحُوا أَحْوَالَهُمْ، وَيُتَابِعَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الشَّامِ مِمَّنْ شَهِدَ الْيَرْمُوكَ وَدِمَشْقَ مُمِدِّينَ لَهُمْ، وَجَاءَ أَوَّلُهُمْ يَوْمَ أَغْوَاثٍ، وَآخِرُهُمْ بَعْدَ الْغَدِ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَكَتَبُوا فِيهِمْ إِلَى عُمَرَ يَسْأَلُونَهُ

ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرة

عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُشَارَ فِيهِ مَعَ نَذِيرِ بْنِ عَمْرٍو. وَقِيلَ: كَانَتْ وَقْعَةُ الْقَادِسِيَّةِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، قَالَ: وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ (حُمَيْضَةُ بْنُ النُّعْمَانِ: بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ. بُسْرُ بْنُ أَبِي رُهْمٍ: بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ. وَالْحَوِيَّةُ: بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَسْرِ الْوَاوِ، وَقِيلَ بِالْجِيمِ الْمَضْمُومَةِ، وَفَتْحِ الْوَاوِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَحَمَّالٌ: بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ. وَالْمُعَنَّى: بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ. وَحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ: بِضَمِّ الْحَاءِ، وَفَتْحِ الصَّادِ. وَمُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ: بِضَمِّ الْحَاءِ، وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَآخِرُهُ جِيمٌ. وَالْمُعْتَمُّ: بِضَمِّ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ التَّاءِ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ مِيمٌ مُشَدَّدَةٌ. وَصِرَارٌ: بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالرَّائَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ: مَوْضِعٌ عِنْدَ الْمَدِينَةِ. وَصِنَّيْنُ بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ مُعْجَمَةٌ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا، وَآخِرُهُ نُونٌ: مَوْضِعٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ) . انْتَهَى خَبَرُ الْقَادِسِيَّةِ. [ذِكْرُ وِلَايَةِ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ الْبَصْرَةَ] قِيلَ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ عُمَرُ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَكَانَ بِهَا قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ السَّدُوسِيُّ يُغِيرُ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ، كَمَا كَانَ يُغِيرُ الْمُثَنَّى بِنَاحِيَةِ الْحِيرَةِ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ يُعْلِمُهُ مَكَانَهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ عَدَدٌ يَسِيرٌ ظَفِرَ بِمَنْ كَانَ قِبَلَهُ مِنَ الْعَجَمِ، فَنَفَاهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ يَأْمُرُهُ بِالْمُقَامِ وَالْحَذَرِ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِ شُرَيْحَ بْنَ عَامِرٍ أَحَدَ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، فَأَقْبَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَتَرَكَ بِهَا قُطْبَةَ، وَمَضَى إِلَى الْأَهْوَازِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى دَارِسَ، وَفِيهَا مَسْلَحَةُ الْأَعَاجِمِ، فَقَتَلُوهُ، فَبَعَثَ عُمَرُ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ، [وَ] قَالَ لَهُ حِينَ وَجَّهَهُ: يَا عُتْبَةُ، إِنِّي قَدِ اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَى أَرْضِ الْهِنْدِ، وَهِيَ حَوْمَةٌ مِنْ حَوْمَةِ الْعَدُوِّ، وَأَرْجُو

أَنْ يَكْفِيَكَ اللَّهُ مَا حَوْلَهَا، وَيُعِينَكَ عَلَيْهَا، وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ أَنْ يُمِدَّكَ بِعَرْفَجَةَ بْنِ هَرْثَمَةَ، وَهُوَ ذُو مُجَاهَدَةٍ وَمُكَايَدَةٍ لِلْعَدُوِّ، فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ فَاسْتَشِرْهُ، وَادْعُ إِلَى اللَّهِ، فَمَنْ أَجَابَكَ فَاقْبَلْ مِنْهُ، وَمَنْ أَبَى فَالْجِزْيَةُ وَإِلَّا فَالسَّيْفُ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا وُلِّيتَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُنَازِعَكَ نَفْسُكَ إِلَى كِبْرٍ مِمَّا يُفْسِدُ عَلَيْكَ إِخْوَتَكَ، وَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعُزِّزْتَ بِهِ بَعْدَ الذِّلَّةِ، وَقُوِّيتَ بِهِ بَعْدَ الضَّعْفِ، حَتَّى صِرْتَ أَمِيرًا مُسَلَّطًا وَمَلِكًا مُطَاعًا، تَقُولُ فَيُسْمَعُ مِنْكَ، وَتَأْمُرُ فَيُطَاعُ أَمْرُكَ، فَيَا لَهَا نِعْمَةٌ! إِنْ لَمْ تَرْفَعْكَ فَوْقَ قَدْرِكَ وَتَبْطَرْكَ عَلَى مَنْ دُونَكَ، وَاحْتَفِظْ مِنَ النِّعْمَةِ احْتِفَاظَكَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَهِيَ أَخْوَفُهُمَا عِنْدِي عَلَيْكَ أَنْ تَسْتَدْرِجَكَ وَتَخْدَعَكَ، فَتَسْقُطَ سَقْطَةً تَصِيرُ بِهَا إِلَى جَهَنَّمَ، أُعِيذُكَ بِاللَّهِ وَنَفْسِي مِنْ ذَلِكَ. إِنَّ النَّاسَ أَسْرَعُوا إِلَى اللَّهِ حِينَ رُفِعَتْ لَهُمُ الدُّنْيَا فَأَرَادُوهَا، فَأَرِدِ اللَّهَ وَلَا تُرِدِ الدُّنْيَا، وَاتَّقِ مَصَارِعَ الظَّالِمِينَ. انْطَلِقْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي أَقْصَى الْعَرَبِ وَأَدْنَى أَرْضِ الْعَجَمِ فَأَقِيمُوا. فَسَارَ عُتْبَةُ وَمَنْ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْمِرْبَدِ تَقَدَّمُوا حَتَّى بَلَغُوا حِيَالَ الْجِسْرِ الصَّغِيرِ فَنَزَلُوا. فَبَلَغَ صَاحِبَ الْفُرَاتِ خَبَرُهُمْ، فَأَقْبَلَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ فَالْتَقَوْا، فَقَاتَلَهُمْ عُتْبَةُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَكَانَ فِي خَمْسِمِائَةٍ، فَقَتَلَهُمْ أَجْمَعِينَ، وَلَمْ يُبْقِ إِلَّا صَاحِبَ الْفُرَاتِ فَأَخَذَهُ أَسِيرًا، ثُمَّ خَطَبَ عُتْبَةُ أَصْحَابَهُ وَقَالَ: إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ وَوَلَّتْ حَذَّاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ، أَلَا وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارِ الْقَرَارِ، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ، وَقَدْ ذُكِرَ لِي: لَوْ أَنَّ صَخْرَةً أُلْقِيَتْ مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ لَهَوَتْ سَبْعِينَ خَرِيفًا، وَلَتُمْلَأَنَّهُ ; أَوَعَجِبْتُمْ! وَلَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ، [بِزِحَامٍ] ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا سَابِعُ سَبْعَةٍ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ السَّمُرِ حَتَّى تَقَرَّحَتْ أَشْدَاقُنَا، وَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدٍ، فَمَا مِنَّا [مِنْ] أُولَئِكَ السَّبْعَةِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ أَمِيرُ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ،

وَسَيُجَرِّبُونَ النَّاسَ بَعْدَنَا. وَكَانَ نُزُولُهُ الْبَصْرَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَوِ الْآخِرِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْبَصْرَةَ مُصِّرَتْ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ بَعْدَ جَلُولَاءَ وَتَكْرِيتَ، أَرْسَلَهُ سَعْدٌ إِلَيْهَا بِأَمْرِ عُمَرَ. وَإِنَّ عُتْبَةَ لَمَّا نَزَلَ الْبَصْرَةَ أَقَامَ نَحْوَ شَهْرٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْأُبُلَّةِ، وَكَانَ بِهَا خَمْسُمِائَةِ أُسْوَارٍ يَحْمُونَهَا، وَكَانَتْ مَرْفَأَ السُّفُنِ مِنَ الصِّينِ، فَقَاتَلَهُمْ عُتْبَةُ فَهَزَمَهُمْ حَتَّى دَخَلُوا الْمَدِينَةَ، وَرَجَعَ عُتْبَةُ إِلَى عَسْكَرِهِ، وَأَلْقَى اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الْفُرْسِ، فَخَرَجُوا عَنِ الْمَدِينَةِ وَحَمَلُوا مَا خَفَّ وَعَبَرُوا الْمَاءَ، وَأَخْلَوُا الْمَدِينَةَ، وَدَخَلَهَا الْمُسْلِمُونَ، فَأَصَابُوا مَتَاعًا وَسِلَاحًا وَسَبْيًا فَاقْتَسَمُوهُ، وَأَخْرَجَ الْخُمُسَ مِنْهُ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَمِائَةٍ. وَكَانَ فَتْحُهَا فِي رَجَبٍ أَوْ فِي شَعْبَانَ. ثُمَّ نَزَلَ مَوْضِعَ الرِّزْقِ، وَخَطَّ مَوْضِعَ الْمَسْجِدِ وَبَنَاهُ بِالْقَصَبِ. وَكَانَ أَوَّلُ مَوْلُودٍ بِهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ، فَلَمَّا وُلِدَ ذَبَحَ أَبُوهُ جَزُورًا، فَكَفَتْهُمْ لِقِلَّةِ النَّاسِ. وَجَمَعَ لَهُمْ أَهْلُ دَسْتُمِيسَانَ، فَلَقِيَهُمْ عُتْبَةُ فَهَزَمَهُمْ وَأَخَذَ مَرْزُبَانَهَا أَسِيرًا، وَأَخَذَ قَتَادَةُ مِنْطَقَتَهُ، فَبَعَثَ بِهَا مَعَ أَنَسِ بْنِ حَجْنَةَ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: كَيْفَ النَّاسُ؟ فَقَالَ: انْثَالَتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا، فَهُمْ يَهِيلُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ. فَرَغِبَ النَّاسُ فِي الْبَصْرَةِ فَأَتَوْهَا. وَاسْتَعْمَلَ عُتْبَةُ مُجَاشِعَ بْنَ مَسْعُودٍ عَلَى جَمَاعَةٍ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الْفُرَاتِ، وَاسْتَخْلَفَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ عَلَى الصَّلَاةِ إِلَى أَنْ يَقْدَمَ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَإِذَا قَدِمَ فَهُوَ الْأَمِيرُ، وَسَارَ عُتْبَةُ إِلَى عُمَرَ. فَظَفِرَ مُجَاشِعٌ بِأَهْلِ الْفُرَاتِ وَجَمَعَ الْفَلِيكَانُ، عَظِيمٌ مِنَ الْفُرْسِ، لِلْمُسْلِمِينَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَلَقِيَهُمْ بِالْمَرْغَابِ فَاقْتَتَلُوا. فَقَالَ نِسَاءُ الْمُسْلِمِينَ: لَوْ لَحِقْنَا بِهِمْ فَكُنَّا مَعَهُمْ، فَاتَّخَذْنَ مِنْ خُمُرِهِنَّ رَايَاتٍ وَسِرْنَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ.

فَلَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ الرَّايَاتِ ظَنُّوا أَنَّ مَدَدًا لِلْمُسْلِمِينَ قَدْ أَقْبَلَ، فَانْهَزَمُوا وَظَفِرَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ. وَكُتِبَ إِلَى عُمَرَ بِالْفَتْحِ، فَقَالَ عُمَرُ لِعُتْبَةَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ؟ فَقَالَ: مُجَاشِعَ بْنَ مَسْعُودٍ. قَالَ: أَتَسْتَعْمِلُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ عَلَى أَهْلِ الْمَدَرِ؟ وَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنَ الْمُغِيرَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى عَمَلِهِ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، وَقِيلَ فِي مَوْتِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَسَيَرِدُ ذِكْرُهُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَكَانَ مِنْ سَبْيِ مَيْسَانَ يَسَارُ أَبُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ، وَأَرْطَبَانُ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنِ بْنِ أَرْطَبَانَ. وَقِيلَ: إِنَّ إِمَارَةَ عُتْبَةَ الْبَصْرَةَ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سِتَّ عَشْرَةَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَكَانَتْ إِمَارَتُهُ عَلَيْهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ عَلَى الْبَصْرَةِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، فَبَقِيَ سَنَتَيْنِ ثُمَّ رُمِيَ بِمَا رُمِيَ، وَاسْتَعْمَلَ أَبَا مُوسَى، وَقِيلَ: اسْتَعْمَلَ بَعْدَ عُتْبَةَ أَبَا مُوسَى وَبَعْدَهُ الْمُغِيرَةَ. وَفِيهَا - أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ - ضَرَبَ عُمَرُ ابْنَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ وَأَصْحَابَهُ فِي شَرَابٍ شَرِبُوهُ، وَأَبَا مِحْجَنٍ. وَفِيهَا أَمَرَ عُمَرُ بِالْقِيَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ بِالْمَدِينَةِ، وَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَكَتَبَ إِلَى الْأَمْصَارِ بِذَلِكَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ فِي قَوْلٍ، وَعَلَى الْيَمَنِ يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ، وَعَلَى الْكُوفَةِ سَعْدٌ، وَعَلَى الشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَعَلَى الْبَحْرَيْنِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَقِيلَ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، وَعَلَى عُمَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ أَبُو قُحَافَةَ وَالِدُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بَعْدَ مَوْتِ ابْنِهِ. وَفِيهَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَفِيهَا قُتِلَ سَلِيطُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَفِيهَا مَاتَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ أُمُّ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ إِسْلَامُهَا يَوْمَ الْفَتْحِ.

ثم دخلت سنة خمس عشرة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ] 15 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَقِيلَ: إِنَّ الْكُوفَةَ مَصَّرَهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، دَلَّهُمْ عَلَى مَوْضِعِهَا ابْنُ بُقَيْلَةَ، قَالَ لِسَعْدٍ: أَدُلُّكَ عَلَى أَرْضٍ لِلَّهِ ارْتَفَعَتْ مِنَ الْبَقِّ وَانْحَدَرَتْ عَنِ الْفَلَاةِ! فَدَلَّهُ عَلَى مَوْضِعِهَا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَيَأْتِي ذِكْرُهُ ذِكْرُ الْوَقْعَةِ بِمَرْجِ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الْوَقْعَةُ بِمَرْجِ الرُّومِ، وَكَانَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ سَارَا بِمَنْ مَعَهُمَا مِنْ فِحْلٍ قَاصِدِينَ حِمْصَ، فَنَزَلَا عَلَى ذِي الْكَلَاعِ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ هِرَقْلَ. فَبَعَثَ تُوذَرَ الْبِطْرِيقَ، حَتَّى نَزَلَ بِمَرْجِ الرُّومِ غَرْبَ دِمَشْقَ، وَنَزَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَرْجِ الرُّومِ أَيْضًا، وَنَازَلَهُ يَوْمَ نُزُولِهِ شَنَشُ الرُّومِيُّ فِي مِثْلِ خَيْلِ تُوذَرَ، إِمْدَادًا لِتُوذَرَ وَرِدْءًا لِأَهْلِ حِمْصَ. فَلَمَّا نَزَلَ أَصْبَحَتِ الْأَرْضُ مِنْ تُوذَرَ بِلَاقِعُ، وَكَانَ خَالِدٌ بِإِزَائِهِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بِإِزَاءِ شَنَشَ، وَسَارَ تُوذَرُ يَطْلُبُ دِمَشْقَ، فَسَارَ خَالِدٌ وَرَاءَهُ فِي جَرِيدَةٍ، وَبَلَغَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ فِعْلُ تُوذَرَ فَاسْتَقْبَلَهُ فَاقْتَتَلُوا، وَلَحِقَ بِهِمْ خَالِدٌ وَهُمْ يَقْتَتِلُونَ فَأَخَذَهُمْ مِنْ خَلْفِهِمْ وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مَا مَعَهُمْ، فَقَسَّمَهُ يَزِيدُ فِي أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ خَالِدٍ، وَعَادَ يَزِيدُ إِلَى دِمَشْقَ، وَرَجَعَ خَالِدٌ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَدْ قُتِلَ تُوذَرُ. وَقَاتَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بَعْدَ مَسِيرِ خَالِدٍ شَنَشَ، فَاقْتَتَلُوا بِمَرْجِ الرُّومِ، فَقُتِلَتِ الرُّومُ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَقُتِلَ شَنَشُ، وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى حِمْصَ، فَلَمَّا بَلَغَ هِرَقْلَ ذَلِكَ أَمَرَ بِطْرِيقَ حِمْصَ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهَا، وَسَارَ هُوَ إِلَى الرُّهَاءِ، وَسَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى حِمْصَ.

ذِكْرُ فَتْحِ حِمْصَ وَبَعْلَبَكَّ وَغَيْرِهِمَا فَلَمَّا فَرَغَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ دِمَشْقَ سَارَ إِلَى حِمْصَ، فَسَلَكَ طَرِيقَ بَعْلَبَكَّ فَحَصَرَهَا، فَطَلَبَ أَهْلُهَا الْأَمَانَ فَآمَنَهُمْ وَصَالَحَهُمْ، وَسَارَ عَنْهُمْ فَنَزَلَ عَلَى حِمْصَ وَمَعَهُ خَالِدٌ وَقِيلَ: إِنَّمَا سَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى حِمْصَ مِنْ مَرْجِ الرُّومِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. فَلَمَّا نَزَلُوهَا قَاتَلُوا أَهْلَهَا فَكَانُوا يُغَادُونَهُمُ الْقِتَالَ وَيُرَاوِحُونَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَارِدٍ، وَلَقِيَ الْمُسْلِمُونَ بَرْدًا شَدِيدًا، وَالرُّومُ حِصَارًا طَوِيلًا، فَصَبَرَ الْمُسْلِمُونَ وَالرُّومُ، وَكَانَ هِرَقْلُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ حِمْصَ يَعِدُهُمُ الْمَدَدَ، وَأَمَرَ أَهْلَ الْجَزِيرَةِ جَمِيعِهَا بِالتَّجْهِيزِ إِلَى حِمْصَ فَسَارُوا نَحْوَ الشَّامِ لِيَمْنَعُوا حِمْصَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. فَسَيَّرَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ السَّرَايَا مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى هِيتَ وَحَصَرُوهَا، وَسَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى قَرْقِيسِيَا، فَتَفَرَّقَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ وَعَادُوا عَنْ نَجْدَةِ أَهْلِ حِمْصَ، فَكَانَ أَهْلُهَا يَقُولُونَ: تَمَسَّكُوا بِمَدِينَتِكُمْ فَإِنَّهُمْ حُفَاةٌ، فَإِذَا أَصَابَهُمُ الْبَرْدُ تَقَطَّعَتْ أَقْدَامُهُمْ. فَكَانَتْ أَقْدَامُ الرُّومِ تَسْقُطُ وَلَا يَسْقُطُ لِلْمُسْلِمِينَ إِصْبَعٌ. فَلَمَّا خَرَجَ الشِّتَاءُ قَامَ شَيْخٌ مِنَ الرُّومِ فَدَعَاهُمْ إِلَى مُصَالَحَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، وَقَامَ آخَرُ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَنَاهَدَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَكَبَّرُوا تَكْبِيرَةً، فَانْهَدَمَ كَثِيرٌ مِنْ دُورِ حِمْصَ، وَزُلْزِلَتْ حِيطَانُهُمْ فَتَصَدَّعَتْ، فَكَبَّرُوا ثَانِيَةً فَأَصَابَهُمْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَخَرَجَ أَهْلُهَا إِلَيْهِمْ يَطْلُبُونَ الصُّلْحَ، وَلَا يَعْلَمُ الْمُسْلِمُونَ بِمَا حَدَثَ فِيهِمْ، فَأَجَابُوهُمْ وَصَالَحُوهُمْ عَلَى صُلْحِ دِمَشْقَ، وَأَنْزَلَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ السِّمْطَ بْنَ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيَّ فِي بَنِي مُعَاوِيَةَ، وَالْأَشْعَثَ بْنَ مِينَاسٍ فِي السَّكُونِ، وَالْمِقْدَادَ فِي بَلِيٍّ، وَأَنْزَلَهَا غَيْرَهُمْ، وَبَعَثَ بِالْأَخْمَاسِ إِلَى عُمَرَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ: أَنْ أَقِمْ بِمَدِينَتِكَ وَارْعَ أَهْلَ الْقُوَّةَ مِنْ عَرَبِ الشَّامِ، فَإِنِّي غَيْرُ تَارِكٍ الْبَعْثَةَ إِلَيْكَ. ثُمَّ اسْتَخْلَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى حِمْصَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، وَسَارَ إِلَى حَمَاةَ، فَتَلَقَّاهُ أَهْلُهَا مُذْعِنِينَ، فَصَالَحَهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى الْجِزْيَةِ لِرُءُوسِهِمْ وَالْخَرَاجِ عَلَى أَرْضِهِمْ،

وَمَضَى نَحْوَ شَيْزَرَ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ يَسْأَلُونَ الصُّلْحَ عَلَى مَا صَالَحَ عَلَيْهِ أَهْلَ حَمَاةَ، وَسَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى مَعَرَّةِ حِمْصَ، وَهِيَ مَعَرَّةُ النُّعْمَانِ، نُسِبَتْ بَعْدُ إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَأَذْعَنُوا لَهُ بِالصُّلْحِ عَلَى مَا صَالَحَ عَلَيْهِ أَهْلَ حِمْصَ. ثُمَّ أَتَى اللَّاذِقِيَّةَ فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا، وَكَانَ لَهَا بَابٌ عَظِيمٌ يَفْتَحُهُ جَمْعٌ مِنَ النَّاسِ، فَعَسْكَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بُعْدٍ مِنْهَا، ثُمَّ أَمَرَ فَحُفِرَ حَفَائِرُ عَظِيمَةٌ، تَسْتُرُ الْحُفْرَةُ مِنْهَا الْفَارِسَ رَاكِبًا، ثُمَّ أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ عَائِدُونَ عَنْهَا وَرَحَلُوا، فَلَمَّا جَنَّهُمُ اللَّيْلُ عَادُوا وَاسْتَتَرُوا فِي تِلْكَ الْحَفَائِرِ، وَأَصْبَحَ أَهْلُ اللَّاذِقِيَّةِ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِ انْصَرَفُوا عَنْهُمْ، فَأَخْرَجُوا سَرْحَهُمْ وَانْتَشَرُوا بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا وَالْمُسْلِمُونَ يَصِيحُونَ بِهِمْ، وَدَخَلُوا مَعَهُمُ الْمَدِينَةَ وَمُلِكَتْ عَنْوَةً، وَهَرَبَ قَوْمٌ مِنَ النَّصَارَى، ثُمَّ طَلَبُوا الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى أَرْضِهِمْ، فَقُوطِعُوا عَلَى خَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا، وَتُرِكَتْ لَهُمْ كَنِيسَتُهُمْ، وَبَنَى الْمُسْلِمُونَ بِهَا مَسْجِدًا جَامِعًا، بَنَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، ثُمَّ وُسِّعَ فِيهِ بَعْدُ. وَلَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ اللَّاذِقِيَّةَ جَلَا أَهْلُ جَبَلَةَ مِنَ الرُّومِ عَنْهَا، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ مُعَاوِيَةَ بَنَى حِصْنًا خَارِجَ الْحِصْنِ الرُّومِيِّ وَشَحَنَهُ بِالرِّجَالِ. وَفَتَحَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنْطَرْطُوسَ، وَكَانَ حَصِينًا، فَجَلَا عَنْهُ أَهْلُهُ، فَبَنَى مُعَاوِيَةُ مَدِينَةَ أَنْطَرْطُوسَ، وَمَصَّرَهَا، وَأَقْطَعَ بِهَا الْقَطَائِعَ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِبَانْيَاسَ وَفُتِحَتْ سَلَمْيَةُ أَيْضًا، وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ سَلَمْيَةَ لِأَنَّهُ كَانَ بِقُرْبِهَا مَدِينَةٌ تُدْعَى الْمُؤْتَفِكَةَ انْقَلَبَتْ بِأَهْلِهَا وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ غَيْرُ مِائَةِ نَفْسٍ، فَبَنَوْا لَهُمْ مِائَةَ مَنْزِلٍ، وَسُمِّيَتْ سَلِمَ مِائَةٌ، ثُمَّ حَرَّفَ النَّاسُ فَقَالُوا: سَلَمْيَةُ، وَهَذَا يَتَمَشَّى لِقَائِلِهِ لَوْ كَانَ أَهْلُهَا عَرَبًا وَلِسَانُهُمْ عَرَبِيًّا، وَأَمَّا إِذْ كَانَ لِسَانُهُمْ أَعْجَمِيًّا فَلَا يَسُوغُ هَذَا الْقَوْلُ. ثُمَّ إِنَّ صَالِحَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ اتَّخَذَهَا دَارًا وَبَنَى [وَ] وَلَدُهُ فِيهَا وَمَصَّرُوهَا، وَنَزَلَهَا مَنْ نَزَلَهَا مِنْ وَلَدِهُ، فَهِيَ وَأَرَضُوهَا لَهُمْ.

ذِكْرُ فَتْحِ قِنَّسْرِينَ وَدُخُولِ هِرَقْلَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ ثُمَّ أَرْسَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى قِنَّسْرِينَ. فَلَمَّا نَزَلَ الْحَاضِرَ زَحَفَ إِلَيْهِمُ الرُّومُ وَعَلَيْهِمْ مِينَاسُ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الرُّومِ بَعْدَ هِرَقْلَ، فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ مِينَاسُ وَمَنْ مَعَهُ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً لَمْ يُقْتَلُوا مِثْلَهَا، فَمَاتُوا عَلَى دَمٍ وَاحِدٍ. وَسَارَ خَالِدٌ حَتَّى نَزَلَ عَلَى قِنَّسْرِينَ فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ، فَقَالُوا: لَوْ كُنْتُمْ فِي السَّحَابِ لَحَمَلَنَا اللَّهُ إِلَيْكُمْ أَوْ لَأَنْزَلَكُمْ إِلَيْنَا. فَنَظَرُوا فِي أَمْرِهِمْ وَرَأَوْا مَا لَقِيَ أَهْلُ حِمْصَ فَصَالَحُوهُمْ عَلَى صُلْحِ حِمْصَ، فَأَبَى خَالِدٌ إِلَّا عَلَى إِخْرَابِ الْمَدِينَةِ فَأَخْرَبَهَا. فَعِنْدَ ذَلِكَ دَخَلَ هِرَقْلُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ ; وَسَبَبُهُ: أَنَّ خَالِدًا وَعِيَاضًا أَدْرَبَا إِلَى هِرَقْلَ مِنَ الشَّامِ، وَأَدْرَبَ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ مِنَ الْكُوفَةِ، فَخَرَجَ مِنْ نَاحِيَةِ قَرْقِيسِيَا، وَأَدْرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَوْصِلِ، ثُمَّ رَجَعُوا، فَعِنْدَهَا دَخَلَ هِرَقْلُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ مُدْرِبَةٍ فِي الْإِسْلَامِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سِتَّ عَشْرَةَ. فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ صَنِيعُ خَالِدٍ قَالَ: أَمَّرَ خَالِدٌ نَفْسَهُ، يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ هُوَ كَانَ أَعْلَمَ بِالرِّجَالِ مِنِّي! وَقَدْ كَانَ عَزَلَهُ وَالْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُمَا عَنْ رِيبَةٍ وَلَكِنَّ النَّاسَ عَظَّمُوهُمَا فَخَشِيتُ أَنْ يُوكَلُوا إِلَيْهِمَا. فَأَمَّا الْمُثَنَّى فَإِنَّهُ رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ فِيهِ لَمَّا قَامَ بَعْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَرَجَعَ عَنْ خَالِدٍ بَعْدَ قِنَّسْرِينَ. وَأَمَّا هِرَقْلُ فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنَ الرُّهَاءِ ; وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَنَبَحَ كِلَابَهَا وَنَفَّرَ دَجَاجَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ زِيَادُ بْنُ حَنْظَلَةَ - وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ -، وَسَارَ هِرَقْلُ فَنَزَلَ بِشِمْشَاطَ، ثُمَّ أَدْرَبَ مِنْهَا نَحْوَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. فَلَمَّا أَرَادَ الْمَسِيرَ مِنْهَا عَلَا عَلَى نَشَزٍ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الشَّامِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا سُورِيَةُ، سَلَامٌ لَا اجْتِمَاعَ بَعْدَهُ، وَلَا يَعُودُ إِلَيْكِ رُومِيٌّ أَبَدًا إِلَّا خَائِفًا، حَتَّى يُولَدَ الْمَوْلُودُ الْمَشْئُومُ، يَا لَيْتَهُ لَا يُولَدُ! فَمَا أَحْلَى فِعْلَهُ وَأَمَرَّ فِتْنَتَهُ عَلَى الرُّومِ! . ثُمَّ سَارَ فَدَخَلَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَأَخَذَ أَهْلَ الْحُصُونِ الَّتِي بَيْنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَطَرَسُوسَ مَعَهُ لِئَلَّا يَسِيرَ الْمُسْلِمُونَ فِي عِمَارَةٍ مَا بَيْنَ أَنْطَاكِيَةَ وَبِلَادِ الرُّومِ، وَشَعَّثَ الْحُصُونَ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا

يَجِدُونَ بِهَا أَحَدًا، وَرُبَّمَا كَمَّنَ عِنْدَهَا الرُّومُ فَأَصَابُوا غِرَّةً الْمُتَخَلِّفِينَ، فَاحْتَاطَ الْمُسْلِمُونَ لِذَلِكَ. ذِكْرُ فَتْحِ حَلَبَ وَأَنْطَاكِيَةَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَوَاصِمِ لَمَّا فَرَغَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ قِنَّسْرِينَ سَارَ إِلَى حَلَبَ، فَبَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ قِنَّسْرِينَ نَقَضُوا وَغَدَرُوا، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ السِّمْطَ الْكِنْدِيَّ فَحَصَرَهُمْ وَفَتَحَهَا، وَأَصَابَ فِيهَا بَقَرًا وَغَنَمًا، فَقَسَّمَ بَعْضَهُ فِي جَيْشِهِ، وَجَعَلَ بَقِيَّتَهُ فِي الْمَغْنَمِ. وَوَصَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى حَاضِرِ حَلَبَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهَا فَجَمَعَ أَصْنَافًا مِنَ الْعَرَبِ، فَصَالَحَهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى الْجِزْيَةِ، ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَتَى حَلَبَ وَعَلَى مُقَدَّمَتِهِ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ الْفِهْرِيُّ، فَتَحَصَّنَ أَهْلُهَا وَحَصَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ طَلَبُوا الصُّلْحَ وَالْأَمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَمَدِينَتِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ وَحِصْنِهِمْ، فَأُعْطُوا ذَلِكَ، وَاسْتُثْنِيَ عَلَيْهِمْ مَوْضِعُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ الَّذِي صَالَحَهُمْ عِيَاضٌ، فَأَجَازَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: صُولِحُوا عَلَى أَنْ يُقَاسَمُوا مَنَازِلَهُمْ وَكَنَائِسَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يُصَادِفْ بِحَلَبَ أَحَدًا لِأَنَّ أَهْلَهَا انْتَقَلُوا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ وَرَاسَلُوا فِي الصُّلْحِ، فَلَمَّا تَمَّ ذَلِكَ رَجَعُوا إِلَيْهَا. وَسَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ حَلَبَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَقَدْ تَحَصَّنَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ مِنْ قِنَّسْرِينَ وَغَيْرِهَا. فَلَمَّا فَارَقَهَا لَقِيَهُ جَمْعُ الْعَدُوِّ، فَهَزَمَهُمْ فَأَلْجَأَهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَحَاصَرَهَا مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِيهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ صَالَحُوهُمْ عَلَى الْجَلَاءِ أَوِ الْجِزْيَةِ، فَجَلَا بَعْضٌ وَأَقَامَ بَعْضٌ فَآمَنَهُمْ، ثُمَّ نَقَضُوا، فَوَجَّهَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَيْهِمْ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ وَحَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَفَتَحَاهَا عَلَى الصُّلْحِ الْأَوَّلِ. وَكَانَتْ أَنْطَاكِيَةُ عَظِيمَةَ الذِّكْرِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا فُتِحَتْ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ أَنْ رَتِّبْ بِأَنْطَاكِيَةَ جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَاجْعَلْهُمْ بِهَا مُرَابِطَةً، وَلَا تَحْبِسْ عَنْهُمُ الْعَطَاءَ. وَبَلَغَ أَبَا عُبَيْدَةَ أَنْ جَمْعًا مِنَ الرُّومِ بَيْنَ مَعَرَّةَ مَصْرِينَ وَحَلَبَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَلَقِيَهُمْ

فَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ عِدَّةَ بَطَارِقَةٍ، وَسَبَى وَغَنِمَ، وَفَتَحَ مَعَرَّةَ مَصْرِينَ عَلَى مِثْلِ صُلْحِ حَلَبَ، وَجَالَتْ خُيُولُهُ فَبَلَغَتْ بُوقَا، وَفُتِحَتْ قُرَى الْجُومَةَ وَسَرْمِينَ وَتِيزِينَ، وَغَلَبُوا عَلَى جَمِيعِ أَرْضِ قِنَّسْرِينَ وَأَنْطَاكِيَةَ. ثُمَّ أَتَى أَبُو عُبَيْدَةَ حَلَبَ وَقَدِ الْتَاثَ أَهْلُهَا، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى أَذْعَنُوا وَفَتَحُوا الْمَدِينَةَ. وَسَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُرِيدُ قُورُسَ وَعَلَى مُقَدَّمَتِهِ عِيَاضٌ، فَلَقِيَهُ رَاهِبٌ مِنْ رُهْبَانِهَا يَسْأَلُهُ الصُّلْحَ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَصَالَحَهُ عَلَى صُلْحِ أَنْطَاكِيَةَ، وَبَثَّ خَيْلَهُ فَغَلَبَ عَلَى جَمِيعِ أَرْضِ قُورُسَ وَفَتَحَ تَلَّ عَزَازَ، وَكَانَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيُّ فِي جَيْشِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَنَزَلَ فِي حِصْنٍ بِقُورُسَ، فَنُسِبَ إِلَيْهِ، فَهُوَ يُعْرَفُ بِحِصْنِ سَلْمَانَ. ثُمَّ سَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى مَنْبِجَ وَعَلَى مُقَدَّمَتِهِ عِيَاضٌ، فَلَحِقَهُ وَقَدْ صَالَحَ أَهْلَهَا عَلَى مِثْلِ صُلْحِ أَنْطَاكِيَةَ، وَسَيَّرَ عِيَاضًا إِلَى نَاحِيَةِ دُلُوكَ وَرَعْبَانَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى مِثْلِ صُلْحِ مَنْبِجَ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُخْبِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِخَبَرِ الرُّومِ. وَوَلَّى أَبُو عُبَيْدَةَ كُلَّ كُورَةٍ فَتَحَهَا عَامِلًا، وَضَمَّ إِلَيْهِ جَمَاعَةً، وَشَحَنَ النَّوَاحِيَ الْمَخُوفَةَ. وَسَارَ إِلَى بَالِسَ، وَبَعَثَ جَيْشًا مَعَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ إِلَى قَاصِرِينَ، فَصَالَحَهُمْ أَهْلُهَا عَلَى الْجِزْيَةِ أَوِ الْجَلَاءِ، فَجَلَا أَكْثَرُهُمْ إِلَى بَلَدِ الرُّومِ وَأَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَقَرْيَةِ جِسْرِ مَنْبِجَ، وَلَمْ يَكُنِ الْجِسْرُ يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّمَا اتُّخِذَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ لِلصَّوَائِفِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ لَهُ رَسْمٌ قَدِيمٌ. وَاسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى الشَّامِ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ إِلَى الْفُرَاتِ، وَعَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى فِلَسْطِينَ. وَكَانَ بِجَبَلِ اللُّكَّامِ مَدِينَةٌ يُقَالُ لَهَا جُرْجُومَةُ، وَأَهْلُهَا يُقَالُ لَهُمُ الْجَرَاجِمَةُ، فَسَارَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ إِلَيْهَا مِنْ أَنْطَاكِيَةَ، فَافْتَتَحَهَا صُلْحًا، عَلَى أَنْ يَكُونُوا أَعْوَانًا لِلْمُسْلِمِينَ.

وَفِيهَا سَيَّرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ جَيْشًا مَعَ مَيْسَرَةَ بْنِ مَسْرُوقٍ الْعَبْسِيِّ، فَسَلَكُوا دَرْبَ بَغْرَاسَ مِنْ أَعْمَالِ أَنْطَاكِيَةَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَلَكَ ذَلِكَ الدَّرْبَ، فَلَقِيَ جَمْعًا لِلرُّومِ مَعَهُمْ عَرَبٌ مِنْ غَسَّانَ وَتَنُوخَ وَإِيَادٍ يُرِيدُونَ اللَّحَاقَ بِهِرَقْلَ، فَأَوْقَعَ مِنْهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، ثُمَّ لَحِقَ بِهِ مَالِكٌ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ مَدَدًا مِنْ قِبَلِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَهُوَ بِأَنْطَاكِيَةَ، فَسَلِمُوا وَعَادُوا. وَسَيَّرَ جَيْشًا آخَرَ إِلَى مَرْعَشَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَفَتَحَهَا عَلَى إِجْلَاءِ أَهْلِهَا بِالْأَمَانِ وَأَخْرَبَهَا. وَسَيَّرَ جَيْشًا آخَرَ مَعَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ إِلَى حِصْنِ الْحَدَثِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْحَدَثَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَقُوا عَلَيْهِ غُلَامًا حَدَثًا فَقَاتَلَهُمْ فِي أَصْحَابِهِ، فَقِيلَ دَرْبُ الْحَدَثِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أُصِيبُوا بِهِ فَقِيلَ دَرْبُ الْحَدَثِ، وَكَانَ بَنُو أُمَيَّةَ يُسَمُّونَهُ دَرْبَ السَّلَامَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى. ذِكْرُ فَتْحِ قَيْسَارِيَّةَ وَحَصْرِ غَزَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتْ قَيْسَارِيَّةُ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ عِشْرِينَ. وَكَانَ سَبَبُهَا: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنْ يُرْسِلَ مُعَاوِيَةَ إِلَى قَيْسَارِيَّةَ، وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ، فَسَارَ مُعَاوِيَةُ إِلَيْهَا فَحَصَرَ أَهْلَهَا، فَجَعَلُوا يُزَاحِفُونَهُ وَهُوَ يَهْزِمُهُمْ وَيَرُدُّهُمْ إِلَى حِصْنِهِمْ. ثُمَّ زَاحَفُوهُ آخِرَ ذَلِكَ مُسْتَمِيتِينَ، وَبَلَغَتْ قَتْلَاهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَكَمَّلَهَا فِي هَزِيمَتِهِمْ مِائَةَ أَلْفٍ وَفَتَحَهَا، وَكَانَ عَلْقَمَةُ بْنُ مُجَزِّزٍ قَدْ حَصَرَ الْقِيقَارَ بِغَزَّةَ وَجَعَلَ يُرَاسِلُهُ، فَلَمْ يُشْفِهُ أَحَدٌ بِمَا يُرِيدُ، فَأَتَاهُ كَأَنَّهُ رَسُولُ عَلْقَمَةَ، فَأَمَرَ الْقِيقَارُ رَجُلًا أَنْ يَقْعُدَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَإِذَا مَرَّ بِهِ قَتَلَهُ، فَفَطِنَ عَلْقَمَةُ فَقَالَ: إِنَّ مَعِيَ نَفَرًا يُشْرِكُونَنِي فِي الرَّأْيِ، فَأَنْطَلِقُ فَآتِيكَ بِهِمْ، فَبَعَثَ الْقِيقَارُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ لَا يَعْرِضَ لَهُ، فَخَرَجَ عَلْقَمَةُ مِنْ عِنْدِهِ فَلَمْ يَعُدْ، وَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ عَمْرٌو بِالْأَرْطَبُونِ. (مُجَزِّزٌ: بِجِيمٍ وَزَايَيْنِ الْأُولَى مَكْسُورَةٌ [مُشَدَّدَةٌ] ) .

ذِكْرُ فَتْحِ بَيْسَانَ وَوَقْعَةِ أَجْنَادَيْنِ وَلَمَّا انْصَرَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَخَالِدٌ إِلَى حِمْصَ نَزَلَ عَمْرٌو وَشُرَحْبِيلُ عَلَى أَهْلِ بَيْسَانَ، فَافْتَتَحَاهَا وَصَالَحَا أَهْلَ الْأُرْدُنِّ، وَاجْتَمَعَ عَسْكَرُ الرُّومِ بِغَزَّةَ وَأَجْنَادَيْنِ وَبَيْسَانَ، وَسَارَ عَمْرٌو وَشُرَحْبِيلَ إِلَى الْأَرْطَبُونِ وَمَنْ مَعَهُ وَهُوَ بِأَجْنَادَيْنِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْأُرْدُنِّ أَبَا الْأَعْوَرِ، فَنَزَلَ بِالْأَرْطَبُونِ وَمَعَهُ الرُّومُ. وَكَانَ الْأَرْطَبُونُ أَدْهَى الرُّومِ وَأَبْعَدَهَا غَوْرًا، وَكَانَ قَدْ وَضَعَ بِالرَّمْلَةِ جُنْدًا عَظِيمًا، وَبِإِيلِيَاءَ جُنْدًا عَظِيمًا. فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ الْخَبَرُ قَالَ: قَدْ رَمَيْنَا أَرْطَبُونَ الرُّومِ بِأَرْطَبُونِ الْعَرَبِ، فَانْظُرُوا عَمَّ تَنْفَرِجُ. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ شَغَلَ أَهْلَ قَيْسَارِيَّةَ عَنْ عَمْرٍو، وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ جَعَلَ عَلْقَمَةَ بْنَ حَكِيمٍ الْفَارِسِيَّ وَمَسْرُوقَ بْنَ فُلَانٍ الْعَكِّيَّ عَلَى قِتَالِ إِيلِيَاءَ، فَشَغَلُوا مَنْ بِهِ عَنْهُ، وَجَعَلَ أَيْضًا أَبَا أَيُّوبَ الْمَالِكِيَّ عَلَى مَنْ بِالرَّمْلَةِ مِنَ الرُّومِ، فَشَغَلَهُمْ عَنْهُ، وَتَتَابَعَتِ الْأَمْدَادُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ إِلَى عَمْرٍو، فَأَقَامَ عَمْرٌو عَلَى أَجْنَادَيْنِ لَا يَقْدِرُ مِنَ الْأَرْطَبُونِ عَلَى شَيْءٍ، وَلَا تُشْفِيهِ الرُّسُلُ، فَسَارَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ رَسُولٌ، فَفَطِنَ بِهِ الْأَرْطَبُونُ وَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَمِيرُ أَوْ مَنْ يَأْخُذُ الْأَمِيرُ بِرَأْيِهِ، فَأَمَرَ إِنْسَانًا أَنْ يَقْعُدَ عَلَى طَرِيقِهِ لِيَقْتُلَهُ إِذَا مَرَّ بِهِ، وَفَطِنَ عَمْرٌو لِفِعْلِهِ فَقَالَ لَهُ: قَدْ سَمِعْتَ مِنِّي وَسَمِعْتُ مِنْكَ، وَقَدْ وَقَعَ قَوْلُكَ مِنِّي مَوْقِعًا، وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، بَعَثَنَا عُمَرُ إِلَى هَذَا الْوَالِي لِنُكَانِفَهُ، فَأَرْجِعُ فَآتِيكَ بِهِمُ الْآنَ، فَإِنْ رَأَوُا الَّذِي عَرَضْتَ عَلَيَّ الْآنَ فَقَدْ رَآهُ الْأَمِيرُ وَأَهْلُ الْعَسْكَرِ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ رَدَدْتَهُمْ إِلَى مَأْمَنِهِمْ. فَقَالَ: نَعَمْ، وَرَدَّ الرَّجُلَ الَّذِي أَمَرَ بِقَتْلِهِ. فَخَرَجَ عَمْرٌو مِنْ عِنْدِهِ، وَعَلِمَ الرُّومِيُّ أَنَّهَا خُدْعَةٌ اخْتَدَعَهُ بِهَا فَقَالَ: هَذَا أَدْهَى الْخَلْقِ! وَبَلَغَتْ خَدِيعَتُهُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ: لِلَّهِ دَرُّ عَمْرٍو! وَعَرَفَ عَمْرٌو مَأْخَذَهُ فَلَقِيَهُ، فَاقْتَتَلُوا بِأَجْنَادَيْنِ قِتَالًا شَدِيدًا كَقِتَالِ الْيَرْمُوكِ، حَتَّى كَثُرَتِ الْقَتْلَى بَيْنَهُمْ. وَانْهَزَمَ أَرْطَبُونُ إِلَى إِيلِيَاءَ، وَنَزَلَ عَمْرٌو أَجْنَادَيْنِ، وَأَفْرَجَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يَحْصُرُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِأَرْطَبُونَ، فَدَخَلَ إِيلِيَاءَ وَأَزَاحَ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُ إِلَى عَمْرٍو. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وَقْعَةِ أَجْنَادَيْنِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهَا قَبْلَ الْيَرْمُوكِ، وَسِيَاقُهَا عَلَى غَيْرِ هَذِهِ السِّيَاقَةِ، فَلِهَذَا ذَكَرْنَاهَا هُنَالِكَ وَهَاهُنَا.

ذِكْرُ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُوَ إِيلِيَاءُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ أَرْطَبُونُ إِيلِيَاءَ، فَتَحَ عَمْرٌو غَزَّةَ، وَقِيلَ: كَانَ فَتْحُهَا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ فَتَحَ سَبَسْطِيَةَ، وَفِيهَا قَبْرُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفَتَحَ نَابُلُسَ بِأَمَانٍ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَفَتَحَ مَدِينَةَ لُدٍّ، ثُمَّ فَتَحَ يُبْنَى وَعَمَوَاسَ وَبَيْتَ جِبْرِينَ، وَفَتَحَ يَافَا، وَقِيلَ: فَتَحَهَا مُعَاوِيَةُ، وَفَتَحَ عَمْرٌو رَفَحَ. فَلَمَّا تَمَّ لَهُ ذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَى أَرْطَبُونَ رَجُلًا يَتَكَلَّمُ بِالرُّومِيَّةِ وَقَالَ لَهُ: اسْمَعْ مَا يَقُولُ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا، فَوَصَلَ الرَّسُولُ، وَدَفَعَ الْكِتَابَ إِلَى أَرْطَبُونَ وَعِنْدَهُ وُزَرَاؤُهُ، فَقَالَ أَرْطَبُونُ: لَا يَفْتَحُ - وَاللَّهِ - عَمْرٌو شَيْئًا مِنْ فِلَسْطِينَ بَعْدَ أَجْنَادَيْنِ. فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَيْنَ عَلِمْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: صَاحِبُهَا رَجُلٌ صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا، وَذَكَرَ صِفَةَ عُمَرَ. فَرَجَعَ الرَّسُولُ إِلَى عَمْرٍو فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَقُولُ: إِنِّي أُعَالِجُ عَدُوًّا شَدِيدًا وَبِلَادًا قَدِ ادُّخِرَتْ لَكَ، فَرَأْيَكَ. فَعَلِمَ عُمَرُ أَنَّ عَمْرًا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِلَّا بِشَيْءٍ سَمِعَهُ، فَسَارَ عُمَرُ عَنِ الْمَدِينَةِ وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ قُدُومِ عُمَرَ إِلَى الشَّامِ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ حَصَرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَلَبَ أَهْلُهُ مِنْهُ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى صُلْحِ أَهْلِ مُدُنِ الشَّامِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُتَوَلِّي لِلْعَقْدِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَسَارَ عَنِ الْمَدِينَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَيْنَ تَخْرُجُ بِنَفْسِكَ؟ إِنَّكَ تُرِيدُ عَدُوًّا كَلِبًا. فَقَالَ عُمَرُ: أُبَادِرُ بِالْجِهَادِ قَبْلَ مَوْتِ الْعَبَّاسِ، إِنَّكُمْ لَوْ فَقَدْتُمُ الْعَبَّاسَ لَانْتَقَضَ بِكُمُ الشَّرُّ كَمَا يَنْتَقِضُ [أَوَّلُ] الْحَبْلِ. فَمَاتَ الْعَبَّاسُ لِسِتِّ سِنِينَ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، فَانْتَقَضَ بِالنَّاسِ الشَّرُّ وَسَارَ عُمَرُ فَقَدِمَ الْجَابِيَةَ عَلَى فَرَسٍ، وَجَمِيعُ مَا قَدِمَ الشَّامَ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ: الْأُولَى عَلَى

فَرَسٍ، الثَّانِيَةُ عَلَى بَعِيرٍ، وَالثَّالِثَةُ عَلَى بَغْلٍ - رَجَعَ لِأَجْلِ الطَّاعُونِ - وَالرَّابِعَةُ عَلَى حِمَارٍ. وَكَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ يُوَافُوهُ بِالْجَابِيَةِ لِيَوْمٍ سَمَّاهُ لَهُمْ فِي الْمُجَرَّدَةِ، وَيَسْتَخْلِفُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَلَقُوهُ حَيْثُ رُفِعَتْ لَهُمُ الْجَابِيَةُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَهُ يَزِيدُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ ثُمَّ خَالِدٌ عَلَى الْخُيُولِ، عَلَيْهِمُ الدِّيبَاجُ وَالْحَرِيرُ، فَنَزَلَ وَأَخَذَ الْحِجَارَةَ وَرَمَاهُمْ بِهَا وَقَالَ: مَا أَسْرَعَ مَا رَجَعْتُمْ عَنْ رَأْيِكُمْ! إِيَّايَ تَسْتَقْبِلُونَ فِي هَذَا الزِّيِّ وَإِنَّمَا شَبِعْتُمْ مُذْ سَنَتَيْنِ! وَبِاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ هَذَا عَلَى رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ لَاسْتَبْدَلْتُ بِكُمْ غَيْرَكُمْ. فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهَا يَلَامِقَةُ، وَإِنَّ عَلَيْنَا السِّلَاحَ. قَالَ: فَنَعَمْ إِذَنْ. وَرَكِبَ حَتَّى دَخَلَ الْجَابِيَةَ وَعَمْرٌو وَشُرَحْبِيلُ كَأَنَّهُمَا لَمْ يَتَحَرَّكَا. فَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الْجَابِيَةَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ لَا تَرْجِعُ إِلَى بِلَادِكَ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ إِيلِيَاءَ، وَكَانُوا قَدْ شَجُّوا عَمْرًا وَشَجَّهُمْ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى الرَّمْلَةِ. فَبَيْنَمَا عُمَرُ مُعَسْكِرٌ بِالْجَابِيَةِ فَزِعَ النَّاسُ إِلَى السِّلَاحِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى إِلَى الْخَيْلِ وَالسُّيُوفِ؟ فَنَظَرَ فَإِذَا كُرْدُوسٌ يُلْمِعُونَ بِالسُّيُوفِ. فَقَالَ عُمَرُ: مُسْتَأْمِنَةٌ فَلَا تُرَاعُوا، فَأَمِّنُوهُمْ، وَإِذَا أَهْلُ إِيلِيَاءَ وَحَيِّزِهَا، فَصَالَحَهُمْ عَلَى الْجِزْيَةِ وَفَتَحُوهَا لَهُ. وَكَانَ الَّذِي صَالَحَهُ الْعَوَّامُّ، لِأَنَّ أَرْطَبُونَ وَالتَّذَارِقَ دَخَلَا مِصْرَ لَمَّا وَصَلَ عُمَرُ إِلَى الشَّامِ، وَأَخَذُوا كِتَابَهُ عَلَى إِيلِيَاءَ وَحَيِّزِهَا وَالرَّمْلَةِ وَحَيِّزِهَا، فَشَهِدَ ذَلِكَ الْيَهُودِيُّ الصُّلْحَ. فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنِ الدَّجَّالِ، وَكَانَ كَثِيرَ السُّؤَالِ عَنْهُ. فَقَالَ لَهُ: وَمَا مَسْأَلَتُكَ عَنْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ أَنْتُمْ وَاللَّهِ تَقْتُلُونَهُ دُونَ بَابِ لُدٍّ بِبِضْعَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا. وَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَيْهِمْ بِالْأَمَانِ وَجَعَلَ عَلْقَمَةَ بْنَ حَكِيمٍ عَلَى نِصْفِ فِلَسْطِينَ وَأَسْكَنَهُ الرَّمْلَةِ، وَجَعَلَ عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزِّزٍ عَلَى نِصْفِهَا الْآخَرِ وَأَسْكَنَهُ إِيلِيَاءَ. وَضَمَّ عَمْرًا وَشُرَحْبِيلَ إِلَيْهِ بِالْجَابِيَةِ فَلَقِيَاهُ رَاكِبًا فَقَبَّلَا رُكْبَتَيْهِ، وَضَمَّ عُمَرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَضِنَهُمَا. ثُمَّ سَارَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنَ الْجَابِيَةِ فَرَكِبَ فَرَسَهُ فَرَأَى بِهِ عَرَجًا، فَنَزَلَ عَنْهُ وَأُتِيَ

بِبِرْذَوْنٍ فَرَكِبَهُ، فَجَعَلَ يَتَجَلْجَلُ بِهِ، فَنَزَلَ وَضَرَبَ وَجْهَهُ وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ مَنْ عَلَّمَكَ هَذِهِ الْخُيَلَاءَ! ثُمَّ لَمْ يَرْكَبْ بِرْذَوْنًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ. وَفُتِحَتْ إِيلِيَاءُ وَأَهْلُهَا عَلَى يَدَيْهِ. وَقِيلَ: كَانَ فَتْحُهَا سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَلَحِقَ أَرْطَبُونُ وَمَنْ أَبَى الصُّلْحَ مِنَ الرُّومِ بِمِصْرَ، فَلَمَّا مَلَكَ الْمُسْلِمُونَ مِصْرَ قُتِلَ، وَقِيلَ: بَلْ لَحِقَ بِالرُّومِ، فَكَانَ يَكُونُ عَلَى صَوَائِفِهِمْ، وَالْتَقَى هُوَ وَصَاحِبُ صَائِفَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ يُقَالُ لَهُ ضُرَيْسٌ، فَقَطَعَ يَدَ الْقَيْسِيِّ وَقَتَلَهُ الْقَيْسِيُّ، فَقَالَ فِيهِ: فَإِنْ يَكُنْ أَرْطَبُونُ الرُّومِ أَفْسَدَهَا فَإِنَّ فِيهَا بِحَمْدِ اللَّهِ مُنْتَفَعَا وَإِنْ يَكُنْ أَرْطَبُونُ الرُّومِ قَطَّعَهَا فَقَدْ تَرَكْتُ بِهَا أَوْصَالَهُ قِطَعَا ذِكْرُ فَرْضِ الْعَطَاءِ وَعَمَلِ الدِّيوَانِ وَفِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَرَضَ عُمَرُ لِلْمُسْلِمِينَ الْفُرُوضَ، وَدَوَّنَ الدَّوَاوِينَ، وَأَعْطَى الْعَطَايَا عَلَى السَّابِقَةِ، وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ وَالْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فِي أَهْلِ الْفَتْحِ أَقَلَّ مَا أَخَذَ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَامْتَنَعُوا مِنْ أَخْذِهِ وَقَالُوا: لَا نَعْتَرِفُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَكْرَمَ مِنَّا. فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا أَعْطَيْتُكُمْ عَلَى السَّابِقَةِ فِي الْإِسْلَامِ لَا عَلَى الْأَحْسَابِ. قَالُوا: فَنَعَمْ إِذًا، وَأَخَذُوا، وَخَرَجَ الْحَارِثُ وَسُهَيْلٌ بِأَهْلَيْهِمَا نَحْوَ الشَّامِ، فَلَمْ يَزَالَا مُجَاهِدَيْنِ حَتَّى أُصِيبَا فِي بَعْضِ تِلْكَ الدُّرُوبِ، وَقِيلَ: مَاتَا فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ. وَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ وَضْعَ الدِّيوَانِ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ. قَالَ: لَا بَلْ أَبْدَأُ بِعَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ ; فَفَرَضَ لِلْعَبَّاسِ وَبَدَأَ بِهِ، ثُمَّ فَرَضَ لِأَهْلِ بَدْرٍ خَمْسَةَ آلَافٍ خَمْسَةَ آلَافٍ، ثُمَّ فَرَضَ لِمَنْ بَعْدَ بَدْرٍ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، ثُمَّ فَرَضَ لِمَنْ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى أَنْ أَقْلَعَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ (فِي ذَلِكَ مَنْ شَهِدَ الْفَتْحَ وَقَاتَلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ وَلِيَ الْأَيَّامَ قَبْلَ الْقَادِسِيَّةِ، كُلُّ هَؤُلَاءِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ) ، ثُمَّ فَرَضَ لِأَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ وَأَهْلِ الشَّامِ

أَلْفَيْنِ أَلْفَيْنِ، وَفَرَضَ لِأَهْلِ الْبَلَاءِ النَّازِعِ مِنْهُمْ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ. فَقِيلَ لَهُ: لَوْ أَلْحَقْتَ الْقَادِسِيَّةَ بِأَهْلِ الْأَيَّامِ، فَقَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأُلْحِقَهُمْ بِدَرَجَةِ مَنْ لَمْ يُدْرِكُوا. وَقِيلَ لَهُ: قَدْ سَوَّيْتَ مَنْ بَعُدَتْ دَارُهُ بِمَنْ قَرُبَتْ دَارُهُ وَقَاتَلَهُمْ عَنْ فِنَائِهِ. فَقَالَ: مَنْ قَرُبَتْ دَارُهُ أَحَقُّ بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا رِدْءًا لِلْحُتُوفِ وَشَجًى لِلْعَدُوِّ، فَهَلَّا قَالَ الْمُهَاجِرُونَ مِثْلَ قَوْلِكُمْ حِينَ سَوَّيْنَا بَيْنَ السَّابِقِينَ مِنْهُمْ وَالْأَنْصَارَ! فَقَدْ كَانَتْ نُصْرَةُ الْأَنْصَارِ بِفِنَائِهِمْ وَهَاجَرَ إِلَيْهِمُ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَعْدُ. وَفَرَضَ لِمَنْ بَعْدَ الْقَادِسِيَّةِ وَالْيَرْمُوكِ أَلْفًا أَلْفًا، ثُمَّ فَرَضَ لِلرَّوَادِفِ الْمُثَنَّى خَمْسَمِائَةٍ خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ لِلرَّوَادِفِ الثَّلِيثِ بَعْدَهُمْ ثَلَاثَمِائَةٍ، سَوَّى كُلَّ طَبَقَةٍ فِي الْعَطَاءِ قَوِيَّهُمْ وَضَعِيفَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، وَفَرَضَ لِلرَّوَادِفِ الرَّبِيعِ عَلَى مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَفَرَضَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ - وَهُمْ أَهْلُ هَجَرَ وَالْعِبَادِ - عَلَى مِائَتَيْنِ، وَأَلْحَقَ بِأَهْلِ بَدْرٍ أَرْبَعَةً مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا: الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَأَبَا ذَرٍّ وَسَلْمَانَ. وَكَانَ فَرَضَ لِلْعَبَّاسِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَقِيلَ: اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَأَعْطَى نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عَشَرَةَ آلَافٍ عَشَرَةَ آلَافٍ، إِلَّا مَنْ جَرَى عَلَيْهَا الْمِلْكُ. فَقَالَ نِسْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفَضِّلُنَا عَلَيْهِنَّ فِي الْقِسْمَةِ، فَسَوِّ بَيْنَنَا ; فَفَعَلَ وَفَضَّلَ عَائِشَةَ بِأَلْفَيْنِ لِمَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِيَّاهَا، فَلَمْ تَأْخُذْ. وَجَعَلَ نِسَاءَ أَهْلِ بَدْرٍ فِي خَمْسِمِائَةٍ خَمْسِمِائَةٍ، وَنِسَاءَ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَرْبَعِمِائَةٍ أَرْبَعِمِائَةٍ، وَنِسَاءَ مَنْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْأَيَّامِ ثَلَاثِمِائَةٍ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَنِسَاءَ أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ مِائَتَيْنِ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ سَوَّى بَيْنَ النِّسَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الصِّبْيَانَ سَوَاءً عَلَى مِائَةٍ مِائَةٍ، ثُمَّ جَمَعَ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَأَطْعَمَهُمُ الْخُبْزَ، فَأَحْصَوْا مَا أَكَلُوا فَوَجَدُوهُ يَخْرُجُ مِنْ جَرِيبَتَيْنِ، فَفَرَضَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَلِعِيَالِهِ جَرِيبَتَيْنِ فِي الشَّهْرِ. وَقَالَ عُمَرُ قَبْلَ مَوْتِهِ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَجْعَلَ الْعَطَاءَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، أَلْفًا يَجْعَلُهَا الرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ، وَأَلْفًا يُزَوَّدُهَا مَعَهُ، وَأَلْفًا يَتَجَهَّزُ بِهَا، وَأَلْفًا يَتَرَفَّقُ بِهَا. فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ.

وَقَالَ لَهُ قَائِلٌ عِنْدَ فَرْضِ الْعَطَاءِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ تَرَكْتَ فِي بُيُوتِ الْأَمْوَالِ عِدَّةً لِكَوْنٍ إِنْ كَانَ. فَقَالَ: كَلِمَةٌ أَلْقَاهَا الشَّيْطَانُ عَلَى فِيكَ وَقَانِي اللَّهُ شَرَّهَا، وَهِيَ فِتْنَةٌ لِمَنْ بَعْدِي، بَلْ أُعِدُّ لَهُمْ مَا أَعَدَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، هُمَا عُدَّتُنَا الَّتِي بِهَا أَفْضَيْنَا إِلَى مَا تَرَوْنَ، فَإِذَا كَانَ الْمَالُ ثَمَنَ دِينِ أَحَدِكُمْ هَلَكْتُمْ. وَقَالَ عُمَرُ لِلْمُسْلِمِينَ: إِنِّي كُنْتُ امْرَأً تَاجِرًا يُغْنِي اللَّهُ عِيَالِي بِتِجَارَتِي، وَقَدْ شَغَلْتُمُونِي بِأَمْرِكُمْ هَذَا، فَمَا تَرَوْنَ أَنَّهُ يَحِلُّ لِي فِي هَذَا الْمَالِ؟ وَعَلِيٌّ سَاكِتٌ. فَأَكْثَرَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا عَلِيُّ؟ فَقَالَ: مَا أَصْلَحَكَ وَعِيَالَكَ بِالْمَعْرُوفِ لَيْسَ لَكَ غَيْرُهُ. فَقَالَ الْقَوْمُ: الْقَوْلُ مَا قَالَ عَلِيٌّ. فَأَخَذَ قُوتَهُ وَاشْتَدَّتْ حَاجَةُ عُمَرَ، فَاجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فَقَالُوا: لَوْ قُلْنَا لِعُمَرَ فِي زِيَادَةٍ نَزِيدُهُ إِيَّاهَا فِي رِزْقِهِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: هَلُمُّوا فَلْنَسْتَبْرِئْ مَا عِنْدَهُ مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، فَأَتَوْا حَفْصَةَ ابْنَتَهُ فَأَعْلَمُوهَا الْحَالَ وَاسْتَكْتَمُوهَا أَنْ لَا تُخْبِرَ بِهِمْ عُمَرَ. فَلَقِيَتْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَغَضِبَ وَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ لِأَسَوءَهُمْ؟ قَالَتْ: لَا سَبِيلَ إِلَى عِلْمِهِمْ. قَالَ: أَنْتِ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، مَا أَفْضَلُ مَا اقْتَنَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِكِ مِنَ الْمَلْبَسِ؟ قَالَتْ: ثَوْبَيْنِ مُمَشَّقَيْنِ كَانَ يَلْبَسُهُمَا لِلْوَفْدِ وَالْجُمَعِ. قَالَ: فَأَيُّ الطَّعَامِ نَالَهُ عِنْدَكِ أَرْفَعُ؟ قَالَتْ: حَرْفًا مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ فَصَبَبْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ حَارٌّ أَسْفَلَ عُكَّةٍ لَنَا، فَجَعَلْتُهَا دَسِمَةً حُلْوَةً فَأَكَلَ مِنْهَا. وَقَالَ: وَأَيُّ مُبْسَطٍ كَانَ يُبْسَطُ عِنْدَكِ كَانَ أَوْطَأَ؟ قَالَتْ: كِسَاءٌ ثَخِينٌ كُنَّا نُرَبِّعُهُ فِي الصَّيْفِ، فَإِذَا كَانَ الشِّتَاءُ بَسَطْنَا نِصْفَهُ وَتَدَثَّرْنَا بِنِصْفِهِ. قَالَ: يَا حَفْصَةُ فَأَبْلِغِيهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّرَ فَوَضَعَ الْفُضُولَ مَوَاضِعَهَا وَتَبَلَّغَ بِالتَّزْجِيَةِ، فَوَاللَّهِ لَأَضَعَنَّ الْفُضُولَ مَوَاضِعَهَا وَلَأَتَبَلَّغَنَّ بِالتَّزْجِيَةِ، وَإِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ صَاحِبَيَّ كَثَلَاثَةٍ سَلَكُوا طَرِيقًا، فَمَضَى الْأَوَّلُ وَقَدْ تَزَوَّدَ فَبَلَغَ الْمَنْزِلَ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ الْآخَرُ فَسَلَكَ طَرِيقَهُ فَأَفْضَى إِلَيْهِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ الثَّالِثُ فَإِنْ لَزِمَ طَرِيقَهُمَا وَرَضِيَ بِزَادِهِمَا أُلْحِقَ بِهِمَا، وَإِنْ سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِهِمَا لَمْ يُجَامِعْهُمَا.

ذِكْرُ الْحُرُوبِ إِلَى آخِرِ السَّنَةِ فَمِنْ ذَلِكَ يَوْمُ بُرْسَ وَبَابِلَ وَكُوثَى لَمَّا فَرَغَ سَعْدٌ مِنْ أَمْرِ الْقَادِسِيَّةِ أَقَامَ بِهَا بَعْدَ الْفَتْحِ شَهْرَيْنِ، وَكَاتَبَ عُمَرَ فِيمَا يَفْعَلُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَأَنْ يُخَلِّفَ النِّسَاءَ وَالْعِيَالَ بِالْعَتِيقِ، وَأَنْ يَجْعَلَ مَعَهُمْ جُنْدًا كَثِيفًا وَأَنْ يُشْرِكَهُمْ فِي كُلِّ مَغْنَمٍ مَا دَامُوا يَخْلُفُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي عِيَالَاتِهِمْ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَارَ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ لِأَيَّامٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ، وَكُلُّ النَّاسِ مُؤَدٍّ مُذْ نَقَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مَا كَانَ فِي عَسْكَرِ الْفُرْسِ. فَلَمَّا وَصَلَتْ مُقَدَّمَةُ الْمُسْلِمِينَ بُرْسَ وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ وَزُهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ وَشُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ لَقِيَهُمْ بِهَا بَصْبُهْرَا فِي جَمْعٍ مِنَ الْفُرْسِ، فَهَزَمَهُ الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى بَابِلَ، وَبِهَا فَالَّةُ الْقَادِسِيَّةِ وَبَقَايَا رُؤَسَائِهِمُ النَّخِيرَخَانُ، وَمِهْرَانُ الرَّازِيُّ، وَالْهُرْمُزَانُ، وَأَشْبَاهُهُمْ، وَقَدِ اسْتَعْمَلُوا عَلَيْهِمُ الْفَيْرُزَانَ، وَقَدِمَ بَصْبُهْرَا مُنْهَزِمًا مِنْ بُرْسَ، فَوَقَعَ فِي النَّهْرِ، وَمَاتَ مِنْ طَعْنَةٍ كَانَ طَعَنَهُ زُهْرَةُ. وَلَمَّا هُزِمَ بَصْبُهْرَا أَقْبَلَ بِسْطَامُ دِهْقَانُ بُرْسَ فَصَالَحَ زُهْرَةَ، وَعَقَدَ لَهُ الْجُسُورَ، وَأَخْبَرَهُ بِمَنِ اجْتَمَعَ بِبَابِلَ، فَأَرْسَلَ زُهْرَةُ إِلَى سَعْدٍ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ. فَقَدِمَ عَلَيْهِ سَعْدٌ بِبُرْسَ وَسَيَّرَهُ فِي الْمُقَدَّمَةِ، وَأَتْبَعَهُ عَبْدَ اللَّهِ وَشُرَحْبِيلَ وَهَاشِمًا الْمِرْقَالَ، وَاتَّبَعَهُمْ، فَنَزَلُوا عَلَى الْفَيْرُزَانَ بِبَابِلَ وَقَدْ قَالُوا: نُقَاتِلُهُمْ قَبْلَ أَنْ نَفْتَرِقَ، فَاقْتَتَلُوا فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَانْطَلَقُوا عَلَى وَجْهَيْنِ، فَسَارَ الْهُرْمُزَانُ نَحْوَ الْأَهْوَازِ فَأَخَذَهَا فَأَكَلَهَا، وَخَرَجَ الْفَيْرُزَانُ نَحْوَ نَهَاوَنْدَ، فَأَخَذَهَا فَأَكَلَهَا وَبِهَا كُنُوزُ كِسْرَى، وَأَكَلَ الْمَاهَيْنَ، وَسَارَ النَّخِيرَخَانُ وَمِهْرَانُ إِلَى الْمَدَائِنِ وَقَطَعَا الْجِسْرَ. وَأَقَامَ سَعْدٌ بِبَابِلَ، فَقَدَّمَ زُهْرَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ بُكَيْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيَّ وَكَثِيرَ بْنَ شِهَابٍ السَّعْدِيَّ حَتَّى عَبَرَا الصَّرَاةَ، فَلَحِقَا بِأُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ، وَفِيهِمْ فُيُومَانُ وَالْفَرُّخَانُ، فَقَتَلَ بُكَيْرٌ الْفَرُّخَانَ وَقَتَلَ كَثِيرٌ فُيُومَانَ بِسُورَاءَ، وَجَاءَ زُهْرَةُ فَجَازَ سُورَاءَ وَنَزَلَ، وَجَاءَ سَعْدٌ وَهَاشِمٌ

وَالنَّاسُ وَنَزَلُوا عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ زُهْرَةُ نَحْوَ الْفُرْسِ، وَكَانُوا قَدْ نَزَلُوا بَيْنَ الدَّيْرِ وَكُوثَى، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ النَّخِيرَخَانُ وَمِهْرَانُ عَلَى جُنُودِهِمَا شَهْرَيَارَ، فَنَازَلَهُمْ زُهْرَةُ، فَبَرَزُوا إِلَى قِتَالِهِ، وَخَرَجَ شَهْرَيَارُ يَطْلُبُ الْمُبَارَزَةَ، فَأَخْرَجَ زُهْرَةُ إِلَيْهِ أَبَا نُبَاتَةَ نَائِلَ بْنَ جَشْعَمٍ الْأَعْرَجِيَّ، وَكَانَ مِنْ شُجْعَانِ بَنِي تَيْمٍ، وَكِلَاهُمَا وَثِيقُ الْخَلْقِ. فَلَمَّا رَأَى شَهْرَيَارُ نَائِلًا أَلْقَى الرُّمْحَ لِيَعْتَنِقَهُ، وَأَلْقَى أَبُو نُبَاتَةَ رُمْحَهُ لِيَعْتَنِقَهُ أَيْضًا، وَانْتَضَيَا سَيْفَيْهِمَا فَاجْتَلَدَا، ثُمَّ اعْتَنَقَا فَسَقَطَا عَنْ دَابَّتِهِمَا، فَوَقَعَ شَهْرَيَارُ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ جَمَلٌ، فَضَغَطَهُ بِفَخِذِهِ، وَأَخَذَ الْخِنْجَرَ وَأَرَادَ حَلَّ أَزْرَارَ دِرْعِهِ، فَوَقَعَتْ إِصْبَعُهُ فِي نَائِلٍ فَكَسَرَ عَظْمَهَا، وَرَأَى مِنْهُ فُتُورًا فَبَادَرَ وَجَلَدَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَعَدَ عَلَى صَدْرِهِ وَأَخَذَ خِنْجَرَهُ وَكَشَفَ دِرْعَهُ عَنْ بَطْنِهِ، وَطَعَنَ بِهِ بَطْنَهُ وَجَنْبَهُ حَتَّى مَاتَ، وَأَخَذَ فَرَسَهُ وَسِوَارَيْهِ وَسَلَبَهُ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ فَذَهَبُوا فِي الْبِلَادِ، وَأَقَامَ زُهْرَةُ بِكُوثَى حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ سَعْدٌ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِ نَائِلًا وَأَلْبَسَهُ سِلَاحَ شَهْرَيَارَ وَسِوَارَيْهِ وَأَرْكَبَهُ بِرْذَوْنَهُ وَغَنَّمَهُ الْجَمِيعَ، فَكَانَ أَوَّلَ أَعْرَجِيٍّ سُوِّرَ بِالْعِرَاقِ، وَقَامَ بِهَا سَعْدٌ أَيَّامًا وَزَارَ مَجْلِسَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَقِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْوَقَعَاتُ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ. (نَائِلٌ بِالنُّونِ، وَبَعْدَ الْأَلِفِ يَاءٌ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ لَامٌ) . ذِكْرُ بَهُرَسِيرَ وَهِيَ الْمَدِينَةُ الْعَتِيقَةُ وَهِيَ الْمَدَائِنُ الدُّنْيَا مِنَ الْغَرْبِ ثُمَّ إِنَّ سَعْدًا قَدَّمَ زُهْرَةَ إِلَى بَهُرَسِيرَ فَمَضَى فِي الْمُقَدَّمَاتِ، فَتَلَقَّاهُ شِيرَازَادُ دِهْقَانُ سَابَاطَ بِالصُّلْحِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى سَعْدٍ، فَصَالَحَهُ عَلَى تَأْدِيَةِ الْجِزْيَةِ. وَلَقِيَ زُهْرَةُ كَتِيبَةَ بِنْتِ كِسْرَى الَّتِي تُدْعَى بُورَانُ، وَكَانُوا يَحْلِفُونَ كُلَّ يَوْمٍ أَنْ لَا يَزُولَ مُلْكُ فَارِسٍ مَا عِشْنَا، فَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ - وَهُوَ ابْنُ أَخِي سَعْدٍ - الْمُقَرَّطَ - وَهُوَ

أَسَدٌ كَانَ لِكِسْرَى قَدْ أَلِفَهُ، فَقَبَّلَ سَعْدٌ رَأْسَ هَاشِمٍ، وَقَبَّلَ هَاشِمٌ قَدَمَ سَعْدٍ، وَأَرْسَلَهُ سَعْدٌ فِي الْمُقَدِّمَةِ إِلَى بَهُرَسِيرَ، فَنَزَلَ إِلَى الْمُظْلِمِ، وَقَرَأَ: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم: 44] ; ثُمَّ ارْتَحَلَ فَنَزَلَ عَلَى بَهُرَسِيرَ، وَوَصَلَهَا سَعْدٌ وَالْمُسْلِمُونَ فَرَأَوُا الْإِيوَانَ، فَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ: اللَّهُ أَكْبَرُ! أَبْيَضُ كِسْرَى! هَذَا مَا وَعَدَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ مَعَهُ، فَكَانُوا كُلَّمَا وَصَلَتْ طَائِفَةٌ كَبَّرُوا، ثُمَّ نَزَلُوا عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ نُزُولُهُمْ عَلَيْهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَكَانَ عَامِلُهُ فِيهَا عَلَى مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ فِي الْقَوْلِ، وَعَلَى الطَّائِفِ يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ، وَعَلَى الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَعَلَى عُمَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَعَلَى الشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ وَأَرْضِهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَّ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ. وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ أَسَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ.

ثم دخلت سنة ست عشرة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ] [ذِكْرُ فَتْحِ الْمَدَائِنِ الْغَرْبِيَّةِ وَهِيَ بَهُرَسِيرُ] 16 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ ذِكْرُ فَتْحِ الْمَدَائِنِ الْغَرْبِيَّةِ وَهِيَ بَهُرَسِيرُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - فِي صَفَرٍ - دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ بَهُرَسِيرَ، وَكَانَ سَعْدٌ مُحَاصِرًا لَهَا، وَأَرْسَلَ الْخُيُولَ فَأَغَارَتْ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ، فَأَصَابُوا مِائَةَ أَلْفِ فَلَّاحٍ، فَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَّاحًا، لِأَنَّ كُلَّ الْمُسْلِمِينَ كَانَ فَارِسًا، فَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ يَسْتَأْذِنُهُ، فَأَجَابَهُ: إِنَّ مَنْ جَاءَكُمْ مِنَ الْفَلَّاحِينَ مِمَّنْ لَمْ يُعِينُوا عَلَيْكُمْ فَهُوَ أَمَانُهُمْ، وَمَنْ هَرَبَ فَأَدْرَكْتُمُوهُ فَشَأْنُكُمْ بِهِ. فَخَلَّى سَعْدٌ عَنْهُمْ وَأَرْسَلَ إِلَى الدَّهَاقِينِ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْجِزْيَةِ وَلَهُمُ الذِّمَّةُ، فَتَرَاجَعُوا وَلَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ لِآلِ كِسْرَى، فَلَمْ يَبْقَ فِي غَرْبَيِّ دِجْلَةَ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ سَوَادِيٌّ إِلَّا أَمِنَ وَاغْتَبَطَ بِمُلْكِ الْإِسْلَامِ. وَأَقَامُوا عَلَى بَهُرَسِيرَ شَهْرَيْنِ يَرْمُونَهُمْ بِالْمَجَانِيقِ، وَيَدِبُّونَ إِلَيْهِمْ بِالدَّبَّابَاتِ وَيُقَاتِلُونَهُمْ بِكُلِّ عُدَّةٍ، وَنَصَبُوا عَلَيْهَا عِشْرِينَ مَنْجِنِيقًا فَشَغَلُوهُمْ بِهَا، وَرُبَّمَا خَرَجَ الْعَجَمُ فَقَاتَلُوهُمْ فَلَا يَقُومُونَ لَهُمْ، وَكَانَ آخِرُ مَا خَرَجُوا مُتَجَرِّدِينَ لِلْحَرْبِ وَتَبَايَعُوا عَلَى الصَّبْرِ، فَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ. وَكَانَ عَلَى زُهْرَةَ بْنِ الْحَوِيَّةِ دِرْعٌ مَفْصُومَةٌ، فَقِيلَ: لَوْ أَمَرْتَ بِهَذَا الْفَصْمِ فَسُرِدَ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي عَلَى اللَّهِ لَكَرِيمٌ، أَنْ تَرَكَ سَهْمُ فَارِسَ الْجُنْدَ كُلَّهُمْ ثُمَّ أَتَانِي مِنْ هَذَا الْفَصْمِ حَتَّى يَثْبُتَ فِيَّ! فَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ

ذكر فتح المدائن التي فيها إيوان كسرى

هُوَ، بِنُشَّابَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْفَصْمِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: انْزِعُوهَا. فَقَالَ: دَعُونِي فَإِنَّ نَفْسِي مَعِي مَا دَامَتْ فِيَّ لَعَلِّي أَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ بِطَعْنَةٍ أَوْ ضَرْبَةٍ. فَمَضَى نَحْوَ الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِسَيْفِهِ شَهْرَيَارَ مِنْ أَهْلِ إِصْطَخْرَ فَقَتَلَهُ، وَأُحِيطَ بِهِ فَقُتِلَ وَمَا انْكَشَفُوا. وَقِيلَ: إِنْ زُهْرَةَ عَاشَ إِلَى أَيَّامِ الْحَجَّاجِ فَقَتَلَهُ شَبِيبٌ الْخَارِجِيُّ، وَسَيَرِدُ ذِكْرُهُ. وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ بِأَهْلِ الْمَدَائِنِ الْغَرْبِيَّةِ حَتَّى أَكَلُوا السَّنَانِيرَ وَالْكِلَابَ، وَصَبَرُوا مِنْ شِدَّةِ الْحِصَارِ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، فَبَيْنَا هُمْ يُحَاصِرُونَهُمْ إِذْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ الْمَلِكِ، فَقَالَ: الْمَلِكُ يَقُولُ لَكُمْ: هَلْ لَكُمْ إِلَى الْمُصَالَحَةِ عَلَى أَنَّ لَنَا مَا يَلِينَا مِنْ دِجْلَةَ إِلَى جَبَلِنَا، وَلَكُمْ مَا يَلِيكُمْ مِنْ دِجْلَةَ إِلَى جَبَلِكُمْ؟ أَمَا شَبِعْتُمْ لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بُطُونَكُمْ! فَقَالَ لَهُمْ أَبُو مُفَزِّرٍ الْأَسْوَدُ بْنُ قُطْبَةَ، وَقَدْ أَنْطَقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِمَا لَا يَدْرِي مَا هُوَ وَلَا مَنْ مَعَهُ. فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَقَطَعُوا دِجْلَةَ إِلَى الْمَدَائِنِ الشَّرْقِيَّةِ الَّتِي فِيهَا الْإِيوَانُ، فَقَالَ لَهُ مَنْ مَعَهُ: يَا أَبَا مُفَزِّرٍ مَا قُلْتَ لَهُ؟ قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مَا أَدْرِي! وَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ قَدْ نَطَقْتُ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَسَأَلَهُ سَعْدٌ وَالنَّاسُ عَمَّا قَالَ فَلَمْ يَعْلَمْ. فَنَادَى سَعْدٌ فِي النَّاسِ، فَنَهَدُوا إِلَيْهِمْ، فَمَا ظَهَرَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَحَدٌ، وَلَا خَرَجَ رَجُلٌ إِلَّا رَجُلٌ يُنَادِي بِالْأَمَانِ، فَآمَنُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا بَقِيَ بِالْمَدِينَةِ مَنْ يَمْنَعُكُمْ. فَدَخَلُوا فَمَا وَجَدُوا فِيهَا شَيْئًا وَلَا أَحَدًا إِلَّا أُسَارَى وَذَلِكَ الرَّجُلَ، فَسَأَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ هَرَبُوا؟ فَقَالَ: بَعَثَ الْمَلِكُ إِلَيْكُمْ يَعْرِضُ عَلَيْكُمُ الصُّلْحَ، فَأَجَبْتُمُوهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ صُلْحٌ أَبَدًا حَتَّى نَأْكُلَ عَسَلَ أَفْرِيدُونَ بِأُتْرُجِّ كُوثَى. فَقَالَ الْمَلِكُ: يَا مَيْلَتَيْهِ! إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَكَلَّمُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ تَرُدُّ عَلَيْنَا. فَسَارُوا إِلَى الْمَدِينَةِ الْقُصْوَى. فَلَمَّا دَخَلَهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْزَلَهُمْ سَعْدٌ الْمَنَازِلَ، وَأَرَادُوا الْعُبُورَ إِلَى الْمَدَائِنِ فَوَجَدُوا الْمَعَابِرَ قَدْ أَخَذُوهَا مَا بَيْنَ الْمَدَائِنِ وَتَكْرِيتَ. [ذكر فَتْحِ الْمَدَائِنِ الَّتِي فِيهَا إِيوَانُ كِسْرَى] وَكَانَ فَتْحُهَا فِي صَفَرٍ أَيْضًا سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، قِيلَ: وَأَقَامَ سَعْدٌ بِبَهُرَسِيرَ أَيَّامًا مِنْ

صَفَرٍ، فَأَتَاهُ عِلْجٌ فَدَلَّهُ عَلَى مَخَاضَةٍ تُخَاضُ إِلَى صُلْبِ الْفُرْسِ، فَأَبَى وَتَرَدَّدَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَحَمَهُمُ الْمَدُّ، وَكَانَتِ السَّنَةُ كَثِيرَةَ الْمُدُودِ، وَدِجْلَةُ تَقْذِفُ بِالزَّبَدِ، فَأَتَاهُ عِلْجٌ فَقَالَ: مَا يُقِيمُكَ؟ لَا يَأْتِي عَلَيْكَ ثَلَاثَةٌ حَتَّى يَذْهَبَ يَزْدَجِرْدُ بِكُلِّ شَيْءٍ فِي الْمَدَائِنِ. فَهَيَّجَهُ ذَلِكَ عَلَى الْعُبُورِ، وَرَأَوْا رُؤْيَا: أَنَّ خُيُولَ الْمُسْلِمِينَ اقْتَحَمَتْ دِجْلَةَ فَعَبَرَتْ، فَعَزَمَ سَعْدٌ لِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا، فَجَمَعَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ عَدُوَّكُمْ قَدِ اعْتَصَمَ مِنْكُمْ بِهَذَا الْبَحْرِ، فَلَا تَخْلُصُونَ إِلَيْهِ مَعَهُ وَيَخْلُصُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا شَاءُوا فِي سُفُنِهِمْ فَيُنَاوِشُونَكُمْ، وَلَيْسَ وَرَاءَكُمْ شَيْءٌ تَخَافُونَ أَنْ تُؤْتَوْا مِنْهُ، قَدْ كَفَاكُمْ أَهْلُ الْأَيَّامِ وَعَطَّلُوا ثُغُورَهُمْ، وَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ الرَّأْيِ أَنْ تُجَاهِدُوا الْعَدُوَّ قَبْلَ أَنْ تَحْصُدَكُمُ الدُّنْيَا، أَلَا إِنِّي قَدْ عَزَمْتُ عَلَى قَطْعِ هَذَا الْبَحْرِ إِلَيْهِمْ. فَقَالُوا جَمِيعًا: عَزَمَ اللَّهُ لَنَا وَلَكَ عَلَى الرُّشْدِ فَافْعَلْ. فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْعُبُورِ وَقَالَ: مَنْ يَبْدَأُ وَيَحْمِي لَنَا الْفِرَاضَ حَتَّى تَتَلَاحَقَ بِهِ النَّاسُ لِكَيْلَا يَمْنَعُوهُمْ مِنَ الْعُبُورِ؟ فَانْتُدِبَ لَهُ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو ذُو الْبَأْسِ، فِي سِتِّمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّجَدَاتِ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَاصِمًا، فَتَقَدَّمَهُمْ عَاصِمٌ فِي سِتِّينَ فَارِسًا، وَجَعَلَهُمْ عَلَى خَيْلٍ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ لِيَكُونَ أَسْلَسَ لِسِبَاحَةِ الْخَيْلِ، ثُمَّ اقْتَحَمُوا دِجْلَةَ. فَلَمَّا رَآهُمُ الْأَعَاجِمُ وَمَا صَنَعُوا أَخْرَجُوا لِلْخَيْلِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ مِثْلَهَا فَاقْتَحَمُوا عَلَيْهِمْ دِجْلَةَ، فَلَقُوا عَاصِمًا وَقَدْ دَنَا مِنَ الْفِرَاضِ. فَقَالَ عَاصِمٌ: الرِّمَاحَ الرِّمَاحَ! أَشْرِعُوهَا وَتَوَخُّوا الْعُيُونَ. فَالْتَقَوْا فَاطَّعَنُوا، وَتَوَخَّى الْمُسْلِمُونَ عُيُونَهُمْ فَوَلَّوْا، وَلَحِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوا أَكْثَرَهُمْ، وَمَنْ نَجَا مِنْهُمْ صَارَ أَعْوَرَ مِنَ الطَّعْنِ، وَتَلَاحَقَ السِّتُّمِائَةِ بِالسِّتِّينَ غَيْرَ مُتْعَبِينَ. وَلَمَّا رَأَى سَعْدٌ عَاصِمًا عَلَى الْفِرَاضِ قَدْ مَنَعَهَا، أَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الِاقْتِحَامِ وَقَالَ: قُولُوا نَسْتَعِينُ بِاللَّهِ وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَاللَّهِ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ وَلِيَّهُ وَلَيُظْهِرَنَّ دِينَهُ وَلَيَهْزِمَنَّ عَدُوَّهُ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ! . وَتَلَاحَقَ النَّاسُ فِي دِجْلَةَ وَإِنَّهُمْ يَتَحَدَّثُونَ كَمَا يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَرِّ، وَطَبَّقُوا دِجْلَةَ حَتَّى مَا يُرَى مِنَ الشَّاطِئِ شَيْءٌ. وَكَانَ الَّذِي يُسَايِرُ سَعْدًا سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ، فَعَامَتْ بِهِمْ خُيُولُهُمْ، وَسَعْدٌ يَقُولُ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَاللَّهِ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ وَلِيَّهُ، وَلَيُظْهِرَنَّ دِينَهُ وَلَيَهْزِمَنَّ عَدُوَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجَيْشِ

بَغْيٌ أَوْ ذُنُوبٌ تَغْلِبُ الْحَسَنَاتِ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: الْإِسْلَامُ جَدِيدٌ، ذُلِّلَتْ لَهُمُ الْبُحُورُ كَمَا ذُلِّلَ لَهُمُ الْبَرُّ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ لَيَخْرُجُنَّ مِنْهُ أَفْوَاجًا كَمَا دَخَلُوا فِيهِ أَفْوَاجًا. فَخَرَجُوا مِنْهُ كَمَا قَالَ سَلْمَانُ لَمْ يَفْقِدُوا شَيْئًا، إِلَّا أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَامِرٍ الْعَنْبَرِيَّ سَقَطَ مِنْهُ قَدَحٌ فَذَهَبَتْ بِهِ جَرْيَةُ الْمَاءِ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي يُسَايِرُهُ مُعَيِّرًا لَهُ: أَصَابَهُ الْقَدَرُ فَطَاحَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَعَلَى حَالَةٍ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَسْلُبَنِي قَدَحِي مِنْ بَيْنِ الْعَسْكَرَيْنِ. فَلَمَّا عَبَرُوا أَلْقَتْهُ الرِّيحُ إِلَى الشَّاطِئِ فَتَنَاوَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ وَعَرَفَهُ صَاحِبُهُ فَأَخَذَهُ. وَلَمْ يَغْرَقْ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَارِقٍ يُدْعَى غَرْقَدَةَ زَالَ عَنْ ظَهْرِ فَرَسٍ لَهُ أَشْقَرَ، فَثَنَى الْقَعْقَاعُ عِنَانَ فَرَسِهِ إِلَيْهِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَخْرَجَهُ سَالِمًا. وَخَرَجَ النَّاسُ سَالِمِينَ وَخَيْلُهُمْ تَنْفُضُ أَعْرَافَهَا. فَلَمَّا رَأَى الْفُرْسُ ذَلِكَ، وَأَتَاهُمْ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ خَرَجُوا هَارِبِينَ نَحْوَ حُلْوَانَ، وَكَانَ يَزْدَجِرْدُ قَدْ قَدَّمَ عِيَالَهُ إِلَى حُلْوَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَخَلَّفَ مِهْرَانَ الرَّازِيَّ وَالنَّخِيرَخَانَ، وَكَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بِالنَّهْرَوَانِ، وَخَرَجُوا مَعَهُمْ بِمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ خَيْرِ مَتَاعِهِمْ وَخَفِيفِهِ، وَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَبِالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِي، وَتَرَكُوا فِي الْخَزَائِنِ مِنَ الثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ وَالْآنِيَةِ وَالْفُصُوصِ وَالْأَلْطَافِ مَا لَا يُدْرَى قِيمَتُهُ، وَخَلَّفُوا مَا كَانُوا أَعَدُّوا لِلْحِصَارِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْأَطْعِمَةِ. وَكَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ ثَلَاثَةُ آلَافِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَخَذَ مِنْهَا رُسْتُمُ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ النِّصْفَ وَبَقِيَ النِّصْفُ. وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ الْمَدَائِنَ كَتِيبَةُ الْأَهْوَالِ، وَهِيَ كَتِيبَةُ عَاصِمِ بْنِ عَمْرٍو، ثُمَّ كَتِيبَةُ الْخَرْسَاءِ، وَهِيَ كَتِيبَةُ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو، فَأَخَذُوا فِي سِكَكِهَا لَا يَلْقَوْنَ فِيهَا أَحَدًا يَخْشَوْنَهُ إِلَّا مَنْ كَانَ فِي الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ، فَأَحَاطُوا بِهِمْ وَدَعَوْهُمْ فَاسْتَجَابُوا عَلَى تَأْدِيَةِ الْجِزْيَةِ وَالذِّمَّةِ، فَتَرَاجَعَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْمَدَائِنِ عَلَى مِثْلِ عَهْدِهِمْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ لِآلِ كِسْرَى.

وَنَزَلَ سَعْدٌ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ، وَسَرَّحَ سَعْدٌ زُهْرَةَ فِي آثَارِهِمْ إِلَى النَّهْرَوَانَ، وَمِقْدَارِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وَكَانَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ رَائِدَ الْمُسْلِمِينَ وَدَاعِيَتَهُمْ، دَعَا أَهْلَ بَهُرَسِيرَ ثَلَاثًا وَأَهْلَ الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ ثَلَاثًا، وَاتَّخَذَ سَعْدٌ إِيوَانَ كِسْرَى مُصَلًّى وَلَمْ يُغَيِّرْ مَا فِيهِ مِنَ التَّمَاثِيلِ. وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَدَائِنِ أَعْجَبُ مِنْ عُبُورِ الْمَاءِ، وَكَانَ يُدْعَى يَوْمَ الْجَرَاثِيمِ، لَا يَبْغِي أَحَدٌ إِلَّا اشْمَخَرَّتْ لَهُ جُرْثُومَةٌ مِنَ الْأَرْضِ يَسْتَرِيحُ عَلَيْهَا مَا يُبْلُغُ الْمَاءُ حِزَامَ فَرَسِهِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ أَبُو بُجَيْدٍ نَافِعُ بْنُ الْأَسْوَدِ: وَأَسَلْنَا عَلَى الْمَدَائِنِ خَيْلًا بَحْرُهَا مِثْلُ بَرِّهِنَّ أَرِيضَا فَانْتَثَلْنَا خَزَائِنَ الْمَرْءِ كِسْرَى يَوْمَ وَلَّوْا وَخَاضَ مِنْهَا جَرِيضَا وَلَمَّا دَخَلَ سَعْدٌ الْإِيوَانَ قَرَأَ: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ} [الدخان: 25] إِلَى قَوْلِهِ: {قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 28] ، وَصَلَّى فِيهِ صَلَاةَ الْفَتْحِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ وَلَا يُصَلِّي جَمَاعَةً، وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ نَوَى الْإِقَامَةَ، وَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ بِالْعِرَاقِ، وَجُمِّعَتْ بِالْمَدَائِنِ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ. وَلَمَّا سَارَ الْمُسْلِمُونَ وَرَاءَهُمْ أَدْرَكَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَارِسِيًّا يَحْمِي أَصْحَابَهُ، فَضَرَبَ فَرَسَهُ لِيَقْدُمَ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَأَحْجَمَ وَأَرَادَ الْفِرَارَ فَتَقَاعَسَ، فَأَدْرَكَهُ الْمُسْلِمُ فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ سَلَبَهُ. وَأَدْرَكَ رَجُلٌ آخَرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَمَاعَةً مِنَ الْفُرْسِ يَتَلَاوَمُونَ، وَقَدْ نَصَبُوا لِأَحَدِهِمْ كُرَةً، وَهُوَ يَرْمِيهَا لَا يُخْطِئُهَا، فَرَجَعُوا فَلَقِيَهُمُ الْمُسْلِمُ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْفَارِسِيُّ فَرَمَاهُ بِأَقْرَبَ مِمَّا كَانَتِ الْكُرَةُ فَلَمْ يُصِبْهُ، فَوَصَلَ الْمُسْلِمُ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ وَهَرَبَ أَصْحَابُهُ.

(أَبُو بُجَيْدٍ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ: وَفَتْحِ الْجِيمِ، وَبَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَدَالٌ مُهْمَلَةٌ) . ذكر مَا جُمِعَ مِنْ غَنَائِمِ أَهْلِ الْمَدَائِنِ وَقِسْمَتِهَا كَانَ سَعْدٌ قَدْ جَعَلَ عَلَى الْأَقْبَاضِ عَمْرَو بْنَ عَمْرِو بْنِ مُقَرِّنٍ، وَعَلَى الْقِسْمَةِ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ، فَجَمَعَ مَا فِي الْقَصْرِ وَالْإِيوَانِ وَالدُّورِ، وَأَحْصَى مَا يَأْتِيهِ بِهِ الطَّلَبُ، وَكَانَ أَهْلُ الْمَدَائِنِ قَدْ نَهَبُوهَا عِنْدَ الْهَزِيمَةِ، وَهَرَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَمَا أَفْلَتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا أَدْرَكَهُمُ الطَّلَبُ، فَأَخَذُوا مَا مَعَهُمْ، وَرَأَوْا بِالْمَدَائِنِ قِبِابًا تُرْكِيَّةً مَمْلُوَّةً سِلَالًا مَخْتُومَةً بِرَصَاصٍ فَحَسِبُوهَا طَعَامًا، فَإِذَا فِيهَا آنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَطُوفُ لِيَبِيعَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ مُتَمَاثِلَيْنِ. وَرَأَوْا كَافُورًا كَثِيرًا فَحَسِبُوهُ مِلْحًا، فَعَجَنُوا بِهِ فَوَجَدُوهُ مُرًّا. وَأَدْرَكَ الطَّلَبُ مَعَ زُهْرَةَ جَمَاعَةً مِنَ الْفُرْسِ عَلَى جِسْرِ النَّهْرَوَانِ فَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ، فَوَقَعَ مِنْهُمْ بَغْلٌ فِي الْمَاءِ فَعَجِلُوا وَكَبُّوا عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّ لِهَذَا الْبَغْلِ لَشَأْنًا، فَجَالَدَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ حَتَّى أَخَذُوهُ، وَفِيهِ حِلْيَةُ كِسْرَى، ثِيَابُهُ وَخَرَزَاتُهُ وَوِشَاحُهُ وَدِرْعُهُ الَّتِي فِيهَا الْجَوْهَرُ، وَكَانَ يَجْلِسُ فِيهَا لِلْمُبَاهَاةِ، وَلَحِقَ الْكَلَجُ بَغْلَيْنِ مَعَهُمَا فَارِسِيَّانِ، فَقَتَلَهُمَا وَأَخَذَ الْبَغْلَيْنِ فَأَبْلَغَهُمَا صَاحِبَ الْأَقْبَاضِ، وَهُوَ يَكْتُبُ مَا يَأْتِيهِ بِهِ الرِّجَالُ، فَقَالَ لَهُ: قِفْ حَتَّى نَنْظُرَ مَا مَعَكَ. فَحَطَّ عَنْهُمَا فَإِذَا سَفَطَانِ فِيهِمَا تَاجُ كِسْرَى مُرَصَّعًا، وَكَانَ لَا يَحْمِلُهُ إِلَّا أُسْطُونَتَانِ وَفِيهِ الْجَوْهَرُ، وَعَلَى الْبَغْلِ الْآخَرِ سَفَطَانِ فِيهِمَا ثِيَابُ كِسْرَى الَّتِي كَانَ يَلْبَسُ مِنَ الدِّيبَاجِ الْمَنْسُوجِ بِالذَّهَبِ الْمَنْظُومِ بِالْجَوْهَرِ وَغَيْرِ الدِّيبَاجِ مَنْسُوجًا مَنْظُومًا. وَأَدْرَكَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فَارِسِيًّا فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ مِنْهُ عَيْبَتَيْنِ فِي إِحْدَاهُمَا خَمْسَةُ

أَسْيَافٍ، وَفِي الْأُخْرَى سِتَّةُ أَسْيَافٍ وَأَدْرُعٌ، مِنْهَا دِرْعُ كِسْرَى وَمَغَافِرُهُ، وَدِرْعُ هِرَقْلَ، وَدِرْعُ خَاقَانَ مَلِكِ التُّرْكِ، وَدِرْعُ دَاهِرَ مَلِكُ الْهِنْدِ، وَدِرْعُ بَهْرَامَ جُوبِينَ، وَدِرْعُ سَيَاوُخْشَ، وَدِرْعُ النُّعْمَانِ، اسْتَلَبَهَا الْفُرْسُ أَيَّامَ غَزَاهُمْ خَاقَانُ وَهِرَقْلُ وَدَاهِرُ، وَأَمَّا النُّعْمَانُ وَجُوبِينُ فَحِينَ هَرَبَا مِنْ كِسْرَى، وَالسُّيُوفُ مِنْ سُيُوفِ كِسْرَى وَهُرْمُزَ وَقُبَاذَ وَفَيْرُوزَ وَهِرَقْلَ وَخَاقَانَ وَدَاهِرَ وَبَهْرَامَ وَسَيَاوُخْشَ وَالنُّعْمَانِ، فَأَحْضَرَ الْقَعْقَاعُ الْجَمِيعَ عِنْدَ سَعْدٍ، فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الْأَسْيَافِ فَاخْتَارَ سَيْفَ هِرَقْلَ، وَأَعْطَاهُ دِرْعَ بَهْرَامَ، وَنَفَّلَ سَائِرَهَا فِي الْخَرْسَاءِ، إِلَّا سَيْفَ كِسْرَى وَالنُّعْمَانِ، بَعَثَ بِهِمَا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِتَسْمَعَ الْعَرَبُ بِذَلِكَ وَحَسَبُوهُمَا فِي الْأَخْمَاسِ، وَبَعَثُوا بِتَاجِ كِسْرَى وَحِلْيَتِهِ وَثِيَابِهِ إِلَى عُمَرَ لِيَرَاهُ الْمُسْلِمُونَ. وَأَدْرَكَ عِصْمَةُ بْنُ خَالِدٍ الضَّبِّيُّ رَجُلَيْنِ مَعَهُمَا حِمَارَانِ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا وَهَرَبَ الْآخَرُ، وَأَخَذَ الْحِمَارَيْنِ فَأَتَى بِهِمَا صَاحِبَ الْأَقْبَاضِ، فَإِذَا عَلَى أَحَدِهِمَا سَفَطَانِ فِي أَحَدِهِمَا فَرَسٌ مِنْ ذَهَبٍ بِسَرْجٍ مِنْ فِضَّةٍ مُكَلَّلٍ بِالْجَوْهَرِ، وَفِي الْآخَرِ نَاقَةٌ مِنْ فِضَّةٍ عَلَيْهَا شَلِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَبِطَانٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَلَهَا زِمَامٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَنْظُومٌ بِالْيَاقُوتِ، وَعَلَيْهَا رَجُلٌ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلٌ بِالْجَوَاهِرِ، كَانَ كِسْرَى يَضَعُهَا عَلَى أُسْطُوَانَتَيِ التَّاجِ. وَأَقْبَلَ رَجُلٌ بِحُقٍّ إِلَى صَاحِبِ الْأَقْبَاضِ، فَقَالَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هَذَا [خَطُّ] ، مَا يَعْدِلُهُ مَا عِنْدَنَا وَلَا يُقَارِبُهُ. فَقَالُوا: هَلْ أَخَذْتَ مِنْهُ شَيْئًا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا أَتَيْتُكُمْ بِهِ. فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُخْبِرُكُمْ فَتَحْمَدُونِي وَلَكِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ وَأَرْضَى بِثَوَابِهِ. فَأَتْبَعُوهُ رَجُلًا، فَسَأَلَ عَنْهُ فَإِذَا هُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ. وَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ إِنَّ الْجَيْشَ لَذُو أَمَانَةٍ، وَلَوْلَا مَا سَبَقَ لِأَهْلِ بَدْرٍ لَقُلْتُ إِنَّهُمْ عَلَى فَضْلِ أَهْلِ بَدْرٍ، لَقَدْ تَتَبَّعْتُ مِنْهُمْ هَنَاتٍ مَا أَحْسَبُهَا مِنْ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مَا اطَّلَعْنَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ

أَنَّهُ يُرِيدُ الدُّنْيَا مَعَ الْآخِرَةِ، فَلَقَدِ اتَّهَمْنَا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ، فَمَا رَأَيْنَا كَأَمَانَتِهِمْ وَزُهْدِهِمْ، وَهُمْ: طُلَيْحَةُ، وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ، وَقَيْسُ بْنُ الْمَكْشُوحِ. وَقَالَ عُمَرُ لَمَّا قُدِمَ عَلَيْهِ بِسَيْفِ كِسْرَى وَمِنْطَقَتِهِ وَبِزُبْرِجِهِ: إِنَّ قَوْمًا أَدَّوْا هَذَا لَذَوُو أَمَانَةٍ. فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّكَ عَفَفْتَ فَعَفَّتِ الرَّعِيَّةُ. فَلَمَّا جُمِعَتِ الْغَنَائِمُ قَسَّمَ سَعْدٌ الْفَيْءَ بَيْنَ النَّاسِ بَعْدَمَا خَمَّسَهُ، وَكَانُوا سِتِّينَ أَلْفًا، فَأَصَابَ الْفَارِسَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، وَكُلُّهُمْ كَانَ فَارِسًا لَيْسَ فِيهِمْ رَاجِلٌ، وَنَفَّلَ مِنَ الْأَخْمَاسِ فِي أَهْلِ الْبَلَاءِ، وَقَسَّمَ الْمَنَازِلَ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَحْضَرَ الْعِيَالَاتِ فَأَنْزَلَهُمُ الدُّورَ، فَأَقَامُوا بِالْمَدَائِنِ حَتَّى فَرَغُوا مِنْ جَلُولَاءَ وَحُلْوَانَ وَتَكْرِيتَ وَالْمَوْصِلِ ثُمَّ تَحَوَّلُوا إِلَى الْكُوفَةِ. وَأَرْسَلَ سَعْدٌ فِي الْخُمُسِ كُلَّ شَيْءٍ أَرَادَ أَنْ يَعْجَبَ مِنْهُ الْعَرَبُ، وَمَا كَانَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يَقَعَ، وَأَرَادَ إِخْرَاجَ خُمُسِ الْقِطْفِ، فَلَمْ تَعْتَدِلْ قِسْمَتُهُ، وَهُوَ بُهَارُ كِسْرَى، فَقَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: هَلْ تَطِيبُ أَنْفُسُكُمْ عَنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ فَنَبْعَثُ بِهِ إِلَى عُمَرَ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ فَإِنَّا لَا نَرَاهُ يَنْقَسِمُ، وَهُوَ بَيْنَنَا قَلِيلٌ، وَهُوَ يَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَوْقِعًا؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَبَعَثَهُ إِلَى عُمَرَ. وَالْقِطْفُ بِسَاطٌ وَاحِدٌ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، مِقْدَارَ جُرَيْبٍ، كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ تُعِدُّهُ لِلشِّتَاءِ إِذَا ذَهَبَتِ الرَّيَاحِينُ شَرِبُوا عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ فِي رِيَاضٍ، فِيهِ طُرُقٌ كَالصُّوَرِ، وَفِيهِ فُصُوصٌ كَالْأَنْهَارِ أَرْضُهَا مُذَهَّبَةٌ، وَخِلَالَ ذَلِكَ فُصُوصٌ كَالدُّرِّ، وَفِي حَافَّاتِهِ كَالْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ وَالْأَرْضِ الْمُبْقِلَةِ بِالنَّبَاتِ فِي الرَّبِيعِ، وَالْوَرَقُ مِنَ الْحَرِيرِ عَلَى قُضْبَانِ الذَّهَبِ، وَزَهْرُهُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَثَمَرُهُ الْجَوْهَرُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّيهِ الْقِطْفَ. فَلَمَّا قَدِمَتِ الْأَخْمَاسُ عَلَى عُمَرَ نَفَّلَ مِنْهَا مَنْ غَابَ وَمَنْ شَهِدَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَاءِ، ثُمَّ قَسَّمَ الْخُمُسَ فِي مَوَاضِعِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي هَذَا الْقِطْفِ: فَمِنْ بَيْنِ مُشِيرٍ بِقَبْضِهِ، وَآخَرَ مُفَوِّضٍ إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ عِلْمَكَ جَهْلًا وَيَقِينَكَ شَكًّا، إِنَّهُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا أَعْطَيْتَ فَأَمْضَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، وَإِنَّكَ إِنْ تُبْقِهِ عَلَى هَذَا الْيَوْمَ لَمْ تَعْدَمْ فِي غَدٍ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِهِ مَا لَيْسَ لَهُ. فَقَالَ: صَدَقْتَنِي

ذكر وقعة جلولاء وفتح حلوان

وَنَصَحْتَنِي، فَقَطَّعَهُ بَيْنَهُمْ، فَأَصَابَ عَلِيًّا قِطْعَةٌ مِنْهُ فَبَاعَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفًا، وَمَا هِيَ بِأَجْوَدِ تِلْكَ الْقِطَعِ. وَكَانَ الَّذِي سَارَ بِالْأَخْمَاسِ بَشِيرُ بْنُ الْخَصَاصِيَّةِ، وَأَثْنَى النَّاسُ عَلَى أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ، فَقَالَ عُمَرُ: أُولَئِكَ أَعْيَانُ الْعَرَبِ. وَلَمَّا رَأَى عُمَرُ سَيْفَ النُّعْمَانِ سَأَلَ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ عَنْ نَسَبِ النُّعْمَانِ. فَقَالَ جُبَيْرٌ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَنْسُبُهُ إِلَى أَشْلَاءِ قَنَصٍ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَجَمَ بْنِ قَنَصٍ، فَجَهِلَ النَّاسُ عَجَمَ فَقَالُوا لَخْمٌ، فَنَفَّلَهُ سَيْفَهُ. وَوَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ صَلَاةَ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ وَحَرْبَهُ، وَوَلَّى الْخَرَاجَ النُّعْمَانَ وَسُوَيْدًا ابْنَيْ مُقَرِّنٍ، سُوَيْدًا عَلَى مَا سَقَتِ الْفُرَاتُ، وَالنُّعْمَانَ عَلَى مَا سَقَتْ دِجْلَةُ، ثُمَّ اسْتَعْفَيَا، فَوَلَّى عَمَلَهُمَا حُذَيْفَةَ بْنَ أَسِيدٍ وَجَابِرَ بْنَ عَمْرٍو الْمُزَنِيَّ، ثُمَّ وَلَّى عَمَلَهُمَا بَعْدُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ. (حُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَكَسْرِ السِّينِ) . [ذكر وَقْعَةِ جَلُولَاءَ وَفَتْحِ حُلْوَانَ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةُ جَلُولَاءَ. وَسَبَبُهَا أَنَّ الْفُرْسَ لَمَّا انْتَهَوْا بَعْدَ الْهَرَبِ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى جَلُولَاءَ، وَافْتَرَقَتِ الطُّرُقُ بِأَهْلِ أَذْرَبِيجَانَ وَالْبَابِ وَأَهْلِ الْجِبَالِ وَفَارِسَ قَالُوا: لَوِ افْتَرَقْتُمْ لَمْ تَجْتَمِعُوا أَبَدًا، وَهَذَا مَكَانٌ يُفَرِّقُ بَيْنَنَا، فَهَلُمُّوا فَلْنَجْتَمِعْ لِلْعَرَبِ بِهِ وَلْنُقَاتِلْهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ لَنَا فَهُوَ الَّذِي نُحِبُّ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى كُنَّا قَدْ قَضَيْنَا الَّذِي عَلَيْنَا وَأَبْلَيْنَا عُذْرًا. فَاحْتَفَرُوا خَنْدَقًا، وَاجْتَمَعُوا فِيهِ عَلَى مِهْرَانَ الرَّازِيِّ، وَتَقَدَّمَ يَزْدَجِرْدُ إِلَى حُلْوَانَ، وَأَحَاطُوا خَنْدَقَهُمْ بِحَسَكِ الْحَدِيدِ إِلَّا طُرُقَهُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ سَعْدًا فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنْ سَرِّحْ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ إِلَى جَلُولَاءَ وَاجْعَلْ عَلَى مُقَدَّمَتِهِ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو، وَإِنْ هَزَمَ اللَّهُ الْفُرْسَ فَاجْعَلِ الْقَعْقَاعَ بَيْنَ

السَّوَادِ وَالْجَبَلِ، وَلْيَكُنِ الْجُنْدُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. فَفَعَلَ سَعْدٌ ذَلِكَ، وَسَارَ هَاشِمٌ مِنَ الْمَدَائِنِ بَعْدَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، مِنْهُمْ وُجُوهُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَعْلَامُ الْعَرَبِ مِمَّنْ كَانَ ارْتَدَّ وَمَنْ لَمْ يَرْتَدَّ، فَسَارَ مِنَ الْمَدَائِنِ فَمَرَّ بِبَابِلَ مَهْرُوذَ، فَصَالَحَهُ دِهْقَانُهَا عَلَى أَنْ يَفْرِشَ لَهُ جَرِيبَ الْأَرْضِ دَرَاهِمَ فَفَعَلَ وَصَالَحَهُ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى قَدِمَ جَلُولَاءَ، فَحَاصَرَهُمْ فِي خَنَادِقِهِمْ وَأَحَاطَ بِهِمْ، وَطَاوَلَهُمُ الْفُرْسُ وَجَعَلُوا لَا يَخْرُجُونَ إِلَّا إِذَا أَرَادُوا، وَزَاحَفَهُمُ الْمُسْلِمُونَ نَحْوَ ثَمَانِينَ يَوْمًا، كُلُّ ذَلِكَ يُنْصَرُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَتِ الْأَمْدَادُ تَرِدُ مِنْ يَزْدَجِرْدَ إِلَى مِهْرَانَ، وَأَمَدَّ سَعْدٌ الْمُسْلِمِينَ، وَخَرَجَتِ الْفُرْسُ وَقَدِ احْتَفَلُوا، فَاقْتَتَلُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ حَتَّى أَظْلَمَتْ عَلَيْهِمُ الْبِلَادُ فَتَحَاجَزُوا فَسَقَطَ فُرْسَانُهُمْ فِي الْخَنْدَقِ، فَجَعَلُوا فِيهِ طُرُقًا مِمَّا يَلِيهِمْ يَصْعَدُ مِنْهُ خَيْلُهُمْ، فَأَفْسَدُوا حِصْنَهُمْ. وَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ فَنَهَضُوا إِلَيْهِمْ وَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يَقْتَتِلُوا مِثْلَهُ وَلَا لَيْلَةَ الْهَرِيرِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ أَعْجَلَ. وَانْتَهَى الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي زَحَفَ فِيهِ إِلَى بَابِ خَنْدَقِهِمْ فَأَخَذَ بِهِ وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا أَمِيرُكُمْ قَدْ دَخَلَ الْخَنْدَقَ وَأَخَذَ بِهِ، فَأَقْبِلُوا إِلَيْهِ وَلَا يَمْنَعْكُمْ مَنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مِنْ دُخُولِهِ. وَإِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِيُقَوِّيَ الْمُسْلِمِينَ. فَحَمَلُوا وَلَا يَشُكُّونَ بِأَنَّ هَاشِمًا فِي الْخَنْدَقِ، فَإِذَا هُمْ بِالْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو وَقَدْ أَخَذَ بِهِ، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْمَجَالِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، فَهَلَكُوا فِيمَا أَعَدُّوا مِنَ الْحَسَكِ، فَعُقِرَتْ دَوَابُّهُمْ وَعَادُوا رَجَّالَةً، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ لَا يُعَدُّ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ، فَحَلَّلَتِ الْقَتْلَى الْمَجَالَ وَمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا خَلْفَهُ، فَسُمِيَتْ جَلُولَاءَ بِمَا جَلَّلَهَا مِنْ قَتْلَاهُمْ، فَهِيَ جَلُولَاءُ الْوَقِيعَةِ. فَسَارَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فِي الطَّلَبِ حَتَّى بَلَغَ خَانِقِينَ. وَلَمَّا بَلَغَتِ الْهَزِيمَةُ يَزْدَجِرْدَ سَارَ مِنْ حُلْوَانَ نَحْوَ الرَّيِّ، وَقَدِمَ الْقَعْقَاعُ حُلْوَانَ فَنَزَلَهَا فِي جُنْدٍ مِنَ الْأَفْنَاءِ وَالْحَمْرَاءِ. وَكَانَ فَتْحُ جَلُولَاءَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ.

وَلَمَّا سَارَ يَزْدَجِرْدُ عَنْ حُلْوَانَ اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا خَشْرَشْنُومَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْقَعْقَاعُ قَصْرَ شِيرِينَ خَرَجَ عَلَيْهِ خَشْرَشْنُومُ وَقَدِمَ إِلَيْهِ الزَّيْنَبِيُّ دِهْقَانُ حُلْوَانَ، فَلَقِيَهُ الْقَعْقَاعُ، فَقَتَلَ الزَّيْنَبِيَّ، وَهَرَبَ خَشْرَشْنُومُ، وَاسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى حُلْوَانَ، وَبَقِيَ الْقَعْقَاعُ بِهَا إِلَى أَنْ تَحَوَّلَ سَعْدٌ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَحِقَهُ الْقَعْقَاعُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى حُلْوَانَ قُبَاذَ، وَكَانَ أَصْلُهُ خُرَسَانِيًّا. وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ بِالْفَتْحِ وَبِنُزُولِ الْقَعْقَاعِ حُلْوَانَ، وَاسْتَأْذَنُوهُ فِي اتِّبَاعِهِمْ، فَأَبَى وَقَالَ: لَوَدِدْتُ أَنَّ بَيْنَ السَّوَادِ وَبَيْنَ الْجَبَلِ سَدًّا لَا يَخْلُصُونَ إِلَيْنَا وَلَا نَخْلُصُ إِلَيْهِمْ، حَسْبُنَا مِنَ الرِّيفِ السَّوَادَ، إِنِّي آثَرْتُ سَلَامَةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْأَنْفَالِ. وَأَدْرَكَ الْقَعْقَاعُ فِي اتِّبَاعِهِ الْفُرْسَ مِهْرَانَ بِخَانِقِينَ فَقَتَلَهُ، وَأَدْرَكَ الْفَيْرُزَانَ فَنَزَلَ وَتَوَغَّلَ فِي الْجَبَلِ فَتَحَامَى، وَأَصَابَ الْقَعْقَاعُ سَبَايَا فَأَرْسَلَهُنَّ إِلَى هَاشِمٍ فَقَسَّمَهُنَّ، فَاتُّخِذْنَ فَوَلَدْنَ، وَمِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ السَّبْيِ أُمُّ الشَّعْبِيِّ. وَقُسِّمَتِ الْغَنِيمَةُ، وَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَوَارِسِ تِسْعَةَ آلَافٍ وَتِسْعَةً مِنَ الدَّوَابِّ. وَقِيلَ: إِنَّ الْغَنِيمَةَ كَانَتْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَقَسَّمَهَا سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَبَعَثَ سَعْدٌ بِالْأَخْمَاسِ إِلَى عُمَرَ، وَبَعَثَ الْحِسَابَ مَعَ زِيَادِ بْنِ أَبِيهِ، فَكَلَّمَ عُمَرَ فِيمَا جَاءَ لَهُ وَوَصَفَ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ فِي النَّاسِ بِمِثْلِ مَا كَلَّمْتَنِي بِهِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ أَهْيَبُ فِي صَدْرِي مِنْكَ، فَكَيْفَ لَا أَقْوَى عَلَى هَذَا مِنْ غَيْرِكَ! فَقَامَ فِي النَّاسِ بِمَا أَصَابُوا وَمَا صَنَعُوا، وَبِمَا يَسْتَأْنِفُونَ مِنَ الِانْسِيَاحِ فِي الْبِلَادِ. فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا الْخَطِيبُ الْمِصْقَعُ. فَقَالَ: إِنَّ جُنْدَنَا أَطْلَقُوا أَلْسِنَتَنَا. فَلَمَّا قَدِمَ الْخَمُسُ عَلَى عُمَرَ قَالَ: وَاللَّهِ لَا يُجِنُّهُ سَقْفٌ حَتَّى أُقَسِّمَهُ. فَبَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ يَحْرُسَانِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ فِي النَّاسِ فَكَشَفَ عَنْهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى يَاقُوتِهِ وَزَبَرْجَدِهِ وَجَوْهَرِهِ بَكَى، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمَوْطِنُ شُكْرٍ! . فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا ذَلِكَ يُبْكِينِي،

ذكر تكريت والموصل

وَبِاللَّهِ مَا أَعْطَى اللَّهُ هَذَا قَوْمًا إِلَّا تَحَاسَدُوا وَتَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا إِلَّا أَلْقَى اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ. وَمَنَعَ عُمَرُ مِنْ قِسْمَةِ السَّوَادِ، لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْآجَامِ وَالْغِيَاضِ وَمَغِيضِ الْمِيَاهِ، وَمَا كَانَ لِبُيُوتِ النَّارِ وَلِسِكَكِ الْبُرُدِ، وَمَا كَانَ لِكِسْرَى وَمَنْ جَامَعَهُ، وَمَا كَانَ لِمَنْ قُتِلَ وَالْأَرْحَاءِ ; وَخَافَ أَيْضًا الْفِتْنَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنَعَ مِنْ بِيعِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَسَّمْ، وَأَقَرُّوهَا حَبِيسًا يُوَلُّونَهَا مَنْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بِالرِّضَا، وَكَانُوا لَا يُجْمِعُونَ إِلَّا عَلَى الْأُمَرَاءِ، فَلَا يَحِلُّ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ مَا بَيْنَ حُلْوَانَ وَالْقَادِسِيَّةِ، وَاشْتَرَى جَرِيرٌ أَرْضًا عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، فَرَدَّ عُمَرُ ذَلِكَ الشِّرَاءَ وَكَرِهَهُ. [ذكر تَكْرِيتَ وَالْمَوْصِلِ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتْ تَكْرِيتُ فِي جُمَادَى. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَنْطَاقَ سَارَ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَى تَكْرِيتَ، وَخَنْدَقَ عَلَيْهِ لِيَحْمِيَ أَرْضَهُ وَمَعَهُ الرُّومُ وَإِيَادُ وَتَغْلِبُ وَالنَّمِرُ وَالشَّهَارِجَةُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ سَعْدًا فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنْ سَرِّحْ إِلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُعْتَمِّ، وَاسْتَعْمِلْ عَلَى مُقَدَّمَتِهِ رِبْعِيَّ بْنَ الْأَفْكَلِ، وَعَلَى الْخَيْلِ عَرْفَجَةَ بْنَ هَرْثَمَةَ. فَسَارَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى تَكْرِيتَ وَنَزَلَ عَلَى الْأَنْطَاقِ، فَحَصَرَهُ وَمَنْ مَعَهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَتَزَاحَفُوا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ زَحْفًا، وَكَانُوا أَهْوَنَ شَوْكَةً مِنْ أَهْلِ جَلُولَاءَ، وَأَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ إِلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ مَعَ الْأَنْطَاقِ يَدْعُوهُمْ إِلَى نُصْرَتِهِ، وَكَانُوا لَا يُخْفُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا. وَلَمَّا رَأَتِ الرُّومُ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرِينَ عَلَيْهِمْ تَرَكُوا أُمَرَاءَهُمْ وَنَقَلُوا مَتَاعَهُمْ إِلَى السُّفُنِ، فَأَرْسَلَتْ تَغْلِبُ وَإِيَادٌ وَالنَّمِرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بِالْخَبَرِ، وَسَأَلُوهُ الْأَمَانَ وَأَعْلَمُوهُ أَنَّهُمْ مَعَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَسْلِمُوا. فَأَجَابُوهُ وَأَسْلَمُوا. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ: إِذَا سَمِعْتُمْ تَكْبِيرَنَا فَاعْلَمُوا أَنَّا أَخَذْنَا أَبْوَابَ الْخَنْدَقِ، فَخُذُوا الْأَبْوَابَ الَّتِي تَلِي دِجْلَةَ وَكَبِّرُوا وَاقْتُلُوا مَنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ. وَنَهَدَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْمُسْلِمُونَ وَكَبَّرُوا وَكَبَّرَتْ تَغْلِبُ وَإِيَادٌ وَالنَّمِرُ وَأَخَذُوا الْأَبْوَابَ،

فَظَنَّ الرُّومُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَتَوْهُمْ مِنْ خَلْفِهِمْ مِمَّا يَلِي دِجْلَةَ، فَقَصَدُوا الْأَبْوَابَ الَّتِي عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذَتْهُمْ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ وَسُيُوفُ الرِّبْعِيِّينَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْ أَهْلِ الْخَنْدَقِ إِلَّا مَنْ أَسْلَمَ مِنْ تَغْلِبَ وَإِيَادٍ وَالنَّمِرِ. وَأَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ رِبْعِيَّ بْنَ الْأَفْكَلِ إِلَى الْحِصْنَيْنِ، وَهُمَا نِيْنَوَى وَالْمَوْصِلُ، تُسَمَّى نِيْنَوَى الْحِصْنَ الشَّرْقِيَّ وَتُسَمَّى الْمَوْصِلُ الْحِصْنَ الْغَرْبِيَّ، وَقَالَ: اسْبِقِ الْخَبَرَ، وَسَرِّحْ مَعَهُ تَغْلِبَ وَإِيَادًا وَالنَّمِرَ. فَقَدَّمَهُمُ ابْنُ الْأَفْكَلِ إِلَى الْحِصْنَيْنِ، فَسَبَقُوا الْخَبَرَ، وَأَظْهَرُوا الظَّفَرَ وَالْغَنِيمَةَ وَبَشَّرُوهُمْ وَوَقَفُوا بِالْأَبْوَابِ، وَأَقْبَلَ ابْنُ الْأَفْكَلِ فَاقْتَحَمَ عَلَيْهِمُ الْحِصْنَيْنِ وَكَلَّبُوا أَبْوَابَهُمَا، فَنَادَوْا بِالْإِجَابَةِ إِلَى الصُّلْحِ وَصَارُوا ذِمَّةً. وَقَسَّمُوا الْغَنِيمَةَ فَكَانَ سَهْمُ الْفَارِسِ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَسَهْمُ الرَّاجِلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَبَعَثُوا بِالْأَخْمَاسِ إِلَى عُمَرَ، وَوَلَّى حَرْبَ الْمَوْصِلِ رِبْعِيَّ بْنَ الْأَفْكَلِ، وَالْخَرَاجَ عَرْفَجَةَ بْنَ هَرْثَمَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَعْمَلَ عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ عَلَى قَصْدِ الْمَوْصِلِ، وَفَتْحِهَا سَنَةَ عِشْرِينَ، فَأَتَاهَا فَقَاتَلَهُ أَهْلُ نِيْنَوَى، فَأَخَذَ حِصْنَهَا، وَهُوَ الشَّرْقِيُّ، عَنْوَةً، وَعَبَرَ دِجْلَةَ، فَصَالَحَهُ أَهْلُ الْحِصْنِ الْغَرْبِيِّ، وَهُوَ الْمَوْصِلُ، عَلَى الْجِزْيَةِ، ثُمَّ فَتَحَ الْمَرْجَ وَبَانْهَذْرَا، وَبَاعَذْرَا وَدَاسِنْ وَجَمِيعَ مَعَاقِلِ الْأَكْرَادِ وَقَرْدَى وَبَازَبْدَى وَجَمِيعَ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ فَصَارَتْ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ لَمَّا فَتَحَ بَلَدًا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، أَتَى الْمَوْصِلَ فَفَتَحَ أَحَدَ الْحِصْنَيْنِ وَبَعَثَ عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ إِلَى الْحِصْنِ الْآخَرِ فَفَتَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْمُعْتَمُّ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَآخِرُهُ مِيمٌ مُشَدَّدَةٌ) . ذِكْرُ فَتْحِ مَاسَبَذَانَ

وَلَمَّا رَجَعَ هَاشِمٌ مِنْ جَلُولَاءَ إِلَى الْمَدَائِنِ بَلَغَ سَعْدًا أَنَّ آذِينَ بْنَ الْهُرْمُزَانِ قَدْ جَمَعَ جَمْعًا وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى السَّهْلِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ ضِرَارَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي جَيْشٍ، فَالْتَقَوْا بِسَهْلِ مَاسَبَذَانَ فَاقْتَتَلُوا، فَأَسْرَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْمُشْرِكِينَ وَأَخَذَ ضِرَارٌ آذِينَ أَسِيرًا فَضَرَبَ رَقَبَتَهُ. ثُمَّ خَرَجَ فِي الطَّلَبِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّيْرَوَانِ، فَأَخَذَ مَاسَبَذَانَ عَنْوَةً، فَهَرَبَ أَهْلُهَا فِي الْجِبَالِ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى تَحَوَّلَ سَعْدٌ إِلَى الْكُوفَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَنَزَلَ الْكُوفَةَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى مَاسَبَذَانَ ابْنَ الْهُذَيْلِ الْأَسَدِيَّ، فَكَانَتْ أَحَدَ فُرُوجِ الْكُوفَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ فَتْحَهَا كَانَ بَعْدَ وَقْعَةِ نَهَاوَنْدَ. ذكر فَتْحِ قَرْقِيسِيَا وَلَمَّا رَجَعَ هَاشِمٌ مِنْ جَلُولَاءَ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَقَدِ اجْتَمَعَتْ جُمُوعُ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ، فَأَمَدُّوا هِرَقْلَ عَلَى أَهْلِ حِمْصَ، وَبَعَثُوا جُنْدًا إِلَى أَهْلِ هِيتَ، أَرْسَلَ سَعْدٌ عُمَرَ بْنَ مَالِكِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فِي جُنْدٍ، وَجَعَلَ عَلَى مُقَدَّمَتِهِ الْحَارِثَ بْنَ يَزِيدَ الْعَامِرِيَّ، فَخَرَجَ عُمَرُ بْنُ مَالِكٍ فِي جُنْدِهِ نَحْوَ هِيتَ، فَنَازَلَ مَنْ بِهَا وَقَدْ خَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ بْنُ مَالِكٍ اعْتِصَامَهُمْ بِخَنْدَقِهِمْ تَرَكَ الْأَخْبِيَةَ عَلَى حَالِهَا، وَخَلَّفَ عَلَيْهِمُ الْحَارِثَ بْنَ يَزِيدَ يُحَاصِرُهُمْ، وَخَرَجَ فِي نِصْفِ النَّاسِ، فَجَاءَ قَرْقِيسِيَا عَلَى غِرَّةٍ، فَأَخَذَهَا عَنْوَةً، فَأَجَابُوا إِلَى الْجِزْيَةِ، وَكَتَبَ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ: إِنْ هُمُ اسْتَجَابُوا فَخَلِّ عَنْهُمْ فَلْيَخْرُجُوا، وَإِلَّا فَخَنْدِقْ عَلَى خَنْدَقِهِمْ خَنْدَقًا بِأَبْوَابِهِ، مِمَّا يَلِيكَ، حَتَّى أَرَى رَأْيِي. فَرَاسَلَهُمُ الْحَارِثُ، فَأَجَابُوا إِلَى الْعَوْدِ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَتَرَكَهُمْ وَسَارَ الْحَارِثُ إِلَى عُمَرَ بْنِ مَالِكٍ.

وَفِيهَا غَرَّبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا مِحْجَنٍ الثَّقَفِيَّ إِلَى بَاضِعٍ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ ابْنُ عُمَرَ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ أُخْتَ الْمُخْتَارِ. وَفِيهَا حَمَى عُمَرُ الرَّبَذَةَ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِيهَا مَاتَتْ مَارِيَةُ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَلَّى عَلَيْهَا عُمَرُ وَدَفَنَهَا بِالْبَقِيعِ فِي الْمُحَرَّمِ. وَفِيهَا كَتَبَ عُمَرُ التَّارِيخَ بِمَشُورَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ. وَكَانَ عُمَّالُهُ عَلَى الْبِلَادِ الَّذِينَ كَانُوا فِي السَّنَةِ قَبْلَهَا، وَكَانَ عَلَى حَرْبِ الْمَوْصِلِ رِبْعِيُّ بْنُ الْأَفْكَلِ، وَعَلَى خَرَاجِهَا عَرْفَجَةُ بْنُ هَرْثَمَةَ، وَقِيلَ: كَانَ عَلَى الْحَرْبِ وَالْخَرَاجِ بِهَا عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَمِّ. وَعَلَى الْجَزِيرَةِ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ.

ثم دخلت سنة سبع عشرة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ] [ذكر بِنَاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ] 17 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ ذكر بِنَاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اخْتُطَّتِ الْكُوفَةُ، وَتَحَوَّلَ سَعْدٌ إِلَيْهَا مِنَ الْمَدَائِنِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سَعْدًا أَرْسَلَ وَفْدًا إِلَى عُمَرَ بِهَذِهِ الْفُتُوحِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَمَّا رَآهُمْ عُمَرُ سَأَلَهُمْ عَنْ تَغَيُّرِ أَلْوَانِهِمْ وَحَالِهِمْ، فَقَالُوا: وُخُومَةُ الْبِلَادِ غَيَّرَتْنَا فَأَمَرَهُمْ عُمَرُ أَنْ يَرْتَادُوا مَنْزِلًا يَنْزِلَهُ النَّاسُ، وَكَانَ قَدْ حَضَرَ مَعَ الْوَفْدِ نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ لِيُعَاقِدُوا عُمَرَ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أُعَاقِدُهُمْ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ كَانَ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أَبَى فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ. فَقَالُوا: إِذَنْ يَهْرُبُونَ وَيَصِيرُونَ عَجَمًا، وَبَذَلُوا لَهُ الصَّدَقَةَ، فَأَبَى، فَجَعَلُوا جِزْيَتَهُمْ مِثْلَ صَدَقَةِ الْمُسْلِمِ، فَأَجَابَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يُنَصِّرُوا وَلِيدًا، فَهَاجَرَ هَؤُلَاءِ التَّغْلِبِيُّونَ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ مِنَ النَّمِرِ وَإِيَادٍ إِلَى سَعْدٍ بِالْمَدَائِنِ، وَنَزَلُوا بِالْمَدَائِنِ وَنَزَلُوا مَعَهُ بَعْدُ بِالْكُوفَةَ. وَقِيلَ: بَلْ كَتَبَ حُذَيْفَةُ إِلَى عُمَرَ: إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ رَقَّتْ بُطُونُهَا، وَجَفَّتْ أَعْضَادُهَا وَتَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهَا. وَكَانَ مَعَ سَعْدٍ فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ: أَخْبِرْنِي مَا الَّذِي غَيَّرَ أَلْوَانَ الْعَرَبِ وَلُحُومَهُمْ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَعْدٌ: إِنَّ الَّذِي غَيَّرَهُمْ وُخُومَةُ الْبِلَادِ، وَإِنَّ الْعَرَبَ لَا يُوَافِقُهَا إِلَّا مَا وَافَقَ إِبِلَهَا مِنَ الْبُلْدَانِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنِ ابْعَثْ سَلْمَانَ وَحُذَيْفَةَ رَائِدَيْنِ فَلْيَرْتَادَا مَنْزِلًا بَرِّيًّا بَحْرِيًّا لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِيهِ بَحْرٌ وَلَا جِسْرٌ. فَأَرْسَلَهُمَا سَعْدٌ، فَخَرَجَ سَلْمَانُ حَتَّى يَأْتِيَ الْأَنْبَارَ فَسَارَ فِي غَرْبَيِّ الْفُرَاتِ لَا يَرْضَى شَيْئًا حَتَّى أَتَى الْكُوفَةَ، وَسَارَ

حُذَيْفَةُ فِي شَرْقَيِّ الْفُرَاتِ لَا يَرْضَى شَيْئًا حَتَّى أَتَى الْكُوفَةَ، وَكُلُّ رَمْلٍ وَحَصْبَاءَ مُخْتَلِطَيْنِ فَهُوَ كُوفَةٌ، فَأَتَيَا عَلَيْهَا وَفِيهَا دِيرَاتٌ ثَلَاثَةٌ: دَيْرُ حُرْمَةَ، وَدَيْرُ أُمِّ عَمْرٍو، وَدَيْرُ سِلْسِلَةَ، وَخِصَاصٌ خِلَالَ ذَلِكَ، فَأَعْجَبَتْهُمَا الْبُقْعَةُ فَنَزَلَا فَصَلَّيَا وَدَعَوُا اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يَجْعَلَهَا مَنْزِلَ الثَّبَاتِ. فَلَمَّا رَجَعَا إِلَى سَعْدٍ بِالْخَبَرِ وَقَدِمَ كِتَابُ عُمَرَ إِلَيْهِ أَيْضًا كَتَبَ سَعْدٌ إِلَى الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَمِّ أَنْ يَسْتَخْلِفَا عَلَى جُنْدِهِمَا وَيَحْضُرَا عِنْدَهُ، فَفَعَلَا. فَارْتَحَلَ سَعْدٌ مِنَ الْمَدَائِنِ حَتَّى نَزَلَ الْكُوفَةَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِ الْكُوفَةِ وَوَقْعَةِ الْقَادِسِيَّةِ سَنَةٌ وَشَهْرَانِ، وَكَانَ فِيمَا بَيْنَ قِيَامِ عُمَرَ وَاخْتِطَاطِ الْكُوفَةِ ثَلَاثُ سِنِينَ وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ. وَلَمَّا نَزَلَهَا سَعْدٌ وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ: إِنِّي قَدْ نَزَلْتُ بِالْكُوفَةِ مَنْزِلًا فِيمَا بَيْنَ الْحِيرَةِ وَالْفُرَاتِ بَرِّيًّا وَبَحْرِيًّا يُنْبِتُ الْحَلْفَاءَ وَالنَّصِّيَّ، وَخَيَّرْتُ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدَائِنِ فَمَنْ أَعْجَبَهُ الْمُقَامُ بِالْمَدَائِنِ تَرَكْتُهُ فِيهَا كَالْمَسْلَحَةِ. وَلَمَّا اسْتَقَرُّوا بِهَا عَرَفُوا أَنْفُسَهُمْ وَرَجَعَ إِلَيْهِمْ مَا كَانُوا فَقَدُوا مِنْ قُوَّتِهِمْ، وَاسْتَأْذَنَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي بُنْيَانِ الْقَصَبِ، وَاسْتَأْذَنَ فِيهِ أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَيْضًا، وَاسْتَقَرَّ مَنْزِلُهُمْ فِيهَا فِي الشَّهْرِ الَّذِي نَزَلَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بَعْدَ ثَلَاثِ نَزَلَاتٍ قَبْلَهَا. فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ: إِنَّ الْعَسْكَرَ أَشَدُّ لِحَرْبِكُمْ وَأَذْكَرُ لَكُمْ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَكُمْ. فَابْتَنَى أَهْلُ الْمِصْرَيْنِ بِالْقَصَبِ. ثُمَّ إِنَّ الْحَرِيقَ وَقَعَ فِي الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَكَانَتِ الْكُوفَةُ أَشَدَّ حَرِيقًا فِي شَوَّالٍ، فَبَعَثَ سَعْدٌ نَفَرًا مِنْهُمْ إِلَى عُمَرَ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِي الْبُنْيَانِ بِاللَّبِنِ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْحَرِيقِ

وَاسْتِئْذَانِهِ أَيْضًا، فَقَالَ: افْعَلُوا وَلَا يَزِيدَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ، وَلَا تَطَاوَلُوا فِي الْبُنْيَانِ، وَالْزَمُوا السُّنَّةَ تَلْزَمْكُمُ الدَّوْلَةُ. فَرَجَعَ الْقَوْمُ إِلَى الْكُوفَةِ بِذَلِكَ، وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى الْبَصْرَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَكَانَ عَلَى تَنْزِيلِ الْكُوفَةِ أَبُو هَيَّاجِ بْنُ مَالِكٍ، وَعَلَى تَنْزِيلِ الْبَصْرَةِ عَاصِمُ بْنُ دُلَفٍ أَبُو الْجَرْبَاءِ، وَقَدَّرَ الْمَنَاهِجَ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، وَالْأَزِقَّةَ سَبْعَ أَذْرُعٍ، وَالْقَطَائِعَ سِتِّينَ ذِرَاعًا، وَأَوَّلُ شَيْءٍ خُطَّ فِيهِمَا وَبُنِيَ مَسْجِدَاهُمَا، وَقَامَ فِي وَسَطِهِمَا رَجُلٌ شَدِيدُ النَّزْعِ، فَرَمَى فِي كُلِّ جِهَةٍ بِسَهْمٍ، وَأَمَرَ أَنْ يُبْنَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَبَنَى ظُلَّةً فِي مُقَدِّمَةِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ عَلَى أَسَاطِينَ رُخَامٍ مِنْ بِنَاءِ الْأَكَاسِرَةِ فِي الْحِيرَةِ، وَجَعَلُوا عَلَى الصَّحْنِ خَنْدَقًا لِئَلَّا يَقْتَحِمَهُ أَحَدٌ بِبُنْيَانٍ، وَبَنَوْا لِسَعْدٍ دَارًا بِحِيَالِهِ، وَهِيَ قَصْرُ الْكُوفَةِ الْيَوْمَ، بَنَاهُ رَوْزَبَهْ مِنْ آجُرِّ بُنْيَانِ الْأَكَاسِرَةِ بِالْحِيرَةِ، وَجَعَلَ الْأَسْوَاقَ عَلَى شِبْهِ الْمَسَاجِدِ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَقْعَدٍ فَهُوَ لَهُ، حَتَّى يَقُومَ مِنْهُ إِلَى بَيْتِهِ أَوْ يَفْرَغَ مِنْ بَيْعِهِ. وَبَلَغَ عُمَرُ أَنَّ سَعْدًا قَالَ وَقَدْ سَمِعَ أَصْوَاتَ النَّاسِ مِنَ الْأَسْوَاقِ: سَكِّنُوا عَنِّي الصُّوَيْتَ، وَأَنَّ النَّاسَ يُسَمُّونَهُ قَصْرَ سَعْدٍ، فَبَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرِقَ بَابَ الْقَصْرِ ثُمَّ يَرْجِعَ، فَفَعَلَ، فَبَلَغَ سَعْدًا ذَلِكَ فَقَالَ: هَذَا رَسُولٌ أُرْسِلَ لِهَذَا، فَاسْتَدْعَاهُ سَعْدٌ، فَأَبَى أَنْ يَدْخُلَ إِلَيْهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ سَعْدٌ وَعَرَضَ عَلَيْهِ نَفَقَتَهُ، فَلَمْ يَأْخُذْ، وَأَبْلَغَهُ كِتَابَ عُمَرَ إِلَيْهِ: بَلَغَنِي أَنَّكَ اتَّخَذْتَ قَصْرًا جَعَلْتَهُ حِصْنًا، وَيُسَمَّى قَصْرَ سَعْدٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ بَابٌ فَلَيْسَ بِقَصْرِكَ وَلَكِنَّهُ قَصْرُ الْخَبَالِ، انْزِلْ مِنْهُ [مَنْزِلًا] مِمَّا يَلِي بُيُوتَ الْأَمْوَالِ، وَأَغْلِقْهُ وَلَا تَجْعَلْ عَلَى الْقَصْرِ بَابًا يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ دُخُولِهِ. فَحَلَفَ لَهُ سَعْدٌ مَا قَالَ الَّذِي قَالُوا، فَرَجَعَ مُحَمَّدٌ فَأَبْلَغَ عُمَرَ قَوْلَ سَعْدٍ، فَصَدَّقَهُ. وَكَانَتْ ثُغُورُ الْكُوفَةِ أَرْبَعَةً: حُلْوَانَ وَعَلَيْهَا الْقَعْقَاعُ، وَمَاسَبَذَانَ وَعَلَيْهَا ضِرَارُ بْنُ

ذكر خبر حمص حين قصد هرقل من بها من المسلمين

الْخَطَّابِ، وَقَرْقِيسِيَا وَعَلَيْهَا عُمَرُ بْنُ مَالِكٍ، أَوْ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَالْمَوْصِلَ وَعَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ، وَكَانَ بِهَا خُلَفَاؤُهُمْ إِذَا غَابُوا عَنْهَا. وَوَلِيَ سَعْدٌ الْكُوفَةَ بَعْدَمَا اخْتُطَّتْ ثَلَاثَ سِنِينَ وَنِصْفًا سِوَى مَا كَانَ بِالْمَدَائِنِ قَبْلَهَا. [ذكر خَبَرِ حِمْصَ حِينَ قَصَدَ هِرَقْلُ مَنْ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَصَدَ الرُّومُ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحِمْصَ، وَكَانَ الْمُهَيِّجُ لِلرُّومِ أَهْلَ الْجَزِيرَةِ، فَإِنَّهُمْ أَرْسَلُوا إِلَى مَلِكِهِمْ وَبَعَثُوهُ عَلَى إِرْسَالِ الْجُنُودِ إِلَى الشَّامِ، وَوَعَدُوا مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْمُعَاوَنَةَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِاجْتِمَاعِهِمْ ضَمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَيْهِ مَسَالِحَهُمْ، وَعَسْكَرَ بِفِنَاءِ مَدِينَةِ حِمْصَ، وَأَقْبَلَ خَالِدٌ مِنْ قِنَّسْرِينَ إِلَيْهِمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمُنَاجَزَةِ أَوِ التَّحْصِينِ إِلَى مَجِيءِ الْغِيَاثِ، فَأَشَارَ خَالِدٌ بِالْمُنَاجَزَةِ، وَأَشَارَ سَائِرُهُمْ بِالتَّحْصِينِ وَمُكَاتَبَةِ عُمَرَ، فَأَطَاعَهُمْ وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِذَلِكَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدِ اتَّخَذَ فِي كُلِّ مِصْرٍ خُيُولًا عَلَى قَدْرِهِ مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ عُدَّةً لِكَوْنٍ إِنْ كَانَ، فَكَانَ بِالْكُوفَةِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافِ فَرَسٍ، وَكَانَ الْقَيِّمَ عَلَيْهَا سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيُّ وَنَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَفِي كُلِّ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ الثَّمَانِيَةِ عَلَى قَدْرِهِ، فَإِنْ تَأْتِهِمْ آتِيَةٌ رَكِبَهَا النَّاسُ وَسَارُوا إِلَى أَنْ يَتَجَهَّزَ النَّاسُ. فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ الْخَبَرَ كَتَبَ إِلَى سَعْدٍ: أَنِ انْدِبِ النَّاسَ مَعَ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو وَسَرِّحْهُمْ مِنْ يَوْمِهِمْ، فَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ أُحِيطَ بِهِ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا: سَرِّحْ سُهَيْلَ بْنَ عَدِيٍّ إِلَى الرَّقَّةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْجِزْيَةِ هُمُ الَّذِينَ اسْتَثَارُوا الرُّومَ عَلَى أَهْلِ حِمْصَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُسَرِّحَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِتْبَانَ إِلَى نَصِيبِينَ، ثُمَّ لِيَقْصِدْ حَرَّانَ وَالرُّهَاءَ، وَأَنْ يُسَرِّحَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ عَلَى عَرَبِ الْجَزِيرَةِ مِنْ رَبِيعَةَ وَتَنُوخَ، وَأَنْ يُسَرِّحَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ، فَإِنْ كَانَ قِتَالٌ فَأَمْرُهُمْ إِلَى عِيَاضٍ. فَمَضَى الْقَعْقَاعُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنْ يَوْمِهِمْ إِلَى حِمْصَ، وَخَرَجَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ

ذكر فتح الجزيرة وأرمينية

وَأُمَرَاءُ الْجَزِيرَةِ، وَأَخَذُوا طَرِيقَ الْجَزِيرَةِ، وَتَوَجَّهَ كُلُّ أَمِيرٍ إِلَى الْكُورَةِ الَّتِي أُمِّرَ عَلَيْهَا، وَخَرَجَ عُمَرُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَأَتَى الْجَابِيَةَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ مُغِيثًا يُرِيدُ حِمْصَ. وَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ الْجَزِيرَةِ الَّذِينَ أَعَانُوا الرُّومَ عَلَى أَهْلِ حِمْصَ، وَهُمْ مَعَهُمْ، خَبَرُ الْجُنُودِ الْإِسْلَامِيَّةِ تَفَرَّقُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَفَارَقُوا الرُّومَ، فَلَمَّا فَارَقُوهُمُ اسْتَشَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ خَالِدًا فِي الْخُرُوجِ إِلَى الرُّومِ، فَأَشَارَ بِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَاتَلَهُمْ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَدِمَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو بَعْدَ الْوَقْعَةِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ بِالْفَتْحِ وَبِقُدُومِ الْمَدَدِ عَلَيْهِمْ وَالْحُكْمِ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ: أَنْ أَشْرِكُوهُمْ فَإِنَّهُمْ نَفَرُوا إِلَيْكُمْ وَانْفَرَقَ لَهُمْ عَدُوُّكُمْ، وَقَالَ: جَزَى اللَّهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ خَيْرًا، يَكْفُونَ حَوْزَتَهُمْ وَيَمُدُّونَ أَهْلَ الْأَمْصَارِ. فَلَمَّا فَرَغُوا رَجَعُوا. [ذكر فَتْحِ الْجَزِيرَةِ وَأَرْمِينِيَّةَ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتِ الْجَزِيرَةُ. قَدْ ذَكَرْنَا إِرْسَالَ سَعْدٍ الْعَسَاكِرَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، فَخَرَجَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ وَمَنْ مَعَهُ، فَأَرْسَلَ سُهَيْلَ بْنَ عَدِيٍّ إِلَى الرَّقَّةِ وَقَدِ ارْفَضَّ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ عَنْ حِمْصَ إِلَى كُوَرِهِمْ، حِينَ سَمِعُوا بِأَهْلِ الْكُوفَةِ، فَنَزَلَ عَلَيْهِمْ فَأَقَامَ يُحَاصِرُهُمْ حَتَّى صَالَحُوهُ، فَبَعَثُوا فِي ذَلِكَ إِلَى عِيَاضٍ وَهُوَ فِي مَنْزِلٍ وَسَطٍ بَيْنَ الْجَزِيرَةِ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ وَصَالَحَهُمْ، وَصَارُوا ذِمَّةً، وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِتْبَانَ عَلَى الْمَوْصِلِ إِلَى نَصِيبِينَ، فَلَقُوهُ بِالصُّلْحِ، وَصَنَعُوا كَصُنْعِ أَهْلِ الرَّقَّةِ، فَكَتَبُوا إِلَى عِيَاضٍ فَقَبِلَ مِنْهُمْ وَعَقَدَ لَهُمْ. وَخَرَجَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ فَقَدِمَ عَلَى عَرَبِ الْجَزِيرَةِ، فَنَهَضَ مَعَهُ مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، إِلَّا إِيَادَ بْنَ نِزَارٍ، فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا أَرْضَ الرُّومِ، فَكَتَبَ الْوَلِيدُ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ. وَلَمَّا أَخَذُوا الرَّقَّةَ وَنَصِيبِينَ ضَمَّ عِيَاضٌ إِلَيْهِ سُهَيْلًا وَعَبْدَ اللَّهِ، وَسَارَ بِالنَّاسِ إِلَى حَرَّانَ، فَلَمَّا وَصَلَ أَجَابَهُ أَهْلُهَا إِلَى الْجِزْيَةِ فَقَبِلَ مِنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عِيَاضًا سَرَّحَ سُهَيْلًا وَعَبْدَ اللَّهِ إِلَى الرُّهَاءِ فَأَجَابُوهُمَا إِلَى الْجِزْيَةِ، وَأَجْرَوْا كُلَّ مَا أَخَذُوهُ مِنَ الْجَزِيرَةِ عَنْوَةً مَجْرَى الذِّمَّةِ، فَكَانَتِ الْجَزِيرَةُ أَسْهَلَ الْبُلْدَانِ فَتْحًا. وَرَجَعَ سُهَيْلٌ وَعَبْدُ اللَّهِ إِلَى الْكُوفَةِ. وَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى عُمَرَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ

الْجَابِيَةِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ إِذَا أَخَذَ خَالِدًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَصَرَفَهُ إِلَيْهِ، فَاسْتَعْمَلَ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ عَلَى عَجَمِ الْجَزِيرَةِ وَحَرْبِهَا، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ عَلَى عَرَبِهَا. فَلَمَّا قَدِمَ كِتَابُ الْوَلِيدِ عَلَى عُمَرَ بِمَنْ دَخَلَ الرُّومَ مِنَ الْعَرَبِ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ: بَلَغَنِي أَنَّ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ تَرَكَ دَارَنَا وَأَتَى دَارَكَ، فَوَاللَّهِ لَتُخْرِجَنَّهُ إِلَيْنَا أَوْ لَنُخْرِجَنَّ النَّصَارَى إِلَيْكَ. فَأَخْرَجَهُمْ مَلِكُ الرُّومِ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَتَفَرَّقَ بَقِيَّتُهُمْ فِي مَا يَلِي الشَّامَ وَالْجَزِيرَةَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، فَكُلُّ إِيَادِيٍّ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ مِنْ أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةِ آلَافٍ. وَأَبَى الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ تَغْلِبَ إِلَّا الْإِسْلَامَ، فَكَتَبَ فِيهِمْ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّمَا ذَلِكَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ [فِيهَا] إِلَّا الْإِسْلَامُ، فَدَعْهُمْ عَلَى أَنْ لَا يُنَصِّرُوا وَلِيدًا وَلَا يَمْنَعُوا أَحَدًا مِنْهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَكَانَ فِي تَغْلِبَ عِزٌّ وَامْتِنَاعٌ، فَهَمَّ بِهِمُ الْوَلِيدُ فَخَافَ عُمَرُ أَنْ يَسْطُوَ عَلَيْهِمْ فَعَزَلَهُ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ فُرَاتَ بْنَ حَيَّانَ وَهِنْدَ بْنَ عَمْرٍو الْجَمَلِيَّ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ فَتْحَ الْجَزِيرَةِ كَانَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقَالَ: إِنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: إِذَا فَتَحَ اللَّهُ الشَّامَ وَالْعِرَاقَ فَابْعَثْ جُنْدًا إِلَى الْجَزِيرَةِ وَأَمِّرْ عَلَيْهِ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ أَوْ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ أَوْ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ. قَالَ سَعْدٌ: مَا أَخَّرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عِيَاضًا إِلَّا لِأَنَّ لَهُ فِيهِ هَوًى وَأَنَا مُوَلِّيهِ، فَبَعَثَهُ وَبَعَثَ مَعَهُ جَيْشًا فِيهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَابْنُهُ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَسَارَ عِيَاضٌ وَنَزَلَ بِجُنْدِهِ عَلَى الرُّهَاءِ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهُ مُصَالَحَةَ حَرَّانَ، وَبَعَثَ أَبَا مُوسَى إِلَى نَصِيبِينَ فَافْتَتَحَهَا، وَسَارَ عِيَاضٌ بِنَفْسِهِ إِلَى دَارَا فَافْتَتَحَهَا، وَوَجَّهَ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ الرَّابِعَةِ فَقَاتَلَ أَهْلَهَا، فَاسْتَشْهَدَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ، وَصَالَحَ أَهْلُهَا عُثْمَانَ عَلَى الْجِزْيَةِ. ثُمَّ كَانَ فَتْحُ قَيْسَارِيَّةَ مِنْ فِلَسْطِينَ وَهَرَبَ هِرَقْلُ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْجَزِيرَةُ مِنْ فُتُوحِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ فُتُوحِ أَهْلِ الشَّامِ، فَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ سَيَّرَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ إِلَى الْجَزِيرَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمَّا تُوُفِّيَّ اسْتَخْلَفَ عِيَاضًا فَوَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابُ عُمَرَ بِوِلَايَتِهِ حِمْصَ وَقِنَّسْرِينَ وَالْجَزِيرَةِ، فَسَارَ إِلَى الْجَزِيرَةِ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ لِلنِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ سَعِيدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حِذْيَمٍ الْجُمَحِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ صَفْوَانُ بْنُ

الْمُعَطَّلِ، وَعَلَى مُقَدَّمَتِهِ هُبَيْرَةُ بْنُ مَسْرُوقٍ، فَانْتَهَتْ طَلِيعَةُ عِيَاضٍ إِلَى الرَّقَّةِ، فَأَغَارُوا عَلَى الْفَلَّاحِينَ وَحَصَرُوا الْمَدِينَةَ، وَبَثَّ عِيَاضٌ السَّرَايَا فَأَتَوْهُ بِالْأَسْرَى وَالْأَطْعِمَةِ، وَكَانَ حَصْرُهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ، فَطَلَبَ أَهْلُهَا الصُّلْحَ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمَدِينَتِهِمْ، وَقَالَ عِيَاضٌ: الْأَرْضُ لَنَا قَدْ وَطِئْنَاهَا وَمَلَكْنَاهَا، فَأَقَرَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى الْخَرَاجِ وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ. ثُمَّ سَارَ إِلَى حَرَّانَ فَجَعَلَ عَلَيْهَا عَسْكَرًا يَحْصُرُهَا، عَلَيْهِمْ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ وَحَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَسَارَ هُوَ إِلَى الرُّهَاءِ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا ثُمَّ انْهَزَمُوا وَحَصَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي مَدِينَتِهِمْ، فَطَلَبَ أَهْلُهَا الصُّلْحَ فَصَالَحَهُمْ، وَعَادَ إِلَى حَرَّانَ فَوَجَدَ صَفْوَانَ وَحَبِيبًا وَقَدْ غَلَبَا عَلَى حُصُونٍ وَقُرًى مِنْ أَعْمَالِ حَرَّانَ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى مِثْلِ صُلْحِ الْرُّهَاءِ. وَكَانَ عِيَاضٌ يَغْزُو وَيَعُودُ إِلَى الرُّهَاءِ، وَفَتَحَ سُمَيْسَاطَ، وَأَتَى سَرُوجَ وَرَأْسَ كَيْفَا وَالْأَرْضَ الْبَيْضَاءَ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى صُلْحِ الرُّهَاءِ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ سُمَيْسَاطَ غَدَرُوا، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ عِيَاضٌ فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى فَتَحَهَا، ثُمَّ أَتَى قُرَيَّاتٍ عَلَى الْفُرَاتِ، وَهِيَ جِسْرُ مَنْبِجَ وَمَا يَلِيهَا، فَفَتَحَهَا وَسَارَ إِلَى رَأْسِ عَيْنٍ، وَهِيَ عَيْنُ الْوَرْدَةِ، فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ وَتَرَكَهَا وَسَارَ إِلَى تَلِّ مَوْزَنَ، فَفَتَحَهَا عَلَى صُلْحِ الرُّهَاءِ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَسَارَ إِلَى آمِدٍ فَحَصَرَهَا، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا ثُمَّ صَالَحُوهُ عَلَى صُلْحِ الرُّهَاءِ، وَفَتَحَ مَيَّافَارِقِينَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَكَفْرَتُوثَا، فَسَارَ إِلَى نَصِيبِينَ فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا ثُمَّ صَالَحُوهُ عَلَى مِثْلِ صُلْحِ الرُّهَاءِ، وَفَتَحَ طُورَ عَبْدَيْنِ وَحِصْنَ مَارِدِينَ، وَقَصَدَ الْمَوْصِلَ فَفَتَحَ أَحَدَ الْحِصْنَيْنِ، وَقِيلَ: لَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا، وَأَتَاهُ بِطْرِيقُ الزَّوْزَانِ فَصَالَحَهُ، ثُمَّ سَارَ إِلَى أَرْزَنَ فَفَتَحَهَا، وَدَخَلَ الدَّرْبَ فَأَجَازَهُ بَدْلِيسُ وَبَلَغَ خِلَاطَ فَصَالَحَهُ بِطْرِيقُهَا، وَانْتَهَى إِلَى الْعَيْنِ الْحَامِضَةِ مِنْ أَرْمِينِيَّةَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الرَّقَّةِ وَمَضَى إِلَى حِمْصَ فَمَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ. وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ سَعِيدَ بْنَ حِذْيَمٍ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى مَاتَ، فَاسْتَعْمَلَ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيَّ، فَفَتَحَ رَأْسَ عَيْنٍ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ. وَقِيلَ: إِنَّ عِيَاضًا أَرْسَلَ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ إِلَى رَأْسِ عَيْنٍ فَفَتَحَهَا بَعْدَ أَنِ اشْتَدَّ قِتَالُهُ عَلَيْهَا.

ذكر عزل خالد بن الوليد

وَقِيلَ: إِنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إِلَى رَأْسِ عَيْنٍ بَعْدَ وَفَاةِ عِيَاضٍ. وَقِيلَ: إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ حَضَرَ فَتْحَ الْجَزِيرَةِ مَعَ عِيَاضٍ وَدَخَلَ حَمَّامًا بِآمِدٍ فَاطَّلَى بِشَيْءٍ فِيهِ خَمْرٌ فَعَزَلَهُ عُمَرُ. وَقِيلَ: إِنَّ خَالِدًا لَمْ يَسِرْ تَحْتَ لِوَاءِ أَحَدٍ غَيْرِ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا فَتَحَ عِيَاضٌ سُمَيْسَاطَ بَعَثَ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ إِلَى مَلَطْيَةَ فَفَتَحَهَا عَنْوَةً، ثُمَّ نَقَضَ أَهْلُهَا الصُّلْحَ، فَلَمَّا وَلِيَ مُعَاوِيَةُ الشَّامَ وَالْجَزِيرَةَ وَجَّهَ إِلَيْهَا حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ أَيْضًا فَفَتَحَهَا عَنْوَةً وَرَتَّبَ فِيهَا جُنْدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ عَامِلِهَا. [ذكر عَزْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهِيَ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ، عُزِلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ التَّقَدُّمِ عَلَى الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ أَدْرَبَ هُوَ وَعِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ، فَأَصَابَا أَمْوَالًا عَظِيمَةً، وَكَانَا تَوَجَّهَا مِنَ الْجَابِيَةِ مَرْجِعَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَعَلَى حِمْصَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَخَالِدٌ تَحْتَ يَدِهِ عَلَى قِنَّسْرِينَ، وَعَلَى الْأُرْدُنِّ مُعَاوِيَةُ، وَعَلَى فِلَسْطِينَ عَلْقَمَةُ بْنُ مُجَزِّزٍ، وَعَلَى السَّاحِلِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ، فَبَلَغَ النَّاسَ مَا أَصَابَ خَالِدٌ فَانْتَجَعَهُ رِجَالٌ، وَكَانَ مِنْهُمُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، فَأَجَازَهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ. وَدَخَلَ خَالِدٌ الْحَمَّامَ، فَتَدَلَّكَ بِغُسْلٍ فِيهِ خَمْرٌ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَدَلَّكْتَ بِخَمْرٍ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ظَاهِرَ الْخَمْرِ وَبَاطِنَهُ وَمَسَّهُ، فَلَا تُمِسُّوهَا أَجْسَادَكُمْ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدٌ: إِنَّا قَتَلْنَاهَا فَعَادَتْ غَسُولًا غَيْرَ خَمْرٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّ آلَ الْمُغِيرَةِ ابْتُلُوا بِالْجَفَاءِ فَلَا أَمَاتَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا فَرَّقَ خَالِدٌ فِي الَّذِينَ انْتَجَعُوهُ الْأَمْوَالَ سَمِعَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَ لَا

ذكر بناء المسجد الحرام والتوسعة فيه

يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِ، فَدَعَا عُمَرُ الْبَرِيدَ، فَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ أَنْ يُقِيمَ خَالِدًا وَيَعْقِلَهُ بِعِمَامَتِهِ، وَيَنْزِعَ عَنْهُ قَلَنْسُوَتَهُ حَتَّى يُعْلِمَكُمْ مِنْ أَيْنَ أَجَازَ الْأَشْعَثَ، أَمِنْ مَالِهِ أَمْ مِنْ مَالِ إِصَابَةٍ أَصَابَهَا، فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ فَرَّقَهُ مِنْ إِصَابَةٍ أَصَابَهَا فَقَدْ أَقَرَّ بِخِيَانَةٍ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ مَالِهِ فَقَدْ أَسْرَفَ، وَاعْزِلْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ عَمَلَهُ. فَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى خَالِدٍ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ وَجَلَسَ لَهُمْ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَامَ الْبَرِيدُ فَسَأَلَ خَالِدًا مِنْ أَيْنَ أَجَازَ الْأَشْعَثَ، فَلَمْ يُجِبْهُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ سَاكِتٌ لَا يَقُولُ شَيْئًا، فَقَامَ بِلَالٌ فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَ فِيكَ بِكَذَا وَكَذَا، وَنَزَعَ عِمَامَتَهُ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ سَمْعًا وَطَاعَةً، وَوَضَعَ قَلَنْسُوَتَهُ، ثُمَّ أَقَامَ فَعَقَلَهُ بِعِمَامَتِهِ وَقَالَ: بَلْ مِنْ مَالِي، فَأَطْلَقَهُ وَأَعَادَ قَلَنْسُوَتَهُ، ثُمَّ عَمَّمَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: نَسْمَعُ وَنُطِيعُ لِوُلَاتِنَا وَنُفَخِّمُ وَنَخْدِمُ مَوَالِيَنَا. قَالَ: وَأَقَامَ خَالِدٌ مُتَحَيِّرًا لَا يَدْرِي أَمَعْزُولٌ أَمْ غَيْرُ مَعْزُولٍ، وَلَا يُعْلِمُهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِذَلِكَ تَكْرِمَةً وَتَفْخِمَةً. فَلَمَّا تَأَخَّرَ قُدُومُهُ عَلَى عُمَرَ ظَنَّ الَّذِي كَانَ، فَكَتَبَ إِلَى خَالِدٍ بِالْإِقْبَالِ إِلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَى قِنَّسْرِينَ، فَخَطَبَ النَّاسَ وَوَدَّعَهُمْ، وَرَجَعَ إِلَى حِمْصَ فَخَطَبَهُمْ ثُمَّ سَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ شَكَاهُ وَقَالَ: قَدْ شَكَوْتُكَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَبِاللَّهِ إِنَّكَ فِي أَمْرِي لَغَيْرُ مُجْمِلٍ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مِنْ أَيْنَ هَذَا الثَّرَاءُ؟ قَالَ: مِنَ الْأَنْفَالِ وَالسُّهْمَانِ، مَا زَادَ عَلَى سِتِّينَ أَلْفًا فَلَكَ، فَقَوَّمَ عُمَرُ مَالَهُ فَزَادَ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَجَعَلَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ قَالَ: يَا خَالِدُ وَاللَّهِ إِنَّكَ عَلَيَّ لَكَرِيمٌ، وَإِنَّكَ إِلَيَّ لَحَبِيبٌ. وَكَتَبَ إِلَى الْأَمْصَارِ: إِنِّي لَمْ أَعْزِلْ خَالِدًا عَنْ سُخْطَةٍ وَلَا خِيَانَةٍ، وَلَكِنَّ النَّاسَ فَخَّمُوهُ وَفُتِنُوا بِهِ، فَخِفْتُ أَنْ يُوكَلُوا إِلَيْهِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الصَّانِعُ، وَأَنْ لَا يَكُونُوا بِعَرَضِ فِتْنَةٍ. وَعَوَّضَهُ عَمَّا أُخِذَ مِنْهُ. [ذكر بِنَاءِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالتَّوْسِعَةِ فِيهِ] وَفِيهَا، أَعْنِي سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، اعْتَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَبَنَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَوَسَّعَ فِيهِ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَهَدَمَ عَلَى قَوْمٍ أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوا، وَوَضَعَ أَثْمَانَ دُورِهِمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى أَخَذُوهَا، وَكَانَتْ عُمْرَتُهُ فِي رَجَبٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ أَنْصَابِ الْحَرَمِ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَالْأَزْهَرَ بْنَ عَبْدِ عَوْفٍ

ذكر غزوة فارس من البحرين

وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى وَسَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعٍ، وَاسْتَأْذَنَهُ أَهْلُ الْمِيَاهِ فِي أَنْ يَبْنُوا مَنَازِلَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَأَذِنَ لَهُمْ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ أَحَقُّ بِالظِّلِّ وَالْمَاءِ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُمَرُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهِيَ ابْنَةُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَخَلَ بِهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ. [ذكر غَزْوَةِ فَارِسَ مِنَ الْبَحْرَيْنِ] قِيلَ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ لَمَّا أُخِذَتِ الْأَهْوَازُ وَمَا يَلِيهَا: وَدِدْتُ أَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ فَارِسٍ حَبْلًا مِنْ نَارٍ لَا نَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنْهُ وَلَا يَصِلُونَ إِلَيْنَا. وَقَدْ كَانَ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ، فَعَزَلَهُ عُمَرُ وَجَعَلَ مَوْضِعَهُ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ، ثُمَّ عَزَلَ قُدَامَةَ وَأَعَادَ الْعَلَاءَ يُنَاوِئُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، فَفَازَ الْعَلَاءُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ بِالْفَضْلِ، فَلَمَّا ظَفِرَ سَعْدٌ بِأَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ وَأَزَاحَ الْأَكَاسِرَةَ جَاءَ بِأَعْظَمَ مِمَّا فَعَلَهُ الْعَلَاءُ، فَأَرَادَ الْعَلَاءُ أَنْ يَصْنَعَ فِي الْفُرْسِ شَيْئًا، وَلَمْ يَنْظُرْ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ نَهَاهُ عَنِ الْغَزْوِ فِي الْبَحْرِ، وَنَهَى غَيْرَهُ أَيْضًا اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَخَوْفَ الْغَرَرِ. فَنَدَبَ الْعَلَاءُ النَّاسَ إِلَى فَارِسَ فَأَجَابُوهُ، وَفَرَّقَهُمْ أَجْنَادًا، عَلَى أَحَدِهَا الْجَارُودُ بْنُ الْمُعَلَّى، وَعَلَى الْآخَرِ سَوَّارُ بْنُ هَمَّامٍ، وَعَلَى الْآخَرِ خُلَيْدُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوِي، وَخُلَيْدٌ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَحَمَلَهُمْ فِي الْبَحْرِ إِلَى فَارِسَ بِغَيْرِ إِذْنِ عُمَرَ، فَعَبَرَتِ الْجُنُودُ مِنَ الْبَحْرَيْنِ إِلَى فَارِسَ، فَخَرَجُوا إِلَى إِصْطَخْرَ وَبِإِزَائِهِمْ أَهْلُ فَارِسَ وَعَلَيْهِمُ الْهِرْبِذُ، فَجَالَتِ الْفُرْسُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ سُفُنِهِمْ، فَقَامَ خُلَيْدٌ فِي النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَدْعُوكُمْ إِلَى حَرْبِهِمْ، وَإِنَّمَا جِئْتُمْ لِمُحَارَبَتِهِمْ، وَالسُّفُنُ وَالْأَرْضُ لِمَنْ غَلَبَ، {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ صَلَّوُا الظُّهْرَ ثُمَّ نَاهَدُوهُمْ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا

بِمَكَانٍ يُدْعَى طَاوُسَ فَقُتِلَ سَوَّارٌ وَالْجَارُودُ. وَكَانَ خُلَيْدٌ قَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُقَاتِلُوا رَجَّالَةً فَفَعَلُوا، فَقَتَلَ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، ثُمَّ خَرَجُوا يُرِيدُونَ الْبَصْرَةَ، وَلَمْ يَجِدُوا إِلَى الرُّجُوعِ فِي الْبَحْرِ سَبِيلًا، وَأَخَذَتِ الْفُرْسُ مِنْهُمْ طُرُقَهُمْ فَعَسْكَرُوا وَامْتَنَعُوا. وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ صَنِيعُ الْعَلَاءِ أَرْسَلَ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ يَأْمُرُهُ بِإِنْفَاذِ جُنْدٍ كَثِيفٍ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِفَارِسَ قَبْلَ أَنْ يَهْلَكُوا، وَقَالَ: فَإِنِّي قَدْ أُلْقِيَ فِي رُوعِي كَذَا وَكَذَا نَحْوَ الَّذِي كَانَ، وَأَمَرَ الْعَلَاءَ بِأَثْقَلِ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ، تَأْمِيرِ سَعْدٍ عَلَيْهِ. فَشَخَصَ الْعَلَاءُ إِلَى سَعْدٍ بِمَنْ مَعَهُ، وَأَرْسَلَ عُتْبَةُ جَيْشًا كَثِيفًا فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، فِيهِمْ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَرْفَجَةُ بْنُ هَرْثَمَةَ، وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ وَغَيْرُهُمْ، فَخَرَجُوا عَلَى الْبِغَالِ يُجْنِبُونَ الْخَيْلَ، وَعَلَيْهِمْ أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَسَارَ بِالنَّاسِ وَسَاحَلَ بِهِمْ، لَا يَعْرِضُ لَهُ أَحَدٌ حَتَّى الْتَقَى أَبُو سَبْرَةَ وَخُلَيْدٌ، بِحَيْثُ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الطَّرِيقُ عَقِيبَ وَقْعَةِ طَاوُسَ، وَإِنَّمَا كَانَ وَلِيَ قِتَالَهُمْ أَهْلُ إِصْطَخْرَ وَحْدَهُمْ، وَمَنْ شَذَّ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ أَهْلُ إِصْطَخْرَ حَيْثُ أَخَذُوا الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَجَمَعُوا أَهْلَ فَارِسَ عَلَيْهِمْ فَجَاءُوا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ فَالْتَقَوْا هُمْ وَأَبُو سَبْرَةَ بَعْدَ طَاوُسَ، وَقَدْ تَوَافَتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أَمْدَادُهُمْ، وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ سَهْرَكُ، فَاقْتَتَلُوا فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَتَلَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مَا شَاءُوا، وَهِيَ الْغَزْوَةُ الَّتِي شَرُفَتْ فِيهَا نَابِتَةُ الْبَصْرَةِ، وَكَانُوا أَفْضَلَ نَوَابِتِ الْأَمْصَارِ، ثُمَّ انْكَفَأُوا بِمَا أَصَابُوا، وَكَانَ عُتْبَةُ كَتَبَ إِلَيْهِمْ بِالْحَثِّ وَقِلَّةِ الْعُرْجَةِ، فَرَجَعُوا إِلَى الْبَصْرَةِ سَالِمِينَ. وَلَمَّا أَحْرَزَ عُتْبَةُ الْأَهْوَازَ وَأَوْطَأَ فَارِسَ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ فِي الْحَجِّ فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا قَضَى حَجَّهُ اسْتَعْفَاهُ فَأَبَى أَنْ يُعْفِيَهُ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ لَيَرْجِعَنَّ إِلَى عَمَلِهِ، فَدَعَا اللَّهَ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَمَاتَ فِي بَطْنِ نَخْلَةَ فَدُفِنَ، وَبَلَغَ عُمَرَ مَوْتُهُ، فَمَرَّ بِهِ زَائِرًا لِقَبْرِهِ وَقَالَ: أَنَا قَتَلْتُكَ لَوْلَا أَنَّهُ أَجَلٌ مَعْلُومٌ. وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا وَلَمْ يَخْتَطَّ فِيمَنِ اخْتَطَّ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَإِنَّمَا وَرِثَ وَلَدُهُ مَنْزِلَهُمْ مِنْ فَاخِتَةَ بِنْتِ غَزْوَانَ، وَكَانَتْ تَحْتَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَكَانَ حُبَابٌ مَوْلَاهُ قَدْ لَزِمَ شِيمَتَهُ فَلَمْ يَخْتَطَّ، وَمَاتَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ مُفَارَقَةِ سَعْدٍ، وَذَلِكَ

ذكر عزل المغيرة عن البصرة وولاية أبي موسى

بَعْدَ أَنِ اسْتَنْفَذَ الْجُنْدَ الَّذِينَ بِفَارِسَ وَنُزُولِهِمُ الْبَصْرَةَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى النَّاسِ أَبَا سَبْرَةَ بْنَ أَبِي رُهْمٍ بِالْبَصْرَةِ، فَأَقَرَّهُ عُمَرُ بَقِيَّةَ السَّنَةِ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَنْتَقِضْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا إِلَّا مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرَةَ. ثُمَّ اسْتَعْمَلَ أَبَا مُوسَى عَلَى الْبَصْرَةِ، ثُمَّ صُرِفَ إِلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَ عُمَرَ بْنَ سُرَاقَةَ، ثُمَّ صُرِفَ ابْنُ سُرَاقَةَ إِلَى الْكُوفَةِ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَصُرِفَ أَبُو مُوسَى مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَعَمِلَ عَلَيْهَا ثَانِيَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وِلَايَةِ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ الْبَصْرَةَ وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. [ذكر عَزْلِ الْمُغِيرَةِ عَنِ الْبَصْرَةِ وَوِلَايَةِ أَبِي مُوسَى] فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عُمَرُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ عَنِ الْبَصْرَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَبَا مُوسَى، وَأَمَرَهُ أَنْ يُشْخِصَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ ; قَالَهُ الْوَاقِدِيٌّ. وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرَةَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ مُنَافَرَةٌ، وَكَانَا مُتَجَاوِرَيْنِ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ، وَكَانَا فِي مَشْرَبَتَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُوَّةٌ مُقَابِلَةُ الْأُخْرَى، فَاجْتَمَعَ إِلَى أَبِي بَكْرَةَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي مَشْرَبَتِهِ، فَهَبَّتِ الرِّيحُ فَفَتَحَتْ بَابَ الْكُوَّةِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرَةَ لِيَسُدَّهُ، فَبَصُرَ بِالْمُغِيرَةِ وَقَدْ فَتَحَتِ الرِّيحُ بَابَ كُوَّةِ مَشْرَبَتِهِ، وَهُوَ بَيْنَ رِجْلَيِ امْرَأَةٍ، فَقَالَ لِلنَّفَرِ: قُومُوا فَانْظُرُوا. فَقَامُوا فَنَظَرُوا، وَهُمْ أَبُو بَكْرَةَ وَنَافِعُ بْنُ كَلَدَةَ وَزِيَادُ بْنُ أَبِيهِ، وَهُوَ أَخُو أَبِي بَكْرَةَ لِأُمِّهِ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ الْبَجَلِيُّ، فَقَالَ لَهُمْ: اشْهَدُوا، قَالُوا: وَمَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أَمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ الْأَفْقَمِ، وَكَانَتْ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَكَانَتْ تَغْشَى الْمُغِيرَةَ وَالْأُمَرَاءَ، وَكَانَ بَعْضُ النِّسَاءِ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ فِي زَمَانِهَا، فَلَمَّا قَامَتْ عَرَفُوهَا. فَلَمَّا خَرَجَ الْمُغِيرَةُ إِلَى الصَّلَاةِ مَنَعَهُ أَبُو بَكْرَةَ وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ، فَبَعَثَ عُمَرُ أَبَا مُوسَى أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَةِ وَأَمَرَهُ بِلُزُومِ السُّنَّةِ، فَقَالَ: أَعِنِّي بِعِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَالْمِلْحِ. قَالَ لَهُ: خُذْ مَنْ أَحْبَبْتَ. فَأَخَذَ مَعَهُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا، مِنْهُمْ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَهِشَامُ بْنُ عَامِرٍ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ فَقَدِمَ الْبَصْرَةَ، فَدَفَعَ الْكِتَابَ بِإِمَارَتِهِ إِلَى الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ أَوْجَزُ كِتَابٍ وَأَبْلَغُهُ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي نَبَأٌ عَظِيمٌ، فَبَعَثْتُ أَبَا مُوسَى أَمِيرًا، فَسَلِّمْ إِلَيْهِ مَا فِي يَدِكَ وَالْعَجَلَ. فَأَهْدَى إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ وَلِيدَةً تُسَمَّى عَقِيلَةَ. وَرَحَلَ الْمُغِيرَةُ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرَةَ وَالشُّهُودُ، فَقَدِمُوا عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ: سَلْ

ذكر الخبر عن فتح الأهواز ومناذر ونهر تيرى

هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدَ كَيْفَ رَأَوْنِي أَمُسْتَقْبِلُهُمْ أَمْ مُسْتَدْبِرُهُمْ، وَكَيْفَ رَأَوُا الْمَرْأَةَ أَوْ عَرَفُوهَا، فَإِنْ كَانُوا مُسْتَقْبِلِيَّ فَكَيْفَ لَمْ أَسْتَتِرْ، أَوْ مُسْتَدْبِرِيَّ فَبِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَحَلُّوا النَّظَرَ إِلَيَّ فِي مَنْزِلِي عَلَى امْرَأَتِي؟ وَاللَّهِ مَا أَتَيْتُ إِلَّا امْرَأَتِي! وَكَانَتْ تُشْبِهُهَا. فَشَهِدَ أَبُو بَكْرَةَ أَنَّهُ رَآهُ عَلَى أُمِّ جَمِيلٍ يُدْخِلُهُ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَأَنَّهُ رَآهُمَا مُسْتَدْبِرَيْنِ، وَشَهِدَ شِبْلٌ وَنَافِعٌ مِثْلَ ذَلِكَ. وَأَمَّا زِيَادٌ فَإِنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُهُ جَالِسًا بَيْنَ رِجْلَيِ امْرَأَةٍ، فَرَأَيْتُ قَدَمَيْنِ مَخْضُوبَتَيْنِ تَخْفِقَانِ، وَاسْتَيْنِ مَكْشُوفَتَيْنِ وَسَمِعْتُ حَفْزًا شَدِيدًا. قَالَ: هَلْ رَأَيْتَ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ الْمَرْأَةَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ أُشَبِّهُهَا. قَالَ: فَتَنَحَّ. وَأَمَرَ بِالثَّلَاثَةِ فَجُلِدُوا الْحَدَّ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: اشْفِنِي مِنَ الْأَعْبُدِ. قَالَ: اسْكُتْ أَسْكَتَ اللَّهُ نَأْمَتَكَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ تَمَّتِ الشَّهَادَةُ لَرَجَمْتُكَ بِأَحْجَارِكَ! [ذكر الْخَبَرِ عَنْ فَتْحِ الْأَهْوَازِ وَمَنَاذِرَ وَنَهْرِ تِيرَى] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتِ الْأَهْوَازُ وَمَنَاذِرُ وَنَهْرُ تِيرَى، وَقِيلَ: كَانَتْ سِتَ عَشْرَةَ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي هَذَا الْفَتْحِ أَنَّهُ لَمَّا انْهَزَمَ الْهُرْمُزَانُ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْبُيُوتَاتِ السَّبْعَةِ فِي أَهْلِ فَارِسَ، وَكَانَتْ أُمَّتَهُ مِنْهُمْ مِهْرَجَانْقَذَقَ وَكُوَرَ الْأَهْوَازِ، فَلَمَّا انْهَزَمَ قَصَدَ خُوزِسْتَانَ فَمَلَكَهَا وَقَاتَلَ بِهَا مَنْ أَرَادَهُمْ، فَكَانَ الْهُرْمُزَانُ يُغِيرُ عَلَى أَهْلِ مَيْسَانَ وَدَسْتِمَيْسَانَ مِنْ مَنَاذِرَ وَنَهْرِ تِيرَى. فَاسْتَمَدَّ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ سَعْدًا فَأَمَدَّهُ بِنُعَيْمِ بْنِ مُقَرِّنٍ وَنُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَأْتِيَا أَعْلَى مَيْسَانَ وَدَسْتِمَيْسَانَ حَتَّى يَكُونَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نَهْرِ تِيرَى، وَوَجَّهَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ سُلْمَى بْنَ الْقَيْنِ وَحَرْمَلَةَ بْنَ مُرَيْطَةَ، وَكَانَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمَا مِنْ بَنِي الْعَدَوِيَّةِ مِنْ بَنِي حَنْظَلَةَ، فَنَزَلَا عَلَى حُدُودِ مَيْسَانَ وَدَسْتِمَيْسَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنَاذِرَ، وَدَعَوْا بَنِي الْعَمِّ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ غَالِبٌ الْوَائِلِيُّ وَكُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ الْكُلَيْبِيُّ،

فَتَرَكَا نُعَيْمًا وَنُعَيْمًا وَأَتَيَا سُلْمَى وَحَرْمَلَةَ وَقَالَا: أَنْتُمَا مِنَ الْعَشِيرَةِ وَلَيْسَ لَكُمَا مَنْزِلٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ كَذَا وَكَذَا فَانْهَدَا لِلْهُرْمُزَانِ، فَإِنَّ أَحَدَنَا يَثُورُ بِمَنَاذِرَ، وَالْآخَرَ بِنَهْرِ تِيرَى، فَنَقْتُلُ الْمُقَاتِلَةَ، ثُمَّ يَكُونُ وَجْهُنَا إِلَيْكُمْ، فَلَيْسَ دُونَ الْهُرْمُزَانِ شَيْءٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَرَجَعَا وَقَدِ اسْتَجَابَا، وَاسْتَجَابَ قَوْمُهُمَا بَنُو الْعَمِّ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانُوا يَنْزِلُونَ خُوزِسْتَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَأَهْلُ الْبِلَادِ يَأْمَنُونَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةُ لَيْلَةَ الْمَوْعِدِ بَيْنَ سُلْمَى وَحَرْمَلَةَ وَغَالِبٍ وَكُلَيْبٍ، وَكَانَ الْهُرْمُزَانُ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ نَهْرِ تِيرَى وَبَيْنَ دُلُثَ، وَخَرَجَ سُلْمَى وَحَرْمَلَةُ صَبِيحَتَهُمَا فِي تَعْبِئَةٍ وَأَنْهَضَا نُعَيْمًا وَمَنْ مَعَهُ، فَالْتَقَوْا هُمْ وَالْهُرْمُزَانُ بَيْنَ دُلُثَ وَنَهْرِ تِيرَى، وَسُلْمَى بْنُ الْقَيْنِ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَنُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَاقْتَتَلُوا. فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ أَقْبَلَ مَدَدٌ مِنْ قِبَلِ غَالِبٍ وَكُلَيْبٍ، وَأَتَى الْهُرْمُزَانَ الْخَبَرُ بِأَنَّ مَنَاذِرَ نَهْرِ تِيرَى قَدْ أُخِذُوا، فَكَسَرَ ذَلِكَ قَلْبَ الْهُرْمُزَانِ وَمَنْ مَعَهُ، وَهَزَمَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ، فَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مَا شَاءُوا وَأَصَابُوا مَا شَاءُوا، وَاتَّبَعُوهُمْ حَتَّى وَقَفُوا عَلَى شَاطِئِ دُجَيْلٍ، وَأَخَذُوا مَا دُونَهُ وَعَسْكَرُوا بِحِيَالِ سُوقِ الْأَهْوَازِ، وَعَبَرَ الْهُرْمُزَانُ جِسْرَ سُوقِ الْأَهْوَازِ وَأَقَامَ، وَصَارَ دُجَيْلٌ بَيْنَ الْهُرْمُزَانِ وَالْمُسْلِمِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْهُرْمُزَانُ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ طَلَبَ الصُّلْحَ، فَاسْتَأْمَرُوا عُتْبَةَ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ عَلَى الْأَهْوَازِ كُلِّهَا وَمِهْرَجَانَقَذَقَ، مَا خَلَا نَهْرَ تِيرَى وَمَنَاذِرَ، وَمَا غَلَبُوا عَلَيْهِ مِنْ سُوقِ الْأَهْوَازِ فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ سُلْمَى عَلَى مَنَاذِرَ مَسْلَحَةً وَأَمْرُهَا إِلَى غَالِبٍ، وَحَرْمَلَةَ عَلَى نَهْرِ تِيرَى وَأَمْرُهَا إِلَى كُلَيْبٍ، فَكَانَا عَلَى مَسَالِحِ الْبَصْرَةِ. وَهَاجَرَتْ طَوَائِفُ مِنْ بَنِي الْعَمِّ فَنَزَلُوا الْبَصْرَةَ. وَوَفَّدَ عُتْبَةُ وَفْدًا إِلَى عُمَرَ، مِنْهُمْ: سُلْمَى وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَأَمَرَهُمْ عُمَرُ أَنْ يَرْفَعُوا حَوَائِجَهُمْ، فَكَلَّمَهُمْ قَالَ: أَمَّا الْعَامَّةُ فَأَنْتَ صَاحَبُهَا، وَطَلَبُوا لِأَنْفُسِهِمْ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ كَمَا ذَكَرُوا، وَلَقَدْ يَعْزُبُ عَنْكَ مَا يَحِقُّ عَلَيْنَا إِنْهَاؤُهُ إِلَيْكَ مِمَّا فِيهِ صَلَاحُ الْعَامَّةِ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ الْوَالِي فِيمَا غَابَ عَنْهُ بِأَعْيُنِ أَهْلِ الْخَبَرِ وَيَسْمَعُ بِآذَانِهِمْ، فَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ نَزَلُوا فِي مِثْلِ حَدَقَةِ الْبَعِيرِ الْغَاسِقَةِ مِنَ الْعُيُونِ الْعِذَابِ وَالْجِنَانِ الْخِصَابِ فَتَأْتِيهِمْ ثِمَارُهُمْ وَلَمْ يَحْصُدُوا، وَإِنَّا مَعْشَرَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ نَزَلْنَا سَبَخَةً وَزَعَقَّةً نَشَّاشَةً، طَرَفٌ لَهَا فِي الْفَلَاةِ وَطَرَفٌ لَهَا فِي الْبَحْرِ

ذكر صلح الهرمزان وأهل تستر مع المسلمين

الْأُجَاجِ، يَجْرِي إِلَيْهَا مَا جَرَى فِي مِثْلِ مَرِيءِ النَّعَامَةِ، دَارُنَا فَعْمَةٌ، وَوَظِيفَتُنَا ضَيِّقَةٌ، وَعَدَدُنَا كَثِيرٌ، وَأَشْرَافُنَا قَلِيلٌ، وَأَهْلُ الْبَلَاءِ فِينَا كَثِيرٌ، وَدِرْهَمُنَا كَبِيرٌ، وَقَفِيزُنَا صَغِيرٌ، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَزَادَنَا فِي أَرْضِنَا، فَوَسِّعْ عَلَيْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَزِدْنَا وَظِيفَةً تُوَظَّفُ عَلَيْنَا وَنَعِيشُ بِهَا. فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ قَوْلَهُ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَقْطَعَهُمْ مِمَّا كَانَ فَيْئًا لِأَهْلِ كِسْرَى وَزَادَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْفَتَى سَيِّدُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَكَتَبَ إِلَى عُتْبَةَ فِيهِ بِأَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ وَيَرْجِعَ إِلَى رَأْيِهِ، وَرَدَّهُمْ إِلَى بَلَدِهِمْ. وَبَيْنَا النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ ذِمَّتِهِمْ مَعَ الْهُرْمُزَانِ، وَقَعَ بَيْنَ الْهُرْمُزَانِ وَغَالِبٍ وَكُلَيْبٍ فِي حُدُودِ الْأَرَضِينَ اخْتِلَافٌ، فَحَضَرَ سُلْمَى وَحَرْمَلَةُ لِيَنْظُرَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَوَجَدَا غَالِبًا وَكُلَيْبًا مُحِقَّيْنِ وَالْهُرْمُزَانَ مُبْطِلًا، فَحَالَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ، فَكَفَرَ الْهُرْمُزَانُ وَمَنَعَ مَا قِبَلَهُ، وَاسْتَعَانَ بِالْأَكْرَادِ وَكَفَّ جُنْدَهُ، وَكَتَبَ سُلْمَى وَمَنْ مَعَهُ إِلَى عُتْبَةَ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ عُتْبَةُ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ يَأْمُرُهُ بِقَصْدِهِ، وَأَمَدَّ الْمُسْلِمِينَ بِحُرْقُوصِ بْنِ زُهَيْرٍ السَّعْدِيِّ، كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّرَهُ عَلَى الْقِتَالِ وَعَلَى مَا غَلَبَ عَلَيْهِ. وَسَارَ الْهُرْمُزَانُ وَمَنْ مَعَهُ، وَسَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى جِسْرِ سُوقِ الْأَهْوَازِ وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ: إِمَّا أَنْ تَعْبُرَ إِلَيْنَا أَوْ نَعْبُرَ إِلَيْكُمْ. فَقَالَ: اعْبُرُوا إِلَيْنَا، فَعَبَرُوا فَوْقَ الْجِسْرِ فَاقْتَتَلُوا مِمَّا يَلِي سُوقَ الْأَهْوَازِ، فَانْهَزَمَ الْهُرْمُزَانُ وَسَارَ إِلَى رَامَهُرْمُزَ، وَفَتَحَ حُرْقُوصٌ سُوقَ الْأَهْوَازِ، وَنَزَلَ بِهَا وَاتَّسَعَتْ لَهُ بِلَادُهَا إِلَى تُسْتَرَ، وَوَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَكَتَبَ بِالْفَتْحِ إِلَى عُمَرَ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْأَخْمَاسَ. [ذكر صُلْحِ الْهُرْمُزَانِ وَأَهْلِ تُسْتَرَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتْ تُسْتَرُ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ. قِيلَ: وَلَمَّا انْهَزَمَ الْهُرْمُزَانُ يَوْمَ سُوقِ الْأَهْوَازِ وَافْتَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ بَعَثَ حُرْقُوصٌ جَزَءَ بْنَ مُعَاوِيَةَ فِي أَثَرِهِ بِأَمْرِ عُمَرَ إِلَى سُوقِ الْأَهْوَازِ، فَمَا زَالَ يَقْتُلُهُمْ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَرْيَةِ الشَّغَرِ وَيُعْجِزُهُ الْهُرْمُزَانُ، فَمَالَ جَزَءٌ إِلَى دَوْرَقَ، وَهِيَ مَدِينَةُ سُرَّقَ، فَأَخَذَهَا

ذكر فتح رامهرمز وتستر وأسر الهرمزان

صَافِيَةً، وَدَعَا مَنْ هَرَبَ إِلَى الْجِزْيَةِ، فَأَجَابُوهُ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ وَعُتْبَةَ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى حُرْقُوصٍ وَإِلَيْهِ بِالْمُقَامِ فِيمَا غَلَبَا عَلَيْهِ، حَتَّى يَأْمُرَهُمَا بِأَمْرِهِ، فَعَمَرَ جَزَءٌ الْبِلَادَ، وَشَقَّ الْأَنْهَارَ وَأَحْيَا الْمَوَاتَ. وَرَاسَلَهُمُ الْهُرْمُزَانُ يَطْلُبُ الصُّلْحَ، فَأَجَابَ عُمَرُ إِلَى ذَلِكَ وَأَنْ يَكُونَ مَا أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ، وَأَقَامَ الْهُرْمُزَانُ وَالْمُسْلِمُونَ يَمْنَعُونَهُ إِذَا قَصَدَهُ الْأَكْرَادُ وَيَجِيءُ إِلَيْهِمْ. وَنَزَلَ حُرْقُوصٌ جَبَلَ الْأَهْوَازِ، وَكَانَ يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ الِاخْتِلَافُ إِلَيْهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِنُزُولِ السَّهْلِ، وَأَنْ لَا يَشُقَّ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا مُعَاهَدٍ وَلَا تُدْرِكْكَ فَتْرَةٌ وَلَا عَجَلَةٌ، فَتُكَدِّرَ دُنْيَاكَ وَتُذْهِبَ آخِرَتَكَ. وَبَقِيَ حُرْقُوصٌ إِلَى يَوْمِ صِفِّينَ، وَصَارَ حَرُورِيًّا وَشَهِدَ النَّهْرَوَانَ مَعَ الْخَوَارِجِ. [ذكر فَتْحِ رَامَهُرْمُزَ وَتُسْتَرَ وَأَسْرِ الْهُرْمُزَانِ] قِيلَ: كَانَ فَتْحُ رَامَهُرْمُزَ وَتُسْتَرَ وَالسُّوسَ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ عِشْرِينَ. وَكَانَ سَبَبُ فَتْحِهَا أَنْ يَزْدَجِرْدَ لَمْ يَزَلْ وَهُوَ بِمُرْوٍ يُثِيرُ أَهْلَ فَارِسَ أَسَفًا عَلَى مَا خَرَجَ مِنْ مُلْكِهِمْ، فَتَحَرَّكُوا وَتَكَاتَبُوا هُمْ وَأَهْلُ الْأَهْوَازِ، وَتَعَاقَدُوا عَلَى النُّصْرَةِ، فَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ حُرْقُوصَ بْنَ زُهَيْرٍ وَجَزَءًا وَسُلْمَى وَحَرْمَلَةَ، فَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ بِالْخَبَرِ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ: أَنِ ابْعَثْ إِلَى الْأَهْوَازِ جُنْدًا كَثِيفًا مَعَ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، وَعَجِّلْ فَلْيَنْزِلُوا بِإِزَاءِ الْهُرْمُزَانِ وَيَتَحَقَّقُوا أَمْرَهُ. وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى: أَنِ ابْعَثْ إِلَى الْأَهْوَازِ جُنْدًا كَثِيفًا، وَأَمِّرْ عَلَيْهِمْ سَهْلَ بْنَ عَدِيٍّ أَخَا سُهَيْلٍ، وَابْعَثْ مَعَهُ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ وَمَجْزَأَةَ بْنَ ثَوْرٍ وَعَرْفَجَةَ بْنَ هَرْثَمَةَ وَغَيْرَهُمْ، وَعَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ جَمِيعًا أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ. فَخَرَجَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ فَسَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ عَلَى الْبِغَالِ يُجَنِّبُونَ الْخَيْلَ، فَخَلَّفَ حُرْقُوصًا وَسُلْمَى وَحَرْمَلَةَ وَسَارَ نَحْوَ الْهُرْمُزَانِ، وَهُوَ بِرَامَهُرْمُزَ. فَلَمَّا سَمِعَ الْهُرْمُزَانُ بِمَسِيرِ النُّعْمَانِ إِلَيْهِ بَادَرَهُ الشِّدَّةَ وَرَجَا أَنْ يَقْتَطِعَهُ وَمَعَهُ أَهْلُ فَارِسَ، فَالْتَقَى

النُّعْمَانُ وَالْهُرْمُزَانُ بِأَرْبُكَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - هَزَمَ الْهُرْمُزَانَ، فَتَرَكَ رَامَهُرْمُزَ وَلَحِقَ بِتُسْتَرَ، وَسَارَ النُّعْمَانُ إِلَى رَامَهُرْمُزَ وَنَزَلَهَا وَصَعِدَ إِلَى إِيذَجَ، فَصَالَحَهُ تِيرَوَيْهِ عَلَى إِيذَجَ، وَرَجَعَ إِلَى رَامَهُرْمُزَ فَأَقَامَ بِهَا. وَوَصَلَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَنَزَلُوا سُوقَ الْأَهْوَازِ، وَهُمْ يُرِيدُونَ رَامَهُرْمُزَ، فَأَتَاهُمْ خَبَرُ الْوَقْعَةِ وَهُمْ بِسُوقِ الْأَهْوَازِ، وَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ أَنَّ الْهُرْمُزَانَ قَدْ لَحِقَ بِتُسْتَرَ، فَسَارُوا نَحْوَهُ، وَسَارَ النُّعْمَانُ أَيْضًا، وَسَارَ حُرْقُوصٌ وَسُلْمَى وَحَرْمَلَةُ وَجَزَءٌ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى تُسْتَرَ وَبِهَا الْهُرْمُزَانُ وَجُنُودُهُ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ وَالْجِبَالِ وَالْأَهْوَازِ فِي الْخَنَادِقِ، وَأَمَدَّهُمْ عُمَرُ بِأَبِي مُوسَى، وَجَعَلَهُ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَعَلَى الْجَمِيعِ أَبُو سَبْرَةَ، فَحَاصَرُوهُمْ أَشْهُرًا وَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الْقَتْلَ، وَقَتَلَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ أَخُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فِي ذَلِكَ الْحِصَارِ إِلَى الْفَتْحِ مِائَةً مُبَارَزَةً، سِوَى مَنْ قَتَلَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَتَلَ مِثْلَهُ مَجْزَأَةُ بْنُ ثَوْرٍ وَكَعْبُ بْنُ ثَوْرٍ وَعِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ، وَزَاحَفَهُمُ الْمُشْرِكُونَ أَيَّامَ تُسْتَرَ ثَمَانِينَ زَحْفًا، يَكُونُ لَهُمْ مَرَّةً، وَمَرَّةً عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ زَحْفٍ مِنْهَا وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا بَرَاءُ أَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ لَيَهْزِمَنَّهُمْ لَنَا. قَالَ: اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ لَنَا وَاسْتَشْهِدْنِي، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، فَهَزَمُوهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ خَنَادِقَهُمْ ثُمَّ اقْتَحَمُوهَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ دَخَلُوا مَدِينَتَهُمْ وَأَحَاطَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ضَاقَتِ الْمَدِينَةُ بِهِمْ وَطَالَتْ حَرْبُهُمْ، خَرَجَ رَجُلٌ إِلَى النُّعْمَانِ يَسْتَأْمِنُهُ، عَلَى أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَدْخَلٍ يَدْخُلُونَ مِنْهُ، وَرَمَى فِي نَاحِيَةِ أَبِي مُوسَى بِسَهْمٍ: إِنْ آمَنْتُمُونِي دَلَلْتُكُمْ عَلَى مَكَانٍ تَأْتُونَ الْمَدِينَةَ مِنْهُ. فَآمَنُوهُ فِي نُشَّابَةٍ. فَرَمَى إِلَيْهِمْ بِأُخْرَى وَقَالَ: انْهَدُوا مِنْ قِبَلِ مَخْرَجِ الْمَاءِ فَإِنَّكُمْ تَقْتَحِمُونَهَا. فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَيْهِ، فَانْتُدِبَ لَهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ وَبَشَرٌ كَثِيرٌ وَنَهَدُوا لِذَلِكَ الْمَكَانِ لَيْلًا، وَقَدْ نَدَبَ النُّعْمَانُ أَصْحَابَهُ لِيَسِيرُوا مَعَ الرَّجُلِ الَّذِي يَدُلُّهُمْ عَلَى الْمَدْخَلِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَانْتُدِبَ لَهُ بَشَرٌ كَثِيرٌ، فَالْتَقَوْا هُمْ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَخْرَجِ، فَدَخَلُوا فِي السَّرَبِ وَالنَّاسُ مِنْ خَارِجٍ. فَلَمَّا دَخَلُوا الْمَدِينَةَ كَبَّرُوا فِيهَا وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ خَارِجٍ، وَفُتِحَتِ الْأَبْوَابُ، فَاجْتَلَدُوا فِيهَا فَأَنَامُوا كُلَّ مُقَاتِلٍ، وَقَصَدَ الْهُرْمُزَانُ الْقَلْعَةَ فَتَحَصَّنَ بِهَا، وَأَطَافَ بِهِ الَّذِينَ دَخَلُوا، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ عَلَى حُكْمِ عُمَرَ، فَأَوْثَقُوهُ وَاقْتَسَمُوا مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ سَهْمُ الْفَارِسِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَسَهْمُ الرَّاجِلِ أَلْفًا. وَجَاءَ صَاحِبُ الرَّمْيَةِ وَالرَّجُلُ الَّذِي خَرَجَ بِنَفْسِهِ فَأَمَّنُوهُمَا وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ مَعَهُمَا.

وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَمِمَّنْ قَتَلَ الْهُرْمُزَانَ بِنَفْسِهِ مَجْزَأَةُ بْنُ ثَوْرٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ. وَخَرَجَ أَبُو سَبْرَةَ بِنَفْسِهِ فِي أَثَرِ الْمُنْهَزِمِينَ إِلَى السُّوسِ، وَنَزَلَ عَلَيْهَا وَمَعَهُ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ وَأَبُو مُوسَى، وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى بِرَدِّهِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَهِيَ الْمَرَّةُ الثَّالِثَةُ، فَانْصَرَفَ إِلَيْهَا مِنْ عَلَى السُّوسِ. وَسَارَ زِرُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كُلَيْبٍ الْفُقَيْمِيُّ إِلَى جُنْدَيْسَابُورَ فَنَزَلَ عَلَيْهَا، وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّرَ عُمَرُ عَلَى جُنْدِ الْبَصْرَةِ الْمُقْتَرِبَ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ رَبِيعَةَ أَحَدُ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ أَيْضًا، وَكَانَا مُهَاجِرَيْنِ، وَكَانَ الْأَسْوَدُ قَدْ وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: جِئْتُ لِأَقْتَرِبَ إِلَى اللَّهِ بِصُحْبَتِكَ، فَسَمَّاهُ الْمُقْتَرِبَ. وَأَرْسَلَ أَبُو سَبْرَةَ وَفْدًا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فِيهِمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ وَمَعَهُمُ الْهُرْمُزَانُ، فَقَدِمُوا بِهِ الْمَدِينَةَ وَأَلْبَسُوهُ كِسْوَتَهُ مِنَ الدِّيبَاجِ الَّذِي فِيهِ الذَّهَبُ وَتَاجَهُ، وَكَانَ مُكَلَّلًا بِالْيَاقُوتِ، وَحِلْيَتَهُ لِيَرَاهُ عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ، فَطَلَبُوا عُمَرَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَسَأَلُوا عَنْهُ فَقِيلَ: جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ لِوَفْدٍ مِنَ الْكُوفَةِ، فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِدِ مُتَوَسِّدًا بُرْنُسَهُ، وَكَانَ قَدْ لَبِسَهُ لِلْوَفْدِ، فَلَمَّا قَامُوا عَنْهُ تَوَسَّدَهُ وَنَامَ، فَجَلَسُوا دُونَهُ وَهُوَ نَائِمٌ وَالدُّرَّةُ فِي يَدِهِ، فَقَالَ الْهُرْمُزَانُ: أَيْنَ عُمَرُ؟ قَالُوا: هُوَ ذَا. فَقَالَ: أَيْنَ حَرَسُهُ وَحُجَّابُهُ؟ قَالُوا: لَيْسَ لَهُ حَارِسٌ وَلَا حَاجِبٌ وَلَا كَاتِبٌ. قَالَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا. قَالُوا: بَلْ يَعْمَلُ بِعَمَلِ الْأَنْبِيَاءِ. فَاسْتَيْقَظَ عُمَرُ بِجَلَبَةِ النَّاسِ فَاسْتَوَى جَالِسًا ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْهُرْمُزَانِ، فَقَالَ: الْهُرْمُزَانُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذَلَّ بِالْإِسْلَامِ هَذَا وَغَيْرَهُ أَشْبَاهَهُ! فَأَمَرَ بِنَزْعِ مَا عَلَيْهِ، فَنَزَعُوهُ وَأَلْبَسُوهُ ثَوْبًا صَفِيقًا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا هُرْمُزَانُ، كَيْفَ رَأَيْتَ عَاقِبَةَ الْغَدْرِ وَعَاقِبَةَ أَمْرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: يَا عُمَرُ، إِنَّا وَإِيَّاكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ اللَّهُ قَدْ خَلَّى بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَغَلَبْنَاكُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ مَعَكُمْ غَلَبْتُمُونَا. ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا حُجَّتُكَ وَمَا عُذْرُكَ فِي انْتِقَاضِكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى؟ فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ تَقْتُلَنِي قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَكَ. قَالَ: لَا تَخَفْ ذَلِكَ. وَاسْتَسْقَى مَاءً فَأُتِيَ بِهِ فِي قَدَحٍ غَلِيظٍ، فَقَالَ: لَوْ مِتُّ عَطَشًا لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَشْرَبَ فِي مِثْلِ هَذَا! فَأُتِيَ بِهِ فِي إِنَاءٍ يَرْضَاهُ، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أُقْتَلَ وَأَنَا أَشْرَبُ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ حَتَّى تَشْرَبَهُ. فَأَكْفَأَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَعِيدُوا عَلَيْهِ وَلَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْعَطَشِ. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي الْمَاءِ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَأْمِنَ بِهِ. فَقَالَ عُمَرُ لَهُ: إِنِّي قَاتِلُكَ. فَقَالَ: قَدْ آمَنْتَنِي. فَقَالَ: كَذَبْتَ. قَالَ أَنَسٌ: صَدَقَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ آمَنْتَهُ. قَالَ عُمَرُ: يَا أَنَسُ، أَنَا أُؤَمِّنُ قَاتِلَ مَجْزَأَةَ بْنِ ثَوْر وَالْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ! وَاللَّهِ لَتَأْتِيَنَّ بِمَخْرَجٍ أَوْ لَأُعَاقِبَنَّكَ. قَالَ: قُلْتَ لَهُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ حَتَّى تُخْبِرَنِي وَلَا بَأْسَ عَلَيْكَ حَتَّى تَشْرَبَهُ. وَقَالَ لَهُ مَنْ حَوْلَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ عَلَى

ذكر فتح السوس

الْهُرْمُزَانِ وَقَالَ: خَدَعْتَنِي، وَاللَّهِ لَا أَنْخَدِعُ إِلَّا أَنْ تُسْلِمَ. فَأَسْلَمَ، فَفَرَضَ لَهُ فِي أَلْفَيْنِ وَأَنْزَلَهُ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ الْمُتَرْجِمُ بَيْنَهُمَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، وَكَانَ يَفْقَهُ شَيْئًا مِنَ الْفَارِسِيَّةِ، إِلَى أَنْ جَاءَ الْمُتَرْجِمُ. وَقَالَ عُمَرُ لِلْوَفْدِ: لَعَلَّ الْمُسْلِمِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ فَلِهَذَا يَنْتَقِضُونَ بِكُمْ؟ قَالُوا: مَا نَعْلَمُ إِلَّا وَفَاءً. قَالَ: فَكَيْفَ هَذَا؟ فَلَمْ يُشْفِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، إِلَّا أَنَّ الْأَحْنَفَ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ نَهَيْتَنَا عَنِ الِانْسِيَاحِ فِي الْبِلَادِ، وَإِنَّ مَلِكَ فَارِسَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَنَا مَا دَامَ مَلِكُهُمْ فِيهِمْ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ مَلِكَانِ مُتَّفِقَانِ حَتَّى يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَقَدْ رَأَيْتَ أَنَّا لَمْ نَأْخُذْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إِلَّا بِانْبِعَاثِهِمْ وَغَدْرِهِمْ، وَأَنَّ مَلِكَهُمْ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُهُمْ، وَلَا يَزَالُ هَذَا دَأْبَهُمْ حَتَّى تَأْذَنَ لَنَا بِالِانْسِيَاحِ فَنَسِيحَ فِي بِلَادِهِمْ وَنُزِيلَ مُلْكَهُمْ، فَهُنَالِكَ يَنْقَطِعُ رَجَاءُ أَهْلِ فَارِسَ. فَقَالَ: صَدَقْتَنِي وَاللَّهِ! وَنَظَرَ فِي حَوَائِجِهِمْ وَسَرَّحَهُمْ، وَأَتَى عُمَرَ الْكِتَابُ بِاجْتِمَاعِ أَهْلِ نَهَاوَنْدَ، فَأَذِنَ فِي الِانْسِيَاحِ فِي بِلَادِ الْفُرْسِ. (وَقُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ شَهِيدًا عَلَى تُسْتَرَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ) . (أَرْبُكُ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي آخِرِهِ كَافٌ، مَوْضِعٌ عِنْدَ الْأَهْوَازِ. [ذكر فَتْحِ السُّوسِ] قِيلَ: وَلَمَّا نَزَلَ أَبُو سَبْرَةَ عَلَى السُّوسِ، وَبِهَا شَهْرَيَارُ أَخُو الْهُرْمُزَانِ أَحَاطَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا وَنَاوَشُوهُمُ الْقِتَالَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يُصِيبُ أَهْلُ السُّوسِ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمُ الرُّهْبَانُ وَالْقِسِّيسُونَ فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ إِنْ مِمَّا عَهِدَ إِلَيْنَا عُلَمَاؤُنَا أَنَّهُ لَا يَفْتَحُ السُّوسَ إِلَّا الدَّجَّالُ أَوْ قَوْمٌ فِيهِمُ الدَّجَّالُ، فَإِنْ كَانَ فِيكُمْ فَسَتَفْتَحُونَهَا. وَسَارَ أَبُو مُوسَى إِلَى الْبَصْرَةِ مِنَ السُّوسِ، وَصَارَ مَكَانَهُ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِالسُّوسِ الْمُقْتَرِبُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَاجْتَمَعَ الْأَعَاجِمُ بِنَهَاوَنْدَ، وَالنُّعْمَانُ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ مُحَاصِرًا أَهْلَ

السُّوسِ مَعَ أَبِي سَبْرَةَ، وَزِرٌّ مُحَاصِرًا أَهْلَ جُنْدَيْسَابُورَ. فَجَاءَ كِتَابُ عُمَرَ بِصَرْفِ النُّعْمَانِ إِلَى أَهْلِ نَهَاوَنْدَ مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ، فَنَاوَشَهُمُ الْقِتَالَ قَبْلَ مَسِيرِهِ، فَصَاحَ أَهْلُهَا بِالْمُسْلِمِينَ وَنَاوَشُوهُمْ وَغَاظُوهُمْ، وَكَانَ صَافِي بْنُ صَيَّادٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي خَيْلِ النُّعْمَانِ، فَأَتَى صَافِي بَابَ السُّوسِ فَدَقَّهُ بِرِجْلِهِ فَقَالَ: انْفَتِحْ بَظَارَ! وَهُوَ غَضْبَانُ، فَتَقَطَّعَتِ السَّلَاسِلُ وَتَكَسَّرَتِ الْأَغْلَاقُ وَتَفَتَّحَتِ الْأَبْوَابُ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَلْقَى الْمُشْرِكُونَ بِأَيْدِيهِمْ وَنَادَوْا: الصُّلْحَ الصُّلْحَ. فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَمَا دَخَلُوهَا عَنْوَةً، وَاقْتَسَمُوا مَا أَصَابُوا. ثُمَّ افْتَرَقُوا فَسَارَ النُّعْمَانُ حَتَّى أَتَى نَهَاوَنْدَ، وَسَارَ الْمُقْتَرِبُ حَتَّى نَزَلَ عَلَى جُنْدَيْسَابُورَ مَعَ زِرٍّ. وَقِيلَ لِأَبِي سَبْرَةَ: هَذَا جَسَدُ دَانْيَالَ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ. قَالَ: وَمَا عَلَيَّ بِذَلِكَ! فَأَقَرَّهُ فِي أَيْدِيهِمْ. وَكَانَ دَانْيَالُ قَدْ لَزِمَ نَوَاحِيَ فَارِسَ بَعْدَ بُخْتِ نَصَّرَ. فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَلَمْ يَرَ أَحَدًا عَلَى الْإِسْلَامِ أَكْرَمَ كِتَابَ اللَّهِ عَمَّنْ لَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ لِابْنِهِ: ائْتِ سَاحِلَ الْبَحْرِ فَاقْذِفْ بِهَذَا الْكِتَابِ فِيهِ، فَأَخَذَهُ الْغُلَامُ وَغَابَ عَنْهُ وَعَادَ وَقَالَ لَهُ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: مَا صَنَعَ الْبَحْرُ؟ قَالَ: مَا صَنَعَ شَيْئًا. فَغَضِبَ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا فَعَلْتَ الَّذِي أَمَرْتُكَ بِهِ! فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَفَعَلَ فِعْلَتَهُ الْأُولَى. فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَ الْبَحْرَ صَنَعَ؟ قَالَ: مَاجَ وَاصْطَفَقَ. فَغَضِبَ أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا فَعَلْتَ الَّذِي أَمَرْتُكَ بِهِ. فَعَادَ إِلَى الْبَحْرِ وَأَلْقَاهُ فِيهِ، فَانْفَلَقَ الْبَحْرُ عَنِ الْأَرْضِ وَانْفَجَرَتْ لَهُ الْأَرْضُ عَنْ مِثْلِ التَّنُّورِ، فَهَوَى فِيهَا ثُمَّ انْطَبَقَتْ عَلَيْهِ وَاخْتَلَطَ الْمَاءُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا رَأَى قَالَ: الْآنَ صَدَقْتَ. وَمَاتَ دَانْيَالُ بِالسُّوسِ، وَكَانَ هُنَاكَ يُسْتَسْقَى بِجَسَدِهِ، فَاسْتَأْذَنُوا عُمَرَ فِيهِ فَأَمَرَ بِدَفْنِهِ. وَقِيلَ فِي أَمْرِ السُّوسِ: إِنَّ يَزْدَجِرْدَ سَارَ بَعْدَ وَقْعَةِ جَلُولَاءَ فَنَزَلَ إِصْطَخْرَ وَمَعَهُ سَيَاهُ فِي سَبْعِينَ مِنْ عُظَمَاءِ الْفُرْسِ، فَوَجَّهَهُ إِلَى السُّوسِ وَالْهُرْمُزَانَ إِلَى تُسْتَرَ، فَنَزَلَ سِيَاهُ الْكَلْتَانِيَّةَ، وَبَلَغَ أَهْلَ السُّوسِ أَمْرُ جَلُولَاءَ وَنُزُولُ يَزْدَجِرْدَ إِصْطَخْرَ، فَسَأَلُوا أَبَا مُوسَى

الصُّلْحَ، وَكَانَ مُحَاصِرًا لَهُمْ، فَصَالَحَهُمْ وَسَارَ إِلَى رَامَهُرْمُزَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى تُسْتَرَ، وَنَزَلَ سِيَاهُ بَيْنَ رَامَهُرْمُزَ وَتُسْتَرَ، وَدَعَا مَنْ مَعَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الْفُرْسِ وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ سَيَغْلِبُونَ عَلَى هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ وَتَرُوثُ دَوَابُّهُمْ فِي إِيوَانَاتِ إِصْطَخْرَ، وَيَشُدُّونَ خُيُولَهُمْ فِي شَجَرِهَا، وَقَدْ غَلَبُوا عَلَى مَا رَأَيْتُمْ، فَانْظُرُوا لِأَنْفُسِكُمْ. قَالُوا: رَأْيُنَا رَأْيُكَ. قَالَ: أَرَى أَنْ تَدْخُلُوا فِي دِينِهِمْ. وَوَجَّهُوا شِيرَوَيْهِ فِي عَشَرَةٍ مِنَ الْأَسَاوِرَةِ إِلَى أَبِي مُوسَى، فَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَهُ الْعَجَمَ وَلَا يُقَاتِلُوا الْعَرَبَ، وَإِنْ قَاتَلَهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ مَنَعَهُمْ مِنْهُمْ، وَيَنْزِلُوا حَيْثُ شَاءُوا، وَيَلْحَقُوا بِأَشْرَفِ الْعَطَاءِ، وَيَعْقِدَ لَهُمْ ذَلِكَ عُمَرُ عَلَى أَنْ يُسْلِمُوا، فَأَعْطَاهُمْ عُمَرُ مَا سَأَلُوا، فَأَسْلَمُوا وَشَهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ حِصَارَ تُسْتَرَ. وَمَضَى سِيَاهُ إِلَى حِصْنٍ قَدْ حَاصَرَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي زِيِّ الْعَجَمِ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ إِلَى جَانِبِ الْحِصْنِ وَنَضَحَ ثِيَابَهُ بِالدَّمِ، فَرَآهُ أَهْلُ الْحِصْنِ صَرِيعًا فَظَنُّوهُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَفَتَحُوا بَابَ الْحِصْنِ لِيُدْخِلُوهُ إِلَيْهِمْ، فَوَثَبَ وَقَاتَلَهُمْ حَتَّى خَلَّوْا عَنِ الْحِصْنِ وَهَرَبُوا، فَمَلَكَهُ وَحْدَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْفِعْلَ كَانَ مِنْهُ بِتُسْتَرَ. ذكر مُصَالَحَةِ جُنْدَيْسَابُورَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْمُسْلِمُونَ عَنِ السُّوسِ فَنَزَلُوا بِجُنْدَيْسَابُورَ، وَزِرُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مُحَاصِرُهُمْ، فَأَقَامُوا عَلَيْهَا يُقَاتِلُونَهُمْ، فَرُمِيَ إِلَى مَنْ بِهَا مِنْ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَمَانِ، فَلَمْ يَفْجَأِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَأَخْرَجُوا أَسْوَاقَهُمْ وَخَرَجَ أَهْلُهَا، فَسَأَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: رَمَيْتُمْ بِالْأَمَانِ فَقَبِلْنَاهُ وَأَقْرَرْنَا بِالْجِزْيَةِ. فَقَالُوا: مَا فَعَلْنَا! وَسَأَلَ الْمُسْلِمُونَ فَإِذَا عَبْدٌ يُدْعَى مَكْثَفًا كَانَ أَصْلُهُ مِنْهَا فَعَلَ هَذَا، فَقَالُوا: هُوَ عَبْدٌ. فَقَالَ أَهْلُهَا: لَا نَعْرِفُ الْعَبْدَ مِنَ الْحُرِّ، وَقَدْ قَبِلْنَا الْجِزْيَةَ وَمَا بَدَّلْنَا، فَإِنْ شِئْتُمْ فَاغْدِرُوا. فَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ فَأَجَازَ أَمَانَهُمْ، فَآمَنُوهُمْ وَانْصَرَفُوا عَنْهُمْ. ذكر مَسِيرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى كَرْمَانَ وَغَيْرِهَا قِيلَ: فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ أَذِنَ عُمَرُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الِانْسِيَاحِ فِي بِلَادِ فَارِسَ، وَانْتَهَى

فِي ذَلِكَ إِلَى رَأْيِ الْأَحْنَفِ، فَأَمَرَ أَبَا مُوسَى أَنْ يَسِيرَ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى مُنْقَطَعِ ذِمَّةِ الْبَصْرَةِ فَيَكُونَ هُنَاكَ حَتَّى يَأْتِيَهُ أَمْرُهُ، وَبَعَثَ بِأَلْوِيَةِ مَنْ وَلَّى مَعَ سُهَيْلِ بْنِ عَدِيٍّ، فَدَفَعَ لِوَاءَ خُرَاسَانَ إِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، وَلِوَاءَ أَرْدَشِيرَ خُرَّهْ وَسَابُورَ إِلَى مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ السُّلَمِيِّ، وَلِوَاءَ إِصْطَخْرَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ، وَلِوَاءَ فَسَا وَدَارَابَجِرْدَ إِلَى سَارِيَةَ بْنِ زُنَيْمٍ الْكِنَانِيِّ، وَلِوَاءَ كَرْمَانَ إِلَى سُهَيْلِ بْنِ عَدِيٍّ، وَلِوَاءَ سِجِسْتَانَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلِوَاءَ مُكْرَانَ إِلَى الْحَكَمِ بْنِ عُمَيْرٍ التَّغْلِبِيِّ، فَخَرَجُوا وَلَمْ يَتَهَيَّأْ مِسِيرُهُمْ إِلَى سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ، وَأَمَدَّهُمْ عُمَرُ بِنَفَرٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَأَمَدَّ سُهَيْلَ بْنَ عَدِيٍّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ، وَأَمَدَّ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ الْأَشْجَعِيِّ، وَأَمَدَّ الْحَكَمَ بْنَ عُمَيْرٍ بِشِهَابِ بْنِ الْمُخَارِقِ فِي جُمُوعٍ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَسَنَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ فَتْحِهَا هُنَاكَ وَذِكْرَ أَسْبَابِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ هَذِهِ السَّنَةَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ فِي قَوْلٍ، وَعَلَى الْيَمَنِ يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ، وَعَلَى الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَعَلَى عُمَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَعَلَى الشَّامِ مَنْ ذُكِرَ قَبْلُ، وَعَلَى الْكُوفَةِ وَأَرْضِهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلَى قَضَائِهَا أَبُو قُرَّةَ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ وَأَرْضِهَا أَبُو مُوسَى، وَعَلَى الْقَضَاءِ أَبُو مَرْيَمَ الْحَنَفِيُّ، وَقَدْ ذُكِرَ مَنْ كَانَ عَلَى الْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ قَبْلُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.

ثم دخلت سنة ثمان عشرة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِ عَشْرَةَ] 18 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِ عَشْرَةَ ذكر الْقَحْطِ وَعَامِ الرَّمَادَةِ فِي سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ وَجَدْبٌ وَقَحْطٌ، وَهُوَ عَامُ الرَّمَادَةِ، وَكَانَتِ الرِّيحُ تَسْفِي تُرَابًا كَالرَّمَادِ فَسُمِّيَ عَامَ الرَّمَادَةِ، وَاشْتَدَّ الْجُوعُ حَتَّى جَعَلَتِ الْوَحْشُ تَأْوِي إِلَى الْإِنْسِ، وَحَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَذْبَحُ الشَّاةَ فَيَعَافُهَا مِنْ قَيْحِهَا. وَفِيهِ أَيْضًا كَانَ طَاعُونُ عَمَوَاسَ. وَفِيهِ وَرَدَ كِتَابُ أَبِي عُبَيْدَةَ عَلَى عُمَرَ يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَصَابُوا الشَّرَابَ، مِنْهُمْ: ضِرَارٌ وَأَبُو جَنْدَلٍ، فَسَأَلْنَاهُمْ فَتَابُوا، وَقَالُوا: خُيِّرْنَا فَاخْتَرْنَا. قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ وَلَمْ يَعْزِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّمَا مَنَعْنَاهُ، فَانْتَهَوْا، وَقَالَ لَهُ: ادْعُهُمْ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ وَسَلْهُمْ أَحَلَالٌ الْخَمْرُ أَمْ حَرَامٌ، فَإِنْ قَالُوا: حَرَامٌ، فَاجْلِدْهُمْ ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ، وَإِنْ قَالُوا: حَلَالٌ، فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: بَلْ حَرَامٌ، فَجَلَدَهُمْ، وَنَدِمُوا عَلَى لَجَاجَتِهِمْ، وَقَالَ: لَيَحْدُثَنَّ فِيكُمْ يَا أَهْلَ الشَّامِ حَدَثٌ، فَحَدَثَ عَامُ الرَّمَادَةِ. وَأَقْسَمَ عُمَرُ أَنْ لَا يَذُوقَ سَمْنًا وَلَا لَبَنًا وَلَا لَحْمًا حَتَّى يَحْيَا النَّاسُ. فَقَدِمَتِ السُّوقَ

عُكَّةُ سَمْنٍ وَوَطْبٌ مِنْ لَبَنٍ، فَاشْتَرَاهَا غُلَامٌ لِعُمَرَ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ثُمَّ أَتَى عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَبَرَّ اللَّهُ يَمِينَكَ وَعَظَّمَ أَجْرَكَ، قَدِمَ السُّوقَ وَطْبٌ مِنْ لَبَنٍ وَعُكَّةٌ مِنْ سَمْنٍ ابْتَعْتُهُمَا بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. فَقَالَ عُمَرُ: أَغْلَيْتَ بِهِمَا فَتَصَدَّقْ بِهِمَا فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ آكُلَ إِسْرَافًا. وَقَالَ: كَيْفَ يَعْنِينِي شَأْنُ الرَّعِيَّةِ إِذَا لَمْ يُصِبْنِي مَا أَصَابَهُمْ! وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ يَسْتَغِيثُهُمْ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَيَسْتَمِدُّهُمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ رَاحِلَةٍ مِنْ طَعَامٍ، فَوَلَّاهُ قِسْمَتَهَا فِيمَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، فَقَسَّمَهَا وَانْصَرَفَ إِلَى عَمَلِهِ، وَتَتَابَعَ النَّاسُ وَاسْتَغْنَى أَهْلُ الْحِجَازِ. وَأَصْلَحَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بَحْرَ الْقُلْزُمِ، وَأَرْسَلَ فِيهِ الطَّعَامَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَصَارَ الطَّعَامُ بِالْمَدِينَةِ كَسِعْرِ مِصْرَ، وَلَمْ يَرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَعْدَ الرَّمَادَةِ مِثْلَهَا حَتَّى حُبِسَ عَنْهُمُ الْبَحْرُ مَعَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، فَذَلُّوا وَتَقَاصَرُوا، وَكَانَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَعُمَرُ كَالْمَحْصُورِ عَنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ. فَقَالَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ مُزَيْنَةَ لِصَاحِبِهِمْ، وَهُوَ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ: قَدْ هَلَكْنَا فَاذْبَحْ لَنَا شَاةً. قَالَ: لَيْسَ فِيهِنَّ شَيْءٌ. فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى ذَبَحَ فَسَلَخَ عَنْ عَظْمٍ أَحْمَرَ، فَنَادَى: يَا مُحَمَّدَاهُ! فَأُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُ فَقَالَ: أَبْشِرْ بِالْحَيَا، إِيتِ عُمَرَ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ إِنِّي عَهِدْتُكَ وَأَنْتَ وَفِيُّ الْعَهْدِ شَدِيدُ الْعَقْدِ، فَالْكَيْسَ الْكَيْسَ يَا عُمَرُ! فَجَاءَ حَتَّى أَتَى بَابَ عُمَرَ فَقَالَ لِغُلَامِهِ: اسْتَأْذِنْ لِرَسُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَفَزِعَ وَقَالَ: رَأَيْتَ بِهِ مَسًّا؟ قَالَ: لَا، فَأَدْخَلَهُ، وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَخَرَجَ فَنَادَى فِي النَّاسِ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: نَشَدْتُكُمُ اللَّهَ الَّذِي هَدَاكُمْ هَلْ رَأَيْتُمْ مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُونَ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا، وَلِمَ ذَاكَ؟ فَأَخْبَرَهُمْ فَفَطِنُوا وَلَمْ يَفْطَنْ عُمَرُ، فَقَالُوا: إِنَّمَا اسْتَبْطَأَكَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ فَاسْتَسْقِ بِنَا. فَنَادَى فِي النَّاسِ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْعَبَّاسُ مَاشِيًا، فَخَطَبَ وَأَوْجَزَ وَصَلَّى ثُمَّ جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَجَزَتْ عَنَّا أَنْصَارُنَا وَعَجَزَ عَنَّا حَوْلُنَا وَقُوَّتُنَا وَعَجَزَتْ عَنَّا أَنْفُسُنَا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، اللَّهُمَّ فَاسْقِنَا وَأَحْيِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ! وَأَخَذَ بِيَدِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ دُمُوعَ الْعَبَّاسِ لَتَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ،

فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَقِيَّةِ آبَائِهِ وَكُبْرِ رِجَالِهِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} [الكهف: 82] فَحَفِظْتَهُمَا بِصَلَاحِ آبَائِهِمَا، فَاحْفَظِ اللَّهُمَّ نَبِيَّكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَمِّهِ، فَقَدْ دَلَوْنَا بِهِ إِلَيْكَ مُسْتَشْفِعِينَ مُسْتَغْفِرِينَ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] . وَكَانَ الْعَبَّاسُ قَدْ طَالَ عُمُرُهُ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ وَلِحْيَتُهُ تَجُولُ عَلَى صَدْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الرَّاعِي فَلَا تُهْمِلِ الضَّالَّةَ، وَلَا تَدَعِ الْكَسِيرَ بِدَارِ مَضْيَعَةٍ، فَقَدْ صَرَخَ الصَّغِيرُ وَرَقَّ الْكَبِيرُ وَارْتَفَعَتِ الشَّكْوَى، وَأَنْتَ تَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، اللَّهُمَّ فَأَغْنِهِمْ بِغِنَاكَ قَبْلَ أَنْ يَقْنَطُوا فَيَهْلِكُوا، فَإِنَّهُ لَا يَيْأَسُ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ. فَنَشَأَتْ طَرِيرَةٌ مِنْ سَحَابٍ، فَقَالَ النَّاسُ: تَرَوْنَ تَرَوْنَ! ثُمَّ الْتَأَمَتْ وَمَشَتْ فِيهَا رِيحٌ ثُمَّ هَدَأَتْ وَدَرَّتْ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَوَّحُوا حَتَّى اعْتَنَقُوا الْجِدَارَ وَقَلَّصُوا الْمَآزِرَ، فَطَفِقَ النَّاسُ بِالْعَبَّاسِ يَمْسَحُونَ أَرْكَانَهُ وَيَقُولُونَ: هَنِيئًا لَكَ سَاقِيَ الْحَرَمَيْنِ! فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ: بِعَمِّي سَقَى اللَّهُ الْحِجَازَ وَأَهْلَهُ ... عَشِيَّةَ يَسْتَسْقِي بِشَيْبَتِهِ عُمَرْ تَوَجَّهَ بِالْعَبَّاسِ فِي الْجَدْبِ رَاغِبًا ... إِلَيْهِ فَمَا إِنْ رَامَ حَتَّى أَتَى الْمَطَرْ وَمِنَّا رَسُولُ اللَّهِ فِينَا تُرَاثُهُ ... فَهَلْ فَوْقَ هَذَا لِلْمُفَاخِرِ مُفْتَخَرْ ذكر طَاعُونِ عَمَوَاسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ طَاعُونُ عَمَوَاسَ بِالشَّامِ، فَمَاتَ فِيهِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَهُوَ أَمِيرُ النَّاسِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَعُتْبَةُ بْنُ سُهَيْلٍ، وَعَامِرُ بْنُ غَيْلَانَ الثَّقَفِيُّ، مَاتَ وَأَبُوهُ حَيٌّ، وَتَفَانَى النَّاسُ مِنْهُ. قَالَ طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ: أَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فِي دَارِهِ بِالْكُوفَةِ نَتَحَدَّثُ عِنْدَهُ فَقَالَ: لَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَخِفُّوا فَقَدْ أُصِيبَ فِي الدَّارِ إِنْسَانٌ، وَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَزَّهُوا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ فَتَخْرُجُوا فِي فُسَحِ بِلَادِكُمْ وَنُزَهِهَا حَتَّى يُرْفَعَ هَذَا الْوَبَاءُ، وَسَأُخْبِرُكُمْ بِمَا يُكْرَهُ وَيُتَّقَى،

مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَظُنَّ مَنْ خَرَجَ أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ مَاتَ، وَيَظُنَّ مَنْ أَقَامَ فَأَصَابَهُ لَوْ خَرَجَ لَمْ يُصِبْهُ، فَإِذَا لَمْ يَظُنَّ الْمُسْلِمُ هَذَا فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ، إِنِّي كُنْتُ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بِالشَّامِ عَامَ طَاعُونِ عَمَوَاسَ، فَلَمَّا اشْتَعَلَ الْوَجَعُ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ لِيَسْتَخْرِجَهُ مِنْهُ: أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَرَضَتْ لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ أُرِيدُ أَنْ أُشَافِهَكَ فِيهَا، فَعَزَمْتُ عَلَيْكَ إِذَا أَنْتَ نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا أَلَّا تَضَعَهُ مِنْ يَدِكَ حَتَّى تُقْبِلَ. فَعَرَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَا أَرَادَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ عَرَفْتُ حَاجَتَكَ إِلَيَّ وَإِنِّي فِي جُنْدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا أَجِدُ بِنَفْسِي رَغْبَةً عَنْهُمْ، فَلَسْتُ أُرِيدُ فِرَاقَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيَّ وَفِيهِمْ أَمْرَهُ وَقَضَاءَهُ، فَحَلِّلْنِي مِنْ عَزِيمَتِكَ. فَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ الْكِتَابَ بَكَى، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ؟ فَقَالَ: لَا، وَكَأَنْ قَدْ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ لَيَرْفَعَنَّ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ، فَدَعَا أَبَا مُوسَى فَقَالَ لَهُ: ارْتَدْ لِلْمُسْلِمِينَ مَنْزِلًا. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي لِأَرْتَحِلَ فَوَجَدْتُ صَاحِبَتِي قَدْ أُصِيبَتْ. فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ فِي أَهْلِي حَدَثٌ. فَقَالَ: لَعَلَّ صَاحِبَتَكَ أُصِيبَتْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَمَرَ بِبَعِيرِهِ فَرُحِّلَ لَهُ. فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي غَرْزِهِ طُعِنَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أُصِبْتُ! ثُمَّ سَارَ بِالنَّاسِ حَتَّى نَزَلَ الْجَابِيَةَ. وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ قَدْ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لَهُ مِنْهُ حَظَّهُ، فَطُعِنَ فَمَاتَ. وَاسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَقَامَ خَطِيبًا بَعْدَهُ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ مُعَاذًا يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لِآلِ مُعَاذٍ حَظَّهُمْ. فَطُعِنَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَمَاتَ، ثُمَّ قَامَ فَدَعَا بِهِ لِنَفْسِهِ فَطُعِنَ فِي رَاحَتِهِ، فَلَقَدْ كَانَ يُقَبِّلُهَا ثُمَّ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِمَا فِيكِ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا. فَلَمَّا مَاتَ اسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَخَرَجَ بِالنَّاسِ إِلَى الْجِبَالِ، وَرَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَكْرَهْ عُمَرُ ذَلِكَ مِنْ عَمْرٍو. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدِمَ الشَّامَ، فَلَمَّا كَانَ بِسَرْغٍ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ، فِيهِمْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَأَخْبَرُوهُ بِالْوَبَاءِ وَشِدَّتِهِ، وَكَانَ مَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، خَرَجَ غَازِيًا، فَجَمَعَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارَ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَمِنْهُمُ الْقَائِلُ:

خَرَجْتَ لِوَجْهِ اللَّهِ فَلَا يَصُدَّكَ عَنْهُ هَذَا، وَمِنْهُمُ الْقَائِلُ: إِنَّهُ بَلَاءٌ وَفَنَاءٌ فَلَا نَرَى أَنْ تَقْدَمَ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُمْ: قُومُوا، ثُمَّ أَحْضَرَ مُهَاجِرَةَ الْفَتْحِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ وَأَشَارُوا بِالْعَوْدِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطْتَ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا مُخْصِبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصِبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ فَسَمِعَ بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهَذَا الْوَبَاءِ بِبَلَدٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِبَلَدٍ وَأَنْتُمْ بِهِ فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» ". فَانْصَرَفَ عُمَرُ بِالنَّاسِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا أَخْرَجَاهَا فِي صَحِيحَيْهِمَا، (وَلِأَنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ بِالْبَصْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ بِالشَّامِ، لَكِنْ هَكَذَا ذَكَرَهُ وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ لِنُنَبِّهَ عَلَيْهِ) . (عَمَوَاسُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ وَالْوَاوِ، وَبَعْدَ الْأَلْفِ سِينٌ مُهْمَلَةٌ. وَسَرْغٌ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَآخِرُهُ غَيْنٌ مُعْجَمَةٌ) . وَمَعْنَى قَوْلِهِ: دَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، حِينَ «جَاءَهُ جِبْرَائِيلُ فَقَالَ: فَنَاءُ أُمَّتِكَ بِالطَّعْنِ أَوِ الطَّاعُونِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَبِالطَّاعُونِ» . وَلَمَّا هَلَكَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ اسْتَعْمَلَ عُمَرُ أَخَاهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى دِمَشْقَ وَخَرَاجِهَا، وَاسْتَعْمَلَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ عَلَى جُنْدِ الْأُرْدُنِّ وَخَرَاجِهَا. وَأَصَابَ النَّاسَ مِنْ

الْمَوْتِ مَا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ، وَطَمِعَ لَهُ الْعَدُوُّ فِي الْمُسْلِمِينَ لِطُولِ مُكْثِهِ، مَكَثَ شُهُورًا، وَأَصَابَ النَّاسَ بِالْبَصْرَةِ مِثْلُهُ، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ مَاتَ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا. ذكر قُدُومِ عُمَرَ إِلَى الشَّامِ بَعْدَ الطَّاعُونِ لَمَّا هَلَكَ النَّاسُ فِي الطَّاعُونِ كَتَبَ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ إِلَى عُمَرَ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمَوَارِيثِ، فَجَمَعَ النَّاسَ وَاسْتَشَارَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ أَطُوفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي بُلْدَانِهِمْ لِأَنْظُرَ فِي آثَارِهِمْ، فَأَشِيرُوا عَلَيَّ، وَفِي الْقَوْمِ كَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَفِي تِلْكَ السَّنَةِ أَسْلَمَ، فَقَالَ كَعْبٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِأَيِّهَا تُرِيدُ أَنْ تَبْدَأَ؟ قَالَ: بِالْعِرَاقِ. قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ فَإِنَّ الشَّرَّ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ، تِسْعَةٌ مِنْهَا بِالْمَشْرِقِ وَجُزْءٌ بِالْمَغْرِبِ، وَالْخَيْرَ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ بِالْمَغْرِبِ وَجُزْءٌ بِالْمَشْرِقِ، وَبِهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ وَكُلُّ دَاءٍ عُضَالٍ. فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْكُوفَةَ لَلْهِجْرَةُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَإِنَّهَا لَقُبَّةُ الْإِسْلَامِ، لَيَأْتِيَنَّهَا يَوْمٌ لَا يَبْقَى مُسْلِمٌ إِلَّا وَحَنَّ إِلَيْهَا، لَيُنْتَصَرَنَّ بِأَهْلِهَا كَمَا انْتُصِرَ بِالْحِجَارَةِ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ مَوَارِيثَ أَهْلِ عَمَوَاسَ قَدْ ضَاعَتْ، أَبْدَأُ بِالشَّامِ فَأُقَسِّمُ الْمَوَارِيثَ وَأُقِيمُ لَهُمْ مَا فِي نَفْسِي، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَتَقَلَّبُ فِي الْبِلَادِ وَأُبْدِي إِلَيْهِمْ أَمْرِي. فَسَارَ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَاتَّخَذَ أَيْلَةَ طَرِيقًا، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا رَكِبَ بَعِيرَهُ وَعَلَى رَحْلِهِ فَرْوٌ مَقْلُوبٌ، وَأَعْطَى غُلَامَهُ مَرْكَبَهُ، فَلَمَّا تَلَقَّاهُ النَّاسُ قَالُوا: أَيْنَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: أَمَامَكُمْ، يَعْنِي نَفْسَهُ، فَسَارُوا أَمَامَهُمْ، وَانْتَهَى هُوَ إِلَى أَيْلَةَ فَنَزَلَهَا، وَقِيلَ لِلْمُتَلَقِّينَ: قَدْ دَخَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهَا وَنَزَلَهَا، فَرَجَعُوا [إِلَيْهِ] . وَأَعْطَى عُمَرُ الْأُسْقُفَّ بِهَا قَمِيصَهُ، وَقَدْ تَخَرَّقَ ظَهْرُهُ، لِيَغْسِلَهُ وَيُرَقِّعَهُ، فَفَعَلَ، وَأَخَذَهُ وَلَبِسَهُ، وَخَاطَ لَهُ الْأُسْقُفُّ قَمِيصًا غَيْرَهُ فَلَمْ يَأْخُذْهُ. فَلَمَّا قَدِمَ الشَّامَ قَسَّمَ الْأَرْزَاقَ، وَسَمَّى الشَّوَاتِيَ

وَالصَّوَائِفَ، وَسَدَّ فُرُوجَ الشَّامِ وَمَسَالِحَهَا، وَأَخَذَ يُدَوِّرُهَا، وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ عَلَى السَّوَاحِلِ مِنْ كُلِّ كُورَةٍ، وَاسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةَ، وَعَزَلَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ وَقَامَ بِعُذْرِهِ فِي النَّاسِ وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ سُخْطَةٍ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ رَجُلًا أَقْوَى مِنْ رَجُلٍ. وَاسْتَعْمَلَ عَمْرَو بْنَ عُتْبَةَ عَلَى الْأَهْرَاءِ. وَقَسَّمَ مَوَارِيثَ أَهْلِ عَمَوَاسَ، فَوَرَّثَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَخْرَجَهَا إِلَى الْأَحْيَاءِ مِنْ وَرَثَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ. وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهُمْ إِلَّا أَرْبَعَةٌ. وَرَجَعَ عُمَرُ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. وَلَمَّا كَانَ بِالشَّامِ وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ قَالَ لَهُ النَّاسُ: لَوْ أَمَرْتَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، فَأَمَرَهُ فَأَذَّنَ، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ أَدْرَكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِلَالٌ يُؤَذِّنُ إِلَّا وَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، وَعُمَرُ أَشَدُّهُمْ بُكَاءً، وَبَكَى مَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ بِبُكَائِهِمْ وَلِذِكْرِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّ الرُّهَاءَ وَحَرَّانَ وَالرَّقَّةَ فُتِحَتْ هَذِهِ السَّنَةَ عَلَى يَدِ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ، وَإِنَّ عَيْنَ الْوَرْدَةِ، وَهِيَ رَأْسُ عَيْنٍ، فُتِحَتْ فِيهَا عَلَى يَدِ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ فَتْحِهَا. فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ حَوَّلَ عُمَرُ الْمَقَامَ إِلَى مَوْضِعِهِ الْيَوْمَ، وَكَانَ مُلْصَقًا بِالْبَيْتِ.

وَفِيهَا اسْتَقْضَى عُمَرُ شُرَيْحَ بْنَ الْحَارِثِ الْكِنْدِيَّ عَلَى الْكُوفَةِ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ كَعْبَ بْنَ سُورٍ الْأَزْدِيَّ. وَكَانَتِ الْوُلَاةُ عَلَى الْأَمْصَارِ الْوُلَاةَ [الَّذِينَ كَانُوا عَلَيْهَا] فِي السَّنَةِ قَبْلَهَا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.

ثم دخلت سنة تسع عشرة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ] 19 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ فَتْحَ جَلُولَاءَ وَالْمَدَائِنِ كَانَ [فِي] هَذِهِ السَّنَةِ [عَلَى يَدِ سَعْدٍ] ، وَكَذَلِكَ فَتْحُ الْجَزِيرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ فَتْحِ الْجَمِيعِ وَالْخِلَافِ فِيهِ. وَقِيلَ: فِيهَا كَانَ فَتْحُ قَيْسَارِيَّةَ عَلَى يَدِ مُعَاوِيَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ عِشْرِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا ذَلِكَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَالَتْ حَرَّةُ لَيْلَى، وَهِيَ قَرِيبُ الْمَدِينَةِ، نَارًا، فَأَمَرَ عُمَرُ بِالصَّدَقَةِ، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ فَانْطَفَأَتْ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عُمَرُ. وَكَانَ عُمَّالُهُ فِيهَا مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا قُتِلُ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ، وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ آخِرَ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ. وَفِيهَا مَاتَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ: وَقِيلَ: اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ: اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثم دخلت سنة عشرين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ] 20 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ ذكر فَتْحِ مِصْرَ قِيلَ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتْ مِصْرُ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، عَلَى يَدِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةُ أَيْضًا. وَقِيلَ: فُتِحَتِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ: فُتِحَتْ مِصْرُ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَتْحُهَا قَبْلَ عَامِ الرَّمَادَةِ، لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ حَمَلَ الطَّعَامَ فِي بَحْرِ الْقُلْزُمِ مِنْ مِصْرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا فَتْحُهَا فَإِنَّهُ لَمَّا فَتَحَ عُمَرُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَقَامَ بِهِ أَيَّامًا، وَأَمْضَى عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى مِصْرَ، وَاتَّبَعَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، فَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ بَابَ الْيُونَ، وَسَارُوا إِلَى مِصْرَ، فَلَقِيَهُمْ هُنَاكَ أَبُو مَرْيَمَ، جَاثَلِيقُ مِصْرَ، وَمَعَهُ الْأُسْقُفُّ بَعَثَهُ الْمُقَوْقِسُ لِمَنْعِ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِمْ عَمْرٌو قَاتَلُوهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: لَا تَعَجَّلُونَا حَتَّى نُعْذِرَ إِلَيْكُمْ، وَلْيَبْرُزْ إِلَيَّ أَبُو مَرْيَمَ وَأَبُو مَرْيَامَ، فَكَفُّوا، وَخَرَجَا إِلَيْهِ، فَدَعَاهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْجِزْيَةِ، وَأَخْبَرَهُمَا بِوَصِيَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَهْلِ مِصْرَ بِسَبَبِ هَاجَرَ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالُوا: قَرَابَةٌ بَعِيدَةٌ لَا يَصِلُ مِثْلَهَا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ، آمِنَّا حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكَ. فَقَالَ عَمْرٌو: مِثْلِي لَا يُخْدَعُ، وَلَكِنِّي أُؤَجِّلُكُمَا ثَلَاثًا لِتَنْظُرَا. فَقَالَا: زِدْنَا، فَزَادَهُمَا يَوْمًا، فَرَجَعَا إِلَى الْمُقَوْقِسِ. فَأَبَى أَرْطَبُونُ أَنْ يُجِيبَهُمَا وَأَمَرَ بِمُنَاهَدَتِهِمْ. فَقَالَ لِأَهْلِ مِصْرَ: أَمَّا نَحْنُ فَسَنَجْهَدُ أَنْ نَدْفَعَ عَنْكُمْ. فَلَمْ يَفْجَأْ عَمْرًا إِلَّا الْبَيَاتُ وَهُوَ عَلَى عُدَّةٍ، فَلَقُوهُ فَقُتِلَ أَرْطَبُونُ وَكَثِيرٌ مِمَّنْ مَعَهُ وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، وَسَارَ عَمْرٌو وَالزُّبَيْرُ إِلَى عَيْنِ الشَّمْسِ وَبِهَا جَمْعُهُمْ، وَبَعَثَ إِلَى فَرَمَا أَبْرَهَةَ بْنَ

الصَّبَّاحِ، وَبَعَثَ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَنَزَلَ عَلَيْهَا. قِيلَ: وَكَانَ الْإِسْكَنْدَرُ وَفَرَمَا أَخَوَيْنِ، وَنَزَلَ عَمْرٌو بِعَيْنِ الشَّمْسِ، فَقَالَ أَهْلُ مِصْرَ لِمَلِكِهِمْ: مَا تُرِيدُ إِلَى قِتَالِ قَوْمٍ هَزَمُوا كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَغَلَبُوهُمْ عَلَى بِلَادِهِمْ! فَلَا تَعْرِضْ لَهُمْ وَلَا تُعَرِّضْنَا [لَهُمْ]- وَذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ -[فَأَبَى] وَنَاهَدُوهُمْ وَقَاتَلُوهُمْ. فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْمُقَوْقِسُ بِعَيْنِ الشَّمْسِ وَاقْتَتَلُوا جَالَ الْمُسْلِمُونَ، فَذَمَّرَهُمْ عَمْرٌو، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَمَنِ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ مِنْ حَدِيدٍ. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: اسْكُتْ، إِنَّمَا أَنْتَ كَلْبٌ. قَالَ: فَأَنْتَ أَمِيرُ الْكِلَابِ. فَنَادَى عَمْرٌو بِأَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَابُوهُ، فَقَالَ: تَقَدَّمُوا فَبِكُمْ يَنْصُرُ اللَّهُ، فَتَقَدَّمُوا وَفِيهِمْ أَبُو بُرْدَةَ وَأَبُو بَرْزَةَ وَتَبِعَهُمُ النَّاسُ، وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَظَفِرُوا وَهَزَمُوا الْمُشْرِكِينَ، فَارْتَقَى الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ سُورَهَا، فَلَمَّا أَحَسُّوهُ فَتَحُوا الْبَابَ لِعَمْرٍو، وَخَرَجُوا إِلَيْهِ مُصَالِحِينَ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ. وَنَزَلَ الزُّبَيْرُ عَلَيْهِمْ عَنْوَةً، حَتَّى خَرَجَ عَلَى عَمْرٍو مِنَ الْبَابِ مَعَهُمْ، فَاعْتَقَدُوا صُلْحًا بَعْدَمَا أَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَكَةِ، فَأَجْرَوْا مَا أَخَذُوا عَنْوَةً مَجْرَى الصُّلْحِ، فَصَارُوا ذِمَّةً، وَأَجْرَوْا مَنْ دَخَلَ فِي صُلْحِهِمْ مِنَ الرُّومِ وَالنُّوبَةِ مَجْرَى أَهْلِ مِصْرَ، وَمَنِ اخْتَارَ الذَّهَابَ فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ. وَاجْتَمَعَتْ خُيُولُ الْمُسْلِمِينَ بِمِصْرَ، وَبَنَوُا الْفُسْطَاطَ وَنَزَلُوهُ، وَجَاءَ أَبُو مَرْيَمَ وَأَبُو مَرْيَامَ إِلَى عَمْرٍو، وَطَلَبَا مِنْهُ السَّبَايَا الَّتِي أُصِيبَتْ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ، فَطَرَدَهُمَا، فَقَالَا: كُلُّ شَيْءٍ أَصَبْتُمُوهُ مُنْذُ فَارَقْنَاكُمْ إِلَى أَنْ رَجَعْنَا إِلَيْكُمْ فَفِي ذِمَّةٍ. فَقَالَ عَمْرٌو لَهُمَا: أَتُغِيرُونَ عَلَيْنَا وَتَكُونُونَ فِي ذِمَّةٍ؟ قَالَا: نَعَمْ. فَقَسَّمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ السَّبْيَ عَلَى النَّاسِ، وَتَفَرَّقَ فِي بُلْدَانِ الْعَرَبِ. وَبَعَثَ بِالْأَخْمَاسِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمَعَهَا وَفْدٌ، فَأَخْبَرُوا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِحَالِهِمْ كُلِّهِ وَبِمَا قَالَ أَبُو مَرْيَمَ، فَرَدَّ عُمَرُ عَلَيْهِمْ سَبْيَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الْأَرْبَعَةِ، وَتَرَكَ سَبْيَ مَنْ قَاتَلَهُمْ فَرَدُّوهُمْ. وَحَضَرَتِ الْقِبْطُ بَابَ عَمْرٍو، وَبَلَغَ عَمْرًا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَا أَرَثَّ الْعَرَبَ! مَا رَأَيْنَا مِثْلَنَا دَانَ لَهُمْ. فَخَافَ أَنْ يُطْمِعَهُمْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِجُزُرٍ فَطُبِخَتْ وَدَعَا أُمَرَاءَ الْأَجْنَادِ فَأَعْلَمُوا أَصْحَابَهُمْ، فَحَضَرُوا عِنْدَهُ وَأَكَلُوا أَكْلًا عَرَبِيًّا، انْتَشَلُوا وَحَسَوْا وَهُمْ فِي الْعَبَاءِ بِغَيْرِ

سِلَاحٍ، فَازْدَادَ طَمَعُهُمْ، وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ [أَنْ] يَحْضُرُوا الْغَدَ فِي ثِيَابِ [أَهْلِ] مِصْرَ وَأَحْذِيَتِهِمْ، فَفَعَلُوا، وَأَذِنَ لِأَهْلِ مِصْرَ، فَرَأَوْا شَيْئًا غَيْرَ مَا رَأَوْا بِالْأَمْسِ، وَقَامَ عَلَيْهِمُ الْقُوَّامُ بِأَلْوَانِ مِصْرَ، فَأَكَلُوا أَكْلَ أَهْلِ مِصْرَ، فَارْتَابَ الْقِبْطُ، وَبَعَثَ أَيْضًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ: تَسَلَّحُوا لِلْعَرْضِ غَدًا، وَغَدَا عَلَى الْعَرْضِ، وَأَذِنَ لَهُمْ فَعَرَضَهُمْ عَلَيْهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: عَلِمْتُ حَالَكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُ اقْتِصَادَ الْعَرَبِ، فَخَشِيتُ أَنْ تَهْلِكُوا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُرِيَكُمْ حَالَهُمْ فِي أَرْضِهِمْ كَيْفَ كَانَتْ، ثُمَّ حَالَهُمْ فِي أَرْضِكُمْ، ثُمَّ حَالَهُمْ فِي الْحَرْبِ، فَقَدْ رَأَيْتُمْ ظَفَرَهُمْ بِكُمْ وَذَلِكَ عَيْشُهُمْ، وَقَدْ كَلِبُوا عَلَى بِلَادِكُمْ بِمَا نَالُوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَأَرَدْتُ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ مَا رَأَيْتُمْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ غَيْرُ تَارِكٍ عَيْشَ الْيَوْمِ الثَّانِي، وَرَاجِعٌ إِلَى عَيْشِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ. فَتَفَرَّقُوا وَهُمْ يَقُولُونَ: لَقَدْ رَمَتْكُمُ الْعَرَبُ بِرَجُلِهِمْ. وَبَلَغَ عُمَرَ ذَلِكَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ حَرْبَهُ لَلَيِّنَةٌ مَا لَهَا سَطْوَةٌ وَلَا سَوْرَةٌ كَسَوْرَاتِ الْحُرُوبِ مِنْ غَيْرِهِ. ثُمَّ إِنَّ عَمْرًا سَارَ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَكَانَ مَنْ بَيْنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَالْفُسْطَاطِ مِنَ الرُّومِ وَالْقِبْطِ قَدْ تَجَمَّعُوا لَهُ وَقَالُوا: نَغْزُوهُ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوَنَا وَيَرُومَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ. فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَسَارَ حَتَّى بَلَغَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ، فَوَجَدَ أَهْلَهَا مُعِدِّينَ لِقِتَالِهِ. فَأَرْسَلَ الْمُقَوْقِسُ إِلَى عَمْرٍو يَسْأَلُهُ الْهُدْنَةَ إِلَى مُدَّةٍ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ وَقَالَ: لَقَدْ لَقِينَا مَلِكَكُمُ الْأَكْبَرَ هِرَقْلَ فَكَانَ مِنْهُ مَا بَلَغَكُمْ. فَقَالَ الْمُقَوْقِسُ لِأَصْحَابِهِ: صَدَقَ فَنَحْنُ أَوْلَى بِالْإِذْعَانِ. فَأَغْلَظُوا لَهُ فِي الْقَوْلِ وَامْتَنَعُوا، فَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَحَصَرُوهُمْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَفَتَحَهَا عَمْرٌو عَنْوَةً وَغَنِمَ مَا فِيهَا وَجَعَلَهُمْ ذِمَّةً. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُقَوْقِسَ صَالَحَ عَمْرًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، عَلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ وَيُقِيمَ مَنْ أَرَادَ الْقِيَامَ، وَجَعَلَ فِيهَا عَمْرٌو جُنْدًا. وَلَمَّا فُتِحَتْ مِصْرُ غَزَوُا النُّوبَةَ، فَرَجَعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْجِرَاحَاتِ وَذَهَابِ الْحَدَقِ لِجَوْدَةِ

رَمْيِهِمْ، فَسَمَّوْهُمْ رُمَاةَ الْحَدَقِ. فَلَمَّا وَلِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ مِصْرَ أَيَّامَ عُثْمَانَ صَالَحَهُمْ عَلَى هَدِيَّةٍ عِدَّةِ رُءُوسٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَيُهْدِي إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ كُلَّ سَنَةٍ طَعَامًا مُسَمًّى وَكُسْوَةً، وَأَمْضَى ذَلِكَ الصُّلْحَ عُثْمَانُ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا انْتَهَوْا إِلَى بَلْهِيبَ وَقَدْ بَلَغَتْ سَبَايَاهُمْ إِلَى الْيَمَنِ، أَرْسَلَ صَاحِبُهُمْ إِلَى عَمْرٍو: إِنَّنِي كُنْتُ أُخْرِجُ الْجِزْيَةَ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْكُمْ: فَارِسَ وَالرُّومَ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَنْ تَرُدَّ مَا سَبَيْتُمْ مِنْ أَرْضِي فَعَلْتُ. فَكَتَبَ عَمْرٌو إِلَى عُمَرَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي ذَلِكَ، وَرَفَعُوا الْحَرْبَ إِلَى أَنْ يَرِدَ كِتَابُ عُمَرَ. فَوَرَدَ الْجَوَابُ مِنْ عُمَرَ: لَعَمْرِي جِزْيَةٌ قَائِمَةٌ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ غَنِيمَةٍ تُقَسَّمُ، ثُمَّ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَأَمَّا السَّبْيُ فَإِنْ أَعْطَاكَ مَلِكُهُمُ الْجِزْيَةَ عَلَى أَنْ تُخَيِّرُوا مَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْهُمْ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَدِينِ قَوْمِهِ، فَمَنِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ فَهُوَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنِ اخْتَارَ دِينَ قَوْمِهِ فَضَعْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، وَأَمَّا مَنْ تَفَرَّقَ فِي الْبُلْدَانِ فَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِمْ. فَعَرَضَ عَمْرٌو ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَأَجَابَ إِلَيْهِ، فَجَمَعُوا السَّبْيَ، وَاجْتَمَعَتِ النَّصَارَى وَخَيَّرُوهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، فَمَنِ اخْتَارَ الْمُسْلِمِينَ كَبَّرُوا، وَمَنِ اخْتَارَ النَّصَارَى نَخَرُوا وَصَارَ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ، حَتَّى فَرَغُوا. وَكَانَ مِنَ السَّبْيِ أَبُو مَرْيَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَاخْتَارَ الْإِسْلَامَ وَصَارَ عَرِّيفَ زَبِيدٍ. وَكَانَ مُلُوكُ بَنِي أُمَيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ مِصْرَ دُخِلَتْ عَنْوَةً وَأَهْلَهَا عَبِيدُنَا نَزِيدُ عَلَيْهِمْ كَيْفَ شِئْنَا. وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. ذكر عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ عِشْرِينَ، غَزَا أَبُو بَحْرِيَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ أَرْضَ الرُّومِ،

وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَهَا فِيمَا قِيلَ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ دَخَلَهَا مَيْسَرَةُ بْنُ مَسْرُوقٍ الْعَبْسِيُّ وَغَنِمَ. وَقِيلَ: فِيهَا عَزَلَ عُمَرُ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ وَحَدَّهُ فِي الْخَمْرِ، وَاسْتَعْمَلَ أَبَا بَكْرَةَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَامَةِ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُمَرُ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ أُمَّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ. وَفِيهَا عَزَلَ عُمَرُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ الْكُوفَةِ لِشِكَايَتِهِمْ إِيَّاهُ وَقَالُوا: لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي. وَفِيهَا قَسَّمَ عُمَرُ خَيْبَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَجْلَى الْيَهُودَ عَنْهَا وَقَسَّمَ وَادِيَ الْقُرَى. وَفِيهَا أَجْلَى يَهُودَ نَجْرَانَ إِلَى الْكُوفَةِ. وَفِيهَا بَعَثَ عُمَرُ عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيَّ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَكَانَتْ تَطَرَّقَتْ بِلَادَ الْإِسْلَامِ فَأُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلَ عُمَرُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَحْمِلَ فِي الْبَحْرِ أَحَدًا أَبَدًا - يَعْنِي لِلْغَزْوِ -، وَقِيلَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ. (مُجَزِّزٌ: بِجِيمٍ وَزَايَيْنِ الْأُولَى مَكْسُورَةٌ مُشَدَّدَةٌ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ - أُسَيْدٌ تَصْغِيرُ أَسَدٍ -، وَحُضَيْرٌ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ

الْمَضْمُومَةِ، وَالضَّادِ الْمَفْتُوحَةِ، وَالرَّاءِ. وَفِيهَا مَاتَ هِرَقْلُ وَمَلَكَ ابْنُهُ قُسْطَنْطِينُ. وَفِيهَا مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ أَخِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ. وَكَانَ عُمَّالُهُ عَلَى الْأَمْصَارِ مَنْ كَانَ قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ إِلَّا مَنْ ذَكَرْتُ أَنَّهُ عَزَلَهُ. وَكَانَ قُضَاتُهُ فِيهَا الْقُضَاةَ فِي السَّنَةِ قَبْلَهَا. وَفِيهَا مَاتَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ، وَهُوَ الَّذِي فَتَحَ الْجَزِيرَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَازَ الدَّرْبَ إِلَى الرُّومِ. وَفِيهَا مَاتَ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدِمَشْقَ، وَقِيلَ بِحَلَبَ.

وَفِيهَا مَاتَ أُنَيْسُ بْنُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ، وَلَهُ وَلِأَبِيهِ وَلِجَدِّهِ صُحْبَةٌ، وَقُتِلَ أَبُوهُ فِي غَزْوَةِ الرَّجِيعِ. وَفِيهَا مَاتَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حِذْيَمٍ الْجُمَحِيُّ، شَهِدَ فَتَحَ خَيْبَرَ، وَكَانَ فَاضِلًا، وَكَانَ عَلَى حِمْصَ حَتَّى مَاتَ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَعُمْرُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَفِيهَا مَاتَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِيهَا قُتِلَ الْمُظَهِّرُ بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ، قَدِمَ مِنَ الشَّامِ وَمَعَهُ مِنْ عُلُوجِ الشَّامِ، فَلَمَّا كَانَ بِخَيْبَرَ أَمَرَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَتَلُوهُمْ، فَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ. (الْمُظَهِّرُ: بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ، وَآخِرُهُ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ.)

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ] [ذِكْرُ وَقْعَةِ نَهَاوَنْدَ] 21 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ ذِكْرُ وَقْعَةِ نَهَاوَنْدَ قِيلَ: فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ نَهَاوَنْدَ، وَقِيلَ: كَانَتْ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ. وَكَانَ الَّذِي هَيَّجَ أَمْرَ نَهَاوَنْدَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا خَلَّصُوا جُنْدَ الْعَلَاءِ مِنْ بِلَادِ فَارِسَ وَفَتَحُوا الْأَهْوَازَ كَاتَبَتِ الْفُرْسُ مَلِكَهُمْ وَهُوَ بِمُرْوٍ فَحَرَّكُوهُ، وَكَاتَبَ الْمُلُوكَ بَيْنَ الْبَابِ وَالسِّنْدِ وَخُرَاسَانَ وَحُلْوَانَ، فَتَحَرَّكُوا وَتَكَاتَبُوا وَاجْتَمَعُوا إِلَى نَهَاوَنْدَ، وَلَمَّا وَصَلَهَا أَوَائِلُهُمْ بَلَغَ سَعْدًا الْخَبَرُ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ، وَثَارَ بِسَعْدٍ قَوْمٌ سَعَوْا بِهِ وَأَلَّبُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَشْغَلْهُمْ مَا نَزَلَ بِالنَّاسِ ; وَكَانَ مِمَّنْ تَحَرَّكَ فِي أَمْرِهِ الْجَرَّاحُ بْنُ سِنَانٍ الْأَسَدِيُّ فِي نَفَرٍ. فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُنِي مَا نَزَلَ بِكُمْ مِنَ النَّظَرِ فِيمَا لَدَيْكُمْ. فَبَعَثَ عُمَرُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ وَالنَّاسُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْفُرْسِ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ صَاحِبَ الْعُمَّالِ يَقْتَصُّ آثَارَ مَنْ شَكَا زَمَانَ عُمَرَ، فَطَافَ بِسَعْدٍ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ يَسْأَلُ عَنْهُ، فَمَا سَأَلَ عَنْهُ جَمَاعَةً إِلَّا أَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا سِوَى مَنْ مَالَأَ الْجَرَّاحَ الْأَسَدِيَّ، فَإِنَّهُمْ سَكَتُوا وَلَمْ يَقُولُوا سُوءًا وَلَا يَسُوغُ لَهُمْ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَنِي

عَبْسٍ فَسَأَلَهُمْ، فَقَالَ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ، وَلَا يَغْزُو فِي السَّرِيَّةِ. فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ قَالَهَا رِيَاءً وَكَذِبًا وَسُمْعَةً فَأَعْمِ بَصَرَهُ، وَأَكْثِرْ عِيَالَهُ، وَعَرِّضْهُ لِمُضِلَّاتِ الْفِتَنِ. فَعَمِيَ، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ عَشْرُ بَنَاتٍ، وَكَانَ يَسْمَعُ بِالْمَرْأَةِ فَيَأْتِيهَا حَتَّى يَجُسَّهَا، فَإِذَا عُثِرَ عَلَيْهِ قَالَ: دَعْوَةُ سَعْدٍ الرَّجُلِ الْمُبَارَكِ. ثُمَّ دَعَا سَعْدٌ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانُوا خَرَجُوا أَشَرًا وَبَطَرًا وَرِيَاءً فَاجْهَدْ بِلَادَهُمْ. فَجُهِدُوا، وَقُطِّعَ الْجَرَّاحُ بِالسُّيُوفِ يَوْمَ بَادَرَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِيَغْتَالَهُ بِسَابَاطَ، وَشُدِخَ قَبِيصَةُ بِالْحِجَارَةِ، وَقُتِلَ أَرْبَدُ بِالْوَجْءِ وَنِعَالِ السُّيُوفِ. وَقَالَ سَعْدٌ: إِنِّي أَوَّلُ رَجُلٍ أَهْرَاقَ دَمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَقَدْ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَوَيْهِ وَمَا جَمَعَهُمَا لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي خُمُسَ الْإِسْلَامِ، وَبَنُو أَسَدٍ تَزْعُمُ أَنِّي لَا أُحْسِنُ أُصَلِّي وَأَنَّ الصَّيْدَ يُلْهِينِي. وَخَرَجَ مُحَمَّدٌ بِسَعْدٍ وَبِهِمْ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَدِمُوا عَلَى عُمَرَ فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: كَيْفَ تُصَلِّي يَا سَعْدُ؟ قَالَ أُطِيلُ الْأُولَيَيْنِ وَأَحْذِفُ الْأُخْرَيَيْنِ. فَقَالَ: هَكَذَا الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ وَلَوْلَا الِاحْتِيَاطُ لَكَانَ سَبِيلُهُمْ بَيِّنًا. وَقَالَ: مَنْ خَلِيفَتُكَ يَا سَعْدُ عَلَى الْكُوفَةِ؟

فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ. فَأَقَرَّهُ. فَكَانَ سَبَبُ نَهَاوَنْدَ وَبَعْثُهَا زَمَنَ سَعْدٍ. وَأَمَّا الْوَقْعَةُ فَهِيَ زَمَنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَنَفَرَتِ الْأَعَاجِمُ بِكِتَابِ يَزْدَجِرْدَ، فَاجْتَمَعُوا بِنَهَاوَنْدَ عَلَى الْفَيْرُزَانِ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا وَمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ سَعْدٌ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِالْخَبَرِ ثُمَّ شَافَهَهُ بِهِ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ يَسْتَأْذِنُونَكَ فِي الِانْسِيَاحِ وَأَنْ يَبْدَءُوهُمْ بِالشِّدَّةِ لِيَكُونَ أَهْيَبَ لَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ. فَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ وَاسْتَشَارَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: هَذَا يَوْمٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ، وَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَسِيرَ فِيمَنْ قِبَلِي وَمَنْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ فَأَنْزِلَ مَنْزِلًا وَسَطًا بَيْنَ هَذَيْنِ الْمِصْرَيْنِ ثُمَّ أَسْتَنْفِرَهُمْ وَأَكُونَ لَهُمْ رِدْءًا حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَيَقْضِيَ مَا أَحَبَّ، فَإِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ صَبَبْتُهُمْ فِي بُلْدَانِهِمْ. فَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَحْكَمَتْكَ الْأُمُورُ، وَعَجَمَتْكَ الْبَلَابِلُ، وَاحْتَنَكَتْكَ التَّجَارِبُ، وَأَنْتَ وَشَأْنَكَ وَرَأْيَكَ، لَا نَنْبُو فِي يَدَيْكَ وَلَا نَكِلُّ عَلَيْكَ، إِلَيْكَ هَذَا الْأَمْرُ، فَمُرْنَا نُطِعْ، وَادْعُنَا نُجِبْ وَاحْمِلْنَا نَرْكَبْ، وَقُدْنَا نَنْقَدْ، فَإِنَّكَ وَلِيُّ هَذَا الْأَمْرِ، وَقَدْ بَلَوْتَ وَجَرَّبْتَ وَاحْتَرَبْتَ فَلَمْ يَنْكَشِفْ شَيْءٌ مِنْ عَوَاقِبِ قَضَاءِ اللَّهِ لَكَ إِلَّا عَنْ خِيَارِهِمْ. ثُمَّ جَلَسَ. فَعَادَ عُمَرُ، فَقَامَ عُثْمَانُ فَقَالَ: أَرَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ فَيَسِيرُوا مِنْ شَامِهِمْ، وَإِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فَيَسِيرُوا مِنْ يَمَنِهِمْ، ثُمَّ تَسِيرَ أَنْتَ بِأَهْلِ الْحَرَمَيْنِ إِلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ فَتَلْقَى جَمْعَ الْمُشْرِكِينَ بِجَمْعِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّكَ إِذَا سِرْتَ قَلَّ عِنْدَكَ مَا قَدْ تَكَاثَرَ مِنْ عَدَدِ الْقَوْمِ، وَكُنْتَ أَعَزَّ عِزًّا وَأَكْثَرَ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ لَا تَسْتَبْقِي بَعْدَ نَفْسِكَ مِنَ الْعَرَبِ بَاقِيَةً، وَلَا تَمْتَعُ مِنَ الدُّنْيَا بِعَزِيزٍ، وَلَا تَلُوذُ مِنْهَا بِحَرِيزٍ. إِنَّ هَذَا يَوْمٌ لَهُ مَا

بَعْدَهُ مِنَ الْأَيَّامِ، فَاشْهَدْهُ بِرَأْيِكَ وَأَعْوَانِكَ وَلَا تَغِبْ عَنْهُ. وَجَلَسَ. فَعَادَ عُمَرُ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّكَ إِنْ أَشْخَصْتَ أَهْلَ الشَّامِ مِنْ شَامِهِمْ سَارَتِ الرُّومُ إِلَى ذَرَارِيِّهِمْ، وَإِنْ أَشْخَصْتَ أَهْلَ الْيَمَنِ مِنْ يَمَنِهِمْ سَارَتِ الْحَبَشَةُ إِلَى ذَرَارِيِّهِمْ، وَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ مِنَ الْعَوْرَاتِ وَالْعِيَالَاتِ، أَقْرِرْ هَؤُلَاءِ فِي أَمْصَارِهِمْ وَاكْتُبْ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَلْيَتَفَرَّقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ فِي حُرَمِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَفِرْقَةٌ فِي أَهْلِ عَهْدِهِمْ حَتَّى لَا يَنْتَقِضُوا، وَلْتَسِرْ فِرْقَةٌ إِلَى إِخْوَانِهِمْ بِالْكُوفَةِ مَدَدًا لَهُمْ ; إِنَّ الْأَعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَدًا قَالُوا: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَمِيرُ الْعَرَبِ وَأَصْلُهَا، فَكَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ لِكَلَبِهِمْ عَلَيْكَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَسِيرِ الْقَوْمِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ أَكْرَهُ لِمَسِيرِهِمْ مِنْكَ، وَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَكْرَهُ، وَأَمَّا عَدَدُهُمْ فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ فِيمَا مَضَى بِالْكَثْرَةِ وَلَكِنْ بِالنَّصْرِ. فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا هُوَ الرَّأْيُ، كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أُتَابَعَ عَلَيْهِ، فَأَشِيرُوا عَلَيَّ بِرَجُلٍ أُوَلِّيهِ. وَقِيلَ: إِنَّ طَلْحَةَ وَعُثْمَانَ وَغَيْرَهُمَا أَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْمَقَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا قَالَ عُمَرُ: أَشِيرُوا عَلَيَّ بِرَجُلٍ أُوَلِّيهِ ذَلِكَ الثَّغْرَ وَلْيَكُنْ عِرَاقِيًّا، قَالُوا: أَنْتَ أَعْلَمُ بِجُنْدِكَ وَقَدْ وَفَدُوا عَلَيْكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُوَلِّيَنَّ أَمْرَهُمْ رَجُلًا يَكُونُ أَوَّلَ الْأَسِنَّةِ إِذَا لَقِيَهَا غَدًا. فَقِيلَ: مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيُّ. فَقَالُوا: هُوَ لَهَا. وَكَانَ النُّعْمَانُ يَوْمَئِذٍ مَعَهُ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَدِ اقْتَحَمُوا جُنْدَيْسَابُورَ وَالسُّوسَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى مَاهٍ لِتَجْتَمِعَ الْجُيُوشُ عَلَيْهِ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ سَارَ بِهِمْ إِلَى الْفَيْرُزَانَ وَمَنْ مَعَهُ. وَقِيلَ بَلْ كَانَ النُّعْمَانُ بِكَسْكَرَ. فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ أَنْ يَعْزِلَهُ وَيَبْعَثَهُ إِلَى جَيْشٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ يَأْمُرُهُ بِنَهَاوَنْدَ، فَسَارَ. فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ لِيَسْتَنْفِرَ النَّاسَ مَعَ النُّعْمَانِ كَذَا وَكَذَا

وَيَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ بِمَاهٍ. فَنَدَبَ النَّاسَ، فَكَانَ أَسْرَعَهُمْ إِلَى ذَلِكَ الرَّوَادِفُ لِيُبْلُوا فِي الدِّينِ وَلْيُدْرِكُوا حَظًّا. فَخَرَجَ النَّاسُ مِنْهَا وَعَلَيْهِمْ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَمَعَهُ نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى النُّعْمَانِ، وَتَقَدَّمَ عُمَرُ إِلَى الْجُنْدِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْأَهْوَازِ لِيَشْغَلُوا فَارِسًا عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمُ الْمُقْتَرِبُ وَحَرْمَلَةُ وَزِرٌّ، فَأَقَامُوا بِتُخُومِ أَصْبَهَانَ وَفَارِسَ وَقَطَعُوا أَمْدَادَ فَارِسَ عَنْ أَهْلِ نَهَاوَنْدَ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى النُّعْمَانِ وَفِيهِمْ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَغَيْرُهُمْ، فَأَرْسَلَ النُّعْمَانُ طُلَيْحَةَ بْنَ خُوَيْلِدٍ، وَعَمْرَوبْنَ مَعْدِ يكَرِبَ، وَعَمْرَوبْنَ ثُنَيٍّ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي سُلْمَى - لِيَأْتُوهُ بِخَبَرِهِمْ. وَخَرَجُوا وَسَارُوا يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ عَمْرُوبْنُ ثُنَيٍّ، فَقَالُوا: مَا رَجَعَكَ؟ فَقَالَ: لَمْ أَكُنْ فِي أَرْضِ الْعَجَمِ، وَقَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلَهَا، وَقَتَلَ أَرْضًا عَالِمُهَا. وَمَضَى طُلَيْحَةُ وَعَمْرُوبْنُ مَعْدِ يكَرِبَ. فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ رَجَعَ عَمْرٌو، فَقَالُوا: مَا رَجَعَكَ؟ قَالَ: سِرْنَا يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلَمْ نَرَ شَيْئًا فَرَجَعْتُ. وَمَضَى طُلَيْحَةُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى نَهَاوَنْدَ. وَبَيْنَ مَوْضِعِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي هُمْ بِهِ وَنَهَاوَنْدَ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَرْسَخًا. فَقَالَ النَّاسُ: ارْتَدَّ طُلَيْحَةُ الثَّانِيَةَ. فَعَلِمَ كَلَامَ الْقَوْمِ وَرَجَعَ. فَلَمَّا رَأَوْهُ كَبَّرُوا. فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ فَأَعْلَمُوهُ بِالَّذِي خَافُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ دِينٌ إِلَّا الْعَرَبِيُّ مَا كُنْتُ لِأُجْزِرَ الْعُجْمَ الطَّمَاطِمَ هَذِهِ الْعَرَبَ الْعَارِبَةَ. فَأَعْلَمَ النُّعْمَانَ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نَهَاوَنْدَ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ وَلَا أَحَدٌ. فَرَحَلَ النُّعْمَانُ وَعَبَّى أَصْحَابَهُ، وَهُمْ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، فَجَعَلَ عَلَى مُقَدَّمَتِهِ نُعَيْمَ بْنَ مُقَرِّنٍ وَعَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَسُوَيْدَ بْنَ مُقَرِّنٍ، وَعَلَى الْمُجَرَّدَةِ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو، وَعَلَى السَّاقَةِ مُجَاشِعَ بْنَ مَسْعُودٍ. وَقَدْ تَوَافَتْ إِلَيْهِ أَمْدَادُ الْمَدِينَةِ فِيهِمُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَانْتَهَوْا إِلَى إِسْبِيذُهَانَ وَالْفُرْسُ وُقُوفٌ عَلَى تَعْبِيَتِهِمْ، وَأَمِيرُهُمُ الْفَيْرُزَانُ وَعَلَى

مُجَنِّبَتَيْهِ الزُّرْدُقُ وَبَهْمَنْ جَاذَوَيْهِ الَّذِي جُعِلَ مَكَانَ ذِي الْحَاجِبِ. وَقَدْ تَوَافَى إِلَيْهِمُ الْأَمْدَادُ بِنَهَاوَنْدَ، كُلُّ مَنْ غَابَ عَنِ الْقَادِسِيَّةِ لَيْسُوا بِدُونِهِمْ، فَلَمَّا رَآهُمُ النُّعْمَانُ كَبَّرَ وَكَبَّرَ مَعَهُ النَّاسُ فَتَزَلْزَلَتِ الْأَعَاجِمُ وَحَطَّتِ الْعَرَبُ الْأَثْقَالَ، وَضُرِبَ فُسْطَاطُ النُّعْمَانِ، فَابْتَدَرَ أَشْرَافُ الْكُوفَةِ فَضَرَبُوهُ، مِنْهُمْ: حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَبَشِيرُ بْنُ الْخَصَاصِيَّةِ، وَحَنْظَلَةُ الْكَاتِبُ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَالْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ وَغَيْرُهُمْ. فَلَمْ يُرَ بُنَّاءُ فُسْطَاطٍ بِالْعِرَاقِ كَهَؤُلَاءِ. وَأَنْشَبَ النُّعْمَانُ الْقِتَالَ بَعْدَ حَطِّ الْأَثْقَالِ، فَاقْتَتَلُوا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ وَالْحَرْبُ بَيْنَهُمْ سِجَالٌ وَإِنَّهُمُ انْجَحَرُوا فِي خَنَادِقِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَحَصَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَأَقَامُوا عَلَيْهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَالْفُرْسُ بِالْخِيَارِ لَا يَخْرُجُونَ إِلَّا إِذَا أَرَادُوا الْخُرُوجَ، فَخَافَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَطُولَ أَمْرُهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتُ يَوْمٍ فِي جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ تَجَمَّعَ أَهْلُ الرَّأْيِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: نَرَاهُمْ عَلَيْنَا بِالْخِيَارِ. وَأَتَوُا النُّعْمَانَ فِي ذَلِكَ فَوَافَوْهُ وَهُوَ يُرَوِّي فِي الَّذِي رَوَّوْا فِيهِ فَأَخْبَرُوهُ، فَبَعَثَ إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ النَّجَدَاتِ وَالرَّأْيِ فَأَحْضَرَهُمْ، فَتَكَلَّمَ النُّعْمَانُ فَقَالَ: قَدْ تَرَوْنَ الْمُشْرِكِينَ وَاعْتِصَامَهُمْ بِخَنَادِقِهِمْ وَمُدُنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ إِلَيْنَا إِلَّا إِذَا شَاءُوا وَلَا يَقْدِرُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ. وَقَدْ تَرَوْنَ الَّذِي فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ التَّضَايُقِ، فَمَا الرَّأْيُ الَّذِي بِهِ نَسْتَخْرِجُهُمْ إِلَى الْمُنَاجَزَةِ وَتَرْكِ التَّطْوِيلِ؟ فَتَكَلَّمَ عَمْرُوبْنُ ثُنَيٍّ، وَكَانَ أَكْبَرَ النَّاسِ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ عَلَى الْأَسْنَانِ، فَقَالَ: التَّحَصُّنُ عَلَيْهِمْ أَشَدُّ مِنَ الْمُطَاوَلَةِ عَلَيْكُمْ فَدَعْهُمْ وَقَاتِلْ مَنْ أَتَاكَ مِنْهُمْ. فَرَدُّوا عَلَيْهِ رَأْيَهُ. وَتَكَلَّمَ عَمْرُوبْنُ مَعْدِ يكَرِبَ فَقَالَ: نَاهِدْهُمْ وَكَابِرْهُمْ وَلَا تَخَفْهُمْ، فَرَدُّوا جَمِيعًا عَلَيْهِ رَأْيَهُ وَقَالُوا: إِنَّمَا يُنَاطِحُ بِنَا الْجُدْرَانَ وَهِيَ أَعْوَانٌ عَلَيْنَا. وَقَالَ طُلَيْحَةُ: أَرَى أَنْ نَبْعَثَ خَيْلًا لِيُنْشِبُوا الْقِتَالَ، فَإِذَا اخْتَلَطُوا بِهِمْ رَجَعُوا إِلَيْنَا اسْتِطْرَادًا، فَإِنَّا لَمْ نَسْتَطْرِدْ لَهُمْ فِي طُولِ مَا قَاتَلْنَاهُمْ، فَإِذَا رَأَوْا ذَلِكَ طَمِعُوا وَخَرَجُوا

فَقَاتَلْنَاهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيهِمْ وَفِينَا مَا أَحَبَّ. فَأَمَرَ [النُّعْمَانُ] الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو، وَكَانَ عَلَى الْمُجَرَّدَةِ، فَأَنْشَبَ الْقِتَالَ، فَأَخْرَجَهُمْ مِنْ خَنَادِقِهِمْ كَأَنَّهُمْ جِبَالُ حَدِيدٍ قَدْ تَوَاثَقُوا أَنْ لَا يَفِرُّوا، وَقَدْ قَرَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كُلُّ سَبْعَةٍ فِي قِرَانٍ، وَأَلْقَوْا حَسَكَ الْحَدِيدِ خَلْفَهُمْ لِئَلَّا يَنْهَزِمُوا. فَلَمَّا خَرَجُوا نَكَصَ ثُمَّ نَكَصَ، وَاغْتَنَمَهَا الْأَعَاجِمُ فَفَعَلُوا كَمَا ظَنَّ طُلَيْحَةُ وَقَالُوا: هِيَ هِيَ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ يَقُومُ عَلَى الْأَبْوَابِ وَرَكِبُوهُمْ. وَلَحِقَ الْقَعْقَاعُ بِالنَّاسِ، وَانْقَطَعَ الْفُرْسُ عَنْ حِصْنِهِمْ بَعْضَ الِانْقِطَاعِ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى تَعْبِيَةٍ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ صَدْرَ النَّهَارِ، وَقَدْ عَهِدَ النُّعْمَانُ إِلَى النَّاسِ عَهْدَهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَلْزَمُوا الْأَرْضَ وَلَا يُقَاتِلُوا حَتَّى يَأْذَنَ لَهُمْ، فَفَعَلُوا وَاسْتَتَرُوا بِالْحَجَفِ مِنَ الرَّمْيِ، وَأَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ يَرْمُونَهُمْ حَتَّى أَفْشَوْا فِيهِمُ الْجِرَاحَ. وَشَكَا بَعْضُ النَّاسِ وَقَالُوا لِلنُّعْمَانِ: أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَمَا تَنْتَظِرُ بِهِمْ؟ ائْذَنْ لِلنَّاسِ فِي قِتَالِهِمْ. فَقَالَ رُوَيْدًا رُوَيْدًا. وَانْتَظَرَ النُّعْمَانُ بِالْقِتَالِ أَحَبَّ السَّاعَاتِ كَانَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَلْقَى الْعَدُوَّ فِيهَا وَذَلِكَ عِنْدَ الزَّوَالِ، فَلَمَّا كَانَ قَرِيبًا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ رَكِبَ فَرَسَهُ وَسَارَ فِي النَّاسِ، وَوَقَفَ عَلَى كُلِّ رَايَةٍ يُذَكِّرُهُمْ وَيُحَرِّضُهُمْ وَيُمَنِّيهِمُ الظَّفَرَ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي مُكَبِّرٌ ثَلَاثًا، فَإِذَا كَبَّرْتُ الثَّالِثَةَ فَإِنِّي حَامِلٌ فَاحْمِلُوا، وَإِنْ قُتِلْتُ فَالْأَمِيرُ بَعْدِي حُذَيْفَةُ، فَإِنْ قُتِلَ فَفُلَانٌ، حَتَّى عَدَّ سَبْعَةً آخِرُهُمُ الْمُغِيرَةُ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعْزِزْ دِينَكَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ، وَاجْعَلِ النُّعْمَانَ أَوَّلَ شَهِيدٍ الْيَوْمَ عَلَى إِعْزَازِ دِينِكَ وَنَصْرِ عِبَادِكَ. وَقِيلَ: بَلْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُقِرَّ عَيْنِي الْيَوْمَ بِفَتْحٍ يَكُونُ فِيهِ عِزُّ الْإِسْلَامِ وَاقْبِضْنِي شَهِيدًا. فَبَكَى النَّاسُ. وَرَجَعَ إِلَى مَوْقِفِهِ فَكَبَّرَ ثَلَاثًا وَالنَّاسُ سَامِعُونَ مُطِيعُونَ مُسْتَعِدُّونَ لِلْقِتَالِ، وَحَمَلَ النُّعْمَانُ وَالنَّاسُ مَعَهُ وَانْقَضَّتْ رَايَتُهُ انْقِضَاضَ الْعُقَابِ وَالنُّعْمَانُ مُعَلَّمٌ بِبَيَاضِ الْقَبَاءِ وَالْقَلَنْسُوَةِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يَسْمَعِ السَّامِعُونَ بِوَقْعَةٍ كَانَتْ أَشَدَّ مِنْهَا، وَمَا كَانَ يُسْمَعُ إِلَّا وَقْعُ الْحَدِيدِ، وَصَبَرَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ صَبْرًا عَظِيمًا، وَانْهَزَمَ الْأَعَاجِمُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَا بَيْنَ الزَّوَالِ وَالْإِعْتَامِ مَا طَبَّقَ أَرْضَ الْمَعْرَكَةِ دَمًا يُزْلِقُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ.

فَلَمَّا أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَ النُّعْمَانِ بِالْفَتْحِ اسْتَجَابَ لَهُ فَقُتِلَ شَهِيدًا، زَلَقَ بِهِ فَرَسُهُ فَصُرِعَ. وَقِيلَ: بَلْ رُمِيَ بِسَهْمٍ فِي خَاصِرَتِهِ فَقَتَلَهُ، فَسَجَّاهُ أَخُوهُ نُعَيْمٌ بِثَوْبٍ، وَأَخَذَ الرَّايَةَ وَنَاوَلَهَا حُذَيْفَةَ، فَأَخَذَهَا وَتَقَدَّمَ إِلَى مَوْضِعِ النُّعْمَانِ وَتَرَكَ نُعَيْمًا مَكَانَهُ. وَقَالَ لَهُمُ الْمُغِيرَةُ: اكْتُمُوا مُصَابَ أَمِيرِكُمْ حَتَّى نَنْتَظِرَ مَا يَصْنَعُ اللَّهُ فِينَا وَفِيهِمْ لِئَلَّا يَهِنَ النَّاسُ. فَاقْتَتَلُوا. فَلَمَّا أَظْلَمَ اللَّيْلُ عَلَيْهِمُ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَذَهَبُوا، وَلَزِمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَعُمِّيَ عَلَيْهِمْ قَصْدُهُمْ فَتَرَكُوهُ وَأَخَذُوا نَحْوَ اللَّهَبِ الَّذِي كَانُوا دُونَهُ بَإِسْبِيذُهَانَ فَوَقَعُوا فِيهِ، فَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَقَعُ فَيَقَعُ عَلَيْهِ سِتَّةٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضِهِمْ فِي قِيَادٍ وَاحِدٍ فَيُقْتَلُونَ جَمِيعًا، وَجَعَلَ يَعْقِرُهُمْ حَسَكُ الْحَدِيدِ، فَمَاتَ مِنْهُمْ فِي اللَّهَبِ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ سِوَى مَنْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ. وَقِيلَ: قُتِلَ فِي اللَّهَبِ ثَمَانُونَ أَلْفًا، وَفِي الْمَعْرَكَةِ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، سِوَى مَنْ قُتِلَ فِي الطَّلَبِ، وَلَمْ يُفْلِتْ إِلَّا الشَّرِيدُ، وَنَجَا الْفَيْرُزَانُ مِنْ بَيْنِ الصَّرْعَى فَهَرَبَ نَحْوَ هَمَذَانَ، فَاتَّبَعَهُ نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَقَدَّمَ الْقَعْقَاعَ قُدَّامَهُ فَأَدْرَكَهُ بِثَنِيَّةِ هَمَذَانَ، وَهِيَ إِذْ ذَاكَ مَشْحُونَةٌ مِنْ بِغَالٍ وَحَمِيرٍ مُوقَرَةٍ عَسَلًا، فَحَبَسَهُ الدَّوَابُّ عَلَى أَجَلِهِ. فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَصَعِدَ فِي الْجَبَلِ، فَتَبِعَهُ الْقَعْقَاعُ رَاجِلًا فَأَدْرَكَهُ فَقَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الثَّنِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّ لِلَّهِ جُنُودًا مِنْ عَسَلٍ. وَاسْتَاقُوا الْعَسَلَ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْأَحْمَالِ. وَسُمِّيَتِ الثَّنِيَّةُ ثَنِيَّةَ الْعَسَلِ. وَدَخَلَ الْمُشْرِكُونَ هَمَذَانَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي آثَارِهِمْ فَنَزَلُوا عَلَيْهَا وَأَخَذُوا مَا حَوْلَهَا. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خُسْرَوْشُنُومُ اسْتَأْمَنَهُمْ، وَلَمَّا تَمَّ الظَّفَرُ لِلْمُسْلِمِينَ جَعَلُوا يَسْأَلُونَ عَنْ أَمِيرِهِمُ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، فَقَالَ لَهُمْ أَخُوهُ مَعْقِلٌ: هَذَا أَمِيرُكُمْ قَدْ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ بِالْفَتْحِ وَخَتَمَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ فَاتَّبِعُوا حُذَيْفَةَ. وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ نَهَاوَنْدَ يَوْمَ الْوَقْعَةِ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ وَاحْتَوَوْا مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَغَيْرِهَا وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْأَسْلَابِ وَالْأَثَاثِ وَجَمَعُوا إِلَى صَاحِبِ الْأَقْبَاضِ السَّائِبِ بْنِ الْأَقْرَعِ. وَانْتَظَرَ مَنْ بِنَهَاوَنْدَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ عَلَى هَمَذَانَ مَعَ الْقَعْقَاعِ وَنُعَيْمٍ، فَأَتَاهُمُ الْهِرْبِذُ صَاحِبُ بَيْتِ النَّارِ عَلَى أَمَانٍ، فَأُبْلِغَ حُذَيْفَةُ، فَقَالَ: أَتُؤَمِّنُنِي وَمَنْ شِئْتُ عَلَى أَنْ أُخْرِجَ لَكَ ذَخِيرَةً لِكِسْرَى تُرِكَتْ عِنْدِي لِنَوَائِبِ الزَّمَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَحْضَرَ جَوْهَرًا نَفِيسًا فِي سَفَطَيْنِ، فَأَرْسَلَهُمَا مَعَ الْأَخْمَاسِ إِلَى عُمَرَ. وَكَانَ حُذَيْفَةُ قَدْ نَفَّلَ مِنْهَا وَأَرْسَلَ الْبَاقِيَ مَعَ السَّائِبِ بْنِ

الْأَقْرَعِ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَ كَاتِبًا حَاسِبًا، أَرْسَلَهُ عُمَرُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ لَهُ: إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَاقْسِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيْئَهُمْ وَخُذِ الْخُمُسَ، وَإِنْ هَلَكَ هَذَا الْجَيْشُ فَاذْهَبْ فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرِهَا. قَالَ السَّائِبُ: فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَحْضَرَ الْفَارِسِيُّ السَّفَطَيْنِ اللَّذَيْنِ أَوْدَعَهُمَا عِنْدَهُ النَّخَيْرَجَانُ فَإِذَا فِيهِمَا اللُّؤْلُؤُ وَالزَّبَرْجَدُ وَالْيَاقُوتُ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الْقِسْمَةِ احْتَمَلْتُهُمَا مَعِي وَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ، وَكَانَ قَدْ قَدَّرَ الْوَقْعَةَ فَبَاتَ يَتَمَلْمَلُ وَيَخْرُجُ وَيَتَوَقَّعُ الْأَخْبَارَ، فَبَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَرَجَ فِي بَعْضِ حَوَائِجِهِ فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيْلًا، فَمَرَّ بِهِ رَاكِبٌ فَسَأَلَهُ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَ؟ فَقَالَ: مِنْ نَهَاوَنْدَ، وَأَخْبَرَهُ بِالْفَتْحِ وَقَتْلِ النُّعْمَانِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الرَّجُلُ تَحَدَّثَ بِهَذَا بَعْدَ ثَلَاثٍ مِنَ الْوَقْعَةِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ عُمَرَ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: ذَلِكَ بَرِيدُ الْجِنِّ. ثُمَّ قَدِمَ الْبَرِيدُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا يَسُرُّهُ وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِقَتْلِ النُّعْمَانِ. قَالَ السَّائِبُ: فَخَرَجَ عُمَرُ مِنَ الْغَدِ يَتَوَقَّعُ الْأَخْبَارَ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ: مَا وَرَاءَكَ؟ فَقُلْتُ: خَيْرًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَأَعْظَمَ الْفَتْحَ، وَاسْتُشْهِدَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ بَكَى فَنَشَجَ حَتَّى بَانَتْ فُرُوعُ كَتِفَيْهِ فَوْقَ كَتِدِهِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ وَمَا لَقِيَ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أُصِيبَ بَعْدَهُ رَجُلٌ يُعْرَفُ وَجْهُهُ. فَقَالَ: أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّ الَّذِي أَكْرَمَهُمْ بِالشَّهَادَةِ يَعْرِفُ وُجُوهَهُمْ وَأَنْسَابَهُمْ، وَمَا يَصْنَعُ أُولَئِكَ بِمَعْرِفَةِ عُمَرَ! ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ بِالسَّفَطَيْنِ فَقَالَ: أَدْخِلْهُمَا بَيْتَ الْمَالِ حَتَّى نَنْظُرَ فِي شَأْنِهِمَا وَالْحَقْ بِجُنْدِكَ. قَالَ: فَفَعَلْتُ وَخَرَجْتُ سَرِيعًا إِلَى الْكُوفَةِ. وَبَاتَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ بَعَثَ فِي أَثَرِي رَسُولًا، فَمَا أَدْرَكَنِي حَتَّى دَخَلْتُ الْكُوفَةَ فَأَنَخْتُ بَعِيرِي وَأَنَاخَ بِعِيرَهُ عَلَى عُرْقُوبَيْ بَعِيرِي فَقَالَ: الْحَقْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ بَعَثَنِي فِي طَلَبِكَ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْكَ إِلَّا الْآنَ. قَالَ: فَرَكِبْتُ مَعَهُ فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: إِلَيَّ وَمَا لِي وَلِلسَّائِبِ! قُلْتُ: وَلِمَاذَا؟ قَالَ: وَيْحَكَ وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ نِمْتُ اللَّيْلَةَ الَّتِي خَرَجْتَ فِيهَا فَبَاتَتِ الْمَلَائِكَةُ تَسْتَحِبُنِي إِلَى السَّفَطَيْنِ يَشْتَعِلَانِ نَارًا فَيَقُولُونَ: لَنَكْوِيَنَّكَ بِهِمَا، فَأَقُولُ: إِنِّي سَأُقَسِّمُهُمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. فَخُذْهُمَا عَنِّي فَبِعْهُمَا فِي أَعْطِيَةِ الْمُسْلِمِينَ

وَأَرْزَاقِهِمْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ بِهِمَا فَوَضَعْتُهُمَا فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، فَابْتَاعَهُمَا مِنِّي عَمْرُوبْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ بِأَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمَا إِلَى أَرْضِ الْأَعَاجِمِ فَبَاعَهُمَا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ أَلْفٍ، فَمَا زَالَ أَكْثَرَ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَالًا. وَكَانَ سَهْمُ الْفَارِسِ بِنَهَاوَنْدَ سِتَّةَ آلَافٍ وَسَهْمُ الرَّاجِلِ أَلْفَيْنِ. وَلَمَّا قَدِمَ سَبْيُ نَهَاوَنْدَ الْمَدِينَةَ جَعَلَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ لَا يَلْقَى مِنْهُمْ صَغِيرًا إِلَّا مَسَحَ رَأْسَهُ وَبَكَى وَقَالَ لَهُ: أَكَلَ عُمَرُ كَبِدِي! وَكَانَ مِنْ نَهَاوَنْدَ فَأَسَرَتْهُ الرُّومُ وَأَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الرُّومِ فَنُسِبَ إِلَى حَيْثُ سُبِيَ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَ فَتْحَ نَهَاوَنْدَ فَتْحَ الْفُتُوحِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْفُرْسِ بَعْدَهُ اجْتِمَاعٌ. وَمَلَكَ الْمُسْلِمُونَ بِلَادَهُمْ. ذكر فَتْحِ الدِّينَوَرِ وَالصَّيْمَرَةِ وَغَيْرِهِمَا لَمَّا انْصَرَفَ أَبُو مُوسَى مِنْ نَهَاوَنْدَ، وَكَانَ قَدْ جَاءَ مَدَدًا عَلَى بَعْثِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَمَرَّ بِالدِّينَوَرِ فَأَقَامَ عَلَيْهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى الْجِزْيَةِ وَمَضَى، فَصَالَحَهُ أَهْلُ سِيرَوَانَ عَلَى مِثْلِ صُلْحِهِمْ، وَبَعَثَ السَّائِبَ بْنَ الْأَقْرَعِ الثَّقَفِيَّ إِلَى الصَّيْمَرَةِ مَدِينَةِ مِهْرِجَانَ قَذَقَ فَفَتَحَهَا صُلْحًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَجَّهَ السَّائِبَ مِنَ الْأَهْوَازِ فَفَتَحَ وِلَايَةَ مِهْرِجَانَ قَذَقَ. ذكر فَتْحِ هَمَذَانَ وَالْمَاهَيْنِ وَغَيْرِهِمَا لَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ دَخَلَ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ هَمَذَانَ وَحَاصَرَهُمْ نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ

وَالْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خُسْرَوْشُنُومُ اسْتَأْمَنَهُمْ وَقَبِلَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ مِنْهُمْ هَمَذَانَ وَدَسْتَبَى وَأَلَّا يُؤْتَى الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ وَآمَنُوهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْفُرْسِ، وَأَقْبَلَ كُلُّ مَنْ كَانَ هَرَبَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ الْمَاهَيْنِ بِفَتْحِ هَمَذَانَ وَمُلْكِهَا وَنُزُولِ نُعَيْمٍ وَالْقَعْقَاعِ بِهَا، فَاقْتَدَوْا بِخُسْرَوْشُنُومَ فَرَاسَلُوا حُذَيْفَةَ فَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا وَأَجْمَعُوا عَلَى الْقَبُولِ وَأَجْمَعُوا عَلَى إِتْيَانِ حُذَيْفَةَ، فَخَدَعَهُمْ دِينَارٌ وَهُوَ أَحَدُ أُولَئِكَ الْمُلُوكِ، وَكَانَ أَشْرَفَهُمْ قَارِنُ، وَقَالَ: لَا تَلْقَوْهُمْ فِي جَمَالِكُمْ، فَفَعَلُوا، وَخَالَفَهُمْ فَأَتَاهُمْ فِي الدِّيبَاجِ وَالْحُلِيِّ فَأَعْطَاهُمْ حَاجَتَهُمْ، وَاحْتَمَلَ الْمُسْلِمُونَ مَا أَرَادُوا وَعَاقَدُوهُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَجِدِ الْآخَرُونَ بُدًّا مِنْ مُتَابَعَتِهِ وَالدُّخُولِ فِي أَمْرِهِ، فَقِيلَ " مَاهَ دِينَارٌ " لِذَلِكَ. وَكَانَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ قَدْ عَاقَدَ بِهْرَاذَانَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَنُسِبَ إِلَى بِهْرَاذَانَ، وَكَانَ قَدْ وَكَّلَ النُّسَيْرَ بْنَ ثَوْرٍ بِقَلْعَةٍ قَدْ لَجَأَ إِلَيْهَا قَوْمٌ فَجَاهَدَهُمْ فَافْتَتَحَهَا فَنُسِبَتْ إِلَى النُّسَيْرِ وَهُوَ تَصْغِيرُ نَسْرٍ. قِيلَ: دَخَلَ دِينَارٌ الْكُوفَةَ أَيَّامَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ إِنَّكُمْ أَوَّلَ مَا مَرَرْتُمْ بِنَا كُنْتُمْ خِيَارَ النَّاسِ، فَبَقِيتُمْ كَذَلِكَ زَمَنَ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، ثُمَّ تَغَيَّرْتُمْ وَفَشَتْ فِيكُمْ خِصَالٌ أَرْبَعٌ: بُخْلٌ، وَخِبٌّ، وَغَدْرٌ، وَضِيقٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، وَقَدْ رَمَقْتُكُمْ فَرَأَيْتُ ذَلِكَ فِي مُوَلَّدِيكُمْ فَعَلِمْتُ مِنْ أَيْنَ أُتِيتُمْ، فَإِذَا الْخِبُّ مِنْ قِبَلِ النَّبَطِ، وَالْبُخْلُ مِنْ قِبَلِ فَارِسَ، وَالْغَدْرُ مِنْ قِبَلِ خُرَاسَانَ، وَالضِّيقُ مِنْ قِبَلِ الْأَهْوَازِ. ذكر دُخُولِ الْمُسْلِمِينَ بِلَادَ الْأَعَاجِمِ وَفِيهَا أَمَرَ عُمَرُ الْمُسْلِمِينَ بِالِانْسِيَاحِ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ وَطَلَبِ الْفُرْسِ أَيْنَ كَانُوا، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ يَزْدَجِرْدَ وَبَعْثِهِ الْجُنُودَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَوَجَّهَ الْأُمَرَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ بَعْدَ فَتْحِ نَهَاوَنْدَ، وَكَانَ بَيْنَ عَمَلِ سَعْدٍ وَعَمَلِ عَمَّارٍ أَمِيرَانِ، أَحَدُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ، وَفِي زَمَانِهِ كَانَتْ وَقْعَةُ نَهَاوَنْدَ، وَالْآخَرُ زِيَادُ بْنُ حَنْظَلَةَ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ، وَفِي زَمَانِهِ أُمِرَ بِالِانْسِيَاحِ وَعُزِلَ عَبْدُ اللَّهِ وَبُعِثَ فِي وَجْهٍ آخَرَ، وَوُلِّيَ زِيَادٌ، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَعَمِلَ

ذكر فتح أصبهان

قَلِيلًا وَأَلَحَّ فِي الِاسْتِعْفَاءِ فَأَعْفَاهُ عُمَرُ، وَوَلَّى عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ: إِنِّي بَعَثْتُ عَمَّارًا أَمِيرًا وَجَعَلْتُ مَعَهُ ابْنَ مَسْعُودٍ مُعَلِّمًا. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِحِمْصَ فَسَيَّرَهُ عُمَرُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَأَمَدَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَمَدَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ بِأَبِي مُوسَى. وَكَانَ أَهْلُ هَمَذَانَ قَدْ كَفَرُوا بَعْدَ الصُّلْحِ، فَبَعَثَ عُمَرُ لِوَاءً إِلَى نُعَيْمِ بْنِ مُقَرِّنٍ وَأَمَرَهُ بِقَصْدِ هَمَذَانَ، فَإِذَا فَتَحَهَا سَارَ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَبَعَثَ عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ وَبُكَيْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا مِنْ حُلْوَانَ وَالْآخَرُ مِنَ الْمَوْصِلِ، وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَأَمَّرَ عُمَرُ سُرَاقَةَ عَلَى الْبَصْرَةِ. [ذكر فَتْحِ أَصْبَهَانَ] وَفِيهَا بَعَثَ عُمَرُ إِلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ، وَكَانَ شُجَاعًا مِنْ أَشْرَافِ الصَّحَابَةِ وَمِنْ وُجُوهِ الْأَنْصَارِ حَلِيفًا لِبَنِي الْحُبُلِيِّ، وَأَمَدَّهُ بِأَبِي مُوسَى، وَجَعَلَ عَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيَّ وَعِصْمَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَارُوا إِلَى نَهَاوَنْدَ، وَرَجَعَ حُذَيْفَةُ إِلَى عَمَلِهِ عَلَى مَا سَقَتْ دِجْلَةُ وَمَا وَرَاءَهَا، وَسَارَ عَبْدُ اللَّهِ فِيمَنْ كَانَ مَعَهُ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ جُنْدِ النُّعْمَانِ بِنَهَاوَنْدَ نَحْوَ أَصْبَهَانَ، وَعَلَى جُنْدِهَا الْأَسْبِيدَانُ، وَعَلَى مُقَدَّمَتِهِ شَهْرَيَارُ بْنُ جَاذَوَيْهِ، شَيْخٌ كَبِيرٌ، فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ، وَمُقَدَّمَةُ الْمُشْرِكِينَ بِرُسْتَاقٍ لِأَصْبَهَانَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَدَعَا الشَّيْخُ إِلَى الْبِرَازِ، فَبَرَزَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيُّ فَقَتَلَهُ، وَانْهَزَمَ أَهْلُ أَصْبَهَانَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الرُّسْتَاقُ رُسْتَاقَ الشَّيْخِ إِلَى الْيَوْمِ، وَصَالَحَهُمُ الْأَسْبِيدَانُ عَلَى رُسْتَاقِ الشَّيْخِ، وَهُوَ أَوَّلُ رُسْتَاقٍ أُخِذَ مِنْ أَصْبَهَانَ. ثُمَّ سَارَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى مَدِينَةِ جَيٍّ وَهِيَ مَدِينَةُ أَصْبَهَانَ، فَانْتَهَى إِلَيْهَا وَالْمَلِكُ بِأَصْبَهَانَ الْفَاذُوسْفَانُ، فَنَزَلَ بِالنَّاسِ عَلَى جَيٍّ وَحَاصَرَهَا وَقَاتَلَهَا، ثُمَّ صَالَحَهُ الْفَاذُوسْفَانُ عَلَى أَصْبَهَانَ وَأَنَّ عَلَى مَنْ أَقَامَ الْجِزْيَةَ وَأَقَامَ عَلَى مَالِهِ وَأَنْ يَجْرِيَ مَنْ أُخِذَتْ أَرْضُهُ عَنْوَةً مَجْرَاهُمْ وَمَنْ أَبَى وَذَهَبَ كَانَ لَكُمْ أَرْضُهُ، وَقَدِمَ أَبُو مُوسَى عَلَى عَبْدِ اللَّهِ مِنْ نَاحِيَةِ

الْأَهْوَازِ وَقَدْ صَالَحَ، فَخَرَجَ الْقَوْمُ مِنْ جَيٍّ وَدَخَلُوا فِي الذِّمَّةِ إِلَّا ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ لَحِقُوا بِكَرْمَانَ. وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو مُوسَى جَيًّا، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ. فَقَدِمَ كِتَابُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ: أَنْ سِرْ حَتَّى تَقْدُمَ عَلَى سُهَيْلِ بْنِ عَدِيٍّ فَتَكُونَ مَعَهُ عَلَى قِتَالِ مَنْ بِكَرْمَانَ، فَسَارَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى أَصْبَهَانَ السَّائِبَ بْنَ الْأَقْرَعِ، وَلَحِقَ بِسُهَيْلٍ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى كَرْمَانَ. قِيلَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ الْأَمِيرَ كَانَ عَلَى الْجُنْدِ الَّذِينَ فَتَحُوا أَصْبَهَانَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَأَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أَصْبَهَانَ وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنْ يُمِدُّوهُ، فَسَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ وَبِهَا مَلِكُهَا ذُو الْحَاجِبَيْنِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ وَعَادَ مِنْ عِنْدِهِ فَقَاتَلَهُمْ، وَقُتِلَ النُّعْمَانُ وَوَقَعَ ذُو الْحَاجِبَيْنِ عَنْ دَابَّتِهِ فَانْشَقَّتْ بَطْنُهُ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ. قَالَ مَعْقِلٌ: فَأَتَيْتُ النُّعْمَانَ وَهُوَ صَرِيعٌ فَجَعَلْتُ عَلَيْهِ عَلَمًا. فَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ أَتَيْتُهُ، وَمَعِي إِدَاوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَغَسَلْتُ عَنْ وَجْهِهِ التُّرَابَ فَقَالَ: مَا فَعَلَ النَّاسُ؟ فَقُلْتُ: فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ! وَمَاتَ. هَكَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ النُّعْمَانَ قُتِلَ بِنَهَاوَنْدَ وَافْتَتَحَ أَبُو مُوسَى قُمَّ وَقَاشَانَ. ذكر وِلَايَةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَلَى الْكُوفَةِ وَفِيهَا وَلَّى عُمَرُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ عَلَى الْكُوفَةِ، وَابْنَ مَسْعُودٍ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. فَشَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ عَمَّارًا، فَاسْتَعْفَى عَمَّارٌ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَوَلَّى عُمَرُ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ الْكُوفَةَ، وَقَالَ لَهُ: لَا تَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ. فَسَمِعَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ عُمَرَ خَلَا بِجُبَيْرٍ، فَأَرْسَلَ امْرَأَتَهُ إِلَى امْرَأَةِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ لِتَعْرِضَ عَلَيْهَا طَعَامَ السَّفَرِ، فَفَعَلَتْ، فَقَالَتْ: نِعْمَ مَا حَيَّيْتِنِي بِهِ. فَلَمَّا عَلِمَ الْمُغِيرَةُ جَاءَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَنْ وَلَّيْتَ! وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَعَزَلَهُ وَوَلَّى الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ الْكُوفَةَ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ عُمَرُ. وَقِيلَ: إِنَّ عَمَّارًا عُزِلَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَوَلِيَ بَعْدَهُ أَبُو مُوسَى. وَسَيَرِدُ ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ

قِيلَ وَفِيهَا بَعَثَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عُقْبَةَ بْنَ نَافِعٍ الْفِهْرِيَّ فَافْتَتَحَ زَوِيلَةَ صُلْحًا، وَمَا بَيْنَ بَرْقَةَ وَزَوِيلَةَ سِلْمٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ سَنَةَ عِشْرِينَ. كَانَ الْأُمَرَاءُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ: عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ عَلَى دِمَشْقَ وَحَوْرَانَ وَحِمْصَ وَقِنَّسْرِينَ وَالْجَزِيرَةِ، وَمُعَاوِيَةَ عَلَى الْبَلْقَاءِ وَالْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ وَالسَّوَاحِلِ وَأَنْطَاكِيَةَ وَقِلِقِيَّةَ وَمَعَرَّةَ مَصْرِينَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ صَالَحَ أَبُو هَاشِمِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ عَلَى قِلِقِيَّةَ وَأَنْطَاكِيَةَ وَمَعَرَّةَ مَصْرِينَ. وَفِيهَا وُلِدَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ. وَكَانَ عَامِلُهُ عَلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَالْيَمَنِ وَالْيَمَامَةِ وَمِصْرَ وَالْبَصْرَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَشُرَيْحٌ عَلَى الْقَضَاءِ. وَفِيهَا بَعَثَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بَعْثًا إِلَى سَاحِلِ فَارِسَ فَحَارَبُوهُمْ وَمَعَهُمُ الْجَارُودُ الْعَبْدِيُّ، فَقُتِلَ الْجَارُودُ بِعَقَبَةٍ تُعْرَفُ بِعَقَبَةِ الْجَارُودِ. وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ بِنَهَاوَنْدَ مَعَ النُّعْمَانِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ حَمَمَةُ، وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ، بِأَصْبَهَانَ بَعْدَ فَتْحِهَا. وَالْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَهُوَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، فَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ مَكَانَهُ أَبَا هُرَيْرَةَ. وَفِيهَا مَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحِمْصَ وَأَوْصَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ: مَاتَ بِالْمَدِينَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ] 22 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ افْتُتِحَتْ أَذْرَبِيجَانُ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ هَمَذَانَ وَالرَّيِّ وَجُرْجَانَ، فَنَبْدَأُ بِذِكْرِ فَتْحِ هَذِهِ الْبِلَادِ ثُمَّ نَذْكُرُ أَذْرَبِيجَانَ بَعْدَهَا. ذكر فَتْحِ هَمَذَانَ ثَانِيًا قَدْ تَقَدَّمَ مَسِيرُ نُعَيْمِ بْنِ مُقَرِّنٍ إِلَى هَمَذَانَ وَفَتْحِهَا عَلَى يَدِهِ وَيَدِ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو، فَلَمَّا رَجَعَا عَنْهَا كَفَرَ أَهْلُهَا مَعَ خُسْرَوْشُنُومَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَهْدُ نُعَيْمٍ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ وَدَّعَ حُذَيْفَةَ وَسَارَ يُرِيدُ هَمَذَانَ وَعَادَ حُذَيْفَةُ إِلَى الْكُوفَةِ، فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ عَلَى تَعْبِيَةٍ إِلَى هَمَذَانَ فَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِهَا جَمِيعًا وَحَاصَرَهَا، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُهَا ذَلِكَ سَأَلُوا الصُّلْحَ فَفَعَلَ وَقَبِلَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ فَتْحَهَا كَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ بَعْدَ مَقْتَلِ عُمَرَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. فَبَيْنَمَا نُعَيْمٌ بِهَمَذَانَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الْجُنْدِ كَاتَبَ الدَّيْلَمَ وَأَهْلَ الرَّيِّ وَأَذْرَبِيجَانَ، إِذْ خَرَجَ مُوتَا فِي الدَّيْلَمِ حَتَّى نَزَلَ بِوَاجِ رُوذَ، وَأَقْبَلَ الزَّيْنَبِيُّ أَبُو الْفَرُّخَانِ فِي أَهْلِ الرَّيِّ، وَأَقْبَلَ أَسْفَنْدِيَارُ أَخُو رُسْتُمَ فِي أَهْلِ أَذْرَبِيجَانَ، فَاجْتَمَعُوا وَتَحَصَّنَ مِنْهُمْ أُمَرَاءُ الْمَسَالِحِ وَبَعَثُوا إِلَى نُعَيْمٍ بِالْخَبَرِ، فَاسْتَخْلَفَ يَزِيدَ بْنَ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيَّ وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَاقْتَتَلُوا بِوَاجِ رُوذَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَتْ وَقْعَةً عَظِيمَةً تَعْدِلُ بِنَهَاوَنْدَ، فَانْهَزَمَ الْفُرْسُ هَزِيمَةً قَبِيحَةً وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ كَبِيرَةٌ لَا يُحْصَوْنَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى عُمَرَ مُبَشِّرًا، فَأَمَرَ عُمَرُ نُعَيْمًا بِقَصْدِ الرَّيِّ وَقِتَالِ مَنْ بِهَا وَالْمُقَامِ بِهَا بَعْدَ فَتْحِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، وَهُوَ عَامِلٌ عَلَى الْكُوفَةِ،

أَرْسَلَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى هَمَذَانَ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا وَأُصِيبَتْ عَيْنُهُ بِسَهْمٍ، فَقَالَ: احْتَسَبْتُهَا عِنْدَ اللَّهِ الَّذِي زَيَّنَ بِهَا وَجْهِي وَنَوَّرَ لِي مَا شَاءَ ثُمَّ سَلَبَنِيهَا فِي سَبِيلِهِ. ثُمَّ فَتَحَهَا عَلَى مِثْلِ صُلْحِ نَهَاوَنْدَ وَغَلَبَ عَلَى أَرْضِهَا قَسْرًا. وَقِيلَ: كَانَ فَتْحُهَا عَلَى يَدِ الْمُغِيرَةِ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ جَرِيرٌ عَلَى مُقَدَّمَتِهِ. وَقِيلَ: فَتَحَهَا قَرَظَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيُّ. ذكر فَتْحِ قَزْوِينَ وَزَنْجَانَ لَمَّا سَيَّرَ الْمُغِيرَةُ جَرِيرًا إِلَى هَمَذَانَ فَفَتَحَهَا سَيَّرَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ فِي جَيْشٍ إِلَى قَزْوِينَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهَا، فَإِنْ فَتَحَهَا غَزَا الدَّيْلَمَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ مَغْزَاهُمْ قَبْلُ مِنْ دَسْتَبَى. فَسَارَ الْبَرَاءُ حَتَّى أَتَى أَبْهَرَ، وَهُوَ حِصْنٌ، فَقَاتَلُوهُ، ثُمَّ طَلَبُوا الْأَمَانَ فَآمَنَهُمْ وَصَالَحَهُمْ، ثُمَّ غَزَا قَزْوِينَ، فَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَهَا الْخَبَرُ أَرْسَلُوا إِلَى الدَّيْلَمِ يَطْلُبُونَ النُّصْرَةَ فَوَعَدُوهُمْ، وَوَصَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ فَخَرَجُوا لِقِتَالِهِمْ، وَالدَّيْلَمُ وُقُوفٌ عَلَى الْجَبَلِ لَا يَمُدُّونَ يَدًا، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ قَزْوِينَ ذَلِكَ طَلَبُوا الصُّلْحَ عَلَى صُلْحِ أَبْهَرَ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: قَدْ عَلِمَ الدَّيْلَمُ إِذْ تُحَارِبْ حِينَ أَتَى فِي جَيْشِهِ ابْنُ عَازِبْ ... بِأَنَّ ظَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَاذِبْ فَكَمْ قَطَعْنَا فِي دُجَى الْغَيَاهِبْ مِنْ جَبَلٍ وَعْرٍ وَمِنْ سَبَاسِبْ وَغَزَا الْبَرَاءُ الدَّيْلَمَ حَتَّى أَدَّوْا إِلَيْهِ الْإِتَاوَةَ، وَغَزَا جِيلَانَ وَالطَّيْلَسَانَ، وَفَتَحَ زَنْجَانَ عَنْوَةً. وَلَمَّا وَلِيَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ الْكُوفَةَ غَزَا الدَّيْلَمَ، وَجِيلَانَ، وَمُوقَانَ، وَالْبَبَرَ،

وَالطَّيْلَسَانَ ثُمَّ انْصَرَفَ. ذكر فَتْحِ الرَّيِّ ثُمَّ انْصَرَفَ نُعَيْمٌ مِنْ وَاجِ رُوذَ حَتَّى قَدِمَ الرَّيَّ، وَخَرَجَ الزَّيْنَبِيُّ أَبُو الْفَرُّخَانِ مِنَ الرَّيِّ فَلَقِيَ نُعَيْمًا طَالِبًا الصُّلْحَ وَمُسَالِمًا لَهُ وَمُخَالِفًا لِمَلِكِ الرَّيِّ، وَهُوَ سِيَاوَخْشُ بْنُ مِهْرَانَ بْنِ بَهْرَامَ جُوبِينَ، فَاسْتَمَدَّ سِيَاوَخْشُ أَهْلَ دُنْبَاوَنْدَ وَطَبَرِسْتَانَ وَقُومِسَ وَجُرْجَانَ فَأَمَدُّوهُ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالْتَقَوْا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَفْحِ جَبَلِ الرَّيِّ إِلَى جَنْبِ مَدِينَتِهَا، فَاقْتَتَلُوا بِهِ، وَكَانَ الزَّيْنَبِيُّ قَالَ لِنُعَيْمٍ: إِنَّ الْقَوْمَ كَثِيرٌ وَأَنْتَ فِي قِلَّةٍ، فَابْعَثْ مَعِي خَيْلًا أَدْخُلْ بِهِمْ مَدِينَتَهُمْ مِنْ مَدْخَلٍ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ، وَنَاهِدْهُمْ أَنْتَ، فَإِنَّهُمْ إِذَا خَرَجْنَا عَلَيْهِمْ لَمْ يَثْبُتُوا لَكَ. فَبَعَثَ مَعَهُ نُعَيْمٌ خَيْلًا مِنَ اللَّيْلِ، عَلَيْهِمُ ابْنُ أَخِيهِ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، فَأَدْخَلَهُمُ الزَّيْنَبِيُّ الْمَدِينَةَ، وَلَا يَشْعُرُ الْقَوْمُ، وَبَيَّتَهُمْ نُعَيْمٌ بَيَاتًا فَشَغَلَهُمْ عَنْ مَدِينَتِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا وَصَبَرُوا لَهُ حَتَّى سَمِعُوا التَّكْبِيرَ مِنْ وَرَائِهِمْ فَانْهَزَمُوا، فَقُتِلُوا مَقْتَلَةً عُدُّوا بِالْقَصَبِ فِيهَا، وَأَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالرَّيِّ نَحْوًا مِمَّا فِي الْمَدَائِنِ، وَصَالَحَهُ الزَّيْنَبِيُّ عَلَى الرَّيِّ، وَمَرْزَبَهُ عَلَيْهِمْ نُعَيْمٌ، فَلَمْ يَزَلْ شَرَفُ الرَّيِّ فِي أَهْلِ الزَّيْنَبِيِّ، وَأَخْرَبَ نُعَيْمٌ مَدِينَتَهُمْ، وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْعَتِيقَةُ، وَأَمَرَ الزَّيْنَبِيَّ فَبَنَى مَدِينَةَ الرَّيِّ الْحُدْثَى. وَكَتَبَ نُعَيْمٌ إِلَى عُمَرَ بِالْفَتْحِ وَأَنْفَذَ الْأَخْمَاسَ، وَكَانَ الْبَشِيرُ الْمُضَارِبَ الْعِجْلِيَّ. وَرَاسَلَهُ الْمُصْمُغَانُ فِي الصُّلْحِ عَلَى شَيْءٍ يَفْتَدِي بِهِ مِنْهُ عَلَى دُنْبَاوَنْدَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ فَتْحَ الرَّيِّ كَانَ عَلَى يَدِ قَرَظَةَ بْنَ كَعْبٍ، وَقِيلَ: كَانَ فَتْحُهَا سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذكر فَتْحِ قُومِسَ وَجُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ لَمَّا أَرْسَلَ نُعَيْمٌ إِلَى عُمَرَ بِالْبِشَارَةِ وَأَخْمَاسِ الرَّيِّ كَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ يَأْمُرُهُ بِإِرْسَالِ أَخِيهِ

سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ وَمَعَهُ هِنْدُ بْنُ عَمْرٍو الْجَمَلِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى قُومِسَ، فَسَارَ سُوَيْدٌ نَحْوَ قُومِسَ، فَلَمْ يَقُمْ لَهُ أَحَدٌ، فَأَخَذَهَا سِلْمًا وَعَسْكَرَ بِهَا، وَكَاتَبَهُ الَّذِينَ لَجَأُوا إِلَى طَبَرِسْتَانَ مِنْهُمْ وَالَّذِينَ أَخَذُوا الْمَفَاوِزَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى الصُّلْحِ وَالْجِزْيَةِ وَكَتَبَ لَهُمْ بِذَلِكَ. ثُمَّ سَارَ سُوَيْدٌ إِلَى جُرْجَانَ فَعَسْكَرَ بِهَا بِبَسْطَامَ وَكَتَبَ إِلَى مَلِكِ جُرْجَانَ، وَهُوَ زُرْنَانُ صُولُ، وَكَاتَبَهُ زُرْنَانُ صُولُ وَصَالَحَهُ عَلَى جُرْجَانَ عَلَى الْجِزْيَةِ وَكِفَايَةِ حَرْبِ جُرْجَانَ وَأَنْ يُعِينَهُ سُوَيْدٌ إِنْ غَلَبَ، فَأَجَابَهُ سُوَيْدٌ إِلَى ذَلِكَ، وَتَلَقَّاهُ زُرْنَانُ صُولُ قَبْلَ دُخُولِهِ جُرْجَانَ فَدَخَلَ مَعَهُ وَعَسْكَرَ بِهَا حَتَّى جَبَى الْخَرَاجَ وَسَمَّى فُرُوجَهَا، فَسَدَّهَا بِتُرْكِ دِهِسْتَانَ، وَرَفَعَ الْجِزْيَةَ عَمَّنْ قَامَ بِمَنْعِهَا وَأَخَذَهَا مِنَ الْبَاقِينَ. وَقِيلَ: كَانَ فَتْحُهَا سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ. وَقِيلَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ زَمَنَ عُثْمَانَ. وَقِيلَ: وَرَاسَلَ الْإِصْبَهْبَذُ صَاحِبُ طَبَرِسْتَانَ سُوَيْدًا فِي الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يَتَوَادَعَا وَيَجْعَلَ لَهُ شَيْئًا عَلَى غَيْرِ نَصْرٍ وَلَا مَعُونَةٍ عَلَى أَحَدٍ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا. ذكر فَتْحِ طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ وَبَرْقَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ مِصْرَ إِلَى بَرْقَةَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى الْجِزْيَةِ وَأَنْ يَبِيعُوا مِنْ أَبْنَائِهِمْ مَنْ أَرَادُوا بَيْعَهُ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَرْقَةَ سَارَ إِلَى طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ فَحَاصَرَهَا شَهْرًا فَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا، وَكَانَ قَدْ نَزَلَ شَرْقِيَّهَا، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يَتَصَيَّدُ فِي سَبْعَةِ نَفَرٍ، وَسَلَكُوا غَرْبَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا رَجَعُوا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحَرُّ فَأَخَذُوا عَلَى جَانِبِ الْبَحْرِ، وَلَمْ يَكُنِ السُّورُ مُتَّصِلًا بِالْبَحْرِ، وَكَانَتْ سُفُنُ الرُّومِ فِي مَرْسَاهَا مُقَابِلَ بُيُوتِهِمْ، فَرَأَى الْمُدْلِجِيُّ وَأَصْحَابُهُ مَسْلَكًا بَيْنَ الْبَحْرِ وَالْبَلَدِ فَدَخَلُوا مِنْهُ وَكَبَّرُوا، فَلَمْ يَكُنْ لِلرُّومِ مَلْجَأٌ إِلَّا سُفُنُهُمْ، لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ دَخَلُوا الْبَلَدَ، وَنَظَرَ عَمْرٌو وَمَنْ مَعَهُ فَرَأَى السُّيُوفَ فِي

الْمَدِينَةِ وَسَمِعُوا الصِّيَاحَ، فَأَقْبَلَ بِجَيْشِهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْبَلَدَ، فَلَمْ يُفْلِتِ الرُّومُ إِلَّا بِمَا خَفَّ مَعَهُمْ فِي مَرَاكِبِهِمْ. وَكَانَ أَهْلُ حِصْنِ سَبْرَةَ قَدْ تَحَصَّنُوا لَمَّا نَزَلَ عَمْرٌو عَلَى طَرَابُلُسَ، فَلَمَّا امْتَنَعُوا عَلَيْهِ بِطَرَابُلُسَ أَمِنُوا وَاطْمَأَنُّوا، فَلَمَّا فُتِحَتْ طَرَابُلُسُ جَنَّدَ عَمْرٌو عَسْكَرًا كَثِيفًا وَسَيَّرَهُ إِلَى سَبْرَةَ، فَصَبَّحُوهَا وَقَدْ فَتَحَ أَهْلُهَا الْبَابَ وَأَخْرَجُوا مَوَاشِيَهُمْ لِتَسْرَحَ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ بَلَغَهُمْ خَبَرُ طَرَابُلُسَ، فَوَقَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ وَدَخَلُوا الْبَلَدَ مُكَابَرَةً وَغَنِمُوا مَا فِيهِ وَعَادُوا إِلَى عَمْرٍو. ثُمَّ سَارَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى بَرْقَةَ وَبِهَا لُوَاتَةُ، وَهُمْ مِنَ الْبَرْبَرِ. وَكَانَ سَبَبُ مَسِيرِ الْبَرْبَرِ إِلَيْهَا وَإِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْغَرْبِ أَنَّهُمْ كَانُوا بِنَوَاحِي فِلَسْطِينَ مِنَ الشَّامِ، وَكَانَ مَلِكُهُمْ جَالُوتَ، فَلَمَّا قُتِلَ سَارَتِ الْبَرَابِرُ وَطَلَبُوا الْغَرْبَ، حَتَّى إِذَا انْتَهَوْا إِلَى لُوبِيَّةَ وَمَرَاقِيَّةَ، وَهُمَا كُورَتَانِ مِنْ كُوَرِ مِصْرَ الْغَرْبِيَّةِ، تَفَرَّقُوا فَسَارَتْ زَنَاتَةُ وَمُغِيلَةُ، وَهُمَا قَبِيلَتَانِ مِنَ الْبَرْبَرِ إِلَى الْغَرْبِ فَسَكَنُوا الْجِبَالَ، وَسَكَنَتْ لُوَاتَةُ أَرْضَ بَرْقَةَ، وَتُعْرَفُ قَدِيمًا بِأَنْطَابُلُسَ، وَانْتَشَرُوا فِيهَا حَتَّى بَلَغُوا السُّوسَ، وَنَزَلَتْ هَوَّارَةُ مَدِينَةَ لَبْدَةَ، وَنَزَلَتْ نَفُوسَةُ إِلَى مَدِينَةِ سَبْرَةَ وَجَلَا مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الرُّومِ لِذَلِكَ، وَقَامَ الْأَفَارِقُ، وَهُمْ خَدَمُ الرُّومِ، عَلَى صُلْحٍ يُؤَدُّونَهُ إِلَى مَنْ غَلَبَ عَلَى بِلَادِهِمْ. وَسَارَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - كَمَا ذَكَرْنَا - فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ يُؤَدُّونَهَا جِزْيَةً، وَشَرَطُوا أَنْ يَبِيعُوا مَنْ أَرَادُوا مِنْ أَوْلَادِهِمْ فِي جِزْيَتِهِمْ. ذكر فَتْحِ أَذْرَبِيجَانَ قَالَ: فَلَمَّا افْتَتَحَ نُعَيْمٌ الرَّيَّ بَعَثَ سِمَاكَ بْنَ خَرَشَةَ الْأَنْصَارِيَّ، وَلَيْسَ بِأَبِي دُجَانَةَ، مُمِدًّا لَبُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِأَذْرَبِيجَانَ، أَمَرَهُ عُمَرُ بِذَلِكَ، فَسَارَ سِمَاكٌ نَحْوَ بُكَيْرٍ، وَكَانَ بُكَيْرٌ حِينَ بُعِثَ إِلَيْهَا سَارَ حَتَّى إِذَا طَلَعَ بِجِبَالِ جَرْمِيذَانَ طَلَعَ عَلَيْهِمُ اسْفَنْدِيَارُ بْنُ فَرُّخْزَاذَ مَهْزُومًا مِنْ وَاجِ رُوذَ، فَكَانَ أَوَّلَ قِتَالٍ لَقِيَهُ بِأَذْرَبِيجَانَ، فَاقْتَتَلُوا، فَهُزِمَ الْفُرْسُ وَأَخَذَ بُكَيْرٌ اسْفَنْدِيَارَ أَسِيرًا. فَقَالَ لَهُ اسْفَنْدِيَارُ: الصُّلْحُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ الْحَرْبُ؟ قَالَ: بَلِ الصُّلْحُ.

قَالَ: أَمْسِكْنِي عِنْدَكَ فَإِنَّ أَهْلَ أَذْرَبِيجَانَ إِنْ لَمْ أُصَالِحْ عَلَيْهِمْ أَوْ أَجِئْ إِلَيْهِمْ لَمْ يَقُومُوا لَكَ، وَجَلَوْا إِلَى الْجِبَالِ الَّتِي حَوْلَهَا، وَمَنْ كَانَ عَلَى التَّحَصُّنِ تَحَصَّنَ إِلَى يَوْمٍ مَا. فَأَمْسَكَهُ عِنْدَهُ، وَصَارَتِ الْبِلَادُ إِلَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ حِصْنٍ. وَقَدِمَ عَلَيْهِ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ مُمِدًّا، وَاسْفَنْدِيَارُ فِي إِسَارِهِ وَقَدِ افْتَتَحَ مَا يَلِيهِ، وَافْتَتَحَ عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ مَا يَلِيهِ. وَكَتَبَ بُكَيْرٌ إِلَى عُمَرَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي التَّقَدُّمِ، فَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ نَحْوَ الْبَابِ، وَأَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى مَا افْتَتَحَهُ، فَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِ عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ، فَأَقَرَّ عُتْبَةُ سِمَاكَ بْنَ خَرَشَةٍ عَلَى عَمَلِ بُكَيْرٍ الَّذِي كَانَ افْتَتَحَهُ، وَجَمَعَ عُمَرُ أَذْرَبِيجَانَ كُلَّهَا لِعُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ. وَكَانَ بَهْرَامُ بْنُ فَرُّخْزَاذَ قَصَدَ طَرِيقَ عُتْبَةَ، وَأَقَامَ بِهِ فِي عَسْكَرِهِ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ عُتْبَةُ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ بَهْرَامُ، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُ اسْفَنْدِيَارَ وَهُوَ فِي الْأَسْرِ عِنْدَ بُكَيْرٍ قَالَ: الْآنَ تَمَّ الصُّلْحُ وَطُفِئَتِ الْحَرْبُ. فَصَالَحَهُ وَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ أَهْلُ أَذْرَبِيجَانَ كُلُّهُمْ، وَعَادَتْ أَذْرَبِيجَانُ سِلْمًا. وَكَتَبَ بِذَلِكَ بُكَيْرٌ وَعُتْبَةُ إِلَى عُمَرَ وَبَعَثَا بِمَا خَمَّسَا. وَلَمَّا جَمَعَ عُمَرُ لِعُتْبَةَ عَمَلَ بُكَيْرٍ كَتَبَ لِأَهْلِ أَذْرَبِيجَانَ كِتَابًا بِالصُّلْحِ. وَفِيهَا قَدِمَ عُتْبَةُ عَلَى عُمَرَ بِالْخَبِيصِ الَّذِي كَانَ أُهْدِيَ لَهُ. وَكَانَ عُمَرُ يَأْخُذُ عُمَّالَهُ بِمُوَافَاةِ الْمَوْسِمِ كُلَّ سَنَةٍ يَمْنَعُهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الظُّلْمِ. ذكر فَتْحِ الْبَابِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ فَتْحُ الْبَابِ، وَكَانَ عُمَرُ رُدَّ أَبَا مُوسَى إِلَى الْبَصْرَةِ وَبَعَثَ سُرَاقَةَ بْنَ عَمْرٍو، وَكَانَ يُدْعَى ذَا النُّورِ، إِلَى الْبَابِ، وَجَعَلَ عَلَى مُقَدَّمَتِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ رَبِيعَةَ، وَكَانَ أَيْضًا يُدْعَى ذَا النُّورِ، وَجَعَلَ عَلَى إِحْدَى مُجَنِّبَتَيْهِ حُذَيْفَةَ بْنَ أَسِيدٍ الْغِفَارِيَّ، وَعَلَى الْأُخْرَى بُكَيْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيَّ، وَكَانَ بُكَيْرٌ سَبَقَهُ إِلَى الْبَابِ. وَجَعَلَ عَلَى الْمَقَاسِمِ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ. فَسَارَ سُرَاقَةُ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ قَدِمَ بُكَيْرٌ إِلَى الْبَابِ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ أَمَدَّ سُرَاقَةَ بِحَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ مِنَ الْجَزِيرَةِ وَجَعَلَ مَكَانَهُ زِيَادَ بْنَ حَنْظَلَةَ. وَلَمَّا أَطَلَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ عَلَى الْبَابِ، وَالْمَلِكُ بِهَا يَوْمَئِذٍ شَهْرَيَارُ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ شَهْرَيَارَ الَّذِي أَفْسَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَغْزَى الشَّامَ بِهِمْ، فَكَاتَبَهُ شَهْرَيَارُ وَاسْتَأْمَنَهُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَهُ، فَفَعَلَ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنِّي بِإِزَاءِ عَدُوٍّ كَلِبٍ وَأُمَمٍ مُخْتَلِفَةٍ لَيْسَتْ لَهُمْ أَحْسَابٌ وَلَا يَنْبَغِي لِذِي الْحَسَبِ

وَالْعَقْلِ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى ذِي الْحَسَبِ، وَلَسْتُ مِنَ الْقَبْجِ وَلَا الْأَرْمَنِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّكُمْ قَدْ غَلَبْتُمْ عَلَى بِلَادِي وَأُمَّتِي، فَأَنَا مِنْكُمْ وَيَدِي مَعَ أَيْدِيكُمْ، وَجِزْيَتِي إِلَيْكُمْ وَالنَّصْرُ لَكُمْ، وَالْقِيَامُ بِمَا تُحِبُّونَ، فَلَا تَسُومُونَنَا الْجِزْيَةَ فَتُوَهِّنُونَا بِعَدُوِّكُمْ. قَالَ: فَسَيَّرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى سُرَاقَةَ، فَلَقِيَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقَبِلَ مِنْهُ سُرَاقَةُ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا بُدَّ مِنَ الْجِزْيَةِ مِمَّنْ يُقِيمُ وَلَا يُحَارِبُ الْعَدُوَّ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ. وَكَتَبَ سُرَاقَةُ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ فَأَجَازَهُ عُمَرُ وَاسْتَحْسَنَهُ. ذكر فَتْحِ مُوقَانَ لَمَّا فَرَغَ سُرَاقَةُ مِنَ الْبَابِ أَرْسَلَ بُكَيْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَحَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَحُذَيْفَةَ بْنَ أَسِيدٍ، وَسَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ إِلَى أَهْلِ تِلْكَ الْجِبَالِ الْمُحِيطَةِ بِأَرْمِينِيَّةَ، فَوَجَّهَ بُكَيْرًا إِلَى مُوقَانَ، وَحَبِيبًا إِلَى تَفْلِيسَ، وَحُذَيْفَةَ إِلَى جِبَالِ اللَّانِ، وَسَلْمَانَ إِلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ. وَكَتَبَ سُرَاقَةُ بِالْفَتْحِ إِلَى عُمَرَ، وَبِإِرْسَالِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ إِلَى الْجِهَاتِ الْمَذْكُورَةِ، فَأَتَى عُمَرَ أَمْرٌ لَمْ يَظُنَّ أَنْ يَتِمَّ لَهُ بِغَيْرِ مَؤُونَةٍ ; لِأَنَّهُ فَرْجٌ عَظِيمٌ وَجُنْدٌ عَظِيمٌ، فَلَمَّا اسْتَوْسَقُوا وَاسْتَحْلَوُا الْإِسْلَامَ وَعَدْلَهُ مَاتَ سُرَاقَةُ، وَاسْتَخْلَفَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ رَبِيعَةَ. وَلَمْ يَفْتَتِحْ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ الْقُوَّادِ إِلَّا بُكَيْرٌ، فَإِنَّهُ فَضَّ أَهْلَ مُوقَانَ، ثُمَّ تَرَاجَعُوا عَلَى الْجِزْيَةِ، عَنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارٌ. وَكَانَ فَتْحُهَا سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ. وَلَمَّا بَلَّغَ عُمَرَ مَوْتُ سُرَاقَةَ وَاسْتِخْلَافُهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ رَبِيعَةَ أَقَرَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَلَى فَرْجِ الْبَابِ وَأَمَرَهُ بِغَزْوِ التُّرْكِ. (أَسِيدٌ فِي هَذِهِ التَّرَاجِمِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ. وَالنُّورُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالرَّاءِ) . ذكر غَزْوِ التُّرْكِ لَمَّا أُمِرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ بِغَزْوِ التُّرْكِ خَرَجَ بِالنَّاسِ حَتَّى قَطَعَ الْبَابَ. فَقَالَ لَهُ شَهْرَيَارُ: مَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ؟ قَالَ: أُرِيدُ غَزْوَ بَلَنْجَرَ وَالتُّرْكِ. قَالَ: إِنَّا لَنَرْضَى مِنْهُمْ أَنْ يَدَعُونَا مِنْ دُونِ الْبَابِ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَكِنَّا لَا نَرْضَى حَتَّى نَغْزُوَهُمْ فِي دِيَارِهِمْ، وَبِاللَّهِ

إِنَّ مَعَنَا أَقْوَامًا لَوْ يَأْذَنُ لَهُمْ أَمِيرُنَا فِي الْإِمْعَانِ لَبَلَغْتُ بِهِمُ الرُّومَ. قَالَ: وَمَا هُمْ؟ قَالَ: أَقْوَامٌ صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَدَخَلُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ بِنِيَّةٍ، وَلَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ لَهُمْ دَائِمًا وَلَا يَزَالُ النَّصْرُ مَعَهُمْ حَتَّى يُغَيِّرَهُمْ مَنْ يَغْلِبُهُمْ، وَحَتَّى يُلْفَتُوا عَنْ حَالِهِمْ. فَغَزَا بَلَنْجَرَ غَزَاةً فِي زَمَنِ عُمَرَ فَقَالُوا: مَا اجْتَرَأَ عَلَيْنَا إِلَّا وَمَعَهُ الْمَلَائِكَةُ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الْمَوْتِ، فَهَرَبُوا مِنْهُ وَتَحَصَّنُوا، فَرَجَعَ بِالْغَنِيمَةِ وَالظَّفَرِ، وَقَدْ بَلَغَتْ خَيْلُهُ الْبَيْضَاءَ عَلَى رَأْسِ مِائَتَيْ فَرْسَخٍ مِنْ بَلَنْجَرَ، وَعَادُوا وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. ثُمَّ غَزَاهُمْ أَيَّامَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ غَزَوَاتٍ، فَظَفِرَ كَمَا كَانَ يَظْفَرُ، حَتَّى تَبَدَّلَ أَهْلُ الْكُوفَةِ لِاسْتِعْمَالِ عُثْمَانَ مَنْ كَانَ ارْتَدَّ اسْتِصْلَاحًا لَهُمْ فَزَادَهُمْ فَسَادًا، فَغَزَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَتَذَامَرَتِ التُّرْكُ، وَاجْتَمَعُوا فِي الْغِيَاضِ، فَرَمَى رَجُلٌ مِنْهُمْ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى غِرَّةٍ فَقَتَلَهُ، وَهَرَبَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، فَخَرَجُوا عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ، فَاقْتَتَلُوا وَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ، وَنَادَى مُنَادٍ مِنَ الْجَوِّ: صَبْرًا عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَمَوْعِدُكُمُ الْجَنَّةُ! فَقَاتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَتَّى قُتِلَ، وَانْكَشَفَ أَصْحَابُهُ، وَأَخَذَ الرَّايَةَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُوهُ فَقَاتَلَ بِهَا، وَنَادَى مُنَادٍ مِنَ الْجَوِّ: صَبْرًا آلَ سَلْمَانَ! فَقَالَ سَلْمَانُ: أَوَتَرَى جَزَعًا؟ وَخَرَجَ سَلْمَانُ بِالنَّاسِ مَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ عَلَى جِيلَانَ، فَقَطَعُوهَا إِلَى جُرْجَانَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ ذَلِكَ مِنْ إِنْجَاءِ جَسَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَهُمْ يَسْتَسْقُونَ بِهِ إِلَى الْآنَ. ذكر تَعْدِيلِ الْفُتُوحِ بَيْنَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَدَّلَ عُمَرُ فُتُوحَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ بَيْنَهُمْ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ سُرَاقَةَ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَذْكُرُ لَهُ كَثْرَةَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَعَجْزَ خَرَاجِهِمْ عَنْهُمْ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَزِيدَهُمْ أَحَدَ الْمَاهَيْنِ أَوْ مَاسَبَذَانَ، وَبَلَغَ أَهْلَ الْكُوفَةِ ذَلِكَ، وَقَالُوا لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ أَمِيرًا سَنَةً وَبَعْضَ أُخْرَى: اكْتُبْ إِلَى عُمَرَ أَنَّ رَامَهُرْمُزَ وَإِيذَجَ لَنَا دُونَهُمْ لَمْ يُعِينُونَا عَلَيْهِمَا وَلَمْ يَلْحَقُونَا حَتَّى افْتَتَحْنَاهُمَا، فَلَمْ يَفْعَلْ عَمَّارٌ، فَقَالَ لَهُ عُطَارِدٌ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الْأَجْدَعُ فَعَلَامَ تَدَعُ فَيْئَنَا؟ فَقَالَ: لَقَدْ سَبَبْتَ أَحَبَّ أُذُنَيَّ إِلَيَّ! فَأَبْغَضُوهُ لِذَلِكَ. وَاخْتَصَمَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَادَّعَى أَهْلُ الْبَصْرَةِ قُرًى افْتَتَحَهَا أَبُو مُوسَى دُونَ أَصْبَهَانَ، أَيَّامَ أَمَدَّ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَهْلَ الْكُوفَةِ. فَقَالَ لَهُمْ

أَهْلُ الْكُوفَةِ: أَتَيْتُمُونَا مَدَدًا، وَقَدِ افْتَتَحْنَا الْبِلَادَ فَأَنْشَبْنَاكُمْ فِي الْمَغَانِمِ، وَالذِّمَّةُ ذِمَّتُنَا وَالْأَرْضُ أَرْضُنَا. فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقُوا. فَقَالَ أَهْلُ الْأَيَّامِ وَالْقَادِسِيَّةِ مِمَّنْ سَكَنَ الْبَصْرَةَ: فَلْتُعْطُونَا نَصِيبَنَا مِمَّا نَحْنُ شُرَكَاؤُكُمْ فِيهِ مِنْ سَوَادِهِمْ وَحَوَاشِيهِمْ. فَأَعْطَاهُمْ عُمَرُ مِائَةَ دِينَارٍ بِرِضَا أَهْلِ الْكُوفَةِ، أَخَذَهَا مَنْ شَهِدَ الْأَيَّامَ وَالْقَادِسِيَّةَ. وَلَمَّا وَلِيَ مُعَاوِيَةُ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي جَنَّدَ قِنَّسْرِينَ مِمَّنْ أَتَاهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ أَيَّامَ عَلِيٍّ، وَإِنَّمَا كَانَ قِنَّسْرِينُ رُسْتَاقًا مِنْ رَسَاتِيقِ حِمْصَ، فَأَخَذَ لَهُمْ مُعَاوِيَةُ حِينَ وَلِيَ نَصِيبَهُمْ مِنْ فُتُوحِ الْعِرَاقِ وَأَذْرَبِيجَانَ وَالْمَوْصِلِ وَالْبَابِ، لِأَنَّهُ مِنْ فُتُوحِ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَكَانَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ يَوْمَئِذٍ نَاقِلَةً، انْتَقَلَ إِلَيْهَا كُلُّ مَنْ نَزَلَ بِهِجْرَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدَيْنِ أَيَّامَ عَلِيٍّ، فَأَعْطَاهُمْ مُعَاوِيَةُ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبًا. وَكَفَرَ أَهْلُ أَرْمِينِيَّةَ أَيَّامَ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ أَمَّرَ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ عَلَى الْبَابِ، وَحَبِيبٌ يَوْمَئِذٍ بِجُرْزَانَ، وَكَاتَبَ أَهْلَ تَفْلِيسَ وَتِلْكَ الْجِبَالِ مَنْ جُرْزَانَ فَاسْتَجَابُوا لَهُ. ذكر عَزْلِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنِ الْكُوفَةِ وَوِلَايَةِ أَبِي مُوسَى وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَفِيهَا عَزَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ عَنِ الْكُوفَةِ، وَاسْتَعْمَلَ أَبَا مُوسَى. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ شَكَوْهُ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ مَا هُوَ فِيهِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَمِينٍ، وَنَزَا بِهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ. فَدَعَاهُ عُمَرُ، فَخَرَجَ مَعَهُ وَفْدٌ يُرِيدُ أَنَّهُمْ مَعَهُ، فَكَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهِ مِمَّنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ غَيْرُ كَافٍ وَعَالِمٍ بِالسِّيَاسَةِ، وَلَا يَدْرِي عَلَى مَا اسْتَعْمَلْتَهُ. وَكَانَ مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ - عَمُّ الْمُخْتَارِ -، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَعَيَا بِهِ، فَعَزَلَهُ عُمَرُ. وَقَالَ عُمَرُ لِعَمَّارٍ: أَسَاءَكَ الْعَزْلُ؟ قَالَ: مَا سَرَّنِي حِينَ اسْتُعْمِلْتُ وَلَقَدْ سَاءَنِي حِينَ عُزِلْتُ. فَقَالَ لَهُ: قَدْ عَلِمْتُ مَا أَنْتَ بِصَاحِبِ عَمَلٍ، وَلَكِنِّي تَأَوَّلْتُ: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] .

ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ فَقَالَ: مَنْ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: أَبَا مُوسَى. فَأَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ عَمَّارٍ. فَأَقَامَ عَلَيْهِمْ سَنَةً فَبَاعَ غُلَامُهُ الْعَلَفَ، فَشَكَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ وَقَالُوا: إِنَّ غُلَامَهُ يَتَّجِرُ فِي جِسْرِنَا، فَعَزَلَهُ عَنْهُمْ وَصَرَفَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ. وَصَرَفَ عُمَرَ بْنَ سُرَاقَةَ إِلَى الْجَزِيرَةِ. وَخَلَا عُمَرُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَنَامَ، فَأَتَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَحَرَسَهُ حَتَّى اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: مَا فَعَلْتُ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا مِنْ عَظِيمٍ. فَقَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَعْظَمُ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ لَا يَرْضَوْنَ عَنْ أَمِيرٍ وَلَا يَرْضَى عَنْهُمْ أَمِيرٌ؟ وَأُحِيطَتِ الْكُوفَةُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ. وَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدْ عَضَّلُونِي. وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَنْ يُوَلِّيهِ. وَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي تَوْلِيَةِ رَجُلٍ ضَعِيفٍ مُسْلِمٍ أَوْ رَجُلٍ قَوِيٍّ مُسَدِّدٍ؟ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَمَّا الضَّعِيفُ الْمُسْلِمُ فَإِنَّ إِسْلَامَهُ لِنَفْسِهِ وَضَعْفَهُ عَلَيْكَ، وَأَمَّا الْقَوِيُّ الْمُسَدِّدُ فَإِنَّ سَدَادَهُ لِنَفْسِهِ وَقُوَّتَهُ لِلْمُسْلِمِينَ. فَوَلَّى الْمُغِيرَةَ الْكُوفَةَ، فَبَقِيَ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ عُمَرُ، وَذَلِكَ نَحْوَ سَنَتَيْنِ وَزِيَادَةٍ. وَقَالَ لَهُ حِينَ بَعَثَهُ: يَا مُغِيرَةُ لِيَأْمَنْكَ الْأَبْرَارُ، وَلْيَخَفْكَ الْفُجَّارُ. ثُمَّ أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَبْعَثَ سَعْدًا عَلَى عَمَلِ الْمُغِيرَةِ، فَقُتِلَ عُمَرُ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَوْصَى بِهِ. ذكر فَتْحِ خُرَاسَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ خُرَاسَانَ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنْ يَزْدَجِرْدَ لَمَّا سَارَ إِلَى الرَّيِّ بَعْدَ هَزِيمَةِ أَهْلِ جَلُولَاءَ، وَانْتَهَى إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا أَبَانُ جَاذَوَيْهِ وَثَبَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ. فَقَالَ يَزْدَجِرْدُ: يَا أَبَانُ تَغْدِرُ بِي! قَالَ: لَا وَلَكِنْ قَدْ تَرَكْتَ مُلْكَكَ، فَصَارَ فِي يَدِ غَيْرِكَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكْتَتِبَ عَلَى مَا كَانَ لِي مِنْ شَيْءٍ. وَأَخَذَ خَاتَمَ يَزْدَجِرْدَ وَاكْتَتَبَ الصِّكَاكَ بِكُلِّ مَا أَعْجَبَهُ، ثُمَّ خَتَمَ عَلَيْهَا وَرَدَّ الْخَاتَمَ، ثُمَّ أَتَى بَعْدُ سَعْدًا فَرَدَّ عَلَيْهِ كُلَّ شَيْءٍ فِي كِتَابِهِ.

وَسَارَ يَزْدَجِرْدُ مِنَ الرَّيِّ إِلَى أَصْبَهَانَ، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى كَرْمَانَ وَالنَّارُ مَعَهُ، ثُمَّ قَصَدَ خُرَاسَانَ فَأَتَى مَرْوًا فَنَزَلَهَا وَبَنَى لِلنَّارِ بَيْتًا، وَاطْمَأَنَّ وَأَمِنَ أَنْ يُؤْتَى، وَدَانَ لَهُ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْأَعَاجِمِ. وَكَاتَبَ الْهُرْمُزَانَ وَأَثَارَ أَهْلَ فَارِسَ، فَنَكَثُوا، وَأَثَارَ أَهْلَ الْجِبَالِ وَالْفَيْرُزَانِ، فَنَكَثُوا، فَأَذِنَ عُمَرُ لِلْمُسْلِمِينَ فَدَخَلُوا بِلَادَ الْفُرْسِ، فَسَارَ الْأَحْنَفُ إِلَى خُرَاسَانَ، فَدَخَلَهَا مِنَ الطَّبَسَيْنِ، فَافْتَتَحَ هَرَاةَ عَنْوَةً، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا صُحَارَ بْنَ فُلَانٍ الْعَبْدِيَّ، ثُمَّ سَارَ نَحْوَ مَرْوِ الشَّاهْجَانِ، فَأَرْسَلَ إِلَى نَيْسَابُورَ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، وَإِلَى سَرْخَسَ الْحَارِثَ بْنَ حَسَّانَ، فَلَمَّا دَنَا الْأَحْنَفُ مِنْ مَرْوِ الشَّاهْجَانِ خَرَجَ مِنْهَا يَزْدَجِرْدُ إِلَى مَرْوِ الرُّوذِ حَتَّى نَزَلَهَا، وَنَزَلَ الْأَحْنَفُ مَرْوَ الشَّاهْجَانِ، وَكَتَبَ يَزْدَجِرْدُ، وَهُوَ بِمَرْوِ الرُّوذِ، إِلَى خَاقَانَ وَإِلَى مَلِكِ الصُّغْدِ وَإِلَى مَلِكِ الصِّينِ يَسْتِمِدُّهُمْ. وَخَرَجَ الْأَحْنَفُ مِنْ مَرْوِ الشَّاهْجَانِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا حَارِثَةَ بْنَ النُّعْمَانِ الْبَاهِلِيَّ بَعْدَمَا لَحِقَتْ بِهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَسَارَ نَحْوَ مَرْوِ الرُّوذِ. فَلَمَّا سَمِعَ يَزْدَجِرْدُ سَارَ عَنْهَا إِلَى بَلْخَ، وَنَزَلَ الْأَحْنَفُ مَرْوَ الرُّوذِ. وَقَدِمَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَى يَزْدَجِرْدَ وَاتَّبَعَهُمُ الْأَحْنَفُ، فَالْتَقَى أَهْلُ الْكُوفَةِ وَيَزْدَجِرْدُ بِبَلْخَ، فَانْهَزَمَ يَزْدَجِرْدُ وَعَبَرَ النَّهْرَ، وَلَحِقَ الْأَحْنَفُ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَبَلْخُ مِنْ فُتُوحِهِمْ. وَتَتَابَعَ أَهْلُ خُرَاسَانَ مَنْ هَرَبَ وَشَذَّ عَلَى الصُّلْحِ فِيمَا بَيْنَ نَيْسَابُورَ إِلَى طُخَارِسْتَانَ، وَعَادَ الْأَحْنَفُ إِلَى مَرْوِ الرُّوذِ فَنَزَلَهَا، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى طُخَارِسْتَانَ رِبْعِيَّ بْنَ عَامِرٍ، وَكَتَبَ الْأَحْنَفُ إِلَى عُمَرَ بِالْفَتْحِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَدِدْتُ أَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا بَحْرًا مِنْ نَارٍ. فَقَالَ عَلِيٌّ: وَلِمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: لِأَنَّ أَهْلَهَا سَيَنْفَضُّونَ مِنْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيُجْتَاحُونَ فِي الثَّالِثَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ بِأَهْلِهَا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى الْأَحْنَفِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا دُونَ النَّهْرِ وَلَا يَجُوزَهُ. وَلَمَّا عَبَرَ يَزْدَجِرْدُ النَّهْرَ مَهْزُومًا أَنْجَدَهُ خَاقَانُ فِي التُّرْكِ وَأَهْلِ فَرْغَانَةَ وَالصُّغْدِ، فَرَجَعَ يَزْدَجِرْدُ وَخَاقَانُ إِلَى خُرَاسَانَ فَنَزَلَا بَلْخَ، وَرَجَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَى الْأَحْنَفِ بِمَرْوِ الرُّوذِ، وَنَزَلَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ بِمَرْوٍ أَيْضًا. وَكَانَ الْأَحْنَفُ لَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ عُبُورِ يَزْدَجِرْدَ وَخَاقَانَ النَّهْرَ إِلَيْهِ خَرَجَ لَيْلًا يَتَسَمَّعُ هَلْ يَسْمَعُ بِرَأْيٍ يَنْتَفِعُ بِهِ، فَمَرَّ بِرَجُلَيْنِ يُنَقِّيَانِ عَلَفًا، وَأَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: لَوْ أَسْنَدَنَا الْأَمِيرُ إِلَى هَذَا الْجَبَلِ، فَكَانَ النَّهْرُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَدُوِّنَا خَنْدَقًا، وَكَانَ الْجَبَلُ فِي ظُهُورِنَا فَلَا يَأْتُونَا

مِنْ خَلْفِنَا، وَكَانَ قِتَالُنَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ رَجَوْتُ أَنْ يَنْصُرَنَا اللَّهُ. فَرَجَعَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَمَعَ النَّاسَ وَرَحَلَ بِهِمْ إِلَى سَفْحِ الْجَبَلِ، وَكَانَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عَشَرَةُ آلَافٍ وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ نَحْوٌ مِنْهُمْ، وَأَقْبَلَتِ التُّرْكُ وَمَنْ مَعَهَا، فَنَزَلَتْ وَجَعَلُوا يُغَادُونَهُمُ الْقِتَالَ وَيُرَاوِحُونَهُمْ، وَفِي اللَّيْلِ يَتَنَحَّوْنَ عَنْهُمْ. فَخَرَجَ الْأَحْنَفُ لَيْلَةً طَلِيعَةً لِأَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ عَسْكَرِ خَاقَانَ وَقَفَ، فَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الصُّبْحِ خَرَجَ فَارِسٌ مِنَ التُّرْكِ بِطَوْقِهِ، فَضَرَبَ بِطَبْلِهِ، ثُمَّ وَقَفَ مِنَ الْعَسْكَرِ مَوْقِفًا يَقِفُهُ مِثْلُهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ الْأَحْنَفُ فَتَقَاتَلَا، فَطَعَنَهُ الْأَحْنَفُ فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ طَوْقَ التُّرْكِيِّ وَوَقَفَ، فَخَرَجَ آخَرُ مِنَ التُّرْكِ فَفَعَلَ فِعْلَ صَاحِبِهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ الْأَحْنَفُ فَتَقَاتَلَا، فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ طَوْقَهُ وَوَقَفَ، ثُمَّ خَرَجَ الثَّالِثُ مِنَ التُّرْكِ فَفَعَلَ فِعْلَ الرَّجُلَيْنِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ الْأَحْنَفُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ الْأَحْنَفُ إِلَى عَسْكَرِهِ. وَكَانَتْ عَادَةُ التُّرْكِ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثَةٌ مِنْ فُرْسَانِهِمْ أَكْفَاءٌ، كُلُّهُمْ يَضْرِبُ بِطَبْلِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ بَعْدَ خُرُوجِ الثَّالِثِ. فَلَمَّا خَرَجُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ بَعْدَ الثَّالِثِ فَأَتَوْا عَلَى فُرْسَانِهِمْ مُقَتَّلِينَ تَشَاءَمَ خَاقَانُ وَتَطَيَّرَ فَقَالَ: قَدْ طَالَ مُقَامُنَا وَقَدْ أُصِيبَ فُرْسَانُنَا، مَا لَنَا فِي قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ خَيْرٌ ; فَرَجَعُوا. وَارْتَفَعَ النَّهَارُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَرَوْا مِنْهُمْ أَحَدًا، وَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِانْصِرَافِ خَاقَانَ وَالتُّرْكِ إِلَى بَلْخَ، وَقَدْ كَانَ يَزْدَجِرْدُ تَرَكَ خَاقَانَ مُقَابِلَ الْمُسْلِمِينَ بِمَرْوِ الرُّوذِ، وَانْصَرَفَ إِلَى مَرْوِ الشَّاهْجَانِ، فَتَحَصَّنَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ وَمَنْ مَعَهُ، فَحَصَرَهُمْ وَاسْتَخْرَجَ خَزَائِنَهُ مِنْ مَوْضِعِهَا، وَخَاقَانُ مُقِيمٌ بِبَلْخَ. فَلَمَّا جَمَعَ يَزْدَجِرْدُ خَزَائِنَهُ، وَكَانَتْ كَبِيرَةً عَظِيمَةً، وَأَرَادَ أَنْ يَلْحَقَ بِخَاقَانَ قَالَ لَهُ أَهْلُ فَارِسَ: أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ؟ قَالَ: أُرِيدُ اللَّحَاقَ بِخَاقَانَ فَأَكُونُ مَعَهُ أَوْ بِالصِّينِ. قَالُوا لَهُ: إِنَّ هَذَا رَأْيُ سُوءٍ، ارْجِعْ بِنَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَنُصَالِحَهُمْ فَإِنَّهُمْ أَوْفِيَاءُ وَهُمْ أَهْلُ دِينٍ، وَإِنَّ عَدُوًّا يَلِينَا فِي بِلَادِنَا أَحَبُّ إِلَيْنَا مَمْلَكَةً مِنْ عَدُوٍّ يَلِينَا فِي بِلَادِهِ وَلَا دِينَ لَهُمْ، وَلَا نَدْرِي مَا وَفَاؤُهُمْ. فَأَبَى عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا: دَعْ خَزَائِنَنَا نَرُدَّهَا إِلَى بِلَادِنَا وَمَنْ يَلِينَا لَا تُخْرِجْهَا مِنْ بِلَادِنَا. فَأَبَى، فَاعْتَزَلُوهُ وَقَاتَلُوهُ فَهَزَمُوهُ وَأَخَذُوا الْخَزَائِنَ وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَانْهَزَمَ مِنْهُمْ وَلَحِقَ بِخَاقَانَ، وَعَبَرَ النَّهْرَ مِنْ بَلْخَ إِلَى فَرْغَانَةَ، وَأَقَامَ يَزْدَجِرْدُ بِبَلَدِ التُّرْكِ، فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا زَمَنَ عُمَرَ كُلَّهُ إِلَى أَنْ كَفَرَ أَهْلُ خُرَاسَانَ زَمَنَ عُثْمَانَ، وَكَانَ يُكَاتِبُهُمْ وَيُكَاتِبُونَهُ. وَسَيَرِدُ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. ثُمَّ أَقْبَلَ أَهْلُ فَارِسَ بَعْدَ رَحِيلِ يَزْدَجِرْدَ عَلَى الْأَحْنَفِ، فَصَالَحُوهُ وَدَفَعُوا إِلَيْهِ تِلْكَ الْخَزَائِنَ وَالْأَمْوَالَ، وَتَرَاجَعُوا إِلَى بُلْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَلَى أَفْضَلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ زَمَنَ الْأَكَاسِرَةِ، وَاغْتَبَطُوا بِمُلْكِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَصَابَ الْفَارِسُ يَوْمَ يَزْدَجِرْدَ كَسَهْمِهِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ.

وَسَارَ الْأَحْنَفُ إِلَى بَلْخَ فَنَزَلَهَا بَعْدَ عُبُورِ خَاقَانَ النَّهْرَ مِنْهَا، وَنَزَلَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي كُوَرِهَا الْأَرْبَعِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَرْوِ الرُّوذِ فَنَزَلَهَا، وَكَتَبَ بِفَتْحِ خَاقَانَ وَيَزْدَجِرْدَ إِلَى عُمَرَ. وَلَمَّا عَبَرَ خَاقَانُ وَيَزْدَجِرْدُ النَّهْرَ لَقِيَا رَسُولَ يَزْدَجِرْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَى مَلِكِ الصِّينِ، فَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ مَلِكَ الصِّينِ قَالَ لَهُ: صِفْ لِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ، فَإِنِّي أَرَاكَ تَذْكُرُ قِلَّةً مِنْهُمْ وَكَثْرَةً مِنْكُمْ، وَلَا يَبْلُغُ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الْقَلِيلِ مِنْكُمْ مَعَ كَثْرَتِكُمْ، إِلَّا بِخَيْرٍ عِنْدَهُمْ وَشَرٍّ فِيكُمْ. فَقُلْتُ: سَلْنِي عَمَّا أَحْبَبْتَ. فَقَالَ: أَيُوفُونَ بِالْعَهْدِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَمَا يَقُولُونَ لَكُمْ قَبْلَ الْقِتَالِ؟ قَالَ قُلْتُ: يَدْعُونَنَا إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ: إِمَّا دِينِهِمْ، فَإِنْ أَجَبْنَا أَجْرَوْنَا مَجْرَاهُمْ، أَوِ الْجِزْيَةِ وَالْمَنَعَةِ، أَوِ الْمُنَابَذَةِ. قَالَ: فَكَيْفَ طَاعَتُهُمْ أُمَرَاءَهُمْ؟ قُلْتُ: أَطْوَعُ قَوْمٍ وَأَرْشَدُهُمْ. قَالَ: فَمَا يُحِلُّونَ وَمَا يُحَرِّمُونَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ. قَالَ: هَلْ يُحِلُّونَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُحَرِّمُونَ مَا حُلِّلَ لَهُمْ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَا يَزَالُونَ عَلَى ظَفَرٍ حَتَّى يُحِلُّوا حَرَامَهُمْ أَوْ يُحَرِّمُوا حَلَالَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ لِبَاسِهِمْ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، وَعَنْ مَطَايَاهُمْ؟ فَقُلْتُ: الْخَيْلُ الْعِرَابُ، وَوَصَفْتُهَا لَهُ. فَقَالَ: نِعْمَتِ الْحُصُونُ! وَوَصَفْتُ لَهُ الْإِبِلَ وَبُرُوكَهَا وَقِيَامَهَا بِحِمْلِهَا. فَقَالَ: هَذِهِ صِفَةُ دَوَابٍّ طِوَالِ الْأَعْنَاقِ. وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى يَزْدَجِرْدَ: إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَبْعَثَ إِلَيْكَ بِجُنْدٍ أَوَّلُهُ بِمَرْوٍ وَآخِرُهُ بِالصِّينِ الْجَهَالَةُ بِمَا يَحِقُّ عَلَيَّ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ وَصَفَ لِي رَسُولُكَ لَوْ يُحَاوِلُونَ الْجِبَالَ لَهَدُّوهَا، وَلَوْ خَلَا لَهُمْ سَرْبُهُمْ أَزَالُونِي مَا دَامُوا عَلَى [مَا] وَصَفَ، فَسَالِمْهُمْ وَارْضَ مِنْهُمْ بِالْمُسَاكَنَةِ، وَلَا تُهَيِّجْهُمْ مَا لَمْ يُهَيِّجُوكَ. فَأَقَامَ يَزْدَجِرْدُ بِفَرْغَانَةَ وَمَعَهُ آلُ كِسْرَى بِعَهْدٍ مِنْ خَاقَانَ. وَلَمَّا وَصَلَ خَبَرُ الْفَتْحِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ جَمَعَ النَّاسَ، وَخَطَبَهُمْ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ الْفَتْحِ، وَحَمِدَ اللَّهَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى إِنْجَازِ وَعْدِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا وَإِنَّ مُلْكَ الْمَجُوسِيَّةِ قَدْ هَلَكَ، فَلَيْسُوا يَمْلِكُونَ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا يَضُرُّ بِمُسْلِمٍ. أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَلَا تُبَدِّلُوا فَيَسْتَبْدِلُ اللَّهُ بِكُمْ غَيْرَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ تُؤْتَى إِلَّا مِنْ قِبَلِكُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ فَتْحَ خُرَاسَانَ كَانَ زَمَنَ عُثْمَانَ، وَسَيَرِدُ هُنَاكَ. ذِكْرُ فَتْحِ شَهْرَزُورَ وَالصَّامَغَانَ

لَمَّا اسْتَعْمَلَ عُمَرُ عَزْرَةَ بْنَ قَيْسٍ عَلَى حُلْوَانَ حَاوَلَ فَتْحَ شَهْرَزُورَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، فَغَزَاهَا عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ، فَفَتَحَهَا بَعْدَ قِتَالٍ عَلَى مِثْلِ صُلْحِ حُلْوَانَ، فَكَانَتِ الْعَقَارِبُ تُصِيبُ الرَّجُلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَمُوتُ. وَصَالَحَ أَهْلَ الصَّامَغَانَ وَدَارَابَاذَ عَلَى الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْأَكْرَادِ. وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ: إِنَّ فُتُوحِي قَدْ بَلَغَتْ أَذْرَبِيجَانَ. فَوَلَّاهُ إِيَّاهَا وَوَلَّى هَرْثَمَةَ بْنَ عَرْفَجَةَ الْمَوْصِلَ. وَلَمْ تَزَلْ شَهْرَزُورُ وَأَعْمَالُهَا مَضْمُومَةً إِلَى الْمَوْصِلِ حَتَّى أُفْرِدَتْ عَنْهَا آخِرَ خِلَافَةِ الرَّشِيدِ. ذكر عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُعَاوِيَةُ بِلَادَ الرُّومِ وَدَخَلَهَا فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَفِيهَا وُلِدَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَ عُمَّالُهُ عَلَى الْأَمْصَارِ فِيهَا عُمَّالَهُ فِي السَّنَةِ قَبْلَهَا إِلَّا الْكُوفَةَ، فَإِنَّ عَامِلَهُ كَانَ عَلَيْهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَإِلَّا الْبَصْرَةَ فَإِنَّ عَامِلَهُ عَلَيْهَا صَارَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ.

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ] 23 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ فَتْحُ إِصْطَخْرَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ: كَانَ فَتْحُهَا بَعْدَ تَوَّجَ الْآخِرَةِ. ذكر الْخَبَرِ عَنْ فَتْحِ تَوَّجَ لَمَّا خَرَجَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا إِلَى فَارِسَ أُمَرَاءَ عَلَيْهَا، وَكَانَ مَعَهُمْ سَارِيَةُ بْنُ زُنَيْمٍ الْكِنَانِيُّ، فَسَارُوا وَأَهْلُ فَارِسَ مُجْتَمِعُونَ بِتَوَّجَ فَلَمْ يَقْصِدْهُمُ الْمُسْلِمُونَ، بَلْ تَوَجَّهَ كُلُّ أَمِيرٍ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا. وَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ فَارِسَ، فَافْتَرَقُوا إِلَى بُلْدَانِهِمْ كَمَا افْتَرَقَ الْمُسْلِمُونَ، فَكَانَتْ تِلْكَ هَزِيمَتَهُمْ وَتَشَتُّتَ أُمُورِهِمْ. فَقَصَدَ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ لِسَابُورَ وَأَرْدِشِيرَ خُرَّهَ، فَالْتَقَى هُوَ وَالْفُرْسُ بِتَوَّجَ، فَاقْتَتَلُوا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ انْهَزَمَ الْفُرْسُ، وَقَتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ كَيْفَ شَاءُوا كُلَّ قِتْلَةٍ، وَغَنِمُوا مَا فِي عَسْكَرِهِمْ، وَحَصَرُوا تَوَّجَ فَافْتَتَحُوهَا، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَغَنِمُوا مَا فِيهَا، وَهَذِهِ تَوَّجَ الْآخِرَةِ، وَالْأُولَى هِيَ الَّتِي اسْتَقْدَمَتْهَا جُنُودُ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ أَيَّامَ طَاوُسٍ. ثُمَّ دُعُوا إِلَى الْجِزْيَةِ، فَرَجَعُوا وَأَقَرُّوا بِهَا. وَأَرْسَلَ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ السُّلَمِيُّ بِالْبِشَارَةِ وَالْأَخْمَاسِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. ذِكْرُ فَتْحِ إِصْطَخْرَ وَجُورَ وَغَيْرِهِمَا

وَقَصَدَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيَّ لِإِصْطَخْرَ، فَالْتَقَى هُوَ وَأَهْلُ إِصْطَخْرَ بِجُورَ، فَاقْتَتَلُوا وَانْهَزَمَ الْفُرْسُ، وَفَتَحَ الْمُسْلِمُونَ جُورَ ثُمَّ إِصْطَخْرَ، وَقَتَلُوا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ فَرَّ مَنْ فَرَّ، فَدَعَاهُمْ عُثْمَانُ إِلَى الْجِزْيَةِ وَالذِّمَّةِ، فَأَجَابَهُ الْهِرْبِذُ إِلَيْهَا، فَتَرَاجَعُوا، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ جَمَعَ الْغَنَائِمَ لَمَّا هَزَمَهُمْ، فَبَعَثَ بِخُمُسِهَا إِلَى عُمَرَ وَقَسَّمَ الْبَاقِيَ فِي النَّاسِ. وَفَتَحَ عُثْمَانُ كَازَرُونَ وَالنُّوبَنْدَجَانَ وَغَلَبَ عَلَى أَرْضِهَا، وَفَتَحَ هُوَ وَأَبُو مُوسَى مَدِينَةَ شِيرَازَ وَأَرَّجَانَ، وَفَتَحَا سِينِيزَ عَلَى الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ. وَقَصَدَ عُثْمَانُ أَيْضًا جَنَّابَا فَفَتَحَهَا، وَلَقِيَهُ جَمْعُ الْفُرْسِ بِنَاحِيَةِ جَهْرَمَ فَهَزَمَهُمْ وَفَتَحَهَا. ثُمَّ إِنَّ شَهْرَكَ خَلَعَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ وَأَوَّلِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ. فَوُجِّهَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ ثَانِيَةً وَأَتَتْهُ الْأَمْدَادُ مِنَ الْبَصْرَةِ وَأَمِيرُهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، فَالْتَقَوْا بِأَرْضِ فَارِسَ. فَقَالَ شَهْرَكُ لِابْنِهِ وَهُمَا فِي الْمَعْرَكَةِ، وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ قَرْيَةٍ لَهُمَا تُدْعَى رِيشَهْرَ ثَلَاثَةُ فَرَاسِخَ: يَا بُنَيَّ أَيْنَ يَكُونُ غَدَاؤُنَا هَاهُنَا أَمْ بِرِيشَهْرَ؟ قَالَ لَهُ: يَا أَبَهْ، إِنْ تَرَكُونَا فَلَا يَكُونُ غَدَاؤُنَا هَاهُنَا وَلَا بِرِيشَهْرَ وَلَا نَكُونَنَّ إِلَّا فِي الْمَنْزِلِ، [وَلَكِنْ وَاللَّهِ] مَا أَرَاهُمْ يَتْرُكُونَنَا. فَمَا فَرَغَا مِنْ كَلَامِهِمَا حَتَّى أَنْشَبَ الْمُسْلِمُونَ الْحَرْبَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا

شَدِيدًا، وَقُتِلَ شَهْرَكُ وَابْنُهُ وَخَلْقٌ عَظِيمٌ. وَالَّذِي قَتَلَ شَهْرَكَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ أَخُو عُثْمَانَ. وَقِيلَ: قَتَلَهُ سَوَّارُ بْنُ هَمَّامٍ الْعَبْدِيُّ حَمَلَ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ. وَحَمَلَ ابْنُ شَهْرَكَ عَلَى سَوَّارٍ فَقَتَلَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ إِصْطَخْرَ كَانَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، وَكَانَتْ فَارِسُ الْآخِرَةُ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ أَرْسَلَ أَخَاهُ الْحَكَمَ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فِي أَلْفَيْنِ إِلَى فَارِسَ، فَفَتَحَ جَزِيرَةَ بَرْكَاوَانَ فِي طَرِيقِهِ ثُمَّ سَارَ إِلَى تَوَّجَ، وَكَانَ كِسْرَى أَرْسَلَ شَهْرَكَ فَالْتَقَوْا مَعَ شَهْرَكَ، وَكَانَ الْجَارُودُ وَأَبُو صُفْرَةَ عَلَى مُجَنِّبَتَيِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَبُو صُفْرَةَ هَذَا هُوَ وَالِدُ الْمُهَلَّبِ، فَحَمَلَ الْفُرْسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهَزَمُوهُمْ. فَقَالَ الْجَارُودُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ ذَهَبَ الْجُنْدُ. فَقَالَ: سَتَرَى أَمْرَكَ. قَالَ: فَمَا لَبِثُوا حَتَّى رَجَعَتْ خَيْلٌ لَهُمْ لَيْسَ عَلَيْهَا فُرْسَانُهَا وَالْمُسْلِمُونَ يَتْبَعُونَهُمْ يَقْتُلُونَهُمْ، فَنُثِرَتِ الرُّءُوسُ فَرَأَى الْمُكَعْبِرُ رَأْسًا ضَخْمًا فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ هَذَا رَأْسُ الِازْدِهَاقَ - يَعْنِي شَهْرَكَ -. وَحُوصِرَ الْفُرْسُ بِمَدِينَةِ سَابُورَ، فَصَالَحَ عَلَيْهَا مَلِكُهَا أَرْزَنْبَانُ، فَاسْتَعَانَ بِهِ الْحَكَمُ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ إِصْطَخْرَ. وَمَاتَ عُمَرُ. وَبَعَثَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْمَرٍ مَكَانَهُ، فَبَلَغَ عُبَيْدَ اللَّهِ أَنَّ أَرْزَنْبَانَ يُرِيدُ الْغَدْرَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: أُحِبُّ أَنْ تَتَّخِذَ لِأَصْحَابِي طَعَامًا وَتَذْبَحَ لَهُمْ بَقَرَةً وَتَجْعَلَ عِظَامَهَا فِي الْجَفْنَةِ الَّتِي تَلِينِي فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَتَمَشَّشَ الْعِظَامَ، فَفَعَلَ وَجَعَلَ يَأْخُذُ الْعَظْمَ الَّذِي لَا يُكْسَرُ إِلَّا بِالْفُؤُوسِ فَيَكْسِرُهُ بِيَدِهِ وَيَأْخُذُ مُخَّهُ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ، فَقَامَ أَرْزَنْبَانُ فَأَخَذَ بِرِجْلِهِ وَقَالَ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ! فَأَعْطَاهُ عَهْدًا. وَأَصَابَ عُبَيْدَ اللَّهِ مَنْجَنِيقٌ فَأَوْصَاهُمْ وَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ هَذِهِ الْمَدِينَةَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فَاقْتُلُوهُمْ بِي سَاعَةً فِيهَا، فَفَعَلُوا، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ بَشَرًا كَثِيرًا، وَمَاتَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ. وَقِيلَ: إِنَّ قَتْلَهُ كَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ. ذِكْرُ فَتْحِ فَسَا وَدَارَابْجِرْدَ

وَقَصَدَ سَارِيَةُ بْنُ زُنَيْمٍ الدِّئَلِيُّ فَسَا وَدَارَابْجِرْدَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى عَسْكَرِهِمْ، فَنَزَلَ عَلَيْهِمْ وَحَاصَرَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنَّهُمُ اسْتَمَدُّوا وَتَجَمَّعُوا، وَتَجَمَّعَتْ إِلَيْهِمْ أَكْرَادُ فَارِسَ، فَدَهَمَ الْمُسْلِمِينَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَجَمْعٌ كَثِيرٌ، وَأَتَاهُمُ الْفُرْسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَرَأَى عُمَرُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعْرَكَتَهُمْ وَعَدَدَهُمْ فِي سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، فَنَادَى مِنَ الْغَدِ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ! حَتَّى إِذَا كَانَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي رَأَى فِيهَا مَا رَأَى خَرَجَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ ابْنُ زُنَيْمٍ وَالْمُسْلِمُونَ بِصَحْرَاءَ إِنْ أَقَامُوا فِيهَا أُحِيطَ بِهِمْ، وَإِنِ اسْتَنَدُوا إِلَى جَبَلٍ مِنْ خَلْفِهِمْ لَمْ يُؤْتَوْا إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ. فَقَامَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَأَيْتُ هَذَيْنِ الْجَمْعَيْنِ، وَأَخْبَرَ بِحَالِهِمَا، وَصَاحَ عُمَرُ وَهُوَ يَخْطُبُ: يَا سَارِيَةُ بْنَ زُنَيْمٍ، الْجَبَلَ الْجَبَلَ! ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ جُنُودًا، وَلَعَلَّ بَعْضَهَا أَنْ يُبْلِغَهُمْ. فَسَمِعَ سَارِيَةُ وَمَنْ مَعَهُ الصَّوْتَ فَلَجَئُوا إِلَى الْجَبَلِ، ثُمَّ قَاتَلُوهُمْ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ وَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مَغَانِمَهُمْ، وَأَصَابُوا فِي الْغَنَائِمِ سَفَطًا فِيهِ جَوْهَرٌ، فَاسْتَوْهَبَهُ مِنْهُمْ سَارِيَةُ وَبَعَثَ بِهِ وَبِالْفَتْحِ مَعَ رَجُلٍ إِلَى عُمَرَ. فَقَدِمَ عَلَى عُمَرَ وَهُوَ يُطْعِمُ الطَّعَامَ، فَأَمَرَهُ فَجَلَسَ وَأَكَلَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ عُمَرُ اتَّبَعَهُ الرَّسُولُ، فَظَنَّ عُمَرُ أَنَّهُ لَمْ يَشْبَعْ، فَأَمَرَهُ فَدَخَلَ بَيْتَهُ، فَلَمَّا جَلَسَ أُتِيَ عُمَرُ بِغَدَائِهِ خُبْزٍ وَزَيْتٍ وَمِلْحٍ جَرِيشٍ فَأَكَلَا. فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ الرَّجُلُ: أَنَا رَسُولُ سَارِيَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا. ثُمَّ أَدْنَاهُ حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتُهُ رُكْبَتَهُ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخْبَرَهُ بِقِصَّةِ الدُّرْجِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَصَاحَ بِهِ: لَا وَلَا كَرَامَةَ حَتَّى يَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْجُنْدِ فَيُقَسِّمَهُ بَيْنَهُمْ. فَطَرَدَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي قَدْ أَنْضَيْتُ جَمَلِي وَاسْتَقْرَضْتُ فِي جَائِزَتِي فَأَعْطِنِي مَا أَتَبَلَّغُ بِهِ. فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى أَبْدَلَهُ بَعِيرًا مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَجَعَلَ بَعِيرَهُ فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَرَجَعَ الرَّسُولُ مَغْضُوبًا عَلَيْهِ مَحْرُومًا. وَسَأَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الرَّسُولَ هَلْ سَمِعُوا شَيْئًا يَوْمَ الْوَقْعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ سَمِعْنَا: يَا سَارِيَةُ، الْجَبَلَ الْجَبَلَ، وَقَدْ كِدْنَا نَهْلِكُ فَلَجَأْنَا إِلَيْهِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا. ذِكْرُ فَتْحِ كَرْمَانَ

ثُمَّ قَصَدَ سُهَيْلُ بْنُ عَدِيٍّ كَرْمَانَ، وَلَحِقَهُ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ، وَحَشَدَ لَهُمْ أَهْلُ كَرْمَانَ وَاسْتَعَانُوا عَلَيْهِمْ بِالْقُفْصِ، فَاقْتَتَلُوا فِي أَدَانِي أَرْضِهِمْ، فَفَضَّ اللَّهُ - تَعَالَى - الْمُشْرِكِينَ وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمُ الطَّرِيقَ. وَقَتَلَ النُّسَيْرُ بْنُ عَمْرٍو الْعِجْلِيُّ مَرْزُبَانَهَا، فَدَخَلَ سُهَيْلٌ مِنْ قِبَلِ طَرِيقِ الْقُرَى الْيَوْمَ إِلَى جِيرَفْتَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ مَفَازَةِ سِيرَ، فَأَصَابُوا مَا أَرَادُوا مِنْ بَعِيرٍ أَوْ شَاءٍ، فَقَوَّمُوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَتَحَاصُّوهَا بِالْأَثْمَانِ لِعِظَمِ الْبُخْتِ عَلَى الْعِرَابِ، وَكَرِهُوا أَنْ يَزِيدُوا، وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ بِذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ: إِذَا رَأَيْتُمْ أَنَّ فِي الْبُخْتِ فَضْلًا فَزِيدُوا. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي فَتَحَ كَرْمَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، ثُمَّ أَتَى الطَّبَسَيْنِ مِنْ كَرْمَانَ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ: أَقْطِعْنِي الطَّبَسَيْنِ، فَأَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ، فَقِيلَ: إِنَّهُمَا رُسْتَاقَانِ، فَامْتَنَعَ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ. ذكر فَتْحِ سِجِسْتَانَ وَقَصَدَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو سِجِسْتَانَ، وَلَحِقَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ أَهْلُهَا، فَالْتَقَوْا هُمْ وَأَهْلُ سِجِسْتَانَ فِي أَدَانِي أَرَضِيهِمْ، فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ اتَّبَعُوهُمْ حَتَّى

حَصَرُوهُمْ بِزَرَنْجَ، وَمَخَرُوا أَرْضَ سِجِسْتَانَ مَاهْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ طَلَبُوا الصُّلْحَ عَلَى زَرَنْجَ وَمَا احْتَازُوا مِنَ الْأَرَضِينَ فَأُعْطُوا، وَكَانُوا قَدِ اشْتَرَطُوا فِي صُلْحِهِمْ أَنَّ فَدَافِدَهَا حِمًى، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَجَنَّبُونَهَا خَشْيَةَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْهَا شَيْئًا فَيُخْفِرُوا، وَأُقِيمَ أَهْلُ سِجِسْتَانَ عَلَى الْخَرَاجِ، وَكَانَتْ سِجِسْتَانُ أَعْظَمَ مِنْ خُرَاسَانَ وَأَبْعَدَ فُرُوجًا، يُقَاتِلُونَ الْقُنْدُهَارَ وَالتُّرْكَ وَأُمَمًا كَثِيرَةً، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَ زَمَنُ مُعَاوِيَةَ، فَهَرَبَ الشَّاهُ مِنْ أَخِيهِ رُتْبِيلَ إِلَى بَلَدٍ فِيهَا يُدْعَى آمُلَ، وَدَانَ لِسَلْمِ بْنِ زِيَادٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِجِسْتَانَ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ وَعَقَدَ لَهُمْ وَأَنْزَلَهُمُ الْبِلَادَ وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِذَلِكَ يُرِي أَنَّهُ فُتِحَ عَلَيْهِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّ ابْنَ أَخِي لَيَفْرَحُ بِأَمْرٍ إِنَّهُ لَيُحْزِنُنِي وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْزِنَهُ. قَالَ: وَلِمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: إِنَّ آمُلَ بَلْدَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَرَنْجَ صُعُوبَةٌ وَتَضَايُقٌ، وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ غُدُرٌ، فَإِذَا اضْطَرَبَ الْحَبْلُ غَدًا فَأَهْوَنُ مَا يَجِيءُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَغْلِبُونَ عَلَى بِلَادِ آمُلَ بِأَسْرِهَا. وَأَقَرَّهُمْ عَلَى عَهْدِ سَلْمِ بْنِ زِيَادٍ. فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَعْدَ مُعَاوِيَةَ كَفَرَ الشَّاهُ وَغَلَبَ عَلَى آمُلَ وَاعْتَصَمَ مِنْهُ رُتْبِيلُ بِمَكَانِهِ، وَلَمْ يُرْضِهِ ذَلِكَ حِينَ تَشَاغَلَ عَنْهُ النَّاسُ حَتَّى طَمِعَ فِي زَرَنْجَ فَغَزَاهَا وَحَصَرَ مَنْ بِهَا حَتَّى أَتَتْهُمُ الْأَمْدَادُ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَصَارَ رُتْبِيلُ وَالَّذِينَ مَعَهُ عُصْبَةً، وَكَانَتْ تِلْكَ الْبِلَادُ مُذَلَّلَةً إِلَى أَنْ مَاتَ مُعَاوِيَةُ. وَقِيلَ فِي فَتْحِ سِجِسْتَانَ غَيْرُ هَذَا، وَسَيَرِدُ ذِكْرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. ذكر فَتْحِ مُكْرَانَ وَقَصَدَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو التَّغْلِبِيُّ مُكْرَانَ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهَا، وَلَحِقَ بِهِ شِهَابُ بْنُ الْمُخَارِقِ وَسُهَيْلُ بْنُ عَدِيٍّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ، فَانْتَهَوْا إِلَى دُوَيْنِ النَّهْرِ، وَأَهْلُ مُكْرَانَ عَلَى شَاطِئِهِ، فَاسْتَمَدَّ مَلِكُهُمْ مَلِكَ السِّنْدِ، فَأَمَدَّهُ بِجَيْشٍ كَثِيفٍ، فَالْتَقَوْا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَانْهَزَمُوا، وَقُتِلَ مِنْهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ

أَيَّامًا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى النَّهْرِ، وَرَجَعَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مُكْرَانَ فَأَقَامُوا بِهَا. وَكَتَبَ الْحَكَمُ إِلَى عُمَرَ بِالْفَتْحِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْأَخْمَاسِ مَعَ صُحَارٍ الْعَبْدِيِّ. فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ سَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ مُكْرَانَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هِيَ أَرْضٌ سَهْلُهَا جَبَلٌ، وَمَاؤُهَا وَشَلٌ، وَتَمْرُهَا دَقَلٌ، وَعَدُوُّهَا بَطَلٌ، وَخَيْرُهَا قَلِيلٌ، وَشَرُّهَا طَوِيلٌ، وَالْكَثِيرُ فِيهَا قَلِيلٌ، وَالْقَلِيلُ فِيهَا ضَائِعٌ، وَمَا وَرَاءَهَا شَرٌّ مِنْهَا. فَقَالَ: أَسَجَّاعٌ أَنْتَ أَمْ مُخْبِرٌ؟ لَا وَاللَّهِ لَا يَغْزُوهَا جَيْشٌ لِي أَبَدًا. وَكَتَبَ إِلَى سُهَيْلٍ وَالْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو: أَنْ لَا يَجُوزَنَّ مُكْرَانَ أَحَدٌ مِنْ جُنُودِكُمَا. وَأَمَرَهُمَا بِبَيْعِ الْفِيَلَةِ الَّتِي غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ. (وَقَسْمِ أَثْمَانِهَا عَلَى الْغَانِمِينَ) . (مُكْرَانَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْكَافِ) . ذكر خَبَرِ بَيْرُوذَ مِنَ الْأَهْوَازِ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْخُيُولُ إِلَى الْكُوَرِ، اجْتَمَعَ بِبَيْرُوذَ جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنَ الْأَكْرَادِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ عُمَرُ قَدْ عَهِدَ إِلَى أَبِي مُوسَى أَنْ يَسِيرَ إِلَى أَقْصَى ذِمَّةِ الْبَصْرَةِ، حَتَّى لَا يُؤْتَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَخَشِيَ أَنْ يَهْلِكَ بَعْضُ جُنُودِهِ أَوْ يُخْلَفُوا فِي أَعْقَابِهِمْ، فَاجْتَمَعَ الْأَكْرَادُ بِبَيْرُوذَ، وَأَبْطَأَ أَبُو مُوسَى حَتَّى تَجَمَّعُوا، ثُمَّ سَارَ فَنَزَلَ بِهِمْ بِبَيْرُوذَ، فَالْتَقَوْا فِي رَمَضَانَ بَيْنَ نَهْرِ تِيرَى وَمَنَاذِرَ، فَقَامَ الْمُهَاجِرُ بْنُ زِيَادٍ وَقَدْ تَحَنَّطَ وَاسْتَقْتَلَ، وَعَزَمَ أَبُو مُوسَى عَلَى النَّاسِ فَأَفْطَرُوا، وَتَقَدَّمَ الْمُهَاجِرُ فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى قُتِلَ. وَوَهَّنَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى تَحَصَّنُوا فِي قِلَّةٍ وَذِلَّةٍ، وَاشْتَدَّ جَزَعُ الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ عَلَى أَخِيهِ الْمُهَاجِرِ، وَعَظُمَ عَلَيْهِ فَقْدُهُ، فَرَقَّ لَهُ أَبُو مُوسَى فَاسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهِمْ فِي جُنْدٍ، وَخَرَجَ أَبُو مُوسَى حَتَّى بَلَغَ أَصْبَهَانَ، وَاجْتَمَعَ بِهَا بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُحَاصِرُونَ جَيًّا، فَلَمَّا فُتِحَتْ رَجَعَ أَبُو مُوسَى إِلَى الْبَصْرَةِ، وَفَتَحَ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْحَارِثِيُّ بَيْرُوذَ مِنْ نَهْرِ تِيرَى وَغَنِمَ مَا مَعَهُمْ. وَوَفَّدَ أَبُو مُوسَى وَفْدًا مَعَهُمُ الْأَخْمَاسُ، فَطَلَبَ ضَبَّةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْعَنَزِيُّ أَنْ يَكُونَ فِي

الْوَفْدِ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَبُو مُوسَى، وَكَانَ أَبُو مُوسَى قَدِ اخْتَارَ مِنْ سَبْيِ بَيْرُوذَ سِتِّينَ غُلَامًا، فَانْطَلَقَ ضَبَّةُ إِلَى عُمَرَ شَاكِيًا، وَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ يُخْبِرُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ ضَبَّةُ عَلَى عُمَرَ سَلَّمَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ: لَا مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا! فَقَالَ: أَمَّا الْمَرْحَبُ فَمِنَ اللَّهِ، وَأَمَّا الْأَهْلُ فَلَا أَهْلَ. ثُمَّ سَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَبَا مُوسَى انْتَقَى سِتِّينَ غُلَامًا مِنْ أَبْنَاءِ الدَّهَاقِينِ لِنَفْسِهِ، وَلَهُ جَارِيَةٌ تُغَدَّى جَفْنَةً وَتُعَشَّى جَفْنَةً تُدْعَى عَقِيلَةَ، وَلَهُ قَفِيزَانِ وَلَهُ خَاتَمَانِ، وَفَوَّضَ إِلَى زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أُمُورَ الْبَصْرَةِ، وَأَجَازَ الْحُطَيْئَةَ بِأَلْفٍ. فَاسْتَدْعَى عُمَرُ أَبَا مُوسَى. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ حَجَبَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ فَسَأَلَ عُمَرُ ضَبَّةَ عَمَّا قَالَ فَقَالَ: أَخَذَ سِتِّينَ غُلَامًا لِنَفْسِهِ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: دُلِلْتُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ لَهُمْ فِدَاءٌ فَفَدَيْتُهُمْ وَقَسَّمْتُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ ضَبَّةُ: مَا كَذَبَ وَلَا كَذَبْتُ. فَقَالَ: لَهُ قَفِيزَانِ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: قَفِيزٌ لِأَهْلِي أَقُوتُهُمْ بِهِ، وَقَفِيزٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَيْدِيهِمْ يَأْخُذُونَ بِهِ أَرْزَاقَهُمْ. فَقَالَ ضَبَّةُ: مَا كَذَبَ وَلَا كَذَبْتُ. فَلَمَّا ذَكَرَ عَقِيلَةَ سَكَتَ أَبُو مُوسَى وَلَمْ يَعْتَذِرْ. فَعَلِمَ أَنَّ ضَبَّةَ قَدْ صَدَقَهُ، قَالَ: وَوَلَّى زِيَادًا. قَالَ: رَأَيْتُ لَهُ رَأْيًا وَنُبْلًا فَأَسْنَدْتُ إِلَيْهِ عَمَلِي. قَالَ: وَأَجَازَ الْحُطَيْئَةَ بِأَلْفٍ. قَالَ: سَدَدْتُ فَمَهُ بِمَالِي أَنْ يَشْتُمَنِي. فَرَدَّهُ عُمَرُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ زِيَادًا وَعَقِيلَةَ، فَفَعَلَ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ زِيَادٌ سَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ وَعَطَائِهِ وَالْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْقُرْآنِ، فَرَآهُ فَقِيهًا، فَرَدَّهُ وَأَمَرَ أُمَرَاءَ الْبَصْرَةِ أَنْ يَسِيرُوا بِرَأْيِهِ، وَحَبَسَ عَقِيلَةَ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ عُمَرُ: أَلَا إِنَّ ضَبَّةَ غَضِبَ عَلَى أَبِي مُوسَى وَفَارَقَهُ مُرَاغِمًا أَنْ فَاتَهُ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، فَصَدَقَ عَلَيْهِ وَكَذَبَ، فَأَفْسَدَ كَذِبُهُ صِدْقَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّهُ يَهْدِي إِلَى النَّارِ. (بَيْرُوذَ: بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَضَمِّ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَآخِرُهُ ذَالٌ مُعْجَمَةٌ) . ذكر خَبَرِ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْجَعِيِّ وَالْأَكْرَادِ كَانَ عُمَرُ إِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَيْشٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَيْشٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ سَلَمَةَ بْنَ قَيْسٍ الْأَشْجَعِيَّ. فَقَالَ: سِرْ بَاسْمِ اللَّهِ، قَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ عَدُوَّكُمْ فَادْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوا وَأَقَامُوا بِدَارِهِمْ فَعَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْفَيْءِ نَصِيبٌ، وَإِنْ سَارُوا مَعَكُمْ فَلَهُمْ مِثْلُ الَّذِي لَكُمْ وَعَلَيْهِمْ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَإِنْ أَبَوْا فَادْعُوهُمْ إِلَى الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَجَابُوا فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا فَقَاتِلُوهُمْ، وَإِنْ تَحَصَّنُوا مِنْكُمْ وَسَأَلُوكُمْ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ

اللَّهِ وَرَسُولِهِ. أَوْ (ذِمَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) فَلَا تُجِيبُوهُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ أَتُصِيبُونَ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَذِمَّتَهُمَا أَمْ لَا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَلَا تُمَثِّلُوا. قَالَ: فَسَارُوا حَتَّى لَقُوا عَدُوًّا مِنَ الْأَكْرَادِ الْمُشْرِكِينَ فَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْجِزْيَةِ، فَلَمْ يُجِيبُوا، فَقَاتَلُوهُمْ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَوُا الذُّرِّيَّةَ، فَقَسَّمَهُ بَيْنَهُمْ، وَرَأَى سَلَمَةُ جَوْهَرًا فِي سَفَطٍ، فَاسْتَرْضَى عَنْهُ الْمُسْلِمِينَ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى عُمَرَ. فَقَدِمَ الرَّسُولُ بِالْبِشَارَةِ وَالسَّفَطِ عَلَى عُمَرَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أُمُورِ النَّاسِ وَهُوَ يُخْبِرُهُ، حَتَّى أَخْبَرَهُ بِالسَّفَطِ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَأَمَرَ بِهِ فَوُجِئَ بِهِ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: إِنْ تَفَرَّقَ النَّاسُ قَبْلَ أَنْ تَقْدَمَ عَلَيْهِمْ وَيُقَسِّمَهُ سَلَمَةُ فِيهِمْ لَأَسُوءَنَّكَ. فَسَارَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى سَلَمَةَ فَبَاعَهُ وَقَسَّمَهُ فِي النَّاسِ. وَكَانَ الْفَصُّ يُبَاعُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَقِيمَتُهُ عِشْرُونَ أَلْفًا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَحَجَّ مَعَهُ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا. وَفِيهَا قُتِلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ذكر الْخَبَرِ عَنْ مَقْتَلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَطُوفُ يَوْمًا فِي السُّوقِ، فَلَقِيَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَعِدْنِي عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فَإِنَّ عَلَيَّ خَرَاجًا كَثِيرًا. قَالَ: وَكَمْ خَرَاجُكَ؟ قَالَ: دِرْهَمَانِ كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: وَأَيْشٍ صِنَاعَتُكَ؟ قَالَ: نَجَّارٌ، نَقَّاشٌ، حَدَّادٌ. قَالَ: فَمَا أَرَى خَرَاجَكَ كَثِيرًا عَلَى مَا تَصْنَعُ مِنَ الْأَعْمَالِ، قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ: لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أَصْنَعَ رَحًى تَطْحَنُ بِالرِّيحِ لَفَعَلْتُ! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَاعْمَلْ لِي رَحًى. قَالَ: لَئِنْ سَلِمْتَ لَأَعْمَلَنَّ لَكَ رَحًى يَتَحَدَّثُ بِهَا مَنْ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ! ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ. فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ أَوْعَدَنِي الْعَبْدُ الْآنَ. ثُمَّ انْصَرَفَ عُمَرُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَاءَهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اعْهَدْ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ فِي ثَلَاثِ لَيَالٍ. قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: أَجِدُهُ فِي كِتَابِ التَّوْرَاةِ. قَالَ عُمَرُ: [آللَّهَ! إِنَّكَ] لَتَجِدُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا وَلَكِنِّي

أَجِدُ حِلْيَتَكَ وَصِفَتَكَ وَأَنَّكَ قَدْ فَنِيَ أَجْلُكَ. قَالَ: وَعُمَرُ لَا يُحِسُّ وَجَعًا! فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَاءَهُ كَعْبٌ فَقَالَ: بَقِيَ يَوْمَانِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَاءَهُ كَعْبٌ فَقَالَ: مَضَى يَوْمَانِ وَبَقِيَ يَوْمٌ. فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَ عُمَرُ إِلَى الصَّلَاةِ وَكَانَ يُوَكِّلُ بِالصُّفُوفِ رِجَالًا فَإِذَا اسْتَوَتْ كَبَّرَ، وَدَخَلَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ فِي النَّاسِ وَبِيَدِهِ خِنْجَرٌ لَهُ رَأْسَانِ نِصَابُهُ فِي وَسَطِهِ، فَضَرَبَ عُمَرَ سِتَّ ضَرَبَاتِ إِحْدَاهُنَّ تَحْتَ سُرَّتِهِ وَهِيَ الَّتِي قَتَلَتْهُ، وَقَتَلَ مَعَهُ كُلَيْبَ بْنَ أَبِي الْبُكَيْرِ اللَّيْثِيَّ وَكَانَ خَلْفَهُ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً غَيْرَهُ. فَلَمَّا وَجَدَ عُمَرُ حَرَّ السِّلَاحِ سَقَطَ، وَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَعُمَرُ طَرِيحٌ، فَاحْتُمِلَ فَأُدْخِلَ بَيْتَهُ، وَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْهَدَ إِلَيْكَ. قَالَ: أَتُشِيرُ عَلَيَّ بِذَلِكَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا. قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُ فِيهِ أَبَدًا. قَالَ: فَهَبْنِي صَمْتًا حَتَّى أَعْهَدَ إِلَى النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ. ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرَ وَسَعْدًا فَقَالَ: انْتَظِرُوا أَخَاكُمْ طَلْحَةَ ثَلَاثًا، فَإِنْ جَاءَ وَإِلَّا فَاقْضُوا أَمْرَكُمْ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عَلِيُّ إِنْ وَلِيتَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا أَنْ تَحْمِلَ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ إِنْ وَلِيتَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا أَنْ تَحْمِلَ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا سَعْدُ إِنْ وَلِيتَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا أَنْ تَحْمِلَ أَقَارِبَكَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، قُومُوا فَتَشَاوَرُوا ثُمَّ اقْضُوا أَمْرَكُمْ وَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ صُهَيْبٌ. ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ، فَقَالَ: قُمْ عَلَى بَابِهِمْ فَلَا تَدَعْ أَحَدًا يَدْخُلُ إِلَيْهِمْ. وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْأَنْصَارِ الَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ، أَنْ يُحْسِنَ إِلَى مُحْسِنِهِمْ وَيَعْفُوَ عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ مَادَّةُ الْإِسْلَامِ، أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ حَقَّهَا فَتُوضَعَ فِي فُقَرَائِهِمْ، وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ بِذِمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُوفِيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ لَقَدْ تَرَكْتُ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي عَلَى أَنْقَى مِنَ الرَّاحَةِ، يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، اخْرُجْ فَانْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَتَلَكَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مَنِيَّتِي بِيَدِ رَجُلٍ سَجَدَ لِلَّهِ سَجْدَةً وَاحِدَةً! يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، اذْهَبْ إِلَى عَائِشَةَ فَسَلْهَا أَنْ تَأْذَنَ لِي أَنْ أُدْفَنَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ. يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنِ اخْتَلَفَ الْقَوْمُ فَكُنْ مَعَ الْأَكْثَرِ، فَإِنْ تَشَاوَرُوا فَكُنْ مَعَ الْحِزْبِ الَّذِي فِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، يَا

عَبْدَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِلنَّاسِ. فَجَعَلَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيَقُولُ لَهُمْ: أَهَذَا عَنْ مَلَإٍ مِنْكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَعَاذَ اللَّهِ! قَالَ: وَدَخَلَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ مَعَ النَّاسِ فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ قَالَ: تَوَعَّدَنِي كَعْبٌ ثَلَاثًا أَعُدُّهَا ... وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَ لِي كَعْبُ وَمَا بِي حِذَارُ الْمَوْتِ، إِنِّي لَمَيِّتٌ ، وَلَكِنْ حِذَارُ الذَّنْبِ يَتْبَعُهُ الذَّنْبُ وَدَخَلَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ لِي بِهَذَا يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ أَنْ قُلْ نَعَمْ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا تَغُرَّنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ. ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، خُذْ رَأْسِي عَنِ الْوِسَادَةِ فَضَعْهُ فِي التُّرَابِ لَعَلَّ اللَّهَ - جَلَّ ذِكْرُهُ - يَنْظُرُ إِلَيَّ فَيَرْحَمُنِي، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ هَوْلِ الْمَطْلَعِ. وَدُعِيَ لَهُ طَبِيبٌ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ فَسَقَاهُ نَبِيذًا فَخَرَجَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ، فَسَقَاهُ لَبَنًا فَخَرَجَ كَذَلِكَ أَيْضًا، فَقَالَ لَهُ: اعْهَدْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: قَدْ فَرَغْتُ. وَلَمَّا احْتُضِرَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ظَلُومٌ لِنَفْسِي غَيْرَ أَنِّيَ مُسْلِمٌ ... أُصَلِّي الصَّلَاةَ كُلَّهَا وَأَصُومُ وَلَمْ يَزَلْ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُدِيمُ الشَّهَادَةَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَّ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ: طُعِنَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَدُفِنَ يَوْمَ الْأَحَدِ هِلَالَ مُحَرَّمٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَبُويِعَ عُثْمَانُ لِثَلَاثٍ مَضَيْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ. وَقِيلَ: كَانَتْ وَفَاتُهُ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ

ذِي الْحِجَّةِ، وَاسْتَقْبَلَ بِخِلَافَتِهِ هِلَالَ مُحَرَّمٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. وَكَانَتْ خِلَافَةُ عُمَرَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَشْرَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ. وَصَلَّى عَلَيْهِ صُهَيْبٌ، وَحُمِلَ إِلَى بَيْتِ عَائِشَةَ، وَدُفِنَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَنَزَلَ فِي قَبْرِهِ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. ذكر نَسَبِ عُمَرَ وَصِفَتِهِ وَعُمُرِهِ فَأَمَّا نَسَبُهُ فَهُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ رِيَاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِزَاحِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو حَفْصٍ، وَأُمُّهُ حَنْتَمَةُ بِنْتُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّ أَبِي جَهْلٍ، وَقَدْ زَعَمَ مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ أَنَّهَا أُخْتُ أَبِي جَهْلٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفَارُوقَ، وَقِيلَ: بَلْ سَمَّاهُ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَأَمَّا صِفَتُهُ فَكَانَ طَوِيلًا آدَمَ أَصْلَعَ أَعْسَرَ يَسَرًا - يَعْنِي يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ - وَكَانَ لِطُولِهِ كَأَنَّهُ رَاكِبٌ. وَقِيلَ: كَانَ أَبْيَضَ أَبْهَقَ - يَعْنِي شَدِيدَ الْبَيَاضِ - تَعْلُوهُ حُمْرَةٌ، طُوَالًا أَصْلَعَ أَشْيَبَ، وَكَانَ يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ وَيُرَجِّلُ رَأْسَهُ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ قَبْلَ الْفِجَارِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَكَانَ عُمُرُهُ

خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَأَشْهُرٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ: ابْنُ إِحْدَى وَسِتِّينَ سَنَةً. (رِيَاحٌ: بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ) . ذكر أَسْمَاءِ وَلَدِهِ وَنِسَائِهِ تَزَوَّجَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ زَيْنَبَ بِنْتَ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ الْأَكْبَرَ، وَحَفْصَةَ. وَتَزَوَّجَ مُلَيْكَةَ بِنْتَ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَوَلَدَتْ لَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَفَارَقَهَا فِي الْهُدْنَةِ، فَخَلَفَ عَلَيْهَا أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ، وَقُتِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بِصِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَقِيلَ: كَانَتْ أُمُّهُ أُمَّ زَيْدٍ الْأَصْغَرِ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِيِّ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ فَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عُمَرَ. وَتَزَوَّجَ قُرَيْبَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَفَارَقَهَا فِي الْهُدْنَةِ أَيْضًا، فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَكَانَا سِلْفَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ قُرَيْبَةَ أُخْتُ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَزَوَّجَ أُمَّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ فِي الْإِسْلَامِ، فَوَلَدَتْ لَهُ فَاطِمَةَ فَطَلَّقَهَا، وَقِيلَ لَمْ يُطَلِّقْهَا. وَتَزَوَّجَ جَمِيلَةَ أُخْتَ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ الْأَوْسِيِّ الْأَنْصَارِيِّ فِي الْإِسْلَامِ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَاصِمًا فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُمُّهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَوَلَدَتْ لَهُ رُقَيَّةَ وَزَيْدًا. وَتَزَوَّجَ لُهَيَّةَ امْرَأَةً مِنَ الْيَمَنِ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْأَوْسَطَ، وَقِيلَ الْأَصْغَرَ، وَقِيلَ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ فُكَيْهَةُ أُمُّ وَلَدٍ فَوَلَدَتْ لَهُ زَيْنَبَ، وَهِيَ أَصْغَرُ وَلَدِ عُمَرَ. وَتَزَوَّجَ عَاتِكَةَ بِنْتَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقُتِلَ عَنْهَا، فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ تَزَوَّجَهَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، فَقُتِلَ عَنْهَا أَيْضًا، فَخَطَبَهَا عَلِيٌّ، فَقَالَتْ: لَا أَفْعَلُ، إِنِّي أَضِنُّ بِكَ عَنِ الْقَتْلِ فَإِنَّكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ. فَتَرَكَهَا.

وَخَطَبَ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، إِنَّهُ خَشِنُ الْعَيْشِ شَدِيدٌ عَلَى النِّسَاءِ. فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: أَنَا أَكْفِيكِ. فَأَتَى عُمَرَ فَقَالَ: بَلَغَنِي خَبَرٌ أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْهُ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: خَطَبْتَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ نَعَمْ، أَفَرَغِبْتَ بِي عَنْهَا أَمْ رَغِبْتَ بِهَا عَنِّي؟ قَالَ: وَلَا وَاحِدَةَ، وَلَكِنَّهَا حَدَثَةٌ نَشَأَتْ تَحْتَ كَنَفِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي لِينٍ وَرِفْقٍ، وَفِيكَ غِلْظَةٌ، وَنَحْنُ نَهَابُكَ وَمَا نَقْدِرُ أَنْ نَرُدَّكَ عَنْ خُلُقٍ مِنْ أَخْلَاقِكَ، فَكَيْفَ بِهَا إِنْ خَالَفَتْكَ فِي شَيْءٍ فَسَطَوْتَ بِهَا كُنْتَ قَدْ خَلَفْتَ أَبَا بَكْرٍ فِي وَلَدِهِ بِغَيْرِ مَا يَحِقُّ عَلَيْكَ. وَقَالَ: فَكَيْفَ بِعَائِشَةَ وَقَدْ كَلَّمَتْهَا؟ قَالَ: أَنَا لَكَ بِهَا وَأَدُلُّكَ عَلَى خَيْرٍ مِنْهَا، أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ تَعَلَّقْ مِنْهَا بِسَبَبٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَخَطَبَ أُمَّ أَبَانَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَكَرِهَتْهُ وَقَالَتْ: يُغْلِقُ بَابَهُ، وَيَمْنَعُ خَيْرَهُ، وَيَدْخُلُ عَابِسًا وَيَخْرُجُ عَابِسًا. ذكر بَعْضِ سِيرَتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ عُمَرُ: إِنَّمَا مَثَلُ الْعَرَبِ مَثَلُ جَمَلٍ أَنِفٍ اتَّبَعَ قَائِدَهُ، فَلْيَنْظُرْ قَائِدُهُ حَيْثُ يَقُودُهُ، فَأَمَّا أَنَا فَوَرَبِّ الْكَعْبَةِ لَأَحْمِلَنَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ! قَالَ نَافِعٌ الْعَيْشِيُّ: دَخَلْتُ حَيْرَ الصَّدَقَةِ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: فَجَلَسَ عُثْمَانُ فِي الظِّلِّ يَكْتُبُ، وَقَامَ عَلِيٌّ عَلَى رَأْسِهِ يُمْلِي عَلَيْهِ مَا يَقُولُ عُمَرُ، وَعُمَرُ قَائِمٌ فِي الشَّمْسِ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ عَلَيْهِ بُرْدَانِ أَسْوَدَانِ اتَّزَرَ بِأَحَدِهِمَا وَلَفَّ الْآخَرَ عَلَى رَأْسِهِ، يَعُدُّ إِبِلَ الصَّدَقَةِ، يَكْتُبُ أَلْوَانَهَا وَأَسْنَانَهَا. فَقَالَ عَلِيٌّ لِعُثْمَانَ: فِي كِتَابِ اللَّهِ {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] . ثُمَّ أَشَارَ عَلِيٌّ بِيَدِهِ إِلَى عُمَرَ وَقَالَ: هَذَا الْقَوِيُّ الْأَمِينُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: رَأَيْتُ عُمَرَ أَخَذَ بِتِبْنَةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي هَذِهِ التِّبْنَةُ، يَا لَيْتَنِي لَمْ أَكُ شَيْئًا، يَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي، يَا لَيْتَنِي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا. وَقَالَ

الْحَسَنُ: قَالَ عُمَرُ: لَئِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَأَسِيرَنَّ فِي الرَّعِيَّةِ حَوْلًا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ لِلنَّاسِ حَوَائِجَ تُقْطَعُ دُونِي، أَمَّا عُمَّالُهُمْ فَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَيَّ، وَأَمَّا هُمْ فَلَا يَصِلُونَ إِلَيَّ، فَأَسِيرُ إِلَى الشَّامِ فَأُقِيمُ شَهْرَيْنِ، وَبِالْجَزِيرَةِ شَهْرَيْنِ، وَبِمِصْرَ شَهْرَيْنِ، وَبِالْبَحْرَيْنِ شَهْرَيْنِ، وَبِالْكُوفَةِ شَهْرَيْنِ، وَبِالْبَصْرَةِ شَهْرَيْنِ، وَاللَّهِ لَنِعْمَ الْحَوْلُ هَذَا! وَقِيلَ لِعُمَرَ: إِنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مِنَ الْأَنْبَارِ لَهُ بَصَرٌ بِالدِّيوَانِ لَوِ اتَّخَذْتَهُ كَاتِبًا. فَقَالَ: لَقَدِ اتَّخَذْتُ إِذَنْ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. قِيلَ: خَطَبَ عُمَرُ النَّاسَ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَقِّ لَوْ أَنَّ جَمَلًا هَلَكَ ضَيَاعًا بِشَطِّ الْفُرَاتِ لَخَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو فِرَاسٍ: خَطَبَ عُمَرُ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي مَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ عُمَّالًا لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ وَلَا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ، وَإِنَّمَا أُرْسِلُهُمْ إِلَيْكُمْ لِيُعَلِّمُوكُمْ دِينَكُمْ وَسُنَّتَكُمْ، فَمَنْ فُعِلَ بِهِ شَيْءٌ سِوَى ذَلِكَ فَلْيَرْفَعْهُ إِلَيَّ، فَوَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَأُقِصَّنَّهُ مِنْهُ. فَوَثَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ [أُمَرَاءِ] الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَعِيَّةٍ، فَأَدَّبَ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ إِنَّكَ لَتُقِصُّهُ مِنْهُ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ إِذَنْ لَأُقِصَّنَّهُ مِنْهُ، وَكَيْفَ لَا أُقِصُّهُ مِنْهُ وَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقِصُّ مِنْ نَفْسِهِ! أَلَا لَا تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِينَ فَتُذِلُّوهُمْ، وَلَا تَحْمَدُوهُمْ فَتَفْتِنُوهُمْ، وَلَا تَمْنَعُوهُمْ حُقُوقَهُمْ فَتُكَفِّرُوهُمْ، وَلَا تُنْزِلُوهُمُ الْغِيَاضَ فَتُضَيِّعُوهُمْ. قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ لَيْلًا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا جَاءَ بِكَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ؟ قَالَ: رُفْقَةٌ نَزَلَتْ فِي نَاحِيَةِ السُّوقِ خَشِيتُ عَلَيْهِمْ سُرَّاقَ الْمَدِينَةِ، فَانْطَلِقْ فَلْنَحْرُسْهُمْ. فَأَتَيَا السُّوقَ فَقَعَدَا عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ يَتَحَدَّثَانِ، فَرُفِعَ لَهُمَا مِصْبَاحٌ فَقَالَ عُمَرُ: أَلَمْ أَنْهَ عَنِ الْمَصَابِيحِ بَعْدَ النَّوْمِ؟ فَانْطَلَقَا فَإِذَا قَوْمٌ عَلَى شَرَابٍ لَهُمْ. قَالَ: انْطَلِقْ فَقَدْ عَرَفْتُهُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ قَالَ: يَا فُلَانُ كُنْتَ وَأَصْحَابُكَ الْبَارِحَةَ عَلَى شَرَابٍ! قَالَ: وَمَا أَعْلَمَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: شَيْءٌ شَهِدْتُهُ. قَالَ: أَوَلَمْ يَنْهَكَ اللَّهُ عَنِ التَّجَسُّسِ؟ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ. وَإِنَّمَا نَهَى عُمَرُ عَنِ الْمَصَابِيحِ لِأَنَّ الْفَأْرَةَ تَأْخُذُ الْفَتِيلَةَ فَتَرْمِي بِهَا فِي سَقْفِ الْبَيْتِ

فَتُحْرِقُهُ، وَكَانَتِ السُّقُوفُ مِنْ جَرِيدٍ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ قَبْلَهُ. وَقَالَ أَسْلَمُ: وَخَرَجَ عُمَرُ إِلَى حَرَّةِ وَاقِمٍ وَأَنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِصِرَارٍ إِذَا نَارٌ تَسَعَّرُ. فَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِمْ. فَهَرْوَلْنَا حَتَّى دَنَوْنَا مِنْهُمْ، فَإِذَا بِامْرَأَةٍ مَعَهَا صِبْيَانٌ لَهَا وَقِدْرٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى نَارٍ وَصِبْيَانُهَا يَتَضَاغَوْنَ. فَقَالَ عُمَرُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَصْحَابَ الضَّوْءِ. وَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ: يَا أَصْحَابَ النَّارِ. قَالَتْ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ. قَالَ: أَدْنُوا؟ قَالَتْ: ادْنُ بِخَيْرٍ أَوْ دَعْ. فَدَنَا فَقَالَ: مَا بَالُكُمْ؟ قَالَتْ: قَصَّرَ بِنَا اللَّيْلُ وَالْبَرْدُ. قَالَ: فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَةِ يَتَضَاغَوْنَ؟ قَالَتْ: [مِنْ] الْجُوعِ. قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْقِدْرِ؟ قَالَتْ: مَا لِي مَا أُسْكِتُهُمْ حَتَّى يَنَامُوا، فَأَنَا أُعَلِّلُهُمْ وَأُوهِمُهُمْ أَنِّي أُصْلِحُ لَهُمْ شَيْئًا حَتَّى يَنَامُوا، اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عُمَرَ! قَالَ: أَيْ رَحِمَكِ اللَّهُ، مَا يُدْرِي بِكُمْ عُمَرَ؟ قَالَتْ: يَتَوَلَّى أَمْرَنَا وَيَغْفُلُ عَنَّا. فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا. فَخَرَجْنَا نُهَرْوِلُ حَتَّى أَتَيْنَا دَارَ الدَّقِيقِ، فَأَخْرَجَ عِدْلًا فِيهِ كُبَّةُ شَحْمٍ فَقَالَ: احْمِلْهُ عَلَى ظَهْرِي. قَالَ أَسْلَمُ: فَقُلْتُ: أَنَا أَحْمِلُهُ عَنْكَ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. فَقَالَ آخِرَ ذَلِكَ: أَنْتَ تَحْمِلُ عَنِّي وِزْرِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا أُمَّ لَكَ! فَحَمَلْتُهُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ نُهَرْوِلُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا، فَأَلْقَى ذَلِكَ عِنْدَهَا وَأَخْرَجَ مِنَ الدَّقِيقِ شَيْئًا فَجَعَلَ يَقُولُ لَهَا: ذُرِّي عَلَيَّ وَأَنَا أُحَرِّكُ لَكِ، وَجَعَلَ يَنْفُخُ تَحْتَ الْقِدْرِ، وَكَانَ ذَا لِحْيَةٍ عَظِيمَةٍ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الدُّخَانِ مِنْ خَلَلِ لِحْيَتِهِ حَتَّى أَنْضَجَ ثُمَّ أَنْزَلَ الْقِدْرَ، فَأَتَتْهُ بِصَحْفَةٍ فَأَفْرَغَهَا فِيهَا ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمِيهِمْ وَأَنَا أُسَطِّحُ لَكِ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَلَّى عِنْدَهَا فَضْلَ ذَلِكَ، وَقَامَ وَقُمْتُ مَعَهُ، فَجَعَلَتْ تَقُولُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، أَنْتَ أَوْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ! فَيَقُولُ: قُولِي خَيْرًا، فَإِنَّكِ إِذَا جِئْتِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَدْتِنِي هُنَاكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -! ثُمَّ تَنَحَّى نَاحِيَةً، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا وَرَبَضَ لَا يُكَلِّمُنِي حَتَّى رَأَى الصِّبْيَةَ يَضْحَكُونَ وَيَصْطَرِعُونَ، ثُمَّ نَامُوا وَهَدَأُوا، فَقَامَ وَهُوَ يَحْمَدُ اللَّهَ، فَقَالَ: يَا أَسْلَمُ، الْجُوعُ أَسْهَرَهُمْ وَأَبْكَاهُمْ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ لَا أَنْصَرِفَ حَتَّى أَرَى مَا رَأَيْتُ مِنْهُمْ. (صِرَارٌ: بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَرَائَيْنِ) . قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: كَانَ عُمَرُ إِذَا نَهَى النَّاسَ عَنْ شَيْءٍ جَمَعَ أَهْلَهُ فَقَالَ: إِنِّي نَهَيْتُ النَّاسَ عَنْ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكُمْ نَظَرَ الطَّيْرِ إِلَى اللَّحْمِ، وَأُقْسِمُ

بِاللَّهِ لَا أَجِدُ أَحَدًا [مِنْكُمْ] فَعَلَهُ إِلَّا أَضْعَفْتُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ. قَالَ سَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ: وَكَانَ عُمَرُ إِذَا احْتَاجَ أَتَى صَاحِبَ بَيْتِ الْمَالِ فَاسْتَقْرَضَهُ، فَرُبَّمَا أَعْسَرَ فَيَأْتِيهِ صَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ يَتَقَاضَاهُ، فَيَلْزَمُهُ فَيَحْتَالُ لَهُ عُمَرُ، وَرُبَّمَا خَرَجَ عَطَاؤُهُ فَقَضَاهُ. قَالَ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دُعِيَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وَلِيَ قَالُوا لَهُ: يَا خَلِيفَةَ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا أَمْرٌ يَطُولُ، كُلَّمَا جَاءَ خَلِيفَةٌ قَالُوا يَا خَلِيفَةَ خَلِيفَةِ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ، بَلْ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَنَا أَمِيرُكُمْ، فَسُمِّيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ التَّارِيخَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ بَيْتَ الْمَالِ، وَأَوَّلُ مَنْ عَسَّ اللَّيْلَ، وَأَوَّلُ مَنْ عَاقَبَ عَلَى الْهِجَاءِ، وَأَوَّلُ مَنْ نَهَى عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَأَوَّلُ مَنْ جَمَعَ النَّاسَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يُصَلُّونَ أَرْبَعًا وَخَمْسًا وَسِتًّا. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى إِمَامٍ يُصَلِّي بِهِمُ التَّرَاوِيحَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَتَبَ بِهِ إِلَى الْبُلْدَانِ وَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حَمَلَ الدِّرَّةَ وَضَرَبَ بِهَا، وَأَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ زَاذَانُ: قَالَ عُمَرُ لِسَلْمَانَ: أَمَلِكٌ أَنَا أَمْ خَلِيفَةٌ؟ قَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنْ أَنْتَ جَبَيْتَ مِنْ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ دِرْهَمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَوَضَعْتَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، فَأَنْتَ مَلِكٌ غَيْرُ خَلِيفَةٍ. فَبَكَى عُمَرُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةُ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ حَنْتَمَةَ! لَقَدْ رَأَيْتُهُ عَامَ الرَّمَادَةِ وَإِنَّهُ لَيَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِهِ جِرَابَيْنِ وَعُكَّةَ زَيْتٍ فِي يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَيَعْتَقِبُ هُوَ وَأَسْلَمُ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: مِنْ أَيْنَ يَا أَبَا

هُرَيْرَةَ؟ قُلْتُ: قَرِيبًا، فَأَخَذْتُ أَعْقُبُهُ فَحَمَلْنَاهُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى صِرَارٍ، فَإِذَا نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ بَيْتًا مِنْ مُحَارِبٍ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا أَقْدَمَكُمْ؟ قَالُوا: الْجَهْدُ، وَأَخْرَجُوا لَنَا جِلْدَ الْمَيْتَةِ مَشْوِيًّا كَانُوا يَأْكُلُونَهُ، وَرِمَّةَ الْعِظَامِ مَسْحُوقَةً كَانُوا يَسْتَفُّونَهَا، فَرَأَيْتُ عُمَرَ طَرَحَ رِدَاءَهُ ثُمَّ اتَّزَرَ، فَمَا زَالَ يَطْبُخُ حَتَّى أَشْبَعَهُمْ، ثُمَّ أَرْسَلَ أَسْلَمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَاءَنَا بِأَبْعِرَةٍ، فَحَمَلَهُمْ عَلَيْهَا حَتَّى أَنْزَلَهُمُ الْجَبَّانَةَ، ثُمَّ كَسَاهُمْ، وَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِمْ وَإِلَى غَيْرِهِمْ حَتَّى رَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ: رَأَتِ الشِّفَاءُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ فِتْيَانًا يَقْصِدُونَ فِي الْمَشْيِ وَيَتَكَلَّمُونَ رُوَيْدًا فَقَالَتْ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: نُسَّاكٌ، فَقَالَتْ: كَانَ وَاللَّهِ عُمَرُ إِذَا تَكَلَّمَ أَسْمَعَ، وَإِذَا مَشَى أَسْرَعَ، وَإِذَا ضَرَبَ أَوْجَعَ، وَهُوَ وَاللَّهِ نَاسِكٌ حَقًا. قَالَ الْحَسَنُ: خَطَبَ عُمَرُ النَّاسَ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رُقْعَةً مِنْهَا أَدَمٌ. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: رَأَيْتُ عُمَرَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ مُرَقَّعٌ بِقِطْعَةِ جِرَابٍ. وَقَالَ عَلِيٌّ: رَأَيْتُ عُمَرَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ فِيهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ رُقْعَةً فِيهَا مِنْ أَدَمٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ عُمَرُ يَمُرُّ بِالْآيَةِ مِنْ وِرْدِهِ فَيَسْقُطُ حَتَّى يُعَادَ كَمَا يُعَادُ الْمَرِيضُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ (وَالطَّوْرِ) ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ - مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 7 - 8] ، سَقَطَ ثُمَّ تَحَامَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَمَرِضَ شَهْرًا مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ عُمَرُ يَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ حَيْثُ أَدْرَكَهُ الْخُصُومُ. قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: أَتَى رَهْطٌ إِلَى عُمَرَ فَقَالُوا لَهُ: كَثُرَ الْعِيَالُ وَاشْتَدَّتِ الْمَؤُونَةُ فَزِدْنَا فِي عَطَائِنَا. قَالَ: فَعَلْتُمُوهَا، جَمَعْتُمْ بَيْنَ الضَّرَائِرِ وَاتَّخَذْتُمُ الْخَدَمَ مِنْ مَالِ اللَّهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي وَإِيَّاكُمْ فِي سَفِينَةٍ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ تَذْهَبُ بِنَا شَرْقًا وَغَرْبًا، فَلَنْيَعْجِزَ النَّاسُ أَنْ يُوَلُّوا رَجُلًا مِنْهُمْ، فَإِنِ اسْتَقَامَ اتَّبَعُوهُ، وَإِنْ جَنَفَ قَتَلُوهُ. فَقَالَ طَلْحَةُ: وَمَا عَلَيْكَ لَوْ قُلْتَ: وَإِنْ تَعَوَّجَ عَزَلُوهُ؟ قَالَ: لَا، الْقَتْلُ أَنْكَلُ لِمَنْ بَعْدَهُ، احْذَرُوا فَتَى ابْنِ قُرَيْشٍ وَابْنِ كَرِيمِهَا

الَّذِي لَا يَنَامُ إِلَّا عَلَى الرِّضَا، وَيَضْحَكُ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُمَنْفَوْقَهُوَمَنْتَحْتَهُ. قَالَ مُجَالِدٌ: ذُكِرَ رَجُلٌ عِنْدَ عُمَرَ فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاضِلٌ لَا يَعْرِفُ مِنَ الشَّرِّ شَيْئًا. قَالَ: ذَاكَ أَوْقَعُ لَهُ فِيهِ. قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: لَمَّا دُفِنَ عُمَرُ أَتَيْتُ عَلِيًّا، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ مِنْهُ فِي عُمَرَ شَيْئًا، فَخَرَجَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ، وَقَدِ اغْتَسَلَ وَهُوَ مُلْتَحِفٌ بِثَوْبٍ لَا يَشُكُّ أَنَّ الْأَمْرَ يَصِيرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ الْخَطَّابِ، لَقَدْ صَدَقَتِ ابْنَةُ أَبِي حَثْمَةَ، ذَهَبَ بِخَيْرِهَا وَنَجَا مِنْ شَرِّهَا، أَمَا وَاللَّهِ مَا قَالَتْ وَلَكِنْ قُوِّلَتْ. وَقَالَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو فِي عُمَرَ: فَجَّعَنِي فَيْرُوزُ لَا دَرَّ دَرُّهُ ... بِأَبْيَضَ تَالٍ لِلْكِتَابِ نَجِيبِ رَءُوفٍ عَلَى الْأَدْنَى غَلِيظٍ عَلَى الْعِدَا ... أَخِي ثِقَةٍ فِي النَّائِبَاتِ مُنِيبِ مَتَى مَا يَقُلْ لَا يُكْذِبِ الْقَوْلَ فِعْلُهُ ... سَرِيعٍ إِلَى الْخَيْرَاتِ غَيْرِ قَطُوبِ وَقَالَتْ أَيْضًا: عَيْنِ جُودِي بِعَبْرَةٍ وَنَحِيبِ ... لَا تَمَلِّي عَلَى الْإِمَامِ النَّجِيبِ فَجَعَتْنِي الْمَنُونُ بِالْفَارِسِ الْمُعْ ... لِمِ يَوْمَ الْهِيَاجِ وَالتَّلْبِيبِ عِصْمَةِ النَّاسِ وَالْمُعِينِ عَلَى الدَّهْ ... رِ وَغَيْثِ الْمُنْتَابِ وَالْمَحْرُوبِ قُلْ لِأَهْلِ الثَّرَاءِ وَالْبُؤْسِ مُوتُوا ... قَدْ سَقَتْهُ الْمَنُونُ كَأْسَ شَعُوبِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: وَحَجَّ عُمَرُ فَلَمَّا كَانَ بِضَجْنَانَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْعَلِيُّ الْمُعْطِي مَا شَاءَ مَنْ شَاءَ، كُنْتُ أَرْعَى إِبِلَ الْخَطَّابِ فِي هَذَا الْوَادِي فِي مِدْرَعَةِ صُوفٍ، وَكَانَ فَظًّا يُتْعِبُنِي إِذَا عَمِلْتُ، وَيَضْرِبُنِي إِذَا قَصَّرْتُ، وَقَدْ أَمْسَيْتُ وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ أَحَدٌ، ثُمَّ تَمَثَّلَ:

لَا شَيْءَ فِيمَا تَرَى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ ... يَبْقَى الْإِلَهُ وَيُودِي الْمَالُ وَالْوَلَدُ لَمْ تُغْنِ عَنْ هُرْمُزٍ يَوْمًا خَزَائِنُهُ ... وَالْخُلْدَ قَدْ حَاوَلَتْ عَادٌ فَمَا خَلَدُوا وَلَا سُلَيْمَانَ إِذْ تَجْرِي الرِّيَاحُ بِهِ ... وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ فِيمَا بَيْنَهَا يَرِدُ أَيْنَ الْمُلُوكُ الَّتِي كَانَتْ نَوَافِلُهَا ... مِنْ كُلِّ أَوْبٍ إِلَيْهَا رَاكِبٌ يَفِدُ حَوْضًا هُنَالِكَ مَوْرُودًا بِلَا كَذِبٍ ... لَا بُدَّ مِنْ وِرْدِهِ يَوْمًا كَمَا وَرَدُوا قَالَ أَسْلَمُ: إِنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ اسْتَقْرَضَتْ عُمَرَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ تَتَّجِرُ فِيهَا وَتَضْمَنُهَا، فَأَقْرَضَهَا، فَخَرَجَتْ فِيهَا إِلَى بِلَادِ كَلْبٍ فَاشْتَرَتْ وَبَاعَتْ، فَبَلَغَهَا أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَابْنَهُ عَمْرًا أَتَيَا مُعَاوِيَةَ، فَعَدَلَتْ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ طَلَّقَهَا، فَقَالَ لَهَا مُعَاوِيَةُ: مَا أَقْدَمَكِ أَيْ أُمَّهْ؟ قَالَتْ: النَّظَرُ إِلَيْكَ أَيْ بُنَيَّ، إِنَّهُ عُمَرُ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ لِلَّهِ وَقَدْ أَتَاكَ أَبُوكَ فَخَشِيتُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَهْلُ ذَلِكَ هُوَ، وَلَا يَعْلَمُ النَّاسُ مِنْ أَيْنَ أَعْطَيْتَهُ فَيُؤَنِّبُوكَ وَيُؤَنِّبُكَ عُمَرُ فَلَا يَسْتَقِيلُهَا أَبَدًا. فَبَعَثَ إِلَى أَبِيهِ وَإِلَى أَخِيهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَكَسَاهُمَا وَحَمَلَهُمَا، فَتَسَخَّطَهَا عَمْرٌو، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا تَسَخَّطْهَا فَإِنَّ هَذَا عَطَاءٌ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ هِنْدٌ، وَرَجَعُوا جَمِيعًا، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِهِنْدٍ: أَرَبِحْتِ؟ قَالَتْ: اللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا أَتَتِ الْمَدِينَةَ وَبَاعَتْ شَكَتِ الْوَضِيعَةَ، فَقَالَ لَهَا عُمَرُ: لَوْ كَانَ مَالِي لَتَرَكْتُهُ لَكِ، وَلَكِنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ: بِكَمْ أَجَازَكَ مُعَاوِيَةُ؟ قَالَ: بِمِائَةِ دِينَارٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَصْحَابُهُ يَتَذَاكَرُونَ الشِّعْرَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فُلَانٌ أَشْعَرُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ فُلَانٌ أَشْعَرُ، قَالَ: فَأَقْبَلْتُ فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ جَاءَكُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَا، مَنْ أَشْعَرُ الشُّعَرَاءِ؟ قَالَ: قُلْتُ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى. فَقَالَ: هَلُمَّ مِنْ شِعْرِهِ مَا نَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ. فَقُلْتُ: امْتَدَحَ قَوْمًا مِنْ غَطَفَانَ فَقَالَ: لَوْ كَانَ يَقْعُدُ فَوْقَ الشَّمْسِ مِنْ كَرَمٍ ... قَوْمٌ لِأَوَّلِهِمْ يَوْمًا إِذَا قَعَدُوا

قَوْمٌ أَبُوهُمْ سِنَانٌ حِينَ تَنْسُبُهُمْ طَابُوا وَطَابَ مِنَ الْأَوْلَادِ مَا وَلَدُوا ... جِنٌّ إِذَا فَزِعُوا إِنْسٌ إِذَا أَمِنُوا مُمَرَّدُونَ بَهَالِيلُ إِذَا جَهِدُوا ... مُحَسَّدُونَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ نِعَمٍ لَا يَنْزِعُ اللَّهُ مِنْهُمْ مَا لَهُ حُسِدُوا فَقَالَ عُمَرُ: أَحْسَنَ وَاللَّهِ، وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَوْلَى بِهَذَا الشِّعْرِ مِنْ هَذَا الْحَيِّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ; لِفَضْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَرَابَتِهِمْ مِنْهُ. فَقُلْتُ: وُفِّقْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ تَزَلْ مُوَفَّقًا! فَقَالَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَتَدْرِي مَا مَنَعَ قَوْمَكُمْ مِنْهُمْ بَعْدَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَكَرِهْتُ أَنْ أُجِيبَهُ فَقُلْتُ: إِنْ لَمْ أَكُنْ أَدْرِي فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْرِينِي! فَقَالَ عُمَرُ: كَرِهُوا أَنْ يَجْمَعُوا لَكُمُ النُّبُوَّةَ وَالْخِلَافَةَ، فَتَبَجَّحُوا عَلَى قَوْمِكُمْ بَجَحًا بَجَحًا، فَاخْتَارَتْ قُرَيْشٌ لِأَنْفُسِهَا فَأَصَابَتْ وَوُفِّقَتْ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ تَأْذَنْ لِي فِي الْكَلَامِ وَتُمِطْ عَنِّي الْغَضَبَ تَكَلَّمْتُ. قَالَ: تَكَلَّمْ. قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: اخْتَارَتْ قُرَيْشٌ لِأَنْفُسِهَا فَأَصَابْتَ وَوَفِّقْتَ، فَلَوْ أَنَّ قُرَيْشًا اخْتَارَتْ لِأَنْفُسِهَا حِينَ اخْتَارَ اللَّهُ لَهَا لَكَانَ الصَّوَابُ بِيَدِهَا غَيْرَ مَرْدُودٍ وَلَا مَحْسُودٍ. وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ تَكُونَ لَنَا النُّبُوَّةُ وَالْخِلَافَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَصَفَ قَوْمًا بِالْكَرَاهَةِ فَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9] . فَقَالَ عُمَرُ: هَيْهَاتَ وَاللَّهِ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، قَدْ كَانَتْ تَبْلُغُنِي عَنْكَ أَشْيَاءُ كُنْتُ أَكْرَهُ أَنْ أُقِرَّكَ عَلَيْهَا فَتُزِيلَ مَنْزِلَتَكَ مِنِّي. فَقُلْتُ: مَا هِيَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَإِنْ كَانَتْ حَقًّا فَمَا يَنْبَغِي أَنْ تُزِيلَ مَنْزِلَتِي مِنْكَ، وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلًا فَمِثْلِي أَمَاطَ الْبَاطِلَ عَنْ نَفْسِهِ. فَقَالَ عُمَرُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ: إِنَّمَا صَرَفُوهَا عَنْكَ حَسَدًا وَبَغْيًا وَظُلْمًا. فَقُلْتُ: أَمَّا قَوْلُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: ظُلْمًا، فَقَدْ تَبَيَّنَ لِلْجَاهِلِ وَالْحَلِيمِ، وَأَمَّا قَوْلُكَ: حَسَدًا، فَإِنَّ آدَمَ حُسِدَ وَنَحْنُ وَلَدُهُ الْمُحَسَّدُونَ. فَقَالَ عُمَرُ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! أَبَتْ وَاللَّهِ قُلُوبُكُمْ يَا بَنِي هَاشِمٍ إِلَّا حَسَدًا لَا يَزُولُ. فَقُلْتُ: مَهْلًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَصِفْ قُلُوبَ قَوْمٍ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرًا بِالْحَسَدِ وَالْغِشِّ، فَإِنَّ قَلْبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قُلُوبِ بَنِي هَاشِمٍ. فَقَالَ عُمَرُ: إِلَيْكَ عَنِّي

يَا ابْنَ عَبَّاسٍ. فَقُلْتُ: أَفْعَلُ. فَلَمَّا ذَهَبْتُ لِأَقُومَ اسْتَحْيَا مِنِّي فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَكَانَكَ! فَوَاللَّهِ إِنِّي لَرَاعٍ لِحَقِّكَ مُحِبٌّ لِمَا سَرَّكَ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ لِي عَلَيْكَ حَقًّا وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ حَفِظَهُ فَحَظَّهُ أَصَابَ، وَمَنْ أَضَاعَهُ فَحَظَّهُ أَخْطَأَ. ثُمَّ قَامَ فَمَضَى. ذِكْرُ قِصَّةِ الشُّورَى قَالَ عُمَرُو بْنُ مَيْمُونَ الْأَوْدِيُّ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا طُعِنَ قِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوِ اسْتَخْلَفْتَ. فَقَالَ: لَوْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ حَيًّا لَاسْتَخْلَفْتُهُ وَقُلْتُ لِرَبِّي إِنْ سَأَلَنِي: سَمِعْتُ نَبِيَّكَ يَقُولُ: " «إِنَّهُ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» ". وَلَوْ كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ حَيًّا لَاسْتَخْلَفْتُهُ وَقُلْتُ لِرَبِّي إِنْ سَأَلَنِي: سَمِعْتُ نَبِيَّكَ يَقُولُ: " «إِنَّ سَالِمًا شَدِيدُ الْحُبِّ لِلَّهِ تَعَالَى» ". فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَدُلُّكَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ، وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ اللَّهَ بِهَذَا! وَيْحَكَ! كَيْفَ أَسْتَخْلِفُ رَجُلًا عَجَزَ عَنْ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ؟ لَا أَرَبَ لَنَا فِي أُمُورِكُمْ، فَمَا حَمِدْتُهَا فَأَرْغَبَ فِيهَا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، إِنْ كَانَ خَيْرًا فَقَدْ أَصَبْنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَقَدْ صُرِفَ عَنَّا، بِحَسْبِ آلِ عُمَرَ أَنْ يُحَاسَبَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَيُسْأَلَ عَنْ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، أَمَا لَقَدْ جَهَدْتُ نَفْسِي وَحَرَمْتُ أَهْلِي، وَإِنْ نَجَوْتُ كِفَافًا لَا وِزْرَ وَلَا أَجْرَ إِنِّي لَسَعِيدٌ، وَأَنْظُرُ فَإِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، وَلَنْ يُضَيِّعَ اللَّهُ دِينَهُ. فَخَرَجُوا ثُمَّ رَاحُوا فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ عَهِدْتَ عَهْدًا. فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ

أَجْمَعْتُ بَعْدَ مَقَالَتِي أَنْ أَنْظُرَ، فَأُوَلِّيَ رَجُلًا أَمْرَكُمْ هُوَ أَحْرَاكُمْ أَنْ يَحْمِلَكُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَشَارَ إِلَى عَلِيٍّ، فَرَهِقَتْنِي غَشْيَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا دَخَلَ جَنَّةً فَجَعَلَ يَقْطِفُ كُلَّ غَضَّةٍ وَيَانِعَةٍ فَيَضُمُّهُ إِلَيْهِ وَيُصَيِّرُهُ تَحْتَهُ، فَعَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، فَمَا أَرَدْتُ أَنْ أَتَحَمَّلَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا، عَلَيْكُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ، وَهُمْ عَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَسَعْدٌ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَلْيَخْتَارُوا مِنْهُمْ رَجُلًا، فَإِذَا وَلَّوْا وَالِيًا فَأَحْسِنُوا مُوَازَرَتَهُ وَأَعِينُوهُ. فَخَرَجُوا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِعَلِيٍّ: لَا تَدْخُلْ مَعَهُمْ، قَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ الْخِلَافَ. قَالَ: إِذَنْ تَرَى مَا تَكْرَهُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ عُمَرُ دَعَا عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَالزُّبَيْرَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي نَظَرْتُ فَوَجَدْتُكُمْ رُؤَسَاءَ النَّاسِ وَقَادَتَهُمْ، وَلَا يَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا فِيكُمْ، وَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ، وَإِنِّي لَا أَخَافُ النَّاسَ عَلَيْكُمْ إِنِ اسْتَقَمْتُمْ وَلَكِنِّي أَخَافُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَيَخْتَلِفُ النَّاسُ، فَانْهَضُوا إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ بِإِذْنِهَا فَتَشَاوَرُوا فِيهَا. وَوَضَعَ رَأْسَهُ وَقَدْ نَزَفَهُ الدَّمُ. فَدَخَلُوا فَتَنَاجَوْا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَمُتْ بَعْدُ. فَسَمِعَهُ عُمَرُ فَانْتَبَهَ وَقَالَ: [أَلَا] أَعْرِضُوا عَنْ هَذَا، فَإِذَا مِتُّ فَتَشَاوَرُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ صُهَيْبٌ، وَلَا يَأْتِينَّ الْيَوْمُ الرَّابِعُ إِلَّا وَعَلَيْكُمْ أَمِيرٌ مِنْكُمْ، وَيَحْضُرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مُشِيرًا، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ، وَطَلْحَةُ شَرِيكُكُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِنْ قَدِمَ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فَأَحْضِرُوهُ أَمْرَكُمْ، وَإِنْ مَضَتِ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ قَبْلَ قُدُومِهِ فَأَمْضُوا أَمْرَكُمْ، وَمَنْ لِي بِطَلْحَةَ؟ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: أَنَا لَكَ بِهِ وَلَا يُخَالِفُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. فَقَالَ عُمَرُ: أَرْجُو أَنْ لَا يُخَالِفَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -، وَمَا أَظُنُّ يَلِي إِلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: عَلِيٍّ أَوْ عُثْمَانَ، فَإِنْ وَلِيَ عُثْمَانُ فَرَجُلٌ فِيهِ لِينٌ، وَإِنْ وَلِيَ عَلِيٌّ فَفِيهِ دُعَابَةٌ، وَأَحْرَى بِهِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ، وَإِنْ تُوَلُّوا سَعْدًا فَأَهْلُهُ هُوَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ الْوَالِي، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ ضَعْفٍ وَلَا خِيَانَةٍ، وَنِعْمَ ذُو الرَّأْيِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَاسْمَعُوا مِنْهُ وَأَطِيعُوا. وَقَالَ لِأَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ: يَا أَبَا طَلْحَةَ، إِنَّ اللَّهَ طَالَمَا أَعَزَّ بِكُمُ الْإِسْلَامَ فَاخْتَرْ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَاسْتَحِثَّ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ حَتَّى يَخْتَارُوا رَجُلًا مِنْهُمْ. وَقَالَ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ: إِذَا وَضَعْتُمُونِي فِي حُفْرَتِي فَاجْمَعْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ فِي بَيْتٍ حَتَّى يَخْتَارُوا رَجُلًا.

وَقَالَ لِصُهَيْبٍ: صَلِّ بِالنَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَدْخِلْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ بَيْتًا وَقُمْ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَإِنِ اجْتَمَعَ خَمْسَةٌ وَأَبَى وَاحِدٌ فَاشْدَخْ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ، وَإِنِ اتَّفَقَ أَرْبَعَةٌ وَأَبَى اثْنَانِ فَاضْرِبْ رُءُوسَهُمَا، وَإِنْ رَضِيَ ثَلَاثَةٌ رَجُلًا وَثَلَاثَةٌ رَجُلًا فَحَكِّمُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَكُونُوا مَعَ الَّذِينَ فِيهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَاقْتُلُوا الْبَاقِينَ إِنْ رَغِبُوا عَمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ النَّاسُ. فَخَرَجُوا، فَقَالَ عَلِيٌّ لِقَوْمٍ مَعَهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ: إِنْ أُطِيعَ فِيكُمْ قَوْمُكُمْ لَمْ تُؤَمَّرُوا أَبَدًا، وَتَلَقَّاهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: عَدَلْتَ عَنَّا! فَقَالَ: وَمَا عِلْمُكَ؟ قَالَ: قُرُّنَّ بَنِي عُثْمَانَ، وَقَالَ: كُونُوا مَعَ الْأَكْثَرِ، فَإِنْ رَضِيَ رَجُلَانِ رَجُلًا وَرَجُلَانِ رَجُلًا فَكُونُوا مَعَ الَّذِينَ فِيهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَسَعْدٌ لَا يُخَالِفُ ابْنَ عَمِّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ صِهْرُ عُثْمَانَ لَا يَخْتَلِفُونَ فَيُوَلِّيهَا أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَلَوْ كَانَ الْآخَرَانِ مَعِي لَمْ يَنْفَعَانِي. فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: لَمْ أَرْفَعْكَ فِي شَيْءٍ إِلَّا رَجَعْتَ إِلَيَّ مُسْتَأْخِرًا لِمَا أَكْرَهُ، أَشَرْتُ عَلَيْكَ عِنْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَسْأَلَهُ فِيمَنْ هَذَا الْأَمْرُ فَأَبَيْتَ، فَأَشَرْتُ عَلَيْكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَنْ تُعَاجِلَ الْأَمْرَ فَأَبَيْتَ، وَأَشَرْتُ عَلَيْكَ حِينَ سَمَّاكَ عُمَرُ فِي الشُّورَى أَنْ لَا تَدْخُلَ مَعَهُمْ فَأَبَيْتَ، احْفَظْ عَنِّي وَاحِدَةً: كُلَّمَا عَرَضَ عَلَيْكَ الْقَوْمُ فَقُلْ: لَا، إِلَّا أَنْ يُوَلُّوكَ، وَاحْذَرْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ فَإِنَّهُمْ لَا يَبْرَحُونَ يَدْفَعُونَنَا عَنْ هَذَا الْأَمْرِ حَتَّى يَقُومَ بِهِ لَنَا غَيْرُنَا، وَايْمُ اللَّهِ لَا يَنَالُهُ إِلَّا بَشَرٌ لَا يَنْفَعُ مَعَهُ خَيْرٌ! فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمَا لَئِنْ بَقِيَ عُثْمَانُ لَأُذَكِّرَنَّهُ مَا أَتَى، وَلَئِنْ مَاتَ لَيَتَدَاوَلُنَّهَا بَيْنَهُمْ، وَلَئِنْ فَعَلُوا لَتَجِدَنِّي حَيْثُ يَكْرَهُونَ، ثُمَّ تَمَثَّلَ: حَلَفْتُ بِرَبِّ الرَّاقِصَاتِ عَشِيَّةً ... غَدَوْنَ خِفَافًا فَابْتَدَرْنَ الْمُحَصَّبَا لَيَخْتَلِيَنْ رَهْطُ ابْنِ يَعْمَرَ قَارِنًا ... نَجِيعًا بَنُو الشُّدَّاخِ وِرْدًا مُصَلَّبًا وَالْتَفَتَ فَرَأَى أَبَا طَلْحَةَ فَكَرِهَ مَكَانَهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: لَنْ تُرَاعَ أَبَا الْحَسَنِ. فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ وَأُخْرِجَتْ جِنَازَتُهُ صَلَّى عَلَيْهِ صُهَيْبٌ، فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ جَمَعَ الْمِقْدَادُ أَهْلَ الشُّورَى فِي بَيْتِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَقِيلَ: فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَقِيلَ: فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ بِإِذْنِهَا، وَطَلْحَةُ غَائِبٌ، وَأَمَرُوا أَبَا طَلْحَةَ أَنْ يَحْجُبَهُمْ، وَجَاءَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَجَلَسَا بِالْبَابِ، فَحَصَبَهُمَا سَعْدٌ وَأَقَامَهُمَا وَقَالَ: تُرِيدَانِ أَنْ تَقُولَا: حَضَرْنَا وَكُنَّا فِي

أَهْلِ الشُّورَى! فَتَنَافَسَ الْقَوْمُ فِي الْأَمْرِ، وَكَثُرَ فِيهِمُ الْكَلَامُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا كُنْتُ لَأَنْ تَدْفَعُوهَا أَخْوَفَ مِنِّي لَأَنْ تَتَنَافَسُوهَا، وَالَّذِي ذَهَبَ بِنَفْسِ عُمَرَ لَا أَزِيدُكُمْ عَلَى الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَمَرَ، ثُمَّ أَجْلِسُ فِي بَيْتِي فَأَنْظُرُ مَا تَصْنَعُونَ! فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَيُّكُمْ يُخْرِجُ مِنْهَا نَفْسَهُ وَيَتَقَلَّدُهَا عَلَى أَنْ يُوَلِّيَهَا أَفْضَلَكُمْ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ. فَقَالَ: فَأَنَا أَنْخَلِعُ مِنْهَا. فَقَالَ عُثْمَانُ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ رَضِيَ. فَقَالَ الْقَوْمُ: قَدْ رَضِينَا. وَعَلِيٌّ سَاكِتٌ. فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ؟ قَالَ: أَعْطِنِي مَوْثِقًا لَتُؤْثِرَنَّ الْحَقَّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى وَلَا تَخُصَّ ذَا رَحِمٍ وَلَا تَأْلُو الْأُمَّةَ نُصْحًا. فَقَالَ: أَعْطُونِي مَوَاثِيقَكُمْ عَلَى أَنْ تَكُونُوا مَعِيَ عَلَى مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ وَأَنْ تَرْضَوْا مَنِ اخْتَرْتُ لَكُمْ، وَعَلَيَّ مِيثَاقُ اللَّهِ أَنْ لَا أَخُصَّ ذَا رَحِمٍ لِرَحِمِهِ وَلَا آلُو الْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذَ مِنْهُمْ مِيثَاقًا وَأَعْطَاهُمْ مِثْلَهُ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: تَقُولُ إِنِّي أَحَقُّ مَنْ حَضَرَ بِهَذَا الْأَمْرِ ; لِقَرَابَتِكَ وَسَابِقَتِكَ وَحُسْنِ أَثَرِكَ فِي الدِّينِ وَلَمْ تُبْعِدْ، وَلَكِنْ أَرَأَيْتَ لَوْ صُرِفَ هَذَا الْأَمْرُ عَنْكَ، فَلَمْ تَحْضُرْ، مَنْ كُنْتَ تَرَى مِنْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ أَحَقَّ بِهِ؟ قَالَ: عُثْمَانُ. وَخَلَا بِعُثْمَانَ فَقَالَ: تَقُولُ شَيْخٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَصِهْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَابْنُ عَمِّهِ، وَلِي سَابِقَةٌ وَفَضْلٌ، فَأَيْنَ يُصْرَفُ هَذَا الْأَمْرُ عَنِّي؟ وَلَكِنْ لَوْ لَمْ تَحْضُرْ؛ أَيَّ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ تَرَاهُ أَحَقَّ بِهِ؟ قَالَ: عَلِيٌّ. وَلَقِيَ عَلِيٌّ سَعْدًا فَقَالَ لَهُ: {اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] ، أَسْأَلُكَ بِرَحِمِ ابْنِي هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِرَحِمِ عَمِّي حَمْزَةَ مِنْكَ أَنْ تَكُونَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِعُثْمَانَ ظَهِيرًا. وَدَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَيَالِيَهُ يَلْقَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَنْ وَافَى الْمَدِينَةَ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ يُشَاوِرُهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلَةُ الَّتِي صَبِيحَتُهَا تَسْتَكْمِلُ الْأَجَلَ، أَتَى مَنْزِلَ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، فَأَيْقَظَهُ وَقَالَ لَهُ: لَمْ أَذُقْ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ كَبِيرَ غَمْضٍ، انْطَلِقْ فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا. فَدَعَاهُمَا. فَبَدَأَ بِالزُّبَيْرِ فَقَالَ لَهُ: خَلِّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَهَذَا الْأَمْرَ. قَالَ: نَصِيبِي لِعَلِيٍّ. وَقَالَ لِسَعْدٍ: اجْعَلْ نَصِيبَكَ لِي. فَقَالَ: إِنِ اخْتَرْتَ نَفْسَكَ فَنَعَمْ، وَإِنِ اخْتَرْتَ عُثْمَانَ فَعَلِيٌّ أَحَبُّ إِلَيَّ، أَيُّهَا الرَّجُلُ، بَايِعْ لِنَفْسِكَ وَأَرِحْنَا وَارْفَعْ رُءُوسَنَا. فَقَالَ لَهُ: قَدْ خَلَعْتُ نَفْسِي عَلَى أَنْ أَخْتَارَ، وَلَوْ لَمْ أَفْعَلْ لَمْ أَرُدَّهَا، إِنِّي رَأَيْتُ رَوْضَةً خَضْرَاءَ كَثِيرَةَ الْعُشْبِ، فَدَخَلَ فَحْلٌ مَا رَأَيْتُ أَكْرَمَ مِنْهُ فَمَرَّ كَأَنَّهُ سَهْمٌ، لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى قَطَعَهَا لَمْ يُعَرِّجْ، وَدَخَلَ بَعِيرٌ يَتْلُوهُ فَاتَّبَعَ أَثَرَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا، ثُمَّ

دَخَلَ فَحْلٌ عَبْقَرِيٌّ يَجُرُّ خِطَامَهُ، وَمَضَى قَصْدَ الْأَوَّلَيْنِ، ثُمَّ دَخَلَ بَعِيرٌ رَابِعٌ فَرَتَعَ فِي الرَّوْضَةِ، وَلَا وَاللَّهِ لَا أَكُونُ الرَّابِعَ وَلَا يَقُومُ مَقَامَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بَعْدَهُمَا أَحَدٌ فَيَرْضَى النَّاسُ عَنْهُ. قَالَ: وَأَرْسَلَ الْمِسْوَرَ فَاسْتَدْعَى عَلِيًّا، فَنَاجَاهُ طَوِيلًا وَهُوَ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ صَاحِبُ الْأَمْرِ، ثُمَّ نَهَضَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى عُثْمَانَ فَتَنَاجَيَا حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الصُّبْحُ. قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَنْ أَخْبَرَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا كَلَّمَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ، فَقَدْ قَالَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَوَقَعَ قَضَاءُ رَبِّكَ عَلَى عُثْمَانَ. فَلَمَّا صَلَّوُا الصُّبْحَ جَمَعَ الرَّهْطَ، وَبَعَثَ إِلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَأَهْلِ السَّابِقَةِ وَالْفَضْلِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَإِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ فَاجْتَمَعُوا حَتَّى الْتَجَّ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَجْمَعُوا أَنْ يَرْجِعَ أَهْلُ الْأَمْصَارِ إِلَى أَمْصَارِهِمْ، فَأَشِيرُوا عَلَيَّ. فَقَالَ عَمَّارٌ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْمُسْلِمُونَ فَبَايِعْ عَلِيًّا. فَقَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ: صَدَقَ عَمَّارٌ، إِنْ بَايَعْتَ عَلِيًّا قُلْنَا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. قَالَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ لَا تَخْتَلِفَ قُرَيْشٌ فَبَايِعْ عُثْمَانَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: صَدَقْتَ إِنْ بَايَعْتَ عُثْمَانَ قُلْنَا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. فَشَتَمَ عَمَّارٌ ابْنَ أَبِي سَرْحٍ وَقَالَ: مَتَى كُنْتَ تَنْصَحُ الْمُسْلِمِينَ؟ فَتَكَلَّمَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو أُمَيَّةَ فَقَالَ عَمَّارٌ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ وَأَعَزَّنَا بِدِينِهِ فَأَنَّى تَصْرِفُونَ هَذَا الْأَمْرَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: لَقَدْ عَدَوْتَ طَوْرَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ، وَمَا أَنْتَ وَتَأْمِيرُ قُرَيْشٍ لِأَنْفُسِهَا! فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، افْرُغْ قَبْلَ أَنْ يُفْتَنَ النَّاسُ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ وَشَاوَرْتُ، فَلَا تَجْعَلُنَّ أَيُّهَا الرَّهْطُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ سَبِيلًا، وَدَعَا عَلِيًّا وَقَالَ: عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَتَعْمَلَنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَسِيرَةِ الْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ. قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَفْعَلَ فَأَعْمَلَ بِمَبْلَغِ عِلْمِي وَطَاقَتِي، وَدَعَا عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِعَلِيٍّ، فَقَالَ: نَعَمْ نَعْمَلُ. فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى سَقْفِ الْمَسْجِدِ وَيَدُهُ فِي يَدِ عُثْمَانَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْمَعْ وَاشْهَدْ. اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ مَا فِي رَقَبَتِي مِنْ ذَلِكَ فِي رَقَبَةِ عُثْمَانَ، فَبَايَعَهُ.

فَقَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ هَذَا أَوَّلَ يَوْمٍ تَظَاهَرْتُمْ فِيهِ عَلَيْنَا، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] ، وَاللَّهِ مَا وَلَّيْتَ عُثْمَانَ إِلَّا لِيُرَدَّ الْأَمْرُ إِلَيْكَ، وَاللَّهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي شَأْنٍ! فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَا عَلِيُّ، لَا تَجْعَلْ عَلَى نَفْسِكَ حُجَّةً وَسَبِيلًا. فَخَرَجَ عَلِيٌّ وَهُوَ يَقُولُ: سَيَبْلُغُ الْكِتَابُ أَجَلَهُ. فَقَالَ الْمِقْدَادُ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَرَكْتَهُ وَإِنَّهُ مِنَ الَّذِينَ يَقْضُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. فَقَالَ: يَا مِقْدَادُ، وَاللَّهِ لَقَدِ اجْتَهَدْتُ لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَ: إِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ اللَّهَ فَأَثَابَكَ اللَّهُ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ. فَقَالَ الْمِقْدَادُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا أَتَى إِلَى أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ، إِنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ تَرَكُوا رَجُلًا مَا أَقُولُ وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ رَجُلًا أَقْضَى بِالْعَدْلِ وَلَا أَعْلَمَ مِنْهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَجِدُ أَعْوَانًا عَلَيْهِ! فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَا مِقْدَادُ اتَّقِ اللَّهَ فَإِنِّي خَائِفٌ عَلَيْكَ الْفِتْنَةَ. فَقَالَ رَجُلٌ لِلْمِقْدَادِ: رَحِمَكَ اللَّهُ، مَنْ أَهْلُ هَذَا الْبَيْتِ وَمَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ قَالَ: أَهْلُ الْبَيْتِ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالرَّجُلُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إِلَى قُرَيْشٍ وَقُرَيْشٌ تَنْظُرُ بَيْنَهَا فَتَقُولُ: إِنْ وَلِيَ عَلَيْكُمْ بَنُو هَاشِمٍ لَمْ تَخْرُجْ مِنْهُمْ أَبَدًا، وَمَا كَانَتْ فِي غَيْرِهِمْ تَدَاوَلْتُمُوهَا بَيْنَكُمْ. وَقَدِمَ طَلْحَةُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي بُويِعَ فِيهِ لِعُثْمَانَ فَقِيلَ لَهُ: بَايَعُوا لِعُثْمَانَ. فَقَالَ: كُلُّ قُرَيْشٍ رَاضٍ بِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَأَتَى عُثْمَانَ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَنْتَ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكَ وَإِنْ أَبَيْتَ رَدَدْتُهَا. قَالَ: أَتَرُدُّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَكُلُّ النَّاسِ بَايَعُوكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: قَدْ رَضِيتُ لَا أَرْغَبُ عَمَّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ. وَبَايَعَهُ. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَدْ أَصَبْتَ أَنْ بَايَعْتَ عُثْمَانَ. وَقَالَ لِعُثْمَانَ: وَلَوْ بَايَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ غَيْرَكَ مَا رَضِينَا. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَذَبْتَ يَا أَعْوَرُ، لَوْ بَايَعْتُ غَيْرَهُ لَبَايَعْتَهُ، وَلَقُلْتَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. قَالَ: وَكَانَ الْمِسْوَرُ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا بَذَّ قَوْمًا فِيمَا دَخَلُوا فِيهِ بِمِثْلِ مَا بَذَّهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. قُلْتُ: قَوْلُهُ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ صِهْرُ عُثْمَانَ، يَعْنِي: عَبْدُ الرَّحْمَنِ تَزَوَّجَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَهِيَ أُخْتُ عُثْمَانَ لِأُمِّهِ، خَلَفَ عَلَيْهَا عُقْبَةُ بَعْدَ عُثْمَانَ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ رِوَايَةً أُخْرَى فِي الشُّورَى عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَهِيَ تَمَامُ

حَدِيثِ مَقْتَلِ عُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ هَاهُنَا قَرِيبٌ مِنَ الَّذِي تَقَدَّمَ آنِفَا، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا دُفِنَ عُمَرُ جَمَعَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَخَطَبَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ وَتَرْكِ التَّفَرُّقِ، فَتَكَلَّمَ عُثْمَانُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اتَّخَذَ مُحَمَّدًا نَبِيًّا، وَبَعَثَهُ رَسُولًا، وَصَدَقَهُ وَعْدَهُ، وَوَهَبَ لَهُ نَصْرَهُ عَلَى كُلِّ مَنْ بَعُدَ نَسَبًا أَوْ قَرُبَ رَحِمًا، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جَعَلَنَا اللَّهُ لَهُ تَابِعِينَ، وَبِأَمْرِهِ مُهْتَدِينَ، فَهُوَ لَنَا نُورٌ، وَنَحْنُ بِأَمْرِهِ نَقُومُ عِنْدَ تَفَرُّقِ الْأَهْوَاءِ وَمُجَادَلَةِ الْأَعْدَاءِ، جَعَلَنَا اللَّهُ بِفَضْلِهِ أَئِمَّةً، وَبِطَاعَتِهِ أُمَرَاءَ، لَا يَخْرُجُ أَمْرُنَا مِنَّا، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا غَيْرُنَا، إِلَّا مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ، وَنَكَلَ عَنِ الْقَصْدِ، وَأَحْرِ بِهَا يَا ابْنَ عَوْفٍ أَنْ تُتْرَكَ، وَأَجْدِرِ بِهَا أَنْ تَكُونَ إِنْ خُولِفَ أَمْرُكَ وَتُرِكَ دُعَاؤُكَ، فَأَنَا أَوَّلُ مُجِيبٍ لَكَ وَدَاعٍ إِلَيْكَ وَكَفِيلٌ بِمَا أَقُولُ زَعِيمٌ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ. ثُمَّ تَكَلَّمَ الزُّبَيْرُ بَعْدَهُ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ دَاعِيَ اللَّهِ لَا يُجْهَلُ، وَمُجِيبَهُ لَا يُخْذَلُ عِنْدَ تَفَرُّقِ الْأَهْوَاءِ وَلَيِّ الْأَعْنَاقِ، وَلَنْ يُقَصِّرَ عَمَّا قُلْتُ إِلَّا غَوِيٌّ، وَلَنْ يَتْرُكَ مَا دَعَوْتُ إِلَيْهِ إِلَّا شَقِيٌّ، وَلَوْلَا حُدُودٌ لِلَّهِ فُرِضَتْ، وَفَرَائِضُ لِلَّهِ حُدَّتْ، تُرَاحُ عَلَى أَهْلِهَا وَتَحْيَا وَلَا تَمُوتُ، لَكَانَ الْمَوْتُ مِنَ الْإِمَارَةِ نَجَاةً، وَالْفِرَارُ مِنَ الْوِلَايَةِ عِصْمَةً، وَلَكِنْ لِلَّهِ عَلَيْنَا إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَإِظْهَارُ السُّنَّةِ، لِئَلَّا نَمُوتَ مَوْتَةً عِمِّيَّةً، وَلَا نَعْمَى عَمَى الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَنَا مُجِيبُكَ إِلَى مَا دَعَوْتَ، وَمُعِينُكَ عَلَى مَا أَمَرْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ. ثُمَّ تَكَلَّمَ سَعْدٌ فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ: وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَارَتِ الطُّرُقُ وَاسْتَقَامَتِ السُّبُلُ، وَظَهَرَ كُلُّ حَقٍّ، وَمَاتَ كُلُّ بَاطِلٍ، إِيَّاكُمْ أَيُّهَا النَّفَرُ وَقَوْلَ الزُّورِ، وَأُمْنِيَةَ أَهْلِ الْغُرُورِ، وَقَدْ سَلَبَتِ الْأَمَانِيُّ قَوْمًا قَبْلَكُمْ، وَرِثُوا مَا وَرِثْتُمْ وَنَالُوا مَا نِلْتُمْ فَاتَّخَذَهُمُ اللَّهُ عَدُوًّا، وَلَعَنَهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا. قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 78] إِلَى قَوْلِهِ: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79] ، إِنِّي نَكَبْتُ قَرْنِي وَأَخَذْتُ سَهْمِي الْفَالِجَ وَأَخَذْتُ لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ مَا ارْتَضَيْتُ لِنَفْسِي، فَأَنَا بِهِ كَفِيلٌ وَبِمَا أَعْطَيْتُ عَنْهُ زَعِيمٌ، وَالْأَمْرُ إِلَيْكَ يَا ابْنَ عَوْفٍ بِجُهْدِ النَّفْسِ وَقَصْدِ النُّصْحِ، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ، وَإِلَيْهِ الرُّجُوعُ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ مُخَالَفَتِكُمْ.

ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا مِنَّا نَبِيًّا، وَبَعَثَهُ إِلَيْنَا رَسُولًا، فَنَحْنُ بَيْتُ النُّبُوَّةِ، وَمَعْدِنُ الْحِكْمَةِ، وَأَمَانُ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَنَجَاةٌ لِمَنْ طَلَبَ، لَنَا حَقٌّ إِنْ نُعْطَهُ نَأْخُذْهُ، وَإِنْ نُمْنَعْهُ نَرْكَبْ أَعْجَازَ الْإِبِلِ وَلَوْ طَالَ السُّرَى، لَوْ عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَهْدًا لَأَنْفَذْنَا عَهْدَهُ، وَلَوْ قَالَ لَنَا قَوْلًا لَجَادَلْنَا عَلَيْهِ حَتَّى نَمُوتَ، لَنْ يُسْرِعَ أَحَدٌ قَبْلِي إِلَى دَعْوَةِ حَقٍّ وَصِلَةِ رَحِمٍ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، اسْمَعُوا كَلَامِي وَعُوا مَنْطِقِي، عَسَى أَنْ تَرَوْا (هَذَا الْأَمْرَ) بَعْدَ هَذَا الْمَجْمَعِ تُنْتَضَى فِيهِ السُّيُوفُ، وَتُخَانُ فِيهِ الْعُهُودُ، حَتَّى تَكُونُوا جَمَاعَةً، وَيَكُونَ بَعْضُكُمْ أَئِمَّةً لِأَهْلِ الضَّلَالَةِ وَشِيعَةً لِأَهْلِ الْجَهَالَةِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ تَكُ جَاسِمٌ هَلَكَتْ فَإِنِّي ... بِمَا فَعَلَتْ بَنُو عَبْدِ بْنِ ضَجْمِ مُطِيعٌ فِي الْهَوَاجِرِ كُلَّ غَيٍّ ... بَصِيرٌ بِالنَّوَى مِنْ كُلِّ نَجْمِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَيُّكُمْ يَطِيبُ نَفْسًا أَنْ يُخْرِجَ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ؟ وَذَكَرَ قَرِيبًا مِمَّا تَقَدَّمَ. ثُمَّ جَلَسَ عُثْمَانُ فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ بَعْدَ بَيْعَتِهِ، وَدَعَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَ قَتَلَ [قَاتِلَ] أَبِيهِ أَبَا لُؤْلُؤَةَ، وَقَتَلَ جُفَيْنَةَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، كَانَ ظَهِيرًا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَتَلَ الْهُرْمُزَانَ، فَلَمَّا ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ! فَلَمَّا قَتَلَ هَؤُلَاءِ أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَحَبَسَهُ فِي دَارِهِ وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَأَحْضَرَهُ عِنْدَ عُثْمَانَ، وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ رِجَالًا مِمَّنْ شَرَكَ فِي دَمِ أَبِي، يُعَرِّضُ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَإِنَّمَا قَتَلَ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ قَالَ غَدَاةَ قُتِلَ عُمَرُ: رَأَيْتُ عَشِيَّةَ أَمْسِ الْهُرْمُزَانَ وَأَبَا لُؤْلُؤَةَ وَجُفَيْنَةَ وَهُمْ يَتَنَاجَوْنَ، فَلَمَّا رَأَوْنِي ثَارُوا وَسَقَطَ مِنْهُمْ خِنْجَرٌ لَهُ رَأْسَانِ نِصَابُهُ فِي وَسَطِهِ، وَهُوَ الْخِنْجَرُ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ عُمَرُ، فَقَتَلَهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ. فَلَمَّا أَحْضَرَهُ عُثْمَانُ قَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي فَتَقَ فِي الْإِسْلَامِ مَا فَتَقَ! فَقَالَ عَلِيٌّ: أَرَى أَنْ تَقْتُلَهُ. فَقَالَ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ: قُتِلَ عُمَرُ أَمْسِ وَيُقْتَلُ ابْنُهُ الْيَوْمَ! فَقَالَ

عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْفَاكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدَثُ وَلَكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سُلْطَانٌ. فَقَالَ عُثْمَانُ: أَنَا وَلِيُّهُ، وَقَدْ جَعَلْتُهَا دِيَةً وَأَحْتَمِلُهَا فِي مَالِي. وَكَانَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْبَيَاضِيُّ الْأَنْصَارِيُّ إِذَا رَأَى عُبَيْدَ اللَّهِ يَقُولُ: أَلَا يَا عُبَيْدَ اللَّهِ مَا لَكَ مَهْرَبٌ ... وَلَا مَلْجَأٌ مِنِ ابْنِ أَرْوَى وَلَا خَفَرْ أَصَبْتَ دَمًا وَاللَّهِ فِي غَيْرِ حِلِّهِ ... حَرَامًا وَقَتْلُ الْهُرْمُزَانِ لَهُ خَطَرْ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ غَيْرَ أَنْ قَالَ قَائِلٌ ... أَتَتَّهِمُونَ الْهُرْمُزَانَ عَلَى عُمَرْ فَقَالَ سَفِيهٌ، وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ : نَعَمِ اتَّهِمْهُ قَدْ أَشَارَ وَقَدْ أَمَرْ ... وَكَانَ سِلَاحُ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ يُقَلِّبُهَا وَالْأَمْرُ بِالْأَمْرِ يُعْتَبَرْ فَشَكَا عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى عُثْمَانَ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ، فَنَهَى عُثْمَانُ زِيَادًا، فَقَالَ فِي عُثْمَانَ: أَبَا عَمْرٍو عُبَيْدُ اللَّهِ رَهْنٌ ... فَلَا تَشْكُكْ بِقَتْلِ الْهُرْمُزَانِ فَإِنَّكَ إِنْ غَفَرْتَ الْجُرْمَ عَنْهُ ... وَأَسْبَابُ الْخَطَا فَرَسَا رِهَانِ أَتَعْفُو إِذْ عَفَوْتَ بِغَيْرِ حَقٍّ ... فَمَا لَكَ بِالَّذِي تَحْكِي يَدَانِ فَدَعَا عُثْمَانُ زِيَادًا فَنَهَاهُ وَشَذَّبَهُ وَقِيلَ فِي فِدَاءِ عُبَيْدِ اللَّهِ غَيْرُ ذَلِكَ، قَالَ الْغَمَاذَيَانُ بْنُ الْهُرْمُزَانِ: كَانَتِ الْعَجَمُ بِالْمَدِينَةِ يَسْتَرْوِحُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، (فَمَرَّ فَيْرُوزُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ بِالْهُرْمُزَانِ وَمَعَهُ خِنْجَرٌ) لَهُ رَأْسَانِ فَتَنَاوَلَهُ مِنْهُ وَقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أَسِنُّ بِهِ. فَرَآهُ رَجُلٌ، فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ قَالَ: رَأَيْتُ الْهُرْمُزَانَ دَفَعَهُ إِلَى فَيْرُوزَ، فَأَقْبَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ أَمْكَنَنِي مِنْهُ، فَخَرَجْتُ بِهِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ إِلَّا مَعِي، إِلَّا أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَلِي قَتْلَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَسَبُّوا عُبَيْدَ اللَّهِ، قَلْتُ لَهُمْ: أَفَلَكُمْ مَنَعَةٌ؟ قَالُوا: لَا، وَسَبُّوهُ، فَتَرَكْتُهُ لِلَّهِ وَلَهُمْ، فَحَمَلُونِي، فَوَاللَّهِ مَا بَلَغْتُ الْمَنْزِلَ إِلَّا عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فِي إِطْلَاقِ عُبَيْدِ اللَّهِ لِأَنَّ عَلِيًّا لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ أَرَادَ قَتْلَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، وَلَوْ كَانَ إِطْلَاقُهُ بِأَمْرِ وَلِيِّ الدَّمِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ عَلِيٌّ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ

كَانَ الْعُمَّالُ فِيهَا عَلَى مَكَّةَ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيَّ، وَعَلَى الطَّائِفِ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ، وَعَلَى صَنْعَاءَ يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ، وَعَلَى الْجَنَدِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَلَى الْكُوفَةِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَعَلَى مِصْرَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَعَلَى حِمْصَ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَلَى دِمَشْقَ مُعَاوِيَةُ، وَعَلَى الْبَحْرَيْنِ وَمَا وَالَاهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ. وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ الصَّائِفَةَ، وَمَعَهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَشَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ. وَفِيهَا فَتَحَ مُعَاوِيَةُ عَسْقَلَانَ عَلَى صُلْحٍ. وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحٌ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ كَعْبُ بْنُ سُورٍ، وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا قَاضٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَّ قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ الَّذِي رَدَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

عَيْنَهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. وَفِي خِلَافَةِ عُمَرَ تُوُفِّيَّ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ أَسَنُّ مِنَ الْعَبَّاسِ، وَعُمَيْرُ بْنُ عَوْفٍ مَوْلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَهُوَ بَدْرِيٌّ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، شَهِدَ أُحُدًا، وَعُتْبَةُ بْنُ مَسْعُودٍ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ شَهِدَ أُحُدًا، وَعَدِيُّ بْنُ أَبِي

الزَّغْبَاءِ الْجُهَنِيُّ، وَهُوَ عَيْنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يَوْمَ بَدْرٍ وَشَهِدَ غَيْرَهَا أَيْضًا. وَفِيهَا مَاتَ عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ عَقَبِيٌّ بَدْرِيٌّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْ بَلِيٍّ، وَلَهُ حِلْفٌ فِي الْأَنْصَارِ. وَفِيهَا مَاتَ سُهَيْلُ بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا. وَمَسْعُودُ بْنُ أَوْسِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقِيلَ: بَلْ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ وَشَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَّ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ حَلِيفُ الْخَطَّابِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْإِسْلَامِ وَقَتَلَ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بَدْرِيًّا، وَلَمْ يَشْهَدْهَا أَبُو جَنْدَلٍ ; لِأَنَّ أَبَاهُ سَجَنَهُ بِمَكَّةَ وَمَنَعَهُ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفَ خُلِّصَ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو خَالِدٍ الْحَارِثُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ، وَكَانَ أَصَابَهُ جُرْحٌ

بِالْيَمَامَةِ فَانْدَمَلَ، ثُمَّ انْتَقَضَ عَلَيْهِ فَمَاتَ مِنْهُ، وَهُوَ عَقَبِيٌّ بَدْرِيٌّ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيُّ الشَّاعِرُ، وَخَبَرُ مَوْتِهِ مَشْهُورٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَّ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ الثَّقَفِيُّ، وَهُوَ الَّذِي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشَرَةُ نِسْوَةٍ. وَفِيهَا فِي آخِرِهَا مَاتَ الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ بْنِ قَيْسٍ اللَّيْثِيُّ.

ثم دخلت سنة أربع وعشرين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ] 24 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ذكر بَيْعَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِالْخِلَافَةِ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا لِثَلَاثٍ مَضَيْنَ مِنْهُ بُويِعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ هَذَا الْعَامُ يُسَمَّى عَامَ الرُّعَافِ لِكَثْرَتِهِ فِيهِ بِالنَّاسِ. وَاجْتَمَعَ أَهْلُ الشُّورَى عَلَيْهِ، وَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ، فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ صُهَيْبٍ، وَاجْتَمَعُوا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَخَرَجَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ وَزَادَهُمْ مِائَةً مِائَةً، وَوَفَدَ أَهْلُ الْأَمْصَارِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ، وَقَصَدَ الْمِنْبَرَ وَهُوَ أَشَدُّهُمْ كَآبَةً، فَخَطَبَ النَّاسَ وَوَعَظَهُمْ وَأَقْبَلُوا يُبَايِعُونَهُ. ذكر عَزْلِ الْمُغِيرَةِ عَنِ الْكُوفَةِ وَوِلَايَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَفِيهَا عَزَلَ عُثْمَانُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ عَنِ الْكُوفَةِ، وَاسْتَعْمَلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَيْهَا بِوَصِيَّةِ عُمَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ: أُوصِي الْخَلِيفَةَ بَعْدِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ سَعْدًا، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ سُوءٍ وَلَا خِيَانَةٍ، فَكَانَ أَوَّلَ عَامِلٍ بَعَثَهُ عُثْمَانُ، فَعَمِلَ عَلَيْهَا سَعْدٌ سَنَةً وَبَعْضَ أُخْرَى، وَقِيلَ: بَلْ أَقَرَّ عُثْمَانُ عُمَّالَ عُمَرَ جَمِيعَهُمْ سَنَةً لِأَنَّ عُمَرَ أَوْصَى بِذَلِكَ، ثُمَّ عَزَلَ الْمُغِيرَةَ بَعْدَ سَنَةٍ وَاسْتَعْمَلَ سَعْدًا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ إِمَارَةُ سَعْدٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُثْمَانُ، وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَمْرِ عُثْمَانَ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْفُتُوحِ الَّتِي ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا كَانَتْ زَمَنَ عُثْمَانَ وَذَكَرْتُ الْخِلَافَ هُنَالِكَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ، وَهُوَ أَحَدُ الْبَكَّائِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَسُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ، وَقِيلَ: مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَدْرَكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هِجْرَتِهِ.

ثم دخلت سنة خمس وعشرين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ] 25 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ذكر خِلَافِ أَهْلِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَنَقَضُوا صُلْحَهُمْ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الرُّومَ عَظُمَ عَلَيْهِمْ فَتْحُ الْمُسْلِمِينَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمُ الْمُقَامُ بِبِلَادِهِمْ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ عَنْ مُلْكِهِمْ، فَكَاتَبُوا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الرُّومِ وَدَعَوْهُمْ إِلَى نَقْضِ الصُّلْحِ، فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ. فَسَارَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ جَيْشٌ كَثِيرٌ، وَعَلَيْهِمْ مَنَوِيلُ الْخَصِيُّ، فَأَرْسَوْا بِهَا، وَاتَّفَقَ مَعَهُمْ مَنْ بِهَا مِنَ الرُّومِ، وَلَمْ يُوَافِقْهُمُ الْمُقَوْقِسُ بَلْ ثَبَتَ عَلَى صُلْحِهِ. فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سَارَ إِلَيْهِمْ، وَسَارَ الرُّومُ إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ الرُّومُ وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى أَنْ أَدْخَلُوهُمُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ فِي الْبَلَدِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، مِنْهُمْ مَنَوِيلُ الْخَصِيُّ. وَكَانَ الرُّومُ لَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ قَدْ أَخَذُوا أَمْوَالَ أَهْلِ تِلْكَ الْقُرَى مَنْ وَافَقَهُمْ وَمَنْ خَالَفَهُمْ. فَلَمَّا ظَفِرَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ جَاءَ أَهْلُ الْقُرَى الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ فَقَالُوا لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: إِنَّ الرُّومَ أَخَذُوا دَوَابَّنَا وَأَمْوَالَنَا، وَلَمْ نُخَالِفْ نَحْنُ عَلَيْكُمْ وَكُنَّا عَلَى الطَّاعَةِ. فَرَدَّ عَلَيْهِمْ مَا عَرَفُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ. وَهَدَمَ عَمْرٌو سُورَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَتَرَكَهَا بِغَيْرِ سُورٍ. وَفِيهَا بَلَغَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَهْلِ الرَّيِّ عَزْمٌ عَلَى نَقْضِ الْهُدْنَةِ وَالْغَدْرِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصْلَحَهُمْ وَغَزَا الدَّيْلَمَ ثُمَّ انْصَرَفَ.

ذِكْرُ عَزْلِ سَعْدٍ عَنِ الْكُوفَةِ وَوِلَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ الْكُوفَةِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَاسْتَعْمَلَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَاسْمُ أَبِي مُعَيْطٍ أَبَانُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، وَاسْمُهُ ذَكْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَهُوَ أَخُو عُثْمَانَ لِأُمِّهِ، (أُمُّهُمَا أَرْوَى بِنْتُ كُرَيْزٍ، وَأُمُّهَا الْبَيْضَاءُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سَعْدًا اقْتَرَضَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَرْضًا، فَلَمَّا تَقَاضَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ قَضَاؤُهُ فَارْتَفَعَ بَيْنَهُمَا الْكَلَامُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا أَرَاكَ إِلَّا سَتَلْقَى شَرًّا، هَلْ أَنْتَ إِلَّا ابْنُ مَسْعُودٍ عَبْدٌ مِنْ هُذَيْلٍ؟ فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنِّي لَابْنُ مَسْعُودٍ وَإِنَّكَ لَابْنُ حُمَيْنَةَ. وَكَانَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حَاضِرًا فَقَالَ: إِنَّكُمَا لَصَاحِبَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يَنْظُرُ إِلَيْكُمَا. فَرَفَعَ سَعْدٌ يَدَهُ لِيَدْعُوَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَانَ فِيهِ حِدَّةٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَيْلَكَ قُلْ خَيْرًا وَلَا تَلْعَنْ. فَقَالَ سَعْدٌ عِنْدَ ذَلِكَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا اتِّقَاءُ اللَّهِ لَدَعَوْتُ عَلَيْكَ دَعْوَةً لَا تُخْطِئُكَ. فَوَلَّى عَبْدُ اللَّهِ سَرِيعًا حَتَّى خَرَجَ، ثُمَّ اسْتَعَانَ عَبْدُ اللَّهِ بِأُنَاسٍ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْمَالِ، وَاسْتَعَانَ سَعْدٌ بِأُنَاسٍ عَلَى إِنْظَارِهِ، فَافْتَرَقُوا وَبَعْضُهُمْ يَلُومُ بَعْضًا، يَلُومُ هَؤُلَاءِ سَعْدًا وَهَؤُلَاءِ عَبْدَ اللَّهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا نُزِغَ بِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَأَوَّلَ مِصْرٍ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ أَهْلِهِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ عُثْمَانَ فَغَضِبَ عَلَيْهِمَا فَعَزَلَ سَعْدًا وَأَقَرَّ عَبْدَ اللَّهِ، وَاسْتَعْمَلَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مَكَانَ سَعْدٍ، وَكَانَ عَلَى عَرَبِ الْجَزِيرَةِ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بَعْدَهُ، فَقَدِمَ الْكُوفَةَ وَالِيًا عَلَيْهَا، (وَأَقَامَ عَلَيْهَا خَمْسَ سِنِينَ، وَهُوَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَى أَهْلِهَا) . فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ لَهُ سَعْدٌ: أَكِسْتَ بَعْدَنَا أَمْ حَمُقْنَا بَعْدَكَ؟ فَقَالَ: لَا تَجْزَعَنَّ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا هُوَ الْمُلْكُ يَتَغَدَّاهُ قَوْمٌ وَيَتَعَشَّاهُ آخَرُونَ. فَقَالَ سَعْدٌ: أَرَاكُمْ جَعَلْتُمُوهَا مُلْكًا! وَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا أَدْرِي أَصَلُحَتْ بَعْدَنَا أَمْ فَسَدَ النَّاسُ!

ذِكْرُ صُلْحِ أَهْلِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ لَمَّا اسْتَعْمَلَ عُثْمَانُ الْوَلِيدَ عَلَى الْكُوفَةِ عَزَلَ عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ عَنْ أَذْرَبِيجَانَ، فَنَقَضُوا، فَغَزَاهُمُ الْوَلِيدُ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَعَلَى مُقَدَّمَتِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبَيْلٍ الْأَحْمَسِيُّ، فَأَغَارَ عَلَى أَهْلِ مُوقَانَ وَالْبَبَرَ وَالطَّيْلَسَانَ فَفَتَحَ وَغَنِمَ وَسَبَى، فَطَلَبَ أَهْلُ كُوَرِ أَذْرَبِيجَانَ الصُّلْحَ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى صُلْحِ حُذَيْفَةَ، وَهُوَ ثَمَانُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَبَضَ الْمَالَ. ثُمَّ بَثَّ سَرَايَاهُ، وَبَعَثَ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ إِلَى أَهْلِ أَرْمِينِيَّةَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَسَارَ فِي أَرْمِينِيَّةَ يَقْتُلُ وَيَسْبِي وَيَغْنَمُ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ مَلَأَ يَدَيْهِ حَتَّى أَتَى الْوَلِيدَ، فَعَادَ الْوَلِيدُ، وَقَدْ ظَفِرَ وَغَنِمَ وَجَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى الْمَوْصِلِ، ثُمَّ أَتَى الْحَدِيثَةَ فَنَزَلَهَا، فَأَتَاهُ بِهَا كِتَابُ عُثْمَانَ فِيهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَيَّ يُخْبِرُنِي أَنَّ الرُّومَ قَدْ أَجْلَبَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي جُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ يَمُدَّهُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلًا لَهُ نَجْدَةٌ وَبَأْسٌ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ أَوْ تِسْعَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يَأْتِيكَ كِتَابِي فِيهِ وَالسَّلَامُ. فَقَامَ الْوَلِيدُ فِي النَّاسِ وَأَعْلَمَهُمُ الْحَالَ، وَنَدَبَهُمْ مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ، فَانْتَدَبَ مَعَهُ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، فَمَضَوْا حَتَّى دَخَلُوا مَعَ أَهْلِ الشَّامِ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ، فَشَنُّوا الْغَارَاتِ عَلَى أَرْضِ الرُّومِ، فَأَصَابَ النَّاسُ مَا شَاءُوا، وَافْتَتَحُوا حُصُونًا كَثِيرَةً. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي أَمَدَّ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ بِسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ كَانَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عُثْمَانَ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُغْزِيَ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِي أَهْلِ الشَّامِ أَرْمِينِيَّةَ، فَوَجَّهَهُ إِلَيْهَا، فَأَتَى قَالِيقَلَا فَحَصَرَهَا وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهَا، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ عَلَى الْجَلَاءِ أَوِ الْجِزْيَةِ، فَجَلَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَلَحِقُوا بِبِلَادِ الرُّومِ، وَأَقَامَ حَبِيبٌ بِهَا فِيمَنْ مَعَهُ أَشْهُرًا. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ قَالِيقَلَا لِأَنَّ امْرَأَةً بِطَرِيقِ أَرْمِينَاقَسَ كَانَ اسْمُهَا قَالِي بَنَتَ هَذِهِ الْمَدِينَةَ فَسَمَّتْهَا قَالِي قَلَهْ، تَعْنِي إِحْسَانَ قَالِي، فَعَرَّبَتْهَا الْعَرَبُ فَقَالَتْ: قَالِيقَلَا. ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ بِطْرِيقَ أَرْمِينَاقَسَ - وَهِيَ الْبِلَادُ الَّتِي هِيَ الْآنَ بِيَدِ أَوْلَادِ السُّلْطَانِ قَلْجَ

رَسْلَانَ - وَهِيَ مَلَطْيَةُ وَسِيوَاسُ وَأَقْصَرَا وَقُونِيَّةُ، وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْبِلَادِ إِلَى خَلِيجِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَاسْمُهُ الْمَوْرِيَانُ، قَدْ تَوَجَّهَ نَحْوَهُ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا مِنَ الرُّومِ. فَكَتَبَ حَبِيبٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُخْبِرُهُ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ يَأْمُرُهُ بِإِمْدَادِ حَبِيبٍ، فَأَمَدَّهُ بِسَلْمَانَ فِي سِتَّةِ آلَافٍ، وَأَجْمَعَ حَبِيبٌ عَلَى تَبْيِيتِ الرُّومِ، فَسَمِعَتْهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتُ يَزِيدَ الْكَلْبِيَّةُ فَقَالَتْ أَيْنَ مَوْعِدُكَ؟ فَقَالَ: سُرَادِقُ الْمَوْرِيَانِ. ثُمَّ بَيَّتَهُمْ فَقَتَلَ مَنْ وَقَفَ لَهُ، ثُمَّ أَتَى السُّرَادِقَ فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ سَبَقَتْهُ إِلَيْهِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنَ الْعَرَبِ ضُرِبَ عَلَيْهَا حِجَابُ سُرَادِقٍ. وَمَاتَ عَنْهَا حَبِيبٌ فَخَلَفَ عَلَيْهَا الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ. وَلَمَّا انْهَزَمَتِ الرُّومُ عَادَ حَبِيبٌ إِلَى قَالِيقَلَا، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا فَنَزَلَ مِرْبَالَا، فَأَتَاهُ بِطْرِيقُ خِلَاطَ بِكِتَابِ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ بِأَمَانِهِ، فَأَجْرَاهُ عَلَيْهِ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ الْبِطْرِيقُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ، وَنَزَلَ حَبِيبٌ خِلَاطَ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا فَلَقِيَهُ صَاحِبُ مُكْسَ، وَهِيَ مِنَ الْبُسْفُرْجَانِ، فَقَاطَعَهُ عَلَى بِلَادِهِ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى أَزْدِشَاطَ، وَهِيَ الْقَرْيَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْقِرْمِزُ الَّذِي يُصْبَغُ بِهِ، فَنَزَلَ عَلَى نَهْرِ دَبِيلَ، وَسَرَّحَ الْخُيُولَ إِلَيْهَا فَحَصَرَهَا، فَتَحَصَّنَ أَهْلُهَا، فَنَصَبَ عَلَيْهِمْ مَنْجَنِيقًا، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ وَبَثَّ السَّرَايَا، فَبَلَغَتْ خَيْلُهُ ذَاتَ اللُّجُمِ ; وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ ذَاتَ اللُّجُمِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوا لُجُمَ خُيُولِهُمْ فَكَبَسَهُمُ الرُّومُ قَبْلَ أَنْ يُلْجِمُوهَا، ثُمَّ أَلْجَمُوهَا وَقَاتَلُوهُمْ فَظَفِرُوا بِهِمْ، وَوَجَّهَ سَرِيَّةً إِلَى سِرَاجِ طَيْرٍ وَبَغْرَوَنْدَ، فَصَالَحَهُ بِطْرِيقُهَا عَلَى إِتَاوَةٍ. وَقَدِمَ عَلَيْهِ بِطْرِيقُ الْبُسْفُرْجَانِ فَصَالَحَهُ عَلَى جَمِيعِ بِلَادِهِ. وَأَتَى السِّيسَجَانَ فَحَارَبَهُ أَهْلُهَا، فَهَزَمَهُمْ وَغَلَبَ عَلَى حُصُونِهِمْ وَسَارَ إِلَى

جُرْزَانَ، فَأَتَاهُ رَسُولُ بِطْرِيقِهَا يَطْلُبُ الصُّلْحَ فَصَالَحَهُ. وَسَارَ إِلَى تَفْلِيسَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا، وَهِيَ مِنْ جُرْزَانَ، وَفَتَحَ عِدَّةَ حُصُونٍ وَمُدُنٍ تُجَاوِرُهَا صُلْحًا. وَسَارَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيُّ إِلَى أَرَّانَ، فَفَتَحَ الْبَيْلَقَانَ صُلْحًا عَلَى أَنْ آمَنَهُمْ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَحِيطَانِ مَدِينَتِهِمْ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ. ثُمَّ أَتَى سَلْمَانُ مَدِينَةَ بَرْذَعَةَ فَعَسْكَرَ عَلَى الثُّرْثَوْرِ، نَهْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا نَحْوُ فَرْسَخٍ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا أَيَّامًا، وَشَنَّ الْغَارَاتِ فِي قُرَاهَا، فَصَالَحُوهُ عَلَى مِثْلِ صُلْحِ الْبَيْلَقَانِ وَدَخَلَهَا، وَوَجَّهَ خَيْلَهُ فَفَتَحَتْ رَسَاتِيقَ الْوِلَايَةِ، وَدَعَا أَكْرَادَ الْبَلَاشِجَانِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَاتَلُوهُ فَظَفِرَ بِهِمْ، فَأَقَرَّ بَعْضَهُمْ عَلَى الْجِزْيَةِ وَأَدَّى بَعْضُهُمُ الصَّدَقَةَ، وَهُمْ قَلِيلٌ، وَوَجَّهَ سَرِيَّةً إِلَى شَمْكُورَ فَفَتَحُوهَا، وَهِيَ مَدِينَةٌ قَدِيمَةٌ، وَلَمْ تَزَلْ مَعْمُورَةً حَتَّى أَخْرَبَهَا السَّنَاوِرْدِيَّةُ، وَهُمْ قَوْمٌ تَجَمَّعُوا لَمَّا انْصَرَفَ يَزِيدُ بْنُ أُسَيْدٍ عَنْ أَرْمِينِيَّةَ فَعَظُمَ أَمْرُهُمْ، فَعَمَّرَهَا بُغَا سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمَّاهَا الْمُتَوَكِّلِيَّةَ نِسْبَةً إِلَى الْمُتَوَكِّلِ. وَسَارَ سَلْمَانُ إِلَى مَجْمَعِ أَرَسَ وَالْكُرِّ فَفَتَحَ قَبَلَةَ، وَصَالَحَهُ صَاحِبُ سُكَرَ وَغَيْرِهَا عَلَى الْإِتَاوَةِ، وَصَالَحَهُ مَلِكُ شَرْوَانَ وَسَائِرُ مُلُوكِ الْجِبَالِ وَأَهْلُ مَسْقَطٍ وَالشَّابَرَانِ وَمَدِينَةُ الْبَابِ ثُمَّ امْتَنَعَتْ بَعْدَهُ. ذكر غَزْوَةِ مُعَاوِيَةَ الرُّومَ وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ الرُّومَ فَبَلَغَ عَمُّورِيَّةَ، فَوَجَدَ الْحُصُونَ الَّتِي بَيْنَ أَنْطَاكِيَةَ وَطَرَسُوسَ خَالِيَةً، فَجَعَلَ عِنْدَهَا جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْ غَزَاتِهِ، ثُمَّ

أَغْزَى بَعْدَ ذَلِكَ يَزِيدَ بْنَ الْحُرِّ الْعَبْسِيَّ الصَّائِفَةَ وَأَمَرَهُ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَمَّا خَرَجَ هَدَمَ الْحُصُونَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ. ذكر غَزْوَةِ إِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ إِلَى أَطْرَافِ إِفْرِيقِيَّةَ غَازِيًا بِأَمْرِ عُثْمَانَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ جُنْدِ مِصْرَ، فَلَمَّا سَارَ إِلَيْهَا أَمَدَّهُ عَمْرٌو بِالْجُنُودِ فَغَنِمَ هُوَ وَجُنْدُهُ، فَلَمَّا عَادَ عَبْدُ اللَّهِ كَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي غَزْوِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ. ذكر عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا أَرْسَلَ عُثْمَانُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ إِلَى كَابُلَ، وَهِيَ عِمَالَةُ سِجِسْتَانَ، فَبَلَغَهَا فِي قَوْلٍ، فَكَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ خُرَاسَانَ، حَتَّى مَاتَ مُعَاوِيَةُ وَامْتَنَعَ أَهْلُهَا. وَفِيهَا وُلِدَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ. وَفِيهَا كَانَتْ [غَزْوَةُ] سَابُورَ الْأُولَى، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ.

ثم دخلت سنة ست وعشرين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ] 26 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ ذكر الزِّيَادَةِ فِي الْحَرَمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ عُثْمَانُ بِتَجْدِيدِ أَنْصَابِ الْحَرَمِ. وَفِيهَا زَادَ عُثْمَانُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَوَسَّعَهُ، وَابْتَاعَ مِنْ قَوْمٍ، فَأَبَى آخَرُونَ، فَهَدَمَ عَلَيْهِمْ وَوَضَعَ الْأَثْمَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ. فَصَاحُوا بِعُثْمَانَ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَحُبِسُوا، وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ فَعَلَ هَذَا بِكُمْ عُمَرُ فَلَمْ تَصِيحُوا بِهِ. فَكَلَّمَهُ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ فَأَطْلَقَهُمْ. (أَسِيدٌ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ) .

ثم دخلت سنة سبع وعشرين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ] 27 - [ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ] ذكر وِلَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ مِصْرَ وَفَتْحِ إِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَنْ خَرَاجِ مِصْرَ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَكَانَ أَخَا عُثْمَانَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَتَبَاغَيَا، فَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى عُثْمَانَ يَقُولُ: إِنَّ عَمْرًا كَسَرَ عَلَى الْخَرَاجِ. وَكَتَبَ عَمْرٌو يَقُولُ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَدْ كَسَرَ عَلَى مَكِيدَةِ الْحَرْبِ. فَعَزَلَ عُثْمَانُ عَمْرًا وَاسْتَقْدَمَهُ، وَاسْتَعْمَلَ بَدَلَهُ عَبْدَ اللَّهِ عَلَى حَرْبِ مِصْرَ وَخَرَاجِهَا، فَقَدِمَ عَمْرٌو مُغْضَبًا، فَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مَحْشُوَّةٌ [قُطْنًا] ، فَقَالَ لَهُ: مَا حَشْوُ جُبَّتِكَ؟ قَالَ: عَمْرٌو. قَالَ: قَدْ عَلِمْتَ [أَنَّ حَشْوَهَا عَمْرٌو] وَلَمْ أُرِدْ هَذَا، [إِنَّمَا سَأَلْتُ أَقُطْنٌ هُوَ أَمْ غَيْرُهُ؟] . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ جُنْدِ مِصْرَ، وَكَانَ قَدْ أَمَرَهُ عُثْمَانُ بِغَزْوِ إِفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَلَكَ مِنَ الْفَيْءِ خُمُسُ الْخُمُسِ نَفْلًا. وَأَمَّرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ الْحَارِثِ عَلَى جُنْدٍ، وَسَرَّحَهُمَا [إِلَى الْأَنْدَلُسِ] ، وَأَمَرَهُمَا بِالِاجْتِمَاعِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ عَلَى صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، ثُمَّ يُقِيمُ

عَبْدُ اللَّهِ فِي عَمَلِهِ. فَخَرَجُوا حَتَّى قَطَعُوا أَرْضَ مِصْرَ وَوَطِئُوا أَرْضَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانُوا فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ عُدَّتُهُمْ آلَافٌ مِنْ شُجْعَانِ الْمُسْلِمِينَ، فَصَالَحَهُمْ أَهْلُهَا عَلَى مَالٍ يُؤَدُّونَهُ وَلَمْ يُقْدِمُوا عَلَى دُخُولِ إِفْرِيقِيَّةَ وَالتَّوَغُّلِ فِيهَا لِكَثْرَةِ أَهْلِهَا. ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ لَمَّا وُلِّيَ أَرْسَلَ إِلَى عُثْمَانَ فِي غَزْوِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْجُمُوعِ عَلَيْهَا وَفَتْحِهَا، فَاسْتَشَارَ عُثْمَانُ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَأَشَارَ أَكْثَرُهُمْ بِذَلِكَ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَفِيهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، فَسَارَ بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ. فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى بَرْقَةَ لَقِيَهُمْ عُقْبَةُ بْنُ نَافِعٍ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا بِهَا، وَسَارُوا إِلَى طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ فَنَهَبُوا مَنْ عِنْدَهَا مِنَ الرُّومِ. وَسَارَ نَحْوَ إِفْرِيقِيَّةَ وَبَثَّ السَّرَايَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَكَانَ مَلِكُهُمُ اسْمُهُ جُرْجِيرُ، وَمُلْكُهُ مِنْ طَرَابُلُسَ إِلَى طَنْجَةَ، وَكَانَ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ قَدْ وَلَّاهُ إِفْرِيقِيَّةَ، فَهُوَ يَحْمِلُ إِلَيْهِ الْخَرَاجَ كُلَّ سَنَةٍ. فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ الْمُسْلِمِينَ تَجَهَّزَ وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَأَهْلَ الْبِلَادِ، فَبَلَغَ عَسْكَرُهُ مِائَةَ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَالْتَقَى هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ بِمَكَانٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَدِينَةِ سُبَيْطِلَةَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَهَذِهِ الْمَدِينَةُ كَانَتْ ذَلِكَ الْوَقْتَ دَارَ الْمُلْكِ، فَأَقَامُوا هُنَاكَ يَقْتَتِلُونَ كُلَّ يَوْمٍ، وَرَاسَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْجِزْيَةِ، فَامْتَنَعَ مِنْهُمَا وَتَكَبَّرَ عَنْ قَبُولِ أَحَدِهِمَا. وَانْقَطَعَ خَبَرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ عُثْمَانَ، فَسَيَّرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فِي جَمَاعَةٍ إِلَيْهِمْ لِيَأْتِيَهُ بِأَخْبَارِهِمْ، فَسَارَ مُجِدًّا وَوَصَلَ إِلَيْهِمْ وَأَقَامَ مَعَهُمْ، وَلَمَّا وَصَلَ كَثُرَ الصِّيَاحُ وَالتَّكْبِيرُ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَسَأَلَ جُرْجِيرُ عَنِ الْخَبَرِ فَقِيلَ قَدْ أَتَاهُمْ عَسْكَرٌ، فَفَتَّ ذَلِكَ فِي عَضُدِهِ. وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ بَكْرَةٍ إِلَى الظُّهْرِ، فَإِذَا أَذَّنَ الظُّهْرُ عَادَ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى خِيَامِهِ، وَشَهِدَ الْقِتَالَ مِنَ الْغَدِ فَلَمْ يَرَ ابْنَ أَبِي سَرْحٍ مَعَهُمْ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ إِنَّهُ سَمِعَ مُنَادِيَ جُرْجِيرَ يَقُولُ: مَنْ قَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ فَلَهُ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ وَأُزَوِّجُهُ ابْنَتِي، وَهُوَ يَخَافُ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ وَقَالَ لَهُ: تَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي: مَنْ أَتَانِي بِرَأْسِ جُرْجِيرَ نَفَّلْتُهُ مِائَةَ أَلْفٍ وَزَوَّجْتُهُ ابْنَتَهُ وَاسْتَعْمَلْتُهُ عَلَى بِلَادِهِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَصَارَ جُرْجِيرُ يَخَافُ أَشَدَّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ. ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ: إِنْ أَمْرَنَا يَطُولُ مَعَ هَؤُلَاءِ، وَهُمْ فِي أَمْدَادٍ مُتَّصِلَةٍ وَبِلَادٍ هِيَ لَهُمْ، وَنَحْنُ مُنْقَطِعُونَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَبِلَادِهِمْ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ نَتْرُكَ غَدًا جَمَاعَةً صَالِحَةً مِنْ أَبْطَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي خِيَامِهِمْ مُتَأَهِّبِينَ، وَنُقَاتِلُ نَحْنُ الرُّومَ فِي بَاقِي الْعَسْكَرِ إِلَى أَنْ يَضْجَرُوا وَيَمَلُّوا، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى خِيَامِهِمْ وَرَجَعَ الْمُسْلِمُونَ رَكِبَ مَنْ كَانَ

فِي الْخِيَامِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَشْهَدُوا الْقِتَالَ وَهُمْ مُسْتَرِيحُونَ، وَنَقْصِدُهُمْ عَلَى غِرَّةٍ، فَلَعَلَّ اللَّهَ يَنْصُرُنَا عَلَيْهِمْ، فَأَحْضَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ وَاسْتَشَارَهُمْ فَوَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَأَقَامَ جَمِيعُ شُجْعَانِ الْمُسْلِمِينَ فِي خِيَامِهِمْ، وَخُيُولُهُمْ عِنْدَهُمْ مُسْرَجَةٌ، وَمَضَى الْبَاقُونَ فَقَاتَلُوا الرُّومَ إِلَى الظُّهْرِ قِتَالًا شَدِيدًا. فَلَمَّا أُذِّنَ بِالظُّهْرِ هَمَّ الرُّومُ بِالِانْصِرَافِ عَلَى الْعَادَةِ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَلَحَّ عَلَيْهِمْ بِالْقِتَالِ حَتَّى أَتْعَبَهُمْ، ثُمَّ عَادَ عَنْهُمْ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ، فَكُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ أَلْقَى سِلَاحَهُ وَوَقَعَ تَعِبًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مَنْ كَانَ مُسْتَرِيحًا مِنْ شُجْعَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَصَدَ الرُّومَ، فَلَمْ يَشْعُرُوا بِهِمْ حَتَّى خَالَطُوهُمْ، وَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَكَبَّرُوا، فَلَمْ يَتَمَكَّنِ الرُّومُ مِنْ لُبْسِ سِلَاحِهِمْ، حَتَّى غَشِيَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَقُتِلَ جُرْجِيرُ، قَتَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَانْهَزَمَ الرُّومُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأُخِذَتِ ابْنَةُ الْمَلِكِ جُرْجِيرَ سَبِيَّةً. وَنَازَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ الْمَدِينَةَ، فَحَصَرَهَا حَتَّى فَتَحَهَا، وَرَأَى فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِهَا، فَكَانَ سَهْمُ الْفَارِسِ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ وَسَهْمُ الرَّاجِلِ أَلْفَ دِينَارٍ. وَلَمَّا فَتَحَ عَبْدُ اللَّهِ مَدِينَةَ سُبَيْطِلَةَ بَثَّ جُيُوشَهُ فِي الْبِلَادِ فَبَلَغَتْ قَفْصَةَ، فَسَبَوْا وَغَنِمُوا، وَسَيَّرَ عَسْكَرًا إِلَى حِصْنِ الْأَجَمِ، وَقَدِ احْتَمَى بِهِ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ، فَحَصَرَهُ وَفَتَحَهُ بِالْأَمَانِ، فَصَالَحَهُ أَهْلُ إِفْرِيقِيَّةَ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَنَفَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ ابْنَةَ الْمَلِكِ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى عُثْمَانَ بِالْبِشَارَةِ بِفَتْحِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَقِيلَ: إِنَّ ابْنَةَ الْمَلِكِ وَقَعَتْ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَرْكَبَهَا بَعِيرًا وَارْتَجَزَ بِهَا يَقُولُ: يَا ابْنَةَ جُرْجِيرَ تَمَشَّيْ عُقْبَتِكْ ... إِنَّ عَلَيْكِ بِالْحِجَازِ رَبَّتِكْ لَتَحْمِلِنَّ مِنْ قَبَاءَ قِرْبَتِكْ ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ عَادَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ مُقَامُهُ بِإِفْرِيقِيَّةَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَفْقِدْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ، قُتِلَ مِنْهُمْ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ الشَّاعِرُ فَدُفِنَ هُنَاكَ، وَحُمِلَ خُمُسُ إِفْرِيقِيَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَاشْتَرَاهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَوَضَعَهَا عَنْهُ عُثْمَانُ، وَكَانَ هَذَا مِمَّا أُخِذَ عَلَيْهِ.

وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي خُمُسِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: أَعْطَى عُثْمَانُ خُمُسَ إِفْرِيقِيَّةَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَعْطَاهُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ. وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّهُ أَعْطَى عَبْدَ اللَّهِ خُمُسَ الْغَزْوَةِ الْأُولَى، وَأَعْطَى مَرْوَانَ خُمُسَ الْغَزْوَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي افْتُتِحَتْ فِيهَا جَمِيعُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذكر انْتِقَاضِ إِفْرِيقِيَّةَ وَفَتْحِهَا ثَانِيَةً كَانَ هِرَقْلُ مَلِكُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ يُؤَدِّي إِلَيْهِ كُلُّ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ النَّصَارَى الْخَرَاجَ، فَهُمْ مِنْ مِصْرَ وَإِفْرِيقِيَّةَ وَالْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمَّا صَالَحَ أَهْلُ إِفْرِيقِيَّةَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ أَرْسَلَ هِرَقْلُ إِلَى أَهْلِهَا بِطْرِيقًا لَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ مِثْلَ مَا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ، فَنَزَلَ الْبِطْرِيقُ فِي قَرْطَاجَنَّةَ، وَجَمَعَ أَهْلَ إِفْرِيقِيَّةَ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُ الْمَلِكُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: نَحْنُ نُؤَدِّي مَا كَانَ يُؤْخَذُ مِنَّا، وَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَامِحَنَا لِمَا نَالَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَّا. وَكَانَ قَدْ قَامَ بِأَمْرِ إِفْرِيقِيَّةَ بَعْدَ قَتْلِ جُرْجِيرَ رَجُلٌ آخَرُ مِنَ الرُّومِ، فَطَرَدَهُ الْبِطْرِيقُ. بَعْدَ فِتَنٍ كَثِيرَةٍ، فَسَارَ إِلَى الشَّامِ وَبِهِ مُعَاوِيَةُ وَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهُ الْأَمْرُ بَعْدَ قَتْلِ عَلِيٍّ، فَوَصَفَ لَهُ إِفْرِيقِيَّةَ وَطَلَبَ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ جَيْشًا، فَسَيَّرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ السَّكُونِيَّ. فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ هَلَكَ الرُّومِيُّ، وَمَضَى ابْنُ حُدَيْجٍ فَوَصَلَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَهِيَ نَارٌ تَضْطَرِمُ، وَكَانَ مَعَهُ عَسْكَرٌ عَظِيمٌ، فَنَزَلَ عِنْدَ قَمُونِيَّةَ، وَأَرْسَلَ الْبِطْرِيقُ إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ. فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ مُعَاوِيَةُ سَيَّرَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَتِ الرُّومُ، وَحَصَرَ حِصْنَ جَلُولَاءَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَانْهَدَمَ سُورُ الْحِصْنِ، فَمَلَكَهُ الْمُسْلِمُونَ وَغَنِمُوا مَا فِيهِ، وَبَثَّ السَّرَايَا، فَسَكَنَ النَّاسُ وَأَطَاعُوا، وَعَادَ إِلَى مِصْرَ. (حُدَيْجٌ: بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَآخِرُهُ جِيمٌ) . ثُمَّ لَمْ يَزَلْ أَهْلُ إِفْرِيقِيَّةَ مِنْ أَطْوَعِ أَهْلِ الْبُلْدَانِ وَأَسْمَعِهِمْ، إِلَى زَمَانِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَتَّى دَبَّ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَاسْتَثَارُوهُمْ، فَشَقُّوا الْعَصَا، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمْ إِلَى الْيَوْمِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا نُخَالِفُ الْأَئِمَّةَ بِمَا تَجْنِي الْعُمَّالُ. فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّمَا يَعْمَلُ هَؤُلَاءِ بِأَمْرِ أُولَئِكَ. فَقَالُوا: حَتَّى نُخْبِرَهُمْ، فَخَرَجَ مَيْسَرَةُ فِي بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا، فَقَدِمُوا عَلَى هِشَامٍ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ، فَدَخَلُوا عَلَى الْأَبْرَشِ فَقَالُوا: أَبْلِغْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أَمِيرَنَا يَغْزُو بِنَا

وَبِجُنْدِهِ، فَإِذَا غَنِمْنَا نَفَّلَهُمْ، وَيَقُولُ: هَذَا أَخْلَصُ لِجِهَادِنَا، وَإِذَا حَاصَرْنَا مَدِينَةً قَدَّمَنَا وَأَخَّرَهُمْ، وَيَقُولُ: هَذَا ازْدِيَادٌ فِي الْأَجْرِ، وَمِثْلُنَا كَفَى إِخْوَانَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى مَاشِيتِنَا، فَجَعَلُونَا يَبْقُرُونَ بُطُونَهَا عَنْ سِخَالِهَا، يَطْلُبُونَ الْفِرَاءَ الْبِيضَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَقْتُلُونَ أَلْفَ شَاةٍ فِي جِلْدٍ، فَاحْتَمَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ سَامُونَا أَنْ يَأْخُذُوا كُلَّ جَمِيلَةٍ مِنْ بَنَاتِنَا، فَقُلْنَا: لَمْ نَجِدْ هَذَا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ، فَأَحْبَبْنَا أَنْ نَعْلَمَ أَعَنْ رَأْيِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا أَمْ لَا؟ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْمُقَامُ وَنَفِدَتْ نَفَقَاتُهُمْ، فَكَتَبُوا أَسْمَاءَهُمْ وَدَفَعُوهَا إِلَى وُزَرَائِهِ وَقَالُوا: إِنْ سَأَلَ عَنَّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَأَخْبِرُوهُ. ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ فَخَرَجُوا عَلَى عَامِلِ هِشَامٍ، فَقَتَلُوهُ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ هِشَامًا، فَسَأَلَ عَنِ النَّفَرِ فَعَرَفَ أَسْمَاءَهُمْ، فَإِذَا هُمُ الَّذِينَ صَنَعُوا ذَلِكَ. ذكر غَزْوَةِ الْأَنْدَلُسِ لَمَّا افْتُتِحَتْ إِفْرِيقِيَّةُ أَمَرَ عُثْمَانُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ الْحُصَيْنِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ أَنْ يَسِيرَا إِلَى الْأَنْدَلُسِ، فَأَتَيَاهَا مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ، وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَنِ انْتَدَبَ مَعَهُمَا: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ إِنَّمَا تُفْتَحُ مِنْ قِبَلِ الْأَنْدَلُسِ. فَخَرَجُوا وَمَعَهُمُ الْبَرْبَرُ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَزَادَ فِي سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ إِفْرِيقِيَّةَ. وَلَمَّا عَزَلَ عُثْمَانُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ تَرَكَ فِي عَمَلِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَكَانَ عَلَيْهَا، وَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى مِصْرَ. وَبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى عُثْمَانَ مَالًا قَدْ حَشَدَ فِيهِ، فَدَخَلَ عَمْرٌو عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ: يَا عَمْرُو هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ تِلْكَ اللِّقَاحَ دَرَّتْ بَعْدَكَ؟ قَالَ عَمْرٌو: إِنَّ فِصَالَهَا قَدْ هَلَكَتْ. ذكر عِدَّةِ حَوَادِثَ حَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عُثْمَانُ. وَفِيهَا كَانَ فَتْحُ إِصْطَخْرَ الثَّانِي عَلَى يَدِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ. وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قِنَّسْرِينَ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ الشَّاعِرُ بِمِصْرَ مُنْصَرِفًا مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ، وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فِي الْبَادِيَةِ، وَقِيلَ: مَاتَ بِبِلَادِ الرُّومِ، وَكُلُّهُمْ قَالُوا: مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو رِمْثَةَ الْبَلَوِيُّ بِإِفْرِيقِيَّةَ، لَهُ صُحْبَةٌ. وَفِيهَا مَاتَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقِيلَ: مَاتَتْ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ.

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ] 28 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ ذكر فَتْحِ قُبْرُسَ قِيلَ: فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ كَانَ فَتْحُ قُبْرُسَ عَلَى يَدِ مُعَاوِيَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا غُزِيَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ لِأَنَّ أَهْلَهَا غَدَرُوا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، فَغَزَاهَا الْمُسْلِمُونَ. وَلَمَّا غَزَاهَا مُعَاوِيَةُ هَذِهِ السَّنَةَ، غَزَا مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ أُمُّ حَرَامٍ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَشَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ لَجَّ عَلَى عُمَرَ فِي غَزْوِ الْبَحْرِ وَقُرْبِ الرُّومِ مِنْ حِمْصَ، وَقَالَ: إِنَّ قَرْيَةً مِنْ قُرَى حِمْصَ لِيَسْمَعُ أَهْلُهَا نُبَاحَ كِلَابِهِمْ وَصِيَاحَ دَجَاجِهِمْ. فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: صِفْ لِي الْبَحْرَ وَرَاكِبَهُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنِّي رَأَيْتُ خَلْقًا كَبِيرًا يَرْكَبُهُ خَلْقٌ صَغِيرٌ، لَيْسَ إِلَّا السَّمَاءُ وَالْمَاءُ، إِنْ رَكَدَ خَرَقَ الْقُلُوبَ، وَإِنَّ تَحَرَّكَ أَزَاغَ الْعُقُولَ، يَزْدَادُ فِيهِ الْيَقِينُ قِلَّةً، وَالشَّكُّ كَثْرَةً، هُمْ فِيهِ كَدُودٍ عَلَى عُودٍ، إِنْ مَالَ غَرِقَ، وَإِنْ نَجَا بَرِقَ. فَلَمَّا قَرَأَهُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِالْحَقِّ لَا أَحْمِلُ فِيهِ مُسْلِمًا أَبَدًا، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَحْرَ الشَّامِ يُشْرِفُ عَلَى أَطْوَلِ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَيَسْتَأْذِنُ اللَّهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي أَنْ يُغْرِقَ الْأَرْضَ، فَكَيْفَ أَحْمِلُ الْجُنُودَ عَلَى هَذَا

الْكَافِرِ! وَبِاللَّهِ لَمُسْلِمٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا حَوَتِ الرُّومُ. وَإِيَّاكَ أَنْ تَعَرَّضَ إِلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَقِيَ الْعَلَاءُ مِنِّي. قَالَ: وَتَرَكَ مَلِكُ الرُّومِ الْغَزْوَ وَكَاتَبَ عُمَرَ وَقَارَبَهُ. وَبَعَثَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، زَوْجُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، إِلَى امْرَأَةِ مَلِكِ الرُّومِ بِطِيبٍ وَشَيْءٍ يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ مَعَ الْبَرِيدِ، فَأَبْلَغَهُ إِلَيْهَا، فَأَهْدَتِ امْرَأَةُ الْمَلِكِ إِلَيْهَا هَدِيَّةً، مِنْهَا عِقْدٌ فَاخِرٌ. فَلَمَّا رَجَعَ الْبَرِيدُ أَخَذَ عُمَرُ مَا مَعَهُ وَنَادَى: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعُوا، وَأَعْلَمَهُمُ الْخَبَرَ، فَقَالَ الْقَائِلُونَ: هُوَ لَهَا بِالَّذِي كَانَ لَهَا، وَلَيْسَتِ امْرَأَةُ الْمَلِكِ بِذِمَّةٍ فَتُصَانِعَكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كُنَّا نُهْدِي لِنَسْتَثِيبَ. فَقَالَ عُمَرُ: لَكِنَّ الرَّسُولَ رَسُولُ الْمُسْلِمِينَ وَالْبَرِيدَ بَرِيدُهُمْ، وَالْمُسْلِمُونَ عَظَّمُوهَا فِي صَدْرِهَا فَأَمَرَ بَرَدِّهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ وَأَعْطَاهَا بِقَدْرِ نَفَقَتِهَا. فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ كَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَسْتَأْذِنُهُ فِي غَزْوِ الْبَحْرِ مِرَارًا، فَأَجَابَهُ عُثْمَانُ بِآخِرَةٍ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ: لَا تَنْتَخِبِ النَّاسَ وَلَا تُقْرِعْ بَيْنَهُمْ، خَيِّرْهُمْ فَمَنِ اخْتَارَ الْغَزْوَ طَائِعًا فَاحْمِلْهُ وَأَعِنْهُ. فَفَعَلَ، وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ الْجَاسِيَّ حَلِيفَ بَنِي فَزَارَةَ، وَسَارَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الشَّامِ إِلَى قُبْرُسَ، وَسَارَ إِلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ مِنْ مِصْرَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهَا، فَصَالَحَهُمْ أَهْلُهَا عَلَى جِزْيَةٍ سَبْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ كُلَّ سَنَةٍ، يُؤَدُّونَ إِلَى الرُّومِ مِثْلَهَا، لَا يَمْنَعُهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَنْعُهُمْ مِمَّنْ أَرَادَهُمْ مِمَّنْ وَرَاءَهُمْ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْذِنُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَسِيرِ عَدُوِّهِمْ مِنَ الرُّومِ إِلَيْهِمْ، وَيَكُونَ طَرِيقُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ. قَالَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ: وَلَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُسُ وَنُهِبَ مِنْهَا السَّبْيُ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ يَبْكِي فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ؟ قَالَ: فَضَرَبَ مَنْكِبِي بِيَدِهِ وَقَالَ: مَا أَهْوَنَ الْخَلْقَ عَلَى اللَّهِ إِذَا تَرَكُوا أَمْرَهُ، بَيْنَمَا هِيَ أُمَّةٌ ظَاهِرَةٌ قَاهِرَةٌ لِلنَّاسِ لَهُمُ الْمُلْكُ، إِذَا تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى فَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ السِّبَاءَ، وَإِذَا سَلَّطَ السِّبَاءَ عَلَى قَوْمٍ فَلَيْسَ لَهُ فِيهِمْ حَاجَةٌ.

وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مَاتَتْ أُمُّ حَرَامٍ بِنْتُ مِلْحَانَ الْأَنْصَارِيَّةُ، أَلْقَتْهَا بِغْلَتُهَا بِجَزِيرَةِ قُبْرُسَ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا فَمَاتَتْ، تَصْدِيقًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَيْثُ أَخْبَرَهَا أَنَّهَا فِي أَوَّلِ مَنْ يَغْزُو فِي الْبَحْرِ. وَبَقِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الْجَاسِيُّ عَلَى الْبَحْرِ، فَغَزَا خَمْسِينَ غَزَاةً مِنْ بَيْنِ شَاتِيَةٍ وَصَائِفَةٍ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، لَمْ يَغْرَقْ أَحَدٌ وَلَمْ يُنْكَبْ، فَكَانَ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَهُ فِي جُنْدِهِ، فَأَجَابَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُ فِي جَسَدِهِ خَرَجَ فِي قَارِبٍ طَلِيعَةً، فَانْتَهَى إِلَى الْمَرْفَإِ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ وَعَلَيْهِ مَسَاكِينُ يَسْأَلُونَ، فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ، فَرَجَعَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ إِلَى قَرْيَتِهَا فَقَالَتْ لِلرِّجَالِ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ فِي الْمَرْفَإِ، فَثَارُوا إِلَيْهِ فَهَجَمُوا عَلَيْهِ فَقَاتَلُوهُ بَعْدَ أَنْ قَاتَلَهُمْ، فَأُصِيبَ وَحْدَهُ، وَنَجَا الْمَلَّاحُ حَتَّى أَتَى أَصْحَابَهُ، فَأَعْلَمَهُمْ فَجَاءُوا حَتَّى أَرْسَوْا بِالْمَرْفَإِ، وَالْخَلِيفَةُ عَلَيْهِمْ سُفْيَانُ بْنُ عَوْفٍ الْأَزْدِيُّ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَاتَلَهُمْ فَضَجِرَ، فَجَعَلَ يَشْتُمُ أَصْحَابَهُ. فَقَالَتْ جَارِيَةُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا هَكَذَا كَانَ يَقُولُ حِينَ يُقَاتِلُ! فَقَالَ سُفْيَانُ: فَكَيْفَ كَانَ يَقُولُ؟ قَالَتْ: " الْغَمَرَاتُ ثُمَّ يَنْجَلِينَا " فَلَزِمَهَا بِقَوْلِهَا، وَأُصِيبَ فِي الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ. وَقِيلَ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ بَعْدُ: بِأَيِّ شَيْءٍ عَرَفْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ كَالتَّاجِرِ فَلَمَّا سَأَلْتُهُ أَعْطَانِي كَالْمَلِكِ فَعَرَفْتُهُ بِهَذَا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ سُورِيَّةَ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ.

وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُثْمَانُ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ، وَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً فَأَسْلَمَتْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا. وَفِيهَا بَنَى عُثْمَانُ الزَّوْرَاءَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ هَذِهِ السَّنَةَ. (حَرَامٌ: بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ. وَالْجَاسِيُّ: بِالْجِيمِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ. وَالْفَرَافِصَةُ: بِفَتْحِ الْفَاءِ إِلَّا الْفَرَافِصَةَ بْنَ الْأَحْوَصِ الْكَلْبِيَّ الَّذِي مِنْ وَلَدِهِ نَائِلَةُ زَوْجُ عُثْمَانَ) .

ثم دخلت سنة تسع وعشرين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ] 29 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ ذكر عَزْلِ أَبِي مُوسَى عَنِ الْبَصْرَةِ وَاسْتِعْمَالِ ابْنِ عَامِرٍ عَلَيْهَا قِيلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عُثْمَانُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ عَنِ الْبَصْرَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كَرِيزِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ (وَهُوَ ابْنُ خَالِ عُثْمَانَ) ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ لِثَلَاثِ سِنِينَ مَضَتْ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ. وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ أَنَّ أَهْلَ إِيذَجَ وَالْأَكْرَادِ كَفَرُوا فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، فَنَادَى أَبُو مُوسَى فِي النَّاسِ وَحَضَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَذَكَرَ مَنْ فَضَّلَ الْجِهَادَ مَاشِيًا، فَحَمَلَ نَفَرٌ عَلَى دَوَابِّهِمْ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا رَجَّالَةً. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُعَجِّلُ بِشَيْءٍ حَتَّى نَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ، فَإِنْ أَشْبَهَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ فَعَلْنَا كَمَا يَفْعَلُ. فَلَمَّا خَرَجَ أَخْرَجَ ثَقَلَهُ مِنْ قَصْرِهِ عَلَى أَرْبَعِينَ بَغْلًا، فَتَعَلَّقُوا بِعِنَانِهِ وَقَالُوا: احْمِلْنَا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْفُضُولِ، وَارْغَبْ فِي الْمَشْيِ كَمَا رَغَّبْتَنَا. فَضَرَبَ الْقَوْمَ بِسَوْطِهِ، فَتَرَكُوا دَابَّتَهُ، فَمَضَى. وَأَتَوْا عُثْمَانَ فَاسْتَعْفَوْهُ مِنْهُ وَقَالُوا: مَا كُلُّ مَا نَعْلَمُ نُحِبُّ أَنْ تَسْأَلَنَا عَنْهُ، فَأَبْدِلْنَا بِهِ. فَقَالَ: مَنْ تُحِبُّونَ؟ فَقَالَ غَيْلَانُ بْنُ خَرَشَةَ: فِي كُلِّ أَحَدٍ عِوَضٌ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ الَّذِي قَدْ أَكَلَ أَرْضَنَا! أَمَا مِنْكُمْ خَسِيسٌ فَتَرْفَعُوهُ؟ أَمَا مِنْكُمْ فَقِيرٌ فَتُجِيرُوهُ؟ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى مَتَى يَأْكُلُ هَذَا الشَّيْخُ الْأَشْعَرِيُّ هَذِهِ الْبِلَادَ؟ فَانْتَبَهَ لَهَا عُثْمَانُ، فَعَزَلَ أَبَا مُوسَى وَوَلَّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ. فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو مُوسَى قَالَ: يَأْتِيكُمْ غُلَامٌ خَرَّاجٌ

وَلَّاجٌ، كَرِيمُ الْجَدَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ، يُجْمَعُ لَهُ الْجُنْدَانُ. (وَكَانَ عُمْرُ ابْنِ عَامِرٍ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً) ، وَجُمِعَ لَهُ جُنْدُ أَبِي مُوسَى وَجُنْدُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ مِنْ عُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى خُرَاسَانَ عُمَيْرَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ سَعْدٍ، وَعَلَى سِجِسْتَانَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيَّ، وَهُوَ مِنْ ثَعْلَبَةَ، فَأَثْخَنَ فِيهَا إِلَى كَابُلَ، وَأَثْخَنَ عُمَيْرٌ فِي خُرَاسَانَ، حَتَّى بَلَغَ فَرْغَانَةَ، لَمْ يَدَعْ دُونَهَا كُورَةً إِلَّا أَصْلَحَهَا، وَبَعَثَ إِلَى مُكْرَانَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْمَرٍ، فَأَثْخَنَ فِيهَا حَتَّى بَلَغَ النَّهْرَ، وَبَعَثَ عَلَى كَرْمَانَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُبَيْسٍ، وَبَعَثَ إِلَى الْأَهْوَازِ وَفَارِسَ نَفَرًا، ثُمَّ عَزَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَيْرٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا سَنَةً ثُمَّ عَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو وَعَزَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُبَيْسٍ، وَأَعَادَ عَدِيَّ بْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَدِيٍّ، وَصَرَفَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْمَرٍ إِلَى فَارِسَ، وَاسْتَعْمَلَ مَكَانَهُ عُمَيْرَ بْنَ عُثْمَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى خُرَاسَانَ أُمَيْرَ بْنَ أَحْمَرَ الْيَشْكُرِيَّ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى سِجِسْتَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ عِمْرَانَ بْنَ الْفُضَيْلِ الْبَرْجَمِيَّ. وَمَاتَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو بِكَرْمَانَ. (عُبَيْسٌ: بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الْيَاءُ الْمُثَنَّاةُ مِنْ تَحْتِهَا وَآخِرُهُ سِينٌ مُهْمَلَةٌ. وَأُمَيْرٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ [وَفَتْحِ الْمِيمِ وَآخِرُهُ رَاءٌ. وَكُرَيْزُ بْنُ رَبِيعَةَ بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ] ) . ذكر انْتِقَاضِ أَهْلِ فَارِسَ ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ فَارِسَ انْتَفَضُوا وَنَكَثُوا بِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَالْتَقَوْا عَلَى بَابِ إِصْطَخْرَ، فَقُتِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ، فَاسْتَنْفَرَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ وَسَارَ بِالنَّاسِ إِلَى فَارِسَ فَالْتَقَوْا بِإِصْطَخْرَ، وَكَانَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَلَى الْخَيْلِ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ، وَلِكُلِّهِمْ صُحْبَةٌ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَانْهَزَمَ الْفُرْسُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفُتِحَتْ إِصْطَخْرُ عَنْوَةً، وَأَتَى دَارَابْجِرْدَ وَقَدْ غَدَرَ أَهْلُهَا فَفَتَحَهَا، وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ جُورَ، وَهِيَ أَرْدَشِيرُ خُرَّهْ،

فَانْتَقَضَتْ إِصْطَخْرُ فَلَمْ يَرْجِعْ، وَتَمَّمَ السَّيَرَ إِلَى جُورَ وَحَاصَرَهَا، وَكَانَ هَرِمُ بْنُ حَيَّانَ مُحَاصِرًا لَهَا، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحَاصِرُونَهَا وَيَنْصَرِفُونَ عَنْهَا فَيَأْتُونَ إِصْطَخْرَ وَيَغْزُونَ نَوَاحِيَ كَانَتْ تَنْتَقِضُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَ ابْنُ عَامِرٍ عَلَيْهَا فَتَحَهَا. وَكَانَ سَبَبُ فَتْحِهَا أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ قَامَ يُصَلِّي ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَإِلَى جَانِبِهِ جِرَابٌ لَهُ فِيهِ خُبْزٌ وَلَحْمٌ، فَجَاءَ كَلْبٌ فَجَرَّهُ وَعَدَا بِهِ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ مِنْ مَدْخَلٍ لَهَا خَفِيٍّ، فَلَزِمَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ الْمَدْخَلَ حَتَّى دَخَلُوهَا مِنْهُ وَفَتَحُوهَا عَنْوَةً. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا ابْنُ عَامِرٍ عَادَ إِلَى إِصْطَخْرَ فَفَتَحَهَا عَنْوَةً بَعْدَ أَنْ حَاصَرَهَا وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ عَلَيْهَا، وَرُمِيَتْ بِالْمَجَانِيقِ، وَقَتَلَ بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْأَعَاجِمِ، وَأُفْنِيَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ وَوُجُوهُ الْأَسَاوِرَةِ، وَكَانُوا قَدْ لَجَئُوا إِلَيْهَا. وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَ إِصْطَخْرَ لَمَّا نَكَثُوا عَادَ إِلَيْهَا ابْنُ عَامِرٍ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى جُورَ، فَمَلَكَهَا عَنْوَةً، وَعَادَ إِلَى جُورَ فَأَتَى دَارَابْجِرْدَ فَمَلَكَهَا، وَكَانَتْ مُنْتَقِضَةً أَيْضًا، وَوَطِئَ أَهْلَ فَارِسَ وَطْأَةً لَمْ يَزَالُوا مِنْهَا فِي ذُلٍّ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ بِالْخَبَرِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ عَلَى بِلَادِ فَارِسَ هَرِمَ بْنَ حَيَّانَ الْيَشْكُرِيَّ، وَهَرِمَ بْنَ حَيَّانَ الْعَبْدِيَّ، وَالْخِرِّيتَ بْنَ رَاشِدٍ، وَالْمِنْجَابَ بْنَ رَاشِدٍ، وَالتُّرْجُمَانَ الْهُجَيْمِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُفَرِّقَ كُوَرَ خُرَاسَانَ عَلَى جَمَاعَةٍ، فَيَجْعَلَ الْأَحْنَفَ عَلَى الْمَرْوَيْنِ، وَحَبِيبَ بْنَ قُرَّةَ الْيَرْبُوعِيَّ عَلَى بَلْخَ، وَخَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُهَيْرٍ عَلَى هَرَاةَ، وَأُمَيْرَ بْنَ أَحْمَرَ عَلَى طُوسَ، وَقَيْسَ بْنَ هُبَيْرَةَ السُّلَمِيَّ عَلَى نَيْسَابُورَ، وَبِهِ تَخَرَّجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ، ثُمَّ جَمَعَهَا عُثْمَانُ قَبْلَ مَوْتِهِ لِقَيْسٍ، وَاسْتَعْمَلَ أُمَيْرَ بْنَ أَحْمَرَ عَلَى سِجِسْتَانَ، ثُمَّ جَعَلَ عَلَيْهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، وَهُوَ مِنْ آلِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَمَاتَ عُثْمَانُ وَهُوَ عَلَيْهَا، وَمَاتَ وَعِمْرَانُ عَلَى مُكْرَانَ، وَعُمَيْرُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعْدٍ عَلَى فَارِسَ، وَابْنُ كِنْدِيرَ الْقُشَيْرِيُّ عَلَى كَرْمَانَ. ثُمَّ وَفَّدَ قَيْسُ بْنُ الْهَيْثَمِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَازِمٍ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، وَكَانَ ابْنُ عَامِرٍ يُكْرِمُهُ، فَقَالَ لِابْنِ عَامِرٍ: اكْتُبْ لِي عَلَى خُرَاسَانَ عَهْدًا إِنْ خَرَجَ عَنْهَا قَيْسٌ. فَفَعَلَ، فَرَجَعَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَجَاشَ الْعَدُوُّ قَالَ ابْنُ خَازِمٍ لِقَيْسٍ: الرَّأْيُ أَنْ تَخْلُفَنِي وَتَمْضِيَ حَتَّى تَنْظُرَ فِيمَا يَنْظُرُونَ فِيهِ، فَفَعَلَ، فَأَخْرَجَ ابْنُ خَازِمٍ بَعْدَهُ عَهْدًا

بِخِلَافَتِهِ وَثَبَتَ عَلَى خُرَاسَانَ إِلَى أَنْ قَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَغَضِبَ قَيْسٌ مِنْ صَنِيعِ ابْنِ خَازِمٍ. (الْخِرِّيتُ: بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ وَآخِرُهُ تَاءٌ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ) . ذكر الزِّيَادَةِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ السَّنَةِ زَادَ عُثْمَانُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ يَنْقُلُ الْجِصَّ مِنْ بَطْنِ نَخْلٍ، وَبَنَاهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهَا رَصَاصٌ، وَجَعَلَ طُولَهُ سِتِّينَ وَمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَعَرْضَهُ خَمْسِينَ وَمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَجَعَلَ أَبْوَابَهُ عَلَى مَا كَانَتْ أَيَّامَ عُمَرَ سِتَّةَ أَبْوَابٍ. ذكر إِتْمَامِ عُثْمَانَ الصَّلَاةَ بِجَمْعٍ وَأَوَّلِ مَا تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُثْمَانُ، وَضَرَبَ فُسْطَاطَهُ بِمِنًى، وَكَانَ أَوَّلَ فُسْطَاطٍ ضَرَبَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى، وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ بِهَا وَبِعَرَفَةَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّاسُ فِي عُثْمَانَ ظَاهِرًا حِينَ أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنًى، فَعَابَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: مَا حَدَثَ أَمْرٌ وَلَا قَدُمَ عَهْدٌ، وَلَقَدْ عَهِدْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ وَأَنْتَ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِكَ، فَمَا أَدْرِي مَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ. فَقَالَ: رَأْيٌ رَأَيْتُهُ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَكَانَ مَعَهُ، فَجَاءَهُ وَقَالَ لَهُ: أَلَمْ تُصَلِّ فِي هَذَا الْمَكَانِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْتَ أَنْتَ رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ بَعْضَ مَنْ حَجَّ مِنَ الْيَمَنِ وَجُفَاةِ النَّاسِ قَالُوا: إِنَّ الصَّلَاةَ لِلْمُقِيمِ رَكْعَتَانِ، وَاحْتَجُّوا بِصَلَاتِي، وَقَدِ اتَّخَذْتُ بِمَكَّةَ أَهْلًا وَلِي بِالطَّائِفِ مَالٌ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا فِي هَذَا عُذْرٌ، أَمَّا قَوْلُكَ: اتَّخَذْتُ بِهَا أَهْلًا، فَإِنَّ زَوْجَكَ بِالْمَدِينَةِ تَخْرُجُ بِهَا إِذَا شِئْتَ، وَإِنَّمَا تَسْكُنُ بِسُكْنَاكَ، وَأَمَّا مَالُكَ بِالطَّائِفِ فَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَسِيرَةُ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَأَمَّا قَوْلُكَ عَنْ حَاجِّ الْيَمَنِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَالْإِسْلَامُ قَلِيلٌ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَصَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ وَقَدْ ضَرَبَ الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: هَذَا رَأْيٌ رَأَيْتُهُ.

فَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَلَقِيَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَبَا مُحَمَّدٍ، غُيِّرَ مَا تَعْلَمُ. قَالَ: فَمَا أَصْنَعُ؟ قَالَ: اعْمَلْ بِمَا تَرَى وَتَعْلَمُ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْخِلَافُ شَرٌّ وَقَدْ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي أَرْبَعًا. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَدْ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي رَكْعَتَيْنِ وَأَمَّا الْآنُ فَسَوْفَ أُصَلِّي أَرْبَعًا. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ.

ثم دخلت سنة ثلاثين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ] (30) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ ذكر عَزْلِ الْوَلِيدِ عَنِ الْكُوفَةِ وَوِلَايَةِ سَعِيدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عُثْمَانُ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ عَنِ الْكُوفَةِ وَوَلَّاهَا سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَبَبُ وِلَايَةِ الْوَلِيدِ عَلَى الْكُوفَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَأَنَّهُ كَانَ مَحْبُوبًا إِلَى النَّاسِ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ خَمْسَ سِنِينَ وَلَيْسَ لِدَارِهِ بَابٌ، ثُمَّ إِنَّ شَبَابًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ نَقَبُوا عَلَى ابْنِ الْحَيْسُمَانِ الْخُزَاعِيِّ وَكَاثَرُوهُ، فَنَذِرَ بِهِمْ وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ وَصَرَخَ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ، وَكَانَ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْكُوفَةِ لِلْقُرْبِ مِنَ الْجِهَادِ، فَصَاحَ بِهِمْ أَبُو شُرَيْحٍ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا وَقَتَلُوا ابْنَ الْحَيْسُمَانِ، وَأَخَذَهُمُ النَّاسُ وَفِيهِمْ زُهَيْرُ بْنُ جُنْدُبٍ الْأَزْدِيُّ وَمُوَرِّعُ بْنُ أَبِي مُوَرِّعٍ الْأَسَدِيُّ، وَشُبَيْلُ بْنُ أُبَيٍّ الْأَزْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ، فَشَهِدَ عَلَيْهِمْ أَبُو شُرَيْحٍ وَابْنُهُ، فَكَتَبَ فِيهِمُ الْوَلِيدُ إِلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ بِقَتْلِهِمْ، فَقَتَلَهُمْ عَلَى بَابِ الْقَصْرِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ أَخَذَ فِي الْقَسَامَةِ بِقَوْلِ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ عَنْ مَلَإٍ مِنَ النَّاسِ لِيَفْطِمَ النَّاسَ عَنِ الْقَتْلِ. وَكَانَ أَبُو زُبَيْدٍ الشَّاعِرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ فِي بَنِي تَغْلِبٍ، وَكَانُوا أَخْوَالَهُ، فَظَلَمُوهُ دَيْنًا لَهُ، فَأَخَذَ لَهُ الْوَلِيدُ حَقَّهُ إِذْ كَانَ عَامِلًا عَلَيْهِمْ، فَشَكَرَ أَبُو زُبَيْدٍ ذَلِكَ لَهُ، وَانْقَطَعَ إِلَيْهِ وَغَشِيَهُ بِالْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، فَأَسْلَمَ عِنْدَ الْوَلِيدِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَهُ أَتَى آتٍ أَبَا زَيْنَبَ وَأَبَا مُوَرِّعٍ وَجُنْدُبًا، وَكَانُوا يَحْفِرُونَ لِلْوَلِيدِ مُنْذُ قَتَلَ أَبْنَاءَهُمْ وَيَضَعُونَ لَهُ الْعُيُونَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْوَلِيدَ وَأَبَا زُبَيْدٍ يَشْرَبَانِ الْخَمْرَ، فَثَارُوا وَأَخَذُوا مَعَهُمْ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَاقْتَحَمُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَوْا، فَأَقْبَلُوا يَتَلَاوَمُونَ وَسَبَّهُمُ النَّاسُ، وَكَتَمَ الْوَلِيدُ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ. وَجَاءَ جُنْدُبٌ وَرَهْطٌ مَعَهُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الْوَلِيدَ يَعْتَكِفُ عَلَى الْخَمْرِ،

وَأَذَاعُوا ذَلِكَ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنِ اسْتَتَرَ عَنَّا لَمْ نَتَّبِعْ عَوْرَتَهُ. فَعَاتَبَهُ الْوَلِيدُ عَلَى قَوْلِهِ حَتَّى تَغَاضَبَا. ثُمَّ أُتِيَ الْوَلِيدُ بِسَاحِرٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ يَسْأَلُهُ عَنْ حَدِّهِ، وَاعْتَرَفَ السَّاحِرُ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَانَ يُخَيِّلُ إِلَى النَّاسِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي دُبُرِ الْحِمَارِ وَيَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، فَأَمَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِقَتْلِهِ. فَلَمَّا أَرَادَ الْوَلِيدُ قَتْلَهُ أَقْبَلَ النَّاسُ وَمَعَهُمْ جُنْدُبٌ فَضَرَبَ السَّاحِرَ فَقَتَلَهُ، فَحَبَسَهُ الْوَلِيدُ وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ فِيهِ، وَأَمَرَهُ بِإِطْلَاقِهِ وَتَأْدِيبِهِ، فَغَضِبَ لِجُنْدُبٍ أَصْحَابُهُ، وَخَرَجُوا إِلَى عُثْمَانَ يَسْتَعْفُونَ مِنَ الْوَلِيدِ، فَرَدَّهُمْ خَائِبِينَ. فَلَمَّا رَجَعُوا أَتَاهُمْ كُلُّ مَوْتُورٍ فَاجْتَمَعُوا مَعَهُمْ عَلَى رَأْيِهِمْ، وَدَخَلَ أَبُو زَيْنَبَ وَأَبُو مُوَرِّعٍ وَغَيْرُهُمَا عَلَى الْوَلِيدِ فَتَحَدَّثُوا عِنْدَهُ، فَنَامَ فَأَخَذَا خَاتَمَهُ وَسَارَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاسْتَيْقَظَ الْوَلِيدُ فَلَمْ يَرَ خَاتَمَهُ، فَسَأَلَ نِسَاءَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرْنَهُ أَنَّ آخِرَ مَنْ بَقِيَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ صِفَتُهُمَا كَذَا وَكَذَا. فَاتَّهَمَهُمَا وَقَالَ: هُمَا أَبُو زَيْنَبَ وَأَبُو مُوَرِّعٍ، وَأَرْسَلَ يَطْلُبُهُمَا، فَلَمْ يُوجَدَا. فَقَدِمَا عَلَى عُثْمَانَ وَمَعَهُمَا غَيْرُهُمَا، وَأَخْبَرَاهُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْوَلِيدِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَدَعَا بِهِمَا عُثْمَانَ فَقَالَ: أَتَشْهَدَانِ أَنَّكُمَا رَأَيْتُمَاهُ يَشْرَبُ؟ فَقَالَا: لَا. قَالَ: فَكَيْفَ؟ قَالَا: اعْتَصَرْنَاهَا مِنْ لِحْيَتِهِ وَهُوَ يَقِيءُ الْخَمْرَ. فَأَمَرَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فَجَلَدَهُ، فَأَوْرَثَ ذَلِكَ عَدَاوَةً بَيْنَ أَهْلَيْهِمَا، فَكَانَ عَلَى الْوَلِيدِ خَمِيصَةٌ فَأَمَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِنَزْعِهَا لَمَّا جُلِدَ. هَكَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الَّذِي جَلَدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِأَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ ابْنَهُ الْحَسَنَ أَنْ يَجْلِدَهُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا! فَأَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ فَجَلَدَهُ أَرْبَعِينَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمْسِكْ، جَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ عُثْمَانُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ. وَقِيلَ: إِنَّ الْوَلِيدَ سَكِرَ وَصَلَّى الصُّبْحَ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ أَرْبَعًا ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَزِيدُكُمْ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا زِلْنَا مَعَكَ فِي زِيَادَةٍ مُنْذُ الْيَوْمِ، وَشَهِدُوا عَلَيْهِ عِنْدَ عُثْمَانَ، فَأَمَرَ عَلِيًّا بِجَلْدِهِ، فَأَمَرَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ فَجَلَدَهُ، وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ: شَهِدَ الْحُطَيْئَةُ يَوْمَ يَلْقَى رَبَّهُ أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ نَادَى وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُمْ: أَأَزِيدُكُمْ؟ سُكْرًا وَمَا يَدْرِي فَأَبَوْا أَبَا وَهْبٍ وَلَوْ أَذِنُوا لَقَرَنْتَ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ كَفُّوا عِنَانَكَ إِذْ جَرَيْتَ وَلَوْ تَرَكُوا عِنَانَكَ لَمْ تَزَلْ تَجْرِي

فَلَمَّا عَلِمَ عُثْمَانُ مِنَ الْوَلِيدِ شُرْبَ الْخَمْرِ عَزَلَهُ، وَوَلَّى سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَكَانَ سَعِيدٌ قَدْ رُبِّيَ فِي حِجْرِ عُمَرَ، فَلَمَّا فُتِحَ الشَّامُ قَدِمَهُ، فَأَقَامَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَذَكَرَ عُمَرُ يَوْمًا قُرَيْشًا، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَأُخْبِرَ أَنَّهُ بِالشَّامِ، فَاسْتَقْدَمَهُ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ بَلَاءٌ وَصَلَاحٌ فَازْدَدْ يَزِدْكَ اللَّهُ خَيْرًا. وَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ مِنْ زَوْجَةٍ؟ قَالَ: لَا. وَجَاءَ عُمَرَ بَنَاتُ سُفْيَانَ بْنِ عُوَيْفٍ وَمَعَهُنَّ أُمُّهُنَّ، فَقَالَتْ أُمُّهُنَّ: هَلَكَ رِجَالُنَا وَإِذَا هَلَكَ الرِّجَالُ ضَاعَ النِّسَاءُ، فَضَعْهُنَّ فِي أَكْفَائِهِنَّ. فَزَوَّجَ سَعِيدًا إِحْدَاهُنَّ، وَزَوَّجَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أُخْرَى. وَأَتَاهُ بَنَاتُ مَسْعُودِ بْنِ نُعَيْمٍ النَّهْشَلِيُّ فَقُلْنَ لَهُ: قَدْ هَلَكَ رِجَالُنَا وَبَقِيَ الصِّبْيَانُ، فَضَعْنَا فِي أَكْفَائِنَا، فَزَوَّجَ سَعِيدًا إِحْدَاهُنَّ، وَجُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ الْأُخْرَى. وَكَانَ عُمُومَتُهُ ذَوِي بَلَاءٍ فِي الْإِسْلَامِ وَسَابِقَةٍ، فَلَمْ يَمُتْ عُمَرُ حَتَّى كَانَ سَعِيدٌ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ. فَلَمَّا اسْتَعْمَلَهُ عُثْمَانُ سَارَ حَتَّى أَتَى الْكُوفَةَ أَمِيرًا، وَرَجَعَ مَعَهُ الْأَشْتَرُ، وَأَبُو خَشَّةَ الْغِفَارِيُّ وَجُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَجَثَّامَةُ بْنُ صَعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، وَكَانُوا مِمَّنْ شَخَصَ مَعَ الْوَلِيدِ يُعِينُونَهُ فَصَارُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْكُوفَةِ: فَرَرْتُ مِنَ الْوَلِيدِ إِلَى سَعِيدٍ ... كَأَهْلِ الْحِجْرِ إِذْ جَزِعُوا فَبَارُوا يَلِينَا مِنْ قُرَيْشٍ كُلَّ عَامٍ ... أَمِيرٌ مُحْدَثٌ أَوْ مُسْتَشَارٌ لَنَا نَارٌ نُخَوَّفُهَا فَنَخْشَى ... وَلَيْسَ لَهُمْ، فَلَا يَخْشَوْنَ، نَارُ فَلَمَّا وَصَلَ سَعِيدٌ الْكُوفَةَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ وَإِنِّي لَكَارِهٌ، وَلَكِنِّي لَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذَا أُمِّرْتُ أَنْ أَتَّمِرَ، أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ قَدْ أَطْلَعَتْ خَطْمَهَا وَعَيْنَيْهَا، وَوَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ وَجْهَهَا حَتَّى أَقْمَعَهَا أَوْ تُعْيِينِي، وَإِنِّي لَرَائِدٌ نَفْسِيَ الْيَوْمَ. ثُمَّ نَزَلَ وَسَأَلَ عَنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَعَرَفَ حَالَ أَهْلِهَا، فَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدِ اضْطَرَبَ أَمْرُهُمْ، وَغُلِبَ أَهْلُ الشَّرَفِ مِنْهُمْ وَالْبُيُوتَاتِ وَالسَّابِقَةِ، وَالْغَالِبُ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ رَوَادِفُ قَدِمَتْ، وَأَعْرَابٌ لَحِقَتْ، حَتَّى لَا يُنْظَرَ إِلَى ذِي شَرَفٍ وَبَلَاءٍ مِنْ نَابِتَتِهَا وَلَا نَازِلَتِهَا.

فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ: أَمَّا بَعْدُ فَفَضْلُ أَهْلِ السَّابِقَةِ وَالْقُدْمَةِ وَمَنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْبِلَادَ، وَلْيَكُنْ مَنْ نَزَلَهَا مِنْ غَيْرِهِمْ تَبَعًا لَهُمْ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا تَثَاقَلُوا عَنِ الْحَقِّ وَتَرَكُوا الْقِيَامَ بِهِ وَقَامَ بِهِ هَؤُلَاءِ، وَاحْفَظْ لِكُلٍّ مَنْزِلَتَهُ، وَأَعْطِهِمْ جَمِيعًا بِقِسْطِهِمْ مِنَ الْحَقِّ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ بِالنَّاسِ بِهَا يُصَابُ الْعَدْلُ. فَأَرْسَلَ سَعِيدٌ إِلَى أَهْلِ الْأَيَّامِ وَالْقَادِسِيَّةِ فَقَالَ: أَنْتُمْ وُجُوهُ النَّاسِ، وَالْوَجْهُ يُنْبِئُ عَنِ الْجَسَدِ، فَأَبْلِغُونَا حَاجَةَ ذِي الْحَاجَةِ. وَأَدْخَلَ مَعَهُمْ مَنْ يَحْتَمِلُ مِنَ اللَّوَاحِقِ وَالرَّوَادِفِ. وَجَعَلَ الْقُرَّاءَ فِي سَمَرِهِ، فَفَشَتِ الْقَالَةُ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَكَتَبَ سَعِيدٌ إِلَى عُثْمَانَ بِذَلِكَ، فَجَمَعَ النَّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا كَتَبَ إِلَيْهِ. فَقَالُوا لَهُ: أَصَبْتَ، لَا تُطِعْهُمْ فِيمَا لَيْسُوا لَهُ بِأَهْلٍ، فَإِنَّهُ إِذَا نَهَضَ فِي الْأُمُورِ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهَا لَمْ يَحْتَمِلْهَا وَأَفْسَدَهَا. فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ اسْتَعِدُّوا وَاسْتَمْسِكُوا فَقَدْ دَبَّتْ إِلَيْكُمُ الْفِتَنُ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَتَخَلَّصَنَّ لَكُمُ الَّذِي لَكُمْ حَتَّى أَنْقُلَهُ إِلَيْكُمْ إِنْ رَأَيْتُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ مَنْ شَهِدَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَهْمَهُ، فَيُقِيمَ مَعَهُ فِي بِلَادِهِ. فَقَالُوا: كَيْفَ تَنْقُلُ إِلَيْنَا سَهْمَنَا مِنَ الْأَرَضِينَ؟ فَقَالَ: يَبِيعُهَا مَنْ شَاءَ بِمَا كَانَ لَهُ بِالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْبِلَادِ. فَفَرِحُوا وَفَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ أَمْرًا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ، وَفَعَلُوا ذَلِكَ وَاشْتَرَاهُ رِجَالٌ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ، وَجَازَ لَهُمْ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمْ وَمِنَ النَّاسِ وَإِقْرَارٍ بِالْحُقُوقِ. ذكر غَزْوِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ طَبَرِسْتَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ طَبَرِسْتَانَ، فَإِنَّهَا لَمْ يَغْزُهَا أَحَدٌ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ إِصْبَهْبَذَهَا صَالَحَ سُويدَ بْنَ مُقَرِّنٍ أَيَّامَ عُمَرَ عَلَى مَالٍ بَذَلَهُ. وَأَمَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ سَعِيدًا غَزَاهَا مِنَ الْكُوفَةِ سَنَةَ ثَلَاثِينَ، وَمَعَهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَخَرَجَ ابْنُ عَامِرٍ مِنَ الْبَصْرَةِ يُرِيدُ خُرَاسَانَ، فَسَبَقَ سَعِيدًا وَنَزَلَ نَيْسَابُورَ، وَنَزَلَ سَعِيدٌ قُومِسَ، وَهِيَ صُلْحٌ، صَالَحَهُمْ حُذَيْفَةُ بَعْدَ نَهَاوَنْدَ، فَأَتَى جُرْجَانَ فَصَالَحُوهُ عَلَى مِائَتَيْ أَلْفٍ، ثُمَّ أَتَى طَمِيسَةَ، وَهِيَ كُلُّهَا مِنْ طَبَرِسْتَانَ مُتَاخِمَةٌ جُرْجَانَ، عَلَى الْبَحْرِ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا، فَصَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ، أَعْلَمَهُ حُذَيْفَةُ كَيْفِيَّتَهَا، وَهُمْ يَقْتَتِلُونَ. وَضَرَبَ سَعِيدٌ يَوْمَئِذٍ رَجُلًا بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، فَخَرَجَ السَّيْفُ مِنْ تَحْتِ مِرْفَقِهِ، وَحَاصَرَهُمْ، فَسَأَلُوا الْأَمَانَ، فَأَعْطَاهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَقْتُلَ مِنْهُمْ

رَجُلًا وَاحِدًا، (فَفَتَحُوا الْحِصْنَ فَقُتِلُوا جَمِيعًا إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا) ، وَحَوَى مَا فِي الْحِصْنِ، فَأَصَابَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي نَهْدٍ سَفَطًا عَلَيْهِ قُفْلٌ، فَظَنَّ أَنَّ فِيهِ جَوْهَرًا، وَبَلَغَ سَعِيدًا فَبَعَثَ إِلَى النَّهْدِيِّ فَأَتَاهُ بِالسَّفَطِ، فَكَسَرُوا قُفْلَهُ فَوَجَدُوا فِيهِ سَفَطًا، فَفَتَحُوهُ فَوَجَدُوا خِرْقَةً حَمْرَاءَ فَنَشَرُوهَا، فَإِذَا خِرْقَةٌ صَفْرَاءُ وَفِيهَا أَيْرَانُ كُمَيْتٍ وَوَرْدٍ. فَقَالَ شَاعِرٌ يَهْجُو بَنِي نَهْدٍ: آبَ الْكِرَامُ بِالسَّبَايَا غَنِيمَةً ... وَآبَ بَنُو نَهْدٍ بِأَيْرَيْنِ فِي سَفَطْ كُمَيْتٍ وَوَرْدٍ وَافِرَيْنِ كِلَاهُمَا ... فَظَنُّوهُمَا غُنْمًا فَنَاهِيكَ مِنْ غَلَطْ وَفَتَحَ سَعِيدٌ نَامِيَةَ، وَلَيْسَتْ بِمَدِينَةٍ، هِيَ صَحَارَى. وَمَاتَ مَعَ سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ جَدُّ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ. ثُمَّ رَجَعَ سَعِيدٌ، فَمَدَحَهُ كَعْبُ بْنُ جُعَيْلٍ فَقَالَ: فَنِعْمَ الْفَتَى إِذَا حَالَ جِيلَانُ دُونَهُ ... وَإِذْ هَبَطُوا مِنْ دَسْتَبَى ثُمَّ أَبْهَرَا فِي أَبْيَاتٍ. وَلَمَّا صَالَحَ سَعِيدٌ أَهْلَ جُرْجَانَ كَانُوا يَجْبُونَ أَحْيَانًا مِائَةَ أَلْفٍ، وَأَحْيَانًا مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَأَحْيَانًا ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ، وَيَقُولُونَ: هَذَا صُلْحُ صُلْحِنَا، وَرُبَّمَا مَنَعُوهُ، ثُمَّ امْتَنَعُوا وَكَفَرُوا، فَانْقَطَعَ طَرِيقُ خُرَاسَانَ مِنْ نَاحِيَةِ قُومِسَ إِلَّا عَلَى خَوْفٍ شَدِيدٍ مِنْهُمْ. كَانَ الطَّرِيقُ إِلَى خُرَاسَانَ مِنْ فَارِسَ إِلَى كَرْمَانَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَأَوَّلُ مَنْ صَيَّرَ الطَّرِيقَ مِنْ قُومِسَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ حِينَ وَلِيَ خُرَاسَانَ. وَقَدِمَهَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَصَالَحَ صُولَ، وَفَتَحَ الْبُحَيْرَةَ وَدِهِسْتَانَ، وَصَالَحَ أَهْلَ جُرْجَانَ عَلَى صُلْحِ سَعِيدٍ. ذكر غَزْوِ حُذَيْفَةَ الْبَابَ وَأَمْرِ الْمَصَاحِفِ وَفِيهَا صُرِفُ حُذَيْفَةُ عَنْ غَزْوِ الرَّيِّ إِلَى غَزْوِ الْبَابِ مَدَدًا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَخَرَجَ مَعَهُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، فَبَلَغَ مَعَهُ أَذْرَبِيجَانَ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ النَّاسَ رِدْءًا، فَأَقَامَ حَتَّى

عَادَ حُذَيْفَةُ ثُمَّ رَجَعَا. فَلَمَّا عَادَ حُذَيْفَةُ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لَقَدْ رَأَيْتُ فِي سَفْرَتِي هَذِهِ أَمْرًا، لَئِنْ تُرِكَ النَّاسُ لَيَخْتَلِفُنَّ فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ لَا يَقُومُونَ عَلَيْهِ أَبَدًا. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ حِمْصَ يَزْعُمُونَ أَنَّ قِرَاءَتَهُمْ خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَخَذُوا الْقُرْآنَ عَنِ الْمِقْدَادِ، وَرَأَيْتُ أَهْلَ دِمَشْقَ يَقُولُونَ: إِنَّ قِرَاءَتَهُمْ خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهِمْ، وَرَأَيْتُ أَهْلَ الْكُوفَةِ يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِنَّهُمْ قَرَءُوا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَهْلَ الْبَصْرَةِ يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِنَّهُمْ قَرَءُوا عَلَى أَبِي مُوسَى، وَيُسَمُّونَ مُصْحَفَهُ لُبَابَ الْقُلُوبِ. فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْكُوفَةِ أَخْبَرَ حُذَيْفَةُ النَّاسَ بِذَلِكَ وَحَذَّرَهُمْ مَا يَخَافُ، فَوَافَقَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ. وَقَالَ لَهُ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا تُنْكِرُ؟ أَلَسْنَا نَقْرَأُهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ؟ فَغَضِبَ حُذَيْفَةُ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَقَالُوا: إِنَّمَا أَنْتُمْ أَعْرَابٌ فَاسْكُتُوا فَإِنَّكُمْ عَلَى خَطَأٍ. وَقَالَ حُذَيْفَةُ: وَاللَّهِ لَئِنْ عِشْتُ لَآتِيَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَأُشِيرَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ ذَلِكَ. فَأَغْلَظَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَغَضِبَ سَعِيدٌ وَقَامَ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، وَغَضِبَ حُذَيْفَةُ وَسَارَ إِلَى عُثْمَانَ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي رَأَى، وَقَالَ: أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَأَدْرِكُوا الْأُمَّةَ. فَجَمَعَ عُثْمَانُ الصَّحَابَةَ وَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، فَأَعْظَمُوهُ وَرَأَوْا جَمِيعًا مَا رَأَى حُذَيْفَةُ. فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ: أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخْهَا. وَكَانَتْ هَذِهِ الصُّحُفُ هِيَ الَّتِي كُتِبَتْ فِي أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّ الْقَتْلَ لَمَّا كَثُرَ فِي الصَّحَابَةِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ كَثُرَ وَاسْتَحَرَّ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فَيَذْهَبَ مِنَ الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَجَمَعَهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَّ عُمَرُ أَخَذَتْهَا حَفْصَةُ فَكَانَتْ عِنْدَهَا. فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَيْهَا [مَنْ] أَخَذَهَا مِنْهَا، وَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا. فَلَمَّا نَسَخُوا الصُّحُفَ رَدَّهَا عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ، وَحَرَقَ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَأَمَرَ أَنْ يَعْتَمِدُوا عَلَيْهَا وَيَدَعُوا مَا سِوَى ذَلِكَ. فَكُلُّ النَّاسِ عَرَفَ فَضْلَ هَذَا الْفِعْلِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَإِنَّ الْمُصْحَفَ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ فَرِحَ بِهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ وَمَنْ وَافَقَهُمُ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ وَعَابُوا النَّاسَ، فَقَامَ فِيهِمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَالَ: وَلَا كُلُّ ذَلِكَ، فَإِنَّكُمْ وَاللَّهِ قَدْ سُبِقْتُمْ سَبْقًا بَيِّنًا، فَارْبِعُوا عَلَى ظَلْعِكُمْ. وَلَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ

الْكُوفَةَ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَعَابَ عُثْمَانَ بِجَمْعِ النَّاسِ عَلَى الْمُصْحَفِ، فَصَاحَ بِهِ وَقَالَ: اسْكُتْ فَعَنْ مَلَأٍ مِنَّا فَعَلَ ذَلِكَ، فَلَوْ وُلِّيتُ مِنْهُ مَا وُلِّيَ عُثْمَانُ لَسَلَكْتُ سَبِيلَهُ. ذكر سُقُوطِ خَاتَمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بِئْرِ أَرِيسٍ وَفِيهَا وَقَعَ خَاتَمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ يَدِ عُثْمَانَ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ، وَهِيَ عَلَى مِيلَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ قَلِيلَةَ الْمَاءِ، فَمَا أُدْرِكَ قَعْرُهَا بَعْدُ. «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتَّخَذَهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُكَاتِبَ الْأَعَاجِمَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى -، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْمَلَ لَهُ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَلَمَّا عُمِلَ جَعَلَهُ فِي إِصْبَعِهِ، فَأَتَاهُ جِبْرَائِيلُ فَنَهَاهُ عَنْهُ، فَنَبَذَهُ، وَأَمَرَ فَعُمِلَ لَهُ خَاتَمٌ مِنْ نُحَاسٍ وَجَعَلَهُ فِي إِصْبَعِهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرَائِيلُ: انْبِذْهُ، فَنَبَذَهُ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَاتَمٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَصُنِعَ لَهُ، فَجَعَلَهُ فِي إِصْبَعِهِ، فَأَمَرَهُ جِبْرَائِيلُ أَنْ يُقِرَّهُ، فَأَقَرَّهُ. وَكَانَ نَقْشُهُ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ: مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولٌ سَطْرٌ، وَاللَّهُ سَطْرٌ، فَتَخَتَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى تُوُفِّيَّ،» ثُمَّ تَخَتَّمَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى تُوُفِّيَّ، ثُمَّ عُمَرُ حَتَّى تُوُفِّيَّ، ثُمَّ تَخَتَّمَ بِهِ عُثْمَانُ سِتَّ سِنِينَ. فَحَفَرُوا بِئْرًا بِالْمَدِينَةِ شِرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَعَدَ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ فَجَعَلَ يَعْبَثُ بِالْخَاتَمِ فَسَقَطَ مِنْ يَدِهِ فِي الْبِئْرِ، فَطَلَبُوهُ فِيهَا وَنَزَحُوا مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَجَعَلَ فِيهِ مَالًا عَظِيمًا لِمَنْ جَاءَ بِهِ، وَاغْتَمَّ لِذَلِكَ غَمًّا شَدِيدًا. فَلَمَّا يَئِسَ مِنْهُ صَنَعَ خَاتَمًا آخَرَ عَلَى مِثَالِهِ وَنَقْشِهِ فَبَقِيَ فِي إِصْبَعِهِ حَتَّى هَلَكَ، فَلَمَّا قُتِلَ ذَهَبَ الْخَاتَمُ فَلَمْ يُدْرَ مَنْ أَخَذَهُ. ذكر تَسْيِيرِ أَبِي ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ مَا ذُكِرَ فِي أَمْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَإِشْخَاصِ مُعَاوِيَةَ إِيَّاهُ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ، مِنْ سَبِّ مُعَاوِيَةَ إِيَّاهُ وَتَهْدِيدِهِ بِالْقَتْلِ، وَحَمْلِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الشَّامِ بِغَيْرِ وِطَاءٍ، وَنَفْيِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّنِيعِ، لَا يَصِحُّ النَّقْلُ بِهِ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَذَرَ عَنْ عُثْمَانَ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَدِّبَ رَعِيَّتَهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ

الْأَعْذَارِ، لَا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلطَّعْنِ عَلَيْهِ، كَرِهْتُ ذِكْرَهَا. وَأَمَّا الْعَاذِرُونَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَمَّا وَرَدَ ابْنُ السَّوْدَاءِ إِلَى الشَّامِ لَقِيَ أَبَا ذَرٍّ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَلَا تَعْجَبُ مِنْ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: الْمَالُ مَالُ اللَّهِ! أَلَا إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ لِلَّهِ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَحْتَجِبَهُ دُونَ النَّاسِ، وَيَمْحُوَ اسْمَ الْمُسْلِمِينَ. فَأَتَاهُ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ: مَا يَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تُسَمِّيَ مَالَ الْمُسْلِمِينَ مَالَ اللَّهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا أَبَا ذَرٍّ! أَلَسْنَا عِبَادَ اللَّهِ وَالْمَالُ مَالُهُ؟ قَالَ: فَلَا تَقُلْهُ. قَالَ: سَأَقُولُ مَالَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَتَى ابْنُ السَّوْدَاءِ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَقَالَ: أَظُنُّكَ [وَاللَّهِ] يَهُودِيًّا! فَأَتَى عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ عُبَادَةُ وَأَتَى بِهِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي بَعَثَ عَلَيْكَ أَبَا ذَرٍّ. وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ أَكْثَرُ مِنْ قُوتِ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، أَوْ شَيْءٍ يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ يُعِدُّهُ لِكَرِيمٍ، وَيَأْخُذُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] . فَكَانَ يَقُومُ بِالشَّامِ وَيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْأَغْنِيَاءِ وَاسُوا الْفُقَرَاءَ، بَشِّرِ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَكَاوٍ مِنْ نَارٍ تُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ، فَمَا زَالَ حَتَّى وَلِعَ الْفُقَرَاءُ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَأَوْجَبُوهُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، وَشَكَا الْأَغْنِيَاءُ مَا يَلْقَوْنَ مِنْهُمْ. فَأَرْسَلَ مُعَاوِيَةُ إِلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي جُنْحِ اللَّيْلِ فَأَنْفَقَهَا. فَلَمَّا صَلَّى مُعَاوِيَةُ الصُّبْحَ دَعَا رَسُولَهُ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقُلْ لَهُ: أَنْقِذْ جَسَدِي مِنْ عَذَابِ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّهُ أَرْسَلَنِي إِلَى غَيْرِكَ وَإِنِّي أَخْطَأْتُ بِكَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو ذَرٍّ: يَا بُنَيَّ قُلْ لَهُ: وَاللَّهِ مَا أَصْبَحَ عِنْدَنَا مِنْ دَنَانِيرِكَ دِينَارٌ وَلَكِنْ أَخِّرْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى نَجْمَعَهَا. فَلَمَّا رَأَى مُعَاوِيَةُ أَنَّ فِعْلَهُ يَصْدُقُ قَوْلَهُ كَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ قَدْ ضَيَّقَ عَلَيَّ، وَقَدْ كَانَ كَذَا وَكَذَا، لِلَّذِي يَقُولُهُ الْفُقَرَاءُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ: إِنَّ الْفِتْنَةَ قَدْ أَخْرَجَتْ خَطْمَهَا وَعَيْنَيْهَا وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تَثِبَ، فَلَا تَنْكَأِ الْقَرْحَ، وَجَهِّزْ أَبَا ذَرٍّ إِلَيَّ، وَابْعَثْ مَعَهُ دَلِيلًا وَكَفْكِفِ النَّاسَ وَنَفْسَكَ مَا اسْتَطَعْتَ. وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَبِي ذَرٍّ. فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَرَأَى الْمَجَالِسَ فِي أَصْلِ جَبَلِ سَلْعٍ قَالَ: بِشِّرْ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِغَارَةٍ شَعْوَاءَ وَحَرْبٍ مِذْكَارٍ. وَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ: مَا لِأَهْلِ الشَّامِ يَشْكُونَ ذَرَبَ لِسَانِكَ؟

فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ عَلَيَّ أَنْ أَقْضِيَ مَا عَلَيَّ، وَأَنْ أَدْعُوَ الرَّعِيَّةَ إِلَى الِاجْتِهَادِ وَالِاقْتِصَادِ، وَمَا عَلَيَّ أَنْ أُجْبِرَهُمْ عَلَى الزُّهْدِ. فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَا تَرْضَوْا مِنَ الْأَغْنِيَاءِ حَتَّى يَبْذُلُوا الْمَعْرُوفَ، وَيُحْسِنُوا إِلَى الْجِيرَانِ وَالْإِخْوَانِ، وَيَصِلُوا الْقَرَابَاتِ. فَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَكَانَ حَاضِرًا: مَنْ أَدَّى الْفَرِيضَةَ فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ. فَضَرَبَهُ أَبُو ذَرٍّ فَشَجَّهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ مَا أَنْتَ وَمَا هَاهُنَا؟ فَاسْتَوْهَبَ عُثْمَانُ كَعْبًا شَجَّتَهُ، فَوَهَبَهُ. فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لِعُثْمَانَ: تَأْذَنُ لِي فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنِي بِالْخُرُوجِ مِنْهَا إِذَا بَلَغَ الْبِنَاءُ سَلْعًا. فَأَذِنَ لَهُ، فَنَزَلَ الرَّبَذَةَ وَبَنَى بِهَا مَسْجِدًا، وَأَقْطَعَهُ عُثْمَانُ صِرْمَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَاهُ مَمْلُوكَيْنِ وَأَجْرَى عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ عَطَاءً، وَكَذَلِكَ عَلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ أَيْضًا عَنِ الْمَدِينَةِ لِشَيْءٍ سَمِعَهُ. وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَتَعَاهَدُ الْمَدِينَةَ مَخَافَةَ أَنْ يَعُودَ أَعْرَابِيًّا، أَخْرَجَ مُعَاوِيَةُ إِلَيْهِ أَهْلَهُ، فَخَرَجُوا وَمَعَهُمْ جِرَابٌ مُثْقِلٌ يَدَ الرَّجُلِ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الَّذِي يَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا مَا عِنْدَهُ؟ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: وَاللَّهِ مَا هُوَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، وَلَكِنَّهَا فَلُوسٌ، كَانَ إِذَا خَرَجَ عَطَاؤُهُ ابْتَاعَ مِنْهُ فُلُوسًا لِحَوَائِجِنَا. وَلَمَّا نَزَلَ الرَّبَذَةَ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَعَلَيْهَا رَجُلٌ يَلِي الصَّدَقَةَ، فَقَالَ: «تَقَدَّمْ يَا أَبَا ذَرٍّ. فَقَالَ: لَا، تَقَدَّمْ أَنْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِي: اسْمَعْ وَأَطِعْ وَإِنْ كَانَ عَلَيْكَ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ» ، فَأَنْتَ عَبْدٌ وَلَسْتَ بِأَجْدَعَ، وَكَانَ مِنْ رَقِيقِ الصَّدَقَةِ اسْمُهُ مُجَاشِعٌ. ذكر عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ زَادَ عُثْمَانُ النِّدَاءَ الثَّالِثَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الزَّوْرَاءِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ اللَّخْمِيُّ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ.

(حَاطِبٌ: بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ. وَبَلْتَعَةُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، ثُمَّ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ بِوَزْنِ مَقْرَعَةٍ) . وَفِيهَا مَاتَ عَمْرُو بْنُ أَبِي سَرْحٍ الْفِهْرِيُّ، وَكَانَ بَدْرِيًّا. وَفِيهَا مَاتَ مَسْعُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَقِيلَ: ابْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرٍو الْقَارِيُّ - مِنَ الْقَارَةِ - أَسْلَمَ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ، وَشَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ عُمْرُهُ قَدْ جَاوَزَ السِّتِّينَ. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ عَلَى غَنَائِمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَظْعُونٍ أَخُو عُثْمَانَ وَكَانَ بَدْرِيًّا، وَجَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ أَيْضًا.

(جَبَّارٌ: بِالْجِيمِ وَآخِرُهُ رَاءٌ) .

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ] 31 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ ذكر غَزْوَةِ الصَّوَارِي قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ غَزْوَةُ الصَّوَارِي، وَقِيلَ: كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ كَانَتْ غَزْوَةُ الْأَسَاوِرَةِ، وَقِيلَ: كَانَتَا مَعًا سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَكَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُعَاوِيَةُ، وَكَانَ جُمِعَ الشَّامُ لَهُ أَيَّامَ عُثْمَانَ. وَسَبَبُ جَمْعِهِ لَهُ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ لَمَّا حَضَرَ اسْتَخْلَفَ عَلَى عَمَلِهِ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ، وَكَانَ خَالَهُ وَابْنَ عَمِّهِ، وَكَانَ جَوَادًا مَشْهُورًا، وَقِيلَ: اسْتَخْلَفَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَمَاتَ عِيَاضٌ وَاسْتَخْلَفَ عُمَرُ بَعْدَهُ سَعِيدَ بْنَ حِذَيْمٍ الْجُمَحِيَّ، وَمَاتَ سَعِيدٌ وَأَمَّرَ عُمَرُ مَكَانَهُ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيَّ، وَمَاتَ عُمَرُ وَعُمَيْرٌ عَلَى حِمْصَ وَقِنَّسْرِينَ، وَمَاتَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَجَعَلَ عُمَرُ مَكَانَهُ أَخَاهُ مُعَاوِيَةَ، فَاجْتَمَعَتْ لِمُعَاوِيَةَ الْأُرْدُنُّ وَدِمَشْقُ، وَمَرَضَ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ فَاسْتَعْفَى عُثْمَانَ وَاسْتَأْذَنَهُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ، فَأَذِنَ لَهُ، وَضَمَّ عُثْمَانُ حِمْصَ وَقِنَّسْرِينَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَمَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلْقَمَةَ، وَكَانَ عَلَى فِلَسْطِينَ، فَضَمَّ عُثْمَانُ عَمَلَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَاجْتَمَعَ الشَّامُ لِمُعَاوِيَةَ لِسَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَةِ عُثْمَانَ، فَهَذَا كَانَ سَبَبُ اجْتِمَاعِ الشَّامِ لَهُ. وَأَمَّا سَبَبُ هَذِهِ الْغَزْوَةِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا أَصَابُوا مِنْ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ وَقَتَلُوهُمْ وَسَبَوْهُمْ، خَرَجَ قُسْطَنْطِينُ بْنُ هِرَقْلَ فِي جَمْعٍ لَهُ لَمْ تَجْمَعِ الرُّومُ مِثْلَهُ مُذْ كَانَ الْإِسْلَامُ، فَخَرَجُوا فِي

خَمْسِمِائَةِ مَرْكَبٍ أَوْ سِتِّمِائَةٍ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ وَعَلَى أَهْلِ الشَّامِ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَلَى الْبَحْرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَكَانَتِ الرِّيحُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَمَّا شَاهَدُوا الرُّومَ، فَأَرْسَى الْمُسْلِمُونَ وَالرُّومُ وَسَكَنَتِ الرِّيحُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: الْأَمَانُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ وَالْمُسْلِمُونَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيُصَلُّونَ وَيَدْعُونَ، وَالرُّومُ يَضْرِبُونَ بِالنَّوَاقِيسِ، وَقَرَّبُوا مِنَ الْغَدِ سُفُنَهُمْ، وَقَرَّبَ الْمُسْلِمُونَ سُفُنَهُمْ، فَرَبَطُوا بَعْضَهَا مَعَ بَعْضٍ، وَاقْتَتَلُوا بِالسُّيُوفِ وَالْخَنَاجِرِ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَقُتِلَ مِنَ الرُّومِ مَا لَا يُحْصَى، وَصَبَرُوا يَوْمَئِذٍ صَبْرًا لَمْ يَصْبِرُوا فِي مَوْطِنٍ قَطُّ مِثْلَهُ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَانْهَزَمَ قُسْطَنْطِينُ جَرِيحًا، وَلَمْ يَنْجُ مِنَ الرُّومِ إِلَّا الشَّرِيدُ. وَأَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ بِذَاتِ الصَّوَارِي بَعْدَ الْهَزِيمَةِ أَيَّامًا وَرَجَعَ. فَكَانَ أَوَّلُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي أَمْرِ عُثْمَانَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَأَظْهَرَا عَيْبَهُ، وَمَا غَيَّرَ وَمَا خَالَفَ بِهِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَيَقُولَانِ: اسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ رَجُلًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَبَاحَ دَمَهُ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِكُفْرِهِ، وَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمًا أَدْخَلَهُمْ، وَنَزَعَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَعْمَلَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَابْنَ عَامِرٍ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ فَقَالَ: لَا تَرْكَبَا مَعَنَا، فَرَكِبَا فِي مَرْكَبٍ مَا مَعَهُمَا إِلَّا الْقِبْطُ، فَلَقُوا الْعَدُوَّ، فَكَانَا أَقَلَّ الْمُسْلِمِينَ نِكَايَةً وَقِتَالًا، فَقِيلَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَا: كَيْفَ نُقَاتِلُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ؟ اسْتَعْمَلَهُ عُثْمَانُ، وَعُثْمَانُ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا عَبْدُ اللَّهِ يَنْهَاهُمَا وَيَتَهَدَّدُهُمَا، فَفَسَدَ النَّاسُ بِقَوْلِهِمَا، وَتَكَلَّمُوا مَا لَمْ يَكُونُوا يَنْطِقُونَ بِهِ. وَأَمَّا قُسْطَنْطِينُ، فَإِنَّهُ سَارَ فِي مَرْكَبِهِ إِلَى صِقِلِّيَةَ، فَسَأَلَهُ أَهْلُهَا عَنْ حَالِهِ، فَأَخْبَرَهُمْ. فَقَالُوا: أَهْلَكْتَ النَّصْرَانِيَّةَ وَأَفْنَيْتَ رِجَالَهَا! لَوْ أَتَانَا الْعَرَبُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا مَنْ يَمْنَعُهُمْ. ثُمَّ

أَدْخَلُوهُ الْحَمَّامَ وَقَتَلُوهُ، وَتَرَكُوا مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَرْكَبِ (وَأَذِنُوا لَهُمْ فِي الْمَسِيرِ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ) . (وَقِيلَ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتْ أَرْمِينِيَّةُ عَلَى يَدِ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ. ذكر مَقْتَلِ يَزْدَجِرْدَ بْنِ شَهْرَيَارَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَرَبَ يَزْدَجِرْدُ مِنْ فَارِسَ إِلَى خُرَاسَانَ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَكَانَ ابْنُ عَامِرٍ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ حِينَ وَلِيَهَا إِلَى فَارِسَ فَافْتَتَحَهَا، وَهَرَبَ يَزْدَجِرْدُ مِنْ جُورَ، وَهِيَ أَرْدَشِيرْ خُرَّهْ، فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ، فَوَجَّهَ ابْنُ عَامِرٍ فِي أَثَرِهِ مُجَاشِعَ بْنَ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ: هَرِمَ بْنَ حَيَّانَ الْعَبْدِيَّ، وَقِيلَ: هَرِمَ بْنَ حَيَّانَ الْيَشْكُرِيَّ، فَاتَّبَعَهُ إِلَى كَرْمَانَ، فَهَرَبَ يَزْدَجِرْدُ إِلَى خُرَاسَانَ. وَأَصَابَ مُجَاشِعَ بْنَ مَسْعُودٍ وَمَنْ مَعَهُ الثَّلْجُ وَالدَّمَقُ وَاشْتَدَّ الْبَرْدُ، وَكَانَ الثَّلْجُ قَيْدَ رُمْحٍ، فَهَلَكَ الْجُنْدُ، وَسَلِمَ مُجَاشِعٌ وَرَجُلٌ مَعَهُ جَارِيَةٌ، فَشَقَّ بَطْنَ بَعِيرٍ فَأَدْخَلَهَا فِيهِ وَهَرَبَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَاءَ فَوَجَدَهَا حَيَّةً فَحَمَلَهَا. فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْقَصْرُ قَصْرَ مُجَاشِعٍ لِأَنَّ جَيْشَهُ هَلَكُوا فِيهِ، وَهُوَ عَلَى خَمْسَةِ فَرَاسِخَ أَوْ سِتَّةٍ مِنَ السِّيرَجَانِ مِنْ أَعْمَالِ كَرْمَانَ. هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ هَرَبَ يَزْدَجِرْدَ مِنْ فَارِسَ كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ. وَأَمَّا سَبَبُ قَتْلِهِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ (فَتْحِ فَارِسَ وَخُرَاسَانَ) ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سَبَبِ قَتْلِهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ هَرَبَ مِنْ كَرْمَانَ فِي جَمَاعَةٍ إِلَى مَرْوَ، وَمَعَهُ خُرَّزَادُ أَخُو رُسْتُمَ، فَرَجَعَ عَنْهُ إِلَى الْعِرَاقِ، وَوَصَّى بِهِ مَاهَوَيْهِ مَرْزُبَانَ مَرْوَ، فَسَأَلَهُ يَزْدَجِرْدُ مَالًا فَمَنَعَهُ،

فَخَافَهُ أَهْلُ مَرْوَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَى التُّرْكِ يَسْتَنْصِرُونَهُمْ عَلَيْهِ، فَأَتَوْهُ فَبَيَّتُوهُ، فَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ، فَهَرَبَ يَزْدَجِرْدُ مَاشِيًا إِلَى شَطِّ الْمَرْغَابِ، فَأَوَى إِلَى بَيْتِ رَجُلٍ يَنْقُرُ الْأَرْحَاءَ، فَلَمَّا نَامَ قَتَلَهُ. وَقِيلَ: بَلْ بَيَّتَهُ أَهْلُ مَرْوَ، وَلَمْ يَسْتَنْصِرُوا بِالتُّرْكِ، فَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ وَهَرَبَ مِنْهُمْ، فَقَتَلَهُ النَّقَّارُ، وَتَبِعُوا أَثَرَهُ إِلَى بَيْتِ الَّذِي يَنْقُرُ الْأَرْحَاءَ، فَأَخَذُوهُ وَضَرَبُوهُ، فَأَقَرَّ بِقَتْلِهِ فَقَتَلُوهُ وَأَهْلَهُ. وَكَانَ يَزْدَجِرْدُ قَدْ وَطِئَ امْرَأَةً بِهَا، فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا ذَاهِبَ الشِّقِّ، وَلَدَتْهُ بَعْدَ قَتْلِهِ فَسُمِّيَ الْمُخْدَجُ، فَوُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ بِخُرَاسَانَ، فَوَجَدَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ حِينَ افْتَتَحَ الصُّغْدَ وَغَيْرَهَا جَارِيَتَيْنِ مِنْ وَلَدِ الْمُخْدَجِ، فَبَعَثَ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا إِلَى الْحَجَّاجِ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَوَلَدَتْ لِلْوَلِيدِ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ النَّاقِصَ. وَأُخْرِجَ يَزْدَجِرْدُ مِنَ النَّهْرِ فِي تَابُوتٍ وَحُمِلَ إِلَى إِصْطَخْرَ فَوُضِعَ فِي نَاوُوسٍ هُنَاكَ. وَقِيلَ: إِنَّ يَزْدَجِرْدَ هَرَبَ بَعْدَ وَقْعَةِ نَهَاوَنْدَ إِلَى أَرْضِ أَصْبَهَانَ، وَبِهَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مِطْيَارُ كَانَ قَدْ أَصَابَ مِنَ الْعَرَبِ شَيْئًا يَسِيرًا، فَصَارَ لَهُ بِهَا مَحَلٌّ كَبِيرٌ، فَأَتَى مِطْيَارٌ يَزْدَجِرْدَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَحَجَبَهُ بَوَّابُهُ لِيَسْتَأْذِنَ لَهُ، فَضَرَبَهُ وَشَجَّهُ، فَدَخَلَ الْبَوَّابُ عَلَى يَزْدَجِرْدَ مُدْمًى، فَرَحَلَ عَنْ أَصْبَهَانَ مِنْ سَاعَتِهِ فَأَتَى الرَّيَّ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ صَاحِبُ طَبَرِسْتَانَ وَعَرَضَ عَلَيْهِ بِلَادَهُ وَأَخْبَرَهُ بِحَصَانَتِهَا، فَلَمْ يُجِبْهُ. وَقِيلَ: مَضَى مِنْ فَوْرِهِ ذَلِكَ إِلَى سِجِسْتَانَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَرْوَ فِي أَلْفِ فَارِسٍ، وَقِيلَ: بَلْ قَصَدَ فَارِسَ فَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ أَتَى كَرْمَانَ فَأَقَامَ بِهَا سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَطَلَبَ إِلَيْهِ دِهْقَانُهُ شَيْئًا، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَجَرَّهُ بِرِجْلِهِ وَطَرَدَهُ عَنْ بِلَادِهِ، فَسَارَ إِلَى سِجِسْتَانَ فَأَقَامَ بِهَا نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى قَصْدِ خُرَاسَانَ لِيَجْمَعَ الْجُمُوعَ وَيَسِيرَ بِهِمْ إِلَى الْعَرَبِ، فَسَارَ إِلَى مَرْوَ وَمَعَهُ الرَّهْنُ مِنْ أَوْلَادِ الدَّهَاقِينِ وَمَعَهُ فَرُّخَزَادُ. فَلَمَّا قَدِمَ مَرْوَ كَاتَبَ مُلُوكَ الصِّينِ وَمَلِكَ فَرْغَانَةَ وَمَلِكَ كَابُلَ وَمَلِكَ الْخَزَرِ يَسْتَمِدُّهُمْ، وَكَانَ الدِّهْقَانَ يَوْمَئِذٍ بِمَرْوَ مَاهَوَيْهِ أَبُو بَرَازَ، فَوَكَّلَ مَاهَوَيْهِ بِمَرْوَ ابْنَهُ بَرَازَ لِيَحْفَظَهَا، وَيَمْنَعَ عَنْهَا يَزْدَجِرْدَ خَوْفًا مِنْ مَكْرَهٍ، فَرَكِبَ يَزْدَجِرْدُ يَوْمًا وَطَافَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَرَادَ دُخُولَهَا مِنْ بَعْضِ أَبْوَابِهَا، فَمَنَعَهُ بَرَازُ، فَصَاحَ بِهِ أَبُوهُ لِيَفْتَحَ الْبَابَ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَبُوهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، فَفَطِنَ لَهُ

رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ يَزْدَجِرْدَ، فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ وَاسْتَأْذَنَهُ فِي قَتْلِهِ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ. وَقِيلَ: أَرَادَ يَزْدَجِرْدُ صَرْفَ الدَّهْقَنَةِ عَنْ مَاهَوَيْهِ إِلَى سَنْجَانَ ابْنِ أَخِيهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مَاهَوَيْهِ، فَعَمِلَ فِي هَلَاكِ يَزْدَجِرْدَ، فَكَتَبَ إِلَى نَيْزَكِ طَرْخَانَ يَدْعُوهُ إِلَى الْقُدُومِ عَلَيْهِ ; لِيَتَّفِقَا عَلَى قَتْلِهِ وَمُصَالَحَةِ الْعَرَبِ عَلَيْهِ، وَضَمِنَ لَهُ إِنْ فَعَلَ أَنْ يُعْطِيَهُ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ. فَكَتَبَ نَيْزَكُ إِلَى يَزْدَجِرْدَ يَعِدَهُ الْمُسَاعَدَةَ عَلَى الْعَرَبِ، وَأَنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ إِنْ أَبْعَدَ عَسْكَرَهُ وَفَرُّخَزَادَ عَنْهُ. فَاسْتَشَارَ يَزْدَجِرْدُ أَصْحَابَهُ فَقَالَ لَهُ سَنْجَانُ: لَسْتُ أَرَى أَنْ تُبْعِدَ عَنْكَ أَصْحَابَكَ وَفَرُّخَزَادَ. وَقَالَ أَبُو بَرَازَ: أَرَى أَنْ تَتَأَلَّفَ نَيْزَكَ وَتُجِيبَهُ إِلَى مَا سَأَلَ. فَقَبِلَ رَأْيَهُ وَفَرَّقَ عَنْهُ جُنْدَهُ، فَصَاحَ فَرُّخَزَادُ وَشَقَّ جَيْبَهُ وَقَالَ: أَظُنُّكُمْ قَاتِلِي هَذَا! وَلَمْ يَبْرَحْ فَرُّخَزَادُ حَتَّى كَتَبَ لَهُ يَزْدَجِرْدُ بِخَطِّ يَدِهِ أَنَّهُ آمِنٌ وَأَنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ يَزْدَجِرْدَ وَأَهْلَهُ وَمَا مَعَهُ إِلَى مَاهَوَيْهِ، وَأَشْهَدَ بِذَلِكَ. وَأَقْبَلَ نَيْزَكُ فَلَقِيَهُ يَزْدَجِرْدُ بِالْمَزَامِيرِ وَالْمَلَاهِي، أَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَبُو بَرَازَ، فَلَمَّا لَقِيَهُ تَأَخَّرَ عَنْهُ أَبُو بَرَازَ فَاسْتَقْبَلَهُ نَيْزَكُ مَاشِيًا، فَأَمَرَ لَهُ يَزْدَجِرْدُ بِجَنِيبَةٍ مِنْ جَنَائِبِهِ، فَرَكِبَهَا، فَلَمَّا تَوَسَّطَ عَسْكَرَهُ تَوَاقَفَا، فَقَالَ لَهُ نَيْزَكُ فِيمَا يَقُولُ: زَوِّجْنِي إِحْدَى بَنَاتِكَ حَتَّى أُنَاصِحَكَ فِي قِتَالِ عَدُوِّكَ. فَسَبَّهُ يَزْدَجِرْدُ، فَضَرَبَهُ نَيْزَكُ بِمِقْرَعَتِهِ، وَصَاحَ يَزْدَجِرْدُ، وَرَكَضَ مُنْهَزِمًا. وَقَتَلَ أَصْحَابُ نَيْزَكَ أَصْحَابَ يَزْدَجِرْدَ، وَانْتَهَى يَزْدَجِرْدُ إِلَى بَيْتِ طَحَّانٍ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَأْكُلْ طَعَامًا. فَقَالَ لَهُ الطَّحَّانُ: اخْرُجْ أَيُّهَا الشَّقِيُّ فَكُلْ طَعَامًا فَقَدْ جُعْتَ! فَقَالَ: لَسْتُ أَصِلُ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِزَمْزَمَةٍ، وَكَانَ عِنْدَ الطَّحَّانِ رَجُلٌ يُزَمْزِمُ، فَكَلَّمَهُ الطَّحَّانُ فِي ذَلِكَ فَفَعَلَ وَزَمْزَمَ لَهُ فَأَكَلَ. فَلَمَّا رَجَعَ الْمُزَمْزِمُ سَمِعَ بِذِكْرِ يَزْدَجِرْدَ، فَسَأَلَ عَنْ حِلْيَتِهِ، فَوَصَفُوهُ لَهُ، فَأَخْبَرَهُمْ بِهِ وَبِحِلْيَتِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو بَرَازَ رَجُلًا مِنَ الْأَسَاوِرَةِ، وَأَمَرَهُ بِخَنْقِهِ وَإِلْقَائِهِ فِي النَّهْرِ، وَأَتَى الطَّحَّانَ فَضَرَبَهُ لِيَدُلَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَجَحَدَهُ. فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ عَنْهُ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ مِسْكٍ ; وَنَظَرَ إِلَى طَرَفِ ثَوْبِهِ مِنْ دِيبَاجٍ فِي الْمَاءِ، فَجَذَبَهُ فَإِذَا هُوَ يَزْدَجِرْدُ، فَسَأَلَهُ أَنْ لَا يَقْتُلَهُ وَلَا يَدُلَّ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ لَهُ خَاتَمَهُ وَمِنْطَقَتَهُ وَسِوَارَهُ. فَقَالَ لَهُ: أَعْطِنِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَأُخَلِّي عَنْكَ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَقَالَ: إِنَّ خَاتَمِي لَا يُحْصَى ثَمَنُهُ فَخُذْهُ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ يَزْدَجِرْدُ: قَدْ كُنْتُ أُخْبَرُ أَنِّي سَأَحْتَاجُ إِلَى أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ، ثُمَّ نَزَعَ أَحَدَ قُرْطَيْهِ، فَأَعْطَاهُ الطَّحَّانَ لِيَسْتُرَ عَلَيْهِ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَقَالَ: وَيْحَكُمْ! إِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ الْمُلُوكَ عَاقَبَهُ اللَّهُ بِالْحَرِيقِ فِي الدُّنْيَا، فَلَا تَقْتُلُونِي وَاحْمِلُونِي إِلَى الدِّهْقَانِ أَوْ إِلَى الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَبْقُونَ مِثْلِي! فَأَخَذُوا مَا عَلَيْهِ وَخَنَقُوهُ بِوَتَرِ الْقَوْسِ وَأَلْقَوْهُ فِي الْمَاءِ، فَأَخَذَهُ أَسْقُفُّ مَرْوَ وَجَعَلَهُ فِي تَابُوتٍ وَدَفَنَهُ. وَسَأَلَ أَبُو

بَرَازَ عَنْ أَحَدِ الْقُرْطَيْنِ، وَأَخَذَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ حَتَّى أَتَى عَلَى نَفْسِهِ. وَقِيلَ: بَلْ سَارَ يَزْدَجِرْدُ مِنْ كَرْمَانَ قَبْلَ وُرُودِ الْعَرَبِ إِلَيْهَا نَحْوَ مَرْوَ عَلَى الطَّبَسَيْنِ وَقُوهِسْتَانَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا قَارَبَ مَرْوَ لَقِيَهُ قَائِدَانِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا بَرَازُ، وَلِلْآخَرِ سَنْجَانَ وَكَانَا مُتَبَاغِضَيْنِ، فَسَعَى بَرَازُ بِسَنْجَانَ حَتَّى هَمَّ يَزْدَجِرْدُ بِقَتْلِهِ، وَأَفْشَى ذَلِكَ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، فَفَشَا الْحَدِيثُ، فَجَمَعَ سَنْجَانُ أَصْحَابَهُ، وَقَصَدَ قَصْرَ يَزْدَجِرْدَ، فَهَرَبَ بَرَازُ وَخَافَ يَزْدَجِرْدُ فَهَرَبَ أَيْضًا إِلَى رَحَى عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ مَرْوَ، فَدَخَلَ بَيْتَ نَقَّارِ الرَّحَى، فَأَطْعَمَهُ الطَّحَّانُ، فَطَلَبَ مِنْهُ شَيْئًا فَأَعْطَاهُ مِنْطَقَتَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَكْفِينِي أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ، ثُمَّ نَامَ يَزْدَجِرْدُ فَقَتَلَهُ الطَّحَّانُ بِفَأْسٍ كَانَتْ مَعَهُ، وَأَخَذَ مَا عَلَيْهِ وَأَلْقَى جُثَّتَهُ فِي الْمَاءِ وَشَقَّ بَطْنَهُ وَثَقَّلَهُ. وَسَمِعَ بِقَتْلِهِ مُطْرَانٌ كَانَ بِمَرْوَ، فَجَمَعَ النَّصَارَى وَقَالَ: قُتِلَ ابْنُ شَهْرَيَارَ، وَإِنَّمَا شَهْرَيَارُ ابْنُ شِيرِينَ الْمُؤْمِنَةِ الَّتِي قَدْ عَرَفْتُمْ حَقَّهَا وَإِحْسَانَهَا إِلَى أَهْلِ مِلَّتِنَا، مَعَ مَا نَالَ النَّصَارَى فِي مُلْكِ جَدِّهِ أَنُوشِرْوَانَ مِنَ الشَّرَفِ، فَيَنْبَغِي أَنْ نَحْزَنَ لِقَتْلِهِ وَنَبْنِيَ لَهُ نَاوُوسًا، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ وَبَنَوْا لَهُ نَاوُوسًا وَأَخْرَجُوا جُثَّتَهُ وَكَفَّنُوهَا وَدَفَنُوهَا فِي النَّاوُوسِ. وَكَانَ مُلْكُهُ عِشْرِينَ سَنَةً، مِنْهَا أَرْبَعُ سِنِينَ فِي دَعَةٍ، وَسِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً فِي تَعَبٍ مِنْ مُحَارَبَةِ الْعَرَبِ إِيَّاهُ وَغِلْظَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ مَلَكَ مِنْ آلِ أَرْدِشِيرَ بْنِ بَابَكَ وَصَفَا الْمُلْكُ بَعْدَهُ لِلْعَرَبِ. ذكر مَسِيرِ ابْنِ عَامِرٍ إِلَى خُرَاسَانَ وَفَتْحِهَا لَمَّا قُتِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نَقَضَ أَهْلُ خُرَاسَانَ وَغَدَرُوا. فَلَمَّا افْتَتَحَ ابْنُ عَامِرٍ فَارِسَ قَامَ إِلَيْهِ حَبِيبُ بْنُ أَوْسٍ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنَّ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْكَ وَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلُ، فَسِرْ فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكَ. قَالَ: أَوَلَمْ نُأْمَرْ بِالْمَسِيرِ؟ وَكَرِهَ أَنْ يُظْهِرَ أَنَّهُ قَبِلَ رَأْيَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ ابْنَ عَامِرٍ لَمَّا فَتَحَ فَارِسَ عَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى إِصْطَخْرَ شَرِيكَ بْنَ الْأَعْوَرِ الْحَارِثِيَّ، فَبَنَى شَرِيكٌ مَسْجِدَ إِصْطَخْرَ. فَلَمَّا دَخَلَ الْبَصْرَةَ أَتَاهُ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَقِيلَ غَيْرُهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَدُوَّكَ مِنْكَ هَارِبٌ، وَلَكَ هَائِبٌ، وَالْبِلَادُ

وَاسِعَةٌ، فَسِرْ فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكَ وَمُعِزٌّ دِينَهُ. فَتَجَهَّزَ وَسَارَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَصْرَةِ زِيَادًا، وَسَارَ إِلَى كَرْمَانَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا مُجَاشِعَ بْنَ مَسْعُودٍ السُّلَمِيَّ، وَلَهُ صُحْبَةٌ، وَأَمَرَهُ بِمُحَارَبَةِ أَهْلِهَا، وَكَانُوا قَدْ نَكَثُوا أَيْضًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى سِجِسْتَانَ الرَّبِيعَ بْنَ زِيَادٍ الْحَارِثِيَّ، وَكَانُوا أَيْضًا قَدْ غَدَرُوا وَنَقَضُوا الصُّلْحَ. وَسَارَ ابْنُ عَامِرٍ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَجَعَلَ عَلَى مُقَدَّمَتِهِ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ، فَأَتَى الطَّبَسَيْنِ، وَهُمَا حِصْنَانِ، وَهُمَا بَابَا خُرَاسَانَ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهُمَا، وَسَارَ إِلَى قُوهِسْتَانَ فَلَقِيَهُ أَهْلُهَا، وَقَاتَلَهُمْ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إِلَى حِصْنِهِمْ، وَقَدِمَ عَلَيْهَا ابْنُ عَامِرٍ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى سِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَقِيلَ: كَانَ الْمُتَوَجِّهَ إِلَى قُوهِسْتَانَ أُمَيْرُ بْنُ أَحْمَرُ الْيَشْكُرِيُّ - وَهِيَ بِلَادُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ - وَبَعَثَ ابْنُ عَامِرٍ سَرِيَّةً إِلَى رُسْتَاقِ زَامَ مِنْ أَعْمَالِ نَيْسَابُورَ، فَفَتَحَهُ عَنْوَةً، وَفَتَحَ بَاخَرْزَ مِنْ أَعْمَالِ نَيْسَابُورَ أَيْضًا، وَفَتَحَ جُوَيْنَ مِنْ أَعْمَالِ نَيْسَابُورَ أَيْضًا. وَوَجَّهَ ابْنُ عَامِرٍ الْأَسْوَدَ بْنَ كُلْثُومٍ الْعَدَوِيَّ مِنْ عَدِيِّ الرَّبَابِ، وَكَانَ نَاسِكًا، إِلَى بَيْهَقَ، مِنْ أَعْمَالِهِمَا أَيْضًا، فَقَصَدَ قَصَبَتَهُ وَدَخَلَ حِيطَانَ الْبَلَدِ مِنْ ثُلْمَةٍ كَانَتْ فِيهِ، وَدَخَلَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذَ الْعَدُوُّ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الثُّلْمَةَ، فَقَاتَلَ الْأَسْوَدُ حَتَّى قُتِلَ هُوَ وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ مَعَهُ، وَقَامَ بِأَمْرِ النَّاسِ بَعْدَهُ أَخُوهُ أَدْهَمُ بْنُ كُلْثُومٍ، فَظَفِرَ وَفَتَحَ بَيْهَقَ، وَكَانَ الْأَسْوَدُ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَحْشُرَهُ مِنْ بُطُونِ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ، فَلَمْ يُوَارِهِ أَخُوهُ، وَدَفَنَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَفَتَحَ ابْنُ عَامِرٍ بُشْتَ مِنْ نَيْسَابُورَ. (وَهَذِهِ بُشْتُ: بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَيْسَتْ بِبُسْتَ الَّتِي بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، تِلْكَ مِنْ بِلَادِ الدَّاوُنِ، وَهَذِهِ مِنْ خُرَاسَانَ مِنْ نَيْسَابُورَ) . وَافْتَتَحَ خَوَافَ وَأَسْفَرَايِينَ وَأَرْغِيَانَ، ثُمَّ قَصَدَ نَيْسَابُورَ بَعْدَمَا اسْتَوْلَى عَلَى أَعْمَالِهَا وَافْتَتَحَهَا، فَحَصَرَ أَهْلَهَا أَشْهُرًا، وَكَانَ عَلَى كُلِّ رُبْعٍ مِنْهَا مَرْزُبَانٌ لِلْفُرْسِ يَحْفَظُهُ، فَطَلَبَ صَاحِبُ رُبْعٍ مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَاعِ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يُدْخِلَ الْمُسْلِمِينَ الْمَدِينَةَ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، فَأَدْخَلَهُمْ لَيْلًا فَفَتَحُوا الْبَابَ وَتَحَصَّنَ مَرْزُبَانُهَا الْأَكْبَرُ فِي حِصْنِهَا، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، وَطَلَبَ الْأَمَانَ وَالصُّلْحَ عَلَى جَمِيعِ نَيْسَابُورَ، فَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَوَلَّى نَيْسَابُورَ قَيْسَ بْنَ الْهَيْثَمِ السُّلَمِيَّ، وَسَيَّرَ جَيْشًا إِلَى نَسَا وَأَبِيوَرْدَ فَافْتَتَحُوهَا صُلْحًا، وَسَيَّرَ سَرِيَّةً

أُخْرَى إِلَى سَرْخَسَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ السُّلَمِيِّ، فَقَاتَلُوا أَهْلَهَا ثُمَّ طَلَبُوا الْأَمَانَ وَالصُّلْحَ عَلَى أَمَانِ مِائَةِ رَجُلٍ، فَأُجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ، فَصَالَحَهُمْ مَرْزُبَانُهَا عَلَى ذَلِكَ، وَسَمَّى مِائَةَ رَجُلٍ وَلَمْ يَذْكُرْ نَفْسَهُ فَقَتَلَهُ، وَدَخَلَ سَرْخَسَ عَنْوَةً. وَأَتَى مَرْزُبَانُ طُوسَ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ فَصَالَحَهُ عَنْ طُوسَ عَلَى سِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَسَيَّرَ جَيْشًا إِلَى هَرَاةَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ، وَقِيلَ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ مَرْزُبَانَ هَرَاةَ ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ فَصَالَحَهُ عَنْ هَرَاةَ وَبَاذَغِيسَ وَبُوشَنْجَ. وَقِيلَ: بَلْ سَارَ ابْنُ عَامِرٍ فِي الْجَيْشِ إِلَى هَرَاةَ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا ثُمَّ صَالَحَهُ مَرْزُبَانُهَا عَلَى أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمَّا غَلَبَ ابْنُ عَامِرٍ عَلَى هَذِهِ الْبِلَادِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَرْزُبَانُ مَرْوَ فَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ ابْنُ عَامِرٍ حَاتِمَ بْنَ النُّعْمَانِ الْبَاهِلِيَّ إِلَى مَرْزُبَانِهَا، وَكَانَتْ مَرْوُ كُلُّهَا صُلْحًا إِلَّا قَرْيَةً مِنْهَا يُقَالُ لَهَا سِنْجُ، فَإِنَّهَا أُخِذَتْ عَنْوَةً (وَهِيَ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ السَّاكِنَةِ وَآخِرُهَا جِيمٌ) . وَوَجَّهَ ابْنُ عَامِرٍ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ إِلَى طُخَارِسْتَانَ، فَمَرَّ بِرُسْتَاقٍ يُعْرَفُ بِرُسْتَاقِ الْأَحْنَفِ، وَيُدْعَى سِوَانْجَرْدَ، فَحَصَرَ أَهْلَهَا، فَصَالَحُوهُ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ الْأَحْنَفُ: أُصَالِحُكُمْ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ رَجُلٌ مِنَّا الْقَصْرَ فَيُؤَذِّنَ فِيهِ، وَيُقِيمَ فِيكُمْ حَتَّى يَنْصَرِفَ. فَرَضُوا بِذَلِكَ، وَمَضَى الْأَحْنَفُ إِلَى مَرْوِ الرُّوَذِ فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا فَقَتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ وَحَصَرَهُمْ، وَكَانَ مَرْزُبَانُهَا مِنْ أَقَارِبِ بَاذَانَ صَاحِبِ الْيَمَنِ، فَكَتَبَ إِلَى الْأَحْنَفِ: إِنَّهُ دَعَانِي إِلَى الصُّلْحِ إِسْلَامُ بَاذَانَ، فَصَالَحَهُ عَلَى سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ، وَسَيَّرَ الْأَحْنَفَ سَرِيَّةً، فَاسْتَوْلَتْ عَلَى رُسْتَاقِ بَغَ وَاسْتَاقَتْ مِنْهُ مَوَاشِيَ، ثُمَّ صَالَحُوا أَهْلَهُ. وَجُمِعَ لَهُ أَهْلُ طُخَارِسْتَانَ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْجُوزَجَانِ وَالطَّالَقَانِ وَالْفَارِيَابِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، وَحَمَلَ مَلِكُ الصَّغَانِيَانِ عَلَى الْأَحْنَفِ، فَانْتَزَعَ الْأَحْنَفُ الرُّمْحَ مِنْ يَدِهِ وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَقَتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ قَتْلًا ذَرِيعًا كَيْفَ شَاءُوا، وَعَادَ إِلَى مَرْوِ الرُّوَذِ، وَلَحِقَ بَعْضُ الْعَدُوِّ بِالْجُوزَجَانِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْأَحْنَفُ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التَّمِيمِيَّ فِي

خَيْلٍ وَقَالَ: يَا بَنِي تَمِيمٍ تَحَابُّوا وَتَبَاذَلُوا تُعْدَلْ أُمُورُكُمْ، وَابْدَءُوا بِجِهَادِ بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ يَصْلُحْ لَكُمْ دِينُكُمْ، وَلَا تَغْلُوا يَسْلَمْ لَكُمْ جِهَادُكُمْ. فَسَارَ الْأَقْرَعُ فَلَقِيَ الْعَدُوَّ بِالْجُوزَجَانِ فَكَانَتْ بِالْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، ثُمَّ عَادُوا فَهَزَمُوا الْمُشْرِكِينَ وَفَتَحُوا الْجُوزَجَانَ عَنْوَةً، فَقَالَ ابْنُ الْغَرِيزَةِ النَّهْشَلِيُّ: سَقَى صَوْبُ السَّحَابِ إِذَا اسْتَهَلَّتْ ... مَصَارِعَ فِتْيَةٍ بِالْجُوزَجَانِ إِلَى الْقَصْرَيْنِ مِنْ رُسْتَاقِ خُوتٍ ... أَقَادَهُمْ هُنَاكَ الْأَقْرَعَانِ وَفَتَحَ الْأَحْنَفُ الطَّالَقَانَ صُلْحًا، وَفَتَحَ الْفَارِيَابَ، وَقِيلَ: بَلْ فَتَحَهَا أُمَيْرُ بْنُ أَحْمَرَ، ثُمَّ سَارَ الْأَحْنَفُ إِلَى بَلْخَ، وَهِيَ مَدِينَةُ طُخَارِسْتَانَ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ، وَقِيلَ: سَبْعِمِائَةِ أَلْفٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى بَلْخَ أَسِيدَ بْنَ الْمُتَشَمِّسِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى خَوَارِزْمَ، وَهِيَ عَلَى نَهْرِ جَيْحُونَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ حُضَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ: إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَمْرًا فَدَعْهُ ... وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ فَعَادَ إِلَى بَلْخَ وَقَدْ قَبَضَ أَسِيدٌ صُلْحَهَا، وَوَافَقَ وَهُوَ يُجِيبُهُمُ الْمَهْرَجَانَ، فَأَهْدَوْا لَهُ هَدَايَا كَثِيرَةً مِنْ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ وَدَوَابَّ وَأَوَانٍ وَثِيَابٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا صَالَحْنَاهُمْ عَلَى هَذَا! : فَقَالُوا لَا، وَلَكِنْ هَذَا شَيْءٌ نَفْعَلُهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِأُمَرَائِنَا. فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا وَلَعَلَّهُ مِنْ حَقِّي، وَلَكِنْ أَقْبِضُهُ حَتَّى أَنْظُرَ، فَقَبَضَهُ حَتَّى قَدِمَ الْأَحْنَفُ فَأَخْبَرَهُ، فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ، فَقَالُوا مَا قَالُوا لِأَسِيدٍ، فَحَمَلَهُ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ وَأَخْبَرَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: خُذْهُ يَا أَبَا بَحْرٍ. قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. فَأَخَذَهُ ابْنُ عَامِرٍ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: فَضَمَّهُ الْقُرَشِيُّ ... ، وَكَانَ مُضِمًّا. وَلَمَّا تَمَّ لَابْنِ عَامِرٍ هَذَا الْفَتْحُ قَالَ لَهُ النَّاسُ: مَا فُتِحَ لِأَحَدٍ مَا فُتِحَ عَلَيْكَ، فَارِسُ وَكَرْمَانُ وَسِجِسْتَانُ وَخُرَاسَانُ. فَقَالَ: لَا جَرَمَ لَأَجْعَلَنَّ شُكْرِي لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ أَنْ أَخْرُجَ مُحْرِمًا مِنْ مَوْقِفِي هَذَا. فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ نَيْسَابُورَ وَقَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى خُرَاسَانَ قَيْسَ بْنَ الْهَيْثَمِ، فَسَارَ قَيْسٌ بَعْدَ شُخُوصِهِ فِي أَرْضِ طَخَارِسْتَانَ، فَلَمْ يَأْتِ بَلَدًا

مِنْهَا إِلَّا صَالَحَهُ أَهْلُهُ وَأَذْعَنُوا لَهُ، حَتَّى أَتَى سِمِنْجَانَ فَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ، فَحَصَرَهُمْ حَتَّى فَتَحَهَا عَنْوَةً. (أَسِيدٌ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ. وَحُضَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ: بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ) . ذكر فَتْحِ كَرْمَانَ لَمَّا سَارَ ابْنُ عَامِرٍ عَنْ كَرْمَانَ إِلَى خُرَاسَانَ وَاسْتَعْمَلَ مُجَاشِعَ بْنَ مَسْعُودٍ السُّلَمِيَّ عَلَى كَرْمَانَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، أَمَرَهُ أَنْ يَفْتَحَهَا، وَكَانَ أَهْلُهَا قَدْ نَكَثُوا وَغَدَرُوا، فَفَتَحَ هَمِيدَ عَنْوَةً وَاسْتَبْقَى أَهْلَهَا وَأَعْطَاهُمْ أَمَانًا، وَبَنَى بِهَا قَصْرًا يُعْرَفُ بِقَصْرِ مُجَاشِعٍ، وَأَتَى السِّيرَجَانَ، وَهِيَ مَدِينَةُ كَرْمَانَ، فَأَقَامَ عَلَيْهَا أَيَّامًا يَسِيرَةً وَأَهْلُهَا مُتَحَصِّنُونَ، فَقَاتَلَهُمْ وَفَتَحَهَا عَنْوَةً، فَجَلَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا عَنْهَا، وَفَتَحَ جِيرَفْتَ عَنْوَةً، وَسَارَ فِي كَرْمَانَ فَدَوَّخَ أَهْلَهَا، وَأَتَى الْقَفَصَ وَقَدْ تَجَمَّعَ لَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ جَلَوْا، فَقَاتَلَهُمْ فَظَفِرَ بِهِمْ وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ، وَهَرَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ كَرْمَانَ فَرَكِبُوا الْبَحْرَ، وَلَحِقَ بَعْضُهُمْ بِمُكْرَانَ وَبَعْضُهُمْ بِسِجِسْتَانَ، فَأُقْطِعَتِ الْعَرَبُ مَنَازِلَهُمْ وَأَرَاضِيَهُمْ فَعَمَّرُوهَا، وَاحْتَفَرُوا لَهَا الْقُنِيَّ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا، وَأَدَّوُا الْعُشْرَ مِنْهَا. ذكر فَتْحِ سِجِسْتَانَ وَكَابُلَ وَغَيْرِهِمَا قَدْ تَقَدَّمَ فَتْحُ سِجِسْتَانَ أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَهَا نَقَضُوا بَعْدَهُ. فَلَمَّا تَوَجَّهَ ابْنُ عَامِرٍ إِلَى خُرَاسَانَ سَيَّرَ إِلَيْهَا مِنْ كَرْمَانَ الرَّبِيعَ بْنَ زِيَادٍ الْحَارِثِيَّ، فَقَطَعَ الْمَفَازَةَ حَتَّى أَتَى حِصْنَ زَالِقٍ، فَأَغَارَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ مَهْرَجَانٍ وَأَخَذَ الدِّهْقَانَ، فَافْتَدَى نَفْسَهُ بِأَنْ غَرَزَ عَنَزَةً وَغَمَرَهَا ذَهَبًا وَفِضَّةً، وَصَالَحَهُ عَلَى صُلْحِ فَارِسَ. ثُمَّ أَتَى بَلْدَةً يُقَالُ لَهَا كَرْكُوَيْهِ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا، وَسَارَ إِلَى زَرَنْجَ فَنَزَلَ عَلَى مَدِينَةِ رُوَشْتَ بِقُرْبِ زَرَنْجَ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا وَأُصِيبَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأَتَى الرَّبِيعُ نَاشِرُوذَ فَفَتَحَهَا، ثُمَّ أَتَى شَرْوَاذَ فَغَلَبَ عَلَيْهَا، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى زَرَنْجَ فَنَازَلَهَا وَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا فَهَزَمَهُمْ وَحَصَرَهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَرْزُبَانُهَا لِيُصَالِحَهُ وَاسْتَأْمَنَهُ عَلَى نَفْسِهِ لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ فَأَمَّنَهُ، وَجَلَسَ لَهُ الرَّبِيعُ عَلَى جَسَدٍ مِنْ أَجْسَادِ الْقَتْلَى وَاتَّكَأَ عَلَى آخَرَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَلَمَّا رَآهُمُ الْمَرْزُبَانُ هَالَهُ ذَلِكَ فَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفِ وَصِيفٍ مَعَ كُلِّ وَصِيفٍ جَامٌ مَنْ ذَهَبٍ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْمَدِينَةَ. ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى سَنَارُوذَ، وَهِيَ وَادٍ، فَعَبَرَهُ وَأَتَى الْقَرْيَةَ الَّتِي بِهَا

مَرْبِطُ فَرَسِ رُسْتُمَ الشَّدِيدِ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا، فَظَفِرَ بِهِمْ ثُمَّ عَادَ إِلَى زَرَنْجَ وَأَقَامَ بِهَا نَحْوَ سَنَةً، وَعَادَ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا عَامِلًا، فَأَخْرَجَ أَهْلُهَا الْعَامِلَ وَامْتَنَعُوا. فَكَانَتْ وِلَايَةُ الرَّبِيعِ سَنَةً وَنِصْفًا. وَسَبَى فِيهَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ رَأْسٍ. وَكَانَ كَاتِبُهُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ. فَاسْتَعْمَلَ ابْنُ عَامِرٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ عَلَى سِجِسْتَانَ، فَسَارَ إِلَيْهَا فَحَصَرَ زَرَنْجَ، فَصَالَحَهُ مَرْزُبَانُهَا عَلَى أَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَلْفَيْ وَصِيفٍ. وَغَلَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى مَا بَيْنَ زَرَنْجَ وَالْكَشِّ مِنْ نَاحِيَةِ الْهِنْدِ، وَغَلَبَ مِنْ نَاحِيَةِ الرُّخَّجِ عَلَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّاوَرِ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَلَدِ الدَّاوَرِ حَصَرَهُمْ فِي جَبَلِ الزَّوْرِ، ثُمَّ صَالَحَهُمْ وَدَخَلَ عَلَى الزُّورِ، وَهُوَ صَنَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، عَيْنَاهُ يَاقُوتَتَانِ، فَقَطَعَ يَدَهُ وَأَخَذَ الْيَاقُوتَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَرْزُبَانِ: دُونَكَ الذَّهَبُ وَالْجَوْهَرُ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُعْلِمَكَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ. وَفَتَحَ كَابُلَ وَزَابُلِسْتَانَ، وَهِيَ وِلَايَةُ غَزْنَةَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى زَرَنْجَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى اضْطَرَبَ أَمْرُ عُثْمَانَ، فَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا أُمَيْرَ بْنَ أَحْمَرَ الْيَشْكُرِيَّ وَانْصَرَفَ، فَأَخْرَجَ أَهْلُهَا أُمَيْرَ بْنَ أَحْمَرَ وَامْتَنَعُوا، وَلِأُمَيْرٍ يَقُولُ زِيَادُ بْنُ الْأَعْجَمِ: لَوْلَا أُمَيْرٌ هَلَكَتْ يَشْكُرُ ... وَيَشْكُرُ هَلْكَى عَلَى كُلِّ حَالٍ ذكر عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عُثْمَانُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الدَّرْدَاءِ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ، وَقِيلَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. وَفِيهَا

مَاتَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ، وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ.

وَفِيهَا مَاتَ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْبَدْرِيِّينَ. (أُسَيْدٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ) . وَفِيهَا مَاتَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، (وَأَخُوهُ

الطُّفَيْلُ) . (وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً) .

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ] (32) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ (قِيلَ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ مَضِيقَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ قَرَظَةَ، وَقِيلَ فَاخِتَةُ) . ذكر ظَفَرِ التُّرْكِ وَقَتْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْتَصَرَتِ الْخَزَرُ وَالتُّرْكُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَسَبَبُهُ أَنَّ الْغَزَوَاتِ لَمَّا تَتَابَعَتْ عَلَيْهِمْ تَذَامَرُوا وَقَالُوا: كُنَّا [أُمَّةً] لَا يُقْرَنُ بِنَا أَحَدٌ، حَتَّى جَاءَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْقَلِيلَةُ فَصِرْنَا لَا نَقُومُ لَهَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَمُوتُونَ وَمَا أُصِيبَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فِي غَزْوِهِمْ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ غَزُوهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَلِهَذَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَفَلَا تُجَرِّبُونَ؟ فَكَمَنُوا لَهُمْ فِي الْغِيَاضِ، فَمَرَّ بِالْكَمِينِ نَفَرٌ مِنَ الْجُنْدِ فَرَمَوْهُمْ مِنْهَا فَقَتَلُوهُمْ، فَتَوَاعَدَ رُءُوسُهُمْ إِلَى حَرْبِهِمْ ثُمَّ اتَّعَدُوا يَوْمًا. وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَبِيعَةَ وَهُوَ عَلَى الْبَابِ: إِنَّ الرَّعِيَّةَ قَدْ أَبْطَرَهَا الْبِطْنَةُ، فَلَا تَقْتَحِمْ بِالْمُسْلِمِينَ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يُقْتَلُوا. فَلَمْ يَرْجِعْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ مَقْصِدِهِ، فَغَزَا نَحْوَ بَلَنْجَرَ، وَكَانَ التُّرْكُ قَدِ اجْتَمَعَتْ مَعَ الْخَزَرِ، فَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ قِتَالًا شَدِيدًا وَقُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو النُّورِ، وَهُوَ اسْمُ سَيْفِهِ، فَأَخَذَ أَهْلُ بَلَنْجَرَ جَسَدَهُ وَجَعَلُوهُ فِي تَابُوتٍ فَهُمْ يَسْتَسْقُونَ بِهِ، فَلَمَّا قُتِلَ انْهَزَمَ النَّاسُ وَافْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً نَحْوَ الْبَابِ، فَلَقُوا سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ أَخَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَانَ قَدْ سَيَّرَهُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ مَدَدًا

لِلْمُسْلِمِينَ بِأَمْرِ عُثْمَانَ، فَلَمَّا لَقُوهُ نَجَوْا مَعَهُ، وَفِرْقَةً نَحْوَ جِيلَانَ وَجُرْجَانَ، فِيهِمْ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْعَسْكَرِ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيُّ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَمِعْضَدٌ الشَّيْبَانِيُّ، وَأَبُو مُفْرَزٍ التَّمِيمِيُّ فِي خِبَاءٍ وَاحِدٍ، وَعَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ، وَخَالِدُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْحِلْحَالُ بْنُ ذَرِيٍّ، وَالْقَرْثَعُ فِي خِبَاءٍ، فَكَانُوا مُتَجَاوِرِينَ فِي ذَلِكَ الْعَسْكَرِ، وَكَانَ الْقَرْثَعُ يَقُولُ: مَا أَحْسَنَ لَمْعَ الدِّمَاءِ عَلَى الثِّيَابِ! وَكَانَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ يَقُولُ لِقَبَاءٍ عَلَيْهِ: مَا أَحْسَنَ حُمْرَةَ الدِّمَاءِ عَلَى بَيَاضِكَ! وَرَأَى يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَنَّ غَزَالًا جِيءَ بِهِ لَمْ يُرَ أَحْسَنَ مِنْهُ فَلُفَّ فِي مِلْحَفَةٍ، ثُمَّ دُفِنَ فِي قَبْرٍ لَمْ يُرَ أَحْسَنَ مِنْهُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قُعُودٌ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ وَاقْتَتَلَ النَّاسُ رُمِيَ بِحَجَرٍ فَهَشَّمَ رَأْسَهُ فَمَاتَ، فَكَأَنَّمَا زُيِّنَ ثَوْبُهُ بِالدِّمَاءِ وَلَيْسَ بِتَلْطِيخٍ، فَدُفِنَ فِي قَبْرٍ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي رَأَى. وَقَالَ مِعْضَدٌ لِعَلْقَمَةَ: أَعِرْنِي بُرْدَكَ أَعْصِبُ بِهِ رَأْسِي، فَفَعَلَ، فَأَتَى بُرْجَ بَلَنْجَرَ الَّذِي أُصِيبَ فِيهِ يَزِيدُ فَرَمَاهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ، وَأَتَاهُ حَجَرُ عَرَّادَةٍ فَفَضَخَ هَامَتَهُ، فَأَخَذَهُ أَصْحَابُهُ فَدَفَنُوهُ إِلَى جَنْبِ يَزِيدَ، وَأَخَذَ عَلْقَمَةُ الْبُرْدَ، فَكَانَ يَغْسِلُهُ فَلَا يَخْرُجُ أَثَرُ الدَّمِ مِنْهُ، وَكَانَ يَشْهَدُ فِيهِ الْجُمُعَةَ وَيَقُولُ: يَحْمِلُنِي عَلَى هَذَا أَنَّ دَمَ مِعْضَدٍ فِيهِ. وَأَصَابَ عَمْرَو بْنَ عُتْبَةَ جِرَاحَةٌ فَرَأَى قِبَاءَهُ كَمَا اشْتَهَى ثُمَّ قُتِلَ. وَأَمَّا الْقَرْثَعُ فَإِنَّهُ قَاتَلَ حَتَّى خُرِقَ بِالْحِرَابِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ عُثْمَانَ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ، انْتَكَثَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِمْ وَأَقْبِلْ بِهِمْ! وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ كَتَبَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنْ يُنْفِذَ سَلْمَانَ إِلَى الْبَابِ لِلْغَزْوِ، فَسَيَّرَهُ فَلَقِيَ الْمَهْزُومِينَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَنَجَّاهُمُ اللَّهُ بِهِ. فَلَمَّا أُصِيبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ اسْتَعْمَلَ سَعِيدٌ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ عَلَى الْبَابِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْغَزْوِ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، وَمَدَّهُمْ عُثْمَانُ بِأَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَتَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ سَلْمَانُ وَأَبُو حَبِيبٍ حَتَّى قَالَ أَهْلُ الشَّامِ: لَقَدْ هَمَمْنَا بِضَرْبِ سَلْمَانَ. فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِذَنْ وَاللَّهِ نَضْرِبُ حَبِيبًا وَنَحْبِسُهُ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ كَثُرَتِ الْقَتْلَى فِينَا وَفِيكُمْ، وَقَالَ أَوْسُ بْنُ مَغْرَاءَ فِي ذَلِكَ: إِنْ تَضْرِبُوا سَلْمَانَ نَضْرِبْ حَبِيبَكُمْ ... وَإِنْ تَرْحَلُوا نَحْوَ ابْنِ عَفَّانَ نَرْحَلُ وَإِنْ تُقْسِطُوا فَالثَّغْرُ ثَغْرُ أَمِيرِنَا ... وَهَذَا أَمِيرٌ فِي الْكَتَائِبِ مُقْبِلُ

وَنَحْنُ وُلَاةُ الْأَمْرِ كُنَّا حُمَاتَهُ لَيَالِيَ نَرْمِي كُلَّ ثَغْرٍ وَنَعْكِلُ وَأَرَادَ حَبِيبٌ أَنْ يَتَأَمَّرَ عَلَى صَاحِبِ الْبَابِ كَمَا يَتَأَمَّرُ أَمِيرُ الْجَيْشِ إِذَا جَاءَ مِنَ الْكُوفَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ اخْتِلَافٍ وَقَعَ بَيْنَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالشَّامِ. وَغَزَا حُذَيْفَةُ ثَلَاثَ غَزَوَاتٍ، فَقُتِلَ عُثْمَانُ فِي الثَّالِثَةِ، وَلَقِيَهُمْ مَقْتَلُ عُثْمَانَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: اللَّهُمَّ الْعَنْ قَتَلَتَهُ وَشُتَّامَهُ! اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نُعَاتِبُهُ وَيُعَاتِبُنَا فَاتَّخَذُوا ذَلِكَ سُلَّمًا إِلَى الْفِتْنَةِ! اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُمْ إِلَّا بِالسُّيُوفِ! ذكر وَفَاةِ أَبِي ذَرٍّ وَفِيهَا مَاتَ أَبُو ذَرٍّ، وَكَانَ قَدْ قَالَ لِابْنَتِهِ: اسْتَشْرِفِي يَا بُنَيَّةُ هَلْ تَرَيْنَ أَحَدًا؟ قَالَتْ:

لَا. قَالَ: فَمَا جَاءَتْ سَاعَتِي بَعْدُ. ثُمَّ أَمَرَهَا فَذَبَحَتْ شَاةً ثُمَّ طَبَخَتْهَا ثُمَّ قَالَ: إِذَا جَاءَكِ الَّذِينَ يَدْفِنُونَنِي فَإِنَّهُ سَيَشْهَدُنِي قَوْمٌ صَالِحُونَ فَقُولِي لَهُمْ: يُقْسِمُ عَلَيْكُمْ أَبُو ذَرٍّ أَنْ لَا تَرْكَبُوا حَتَّى تَأْكُلُوا. فَلَمَّا نَضِجَتْ قِدْرُهَا قَالَ لَهَا: انْظُرِي هَلْ تَرَيْنَ أَحَدًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ هَؤُلَاءِ رَكْبٌ. قَالَ: اسْتَقْبِلِي بِي الْكَعْبَةَ، فَفَعَلَتْ. فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ مَاتَ، فَخَرَجَتِ ابْنَتُهُ فَتَلَقَّتْهُمْ وَقَالَتْ: رَحِمَكُمُ اللَّهُ! اشْهَدُوا أَبَا ذَرٍّ. قَالُوا: وَأَيْنَ هُوَ؟ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ، قَالُوا: نَعَمْ وَنُعْمَةُ عَيْنٍ! لَقَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهَ بِذَلِكَ. «وَكَانَ فِيهِمُ ابْنُ مَسْعُودٍ فَبَكَى وَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ» . فَغَسَّلُوهُ وَكَفَّنُوهُ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ وَدَفَنُوهُ. وَقَالَتْ لَهُمُ ابْنَتُهُ: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ، وَأَقْسَمَ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَرْكَبُوا حَتَّى تَأْكُلُوا، فَفَعَلُوا وَحَمَلُوا أَهْلَهُ مَعَهُمْ حَتَّى أَقْدَمُوهُمْ مَكَّةَ وَنَعَوْهُ إِلَى عُثْمَانَ، فَضَمَّ ابْنَتَهُ إِلَى عِيَالِهِ وَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ وَيَغْفِرُ لَهُ نُزُولَهُ الرَّبَذَةَ. وَلَمَّا حَضَرُوا شَمُّوا مِنَ الْخِبَاءِ رِيحَ مِسْكٍ فَسَأَلُوهَا عَنْهُ فَقَالَتْ: إِنَّهُ لَمَّا حُضِرَ قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ يَحْضُرُهُ شُهُودٌ يَجِدُونَ الرِّيحَ لَا يَأْكُلُونَ، فَدُوفِي مِسْكًا لَهُمْ بِمَاءٍ وَرُشِّي بِهِ الْخِبَاءَ. وَكَانَ النَّفَرُ الَّذِينَ شَهِدُوهُ: ابْنَ مَسْعُودٍ، وَأَبَا مُفْرَزٍ، وَبَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيَّيْنِ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ يَزِيدَ، وَعَلْقَمَةَ بْنَ قَيْسٍ، وَمَالِكَ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّيْنِ، وَالْحِلْحَالَ الضَّبِّيَّ، وَالْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ التَّمِيمِيَّ، وَعَمْرَو بْنَ عُتْبَةَ السُّلَمِيَّ، وَابْنَ رَبِيعَةَ السُّلَمِيَّ، وَأَبَا رَافِعٍ الْمُزَنِيَّ، وَسُوَيْدَ بْنَ شُعْبَةَ التَّمِيمِيَّ، وَزِيَادَ بْنَ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيَّ، وَأَخَا الْقَرْثَعِ الضَّبِّيَّ، وَأَخَا مَعْضِدٍ الشَّيْبَانِيَّ. وَقِيلَ: كَانَ مَوْتُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ.

وَقِيلَ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَحْمِلْ أَهْلَ أَبِي ذَرٍّ مَعَهُ إِنَّمَا تَرَكَهُمْ حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ بِمَكَّةَ فَأَعْلَمَهُ بِمَوْتِهِ، فَجَعَلَ عُثْمَانُ طَرِيقَهُ عَلَيْهِمْ فَحَمَلَهُمْ مَعَهُ. ذكر خُرُوجِ قَارِنَ ثُمَّ جَمَعَ قَارِنُ جَمْعًا كَثِيرًا مِنْ نَاحِيَةِ الطَّبَسَيْنِ وَأَهْلِ بَاذَغِيسَ وَهَرَاةَ وَقُوهِسْتَانَ وَأَقْبَلَ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَقَالَ قَيْسٌ لِابْنِ خَازِمٍ: مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ تُخَلِّيَ الْبِلَادَ، فَإِنِّي أَمِيرُهَا وَمَعِي عَهْدٌ مِنِ ابْنِ عَامِرٍ إِذَا كَانَتْ حَرْبٌ بِخُرَاسَانَ فَأَنَا أَمِيرُهَا، وَأَخْرَجَ كِتَابًا كَانَ قَدِ افْتَعَلَهُ عَمْدًا، فَكَرِهَ قَيْسٌ مُنَازَعَتَهُ وَخَلَّاهُ وَالْبِلَادَ، وَأَقْبَلَ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ، فَلَامَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَقَالَ: قَدْ تَرَكْتَ الْبِلَادَ خَرَابًا وَأَقْبَلْتَ! قَالَ: جَاءَنِي بِعَهْدٍ مِنْكَ. قَالَ: فَسَارَ ابْنُ خَازِمٍ إِلَى قَارِنَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَأَمَرَ النَّاسَ فَحَمَلُوا الْوَدَكَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ قَارِنَ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُدْرِجَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى زُجِّ رُمْحِهِ خِرْقَةً أَوْ قُطْنًا، ثُمَّ يُكْثِرُوا دُهْنَهُ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَمْسَى، فَقَدَّمَ مُقَدَّمَتَهُ سِتَّمِائَةٍ ثُمَّ اتَّبَعَهُمْ، وَأَمَرَ النَّاسَ فَأَشْعَلُوا النِّيرَانَ فِي أَطْرَافِ الرِّمَاحِ، فَانْتَهَتْ مُقَدَّمَتُهُ إِلَى مُعَسْكَرِ قَارِنَ نِصْفَ اللَّيْلِ فَنَاوَشُوهُمْ، وَهَاجَ النَّاسُ عَلَى دَهَشٍ وَكَانُوا آمِنِينَ مِنَ الْبَيَاتِ، وَدَنَا ابْنُ خَازِمٍ مِنْهُمْ فَرَأَوُا النِّيرَانَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً تَتَقَدَّمُ وَتَتَأَخَّرُ وَتَنْخَفِضُ وَتَرْتَفِعُ، فَهَالَهُمْ ذَلِكَ، وَمُقَدَّمَةُ ابْنِ خَازِمٍ يُقَاتِلُونَهُمْ، ثُمَّ غَشِيَهُمُ ابْنُ خَازِمٍ بِالْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَ قَارِنَ، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَاتَّبَعُوهُمْ يَقْتُلُونَهُمْ كَيْفَ شَاءُوا، وَأَصَابُوا سَبْيًا كَثِيرًا. وَكَتَبَ ابْنُ خَازِمٍ بِالْفَتْحِ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ، فَرَضِيَ وَأَقَرَّهُ عَلَى خُرَاسَانَ، فَلَبِثَ عَلَيْهَا حَتَّى انْقَضَى أَمْرُ الْجَمَلِ، وَأَقْبَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَشَهِدَ وَقْعَةَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَكَانَ مَعَهُ فِي دَارِ سَنْبِيلٍ. وَقِيلَ: لَمَّا جَمَعَ قَارِنُ اسْتَشَارَ قَيْسُ بْنُ الْهَيْثَمِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَازِمٍ فِيمَا يَصْنَعُ، فَقَالَ: أَرَى أَنَّكَ لَا تُطِيقُ كَثْرَةَ مَنْ قَدْ أَتَانَا، فَاخْرُجْ بِنَفْسِكَ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ فَتُخْبِرَهُ بِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ، وَنُقِيمُ نَحْنُ فِي الْحُصُونِ وَنُطَاوِلُهُمْ وَيَأْتِينَا مَدَدُكُمْ. فَخَرَجَ قَيْسٌ، فَلَمَّا أَمْعَنَ أَظْهَرَ ابْنُ خَازِمٍ عَهْدًا وَقَالَ: قَدْ وَلَّانِي ابْنُ عَامِرٍ خُرَاسَانَ، فَسَارَ إِلَى قَارِنَ فَظَفِرَ بِهِ وَكَتَبَ بِالْفَتْحِ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ فَأَقَرَّهُ عَلَى خُرَاسَانَ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْبَصْرَةِ يَغْزُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ صَالَحَ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، فَإِذَا عَادُوا تَرَكُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ نَجْدَةً.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ ثَمَانِيًا وَثَمَانِينَ

سَنَةً، كَانَ أَسَنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثَلَاثِ سِنِينَ. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعُمْرُهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَصَلَّى عَلَيْهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَقِيلَ

عُثْمَانُ. وَتُوُفِّيَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الَّذِي أُرِيَ الْأَذَانَ.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ] 33 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ غَزْوَةُ مُعَاوِيَةَ حِصْنَ الْمَرْأَةِ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ بِنَاحِيَةِ مَلَطْيَةَ. وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ إِفْرِيقِيَّةَ الثَّانِيَةَ حِينَ نَقَضَ أَهْلُهَا الْعَهْدَ، وَفِيهَا كَانَ مَسِيرُ الْأَحْنَفِ إِلَى خُرَاسَانَ وَفَتْحِ الْمَرْوَيْنِ، وَمَسِيرُ ابْنِ عَامِرٍ إِلَى نَيْسَابُورَ وَفَتْحِهَا، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ قُبْرُسَ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مُسْتَوْفًى، وَقِيلَ إِنَّ فَتْحَهَا كَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، فَلَمَّا كَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَعَانَ أَهْلُهَا الرُّومَ عَلَى الْغُزَاةِ فِي الْبَحْرِ بِمَرَاكِبَ أَعْطُوهُمْ إِيَّاهَا، فَغَزَاهُمْ مُعَاوِيَةُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ فَفَتَحَهَا عَنْوَةً فَقَتَلَ وَسَبَى، ثُمَّ أَقَرَّهُمْ عَلَى صُلْحِهِمْ وَبَعَثَ إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَبَنَوُا الْمَسَاجِدَ وَبَنَى مَدِينَةً. وَقِيلَ: كَانَتْ غَزْوَتُهُ الثَّانِيَةُ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ. ذكر تَسْيِيرِ مَنْ سُيِّرَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى الشَّامِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ عُثْمَانُ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى الشَّامِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ لَمَّا وَلَّاهُ عُثْمَانُ الْكُوفَةَ حِينَ شَهِدَ عَلَى الْوَلِيدِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، أَمَرَهُ أَنْ يُسَيِّرَ الْوَلِيدَ إِلَيْهِ، فَقَدِمَ سَعِيدٌ الْكُوفَةَ وَسَيَّرَ الْوَلِيدَ وَغَسَلَ الْمِنْبَرَ، فَنَهَاهُ رِجَالٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا مَعَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ، وَاخْتَارَ سَعِيدٌ وُجُوهَ النَّاسِ وَأَهْلَ الْقَادِسِيَّةِ وَقُرَّاءَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَكَانَ هَؤُلَاءِ دَخْلَتُهُ إِذَا خَلَا، وَأَمَّا إِذَا خَرَجَ فَكُلُّ النَّاسِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ،

فَدَخَلُوا عَلَيْهِ يَوْمًا، فَبَيْنَا هُمْ يَتَحَدَّثُونَ قَالَ حُبَيْشُ بْنُ فُلَانٍ الْأَسَدِيُّ: مَا أَجْوَدَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ! فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّ مَنْ لَهُ مِثْلُ النَّشَاسْتَجِ لَحَقِيقٌ أَنْ يَكُونَ جَوَادًا، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَهُ لَأَعَاشَكُمُ اللَّهُ بِهِ عَيْشًا رَغَدًا. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُبَيْشٍ، وَهُوَ حَدَثٌ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ هَذَا الْمِلْطَاطَ لَكَ، يَعْنِي لِسَعِيدٍ، وَهُوَ مَا كَانَ لِلْأَكَاسِرَةِ عَلَى جَانِبِ الْفُرَاتِ الَّذِي يَلِي الْكُوفَةَ. قَالُوا: فَضَّ اللَّهُ فَاكَ! وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْنَا بِكَ! فَقَالَ أَبُوهُ: غُلَامٌ فَلَا تَجَاوَزُهُ. فَقَالُوا: يَتَمَنَّى لَهُ سَوَادَنَا. قَالَ: وَيَتَمَنَّى لَكُمْ أَضْعَافَهُ، فَثَارَ بِهِ الْأَشْتَرُ، وَجُنْدَبٌ، وَابْنُ ذِي الْحِنْكَةِ، وَصَعْصَعَةُ، وَابْنُ الْكَوَّاءِ، وَكُمَيْلٌ، وَعُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ فَأَخَذُوهُ، فَثَارَ أَبُوهُ لِيَمْنَعَ عَنْهُ، فَضَرَبُوهُمَا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِمَا، وَجَعَلَ سَعِيدٌ يُنَاشِدُهُمْ وَيَأْبَوْنَ حَتَّى قَضَوْا مِنْهُمَا وَطَرًا. فَسَمِعَتْ بِذَلِكَ بَنُو أَسَدٍ فَجَاءُوا وَفِيهِمْ طُلَيْحَةُ، فَأَحَاطُوا بِالْقَصْرِ، وَرَكِبَتِ الْقَبَائِلُ فَعَاذُوا بِسَعِيدٍ، فَخَرَجَ سَعِيدٌ إِلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَوْمٌ تَنَازَعُوا وَقَدْ رَزَقَ اللَّهُ الْعَافِيَةَ، فَرَدَّهُمْ فَتَرَاجَعُوا. وَأَفَاقَ الرَّجُلَانِ فَقَالَا: قَاتَلَنَا غَاشِيَتُكَ. فَقَالَ: لَا يَغْشَوْنِي أَبَدًا، فَكُفَّا أَلْسِنَتَكُمَا وَلَا تُحَزِّبَا النَّاسَ. فَفَعَلَا، وَقَعَدَ أُولَئِكَ النَّفَرُ فِي بُيُوتِهِمْ وَأَقْبَلُوا يَقَعُونَ فِي عُثْمَانَ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَسْمُرُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وُجُوهُ أَهْلِ الْكُوفَةِ، مِنْهُمْ: مَالِكُ بْنُ كَعْبٍ الْأَرْحَبِيُّ وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ النَّخَعِيَّانِ، وَمَالِكٌ الْأَشْتَرُ، وَغَيْرُهُمْ، فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّمَا هَذَا السَّوَادُ بُسْتَانُ قُرَيْشٍ. فَقَالَ الْأَشْتَرُ: أَتَزْعُمُ أَنَّ السَّوَادَ الَّذِي أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا بِأَسْيَافِنَا بُسْتَانٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ؟ وَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ مَعَهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَسَدِيُّ، وَكَانَ عَلَى شُرْطَةِ سَعِيدٍ: أَتَرُدُّونَ عَلَى الْأَمِيرِ مَقَالَتَهُ؟ وَأَغْلَظَ لَهُمْ. فَقَالَ الْأَشْتَرُ: مَنْ هَاهُنَا؟ لَا يَفُوتَنَّكُمُ الرَّجُلُ! فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَوَطِئُوهُ وَطْأً شَدِيدًا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جُرَّ بِرِجْلِهِ، فَنُضِحَ بِمَاءٍ فَأَفَاقَ فَقَالَ: قَتَلَنِي مَنِ انْتَخَبْتُ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَسْمُرُ عِنْدِي

أَحَدٌ أَبَدًا. فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ يَشْتُمُونَ عُثْمَانَ وَسَعِيدًا، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمُ النَّاسُ حَتَّى كَثُرُوا، فَكَتَبَ سَعِيدٌ وَأَشْرَافُ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى عُثْمَانَ فِي إِخْرَاجِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُلْحِقُوهُمْ بِمُعَاوِيَةَ، وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: إِنَّ نَفَرًا قَدْ خُلِقُوا لِلْفِتْنَةِ فَأَقِمْ عَلَيْهِمْ وَانْهَهُمْ، فَإِنْ آنَسْتَ مِنْهُمْ رُشْدًا فَاقْبَلْ، وَإِنْ أَعْيَوْكَ فَارْدُدْهُمْ عَلَيَّ. فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ أَنْزَلَهُمْ كَنِيسَةَ مَرْيَمَ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ مَا كَانَ لَهُمْ بِالْعِرَاقِ بِأَمْرِ عُثْمَانَ، وَكَانَ يَتَغَدَّى وَيَتَعَشَّى مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ يَوْمًا: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ لَكُمْ أَسْنَانٌ وَأَلْسِنَةٌ، وَقَدْ أَدْرَكْتُمْ بِالْإِسْلَامِ شَرَفًا، وَغَلَبْتُمُ الْأُمَمَ وَحَوَيْتُمْ مَوَارِيثَهُمْ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ نَقِمْتُمْ قُرَيْشًا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ قُرَيْشٌ كُنْتُمْ أَذِلَّةً، إِنَّ أَئِمَّتَكُمْ لَكُمْ جُنَّةٌ فَلَا تَفْتَرِقُوا عَنْ جُنَّتِكُمْ، وَإِنَّ أَئِمَّتَكُمْ يَصْبِرُونَ لَكُمْ عَلَى الْجَوْرِ وَيَحْتَمِلُونَ مِنْكُمُ الْمَؤُونَةَ، وَاللَّهِ لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَيَبْتَلِيَنَّكُمُ اللَّهُ بِمَنْ يَسُومُكُمُ السُّوءَ وَلَا يَحْمَدُكُمْ عَلَى الصَّبْرِ، ثُمَّ تَكُونُونَ شُرَكَاءَهُمْ فِيمَا جَرَرْتُمْ عَلَى الرَّعِيَّةِ فِي حَيَاتِكُمْ وَبَعْدَ وَفَاتِكُمْ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ صَعْصَعَةُ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ قُرَيْشٍ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَكْثَرَ الْعَرَبِ وَلَا أَمْنَعَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتُخَوِّفَنَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْجُنَّةِ فَإِنَّ الْجُنَّةَ إِذَا اخْتُرِقَتْ خُلِصَ إِلَيْنَا. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: عَرَفْتُكُمُ الْآنَ وَعَلِمْتُ أَنَّ الَّذِي أَغْرَاكُمْ عَلَى هَذَا قِلَّةُ الْعُقُولِ، وَأَنْتَ خَطِيبُهُمْ وَلَا أَرَى لَكَ عَقْلًا، أُعَظِّمُ عَلَيْكَ أَمْرَ الْإِسْلَامِ وَتُذَكِّرُنِي بِالْجَاهِلِيَّةِ! أَخْزَى اللَّهُ قَوْمًا عَظَّمُوا أَمْرَكُمْ! افْقَهُوا عَنِّي، وَلَا أَظُنُّكُمْ تَفْقَهُونَ أَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تُعَزَّ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى، لَمْ تَكُنْ بِأَكْثَرِ الْعَرَبِ وَلَا أَشَدِّهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَكْرَمَهُمْ أَحْسَابًا، وَأَمْحَضَهُمْ أَنْسَابًا، وَأَكْمَلَهُمْ مُرُوءَةً، وَلَمْ يَمْتَنِعُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالنَّاسُ يَأْكُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِلَّا بِاللَّهِ، فَبَوَّأَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ! هَلْ تَعْرِفُونَ عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا أَوْ أَسْوَدَ أَوْ أَحْمَرَ إِلَّا وَقَدْ أَصَابَهُ الدَّهْرُ فِي بَلَدِهِ وَحُرْمَتِهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرِدْهُمْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِكَيْدٍ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ خَدَّهُ الْأَسْفَلَ، حَتَّى أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَسْتَنْقِذَ مَنْ أَكْرَمَ وَاتَّبَعَ دِينَهُ مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا وَسُوءِ مَرَدِّ الْآخِرَةِ، فَارْتَضَى لِذَلِكَ خَيْرَ خَيْرِ خَلْقِهِ، ثُمَّ ارْتَضَى لَهُ أَصْحَابًا فَكَانَ خِيَارُهُمْ قُرَيْشًا، ثُمَّ بَنَى هَذَا الْمُلْكَ عَلَيْهِمْ، وَنَجْعَلُ هَذِهِ الْخِلَافَةَ فِيهِمْ، فَلَا

يَصْلُحُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَيْهِمْ، فَكَانَ اللَّهُ يَحُوطُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، أَفَتَرَاهُ لَا يَحُوطُهُمْ وَهُمْ عَلَى دِينِهِ؟ أُفٍّ لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ! أَمَّا أَنْتَ يَا صَعْصَعَةُ فَإِنَّ قَرْيَتَكَ شَرُّ الْقُرَى! أَنْتَنُهَا بَيْتًا، وَأَعْمَقُهَا وَادِيًا، وَأَعْرَفُهَا بِالشَّرِّ، وَأَلْأَمُهَا جِيرَانًا! لَمْ يَسْكُنْهَا شَرِيفٌ قَطُّ وَلَا وَضِيعٌ إِلَّا سُبَّ بِهَا، ثُمَّ كَانُوا أَلْأَمَ الْعَرَبِ أَلْقَابًا وَأَصْهَارًا، نُزَّاعُ الْأُمَمِ، وَأَنْتُمْ جِيرَانُ الْخَطِّ، وَفَعَلَةُ فَارِسَ، حَتَّى أَصَابَتْكُمْ دَعْوَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَسْكُنِ الْبَحْرَيْنِ فَتُشْرِكَهُمْ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَنْتَ شَرُّ قَوْمِكَ، حَتَّى إِذَا أَبْرَزَكَ الْإِسْلَامُ وَخَلَطَكَ بِالنَّاسِ أَقْبَلْتَ تَبْغِي دِينَ اللَّهِ عِوَجًا، وَتَنْزِعُ إِلَى الذِّلَّةِ، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ قُرَيْشًا وَلَا يَضَعُهُمْ، وَلَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ تَأْدِيَةِ مَا عَلَيْهِمْ، إِنَّ الشَّيْطَانَ عَنْكُمْ غَيْرُ غَافِلٍ، قَدْ عَرَفَكُمْ بِالشَّرِّ فَأَغْرَى بِكُمُ النَّاسَ، وَهُوَ صَارِعُكُمْ، وَلَا تُدْرِكُونَ بِالشَّرِّ أَمْرًا أَبَدًا إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شَرًّا مِنْهُ وَأَخْزَى. ثُمَّ قَامَ وَتَرَكَهُمْ فَتَقَاصَرَتْ إِلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُمْ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ فَاذْهَبُوا حَيْثُ شِئْتُمْ لَا يَنْفَعُ اللَّهُ بِكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَلَا يَضُرُّهُ، وَلَا أَنْتُمْ بِرِجَالِ مَنْفَعَةٍ وَلَا مَضَرَّةٍ، فَإِنْ أَرَدْتُمُ النَّجَاةَ فَالْزَمُوا جَمَاعَتَكُمْ وَلَا يُبْطِرَنَّكُمُ الْإِنْعَامُ، فَإِنَّ الْبَطَرَ لَا يَعْتَرِي الْخِيَارَ، اذْهَبُوا حَيْثُ شِئْتُمْ فَسَأَكْتُبُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِيكُمْ. فَلَمَّا خَرَجُوا دَعَاهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي مُعِيدٌ عَلَيْكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَعْصُومًا فَوَلَّانِي وَأَدْخَلَنِي فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ فَوَلَّانِي، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَوَلَّانِي، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ فَوَلَّانِي، وَلَمْ يُولِّنِي أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ عَنِّي رَاضٍ، وَإِنَّمَا طَلَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَعْمَالِ أَهْلَ الْجَزَاءِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَالْغَنَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ ذُو سَطَوَاتٍ وَنَقَمَاتٍ يَمْكُرُ بِمَنْ مَكَرَ بِهِ، فَلَا تَعْرِضُوا لِأَمْرٍ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ غَيْرَ مَا تُظْهِرُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ غَيْرُ تَارِكِكُمْ حَتَّى يَخْتَبِرَكُمْ وَيُبْدِيَ لِلنَّاسِ سَرَائِرَكُمْ. وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ: إِنَّهُ قَدِمَ عَلَى أَقْوَامٍ لَيْسَتْ لَهُمْ عُقُولٌ وَلَا أَدْيَانٌ، أَضْجَرَهُمُ الْعَدْلُ، لَا يُرِيدُونَ اللَّهَ بِشَيْءٍ، وَلَا يَتَكَلَّمُونَ بِحُجَّةٍ، إِنَّمَا هَمُّهُمُ الْفِتْنَةُ وَأَمْوَالُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَاللَّهُ مُبْتَلِيهِمْ وَمُخْتَبِرُهُمْ ثُمَّ فَاضِحُهُمْ وَمُخْزِيهِمْ، وَلَيْسُوا بِالَّذِينَ يَنْكُونَ أَحَدًا إِلَّا مَعَ غَيْرِهِمْ، فَانْهَ سَعِيدًا وَمَنْ عِنْدَهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا لِأَكْثَرَ مِنْ شَغَبٍ وَنَكِيرٍ. فَخَرَجُوا مِنْ دِمَشْقَ فَقَالُوا: لَا تَرْجِعُوا بِنَا إِلَى الْكُوفَةِ، فَإِنَّهُمْ يَشْمَتُونَ بِنَا، وَلَكِنْ مَيِّلُوا

إِلَى الْجَزِيرَةِ، فَسَمِعَ بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَ عَلَى حِمْصَ، فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: يَا آلَةَ الشَّيْطَانِ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ وَلَا أَهْلًا، قَدْ رَجَعَ الشَّيْطَانُ مَحْسُورًا وَأَنْتُمْ بَعْدُ نِشَاطٌ، خَسَّرَ اللَّهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِنْ لَمْ يُؤَدِّبْكُمْ، يَا مَعْشَرَ مَنْ لَا أَدْرِي أَعَرَبٌ هُمْ أَمْ عَجَمٌ، لَا تَقُولُوا لِي مَا بَلَغَنِي أَنَّكُمْ قُلْتُمْ لِمُعَاوِيَةَ، أَنَا ابْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَا ابْنُ مَنْ قَدْ عَجَمَتْهُ الْعَاجِمَاتُ، أَنَا ابْنُ فَاقِئِ الرِّدَّةِ! وَاللَّهِ لَئِنْ بَلَغَنِي يَا صَعْصَعَةُ أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ مَعِي دَقَّ أَنْفَكَ ثُمَّ أَمَصَّكَ لَأَطِيرَنَّ بِكَ طَيْرَةً بَعِيدَةَ الْمَهْوَى! فَأَقَامَهُمْ شَهْرًا كُلَّمَا رَكِبَ أَمْشَاهُمْ، فَإِذَا مَرَّ بِهِ صَعْصَعَةُ قَالَ: يَا ابْنَ الْحُطَيْئَةِ، أَعَلِمْتَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصْلِحْهُ الْخَيْرُ أَصْلَحَهُ الشَّرُّ؟ مَا لَكَ لَا تَقُولُ كَمَا بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ لِسَعِيدٍ وَمُعَاوِيَةَ؟ فَيَقُولُونَ: نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، أَقِلْنَا أَقَالَكَ اللَّهُ. فَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى قَالَ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. وَسَرَّحَ الْأَشْتَرَ إِلَى عُثْمَانَ، فَقَدِمَ إِلَيْهِ ثَانِيًا، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: احْلُلْ حَيْثُ شِئْتَ. فَقَالَ: مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ. فَقَالَ: ذَلِكَ إِلَيْكَ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ. قِيلَ: وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ، وَزَادُوا فِيهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا عَادَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْقَابِلَةِ وَذَكَّرَهُمْ كَانَ مِمَّا قَالَ لَهُمْ: وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا آمُرُكُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا وَقَدْ بَدَأْتُ فِيهِ بِنَفْسِي وَأَهْلِ بَيْتِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ أَكْرَمَهَا وَابْنَ أَكْرَمِهَا إِلَّا مَا جَعَلَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ انْتَخَبَهُ وَأَكْرَمَهُ، وَإِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَوْ وَلَدَ النَّاسَ لَمْ يَلِدْ إِلَّا حَازِمًا. قَالَ صَعْصَعَةُ: قَدْ كَذَبْتَ! قَدْ وَلَدَهُمْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَهُ، وَكَانَ فِيهِمُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْأَحْمَقُ وَالْكَيِّسُ. فَخَرَجَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ عِنْدِهِمْ ثُمَّ أَتَاهُمُ الْقَابِلَةَ فَتَحَدَّثَ عِنْدَهُمْ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الْقَوْمُ رُدُّوا خَيْرًا أَوِ اسْكُتُوا وَتَفَكَّرُوا، وَانْظُرُوا فِيمَا يَنْفَعُكُمْ وَيَنْفَعُ أَهَالِيكُمْ وَالْمُسْلِمِينَ فَاطْلُبُوهُ. فَقَالَ صَعْصَعَةُ: لَسْتَ بِأَهْلِ ذَلِكَ وَلَا كَرَامَةَ لَكَ أَنْ تُطَاعَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. فَقَالَ: أَلَيْسَ أَوَّلُ مَنِ ابْتَدَأْتُكُمْ بِهِ أَنْ أَمَرْتُكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَةِ نَبِيِّهِ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا؟ قَالُوا: بَلْ أَمَرْتَ بِالْفُرْقَةِ وَخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: إِنِّي آمُرُكُمُ الْآنَ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ فَأَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَآمُرُكُمْ بِتَقْوَاهُ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَأَنْ تُوَقِّرُوا أَئِمَّتَكُمْ وَتَدُلُّوهُمْ عَلَى أَحْسَنِ مَا قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ. فَقَالَ صَعْصَعَةُ: فَإِنَّا نَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ عَمَلَكَ فَإِنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْكَ، مَنْ كَانَ أَبُوهُ أَحْسَنَ قَدَمًا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَبِيكَ وَهُوَ أَحْسَنُ فِي الْإِسْلَامِ قَدَمًا مِنْكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَدَمًا وَلَغَيْرِي كَانَ أَحْسَنَ قَدَمًا

مِنِّي، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي زَمَانِي أَحَدٌ أَقْوَى عَلَى مَا أَنَا فِيهِ مِنِّي، وَلَقَدْ رَأَى ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَلَوْ كَانَ غَيْرِي أَقْوَى مِنِّي لَمْ تَكُنْ عِنْدَ عُمَرَ هَوَادَةٌ لِي وَلَا لِغَيْرِي، وَلَمْ أُحْدِثْ مِنَ الْحَدَثِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَعْتَزِلَ عَمَلِي، وَلَوْ رَأَى ذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَكَتَبَ إِلَيَّ فَاعْتَزَلْتُ عَمَلَهُ، فَمَهْلًا فَإِنَّ فِي ذَلِكَ وَأَشْبَاهِهِ مَا يَتَمَنَّى الشَّيْطَانُ وَيَأْمُرُ، وَلَعَمْرِي لَوْ كَانَتِ الْأُمُورُ تُقْضَى عَلَى رَأْيِكُمْ وَأَمَانِيِّكُمْ مَا اسْتَقَامَتْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ يَوْمًا وَلَا لَيْلَةً، فَعَاوِدُوا الْخَيْرَ وَقُولُوهُ، وَإِنَّ لِلَّهِ لَسَطَوَاتٍ، وَإِنِّي لَخَائِفٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تُتَابِعُوا فِي مُطَاوَعَةِ الشَّيْطَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّحْمَنِ، فَيُحِلَّكُمْ ذَلِكَ دَارَ الْهَوَانِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. فَوَثَبُوا عَلَيْهِ وَأَخَذُوا رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ، فَقَالَ: مَهْ إِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِأَرْضِ الْكُوفَةِ، وَاللَّهِ لَوْ رَأَى أَهْلُ الشَّامِ مَا صَنَعْتُمْ بِي مَا مَلَكْتُ أَنْ أَنْهَاهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ، فَلَعَمْرِي إِنَّ صَنِيعَكُمْ لَيُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا! ثُمَّ قَامَ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ نَحْوَ الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْكُوفَةِ، فَرَدَّهُمْ فَأَطْلَقُوا أَلْسِنَتَهُمْ، فَضَجَّ سَعِيدٌ مِنْهُمْ إِلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ بِحِمْصَ، فَسَيَّرَهُمْ إِلَيْهَا، فَأَنْزَلَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ رِزْقًا، وَكَانُوا: الْأَشْتَرَ، وَثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيَّ، وَكُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ، وَزَيْدَ بْنَ صُوحَانَ، وَأَخَاهُ صَعْصَعَةَ، وَجُنْدَبَ بْنَ زُهَيْرٍ الْغَامِدِيَّ، وَجُنْدَبَ بْنَ كَعْبٍ الْأَزْدِيَّ، وَعُرْوَةَ بْنَ الْجَعْدِ، وَعَمْرَو بْنَ الْحَمِقِ الْخُزَاعِيَّ، وَابْنَ الْكَوَّاءِ. قِيلَ: سَأَلَ مُعَاوِيَةُ ابْنَ الْكَوَّاءِ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ: أَنْتَ بَعِيدُ الثَّرَى كَثِيرُ الْمَرْعَى طَيِّبُ الْبَدِيهَةِ بَعِيدُ الْغَوْرِ، الْغَالِبُ عَلَيْكَ الْحِلْمُ، رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، سُدَّتْ بِكَ فُرْجَةٌ مَخُوفَةٌ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَهْلِ الْأَحْدَاثِ مِنَ الْأَمْصَارِ فَإِنَّكَ أَعْقَلُ أَصْحَابِكَ. قَالَ: أَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَهُمْ أَحْرَصُ الْأُمَّةِ عَلَى الشَّرِّ وَأَعْجَزُهُمْ عَنْهُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ يَرِدُونَ جَمِيعًا وَيَصْدُرُونَ شَتَّى، وَأَمَّا أَهْلُ مِصْرَ فَهُمْ أَوْفَى النَّاسِ بِشَرٍّ وَأَسْرَعُهُمْ نَدَامَةً، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّامِ فَهُمْ أَطْوَعُ النَّاسِ لِمُرْشِدِهِمْ وَأَعْصَاهُمْ لِمُغْوِيهِمْ. ذكر تَسْيِيرِ مَنْ سُيِّرَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِلَى الشَّامِ وَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثُ سِنِينَ مِنْ إِمَارَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ بَلَغَهُ أَنَّ [فِي عَبْدِ الْقَيْسِ] رَجُلًا

نَازِلًا عَلَى حَكِيمِ بْنِ جَبَلَةَ الْعَبْدِيِّ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّوْدَاءِ، هُوَ الرَّجُلُ النَّازِلُ عَلَيْهِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَفَرٌ فَطَرَحَ إِلَيْهِمُ ابْنَ السَّوْدَاءِ وَلَمْ يُصَرِّحْ، فَقَبِلُوا مِنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ عَامِرٍ فَسَأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: رَغِبْتُ فِي الْإِسْلَامِ وَفِي جِوَارِكَ. فَقَالَ: مَا يَبْلُغُنِي ذَلِكَ، اخْرُجْ عَنِّي. فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْكُوفَةَ فَأُخْرِجَ مِنْهَا، فَقَصَدَ مِصْرَ فَاسْتَقَرَّ بِهَا وَجَعَلَ يُكَاتِبُهُمْ وَيُكَاتِبُونَهُ وَتَخْتَلِفُ الرِّجَالُ بَيْنَهُمْ. وَكَانَ حُمْرَانُ بْنُ أَبَانَ قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا فَفَرَّقَ عُثْمَانُ بَيْنَهُمَا وَضَرَبَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَلَزِمَ ابْنَ عَامِرٍ، فَتَذَاكَرُوا يَوْمًا الْمُرُورَ بِعَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَالَ حُمْرَانُ: أَلَا أَسْبِقُكُمْ فَأُخْبِرُهُ؟ فَخَرَجَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ فَقَالَ: الْأَمِيرُ يُرِيدُ الْمُرُورَ بِكَ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعْلِمَكَ، فَلَمْ يَقْطَعْ قِرَاءَتَهُ، فَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْبَابِ لَقِيَهُ ابْنُ عَامِرٍ فَقَالَ: [جِئْتُكَ] مِنْ عِنْدِ امْرِئٍ لَا يَرَى لِآلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ فَضْلًا، وَدَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عَامِرٍ فَأَطْبَقَ الْمُصْحَفَ وَحَدَّثَهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَامِرٍ: أَلَا تَغْشَانَا؟ فَقَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي الْقَرْحَاءِ يُحِبُّ الشَّرَفَ. فَقَالَ: أَلَا نَسْتَعْمِلُكَ؟ فَقَالَ: حُصَيْنُ بْنُ الْحُرِّ يُحِبُّ الْعَمَلَ. فَقَالَ: أَلَا نُزَوِّجُكَ؟ فَقَالَ: رَبِيعَةُ بْنُ عَسَلٍ يُعْجِبُهُ النِّسَاءُ. فَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّكَ لَا تَرَى لِآلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْكَ فَضْلًا! فَتَصَفَّحَ الْمُصْحَفَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33] . فَسَعَى بِهِ حُمْرَانُ، وَأَقَامَ حُمْرَانُ بِالْبَصْرَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَأَذِنَ لَهُ عُثْمَانُ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ وَمَعَهُ قَوْمٌ، فَسَعَوْا بِعَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ أَنَّهُ لَا يَرَى التَّزْوِيجَ وَلَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ وَلَا يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ، فَأَلْحَقَهُ بِمُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ رَأَى عِنْدَهُ ثَرِيدًا، فَأَكَلَ أَكْلًا عَرَبِيًّا، فَعَرَفَ أَنَّ الرَّجُلَ مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ، فَعَرَّفَهُ مُعَاوِيَةُ سَبَبَ إِخْرَاجِهِ، فَقَالَ: أَمَّا الْجُمُعَةُ فَإِنِّي أَشْهَدُهَا فِي مُؤَخَّرِ الْمَجْلِسِ ثُمَّ أَرْجِعُ فِي أَوَائِلِ النَّاسِ، وَأَمَّا التَّزْوِيجُ فَإِنِّي خَرَجْتُ وَأَنَا يُخْطَبُ عَلَيَّ، وَأَمَّا اللَّحْمُ فَقَدْ رَأَيْتَ وَلَكِنِّي لَا آكُلُ ذَبَائِحَ الْقَصَّابِينَ مُنْذُ رَأَيْتُ قَصَّابًا يَجُرُّ شَاةً إِلَى مَذْبَحِهَا، ثُمَّ وَضَعَ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهَا فَمَا زَالَ يَقُولُ: النَّفَاقَ النَّفَاقَ، حَتَّى ذَبَحَهَا. قَالَ: فَارْجِعْ. قَالَ: لَا أَرْجِعُ إِلَى بَلَدٍ اسْتَحَلَّ أَهْلُهُ مِنِّي مَا اسْتَحَلُّوا، (فَكَانَ يَكُونُ) فِي السَّوَاحِلِ، فَكَانَ يَلْقَى مُعَاوِيَةَ فَيُكْثِرُ مُعَاوِيَةُ أَنْ يَقُولَ: مَا حَاجَتُكَ؟ فَيَقُولُ: لَا حَاجَةَ لِي. فَلَمَّا أَكْثَرَ

عَلَيْهِ قَالَ: تَرُدُّ عَلَيَّ مِنْ حَرِّ الْبَصْرَةِ شَيْئًا لَعَلَّ الصَّوْمَ أَنْ يَشْتَدَّ عَلَيَّ فَإِنَّهُ يَخِفُّ عَلَيَّ فِي بِلَادِكُمْ. ذكر عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْمَعْرُوفُ بِالْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَّ الطُّفَيْلُ وَالْحُصَيْنُ ابْنَا الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَشَهِدَا بَدْرًا وَأُحُدًا، (وَقِيلَ: مَاتَا سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ) .

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ] (34) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ قِيلَ: فِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ الصَّوَارِي، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. وَفِيهَا تَكَاتَبَ الْمُنْحَرِفُونَ عَنْ عُثْمَانَ لِلِاجْتِمَاعِ لِمُنَاظَرَتِهِ فِيمَا كَانُوا يَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ نَقِمُوا عَلَيْهِ. ذكر الْخَبَرِ عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ يَوْمِ الْجَرَعَةِ قَدْ ذَكَرْنَا خَبَرَ الْمُسَيَّرِينَ مِنَ الْكُوفَةِ وَمُقَامَهُمْ عِنْدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَوَفَدَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ إِلَى عُثْمَانَ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَ سَعِيدٌ قَدْ وَلَّى قَبْلَ مَخْرَجِهِ إِلَى عُثْمَانَ بِسَنَةٍ وَبَعْضِ أُخْرَى الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ أَذْرَبِيجَانَ، وَسَعِيدَ بْنَ قَيْسٍ الرَّيَّ، وَالنُّسَيْرَ الْعِجْلِيَّ هَمَذَانَ، وَالسَّائِبَ بْنَ الْأَقْرَعِ أَصْبَهَانَ، وَمَالِكَ بْنَ حَبِيبٍ مَاهَ، وَحَكِيمَ بْنَ سَلَامٍ الْحِزَامِيَّ الْمَوْصِلَ، وَجَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَرْقِيسِيَا، وَسَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَابَ، وَجَعَلَ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو عَلَى الْحَرْبِ، وَعَلَى حُلْوَانَ عُتَيْبَةَ بْنَ النَّهَّاسِ، وَخَلَتِ الْكُوفَةُ مِنَ الرُّؤَسَاءِ. فَخَرَجَ يَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ وَهُوَ يُرِيدُ خَلْعَ عُثْمَانَ، وَمَعَهُ الَّذِينَ كَانَ ابْنُ السَّوْدَاءِ يُكَاتِبُهُمْ، فَأَخَذَهُ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: إِنَّمَا نَسْتَعْفِي مِنْ سَعِيدٍ. فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَنَعَمْ، فَتَرَكَهُ وَكَاتَبَ يَزِيدُ الْمُسَيَّرِينَ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَسَارَ الْأَشْتَرُ وَالَّذِينَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ، فَسَبَقَهُمُ الْأَشْتَرُ، فَلَمْ يَفْجَأِ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا وَالْأَشْتَرُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَقُولُ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ وَتَرَكْتُ سَعِيدًا يُرِيدُهُ عَلَى نُقْصَانِ نِسَائِكُمْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَرَدِّ أُولِي الْبَلَاءِ مِنْكُمْ إِلَى أَلْفَيْنِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ فَيْئَكُمْ بُسْتَانُ قُرَيْشٍ. فَاسْتَخَفَّ النَّاسُ وَجَعَلَ أَهْلُ الرَّأْيِ يَنْهَوْنَهُمْ فَلَا يُسْمَعُ مِنْهُمْ.

فَخَرَجَ يَزِيدُ وَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: مَنْ شَاءَ أَنْ يَلْحَقَ بِيَزِيدَ لِرَدِّ سَعِيدٍ فَلْيَفْعَلْ، فَبَقِيَ أَشْرَافُ النَّاسِ وَحُلَمَاؤُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ. وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةُ سَعِيدٍ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَأَمَرَهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ وَالطَّاعَةِ، فَقَالَ لَهُ الْقَعْقَاعُ: أَتَرُدُّ السَّيْلَ عَنْ أَدْرَاجِهِ؟ هَيْهَاتَ لَا وَاللَّهِ لَا يُسْكِنُ الْغَوْغَاءَ إِلَّا الْمَشْرَفِيَّةُ، وَيُوشِكُ أَنْ تُنْتَضَى وَيَعُجُّونَ عَجِيجَ الْعَدَّانِ، وَيَتَمَنَّوْنَ مَا هُمْ فِيهِ الْيَوْمَ فَلَا يَرُدُّهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، فَاصْبِرْ. قَالَ: أَصْبِرُ. وَتَحَوَّلَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَخَرَجَ يَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ فَنَزَلَ الْجَرَعَةَ، وَهِيَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ، وَمَعَهُ الْأَشْتَرُ، فَوَصَلَ إِلَيْهِمْ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا بِكَ. قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكُمْ أَنْ تَبْعَثُوا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رَجُلًا وَإِلَيَّ رَجُلًا، وَهَلْ يَخْرُجُ الْأَلْفُ لَهُمْ عُقُولٌ إِلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ؟ ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُمْ، وَتَحَسَّوْا بِمَوْلًى لَهُ عَلَى بَعِيرٍ قَدْ حُسِرَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يَنْبَغِي لِسَعِيدٍ أَنْ يَرْجِعَ. فَقَتَلَهُ الْأَشْتَرُ. وَمَضَى سَعِيدٌ حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا فَعَلُوا وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْبَدَلَ وَأَنَّهُمْ يَخْتَارُونَ أَبَا مُوسَى، فَجَعَلَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ أَمِيرًا، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَمَّرْتُ عَلَيْكُمْ مَنِ اخْتَرْتُمْ وَأَعْفَيْتُكُمْ مِنْ سَعِيدٍ، وَاللَّهِ لَأُقْرِضَنَّكُمْ عِرْضِي وَلَأَبْذُلَنَّ لَكُمْ صَبْرِي وَلَأَسْتَصْلِحَنَّكُمْ بِجُهْدِي، فَلَا تَدَعُوا شَيْئًا أَحْبَبْتُمُوهُ لَا يُعْصَى اللَّهُ فِيهِ إِلَّا سَأَلْتُمُوهُ، وَلَا شَيْئًا كَرِهْتُمُوهُ لَا يُعْصَى اللَّهُ فِيهِ إِلَّا مَا اسْتَعْفَيْتُمْ مِنْهُ، أَنْزِلُ فِيهِ عِنْدَمَا أَحْبَبْتُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ لَكُمْ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ، وَلَنَصْبِرَنَّ كَمَا أُمِرْنَا حَتَّى تَبْلُغُوا مَا تُرِيدُونَ. وَرَجَعَ مِنَ الْأُمَرَاءِ مَنْ قَرُبَ مِنَ الْكُوفَةِ، فَرَجَعَ جَرِيرٌ مِنْ قَرْقِيسِيَا، وَعُتَيْبَةُ بْنُ النَّهَّاسِ مِنْ حُلْوَانَ، وَخَطَبَهُمْ أَبُو مُوسَى وَأَمَرَهُمْ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، (وَطَاعَةِ عُثْمَانَ) ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ وَقَالُوا: صَلِّ بِنَا فَقَالَ: لَا إِلَّا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِعُثْمَانَ. قَالُوا: نَعَمْ. فَصَلَّى بِهِمْ وَأَتَاهُ وِلَايَتُهُ فَوَلِيَهُمْ. وَقِيلَ: سَبَبُ يَوْمِ الْجَرَعَةِ أَنَّهُ كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَتَذَاكَرُوا أَعْمَالَ عُثْمَانَ فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيَّ ثُمَّ الْعَنْبَرِيَّ، وَهُوَ الَّذِي

يُدْعَى عَامِرَ بْنَ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَأَتَاهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اجْتَمَعُوا وَنَظَرُوا فِي أَعْمَالِكَ، فَوَجَدُوكَ قَدْ رَكِبْتَ أُمُورًا عِظَامًا، فَاتَّقِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا فَإِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَارِئٌ، ثُمَّ هُوَ يَجِيءُ يُكَلِّمُنِي فِي الْمُحَقَّرَاتِ، وَوَاللَّهِ مَا يَدْرِي أَيْنَ اللَّهُ! فَقَالَ عَامِرٌ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأَدْرِي أَنَّ اللَّهَ لَبِالْمِرْصَادِ! فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ وَإِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ فَجَمَعَهُمْ فَشَاوَرَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ وُزَرَاءٌ وَنُصَحَاءُ، وَإِنَّكُمْ وُزَرَائِي وَنُصَحَائِي وَأَهْلُ ثِقَتِي، وَقَدْ صَنَعَ النَّاسُ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ وَطَلَبُوا إِلَيَّ أَنْ أَعْزِلَ عُمَّالِي، وَأَنْ أَرْجِعَ عَنْ جَمِيعِ مَا يَكْرَهُونَ إِلَى مَا يُحِبُّونَ، فَاجْتَهِدُوا رَأْيَكُمْ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَامِرٍ: أَرَى لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَشْغَلَهُمْ بِالْجِهَادِ عَنْكَ حَتَّى يَذِلُّوا لَكَ وَلَا يَكُونَ هِمَّةُ أَحَدِهِمْ إِلَّا فِي نَفْسِهِ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ دُبُرِ دَابَّتِهِ وَقَمْلِ فَرْوَتِهُ. وَقَالَ سَعِيدٌ: احْسِمْ عَنْكَ الدَّاءَ فَاقْطَعْ عَنْكَ الَّذِي تَخَافُ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ قَاعِدَةً مَتَى تَهْلِكْ يَتَفَرَّقُوا وَلَا يَجْتَمِعْ لَهُمْ أَمْرٌ. فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّ هَذَا هُوَ الرَّأْيُ لَوْلَا مَا فِيهِ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَأْمُرَ أُمَرَاءَ الْأَجْنَادِ فَيَكْفِيَكَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا قِبَلَهُ وَأَكْفِيَكَ أَنَا أَهْلَ الشَّامِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ: إِنَّ النَّاسَ أَهْلُ طَمَعٍ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ تَعْطِفْ عَلَيْكَ قُلُوبُهُمْ. ثُمَّ قَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ قَدْ رَكِبْتَ النَّاسَ بِمِثْلِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَقُلْتَ وَقَالُوا وَزُغْتَ وَزَاغُوا، فَاعْتَدِلْ أَوِ اعْتَزِلْ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَاعْتَزِمْ عَزْمًا وَاقْدُمْ قُدُمًا. فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا لَكَ قَمِلَ فَرْوُكَ؟ أَهَذَا الْجِدُّ مِنْكَ؟ فَسَكَتَ عَمْرٌو حَتَّى تَفَرَّقُوا فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَأَنْتَ أَكْرَمُ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي عَلِمْتُ أَنَّ بِالْبَابِ مَنْ يُبَلِّغُ النَّاسَ قَوْلَ كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا، فَأَرَدْتُ أَنْ يَبْلُغَهُمْ قَوْلِي فَيَثِقُوا بِي، فَأَقُودَ إِلَيْكَ خَيْرًا وَأَدْفَعَ عَنْكَ شَرًّا. فَرَدَّ عُثْمَانُ عُمَّالَهُ إِلَى أَعْمَالِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِتَجْهِيزِ النَّاسِ فِي الْبُعُوثِ، وَعَزَمَ عَلَى تَحْرِيمِ أُعْطِيَّاتِهِمْ لِيُطِيعُوهُ، وَرَدَّ سَعِيدًا إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَقِيَهُ النَّاسُ مِنَ الْجَرَعَةِ وَرَدُّوهُ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ. قَالَ أَبُو ثَوْرٍ الْحَدَّانِيُّ: جَلَسْتُ إِلَى حُذَيْفَةَ، وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ بِمَسْجِدِ الْكُوفَةِ يَوْمَ الْجَرَعَةِ، فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: مَا أَرَى أَنْ تُرَدَّ عَلَى عَقِبَيْهَا حَتَّى يَكُونَ فِيهَا دِمَاءٌ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: وَاللَّهِ لَتُرَدَّنَّ عَلَى عَقِبَيْهَا وَلَا يَكُونُ فِيهَا مَحْجَمَةُ دَمٍ، وَمَا أَرَى الْيَوْمَ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ عَلِمْتُهُ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ. فَرَجَعَ سَعِيدٌ إِلَى عُثْمَانَ وَلَمْ يُسْفَكْ دَمٌ، وَجَاءَ أَبُو مُوسَى

أَمِيرًا، وَأَمَرَ عُثْمَانُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ أَنْ يَغْزُوَ الْبَابَ فَسَارَ نَحْوَهُ. ذكر ابْتِدَاءِ قَتْلِ عُثْمَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَكَاتَبَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَغَيْرُهُمْ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ: أَنِ اقْدَمُوا فَإِنَّ الْجِهَادَ عِنْدَنَا، وَعَظُمَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ وَنَالُوا مِنْهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَنْهَى وَلَا يَذُبُّ إِلَّا نَفَرٌ، مِنْهُمْ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَكَلَّمُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ: النَّاسُ وَرَائِي وَقَدْ كَلَّمُونِي فِيكَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ وَلَا أَعْرِفُ شَيْئًا تَجْهَلُهُ وَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لَا تَعْرِفُهُ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا أَعْلَمُ، مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْءٍ فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ، وَلَا خَلَوْنَا بِشَيْءٍ فَنُبَلِّغَكَهُ، وَمَا خُصِصْنَا بِأَمْرٍ دُونَكَ، وَقَدْ رَأَيْتُ وَصَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمِعْتُ مِنْهُ وَنِلْتُ صِهْرَهُ، وَمَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الْحَقِّ مِنْكَ، وَلَا ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَى بِشَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ مِنْكَ، وَأَنْتَ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَحِمًا، وَلَقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ يَنَالَاهُ، وَمَا سَبَقَاكَ إِلَى شَيْءٍ، فَاللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، فَإِنَّكَ وَاللَّهِ مَا تُبْصِرُ مِنْ عَمَى وَلَا تَعْلَمُ مِنْ جَهَالَةٍ، وَإِنَّ الطَّرِيقَ لَوَاضِحٌ بَيِّنٌ، وَإِنَّ أَعْلَامَ الدِّينِ لَقَائِمَةٌ. اعْلَمْ يَا عُثْمَانُ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ هُدِيَ وَهَدَى، فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً وَأَمَاتَ بِدْعَةً مَتْرُوكَةً، فَوَاللَّهِ إِنَّ كُلًّا لَبَيِّنٌ، وَإِنَّ السُّنَنَ لَقَائِمَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ، وَإِنَّ الْبِدَعَ لَقَائِمَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ، وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَأَضَلَّ، فَأَمَاتَ سُنَّةً مَعْلُومَةً وَأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً، وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ اللَّهَ وَسَطَوَاتِهِ وَنَقَمَاتِهِ، فَإِنَّ عَذَابَهُ شَدِيدٌ أَلِيمٌ، وَأُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ إِمَامَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِي يُقْتَلُ فَيَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا وَيَتْرُكُهَا شِيَعًا لَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ لِعُلُوِّ الْبَاطِلِ، يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجًا، وَيَمْرَجُونَ فِيهَا مَرْجًا. فَقَالَ عُثْمَانُ: قَدْ عَلِمْتُ وَاللَّهِ لَيَقُولُنَّ الَّذِي قُلْتَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ مَكَانِي مَا عَنَّفْتُكَ وَلَا أَسْلَمْتُكَ وَلَا عِبْتُ عَلَيْكَ وَلَا جِئْتُ مُنْكِرًا، أَنْ وَصَلْتَ رَحِمًا وَسَدَدْتَ خَلَّةً وَآوَيْتَ ضَائِعًا، وَوَلَّيْتَ شَبِيهًا بِمَنْ كَانَ عُمَرُ يُوَلِّي. أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عَلِيُّ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لَيْسَ هُنَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَتَعْلَمُ أَنَّ عُمَرَ وَلَّاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَلِمَ تَلُمْنِي أَنْ وَلَّيْتُ ابْنَ عَامِرٍ فِي رَحِمِهِ وَقَرَابَتِهِ؟ قَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ يَطَأُ عَلَى صِمَاخِ مَنْ وَلَّى إِنْ

بَلَغَهُ عَنْهُ حَرْفٌ جَلَبَهُ، ثُمَّ بَلَغَ بِهِ أَقْصَى الْعُقُوبَةِ وَأَنْتَ لَا تَفْعَلُ، ضَعُفْتَ وَرَقَقْتَ عَلَى أَقْرِبَائِكَ. قَالَ عُثْمَانُ: وَهُمْ أَقْرِبَاؤُكَ أَيْضًا! قَالَ: أَجَلْ، إِنَّ رَحِمَهُمْ مِنِّي لَقَرِيبَةٌ، وَلَكِنَّ الْفَضْلَ فِي غَيْرِهِمْ. قَالَ عُثْمَانُ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُمَرَ وَلَّى مُعَاوِيَةَ؟ فَقَدَ وَلَّيْتُهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ أَخْوَفَ لِعُمَرَ مِنْ يَرْفَأَ، غُلَامِ عُمَرَ، لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ يَقْتَطِعُ الْأُمُورَ دُونَكَ وَيَقُولُ لِلنَّاسِ هَذَا أَمْرُ عُثْمَانَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ ذَلِكَ فَلَا تُغَيِّرُ عَلَيْهِ. ثُمَّ خَرَجَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ، وَخَرَجَ عُثْمَانُ عَلَى أَثَرِهِ فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ آفَةً وَلِكُلِّ أَمْرٍ عَاهَةً، وَإِنَّ آفَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعَاهَةَ هَذِهِ النِّعْمَةِ عَيَّابُونَ طَعَّانُونَ يُرُونَكُمْ مَا تُحِبُّونَ وَيَسْتُرُونَ عَنْكُمْ مَا تَكْرَهُونَ، يَقُولُونَ لَكُمْ وَيَقُولُونَ، أَمْثَالَ النَّعَامِ يَتَّبِعُونَ أَوَّلَ نَاعِقٍ، أَحَبُّ مَوَارِدِهِمْ إِلَيْهِمُ الْبَعِيدُ، لَا يَشْرَبُونَ إِلَّا نَغَصًا وَلَا يَرِدُونَ إِلَّا عَكَرًا، [لَا] يَقُومُ لَهُمْ رَائِدٌ وَقَدْ أَعْيَتْهُمُ الْأُمُورُ، أَلَا فَقَدْ وَاللَّهِ عِبْتُمْ عَلَيَّ مَا أَقْرَرْتُمْ لِابْنِ الْخَطَّابِ بِمِثْلِهِ، وَلَكِنَّهُ وَطِئَكُمْ بِرِجْلِهِ وَضَرَبَكُمْ بِيَدِهِ وَقَمَعَكُمْ بِلِسَانِهِ، فَدِنْتُمْ لَهُ عَلَى مَا أَحْبَبْتُمْ وَكَرِهْتُمْ، وَلِنْتُ لَكُمْ وَأَوْطَأْتُكُمْ كَتِفِي وَكَفَفْتُ يَدِي وَلِسَانِي عَنْكُمْ، فَاجْتَرَأْتُمْ عَلَيَّ. أَمَا وَاللَّهِ لَأَنَا أَعَزُّ نَفَرًا وَأَقْرَبُ نَاصِرًا وَأَكْثَرُ عَدَدًا وَأَحْرَى، إِنْ قُلْتُ هَلُمَّ أُتِيَ إِلَيَّ، وَلَقَدْ عَدَدْتُ لَكُمْ أَقْرَانًا، وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكُمْ فُضُولًا، وَكَشَّرْتُ لَكُمْ عَنْ نَابِي، وَأَخْرَجْتُمْ مِنِّي خُلُقًا لَمْ أَكُنْ أُحْسِنُهُ وَمَنْطِقًا لَمْ أَنْطِقْ بِهِ، فَكُفُّوا عَنِّي أَلْسِنَتَكُمْ وَعَيْبَكُمْ وَطَعْنَكُمْ عَلَى وُلَاتِكُمْ، فَإِنِّي كَفَفْتُ عَنْكُمْ مَنْ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُكَلِّمُكُمْ لَرَضِيتُمْ مِنْهُ بِدُونِ مَنْطِقِي هَذَا. أَلَا فَمَا تَفْقِدُونَ مِنْ حَقِّكُمْ؟ وَاللَّهِ مَا قَصَّرْتُ عَنْ بُلُوغِ مَا بَلَغَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، وَلَمْ تَكُونُوا تَخْتَلِفُونَ عَلَيْهِ. فَقَامَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمْ حَكَّمْنَا وَاللَّهِ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ السَّيْفَ، نَحْنُ وَأَنْتُمْ وَاللَّهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَرَشْنَا لَكُمْ أَعْرَاضَنَا فَنَبَتْ بِكُمْ ... مَعَارِسُكُمْ تَبْنُونَ فِي دِمَنِ الثَّرَى فَقَالَ عُثْمَانُ: اسْكُتْ لَا سَكَتَّ، دَعْنِي وَأَصْحَابِي، مَا مَنْطِقُكَ فِي هَذَا! أَلَمْ أَتَقَدَّمْ إِلَيْكَ أَنْ لَا تَنْطِقَ؟ فَسَكَتَ مَرْوَانُ وَنَزَلَ عُثْمَانُ. (عَنِ الْمِنْبَرِ، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ عَلَى النَّاسِ وَعَظُمَ وَزَادَ تَأَلُّبُهُمْ عَلَيْهِ) .

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] وَحَجَّ هَذِهِ السَّنَةَ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَّ كَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَهُوَ كَعْبُ بْنُ مَاتِعٍ، وَأَسْلَمَ أَيَّامَ عُمَرَ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو عَبْسٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبْرٍ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا. وَفِيهَا مَاتَ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ الْمُطَّلِبِيُّ، وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ:

بَلْ عَاشَ وَشَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَكَانَ بَدْرِيًّا. وَفِيهَا تُوُفِّيَّ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَكَانَ نَقِيبًا بَدْرِيًّا. (وَعَاقِلُ بْنُ الْبُكَيْرِ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ أَيْضًا) .

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ] [ذكر مَسِيرِ مَنْ سَارَ إِلَى حَصْرِ عُثْمَانَ] 35 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ ذكر مَسِيرِ مَنْ سَارَ إِلَى حَصْرِ عُثْمَانَ قِيلَ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ مَسِيرُ مَنْ سَارَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى ذِي خُشُبٍ، وَمَسِيرُ مَنْ سَارَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى ذِي الْمَرْوَةِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأٍ كَانَ يَهُودِيًّا، وَأَسْلَمَ أَيَّامَ عُثْمَانَ، ثُمَّ تَنَقَّلَ فِي الْحِجَازِ ثُمَّ بِالْبَصْرَةِ ثُمَّ بِالْكُوفَةِ ثُمَّ بِالشَّامِ يُرِيدُ إِضْلَالَ النَّاسِ، فَلَمْ يَقْدِرْ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَأَخْرَجَهُ أَهْلُ الشَّامِ، فَأَتَى مِصْرَ فَأَقَامَ فِيهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: الْعَجَبُ مِمَّنْ يُصَدِّقُ أَنَّ عِيسَى يَرْجِعُ، وَيُكَذِّبُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَرْجِعُ، فَوَضَعَ لَهُمُ الرَّجْعَةَ، فَقُبِلَتْ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّهُ كَانَ لِكُلِّ نَبِيٍّ وَصِيٌّ، وَعَلِيٌّ وَصِيُّ مُحَمَّدٍ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ لَمْ يُجِزْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَثَبَ عَلَى وَصِيِّهِ، وَإِنَّ عُثْمَانَ أَخَذَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَانْهَضُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ وَابْتَدِءُوا بِالطَّعْنِ عَلَى أُمَرَائِكُمْ، وَأَظْهِرُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ تَسْتَمِيلُوا بِهِ النَّاسَ. وَبَثَّ دُعَاتَهُ، وَكَاتَبَ مَنِ اسْتَفْسَدَ فِي الْأَمْصَارِ وَكَاتَبُوهُ، وَدَعَوْا فِي السِّرِّ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ رَأْيُهُمْ، وَصَارُوا يَكْتُبُونَ إِلَى الْأَمْصَارِ بِكُتُبٍ يَضَعُونَهَا فِي عَيْبِ وُلَاتِهِمْ، وَيَكْتُبُ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ مِنْهُمْ إِلَى مِصْرٍ آخَرَ بِمَا يَصْنَعُونَ، حَتَّى تَنَاوَلُوا بِذَلِكَ الْمَدِينَةَ وَأَوْسَعُوا بِذَلِكَ الْأَرْضَ إِذَاعَةً، فَيَقُولُ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ: إِنَّا لَفِيَ عَافِيَةٍ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ هَؤُلَاءِ، إِلَّا أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُمْ جَاءَهُمْ ذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، فَقَالُوا: إِنَّا لَفِيَ عَافِيَةٍ مِمَّا فِيهِ النَّاسُ. فَأَتَوْا عُثْمَانَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَيَأْتِيكَ عَنِ النَّاسِ الَّذِي يَأْتِينَا؟ فَقَالَ: مَا جَاءَنِي إِلَّا السَّلَامَةُ وَأَنْتُمْ شُرَكَائِي وَشُهُودُ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَشِيرُوا عَلَيَّ. قَالُوا: نُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَبْعَثَ رِجَالًا مِمَّنْ تَثِقُ بِهِمْ إِلَى الْأَمْصَارِ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَيْكَ بِأَخْبَارِهِمْ. فَدَعَا مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَأَرْسَلَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ إِلَى الْبَصْرَةِ،

وَأَرْسَلَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ إِلَى مِصْرَ، وَأَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ إِلَى الشَّامِ، وَفَرَّقَ رِجَالًا سِوَاهُمْ، فَرَجَعُوا جَمِيعًا قَبْلَ عَمَّارٍ فَقَالُوا: مَا أَنْكَرْنَا شَيْئًا أَيُّهَا النَّاسُ وَلَا أَنْكَرَهُ أَعْلَامُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا عَوَامُّهُمْ. وَتَأَخَّرَ عَمَّارٌ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ قَدِ اغْتِيلَ، فَوَصَلَ كِتَابٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ يَذْكُرُ أَنَّ عَمَّارًا قَدِ اسْتَمَالَهُ قَوْمٌ وَانْقَطَعُوا إِلَيْهِ، مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّوْدَاءِ، وَخَالِدُ بْنُ مُلْجَمٍ، وَسَوْدَانُ بْنُ حُمْرَانَ، وَكِنَانَةُ بْنُ بِشْرٍ. فَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ: [أَمَّا بَعْدُ] فَإِنِّي آخِذٌ عُمَّالِي بِمُوَافَاتِي كُلَّ مَوْسِمٍ، وَقَدْ رَفَعَ إِلَيَّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَنَّ أَقْوَامًا يُشْتَمُونَ وَيُضْرَبُونَ، فَمَنِ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلْيُوَافِ الْمَوْسِمَ يَأْخُذْ حَقَّهُ حَيْثُ كَانَ مِنِّي أَوْ مِنْ عُمَّالِي، أَوْ تَصَّدَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ. فَلَمَّا قُرِئَ فِي الْأَمْصَارِ بَكَى النَّاسُ وَدَعَوْا لِعُثْمَانَ. وَبَعَثَ إِلَى عُمَّالِ الْأَمْصَارِ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَأَدْخَلَ مَعَهُمْ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَمْرًا، فَقَالَ: وَيْحَكُمُ مَا هَذِهِ الشِّكَايَةُ وَالْإِذَاعَةُ؟ إِنِّي وَاللَّهِ لَخَائِفٌ أَنْ تَكُونُوا مَصْدُوقًا عَلَيْكُمْ وَمَا يُعْصَبُ هَذَا إِلَّا بِي! فَقَالُوا لَهُ: أَلَمْ تَبْعَثْ؟ أَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْكَ الْخَبَرُ عَنِ الْعَوَامِّ؟ أَلَمْ يَرْجِعْ رُسُلُكَ وَلَمْ يُشَافِهْهُمْ أَحَدٌ بِشَيْءٍ؟ وَاللَّهِ مَا صَدَقُوا وَلَا بَرُّوا وَلَا نَعْلَمُ لِهَذَا الْأَمْرِ أَصْلًا، وَلَا يَحِلُّ الْأَخْذُ بِهَذِهِ الْإِذَاعَةِ! فَقَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ. فَقَالَ سَعِيدٌ: هَذَا أَمْرٌ مَصْنُوعٌ يُلْقَى فِي السِّرِّ فَيَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، وَدَوَاءُ ذَلِكَ طَلَبُ هَؤُلَاءِ وَقَتْلُ الَّذِينَ يَخْرُجُ هَذَا مِنْ عِنْدِهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ: خُذْ مِنَ النَّاسِ الَّذِي عَلَيْهِمْ إِذَا أَعْطَيْتُمُ الَّذِي لَهُمْ فَإِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ وَلَّيْتَنِي فَوُلِّيتُ قَوْمًا لَا يَأْتِيكَ عَنْهُمْ إِلَّا الْخَيْرُ، وَالرَّجُلَانِ أَعْلَمُ بِنَاحِيَتَيْهِمَا، وَالرَّأْيُ حُسْنُ الْأَدَبِ. وَقَالَ عَمْرٌو: أَرَى أَنَّكَ قَدْ لِنْتَ لَهُمْ وَرَخَيْتَ عَلَيْهِمْ وَزِدْتَهُمْ عَلَى مَا كَانَ يَصْنَعُ عُمَرُ، فَأَرَى أَنْ تَلْزَمَ طَرِيقَةَ صَاحِبَيْكَ فَتَشْتَدَّ فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ، وَتَلِينَ فِي مَوْضِعِ اللِّينِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: قَدْ سَمِعْتُ كُلَّ مَا أَشَرْتُمْ بِهِ عَلَيَّ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ بَابٌ يُؤْتَى مِنْهُ، إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي يُخَافُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ كَائِنٌ، وَإِنَّ بَابَهُ الَّذِي يُغْلَقُ عَلَيْهِ لَيُفْتَحَنَّ فَنُكَفْكِفُهُ بِاللِّينِ وَالْمُؤَاتَاةِ إِلَّا فِي حُدُودِ اللَّهِ، فَإِنْ فُتِحَ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ عَلَيَّ حُجَّةُ حَقٍّ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنِّي لَمْ آلُ النَّاسَ خَيْرًا، وَإِنَّ رَحَى الْفِتْنَةِ لَدَائِرَةٌ، فَطُوبَى لِعُثْمَانَ إِنْ مَاتَ وَلَمْ يُحَرِّكْهَا. سَكِّنُوا النَّاسَ وَهَبُوا لَهُمْ حُقُوقَهُمْ، فَإِذَا تُعُوطِيَتْ حُقُوقُ اللَّهِ فَلَا تُدْهِنُوا فِيهَا. فَلَمَّا نَفَرَ عُثْمَانُ وَشَخَصَ مُعَاوِيَةُ وَالْأُمَرَاءُ مَعَهُ وَاسْتَقَلَّ عَلَى الطَّرِيقِ رَجَزَ بِهِ الْحَادِي فَقَالَ:

قَدْ عَلِمَتْ ضَوَامِرُ الْمَطِيُّ ... وَضُمَّرَاتُ عُوَّجِ الْقِسِيِّ أَنَّ الْأَمِيرَ بَعْدَهُ عَلِيٌّ ... وَفِي الزُّبَيْرِ خَلَفٌ رَضِيٌّ [وَطَلْحَةُ الْحَامِي لَهَا وَلِيٌّ ] فَقَالَ كَعْبٌ: كَذَبْتَ بَلْ يَلِي بَعْدَهُ صَاحِبُ الْبَغْلَةِ الشَّهْبَاءِ - يَعْنِي مُعَاوِيَةَ - فَطَمِعَ فِيهَا مِنْ يَوْمِئِذٍ. فَلَمَّا قَدِمَ عُثْمَانُ الْمَدِينَةَ دَعَا عَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعِنْدَهُ مُعَاوِيَةُ، فَحَمِدَ اللَّهَ مُعَاوِيَةُ ثُمَّ قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلَفِهِ وَوُلَاةُ أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، لَا يَطْمَعُ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرَكُمْ، اخْتَرْتُمْ صَاحِبَكُمْ عَنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ وَلَا طَمَعٍ، وَقَدْ كَبُرَ وَوَلَّى عُمْرُهُ، وَلَوِ انْتَظَرْتُمْ بِهِ الْهَرَمَ لَكَانَ قَرِيبًا، مَعَ أَنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَبْلُغَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ فَشَتْ مَقَالَةٌ خِفْتُهَا عَلَيْكُمْ فَمَا عَتَبْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ، فَهَذِهِ يَدِي لَكُمْ بِهِ، وَلَا تُطْمِعُوا النَّاسَ فِي أَمْرِكُمْ، فَوَاللَّهِ إِنْ طَمِعُوا فِيهِ لَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا أَبَدًا إِلَّا إِدْبَارًا. قَالَ عَلِيٌّ: مَا لَكَ وَلِذَلِكَ لَا أُمَّ لَكَ؟ قَالَ: دَعْ أُمِّي فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرِّ أُمَّهَاتِكُمْ، قَدْ أَسْلَمَتْ وَبَايَعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجِبْنِي عَمَّا أَقُولُ لَكَ. فَقَالَ عُثْمَانُ: صَدَقَ ابْنُ أَخِي، أَنَا أُخْبِرُكُمْ عَنِّي وَعَمَّا وُلِّيتُ، إِنَّ صَاحِبَيَّ اللَّذَيْنِ كَانَا قَبْلِي ظَلَمَا أَنْفُسَهُمَا وَمَنْ كَانَ مِنْهُمَا بِسَبِيلٍ احْتِسَابًا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْطِي قَرَابَتَهُ وَأَنَا فِي رَهْطٍ أَهْلِ عَيْلَةٍ وَقِلَّةِ مَعَاشٍ، فَبَسَطْتُ يَدِي فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَا أَقُومُ بِهِ فِيهِ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ ذَلِكَ خَطَأً فَرُدُّوهُ فَأَمْرِي لِأَمْرِكُمْ تَبَعٌ. فَقَالُوا: قَدْ أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ، قَدْ أَعْطَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَأَعْطَيْتَ مَرْوَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا. فَأُخِذَ مِنْهُمَا ذَلِكَ، فَرَضُوا وَخَرَجُوا رَاضِينَ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِعُثْمَانَ: اخْرُجْ مَعِي إِلَى الشَّامِ فَإِنَّهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ قَبْلَ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْكَ مَنْ لَا قِبَلَ لَكَ بِهِ. فَقَالَ: لَا أَبِيعُ جِوَارَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ خَيْطُ عُنُقِي. قَالَ: فَإِنْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ جُنْدًا مِنْهُمْ يُقِيمُ مَعَكَ لِنَائِبَةٍ إِنْ نَابَتْ؟ قَالَ: لَا أُضَيِّقُ عَلَى جِيرَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَتُغْتَالَنَّ وَلَتُغْزَيَنَّ! فَقَالَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ! ثُمَّ خَرَجَ مُعَاوِيَةُ فَمَرَّ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِيهِمْ عَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ

السَّفَرِ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: إِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ كَانَ النَّاسُ يَتَغَالَبُونَ عَلَيْهِ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانُوا يَتَفَاضَلُونَ بِالسَّابِقَةِ وَالْقُدْمَةِ وَالِاجْتِهَادِ، فَإِنْ أَخَذُوا بِذَلِكَ فَالْأَمْرُ أَمْرُهُمْ وَالنَّاسُ لَهُمْ تَبَعٌ، وَإِنْ طَلَبُوا الدُّنْيَا بِالتَّغَالُبِ سُلِبُوا ذَلِكَ وَرَدَّهُ اللَّهُ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى الْبَدَلِ لَقَادِرٌ، وَإِنِّي قَدْ خَلَفْتُ فِيكُمْ شَيْخًا فَاسْتَوْصُوا بِهِ خَيْرًا وَكَانِفُوهُ تَكُونُوا أَسْعَدَ مِنْهُ بِذَلِكَ. ثُمَّ وَدَّعَهُمْ وَمَضَى. فَقَالَ عَلِيٌّ: [مَا] كُنْتُ أَرَى فِي هَذَا خَيْرًا. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ قَطُّ أَعْظَمَ فِي صَدْرِكَ وَصُدُورِنَا مِنْهُ الْيَوْمَ. وَاتَّعَدَ الْمُنْحَرِفُونَ عَنْ عُثْمَانَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ بِالْأَمْصَارِ جَمِيعًا إِذَا سَارَ عَنْهَا الْأُمَرَاءُ، فَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَمَّا رَجَعَ الْأُمَرَاءُ وَلَمْ يَتِمَّ لَهُمُ الْوُثُوبُ صَارُوا يُكَاتِبُونَ فِي الْقُدُومِ إِلَى الْمَدِينَةِ، لِيَنْظُرُوا فِيمَا يُرِيدُونَ وَيَسْأَلُوا عُثْمَانَ عَنْ أَشْيَاءَ لِتَطِيرَ فِي النَّاسِ. وَكَانَ بِمِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ يُحَرِّضَانِ عَلَى عُثْمَانَ. فَلَمَّا خَرَجَ الْمِصْرِيُّونَ خَرَجَ فِيهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُدَيْسٍ الْبَلَوِيُّ فِي خَمْسِمِائَةٍ، وَقِيلَ: فِي أَلْفٍ، وَفِيهِمْ كِنَانَةُ بْنُ بِشْرٍ اللَّيْثِيُّ، وَسَوْدَانُ بْنُ حُمْرَانَ السَّكُونِيُّ، وَقُتَيْرَةُ بْنُ فُلَانٍ السَّكُونِيُّ، وَعَلَيْهِمْ جَمِيعًا الْغَافِقِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْعَكِّيُّ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَفِيهِمْ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ الْعَبْدِيُّ، وَالْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ، وَزِيَادُ بْنُ النَّضْرِ الْحَارِثِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَصَمِّ الْعَامِرِيُّ، وَهُمْ فِي عِدَادِ أَهْلِ مِصْرَ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فِيهِمْ حُكَيْمُ بْنُ جَبَلَةَ الْعَبْدِيُّ، وَذُرَيْحُ بْنُ عَبَّادٍ، وَبِشْرُ بْنُ شُرَيْحٍ الْقَيْسِيُّ، وَابْنُ الْمُحْتَرِشِ، وَهُمْ بِعِدَادِ أَهْلِ مِصْرَ، وَأَمِيرُهُمْ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ السَّعْدِيُّ، فَخَرَجُوا جَمِيعًا فِي شَوَّالٍ وَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْحَجَّ، فَلَمَّا كَانُوا مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثٍ، تَقَدَّمَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَنَزَلُوا ذَا خُشُبٍ، وَكَانَ هَوَاهُمْ فِي طَلْحَةَ، وَتَقَدَّمَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ هَوَاهُمْ فِي الزُّبَيْرِ، وَتَرَكُوا الْأَعْوَصَ، وَجَاءَهُمْ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَكَانَ هَوَاهُمْ فِي عَلِيٍّ، وَنَزَلُوا عَامَّتُهُمْ بِذِي الْمَرْوَةِ، وَمَشَى فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ مِصْرَ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ زِيَادُ بْنُ النَّضْرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَصَمِّ وَقَالَا لَهُمْ: لَا تَعْجَلُوا حَتَّى نَدْخُلَ الْمَدِينَةَ وَنَرْتَادَ لَكُمْ، فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُمْ عَسْكَرُوا لَنَا، فَوَاللَّهِ إِنْ كَانَ هَذَا حَقًّا وَاسْتَحَلُّوا قِتَالَنَا بَعْدَ عِلْمِ حَالِنَا إِنَّ أَمْرَنَا لَبَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَلَغَنَا بَاطِلًا رَجَعْنَا إِلَيْكُمْ بِالْخَبَرِ. قَالُوا: اذْهَبَا. فَذَهَبَا فَدَخَلَا الْمَدِينَةَ فَلَقِيَا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ، فَقَالَا: إِنَّمَا نُرِيدُ هَذَا الْبَيْتَ وَنَسْتَعْفِي مِنْ بَعْضِ عُمَّالِنَا، وَاسْتَأْذَنَاهُمْ فِي الدُّخُولِ،

فَكَلَّمَهُمَا أُبَيٌّ وَنَهَاهُمَا، فَرَجَعَا إِلَى أَصْحَابِهِمَا. فَاجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ فَأَتَوْا عَلِيًّا، وَنَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَأَتَوْا طَلْحَةَ، وَنَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَأَتَوُا الزُّبَيْرَ، وَقَالَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ: إِنْ بَايَعْنَا صَاحِبَنَا وَإِلَّا كَذَبْنَاهُمْ وَفَرَّقْنَا جَمَاعَتَهُمْ، ثُمَّ رَجَعْنَا عَلَيْهِمْ حَتَّى نُبْغِتَهُمْ. فَأَتَى الْمِصْرِيُّونَ عَلِيًّا وَهُوَ فِي عَسْكَرٍ عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ مُتَقَلِّدًا سَيْفَهُ، وَقَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْحَسَنَ إِلَى عُثْمَانَ فِيمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ، فَصَاحَ بِهِمْ وَطَرَدَهُمْ وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمَ الصَّالِحُونَ أَنَّ جَيْشَ ذِي الْمَرْوَةِ وَجَيْشَ ذِي خُشُبٍ وَالْأَعْوَصِ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْصَرَفُوا عَنْهُ. وَأَتَى الْبَصْرِيُّونَ طَلْحَةَ فَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَيْهِ إِلَى عُثْمَانَ، وَأَتَى الْكُوفِيُّونَ الزُّبَيْرَ فَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ إِلَى عُثْمَانَ. فَرَجَعُوا وَتَفَرَّقُوا عَنْ ذِي خُشُبٍ وَذِي الْمَرْوَةِ وَالْأَعْوَصِ إِلَى عَسْكَرِهِمْ لِيَتَفَرَّقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ثُمَّ يَرْجِعُوا إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا بَلَغُوا عَسْكَرَهُمْ تَفَرَّقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَرَجَعُوا بِهِمْ، فَلَمْ يَشْعُرْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَّا وَالتَّكْبِيرُ فِي نَوَاحِيهَا، وَنَزَلُوهَا وَأَحَاطُوا بِعُثْمَانَ وَقَالُوا: مَنْ كَفَّ يَدَهُ فَهُوَ آمِنٌ. وَصَلَّى عُثْمَانُ بِالنَّاسِ أَيَّامًا، وَلَزِمَ النَّاسُ بُيُوتَهُمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا النَّاسَ مِنْ كَلَامِهِ، وَأَتَاهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَفِيهِمْ عَلِيٌّ فَقَالَ لَهُمْ: مَا رَدَّكُمْ بَعْدَ ذَهَابِكُمْ؟ فَقَالُوا: أَخَذْنَا مَعَ بَرِيدٍ كِتَابًا بِقَتْلِنَا. وَأَتَى طَلْحَةُ الْكُوفِيِّينَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ عَوْدَتِهِمْ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ. وَأَتَى الزُّبَيْرُ الْبَصْرِيِّينَ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَقُولُ: نَحْنُ نَمْنَعُ إِخْوَانَنَا وَنَنْصُرُهُمْ، كَأَنَّمَا كَانُوا عَلَى مِيعَادٍ. فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ: كَيْفَ عَلِمْتُمْ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ وَيَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ بِمَا لَقِيَ أَهْلُ مِصْرَ وَقَدْ سِرْتُمْ مَرَاحِلَ حَتَّى رَجَعْتُمْ عَلَيْنَا؟ هَذَا وَاللَّهِ أَمْرٌ أُبْرِمَ بِلَيْلٍ! فَقَالُوا: ضَعُوهُ كَيْفَ شِئْتُمْ، لَا حَاجَةَ لَنَا فِي هَذَا الرَّجُلِ - لِيَعْتَزِلْ عَنَّا. وَعُثْمَانُ يُصَلِّي بِهِمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ خَلْفَهُ، وَهُمْ أَدَقُّ فِي عَيْنِهِ مِنَ التُّرَابِ، وَكَانُوا يَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ. وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ يَسْتَنْجِدُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْحَثِّ لِلْمَنْعِ عَنْهُ، وَيُعَرِّفُهُمْ مَا النَّاسُ فِيهِ. فَخَرَجَ أَهْلُ الْأَمْصَارِ عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ، وَبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ، وَخَرَجَ مِنَ الْكُوفَةِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو وَقَامَ بِالْكُوفَةِ نَفَرٌ يَحُضُّونَ عَلَى إِعَانَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، مِنْهُمْ: عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَحَنْظَلَةُ الْكَاتِبُ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنَ التَّابِعِينَ: مَسْرُوقٌ،

وَالْأَسْوَدُ، وَشُرَيْحٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَكِيمٍ، وَغَيْرُهُمْ، وَقَامَ بِالْبَصْرَةِ: عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِشَامُ بْنُ عَامِرٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: كَعْبُ بْنُ سُورٍ، وَهَرِمُ بْنُ حَيَّانَ، وَغَيْرُهُمَا، وَقَامَ بِالشَّامِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكَذَلِكَ بِمِصْرَ. وَلَمَّا جَاءَتِ الْجُمُعَةُ الَّتِي عَلَى أَثَرِ دُخُولِهِمُ الْمَدِينَةَ، خَرَجَ عُثْمَانُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ، اللَّهَ اللَّهَ! فَوَاللَّهِ إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَيَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَامْحُوا الْخَطَأَ بِالصَّوَابِ. فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: أَنَا أَشْهَدُ بِذَلِكَ، فَأَقْعَدَهُ حَكِيمُ بْنُ جَبَلَةَ، وَقَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَأَقْعَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي قُتَيْرَةَ، وَثَارَ الْقَوْمُ بِأَجْمَعِهِمْ فَحَصَبُوا النَّاسَ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَحَصَبُوا عُثْمَانَ حَتَّى صُرِعَ عَنِ الْمِنْبَرِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَأُدْخِلَ دَارَهُ وَاسْتَقْتَلَ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَعَ عُثْمَانَ، مِنْهُمْ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عُثْمَانُ يَعْزِمُ عَلَيْهِمْ بِالِانْصِرَافِ، فَانْصَرَفُوا، وَأَقْبَلَ عَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، فَدَخَلُوا عَلَى عُثْمَانَ يَعُودُونَهُ مِنْ صَرْعَتِهِ، وَيَشْكُونَ إِلَيْهِ مَا يَجِدُونَ، وَكَانَ عِنْدَ عُثْمَانَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فِيهِمْ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، فَقَالُوا كُلُّهُمْ لِعَلِيٍّ: أَهْلَكْتَنَا وَصَنَعْتَ هَذَا الصَّنِيعَ، وَاللَّهِ لَئِنْ بَلَغْتَ الَّذِي تُرِيدُ لَتَمُرَّنَ عَلَيْكَ الدُّنْيَا! فَقَامَ مُغْضَبًا وَعَادَ هُوَ وَالْجَمَاعَةُ إِلَى مَنَازِلِهِمْ. وَصَلَّى عُثْمَانُ بِالنَّاسِ بَعْدَمَا نَزَلُوا بِهِ فِي الْمَسْجِدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ مَنَعُوهُ الصَّلَاةَ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ أَمِيرُهُمُ الْغَافِقِيُّ، وَتَفَرَّقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي حِيطَانِهِمْ وَلَزِمُوا بُيُوتَهُمْ لَا يَجْلِسُ أَحَدٌ وَلَا يَخْرُجُ إِلَّا بِسَيْفِهِ لِيَتَمَنَّعَ بِهِ، وَكَانَ الْحِصَارُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَمَنْ تَعَرَّضَ لَهُمْ وَضَعُوا فِيهِ السِّلَاحَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ كَانَا بِمِصْرَ يُحَرِّضَانِ عَلَى عُثْمَانَ، وَسَارَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ مَعَ مَنْ سَارَ إِلَى عُثْمَانَ، وَأَقَامَ ابْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بِمِصْرَ وَغَلَبَ عَلَيْهَا لَمَّا سَارَ عَنْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، عَلَى مَا يَأْتِي. فَلَمَّا خَرَجَ الْمِصْرِيُّونَ إِلَى قَصْدِ عُثْمَانَ أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْعُمْرَةَ وَخَرَجُوا فِي رَجَبٍ وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُدَيْسٍ

الْبَلَوِيُّ، وَبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ رَسُولًا إِلَى عُثْمَانَ يُخْبِرُهُ بِحَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ قَدْ أَظْهَرُوا الْعُمْرَةَ وَقَصْدُهُمْ خَلْعُهُ أَوْ قَتْلُهُ، فَخَطَبَ عُثْمَانُ النَّاسَ وَأَعْلَمَهُمْ حَالَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُمْ قَدْ أَسْرَعُوا إِلَى الْفِتْنَةِ وَاسْتَطَالُوا عُمْرِي، وَاللَّهِ لَئِنْ فَارَقْتُهُمْ لِيَتَمَنَّوْنَ أَنَّ عُمْرِي كَانَ عَلَيْهِمْ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ سَنَةً مِمَّا يَرَوْنَ مِنَ الدِّمَاءِ الْمَسْفُوكَةِ وَالْإِحَنِ وَالْأَثَرَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْأَحْكَامِ الْمُغَيَّرَةِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ قَدْ خَرَجَ إِلَى عُثْمَانَ فِي آثَارِ الْمِصْرِيِّينَ بِإِذْنِهِ لَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِأَيْلَةَ بَلَغَهُ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ رَجَعُوا إِلَى عُثْمَانَ فَحَصَرُوهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ غَلَبَ عَلَى مِصْرَ وَاسْتَجَابُوا لَهُ، فَعَادَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى مِصْرَ فَمُنِعَ عَنْهَا، فَأَتَى فِلَسْطِينَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى قُتِلَ عُثْمَانُ. فَلَمَّا نَزَلَ الْقَوْمُ ذَا خُشُبٍ يُرِيدُونَ قَتْلَ عُثْمَانَ إِنْ لَمْ يَنْزِعْ عَمَّا يَكْرَهُونَ، وَلَمَّا رَأَى عُثْمَانُ ذَلِكَ جَاءَ إِلَى عَلِيٍّ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَمِّ، إِنَّ قَرَابَتِي قَرِيبَةٌ وَلِي عَلَيْكَ حَقٌّ عَظِيمٌ، وَقَدْ جَاءَ مَا تَرَى مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَهُمْ مُصَبِّحِيَّ، وَلَكَ عِنْدَ النَّاسِ قَدْرٌ وَهُمْ يَسْمَعُونَ مِنْكَ، وَأُحِبُّ أَنْ تَرْكَبَ إِلَيْهِمْ فَتَرُدَّهُمْ عَنِّي، فَإِنَّ فِي دُخُولِهِمْ عَلَيَّ تَوْهِينًا لِأَمْرِي وَجُرْأَةً عَلَيَّ! فَقَالَ عَلِيٌّ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَرُدُّهُمْ عَنْكَ؟ قَالَ: عَلَى أَنْ أَصِيرَ إِلَى مَا أَشَرْتَ إِلَيْهِ وَرَأَيْتَهُ لِي. فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنِّي قَدْ كَلَّمْتُكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَكُلُّ ذَلِكَ نَخْرُجُ وَنَقُولُ ثُمَّ تَرْجِعُ عَنْهُ، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ مَرْوَانَ، وَابْنِ عَامِرٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ، فَإِنَّكَ أَطَعْتَهُمْ وَعَصَيْتَنِي. قَالَ عُثْمَانُ: فَأَنَا أَعْصِيهِمْ وَأُطِيعُكَ. فَأَمَرَ النَّاسَ فَرَكِبَ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ثَلَاثُونَ رَجُلًا فِيهِمْ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو جَهْمٍ الْعَدَوِيُّ، وَجَبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَمَرْوَانُ وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، وَمِنَ الْأَنْصَارِ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، وَأَبُو حُمَيْدٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَمِنَ الْعَرَبِ نِيَارُ بْنُ مِكْرَزٍ، فَأَتَوُا الْمِصْرِيِّينَ فَكَلَّمُوهُمْ، وَكَانَ الَّذِي يُكَلِّمُهُمْ عَلِيٌّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَسَمِعُوا مَقَالَتَهُمْ وَرَجَعُوا إِلَى مِصْرَ. فَقَالَ ابْنُ عُدَيْسٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ: أَتُوصِينَا بِحَاجَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، تَتَّقِي اللَّهَ وَتَرُدُّ مَنْ قِبَلَكَ عَنْ إِمَامِهِمْ، فَإِنَّهُ قَدْ وَعَدَنَا أَنْ يَرْجِعَ وَيَنْزِعَ. قَالَ ابْنُ عُدَيْسٍ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَرَجَعَ عَلِيٌّ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَأَخْبَرَهُ بِرُجُوعِهِمْ وَكَلَّمَهُ بِمَا فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَمَكَثَ عُثْمَانُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَجَاءَهُ مَرْوَانُ بُكْرَةَ الْغَدِ فَقَالَ لَهُ:

تَكَلَّمْ وَأَعْلِمِ النَّاسَ أَنَّ أَهْلَ مِصْرَ قَدْ رَجَعُوا، وَأَنَّ مَا بَلَغَهُمْ عَنْ إِمَامِهِمْ كَانَ بَاطِلًا قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ النَّاسُ إِلَيْكَ مِنْ أَمْصَارِهِمْ وَيَأْتِيَكَ مَا لَا تَسْتَطِيعُ دَفْعَهُ. فَفَعَلَ عُثْمَانُ، فَلَمَّا خَطَبَ النَّاسَ قَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّكَ قَدْ رَكِبْتَ أُمُورًا وَرَكِبْنَاهَا مَعَكَ، فَتُبْ إِلَى اللَّهِ نَتُبْ. فَنَادَاهُ عُثْمَانُ: وَإِنَّكَ هُنَالِكَ يَا ابْنَ النَّابِغَةِ! قَمِلَتْ وَاللَّهِ جُبَّتُكَ مُنْذُ عَزَلْتُكَ عَنِ الْعَمَلِ! فَنُودِيَ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى: تُبْ إِلَى اللَّهِ. فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ تَائِبٍ! وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى مَنْزِلِهِ بِفِلَسْطِينَ، وَكَانَ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي كُنْتُ لَأَلْقَى الرَّاعِيَ فَأُحَرِّضُهُ عَلَى عُثْمَانَ. وَأَتَى عَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ فَحَرَّضَهُمْ عَلَى عُثْمَانَ، (فَبَيْنَمَا هُوَ بِقَصْرِهِ بِفِلَسْطِينَ وَمَعَهُ ابْنَاهُ مُحَمَّدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَسَلَامَةُ بْنُ رَوْحٍ الْجِذَامِيُّ إِذْ مَرَّ بِهِ رَاكِبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ عَمْرٌو عَنْ عُثْمَانَ، فَقَالَ: هُوَ مَحْصُورٌ. قَالَ عَمْرٌو: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَدْ يَضْرِطُ الْعِيرُ وَالْمِكْوَاةُ فِي النَّارِ. ثُمَّ مَرَّ بِهِ رَاكِبٌ آخَرُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: قُتِلَ عُثْمَانُ. فَقَالَ عَمْرٌو: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، إِذَا حَكَكْتُ قُرْحَةً نَكَأْتُهَا. فَقَالَ لَهُ سَلَامَةُ بْنُ رَوْحٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْعَرَبِ بَابٌ فَكَسَرْتُمُوهُ! فَقَالَ: أَرَدْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ خَاصِرَةِ الْبَاطِلِ لِيَكُونَ النَّاسُ فِي الْحَقِّ شَرَعًا سَوَاءً) . وَقِيلَ: إِنَّ عَلِيًّا لَمَّا رَجَعَ مِنْ عِنْدِ الْمِصْرِيِّينَ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ إِلَى عُثْمَانَ قَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ كَلَامًا يَسْمَعُهُ النَّاسُ مِنْكَ وَيَشْهَدُونَ عَلَيْكَ، وَيَشْهَدُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي قَلْبِكَ مِنَ النُّزُوعِ وَالْأَمَانَةِ، فَإِنَّ الْبِلَادَ قَدْ تَمَخَّضَتْ عَلَيْكَ، فَلَا آمَنُ أَنْ يَجِيءَ رَكْبٌ آخَرُ مِنَ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ فَتَقُولَ: يَا عَلِيُّ ارْكَبْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ رَأَيْتَنِي قَدْ قَطَعْتُ رَحِمَكَ وَاسْتَخْفَفْتُ بِحَقِّكَ. فَخَرَجَ عُثْمَانُ فَخَطَبَ الْخُطْبَةَ الَّتِي نَزَعَ فِيهَا وَأَعْطَى النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ التَّوْبَةَ وَقَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنِ اتَّعَظَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا فَعَلْتُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَمِثْلِي نَزَعَ وَتَابَ، فَإِذَا نَزَلْتُ فَلْيَأْتِنِي أَشْرَافُكُمْ فَلْيَرَوْا فِيَّ رَأْيَهُمْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ رَدَّنِي الْحَقُّ عَبْدًا لَأَسْتَنَّنَّ بِسُنَّةِ الْعَبْدِ وَلَأَذِلَّنَّ ذُلَّ الْعَبْدِ، وَمَا عَنِ اللَّهِ مَذْهَبٌ إِلَّا إِلَيْهِ، فَوَاللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكُمُ الرِّضَا وَلَأُنَحِّيَنَّ مَرْوَانَ وَذَوِيهِ، وَلَا أَحْتَجِبُ عَنْكُمْ! فَرَقَّ النَّاسُ وَبَكَوْا حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَبَكَى هُوَ أَيْضًا. فَلَمَّا نَزَلَ عُثْمَانُ وَجَدَ مَرْوَانَ وَسَعِيدًا وَنَفَرًا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فِي مَنْزِلِهِ لَمْ يَكُونُوا شَهِدُوا

خُطْبَتَهُ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ مَرْوَانُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَكَلَّمُ أَمْ أَسْكُتُ؟ فَقَالَتْ نَائِلَةُ بِنْتُ الْفَرَافِصَةِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ: لَا بَلِ اصْمُتْ فَإِنَّهُمْ وَاللَّهِ قَاتِلُوهُ وَمُؤَثِّمُوهُ، إِنَّهُ قَدْ قَالَ مَقَالَةً لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهَا. فَقَالَ لَهَا مَرْوَانُ: مَا أَنْتِ وَذَاكَ! فَوَاللَّهِ قَدْ مَاتَ أَبُوكِ وَمَا يُحْسِنُ يَتَوَضَّأُ! فَقَالَتْ: مَهْلًا يَا مَرْوَانُ عَنْ ذِكْرِ (الْآبَاءِ! تُخْبِرُ) عَنْ أَبِي وَهُوَ غَائِبٌ تَكْذِبُ عَلَيْهِ، وَإِنَّ أَبَاكَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّهُ عَمُّهُ. (وَأَنَّهُ يَنَالُهُ غَمُّهُ) لَأَخْبَرْتُكَ عَنْهُ مَا لَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ. قَالَتْ: فَأَعْرَضَ عَنْهَا مَرْوَانُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَكَلَّمُ أَمْ أَسْكُتُ؟ قَالَ: تَكَلَّمْ. فَقَالَ مَرْوَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ مَقَالَتَكَ هَذِهِ كَانَتْ وَأَنْتَ مُمْتَنِعٌ فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ رَضِيَ بِهَا وَأَعَانَ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّكَ قُلْتَ مَا قُلْتَ وَقَدْ بَلَغَ الْحِزَامُ الطِّبْيَيْنِ وَخَلَّفَ السَّيْلُ الزُّبَى، وَحِينَ أَعْطَى الْخُطَّةَ الذَّلِيلَةَ الذَّلِيلُ، وَاللَّهِ لَإِقَامَةٌ عَلَى خَطِيئَةٍ يُسْتَغْفَرُ مِنْهَا أَجْمَلُ مِنْ تَوْبَةٍ يُخَوَّفُ عَلَيْهَا، وَأَنْتَ إِنْ شِئْتَ تَقَرَّبْتَ بِالتَّوْبَةِ وَلَمْ تُقِرَّ بِالْخَطِيئَةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ بِالْبَابِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ مِنَ النَّاسِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: فَاخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَكَلِّمْهُمْ فَإِنِّي أَسْتَحْيِي أَنْ أُكَلِّمَهُمْ. فَخَرَجَ مَرْوَانُ إِلَى الْبَابِ وَالنَّاسُ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ قَدِ اجْتَمَعْتُمْ كَأَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ لِنَهْبٍ؟ شَاهَتِ الْوُجُوهُ! أَلَا مَنْ أُرِيدَ؟ جِئْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْزِعُوا مُلْكَنَا مِنْ أَيْدِينَا! اخْرُجُوا عَنَّا، وَاللَّهِ لَئِنْ رُمْتُمُونَا لَيَمُرَّنَّ عَلَيْكُمْ مِنَّا أَمْرٌ لَا يَسُرُّكُمْ وَلَا تَحْمَدُوا غِبَّ رَأْيِكُمْ. ارْجِعُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَحْنُ بِمَغْلُوبِينَ عَلَى مَا فِي أَيْدِينَا. فَرَجَعَ النَّاسُ وَأَتَى بَعْضُهُمْ عَلِيًّا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ. فَأَقْبَلَ عَلِيٌّ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ فَقَالَ: أَحَضَرْتَ خُطْبَةَ عُثْمَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَحَضَرْتَ مَقَالَةَ مَرْوَانَ لِلنَّاسِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ! يَا لَلْمُسْلِمِينَ! إِنِّي إِنْ قَعَدْتُ فِي بَيْتِي قَالَ لِي: تَرَكْتَنِي وَقَرَابَتِي وَحَقِّي، وَإِنِّي إِنْ تَكَلَّمْتُ فَجَاءَ مَا يُرِيدُ يَلْعَبُ بِهِ مَرْوَانُ فَصَارَ سَيِّقَةً لَهُ يَسُوقُهُ حَيْثُ يَشَاءُ بَعْدَ كِبَرِ السِّنِّ وَصُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَامَ مُغْضَبًا حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ: أَمَا رَضِيتَ مِنْ مَرْوَانَ وَلَا رَضِيَ مِنْكَ إِلَّا بِتَحَرُّفِكَ عَنْ دِينِكَ وَعَنْ عَقْلِكَ مِثْلَ جَمَلِ الظَّعِينَةِ يُقَادُ حَيْثُ يُسَارُ بِهِ؟

وَاللَّهِ مَا مَرْوَانُ بِذِي رَأْيٍ فِي دِينِهِ وَلَا نَفْسِهِ! وَايْمُ اللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ يُورِدُكَ وَلَا يُصْدِرُكَ! وَمَا أَنَا عَائِدٌ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا لِمُعَاتَبَتِكَ، أَذْهَبْتَ شَرَفَكَ وَغُلِبْتَ عَلَى رَأْيِكَ. (فَلَمَّا خَرَجَ عَلِيٌّ دَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ نَائِلَةُ ابْنَةُ الْفَرَافِصَةِ فَقَالَتْ: قَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ عَلِيٍّ وَلَيْسَ يُعَاوِدُكَ، وَقَدْ أَطَعْتَ مَرْوَانَ يَقُودُكَ حَيْثُ شَاءَ. قَالَ: فَمَا أَصْنَعُ؟ قَالَتْ: تَتَّقِي اللَّهَ وَتَتَّبِعُ سُنَّةَ صَاحِبَيْكَ، فَإِنَّكَ مَتَى أَطَعْتَ مَرْوَانَ قَتَلَكَ، وَمَرْوَانُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ قَدْرٌ وَلَا هَيْبَةٌ وَلَا مَحَبَّةٌ، وَإِنَّمَا تَرَكَكَ النَّاسُ لِمَكَانِهِ، فَأَرْسِلْ إِلَى عَلِيٍّ فَاسْتَصْلِحْهُ فَإِنَّ لَهُ قَرَابَةً وَهُوَ لَا يُعْصَى. فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى عَلِيٍّ فَلَمْ يَأْتِهِ وَقَالَ: قَدْ أَعْلَمْتُهُ أَنِّي غَيْرُ عَائِدٍ. فَبَلَغَ مَرْوَانَ مَقَالَةُ نَائِلَةَ فِيهِ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ عُثْمَانَ فَقَالَ: يَا ابْنَةَ الْفَرَافِصَةِ! فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا تَذْكُرَنَّهَا بِحَرْفٍ فَأُسَوِّدَ وَجْهَكَ، فَهِيَ وَاللَّهِ أَنْصَحُ لِي! فَكَفَّ مَرْوَانُ) . وَأَتَى عُثْمَانُ إِلَى عَلِيٍّ بِمَنْزِلِهِ لَيْلًا وَقَالَ لَهُ: إِنِّي غَيْرُ عَائِدٍ، وَإِنِّي فَاعِلٌ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: بَعْدَمَا تَكَلَّمْتَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَعْطَيْتَ مِنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ دَخَلْتَ بَيْتَكَ فَخَرَجَ مَرْوَانُ إِلَى النَّاسِ يَشْتُمُهُمْ عَلَى بَابِكَ وَيُؤْذِيهِمْ. فَخَرَجَ عُثْمَانُ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: خَذَلْتَنِي وَجَرَّأْتَ النَّاسَ عَلَيَّ. فَقَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَكْثَرُ النَّاسِ ذَبًّا عَنْكَ، وَلَكِنِّي كُلَّمَا جِئْتُ بِشَيْءٍ أَظُنُّهُ لَكَ رِضًا جَاءَ مَرْوَانُ بِأُخْرَى فَسَمِعْتَ قَوْلَهُ وَتَرَكْتَ قَوْلِي. وَلَمْ يَعُدْ عَلِيٌّ يَعْمَلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ إِلَى أَنْ مُنِعَ عُثْمَانُ الْمَاءَ. فَقَالَ عَلِيٌّ لِطَلْحَةَ (أُرِيدُ أَنْ) تُدْخَلَ عَلَيْهِ الرَّوَايَا، وَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى دَخَلَتِ الرَّوَايَا عَلَى عُثْمَانَ. قَالَ: وَقَدْ قِيلَ إِنْ عَلِيًّا كَانَ عِنْدَ حَصْرِ عُثْمَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عِنْدَ طَلْحَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ لَهُ فِيهِ أَثَرٌ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ أَتَاهُ عُثْمَانُ وَقَالَ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ لِي حَقَّ الْإِسْلَامِ وَحَقَّ الْإِخَاءِ وَالْقَرَابَةِ وَالصِّهْرِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَكُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَكَانَ عَارًا عَلَى بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْ يَنْتَزِعَ أَخُو بَنِي تَيْمٍ، يَعْنِي طَلْحَةَ أَمْرَهُمْ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: سَيَأْتِيكَ الْخَبَرُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَرَأَى أُسَامَةَ فَتَوَكَّأَ عَلَى يَدِهِ حَتَّى دَخَلَ دَارَ طَلْحَةَ، وَهُوَ [فِي] خَلْوَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ: يَا طَلْحَةُ مَا هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي وَقَعْتَ فِيهِ؟ فَقَالَ يَا أَبَا

ذكر مقتل عثمان

الْحَسَنِ بَعْدَمَا مَسَّ الْحِزَامُ الطِّبْيَيْنِ. فَانْصَرَفَ عَلِيٌّ حَتَّى أَتَى بَيْتَ الْمَالِ فَقَالَ: افْتَحُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوا الْمَفَاتِيحَ، فَكَسَرَ الْبَابَ وَأَعْطَى النَّاسَ، فَانْصَرَفُوا مِنْ عِنْدِ طَلْحَةَ حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ، وَسُرَّ بِذَلِكَ عُثْمَانُ، وَجَاءَ طَلْحَةُ فَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ وَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَدْتُ أَمْرًا فَحَالَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ! فَقَالَ عُثْمَانُ: وَاللَّهِ مَا جِئْتَ تَائِبًا، وَلَكِنْ جِئْتَ مَغْلُوبًا، اللَّهُ حَسِيبُكَ يَا طَلْحَةُ! [ذكر مَقْتَلِ عُثْمَانَ] قَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ مَسِيرِ النَّاسِ إِلَى قَتْلِ عُثْمَانَ. وَقَدْ تَرَكْنَا كَثِيرًا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا النَّاسُ ذَرِيعَةً إِلَى قَتْلِهِ لِعِلَلٍ دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ، وَنَذْكُرُ الْآنَ كَيْفَ قُتِلَ، وَمَا كَانَ بَدْءُ ذَلِكَ وَابْتِدَاءُ الْجُرْأَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ قَتْلِهِ. فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِبِلًا مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ قُدِمَ بِهَا عَلَى عُثْمَانَ، فَوَهَبَهَا لِبَعْضِ بَنِي الْحَكَمِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَأَخَذَهَا وَقَسَّمَهَا بَيْنَ النَّاسِ وَعُثْمَانُ فِي الدَّارِ. قِيلَ: وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى عُثْمَانَ بِالْمَنْطِقِ جَبَلَةُ بْنُ عَمْرٍو السَّاعِدِيُّ، مَرَّ بِهِ عُثْمَانُ وَهُوَ فِي نَادِي قَوْمِهِ وَبِيَدِهِ جَامِعَةٌ، فَسَلَّمَ فَرَدَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ جَبَلَةُ: لِمَ تَرُدُّونَ عَلَى رَجُلٍ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا؟ ثُمَّ قَالَ لِعُثْمَانَ: وَاللَّهِ لَأَطْرَحَنَّ هَذِهِ الْجَامِعَةَ فِي عُنُقِكَ أَوْ لَتَتْرُكَنَّ بِطَانَتَكَ هَذِهِ الْخَبِيثَةَ: مَرْوَانَ، وَابْنَ عَامِرٍ، وَابْنَ سَعْدٍ، مِنْهُمْ مَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِذَمِّهِ وَأَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَمَهُ. فَاجْتَرَأَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَهُ فِي خُطْبَتِهِ. قِيلَ: وَخَطَبَ يَوْمًا وَبِيَدِهِ عَصًا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَخْطُبُونَ عَلَيْهَا، فَأَخَذَهَا جَهْجَاهُ الْغِفَارِيُّ مِنْ يَدِهِ وَكَسَرَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ، فَرُمِيَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِأَكِلَةٍ.

وَقِيلَ: كَتَبَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى مَنْ بِالْآفَاقِ مِنْهُمْ: إِنْ أَرَدْتُمُ الْجِهَادَ فَهَلُمُّوا إِلَيْهِ فَإِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَفْسَدَهُ خَلِيفَتُكُمْ فَأَقِيمُوهُ. فَاخْتَلَفَتْ قُلُوبُ النَّاسِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَجَاءَ الْمِصْرِيُّونَ - كَمَا ذَكَرْنَا - إِلَى الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَكَلَّمَاهُمْ فَعَادُوا ثُمَّ رَجَعُوا، فَلَمَّا رَجَعُوا انْطَلَقَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ عَوْدَتِهِمْ، فَأَخْرَجُوا صَحِيفَةً فِي أُنْبُوبَةِ رَصَاصٍ وَقَالُوا: وَجَدْنَا غُلَامَ عُثْمَانَ بِالْبُوَيْبِ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا فِيهِ هَذِهِ الصَّحِيفَةَ يَأْمُرُ فِيهَا بِجَلْدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُدَيْسٍ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الْبَيَّاعِ وَحَبْسِهِمْ وَحَلْقِ رُءُوسِهِمْ وَلِحَاهُمْ وَصَلْبِ بَعْضِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي أُخِذَتْ مِنْهُ الصَّحِيفَةُ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ. فَلَمَّا رَأَوْهُ سَأَلُوهُ عَنْ مَسِيرِهِ وَهَلْ مَعَهُ كِتَابٌ فَقَالَ: لَا. فَسَأَلُوهُ فِي أَيِّ شَيْءٍ هُوَ، فَتَغَيَّرَ كَلَامُهُ، فَأَنْكَرُوهُ وَفَتَّشُوهُ وَأَخَذُوا الْكِتَابَ مِنْهُ وَعَادُوا وَعَادَ الْكُوفِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ. فَلَمَّا عَادَ أَهْلُ مِصْرَ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ وَقَالُوا لَهُ: قَدْ كَلَّمْنَا عَلِيًّا وَوَعَدَنَا أَنْ يُكَلِّمَهُ، وَكَلَّمْنَا سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ فَقَالَا: لَا نَدْخُلُ فِي أَمْرِكُمْ. وَقَالُوا لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ لِيَحْضُرَ مَعَ عَلِيٍّ عِنْدَ عُثْمَانَ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَوَعَدَهُمْ بِذَلِكَ، فَدَخَلَ عَلِيٌّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَلَى عُثْمَانَ فَاسْتَأْذَنَا لِلْمِصْرِيِّينَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُ مَرْوَانُ، فَقَالَ: دَعْنِي أُكَلِّمْهُمْ. فَقَالَ عُثْمَانُ: اسْكُتْ فَضَّ اللَّهُ فَاكَ! مَا أَنْتَ وَهَذَا الْأَمْرُ؟ اخْرُجْ عَنِّي! فَخَرَجَ مَرْوَانُ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَمُحَمَّدٌ لِعُثْمَانَ مَا قَالَ الْمِصْرِيُّونَ، فَأَقْسَمَ بِاللَّهِ: مَا كَتَبْتُهُ وَلَا عِلْمَ [لِي] بِهِ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ: صَدَقَ، هَذَا مِنْ عَمَلِ مَرْوَانَ. وَدَخَلَ عَلَيْهِ الْمِصْرِيُّونَ فَلَمْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، فَعَرَفُوا الشَّرَّ فِيهِمْ، وَتَكَلَّمُوا فَذَكَرَ ابْنُ عُدَيْسٍ مَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ بِالْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَالِاسْتِئْثَارِ فِي الْغَنَائِمِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: هَذَا كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَذَكَرُوا شَيْئًا مِمَّا أَحْدَثَ بِالْمَدِينَةِ، وَقَالُوا لَهُ: وَخَرَجْنَا مِنْ مِصْرَ وَنَحْنُ نُرِيدُ قَتْلَكَ، فَرَدَّنَا عَلِيٌّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَضَمِنَا لَنَا النُّزُوعَ عَنْ كُلِّ مَا تَكَلَّمْنَا فِيهِ، فَرَجَعْنَا إِلَى بِلَادِنَا فَرَأَيْنَا غُلَامَكَ وَكِتَابَكَ وَعَلَيْهِ خَاتَمُكَ تَأْمُرُ عَبْدَ اللَّهِ بِجَلْدِنَا وَالْمُثْلَةِ بِنَا وَطُولِ الْحَبْسِ. فَحَلَفَ عُثْمَانُ أَنَّهُ مَا كَتَبَ وَلَا أَمَرَ وَلَا عَلِمَ. فَقَالَ عَلِيٌّ وَمُحَمَّدٌ: صَدَقَ عُثْمَانُ. قَالَ الْمِصْرِيُّونَ: فَمَنْ كَتَبَهُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. قَالُوا: فَيَجْتَرِأُ عَلَيْكَ وَيَبْعَثُ غُلَامَكَ وَجَمَلًا مِنَ الصَّدَقَةِ، وَيَنْقُشُ عَلَى خَاتَمِكَ، وَيَبْعَثُ إِلَى عَامِلِكَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: مَا أَنْتَ إِلَّا صَادِقٌ أَوْ كَاذِبٌ، فَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَقَدِ اسْتَحْقَقْتَ الْخَلْعَ لِمَا

أَمَرْتَ بِهِ مَنْ قَتْلِنَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدِ اسْتَحْقَقْتَ أَنْ تَخْلَعَ نَفْسَكَ لِضَعْفِكَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَغَفْلَتِكَ وَخُبْثِ بِطَانَتِكَ، وَلَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ بِيَدِ مَنْ تُقْطَعُ الْأُمُورُ دُونَهُ لِضَعْفِهِ وَغَفْلَتِهِ، فَاخْلَعْ نَفْسَكَ مِنْهُ كَمَا خَلَعَكَ اللَّهُ! فَقَالَ: لَا أَنْزِعُ قَمِيصًا أَلْبَسَنِيهِ اللَّهُ، وَلَكِنِّي أَتُوبُ وَأَنْزِعُ. قَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا أَوَّلَ ذَنْبٍ تُبْتَ مِنْهُ قَبِلْنَا، وَلَكِنَّا رَأَيْنَاكَ تَتُوبُ ثُمَّ تَعُودُ، وَلَسْنَا مُنْصَرِفِينَ حَتَّى نَخْلَعَكَ أَوْ نَقْتُلَكَ أَوْ تَلْحَقَ أَرْوَاحُنَا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ مَنَعَكَ أَصْحَابُكَ وَأَهْلُكَ قَاتَلْنَاهُمْ حَتَّى نَخْلُصَ إِلَيْكَ. فَقَالَ: أَمَّا أَنْ أَتَبَرَّأَ مِنْ خِلَافَةِ اللَّهِ فَالْقَتْلُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُكُمْ تُقَاتِلُونَ مَنْ مَنَعَنِي فَإِنِّي لَا آمُرُ أَحَدًا بِقِتَالِكُمْ، فَمَنْ قَاتَلَكُمْ فَبِغَيْرِ أَمْرِي قَاتَلَ، وَلَوْ أَرَدْتُ قِتَالَكُمْ لَكَتَبْتُ إِلَى الْأَجْنَادِ فَقَدِمُوا عَلَيَّ أَوْ لَحِقْتُ بِبَعْضِ أَطْرَافِي. وَكَثُرَتِ الْأَصْوَاتُ وَاللَّغَطُ. فَقَامَ عَلِيٌّ فَخَرَجَ وَأَخْرَجَ الْمِصْرِيِّينَ وَمَضَى عَلِيٌّ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَحَصَرَ الْمِصْرِيُّونَ عُثْمَانَ، وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَابْنِ عَامِرٍ وَأُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ يَسْتَنْجِدُهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْعَجَلِ وَإِرْسَالِ الْجُنُودِ إِلَيْهِ. فَتَرَبَّصَ بِهِ مُعَاوِيَةُ، فَقَامَ فِي أَهْلِ الشَّامِ يَزِيدُ بْنُ أَسَدٍ الْقَسْرِيُّ جَدُّ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ، فَتَبِعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى عُثْمَانَ، فَلَمَّا كَانُوا بِوَادِي الْقُرَى بَلَغَهُمْ قَتْلُ عُثْمَانَ فَرَجَعُوا. وَقِيلَ: بَلْ سَارَ مِنَ الشَّامِ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ، وَسَارَ مِنَ الْبَصْرَةِ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ السُّلَمِيُّ، فَلَمَّا وَصَلُوا الرَّبَذَةَ وَنَزَلَتْ مُقَدَّمَتُهُمْ صِرَارًا بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ أَتَاهُمْ قَتْلُ عُثْمَانَ فَرَجَعُوا. وَكَانَ عُثْمَانُ قَدِ اسْتَشَارَ نُصَحَاءَهُ فِي أَمْرِهِ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ إِلَى عَلِيٍّ يَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمْ وَيُعْطِيَهُمْ مَا يُرْضِيهِمْ لِيُطَاوِلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُ إِمْدَادُهُ. فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ التَّعَلُّلَ، وَقَدْ كَانَ مِنِّي فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى مَا كَانَ. فَقَالَ مَرْوَانُ: أَعْطِهُمْ مَا سَأَلُوكَ وَطَاوِلْهُمْ مَا طَاوَلُوكَ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ بَغَوْا عَلَيْكَ وَلَا عَهْدَ لَهُمْ. فَدَعَا عَلِيًّا فَقَالَ لَهُ: قَدْ تَرَى مَا كَانَ مِنَ النَّاسِ وَلَسْتُ آمَنُهُمْ عَلَى دَمِي، فَارْدُدْهُمْ عَنِّي فَإِنِّي أُعْطِيهِمْ مَا يُرِيدُونَ مِنَ الْحَقِّ مِنْ نَفْسِي وَغَيْرِي. فَقَالَ عَلِيٌّ: النَّاسُ إِلَى عَدْلِكَ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إِلَى قَتْلِكَ، وَلَا يَرْضَوْنَ إِلَّا بِالرِّضَا، وَقَدْ كُنْتَ أَعْطَيْتَهُمْ أَوَّلًا عَهْدًا فَلَمْ تَفِ بِهِ فَلَا تَغُرَّنِي هَذِهِ الْمَرَّةَ، فَإِنِّي مُعْطِيهِمْ عَلَيْكَ الْحَقَّ. فَقَالَ: أَعْطِهِمْ فَوَاللَّهِ لَأَفِيَنَّ لَهُمْ. فَخَرَجَ عَلِيٌّ إِلَى النَّاسِ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا طَلَبْتُمُ الْحَقَّ وَقَدْ أُعْطِيتُمُوهُ وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مُنْصِفُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ. فَقَالَ النَّاسُ: قَبِلْنَا فَاسْتَوْثِقْ مِنْهُ لَنَا، فَإِنَّا لَا نَرْضَى بِقَوْلٍ دُونَ فِعْلٍ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ فَأَعْلَمَهُ فَقَالَ: اضْرِبْ بَيْنِي

وَبَيْنَهُمْ أَجَلًا فَإِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَرُدَّ مَا كَرِهُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا مَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَلَا أَجَلَ فِيهِ، وَمَا غَابَ فَأَجَلُهُ وُصُولُ أَمْرِكَ. قَالَ: نَعَمْ، فَأَجِّلْنِي فِيمَا فِي الْمَدِينَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَ بَيْنَهُمْ كِتَابًا عَلَى رَدِّ كُلِّ مَظْلَمَةٍ وَعَزْلِ كُلِّ عَامِلٍ كَرِهُوهُ. فَكَفَّ النَّاسُ عَنْهُ، فَجَعَلَ يَتَأَهَّبُ لِلْقِتَالِ وَيَسْتَعِدُّ بِالسِّلَاحِ وَاتَّخَذَ جُنْدًا، فَلَمَّا مَضَتِ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ وَلَمْ يُغَيِّرْ شَيْئًا ثَارَ بِهِ النَّاسُ، وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ فَأَعْلَمَهُمُ الْحَالَ، وَهُمْ بِذِي خُشُبٍ، فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَطَلَبُوا مِنْهُ عَزْلَ عُمَّالِهِ وَرَدَّ مَظَالِمِهِمْ. فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ مُسْتَعْمِلًا مَنْ أَرَدْتُمْ وَعَازِلًا مَنْ كَرِهْتُمْ فَلَسْتُ فِي شَيْءٍ وَالْأَمْرُ أَمْرُكُمْ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ أَوْ لَتُخْلَعَنَّ أَوْ لَتُقْتَلَنَّ. فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَقَالَ: لَا أَنْزِعُ سِرْبَالًا سَرْبَلَنِيهُ اللَّهُ. فَحَصَرُوهُ وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ فَحَضَرُوا، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اجْلِسُوا. فَجَلَسُوا الْمُحَارِبُ وَالْمُسَالِمُ. فَقَالَ لَهُمْ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَسْتَوْدِعُكُمُ اللَّهَ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يُحْسِنَ عَلَيْكُمُ الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِي، ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ دَعَوْتُمُ اللَّهَ عِنْدَ مُصَابِ عُمَرَ أَنْ يَخْتَارَ لَكُمْ وَيَجْمَعَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ؟ أَتَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْتَجِبْ لَكُمْ وَهُنْتُمْ عَلَيْهِ وَأَنْتُمْ أَهْلُ حَقِّهِ؟ أَمْ تَقُولُونَ: هَانَ عَلَى اللَّهِ دِينُهُ فَلَمْ يُبَالِ مَنْ وُلِّيَ وَالدِّينُ لَمْ يَتَفَرَّقْ أَهْلُهُ يَوْمَئِذٍ؟ أَمْ تَقُولُونَ: لَمْ يَكُنْ أَخْذٌ عَنْ مَشُورَةٍ، إِنَّمَا كَانَ مُكَابَرَةً، فَوَكَّلَ اللَّهُ الْأُمَّةَ إِذَا عَصَتْهُ وَلَمْ يُشَاوِرُوا فِي الْإِمَامَةِ؟ أَمْ تَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْلَمْ عَاقِبَةَ أَمْرِي! وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَتَعْلَمُونَ لِي مِنْ سَابِقَةِ خَيْرٍ وَقَدَمِ خَيْرٍ قَدَّمَهُ اللَّهُ لِي مَا يُوجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ جَاءَ بَعْدِي أَنْ يَعْرِفُوا لِي فَضْلَهَا! فَمَهْلًا لَا تَقْتُلُونِي فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ إِلَّا قَتْلُ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قَتَلْتُمُونِي وَضَعْتُمُ السَّيْفَ عَلَى رِقَابِكُمْ، ثُمَّ لَمْ يَرْفَعِ اللَّهُ عَنْكُمُ الِاخْتِلَافَ أَبَدًا. قَالُوا: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنِ اسْتِخَارَةِ النَّاسِ بَعْدَ عُمَرَ ثُمَّ وَلُّوكَ، فَإِنَّ كُلَّ مَا صَنَعَ اللَّهُ خِيرَةٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَكَ بَلِيَّةً ابْتَلَى بِهَا عِبَادَهُ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ قَدَمِكَ وَسَلَفِكَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ كُنْتَ كَذَلِكَ وَكُنْتَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ، وَلَكِنْ أَحْدَثْتَ مَا عَلِمْتَهُ، وَلَا نَتْرُكُ إِقَامَةَ الْحَقِّ عَلَيْكَ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ عَامًا قَابِلًا، وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ إِلَّا قَتْلُ ثَلَاثَةٍ، فَإِنَّا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَتْلَ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ سَمَّيْتَ، قَتْلَ مَنْ سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَقَتْلَ مَنْ

بَغَى ثُمَّ قَاتَلَ عَلَى بَغْيِهِ، وَقَتْلَ مَنْ حَالَ دُونَ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَمَنَعَهُ وَقَاتَلَ دُونَهُ، وَقَدْ تَمَسَّكْتَ بِالْإِمَارَةِ عَلَيْنَا، فَإِنْ زَعَمْتَ أَنَّكَ لَمْ تُكَابِرْنَا عَلَيْهِ فَإِنَّ الَّذِينَ قَامُوا دُونَكَ وَمَنَعُوكَ مِنَّا إِنَّمَا يُقَاتِلُونَ لِتَمَسُّكٍ بِالْإِمَارَةِ، فَلَوْ خَلَعْتَ نَفْسَكَ لَانْصَرَفُوا عَنِ الْقِتَالِ مَعَكَ! فَسَكَتَ عُثْمَانُ وَلَزِمَ الدَّارَ، وَأَمَرَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِالرُّجُوعِ وَأَقْسَمَ عَلَيْهِمْ، فَرَجَعُوا إِلَّا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ طَلْحَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَشْبَاهًا لَهُمْ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ كَثِيرٌ، فَكَانَتْ مُدَّةُ الْحِصَارِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا مَضَتْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً قَدِمَ رُكْبَانٌ مِنَ الْأَمْصَارِ، فَأَخْبَرُوا بِخَبَرِ مَنْ تَهَيَّأَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْجُنُودِ وَشَجَّعُوا النَّاسَ، فَعِنْدَهَا حَالُوا بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ عُثْمَانَ، وَمَنَعُوهُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْمَاءَ. فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى عَلِيٍّ سِرًّا وَإِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُمْ قَدْ مَنَعُونِي الْمَاءَ، فَإِنْ قَدَرْتُمْ أَنْ تُرْسِلُوا إِلَيْنَا مَاءً فَافْعَلُوا. فَكَانَ أَوَّلَهُمْ إِجَابَةً عَلِيٌّ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَاءَ عَلِيٌّ فِي الْغَلَسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الَّذِي تَفْعَلُونَ لَا يُشْبِهُ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أَمْرَ الْكَافِرِينَ، فَلَا تَقْطَعُوا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الْمَاءَ وَلَا الْمَادَّةَ، فَإِنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ لَتَأْسِرُ فَتُطْعِمُ وَتَسْقِي! فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ وَلَا نُعْمَةَ عَيْنٍ! فَرَمَى بِعِمَامَتِهِ فِي الدَّارِ بِأَنِّي قَدْ نَهَضْتُ وَرَجَعْتُ، وَجَاءَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ عَلَى بَغْلَةٍ لَهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى إِدَاوَةٍ، فَضَرَبُوا وَجْهَ بَغْلَتِهَا فَقَالَتْ: إِنَّ وَصَايَا بَنِي أُمَيَّةَ عِنْدَ هَذَا الرَّجُلِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهَا لِئَلَّا تَهْلِكَ أَمْوَالُ الْأَيْتَامِ وَالْأَرَامِلِ. فَقَالُوا: كَاذِبَةٌ، وَقَطَعُوا حَبْلَ الْبَغْلَةِ بِالسَّيْفِ، فَنَفَرَتْ وَكَادَتْ تَسْقُطُ عَنْهَا، فَتَلَقَّاهَا النَّاسُ فَأَخَذُوهَا وَذَهَبُوا بِهَا إِلَى بَيْتِهَا. فَأَشْرَفَ عُثْمَانُ يَوْمًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اشْتَرَيْتُ بِئْرَ رُومَةَ بِمَالِي لِيُسْتَعْذَبَ بِهَا، فَجَعَلْتُ رِشَائِي فِيهَا كَرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَلِمَ تَمْنَعُونِي أَنْ أَشْرَبَ مِنْهَا حَتَّى أُفْطِرَ عَلَى مَاءِ الْبَحْرِ؟ ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اشْتَرَيْتُ أَرْضَ كَذَا فَزِدْتُهَا فِي الْمَسْجِدِ؟ قِيلَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ أَحَدًا مُنِعَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ قَبْلِي؟ ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عَنِّي كَذَا وَكَذَا؟ أَشْيَاءُ فِي شَأْنِهِ. فَفَشَا النَّهْيُ فِي النَّاسِ يَقُولُونَ: مَهْلًا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَامَ الْأَشْتَرُ فَقَالَ: لَعَلَّهُ مُكِرَ بِهِ وَبِكُمْ. وَخَرَجَتْ عَائِشَةُ إِلَى الْحَجِّ وَاسْتَتْبَعَتْ أَخَاهَا مُحَمَّدًا فَأَبَى، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَطَعْتُ أَنْ يَحْرِمَهُمُ اللَّهُ مَا يُحَاوِلُونَ لَأَفْعَلَنَّ. فَقَالَ لَهُ حَنْظَلَةُ الْكَاتِبُ: تَسْتَتْبِعُكَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا تَتْبَعُهَا، وَتَتْبَعُ ذُؤْبَانَ الْعَرَبِ إِلَى مَا [لَا] يَحِلُّ؟ وَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ إِنْ صَارَ إِلَى التَّغَالُبِ غَلَبَكَ عَلَيْهِ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ. ثُمَّ رَجَعَ حَنْظَلَةُ إِلَى الْكُوفَةِ وَهُوَ يَقُولُ:

عَجِبْتُ لِمَا يَخُوضُ النَّاسُ فِيهِ ... يَرُومُونَ الْخِلَافَةَ أَنْ تَزُولَا وَلَوْ زَالَتْ لَزَالَ الْخَيْرُ عَنْهُمْ ... وَلَاقَوْا بَعْدَهَا ذُلًّا ذَلِيلَا وَكَانُوا كَالْيَهُودِ وَكَالنَّصَارَى ... سَوَاءً كُلُّهُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَا وَبَلَغَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ مَا لَقِيَ عَلِيٌّ وَأُمُّ حَبِيبَةَ، فَلَزِمُوا بُيُوتَهُمْ وَبَقِيَ عُثْمَانُ يَسْقِيهِ آلُ حَزْمٍ فِي الْغَفَلَاتِ. فَأَشْرَفَ عُثْمَانُ عَلَى النَّاسِ فَاسْتَدْعَى ابْنَ عَبَّاسٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ بِالنَّاسِ، وَكَانَ مِمَّنْ لَزِمَ الْبَابَ، فَقَالَ: جِهَادُ هَؤُلَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْحَجِّ فَأَقْسَمَ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَسْمَعَنِي كَلَامَ مَنْ عَلَى بَابِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا تَنْتَظِرُونَ بِهِ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: انْظُرُوا عَسَى أَنْ يُرَاجِعَ. قَالَ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ وَاقِفُونَ إِذْ مَرَّ طَلْحَةُ فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ عُدَيْسٍ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ فَنَاجَاهُ، ثُمَّ رَجَعَ ابْنُ عُدَيْسٍ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا تَتْرُكُوا أَحَدًا يَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ. فَقَالَ لِي عُثْمَانُ: هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ طَلْحَةُ، اللَّهُمَّ اكْفِنِي طَلْحَةَ فَإِنَّهُ حَمَلَ عَلَيَّ هَؤُلَاءِ وَأَلَّبَهُمْ عَلَيَّ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ مِنْهَا صِفْرًا وَأَنْ يُسْفَكَ دَمُهُ! قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَخْرُجَ فَمَنَعُونِي حَتَّى أَمَرَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَتَرَكُونِي أَخْرُجُ. وَقِيلَ: إِنَّ الزُّبَيْرَ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ عُثْمَانُ، وَقِيلَ: أَدْرَكَ قَتْلَهُ. وَلَمَّا رَأَى الْمِصْرِيُّونَ أَنَّ أَهْلَ الْمَوْسِمِ يُرِيدُونَ قَصْدَهُمْ، وَأَنْ يَجْمَعُوا ذَلِكَ إِلَى حَجِّهِمْ مَعَ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ مَسِيرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ قَالُوا: لَا يُخْرِجُنَا مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي وَقَعْنَا فِيهِ إِلَّا قَتْلُ هَذَا الرَّجُلِ، فَيَشْتَغِلُ النَّاسُ عَنَّا بِذَلِكَ. فَرَامُوا الْبَابَ فَمَنَعَهُمُ الْحَسَنُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، وَمَرْوَانُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ، وَاجْتَلَدُوا، فَزَجَرَهُمْ عُثْمَانُ وَقَالَ: أَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ نُصْرَتِي، فَأَبَوْا، فَفَتَحَ الْبَابَ لِمَنْعِهِمْ، فَلَمَّا خَرَجَ وَرَآهُ الْمِصْرِيُّونَ رَجَعُوا، فَرَكِبَهُمْ هَؤُلَاءِ، وَأَقْسَمَ عُثْمَانُ عَلَى أَصْحَابِهِ لَيَدْخُلُنَّ فَدَخَلُوا فَأَغْلَقَ الْبَابَ دُونَ الْمِصْرِيِّينَ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ نِيَارُ بْنُ عِيَاضٍ، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَنَادَى عُثْمَانَ، فَبَيْنَا هُوَ يُنَاشِدُهُ أَنْ يَعْتَزِلَهُمْ إِذْ رَمَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ الْكِنْدِيُّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ. فَقَالُوا لِعُثْمَانَ عِنْدَ ذَلِكَ: ادْفَعْ إِلَيْنَا قَاتِلَهُ لِنَقْتُلَهُ بِهِ. قَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَقْتُلَ رَجُلًا نَصَرَنِي وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ قَتْلِي. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ ثَارُوا إِلَى الْبَابِ، فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَحَدٌ مِنْهُ، وَالْبَابُ مُغْلَقٌ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الدُّخُولِ مِنْهُ، فَجَاءُوا بِنَارٍ فَأَحْرَقُوهُ وَالسَّقِيفَةَ الَّتِي عَلَى الْبَابِ، وَثَارَ أَهْلُ

الدَّارِ، وَعُثْمَانُ يُصَلِّي قَدِ افْتَتَحَ (طه) فَمَا شَغَلَهُ مَا سَمِعَ، مَا يُخْطِئُ وَمَا يَتَتَعْتَعُ، حَتَّى أَتَى عَلَيْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ جَلَسَ إِلَى الْمُصْحَفِ يَقْرَأُ فِيهِ، وَقَرَأَ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] . فَقَالَ لِمَنْ عِنْدَهُ بِالدَّارِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا فَأَنَا صَابِرٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَحْرِقُوا الْبَابَ إِلَّا وَهُمْ يَطْلُبُونَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَأُحَرِّجُ عَلَى رَجُلٍ أَنْ يَسْتَقْتِلَ أَوْ يُقَاتِلَ، وَقَالَ لِلْحَسَنِ: إِنَّ أَبَاكَ الْآنَ لَفِي أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنْ أَمْرِكَ، فَأَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا خَرَجْتَ إِلَيْهِ. فَتَقَدَّمُوا فَقَاتَلُوا وَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَهُ، فَبَرَزَ الْمُغِيرَةُ بْنُ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، وَكَانَ تَعَجَّلَ مِنَ الْحَجِّ، فِي عِصَابَةٍ لِيَنْصُرُوا عُثْمَانَ وَهُوَ مَعَهُ فِي الدَّارِ، وَارْتَجَزَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ ذَاتُ الْقُرُونِ الْمِيلِ ... وَالْحَلْيِ وَالْأَنَامِلِ الطُّفُولِ لَتَصْدُقَنَّ بَيْعَتِي خَلِيلِي ... بِصَارِمٍ ذِي رَوْنَقٍ مَصْقُولِ لَا أَسْتَقِيلُ إِذْ أَقَلْتُ قِيلِي وَخَرَجَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَهُوَ يَقُولُ: لَا دِينُهُمْ دِينِي وَلَا أَنَا مِنْهُمُ ... حَتَّى أَسِيرَ إِلَى طَمَارِ شَمَامِ وَخَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ مَنْ حَامَى عَلَيْهِ بِأُحُدْ ... وَرَدَّ أَحْزَابًا عَلَى رَغْمِ مَعَدِّ وَخَرَجَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَهُوَ يَقُولُ: صَبْرَنَا غَدَاةَ الدَّارِ وَالْمَوْتُ وَاقِبٌ ... بِأَسْيَافِنَا دُونَ ابْنِ أَرْوَى نُضَارِبُ وَكُنَّا غَدَاةَ الرَّوْعِ فِي الدَّارِ نُصْرَةً ... نُشَافِهُهُمْ بِالضَّرْبِ وَالْمَوْتُ نَائِبُ

وَكَانَ آخِرَ مَنْ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَكَانَ يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ بِآخِرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَأَقْبَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالنَّاسُ مُحْجِمُونَ فَقَالَ: هَذَا يَوْمٌ طَابَ فِيهِ الضَّرْبُ! وَنَادَى: {قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر: 41] ، وَبَرَزَ مَرْوَانُ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ ذَاتُ الْقُرُونِ الْمِيلِ ... وَالْكَفِّ وَالْأَنَامِلِ الطُّفُولِ أَنِّي أَرُوعُ أَوَّلَ الرَّعِيلِ ... بِغَارَةٍ مِثْلَ الْقَطَا الشَّلِيلِ فَبَرَزَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُدْعَى الْبَيَّاعَ، فَضَرَبَهُ مَرْوَانُ وَضَرَبَ هُوَ مَرْوَانَ عَلَى رَقَبَتِهِ فَأَثْبَتَهُ وَقَطَعَ إِحْدَى عِلْبَاوَيْهِ، فَعَاشَ مَرْوَانُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْقَصَ، وَقَامَ إِلَيْهِ عُبَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ الزُّرَقِيُّ لِيُدَفِّفَ عَلَيْهِ، فَقَامَتْ فَاطِمَةُ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَدِيٍّ، وَكَانَتْ أَرْضَعَتْ مَرْوَانَ وَأَرْضَعَتْ لَهُ، فَقَالَتْ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلَهُ فَقَدْ قُتِلَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَلْعَبَ بِلَحْمِهِ فَهَذَا قَبِيحٌ! فَتَرَكَهُ وَأَدْخَلَتْهُ بَيْتَهَا، فَعَرَفَ لَهَا بَنُوهُ ذَلِكَ، وَاسْتَعْمَلُوا ابْنَهَا إِبْرَاهِيمَ بَعْدُ. وَنَزَلَ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ رَجُلٌ فَقَتَلَ الْمُغِيرَةَ، قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسَ يَذْكُرُونَهُ قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُدَيْسٍ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ هَاتِفًا يَهْتِفُ فَقَالَ: بَشِّرْ قَاتِلَ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ بِالنَّارِ، فَابْتُلِيتُ بِهِ. وَاقْتَحَمَ النَّاسُ الدَّارَ مِنَ الدُّورِ الَّتِي حَوْلَهَا، وَدَخَلُوهَا مِنْ دَارِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إِلَى دَارِ عُثْمَانَ حَتَّى مَلَؤُهَا وَلَا يَشْعُرُ مَنْ بِالْبَابِ، وَغَلَبَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ وَنَدَبُوا رَجُلًا يَقْتُلُهُ، فَانْتُدِبَ لَهُ رَجُلٌ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْبَيْتَ فَقَالَ: اخْلَعْهَا وَنَدَعَكَ. فَقَالَ: وَيْحَكَ! وَاللَّهِ مَا كَشَفْتُ امْرَأَةً فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ وَلَا تَغَنَّيْتُ وَلَا تَمَنَّيْتُ وَلَا وَضَعْتُ يَمِينِي عَلَى عَوْرَتِي مُنْذُ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَسْتُ خَالِعًا قَمِيصًا كَسَانِيهِ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يُكْرِمَ اللَّهُ أَهْلَ السَّعَادَةِ وَيُهِينَ أَهْلَ الشَّقَاوَةِ! فَخَرَجَ عَنْهُ، فَقَالُوا: مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يُنْجِينَا مِنَ النَّاسِ إِلَّا قَتْلُهُ وَلَا يَحِلُّ لَنَا قَتْلُهُ. فَأَدْخَلُوا عَلَيْهِ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ فَقَالَ لَهُ: لَسْتَ بِصَاحِبِي لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لَكَ أَنْ تُحْفَظَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وَلَنْ تَضِيعَ. فَرَجَعَ عَنْهُ وَفَارَقَ الْقَوْمَ. وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَغْفَرَ لَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا

فَلَنْ تُقَارِفَ دَمًا حَرَامًا. فَرَجَعَ وَفَارَقَ أَصْحَابَهُ. وَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ يَنْهَاهُمْ عَنْ قَتْلِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ لَا تَسُلُّوا سَيْفَ اللَّهِ فِيكُمْ، فَوَاللَّهِ إِنْ سَلَلْتُمُوهُ لَا تُغْمِدُوهُ! وَيْلَكُمْ! إِنَّ سُلْطَانَكُمُ الْيَوْمَ يُقَوِّمُ بِالدِّرَّةِ، فَإِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَا يُقَوِّمُ إِلَّا بِالسَّيْفِ. وَيْلَكُمْ! إِنَّ مَدِينَتَكُمْ مَحْفُوفَةٌ بِالْمَلَائِكَةِ فَإِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَيَتْرُكُنَّهَا. فَقَالُوا: يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ مَا أَنْتَ وَهَذَا! فَرَجَعَ عَنْهُمْ. وَكَانَ آخِرَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ مِمَّنْ رَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: وَيْلَكَ أَعَلَى اللَّهِ تَغْضَبُ؟ هَلْ لِي إِلَيْكَ جُرْمٌ إِلَّا حَقَّهُ أَخَذْتُهُ مِنْكَ؟ فَأَخَذَ مُحَمَّدٌ لِحْيَتَهُ وَقَالَ: قَدْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا نَعْثَلُ! فَقَالَ: لَسْتُ بِنَعْثَلٍ وَلَكِنِّي عُثْمَانُ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانُوا يُلَقِّبُونَ بِهِ عُثْمَانَ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ: مَا أَغْنَى عَنْكَ مُعَاوِيَةُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ! فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا ابْنَ أَخِي فَمَا كَانَ أَبُوكَ لِيَقْبِضَ عَلَيْهَا. فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ رَآكَ أَبِي تَعْمَلُ هَذِهِ الْأَعْمَالَ أَنْكَرَهَا عَلَيْكَ، وَالَّذِي أُرِيدَ بِكَ أَشَدُّ مِنْ قَبْضِي عَلَيْهَا! فَقَالَ عُثْمَانُ: أَسْتَنْصِرُ اللَّهَ عَلَيْكَ وَأَسْتَعِينُ بِهِ! فَتَرَكَهُ وَخَرَجَ. وَقِيلَ: بَلْ طَعَنَ جَبِينَهُ بِمِشْقَصٍ كَانَ فِي يَدِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ مُحَمَّدٌ وَعَرَفُوا انْكِسَارَهُ ثَارَ قُتَيْرَةُ، وَسَوْدَانُ بْنُ حُمْرَانَ، وَالْغَافِقِيُّ، فَضَرَبَهُ الْغَافِقِيُّ بِحَدِيدَةٍ مَعَهُ وَضَرَبَ الْمُصْحَفَ بِرِجْلِهِ، فَاسْتَدَارَ الْمُصْحَفُ وَاسْتَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَالَتْ عَلَيْهِ الدِّمَاءُ، وَجَاءَ سَوْدَانُ لِيَضْرِبَهُ، فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَاتَّقَتِ السَّيْفَ بِيَدِهَا، فَنَفَحَ أَصَابِعَهَا فَأَطَنَّ أَصَابِعَ يَدِهَا وَوَلَّتْ، فَغَمَزَ أَوْرَاكَهَا وَقَالَ: إِنَّهَا لَكَبِيرَةُ الْعَجُزِ! وَضَرَبَ عُثْمَانَ فَقَتَلَهُ. وَقِيلَ: الَّذِي قَتَلَهُ كِنَانَةُ بْنُ بِشْرٍ التُّجِيبِيُّ. وَكَانَ عُثْمَانُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِلْكَ اللَّيْلَةَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ تُفْطِرُ اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا. فَلَمَّا قُتِلَ سَقَطَ مِنْ دَمِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 137] . وَدَخَلَ غُلْمَةٌ لِعُثْمَانَ مَعَ الْقَوْمِ لِيَنْصُرُوهُ، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ أَعْتَقَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا ضَرَبَهُ سَوْدَانُ ضَرَبَ بَعْضُ الْغِلْمَانِ رَقَبَةَ سَوْدَانَ فَقَتَلَهُ، وَوَثَبَ قُتَيْرَةُ عَلَى الْغُلَامِ فَقَتَلَهُ، وَانْتَهَبُوا مَا فِي الْبَيْتِ وَخَرَجُوا، ثُمَّ أَغْلَقُوهُ عَلَى ثَلَاثَةِ قَتْلَى، فَلَمَّا خَرَجُوا

وَثَبَ غُلَامٌ لِعُثْمَانَ عَلَى قُتَيْرَةَ فَقَتَلَهُ، وَثَارَ الْقَوْمُ فَأَخَذُوا مَا وَجَدُوا حَتَّى أَخَذُوا مَا عَلَى النِّسَاءِ، وَأَخَذَ كُلْثُومٌ التُّجِيبِيُّ مُلَاءَةً مِنْ عَلَى نَائِلَةَ، فَضَرَبَهُ غُلَامٌ لِعُثْمَانَ فَقَتَلَهُ، وَتَنَادَوْا: أَدْرِكُوا بَيْتَ الْمَالِ وَلَا تُسْبَقُوا إِلَيْهِ، فَسَمِعَ أَصْحَابُ بَيْتِ الْمَالِ كَلَامَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا غِرَارَتَانِ، فَقَالُوا: النَّجَاءَ فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يُحَاوِلُونَ الدُّنْيَا! فَهَرَبُوا، وَأَتَوْا بَيْتَ الْمَالِ فَانْتَهَبُوهُ وَمَاجَ النَّاسُ. وَقِيلَ إِنَّهُمْ نَدِمُوا عَلَى قَتْلِهِ. وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ فَوَثَبَ عَلَى صَدْرِهِ وَبِهِ رَمَقٌ فَطَعَنَهُ تِسْعَ طَعَنَاتٍ، قَالَ: فَأَمَّا ثَلَاثٌ مِنْهَا فَإِنِّي طَعَنْتُهُنَّ إِيَّاهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَأَمَّا سِتٌّ فَلِمَا كَانَ فِي صَدْرِي عَلَيْهِ. وَأَرَادُوا قَطْعَ رَأْسِهِ فَوَقَعَتْ نَائِلَةُ عَلَيْهِ وَأُمُّ الْبَنِينَ، فَصَاحَتَا وَضَرَبَتَا الْوُجُوهَ. فَقَالَ ابْنُ عُدَيْسٍ: اتْرُكُوهُ. وَأَقْبَلَ عُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ فَوَثَبَ عَلَيْهِ، فَكَسَرَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ وَقَالَ: سَجَنْتَ أَبِي حَتَّى مَاتَ فِي السِّجْنِ. وَكَانَ قَتْلُهُ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ: إِلَّا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ قَتْلُهُ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَكَانَ عُمُرُهُ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانِيًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: تِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: خَمْسًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: سِتًّا وَثَمَانِينَ سَنَةً. ذكر الْمَوْضِعِ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ قِيلَ: بَقِيَ عُثْمَانُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يُدْفَنُ، ثُمَّ إِنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ الْقُرَشِيَّ، وَجُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ كَلَّمَا عَلِيًّا فِي أَنْ يَأْذَنَ فِي دَفْنِهِ، فَفَعَلَ، فَلَمَّا سَمِعَ مَنْ قَصَدَهُ بِذَلِكَ قَعَدُوا لَهُ فِي الطَّرِيقِ بِالْحِجَارَةِ، وَخَرَجَ بِهِ نَاسٌ يَسِيرٌ مَنْ أَهْلِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِيهِمُ الزُّبَيْرُ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ، وَمَرْوَانُ، بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَأَتَوْا بِهِ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ يُسَمَّى

ذكر بعض سيرة عثمان

حَشَّ كَوْكَبٍ، وَهُوَ خَارِجُ الْبَقِيعِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَقِيلَ: حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَقِيلَ: مَرْوَانُ، وَجَاءَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِيَمْنَعُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَرَكُوهُمْ خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ. وَأَرْسَلَ عَلِيٌّ إِلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرْجُمَ سَرِيرَهُ مِمَّنْ جَلَسَ عَلَى الطَّرِيقِ لَمَّا سَمِعَ بِهِمْ فَمَنَعَهُمْ عَنْهُ، وَدُفِنَ فِي حَشِّ كَوْكَبٍ. فَلَمَّا ظَهَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى النَّاسِ أَمَرَ بِذَلِكَ الْحَائِطِ، فَهُدِمَ. وَأُدْخِلَ فِي الْبَقِيعِ، وَأَمْرَ النَّاسَ فَدَفَنُوا أَمْوَاتَهُمْ حَوْلَ قَبْرِهِ حَتَّى اتَّصَلَ الدَّفْنُ بِمَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا دُفِنَ بِالْبَقِيعِ مِمَّا يَلِي حَشَّ كَوْكَبٍ. وَقِيلَ: شَهِدَ جِنَازَتَهُ عَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَعَامَّةُ مَنْ ثَمَّ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ: وَقِيلَ لَمْ يُغَسَّلْ وَكُفِّنَ فِي ثِيَابِهِ. [ذكر بَعْضِ سِيرَةِ عُثْمَانَ] قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا أَنَا بِعُثْمَانَ مُتَّكِئًا عَلَى رِدَائِهِ، فَأَتَاهُ سَقَّاءَانِ يَخْتَصِمَانِ إِلَيْهِ، فَقَضَى بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ يَمُتْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى مَلَّتْهُ قُرَيْشٌ وَقَدْ كَانَ حَصَرَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ: أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ انْتِشَارُكُمْ فِي الْبِلَادِ، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَيَسْتَأْذِنُهُ فِي الْغَزْوِ فَيَقُولُ: قَدْ كَانَ لَكَ فِي غَزْوِكَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُبَلِّغُكَ، وَخَيْرٌ لَكَ مِنْ غَزْوِكَ الْيَوْمَ أَنْ لَا تَرَى الدُّنْيَا وَلَا تَرَاكَ. وَكَانَ يَفْعَلُ هَذَا بِالْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ بِغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ خَلَّى عَنْهُمْ فَانْتَشَرُوا فِي الْبِلَادِ وَانْقَطَعَ إِلَيْهِمُ النَّاسُ، وَكَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ عُمَرَ. قِيلَ: وَحَجَّ عُثْمَانُ بِالنَّاسِ سَنَوَاتِ خِلَافَتِهِ كُلَّهَا، وَحَجَّ بِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا كَانَ يَصْنَعُ عُمَرُ. وَكَتَبَ إِلَى الْأَمْصَارِ أَنْ يُوَافِيَهُ الْعُمَّالُ فِي الْمَوْسِمِ وَمَنْ يَشْكُو مِنْهُمْ، وَأَنْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنَّهُ مَعَ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ مَا دَامَ مَظْلُومًا. وَقِيلَ: كَانَ أَوَّلَ مُنْكَرٍ ظَهَرَ بِالْمَدِينَةِ حِينَ فَاضَتِ الدُّنْيَا طَيَرَانُ الْحَمَامِ وَالرَّمْيُ عَلَى

الْجُلَاهِقَاتِ، وَهِيَ قَوْسُ الْبُنْدُقِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عُثْمَانُ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنْ خِلَافَتِهِ، فَقَصَّ الطُّيُورَ وَكَسَّرَ الْجُلَاهِقَاتِ. قِيلَ: وَسَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُذَيْفَةَ مَا دَعَاهُ إِلَى الْخُرُوجِ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: كَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ عُثْمَانَ، وَكَانَ وَالِيَ أَيْتَامِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَمُحْتَمِلًا كَلَّهُمْ، فَسَأَلَ عُثْمَانَ الْعَمَلَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَوْ كُنْتَ رِضًا لَاسْتَعْمَلْتُكَ. قَالَ فَأْذَنْ لِي فَأَخْرُجَ فَأَطْلُبَ الرِّزْقَ. قَالَ: اذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ، وَجَهَّزَهُ مِنْ عِنْدِهِ وَحَمَلَهُ وَأَعْطَاهُ، فَلَمَّا وَقَعَ إِلَى مِصْرَ كَانَ فِيمَنْ أَعَانَ عَلَيْهِ حِينَ مَنَعَهُ الْإِمَارَةَ. قَالَ: وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ؟ قَالَ: كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ كَلَامٌ فَضَرَبَهُمَا عُثْمَانُ فَأَوْرَثَ ذَلِكَ تَعَادِيًا بَيْنَ أَهْلِ عَمَّارٍ وَأَهْلِ عَبَّاسٍ، وَكَانَا تَقَاذَفَا. قِيلَ: سُئِلَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مَا دَعَاهُ إِلَى رُكُوبِ عُثْمَانَ. قَالَ: الْغَضَبُ وَالطَّمَعُ، كَانَ مِنَ الْإِسْلَامِ بِمَكَانٍ فَغَرَّهُ أَقْوَامٌ فَطَمِعَ، وَكَانَتْ لَهُ دَالَّةٌ فَلَزِمَهُ حَقٌّ، فَأَخَذَهُ عُثْمَانُ مِنْ ظَهْرِهِ، فَاجْتَمَعَ هَذَا إِلَى ذَلِكَ فَصَارَ مُذَمَّمًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُحَمَّدًا. قِيلَ: وَاسْتَخَفَّ رَجُلٌ بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَضَرَبَهُ عُثْمَانُ فَاسْتَحْسَنَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَيُفَخِّمُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّهُ وَأُرَخِّصُ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِهِ! لَقَدْ خَالَفَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَرَضِيَ بِهِ. قِيلَ: وَكَانَ كَعْبُ بْنُ ذِي الْحَبَكَةِ النَّهْدَيُّ يَلْعَبُ بِالنَّارِنْجِيَّاتِ، فَبَلَغَ عُثْمَانَ، فَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ أَنْ يُوجِعَهُ ضَرْبًا، فَعَزَّرَهُ وَأَخْبَرَ النَّاسَ خَبَرَهُ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ عُثْمَانَ، وَفِيهِ: إِنَّهُ قَدْ جُدَّ بِكُمْ فَجِدُّوا وَإِيَّاكُمْ وَالْهَزْلَ. فَغَضِبَ كَعْبٌ وَكَانَ فِي الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ سَيْرُهُ إِلَى دُنْبَاوَنْدَ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ لِلْوَلِيدِ: لَعَمْرِي لَئِنْ طَرَدْتَنِي مَا إِلَى الَّتِي ... طَمِعْتَ بِهَا مِنْ سَقْطَتِي لَسَبِيلُ رَجَوْتُ رُجُوعِي يَا ابْنَ أَرْوَى وَرَجْعَتِي ... إِلَى الْحَقِّ دَهْرًا، غَالَ ذَلِكَ غُولُ فَإِنَّ اغْتِرَابِي فِي الْبِلَادِ وَجَفْوَتِي ... وَشَتْمِي فِي ذَاتِ الْإِلَهِ قَلِيلُ

وَإِنَّ دُعَائِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَلَيْكَ بِدُنْبَاوَنْدِكُمْ لَطَوِيلُ قَالَ: وَأَمَّا ضَابِئُ بْنُ الْحَرْثِ الْبَرْجَمِيُّ فَإِنَّهُ اسْتَعَارَ فِي زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ مِنْ قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَلْبًا يُدْعَى قَرْحَانَ يَصِيدُ الظِّبَاءَ فَحَبَسَهُ عَنْهُمْ، فَانْتَزَعَهُ الْأَنْصَارِيُّونَ مِنْهُ قَهْرًا، فَهَجَاهُمْ وَقَالَ: تَجَشَّمَ دُونِي وَفْدُ قَرْحَانَ خُطَّةً ... تُضِلُّ لَهَا الْوَجْنَاءُ وَهِيَ حَسِيرُ فَبَاتُوا شِبَاعًا طَاعِمِينَ كَأَنَّمَا ... حَبَاهُمْ بِبَيْتِ الْمَرْزُبَانِ أَمِيرُ فَكَلْبُكُمُ لَا تَتْرُكُوا فَهُوَ أُمُّكُمْ ... فَإِنَّ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ كَبِيرُ فَاسْتَعْدُوا عَلَيْهِ عُثْمَانَ، فَعَزَّرَهُ وَحَبَسَهُ، فَمَا زَالَ فِي السِّجْنِ حَتَّى مَاتَ فِيهِ. وَقَالَ فِي الْفَتْكِ مُعْتِذَرًا إِلَى أَصْحَابِهِ: هَمَمْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي ... تَرَكْتُ عَلَى عُثْمَانَ تَبْكِي حَلَائِلُهْ وَقَائِلَةٍ قَدْ مَاتَ فِي السِّجْنِ ضَابِئٌ ... أَلَا مَنْ لِخَصْمٍ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُجَادِلُهْ فَلِذَلِكَ صَارَ ابْنُهُ عُمَيْرٌ سَبَئِيًّا. قَالَ: وَأَمَّا كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ وَعُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ فَإِنَّهُمَا سَارَا إِلَى الْمَدِينَةِ لِقَتْلِ عُثْمَانَ، فَأَمَّا عُمَيْرٌ فَإِنَّهُ نَكَلَ عَنْهُ، وَأَمَّا كُمَيْلٌ فَإِنَّهُ جَسَرَ وَثَاوَرَهُ، فَوَجَأَ عُثْمَانُ وَجْهَهُ فَوَقَعَ عَلَى اسْتِهِ فَقَالَ: أَوْجَعْتَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ: أَوَلَسْتَ بِفَاتِكٍ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: فَاسْتَقِدْ مِنِّي، وَقَالَ: دُونَكَ. فَعَفَا عَنْهُ، وَبَقِيَا إِلَى أَيَّامِ الْحَجَّاجِ فَقَتَلَهُمَا، وَسَيَرِدُ ذِكْرُ ذَلِكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. قِيلَ: وَكَانَ لِعُثْمَانَ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ خَمْسُونَ أَلْفًا، فَقَالَ لَهُ يَوْمًا: قَدْ تَهَيَّأَ

مَالُكَ فَاقْبِضْهُ. قَالَ: هُوَ لَكَ مَعُونَةٌ عَلَى مُرُوءَتِكَ. قِيلَ: فَلَمَّا حُصِرَ عُثْمَانُ قَالَ عَلِيٌّ لِطَلْحَةَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَلَا رَدَدْتَ النَّاسَ عَنْ عُثْمَانَ! قَالَ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تُعْطِيَنِي بَنُو أُمَيَّةَ الْحَقَّ مِنْ أَنْفُسِهَا. وَكَانَ عُثْمَانُ يُلَقَّبُ ذَا النُّورَيْنِ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ ابْنَتَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: اسْتَعْمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ قَطَنَ بْنَ عَبْدِ عَوْفٍ عَلَى كِرْمَانَ، فَأَقْبَلَ جَيْشٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَمَنَعَهُمْ سَيْلٌ فِي وَادٍ مِنَ الْعُبُورِ، وَخَشِيَ قَطَنٌ الْفَوْتَ فَقَالَ: مَنْ عَبَرَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ. فَحَمَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَعَبَرُوا، وَكَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَأَعْطَاهُمْ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَبَى ابْنُ عَامِرٍ أَنْ يُجْرِيَ ذَلِكَ لَهُ وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ: أَنِ احْبِسْهَا لَهُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَعَانَ بِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْجَوَائِزُ لِإِجَازَةِ الْوَادِي. وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ زَيْدٍ: سَمِعْتُ عَلِيًّا وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ وَيَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُكْثِرُونَ فِيَّ وَفِي عُثْمَانَ، فَإِنَّ مِثْلِي وَمِثْلَهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] . وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ - وَهُوَ بَدْرِيٌّ وَكَانَ مُجَانِبًا لِعُثْمَانَ - فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْنَا قَتْلَهُ، اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ أَنْ لَا أَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا وَلَا أَضْحَكَ حَتَّى أَلْقَاكَ. ذكر نَسَبِهِ وَصِفَتِهِ وَكُنْيَتِهِ أَمَّا نَسَبُهُ فَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهُ أَرْوَى بِنْتُ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَمَّا صِفَتُهُ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، رَقِيقَ الْبَشْرَةِ، بِوَجْهِهِ أَثَرُ جُدَرِيٍّ، كَبِيرَ اللِّحْيَةِ عَظِيمَهَا، أَسْمَرَ اللَّوْنِ، أَصْلَعَ، عَظِيمَ الْكَرَادِيسِ، عَظِيمَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ، وَقِيلَ كَانَ كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ، أَرْوَحَ الرِّجْلَيْنِ.

وَأَمَّا كُنْيَتُهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بِوَلَدٍ جَاءَهُ مِنْ رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، تُوُفِّيَ وَعُمْرُهُ سِتُّ سِنِينَ، نَقَرَهُ دِيكٌ فِي عَيْنِهِ فَمَرِضَ فَمَاتَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ: كَانَ يُكَنَّى أَبَا عَمْرٍو. ذكر وَقْتِ إِسْلَامِهِ وَهِجْرَتِهِ قِيلَ: كَانَ إِسْلَامُهُ قَدِيمًا قَبْلَ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ، وَكَانَ مِمَّنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ وَمَعَهُ فِيهِمَا امْرَأَتُهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ذكر أَزْوَاجِهِ وَأَوْلَادِهِ تَزَوَّجَ رُقَيَّةَ وَأُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَلَدَتْ لَهُ رُقَيَّةُ عَبْدَ اللَّهِ، وَتَزَوَّجَ فَاخِتَةَ بِنْتَ غَزْوَانَ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ الْأَصْغَرَ، هَلَكَ، وَتَزَوَّجَ أُمَّ عَمْرٍو بِنْتَ جُنْدُبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ الدَّوْسِيَّةَ، وَلَدَتْ لَهُ عَمْرًا وَخَالِدًا وَأَبَانًا وَعُمَرَ وَمَرْيَمَ، وَتَزَوَّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّةَ، وَلَدَتْ لَهُ الْوَلِيدَ وَسَعِيدًا وَأُمَّ سَعِيدٍ، وَتَزَوَّجَ أُمَّ الْبَنِينِ بِنْتَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيَّةَ، وَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ، هَلَكَ، وَتَزَوَّجَ رَمْلَةَ بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَلَدَتْ لَهُ عَائِشَةَ وَأُمَّ أَبَانٍ وَأُمَّ عَمْرٍو، وَتَزَوَّجَ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفُرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةَ، وَلَدَتْ لَهُ مَرْيَمَ بِنْتَ عُثْمَانَ، وَقِيلَ: وَلَدَتْ لَهُ أُمُّ الْبَنِينِ بِنْتُ عُيَيْنَةَ عَبْدَ الْمَلِكِ وَعُتْبَةَ، وَوَلَدَتْ لَهُ نَائِلَةُ عَنْبَسَةَ، وَكَانَ لَهُ مِنْهَا أَيْضًا ابْنَةٌ تُدْعَى أُمَّ الْبَنِينِ، وَكَانَتْ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَقُتِلَ عُثْمَانُ وَعِنْدَهُ رَمْلَةُ ابْنَةُ شَيْبَةَ وَنَائِلَةُ وَأُمُّ الْبَنِينِ ابْنَةُ عُيَيْنَةَ وَفَاخِتَةُ بِنْتُ غَزْوَانَ، غَيْرَ أَنَّهُ طَلَّقَ أُمَّ الْبَنِينِ وَهُوَ مَحْصُورٌ. فَهَؤُلَاءِ أَزْوَاجُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَأَوْلَادُهُ. ذكر أَسْمَاءِ عُمَّالِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ عُمَّالُهُ هَذِهِ السَّنَةَ عَلَى مَكَّةَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، وَعَلَى الطَّائِفِ الْقَاسِمُ بْنُ رَبِيعَةَ الثَّقَفِيُّ، وَعَلَى صَنْعَاءَ يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ، وَعَلَى الْجُنْدِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، خَرَجَ مِنْهَا وَلَمْ يُوَلِّ عُثْمَانُ عَلَيْهَا أَحَدًا، وَعَلَى الشَّامِ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي

سُفْيَانَ، وَعَامِلُ مُعَاوِيَةَ عَلَى حِمْصَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، وَعَلَى قِنَّسْرِينَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ، وَعَلَى الْأُرْدُنِّ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، وَعَلَى فِلَسْطِينَ عَلْقَمَةُ بْنُ حَكِيمٍ الْكِنَانِيُّ، وَعَلَى الْبَحْرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الْفَزَارِيُّ، وَعَلَى الْقَضَاءِ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ تُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ، وَكَانَ عَامِلَ عُثْمَانَ عَلَى الْكُوفَةِ أَبُو مُوسَى عَلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَى خَرَاجِ السَّوَادِ جَابِرُ بْنُ فُلَانٍ الْمُزَنِيُّ، وَهُوَ صَاحِبُ الْمُسَنَّاةِ إِلَى جَانِبِ الْكُوفَةِ، وَسِمَاكٌ الْأَنْصَارِيُّ، وَعَلَى حَرْبِهَا الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى قَرْقِيسْيَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى أَذْرَبَيْجَانَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، وَعَلَى حُلْوَانَ عُتَيْبَةُ بْنُ النَّهَّاسِ، وَعَلَى مَاهَ مَالِكُ بْنُ حَبِيبٍ، وَعَلَى هَمَذَانَ النُّسَيْرُ، وَعَلَى الرَّيِّ سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَلَى أَصْبَهَانَ السَّائِبُ بْنُ الْأَقْرَعِ، وَعَلَى مَاسَبْذَانَ خُنَيْسٌ، وَعَلَى بَيْتِ الْمَالِ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ عُثْمَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. (عُتَيْبَةُ بْنُ النَّهَّاسِ: بِالتَّاءِ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ، وَبَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ. وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: بِالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَيَاءٌ ثَانِيَةٌ، وَآخِرُهُ نُونٌ، تَصْغِيرُ عَيْنٍ. وَالنُّسَيْرُ: بِالنُّونِ، وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، تَصْغِيرُ نَسْرٍ) . ذكر الْخَبَرِ عَمَّنْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حُصِرَ عُثْمَانُ قِيلَ: وَجَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي مُنِعَ فِيهِ عُثْمَانُ الصَّلَاةَ سَعْدُ الْقَرَظِ - وَهُوَ الْمُؤَذِّنُ - إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ؟ فَقَالَ: ادْعُ خَالِدَ بْنَ زَيْدٍ، فَدَعَاهُ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ عُرِفَ أَنَّ اسْمَ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، فَصَلَّى أَيَّامًا ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ بِالنَّاسِ، وَقِيلَ: بَلْ أَمَرَ عَلِيٌّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى يَوْمِ الْعِيدِ، ثُمَّ صَلَّى عَلِيٌّ بِالنَّاسِ الْعِيدَ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ حَتَّى قُتِلَ عُثْمَانُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ قَتْلِهِ.

ذِكْرُ مَا قِيلَ فِيهِ مِنَ الشِّعْرِ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ: أَتَرَكْتُمُ غَزْوَ الدُّرُوبِ وَرَاءَكُمْ ... وَغَزَوْتُمُونَا عِنْدَ قَبْرِ مُحَمَّدِ فَلَبِئْسَ هَدْيُ الْمُسْلِمِينَ هَدَيْتُمُ ... وَلَبِئْسَ أَمْرُ الْفَاجِرِ الْمُتَعَمِّدِ إِنْ تَقْدَمُوا نَجْعَلْ قِرَى سَرَوَاتِكُمْ ... حَوْلَ الْمَدِينَةِ كُلَّ لَيْنٍ مِذْوَدِ أَوْ تُدْبِرُوا فَلَبِئْسَ مَا سَافَرْتُمُ ... وَلِمِثْلِ أَمْرِ أَمِيرِكُمْ لَمْ يُرْشَدِ وَكَأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ عَشِيَّةً ... بُدْنٌ تُذَبَّحُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ أَبْكِي أَبَا عَمْرٍو لِحُسْنِ بَلَائِهِ ... أَمْسَى ضَجِيعًا فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ وَقَالَ أَيْضًا: إِنْ تُمْسِ دَارُ ابْنِ أَرْوَى الْيَوْمَ خَاوِيَةً ... بَابٌ صَرِيعٌ وَبَابٌ مُحْرَقٌ خَرِبُ فَقَدْ يُصَادِفُ بَاغِي الْخَيْرِ حَاجَتَهُ ... فِيهَا وَيَهْوِي إِلَيْهَا الذِّكْرُ وَالْحَسَبُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَبْدُوا ذَاتَ أَنْفُسِكُمْ ... لَا يَسْتَوِي الصِّدْقُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْكَذِبُ قُومُوا بِحَقِّ مَلِيكِ النَّاسِ تَعْتَرِفُوا ... بِغَارَةٍ عُصَبٍ مِنْ خَلْفِهَا عُصَبُ فِيهِمْ حَبِيبٌ شِهَابُ الْمَوْتِ يَقْدُمُهُمْ ... مُسْتَلْئِمًا قَدْ بَدَا فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ سَرَّهُ الْمَوْتُ صِرْفًا لَا مِزَاجَ ... لَهُ فَلْيَأْتِ مَأْسَدَةً فِي دَارِ عُثْمَانَا مُسْتَشْعِرِي حَلَقِ الْمَاذِيِّ قَدْ شُفِعَتْ ... قَبْلَ الْمَخَاطِمِ بِيضٌ زَانَ أَبَدَانَا

صَبْرًا فِدًى لَكُمُ أُمِّي وَمَا وَلَدَتْ قَدْ ... يَنْفَعُ الصَّبْرُ فِي الْمَكْرُوهِ أَحْيَانَا فَقَدْ رَضِينَا بِأَهْلِ الشَّامِ نَافِرَةً ... وَبِالْأَمِيرِ وَبِالْإِخْوَانِ إِخْوَانَا إِنِّي لَمِنْهُمْ وَإِنْ غَابُوا وَإِنْ شَهِدُوا ... مَا دُمْتُ حَيًّا وَمَا سُمِّيتُ حَسَّانَا لَتَسْمَعُنَّ وَشِيكًا فِي دِيَارِهِمُ : اللَّهُ أَكْبَرُ يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَا ... ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنَا قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ فَقَالَ: وَقَدْ زَادَ فِيهَا أَهْلُ الشَّامِ، وَلَمْ أَرَ لِذِكْرِهِ وَجْهًا - يَعْنِي مَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ عَلِيٍّ - وَهُوَ: يَا لَيْتَ شِعْرِي وَلَيْتَ الطَّيْرَ تُخْبِرُنِي ... مَا كَانَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَابْنِ عَفَّانَا وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ يُحَرِّضُ أَخَاهُ عُمَارَةَ: أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ قَتِيلُ ... التُّجِيبِيِّ الَّذِي جَاءَ مِنْ مِصْرِ فَإِنْ يَكُ ظَنِّي بِابْنِ أُمِّي صَادِقًا ... عُمَارَةَ لَا يَطْلُبُ بِذَحْلٍ وَلَا وِتْرِ يَبِيتُ وَأَوْتَارُ ابْنِ عَفَّانَ عِنْدَهُ ... مُخَيِّمَةٌ بَيْنَ الْخَوَرْنَقِ وَالْقَصْرِ فَأَجَابَهُ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ: أَتَطَلُبُ ثَأْرًا لَسْتَ مِنْهُ وَلَا لَهُ ... وَأَيْنَ ابْنُ ذَكْوَانَ الصَّفُورِيُّ مِنْ عَمْرِو كَمَا اتَّصَلَتْ بِنْتُ الْحِمَارِ بِأُمِّهَا ... وَتَنْسَى أَبَاهَا إِذْ تُسَامِي أُولِي الْفَخْرِ أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ وَصِيُّ ... النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى عِنْدَ ذِي الذِّكْرِ وَأَوَّلُ مَنْ صَلَّى وَصِنْوُ نَبِيِّهِ ... وَأَوَّلُ مَنْ أَرْدَى الْغُوَاةَ لَدَى بَدْرِ فَلَوْ رَأَتِ الْأَنْصَارُ ظُلْمَ ابْنِ أُمِّكُمْ ... بِزَعْمِكُمُ كَانُوا لَهُ حَاضِرِي النَّصْرِ كَفَى ذَاكَ عَيْبًا أَنْ يُشِيرُوا بِقَتْلِهِ ... وَأَنْ يُسْلِمُوهُ لِلْأَحَابِيشِ مِنْ مِصْرِ وَقَوْلُهُ: وَأَيْنَ ابْنُ ذَكْوَانَ، فَإِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو اسْمُهُ ذَكْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَيَذْكُرُ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّسَّابِينَ أَنَّ ذَكْوَانَ مَوْلًى لِأُمَيَّةَ، فَتَبَنَّاهُ

ذكر بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

وَكَنَّاهُ أَبَا عَمْرٍو، وَيَعْنِي: إِنَّكَ مَوْلًى لَسْتَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ حَتَّى تَكُونَ مِمَّنْ يَطْلُبُ بِثَأْرِ عُثْمَانَ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ مِنَ الشُّعَرَاءِ أَيْضًا بَعْدَ مَقْتَلِهِ فَمِنْ بَيْنِ مَادِحٍ وَهَاجٍ، وَمِنْ نَاعٍ وَبَاكٍ، وَمِنْ سَارٍّ فَرِحٍ، فَمِمَّنْ مَدَحَهُ حَسَّانُ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي آخَرِينَ غَيْرِهِمْ كَذَلِكَ. [ذكر بَيْعَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ بَيْعَتِهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَفِيهِمْ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَأَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ إِمَامٍ. قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي أَمْرِكُمْ فَمَنِ اخْتَرْتُمْ رَضِيتُ بِهِ. فَقَالُوا: مَا نَخْتَارُ غَيْرَكَ، وَتَرَدَّدُوا إِلَيْهِ مِرَارًا وَقَالُوا لَهُ فِي آخِرِ ذَلِكَ: إِنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهِ مِنْكَ، لَا أَقْدَمَ سَابِقَةً، وَلَا أَقْرَبَ قَرَابَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا فَإِنِّي أَكُونُ وَزِيرًا خَيْرًا مِنْ أَنْ أَكُونَ أَمِيرًا. فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَحْنُ بِفَاعِلِينَ حَتَّى نُبَايِعَكَ. قَالَ: فَفِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ بَيْعَتِي لَا تَكُونُ خُفْيَةً وَلَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ. وَكَانَ فِي بَيْتِهِ، وَقِيلَ: فِي حَائِطٍ لَبَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ، فَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ وَطَاقٌ وَعِمَامَةُ خَزٍّ وَنَعْلَاهُ فِي يَدِهِ مُتَوَكِّئًا عَلَى قَوْسٍ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ مِنَ النَّاسِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ حَبِيبُ بْنُ ذُؤَيْبٍ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ! أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْبَيْعَةِ يَدٌ شَلَّاءُ، لَا يَتِمُّ هَذَا الْأَمْرُ! وَبَايَعَهُ الزُّبَيْرُ. وَقَالَ لَهُمَا عَلِيٌّ: إِنْ أَحْبَبْتُمَا أَنْ تُبَايِعَانِي وَإِنْ أَحْبَبْتُمَا بَايَعْتُكُمَا. فَقَالَا: بَلْ نُبَايِعُكَ. وَقَالَا بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ خَشْيَةً عَلَى نُفُوسِنَا، وَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُبَايِعُنَا. وَهَرَبَا إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَجَاءُوا بِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بَايِعْ فَقَالَ: لَا، حَتَّى يُبَايِعَ النَّاسُ، وَاللَّهِ مَا عَلَيْكَ مِنِّي بَأْسٌ. فَقَالَ: خَلُّوا سَبِيلَهُ. وَجَاءُوا بِابْنِ عُمَرَ فَقَالُوا:

بَايِعْ. قَالَ: لَا، حَتَّى يُبَايِعَ النَّاسُ. قَالَ: ائْتِنِي بِكَفِيلٍ. قَالَ: لَا أَرَى كَفِيلًا. قَالَ الْأَشْتَرُ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ! قَالَ عَلِيٌّ: دَعُوهُ أَنَا كَفِيلُهُ، إِنَّكَ مَا عَلِمْتُ لَسَيِّءُ الْخُلُقِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا. وَبَايَعَتِ الْأَنْصَارُ إِلَّا نُفَيْرًا يَسِيرًا، مِنْهُمْ: حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ مُخَلَّدٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَكَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، وَكَانُوا عُثْمَانِيَّةً، فَأَمَّا حَسَّانُ فَكَانَ شَاعِرًا لَا يُبَالِي مَا يَصْنَعُ، وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَوَلَّاهُ عُثْمَانُ الدِّيوَانَ وَبَيْتَ الْمَالِ، فَلَمَّا حُصِرَ عُثْمَانُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ كُونُوا أَنْصَارًا لِلَّهِ، مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ: مَا تَنْصُرُهُ إِلَّا لِأَنَّهُ أَكْثَرَ لَكَ مِنَ الْعُبْدَانِ. وَأَمَّا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى صَدَقَةِ مُزَيْنَةَ وَتَرَكَ لَهُ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يُبَايِعْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَقُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. فَأَمَّا النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ فَإِنَّهُ أَخَذَ أَصَابِعَ نَائِلَةَ امْرَأَةِ عُثْمَانَ الَّتِي قُطِعَتْ وَقَمِيصَ عُثْمَانَ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ، وَهَرَبَ بِهِ فَلَحِقَ بِالشَّامِ، فَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُعَلِّقُ قَمِيصَ عُثْمَانَ وَفِيهِ الْأَصَابِعُ، فَإِذَا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الشَّامِ ازْدَادُوا غَيْظًا وَجِدًّا فِي أَمْرِهِمْ، ثُمَّ رَفَعَهُ، فَإِذَا أَحَسَّ مِنْهُمْ بِفُتُورٍ يَقُولُ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: حَرِّكْ لَهَا حِوَارَهَا تَحِنُّ، فَيُعَلِّقُهَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ إِنَّمَا بَايَعَا عَلِيًّا كَرْهًا، (وَقِيلَ: لَمْ يُبَايِعْهُ الزُّبَيْرُ وَلَا صُهَيْبٌ وَلَا سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ. فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ بَايَعَا كَرْهًا فَقَالَ) : إِنَّ عُثْمَانَ لَمَّا قُتِلَ بَقِيَتِ الْمَدِينَةُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَأَمِيرُهَا الْغَافِقِيُّ بْنُ حَرْبٍ يَلْتَمِسُونَ مَنْ يُجِيبُهُمْ إِلَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ فَلَا يَجِدُونَهُ، وَوَجَدُوا طَلْحَةَ فِي حَائِطٍ لَهُ، وَوَجَدُوا سَعْدًا وَالزُّبَيْرَ قَدْ خَرَجَا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَوَجَدُوا بَنِي أُمَيَّةَ قَدْ هَرَبُوا إِلَّا مَنْ لَمْ يُطِقِ الْهَرَبَ، وَهَرَبَ سَعِيدٌ وَالْوَلِيدُ وَمَرْوَانُ إِلَى مَكَّةَ، وَتَبِعَهُمْ غَيْرُهُمْ، فَأَتَى الْمِصْرِيُّونَ عَلِيًّا فَبَاعَدَهُمْ، وَأَتَى الْكُوفِيُّونَ الزُّبَيْرَ فَبَاعَدَهُمْ، وَأَتَى الْبَصْرِيُّونَ طَلْحَةَ فَبَاعَدَهُمْ، وَكَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ مُخْتَلِفِينَ فِيمَنْ يَلِي

الْخِلَافَةَ. فَأَرْسَلُوا إِلَى سَعْدٍ يَطْلُبُونَهُ، فَقَالَ: إِنِّي وَابْنُ عُمَرَ لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا، فَأَتَوُا ابْنَ عُمَرَ فَلَمْ يُجِبْهُمْ، فَبَقَوْا حَيَارَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَئِنْ رَجَعَ النَّاسُ إِلَى أَمْصَارِهِمْ بِغَيْرِ إِمَامٍ لَمْ نَأْمَنْ الِاخْتِلَافَ وَفَسَادَ الْأُمَّةِ. فَجَمَعُوا أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا لَهُمْ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَنْتُمْ أَهْلُ الشُّورَى، وَأَنْتُمْ تَعْقِدُونَ الْإِمَامَةَ، وَحُكْمُكُمْ جَائِزٌ عَلَى الْأُمَّةِ، فَانْظُرُوا رَجُلًا تَنْصِبُونَهُ وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ، وَقَدْ أَجَّلْنَاكُمْ يَوْمَكُمْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَفْرُغُوا لَنَقْتُلَنَّ غَدًا عَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَأُنَاسًا كَثِيرًا! فَغَشِيَ النَّاسُ عَلِيًّا فَقَالُوا: نُبَايِعُكَ فَقَدْ تَرَى مَا نَزَلَ بِالْإِسْلَامِ وَمَا ابْتُلِينَا بِهِ مِنْ بَيْنِ الْقُرَى. فَقَالَ عَلِيٌّ: دَعَوْنِي وَالْتَمِسُوا غَيْرِي، فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْرًا لَهُ وُجُوهٌ وَلَهُ أَلْوَانٌ لَا تَقُومُ بِهِ الْقُلُوبُ وَلَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ. فَقَالُوا: نَنْشُدُكَ اللَّهَ! أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى الْإِسْلَامَ؟ أَلَا تَرَى الْفِتْنَةَ؟ أَلَا تَخَافُ اللَّهَ؟ فَقَالَ: قَدْ أَجَبْتُكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَإِنَّمَا أَنَا كَأَحَدِكُمْ، إِلَّا أَنِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ. ثُمَّ افْتَرَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَاتَّعَدُوا الْغَدَ. وَتَشَاوَرَ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَالُوا: إِنْ دَخَلَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فَقَدِ اسْتَقَامَتْ، فَبَعَثَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى الزُّبَيْرِ حُكَيْمَ بْنَ جَبَلَةَ وَقَالُوا: احْذَرْ لَا تُحَابِهِ، وَمَعَهُ نَفَرٌ، فَجَاءُوا بِهِ يَحْدُونَهُ بِالسَّيْفِ، فَبَايَعَ، وَبَعَثُوا إِلَى طَلْحَةَ الْأَشْتَرَ وَمَعَهُ نَفَرٌ، فَأَتَى طَلْحَةُ، فَقَالَ: دَعْنِي أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ، فَلَمْ يَدَعْهُ، فَجَاءَ بِهِ يُتِلُّهُ تَلًّا عَنِيفًا، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَبَايَعَ. وَكَانَ الزُّبَيْرُ يَقُولُ: جَاءَنِي لِصٌّ مِنْ لُصُوصِ عَبْدِ الْقَيْسِ فَبَايَعْتُ وَالسَّيْفُ عَلَى عُنُقِي، وَأَهْلُ مِصْرَ فَرِحُونَ بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ خَشَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ أَنْ صَارُوا أَتْبَاعًا لِأَهْلِ مِصْرَ وَازْدَادُوا بِذَلِكَ عَلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ غَيْظًا. وَلَمَّا أَصْبَحُوا يَوْمَ الْبَيْعَةِ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، حَضَرَ النَّاسُ الْمَسْجِدَ، وَجَاءَ عَلِيٌّ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، عَنْ مَلَإٍ وَإِذْنٍ، إِنَّ هَذَا أَمْرُكُمْ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ حَقٌّ إِلَّا مَنْ أَمَّرْتُمْ، وَقَدِ افْتَرَقْنَا بِالْأَمْسِ عَلَى أَمْرٍ وَكُنْتُ كَارِهًا لِأَمْرِكُمْ، فَأَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ أَكُونَ عَلَيْكُمْ، أَلَا وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي دُونَكُمْ إِلَّا مَفَاتِيحُ مَا لَكَمَ مَعِي، وَلَيْسَ لِي أَنْ آخُذَ دِرْهَمًا دُونَكُمْ، فَإِنْ شِئْتُمْ قَعَدْتُ لَكُمْ وَإِلَّا فَلَا أَجِدُ عَلَى أَحَدٍ. فَقَالُوا: نَحْنُ عَلَى مَا فَارَقْنَاكَ عَلَيْهِ بِالْأَمْسِ.

فَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ. وَلَمَّا جَاءُوا بِطَلْحَةَ لِيُبَايِعَ قَالَ: إِنَّمَا أُبَايِعُ كُرْهًا. فَبَايَعَ، وَكَانَ بِهِ شَلَلٌ، فَقَالَ رَجُلٌ يَعْتَافُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أَوَّلُ يَدٍ بَايَعَتْ يَدٌ شَلَّاءٌ، لَا يَتِمُّ هَذَا الْأَمْرُ! ثُمَّ جِيءَ بِالزُّبَيْرِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ وَبَايَعَ، وَفِي الزُّبَيْرِ اخْتِلَافٌ، ثُمَّ جِيءَ بَعْدَهُ بِقَوْمٍ كَانُوا قَدْ تَخَلَّفُوا فَقَالُوا: نُبَايِعُ عَلَى إِقَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَالْعَزِيزِ وَالذَّلِيلِ، فَبَايَعَهُمْ، ثُمَّ قَامَ الْعَامَّةُ فَبَايَعُوا، وَصَارَ الْأَمْرُ أَمْرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَكَأَنَّهُمْ كَمَا كَانُوا فِيهِ وَتَفَرَّقُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ. وَبُويِعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَالنَّاسُ يَحْسِبُونَ بَيْعَتَهُ مِنْ [يَوْمِ] قُتِلَ عُثْمَانُ. وَأَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عَلِيٌّ حِينَ اسْتُخْلِفَ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كِتَابًا هَادِيًا يُبَيِّنُ فِيهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، فَخُذُوا بِالْخَيْرِ وَدَعُوا الشَّرَّ، الْفَرَائِضَ الْفَرَائِضَ أَدُّوهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يُؤَدِّكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ. إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ حُرُمَاتٍ غَيْرَ مَجْهُولَةٍ، وَفَضَّلَ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْحُرُمِ كُلِّهَا، وَشَدَّ بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ، فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ إِلَّا بِالْحَقِّ، لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِمَا يَجِبُ. بَادِرُوا أَمْرَ الْعَامَّةِ، وَخَاصَّةُ أَحَدِكُمُ الْمَوْتُ، فَإِنَّ النَّاسَ أَمَامَكُمْ وَإِنَّ مَا [مِنْ] خَلْفِكُمُ السَّاعَةُ تَحْدُوكُمْ. تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا، فَإِنَّمَا يَنْتَظِرُ النَّاسُ أُخْرَاهُمْ. اتَّقَوُا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ فِي بِلَادِهِ وَعِبَادِهِ، إِنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ. أَطِيعُوا اللَّهَ فَلَا تَعْصَوْهُ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ الْخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ الشَّرَّ فَدَعُوهُ، {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 26] وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْخُطْبَةِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَتِ السَّبَئِيَّةُ: خُذْهَا إِلَيْكَ وَاحْذَرَنْ أَبَا حَسَنْ ... إِنَّا نُمِرُّ الْأَمْرَ إِمْرَارَ الرَّسَنْ صَوْلَةَ أَقْوَامٍ كَأَشْدَادِ السُّفُنْ ... بِمَشْرَفِيَّاتٍ كَغُدْرَانِ اللَّبَنْ وَنَطْعَنُ الْمَلْكَ بِلَيْنٍ كَالشَّطَنْ ... حَتَّى يُمَرَّنَّ عَلَى غَيْرِ عَنَنْ فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنِّي عَجَزْتُ عَجْزَةً لَا أَعْتَذِرْ ... سَوْفَ أَكِيسُ بَعْدَهَا وَأَسْتَمِرْ

إِنْ لَمْ يُشَاغِبْنِي الْعَجُولُ الْمُنْتَصِرْ إِنْ تَتْرُكُونِي وَالسِّلَاحَ يَبْتَدِرْ وَرَجَعَ عَلِيٌّ إِلَى بَيْتِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فِي عَدَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَالُوا: يَا عَلِيُّ إِنَّا قَدِ اشْتَرَطْنَا إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدِ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ هَذَا الرَّجُلِ وَأَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ. فَقَالَ: يَا إِخْوَتَاهُ إِنِّي لَسْتُ أَجْهَلُ مَا تَعْلَمُونَ، وَلَكِنْ كَيْفَ أَصْنَعُ بِقَوْمٍ يَمْلِكُونَنَا وَلَا نَمْلِكُهُمْ؟ هَا هُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ ثَارَتْ مَعَهُمْ عُبْدَانُكُمْ وَثَابَتْ إِلَيْهِمْ أَعْرَابُكُمْ وَهُمْ خُلَّاطُكُمْ يَسُومُونَكُمْ مَا شَاءُوا، فَهَلْ تَرَوْنَ مَوْضِعًا لِقُدْرَةٍ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَلَا وَاللَّهِ لَا أَرَى إِلَّا رَأْيًا تَرَوْنَهُ أَبَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرُ جَاهِلِيَّةٍ، وَإِنَّ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَادَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يُشْرِعْ شَرِيعَةً قَطُّ، فَيَبْرَحُ الْأَرْضَ [مَنْ] أَخَذَ بِهَا أَبَدًا. إِنَّ النَّاسَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ إِنْ حُرِّكَ عَلَى أُمُورٍ: فِرْقَةٌ تَرَى مَا تَرَوْنَ، وَفِرْقَةٌ تَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَفِرْقَةٌ لَا تَرَى هَذَا وَلَا هَذَا، حَتَّى يَهْدَأَ النَّاسُ وَتَقَعَ الْقُلُوبُ مَوَاقِعَهَا وَتُؤْخَذُ الْحُقُوقُ، فَاهْدَأُوا عَنِّي، وَانْظُرُوا مَاذَا يَأْتِيكُمْ ثُمَّ عُودُوا. وَاشْتَدَّ عَلَى قُرَيْشٍ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخُرُوجِ عَلَى حَالِهَا، وَإِنَّمَا هَيَّجَهُ عَلَى ذَلِكَ هَرَبُ بَنِي أُمَيَّةَ وَتَفَرُّقُ الْقَوْمِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ مَا قَالَ عَلِيٌّ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: نَقْضِي الَّذِي عَلَيْنَا وَلَا نُؤَخِّرُهُ، وَاللَّهِ إِنَّ عَلِيًّا لِمُسْتَغْنٍ بِرَأْيِهِ وَلَيَكُونَنَّ أَشَدَّ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ غَيْرِهِ. فَسَمِعَ ذَلِكَ فَخَطَبَهُمْ وَذَكَرُ فَضْلَهُمْ وَحَاجَتَهُ إِلَيْهِمْ وَنَظَرَهُ لَهُمْ وَقِيَامَهُ دُونَهُمْ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ سُلْطَانِهِمْ (إِلَّا ذَاكَ) وَالْأَجْرُ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَنَادَى: بَرِئَتِ الذِّمَّةُ مِنْ عَبْدٍ لَا يَرْجِعُ إِلَى مَوْلَاهُ. فَتَذَامَرَتِ السَّبِيئَةُ وَالْأَعْرَابُ وَقَالُوا: لَنَا غَدًا مِثْلُهَا وَلَا نَسْتَطِيعُ نَحْتَجُّ فِيهِمْ بِشَيْءٍ. وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَخْرِجُوا عَنْكُمُ الْأَعْرَابَ فَلْيَلْحَقُوا بِمِيَاهِهِمْ، فَأَبَتِ السَّبِيئَةُ وَأَطَاعَهُمُ الْأَعْرَابُ. فَدَخَلَ عَلِيٌّ بَيْتَهُ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: دُونَكُمْ ثَأْرَكُمْ فَاقْتُلُوهُ. فَقَالَ: (عَشَوْا عَنْ ذَلِكَ) . فَقَالَ: هُمْ وَاللَّهِ بَعْدَ الْيَوْمِ أَعْشَى! وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّ قَوْمِي طَاوَعَتْنِي سُرَاتُهُمْ ... أَمَرْتُهُمُ أَمْرًا يُدِيخُ الْأَعَادِيَا وَقَالَ طَلْحَةُ: دَعْنِي آتِ الْبَصْرَةَ فَلَا يَفْجَأُكَ إِلَّا وَإِنَّا فِي خَيْلٍ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ: دَعْنِي آتِ الْكُوفَةَ فَلَا يَفْجَأُكَ إِلَّا وَأَنَا فِي خَيْلٍ. فَقَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ فِي ذَلِكَ.

قِيلَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَيْتُ عَلِيًّا بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ عِنْدَ عَوْدِي مِنْ مَكَّةَ فَوَجَدْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ مُسْتَخْلِيًا بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا قَالَ لَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: قَالَ لِي قَبْلَ مَرَّتِهِ هَذِهِ: إِنَّ لَكَ حَقَّ الطَّاعَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَأَنْتَ بَقِيَّةُ النَّاسِ، وَإِنَّ الرَّأْيَ الْيَوْمَ تُحْرِزُ بِهِ مَا فِي غَدٍ، وَإِنَّ الضَّيَاعَ الْيَوْمَ يَضِيعُ بِهِ مَا فِي غَدٍ، أَقْرِرْ مُعَاوِيَةَ وَابْنَ عَامِرٍ وَعُمَّالَ عُثْمَانَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَكَ بَيْعَتُهُمْ وَيَسْكُنَ النَّاسُ، ثُمَّ اعْزِلْ مَنْ شِئْتَ، فَأَبَيْتُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَقُلْتُ: لَا أُدَاهِنُ فِي دِينِي وَلَا أُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي أَمْرِي. قَالَ: فَإِنْ كُنْتَ أَبِيتُ عَلِيَّ فَانْزِعْ مَنْ شِئْتَ وَاتْرُكْ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّ فِي مُعَاوِيَةَ جُرْأَةً، وَهُوَ فِي أَهْلِ الشَّامِ يُسْتَمَعُ مِنْهُ، وَلَكَ حُجَّةٌ فِي إِثْبَاتِهِ، كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ وَلَّاهُ الشَّامَ. فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَسْتَعْمِلُ مُعَاوِيَةَ يَوْمَيْنِ! ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ عِنْدِي وَأَنَا أَعْرِفُ فِيهِ أَنَّهُ يَوَدُّ أَنِّي مُخْطِئٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَيَّ الْآنَ فَقَالَ: إِنِّي أَشَرْتُ عَلَيْكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِالَّذِي أَشَرْتُ وَخَالَفَتْنِي فِيهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تَصْنَعَ الَّذِي رَأَيْتَ فَتَعْزِلَهُمْ وَتَسْتَعِينَ بِمَنْ تَثِقُ بِهِ، فَقَدْ كَفَى اللَّهُ وَهُمْ أَهْوَنُ شَوْكَةً مِمَّا كَانَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُلْتُ لَعَلِيٍّ: أَمَّا الْمَرَّةُ الْأُولَى فَقَدْ نَصَحَكَ، وَأَمَّا الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ غَشَّكَ. قَالَ: وَلِمَ نَصَحَنِي؟ قُلْتُ: لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابَهُ أَهْلُ دُنْيَا فَمَتَى تُثَبِّتُهُمْ لَا يُبَالُوا مَنْ وَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ، وَمَتَى تَعْزِلُهُمْ يَقُولُوا: أَخَذَ هَذَا الْأَمْرَ بِغَيْرِ شُورَى وَهُوَ قَتَلَ صَاحِبَنَا، وَيُؤَلِّبُونَ عَلَيْكَ، فَتَنْتَقِضَ عَلَيْكَ الشَّامُ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، مَعَ أَنِّي لَا آمَنُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ أَنْ يَكِرَّا عَلَيْكَ، وَأَنَا أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تُثَبِّتَ مُعَاوِيَةَ، فَإِنْ بَايَعَ لَكَ فَعَلَيَّ أَنْ أَقْلَعَهُ مِنْ مَنْزِلِهِ، وَقَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ لَا أُعْطِيهِ إِلَّا السَّيْفَ! ثُمَّ تَمَثَّلَ: وَمَا مِيتَةٌ إِنْ مِتُّهَا غَيْرَ عَاجِزٍ ... بِعَارٍ إِذَا مَا غَالَتِ النَّفْسَ غُولُهَا فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ رَجُلٌ شُجَاعٌ لَسْتَ صَاحِبَ رَأْيٍ فِي الْحَرْبِ، أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ؟» فَقَالَ: بَلَى: فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَطَعْتَنِي لَأُصْدِرَنَّهُمْ بَعْدَ وِرْدٍ، وَلَأَتْرُكَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ فِي دُبُرِ الْأُمُورِ لَا يَعْرِفُونَ مَا كَانَ وَجْهَهَا فِي غَيْرِ نُقْصَانٍ عَلَيْكَ وَلَا إِثْمٍ لَكَ. فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ لَسْتُ مِنْ هَنَاتِكَ وَلَا مِنْ هَنَاتِ مُعَاوِيَةَ فِي شَيْءٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُلْتُ لَهُ: أَطِعْنِي وَالْحَقْ بِمَالِكَ بِيَنْبُعَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَجُولُ جَوْلَةً وَتَضْطَرِبُ وَلَا تَجِدُ غَيْرَكَ، فَإِنَّكَ وَاللَّهِ لَئِنْ نَهَضَتْ مَعَ هَؤُلَاءِ الْيَوْمَ لَيُحَمِّلَنَّكَ النَّاسُ دَمَ عُثْمَانَ غَدًا. فَأَبَى عَلِيٌّ فَقَالَ: تُشِيرُ عَلَيَّ وَأَرَى فَإِذَا

عَصَيْتُكَ فَأَطِعْنِي. قَالَ: فَقُلْتُ: أَفْعَلُ، إِنَّ أَيْسَرَ مَا لَكَ عِنْدِي الطَّاعَةُ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: تَسِيرُ إِلَى الشَّامِ فَقَدْ وَلَّيْتُكَهَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا هَذَا بِرَأْيٍ، مُعَاوِيَةُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ عُثْمَانَ وَعَامِلُهُ وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقِي بِعُثْمَانَ، وَإِنَّ أَدْنَى مَا هُوَ صَانِعٌ أَنْ يَحْبِسَنِي فَيَتَحَكَّمَ عَلَيَّ لِقَرَابَتِي مِنْكَ، وَإِنَّ كُلَّ مَا حُمِلَ عَلَيْكَ حُمِلَ عَلَيَّ، وَلَكِنِ اكْتُبْ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَمَنِّهِ وَعِدْهُ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا كَانَ هَذَا أَبَدًا! وَكَانَ الْمُغِيرَةُ يَقُولُ: نَصَحْتُهُ فَلَمَّا لَمْ يَقْبَلُ غَشَشْتُهُ. وَخَرَجَ فَلَحِقَ بِمَكَّةَ. ذكر عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ - سَارَ قُسْطَنْطِينُ بْنُ هِرَقْلٍ فِي أَلْفِ مَرْكَبٍ يُرِيدُ أَرْضَ الْمُسْلِمِينَ (قَبْلَ قَتْلِ عُثْمَانَ) ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا عَاصِفًا فَغَرَّقَهُمْ، وَنَجَا قُسْطَنْطِينُ فَأَتَى صِقِلِّيَةَ، فَصَنَعُوا لَهُ حَمَّامًا، فَدَخَلَهُ فَقَتَلُوهُ فِيهِ وَقَالُوا: قَتَلْتَ رِجَالَنَا. هَكَذَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ. وَهَذَا قُسْطَنْطِينُ هُوَ الَّذِي هَزَمَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي غَزْوَةِ الصَّوَارِي سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَقَتَلَهُ أَهْلُ صِقِلِّيَةَ فِي الْحَمَّامِ، وَإِنْ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي السَّنَةِ الَّتِي كَانَتِ الْوَقْعَةُ فِيهَا، فَلَوْلَا قَوْلُهُ: إِنَّ الْمَرَاكِبَ غَرِقَتْ، لَكَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ هِيَ تِلْكَ، فَإِنَّهَا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ: كَانَتْ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ مَاتَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ. وَفِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ أَيْضًا مَاتَ الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ، وَفِيهَا مَاتَ الْحَرْثُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ الْحَرْثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالِدُ الْمُلَقَّبِ بِبَبَّةَ.

وَفِي آخِرِهَا مَاتَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَهُوَ وَالِدُ مَرْوَانَ وَعَمُّ عُثْمَانَ. وَفِيهَا مَاتَ حَبَّانُ بْنُ مُنْقِذٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ وَالِدُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ - بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ -، وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ بِأُحُدٍ شَهِيدًا. وَفِي خِلَافَتِهِ مَاتَ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيُّ - وَهُوَ عَقَبِيٌّ بَدْرِيٌّ -. وَفِي خِلَافَتِهِ مَاتَ زَيْدُ بْنُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ - وَهُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ -. وَفِيهَا قُتِلَ مَعْبَدُ بْنُ

الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِإِفْرِيقِيَّةَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ. وَفِيهَا مَاتَ مُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ، وَكَانَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ، وَكَانَ عَلَى خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ، وَفِيهَا مَاتَ مُطِيعُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْعَدَوِيُّ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ يَوْمَ الْفَتْحِ. وَفِي خِلَافَتِهِ مَاتَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ، وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ مَعَ

مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَفِي خِلَافَتِهِ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ، وَهُوَ بَدْرِيُّ - وَكَانَ فِيهِ دُعَابَةٌ -. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ وَالِدُ عُمَرَ الشَّاعِرِ، وَكَانَ قَدْ جَاءَ مِنَ الْيَمَنِ لِيَنْصُرَ عُثْمَانَ لَمَّا حُصِرَ فَسَقَطَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَمَاتَ. وَأَبُو رَافِعٍ مَوْلَى

رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقِيلَ: مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ، وَهُوَ أَصَحُّ وَفِي خِلَافَتِهِ تُوَفِّي أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ الْعَامِرِيُّ مِنْ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ - وَهُوَ بَدْرِيٌّ - وَفِيهَا مَاتَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ خَالُ مُعَاوِيَةَ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَكَانَ صَالِحًا. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَقِيلَ: عَاشَ بَعْدَهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

ثم دخلت سنة ست وثلاثين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ] [ذكر تَفْرِيقِ عَلِيٍّ عُمَّالَهُ وَخِلَافِ مُعَاوِيَةَ] 36 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ ذكر تَفْرِيقِ عَلِيٍّ عُمَّالَهُ وَخِلَافِ مُعَاوِيَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فَرَّقَ عَلِيٌّ عُمَّالَهُ عَلَى الْأَمْصَارِ، فَبَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَعِمَارَةَ بْنَ شِهَابٍ عَلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَتْ لَهُ هِجْرَةٌ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْيَمَنِ، وَقَيْسَ بْنَ سَعْدٍ عَلَى مِصْرَ، وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى الشَّامِ. فَأَمَّا سَهْلٌ فَإِنَّهُ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِتَبُوكَ لَقِيَتْهُ خَيْلٌ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَمِيرٌ. قَالُوا: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: عَلَى الشَّامِ. قَالُوا: إِنْ كَانَ بَعَثَكَ عُثْمَانُ فَحَيَّ هَلًا بِكَ، وَإِنْ كَانَ بَعَثَكَ غَيْرُهُ فَارْجِعْ. قَالَ: أَوَمَا سَمِعْتُمْ بِالَّذِي كَانَ؟ قَالُوا: بَلَى. فَرَجَعَ إِلَى عَلِيٍّ. وَأَمَّا قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ فَإِنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إِلَى أَيْلَةَ لَقِيَتْهُ خَيْلٌ، فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ فَالَّةِ عُثْمَانَ، فَأَنَا أَطْلُبُ مَنْ آوِي إِلَيْهِ فَأَنْتَصِرُ بِهِ لِلَّهِ. قَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ. قَالُوا: امْضِ. فَمَضَى حَتَّى دَخَلَ مِصْرَ. فَافْتَرَقَ أَهْلُ مِصْرَ فِرَقًا، فِرْقَةٌ دَخَلَتْ فِي الْجَمَاعَةِ فَكَانُوا مَعَهُ، وَفِرْقَةٌ اعْتَزَلَتْ بِخَرْنَبَا وَقَالُوا: إِنْ قُتِلَ قَتَلَةُ عُثْمَانُ فَنَحْنُ مَعَكُمْ، وَإِلَّا فَنَحْنُ عَلَى جَدِيلَتِنَا حَتَّى نُحَرِّكَ أَوْ نُصِيبَ حَاجَتَنَا، وَفِرْقَةٌ قَالُوا: نَحْنُ مَعَ عَلِيٍّ مَا لَمْ يُقِدْ مِنْ إِخْوَانِنَا، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مَعَ الْجَمَاعَةِ. وَكَتَبَ قَيْسٌ إِلَى عَلِيٍّ بِذَلِكَ.

وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ فَسَارَ وَلَمْ يَرُدُّهُ أَحَدٌ عَنْ دُخُولِ الْبَصْرَةِ، وَلَمْ يَجِدْ لِابْنِ عَامِرٍ فِي ذَلِكَ رَأْيًا وَلَا اسْتِقْلَالًا بِحَرْبٍ، وَافْتَرَقَ النَّاسُ بِهَا، فَاتَّبَعَتْ فِرْقَةٌ الْقَوْمَ، وَدَخَلَتْ فِرْقَةٌ فِي الْجَمَاعَةِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: نَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَنَصْنَعُ كَمَا صَنَعُوا. وَأَمَّا عِمَارَةُ بْنُ شِهَابٍ، فَلَمَّا بَلَغَ زُبَالَةَ لَقِيَهُ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَكَانَ خَرَجَ يَطْلُبُ بِثَأْرِ عُثْمَانَ وَهُوَ يَقُولُ: لَهْ فِي عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَسْبِقْنِي وَلَمْ أُدْرِكْهُ! وَكَانَ خُرُوجُهُ عِنْدَ عَوْدِ الْقَعْقَاعِ مِنْ إِغَاثَةِ عُثْمَانَ، فَلَمَّا لَقِيَ عِمَارَةَ قَالَ لَهُ: ارْجِعْ، فَإِنَّ الْقَوْمَ لَا يُرِيدُونَ بِأَمِيرِهِمْ بَدَلًا، فَإِنْ أَبَيْتَ ضُرِبَتْ عُنُقُكَ. فَرَجَعَ عِمَارَةُ إِلَى عَلِيٍّ بِالْخَبَرِ. وَانْطَلَقَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَجَمَعَ يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْجِبَايَةِ وَخَرَجَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، فَقَدِمَهَا بِالْمَالِ، وَدَخَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ الْيَمَنَ. وَلَمَّا رَجَعَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ مِنَ الشَّامِ، وَأَتَتْ عَلِيًّا الْأَخْبَارُ دَعَا طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ فَقَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي كُنْتُ أُحَذِّرُكُمْ قَدْ وَقَعَ، وَإِنَّ الَّذِي قَدْ وَقَعَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِإِمَاتَتِهِ، وَإِنَّهَا فِتْنَةٌ كَالنَّارِ كُلَّمَا سُعِّرَتِ ازْدَادَتْ وَاسْتَثَارَتْ. فَقَالَا لَهُ: ائْذَنْ لَنَا نَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَإِمَّا أَنْ نُكَاثِرَ وَإِمَّا أَنْ تَدَعَنَا. فَقَالَ: سَأُمْسِكُ الْأَمْرَ مَا اسْتَمْسَكَ، فَإِذَا لَمْ أَجِدُ بُدًّا فَآخِرُ الدَّاءِ الْكَيُّ. وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَإِلَى أَبِي مُوسَى. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُوسَى بِطَاعَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَبَيْعَتِهِمْ، وَبَيَّنَ الْكَارِهَ مِنْهُمْ لِلَّذِي كَانَ، وَالرَّاضِي، وَمَنْ بَيْنَ ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ عَلِيٌّ كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُمْ. وَكَانَ رَسُولُ عَلِيٍّ إِلَى أَبِي مُوسَى مَعْبَدٌ الْأَسْلَمِيُّ، وَكَانَ رَسُولُهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ سَبْرَةُ الْجُهَنِيُّ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ مُعَاوِيَةُ بِشَيْءٍ، كُلَّمَا تَنَجَّزَ جَوَابَهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِهِ: أَدِمْ إِدَامَةَ حِصْنٍ أَوْ خُذَا بِيَدِي حَرْبًا ... ضَرُوسًا تَشُبُّ الْجَزْلَ وَالضَّرَمَا فِي جَارِكُمْ وَابْنِكُمْ إِذْ كَانَ مَقْتَلُهُ ... شَنْعَاءَ شَيَّبَتِ الْأَصْدَاغَ وَاللِّمَمَا أَعْيَا الْمَسُودُ بِهَا وَالسَّيِّدُونَ ... فَلَمْ يُوجَدْ غَيْرُنَا مَوْلًى وَلَا حَكَمًا

حَتَّى إِذَا كَانَ الشَّهْرُ الثَّالِثُ مِنْ مَقْتَلِ عُثْمَانَ فِي صَفَرٍ، دَعَا مُعَاوِيَةُ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَبْسٍ، يُدْعَى قَبِيصَةَ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ طُومَارًا مَخْتُومًا عُنْوَانُهُ: مِنْ مُعَاوِيَةَ إِلَى عَلِيٍّ، وَقَالَ لَهُ: إِذَا دَخَلْتَ الْمَدِينَةَ فَاقْبِضْ عَلَى أَسْفَلِ الطُّومَارِ، ثُمَّ أَوْصَاهُ بِمَا يَقُولُ، وَأَعَادَ رَسُولَ عَلِيٍّ مَعَهُ. فَخَرَجَا فَقَدِمَا الْمَدِينَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَدَخَلَهَا الْعَبْسِيُّ كَمَا أَمَرَهُ قَدْ رَفَعَ الطُّومَارُ، فَتَبِعَهُ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَعَلِمُوا أَنَّ مُعَاوِيَةَ مُعْتَرِضٌ، وَدَخْلَ الرَّسُولُ عَلَى عَلِيٍّ فَدَفَعَ إِلَيْهِ الطُّومَارَ، فَفَضَّ خَتْمَهُ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ كِتَابًا. فَقَالَ لِلرَّسُولِ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: آمِنٌ أَنَا؟ قَالَ: نَعَمٌ، إِنَّ الرَّسُولَ لَا يُقْتَلُ. قَالَ: وَرَائِي أَنِّي تَرَكْتُ قَوْمًا لَا يَرْضَوْنَ إِلَّا بِالْقَوَدِ. قَالَ: مِمَّنْ؟ قَالَ: مِنْ خَيْطِ رَقَبَتِكَ. وَتَرَكْتُ سِتِّينَ أَلْفَ شَيْخٍ تَبْكِي تَحْتَ قَمِيصِ عُثْمَانَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ لَهُمْ قَدْ أَلْبَسُوهُ مِنْبَرَ دِمَشْقَ. قَالَ: أَمِنِّي يَطْلُبُونَ دَمَ عُثْمَانَ، أَلَسْتُ مَوْتُورًا كَتِرَةِ عُثْمَانَ؟ اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ! نَجَا وَاللَّهِ قَتَلَةُ عُثْمَانَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا أَصَابَهُ، اخْرُجْ. قَالَ: وَأَنَا آمِنٌ؟ قَالَ: وَأَنْتَ آمِنٌ. فَخَرَجَ الْعَبْسِيُّ، وَصَاحَتِ السَّبَئِيَّةُ وَقَالَتْ: هَذَا الْكَلْبُ رَسُولُ الْكِلَابِ، اقْتُلُوهُ! فَنَادَى: يَا آلَ مُضَرَ يَا آلَ قَيْسٍ! الْخَيْلَ وَالنَّبْلَ! أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَيَرُدَّنَّهَا عَلَيْكُمْ أَرْبَعَةُ آلَافِ خَصِيٍّ، فَانْظُرُوا كَمِ الْفُحُولُ وَالرِّكَابُ! وَتَعَاوَنُوا عَلَيْهِ، فَمَنَعَتْهُ مُضَرُ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ لَهُ: اسْكُتْ، فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ لَا يُفْلِحُ هَؤُلَاءِ أَبَدًا، أَتَاهُمْ مَا يُوعَدُونَ، لَقَدْ حَلَّ بِهِمْ مَا يَحْذَرُونَ، انْتَهَتْ وَاللَّهِ أَعْمَالُهُمْ وَذَهَبَتْ رِيحُهُمْ، فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَوْا حَتَّى عُرِفَ الذُّلُّ فِيهِمْ. وَأَحَبَّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَنْ يَعْلَمُوا رَأْيَ عَلِيٍّ فِي مُعَاوِيَةَ وَقِتَالِهِ أَهْلَ الْقِبْلَةِ، أَيَجْسُرُ عَلَيْهِ أَمْ يَنْكُلُ عَنْهُ؟ وَقَدْ بَلَغَهُمْ أَنَّ ابْنَهُ الْحَسَنَ دَعَاهُ إِلَى الْقُعُودِ وَتَرْكِ النَّاسِ، فَدَسُّوا زِيَادَ بْنَ حَنْظَلَةَ التَّمِيمِيَّ، وَكَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى عَلِيٍّ فَجَلَسَ إِلَيْهِ سَاعَةً، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا زِيَادَ تَيَسَّرْ، فَقَالَ: لِأَيِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: لِغَزْوِ الشَّامِ. فَقَالَ زِيَادٌ: الْأَنَاةُ وَالرِّفْقُ أَمْثَلُ، وَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يُصَانِعْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ يُضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُوطَأْ بِمَنْسِمِ فَتَمَثَّلَ عَلِيٌّ وَكَأَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ:

ذكر ابتداء وقعة الجمل

مَتَّى تَجْمَعِ الْقَلْبَ الزَّكِيَّ وَصَارِمًا ... وَأَنْفًا حَمِيًّا تَجْتَنِبْكَ الْمَظَالِمُ فَخَرَجَ زِيَادٌ وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَهُ وَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ فَقَالَ: السَّيْفُ يَا قَوْمُ. فَعَرَفُوا مَا هُوَ فَاعِلٌ. وَاسْتَأْذَنَهُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فِي الْعُمْرَةِ، فَأَذِنَ لَهُمَا، فَلَحِقَا بِمَكَّةَ، وَدَعَا عَلِيٌّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ اللِّوَاءَ، وَوَلَّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ مَيْمَنَتَهُ، وَعُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ أَوْ عَمْرَو بْنَ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ وَلَّاهُ مَيْسَرَتَهُ، وَدَعَا أَبَا لَيْلَى بْنَ عُمَرَ بْنِ الْجَرَّاحِ ابْنَ أَخِي أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجِرَاحِ فَجَعَلَهُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قُثَمَ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَلَمْ يُوَلِّ مِمَّنْ خَرَجَ عَلَى عُثْمَانَ أَحَدًا. وَكَتَبَ إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَإِلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، وَإِلَى أَبِي مُوسَى أَنْ يَنْدُبُوا النَّاسَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ، وَدَعَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ إِلَى قِتَالِهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ فِي سُلْطَانِ اللَّهِ عِصْمَةُ أَمْرِكُمْ فَأَعْطُوهُ طَاعَتَكُمْ غَيْرَ مَلْوِيَّةٍ وَلَا مُسْتَكْرَهٍ بِهَا، وَاللَّهِ لَتَفْعَلُنُّ أَوْ لَيَنْقُلَنَّ اللَّهُ عَنْكُمْ سُلْطَانَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَا يَنْقُلُهُ إِلَيْكُمْ أَبَدًا حَتَّى يَأْرِزَ الْأَمْرُ إِلَيْهَا، انْهَضُوا إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ تَفْرِيقَ جَمَاعَتِكُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ يُصْلِحُ بِكُمْ مَا أَفْسَدَ أَهْلُ الْآفَاقِ وَتَقْضُونَ الَّذِي عَلَيْكُمْ. (خَرْنَبَا بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَفَتْحِ النُّونِ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَآخِرُهُ أَلْفٌ) . [ذكر ابْتِدَاءِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ] فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ عَلَى التَّجَهُّزِ لِأَهْلِ الشَّامِ أَتَاهُمُ الْخَبَرُ عَنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ

وَأَهْلِ (مَكَّةَ بِنَحْوٍ آخَرَ) وَأَنَّهُمْ عَلَى الْخِلَافِ، فَأَعْلَمَ عَلِيٌّ النَّاسَ ذَلِكَ، وَأَنَّ عَائِشَةَ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ، قَدْ سَخِطُوا إِمَارَتَهُ، وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى الْإِصْلَاحِ، وَقَالَ لَهُمْ: سَأَصْبِرُ مَا لَمْ أَخَفْ عَلَى جَمَاعَتِكُمْ، وَأَكُفُّ إِنْ كَفُّوا، وَأَقْتَصِرُ عَلَى مَا بَلَغَنِي. ثُمَّ أَتَاهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْبَصْرَةَ، فَسَرَّهُ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ الْكُوفَةَ فِيهَا رِجَالُ الْعَرَبِ وَبُيُوتَاتُهُمْ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الَّذِي سَرَّكَ مِنْ ذَلِكَ لَيَسُوءُنِي، إِنَّ الْكُوفَةَ فُسْطَاطٌ فِيهِ [أَعْلَامٌ] مِنْ أَعْلَامِ الْعَرَبِ، وَلَا يَحْمِلُهُمْ عِدَّةُ الْقَوْمِ، وَلَا يَزَالُ فِيهَا مَنْ يَسْمُو إِلَى أَمْرٍ لَا يَنَالُهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ شَغَّبَ عَلَيَّ الَّذِي قَدْ نَالَ مَا يُرِيدُ حَتَّى تُكْسَرَ حِدَّتَهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ الْأَمْرَ لَيُشْبِهُ مَا تَقُولُ، وَتَهَيَّأَ لِلْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، فَنَدَبَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لِلْمَسِيرِ مَعَهُمْ فَتَثَاقَلُوا، فَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كُمَيْلًا النَّخَعِيَّ، فَجَاءَ بِهِ، فَدَعَاهُ إِلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ دَخَلُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ فَدَخَلْتُ مَعَهُمْ، فَإِنْ يَخْرُجُوا أَخْرُجْ مَعَهُمْ، وَإِنْ يَقْعُدُوا أَقْعُدْ. قَالَ: فَأَعْطِنِي كَفِيلًا. قَالَ: لَا أَفْعَلُ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لَوْلَا مَا أَعْرِفُ مِنْ سُوءِ خُلُقِكَ صَغِيرًا وَكَبِيرًا لَأَنْكَرْتَنِي، دَعُوهُ فَأَنَا كَفِيلُهُ. فَرَجَعَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُمْ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي كَيْفَ نَصْنَعُ، إِنَّ الْأَمْرَ لَمُشْتَبِهٌ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ مُقِيمُونَ حَتَّى يُضِيءَ لَنَا. فَخَرَجَ مِنْ تَحْتِ لَيْلَتِهِ وَأَخْبَرَ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَةَ عَلِيٍّ، وَهِيَ زَوْجَةُ عُمَرَ، بِالَّذِي سَمِعَ، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مُعْتَمِرَا مُقِيمًا عَلَى طَاعَةِ عَلِيٍّ مَا خَلَا النُّهُوضَ. فَأَصْبَحَ عَلِيٌّ فَقِيلَ لَهُ: حَدَثَ اللَّيْلَةَ حَدَثٌ هُوَ أَشَدُّ مِنْ طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةَ، وَمُعَاوِيَةَ. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: خَرَجَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى الشَّامِ فَأَتَى السُّوقَ وَأَعَدَّ الظَّهْرَ وَالرِّجَالَ، وَأَخَذَ لِكُلِّ طَرِيقٍ طُلَّابًا، وَمَاجَ النَّاسُ. فَسَمِعَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ، فَأَتَتْ عَلِيًّا فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ، فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَقَالَ: انْصَرِفُوا، وَاللَّهِ مَا كَذَبَتْ وَلَا كَذِبَ، وَاللَّهِ إِنَّهُ عِنْدِي ثِقَةٌ. فَانْصَرَفُوا. وَكَانَ سَبَبُ اجْتِمَاعِهِمْ بِمَكَّةَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ خَرَجَتْ إِلَيْهَا، وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ، ثُمَّ

خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ تُرِيدُ الْمَدِينَةَ. فَلَمَّا كَانَتْ بِسَرِفَ لَقِيَهَا رَجُلٌ مِنْ أَخْوَالِهَا مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُقَالُ لَهُ عَبِيدُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَهُوَ ابْنُ أُمِّ كِلَابٍ، فَقَالَتْ لَهُ: مَهْيَمْ؟ قَالَ: قُتِلَ عُثْمَانُ وَبَقَوْا ثَمَانِيًا. قَالَتْ: ثُمَّ صَنَعُوا مَاذَا؟ قَالَ: اجْتَمَعُوا عَلَى بَيْعَةِ عَلِيٍّ. فَقَالَتْ: لَيْتَ هَذِهِ انْطَبَقَتْ عَلَى هَذِهِ إِنْ تَمَّ الْأَمْرُ لِصَاحِبِكَ! رُدُّونِي رُدُّونِي! فَانْصَرَفَتْ إِلَى مَكَّةَ وَهِيَ تَقُولُ: قُتِلَ وَاللَّهِ عُثْمَانُ مَظْلُومًا، وَاللَّهِ لَأَطْلُبَنَّ بِدَمِهِ! فَقَالَ لَهَا: وَلِمَ؟ وَاللَّهِ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَمَالَ حَرْفَهُ لَأَنْتِ، وَلَقَدْ كُنْتِ تَقُولِينَ: اقْتُلُوا نَعْثَلًا فَقَدْ كَفَرَ. قَالَتْ: إِنَّهُمُ اسْتَتَابُوهُ ثُمَّ قَتَلُوهُ، وَقَدْ قُلْتُ وَقَالُوا، وَقَوْلِي الْأَخِيرُ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِي الْأَوَّلِ. فَقَالَ لَهَا ابْنُ أُمِّ كِلَابٍ: فَمِنْكِ الْبَدَاءُ وَمِنْكِ الْغِيَرْ ... وَمِنْكِ الرِّيَاحُ وَمِنْكِ الْمَطَرْ وَأَنْتِ أَمَرْتِ بِقَتْلِ الْإِمَامِ ... وَقُلْتِ لَنَا إِنَّهُ قَدْ كَفَرْ فَهَبْنَا أَطَعْنَاكِ فِي قَتْلِهِ ... وَقَاتِلُهُ عِنْدَنَا مَنْ أَمَرْ وَلَمْ يَسْقُطِ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِنَا ... وَلَمْ يَنْكَسِفْ شَمْسُنَا وَالْقَمَرْ وَقَدْ بَايَعَ النَّاسُ ذَا تُدْرَإٍ ... يُزِيلُ الشَّبَا وَيُقِيمُ الصَّعَرْ وَيَلْبَسُ لِلْحَرْبِ أَثْوَابَهَا ... وَمَا مَنْ وَفَى مِثْلُ مَنْ قَدْ غَدَرْ فَانْصَرَفَتْ إِلَى مَكَّةَ فَقَصَدَتِ الْحِجْرَ فَسَتَّرَتْ فِيهِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَهَا. فَقَالَتْ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الْغَوْغَاءَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الْمِيَاهِ وَعَبِيدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اجْتَمَعُوا عَلَى هَذَا الرَّجُلِ الْمَقْتُولِ ظُلْمًا بِالْأَمْسِ، وَنَقَمُوا عَلَيْهِ اسْتِعْمَالَ مَنْ حَدَثَتْ سِنُّهُ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ أَمْثَالُهُمْ قَبْلَهُ، وَمَوَاضِعَ مِنَ الْحِمَى حَمَاهَا لَهُمْ، فَتَابَعَهُمْ وَنَزَعَ لَهُمْ عَنْهَا. فَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا حُجَّةً وَلَا عُذْرًا بَادَرُوا بِالْعُدْوَانِ فَسَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَاسْتَحَلُّوا الْبَلَدَ الْحَرَامَ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَأَخَذُوا الْمَالَ الْحَرَامَ، وَاللَّهِ لَإِصْبَعٌ مِنْ عُثْمَانَ خَيْرٌ مِنْ طِبَاقِ الْأَرْضِ أَمْثَالِهِمْ! وَوَاللَّهِ، لَوْ أَنَّ الَّذِي اعْتَدَوْا بِهِ عَلَيْهِ كَانَ ذَنْبًا لَخَلَصَ مِنْهُ كَمَا يَخْلُصُ الذَّهَبُ مِنْ خَبَثِهِ أَوِ الثَّوْبُ مِنْ دَرَنِهِ إِذْ مَاصُوهُ كَمَا يُمَاصُ الثَّوْبُ بِالْمَاءِ، أَيْ يُغْسَلُ.

فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الْحَضْرَمِيُّ، وَكَانَ عَامِلَ عُثْمَانَ عَلَى مَكَّةَ: هَا أَنَا أَوَّلُ طَالِبٍ! فَكَانَ أَوَّلَ مُجِيبٍ، وَتَبِعَهُ أُمَيَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانُوا هَرَبُوا مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ إِلَى مَكَّةَ وَرَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمُوا بِالْحِجَازِ وَتَبِعَهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، وَسَائِرُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ مِنَ الْبَصْرَةِ بِمَالٍ كَثِيرٍ، وَيَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، وَهُوَ ابْنُ مُنْيَةَ، مِنَ الْيَمَنِ وَمَعَهُ سِتُّمِائَةِ بَعِيرٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَنَاخَ بِالْأَبْطَحِ. وَقَدِمَ طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَلَقِيَا عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: مَا وَرَاءَكُمَا؟ فَقَالَا: إِنَّا تَحَمَّلْنَا هُرَّابًا مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ غَوْغَاءَ وَأَعْرَابٍ وَفَارَقْنَا قَوْمًا حَيَارَى لَا يَعْرِفُونَ حَقًّا وَلَا يُنْكِرُونَ بَاطِلًا وَلَا يَمْنَعُونَ أَنْفُسَهُمْ. فَقَالَتْ: انْهَضُوا إِلَى هَذِهِ الْغَوْغَاءِ. فَقَالُوا: نَأْتِي الشَّامَ. فَقَالَ ابْنُ عَامِرٍ: قَدْ كَفَاكُمُ الشَّامَ مُعَاوِيَةُ، فَأْتُوا الْبَصْرَةَ فَإِنَّ لِي بِهَا صَنَائِعَ، وَلَهُمْ فِي طَلْحَةَ هَوًى. قَالُوا: قَبَّحَكَ اللَّهُ! فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ بِالْمُسَالِمِ وَلَا بِالْمُحَارِبِ، فَهَلَّا أَقَمْتَ كَمَا أَقَامَ مُعَاوِيَةُ فَنُكْفَى بِكَ، ثُمَّ نَأْتِيَ الْكُوفَةَ فَنَسُدَّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمَذَاهِبَ؟ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهُ جَوَابًا مَقْبُولًا، فَاسْتَقَامَ الرَّأْيُ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَقَالُوا لَهَا: نَتْرُكُ الْمَدِينَةَ فَإِنَّا خَرَجْنَا فَكَانَ مَعَنَا مَنْ لَا يُطِيقُ مَنْ بِهَا مِنَ الْغَوْغَاءِ وَنَأْتِي بَلَدًا مُضَيَّعًا سَيَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِبَيْعَةِ عَلِيٍّ فَتُنْهِضِينَهُمْ كَمَا أَنْهَضْتِ أَهْلَ مَكَّةَ، فَإِنْ أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمْرَ كَانَ الَّذِي أَرَدْنَا، وَإِلَّا دَفَعْنَا بِجُهْدِنَا حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ مَا أَرَادَ. فَأَجَابَتْهُمْ إِلَى ذَلِكَ. وَدَعَوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ لِيَسِيرَ مَعَهُمْ، فَأَبَى وَقَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَفْعَلُ مَا يَفْعَلُونَ. فَتَرَكُوهُ. وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهَا، عَلَى قَصْدِ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا تَغَيَّرَ رَأْيُهَا إِلَى الْبَصْرَةِ تَرَكْنَ ذَلِكَ، وَأَجَابَتْهُمْ حَفْصَةُ إِلَى الْمَسِيرِ مَعَهُمْ، فَمَنَعَهَا أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَجَهَّزَهُمْ يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ بِسِتِّمِائَةِ بَعِيرٍ وَسِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَجَهَّزَهُمُ ابْنُ عَامِرٍ بِمَالٍ كَثِيرٍ، وَنَادَى

مُنَادِيهَا: إِنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ شَاخِصُونَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَمَنْ أَرَادَ إِعْزَازَ الْإِسْلَامِ وَقِتَالَ الْمُحِلِّينَ وَالطَّلَبَ بِثَأْرِ عُثْمَانَ، وَلَيْسَ لَهُ مَرْكَبٌ وَجِهَازٌ فَلْيَأْتِ! فَحَمَلُوا سِتَّمِائَةٍ عَلَى سِتِّمِائَةِ بَعِيرٍ وَسَارُوا فِي أَلْفٍ. وَقِيلَ: فِي تِسْعِمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَلَحِقَهُمُ النَّاسُ، فَكَانُوا فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ رَجُلٍ. وَبَعَثَتْ أُمُّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَرْثِ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ يُدْعَى ظَفَرًا، فَاسْتَأْجَرَتْهُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ عَلِيًّا بِالْخَبَرِ، فَقَدِمَ عَلَى عَلِيٍّ بِكِتَابِهَا. وَخَرَجَتْ عَائِشَةُ وَمَنْ مَعَهَا مِنْ مَكَّةَ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْهَا أَذَّنَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، ثُمَّ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ فَقَالَ: عَلَى أَيِّكُمْ أُسَلِّمُ بِالْإِمْرَةِ وَأُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي أَبَاهُ الزُّبَيْرَ -. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ: عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ - يَعْنِي أَبَاهُ طَلْحَةَ -. فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ إِلَى مَرْوَانَ وَقَالَتْ لَهُ: أَتُرِيدُ أَنْ تُفَرِّقَ أَمْرَنَا! لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ ابْنُ أُخْتِي - تَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ -. وَقِيلَ: بَلْ صَلَّى بِالنَّاسِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ حَتَّى قُتِلَ، فَكَانَ مُعَاذُ بْنُ عُبَيْدٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ ظَفِرْنَا لَاقْتَتَلْنَا، مَا كَانَ الزُّبَيْرُ يَتْرُكُ طَلْحَةَ وَالْأَمْرَ، وَلَا كَانَ طَلْحَةُ يَتْرُكُ الزُّبَيْرَ وَالْأَمْرَ. وَتَبِعَهَا أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى ذَاتِ عِرْقٍ، فَبَكَوْا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ كَانَ أَكْثَرَ بَاكِيًا وَبَاكِيَةً مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَكَانَ يُسَمَّى يَوْمُ النَّحِيبِ. فَلَمَّا بَلَغُوا ذَاتَ عِرْقٍ لَقِيَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَأَصْحَابَهُ بِهَا فَقَالَ: أَيْنَ تَذْهَبُونَ وَتَتْرُكُونَ ثَأْرَكُمْ عَلَى أَعْجَازِ الْإِبِلِ وَرَاءَكُمْ؟ - يَعْنِي: عَائِشَةَ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ -. اقْتُلُوهُمْ ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ. فَقَالُوا: نَسِيرُ فَلَعَلَّنَا نَقْتُلُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ جَمِيعًا. فَخَلَا سَعِيدٌ بِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ فَقَالَ: إِنْ ظَفِرْتُمَا لِمَنْ تَجْعَلَانِ الْأَمْرَ؟ أَصْدِقَانِي. قَالَا: نَجْعَلُهُ لِأَحَدِنَا أَيَّنَا اخْتَارَهُ النَّاسُ. قَالَ: بَلْ تَجْعَلُونَهُ لِوَلَدِ عُثْمَانَ، فَإِنَّكُمْ خَرَجْتُمْ تَطْلُبُونَ بِدَمِهِ. فَقَالَا: نَدَعُ شُيُوخَ الْمُهَاجِرِينَ وَنَجْعَلُهَا لِأَيْتَامٍ! قَالَ: فَلَا أَرَانِي أَسْعَى إِلَّا لِإِخْرَاجِهَا مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. فَرَجَعَ وَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: الرَّأْيُ مَا قَالَ سَعِيدٌ، مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ ثَقِيفٍ فَلْيَرْجِعْ. فَرَجَعَ، وَمَضَى الْقَوْمُ وَمَعَهُمْ أَبَانٌ، وَالْوَلِيدُ ابْنَا عُثْمَانَ. وَأَعْطَى يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ عَائِشَةَ جَمَلًا اسْمُهُ عَسْكَرُ اشْتَرَاهُ بِثَمَانِينَ دِينَارًا، فَرَكِبَتْهُ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ جَمَلُهَا لِرَجُلٍ مِنْ عُرَيْنَةَ. قَالَ الْعُرَنِيُّ: بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ إِذْ عَرَضَ لِي رَاكِبٌ فَقَالَ: أَتَبِيعُ جَمَلَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: بِكَمْ؟ قُلْتُ: بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ: أَمْجَنُونٌ أَنْتَ؟ قُلْتُ: وَلِمَ؟ وَاللَّهِ مَا طَلَبْتُ عَلَيْهِ أَحَدًا إِلَّا أَدْرَكْتُهُ، وَلَا طَلَبَنِي وَأَنَا عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا فُتُّهُ. قَالَ: لَوْ تَعْلَمُ لِمَنْ نُرِيدُهُ! إِنَّمَا نُرِيدُهُ لِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ! فَقُلْتُ: خُذْهُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ. قَالَ: بَلْ تَرْجِعُ مَعَنَا إِلَى الرَّحْلِ فَنُعْطِيكَ نَاقَةً وَدَرَاهِمَ. قَالَ: فَرَجَعْتُ مَعَهُ فَأَعْطَوْنِي نَاقَةً مَهْرِيَّةً وَأَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتَّمِائَةٍ، وَقَالُوا لِي: يَا أَخَا عُرَيْنَةَ هَلْ لَكَ دِلَالَةٌ بِالطَّرِيقِ؟ قُلْتُ: أَنَا مِنْ أَدِلِّ النَّاسِ. قَالُوا: فَسِرْ مَعَنَا. فَسِرْتُ مَعَهُمْ فَلَا أَمُرُّ عَلَى وَادٍ إِلَّا سَأَلُونِي عَنْهُ، حَتَّى طَرَقْنَا الْحَوْأَبَ، وَهُوَ مَاءٌ، فَنَبَحَتْنَا كِلَابُهُ، فَقَالُوا: أَيُّ مَاءٍ هَذَا؟ فَقُلْتُ: هَذَا مَاءُ الْحَوْأَبِ. فَصَرَخَتْ عَائِشَةُ بِأَعْلَى صَوْتِهَا وَقَالَتْ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، إِنِّي لَهِيَهْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ وَعِنْدَهُ نِسَاؤُهُ: " لَيْتَ شِعْرِي أَيَّتُكُنَّ تَنْبَحُهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ "!» ثُمَّ ضَرَبَتْ عَضُدَ بَعِيرِهَا فَأَنَاخَتْهُ وَقَالَتْ: رُدُّونِي، أَنَا وَاللَّهِ صَاحِبَةُ مَاءِ الْحَوْأَبِ. فَأَنَاخُوا حَوْلَهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّهُ كَذِبَ، وَلَمْ يَزَلْ بِهَا وَهِيَ تَمْتَنِعُ، فَقَالَ لَهَا: النَّجَاءَ النَّجَاءَ! قَدْ أَدْرَكَكُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. فَارْتَحَلُوا نَحْوَ الْبَصْرَةِ، فَلَمَّا كَانُوا بِفِنَائِهَا لَقِيَهُمْ عُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ وَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْشُدُكِ اللَّهَ أَنْ تَقْدَمِي الْيَوْمَ عَلَى قَوْمٍ لَمْ تُرَاسِلِي مِنْهُمْ أَحَدًا، فَعَجِّلِي ابْنَ عَامِرٍ، فَإِنَّ لَهُ بِهَا صَنَائِعَ، فَلْيَذْهَبْ إِلَيْهِمْ لِيَلْقَوُا النَّاسَ إِلَى أَنْ تَقْدَمِي وَيَسْمَعُوا مَا جِئْتُمْ بِهِ. فَأَرْسَلَتْهُ، فَانْدَسَّ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَأَتَى الْقَوْمَ، وَكَتَبَتْ عَائِشَةُ

إِلَى رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَإِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، وَصَبْرَةَ بْنِ شَيْمَانَ، وَأَمْثَالِهِمْ، وَأَقَامَتْ بِالْحَفِيرِ تَنْتَظِرُ الْجَوَابَ. وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ دَعَا عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ عِمْرَانَ بْنَ حَصِينٍ - وَكَانَ رَجُلَ عَامَّةٍ - وَأَلَزَّهُ بِأَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ - وَكَانَ رَجُلَ خَاصَّةٍ - وَقَالَ لَهُمَا: انْطَلِقَا إِلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَاعْلَمَا عِلْمَهَا وَعِلْمَ مَنْ مَعَهَا. فَخَرَجَا فَانْتَهَيَا إِلَيْهَا بِالْحَفِيرِ، فَأَذِنَتْ لَهُمَا، فَدَخَلَا وَسَلَّمَا وَقَالَا: إِنَّ أَمِيرَنَا بَعَثَنَا إِلَيْكَ لِنَسْأَلَكَ عَنْ مَسِيرِكَ، فَهَلْ أَنْتِ مُخْبِرَتُنَا؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا مِثْلِي يُعْطِي لِبَنِيهِ الْخَبَرَ، إِنَّ الْغَوْغَاءَ وَنُزَّاعَ الْقَبَائِلِ غَزَوْا حَرَمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحْدَثُوا فِيهِ وَآوَوُا الْمُحْدِثِينَ، فَاسْتَوْجَبُوا لَعْنَةَ اللَّهِ وَلَعْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَا نَالُوا مِنْ قَتْلِ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ بِلَا تِرَةٍ وَلَا عُذْرٍ، فَاسْتَحَلُّوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَسَفَكُوهُ، وَانْتَهَبُوا الْمَالَ الْحَرَامَ، وَأَحَلُّوا الْبَلَدَ الْحَرَامَ، وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ، فَخَرَجْتُ فِي الْمُسْلِمِينَ أُعَلِّمُهُمْ مَا أَتَى هَؤُلَاءِ، وَمَا النَّاسُ فِيهِ وَرَاءَنَا، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ مِنْ إِصْلَاحِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَرَأْتُ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء: 114] الْآيَةَ، فَهَذَا شَأْنُنَا إِلَى مَعْرُوفٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِ وَمُنْكَرٍ نَنْهَاكُمْ عَنْهُ. فَخَرَجَ عِمْرَانُ وَأَبُو الْأَسْوَدِ مِنْ عِنْدِهَا فَأَتَيَا طَلْحَةَ وَقَالَا: مَا أَقْدَمَكَ؟ فَقَالَ: الطَّلَبُ بِدَمِ عُثْمَانَ. فَقَالَا: أَلَمْ تُبَايِعْ عَلِيًّا؟ فَقَالَ: بَلَى وَالسَّيْفُ عَلَى عُنُقِي، وَمَا أَسْتَقِيلُ عَلِيًّا الْبَيْعَةَ إِنْ هُوَ لَمْ يَحُلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ. ثُمَّ أَتَيَا الزُّبَيْرَ فَقَالَا لَهُ مِثْلَ قَوْلِهِمَا لِطَلْحَةَ، وَقَالَ لَهُمَا مِثْلَ قَوْلِ طَلْحَةَ، فَرَجَعَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، وَنَادَى مُنَادِيهَا بِالرَّحِيلِ، فَدَخَلَا عَلَى عُثْمَانَ فَبَادَرَ أَبُو الْأَسْوَدِ عِمْرَانَ فَقَالَ: يَا ابْنَ حُنَيْفٍ قَدْ أُتِيتَ فَانْفِرِ ... وَطَاعِنِ الْقَوْمَ وَجَالِدْ وَاصْبِرِ وَابْرُزْ لَهُمْ مُسْتَلْئِمًا وَشَمِّرِ فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، دَارَتْ رَحَى الْإِسْلَامِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ فَانْظُرُوا بِأَيِّ زَيَفَانٍ تَزِيفُ. فَقَالَ عِمْرَانُ: إِيْ وَاللَّهِ لَتَعْرِكَنَّكُمْ عَرْكًا طَوِيلًا. قَالَ: فَأَشِرْ عَلَيَّ يَا عِمْرَانُ. قَالَ: اعْتَزِلْ فَإِنِّي قَاعِدٌ. قَالَ عُثْمَانُ: بَلْ أَمْنَعُهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.

فَانْصَرَفَ عِمْرَانُ إِلَى بَيْتِهِ وَقَامَ عُثْمَانُ فِي أَمْرِهِ، فَأَتَاهُ هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي تُرِيدُهُ يُسْلِمُ إِلَى شَرٍّ مِمَّا تَكْرَهُ، إِنَّ هَذَا فَتْقٌ لَا يُرْتَقُ، وَصَدْعٌ لَا يُجْبَرُ، فَارْفُقْ بِهِمْ وَسَامِحْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ عَلِيٍّ. فَأَبَى وَنَادَى عُثْمَانُ فِي النَّاسِ وَأَمَرَهُمْ بِلُبْسِ السِّلَاحِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَى الْمَسْجِدِ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّجْهِيزِ، وَأَمَرَ رَجُلًا دَسَّهُ إِلَى النَّاسِ خَدِعًا كُوفِيًّا قَيْسِيًّا، فَقَامَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا قَيْسُ بْنُ الْعَقَدِيَّةِ الْحُمَيْسِيُّ، إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ إِنْ كَانُوا جَاؤُوا خَائِفِينَ فَقَدْ أَتَوْا مِنْ بَلَدٍ يَأْمَنُ فِيهِ الطَّيْرُ، وَإِنْ كَانُوا جَاءُوا يَطْلُبُونَ بِدَمِ عُثْمَانَ، فَمَا نَحْنُ بِقَتَلَةِ عُثْمَانَ، فَأَطِيعُونِي وَرَدُّوهُمْ مِنْ حَيْثُ جَاؤُوا. فَقَامَ الْأَسْوَدُ بْنُ سَرِيعٍ السَّعْدِيُّ فَقَالَ: أَوَزَعَمُوا أَنَّا قَتَلَةُ عُثْمَانَ؟ إِنَّمَا أَتَوْا يَسْتَعِينُونَ بِنَا عَلَى قَتَلَةِ عُثْمَانَ مِنَّا وَمِنْ غَيْرِنَا. فَحَصَبَهُ النَّاسُ، فَعَرَفَ عُثْمَانُ أَنَّ لَهُمْ بِالْبَصْرَةِ نَاصِرًا، فَكَسَرَهُ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَتْ عَائِشَةُ فِيمَنْ مَعَهَا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْمِرْبَدِ، فَدَخَلُوا مِنْ أَعْلَاهُ، وَوَقَفُوا حَتَّى خَرَجَ عُثْمَانُ فِيمَنْ مَعَهُ وَخَرَجَ إِلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ بِالْمِرْبَدِ، فَتَكَلَّمَ طَلْحَةُ وَهُوَ فِي مَيْمَنَةِ الْمِرْبَدِ، وَعُثْمَانُ فِي مَيْسَرَتِهِ، فَأَنْصَتُوا لَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ عُثْمَانَ وَفَضْلَهُ وَمَا اسْتَحَلَّ مِنْهُ، وَدَعَا إِلَى الطَّلَبِ بِدَمِهِ وَحَثَّهُمْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الزُّبَيْرُ. فَقَالَ مَنْ فِي مَيْمَنَةِ الْمِرْبَدِ: صَدَقَا وَبَرَّا. وَقَالَ فِي مَيْسَرَتِهِ: فَجَرَا وَغَدَرَا وَأَمَرَا بِالْبَاطِلِ، فَقَدْ بَايَعَا عَلِيًّا ثُمَّ جَاءَا يَقُولَانِ، وَتَحَاثَى النَّاسُ وَتَحَاصَبُوا وَأَرْهَجُوا. فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ، وَكَانَتْ جَهْوَرِيَّةَ الصَّوْتِ، فَحَمِدَتِ اللَّهَ وَقَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يَتَجَنَّوْنَ عَلَى عُثْمَانَ وَيَزْرُونَ عَلَى عُمَّالِهِ، وَيَأْتُونَنَا بِالْمَدِينَةِ فَيَسْتَشِيرُونَنَا فِيمَا يُخْبِرُونَنَا عَنْهُمْ، فَنَنْظُرُ فِي ذَلِكَ فَنَجِدُهُ بَرِيئًا تَقِيًّا وَفِيًّا، وَنَجِدُهُمْ فَجَرَةً غَدَرَةً كَذَبَةً، وَهُمْ يُحَاوِلُونَ غَيْرَ مَا يُظْهِرُونَ، فَلَمَّا قَوَوْا كَاثَرُوهُ، وَاقْتَحَمُوا عَلَيْهِ دَارَهُ، وَاسْتَحَلُّوا الدَّمَ الْحَرَامَ، وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَالْبَلَدَ الْحَرَامَ، بِلَا تِرَةٍ وَلَا عُذْرٍ، أَلَا إِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي لَا يَنْبَغِي لَكُمْ غَيْرُهُ، أَخْذُ قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَإِقَامَةُ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَرَأَتْ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} [آل عمران: 23] الْآيَةَ، فَافْتَرَقَ أَصْحَابُ عُثْمَانَ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةٌ قَالَتْ: صَدَقَتْ وَبَرَّتْ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: كَذَبْتُمْ وَاللَّهِ مَا نَعْرِفُ مَا جِئْتُمْ بِهِ! فَتَحَاثَوْا وَتَحَاصَبُوا. فَلَمَّا رَأَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ انْحَدَرَتْ وَانْحَدَرَ أَهْلُ الْمَيْمَنَةِ مُفَارِقِينَ لِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ حَتَّى وَقَفُوا فِي الْمِرْبَدِ فِي مَوْضِعِ الدَّبَّاغِينَ، وَبَقِيَ أَصْحَابُ عُثْمَانَ عَلَى حَالِهِمْ، وَمَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَائِشَةَ وَبَقِيَ بَعْضُهُمْ مَعَ عُثْمَانَ.

وَأَقْبَلُ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ السَّعْدِيُّ وَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ، لَقَتْلُ عُثْمَانَ أَهْوَنُ مِنْ خُرُوجِكِ مِنْ بَيْتِكِ عَلَى هَذَا الْجَمَلِ الْمَلْعُونِ عُرْضَةً لِلسِّلَاحِ! إِنَّهُ قَدْ كَانَ لَكِ مِنَ اللَّهِ سِتْرٌ وَحُرْمَةٌ، فَهَتَكْتِ سِتْرَكِ وَأَبَحْتِ حُرْمَتَكِ! إِنَّهُ مَنْ رَأَى قِتَالَكِ يَرَى قَتْلَكِ! لَئِنْ كُنْتِ أَتَيْتِنَا طَائِعَةً فَارْجِعِي إِلَى مَنْزِلِكِ، وَإِنْ كُنْتِ أَتَيْتِنَا مُكْرَهَةً فَاسْتَعِينِي بِالنَّاسِ. وَخَرَجَ غُلَامٌ شَابٌّ مِنْ بَنِي سَعْدٍ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ فَقَالَ: أَمَّا أَنْتَ يَا زُبَيْرُ فَحَوَارِيُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا أَنْتَ يَا طَلْحَةَ فَوَقَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِكَ وَأَرَى أُمَّكُمَا مَعَكُمَا، فَهَلْ جِئْتُمَا بِنِسَائِكُمَا؟ قَالَا: لَا. قَالَ: فَمَا أَنَا مِنْكُمْ فِي شَيْءٍ، وَاعْتَزَلَ وَقَالَ فِي ذَلِكَ: صُنْتُمْ حَلَائِلَكُمْ وَقُدْتُمْ أُمَّكُمْ ... هَذَا لَعَمْرُكَ قِلَّةُ الْإِنْصَافِ أُمِرَتْ بِجَرِّ ذُيُولِهَا فِي بَيْتِهَا ... فَهَوَتْ تَشُقُّ الْبِيدَ بِالْإِيجَافِ غَرَضًا يُقَاتِلُ دُونَهَا أَبْنَاؤُهَا ... بِالنَّبْلِ وَالْخَطِّيِّ وَالْأَسْيَافِ هُتِكَتْ بِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ سُتُورُهَا ... هَذَا الْمُخَبَّرُ عَنْهُمُ وَالْكَافِي وَأَقْبَلَ حُكَيْمُ بْنُ جَبَلَةَ الْعَبْدِيُّ - وَهُوَ عَلَى الْخَيْلِ - فَأَنْشَبَ الْقِتَالَ، وَأَشْرَعَ أَصْحَابُ عَائِشَةَ رِمَاحَهُمْ، وَأَمْسَكُوا لِيُمْسِكَ حُكَيْمٌ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَنْتَهِ، وَقَاتَلَهُمْ وَأَصْحَابُ عَائِشَةَ كَافُّونَ يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَحَكِيمٌ يَذْمُرُ خَيْلَهُ وَيَرْكَبُهُمْ بِهَا، فَاقْتَتَلُوا عَلَى فَمِ السِّكَّةِ، وَأَمَرَتْ عَائِشَةُ أَصْحَابَهَا فَتَيَامَنُوا إِلَى مَقْبَرَةِ بَنِي مَازِنٍ، وَحَجَزَ اللَّيْلُ بَيْنَهُمْ، وَرَجَعَ عُثْمَانُ إِلَى الْقَصْرِ، وَأَتَى أَصْحَابُ عَائِشَةَ إِلَى نَاحِيَةِ دَارِ الرِّزْقِ، وَبَاتُوا يَتَأَهَّبُونَ، وَبَاتَ النَّاسُ يَأْتُونَهُمْ، وَاجْتَمَعُوا بِسَاحَةِ دَارِ الرِّزْقِ. فَغَادَاهُمْ حُكَيْمُ بْنُ جَبَلَةَ وَهُوَ يَسُبُّ وَبِيَدِهِ الرُّمْحُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ: مَنْ هَذَا الَّذِي تَسُبُّهُ؟ قَالَ: عَائِشَةُ. قَالَ: يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ أَلِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ هَذَا؟ فَطَعَنَهُ حُكَيْمٌ فَقَتَلَهُ. ثُمَّ مَرَّ بِامْرَأَةٍ وَهُوَ يَسُبُّهَا أَيْضًا، فَقَالَتْ لَهُ: أَلِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ هَذَا يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ؟ فَطَعَنَهَا فَقَتَلَهَا. ثُمَّ سَارَ فَاقْتَتَلُوا بِدَارِ الرِّزْقِ قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى أَنْ زَالَ النَّهَارُ وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي أَصْحَابِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ وَكَثُرَ الْجِرَاحُ فِي الْفَرِيقَيْنِ. فَلَمَّا عَضَّتْهُمُ الْحَرْبُ تَنَادَوْا إِلَى الصُّلْحِ وَتَوَادَعُوا، فَكَتَبُوا بَيْنَهُمْ كِتَابًا عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا رَسُولًا إِلَى الْمَدِينَةِ يَسْأَلُ أَهْلَهَا، فَإِنْ كَانَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ أُكْرِهَا خَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ عَنِ الْبَصْرَةِ وَأَخْلَاهَا لَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا أُكْرِهَا خَرَجَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، وَكَتَبُوا بَيْنَهُمْ كِتَابًا بِذَلِكَ. وَسَارَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَسْأَلُهُمْ. فَلَمَّا قَدِمَهَا اجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ،

فَقَامَ وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، أَنَا رَسُولُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، نَسْأَلُكُمْ هَلْ أُكْرِهَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ عَلَى بَيْعَةِ عَلِيٍّ أَمْ أَتَيَاهَا طَائِعِينَ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَإِنَّهُ قَامَ وَقَالَ: أَنَّهُمَا بَايَعَا وَهُمَا مُكْرَهَانِ. فَأَمَرَ بِهِ تَمَّامُ بْنُ الْعَبَّاسِ، فَوَاثَبَهُ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٌ وَالنَّاسُ، وَثَارَ صُهَيْبٌ وَأَبُو أَيُّوبَ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ حِينَ خَافُوا أَنْ يُقْتَلَ أُسَامَةُ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَتَرَكُوهُ، وَأَخَذَ صُهَيْبٌ أُسَامَةَ بِيَدِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ وَقَالَ لَهُ: أَمَا وَسِعَكَ مَا وَسِعَنَا مِنَ السُّكُوتِ؟ قَالَ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا أَرَى. فَرَجَعَ كَعْبٌ وَبَلَغَ عَلِيًّا الْخَبَرُ، فَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ يُعْجِزُهُ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أُكْرِهَا عَلَى فُرْقَةٍ وَلَقَدْ أُكْرِهَا عَلَى جَمَاعَةٍ وَفَضْلٍ، فَإِنْ كَانَا يُرِيدَانِ الْخَلْعَ فَلَا عُذْرَ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَا يُرِيدَانِ غَيْرَ ذَلِكَ نَظَرْنَا وَنَظَرُوا. فَقِدَمَ الْكِتَابُ عَلَى عُثْمَانَ، وَقَدِمَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ، فَأَرْسَلُوا إِلَى عُثْمَانَ لِيَخْرُجَ، فَاحْتَجَّ بِالْكِتَابِ وَقَالَ: هَذَا أَمْرٌ آخَرُ غَيْرُ مَا كُنَّا فِيهِ. فَجَمَعَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ الرِّجَالَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ ذَاتِ رِيَاحٍ وَمَطَرٍ، ثُمَّ قَصَدَا الْمَسْجِدَ فَوَافَقَا صَلَاةَ الْعِشَاءِ، وَكَانُوا يُؤَخِّرُونَهَا، فَأَبْطَأَ عُثْمَانُ، فَقَدَّمَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَتَّابٍ، فَشَهَرَ الزُّطُّ وَالسَّيَابِجَةُ السِّلَاحَ ثُمَّ وَضَعُوهُ فِيهِمْ، فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ فَاقْتَتَلُوا فِي الْمَسْجِدِ فَقُتِلُوا، وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، فَأَدْخَلَا الرِّجَالَ عَلَى عُثْمَانَ فَأَخْرَجُوهُ إِلَيْهِمَا. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمَا [تَوَطَّؤُوهُ] وَمَا بَقِيَتْ فِي وَجْهِهِ شَعْرَةٌ فَاسْتَعْظَمَا ذَلِكَ وَأَرْسَلَا إِلَى عَائِشَةَ يُعْلِمَانِهَا الْخَبَرَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِمَا أَنْ خَلُّوا سَبِيلَهُ. وَقِيلَ: لَمَّا أُخِذَ عُثْمَانُ أَرْسَلُوا إِلَى عَائِشَةَ يَسْتَشِيرُونَهَا فِي أَمْرِهِ، فَقَالَتْ: اقْتُلُوهُ. فَقَالَتْ لَهَا امْرَأَةٌ: نَشَدْتُكِ اللَّهَ فِي عُثْمَانَ وَصُحْبَتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! فَقَالَتْ لَهُمْ: احْبِسُوهُ. فَقَالَ لَهُمْ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ: اضْرِبُوهُ وَأَنْتِفُوا لِحْيَتَهُ وَحَاجِبَيْهِ وَأَشْفَارَ عَيْنَيْهِ. فَضَرَبُوهُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَنَتَفُوا لِحْيَتَهُ وَحَاجِبَيْهِ وَأَشْفَارَ عَيْنَيْهِ وَحَبَسُوهُ ثُمَّ أَطْلَقُوهُ وَجَعَلُوا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَقَدْ قِيلَ فِي إِخْرَاجِ عُثْمَانَ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ عَائِشَةَ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ لَمَّا

قَدِمُوا الْبَصْرَةَ كَتَبَتْ عَائِشَةُ إِلَى زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ: مِنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ حَبِيبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى ابْنِهَا الْخَالِصِ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَاقْدُمْ فَانْصُرْنَا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَخَذِّلِ النَّاسَ عَنْ عَلِيٍّ. فَكَتَبَ إِلَيْهَا: أَمَّا بَعْدُ فَأَنَا ابْنُكِ الْخَالِصُ، لَئِنِ اعْتَزَلْتِ وَرَجَعْتِ إِلَى بَيْتِكِ، وَإِلَّا فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ نَابَذَكِ. وَقَالَ زَيْدٌ: رَحِمَ اللَّهُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! أُمِرَتْ أَنْ تَلْزَمَ بَيْتَهَا، وَأُمِرْنَا أَنْ نُقَاتِلَ، فَتَرَكَتْ مَا أُمِرَتْ وَأَمَرَتْنَا بِهِ، وَصَنَعَتْ مَا أُمِرْنَا بِهِ وَنَهَتْنَا عَنْهُ. وَكَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ عِنْدَ قُدُومِهَا عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ فَقَالَ لَهُمْ: مَا نَقَمْتُمْ عَلَى صَاحِبِكُمْ؟ فَقَالُوا: لَمْ نَرَهُ أَوْلَى بِهَا مِنَّا وَقَدْ صَنَعَ مَا صَنَعَ. قَالَ: فَإِنَّ الرَّجُلَ أَمَّرَنِي فَأَكْتُبُ إِلَيْهِ فَأُعْلِمُهُ مَا جِئْتُمْ بِهِ، عَلَى أَنْ أُصَلِّيَ أَنَا بِالنَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَنَا كِتَابُهُ. فَوَقَفُوا عَنْهُ، فَكَتَبَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً حَتَّى وَثَبُوا عَلَى عُثْمَانَ عِنْدَ مَدِينَةِ الرِّزْقِ، فَظَفِرُوا بِهِ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، ثُمَّ خَشُوا غَضَبَ الْأَنْصَارِ، فَنَتَفُوا شَعْرَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَحَاجِبَيْهِ وَضَرَبُوهُ وَحَبَسُوهُ. وَقَامَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ خَطِيبَيْنِ فَقَالَا: يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ تَوْبَةً لِحَوْبَةٍ، إِنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نَسْتَعْتِبَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، فَغَلَبَ السُّفَهَاءُ الْحُلَمَاءَ فَقَتَلُوهُ! فَقَالَ النَّاسُ لِطَلْحَةَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَدْ كَانَتْ كُتُبُكَ تَأْتِينَا بِغَيْرِ هَذَا. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنِّي كِتَابٌ فِي شَأْنِهِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ قَتْلَ عُثْمَانَ وَأَظْهَرَ عَيْبَ عَلِيٍّ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ أَنْصِتْ حَتَّى نَتَكَلَّمَ. فَأَنْصَتَ. فَقَالَ الْعَبْدِيُّ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ أَجَابَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ لَكُمْ بِذَلِكَ فَضْلٌ، ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا دَخَلْتُمْ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَايَعْتُمْ رَجُلًا مِنْكُمْ فَرَضِينَا وَسَلَّمْنَا، وَلَمْ تَسْتَأْمِرُونَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَجَعَلَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي إِمَارَتِهِ بَرَكَةً، ثُمَّ مَاتَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْكُمْ رَجُلًا فَلَمْ تُشَاوِرُونَا فِي ذَلِكَ فَرَضِينَا وَسَلَّمْنَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ جَعَلَ أَمْرَكُمْ إِلَى سِتَّةِ نَفَرٍ فَاخْتَرْتُمْ عُثْمَانَ وَبَايَعْتُمُوهُ عَنْ غَيْرِ مَشُورَتِنَا، ثُمَّ أَنْكَرْتُمْ مِنْهُ شَيْئًا فَقَتَلْتُمُوهُ عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَّا، ثُمَّ بَايَعْتُمْ عَلِيًّا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَّا، فَمَا الَّذِي نَقِمْتُمْ عَلَيْهِ فَنُقَاتِلُهُ؟ هَلِ اسْتَأْثَرَ بِفَيْءٍ، أَوْ عَمِلَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أَوْ أَتَى شَيْئًا تُنْكِرُونَهُ فَنَكُونُ مَعَكُمْ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَمَا هَذَا؟ فَهَمُّوا

بِقَتْلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَمَنَعَتْهُ عَشِيرَتُهُ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ وَثَبُوا عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعِينَ. وَبَقِيَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ بَعْدَ أَخْذِ عُثْمَانَ بِالْبَصْرَةِ وَمَعَهُمَا بَيْتُ الْمَالِ وَالْحَرَسُ وَالنَّاسُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا اسْتَتَرَ. وَبَلَغَ حُكَيْمَ بْنَ جَبَلَةَ مَا صُنِعَ بِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ فَقَالَ: لَسْتُ أَخَافُ اللَّهَ إِنْ لَمْ أَنْصُرْهُ! فَجَاءَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ رَبِيعَةَ، وَتَوَجَّهَ نَحْوَ دَارِ الرِّزْقِ، وَبِهَا طَعَامٌ أَرَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنْ يُرْزَقَهُ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: مَا لَكَ يَا حُكَيْمُ؟ قَالَ: نُرِيدُ أَنَّ نَرْتَزِقَ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ وَأَنْ تُخَلُّوا عُثْمَانَ، فَيُقِيمَ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ عَلَى مَا كَتَبْتُمْ بَيْنَكُمْ حَتَّى يَقَدَمَ عَلِيٌّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَجِدُ أَعْوَانًا عَلَيْكُمْ مَا رَضِيَتُ بِهَذِهِ مِنْكُمْ حَتَّى أَقْتُلَكُمْ بِمَنْ قَتَلْتُمْ، وَلَقَدْ أَصْبَحْتُمْ وَإِنَّ دِمَاءَكُمْ لَنَا لَحَلَالٌ بِمَنْ قَتَلْتُمْ، أَمَا تَخَافُونَ اللَّهَ؟ بِمَ تَسْتَحِلُّونَ الدَّمَ الْحَرَامَ؟ قَالَ: بِدَمِ عُثْمَانَ. قَالَ: فَالَّذِينَ قَتَلْتُمْ هُمْ قَتَلُوا عُثْمَانَ؟ ! أَمَا تَخَافُونَ مَقْتَ اللَّهِ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: لَا نَرْزُقُكُمْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ وَلَا نُخَلِّي سَبِيلَ عُثْمَانَ حَتَّى تَخْلَعَ عَلِيًّا. فَقَالَ حُكَيْمٌ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ حَكَمٌ عَدْلٌ فَاشْهَدْ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَسْتُ فِي شَكٍّ مِنْ قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَمَنْ كَانَ فِي شَكٍّ فَلْيَنْصَرِفْ. وَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَهُمْ. فَقَالَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَمَعَ لَنَا ثَأْرَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، اللَّهُمَّ لَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا! فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَمَعَ حُكَيْمٍ أَرْبَعَةُ قُوَّادٍ، فَكَانَ حُكَيْمٌ بِحِيَالِ طَلْحَةَ، وَذُرَيْحٌ بِحِيَالِ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ الْمُحْتَرِشِ بِحِيَالِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابٍ، وَحُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ بِحِيَالِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَرْثِ بْنِ هِشَامٍ، فَزَحْفَ طَلْحَةُ لِحُكَيْمٍ وَهُوَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، وَجَعَلَ حُكَيْمٌ يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَيَقُولُ: أَضْرِبُهُمْ بِالْيَابِسِ ضَرْبَ غُلَامٍ عَابِسِ ... مِنَ الْحَيَاةِ آيِسِ فِي الْغُرُفَاتِ نَافَسِ فَضَرَبَ رَجُلٌ رِجْلَهُ فَقَطَعَهَا، (فَحَبَا حَتَّى) أَخَذَهَا فَرَمَى بِهَا صَاحِبَهُ فَصَرَعَهُ وَأَتَاهُ فَقَتَلَهُ ثُمَّ اتَّكَأَ عَلَيْهِ وَقَالَ:

يَا سَاقِي لَنْ تُرَاعِي ... إِنَّ مَعِي ذِرَاعِي أَحْمِي بِهَا كُرَاعِي وَقَالَ أَيْضًا: لَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أَمُوتَ عَارُ ... وَالْعَارُ فِي النَّاسِ هُوَ الْفِرَارُ وَالْمَجْدُ لَا يَفْضَحُهُ الدَّمَارُ فَأَتَى عَلَيْهِ رَجُلٌ وَهُوَ رَثِيثٌ، رَأْسُهُ عَلَى آخَرَ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا حُكَيْمُ؟ قَالَ: قُتِلْتُ. قَالَ: مَنْ قَتَلَكَ؟ قَالَ: وِسَادَتِي. فَاحْتَمَلَهُ وَضَمَّهُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَتَكَلَّمَ يَوْمَئِذٍ حُكَيْمٌ وَإِنَّهُ لَقَائِمٌ عَلَى رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ السُّيُوفَ لَتَأْخُذُهُمْ وَمَا يَتَتَعْتَعُ وَيَقُولُ: إِنَّا خَلَّفْنَا هَذَيْنِ، وَقَدْ بَايَعَا عَلِيًّا وَأَعْطَيَاهُ الطَّاعَةَ ثُمَّ أَقْبَلَا مُخَالِفَيْنِ مُحَارِبَيْنِ يَطْلُبَانِ بِدَمِ عُثْمَانَ، فَفَرَّقَا بَيْنَنَا، وَنَحْنُ أَهْلُ دَارٍ وَجِوَارٍ، اللَّهُمَّ أَنَّهُمَا لَمْ يُرِيدَا عُثْمَانَ! فَنَادَاهُ مُنَادٍ: يَا خَبِيثُ! جَزِعْتَ حِينَ عَضَّكَ نَكَالُ اللَّهِ إِلَى الْكَلَامِ مِنْ نَصْبِكَ وَأَصْحَابِكَ بِمَا رَكِبْتُمْ مِنَ الْإِمَامِ الْمَظْلُومِ وَفَرَّقْتُمْ مِنَ الْجَمَاعَةِ وَأَصَبْتُمْ مِنَ الدِّمَاءِ، فَذُقْ وَبَالَ اللَّهِ وَانْتِقَامَهُ. وَقُتِلُوا وَقُتِلَ مَعَهُمْ، قَتَلَهَ يَزِيدُ بْنُ الْأَسْحَمِ الْحُدَّانِيُّ، فَوُجِدَ حُكَيْمٌ قَتِيلًا بَيْنَ يَزِيدَ وَأَخِيهِ كَعْبٍ. وَقِيلَ: قَتَلَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ضُخَيْمٌ، وَقُتِلَ مَعَهُ ابْنُهُ الْأَشْرَفُ وَأَخُوهُ الرِّعْلُ بْنُ جَبَلَةَ. وَلَمَّا قُتِلَ حُكَيْمٌ أَرَادُوا قَتْلَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ فَقَالَ لَهُمْ: أَمَا إِنَّ سَهْلًا بِالْمَدِينَةِ، فَإِنْ قَتَلْتُمُونِي انْتَصَرَ، فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَقَصَدَ عَلِيًّا. وَقُتِلَ ذُرَيْحٌ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَفْلَتَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَجَأُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَنَادَى مُنَادِي طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ: مَنْ كَانَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِمَّنْ غَزَا الْمَدِينَةَ فَلْيَأْتِنَا بِهِمْ، فَجِيءَ بِهِمْ فَقُتِلُوا، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ، فَإِنَّ عَشِيرَتَهُ بَنِي سَعْدٍ مَنَعُوهُ، وَكَانَ مِنْهُمْ، فَنَالَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ شَدِيدٌ، وَضَرَبُوا فِيهِ أَجَلًا وَخَشَّنُوا صُدُورَ بَنِي سَعِدٍ، وَكَانُوا عُثْمَانِيَّةً، فَاعْتَزَلُوا، وَغَضِبَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ حِينَ غَضِبَتْ سَعْدٌ لِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْوَقْعَةِ وَمَنْ كَانَ هَرَبَ إِلَيْهِمْ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ لُزُومِ

الطَّاعَةِ لِعَلِيٍّ، فَأَمَرَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ لِلنَّاسِ بِأُعْطِيَّاتِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ، وَفَضَّلَا أَهْلَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَخَرَجَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ وَكَثِيرٌ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ حِينَ مَنَعُوهُمُ الْفُضُولَ، فَبَادَرُوهُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَأَكَبَّ عَلَيْهِمُ النَّاسُ، فَأَصَابُوا مِنْهُمْ، وَخَرَجُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى طَرِيقِ عَلِيٍّ. وَأَقَامَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا ثَأْرٌ إِلَّا حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ، وَكَتَبُوا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ بِمَا صَنَعُوا وَصَارُوا إِلَيْهِ، وَكَتَبَتْ عَائِشَةُ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ، وَتَأْمُرُهُمْ أَنْ يُثَبِّطُوا النَّاسَ عَنْ عَلِيٍّ، وَتَحُثُّهُمْ عَلَى طَلَبِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، وَكَتَبَتْ إِلَى أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَإِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ أَيْضًا، وَسَيَّرَتِ الْكُتُبَ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. وَبَايَعَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ، فَلَمَّا بَايَعُوهُمَا قَالَ الزُّبَيْرُ: أَلَا أَلْفُ فَارِسٍ أَسِيرُ بِهِمْ إِلَى عَلِيٍّ، أَقْتُلُهُ بَيَاتًا أَوْ صَبَاحًا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْنَا! فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ لَلْفِتْنَةُ الَّتِي كُنَّا نُحَدَّثُ عَنْهَا. فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: أَتُسَمِّيهَا فِتْنَةً وَتُقَاتِلُ فِيهَا؟ قَالَ: وَيْلَكَ! إِنَّا نُبَصَّرُ وَلَا نُبْصِرُ، مَا كَانَ أَمْرٌ قَطُّ إِلَّا وَإِنَّا أَعْلَمُ مَوْضِعَ قَدَمِي فِيهِ، غَيْرَ هَذَا الْأَمْرِ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي أَمُقْبِلٌ أَنَا فِيهِ أَمْ مُدْبِرٌ! وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ اللِّيثِيُّ: لَمَّا خَرَجَ طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَائِشَةُ، رَأَيْتُ طَلْحَةَ وَأَحَبُّ الْمَجَالِسِ إِلَيْهِ أَخْلَاهَا وَهُوَ ضَارِبٌ بِلِحْيَتِهِ عَلَى صَدْرِهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَرَى أَحَبَّ الْمَجَالِسِ إِلَيْكَ أَخْلَاهَا وَأَنْتَ ضَارِبٌ بِلِحْيَتِكَ عَلَى صَدْرِكَ، إِنْ كَرِهْتَ شَيِئًا فَاجْلِسْ. قَالَ: فَقَالَ لِي: يَا عَلْقَمَةُ بَيْنَا نَحْنُ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ سِوَانَا إِذْ صِرْنَا جَبَلَيْنِ مِنْ حَدِيدٍ يَطْلُبُ بَعْضُنَا بَعْضًا، إِنَّهُ كَانَ مِنِّي فِي عُثْمَانَ شَيْءٌ لَيْسَ تَوْبَتِي إِلَّا أَنْ يُسْفَكَ دَمِي فِي طَلَبِ دَمِهِ. قَالَ: فَقُلْتُ: فَرُدَّ ابْنَكَ مُحَمَّدًا، فَإِنَّ لَكَ ضَيْعَةً وَعِيَالًا، فَإِنْ يَكُ شَيْءٌ يَخْلُفْكَ. قَالَ: فَامْنَعْهُ. قَالَ: فَأَتَيْتُ مُحَمَّدًا ابْنَهُ فَقُلْتُ لَهُ: لَوْ أَقَمْتَ فَإِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ كُنْتَ تَخْلُفُهُ فِي عِيَالِهِ وَضَيْعَتِهِ. قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أَسْأَلَ عَنْهُ الرُّكْبَانَ. (يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَسُكُونِ النُّونِ، وَالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا، وَهِيَ

أُمُّهُ، وَاسْمُ أَبِيهِ أُمَيَّةُ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَسِيدٍ. جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ بِالْجِيمِ. حُكَيْمُ بْنُ جَبَلَةَ بِضَمِّ الْحَاءِ، وَفَتْحِ الْكَافِ، وَقِيلَ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَكَسْرِ الْكَافِ. وَصُوحَانُ بِضَمِّ الصَّادِ، وَآخِرُهُ نُونٌ) . ذكر مَسِيرِ عَلِيٍّ إِلَى الْبَصْرَةِ وَالْوَقْعَةِ قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ تَجَهُّزَ عَلِيٍّ إِلَى الشَّامِ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ أَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ مِنْ مَكَّةَ بِمَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ دَعَا وُجُوهَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَخَطَبَهُمْ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ آخِرَ هَذَا الْأَمْرِ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِمَا صَلَحَ [بِهِ] أَوَّلُهُ، فَانْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُصْلِحْ لَكُمْ أَمْرَكُمْ. فَتَثَاقَلُوا، فَلَمَّا رَأَى زِيَادُ بْنُ حَنْظَلَةَ تَثَاقُلَ النَّاسِ انْتَدَبَ إِلَى عَلِيٍّ وَقَالَ لَهُ: مَنْ تَثَاقَلَ عَنْكَ فَإِنَّا نَخَفُّ مَعَكَ فَنُقَاتِلُ دُونَكَ. وَقَامَ رَجُلَانِ صَالِحَانِ مِنْ أَعْلَامِ الْأَنْصَارِ، أَحَدُهُمَا أَبُو الْهَيْثَمِ ابْنُ التَّيِّهَانِ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ، وَالثَّانِي خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَقِيلَ: [هُوَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ] ، وَقَالَ الْحَكَمُ: لَيْسَ بِذِي الشَّهَادَتَيْنِ، مَاتَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ أَيَّامَ عُثْمَانَ، فَأَجَابَهُ إِلَى نُصْرَتِهِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا نَهَضَ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ إِلَّا سِتَّةُ نَفَرٍ بَدْرِيُّونَ مَا لَهُمْ سَابِعٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ: مَا اجْتَمَعَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَيْرٍ يَعْلَمُونَهُ إِلَّا وَعَلِيٌّ أَحَدُهُمْ. قِيلَ: وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ لَعَلِّيٍّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَلَّدَنِي هَذَا السَّيْفَ وَقَدْ أَغْمَدْتُهُ زَمَانًا، وَقَدْ حَانَ تَجْرِيدُهُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ [لَا] يَأْلُونَ الْأُمَّةَ غِشًّا، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ تُقَدِّمَنِي فَقَدِّمْنِي. وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْلَا أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ وَأَنَّكَ لَا تَقْبَلُهُ مِنِّي لَخَرَجْتُ مَعَكَ، وَهَذَا ابْنُ عَمِّي، وَهُوَ وَاللَّهِ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَفْسِي، يَخْرُجُ مَعَكَ وَيَشْهَدُ مَشَاهِدَكَ. فَخَرَجَ مَعَهُ وَهُوَ لَمْ يَزَلْ مَعَهُ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلِيٌّ عَلَى الْبَحْرِينِ، ثُمَّ عَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ النُّعْمَانَ بْنَ عَجْلَانَ الزُّرَقِيَّ. فَلَمَّا أَرَادَ عَلِيٌّ الْمَسِيرَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَكَانَ يَرْجُو أَنْ يُدْرِكَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ فَيَرُدَّهُمَا قَبْلَ وُصُولِهِمَا إِلَى الْبَصْرَةِ، أَوْ يُوقِعَ بِهِمَا، فَلَمَّا سَارَ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ تَمَّامَ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَعَلَى مَكَّةَ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ،

وَقِيلَ: أَمَّرَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ. وَسَارَ عَلِيٌّ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي تَعْبِيَتِهِ الَّتِي تَعَبَّاهَا لِأَهْلِ الشَّامِ آخِرَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، فَقَالَتْ أُخْتُ عَلِيِّ بْنِ عَدِيٍّ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ: لَاهُمَّ فَاعْقِرْ بِعَلِيٍّ جَمَلَهْ ... وَلَا تُبَارِكْ فِي بَعِيرٍ حَمَلَهْ أَلَا عَلِيُّ بْنُ عَدِيٍّ لَيْسَ لَهْ وَخَرَجَ مَعَهُ مَنْ نَشِطَ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ مُتَخَفِّفِينَ فِي تِسْعِمِائَةٍ، وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يُدْرِكَهُمْ فَيَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخُرُوجِ أَوْ يَأْخُذَهُمْ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَأَخَذَ بِعِنَانِهِ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَخْرُجْ مِنْهَا، فَوَاللَّهِ إِنْ خَرَجْتَ مِنْهَا لَا يَعُودُ إِلَيْهَا سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ أَبَدًا! فَسَبُّوهُ. فَقَالَ: دَعُوا الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَسَارَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الرَّبَذَةِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا أَتَاهُ خَبَرُ سَبْقِهِمْ، فَأَقَامَ بِهَا يَأْتَمِرُ مَا يَفْعَلُ، وَأَتَاهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ أَمَرْتُكَ فَعَصَيْتَنِي فَتُقْتَلُ غَدًا بِمَضْيَعَةٍ لَا نَاصِرَ لَكَ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّكَ لَا تَزَالُ تَخِنُّ خَنِينَ الْجَارِيَةِ، وَمَا الَّذِي أَمَرْتَنِي فَعَصَيْتُكَ؟ قَالَ: أَمَرْتُكَ يَوْمَ أُحِيطَ بِعُثْمَانَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَيُقْتَلُ وَلَسْتَ بِهَا، ثُمَّ أَمَرَتُكَ يَوْمَ قُتِلَ أَنْ لَا تُبَايِعَ حَتَّى تَأْتِيَكَ وُفُودُ الْعَرَبِ وَبَيْعَةُ أَهْلِ كُلِّ مِصْرَ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَقْطَعُوا أَمْرًا دُونَكَ، فَأَبَيْتَ عَلَيَّ، وَأَمَرْتُكَ حِينَ خَرَجَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ وَهَذَانِ الرَّجُلَانِ أَنْ تَجْلِسَ فِي بَيْتِكَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا فَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ كَانَ عَلَى يَدِ غَيْرِكَ، فَعَصَيْتَنِي فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. فَقَالَ أَيْ بُنَيَّ! أَمَّا قَوْلُكَ: لَوْ خَرَجْتَ مِنَ الْمَدِينَةِ حِينَ أُحِيطَ بِعُثْمَانَ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ أُحِيطَ بِنَا كَمَا أُحِيطَ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُكَ: لَا تُبَايِعْ حَتَّى يُبَايِعَ أَهْلُ الْأَمْصَارِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ أَمْرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، (وَكَرِهْنَا أَنْ يَضِيعَ هَذَا الْأَمْرُ، وَلَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أَرَى أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنِّي، فَبَايَعَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَبَايَعْتُهُ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ (انْتَقَلَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ) وَمَا أَرَى أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنِّي، فَبَايَعَ النَّاسُ عُمَرَ فَبَايَعْتُهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ (انْتَقَلَ إِلَى رَحْمَةِ

اللَّهِ) وَمَا أَرَى أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنِّي، فَجَعَلَنِي سَهْمًا مِنْ سِتَّةِ أَسْهُمٍ، فَبَايَعَ النَّاسُ عُثْمَانَ فَبَايَعْتُهُ، ثُمَّ سَارَ النَّاسُ إِلَى عُثْمَانَ فَقَتَلُوهُ وَبَايَعُونِي طَائِعِينَ غَيْرَ مُكْرَهِينَ، فَأَنَا مُقَاتِلٌ مَنْ خَالَفَنِي بِمَنْ أَطَاعَنِي حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) . وَأَمَّا قَوْلُكَ أَنْ أَجْلِسَ فِي بَيْتِي حِينَ خَرَجَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَكَيْفَ لِي بِمَا قَدْ لَزِمَنِي أَوَمَنْ تُرِيدُنِي؟ أَتُرِيدُنِي أَنْ أَكُونَ كَالضَّبُعِ الَّتِي يُحَاطُ بِهَا وَيُقَالُ لَيْسَتْ هَاهُنَا حَتَّى يُحَلَّ عُرْقُوبَاهَا حَتَّى تَخْرُجَ! وَإِذَا لَمْ أَنْظُرُ فِيمَا يَلْزَمُنِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ وَيَعْنِينِي فَمَنْ يَنْظُرُ فِيهِ؟ فَكُفَّ عَنْكَ يَا بُنَيَّ. وَلَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ الرَّبَذَةَ وَسَمِعَ بِهَا خَبَرَ الْقَوْمِ أَرْسَلَ مِنْهَا إِلَى الْكُوفَةِ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَمُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ: إِنِّي اخْتَرْتُكُمْ عَلَى الْأَمْصَارِ وَفَزِعْتُ إِلَيْكُمْ لِمَا حَدَثَ، فَكُونُوا لِدِينِ اللَّهِ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا وَانْهَضُوا إِلَيْنَا، فَالْإِصْلَاحَ نُرِيدُ ; لِتَعُودَ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِخْوَانًا. فَمَضَيَا وَبَقِيَ عَلِيٌّ بِالرَّبَذَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتَاهُ مَا يُرِيدُهُ مِنْ دَابَّةٍ وَسِلَاحٍ، وَأَمَرَ أَمْرَهُ، وَقَامَ فِي النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَعَزَّنَا بِالْإِسْلَامِ وَرَفَعَنَا بِهِ، وَجَعَلَنَا بِهِ إِخْوَانًا بَعْدَ ذِلَّةٍ وَقِلَّةٍ وَتَبَاغُضٍ وَتَبَاعُدٍ، فَجَرَى النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، الْإِسْلَامُ دِينُهُمْ، وَالْحَقُّ فِيهِمْ، وَالْكِتَابُ إِمَامُهُمْ، حَتَّى أُصِيبَ هَذَا الرَّجُلُ بِأَيْدِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَزَغَهُمُ الشَّيْطَانُ لِيَنْزَغَ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ! أَلَا إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا بُدَّ مُفْتَرِقَةٌ كَمَا افْتَرَقَتِ الْأُمَمُ قَبْلَهَا، فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ مَا هُوَ كَائِنٌ، (ثُمَّ عَادَ ثَانِيَةً وَقَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ) أَنْ يَكُونَ، أَلَا وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، شَرُّهَا فِرْقَةٌ تَنْتَحِلُنِي وَلَا تَعْمَلُ بِعَمَلِي، وَقَدْ أَدْرَكْتُمْ وَرَأَيْتُمْ، فَالْزَمُوا دِينَكُمْ، وَاهْدُوا بِهَدْيِي، فَإِنَّهُ هَدْيُ نَبِيِّكُمْ، وَاتَّبِعُوا سُنَّتَهُ، وَأَعْرِضُوا عَمَّا أُشْكِلَ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَعْرِضُوهُ عَلَى الْقُرْآنِ، فَمَا عَرَفَهُ الْقُرْآنُ فَالْزَمُوهُ، وَمَا أَنْكَرَهُ فَرُدُّوهُ، وَارْضُوا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ حَكَمًا وَإِمَامًا. فَلَمَّا أَرَادَ الْمَسِيرَ مِنَ الرَّبَذَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ قَامَ إِلَيْهِ ابْنٌ لِرِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ وَأَيْنَ تَذْهَبُ بِنَا؟ فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي نُرِيدُ وَنَنْوِي فَالْإِصْلَاحُ إِنْ قَبِلُوا

مِنَّا وَأَجَابُونَا إِلَيْهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يُجِيبُونَا إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَدَعُهُمْ بِعُذْرِهِمْ وَنُعْطِيهِمُ الْحَقَّ وَنَصْبِرُ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا؟ قَالَ: نَدَعُهُمْ مَا تَرَكُونَا. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُونَا؟ قَالَ: امْتَنَعْنَا مِنْهُمْ. قَالَ: فَنَعَمْ إَذًا. وَقَامَ الْحَجَّاجُ بْنُ غَزِيَّةَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: لَأُرْضِيَنَّكَ بِالْفِعْلِ كَمَا أَرْضَيْتَنِي بِالْقَوْلِ، وَقَالَ: دَرَاكِهَا دَرَاكِهَا قَبْلَ الْفَوْتْ ... فَانْفِرْ بِنَا وَاسْمُ بِنَا نَحْوَ الصَّوْتْ لَا وَأَلَتْ نَفْسِي إِنْ كَرِهْتُ الْمَوْتْ ... وَاللَّهِ لَنَنْصُرَنَّ اللَّهَ كَمَا سَمَّانَا أَنْصَارًا ! ثُمَّ أَتَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ طَيِّءٍ وَهُوَ بِالرَّبَذَةِ، فَقِيلَ لَعَلِيٍّ: هَذِهِ جَمَاعَةٌ قَدْ أَتَتْكَ، مِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ الْخُرُوجَ مَعَكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ التَّسْلِيمَ عَلَيْكَ. قَالَ: جَزَى اللَّهُ كِلَيْهِمَا خَيْرًا، {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] . فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: مَا شَهِدْتُمُونَا بِهِ؟ قَالُوا: شَهِدْنَاكَ بِكُلِّ مَا تُحِبُّ. فَقَالَ: جَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ أَسْلَمْتُمْ طَائِعِينَ، وَقَاتَلْتُمُ الْمُرْتَدِّينَ، وَوَافَيْتُمْ بِصَدَقَاتِكُمُ الْمُسْلِمِينَ. فَنَهَضَ سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّائِيُّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعَبِّرُ لِسَانُهُ عَمَّا فِي قَلْبِهِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِسَانِي يُعَبِّرُ عَمَّا فِي قَلْبِي، وَسَأَجْهَدُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، أَمَّا أَنَا فَسَأَنْصَحُ لَكَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَأُقَاتِلُ عَدُوَّكَ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ، وَأَرَى مِنَ الْحَقِّ لَكَ مَا لَا أَرَاهُ لِأَحَدٍ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِكَ لِفَضْلِكَ وَقَرَابَتِكَ. فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ! قَدْ أَدَّى لِسَانُكَ عَمَّا يَجِنُّ ضَمِيرُكَ. فَقُتِلَ مَعَهُ بِصِفِّينِ. وَسَارَ عَلِيٌّ مِنَ الرَّبَذَةِ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَبُو لَيْلَى بْنُ عُمَرَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَالرَّايَةُ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلِيٌّ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ يَقُودُ فَرَسًا كُمَيْتًا. فَلَمَّا نَزَلَ بِفَيْدَ أَتَتْهُ أَسَدٌ وَطَيِّءٌ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمْ، فَقَالَ: الْزَمُوا قَرَارَكُمْ، فِي الْمُهَاجِرِينَ كِفَايَةٌ. وَأَتَاهُ رَجُلٌ بِفَيْدَ مِنَ الْكُوفَةِ، فَقَالَ لَهُ: مَنِ الرَّجُلُ؟ قَالَ: عَامِرُ بْنُ مَطَرٍ

الشَّيْبَانِيُّ. قَالَ: أَخْبِرْ عَمَّا وَرَاءَكَ. فَأَخْبَرَهُ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: إِنْ أَرَدْتَ الصُّلْحَ فَأَبُو مُوسَى صَاحِبُهُ، وَإِنْ أَرَدْتَ الْقِتَالَ فَلَيْسَ بِصَاحِبِهِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ مَا أُرِيدَ إِلَّا الصُّلْحَ حَتَّى يُرَدَّ عَلَيْنَا. وَلَمَّا نَزَلَ عَلِيٌّ الثَّعْلَبِيَّةَ أَتَاهُ الَّذِي لَقِيَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ وَحَرَسَهُ، فَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ عَافِنِي مِمَّا ابْتَلَيْتَ بِهِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْإِسَادِ أَتَاهُ مَا لَقِيَ حُكَيْمُ بْنُ جَبَلَةَ وَقَتَلَةُ عُثْمَانَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ! مَا يُنْجِينِي مِنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ إِنْ أَصَابَا ثَأْرَهُمَا! وَقَالَ: دَعَا حُكَيْمٌ دَعْوَةَ الزِّمَاعِ ... حَلَّ بِهَا مَنْزِلَةَ النِّزَاعِ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى ذِي قَارٍ، أَتَاهُ فِيهَا عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ شَعْرَةٌ، وَقِيلَ: أَتَاهُ بِالرَّبَذَةِ، وَكَانُوا قَدْ نَتَفُوا شَعْرَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ - عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ - فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعَثْتَنِي ذَا لِحْيَةٍ وَقَدْ جِئْتُكَ أَمَرَدَ. فَقَالَ: أَصَبْتَ أَجْرًا وَخَيْرًا، إِنَّ النَّاسَ وَلِيَهُمْ قَبْلِي رَجُلَانِ، فَعَمِلَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ وَلِيَهُمْ ثَالِثٌ فَقَالُوا وَفَعَلُوا، ثُمَّ بَايَعُونِي وَبَايَعَنِي طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَكَثَا بَيْعَتِي وَأَلَّبَا النَّاسَ عَلَيَّ، وَمِنَ الْعَجَبِ انْقِيَادُهُمَا لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَخِلَافُهُمَا عَلَيَّ، وَاللَّهِ إِنَّهُمَا لَيَعْلَمَانِ أَنِّي لَسْتُ بِدُونِ رَجُلٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ، اللَّهُمَّ فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا وَلَا تُبْرِمْ مَا أَحْكَمَا فِي أَنْفُسِهِمَا، وَأَرِهِمَا الْمُسَاءَةَ فِيمَا قَدْ عَمِلَا! وَأَقَامَ بِذِي قَارٍ يَنْتَظِرُ مُحَمَّدًا وَمُحَمَّدًا، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِمَا لَقِيَتْ رَبِيعَةُ وَخُرُوجِ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَالَ: عَبْدُ الْقَيْسِ خَيْرُ رَبِيعَةَ، وَفِي كُلِّ رَبِيعَةَ خَيْرٌ، وَقَالَ: يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى رَبِيعِهْ ... رَبِيعَةَ السَّامِعَةِ الْمُطِيعَهْ قَدْ سَبَقَتْنِي فِيهِمُ الْوَقِيعَهْ ... دَعَا عَلِيٌّ دَعْوَةً سَمِيعَهْ حَلُّوا بِهَا الْمَنْزِلَةَ الرَّفِيعَهْ

وَعَرَضَتْ عَلَيْهِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ، فَقَالَ لَهَا مَا قَالَ لِطَيِّءٍ وَأَسَدٍ. وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ فَأَتَيَا أَبَا مُوسَى بِكِتَابِ عَلِيٍّ، وَقَامَا فِي النَّاسِ بِأَمْرِهِ، فَلَمْ يُجَابَا إِلَى شَيْءٍ. فَلَمَّا أَمْسَوْا دَخْلَ نَاسٌ مَنْ أَهْلِ الْحِجَى عَلَى أَبِي مُوسَى فَقَالُوا: مَا تَرَى فِي الْخُرُوجِ؟ فَقَالَ: كَانَ الرَّأْيُ بِالْأَمْسِ لَيْسَ الْيَوْمَ، إِنَّ الَّذِي تَهَاوَنْتُمْ [بِهِ] فِيمَا مَضَى هُوَ الَّذِي جَرَّ عَلَيْكُمْ مَا تَرَوْنَ، إِنَّمَا هُمَا أَمْرَانِ: الْقُعُودُ سَبِيلُ الْآخِرَةِ، وَالْخُرُوجُ سَبِيلُ الدُّنْيَا، فَاخْتَارُوا. فَلَمْ يَنْفِرْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَغَضِبَ مُحَمَّدٌ وَمُحَمَّدٌ، وَأَغْلَظَا لِأَبِي مُوسَى. فَقَالَ لَهُمَا: وَاللَّهِ إِنَّ بَيْعَةَ عُثْمَانَ لَفِي عُنُقِي وَعُنُقِ صَاحِبِكُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قِتَالٍ لَا نُقَاتِلُ أَحَدًا حَتَّى نَفْرَغَ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ حَيْثُ كَانُوا. فَانْطَلَقَا إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ وَهُوَ بِذِي قَارٍ، فَقَالَ لِلْأَشْتَرِ، وَكَانَ مَعَهُ: أَنْتَ صَاحِبُنَا فِي أَبِي مُوسَى وَالْمُعْتَرِضُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، اذْهَبْ أَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَأَصْلِحْ مَا أَفْسَدْتَ. فَخَرَجَا فَقَدِمَا الْكُوفَةَ، فَكَلَّمَا أَبَا مُوسَى، وَاسْتَعَانَا عَلَيْهِ بِنَفَرٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَامَ لَهُمْ أَبُو مُوسَى وَخَطَبَهُمْ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ صَحِبُوهُ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مِمَّنْ لَمْ يَصْحَبْهُ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا لَحَقًّا، وَأَنَا مُؤَدٍّ إِلَيْكُمْ نَصِيحَةً، كَانَ الرَّأْيُ أَنْ لَا تَسْتَخِفُّوا بِسُلْطَانِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا تَجْتَرِئُوا عَلَى اللَّهِ، وَأَنْ تَأْخُذُوا مَنْ قَدِمَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ فَتَرُدُّوهُمْ إِلَيْهَا حَتَّى يَجْتَمِعُوا، فَهُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ تَصْلُحُ لَهُ الْإِمَامَةُ، وَهَذِهِ فِتْنَةٌ صَمَّاءُ، النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْيَقْظَانِ، وَالْيَقِظَانُ خَيْرٌ مِنَ الْقَاعِدِ، وَالْقَاعِدُ خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الرَّاكِبِ، وَالرَّاكِبُ خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَكُونُوا جُرْثُومَةً مِنْ جَرَاثِيمِ الْعَرَبِ، فَأَغْمِدُوا السُّيُوفَ، وَانْصِلُوا الْأَسِنَّةَ، وَاقْطَعُوا الْأَوْتَارَ، وَآوُوا الْمَظْلُومَ وَالْمُضْطَهَدَ، حَتَّى يَلْتَئِمَ هَذَا الْأَمْرُ، وَتَنْجَلِيَ هَذِهِ الْفِتْنَةُ. فَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَشْتَرُ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ، فَأَرْسَلَ ابْنَهُ الْحَسَنَ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَقَالَ لِعَمَّارٍ: انْطَلَقْ فَأَصْلِحْ مَا أَفْسَدْتَ. فَأَقْبَلَا حَتَّى دَخَلَا الْمَسْجِدَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَتَاهُمَا الْمَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَّارٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ عَلَامَ قَتَلْتُمْ عُثْمَانَ؟ قَالَ: عَلَى شَتْمِ أَعْرَاضِنَا وَضَرْبِ أَبْشَارِنَا. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا عَاقَبْتُمْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَكَانَ خَيْرًا لِلصَّابِرِينَ. فَخَرَجَ أَبُو مُوسَى فَلَقِيَ الْحَسَنَ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَّارٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ أَعَدَوْتَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَنْ عَدَا،

فَأَحْلَلْتَ نَفْسَكَ مَعَ الْفُجَّارِ؟ فَقَالَ: لَمْ أَفْعَلْ وَلَمْ يَسُؤْنِي. فَقَطَعَ الْحَسَنُ عَلَيْهِمَا الْكَلَامَ، وَأَقْبَلَ عَلَى أَبِي مُوسَى فَقَالَ لَهُ: لِمَ تُثَبِّطِ النَّاسَ عَنَّا؟ فَوَاللَّهِ مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْإِصْلَاحَ، وَلَا مِثْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يُخَافُ عَلَى شَيْءٍ. فَقَالَ: صَدَقْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، وَلَكِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ الرَّاكِبِ» ". وَقَدْ جَعَلَنَا اللَّهُ إِخْوَانًا، وَقَدْ حَرَّمَ عَلَيْنَا دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا. فَغَضِبَ عَمَّارٌ وَسَبَّهُ وَقَامَ وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا قَالَ لَهُ وَحْدَهُ: أَنْتَ فِيهَا قَاعِدًا خَيْرٌ مِنْكَ قَائِمًا. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَسَبَّ عَمَّارًا وَقَالَ: أَنْتَ أَمْسِ مَعَ الْغَوْغَاءِ وَالْيَوْمَ تُسَافِهُ أَمِيرَنَا! وَثَارَ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ وَطَبَقَتُهُ، وَثَارَ النَّاسُ، وَجَعَلَ أَبُو مُوسَى يُكَفْكِفُ النَّاسَ، وَوَقَفَ زَيْدٌ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ كِتَابٌ إِلَيْهِ مِنْ عَائِشَةَ تَأْمُرُهُ فِيهِ بِمُلَازَمَةِ بَيْتِهِ أَوْ نُصْرَتِهَا، وَكِتَابٌ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ بِمَعْنَاهُ، فَأَخْرَجَهُمَا فَقَرَأَهُمَا عَلَى النَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُمَا قَالَ: أُمِرَتْ أَنْ تَقَرَّ فِي بَيْتِهَا، وَأُمِرْنَا أَنْ نُقَاتِلَ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، فَأَمَرَتْنَا بِمَا أُمِرَتْ بِهِ وَرَكِبَتْ مَا أُمِرْنَا بِهِ. فَقَالَ لَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ: يَا عُمَانِيُّ لِأَنَّهُ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ وَهُمْ يَسْكُنُونَ عُمَانَ سَرَقْتَ بِجَلُولَاءَ فَقُطِعَتْ يَدُكَ، وَعَصَيْتَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! وَتَهَاوَى النَّاسُ. وَقَامَ أَبُو مُوسَى وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَطِيعُونِي وَكُونُوا جُرْثُومَةً مِنْ جَرَاثِيمِ الْعَرَبِ يَأْوِي إِلَيْكُمُ الْمَظْلُومُ، وَيَأْمَنُ فِيكُمُ الْخَائِفُ، إِنَّ الْفِتْنَةَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ فَإِذَا أَدْبَرَتْ بَيَّنَتْ، وَإِنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ فَاقِرَةٌ كَدَاءِ الْبَطْنِ تَجْرِي بِهَا الشَّمَالُ وَالْجَنُوبُ وَالصَّبَا وَالدَّبُورُ، تَذَرُ الْحَلِيمَ وَهُوَ حَيْرَانُ كَابْنِ أَمْسِ، شِيمُوا سُيُوفَكُمْ، وَقَصِّدُوا رِمَاحَكُمْ، وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ، وَالْزَمُوا بُيُوتَكُمْ، خَلُّوا قُرَيْشًا إِذَا أَبَوْا إِلَّا الْخُرُوجَ مِنْ دَارِ الْهِجْرَةِ وَفِرَاقَ أَهْلِ عِلْمٍ بِالْأُمَرَاءِ، اسْتَنْصِحُونِي وَلَا تَسْتَغِشُّونِي، أَطِيعُونِي يَسْلَمْ لَكُمْ دِينُكُمْ وَدُنْيَاكُمْ، وَيَشْقَى بِحَرِّ هَذِهِ الْفِتْنَةِ مَنْ جَنَاهَا. فَقَامَ زَيْدٌ فَشَالَ يَدَهُ الْمَقْطُوعَةَ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ رُدَّ الْفُرَاتَ عَلَى أَدْرَاجِهِ، ارْدُدْهُ مِنْ حَيْثُ يَجِيءُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ، فَإِنْ قَدَرْتَ عَلَى ذَلِكَ فَسَتَقْدِرُ عَلَى مَا تُرِيدُ،

فَدَعْ عَنْكَ مَا لَسْتَ مُدْرِكَهُ! سِيرُوا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَسَيِّدِ الْمُسْلِمِينَ، انْفَرُوا إِلَيْهِ أَجْمَعِينَ تُصِيبُوا الْحَقَّ. فَقَامَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: إِنِّي لَكُمْ نَاصِحٌ وَعَلَيْكُمْ شَفِيقٌ، أُحِبُّ لَكُمْ أَنْ تَرْشُدُوا، وَلَأَقُولَنَّ لَكُمْ قَوْلًا هُوَ الْحَقُّ، (أَمَّا مَا قَالَ الْأَمِيرُ فَهُوَ الْحَقُّ) لَوْ أَنَّ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَأَمَّا مَا قَالَ زَيْدٌ، فَزِيدٌ عَدُوُّ هَذَا الْأَمْرِ فَلَا تَسْتَنْصِحُوهُ، وَالْقَوْلُ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِمَارَةٍ تُنَظِّمُ النَّاسَ وَتَزِعُ الظَّالِمَ وَتُعِزُّ الْمَظْلُومَ، وَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وُلِّيَ بِمَا وُلِّيَ وَقَدْ أَنْصَفَ فِي الدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا يَدْعُو إِلَى الْإِصْلَاحِ، فَانْفِرُوا وَكُونُوا مِنْ هَذَا الْأَمْرِ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ. وَقَالَ عَبْدُ الْخَيْرِ الْخَيْوَانِيُّ: يَا أَبَا مُوسَى هَلْ بَايَعَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ أَحْدَثَ عَلِيٌّ مَا يَحِلُّ بِهِ نَقْضُ بَيْعَتِهِ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ: لَا دَرَيْتَ، نَحْنُ نَتْرُكُكَ حَتَّى تَدْرِيَ، هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا خَارِجًا مِنْ هَذِهِ الْفِتْنَةِ؟ إِنَّمَا النَّاسُ أَرْبَعُ فِرَقٍ: عَلِيٌّ بِظَهْرِ الْكُوفَةِ، وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ بِالْبَصْرَةِ، وَمُعَاوِيَةُ بِالشَّامِ، وَفِرْقَةٌ بِالْحِجَازِ، لَا غَنَاءَ بِهَا، وَلَا يُقَاتَلُ بِهَا عَدُوٌّ. . فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أُولَئِكَ خَيْرُ النَّاسِ، وَهِيَ فِتْنَةٌ. فَقَالَ عَبْدُ الْخَيْرِ: غَلَبَ عَلَيْكَ غِشُّكَ يَا أَبَا مُوسَى! فَقَالَ سَيْحَانُ بْنُ صُوحَانَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا بُدَّ لِهَذَا الْأَمْرِ وَهَؤُلَاءِ النَّاسِ مِنْ وَالٍ يَدْفَعُ الظَّالِمَ وَيُعِزُّ الْمَظْلُومَ وَيَجْمَعُ النَّاسَ، وَهَذَا وَالِيكُمْ يَدْعُوكُمْ لِتَنْظُرُوا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ، وَهُوَ الْمَأْمُونُ عَلَى الْأُمَّةِ، الْفَقِيهُ فِي الدِّينِ، فَمَنْ نَهَضَ إِلَيْهِ فَإِنَّا سَائِرُونَ مَعَهُ. فَلَمَّا فَرَغَ سَيْحَانُ قَالَ عَمَّارٌ: هَذَا ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَنْفِرُكُمْ إِلَى زَوْجَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَانْظُرُوا ثُمَّ انْظُرُوا فِي الْحَقِّ فَقَاتِلُوا مَعَهُ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَنَا مَعَ مَنْ شَهِدْتَ لَهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى مَنْ لَمْ تَشْهَدْ لَهُ. فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: اكْفُفْ عَنَّا فَإِنَّ لِلْإِصْلَاحِ أَهْلًا. وَقَامَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا دَعْوَةَ أَمِيرِكُمْ وَسِيرُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ، فَإِنَّهُ سَيُوجَدُ لِهَذَا الْأَمْرِ مَنْ يَنْفِرُ إِلَيْهِ، وَوَاللَّهِ لَأَنْ يَلِيَهِ أُولُو النُّهَى أَمْثَلُ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ وَخَيْرٌ فِي الْعَاقِبَةِ،

فَأَجِيبُوا دَعْوَتَنَا وَأَعِينُونَا عَلَى مَا ابْتُلِينَا بِهِ وَابْتُلِيتُمْ، وَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ: قَدْ خَرَجْتُ مَخْرَجِي هَذَا ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، وَإِنِّي أُذَكِّرُ اللَّهَ رَجُلًا رَعَى حَقَّ اللَّهِ إِلَّا نَفَرَ، فَإِنْ كُنْتُ مَظْلُومًا أَعَانَنِي، وَإِنْ كُنْتُ ظَالِمًا أَخَذَ مِنِّي، وَاللَّهِ إِنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ لَأَوَّلُ مَنْ بَايَعَنِي وَأَوَّلُ مَنْ غَدَرَ، فَهَلِ اسْتَأْثَرْتُ بِمَالٍ أَوْ بَدَّلَتُ حُكْمًا؟ فَانْفِرُوا، فَمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهُوا عَنِ الْمُنْكَرِ. فَسَامَحَ النَّاسَ، وَأَجَابُوا وَرَضُوا. وَأَتَى قَوْمٌ مِنْ طَيِّءِ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ فَقَالُوا: مَاذَا تَرَى وَمَا تَأْمُرُ؟ فَقَالَ: قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ، وَقَدْ دَعَانَا إِلَى جَمِيلٍ، وَإِلَى هَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ لِنَنْظُرَ فِيهِ، وَنَحْنُ سَائِرُونَ وَنَاظِرُونَ. فَقَامَ هِنْدُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ دَعَانَا وَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رُسُلَهُ حَتَّى جَاءَنَا ابْنُهُ، فَاسْمَعُوا إِلَى قَوْلِهِ، وَانْتَهُوا إِلَى أَمْرِهِ، وَانْفِرُوا إِلَى أَمِيرِكُمْ، فَانْظُرُوا مَعَهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَأَعِينُوهُ بِرَأْيِكُمْ. وَقَامَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَانْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا،، مُرُّوا وَإِنَّا أَوَّلُكُمْ. فَأَذْعَنَ النَّاسُ لِلْمَسِيرِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي غَادٍ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَخْرُجَ مَعِي عَلَى الظَّهْرِ، وَمَنْ شَاءَ فِي الْمَاءِ. فَنَفَرَ مَعَهُ قَرِيبٌ [مِنْ] تِسْعَةِ آلَافٍ، أَخَذَ فِي الْبَرِّ سِتَّةَ آلَافٍ وَمِائَتَانِ، وَأَخَذَ فِي الْمَاءِ أَلْفَانِ وَأَرْبَعَمِائَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّ عَلِيًّا أَرْسَلَ الْأَشْتَرَ بَعْدَ ابْنِهِ الْحَسَنِ وَعَمَّارٍ إِلَى الْكُوفَةَ، فَدَخَلَهَا وَالنَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَبُو مُوسَى يَخْطُبُهُمْ وَيُثَبِّطُهُمْ، وَالْحَسَنُ (وَعَمَّارٌ مَعَهُ فِي مُنَازَعَةٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ النَّاسِ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَجَعَلَ الْأَشْتَرُ لَا يَمُرُّ بِقَبِيلَةٍ فِيهَا جَمَاعَةٌ إِلَّا دَعَاهُمْ، وَيَقُولُ: اتْبَعُونِي إِلَى الْقَصْرِ، فَانْتَهَى إِلَى الْقَصْرِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَدَخَلَهُ وَأَبُو مُوسَى فِي الْمَسْجِدِ يَخْطُبُهُمْ وَيُثَبِّطُهُمْ وَالْحَسَنُ) يَقُولُ لَهُ: اعْتَزِلْ عَمَلَنَا، لَا أُمَّ لَكَ! وَتَنَحَّ عَنْ مِنْبَرِنَا! وَعَمَّارٌ يُنَازِعُهُ، فَأَخْرَجَ الْأَشْتَرُ غِلْمَانَ أَبِي مُوسَى مِنَ الْقَصْرِ، فَخَرَجُوا يَعْدُونَ وَيُنَادُونَ: يَا أَبَا مُوسَى هَذَا الْأَشْتَرُ قَدْ دَخَلَ الْقَصْرَ فَضَرَبَنَا وَأَخْرَجَنَا. فَنَزَلَ أَبُو مُوسَى فَدَخَلَ الْقَصْرَ فَصَاحَ بِهِ الْأَشْتَرُ: اخْرُجْ لَا أُمَّ لَكَ أَخْرَجَ اللَّهُ نَفْسَكَ! فَقَالَ: أَجِّلْنِي هَذِهِ الْعَشِيَّةَ. فَقَالَ: هِيَ لَكَ وَلَا تَبِيتُنَّ فِي الْقَصْرِ اللَّيْلَةَ. وَدَخَلَ النَّاسُ يَنْهَبُونَ مَتَاعَ أَبِي مُوسَى، فَمَنَعَهُمُ الْأَشْتَرُ وَقَالَ أَنَا لَهُ جَارٌ. فَكُفُّوا عَنْهُ. فَنَفَرَ النَّاسُ فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ. وَقِيلَ: إِنَّ عَدَدَ مَنْ سَارَ مِنَ الْكُوفَةِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ وَرَجُلٌ. قَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ ذَلِكَ قَبْلَ وُصُولِهِمْ، فَقَعَدْتُ فَأَحْصَيْتُهُمْ فَمَا زَادُوا رَجُلًا وَلَا نَقَصُوا

رَجُلًا. وَكَانَ عَلَى كِنَانَةَ، وَأَسَدٍ، وَتَمِيمٍ، وَالرِّبَابِ، وَمُزَيْنَةَ، مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ الرِّيَاحِيُّ، وَكَانَ عَلَى سُبْعِ قَيْسٍ سَعْدُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ عَمُّ الْمُخْتَارِ، وَعَلَى بَكْرٍ وَتَغْلِبَ وَعْلَةُ بْنُ مَحْدُوجٍ الذُّهْلِيُّ، وَكَانَ عَلَى مَذْحِجَ وَالْأَشْعَرِيِّينَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، وَعَلَى بُجَيْلَةَ وَأَنْمَارٍ وَخَثْعَمٍ وَالْأَزْدِ مَخْنَفُ بْنُ سُلَيْمٍ الْأَزْدِيُّ، فَقَدِمُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِذِي قَارٍ، فَلَقِيَهُمْ فِي نَاسٍ مَعَهُ، فِيهِمُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَحَّبَ بِهِمْ وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ أَنْتُمْ قَاتَلْتُمْ مُلُوكَ الْعَجَمِ وَفَضَضْتُمْ جُمُوعَهُمْ حَتَّى صَارَتْ إِلَيْكُمْ مَوَارِيثُهُمْ فَمَنَعْتُمْ حَوْزَتَكُمْ، وَأَعَنْتُمُ النَّاسَ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَقَدْ دَعَوْتُكُمْ لِتَشْهَدُوا مَعَنَا إِخْوَانَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَإِنْ يَرْجِعُوا فَذَاكَ الَّذِي نُرِيدُ، وَإِنْ يَلِجُوا دَاوَيْنَاهُمْ بِالرِّفْقِ حَتَّى يَبْدَأُونَا بِظُلْمٍ، وَلَمْ نَدَعْ أَمْرًا فِيهِ صَلَاحٌ إِلَّا آثَرْنَاهُ عَلَى مَا فِيهِ الْفَسَادُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -. وَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ بِذِي قَارٍ وَعَبْدُ الْقَيْسِ بِأَسْرِهَا فِي الطَّرِيقِ بَيْنَ عَلِيٍّ [وَأَهْلِ] الْبَصْرَةِ يَنْتَظِرُونَهُ وَهُمْ أُلُوفٌ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْجَمَاعَةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ: الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِنْدُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْهَيْثَمُ بْنُ شِهَابٍ، وَكَانَ رُؤَسَاءُ النُّفَّارِ: زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، وَالْأَشْتَرُ، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَالْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ، وَأَمْثَالٌ لَهُمْ لَيْسُوا دُونَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يُؤَمِّرُوا، مِنْهُمْ حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ. فَلَمَّا نَزَلُوا بِذِي قَارٍ دَعَا عَلِيٌّ الْقَعْقَاعَ فَأَرْسَلَهُ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقَالَ: الْقَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، وَكَانَ الْقَعْقَاعُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَادْعُهُمَا إِلَى الْأُلْفَةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَعَظِّمْ عَلَيْهِمَا الْفُرْقَةَ، وَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ فِيمَا جَاءَكَ مِنْهُمَا وَلَيْسَ عِنْدَكَ فِيهِ وُصَاةٌ [مِنِّي] ؟ قَالَ: نَلْقَاهُمْ بِالَّذِي أَمَرْتَ بِهِ. فَإِذَا جَاءَ مِنْهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْكَ فِيهِ رَأْيٌ اجْتَهَدْنَا رَأْيَنَا وَكَلَّمْنَاهُمْ كَمَا نَسْمَعُ، وَنَرَى أَنَّهُ يَنْبَغِي. قَالَ: أَنْتَ لَهَا. فَخَرَجَ الْقَعْقَاعُ حَتَّى قَدِمَ الْبَصْرَةَ، فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَقَالَ: أَيْ أُمَّهْ، مَا أَشْخَصَكِ وَمَا أَقْدَمَكِ هَذِهِ الْبَلْدَةَ؟ قَالَتْ: أَيْ بُنَيَّ، الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ. قَالَ: فَابْعَثِي إِلَى طَلْحَةَ

وَالزُّبَيْرِ حَتَّى تَسْمَعِي كَلَامِي وَكَلَامَهُمَا. فَبَعَثَتْ إِلَيْهِمَا، فَجَاءَا، فَقَالَ لَهُمَا: إِنِّي سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَقْدَمَهَا، فَقَالَتِ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَا تَقُولَانِ أَنْتُمَا، أَمُتَابِعَانِ أَمْ مُخَالِفَانِ؟ قَالَا: مُتَابِعَانِ. قَالَ: فَأَخْبِرَانِي مَا وَجُهُ هَذَا الْإِصْلَاحِ؟ فَوَاللَّهِ لَئِنْ عَرَفْنَاهُ لَنُصْلِحَنَّ وَلَئِنْ أَنْكَرْنَاهُ لَا نُصْلِحُ. قَالَا: قَتَلَةُ عُثْمَانَ، فَإِنَّ هَذَا إِنْ تُرِكَ كَانَ تَرْكًا لِلْقُرْآنِ. قَالَ: قَدْ قَتَلْتُمَا قَتَلَةَ عُثْمَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأَنْتُمْ قَبْلَ قَتْلِهِمْ أَقْرَبُ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ مِنْكُمُ الْيَوْمَ، قَتَلْتُمْ سِتَّمِائَةِ رَجُلٍ، فَغَضِبَ لَهُمْ سِتَّةُ آلَافٍ وَاعْتَزَلُوكُمْ، وَخَرَجُوا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، وَطَلَبْتُمْ حُرْقُوصَ بْنَ زُهَيْرٍ، فَمَنَعَهُ سِتَّةُ آلَافٍ، فَإِنْ تَرَكْتُمُوهُمْ كُنْتُمْ تَارِكِينَ لِمَا تَقُولُونَ، وَإِنْ قَاتَلْتُمُوهُمْ وَالَّذِينَ اعْتَزَلُوكُمْ فَأُدِيلُوا عَلَيْكُمْ، فَالَّذِي حَذِرْتُمْ وَقَوَّيْتُمْ بِهِ هَذَا الْأَمْرَ أَعْظَمُ مِمَّا أَرَاكُمْ تَكْرَهُونَ، وَإِنْ أَنْتُمْ مَنَعْتُمْ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ وَخِذْلَانِكُمْ نُصْرَةً لِهَؤُلَاءِ، كَمَا اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ لِأَهْلِ هَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ وَالذَّنَبِ الْكَبِيرِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ دَوَاؤُهُ التَّسْكِينُ، فَإِذَا سَكَنَ اخْتَلَجُوا، فَإِنْ أَنْتُمْ بَايَعْتُمُونَا فَعَلَامَةُ خَيْرٍ، وَتَبَاشِيرُ رَحْمَةٍ، وَدَرْكٌ بِثَأْرٍ، وَإِنْ أَنْتُمْ أَبَيْتُمْ إِلَّا مُكَابَرَةَ هَذَا الْأَمْرِ وَاعْتِسَافَهُ، كَانَتْ عَلَامَةَ شَرٍّ، وَذَهَابَ هَذَا الْمَالِ، فَآثِرُوا الْعَافِيَةَ تُرْزَقُوهَا، وَكُونُوا مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ كَمَا كُنْتُمْ، وَلَا تُعَرِّضُونَا لِلْبَلَاءِ فَتُعَرَّضُوا لَهُ، فَيَصْرَعُنَا وَإِيَّاكُمْ. وَايْمُ اللَّهِ إِنِّي لَأَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ! وَإِنِّي لَخَائِفٌ أَنْ لَا يَتِمَّ حَتَّى يَأْخُذَ اللَّهُ حَاجَتَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي قَلَّ مَتَاعُهَا، وَنَزَلَ بِهَا مَا نَزَلَ، فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي حَدَثَ أَمْرٌ لَيْسَ يُقْدَرُ، وَلَيْسَ كَقَتْلِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ، وَلَا النَّفَرِ الرَّجُلَ، وَلَا الْقَبِيلَةِ الرَّجُلَ. قَالُوا: قَدْ أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ فَارْجِعْ، فَإِنْ قَدِمَ عَلِيٌّ وَهُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِكَ صَلُحَ هَذَا الْأَمْرُ. فَرَجَعَ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَأَشْرَفَ الْقَوْمُ عَلَى الصُّلْحِ، كَرِهَ ذَلِكَ مَنْ كَرِهَهُ، وَرَضِيَهُ مَنْ رَضِيَهُ. وَأَقْبَلَتْ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ نَحْوَ عَلِيٍّ بِذِي قَارٍ قَبْلَ رُجُوعِ الْقَعْقَاعِ ; لِيَنْظُرُوا مَا رَأَى إِخْوَانُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَعَلَى أَيِّ حَالٍ نَهَضُوا إِلَيْهِمْ، وَلِيُعْلِمُوهُمْ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ رَأْيُهُمُ الْإِصْلَاحُ، وَلَا يَخْطُرُ لَهُمْ قِتَالُهُمْ عَلَى بَالٍ. فَلَمَّا لَقُوا عَشَائِرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ لَهُمُ الْكُوفِيُّونَ مِثْلَ مَقَالَتِهِمْ، وَأَدْخَلُوهُمْ عَلَى عَلِيٍّ، فَأَخْبَرُوهُ بِخَبَرِهِمْ، وَسَأَلَ عَلِيٌّ جَرِيرَ بْنَ شَرِسٍ عَنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، فَأَخْبَرَهُ بِدَقِيقِ

أَمْرِهِمَا وَجَلِيلِهِ وَقَالَ لَهُ: أَمَّا الزُّبَيْرُ فَيَقُولُ: بَايَعْنَا كَرْهًا، وَأَمَّا طَلْحَةُ فَيَتَمَثَّلُ الْأَشْعَارَ، وَيَقُولُ: أَلَا أَبْلِغْ بَنِي بَكْرٍ رَسُولًا ... فَلَيْسَ إِلَى بَنِي كَعْبٍ سَبِيلُ سَيَرْجِعُ ظُلْمُكُمْ مِنْكُمْ عَلَيْكُمْ ... طَوِيلَ السَّاعِدَيْنِ لَهُ فُضُولُ فَتَمَثَّلَ عَلِيٌّ عِنْدَهَا: أَلَمْ تَعْلَمْ أَبَا سِمْعَانَ أَنَّا ... نَرُدُّ الشَّيْخَ مِثْلَكَ ذَا الصُّدَاعِ وَيَذْهَلُ عَقْلُهُ بِالْحَرْبِ حَتَّى ... يَقُومَ فَيَسْتَجِيبُ لِغَيْرِ دَاعٍ فَدَافَعَ عَنْ خُزَاعَةَ جَمْعُ بَكْرٍ ... وَمَا بِكَ يَا سُرَاقَةَ مِنْ دِفَاعِ وَرَجَعَتْ وُفُودُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِرَأْيِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَرَجَعَ الْقَعْقَاعُ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَقَامَ عَلِيٌّ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهَ، وَذَكَرَ الْجَاهِلِيَّةَ وَشَقَاءَهَا، وَالْإِسْلَامَ وَالسَّعَادَةَ، وَإِنْعَامَ اللَّهِ عَلَى الْأُمَّةِ بِالْجَمَاعَةِ بِالْخَلِيفَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ حَدَثَ هَذَا الْحَدَثُ الَّذِي جَرَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَقْوَامٌ طَلَبُوا هَذِهِ الدُّنْيَا، وَحَسَدُوا مَنْ أَفَاءَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْفَضِيلَةِ، وَأَرَادُوا رَدَّ الْإِسْلَامِ وَالْأَشْيَاءَ عَلَى أَدْبَارِهَا، وَاللَّهُ بَالِغُ أَمْرِهِ. أَلَا وَإِنِّي رَاحِلٌ غَدًا فَارْتَحَلُوا، وَلَا يَرْتَحِلَنَّ أَحَدٌ أَعَانَ عَلَى عُثْمَانَ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ، وَلْيُغْنِ السُّفَهَاءُ عَنِّي أَنْفُسَهُمْ. فَاجْتَمَعَ نَفَرٌ، مِنْهُمْ: عِلْبَاءُ بْنُ الْهَيْثَمِ، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَسَالِمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الْقَيْسِيُّ، وَشُرَيْحُ بْنُ أَوْفَى، وَالْأَشْتَرُ، فِي عِدَّةٍ مِمَّنْ سَارَ إِلَى عُثْمَانَ وَرَضِيَ بِسَيْرِ مَنْ سَارَ، وَجَاءَ مَعَهُمُ الْمُضَرِيُّونَ، وَابْنُ السَّوْدَاءِ، وَخَالِدُ بْنُ مُلْجِمٍ، فَتَشَاوَرُوا فَقَالُوا: مَا الرَّأْيُ؟ وَهَذَا عَلِيٌّ، وَهُوَ وَاللَّهِ أَبْصَرُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِمَّنْ يَطْلُبُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ، وَهُوَ يَقُولُ مَا يَقُولُ، وَلَمْ يَنْفِرْ إِلَيْهِ سِوَاهُمْ وَالْقَلِيلُ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَكَيْفَ بِهِ إِذَا شَامَ الْقَوْمَ وَشَامُوهُ، وَرَأَوْا قِلَّتَنَا فِي كَثْرَتِهِمْ، وَأَنْتُمْ وَاللَّهِ تُرَادُونَ وَمَا أَنْتُمْ بِالْحَيِّ مِنْ شَيْءٍ! فَقَالَ الْأَشْتَرُ: قَدْ عَرَفْنَا رَأْيَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ فِينَا، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمْ نَعْرِفْ رَأْيَهُ إِلَى الْيَوْمِ، وَرَأْيُ النَّاسِ فِينَا وَاحِدٌ، فَإِنْ يَصْطَلِحُوا مَعَ عَلِيٍّ فَعَلَى دِمَائِنَا، فَهَلُمُّوا بِنَا نَثِبُ عَلَى عَلِيٍّ فَنُلْحِقَهُ بِعُثْمَانَ فَتَعُودَ فِتْنَةٌ يُرْضَى مِنَّا فِيهَا بِالسُّكُونِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّوْدَاءِ: بِئْسَ الرَّأْيُ رَأَيْتَ، أَنْتُمْ يَا قَتَلَةَ عُثْمَانَ بِذِي قَارٍ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ، أَوْ نَحْوَ مَنْ سِتِّمِائَةٍ، وَهَذَا ابْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ - يَعْنِي طَلْحَةَ - وَأَصْحَابُهُ فِي نَحْوٍ مِنْ خَمْسَةِ آلَافٍ بِالْأَشْوَاقِ إِلَى أَنْ يَجِدُوا إِلَى

قِتَالِكُمْ سَبِيلًا. فَقَالَ عِلْبَاءُ بْنُ الْهَيْثَمِ: انْصَرِفُوا بِنَا عَنْهُمْ وَدَعُوهُمْ، فَإِنْ قَلُّوا كَانَ أَقْوَى لِعَدُوِّهِمْ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَثُرُوا أَحْرَى أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَيْكُمْ، دَعُوهُمْ وَارْجِعُوا فَتَعَلَّقُوا بِبَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ حَتَّى يَأْتِيَكُمْ فِيهِ مَنْ تَقْوُونَ بِهِ وَامْتَنِعُوا مِنَ النَّاسِ. فَقَالَ ابْنُ السَّوْدَاءِ: بِئْسَ مَا رَأَيْتَ، وَدَّ وَاللَّهِ النَّاسُ أَنَّكُمُ انْفَرَدْتُمْ وَلَمْ تَكُونُوا مَعَ أَقْوَامٍ بُرَآءَ، وَلَوِ انْفَرَدْتُمْ لَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ كُلَّ شَيْءٍ. فَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: وَاللَّهِ مَا رَضِيتُ وَلَا كَرِهْتُ، وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ تَرَدُّدِ مَنْ تَرَدَّدَ عَنْ قَتْلِهِ فِي خَوْضِ الْحَدِيثِ، فَأَمَّا إِذَا وَقَعَ مَا وَقَعَ وَنَزَلَ مِنَ النَّاسِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَإِنَّ لَنَا عَتَادًا مِنْ خُيُولٍ وَسِلَاحٍ، فَإِنْ أَقْدَمْتُمْ أَقْدَمْنَا وَإِنْ أَمْسَكْتُمْ أَمْسَكْنَا. فَقَالَ ابْنُ السَّوْدَاءِ: أَحْسَنْتَ. وَقَالَ سَالِمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ: مَنْ كَانَ أَرَادَ بِمَا أَتَى الدُّنْيَا، فَإِنِّي لَمْ أُرِدْ ذَلِكَ، وَاللَّهِ لَئِنْ لَقِيتُهُمْ غَدًا لَا أَرْجِعُ إِلَى شَيْءٍ، أَحْلِفُ بِاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَفْرَقُنَّ السَّيْفَ فَرْقَ قَوْمٍ لَا تَصِيرُ أُمُورُهُمْ إِلَّا إِلَى السَّيْفِ. فَقَالَ ابْنُ السَّوْدَاءِ: قَدْ قَالَ قَوْلًا. وَقَالَ شُرَيْحُ بْنُ أَوْفَى: أَبْرِمُوا أُمُورَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجُوا، وَلَا تُؤَخِّرُوا أَمْرًا يَنْبَغِي لَكُمْ تَعْجِيلُهُ، وَلَا تُعَجِّلُوا أَمْرًا يَنْبَغِي لَكُمْ تَأْخِيرُهُ، فَإِنَّا عِنْدَ النَّاسِ بِشَرِّ الْمَنَازِلِ، وَمَا أَدْرِي مَا النَّاسُ صَانِعُونَ إِذَا مَا هُمُ الْتَقَوْا. وَقَالَ ابْنُ السَّوْدَاءِ: يَا قَوْمُ إِنَّ عَزَّكُمْ فِي خُلْطَةِ النَّاسِ، فَإِذَا الْتَقَى النَّاسُ غَدًا فَأَنْشِبُوا الْقِتَالَ، وَلَا تُفَرِّغُوهُمْ لِلنَّظَرِ، فَمَنْ أَنْتُمْ مَعَهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَمْتَنِعَ، وَيَشْغَلَ اللَّهُ عَلِيًّا، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ، وَمَنْ رَأَى رَأْيَهُمْ عَمَّا تَكْرَهُونَ. فَأَبْصَرُوا الرَّأْيَ وَتَفَرَّقُوا عَلَيْهِ وَالنَّاسُ لَا يَشْعُرُونَ. وَأَصْبَحَ عَلِيٌّ عَلَى ظَهْرٍ وَمَضَى، وَمَضَى مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَلَ عَلَى عَبْدِ الْقَيْسِ فَانْضَمُّوا إِلَيْهِ، وَسَارَ مِنْ هُنَاكَ فَنَزَلَ الزَّاوِيَةَ، وَسَارَ مِنَ الزَّاوِيَةِ يُرِيدُ الْبَصْرَةَ، وَسَارَ طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَائِشَةُ، مِنَ الْفُرْضَةِ، فَالْتَقَوْا عِنْدَ مَوْضِعِ قَصْرِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ. فَلَمَّا نَزَلَ النَّاسُ أَرْسَلَ شَقِيقُ بْنُ ثَوْرٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ مَرْحُومٍ الْعَبْدِيِّ أَنِ اخْرُجْ، فَإِذَا خَرَجْتَ فَمِلْ بِنَا إِلَى عَسْكَرِ عَلِيٍّ. فَخَرَجَا فِي عَبْدِ الْقَيْسِ وَبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ فَعَدَلُوا إِلَى عَسْكَرِ عَلِيٍّ، فَقَالَ النَّاسُ: مَنْ كَانَ هَؤُلَاءِ مَعَهُ غَلَبَ. وَأَقَامُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، فَكَانَ عَلِيٌّ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ يُكَلِّمُهُمْ وَيَدْعُوهُمْ، وَكَانَ نُزُولُهُمْ فِي النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَنَزَلَ

بِهِمْ عَلِيٌّ وَقَدْ سَبَقَ أَصْحَابَهُ وَهُمْ يَتَلَاحَقُونَ بِهِ. فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ أَبُو الْجَرْبَاءِ لِلزُّبَيْرِ: إِنَّ الرَّأْيَ أَنْ تَبْعَثَ أَلْفَ فَارِسٍ إِلَى عَلِيٍّ قَبْلَ أَنْ يُوَافِيَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ. فَقَالَ: إِنَّا لَنَعْرِفُ أُمُورَ الْحَرْبِ، وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ دَعْوَتِنَا وَهَذَا أَمْرٌ حَدَثٌ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْيَوْمِ، مَنْ لَمْ يَلْقَ اللَّهَ فِيهِ بِعُذْرٍ انْقَطَعَ عُذْرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ فَارَقْنَا وَفْدَهُمْ عَلَى أَمْرٍ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَتِمَّ لَنَا الصُّلْحُ، فَأَبْشِرُوا وَاصْبِرُوا. وَأَقْبَلَ صَبْرَةُ بْنُ شَيْمَانَ فَقَالَ لِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ: انْتَهِزَا بِنَا هَذَا الرَّجُلَ، فَإِنَّ الرَّأْيَ فِي الْحَرْبِ خَيْرٌ مِنَ الشِّدَّةِ. فَقَالَا: إِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْيَوْمِ فَيَنْزِلَ فِيهِ قُرْآنٌ، أَوْ يَكُونَ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَحْرِيكُهُ، وَهُمْ عَلِيٌّ وَمَنْ مَعَهُ، وَقُلْنَا نَحْنُ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتْرُكَهُ وَلَا نُؤَخِّرَهُ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ: تَرْكُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ شَرٌّ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ شَرٍّ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ يَتَبَيَّنُ لَنَا، وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحْكَامُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَعَمِّهَا مَنْفَعَةً. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ: يَا قَوْمُ اقْطَعُوا هَذَا الْعُنُقَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَأَجَابُوهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ. وَقَامَ عَلِيٌّ فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَامَ إِلَيْهِ الْأَعْوَرُ بْنُ بُنَانٍ الْمِنْقَرِيُّ، فَسَأَلَهُ عَنْ إِقْدَامِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: عَلَى الْإِصْلَاحِ وَإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ لَعَلَّ اللَّهَ يَجْمَعُ شَمْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِنَا وَيَضَعُ حَرْبَهُمْ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يُجِيبُونَا؟ قَالَ: تَرَكْنَاهُمْ مَا تَرَكُونَا. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُونَا؟ قَالَ: دَفَعْنَاهُمْ عَنْ أَنْفُسِنَا. قَالَ: فَهَلْ لَهُمْ مِنْ هَذَا مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو سَلَامَةَ الدَّالَانِيُّ فَقَالَ: أَتَرَى لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ حُجَّةً فِيمَا طَلَبُوا مِنْ هَذَا الدَّمِ إِنْ كَانُوا أَرَادُوا اللَّهَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفْتَرَى لَكَ حُجَّةً بِتَأْخِيرِ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ لَا يُدْرَكُ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ أَحْوَطُهُ وَأَعَمُّهُ نَفْعًا. قَالَ: فَمَا حَالُنَا وَحَالُهُمْ إِنِ ابْتُلِينَا غَدًا؟ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ لَا يُقْتَلَ مِنَّا وَمِنْهُمْ أَحَدٌ نَقَّى قَلْبَهُ لِلَّهِ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ امْلِكُوا عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَيْدِيَكُمْ وَأَلْسِنَتَكُمْ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَسْبِقُونَا، فَإِنَّ الْمَخْصُومَ غَدًا مَنْ خُصِمَ الْيَوْمَ. وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ حَكِيمَ بْنَ سَلَامَةَ، وَمَالِكَ بْنَ حَبِيبٍ: إِنْ كُنْتُمْ عَلَى مَا فَارَقْتُمْ عَلَيْهِ الْقَعْقَاعَ، فَكُفُّوا حَتَّى نَنْزِلَ وَنَنْظُرَ فِي هَذَا الْأَمْرِ. وَخَرَجَ إِلَيْهِ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ وَبَنُو سَعْدٍ مُشَمِّرِينَ قَدْ مَنَعُوا حُرْقُوصَ بْنَ زُهَيْرٍ وَهُمْ مُعْتَزِلُونَ، وَكَانَ الْأَحْنَفُ قَدْ بَايَعَ عَلِيًّا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ حَجَّ وَعَادَ مِنَ الْحَجِّ

فَبَايَعَهُ. قَالَ الْأَحْنَفُ: وَلَمْ أُبَايِعْ عَلِيًّا حَتَّى لَقِيتُ طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ، وَعَائِشَةَ، بِالْمَدِينَةِ وَأَنَا أُرِيدُ الْحَجَّ وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ، فَقُلْتُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ: إِنَّ الرَّجُلَ مَقْتُولٌ، فَمَنْ تَأْمُرُونَنِي أُبَايِعُ؟ فَكُلُّهُمْ قَالَ: بَايِعْ عَلِيًّا. فَقُلْتُ: أَتَرْضَوْنَهُ لِي؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَلَمَّا قَضَيْتُ حَجِّي وَرَجَعْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ رَأَيْتُ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ، فَبَايَعْتُ عَلِيًّا وَرَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي، وَرَأَيْتُ الْأَمْرَ قَدِ اسْتَقَامَ. فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَالَ: هَذِهِ عَائِشَةُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ بِالْخُرَيْبَةِ يَدْعُونَكَ. فَقُلْتُ: مَا جَاءَ بِهِمْ؟ قَالَ: يَسْتَنْصِرُونَكَ عَلَى قِتَالِ عَلِيٍّ فِي دَمِ عُثْمَانَ، فَأَتَانِي أَفْظَعُ أَمْرٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ خِذْلَانِي أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَحَوَارِيَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَشَدِيدٌ، وَإِنَّ قِتَالَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَمَرُونِي بِبَيْعَتِهِ أَشَدُّ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُمْ قَالُوا: جِئْنَا لِكَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَيَا زُبَيْرُ وَيَا طَلْحَةُ، نَشَدْتُكُمُ اللَّهَ أَقُلْتُ لَكُمْ: مَنْ تَأْمُرُونَنِي أُبَايِعُ؟ فَقُلْتُمْ: بَايِعْ عَلِيًّا. فَقَالُوا: نَعَمْ وَلَكِنَّهُ بَدَّلَ وَغَيَّرَ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أُقَاتِلُكُمْ وَمَعَكُمْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا أُقَاتِلُ ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَمَرْتُمُونِي بِبَيْعَتِهِ، وَلَكِنِّي أَعْتَزِلُ. فَأَذَنُوا لَهُ فِي ذَلِكَ، فَاعْتَزَلَ بِالْجَلْحَاءِ وَمَعَهُ زُهَاءُ سِتَّةِ آلَافٍ، وَهِيَ مِنَ الْبَصْرَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ أَتَاهُ الْأَحْنَفُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ قَوْمَنَا بِالْبَصْرَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ إِنْ ظَهَرْتَ عَلَيْهِمْ غَدًا قَتَلْتَ رِجَالَهُمْ وَسَبَيْتَ نِسَاءَهُمْ. قَالَ: مَا مِثْلِي يُخَافُ هَذَا مِنْهُ، وَهَلْ يَحِلُّ هَذَا إِلَّا لِمَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ وَهُمْ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ؟ قَالَ: اخْتَرْ مِنِّي وَاحِدَةً مِنَ اثْنَتَيْنِ، إِمَّا أَنْ أُقَاتِلَ مَعَكَ، وَإِمَّا أَنَّ أَكُفَّ عَنْكَ عَشَرَةَ آلَافِ سَيْفٍ. قَالَ: فَكَيْفَ بِمَا أَعْطَيْتَ أَصْحَابَكَ مِنْ الِاعْتِزَالِ؟ قَالَ: إِنَّ مِنَ الْوَفَاءِ لِلَّهِ قِتَالَهُمْ. قَالَ: فَاكْفُفْ عَنَّا عَشَرَةَ آلَافِ سَيْفٍ. فَرَجَعَ إِلَى النَّاسِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْقُعُودِ وَنَادَى: يَا آلَ خِنْدِفٍ! فَأَجَابَهُ نَاسٌ، وَنَادَى: يَا آلَ تَمِيمٍ! فَأَجَابَهُ نَاسٌ، ثُمَّ نَادَى: يَا آلَ سَعْدٍ! فَلَمْ يَبْقَ سَعْدِيٌّ إِلَّا أَجَابَهُ، فَاعْتَزَلَ بِهِمْ وَنَظَرَ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ، فَلَمَّا كَانَ الْقِتَالُ وَظَفِرَ عَلِيٌّ دَخَلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ وَافْرِينَ. فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ خَرَجَ الزُّبَيْرُ عَلَى فَرَسٍ عَلَيْهِ سِلَاحٌ، فَقِيلَ لِعَلِيٍّ: هَذَا الزُّبَيْرُ. فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ أَحْرَى الرَّجُلَيْنِ إِنْ ذُكِّرَ بِاللَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَذْكُرَ. وَخَرَجَ طَلْحَةُ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا عَلِيٌّ حَتَّى اخْتَلَفَتْ أَعْنَاقُ دَوَابِّهِمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَعَمْرِي قَدْ أَعْدَدْتُمَا سِلَاحًا وَخَيْلًا وَرِجَالًا إِنْ كُنْتُمَا أَعْدَدْتُمَا عِنْدَ اللَّهِ عُذْرًا، فَاتَّقِيَا اللَّهَ وَلَا تَكُونَا

{كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92] ، أَلَمْ أَكُنْ أَخَاكُمَا فِي دِينِكُمَا تُحَرِّمَانِ دَمِي وَأُحَرِّمُ دَمَكُمَا، فَهَلْ مِنْ حَدَثٍ أَحَلَّ لَكُمَا دَمِي؟ قَالَ طَلْحَةُ: أَلَّبْتَ عَلَى عُثْمَانَ. قَالَ عَلِيٌّ: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور: 25] . يَا طَلْحَةُ، تَطْلُبُ بِدَمِ عُثْمَانَ، فَلَعَنَ اللَّهُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ! يَا طَلْحَةُ، أَجِئْتَ بِعِرْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، تُقَاتِلُ بِهَا وَخَبَّأْتَ عِرْسَكُ فِي الْبَيْتِ! أَمَا بَايَعْتَنِي؟ قَالَ: بَايَعْتُكَ وَالسَّيْفُ عَلَى عُنُقِي. فَقَالَ عَلِيٌّ لِلزُّبَيْرِ: يَا زُبَيْرُ مَا أَخْرَجَكَ؟ قَالَ: أَنْتَ، وَلَا أَرَاكَ لِهَذَا الْأَمْرِ أَهْلًا وَلَا أَوْلَى بِهِ مِنَّا. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَلَسْتُ لَهُ أَهْلًا بَعْدَ عُثْمَانَ؟ قَدْ كُنَّا نَعُدُّكَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى بَلَغَ ابْنُكَ ابْنُ السُّوءِ فَفَرَّقَ بَيْنَنَا. وَذَكَّرَهُ أَشْيَاءَ، وَقَالَ لَهُ: «تَذَكَّرْ يَوْمَ مَرَرْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَنِي غَنْمٍ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَضَحِكَ وَضَحِكْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتَ لَهُ لَا يَدَعُ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ زَهْوَهُ، فَقَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَيْسَ (بِهِ زَهْوٌ) ، لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ» ". قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، وَلَوْ ذَكَرْتُ مَا سِرْتُ مَسِيرِي هَذَا، وَاللَّهِ لَا أُقَاتِلُكَ أَبَدًا. فَانْصَرَفَ عَلِيٌّ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا الزُّبَيْرُ قَدْ أَعْطَى اللَّهَ عَهْدًا أَنْ لَا يُقَاتِلَكُمْ. وَرَجَعَ الزُّبَيْرُ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ لَهَا: مَا كُنْتُ فِي مَوْطِنٍ مُنْذُ عَقِلْتُ إِلَّا وَأَنَا أَعْرِفُ فِيهِ أَمْرِي، غَيْرَ مَوْطِنِي هَذَا. قَالَتْ: فَمَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَدَعَهُمْ وَأَذْهَبَ. قَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: جَمَعْتَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْغَارَّيْنِ حَتَّى إِذَا حَدَّدَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَرَدْتَ أَنْ تَتْرُكَهُمْ وَتَذْهَبَ، لَكِنَّكَ خَشِيتَ رَايَاتِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَلِمْتَ أَنَّهَا تَحْمِلُهَا فِتْيَةٌ أَنْجَادٌ، وَأَنَّ تَحْتَهَا الْمَوْتَ الْأَحْمَرَ فَجَبُنْتَ. فَأَحْفَظَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنِّي حَلَفْتُ أَنْ لَا أُقَاتِلَهُ. قَالَ: كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَقَاتِلْهُ. فَأَعْتَقَ غُلَامَهُ مَكْحُولًا، وَقِيلَ سِرْجِسَ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّمِيمِيُّ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ أَخَا إِخْوَانِ ... أَعْجَبَ مِنْ مُكَفِّرِ الْأَيْمَانِ الْأَبْيَاتِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا عَادَ الزُّبَيْرُ عَنِ الْقِتَالِ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ مَعَ عَلِيٍّ، فَخَافَ أَنْ يَقْتُلَ عَمَّارًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَا عَمَّارُ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» "، فَرَدَّهُ ابْنُهُ

عَبْدُ اللَّهِ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ -. وَافْتَرَقَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ مَعَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَفِرْقَةٌ مَعَ عَلِيٍّ، وَفِرْقَةٌ لَا تَرَى الْقِتَالَ، مِنْهُمُ: الْأَحْنَفُ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَغَيْرُهُمَا. وَجَاءَتْ عَائِشَةُ فَنَزَلَتْ فِي مَسْجِدٍ الْحَدَّانِ فِي الْأَزْدِ، وَرَأَسُ الْأَزْدِ يَوْمَئِذٍ صَبْرَةُ بْنُ شَيْمَانَ، فَقَالَ لَهُ كَعْبُ بْنُ سُورٍ: إِنَّ الْجُمُوعَ إِذَا تَرَاءَتْ لَمْ تَسْتَطِعْ، إِنَّمَا هِيَ بُحُورٌ تَدَفَّقُ، فَأَطِعْنِي وَلَا تَشْهَدْهُمْ، وَاعْتَزِلْ بِقَوْمِكَ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ صُلْحٌ، وَدَعْ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ فَهُمَا أَخَوَانِ، فَإِنِ اصْطَلَحَا فَالصُّلْحَ أَرَدْنَا، وَإِنِ اقْتَتَلَا كُنَّا حُكَّامًا عَلَيْهِمْ غَدًا. وَكَانَ كَعْبٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَصْرَانِيًّا، فَقَالَ لَهُ صَبْرَةُ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ فِيكَ شَيْءٌ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ! أَتَأْمُرُنِي أَنْ أَغِيبَ عَنْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَأَنْ أَخْذُلَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ، إِنْ رَدُّوا عَلَيْهِمُ الصُّلْحَ، وَأَدَعَ الطَّلَبَ بِدَمِ عُثْمَانَ؟ وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ هَذَا أَبَدًا فَأَطْبَقَ أَهْلُ الْيَمَنِ عَلَى الْحُضُورِ، وَحَضَرَ مَعَ عَائِشَةَ الْمِنْجَابُ بْنُ رَاشِدٍ فِي الرَّبَابِ، وَهُمْ: تَيْمٌ، وَعَدِيٌّ، وَثَوْرٌ، وَعُكْلٌ بَنُو عَبْدِ مَنَافِ بْنِ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسِ بْنِ مُضَرَ، وَضَبَّةُ بْنُ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ، وَحَضَرَ أَيْضًا أَبُو الْجَرْبَاءِ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، وَهِلَالُ بْنِ وَكِيعٍ فِي بَنِي حَنْظَلَةَ، وَصُبْرَةُ بْنُ شَيْمَانَ عَلَى الْأَزْدِ، وَمُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ السُّلَمِيُّ عَلَى سُلَيْمٍ، وَزُفَرُ بْنُ الْحَرْثِ فِي بَنِي عَامِرٍ وَغَطَفَانَ، وَمَالِكُ بْنُ مِسْمَعٍ عَلَى بَكْرٍ، وَالْخِرِّيتُ بْنُ رَاشِدٍ عَلَى بَنِي نَاجِيَةَ، وَعَلَى الْيَمَنِ ذُو الْآجِرَةِ الْحِمْيَرِيُّ.

وَلِمَا خَرَجَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ نَزَلَتْ مُضَرُ جَمِيعًا وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي الصُّلْحِ، وَنَزَلَتْ رَبِيعَةُ فَوْقَهُمْ وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي الصُّلْحِ، وَنَزَلَتِ الْيَمَنُ أَسْفَلَ مِنْهُمْ وَلَا يَشُكُّونَ فِي الصُّلْحِ، وَعَائِشَةُ فِي الْحَدَّانِ، وَالنَّاسُ بِالزَّابُوقَةِ عَلَى رُؤَسَائِهِمْ هَؤُلَاءِ، وَهُمْ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَرَدُّوا حُكَيْمًا وَمَالِكًا إِلَى عَلِيٍّ إِنَّنَا عَلَى مَا فَارَقْنَا عَلَيْهِ الْقَعْقَاعَ، وَنَزَلَ عَلِيٌّ بِحِيَالِهِمْ، فَنَزَلَتْ مُضَرُ إِلَى مُضَرَ، وَرَبِيعَةُ إِلَى رَبِيعَةَ، وَالْيَمَنُ إِلَى الْيَمَنِ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَخْرُجُ إِلَى بَعْضٍ لَا يَذْكُرُونَ إِلَّا الصُّلْحَ، وَكَانَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَخَرَجَ عَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ فَتَوَاقَفُوا فَلَمْ يَرَوْا أَمْرًا أَمْثَلَ مِنَ الصُّلْحِ وَوَضْعِ الْحَرْبِ، فَافْتَرَقُوا عَلَى ذَلِكَ. وَبَعَثَ عَلِيٌّ مِنَ الْعَشِيِّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ إِلَى طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَبَعَثَا هُمَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ إِلَى عَلِيٍّ، وَأَرْسَلَ عَلِيٌّ إِلَى رُؤَسَاءِ أَصْحَابِهِ، وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ إِلَى رُؤَسَاءِ أَصْحَابِهِمَا بِذَلِكَ، فَبَاتُوا بِلَيْلَةٍ لَمْ يَبِيتُوا بِمِثْلِهَا لِلْعَافِيَةِ الَّتِي أَشْرَفُوا عَلَيْهَا وَالصُّلْحِ، وَبَاتَ الَّذِينَ أَثَارُوا أَمْرَ عُثْمَانَ بِشَرٍّ لَيْلَةً وَقَدْ أَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَكَةِ، وَبَاتُوا يَتَشَاوَرُونَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى إِنْشَابِ الْحَرْبِ، فَغَدَوَا مَعَ الْغَلَسِ وَمَا يَشْعُرُ بِهِمْ، فَخَرَجُوا مُتَسَلِّلِينَ وَعَلَيْهِمْ ظُلْمَةٌ، فَقَصَدَ مُضَرُهُمْ إِلَى مُضَرِهِمْ، وَرَبِيعَتُهُمْ إِلَى رَبِيعَتِهِمْ، وَيَمَنُهُمْ إِلَى يَمَنِهِمْ، فَوَضَعُوا فِيهِمُ السِّلَاحَ، فَثَارَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَثَارَ كُلُّ قَوْمٍ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِمُ الَّذِينَ أَتَوْهُمْ، وَبَعَثَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ إِلَى الْمَيْمَنَةِ، وَهُمْ رَبِيعَةُ، أَمِيرًا عَلَيْهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَرْثِ، وَإِلَى الْمَيْسَرَةِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَتَّابٍ، وَثَبَتَا فِي الْقَلْبِ وَقَالَا: مَا هَذَا؟ قَالُوا: طَرَقَنَا أَهْلُ الْكُوفَةِ لَيْلًا. فَقَالَا: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ عَلِيًّا غَيْرَ مُنْتَهٍ حَتَّى يَسْفِكَ الدِّمَاءَ وَأَنَّهُ لَنْ يُطَاوِعَنَا. فَرَدَّ أَهْلُ الْبَصْرَةِ أُولَئِكَ الْكُوفِيِّينَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ. فَسَمِعَ عَلِيٌّ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ الصَّوْتَ، وَقَدْ وَضَعَ السَّبَئِيَّةُ رَجُلًا قَرِيبًا مِنْهُ يُخْبِرُهُ بِمَا يُرِيدُ، فَلَمَّا قَالَ عَلِيٌّ: مَا هَذَا؟ قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: مَا شَعُرْنَا إِلَّا وَقَوْمٌ مِنْهُمْ قَدْ بَيَّتُونَا فَرَدَدْنَاهُمْ فَوَجَدْنَا الْقَوْمَ عَلَى رَجُلٍ، فَرَكِبُونَا وَثَارَ النَّاسُ. فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ صَاحِبَ الْمَيْمَنَةِ إِلَى الْمَيْمَنَةِ وَصَاحِبَ الْمَيْسَرَةِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ غَيْرَ مُنْتَهِيَيْنِ حَتَّى يَسْفِكَا الدِّمَاءَ، وَأَنَّهُمَا لَنْ يُطَاوِعَانَا وَالسَّبَئِيَّةُ لَا تَفْتُرُ [إِنْشَابًا] ، وَنَادَى عَلِيٌّ فِي النَّاسِ: كُفُّوا فَلَا شَيْءَ، وَكَانَ مِنْ رَأْيِهِمْ جَمِيعًا فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ أَلَّا يَقْتَتِلُوا حَتَّى يَبْدَأُوا، يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ الْحُجَّةَ، وَأَنْ لَا يَقْتُلُوا مُدْبِرًا وَلَا يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يَسْتَحِلُّوا سَلَبًا، وَلَا يَرْزَأُوا بِالْبَصْرَةِ سِلَاحًا وَلَا ثِيَابًا وَلَا مَتَاعًا. وَأَقْبَلَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ حَتَّى أَتَى عَائِشَةَ فَقَالَ: أَدْرِكِي فَقَدْ أَبَى الْقَوْمُ إِلَّا الْقِتَالَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِكِ.

فَرَكِبَتْ وَأَلْبَسُوا هَوْدَجَهَا الْأَدْرَاعَ، فَلَمَّا بَرَزَتْ مِنَ الْبُيُوتِ وَهِيَ عَلَى الْجَمَلِ بِحَيْثُ تَسْمَعُ الْغَوْغَاءَ وَقَفَتْ، وَاقْتَتَلَ النَّاسُ. وَقَاتَلَ الزُّبَيْرُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَجَعَلَ يَحُوزُهُ بِالرُّمْحِ وَالزُّبَيْرُ كَافٌّ عَنْهُ وَيَقُولُ: أَتَقْتُلُنِي يَا أَبَا الْيَقْظَانِ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا كَفَّ الزُّبَيْرُ عَنْهُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» "، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَتَلَهُ. وَبَيْنَمَا عَائِشَةُ وَاقِفَةٌ إِذْ سَمِعْتُ ضَجَّةً شَدِيدَةً فَقَالَتْ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: ضَجَّةُ الْعَسْكَرِ. قَالَتْ: بِخَيْرٍ أَوْ بِشَرٍّ؟ قَالُوا: بِشَرٍّ، فَمَا فَجَأَهَا إِلَّا الْهَزِيمَةُ، فَمَضَى الزُّبَيْرُ مِنْ وَجْهِهِ إِلَى وَادِي السِّبَاعِ، وَإِنَّمَا فَارَقَ الْمَعْرَكَةَ لِأَنَّهُ قَاتَلَ تَعْذِيرًا لِمَا ذَكَرَ لَهُ عَلِيٌّ. وَأَمَّا طَلْحَةُ فَأَتَاهُ سَهْمُ غَرْبٍ فَأَصَابَهُ، فَشَكَّ رِجْلَهُ بِصَفْحَةِ الْفَرَسِ وَهُوَ يُنَادِي: إِلَيَّ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ! الصَّبْرَ الصَّبْرَ! فَقَالَ لَهُ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّكَ لَجَرِيحٌ، وَإِنَّكَ عَمَّا تُرِيدُ لَعَلِيلٌ، فَادْخُلِ الْبُيُوتَ. فَدَخَلَ وَدَمُهُ يَسِيلُ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ خُذْ لِعُثْمَانَ مِنِّي حَتَّى تَرْضَى، فَلَمَّا امْتَلَأَ خُفُّهُ دَمًا وَثَقُلَ قَالَ لِغُلَامِهِ: أَرْدِفْنِي وَأَمْسِكْنِي وَأَبْلِغْنِي مَكَانًا أَنْزِلُ فِيهِ. فَدَخَلَ الْبَصْرَةَ، فَأَنْزَلَهُ فِي دَارٍ خَرِبَةٍ فَمَاتَ فِيهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ اجْتَازَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مِنْ أَصْحَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: امْدُدْ يَدَكَ أُبَايِعُكَ لَهُ، فَبَايَعَهُ، فَخَافَ أَنْ يَمُوتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ. وَلَمَّا قَضَى دُفِنَ فِي بَنِي سَعْدٍ، وَقَالَ: لَمْ أَرَ شَيْخًا أَضْيَعَ دَمًا مِنِّي. وَتَمَثَّلَ عِنْدَ دُخُولِ الْبَصْرَةِ مَثَلَهُ وَمَثَلَ الزُّبَيْرِ: فَإِنْ تَكُنِ الْحَوَادِثُ أَقَصَدَتْنِي ... وَأَخْطَأَهُنَّ سَهْمِي حِينَ أَرْمِي فَقَدْ ضُيِّعْتُ حِينَ تَبِعْتُ سَهْمًا ... سَفَاهًا مَا سَفِهْتُ وَضَلَّ حِلْمِي نَدِمْتُ نَدَامَةَ الْكُسَعِيِّ لَمَّا ... شَرَيْتُ رِضَا بَنِي سَهْمٍ بِرَغْمِي

أَطَعْتُهُمُ بِفُرْقَةِ آلِ لِأْيٍ فَأَلْقَوْا لِلسِّبَاعِ دَمِي وَلَحْمِي وَكَانَ الَّذِي رَمَى طَلْحَةَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَقِيلَ غَيْرُهُ. وَأَمَّا الزُّبَيْرُ فَإِنَّهُ مَرَّ بِعَسْكَرِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هَذَا انْحِيَازٌ، جَمَعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى ضَرَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَحِقَ بِبَيْتِهِ. وَقَالَ الْأَحْنَفُ لِلنَّاسِ: مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِهِ؟ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ لِأَصْحَابِهِ: أَنَا، فَاتَّبَعَهُ، فَلَمَّا لَحِقَهُ نَظَرَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ قَالَ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ. فَقَالَ غُلَامٌ لِلزُّبَيْرِ اسْمُهُ عَطِيَّةُ: إِنَّهُ مُعَدٌّ. قَالَ: مَا يَهُولُكَ مِنْ رَجُلٍ! وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَقَالَ ابْنُ جُرْمُوزٍ: الصَّلَاةَ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: الصَّلَاةَ، فَلَمَّا نَزَلَا اسْتَدْبَرَهُ ابْنُ جُرْمُوزٍ فَطَعَنَهُ فِي جِرْبَانِ دِرْعِهِ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ وَخَاتَمَهُ وَخَلَّى عَنِ الْغُلَامِ، فَدَفَنَهُ بِوَادِي السِّبَاعِ، وَرَجَعَ إِلَى النَّاسِ بِالْخَبَرِ. وَقَالَ الْأَحْنَفُ لِابْنِ جُرْمُوزٍ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي، أَحْسَنْتَ أَمْ أَسَأْتَ. فَأَتَى ابْنُ جُرْمُوزٍ عَلِيًّا فَقَالَ لِحَاجِبِهِ: اسْتَأْذِنْ لِقَاتِلِ الزُّبَيْرِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ. وَأُحْضِرُ سَيْفُ الزُّبَيْرِ عِنْدَ عَلِيٍّ فَأَخَذَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ: طَالَمَا جَلَّى بِهِ الْكَرْبَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! وَبَعَثَ بِهِ إِلَى عَائِشَةَ لَمَّا انْجَلَتِ الْوَقْعَةُ وَانْهَزَمَ النَّاسُ يُرِيدُونَ الْبَصْرَةَ، فَلَمَّا رَأَوُا الْخَيْلَ أَطَافَتْ بِالْجَمَلِ عَادُوا قَلْبًا كَمَا كَانُوا حَيْثُ الْتَقَوْا وَعَادُوا فِي أَمْرٍ جَدِيدٍ، وَوَقَفَتْ رَبِيعَةُ بِالْبَصْرَةِ مَيْمَنَةً وَبَعْضُهُمْ مَيْسَرَةً، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: (لَمَّا انْجَلَتِ الْوَقْعَةُ وَانْهَزَمَ النَّاسُ) لِكَعْبِ بْنِ سُورٍ: خَلِّ عَنِ الْجَمَلِ وَتَقَدَّمْ بِالْمُصْحَفِ فَادْعُهُمْ إِلَيْهِ. وَنَاوَلَتْهُ مُصْحَفًا. فَاسْتَقْبَلَ الْقَوْمُ وَالسَّبَئِيَّةُ أَمَامَهُمْ فَرَمَوْهُ رَشْقًا وَاحِدًا فَقَتَلُوهُ، وَرَمَوْا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَوْدَجِهَا، فَجَعَلَتْ تُنَادِي: الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ يَا بُنَيَّ! وَيُعْلُوا صَوْتُهَا كَثْرَةً: اللَّهَ اللَّهَ! اذْكُرُوا اللَّهَ وَالْحِسَابَ! فَيَأْبَوْنَ إِلَّا إِقْدَامًا، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ أَحْدَثَتْهُ حِينَ أَبَوْا أَنْ قَالَتْ: أَيُّهَا النَّاسُ الْعَنُوا قَتَلَةَ عُثْمَانَ وَأَشْيَاعَهُمْ. وَأَقْبَلَتْ تَدْعُوَا، وَضَجَّ النَّاسُ بِالدُّعَاءِ، فَسَمِعَ عَلِيٌّ فَقَالَ: مَا

هَذِهِ الضَّجَّةُ؟ قَالُوا: عَائِشَةُ تَدْعُو عَلَى قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَأَشْيَاعِهِمْ. فَقَالَ عَلِيٌّ: اللَّهُمَّ الْعَنْ قَتَلَةَ عُثْمَانَ! فَأَرْسَلَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَتَّابٍ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَرْثِ بْنِ هِشَامٍ أَنِ اثْبُتَا مَكَانَكُمَا، وَحَرَّضَتِ النَّاسَ حِينَ رَأَتِ الْقَوْمَ يُرِيدُونَهَا وَلَا يَكُفُّونَ، فَحَمَلَتْ مُضَرُ الْبَصْرَةِ حَتَّى قَصَفَتْ مُضَرَ الْكُوفَةِ حَتَّى زُحِمَ عَلِيٌّ، فَنَخَسَ قَفَا ابْنِهِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَتِ الرَّايَةُ مَعَهُ، وَقَالَ لَهُ: احْمِلْ! فَتَقَدَّمَ حَتَّى لَمْ يَجِدْ مُتَقَدَّمًا إِلَّا عَلَى سِنَانِ رُمْحٍ، فَأَخَذَ عَلِيٌّ الرَّايَةَ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ: يَا بُنَيَّ بَيْنَ يَدَيَّ. وَحَمَلَتْ مُضَرُ الْكُوفَةِ، فَاجْتَلَدُوا قُدَّامَ الْجَمَلِ حَتَّى ضُرِسُوا وَالْمُجَنِّبَتَانِ عَلَى حَالِهِمَا لَا تَصْنَعُ شَيْئًا، وَمَعَ عَلِيٍّ قَوْمٌ مِنْ غَيْرِ مُضَرَ، مِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، طَلَبُوا ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: تَنَحَّ إِلَى قَوْمِكَ، مَا لَكَ وَلِهَذَا الْمَوْقِفِ؟ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مُضَرَ بِحِيَالِكَ، وَالْجَمَلَ بَيْنَ يَدَيْكَ وَأَنَّ الْمَوْتَ دُونَهُ؟ فَقَالَ: الْمَوْتُ خَيْرٌ مِنَ الْحَيَاةِ، الْمَوْتُ أُرِيدُ، فَأُصِيبَ هُوَ وَأَخُوهُ سَيْحَانُ، وَارْتُثَّ صَعْصَعَةُ أَخُوهُمَا، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ ذَلِكَ بَعَثَ إِلَى رَبِيعَةَ وَإِلَى الْيَمَنِ أَنِ اجْمَعُوا مَنْ يَلِيكُمْ. فَقَامَ رَجُلٌ مَنْ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ فَقَالَ: نَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ. فَقَالُوا: وَكَيْفَ يَدْعُونَا إِلَيْهِ مَنْ لَا يَسْتَقِيمُ وَلَا يُقِيمُ حُدُودَ اللَّهِ، وَقَدْ قَتَلَ كَعْبَ بْنَ سُورٍ دَاعِيَ اللَّهِ! وَرَمَتْهُ رَبِيعَةُ رَشْقًا وَاحِدًا فَقَتَلُوهُ، فَقَامَ مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ مَكَانَهُ، فَرَشَقُوهُ رَشْقًا وَاحِدًا فَقَتَلُوهُ، وَدَعَتْ يَمَنُ الْكُوفَةِ يَمَنَ الْبَصْرَةِ فَرَشَقُوهُمْ، وَأَبَى أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَّا الْقِتَالَ، وَلَمْ يُرِيدُوا إِلَّا عَائِشَةَ، فَذَكَرَتْ أَصْحَابَهَا فَاقْتَتَلُوا حَتَّى تَنَادَوْا، فَتَحَاجَزُوا ثُمَّ رَجَعُوا، فَاقْتَتَلُوا، وَتَزَاحَفَ النَّاسُ، وَظَهَرَتْ يَمَنُ الْبَصْرَةِ عَلَى يَمَنِ الْكُوفَةِ فَهَزَمَتْهُمْ، وَرَبِيعَةُ الْبَصْرَةِ عَلَى رَبِيعَةِ الْكُوفَةِ فَهَزَمَتْهُمْ، ثُمَّ عَادَ يَمَنُ الْكُوفَةِ فَقُتِلَ عَلَى رَايَتِهِمْ عَشَرَةٌ، خَمْسَةٌ مِنْ هَمْدَانَ، وَخَمْسَةٌ مِنْ سَائِرِ الْيَمَنِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ أَخَذَهَا فَثَبَتَتْ فِي يَدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عِشْتِ يَا نَفْسِي وَقَدْ غَنِيتِ ... دَهْرًا فَقَدْكِ الْيَوْمَ مَا بَقِيتِ أَطْلُبُ طُولَ الْعُمْرِ مَا حَيِيتِ

وَإِنَّمَا تَمَثَّلَهَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَمِرَانِ الْهَمْدَانِيُّ: جَرَّدْتُ سَيْفِي فِي رِجَالِ الْأَزْدِ ... أَضْرِبُ فِي كَهَوْلِهِمْ وَالْمُرْدِ كُلَّ طَوِيلِ السَّاعِدَيْنِ نَهْدِ وَرَجَعَتْ رَبِيعَةُ الْكُوفَةَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ عَلَى رَايَتِهِمْ، وَهُمْ فِي الْمَيْسَرَةِ: زَيْدٌ، وَعَبْدُ بْنِ رَقَبَةَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ رَاشِدِ بْنِ سَلْمَى وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ هَدَيْتَنَا مِنَ الضَّلَالَةِ، وَاسْتَنْقَذْتَنَا مِنَ الْجَهَالَةِ، وَابْتَلَيْتَنَا بِالْفِتْنَةِ، فَكُنَّا فِي شُبْهَةٍ وَعَلَى رِيبَةٍ وَقَتْلٍ. وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ حَتَّى لَزِقَتْ مَيْمَنَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِقَلْبِهِمْ وَمَيْسَرَةُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِقَلْبِهِمْ، وَمَنَعُوا مَيْمَنَةَ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنْ يَخْتَلِطُوا بِقَلْبِهِمْ وَإِنْ كَانُوا إِلَى جَنْبِهِمْ، وَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ مَيْسَرَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِمَيْمَنَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَلَمَّا رَأَى الشُّجْعَانُ مِنْ مُضَرِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ الصَّبْرَ تَنَادَوْا: طَرِّفُوا إِذَا فَرَغَ الصَّبْرُ، فَجَعَلُوا يَقْصِدُونَ الْأَطْرَافَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلَ، فَمَا رُؤِيَ وَقْعَةٌ كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْهَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، وَلَا أَكْثَرَ ذَرَاعًا مَقْطُوعَةً وَلَا رِجْلًا مَقْطُوعَةً، وَأُصِيبَتْ يَدُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابٍ قَبْلَ قَتْلِهِ. فَنَظَرَتْ عَائِشَةُ مِنْ يَسَارِهَا فَقَالَتْ: مَنِ الْقَوْمُ عَنْ يَسَارِي؟ قَالَ صَبْرَةُ بْنُ شَيْمَانَ: بَنُوكِ الْأَزْدُ. فَقَالَتْ: يَا آلَ غَسَّانَ حَافِظُوا الْيَوْمَ [عَلَى] جِلَادِكُمُ الَّذِي كُنَّا نَسْمَعُ بِهِ، وَتَمَثَّلَتْ: وَجَالَدَ مِنْ غَسَّانَ أَهْلُ حِفَاظِهَا ... وَهِنْبٌ وَأَوْسٌ جَالَدَتْ وَشَبِيبُ فَكَانَ الْأَزْدُ يَأْخُذُونَ بَعْرَ الْجَمَلِ يَشُمُّونَهُ وَيَقُولُونَ: بَعْرُ جَمَلِ أُمِّنَا رِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ. وَقَالَتْ لِمَنْ عَنْ يَمِينِهَا: مَنِ الْقَوْمُ عَنْ يَمِينِي؟ قَالُوا: بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ. قَالَتْ: لَكُمْ يَقُولُ الْقَائِلُ: وَجَاؤُوا إِلَيْنَا فِي الْحَدِيدِ كَأَنَّهُمْ ... مِنِ الْعِزَّةِ الْقَعْسَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلِ إِنَّمَا بِإِزَائِكُمْ عَبْدُ الْقَيْسِ. فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ مِنْ قِتَالِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَقْبَلَتْ عَلَى كَتِيبَةٍ بَيْنَ

يَدَيْهَا فَقَالَتْ: مَنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: بَنُو نَاجِيَةَ. قَالَتْ: بَخٍ بَخٍ، سُيُوفٌ أَبْطَحِيَّةٌ قُرَشِيَّةٌ! فَجَالَدُوا جِلَادًا يُتَفَادَى مِنْهُ. ثُمَّ أَطَافَتْ بِهَا بَنُو ضَبَّةَ فَقَالَتْ: وَيْهًا جَمْرَةَ الْجَمَرَاتِ! فَلَمَّا رَقُّوا خَالَطَهُمْ بَنُو عَدِيِّ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ، وَكَثُرُوا حَوْلَهَا، فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: بَنُو عَدِيٍّ خَالَطْنَا إِخْوَتَنَا، فَأَقَامُوا رَأْسَ الْجَمَلِ وَضَرَبُوا ضَرْبًا شَدِيدًا لَيْسَ بِالتَّعْذِيرِ، وَلَا يَعْدِلُونَ بِالتَّطْرِيفِ، حَتَّى إِذَا كَثُرَ ذَلِكَ، وَظَهَرَ فِي الْعَسْكَرَيْنِ جَمِيعًا رَامُوا الْجَمَلَ وَقَالُوا: لَا يَزَالُ الْقَوْمُ أَوْ يُصْرَعُ الْجَمَلُ، وَصَارَ مُجَنِّبَتَا عَلِيٍّ إِلَى الْقَلْبِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَكَرِهَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَأَخَذَ عَمِيرَةُ بْنُ يَثْرِبِيٍّ بِرَأْسِ الْجَمَلِ، وَكَانَ قَاضِي الْبَصْرَةِ، قَبْلَ كَعْبِ بْنِ سُورٍ، فَشَهِدَ الْجَمَلَ هُوَ وَأَخُوهُ (عَبْدُ اللَّهِ) ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَنْ يَحْمِلُ عَلَى الْجَمَلِ؟ فَانْتَدَبَ لَهُ هِنْدُ بْنُ عَمْرٍو الْجَمَلِيُّ الْمُرَادِيُّ، فَاعْتَرَضَهُ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَقَتَلَهُ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ، ثُمَّ حَمَلَ عِلْبَاءُ بْنُ الْهَيْثَمِ فَاعْتَرَضَهُ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ فَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ سَيْحَانَ بْنَ صُوحَانَ، وَارْتُثَّ صَعْصَعَةُ، وَقَالَ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ: أَنَا لِمَنْ يُنْكِرُنِي ابْنُ يَثْرِبِي ... قَاتِلُ عِلْبَاءَ وَهِنْدِ الْجَمَلِي وَابْنٍ لِصُوحَانَ عَلَى دِينِ عَلِي وَقَالَ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ أَيْضًا أَضْرِبُهُمْ وَلَا أَرَى أَبَا حَسَنْ ... كَفَى بِهَذَا حَزَنًا مِنَ الْحَزَنْ إِنَّا نُمِرُّ الْأَمْرَ إِمْرَارَ الرَّسَنْ فَنَادَاهُ عَمَّارٌ: لَقَدْ عُذْتَ بِحُرَيْزٍ، وَمَا إِلَيْكَ مِنْ سَبِيلٍ، فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَاخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الْكَتِيبَةِ إِلَيَّ. فَتَرَكَ الزِّمَامَ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ، حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ تَقَدَّمَ عَمَّارٌ، وَهُوَ ابْنُ تِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، عَلَيْهِ فَرْوٌ قَدْ شَدَّ وَسَطَهُ بِحَبْلِ لِيفٍ، وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ مُبَارِزِهِ، وَاسْتَرْجَعَ النَّاسُ وَقَالُوا: هَذَا لَاحِقٌ بِأَصْحَابِهِ، وَضَرَبَهُ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ فَاتَّقَاهُ عَمَّارٌ بِدَرَقَتِهِ فَنَشِبَ سَيْفُهُ فِيهَا فَلَمْ يَخْرُجْ، وَأَسَفَّ عَمَّارٌ

لِرِجْلَيْهِ فَضَرَبَهُ فَقَطَعَهُمَا، فَوَقَعَ عَلَى اسْتِهِ، وَأُخِذَ أَسِيرًا، فَأُتِيَ بِهِ إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: اسْتَبْقِنِي. فَقَالَ: أَبَعْدَ ثَلَاثَةٍ تَقْتُلُهُمْ! وَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَقْتُولَ عَمْرُو بْنُ يَثْرِبِيٍّ، وَإِنَّ عَمِيرَةَ بَقِيَ حَتَّى وَلِيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ تَوَلَّى ذَلِكَ الْعَدَوِيُّ الزِّمَامَ، فَتَرَكَهُ بِيَدِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ وَبَرَزَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَبِيعَةُ الْعُقَيْلِيُّ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: يَا أُمَّتَا أَعَقَّ أُمٍّ نَعْلَمُ ... وَالْأُمُّ تَغْذُو وَلَدًا وَتَرْحَمُ أَلَا تَرَيْنَ كَمْ شُجَاعٍ يُكْلَمُ ... وَتُخْتَلَى مِنْهُ يَدٌ وَمِعْصَمُ (كَذَبَ فَهِيَ مِنْ أَبَرِّ أُمٍّ نَعْلَمُ ) . ثُمَّ اقْتَتَلَا، فَأَثْخَنَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَمَاتَا جَمِيعًا، وَقَامَ مَقَامَ الْعَدَوِيِّ الْحَرْثُ الضَّبِّيُّ، فَمَا رُؤِيَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَجَعَلَ يَقُولُ: نَحْنُ بَنُو ضَبَّةَ أَصْحَابُ الْجَمَلْ ... نُبَارِزُ الْقَرْنَ إِذَا الْقَرْنُ نَزَلْ نَنْعَى ابْنَ عَفَّانَ بِأَطْرَافِ الْأَسَلْ ... الْمَوْتُ أَحْلَى عِنْدِنَا مِنَ الْعَسَلْ رُدُّوا عَلَيْنَا شَيْخَنَا ثُمَّ بَجَلْ

وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ لِوَسِيمِ بْنِ عَمْرٍو الضَّبِّيِّ. وَكَانَ عَمْرٌو يُحَرِّضُ أَصْحَابَهُ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَقَدْ أَخَذَ الْخِطَامَ، وَيَقُولُ: نَحْنُ بَنُو ضَبَّةَ لَا نَفِرُّ حَتَّى نَرَى جَمَاجِمًا تَخِرُّ يَخِرُّ مِنْهَا الْعَلَقُ الْمُحْمَرُّ وَيَقُولُ: يَا أُمَّتَا يَا عَيْشُ لَنْ تُرَاعِي ... كُلُّ بَنِيكِ بَطَلٌ شُجَاعُ وَيَقُولُ: يَا أُمَّتَا يَا زَوْجَةَ النَّبِيِّ ... يَا زَوْجَةَ الْمُبَارَكِ الْمَهْدِيِّ وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ عَلَى الْخِطَامِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا. قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا زَالَ جَمَلِي مُعْتَدِلًا حَتَّى فَقَدْتُ أَصْوَاتِ بَنِي ضَبَّةَ. قَالَ: وَأَخَذَ الْخِطَامَ سَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كُلُّهُمْ يُقْتَلُ وَهُوَ آخِذٌ بِخِطَامِ الْجَمَلِ، وَكَانَ مِمَّنْ أَخَذَ بِزِمَامِ الْجَمَلِ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، وَقَالَ: يَا أُمَّتَاهُ مُرِينِي بِأَمْرِكِ. قَالَتْ: آمُرُكَ أَنْ تَكُونَ خَيْرَ بَنِي آدَمَ إِنْ تَرَكْتَ، فَجَعَلَ لَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا حَمَلَ [عَلَيْهِ] ، وَقَالَ: حَامِيمْ لَا يُنْصَرُونَ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ نَفَرٌ كُلُّهُمُ ادَّعَى قَتْلَهُ، الْمُكَعْبَرُ الْأَسَدِيُّ، وَالْمُكَعْبَرُ الضَّبِّيُّ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ شَدَّادٍ الْعَبْسِيُّ، وَعَفَّانُ السَّعْدِيُّ النَّصْرِيُّ، فَأَنْفَذَهُ بَعْضُهُمْ بِالرُّمْحِ، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ: وَأَشْعَثَ قَوَّامٍ بِآيَاتِ رَبِّهِ ... قَلِيلِ الْأَذَى فِيمَا تَرَى الْعَيْنُ مُسْلِمِ

هَتَكْتُ لَهُ بِالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ ... يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ ... عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ غَيْرَ أَنْ لَيْسَ تَابِعًا عَلِيًّا وَمَنْ لَا يَتْبَعُ الْحَقَّ يَنْدَمِ وَأَخَذَ الْخِطَامَ عَمْرُو بْنُ الْأَشْرَفِ فَجَعْلَ لَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا خَبَطَهُ بِالسَّيْفِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ الْحَرْثُ بْنُ زُهَيْرٍ الْأَزْدِيُّ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أُمَّتَا يَا خَيْرَ أُمٍّ نَعْلَمُ ... أَمَا تَرَيْنَ كَمْ شُجَاعٍ يُكَلَمُ وَتُخْتَلَى هَامَتُهُ وَالْمِعْصَمُ فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَقَتَلَ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحَبَهُ، وَأَحْدَقَ أَهْلُ النَّجْدَاتِ وَالشَّجَاعَةِ بِعَائِشَةَ، فَكَانَ لَا يَأْخُذُ الْخِطَامَ أَحَدٌ إِلَّا قُتِلَ، وَكَانَ لَا يَأْخُذُهُ وَالرَّايَةَ إِلَّا مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُطِيفِينَ بِالْجَمَلِ فَيَنْتَسِبُ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَوَاللَّهِ إِنْ كَانَ لَيُقَاتِلُونِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَلْمَوْتُ لَا يُوَصَّلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِطِلْبَةٍ وَعَنَتٍ، وَمَا رَامَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ إِلَّا قُتِلَ أَوْ أَفْلَتَ ثُمَّ لَمْ يَعُدْ، وَحَمَلَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الطَّائِيُّ عَلَيْهِمْ، فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ، وَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: ابْنُكِ ابْنُ أُخْتِكِ. قَالَتْ: وَاثُكْلَ أَسْمَاءَ! وَانْتَهَى إِلَيْهِ الْأَشْتَرُ، فَاقْتَتَلَا، فَضَرْبَهُ الْأَشْتَرُ عَلَى رَأْسِهِ فَجَرَحَهُ جُرْحًا شَدِيدًا، وَضَرْبَهُ عَبْدُ اللَّهِ ضَرْبَةً خَفِيفَةً، وَاعْتَنَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمَا صَاحَبَهُ وَسَقَطَا إِلَى الْأَرْضِ يَعْتَرِكَانِ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: اقْتُلُونِي وَمَالِكًا وَاقْتُلُوا مَالِكًا مَعِي. فَلَوْ يَعْلَمُونَ مَنْ مَالِكٌ لَقَتَلُوهُ، إِنَّمَا كَانَ يُعَرَفُ بِالْأَشْتَرِ، فَحَمَلَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ فَخَلَّصُوهُمَا. قَالَ الْأَشْتَرُ: لَقِيتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَتَّابٍ، فَلَقِيتُ أَشَدَّ النَّاسِ وَأَخْرَقَهُ مَا لَبِثْتُ أَنْ قَتَلْتُهُ، وَلَقِيتُ الْأَسْوَدَ بْنَ عَوْفٍ فَلَقِيَتُ أَشَدَّ النَّاسِ وَأَشْجَعَهُ، فَمَا كِدْتُ أَنْجُو

مِنْهُ، فَتَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ لَقِيتُهُ، وَلَحِقَنِي جُنْدُبُ بْنُ زُهَيْرٍ الْغَامِدِيُّ فَضَرَبْتُهُ فَقَتَلْتُهُ، قَالَ: وَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَعِنْدَهُ رَايَةُ قُرَيْشٍ، وَهُوَ يُقَاتِلُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، وَهُمَا يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ، فَتَعَاوَرْنَاهُ فَقَتَلْنَاهُ. قَالَ: وَأَخَذَ الْخِطَامَ الْأَسْوَدُ بْنُ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، فَقُتِلَ، وَهُوَ قِرْشِيٌّ أَيْضًا، وَأَخْذَهُ عَمْرُو بْنُ الْأَشْرَفِ فَقُتِلَ، وَقُتِلَ مَعَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ أَزْدِيٌّ، وَجُرِحَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَجُرِحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ جِرَاحَةً مِنْ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ، قَالَ: وَمَا رَأَيْتُ مِثْلَ يَوْمِ الْجَمَلِ، مَا يَنْهَزِمُ مِنَّا أَحَدٌ، وَمَا نَحْنُ إِلَّا كَالْجَبَلِ الْأَسْوَدِ، وَمَا يَأْخُذُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ أَحَدٌ إِلَّا قُتِلَ حَتَّى ضَاعَ الْخِطَامُ، وَنَادَى عَلِيٌّ: اعْقِرُوا الْجَمَلَ فَإِنَّهُ إِنْ عُقِرَ تَفَرَّقُوا، فَضَرَبَهُ رَجُلٌ فَسَقَطَ، فَمَا سَمِعْتُ صَوْتًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْ عَجِيجِ الْجَمَلِ. وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَزْدِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَعَ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ فَقُتِلَ وَأَخَذَهَا الصَّقْعَبُ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمٍ فَقُتِلَ، وَأَخَذَهَا الْعَلَاءُ بْنُ عُرْوَةَ، فَكَانَ الْفَتْحُ وَهِيَ بِيَدِهِ. وَكَانَتْ رَايَةُ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَعَ الْقَاسِمِ بْنِ سُلَيْمٍ فَقُتِلَ، وَقُتِلَ مَعَهُ زَيْدٌ وَسَيْحَانُ ابْنَا صُوحَانَ، وَأَخَذَهَا عِدَّةُ نَفَرٍ فَقُتِلُوا، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُقَيَّةَ، ثُمَّ أَخَذَهَا مُنْقِذُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَدَفَعَهَا إِلَى ابْنِهِ مُرَّةَ بْنَ مُنْقِذٍ، فَانْقَضَتِ الْحَرْبُ وَهِيَ فِي يَدِهِ. وَكَانَتْ رَايَةُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ فِي بَنِي ذُهْلٍ، مَعَ الْحَارِثِ بْنِ حَسَّانَ الذُّهْلِيِّ، فَأَقْدَمَ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ بِكْرٍ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ لَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ مَنْزِلَةِ صَاحِبِكُمْ [فَانْصُرُوهُ] ، فَتَقَدَّمَ وَقَاتَلَهُمْ فَقُتِلَ ابْنُهُ وَخَمْسَةٌ مِنْ بَنِي أَهْلِهِ، وَقُتِلَ الْحَارِثُ فَقِيلَ فِيهِ: أَنْعَى الرَّئِيسَ الْحَارْثَ بْنَ حَسَّانْ ... لِآلِ ذُهْلٍ وَلِآلِ شَيْبَانْ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ذُهْلٍ: تَنْعَى لَنَا خَيْرَ امْرِئٍ مِنْ عَدْنَانْ ... عِنْدَ الطِّعَانِ وَنِزَالِ الْأَقْرَانْ وَقَالَ أَخُوهُ بِشْرُ بْنُ حَسَّانَ: أَنَا ابْنُ حَسَّانَ بْنِ خُوطٍ وَأَبِي ... رَسُولُ بَكْرٍ كُلِّهَا إِلَى النَّبِي وَقُتِلَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَحْدُوجٍ، وَقُتِلَ مِنْ بَنِي ذُهْلٍ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا، وَقَالَ رَجُلٌ

لِأَخِيهِ وَهُوَ يُقَاتِلُ: يَا أَخِي مَا أَحْسَنَ قِتَالَنَا إِنْ كُنَّا عَلَى الْحَقِّ! قَالَ: فَإِنَّا عَلَى الْحَقِّ، إِنَّ النَّاسَ أَخَذُوا يَمِينًا وَشِمَالًا، وَإِنَّا تَمَسَّكْنَا بِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا، فَقَاتَلَا حَتَّى قُتِلَا. وَجُرِحَ يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ الْأَهْلَبِ الضَّبِّيُّ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَهُوَ فِي الْجَرْحَى يَفْحَصُ بِرِجْلَيْهِ وَيَقُولُ: لَقَدْ أَوْرَدَتْنَا حَوْمَةَ الْمَوْتِ أَمُّنَا ... فَلَمْ نَنْصَرِفْ إِلَّا وَنَحْنُ رِوَاءُ لَقَدْ كَانَ فِي نَصْرِ ابْنِ ضَبَّةَ أُمَّهُ ... وَشِيعَتَهَا مَنْدُوحَةٌ وَغَنَاءُ أَطَعْنَا قُرَيْشًا (ضِلَّةً مِنْ) حُلُومِنَا ... وَنُصْرَتُنَا أَهْلَ الْحِجَازِ عَنَاءُ أَطَعْنَا بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ شِقْوَةً ... وَهَلْ تَيْمٌ إِلَّا أَعْبُدٌ وَإِمَاءُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: ادْنُ مِنِّي فَلَقِّنِي فَبِي صَمَّمٌ. فَدَنَا مِنْهُ الرَّجُلُ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ فَعَضَّ أُذُنَهُ فَقَطَعَهَا. وَقِيلَ فِي عَقْرِ الْجَمَلِ: إِنَّ الْقَعْقَاعَ لَقِيَ الْأَشْتَرَ وَقَدْ عَادَ مِنَ الْقِتَالِ عِنْدَ الْجَمَلِ فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي الْعَوْدِ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ. فَقَالَ: يَا أَشْتَرُ بَعْضُنَا أَعْلَمُ بِقِتَالِ بَعْضٍ مِنْكَ، وَحَمَلَ الْقَعْقَاعُ وَالزِّمَامُ مَعَ زُفَرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ أَخَذَ الْخِطَامَ، فَلَمْ يَبْقَ شَيْخٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ إِلَّا أُصِيبَ قُدَّامَ الْجَمَلِ، وَزُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: يَا أُمَّتَا مِثْلُكِ لَا يُرَاعْ ... كُلُّ بَنِيكِ بَطَلٌ شُجَاعْ لَيْسَ بِوِهْوَاهٍ وَلَا بِرَاعٍ وَقَالَ الْقَعْقَاعُ:

إِذَا وَرَدْنَا آجِنًا جَهَرْنَاهْ ... وَلَا يُطَاقُ وِرْدُ مَا مَنَعْنَاهْ وَزَحْفَ إِلَى زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكَلَّائِيِّ، وَتَسَرَّعَتْ عَامِرٌ إِلَى حَرْبِهِ فَأُصِيبُوا، فَقَالَ الْقَعْقَاعُ لِبُجَيْرِ بْنِ دُلْجَةَ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ: يَا بُجَيْرُ بْنَ دُلْجَةَ صِحْ بِقَوْمِكَ فَلْيَعْقِرُوا الْجَمَلَ قَبْلَ أَنْ تُصَابُوا وَتُصَابَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ بُجَيْرٌ: يَا آلَ ضَبَّةَ! يَا عَمْرَو بْنَ دُلْجَةَ! ادْعُ بِي إِلَيْكَ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ: أَنَا آمِنٌ حَتَّى أَرْجِعَ عَنْكُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَاجْتَثَّ سَاقَ الْبَعِيرِ، فَرَمَى نَفْسَهُ عَلَى شِقِّهِ وَجَرْجَرَ الْبَعِيرَ، فَقَالَ الْقَعْقَاعُ لِمَنْ يَلِيهِ: أَنْتُمْ آمِنُونَ. وَاجْتَمَعَ هُوَ وَزُفَرُ عَلَى قَطْعِ بِطَانِ الْبَعِيرِ، وَحَمَلَا الْهَوْدَجَ فَوَضَعَاهُ، (وَإِنَّهُ كَالْقُنْفُذِ لِمَا فِيهِ مِنَ السِّهَامِ) ، ثُمَّ أَطَافَا بِهِ، وَفَرَّ مَنْ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ. فَلَمَّا انْهَزَمُوا أَمَرَ عَلِيٌّ مُنَادِيًا فَنَادَى: أَلَا لَا تَتْبَعُوا مُدْبِرًا، وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا تَدْخُلُوا الدُّورَ. وَأَمَرَ عَلِيٌّ نَفَرًا أَنْ يَحْمِلُوا الْهَوْدَجَ مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى، وَأَمَرَ أَخَاهَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهَا قُبَّةً، وَقَالَ: انْظُرْ هَلْ وَصَلَ إِلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ جِرَاحَةٍ؟ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فِي هَوْدَجِهَا، فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَبْغَضُ أَهْلِكِ إِلَيْكِ. قَالَتِ ابْنُ الْخَثْعَمِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: يَا بِأَبِي، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَاكَ! وَقِيلَ: لَمَّا سَقَطَ الْجَمَلُ أَقْبَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ إِلَيْهِ وَمَعَهُ عَمَّارٌ، فَاحْتَمَلَا الْهَوْدَجَ فَنَحَّيَاهُ، فَأَدْخَلَ مُحَمَّدٌ يَدَهُ فِيهِ، فَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَخُوكِ الْبَرُّ. قَالَتْ: عُقَقِ! قَالَ: يَا أُخَيَّةُ هَلْ أَصَابَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ مَا أَنْتَ وَذَاكَ؟ قَالَ: فَمَنْ إِذًا الضُّلَّالُ؟ قَالَتْ: بَلِ الْهُدَاةُ. وَقَالَ لَهَا عَمَّارٌ: كَيْفَ رَأَيْتِ ضَرْبَ بَنِيكِ الْيَوْمَ يَا أُمَّاهُ؟ قَالَتْ: لَسْتُ لَكَ بِأُمٍّ. قَالَ: بَلَى وَإِنْ كَرِهْتِ. قَالَتْ: فَخَرْتُمْ أَنْ ظَفِرْتُمْ، وَأَتَيْتُمْ مِثْلَ الَّذِي نَقَمْتُمْ، هَيْهَاتَ، وَاللَّهِ لَنْ يَظْفَرَ مَنْ كَانَ هَذَا دَأْبُهُ! فَأَبْرَزُوا هَوْدَجَهَا فَوَضَعُوهَا لَيْسَ قُرْبَهَا أَحَدٌ. وَأَتَاهَا عَلِيٌّ: فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتِ يَا أُمَّهْ؟ قَالَتْ: بِخَيْرٍ. قَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكِ. قَالَتْ: وَلَكَ. وَجَاءَ أَعْيَنُ بْنُ ضُبَيْعَةَ (ابْنُ أَعْيَنَ)

الْمُجَاشِعِيُّ حَتَّى اطَّلَعَ فِي الْهَوْدَجِ، فَقَالَتْ: إِلَيْكَ لَعَنَكَ اللَّهُ! فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَى إِلَّا حُمَيْرَاءَ! فَقَالَتْ لَهُ: هَتَكَ اللَّهُ سِتْرَكَ، وَقَطَعَ يَدَكَ وَأَبْدَى عَوْرَتَكَ. فَقُتِلَ بِالْبَصْرَةِ، وَسُلِبَ، وَقُطِعَتْ يَدُهُ وَرُمِيَ عُرْيَانًا فِي خَرِبَةٍ مِنْ خَرِبَاتٍ الْأَزْدِ. ثُمَّ أَتَى وُجُوهُ النَّاسِ عَائِشَةَ، وَفِيهِمُ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُ بِالْأَمْسِ رَجُلَيْنِ اجْتَلَدَا وَارْتَجَزَا بِكَذَا، فَهَلْ تَعْرِفُ كُوفِيَّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، ذَاكَ الَّذِي قَالَ: أَعَقُّ أُمٍّ نَعْلَمُ، وَكَذَبَ، إِنَّكِ لَأَبَرُّ أُمٍّ نَعْلَمُ وَلَكِنْ لَمْ تُطَاعِي. قَالَتْ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً. وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا فَأَتَى عَلِيًّا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي مِتُّ مِنْ قَبْلِ الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً. وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ ذَلِكَ الْيَوْمَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنِ الْقِتَالِ: إِلَيْكَ أَشْكُو عُجَرِي وَبُجَرِي ... وَمَعْشَرًا أَغْشَوْا عَلَيَّ بَصَرِي قَتَلْتُ مِنْهُمْ مُضَرًا بِمُضَرِي ... شَفَيْتُ نَفْسِي وَقَتَلْتُ مَعْشَرِي فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَدْخَلَهَا أَخُوهَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْبَصْرَةَ، فَأَنْزَلَهَا فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيِّ عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، وَهِيَ أُمُّ طَلْحَةَ الطَّلْحَاتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ، وَتَسَلَّلَ الْجَرْحَى مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى لَيْلًا فَدَخَلُوا الْبَصْرَةَ، فَأَقَامَ عَلِيٌّ بِظَاهِرِ الْبَصْرَةِ ثَلَاثًا، وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِي دَفْنِ مَوْتَاهُمْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِمْ فَدَفَنُوهُمْ، وَطَافَ عَلِيٌّ فِي الْقَتْلَى، فَلَمَّا أَتَى عَلَى كَعْبِ بْنِ سُورٍ قَالَ: أَزْعَمْتُمْ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَهُمُ السُّفَهَاءُ، وَهَذَا الْحَبْرُ قَدْ تَرَوْنَ! وَأَتَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابٍ فَقَالَ: هَذَا يَعْسُوبُ الْقَوْمِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيفُونَ بِهِ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى الرِّضَا بِهِ

لِصَلَاتِهِمْ. وَمَرَّ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ صَرِيعٌ فَقَالَ: لَهْفِي عَلَيْكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ أَنْ أَرَى قُرَيْشًا صَرْعَى، أَنْتَ وَاللَّهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَتًى كَانَ يُدْنِيهِ الْغِنَى مِنْ صَدِيقِهِ إِذَا مَا هُوَ اسْتَغْنَى وَيُبْعِدُهُ الْفَقْرُ وَجَعَلَ كُلَّمَا مَرَّ بِرَجُلٍ فِيهِ خَيْرٌ قَالَ: زَعَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا إِلَّا الْغَوْغَاءُ وَهَذَا الْعَابِدُ الْمُجْتَهِدُ فِيهِمْ. وَصَلَّى عَلِيٌّ عَلَى الْقَتْلَى مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَصَلَّى عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَأَمَرَ فَدُفِنَتِ الْأَطْرَافُ فِي قَبْرٍ عَظِيمٍ، وَجَمَعَ مَا كَانَ فِي الْعَسْكَرِ مِنْ شَيْءٍ وَبَعْثَ بِهِ إِلَى مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ وَقَالَ: مَنْ عَرَفَ شَيْئًا فَلْيَأْخُذْهُ، إِلَّا سِلَاحًا كَانَ فِي الْخَزَائِنِ عَلَيْهِ سِمَةُ السُّلْطَانِ. وَكَانَ جَمِيعُ الْقَتْلَى عَشَرَةَ آلَافٍ، نِصْفُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، وَنِصْفُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ عَائِشَةَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقُتِلَ مِنْ ضَبَّةَ أَلْفُ رَجُلٍ، وَقُتِلَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ حَوْلَ الْجَمَلِ سَبْعُونَ رَجُلًا، كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، سِوَى الشَّبَابِ وَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ. وَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ مِنَ الْوَقْعَةِ أَتَاهُ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَنِي سَعِدٍ، وَكَانُوا قَدِ اعْتَزَلُوا الْقِتَالَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: تَرَبَّصْتَ؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَرَانِي إِلَّا وَقَدْ أَحْسَنْتُ، وَبِأَمْرِكَ كَانَ مَا كَانَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَارْفُقْ فَإِنَّ طَرِيقَكَ الَّذِي سَلَكَتَ بِعِيدٌ، وَأَنْتَ إِلَيَّ غَدًا أَحْوَجُ مِنْكَ أَمْسِ، فَاعْرِفْ إِحْسَانِي وَاسْتَصْفِ مَوَدَّتِي لِغَدٍ، وَلَا تَقُلْ مِثْلَ هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أَزَلْ لَكَ نَاصِحًا. ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ الْبَصْرَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا عَلَى رَايَاتِهِمْ حَتَّى الْجَرْحَى وَالْمُسْتَأْمِنَةُ، وَأَتَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ فِي الْمُسْتَأْمِنِينَ أَيْضًا فَبَايَعَهُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ [وَمَا] عَمِلَ الْمُتَرَبِّصُ الْمُتَقَاعِدُ بِي أَيْضًا؟ يَعْنِي أَبَاهُ أَبَا بَكْرَةَ! فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَرِيضٌ،

وَإِنَّهُ عَلَى مَسَرَّتِكَ لَحَرِيصٌ. فَقَالَ عَلِيٌّ: امْشِ أَمَامِي! فَمَشَى مَعَهُ إِلَى أَبِيهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ قَالَ لَهُ: تَقَاعَدْتَ بِي وَتَرَبَّصْتَ؟ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَقَالَ: هَذَا وَجَعٌ بَيِّنٌ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَقَبِلَ عُذْرَهُ، وَأَرَادَهُ عَلَى الْبَصْرَةِ، فَامْتَنَعَ وَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِكَ يَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّاسُ وَسَأُشِيرُ عَلَيْهِ. فَافْتَرَقَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَلَّى زِيَادًا عَلَى الْخَرَاجِ وَبَيْتِ الْمَالِ، وَأَمْرَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ وَيُطِيعَ، وَكَانَ زِيَادٌ مُعْتَزِلًا، ثُمَّ رَاحَ إِلَى عَائِشَةَ، وَهِيَ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ، وَهِيَ أَعْظَمُ دَارٍ بِالْبَصْرَةِ، فَوَجَدَ النِّسَاءَ يَبْكِينَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَعُثْمَانَ ابْنَيْ خَلَفٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ قُتِلَ مَعَ عَائِشَةَ، وَعُثْمَانُ قُتِلَ مَعَ عَلِيٍّ، وَكَانَتْ صَفِيَّةُ زَوْجَةُ عَبْدِ اللَّهِ مُخْتَمِرَةً تَبْكِي، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ لَهُ: يَا عَلِيُّ! يَا قَاتِلَ الْأَحِبَّةِ! يَا مُفَرِّقَ الْجَمْعِ! أَيْتَمَ اللَّهُ مِنْكَ بَنِيكَ كَمَا أَيْتَمْتَ وَلَدَ عَبْدِ اللَّهِ مِنْهُ! فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا. وَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَقَعَدَ عِنْدَهَا، ثُمَّ قَالَ: جَبَهَتْنَا صَفِيَّةُ، أَمَا إِنِّي لَمْ أَرَهَا مُنْذُ كَانَتْ جَارِيَةً. فَلَمَّا خَرَجَ عَلِيٌّ أَعَادَتْ عَلَيْهِ الْقَوْلَ، فَكَفَّ بَغْلَتَهُ وَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَفْتَحَ هَذَا الْبَابَ، وَأَشَارَ إِلَى بَابٍ فِي الدَّارِ، وَأَقْتُلَ مَنْ فِيهِ، وَكَانَ فِيهِ نَاسٌ مِنَ الْجَرْحَى، فَأُخْبِرَ عَلِيٌّ بِمَكَانِهِمْ، فَتَغَافَلَ عَنْهُمْ فَسَكَتَ، وَكَانَ مَذْهَبُهُ أَنْ لَا يَقْتُلَ مُدْبِرًا، وَلَا يُذَفِّفُ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يَكْشِفُ سِتْرًا، وَلَا يَأْخُذُ مَالًا. وَلَمَّا خَرَجَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِ عَائِشَةَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَزْدٍ: وَاللَّهِ لَا تَغْلِبُنَا هَذِهِ الْمَرْأَةُ! فَغَضِبَ وَقَالَ: مَهْ! لَا تَهْتِكُنَّ سِتْرًا، وَلَا تَدْخُلُنَّ دَارًا، وَلَا تُهَيِّجُنَّ امْرَأَةً بِأَذًى، وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وَسَفَّهْنَ أُمَرَاءَكُمْ وَصُلَحَاءَكُمْ، فَإِنَّ النِّسَاءَ ضَعِيفَاتٌ، وَلَقَدْ كُنَّا نُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وَهُنَّ مُشْرِكَاتٌ، (فَكَيْفَ إِذَا هُنَّ مُسْلِمَاتٌ) ؟ وَمَضَى عَلِيٌّ، فَلَحِقَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَامَ رَجُلَانِ عَلَى الْبَابِ فَتَنَاوَلَا مَنْ هُوَ أَمْضُّ شَتِيمَةً لَكَ مِنْ صَفِيَّةَ. قَالَ: وَيْحَكَ لَعَلَّهَا عَائِشَةُ! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَحَدُهُمَا:

جُزِيتِ عَنَّا أُمَّنَا عُقُوقًا. وَقَالَ الْآخَرُ: يَا أُمِّي تُوبِي فَقَدْ أَخْطَأْتِ. فَبَعَثَ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو إِلَى الْبَابِ، فَأَقْبَلَ بِمَنْ كَانَ عَلَيْهِ، فَأَحَالُوا عَلَى رَجُلَيْنِ مَنْ أَزْدِ الْكُوفَةِ، وَهَمَا: عَجْلَانُ وَسَعْدٌ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ، فَضَرَبَهُمَا مِائَةَ سَوْطٍ وَأَخْرَجَهُمَا مِنْ ثِيَابِهِمَا. وَسَأَلَتْ عَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ عَمَّنْ قُتِلَ مِنَ النَّاسِ مِنْهُمْ مَعَهَا وَمِنْهُمْ عَلَيْهَا، وَالنَّاسُ عِنْدَهَا، فَكُلَّمَا نُعِيَ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمِيعِ قَالَتْ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ. فَقِيلَ لَهَا: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: كَذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فُلَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفُلَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَقَالَ عَلِيٌّ: إِنِّي أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونُ أَحَدٌ نَقَّى قَلْبَهُ لِلَّهِ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. ثُمَّ جَهَّزَ عَلِيٌّ عَائِشَةَ بِكُلِّ مَا يَنْبَغِي لَهَا مِنْ مَرْكَبٍ وَزَادٍ وَمَتَاعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبَعَثَ مَعَهَا كُلَّ مَنْ نَجَا مِمَّنْ خَرَجَ مَعَهَا إِلَّا مَنْ أَحَبَّ الْمُقَامَ، وَاخْتَارَ لَهَا أَرْبَعِينَ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ الْبَصْرَةِ الْمَعْرُوفَاتِ، وَسَيَّرَ مَعَهَا أَخَاهَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي ارْتَحَلَتْ فِيهِ أَتَاهَا عَلِيٌّ فَوَقَفَ لَهَا، وَحَضَرَ النَّاسُ، فَخَرَجَتْ وَوَدَّعَتْهُمْ وَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ لَا يَعْتِبْ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَلِيٍّ فِي الْقَدِيمِ إِلَّا مَا يَكُونُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أَحْمَائِهَا، وَإِنَّهُ عَلَى مَعْتَبَتِي لَمِنَ الْأَخْيَارِ. وَقَالَ عَلِيٌّ: صَدَقْتِ، وَاللَّهِ مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا إِلَّا ذَاكَ، وَإِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَخَرَجَتْ يَوْمَ السَّبْتِ غُرَّةَ رَجَبٍ، وَشَيَّعَهَا أَمْيَالًا وَسَرَّحَ بَنِيهِ مَعَهَا يَوْمًا، فَكَانَ وَجْهُهَا إِلَى مَكَّةَ، فَأَقَامَتْ إِلَى الْحَجِّ ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ لَهَا عَمَّارٌ حِينَ وَدَّعَهَا: مَا أَبْعَدَ هَذَا الْمَسِيرَ مِنَ الْعَهْدِ الَّذِي عُهِدَ إِلَيْكِ! قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّكَ مَا عَلِمْتُ لَقَوَّالٌ بِالْحَقِّ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَضَى عَلَى لِسَانِكِ لِي.

وَأَمَّا الْمُنْهَزِمُونَ فَقَدْ ذَكَرْنَا حَالَهُمْ، وَكَانَ مِنْهُمْ: عَتَبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَخَرَجَ هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَيَحْيَى ابْنَا الْحَكَمِ فَسَارُوا فِي الْبِلَادِ، فَلَقِيَهُمْ عِصْمَةُ بْنُ أُبَيْرٍ التَّيْمِيُّ، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكَمْ فِي الْجِوَارِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَأَجَارَهُمْ وَأَنْزَلَهُمْ حَتَّى بَرِأَتْ جِرَاحُهُمْ وَسَيَّرَهُمْ نَحْوَ الشَّامِ فِي أَرْبَعِمِائَةِ رَاكِبٍ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى دُومَةِ الْجَنْدَلِ قَالُوا: قَدْ وَفَّيْتَ ذِمَّتَكَ، وَقَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ، فَرَجَعَ. وَأَمَّا ابْنُ عَامِرٍ فَإِنَّهُ خَرَجَ أَيْضًا، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي حُرْقُوصٍ يُدْعَى مُرِّيَّ، فَأَجَارَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى الشَّامِ. وَأَمَّا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، فَاسْتَجَارَ بِمَالِكِ بْنِ مِسْمَعٍ، فَأَجَارَهُ وَوَفَى لَهُ، وَحَفِظَ لَهُ بَنُو مَرْوَانَ ذَلِكَ فِي خِلَافَتِهِمْ، وَانْتَفَعَ بِهِمْ، وَشَرَّفُوهُ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ مَرْوَانَ نَزَلَ مَعَ عَائِشَةَ بِدَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ، وَصَحِبَهَا إِلَى الْحِجَازِ، فَلَمَّا سَارَتْ إِلَى مَكَّةَ سَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِدَارِ رَجُلٍ مِنَ الْأَزْدِ يُدْعَى وَزِيرًا، فَقَالَ لَهُ: ائْتِ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَعْلِمْهَا بِمَكَانِي، وَلَا يَعْلَمْ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ. فَأَتَى عَائِشَةَ فَأَخْبَرَهَا، فَقَالَتْ: عَلَيَّ بِمُحَمَّدٍ. فَقَالَ لَهَا: إِنَّهُ قَدْ نَهَانِي أَنْ يَعْلَمَ مُحَمَّدٌ. فَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ وَأَرْسَلَتْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَقَالَتْ: اذْهَبْ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ حَتَّى تَأْتِيَنِي بِابْنِ أُخْتِكَ. فَانْطَلَقَ مَعَهُ، وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى دَارِ عَائِشَةَ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ. وَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ مِنْ بَيْعَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ نَظَرَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَرَأَى فِيهِ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَزِيَادَةً، فَقَسَّمَهَا عَلَى مَنْ شَهِدَ مَعَهُ، فَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةٍ خَمْسَمِائَةٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ أَظْفَرَكُمُ اللَّهُ بِالشَّامِ فَلَكُمْ مَثَلُهَا إِلَى أُعْطِيَاتِكُمْ. فَخَاضَ فِي ذَلِكَ السَّبَئِيَّةُ، وَطَعَنُوا عَلَى عَلِيٍّ مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، وَطَعَنُوا فِيهِ أَيْضًا حِينَ نَهَاهُمْ عَنْ أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، فَقَالُوا: مَا [لَهُ] يُحِلُّ لَنَا دِمَاءَهُمْ وَيُحَرِّمُ عَلَيْنَا أَمْوَالَهُمْ؟ فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ: الْقَوْمُ أَمْثَالُكُمْ، مَنْ صَفَحَ عَنَّا فَهُوَ مِنَّا وَمَنْ لَجَّ حَتَّى يُصَابَ فَقِتَالُهُ مِنِّي عَلَى الصَّدْرِ وَالنَّحْرِ. وَقَالَ الْقَعْقَاعُ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِشَيْءٍ مِنْ قِتَالِ الْقَلْبِ يَوْمَ الْجَمَلِ بِقِتَالِ صِفِّينَ، لَقَدْ رَأَيْتُنَا نُدَافِعُهُمْ بَأَسِنَّتِنَا، وَنَتَّكِئُ عَلَى أَزِجَّتِنَا وَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ أَنَّ الرِّجَالَ مَشَتْ

عَلَيْهَا لَاسْتَقَلَّتْ بِهِمْ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانٍ الْكَاهِلِيُّ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجَمَلِ تَرَامَيْنَا بِالنَّبْلِ حَتَّى فَنِيَتْ، وَتَطَاعَنَّا بِالرِّمَاحِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ، وَتَشَبَّكَتْ فِي صُدُورِنَا وَصُدُورِهِمْ، حَتَّى لَوْ سُيِّرَتْ عَلَيْهَا الْخَيْلُ لَسَارَتْ. ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: السُّيُوفُ يَا بَنِي الْمُهَاجِرِينَ! فَمَا شُبِّهَتْ أَصْوَاتُهَا إِلَّا بِضَرْبِ الْقَصَّارِينَ. وَعَلِمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالْوَقْعَةِ يَوْمَ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ مِنْ نَسْرٍ مَرَّ بِمَاءٍ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ شَيْءٌ مُعَلَّقٌ، فَسَقَطَ مِنْهُ، فَإِذَا كَفٌّ فِيهِ خَاتَمٌ نَقْشُهُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَتَّابٍ. وَعَلِمَ مَنْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ بِالْوَقْعَةِ بِمَا يَنْقِلُ إِلَيْهِمُ النُّسُورُ مِنَ الْأَيْدِي وَالْأَقْدَامِ. وَأَرَادَ عَلِيٌّ الْمُقَامَ بِالْبَصْرَةِ لِإِصْلَاحِ حَالِهَا، فَأَعْجَلَتْهُ السَّبَئِيَّةُ عَنِ الْمُقَامِ، فَإِنَّهُمُ ارْتَحَلُوا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَارْتَحَلَ فِي آثَارِهِمْ لِيَقْطَعَ عَلَيْهِمْ أَمْرًا إِنْ أَرَادُوهُ. [رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ] وَقَدْ قِيلَ فِي سَبَبِ الْقِتَالِ يَوْمَ الْجَمَلِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى مَسِيرِ أَصْحَابِ عَائِشَةَ وَنُزُولِهِمُ الْبَصْرَةَ وَالْوَقْعَةُ الْأُولَى مَعَ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ وَحُكَيْمٍ. وَأَمَّا مَسِيرُ عَلِيٍّ وَعَزْلُ أَبِي مُوسَى فَقِيلَ فِيهِ: إِنَّ عَلِيًّا لَمَّا أَرْسَلَ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى أَبِي مُوسَى، وَجَرَى لَهُ مَا تَقَدَّمَ سَارَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ إِلَى عَلِيٍّ بِالرَّبَذَةِ، فَأَعْلَمَهُ الْحَالَ، فَأَعَادَهُ عَلِيٌّ إِلَى أَبِي مُوسَى يَقُولُ لَهُ: أَرْسِلِ النَّاسَ، فَإِنِّي لَمْ أُوَلِّكَ إِلَّا لِتَكُونَ مِنْ أَعْوَانِي عَلَى الْحَقِّ. فَامْتَنَعَ أَبُو مُوسَى، فَكَتَبَ هَاشِمٌ إِلَى عَلِيٍّ: إِنِّي قَدِمْتُ عَلَى رَجُلٍ غَالٍ مُشَاقِقٍ ظَاهِرِ الشَّنَآنِ، وَأَرْسَلَ الْكِتَابَ مَعَ الْمُحِلِّ بْنِ خَلِيفَةَ الطَّائِيِّ، فَبَعَثَ عَلِيٌّ: الْحَسَنَ ابْنَهُ، وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ يَسْتَنْفِرَانِ النَّاسَ، وَبَعَثَ قَرَظَةَ بْنَ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيَّ أَمِيرًا، وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى أَبِي مُوسَى: إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ الْحَسَنَ وَعَمَّارًا يَسْتَنْفِرَانِ النَّاسَ، وَبَعَثْتُ قَرَظَةَ بْنَ كَعْبٍ وَالِيًا عَلَى الْكُوفَةِ، فَاعْتَزِلْ عَمَلَنَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَإِنِّي قَدْ أَمَرْتُهُ أَنْ يُنَابِذَكَ، فَإِنْ نَابَذْتَهُ فَظَفِرَ بِكَ يُقَطِّعْكَ إِرَبًا إِرَبًا. فَلَمَّا قَدِمَ الْكِتَابُ عَلَى أَبِي مُوسَى اعْتَزَلَ، وَاسْتَنْفَرَ الْحَسَنُ النَّاسَ، فَنَفَرُوا نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَسَارَ عَلِيٌّ نَحْوَ

الْبَصْرَةِ، فَقَالَ جَوْنُ بْنُ قَتَادَةَ: كُنْتُ مَعَ الزُّبَيْرِ فَجَاءَ فَارِسٌ يَسِيرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ أَتَوْا مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَلَمْ أَرَ أَرَثَّ سِلَاحًا، وَلَا أَقَلَّ عَدَدًا، وَلَا أَرْعَبَ قُلُوبًا مِنْهُمْ. ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، وَجَاءَ فَارِسٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ بَلَغُوا مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَسَمِعُوا بِمَا جَمَعَ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، فَخَافُوا فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِيهًا عَنْكَ! فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَجِدْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَّا الْعَرْفَجَ لَدَبَّ إِلَيْنَا فِيهِ، فَانْصَرَفَ. وَجَاءَ فَارِسٌ، وَقَدْ كَادَتِ الْخَيْلُ تَخْرُجُ مِنَ الرَّهَجِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدْ أَتَوْكَ، فَلَقَيْتُ عَمَّارًا فَقُلْتُ لَهُ وَقَالَ لِي. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ! فَقَالَ الرَّجُلُ: بَلَى وَاللَّهِ إِنَّهُ لَفِيهِمْ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِمْ. فَقَالَ الرَّجُلُ: بَلَى وَاللَّهِ. فَلَمَّا كَرَّرَ عَلَيْهِ أَرْسَلَ الزُّبَيْرُ رَجُلَيْنِ يَنْظُرَانِ، فَانْطَلَقَا ثُمَّ رَجَعَا فَقَالَا: صَدَقَ الرَّجُلُ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: يَا جَدْعَ أَنْفَاهُ! يَا قَطْعَ ظَهْرَاهُ! ثُمَّ أَخَذَتْهُ رَعْدَةٌ فَجَعَلَ السِّلَاحُ يَنْتَفِضُ. قَالَ جَوْنٌ: فَقُلْتُ ثَكِلَتْنِي أُمِّي! هَذَا الَّذِي كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَمُوتَ مَعَهُ أَوْ أَعِيشَ، مَا أَخَذَ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا لِشَيْءٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَانْصَرَفَ جَوْنٌ فَاعْتَزَلَ، وَجَاءَ عَلِيٌّ، فَلَمَّا تَوَاقَفَ النَّاسُ دَعَا الزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ فَتَوَاقَفُوا، وَذَكَرَ مِنْ أَمْرِ الزُّبَيْرِ وَعَوْدِهِ وَتَكْفِيرِهِ عَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ، فَلَمَّا أَبَوْا إِلَّا الْقِتَالَ قَالَ عَلِيٌّ: أَيُّكُمْ يَأْخُذُ هَذَا الْمُصْحَفَ يَدْعُوهُمْ إِلَى مَا فِيهِ، فَإِنْ قُطِعَتْ يَدُهُ أَخَذَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى، فَإِنْ قُطِعَتْ أَخَذَهُ بِأَسْنَانِهِ وَهُوَ مَقْتُولٌ؟ فَقَالَ شَابٌّ: أَنَا. فَطَافَ بِهِ عَلَى أَصْحَابِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَّا ذَلِكَ الشَّابُّ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ، فَدَعَاهُمْ، فَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، فَأَخَذَهُ بِالْيُسْرَى، فَقُطِعَتْ، فَأَخَذَهُ بِصَدْرِهِ وَالدِّمَاءُ تَسِيلُ عَلَى قَبَائِهِ، فَقُتِلَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: الْآنَ حَلَّ قِتَالُهُمْ. فَقَالَتْ أُمُّ الْفَتَى: لَاهُمَّ إِنَّ مُسْلِمًا دَعَاهُمْ ... يَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ لَا يَخْشَاهُمْ وَأُمُّهُمْ قَائِمَةٌ تَرَاهُمْ ... تَأْمُرُهُمْ بِالْقَتْلِ لَا تَنْهَاهُمْ قَدْ خُضِبَتْ مِنْ عَلَقٍ لِحَاهُمْ

وَحَمَلَتْ مَيْمَنَةُ عَلِيٍّ عَلَى مَيْسَرَتِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا، فَلَاذَ النَّاسُ بِعَائِشَةَ، وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنْ ضَبَّةَ وَالْأَزْدِ، وَكَانَ قِتَالُهُمْ مِنَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ إِلَى قَرِيبٍ مِنَ الْعَصْرِ ثُمَّ انْهَزَمُوا، وَنَادَى رَجُلٌ مِنَ الْأَزْدِ: كِرُّوا، فَضَرَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فَقَطَعَ يَدَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَزْدِ فِرُّوا وَاسْتَحَرَّ الْقَتْلُ فِي الْأَزْدِ فَنَادَوْا: نَحْنُ عَلَى دِينِ عَلِيٍّ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ: سَائِلْ بِنَا حِينَ لَقِينَا الْأَزْدَا ... وَالْخَيْلُ تَعْدُو أَشْقَرًا وَوِرْدَا لَمَّا قَطَعْنَا كِبْدَهُمْ وَالزَّنْدَا ... سُحْقًا لَهُمْ فِي رَأْيِهِمْ وَبُعْدَا وَحَمَلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ عَلَى الزُّبَيْرِ، فَجَعَلَ يَحُوزُهُ بِالرُّمْحِ، فَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي يَا أَبَا الْيَقْظَانِ؟ فَقَالَ: لَا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، انْصَرِفْ، فَانْصَرَفَ، وَجُرِحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْجَرْحَى ثُمَّ بَرِأَ. وَعُقِرَ الْجَمَلُ، وَاحْتَمَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ فَأَنْزَلَهَا، وَضَرَبَ عَلَيْهَا قُبَّةً، فَوَقَفَ عَلِيٌّ عَلَيْهَا وَقَالَ لَهَا: اسْتَنْفَرْتِ النَّاسَ وَقَدْ فَرُّوا، وَأَلَّبْتِ بَيْنَهُمْ حَتَّى قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ، نِعْمَ مَا ابْتَلَيْتَ قَوْمَكَ الْيَوْمَ! فَسَرَّحَهَا وَأَرْسَلَ مَعَهَا جَمَاعَةً مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَجَهَّزَهَا بِمَا تَحْتَاجُ. لَمْ أَذْكُرْ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ، إِذْ كَانَ أَوْثَقَ مَنْ نَقَلَ التَّارِيخَ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ حَشَوَا تَوَارِيخَهُمْ بِمُقْتَضَى أَهْوَائِهِمْ. وَمِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ الْجَمَلِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ أَخُو طَلْحَةَ، لَهُ صُحْبَةٌ. وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، لَهُ صُحْبَةٌ. وَفِيهَا قُتِلَ الْمُحْرِزُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ شَمَّسٍ، لَهُ صُحْبَةٌ، وَاسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ عَلَى مَكَّةَ ثُمَّ عَزَلَهُ. وَفِيهَا قُتِلَ مُعَرِّضُ بْنُ عِلَاطٍ السُّلَمِيُّ أَخُو الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ، قُتِلَ مَعَ عَلِيٍّ، وَفِيهَا قُتِلَ مُجَاشِعٌ وَمُجَالِدٌ ابْنَا مَسْعُودٍ السُّلَمِيَّانِ مَعَ عَائِشَةَ، لَهُمَا صُحْبَةٌ، فَأَمَّا مُجَاشِعٌ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قُتِلَ فِي الْجَمَلِ. وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ الْأَسَدِيُّ الْقُرَشِيُّ مَعَ عَائِشَةَ، وَكَانَ

إِسْلَامُهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَفِيهَا قُتِلَ هِنْدُ بْنُ أَبِي هَالَةَ الْأُسَيِّدِيُّ، أُمُّهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عَلِيٍّ، وَقِيلَ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. (الْأُسَيِّدِيُّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، مَنْسُوبٌ إِلَى أُسَيِّدٍ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ تَمِيمٍ. وَقُتِلَ هِلَالُ بْنُ وَكِيعِ بْنِ بِشْرٍ التَّمِيمِيُّ مَعَ عَائِشَةَ، لَهُ صُحْبَةٌ، وَفِيهَا قُتِلُ مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ أَخُو مُعَوِّذٍ، وَهُمَا ابْنَا الْحَرْثِ بْنِ رِفَاعَةَ الْأَنْصَارِيَّانِ، وَشَهِدَا بَدْرًا، وَقُتِلَ مَعَ عَلِيٍّ، وَقِيلَ: عَاشَ وَقُتِلَ فِي وَقْعَةِ الْحَرَّةِ. (التَّيِّهَانُ: بِفَتْحِ التَّاءِ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ نُونٌ. وَشَبَثٌ: بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَآخِرُهُ ثَاءٌ مُثَلَّثَةٌ. وَسَيْحَانُ: بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَآخِرُهُ نُونٌ. وَنَجَبَةُ: بِفَتْحِ النُّونِ وَالْجِيمِ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَعَمِيرَةُ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَكَسْرِ الْمِيمِ. وَأُبَيْرُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَالْخِرِّيتُ: بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا نُقْطَتَانِ، وَفِي آخِرِهِ تَاءٌ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ) . ذكر قَصْدِ الْخَوَارِجِ سِجِسْتَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَلِ خَرَجَ حَسَكَةُ بْنُ عَتَّابٍ الْحَبَطِيُّ، وَعِمْرَانُ بْنُ الْفُضَيْلِ الْبَرْجَمِيُّ فِي صَعَالِيكَ مِنَ الْعَرَبِ حَتَّى نَزَلُوا زَالِقَ مِنْ سِجِسْتَانَ، وَقَدْ نَكَثَ أَهْلُهَا، فَأَصَابُوا مِنْهَا مَالًا، ثُمَّ أَتَوْا زَرَنْجَ وَقَدْ خَافَهُمْ مَرْزُبَانُهَا فَصَالَحَهُمْ وَدَخَلُوهَا، فَقَالَ الرَّاجِزُ: بَشِّرْ سِجِسْتَانَ بِجُوعٍ وَحَرَبْ ... بِابْنِ الْفُضَيْلِ وَصَعَالِيكِ الْعَرَبْ لَا فِضَّةٌ تُغْنِيهِمُ وَلَا ذَهَبْ فَبَعَثَ عَلِيٌّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جَزْءٍ الطَّائِيَّ، فَقَتَلَهُ حَسَكَةُ، فَكَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُوَلِّيَ سِجِسْتَانَ رَجُلًا وَيُسَيِّرَهُ إِلَيْهَا فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَوَجَّهَ

رِبْعِيَّ بْنَ كَاسٍ الْعَنْبَرِيَّ، وَمَعَهُ الْحُصَيْنُ بْنُ أَبِي الْحُرِّ الْعَنْبَرِيُّ، فَلَمَّا وَرَدَ سِجِسْتَانَ قَاتَلَهُمْ حَسَكَةُ وَقَتَلُوهُ، وَضَبَطَ رِبْعِيٌّ الْبِلَادَ، وَكَانَ فَيْرُوزُ حُصَيْنٍ يُنْسَبُ إِلَى الْحُصَيْنِ بْنِ أَبِي الْحُرِّ هَذَا، وَهُوَ مِنْ سِجِسْتَانَ. ذكر قَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَكَانَ أَبُوهُ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ قَدْ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَتَرَكَ ابْنَهُ مُحَمَّدًا هَذَا، فَكَفَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانٍ وَأَحْسَنَ تَرْبِيَتَهُ، وَكَانَ فِيمَا قِيلَ: أَصَابَ شَرَابًا فَحَدَّهُ عُثْمَانُ، ثُمَّ تَنَسَّكَ مُحَمَّدٌ وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَطَلَبَ مِنْ عُثْمَانَ أَنْ يُوَلِّيَهُ عَمَلًا، فَقَالَ: لَوْ كُنْتَ أَهْلًا لِذَلِكَ لَوَلَّيْتُكَ. فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي غَزْوِ الْبَحْرِ فَأْذَنْ [لِي] فِي إِتْيَانِ مِصْرَ، فَأَذِنَ لَهُ وَجَهَّزَهُ، فَلَمَّا قَدِمَهَا رَأَى النَّاسُ عِبَادَتَهُ فَلَزِمُوهُ وَعَظَّمُوهُ، وَغَزَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ غَزْوَةَ الصَّوَارِي. وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَعِيبُهُ وَيَعِيبُ عُثْمَانَ بِتَوْلِيَتِهِ وَيَقُولُ: اسْتَعْمَلَ رَجُلًا أَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَمَهُ. فَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى عُثْمَانَ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أَفْسَدَ عَلَيَّ الْبِلَادَ هُوَ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا ابْنُ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ يُوهَبُ لِأَبِيهِ وَلِعَائِشَةَ، وَأَمَّا ابْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ فَإِنَّهُ ابْنِي وَابْنُ أَخِي وَتَرْبِيَتِي وَهُوَ فَرْخُ قُرَيْشٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ هَذَا الْفَرْخَ قَدِ اسْتَوَى رِيشُهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَطِيرَ. فَبَعَثَ عُثْمَانُ إِلَى ابْنِ أَبِي حُذَيْفَةَ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَبِجَمَلٍ عَلَيْهِ كُسْوَةٌ،

فَوَضَعَهَا مُحَمَّدٌ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَلَا تَرَوْنَ إِلَى عُثْمَانَ يُخَادِعُنِي عَنْ دِينِي وَيَرْشُونِي عَلَيْهِ! فَازْدَادَ أَهْلُ مِصْرَ تَعْظِيمًا لَهُ وَطَعْنًا عَلَى عُثْمَانَ، (وَبَايَعُوهُ عَلَى رِيَاسَتِهِمْ) ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ يُذَكِّرُهُ بِرَّهُ بِهِ وَتَرْبِيَتَهُ إِيَّاهُ وَقِيَامَهُ بِشَأْنِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّكَ كَفَرْتَ إِحْسَانِي أَحْوَجُ مَا كُنْتُ إِلَى شُكْرِكَ. فَلَمْ يَرُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ ذَمَّهِ وَتَأْلِيبِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَحَثِّهِمْ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى حَصْرِهِ، وَمُسَاعَدَةِ مَنْ يُرِيدُ ذَلِكَ. فَلَمَّا سَارَ الْمِصْرِيُّونَ إِلَى عُثْمَانَ، أَقَامَ هُوَ بِمِصْرَ، وَخَرَجَ عَنْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، (فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا) وَضَبَطَهَا، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا مُقِيمًا حَتَّى قُتِلَ عُثْمَانُ وَبُويِعَ عَلِيٌّ، وَاتَّفَقَ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى خِلَافِ عَلِيٍّ، فَسَارَ إِلَى مِصْرَ قَبْلَ قُدُومِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ إِلَيْهَا أَمِيرًا، فَأَرَادَ دُخُولَهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَخَدَعَ مُحَمَّدًا حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا إِلَى الْعَرِيشِ فِي أَلْفِ رَجُلٍ، فَتَحَصَّنَ بِهَا، فَنَصَبَ عَلَيْهِ الْمَنْجَنِيقَ حَتَّى نَزَلَ فِي ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقُتِلَ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ عَلِيًّا اسْتَعْمَلَ قَيْسًا عَلَى مِصْرَ أَوَّلَ مَا بُويِعَ لَهُ، وَلَوْ أَنَّ ابْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَتَلَهُ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرٌو قَبْلَ وُصُولِ قَيْسٍ إِلَى مِصْرَ لَاسْتَوْلَيَا عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهَا أَمِيرٌ يَمْنَعُهُمَا عَنْهَا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ اسْتِيلَاءَ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرٍو عَلَيْهَا كَانَ بَعْدَ صِفِّينِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ سَيَّرَ الْمِصْرِيِّينَ إِلَى عُثْمَانَ، فَلَمَّا حَصَرُوهُ أَخْرَجَ مُحَمَّدٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ عَنْ مِصْرَ، وَهُوَ عَامِلُ عُثْمَانَ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، فَنَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى تُخُومِ مِصْرَ، وَانْتَظَرَ أَمْرَ عُثْمَانَ، فَطَلَعَ عَلَيْهِ رَاكِبٌ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِقَتْلِ عُثْمَانَ، فَاسْتَرْجَعَ، وَسَأَلَهُ عَمَّا صَنَعَ النَّاسُ بَعْدَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِبَيْعَةِ عَلِيٍّ، فَاسْتَرْجَعَ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنَّ إِمْرَةَ عَلِيٍّ تَعْدِلُ عِنْدَكَ قَتْلَ عُثْمَانَ! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَظُنُّكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ. فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانَتْ لَكَ فِي نَفْسِكَ حَاجَةٌ فَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ، فَإِنَّ رَأْيَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ فِيكَ وَفِي أَصْحَابِكَ إِنْ ظَفِرَ بِكُمْ أَنْ يَقْتُلَكُمْ أَوْ يَنْفِيَكُمْ، وَهَذَا بَعْدِي أَمِيرٌ يَقْدَمُ عَلَيْكَ. فَقَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ: أَبْعَدَ اللَّهُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ، فَإِنَّهُ بَغَى عَلَى ابْنِ عَمِّهِ وَسَعَى عَلَيْهِ، وَقَدْ كَفَلَهُ وَرَبَّاهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، فَأَسَاءَ جِوَارَهُ وَجَهَّزَ إِلَيْهِ الرِّجَالَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ وَلَّى عَلَيْهِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ وَمِنْ عُثْمَانَ،

وَلَمْ يُمَتِّعْهُ بِسُلْطَانِ بِلَادِهِ شَهْرًا، وَلَمْ يَرَهْ لِذَلِكَ أَهْلًا. وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ هَارِبًا حَتَّى قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ قَيْسًا وَلِيَ مِصْرَ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ حَيٌّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: إِنَّ عَمْرًا سَارَ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ صِفِّينَ، فَلَقِيَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي جَيْشٍ، فَلَمَّا رَأَى عَمْرٌو كَثْرَةَ مَنْ مَعَهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَالْتَقَيَا وَاجْتَمَعَا، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: إِنَّهُ قَدْ كَانَ مَا تَرَى وَقَدْ بَايَعْتُ هَذَا الرَّجُلَ، يَعْنِي مُعَاوِيَةَ، وَمَا أَنَا بِرَاضٍ بِكَثِيرٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَكَ عَلِيًّا أَفْضَلُ مِنْ مُعَاوِيَةَ نَفْسًا وَقَدِيمًا وَأَوْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ، فَوَاعِدْنِي مَوْعِدًا أَلْتَقِي مَعَكَ فِيهِ فِي غَيْرِ جَيْشٍ، تَأْتِي فِي مِائَةٍ وَآتِي فِي مِثْلِهَا، وَلَيْسَ مَعَنَا إِلَّا السُّيُوفُ فِي الْقُرُبِ. فَتَعَاهَدَا وَتَعَاقَدَا عَلَى ذَلِكَ وَاتَّعَدَا الْعَرِيشَ، وَرَجَعَ عَمْرٌو إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَلَمَّا جَاءَ الْأَجَلُ سَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فِي مِائَةٍ، وَجَعَلَ عَمْرٌو لَهُ جَيْشًا خَلْفَهُ لِيَنْطَوِيَ خَبَرُهُ، فَلَمَّا الْتَقَيَا بِالْعَرِيشِ قَدِمَ جَيْشُ عَمْرٍو عَلَى أَثَرِهِ، فَعَلِمَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ قَدْ غُدِرَ بِهِ، فَدَخَلَ قَصْرًا بِالْعَرِيشِ فَتَحَصَّنَ بِهِ، فَحَصَرَهُ عَمْرٌو وَرَمَاهُ بِالْمَنْجَنِيقِ حَتَّى أُخِذَ أَسِيرًا، وَبَعَثَ بِهِ عَمْرٌو إِلَى مُعَاوِيَةَ فَسَجَنَهُ، وَكَانَتِ ابْنَةُ قَرَظَةَ امْرَأَةَ مُعَاوِيَةَ ابْنَةَ عَمَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُذَيْفَةَ أُمُّهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ عُتْبَةَ، فَكَانَتْ تَصْنَعُ لَهُ طَعَامًا تُرْسِلُهُ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ يَوْمًا فِي الطَّعَامِ مَبَارِدَ، فَبَرَدَ بِهَا قُيُودَهُ وَهَرَبَ فَاخْتَفَى فِي غَارٍ فَأُخِذَ وَقُتِلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ بَقِيَ مَحْبُوسًا إِلَى أَنْ قُتِلَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، ثُمَّ إِنَّهُ هَرَبَ، فَطَلَبَهُ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ السَّكُّونِيُّ، فَظَفِرَ بِهِ فَقَتَلَهُ غَضَبًا لِحُجْرٍ، وَكَانَ مَالِكٌ قَدْ شَفَعَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي حُجْرٍ فَلَمْ يُشَفِّعْهُ. وَقِيلَ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ لَمَّا قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ خَرَجَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ إِلَى عَمْرٍو (فَآمَنُهُ عَمْرٌو) ، ثُمَّ غَدَرَ بِهِ وَحَمَلَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِفِلَسْطِينَ فَحَبَسَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ هَرَبَ، فَأَظْهَرَ مُعَاوِيَةُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ كَرِهَ هَرَبَهُ وَأَمَرَ بِطَلَبِهِ، فَسَارَ فِي أَثَرِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ ظَلَّامٍ الْخَثْعَمِيُّ، فَأَدْرَكَهُ بِحَوْرَانَ فِي غَارٍ، وَجَاءَتْ حُمُرٌ تَدْخُلُ الْغَارَ، فَلَمَّا رَأَتْ مُحَمَّدًا نَفَرَتْ مِنْهُ، وَكَانَ هُنَاكَ نَاسٌ يَحْصُدُونَ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ لِنُفْرَةِ هَذِهِ الْحُمُرِ لَشَأْنًا. فَذَهَبُوا إِلَى الْغَارِ فَرَأَوْهُ، فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، فَوَافَقَهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ وَوَصَفَهُ لَهُمْ، فَقَالُوا:

هُوَ فِي الْغَارِ، فَأَخْرَجَهُ وَكَرِهَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مُعَاوِيَةَ فَيُخْلِي سَبِيلَهُ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَكَانَ ابْنَ خَالِ مُعَاوِيَةَ. ذكر وِلَايَةِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ مِصْرَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرٍ بَعَثَ عَلِيٌّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ، وَكَانَ صَاحِبَ رَايَةِ الْأَنْصَارِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ وَالْبَأْسِ، فَقَالَ لَهُ: سِرْ إِلَى مِصْرَ فَقَدْ وَلَّيْتُكَهَا وَاخْرُجْ إِلَى رَحْلِكَ وَاجْمَعْ إِلَيْكَ ثِقَاتِكَ وَمَنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يَصْحَبَكَ حَتَّى تَأْتِيَهَا وَمَعَكَ جُنْدٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَرْعَبُ لِعَدُوِّكَ وَأَعَزُّ لِوَلِيِّكَ، وَأَحْسِنْ إِلَى الْمُحْسِنِ، وَاشْتَدَّ عَلَى الْمُرِيبِ، وَارْفُقْ بِالْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، فَإِنَّ الرِّفْقَ يُمْنٌّ. فَقَالَ لَهُ قَيْسٌ: أَمَّا قَوْلُكَ: اخْرُجْ إِلَيْهَا بِجُنْدٍ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ أَدْخُلْهَا إِلَّا بِجُنْدٍ آتِيهَا بِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ لَا أَدْخُلُهَا أَبَدًا، فَأَنَا أَدَعُ ذَلِكَ الْجُنْدَ لَكَ، فَإِنْ كُنْتَ احْتَجْتَ إِلَيْهِمْ كَانُوا مِنْكَ قَرِيبًا، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَبْعَثَهُمْ إِلَى وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِكَ كَانُوا عُدَّةً. فَخَرَجَ قَيْسٌ حَتَّى دَخَلَ مِصْرَ فِي سَبْعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ بِكِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فُقِرِئَ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ بِإِمَارَتِهِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ وَمُسَاعَدَتِهِ وَإِعَانَتِهِ عَلَى الْحَقِّ، ثُمَّ قَامَ قَيْسٌ خَطِيبًا وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَاءَ بِالْحَقِّ وَأَمَاتَ الْبَاطِلَ وَكَبَتَ الظَّالِمِينَ، أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا قَدْ بَايَعْنَا خَيْرَ مَنْ نَعْلَمُ بَعْدَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُومُوا أَيُّهَا النَّاسُ فَبَايِعُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسَنَةِ رَسُولِهِ، فَإِنْ نَحْنُ لَمْ نَعْمَلُ لَكُمْ بِذَلِكَ فَلَا بَيْعَةَ لَنَا عَلَيْكُمْ. فَقَامَ النَّاسُ فَبَايَعُوا وَاسْتَقَامَتْ مِصْرُ، وَبَعَثَ عَلَيْهَا عُمَّالَهُ إِلَّا قَرْيَةً مِنْهَا يُقَالُ لَهَا خَرْنَبَا فِيهَا نَاسٌ قَدْ أَعْظَمُوا قَتْلَ عُثْمَانَ، عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مَنْ بَنِي كِنَانَةَ، ثُمَّ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ، فَبَعَثَ إِلَى قَيْسٍ يَدْعُو إِلَى الطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ. وَكَانَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُخَلَّدٍ قَدْ أَظْهَرَ الطَّلَبَ أَيْضًا بِدَمِ عُثْمَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قَيْسٌ: وَيْحَكَ أَعَلَيَّ تَثِبُ! فَوَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مُلْكَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ وَأَنِّي قَتَلْتُكَ! فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَسْلَمَةُ: إِنِّي كَافٌّ عَنْكَ مَا دُمْتَ أَنْتَ وَالِيَ مِصْرَ. وَبَعَثَ قَيْسٌ، وَكَانَ حَازِمًا، إِلَى أَهْلِ خَرْنَبَا: إِنِّي لَا أُكْرِهُكُمْ عَلَى الْبَيْعَةِ، وَإِنِّي كَافٌّ عَنْكُمْ، فَهَادَنَهُمْ وَجَبَى الْخَرَاجَ لَيْسَ أَحَدٌ يُنَازِعُهُ، وَخَرَجَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَمَلِ

وَرَجَعَ وَهُوَ بِمَكَانِهِ، فَكَانَ أَثْقَلَ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ لِقُرْبِهِ مِنَ الشَّامِ، وَمَخَافَةَ أَنْ يُقْبِلَ عَلِيٌّ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَقَيْسٌ فِي أَهْلِ مِصْرَ، فَيَقَعُ بَيْنَهُمَا مُعَاوِيَةُ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى قَيْسٍ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكُمْ نَقَمْتُمْ عَلَى عُثْمَانَ ضَرْبَةً بِسَوْطٍ أَوْ شَتِيمَةَ رَجُلٍ أَوْ تَسْيِيرَ آخَرَ وَاسْتِعْمَالَ فَتًى، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ دَمَهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ، فَقَدْ رَكِبْتُمْ عَظَيِمًا، وَجِئْتُمْ أَمْرًا إِدًّا، فَتُبْ إِلَى اللَّهِ يَا قَيْسُ، فَإِنَّكَ مِنَ الْمُجْلِبِينِ عَلَى عُثْمَانَ، فَأَمَّا صَاحِبُكَ فَإِنَّا اسْتَيْقَنَا أَنَّهُ الَّذِي أَغْرَى [بِهِ] النَّاسَ وَحَمَلَهُمْ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَإِنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ دَمِهِ عُظْمَ قَوْمِكَ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ يَا قَيْسُ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يُطَالِبُ بِدَمِ عُثْمَانَ فَافْعَلْ، وَتَابِعْنَا عَلَى أَمْرِنَا، وَلَكَ سُلْطَانُ الْعِرَاقَيْنِ إِذَا ظَهَرْتُ مَا بَقِيتُ، وَلِمَنْ أَحْبَبْتَ مِنْ أَهْلِكَ سُلْطَانُ الْحِجَازِ مَا دَامَ لِي سُلْطَانٌ، وَسَلْنِي مَا شِئْتَ، فَإِنِّي أُعْطِيكَ وَاكْتُبْ إِلَيَّ بِرَأْيِكَ. فَلَمَّا جَاءَهُ الْكِتَابُ أَنْ أَحَبَّ يُدَافِعَهُ وَلَا يُبْدِيَ لَهُ أَمْرَهُ، وَلَا يَتَعَجَّلَ إِلَى حَرْبِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ فَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، فَذَلِكَ شَيْءٌ لَمْ أُقَارِبْهُ، وَذَكَرْتَ أَنَّ صَاحِبِي هُوَ الَّذِي أَغْرَى بِهِ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ أَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَذَكَرْتَ أَنَّ عُظْمَ عَشِيرَتِي لَمْ تَسْلَمْ [مِنْ دَمِ عُثْمَانَ] ، فَأَوَّلُ النَّاسِ كَانَ فِيهِ قِيَامًا عَشِيرَتِي، وَأَمَّا مَا عَرَضْتَهُ مِنْ مُتَابَعَتِكَ، فَهَذَا أَمْرٌ لِي فِيهِ نَظَرٌ وَفِكْرَةٌ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يُسْرَعُ إِلَيْهِ، وَأَنَا كَافٌّ عَنْكَ، وَلَيْسَ يَأْتِيكَ مِنْ قِبَلِي شَيْءٌ تَكْرَهُهُ، حَتَّى تَرَى وَنَرَى - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. فَلَمَّا قَرَأَ مُعَاوِيَةُ كِتَابَهُ رَآهُ مُقَارِبًا مُبَاعِدًا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ فَقَرَأْتُ كِتَابَكَ، فَلَمْ أَرَكَ تَدْنُو فَأَعُدَّكَ سِلْمًا، وَلَا مُتَبَاعِدًا فَأَعُدَّكَ حَرْبًا، وَلَيْسَ مِثْلِي يُصَانِعُ الْمُخَادِعَ وَيَنْخَدِعُ لِلْمَكَايِدِ، وَمَعَهُ عَدَدُ الرِّجَالِ وَبِيَدِهِ [أَعِنَّةُ الْخَيْلِ] ، وَالسَّلَامُ. فَلَمَّا قَرَأَ قَيْسٌ كِتَابَهُ، وَرَأَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ مَعَهُ الْمُدَافَعَةُ وَالْمُمَاطَلَةُ، أَظْهَرَ لَهُ مَا فِي نَفْسِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَالْعَجَبُ مِنَ اغْتِرَارِكَ بِي، وَطَمَعِكَ فِيَّ، وَاسْتِسْقَاطِكَ إِيَّايَ، أَتَسُومُنِي الْخُرُوجَ عَنْ طَاعَةِ أَوْلَى النَّاسِ بِالْإِمَارَةِ، وَأَقُوَلِهِمُ بِالْحَقِّ، وَأَهْدَاهُمْ سَبِيلًا، وَأَقْرَبِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيلَةً، وَتَأْمُرُنِي بِالدُّخُولِ فِي طَاعَتِكَ، طَاعَةَ أَبْعَدِ النَّاسِ مِنْ

هَذَا الْأَمْرِ، وَأَقُوَلِهِمْ بِالزُّورِ، وَأَضَلِّهِمْ سَبِيلًا، وَأَبْعَدِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيلَةً، وَلَدِ ضَالِّينَ مُضِلِّينَ، طَاغُوتٍ مِنْ طَوَاغِيتِ إِبْلِيسَ! وَأَمَّا قَوْلُكَ إِنِّي مَالِئٌ عَلَيْكَ مِصْرَ خَيْلًا وَرِجَالًا، فَوَاللَّهِ إِنْ لَمْ أَشْغَلْكَ بِنَفْسِكَ حَتَّى تَكُونَ أَهَمَّ إِلَيْكَ إِنَّكَ لَذُو جَدٍّ، وَالسَّلَامُ. فَلَمَّا رَأَى مُعَاوِيَةُ كِتَابَهُ أَيِسَ مِنْهُ وَثَقُلَ عَلَيْهِ مَكَانُهُ، وَلَمْ تَنْجَعْ حِيَلُهُ فِيهِ، فَكَادَهُ مِنْ قِبَلِ عَلِيٍّ، فَقَالَ لِأَهْلِ الشَّامِ: لَا تَسُبُّوا قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، وَلَا تَدْعُوا إِلَى غَزْوِهِ، فَإِنَّهُ لَنَا شِيعَةٌ، قَدْ تَأْتِينَا كُتُبُهُ وَنَصِيحَتُهُ سِرًّا، أَلَا تَرَوْنَ مَا يَفْعَلُ بِإِخْوَانِكُمُ الَّذِينَ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ خَرْنَبَا، يُجْرِي عَلَيْهِمْ أُعْطِيَاتِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ! وَافْتَعَلَ كِتَابًا عَنْ قَيْسٍ إِلَيْهِ بِالطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ، وَالدُّخُولِ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَرَأَهُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا، أَبْلَغَهُ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَعْلَمَتْهُ عُيُونُهُ بِالشَّامِ، فَأَعْظَمَهُ وَأَكْبَرَهُ، فَدَعَا ابْنَيْهِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ فَأَعْلَمُهُمْ ذَلِكَ. فَقَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، اعْزِلْ قَيْسًا عَنْ مِصْرَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا أُصَدِّقُ بِهَذَا عَنْهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: اعْزِلْهُ، فَإِنْ كَانَ هَذَا حَقًّا لَا يَعْتَزِلُ لَكَ. فَإِنَّهُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ قَيْسٍ يُخْبِرُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِحَالِ الْمُعْتَزِلِينَ وَكَفِّهِ عَنْ قِتَالِهِمْ. فَقَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: مَا أَخْوَفَنِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُمَالَأَةً مِنْهُ، فَمُرْهُ بِقِتَالِهِمْ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِقِتَالِهِمْ، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ كَتَبَ جَوَابَهُ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَجِبْتُ لِأَمْرِكَ تَأْمُرُنِي بِقِتَالِ قَوْمٍ كَافِّينَ عَنْكَ مُفْرِغِيكَ لِعَدُوِّكَ! وَمَتَى حَادَدْنَاهُمْ سَاعَدُوا عَلَيْكَ عَدُوَّكَ، فَأَطِعْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَاكْفُفْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الرَّأْيَ تَرْكُهُمْ، وَالسَّلَامُ. فَلَمَّا قَرَأَ عَلِيٌّ الْكِتَابَ قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ابْعَثْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى مِصْرَ وَاعْزِلْ قَيْسًا، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ قَيْسًا يَقُولُ: إِنَّ سُلْطَانًا لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِقَتْلِ مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ لَسُلْطَانُ سَوْءٍ. وَكَانَ ابْنُ جَعْفَرٍ أَخَا مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ لِأُمِّهِ، فَبَعَثَ عَلِيٌّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى مِصْرَ، وَقِيلَ: بَعَثَ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ، فَمَاتَ بِالطَّرِيقِ، فَبَعَثَ مُحَمَّدًا، فَقَدِمَ مُحَمَّدٌ عَلَى قَيْسٍ بِمِصْرَ، فَقَالَ لَهُ قَيْسٌ: مَا بَالُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ مَا غَيَّرَهُ؟ أَدَخَلَ أَحَدٌ بَيْنِي وَبَيْنَهُ؟ قَالَ: لَا، وَهَذَا السُّلْطَانُ سُلْطَانُكَ. قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أُقِيمُ. وَخَرَجَ مِنْهَا مُقْبِلًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ غَضْبَانُ لِعَزْلِهِ، فَجَاءَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَكَانَ عُثْمَانِيًّا، يَشْمَتُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: قَتَلْتَ عُثْمَانَ وَنَزَعَكَ عَلِيٌّ، فَبَقِيَ عَلَيْكَ الْإِثْمُ وَلَمْ يَحْسُنْ لَكَ الشُّكْرُ! فَقَالَ لَهُ قَيْسٌ: يَا أَعْمَى

الْقَلْبِ وَالْبَصَرِ! وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ أُلْقِيَ بَيْنَ رَهْطِي وَرَهْطِكَ حَرْبًا لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ! اخْرُجْ عَنِّي! ثُمَّ أَخَافَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ قَيْسًا بِالْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ مِنْهَا هُوَ وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ إِلَى عَلِيٍّ، فَشَهِدَا مَعَهُ صِفِّينَ. فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ يَتَغَيَّظُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ لَهُ: لَوْ أَمْدَدْتَ عَلِيًّا بِمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ لَكَانَ أَيْسَرَ عِنْدِي مِنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ فِي رَأْيِهِ وَمَكَانِهِ. فَلَمَّا قَدِمَ قَيْسٌ عَلَى عَلِيٍّ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ يُقَاسِي أُمُورًا عِظَامًا مِنَ الْمُكَايَدَةِ، وَجَاءَهُمْ خَبَرُ قَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَعَظُمَ مَحَلُّ قَيْسٍ عِنْدَهُ، وَأَطَاعَهُ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، وَلَمَّا قَدِمَ مُحَمَّدٌ مِصْرَ قَرَأَ كِتَابَ عَلِيٍّ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا وَإِيَّاكُمْ لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، وَبَصَّرَنَا وَإِيَّاكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كَانَ عَمِيَ عَنْهُ الْجَاهِلُونَ. أَلَا إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّانِي أَمْرَكُمْ، وَعَهِدَ إِلَيَّ مَا سَمِعْتُمْ، وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلَتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، فَإِنْ يَكُنْ مَا تَرَوْنَ مِنْ إِمَارَتِي وَأَعْمَالِي طَاعَةً لِلَّهِ فَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ هُوَ الْهَادِي لَهُ، وَإِنْ رَأَيْتُمْ عَامِلًا لِي عَمِلَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَارْفَعُوهُ إِلَيَّ وَعَاتِبُونِي فِيهِ، فَإِنِّي بِذَلِكَ أَسْعَدُ، وَأَنْتُمْ [بِذَلِكَ] جَدِيرُونَ، وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ بِرَحْمَتِهِ. ثُمَّ نَزَلَ، وَلَبِثَ شَهْرًا كَامِلًا، حَتَّى بَعَثَ إِلَى أُولَئِكَ الْقَوْمِ الْمُعْتَزِلِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ وَادَعَهُمْ قَيْسٌ، فَقَالَ لَهُمْ: إِمَّا أَنْ تَدْخُلُوا فِي طَاعَتِنَا وَإِمَّا أَنْ تَخْرُجُوا عَنْ بِلَادِنَا. فَأَجَابُوهُ: إِنَّا لَا نَفْعَلُ، فَدَعْنَا حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرُنَا، فَلَا تَعْجَلْ لِحَرْبِنَا. فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَامْتَنَعُوا [مِنْهُ] وَأَخَذُوا حِذْرَهُمْ، فَكَانَتْ وَقْعَةُ صِفِّينَ وَهُمْ هَائِبُونَ لِمُحَمَّدٍ. فَلَمَّا رَجَعَ عَلِيٌّ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَصَارَ الْأَمْرُ إِلَى التَّحْكِيمِ، طَمِعُوا فِي مُحَمَّدٍ، وَأَظْهَرُوا لَهُ الْمُبَارَزَةَ، فَبَعَثَ مُحَمَّدٌ الْحَارِثَ بْنَ جَمْهَانَ الْجُعْفِيَّ إِلَى أَهْلٍ خَرْنَبَا، وَفِيهَا يَزِيدُ بْنُ الْحَرْثِ مَعَ بَنِي كِنَانَةَ وَمَنْ مَعَهُ، فَقَاتَلَهُمْ فَقَاتَلُوهُ وَقَتَلُوهُ. فَبَعَثَ مُحَمَّدٌ إِلَيْهِمْ أَيْضًا ابْنَ مَضَاهِمٍ الْكَلْبِيَّ فَقَتَلُوهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ جَرَى بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُعَاوِيَةَ مُكَاتَبَاتٌ كَرِهْتُ ذِكْرَهَا، فَإِنَّهَا مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ سَمَاعَهَا الْعَامَّةُ. وَفِيهَا قَدِمَ أَبْرَازُ مَرْزُبَانَ مَرْوَ إِلَى عَلِيٍّ بَعْدَ الْجَمَلِ مُقِرًّا بِالصُّلْحِ، فَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا

إِلَى دَهَاقِينَ مَرْوَ وَالْأَسَاوِرَةِ، وَمَنْ بِمَرْوَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَفَرُوا وَأَغْلَقُوا نَيْسَابُورَ، فَبَعَثَ عَلِيٌّ خُلَيْدَ بْنَ قُرَّةَ، وَقِيلَ: ابْنَ طَرِيفٍ الْيَرْبُوعِيَّ، إِلَى خُرَاسَانَ. ذكر قُدُومِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَمُتَابَعَتِهِ لَهُ قِيلَ: كَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَدْ سَارَ عَنِ الْمَدِينَةِ، قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ عُثْمَانُ، نَحْوَ فِلَسْطِينَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أُحِيطَ بِعُثْمَانِ قَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يُقِيمُ أَحَدٌ فَيُدْرِكُهُ قَتْلُ هَذَا الرَّجُلِ إِلَّا ضَرَبَهُ اللَّهُ بِذُلٍّ، مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ نَصْرَهُ فَلْيَهْرُبْ. فَسَارَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ - وَقَدْ تَقَدَّمَ -، وَسَارَ مَعَهُ ابْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ، فَسَكَنَ فِلَسْطِينَ، فَمَرَّ بِهِ رَاكِبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: حَصِيرَةٌ. قَالَ عَمْرٌو: حُصِرَ الرَّجُلُ! فَمَا الْخَبَرُ؟ قَالَ: تَرَكْتُ عُثْمَانَ مَحْصُورًا. ثُمَّ مَرَّ بِهِ رَاكِبٌ آخَرُ بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: قَتَّالٌ. قَالَ: قُتِلَ الرَّجُلُ! فَمَا الْخَبَرُ؟ قَالَ قُتِلَ عُثْمَانُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ إِلَى أَنْ سِرْتُ. ثُمَّ مَرَّ بِهِ رَاكِبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: حَرْبٌ. قَالَ عَمْرٌو: يَكُونُ حَرْبٌ، وَقَالَ لَهُ: مَا الْخَبَرُ؟ فَقَالَ: بَايَعَ النَّاسُ عَلِيًّا. فَقَالَ سَلْمُ بْنُ زِنْبَاعٍ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْعَرَبِ بَابٌ فَكُسِرَ، فَاتَّخَذُوا بَابًا غَيْرَهُ. فَقَالَ عَمْرٌو: ذَلِكَ الَّذِي نُرِيدُهُ. ثُمَّ ارْتَحَلَ عَمْرٌو رَاجِلًا مَعَهُ ابْنَاهُ يَبْكِي كَمَا تَبْكِي الْمَرْأَةُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاعُثْمَانَاهُ! أَنْعِي الْحَيَاءَ وَالدِّينَ! حَتَّى قَدِمَ دِمَشْقَ، وَكَانَ قَدْ عَلِمَ الَّذِي يَكُونُ فَعَمِلَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَدْ بَعَثَهُ إِلَى عَمَّانَ، فَسَمِعَ مِنْ حَبْرٍ هُنَاكَ شَيْئًا عَرَفَ مِصْدَاقَهُ، فَسَأَلَهُ عَنْ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ يَكُونُ بَعْدَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِأَبِي بَكْرٍ وَأَنَّ مُدَّتَهُ قَصِيرَةٌ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَهُ رَجُلٌ مَنْ قَوْمِهِ مِثْلُهُ تَطُولُ مُدَّتُهُ، وَيُقْتَلُ غِيلَةً، ثُمَّ يَلِي بَعْدَهُ رَجُلٌ مَنْ قَوْمِهِ تَطُولُ مُدَّتُهُ، وَيُقْتَلُ عَنْ مَلَإٍ، قَالَ: ذَلِكَ أَشَدُّ، ثُمَّ يَلِي بَعْدَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَنْتَشِرُ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ عَلَى رَأْسِهِ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ يُقْتَلُ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَلِي بَعْدَهُ أَمِيرُ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَيَطُولُ مُلْكُهُ، وَتَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ تِلْكَ الْفِرْقَةِ، ثُمَّ يَمُوتُ.

ذكر ابتداء وقعة صفين

وَقِيلَ: إِنَّ عَمْرًا لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ عُثْمَانَ قَالَ: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، أَنَا قَتَلْتُهُ، وَأَنَا بَوَادِي السِّبَاعِ، إِنْ يَلِ هَذَا الْأَمْرَ طَلْحَةُ فَهُوَ فَتَى الْعَرَبِ سَيْبًا، وَإِنْ يَلِهِ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ فَهُوَ أَكْرَهُ مَنْ يَلِيهِ إِلَيَّ. فَبَلَغَهُ بَيْعَةُ عَلِيٍّ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ، فَأَتَاهُ مَسِيرُ عَائِشَةَ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، فَأَقَامَ يَنْتَظِرُ مَا يَصْنَعُونَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِوَقْعَةِ الْجَمَلِ، فَأُرْتِجَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، فَسَمِعَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ لَا يُبَايِعُ عَلِيًّا، وَأَنَّهُ يُعَظِّمُ شَأْنَ عُثْمَانَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ عَلِيٍّ، فَدَعَا ابْنَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ وَمُحَمَّدًا فَاسْتَشَارَهُمَا وَقَالَ: مَا تَرَيَانِ؟ أَمَّا عَلِيٌّ فَلَا خَيْرَ عِنْدَهُ، وَهُوَ يَدُلُّ بِسَابِقَتِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُشْرِكِي فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُمْ عَنْكَ رَاضُونَ، فَأَرَى أَنْ تَكُفَّ يَدَكَ وَتَجْلِسَ فِي بَيْتِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ [عَلَى إِمَامٍ فَتُبَايِعَهُ] . وَقَالَ لَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ: أَنْتَ نَابٌ مِنْ أَنْيَابِ الْعَرَبِ وَلَا أَرَى أَنْ [يَجْتَمِعَ هَذَا الْأَمْرُ] وَلَيْسَ لَكَ فِيهِ صَوْتٌ. فَقَالَ عَمْرٌو: أَمَّا أَنْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ فَأَمَرْتَنِي بِمَا هُوَ خَيْرٌ لِي فِي آخِرَتِي وَأَسْلَمُ لِي فِي دِينِي، وَأَمَّا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ فَأَمَرْتَنِي بِمَا هُوَ خَيْرٌ لِي فِي دُنْيَايَ، وَشَرٌّ لِي فِي آخِرَتِي. ثُمَّ خَرَجَ وَمَعَهُ ابْنَاهُ حَتَّى قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَوَجَدَ أَهْلَ الشَّامِ يَحُضُّونَ مُعَاوِيَةَ عَلَى الطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ، وَقَالَ عَمْرٌو: أَنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ، اطْلُبُوا بِدَمِ الْخَلِيفَةِ الْمَظْلُومِ، وَمُعَاوِيَةُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِعَمْرٍو ابْنَاهُ: أَلَا تَرَى مُعَاوِيَةَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْكَ؟ فَانْصَرِفْ إِلَى غَيْرِهِ. فَدَخَلَ عَمْرٌو عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لَعَجَبٌ لَكَ! إِنِّي أَرْفِدُكَ بِمَا أَرْفِدُكَ وَأَنْتَ مُعْرِضٌ عَنِّي، [أَمَا وَاللَّهِ] إِنْ قَاتَلْنَا مَعَكَ نَطْلُبُ بِدَمِ الْخَلِيفَةِ إِنَّ فِي النَّفْسِ [مِنْ ذَلِكَ] مَا فِيهَا، حَيْثُ تُقَاتِلُ مَنْ تَعْلَمُ سَابِقَتَهُ وَفَضْلَهُ وَقَرَابَتَهُ، وَلَكِنَّا أَرَدْنَا هَذِهِ الدُّنْيَا. فَصَالَحَهُ مُعَاوِيَةُ وَعَطَفَ عَلَيْهِ. [ذكر ابْتِدَاءِ وَقْعَةِ صِفِّينَ] لَمَّا عَادَ عَلِيٌّ مِنَ الْبَصْرَةِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْجَمَلِ قَصَدَ الْكُوفَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى جَرِيرِ بْنِ

عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، وَكَانَ عَامِلًا عَلَى هَمَذَانَ اسْتَعْمَلَهُ عُثْمَانُ، وَإِلَى الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ عَلَى أَذْرَبَيْجَانَ اسْتَعْمَلَهُ عُثْمَانُ أَيْضًا، يَأْمُرُهُمَا بِأَخْذِ الْبَيْعَةِ وَالْحُضُورِ عِنْدَهُ، فَلَمَّا حَضَرَا عِنْدَهُ، أَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا إِلَى مُعَاوِيَةَ، قَالَ جَرِيرٌ: أَرْسِلْنِي إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لِي وُدٌّ. فَقَالَ الْأَشْتَرُ: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ هَوَاهُ مَعَ مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: دَعْهُ حَتَّى نَنْظُرَ مَا الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْنَا بِهِ. فَبَعَثَهُ وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى مُعَاوِيَةَ يُعْلِمُهُ فِيهِ بِاجْتِمَاعِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى بَيْعَتِهِ (وَنَكْثِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَحَرْبِهِ إِيَّاهُمَا وَيَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ مِنْ طَاعَتِهِ) . فَسَارَ جَرِيرٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ مَاطَلَهُ وَاسْتَنْظَرَهُ وَاسْتَشَارَ عَمْرًا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَ الشَّامِ، وَيُلْزِمَ عَلِيَّا دَمَ عُثْمَانَ وَيُقَاتِلَهُ بِهِمْ، فَفَعَلَ مُعَاوِيَةُ ذَلِكَ، وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ بِقَمِيصِ عُثْمَانَ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ مَخْضُوبًا بِالدَّمِ بِأَصَابِعِ زَوْجَتِهِ نَائِلَةَ، إِصْبَعَانِ مِنْهَا وَشَيْءٌ مِنَ الْكَفِّ وَإِصْبَعَانِ مَقْطُوعَتَانِ مِنْ أُصُولِهِمَا، وَنِصْفُ الْإِبْهَامِ، وَضَعَ مُعَاوِيَةُ الْقَمِيصَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَمَعَ الْأَجْنَادَ إِلَيْهِ، فَبَكَوْا عَلَى الْقَمِيصِ مُدَّةً وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَالْأَصَابِعُ مُعَلَّقَةٌ فِيهِ، وَأَقْسَمَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَنْ لَا يَمَسَّهُمُ الْمَاءُ إِلَّا لِلْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَأَنْ لَا يَنَامُوا عَلَى الْفُرُشِ حَتَّى يَقْتُلُوا قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَمَنْ قَامَ دُونَهُمْ قَتَلُوهُ. فَلَمَّا عَادَ جَرِيرٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، وَأَخْبَرَهُ خَبَرَ مُعَاوِيَةَ، وَاجْتِمَاعَ أَهْلِ الشَّامِ مَعَهُ عَلَى قِتَالِهِ، وَأَنَّهُمْ يَبْكُونَ عَلَى عُثْمَانَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ عَلِيًّا قَتَلَهُ وَآوَى قَتَلَتَهُ، وَأَنَّهُمْ لَا يَنْتَهُونَ عَنْهُ حَتَّى يَقْتُلَهُمْ أَوْ يَقْتُلُوهُ، قَالَ الْأَشْتَرُ لِعَلِيٍّ: قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكَ أَنْ تُرْسِلَ جَرِيرًا، وَأَخْبَرْتُكَ بِعَدَاوَتِهِ وَغِشِّهِ، وَلَوْ كُنْتَ أَرْسَلْتَنِي لَكَانَ خَيْرًا مِنْ هَذَا الَّذِي أَقَامَ عِنْدَهُ حَتَّى لَمْ يَدَعْ بَابًا يَرْجُو فَتْحَهُ إِلَّا فَتْحَهُ، وَلَا بَابًا يَخَافُ مِنْهُ إِلَّا أَغْلَقَهُ. فَقَالَ جَرِيرٌ: لَوْ كُنْتَ ثَمَّ لَقَتَلُوكَ، لَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّكَ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ. فَقَالَ الْأَشْتَرُ: وَاللَّهِ لَوْ أَتَيْتُهُمْ لَمْ يُعْيِنِي جَوَابُهُمْ وَلَحَمَلْتُ مُعَاوِيَةَ عَلَى خُطَّةٍ أُعْجِلُهُ فِيهَا عَنِ الْفِكْرِ، وَلَوْ أَطَاعَنِي [فِيكِ] أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لِحَبَسَكَ وَأَشْبَاهَكَ حَتَّى يَسْتَقِيمَ هَذَا الْأَمْرُ. فَخَرَجَ جَرِيرٌ إِلَى قَرْقِيسْيَا وَكَتَبَ إِلَى

مُعَاوِيَةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: كَانَ الَّذِي حَمَلَ مُعَاوِيَةَ عَلَى رَدِّ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ غَيْرَ مَقْضِيِّ الْحَاجَةِ شُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ الْكِنْدِيُّ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنْ شُرَحْبِيلًا كَانَ قَدْ سَيَّرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الْعِرَاقِ إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَكَانَ مَعَهُ، فَقَدَّمَهُ سَعْدٌ وَقَرَّبَهُ، فَحَسَدَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ لِمُنَافَسَةٍ بَيْنِهِمَا، فَوَفْدَ جَرِيرٌ الْبَجَلِيُّ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ الْأَشْعَثُ: إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تَنَالَ مِنْ شُرَحْبِيلَ عِنْدَ عُمَرَ فَافْعَلْ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ سَأَلَهُ عُمَرُ عَنِ النَّاسِ، فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَى سَعْدٍ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ شِعْرًا: أَلَا لَيْتَنِي وَالْمَرْءُ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَزَبْرًا ... وَابْنَ السِّمْطِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ فَيَغْرَقَ أَصْحَابِي وَأَخْرُجَ سَالِمًا عَلَى ظَهْرِ ... قُرْقُورٍ أُنَادِي أَبَا بَكْرِ فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُرْسِلَ زَبْرًا وَشُرَحْبِيلًا إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَهُمَا، فَأَمْسَكَ زَبْرًا بِالْمَدِينَةِ وَسَيَّرَ شُرَحْبِيلًا إِلَى الشَّامِ، فَشَرُفَ وَتَقَدَّمَ، وَكَانَ أَبُوهُ السِّمْطُ مِنْ غَزَّةَ الشَّامِ. فَلَمَّا قَدِمَ جَرِيرٌ بِكِتَابِ عَلِيٍّ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي الْبَيْعَةِ انْتَظَرَ مُعَاوِيَةُ قُدُومَ شُرَحْبِيلَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَخْبَرَهُ مُعَاوِيَةُ بِمَا قَدِمَ فِيهِ جَرِيرٌ، فَقَالَ: كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ خَلِيفَتَنَا، فَإِنْ قَوِيتَ عَلَى الطَّلَبِ بِدَمِهِ، وَإِلَّا فَاعْتَزِلْنَا. فَانْصَرَفَ جَرِيرٌ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: شُرَحْبِيلُ مَا لِلدِّينِ فَارَقْتَ أَمْرَنَا ... وَلَكِنْ لِبُغْضِ الْمَالِكِيِّ جَرِيرِ وَقَوْلِكَ مَا قَدْ قُلْتَ عَنْ أَمْرِ أَشْعَثٍ ... فَأَصْبَحْتَ كَالْحَادِي بِغَيْرِ بَعِيرِ (جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ مَالِكٍ، فَنُسِبَ إِلَى جَدِّهِ مَالِكٍ) . وَخَرَجَ عَلِيٌّ فَعَسْكَرَ بِالنُّخَيْلَةِ، وَتَخَلَّفَ عَنْهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، مِنْهُمْ: مُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ، وَمَسْرُوقٌ، أَخَذَا أُعْطِيَاتِهِمَا وَقَصَدَا قَزْوِينَ، فَأَمَّا مَسْرُوقٌ فَإِنَّهُ كَانَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ

مِنْ تَخَلُّفِهِ عَنْ عَلِيٍّ بِصِفِّينَ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ، فَاسْتَشَارَ عَمْرًا، فَقَالَ: أَمَّا إِذَا سَارَ عَلِيٌّ فَسِرْ إِلَيْهِ بِنَفْسِكَ، وَلَا تَغِبْ عَنْهُ بِرَأْيِكَ وَمَكِيدَتِكَ. فَتَجَهَّزَ مُعَاوِيَةُ وَتَجَهَّزَ النَّاسُ وَحَضَّهُمْ عَمْرٌو وَضَعَّفَ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ وَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَدْ فَرَّقُوا جَمْعَهُمْ، وَوَهَّنُوا شَرِكَتَهُمْ، وَفَلُّوا حَدَّهُمْ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ مُخَالِفُونَ لِعَلِيٍّ بِمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَفَانَتْ صَنَادِيدُهُمْ وَصَنَادِيدُ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَإِنَّمَا سَارَ عَلِيٌّ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ، وَقَدْ قُتِلَ خَلِيفَتُكُمْ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي حَقِّكُمْ أَنْ تُضَيِّعُوهُ، وَفِي دَمِكُمْ أَنْ تُطِلُّوهُ! وَكَتَّبَ مُعَاوِيَةُ أَهْلَ الشَّامِ، وَعَقْدَ لِوَاءً لِعَمْرٍو، وَلِوَاءً لِابْنَيْهِ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ، وَلِوَاءً لِغُلَامِهِ وَرْدَانَ. وَعَقَدَ عَلِيٌّ لِوَاءً لِغُلَامِهِ قَنْبَرَ، فَقَالَ عَمْرٌو: هَلْ يُغْنِيَنَّ وَرْدَانُ عَنِّي قَنْبَرَا ... وَتُغْنِيَ السَّكُونُ عَنِّي حِمْيَرَا إِذَا الْكُمَاةُ لَبِسُوا السَّنَوَّرَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: لَأُصْبِحَنَّ الْعَاصِيَ ابْنَ الْعَاصِي ... سَبْعِينَ أَلْفًا عَاقِدِي النَّوَاصِي مُجَنِّبِينَ الْخَيْلَ بِالْقِلَاصِ ... مُسْتَحْقِبَيْنِ حِلَقَ الدِّلَاصِ فَلَمَّا سَمِعَ مُعَاوِيَةُ ذَلِكَ قَالَ: مَا أَرَى عَلِيًّا إِلَّا وَقَدْ وَفَى لَكَ. وَسَارَ مُعَاوِيَةُ وَتَأَنَّى فِي مَسِيرِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بَعَثَ إِلَيْهِ يَقُولُ: أَلَا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ ... فَإِنَّكَ مِنْ أَخِي ثِقَةٍ مُلِيمُ قَطَعْتَ الدَّهْرَ كَالسَّدِمِ الْمُعَنَّى ... تُهَدِّرُ فِي دِمَشْقَ فَمَا تَرِيمُ وَإِنَّكَ وَالْكِتَابَ إِلَى عَلِيٍّ ... كَدَابِغَةٍ وَقَدْ حَلِمَ الْأَدِيمُ

يُمَنِّيكَ الْإِمَارَةَ كُلُّ رَكْبٍ لِأَنْقَاضِ الْعِرَاقِ بِهَا رَسِيمُ ... وَلَيْسَ أَخُو التِّرَاتِ بِمَنْ تَوَانَى وَلَكِنْ طَالَبُ التِّرَةِ الْغَشُومُ ... وَلَوْ كُنْتَ الْقَتِيلَ وَكَانَ حَيًّا لَجَرَّدَ لَا أَلَفُّ وَلَا غَشُومُ ... وَلَا نَكِلٌ عَنِ الْأَوْتَارِ حَتَّى يُبِيءَ بِهَا وَلَا بَرِمٌ جَثُومُ ... وَقَوْمُكَ بِالْمَدِينَةِ قَدْ أُبِيرُوا فَهُمْ صَرْعَى كَأَنَّهُمُ الْهَشِيمُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: وَمُسْتَعْجِبٍ مِمَّا يَرَى مِنْ أَنَاتِنَا ... وَلَوْ زَبَنَتْهُ الْحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ وَبَعَثَ عَلِيٌّ زِيَادَ بْنَ النَّضْرِ الْحَارِثِيَّ طَلِيعَةً فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ شُرَيْحَ ابْنَ هَانِئٍ [فِي] أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَسَارَ عَلِيٌّ مِنَ النُّخَيْلَةِ، وَأَخَذَ مَعَهُ مَنْ بِالْمَدَائِنِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَوَلَّى عَلَى الْمَدَائِنِ سَعْدَ بْنَ مَسْعُودٍ، عَمَّ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ. وَلَمَّا سَارَ عَلِيٌّ كَانَ مَعَهُ نَابِغَةُ بَنِي جَعْدَةَ، فَحَدَا بِهِ يَوْمًا فَقَالَ: قَدْ عَلِمَ الْمِصْرَانِ وَالْعِرَاقُ ... أَنَّ عَلِيًّا فَحْلُهَا الْعِتَاقُ

أَبْيَضُ جَحْجَاحٌ لَهُ رُوَاقٌ ... إِنَّ الْأُولَى جَارَوْكَ لَا أَفَاقُوا لَكُمْ سِبَاقٌ وَلَهُمْ سِبَاقٌ ... قَدْ عَلِمَتْ ذَلِكُمُ الرِّفَاقُ وَوَجَّهَ عَلِيٌّ مِنَ الْمَدَائِنِ مَعْقِلَ بْنَ قَيْسٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَأَمْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى الْمَوْصِلِ حَتَّى يُوَافِيَهُ عَلَى الرَّقَّةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الرَّقَّةِ قَالَ لِأَهْلِهَا لِيَعْمَلُوا لَهُ جِسْرًا يَعْبُرُ عَلَيْهِ إِلَى الشَّامِ، فَأَبَوْا، وَكَانُوا قَدْ ضَمُّوا سُفُنَهُمْ إِلَيْهِمْ، فَنَهَضَ مَنْ عِنْدِهِمْ لِيَعْبُرَ عَلَى جِسْرِ مَنْبِجَ، وَخَلَّفَ عَلَيْهِمُ الْأَشْتَرَ، فَنَادَاهُمُ الْأَشْتَرُ وَقَالَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَعْمَلُوا جِسْرًا يَعْبُرُ عَلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لِأُجَرِّدَنَّ فِيكُمُ السَّيْفَ، وَلَأَقْتُلَنَّ الرِّجَالَ، وَلَآخُذَنَّ الْأَمْوَالَ! فَلَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقَالُوا: إِنَّهُ الْأَشْتَرُ، وَإِنَّهُ قَمِنٌ أَنْ يَفِيَ لَكُمْ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، أَوْ يَأْتِي بِأَكْثَرَ مِنْهُ. فَنَصَبُوا لَهُ جِسْرًا وَعَبَرَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ، وَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ، فَسَقَطَتْ قَلَنْسُوَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحُصَيْنِ الْأَزْدِيِّ، فَنَزَلَ فَأَخَذَهَا، ثُمَّ رَكِبَ، وَسَقَطَتْ قَلَنْسُوَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ الْأَزْدِيِّ، فَنَزَلَ فَأَخَذَهَا، ثُمَّ قَالَ لِصَاحِبِهِ: فَإِنْ يَكُ ظَنُّ الزَّاجِرِي الطَّيْرَ صَادِقًا ... كَمَا زَعَمُوا أُقْتَلْ وَشِيكًا وَتُقْتَلُ فَقَالَ ابْنُ أَبِي الْحُصَيْنِ: مَا شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا ذَكَرْتَ! فَقُتِلَا جَمِيعًا بِصِفِّينَ. وَلَمَّا بَلَغَ عَلِيٌّ الْفُرَاتَ دَعَا زِيَادَ بْنَ النَّضْرِ الْحَارِثِيَّ، وَشُرَيْحَ بْنَ هَانِئٍ فَسَرَّحَهُمَا أَمَامَهُ (فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا) نَحْوَ مُعَاوِيَةَ عَلَى حَالِهِمَا الَّتِي خَرَجَا عَلَيْهَا مِنَ الْكُوفَةِ. وَكَانَ سَبَبُ عَوْدِهِمَا إِلَيْهِ أَنَّهُمَا حَيْثُ سَيَّرَهُمَا عَلِيٌّ مِنَ الْكُوفَةِ أَخَذَا عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ يَلِي الْبَرَّ. فَلَمَّا بَلَغَا عَانَاتٍ بَلَغَهُمَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدْ أَقْبَلَ فِي جُنُودِ الشَّامِ، فَقَالَا: لَا وَاللَّهِ مَا هَذَا لَنَا بِرَأْيٍ نَسِيرُ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا الْبَحْرُ! وَمَا لَنَا خَيْرٌ فِي أَنْ نَلْقَى جُنُودَ الشَّامِ بِقِلَّةِ مَنْ مَعَنَا. فَذَهَبُوا لِيَعْبُرُوا مِنْ عَانَاتٍ، فَمَنَعَهُمْ أَهْلُهَا. فَرَجَعُوا فَعَبَرُوا مَنْ هِيتَ، فَلَحِقُوا عَلِيًّا دُونَ قَرْقِيسْيَا، فَلَمَّا لَحِقُوا عَلِيًّا قَالَ: مُقَدِّمَتِي تَأْتِينِي مِنْ وَرَائِي. فَأَخْبَرَهُ شُرَيْحٌ وَزِيَادٌ بِمَا كَانَ، فَقَالَ: سُدِّدْتُمَا. فَلَمَّا عَبَرَ الْفُرَاتَ سَيَّرَهُمَا أَمَامَهُ، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى سُورِ الرُّومِ لَقِيَهُمَا أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ فِي جُنْدٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَأَرْسَلَا إِلَى عَلِيٍّ فَأَعْلَمَاهُ، فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ إِلَى الْأَشْتَرِ وَأَمَرَهُ بِالسُّرْعَةِ وَقَالَ لَهُ: إِذَا قَدِمْتَ فَأَنْتَ عَلَيْهِمْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَبْدَأَ الْقَوْمَ بِقِتَالٍ إِلَّا أَنْ يَبْدَءُوكَ حَتَّى تَلْقَاهُمْ فَتَدَعُوَهُمْ وَتَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلَا يَحْمِلْكَ بُغْضُهُمْ عَلَى قِتَالِهِمْ قَبْلَ دُعَائِهِمْ، وَالْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَاجْعَلْ عَلَى مَيْمَنَتِكَ زِيَادًا، وَعَلَى مَيْسَرَتِكَ شُرَيْحًا، وَلَا تَدْنُ مِنْهُمْ دُنُوَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِبَ الْحَرْبَ، وَلَا تُبَاعِدْ مِنْهُمْ تَبَاعُدَ مَنْ يَهَابُ

الْبَأْسَ حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْكَ، فَإِنِّي حَثِيثُ الْمَسِيرِ فِي إِثْرِكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَكَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى شُرَيْحٍ وَزِيَادٍ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُمَا بِطَاعَةِ الْأَشْتَرِ. فَسَارَ الْأَشْتَرُ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ، وَاتَّبَعَ مَا أَمَرَهُ وَكَفَّ عَنِ الْقِتَالِ، وَلَمْ يَزَالُوا مُتَوَاقِفِينَ حَتَّى [إِذَا] كَانَ عِنْدَ الْمَسَاءِ حَمَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، فَثَبَتُوا لَهُ وَاضْطَرَبُوا سَاعَةً، ثُمَّ انْصَرَفَ أَهْلُ الشَّامِ وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْغَدِ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ الْمِرْقَالُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو الْأَعْوَرِ، فَاقْتَتَلُوا يَوْمَهُمْ، وَصَبَرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الْأَشْتَرُ وَقَالَ: أَرَوْنِي أَبَا الْأَعْوَرِ، وَتَرَاجَعُوا، وَوَقَفَ أَبُو الْأَعْوَرِ وَرَاءَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَجَاءَ الْأَشْتَرُ فَصَفَّ أَصْحَابَهُ بِمَكَانِ أَبِي الْأَعْوَرِ بِالْأَمْسِ، فَقَالَ الْأَشْتَرُ لِسِنَانِ بْنِ مَالِكٍ النَّخَعِيِّ: انْطَلِقْ إِلَى أَبِي الْأَعْوَرِ فَادْعُهُ إِلَى الْبِرَازِ. فَقَالَ: إِلَى مُبَارَزَتِي أَوْ مُبَارَزَتِكَ؟ فَقَالَ الْأَشْتَرُ: لَوْ أَمَرْتُكَ بِمُبَارَزَتِهِ فَعَلْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَعْتَرِضَ صَفَّهُمْ بِسَيْفِي لَفَعَلْتُ! فَدَعَا لَهُ وَقَالَ: إِنَّمَا تَدْعُوهُ لِمُبَارَزَتِي. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: آمِنُونِي فَإِنِّي رَسُولٌ، فَآمَنُوهُ، فَانْتَهَى إِلَى أَبِي الْأَعْوَرِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْأَشْتَرَ يَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تُبَارِزَهُ، فَسَكَتَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ: إِنَّ خِفَّةَ الْأَشْتَرِ وَسُوءَ رَأْيِهِ حَمَلَاهُ عَلَى إِجْلَاءِ عُمَّالِ عُثْمَانَ عَنِ الْعِرَاقِ وَتَقْبِيحِ مَحَاسِنِهِ، وَعَلَى أَنْ سَارَ إِلَيْهِ فِي دَارِهِ حَتَّى قَتَلَهُ، فَأَصْبَحَ مُتَّبَعًا بِدَمِهِ لَا حَاجَةَ لِي فِي مُبَارَزَتِهِ. قَالَ لَهُ الرَّسُولُ: قَدْ قُلْتُ فَاسْمَعْ مِنِّي أُجِبْكَ. قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي جَوَابِكَ، اذْهَبْ عَنِّي! فَصَاحَ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ وَرَجَعَ إِلَى الْأَشْتَرِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: لِنَفْسِهِ نَظَرَ. فَوَقَفُوا حَتَّى حَجَزَ اللَّيْلُ بَيْنَهُمْ، وَعَادَ الشَّامِيُّونَ مِنَ اللَّيْلِ، وَأَصْبَحَ عَلِيٌّ غَدْوَةً عِنْدَ الْأَشْتَرِ، وَتَقَدَّمَ الْأَشْتَرُ وَمَنْ مَعَهُ فَانْتَهَى إِلَى مُعَاوِيَةَ فَوَاقَفَهُ، وَلَحِقَ بِهِمْ عَلِيٌّ فَتَوَاقَفُوا طَوِيلًا. ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا طَلَبَ لِعَسْكَرِهِ مَوْضِعًا يَنْزِلُ فِيهِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ سَبَقَ، فَنَزَلَ مَنْزِلًا اخْتَارَهُ بَسِيطًا وَاسِعًا أَفْيَحَ، وَأَخَذَ شَرِيعَةَ الْفُرَاتِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الصُّقْعِ شَرِيعَةٌ غَيْرَهَا، وَجَعَلَهَا فِي حَيِّزِهِ، وَبَعَثَ عَلَيْهَا أَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ يَحْمِيهَا وَيَمْنُعُهَا، فَطَلَبَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ شَرِيعَةً غَيْرَهَا فَلَمْ يَجِدُوا، فَأَتَوْا عَلِيًّا فَأَخْبَرُوهُ بِفِعْلِهِمْ وَبِعَطَشِ النَّاسِ، فَدَعَا صَعْصَعَةَ بْنَ صُوحَانَ فَأَرْسَلَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّا سِرْنَا مَسِيرَنَا هَذَا وَنَحْنُ نَكْرَهُ قِتَالَكُمْ قَبْلَ الْإِعْذَارِ إِلَيْكُمْ، فَقَدِمَتْ إِلَيْنَا خَيْلُكَ وَرِجَالُكَ فَقَاتَلَتْنَا قَبْلَ أَنْ نُقَاتِلَكَ، وَنَحْنُ مِنْ رَأَيِنَا الْكَفُّ حَتَّى

نَدْعُوَكَ وَنَحْتَجَّ عَلَيْكَ، وَهَذِهِ أُخْرَى قَدْ فَعَلْتُمُوهَا، مَنَعْتُمُ النَّاسَ عَنِ الْمَاءِ وَالنَّاسُ غَيْرُ مُنْتَهِينَ، فَابْعَثْ إِلَى أَصْحَابِكَ فَلْيُخَلُّوا بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الْمَاءِ، لْيَكُفُّوا لِنَنْظُرَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وَفِيمَا قَدِمْنَا لَهُ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ نَتْرُكَ مَا جِئْنَا لَهُ، وَنَقْتَتِلَ عَلَى الْمَاءِ حَتَّى يَكُونَ الْغَالِبُ هُوَ الشَّارِبُ فَعَلْنَا. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ؟ فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ: امْنَعْهُمُ الْمَاءَ كَمَا مَنَعُوهُ ابْنَ عَفَّانَ، اقْتُلْهُمْ عَطَشًا قَتَلَهُمُ اللَّهُ! فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: خَلِّ بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ الْمَاءِ، وَإِنَّهُمْ لَنْ يَعْطَشُوا وَأَنْتَ رَيَّانٌ، وَلَكِنْ بِغَيْرِ الْمَاءِ، فَانْظُرْ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ. فَأَعَادَ الْوَلِيدُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ مَقَالَتَهُمَا وَقَالَا: امْنَعْهُمُ الْمَاءَ إِلَى اللَّيْلِ، فَإِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ رَجَعُوا، وَكَانَ رُجُوعُهُمْ هَزِيمَةً، امْنَعْهُمُ الْمَاءَ مَنَعَهُمُ اللَّهُ [إِيَّاهُ] يَوْمَ الْقِيَامَةِ! قَالَ صَعْصَعَةُ: إِنَّمَا يَمْنَعُهُ اللَّهُ الْفَجَرَةَ شَرَبَةَ الْخَمْرِ، لَعَنَكَ اللَّهُ وَلَعَنَ هَذَا الْفَاسِقَ! يَعْنِي الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ. فَشَتَمُوهُ وَتَهَدَّدُوهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْوَلِيدَ وَابْنَ أَبِي سَرْحٍ لَمْ يَشْهَدَا صِفِّينَ. فَرَجَعَ صَعْصَعَةُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ، وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَيَأْتِيكُمْ رَأْيِي، فَسَرَّبَ الْخَيْلَ إِلَى أَبِي الْأَعْوَرِ لِيَمْنَعَهُمُ الْمَاءَ، فَلَمَّا سَمِعَ عَلِيٌّ بِذَلِكَ قَالَ: قَاتِلُوهُمْ عَلَى الْمَاءِ. فَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ: أَنَا أَسِيرُ إِلَيْهِمْ. فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُمْ ثَارُوا فِي وُجُوهِهِمْ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَتَرَامَوْا سَاعَةً ثُمَّ تَطَاعَنُوا بِالرِّمَاحِ، ثُمَّ صَارُوا إِلَى السُّيُوفِ، فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً، وَأَرْسَلَ مُعَاوِيَةُ يَزِيدَ بْنَ أَسَدٍ الْبَجَلِيَّ الْقَسْرِيَّ، جَدَّ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ، فِي الْخَيْلِ إِلَى أَبِي الْأَعْوَرِ، فَأَقْبَلُوا، فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ الرِّيَاحِيَّ، فَازْدَادَ الْقِتَالُ، فَأَرْسَلَ مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي جُنْدٍ كَثِيرٍ، فَأَخَذَ يَمُدُّ أَبَا الْأَعْوَرِ وَيَزِيدَ بْنَ أَسَدٍ، وَأَرْسَلَ عَلِيٌّ الْأَشْتَرَ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ وَجَعَلَ يَمُدُّ الْأَشْعَثَ وَشَبَثًا، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْفٍ الْأَزْدِيُّ الْأَحْمَرِيُّ: خَلُّوا لَنَا مَاءَ الْفُرَاتِ الْجَارِي ... أَوِ اثْبُتُوا لِجَحْفَلٍ جَرَّارِ لِكُلِّ قَرْمٍ مُسْتَمِيتٍ شَارِي ... طَاعِنٍ بِرُمْحِهِ كَرَّارِ

ضَرَّابِ هَامَاتِ الْعِدَى مِغْوَارِ ( لَمْ يَخْشَ غَيْرَ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) وَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى خَلَّوْا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ، وَصَارَ فِي أَيْدِي أَصْحَابِ عَلِيٍّ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُسْقِيهِ أَهْلَ الشَّامِ! فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ إِلَى أَصْحَابِهِ: أَنْ خُذُوا مِنَ الْمَاءِ حَاجَتَكُمْ وَخَلُّوا عَنْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ نَصَرَكُمْ بِبَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمْ. وَمَكَثَ عَلِيٌّ يَوْمَيْنِ لَا يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَحَدًا وَلَا يَأْتِيهِ أَحَدٌ، ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا دَعَا أَبَا عَمْرٍو بَشِيرَ بْنَ عَمْرِو بْنِ مِحْصَنٍ الْأَنْصَارِيَّ، وَسَعِيدَ بْنَ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيَّ، وَشَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ التَّمِيمِيَّ، فَقَالَ لَهُمْ: ائْتُوا هَذَا الرَّجُلَ وَادْعُوهُ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ. فَقَالَ لَهُ شَبَثٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا تُطْمِعُهُ فِي سُلْطَانٍ تَوَلِّيهِ إِيَّاهُ، أَوْ مَنْزِلَةٍ تَكُونُ لَهُ بِهَا أَثَرَةٌ عِنْدِكَ إِنْ هُوَ بَايَعَكَ؟ قَالَ: انْطَلِقُوا إِلَيْهِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ، وَانْظُرُوا مَا رَأْيُهُ. وَهَذَا فِي أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ. فَأَتَوْهُ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَابْتَدَأَ بَشِيرُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: يَا مُعَاوِيَةَ إِنَّ الدُّنْيَا عَنْكَ زَائِلَةٌ، وَإِنَّكَ رَاجِعٌ إِلَى الْآخِرَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ مُحَاسِبُكَ بِعَمَلِكَ وَمُجَازِيكَ عَلَيْهِ، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تُفَرِّقُ جَمَاعَةَ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَأَنْ تَسْفِكَ دِمَاءَهَا بَيْنَهَا. فَقَطَعَ عَلَيْهِ مُعَاوِيَةُ الْكَلَامَ وَقَالَ: هَلَّا أَوْصَيْتَ بِذَلِكَ صَاحِبَكَ؟ فَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: إِنَّ صَاحِبِي لَيْسَ مِثْلَكَ، إِنَّ صَاحِبِي أَحَقُّ الْبَرِّيَّةِ كُلِّهَا بِهَذَا الْأَمْرِ، فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالسَّابِقَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْقَرَابَةِ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: فَمَاذَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَأْمُرُكَ بِتَقْوَى اللَّهِ (وَأَنْ تُجِيبَ) ابْنَ عَمِّكَ إِلَى مَا يَدْعُوكَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ أَسْلَمُ لَكَ فِي دُنْيَاكَ، وَخَيْرٌ لَكَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِكَ! قَالَ مُعَاوِيَةُ: وَنَتْرُكُ دَمَ بْنِ عَفَّانَ؟ لَا وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ أَبَدًا. قَالَ: فَذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ يَتَكَلَّمُ، فَبَادَرَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ قَدْ فَهِمْتُ مَا رَدَدْتَ عَلَى ابْنِ مِحْصَنٍ، إِنَّهُ وَاللَّهِ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مَا تَطْلُبُ، إِنَّكَ لَمْ تَجِدْ شَيْئًا تَسْتَغْوِي بِهِ النَّاسَ، وَتَسْتَمِيلُ بِهِ أَهْوَاءَهُمْ، وَتَسْتَخْلِصُ بِهِ طَاعَتَهُمْ إِلَّا قَوْلَكَ: قُتِلَ إِمَامُكُمْ مَظْلُومًا، فَنَحْنُ نَطْلُبُ بِدَمِهِ، فَاسْتَجَابَ لَكَ سُفَهَاءُ طَغَامٍ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ أَبْطَأْتَ عَنْهُ بِالنَّصْرِ، وَأَحْبَبْتَ لَهُ الْقَتْلَ لِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَصْبَحْتَ تَطْلُبُ، وَرُبَّ مُتَمَنِّي أَمْرٍ وَطَالِبُهُ يَحُولُ اللَّهُ دُونَهُ، وَرُبَّمَا أُوتِيَ الْمُتَمَنِّي أُمْنِيَتَهُ وَفَوْقَ أُمْنِيَتِهِ، وَوَاللَّهِ مَا لَكَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا خَيْرٌ! وَاللَّهِ إِنْ أَخْطَأَكَ مَا تَرْجُو، إِنَّكَ لَشَرُّ الْعَرَبِ حَالًا! وَلَئِنْ أَصَبْتَ مَا تَتَمَنَّاهُ لَا تُصِيبُهُ حَتَّى تَسْتَحِقَّ مِنْ رَبِّكَ صِلِيَّ النَّارِ! فَاتَّقِ اللَّهَ يَا مُعَاوِيَةَ، وَدَعْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَلَا تُنَازِعِ الْأَمْرَ أَهْلَهُ.

قَالَ: فَحَمِدَ مُعَاوِيَةُ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَوَّلَ مَا عَرَفْتُ بِهِ سَفَهَكَ وَخِفَّةَ حِلْمِكَ، أَنْ قَطَعْتَ عَلَى هَذَا الْحَسِيبِ الشَّرِيفِ سَيِّدِ قَوْمِهِ مَنْطِقَهُ، ثُمَّ اعْتَرَضْتَ بَعْدُ فِيمَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ، فَقَدْ كَذَبْتَ وَلَؤُمْتَ أَيُّهَا الْأَعْرَابِيُّ الْجِلْفُ الْجَافِي فِي كُلِّ مَا ذَكَرْتَ وَوَصَفْتَ! انْصَرِفُوا مِنْ عِنْدِي فَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِلَّا السَّيْفَ. وَغَضِبَ، وَخَرَجَ الْقَوْمُ. فَقَالَ لَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ: أَتُهَوِّلُ بِالسَّيْفِ؟ أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَنُعَجِّلَنَّهَا إِلَيْكَ. فَأَتَوْا عَلِيًّا فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَأَخَذَ عَلِيٌّ يَأْمُرُ الرَّجُلَ ذَا الشَّرَفِ فَيَخْرُجُ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَيَخْرُجُ إِلَيْهِ آخِرٌ مَنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَيَقْتَتِلَانِ فِي خَيْلِهِمَا ثُمَّ يَنْصَرِفَانِ، وَكَرِهُوا أَنْ يَلْقَوْا جَمْعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِجَمْعِ أَهْلِ الشَّامِ لِمَا خَافُوا أَنْ يَكُونَ فِيهِ مِنْ الِاسْتِئْصَالِ وَالْهَلَاكِ، فَكَانَ عَلِيٌّ يُخْرِجُ مَرَّةً الْأَشْتَرَ وَمَرَّةً حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ الْكِنْدِيَّ، وَمَرَّةً شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، وَمَرَّةً خَالِدَ بْنَ الْمُعَمَّرِ، وَمَرَّةً زِيَادَ بْنَ النَّضْرِ الْحَارِثِيَّ، وَمَرَّةً زِيَادَ بْنَ خَصَفَةً التَّيْمِيَّ، وَمَرَّةً سَعِيدَ بْنَ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيَّ، وَمَرَّةً مَعْقِلَ بْنَ قَيْسٍ الرِّيَاحَيَّ، وَمَرَّةً قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيَّ، وَكَانَ الْأَشْتَرُ أَكْثَرُهُمْ خُرُوجًا. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُخْرِجُ إِلَيْهِمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَحَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ، وَابْنَ ذِي الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيَّ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ الْكِنْدِيَّ، وَحُمْرَةَ بْنَ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيَّ، فَاقْتَتَلُوا أَيَّامَ ذِي الْحِجَّةِ كُلَّهَا، وَرُبَّمَا اقْتَتَلُوا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ. ذكر عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ بِيَسِيرٍ، وَلَمْ يُدْرِكِ الْجَمَلَ،

وَقُتِلَ ابْنَاهُ صَفْوَانَ وَسَعِيدٌ مَعَ عَلِيٍّ بِصِفِّينَ بِوَصِيَّةِ أَبِيهِمَا، قِيلَ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَفِيهَا مَاتَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَكَانَ عُمْرُهُ مِائَتَيْنِ

وَخَمْسِينَ سَنَةً، (هَذَا أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ، وَقِيلَ: ثَلَثُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ سَنَةً) . وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ بَعْضَ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، مَاتَ بِعَسْقَلَانَ حَيْثُ خَرَجَ مُعَاوِيَةُ إِلَى صِفِّينَ، وَكَرِهَ الْخُرُوجَ مَعَهُ. وَمَاتَ فِيهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُدَيْسٍ

الْبَلَوِيُّ أَمِيرُ الْقَادِمِينَ مِنْ مِصْرَ لِقَتْلِ عُثْمَانَ، وَكَانَ مِمَّنْ بَايَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ بِالشَّامِ. وَفِيهَا مَاتَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ - وَهُوَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا -. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرِو بْنِ ضَبَّةَ الْفِهْرِيُّ أَبُو شَدَّادٍ - شَهِدَ بَدْرًا -. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ عَلِيٌّ عَلَى الرَّيِّ يَزِيدَ بْنَ حُجَيَّةَ التَّيْمِيَّ تَيْمَ اللَّاتِ، فَكَسَرَ مِنْ خَرَاجِهَا ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ يَسْتَدْعِيهِ، فَحَضَرَ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْمَالِ قَالَ: أَيْنَ مَا غَلَلْتَهُ مِنَ الْمَالِ؟ قَالَ: مَا أَخَذْتُ شَيْئًا! فَخَفَقَهُ بِالدِّرَّةِ خَفَقَاتٍ وَحَبَسَهُ وَوَكَّلَ بِهِ سَعْدًا مَوْلَاهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ يَزِيدُ إِلَى الشَّامِ، فَسَوَّغَهُ مُعَاوِيَةُ الْمَالَ، فَكَانَ يَنَالُ مِنْ عَلِيٍّ، وَبَقِيَ بِالشَّامِ إِلَى أَنِ اجْتَمَعَ الْأَمْرُ لِمُعَاوِيَةَ فَسَارَ مَعَهُ إِلَى الْعِرَاقِ فَوَلَّاهُ الرَّيَّ، فَقِيلَ: إِنَّهُ شَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ وَالنَّهْرَوَانَ، ثُمَّ وَلَّاهُ الرَّيَّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَكَانَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ] [ذكر تَتِمَّةِ أَمْرِ صِفِّينَ] 37 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ ذكر تَتِمَّةِ أَمْرِ صِفِّينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ جَرَتْ مُوَادَعَةٌ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، تَوَادَعَا عَلَى تَرْكِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْمُحَرَّمُ طَمَعًا فِي الصُّلْحِ، وَاخْتَلَفَ بَيْنَهُمَا الرُّسُلُ، فَبَعَثَ عَلِيٌّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، وَيَزِيدَ بْنَ قَيْسٍ الْأَرْحَبِيَّ، وَشَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، وَزِيَادَ بْنَ خَصَفَةَ. فَتَكَلَّمَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا أَتَيْنَاكَ نَدْعُوكَ إِلَى أَمْرٍ يَجْمَعُ اللَّهُ بِهِ كَلِمَتَنَا وَأُمَّتَنَا، وَنَحْقِنُ بِهِ الدِّمَاءَ، وَنُصْلِحُ ذَاتَ الْبَيْنِ، إِنَّ ابْنَ عَمِّكَ سَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُهَا سَابِقَةً وَأَحْسَنُهَا فِي الْإِسْلَامِ أَثَرًا، وَقَدِ اسْتَجْمَعَ لَهُ النَّاسُ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ غَيْرَكَ وَغَيْرَ مَنْ مَعَكَ، فَاحْذَرْ يَا مُعَاوِيَةَ لَا يُصِبْكَ وَأَصْحَابَكَ مِثْلُ يَوْمِ الْجَمَلِ! فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: كَأَنَّكَ إِنَّمَا جِئْتَ مُتَهِدِّدًا، لَمْ تَأْتِ مُصْلِحًا! هَيْهَاتَ يَا عَدِيُّ! كَلَّا، وَاللَّهِ إِنِّي لَابْنُ حَرْبٍ لَا يُقَعْقَعُ لَهُ بِالشِّنَانِ، وَإِنَّكَ وَاللَّهِ مِنَ الْمُجْلِبِينَ عَلَى عُثْمَانَ، وَإِنَّكَ مِنْ قَتَلَتِهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِهِ! فَقَالَ لَهُ شَبَثٌ وَزِيَادُ بْنُ خَصَفَةَ جَوَابًا وَاحِدًا: أَتَيْنَاكَ فِيمَا يُصْلِحُنَا وَإِيَّاكَ، فَأَقْبَلْتَ تَضْرِبُ لَنَا الْأَمْثَالَ، دَعْ مَا لَا يَنْفَعُ وَأَجِبْنَا فِيمَا يَعُمُّ نَفْعُهُ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ: إِنَّا لَمْ نَأْتِ إِلَّا لِنُبَلِّغَكَ مَا أُرْسِلْنَا بِهِ إِلَيْكَ، وَنُؤَدِّيَ عَنْكَ مَا سَمِعْنَا مِنْكَ، وَلَنْ نَدَعَ أَنْ نَنْصَحَ لَكَ، وَأَنْ نَذْكُرَ مَا يَكُونُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْكَ، وَيَرْجِعُ إِلَى الْأُلْفَةِ وَالْجَمَاعَةِ، إِنَّ صَاحِبَنَا مَنْ قَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ فَضْلَهُ وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا مُعَاوِيَةُ وَلَا تُخَالِفْهُ، فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا فِي النَّاسِ رَجُلًا قَطُّ أَعْمَلَ بِالتَّقْوَى، وَلَا أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَلَا أَجْمَعَ لِخِصَالِ الْخَيْرِ كُلِّهَا مِنْهُ. فَحَمِدَ اللَّهَ مُعَاوِيَةُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكُمْ دَعَوْتُمْ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَأَمَّا الْجَمَاعَةُ الَّتِي دَعَوْتُمْ إِلَيْهَا فَمَعَنَا هِيَ، وَأَمَّا الطَّاعَةُ لِصَاحِبِكُمْ، فَإِنَّا لَا نَرَاهَا، لِأَنَّ صَاحِبَكُمْ

قَتَلَ خَلِيفَتَنَا، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَآوَى ثَأْرَنَا، وَصَاحِبُكُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، (فَنَحْنُ لَا نَرُدُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَلْيَدْفَعْ إِلَيْنَا) قَتَلَةَ عُثْمَانَ لِنَقْتُلَهُمْ، وَنَحْنُ نُجِيبُكُمْ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ. فَقَالَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ: أَيَسُرُّكَ يَا مُعَاوِيَةُ أَنْ تَقْتُلَ عَمَّارًا؟ فَقَالَ: وَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ؟ لَوْ تَمَكَّنْتُ (مِنِ ابْنِ سُمَيَّةَ) لَقَتَلْتُهُ بِمَوْلَى عُثْمَانَ. فَقَالَ شَبَثٌ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرَهُ، لَا تَصِلُ إِلَى ذَلِكَ حَتَّى تَنْدُرَ الْهَامُ عَنِ الْكَوَاهِلِ، وَتَضِيقَ الْأَرْضُ الْفَضَاءُ عَلَيْكَ! فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَكَانَتْ عَلَيْكَ أَضْيَقُ! وَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادِ بْنِ خَصْفَةَ فَخَلَا بِهِ، وَقَالَ لَهُ: يَا أَخَا رَبِيعَةَ، إِنَّ عَلِيًّا قَطَعَ أَرْحَامَنَا، وَقَتَلَ إِمَامَنَا، وَآوَى قَتَلَةَ صَاحِبِنَا، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ النَّصْرَ عَلَيْهِ بِعَشِيرَتِكَ، ثُمَّ لَكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ، أَنِّي أُوَلِّيكَ إِذَا ظَهَرْتُ أَيَّ الْمِصْرَيْنِ أَحْبَبْتَ. فَقَالَ زِيَادٌ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ! وَقَامَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: لَيْسَ نُكَلِّمُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَيُجِيبُ إِلَى (خَيْرٍ، مَا) قُلُوبُهُمْ إِلَّا كَقَلْبٍ وَاحِدٍ. وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَلِيٍّ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ، وَمَعْنَ بْنَ يَزِيدَ بْنَ الْأَخْنَسِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ حَبِيبٌ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ عُثْمَانَ كَانَ خَلِيفَةً مَهْدِيًّا يَعْمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيُنِيبُ إِلَى أَمْرِهِ، فَاسْتَثْقَلْتُمْ حَيَاتَهُ وَاسْتَبْطَأْتُمْ وَفَاتَهُ فَعَدَوْتُمْ عَلَيْهِ فَقَتَلْتُمُوهُ، فَادْفَعْ إِلَيْهِ قَتَلَةَ عُثْمَانَ إِنْ زَعَمَتَ أَنَّكَ لَمْ تَقْتُلْهُ [نَقْتُلْهُمْ بِهِ] ، ثُمَّ اعْتَزِلْ أَمْرَ النَّاسِ فَيَكُونُ أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ يُوَلُّونَهُ مَنْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: مَا أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ وَالْعَزْلَ وَهَذَا الْأَمْرَ؟ اسْكُتْ [فَإِنَّكَ] لَسْتَ هُنَاكَ وَلَا بِأَهْلٍ لَهُ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَتَرَيَنِّي بِحَيْثُ تَكْرَهُ! فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَمَا أَنْتَ؟ لَا أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ عَلَيْنَا، اذْهَبْ فَصَوِّبْ وَصَعِّدْ مَا بَدَا لَكَ! وَقَالَ شُرَحْبِيلُ: مَا كَلَامِي إِلَّا مِثْلُ كَلَامِ صَاحِبِي، فَهَلْ عِنْدَكَ جَوَابٌ غَيْرَ هَذَا؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ عِنْدِي جَوَابٌ غَيْرَهُ. ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَقِّ ; فَأَنْقَذَ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْهَلَكَةِ، وَجَمَعَ بِهِ مِنَ الْفُرْقَةِ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فَاسْتَخْلَفَ النَّاسُ

أَبَا بَكْرٍ، وَاسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَأَحْسَنَا السِّيرَةَ وَعَدَلَا، وَقَدْ وَجَدْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ تَوَلَّيَا الْأُمُورَ وَنَحْنُ آلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَفَرْنَا ذَلِكَ لَهُمَا، وَوَلَّى النَّاسُ عُثْمَانَ فَعَمِلَ بِأَشْيَاءَ عَابَهَا النَّاسُ فَسَارُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَانِي النَّاسُ فَقَالُوا لِي: بَايِعْ، فَأَبَيْتُ، فَقَالُوا: بَايِعْ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَرْضَى إِلَّا بِكَ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ أَنْ يَتَفَرَّقَ النَّاسُ، فَبَايَعْتُهُمْ، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا شِقَاقُ رَجُلَيْنِ بَايَعَانِي، وَخِلَافُ مُعَاوِيَةَ الَّذِي لَمْ يُجْعَلْ لَهُ سَابِقَةٌ فِي الدِّينِ، وَلَا سَلَفُ صِدْقٍ فِي الْإِسْلَامِ، طَلِيقُ ابْنُ طَلِيقٍ، حِزْبٌ مِنَ الْأَحْزَابِ، لَمْ يَزَلْ حَرْبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ هُوَ وَأَبُوهُ، حَتَّى دَخَلَا فِي الْإِسْلَامِ كَارِهَيْنِ، وَلَا عَجَبَ إِلَّا مِنَ اخْتِلَافِكُمْ مَعَهُ وَانْقِيَادِكُمْ لَهُ، وَتَتْرُكُونَ آلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمُ الَّذِينَ لَا يَنْبَغِي لَكُمْ شِقَاقُهُمْ وَلَا خِلَافُهُمْ! أَلَا إِنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَإِمَاتَةِ الْبَاطِلِ، وَإِحْيَاءِ الْحَقِّ، وَمَعَالِمِ الدِّينِ! أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَا: تَشْهَدُ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا؟ فَقَالَ لَهُمَا: لَا أَقُولُ إِنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا وَلَا ظَالِمًا. قَالَا: فَمَنْ لَمْ يَزْعُمْ أَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا فَنَحْنُ مِنْهُ بُرَآءٌ. وَانْصَرَفَا، فَقَالَ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] إِلَى قَوْلِهِ: {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل: 81] . ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا يَكُنْ هَؤُلَاءِ فِي الْجِدِّ فِي ضَلَالِهِمْ أَجَدَّ مِنْكُمْ فِي الْجِدِّ فِي حَقِّكُمْ وَطَاعَةِ رَبِّكُمْ. فَتَنَازَعَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ الْحِذْمِرِيُّ ثُمَّ الطَّائِيُّ، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الطَّائِيُّ فِي الرَّايَةِ بِصِفِّينَ، وَكَانَتْ حِذْمِرُ أَكْثَرَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ رَهْطِ حَاتِمٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَلِيفَةَ الْبَوْلَانِيُّ عِنْدَ عَلِيٍّ: يَا بَنِي حِذْمِرَ أَعْلَى عَدِيٍّ تَتَوَثَّبُونَ، وَهَلْ فِيكُمْ وَفِي آبَائِكُمْ مِثْلُ عَدِيٍّ وَأَبِيهِ؟

أَلَيْسَ بِحَامِي الْقَرْيَةِ وَمَانِعِ الْمَاءِ يَوْمَ رَوِيَّةَ؟ أَلَيْسَ ابْنَ ذِي الْمِرْبَاعِ، وَابْنَ جَوَادِ الْعَرَبِ، وَابْنَ الْمُنْهَبِ مَالُهُ، وَمَانِعَ جَارِهِ، وَمَنْ لَمْ يَغْدِرْ وَلَمْ يَفْجُرْ، وَلَمْ يَبْخَلْ، وَلَمْ يَمْنُنْ وَلَمْ يَجْبُنْ؟ هَاتُوا فِي آبَائِكُمْ مِثْلَ أَبِيهِ، أَوَفِيكُمْ مِثْلُهُ، أَلَيْسَ أَفْضَلَكُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَوَافِدَكُمْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أَلَيْسَ بِرَأْسِكُمْ يَوْمَ النُّخَيْلَةِ وَيَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ وَيَوْمَ الْمَدَائِنِ وَيَوْمَ جَلُولَاءَ وَيَوْمَ نَهَاوَنْدَ وَيَوْمَ تُسْتَرَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: حَسْبُكَ يَا ابْنَ خَلِيفَةَ. وَقَالَ عَلِيٌّ: لِتَحْضُرْ جَمَاعَةُ طَيِّءٍ. فَأَتَوْهُ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ رَأْسُكُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ؟ قَالُوا: عَدِيٌّ. فَقَالَ ابْنُ خَلِيفَةَ: سَلْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَيْسُوا رَاضِينَ بِرِيَاسَةِ عَدِيٍّ؟ فَفَعَلَ، فَقَالُوا: بَلَى. فَقَالَ عَلِيٌّ: فَعَدِيٌّ أَحَقُّكُمْ بِالرَّايَةِ، وَأَخَذَهَا. فَلَمَّا كَانَ أَيَّامُ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ طَلَبَ زِيَادٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَلِيفَةَ لِيَبْعَثَهُ مَعَ حُجْرٍ، فَسَارَ إِلَى الْجَبَلَيْنِ، وَوَعَدَهُ عَدِيٌّ أَنْ يَرُدَّهُ وَأَنْ يَسْأَلَ فِيهِ، فَطَالَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ شِعْرًا، مِنْهُ: أَتَنْسَى بَلَائِي سَادِرًا يَا ابْنَ حَاتِمٍ ... عَشِيَّةَ مَا أَغْنَتْ عَدِيُّكَ حِذْمِرَا فَدَافَعْتُ عَنْكَ الْقَوْمَ حَتَّى تَخَاذَلُوا ... وَكُنْتُ أَنَا الْخَصْمَ الْأَلَدَّ الْعَذْوَرَا فَوَلَّوْا وَمَا قَامُوا مَقَامِي كَأَنَّمَا ... رَأَوْنِي لَيْثًا بِالْأَبَاءَةِ مُخْدِرَا نَصَرْتُكَ إِذْ خَامَ الْقَرِيبُ وَأَبْعَدَ الْ ... بَعِيدُ وَقَدْ أُفْرِدْتَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا فَكَانَ جَزَائِي أَنْ أُجَرِّرَ بَيْنَكُمْ ... سَحِيبًا وَأَنْ أُولَى الْهَوَانَ وَأُوسَرَا وَكَمْ عِدَةٍ لِي مِنْكَ أَنَّكَ رَاجِعِي ... فَلَمْ تُغْنِ بِالْمِيعَادِ عَنِّي حَبْتَرًا

وَسَتَرِدُ قِصَّتُهُ بِتَمَامِهَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. فَلَمَّا انْسَلَخَ الْمُحَرَّمُ أَمْرَ عَلِيٌّ مُنَادِيًا فَنَادَى: يَا أَهْلَ الشَّامِ! يَقُولُ لَكُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: قَدِ اسْتَدَمْتُكُمْ لِتُرَاجِعُوا الْحَقَّ وَتُنِيبُوا إِلَيْهِ، فَلَمْ تَنْتَهُوا عَنْ طُغْيَانِكُمْ وَلَمْ تُجِيبُوا إِلَى الْحَقِّ، وَإِنِّي قَدْ نَبَذْتُ إِلَيْكُمْ عَلَى سَوَاءٍ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ! فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى أُمَرَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ، خَرَجَ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرُو يُكَتِّبَانِ الْكَتَائِبَ وَيُعَبِّيَانِ النَّاسَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ، فَأَنْتُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى حُجَّةٍ، وَتَرْكِكُمْ قِتَالَهُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى، فَإِذَا هَزَمْتُمُوهُمْ فَلَا تَقْتُلُوا مُدْبِرًا، وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا تَكْشِفُوا عَوْرَةً، وَلَا تُمَثِّلُوا بِقَتِيلٍ، وَإِذَا وَصَلْتُمْ إِلَى رِحَالِ الْقَوْمِ فَلَا تَهْتِكُوا سِتْرًا وَلَا تَدْخُلُوا دَارًا، وَلَا تَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا تُهَيِّجُوا امْرَأَةً، وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ وَصُلَحَاءَكُمْ، فَإِنَّهُنَّ ضِعَافُ الْقُوَى وَالْأَنْفُسِ. وَكَانَ يَقُولُ بِهَذَا الْمَعْنَى لِأَصْحَابِهِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ، وَحَرَّضَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ، اتَّقُوا اللَّهَ وَغُضُّوا الْأَبْصَارَ، وَاخْفِضُوا الْأَصْوَاتَ، وَأَقِلُّوا الْكَلَامَ، وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الْمُنَازَلَةِ وَالْمُجَاوَلَةِ وَالْمُزَاوَلَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ وَالْمُعَانَقَةِ وَالْمُكَادَمَةِ وَالْمُلَازَمَةِ، {فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] ، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْهُمُ الصَّبْرَ، وَأَنْزِلْ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ، وَأَعْظِمْ لَهُمُ الْأَجْرَ! وَأَصْبَحَ عَلِيٌّ فَجَعَلَ عَلَى خَيْلِ الْكُوفَةِ الْأَشْتَرَ، وَعَلَى جُنْدِ الْبَصْرَةِ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، وَعَلَى رَجَّالَةِ الْكُوفَةِ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَعَلَى رَجَّالَةِ الْبَصْرَةِ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، وَهَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ الْمِرْقَالُ مَعَهُ الرَّايَةُ، وَجَعْلَ مِسْعَرَ بْنَ فَدَكِّيٍ عَلَى قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ ابْنَ ذِي الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيَّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ،

وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَعَلَى خَيْلِ دِمَشْقَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَعَلَى رَجَّالَةِ دِمَشْقَ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ الْمُرِّيَّ، وَعَلَى النَّاسِ كُلِّهِمُ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، وَبَايَعَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى الْمَوْتِ، فَعَقَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعَمَائِمِ، وَكَانُوا خَمْسَةَ صُفُوفٍ، وَخَرَجُوا أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ صَفَرَ فَاقْتَتَلُوا، وَكَانَ عَلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مَنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ الْأَشْتَرُ، وَعَلَى مَنْ خَرَجَ مَنْ أَهْلِ الشَّامِ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَاقْتَتَلُوا يَوْمَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا مُعْظَمَ النَّهَارِ، ثُمَّ تَرَاجَعُوا وَقَدِ انْتَصَفَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ فِي خَيْلٍ وَرِجَالٍ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، فَاقْتَتَلُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَخَرَجَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، وَقَالَ عَمَّارٌ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ عَادَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَاهَدَهُمَا، وَبَغَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَظَاهَرَ الْمُشْرِكِينَ؟ فَلَمَّا رَأَى اللَّهَ يُعِزُّ دِينَهُ، وَيُظْهِرُ رَسُولَهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِيمَا نَرَى رَاهِبٌ غَيْرَ رَاغِبٍ! ثُمَّ قُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَاللَّهِ إِنْ زَالَ بَعْدَهُ مَعْرُوفًا بِعَدَاوَةِ الْمُسْلِمِ وَاتِّبَاعِ الْمُجْرِمِ، فَاثْبُتُوا لَهُ وَقَاتِلُوهُ. وَقَالَ عَمَّارٌ لِزِيَادِ بْنِ النَّضْرِ، وَهُوَ عَلَى الْخَيْلِ: احْمِلْ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ. فَحَمَلَ وَقَاتَلَهُ النَّاسُ وَصَبَرُوا لَهُ، وَحَمَلَ عَمَّارٌ فَأَزَالَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَبَارَزَ يَوْمَئِذٍ زِيَادُ بْنُ النَّضْرِ أَخَاهُ لِأُمِّهِ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ بَنِي الْمُنْتَفِقِ، فَلَمَّا الْتَقَيَا تَعَارَفَا، فَانْصَرَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَتَرَاجَعَ النَّاسُ. وَخَرَجَ مِنَ الْغَدِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي جَمْعَيْنِ عَظِيمَيْنِ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ الْقِتَالِ، وَأَرْسَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ يَدْعُوهُ إِلَى الْمُبَارَزَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَحَرَّكَ عَلِيٌّ دَابَّتَهُ وَرَدَّ ابْنَهُ، وَبَرَزَ عَلِيٌّ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ، فَرَجَعَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ لِأَبِيهِ: لَوْ تَرَكَتْنِي لَرَجَوْتُ قَتْلَهُ. وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَيْفَ تَبْرُزُ إِلَى هَذَا الْفَاسِقِ؟ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْغَبُ بِكَ عَنْ

أَبِيهِ! فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا بُنَيَّ لَا تَقُلْ فِي أَبِيهِ إِلَّا خَيْرًا. وَتَرَاجَعَ النَّاسُ. وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَسَبَّ الْوَلِيدُ بَنِي عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، فَطَلَبَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ لِيُبَارِزَهُ فَأَبَى، وَقَاتَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ قِتَالًا شَدِيدًا. وَخَرَجَ فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ ابْنُ ذِي الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيُّ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا ثُمَّ انْصَرَفُوا. ثُمَّ عَادَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَخَرَجَ الْأَشْتَرُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ حَبِيبٌ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَانْصَرَفُوا عِنْدَ الظُّهْرِ. ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا قَالَ: حَتَّى مَتَى لَا نُنَاهِضُ الْقَوْمَ بِأَجْمَعِنَا؟ فَقَامَ فِي النَّاسِ عَشِيَّةَ الثُّلَاثَاءِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يُبْرَمُ مَا نَقَضَ، وَمَا أَبْرَمَ لَمْ يَنْقُضْهُ النَّاقِضُونَ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اخْتَلَفَ اثْنَانِ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي شَيْءٍ، وَلَا جَحَدَ الْمَفْضُولُ ذَا الْفَضْلِ فَضْلَهُ، وَقَدْ سَاقَتْنَا وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الْأَقْدَارُ، فَنَحْنُ بِمَرْأَى مِنْ رَبِّنَا وَمَسْمَعٍ، فَلَوْ شَاءَ عَجَّلَ النِّقْمَةَ، وَكَانَ مِنْهُ التَّغْيِيرُ حَتَّى يُكَذَّبَ الظَّالِمُ وَيَعْلَمَ الْحَقُّ أَيْنَ مَصِيرُهُ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ الْأَعْمَالِ، وَجَعَلَ الْآخِرَةَ دَارَ الْقَرَارِ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31] ، أَلَا وَإِنَّكُمْ لَاقُو الْقَوْمِ غَدًا، فَأَطِيلُوا اللَّيْلَةَ الْقِيَامَ، وَأَكْثِرُوا تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ النَّصْرَ وَالصَّبْرَ، وَالْقَوْهُمْ بِالْجِدِّ وَالْحَزْمِ، وَكُونُوا صَادِقِينَ. فَقَامَ الْقَوْمُ يُصْلِحُونَ سِلَاحَهُمْ، فَمَرَّ بِهِمْ كَعْبُ بْنُ جُعَيْلٍ فَقَالَ: أَصْبَحَتِ الْأُمَّةُ فِي أَمْرٍ عَجَبْ ... وَالْمُلْكُ مَجْمُوعٌ غَدًا لِمَنْ غَلَبْ فَقُلْتُ قَوْلًا صَادِقًا غَيْرَ كَذِبْ ... إِنَّ غَدًا تَهْلَكُ أَعْلَامُ الْعَرَبْ وَعَبَّى عَلِيٌّ لَيْلَتَهُ حَتَّى الصَّبَاحِ (وَزَحَفَ بِالنَّاسِ) ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فِي أَهْلِ الشَّامِ، فَسَأَلَ عَلِيٌّ عَنِ الْقَبَائِلِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَعَرَفَ مَوَاقِفَهُمْ، فَقَالَ لِلْأَزْدِ: اكْفُونَا الْأَزْدَ، وَقَالَ لَخَثْعَمَ: اكْفُونَا خَثْعَمَ، وَأَمَرَ كُلَّ قَبِيلَةٍ أَنْ تَكْفِيَهُ أُخْتَهَا مِنَ الشَّامِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ قَبِيلَةٌ لَيْسَ مِنْهَا بِالشَّامِ أَحَدٌ، فَيَصْرِفَهَا إِلَى قَبِيلَةٍ أُخْرَى مِنَ الشَّامِ، لَيْسَ بِالْعِرَاقِ مِنْهُمْ أَحَدٌ، مُثْلُ بَجِيلَةَ لَمْ يَكُنْ بِالشَّامِ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، صَرَفَهُمْ إِلَى لَخْمٍ.

فَتَنَاهَضَ النَّاسُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا عِنْدَ الْمَسَاءِ، وَكُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ صَلَّى عَلِيٌّ بِغَلَسَ، وَخَرَجَ بِالنَّاسِ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ، فَزَحَفَ إِلَيْهِمْ وَزَحَفُوا مَعَهُ، وَكَانَ عَلَى مَيْمَنَةِ عَلِيٍّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَالْقُرَّاءُ مَعَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ: عَمَّارٍ، وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُدَيْلٍ، وَالنَّاسُ عَلَى رَايَاتِهِمْ وَمَرَاكِزِهِمْ، وَعَلِيٌّ فِي الْقَلْبِ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَأَكْثَرُ مَنْ مَعَهُ مَنْ أَهَّلَ الْمَدِينَةَ الْأَنْصَارُ، وَمَعَهُ عَدَدٌ مِنْ خُزَاعَةَ وَكِنَانَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَزَحَفَ إِلَيْهِمْ. وَرَفَعَ مُعَاوِيَةُ قُبَّةً عَظِيمَةً، فَأَلْقَى عَلَيْهَا الثِّيَابَ، وَبَايَعَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى الْمَوْتِ، وَأَحَاطَ بِقُبَّتِهِ خَيْلُ دِمَشْقَ. وَزَحَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ فِي الْمَيْمَنَةِ نَحْوَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَهُوَ فِي مَيْسَرَةِ مُعَاوِيَةَ، فَلَمْ يَزَلْ يَحُوزُهُ وَيَكْشِفُ خَيْلَهُ حَتَّى اضْطَرَّهُمْ إِلَى قُبَّةِ مُعَاوِيَةَ عِنْدَ الظُّهْرِ، وَحَرَّضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: أَلَا إِنَّ مُعَاوِيَةَ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَنَازَعَ الْحَقَّ أَهْلَهُ، وَعَانَدَ مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ، وَجَادَلَ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضَ بِهِ الْحَقَّ، وَصَالَ عَلَيْكُمْ بِالْأَعْرَابِ وَالْأَحْزَابِ الَّذِينَ قَدْ زَيَّنَ لَهُمُ الضَّلَالَةَ، وَزَرَعَ فِي قُلُوبِهِمْ حُبَّ الْفِتْنَةِ، وَلَبَّسَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ، وَزَادَهُمْ رَجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ، فَقَاتِلُوا الطُّغَاةَ الْجُفَاةَ وَلَا تَخْشَوْهُمْ، {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] . وَحَرَّضَ عَلِيٌّ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ فِي كَلَامٍ لَهُ: فَسَوُّوا صُفُوفَكُمْ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ، وَقَدِّمُوا الدَّارِعَ، وَأَخِّرُوا الْحَاسِرَ، وَعَضُّوا عَلَى الْأَضْرَاسِ، فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ، وَالْتَوُوا فِي الْأَطْرَافِ فَإِنَّهُ أَصْوَنُ لِلْأَسِنَّةِ، وَغُضُّوا الْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ، وَأَسْكَنُ لِلْقَلْبِ، وَأَمِيتُوا الْأَصْوَاتَ، فَإِنَّهُ طَرَدٌ لِلْفَشَلِ، وَأَوْلَى بِالْوَقَارِ، رَايَاتُكُمْ فَلَا تُمِيلُوهَا وَلَا تُزِيلُوهَا، وَلَا تَجْعَلُوهَا إِلَّا بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِالصِّدْقِ وَالصَّبْرِ، فَإِنَّ بَعْدَ الصَّبْرِ يَنْزِلُ (عَلَيْكُمُ) النَّصْرُ.

وَقَامَ يَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ الْأَرْحَبِيُّ يُحَرِّضُ النَّاسَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ مَنْ سَلِمَ فِي دِينِهِ وَرَأْيِهِ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ وَاللَّهِ لَا يُقَاتِلُونَا عَلَى إِقَامَةِ دِينٍ ضَيَّعْنَاهُ، وَإِحْيَاءِ حَقٍّ أَمَتْنَاهُ، إِنْ يُقَاتِلُونَنَا إِلَّا عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا، لِيَكُونُوا جَبَّارِينَ فِيهَا مُلُوكًا، فَلَوْ ظَهَرُوا عَلَيْكُمْ، لَا أَرَاهُمُ اللَّهُ ظُهُورًا وَلَا سُرُورًا، أَلْزَمُوكُمْ بِمِثْلِ سَعِيدٍ وَالْوَلِيدِ وَابْنِ عَامِرٍ السَّفِيهِ الضَّالِّ، يُجِيزُ أَحَدُهُمْ بِمِثْلِ دِيَتِهِ وَدِيَةِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ فِي جَلْسِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: هَذَا لِي وَلَا إِثْمَ عَلَيَّ، كَأَنَّمَا أُعْطِيَ تُرَاثَهُ عَلَى أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَإِنَّمَا مَالُ اللَّهِ أَفَاءَهُ عَلَيْنَا بِأَرْمَاحِنَا وَسُيُوفِنَا، فَقَاتِلُوا عِبَادَ اللَّهِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يُفْسِدُوا عَلَيْكُمْ دِينَكُمْ وَدُنْيَاكُمْ وَهُمْ مَنْ قَدْ عَرَفْتُمْ وَخَبِرْتُمْ! وَاللَّهِ مَا ازْدَادُوا إِلَى يَوْمِهِمْ إِلَّا شَرًّا! وَقَاتَلَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ فِي الْمَيْمَنَةِ قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى قُبَّةِ مُعَاوِيَةَ. وَأَقْبَلُ الَّذِينَ تَبَايَعُوا عَلَى الْمَوْتِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَصْمُدُوا لِابْنِ بُدَيْلٍ فِي الْمَيْمَنَةِ، وَبَعَثَ إِلَى حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي الْمَيْسَرَةِ، فَحَمَلَ بِهِمْ وَبِمَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى مَيْمَنَةِ النَّاسِ فَهَزَمَهُمْ، وَانْكَشَفَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْ قَبْلِ الْمَيْمَنَةِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ (إِلَّا ابْنُ بُدَيْلٍ فِي مِائَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ، قَدْ أُسْنِدَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَانْجَفَلَ النَّاسُ، وَأَمْرَ عَلِيٌّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ فَاسْتُقْدِمَ فِيمَنْ كَانَ مَعَهُ) مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَتْهُمْ جُمُوعٌ لِأَهْلِ الشَّامِ عَظِيمَةٌ، فَاحْتَمَلَتْهُمْ حَتَّى أَوْقَفَتْهُمْ فِي الْمَيْمَنَةِ، وَكَانَ فِيمَا بَيْنَ الْمَيْمَنَةِ إِلَى مَوْقِفِ عَلِيٍّ فِي الْقَلْبِ أَهْلُ الْيَمَنِ. فَلَمَّا انْكَشَفُوا انْتَهَتِ الْهَزِيمَةُ إِلَى عَلِيٍّ، فَانْصَرَفَ عَلِيٌّ يَمْشِي نَحْوَ الْمَيْسَرَةِ، فَانْكَشَفَتْ عَنْهُ مُضَرُ مِنَ الْمَيْسَرَةِ، وَثَبَتَتْ رَبِيعَةُ. وَكَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَمُحَمَّدٌ بَنُو عَلِيٍّ مَعَهُ حِينَ قَصَدَ الْمَيْسَرَةَ، وَالنَّبْلُ يَمُرُّ بَيْنَ عَاتِقِهِ وَمَنْكِبَيْهِ، وَمَا مِنْ بَنِيهِ

أَحَدٌ إِلَّا (يَقِيهِ بِنَفْسِهِ) فَيَرُدُّهُ، فَبَصُرَ بِهِ أَحْمَرُ مَوْلَى أَبِي سُفْيَانَ أَوْ عُثْمَانَ، فَأَقْبَلَ نَحْوَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ كَيْسَانُ مَوْلَى عَلِيٍّ، فَاخْتَلَفَا بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَانِ، فَقَتَلَهُ أَحْمَرُ، فَأَخَذَ عَلِيٌّ بِجَيْبِ دِرْعِ أَحْمَرَ، فَجَذَبَهُ وَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ فَكَسَرَ مَنْكِبَيْهِ وَعَضُدَيْهِ، وَدَنَا مِنْهُ أَهْلُ الشَّامِ، فَمَا زَادَهُ قُرْبُهُمْ إِلَّا إِسْرَاعًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ: مَا ضَرَّكَ لَوْ سَعَيْتَ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنْ أَصْحَابِكَ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّ لِأَبِيكَ يَوْمًا لَا يَعْدُوهُ، وَلَا يُبْطِئُ بِهِ عَنْهُ السَّعْيُ، وَلَا يُعَجِّلُ بِهِ إِلَيْهِ الْمَشْيُ، إِنَّ أَبَاكَ وَاللَّهِ لَا يُبَالِي أَوَقَعَ عَلَى الْمَوْتِ، أَمْ وَقَعَ الْمَوْتُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى رَبِيعَةَ نَادَى بِصَوْتٍ عَالٍ كَغَيْرِ الْمُكْتَرِثِ لِمَا فِيهِ النَّاسِ: لِمَنْ هَذِهِ الرَّايَاتُ؟ قَالُوا: رَايَاتُ رَبِيعَةَ. قَالَ: بَلْ رَايَاتٌ عَصَمَ اللَّهُ أَهْلَهَا، فَصَبَّرَهُمْ وَثَبَّتَ أَقْدَامَهُمْ. وَقَالَ لِلْحُضَيْنِ بْنِ الْمُنْذِرِ: يَا فَتَى أَلَا تُدْنِي رَايَتَكَ هَذِهِ ذِرَاعًا؟ قَالَ: بَلَى وَاللَّهِ، وَعَشَرَةَ أَذْرُعٍ، فَأَدْنَاهَا حَتَّى قَالَ: حَسْبُكَ مَكَانَكَ. وَلَمَّا انْتَهَى عَلِيٌّ إِلَى رَبِيعَةَ تَنَادَوْا بَيْنَهُمْ: يَا رَبِيعَةَ إِنْ أُصِيبَ فِيكُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيكُمْ رَجُلٌ حَيٌّ افْتَضَحْتُمْ فِي الْعَرَبِ! فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا مَا قَاتَلُوا مِثْلَهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ عَلِيٌّ: لِمَنْ رَايَةٌ سَوْدَاءُ يَخْفِقُ ظِلُّهَا ... إِذَا قِيلَ قَدَّمَهَا حُضِينُ تَقَدَّمَا وَيُقَدِّمُهَا فِي الْمَوْتِ حَتَّى يُزِيرَهَا ... حِيَاضَ الْمَنَايَا تَقْطُرُ الْمَوْتَ وَالْدَّمَا أَذَقْنَا ابْنَ حَرْبٍ طَعْنَنَا وَضِرَابَنَا ... بِأَسْيَافِنَا حَتَّى تَوَلَّى وَأَحْجَمَا جَزَى اللَّهُ قَوْمًا صَابَرُوا فِي لِقَائِهِمْ ... لَدَى الْمَوْتِ قَوْمًا مَا أَعَفَّ وَأَكْرَمَا وَأَطْيَبَ أَخْبَارًا وَأَكْرَمَ شِيمَةً ... إِذَا كَانَ أَصْوَاتُ الرِّجَالِ تَغَمْغُمَا

رَبِيعَةَ أَعْنِي، إِنَّهُمْ أَهْلُ نَجْدَةٍ ... وَبَأْسٍ إِذَا لَاقَوْا خَمِيسًا عَرَمْرَمًا وَمَرَّ بِهِ الْأَشْتَرُ وَهُوَ يَقْصِدُ الْمَيْسَرَةَ، وَالْأَشْتَرُ يَرْكُضُ نَحْوَ الْفَزَعِ قِبَلَ الْمَيْمَنَةِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا مَالِكُ! قَالَ: لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ: ائْتِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فَقُلْ لَهُمْ: أَيْنَ فِرَارُكُمْ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي لَنْ تُعْجِزُوهُ إِلَى الْحَيَاةِ الَّتِي لَا تَبْقَى لَكُمْ؟ فَمَضَى الْأَشْتَرُ، فَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ مُنْهَزِمِينَ، فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ عَلِيٌّ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا الْأَشْتَرُ، إِلَيَّ! أَخْلِصُوا لِي مَذْحِجًا، فَأَقْبَلَتْ مَذْحِجٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا أَرْضَيْتُمْ رَبَّكُمْ، وَلَا نَصَحْتُمْ لَهُ فِي عَدُوِّكُمْ، وَكَيْفَ ذَلِكَ وَأَنْتُمْ أَبْنَاءُ الْحَرْبِ، وَأَصْحَابُ الْغَارَاتِ، وَفِتْيَانُ الصَّبَاحِ، وَفُرْسَانُ الطِّرَادِ، وَحُتُوفُ الْأَقْرَانِ، وَمَذْحِجُ الطِّعَانِ، الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا يُسْبَقُونَ بِثَأْرِهِمْ، وَلَا تُطَلُّ دِمَاؤُهُمْ، وَمَا تَفْعَلُونَ هَذَا الْيَوْمَ فَإِنَّهُ مَأْثُورٌ بَعْدَهُ، فَانْصَحُوا وَاصْدُقُوا (عَدُوَّكُمُ اللِّقَاءَ) ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّادِقِينَ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَشَارَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ رَجُلٌ عَلَى مِثْلِ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ مِنْ دِينٍ، اجْلُوا سَوَادَ وَجْهِي يَرْجِعْ فِيهِ دَمُهُ، عَلَيْكُمْ بِهَذَا السَّوَادِ الْأَعْظَمِ، فَإِنَّ اللَّهَ [لَوْ] قَدْ فَضَّهُ تَبِعَهُ مَنْ بِجَانِبَيْهِ. قَالُوا: تَجِدُنَا حَيْثُ أَحْبَبْتَ. فَقَصَدَ نَحْوَ عُظْمِهِمْ مِمَّا يَلِي الْمَيْمَنَةَ، يَزْحَفُ إِلَيْهِمْ وَيَرُدُّهُمْ، وَاسْتَقْبَلَهُ شَبَابٌ مِنْ هَمْدَانَ، وَكَانُوا ثَمَانِمِائَةَ مُقَاتِلٍ يَوْمَئِذٍ، وَكَانُوا صَبَرُوا فِي الْمَيْمَنَةِ، حَتَّى أُصِيبَ مِنْهُمْ ثَمَانُونَ وَمِائَةُ رَجُلٍ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَئِيسًا، كَانَ أَوَّلُهُمْ ذُؤَيْبُ بْنُ شُرَيْحٍ، ثُمَّ شُرَحْبِيلُ، ثُمَّ مَرْثَدٌ، ثُمَّ هُبَيْرَةُ، ثُمَّ يَرِيمُ، ثُمَّ سُمَيْرٌ أَوْلَادُ شُرَيْحٍ، فَقُتِلُوا، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ عَمِيرَةُ ثُمَّ الْحَارِثُ ابْنَا

بَشِيرٍ فَقُتِلَا جَمِيعًا، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ سُفْيَانُ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَبَكْرُ بَنُو زَيْدٍ فَقُتِلُوا جَمِيعًا، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ وَهْبُ بْنُ كُرَيْبٍ، فَانْصَرَفَ هُوَ وَقَوْمُهُ وَهُمْ يَقُولُونَ: لَيْتَ لَنَا عِدَّتَنَا مِنَ الْعَرَبِ يُحَالِفُونَنَا عَلَى الْمَوْتِ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَلَا نَنْصَرِفُ، أَوْ نَقْتُلُ أَوْ نَظْفَرُ! فَسَمِعَهُمُ الْأَشْتَرُ يَقُولُونَ هَذَا، فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا أُحَالِفُكُمْ أَنْ لَا نَرْجِعَ أَبَدًا حَتَّى نَظْفَرَ أَوْ نَهْلَكَ. فَوَقَفُوا مَعَهُ، وَفِي هَذَا قَالَ كَعْبُ بْنُ جُعَيْلٍ: وَهَمْدَانُ زُرْقٌ تَبْتَغِي مَنْ تُحَالِفُ وَزَحَفَ الْأَشْتَرُ نَحْوَ الْمَيْمَنَةِ، وَثَابَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَتَرَاجَعُوا، مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهِمْ فَلَمْ يَقْصِدْ كَتِيبَةً إِلَّا كَشَفَهَا، وَلَا جَمْعًا إِلَّا حَازَهُ وَرَدَّهُ، فَإِنَّهُ كَذَلِكَ إِذْ مَرَّ بِهِ زِيَادُ بْنُ النَّضْرِ الْحَارِثِيُّ يُحْمَلُ إِلَى الْعَسْكَرِ وَقَدْ صُرِعَ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ اسْتُلْحِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ وَأَصْحَابُهُ فِي الْمَيْمَنَةِ، فَتَقَدَّمَ زِيَادٌ إِلَيْهِمْ، وَرَفَعَ رَايَتَهُ لِأَهْلِ الْمَيْمَنَةِ، فَصَبَرُوا وَقَاتَلَ حَتَّى صُرِعَ. ثُمَّ مَرُّوا بِيَزِيدَ بْنِ قَيْسٍ الْأَرْحَبِيِّ مَحْمُولًا نَحْوَ الْعَسْكَرِ، وَكَانَ قَدْ رَفَعَ رَايَتَهُ لِأَهْلِ الْمَيْمَنَةِ لَمَّا صُرِعَ زِيَادٌ وَقَاتَلَ حَتَّى صُرِعَ، فَقَالَ الْأَشْتَرُ (حِينَ رَآهُ) : هَذَا وَاللَّهِ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ وَالْفِعْلُ الْكَرِيمُ، أَلَا يَسْتَحِي الرَّجُلُ أَنْ يَنْصَرِفَ وَلَا يُقْتَلَ. (أَوْ يُشْفَى بِهِ عَلَى الْقَتْلِ) ؟ وَقَاتَلَهُمُ الْأَشْتَرُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَلَزِمَهُ الْحَارِثُ بْنُ جَمْهَانَ الْجُعْفِيُّ يُقَاتِلُ مَعَهُ، فَمَا زَالَ هُوَ وَمَنْ رَجَعَ إِلَيْهِ يُقَاتِلُونَ، حَتَّى كَشَفَ أَهْلَ الشَّامِ، وَأَلْحَقَهُمْ بِمُعَاوِيَةَ وَالصَّفِّ الَّذِي مَعَهُ بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ، وَانْتَهَى إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُدَيْلٍ وَهُوَ فِي عِصَابَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ نَحْوَ الْمِائَتَيْنِ أَوِ الثَّلَاثِمِائَةٍ، قَدْ لَصِقُوا بِالْأَرْضِ كَأَنَّهُمْ جُثًا، فَكَشَفَ عَنْهُمْ أَهْلُ الشَّامِ، فَأَبْصَرُوا إِخْوَانَهُمْ فَقَالُوا: مَا فَعَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالُوا: حَيٌّ صَالِحٌ فِي الْمَيْسَرَةِ، يُقَاتِلُ النَّاسَ أَمَامَهُ. فَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ! قَدْ كُنَّا ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ وَهَلَكْتُمْ.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ [لِأَصْحَابِهِ] : اسْتَقْدِمُوا بِنَا. فَقَالَ الْأَشْتَرُ: لَا تَفْعَلْ وَاثْبُتْ مَعَ النَّاسِ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ وَأَبْقَى لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ. فَأَبَى وَمَضَى كَمَا هُوَ نَحْوَ مُعَاوِيَةَ، وَحَوْلَهُ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ وَبِيَدِهِ سَيْفَانُ، وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ أَمَامَ أَصْحَابِهِ يَقْتُلُ كُلَّ مَنْ دَنَا مِنْهُ حَتَّى قَتَلَ جَمَاعَةً، وَدَنَا مِنْ مُعَاوِيَةَ، فَنَهَضَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَأُحِيطَ بِهِ وَبِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَقُتِلَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَرَجَعَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مُجَرَّحِينَ. فَبَعَثَ الْأَشْتَرُ الْحَارِثَ بْنَ جَمْهَانَ الْجُعْفِيَّ، فَحَمَلَ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَنِ انْهَزَمَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى نَفَّسُوا عَنْهُمْ، وَانْتَهَوْا إِلَى الْأَشْتَرِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ رَأَى ابْنَ بُدَيْلٍ وَهُوَ يِضْرِبُ قُدُمًا، فَقَالَ: أَتَرَوْنَهُ كَبْشَ الْقَوْمِ؟ فَلَمَّا قُتِلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ لِيَنْظُرُوا مَنْ هُوَ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ أَهْلُ الشَّامِ فَجَاءَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ عَرَفَهُ فَقَالَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، وَاللَّهِ لَوِ اسْتَطَاعَتْ نِسَاءُ خُزَاعَةَ لَقَاتَلَتْنَا فَضْلًا عَنْ رِجَالِهَا! وَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ حَاتِمٍ: أَخُو الْحَرْبِ إِنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا ... وَإِنْ شَمَّرَتْ يَوْمًا بِهِ الْحَرْبُ شَمَّرَا وَزَحَفَ الْأَشْتَرُ بِعَكٍّ وَالْأَشْعَرِينَ (وَقَالَ لِمَذْحِجٍ: اكْفُونَا عَكًّا، وَوَقَفَ فِي هَمْدَانَ وَقَالَ لِكِنْدَةَ: اكْفُونَا الْأَشْعَرِينَ) ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى الْمَسَاءِ، وَقَاتَلَهُمُ الْأَشْتَرُ فِي هَمْدَانَ، وَطَوَائِفَ مِنَ النَّاسِ، فَأَزَالَ أَهْلَ الشَّامِ (عَنْ مَوَاضِعِهِمْ) حَتَّى أَلْحَقَهُمْ بِالصُّفُوفِ الْخَمْسَةِ الْمُعَقَّلَةِ بِالْعَمَائِمِ حَوْلَ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ حَمْلَةً أُخْرَى، فَصَرَعَ أَرْبَعَةَ صُفُوفٍ مِنَ الْمُعَقَّلِينَ بِالْعَمَائِمِ [حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْخَامِسِ الَّذِي حَوْلَهُ مُعَاوِيَةُ] ، وَدَعَا مُعَاوِيَةُ بِفَرَسِهِ فَرَكِبَ، وَكَانَ يَقُولُ: أَرَدْتُ أَنْ أَنْهَزِمَ فَذَكَرْتُ قَوْلَ ابْنِ الْإِطْنَابَةِ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ جَاهِلِيًّا:

أَبَتْ لِي عِفَّتِي وَأَبَى بَلَائِي ... وَإِقْدَامِي عَلَى الْبَطَلِ الْمُشِيحِ وَإِعْطَائِي عَلَى الْمَكْرُوهِ مَالِي ... وَأَخْذِي الْحَمْدَ بِالثَّمَنِ الرَّبِيحِ وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ : مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي قَالَ: فَمَنَعَنِي هَذَا الْقَوْلُ مِنَ الْفِرَارِ، وَنَظَرَ إِلَيَّ عَمْرٌو وَقَالَ: الْيَوْمَ صَبْرٌ وَغَدًا فَخْرٌ. فَقُلْتُ: صَدَقْتَ. وَتَقَدَّمَ جُنْدُبُ بْنُ زُهَيْرٍ فَبَارَزَ رَأَسَ أَزْدِ الشَّامِ، فَقَتَلَهُ الشَّامِيُّ، وَقُتِلَ مِنْ رَهْطِهِ عِجْلٌ، وَسَعْدٌ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ، وَقُتِلَ أَبُو زَيْنَبَ بْنُ عَوْفٍ. وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْحُصَيْنِ الْأَزْدِيُّ فِي الْقُرَّاءِ الَّذِينَ مَعَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، فَأُصِيبَ مَعَهُ، وَتَقَدَّمَ عُقْبَةُ بْنُ

حَدِيدٍ النُّمَيْرِيُّ وَهُوَ يَقُولُ: أَلَا إِنَّ مَرْعَى الدُّنْيَا أَصْبَحَ هَشِيمًا، وَشَجَرَهَا خَضِيدًا، وَجَدِيدَهَا سَمَلًا، وَحُلْوَهَا مُرَّ الْمَذَاقِ، إِنِّي قَدْ سَئِمْتُ الدُّنْيَا، وَعَزَفْتُ نَفْسِي عَنْهَا، وَإِنِّي أَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ، وَأَتَعَرَّضُ لَهَا فِي كُلِّ جَيْشٍ وَغَارَةٍ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُبَلِّغَنِي هَذَا الْيَوْمَ، وَإِنِّي مُتَعَرِّضٌ لَهَا مِنْ سَاعَتِي هَذِهِ، وَقَدْ طَمِعْتُ أَنْ لَا أُحْرَمَهَا، فَمَا تَنْتَظِرُونَ عِبَادَ اللَّهِ بِجِهَادِ مَنْ عَادَى اللَّهَ؟ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ. وَقَالَ: يَا إِخْوَتِي قَدْ بِعْتُ هَذِهِ الدَّارَ بِالَّتِي أَمَامَهَا، وَهَذَا وَجْهِي إِلَيْهَا. فَتَبِعَهُ إِخْوَتُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَعَوْفٌ، وَمَالِكٌ، وَقَالُوا: لَا نَطْلُبُ رِزْقَ الدُّنْيَا بَعْدَكَ، فَقَاتَلُوا حَتَّى قُتِلُوا. وَتَقَدَّمَ (شَمِرُ) بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ فَبَارَزَ، فَضَرَبَ أَدْهَمُ بْنُ مُحْرِزٍ الْبَاهِلِيُّ بِالسَّيْفِ وَجْهَهُ، وَضَرْبَهُ شَمِرٌ فَلَمْ يَضُرَّهُ، فَعَادَ شَمِرٌ [إِلَى رَحْلِهِ] فَشَرِبَ مَاءً، وَكَانَ ظَمْآنَ، ثُمَّ أَخَذَ الرُّمْحَ ثُمَّ حَمَلَ عَلَى أَدْهَمَ فَصَرَعَهُ وَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ. وَكَانَتْ رَايَةُ بَجِيلَةَ مَعَ أَبِي شَدَّادٍ قَيْسِ بْنِ هُبَيْرَةَ الْأَحْمَسِيِّ - وَهُوَ قَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ، (وَمَكْشُوحٌ لَقَبٌ) - فَقَالَ لِقَوْمِهِ: وَاللَّهِ لَأَنْتَهِيَنَّ بِكُمْ إِلَى صَاحِبِ التُّرْسِ الْمُذَهَّبِ، وَكَانَ صَاحِبَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، فَقَاتَلَ النَّاسَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَشَدَّ بِسَيْفِهِ نَحْوَ صَاحِبِ التُّرْسِ، فَعَرَضَ لَهُ مَوْلًى رُومِيٌّ لِمُعَاوِيَةَ، فَضَرَبَ قَدَمَ أَبِي شَدَّادٍ فَقَطْعَهَا، وَضَرَبَهُ أَبُو شَدَّادٍ فَقَتَلَهُ، وَأُشْرِعَتْ إِلَيْهِ الرِّمَاحُ فَقُتِلَ، وَأَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قِلْعٍ الْأَحْمَسِيُّ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَفِيفُ بْنُ إِيَاسٍ، فَلَمْ تَزَلْ فِي يَدِهِ حَتَّى تَحَاجَزَ النَّاسُ. وَقُتِلَ

حَازِمُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، أَخُو قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ يَوْمَئِذٍ، وَقُتِلَ أَبُوهُ أَيْضًا، لَهُ صُحْبَةٌ، وَنُعَيْمُ (بْنُ صُهَيْبِ بْنِ الْعَيْلَةِ) الْبَجَلِيُّونَ مَعَ عَلِيٍّ. فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ مَيْمَنَةَ أَصْحَابِهِ قَدْ عَادَتْ إِلَى مَوَاضِعِهَا وَمَوَاقِفِهَا، وَكَشَفَتْ مَنْ بِإِزَائِهَا مِنْ عَدُوِّهَا حَتَّى ضَارَبُوهُمْ فِي مَوَاقِفِهِمْ وَمَرَاكِزِهِمْ، أَقْبَلَ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ جَوْلَتَكُمْ عَنْ صُفُوفِكُمْ، يَحُوزُكُمُ الْجُفَاةُ الطَّغَامُ، وَأَعْرَابُ الشَّامِ، وَأَنْتُمْ لَهَامِيمُ الْعَرَبِ، وَالسَّنَامُ الْأَعْظَمُ، وَعُمَّارُ اللَّيْلِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَأَهْلُ دَعْوَةِ الْحَقِّ. فَلَوْلَا إِقْبَالُكُمْ بَعْدَ إِدْبَارِكُمْ، وَكَرِّكُمْ بَعْدَ انْحِيَازِكُمْ، لَوَجَبَ عَلَيْكُمْ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ [دُبُرَهُ] ، وَكُنْتُمُ الْهَالِكِينَ، وَلَكِنْ هَوَّنَ وَجْدِي، وَشَفَى أُحَاحَ نَفْسِي أَنِّي رَأَيْتُكُمْ بِأَخِرَةٍ حُزْتُمُوهُمْ كَمَا حَازُوكُمْ، وَأَزَلْتُمُوهُمْ عَنْ مَصَافِّهِمْ كَمَا أَزَالُوكُمْ، تَرْكَبُ أُولَاهُمْ أُخْرَاهُمْ كَالْإِبِلِ الْمَطْرُودَةِ الْهِيمِ، فَالْآنَ، فَاصْبِرُوا، فَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، وَثَبَّتَكُمُ اللَّهُ بِالْيَقِينِ، لِيَعْلَمَ الْمُنْهَزِمُ أَنَّهُ مُسْخِطٌ رَبَّهُ، وَمَوْبِقٌ نَفْسَهُ، فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ. وَكَانَ بِشْرُ بْنُ عِصْمَةَ الْمُرِّيُّ قَدْ لَحِقَ بِمُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا اقْتَتَلَ النَّاسُ بِصِفِّينَ نَظَرَ بِشْرٌ إِلَى مَالِكِ بْنِ الْعَقَدِيَّةِ الْجُشَمِيِّ، وَهُوَ يَفْتِكُ بِأَهْلِ الشَّامِ، فَاغْتَاظَ لِذَلِكَ، فَحَمَلَ عَلَى مَالِكٍ (وَتَجَاوَلَا سَاعَةً ثُمَّ طَعَنَهُ بِشْرُ بْنُ عِصْمَةَ) فَصَرَعَهُ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ، وَانْصَرَفَ عَنْهُ، وَقَدْ نَدِمَ عَلَى طَعْنَتِهِ إِيَّاهُ، وَكَانَ جَبَّارًا، فَقَالَ: وَإِنِّي لَأَرْجُوَ مِنْ مَلِيكِي تَجَاوُزًا ... وَمِنْ صَاحِبِ الْمَوْسُومِ فِي الصَّدْرِ هَاجِسُ دَلَفْتُ لَهُ تَحْتَ الْغُبَارِ بِطَعْنَةٍ ... عَلَى سَاعَةٍ فِيهَا الطِّعَانُ تَخَالُسُ فَبَلَغَتْ مَقَالَتُهُ ابْنَ الْعَقَدِيَّةِ فَقَالَ:

أَلَا أَبْلِغَا بِشْرَ بْنَ عِصْمَةَ أَنَّنِي ... شُغِلْتُ وَأَلْهَانِي الَّذِينَ أُمَارِسُ وَصَادَفْتَ مِنِّي غِرَّةً وَأَصَبْتَهَا ... كَذَلِكَ وَالْأَبْطَالُ مَاضٍ وَحَابِسُ وَحَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الطُّفَيْلِ الْبَكَّائِيُّ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ حَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مَنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ قَيْسُ بْنُ مُرَّةً مِمَّنْ لَحِقَ بِمُعَاوِيَةَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَوَضَعَ الرُّمْحَ بَيْنَ كَتِفَيْ عَبْدِ اللَّهِ، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ عَمٍّ لِعَبْدِ اللَّهِ اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، فَوَضَعَ الرُّمْحَ بَيْنَ كَتِفَيِ التَّمِيمِيِّ، فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لَئِنْ (طَعَنْتَهُ لَأَطْعَنُكَ! فَقَالَ لَهُ: عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ إِنْ) رَفَعْتُ الرُّمْحَ عَنْ ظَهْرِ صَاحِبِكَ لَتَرْفَعَنَّ سِنَانَكَ عَنِّي! قَالَ: نَعَمْ. فَرَفَعَ التَّمِيمِيُّ سِنَانَهُ، وَرَفَعَ يَزِيدُ سِنَانَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ إِلَى الْكُوفَةِ عَتَبَ يَزِيدُ عَلَى ابْنِ الطُّفَيْلِ، فَقَالَ [لَهُ] : أَلَمْ تَرْنِي حَامَيْتُ عَنْكَ مُنَاصِحًا ... بِصِفِّينَ إِذْ خَلَّاكَ كُلُّ حَمِيمِ وَنَهْنَهْتُ عَنْكَ الْحَنْظَلِيَّ وَقَدْ أَتَى ... عَلَى سَابِحٍ ذِي مَيْعَةٍ وَهَزِيمِ وَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ آلِ عَكَّ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يَسْأَلُ الْمُبَارَزَةَ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ قَيْسُ بْنُ فَهْدَانَ الْكِنْدِيُّ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ [الْعَكِّيُّ] وَتَجَاوَلَا سَاعَةً، ثُمَّ طَعَنَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَتَلَهُ، وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمَتْ عَكٌّ بِصِفِّينَ أَنَّنَا ... إِذَا الْتَقَتِ الْخِيلَانِ نَطْعَنُهَا شَزْرَا

وَنَحْمِلُ رَايَاتِ الطِّعَانِ بِحَقِّهَا فَنُورِدُهَا بِيضًا وَنُصْدِرُهَا حُمْرَا وَخَرَجَ قَيْسُ بْنُ يَزِيدَ، وَهُوَ مِمَّنْ فَرَّ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو الْعَمَرَّطَةَ بْنُ يَزِيدَ، فَتَعَارَفَا فَتَوَاقَفَا، ثُمَّ انْصَرَفَا، وَأَخْبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَقِيَ أَخَاهُ. وَقَاتَلَتْ طَيِّءٌ يَوْمَئِذٍ قِتَالًا شَدِيدًا، فَعُبِّيَتْ لَهُمْ جُمُوعٌ، فَأَتَاهُمْ حُمْرَةُ بْنُ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيُّ، فَقَالَ: مَنِ الْقَوْمُ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَلِيفَةَ، وَكَانَ شِيعِيًّا شَاعِرًا خَطِيبًا: نَحْنُ طَيِّءُ السَّهْلِ، وَطَيِّءُ الرَّمْلِ، وَطَيِّءُ الْجَبَلِ، الْمَمْنُوعِ ذِي النَّخْلِ، نَحْنُ طَيِّءُ الرِّمَاحِ، وَطَيِّءُ الْبِطَاحِ، فُرْسَانُ الصَّبَاحِ. فَقَالَ حُمْرَةُ بْنُ مَالِكٍ: إِنَّكَ لَحَسَنُ الثَّنَاءِ عَلَى قَوْمِكَ. وَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَنَادَاهُمْ: يَا مَعْشَرَ طَيِّءٍ، فِدًى لَكُمْ طَارِفِي وَتَالِدِي! قَاتِلُوا عَلَى الدِّينِ وَالْأَحْسَابِ. وَحَمَلَ بِشْرُ بْنُ الْعَسُوسِ فَقَاتَلَ، فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ: أَلَا لَيْتَ عَيْنِي هَذِهِ مِثْلُ هَذِهِ ... وَلَمْ أَمْشِ فِي الْأَحْيَاءِ إِلَّا بِقَائِدِ وَيَا لَيْتَ رِجْلِي ثَمَّ طُنَّتْ بِنِصْفِهَا ... وَيَا لَيْتَ كَفِّي ثَمَّ طَاحَتْ بِسَاعِدِي وَيَا لَيْتَنِي لَمْ أَبْقَ بَعْدَ مُطَرِّفٍ ... وَسَعْدٍ وَبَعْدَ الْمُسْتَنِيرِ بْنِ خَالِدِ فَوَارِسَ لَمْ تَغْذُ الْحَوَاضِنُ مِثْلَهُمْ ... إِذَا الْحَرْبُ أَبْدَتْ عَنْ خِدَامِ الْخَرَائِدِ وَقَاتَلَتِ النَّخَعُ يَوْمَئِذٍ قِتَالًا شَدِيدًا، فَأُصِيبَ مِنْهُمْ حَيَّانُ (وَبَكْرٌ ابْنَا هَوْذَةَ، وَشُعَيْبُ بْنُ

نُعَيْمٍ، وَرَبِيعَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ وَهْبِيلٍ) ، وَأُبَيٌّ أَخُو عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ الْفَقِيهِ، وَقُطِعَتْ رِجْلُ عَلْقَمَةَ يَوْمَئِذٍ، فَكَانَ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنَّ رِجْلِي أَصَحُّ مِمَّا كَانَتْ، وَإِنَّهَا لَمِمَّا أَرْجُو بِهَا الثَّوَابَ وَحُسْنَ الْجَزَاءِ مِنْ رَبِّي. قَالَ: وَرَأَيْتُ أَخِي فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ لَهُ: مَاذَا قَدِمْتُمْ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ لِي: إِنَّا الْتَقَيْنَا نَحْنُ وَالْقَوْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -، فَاحْتَجَجْنَا فَحَجَجْنَاهُمْ، فَمَا سُرِرْتُ بِشَيْءٍ سُرُورِي بِتِلْكَ الرُّؤْيَا، (وَكَانَ يُقَالُ لِأُبَيٍّ: أُبَيُّ الصَّلَاةِ، لِكَثْرَةِ صَلَاتِهِ) . وَخَرَجَتْ حِمْيَرُ فِي جَمْعِهَا، وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَمُقَدَّمُهُمْ ذُو الْكَلَاعِ، وَمَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُمْ مَيْمَنَةُ أَهْلِ الشَّامِ، فَقَصَدُوا رَبِيعَةَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَكَانَتْ رَبِيعَةُ مَيْسَرَةَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَفِيهِمُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى الْمَيْسَرَةِ، فَحَمَلُوا عَلَى رَبِيعَةَ حَمْلَةً شَدِيدَةً، فَتَضَعْضَعَتْ رَايَةُ رَبِيعَةَ. وَكَانَتِ الرَّايَةُ مَعَ أَبِي سَاسَانَ حُضَيْنِ بْنِ الْمُنْذِرِ، فَانْصَرَفَ أَهْلُ الشَّامِ عَنْهُمْ، ثُمَّ كَرَّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَقَالَ: يَا أَهْلَ الشَّامِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَتَلَةُ عُثْمَانَ وَأَنْصَارُ عَلِيٍّ. فَشُدُّوا عَلَى النَّاسِ شَدَّةً عَظِيمَةً، فَثَبَتَتْ رَبِيعَةُ، وَصَبَرُوا صَبْرًا حَسَنًا، إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الضُّعَفَاءِ وَالْفَشَلَةِ، وَثَبَتَ أَهْلُ الرَّايَاتِ وَأَهْلُ الصَّبْرِ وَالْحُفَّاظُ، وَقَاتَلُوا قِتَالًا حَسَنًا، وَانْهَزَمَ خَالِدُ بْنُ الْمُعَمِّرِ مَعَ مَنِ انْهَزَمَ، وَكَانَ عَلَى رَبِيعَةَ، فَلَمَّا رَأَى أَصْحَابَ الرَّايَاتِ قَدْ صَبَرُوا رَجَعَ، وَصَاحَ بِمَنِ انْهَزَمَ، وَأَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ فَرَجَعُوا، وَكَانَ خَالِدٌ قَدْ سَعَى بِهِ إِلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ كَاتَبَ مُعَاوِيَةَ، فَأَحْضَرَهُ عَلِيٌّ وَمَعَهُ رَبِيعَةُ، فَسَأَلَهُ عَلِيٌّ عَمَّا قِيلَ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَالْحَقْ بِأَيِّ بَلَدٍ شِئْتَ، لَا يَكُونُ لِمُعَاوِيَةَ عَلَيْهِ حُكْمٌ. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ. وَقَالَتْ رَبِيعَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ نَعْلَمُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لَقَتَلْنَاهُ، فَاسْتَوْثَقَ مِنْهُ عَلِيٌّ بِالْعُهُودِ، فَلَمَّا فَرَّ اتَّهَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَاعْتَذَرَ هُوَ بِأَنِّي لَمَّا رَأَيْتُ رِجَالًا مِنَّا قَدِ انْهَزَمُوا اسْتَقْبَلْتُهُمْ لِأَرُدَّهُمْ إِلَيْكُمْ، فَأَقْبَلْتُ بِمَنْ أَطَاعَنِي إِلَيْكُمْ. وَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَقَامِهِ حَرَّضَ رَبِيعَةَ، فَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ مَعَ حِمْيَرَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، حَتَّى كَثُرَتْ بَيْنَهُمُ الْقَتْلَى، فَقُتِلَ سُمَيْرُ بْنُ الرَّيَّانِ الْعِجْلِيُّ، وَكَانَ شَدِيدَ الْبَأْسِ، وَأَتَى زِيَادُ (بْنُ عُمَرَ) بْنِ خَصَفَةَ عَبْدَ الْقَيْسِ،

فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا لَقِيَتْ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ مِنْ حِمْيَرَ، وَقَالَ: يَا عَبْدَ الْقَيْسِ لَا بَكْرَ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَأَتَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ بَنِي بَكْرٍ، فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ، فَقُتِلَ ذُو الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيُّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَتَلَهُ مُحْرِزُ بْنُ الصَّحْصَحِ مِنْ تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ ذُو الْوِشَاحِ، وَكَانَ لِعُمَرَ، فَلَمَّا مَلَكَ مُعَاوِيَةُ الْعِرَاقَ أَخَذَهُ مِنْهُ، وَقِيلَ: بَلْ قَتَلَهُ هَانِئُ بْنُ خَطَّابٍ الْأَرْحَبِيُّ، (وَقِيلَ: قَتَلَهُ مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو التِّنْعِيُّ الْحَضْرَمِيُّ) . وَخَرَجَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ رِضَاكَ فِي أَنْ أَقْذِفَ بِنَفْسِي فِي هَذَا الْبَحْرِ لَفَعَلْتُهُ. اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ رِضَاكَ فِي أَنْ أَضَعَ ظُبَةَ سَيْفِي فِي بَطْنِي ثُمَّ أَنْحَنِي عَلَيْهَا حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي لَفَعَلْتُهُ. وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ عَمَلًا هُوَ أَرْضَى لَكَ مِنْ جِهَادِ هَؤُلَاءِ الْفَاسِقِينَ، وَلَوْ أَعْلَمُ عَمَلًا هُوَ أَرْضَى لَكَ مِنْهُ لَفَعَلْتُهُ. وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى قَوْمًا لَيَضْرِبُنَّكُمْ ضَرْبًا يَرْتَابُ مِنْهُ الْمُبْطِلُونَ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ ضَرَبُونَا حَتَّى يَبْلُغُوا بِنَا سَعَفَاتِ هَجَرَ، لَعَلِمْتُ أَنَّا عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَبْتَغِي رِضْوَانَ اللَّهِ رَبِّهِ وَلَا يَرْجِعُ إِلَى مَالٍ وَلَا وَلَدٍ؟ فَأَتَاهُ عِصَابَةٌ، فَقَالَ: اقْصِدُوا بِنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ دَمَ عُثْمَانَ، وَاللَّهِ مَا أَرَادُوا الطَّلَبَ بِدَمِهِ، وَلَكِنَّهُمْ ذَاقُوا الدُّنْيَا وَاسْتَحَبُّوهَا، وَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ إِذَا لَزِمَهُمْ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَتَمَرَّغُونَ فِيهِ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَابِقَةٌ يَسْتَحِقُّونَ بِهَا طَاعَةَ النَّاسِ وَالْوِلَايَةَ عَلَيْهِمْ، فَخَدَعُوا أَتْبَاعَهُمْ وَإِنْ قَالُوا: إِمَامُنَا قُتِلَ مَظْلُومًا، لِيَكُونُوا بِذَلِكَ جَبَابِرَةً مُلُوكًا، فَبَلَغُوا مَا تَرَوْنَ، فَلَوْلَا هَذِهِ مَا تَبِعَهُمْ مِنَ النَّاسِ رَجُلَانِ. اللَّهُمَّ إِنْ تَنْصُرْنَا فَطَالَمَا نَصَرْتَ، وَإِنْ تَجْعَلْ لَهُمُ الْأَمْرَ فَادَّخِرْ لَهُمْ بِمَا أَحْدَثُوا فِي عِبَادِكَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. ثُمَّ مَضَى وَمَعَهُ تِلْكَ الْعِصَابَةُ، فَكَانَ لَا يَمُرُّ بِوَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ صِفِّينَ إِلَّا تَبِعَهُ مَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ جَاءَ إِلَى هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَهُوَ الْمِرْقَالُ، وَكَانَ صَاحِبَ رَايَةِ عَلِيٍّ، وَكَانَ أَعْوَرَ، فَقَالَ: يَا هَاشِمُ أَعَوَرًا

وَجُبْنًا؟ لَا خَيْرَ فِي أَعْوَرَ لَا (يَغْشَى الْبَأْسَ) ، ارْكَبْ يَا هَاشِمُ، فَرَكِبَ وَمَضَى مَعَهُ وَهُوَ يَقُولُ: أَعْوَرُ يَبْغِي أَهْلَهُ مَحَلَّا ... قَدْ عَالَجَ الْحَيَاةَ حَتَّى مَلَّا (لَا بُدَّ أَنْ يَفُلَّ أَوْ يُفَلَّا ... يَتُلُّهُمْ بِذِي الْكُعُوبِ تَلَّا) وَعَمَّارٌ يَقُولُ: تَقَدَّمْ يَا هَاشِمُ، الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، وَالْمَوْتُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْأَسَلِ، وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتَزَيَّنَتِ الْحُورُ الْعِينُ. الْيَوْمَ أَلْقَى الْأَحِبَّةَ، مُحَمَّدًا وَحِزْبَهُ. وَتَقَدَّمَ حَتَّى دَنَا مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ لَهُ: يَا عَمْرُو بِعْتَ دِينَكَ بِمِصْرَ، تَبًّا لَكَ! فَقَالَ لَهُ: لَا، وَلَكِنْ أَطْلُبُ بِدَمِ عُثْمَانَ. قَالَ: أَنَا أَشْهَدُ عَلَى عِلْمِي فِيكَ أَنَّكَ لَا تَطْلُبُ بِشَيْءٍ مِنْ فِعْلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، (وَأَنَّكَ إِنْ لَمْ تُقْتَلِ الْيَوْمَ تَمُتْ غَدًا) ، فَانْظُرْ إِذَا أُعْطِيَ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ نِيَّاتِهِمْ مَا نِيَّتُكَ، لَقَدْ قَاتَلْتُ صَاحِبَ هَذِهِ الرَّايَةِ ثَلَاثًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذِهِ الرَّابِعَةُ مَا هِيَ بِأَبَرَّ وَأَتْقَى. ثُمَّ قَاتَلَ عَمَّارٌ فَلَمْ يَرْجِعْ وَقُتِلَ.

وَقَالَ حَبَّةُ بْنُ جُوَيْنٍ الْعُرَنِيُّ: «قُلْتُ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: حَدِّثْنَا فَإِنَّا نَخَافُ الْفِتَنَ. فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْفِئَةِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ سُمَيَّةَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ النَّاكِبَةُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَإِنَّ آخِرَ رِزْقِهِ ضَيَاحٌ مِنْ لَبَنٍ» " - وَهُوَ الْمَمْزُوجُ بِالْمَاءِ مِنَ اللَّبَنِ -. قَالَ حَبَّةٌ: فَشَهِدْتُهُ يَوْمَ قُتِلَ وَهُوَ يَقُولُ: ائْتُونِي بِآخِرِ رِزْقٍ لِي فِي الدُّنْيَا، فَأُتِيَ بِضَيَاحٍ مِنْ لَبَنٍ، فِي قَدَحٍ أَرْوَحَ لَهُ حَلْقَةٌ حَمْرَاءُ، فَمَا أَخْطَأَ حُذَيْفَةُ مِقْيَاسَ شَعْرَةٍ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَلْقَى الْأَحِبَّهْ مُحَمَّدًا وَحِزْبَهُ وَاللَّهِ لَوْ ضَرَبُونَا حَتَّى يَبْلُغُوا بِنَا سَعَفَاتِ هَجَرَ، لَعَلِمْتُ أَنَّنَا عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ. ثُمَّ قُتِلَ، قَتَلَهُ أَبُو الْغَادِيَةِ، وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ ابْنُ حُوَيٍّ السَّكْسَكِيُّ، (وَقِيلَ قَتَلَهُ غَيْرُهُ) . وَقَدْ كَانَ ذُو الْكَلَاعِ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ يَقُولُ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: (تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، وَآخِرُ شَرْبَةٍ تَشْرَبُهَا ضَيَاحٌ مِنْ لَبَنٍ» ) ، فَكَانَ ذُو الْكَلَاعِ يَقُولُ لِعَمْرٍو: مَا هَذَا وَيْحَكَ يَا عَمْرُو؟ فَيَقُولُ عَمْرٌو: إِنَّهُ سَيَرْجِعُ إِلَيْنَا، فَقُتِلَ ذُو الْكَلَاعِ قَبْلَ عَمَّارٍ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَأُصِيبَ عَمَّارٌ بَعْدَهُ مَعَ عَلِيٍّ، فَقَالَ عَمْرٌو لِمُعَاوِيَةَ: مَا أَدْرِي بِقَتْلِ أَيِّهِمَا أَنَا أَشَدُّ فَرَحًا، بِقَتْلِ عَمَّارٍ أَوْ بِقَتْلِ ذِي الْكَلَاعِ، وَاللَّهِ لَوْ بَقِيَ ذُو الْكَلَاعِ بَعْدَ قَتْلِ عَمَّارٍ (لَمَالَ بِعَامَّةِ) أَهْلِ الشَّامِ إِلَى عَلِيٍّ. فَأَتَى جَمَاعَةٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ كُلُّهُمْ يَقُولُ: أَنَا قَتَلْتُ عَمَّارًا. فَيَقُولُ عَمْرٌو: فَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ؟ فَيَخْلِطُونَ، فَأَتَاهُ ابْنُ حُوَيٍّ فَقَالَ: أَنَا قَتَلْتُهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: الْيَوْمَ أَلْقَى الْأَحِبَّهْ مُحَمَّدًا وَحِزْبَهْ. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَنْتَ صَاحِبُهُ، ثُمَّ قَالَ: رُوَيْدًا، وَاللَّهِ مَا ظَفِرَتْ يَدَاكَ، وَلَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ.

قِيلَ: إِنَّ أَبَا الْغَادِيَةِ قَتَلَ عَمَّارًا، وَعَاشَ إِلَى زَمَنِ الْحَجَّاجِ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ فَأَكْرَمَهُ الْحَجَّاجُ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ قَتَلْتَ ابْنَ سُمَيَّةَ؟ يَعْنِي عَمَّارًا. قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَظِيمِ الْبَاعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِي قَتَلَ ابْنَ سُمَيَّةَ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَبُو الْغَادِيَةِ حَاجَتَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: نُوَطِّئُ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَا يُعْطُونَا مِنْهَا، وَيَزْعُمُ أَنِّي عَظِيمُ الْبَاعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ! [فَقَالَ الْحَجَّاجُ] : أَجَلْ وَاللَّهِ، مَنْ كَانَ ضِرْسُهُ مِثْلَ أُحُدٍ، وَفَخِذُهُ مِثْلَ جَبَلِ وَرِقَانَ، وَمَجْلِسُهُ مِثْلَ الْمَدِينَةِ وَالرَّبَذَةِ، إِنَّهُ لَعَظِيمُ الْبَاعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ عَمَّارًا قَتَلَهُ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ لَدَخَلُوا كُلُّهُمُ النَّارَ. وَقَالَ [أَبُو] عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: لَمَّا قُتِلَ عَمَّارٌ دَخَلْتُ عَسْكَرَ مُعَاوِيَةَ لِأَنْظُرَ هَلْ بَلَغَ مِنْهُمْ قَتْلُ عَمَّارٍ مَا بَلَغَ مِنَّا، وَكُنَّا إِذَا تَرَكْنَا الْقِتَالَ تَحَدَّثُوا إِلَيْنَا وَتَحَدَّثْنَا إِلَيْهِمْ، فَإِذَا مُعَاوِيَةُ، وَعَمْرٌو، وَأَبُو الْأَعْوَرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، يَتَسَايَرُونَ، فَأَدْخَلْتُ فَرَسِي بَيْنَهُمْ لِئَلَّا يَفُوتَنِي مَا يَقُولُونَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِأَبِيهِ: يَا أَبَهْ، قَتَلْتُمْ هَذَا الرَّجُلَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ، قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: «أَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ يَنْقُلُونَ فِي بِنَاءِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَغُشِيَ عَلَيْهِ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: " وَيْحَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ، النَّاسُ يَنْقُلُونَ لَبِنَةً لَبِنَةً وَأَنْتَ تَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ رَغْبَةً فِي الْأَجْرِ، وَأَنْتَ مَعَ ذَلِكَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» ". فَقَالَ عَمْرٌو لِمُعَاوِيَةَ: أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ؟ قَالَ: وَمَا يَقُولُ؟ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنَحْنُ قَتَلْنَاهُ؟ إِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ جَاءَ بِهِ، فَلَا أَدْرِي مَنْ كَانَ أَعْجَبَ أَهُوَ أَمْ هُمْ. فَلَمَّا قُتِلَ عَمَّارٌ قَالَ عَلِيٌّ لِرَبِيعَةَ وَهَمْدَانَ: أَنْتُمْ دِرْعِي وَرُمْحِي، فَانْتُدِبَ لَهُ نَحْوٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَقَدَّمَهُمْ عَلِيٌّ عَلَى بَغْلَةٍ، فَحَمَلُوا مَعَهُ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يَبْقَ لِأَهْلِ الشَّامِ صَفٌّ إِلَّا انْتَفَضَ، وَقَتَلُوا كُلَّ مَنِ انْتَهَوْا إِلَيْهِ حَتَّى بَلَغُوا مُعَاوِيَةَ، وَعَلِيٌّ يَقُولُ: أَقْتُلُهُمْ وَلَا أَرَى مُعَاوِيهْ ... الْجَاحِظَ الْعَيْنِ الْعَظِيمَ الْحَاوِيَهْ

ثُمَّ نَادَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: عَلَامَ يُقَتَّلُ النَّاسُ بَيْنَنَا؟ هَلُمَّ أُحَاكِمْكَ إِلَى اللَّهِ، فَأَيُّنَا قَتَلَ صَاحِبَهُ اسْتَقَامَتْ لَهُ الْأُمُورُ. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَنْصَفْتَ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا أَنْصَفْتَ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَبْرُزْ إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا قَتَلَهُ. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: مَا يَحْسُنُ بِكَ تَرْكُ مُبَارَزَتِهِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: طَمِعْتَ فِيهَا بَعْدِي! وَكَانَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ قَدْ وَكَّلُوا بِهِ رَجُلَيْنِ يُحَافِظَانِهِ لِئَلَّا يُقَاتِلَ، وَكَانَ يَحْمِلُ إِذَا غَفَلَا، فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يُخَضِّبَ سَيْفَهُ، وَإِنَّهُ حَمَلَ مَرَّةً فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى (انْثَنَى سَيْفُهُ، فَأَلْقَاهُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّهُ انْثَنَى) مَا رَجَعْتُ إِلَيْكُمُ ابْنَ إِسْحَاقَ فَقَالَ الْأَعْمَشُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا وَاللَّهِ ضَرْبُ غَيْرِ مُرْتَابٍ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعَ الْقَوْمُ شَيْئًا فَأَدَّوْهُ مَا كَانُوا بِكَاذِبِينَ. وَأَسَرَ مُعَاوِيَةُ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: اقْتُلْهُمْ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ الْأَوْدِيُّ: لَا تَقْتُلْنِي فَإِنَّكَ خَالِي. قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنَا خَالُكَ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَوْدٍ مُصَاهَرَةٌ؟ قَالَ: إِنْ أَخْبَرْتُكَ فَهُوَ أَمَانِي عِنْدَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَيْسَتْ أُخْتُكُ أُمَّ حَبِيبَةٍ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَإِنِّي ابْنُهَا وَأَنْتَ أَخُوهَا، فَأَنْتَ خَالِي. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا لَهُ لِلَّهِ أَبُوهُ! أَمَا كَانَ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَفْطَنُ لَهَا غَيْرُهُ؟ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَكَانَ قَدْ أَسَرَ عَلِيٌّ أَسَارَى كَثِيرَةً، فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، فَجَاءُوا مُعَاوِيَةَ وَإِنَّ عَمْرًا لَيَقُولُ لَهُ، وَقَدْ أَسَرَ أَيْضًا أَسَارَى كَثِيرَةً: اقْتُلْهُمْ، فَلَمَّا وَصَلَ أَصْحَابُهُمْ قَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا عَمْرُو لَوْ أَطَعْنَاكَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَسَارَى لَوَقَعْنَا فِي قَبِيحٍ مِنَ الْأَمْرِ، وَخَلَّى سَبِيلَ مَنْ عِنْدَهُ. وَأَمَّا هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، فَإِنَّهُ دَعَا النَّاسَ عِنْدَ الْمَسَاءِ وَقَالَ: أَلَا مَنْ كَانَ يُرِيدُ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِلَيَّ! فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نَاسٌ كَثِيرٌ، فَحَمَلَ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ مِرَارًا، وَيَصْبِرُونَ لَهُ، وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا يَهُولَنَّكُمْ مَا تَرَوْنَ مِنْ صَبْرِهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا حَمِيَّةُ الْعَرَبِ وَصَبْرُهَا تَحْتَ رَايَاتِهَا، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى الضَّلَالِ، وَإِنَّكُمْ لَعَلَى الْحَقِّ. ثُمَّ حَرَّضَ أَصْحَابَهُ وَحَمَلَ فِي عِصَابَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، حَتَّى رَأَوْا بَعْضَ مَا يُسَرُّونَ بِهِ،

فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ شَابٌ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ أَرْبَابِ الْمُلُوكِ غَسَّانْ ... وَالدَّائِنُ الْيَوْمَ بِدِينِ عُثْمَانْ نَبَّأَنَا قُرَّاؤُنَا بِمَا كَانْ ... أَنَّ عَلِيًّا قَتَلَ ابْنَ عَفَّانْ ثُمَّ يَحْمِلُ، فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ، وَيَشْتُمَ وَيَلْعَنَ. فَقَالَ لَهُ هَاشِمٌ: يَا هَذَا، إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ بَعْدَهُ الْخِصَامُ، وَإِنَّ هَذَا الْقِتَالَ بَعْدَهُ الْحِسَابُ، فَاتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّهُ سَائِلُكَ عَنْ هَذَا الْمَوْقِفِ، وَمَا أَرَدْتَ بِهِ. قَالَ: فَإِنِّي أُقَاتِلُكُمْ لِأَنَّ صَاحِبَكُمْ لَا يُصَلِّي وَأَنْتُمْ لَا تُصَلُّونَ، وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ قَتَلَ خَلِيفَتَنَا، وَأَنْتُمْ سَاعَدْتُمُوهُ عَلَى قَتْلِهِ. فَقَالَ لَهُ هَاشِمٌ: مَا أَنْتَ وَعُثْمَانَ، قَتَلَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبْنَاءُ أَصْحَابِهِ وَقُرَّاءُ النَّاسِ، وَهُمْ أَهْلُ الدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَمَا أَهْمَلَ أَمْرَ هَذَا الدِّينِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ صَاحِبَنَا لَا يُصَلِّي، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى، وَأَفْقَهُ خَلْقِ اللَّهِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَأَوْلَى بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا كُلُّ مَنْ تَرَى مَعِي فَكُلُّهُمْ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، لَا يَنَامُ اللَّيْلَ تَهَجُّدًا، فَلَا يُغْوِيَنَّكَ هَؤُلَاءِ الْأَشْقِيَاءُ. فَقَالَ الْفَتَى: فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، تُبْ إِلَى اللَّهِ يَتُبْ عَلَيْكَ، فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ. فَرَجَعَ الْفَتَى، فَقَالَ لَهُ أَهْلُ الشَّامِ: خَدَعَكَ الْعِرَاقِيُّ. فَقَالَ: كَلَّا، وَلَكِنْ نَصَحَ لِي. وَقَاتَلَ هَاشِمٌ وَأَصْحَابُهُ قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى رَأَوُا الظَّفَرَ، فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْمَغْرِبِ كَتِيبَةٌ لِتَنُوخَ، فَقَاتَلَهُمْ هَاشِمٌ وَهُوَ يَقُولُ: أَعْوَرُ يَبْغِي أَهْلَهُ مَحَلَّا ... لَا بُدَّ أَنْ يَفُلَّ أَوْ يُفَلَّا قَدْ عَالَجَ الْحَيَاةَ حَتَّى مَلَّا ... يَتُلُّهُمْ بِذِي الْكُعُوبِ تَلَّا فَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةً أَوْ عَشَرَةً، وَحَمَلَ عَلَيْهِ الْحَارِثُ بْنُ الْمُنْذِرِ التَّنُوخِيُّ فَطَعَنَهُ فَسَقَطَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ أَنْ قَدِّمْ لِوَاءَكَ. فَقَالَ لِرَسُولِهِ: انْظُرْ إِلَى بَطْنِي، فَإِذَا هُوَ [قَدْ] انْشَقَّ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ غَزِيَّةَ الْأَنْصَارِيُّ: فَإِنْ تَفْخَرُوا بِابْنِ الْبُدَيْلِ وَهَاشِمٍ ... فَنَحْنُ قَتَلْنَا ذَا الْكَلَاعِ وَحَوْشَبَا

وَنَحْنُ تَرَكْنَا عِنْدَ مُعْتَرَكِ الْقَنَا أَخَاكَ عُبَيْدَ اللَّهِ لَحْمًا مُلَحَّبًا ... وَنَحْنُ أَحَطْنَا بِالْبَعِيرِ وَأَهْلِهِ وَنَحْنُ سَقَيْنَاكُمْ سِمَامًا مُقَشَّبًا وَمَرَّ عَلِيٌّ بِكَتِيبَةٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَرَآهُمْ لَا يَزُولُونَ، وَهُمْ غَسَّانُ، فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُزَالُونَ إِلَّا بِطَعْنٍ وَضَرْبٍ يَفْلِقُ الْهَامَ وَيُطِيحُ الْعِظَامَ تَسْقُطُ مِنْهُ الْمَعَاصِمُ وَالْأَكُفُّ وَحَتَّى تُقْرَعَ جِبَاهُهُمْ بِعُمُدِ الْحَدِيدِ، أَيْنَ أَهْلُ النَّصْرِ وَالصَّبْرِ طُلَّابُ الْأَجْرِ؟ فَأَتَاهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَدَعَا ابْنَهُ مُحَمَّدًا فَقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ نَحْوَ هَذِهِ الرَّايَةِ مَشْيًا رُوَيْدًا عَلَى هِينَتِكَ، حَتَّى إِذَا أُشْرِعَتْ فِي صُدُورِهِمُ الرِّمَاحُ، فَأَمْسِكْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي. فَفَعَلَ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَلِيٌّ مِثْلَهُمْ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى ابْنِهِ مُحَمَّدٍ، وَأَمْرَهُ بِقِتَالِهِمْ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَأَزَالُوهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ رِجَالًا. وَمَرَّ الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ الْمُرَادِيُّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ الْمُرَادِيِّ وَهُوَ صَرِيعٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا أَسْوَدُ! قَالَ: لَبَّيْكَ! وَعَرَفَهُ وَقَالَ لَهُ: عَزَّ عَلَيَّ مَصْرَعُكَ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانَ جَارُكَ لَيَأْمَنُ بَوَائِقَكَ، وَإِنْ كُنْتَ لَمِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا، أَوْصِنِي رَحِمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأَنَّ تُنَاصِحَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْ تُقَاتِلَ مَعَهُ الْمُحِلِّينِ حَتَّى تَظْهَرَ أَوْ تَلْحَقَ بِاللَّهِ، وَأَبْلِغْهُ عَنِّي السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ: قَاتِلْ عَلَى الْمَعْرَكَةِ حَتَّى تَجْعَلَهَا خَلْفَ ظَهْرِكَ، فَإِنَّهُ مَنْ أَصْبَحَ غَدًا وَالْمَعْرَكَةُ خَلْفَ ظَهْرِهِ كَانَ الْعَالِي. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، فَأَقْبَلَ الْأَسْوَدُ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ، جَاهَدَ عَدُوَّنَا فِي الْحَيَاةِ وَنَصَحَ لَنَا فِي الْوَفَاةِ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي أَشَارَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ بِهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَنْبَلِ الْجُمَحِيُّ. قَالَ: فَاقْتَتَلَ النَّاسُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ كُلَّهَا إِلَى الصَّبَاحِ، وَهِيَ لَيْلَةُ الْهُرَيْرِ، فَتَطَاعَنُوا حَتَّى تَقَصَّفَتِ الرِّمَاحُ، وَتَرَامَوْا حَتَّى نَفِدَ النَّبْلُ وَأَخَذُوا السُّيُوفَ، وَعَلِيٌّ يَسِيرُ فِيمَا بَيْنَ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ، وَيَأْمُرُ كُلَّ كَتِيبَةٍ أَنْ تَقَدَّمَ عَلَى الَّتِي تَلِيهَا، فَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحَ، وَالْمَعْرَكَةُ كُلُّهَا خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَالْأَشْتَرُ فِي الْمَيْمَنَةِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمَيْسَرَةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْقَلْبِ، وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَخَذَ الْأَشْتَرُ يَزْحَفُ بِالْمَيْمَنَةِ وَيُقَاتِلُ فِيهَا، وَكَانَ قَدْ تَوَلَّاهَا عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ إِلَى ارْتِفَاعِ الضُّحَى،

وَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: ازْحَفُوا قَيْدَ هَذَا الرُّمْحِ، وَيَزْحَفُ بِهِمْ نَحْوَ أَهْلِ الشَّامِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ قَالَ: ازْحَفُوا قَيْدَ هَذِهِ الْقَوْسِ، فَإِذَا فَعَلُوا سَأَلَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُ النَّاسِ الْإِقْدَامَ. فَلَمَّا رَأَى الْأَشْتَرُ ذَلِكَ قَالَ: أُعِيذُكُمْ بِاللَّهِ أَنْ تَرْضَعُوا الْغَنَمَ سَائِرَ الْيَوْمِ! ثُمَّ دَعَا بِفَرَسِهِ فَرَكِبَهُ، وَتَرَكَ رَايَتَهُ مَعَ حَيَّانِ بْنِ هَوْذَةَ النَّخَعِيِّ، وَخَرَجَ يَسِيرُ فِي الْكَتَائِبِ وَيَقُولُ: مَنْ يَشْتَرِي نَفْسَهُ وَيُقَاتِلُ مَعَ الْأَشْتَرِ، [حَتَّى] يَظْهَرَ أَوْ يَلْحَقَ بِاللَّهِ؟ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ كَثِيرٌ، فِيهِمْ حَيَّانُ بْنُ هَوْذَةَ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُ، فَرَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَقَالَ لَهُمْ: شُدُّوا شَدَّةً، فِدًى لَكُمْ خَالِيَ وَعَمِّي، تُرْضُونَ بِهَا الرَّبَّ وَتُعِزُّونَ بِهَا الدِّينَ! ثُمَّ نَزَلَ وَضَرَبَ وَجْهَ دَابَّتِهِ، وَقَالَ لِصَاحِبِ رَايَتِهِ: اقْدِمْ بِهَا، وَحَمَلَ عَلَى الْقَوْمِ وَحَمَلُوا مَعَهُ، فَضَرَبَ أَهْلَ الشَّامِ حَتَّى انْتَهَى بِهِمْ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، ثُمَّ قَاتَلُوهُ عِنْدَ الْعَسْكَرِ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقُتِلَ صَاحِبُ رَايَتِهِ. وَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ الظَّفَرَ مِنْ نَاحِيَتِهِ أَمَدَّهُ بِالرِّجَالِ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِوَرْدَانَ مَوْلَاهُ: أَتَدْرِي مَا مَثَلِي وَمَثَلُكَ وَمَثَلُ الْأَشْتَرِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: كَالْأَشْقَرِ، إِنْ تَقَدَّمَ عُقِرَ، وَإِنَّ تَأَخَّرَ عُقِرَ، لَئِنْ تَأَخَّرْتَ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ. قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَأُورِدَنَّكَ حِيَاضَ الْمَوْتِ، (ضَعْ يَدَكَ عَلَى عَاتِقِي، ثُمَّ جَعَلَ يَتَقَدَّمُ وَيَتَقَدَّمُ وَيَقُولُ: لَأُورِدَنَّكَ حِيَاضَ الْمَوْتِ) ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ. [رَفْعُ الْمَصَاحِفِ وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْحُكُومَةِ] فَلَمَّا رَأَى عَمْرٌو أَنَّ أَمْرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَدِ اشْتَدَّ، وَخَافَ الْهَلَاكَ، قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: هَلْ لَكَ فِي أَمْرٍ أَعْرِضُهُ عَلَيْكَ لَا يَزِيدُنَا إِلَّا اجْتِمَاعًا، وَلَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا فُرْقَةً؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: نَرْفَعُ الْمَصَاحِفَ، ثُمَّ نَقُولُ لِمَا فِيهَا: هَذَا حَكَمٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَإِنْ أَبَى بَعْضُهُمْ أَنْ يَقْبَلَهَا وَجَدْتَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَقْبَلَ، فَتَكُونُ فُرْقَةٌ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ قَبِلُوا مَا فِيهَا، رَفَعْنَا الْقِتَالَ عَنَّا إِلَى أَجَلٍ. فَرَفَعُوا الْمَصَاحِفَ بِالرِّمَاحِ وَقَالُوا: هَذَا حُكْمُ كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، مَنْ لِثُغُورِ الشَّامِ بَعْدَ أَهْلِهِ؟ مَنْ لِثُغُورُ الْعِرَاقِ بَعْدَ أَهْلِهِ؟ فَلَمَّا رَآهَا النَّاسُ قَالُوا: نُجِيبُ

إِلَى كِتَابِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ: عِبَادَ اللَّهِ، امْضُوا عَلَى حَقِّكُمْ وَصِدْقِكُمْ، وَقِتَالِ عَدُوِّكُمْ، فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرًا، وَابْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَحَبِيبًا، وَابْنَ أَبِي سَرْحٍ وَالضَّحَّاكَ، لَيْسُوا بِأَصْحَابِ دِينٍ وَلَا قُرْآنٍ، أَنَا أَعْرَفُ بِهِمْ مِنْكُمْ، قَدْ صَحِبْتُمْ أَطْفَالًا، ثُمَّ رِجَالًا، فَكَانُوا شَرَّ أَطْفَالٍ وَشَرَّ رِجَالٍ، وَيْحَكُمْ وَاللَّهِ مَا رَفَعُوهَا إِلَّا خَدِيعَةً وَوَهْنًا وَمَكِيدَةً. فَقَالُوا لَهُ: لَا يَسَعُنَا أَنْ نُدْعَى إِلَى كِتَابِ اللَّهِ فَنَأْبَى أَنْ نَقْبَلَهُ! فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ: فَإِنِّي إِنَّمَا أُقَاتِلُهُمْ لِيَدِينُوا لِحُكْمِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوُا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ، وَنَسُوا عَهْدَهُ، وَنَبَذُوا كِتَابَهُ. فَقَالَ لَهُ مِسْعَرُ بْنُ فَدَكِيٍّ التَّمِيمِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ حُصَيْنٍ الطَّائِيُّ، فِي عِصَابَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ صَارُوا خَوَارِجَ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا عَلِيُّ أَجِبْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - إِذْ دُعِيتَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا دَفَعْنَاكَ بِرُمَّتِكَ إِلَى الْقَوْمِ، أَوْ نَفْعَلُ بِكَ مَا فَعَلْنَا بِابْنِ عَفَّانَ! قَالَ: فَاحْفَظُوا عَنِّي نَهْيِي إِيَّاكُمْ، وَاحْفَظُوا مَقَالَتَكُمْ لِي، فَإِنْ تُطِيعُونِي فَقَاتِلُوا، وَإِنْ تَعْصَوْنِي، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ. قَالُوا: ابْعَثْ إِلَى الْأَشْتَرِ فَلْيَأْتِكَ. فَبَعَثَ عَلِيٌّ يَزِيدَ بْنَ هَانِئٍ إِلَى الْأَشْتَرِ يَسْتَدْعِيهِ. فَقَالَ الْأَشْتَرُ: لَيْسَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ بِالسَّاعَةِ الَّتِي يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُزِيلَنِي [فِيهَا] عَنْ مَوْقِفِي، إِنَّنِي قَدْ رَجَوْتُ أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ لِي! فَرَجَعَ يَزِيدُ فَأَخْبَرَهُ، وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ وَارْتَفَعَ الرَّهَجُ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَشْتَرِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا أَمَرْتَهُ أَنْ يُقَاتِلَ! فَقَالَ عَلِيٌّ: هَلْ رَأَيْتُمُونِي سَارَرْتُهُ؟ أَلَيْسَ كَلَّمْتُهُ عَلَى رُؤُوسِكُمْ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ؟ قَالُوا: فَابْعَثْ إِلَيْهِ فَلْيَأْتِكَ، وَإِلَّا وَاللَّهِ اعْتَزَلْنَاكَ! فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ يَا يَزِيدُ! قُلْ لَهُ: أَقْبِلْ إِلَيَّ فَإِنَّ الْفِتْنَةَ قَدْ وَقَعَتْ. فَأَبْلَغَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ الْأَشْتَرُ: أَلِرَفْعِ الْمَصَاحِفِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّهَا سَتُوقِعُ اخْتِلَافًا وَفُرْقَةً! إِنَّهَا مَشُورَةُ (ابْنِ الْعَاهِرِ) ! أَلَا تَرَى إِلَى الْفَتْحِ؟ أَلَا تَرَى مَا يُلْقُونَ؟ أَلَا تَرَى مَا صَنَعَ اللَّهُ لَنَا؟ لَنْ يَنْبَغِيَ أَنْ أَدَعَ هَؤُلَاءِ! وَانْصَرَفَ عَنْهُمْ. فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: أَتُحِبُّ أَنْ تَظْفَرَ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُسْلَمُ إِلَى عَدُوِّهِ أَوْ يُقْتَلُ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ! فَأَعْلَمَهُ بِقَوْلِهِمْ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمُ الْأَشْتَرُ وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ! يَا أَهْلَ الذُّلِّ وَالْوَهَنِ! أَحِينَ عَلَوْتُمُ الْقَوْمَ، وَظَنُّوا أَنَّكُمْ لَهُمْ قَاهِرُونَ رَفَعُوا الْمَصَاحِفَ يَدْعُونَكُمْ إِلَى مَا فِيهَا، وَهُمْ وَاللَّهِ، قَدْ تَرَكُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِيهَا، وَسُنَّةَ مَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ؟ فَأَمْهِلُونِي (فُوَاقًا فَإِنِّي) قَدْ أَحْسَسْتُ بِالْفَتْحِ. قَالُوا: لَا. قَالَ: أَمْهِلُونِي عَدْوَ الْفَرَسِ، فَإِنِّي قَدْ طَمِعْتُ فِي النَّصْرِ. قَالُوا: إِذَنْ نَدْخُلُ مَعَكَ فِي خَطِيئَتِكَ. قَالَ: فَخَبِّرُونِي عَنْكُمْ مَتَى كُنْتُمْ

مُحِقِّينَ؟ أَحِينَ تُقَاتِلُونَ وَخِيَارُكُمْ يُقْتَلُونَ؟ فَأَنْتُمُ الْآنَ إِذْ أَمْسَكْتُمْ عَنِ الْقِتَالِ، مُبْطِلُونَ أَمْ أَنْتُمُ الْآنَ مُحِقُّونَ؟ فَقَتْلَاكُمُ الَّذِينَ لَا تُنْكِرُونَ فَضْلَهُمْ، وَهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ، فِي النَّارِ. قَالُوا: دَعْنَا مِنْكَ يَا أَشْتَرُ، قَاتَلْنَاهُمْ لِلَّهِ، وَنَدَعُ قِتَالَهُمْ لِلَّهِ! قَالَ: خُدِعْتُمْ فَانْخَدَعْتُمْ، وَدُعِيتُمْ إِلَى وَضْعِ الْحَرْبِ فَأَجَبْتُمْ، يَا أَصْحَابَ الْجِبَاهِ السُّودِ! (كُنَّا نَظُنُّ) صَلَاتَكُمْ زَهَادَةً فِي الدُّنْيَا وَشَوْقًا إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ، فَلَا أَرَى مُرَادَكُمْ إِلَّا الدُّنْيَا، أَلَا قُبْحًا يَا أَشْبَاهَ النَّيِّبِ الْجَلَّالَةِ! مَا أَنْتُمْ بِرَائِينَ بَعْدَهَا عِزًّا أَبَدًا، فَابْعُدُوا كَمَا بَعُدَ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ! فَسَبُّوهُ وَسَبَّهُمْ، وَضَرَبُوا وَجْهَ دَابَّتِهِ بِسِيَاطِهِمْ، وَضَرَبَ وُجُوهَ دَوَابِّهِمْ بِسَوْطِهِ، فَصَاحَ بِهِ وَبِهِمْ عَلِيٌّ فَكَفُّوا. وَقَالَ النَّاسُ: قَدْ قَبِلْنَا أَنْ نَجْعَلَ الْقُرْآنَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ حَكَمًا. فَجَاءَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: أَرَى النَّاسَ قَدْ رَضُوا بِمَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ، فَإِنْ شِئْتَ أَتَيْتُ مُعَاوِيَةَ فَسَأَلَتُهُ مَا يُرِيدُ. قَالَ: ائْتِهِ. فَأَتَاهُ، فَقَالَ لِمُعَاوِيَةَ: لِأَيِّ شَيْءٍ رَفَعْتُمْ هَذِهِ الْمَصَاحِفَ؟ قَالَ: لِنَرْجِعَ نَحْنُ وَأَنْتُمْ إِلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، تَبْعَثُونَ رَجُلًا تَرْضَوْنَ بِهِ، وَنَبْعَثُ نَحْنُ رَجُلًا نَرْضَى بِهِ، نَأْخُذُ عَلَيْهِمَا أَنْ يَعْمَلَا بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ لَا يَعْدُوَانِهِ، ثُمَّ نَتَّبِعُ مَا اتَّفَقْنَا عَلَيْهِ. قَالَ لَهُ الْأَشْعَثُ: هَذَا الْحَقُّ. فَعَادَ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ رَضِينَا وَقَبِلْنَا. فَقَالَ أَهْلُ الشَّامِ. قَدْ رَضِينَا عَمْرًا. وَقَالَ الْأَشْعَثُ وَأُولَئِكَ الْقَوْمُ الَّذِينَ صَارُوا خَوَارِجَ: إِنَّا قَدْ رَضِينَا بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ. فَقَالَ عَلِيٌّ: قَدْ عَصَيْتُمُونِي فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَلَا تَعْصَوْنِي الْآنَ، لَا أَرَى أَنْ أُوَلِّيَ أَبَا مُوسَى. فَقَالَ الْأَشْعَثُ وَزَيْدُ بْنُ حُصَيْنٍ وَمِسْعَرُ بْنُ فَدَكِيٍّ: لَا نَرْضَى إِلَّا بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ حَذَّرَنَا مَا وَقَعْنَا فِيهِ. قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنَّهُ لَيْسَ بِثِقَةٍ، قَدْ فَارَقَنِي وَخَذَّلَ النَّاسَ عَنِّي، ثُمَّ هَرَبَ مِنِّي، حَتَّى آمَنْتُهُ بَعْدَ أَشْهُرٍ، وَلَكِنْ هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ أُوَلِّيهِ ذَلِكَ. قَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُبَالِي أَنْتَ كُنْتَ أَمِ ابْنُ عَبَّاسٍ! لَا نُرِيدُ إِلَّا رَجُلًا هُوَ مِنْكَ وَمِنْ مُعَاوِيَةَ سَوَاءٌ. قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنِّي أَجْعَلُ الْأَشْتَرَ. قَالُوا: وَهَلْ سَعَّرَ الْأَرْضَ غَيْرُ الْأَشْتَرِ؟ فَقَالَ: قَدْ أَبَيْتُمْ إِلَّا أَبَا مُوسَى؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَاصْنَعُوا مَا أَرَدْتُمْ.

فَبَعَثُوا إِلَيْهِ، وَقَدِ اعْتَزَلَ الْقِتَالَ، وَهُوَ بِعُرْضٍ، فَأَتَاهُ مَوْلًى لَهُ فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اصْطَلَحُوا. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: قَدْ جَعَلُوكَ حَكَمًا. قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَجَاءَ أَبُو مُوسَى حَتَّى دَخَلَ الْعَسْكَرَ، وَجَاءَ الْأَشْتَرُ عَلِيًّا فَقَالَ: أَلِزَّنِي بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ مَلَأْتَ عَيْنِي مِنْهُ لَأَقْتُلَنَّهُ. وَجَاءَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ قَدْ رُمِيتَ بِحَجَرِ الْأَرْضِ، وَإِنِّي قَدْ عَجَمْتُ أَبَا مُوسَى، وَحَلَبْتُ أَشْطُرَهُ، فَوَجَدْتُهُ كَلَيْلَ الشَّفْرَةِ، قَرِيبَ الْقَعْرِ، وَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ إِلَّا رَجُلٌ يَدْنُو مِنْهُمْ، حَتَّى يَصِيرَ فِي أَكُفِّهِمْ، وَيَبْعُدُ حَتَّى يَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ النَّجْمِ مِنْهُمْ، فَإِنْ أَبَيْتَ أَنْ تَجْعَلَنِي حَكَمًا، فَاجْعَلْنِي ثَانِيًا أَوْ ثَالِثًا، فَإِنَّهُ لَنْ يَعْقِدَ عُقْدَةً إِلَّا حَلَلْتُهَا، وَلَا يَحُلُّ عُقْدَةً أَعْقِدُهَا لَكَ، إِلَّا عَقَدْتُ أُخْرَى أَحْكَمَ مِنْهَا. فَأَبَى النَّاسُ إِلَّا أَبَا مُوسَى وَالرِّضَا بِالْكِتَابِ. فَقَالَ الْأَحْنَفُ: إِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا أَبَا مُوسَى فَأَدْفِئُوا ظَهْرَهُ بِالرِّجَالِ. وَحَضَرَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عِنْدَ عَلِيٍّ لِيَكْتُبَ الْقَضِيَّةَ بِحُضُورِهِ، فَكَتَبُوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا مَا تَقَاضَى عَلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عَمْرٌو: [اكْتُبِ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ] ، هُوَ أَمِيرُكُمْ وَأَمَّا أَمِيرُنَا فَلَا. فَقَالَ الْأَحْنَفُ: لَا تَمْحُ اسْمَ إِمَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنِّي أَخَافُ إِنْ مَحَوْتَهَا أَنْ لَا تَرْجِعَ إِلَيْكَ أَبَدًا، لَا تَمْحُهَا وَإِنْ قَتَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَأَبَى ذَلِكَ عَلِيٌّ مَلِيًّا مِنَ النَّهَارِ، ثُمَّ إِنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: امْحُ هَذَا الِاسْمَ، فَمُحِيَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: اللَّهُ أَكْبَرُ! سُنَّةٌ بِسُنَّةٍ. وَاللَّهِ إِنِّي لَكَاتِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فَكَتَبْتُ: مُحَمَّدُ رَسُولُ اللَّهِ، وَقَالُوا: لَسْتَ بِرَسُولِ اللَّهِ، وَلَكِنِ اكْتُبِ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ، فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَحْوِهِ، فَقُلْتُ: لَا أَسْتَطِيعُ. فَقَالَ: أَرِنِيهِ، فَأَرَيْتُهُ، فَمَحَاهُ بِيَدِهِ وَقَالَ: إِنَّكَ سَتُدْعَى إِلَى مِثْلِهَا فَتُجِيبُ. فَقَالَ عَمْرٌو: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَنُشَبَّهُ بِالْكُفَّارِ وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ!

فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا ابْنَ النَّابِغَةِ وَمَتَى لَمْ تَكُنْ لِلْفَاسِقِينَ وَلِيًّا، وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَدُوًّا؟ فَقَالَ عَمْرٌو: وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مَجْلِسٌ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ أَبَدًا. فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُطَهِّرَ اللَّهُ مَجْلِسِي مِنْكَ وَمِنْ أَشْبَاهِكَ. وَكَتَبَ الْكِتَابَ: هَذَا مَا تَقَاضَى عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، قَاضَى عَلِيٌّ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ، وَقَاضَى مُعَاوِيَةُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ وَمَنْ مَعَهُمْ، إِنَّنَا نَنْزِلُ عِنْدَ حُكْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَأَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَنَا غَيْرُهُ، وَأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ بَيْنَنَا مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، نُحْيِي مَا أَحْيَا وَنُمِيتُ مَا أَمَاتَ، فَمَا وَجَدَ الْحَكَمَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَهُمَا أَبُو مُوسَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ، وَعَمْرُو بْنَ الْعَاصِ، عَمِلَا بِهِ، وَمَا لَمْ يَجِدَاهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَالسُّنَّةُ الْعَادِلَةُ الْجَامِعَةُ غَيْرُ الْمُفَرَّقَةِ. وَأَخَذَ الْحَكَمَانِ مِنْ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَمِنَ الْجُنْدَيْنِ مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ أَنَّهُمَا آمِنَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَأَهْلِيهِمَا، وَالْأُمَّةُ لَهُمَا أَنْصَارٌ عَلَى الَّذِي يَتَقَاضَيَانِ عَلَيْهِ، وَعَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ أَنْ يَحْكُمَا بَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا يَرُدَّاهَا فِي حَرْبٍ وَلَا فُرْقَةٍ حَتَّى يُعْصَيَا، وَأَجَلُ الْقَضَاءِ إِلَى رَمَضَانَ، وَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يُؤَخِّرَا ذَلِكَ أَخَّرَاهُ، وَإِنَّ مَكَانَ قَضِيَّتِهِمَا مَكَانٌ عَدْلٌ بَيْنَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ. وَشَهِدَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَوِقَاءُ بْنُ سُمَيٍّ الْبَجَلِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحِلٍّ الْعِجْلِيُّ، وَحُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ الْكِنْدِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الطُّفَيْلِ الْعَامِرِيُّ، وَعُقْبَةُ بْنُ زِيَادٍ الْحَضْرَمِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ حُجَيَّةَ التَّمِيمِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ كَعْبٍ الْهَمْدَانِيُّ، (وَمِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، وَحَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَزِمْلُ بْنُ عَمْرٍو الْعُذْرِيُّ، وَحُمْرَةُ بْنُ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَسُبَيْعُ بْنُ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ) ، وَعُتَبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، (وَيَزِيدُ بْنُ الْحُرِّ الْعَبْسِيُّ) . وَقِيلَ لِلْأَشْتَرِ لِيَكْتُبَ فِيهَا، فَقَالَ: لَا صَحِبَتْنِي يَمِينِي، وَلَا نَفَعَتْنِي بَعْدَهَا شِمَالِي، إِنْ خُطَّ لِي فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ [اسْمٌ عَلَى صُلْحٍ وَلَا مُوَادَعَةٍ] ، أَوَلَسْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي مِنْ

ضَلَالِ عَدُوِّي، أَوَلَسْتُمْ قَدْ رَأَيْتُمُ الظَّفَرَ؟ فَقَالَ لَهُ الْأَشْعَثُ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ ظَفَرًا، هَلُمَّ إِلَيْنَا لَا رَغْبَةَ بِكَ عَنَّا. فَقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ، الرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لِلْآخِرَةِ، لَقَدْ سَفَكَ اللَّهُ بِسَيْفِي دِمَاءَ رِجَالٍ مَا أَنْتَ خَيْرٌ عِنْدِي مِنْهُمْ، وَلَا أَحْرَمُ دَمًا. قَالَ: فَكَأَنَّمَا قَصَعَ اللَّهُ عَلَى أَنْفِ الْأَشْعَثِ الْحُمَمَ. وَخَرَجَ الْأَشْعَثُ بِالْكِتَابِ يَقْرَؤُهُ عَلَى النَّاسِ، حَتَّى مَرَّ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فِيهِمْ عُرْوَةُ بْنُ أُدَيَّةَ أَخُو أَبِي بِلَالٍ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عُرْوَةُ: تُحَكِّمُونَ فِي أَمْرِ اللَّهِ الرِّجَالَ؟ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ! ثُمَّ شَدَّ بِسَيْفِهِ فَضَرَبَ بِهِ عَجُزَ دَابَّةِ الْأَشْعَثِ ضَرْبَةً خَفِيفَةً، وَانْدَفَعَتِ الدَّابَّةُ، وَصَاحَ بِهِ أَصْحَابُ الْأَشْعَثِ، فَرَجَعَ، وَغَضِبَ لِلْأَشْعَثِ قَوْمُهُ (وَنَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ) ، فَمَشَى إِلَيْهِ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَمِسْعَرُ بْنُ فَدَكِيٍّ، وَنَاسٌ مِنْ تَمِيمٍ فَاعْتَذَرُوا، فَقَبِلَ وَشَكَرَ. وَكُتِبَ الْكِتَابُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يُوَافِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ مَوْضِعَ الْحَكَمَيْنِ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ أَوْ بِأَذْرُحٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. وَقِيلَ لَعَلِيٍّ: إِنَّ الْأَشْتَرَ لَا يُقِرُّ بِمَا فِي الصَّحِيفَةِ، وَلَا يَرَى إِلَّا قِتَالَ الْقَوْمِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: وَأَنَا وَاللَّهِ مَا رَضِيتُ وَلَا أَحْبَبْتُ أَنْ تَرْضَوْا، فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تَرْضَوْا فَقَدْ رَضِيتُ، وَإِذَا رَضِيتُ فَلَا يَصْلُحُ الرُّجُوعُ بَعْدَ الرِّضَا، وَلَا التَّبْدِيلُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، إِلَّا أَنْ يُعْصَى اللَّهُ وَيُتَعَدَّى كِتَابُهُ، فَقَاتِلُوا مَنْ تَرَكَ أَمْرَ اللَّهِ، وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرْتُمْ مِنْ تَرْكِهِ أَمْرِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ (فَلَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ) فَلَسْتُ أَخَافُ عَلَى ذَلِكَ، يَا لَيْتَ فِيكُمْ مِثْلَهُ اثْنَيْنِ! يَا لَيْتَ فِيكُمْ مِثْلَهُ وَاحِدًا يَرَى فِي عَدُوِّي مَا أَرَى، إِذًا لَخَفَّتْ عَلَيَّ مَؤُونَتُكُمْ وَرَجَوْتُ أَنْ يَسْتَقِيمَ لِي بَعْضُ أَوَدِكُمْ، وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ فَعَصَيْتُمُونِي، فَكُنْتُ أَنَا وَأَنْتُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ:

وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُمْ فِعْلَةً ضَعْضَعَتْ قُوَّةً، وَأَسْقَطَتْ مُنَّةً، وَأَوْرَثَتْ وَهَنًا وَذِلَّةً، وَلَمَّا كُنْتُمُ الْأَعْلَيْنَ وَخَافَ عَدُوُّكُمْ الِاجْتِيَاحَ وَاسْتَحَرَّ بِهِمُ الْقَتْلُ، وَوَجَدُوا أَلَمَ الْجِرَاحِ رَفَعُوا الْمَصَاحِفَ، فَدَعَوْكُمْ إِلَى مَا فِيهَا لِيَفْتِنُوكُمْ عَنْهُمْ، وَيَقْطَعُوا الْحَرْبَ، وَيَتَرَبَّصُوا بِكُمُ الْمَنُونَ خَدِيعَةً وَمَكِيدَةً، فَأَعْطَيْتُمُوهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تُدْهِنُوا وَتُجِيرُوا، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَظُنُّكُمْ بَعْدَهَا تُوَفَّقُونَ الرُّشْدَ وَلَا تُصِيبُونَ بَابَ الْحَزْمِ. ثُمَّ رَجَعَ النَّاسُ عَنْ صِفِّينَ، فَلَمَّا رَجَعَ عَلِيٌّ خَالَفَتِ الْحَرُورِيَّةُ وَخَرَجَتْ، كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا ظَهَرَتْ (وَأَنْكَرَتْ تَحْكِيمَ الرِّجَالِ) ، وَرَجَعُوا عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَقْبَلُوا فِيهِ، أَخَذُوا عَلَى طَرِيقِ الْبَرِّ، وَعَادُوا وَهُمْ أَعْدَاءٌ مُتَبَاغِضُونَ (وَقَدْ فَشَا فِيهِمُ التَّحْكِيمُ) يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ بِالتَّشَاتُمِ وَالتَّضَارُبِ بِالسِّيَاطِ، يَقُولُ الْخَوَارِجُ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ أَدْهَنْتُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَيَقُولُ الْآخَرُونَ: فَارَقْتُمْ إِمَامَنَا وَفَرَّقْتُمْ جَمَاعَتَنَا. وَسَارُوا حَتَّى جَازُوا النُّخَيْلَةَ، وَرَأَوْا بُيُوتَ الْكُوفَةِ، فَإِذَا بِشَيْخٍ فِي ظِلِّ بَيْتٍ عَلَيْهِ أَثَرُ الْمَرَضِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَرَدَّ رَدًّا حَسَنًا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَرَى وَجْهَكَ مُتَغَيِّرًا،

أَمِنْ مَرَضٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَعَلَّكَ كَرِهْتَهُ. قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّهُ بِغَيْرِي. فَقَالَ: أَلَيْسَ (احْتِسَابًا لِلْخَيْرِ) فِيمَا أَصَابَكَ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: فَأَبْشِرْ بِرَحْمَةِ رَبِّكَ وَغُفْرَانِ ذَنْبِكَ، مَنْ أَنْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: صَالِحُ بْنُ سُلَيْمٍ. قَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَمَّا الْأَصْلُ فَمِنْ سَلَامَانِ طَيِّءٍ، وَأَمَّا الدَّعْوَةُ وَالْجِوَارُ فَفِي سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ وَمَنِ اعْتَزَيْتَ إِلَيْهِ، وَاسْمَ ادِّعَائِكَ! هَلْ شَهِدْتَ مَعَنَا غَزَاتَنَا هَذِهِ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَقَدْ أَرَدْتُهَا وَلَكِنْ مَا تَرَى مِنْ أَثَرِ الْحُمَّى مَنَعَنِي عَنْهَا. فَقَالَ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة: 91] الْآيَةَ، خَبِّرْنِي مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيمَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ؟ قَالَ: فِيهِمُ الْمَسْرُورُ، وَهُمْ أَغِشَّاءُ النَّاسِ، وَفِيهِمُ الْمَكْبُوتُ الْآسِفُ بِمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، وَأُولَئِكَ نُصَحَاءُ النَّاسِ لَكَ. قَالَ: صَدَقْتَ، جَعَلَ اللَّهُ مَا كَانَ مِنْ شَكْوَاكَ حَطًّا لِسَيِّئَاتِكَ، فَإِنَّ الْمَرَضَ لَا أَجْرَ فِيهِ، وَلَكِنْ لَا يَدَعُ عَلَى الْعَبْدِ ذَنْبًا إِلَّا حَطَّهُ، وَإِنَّمَا الْأَجْرُ فِي الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلِ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَيُدْخِلُ بِصِدْقِ النِّيَّةِ وَالسَّرِيرَةِ الصَّالِحَةِ عَالَمًا مِنْ عِبَادِهِ الْجَنَّةَ. ثُمَّ مَضَى غَيْرَ بَعِيدٍ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَدِيعَةَ الْأَنْصَارِيُّ، فَدَنَا مِنْهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَايَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا سَمِعْتَ النَّاسَ يَقُولُونَ فِي أَمْرِنَا؟ قَالَ: مِنْهُمُ الْمُعْجَبُ بِهِ وَمِنْهُمُ الْكَارِهُ لَهُ. قَالَ: فَمَا قَوْلُ ذَوِي الرَّأْيِ؟ قَالَ: يَقُولُونَ إِنَّ عَلِيًّا كَانَ لَهُ جَمْعٌ عَظِيمٌ فَفَرَّقَهُ، وَكَانَ حِصْنٌ حَصِينٌ فَهَدَّمَهُ، فَمَتَى يَبْنِي مَا هَدَمَ وَيَجْمَعُ مَا فَرَّقَ؟ وَلَوْ كَانَ مَضَى بِمَنْ أَطَاعَهُ (إِذْ عَصَاهُ) مِنْ عَصَاهُ، فَقَاتَلَ حَتَّى يَظْفَرَ أَوْ يَهْلَكَ كَانَ ذَلِكَ الْحَزْمُ. قَالَ عَلِيٌّ: أَنَا هَدَمْتُ أَمْ هُمْ هَدَمُوا؟ أَنَا فَرَّقْتُ أَمْ هُمْ فَرَّقُوا؟ أَمَّا قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ مَضَى بِمَنْ أَطَاعَهُ فَقَاتَلَ حَتَّى يَظْفَرَ أَوْ يَهْلَكَ، فَوَاللَّهِ مَا خَفِيَ هَذَا عَنِّي، وَإِنْ كُنْتُ لَسَخِيًّا بِنَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، طَيِّبَ النَّفْسِ بِالْمَوْتِ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْقَوْمِ فَنَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ قَدِ ابْتَدَرَانِي - يَعْنِي الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ - وَنَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ قَدِ اسْتَقْدَمَانِي - يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ - فَعَلِمْتُ أَنَّ هَذَيْنِ إِنْ هَلَكَا انْقَطَعَ نَسْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكَرِهَتُ ذَلِكَ، وَأَشْفَقْتُ عَلَى هَذَيْنِ أَنَّ يَهْلَكَا، وَايْمُ اللَّهِ لَئِنْ لَقِيتُهُمْ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا لَأَلْقَيَنَّهُمْ وَلَيْسُوا مَعِي فِي عَسْكَرٍ وَلَا دَارٍ.

ثُمَّ مَضَى، وَإِذَا عَلَى يَمِينِهِ قُبُورٌ سَبْعَةٌ أَوْ ثَمَانِيَةٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا هَذِهِ؟ فَقِيلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ خَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ تُوُفِّيَ بَعْدَ مَخْرَجِكَ، وَأَوْصَى بِأَنْ يُدْفَنَ فِي الظَّهْرِ، وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا يُدْفَنُونَ فِي دُورِهِمْ وَأَفْنِيَتِهِمْ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دُفِنَ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ وَدُفِنَ النَّاسُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: رَحِمَ اللَّهُ خَبَّابًا، فَلَقَدْ أَسْلَمَ رَاغِبًا، وَهَاجَرَ طَائِعًا، وَعَاشَ مُجَاهِدًا، وَابْتُلِيَ فِي جِسْمِهِ أَحْوَالًا، وَلَنْ يُضِيعَ اللَّهُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وَوَقَفَ عَلَيْهَا وَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الدِّيَارِ الْمُوحِشَةِ، وَالْمَحَالِّ الْمُقْفِرَةِ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ! أَنْتُمْ لَنَا سَلَفٌ فَارِطٌ، وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ، وَبِكُمْ عَمَّا قَلِيلٍ لَاحِقُونَ! اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ، وَتَجَاوَزْ بِعَفْوِكَ عَنَّا وَعَنْهُمْ! طُوبَى لِمَنْ ذَكَرَ (الْمَعَادَ، وَعَمِلَ لِلْحِسَابِ، وَقَنِعَ) بِالْكَفَافِ، وَرَضِيَ عَنِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -! ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى حَاذَى سِكَّةَ الثَّوْرِيِّينَ، فَسَمِعَ الْبُكَاءَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ؟ فَقِيلَ: الْبُكَاءُ عَلَى قَتْلَى صِفِّينَ. فَقَالَ: أَمَا إِنِّي أَشْهَدُ لِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ صَابِرًا مُحْتَسِبًا بِالشَّهَادَةِ. ثُمَّ مَرَّ بَالْفَائِشِيِّينَ فَسَمِعَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَرَّ بِالشِّبَامِيِّينَ فَسَمِعَ رَجَّةً شَدِيدَةً فَوَقَفَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَرْبُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الشِّبَامِيُّ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَيَغْلِبُكُمْ نِسَاؤُكُمْ؟ أَلَا تَنْهَوْنَهُنَّ عَنْ هَذَا الرَّنِينِ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ كَانَتْ دَارًا أَوْ دَارَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَدَرْنَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ قُتِلَ مِنْ هَذَا الْحَيِّ ثَمَانُونَ وَمِائَةُ قَتِيلٍ، فَلَيْسَ دَارٌ إِلَّا وَفِيهَا الْبُكَاءُ، فَأَمَّا نَحْنُ مَعْشَرَ الرِّجَالِ، فَإِنَّا لَا نَبْكِي، وَلَكِنَّا نَفْرَحُ بِالشَّهَادَةِ. قَالَ عَلِيٌّ: رَحِمَ اللَّهُ قَتْلَاكُمْ وَمَوْتَاكُمْ! فَأَقْبَلَ يَمْشِي مَعَهُ وَعَلِيٌّ رَاكِبٌ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: ارْجِعْ، وَوَقَفَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: ارْجِعْ، فَإِنَّ مَشْيَ مِثْلِكَ مَعَ مِثْلِي فِتْنَةٌ لِلْوَالِي، وَمَذَلَّةٌ لِلْمُؤْمِنِ. ثُمَّ مَضَى حَتَّى مَرَّ بِالنَّاعِطِيِّينَ، وَكَانَ جُلُّهُمْ عُثْمَانِيَّةً، فَسَمِعَ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا صَنَعَ عَلِيٌّ شَيْئًا، ذَهَبَ ثُمَّ انْصَرَفَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أُبْلِسُوا، فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَصْحَابِهِ: وُجُوهُ قَوْمٍ مَا رَأَوُا الشَّامَ. ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: [قَوْمٌ] فَارَقْنَاهُمْ آنِفًا خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ قَالَ: أَخُوكَ الَّذِي إِنْ أَجْرَضَتْكَ مُلِمَّةٌ ... مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَبْرَحْ لِبَثِّكَ وَاجِمًا

وَلَيْسَ أَخُوكَ بِالَّذِي إِنْ تَشَعَّبَتْ عَلَيْكَ الْأُمُورُ ظَلَّ يَلْحَاكَ لَائِمًا ثُمَّ مَضَى فَلَمْ يَزَلْ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى دَخَلَ الْقَصْرَ. فَلَمَّا دَخَلَ الْكُوفَةَ لَمْ يَدْخُلِ الْخَوَارِجُ مَعَهُ، فَأَتَوْا حَرُورَاءَ فَنَزَلُوا بِهَا. [قَتْلَى صِفِّينَ] وَقُتِلَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ بِصِفِّينَ. وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ بِدِمَشْقَ، (وَقِيلَ: بِأَرْمِينِيَّةَ، وَقِيلَ: بِسِجِسْتَانَ) . وَفِيهَا قُتِلَ جُنْدُبُ بْنُ زُهَيْرٍ الْأَزْدِيُّ - وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ - مَعَ عَلِيٍّ.

وَقُتِلَ بِصِفِّينَ أَيْضًا حَابِسُ بْنُ سَعْدٍ الطَّائِيُّ مَعَ مُعَاوِيَةَ - وَهُوَ خَالُ يَزِيدَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - فَقَتَلَ يَزِيدُ قَاتِلَهُ غَدْرًا، فَأَرَادَ عَدِيٌّ إِسْلَامَهُ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَهَرَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ. وَمِمَّنْ شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ، وَلَمْ يُقَاتِلْ، فَلَمَّا قُتِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ جَرَّدَ سَيْفَهُ وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» ، وَقُتِلَ مَعَ عَلِيٍّ: سُهَيْلُ بْنُ عَمْرِو (بْنِ

أَبِي عُمَرَ) الْأَنْصَارِيُّ - وَهُوَ بَدْرِيٌّ -. وَمِمَّنْ شَهِدَ وَقُتِلَ فِيهَا مَعَ عَلِيٍّ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلَهُ صُحْبَةٌ. (شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ: بِضَمِّ الشِّينِ، وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ. الْهَمْدَانِيُّ: بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ، نِسْبَةً إِلَى هَمْدَانَ - قَبِيلَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الْيَمَنِ -. حُمْرَةُ بْنُ مَالِكٍ: بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَآخِرُهُ رَاءٌ. حُضَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ: بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ. يَرِيمُ: بِفَتْحِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ، وَآخِرُهُ مِيمٌ. بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ: بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ. حَازِمُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ: بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ. حَبَّةُ بْنُ جُوَيْنٍ: بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْبَاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُوَحَّدَةِ. وَالْعُرَنِيُّ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَآخِرُهُ نُونٌ) . ذكر اسْتِعْمَالِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ عَلَى خُرَاسَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ عَلِيٌّ جَعْدَةَ بْنَ هُبَيْرَةَ الْمَخْزُومِيَّ إِلَى خُرَاسَانَ، بَعْدَ عَوْدِهِ مِنْ صِفِّينَ، فَانْتَهَى إِلَى نَيْسَابُورَ، وَقَدْ كَفَرُوا وَامْتَنَعُوا، فَرَجَعَ إِلَى عَلِيٍّ، فَبَعَثَ خُلَيْدَ بْنَ قُرَّةَ الْيَرْبُوعِيَّ، فَحَاصَرَ أَهْلَهَا حَتَّى صَالَحُوهُ، وَصَالَحَهُ أَهْلُ مَرْوٍ. ذكر اعْتِزَالِ الْخَوَارِجِ عَلِيًّا وَرُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ وَلَمَّا رَجَعَ عَلِيٌّ مِنْ صِفِّينَ فَارَقَهُ الْخَوَارِجُ، وَأَتَوْا حَرُورَاءَ، فَنَزَلَ بِهَا مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، وَنَادَى مُنَادِيهِمْ: إِنَّ أَمِيرَ الْقِتَالِ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ التَّمِيمِيُّ، وَأَمِيرَ الصَّلَاةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْكَوَّا الْيَشْكُرِيُّ، وَالْأَمْرُ شُورَى بَعْدَ الْفَتْحِ، وَالْبَيْعَةُ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ. فَلَمَّا سَمِعَ عَلِيٌّ ذَلِكَ وَأَصْحَابُهُ قَامَتِ الشِّيعَةُ فَقَالُوا لَهُ: فِي أَعْنَاقِنَا بَيْعَةٌ ثَانِيَةٌ، نَحْنُ أَوْلِيَاءُ مَنْ وَالَيْتَ، وَأَعْدَاءُ مَنْ عَادَيْتَ. فَقَالَتِ الْخَوَارِجُ: اسْتَبَقْتُمْ أَنْتُمْ وَأَهْلُ الشَّامِ إِلَى الْكُفْرِ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، بَايَعَ أَهْلُ الشَّامِ مُعَاوِيَةَ عَلَى مَا أَحَبُّوا وَكَرِهُوا، وَبَايَعْتُمْ أَنْتُمْ عَلِيًّا عَلَى أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ مَنْ وَالَى وَأَعْدَاءُ مَنْ عَادَى. فَقَالَ لَهُمْ زِيَادُ بْنُ النَّضْرِ:

وَاللَّهِ مَا بَسَطَ عَلِيٌّ يَدَهُ فَبَايَعْنَاهُ قَطُّ، إِلَّا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَكِنَّكُمْ لَمَّا خَالَفْتُمُوهُ جَاءَتْهُ شِيعَتُهُ فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ أَوْلِيَاءُ مَنْ وَالَيْتَ، وَأَعْدَاءُ مَنْ عَادَيْتَ، وَنَحْنُ كَذَلِكَ، وَهُوَ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى وَمَنْ خَالَفَهُ ضَالٌّ مُضِلٌّ. وَبَعَثَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ إِلَى الْخَوَارِجِ وَقَالَ: لَا تَعْجَلْ إِلَى جَوَابِهِمْ وَخُصُومَتِهِمْ حَتَّى آتِيَكَ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَأَقْبَلُوا يُكَلِّمُونَهُ، فَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى رَاجَعَهُمْ، فَقَالَ: مَا نَقَمْتُمْ مِنَ الْحَكَمَيْنِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] ، فَكَيْفَ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَتِ الْخَوَارِجُ: أَمَّا مَا جَعَلَ اللَّهُ حُكْمَهُ إِلَى النَّاسِ، وَأَمَرَهُمْ بِالنَّظَرِ فِيهِ، فَهُوَ إِلَيْهِمْ، وَمَا حَكَمَ فَأَمْضَاهُ فَلَيْسَ لِلْعِبَادِ أَنْ يَنْظُرُوا (فِيهِ، حَكَمَ فِي الزَّانِي مِائَةَ جِلْدَةٍ، وَفِي السَّارِقِ الْقَطْعَ، فَلَيْسَ لِلْعِبَادِ أَنْ يَنْظُرُوا) فِي هَذَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] . فَقَالُوا: أَوَ تَجْعَلُ الْحُكْمَ فِي الصَّيْدِ وَالْحَرْثِ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا كَالْحُكْمِ فِي دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ؟ وَقَالُوا لَهُ: أَعَدْلٌ عِنْدَكَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَهُوَ بِالْأَمْسِ يُقَاتِلُنَا؟ فَإِنْ كَانَ عَدْلًا فَلَسْنَا بِعُدُولٍ، وَقَدْ حَكَّمْتُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ الرِّجَالَ، وَقَدْ أَمْضَى اللَّهُ حُكْمَهُ فِي مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ، أَنْ يُقْتَلُوا أَوْ يَرْجِعُوا، وَقَدْ كَتَبْتُمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا، وَجَعَلْتُمْ بَيْنَكُمُ الْمُوَادَعَةَ، وَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ الْمُوَادَعَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، مُذْ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ إِلَّا مَنْ أَقَرَّ بِالْجِزْيَةِ. وَبَعَثَ عَلِيُّ زِيَادَ بْنَ النَّضْرِ فَقَالَ: انْظُرْ بِأَيٍّ رُؤُوسِهِمْ [هُمْ] أَشَدُّ إِطَافَةً. فَأَخْبِرْهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَهُمْ عِنْدَ رَجُلِ أَكْثَرَ مِنْهُمْ عِنْدَ يَزِيدَ بْنِ قَيْسٍ. فَخَرَجَ عَلِيٌّ فِي النَّاسِ حَتَّى دَخَلَ إِلَيْهِمْ، فَأَتَى فُسْطَاطَ يَزِيدَ بْنِ قَيْسٍ، فَدَخَلَهُ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَأَمَّرَهُ عَلَى أَصْبَهَانَ وَالرَّيِّ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ، وَهُمْ يُخَاصِمُونَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ كَلَامِهِمْ؟ ثُمَّ تَكَلَّمَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَذَا مَقَامٌ مَنْ يَفْلُجُ فِيهِ كَانَ أَوْلَى بِالْفُلْجِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: مَنْ زَعِيمُكُمْ؟ قَالُوا: ابْنُ الْكَوَّا. قَالَ: فَمَا أَخْرَجَكُمْ عَلَيْنَا؟ قَالُوا: حُكُومَتُكَ يَوْمَ صِفِّينَ. قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ حَيْثُ

رَفَعُوا الْمَصَاحِفَ وَقُلْتُمْ نُجِيبُهُمْ، قَلْتُ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ بِالْقَوْمِ مِنْكُمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَصْحَابِ دِينٍ؟ وَذَكَرَ مَا كَانَ قَالَ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: قَدِ اشْتَرَطْتُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ أَنْ يُحْيِيَا مَا أَحْيَا الْقُرْآنُ، وَيُمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ، فَإِنْ حَكَمَا بِحُكْمِ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُخَالِفَ، وَإِنْ أَبَيَا فَنَحْنُ عَنْ حُكْمِهِمَا بُرَآءٌ. قَالُوا: فَخَبِّرْنَا، أَتَرَاهُ عَدْلًا تَحْكِيمَ الرِّجَالِ فِي الدِّمَاءِ؟ فَقَالَ: إِنَّا لَسْنَا حَكَّمْنَا الرِّجَالَ، إِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ، وَهَذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَيْنَ دَفَّتَيْنِ، لَا يَنْطِقُ إِنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الرِّجَالُ. قَالُوا: فَخَبِّرْنَا عَنِ الْأَجَلِ، لِمَ جَعَلْتَهُ بَيْنَكُمْ؟ قَالَ: لِيَعْلَمَ الْجَاهِلُ وَيَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يُصْلِحُ فِي هَذِهِ الْهُدْنَةِ هَذِهِ الْأُمَّةَ، ادْخُلُوا مِصْرَكُمْ - رَحِمَكُمُ اللَّهُ -. فَدَخَلُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ. قِيلَ: وَالْخَوَارِجُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: صَدَقْتَ، قَدْ كُنَّا كَمَا ذَكَرْتَ، وَكَانَ ذَلِكَ كُفْرًا مِنَّا، تُبْنَا إِلَى اللَّهِ، فَتُبْ كَمَا تُبْنَا نُبَايِعْكَ، وَإِلَّا فَنَحْنُ مُخَالِفُونَ. فَبَايَعَنَا عَلِيٌّ، وَقَالَ: ادْخُلُوا، فَلْنَمْكُثْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ حَتَّى نَجْبِيَ الْمَالَ، وَيَسْمُنَ الْكُرَاعُ، ثُمَّ نَخْرُجُ إِلَى عَدُوِّنَا. وَقَدْ (كَذَبَ الْخَوَارِجُ فِيمَا زَعَمُوا) . ذكر اجْتِمَاعِ الْحَكَمَيْنِ وَلَمَّا جَاءَ وَقْتُ اجْتِمَاعِ الْحَكَمَيْنِ، أَرْسَلَ عَلِيٌّ أَرْبَعَمِائَةِ رَجُلٍ، عَلَيْهِمْ شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ الْحَارِثِيُّ، وَأَوْصَاهُ أَنْ يَقُولَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: إِنَّ عَلِيًّا يَقُولُ لَكَ: إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ، وَإِنْ نَقَصَهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَإِنْ زَادَهُ. يَا عَمْرُو وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَيْنَ مَوْضِعُ الْحَقِّ فَلِمَ تَتَجَاهَلُ؟ إِنْ أُوتِيتَ طَمَعًا يَسِيرًا كُنْتَ لِلَّهِ بِهِ وَلِأَوْلِيَائِهِ عَدُوًّا، وَكَأَنَّ وَاللَّهِ مَا أُوتِيتَ قَدْ زَالَ عَنْكَ! وَيْحَكَ فَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَلِلظَّالِمِينَ ظَهِيرًا، أَمَا إِنِّي أَعْلَمُ بِيَوْمِكَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ نَادِمٌ، وَهُوَ يَوْمُ وَفَاتِكَ، تَتَمَنَّى أَنَّكَ لَمْ تُظْهِرْ لِمُسْلِمٍ عَدَاوَةً، وَلَمْ تَأْخُذْ عَلَى حُكْمٍ رِشْوَةً. فَلَمَّا بَلَغَهُ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ: مَتَى كُنْتُ أَقْبَلُ مَشُورَةَ عَلِيٍّ، أَوْ أَنْتَهِي إِلَى أَمْرِهِ، أَوْ

أَعْتَدُّ بِرَأْيِهِ؟ فَقَالَ لَهُ: وَمَا يَمْنَعُكَ يَا ابْنَ النَّابِغَةِ أَنْ تَقْبَلَ مِنْ مَوْلَاكَ وَسَيِّدِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ مَشُورَتَهُ؟ فَقَدْ كَانَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ يَسْتَشِيرَانِهِ، وَيَعْمَلَانِ بِرَأْيِهِ. فَقَالَ لَهُ: إِنَّ مِثْلِي لَا يُكَلِّمُ مِثْلَكَ. قَالَ شُرَيْحٌ: بِأَيِّ أَبَوَيْكَ تَرْغَبُ عَنِّي يَا ابْنَ النَّابِغَةِ؟ أَبِأَبِيكَ الْوَسَطِ أَمْ بِأُمِّكَ النَّابِغَةِ؟ فَقَامَ عَنْهُ. وَأَرْسَلَ عَلِيٌّ أَيْضًا مَعَهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ وَيَلِيَ أُمُورَهُمْ، وَمَعَهُمْ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ. وَأَرْسَلَ مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، حَتَّى تَوَافَوْا مِنْ دُومَةِ الْجَنْدَلِ بِأَذْرُحٍ. وَكَانَ عَمْرٌو إِذَا أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ مُعَاوِيَةَ لَا يَدْرِي بِمَا جَاءَ فِيهِ، وَلَا يَسْأَلُهُ أَهْلُ الشَّامِ عَنْ شَيْءٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يَسْأَلُونَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ كِتَابٍ يَصِلُهُ مِنْ عَلِيٍّ، فَإِنْ كَتَمَهُمْ ظَنُّوا بِهِ الظُّنُونَ وَقَالُوا: أَتُرَاهُ كَتَبَ بِكَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ لَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَا تَعْقِلُونَ؟ أَمَا تَرَوْنَ رَسُولَ مُعَاوِيَةَ يَجِيءُ، لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَلَا يُسْمَعُ لَهُمْ صِيَاحٌ، وَأَنْتُمْ عِنْدِي كُلَّ يَوْمٍ تَظُنُّونَ فِيَّ الظُّنُونَ؟ وَحَضَرَ مَعَهُمُ ابْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ، وَأَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيُّ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى مَاءٍ لَبَنِي سُلَيْمٍ بِالْبَادِيَةِ، فَأَتَاهُ ابْنُهُ عُمَرُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَبَا مُوسَى وَعَمْرًا قَدْ شَهِدَهُمَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَاحْضُرْ مَعَهُمْ فَإِنَّكَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحَدُ الشُّورَى، وَلَمْ تَدْخُلْ فِي شَيْءٍ كَرِهَتْهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَأَنْتَ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْخِلَافَةِ. فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقِيلَ: بَلْ حَضَرَهُمْ سَعْدٌ، وَنَدِمَ عَلَى حُضُورِهِ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ لِرِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ: أَتَرَوْنَ أَحَدًا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ بِرَأْيٍ يَعْلَمُ

بِهِ، أَيَجْتَمِعُ الْحَكَمَانِ أَمْ لَا؟ فَقَالُوا: لَا. فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُهُ مِنْهُمَا. فَدَخَلَ عَلَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ: كَيْفَ تَرَانَا مَعْشَرَ مَنِ اعْتَزَلَ الْحَرْبَ؟ فَإِنَّا قَدْ شَكَكْنَا فِي الْأَمْرِ الَّذِي اسْتَبَانَ لَكُمْ فِيهَا. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَرَاكُمْ خَلْفَ الْأَبْرَارِ، أَمَامَ الْفُجَّارِ. فَانْصَرَفَ الْمُغِيرَةُ إِلَى أَبِي مُوسَى، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ لِعَمْرٍو. فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: أَرَاكُمْ أَثْبَتَ النَّاسِ رَأْيًا، فِيكُمْ بَقِيَّةُ النَّاسِ. فَعَادَ الْمُغِيرَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ لَهُمْ: لَا يَجْتَمِعُ هَذَانِ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ. فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْحَكَمَانِ قَالَ عَمْرٌو: يَا أَبَا مُوسَى أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا؟ قَالَ: أَشْهَدُ. قَالَ: أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَآلَ مُعَاوِيَةَ أَوْلِيَاؤُهُ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكَ مِنْهُ وَبَيْتُهُ فِي قُرَيْشٍ كَمَا قَدْ عَلِمْتَ؟ فَإِنْ خِفْتَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: لَيْسَتْ لَهُ سَابِقَةٌ، فَقُلْ وَجَدْتُهُ وَلِيَّ عُثْمَانَ الْخَلِيفَةِ الْمَظْلُومِ وَالطَّالِبَ بِدَمِهِ، الْحَسَنَ السِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَهُوَ أَخُو أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَاتِبُهُ، وَقَدْ صَحِبَهُ، وَعَرَّضَ لَهُ بِسُلْطَانٍ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: يَا عَمْرُو اتَّقِ اللَّهَ! فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ شَرَفِ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى الشَّرَفِ تَوَلَّاهُ أَهْلُهُ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الشَّرَفِ لَكَانَ لِآلِ أَبَرْهَةَ بْنِ الصَّبَّاحِ، إِنَّمَا هُوَ لِأَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ، مَعَ أَنِّي لَوْ كُنْتُ مُعْطِيَهُ أَفْضَلَ قُرَيْشٍ شَرَفًا أَعْطَيْتُهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ وَلِيُّ دَمِ عُثْمَانَ فَوَلِّهِ هَذَا الْأَمْرَ، فَلَمْ أَكُنْ لِأُوَلِّيَهُ وَأَدَعَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، وَأَمَّا تَعْرِيضُكَ لِي بِالسُّلْطَانِ، فَوَاللَّهِ لَوْ خَرَجَ مُعَاوِيَةُ لِي مِنْ سُلْطَانِهِ كُلِّهِ لَمَا وَلَّيْتُهُ، وَمَا كُنْتُ لِأَرْتَشِيَ فِي حُكْمِ اللَّهِ! وَلَكِنَّكَ إِنْ شِئْتَ أَحْيَيْنَا اسْمَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَالَ لَهُ عَمْرٌو: فَمَا يَمْنَعُكَ مِنَ ابْنِي، وَأَنْتَ تَعْلَمُ فَضْلَهُ وَصَلَاحَهُ؟ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَكَ رَجُلُ صِدْقٍ، وَلَكِنَّكَ قَدْ غَمَسْتَهُ فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ. فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِرَجُلٍ يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ، وَكَانَتْ فِي ابْنِ عُمَرَ غَفْلَةٌ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: افْطِنْ، فَانْتَبَهَ! فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَرْشُو عَلَيْهَا شَيْئًا أَبَدًا. وَقَالَ: يَا ابْنَ الْعَاصِ، إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ أَسْنَدَتْ إِلَيْكَ أَمْرَهَا بَعْدَمَا تَقَارَعُوا بِالسُّيُوفِ فَلَا تَرُدَّنَّهُمْ فِي فِتْنَةٍ. وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ عَوَّدَ أَبَا مُوسَى أَنْ يُقَدِّمَهُ فِي الْكَلَامِ، يَقُولُ لَهُ: أَنْتَ صَاحِبُ

رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسَنُّ مِنِّي فَتَكَلَّمْ، وَتَعَوَّدَ ذَلِكَ أَبُو مُوسَى، وَأَرَادَ عَمْرٌو بِذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يُقَدِّمَهُ فِي خَلْعِ عَلِيٍّ، فَلَمَّا أَرَادَهُ عَمْرٌو عَلَى ابْنِهِ وَعَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَبَى، وَأَرَادَ أَبُو مُوسَى ابْنَ عُمَرَ فَأَبَى عَمْرٌو، قَالَ لَهُ عَمْرٌو: خَبِّرْنِي مَا رَأْيُكَ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ نَخْلَعَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَنَجْعَلَ الْأَمْرَ شُورَى، فَيَخْتَارَ الْمُسْلِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَنْ أَحَبُّوا. فَقَالَ عَمْرٌو: الرَّأْيُ مَا رَأَيْتَ. فَأَقْبَلَا إِلَى النَّاسِ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ، فَقَالَ عَمْرٌو: يَا أَبَا مُوسَى أَعْلِمْهُمْ أَنَّ رَأَيْنَا قَدِ اتَّفَقَ. فَتَكَلَّمَ أَبُو مُوسَى فَقَالَ: إِنَّ رَأَيْنَا قَدِ اتَّفَقَ عَلَى أَمْرٍ نَرْجُو أَنْ يُصْلِحَ اللَّهُ بِهِ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَقَالَ عَمْرٌو: صَدَقَ وَبَرَّ، تَقَدَّمْ يَا أَبَا مُوسَى فَتَكَلَّمْ. فَتَقَدَّمَ أَبُو مُوسَى، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيْحَكَ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّهُ قَدْ خَدَعَكَ، إِنْ كُنْتُمَا اتَّفَقْتُمَا عَلَى أَمْرٍ فَقَدِّمْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ بِهِ قَبْلَكَ، ثُمَّ تَكَلَّمْ بِهِ بَعْدَهُ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَادِرٌ وَلَا آمَنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَعْطَاكَ الرِّضَا بَيْنَكُمَا، فَإِذَا قُمْتَ فِي النَّاسِ خَالَفَكَ. وَكَانَ أَبُو مُوسَى مُغَفَّلًا فَقَالَ: إِنَّا قَدِ اتَّفَقْنَا، وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا قَدْ نَظَرْنَا فِي أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَلَمْ نَرَ أَصْلَحَ لِأَمْرِهَا وَلَا أَلَمَّ لِشَعَثِهَا مَنْ أَمْرٍ قَدْ أَجْمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عَمْرٍو عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنْ نَخْلَعَ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ، وَيُوَلِّي النَّاسُ أَمْرَهُمْ مَنْ أَحَبُّوا، وَإِنِّي قَدْ خَلَعْتُ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ، فَاسْتَقْبِلُوا أَمْرَكُمْ، وَوَلُّوا عَلَيْكُمْ مَنْ رَأَيْتُمُوهُ أَهْلًا. ثُمَّ تَنَحَّى. وَأَقْبَلَ عَمْرٌو فَقَامَ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا قَدْ قَالَ مَا سَمِعْتُمُوهُ وَخَلْعَ صَاحِبَهُ، وَأَنَا أَخْلَعُ صَاحِبَهُ كَمَا خَلَعَهُ، وَأُثْبِتُ صَاحِبِي مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّهُ وَلِيُّ ابْنِ عَفَّانَ، وَالطَّالِبُ بِدَمِهِ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِمَقَامِهِ. فَقَالَ سَعْدٌ: مَا أَضْعَفَكَ يَا أَبَا مُوسَى عَنْ عَمْرٍو وَمَكَايِدِهِ! فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَمَا أَصْنَعُ؟ وَافَقَنِي عَلَى أَمْرٍ ثُمَّ نَزَعَ عَنْهُ! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا ذَنْبَ لَكَ يَا أَبَا مُوسَى، الذَّنْبُ لِمَنْ قَدَّمَكَ فِي هَذَا الْمَقَامِ. قَالَ: غَدَرَ فَمَا أَصْنَعُ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: انْظُرُوا إِلَى مَا صَارَ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ! صَارَ إِلَى رَجُلٍ مَا يُبَالِي مَا صَنَعَ وَإِلَى آخَرَ ضَعِيفٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: لَوْ مَاتَ الْأَشْعَرِيُّ قَبْلَ هَذَا (الْيَوْمِ) لَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لِعَمْرٍو: لَا وَفَّقَكَ اللَّهُ، غَدَرْتَ وَفَجَرْتَ! إِنَّمَا مَثَلُكَ {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 176] قَالَ عَمْرٌو: إِنَّمَا مَثَلُكَ {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] . فَحَمَلَ شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ عَلَى عَمْرٍو فَضَرَبَهُ بِالسَّوْطِ وَحَمَلَ (ابْنٌ

لِعَمْرٍو) عَلَى شُرَيْحٍ فَضَرَبَهُ بِالسَّوْطِ أَيْضًا، وَحَجَزَ النَّاسُ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ شُرَيْحٌ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ نَدَامَتِي عَلَى ضَرْبِ عَمْرٍو بِالسَّوْطِ، وَلَمْ أَضْرِبْهُ بِالسَّيْفِ. وَالْتَمَسَ أَهْلُ الشَّامِ أَبَا مُوسَى، فَهَرَبَ إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَمْرٌو وَأَهْلُ الشَّامِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، وَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٌ إِلَى عَلِيٍّ، وَكَانَ عَلِيٌّ إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ يَقْنُتُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرًا وَأَبَا الْأَعْوَرِ وَحَبِيبًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَالِدٍ وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ وَالْوَلِيدَ! فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَكَانَ إِذَا قَنَتَ سَبَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَالْأَشْتَرَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ حَضَرَ الْحَكَمَيْنِ، وَإِنَّهُ قَامَ عَشِيَّةً فِي النَّاسِ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ مَنْ كَانَ مُتَكَلِّمًا فِي هَذَا الْأَمْرِ فَلْيَطْلِعْ لَنَا قَرْنَهُ. قَالَ (ابْنُ عُمَرَ: فَاطَّلَعْتُ حُبْوَتِي) ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: يَتَكَلَّمُ فِيهِ رِجَالٌ قَاتَلُوكَ وَأَبَاكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَخَشِيتُ أَنْ أَقُولَ كَلِمَةً تُفَرِّقُ الْجَمَاعَةَ وَيُسْفَكَ فِيهَا دَمٌ، وَكَانَ مَا وَعَدَ اللَّهُ فِيهِ الْجِنَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا انْصَرَفْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ جَاءَنِي حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ حِينَ سَمِعْتَ هَذَا الرَّجُلَ يَتَكَلَّمُ؟ قُلْتُ: أَرَدْتُ ذَلِكَ ثُمَّ خَشِيتُ. فَقَالَ حَبِيبٌ: وُفِّقْتَ وَعُصِمْتَ، وَهَذَا أَصَحُّ (لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ) . ذكر خَبَرِ الْخَوَارِجِ عِنْدَ تَوْجِيهِ الْحَكَمَيْنِ وَخَبَرِ يَوْمِ النَّهْرِ لَمَّا أَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ يَبْعَثَ أَبَا مُوسَى لِلْحُكُومَةِ أَتَاهُ رَجُلَانِ مِنَ الْخَوَارِجِ: زُرْعَةُ بْنُ الْبُرْجِ الطَّائِيُّ، وَحُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ السَّعْدِيُّ، فَقَالَا لَهُ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ! (فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا

حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ) . وَقَالَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ: تُبْ مِنْ خَطِيئَتِكَ، وَارْجِعْ عَنْ قَضِيَّتِكَ، وَاخْرُجْ بِنَا إِلَى عَدُوِّنَا نُقَاتِلْهُمْ حَتَّى نَلْقَى رَبَّنَا. فَقَالَ عَلِيٌّ: قَدْ أَرَدْتُكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَعَصَيْتُمُونِي، وَقَدْ كَتَبْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ كِتَابًا، وَشَرَطْنَا شُرُوطًا، وَأَعْطَيْنَا عَلَيْهَا عُهُودًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] . فَقَالَ حُرْقُوصٌ: ذَلِكَ ذَنْبٌ يَنْبَغِي أَنْ تَتُوبَ عَنْهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا هُوَ ذَنْبٌ وَلَكِنَّهُ عَجْزٌ عَنِ الرَّأْيِ، وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ. فَقَالَ زُرْعَةُ: يَا عَلِيُّ (لَئِنْ لَمْ تَدَعْ تَحْكِيمَ) الرِّجَالِ لَأُقَاتِلَنَّكَ، اطْلُبْ وَجْهَ اللَّهِ - تَعَالَى -. فَقَالَ عَلِيٌّ: بُؤْسًا لَكَ مَا أَشْقَاكَ! كَأَنِّي بِكَ قَتِيلًا تُسْفِي عَلَيْكَ الرِّيَاحُ! قَالَ: وَدِدْتُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ. فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ يُحَكِّمَانِ. وَخَطَبَ عَلِيٌّ ذَاتَ يَوْمٍ، فَحَكَمَتِ الْمَحْكَمَةُ فِي جَوَانِبِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: اللَّهُ أَكْبَرُ، كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ! إِنْ سَكَتُوا غَمَمْنَاهُمْ، وَإِنْ تَكَلَّمُوا حَجَجْنَاهُمْ، وَإِنْ خَرَجُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ. فَوَثَبَ يَزِيدُ بْنُ عَاصِمٍ الْمُحَارِبِيُّ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ غَيْرُ مُودَّعٍ رَبُّنَا وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ! اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ إِعْطَاءِ الدَّنِيَّةِ فِي دِينِنَا، فَإِنَّ إِعْطَاءَ الدَّنِيَّةِ فِي الدِّينِ، إِدْهَانٌ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَذُلٌّ رَاجِعٌ بِأَهْلِهِ إِلَى سَخَطِ اللَّهِ، يَا عَلِيُّ أَبِالْقَتْلِ تُخَوِّفُنَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ نَضْرِبَكُمْ بِهَا عَمَّا قَلِيلٍ غَيْرَ مُصْفَحَاتٍ، ثُمَّ لَتَعْلَمُ أَيَّنَا أَوْلَى بِهَا صِلِيَّا. ثُمَّ خَرَجَ هُوَ وَإِخْوَةٌ لَهُ ثَلَاثَةٌ، فَأُصِيبُوا مَعَ الْخَوَارِجِ بِالنَّهْرِ، وَأُصِيبَ أَحَدُهُمْ (بَعْدَ ذَلِكَ) بِالنُّخَيْلَةِ. ثُمَّ خَطَبَ عَلِيٌّ يَوْمًا آخَرَ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ! ثُمَّ تَوَالَى عِدَّةُ رِجَالٍ يُحَكِّمُونَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: اللَّهُ أَكْبَرُ، كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ! أَمَا إِنَّ لَكَمَ عِنْدَنَا ثَلَاثًا مَا صَحِبْتُمُونَا: لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَهُ، وَلَا نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَلَا نُقَاتِلُكُمْ حَتَّى تَبْدَأُونَا، إِنَّمَا فِيكُمْ أَمْرُ اللَّهِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْخَوَارِجَ لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَاجْتَمَعُوا فِي مَنْزِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ الرَّاسِبِيِّ، فَخَطَبَهُمْ، فَزَهَّدَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَرَهُمْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، ثُمَّ قَالَ:

اخْرُجُوا بِنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا إِلَى بَعْضِ كُوَرِ الْجِبَالِ، أَوْ إِلَى بَعْضِ هَذِهِ الْمَدَائِنِ مُنْكِرِينَ لِهَذِهِ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ. فَقَالَ لَهُ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ: إِنَّ الْمَتَاعَ بِهَذِهِ الدُّنْيَا قَلِيلٌ، وَإِنَّ الْفِرَاقَ لَهَا وَشِيكٌ، فَلَا تَدْعُوَنَّكُمْ زِينَتُهَا وَبَهْجَتُهَا إِلَى الْمُقَامِ بِهَا، وَلَا تَلْفِتَنَّكُمْ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ وَإِنْكَارِ الظُّلْمِ، فَ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] . فَقَالَ حَمْزَةُ بْنُ سِنَانٍ الْأَسَدِيُّ: يَا قَوْمُ إِنَّ الرَّأْيَ مَا رَأَيْتُمْ، فَوَلُّوا أَمْرَكُمْ رَجُلًا مِنْكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا بُدَّ لَكُمْ مِنْ عِمَادٍ وَسِنَادٍ وَرَايَةٍ تَحِفُّونَ بِهَا وَتَرْجِعُونَ إِلَيْهَا. فَعَرَضُوهَا عَلَى زَيْدِ بْنِ حُصَيْنٍ الطَّائِيِّ فَأَبَى، وَعَرَضُوهَا عَلَى حُرْقُوصِ بْنِ زُهَيْرٍ فَأَبَى، وَعَلَى حَمْزَةَ بْنِ سِنَانٍ، وَشُرَيْحِ بْنِ أَوْفَى الْعَبْسِيِّ فَأَبَيَا، وَعَرَضُوهَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، فَقَالَ: هَاتُوهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَا آخُذُهَا رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا، وَلَا أَدَعُهَا فَرَقًا مِنَ الْمَوْتِ. فَبَايَعُوهُ لِعَشَرٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ. (وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو الثَّفِنَاتِ) . ثُمَّ اجْتَمَعُوا فِي مَنْزِلِ شُرَيْحِ بْنِ أَوْفَى الْعَبْسِيِّ، فَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: اشْخُصُوا بِنَا إِلَى بَلْدَةٍ نَجْتَمِعُ فِيهَا لِإِنْقَاذِ حُكْمِ اللَّهِ، فَإِنَّكُمْ أَهْلُ الْحَقِّ. قَالَ شُرَيْحٌ: نَخْرُجُ إِلَى الْمَدَائِنِ فَنَنْزِلُهَا، وَنَأْخُذُهَا بِأَبْوَابِهَا، وَنُخْرِجُ مِنْهَا سُكَّانَهَا، وَنَبْعَثُ إِلَى إِخْوَانِنَا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَيَقْدَمُونَ عَلَيْنَا. فَقَالَ زَيْدُ بْنُ حُصَيْنٍ: إِنَّكُمْ إِنْ خَرَجْتُمْ مُجْتَمَعَيْنِ اتُّبِعْتُمْ، وَلَكِنِ اخْرُجُوا وُحْدَانًا مُسْتَخْفِينَ، فَأَمَّا الْمَدَائِنُ فَإِنَّ بِهَا مَنْ يَمْنَعُكُمْ، وَلَكِنْ سِيرُوا حَتَّى نَنْزِلَ جِسْرَ النَّهْرَوَانِ، وَتُكَاتِبُوا إِخْوَانَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. قَالُوا: هَذَا الرَّأْيُ. وَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ إِلَى مَنْ بِالْبَصْرَةِ مِنْهُمْ، يُعْلِمُونَهُمْ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَيُحِثُّونَهُمْ عَلَى اللِّحَاقِ بِهِمْ، وَسَيَّرَ الْكِتَابَ إِلَيْهِمْ، فَأَجَابُوهُ أَنَّهُمْ عَلَى اللِّحَاقِ بِهِ. فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى الْمَسِيرِ تَعَبَّدُوا لَيْلَتَهُمْ، وَكَانَتْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَسَارُوا

يَوْمَ السَّبْتِ، فَخَرَجَ شُرَيْحُ بْنُ أَوْفَى الْعَبْسِيُّ وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] إِلَى {سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22] . وَخَرَجَ مَعَهُمْ طَرَفَةُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيُّ، فَاتَّبَعَهُ أَبُوهُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَانْتَهَى إِلَى الْمَدَائِنِ ثُمَّ رَجَعَ، فَلَمَّا بَلَغَ سَابَاطَ لَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ فِي نَحْوِ عِشْرِينَ فَارِسًا، فَأَرَادَ عَبْدُ اللَّهِ قَتْلَهُ، فَمَنَعَهُ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ النَّبْهَانِيُّ، وَبِشْرُ بْنُ زَيْدٍ الْبَوْلَانِيُّ، وَأَرْسَلَ عَدِيٌّ إِلَى سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ عَامِلِ عَلِيٍّ عَلَى الْمَدَائِنِ يُحَذِّرُهُ أَمْرَهُمْ، وَأَخَذَ أَبْوَابَ الْمَدَائِنِ، وَخَرَجَ فِي الْخَيْلِ، وَاسْتَخْلَفَ بِهَا ابْنَ أَخِيهِ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ، وَسَارَ فِي طَلَبِهِمْ. فَأُخْبِرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ خَبَرَهُ، فَرَابَأَ طَرِيقَهُ وَسَارَ عَلَى بَغْدَادَ، وَلَحِقَهُمْ سَعْدُ بْنُ مَسْعُودٍ بِالْكَرْخِ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ عِنْدَ الْمَسَاءِ، فَانْصَرَفَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ فِي ثَلَاثِينَ فَارِسًا، فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً، وَامْتَنَعَ الْقَوْمُ مِنْهُمْ. وَقَالَ أَصْحَابُ سَعْدٍ لِسَعْدٍ: مَا تُرِيدُ مِنْ قِتَالِ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَأْتِكَ فِيهِمْ أَمْرٌ؟ خَلِّهِمْ فَلْيَذْهَبُوا، وَاكْتُبْ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ أَمَرَكَ بِاتِّبَاعِهِمُ اتَّبِعْهُمْ، وَإِنْ كَفَاكَهُمْ غَيْرُكَ كَانَ فِي ذَلِكَ عَافِيَةٌ لَكَ. فَأَبَى عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، فَعَبَرَ دِجْلَةَ إِلَى أَرْضِ جُوخَى، وَسَارَ إِلَى النَّهْرَوَانِ، فَوَصَلَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَدْ أَيِسُوا مِنْهُ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ هَلَكَ وَلَّيْنَا الْأَمْرَ زَيْدَ بْنَ حُصَيْنٍ، أَوْ حُرْقُوصَ بْنَ زُهَيْرٍ. وَسَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يُرِيدُونَ الْخَوَارِجَ لِيَكُونُوا مَعَهُمْ، فَرَدَّهُمْ أَهْلُوهُمْ كُرْهًا، مِنْهُمُ: الْقَعْقَاعُ بْنُ قَيْسٍ الطَّائِيُّ - عَمُّ الطِّرْمَاحِ بْنِ حَكِيمٍ -، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَكَّائِيُّ، وَبَلَغَ عَلِيًّا أَنَّ سَالِمَ بْنَ رَبِيعَةَ الْعَبْسِيَّ يُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ وَنَهَاهُ فَانْتَهَى. وَلَمَّا خَرَجَتِ الْخَوَارِجُ مِنَ الْكُوفَةِ أَتَى عَلِيًّا أَصْحَابُهُ وَشِيعَتُهُ فَبَايَعُوهُ وَقَالُوا: نَحْنُ أَوْلِيَاءُ مَنْ وَالَيْتَ وَأَعْدَاءُ مَنْ عَادَيْتَ. فَشَرَطَ لَهُمْ فِيهِ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي شَدَّادٍ الْخَثْعَمِيُّ، وَكَانَ شَهِدَ مَعَهُ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ، وَمَعَهُ رَايَةُ خَثْعَمٍ، فَقَالَ لَهُ: بَايِعْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَبِيعَةُ: عَلَى سُنَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَيْلَكَ! لَوْ أَنَّ أَبَا بَكْرِ وَعُمَرَ عَمِلَا بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُونَا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ. فَبَايَعَهُ. فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ وَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَكَأَنِّي بِكَ وَقَدْ نَفَرْتَ مَعَ هَذِهِ الْخَوَارِجِ فَقُتِلْتَ، وَكَأَنِّي بِكَ وَقَدْ وَطِئَتْكَ الْخَيْلُ بِحَوَافِرِهَا. فَقُتِلَ يَوْمَ النَّهْرِ مَعَ خَوَارِجِ الْبَصْرَةِ. وَأَمَّا خَوَارِجُ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي خَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ، وَجَعَلُوا عَلَيْهِمْ مِسْعَرَ بْنَ

فَدَكِيٍّ التَّمِيمِيَّ، فَعَلِمَ بِهِمُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَتْبَعَهُمْ أَبَا الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيَّ، فَلَحِقَهُمْ بِالْجِسْرِ الْأَكْبَرِ، فَتَوَافَقُوا حَتَّى حَجَزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، وَأَدْلَجَ مِسْعَرٌ بِأَصْحَابِهِ، وَأَقْبَلَ يَعْتَرِضُ النَّاسَ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ الْأَشْرَسُ بْنُ عَوْفٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَسَارَ حَتَّى لَحِقَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ بِالنَّهْرِ. فَلَمَّا خَرَجَتِ الْخَوَارِجُ وَهَرَبَ أَبُو مُوسَى عَلَى مَكَّةَ وَرَدَّ عَلِيٌّ ابْنَ عَبَّاسٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، قَامَ فِي الْكُوفَةِ فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ وَالْحِدْثَانِ الْجَلِيلِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ تُورِثُ الْحَسْرَةَ وَتُعْقِبُ النَّدَمَ، وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَفِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي، وَنَحَلْتُكُمْ رَأْيِي (لَوْ كَانَ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ) ، وَلَكِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا مَا أَرَدْتُمْ، فَكُنْتُ أَنَا وَأَنْتُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ: أَمَرْتُهُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى ... فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إِلَّا ضُحَى الْغَدِ إِلَّا أَنَّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَرْتُمُوهَمَا حَكَمَيْنِ قَدْ نَبَذَا حُكْمَ الْقُرْآنِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمَا، وَأَحْيَيَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ، وَاتَّبَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ، فَحَكَمَا بِغَيْرِ حُجَّةٍ بَيِّنَةٍ، وَلَا سُنَّةٍ مَاضِيَةٍ، وَاخْتَلَفَا فِي حُكْمِهِمَا، وَكِلَاهُمَا لَمْ يَرْشُدْ، فَبِرَئَ اللَّهُ مِنْهُمَا وَرَسُولُهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَعِدُّوا وَتَأَهَّبُوا لِلْمَسِيرِ إِلَى الشَّامِ، وَأَصْبِحُوا فِي مُعَسْكَرِهِمْ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. ثُمَّ نَزَلَ، وَكَتَبَ إِلَى الْخَوَارِجِ بِالنَّهْرِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى زَيْدِ بْنِ حُصَيْنٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، وَمَنْ مَعَهُمَا مِنَ النَّاسِ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ ارْتَضَيْنَا حَكَمَيْنِ قَدْ خَالَفَا كِتَابَ اللَّهِ، وَاتَّبَعَا هَوَاهُمَا بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ، فَلَمْ يَعْمَلَا بِالسُّنَّةِ، وَلَمْ يُنْفِذَا الْقُرْآنَ حَكَمًا، فَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُمَا وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَإِذَا بَلَغَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَأَقْبِلُوا إِلَيْنَا، فَإِنَّا سَائِرُونَ إِلَى عَدُوِّنَا وَعَدُوِّكُمْ، وَنَحْنُ

عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي كُنَّا عَلَيْهِ. فَكَتَبُوا إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ لَمْ تَغْضَبْ لِرَبِّكَ، وَإِنَّمَا غَضِبْتَ لِنَفْسِكَ، فَإِنْ شَهِدْتَ عَلَى نَفْسِكَ بِالْكُفْرِ، وَاسْتَقْبَلْتَ التَّوْبَةَ، نَظَرْنَا فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، وَإِلَّا فَقَدْ نَبَذْنَاكَ عَلَى سَوَاءٍ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ. فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُمْ أَيِسَ مِنْهُمْ، وَرَأَى أَنْ يَدَعَهُمْ وَيَمْضِيَ بِالنَّاسِ حَتَّى يَلْقَى أَهْلَ الشَّامِ فُيَنَاجِزَهُمْ، فَقَامَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ تَرَكَ الْجِهَادَ فِي اللَّهِ وَأَدْهَنَ فِي أَمْرِهِ، كَانَ عَلَى شَفَا هَلَكَةٍ، إِلَّا أَنْ يَتَدَارَكَهُ اللَّهُ بِنِعْمَتِهِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَقَاتِلُوا مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَحَاوَلَ أَنْ يُطْفِئَ نُورَ اللَّهِ، فَقَاتِلُوا الْخَاطِئِينَ الضَّالِّينَ الْقَاسِطِينَ الَّذِينَ لَيْسُوا بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَلَا فُقَهَاءَ فِي الدِّينِ، وَلَا عُلَمَاءَ فِي التَّأْوِيلِ، وَلَا لِهَذَا الْأَمْرِ بِأَهْلٍ فِي سَابِقَةِ الْإِسْلَامِ، وَاللَّهِ لَوْ وُلُّوا عَلَيْكُمْ لَعَمِلُوا فِيكُمْ بِأَعْمَالِ كِسْرَى وَهِرَقْلَ، تَيَسَّرُوا لِلْمَسِيرِ إِلَى عَدُوِّكُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَقَدْ بَعَثْنَا إِلَى إِخْوَانِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ لِيَقْدَمُوا عَلَيْكُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعْتُمْ شَخَصْنَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا خَرَجْنَا إِلَى مُعَسْكَرِنَا بِالنُّخَيْلَةِ، وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى عَدُوِّنَا مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، فَاشْخَصْإِلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَكَ رَسُولِي، وَأَقِمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ. فَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْكِتَابَ عَلَى النَّاسِ، وَنَدَبَهُمْ مَعَ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، فَشَخَصَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، فَخَطَبَهُمْ وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ أَتَانِي كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَرْتُكُمْ بِالنَّفِيرِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَشْخَصْمِنْكُمْ إِلَيْهِ إِلَّا أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَأَنْتُمْ سِتُّونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ سِوَى أَبْنَائِكُمْ وَعَبِيدِكُمْ! أَلَا انْفِرُوا إِلَيْهِ مَعَ جَارِيَةَ بْنِ قُدَامَةَ السَّعْدِيِّ، وَلَا يَجْعَلَنَّ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ سَبِيلًا، فَإِنِّي مُوقِعٌ بِكُلِّ مَنْ وَجَدْتُهُ مُتَخَلِّفًا عَنْ دَعْوَتِهِ، عَاصِيًا لِإِمَامِهِ، فَلَا يَلُومَنَّ رَجُلٌ إِلَّا نَفْسَهُ.

فَخَرَجَ جَارِيَةُ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَلْفٌ وَسَبْعُمِائَةٍ، فَوَافَوْا عَلِيًّا وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَمِائَتَانِ، فَجَمَعَ إِلَيْهِ رُءُوسَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَرُءُوسَ الْأَسْبَاعِ وَوُجُوهَ النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ أَنْتُمْ إِخْوَانِي وَأَنْصَارِي وَأَعْوَانِي عَلَى الْحَقِّ، وَأَصْحَابِي إِلَى جِهَادِ الْمُحِلِّينَ، بِكُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ، وَأَرْجُو تَمَامَ طَاعَةِ الْمُقْبِلِ، وَقَدِ اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ الْبَصْرَةِ فَأَتَانِي مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَمِائَتَانِ، فَلْيَكْتُبْ لِي رَئِيسُ كُلِّ قَبِيلَةٍ مَا فِي عَشِيرَتِهِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَأَبْنَاءِ الْمُقَاتِلَةِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا الْقِتَالَ وَعُبْدَانَ عَشِيرَتِهِ وَمَوَالِيهِمْ، وَيَرْفَعْ ذَلِكَ إِلَيْنَا. فَقَامَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيُّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَمْعًا وَطَاعَةً، أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ أَجَابَ مَا طَلَبْتَ. وَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَزِيَادُ بْنُ خَصَفَةَ، وَحُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، وَأَشْرَافُ النَّاسِ وَالْقَبَائِلِ، فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ، وَكَتَبُوا إِلَيْهِ مَا طَلَبَ، وَأَمَرُوا أَبْنَاءَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُمْ، وَلَا يَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ مُتَخَلِّفٌ، فَرَفَعُوا إِلَيْهِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَسَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الْأَبْنَاءِ مِمَّنْ أَدْرَكَ، وَثَمَانِيَةَ آلَافٍ مِنْ مَوَالِيهِمْ وَعَبِيدِهِمْ، وَكَانَ جَمِيعُ أَهْلِ الْكُوفَةِ خَمْسَةً وَسِتِّينَ أَلْفًا سِوَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ وَمِائَتَا رَجُلٍ. وَكَتَبَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ بِالْمَدَائِنِ يَأْمُرُهُ بِإِرْسَالِ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ. وَبَلَغَ عَلِيًّا أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: لَوْ سَارَ بِنَا إِلَى قِتَالِ هَذِهِ الْحَرُورِيَّةِ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنْهُمْ تَوَجَّهْنَا إِلَى قِتَالِ الْمُحِلِّينَ! فَقَالَ لَهُمْ: بَلَغَنِي أَنَّكُمْ قُلْتُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ! وَإِنَّ غَيْرَ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ أَهَمُّ إِلَيْنَا! فَدَعُوا ذِكْرَهُمْ، وَسِيرُوا إِلَى قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكُمْ، كَيْمَا يَكُونُوا جَبَّارِينَ مُلُوكًا، وَيَتَّخِذُوا عِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا. فَنَادَاهُ النَّاسُ: أَنْ سِرْ بِنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ أَحْبَبْتَ. وَقَامَ إِلَيْهِ صَيْفِيُّ بْنُ فُسَيْلٍ الشَّيْبَانِيُّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَحْنُ حِزْبُكَ وَأَنْصَارُكَ، نُعَادِي مَنْ عَادَاكَ، وَنُشَايِعُ مَنْ أَنَابَ إِلَى طَاعَتِكَ مَنْ كَانُوا وَأَيْنَمَا كَانُوا، فَإِنَّكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - لَنْ تُؤْتَى مِنْ قِلَّةِ عَدَدٍ وَضَعْفِ نِيَّةِ أَتْبَاعٍ. ذكر قِتَالِ الْخَوَارِجِ قِيلَ: لَمَّا أَقْبَلَتِ الْخَارِجَةُ مِنَ الْبَصْرَةِ حَتَّى دَنَتْ مِنَ النَّهْرَوَانِ رَأَى عِصَابَةٌ مِنْهُمْ رَجُلًا

يَسُوقُ بِامْرَأَةٍ عَلَى حِمَارٍ، فَدَعَوْهُ فَانْتَهَرُوهُ، فَأَفْزَعُوهُ وَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا لَهُ: أَفْزَعْنَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: لَا رَوْعَ عَلَيْكَ، حَدِّثْنَا عَنْ أَبِيكَ حَدِيثًا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنْفَعُنَا بِهِ. فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «تَكُونُ فِتْنَةٌ يَمُوتُ فِيهَا قَلْبُ الرَّجُلِ كَمَا يَمُوتُ فِيهَا بَدَنُهُ، يُمْسِي فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا» ". قَالُوا: لِهَذَا الْحَدِيثِ سَأَلْنَاكَ، فَمَا تَقُولُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ فَأَثْنَى عَلَيْهِمَا خَيْرًا. قَالُوا: مَا تَقُولُ فِي عُثْمَانَ فِي أَوَّلِ خِلَافَتِهِ وَفِي آخِرِهَا؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ مُحِقًّا فِي أَوَّلِهَا وَفِي آخِرِهَا. قَالُوا: فَمَا تَقُولُ فِي عَلِيٍّ قَبْلَ التَّحْكِيمِ وَبَعْدَهُ؟ قَالَ: إِنَّهُ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنْكُمْ، وَأَشَدُّ تَوَقِّيًا عَلَى دِينِهِ، وَأَنْفَذُ بَصِيرَةً. فَقَالُوا: إِنَّكَ تَتَّبِعُ الْهَوَى، وَتُوَالِي الرِّجَالَ عَلَى أَسْمَائِهَا لَا عَلَى أَفْعَالِهَا، وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّكَ قَتْلَةً مَا قَتَلْنَاهَا أَحَدًا. فَأَخَذُوهُ وَكَتَّفُوهُ، ثُمَّ أَقْبَلُوا بِهِ وَبِامْرَأَتِهِ، وَهِيَ حُبْلَى (مُتِمٌّ) ، حَتَّى نَزَلُوا تَحْتَ نَخْلٍ مَوَاقِيرَ، فَسَقَطَتْ مِنْهُ رُطَبَةٌ، فَأَخَذَهَا أَحَدُهُمْ فَتَرَكَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ آخَرُ: أَخَذْتَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا وَبِغَيْرِ ثَمَنٍ، فَأَلْقَاهَا. ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ خِنْزِيرٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، فَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ بِسَيْفِهِ، فَقَالُوا: هَذَا فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ. فَلَقِيَ صَاحِبَ الْخِنْزِيرِ فَأَرْضَاهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمُ ابْنُ خَبَّابٍ قَالَ: لَئِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا أَرَى، فَمَا عَلَيَّ مِنْكُمْ مِنْ بَأْسٍ، إِنِّي مُسْلِمٌ مَا أَحْدَثْتُ فِي الْإِسْلَامِ حَدَثًا، وَلَقَدْ آمَنْتُمُونِي قُلْتُمْ: لَا رَوْعَ عَلَيْكَ. فَأَضْجَعُوهُ فَذَبَحُوهُ، فَسَالَ دَمُهُ فِي الْمَاءِ، وَأَقْبَلُوا إِلَى الْمَرْأَةِ فَقَالَتْ: أَنَا امْرَأَةٌ، أَلَا تَتَّقُونَ اللَّهَ! فَبَقَرُوا بَطْنَهَا، وَقَتَلُوا

ثَلَاثَ نِسْوَةٍ مِنْ طَيِّءٍ، وَقَتَلُوا أُمَّ سِنَانٍ الصَّيْدَاوِيَّةَ. فَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا قَتْلُهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبَّابٍ، وَاعْتِرَاضُهُمُ النَّاسَ، بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْحَارِثَ بْنَ مُرَّةَ الْعَبْدِيَّ لِيَأْتِيَهُمْ، وَيَنْظُرَ مَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ، وَيَكْتُبَ بِهِ إِلَيْهِ وَلَا يَكْتُمَهُ. فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ يُسَائِلُهُمْ قَتَلُوهُ، وَأَتَى عَلِيًّا الْخَبَرُ وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَامَ نَدَعُ هَؤُلَاءِ وَرَاءَنَا يُخَلِّفُونَنَا فِي عِيَالِنَا وَأَمْوَالِنَا؟ سِرْ بِنَا إِلَى الْقَوْمِ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنْهُمْ سِرْنَا إِلَى عَدُوِّنَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ. وَقَامَ إِلَيْهِ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَلَّمَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَكَانَ النَّاسُ يَرَوْنَ أَنَّ الْأَشْعَثَ يَرَى رَأْيَهُمْ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ يَوْمَ صِفِّينَ: أَنْصَفَنَا قَوْمٌ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ. فَلَمَّا قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى رَأْيَهُمْ. فَأَجْمَعَ عَلِيٌّ عَلَى ذَلِكَ، وَخَرَجَ فَعَبَرَ الْجِسْرَ وَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُ مُنَجِّمٌ فِي مَسِيرِهِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ وَقْتًا مِنَ النَّهَارِ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ أَنْتَ سِرْتَ فِي غَيْرِهِ لَقِيتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ ضُرًّا شَدِيدًا. فَخَالَفَهُ عَلِيٌّ، وَسَارَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي نَهَاهُ عَنْهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَهْلِ النَّهْرِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ سِرْنَا فِي السَّاعَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الْمُنَجِّمَ لَقَالَ الْجُهَّالُ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا: سَارَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الْمُنَجِّمُ فَظَفِرَ. وَكَانَ الْمُنَجِّمَ مُسَافِرُ بْنُ عَفِيفٍ الْأَزْدِيُّ. فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ إِلَى أَهْلِ النَّهْرِ: أَنِ ادْفَعُوا إِلَيْنَا قَتَلَةَ إِخْوَانِنَا مِنْكُمْ أَقْتُلُهُمْ بِهِمْ، ثُمَّ أَنَا تَارِكُكُمْ وَكَافٌّ عَنْكُمْ حَتَّى أَلْقَى أَهْلَ الْمَغْرِبِ، فَلَعَلَّ اللَّهَ يُقْبِلُ بِقُلُوبِكُمْ وَيَرُدُّكُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِكُمْ. فَقَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَهُمْ، وَكُلُّنَا مُسْتَحِلٌّ لِدِمَائِكُمْ وَدِمَائِهِمْ. وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُمْ: عِبَادَ اللَّهِ، أَخْرِجُوا إِلَيْنَا طِلْبَتَنَا مِنْكُمْ، وَادْخُلُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي خَرَجْتُمْ مِنْهُ، وَعُودُوا بِنَا إِلَى قِتَالِ عَدُوِّنَا وَعَدُوِّكُمْ، فَإِنَّكُمْ رَكِبْتُمْ عَظِيمًا مِنَ الْأَمْرِ، تَشْهَدُونَ عَلَيْنَا بِالشِّرْكِ، وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ! فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَجَرَةَ السُّلَمِيُّ: إِنَّ الْحَقَّ قَدْ أَضَاءَ لَنَا، فَلَسْنَا مُتَابِعِيكُمْ أَوْ تَأْتُونَا بِمِثْلِ عُمَرَ، فَقَالَ: مَا نَعْلَمُهُ [فِينَا] غَيْرَ صَاحِبِنَا، فَهَلْ تَعْلَمُونَهُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: نَشَدْتُكُمُ اللَّهَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَنْ

تُهْلِكُوهَا، فَإِنِّي لَا أَرَى الْفِتْنَةَ إِلَّا وَقَدْ غَلَبَتْ عَلَيْكُمْ. وَخَطَبَهُمْ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّا وَإِيَّاكُمْ عَلَى الْحَالِ الْأُولَى الَّتِي كُنَّا عَلَيْهَا، أَلَيْسَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فُرْقَةٌ، فَعَلَامَ تُقَاتِلُونَنَا؟ فَقَالُوا: إِنَّا لَوْ تَابَعْنَاكُمُ الْيَوْمَ حَكَمْتُمْ غَدًا. قَالَ: فَإِنِّي أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَنْ تُعَجِّلُوا فِتْنَةَ الْعَامِ مَخَافَةَ مَا يَأْتِي فِي الْقَابِلِ. وَأَتَاهُمْ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ الَّتِي أَخْرَجَهَا عَدَاوَةُ الْمِرَاءِ وَاللَّجَاجَةِ! وَصَدَّهَا عَنِ الْحَقِّ الْهَوَى، وَطَمِعَ بِهَا النَّزَقُ، وَأَصْبَحَتْ فِي الْخَطْبِ الْعَظِيمِ! إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا تَلْعَنُكُمُ الْأَمَّةُ غَدًا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هَذَا الْوَادِي وَبِأَهْضَامِ هَذَا الْغَائِطِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا بُرْهَانٍ مُبِينٍ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنِّي نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْحُكُومَةِ، وَنَبَّأْتُكُمْ أَنَّهَا مَكِيدَةٌ، وَأَنَّ الْقَوْمَ لَيْسُوا بِأَصْحَابِ دِينٍ، فَعَصَيْتُمُونِي، فَلَمَّا فَعَلْتُ شَرَطْتُ وَاسْتَوْثَقْتُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ أَنْ يُحْيِيَا مَا أَحْيَا الْقُرْآنُ، وَيُمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ، فَاخْتَلَفَا وَخَالَفَا حُكْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَنَبَذْنَا أَمْرَهُمَا، وَنَحْنُ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ؟ فَمِنْ أَيْنَ أُتِيتُمْ؟ فَقَالُوا: إِنَّا حَكَّمْنَا، فَلَمَّا حَكَّمْنَا، أَثِمْنَا، وَكُنَّا بِذَلِكَ كَافِرِينَ وَقَدْ تُبْنَا، فَإِنْ تُبْتَ فَنَحْنُ مَعَكَ وَمِنْكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّا مُنَابِذُوكَ عَلَى سَوَاءٍ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَصَابَكُمْ حَاصِبٌ وَلَا بَقِيَ مِنْكُمْ وَابِرٌ، أَبْعَدَ إِيمَانِي بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِجْرَتِي مَعَهُ وَجِهَادِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ! لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ. ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ كَلَامِهِ لَهُمْ: يَا هَؤُلَاءِ، إِنَّ أَنْفُسَكُمْ قَدْ سَوَّلَتْ لَكُمْ فِرَاقِي لِهَذِهِ الْحُكُومَةِ الَّتِي أَنْتُمْ بَدَأْتُمُوهَا وَسَأَلْتُمُوهَا، وَأَنَا لَهَا كَارِهٌ، وَأَنْبَأْتُكُمْ أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا طَلَبُوهَا مَكِيدَةً وَدَهْنًا فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ، وَعَنَدْتُمْ عُنُودَ النُّكَدَاءِ الْعَاصِينَ، حَتَّى صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَى رَأْيِكُمْ، (رَأْيُ مُعَاشِرَ وَاللَّهِ، أَخِفَّاءَ الْهَامِ، سُفَهَاءَ الْأَحْلَامِ، فَلَمْ آتِ) ، لَا أَبَا

لَكُمْ، هُجْرًا! وَاللَّهِ مَا خَتَلْتُهُمْ عَنْ أُمُورِكِمْ، وَلَا أَخْفَيْتُ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْأَمْرِ عَنْكُمْ، وَلَا أَوْطَأْتُكُمْ عَشْوَةً، وَلَا (دَنَّيْتُ لَكُمُ الضَّرَّاءَ) ، وَإِنْ كَانَ أَمْرُنَا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرًا، فَأَجْمَعَ رَأْيُ مَلَأِكِمْ [عَلَى] أَنِ اخْتَارُوا رَجُلَيْنِ، فَأَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ يَحْكُمَا بِمَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا يَعْدُوَاهُ، فَتَاهَا، فَتَرَكَا الْحَقَّ وَهُمَا يُبْصِرَانِهِ، وَكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا، وَالثِّقَةُ فِي أَيْدِينَا حِينَ خَالَفَا سَبِيلَ الْحَقِّ، وَأَتَيَا بِمَا لَا يُعْرَفُ، فَبَيَّنُوا لَنَا بِمَاذَا تَسْتَحِلُّونَ قِتَالَنَا وَالْخُرُوجَ عَنْ جَمَاعَتِنَا، وَتَضَعُونَ أَسْيَافَكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ، ثُمَّ تَسْتَعْرِضُونَ النَّاسَ تَضْرِبُونَ رِقَابَهُمْ؟ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتُمْ عَلَى هَذَا دَجَاجَةً لَعَظُمَ عِنْدَ اللَّهِ قَتْلُهَا! فَكَيْفَ بِالنَّفْسِ الَّتِي قَتْلُهَا عِنْدَ اللَّهِ حَرَامٌ؟ فَتَنَادَوْا: لَا تُخَاطِبُوهُمْ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ وَتَهَيَّأُوا لِلِقَاءِ اللَّهِ، (الرَّوَاحَ الرَّوَاحَ إِلَى الْجَنَّةِ! فَعَادَ عَلِيٌّ عَنْهُمْ) . ثُمَّ إِنَّ الْخَوَارِجَ قَصَدُوا جِسْرَ النَّهْرِ، وَكَانُوا غَرْبَهُ، فَقَالَ لَعَلِيٍّ أَصْحَابُهُ: إِنَّهُمْ قَدْ عَبَرُوا النَّهْرَ. فَقَالَ: لَنْ يَعْبُرُوا. فَأَرْسَلُوا طَلِيعَةً، فَعَادَ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ عَبَرُوا النَّهْرَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ عَطْفَةٌ مِنَ النَّهْرِ، فَلِخَوْفِ الطَّلِيعَةِ مِنْهُمْ لَمْ يَقْرَبْهُمْ، فَعَادَ فَقَالَ: إِنَّهُمْ قَدْ عَبَرُوا النَّهْرَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ مَا عَبَرُوهُ، وَإِنَّ مَصَارِعَهُمْ لَدُونَ الْجِسْرِ، وَوَاللَّهِ لَا يُقْتَلُ مِنْكُمْ عَشْرَةٌ، وَلَا يَسْلَمُ مِنْهُمْ عَشْرَةٌ! وَتَقَدَّمَ عَلِيٌّ إِلَيْهِمْ فَرَآهُمْ عِنْدَ الْجِسْرِ لَمْ يَعْبُرُوهُ، وَكَانَ النَّاسُ قَدْ شَكُّوا فِي قَوْلِهِ، وَارْتَابَ بِهِ بَعْضُهُمْ، فَلَمَّا رَأَوُا الْخَوَارِجَ لَمْ يَعْبُرُوا كَبَّرُوا وَأَخْبَرُوا عَلِيًّا بِحَالِهِمْ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ! ثُمَّ إِنَّهُ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ، فَجَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، أَوْ مَعْقِلَ بْنَ قَيْسٍ الرِّيَاحَيَّ، وَعَلَى الْخَيْلِ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ، وَعَلَى الرَّجَّالَةِ أَبَا قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ - وَهُمْ سَبْعُمِائَةٍ أَوْ ثَمَانُمِائَةٍ - قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَعَبَّأَتِ الْخَوَارِجُ فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ زَيْدَ بْنَ حُصَيْنٍ الطَّائِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ شُرَيْحَ بْنَ أَوْفَى الْعَبْسِيَّ، وَعَلَى خَيْلِهِمْ حَمْزَةَ بْنَ سِنَانٍ الْأَسَدِيَّ، وَعَلَى رَجَّالَتِهِمْ حُرْقُوصَ بْنَ زُهَيْرٍ السَّعْدِيَّ. وَأَعْطَى عَلِيٌّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ رَايَةَ الْأَمَانِ، فَنَادَاهُمْ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ: مَنْ جَاءَ

تَحْتَ هَذِهِ الرَّايَةِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَسْتَعْرِضْ، وَمَنِ انْصَرَفَ مِنْكُمْ إِلَى الْكُوفَةِ أَوِ الْمَدَائِنِ، وَخَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ فَهُوَ آمِنٌ، لَا حَاجَةَ لَنَا بَعْدَ أَنْ نُصِيبَ قَتَلَةَ إِخْوَانِنَا مِنْكُمْ فِي سَفْكِ دِمَائِكُمْ. فَقَالَ فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيُّ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي عَلَى أَيِّ شَيْءٍ نُقَاتِلُ عَلِيًّا، أَرَى أَنْ أَنْصَرِفَ حَتَّى يَتَّضِحَ لِي بَصِيرَتِي فِي قِتَالِهِ أَوْ أُتَابِعَهُ. فَانْصَرَفَ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ حَتَّى نَزَلَ الْبَنْدَنِيجَيْنَ وَالدَّسْكَرَةَ. وَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مُتَفَرِّقِينَ، فَنَزَلُوا الْكُوفَةَ، وَخَرَجَ إِلَى عَلِيٍّ نَحْوُ مِائَةٍ، وَكَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَبَقِيَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ أَلْفٌ وَثَمَانُمِائَةٍ، (فَزَحَفُوا إِلَى عَلِيٍّ) ، وَكَانَ عَلِيٌّ قَدْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُفُّوا عَنْهُمْ حَتَّى يَبْدَأُوكُمْ. فَتَنَادَوْا: الرَّوَاحَ إِلَى الْجَنَّةِ! وَحَمَلُوا عَلَى النَّاسِ، فَافْتَرَقَتْ خَيْلُ عَلِيٍّ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ نَحْوَ الْمَيْمَنَةِ، وَفِرْقَةٌ نَحْوَ الْمَيْسَرَةِ، وَاسْتَقْبَلَتِ الرُّمَاةُ وُجُوهَهُمْ بِالنَّبْلِ، عَطَفَتْ عَلَيْهِمُ الْخَيْلُ مِنَ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ، وَنَهَضَ إِلَيْهِمُ الرِّجَالُ بِالرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ، فَمَا لَبِثُوا أَنْ أَنَامُوهُمْ. فَلَمَّا رَأَى حَمْزَةُ بْنُ سِنَانٍ الْهَلَاكَ نَادَى أَصْحَابَهُ: أَنِ انْزِلُوا! فَذَهَبُوا لِيَنْزِلُوا، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ حَمَلَ عَلَيْهِمُ الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ الْمُرَادِيُّ، وَجَاءَتْهُمُ الْخَيْلُ مِنْ نَحْوِ عَلِيٍّ، فَأُهْلِكُوا فِي سَاعَةٍ، فَكَأَنَّمَا قِيلَ لَهُمْ مُوتُوا فَمَاتُوا. وَجَاءَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَتَلْتُ زَيْدَ بْنَ حُصَيْنٍ الطَّائِيَّ، طَعَنْتُهُ فِي صَدْرِهِ [حَتَّى] خَرَجَ السِّنَّانُ مِنْ ظَهْرِهِ، وَقُلْتُ لَهُ: أَبْشِرْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ بِالنَّارِ. فَقَالَ: سَتَعْلَمُ غَدًا أَيَّنَا أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: هُوَ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا. وَجَاءَهُ هَانِئُ بْنُ خَطَّابٍ الْأَزْدِيُّ، وَزِيَادُ بْنُ خَصَفَةَ يَحْتَجَّانِ فِي قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، فَقَالَ: كَيْفَ صَنَعْتُمَا؟ قَالَا: لَمَّا رَأَيْنَاهُ عَرَفْنَاهُ، فَابْتَدَرْنَاهُ وَطَعَنَّاهُ بِرُمْحَيْنَا. فَقَالَ: كِلَاكُمَا قَاتِلٌ. وَحَمَلَ جَيْشُ بْنُ رَبِيعَةَ الْكِنَانِيُّ عَلَى حُرْقُوصَ بْنِ زُهَيْرٍ فَقَتَلَهُ، وَحَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَحْرٍ الْخَوْلَانِيُّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَجَرَةَ السُّلَمِيِّ فَقَتَلَهُ، وَوَقَعَ شُرَيْحُ بْنُ أَوْفَى إِلَى جَانِبِ جِدَارٍ، فَقَاتَلَ عَلَيْهِ، وَكَانَ (جُلُّ مَنْ يُقَاتِلُهُ هَمْدَانَ، فَقَالَ) :

قَدْ عَلِمَتْ جَارِيَةٌ عَبْسِيَّهْ ... نَاعِمَةٌ فِي أَهْلِهَا مَكْفِيِّهْ أَنِّي سَأَحْمِي ثُلْمَتَيِ الْعَشِيَّهْ فَحَمَلَ عَلَيْهِ قَيْسٌ أَيْضًا فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: الْقَرْمُ يَحْمِي شَوْلَهُ مَعْقُولَا فَحَمَلَ عَلَيْهِ قَيْسٌ أَيْضًا فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: اقْتَتَلَتْ هَمْدَانُ يَوْمًا وَرَجُلْ ... اقْتَتَلُوا مِنْ غُدْوَةٍ حَتَّى الْأُصُلْ فَفَتَحَ اللَّهُ لِهَمْدَانَ الرَّجُلْ ذكر مَقْتَلِ ذِي الثُّدَيَّةِ قَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ قَبْلَ ظُهُورِ الْخَوَارِجِ، أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، عَلَامَتُهُمْ رَجُلٌ مُخَدَّجُ الْيَدِ، سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ مِرَارًا، فَلَمَّا خَرَجَ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ، سَارَ بِهِمْ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ، وَكَانَ مِنْهُ مَعَهُمْ مَا كَانَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَلْتَمِسُوا الْمُخَدَّجَ فَالْتَمَسُوهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا نَجِدُهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا هُوَ فِيهِمْ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَفِيهِمْ، وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ! ثُمَّ إِنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَبَشَّرَهُ (فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) قَدْ وَجَدْنَاهُ. وَقِيلَ: بَلْ خَرَجَ عَلِيٌّ فِي طَلَبِهِ قَبْلَ أَنْ يُبَشِّرَهُ الرَّجُلُ، وَمَعَهُ سُلَيْمُ بْنُ ثُمَامَةَ الْحَنَفِيُّ، وَالرَّيَّانُ بْنُ صَبْرَةَ، فَوَجَدَهُ فِي حُفْرَةٍ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ، فِي خَمْسِينَ قَتِيلًا، فَلَمَّا اسْتَخْرَجَهُ نَظَرَ إِلَى عَضُدِهِ، فَإِذَا لَحْمٌ مُجْتَمِعٌ

كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ، وَحَلَمَةٌ عَلَيْهَا شَعْرَاتٌ سُودٌ، فَإِذَا مُدَّتِ امْتَدَّتْ حَتَّى تُحَاذِيَ يَدَهُ الطُّولَى، ثُمَّ تُتْرَكُ فَتَعُودُ إِلَى مَنْكِبَيْهِ. فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ، لَوْلَا أَنْ تَنْكُلُوا عَنِ الْعَمَلِ لَأَخْبَرْتُكُمْ بِمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ قَاتَلَهُمْ مُسْتَبْصِرًا فِي قِتَالِهِمْ، عَارِفًا لِلْحَقِّ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ. وَقَالَ حِينَ مَرَّ بِهِمْ وَهُمْ صَرْعَى: بُؤْسًا لَكُمْ! لَقَدْ ضَرَّكُمْ مَنْ غَرَّكُمْ! قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ غَرَّهُمْ؟ قَالَ: الشَّيْطَانُ وَأَنْفُسٌ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، غَرَّتْهُمْ بِالْأَمَانِيِّ، وَزَيَّنَتْ لَهُمُ الْمَعَاصِيَ، وَنَبَّأَتْهُمْ أَنَّهُمْ ظَاهِرُونَ. قِيلَ: وَأَخَذَ مَا فِي عَسْكَرِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، فَأَمَّا السِّلَاحُ وَالدَّوَابُّ وَمَا شُهِرَ عَلَيْهِ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا الْمَتَاعُ وَالْإِمَاءُ وَالْعَبِيدُ، فَإِنَّهُ رَدَّهُ عَلَى أَهْلِهِ حِينَ قَدِمَ. وَطَافَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ فِي الْقَتْلَى عَلَى ابْنِهِ طَرَفَةَ فَدَفَنَهُ، وَدَفَنَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَتْلَاهُمْ. (فَقَالَ عَلِيٌّ حِينَ بَلَغَهُ: أَتَقْتُلُونَهُمْ ثُمَّ تَدْفِنُونَهُمْ؟ ارْتَحِلُوا! فَارْتَحَلَ النَّاسُ) . فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ إِلَّا سَبْعَةٌ. وَقِيلَ: كَانَتِ الْوَقْعَةُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ. وَكَانَ فِيمَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَزِيدُ بْنُ نُوَيْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَلَهُ صُحْبَةٌ وَسَابِقَةٌ، وَشَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ. ذكر رُجُوعِ عَلِيٍّ إِلَى الْكُوفَةِ وَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ مِنْ أَهْلِ النَّهْرِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ بِكُمْ وَأَعَزَّ نَصْرَكُمْ، فَتَوَجَّهُوا مِنْ فَوْرِكُمْ هَذَا إِلَى عَدُوِّكُمْ. قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَفِدَتْ نِبَالُنَا،

وَكَلَّتْ سُيُوفُنَا، وَنَصَلَتْ أَسِنَّةُ رِمَاحِنَا (وَعَادَ أَكْثَرُهَا قَصْدًا) ، فَارْجِعْ إِلَى مِصْرِنَا فَلْنَسْتَعِدَّ، وَلَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ فِي عُدَّتِنَا، فَإِنَّهُ أَقْوَى لَنَا عَلَى عَدُوِّنَا. وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كَلَامَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، فَأَقْبَلَ حَتَّى نَزَلَ النُّخَيْلَةَ، فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَلْزَمُوا عَسْكَرَهُمْ، وَيُوَطِّنُوا عَلَى الْجِهَادِ أَنْفُسَهُمْ، وَأَنْ يُقِلُّوا زِيَارَةَ أَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ حَتَّى يَسِيرُوا إِلَى عَدُوِّهِمْ. فَأَقَامُوا فِيهِمْ أَيَّامًا ثُمَّ تَسَلَّلُوا مِنْ مُعَسْكَرِهِمْ فَدَخَلُوا إِلَّا رِجَالًا مِنْ وُجُوهِ النَّاسِ، وَتُرِكَ الْمُعَسْكَرُ خَالِيًا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ دَخَلَ الْكُوفَةَ وَانْكَسَرَ عَلَيْهِ رَأْيُهُ فِي الْمَسِيرِ وَقَالَ لَهُمْ أَيْضًا: أَيُّهَا النَّاسُ اسْتَعِدُّوا لِلْمَسِيرِ إِلَى عَدُوِّكُمْ وَمَنْ فِي جِهَادِهِ الْقُرْبَةُ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَدَرْكُ الْوَسِيلَةِ عِنْدَهُ، حَيَارَى مِنَ الْحَقِّ جُفَاةٌ عَنِ الْكِتَابِ، يَعْمَهُونَ فِي طُغْيَانِهِمْ، فَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ، وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا، وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا. فَلَمْ يَنْفِرُوا وَلَا تَيَسَّرُوا. فَتَرَكَهُمْ أَيَّامًا حَتَّى إِذَا أَيِسَ مِنْ أَنْ يَفْعَلُوا دَعَا رُؤَسَاءَهُمْ وَوُجُوهَهُمْ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ رَأْيِهِمْ، وَمَا الَّذِي يُبَطِّئُ بِهِمْ، فَمِنْهُمُ الْمُعْتَلُّ وَمِنْهُمُ الْمُتَكَرِّهُ، (وَأَقَلُّهُمْ مَنْ نَشِطَ) . فَقَامَ فِيهِمْ فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ، مَا بَالُكُمْ إِذَا أَمَرْتُكُمْ أَنْ تَنْفِرُوا {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38] وَبِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ مِنَ الْعِزِّ خَلَفًا؟ وَكُلَّمَا نَادَيْتُكُمْ إِلَى الْجِهَادِ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ، كَأَنَّكُمْ مِنَ الْمَوْتِ فِي سَكْرَةٍ، وَكَأَنَّ قُلُوبَكُمْ مَأْلُوسَةٌ وَأَنْتُمْ لَا تَعْقِلُونَ، فَكَأَنَّ أَبْصَارَكُمْ كُمْهٌ وَأَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ! لِلَّهِ أَنْتُمْ! مَا أَنْتُمْ إِلَّا أُسْدُ الشِّرَى فِي الدَّعَةِ، وَثَعَالِبُ رَوَّاغَةٌ حِينَ تَدْعَوْنَ إِلَى الْبَأْسِ. مَا أَنْتُمْ (لِي بِثِقَةٍ سَجِيسَ اللَّيَالِي. مَا أَنْتُمْ) بِرَكْبٍ يُصَالُ بِهِ. لَعَمْرُ اللَّهِ لَبِئْسَ حُشَّاشُ الْحَرْبِ أَنْتُمْ! إِنَّكُمْ تُكَادُونَ وَلَا تَكِيدُونَ، وَتُتَنَقَّصُ أَطْرَافُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَتَحَاشَوْنَ، وَلَا يُنَامُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ فِي غَفْلَةٍ سَاهُونَ. ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيَّ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ

فَالنَّصِيحَةُ (لَكُمْ مَا صَحِبْتُكُمْ) ، وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ، وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْ لَا تَجْهَلُوا، (وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْ تَعْلَمُوا، وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ، وَالنُّصْحُ لِي فِي الْمَغِيبِ وَالْمَشْهَدِ، وَالْإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ، وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ، فَإِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِكُمْ خَيْرًا تَنْزِعُوا عَمَّا أَكْرَهُ، وَتَرْجِعُوا إِلَى مَا أُحِبٌّ، فَتَنَالُوا مَا تَطْلُبُونَ، وَتُدْرِكُوا مَا تَأْمُلُونَ) . ذكر عِدَّةِ حَوَادِثَ قِيلَ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَكَانَ عَامِلَ عَلِيٍّ عَلَى الْيَمَنِ، وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ، وَالطَّائِفِ: قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ. وَقِيلَ تَمَّامُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَكَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ. وَعَلَى مِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ. وَلَمَّا سَارَ عَلِيٌّ إِلَى صِفِّينَ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ أَبَا مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيَّ. وَكَانَ عَلَى خُرَاسَانَ خُلَيْدُ بْنُ قُرَّةَ الْيَرْبُوعِيُّ. وَكَانَ بِالشَّامِ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. [قَتْلَى صِفِّينَ] وَفِيهَا قُتِلَ حَازِمُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ أَخُو قَيْسٍ الْأَحْمَسَيِّ الْبَجَلِيِّ بِصِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ. وَفِيهَا مَاتَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَشَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ وَالنَّهْرَوَانَ، وَقِيلَ

لَمْ يَشْهَدْهَا. كَانَ مَرِيضًا وَمَاتَ قَبْلَ قُدُومِ عَلِيٍّ إِلَى الْكُوفَةِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ -. وَقِيلَ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً. وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ بِصِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ، وَقِيلَ عَاشَ بَعْدَهَا يَسِيرًا، وَقُتِلَ بِهَا أَخُوهُ عَبِيدُ بْنُ التَّيِّهَانِ. وَكَانَ أَبُو الْهَيْثَمِ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، فِي قَوْلٍ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ. وَفِيهَا قُتِلَ يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ،

وَهِيَ أُمُّهُ، وَاسْمُ أَبِيهِ أُمَيَّةُ التَّمِيمِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، وَقِيلَ ابْنُ عَمَّتِهِ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ الْجَمَلَ مَعَ عَائِشَةَ، ثُمَّ شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ فَقُتِلَ بِهَا، وَكَانَ إِسْلَامُهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا. وَقُتِلَ بِصِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ أَبُو عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ وَالِدُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ أَيْضًا بَدْرِيٌّ. وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيُّ (فِي قَوْلٍ) وَهُوَ بَدْرِيٌّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيُّ فِي قَوْلٍ وَهُوَ بَدْرِيٌّ، وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ

حُرُوبَهُ. وَتُوفِي بِهَا صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ وَصَفْوَانُ بْنُ بَيْضَاءَ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرَحٍ بِعَسْقَلَانَ فَجْأَةً وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ (وَكَرِهَ الْخُرُوجَ

مَعَ مُعَاوِيَةَ إِلَى صِفِّينَ، وَقِيلَ شَهِدَهَا، وَلَا يَصِحُّ.

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ] 38 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ ذكر مُلْكِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِصْرَ وَقَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِمِصْرَ وَهُوَ عَامِلُ عَلِيٍّ عَلَيْهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ تَوْلِيَةِ عَلِيٍّ إِيَّاهُ مِصْرَ وَعَزْلِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ [عَنْهَا] وَدُخُولَهُ مِصْرَ وَإِنْفَاذَهُ ابْنَ مُضَاهِمٍ الْكَلْبِيَّ إِلَى أَهْلِ خَرْنَبَا، فَلَمَّا مَضَى ابْنُ مُضَاهِمٍ إِلَيْهِمْ قَتَلُوهُ، وَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ السَّكُّونِيُّ، وَطَلَبَ بِدَمِ عُثْمَانَ وَدَعَا إِلَيْهِ، فَأَجَابَهُ نَاسٌ، وَفَسَدَتْ مِصْرُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: مَا لِمِصْرَ إِلَّا أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ، صَاحِبُنَا الَّذِي عَزَلْنَا - يَعْنِي قَيْسًا، أَوِ الْأَشْتَرُ -، وَكَانَ الْأَشْتَرُ قَدْ عَادَ بَعْدَ صِفِّينَ إِلَى عَمَلِهِ بِالْجَزِيرَةِ، وَقَالَ عَلِيٌّ لِقَيْسٍ: أَقِمْ عِنْدِي عَلَى شُرْطَتِي حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحُكُومَةُ، ثُمَّ تَسِيرَ إِلَى أَذْرَبَيْجَانَ. فَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا أَمْرُ مِصْرَ كَتَبَ إِلَى الْأَشْتَرِ وَهُوَ بِنَصِيبِينَ يَسْتَدْعِيهِ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ أَهْلِ مِصْرَ وَقَالَ: لَيْسَ لَهَا غَيْرُكَ فَاخْرُجْ إِلَيْهَا، فَإِنِّي لَوْ لَمْ أُوصِكَ اكْتَفَيْتُ بِرَأْيِكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاخْلِطِ الشِّدَّةَ بِاللِّينِ، وَارْفُقْ مَا كَانَ الرِّفْقُ أَبْلَغَ، وَتَشَدَّدْ حِينَ لَا يُغْنِي إِلَّا الشِّدَّةُ. فَخَرَجَ الْأَشْتَرُ يَتَجَهَّزُ إِلَى مِصْرَ وَأَتَتْ مُعَاوِيَةَ عُيُونُهُ بِذَلِكَ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ طَمِعَ فِي مِصْرَ، فَعَلِمَ أَنَّ الْأَشْتَرَ إِنْ قَدِمَهَا كَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُقَدَّمِ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ بِالْقُلْزُمِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْأَشْتَرَ قَدْ وَلِيَ مِصْرَ، فَإِنْ كَفَيْتَنِيهِ لَمْ آخُذْ مِنْكَ خَرَاجًا مَا بَقِيتُ وَبَقِيتَ. فَخَرَجَ الْحَابِسَاتُ حَتَّى أَتَى الْقُلْزُمَ وَأَقَامَ بِهِ، وَخَرَجَ الْأَشْتَرُ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْقُلْزُمِ اسْتَقْبَلَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ،

فَعَرَضَ عَلَيْهِ النُّزُولَ، فَنَزَلَ عِنْدَهُ، فَأَتَاهُ بِطَعَامٍ، فَلَمَّا أَكَلَ أَتَاهُ بِشَرْبَةٍ مِنْ عَسَلٍ قَدْ جَعَلَ فِيهِ سُمًّا فَسَقَاهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا شَرِبَهُ مَاتَ. وَأَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ لِأَهْلِ الشَّامِ: إِنَّ عَلِيًّا قَدْ وَجَّهَ الْأَشْتَرَ إِلَى مِصْرَ، فَادْعُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَكَانُوا يَدْعُونَ اللَّهَ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ، وَأَقْبَلَ الَّذِي سَقَاهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَهْلِكِ الْأَشْتَرِ، فَقَامَ مُعَاوِيَةُ خَطِيبًا ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ كَانَتْ لَعَلِيٍّ يَمِينَانِ فَقُطِعَتْ إِحْدَاهُمَا بِصِفِّينَ - يَعْنِي عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ -، وَقُطِعَتِ الْأُخْرَى الْيَوْمَ يَعْنِي الْأَشْتَرَ. فَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا مَوْتُهُ قَالَ: لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ! وَكَانَ قَدْ ثَقُلَ عَلَيْهِ لِأَشْيَاءَ نُقِلَتْ عَنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُهُ قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! مَالِكٌ وَمَا مَالِكٌ، وَهَلْ مَوْجُودٌ مِثْلُ ذَلِكَ؟ لَوْ كَانَ مِنْ حَدِيدٍ، لَكَانَ قَيْدًا أَوْ مِنْ حَجَرٍ، لَكَانَ صَلْدًا! عَلَى مَثَلِهِ فَلْتَبْكِ الْبَوَاكِي! وَهَذَا أَصَحُّ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَارِهًا لَهُ لَمْ يُولِهِ مِصْرَ. وَكَانَ الْأَشْتَرُ قَدْ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَأَبِي ذَرٍّ.

وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ: كَانَ ثِقَةً. قِيلَ: وَلَمَّا بَلَغَ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ إِنْفَاذُ الْأَشْتَرِ شَقَّ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي مَوْجَدَتُكَ مِنْ تَسْرِيحَيِ الْأَشْتَرَ إِلَى عَمَلِكَ، وَإِنِّي لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ اسْتِبْطَاءً لَكَ فِي الْجِهَادِ وَلَا ازْدِيَادًا مِنِّي لَكَ فِي الْجِدِّ، وَلَوْ نَزَعْتُ مَا تَحْتَ يَدِكَ لَوَلَّيْتُكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مَؤُونَةً مِنْهُ وَأَعْجَبُ إِلَيْكَ وِلَايَةً، إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كُنْتُ وَلَّيْتُهُ أَمْرَ مِصْرَ كَانَ لَنَا نَصِيحًا، وَعَلَى عَدُوِّنَا شَدِيدًا، وَقَدِ اسْتَكْمَلَ أَيَّامَهُ وَلَاقَى حِمَامَهُ، وَنَحْنُ عَنْهُ رَاضُونَ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَضَاعَفَ لَهُ الثَّوَابَ، اصْبِرْ لِعَدُوِّكَ وَشَمِّرْ لِلْحَرْبِ وَ {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] . وَأَكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ، وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ، وَالْخَوْفَ مِنْهُ، يَكْفِكَ مَا أَهَمَّكَ، وَيُعِنْكَ عَلَى مَا وَلَّاكَ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدِ انْتَهَى إِلَيَّ كِتَابُكَ وَفَهِمْتُهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَرْضَى بِرَأْيِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا أَجْهَدُ عَلَى عَدُوِّهِ، وَلَا أَرْأَفَ بِوَلِيِّهِ مِنِّي، وَقَدْ خَرَجْتُ فَعَسْكَرْتُ وَآمَنْتُ النَّاسَ إِلَّا مَنْ نَصَبَ لَنَا حَرْبًا وَأَظْهَرَ لَنَا خِلَافًا، وَأَنَا مُتَّبِعٌ أَمْرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَافِظُهُ. وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا تَوَلَّى الْأَشْتَرُ مِصْرَ بَعْدَ قَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ. وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ يَنْتَظِرُونَ بَعْدَ صِفِّينَ أَمْرَ الْحَكَمَيْنِ، فَلَمَّا تَفَرَّقَا بَايَعَ أَهْلُ الشَّامِ مُعَاوِيَةَ بِالْخِلَافَةِ، وَلَمْ يَزْدَدْ إِلَّا قُوَّةً، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ بِالْعِرَاقِ عَلَى عَلِيٍّ، فَمَا كَانَ لِمُعَاوِيَةَ هَمٌّ إِلَّا مِصْرَ، وَكَانَ يَهَابُ أَهْلَهَا لِقُرْبِهِمْ مِنْهُ وَشِدَّتِهِمْ عَلَى مَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِ عُثْمَانَ، وَكَانَ يَرْجُو أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا ظَهَرَ عَلَى حَرْبِ عَلِيٍّ لِعِظَمِ خَرَاجِهَا، فَدَعَا مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَحَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَبُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ، وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَالِدٍ، وَأَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ الْكِنْدِيَّ، فَقَالَ لَهُمْ: أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟ فَإِنِّي جَمَعْتُكُمْ لِأَمْرٍ لِي مُهِمٍّ! فَقَالُوا: لَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ عَلَى الْغَيْبِ أَحَدًا، وَمَا نَعْلَمُ مَا تُرِيدُ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: دَعَوْتَنَا لِتَسْأَلَنَا عَنْ رَأْيِنَا فِي مِصْرَ، فَإِنْ كُنْتَ جَمَعْتَنَا لِذَلِكَ فَاعْزِمْ وَاصْبِرْ، فَنَعِمَ الرَّأْيُ رَأَيْتَ فِي افْتِتَاحِهَا! فَإِنَّ فِيهِ عَزَّكَ وَعَزَّ أَصْحَابِكَ، وَكَبْتَ

عَدُوِّكَ، وَذُلَّ أَهْلِ الشِّقَاقِ عَلَيْكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَهَمَّكَ يَا ابْنَ الْعَاصِ مَا أَهَمَّكَ! وَذَلِكَ أَنَّ عَمْرًا كَانَ صَالَحَ مُعَاوِيَةَ عَلَى قِتَالِ عَلِيٍّ عَلَى أَنَّ لَهُ مِصْرَ طُعْمَةً مَا بَقِيَ. وَأَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: أَصَابَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، فَمَا تَرَوْنَ؟ فَقَالُوا: مَا نَرَى إِلَّا مَا رَأَى عَمْرٌو. قَالَ: (فَكَيْفَ أَصْنَعُ) ؟ (فَإِنَّ عَمْرًا لَمْ يُفَسِّرْ كَيْفَ أَصْنَعُ) . فَقَالَ عَمْرٌو: أَرَى أَنْ تَبْعَثَ جَيْشًا كَثِيفًا، عَلَيْهِمْ رَجُلٌ حَازِمٌ صَابِرٌ صَارِمٌ، تَأْمَنْهُ وَتَثِقُ بِهِ، فَيَأْتِيَ مِصْرَ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهِ مَنْ كَانَ عَلَى مَثْلِ رَأْيِنَا فَيُظَاهِرَهُ عَلَى عَدُوِّنَا، فَإِنِ اجْتَمَعَ جُنْدُكَ وَمَنْ بِهَا عَلَى رَأْيِنَا رَجَوْتُ أَنْ يَنْصُرَكَ اللَّهُ. قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَرَى أَنْ نُكَاتِبَ مَنْ بِهَا مِنْ شِيعَتِنَا، فَنُمَنِّيهِمْ وَنَأْمُرُهُمْ بِالثَّبَاتِ، وَنُكَاتِبُ مَنْ بِهَا مِنْ عَدُّونَا، فَنَدْعُوهُمْ إِلَى صُلْحِنَا، وَنُمَنِّيهِمْ شُكْرَنَا وَنُخَوِّفُهُمْ حَرْبَنَا، فَإِنْ كَانَ مَا أَرَدْنَا بِغَيْرِ قِتَالٍ فَذَاكَ الَّذِي أَرَدْنَا، وَإِلَّا كَانَ حَرْبُهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ. إِنَّكَ يَا ابْنَ الْعَاصِ بُورِكَ لَكَ فِي الشِّدَّةِ وَالْعَجَلَةِ، وَأَنَا بُورِكَ لِي فِي التُّؤَدَةِ. قَالَ عَمْرٌو: افْعَلْ مَا تَرَى فَمَا أَرَى أَمْرَنَا يَصِيرُ إِلَّا إِلَى الْحَرْبِ. فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ السَّكُّونِيِّ، وَكَانَا قَدْ خَالَفَا عَلِيًّا، يَشْكُرُهُمَا عَلَى ذَلِكَ وَيَحُثُّهُمَا عَلَى الطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ، وَيَعِدُهُمَا الْمُوَاسَاةَ فِي سُلْطَانِهِ، وَبَعَثَهُ مَعَ مَوْلَاهُ سُبَيْعٍ. فَلَمَّا وَقَفَا عَلَيْهِ أَجَابَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُخَلَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ ابْنِ حُدَيْجٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي بَذَلْنَا لَهُ أَنْفُسَنَا وَابْتَعْنَا بِهِ أَمْرَ اللَّهِ أَمْرٌ نَرْجُو بِهِ ثَوَابَ رَبِّنَا، وَالنَّصْرَ عَلَى مَنْ خَالَفْنَا، وَتَعْجِيلَ النِّقْمَةِ عَلَى مَنْ سَعَى عَلَى إِمَامِنَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْمُوَاسَاةِ فِي سُلْطَانِكَ، فَتَاللَّهِ إِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مَا لَهُ نَهَضْنَا، وَلَا إِيَّاهُ أَرَدْنَا، فَعَجِّلْ إِلَيْنَا بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ، فَإِنَّ عَدُوَّنَا قَدْ أَصْبَحُوا لَنَا هَائِبِينَ، فَإِنْ يَأْتِنَا مَدَدٌ يَفْتَحِ اللَّهُ عَلَيْكَ. وَالسَّلَامُ. فَجَاءَهُ الْكِتَابُ وَهُوَ بِفِلَسْطِينَ، فَدَعَا أُولَئِكَ النَّفَرَ وَقَالَ لَهُمْ: مَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: نَرَى أَنْ تَبْعَثَ جُنْدًا. فَأَمَرَ عَمْرَو بْنُ الْعَاصِ لِيَتَجَهَّزَ إِلَيْهَا، وَبَعَثَ مَعَهُ سِتَّةَ آلَافِ رَجُلٍ، وَوَصَّاهُ بِالتُّؤَدَةِ

وَتَرْكِ الْعَجَلَةِ. وَسَارَ عَمْرٌو فَنَزَلَ أَدَانِي أَرْضِ مِصْرَ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ الْعُثْمَانِيَّةُ، فَأَقَامَ بِهِمْ، وَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَتَنَحَّ عَنِّي بِدَمِكَ يَا بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ يُصِيبَكَ مِنِّي ظَفَرٌ، إِنَّ النَّاسَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى خِلَافِكَ، وَهُمْ مُسْلِمُوكَ، فَاخْرُجْ مِنْهَا إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. وَبَعَثَ مَعَهُ كِتَابَ مُعَاوِيَةَ فِي الْمَعْنَى أَيْضًا، وَيَتَهَدَّدُهُ بِقَصْدِهِ حِصَارَ عُثْمَانَ. فَأَرْسَلَ مُحَمَّدٌ الْكِتَابَيْنِ إِلَى عَلِيٍّ، وَيُخْبِرُهُ بِنُزُولِ عَمْرٍو بِأَرْضِ مِصْرَ، وَأَنَّهُ رَأَى التَّثَاقُلَ مِمَّنْ عِنْدَهُ وَيَسْتَمِدُّهُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَضُمَّ شِيعَتَهُ إِلَيْهِ، وَيَعِدَهُ إِنْفَاذَ الْجُيُوشِ إِلَيْهِ، وَيَأْمُرُهُ بِالصَّبْرِ لِعَدُوِّهِ وَقِتَالِهِ. وَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي النَّاسِ، وَنَدَبَهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى عَدُوِّهِمْ مَعَ كِنَانَةَ بْنِ بِشْرٍ، فَانْتَدَبَ مَعَهُ أَلْفَيْنِ، وَخَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَهُ فِي أَلْفَيْنِ وَكِنَانَةُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ، وَأَقْبَلَ عَمْرٌو نَحْوَ كِنَانَةَ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ سَرَّحَ الْكَتَائِبَ، كَتِيبَةً بَعْدَ كَتِيبَةٍ، فَجَعَلَ كِنَانَةُ لَا تَأْتِيهِ كَتِيبَةٌ إِلَّا حَمَلَ عَلَيْهَا، فَأَلْحَقَهَا بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ بَعَثَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ، فَأَتَاهُ فِي مِثْلِ الدُّهْمِ، فَأَحَاطُوا بِكِنَانَةَ وَأَصْحَابِهِ، (وَاجْتَمَعَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ كِنَانَةُ نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ، وَنَزَلَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ) ، فَضَارَبَهُمْ بِسَيْفِهِ حَتَّى اسْتُشْهِدَ. وَبَلَغَ قَتْلُهُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَأَقْبَلَ نَحْوَهُ عَمْرٌو، وَمَا بَقِيَ مَعَهُ أَحَدٌ، فَخَرَجَ مُحَمَّدٌ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ، فَانْتَهَى إِلَى خَرِبَةٍ فِي نَاحِيَةِ الطَّرِيقِ، فَأَوَى إِلَيْهَا، وَسَارَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصٍ حَتَّى دَخَلَ الْفُسْطَاطَ، وَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ فِي طَلَبِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَانْتَهَى إِلَى جَمَاعَةٍ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: دَخَلْتُ تِلْكَ الْخَرِبَةَ، فَرَأَيْتُ فِيهَا رَجُلًا جَالِسًا. فَقَالَ ابْنُ حُدَيْجٍ: هُوَ هُوَ. فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَاسْتَخْرَجُوهُ وَقَدْ كَادَ يَمُوتُ عَطَشًا، وَأَقْبَلُوا بِهِ نَحْوَ الْفُسْطَاطِ، فَوَثَبَ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَكَانَ فِي جُنْدِهِ، وَقَالَ: أَتَقْتُلُ أَخِي صَبْرًا؟ ابْعَثْ إِلَى ابْنِ حُدَيْجٍ فَانْهَهُ عَنْهُ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِمُحَمَّدٍ، فَقَالَ: قَتَلْتُمْ كِنَانَةَ بْنَ بِشْرٍ، وَأُخَلِّي أَنَا مُحَمَّدًا؟ {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 43] . هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! فَقَالَ لَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: اسْقُونِي مَاءً. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ: لَا سَقَانِي اللَّهُ إِنْ سَقَيْتُكَ قَطْرَةً أَبَدًا، إِنَّكُمْ مَنَعْتُمْ عُثْمَانَ شُرْبَ الْمَاءِ، وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّكَ حَتَّى يَسْقِيَكَ اللَّهُ مِنْ

الْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ! فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ النَّسَّاجَةِ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ، إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، يَسْقِي أَوْلِيَاءَهُ وَيُظْمِئُ أَعْدَاءَهُ أَنْتَ وَأَمْثَالَكَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كَانَ سَيَفِي بِيَدِي مَا بَلَغْتُمْ مِنِّي هَذَا. ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَتَدْرِي مَا أَصْنَعُ بِكَ؟ أُدْخِلُكَ جَوْفَ حِمَارٍ، ثُمَّ أُحَرِّقُهُ عَلَيْكَ بِالنَّارِ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ فَعَلْتَ بِي ذَلِكَ فَلَطَالَمَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ يَجْعَلَهَا عَلَيْكَ وَعَلَى أَوْلِيَائِكَ وَمُعَاوِيَةَ وَعَمْرٍو نَارًا تَلَظَّى، كُلَّمَا خَبَتْ زَادَهَا اللَّهُ سَعِيرًا. فَغَضِبَ مِنْهُ وَقَتَلَهُ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي جِيفَةِ حِمَارٍ، ثُمَّ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ جَزِعَتْ عَلَيْهِ جَزَعًا شَدِيدًا، وَقَنَتَتْ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ تَدْعُو عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعَمْرٍو، وَأَخَذَتْ عِيَالَ مُحَمَّدٍ إِلَيْهَا، فَكَانَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي عِيَالِهِمْ، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ شِوَاءً حَتَّى تُوُفِّيَتْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَاتَلَ عَمْرًا وَمَنْ مَعَهُ قِتَالًا شَدِيدًا فَقَتَلَ كِنَانَةَ، وَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ، وَاخْتَبَأَ عِنْدَ جَبَلَةَ بْنِ مَسْرُوقٍ، فَدُلَّ عَلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ فَأَحَاطَ بِهِ، فَخَرَجَ مُحَمَّدٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمَّا جَاءَهُ كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَأَجَابَهُ عَنْهُ وَوَعَدَهُ الْمَدَدَ، قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَ مِصْرَ، وَقَصْدَ عَمْرٍو إِيَّاهَا، وَنَدَبَهُمْ إِلَى إِنْجَادِهِمْ، وَحَثَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: اخْرُجُوا بِنَا إِلَى الْجَرَعَةِ، وَهِيَ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ خَرَجَ إِلَى الْجَرَعَةِ، فَنَزَلَهَا بُكْرَةً وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ، فَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ، فَرَجَعَ، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ اسْتَدْعَى أَشْرَافَ النَّاسِ وَهُوَ كَئِيبٌ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا قَضَى مِنْ أَمْرِهِ، وَقَدَّرَ مِنْ فِعْلِهِ، وَابْتَلَانِي بِكُمْ، أَيَّتُهَا الْقَرْيَةُ الَّتِي لَا تُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ، وَلَا تُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ، لَا أَبَا لِغَيْرِكُمْ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِمِصْرِكُمْ وَالْجِهَادِ عَلَى حَقِّكُمْ؟ فَوَاللَّهِ لَئِنْ جَاءَ الْمَوْتُ، وَلَيَأْتِيَنِّي، لَيُفَرِّقَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأَنَا لِصُحْبَتِكُمْ قَالٍ، وَبِكُمْ غَيْرُ كَثِيرٍ، لِلَّهِ أَنْتُمْ! أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ، وَلَا مَحْمِيَّةٌ تَحْمِيكُمْ إِذَا أَنْتُمْ سَمِعْتُمْ بِعَدُوِّكُمْ يَنْتَقِصُ بِلَادَكُمْ، وَيَشِنُّ الْغَارَةَ عَلَيْكُمْ؟ أَوَلَيْسَ عَجِيبًا أَنَّ مُعَاوِيَةَ (يَدْعُو الْجُفَاةَ الطَّغَامَ فَيَتْبَعُونَهُ عَلَى غَيْرِ عَطَاءٍ وَلَا مَعُونَةٍ) فِي السَّنَةِ الْمَرَّةَ وَالْمَرَّتَيْنِ وَالثَّلَاثَ إِلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ وَأَنْتُمْ أُولُو النُّهَى، وَبَقِيَّةُ النَّاسِ عَلَى الْعَطَاءِ وَالْمَعُونَةِ، فَتَتَفَرَّقُونَ عَنِّي تَعْصَوْنَنِي وَتَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ! فَقَامَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ الْأَرْحَبِيُّ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ انْدُبِ النَّاسَ، لِهَذَا الْيَوْمِ كُنْتُ

أَدَّخِرُ نَفْسِي. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجِيبُوا إِمَامَكُمْ وَانْصُرُوا دَعْوَتَهُ وَقَاتِلُوا عَدُوَّهُ، وَأَنَا أَسِيرُ إِلَيْهِ. فَخَرَجَ مَعَهُ أَلْفَانِ. فَقَالَ لَهُ: سِرْ، فَوَاللَّهِ مَا أَظُنُّكَ تُدْرِكُهُمْ حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمْرُهُمْ. فَسَارَ بِهِمْ خَمْسًا. ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ غَزِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّ قَدِمَ مِنْ مِصْرَ، فَأَخْبَرَهُ بِقَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ مَعَهُ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَبِيبٍ الْفَزَارِيُّ مِنَ الشَّامِ، وَكَانَ عَيْنَهُ هُنَاكَ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْبِشَارَةَ مِنْ عَمْرٍو وَرَدَتْ بِقَتْلِ مُحَمَّدٍ وَمُلْكِ مِصْرَ، وَسُرُورِ أَهْلِ الشَّامِ بِقَتْلِهِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمَا إِنَّ حُزْنَنَا عَلَيْهِ بِقَدْرِ سُرُورِهِمْ بِهِ، لَا بَلْ يَزِيدُ أَضْعَافًا! فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ، فَأَعَادَ الْجَيْشَ الَّذِي أَنْفَذَهُ وَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا وَقَالَ: أَلَا إِنَّ مِصْرَ قَدِ افْتَتَحَهَا الْفَجَرَةُ أُولُو الْجَوْرِ، وَالظَّلَمَةُ الَّذِينَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَبَغَوُا الْإِسْلَامَ عِوَجًا! أَلَا وَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ اسْتُشْهِدَ، فَعِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُهُ! أَمَا وَاللَّهِ، إِنْ كَانَ كَمَا عَلِمْتُ لَمِمَّنْ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ، وَيَعْمَلُ لِلْجَزَاءِ، وَيُبْغِضُ شَكْلَ الْفَاجِرِ، وَيُحِبُّ هَدْيَ الْمُؤْمِنِ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَلُومُ نَفْسِي عَلَى تَقْصِيرٍ، وَإِنِّي لِمُقَاسَاةِ الْحُرُوبِ لَجَدِيرٌ خَبِيرٌ، وَإِنِّي لَأَتَقَدَّمُ عَلَى الْأَمْرِ وَأَعْرِفُ وَجْهَ الْحَزْمِ، وَأَقُومُ فِيكُمْ بِالرَّأْيِ الْمُصِيبِ، وَأَسْتَصْرِخُكُمْ مُعْلِنًا، وَأُنَادِيكُمْ نِدَاءَ الْمُسْتَغِيثِ، فَلَا تَسْمَعُونَ لِي قَوْلًا، وَلَا تُطِيعُونَ لِي أَمْرًا، حَتَّى تَصِيرَ بِيَ الْأُمُورُ إِلَى عَوَاقِبِ الْمُسَاءَةِ، فَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَا يُدْرَكُ بِكُمُ الثَّأْرُ، وَلَا تَنْقَضِ بِكُمُ الْأَوْتَارُ، دَعَوْتُكُمْ إِلَى غِيَاثِ إِخْوَانِكُمْ مُنْذُ بِضْعٍ وَخَمْسِينَ لَيْلَةً، فَتَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الْأَشْدَقِ، وَتَثَاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ تَثَاقُلَ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ نِيَّةٌ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ وَلَا اكْتِسَابِ الْأَجْرِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ مُتَذَانِبٌ، كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، فَأُفٍّ لَكُمْ! ثُمَّ نَزَلَ. (مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ: بِضَمِّ الْحَاءِ، وَفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَتَيْنِ. جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ: بِالْجِيمِ، وَفِي آخِرِهِ يَاءٌ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ. بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ، بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ) .

ذِكْرُ إِرْسَالِ مُعَاوِيَةَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ مَقْتَلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَاسْتِيلَاءِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى مِصْرَ، سَيَّرَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ جُلَّ أَهْلِهَا يَرَوْنَ رَأْيَنَا فِي عُثْمَانَ، وَقَدِ اقْتَتَلُوا فِي الطَّلَبِ بِدَمِهِ، فَهُمْ لِذَلِكَ حَنِقُونَ، يَوَدُّونَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مَنْ يَجْمَعُهُمْ، وَيَنْهَضُ بِهِمْ فِي الطَّلَبِ بِثَأْرِهِمْ وَدَمِ إِمَامِهِمْ، فَانْزِلْ فِي مُضَرَ، وَتَوَدَّدِ الْأَزْدَ، فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ مَعَكَ، وَادْعُ رَبِيعَةَ، فَلَنْ يَنْحَرِفَ عَنْكَ أَحَدٌ سِوَاهُمْ، لِأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ تُرَابِيَّةٌ فَاحْذَرْهُمْ. فَسَارَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ حَتَّى قَدِمَ الْبَصْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ خَرَجَ إِلَى عَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ وَاسْتَخْلَفَ زِيَادَ بْنَ أَبِيهِ عَلَى الْبَصْرَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْبَصْرَةِ نَزَلَ فِي بَنِي تَمِيمٍ، فَأَتَاهُ الْعُثْمَانِيَّةُ مُسَلِّمِينَ عَلَيْهِ، وَحَضَرَهُ غَيْرُهُمْ، فَخَطَبَهُمْ وَقَالَ: إِنَّ عُثْمَانَ إِمَامَكُمْ إِمَامُ الْهُدَى قُتِلَ مَظْلُومًا، قَتَلَهُ عَلِيٌّ، فَطَلَبْتُمْ بِدَمِهِ فَجَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا. فَقَامَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْهِلَالِيُّ، وَكَانَ عَلَى شُرْطَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ مَا جِئْتِنَا بِهِ وَمَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ! أَتَيْتِنَا وَاللَّهِ بِمِثْلِ مَا أَتَانَا بِهِ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، أَتَيَانَا وَقَدْ بَايَعْنَا عَلِيًّا وَاسْتَقَامَتْ أُمُورُنَا، فَحَمَلَانَا عَلَى الْفُرْقَةِ حَتَّى ضَرَبَ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَنَحْنُ الْآنَ مُجْتَمِعُونَ عَلَى بَيْعَتِهِ، وَقَدْ أَقَالَ الْعَثْرَةَ، وَعَفَا عَنِ الْمُسِيءِ، أَفَتَأْمُرُنَا أَنْ نَنْتَضِيَ أَسْيَافَنَا، وَيَضْرِبَ بَعْضُنَا بَعْضًا لِيَكُونَ مُعَاوِيَةُ أَمِيرًا؟ وَاللَّهِ لَيَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ عَلِيٍّ خَيْرٌ مِنْ مُعَاوِيَةَ (وَآلِ مُعَاوِيَةَ) ! فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ السُّلَمِيُّ فَقَالَ لِلضَّحَّاكِ: اسْكُتْ فَلَسْتَ بِأَهْلٍ أَنْ تَتَكَلَّمَ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَقَالَ: نَحْنُ أَنْصَارُكَ وَيَدُكَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُكَ فَاقْرَأْ كِتَابَكَ. فَأَخْرُجَ كِتَابَ مُعَاوِيَةَ إِلَيْهِمْ يُذَكِّرُهُمْ فِيهِ آثَارَ عُثْمَانَ فِيهِمْ، وَحُبَّهُ الْعَافِيَةَ، وَسَدَّهُ ثُغُورَهُمْ، وَيَذْكُرُ قَتْلَهَ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الطَّلَبِ بِدَمِهِ، وَيَضْمَنُ أَنَّهُ يَعْمَلُ فِيهِمْ بِالسُّنَّةِ، وَيُعْطِيهِمْ عَطَاءَيْنِ فِي السَّنَةِ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ قَامَ الْأَحْنَفُ فَقَالَ: لَا نَاقَتِي فِي هَذَا وَلَا جَمَلِي. وَاعْتَزَلَ الْقَوْمَ. وَقَامَ عَمْرُو بْنُ مَرْحُومٍ الْعَبْدِيُّ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ الْزَمُوا طَاعَتَكُمْ وَجَمَاعَتَكُمْ، وَلَا تَنْكُثُوا بَيْعَتَكُمْ فَتَقَعَ بِكِمُ الْوَاقِعَةُ. وَكَانَ عَبَّاسُ بْنُ صُحَارٍ الْعَبْدِيُّ مُخَالِفًا لِقَوْمِهِ فِي حُبِّ عَلِيٍّ، فَقَامَ وَقَالَ: لَنَنْصُرَنَّكَ بِأَيْدِينَا وَأَلْسِنَتِنَا. فَقَالَ لَهُ الْمُثَنَّى بْنُ مُخَرِّبَةَ الْعَبْدِيُّ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَرْجِعْ

إِلَى مَكَانِكَ الَّذِي جِئْتِنَا مِنْهُ لِنُجَاهِدَنَّكَ بِأَسْيَافِنَا وَرِمَاحِنَا، وَلَا يَغُرَّنَّكَ هَذَا الَّذِي يَتَكَلَّمُ - يَعْنِي ابْنَ صُحَارٍ -. فَقَالَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ لِصَبْرَةَ بْنِ شَيْمَانَ: أَنْتَ نَابٌ مِنْ أَنْيَابِ الْعَرَبِ فَانْصُرْنِي. فَقَالَ: لَوْ نَزَلْتَ فِي دَارِي لَنَصَرْتُكَ. فَلَمَّا رَأَى زِيَادٌ ذَلِكَ خَافَ، فَاسْتَدْعَى حُضِيْنَ بْنَ الْمُنْذِرِ، وَمَالِكَ بْنَ مِسْمَعٍ فَقَالَ: أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ أَنْصَارُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَثِقَاتُهُ، وَقَدْ كَانَ مِنِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ مَا تَرَوْنَ، وَأَتَاهُ مَنْ أَتَاهُ فَامْنَعُونِي حَتَّى يَأْتِيَنِي أَمْرُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ حُضَيْنَ بْنُ الْمُنْذِرِ: نَعَمْ. وَقَالَ مَالِكٌ وَكَانَ رَأْيُهُ مَائِلًا إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ: هَذَا أَمْرٌ لِي فِيهِ شُرَكَاءُ أَسْتَشِيرُ فِيهِ وَأَنْظُرُ. فَلَمَّا رَأَى زِيَادٌ تَثَاقُلَ مَالِكٍ خَافَ أَنْ تَخْتَلِفَ عَلَيْهِ رَبِيعَةُ، فَأَرْسَلَ إِلَى صَبْرَةَ بْنَ شَيْمَانَ الْحُدَّانِيِّ الْأَزْدِيِّ يَطْلُبُ أَنْ يُجِيرَهُ وَبَيْتَ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ: إِنْ حَمَلْتَهُ إِلَى دَارِي أَجَرْتُكُمَا. فَنَقَلَهُ إِلَى دَارِهِ بِالْحُدَّانِ، وَنَقَلَ الْمِنْبَرَ أَيْضًا، فَكَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ بِمَسْجِدِ الْحُدَّانِ وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ. فَقَالَ زِيَادٌ لِجَابِرِ بْنِ وَهْبٍ الرَّاسِبِيِّ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنِّي لَا أَرَى ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ يَكُفُّ وَأَرَاهُ سَيُقَاتِلُكُمْ، وَلَا أَدْرِي مَا عِنْدَ أَصْحَابِكَ، فَانْظُرْ مَا عِنْدَهُمْ. فَلَمَّا صَلَّى زِيَادٌ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَقَالَ جَابِرٌ: يَا مَعْشَرَ الْأَزْدِ، إِنَّ تَمِيمًا تَزْعُمُ أَنَّهُمْ هُمُ النَّاسُ، وَأَنَّهُمْ أَصْبَرُ مِنْكُمْ عِنْدَ الْبَأْسِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَسِيرُوا إِلَيْكُمْ، وَيَأْخُذُوا جَارَكُمْ وَيُخْرِجُوهُ قَسْرًا، فَكَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ وَقَدْ أَجَرْتُمُوهُ وَبَيْتَ مَالِ الْمُسْلِمِينَ! فَقَالَ صَبْرَةُ بْنُ شَيْمَانَ، وَكَانَ مُفَخَّمًا: إِنْ جَاءَ الْأَحْنَفُ جِئْتُ، وَإِنْ جَاءَ حُتَاتُهُمْ جِئْتُ، وَإِنْ جَاءَ شَبَابُهُمْ فَفِينَا شَبَابٌ. وَكَتَبَ زِيَادٌ إِلَى عَلِيٍّ بِالْخَبَرِ، فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ إِلَيْهِ أَعْيَنَ بْنَ ضُبَيْعَةَ الْمُجَاشِعِيَّ ثُمَّ التَّمِيمِيَّ لِيُفَرِّقَ قَوْمَهُ عَنِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فَإِنِ امْتَنَعُوا قَاتَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ، وَكَتَبَ إِلَى زِيَادٍ يُعْلِمْهُ ذَلِكَ. فَقَدِمَ أَعْيَنُ، فَأَتَى زِيَادًا، فَنَزَلَ عِنْدَهُ، وَجَمَعَ رِجَالًا وَأَتَى قَوْمَهُ، وَنَهَضَ إِلَى ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَمَنْ مَعَهُ وَدَعَاهُمْ، فَشَتَمُوهُ، وَوَاقَفَهُمْ نَهَارَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ قَوْمٌ، قِيلَ إِنَّهُمْ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَقِيلَ وَضَعَهُمُ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ عَلَى قَتْلِهِ، وَكَانَ مَعَهُمْ، فَقَتَلُوهُ غِيلَةً، فَلَمَّا قُتِلَ أَعْيَنُ أَرَادَ زِيَادٌ قِتَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ تَمِيمٌ إِلَى الْأَزْدِ: إِنَّا

لَمْ نَعْرِضْ لِجَارِكُمْ فَمَا تُرِيدُونَ إِلَى جَارِنَا؟ فَكَرِهَتِ الْأَزْدُ قِتَالَهُمْ وَقَالُوا: إِنْ عَرَضُوا لِجَارِنَا مَنَعْنَاهُ. وَكَتَبَ زِيَادٌ إِلَى عَلِيٍّ يُخْبِرُهُ خَبَرَ أَعْيَنَ وَقَتْلِهِ، فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ جَارِيَةَ بْنَ قُدَامَةَ السَّعْدِيَّ، وَهُوَ مَنْ بَنِيَ سَعْدٍ مِنْ تَمِيمٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ خَمْسِينَ رَجْلًا، وَقِيلَ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ تَمِيمٍ، وَكَتَبَ إِلَى زِيَادٍ يَأْمُرُهُ بِمَعُونَةِ جَارِيَةَ وَالْإِشَارَةِ عَلَيْهِ. فَقَدِمَ جَارِيَةُ الْبَصْرَةَ، فَحَذَّرَهُ زِيَادٌ مَا أَصَابَ أَعْيَنَ، فَقَامَ جَارِيَةُ فِي الْأَزْدِ فَجَزَاهُمْ خَيْرًا وَقَالَ: عَرَفْتُمُ الْحَقَّ إِذْ جَهِلَهُ غَيْرُكُمْ. وَقَرَأَ كِتَابَ عَلِيٍّ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُوَبِّخُهُمْ وَيَتَهَدَّدُهُمْ وَيُعَنِّفُهُمْ، وَيَتَوَعَّدُهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ وَالْإِيقَاعِ بِهِمْ وَقْعَةً تَكُونُ وَقْعَةُ الْجَمَلِ عِنْدَهَا هَبَاءً. فَقَالَ صَبْرَةُ بْنُ شَيْمَانَ: سَمْعًا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَطَاعَةً! نَحْنُ حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَهُ وَسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَهُ. وَقَالَ أَبُو صُفْرَةَ - وَالِدُ الْمُهَلَّبِ، - لِزِيَادٍ: لَوْ أَدْرَكْتُ يَوْمَ الْجَمَلِ مَا قَاتَلَ قَوْمِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا صُفْرَةَ كَانَ تُوُفِّي فِي مَسِيرِهِ إِلَى صِفِّينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَارَ جَارِيَةُ إِلَى قَوْمِهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ عَلِيٍّ وَوَعَدَهُمْ، فَأَجَابَهُ أَكْثَرُهُمْ، فَسَارَ إِلَى ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَمَعَهُ الْأَزْدُ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَعَلَى خَيْلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ السُّلَمِيُّ، فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً، وَأَقْبَلَ شَرِيكُ بْنُ الْأَعْوَرِ الْحَارِثِيُّ فَصَارَ مَعَ جَارِيَةَ، فَانْهَزَمَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ فَتَحَصَّنَ بِقَصْرِ سُنْبِيلَ وَمَعَهُ ابْنُ خَازِمٍ، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ عَجْلَى، وَكَانَتْ حَبَشِيَّةً، فَأَمَرَتْهُ بِالنُّزُولِ، فَأَبَى، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَتَنْزِلَنَّ أَوْ لَأَنْزِعَنَّ ثِيَابِي! فَنَزَلَ وَنَجَا، وَأَحْرَقَ جَارِيَةُ الْقَصْرَ بِمَنْ فِيهِ، فَهَلَكَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَسَبْعُونَ رَجُلًا مَعَهُ، وَعَادَ زِيَادٌ إِلَى الْقَصْرِ، وَكَانَ قَصْرُ سُنْبِيلَ لِفَارِسَ قَدِيمًا، (وَصَارَ لِسْنُبِيلَ السَّعْدِيِّ، وَحَوْلَهُ خَنْدَقٌ) . وَكَانَ فِيمَنِ احْتَرَقَ دَرَاعُ بْنُ بَدْرٍ أَخُو حَارِثَةَ بْنِ بَدْرٍ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَرَنْدَسِ: رَدَدْنَا زِيَادًا إِلَى دَارِهِ ... وَجَارُ تَمِيمٍ دُخَانًا ذَهَبْ لَحَى اللَّهُ قَوْمًا شَوَوْا جَارَهُمْ ... وَلَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ حَرَّ اللَّهَبْ

فِي أَبْيَاتٍ غَيْرِ هَذِهِ، وَقَالَ جَرِيرٌ: غَدَرْتُمْ بِالزُّبَيْرِ فَمَا وَفَيْتُمْ ... وَفَاءَ الْأَزْدِ إِذْ مَنَعُوا زِيَادَا فَأَصْبَحَ جَارُهُمْ بِنَجَاةِ عِزٍّ ... وَجَارُ مُجَاشِعٍ أَمْسَى رَمَادَا فَلَوْ عَاقَدْتَ حَبْلَ أَبِي سَعِيدٍ ... لَذَادَ الْقَوْمَ مَا حَمَلَ النِّجَادَا وَأَدْنَى الْخَيْلَ مِنْ رَهَجِ الْمَنَايَا ... وَأَغْشَاهَا الْأَسِنَّةَ وَالصِّعَادَا جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ: بِالْجِيمِ وَالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ. وَحَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ: بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَبَعْدَهَا ثَاءٌ مُثَلَّثَةٌ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ: بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالزَّايِ. (وَالْمُثَنَّى بْنُ مُخَرِّبَةَ: بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَآخِرُهُ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ) . ذكر خَبَرِ الْخِرِّيتِ بْنِ رَاشِدٍ وَبَنِي نَاجِيَةَ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَظْهَرَ الْخِرِّيتُ بْنُ رَاشِدٍ النَّاجِيُّ الْخِلَافَ عَلَى عَلِيٍّ، فَجَاءَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ مَعَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ مِنْ بَنِي نَاجِيَةَ خَرَجُوا مَعَ عَلِيٍّ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَشَهِدُوا مَعَهُ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ، وَأَقَامُوا مَعَهُ بِالْكُوفَةِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ، فَحَضَرَ عِنْدَ عَلِيٍّ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا فَقَالَ لَهُ: يَا عَلِيُّ، وَاللَّهِ لَا أُطِيعُ أَمْرَكَ وَلَا أُصَلِّي خَلْفَكَ، وَإِنِّي غَدًا مُفَارِقٌ لَكَ - وَذَلِكَ بَعْدَ تَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ -. فَقَالَ لَهُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! إِذًا تَعْصِي رَبَّكَ، وَتَنْكُثُ عَهْدَكَ، وَلَا تَضُرُّ إِلَّا نَفْسَكَ! خَبِّرْنِي لِمَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّكَ حَكَّمْتَ وَضَعُفْتَ عَنِ الْحَقِّ، وَرَكَنْتَ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، فَأَنَا عَلَيْكَ زَارٍ، وَعَلَيْهِمْ نَاقِمٌ، وَلَكُمْ جَمِيعًا مُبَايِنٌ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: هَلُمَّ أُدَارِسُكَ الْكِتَابَ، وَأُنَاظِرُكَ فِي السُّنَنِ، وَأُفَاتِحُكَ أُمُورًا أَنَا أَعْلَمُ بِهَا مِنْكَ، فَلَعَلَّكَ تَعْرِفُ مَا أَنْتَ لَهُ الْآنَ مُنْكِرٌ، قَالَ: فَإِنِّي عَائِدٌ إِلَيْكَ. قَالَ: لَا يَسْتَهْوِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ، وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الْجُهَّالُ، وَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَرْشَدْتَنِي وَقَبِلْتَ مِنِّي لَأَهْدِيَنَّكَ سَبِيلَ الرَّشَادِ.

فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ مُنْصَرِفًا إِلَى أَهْلِهِ، وَسَارَ مِنْ لَيْلَتِهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. فَلَمَّا سَمِعَ بِمَسِيرِهِمْ عَلِيٌّ قَالَ: بُعْدًا لَهُمْ كَمَا بَعُدَتْ ثَمُودُ! إِنَّ الشَّيْطَانَ الْيَوْمَ اسْتَهْوَاهُمْ وَأَضَلَّهُمْ، وَهُوَ غَدًا مُتَبَرِّئٌ مِنْهُمْ. فَقَالَ لَهُ زِيَادُ بْنُ خَصَفَةَ الْبِكْرِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ لَمْ يَعْظُمْ عَلَيْنَا فَقَدُهُمْ فَتَأْسَى عَلَيْهِمْ، إِنَّهُمْ قَلَّ مَا يَزِيدُونَ فِي عَدَدِنَا لَوْ أَقَامُوا، وَلَقَلَّ مَا يُنْقِصُونَ مِنْ عَدَدِنَا بِخُرُوجِهِمْ عَنَّا، وَلَكِنَّا نَخَافُ أَنْ يُفْسِدُوا عَلَيْنَا جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِمَّنْ يَقْدَمُونَ عَلَيْكَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِكَ، فَأْذَنْ لِي فِي اتِّبَاعِهِمْ حَتَّى أَرُدَّهُمْ عَلَيْكَ. فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ تَوَجَّهُوا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ وَأَتَّبِعُ الْأَثَرَ. فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - وَانْزِلْ دَيْرَ أَبِي مُوسَى، وَأَقِمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي، فَإِنْ كَانُوا ظَاهِرِينَ فَإِنَّ عُمَّالِي سَيَكْتُبُونَ بِخَبَرِهِمْ. فَخَرَجَ زِيَادٌ فَأَتَى دَارَهُ، وَجَمَعَ أَصْحَابَهُ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَأَعْلَمَهُمُ الْخَبَرَ، فَسَارَ مَعَهُ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا، فَقَالَ: حَسْبِي. ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى دَيْرَ أَبِي مُوسَى، فَنَزَلَهُ يَوْمًا يَنْتَظِرُ أَمْرَ عَلِيٍّ، وَأَتَى عَلِيًّا كِتَابٌ مِنْ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيِّ يُخْبِرُهُ أَنَّهُمْ تَوَجَّهُوا نَحْوَ نِفَّرَ، وَأَنَّهُمْ قَتَلُوا رَجُلًا مِنَ الدَّهَاقِينَ كَانَ أَسْلَمَ. فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ إِلَى زِيَادٍ يَأْمُرُهُ بِاتِّبَاعِهِمْ، وَيُخْبِرُهُ خَبَرَهُمْ وَأَنَّهُمْ قَتَلُوا رَجْلًا مُسْلِمًا، وَيَأْمُرُهُ بِرَدِّهِمْ إِلَيْهِ، فَإِنْ أَبَوْا يُنَاجِزُهُمْ، وَسَيَّرَ الْكِتَابَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَالٍ، فَاسْتَأْذَنَهُ عَبْدُ اللَّهِ فِي الْمَسِيرِ مَعَ زِيَادٍ، فَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْ أَعْوَانِي عَلَى الْحَقِّ وَأَنْصَارِي عَلَى الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. قَالَ ابْنُ وَالٍ: فَوَاللَّهِ مَا أَحَبُّ أَنَّ لِي بِمَقَالَتِهِ تِلْكَ حُمْرَ النَّعَمِ. وَسَارَ بِكِتَابِ عَلِيٍّ إِلَى زِيَادٍ، وَسَارُوا حَتَّى أَتَوْا نِفَّرَ، فَقِيلَ إِنَّهُمْ سَارُوا نَحْوَ جَرْجَرَايَا، فَتَبِعُوا آثَارَهُمْ حَتَّى أَدْرَكُوهُمْ بِالْمَذَارِ وَهُمْ نُزُولٌ قَدْ أَقَامُوا يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ وَاسْتَرَاحُوا، فَأَتَاهُمْ زِيَادٌ وَقَدْ تَقَطَّعَ أَصْحَابُهُ وَتَعِبُوا، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ رَكِبُوا خُيُولَهُمْ، وَقَالَ لَهُمُ الْخِرِّيتُ: أَخْبِرُونِي مَا تُرِيدُونَ. فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ، وَكَانَ مُجَرِّبًا رَفِيقًا: قَدْ تَرَى مَا بِنَا مِنَ التَّعَبِ، وَالَّذِي جِئْنَاكَ لَهُ لَا يُصْلِحُهُ الْكَلَامُ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ نَنْزِلُ، ثُمَّ نَخْلُو جَمِيعًا فَنَتَذَاكَرُ أَمْرَنَا، فَإِنْ رَأَيْتَ مَا جِئْنَاكَ بِهِ حَظًّا لِنَفْسِكَ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ رَأَيْنَا فِيمَا نَسْمَعُ مِنْكَ أَمْرًا نَرْجُو فِيهِ الْعَافِيَةَ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ. قَالَ: فَانْزِلْ. فَنَزَلَ زِيَادٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى مَاءٍ هُنَاكَ، وَأَكَلُوا شَيْئًا وَعَلَّقُوا عَلَى دَوَابِّهِمْ، وَوَقَفَ زِيَادٌ فِي خَمْسَةِ فَوَارِسَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَبَيْنَ الْقَوْمِ، وَكَانُوا قَدْ نَزَلُوا أَيْضًا،

وَقَالَ زِيَادٌ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ عِدَّتَنَا كَعِدَّتِهِمْ، وَأَرَى أَمْرَنَا يَصِيرُ إِلَى الْقِتَالِ، فَلَا تَكُونُوا أَعْجَزَ الْفَرِيقَيْنِ. وَخَرَجَ زِيَادٌ إِلَى الْخِرِّيتِ فَسَمِعَهُمْ يَقُولُونَ: جَاءَنَا الْقَوْمُ وَهُمْ كَالُّونَ تَعِبُونَ، فَتَرَكْنَاهُمْ حَتَّى اسْتَرَاحُوا، هَذَا وَاللَّهِ سُوءُ الرَّأْيِ. فَدَعَاهُ زِيَادٌ وَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي نَقَمْتَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَيْنَا حَتَّى فَارَقَتْنَا؟ فَقَالَ: لَمْ أَرْضَ صَاحِبَكُمْ إِمَامًا وَلَا سِيرَتَكُمْ سِيرَةً، فَرَأَيْتُ أَنْ أَعْتَزِلَ وَأَكُونَ مَعَ مَنْ يَدْعُو إِلَى الشُّورَى، فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ: وَهَلْ يَجْتَمِعُ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ يُدَانِي صَاحِبَكَ الَّذِي فَارَقْتَهُ عِلْمًا بِاللَّهِ وَسُنَّتِهِ وَكِتَابِهِ مَعَ قَرَابَتِهِ مِنَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَابَقَتِهِ فِي الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ لَهُ: ذَلِكَ لَا أَقُولُ لَكَ. فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ: فَفِيمَ قَتَلْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ؟ فَقَالَ لَهُ: مَا أَنَا قَتَلْتُهُ وَإِنَّمَا قَتَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِي. قَالَ: فَادْفَعْهُمْ إِلَيْنَا. قَالَ: مَا لِي إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ. فَدَعَا زِيَادٌ أَصْحَابَهُ، وَدَعَا الْخِرِّيتُ أَصْحَابَهُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا تَطَاعَنُوا بِالرِّمَاحِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ رُمْحٌ، وَتَضَارَبُوا بِالسُّيُوفِ حَتَّى انْحَنَتِ، وَعُقِرَتْ عَامَّةُ خُيُولِهِمْ، وَكَثُرَتِ الْجِرَاحَةُ فِيهِمْ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ زِيَادٍ رَجُلَانِ وَمِنْ أُولَئِكَ خَمْسَةٌ، وَجَاءَ اللَّيْلُ فَحَجَزَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَجُرِحَ زِيَادٌ، فَسَارَ الْخِرِّيتُ مِنَ اللَّيْلِ، وَسَارَ زِيَادٌ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَتَاهُمْ خَبَرُ الْخِرِّيتِ أَنَّهُ أَتَى الْأَهْوَازَ، فَنَزَلَ بِجَانِبٍ مِنْهَا، وَتَلَاحَقَ بِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، فَصَارُوا نَحْوَ مِائَتَيْنِ، فَكَتَبَ زِيَادٌ إِلَى عَلِيٍّ بِخَبَرِهِمْ، وَأَنَّهُ مُقِيمٌ يُدَاوِي الْجَرْحَى وَيَنْتَظِرُ أَمْرَهُ. فَلَمَّا قَرَأَ عَلِيٌّ كِتَابَهُ قَامَ إِلَيْهِ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَ مَنْ يَطْلُبُ هَؤُلَاءِ مَكَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشْرَةٌ، فَإِذَا لَحِقُوهُمُ اسْتَأْصَلُوهُمْ وَقَطَعُوا دَابِرَهُمْ، فَأَمَّا أَنْ يَلْقَاهُمْ عَدَدُهُمْ، فَلَعَمْرِي لَيَصْبِرُنَّ لَهُمْ، فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَصْبِرُ لِلْعِدَّةِ. فَقَالَ: تَجَهَّزْ يَا مَعْقِلُ إِلَيْهِمْ، وَنَدَبَ مَعَهُ أَلْفَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، مِنْهُمْ يَزِيدُ بْنُ الْمَعَقِّلِ الْأَسَدِيُّ. وَكَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَبْعَثَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ رَجْلًا شُجَاعًا مَعْرُوفًا بِالصَّلَاحِ فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ إِلَى مَعْقِلٍ - وَهُوَ أَمِيرُ أَصْحَابِهِ - حَتَّى يَأْتِيَ مَعْقِلًا، فَإِذَا لَقِيَهُ كَانَ مَعْقِلٌ الْأَمِيرَ. وَكَتَبَ إِلَى زِيَادِ بْنِ خَصَفَةَ يَشْكُرُهُ، وَيَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ. وَاجْتَمَعَ عَلَى الْخِرِّيتِ النَّاجِيِّ عُلُوجٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَازِ كَثِيرٌ، أَرَادُوا كَسْرَ الْخَرَاجِ،

وَلُصُوصٌ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى مِنَ الْعَرَبِ تَرَى رَأْيَهُ، وَطَمِعَ أَهْلُ الْخَرَاجِ فِي كَسْرِهِ فَكَسَرُوهُ، وَأَخْرَجُوا سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ مِنْ فَارِسَ، وَكَانَ عَامِلًا لَعَلِّي عَلَيْهَا (فِي قَوْلِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ) . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَعَلِيٍّ: أَنَا أَكْفِيكَ فَارِسَ بِزِيَادٍ - يَعْنِي ابْنَ أَبِيهِ - فَأَمَرَهُ بِإِرْسَالِهِ إِلَيْهَا (وَتَعْجِيلِ تَسْيِيرِهِ) ، فَأَرْسَلَ زِيَادًا إِلَيْهَا فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَوَطِئَ بِلَادَ فَارِسَ، فَأَدَّوُا الْخَرَاجَ وَاسْتَقَامُوا. وَسَارَ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ، وَوَصَّاهُ عَلِيٌّ فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتَ، وَلَا تَبْغِ عَلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَلَا تَظْلِمْ أَهْلَ الذِّمَّةِ، وَلَا تَتَكَبَّرْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُتَكَبِّرِينَ. فَقَدِمَ مَعْقِلٌ الْأَهْوَازَ يَنْتَظِرُ مَدَدَ الْبَصْرَةِ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَسَارَ عَنِ الْأَهْوَازِ يَطْلُبُ الْخِرِّيتَ، فَلَمْ يَسِرْ إِلَّا يَوْمًا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْمَدَدُ مَعَ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ الطَّائِيِّ، فَسَارُوا جَمِيعًا، فَلَحِقُوهُمْ قُرَيْبَ جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ رَامَهُرْمُزْ، فَصَفَّ مَعْقِلٌ أَصْحَابَهُ، فَجَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ يَزِيدَ بْنَ الْمَعَقِّلِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ مِنْجَابَ بْنَ رَاشِدٍ الضَّبِّيَّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَصَفَّ الْخِرِّيتُ أَصْحَابَهُ فَجَعَلَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَرَبِ مَيْمَنَةً، وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ وَالْعُلُوجِ مَيْسَرَةً، وَمَعَهُمُ الْأَكْرَادُ، وَحَرَّضَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابَهُ، وَحَرَّكَ مَعْقِلٌ رَأْسَهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ حَمَلَ فِي الثَّالِثَةِ، فَصَبَرُوا لَهُ سَاعَةً ثُمَّ انْهَزَمُوا، فَقَتَلَ أَصْحَابُ مَعْقِلٍ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ بَنِي نَاجِيَةَ، وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، وَقَتَلُوا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْعُلُوجِ وَالْأَكْرَادِ، وَانْهَزَمَ الْخِرِّيتُ بْنُ رَاشِدٍ فَلَحِقَ بِأَسْيَافِ الْبَحْرِ، وَبِهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَمَا زَالَ يَسِيرُ فِيهِمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى خِلَافِ عَلِيٍّ وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ الْهُدَى فِي حَرْبِهِ، حَتَّى اتَّبَعَهُ مِنْهُمْ نَاسٌ كَثِيرٌ. وَأَقَامَ مَعْقِلٌ بِأَرْضِ الْأَهْوَازِ، وَكَتَبَ إِلَى عَلِيٍّ بِالْفَتْحِ، فَقَرَأَ عَلِيٌّ الْكِتَابَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَاسْتَشَارَهُمْ، قَالُوا كُلُّهُمْ: نَرَى أَنْ تَأْمُرَ مَعْقِلًا أَنْ يَتْبَعَ آثَارَ الْفَاسِقِ حَتَّى يَقْتُلَهُ أَوْ يَنْفِيَهُ، فَإِنَّا لَا نَأْمَنُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْكَ النَّاسَ. فَكَتَبَ إِلَى مَعْقِلٍ يُثْنِي عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ، وَيَأْمُرُهُ بِاتِّبَاعِهِ

وَقَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ. فَسَأَلَ مَعْقِلٌ عَنْهُ، فَأُخْبِرَ بِمَكَانِهِ بِالْأَسْيَافِ وَأَنَّهُ قَدْ رَدَّ قَوْمَهُ عَنْ طَاعَةِ عَلِيٍّ، وَأَفْسَدَ مَنْ عِنْدَهُ (مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ وَسَائِرِ الْعَرَبِ، وَكَانَ) قَوْمُهُ قَدْ مَنَعُوا الصَّدَقَةَ عَامَ صِفِّينَ وَذَلِكَ الْعَامَ. فَسَارَ إِلَيْهِمْ مَعْقِلٌ، فَأَخَذَ عَلَى فَارِسَ، وَانْتَهَى إِلَى أَسْيَافِ الْبَحْرِ. فَلَمَّا سَمِعَ الْخِرِّيتُ بِمَسِيرِهِ قَالَ لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْخَوَارِجِ: أَنَا عَلَى رَأْيِكُمْ وَإِنَّ عَلِيًّا، لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يُحَكِّمَ. وَقَالَ لِلْآخَرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ: إِنَّ عَلِيًّا حَكَّمَ وَرَضِيَ، فَخَلَعَهُ حَكَمُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ، وَهَذَا كَانَ الرَّأْيُ الَّذِي خَرَجَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُوفَةِ وَإِلَيْهِ كَانَ يَذْهَبُ. وَقَالَ سِرًّا لِلْعُثْمَانِيَّةِ: أَنَا وَاللَّهِ عَلَى رَأْيِكُمْ، قَدْ وَاللَّهِ قُتِلَ عُثْمَانُ مَظْلُومًا. فَأَرْضَى كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ. وَقَالَ لِمَنْ مَنَعَ الصَّدَقَةَ: شُدُّوا أَيْدِيَكُمْ عَلَى صَدَقَاتِكُمْ، وَصِلُوا بِهَا أَرْحَامَكُمْ. (وَكَانَ فِيهَا نَصَارَى كَثِيرٌ قَدْ أَسْلَمُوا، فَلَمَّا اخْتَلَفَ النَّاسُ قَالُوا: وَاللَّهِ لَدِينُنَا الَّذِي خَرَجْنَا مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِ هَؤُلَاءِ، لَا يَنْهَاهُمْ دِينُهُمْ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ. (فَقَالَ لَهُمُ الْخِرِّيتُ: وَيَحَكُمُ! لَا يُنْجِيكُمْ مِنَ الْقَتْلِ إِلَّا قَتْلُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ) وَالصَّبْرُ، فَإِنَّ حُكْمَهُمْ فِيمَنْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ أَنْ يُقْتَلَ، وَلَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ تَوْبَةً وَلَا عُذْرًا. فَخَدَعَهُمْ جَمِيعَهُمْ. وَأَتَاهُ مَنْ كَانَ مِنْ بَنِي نَاجِيَةَ وَغَيْرِهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ. فَلَمَّا انْتَهَى مَعْقِلٌ إِلَيْهِ نَصَبَ رَايَةَ أَمَانٍ وَقَالَ: مَنْ أَتَاهُمْ مِنَ النَّاسِ فَهُوَ آمِنٌ، إِلَّا الْخِرِّيتُ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ حَارَبُونَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَتَفَرَّقَ عَنِ الْخِرِّيتِ جُلُّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ قَوْمِهِ، وَعَبَّأَ مَعْقِلٌ أَصْحَابَهُ، وَزَحَفَ نَحْوَ الْخِرِّيتِ وَمَعَهُ قَوْمُهُ مُسْلِمُهُمْ وَنَصْرَانِيُّهُمْ وَمَانِعُ الزَّكَاةِ مِنْهُمْ. فَقَالَ الْخِرِّيتُ لِمَنْ مَعَهُ: قَاتِلُوا عَنْ حَرِيمِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ ظَهَرُوا عَلَيْكُمْ لَيَقْتُلُنَّكُمْ وَلَيَسُبُنَّكُمْ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ: هَذَا وَاللَّهِ مَا جَرَّتْهُ عَلَيْنَا يَدُكَ وَلِسَانُكَ. فَقَالَ: سَبَقَ السَّيْفُ الْعَذْلَ. وَسَارَ مَعْقِلٌ فِي النَّاسِ يُحَرِّضُهُمْ وَيَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ مَا تُرِيدُونَ أَفْضَلَ مِمَّا سَبَقَ لَكُمْ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ؟ إِنَّ اللَّهَ سَاقَكُمْ إِلَى قَوْمٍ مَنَعُوا الصَّدَقَةَ، وَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَنَكَثُوا الْبَيْعَةَ ظُلْمًا، فَأَشْهَدُ لِمَنْ يُقْتَلُ مِنْكُمْ بِالْجَنَّةِ، وَمَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ مُقِرُّ عَيْنِهِ بِالْفَتْحِ. ثُمَّ حَمَلَ مَعْقِلٌ وَجَمِيعُ مَنْ مَعَهُ، فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَصَبَرُوا لَهُ، ثُمَّ إِنَّ

النُّعْمَانَ بْنَ صَهْبَانَ الرَّاسِبِيَّ بَصُرَ بِالْخِرِّيتِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ، فَصُرِعَ عَنْ دَابَّتِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَقَتَلَهُ النُّعْمَانُ، وَقُتِلَ مَعَهُ فِي الْمَعْرَكَةِ سَبْعُونَ وَمِائَةُ رَجُلٍ، وَذَهَبَ الْبَاقُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَسَبَى مَعْقِلٌ مَنْ أَدْرَكَ مِنْ حَرِيمِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، وَأَخَذَ رِجَالًا كَثِيرًا، وَأَمَّا مَنْ كَانَ ارْتَدَّ فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ فَرَجَعُوا، فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ وَسَبِيلَ عِيَالِهِمْ، إِلَّا شَيْخًا كَبِيرًا نَصْرَانِيًّا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ الرُّمَاحِسُ لَمْ يُسْلِمْ فَقَتَلَهُ، وَجَمَعَ مَنْ مَنَعَ الصَّدَقَةَ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ صَدَقَةَ عَامَيْنِ، وَأَمَّا النَّصَارَى وَعِيَالُهُمْ فَاحْتَمَلَهُمْ مُقْبِلًا بِهِمْ، وَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُمْ يُشَيِّعُونَهُمْ، فَلَمَّا وَدَّعُوهُمْ بَكَى الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى رَحِمَهُمُ النَّاسُ. وَكَتَبَ مَعْقِلٌ إِلَى عَلِيٍّ بِالْفَتْحِ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِمْ حَتَّى مَرَّ عَلَى مَصْقَلَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ الشَّيْبَانِيِّ، وَهُوَ عَامِلُ عَلِيٍّ عَلَى أَرْدَشِيرَخُرَّهْ، وَهُمْ خَمْسُمِائَةِ إِنْسَانٍ، فَبَكَى النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَصَاحَ الرِّجَالُ: يَا أَبَا الْفَضْلِ! يَا حَامِيَ الرِّجَالِ (وَمَأْوَى الْمُعْضَبِ) ، وَفَكَّاكَ الْعُنَاةِ، امْنُنْ عَلَيْنَا وَاشْتَرِنَا وَأَعْتِقْنَا! فَقَالَ مَصْقَلَةُ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَأَتَصَدَّقَنَّ عَلَيْكُمْ! إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ. فَبَلَغَ قَوْلُهُ مَعْقِلًا فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ قَالَهَا تَوَجُّعًا عَلَيْهِمْ وَإِزْرَاءً عَلَيْنَا لَضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَلَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَفَانِي تَمِيمٍ وَبَكْرٍ. ثُمَّ إِنَّ مَصْقَلَةَ اشْتَرَاهُمْ مِنْ مَعْقِلٍ بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: عَجِّلِ الْمَالَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَنَا أَبْعَثُ الْآنَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ. وَأَقْبَلَ مَعْقِلٌ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْهُ، فَاسْتَحْسَنَهُ، وَبَلَغَ عَلِيًّا أَنَّ مَصْقَلَةَ أَعْتَقَ الْأَسْرَى، وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ أَنْ يُعِينُوهُ بِشَيْءٍ، فَقَالَ: مَا أَظُنُّ مَصْقَلَةَ إِلَّا قَدْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً سَتَرَوْنَهُ عَنْ قَرِيبٍ مِنْهَا مُبَلَّدًا. وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمَالَ أَوْ يَحْضُرُ عِنْدَهُ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ وَحَمَلَ مِنَ الْمَالِ مِائَتَيْ أَلْفٍ. قَالَ ذُهْلُ بْنُ الْحَارِثِ: فَاسْتَدْعَانِي لَيْلَةً فَطَعِمْنَا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسْأَلُنِي هَذَا الْمَالَ، وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَوْ شِئْتَ مَا مَضَتْ جُمُعَةٌ حَتَّى تَحْمِلَهُ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ لِأُحَمِّلَهَا قَوْمِي، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كَانَ ابْنُ هِنْدٍ مَا طَالَبَنِي بِهَا، وَلَوْ كَانَ ابْنُ عَفَّانَ لَوَهَبَهَا لِي، أَلَمْ تَرَهُ أَطْعَمَ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ كُلَّ سَنَةٍ مِنْ خَرَاجِ أَذْرَبَيْجَانَ مِائَةَ أَلْفٍ؟ قَالَ:

فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا لَا يَرَى ذَلِكَ الرَّأْيَ وَلَا يَتْرُكُ مِنْهَا شَيْئًا. فَهَرَبَ مَصْقَلَةُ مِنْ لَيْلَتِهِ فَلَحِقَ بِمُعَاوِيَةَ، وَبَلَغَ عَلِيًّا ذَلِكَ فَقَالَ: مَا لَهُ تَرَّحَهُ اللَّهُ، فَعَلَ فِعْلَ السَّيِّدِ، وَفَرَّ فِرَارَ الْعَبْدِ، وَخَانَ خِيَانَةَ الْفَاجِرِ! أَمَا إِنَّهُ لَوْ أَقَامَ فَعَجَزَ مَا زِدْنَا عَلَى حَبْسِهِ، فَإِنْ وَجَدْنَا لَهُ شَيْئًا أَخَذْنَاهُ وَإِلَّا تَرَكْنَاهُ. ثُمَّ سَارَ عَلِيٌّ إِلَى دَارِهِ فَهَدَمَهَا، وَأَجَازَ عِتْقَ السَّبْيِ وَقَالَ: أَعْتَقَهُمْ مُبْتَاعُهُمْ وَصَارَتْ أَثْمَانُهُمْ دَيْنًا عَلَى مُعْتِقِهِمْ. وَكَانَ أَخُوهُ نُعَيْمُ بْنُ هُبَيْرَةَ شِيعَةً لَعَلِيٍّ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَصْقَلَةُ مِنَ الشَّامِ مَعَ رَجُلٍ مِنْ نَصَارَى تَغْلِبَ اسْمُهُ حُلْوَانُ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَدْ وَعَدَكَ الْإِمَارَةَ وَالْكَرَامَةَ، فَأَقْبِلْ سَاعَةَ يَلْقَاكَ رَسُولِي، وَالسَّلَامُ. فَأَخَذَهُ مَالِكُ بْنُ كَعْبٍ الْأَرْحَبِيُّ فَسَرَّحَهُ إِلَى عَلِيٍّ، فَقَطَعَ يَدَهُ، فَمَاتَ، وَكَتَبَ نُعَيْمٌ إِلَى مَصْقَلَةَ يَقُولُ: لَا تَرْمِيَنَّ هَدَاكَ اللَّهُ مُعْتَرِضًا ... بِالظَّنِّ مِنْكَ فَمَا بَالِي وَحُلْوَانَا ذَاكَ الْحَرِيصُ عَلَى مَا نَالَ مِنْ طَمَعٍ ... وَهُوَ الْبَعِيدُ فَلَا يَحْزُنْكَ إِنْ خَانَا مَاذَا أَرَدْتَ إِلَى إِرْسَالِهِ سَفَهًا ... تَرْجُو سِقَاطَ امْرِئٍ لَمْ يُلْفَ وَسْنَانَا قَدْ كُنْتَ فِي مَنْظَرٍ عَنْ ذَا وَمُسْتَمَعٍ ... تَحْمِي الْعِرَاقَ وَتُدْعَى خَيْرَ شَيْبَانَا حَتَّى تَقَحَّمْتَ أَمْرًا كُنْتَ تَكْرَهُهُ ... لِلرَّاكِبِينَ لَهُ سِرًّا وَإِعْلَانَا عَرَّضْتَهُ لِعَلِيٍّ إِنَّهُ أَسَدٌ ... يَمْشِي الْعِرَضْنَةَ مِنْ آسَادِ خَفَّانَا لَوْ كُنْتَ أَدَّيْتَ مَالَ الْقَوْمِ مُصْطَبِرًا ... لِلْحَقِّ أَحْيَيْتَ أَحْيَانَا وَمَوْتَانَا لَكِنْ لَحِقْتَ بِأَهْلِ الشَّامِ مُلْتَمِسًا ... فَضْلَ ابْنِ هِنْدٍ وَذَاكَ الرَّأْيُ أَشْجَانَا فَالْيَوْمَ تَقْرَعُ سِنَّ الْعَجْزِ مِنْ نَدَمٍ ... مَاذَا تَقُولُ وَقَدْ كَانَ الَّذِي كَانَا فَالْيَوْمَ تُبْغِضُكَ الْأَحْيَاءُ قَاطِبَةً ... لَمْ يَرْفَعِ اللَّهُ بِالْبَغْضَاءِ إِنْسَانَا فَلَمَّا وَقَعَ الْكِتَابُ إِلَيْهِ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، وَأَتَاهُ التَّغْلِبِيُّونَ فَطَلَبُوا مِنْهُ دِيَةَ

صَاحِبِهِمْ، فَوَدَاهُ لَهُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي بَنِي نَاجِيَةَ: سَمَا لَكُمْ بِالْخَيْلِ قُودًا عَوَابِسًا ... أَخُو ثِقَةٍ مَا يَبْرَحُ الدَّهْرَ غَازِيَا فَصَبَّحَكُمْ فِي رَجْلِهِ وَخُيُولِهِ ... بِضَرْبٍ تَرَى مِنْهُ الْمُدَجَّجَ هَاوِيَا فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ بَعْدِ كِبْرٍ وَنَخْوَةٍ ... عَبِيدَ الْعَصَا لَا تَمْنَعُونَ الذَّرَارِيَا وَقَالَ مَصْقَلَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ: لَعَمْرِي لَئِنْ عَابَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَلَيَّ انْتِعَاشَ بَنِي نَاجِيَهْ ... لَأَعْظَمُ مِنْ عِتْقِهِمْ رِقُّهُمْ وَكَفِّي بِعِتْقِهِمُ مَالِيَهْ وَزَايَدْتُ فِيهِمْ لِإِطْلَاقِهِمْ وَغَالَيْتُ إِنَّ الْعُلَى غَالِيَهْ ذكر أَمْرِ الْخَوَارِجِ بَعْدَ النَّهْرَوَانِ لَمَّا قُتِلَ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ خَرَجَ أَشْرَسُ بْنُ عَوْفٍ عَلَى عَلِيٍّ بِالدَّسْكَرَةِ فِي مِائَتَيْنِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْأَنْبَارِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ الْأَبْرَشَ بْنَ حَسَّانَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ فَوَاقَعَهُ، فَقُتِلَ أَشْرَسُ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ. ثُمَّ خَرَجَ هِلَالُ بْنُ عُلَّفَةَ مِنْ تَيْمِ الرِّبَابِ وَمَعَهُ أَخُوهُ مُجَالِدٌ، فَأَتَى مَاسَبَذَانَ، فَوَجَّهَ

إِلَيْهِ عَلِيٌّ مَعْقِلَ بْنَ قَيْسٍ الرِّيَاحَيَّ، فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ مِائَتَيْنِ، وَكَانَ قَتْلُهُمْ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ. ثُمَّ خَرَجَ الْأَشْهَبُ بْنُ بِشْرٍ، وَقِيلَ الْأَشْعَثُ - وَهُوَ مِنْ بَجِيلَةَ - فِي مِائَةٍ وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فَأَتَى الْمَعْرَكَةَ الَّتِي أُصِيبَ فِيهَا هِلَالٌ وَأَصْحَابُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِمْ، وَدَفَنَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ جَارِيَةَ بْنَ قُدَامَةَ السَّعْدِيَّ، وَقِيلَ حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمُ الْأَشْهَبُ، فَاقْتَتَلَا بُجَرْجَرَايَا مِنْ أَرْضِ جُوخَى، فَقُتِلَ الْأَشْهَبُ وَأَصْحَابُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ. ثُمَّ خَرَجَ سَعِيدُ بْنُ قُفْلٍ التَّيْمِيُّ (مِنْ تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فِي رَجَبٍ) بِالْبَنْدَنِيجَيْنِ (وَمَعَهُ مِائَتَا رِجْلٍ، فَأَتَى دَرْزَنْجَانَ، وَهِيَ مِنَ الْمَدَائِنِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَتَلَهُمْ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ. ثُمَّ خَرَجَ أَبُو مَرْيَمَ السَّعْدِيُّ التَّمِيمِيُّ) (فَأَتَى شَهْرَزَوْرَ، وَأَكْثَرُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَوَالِي، وَقِيلَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنَ الْعَرَبِ غَيْرُ سِتَّةِ نَفَرٍ، هُوَ أَحَدُهُمْ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ مِائَتَا رَجُلٍ، وَقِيلَ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَعَادَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى خَمْسَةِ فَرَاسِخَ مِنَ الْكُوفَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ يَدْعُوهُ إِلَى بَيْعَتِهِ وَدُخُولِ الْكُوفَةِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: لَيْسَ بَيْنَنَا غَيْرُ الْحَرْبِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ شُرَيْحَ بْنَ هَانِئٍ فِي سَبْعِمِائَةٍ، فَحَمَلَ الْخَوَارِجُ عَلَى شُرَيْحٍ وَأَصْحَابِهِ، فَانْكَشَفُوا، وَبَقِيَ شُرَيْحٌ فِي مِائَتَيْنِ، فَانْحَازَ إِلَى قَرْيَةٌ، فَتَرَاجَعَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَدَخْلَ الْبَاقُونَ الْكُوفَةَ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ بِنَفْسِهِ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ جَارِيَةَ بْنَ قُدَامَةَ السَّعْدِيَّ، فَدَعَاهُمْ جَارِيَةُ إِلَى طَاعَةِ عَلِيٍّ، وَحَذَّرَهُمُ الْقَتْلَ فَلَمْ يُجِيبُوا، وَلَحِقَهُمْ عَلِيٌّ أَيْضًا، فَدَعَاهُمْ فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ،

فَقَتَلَهُمْ أَصْحَابُ عَلِيٍّ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ غَيْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا اسْتَأْمَنُوا فَآمَنَهُمْ. وَكَانَ فِي الْخَوَارِجِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا جَرْحَى، فَأَمَرَ عَلِيٌّ بِإِدْخَالِهِمُ الْكُوفَةَ وَمُدَاوَاتِهِمْ حَتَّى بَرَأُوا. وَكَانَ قَتْلُهُمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، (وَكَانُوا مَنْ أَشْجَعِ مَنْ قَاتَلَ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَلِجُرْأَتِهِمْ قَارَبُوا الْكُوفَةَ) . ذكر عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ مِنْ قِبَلِ عَلِيٍّ، وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى مَكَّةَ. وَكَانَ عَلَى الْيَمَنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلَى خُرَاسَانَ خُلَيْدُ بْنُ قُرَّةَ الْيَرْبُوعِيُّ، وَقِيلَ كَانَ ابْنُ أَبْزَى، (وَأَمَّا الشَّامُ وَمِصْرُ فَكَانَ بِهِمَا مُعَاوِيَةُ وَعُمَّالُهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَكَانَ عُمْرُهُ سَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ) .

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ] 39 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ ذكر سَرَايَا أَهْلِ الشَّامِ إِلَى بِلَادِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فَرَّقَ مُعَاوِيَةُ جُيُوشَهُ فِي الْعِرَاقِ فِي أَطْرَافِ عَلِيٍّ، فَوَجَّهَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ فِي أَلْفِ رَجُلٍ إِلَى عَيْنِ التَّمْرِ، وَفِيهَا مَالِكُ بْنُ كَعْبٍ مَسْلَحَةٌ لَعَلِيٍّ فِي أَلْفِ رَجُلٍ، وَكَانَ مَالِكٌ قَدْ أَذِنَ لِأَصْحَابِهِ فَأَتَوُا الْكُوفَةَ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا مِائَةُ رَجُلٍ، فَلَمَّا سَمِعَ بِالنُّعْمَانِ كَتَبَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يُخْبِرُهُ وَيَسْتَمِدُّهُ، فَخَطَبَ عَلِيٌّ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِ، فَتَثَاقَلُوا، وَوَاقَعَ مَالِكٌ النُّعْمَانَ، وَجَعَلَ جِدَارَ الْقَرْيَةِ فِي ظُهُورِ أَصْحَابِهِ، وَكَتَبَ مَالِكٌ إِلَى مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ يَسْتَعِينُهُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ، وَاقْتَتَلَ مَالِكٌ وَالنُّعْمَانُ أَشَدَّ قِتَالٍ، فَوَجَّهَ مِخْنَفُ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فِي خَمْسِينَ رَجْلًا، فَانْتَهَوْا إِلَى مَالِكٍ وَقَدْ كَسَرُوا جُفُونَ سُيُوفِهِمْ وَاسْتَقْتَلُوا، فَلَمَّا رَآهُمْ أَهْلُ الشَّامِ انْهَزَمُوا عِنْدَ الْمَسَاءِ، وَظَنُّوا أَنَّ لَهُمْ مَدَدًا، وَتَبِعَهُمْ مَالِكٌ فَقَتَلَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ. وَلَمَّا تَثَاقَلَ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى مَالِكٍ صَعِدَ عَلِيٌّ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، كُلَّمَا سَمِعْتُمْ بِجَمْعٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَظَلَّكُمُ انْجَحَرَ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ فِي بَيْتِهِ، وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ انْجِحَارَ الضَّبِّ فِي جُحْرِهِ وَالضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا، الْمَغْرُورُ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ، وَمَنْ فَازَ بِكُمْ فَازَ بِالسَّهْمِ الْأَخْيَبِ، لَا أَحْرَارَ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَلَا إِخْوَانَ عِنْدَ النِّجَاءِ! وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! مَاذَا مُنِيتُ بِهِ مِنْكُمْ؟ عُمْيٌ لَا يُبْصِرُونَ، وَبُكْمٌ لَا يَنْطِقُونَ، وَصُمٌّ لَا يَسْمَعُونَ! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

وَوَجَّهَ مُعَاوِيَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا سُفْيَانَ بْنَ عَوْفٍ فِي سِتَّةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ هِيتَ فَيَقْطَعَهَا، ثُمَّ يَأْتِيَ الْأَنْبَارَ، (وَالْمَدَائِنَ فَيُوقِعَ بِأَهْلِهَا. فَأَتَى هِيتَ فَلَمْ يَجِدْ بِهَا أَحَدًا، ثُمَّ أَتَى الْأَنْبَارَ) وَفِيهَا مَسْلَحَةٌ لِعَلِيٍّ تَكُونُ خَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ، وَقَدْ تَفَرَّقُوا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا مِائَتَا رَجُلٍ، وَكَانَ سَبَبُ تَفَرُّقِهِمْ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ، فَبَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا بِقَرْقِيسْيَا يُرِيدُونَ الْغَارَةَ عَلَى هِيتَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ بِغَيْرِ أَمْرِ عَلِيٍّ، فَأَتَى أَصْحَابُ سُفْيَانَ وَكُمَيْلٌ غَائِبٌ عَنْهَا، فَأَغْضَبَ ذَلِكَ عَلِيًّا عَلَى كُمَيْلٍ، فَأَتَى إِلَيْهِ يُنْكِرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَطَمِعَ سُفْيَانُ فِي أَصْحَابِ عَلِيٍّ لِقِلَّتِهِمْ فَقَاتَلَهُمْ، فَصَبَرَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ ثُمَّ قُتِلَ صَاحِبُهُمْ، وَهُوَ أَشْرَسُ بْنُ حَسَّانَ الْبَكْرِيُّ، وَثَلَاثُونَ رَجُلًا، وَاحْتَمَلُوا مَا فِي الْأَنْبَارِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِهَا، وَرَجَعُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ عَلِيًّا فَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهِمْ فَلَمْ يُدْرَكُوا. وَفِيهَا أَيْضًا وَجَّهَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ بْنَ حَكَمَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيَّ فِي أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ إِلَى تَيْمَاءَ، وَأَمْرَهُ أَنْ يُصَدِّقَ مَنْ مَرَّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي وَيَقْتُلَ مَنِ امْتَنَعَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَبَلَغَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَفَعَلَ ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَأَرْسَلَ الْمُسَيَّبَ بْنَ نَجَبَةَ الْفَزَارِيَّ فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ، فَلِحِقَ عَبْدَ اللَّهِ بِتَيْمَاءَ، فَاقْتَتَلُوا حَتَّى زَالَتِ الشَّمْسُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَحَمَلَ الْمُسَيَّبُ عَلَى ابْنِ مَسْعَدَةَ، فَضَرَبَهُ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ لَا يُرِيدُ قَتْلَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: النِّجَاءَ النِّجَاءَ! فَدَخَلَ ابْنُ مَسْعَدَةَ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ الْحِصْنَ، وَهَرَبَ الْبَاقُونَ نَحْوَ الشَّامِ، وَانْتَهَبَ الْأَعْرَابُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ الَّتِي كَانَتْ مَعَ ابْنِ مَسْعَدَةَ، وَحَصَرَهُ وَمَنْ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَلْقَى الْحَطَبَ فِي الْبَابِ وَحَرَّقَهُ، فَلَمَّا رَأَوُا الْهَلَاكَ أَشْرَفُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا: يَا مُسَيَّبُ قَوْمَكَ، فَرَقَّ لَهُمْ، وَأَمَرَ بِالنَّارِ فَأُطْفِئَتْ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: قَدْ جَاءَتْنِي عُيُونِي فَأَخْبَرُونِي أَنَّ جُنْدًا قَدْ أَتَاكُمْ مِنَ الشَّامِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَبِيبٍ: سَرِّحْنِي فِي طَلَبِهِمْ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: غَشَشْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَدَاهَنْتَ فِي أَمْرِهِمْ. وَفِيهَا أَيْضًا وَجَّهَ مُعَاوِيَةُ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَمُرَّ بِأَسْفَلِ وَاقِصَةَ، وَيُغِيرَ

عَلَى كُلٍّ مَنْ مَرَّ بِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي طَاعَةِ عَلِيٍّ مِنَ الْأَعْرَابِ، (وَأَرْسَلَ ثَلَاثَةَ آلَافِ رَجُلٍ مَعَهُ، فَسَارَ النَّاسُ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ وَمَضَى إِلَى الثَّعْلَبِيَّةِ، وَقَتَلَ وَأَغَارَ عَلَى مَسْلَحَةِ عَلِيٍّ، وَانْتَهَى إِلَى الْقَطْقَطَانَةِ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا) أَرْسَلَ إِلَيْهِ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَأَعْطَاهُمْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَلَحِقَ الضَّحَّاكُ بِتَدْمُرَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ رَجُلَانِ، وَحَجَزَ بَيْنِهِمَا اللَّيْلُ، فَهَرَبَ الضَّحَّاكُ وَأَصْحَابُهُ، وَرَجَعَ حُجْرٌ وَمَنْ مَعَهُ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مُعَاوِيَةُ بِنَفْسِهِ حَتَّى شَارَفَ دِجْلَةَ ثُمَّ نَكَصَ رَاجِعًا. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ حَجَّ [بِالنَّاسِ] هَذِهِ السَّنَةَ، فَقِيلَ: حَجَّ بِالنَّاسِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قِبَلِ عَلِيٍّ، وَقِيلَ: بَلْ حَجَّ عَبْدُ اللَّهِ أَخُوهُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَحُجَّ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْحَجِّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ يَزِيدَ بْنَ شَجَرَةَ الرَّهَاوِيَّ، فَاخْتَلَفَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَيَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَحُجَّ بِالنَّاسِ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ، وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي حَجَّ مِنْ جَانِبِ عَلِيٍّ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَكَانَ عُمَّالُ عَلِيٍّ عَلَى الْبِلَادِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. ذكر مَسِيرِ يَزِيدَ بْنِ شَجَرَةَ إِلَى مَكَّةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ دَعَا مُعَاوِيَةُ يَزِيدَ بْنَ شَجَرَةَ الرَّهَاوِيَّ - وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ - فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوَجِّهَكَ إِلَى مَكَّةَ لِتُقِيمَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَتَأْخُذَ لِيَ الْبَيْعَةَ بِمَكَّةَ، وَتَنْفِيَ عَنْهَا عَامِلَ عَلِيٍّ.

فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى مَكَّةَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَبِهَا قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ عَامِلُ عَلِيٍّ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ قُثَمُ خَطَبَ أَهْلَ مَكَّةَ، وَأَعْلَمَهُمْ بِمَسِيرِ الشَّامِيِّينَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى حَرْبِهِمْ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ بِشَيْءٍ، وَأَجَابَهُ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَبْدَرِيُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَعَزَمَ قُثَمُ عَلَى مُفَارَقَةِ مَكَّةَ وَاللَّحَاقِ بِبَعْضِ شِعَابِهَا، وَمُكَاتَبَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَبَرِ، فَإِنْ أَمَدَّهُ بِالْجُيُوشِ قَاتَلَ الشَّامِيِّينَ، فَنَهَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنْ مُفَارَقَةِ مَكَّةَ وَقَالَ لَهُ: أَقِمْ، فَإِنْ رَأَيْتَ مِنْهُمُ الْقِتَالَ وَبِكَ قُوَّةٌ فَاعْمَلْ بِرَأْيِكَ، وَإِلَّا فَالْمَسِيرُ عَنْهَا أَمَامَكَ. فَأَقَامَ وَقَدِمَ الشَّامِيُّونَ وَلَمْ يَعْرِضُوا لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَأَرْسَلَ قُثَمُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يُخْبِرُهُ، فَسَيَّرَ جَيْشًا فِيهِمُ الرَّيَّانُ بْنُ ضَمْرَةَ بْنِ هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، وَأَبُو الطُّفَيْلِ أَوَّلَ ذِي الْحِجَّةِ. وَكَانَ قُدُومُ ابْنِ شَجَرَةَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمَيْنِ، فَنَادَى فِي النَّاسِ: أَنْتُمْ آمِنُونَ إِلَّا مَنْ قَاتَلَنَا وَنَازَعَنَا. وَاسْتَدْعَى أَبَا سَعِيدِ الْخُدْرِيَّ وَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ الْإِلْحَادَ فِي الْحَرَمِ، وَلَوْ شِئْتُ لَفَعَلْتُ لِمَا فِيهِ أَمِيرُكُمْ مِنَ الضَّعْفِ، فَقُلْ لَهُ يَعْتَزِلِ الصَّلَاةَ بِالنَّاسِ، وَأَعْتَزِلُهَا أَنَا، وَيَخْتَارُ النَّاسُ رَجُلًا يُصَلِّي بِهِمْ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ لِقُثَمَ ذَلِكَ، فَاعْتَزَلَ الصَّلَاةَ، وَاخْتَارَ النَّاسُ شَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ فَصَلَّى بِهِمْ وَحَجَّ بِهِمْ. فَلَمَّا قَضَى النَّاسُ حَجَّهَمْ رَجَعَ يَزِيدُ إِلَى الشَّامِ، وَأَقْبَلَ خَيْلُ عَلِيٍّ فَأُخْبِرُوا بِعَوْدِ أَهْلِ الشَّامِ، فَتَبِعُوهُمْ، وَعَلَيْهِمْ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ، فَأَدْرَكُوهُمْ وَقَدْ رَحَلُوا عَنْ وَادِي الْقُرَى، فَظَفِرُوا بِنَفَرٍ مِنْهُمْ، فَأَخَذُوهُمْ أَسَارَى، وَأَخَذُوا مَا مَعَهُمْ وَرَجَعُوا بِهِمْ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَفَادَى بِهِمْ أَسَارَى كَانَتْ لَهُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ. (الرَّهَاوِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الرِّهَاءِ قَبِيلَةٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ ضَبَطَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ ابْنُ سَعِيدٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ: قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَأَمَّا الْمَدِينَةُ فَبِضَمِّ الرَّاءِ) . ذكر غَارَةِ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى أَهْلِ الْجَزِيرَةِ وَفِيهَا سَيَّرَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ قَبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ إِلَى بِلَادِ الْجَزِيرَةِ، وَفِيهَا شَبِيبُ بْنُ عَامِرٍ جَدُّ الْكِرْمَانِيِّ الَّذِي كَانَ بِخُرَاسَانَ، وَكَانَ شَبِيبٌ بِنَصِيبِينَ، فَكَتَبَ إِلَى كُمَيْلِ بْنِ

زِيَادٍ، وَهُوَ بِهِيتَ، يُعْلِمْهُ الْخَبَرَ، فَسَارَ كُمَيْلٌ إِلَيْهِ نَجْدَةً لَهُ فِي سِتِّمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَدْرَكُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَمَعَهُ مَعْنُ بْنُ يَزِيدَ السُّلَمِيُّ، فَقَاتَلَهُمَا كُمَيْلٌ وَهَزَمَهُمَا، فَغَلَبَ عَلَى عَسْكَرِهِمَا وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِي أَهْلِ الشَّامِ، وَأَمَرَ أَنْ لَا يُتْبَعَ مُدْبِرٌ وَلَا يُجْهَزَ عَلَى جَرِيحٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ كُمَيْلٍ رَجُلَانِ، وَكَتَبَ إِلَى عَلِيٍّ بِالْفَتْحِ فَجَزَاهُ خَيْرًا، وَأَجَابَهُ جَوَابًا حَسَنًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَانَ سَاخِطًا عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَأَقْبَلَ شَبِيبُ بْنُ عَامِرٍ مِنْ نَصِيبِينَ، فَرَأَى كُمَيْلًا قَدْ أَوْقَعَ بِالْقَوْمِ، فَهَنَّأَهُ بِالظَّفَرِ، وَاتَّبَعَ الشَّامِيِّينَ، فَلَمْ يَلْحَقْهُمْ، فَعَبَرَ الْفُرَاتَ، وَبَثَّ خَيْلَهُ فَأَغَارَتْ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ حَتَّى بَلَغَ بَعْلَبَكَّ، فَوَجَّهَ مُعَاوِيَةُ إِلَيْهِ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَلَمْ يُدْرِكْهُ، وَرَجَعَ شَبِيبٌ فَأَغَارَ عَلَى نَوَاحِي الرَّقَّةِ فَلَمْ يَدَعْ لِلْعُثْمَانِيَّةِ بِهَا مَاشِيَةً إِلَّا اسْتَاقَهَا، وَلَا خَيْلًا وَلَا سِلَاحًا إِلَّا أَخَذَهُ، وَعَادَ إِلَى نَصِيبِينَ، وَكَتَبَ إِلَى عَلِيٍّ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ يَنْهَاهُ عَنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ إِلَّا الْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ الَّذِي يُقَاتِلُونَ بِهِ، وَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ شَبِيبًا، لَقَدْ أَبْعَدَ الْغَارَةَ وَعَجَّلَ الِانْتِصَارَ. ذكر غَارَةِ الْحَارِثِ بْنِ نِمْرٍ التَّنُوخِيِّ وَلَمَّا قَدِمَ يَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَجَّهَ الْحَارِثَ بْنَ نِمْرٍ التَّنُوخِيَّ إِلَى الْجَزِيرَةِ لِيَأْتِيَهُ بِمَنْ كَانَ فِي طَاعَةِ عَلِيٍّ، فَأَخَذَ مِنْ أَهْلِ دَارَا سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ، وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ قَدْ فَارَقُوا عَلِيًّا إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَسَأَلُوهُ فِي إِطْلَاقِ أَصْحَابِهِمْ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَاعْتَزَلُوهُ أَيْضًا. وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَلِيٍّ لِيُفَادِيَهُ بِمَنْ أَسَرَ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ أَصْحَابِ يَزِيدَ بْنِ شَجَرَةَ، فَسَيَّرَهُمْ عَلِيٌّ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَأَطْلَقَ مُعَاوِيَةُ هَؤُلَاءِ، وَبَعَثَ عَلِيٌّ رَجُلًا مِنْ خَثْعَمَ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى نَاحِيَةِ الْمَوْصِلِ لِيُسَكِّنَ النَّاسَ، فَلَقِيَهُ أُولَئِكَ التَّغْلِبِيُّونَ الَّذِينَ اعْتَزَلُوا مُعَاوِيَةَ، وَعَلَيْهِمْ قُرَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ التَّغْلِبِيُّ، فَتَشَاتَمُوا ثُمَّ اقْتَتَلُوا فَقَتَلُوهُ، فَأَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ يُوَجِّهَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، فَكَلَّمَتْهُ رَبِيعَةُ وَقَالُوا: هُمْ مُعْتَزِلُونَ لِعَدُوِّكَ دَاخِلُونَ فِي طَاعَتِكَ، وَإِنَّمَا قَتَلُوهُ خَطَأً. فَأَمْسَكَ عَنْهُمْ.

ذِكْرُ أَمْرِ ابْنِ الْعُشْبَةِ بَعَثَ مُعَاوِيَةُ زُهَيْرَ بْنَ مَكْحُولٍ الْعَامِرِيَّ - مِنْ عَامِرِ الْأَجْدَارِ - إِلَى السَّمَاوَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ صَدَقَاتِ النَّاسِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَبَعَثَ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ: جَعْفَرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَشْجَعِيَّ، وَعُرْوَةَ بْنَ الْعُشْبَةِ، وَالْجُلَاسَ بْنَ عُمَيْرٍ الْكَلْبِيَّيْنِ، لِيُصَدِّقُوا مَنْ فِي طَاعَتِهِ مِنْ كَلْبٍ وَبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، فَوَافَوْا زُهَيْرًا فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ وَقُتِلَ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَحِقَ ابْنُ الْعُشْبَةِ بِعَلِيٍّ، فَعَنَّفَهُ وَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ، فَغَضِبَ وَلَحِقَ بِمُعَاوِيَةَ، وَكَانَ زُهَيْرٌ قَدْ حَمَلَ ابْنَ الْعُشْبَةِ عَلَى فَرَسٍ، فَلِذَلِكَ اتَّهَمَهُ. وَأَمَّا الْجُلَاسُ فَإِنَّهُ مَرَّ بِرَاعٍ، فَأَخَذَ جُبَّتَهُ، وَأَعْطَاهُ جُبَّةَ خَزٍّ، فَأَدْرَكَتْهُ الْخَيْلُ، فَقَالُوا: أَيْنَ أَخَذَ هَؤُلَاءِ التُّرَابِيُّونَ؟ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ: أَخَذُوا هَاهُنَا، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْكُوفَةِ ذكر أَمْرِ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ وَبَعْثَ مُعَاوِيَةُ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ الْمُرِّيَّ إِلَى دُومَةِ الْجَنْدَلِ، وَكَانَ أَهْلُهَا قَدِ امْتَنَعُوا مِنْ بَيْعَةِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ جَمِيعًا، فَدَعَاهُمْ إِلَى طَاعَةِ مُعَاوِيَةَ وَبَيْعَتِهِ، فَامْتَنَعُوا، وَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَسَيَّرَ مَالِكَ بْنَ كَعْبٍ الْهَمْدَانِيَّ فِي جَمْعٍ إِلَى دُومَةِ الْجَنْدَلِ، فَلَمْ يَشْعُرْ مُسْلِمٌ إِلَّا وَقَدْ وَافَاهُ مَالِكٌ، فَاقْتَتَلُوا يَوْمًا ثُمَّ انْصَرَفَ مُسْلِمٌ مُنْهَزِمًا، وَأَقَامَ مَالِكٌ أَيَّامًا يَدْعُو أَهْلَ دُومَةِ الْجَنْدَلِ إِلَى الْبَيْعَةِ لِعَلِيٍّ فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَقَالُوا: لَا نُبَايِعُ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ، فَانْصَرَفَ وَتَرَكَهُمْ. وَفِيهَا تَوَجَّهَ الْحَارِثُ بْنُ مُرَّةَ الْعَبْدِيُّ إِلَى بِلَادِ السِّنْدِ (غَازِيًا مُتَطَوِّعًا بِأَمْرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، فَغَنِمَ وَأَصَابَ غَنَائِمَ وَسَبْيًا كَثِيرًا، وَقَسَّمَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَلْفَ رَأْسٍ وَبَقِيَ غَازِيًا) إِلَى أَنْ قُتِلَ بِأَرْضِ الْقِيقَانِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، إِلَّا قَلِيلًا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ أَيَّامَ مُعَاوِيَةَ.

ذِكْرُ وِلَايَةِ زِيَادِ بْنِ أَبِيهِ بِلَادَ فَارِسَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى عَلِيُّ زِيَادًا كِرْمَانَ وَفَارِسَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ عَلَى عَلِيٍّ، طَمِعَ أَهْلُ فَارِسَ وَكِرْمَانَ فِي كَسْرِ الْخَرَاجِ، فَطَمِعَ أَهْلُ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَأَخْرَجُوا عَامِلَهُمْ، وَأَخْرَجَ أَهْلُ فَارِسَ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، فَاسْتَشَارَ عَلِيٌّ النَّاسَ فَقَالَ لَهُ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ: أَلَا أَدُلَّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى رَجُلٍ صُلْبِ الرَّأْيِ عَالِمٍ بِالسِّيَاسَةِ، كَافٍ لِمَا وَلِيَ؟ قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: زِيَادٌ. فَأَمَرَ عَلِيُّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنْ يُوَلِّيَ زِيَادًا، فَسَيَّرَهُ إِلَيْهَا فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَوَطِئَ بِهِمْ أَهْلَ فَارِسَ، وَكَانَتْ قَدِ اضْطَرَمَتْ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ إِلَى رُؤُوسِهِمْ يَعِدُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُمَنِّيهِ، وَيُخَوِّفُ مَنِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ، وَضَرَبَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، فَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى عَوْرَةِ بَعْضٍ، وَهَرَبَتْ طَائِفَةٌ، وَأَقَامَتْ طَائِفَةٌ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَصَفَتْ لَهُ فَارِسُ وَلَمْ يَلْقَ مِنْهُمْ جَمْعًا وَلَا حَرْبًا، وَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِكِرْمَانَ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى فَارِسَ وَسَكَنَ النَّاسُ وَاسْتَقَامَتْ لَهُ، وَنَزَلَ إِصْطَخْرَ، وَحَصَّنَ قَلْعَةً تُسَمَّى قَلْعَةَ زِيَادٍ قُرَيْبَ إِصْطَخْرَ، (ثُمَّ تَحَصَّنَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ مَنْصُورٌ الْيَشْكُرِيُّ، فَهِيَ تُسَمَّى قَلْعَةَ مَنْصُورٍ) . (وَقِيلَ إِنَّ [ابْنَ] عَبَّاسٍ أَشَارَ بِوِلَايَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ الْبَدْرِيُّ، وَقِيلَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَقِيلَ غَيْرُ

ذَلِكَ، وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ بَدْرِيٌّ لِأَنَّهُ نَزَلَ مَاءَ بَدْرٍ، وَانْقَرَضَ عَقِبُهُ

ثم دخلت سنة أربعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ] [ذكر سَرِيَّةِ بُسْرِ بْنِ أَبِي أَرْطَاةَ إِلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ] 40 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ ذكر سَرِيَّةِ بُسْرِ بْنِ أَبِي أَرْطَاةَ إِلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ مُعَاوِيَةُ بُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ، وَهُوَ مِنْ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَسَارَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَبِهَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ عَامِلُ عَلِيٍّ عَلَيْهَا، فَهَرَبَ أَبُو أَيُّوبَ فَأَتَى عَلِيًّا بِالْكُوفَةِ، وَدَخَلَ بُسْرٌ الْمَدِينَةَ وَلَمْ يُقَاتِلْهُ أَحَدٌ، فَصَعِدَ مِنْبَرَهَا فَنَادَى عَلَيْهِ: يَا دِينَارُ، يَا نَجَّارُ، يَا زُرَيْقُ! وَهَذِهِ بُطُونٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، شَيْخِي شَيْخِي، عَهِدْتُهُ هَاهُنَا بِالْأَمْسِ، فَأَيْنَ هُوَ؟ يَعْنِي عُثْمَانَ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْلَا مَا عَهِدَ إِلَيَّ مُعَاوِيَةُ مَا تَرَكْتُ بِهَا مُحْتَلِمًا. فَأَرْسَلَ إِلَى بَنِي سَلِمَةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا لَكَمَ عِنْدِي أَمَانٌ حَتَّى تَأْتُونِي بِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ! فَانْطَلَقَ جَابِرٌ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهَا: مَاذَا تَرَيْنَ؟ إِنَّ هَذِهِ بَيْعَةُ ضَلَالَةٍ، وَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أُقْتَلَ. قَالَتْ: أَرَى أَنْ تُبَايِعَ، فَإِنِّي قَدْ أَمَرْتُ ابْنِي عُمَرَ وَخَتَنِي ابْنَ زَمْعَةَ أَنْ يُبَايِعَا، وَكَانَتِ ابْنَتُهَا زَيْنَبُ تَحْتَ ابْنِ زَمْعَةَ، فَأَتَاهُ جَابِرٌ فَبَايَعَهُ. وَهَدَمَ بِالْمَدِينَةِ دُورًا ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ، فَخَافَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ، وَأَكْرَهَ النَّاسَ عَلَى الْبَيْعَةِ. ثُمَّ سَارَ إِلَى الْيَمَنِ، وَكَانَ عَلَيْهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ عَامِلًا لِعَلِيٍّ، فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى عَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ. وَاسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ [عَلَى] الْيَمَنِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمُدَانِ الْحَارِثِيَّ، فَأَتَاهُ بُسْرٌ فَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ ابْنَهُ، وَأَخَذَ ابْنَيْنِ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ صَغِيرَيْنِ هَمَا: عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقُثَمُ فَقَتَلَهُمَا، وَكَانَا عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ كِنَانَةٍ بِالْبَادِيَةِ، فَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُمَا قَالَ

لَهُ الْكِنَانِيُّ: لِمَ تَقْتُلُ هَذَيْنِ وَلَا ذَنْبَ لَهُمَا؟ فَإِنْ كُنْتَ قَاتِلَهُمَا فَاقْتُلْنِي مَعَهُمَا! فَقَتَلَهُ وَقَتَلَهُمَا بَعْدَهُ. وَقِيلَ إِنَّ الْكِنَانِيَّ أَخَذَ سَيْفَهُ وَقَاتَلَ عَنِ الْغُلَامَيْنِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّيْثُ مَنْ يَمْنَعُ حَافَاتِ الدَّارِ ... وَلَا يَزَالُ مُصْلِتًا دُونَ الْجَارِ وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَأَخَذَ الْغُلَامَيْنِ فَدَفَنَهُمَا. فَخَرَجَ نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا هَذَا! قَتَلْتَ الرِّجَالَ فَعَلَامَ تَقْتُلُ هَذَيْنِ؟ وَاللَّهِ مَا كَانُوا يُقْتَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ! وَاللَّهِ يَا ابْنَ أَبِي أَرْطَاةَ إِنَّ سُلْطَانًا لَا يَقُومُ إِلَّا بِقَتْلِ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَنَزْعِ الرَّحْمَةِ، وَعُقُوقِ الْأَرْحَامِ لَسُلْطَانُ سُوءٍ! وَقَتَلَ بُسْرٌ فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ جَمَاعَةً مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ بِالْيَمَنِ، وَبَلَغَ عَلِيًّا الْخَبَرُ، فَأَرْسَلَ جَارِيَةَ بْنَ قُدَامَةَ السَّعْدِيَّ فِي أَلْفَيْنِ، وَوَهْبَ بْنَ مَسْعُودٍ فِي أَلْفَيْنِ، فَسَارَ جَارِيَةُ حَتَّى أَتَى نَجْرَانَ، فَقَتَلَ بِهَا نَاسًا مِنْ شِيعَةِ عُثْمَانَ، وَهَرَبَ بُسْرٌ وَأَصْحَابُهُ مِنْهُ، وَاتَّبَعَهُ جَارِيَةُ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ فَقَالَ: بَايِعُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالُوا: قَدْ هَلَكَ فَلِمَنْ نُبَايِعُ؟ قَالَ: لِمَنْ بَايَعَ لَهُ أَصْحَابُ عَلِيٍّ. فَبَايَعُوا خَوْفًا مِنْهُ. ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَهَرَبَ مِنْهُ، فَقَالَ جَارِيَةُ: لَوْ وَجَدْتُ أَبَا سِنَّوْرٍ لَقَتَلْتُهُ. ثُمَّ قَالَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ: بَايِعُوا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَبَايَعُوهُ، وَأَقَامَ يَوْمَهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكُوفَةِ وَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُصَلِّي بِهِمْ. وَكَانَتْ أُمَّ ابْنَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ أُمُّ الْحَكَمِ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ قَارِظٍ، (وَقِيلَ: عَائِشَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُدَانِ) . فَلَمَّا قُتِلَ وَلَدَاهَا وَلِهَتْ عَلَيْهِمَا، فَكَانَتْ لَا تَعْقِلْ وَلَا تُصْفِي، وَلَا تَزَالُ تَنْشُدُهُمَا فِي الْمَوَاسِمِ فَتَقُولُ:

يَا مَنْ أَحَسَّ بُنَيَّيَّ اللَّذَيْنِ هُمَا ... كَالدُّرَّتَيْنِ تَشَظَّى عَنْهُمَا الصَّدَفُ يَا مَنْ أَحَسَّ بُنَيَّيَّ اللَّذَيْنِ هُمَا ... مُخُّ الْعِظَامِ فَمُخِّي الْيَوْمَ مُزْدَهَفُ يَا مَنْ أَحَسَّ بُنَيَّيَّ اللَّذَيْنِ هُمَا ... قَلْبِي وَسَمْعِي فَقَلْبِي الْيَوْمَ مُخْتَطَفُ مِنْ ذُلِّ وَالِهَةٍ حَيْرَى مُدَلَّهَةٍ ... عَلَى صَبِيَّيْنِ ذُلَّا إِذْ غَدَا السَّلَفُ نُبِّئْتُ بُسْرًا وَمَا صَدَّقْتُ مَا زَعَمُوا ... مِنْ إِفْكِهِمْ وَمِنَ الْقَوْلِ الَّذِي اقْتَرَفُوا أَحَنَى عَلَى وَدِجَيْ إبْنَيَّ مُرْهَفَةً ... مِنَ الشِّفَارِ، كَذَاكَ الْإِثْمُ يُقْتَرَفُ وَهِيَ أَبْيَاتٌ مَشْهُورَةٌ، فَلَمَّا سَمِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَتْلِهِمَا جَزِعَ جَزَعًا شَدِيدًا وَدَعَا عَلَى بُسْرٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْلُبْهُ دِينَهُ وَعَقْلَهُ! فَأَصَابَهُ ذَلِكَ وَفَقَدَ عَقْلَهُ، فَكَانَ يَهْذِي بِالسَّيْفِ وَيَطْلُبُهُ فَيُؤْتَى بِسَيْفٍ مِنْ خَشَبٍ، وَيُجْعَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ زِقٌّ مَنْفُوخٌ، فَلَا يَزَالُ يَضْرِبُهُ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ.

وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِمُعَاوِيَةَ دَخَلَ عَلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعِنْدَهُ بُسْرٌ، فَقَالَ لِبُسْرٍ: وَدِدْتُ أَنَّ الْأَرْضَ أَنْبَتَتْنِي عِنْدَكَ حِينَ قَتَلْتَ وَلَدَيَّ. فَقَالَ بُسْرٌ: هَاكَ سَيْفِي. فَأَهْوَى عُبَيْدُ اللَّهِ لِيَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَهُ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ لِبُسْرٍ: أَخْزَاكَ اللَّهُ شَيْخًا قَدْ خَرِفْتَ! وَاللَّهِ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْهُ لَبَدَأَ بِي! قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَجَلْ، ثُمَّ ثَنَّيْتُ بِهِ. (سَلِمَةُ: بِكَسْرِ اللَّامِ، بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) . وَقِيلَ: إِنَّ مَسِيرَ بُسْرٍ إِلَى الْحِجَازِ كَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ شَهْرًا يَسْتَعْرِضُ النَّاسَ، لَا يُقَالُ لَهُ عَنْ أَحَدٍ إِنَّهُ شَرِكَ فِي دَمِ عُثْمَانَ إِلَّا قَتَلَهُ. وَفِيهَا جَرَتْ مُهَادَنَةٌ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ بَعْدَ مُكَاتَبَاتٍ طَوِيلَةٍ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ، وَيَكُونُ لَعَلِيٍّ الْعِرَاقُ، وَلِمُعَاوِيَةَ الشَّامُ، لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا بَلَدَ الْآخَرِ بِغَارَةٍ. (بُسْرٌ: بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ. زُرَيْقٌ: بِالزَّايِ وَالرَّاءِ، قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَيْضًا. وَجَارِيَةُ: بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ) . ذِكْرُ فِرَاقِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْبَصْرَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَلَحِقَ بِمَكَّةَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ السِّيَرِ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: لَمْ يَزَلْ عَامِلًا عَلَيْهَا لَعَلِيٍّ حَتَّى قُتِلَ عَلِيٌّ، وَشَهِدَ صُلْحَ الْحَسَنِ مَعَ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي شَهِدَ صُلْحَ الْحَسَنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ. وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ أَنَّهُ مَرَّ بِأَبِي الْأَسْوَدِ فَقَالَ: لَوْ كُنْتَ مِنَ الْبَهَائِمِ لَكُنْتَ جَمَلًا، وَلَوْ كُنْتَ رَاعِيًا لَمَا بَلَغْتَ الْمَرْعَى. فَكَتَبَ أَبُو الْأَسْوَدِ إِلَى عَلِيٍّ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - جَعَلَكَ وَالِيًا مُؤْتَمَنًا، وَرَاعِيًا مُسْتَوْلِيًا، وَقَدْ بَلَوْنَاكَ فَوَجَدْنَاكَ عَظِيمَ الْأَمَانَةِ، نَاصِحًا لِلرَّعِيَّةِ، تُوَفِّرُ لَهُمْ فَيْئَهُمْ، وَتَكُفُّ نَفْسَكَ عَنْ دُنْيَاهُمْ، وَلَا تَأْكُلُ أَمْوَالَهُمْ، وَلَا تَرْتَشِي فِي أَحْكَامِهِمْ، وَإِنَّ ابْنَ عَمِّكَ قَدْ أَكَلَ مَا تَحْتَ يَدَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمِكَ، وَلَمْ يَسَعْنِي كِتْمَانُكَ - رَحِمَكَ اللَّهُ - فَانْظُرْ فِيمَا هُنَاكَ، وَاكْتُبْ إِلَيَّ بِرَأْيِكَ فِيمَا أَحْبَبْتَ، وَالسَّلَامُ.

ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ: أَمَّا بَعْدُ فَمِثْلُكَ نَصَحَ الْإِمَامَ وَالْأُمَّةَ، وَوَالَى عَلَى الْحَقِّ، وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَى صَاحِبِكَ فِيمَا كَتَبْتَ إِلَيَّ، وَلَمْ أُعْلِمْهُ بِكِتَابِكَ، فَلَا تَدَعْ إِعْلَامِي بِمَا يَكُونُ بِحَضْرَتِكَ مِمَّا النَّظَرُ فِيهِ صَلَاحٌ لِلْأُمَّةِ، فَإِنَّكَ بِذَلِكَ جَدِيرٌ، وَهُوَ حُقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْكَ، وَالسَّلَامُ. وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الَّذِي بَلَغَكَ بَاطِلٌ، وَإِنِّي لِمَا تَحْتَ يَدَيَّ لَضَابِطٌ وَلَهُ حَافِظٌ، فَلَا تُصَدِّقِ الظُّنُونَ وَالسَّلَامُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ: أَمَّا بَعْدُ، فَأَعْلِمْنِي مَا أَخَذْتَ مِنَ الْجِزْيَةِ، وَمِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ، وَفِيمَا وَضَعْتَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ فَهِمْتُ تَعْظِيمَكَ مَرْزَأَةَ مَا بَلَغَكَ، (إِنِّي رَزَأْتُهُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ) ، فَابْعَثْ إِلَى عَمَلِكَ مَنْ أَحْبَبْتَ فَإِنِّي ظَاعِنٌ عَنْهُ، وَالسَّلَامُ. وَاسْتَدْعَى أَخْوَالَهُ مِنْ بَنِي هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ، فَاجْتَمَعَتْ مَعَهُ (قَيْسٌ كُلُّهَا) فَحَمَلَ مَالًا وَقَالَ: هَذِهِ أَرْزَاقُنَا (اجْتَمَعَتْ، فَتَبِعَهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ) فَلَحِقُوهُ بِالطَّفِّ يُرِيدُونَ أَخْذَ الْمَالِ، فَقَالَتْ قَيْسٌ: وَاللَّهِ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ وَفِينَا عَيْنٌ تَطْرِفُ! فَقَالَ صَبْرَةُ بْنُ شَيْمَانَ الْحُدَّانِيُّ: يَا مَعْشَرَ الْأَزْدِ، إِنَّ قَيْسًا إِخْوَانُنَا وَجِيرَانُنَا وَأَعْوَانُنَا عَلَى الْعَدُوِّ، وَإِنَّ الَّذِي يُصِيبُكُمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ لَقَلِيلٌ، وَهُمْ لَكُمْ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ. فَأَطَاعُوهُ فَانْصَرَفُوا (وَانْصَرَفَتْ مَعَهُمْ بَكْرٌ وَعَبْدُ الْقَيْسِ) وَقَاتَلَهُمْ بَنُو تَمِيمٍ، (فَنَهَاهُمُ الْأَحْنَفُ، فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، فَاعْتَزَلَهُمْ) وَحَجَزَ النَّاسُ بَيْنَهُمْ، وَمَضَى ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى مَكَّةَ. [ذكر مَقْتَلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ عَلِيٌّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ، وَقِيلَ: لِإِحْدَى

عَشْرَةَ، وَقِيلَ: لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْهُ، وَقِيلَ: فِي شَهْرِ رَبِيعِ الْآخَرِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: «مَرِضَ عَلِيٌّ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَجَلَسْتُ عِنْدَهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَظَرَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا نَرَاهُ إِلَّا مَيِّتًا. فَقَالَ: " لَنْ يَمُوتَ هَذَا الْآنَ، وَلَنْ يَمُوتَ حَتَّى يُمْلَأَ غَيْظًا، وَلَنْ يَمُوتَ إِلَّا مَقْتُولًا» . وَقِيلَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: إِنَّ عَلِيَّا كَانَ يَقُولُ: مَا يَمْنَعُ أَشْقَاكُمْ أَنْ يُخَضِّبَ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ؟ يَعْنِي لِحْيَتَهُ مِنْ دَمِ رَأْسِهِ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: كَانَ عَلِيٌّ لَمَّا دَخَلَ رَمَضَانُ يَتَعَشَّى لَيْلَةً عِنْدَ الْحَسَنِ، وَلَيْلَةً عِنْدَ الْحُسَيْنِ، وَلَيْلَةً عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ، لَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِ لُقَمٍ، يَقُولُ: (أُحِبُّ أَنْ) يَأْتِينِي أَمْرُ اللَّهِ وَأَنَا خَمِيصٌ، وَإِنَّمَا هِيَ لَيْلَةٌ أَوْ لَيْلَتَانِ، فَلَمْ تَمْضِ لَيْلَةٌ حَتَّى قُتِلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ عَلِيٌّ مِنَ الْفَجْرِ فَأَقْبَلَ الْإِوَزُّ يَصِحْنَ فِي وَجْهِهِ، فَطَرَدُوهُنَّ عَنْهُ، فَقَالَ: ذَرُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ نَوَائِحُ، فَضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ فِي لَيْلَتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَوْمَ قُتِلَ عَلِيٌّ: خَرَجْتُ الْبَارِحَةَ وَأَبِي يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ دَارِهِ، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ إِنِّي بِتُّ أُوقِظُ أَهْلِي، لِأَنَّهَا لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ صَبِيحَةَ بَدْرٍ، فَمَلَكَتْنِي عَيْنَايَ،

فَنِمْتُ، فَسَنَحَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا لَقِيتُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الْأَوَدِ وَاللَّدَدِ؟ قَالَ: وَالْأَوَدُ الْعِوَجُ، وَاللَّدَدُ الْخُصُومَاتُ فَقَالَ لِي: ادْعُ عَلَيْهِمْ. فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ أَبْدِلْنِي بِهِمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَأَبْدِلْهُمْ بِي مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي! فَجَاءَ ابْنُ النَّبَّاحِ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، فَخَرَجَ وَخَرَجَتُ خَلْفَهُ، فَضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ فَقَتَلَهُ. وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِذَا رَأَى ابْنَ مُلْجَمٍ قَالَ: أُرِيدُ حَيَاتَهُ وَيُرِيدُ قَتْلِي ... عَذِيرَكَ مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرَادِ وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُلْجَمٍ الْمُرَادِيَّ، وَالْبُرَكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيَّ (الصُّرَيْمِيَّ، وَقِيلَ اسْمُ الْبُرَكِ الْحَجَّاجُ) ، وَعَمْرُو بْنُ بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ السَّعْدِيُّ - وَهُمْ مِنَ الْخَوَارِجِ - اجْتَمَعُوا فَتَذَاكَرُوا أَمْرَ النَّاسِ، وَعَابُوا عَمَلَ وُلَاتِهِمْ ثُمَّ ذَكَرُوا أَهْلَ النَّهْرِ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: مَا نَصْنَعُ بِالْبَقَاءِ بَعْدَهُمْ؟ فَلَوْ شَرَيْنَا أَنْفُسَنَا، وَقَتَلْنَا أَئِمَّةَ الضَّلَالَةِ، وَأَرَحْنَا مِنْهُمُ الْبِلَادَ! فَقَالَ ابْنُ مُلْجَمٍ: أَنَا أَكْفِيكُمْ عَلِيًّا، (وَكَانَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ) . وَقَالَ الْبُرَكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَا أَكْفِيكُمْ مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ بَكْرٍ: أَنَا أَكْفِيكُمْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ. فَتَعَاهَدُوا أَنْ لَا يَنْكُصَ أَحَدُهُمْ عَنْ صَاحِبِهِ الَّذِي تَوَجَّهَ إِلَيْهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ أَوْ يَمُوتَ دُونَهُ، وَأَخَذُوا سُيُوفَهُمْ فَسَمُّوهَا، وَاتَّعَدُوا لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ. وَقَصَدَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمُ الْجِهَةَ الَّتِي يُرِيدُ، فَأَتَى ابْنُ مُلْجَمٍ الْكُوفَةَ، فَلَقِيَ أَصْحَابَهُ بِالْكُوفَةِ وَكَتَمَهُمْ أَمْرَهُ، وَرَأَى يَوْمًا أِصْحَابًا لَهُ مِنْ تَيْمِ الرِّبَابِ، وَكَانَ عَلِيٌّ قَدْ قَتَلَ مِنْهُمْ يَوْمَ النَّهْرِ عِدَّةً، فَتَذَاكَرُوا قَتْلَى

النَّهْرِ، وَلَقِيَ مَعَهُمُ امْرَأَةً مِنْ تَيْمِ الرِّبَابِ اسْمُهَا قَطَامِ، وَقَدْ قُتِلَ أَبُوهَا وَأَخُوهَا يَوْمَ النَّهْرِ، وَكَانَتْ فَائِقَةَ الْجَمَالِ. فَلَمَّا رَآهَا أَخَذَتْ قَلْبَهُ فَخَطَبَهَا. فَقَالَتْ: لَا أَتَزَوَّجُكَ حَتَّى تَشْتَفِيَ لِي. فَقَالَ: وَمَا تُرِيدِينَ؟ قَالَتْ: ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَعَبْدًا وَقَيْنَةً، وَقَتْلَ عَلِيٍّ. فَقَالَ: أَمَّا قَتْلُ عَلِيٍّ فَمَا أَرَاكِ ذَكَرْتِهِ وَأَنْتِ تُرِيدِينَنِي. قَالَتْ: بَلَى، الْتَمِسْ غُرَّتَهُ، فَإِنْ أَصَبْتَهُ شَفَيْتَ نَفْسَكَ وَنَفْسِي وَنَفَعَكَ الْعَيْشُ مَعِي، وَإِنْ قُتِلْتَ فَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. قَالَ: وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِي إِلَّا قَتْلُ عَلِيٍّ، فَلَكِ مَا سَأَلْتِ. قَالَتْ: سَأَطْلُبُ لَكَ مَنْ يَشُدُّ ظَهْرَكَ وَيُسَاعِدُكَ. وَبَعَثَتْ إِلَى رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهَا اسْمُهُ وَرْدَانُ وَكَلَّمَتْهُ، فَأَجَابَهَا، وَأَتَى ابْنُ مُلْجَمٍ رَجُلًا مِنْ أَشْجَعَ اسْمُهُ شَبِيبُ بْنُ بَجَرَةَ فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ فِي شَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ قَالَ: وَمَاذَا؟ قَالَ: قَتْلُ عَلِيٍّ. قَالَ شَبِيبٌ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِدًّا! كَيْفَ تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ؟ قَالَ: أَكْمُنُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ الْغَدَاةَ شَدَدْنَا عَلَيْهِ فَقَتَلْنَاهُ، فَإِنْ نَجَوْنَا فَقَدْ شَفَيْنَا أَنْفُسَنَا، وَإِنْ قُتِلْنَا فَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. قَالَ: وَيْحَكَ! لَوْ كَانَ غَيْرَ عَلِيٍّ كَانَ أَهْوَنَ، قَدْ عَرَفْتُ سَابِقَتَهُ وَفَضْلَهُ وَبَلَاءَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَا أَجِدُنِي أَنْشَرِحُ لِقَتْلِهِ. قَالَ: أَمَا تَعْلَمُهُ قَتَلَ أَهْلَ النَّهْرِ الْعِبَادَ الصَّالِحِينَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَنَقْتُلُهُ بِمَنْ قَتَلَ مِنْ أَصْحَابِنَا. فَأَجَابَهُ. فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَاعَدَ ابْنُ مُلْجَمٍ أَصْحَابَهُ عَلَى قَتْلِ عَلِيٍّ، وَقَتْلِ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرٍو، أَخَذَ سَيْفَهُ وَمَعَهُ شَبِيبٌ وَوَرْدَانُ، وَجَلَسُوا مُقَابِلَ السُّدَّةِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا عَلِيٌّ لِلصَّلَاةِ، فَلَمَّا خَرَجَ عَلِيٌّ نَادَى: أَيُّهَا النَّاسُ الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ. فَضَرَبَهُ شَبِيبٌ بِالسَّيْفِ، فَوَقَعَ سَيْفُهُ بِعِضَادَةِ الْبَابِ، وَضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ عَلَى قَرْنِهِ بِالسَّيْفِ، (وَقَالَ: الْحُكْمُ لِلَّهِ لَا لَكَ يَا عَلِيُّ وَلَا لِأَصْحَابِكَ) ! وَهَرَبَ وَرْدَانُ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَأَخْبَرَهُ وَرْدَانُ بِمَا كَانَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ وَجَاءَ بِسَيْفِهِ فَضَرَبَ بِهِ وَرْدَانَ حَتَّى قَتَلَهُ.

وَهَرَبَ شَبِيبٌ فِي الْغَلَسِ، وَصَاحَ النَّاسُ، فَلَحِقَهُ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ يُقَالُ لَهُ عُوَيْمِرٌ، وَفِي يَدِ شَبِيبٍ السَّيْفُ، فَأَخَذَهُ وَجَلَسَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى الْحَضْرَمِيُّ النَّاسَ قَدْ أَقْبَلُوا فِي طَلَبِهِ وَسَيْفُ شَبِيبٍ فِي يَدِهِ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ فَتَرَكَهُ وَنَجَا، وَهَرَبَ شَبِيبٌ فِي غِمَارِ النَّاسِ. وَلَمَّا ضَرَبَ ابْنُ مُلْجَمٍ عَلِيًّا قَالَ: لَا يَفُوتَنَّكُمُ الرَّجُلُ. فَشَدَّ النَّاسُ عَلَيْهِ فَأَخَذُوهُ، وَتَأَخَّرَ عَلِيٌّ وَقَدِمَ جَعْدَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهِ أُمِّ هَانِئٍ، يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْغَدَاةَ، وَقَالَ عَلِيٌّ: أَحْضِرُوا الرَّجُلَ عِنْدِي. فَأُدْخِلُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ! أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: شَحَذْتُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ شَرَّ خَلْقِهِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا أَرَاكَ إِلَّا مَقْتُولًا بِهِ، وَلَا أَرَاكَ إِلَّا مِنْ شَرِّ خَلْقِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، إِنْ هَلَكْتُ فَاقْتُلُوهُ كَمَا قَتَلَنِي، وَإِنْ بَقِيتُ رَأَيْتُ فِيهِ رَأْيِي، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُلْفَيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ، تَقُولُونَ قَدْ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا لَا يُقْتَلَنَّ إِلَّا قَاتِلِي، انْظُرْ يَا حَسَنُ: إِنْ أَنَا مِتٌّ مِنْ ضَرْبَتِي هَذِهِ، فَاضْرِبْهُ ضَرْبَةً، وَلَا تُمَثِّلَنَّ بِالرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ» ". (هَذَا كُلُّهُ) وَابْنُ مُلْجَمٍ مَكْتُوفٌ. فَقَالَتْ لَهُ أُمُّ كُلْثُومٍ ابْنَةُ عَلِيٍّ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ! لَا بَأْسَ عَلَى أَبِي، وَاللَّهُ مُخْزِيكَ! قَالَ: فَعَلَى مَنْ تَبْكِينَ؟ وَاللَّهِ إِنَّ سَيْفِي اشْتَرَيْتُهُ بِأَلْفٍ، وَسَمَّمْتُهُ بِأَلْفٍ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الضَّرْبَةُ بِأَهْلِ مِصْرٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَدَخَلَ جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: إِنْ فَقَدْنَاكَ، وَلَا نَفْقِدُكَ، فَنُبَايِعُ الْحَسَنَ؟ قَالَ: مَا آمُرُكُمْ وَلَا أَنْهَاكُمْ، أَنْتُمْ أَبْصَرُ. ثُمَّ دَعَا الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فَقَالَ لَهُمَا:

أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللَّهِ، وَلَا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وَإِنْ بَغَتْكُمَا، وَلَا تَبْكِيَا عَلَى شَيْءٍ زُوِيَ عَنْكُمَا، وَقُولَا الْحَقَّ، وَارْحَمَا الْيَتِيمَ، وَأَعِينَا الضَّائِعَ، وَاصْنَعَا لِلْآخِرَةِ، وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصِيمًا، وَلِلْمَظْلُومِ نَاصِرًا، وَاعْمَلَا بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا تَأْخُذْكُمَا فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. ثُمَّ نَظَرَ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ: هَلْ حَفِظْتَ مَا أَوْصَيْتُ بِهِ أَخَوَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي أُوصِيكَ بِمِثْلِهِ، وَأُوصِيكَ بِتَوْقِيرِ أَخَوَيْكَ، لِعَظِيمِ حَقِّهِمَا عَلَيْكَ (فَاتَّبِعْ أَمْرَهُمَا) وَلَا تَقْطَعْ أَمْرًا دُونَهُمَا. ثُمَّ قَالَ: أُوصِيكُمَا بِهِ، فَإِنَّهُ شَقِيقُكُمَا وَابْنُ أَبِيكُمَا، وَقَدْ عَلِمْتُمَا أَنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُحِبُّهُ. وَقَالَ لِلْحَسَنِ أُوصِيكَ أَيْ بُنَيَّ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ عِنْدَ مَحَلِّهَا، وَحُسْنِ الْوُضُوءِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطُهُورٍ، وَأُوصِيكَ بِغَفْرِ الذَّنْبِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالْحِلْمِ عَنِ الْجَاهِلِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَالتَّثَبُّتِ فِي الْأَمْرِ، وَالتَّعَاهُدِ لِلْقُرْآنِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِشِ. ثُمَّ كَتَبَ وَصِيَّتَهً وَلَمْ يَنْطِقْ إِلَّا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، حَتَّى مَاتَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ -. وَغَسَّلَهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَكُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ الْحَسَنُ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ.

فَلَمَّا قُبِضَ بَعَثَ الْحَسَنُ إِلَى ابْنِ مُلْجَمٍ فَأَحْضَرَهُ، فَقَالَ لِلْحَسَنِ: هَلْ لَكَ فِي خَصْلَةٍ؟ إِنِّي وَاللَّهِ قَدْ أَعْطَيْتُ اللَّهَ عَهْدًا أَنْ لَا أُعَاهِدَ عَهْدًا إِلَّا وَفَيْتُ بِهِ، وَإِنِّي عَاهَدْتُ اللَّهَ عِنْدَ الْحَطِيمِ أَنْ أَقْتُلَ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ، أَوْ أَمُوتَ دُونَهُمَا، فَإِنْ شِئْتَ خَلَّيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَلَكَ اللَّهُ عَلَيَّ إِنْ لَمْ أَقْتُلْهُ أَوْ قَتَلْتُهُ ثُمَّ بَقِيتُ أَنْ آتِيَكَ حَتَّى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِكَ. فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تُعَايِنَ النَّارَ. ثُمَّ قَدَّمَهُ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَهُ النَّاسُ فَأَدْرَجُوهُ فِي بَوَارِيَّ وَأَحْرَقُوهُ بِالنَّارِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ الْأَصَمِّ: قُلْتُ لِلْحُسْنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّ هَذِهِ الشِّيعَةَ تَزْعُمُ أَنَّ عَلِيًّا مَبْعُوثٌ قَبْلَ الْقِيَامَةِ! فَقَالَ: كَذِبَ وَاللَّهِ هَؤُلَاءِ الشِّيعَةُ، لَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ قَبْلَ الْقِيَامَةِ مَا زَوَّجْنَا نِسَاءَهُ، وَلَا قَسَّمْنَا مَالَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: هَذِهِ الشِّيعَةُ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَعْنِي طَائِفَةً مِنْهَا، فَإِنَّ كُلَّ شِيعَةٍ لَا تَقُولُ هَذَا، إِنَّمَا تَقُولُهُ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ مِنْهُمْ، وَمِنْ مَشْهُورِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ: جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ الْكُوفِيُّ، وَقَدِ انْقَرَضَ الْقَائِلُونَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ فِيمَا نَعْلَمُهُ. بَجَرَةَ: بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْجِيمِ. (وَالْبُرَكِ: بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ وَآخِرُهُ كَافٌ) . وَأَمَّا الْبُرَكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ قَعَدَ لِمُعَاوِيَةَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي ضُرِبَ فِيهَا عَلِيٌّ، فَلَمَّا خَرَجَ مُعَاوِيَةُ لِيُصَلِّيَ الْغَدَاةَ، شَدَّ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ، فَوَقَعَ السَّيْفُ فِي أَلْيَتِهِ، فَأُخِذَ، فَقَالَ: إِنْ عِنْدِي خَبَرًا أُسِرُّكَ بِهِ، فَإِنْ أَخْبَرْتُكَ فَنَافِعِي ذَلِكَ [عِنْدَكَ] ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّ أَخًا لِي قَتَلَ عَلِيًّا هَذِهِ اللَّيْلَةَ. قَالَ: فَلَعَلَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: بَلَى، إِنَّ عَلِيًّا لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ يَحْرُسُهُ. فَأَمَرَ بِهِ مُعَاوِيَةُ فَقُتِلَ. وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى السَّاعِدِيِّ، وَكَانَ طَبِيبًا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ: اخْتَرْ إِمَّا أَنْ أُحْمِيَ حَدِيدَةً فَأَضَعُهَا مَوْضِعَ السَّيْفِ، وَإِمَّا أَنْ أَسْقِيَكَ شَرْبَةً تَقْطَعُ مِنْكَ الْوَلَدَ وَتَبْرَأُ مِنْهَا، فَإِنَّ ضَرْبَتَكَ مَسْمُومَةٌ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَمَّا النَّارُ فَلَا صَبْرَ لِي عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِنَّ يَزِيدَ

وَعَبْدَ اللَّهِ مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنِي. فَسَقَاهُ شَرْبَةً فَبَرَأَ وَلَمْ يُولَدْ لَهُ بَعْدَهَا. وَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْمَقْصُوَرَاتِ، وَحَرَسِ اللَّيْلِ، وَقِيَامِ الشُّرَطِ عَلَى رَأْسِهِ إِذَا سَجَدَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَهَا فِي الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَقْتُلِ الْبُرَكَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ، وَبَقِيَ إِلَى أَنْ وَلِي زِيَادٌ الْبَصْرَةَ، وَكَانَ الْبُرَكُ قَدْ صَارَ إِلَيْهَا وَوُلِدَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ: يُولَدُ لَكَ، وَتَرَكْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُولَدُ لَهُ؟ فَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ. وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ بَكْرٍ، فَإِنَّهُ جَلَسَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَخْرُجْ، وَكَانَ اشْتَكَى بَطْنَهُ، فَأَمَرَ خَارِجَةَ بْنَ أَبِي حَبِيبَةَ - وَكَانَ صَاحِبَ شُرْطَتِهِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، - فَخَرَجَ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَشَدَّ عَلَيْهِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، فَأَخَذَهُ النَّاسُ إِلَى عَمْرٍو فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: عَمْرٌو. قَالَ: فَمَنْ قَتَلْتُ؟ قَالُوا: خَارِجَةَ. قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ يَا فَاسِقُ مَا ظَنَنْتُهُ غَيْرَكَ! فَقَالَ عَمْرٌو: أَرَدْتَنِي وَأَرَادَ اللَّهُ خَارِجَةَ. فَقَدَّمَهُ عَمْرٌو فَقَتَلَهُ. قَالَ: وَلَمَّا بَلَغَ عَائِشَةَ قَتْلُ عَلِيٍّ قَالَتْ: فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّتْ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ ثُمَّ قَالَتْ: مَنْ قَتَلَهُ؟ فَقِيلَ: رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ. فَقَالَتْ: فَإِنْ يَكُ نَائِيًا فَلَقَدْ نَعَاهُ ... نَعِيٌّ لَيْسَ فِي فِيهِ التُّرَابُ

فَقَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ: أَتَقُولِينَ هَذَا لِعَلِيٍّ؟ فَقَالَتْ: إِنَّنِي أَنْسَى، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَيَّاسٍ الْمُرَادِيُّ: فَنَحْنُ ضَرَبْنَا، يَا لَكَ الْخَيْرُ ، حَيْدَرًا أَبَا حَسَنٍ مَأْمُومَةً فَتَفَطَّرَا ... وَنَحْنُ خَلَعْنَا مُلْكَهُ مِنْ نِظَامِهِ بِضَرْبَةِ سَيْفٍ إِذْ عَلَا وَتَجَبَّرَا ... وَنَحْنُ كِرَامٌ فِي الصَّبَاحِ أَعِزَّةٌ إِذَا الْمَرْءُ بِالْمَوْتِ ارْتَدَى وَتَأَزَّرَا وَقَالَ أَيْضًا: وَلَمْ أَرَ مَهْرًا سَاقَهُ ذُو سَمَاحَةٍ ... كَمَهْرِ قَطَامٍ بَيْنَ عُرْبٍ وَمُعْجَمٍ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَعَبْدٌ وَقَيْنَةٌ ... وَضَرْبُ عَلِيٍّ بِالْحُسَامِ الْمُصَمِّمِ فَلَا مَهْرَ أَغْلَى مِنْ عَلِيٍّ وَإِنْ غَلَا ... وَلَا فَتْكَ إِلَّا دُونَ فَتْكِ ابْنِ مُلْجَمِ وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ فِي قَتْلِ عَلِيٍّ: أَلَا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ ... فَلَا قَرَّتْ عُيُونُ الشَّامِتِينَا أَفِي شَهْرِ الصِّيَامِ فَجَعْتُمُونَا ... بِخَيْرِ النَّاسِ طُرًّا أَجَمَعِينَا

قَتَلْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَرَحَّلَهَا وَمَنْ رَكِبَ السَّفِينَا ... وَمَنْ لَبِسَ النِّعَالَ (وَمَنْ حَذَاهَا ) وَمَنْ قَرَأَ الْمَثَانِيَ وَالْمَئِينَا ... إِذَا اسْتَقْبَلْتَ وَجْهَ أَبِي حُسَيْنٍ رَأَيْتَ الْبَدْرَ رَاعَ النَّاظِرِينَا ... لَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ حَيْثُ كَانَتْ بِأَنَّكَ خَيْرُهَا حَسَبًا وَدِينَا (وَقَالَ بَكْرُ بْنُ حَمَّادٍ التَّاهَرْتِيُّ: قُلْ لِابْنِ مُلْجَمَ وَالْأَقْدَارُ غَالِبَةٌ ... هَدَمْتَ لِلدِّينِ وَالْإِسْلَامِ أَرْكَانَا قَتَلْتَ أَفْضَلَ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمٍ ... وَأَعْظَمَ النَّاسِ إِسْلَامًا وَإِيمَانَا وَأَعْلَمَ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ بِمَا ... سَنَّ الرَّسُولُ لَنَا شَرْعًا وَتِبْيَانَا صِهْرَ النَّبِيِّ وَمَوْلَاهُ وَنَاصِرَهُ ... أَضْحَتْ مَنَاقِبُهُ نُورًا وَبُرْهَانَا وَكَانَ مِنْهُ عَلَى رُغْمِ الْحَسُودِ لَهُ ... مَكَانُ هَارُونَ مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَا ذكرتُ قَاتِلَهُ وَالدَّمْعُ مُنْحَدِرٌ ... فَقُلْتُ سُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ سُبْحَانَا إِنِّي لَأَحْسَبُهُ مَا كَانَ مِنْ أَنَسٍ كَلَّا وَلَكِنَّهُ قَدْ كَانَ شَيْطَانَا

قَدْ كَانَ يُخْبِرُهُمْ [هَذَا] بِمَقْتَلِهِ ... قَبْلَ الْمَنِيَّةِ أَزْمَانًا فَأَزْمَانَا فَلَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ سُوءَ فَعْلَتِهِ ... وَلَا سَقَى قَبْرَ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَا يَا ضَرْبَةً مِنْ شَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا ... إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانَا بَلْ ضَرْبَةٌ مِنْ غَوِيٍّ أَوْرَدَتْهُ لَظًى ... وَسَوْفَ يَلْقَى بِهَا الرَّحْمَنَ غَضْبَانَا كَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَصْدًا بِضَرْبَتِهِ ... إِلَّا لِيَصْلَيَ عَذَابَ الْخُلْدِ نِيرَانَا ) ذكر مُدَّةِ خِلَافَتِهِ وَمِقْدَارِ عُمُرِهِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ خِلَافَتُهُ خَمْسَ سِنِينَ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ عُمُرُهُ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقِيلَ: كَانَ عُمْرُهُ تَسْعًا وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: خَمْسًا وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: ثَمَانِيًا وَخَمْسِينَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَلَمَّا قُتِلَ دُفِنَ عِنْدَ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ، وَقِيلَ: فِي الْقَصْرِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. (وَالْأَصَحُّ أَنَّ قَبَرَهُ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُزَارُ وَيُتَبَرَّكُ بِهِ) . ذكر نَسَبِهِ وَصِفَتِهِ وَنِسَائِهِ وَأَوْلَادِهِ كَانَ آدَمَ شَدِيدَ الْأُدْمَةِ، ثَقِيلَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَهُمَا، ذَا بَطْنٍ، أَصْلَعَ، عَظِيمَ اللِّحْيَةِ، كَثِيرَ شَعْرِ الصَّدْرِ، هُوَ إِلَى الْقِصَرِ أَقْرَبُ، وَقِيلَ: كَانَ فَوْقَ الرَّبْعَةِ، وَكَانَ ضَخْمَ عَضَلَةِ

الذِّرَاعِ، دَقِيقَ مُسْتَدَقِّهَا، ضَخْمَ عَضَلَةِ السَّاقِ، مُسْتَدَقِّهَا، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، وَلَا يُغَيِّرُ شَيْبَهُ، كَثِيرَ التَّبَسُّمِ. وَأَمَّا نَسَبُهُ فَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَاسْمُ أَبِي طَالِبٍ عَبْدُ مَنَافِ (بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَأُمُّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ) . وَهُوَ أَوَّلُ خَلِيفَةٍ، أَبَوَاهُ هَاشِمِيَّانِ، وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا مَنْ أَبَوَاهُ هَاشِمِيَّانِ غَيْرُهُ، وَغَيْرُ الْحَسَنِ وَلَدِهِ، وَمُحَمَّدٍ الْأَمِينِ، فَإِنَّ أَبَاهُ هَارُونُ الرَّشِيدُ وَأُمُّهُ زُبَيْدَةُ بِنْتُ جَعْفَرِ بْنِ الْمَنْصُورِ. وَأَمَّا أَزْوَاجُهُ، فَأَوَّلُ زَوْجَةٍ تَزَوَّجَهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا حَتَّى تُوُفِّيَتْ عِنْدَهُ، وَكَانَ لَهُ مِنْهَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنْهَا ابْنٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ مُحْسِنٌ، وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ صَغِيرًا، وَزَيْنَبُ الْكُبْرَى، وَأُمُّ كُلْثُومٍ الْكُبْرَى. ثُمَّ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا أُمَّ الْبَنِينِ بِنْتَ حَرَامٍ الْكِلَابِيَّةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ الْعَبَّاسَ، وَجَعْفَرًا، وَعَبْدَ اللَّهِ، وَعُثْمَانَ، قُتِلُوا مَعَ الْحُسَيْنِ (بِالطَّفِّ، وَلَا بَقِيَّةَ لَهُمْ غَيْرَ الْعَبَّاسِ، وَتَزَوَّجَ لَيْلَى بِنْتَ مَسْعُودِ بْنِ خَالِدٍ النَّهْشَلِيَّةَ التَّمِيمِيَّةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ وَأَبَا بَكْرٍ، قُتِلَا مَعَ الْحُسَيْنِ) . وَقِيلَ: إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ قَتَلَهُ الْمُخْتَارُ بِاْلَمَذَارِ، وَقِيلَ: لَا بَقِيَّةَ لَهُمَا. وَتَزَوَّجَ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا الْأَصْغَرَ، وَيَحْيَى، وَلَا عَقِبَ لَهُمَا. وَقِيلَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لِأُمِّ وَلَدٍ، وَقُتِلَ مَعَ الْحُسَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا وَلَدَتْ لَهُ عَوْنًا. وَلَهُ مِنَ الصَّهْبَاءِ بِنْتِ رَبِيعَةَ التَّغْلِبِيَّةِ، وَهِيَ مِنَ السَّبْيِ الَّذِينَ أَغَارَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِعَيْنِ التَّمْرِ، وَوَلَدَتْ لَهُ عُمَرَ بْنَ عَلِيٍّ، وَرُقَيَّةَ بِنْتَ عَلِيٍّ، فَعُمِّرَ عُمَرُ حَتَّى بَلَغَ خَمْسًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، فَحَازَ نِصْفَ مِيرَاثِ عَلِيٍّ، وَمَاتَ بَيِنْبُعَ. وَتَزَوَّجَ عَلِيٌّ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَأُمُّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا الْأَوْسَطَ، وَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَكْبَرُ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، أُمُّهُ خَوْلَةُ بِنْتُ جَعْفَرٍ، مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ. وَتَزَوَّجَ عَلِيٌّ أَيْضًا أُمَّ سَعِيدٍ ابْنَةَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ أُمَّ الْحَسَنِ، وَرَمْلَةَ الْكُبْرَى، (وَأُمَّ كُلْثُومٍ) ، وَكَانَ لَهُ بَنَاتٌ مِنْ أُمَّهَاتٍ شَتَّى لَمْ يُذْكَرْنَ لَنَا، مِنْهُنَّ أُمُّ هَانِئٍ، وَمَيْمُونَةُ، وَزَيْنَبُ الصُّغْرَى، وَرَمَلَةُ الصُّغْرَى، وَأُمُّ كُلْثُومٍ الصُّغْرَى، وَفَاطِمَةُ، وَأُمَامَةُ، وَخَدِيجَةُ، وَأُمُّ الْكِرَامِ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَأُمُّ جَعْفَرٍ،

وَجُمَانَةُ، وَنَفِيسَةُ، كُلُّهُنَّ مِنْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ. وَتَزَوَّجَ أَيْضًا مُخَبَّاةَ بِنْتَ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ الْكَلْبِيَّةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ جَارِيَةً هَلَكَتْ صَغِيرَةً، كَانَتْ تَخْرُجُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيُقَالُ لَهَا: مَنْ أَخْوَالُكِ؟ فَتَقُولُ: وَهْ وَهْ، تَعْنِي كَلْبًا. فَجَمِيعُ وَلَدِهِ أَرْبَعَةُ عَشَرَ ذَكَرًا، وَسَبْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَكَانَ النَّسْلُ مِنْهُمْ لِلْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ، وَمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْعَبَّاسِ بْنِ الْكِلَابِيَّةِ، وَعُمَرَ بْنِ التَّغْلِبِيَّةِ. ذكر عُمَّالِهِ وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى الْبَصْرَةِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِي أَمْرِهِ، وَكَانَ إِلَيْهِ الصَّدَقَاتُ وَالْجُنْدُ وَالْمَعَاوِنُ أَيَّامَ وِلَايَتِهِ كُلِّهَا، وَكَانَ عَلَى قَضَائِهَا مِنْ قِبَلِ عَلِيٍّ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ، وَكَانَ عَلَى فَارِسَ زِيَادٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَهُ إِلَيْهَا، وَكَانَ عَلَى الْيَمَنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ بُسْرِ بْنِ أَبِي أَرْطَاةَ مَا ذُكِرَ، وَكَانَ عَلَى الطَّائِفِ وَمَكَّةَ وَمَا اتَّصَلَ بِذَلِكَ قُثَمُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَقِيلَ: سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَكَانَ عِنْدَ قُدُومِ بُسْرٍ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، وَذُكِرَ. ذكر بَعْضِ سِيرَتِهِ كَانَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَازِنًا لَعَلِّي عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَدَخَلَ عَلِيٌّ يَوْمًا وَقَدْ زُيِّنَتِ ابْنَتُهُ، فَرَأَى عَلَيْهَا لُؤْلُؤَةً كَانَ عَرَفَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَهَا هَذِهِ؟ لَأَقْطَعَنَّ يَدَهَا! فَلَمَّا رَأَى أَبُو رَافِعٍ جِدَّهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: أَنَا وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ زَيَّنْتُهَا بِهَا. فَقَالَ عَلِيٌّ: لَقَدْ تَزَوَّجْتُ بِفَاطِمَةَ وَمَا لِي فِرَاشٌ إِلَّا جِلْدُ كَبْشٍ نَنَامُ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ وَنَعْلِفُ عَلَيْهِ نَاضِحَنَا بِالنَّهَارِ وَمَا لِي خَادِمٌ غَيْرَهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُسِّمَ عِلْمُ النَّاسِ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ، فَكَانَ لَعَلِيٍّ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَجْزَاءَ،

وَلِسَائِرِ النَّاسِ جُزْءٌ شَارَكَهُمْ عَلِيٌّ فِيهِ فَكَانَ أَعْلَمَهُمْ بِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَا جَاءَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا جَاءَ لَعَلِيٍّ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: لَمَّا ضُرِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجَعَلَ الْخِلَافَةَ فِي السِّتَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: إِنْ يُوَلُّوهَا الْأَجْلَحَ يَسْلُكُ بِهِمُ الطَّرِيقَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: فَمَا يَمْنَعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (مِنْ تَوْلِيَتِهِ) ؟ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ أَتَحَمَّلَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا. وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ: قَدِمَ عَلَى عَلِيٍّ مَالٌ مِنْ أَصْبَهَانَ، فَقَسَّمَهُ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ، فَوَجَدَ فِيهِ رَغِيفًا فَقَسَّمَهُ عَلَى سَبْعَةٍ، وَدَعَا أُمَرَاءَ الْأَسْبَاعِ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ لِيَنْظُرَ أَيُّهُمْ يُعْطَى أَوَّلًا. وَقَالَ هَارُونُ بْنُ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ بِالْخَوَرْنَقِ - وَهُوَ فَصْلُ شِتَاءٍ - وَعَلَيْهِ خَلَقُ قَطِيفَةٍ، وَهُوَ يُرْعَدُ فِيهِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكَ وَلِأَهْلِكَ فِي هَذَا الْمَالِ نَصِيبًا وَأَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا بِنَفْسِكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرْزَأَكُمْ شَيْئًا، وَمَا هِيَ إِلَّا قَطِيفَتِي الَّتِي أَخْرَجْتُهَا مِنَ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَمَةَ: اسْتَعْمَلَ عَلِيٌّ عَمْرَو بْنَ سَلَمَةَ عَلَى أَصْبَهَانَ، فَقَدِمَ وَمَعَهُ مَالٌ وَزِقَاقٌ فِيهَا عَسَلٌ وَسَمْنٌ، فَأَرْسَلَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيٍّ إِلَى عَمْرٍو تَطْلُبُ مِنْهُ سَمْنًا وَعَسَلًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا ظَرْفَ عَسَلٍ وَظَرْفَ سَمْنٍ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ خَرَجَ عَلِيٌّ وَأَحْضَرَ الْمَالَ وَالْعَسَلَ وَالسَّمْنَ لِيُقْسَمَ، فَعَدَّ الزِّقَاقَ فَنَقَصَتْ زِقَّيْنِ، فَسَأَلَهُ عَنْهُمَا، فَكَتَمَهُ وَقَالَ: نَحْنُ نُحْضِرُهَا، فَعَزَمَ عَلَيْهِ إِلَّا ذَكَرَهَا لَهُ، فَأَخْبَرَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى أُمِّ كُلْثُومٍ فَأَخَذَ الزِّقَّيْنِ مِنْهَا، فَرَآهُمَا قَدْ نَقَصَا، فَأَمْرَ التُّجَّارَ بِتَقْوِيمِ مَا نَقَصَ مِنْهُمَا، فَكَانَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأَخَذَهَا مِنْهَا ثُمَّ قَسَّمَ الْجَمِيعَ. قِيلَ: وَخَرَجَ مِنْ هَمْدَانَ فَرَأَى رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ مَضَى، فَسَمِعَ صَوْتًا: يَا غَوْثَاهْ بِاللَّهِ! فَخَرَجَ يَحْضُرُ نَحْوَهُ وَهُوَ يَقُولُ: أَتَاكَ الْغَوْثُ. فَإِذَا رَجُلٌ يُلَازِمُ رَجُلًا. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعْتُ هَذَا ثَوْبًا بِسَبْعَةِ دَرَاهِمَ، وَشَرَطْتُ أَنْ لَا يُعْطِيَنِي مَغْمُوزًا وَلَا مَقْطُوعًا، وَكَانَ شَرْطُهُمْ يَوْمَئِذٍ، فَأَتَانِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، فَأَتَيْتُ وَلَزِمْتُهُ، فَلَطَمَنِي. فَقَالَ لِلَّاطِمِ: مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: صَدَقَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَعْطِهُ شَرْطَهُ. فَأَعْطَاهُ. وَقَالَ لِلْمَلْطُومِ: اقْتَصَّ. قَالَ: أَوْ أَعْفُو يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: ذَلِكَ إِلَيْكَ. ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ خُذُوهُ، فَأَخَذُوهُ، فَحُمِلَ عَلَى ظَهْرِ رَجُلٍ كَمَا يُحْمَلُ صِبْيَانُ الْكُتَّابِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ

خَمْسَ عَشْرَةَ دِرَّةً وَقَالَ: هَذَا نَكَالٌ لِمَا انْتَهَكْتَ مِنْ حُرْمَتِهِ. وَلَمَّا قُتِلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَامَ ابْنُهُ الْحَسَنُ خَطِيبًا فَقَالَ: لَقَدْ قَتَلْتُمُ اللَّيْلَةَ رَجُلًا فِي لَيْلَةٍ نَزَلَ فِيهَا الْقُرْآنُ، وَفِيهَا رُفِعَ عِيسَى، وَفِيهَا قُتِلَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَاللَّهِ مَا سَبَقَهُ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ، وَلَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ يَكُونُ بَعْدَهُ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُهُ فِي السَّرِيَّةِ وَجَبْرَائِيلُ عَنْ يَمِينِهِ، وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِهِ، وَاللَّهِ مَا تَرَكَ (صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ) إِلَّا ثَمَانَمِائَةٍ أَوْ سَبْعَمِائَةٍ أَرْصَدَهَا لِجَارِيَةٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ: إِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَبْنِ آجُرَّةً عَلَى آجُرَّةٍ، وَلَا لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلَا قَصَبَةً عَلَى قَصَبَةٍ، وَإِنْ كَانَ لَيُؤْتَى بِحُبُوبِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي جِرَابٍ. (وَقِيلَ: إِنَّهُ أَخْرَجَ سَيْفًا لَهُ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَهُ وَقَالَ: لَوْ كَانَ عِنْدِي أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ ثَمَنُ إِزَارٍ لَمْ أَبِعْهُ. وَكَانَ لَا يَشْتَرِي مِمَّنْ يَعْرِفُهُ، وَإِذَا اشْتَرَى قَمِيصًا قَدَّرَ كُمَّهُ عَلَى طُولِ يَدِهِ وَقَطَعَ الْبَاقِي) . وَكَانَ يَخْتِمُ عَلَى الْجِرَابِ الَّذِي فِيهِ دَقِيقُ الشَّعِيرِ الَّذِي يَأْكُلُ مِنْهُ وَيَقُولُ: لَا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنِي إِلَّا مَا أَعْلَمُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: وَجَدَ عَلِيٌّ دِرْعًا لَهُ عِنْدَ نَصْرَانِيٍّ، فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى شُرَيْحٍ وَجَلَسَ إِلَى جَانِبِهِ وَقَالَ: لَوْ كَانَ خَصْمِي مُسْلِمًا لَسَاوَيْتُهُ، وَقَالَ: هَذِهِ دِرْعِي! فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَا هِيَ إِلَّا دِرْعِي، وَلَمْ يَكْذِبْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ شُرَيْحٌ لَعَلِيٍّ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا - وَهُوَ يَضْحَكُ - فَأَخَذَ النَّصْرَانِيُّ الدِّرْعَ وَمَشَى يَسِيرًا، ثُمَّ عَادَ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذِهِ أَحْكَامُ الْأَنْبِيَاءِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَدَّمَنِي إِلَى قَاضِيهِ، وَقَاضِيهِ يَقْضِي عَلَيْهِ. ثُمَّ أَسْلَمَ وَاعْتَرَفَ أَنَّ الدِّرْعَ سَقَطَتْ مِنْ عَلِيٍّ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى صِفِّينَ، فَفَرِحَ عَلِيٌّ بِإِسْلَامِهِ وَوَهَبَ لَهُ الدِّرْعَ وَفَرَسًا، وَشَهِدَ مَعَهُ قِتَالَ الْخَوَارِجِ. وَقِيلَ: إِنَّ عَلِيًّا رُؤِيَ وَهُوَ يَحْمِلُ فِي مِلْحَفَتِهِ تَمْرًا قَدِ اشْتَرَاهُ بِدِرْهَمٍ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا نَحْمِلُهُ عَنْكَ؟ فَقَالَ: أَبُو الْعِيَالِ أَحَقُّ بِحَمْلِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: تَذَاكَرُوا الزُّهَّادَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَزْهَدُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: نَظَرَ عَلِيٌّ إِلَى قَوْمٍ بِبَابِهِ، فَقَالَ لِقَنْبَرٍ مَوْلَاهُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ:

شِيعَتُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَمَا لِي لَا أَرَى فِيهِمْ سِيَمَا الشِّيعَةِ؟ قَالَ: وَمَا سِيمَاهُمْ؟ قَالَ: خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الطَّوْيِ، يُبْسُ الشِّفَاهِ مِنَ الظَّمَإِ، عُمْشُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ. (وَمَنَاقِبُهُ لَا تُحْصَى، قَدْ جَمَعْتُ قَضَايَاهُ فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ) . ذكر بَيْعَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعِينَ - بُويِعَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِ. وَأَوَّلُ مَنْ بَايَعَهُ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَالَ لَهُ: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَقِتَالِ الْمُحِلِّينَ. فَقَالَ الْحَسَنُ: عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ عَلَى كُلِّ شَرْطٍ. فَبَايَعَهُ النَّاسُ. وَكَانَ الْحَسَنُ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ: إِنَّكُمْ مُطِيعُونَ تُسَالِمُونَ مَنْ سَالَمْتُ، وَتُحَارِبُونَ مَنْ حَارَبْتُ. فَارْتَابُوا بِذَلِكَ وَقَالُوا: مَا هَذَا لَكُمْ بِصَاحِبٍ وَمَا يُرِيدُ هَذَا إِلَّا الْقِتَالَ. ذكر عِدَّةِ حَوَادِثَ حَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَافْتَعَلَ كِتَابًا عَلَى لِسَانِ مُعَاوِيَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ عَرَّفَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَنَحَرَ عَرَفَةَ خَوْفًا أَنْ يُفْطَنَ لِفِعْلِهِ، وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ مُصَبِّحُهُ وَالِيًا عَلَى الْمَوْسِمِ. وَفِيهَا بُويِعَ مُعَاوِيَةُ بِالْخِلَافَةِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُدْعَى بِالْأَمِيرِ فِي بِلَادِ الشَّامِ، فَلَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ دُعِيَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، (هَكَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ اجْتِمَاعِ الْحَكَمَيْنِ، (وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَتْ خِلَافَةُ الْحَسَنِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ بَعْدَ قَتْلِ عَلِيٍّ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ

الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ. وَفِيهَا مَاتَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُمَا مِنَ

الصَّحَابَةِ. وَفِيهَا مَاتَ شُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ الْكِنْدِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ. قِيلَ لَهُ صُحْبَةٌ. وَفِي أَوَّلِ خِلَافَةِ عَلِيٍّ مَاتَ جَهْجَاهُ الْغِفَارِيُّ لَهُ صُحْبَةٌ. وَفِيهَا مَاتَ الْحَارِثُ بْنُ خَزَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَغَيْرَهُمَا. وَفِيهَا مَاتَ خَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْصَارِيُّ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَدْرٍ، فَرَجَعَ لِعُذْرٍ فَضَرَبَ لَهُ

رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَهْمِهِ، وَهُوَ صَاحِبُ ذَاتِ النِّحْيَيْنِ. وَفِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ مَاتَ قَرَظَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيُّ بِالْكُوفَةِ، (وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ فِي إِمَارَةِ الْمُغِيرَةِ عَلَى الْكُوفَةِ لِمُعَاوِيَةَ) ، شَهِدَ أُحُدًا وَغَيْرَهَا وَشَهِدَ سَائِرَ الْمَشَاهِدِ مَعَ عَلِيٍّ. وَمَاتَ مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ الْأَنْصَارِيُّ (فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ عَلِيٍّ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ، شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . وَفِي خِلَافَتِهِ مَاتَ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ

نَقِيبًا، شَهِدَ بَدْرًا، وَقِيلَ: بَلِ اسْتَخْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَدِينَةِ وَرَدَّهُ مِنْ طَرِيقِ بَدْرٍ وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ الدَّوْسِيُّ، (لَهُ صُحْبَةٌ، قَدِيمُ الْإِسْلَامِ، هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ، وَكَانَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مَجْذُومًا، وَاسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَكَانَ مَعَهُ الْخَاتَمُ أَيَّامَ عُثْمَانَ، فَمِنْ يَدِهِ وَقَعَ الْخَاتَمُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ آخِرَ خِلَافَةِ عُثْمَانَ.

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 41 ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ: ذِكْرُ تَسْلِيمِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْخِلَافَةَ إِلَى مُعَاوِيَةَ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ قَدْ بَايَعَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا مِنْ عَسْكَرِهِ عَلَى الْمَوْتِ لَمَّا ظَهَرَ مَا كَانَ يُخْبِرُهُمْ بِهِ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَتَجَهَّزُ لِلْمَسِيرِ قُتِلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ. فَلَمَّا قُتِلَ وَبَايَعَ النَّاسُ وَلَدَهُ الْحَسَنَ بَلَغَهُ مَسِيرُ مُعَاوِيَةَ فِي أَهْلِ الشَّامِ إِلَيْهِ، فَتَجَهَّزَ هُوَ وَالْجَيْشُ الَّذِي كَانُوا بَايِعُوا عَلِيًّا وَسَارَ عَنِ الْكُوفَةِ إِلَى لِقَاءِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ قَدْ نَزَلَ مَسْكِنَ، فَوَصَلَ الْحَسَنُ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَجَعَلَ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيَّ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، (وَقِيلَ بَلْ كَانَ الْحَسَنُ قَدْ جَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ فِي الطَّلَائِعِ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) . فَلَمَّا نَزَلَ الْحَسَنُ الْمَدَائِنَ نَادَى مُنَادٍ فِي الْعَسْكَرِ: أَلَا إِنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ قُتِلَ فَانْفِرُوا. فَنَفَرُوا بِسُرَادِقِ الْحَسَنِ، فَنَهَبُوا مَتَاعَهُ حَتَّى نَازَعُوهُ بِسَاطًا كَانَ تَحْتَهُ، فَازْدَادَ لَهُمْ بُغْضًا وَمِنْهُمْ ذُعْرًا، وَدَخَلَ الْمَقْصُورَةَ الْبَيْضَاءَ بِالْمَدَائِنِ، وَكَانَ الْأَمِيرُ عَلَى الْمَدَائِنِ سَعْدَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ عَمَّ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ، وَهُوَ شَابٌّ: هَلْ لَكَ فِي الْغِنَى وَالشَّرَفِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تَسْتَوْثِقُ مِنَ الْحَسَنِ وَتَسْتَأْمِنُ بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ: فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ: عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ! أَثِبُ عَلَى ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُوثِقُهُ؟ بِئْسَ الرَّجُلُ أَنْتَ! فَلَمَّا رَأَى الْحَسَنُ تَفَرُّقَ الْأَمْرِ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَذَكَرَ شُرُوطًا وَقَالَ لَهُ: إِنْ أَنْتَ أَعْطَيْتَنِي هَذَا فَأَنَا سَامِعٌ مُطِيعٌ وَعَلَيْكَ أَنْ تَفِيَ لِي بِهِ. وَقَالَ لِأَخِيهِ الْحُسَيْنِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ:

إِنَّنِي قَدْ رَاسَلْتُ مُعَاوِيَةَ فِي الصُّلْحِ: فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: (أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تُصَدِّقَ أُحْدُوثَةَ مُعَاوِيَةَ وَتُكَذِّبَ أُحْدُوثَةَ أَبِيكَ! فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ) : اسْكُتْ، أَنَا أَعْلَمُ بِالْأَمْرِ مِنْكَ. فَلَمَّا انْتَهَى كِتَابُ الْحَسَنِ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَمْسَكَهُ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ إِلَى الْحَسَنِ قَبْلَ وُصُولِ الْكِتَابِ وَمَعَهُمَا صَحِيفَةٌ بَيْضَاءُ مَخْتُومٌ عَلَى أَسْفَلِهَا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنِ اشْتَرِطْ فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ الَّتِي خَتَمْتُ أَسْفَلَهَا مَا شِئْتَ فَهُوَ لَكَ. فَلَمَّا أَتَتِ الصَّحِيفَةُ إِلَى الْحَسَنِ اشْتَرَطَ أَضْعَافَ الشُّرُوطِ الَّتِي سَأَلَ مُعَاوِيَةَ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَمْسَكَهَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْحَسَنُ الْأَمْرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ طَلَبَ أَنْ يُعْطِيَهُ الشُّرُوطَ الَّتِي فِي الصَّحِيفَةِ الَّتِي خَتَمَ عَلَيْهَا مُعَاوِيَةُ، فَأَبَى ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ لَهُ: قَدْ أَعْطَيْتُكَ مَا كُنْتَ تَطْلُبُ. فَلَمَّا اصْطَلَحَا قَامَ الْحَسَنُ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ إِنَّهُ سَخِيٌّ بِنَفْسِي عَنْكُمْ ثَلَاثٌ: قَتْلُكُمْ أَبِي، وَطَعْنُكُمْ إِيَّايَ، وَانْتِهَابُكُمْ مَتَاعِي. وَكَانَ الَّذِي طَلَبَ الْحَسَنُ مِنْ مُعَاوِيَةَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا فِي بَيْتِ مَالِ الْكُوفَةِ، وَمَبْلَغُهُ خَمْسَةُ آلَافِ أَلْفٍ، وَخَرَاجَ دَارَابَجِرْدَ مِنْ فَارِسَ، وَأَنْ لَا يَشْتُمَ عَلِيًّا، فَلَمْ يُجِبْهُ عَنِ الْكَفِّ عَنْ شَتْمِ عَلِيٍّ، فَطَلَبَ أَنْ لَا يَشْتُمَ وَهُوَ يَسْمَعُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ لَمْ يَفِ لَهُ بِهِ أَيْضًا، وَأَمَّا خَرَاجُ دَارَابَجِرْدَ فَإِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ مَنَعُوهُ مِنْهُ وَقَالُوا: هُوَ فَيْئُنَا لَا نُعْطِيهِ أَحَدًا، وَكَانَ مَنْعُهُمْ بِأَمْرِ مُعَاوِيَةَ أَيْضًا. وَتَسَلَّمَ مُعَاوِيَةُ الْأَمْرَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَقِيلَ: فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَقِيلَ: إِنَّمَا سَلَّمَ الْحَسَنُ الْأَمْرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ لِأَنَّهُ لَمَّا رَاسَلَهُ مُعَاوِيَةُ فِي تَسْلِيمِ الْخِلَافَةِ إِلَيْهِ خَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ:

إِنَّا وَاللَّهِ مَا يُثْنِينَا عَنْ أَهْلِ الشَّامِ شَكٌّ وَلَا نَدَمٌ، وَإِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ أَهْلَ الشَّامِ بِالسَّلَامَةِ وَالصَّبْرِ، فَشِيبَتِ السَّلَامَةُ بِالْعَدَاوَةِ، وَالصَّبْرُ بِالْجَزَعِ، وَكُنْتُمْ فِي مَسِيرِكُمْ إِلَى صِفِّينَ وَدِينُكُمْ أَمَامَ دُنْيَاكُمْ، وَأَصْبَحْتُمُ الْيَوْمَ وَدُنْيَاكُمْ أَمَامَ دِينِكُمْ، أَلَا وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ بَيْنَ قَتِيلَيْنِ: قَتِيلٍ بِصِفِّينَ تَبْكُونَ لَهُ، وَقَتِيلٍ بِالنَّهْرَوَانِ تَطْلُبُونَ بِثَأْرِهِ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَخَاذِلٌ، وَأَمَّا الْبَاكِي فَثَائِرٌ، أَلَا وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ دَعَانَا لِأَمْرٍ لَيْسَ فِيهِ عِزٌّ وَلَا نَصَفَةٌ، فَإِنْ أَرَدْتُمُ الْمَوْتَ رَدَدْنَاهُ عَلَيْهِ وَحَاكَمْنَاهُ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، بِظُبَى السُّيُوفِ، وَإِنْ أَرَدْتُمُ الْحَيَاةَ قَبِلْنَاهُ وَأَخَذْنَا لَكُمُ الرِّضَى. فَنَادَاهُ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ: الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ! وَأَمْضَى الصُّلْحَ. وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى تَسْلِيمِ الْأَمْرِ إِلَى مُعَاوِيَةَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا نَحْنُ أُمَرَاؤُكُمْ وَضِيفَانُكُمْ، وَنَحْنُ أَهْلُ بَيْتِ نَبِيِّكُمُ الَّذِينَ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرًا. وَكَرَّرَ ذَلِكَ حَتَّى مَا بَقِيَ فِي الْمَجْلِسِ إِلَّا مَنْ بَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ (فَلَمَّا سَارُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي الصُّلْحِ اصْطَلَحَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ الْأَمْرَ. وَكَانَتْ خِلَافَةُ الْحَسَنِ، عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ سَلَّمَ الْأَمْرَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، خَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَنَحْوَ نِصْفِ شَهْرٍ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، يَكُونُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَشَيْئًا، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: فِي جُمَادَى الْأُولَى، يَكُونُ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَشَيْئًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَمَّا اصْطَلَحَا وَبَايَعَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ دَخَلَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَكَتَبَ الْحَسَنُ إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، يَأْمُرُهُ بِالدُّخُولِ فِي طَاعَةِ مُعَاوِيَةَ، فَقَامَ قَيْسٌ فِي النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اخْتَارُوا الدُّخُولَ فِي طَاعَةِ إِمَامِ ضَلَالَةٍ أَوِ الْقِتَالَ مَعَ غَيْرِ إِمَامٍ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَخْتَارُ الدُّخُولَ فِي طَاعَةِ إِمَامِ ضَلَالَةٍ. فَبَايَعُوا مُعَاوِيَةَ أَيْضًا. فَانْصَرَفَ قَيْسٌ فِيمَنْ تَبِعَهُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَلَمَّا دَخَلَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ قَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِيَأْمُرَ الْحَسَنَ أَنْ يَقُومَ فَيَخْطُبَ النَّاسَ لِيَظْهَرَ لَهُمْ عِيُّهُ. فَخَطَبَ مُعَاوِيَةُ النَّاسَ ثُمَّ أَمَرَ الْحَسَنَ أَنْ يَخْطُبَهُمْ. فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ بَدِيهَةً ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ هَدَاكُمْ بِأَوَّلِنَا وَحَقَنَ دِمَاءَكُمْ بِآخِرِنَا، وَإِنَّ لِهَذَا الْأَمْرِ مُدَّةً وَالدُّنْيَا دُوَلٌ، وَإِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ لِنَبِيِّهِ: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء: 111] . فَلَمَّا قَالَهُ قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: اجْلِسْ، وَحَقَدَهَا عَلَى عَمْرٍو وَقَالَ: هَذَا مِنْ رَأْيِكَ.

وَلَحِقَ الْحَسَنُ بِالْمَدِينَةِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَحَشَمِهِمْ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَبْكُونَ عِنْدَ مَسِيرِهِمْ مِنَ الْكُوفَةِ. قِيلَ لِلْحَسَنِ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: كَرِهْتُ الدُّنْيَا وَرَأَيْتُ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَوْمًا لَا يَثِقُ بِهِمْ أَحَدٌ أَبَدًا إِلَّا غُلِبَ، لَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَافِقُ آخَرَ فِي رَأْيٍ وَلَا هَوًى، مُخْتَلِفِينَ لَا نِيَّةَ لَهُمْ فِي خَيْرٍ وَلَا شَرٍّ، لَقَدْ لَقِيَ أَبِي مِنْهُمْ أُمُورًا عِظَامًا، فَلَيْتَ شِعْرِي لِمَنْ يَصْلُحُونَ بَعْدِي، وَهِيَ أَسْرَعُ الْبِلَادِ خَرَابًا! «وَلَمَّا سَارَ الْحَسَنُ مِنَ الْكُوفَةِ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ! فَقَالَ: لَا تَعْذِلْنِي فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَأَى فِي الْمَنَامِ بَنِي أُمَيَّةَ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ رَجُلًا فَرَجُلًا فَسَاءَهُ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] ، وَهُوَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، وَ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ، يَمْلِكُهَا بَعْدَكَ بَنُو أُمَيَّةَ» . ذِكْرُ صُلْحِ مُعَاوِيَةَ وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ (وَفِيهَا جَرَى الصُّلْحُ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَكَانَ قَيْسٌ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَسَبَبُ امْتِنَاعِهِ) أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا عَلِمَ بِمَا يُرِيدُهُ الْحَسَنُ مِنْ تَسْلِيمِ الْأَمْرِ إِلَى مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُهُ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا أَصَابَ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ، فَأَجَابَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عُبَيْدُ اللَّهِ لَيْلًا وَتَرَكَ جُنْدَهُ الَّذِينَ هُوَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ أَمِيرٍ وَفِيهِمْ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، فَأَمَّرَ ذَلِكَ الْجُنْدُ عَلَيْهِمْ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ وَتَعَاقَدُوا هُوَ وَهُمْ عَلَى قِتَالِ مُعَاوِيَةَ حَتَّى يَشْرُطَ لِشِيعَةِ عَلِيٍّ وَلِمَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ قَيْسًا كَانَ هُوَ الْأَمِيرُ عَلَى ذَلِكَ الْجَيْشِ (فِي الْمُقَدِّمَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَانَ شَدِيدَ الْكَرَاهَةِ لِإِمَارَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ صَالِحَ مُعَاوِيَةَ اجْتَمَعَ مَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَبَايَعُوهُ عَلَى قِتَالِ مُعَاوِيَةَ حَتَّى يَشْتَرِطَ

لِشِيعَةِ عَلِيٍّ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمَا كَانُوا أَصَابُوا فِي الْفِتْنَةِ، فَرَاسَلَهُ مُعَاوِيَةُ يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِسِجِلٍّ، وَخَتَمَ عَلَى أَسْفَلِهِ وَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ فِي هَذَا مَا شِئْتَ فَهُوَ لَكَ. فَقَالَ عَمْرٌو لِمُعَاوِيَةَ: لَا تُعْطِهِ هَذَا وَقَاتِلْهُ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: عَلَى رِسْلِكَ فَإِنَّا لَا نَخْلُصُ إِلَى قَتْلِهِمْ حَتَّى يَقْتُلُوا أَعْدَادَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُقَاتِلُهُ أَبَدًا حَتَّى لَا أَجِدَ مِنْ قِتَالِهِ بُدًّا. فَلَمَّا بَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ ذَلِكَ السِّجِلَّ اشْتَرَطَ قَيْسٌ لَهُ وَلِشِيعَةِ عَلِيٍّ الْأَمَانَ عَلَى مَا أَصَابُوا مِنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَسْأَلْ فِي سِجِلِّهِ ذَلِكَ مَالًا، وَأَعْطَاهُ مُعَاوِيَةُ مَا سَأَلَ، وَدَخَلَ قَيْسٌ وَمَنْ مَعَهُ فِي طَاعَتِهِ. وَكَانُوا يَعُدُّونَ دُهَاةَ النَّاسِ حِينَ ثَارَتِ الْفِتْنَةُ خَمْسَةً يُقَالُ إِنَّهُمْ ذَوُو رَأْيِ الْعَرَبِ وَمَكِيدَتِهِمْ: مُعَاوِيَةُ، وَعَمْرٌو، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ الْخُزَاعِيُّ، وَكَانَ قَيْسٌ وَابْنُ بُدَيْلٍ مَعَ عَلِيٍّ، وَكَانَ الْمُغِيرَةُ مُعْتَزِلًا بِالطَّائِفِ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِمُعَاوِيَةَ دَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ! فَضَحَكَ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ: مَا كَانَ عَلَيْكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ لَوْ قُلْتَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: أَتَقُولُهَا جَذْلَانَ ضَاحِكًا؟ وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنِّي وُلِيتُهَا بِمَا وُلِيتَهَا بِهِ. ذِكْرُ خُرُوجِ الْخَوَارِجِ عَلَى مُعَاوِيَةَ قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ اعْتِزَالَ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيِّ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ وَمَسِيرَهُمْ إِلَى شَهْرَزُورَ، وَتَرَكُوا قِتَالَ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْحَسَنُ الْأَمْرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ قَالُوا: قَدْ جَاءَ الْآنَ مَا لَا شَكَّ فِيهِ، فَسِيرُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ فَجَاهِدُوهُ. فَأَقْبَلُوا وَعَلَيْهِمْ فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ حَتَّى حَلُّوا بِالنُّخَيْلَةِ عِنْدَ الْكُوفَةِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَدْ سَارَ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَدْعُوهُ إِلَى قِتَالِ فَرْوَةَ، فَلَحِقَهُ رَسُولُهُ بِالْقَادِسِيَّةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، فَلَمْ يَرْجِعْ وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: لَوْ آثَرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَبَدَأْتُ بِقِتَالِكَ، فَإِنِّي تَرَكْتُكَ لِصَلَاحِ الْأُمَّةِ وَحَقْنِ دِمَائِهَا. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مُعَاوِيَةُ جَمْعًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ الشَّامِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ: وَاللَّهِ لَا أَمَانَ لَكُمْ عِنْدِي حَتَّى تَكُفُّوهُمْ. فَخَرَجَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فَقَاتَلُوهُمْ. فَقَالَتْ لَهُمُ الْخَوَارِجُ: أَلَيْسَ مُعَاوِيَةُ عَدُوَّنَا وَعَدُوَّكُمْ؟ دَعُونَا حَتَّى نُقَاتِلَهُ، فَإِنْ

أَصَبْنَا كُنَّا قَدْ كَفَيْنَاكُمْ عَدُوَّكُمْ، وَإِنْ أَصَابَنَا كُنْتُمْ قَدْ كَفَيْتُمُونَا. فَقَالُوا: لَا بُدَّ لَنَا مِنْ قِتَالِكُمْ. فَأَخَذَتْ أَشْجَعُ صَاحِبَهُمْ فَرْوَةَ فَحَادَثُوهُ وَوَعَظُوهُ فَلَمْ يَرْجِعْ، فَأَخَذُوهُ قَهْرًا وَأَدْخَلُوهُ الْكُوفَةَ، فَاسْتَعْمَلَ الْخَوَارِجُ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي الْحَوْسَاءِ، رَجُلًا مِنْ طَيِّئٍ، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ فَقَتَلُوهُمْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، (وَقِيلَ: فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ) وَقُتِلَ ابْنُ أَبِي الْحَوْسَاءِ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي الْحَوْسَاءِ حِينَ وَلِيَ أَمْرَ الْخَوَارِجِ قَدْ خُوِّفَ مِنَ السُّلْطَانِ أَنْ يَصْلُبَهُ، فَقَالَ: مَا إِنْ أُبَالِي إِذَا أَرْوَاحُنَا قُبِضَتْ ... مَاذَا فَعَلْتُمْ بِأَوْصَالٍ وَأَبْشَارِ تَجْرِي الْمَجَرَّةُ وَالنَّسْرَانِ عَنْ قَدَرٍ ... وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ السَّارِي بِمِقْدَارِ وَقَدْ عَلِمْتُ، وَخَيْرُ الْقَوْلِ أَنْفَعُهُ ... أَنَّ السَّعِيدَ الَّذِي يَنْجُو مِنَ النَّارِ ذِكْرُ خُرُوجِ حَوْثَرَةَ بْنِ ذِرَاعٍ وَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ أَبِي الْحَوْسَاءِ اجْتَمَعَ الْخَوَارِجُ فَوَلَّوْا أَمْرَهُمْ حَوْثَرَةَ بْنَ ذِرَاعِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَسَدِيَّ، فَقَامَ فِيهِمْ وَعَابَ فَرْوَةَ بْنَ نَوْفَلٍ لِشَكِّهِ فِي قِتَالِ عَلِيٍّ وَدَعَا الْخَوَارِجَ وَسَارَ مِنْ بَرَازِ الرُّوزِ، وَكَانَ بِهَا، حَتَّى قَدِمَ النُّخَيْلَةَ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ فَلُّ ابْنِ أَبِي الْحَوْسَاءِ، وَهُمْ قَلِيلٌ، فَدَعَا مُعَاوِيَةُ أَبَا حَوْثَرَةَ فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ إِلَى ابْنِكَ فَلَعَلَّهُ يَرِقُّ إِذَا رَآكَ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَكَلَّمَهُ وَنَاشَدَهُ وَقَالَ: أَلَا أَجِيئُكَ بِابْنِكَ فَلَعَلَّكَ إِذَا رَأَيْتَهُ كَرِهْتَ فِرَاقَهُ؟ فَقَالَ: أَنَا إِلَى طَعْنَةٍ مِنْ يَدِ كَافِرٍ بِرُمْحٍ أَتَقَلَّبُ فِيهِ سَاعَةً أَشْوَقُ مِنِّي إِلَى ابْنِي. فَرَجَعَ أَبُوهُ فَأَخْبَرَ مُعَاوِيَةَ بِقَوْلِهِ، فَسَيَّرَ مُعَاوِيَةُ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَوْفٍ الْأَحْمَرَ فِي أَلْفَيْنِ، وَخَرَجَ أَبُو حَوْثَرَةَ فِيمَنْ خَرَجَ فَدَعَا ابْنَهُ إِلَى الْبِرَازِ، فَقَالَ: يَا أَبَهْ لَكَ فِي غَيْرِي سَعَةٌ. وَقَاتَلَهُمُ ابْنُ عَوْفٍ وَصَبَرُوا، وَبَارَزَ حَوْثَرَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَوْفٍ فَطَعَنَهُ ابْنُ عَوْفٍ فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ إِلَّا خَمْسِينَ دَخَلُوا الْكُوفَةَ، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ إِحْدَى

وَأَرْبَعِينَ: وَرَأَى ابْنُ عَوْفٍ بِوَجْهِ حَوْثَرَةَ أَثَرَ السُّجُودِ، وَكَانَ صَاحِبَ عِبَادَةٍ، فَنَدِمَ عَلَى قَتْلِهِ، وَقَالَ: قَتَلْتُ أَخَا بَنِي أَسَدٍ سَفَاهَا ... لَعَمْرُ أَبِي فَمَا لُقِّيتُ رُشْدِي قَتَلْتُ مُصَلِّيًا مِحْيَاءَ لَيْلٍ ... طَوِيلَ الْحُزْنِ ذَا بِرٍّ وَقَصْدِ قَتَلْتُ أَخَا تُقًى لَا نَالَ دُنْيَا ... وَذَاكَ لِشِقْوَتِي وَعِثَارِ جَدِّي فَهَبْ لِي تَوْبَةً يَا رَبِّ وَاغْفِرْ ... لِمَا قَارَفَتْ مِنْ خَطَأٍ وَعَمْدِ ذِكْرُ خُرُوجِ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَمَقْتَلُهُ ثُمَّ إِنَّ فَرْوَةَ بْنَ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيَّ خَرَجَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بَعْدَ مَسِيرِ مُعَاوِيَةَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ خَيْلًا عَلَيْهَا شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَيُقَالُ: مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ، فَلَقِيَهُ، بِشَهْرَزُورَ فَقَتَلَهُ، وَقِيلَ قُتِلَ بِبَعْضِ السَّوَادِ. ذِكْرُ شَبِيبِ بْنِ بَجَرَةَ كَانَ شَبِيبٌ مَعَ ابْنِ مُلْجَمٍ حِينَ قَتَلَ عَلِيًّا، فَلَمَّا دَخَلَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ أَتَاهُ شَبِيبٌ كَالْمُتَقَرِّبِ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَنَا وَابْنُ مُلْجَمٍ قَتَلْنَا عَلِيًّا، فَوَثَبَ مُعَاوِيَةُ مِنْ مَجْلِسِهِ مَذْعُورًا حَتَّى دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَبَعَثَ إِلَى أَشْجَعَ وَقَالَ: لَئِنْ رَأَيْتُ شَبِيبًا أَوْ بَلَغَنِي أَنَّهُ بِبَابِي لَأُهْلِكَنَّكُمْ، أَخْرِجُوهُ عَنْ بَلَدِكُمْ. وَكَانَ شَبِيبٌ إِذَا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ خَرَجَ فَلَمْ يَلْقَ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ، فَلَمَّا وَلِيَ الْمُغِيرَةُ الْكُوفَةَ خَرَجَ عَلَيْهِ بِالْقُفِّ، قَرِيبِ الْكُوفَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ خَيْلًا عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ عُرْفُطَةَ، وَقِيلَ: مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ، فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ شَبِيبٌ وَأَصْحَابُهُ.

ذِكْرُ مُعَيْنٍ الْخَارِجِيِّ وَبَلَغَ الْمُغِيرَةَ أَنَّ مُعَيْنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُرِيدُ الْخُرُوجَ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ مُحَارِبٍ، وَكَانَ اسْمُهُ مَعْنًا فَصُغِّرَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ، فَأُخِذَ وَحُبِسَ، وَبَعَثَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُخْبِرُهُ أَمْرَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنْ شَهِدَ أَنِّي خَلِيفَةٌ فَخَلِّ سَبِيلَهُ. فَأَحْضَرَهُ الْمُغِيرَةُ وَقَالَ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ خَلِيفَةٌ وَأَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ، قَتَلَهُ قَبِيصَةُ الْهِلَالِيُّ، فَلَمَّا كَانَ أَيَّامَ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ جَلَسَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ عَلَى بَابِ قَبِيصَةَ حَتَّى خَرَجَ فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ حَتَّى خَرَجَ قَاتِلُهُ مَعَ شَبِيبِ بْنِ يَزِيدَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْكُوفَةَ قَالَ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ أَنَا قَاتِلُ قَبِيصَةَ! ذِكْرُ خُرُوجِ أَبِي مَرْيَمَ ثُمَّ خَرَجَ أَبُو مَرْيَمَ مَوْلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ: قَطَامُ وَكُحَيْلَةُ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَخْرَجَ مَعَهُ النِّسَاءَ، فَعَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَبُو بِلَالِ بْنِ أُدَيَّةَ، فَقَالَ: قَدْ قَاتَلَ النِّسَاءُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِ، وَسَأَرُدُّهُمَا، فَرَدَّهُمَا، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ جَابِرًا الْبَجَلِيَّ، فَقَاتَلَهُ فَقُتِلَ أَبُو مَرْيَمَ وَأَصْحَابُهُ بِبَادُورَيَا. ذِكْرُ خُرُوجِ أَبِي لَيْلَى وَكَانَ أَبُو لَيْلَى رَجُلًا أَسْوَدَ طَوِيلًا، فَأَخَذَ بِعَضَادَتَيْ بَابِ الْمَسْجِدِ بِالْكُوفَةِ وَفِيهِ عِدَّةٌ مِنَ الْأَشْرَافِ وَحَكَّمَ بِصَوْتٍ عَالٍ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ، فَخَرَجَ وَتَبِعَهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنَ الْمَوَالِي، فَبَعَثَ فِيهِ الْمُغِيرَةُ مَعْقِلَ بْنَ قَيْسٍ الرِّيَاحِيَّ فَقَتَلَهُ بِسَوَادِ الْكُوفَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ. ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَلَى الْكُوفَةِ وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى الْكُوفَةِ، فَأَتَاهُ الْمُغِيرَةُ

بْنُ شُعْبَةَ فَقَالَ لَهُ: اسْتَعْمَلْتَ عَبْدَ اللَّهِ عَلَى الْكُوفَةِ وَأَبَاهُ عَلَى مِصْرَ فَتَكُونُ أَمِيرًا بَيْنَ نَابَيِ الْأَسَدِ. فَعَزَلَهُ عَنْهَا وَاسْتَعْمَلَ الْمُغِيرَةَ عَلَى الْكُوفَةِ. وَبَلَغَ عَمْرًا مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ، فَدَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: اسْتَعْمَلْتَ الْمُغِيرَةَ عَلَى الْخَرَاجِ فَيَغْتَالُ الْمَالَ وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَأْخُذَهُ مِنْهُ، اسْتَعْمِلْ عَلَى الْخَرَاجِ رَجُلًا يَخَافُكَ وَيَتَّقِيكَ. فَعَزَلَهُ عَنِ الْخَرَاجِ وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الصَّلَاةِ. وَلَمَّا وَلِيَ الْمُغِيرَةُ الْكُوفَةَ اسْتَعْمَلَ كَثِيرَ بْنَ شِهَابٍ عَلَى الرَّيِّ، وَكَانَ يَكْثُرُ سَبَّ عَلِيٍّ عَلَى مِنْبَرِ الرَّيِّ، وَبَقِيَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ وَلِيَ زِيَادٌ الْكُوفَةَ، فَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا، وَغَزَا الدَّيْلَمَ وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَجَّاجِ التَّغْلِبِيُّ، وَقَتَلَ دَيْلَمِيًّا وَأَخَذَ سَلْبَهُ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ كَثِيرٌ، فَنَاشَدَهُ اللَّهَ فِي رَدِّهِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَاخْتَفَى لَهُ وَضَرَبَهُ عَلَى وَجْهِهِ بِالسَّيْفِ أَوْ بِعَصَا هَشَمَ وَجْهَهُ، فَقَالَ: مَنْ مُبْلِغٌ أَفَنَاءَ خِنْدَفَ أَنَّنِي ... أَدْرَكْتُ طَائِلَتِي مِنِ ابْنِ شِهَابِ أَدْرَكْتُهُ لَيْلًا بِعَقَوَةَ دَارِهِ ... فَضَرَبْتُهُ قُدُمًا عَلَى الْأَنْيَابِ هَلَّا خَشِيتَ وَأَنْتَ عَادٍ ظَالِمٌ ... بِقُصُورٍ أَبْهَرَ أُسْرَتِي وَعِقَابِي ذِكْرُ وِلَايَةِ بُسْرٍ عَلَى الْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلِي بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ الْبَصْرَةَ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَسَنَ لَمَّا صَالَحَ مُعَاوِيَةَ أَوَّلَ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَثَبَ حُمْرَانُ بْنُ أَبَانٍ عَلَى الْبَصْرَةِ فَأَخَذَهَا وَغَلَبَ عَلَيْهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ وَأَمَرَهُ بِقَتْلِ بَنِي زِيَادِ بْنِ أَبِيهِ، وَكَانَ زِيَادٌ عَلَى فَارِسَ قَدْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا قَدِمَ بُسْرٌ الْبَصْرَةَ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِهَا وَشَتَمَ عَلِيًّا ثُمَّ قَالَ: نَشَدْتُ اللَّهَ رَجُلًا يَعْلَمُ أَنِّي صَادِقٌ إِلَّا صَدَّقَنِي أَوْ كَاذِبٌ إِلَّا كَذَّبَنِي. فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نَعْلَمُكَ إِلَّا كَاذِبًا. قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ فَخُنِقَ. فَقَامَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ الضَّبِّيُّ فَرَمَى بِنَفْسِهِ عَلَيْهِ فَمَنَعَهُ. وَأَقْطَعَهُ أَبُو بَكْرَةَ مِائَةَ جَرِيبٍ، وَقِيلَ لِأَبِي بَكْرَةَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: يُنَاشِدُنَا بِاللَّهِ ثُمَّ لَا نُصَدِّقُهُ؟ .

وَأَرْسَلَ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ: إِنَّ فِي يَدِكَ مَالًا مِنْ مَالِ اللَّهِ فَأَدِّ مَا عِنْدَكَ مِنْهُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ زِيَادٌ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ عِنْدِي شَيْءٌ، وَلَقَدْ صَرَفْتُ مَا كَانَ عِنْدِي فِي وَجْهِهِ، وَاسْتَوْدَعْتُ بَعْضَهُ لِنَازِلَةٍ إِنْ نَزَلَتْ، وَحَمَلْتُ مَا فَضَلَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: أَنْ أَقْبِلْ نَنْظُرْ فِيمَا وُلِيتَ، فَإِنِ اسْتَقَامَ بَيْنَنَا أَمْرٌ وَإِلَّا رَجَعْتَ إِلَى مَأْمَنِكَ. فَامْتَنَعَ، فَأَخَذَ بُسْرٌ أَوْلَادَ زِيَادٍ الْأَكَابِرَ، مِنْهُمْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَعَبَّادٌ، وَكَتَبَ إِلَى زِيَادٍ: لَتَقْدَمَنَّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ لَأَقْتُلَنَّ بَنِيكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ زِيَادٌ: لَسْتُ بَارِحًا مِنْ مَكَانِي حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ صَاحِبِكَ، وَإِنْ قَتَلْتَ وَلَدِي فَالْمَصِيرُ إِلَى اللَّهِ وَمِنْ وَرَائِنَا الْحِسَابُ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] . فَأَرَادَ بُسْرٌ قَتْلَهُمْ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: قَدْ أَخَذْتَ وَلَدَ أَخِي بِلَا ذَنْبٍ، وَقَدْ صَالَحَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ عَلَى مَا أَصَابَ أَصْحَابَ عَلِيٌّ حَيْثُ كَانُوا، فَلَيْسَ [لَكَ] عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى أَبِيهِمْ سَبِيلٌ. وَأَجِّلْهُ أَيَّامًا حَتَّى يَأْتِيَهُ بِكِتَابِ مُعَاوِيَةَ، فَرَكِبَ أَبُو بَكْرَةَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ بِالْكُوفَةِ فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ: يَا مُعَاوِيَةُ إِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطُوكَ بَيْعَتَهُمْ عَلَى قَتْلِ الْأَطْفَالِ! قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا بَكْرَةَ؟ قَالَ: بُسْرٌ يُرِيدُ قَتْلَ بَنِي أَخِي زِيَادٍ. فَكَتَبَ لَهُ بِتَخْلِيَتِهِمْ. فَأَخَذَ كِتَابَهُ إِلَى بُسْرٌ بِالْكَفِّ عَنْ أَوْلَادِ زِيَادٍ، وَعَادَ فَوَصَلَ الْبَصْرَةَ يَوْمَ الْمِيعَادِ وَقَدْ أَخْرَجَ بُسْرٌ أَوْلَادَ زِيَادٍ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَنْتَظِرُ بِهِمُ الْغُرُوبَ لِيَقْتُلَهُمْ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ لِذَلِكَ وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أَبَا بَكْرَةَ إِذْ رَفَعَ لَهُمْ عَلَى نَجِيبٍ أَوْ بِرْذَوْنٍ يَكِدُّهُ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَنَزَلَ عَنْهُ وَأَلَاحَ بِثَوْبِهِ وَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ مَعَهُ، فَأَقْبَلَ يَسْعَى عَلَى رِجْلَيْهِ فَأَدْرَكَ بُسْرًا قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابَ مُعَاوِيَةَ، فَأَطْلَقَهُمْ. وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ كَتَبَ إِلَى زِيَادٍ حِينَ قُتِلَ عَلِيٌّ يَتَهَدَّدُهُ، فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: الْعَجَبُ مِنِ ابْنِ آكِلَةِ الْأَكْبَادِ، وَكَهْفِ النِّفَاقِ، وَرَئِيسِ الْأَحْزَابِ يَتَهَدَّدُنِي، وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ (ابْنَا) عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، فِي سَبْعِينَ أَلْفًا وَاضِعِي سُيُوفِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ! أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ خَلَصَ إِلَيَّ لَيَجِدَنِّي أَحْمَزَ ضَرَّابًا بِالسَّيْفِ. فَلَمَّا صَالَحَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ وَقَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ تَحَصَّنَ زِيَادٌ فِي الْقَلْعَةِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا قَلْعَةُ زِيَادٍ.

(قَوْلُ مَنْ قَالَ هَذَا: إِنَّ زِيَادًا عَنَى ابْنَ عَبَّاسٍ، وَهْمٌ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَارَقَ عَلِيًّا فِي حَيَاتِهِ) . وَقِيلَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ أَرْسَلَ هَذَا إِلَى زِيَادٍ فِي حَيَاةِ عَلِيٍّ، فَقَالَ زِيَادٌ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَعَنَى بِهَا عَلِيًّا. وَكَتَبَ زِيَادٌ إِلَى عَلِيٍّ يُخْبِرُهُ بِمَا كَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ، فَأَجَابَهُ بِمَا هُوَ مَشْهُورٌ، (وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي اسْتِلْحَاقِ مُعَاوِيَةَ زِيَادًا) . (كُلُّ مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ بُسْرٌ فَهُوَ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ) . ذِكْرُ وِلَايَةِ ابْنِ عَامِرٍ الْبَصْرَةَ لِمُعَاوِيَةَ ثُمَّ أَرَادَ مُعَاوِيَةُ أَنْ يُوَلِّيَ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ الْبَصْرَةَ، فَكَلَّمَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي بِالْبَصْرَةِ وَدَائِعَ وَأَمْوَالًا، فَإِنْ لَمْ تُوَلِّنِي عَلَيْهَا ذَهَبَتْ. فَوَلَّاهُ الْبَصْرَةَ. فَقَدِمَهَا فِي آخِرِ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ خُرَاسَانَ وَسَجِسْتَانَ، فَجَعَلَ عَلَى شُرْطَتِهِ حَبِيبَ بْنَ شِهَابٍ، وَعَلَى الْقَضَاءِ عَمِيرَةَ بْنَ يَثْرِبِيٍّ أَخَا عَمْرٍو، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ أَنَّ عَمِيرَةَ قُتِلَ فِيهَا، وَقِيلَ عَمْرٌو هُوَ الْمَقْتُولُ، (وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ) . ذِكْرُ وِلَايَةِ قَيْسِ بْنِ الْهَيْثَمِ خُرَاسَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ ابْنُ عَامِرٍ قَيْسَ بْنَ الْهَيْثَمِ السُّلَمِيَّ عَلَى خُرَاسَانَ، وَكَانَ أَهْلُ بِاذَغِيسَ وَهَرَاةَ وَبُوشَنْجَ قَدْ نَكَثُوا، فَسَارَ إِلَى بَلْخَ فَأَخْرَبَ نُوبَهَارَهَا، كَانَ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ مَوْلَى بَنِي لَيْثٍ، وَهُوَ الْخُشْكُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَطَاءً الْخُشْكَ لِأَنَّهُ

أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ مَدِينَةَ هَرَاةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَابِ خُشْكٍ، وَاتَّخَذَ قَنَاطِرَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْهَارٍ مَنْ بَلْخَ عَلَى فَرْسَخٍ فَقِيلَ: قَنَاطِرُ عَطَاءٍ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ بَلْخَ سَأَلُوا الصُّلْحَ وَمُرَاجَعَةَ الطَّاعَةِ فَصَالَحَهُمْ قَيْسٌ. وَقِيلَ: إِنَّمَا صَالَحَهُمُ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَسَيَرِدُ ذِكْرُهُ. ثُمَّ قَدِمَ قَيْسٌ عَلَى ابْنِ عَامِرٍ فَضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَازِمٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَهْلُ هَرَاةَ وَبَاذَغِيسَ وَبُوشَنْجَ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ وَالصُّلْحَ، فَصَالَحَهُمْ وَحَمَلَ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ مَالًا. (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ) . ذِكْرُ خُرُوجِ سَهْمِ بْنِ غَالِبٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ سَهْمُ بْنُ غَالِبٍ الْهُجَيْمِيُّ عَلَى ابْنِ عَامِرٍ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا، مِنْهُمُ الْخَطِيمُ الْبَاهِلِيُّ، وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ مَالِكٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْخَطِيمُ لِضَرْبَةٍ ضُرِبَهَا عَلَى وَجْهِهِ، فَنَزَلُوا بَيْنَ الْجِسْرَيْنِ وَالْبَصْرَةِ، فَمَرَّ بِهِمْ عُبَادَةُ بْنُ فُرْصٍ اللَّيْثِيُّ مِنَ الْغَزْوِ وَمَعَهُ ابْنُهُ وَابْنُ أَخِيهِ، فَقَالَ لَهُمُ الْخَوَارِجُ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: قَوْمٌ مُسْلِمُونَ. قَالُوا: كَذَبْتُمْ. قَالَ عُبَادَةُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! اقْبَلُوا مِنَّا مَا قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنِّي، فَإِنِّي كَذَّبْتُهُ وَقَاتَلْتُهُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَأَسْلَمْتُ فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنِّي. قَالُوا: أَنْتَ كَافِرٌ، وَقَتَلُوهُ وَقَتَلُوا ابْنَهُ وَابْنَ أَخِيهِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ ابْنُ عَامِرٍ بِنَفْسِهِ وَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ عِدَّةً وَانْحَازَ بَقِيَّتُهُمْ إِلَى أَجَمَةٍ وَفِيهِمْ سَهْمٌ وَالْخَطِيمُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ ابْنُ عَامِرٍ الْأَمَانَ فَقَبِلُوهُ، فَآمَنُهُمْ، فَرَجَعُوا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُ بِقَتْلِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَامِرٍ: إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَهُمْ ذِمَّتَكَ. فَلَمَّا أَتَى زِيَادٌ الْبَصْرَةَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ هَرَبَ سَهْمٌ وَالْخَطِيمُ فَخَرَجَا إِلَى الْأَهْوَازِ، فَاجْتَمَعَ إِلَى سَهْمٍ جَمَاعَةٌ فَأَقْبَلَ بِهِمْ إِلَى الْبَصْرَةِ، (فَأَخَذَ قَوْمًا) ، فَقَالُوا: نَحْنُ يَهُودٌ، فَخَلَّاهُمْ، وَقَتَلَ سَعْدًا مَوْلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ تَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، فَاخْتَفَى سَهْمٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ تَفَرَّقُوا عِنْدَ اسْتِخْفَائِهِ، فَطَلَبَ الْأَمَانَ وَظَنَّ أَنَّهُ يَسُوغُ لَهُ عِنْدَ زِيَادٍ مَا سَاغَ عِنْدَ ابْنِ عَامِرٍ، فَلَمْ يُؤَمِّنْهُ زِيَادٌ، وَبَحَثَ عَنْهُ، فَدُلَّ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ فِي دَارِهِ.

وَقِيلَ: لَمْ يَزَلْ مُسْتَخْفِيًا إِلَى أَنْ مَاتَ زِيَادٌ فَأَخَذَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ فَصَلَبَهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ: فَإِنْ تَكُنِ الْأَحْزَابُ بَاءُوا بِصَلْبِهِ ... فَلَا يُبْعِدَنَّ اللَّهُ سَهْمَ بْنَ غَالِبِ وَأَمَّا الْخَطِيمُ فَإِنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ قَتْلِهِ عُبَادَةَ فَأَنْكَرَهُ فَسَيَّرَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ ثُمَّ أَعَادَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ عَلِيٌّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَبِاسِمِ عَلِيٍّ سَمَّاهُ، وَقَالَ: سَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَقِيلَ: عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عُقْبَةَ بْنَ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ قِيسٍ، وَهُوَ ابْنُ خَالَةِ عَمْرٍو، عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ، فَانْتَهَى إِلَى لُوَاتَةَ وَمُزَاتَةَ، فَأَطَاعُوا ثُمَّ كَفَرُوا، فَغَزَاهُمْ مِنْ سَنَتِهِ، فَقَتَلَ وَسَبَى، ثُمَّ افْتَتَحَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ غُدَامِسَ، فَقَتَلَ وَسَبَى، وَفَتَحَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ كُوَرًا مِنْ كُوَرِ السُّودَانِ، وَافْتَتَحَ وَدَّانَ، وَهِيَ مِنْ بَرْقَةَ، وَافْتَتَحَ عَامَّةَ بِلَادِ بَرْبَرٍ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَطَّ الْقَيْرَوَانَ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَسَيُذْكَرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ الشَّاعِرُ، وَقِيلَ: مَاتَ يَوْمَ دَخَلَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ وَعُمُرُهُ

مِائَةُ سَنَةٍ وَسَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَلَهُ صُحْبَةٌ، وَتَرَكَ الشِّعْرَ مُذْ أَسْلَمَ.

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ] 42 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الْمُسْلِمُونَ اللَّانَ وَغَزَوُا الرُّومَ أَيْضًا فَهَزَمُوهُمْ هَزِيمَةً مُنْكَرَةً وَقَتَلُوا جَمَاعَتَهُمْ مِنْ بَطَارِقَتِهِمْ. وَفِيهَا وُلِدَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ فِي قَوْلٍ. وَفِيهَا وَلَّى مُعَاوِيَةُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ الْمَدِينَةَ، وَوَلَّى خَالِدَ بْنَ الْعَاصِ بْنِ هِشَامٍ مَكَّةَ، فَاسْتَقْضَى مَرْوَانُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ. وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَعَلَى قَضَائِهَا شُرَيْحٌ، (وَعَلَى خُرَاسَانَ قَيْسُ بْنُ الْهَيْثَمِ اسْتَعْمَلَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَقِيلَ: اسْتَعْمَلَهُ مُعَاوِيَةُ لَمَّا اسْتَقَامَتْ لَهُ الْأُمُورُ، فَلَمَّا وَلِيَ ابْنُ عَامِرٍ الْبَصْرَةَ أَقَرَّهُ عَلَيْهَا) . ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ تَحَرُّكِ الْخَوَارِجِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَحَرَّكَتِ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ كَانُوا انْحَازُوا عَمَّنْ قُتِلَ فِي النَّهْرِ وَمَنْ كَانَ ارْتَثَّ مِنْ جِرَاحَتِهِ فِي النَّهْرِ فَبَرَءُوا وَعَفَا عَلِيٌّ عَنْهُمْ، وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِمْ أَنَّ حَيَّانَ بْنَ ظَبْيَانَ السُّلَمِيَّ كَانَ خَارِجِيًّا وَكَانَ قَدِ ارْتَثَّ يَوْمَ النَّهْرِ، فَلَمَّا بَرَأَ لَحِقَ بِالرَّيِّ فِي رِجَالٍ مَعَهُ:

فَأَقَامُوا بِهَا حَتَّى بَلَغَهُمْ مَقْتَلُ عَلِيٍّ، فَدَعَا أَصْحَابَهُ وَكَانُوا بِضْعَةَ عَشَرَ، أَحَدُهُمْ سَالِمُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَبْسِيُّ، فَأَعْلَمَهُمْ بِقَتْلِ عَلِيٍّ، فَقَالَ سَالِمٌ: لَا شُلَّتْ يَمِينٌ عَلَتْ قَذَالَهُ بِالسَّيْفِ! وَحَمِدُوا اللَّهَ عَلَى قَتْلِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا رَضِيَ عَنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّ سَالِمًا رَجَعَ عَنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَلُحَ، وَدَعَاهُمْ حَيَّانُ إِلَى الْخُرُوجِ وَمُقَاتَلَةِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، فَأَقْبَلُوا إِلَى الْكُوفَةِ فَأَقَامُوا بِهَا حَتَّى قَدِمَهَا مُعَاوِيَةُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْكُوفَةِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، فَأَحَبَّ الْعَافِيَةَ وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، وَكَانَ يُؤْتَى فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ فُلَانًا يَرَى رَأْيَ الشِّيعَةِ وَفُلَانًا يَرَى رَأْيَ الْخَوَارِجِ، فَيَقُولُ: قَضَى اللَّهُ أَنْ لَا يَزَالُوا مُخْتَلِفِينَ وَسَيَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ. فَأَمِنَهُ النَّاسُ. وَكَانَتِ الْخَوَارِجُ يَلْقَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَذَاكَرُونَ مَكَانَ إِخْوَانِهِمْ بِالنَّهْرِ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ: عَلَى الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ عُلِّفَةَ التَّيْمِيِّ مِنْ تَيْمِ الرِّبَابِ، وَعَلَى مُعَاذِ بْنِ جُوَيْنٍ الطَّائِيِّ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ زِيدِ بْنِ حُصَيْنٍ الَّذِي قُتِلَ يَوْمَ النَّهْرِ، وَعَلَى حَيَّانَ بْنِ ظَبْيَانَ السُّلَمِيِّ، وَاجْتَمَعُوا فِي أَرْبَعِمِائَةٍ فَتَشَاوَرُوا فِيمَنْ يُوَلُّونَ عَلَيْهِمْ، فَكُلُّهُمْ دَفَعَ الْإِمَارَةَ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا فَوَلَّوُا الْمُسْتَوْرِدَ وَبَايَعُوهُ، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَاتَّعَدُوا لِلْخُرُوجِ وَاسْتَعَدُّوا، وَكَانَ خُرُوجُهُمْ غُرَّةَ شَعْبَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ. (عُلِّفَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ، وَفَتْحِ الْفَاءِ) . ذِكْرُ قُدُومِ زِيَادٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ زِيَادٌ عَلَى مُعَاوِيَةَ [مِنْ فَارِسَ] . وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ زِيَادًا كَانَ قَدِ اسْتَوْدَعَ مَالَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَلِي مَالَهُ بِالْبَصْرَةِ، وَبَلَغَ مُعَاوِيَةَ ذَلِكَ فَبَعَثَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لِيَنْظُرَ فِي أَمْوَالِ زِيَادٍ، فَأَخَذَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانَ أَبُوكَ قَدْ أَسَاءَ إِلَيَّ لَقَدْ أَحْسَنَ عَمُّكَ، يَعْنِي زِيَادًا. وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: أَنْ عَذِّبْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَأَرَادَ أَنْ يُعْذَرَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: احْتَفِظْ بِمَا فِي يَدَيْكَ. وَأَلْقَى عَلَى وَجْهِهِ حَرِيرَةً وَنَضَحَهَا بِالْمَاءِ، فَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ خَلَّاهُ وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: إِنِّي عَذَّبْتُهُ فَلَمْ أُصِبْ عِنْدَهُ شَيْئًا. وَحَفِظَ لِزِيَادٍ يَدَهُ عِنْدَهُ. ثُمَّ دَخَلَ الْمُغِيرَةُ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ حِينَ رَآهُ: إِنَّمَا مَوْضِعُ سِرِّ الْمَرْءِ إِنْ بَاحَ بِالسِّرِّ أَخُوهُ الْمُنْتَصِحْ

فَإِذَا بُحْتَ بِسِرٍّ فَإِلَى نَاصِحٍ يَسْتُرُهُ أَوْ لَا تَبُحْ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ تَسْتَوْدِعْنِي تَسْتَوْدِعْ نَاصِحًا مُشْفِقًا، وَمَا ذَلِكَ؟ قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: ذَكَرْتُ زِيَادًا وَاعْتِصَامَهُ بِفَارِسَ فَلَمْ أَنَمْ لَيْلَتِي. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: مَا زِيَادٌ هُنَاكَ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: دَاهِيَةُ الْعَرَبِ مَعَهُ أَمْوَالُ فَارِسَ يُدَبِّرُ الْحِيَلَ، مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يُبَايِعَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ أَعَادَ [عَلَيَّ] الْحَرْبَ جَذَعَةً، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَتَأْذَنُ لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِتْيَانِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأْتِهِ وَتَلَطَّفْ لَهُ. فَأَتَاهُ الْمُغِيرَةُ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَخَفَّهُ الْوَجَلُ حَتَّى بَعَثَنِي إِلَيْكَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ غَيْرُ الْحَسَنِ، وَقَدْ بَايَعَ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ التَّوْطِينِ فَيَسْتَغْنِي مُعَاوِيَةُ عَنْكَ. قَالَ: أَشِرْ عَلَيَّ (وَارْمِ الْغَرَضَ الْأَقْصَى) ، فَإِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ: فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ: (أَرَى أَنْ تَصِلَ حَبْلَكَ بِحَبْلِهِ وَتَشْخَصَ إِلَيْهِ، وَيَقْضِي اللَّهُ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بِأَمَانِهِ بَعْدَ عَوْدِ الْمُغِيرَةِ عَنْهُ) ، فَخَرَجَ زِيَادٌ مِنْ فَارِسَ نَحْوَ مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ الْمِنْجَابُ بْنُ رَاشِدٍ الضَّبِّيُّ وَحَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ الْغُدَانِيُّ. وَسَرَّحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَازِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلَى فَارِسَ وَقَالَ: لَعَلَّكَ تَلْقَى زِيَادًا فِي طَرِيقِكَ فَتَأْخُذُهُ. فَسَارَ ابْنُ خَازِمٍ، فَلَقِيَ زِيَادًا بِأَرَّجَانَ، فَأَخَذَهُ بِعِنَانِهِ وَقَالَ: انْزِلْ يَا زِيَادُ. فَقَالَ لَهُ الْمِنْجَابُ: تَنَحَّ يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ وَإِلَّا عَلَّقْتُ يَدَكَ بِالْعِنَانِ. وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ مُنَازَعَةٌ. فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ: قَدْ أَتَانِي كِتَابُ مُعَاوِيَةَ وَأَمَانُهُ. فَتَرَكَهُ ابْنُ خَازِمٍ، وَقَدِمَ زِيَادٌ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَسَأَلَهُ عَنْ أَمْوَالِ فَارِسَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا حَمَلَ مِنْهَا إِلَى عَلِيٍّ وَبِمَا أَنْفَقَ مِنْهَا فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ وَمَا بَقِيَ عِنْدَهُ وَأَنَّهُ مُودَعٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَصَدَّقَهُ مُعَاوِيَةُ فِيمَا أَنْفَقَ وَفِيمَا بَقِيَ عِنْدَهُ وَقَبَضَهُ مِنْهُ.

وَقِيلَ: إِنَّ زِيَادًا لَمَّا قَالَ لِمُعَاوِيَةَ قَدْ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمَالِ وَقَدْ أَوْدَعْتُهَا، مَكَثَ مُعَاوِيَةُ يُرَدِّدُهُ، فَكَتَبَ زِيَادٌ كُتُبَا إِلَى قَوْمٍ (أَوْدَعَهُمُ الْمَالَ وَقَالَ لَهُمْ) : قَدْ عَلِمْتُمْ مَا لِي عِنْدَكُمْ مِنَ الْأَمَانَةِ فَتَدَبَّرُوا كِتَابَ اللَّهِ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72] الْآيَةَ، فَاحْتَفِظُوا بِمَا قِبَلَكُمْ. وَسَمَّى فِي الْكُتُبِ الْمَالَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ لِمُعَاوِيَةَ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِبَعْضِ مَنْ يُبَلِّغُ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ. فَفَعَلَ رَسُولُهُ، وَانْتَشَرَ ذَلِكَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِزِيَادٍ حِينَ وَقَفَ عَلَى الْكُتُبِ: أَخَافَ أَنْ تَكُونَ مَكَرْتَ بِي فَصَالِحْنِي عَلَى مَا شِئْتَ. فَصَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ وَحَمَلَهُ إِلَيْهِ، وَمَبْلَغُهُ: أَلْفُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَاسْتَأْذَنَهُ فِي نُزُولِ الْكُوفَةِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَكَانَ الْمُغِيرَةُ يُكْرِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ. فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ لِيُلْزِمَ زِيَادًا وَحُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ وَسُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ وَشَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ وَابْنَ الْكَوَّا بْنِ الْحَمِقِ بِالصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، فَكَانُوا يَحْضُرُونَ مَعَهُ الصَّلَاةَ. (وَإِنَّمَا أَلْزَمَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ) . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ هَذِهِ السَّنَةَ بِالنَّاسِ عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. [الْوَفَيَاتُ] : وَفِيهَا مَاتَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ بِأَرْمِينِيَّةَ، وَكَانَ أَمِيرًا لِمُعَاوِيَةَ عَلَيْهَا، وَكَانَ قَدْ

شَهِدَ مَعَهُ حُرُوبَهُ كُلَّهَا. وَفِيهَا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ، لَهُ صُحْبَةٌ. وَفِيهَا مَاتَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ: وَهُوَ الَّذِي صَارَعَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، وَلَهُ صُحْبَةٌ. وَفِيهَا مَاتَ هَانِئُ بْنُ نِيَارِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ:

وَهُوَ خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، وَكَانَ بَدْرِيًّا عَقَبِيًّا. (نِيَارٌ بِكَسْرِ النُّونِ، وَفَتْحِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ رَاءٌ) .

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ] 43 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ الرُّومَ وَشَتَا بِأَرْضِهِمْ حَتَّى بَلَغَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ فِيمَا زَعَمَ الْوَاقِدِيُّ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْأَخْبَارِ وَقَالُوا: لَمْ يَشْتُ بُسْرٌ بِأَرْضِ الرُّومِ قَطُّ. (وَفِيهَا مَاتَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِمِصْرَ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَكَانَ عَمِلَ عَلَيْهَا لِعُمَرَ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَلِعُثْمَانَ أَرْبَعَ سِنِينَ إِلَّا شَهْرَيْنِ، وَلِمُعَاوِيَةَ سَنَتَيْنِ إِلَّا شَهْرًا. وَفِيهَا وَلَّى مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِصْرَ فَوَلِيَهَا نَحْوًا مِنْ سَنَتَيْنِ. وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بِالْمَدِينَةِ فِي صَفَرٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَعُمُرُهُ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً) . ذِكْرُ مَقْتَلِ الْمُسْتَوْرِدِ الْخَارِجِيِّ وَفِيهَا قُتِلَ الْمُسْتَوْرِدُ بْنِ عُلِّفَةَ التَّيْمِيُّ تَيْمَ الرِّبَابِ، وَقَدْ ذُكِرَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ: تَحَرُّكُ الْخَوَارِجِ وَبَيْعَتُهُمْ لَهُ (وَمُخَاطَبَتُهُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ) .

فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ أَخْبَرَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ بِأَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي مَنْزِلِ حَيَّانَ بْنِ ظَبْيَانَ السُّلَمِيِّ وَاتَّعَدُوا لِلْخُرُوجِ غُرَّةَ شَعْبَانَ، فَأَرْسَلَ الْمُغِيرَةُ صَاحِبَ شُرْطَتِهِ، وَهُوَ قَبِيصَةُ بْنُ الدَّمُونِ، فَأَحَاطَ بِدَارِ حَيَّانَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَإِذَا عِنْدَهُ مُعَاذُ بْنُ جُوَيْنٍ وَنَحْوُ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَثَارَتِ امْرَأَتُهُ، وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ كَانَتْ لَهُ كَارِهَةً، فَأَخَذَتْ سُيُوفَهُمْ فَأَلْقَتْهَا تَحْتَ الْفِرَاشِ، وَقَامُوا لِيَأْخُذُوا سُيُوفَهُمْ فَلَمْ يَجِدُوهَا فَاسْتَسْلَمُوا، فَانْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى الْمُغِيرَةِ فَحَبَسَهُمْ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَهُمْ فَلَمْ يَعْتَرِفُوا بِشَيْءٍ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَزَالُوا فِي السِّجْنِ نَحْوَ سَنَةٍ، وَسَمِعَ إِخْوَانُهُمْ فَحَذَرُوا، وَخَرَجَ صَاحِبُهُمُ الْمُسْتَوْرِدُ فَنَزَلَ الْحِيرَةَ، وَاخْتَلَفَ الْخَوَارِجُ إِلَيْهِ، فَرَآهُمْ حَجَّارُ بْنُ أَبْجَرَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَكْتُمَ عَلَيْهِمْ لَيْلَتَهُمْ تِلْكَ، فَقَالَ لَهُمْ: سَأَكْتُمُ عَلَيْكُمُ الدَّهْرَ، فَخَافُوهُ أَنْ يَذْكُرَ حَالَهُمْ لِلْمُغِيرَةِ، فَتَحَوَّلُوا إِلَى دَارِ سُلَيْمِ بْنِ مَحْدُوجٍ الْعَبْدِيِّ، وَكَانَ صِهْرًا لِلْمُسْتَوْرِدِ وَلَمْ يَذْكُرْ حَجَّارٌ مِنْ أَخْبَارِهِمْ شَيْئًا. وَبَلَغَ الْمُغِيرَةَ خَبَرُهُمْ وَأَنَّهُمْ عَازِمُونَ عَلَى الْخُرُوجِ تِلْكَ الْأَيَّامَ، فَقَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَمْ أَزَلْ أُحِبُّ لِجَمَاعَتِهِمُ الْعَافِيَةَ وَأَكُفُّ عَنْكُمُ الْأَذَى، وَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَدَبُ سُوءٍ لِسُفَهَائِكُمْ، (وَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا نَجِدَ بُدًّا مِنْ أَنْ يُؤْخَذَ) الْحَلِيمُ التَّقِيُّ بِذَنْبِ الْجَاهِلِ السَّفِيهِ، فَكُفُّوا عَنْهَا سُفَهَاءَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْمَلَ الْبَلَاءُ عَوَامَّكُمْ، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رِجَالًا يُرِيدُونَ أَنْ يَظْهَرُوا فِي الْمِصْرِ بِالشِّقَاقِ (وَالنِّفَاقِ) وَالْخِلَافِ، وَايْمُ اللَّهِ لَا يَخْرُجُونَ فِي حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا أَهْلَكْتُهُمْ وَجَعَلْتُهُمْ نَكَالًا لِمَنْ بَعْدَهُمْ! فَقَامَ إِلَيْهِ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ الرِّيَاحِيُّ فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ أَعْلِمْنَا بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَإِنْ كَانُوا مِنَّا كَفَيْنَاكَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَنَا أَمَرْتَ أَهْلَ الطَّاعَةِ فَأَتَاكَ كُلُّ قَبِيلَةٍ بِسُفَهَائِهِمْ. فَقَالَ: مَا سُمِّيَ لِي أَحَدٌ بِاسْمِهِ. فَقَالَ مَعْقِلٌ: أَنَا أَكْفِيكَ قَوْمِي فَلْيَكْفِكَ كُلُّ رَئِيسٍ قَوْمَهُ. فَأَحْضَرَ الْمُغِيرَةُ الرُّؤَسَاءَ وَقَالَ لَهُمْ: لِيَكْفِنِي كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ قَوْمَهُ وَإِلَّا فَوَاللَّهِ لَأَتَحَوَّلَنَّ عَمَّا تَعْرِفُونَ إِلَى مَا تُنْكِرُونَ، وَعَمَّا تُحِبُّونَ إِلَى مَا تَكْرَهُونَ. فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَنَاشَدُوهُمُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ إِلَّا دَلُّوهُمْ عَلَى كُلِّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُهَيِّجَ الْفِتْنَةَ، وَجَاءَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ إِلَى عَبْدِ الْقَيْسِ، وَكَانَ قَدْ عَلِمَ بِمَنْزِلِ حَيَّانَ فِي دَارِ سُلَيْمٍ، وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ عَشِيرَتِهِ عَلَى فِرَاقِهِ لِأَهْلِ الشَّامِ وَبُغْضِهِ لِرَأْيِهِمْ، (وَكَرِهَ مَسَاءَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ قَوْمِهِ) ، فَقَامَ فِيهِمْ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ وَلَهُ الْحَمْدُ لَمَّا قَسَّمَ

الْفَضْلَ خَصَّكُمْ بِأَحْسَنِ الْقَسَمِ فَأَجَبْتُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ الَّذِي اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ وَارْتَضَاهُ لِمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، ثُمَّ أَقَمْتُمْ حَتَّى قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ بَعْدَهُ فَثَبَتَتْ طَائِفَةٌ وَارْتَدَّتْ طَائِفَةٌ وَأَدْهَنَتْ طَائِفَةٌ، وَتَرَبَّصَتْ طَائِفَةٌ، فَلَزِمْتُمْ دِينَ اللَّهِ إِيمَانًا بِهِ وَبِرَسُولِهِ وَقَاتَلْتُمُ الْمُرْتَدِّينَ حَتَّى قَامَ الدِّينُ وَأَهْلَكَ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، وَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ يَزِيدُكُمْ بِذَلِكَ خَيْرًا حَتَّى اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ بَيْنَهَا فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: نُرِيدُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَائِشَةَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: نُرِيدُ أَهْلَ الْمَغْرِبِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: نُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ الرَّاسِبِيَّ، وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: لَا نُرِيدُ إِلَّا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّنَا الَّذِينَ ابْتَدَأَنَا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ قِبَلِهِمْ بِالْكَرَامَةِ تَسْدِيدًا مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لَكُمْ وَتَوْفِيقًا، فَلَمْ تَزَالُوا عَلَى الْحَقِّ لَازِمِينَ لَهُ آخِذِينَ بِهِ حَتَّى أَهْلَكَ اللَّهُ بِكُمْ وَبِمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ هَدْيِكُمُ النَّاكِثِينَ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَالْمَارِقِينَ يَوْمَ النَّهْرِ، وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ أَهْلِ الشَّامِ لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَهُمْ، فَلَا قَوْمَ أَعْدَى لِلَّهِ وَلَكُمْ وَلِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ مِنْ هَذِهِ الْمَارِقَةِ الْخَاطِئَةِ الَّذِينَ فَارَقُوا إِمَامَنَا وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَنَا وَشَهِدُوا عَلَيْنَا بِالْكُفْرِ، فَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْوُوهُمْ فِي دُورِكُمْ أَوْ تَكْتُمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ أَعْدَى لِهَذِهِ الْمَارِقَةِ مِنْكُمْ، وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّ بَعْضَهُمْ فِي جَانِبٍ مِنَ الْحَيِّ، وَأَنَا بَاحِثٌ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ يَكُ حَقًّا تَقَرَّبْتُ إِلَى اللَّهِ بِدِمَائِهِمْ، فَإِنَّ دِمَاءَهُمْ حَلَالٌ! وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ عَبْدِ الْقَيْسِ إِنَّ وُلَاتَنَا هَؤُلَاءِ أَعْرَفُ شَيْءٍ بِكُمْ وَبِرَأْيِكُمْ، فَلَا تَجْعَلُوا لَهُمْ عَلَيْكُمْ سَبِيلًا، فَإِنَّهُمْ أَسْرَعُ شَيْءٍ إِلَيْكُمْ وَإِلَى مِثْلِكُمْ. ثُمَّ جَلَسَ وَكُلُّ قَوْمٍ قَالَ: لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَبَرِئَ مِنْهُمْ، لَا نُؤْوِيهِمْ، وَلَئِنْ عَلِمْنَا بِمَكَانِهِمْ لَنُطْلِعَنَّكَ عَلَيْهِمْ، غَيْرَ سُلَيْمِ بْنِ مَحْدُوجٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا وَرَجَعَ كَئِيبًا يَكْرَهُ أَنْ يَخْرُجَ أَصْحَابُهُ مِنْ دَارِهِ فَيَلُومُوهُ، وَيَكْرَهُ أَنْ يُؤْخَذُوا فِي دَارِهِ فَيَهْلِكُوا وَيَهْلِكَ مَعَهُمْ. وَجَاءَ أَصْحَابُ الْمُسْتَوْرِدِ إِلَيْهِ فَأَعْلَمُوهُ بِمَا قَامَ بِهِ الْمُغِيرَةُ فِي النَّاسِ وَبِمَا قَامَ بِهِ رُءُوسُهُمْ فِيهِمْ. فَسَأَلَ ابْنَ مَحْدُوجٍ عَمَّا قَامَ بِهِ صَعْصَعَةُ فِي عَبْدِ الْقَيْسِ فَأَخْبَرَهُ، وَقَالَ: كَرِهْتُ أَنْ أُعْلِمَكُمْ فَتَظُنُّوا أَنَّهُ ثَقُلَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ. فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَكْرَمْتَ الْمَثْوَى وَأَحْسَنْتَ، وَنَحْنُ مُرْتَحِلُونَ عَنْكَ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ الَّذِينَ فِي مَحْبَسِ الْمُغِيرَةِ مِنَ الْخَوَارِجِ فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جُوَيْنِ بْنِ حُصَيْنٍ فِي ذَلِكَ:

أَلَا أَيُّهَا الشَّارُونَ قَدْ حَانَ لِامْرِئٍ ... شَرَى نَفْسَهُ لِلَّهِ أَنْ يَتَرَحَّلَا أَقَمْتُمْ بِدَارِ الْخَاطِئِينَ جَهَالَةً ... وَكُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ يُصَادُ لِيُقْتَلَا فَشُدُّوا عَلَى الْقَوْمِ الْعُدَاةِ فَإِنَّمَا ... أَقَامَتْكُمُ لِلذَّبْحِ رَأْيًا مُضَلِّلًا أَلَا فَاقْصِدُوا يَا قَوْمِ لِلْغَايَةِ الَّتِي ... إِذَا ذُكِرَتْ كَانَتْ أَبَرَّ وَأَعْدَلَا فَيَا لَيْتَنِي فِيكُمْ عَلَى ظَهْرِ سَابِحٍ ... شَدِيدِ الْقُصَيْرَى دَارِعًا غَيْرَ أَعْزَلَا وَيَا لَيْتَنِي فِيكُمُ الْعَادِي عَدُوَّكُمْ ... فَيَسْقِينِي كَأْسَ الْمَنِيَّةِ أَوَّلَا يَعِزُّ عَلِيَّ أَنْ تُخَافُوا وَتُطْرَدُوا ... وَلَمَّا أُجَرِّدْ فِي الْمُحِلِّينَ مُنْصُلَا وَلَمَّا يُفَرِّقْ جَمْعَهُمْ كُلُّ مَاجِدٍ ... إِذَا قُلْتَ قَدْ وَلَّى وَأَدْبَرَ أَقْبَلَا مُشِيحًا بِنَصْلِ السَّيْفِ فِي حَمَسِ الْوَغَى ... يَرَى الصَّبْرَ فِي بَعْضِ الْمُوَاطِنِ أَمْثَلَا وَعَزَّ عَلَيَّ أَنْ تُصَابُوا وَتُنْقَصُوا ... وَأَصْبَحَ ذَا بَثٍّ أَسِيرًا مُكَبَّلَا وَلَوْ أَنَّنِي فِيكُمْ وَقَدْ قَصَدُوا لَكُمْ ... أَثَرْتُ إِذًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ قَسْطَلَا فَيَا رُبَّ جَمْعٍ قَدْ فَلَلْتُ وَغَارَةٍ ... شَهِدْتُ وَقِرْنٍ قَدْ تَرَكْتُ مُجَدَّلَا وَأَرْسَلَ الْمُسْتَوْرِدُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمُ: اخْرُجُوا مِنْ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ، وَاتَّعِدُوا سُورَاءَ. فَخَرَجُوا إِلَيْهَا مُتَقَطِّعِينِ، فَاجْتَمَعُوا بِهَا ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ وَسَارُوا إِلَى الصَّرَاةِ، فَسَمِعَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ خَبَرَهُمْ فَدَعَا رُؤَسَاءَ النَّاسِ فَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَنْ يُرْسِلُهُ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: كُلُّنَا لَهُمْ عَدُوٌّ وَلِرَأْيِهِمْ مُبْغِضٌ وَبِطَاعَتِكَ مُسْتَمْسِكٌ، فَأَيَّنَا شِئْتَ سَارَ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ لَهُ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ: إِنَّكَ لَا تَبْعَثُ إِلَيْهِمْ أَحَدًا مِمَّنْ تَرَى حَوْلَكَ إِلَّا رَأَيْتَهُ سَامِعًا مُطِيعًا وَلَهُمْ مُفَارِقًا وَلِهَلَاكِهِمْ مُحِبًّا، وَلَا أَرَى أَنْ تَبْعَثَ إِلَيْهِمْ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ أَعْدَى لَهُمْ مِنِّي، فَابْعَثْنِي إِلَيْهِمْ، فَأَنَا أَكْفِيكَهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَالَ: اخْرُجْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ! فَجَهَّزَ مَعَهُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ لِصَاحِبِ شُرْطَتِهِ: الْصِقْ بِمَعْقِلٍ شِيعَةَ عَلِيٍّ؛

فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ أَصْحَابِهِ: فَإِذَا اجْتَمَعُوا اسْتَأْنَسَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَهُمْ أَشَدُّ اسْتِحْلَالًا لِدِمَاءِ هَذِهِ الْمَارِقَةِ وَأَجْرَأُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَقَدْ قَاتَلُوهُمْ قَبْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ. وَقَالَ لَهُ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ مَعْقِلٍ. فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ: اجْلِسْ فَإِنَّمَا أَنْتَ خَطِيبٌ. فَأَحْفَظَهُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ يَعِيبُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَيُكْثِرُ ذِكْرَ عَلِيٍّ وَيُفَضِّلُهُ، وَكَانَ الْمُغِيرَةُ دَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: إِيَّاكَ أَنْ يَبْلُغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ تَعِيبُ عُثْمَانَ، وَإِيَّاكَ أَنْ يَبْلُغَنِي أَنَّكَ تُظْهِرُ شَيْئًا مِنْ فَضْلِ عَلِيٍّ، فَأَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ، وَلَكِنَّ هَذَا السُّلْطَانَ قَدْ ظَهَرَ وَقَدْ أَخَذْنَا بِإِظْهَارِ عَيْبِهِ لِلنَّاسِ فَنَحْنُ نَدَعُ شَيْئًا كَثِيرًا مِمَّا أُمِرْنَا بِهِ، وَنَذْكُرُ الشَّيْءَ الَّذِي لَا نَجِدُ مِنْهُ بُدًّا نَدْفَعُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَنْ أَنْفُسِنَا، فَإِنْ كُنْتَ ذَاكِرًا فَضْلَهُ فَاذْكُرْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَصْحَابِكَ فِي مَنَازِلِكُمْ سِرًّا، وَأَمَّا عَلَانِيَةً فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَحْتَمِلُهُ الْخَلِيفَةُ لَنَا. فَكَانَ يَقُولُ لَهُ: نَعَمْ، ثُمَّ يَبْلُغُهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، فَحَقَدَ عَلَيْهِ الْمُغِيرَةُ فَأَجَابَهُ بِهَذَا الْجَوَابِ، فَقَالَ لَهُ صَعْصَعَةُ: وَمَا أَنَا إِلَّا خَطِيبٌ فَقَطْ! قَالَ: أَجَلْ. فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَلْخَطِيبُ الصَّلِيبُ الرَّئِيسُ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شَهِدْتَنِي يَوْمَ الْجَمَلِ حَيْثُ اخْتَلَفَتِ الْقَنَا فَشُئُونٌ تُفْرَى وَهَامَةٌ تُخْتَلَى لَعَلِمْتَ أَنِّي اللَّيْثُ النَّهِدُ. فَقَالَ: حَسْبُكَ، لَعَمْرِي لَقَدْ أُوتِيَتْ لِسَانًا فَصِيحًا. وَخَرَجَ مَعْقِلٌ وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ فَارِسٍ نَقَاوَةُ الشِّيعَةِ وَسَارَ إِلَى سُورَاءَ وَلَحِقَهُ أَصْحَابُهُ. وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَإِنَّهُمْ سَارُوا إِلَى بَهُرَسِيرَ وَأَرَادُوا الْعُبُورَ إِلَى الْمَدِينَةِ الْعَتِيقَةِ الَّتِي فِيهَا مَنَازِلُ كِسْرَى، فَمَنَعَهُمْ سِمَاكُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَزْدِيُّ الْعَبْسِيُّ، وَكَانَ عَامِلًا عَلَيْهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُسْتَوْرِدُ يَدْعُوهُ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأَنْ يَتَوَلَّاهُ وَأَصْحَابَهُ. فَقَالَ سِمَاكٌ: بِئْسَ الشَّيْخُ أَنَا إِذًا! وَأَعَادَ الْجَوَابَ عَلَى الْمُسْتَوْرِدِ يَدْعُوهُ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَأَنْ يَأَخُذَ لَهُ الْأَمَانَ، فَلَمْ يُجِبْ وَأَقَامَ بِالْمَدَائِنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ بَلَغَهُ مَسِيرُ مَعْقِلٍ إِلَيْهِمْ فَجَمَعَهُمُ الْمُسْتَوْرِدُ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْمُغِيرَةَ قَدْ بَعَثَ إِلَيْكُمْ مَعْقِلَ بْنَ قَيْسٍ وَهُوَ مِنَ السَّبَئِيَّةِ الْمُفْتَرِينَ الْكَاذِبِينَ، فَأَشِيرُوا عَلَيَّ بِرَأْيِكُمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَرَجْنَا نُرِيدُ اللَّهَ وَالْجِهَادَ وَقَدْ جَاءُونَا فَأَيْنَ نَذْهَبُ بَلْ نُقِيمُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَتَنَحَّى نَدْعُو النَّاسَ،

وَنَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالدُّعَاءِ. فَقَالَ لَهُمْ: لَا أَرَى أَنْ نُقِيمَ حَتَّى يَأْتُونَا وَهُمْ مُسْتَرِيحُونَ، بَلْ أَرَى أَنْ نَسِيرَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَيَخْرُجُوا فِي طَلَبِنَا فَيَنْقَطِعُوا وَيَتَبَدَّدُوا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ. فَسَارُوا فَعَبَرُوا بِجَرْجَرَايَا، وَمَضَوْا إِلَى أَرْضِ جُوخَى ثُمَّ بَلَغُوا الْمَذَارَ فَأَقَامُوا بِهَا. وَبَلَغَ ابْنَ عَامِرٍ بِالْبَصْرَةِ خَبَرُهُمْ، فَسَأَلَ كَيْفَ صَنَعَ الْمُغِيرَةُ فَأُخْبِرَ بِفِعْلِهِ، فَاسْتَدْعَى شَرِيكَ بْنَ الْأَعْوَرِ الْحَارِثِيَّ، وَكَانَ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ إِلَى هَذِهِ الْمَارِقَةِ. فَفَعَلَ. وَانْتَخَبَ مَعَهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ فَارِسٍ مِنَ الشِّيعَةِ، وَكَانَ أَكْثُرُهُمْ مِنْ رَبِيعَةَ، وَسَارَ بِهِمْ إِلَى الْمَذَارِ. وَأَمَّا مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ فَسَارَ إِلَى الْمَدَائِنِ حَتَّى بَلَغَهَا، فَبَلَغَهُ رَحِيلُهُمْ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ لَهُمْ مَعْقِلٌ: إِنَّهُمْ سَارُوا لِتَتَّبِعُوهُمْ وَتَتَبَدَّدُوا وَتَنْقَطِعُوا فَتَلْحَقُوهُمْ وَقَدْ تَعِبْتُمْ، وَإِنَّهُ لَا يُصِيبُكُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ أَصَابَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ. وَسَارَ فِي أَثَارِهِمْ وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَبَا الرَّوَاغِ الشَّاكِرِيَّ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ، فَتَبِعَهُمْ أَبُو الرَّوَاغِ حَتَّى لَحِقَهُمْ بِالْمَذَارِ، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي قِتَالِهِمْ قَبْلَ قُدُومِ مَعْقِلٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَفْعَلْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُقَاتِلُهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ مَعْقِلًا أَمَرَنِي أَنْ لَا أُقَاتِلَهُمْ. فَقَالُوا لَهُ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ قَرِيبًا مِنْهُ حَتَّى يَأْتِيَ مَعْقِلٌ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَسَاءِ. فَبَاتُوا يَتَحَارَسُونَ حَتَّى أَصْبَحُوا، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ خَرَجَتِ الْخَوَارِجُ إِلَيْهِمْ، وَكَانُوا أَيْضًا ثَلَاثَمِائَةٍ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ أَبِي الرَّوَاغِ سَاعَةً ثُمَّ صَاحَ بِهِمْ أَبُو الرَّوَاغِ: الْكَرَّةَ الْكَرَّةَ! وَحَمَلَ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْخَوَارِجِ عَادُوا مُنْهَزِمِينَ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَصَاحَ بِهِمْ أَبُو الرَّوَاغِ أَيْضًا: ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمُ! ارْجِعُوا بِنَا نَكُنْ قَرِيبًا مِنْهُمْ لَا نُفَارِقُهُمْ حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْنَا أَمِيرُنَا، وَمَا أَقْبَحَ بِنَا أَنْ نَرْجِعَ إِلَى الْجَيْشِ مُنْهَزِمِينَ مِنْ عَدُوِّنَا! فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ، قَدْ وَاللَّهِ هَزَمُونَا. فَقَالَ لَهُ: لَا أَكْثَرَ اللَّهُ فِينَا مِثْلَكَ، إِنَّا مَا لَمْ نُفَارِقِ الْمَعْرَكَةَ فَلَمْ نُهْزَمْ، وَمَتَى عَطَفْنَا عَلَيْهِمْ وَكُنَّا قَرِيبًا مِنْهُمْ فَنَحْنُ عَلَى حَالٍ حَسَنَةٍ، فَقِفُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ فَإِنْ أَتَوْكُمْ وَعَجَزْتُمْ عَنْهُمْ فَتَأَخَّرُوا قَلِيلًا، فَإِذَا حَمَلُوا عَلَيْكُمْ وَعَجَزْتُمْ عَنْ

قِتَالِهِمْ فَانْحَازُوا عَلَى حَامِيَةٍ، فَإِذَا رَجَعُوا عَنْكُمْ فَاعْطِفُوا عَلَيْهِمْ وَكُونُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْجَيْشَ يَأْتِيكُمْ عَنْ سَاعَةٍ. فَجَعَلَتِ الْخَوَارِجُ كُلَّمَا حَمَلَتْ عَلَيْهِمُ انْحَازُوا عَنْهُمْ، فَإِذَا عَادَ الْخَوَارِجُ رَجَعَ أَبُو الرَّوَاغِ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ، فَنَزَلَ الطَّائِفَتَانِ يُصَلُّونَ ثُمَّ أَقَامُوا إِلَى الْعَصْرِ، وَكَانَ أَهْلُ الْقُرَى وَالسَّيَّارَةُ قَدْ أَخْبَرُوا مَعْقِلًا بِالْتِقَاءِ الْخَوَارِجِ وَأَصْحَابِهِ، وَأَنَّ الْخَوَارِجَ تَطْرُدُ أَصْحَابَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَإِذَا رَجَعُوا عَادَ أَصْحَابُهُ خَلْفَهُمْ. فَقَالَ مَعْقِلٌ: إِنْ كَانَ ظَنِّي فِي أَبِي الرَّوَاغِ صَادِقًا لَا يَأْتِيكُمْ مُنْهَزِمًا أَبَدًا. ثُمَّ أَسْرَعَ السَّيْرَ فِي سَبْعِمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ الْقُوَّةِ وَاسْتَخْلَفَ مُحْرِزَ بْنَ شِهَابٍ التَّمِيمِيَّ عَلَى ضَعَفَةِ النَّاسِ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى أَبِي الرَّوَاغِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَذِهِ غَبَرَةٌ فَتَقَدَّمُوا بِنَا إِلَى عَدُوِّنَا حَتَّى لَا يَرَانَا أَصْحَابُنَا، أَنَّا تَنَحَّيْنَا عَنْهُمْ وَهِبْنَاهُمْ. فَتَقَدَّمَ حَتَّى وَقَفَ مُقَابِلَ الْخَوَارِجِ وَلَحِقَهُمْ مَعْقِلٌ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَصَلَّى أَبُو الرَّوَاغِ بِأَصْحَابِهِ وَصَلَّى الْخَوَارِجُ أَيْضًا، وَقَالَ أَبُو الرَّوَاغِ لِمَعْقِلٍ: إِنَّ لَهُمْ شَدَّاتٍ مُنْكَرَاتٍ فَلَا تَلِهَا بِنَفْسِكَ وَلَكِنْ قِفْ وَرَاءَ النَّاسِ تَكُونُ رِدْءًا لَهُمْ. فَقَالَ: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ. فَبَيْنَمَا هُوَ يُخَاطِبُهُ حَمَلَتِ الْخَوَارِجُ عَلَيْهِمْ فَانْهَزَمَ عَامَّةُ أَصْحَابِ مَعْقِلٍ وَثَبَتَ هُوَ، فَنَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ وَمَعَهُ أَبُو الرَّوَاغِ فِي نَحْوِ مِائَتَيْ رَجُلٍ، فَلَمَّا غَشِيَهُمُ الْمُسْتَوْرِدُ اسْتَقْبَلُوهُ بِالرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ، فَانْهَزَمَتْ خَيْلُ مَعْقِلٍ سَاعَةً، ثُمَّ نَادَاهُمْ مِسْكِينُ بْنُ عَامِرٍ، وَكَانَ شُجَاعًا: أَيْنَ الْفِرَارُ وَقَدْ نَزَلَ أَمِيرُكُمْ، أَلَا تَسْتَحْيُونَ؟ ثُمَّ رَجَعَ وَرَجَعَتْ مَعَهُ خَيْلٌ عَظِيمَةٌ وَمَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ يُقَاتِلُ الْخَوَارِجَ بِمَنْ مَعَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُهُمْ حَتَّى رَدَّهُمْ إِلَى الْبُيُوتِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى جَاءَهُمْ مُحْرِزُ بْنُ شِهَابٍ فِيمَنْ مَعَهُ، فَجَعَلَهُمْ مَعْقِلٌ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَقَالَ لَهُمْ: لَا تَبْرَحُوا حَتَّى تُصْبِحُوا وَنَثُورَ إِلَيْهِمْ. وَوَقَفَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مُقَابِلَ بَعْضٍ فَبَيْنَمَا هُمْ مُتَوَافِقُونَ أَتَى الْخَوَارِجَ عَيْنٌ لَهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ شَرِيكَ بْنَ الْأَعْوَرِ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَصْرَةِ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ. فَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ لِأَصْحَابِهِ: لَا أَرَى أَنْ نُقِيمَ لِهَؤُلَاءِ جَمِيعًا، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ نَرْجِعَ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي جِئْنَا مِنْهُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ لَا يَتْبَعُونَنَا إِلَى أَرْضِ الْكُوفَةِ فَيَهُونُ عَلَيْنَا (قِتَالُ) أَهْلِ الْكُوفَةِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالنُّزُولِ لِيُرِيحُوا دَوَابَّهُمْ سَاعَةً، فَفَعَلُوا، ثُمَّ دَخَلُوا الْقَرْيَةَ وَأَخَذُوا مِنْهَا مَنْ دَلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي أَقْبَلُوا مِنْهُ وَعَادُوا رَاجِعِينَ.

وَأَمَّا مَعْقِلٌ فَإِنَّهُ بَعَثَ مَنْ يَأْتِيهِ بِخَبَرِهِمْ حِينَ لَمْ يَرَ سَوَادَهُمْ، فَعَادَ إِلَيْهِ الْخَبَرُ أَنَّهُمْ قَدْ سَارُوا، فَخَافَ أَنْ تَكُونَ مَكِيدَةً وَخَافَ الْبَيَاتَ فَاحْتَاطَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَتَحَارَسُوا إِلَى الصَّبَاحِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَتَاهُمْ مَنْ أَخْبَرَهُمْ بِمَسِيرِهِمْ، وَجَاءَ شَرِيكُ بْنُ الْأَعْوَرِ فِيمَنْ مَعَهُ فَلَقِيَ مَعْقِلًا فَتَسَاءَلَا سَاعَةً وَأَخْبَرَهُ مَعْقِلٌ بِخَبَرِهِمْ، فَدَعَا شَرِيكٌ أَصْحَابَهُ إِلَى الْمَسِيرِ مَعَ مَعْقِلٍ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَاعْتَذَرَ إِلَى مَعْقِلٍ بِخِلَافِ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ صَدِيقًا لَهُ يَجْمَعُهُمَا رَأْيُ الشِّيعَةِ، وَدَعَا مَعْقِلٌ أَبَا الرَّوَاغِ وَأَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهِمْ، فَقَالَ لَهُ: زِدْنِي مِثْلَ الَّذِينَ كَانُوا مَعِي لِيَكُونَ أَقْوَى لِي إِنْ أَرَادُوا مُنَاجِزَتِي. فَبَعَثَ مَعَهُ سِتَّمِائَةِ فَارِسٍ، فَسَارُوا سِرَاعًا حَتَّى أَدْرَكُوا الْخَوَارِجَ بِجَرْجَرَايَا وَقَدْ نَزَلُوا فَنَزَلَ بِهِمْ أَبُو الرَّوَاغِ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ قَالُوا: إِنَّ قِتَالَ هَؤُلَاءِ أَيْسَرُ مِنْ قِتَالِ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، فَحَمَلُوا عَلَى أَبِي الرَّوَاغِ وَأَصْحَابِهِ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَثَبَتَ فِي مِائَةِ فَارِسٍ، فَقَاتَلَهُمْ طَوِيلًا وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الْفَتَى كُلَّ الْفَتَى مَنْ لَمْ يُهَلْ ... إِذَا الْجَبَانُ حَادَ عَنْ وَقْعِ الْأَسَلْ قَدْ عَلِمَتْ أَنِّي إِذَا الْبَأْسُ نَزَلْ ... أَرْوَعُ يَوْمَ الْهَيْجِ مِقْدَامٌ بَطَلْ ثُمَّ عَطَفَ أَصْحَابُهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَصَدَقُوهُمُ الْقِتَالَ حَتَّى أَعَادُوهُمْ إِلَى مَكَانِهِمْ، فَلَمَّا رَأَى الْمُسْتَوْرِدُ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُمْ إِنْ أَتَاهُمْ مَعْقِلٌ وَمِنْ مَعَهُ هَلَكُوا، فَمَضَى هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَعَبَرُوا دِجْلَةَ وَوَقَفُوا فِي أَرْضِ بَهُرَسِيرَ وَتَبِعَهُمْ أَبُو الرَّوَاغِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ بِسَابَاطَ، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِمْ قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ حُمَاةُ أَصْحَابِ مَعْقِلٍ وَفُرْسَانُهُ، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنِّي أَسْبِقُهُمْ إِلَيْهِ بِسَاعَةٍ لَسِرْتُ إِلَيْهِ فَوَاقَعْتُهُ. ثُمَّ أَمَرَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ مَعْقِلٍ، فَسَأَلُوا بَعْضَ مَنْ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُ نَزَلَ دَيْلَمَايَا وَبَيْنَهُمْ ثَلَاثَةُ فَرَاسِخَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ الْمُسْتَوْرِدُ ذَلِكَ رَكِبَ وَرَكِبَ أَصْحَابُهُ وَأَقْبَلَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى جِسْرِ سَابَاطَ، وَهُوَ جِسْرُ نَهْرِ مَلِكٍ، وَهُوَ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي يَلِي الْكُوفَةَ، وَأَبُو الرَّوَاغِ مِنْ جَانِبِ الْمَدَائِنِ، فَقَطَعَ الْمُسْتَوْرِدُ الْجِسْرَ، وَلَمَّا رَآهُمْ أَبُو الرَّوَاغِ قَدْ رَكِبُوا عَبَّى أَصْحَابَهُ وَاعْتَزَلَ إِلَى صَحْرَاءَ بَيْنَ الْمَدَائِنِ وَسَابَاطَ لِيُكُونَ الْقِتَالُ بِهَا وَوَقَفَ يَنْتَظِرُهُمْ، فَلَمَّا قَطَعَ الْمُسْتَوْرِدُ الْجِسْرَ سَارَ إِلَى دَيْلَمَايَا نَحْوَ مَعْقِلٍ لِيُوقِعَ بِهِ، فَانْتَهَى إِلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ مُتَفَرِّقُونَ عَنْهُ وَهُوَ يُرِيدُ الرَّحِيلَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ،

فَلَمَّا رَآهُمْ مَعْقِلٌ نَصَبَ رَايَتَهُ وَنَادَى: يَا عِبَادَ اللَّهِ الْأَرْضَ الْأَرْضَ! فَنَزَلَ مَعَهُ نَحْوُ مِائَتَيْ رَجُلٍ، فَحَمَلَتِ الْخَوَارِجُ عَلَيْهِمْ فَاسْتَقْبَلُوهُمْ بِالرِّمَاحِ جُثَاةً عَلَى الرُّكَبِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَتَرَكُوهُمْ وَعَدَلُوا إِلَى خُيُولِهِمْ فَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا وَقَطَعُوا أَعِنَّتَهَا، فَذَهَبَتْ فِي كُلِّ جَانِبٍ، ثُمَّ مَالَ عَلَى الْمُتَفَرِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَعْقِلٍ فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مَعْقِلٍ وَأَصْحَابِهِ وَهُمْ عَلَى الرُّكَبِ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّ يَتَجَلْجَلُوا، فَحَمَلُوا أُخْرَى فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ لِأَصْحَابِهِ: لِيَنْزِلْ نِصْفُكُمْ وَيَبْقَى نِصْفُكُمْ عَلَى الْخَيْلِ. فَفَعَلُوا وَاشْتَدَّ الْحَالُ عَلَى أَصْحَابِ مَعْقِلٍ وَأَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَاكِ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلُ أَبُو الرَّوَاغِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ. وَكَانَ سَبَبُ عَوْدِهِ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَانِهِ يَنْتَظِرُهُمْ، فَلَمَّا أَبْطَأُوا عَلَيْهِ أَرْسَلَ مِنْ يَأْتِيهِ بِخَبَرِهِمْ، فَرَأَوُا الْجِسْرَ مَقْطُوعًا فَفَرِحُوا ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْخَوَارِجَ فَعَلُوا ذَلِكَ لَهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى أَبِي الرَّوَاغِ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهُمْ وَأَنَّ الْجِسْرَ قَدْ قَطَعُوهُ هَيْبَةً لَهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ أَبُو الرَّوَاغِ: لَعَمْرِي مَا فَعَلُوا هَذَا إِلَّا مَكِيدَةً، وَمَا أُرَاهُمْ إِلَّا وَقَدْ سَبَقُوكُمْ إِلَى مَعْقِلٍ حَيْثُ رَأَوْا فُرْسَانَ أَصْحَابِهِ مَعِي، وَقَدْ قَطَعُوا الْجِسْرَ لِيَشْغَلُوكُمْ بِهِ عَنْ لَحَاقِهِمْ، فَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ فِي الطَّلَبِ. ثُمَّ أَمَرَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ فَعَقَدُوا الْجِسْرَ وَعَبَرَ عَلَيْهِ وَاتَّبَعَ الْخَوَارِجَ، فَلَقِيَهُ أَوَائِلُ النَّاسِ مُنْهَزِمِينَ، فَصَاحَ بِهِمْ: إِلَيَّ إِلَيَّ! فَرَجَعُوا إِلَيْهِ وَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ وَأَنَّهُمْ تَرَكُوا مَعْقِلًا يُقَاتِلُهُمْ وَمَا يَظُنُّونَهُ إِلَّا قَتِيلًا. فَجَدَّ فِي السَّيْرِ وَرَدَّ مَعَهُ كُلَّ مَنْ لَقِيَهُ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ، فَانْتَهَى إِلَى الْعَسْكَرِ فَرَأَى رَايَةَ مَعْقِلٍ مَنْصُوبَةً وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ، فَحَمَلَ أَبُو الرَّوَاغِ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْخَوَارِجِ فَأَزَالُوهُمْ غَيْرَ بَعِيدٍ، وَوَصَلَ أَبُو الرَّوَاغِ إِلَى مَعْقِلٍ فَإِذَا هُوَ مُتَقَدِّمٌ يُحَرِّضُ أَصْحَابَهُ، فَشَدُّوا عَلَى الْخَوَارِجِ شَدَّةً مُنْكَرَةً، وَنَزَلَ الْمُسْتَوْرِدُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْخَوَارِجِ وَنَزَلَ أَصْحَابُ مَعْقِلٍ أَيْضًا ثُمَّ اقْتَتَلُوا طَوِيلًا مِنَ النَّهَارِ بِالسُّيُوفِ أَشَدَّ قِتَالٍ. ثُمَّ إِنَّ الْمُسْتَوْرِدَ نَادَى مَعْقِلًا لِيَبْرُزَ إِلَيْهِ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ، فَمَنَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكَانَ مَعَهُ سَيْفُهُ وَمَعَ الْمُسْتَوْرِدِ رُمْحُهُ، فَقَالَ أَصْحَابُ مَعْقِلٍ: خُذْ رُمْحَكَ فَأَبَى وَأَقْبَلَ عَلَى الْمُسْتَوْرِدِ، فَطَعَنَهُ الْمُسْتَوْرِدُ بِرُمْحِهِ فَخَرَجَ السِّنَّانِ مِنْ ظَهْرِهِ، وَتَقَدَّمَ مَعْقِلٌ وَالرُّمْحُ فِيهِ إِلَى الْمُسْتَوْرِدِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَخَالَطَ دِمَاغَهُ فَوَقَعَ الْمُسْتَوْرِدُ مَيِّتًا وَمَاتَ مَعْقِلٌ أَيْضًا. وَكَانَ مَعْقِلٌ قَدْ قَالَ: إِنْ قُتِلْتُ فَأَمِيرُكُمْ عَمْرُو بْنُ شِهَابٍ التَّمِيمِيُّ. فَلَمَّا

قُتِلَ أَخَذَ الرَّايَةَ عَمْرٌو ثُمَّ حَمَلَ فِي النَّاسِ عَلَى الْخَوَارِجِ فَقَتَلُوهُمْ وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ غَيْرُ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَ الْمُسْتَوْرِدُ مِنْ تَمِيمٍ ثُمَّ مِنْ بَنِي رِيَاحٍ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ جَرِيرٍ: وَمِنَّا فَتَى الْفِتْيَانِ وَالْجُودِ مَعْقِلُ ... وَمِنَّا الَّذِي لَاقَى بِدِجْلَةَ مَعْقِلَا يَعْنِي هَذِهِ الْوَقْعَةَ. ذِكْرُ عَوْدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى وِلَايَةِ سِجِسْتَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ عَلَى سِجِسْتَانَ، فَأَتَاهَا وَعَلَى شُرْطَتِهِ عَبَّادُ بْنُ الْحُصَيْنِ الْحَبَطِيُّ وَمَعَهُ مِنَ الْأَشْرَافِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ وَغَيْرُهُ، فَكَانَ يَغْزُو الْبَلَدَ قَدْ كَفَرَ أَهْلُهُ فَيَفْتَحُهُ، حَتَّى بَلَغَ كَابُلَ فَحَصَرَهَا أَشْهُرًا وَنَصَبَ عَلَيْهَا مَجَانِيقَ فَثَلَمَتْ سُورَهَا ثُلْمَةً عَظِيمَةً، فَبَاتَ عَلَيْهَا عَبَّادُ بْنُ الْحُصَيْنِ لَيْلَةً يُطَاعِنُ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى أَصْبَحَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى سَدِّهَا وَخَرَجُوا مِنَ الْغَدِ يُقَاتِلُونَ فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَدَخَلُوا الْبَلَدَ عَنْوَةً، ثُمَّ سَارَ إِلَى بُسْتَ فَفَتَحَهَا عَنْوَةً، وَسَارَ إِلَى زَرَانَ فَهَرَبَ أَهْلُهَا وَغَلَبَ عَلَيْهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى خُشَّكَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا، ثُمَّ أَتَى الرُّخَّجَ فَقَاتَلُوهُ، فَظَفِرَ بِهِمْ وَفَتَحَهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى زَابُلُسْتَانَ، وَهِيَ غَزْنَةُ وَأَعْمَالُهَا، (فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا) ، وَقَدْ كَانُوا نَكَثُوا، فَفَتَحَهَا، وَعَادَ إِلَى كَابُلَ وَقَدْ نَكَثَ أَهْلُهَا فَفَتَحَهَا. ذِكْرُ غَزْوَةِ السِّنْدِ اسْتَعْمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ عَلَى ثَغْرِ الْهِنْدِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَوَّارٍ الْعَبْدِيَّ، وَيُقَالُ وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ مِنْ قِبَلِهِ، فَغَزَا الْقِيقَانَ فَأَصَابَ مَغْنَمًا، وَوَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَأَهْدَى لَهُ خَيْلًا قِيقَانِيَّةً، وَرَجَعَ فَغَزَا الْقِيقَانَ فَاسْتَنْجَدُوا بِالتُّرْكِ فَقَتَلُوهُ، وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ: وَابْنُ سَوَّارٍ عَلَى عِدَّانِهِ ... مُوقِدُ النَّارِ وَقَتَّالُ الشَّغَبْ

وَكَانَ كَرِيمًا لَمْ يُوقِدْ أَحَدٌ فِي عَسْكَرِهِ نَارًا، فَرَأَى ذَاتَ لَيْلَةٍ نَارًا فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ قَالُوا: امْرَأَةُ نُفَسَاءُ يُعْمَلُ لَهَا الْخَبِيصُ، فَأَمَرَ أَنْ يُطْعَمَ النَّاسُ الْخَبِيصَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. ذِكْرُ وِلَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ خُرَاسَانَ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ قَيْسَ بْنَ الْهَيْثَمِ الْقَيْسِيَّ ثُمَّ السُّلَمِيَّ عَنْ خُرَاسَانَ وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَازِمٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قَيْسًا أَبْطَأَ بِالْخَرَاجِ وَالْهَدِيَّةِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ: وَلِّنِي خُرَاسَانَ أَكْفِكَهَا. فَكَتَبَ لَهُ عَهْدَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ قَيْسًا فَخَافَ ابْنَ خَازِمٍ وَشَغَبَهُ فَتَرَكَ خُرَاسَانَ وَأَقْبَلَ، فَازْدَادَ ابْنُ عَامِرٍ غَضَبًا لِتَضْيِيعِهِ الثَّغْرَ، فَضَرْبَهُ وَحَبَسَهُ وَبَعَثَ رَجُلًا مِنْ يَشْكُرَ عَلَى خُرَاسَانَ، وَقِيلَ: بَعَثَ أَسْلَمَ بْنَ زُرْعَةَ الْكِلَابِيَّ ثُمَّ ابْنَ خَازِمٍ. وَقِيلَ فِي عَزْلِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ ابْنَ خَازِمٍ قَالَ لِابْنِ عَامِرٍ: إِنَّكَ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى خُرَاسَانَ قَيْسًا وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنِّي أَخَافُ إِنْ لَقِيَ حَرْبًا أَنْ يَنْهَزِمَ بِالنَّاسِ فَتَهْلِكَ خُرَاسَانُ وَتَفْضَحُ أَخْوَالَكَ، يَعْنِي قَيْسَ عَيْلَانَ. قَالَ ابْنُ عَامِرٍ: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: تَكْتُبُ لِي عَهْدًا إِنْ هُوَ انْصَرَفَ عَنْ عَدُوٍّ قُمْتُ مَقَامَهُ. فَكَتَبَ لَهُ. وَجَاشَ جَمَاعَةٌ مِنْ طَخَارُسْتَانَ فَشَاوَرَهُ قَيْسٌ فَأَشَارَ عَلَيْهِ ابْنُ خَازِمٍ أَنْ يَنْصَرِفَ حَتَّى يَجْتَمِعَ إِلَيْهِ أَطْرَافُهُ، فَلَمَّا سَارَ مَرْحَلَةً أَوِ اثْنَيْنِ أَخْرَجَ ابْنُ خَازِمٍ عَهْدَهُ وَقَامَ بِأَمْرِ النَّاسِ وَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَهَزَمَهُمْ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ الْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ وَالشَّامَ فَغَضِبَ الْقَيْسِيَّةَ وَقَالُوا: خَدَعَ قَيْسًا وَابْنَ عَامِرٍ! وَشَكَوْا إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَاسْتَقْدَمَهُ، فَاعْتَذَرَ مِمَّا قِيلَ فِيهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قُمْ غَدًا فَاعْتَذِرْ فِي النَّاسِ. فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: إِنِّي أُمِرْتُ بِالْخُطْبَةِ وَلَسْتُ بِصَاحِبِ كَلَامٍ فَاجْلِسُوا حَوْلَ الْمِنْبَرِ فَإِذَا قُلْتُ فَصَدِّقُونِي. فَقَامَ مِنَ الْغَدِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا يَتَكَلَّفُ الْخُطْبَةَ إِمَامٌ لَا يَجِدُ مِنْهَا بُدًّا أَوْ أَحْمَقٌ يَهْمُرُ مِنْ رَأْسِهِ، وَلَسْتُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ عَلِمَ مَنْ عَرَفَنِي أَنِّي بَصِيرٌ بِالْفُرَصِ، وَثَّابٌ إِلَيْهَا وَقَّافٌ عِنْدَ الْمَهَالِكِ، أَنْفُذُ بِالسَّرِيَّةِ وَأَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، أَنْشُدُ اللَّهَ مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنِّي فَلْيُصَدِّقْنِي. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: صَدَقْتَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ فِيمَنْ نَشَدْتُ فَقُلْ بِمَا تَعْلَمُ. فَقَالَ: صَدَقْتَ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ هَذِهِ السَّنَةَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ: وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ خَالِدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ هِشَامٍ، وَعَلَى الْكُوفَةِ الْمُغِيرَةُ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ. [الْوَفَيَاتُ] : فِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَلَهُ صُحْبَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَشَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ.

ثم دخلت سنة أربع وأربعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ] 44 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بِلَادَ الرُّومِ وَشَتَوْا بِهَا، وَغَزَا بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَأَةَ فِي الْبَحْرِ. ذِكْرُ عَزْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ عَنِ الْبَصْرَةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ عَنِ الْبَصْرَةِ. وَسَبَبُهُ أَنَّ ابْنَ عَامِرٍ كَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا لَيِّنًا، لَا يَأْخُذُ عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ، وَفَسَدَتِ الْبَصْرَةُ فِي أَيَّامِهِ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ: جَرَّدِ السَّيْفَ. فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُصْلِحَهُمْ بِفَسَادِ نَفْسِي. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ عَامِرٍ وَفَّدَ وَفْدًا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَوَافَقُوا عِنْدَهُ وَفْدَ الْكُوفَةِ، وَفِيهِمُ ابْنُ الْكَوَّا وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى الْيَشْكُرِيُّ، فَسَأَلَهُمْ مُعَاوِيَةُ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَعَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ خَاصَّةً، فَقَالَ ابْنُ الْكَوَّا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَدْ أَكَلَهُمْ سُفَهَاؤُهُمْ، وَضَعُفَ عَنْهُمْ سُلْطَانُهُمْ، وَعَجَّزَ ابْنَ عَامِرٍ وَضَعَّفَهُ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: نَتَكَلَّمُ عَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَهُمْ حُضُورٌ؟ فَلَمَّا عَادَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَبْلَغُوا ابْنَ عَامِرٍ، فَغَضِبَ وَقَالَ: أَيُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَشَدُّ عَدَاوَةً لِابْنِ الْكَوَّا؟ فَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْخٍ الْيَشْكُرِيُّ، فَوَلَّاهُ خُرَاسَانَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الْكَوَّا، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ دَجَاجَةَ، يَعْنِي ابْنَ عَامِرٍ، قَلِيلُ الْعِلْمِ فِيَّ، ظَنَّ أَنَّ وِلَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ خُرَاسَانَ تَسُوءُنِي! لَوَدِدْتُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ يَشْكُرِيٌّ إِلَّا عَادَانِي وَأَنَّهُ وَلَّاهُ. وَقِيلَ إِنَّ الَّذِي وَلَّاهُ ابْنُ عَامِرِ خُرَاسَانَ طُفَيْلُ بْنُ عَوْفٍ الْيَشْكُرِيُّ. فَلَمَّا عَلِمَ مُعَاوِيَةُ حَالَ الْبَصْرَةِ أَرَادَ عَزْلَ ابْنِ عَامِرٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْتَزِيرُهُ، فَجَاءَ إِلَيْهِ

فَرَدَّهُ عَلَى عَمِّهِ، فَلَمَّا وَدَّعَهُ قَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ ثَلَاثًا فَقُلْ هُنَّ لَكَ. فَقَالَ: هُنَّ لَكَ، وَأَنَا ابْنُ أُمِّ حَكِيمٍ قَالَ: تَرُدُّ عَلِيَّ عَمَلِي وَلَا تَغْضَبْ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: وَتَهَبُ لِي مَالَكَ بِعَرَفَةَ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: وَتَهَبُ لِي دُورَكَ بِمَكَّةَ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ: فَقَالَ ابْنُ عَامِرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي سَائِلُكَ ثَلَاثًا فَقُلْ هُنَّ لَكَ. فَقَالَ: هُنَّ لَكَ، وَأَنَا ابْنُ هِنْدٍ. قَالَ: تَرُدُّ عَلِيَّ مَالِي بِعَرَفَةَ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: وَلَا تُحَاسِبْ لِي عَامِلًا وَلَا تَتَّبِعْ لِي أَثَرًا. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ: قَالَ: وَتُنْكِحُنِي ابْنَتَكَ هِنْدًا. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. وَيُقَالُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ: اخْتَرْ إِمَّا أَنْ أَتَّبِعَ أَثَرَكَ وَأُحَاسِبَكَ بِمَا صَارَ إِلَيْكَ وَأَرُدَّكَ، وَإِمَّا أَنْ أَعْزِلَكَ وَأُسَوِّغَكَ مَا أَصَبْتَ. فَاخْتَارَ الْعَزْلَ وَأَنْ لَا يُسَوِّغَهُ مَا أَصَابَ، فَعَزَلَهُ وَوَلَّى الْبَصْرَةَ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيَّ. ذِكْرُ اسْتِلْحَاقِ مُعَاوِيَةَ زِيَادًا وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَلْحَقَ مُعَاوِيَةُ زِيَادَ بْنَ سُمَيَّةَ فَزَعَمُوا أَنَّ رَجُلًا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ مَعَ زِيَادٍ لَمَّا وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لِزِيَادٍ: إِنَّ لِابْنِ عَامِرٍ عِنْدِي يَدًا فَإِذَا أَذِنْتَ لِي أَتَيْتُهُ. قَالَ: عَلَى أَنْ تُحَدِّثَنِي بِمَا يَجْرِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. قَالَ: نَعَمْ. فَأَذِنَ لَهُ فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَامِرٍ: هِيهْ هِيهْ! وَابْنُ سُمَيَّةَ يُقَبِّحُ آثَارِي وَيُعَرِّضُ بِعُمَّالِي! لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آتِيَ بِقَسَامَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ) أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمْ يَرَ سُمَيَّةَ. فَلَمَّا رَجَعَ سَأَلَهُ زِيَادٌ فَلَمْ يُخْبِرْهُ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ حَتَّى أَخْبَرَهُ، فَأَخْبَرَ زِيَادٌ بِذَلِكَ مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِحَاجِبِهِ: إِذَا جَاءَ ابْنُ عَامِرٍ فَاضْرِبْ وَجْهَ دَابَّتِهِ عَنْ أَقْصَى الْأَبْوَابِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِ. فَأَتَى ابْنُ عَامِرٍ يَزِيدَ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَرَكِبَ مَعَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ قَامَ فَدَخَلَ، فَقَالَ يَزِيدُ لِابْنِ عَامِرٍ: اجْلِسْ، فَكَمْ عَسَى أَنْ تَقْعُدَ فِي الْبَيْتِ عَنْ مَجْلِسِهِ! فَلَمَّا أَطَالَا خَرَجَ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ يَتَمَثَّلُ: لَنَا سِبَاقٌ وَلَكُمْ سِبَاقُ ... قَدْ عَلِمَتْ ذَلِكُمُ الرِّفَاقُ

ثُمَّ قَعَدَ فَقَالَ يَا ابْنَ عَامِرٍ أَنْتَ الْقَائِلُ فِي زِيَادٍ مَا قُلْتَ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الْعَرَبُ أَنِّي كُنْتُ أَعَزَّهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَزِدْنِي إِلَّا عِزًّا، وَأَنِّي لَمْ أَتَكَثَّرْ بِزِيَادٍ مِنْ قِلَّةٍ وَلَمْ أَتَعَزَّزْ بِهِ مِنْ ذِلَّةٍ، وَلَكِنْ عَرَفْتُ حَقًّا لَهُ فَوَضَعْتُهُ مَوْضِعَهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَرْجِعُ إِلَى مَا يُحِبُّ زِيَادٌ. قَالَ: إِذًا نَرْجِعُ إِلَى مَا تُحِبُّ. فَخَرَجَ ابْنُ عَامِرٍ إِلَى زِيَادٍ فَتَرَضَّاهُ. فَلَمَّا قَدِمَ زِيَادٌ الْكُوفَةَ قَالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ فِي أَمْرٍ مَا طَلَبْتُهُ إِلَّا لَكُمْ. قَالُوا: مَا تَشَاءُ؟ قَالَ: تُلْحِقُونَ نَسَبِي بِمُعَاوِيَةَ: قَالُوا: أَمَّا بِشَهَادَةِ الزُّورِ فَلَا. فَأَتَى الْبَصْرَةَ فَشَهِدَ لَهُ رَجُلٌ. هَذَا جَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ فِي اسْتِلْحَاقِ مُعَاوِيَةَ نَسَبَ زِيَادٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ حَقِيقَةَ الْحَالِ فِي ذَلِكَ، إِنَّمَا ذَكَرَ حِكَايَةً جَرَتْ بَعْدَ اسْتِلْحَاقِهِ، وَأَنَا أَذْكُرُ سَبَبَ ذَلِكَ وَكَيْفِيَّتَهُ، فَإِنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَنْبَغِي إِهْمَالُهَا. وَكَانَ ابْتِدَاءُ حَالِهِ أَنَّ سُمَيَّةَ أُمَّ زِيَادٍ كَانَتْ لِدِهْقَانَ زَنْدَوَرْدَ بِكَسْكَرَ، فَمَرِضَ الدِّهْقَانُ، فَدَعَا الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ الطَّبِيبَ الثَّقَفِيَّ، فَعَالَجَهُ فَبَرَأَ، فَوَهَبَهُ سُمَيَّةَ، فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْحَارِثِ أَبَا بَكْرَةَ، وَاسْمُهُ نُفَيْعٌ، فَلَمْ يُقِرَّ بِهِ، ثُمَّ وَلَدَتْ نَافِعًا، فَلَمْ يُقِرَّ بِهِ أَيْضًا، فَلَمَّا نَزَلَ أَبُو بَكْرَةَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حَصَرَ الطَّائِفَ، قَالَ الْحَارِثُ لِنَافِعٍ: أَنْتَ وَلَدِي. وَكَانَ قَدْ زَوَّجَ سُمَيَّةَ مِنْ غُلَامٍ لَهُ اسْمُهُ عُبَيْدٌ، وَهُوَ رُومِيٌّ، فَوَلَدَتْ لَهُ زِيَادًا. وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ سَارَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى الطَّائِفِ فَنَزَلَ عَلَى خَمَّارٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَرْيَمَ السَّلُولِيُّ، وَأَسْلَمَ أَبُو مَرْيَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِأَبِي مَرْيَمَ: قَدِ اشْتَهَيْتُ النِّسَاءَ فَالْتَمِسْ لِي بَغِيًّا. فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ فِي سُمَيَّةَ؟ فَقَالَ: هَاتِهَا عَلَى طُولِ ثَدْيَيْهَا وَذَفَرِ بَطْنِهَا، فَأَتَاهُ بِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَعَلِقَتْ بِزِيَادٍ، ثُمَّ وَضَعَتْهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ فَلَمَّا كَبِرَ وَنَشَأَ اسْتَكْتَبَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لَمَّا وَلِيَ الْبَصْرَةَ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَكْفَى زِيَادًا أَمْرًا فَقَامَ فِيهِ مَقَامًا مَرْضِيًا، فَلَمَّا عَادَ إِلَيْهِ حَضَرَ، وَعِنْدَ عُمَرَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فَخَطَبَ خُطْبَةً لَمْ يَسْمَعُوا بِمِثْلِهَا. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: لِلَّهِ هَذَا الْغُلَامُ لَوْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ قُرَيْشٍ لَسَاقَ الْعَرَبَ بِعَصَاهُ! فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ، وَهُوَ حَاضِرٌ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ أَبَاهُ وَمَنْ وَضَعَهُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَبَا سُفْيَانَ اسْكُتْ فَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ عُمَرَ لَوْ سَمِعَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكَ لَكَانَ إِلَيْكَ سَرِيعًا.

فَلَمَّا وَلِيَ عَلِيٌّ الْخِلَافَةَ اسْتَعْمَلَ زِيَادًا عَلَى فَارِسَ، فَضَبَطَهَا وَحَمَى قِلَاعَهَا، وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِمُعَاوِيَةَ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى زِيَادٍ يَتَهَدَّدُهُ وَيُعَرِّضُ لَهُ بِوِلَادَةِ أَبِي سُفْيَانَ إِيَّاهُ، فَلَمَّا قَرَأَ زِيَادٌ كِتَابَهُ قَامَ فِي النَّاسِ وَقَالَ: الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنِ ابْنِ آكِلَةِ الْأَكْبَادِ، وَرَأْسِ النِّفَاقِ! يُخَوِّفُنِي بِقَصْدِهِ إِيَّايَ وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ ابْنَا عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَذِنَ لِي فِي لِقَائِهِ لَوَجَدَنِي أَحَمْزَ مَخْشِيًّا ضَرَّابًا بِالسَّيْفِ. وَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي وَلَّيْتُكَ مَا وَلَّيْتُكَ وَأَنَا أَرَاكَ لَهُ أَهْلًا، وَقَدْ كَانَتْ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ فَلْتَةٌ مِنْ أَمَانِيِّ الْبَاطِلِ وَكَذِبِ النَّفْسِ لَا تُوجِبُ لَهُ مِيرَاثًا وَلَا تُحِلُّ (لَهُ نَسَبًا) ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ يَأْتِي الْإِنْسَانَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، فَاحْذَرْ ثُمَّ احْذَرْ، وَالسَّلَامُ. فَلَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ زِيَادٍ وَمُصَالَحَتِهِ مُعَاوِيَةَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاضَعَ زِيَادٌ مَصْقَلَةَ بْنَ هُبَيْرَةَ الشَّيْبَانِيَّ، وَضَمِنَ لَهُ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِيَقُولَ لِمُعَاوِيَةَ: إِنَّ زِيَادًا قَدْ أَكَلَ فَارِسَ بَرًّا وَبَحْرًا وَصَالَحَكَ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَاللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي يُقَالُ إِلَّا حَقًّا، فَإِذَا قَالَ لَكَ: وَمَا يُقَالُ؟ فَقُلْ: يُقَالُ إِنَّهُ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ. فَفَعَلَ مَصْقَلَةُ ذَلِكَ، وَرَأَى مُعَاوِيَةُ أَنْ يَسْتَمِيلَ زِيَادًا، وَاسْتَصْفَى مَوَدَّتَهُ بِاسْتِلْحَاقِهِ، فَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، وَأَحْضَرَ النَّاسُ وَحَضَرَ مَنْ يَشْهَدُ لِزِيَادٍ، وَكَانَ فِيمَنْ حَضَرَ أَبُو مَرْيَمَ السَّلُولِيُّ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: (بِمَ) تَشْهَدُ يَا أَبَا مَرْيَمَ؟ فَقَالَ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ حَضَرَ عِنْدِي وَطَلَبَ مِنِّي بَغِيًّا فَقُلْتُ لَهُ: لَيْسَ عِنْدِي إِلَّا سُمَيَّةُ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِهَا عَلَى قَذَرِهَا وَوَضَرِهَا، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَخَلَا مَعَهَا ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَإِنَّ إِسْكَتَيْهَا لَتَقْطُرَانِ مَنِيًّا. فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ: مَهْلَا أَبَا مَرْيَمَ! إِنَّمَا بُعِثْتَ شَاهِدًا وَلَمْ تُبْعَثْ شَاتِمًا. فَاسْتَلْحَقَهُ مُعَاوِيَةُ، وَكَانَ اسْتِلْحَاقُهُ أَوَّلَ مَا رُدَّتْ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ عَلَانِيَةً، «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرَ» . وَكَتَبَ زِيَادٌ إِلَى عَائِشَةَ: (مِنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ تَكْتُبَ لَهُ: إِلَى زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَيَحْتَجُّ بِذَلِكَ، فَكَتَبَتْ: مِنْ عَائِشَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى ابْنِهَا زِيَادٍ:

وَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً وَعَلَى بَنِي أُمَيَّةَ خَاصَّةً، وَجَرَى (أَقَاصِيصُ يَطُولُ بِذِكْرِهَا الْكِتَابُ فَأَضْرَبْنَا عَنْهَا. وَمَنِ اعْتَذَرَ لِمُعَاوِيَةَ قَالَ: إِنَّمَا) اسْتَلْحَقَ مُعَاوِيَةُ زِيَادًا لِأَنَّ أَنْكِحَةَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ أَنْوَاعًا، لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ جَمِيعِهَا، وَكَانَ مِنْهَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ يُجَامِعُونَ الْبَغِيَّ فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَلَدَتْ أَلْحَقَتِ الْوَلَدَ لِمَنْ شَاءَتْ مِنْهُمْ فَيَلْحَقُهُ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ حَرَّمَ هَذَا النِّكَاحَ، إِلَّا أَنَّهُ أَقَرَّ كُلَّ وَلَدٍ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى أَبٍ مِنْ أَيِّ نِكَاحٍ كَانَ مِنْ أَنْكِحَتِهِمْ عَلَى نَسَبِهِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا، فَتَوَهَّمَ مُعَاوِيَةُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اسْتِلْحَاقٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، (وَهَذَا مَرْدُودٌ لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إِنْكَارِهِ وَلِأَنَّهُ لَمْ يُسْتَلْحَقْ أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَهُ لِيَكُونَ بِهِ حُجَّةً) . قِيلَ: أَرَادَ زِيَادٌ أَنْ يَحُجَّ بَعْدَ أَنِ اسْتَلْحَقَهُ مُعَاوِيَةُ، فَسَمِعَ أَخُوهُ أَبُو بَكْرَةَ، وَكَانَ مُهَاجِرًا لَهُ مِنْ حِينِ خَالَفَهُ فِي الشَّهَادَةِ (بِالزِّنَا) عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِحَجِّهِ جَاءَ إِلَى بَيْتِهِ وَأَخَذَ ابْنًا لَهُ وَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ قُلْ لِأَبِيكَ إِنَّنِي سَمِعْتُ أَنَّكَ تُرِيدُ الْحَجَّ وَلَا بُدَّ مِنْ قُدُومِكَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَا شَكَّ أَنْ تَطْلُبَ الِاجْتِمَاعَ بِأُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ أَذِنَتْ لَكَ فَأَعْظِمْ بِهِ خِزْيًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ مَنَعَتْكَ فَأَعْظِمْ بِهِ فَضِيحَةً فِي الدُّنْيَا وَتَكْذِيبًا لِأَعْدَائِكَ. فَتَرَكَ زِيَادٌ الْحَجَّ وَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغْتَ فِي النُّصْحِ. ذِكْرُ غَزْوِ الْمُهَلَّبِ السِّنْدَ وَفِيهَا غَزَا الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ ثَغْرَ السِّنْدِ فَأَتَى بَنَّةَ وَالْأَهْوَازَ، وَهُمَا بَيْنَ الْمُلْتَانِ

وَكَابُلَ، فَلَقِيَهُ الْعَدُوُّ وَقَاتَلَهُ، وَلَقِيَ الْمُهَلَّبَ بِبِلَادِ الْقِيقَانِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَارِسًا مِنَ التُّرْكِ فَقَاتَلُوهُ فَقُتِلُوا جَمِيعًا، فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: مَا جُعِلَ هَؤُلَاءِ الْأَعَاجِمُ أَوْلَى بِالتَّشْمِيرِ مِنَّا! فَحَذَفَ الْخَيْلَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ حَذَفَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي يَوْمِ بَنَّةَ يَقُولُ الْأَزْدِيُّ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَزْدَ لَيْلَةَ بُيِّتُوا ... بِبَنَّةَ كَانُوا خَيْرَ جَيْشِ الْمُهَلَّبِ ؟ ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُعَاوِيَةُ: وَفِيهَا عَمِلَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ الْمَقْصُورَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَهَا بِهَا، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ عَمِلَهَا بِالشَّامِ لَمَّا ضَرَبَهُ الْخَارِجِيُّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِيهَا قُتِلَ رِفَاعَةُ الْعَدَوِيُّ مِنْ عَدِيِّ رَبَابَ، (وَهُوَ بَصْرِيُّ لَهُ صُحْبَةٌ) .

ثم دخلت سنة خمس وأربعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ] 45 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فِيهَا وَلَّى مُعَاوِيَةُ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيَّ الْبَصْرَةَ فِي أَوَّلِهَا حِينَ عَزَلَ ابْنَ عَامِرٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَاسْتَعْمَلَ الْحَارِثُ عَلَى شُرْطَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو الثَّقَفِيَّ، فَبَقِيَ الْحَارِثُ أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّاهَا زِيَادًا. ذِكْرُ وِلَايَةِ زِيَادِ بْنِ أَبِيهِ الْبَصْرَةَ قَدِمَ زِيَادٌ الْكُوفَةَ فَأَقَامَ يَنْتَظِرُ إِمَارَتَهُ عَلَيْهَا، فَقِيلَ ذَلِكَ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، فَسَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَاسْتَقَالَهُ الْإِمَارَةَ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنَازِلَ بِقَرْقِيسْيَا لِيَكُونَ بَيْنَ قَيْسٍ، فَخَافَهُ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ لَهُ: لَتَرْجِعَنَّ إِلَى عَمَلِكَ. فَأَبَى، فَازْدَادَ مُعَاوِيَةُ تُهْمَةً لَهُ، فَرَدَّهُ عَلَى عَمَلِهِ، فَعَادَ إِلَى الْكُوفَةِ لَيْلًا وَأَرْسَلَ إِلَى زِيَادٍ فَأَخْرَجَهُ مِنْهَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُغِيرَةَ لَمْ يَسِرْ إِلَى الشَّامِ وَإِنَّمَا مُعَاوِيَةُ أَرْسَلَ إِلَى زِيَادٍ، وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، فَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَوَلَّاهُ الْبَصْرَةَ وَخُرَاسَانَ وَسَجِسْتَانَ، ثُمَّ جَمَعَ لَهُ الْهِنْدَ وَالْبَحْرَيْنِ وَعُمَانَ، فَقَدِمَ الْبَصْرَةَ آخِرَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَالْفِسْقُ ظَاهِرٌ فَاشٍ، فَخَطَبَهُمْ خُطْبَتَهُ الْبَتْرَاءَ، لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ فِيهَا، وَقِيلَ: بَلْ حَمِدَ اللَّهَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِفْضَالِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَنَسْأَلُهُ مَزِيدًا مِنْ نِعَمِهِ، اللَّهُمَّ كَمَا زِدْتَنَا نِعَمًا فَأَلْهِمْنَا شُكْرًا عَلَى نِعَمِكَ عَلَيْنَا! أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجَهَالَةَ الْجَهْلَاءَ وَالضَّلَالَةَ الْعَمْيَاءَ،

وَالْفُجْرَ الْمُوقِدَ لِأَهْلِهِ النَّارَ، الْبَاقِي عَلَيْهِمْ سَعِيرُهَا، مَا يَأْتِي سُفَهَاؤُكُمْ وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ حُلَمَاؤُكُمْ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، فَيَنْبُتُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَلَا يَتَحَاشَى عَنْهَا الْكَبِيرُ، كَأَنْ لَمْ تَسْمَعُوا نَبِيَّ اللَّهِ، وَلَمْ تَقْرَءُوا كِتَابَ اللَّهِ، وَلَمْ تَعْلَمُوا مَا أَعَدَّ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ الْكَرِيمِ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ فِي الزَّمَنِ السَّرْمَدِ الَّذِي لَا يَزُولُ، أَتَكُونُونَ كَمَنْ طَرَفَتْ عَيْنَهُ الدُّنْيَا، وَسَدَّتْ مَسَامِعَهُ الشَّهَوَاتُ، وَاخْتَارَ الْفَانِيَةَ عَلَى الْبَاقِيَةِ، وَلَا تَذْكُرُونَ أَنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ فِي الْإِسْلَامِ الْحَدَثَ الَّذِي لَمْ تُسْبَقُوا إِلَيْهِ، هَذِهِ الْمَوَاخِيرُ الْمَنْصُوبَةُ وَالضَّعِيفَةُ الْمَسْلُوبَةُ فِي النَّهَارِ الْمُبْصِرِ، وَالْعَدَدُ غَيْرُ قَلِيلٍ، أَلَمْ تَكُنْ مِنْكُمْ نُهَاةٌ تَمْنَعُ الْغُوَاةَ عَنْ دَلَجِ اللَّيْلِ وَغَارَةِ النَّهَارِ؟ قَرَّبْتُمُ الْقَرَابَةَ وَبَاعَدْتُمُ (الدِّينَ تَعْتَذِرُونَ) بِغَيْرِ الْعُذْرِ، وَتَعْطِفُونَ عَلَى الْمُخْتَلِسِ، كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ يَذُبُّ عَنْ سَفِيهِهِ، صَنِيعُ مَنْ لَا يَخَافُ عَاقِبَةً، وَلَا يَخْشَى مَعَادًا! مَا أَنْتُمْ بِالْحُلَمَاءِ، وَلَقَدِ اتَّبَعْتُمُ السُّفَهَاءَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ مَا تَرَوْنَ مِنْ قِيَامِكُمْ دُونَهُمْ حَتَّى انْتَهَكُوا حُرُمَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَطْرَقُوا وَرَاءَكُمْ كُنُوسًا فِي مَكَانِسِ الرِّيَبِ، حَرَامٌ عَلِيَّ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ حَتَّى أُسَوِّيَهَا بِالْأَرْضِ هَدْمًا وَإِحْرَاقًا! إِنِّي رَأَيْتُ آخِرَ هَذَا الْأَمْرِ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهُ، لِينٌ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ، وَشِدَّةٌ فِي غَيْرِ (جَبْرِيَّةٍ) وَعُنْفٍ، وَإِنِّي لَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَآخُذَنَّ الْوَلِيَّ بِالْوَلِيِّ، وَالْمُقِيمَ بِالظَّاعِنِ، وَالْمُقْبِلَ بِالْمُدْبِرِ، وَالصَّحِيحَ مِنْكُمْ بِالسَّقِيمِ، حَتَّى يَلْقَى الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ فَيَقُولُ: انْجُ سَعْدُ فَقَدْ

هَلَكَ سَعِيدٌ، أَوْ تَسْتَقِيمُ لِي قَنَاتُكُمْ، إِنَّ كِذْبَةَ الْمِنْبَرِ بَلْقَاءُ مَشْهُورَةٌ، فَإِذَا تَعَلَّقْتُمْ عَلِيَّ بِكِذْبَةٍ فَقَدْ حَلَّتْ لَكُمْ مَعْصِيَتِي، مَنْ بُيِّتَ مِنْكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ لِمَا ذَهَبَ لَهُ، إِيَّايَ وَدَلَجَ اللَّيْلِ، فَإِنِّي لَا أَوُتَى بِمُدْلِجٍ إِلَّا سَفَكْتُ دَمَهُ، وَقَدْ أَجَّلْتُكُمْ فِي ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يَأْتِي الْخَبَرُ الْكُوفَةَ وَيَرْجِعُ إِلَيْكُمْ، وَإِيَّايَ وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنِّي لَا أَجِدُ أَحَدًا دَعَا بِهَا إِلَّا قَطَعْتُ لِسَانَهُ. وَقَدْ أَحْدَثْتُمْ أَحْدَاثًا لَمْ تَكُنْ، وَقَدْ أَحْدَثْنَا لِكُلِّ ذَنْبٍ عُقُوبَةً، فَمَنْ غَرَّقَ قَوْمًا غَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ حَرَّقَ عَلَى قَوْمٍ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ نَقَبَ بَيْتًا نَقَبْتُ عَنْ قَلْبِهِ، وَمَنْ نَبَشَ قَبْرًا دَفَنْتُهُ فِيهِ حَيًّا، فَكُفُّوا عَنِّي أَيْدِيَكُمْ وَأَلْسِنَتَكُمْ أَكْفُفْ عَنْكُمْ لِسَانِي وَيَدِي، وَإِيَّايَ لَا يَظْهَرُ مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ عَامَّتُكُمْ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَقَدْ كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَقْوَامٍ إِحَنٌ فَجَعَلْتُ ذَلِكَ دُبُرَ أُذُنِي وَتَحْتَ قَدَمِي، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُحْسِنًا فَلْيَزْدَدْ إِحْسَانًا، وَمَنْ كَانَ مُسِيئًا فَلْيَنْزِعْ عَنْ إِسَاءَتِهِ. إِنِّي لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدَكُمْ قَدْ قَتَلَهُ السُّلُّ مِنْ بُغْضِي لَمْ أَكْشِفْ لَهُ قِنَاعًا، وَلَمْ أَهْتِكْ لَهُ سِتْرًا حَتَّى يُبْدِيَ لِي صَفْحَتَهُ، فَإِذَا فَعَلَ لَمْ أُنَاظِرْهُ، فَاسْتَأْنِفُوا أُمُورَكُمْ، وَأَعِينُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَرُبَّ مُبْتَئِسٍ بِقُدُومِنَا سَيُسَرُّ، وَمَسْرُورٍ بِقُدُومِنَا سَيَبْتَئِسُ.

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا أَصْبَحْنَا لَكُمْ سَاسَةً، وَعَنْكُمْ ذَادَةً، نَسُوسُكُمْ بِسُلْطَانِ اللَّهِ الَّذِي أَعْطَانَا، وَنَذُودُ عَنْكُمْ بِفَيْءِ اللَّهِ الَّذِي خَوَّلَنَا، فَلَنَا عَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحْبَبْنَا، وَلَكُمْ عَلَيْنَا الْعَدْلُ فِيمَا وَلِينَا، فَاسْتَوْجِبُوا عَدْلَنَا وَفَيْئَنَا بِمُنَاصَحَتِكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنِّي مَهْمَا قَصَّرْتُ عَنْهُ فَإِنِّي لَا أُقَصِّرُ عَنْ ثَلَاثٍ: لَسْتُ مُحْتَجِبًا عَنْ طَالِبِ حَاجَةٍ مِنْكُمْ وَلَوْ أَتَانِي طَارِقًا بِلَيْلٍ، وَلَا حَابِسًا رِزْقًا وَلَا عَطَاءً عَنْ إِبَّانِهِ، وَلَا مُجَمِّرًا لَكُمْ بَعْثًا، فَادْعُوا اللَّهَ بِالصَّلَاحِ لِأَئِمَّتِكُمْ فَإِنَّهُمْ سَاسَتُكُمُ الْمُؤَدِّبُونَ، وَكَهْفِكُمُ الَّذِي إِلَيْهِ تَأْوُونَ، وَمَتَى تَصْلُحُوا يَصْلُحُوا، وَلَا تُشْرِبُوا قُلُوبَكُمْ بُغْضَهُمْ فَيَشْتَدَّ لِذَلِكَ غَيْظُكُمْ، وَيَطُولَ لَهُ حُزْنُكُمْ، وَلَا تُدْرِكُوا حَاجَتَكُمْ، مَعَ أَنَّهُ لَوِ اسْتُجِيبَ لَكُمْ لَكَانَ شَرًّا لَكُمْ، أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَ كُلًّا عَلَى كُلٍّ، فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي أُنَفِّذُ فِيكُمُ الْأَمْرَ فَأَنْفِذُوهُ عَلَى أَذْلَالِهِ، وَإِنَّ لِي فِيكُمْ لَصَرْعَى كَثِيرَةً، فَلْيَحْذَرْ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَرْعَايَ. فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَهْتَمِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَيُّهَا الْأَمِيرُ أَنَّكَ أُوتِيتَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ. فَقَالَ: كَذَبْتَ، ذَاكَ نَبِيُّ اللَّهِ دَاوُدُ! فَقَالَ الْأَحْنَفُ: قَدْ قُلْتَ فَأَحْسَنْتَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، وَالثَّنَاءُ بَعْدَ الْبَلَاءِ، وَالْحَمْدُ بَعْدَ الْعَطَاءِ، وَإِنَّا لَنْ نُثْنِيَ حَتَّى نَبْتَلِيَ. فَقَالَ زِيَادٌ: صَدَقْتَ. فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو بِلَالٍ مِرْدَاسُ بْنُ أُدَيَّةَ، وَهُوَ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَقَالَ: أَنْبَأَ اللَّهُ بِغَيْرِ مَا قُلْتَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 37] . فَأَوْعَدَنَا اللَّهُ خَيْرًا مِمَّا أَوْعَدْتَنِي يَا زِيَادُ. فَقَالَ زِيَادٌ: إِنَّا

لَا نَجِدُ إِلَى مَا تُرِيدُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ سَبِيلًا حَتَّى نَخُوضَ إِلَيْهَا الدِّمَاءَ. وَاسْتَعْمَلَ زِيَادٌ عَلَى شُرْطَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حِصْنٍ، وَأَجَّلَ النَّاسَ حَتَّى بَلَغَ الْخَبَرُ الْكُوفَةَ وَعَادَ إِلَيْهِ وُصُولُ الْخَبَرِ، فَكَانَ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ ثُمَّ يُصَلِّي فَيَأْمُرُ رَجُلًا أَنْ يَقْرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ أَوْ مِثْلَهَا يُرَتِّلُ الْقُرْآنَ، فَإِذَا فَرَغَ أَمْهَلَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّ إِنْسَانًا يَبْلُغُ أَقْصَى الْبَقَرَةِ، ثُمَّ يَأْمُرُ صَاحِبَ شُرْطَتِهِ بِالْخُرُوجِ، فَيَخْرُجُ فَلَا يَرَى إِنْسَانًا إِلَّا قَتَلَهُ، فَأَخَذَ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَعْرَابِيًّا فَأَتَى بِهِ زِيَادًا فَقَالَ: هَلْ سَمِعْتَ النِّدَاءَ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ قَدِمْتُ بِحَلُوبَةٍ لِي وَغَشِيَنِي اللَّيْلُ فَاضْطَرَرْتُهَا إِلَى مَوْضِعٍ وَأَقَمْتُ لِأُصْبِحَ وَلَا عِلْمَ لِي بِمَا كَانَ مِنَ الْأَمِيرِ. فَقَالَ: أَظُنُّكَ وَاللَّهِ صَادِقًا وَلَكِنْ فِي قَتْلِكَ صَلَاحُ الْأُمَّةِ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَكَانَ زِيَادٌ أَوَّلَ مَنْ شَدَّدَ أَمْرَ السُّلْطَانِ، وَأَكَّدَ الْمُلْكَ لِمُعَاوِيَةَ، وَجَرَّدَ سَيْفَهُ، وَأَخَذَ بِالظِّنَّةِ، وَعَاقَبَ عَلَى الشُّبْهَةِ، وَخَافَهُ النَّاسُ خَوْفًا شَدِيدًا حَتَّى أَمِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَحَتَّى كَانَ الشَّيْءُ يُسْقِطُ مِنْ يَدِ الرَّجُلِ أَوِ الْمَرْأَةِ فَلَا يَعْرِضُ لَهُ أَحَدٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ صَاحِبُهُ فَيَأْخُذَهُ، وَلَا يُغْلِقُ أَحَدٌ بَابَهُ. (وَأَدَرَّ الْعَطَاءَ) ، وَبَنَى مَدِينَةَ الرِّزْقِ، وَجَعَلَ الشُّرَطَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ السَّبِيلَ مَخُوفَةٌ. فَقَالَ: لَا أُعَانِي شَيْئًا وَرَاءَ الْمِصْرِ حَتَّى أُصْلِحَ الْمِصْرَ، فَإِنْ غَلَبَنِي فَغَيْرُهُ أَشَدُّ غَلَبَةً مِنْهُ. فَلَمَّا ضَبَطَ الْمِصْرَ وَأَصْلَحَهُ تَكَلَّفَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَأَحْكَمَهُ. ذِكْرُ عُمَّالِ زِيَادٍ اسْتَعَانَ زِيَادٌ بِعِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ: عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ الْخُزَاعِيُّ وَلَّاهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ. فَأَمَّا عِمْرَانُ

فَاسْتَعْفَى مِنَ الْقَضَاءِ فَأَعْفَاهُ. وَاسْتَقْضَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ فَضَالَةَ اللَّيْثِيَّ، ثُمَّ أَخَاهُ عَاصِمًا، ثُمَّ زُرَارَةَ بْنَ أَوْفَى، وَكَانَتْ أُخْتُهُ عِنْدَ زِيَادٍ. وَقِيلَ إِنَّ زِيَادًا أَوَّلُ مَنْ سَيَّرَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْحِرَابِ وَالْعَمَدِ، وَاتَّخَذَ الْحَرَسَ رَابِطَةً خَمْسَمِائَةٍ لَا يُفَارِقُونَ الْمَسْجِدَ. وَجَعَلَ خُرَاسَانَ أَرْبَاعًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَرْوَ أُمَيْرَ بْنَ أَحْمَرَ، وَعَلَى نَيْسَابُورَ خُلَيْدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيَّ، وَعَلَى مَرْوِ الرُّوذِ وَالْفَارِيَابِ وَالطَّالَقَانِ قَيْسَ بْنَ الْهَيْثَمِ، وَعَلَى هَرَاةَ وَبَاذَغِيسَ [وَقَادِسَ] وَبُوشَنْجَ نَافِعَ بْنَ خَالِدٍ الطَّاحِيَّ، ثُمَّ عَتَبَ عَلَيْهِ فَعَزَلَهُ. وَسَبَبُ تَغَيُّرِهِ عَلَيْهِ أَنَّ نَافِعًا بَعْثَ بِخُوَانَ بَاذْزَهْرَ إِلَى زِيَادٍ قَوَائِمُهُ مِنْهُ، فَأَخَذَ نَافِعٌ مِنْهَا قَائِمَةً وَعَمَلَ مَكَانَهَا قَائِمَةً مِنْ ذَهَبٍ وَبَعَثَ الْخُوَانَ مَعَ غُلَامٍ لَهُ اسْمُهُ زَيْدٌ، وَكَانَ يَلِي أُمُورَ نَافِعٍ كُلَّهَا، فَسَعَى زَيْدٌ بِنَافِعٍ إِلَى زِيَادٍ وَقَالَ: إِنَّهُ خَانَكَ وَأَخَذَ قَائِمَةَ الْخُوَانِ. فَعَزَلَهُ زِيَادٌ وَحَبَسَهُ وَكَتَبَ عَلَيْهِ كِتَابًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَقِيلَ: بِثَمَانِمِائَةِ أَلْفٍ، فَشَفَعَ فِيهِ رِجَالٌ مِنْ وُجُوهِ الْأَزْدِ فَأَطْلَقَهُ. وَاسْتَعْمَلَ الْحَكَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَكَانَ زِيَادٌ قَالَ لِحَاجِبِهِ: ادْعُ لِيَ الْحَكَمَ، يُرِيدُ الْحَكَمَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيَّ، لِيُوَلِّيَهُ خُرَاسَانَ، فَخَرَجَ حَاجِبُهُ فَرَأَى الْحَكَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ فَاسْتَدْعَاهُ، فَحِينَ رَآهُ زِيَادٌ قَالَ لَهُ: مَا أَرَدْتُكَ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَكَ! فَوَلَّاهُ خُرَاسَانَ وَجَعَلَ مَعَهُ رِجَالًا عَلَى جِبَايَةِ الْخَرَاجِ، مِنْهُمْ: أَسْلَمُ بْنُ زُرْعَةَ الْكِلَابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَغَزَا الْحَكَمُ طَخَارُسْتَانَ، فَغَنِمَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، ثُمَّ مَاتَ، وَاسْتَخْلَفَ أَنَسَ بْنَ أَبِي أُنَاسِ بْنِ زُنَيْمٍ، فَعَزَلَهُ زِيَادٌ وَكَتَبَ إِلَى خُلَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيِّ بِوِلَايَةِ خُرَاسَانَ، ثُمَّ بَعَثَ الرَّبِيعَ بْنَ زِيَادٍ الْحَارِثِيَّ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا مِنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ، وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ الْبَلَوِيُّ، وَكَانَ بَدْرِيًّا، وَقِيلَ: لَمْ يَشْهَدْهَا بَلْ رَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ، وَكَانَ عُمُرُهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَفِيهَا مَاتَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ الْأَنْصَارِيُّ بِالْمَدِينَةِ، وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَكَانَ عُمُرُهُ سَبْعِينَ سَنَةً. وَفِيهَا تُوُفِّيَ ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ بْنِ خَلِيفَةَ الْكِلَابِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، وَهُوَ أَخُو أَبِي جُبَيْرَةَ بْنِ الضَّحَّاكِ.

ثم دخلت سنة ست وأربعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ] 46 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ مَشْتَى مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ السَّكُونِيُّ: وَفِيهَا انْصَرَفَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ إِلَى حِمْصَ وَمَاتَ. ذِكْرُ وَفَاةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَظُمَ شَأْنُهُ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ وَمَالُوا إِلَيْهِ لِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ آثَارِ أَبِيهِ وَلِغَنَائِهِ فِي بِلَادِ الرُّومِ وَلِشِدَّةِ بَأْسِهِ، فَخَافَهُ مُعَاوِيَةُ وَخَشِيَ مِنْهُ وَأَمَرَ ابْنَ أُثَالٍ النَّصْرَانِيَّ أَنْ يَحْتَالَ فِي قَتْلِهِ وَضَمِنَ لَهُ أَنْ يَضَعَ عَنْهُ خَرَاجَهُ مَا عَاشَ وَأَنْ يُوَلِّيَهُ [جِبَايَةَ] خَرَاجِ حِمْصَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنَ الرُّومِ دَسَّ إِلَيْهِ ابْنُ أُثَالٍ شَرْبَةً مَسْمُومَةً مَعَ بَعْضِ مَمَالِيكِهِ، فَشَرِبَهَا، فَمَاتَ بِحِمْصَ، فَوَفَى لَهُ مُعَاوِيَةُ بِمَا ضَمِنَ لَهُ. وَقَدِمَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ الْمَدِينَةَ فَجَلَسَ يَوْمًا إِلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ مَا فَعَلَ ابْنُ أُثَالٍ؟ فَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ وَسَارَ إِلَى حِمْصَ فَقَتَلَ ابْنَ أُثَالٍ، فَحُمِلَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَحَبَسَهُ أَيَّامًا ثُمَّ غَرَّمَهُ دِيَتَهُ، وَرَجَعَ خَالِدٌ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَتَى عُرْوَةَ، فَقَالَ عُرْوَةُ: مَا فَعَلَ ابْنُ أُثَالٍ؟ فَقَالَ: قَدْ كَفَيْتُكَ ابْنَ أُثَالٍ؟ وَلَكِنْ مَا فَعَلَ ابْنُ جُرْمُوزٍ؟ يَعْنِي قَاتِلَ الزُّبَيْرِ، فَسَكَتَ عُرْوَةُ.

ذِكْرُ خُرُوجِ سَهْمٍ وَالْخَطِيمِ وَفِيهَا خَرَجَ الْخَطِيمُ، وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ مَالِكٍ الْبَاهِلِيُّ، وَسَهْمُ بْنُ غَالِبٍ الْهُجَيْمِيُّ، فَحُكِّمَا، فَأَمَّا سَهْمٌ فَإِنَّهُ خَرَجَ إِلَى الْأَهْوَازِ فَحُكِّمَ بِهَا، ثُمَّ رَجَعَ فَاخْتَفَى وَطَلَبَ الْأَمَانَ فَلَمْ يُؤَمِّنْهُ زِيَادٌ وَطَلَبَهُ حَتَّى أَخَذَهُ وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ عَلَى بَابِهِ. وَأَمَّا الْخَطِيمُ فَإِنَّ زِيَادًا سَيَّرَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ ثُمَّ أَقْدَمَهُ وَقَالَ لِمُسْلِمِ بْنِ عَمْرٍو الْبَاهِلِيِّ، وَالِدِ قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ: اضْمَنْهُ، فَأَبَى وَقَالَ: إِنْ بَاتَ خَارِجًا عَنْ بَيْتِهِ أَعْلَمْتُكَ، ثُمَّ أَتَاهُ مُسْلِمٌ فَقَالَ لَهُ: لَمْ يَبِتِ الْخَطِيمُ اللَّيْلَةَ فِي بَيْتِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ وَأُلْقِيَ فِي بَاهِلَةَ، (وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ أَتَمَّ مِنْ هَذَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ هَا هُنَا لِأَنَّهُ قُتِلَ هَذِهِ السَّنَةِ) . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى بَنِي غِفَارٍ، وَقِيلَ: مَوْلَى بَنِي عَامِرٍ، (وَقِيلَ الْخُزَاعِيُّ) .

ثم دخلت سنة سبع وأربعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ] 47 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ مَشْتَى مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَمَشْتَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَيْنِيِّ بِأَنْطَاكِيَةَ. ذِكْرُ عَزْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ مِصْرَ وَوِلَايَةِ ابْنِ حُدَيْجٍ وَفِيهَا عُزِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ مِصْرَ وَوَلِيَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ وَكَانَ عُثْمَانِيًّا، فَمَرَّ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُعَاوِيَةُ قَدْ أَخَذْتَ جَزَاءَكَ مِنْ مُعَاوِيَةَ، قَدْ قَتَلْتَ أَخِي مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ لِتَلِيَ مِصْرَ فَقَدَ وُلِيتَهَا. فَقَالَ: مَا قَتَلْتُ مُحَمَّدًا إِلَّا بِمَا صَنَعَ بِعُثْمَانَ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَلَوْ كُنْتَ إِنَّمَا تَطْلُبُ بِدَمِ عُثْمَانَ لَمَا شَارَكْتَ مُعَاوِيَةَ فِيمَا صَنَعَ حَيْثُ عَمِلَ عَمْرٌو بِالْأَشْعَرِيِّ مَا عَمِلَ فَوَثَبْتَ أَوَّلَ النَّاسِ فَبَايَعْتَهُ. (حُدَيْجٌ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالْجِيمِ) . ذِكْرُ غَزْوَةِ الْغَوْرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى جِبَالِ الْغَوْرِ فَغَزَا مَنْ بِهَا، وَكَانُوا ارْتَدُّوا، فَأَخَذَهُمْ بِالسَّيْفِ عَنْوَةً وَفَتَحَهَا وَأَصَابَ مِنْهَا مَغَانِمَ كَثِيرَةً وَسَبَايَا، وَلَمَّا رَجَعَ الْحَكَمُ مِنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ مَاتَ بِمَرْوَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَكَانَ الْحَكَمُ قَدْ قَطَعَ النَّهْرَ فِي وِلَايَتِهِ وَلَمْ

يَفْتَحْ. وَكَانَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ شَرِبَ مِنَ النَّهْرِ مَوْلًى لِلْحَكَمِ اغْتَرَفَ بِتُرْسِهِ فَشَرِبَ وَنَاوَلَ الْحَكَمَ فَشَرِبَ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ. ذِكْرُ مَكِيدَةٍ لِلْمُهَلَّبِ وَكَانَ الْمُهَلَّبُ مَعَ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو بِخُرَاسَانَ، وَغَزَا مَعَهُ بَعْضَ جِبَالِ التُّرْكِ فَغَنِمُوا، وَأَخَذَ التُّرْكُ عَلَيْهِمُ الشِّعَابَ وَالطُّرُقَ، فَعَيِيَ الْحَكَمُ بِالْأَمْرِ، فَوَلَّى الْمُهَلَّبَ الْحَرْبَ، فَلَمْ يَزَلْ يَحْتَالُ حَتَّى أَسَرَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءِ التُّرْكِ، فَقَالَ لَهُ: إِمَّا أَنْ تُخْرِجَنَا مِنْ هَذَا الضِّيقِ أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ. فَقَالَ لَهُ: أَوْقِدِ النَّارَ (حِيَالَ طَرِيقٍ) مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ وَسَيِّرِ الْأَثْقَالَ نَحْوَهُ فَإِنَّهُمْ سَيَجْتَمِعُونَ فِيهِ وَيُخَلُّونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الطُّرُقِ فَبَادِرْهُمْ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ فَمَا يُدْرِكُونَكُمْ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَسَلِمَ النَّاسُ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةِ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَقِيلَ: عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ الْوُلَاةُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ] 48 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ فِيهَا كَانَ مَشْتَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَيْنِيِّ بِأَنْطَاكِيَةَ. وَصَائِفَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْفَزَارِيِّ. وَغَزْوَةُ مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ السَّكُونِيِّ الْبَحْرَ. وَغَزْوَةُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ بِأَهْلِ مِصْرَ الْبَحْرَ وَبِأَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ زِيَادٌ غَالِبَ بْنَ فَضَالَةَ اللَّيْثِيَّ عَلَى خُرَاسَانَ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ مَرْوَانُ وَهُوَ يَتَوَقَّعُ الْعَزْلَ لِمُوجِدَةٍ كَانَتْ مِنْ مُعَاوِيَةَ عَلَيْهِ، وَارْتَجَعَ مُعَاوِيَةُ مِنْهُ فَدَكَ وَكَانَ وَهَبْهَا لَهُ. وَكَانَ وُلَاةُ الْأَنْصَارِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ.

ثم دخلت سنة تسع وأربعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ] 49 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ فِيهَا كَانَ مَشْتَى مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ بِأَرْضِ الرُّومِ. وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ جَرَبَّةَ وَشَتَا بِهَا، وَفُتِحَتْ عَلَى يَدِهِ، وَأَصَابَ فِيهَا شَيْئًا كَثِيرًا وَفِيهَا كَانَتْ صَائِفَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كُرْزٍ الْبَجَلِيِّ. وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ يَزِيدَ بْنِ شَجَرَةَ الرُّهَاوِيِّ فِي الْبَحْرِ فَشَتَا بِأَهْلِ الشَّامِ. وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ عُقْبَةَ بْنِ نَافِعٍ الْبَحْرَ فَشَتَا بِأَهْلِ مِصْرَ. ذِكْرُ غَزْوَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسِينَ، سَيَّرَ مُعَاوِيَةُ جَيْشًا كَثِيفًا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ لِلْغَزَاةِ وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ سُفْيَانَ بْنَ عَوْفٍ وَأَمَرَ ابْنَهُ يَزِيدَ بِالْغَزَاةِ مَعَهُمْ، فَتَثَاقَلَ وَاعْتَلَّ، فَأَمْسَكَ عَنْهُ أَبُوهُ، فَأَصَابَ النَّاسُ فِي غَزَاتِهِمْ جُوعٌ وَمَرَضٌ شَدِيدٌ، فَأَنْشَأَ يَزِيدُ يَقُولُ: مَا إِنْ أُبَالِي بِمَا لَاقَتْ جُمُوعُهُمُ ... بِالْغَزْقَذُونَةِ مِنْ حُمَّى وَمِنْ مُومِ

إِذَا اتَّكَأْتُ عَلَى الْأَنْمَاطِ مُرْتَفِقًا بِدَيْرِ مُرَّانَ عِنْدِي أُمُّ كُلْثُومِ وَأُمُّ كُلْثُومٍ امْرَأَتُهُ، وَهِيَ ابْنَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ. فَبَلَغَ مُعَاوِيَةَ شِعْرُهُ فَأَقْسَمَ عَلَيْهِ لَيَلْحَقَنَّ بِسُفْيَانَ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ لِيُصِيبَهُ مَا أَصَابَ النَّاسَ، فَسَارَ وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ أَضَافَهُمْ إِلَيْهِ أَبُوهُ، وَكَانَ فِي هَذَا الْجَيْشِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ زُرَارَةَ الْكِلَابِيُّ، فَأَوْغَلُوا فِي بِلَادِ الرُّومِ حَتَّى بَلَغُوا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَاقْتَتَلَ الْمُسْلِمُونَ وَالرُّومُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، فَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْعَزِيزِ يَتَعَرَّضُ لِلشَّهَادَةِ فَلَمْ يُقْتَلْ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: قَدْ عِشْتُ فِي الدَّهْرِ أَطْوَارًا عَلَى طُرُقٍ ... شَتَّى فَصَادَفْتُ مِنْهَا اللِّينَ وَالْبَشِعَا كُلًّا بَلَوْتُ فَلَا النَّعْمَاءُ تُبْطِرُنِي ... وَلَا تَجَشَّمْتُ مِنْ لَأْوَائِهَا جَزَعًا لَا يَمْلَأُ الْأَمْرُ صَدْرِي قَبْلَ مَوْقِعِهِ ... وَلَا أَضِيقُ بِهِ ذَرْعًا إِذَا وَقَعَا ثُمَّ حَمَلَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ فَقَتَلَ فِيهِمْ وَانْغَمَسَ بَيْنَهُمْ، فَشَجَرَهُ الرُّومُ بِرِمَاحِهِمْ حَتَّى قَتَلُوهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَبَلَغَ خَبَرُ قَتْلِهِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لِأَبِيهِ: وَاللَّهِ هَلَكَ فَتَى الْعَرَبِ! فَقَالَ: ابْنِي أَوِ ابْنُكَ؟ قَالَ: ابْنُكَ، فَآجَرَكَ اللَّهُ. فَقَالَ: فَإِنْ يَكُنِ الْمَوْتُ أَوْدَى بِهِ ... وَأَصْبَحَ مُخُّ الْكِلَابِيِّ زِيرًا فَكُلُّ فَتًى شَارِبٌ كَأْسَهُ ... فَإِمَّا صَغِيرًا وَإِمَّا كَبِيرًا ثُمَّ رَجَعَ يَزِيدُ وَالْجَيْشُ إِلَى الشَّامِ وَقَدْ تُوُفِّيَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ عِنْدَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ سُورِهَا، فَأَهْلُهَا يَسْتَسْقُونَ بِهِ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ وَغَيْرَهَا مِنْ حُرُوبِهِ.

ذِكْرُ عَزْلِ مَرْوَانَ عَنِ الْمَدِينَةِ وَوِلَايَةِ سَعِيدٍ وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ عَنِ الْمَدِينَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَأَمَّرَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ عَلَيْهَا (فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَقِيلَ: فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ) ، وَكَانَتْ وِلَايَةُ مَرْوَانَ كُلُّهَا بِالْمَدِينَةِ لِمُعَاوِيَةَ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَشَهْرَيْنِ، وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْمَدِينَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، فَعَزَلَهُ سَعِيدٌ حِينَ وَلِيَ، وَاسْتَقْضَى أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، سَمَّتْهُ زَوْجَتُهُ جَعْدَةُ بِنْتُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيِّ، وَوَصَّى أَنْ يُدْفَنَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا أَنْ تُخَافَ فِتْنَةٌ فَيُنْقَلُ إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَأْذَنَ الْحُسَيْنُ عَائِشَةَ فَأَذِنَتْ لَهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَرَادُوا دَفْنَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يَعْرِضْ إِلَيْهِمْ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَهُوَ الْأَمِيرُ، فَقَامَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَجَمَعَ بَنِي أُمَيَّةَ وَشِيعَتَهُمْ وَمَنَعَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَرَادَ الْحُسَيْنُ الِامْتِنَاعَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَخَاكَ قَالَ: إِذَا خِفْتُمُ الْفِتْنَةَ فَفِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ فِتْنَةٌ. فَسَكَتَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: لَوْلَا أَنَّهُ سُنَّةٌ لَمَا تَرَكْتُكَ تُصَلِّي عَلَيْهِ.

ثم دخلت سنة خمسين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ] . فِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ بُسْرِ بْنِ أَبِي أَرْطَاةَ وَسُفْيَانَ بْنِ عَوْفٍ الْأَزْدِيِّ أَرْضَ الرُّومِ، وَغَزْوَةُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ فِي الْبَحْرِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَوِلَايَةِ زِيَادٍ الْكُوفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ كَانَتْ وَفَاةُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَكَانَ الطَّاعُونُ قَدْ وَقَعَ بِالْكُوفَةِ، فَهَرَبَ الْمُغِيرَةُ مِنْهُ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ الطَّاعُونُ عَادَ إِلَى الْكُوفَةِ فَطُعِنَ فَمَاتَ. وَكَانَ طُوَالًا أَعْوَرَ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: كَانَ مَوْتُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ (سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ) . فَلَمَّا مَاتَ الْمُغِيرَةُ اسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةُ زِيَادًا عَلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جُمِعَتَا لَهُ. فَلَمَّا وَلِيَهَا سَارَ إِلَيْهَا وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَصْرَةِ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ، وَكَانَ زِيَادٌ يُقِيمُ بِالْكُوفَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَبِالْبَصْرَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا وَصَلَ الْكُوفَةَ خَطَبَهُمْ فَحُصِبَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَجَلَسَ حَتَّى أَمْسَكُوا ثُمَّ دَعَا قَوْمًا مِنْ خَاصَّتِهِ فَأَمَرَهُمْ فَأَخَذُوا أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ قَالَ: لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ جَلِيسَهُ وَلَا يَقُولَنَّ لَا أَدْرِي مَنْ جَلِيسِي، ثُمَّ أَمَرَ بِكُرْسِيٍّ فَوُضِعَ لَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَدَعَاهُمْ أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً يَحْلِفُونَ: مَا مِنَّا مَنْ حَصَبَكَ:

فَمَنْ حَلَفَ خَلَّاهُ وَمَنْ لَمْ يَحْلِفْ حَبَسَهُ، حَتَّى صَارَ إِلَى ثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: إِلَى ثَمَانِينَ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَكَانِ. وَكَانَ أَوَّلُ قَتِيلٍ قَتَلَهُ زِيَادٌ بِالْكُوفَةِ أَوْفَى بْنَ حِصْنٍ، وَكَانَ بَلَغَهُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَطَلَبَهُ فَهَرَبَ، فَعَرَضَ النَّاسَ [زِيَادٌ] ، فَمَرَّ بِهِ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَوْفَى بْنُ حِصْنٍ. فَقَالَ زِيَادٌ: أَتَتْكَ بِحَائِنٍ رِجْلَاهُ: وَقَالَ لَهُ: مَا رَأْيُكَ فِي عُثْمَانَ؟ قَالَ: خَتَنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ابْنَتَيْهِ. قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي مُعَاوِيَةَ؟ قَالَ: جَوَادٌ حَلِيمٌ. قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِيَّ؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ بِالْبَصْرَةِ وَاللَّهِ لَآخُذَنَّ الْبَرِيءَ بِالسَّقِيمِ، وَالْمُقْبِلَ بِالْمُدْبِرِ. قَالَ: قَدْ قُلْتُ ذَاكَ. قَالَ: خَبَطْتَهَا عَشْوَاءَ! فَقَالَ زِيَادٌ: لَيْسَ النَّفَّاخُ بِشَرِّ الزَّمَرَةِ! فَقَتَلَهُ. وَلَمَّا قَدِمَ زِيَادٌ الْكُوفَةَ قَالَ لَهُ عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْحَمِقِ يَجْمَعُ إِلَيْهِ شِيعَةَ أَبِي تُرَابٍ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ زِيَادٌ: مَا هَذِهِ الْجَمَاعَاتُ عِنْدَكَ؟ مَنْ أَرَدْتَ كَلَامَهُ فَفِي الْمَسْجِدِ. وَقِيلَ: الَّذِي سَعَى بِعَمْرٍو يَزِيدُ بْنُ رُوَيْمٍ: فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ: قَدِ أَشَطْتُ بِدَمِهِ، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّ مُخَّ سَاقِهِ قَدْ سَالَ مِنْ بُغْضِي مَا هَجَتْهُ حَتَّى يَخْرُجَ عَلَيَّ. فَاتَّخَذَ زِيَادٌ الْمَقْصُورَةَ حِينَ حُصِبَ. فَلَمَّا اسْتَخْلَفَ زِيَادٌ سَمُرَةَ عَلَى الْبَصْرَةِ أَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهَا، فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: قَتَلَ سَمُرَةُ فِي غَيْبَةِ زِيَادٍ هَذِهِ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ. فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ: أَتَخَافُ أَنْ تَكُونَ قَتَلْتَ بَرِيئًا؟ فَقَالَ: لَوْ قَتَلْتُ مَعَهُمْ مِثْلَهُمْ مَا خَشِيتُ. وَقَالَ أَبُو السَّوَّارِ الْعَدَوِيُّ: قَتَلَ سَمُرَةُ مِنْ قَوْمِي فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ كُلُّهُمْ قَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ. وَرَكِبَ سَمُرَةُ يَوْمًا فَلَقِيَ أَوَائِلُ خَيْلِهِ رَجُلًا فَقَتَلُوهُ، فَمَرَّ بِهِ سَمُرَةُ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ أَصَابَهُ أَوَائِلُ

خَيْلِكَ. فَقَالَ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِنَا قَدْ رَكِبْنَا فَاتَّقُوا أَسِنَّتَنَا. ذِكْرُ خُرُوجِ قُرَيْبٍ وَفِيهَا خَرَجَ قُرَيْبٌ الْأَزْدِيُّ وَزَحَّافٌ الطَّائِيُّ بِالْبَصْرَةِ، وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ، وَزِيَادٌ بِالْكُوفَةِ وَسَمُرَةُ عَلَى الْبَصْرَةِ، فَأَتَيَا بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ شَيْخًا، وَخَرَجَ عَلَى قُرَيْبٍ وَزَحَّافٍ شَبَابٌ مِنْ بَنِي عَلِيٍّ وَبَنِي رَاسِبٍ فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، وَقَتَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَوْسٍ الطَّاحِيُّ قُرَيْبًا وَجَاءَ بِرَأْسِهِ: وَاشْتَدَّ زِيَادٌ فِي أَمْرِ الْخَوَارِجِ فَقَتَلَهُمْ، وَأَمَرَ سَمُرَةَ بِذَلِكَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ بَشَرًا كَثِيرًا: وَخَطَبَ زِيَادٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ وَاللَّهِ لَتَكُفُّنَّنِي هَؤُلَاءِ أَوْ لَأَبْدَأَنَّ بِكُمْ! وَاللَّهِ لَئِنْ أَفْلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ لَا تَأْخُذُونَ الْعَامَ مِنْ عَطَائِكُمْ دِرْهَمًا! فَثَارَ النَّاسُ بِهِمْ فَقَتَلُوهُمْ. ذِكْرُ إِرَادَةِ مُعَاوِيَةَ نَقْلَ الْمِنْبَرِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بِمِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُحْمَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ، وَقَالَ: لَا يُتْرَكُ هُوَ وَعَصَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِالْمَدِينَةِ وَهُمْ قَتَلَةُ عُثْمَانَ، وَطَلَبَ الْعَصَا، وَهُوَ عِنْدُ سَعْدٍ الْقَرَظِ، فَحُرِّكَ الْمِنْبَرُ فَكُسِفَتِ الشَّمْسُ حَتَّى رُؤَيَتِ النُّجُومُ بَادِيَةً، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَتَرَكَهُ. وَقِيلَ أَتَاهُ جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَقَالَا لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَصْلُحُ أَنْ تُخْرِجَ مِنْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَوْضِعٍ وَضَعَهُ، وَلَا تَنْقُلْ عَصَاهُ إِلَى الشَّامِ، فَانْقُلِ الْمَسْجِدَ، فَتَرَكَهُ، وَزَادَ فِيهِ سِتَّ دَرَجَاتٍ وَاعْتَذَرَ مِمَّا صَنَعَ. فَلَمَّا وَلِيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ هَمَّ بِالْمِنْبَرِ، فَقَالَ لَهُ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ أَنْ تَفْعَلَ! إِنَّ مُعَاوِيَةَ حَرَّكَهُ فَكُسِفَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي [آثِمًا] فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ، فَتُخْرِجُهُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُقَطَّعُ الْحُقُوقِ عِنْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ! فَتَرَكَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ. فَلَمَّا كَانَ الْوَلِيدُ ابْنُهُ وَحَجَّ هَمَّ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ

الْعَزِيزِ فَقَالَ: كَلِّمْ صَاحِبَكَ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْمَسْجِدِ وَلَا لِلَّهِ وَالسُّخْطِ لَهُ، فَكَلَّمَهُ عُمَرُ فَتَرَكَهُ. وَلَمَّا حَجَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخْبَرَهُ عُمَرُ بِمَا كَانَ مِنَ الْوَلِيدِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُذْكَرَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ هَذَا وَلَا عَنِ الْوَلِيدِ، مَا لَنَا وَلِهَذَا! أَخَذْنَا الدُّنْيَا فَهِيَ فِي أَيْدِينَا وَنُرِيدُ أَنْ نَعْمِدَ إِلَى عَلَمٍ مِنْ أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ يُوفَدُ إِلَيْهِ فَنَحْمِلَهُ إِلَى مَا قِبَلَنَا! هَذَا مَا لَا يَصْلُحُ! وَفِيهَا عُزِلَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ السَّكُونِيُّ عَنْ مِصْرَ وَوَلِيَهَا مَسْلَمَةُ بْنُ مُخَلَّدٍ مَعَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بَعَثَ قَبْلَ أَنْ يُوَلِّيَ مَسْلَمَةَ إِفْرِيقِيَّةَ وَمِصْرَ عُقْبَةَ بْنَ نَافِعٍ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَ اخْتَطْ قَيْرَوَانَهَا، وَكَانَ مَوْضِعُهُ غَيْضَةً لَا تُرَامُ مِنَ السِّبَاعِ وَالْحَيَّاتِ وَغَيْرِهَا، فَدَعَا اللَّهَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا خَرَجَ هَارِبًا حَتَّى إِنَّ كَانَتِ السِّبَاعُ لَتَحْمِلُ أَوْلَادَهَا، وَبَنَى الْجَامِعَ. فَلَمَّا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ السَّكُونِيَّ عَنْ مِصْرَ عَزَلَ عُقْبَةَ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ وَجَمَعَهَا لِمَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلَّدٍ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جُمِعَ لَهُ الْمَغْرِبُ مَعَ مِصْرَ، فَوَلَّى مَسْلَمَةُ إِفْرِيقِيَّةَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْمُهَاجِرِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى هَلَكَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. ذِكْرُ وِلَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ نَافِعٍ إِفْرِيقِيَّةَ وَبِنَاءِ مَدِينَةِ الْقَيْرَوَانِ قَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلِيَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُخَلَّدٍ إِفْرِيقِيَّةَ، وَأَنَّ عُقْبَةَ وَلِيَ قَبْلَهُ إِفْرِيقِيَّةَ وَبَنَى الْقَيْرَوَانَ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّارِيخِ مِنَ الْمَغَارِبَةِ: أَنَّ وِلَايَةَ عُقْبَةَ بْنِ نَافِعٍ إِفْرِيقِيَّةَ كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةَ وَبَنَى الْقَيْرَوَانَ، ثُمَّ بَقِيَ إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَوَلِيَهَا مَسْلَمَةُ بْنُ مُخَلَّدٍ، وَهُمْ أَخْبَرُ بِبِلَادِهِمْ، وَأَنَا أَذْكُرُ مَا أَثْبَتُوهُ فِي كُتُبِهِمْ:

قَالُوا: إِنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَزَلَ مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ حَسْبُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عُقْبَةَ بْنَ نَافِعٍ الْفِهْرِيَّ، وَكَانَ مُقِيمًا بِبَرْقَةَ وَزُوَيْلَةَ مُذْ فَتَحَهَا أَيَّامَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَلَهُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ جِهَادٌ وَفُتُوحٌ، فَلَمَّا اسْتَعْمَلَهُ مُعَاوِيَةُ سَيَّرَ إِلَيْهِ عَشَرَةَ آلَافِ فَارِسٍ، فَدَخَلَ إِفْرِيقِيَّةَ وَانْضَافَ إِلَيْهِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْبَرْبَرِ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَوَضَعَ السَّيْفَ فِي أَهْلِ الْبِلَادِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا دَخَلَ إِلَيْهِمْ أَمِيرٌ أَطَاعُوا وَأَظْهَرَ بَعْضُهُمُ الْإِسْلَامَ، فَإِذَا عَادَ الْأَمِيرُ عَنْهُمْ نَكَثُوا وَارْتَدَّ مَنْ أَسْلَمَ، ثُمَّ رَأَى أَنْ يَتَّخِذَ مَدِينَةً يَكُونُ فِيهَا عَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالُهُمْ لِيَأْمَنُوا مِنْ ثَوْرَةٍ تَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ، فَقَصَدَ مَوْضِعَ الْقَيْرَوَانِ، وَكَانَ أَجَمَةً مُشْتَبِكَةً بِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ (مِنَ السِّبَاعِ) وَالْحَيَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَدَعَا اللَّهَ، وَكَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، ثُمَّ نَادَى: أَيَّتُهَا الْحَيَّاتُ وَالسِّبَاعُ إِنَّا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ارْحَلُوا عَنَّا فَإِنَّا نَازِلُونَ وَمَنْ وَجَدْنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَتَلْنَاهُ. فَنَظَرَ النَّاسُ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى الدَّوَابِّ تَحْمِلُ أَوْلَادَهَا وَتَنْتَقِلُ، فَرَآهُ قَبِيلٌ كَثِيرٌ مِنَ الْبَرْبَرِ فَأَسْلَمُوا، وَقَطَعَ الْأَشْجَارَ وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَدِينَةِ، فَبُنِيَتْ، وَبَنَى الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ، وَبَنَى النَّاسُ مَسَاجِدَهُمْ وَمَسَاكِنَهُمْ، وَكَانَ دُورُهَا ثَلَاثَةَ آلَافِ بَاعٍ وَسِتَّمِائَةِ بَاعٍ، وَتَمَّ أَمْرُهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَسَكَنَهَا النَّاسُ، وَكَانَ فِي أَثْنَاءِ عِمَارَةِ الْمَدِينَةِ يَغْزُو وَيُرْسِلُ السَّرَايَا، فَتُغِيرُ وَتَنْهَبُ، وَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْبَرْبَرِ فِي الْإِسْلَامِ، وَاتَّسَعَتْ خُطَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَقَوِيَ جَنَانُ مَنْ هُنَاكَ مِنَ الْجُنُودِ بِمَدِينَةِ الْقَيْرَوَانِ وَأَمِنُوا وَاطْمَأَنُّوا عَلَى الْمُقَامِ فَثَبَتَ الْإِسْلَامُ فِيهَا. ذِكْرُ وِلَايَةِ مَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلَّدٍ إِفْرِيقِيَّةَ ثُمَّ إِنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ اسْتَعْمَلَ عَلَى مِصْرَ وَإِفْرِيقِيَّةَ مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ، فَاسْتَعْمَلَ مَسْلَمَةُ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْمُهَاجِرِ، فَقَدِمَ إِفْرِيقِيَّةَ وَأَسَاءَ عَزْلَ عُقْبَةَ وَاسْتَخَفَّ بِهِ، وَسَارَ عُقْبَةُ إِلَى الشَّامِ وَعَاتَبَ مُعَاوِيَةَ عَلَى مَا فَعَلَهُ بِهِ أَبُو الْمُهَاجِرِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ وَوَعَدَهُ بِإِعَادَتِهِ إِلَى عَمَلِهِ، وَتَمَادَى الْأَمْرُ فَتُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ وَتَوَلَّى بَعْدَهُ ابْنُهُ يَزِيدُ، فَاسْتَعْمَلَ عُقْبَةَ بْنَ نَافِعٍ عَلَى الْبِلَادِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، فَسَارَ إِلَيْهَا. وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ نَافِعٍ وَلِيَ إِفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَاخْتَطَّ الْقَيْرَوَانَ، وَلَمْ يَزَلْ عُقْبَةُ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ إِلَى سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، فَعَزَلَهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ:

وَاسْتَعْمِلْ أَبَا الْمُهَاجِرِ مَوْلَى الْأَنْصَارِ، فَحَبَسَ عُقْبَةَ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ مَا فُعِلَ بِعُقْبَةَ كَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِإِطْلَاقِهِ وَإِرْسَالِهِ إِلَيْهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَوَصَلَ عُقْبَةُ إِلَى يَزِيدَ فَأَعَادَهُ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَالِيًا عَلَيْهَا، فَقَبَضَ عَلَى أَبِي الْمُهَاجِرِ وَأَوْثَقَهُ، وَسَاقَ مِنْ خَبَرِ كُسَيْلَةَ مِثْلَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ. ذِكْرُ هَرَبِ الْفَرَزْدَقِ مِنْ زِيَادٍ وَفِيهَا طَلَبَ زِيَادٌ الْفَرَزْدَقَ، اسْتَعْدَتْهُ عَلَيْهِ بَنُو نَهْشَلٍ وَفُقَيْمٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ قَالَ الْفَرَزْدَقُ: هَاجَيْتُ الْأَشْهَبَ بْنَ رُمَيْلَةَ وَالْبَعِيثَ فَسَقَطَا، فَاسْتَعْدَى عَلَيَّ بَنُو نَهْشَلٍ وَبَنُو فُقَيْمٍ زِيَادَ بْنَ أَبِيهِ، وَاسْتَعْدَى عَلَيَّ أَيْضًا يَزِيدُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: فَلَمْ يَعْرِفْنِي زِيَادٌ حَتَّى قِيلَ لَهُ الْغُلَامُ الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي أَنْهَبَ مَالَهُ وَثِيَابَهُ، فَعَرَفَنِي. قَالَ الْفَرَزْدَقُ: وَكَانَ أَبِي غَالِبٌ قَدْ أَرْسَلَنِي فِي جَلَبٍ لَهُ أَبِيعُهُ وَأَمْتَارُ لَهُ، فَبِعْتُ الْجَلَبَ بِالْبَصْرَةِ وَجَعَلْتُ ثَمَنَهُ فِي ثَوْبِي، فَعَرَضَ لِي رَجُلٌ فَقَالَ: لَشَدٌّ مَا تَسْتَوْثِقُ مِنْهَا، أَمَا لَوْ كَانَ مَكَانَكَ رَجُلٌ أَعْرِفُهُ مَا صَرَّ عَلَيْهَا. فَقُلْتُ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: غَالِبُ بْنُ صَعْصَعَةَ وَهُوَ أَبُو الْفَرَزْدَقِ. فَدَعَوْتُ أَهْلَ الْمِرْبَدِ وَنَثَرْتُهَا. فَقَالَ لِي قَائِلٌ أَلْقِ رِدَاءَكَ. فَفَعَلْتُ. فَقَالَ آخَرُ: أَلْقِ ثَوْبَكَ. فَفَعَلْتُ. وَقَالَ آخَرُ أَلْقِ عِمَامَتَكَ. فَفَعَلْتُ. فَقَالَ آخَرُ: أَلْقِ إِزَارَكُ. فَقُلْتُ: لَا أُلْقِيهِ وَأَمْشِي مُجَرَّدًا، إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ زِيَادًا فَقَالَ: هَذَا أَحْمَقٌ يُضْرِي النَّاسَ بِالنَّهْبِ، فَأَرْسَلَ خَيْلًا إِلَى الْمِرْبَدِ لِيَأْتُوهُ بِي، فَأَتَانِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْهُجَيْمِ عَلَى فَرَسٍ لَهُ وَقَالَ: النَّجَاءَ النَّجَاءَ! وَأَرْدَفَنِي خَلْفَهُ، وَنَجَوْتُ، فَأَخَذَ زِيَادٌ عَمَّيْنِ لِي: ذُهَيْلًا وَالزَّحَّافَ ابْنَيْ صَعْصَعَةَ، وَكَانَا فِي الدِّيوَانِ، فَحَبَسَهُمَا أَيَّامًا ثُمَّ كُلِّمَ فِيهِمَا فَأَطْلَقَهُمَا، وَأَتَيْتُ أَبِي فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَحَقَدَهَا عَلَيْهِ زِيَادٌ. ثُمَّ وَفَدَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ وَجَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ السَّعْدِيَّانِ وَالْجَوْنُ بْنُ قَتَادَةَ الْعَبْشَمِيُّ وَالْحُتَاتُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو مُنَازِلٍ الْمُجَاشِعِيُّ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ

مِنْهُمْ جَائِزَةً مِائَةَ أَلْفٍ: وَأَعْطَى الْحُتَاتَ سَبْعِينَ أَلْفًا. فَلَمَّا كَانُوا فِي الطَّرِيقِ ذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ جَائِزَتَهُ، فَرَجَعَ الْحُتَاتُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: مَا رَدَّكَ؟ قَالَ: فَضَحْتَنِي فِي بَنِي تَمِيمٍ! أَمَا حَسَبِي صَحِيحٌ؟ أَوَلَسْتُ ذَا سِنٍّ؟ أَلَسْتُ مُطَاعًا فِي عَشِيرَتِي؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا بَالُكَ خَسَسْتَ بِي دُونَ الْقَوْمِ وَأَعْطَيْتَ مَنْ كَانَ عَلَيْكَ أَكْثَرَ مِمَّنْ كَانَ لَكَ؟ وَكَانَ حَضَرَ الْجَمَلَ مَعَ عَائِشَةَ، وَكَانَ الْأَحْنَفُ وَجَارِيَةُ يُرِيدَانِ عَلِيًّا، وَإِنْ كَانَ الْأَحْنَفُ وَالْجَوْنُ اعْتَزَلَا الْقِتَالَ مَعَ عَلِيٍّ لَكِنَّهُمَا كَانَا يُرِيدَانِهِ، قَالَ: إِنِّي اشْتَرَيْتُ مِنَ الْقَوْمِ دِينَهُمْ وَوَكَلْتُكَ إِلَى دِينِكَ وَرَأْيِكَ فِي عُثْمَانَ، وَكَانَ عُثْمَانِيًّا. فَقَالَ: وَأَنَا فَاشْتَرِ مِنِّي دِينِي. فَأَمَرَ لَهُ بِإِتْمَامِ جَائِزَتِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْحُتَاتُ فَحَبَسَهَا مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ فِي ذَلِكَ شِعْرًا: أَبُوكَ وَعَمِّي يَا مُعَاوِيَةُ أَوْرَثَا ... تُرَاثًا فَيَحْتَازُ التُّرَاثَ أَقَارِبُهْ فَمَا بَالُ مِيرَاثِ الْحُتَاتِ أَخَذْتَهُ ... وَمِيرَاثُ صَخْرٍ جَامِدٌ لَكَ ذَائِبُهْ فَلَوْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِي جَاهِلِيَّةٍ ... عَلِمْتَ مَنِ الْمَرْءُ الْقَلِيلُ حَلَائِبُهْ وَلَوْ كَانَ فِي دِينٍ سِوَى ذَا شَنِئْتُمُ ... لَنَا حَقَّنَا أَوْ غُصَّ بِالْمَاءِ شَارِبُهْ أَلَسْتُ أَعَزَّ النَّاسِ قَوْمًا وَأُسْرَةً ... وَأَمْنَعَهُمْ جَارًا إِذَا ضِيمَ جَانِبُهْ وَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ وَآلِهِ ... كَمِثْلِي حَصَانٌ فِي الرِّجَالِ يُقَارِبُهْ وَبَيْتِي إِلَى جَنْبِ الثُّرَيَّا فِنَاؤُهُ ... وَمِنْ دُونِهِ الْبَدْرُ الْمُضِيءُ كَوَاكِبُهْ أَنَا ابْنُ الْجِبَالِ الشُّمِّ فِي عَدَدِ الْحَصَى ... وَعِرْقُ الثَّرَى عِرْقِي فَمَنْ ذَا يُحَاسِبُهْ؟ وَكَمْ مِنْ أَبٍ لِي يَا مُعَاوِيَ لَمْ يَزَلْ ... أَغَرَّ يُبَارِي الرِّيحَ مَا ازْوَرَّ جَانِبُهْ نَمَتْهُ فُرُوعُ الْمَالِكَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ ... أَبُوكَ الَّذِي مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ يُقَارِبُهْ تَرَاهُ كَنَصْلِ السَّيْفِ يَهْتَزُّ لِلنَّدَى ... كَرِيمًا يُلَاقِي الْمَجْدَ مَا طَرَّ شَارِبُهْ طَوِيلُ نِجَادِ السَّيْفِ مُذْ كَانَ لَمْ يَكُنْ ... قُصَيٌّ وَعَبْدُ الشَّمْسِ مِمَّنْ يُخَاطِبُهْ يُرِيدُ بِالْمَالِكَيْنِ مَالِكَ بْنَ حَنْظَلَةَ وَمَالِكَ بْنَ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَهُمَا جَدَّاهُ. لِأَنَّ

الْفَرَزْدَقَ بْنَ غَالِبِ بْنِ صَعْصَعَةَ (بْنِ نَاجِيَةَ) بْنِ عِقَالِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعِ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مُعَاوِيَةَ شِعْرُهُ رَدَّ عَلَى أَهْلِهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَأَغْضَبَتْ أَيْضًا زِيَادًا عَلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَعْدَتْ عَلَيْهِ نَهْشَلٌ وَفُقَيْمٌ ازْدَادَ غَضَبًا فَهَرَبَ وَأَتَى عِيسَى بْنَ خُصَيْلَةَ السُّلَمِيَّ لَيْلًا وَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ طَلَبَنِي وَقَدْ لَفِظَنِي النَّاسُ وَقَدْ أَتَيْتُكَ لِتُغَيِّبَنِي عِنْدَكَ. فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ. فَكَانَ عِنْدَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ: ثُمَّ قَالَ لَهُ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ آتِيَ الشَّامَ، فَسَيَّرَهُ. وَبَلَغَ زِيَادًا مَسِيرُهُ فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِهِ، فَلَمْ يُدْرَكْ، وَأَتَى الرَّوْحَاءَ فَنَزَلَ فِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ فَأَمِنَ وَمَدَحَهُمْ بِقَصَائِدَ. ثُمَّ كَانَ زِيَادٌ إِذَا نَزَلَ الْبَصْرَةَ نَزَلَ الْفَرَزْدَقُ الْكُوفَةَ، وَإِذَا نَزَلَ الْكُوفَةَ نَزَلَ الْفَرَزْدَقُ الْبَصْرَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ زِيَادًا فَكَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ عَلَى الْكُوفَةِ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدٍ، يَأْمُرُهُ بِطَلَبِ الْفَرَزْدَقِ، فَفَارَقَ الْكُوفَةَ نَحْوَ الْحِجَازِ، فَاسْتَجَارَ بِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَأَجَارَهُ فَمَدَحَهُ الْفَرَزْدَقُ، وَلَمْ يَزَلْ بِالْمَدِينَةِ مَرَّةً وَبِمَكَّةَ مَرَّةً حَتَّى هَلَكَ زِيَادٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْفَرَزْدَقَ إِنَّمَا قَالَ هَذَا الشِّعْرَ لِأَنَّ الْحُتَاتَ لَمَّا أَسْلَمَ آخَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا مَاتَ الْحُتَاتُ بِالشَّامِ وَرِثَهُ مُعَاوِيَةُ بِتِلْكَ الْأُخُوَّةِ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ هَذَا الشِّعْرَ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ يَجْهَلُ أَنَّ الْأُخُوَّةَ لَا يَرِثُ بِهَا أَحَدٌ. (الْحُتَاتُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَبِتَائَيْنِ مُثَنَّاتَيْنِ مِنْ فَوْقِهِمَا، بَيْنَهُمَا أَلْفٌ) . ذِكْرُ وَفَاةِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو بِمَرْوَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ غَزْوَةِ جَبَلِ الْأَشَلِّ فِي قَوْلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وَفَاتِهِ فِي قَوْلٍ آخَرَ، وَكَانَ زِيَادٌ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ أَمَرَنِي أَنْ أَصْطَفِيَ لَهُ الصَّفْرَاءَ وَالْبَيْضَاءَ فَلَا تَقْسِمْ بَيْنَ النَّاسِ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَكَمُ: بَلَغَنِي مَا أَمَرَ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنِّي وَجَدْتُ كِتَابَ اللَّهِ قَبْلَ كِتَابِهِ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا عَلَى عَبْدٍ ثُمَّ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ لَهُ

فَرَجًا وَمَخْرَجًا: ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: اغْدُوا إِلَى أَعْطِيَاتِكُمْ وَمَالِكُمْ، فَقَسَّمَهُ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ لِي عِنْدَكَ خَيْرٌ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ. فَتُوُفِّيَ بِمَرْوَ. وَلَهُ صُحْبَةٌ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ (وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُعَاوِيَةُ، وَقِيلَ: بَلْ حَجَّ ابْنُهُ يَزِيدُ، وَكَانَ الْعُمَّالُ عَلَى الْبِلَادِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِالْعَقِيقِ فَحُمِلَ عَلَى الرِّقَابِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَدُفِنَ بِهَا، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ، وَعُمُرُهُ أَرْبَعٌ وَسَبْعُونَ، وَقِيلَ: ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ، وَكَانَ قَصِيرًا دَحْدَاحًا. وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: تُوُفِّيَتْ أَيَّامَ عُمَرَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، تُوُفَّيَ بِالْبَصْرَةِ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: (ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ) .

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِدْلَاجُ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُلُّهُمْ لَهُ صُحْبَةٌ.

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ] 51 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَفِيهَا كَانَ مَشْتَى فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَغَزْوَةُ بُسْرِ بْنِ أَبِي أَرْطَاةَ الصَّائِفَةَ. ذِكْرُ مَقْتَلِ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ وَعَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ وَأَصْحَابِهِمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ وَأَصْحَابُهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَعْمَلَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ عَلَى الْكُوفَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، فَلَمَّا أَمَّرَهُ عَلَيْهَا دَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ لِذِي الْحِلْمِ قَبْلَ الْيَوْمِ مَا تُقْرِعُ الْعَصَا، وَقَدْ يُجْزِي عَنْكَ الْحَكِيمُ بِغَيْرِ التَّعْلِيمِ، وَقَدْ أَرَدْتُ إِيصَاءَكَ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ أَنَا تَارِكُهَا اعْتِمَادًا عَلَى بَصَرِكَ، وَلَسْتُ تَارِكًا إِيصَاءَكَ بِخَصْلَةٍ: لَا تَتْرُكُ شَتْمَ عَلِيٍّ وَذَمَّهُ، وَالتَّرَحُّمَ عَلَى عُثْمَانَ وَالِاسْتِغْفَارَ لَهُ، وَالْعَيْبَ لِأَصْحَابِ عَلِيٍّ وَالْإِقْصَاءَ لَهُمْ، وَالْإِطْرَاءَ بِشِيعَةِ عُثْمَانَ وَالْإِدْنَاءَ لَهُمْ، فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ: قَدْ جَرَّبْتُ وَجَرَّبْتُ، وَعَمِلْتُ قَبْلَكَ لِغَيْرِكَ فَلَمْ يَذْمُمْنِي، وَسَتَبْلُو فَتَحْمَدُ أَوْ تَذُمُّ. فَقَالَ: بَلْ نَحْمَدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَأَقَامَ الْمُغِيرَةُ عَامِلًا عَلَى الْكُوفَةِ وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ سِيرَةً، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَدَعُ شَتْمَ عَلِيٍّ وَالْوُقُوعَ فِيهِ وَالدُّعَاءَ لِعُثْمَانَ وَالِاسْتِغْفَارَ لَهُ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ: بَلْ إِيَّاكُمْ ذَمَّ اللَّهُ وَلَعَنَ! ثُمَّ قَامَ وَقَالَ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ تَذُمُّونَ أَحَقُّ بِالْفَضْلِ، وَمَنْ تُزَكُّونَ أَوْلَى بِالذَّمِّ. فَيَقُولُ لَهُ الْمُغِيرَةُ: يَا حُجْرُ اتَّقِ هَذَا السُّلْطَانَ وَغَضَبَهُ وَسَطْوَتَهُ، فَإِنَّ غَضَبَ السُّلْطَانِ يُهْلِكُ أَمْثَالَكَ، ثُمَّ يَكُفُّ عَنْهُ وَيَصْفَحُ. فَلَمَّا كَانَ آخِرَ إِمَارَتِهِ قَالَ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ مَا كَانَ يَقُولُهُ، فَقَامَ حُجْرٌ فَصَاحَ صَيْحَةً

بِالْمُغِيرَةِ سَمِعَهَا كُلُّ مَنْ بِالْمَسْجِدِ وَقَالَ لَهُ: مُرْ لَنَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ بِأَرْزَاقِنَا فَقَدْ حَبَسْتَهَا عَنَّا وَلَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، وَقَدْ أَصْبَحْتَ مُولَعًا بِذَمِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَامَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثَيِ النَّاسِ يَقُولُونَ: صَدَقَ حُجْرٌ وَبَرَّ، مُرْ لَنَا بِأَرْزَاقِنَا فَإِنَّ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ لَا يُجْدِي عَلَيْنَا نَفْعًا! وَأَكْثَرُوا مِنْ هَذَا الْقَوْلِ وَأَمْثَالِهِ. فَنَزَلَ الْمُغِيرَةُ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ وَدَخَلُوا وَقَالُوا: عَلَامَ تَتْرُكُ هَذَا الرَّجُلَ يَجْتَرِئُ عَلَيْكَ فِي سُلْطَانِكَ وَيَقُولُ لَكَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فَيُوهِنُ سُلْطَانَكَ وَيُسْخِطُ عَلَيْكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ؟ فَقَالَ لَهُمُ الْمُغِيرَةُ: إِنِّي قَدْ قَتَلْتُهُ، سَيَأْتِي مِنْ بَعْدِي أَمِيرٌ يَحْسَبُهُ مِثْلِي فَيَصْنَعُ بِهِ مَا تَرَوْنَهُ يَصْنَعُ بِي فَيَأْخُذُهُ وَيَقْتُلُهُ! إِنِّي قَدْ قَرُبَ أَجَلِي وَلَا أُحِبُّ أَنَّ أَقْتُلَ خِيَارَ أَهْلِ هَذَا الْمِصْرِ فَيَسْعَدُوا وَأَشْقَى وَيَعِزَّ فِي الدُّنْيَا مُعَاوِيَةُ وَيَشْقَى فِي الْآخِرَةِ الْمُغِيرَةُ. ثُمَّ تُوُفِّيَ الْمُغِيرَةُ وَوَلِيَ زِيَادٌ، فَقَامَ فِي النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ عِنْدَ قُدُومِهِ ثُمَّ تَرَحَّمَ عَلَى عُثْمَانَ وَأَثْنَى عَلَى أَصْحَابِهِ وَلَعَنَ قَاتِلِيهِ. فَقَامَ حُجْرٌ فَفَعَلَ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ بِالْمُغِيرَةِ. وَرَجَعَ زِيَادٌ إِلَى الْبَصْرَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ، فَبَلَغَهُ أَنَّ حُجْرًا يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ شِيعَةُ عَلِيٍّ وَيُظْهِرُونَ لَعْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُ وَأَنَّهُمْ حَصَبُوا عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ، فَشَخَصَ زِيَادٌ إِلَى الْكُوفَةِ حَتَّى دَخَلَهَا فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَحُجْرٌ جَالِسٌ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ غَبَّ الْبَغْيِ وَالْغَيِّ وَخِيَمٌ، إِنَّ هَؤُلَاءِ جَمُّوا فَأَشِرُوا، وَأَمِنُونِي فَاجْتَرَءُوا عَلَى اللَّهِ، لَئِنْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا لَأُدَاوِيَنَّكُمْ بِدَوَائِكُمْ، وَلَسْتُ بِشَيْءٍ إِنْ لَمْ أَمْنَعِ الْكُوفَةَ مِنْ حُجْرٍ، وَأَدَعْهُ نَكَالًا لِمَنْ بَعْدَهُ، وَيْلُ أُمِّكَ يَا حُجْرُ، سَقَطَ الْعَشَاءُ بِكَ عَلَى سِرْحَانٍ. وَأَرْسَلَ إِلَى حُجْرٍ يَدْعُوهُ وَهُوَ بِالْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَتَاهُ رَسُولُ زِيَادٍ يَدْعُوهُ قَالَ أَصْحَابُهُ: لَا تَأْتِهِ وَلَا كَرَامَةَ. فَرَجَعَ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَ زِيَادًا، فَأَمَرَ صَاحِبَ شُرْطَتِهِ، وَهُوَ شَدَّادُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْهِلَالِيُّ، أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ جَمَاعَةً فَفَعَلَ، فَسَبَّهُمْ أَصْحَابُ حُجْرٍ، فَرَجَعُوا وَأَخْبَرُوا زِيَادًا، فَجَمَعَ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَقَالَ: تَشُجُّونَ بِيَدٍ وَتَأْسَوْنَ بِأُخْرَى! أَبْدَانُكُمْ مَعِي وَقُلُوبُكُمْ مَعَ حُجْرٍ الْأَحْمَقِ! هَذَا وَاللَّهِ مِنْ دَحْسِكُمْ! وَاللَّهِ لَيُظْهِرَنَّ لِي بَرَاءَتَكُمْ أَوْ لَآتِيَنَّكُمْ بِقَوْمٍ أُقِيمُ بِهِمْ أَوَدَكُمْ وَصَعَرَكُمْ! فَقَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لَنَا رَأْيٌ إِلَّا طَاعَتَكَ وَمَا فِيهِ رِضَاكَ، قَالَ:

فَلْيَقُمْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ فَلْيَدْعُ مَنْ عِنْدَ حُجْرٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَأَهْلِهِ. فَفَعَلُوا وَأَقَامُوا أَكْثَرَ أَصْحَابِهِ عَنْهُ. وَقَالَ زِيَادٌ لِصَاحِبِ شُرْطَتِهِ: انْطَلِقْ إِلَى حُجْرٍ فَإِنْ تَبِعَكَ فَأْتِنِي بِهِ وَإِلَّا فَشُدُّوا عَلَيْهِمْ بِالسُّيُوفِ حَتَّى تَأْتُونِي بِهِ. فَأَتَاهُ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ يَدْعُوهُ، فَمَنَعَهُ أَصْحَابُهُ مِنْ إِجَابَتِهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ أَبُو الْعَمَرَّطَةِ الْكِنْدِيُّ لِحُجْرٍ: إِنَّهُ لَيْسَ مَعَكَ مَنْ مَعَهُ سَيْفٌ غَيْرِي وَمَا يُغْنِي عَنْكَ سَيْفِي، قُمْ فَالْحَقْ بِأَهْلِكَ يَمْنَعُكَ قَوْمُكَ: وَزِيَادٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَغَشِيَهُمْ أَصْحَابُ زِيَادٍ، وَضَرَبَ رَجُلٌ مِنَ الْحَمْرَاءِ رَأْسَ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ بِعَمُودِهِ فَوَقَعَ، وَحَمَلَهُ أَصْحَابُهُ إِلَى الْأَزْدِ فَاخْتَفَى عِنْدَهُمْ حَتَّى خَرَجَ، وَانْحَازَ أَصْحَابُ حُجْرٍ إِلَى أَبْوَابِ كِنْدَةَ، وَضَرَبَ بَعْضُ الشُّرْطَةِ يَدَ عَائِذِ بْنِ حَمْلَةَ التَّمِيمِيِّ وَكَسَرَ نَابَهُ وَأَخَذَ عَمُودًا مِنْ بَعْضِ الشُّرَطِ فَقَاتَلَ بِهِ وَحَمَى حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ أَبْوَابِ كِنْدَةَ، وَأَتَى حُجْرٌ بَغْلَتَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَمَرَّطَةِ: ارْكَبْ فَقَدْ قَتَلْتَنَا وَنَفْسَكَ. وَحَمَلَهُ حَتَّى أَرْكَبَهُ، وَرَكِبَ أَبُو الْعَمَرَّطَةِ فَرَسَهُ، وَلَحِقَهُ يَزِيدُ بْنُ طَرِيفٍ الْمُسْلِيُّ فَضَرَبَ أَبَا الْعَمَرَّطَةِ عَلَى فَخِذِهِ بِالْعَمُودِ، وَأَخَذَ أَبُو الْعَمَرَّطَةِ سَيْفَهُ فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهُ فَسَقَطَ، ثُمَّ بَرَأَ، وَلَهُ يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ السَّلُولِيُّ: أَلُؤَمُ ابْنَ لُؤْمٍ مَا عَدَا بِكَ حَاسِرًا ... إِلَى بَطَلٍ ذِي جُرْأَةٍ وَشَكِيمِ مُعَاوَدِ ضَرْبِ الدَّارِعِينَ بِسَيْفِهِ ... عَلَى الْهَامِ عِنْدَ الرَّوْعِ غَيْرَ لَئِيمِ إِلَى فَارِسِ الْغَارَيْنِ يَوْمَ تَلَاقَيَا ... بِصِفِّينَ قَرْمٍ خَيْرُ نَجْلِ قُرُومِ حَسِبْتَ ابْنَ بَرْصَاءَ الْحِتَارِ قِتَالَهُ ... قِتَالَكَ زَيْدًا يَوْمَ دَارِ حَكِيمِ وَكَانَ ذَلِكَ السَّيْفُ أَوَّلَ سَيْفٍ ضُرِبَ بِهِ فِي الْكُوفَةِ فِي اخْتِلَافٍ بَيْنَ النَّاسِ. وَمَضَى حُجْرٌ وَأَبُو الْعَمَرَّطَةِ إِلَى دَارِ حُجْرٍ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمَا نَاسٌ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ كِنْدَةَ كَثِيرُ أَحَدٍ: فَأَرْسَلَ زِيَادٌ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، مَذْحِجًا وَهَمْدَانَ إِلَى جَبَّانَةِ كِنْدَةَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوهُ بِحُجْرٍ، وَأَرْسَلَ سَائِرَ أَهْلِ الْيَمَنِ إِلَى جَبَّانَةِ الصَّائِدِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْضُوا إِلَى صَاحِبِهِمْ حُجْرٍ فَيَأْتُوهُ بِهِ، فَفَعَلُوا، فَدَخَلَ مَذْحِجٌ وَهَمْدَانُ إِلَى جَبَّانَةِ كِنْدَةَ فَأَخَذُوا كُلَّ مَنْ وَجَدُوا، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ زِيَادٌ. فَلَمَّا رَأَى حُجْرٌ قِلَّةَ مَنْ مَعَهُ أَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ وَقَالَ لَهُمْ: لَا طَاقَةَ لَكُمْ بِمَنْ قَدِ

اجْتَمَعَ عَلَيْكُمْ وَمَا أُحِبُّ أَنْ تَهْلِكُوا. فَخَرَجُوا، فَأَدْرَكَهُمْ مَذْحِجٌ وَهَمْدَانُ فَقَاتَلُوهُمْ وَأَسَرُوا قَيْسَ بْنَ يَزِيدَ وَنَجَا الْبَاقُونَ، فَأَخَذَ حُجْرٌ طَرِيقًا إِلَى بَنِي حُوتٍ فَدَخَلَ دَارَ رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ سُلَيْمُ بْنُ يَزِيدَ، وَأَدْرَكَهُ الطَّلَبُ فَأَخَذَ سُلَيْمٌ سَيْفَهُ لِيُقَاتِلَ، فَبَكَتْ بَنَاتُهُ، فَقَالَ حُجْرٌ: بِئْسَ مَا أَدْخَلْتُ عَلَى بَنَاتِكَ إِذًا! قَالَ: وَاللَّهِ لَا تُؤْخَذُ مِنْ دَارِي أَسِيرًا وَلَا قَتِيلًا وَأَنَا حَيٌّ: فَخَرَجَ حُجْرٌ مِنْ خَوْخَةٍ فِي دَارِهِ فَأَتَى النَّخَعَ فَنَزَلَ دَارَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَخِي الْأَشْتَرِ، فَأَحْسَنَ لِقَاءَهُ. فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَهُ إِذْ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الشُّرَطَ تَسْأَلُ عَنْكَ فِي النَّخَعِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَمَةً سَوْدَاءَ لَقِيَتْهُمْ فَقَالَتْ: مَنْ تَطْلُبُونَ؟ فَقَالُوا: حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ. فَقَالَتْ: هُوَ فِي النَّخَعِ. فَخَرَجَ حُجْرٌ مِنْ عِنْدِهِ فَأَتَى الْأَزْدَ فَاخْتَفَى عِنْدَ رَبِيعَةَ بْنِ نَاجِدٍ. فَلَمَّا أَعْيَاهُمْ طَلَبُهُ دَعَا زِيَادٌ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ وَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لَتَأْتِيَنِّي بِهِ أَوْ لَأَقْطَعَنَّ كُلَّ نَخْلَةٍ لَكَ وَأَهْدِمُ دُورَكَ ثُمَّ لَا تَسْلَمُ مِنِّي حَتَّى أُقَطِّعَكَ إِرَبًا إِرَبًا. فَاسْتَمْهَلَهُ، فَأَمْهَلَهُ ثَلَاثًا وَأَحْضَرَ قَيْسَ بْنَ يَزِيدَ أَسِيرًا، فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، قَدْ عَرَفْتُ رَأْيَكَ فِي عُثْمَانَ وَبَلَاءَكَ مَعَ مُعَاوِيَةَ بِصِفِّينَ وَأَنَّكَ إِنَّمَا قَاتَلْتَ مَعَ حُجْرٍ حَمِيَّةً وَقَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ وَلَكِنِ ائْتِنِي بِأَخِيكَ عُمَيْرٍ. فَاسْتَأْمَنَ لَهُ مِنْهُ عَلَى مَالِهِ وَدَمِهِ، فَأَمَّنَهُ، فَأَتَاهُ بِهِ وَهُوَ جَرِيحٌ فَأَثْقَلَهُ حَدِيدًا، وَأَمَرَ الرِّجَالَ أَنْ يَرْفَعُوهُ وَيُلْقُوهُ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ مِرَارًا، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ يَزِيدَ لِزِيَادٍ: أَلَمْ تُؤَمِّنْهُ؟ قَالَ: بَلَى قَدْ أَمَّنْتُهُ عَلَى دَمِهِ وَلَسْتُ أُهَرِيقُ لَهُ دَمًا. ثُمَّ ضَمَّنَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ. وَمَكَثَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ فِي بَيْتِ رَبِيعَةَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَأَرْسَلَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ يَقُولُ لَهُ لِيَأْخُذْ لَهُ مِنْ زِيَادٍ أَمَانًا حَتَّى يَبْعَثَ بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ. فَجَمَعَ مُحَمَّدٌ جَمَاعَةً، مِنْهُمْ: جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَحُجْرُ بْنُ يَزِيدَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو الْأَشْتَرِ، فَدَخَلُوا عَلَى زِيَادٍ فَاسْتَأْمَنُوا لَهُ عَلَى أَنْ يُرْسِلَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَجَابَهُمْ فَأَرْسَلُوا إِلَى حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ فَحَضَرَ عِنْدَ زِيَادٍ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: مَرْحَبًا بِكَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَرْبٌ أَيَّامَ الْحَرْبِ، وَحَرْبٌ وَقَدْ سَالَمَ النَّاسُ، عَلَى أَهْلِهَا تَجْنِي بَرَاقِشُ، فَقَالَ حُجْرٌ: مَا خَلَعْتُ طَاعَةً، وَلَا فَارَقْتُ جَمَاعَةً، وَإِنِّي عَلَى بَيْعَتِي. فَأَمَرَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ زِيَادٌ: وَاللَّهِ لَأَحْرِصَنَّ عَلَى قَطْعِ خَيْطِ رَقَبَتِهِ: وَطَلَبَ أَصْحَابَهُ، فَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ حَتَّى أَتَى الْمَوْصِلَ وَمَعَهُ رِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ فَاخْتَفَيَا بِجَبَلٍ هُنَاكَ، فَرُفِعَ خَبَرُهُمَا إِلَى عَامِلِ الْمَوْصِلِ، فَسَارَ إِلَيْهِمَا:

فَخَرَجَا إِلَيْهِ، فَأَمَّا عَمْرٌو فَكَانَ قَدِ اسْتَسْقَى بَطْنَهُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ امْتِنَاعٌ، وَأَمَّا رِفَاعَةٌ فَكَانَ شَابًّا قَوِيًّا فَرَكِبَ فَرَسَهُ لِيُقَاتِلَ عَنْ عَمْرٍو، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: مَا يَنْفَعُنِي قِتَالُكَ عَنِّي؟ انْجُ بِنَفْسِكَ! فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَأَفْرَجُوا لَهُ، فَنَجَا، وَأُخِذَ عَمْرٌو أَسِيرًا، فَسَأَلُوهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مَنْ إِنْ تَرَكْتُمُوهُ كَانَ أَسْلَمَ لَكُمْ، وَإِنْ قَتَلْتُمُوهُ كَانَ أَضَرَّ عَلَيْكُمْ، وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ. فَبَعَثُوهُ إِلَى عَامِلِ الْمَوْصِلِ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ الثَّقَفِيُّ الَّذِي يُعْرَفُ بِابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ مُعَاوِيَةَ، فَعَرَفَهُ فَكَتَبَ فِيهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ طَعَنَ عُثْمَانَ تِسْعَ طَعَنَاتٍ بِمَشَاقِصَ مَعَهُ، فَاطْعَنْهُ كَمَا طَعَنَ عُثْمَانَ: فَأُخْرِجَ وَطُعِنَ، فَمَاتَ فِي الْأُولَى مِنْهُنَّ أَوِ الثَّانِيَةِ. وَجَدَّ زِيَادٌ فِي طَلَبِ أَصْحَابِ حُجْرٍ فَهَرَبُوا، وَأَخَذَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ. فَأُتِيَ بِقَبِيصَةَ بْنِ ضُبَيْعَةَ الْعَبْسِيِّ بِأَمَانٍ فَحَبَسَهُ، وَجَاءَ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ الشَّيْبَانِيُّ إِلَى زِيَادٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ امْرَأً مِنَّا يُقَالُ لَهُ صَيْفِيٌّ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِ حُجْرٍ. فَبَعَثَ زِيَادٌ فَأُتِيَ بِهِ، فَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي أَبِي تُرَابٍ؟ قَالَ: مَا أَعْرِفُ أَبَا تُرَابٍ: فَقَالَ: مَا أَعْرَفَكَ بِهِ! أَتَعْرِفُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَذَاكَ أَبُو تُرَابٍ: قَالَ: كَلَّا، ذَاكَ أَبُو الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ: يَقُولُ الْأَمِيرُ هُوَ أَبُو تُرَابٍ وَتَقُولُ لَا! قَالَ: فَإِنْ كَذَبَ الْأَمِيرُ أَكْذِبُ أَنَا، وَأَشْهَدُ عَلَى بَاطِلٍ كَمَا شَهِدَ؟ فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ: وَهَذَا أَيْضًا، عَلَيَّ بِالْعَصَا، فَأُتِيَ بِهَا، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي عَلِيٍّ؟ قَالَ: أَحْسَنَ قَوْلٍ: قَالَ: اضْرِبُوهُ، حَتَّى لَصِقَ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: أَقْلِعُوا عَنْهُ، مَا قَوْلُكَ فِي عَلِيٍّ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ شَرَّحْتَنِي بِالْمَوَاسِي مَا قُلْتُ فِيهِ إِلَّا مَا سَمِعْتَ مِنِّي: قَالَ: لَتَلْعَنَنَّهُ أَوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ! قَالَ: لَا أَفْعَلُ. فَأَوْثَقُوهُ حَدِيدًا وَحَبَسُوهُ. قِيلَ: وَعَاشَ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ حَتَّى قَاتَلَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي مَوَاطِنِهِ. ثُمَّ دَخَلَ الْكُوفَةَ فَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ حَوْشَبٌ لِلْحَجَّاجِ: إِنَّ هُنَا امْرَأً صَاحِبَ فِتَنٍ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ بِالْعِرَاقِ إِلَّا وَثَبَ فِيهَا، وَهُوَ تُرَابِيٌّ يَلْعَنُ عُثْمَانَ، وَقَدْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ حَتَّى هَلَكَ، وَقَدْ جَاءَ فَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ بَنُو أَبِيهِ لِآلِ حَوْشَبٍ: سَعَيْتُمْ بِصَاحِبِنَا! فَقَالُوا: وَأَنْتُمْ أَيْضًا سَعَيْتُمْ بِصَاحِبِنَا، يَعْنِي صَيْفِيًّا الشَّيْبَانِيَّ. وَأَرْسَلَ زِيَادٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ الطَّائِيِّ، فَتَوَارَى، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الشُّرَطُ فَأَخَذُوهُ،

فَخَرَجَتْ أُخْتُهُ النَّوَارُ فَحَرَّضَتْ طَيِّئًا، فَثَارُوا بِالشُّرَطِ وَخَلَّصُوهُ: فَرَجَعُوا إِلَى زِيَادٍ فَأَخْبَرُوهُ، فَأَخَذَ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: ائْتِنِي بِعَبْدِ اللَّهِ! قَالَ: وَمَا حَالُهُ؟ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَذَا! قَالَ: لَتَأْتِيَنِّي بِهِ: قَالَ: لَا آتِيكَ بِهِ أَبَدًا، آتِيكَ بِابْنِ عَمِّي تَقْتُلُهُ! وَاللَّهِ لَوْ كَانَ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَا رَفَعْتُهُمَا عَنْهُ! فَأَمَرَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ، فَلَمْ يَبْقَ بِالْكُوفَةِ يَمَنِيٌّ وَلَا رِبْعِيٌّ إِلَّا كَلَّمَ زِيَادًا وَقَالُوا: تَفْعَلُ هَذَا بِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: فَإِنِّي أُخْرِجُهُ عَلَى شَرْطِ أَنْ يُخْرِجَ ابْنَ عَمِّهِ عَنِّي فَلَا يَدْخُلُ الْكُوفَةَ مَا دَامَ لِي سُلْطَانٌ: فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ عَدِيٌّ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ يُعَرِّفُهُ مَا كَانَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِجَبَلَيْ طَيِّئٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا، وَكَانَ يَكْتُبُ إِلَى عَدِيٍّ لِيَشْفَعَ فِيهِ لِيَعُودَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَعَدِيٌّ يُمَنِّيهِ، فَمِمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ يُعَاتِبُهُ وَيَرْثِي حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ قَوْلُهُ: تَذَكَّرْتُ لَيْلَى وَالشَّبِيبَةَ أَعْصُرَا ... وَذِكْرُ الصِّبَا بَرْحٌ عَلَى مَنْ تَذَكَّرَا وَوَلَّى الشَّبَابُ فَافْتَقَدْتُ غُصُونَهُ ... فَيَا لَكَ مِنْ وَجْدٍ بِهِ حِينَ أَدْبَرَا فَدَعْ عَنْكَ تَذْكَارَ الشَّبَابِ وَفَقْدَهُ ... وَأَسْبَابَهُ إِذْ بَانَ عَنْكَ فَأَجْمَرَا وَبَكِّ عَلَى الْخُلَّانِ لَمَّا تُخُرِّمُوا ... وَلَمْ يَجِدُوا عَنْ مَنْهَلِ الْمَوْتِ مَصْدَرَا دَعَتْهُمْ مَنَايَاهُمْ وَمَنْ حَانَ يَوْمُهُ ... مِنَ النَّاسِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَنْ يُؤَخَّرَا أُولَئِكَ كَانُوا شِيعَةً لِي وَمَوْئِلًا ... إِذَا الْيَوْمُ أُلْفِي ذَا احْتِدَامٍ مُذَكَّرَا وَمَا كُنْتُ أَهْوَى بَعْدَهُمْ مُتَعَلِّلَا ... بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا وَلَا أَنْ أُعَمَّرَا أَقُولُ وَلَا وَاللَّهِ أَنْسَى ادِّكَارَهُمْ ... سَجِيسَ اللَّيَالِي أَوْ أَمُوتَ فَأُقْبَرَا عَلَى أَهْلِ عَذْرَاءَ السَّلَامُ مُضَاعَفًا ... مِنَ اللَّهِ وَلْيَسْقِ الْغَمَامَ الْكَنَهْوَرَا وَلَاقَى بِهَا حُجْرٌ مِنَ اللَّهِ رَحْمَةً ... فَقَدْ كَانَ أَرْضَى اللَّهَ حُجْرٌ وَأَعْذَرَا وَلَا زَالَ تَهْطَالٌ مُلِثٌّ وَدِيمَةٌ ... عَلَى قَبْرِ حُجْرٍ أَوْ يُنَادَى فَيُحْشَرَا فَيَا حُجْرُ مَنْ لِلْخَيْلِ تُدْمَى نُحُورُهَا ... وَلِلْمَلِكِ الْمُغْزِي إِذَا مَا تَغَشْمَرَا

وَمَنْ صَادِعٌ بِالْحَقِّ بَعْدَكَ نَاطِقٌ بِتَقْوَى وَمَنْ إِنْ قِيلَ بِالْجَوْرِ غَيَّرَا ... فَنَعِمَ أَخُو الْإِسْلَامِ كُنْتَ وَإِنَّنِي لَأَطْمَعُ أَنْ تُؤْتَى الْخُلُودَ وَتُحْبَرَا ... وَقَدْ كُنْتَ تُعْطِي السَّيْفَ فِي الْحَرْبِ حَقَّهُ وَتَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَتُنْكِرُ مُنْكَرًا ... فَيَا أَخَوَيْنَا مِنْ هُمَيْمٍ عُصِمْتُمَا وَيُسِّرْتُمَا لِلصَّالِحَاتِ فَأَبْشِرَا ... وَيَا أَخَوَيَّ الْخِنْدِفِيَّيْنِ أَبْشِرَا بِمَا مَعَنَا حُيِّيتُمَا أَنْ تُتَبَّرَا ... وَيَا إِخْوَتَا مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَغَالِبٍ وَشَيْبَانَ لُقِّيتُمْ حِسَابًا مُيَسَّرَا ... سَعِدْتُمْ فَلَمْ أَسْمَعْ بِأَصْوَبَ مِنْكُمُ حِجَاجًا لَدَى الْمَوْتِ الْجَلِيلِ وَأَصْبَرَا ... سَأَبْكِيكُمْ مَا لَاحَ نَجْمٌ وَغَرَّدَ الْ حَمَامُ بِبَطْنِ الْوَادِيَيْنِ وَقَرْقَرَا ... فَقُلْتُ وَلَمْ أَظْلِمْ: أَغَوْثَ بْنَ طَيِّئٍ مَتَّى كَنْتَ أَخْشَى بَيْنَكُمْ أَنْ أُسَيَّرَا ... هُبِلْتُمْ أَلَا قَاتَلْتُمْ عَنْ أَخِيكُمُ وَقَدْ دُثَّ حَتَّى مَالَ ثُمَّ تَجَوَّرَا ... تَفَرَّجْتُمْ عَنِّي فَغُودِرْتُ مُسْلَمًا كَأَنِّي غَرِيبٌ مِنْ إِيَادٍ وَأَعْصُرَا ... فَمَنْ لَكُمْ مِثْلِي لَدَى كُلِّ غَارَةٍ وَمَنْ لَكُمْ مِثْلِي إِذَا الْبَأْسُ أَصْحَرَا ... وَمَنْ لَكُمْ مِثْلِي إِذَا الْحَرْبُ قَلَّصَتْ وَأَوْضَعَ فِيهَا الْمُسْتَمِيتُ وَشَمَّرَا ... فَهَا أَنَا ذَا آوِي بِأَجْبَالِ طَيِّئٍ طَرِيدًا فَلَوْ شَاءَ الْإِلَهُ لَغَيَّرَا

نَفَانِي عَدُوِّي ظَالِمًا عَنْ مُهَاجِرِي ... رَضِيتُ بِمَا شَاءَ الْإِلَهُ وَقَدَّرَا وَأَسْلَمَنِي قَوْمِي بِغَيْرِ جِنَايَةٍ ... كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا لِي قَبِيلًا وَمَعْشَرَا فَإِنَّ أُلْفَ فِي دَارٍ بِأَجْبَالِ طَيِّئٍ ... وَكَانَ مُعَانًا مِنْ عُصَيْرٍ وَمَحْضَرًا فَمَا كُنْتُ أَخْشَى أَنْ أُرَى مُتَغَرِّبًا ... لَحَى اللَّهُ مَنْ لَاحَى عَلَيْهِ وَكَثَّرَا لَحَى اللَّهُ قَيْلَ الْحَضْرَمِيِّينَ وَائِلًا ... وَلَاقَى الْقَنَانِي بِالسِّنَانِ الْمُؤَمَّرَا وَلَاقَى الرَّدَى الْقَوْمُ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا ... عَلَيْنَا وَقَالُوا قَوْلَ زُورٍ وَمُنْكَرَا فَلَا يَدَعُنِي قَوْمٌ لِغَوْثِ بْنِ طَيِّئٍ ... لَئِنْ دَهْرُهُمْ أَشَفَى بِهِمْ وَتَغَيَّرَا فَلَمْ أَغْزُهُمْ فِي الْمَعْلَمَيْنِ وَلَمْ أُثِرْ ... عَلَيْهِمْ عَجَاجًا بِالْكُوَيْفَةِ أَكْدَرَا فَبَلِّغْ خَلِيلِي إِنْ رَحَلْتَ مُشَرِّقًا ... جَدِيلَةَ وَالْحَيَّيْنِ مَعْنًا وَبُحْتَرَا وَنَبْهَانَ وَالْأَفْنَاءَ مِنْ جِذْمِ طَيِّئٍ ... أَلَمْ أَكُ فِيكُمْ ذَا الْغَنَاءِ الْعَشَنْزَرَا أَلَمْ تَذْكُرُوا يَوْمَ الْعُذَيْبِ أَلِيَّتِي ... أَمَامَكُمُ أَنْ لَا أُرَى الدَّهْرَ مُدْبِرَا وَكَرِّي عَلَى مِهْرَانَ وَالْجَمْعُ حَابِسٌ ... وَقَتْلِي الْهُمَامَ الْمُسْتَمِيتَ الْمُسَوَّرَا وَيَوْمَ جَلُولَاءِ الْوَقِيعَةِ لَمْ أُلَمْ ... وَيَوْمَ نَهَاوَنْدِ الْفُتُوحِ وَتُسْتَرَا وَتَنْسَوْنَنِي يَوْمَ الشَّرِيعَةِ وَالْقَنَا ... بِصِفِّينَ فِي أَكْتَافِهِمْ قَدْ تَكَسَّرَا

جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ بِرَفْضِي وَخِذْلَانِي جَزَاءً مُوَفَّرَا ... أَتَنْسَى بَلَائِي سَادِرًا يَا ابْنَ حَاتِمٍ عَشِيَّةَ مَا أَغْنَتْ عَدِيُّكَ حَزْمَرَا ... فَدَافَعْتُ عَنْكَ الْقَوْمَ حَتَّى تَخَاذَلُوا وَكُنْتُ أَنَا الْخَصْمَ الْأَلَدَّ الْعَذَوَّرَا ... تَوَلَّوْا وَمَا قَامُوا مَقَامِي كَأَنَّمَا رَأَوْنِي لَيْثًا بِالْأَبَاءَةِ مُخْدِرَا ... نَصَرْتُكَ إِذْ خَانَ الْقَرِيبُ وَأَبْعَطَ الْ بَعِيدُ وَقَدْ أَفْرَدْتُ نَصْرًا مُؤَزَّرَا ... فَكَانَ جَزَائِي أَنْ أُجَرَّرَ بَيْنَكُمْ سَحِيبًا وَأَنْ أُولَى الْهَوَانَ وَأُوسَرَا ... وَكَمْ عِدَةٍ لِي مِنْكَ أَنَّكَ رَاجِعِي فَلَمْ تُغْنِ بِالْمِيعَادِ عَنِّيَ حَبْتَرَا ... فَأَصْبَحْتُ أَرْعَى النِّيبَ طَوْرًا وَتَارَةً أُهَرْهِرُ إِنْ رَاعِي الشُّوَيْهَاتِ هَرْهَرَا ... كَأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِغَارَةٍ وَلَمْ أَتْرُكِ الْقَرْنَ الْكَمِيَّ مُقَطَّرَا ... وَلَمْ أَعْتَرِضْ بِالسَّيْفِ مِنْكُمْ مُغِيرَةً إِذِ النِّكْسُ مَشَّى الْقَهْقَرَى ثُمَّ جَرْجَرَا ... وَلَمْ أَسْتَحِثَّ الرَّكْضَ فِي إِثْرِ عُصْبَةٍ مُيَمِّمَةٍ عُلْيَا سِجَاسٍ وَأَبْهَرَا ... وَلِمَ أُذْعِرِ الْأَبْلَامَ مِنِّي بِغَارَةٍ كَوِرْدِ الْقَطَا ثُمَّ انْحَدَرْتُ مُظَفَّرَا ... وَلَمْ أَرَ فِي خَيْلٍ تُطَاعِنُ مِثْلَهَا بِقَزْوِينَ أَوْ شَرْوِينَ أَوْ أُغْرِ كَيْدَرَا ... فَذَلِكَ دَهْرٌ زَالَ عَنِّي حَمِيدُهُ وَأَصْبَحَ لِي مَعْرُوفُهُ قَدْ تَنَكَّرَا

فَلَا يَبْعَدَنْ قَوْمِي وَإِنْ كُنْتُ عَاتِبًا ... وَكُنْتُ الْمُضَاعَ فِيهِمُ وَالْمُكَفَّرَا وَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَا الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ ... وَإِنْ كُنْتُ عَنْهُمْ نَائِيَ الدَّارِ مُحْصَرَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ مَعَ عَدِيٍّ فِي وَقْعَةِ صِفِّينَ، فَلِهَذَا لَمْ نَذْكُرْهُ هَاهُنَا. فَمَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بِالْجَبَلَيْنِ قَبْلَ مَوْتِ زِيَادٍ، ثُمَّ أُتِيَ زِيَادٌ بِكَرِيمِ بْنِ عَفِيفٍ الْخَثْعَمِيِّ مِنْ أَصْحَابِ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، فَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: كَرِيمُ بْنُ عَفِيفٍ: قَالَ: مَا أَحْسَنَ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ وَأَسْوَأَ عَمَلَكَ وَرَأْيَكَ! فَقَالَ لَهُ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ عَهْدَكَ بِرَأْيِي مُنْذُ قَرِيبٍ. قَالَ: وَجَمَعَ زِيَادٌ مِنْ أَصْحَابِ عَدِيٍّ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فِي السِّجْنِ ثُمَّ دَعَا رُؤَسَاءَ الْأَرْبَاعِ يَوْمَئِذٍ، وَهُمْ: عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ عَلَى رَبْعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَخَالِدُ بْنُ عُرْفُطَةَ عَلَى رَبْعِ تَمِيمٍ وَهَمْدَانَ، وَقَيْسُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى رَبْعِ رَبِيعَةَ وَكِنْدَةَ، وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى عَلَى رَبْعِ مَذْحِجٍ وَأَسَدٍ، فَشَهِدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ حُجْرًا جَمَعَ إِلَيْهِ الْجُمُوعَ وَأَظْهَرَ شَتْمَ الْخَلِيفَةِ وَدَعَا إِلَى حَرْبِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا فِي آلِ أَبِي طَالِبٍ، وَوَثَبَ بِالْمِصْرِ، وَأَخْرَجَ عَامِلَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَظْهَرَ عُذْرَ أَبِي تُرَابٍ وَالتَّرَحُّمَ عَلَيْهِ وَالْبَرَاءَةَ مِنْ عَدُوِّهِ وَأَهْلِ حَرْبِهِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ الَّذِينَ مَعَهُ هُمْ رُءُوسُ أَصْحَابِهِ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ وَأَمْرِهِ. وَنَظَرَ زِيَادٌ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ وَقَالَ: إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ، فَدَعَا النَّاسَ لِيَشْهَدُوا عَلَيْهِ، فَشَهِدَ إِسْحَاقُ وَمُوسَى ابْنَا طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعَمْرُو بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَغَيْرُهُمْ، وَكُتِبَ فِي الشُّهُودِ شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ الْقَاضِي وَشُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ، فَأَمَّا شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ فَكَانَ يَقُولُ: مَا شَهِدْتُ وَقَدْ لُمْتُهُ. ثُمَّ دَفَعَ زِيَادٌ حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ وَأَصْحَابَهُ إِلَى وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ الْحَضْرَمِيِّ وَكَثِيرِ بْنِ شِهَابٍ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَسِيرَا بِهِمْ إِلَى الشَّامِ، فَخَرَجُوا عَشِيَّةً، فَلَمَّا بَلَغُوا الْغَرِيَّيْنِ لَحِقَهُمْ

شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ وَأَعْطَى وَائِلًا كِتَابًا وَقَالَ: أَبْلِغْهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَخَذَهُ، وَسَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا بِهِمْ إِلَى مَرْجِ عَذْرَاءَ عِنْدَ دِمَشْقَ، وَكَانُوا: حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ الْكِنْدِيَّ، وَالْأَرْقَمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيَّ، وَشَرِيكَ بْنَ شَدَّادٍ الْحَضْرَمِيَّ، وَصَيْفِيَّ بْنَ فَسِيلٍ الشَّيْبَانِيَّ، وَقَبِيصَةَ بْنَ ضُبَيْعَةَ الْعَبْسِيَّ، وَكَرِيمَ بْنَ عَفِيفٍ الْخَثْعَمِيَّ، وَعَاصِمَ بْنَ عَوْفٍ الْبَجَلِيَّ، وَوَرْقَاءَ بْنَ سُمَعِيٍّ الْبَجَلِيَّ، وَكِدَامَ بْنَ حَيَّانَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَسَّانَ الْعَنَزِيَّيْنِ، وَمُحْرِزَ بْنَ شِهَابٍ التَّمِيمِيَّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَوِيَّةَ السَّعْدِيَّ التَّمِيمِيَّ، فَهَؤُلَاءِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَأَتْبَعَهُمْ زِيَادٌ بِرَجُلَيْنِ، هُمَا: عُتْبَةُ بْنُ الْأَخْنَسِ مِنْ سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ نَمِرَانَ الْهَمْدَانِيُّ، فَتَمُّوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ وَكَثِيرِ بْنِ شِهَابٍ، فَأَدْخَلَهُمَا وَأَخَذَ كِتَابَهُمَا فَقَرَأَهُ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ وَائِلٌ كِتَابَ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، فَإِذَا فِيهِ: بَلَغَنِي أَنَّ زِيَادًا كَتَبَ شَهَادَتِي، وَإِنَّ شَهَادَتِي عَلَى حُجْرٍ أَنَّهُ مِمَّنْ يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيُدِيمُ الْحَجَّ وَالْعُمُرَةَ وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، حَرَامُ الدَّمِ وَالْمَالِ، فَإِنْ شِئْتَ فَاقْتُلْهُ وَإِنْ شِئْتَ فَدَعْهُ: فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا أَرَى هَذَا إِلَّا قَدْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ شَهَادَتِكُمْ وَحَبَسَ الْقَوْمَ بِمَرْجِ عَذْرَاءَ. فَوَصَلَ إِلَيْهِمُ الرَّجُلَانِ اللَّذَانِ أَلْحَقَهُمَا زِيَادٌ بِحُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا وَصَلَا سَارَ عَامِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْعِجْلِيُّ إِلَى مُعَاوِيَةَ لِيُعْلِمَهُ بِهِمَا، فَقَامَ إِلَيْهِ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ فِي قُيُودِهِ فَقَالَ لَهُ: أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ أَنَّ دِمَاءَنَا عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَأَخْبِرْهُ أَنَّا قَدْ أُومِنَّا وَصَالَحْنَاهُ وَصَالَحَنَا، وَأَنَّا لَمْ نَقْتُلْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَيَحِلَّ لَهُ دِمَاؤُنَا. فَدَخَلَ عَامِرٌ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِالرَّجُلَيْنِ، فَقَامَ يَزِيدُ بْنُ أَسَدٍ الْبَجَلِيُّ فَاسْتَوْهَبَهُ ابْنَيْ عَمِّهِ، وَهُمَا: عَاصِمٌ وَوَرْقَاءُ، وَكَانَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ قَدْ كَتَبَ فِيهِمَا يُزَكِّيهِمَا وَيَشْهَدُ لَهُمَا بِالْبَرَاءَةِ مِمَّا شُهِدَ عَلَيْهِمَا، فَأَطْلَقَهُمَا مُعَاوِيَةُ، وَشَفَعَ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ فِي الْأَرْقَمِ

فَتَرَكَهُ لَهُ وَشَفَعَ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ فِي عُتْبَةَ بْنِ الْأَخْنَسِ فَتَرَكَهُ، وَشَفَعَ حُمْرَةُ بْنُ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيُّ فِي سَعْدِ بْنِ نَمِرَانَ فَوَهَبَهُ لَهُ، (وَشَفَعَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ فِي ابْنِ حَوِيَّةَ فَتَرَكَهُ لَهُ) ، وَقَامَ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ السَّكُونِيُّ فَقَالَ: دَعْ لِيَ ابْنَ عَمِّي حُجْرًا. فَقَالَ لَهُ: هُوَ رَأْسُ الْقَوْمِ وَأَخَافُ إِنْ خَلَّيْتُ سَبِيلَهُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيَّ مِصْرَهُ فَنَحْتَاجُ أَنْ نُشْخِصَكَ إِلَيْهِ بِالْعِرَاقِ: فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنْصَفْتَنِي يَا مُعَاوِيَةُ! قَاتَلْتُ مَعَكَ ابْنَ عَمِّكَ يَوْمَ صِفِّينَ حَتَّى ظَفِرْتَ، وَعَلَا كَعْبُكَ وَلَمْ تَخَفِ الدَّوَائِرَ، ثُمَّ سَأَلْتُكَ ابْنَ عَمِّي فَمَنَعْتَنِي! ثُمَّ انْصَرَفَ فَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ. فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ هُدْبَةَ بْنَ فَيَّاضٍ الْقُضَاعِيَّ، وَالْحُصَيْنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْكِلَابِيَّ، وَأَبَا شَرِيفٍ الْبَدِّيَّ إِلَى حُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ لِيَقْتُلُوا مَنْ أُمِرُوا بِقَتْلِهِ مِنْهُمْ، فَأَتَوْهُمُ عِنْدَ الْمَسَاءِ: فَلَمَّا رَأَى الْخَثْعَمِيُّ أَحَدَهُمْ أَعْوَرَ قَالَ: يَقْتُلُ نِصْفَنَا وَيَتْرُكُ نِصْفَنَا، فَتَرَكُوا سِتَّةً وَقَتَلُوا ثَمَانِيَةً، وَقَالُوا لَهُمْ قَبْلَ الْقَتْلِ: إِنَّا قَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَعْرِضَ عَلَيْكُمُ الْبَرَاءَةَ مِنْ عَلِيٍّ وَاللَّعْنَ لَهُ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ تَرَكْنَاكُمْ وَإِنْ أَبَيْتُمْ قَتَلْنَاكُمْ: فَقَالُوا: لَسْنَا فَاعِلِي ذَلِكَ. فَأَمَرَ فَحُفِرَتِ الْقُبُورُ وَأُحْضِرَتِ الْأَكْفَانُ وَقَامَ حُجْرٌ وَأَصْحَابُهُ يُصَلُّونَ عَامَّةَ اللَّيْلِ: فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَدَّمُوهُمْ لِيَقْتُلُوهُمْ فَقَالَ لَهُمْ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ: اتْرُكُونِي أَتَوَضَّأُ وَأُصَلِّي فَإِنِّي مَا تَوَضَّأْتُ إِلَّا صَلَّيْتُ، فَتَرَكُوهُ، فَصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْهَا وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُ صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا، وَلَوْلَا أَنْ تَظُنُّوا فِيَّ جَزَعًا مِنَ الْمَوْتِ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْهَا: ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعْدِيكَ عَلَى أُمَّتِنَا! فَإِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ شَهِدُوا عَلَيْنَا، وَإِنَّ أَهْلَ الشَّامِ يَقْتُلُونَنَا، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُونِي بِهَا فَإِنِّي لَأَوَّلُ فَارِسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَلَكَ فِي وَادِيهَا، وَأَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَبَحَتْهُ كِلَابُهَا! ثُمَّ مَشَى إِلَيْهِ هُدْبَةُ بْنُ فَيَّاضٍ بِالسَّيْفِ فَارْتَعَدَ، فَقَالُوا لَهُ: زَعَمْتَ أَنَّكَ لَا تَجْزَعُ مِنَ الْمَوْتِ، فَابْرَأْ مِنْ صَاحِبِكَ وَنَدَعُكَ: فَقَالَ: وَمَا لِي لَا أَجْزَعُ وَأَرَى قَبْرًا مَحْفُورًا، وَكَفَنًا مَنْشُورًا، وَسَيْفًا مَشْهُورًا! وَإِنِّي وَاللَّهِ إِنْ جَزِعْتُ مِنَ الْقَتْلِ لَا أَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ. فَقَتَلُوهُ وَقَتَلُوا سِتَّةً. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ الْعَنْزِيَّ وَكَرِيمٌ الْخَثْعَمِيُّ: ابْعَثُوا بِنَا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَنَحْنُ نَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مِثْلَ مَقَالَتِهِ: فَاسْتَأْذَنُوا مُعَاوِيَةَ فِيهِمَا، فَأَذِنَ

بِإِحْضَارِهِمَا: فَلَمَّا دَخَلَا عَلَيْهِ قَالَ الْخَثْعَمِيُّ: اللَّهَ اللَّهَ يَا مُعَاوِيَةُ! فَإِنَّكَ مَنْقُولٌ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الزَّائِلَةِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ الدَّائِمَةِ، ثُمَّ مَسْئُولٌ عَمَّا أَرَدْتَ بِسَفْكِ دِمَائِنَا! فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي عَلِيٍّ؟ قَالَ: أَقُولُ فِيهِ قَوْلَكَ: قَالَ: أَتَبَرَّأُ مِنْ دِينِ عَلِيٍّ الَّذِي يَدِينُ اللَّهَ بِهِ؟ فَسَكَتَ، وَقَامَ شَمِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ بَنِي قُحَافَةَ (بْنِ خَثْعَمَ) فَاسْتَوْهَبَهُ، فَوَهَبَهُ لَهُ عَلَى أَنْ لَا يَدْخُلَ الْكُوفَةَ، فَاخْتَارَ الْمَوْصِلَ، فَكَانَ يَقُولُ: لَوْ مَاتَ مُعَاوِيَةُ قَدِمْتُ الْكُوفَةَ، فَمَاتَ قَبْلَ مُعَاوِيَةَ بِشَهْرٍ: ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ: يَا أَخَا رَبِيعَةَ مَا تَقُولُ فِي عَلِيٍّ؟ قَالَ دَعْنِي وَلَا تَسْأَلْنِي فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ: قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَدَعُكَ: قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا، مِنَ الْآمِرِينَ بِالْحَقِّ وَالْقَائِمَيْنِ بِالْقِسْطِ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ: قَالَ: فَمَا قَوْلُكَ فِي عُثْمَانَ؟ قَالَ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ فَتَحَ أَبْوَابَ الظُّلْمِ، وَأَغْلَقَ أَبْوَابَ الْحَقِّ: قَالَ: قَتَلْتَ نَفْسَكَ! قَالَ: بَلْ إِيَّاكَ قَتَلْتُ، وَلَا رَبِيعَةَ بِالْوَادِي، يَعْنِي لِيَشْفَعُوا فِيهِ، فَرَدَّهُ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ وَأَمْرَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ، فَدَفَنَهُ حَيًّا. فَكَانَ الَّذِينَ قُتِلُوا: حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، وَشَرِيكُ بْنُ شَدَّادٍ الْحَضْرَمِيُّ، وَصَيْفِيُّ بْنُ فَسِيلٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ضُبَيْعَةَ الْعَبْسِيُّ، وَمُحْرِزُ بْنُ شِهَابٍ السَّعْدِيُّ التَّمِيمِيُّ، وَكِدَامُ بْنُ حَيَّانَ الْعَنْزِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ الْعَنْزِيُّ الَّذِي دَفَنَهُ زِيَادٌ حَيًّا، فَهَؤُلَاءِ السَّبْعَةُ قُتِلُوا وَدُفِنُوا وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: وَلَمَّا بَلَغَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ قَتْلُ حُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ قَالَ: صَلَّوْا عَلَيْهِمْ وَكَفَّنُوهُمْ وَدَفَنُوهُمْ وَاسْتَقْبَلُوا بِهِمُ الْقِبْلَةَ؟ قَالُوا نَعَمْ. قَالَ حَجَّوْهُمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ السَّكُونِيُّ فَحِينَ لَمْ يُشَفِّعْهُ مُعَاوِيَةُ فِي حُجْرٍ جَمَعَ قَوْمَهُ وَسَارَ بِهِمْ إِلَى عَذْرَاءَ لِيُخَلِّصَ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ، فَلَقِيَتْهُ قَتَلَتُهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَلِمُوا أَنَّهُ جَاءَ لِيُخَلِّصَ حُجْرًا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا وَرَاءَكُمْ؟ قَالُوا: قَدْ تَابَ الْقَوْمُ وَجِئْنَا لِنُخْبِرَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: فَسَكَتَ وَسَارَ إِلَى عَذْرَاءَ، فَلَقِيَهُ بَعْضُ مَنْ جَاءَ مِنْهَا فَأَخْبَرَهُ بِقَتْلِ الْقَوْمِ، فَأَرْسَلَ الْخَيْلَ فِي إِثْرِ قَتَلَتِهِمْ فَلَمْ يُدْرِكُوهُمْ، وَدَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا هِيَ حَرَارَةٌ يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ وَكَأَنَّهَا طُفِئَتْ، وَعَادَ مَالِكٌ إِلَى بَيْتِهِ وَلَمْ يَأْتِ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أُشَفِّعَكَ إِلَّا خَوْفًا أَنْ يُعِيدُوا لَنَا حَرْبًا، فَيَكُونَ

فِي ذَلِكَ مِنَ الْبَلَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِ حُجْرٍ. فَأَخَذَهَا وَطَابَتْ نَفْسُهُ. وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ حُجْرٍ عَائِشَةَ أَرْسَلَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ وَقَدْ قَتَلَهُمْ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَيْنَ غَابَ عَنْكَ حُلْمُ أَبِي سُفْيَانَ؟ قَالَ: حِينَ غَابَ عَنِّي مِثْلُكَ مِنْ حُلَمَاءِ قَوْمِي وَحَمَلَنِي ابْنُ سُمَيَّةَ فَاحْتَمَلْتُ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْلَا أَنَّا لَمْ نُغَيِّرْ شَيْئًا إِلَّا صَارَتْ بِنَا الْأُمُورُ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ لَغَيَّرَنَا قَتْلُ حُجْرٍ، أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كَانَ مَا عَلِمْتُ لَمُسْلِمًا حَجَّاجًا مُعْتَمِرًا. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَرْبَعُ خِصَالٍ كُنَّ فِي مُعَاوِيَةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ إِلَّا وَاحِدَةٌ لَكَانَتْ مُوبِقَةً: انْتِزَاؤُهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى أَخَذَ الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ، وَفِيهِمْ بَقَايَا الصَّحَابَةِ وَذَوُو الْفَضِيلَةِ، وَاسْتِخْلَافُهُ بَعْدَهُ ابْنَهُ سِكِّيرًا خِمِّيرًا، يَلْبَسُ الْحَرِيرَ وَيَضْرِبُ بِالطَّنَابِيرِ، وَادِّعَاؤُهُ زِيَادًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ، وَقَتْلُهُ حُجْرًا وَأَصْحَابَ حُجْرٍ، فَيَا وَيْلًا لَهُ مِنْ حُجْرٍ! وَيَا وَيْلًا لَهُ مِنْ حُجْرٍ وَأَصْحَابِ حُجْرٍ! قِيلَ: وَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: أَوَّلُ ذُلٍّ دَخَلَ الْكُوفَةَ مَوْتُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَقَتْلُ حُجْرٍ، وَدَعْوَةُ زِيَادٍ، وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّةُ تَرْثِي حُجْرًا، وَكَانَتْ تَتَشَيَّعُ: تَرَفَّعْ أَيُّهَا الْقَمَرُ الْمُنِيرُ ... تَبَصَّرْ هَلْ تَرَى حُجْرًا يَسِيرُ يَسِيرُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ حَرْبٍ ... لِيَقْتُلَهُ كَمَا زَعَمَ الْأَمِيرُ تَجَبَّرَتِ الْجَبَابِرُ بَعْدَ حُجْرٍ ... وَطَابَ لَهَا الْخَوَرْنَقُ وَالسَّدِيرُ وَأَصْبَحَتِ الْبِلَادُ لَهُ مُحُولًا ... كَأَنَّ لَمْ يُحْيِهَا مُزْنٌ مَطِيرُ أَلَا يَا حُجْرُ حُجْرَ بَنِي عَدِيٍّ ... تَلَقَّتْكَ السَّلَامَةُ وَالسُّرُورُ أَخَافُ عَلَيْكَ مَا أَرْدَى عَدِيًّا ... وَشَيْخًا فِي دِمَشْقَ لَهُ زَئِيرُ فَإِنْ تَهْلِكْ فَكُلُّ زَعِيمِ قَوْمٍ ... مِنَ الدُّنْيَا إِلَى هُلْكٍ يَصِيرُ

وَقَدْ قِيلَ فِي قَتْلِهِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ: وَهُوَ أَنَّ زِيَادًا خَطَبَ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَأَطَالَ الْخُطْبَةَ وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ لَهُ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ: الصَّلَاةُ. فَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ. فَقَالَ لَهُ: الصَّلَاةُ: فَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ. فَلَمَّا خَشِيَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ فَوْتَ الصَّلَاةِ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى كَفٍّ مِنْ حَصَى وَقَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ: فَلَمَّا رَأَى زِيَادٌ ذَلِكَ نَزَلَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَكَثَّرَ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ لِيَشُدَّهُ فِي الْحَدِيدِ وَيُرْسِلَهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا أَرَادَ أَخْذَهُ قَامَ قَوْمُهُ لِيَمْنَعُوهُ، فَقَالَ حُجْرٌ: لَا وَلَكِنْ سَمْعًا وَطَاعَةً: فَشُدَّ فِي الْحَدِيدِ وَحُمِلَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا؟ وَاللَّهِ لَا أُقِيلُكَ وَلَا أَسَتَقِيلُكَ! أَخْرِجُوهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ! فَقَالَ حُجْرٌ لِلَّذِينِ يَلُونَ أَمْرَهُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ: فَقَالُوا: صَلِّ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفَّفَ فِيهِمَا، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تَظُنُّوا بِي غَيْرَ الَّذِي أَرَدْتُ لَأَطَلْتُهَا، وَقَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ: لَا تُطْلِقُوا عَنِّي حَدِيدًا وَلَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا، فَإِنِّي لَاقٍ مُعَاوِيَةَ غَدًا عَلَى الْجَادَّةِ، وَضُرِبَتْ عُنُقُهُ: قَالَ: فَلَقِيَتْ عَائِشَةُ مُعَاوِيَةَ فَقَالَتْ لَهُ: أَيْنَ كَانَ حِلْمُكَ عَنْ حُجْرٍ؟ فَقَالَ: لَمْ يَحْضُرْنِي رَشِيدٌ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: بَلَغَنَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَعَلَ يَقُولُ: يَوْمِي مِنْكَ يَا حُجْرُ طَوِيلٌ! (عُبَادٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِهَا) . ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ الرَّبِيعِ عَلَى خُرَاسَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ زِيَادٌ الرَّبِيعَ بْنَ زِيَادٍ الْحَارِثِيَّ أَمِيرًا عَلَى خُرَاسَانَ، وَكَانَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ قَدِ اسْتَخْلَفَ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَسَ بْنَ أَبِي أُنَاسٍ، فَعَزَلَهُ زِيَادٌ وَوَلَّى خُلَيْدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيَّ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى الرَّبِيعَ بْنَ زِيَادٍ أَوَّلَ سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَسَيَّرَ مَعَهُ خَمْسِينَ أَلْفًا بِعِيَالَاتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، مِنْهُمْ: بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ، وَأَبُو بَرْزَةَ، وَلَهُمَا صُحْبَةٌ، فَسَكَنُوا خُرَاسَانَ، فَلَمَّا قَدِمَهَا غَزَا بَلْخَ فَفَتَحَهَا صُلْحًا، وَكَانَتْ قَدْ أُغْلِقَتْ بَعْدَمَا صَالَحَهُمُ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. وَفَتَحَ قُهِسْتَانَ عَنْوَةً وَقَتَلَ مَنْ بِنَاحِيَتِهَا مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَبَقِيَ مِنْهُمْ نَيْزَكُ طَرْخَانَ، فَقَتَلَهُ قُتَيْبَةَ بْنُ مُسْلِمٍ فِي وِلَايَتِهِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهَا مَاتَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَدُفِنَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ: وَأَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ، لَهُ صُحْبَةٌ، وَهُوَ أَخُو زِيَادٍ لِأُمِّهِ. وَفِيهَا مَاتَتْ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَرِفَ، وَفِيهَا دَخَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: مَاتَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: سِتٍّ وَسِتِّينَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: وَكَانَ الْعُمَّالُ بِهَذِهِ السَّنَةِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. (بُرَيْدَةُ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ. وَالْحُصَيْبُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَآخِرُهُ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ) .

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ] 52 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ فِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ سُفْيَانَ بْنِ عَوْفٍ الْأَسَدِيِّ الرُّومَ وَشَتَّى بِأَرْضِهِمْ، وَتُوُفِّيَ بِهَا فِي قَوْلٍ، فَاسْتُخْلِفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيُّ، وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي شَتَّى هَذِهِ السَّنَةَ بِأَرْضِ الرُّومِ بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ وَمَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ عَوْفٍ، وَغَزَا الصَّائِفَةَ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ. ذِكْرُ خُرُوجِ زِيَادِ بْنِ خِرَاشٍ الْعِجْلِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ زِيَادُ بْنُ خِرَاشٍ الْعِجْلِيُّ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ فَأَتَى أَرْضَ مَسْكِنَ مِنَ السَّوَادِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ زِيَادٌ خَيْلًا عَلَيْهَا سَعْدُ بْنُ حُذَيْفَةَ أَوْ غَيْرُهُ، فَقَتَلُوهُمْ وَقَدْ صَارُوا إِلَى مَاهٍ. ذِكْرُ خُرُوجِ مُعَاذٍ الطَّائِيِّ وَخَرَجَ عَلَى زِيَادٍ أَيْضًا رَجُلٌ مِنْ طَيِّئٍ يُقَالُ لَهُ مُعَاذٌ، فَأَتَى نَهْرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُمِّ الْحَكَمِ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا هَذِهِ السَّنَةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ زِيَادٌ مَنْ قَتَلَهُ وَأَصْحَابَهُ، (وَقِيلَ: بَلْ حَلَّ لِوَاءَهُ وَاسْتَأْمَنَ) . وَيُقَالُ لَهُمْ أَصْحَابُ نَهْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ الْخُزَاعِيُّ بِالْبَصْرَةِ: وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَاسْمُهُ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا، (وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ عِنْدَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ) : وَكَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، وَلَهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ] 53 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ فِيهَا كَانَ مَشْتَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُمِّ الْحَكَمِ الثَّقَفِيِّ بِأَرْضِ الرُّومِ. وَفِيهَا فُتِحَتْ رُودِسُ، جَزِيرَةٌ فِي الْبَحْرِ، فَتَحَهَا جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ الْأَزْدِيُّ وَنَزَلَهَا الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ عَلَى حَذَرٍ مِنَ الرُّومِ، وَكَانُوا أَشَدَّ شَيْءٍ عَلَى الرُّومِ، يَعْتَرِضُونَهُمْ فِي الْبَحْرِ فَيَأْخُذُونَ سُفُنَهُمْ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُدِرُّ لَهُمُ الْعَطَاءَ، وَكَانَ الْعَدُوُّ قَدْ خَافَهُمْ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ أَقْفَلَهُمُ ابْنُهُ يَزِيدُ. وَقِيلَ: فُتِحَتْ سَنَةَ سِتِّينَ. ذِكْرُ وَفَاةِ زِيَادٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ (بِالْكُوفَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ) . وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: إِنِّي قَدْ ضَبَطْتُ الْعِرَاقَ بِشِمَالِي وَيَمِينِي فَارِغَةٌ فَاشْغَلْهَا بِالْحِجَازِ. فَكَتَبَ لَهُ عَهْدَهُ عَلَى الْحِجَازِ، فَبَلَغَ أَهْلَ الْحِجَازِ فَأَتَى نَفَرٌ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ: أَدْعُو اللَّهَ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقَبَلَ

الْقِبْلَةَ وَدَعَا وَدَعَوْا مَعَهُ، (وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ أَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنَا شَرَّ زِيَادٍ) . فَخَرَجَتْ طَاعُونَةٌ عَلَى أُصْبُعِ يَمِينِهِ فَمَاتَ مِنْهَا. فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا شُرَيْحًا الْقَاضِيَ فَقَالَ لَهُ: قَدْ حَدَثَ مَا تَرَى وَقَدْ أُمِرْتُ بِقَطْعِهَا فَأَشِرْ عَلَيَّ: فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ قَدْ دَنَا فَتَلْقَى اللَّهَ أَجْذَمَ وَقَدْ قَطَعْتَ يَدَكَ كَرَاهِيَةَ لِقَائِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَجَلِ تَأْخِيرٌ فَتَعِيشُ أَجْذَمَ وَتُعَيَّرُ وَلَدُكَ: فَقَالَ: لَا أَبِيتُ وَالطَّاعُونَ فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، فَخَرَجَ شُرَيْحٌ مِنْ عِنْدِهِ، فَسَأَلَهُ النَّاسُ، فَأَخْبَرَهُمْ، فَلَامُوهُ وَقَالُوا: هَلَّا أَشَرْتَ بِقَطْعِهَا؟ فَقَالَ: الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ. وَأَرَادَ زِيَادٌ قَطْعَهَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى النَّارِ وَالْمَكَاوِي جَزِعَ وَتَرَكَهُ، وَقِيلَ: بَلْ تَرَكَهُ لَمَّا أَشَارَ عَلَيْهِ شُرَيْحٌ بِتَرْكِهِ، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لَهُ ابْنُهُ: قَدْ هَيَّأْتُ لَكَ سِتِّينَ ثَوْبًا أُكَفِّنُكَ بِهَا. فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ قَدْ دَنَا مِنْ أَبِيكَ لِبَاسٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْ لِبَاسِهِ هَذَا أَوْ سَلْبٌ سَرِيعٌ! فَمَاتَ فَدُفِنَ بِالثُّوَيَّةِ إِلَى جَانِبِ الْكُوفَةِ. فَلَمَّا بَلَغَ مَوْتُهُ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: اذْهَبِ ابْنَ سُمَيَّةَ، لَا الْآخِرَةَ أَدْرَكْتَ وَلَا الدُّنْيَا بَقَيْتَ عَلَيْكَ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى مِنَ الْهِجْرَةِ، قَالَ مِسْكِينٌ الدَّارِمِيُّ يَرْثِيهِ: رَأَيْتُ زِيَادَةَ الْإِسْلَامِ وَلَّتْ ... جِهَارًا حِينَ وَدَّعَنَا زِيَادُ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ يُجِيبُهُ، وَلَمْ يَكُنْ هَجَا زِيَادًا حَتَّى مَاتَ: أَمَسْكَيْنُ أَبْكَى اللَّهُ عَيْنَيْكَ إِنَّمَا ... جَرَى فِي ضَلَالٍ دَمْعُهَا فَتَحَدَّرَا بَكَيْتَ امْرَأً مِنْ أَهْلِ مَيْسَانَ كَافِرًا ... كَكِسْرَى عَلَى عِدَّانِهِ أَوْ كَقَيْصَرَا أَقُولُ لَهُ لَمَّا أَتَانِي نَعِيُّهُ ... بِهِ لَا بِظَبْيٍ بِالصَّرِيمَةِ أَعْفَرَا وَكَانَ زِيَادٌ فِيهِ حُمْرَةٌ، وَفِي عَيْنِهِ الْيُمْنَى انْكِسَارٌ، أَبْيَضَ اللِّحْيَةِ مَخْرُوطَهَا، عَلَيْهِ قَمِيصٌ رُبَّمَا رَقَّعَهُ.

ذِكْرُ وَفَاةِ الرَّبِيعِ وَفِيهَا مَاتَ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْحَارِثِيُّ عَامِلُ خُرَاسَانَ مِنْ قِبَلِ زِيَادٍ. وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ سَخِطَ قَتْلَ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ حَتَّى إِنَّهُ قَالَ: لَا تَزَالُ الْعَرَبُ تُقْتَلُ صَبْرًا بَعْدَهُ، وَلَوْ نَفَرَتْ عِنْدَ قَتْلِهِ لَمْ يُقْتَلْ رَجُلٌ مِنْهُمْ صَبْرًا، وَلَكِنَّهَا أَقَرَّتْ فَذَلَّتْ: ثُمَّ مَكَثَ بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ جُمُعَةً، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُ الْحَيَاةَ وَإِنِّي دَاعٍ بِدَعْوَةٍ فَأَمِّنُوا! ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ لِي عِنْدَكَ خَيْرٌ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ عَاجِلًا! وَأَمَّنَ النَّاسُ، ثُمَّ خَرَجَ فَمَا تَوَارَتْ ثِيَابُهُ حَتَّى سَقَطَ فَحُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ، وَاسْتُخْلِفَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، ثُمَّ مَاتَ ابْنُهُ بَعْدَهُ بِشَهْرَيْنِ وَاسْتُخْلِفَ خُلَيْدُ بْنُ يَرْبُوعٍ الْحَنَفِيُّ، فَأَقَرَّهُ زِيَادٌ. وَلَمَّا مَاتَ زِيَادٌ كَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ، وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، فَأَقَرَّ سَمُرَةَ عَلَى الْبَصْرَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَقِيلَ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ سَمُرَةُ: لَعَنَ اللَّهُ مُعَاوِيَةَ! وَاللَّهِ لَوْ أَطَعْتُ اللَّهَ كَمَا أَطَعْتُهُ مَا عَذَّبَنِي أَبَدًا. وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى سَمُرَةَ فَأَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى، فَأَمَرَ سَمُرَةُ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ، فَمَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14] ، قَالَ: وَمَا مَاتَ سَمُرَةُ حَتَّى أَخَذَهُ الزَّمْهَرِيرُ فَمَاتَ شَرَّ مِيتَةٍ. (الثُّوَيَّةُ بِضَمِّ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، وَفَتْحِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ: مَوْضِعٌ فِيهِ مَقْبَرَةٌ) . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ حَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَكَانَ عَامِلَ الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَعَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ سَمُرَةُ وَعَلَى خُرَاسَانَ

خُلَيْدُ بْنُ يَرْبُوعٍ الْحَنَفِيُّ. (أَسِيدٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا) . [الْوَفَيَاتُ] : وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فِي نَوْمَةٍ نَامَهَا، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ فَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى صَنْعَاءَ. وَفِيهَا مَاتَ عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَفِيهَا مَاتَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ قَاضِيهَا لِمُعَاوِيَةَ، (وَقِيلَ: مَاتَ آخَرَ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ) ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا.

ثم دخلت سنة أربع وخمسين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ] 54 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ ذِكْرُ غَزْوَةِ الرُّومِ وَفَتْحِ جَزِيرَةِ أَرْوَادَ فِيهَا كَانَ مَشْتَى مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَصَائِفَةُ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ السُّلَمِيِّ. وَفِيهَا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ وَمُقَدِّمُهُمْ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ جَزِيرَةَ أَرْوَادَ، قَرِيبُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَأَقَامُوا بِهَا سَبْعَ سِنِينَ، وَكَانَ مَعَهُمْ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ، فَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ وَوَلِيَ ابْنُهُ يَزِيدُ أَمَرَهُمْ بِالْعَوْدِ فَعَادُوا. ذِكْرُ عَزْلِ سَعِيدٍ عَنِ الْمَدِينَةِ وَاسْتِعْمَالِ مَرْوَانَ وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَاسْتَعْمَلَ مَرْوَانَ.

وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنْ يَهْدِمَ دَارَ مَرْوَانَ وَيَقْبِضَ أَمْوَالَهُ كُلَّهَا لِيَجْعَلَهَا صَافِيَةً وَيَقْبِضَ مِنْهُ فَدَكَ، وَكَانَ وَهَبَهَا لَهُ، فَرَاجَعَهُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ فِي ذَلِكَ، فَأَعَادَ مُعَاوِيَةُ الْكِتَابَ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَفْعَلْ سَعِيدٌ وَوَضَعَ الْكِتَابَيْنِ عِنْدَهُ، فَعَزَلَهُ مُعَاوِيَةُ، وَوَلَّى مَرْوَانَ وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِقَبْضِ أَمْوَالِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَهَدْمِ دَارِهِ، فَأَخَذَ الْفَعَلَةَ وَسَارَ إِلَى دَارِ سَعِيدٍ لِيَهْدِمَهَا، فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ أَتَهْدِمُ دَارِي؟ قَالَ: نَعَمْ، كَتَبَ إِلَيَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْكَ فِي هَدْمِ دَارِي لَفَعَلْتَ: فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ: قَالَ: بَلَى وَاللَّهِ: قَالَ: كَلَّا: وَقَالَ لِغُلَامِهِ: ائْتِنِي بِكِتَابِ مُعَاوِيَةَ، فَجَاءَهُ بِالْكِتَابَيْنِ، فَلَمَّا رَآهُمَا مَرْوَانُ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْكَ فَلَمْ تَفْعَلْ وَلَمْ تُعْلِمْنِي؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: مَا كُنْتُ لِأَمُنَّ عَلَيْكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مُعَاوِيَةُ أَنْ يُحَرِّضَ بَيْنَنَا: فَقَالَ مَرْوَانُ: أَنْتَ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنِّي. وَعَادَ وَلَمْ يَهْدِمْ دَارَ سَعِيدٍ، وَكَتَبَ سَعِيدٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ: الْعَجَبُ مِمَّا صَنَعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِنَا فِي قَرَابَتِنَا! إِنَّهُ يُضْغِنُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ، فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي حِلْمِهِ وَصَبْرِهِ عَلَى مَا يَكْرَهُ مِنَ الْأَخْبَثِينَ، وَعَفْوِهِ وَإِدْخَالِهِ الْقَطِيعَةَ بَيْنَنَا وَالشَّحْنَاءَ، وَتَوَارُثَ الْأَوْلَادِ ذَلِكَ، فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ نَكُنْ أَوْلَادَ أَبٍ وَاحِدٍ لَمَا جَمَعَنَا اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ نُصْرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْخَلِيفَةِ الْمَظْلُومِ، وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِنَا، لَكَانَ حَقًّا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَرْعَى ذَلِكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَعْتَذِرُ مِنْ ذَلِكَ وَيَتَنَصَّلُ وَأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى أَحْسَنِ مَا يَعْهَدُهُ. وَقَدِمَ سَعِيدٌ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَسَأَلَهُ عَنْ مَرْوَانَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا بَاعَدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَكَ؟ قَالَ: خَافَنِي عَلَى شَرَفِهِ وَخِفْتُهُ عَلَى شَرَفِي: قَالَ: فَمَاذَا لَهُ عِنْدَكَ؟ قَالَ: أُسِرُّهُ شَاهِدًا وَغَائِبًا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ مُعَاوِيَةُ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْبَصْرَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ. وَكَانَ سَبَبُ وِلَايَتِهِ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَنِ اسْتَعْمَلَ أَبُوكَ عَلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ؟ فَأَخْبَرُهُ، فَقَالَ: لَوِ اسْتَعْمَلَكَ أَبُوكَ لَاسْتَعْمَلْتُكَ. فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ:

أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ يَقُولَهَا لِي أَحَدٌ بَعْدَكَ: لَوِ اسْتَعْمَلَكَ أَبُوكَ وَعَمُّكَ لَاسْتَعْمَلْتُكَ. فَوَلَّاهُ خُرَاسَانَ وَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُؤْثِرَنَّ عَلَى تَقْوَاهُ شَيْئًا، فَإِنَّ فِي تَقْوَاهُ عِوَضًا، وَوَفِّرْ عِرْضَكَ مِنْ أَنْ تُدَنِّسَهُ، وَإِذَا أَعْطَيْتَ عَهْدًا فَفِ بِهِ، وَلَا تَبِيعَنَّ كَثِيرًا بِقَلِيلٍ، وَلَا يَخْرُجَنَّ مِنْكَ أَمْرٌ حَتَّى تُبْرِمَهُ، فَإِذَا خَرَجَ فَلَا يُرَدَّنَّ عَلَيْكَ، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ فَغَلَبُوكَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ فَلَا يَغْلِبُوكَ عَلَى بَطْنِهَا، وَلَا تُطْعِمَنَّ أَحَدًا فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَلَا تُؤْيِسَنَّ أَحَدًا مِنْ حَقٍّ هُوَ لَهُ. ثُمَّ وَدَّعَهُ: وَكَانَ عُمُرُ عُبَيْدِ اللَّهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَسَارَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَقَطَعَ النَّهْرَ إِلَى جِبَالِ بُخَارَى (عَلَى الْإِبِلِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَطَعَ جِبَالَ بُخَارَى فِي جَيْشٍ، فَفَتَحَ رَامِيثَنَ وَنَصَفَ وَبِيكَنْدَ، وَهِيَ مِنْ بُخَارَى، فَمَنْ ثَمَّ أَصَابَ الْبُخَارِيَّةَ وَغَنِمَ مِنْهُمْ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَلَمَّا لَقِيَ التُّرْكَ وَهَزَمَهُمْ كَانَ مَعَ مَلِكِهِمْ زَوْجَتُهُ فَعَجَّلُوهَا عَنْ لُبْسِ خُفَّيْهَا فَلَبِسَتْ أَحَدَهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ، فَأَخْذَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَقُوِّمَ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ قِتَالُهُ التُّرْكَ مِنْ زُحُوفِ خُرَاسَانَ الَّتِي تُذْكَرُ، فَظَهَرَ مِنْهُ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وَأَقَامَ بِخُرَاسَانَ سَنَتَيْنِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدٍ، وَقِيلَ: الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ وَعُمُرُهُ سَبْعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عَلِيٌّ وَكَبَّرَ عَلَيْهِ سَبْعًا، وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ حُرُوبَهُ كُلَّهَا، وَهُوَ بَدْرِيٌّ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً: وَفِيهَا تُوُفِّيَ ثَوْبَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ أُسَامَةُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَعِيدُ بْنُ يَرْبُوعِ بْنِ عَنْكَثَةَ، وَكَانَ عُمُرُهُ مِائَةً وَأَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَلَهُ صُحْبَةٌ: وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَهُوَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، وَعُمُرُهُ مِائَةُ سَنَةٍ وَخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيُّ: وَفِيهَا قُتِلَ يَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ الرُّهَاوِيُّ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ.

ثم دخلت سنة خمس وخمسين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ] 55 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ مَشْتَى سُفْيَانَ بْنِ عَوْفٍ الْأَزْدِيِّ فِي قَوْلٍ، وَقِيلَ: بَلِ الَّذِي شَتَّى هَذِهِ السَّنَةَ عَمْرُو بْنُ مُحْرِزٍ، وَقِيلَ: بَلْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الْفَزَارِيُّ، وَقِيلَ: بَلْ مَالِكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. ذِكْرُ وِلَايَةِ ابْنِ زِيَادٍ الْبَصْرَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ عَنِ الْبَصْرَةِ وَوَلَّاهَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ فَحَصَبَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضَبَّةَ فَقَطَعَ يَدَهُ، فَأَتَاهُ بَنُو ضَبَّةَ وَقَالُوا: إِنَّ صَاحِبَنَا جَنَى مَا جَنَى وَقَدْ عَاقَبْتَهُ وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَبْلُغَ خَبَرُنَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَيُعَاقِبَ عُقُوبَةً تَعُمُّ، فَاكْتُبْ لَنَا كِتَابًا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَخْرُجُ بِهِ أَحَدُنَا إِلَيْهِ يُخْبِرُهُ أَنَّكَ قَطَعْتَ عَلَى شُبْهَةٍ وَأَمْرٍ لَمْ يَتَّضِحْ: فَكَتَبَ لَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ رَأْسُ السَّنَةِ تَوَجَّهَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَوَافَاهُ الضَّبِّيُّونَ بِالْكِتَابِ وَادَّعَوْا أَنَّهُ قَطَعَ صَاحِبَهُمَ ظُلْمًا: فَلَمَّا رَأَى مُعَاوِيَةُ الْكِتَابَ قِيلَ: أَمَّا الْقَوَدُ مِنْ عُمَّالِي فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ وَلَكِنْ أَدِي:

صَاحِبَكُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَعَزَلَ عَبْدَ اللَّهِ عَنِ الْبَصْرَةِ وَاسْتَعْمَلَ ابْنَ زِيَادٍ عَلَيْهَا، فَوَلَّى ابْنُ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ أَسْلَمَ بْنَ زُرْعَةَ الْكِلَابِيَّ، فَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يَفْتَحْ بِهَا شَيْئًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدٍ عَنِ الْكُوفَةِ وَوَلَّاهَا الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ وَقِيلَ مَا تَقَدَّمَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ الْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيُّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْتَفِي فِي دَارِهِ بِمَكَّةَ، وَكَانَ عُمُرُهُ ثَمَانِينَ سَنَةً وَزِيَادَةً، وَقِيلَ: مَاتَ يَوْمَ مَاتَ أَبُو بَكْرَةَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْيُسْرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ، وَشَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ، (وَقِيلَ: تُوُفِّيَ قَبْلُ) . وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ.

ثم دخلت سنة ست وخمسين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ] 56 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ فِيهَا كَانَ مَشْتَى جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَقِيلَ: غَزَا فِيهَا فِي الْبَحْرِ يَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ، وَفِي الْبَرِّ عِيَاضُ بْنُ الْحَارِثِ: وَاعْتَمَرَ مُعَاوِيَةُ فِيهَا فِي رَجَبٍ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. ذِكْرُ الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَايَعَ النَّاسُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ بِوِلَايَةِ عَهْدِ أَبِيهِ. وَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ وَأَوَّلُهُ مِنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ أَرَادَ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنِ الْكُوفَةِ وَيَسْتَعْمِلَ عِوَضَهُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: الرَّأْيُ أَنْ أَشْخَصَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَأَسْتَعْفِيَهُ لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ كَرَاهَتِي لِلْوِلَايَةِ: فَسَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ وَصَلَ إِلَيْهِ: إِنْ لَمْ أُكْسِبْكُمُ الْآنَ وِلَايَةً وَإِمَارَةً لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ أَبَدًا: وَمَضَى حَتَّى دَخَلَ عَلَى يَزِيدَ وَقَالَ

لَهُ: إِنَّهُ قَدْ ذَهَبَ أَعْيَانُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآلُهُ وَكُبَرَاءُ قُرَيْشٍ وَذَوُو أَسْنَانِهِمْ، وَإِنَّمَا بَقِيَ أَبْنَاؤُهُمْ وَأَنْتَ مِنْ أَفْضَلِهِمْ وَأَحْسَنِهِمْ رَأْيًا وَأَعْلَمِهِمْ (بِالسُّنَّةِ) وَالسِّيَاسَةِ، وَلَا أَدْرِي مَا يَمْنَعُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْقِدَ لَكَ الْبَيْعَةَ: قَالَ: أَوَتَرَى ذَلِكَ يَتِمُّ؟ قَالَ نَعَمْ. فَدَخَلَ يَزِيدُ عَلَى أَبِيهِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ الْمُغِيرَةُ، فَأَحْضَرَ الْمُغِيرَةَ وَقَالَ لَهُ مَا يَقُولُ يَزِيدُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ رَأَيْتَ مَا كَانَ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَالِاخْتِلَافِ بَعْدَ عُثْمَانَ، وَفِي يَزِيدَ مِنْكَ خَلَفٌ، فَاعْقِدْ لَهُ، فَإِنْ حَدَثَ بِكَ حَادِثٌ كَانَ كَهْفًا لِلنَّاسِ وَخَلَفًا مِنْكَ، وَلَا تُسْفَكُ دِمَاءٌ وَلَا تَكُونُ فِتْنَةٌ: قَالَ: وَمَنْ لِي بِهَذَا؟ قِيلَ: أَكْفِيكَ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَيَكْفِيكَ زِيَادٌ أَهْلَ الْبَصْرَةِ وَلَيْسَ بَعْدَ هَذَيْنِ الْمِصْرَيْنِ أَحَدٌ يُخَالِفُكَ: قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى عَمَلِكَ وَتَحَدَّثْ مَعَ مَنْ تَثِقُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَتَرَى وَنَرَى: فَوَدَّعَهُ وَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ: فَقَالُوا: مَهْ؟ قَالَ: لَقَدْ وَضَعْتَ رِجْلَ مُعَاوِيَةَ فِي غَرْزٍ بَعِيدِ الْغَايَةِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وَفَتَقْتَ عَلَيْهِمْ فَتْقًا لَا يُرْتَقُ أَبَدًا، وَتَمَثَّلَ: بِمِثْلِي شَاهِدِي النَّجْوَى وَغَالِي ... بِيَ الْأَعْدَاءَ وَالْخَصْمَ الْغِضَابَا وَسَارَ الْمُغِيرَةُ حَتَّى قَدِمَ الْكُوفَةَ وَذَاكَرَ مَنْ يَثِقُ إِلَيْهِ وَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ شِيعَةٌ لِبَنِي أُمَيَّةَ أَمْرَ يَزِيدَ، فَأَجَابُوا إِلَى بَيْعَتِهِ، فَأَوْفَدَ مِنْهُمْ عَشَرَةً، وَيُقَالُ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ، وَأَعْطَاهُمْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ ابْنَهُ مُوسَى بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَقَدِمُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ فَزَيَّنُوا لَهُ بَيْعَةَ يَزِيدَ وَدَعَوْهُ إِلَى عَقْدِهَا: فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَا تُعَجِّلُوا بِإِظْهَارِ هَذَا وَكُونُوا عَلَى رَأْيِكُمْ. ثُمَّ قَالَ لِمُوسَى: بِكَمِ اشْتَرَى أَبُوكَ مِنْ هَؤُلَاءِ دِينَهُمْ؟ قَالَ: بِثَلَاثِينَ أَلْفًا: قَالَ: لَقَدْ هَانَ عَلَيْهِمْ دِينُهُمْ. وَقِيلَ: أَرْسَلَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ ابْنَهُ عُرْوَةَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ قَامُوا خُطَبَاءَ فَقَالُوا: إِنَّمَا أَشْخَصَهُمْ إِلَيْهِ النَّظَرَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَبِرَتْ سِنُّكَ وَخِفْنَا انْتِشَارَ الْحَبْلِ، فَانْصِبْ لَنَا عَلَمًا وَحُدَّ لَنَا حَدًّا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: فَقَالَ: أَشِيرُوا عَلِيَّ: فَقَالُوا: نُشِيرُ بِيَزِيدَ ابْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَوَقَدَ رَضِيتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ: قَالَ: وَذَلِكَ رَأْيُكُمْ؟ قَالُوا نَعَمْ، وَرَأْيُ مَنْ وَرَاءَنَا: فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِعُرْوَةَ سِرًّا عَنْهُمْ: بِكَمُ اشْتَرَى أَبُوكَ مِنْ هَؤُلَاءِ دِينَهُمْ؟ قَالَ: بِأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ: قَالَ: لَقَدْ وَجَدَ دِينَهُمْ عِنْدَهُمْ رَخِيصًا: وَقَالَ لَهُمْ: نَنْظُرُ مَا قَدِمْتُمْ لَهُ، وَيَقْضِي اللَّهُ مَا أَرَادَ، وَالْأَنَاةُ خَيْرٌ مِنَ الْعَجَلَةِ. فَرَجَعُوا.

وَقَوِيَ عَزْمُ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ، فَأَرْسَلَ إِلَى زِيَادٍ يَسْتَشِيرُهُ، فَأَحْضَرَ زِيَادٌ عُبَيْدَ بْنَ كَعْبٍ النُّمَيْرِيَّ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ لِكُلِّ مُسْتَشِيرٍ ثِقَةً، وَلِكُلِّ سِرٍّ مُسْتَوْدَعًا، وَإِنَّ النَّاسَ قَدْ أَبْدَعَ بِهِمْ خَصْلَتَانِ: إِذَاعَةُ السِّرِّ وَإِخْرَاجُ النَّصِيحَةِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا، وَلَيْسَ مَوْضِعُ السِّرِّ إِلَّا أَحَدَ رَجُلَيْنِ: رَجُلُ آخِرَةٍ يَرْجُو ثَوَابَهَا، وَرَجُلُ دُنْيَا لَهُ شَرَفٌ فِي نَفْسِهِ وَعَقْلٌ يَصُونُ حَسَبَهُ، وَقَدْ خَبِرْتُهُمَا مِنْكَ، وَقَدْ دَعَوْتُكَ لِأَمْرٍ اتَّهَمْتُ عَلَيْهِ بُطُونَ الصُّحُفِ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَتَبَ يَسْتَشِيرُنِي فِي كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّهُ يَتَخَوَّفُ نَفْرَةَ النَّاسِ وَيَرْجُو طَاعَتَهُمْ، وَعَلَاقَةُ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَضَمَانُهُ عَظِيمٌ، وَيَزِيدُ صَاحِبُ رَسْلَةٍ وَتَهَاوُنٍ مَعَ مَا قَدْ أُولِعَ بِهِ مِنَ الصَّيْدِ، (فَالْقَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَدِّ إِلَيْهِ فَعْلَاتِ يَزِيدَ وَقُلْ لَهُ رُوَيْدَكَ بِالْأَمْرِ، فَأَحْرَى أَنْ يَتِمَّ لَكَ [مَا تُرِيدُ] ، لَا تَعْجَلْ فَإِنَّ دَرَكًا فِي تَأْخِيرٍ خَيْرٌ مِنْ فَوْتٍ فِي عَجَلَةٍ) . فَقَالَ لَهُ عُبَيْدٌ: أَفَلَا غَيْرُ هَذَا؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: لَا تُفْسِدْ عَلَى مُعَاوِيَةَ رَأْيَهُ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَيْهِ ابْنَهُ وَأَلْقَى أَنَا يَزِيدَ فَأُخْبِرُهُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَتَبَ إِلَيْكَ يَسْتَشِيرُكَ فِي الْبَيْعَةِ لَهُ، وَأَنَّكَ تَتَخَوَّفُ خِلَافَ النَّاسِ عَلَيْهِ لِهَنَاتٍ يَنْقِمُونَهَا عَلَيْهِ، وَأَنَّكَ تَرَى لَهُ تَرْكَ مَا يُنْقَمُ عَلَيْهِ لِتَسْتَحْكِمَ لَهُ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ وَيَتِمَّ مَا تُرِيدُ، فَتَكُونُ قَدْ نَصَحْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَلِمْتَ مِمَّا تَخَافُ مِنْ أَمْرِ الْأُمَّةِ فَقَالَ زِيَادٌ: لَقَدْ رَمَيْتَ الْأَمْرَ بِحَجَرِهِ، اشْخَصْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، فَإِنْ أَصَبْتَ فَمَا لَا يُنْكَرُ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَغَيْرُ مُسْتَغَشٍّ، وَتَقُولُ بِمَا تَرَى، وَيَقْضِي اللَّهُ بِغَيْبِ مَا يَعْلَمُ. فَقَدِمَ عَلَى يَزِيدَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَكَفَّ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا كَانَ يَصْنَعُ، وَكَتَبَ زِيَادٌ مَعَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُشِيرُ بِالتُّؤَدَةِ وَأَنْ لَا يَعْجَلَ، فَقَبِلَ مِنْهُ. فَلَمَّا مَاتَ زِيَادٌ عَزَمَ مُعَاوِيَةُ عَلَى الْبَيْعَةِ لِابْنِهِ يَزِيدَ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَبِلَهَا، فَلَمَّا ذَكَرَ الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: هَذَا أَرَادَ أَنَّ دِينِي عِنْدِي إِذَنْ لَرَخِيصٌ. وَامْتَنَعَ. ثُمَّ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمَ: إِنِّي قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَدَقَّ عَظْمِي، وَخَشِيتُ الِاخْتِلَافَ عَلَى الْأُمَّةِ بَعْدِي، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَتَخَيَّرَ لَهُمْ مَنْ يَقُومُ بَعْدِي، وَكَرِهْتُ أَنْ أَقْطَعَ أَمْرًا دُونَ مَشُورَةِ مَنْ عِنْدِكَ، فَاعْرِضْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَعْلِمْنِي بِالَّذِي

يَرُدُّونَ عَلَيْكَ: فَقَامَ مَرْوَانُ فِي النَّاسِ فَأَخْبَرَهُمْ بِهِ، فَقَالَ النَّاسُ: أَصَابَ وَوُفِّقَ، وَقَدْ أَحْبَبْنَا أَنْ يَتَخَيَّرَ لَنَا فَلَا يَأْلُو. فَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِذَلِكَ، فَأَعَادَ إِلَيْهِ الْجَوَابَ يَذْكُرُ يَزِيدَ، فَقَامَ مَرْوَانُ فِيهِمْ وَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدِ اخْتَارَ لَكُمْ فَلَمْ يَأْلُ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ ابْنَهُ يَزِيدَ بَعْدَهُ. فَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا مَرْوَانُ وَكَذَبَ مُعَاوِيَةُ! مَا الْخِيَارُ أَرَدْتُمَا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَلَكِنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوهَا هِرَقْلِيَّةً كُلَّمَا مَاتَ هِرَقْلُ قَامَ هِرَقْلُ: فَقَالَ مَرْوَانُ: هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف: 17] الْآيَةَ. فَسَمِعَتْ عَائِشَةُ مَقَالَتَهُ فَقَامَتْ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ وَقَالَتْ: يَا مَرْوَانُ يَا مَرْوَانُ! فَأَنْصَتَ مَرْوَانُ وَأَقْبَلَ مَرْوَانَ بِوَجْهِهِ: فَقَالَتْ: أَنْتَ الْقَائِلُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ؟ كَذَبْتَ! وَاللَّهِ مَا هُوَ بِهِ وَلَكِنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَلَكِنَّكَ أَنْتَ فَضَضٌ مِنْ لَعْنَةِ نَبِيِّ اللَّهِ. وَقَامَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَفَعَلَ مِثْلَهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فَكَتَبَ مَرْوَانُ بِذَلِكَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ بِتَقْرِيظِ يَزِيدَ وَوَصْفِهِ وَأَنْ يُوفِدُوا إِلَيْهِ الْوُفُودَ مِنَ الْأَمْصَارِ، فَكَانَ فِيمَنْ أَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ فِي وَفْدِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو لِمُعَاوِيَةَ: إِنَّ كُلَّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَانْظُرْ مَنْ تُوَلِّي أَمْرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ: فَأَخَذَ مُعَاوِيَةَ بُهْرٌ حَتَّى جَعَلَ يَتَنَفَّسُ فِي يَوْمٍ شَاتٍ ثُمَّ وَصَلَهُ وَصَرَفَهُ، وَأَمَرَ الْأَحْنَفَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى يَزِيدَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَهُ: كَيْفَ رَأَيْتَ ابْنَ أَخِيكَ؟ قِيلَ: رَأَيْتُ شَبَابًا وَنَشَاطًا وَجَلَدًا وَمِزَاحًا. ثُمَّ إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِلضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ الْفِهْرِيِّ، لَمَّا اجْتَمَعَ الْوُفُودُ عِنْدَهُ: إِنِّي مُتَكَلِّمٌ فَإِذَا سَكَتُّ فَكُنْ أَنْتَ الَّذِي تَدْعُو إِلَى بَيْعَةِ يَزِيدَ وَتَحُثُّنِي عَلَيْهَا: فَلَمَّا جَلَسَ مُعَاوِيَةُ لِلنَّاسِ تَكَلَّمْ، فَعَظَّمَ أَمْرَ الْإِسْلَامِ وَحُرْمَةَ الْخِلَافَةِ وَحَقَّهَا وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأَمْرِ:

ثُمَّ ذَكَرَ يَزِيدَ وَفَضْلَهُ وَعِلْمَهُ بِالسِّيَاسَةِ وَعَرَّضَ بِبَيْعَتِهِ، فَعَارَضَهُ الضَّحَّاكُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قِيلَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ وَالٍ بَعْدَكَ، وَقَدْ بَلَوْنَا الْجَمَاعَةَ وَالْأُلْفَةَ، فَوَجَدْنَاهُمَا أَحْقَنَ لِلدِّمَاءِ، وَأَصْلَحَ لِلدَّهْمَاءِ، وَآمَنَ لِلسُّبُلِ، وَخَيْرًا فِي الْعَاقِبَةِ، وَالْأَيَّامُ عِوَجٌ رَوَاجِعٌ، وَاللَّهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي شَأْنٍ، وَيَزِيدُ ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي حُسْنِ هَدْيِهِ وَقَصْدِ سِيرَتِهِ عَلَى مَا عَلِمْتُ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِنَا عِلْمًا وَحِلْمًا، وَأَبْعَدِنَا رَأْيًا، فَوَلِّهِ عَهْدَكَ وَاجْعَلْهُ لَنَا عَلَمًا بَعْدَكَ وَمَفْزَعًا نَلْجَأُ إِلَيْهِ وَنَسْكُنُ فِي ظِلِّهِ. وَتَكَلَّمَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ بِنَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ: ثُمَّ قَامَ يَزِيدُ بْنُ الْمُقَنَّعِ الْعُذْرِيُّ فَقَالَ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَشَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَإِنْ هَلَكَ فَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى يَزِيدَ، وَمَنْ أَبَى فَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى سَيْفِهِ: فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اجْلِسْ فَأَنْتَ سَيِّدُ الْخُطَبَاءِ. وَتَكَلَّمَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْوُفُودِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِلْأَحْنَفِ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا بَحْرٍ؟ فَقَالَ: نَخَافُكُمْ إِنْ صَدَقْنَا، وَنَخَافُ اللَّهَ إِنْ كَذَبْنَا، وَأَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ بِيَزِيدَ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ وَمَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْأُمَّةِ رِضًى فَلَا تُشَاوِرِ [النَّاسَ] فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ فِيهِ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا تُزَوِّدْهُ وَأَنْتَ صَائِرٌ إِلَى الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَ: مَا نَدْرِي مَا تَقُولُ هَذِهِ الْمَعَدِّيَةُ الْعِرَاقِيَّةُ وَإِنَّمَا عِنْدَنَا سَمْعٌ وَطَاعَةٌ وَضَرْبٌ وَازْدِلَافٌ. فَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَحْكُونَ قَوْلَ الْأَحْنَفِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُعْطِي الْمُقَارِبَ وَيُدَارِي الْمُبَاعِدَ وَيَلْطُفُ بِهِ حَتَّى اسْتَوْثَقَ لَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَبَايَعَهُ. فَلَمَّا بَايَعَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ سَارَ إِلَى الْحِجَازِ فِي أَلْفِ فَارِسٍ، لَمَّا دَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ لَقِيَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ أَوَّلَ النَّاسِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ: لَا مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا! بَدَنَةٌ بِتَرَقْرُقِ دَمِهَا وَاللَّهُ مُهَرِيقُهُ! قَالَ: مَهْلًا فَإِنِّي وَاللَّهِ لَسْتُ بِأَهْلٍ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ! قَالَ: بَلَى وَلَشَرٌّ مِنْهَا: وَلَقِيَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: لَا مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا خَبَّ ضَبٌّ تَلْعَةٌ، يُدْخِلُ رَأْسَهُ وَيَضْرِبُ بِذَنَبِهِ، وَيُوشِكُ وَاللَّهِ أَنْ يُؤْخَذَ بِذَنَبِهِ، وَيُدَقَّ ظَهْرُهُ، نَحِّيَاهُ عَنِّي، فَضُرِبَ وَجْهُ رَاحِلَتِهِ: ثُمَّ لَقِيَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: لَا

أَهْلًا وَلَا مَرْحَبًا! شَيْخٌ قَدْ خَرِفَ وَذَهَبَ عَقْلُهُ، ثُمَّ أَمَرَ فَضُرَبَ وَجْهَ رَاحِلَتِهِ: ثُمَّ فَعَلَ بِابْنِ عُمَرَ نَحْوَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلُوا مَعَهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَحَضَرُوا بَابَهُ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ عَلَى مَنَازِلِهِمْ وَلَمْ يَرَوْا مِنْهُ مَا يُحِبُّونَ، فَخَرَجُوا إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامُوا بِهَا، وَخَطَبَ مُعَاوِيَةُ بِالْمَدِينَةِ فَذَكَرَ يَزِيدَ فَمَدَحَهُ وَقَالَ: مَنْ أَحَقُّ مِنْهُ بِالْخِلَافَةِ فِي فَضْلِهِ وَعَقْلِهِ وَمَوْضِعِهِ؟ وَمَا أَظُنُّ قَوْمًا بِمُنْتَهِينَ حَتَّى تُصِيبَهُمْ بَوَائِقُ تَجْتَثُّ أُصُولَهُمْ، وَقَدْ أَنْذَرْتُ إِنْ أَغْنَتِ النُّذُرُ، ثُمَّ أَنْشَدَ مُتَمَثِّلًا: قَدْ كُنْتُ حَذَّرْتُكَ آلَ الْمُصْطَلِقْ ... وَقُلْتُ يَا عَمْرُو أَطِعْنِي وَانْطَلِقْ إِنَّكَ إِنْ كَلَّفْتَنِي مَا لَمْ أُطِقْ ... سَاءَكَ مَا سَرَّكَ مِنِّي مِنْ خُلُقٍ دُونَكَ مَا اسْتَسْقَيْتَهُ فَاحْسُ وَذُقْ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، وَقَدْ بَلَغَهَا أَنَّهُ ذَكَرَ الْحُسَيْنَ وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ: لَأَقْتُلَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُبَايِعُوا، فَشَكَاهُمْ إِلَيْهَا، فَوَعَظَتْهُ وَقَالَتْ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَتَهَدُّهُمْ بِالْقَتْلِ، فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ أَعَزُّ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنِّي بَايَعْتُ لِيَزِيدَ وَبَايَعَهُ غَيْرُهُمْ، أَفَتَرَيْنَ أَنْ أَنْقُضَ بَيْعَةً قَدْ تَمَّتْ؟ قَالَتْ: فَارْفُقْ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَى مَا تُحِبُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: قَالَ: أَفْعَلُ. وَكَانَ فِي قَوْلِهَا لَهُ: مَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ أُقْعِدَ لَكَ رَجُلًا يَقْتُلُكَ وَقَدْ فَعَلْتَ بِأَخِي مَا فَعَلْتَ؟ تَعْنِي أَخَاهَا مُحَمَّدًا. فَقَالَ لَهَا: كَلَّا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي فِي بَيْتِ أَمْنٍ. قَالَتْ: أَجَلْ. وَمَكَثَ بِالْمَدِينَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَلَقِيَهُ النَّاسُ، فَقَالَ أُولَئِكَ النَّفَرُ: نَتَلَقَّاهُ فَلَعَلَّهُ قَدْ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، فَلَقُوهُ بِبَطْنِ مَرَّ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَهُ الْحُسَيْنُ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَسَيِّدَ شَبَابِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَرَ لَهُ بِدَابَّةٍ فَرَكِبَ وَسَايَرَهُ، ثُمَّ فَعَلَ بِالْبَاقِينَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَقْبَلَ يُسَايِرُهُمْ لَا يَسِيرُ مَعَهُ غَيْرُهُمْ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ، فَكَانُوا أَوَّلَ دَاخِلٍ وَآخَرَ خَارِجٍ، وَلَا يَمْضِي يَوْمٌ إِلَّا وَلَهُمْ صِلَةٌ وَلَا يَذْكُرُ لَهُمْ شَيْئًا، حَتَّى قَضَى نُسُكَهُ وَحَمَلَ أَثْقَالَهُ وَقَرُبَ مَسِيرُهُ فَقَالَ بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ لِبَعْضٍ: لَا تُخْدَعُوا فَمَا صَنَعَ بِكُمْ هَذَا لِحُبِّكُمْ وَمَا صَنَعَهُ إِلَّا لِمَا يُرِيدُ: فَأَعِدُّوا لَهُ جَوَابًا فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطِبُ لَهُ ابْنَ الزُّبَيْرِ. فَأَحْضَرَهُمْ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُمْ سِيرَتِي وَصِلَتِي لِأَرْحَامِكُمْ وَحَمْلِي مَا

كَانَ مِنْكُمْ، وَيَزِيدُ أَخُوكُمْ وَابْنُ عَمِّكُمْ وَأَرَدْتُ أَنْ تُقَدِّمُوهُ بِاسْمِ الْخِلَافَةِ وَتَكُونُوا أَنْتُمْ تَعْزِلُونَ وَتُؤَمِّرُونَ وَتَجْبُونَ الْمَالَ وَتَقْسِمُونَهُ لَا يُعَارِضُكُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَسَكَتُوا. فَقَالَ: أَلَا تُجِيبُونَ؟ مَرَّتَيْنِ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: هَاتِ لَعَمْرُكَ إِنَّكَ خَطِيبُهُمْ. فَقَالَ: نَعَمْ، نُخَيِّرُكَ بَيْنَ ثَلَاثِ خِصَالٍ: قَالَ: اعْرِضْهُنَّ: قَالَ: تَصْنَعُ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ كَمَا صَنَعَ أَبُو بَكْرٍ أَوْ كَمَا صَنَعَ عُمَرُ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا صَنَعُوا؟ قَالَ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ أَحَدًا فَارْتَضَى النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ: قَالَ: لَيْسَ فِيكُمْ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ وَأَخَافُ الِاخْتِلَافَ: قَالُوا: صَدَقْتَ فَاصْنَعْ كَمَا صَنَعَ أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّهُ عَهِدَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ قَاصِيَةِ قُرَيْشٍ لَيْسَ مِنْ بَنِي أَبِيهِ فَاسْتَخْلَفَهُ، وَإِنْ شِئْتَ فَاصْنَعْ كَمَا صَنَعَ عُمَرُ، جَعَلَ الْأَمْرَ شُورَى فِي سِتَّةِ نَفَرٍ لَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهِ وَلَا مَنْ بَنِي أَبِيهِ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: هَلْ عِنْدَكَ غَيْرُ هَذَا؟ قَالَ: لَا. ثُمَّ قَالَ: فَأَنْتُمْ؟ قَالُوا: قَوْلُنَا قَوْلُهُ. قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَتَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ، إِنَّهُ قَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، إِنِّي كُنْتُ أَخْطُبُ فِيكُمْ فَيَقُومُ إِلَيَّ الْقَائِمُ مِنْكُمْ فَيُكَذِّبُنِي عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فَأَحْمِلُ ذَلِكَ وَأَصْفَحُ، وَإِنِّي قَائِمٌ بِمَقَالَةٍ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَئِنْ رَدَّ عَلَيَّ أَحَدُكُمْ كَلِمَةً فِي مَقَامِي هَذَا لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ كَلِمَةٌ غَيْرُهَا حَتَّى يَسْبِقَهَا السَّيْفُ إِلَى رَأْسِهِ، فَلَا يُبْقِيَنَّ رَجُلٌ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ. ثُمَّ دَعَا صَاحِبَ حَرَسِهِ بِحَضْرَتِهِمْ فَقَالَ: أَقِمْ عَلَى رَأْسِ كُلِّ رَجُلٍ مِنْ هَؤُلَاءِ رَجُلَيْنِ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَيْفٌ، فَإِنْ ذَهَبَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يَرُدُّ عَلَيَّ كَلِمَةً بِتَصْدِيقٍ أَوْ تَكْذِيبٍ فَلْيَضْرِبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا. ثُمَّ خَرَجَ وَخَرَجُوا مَعَهُ حَتَّى رَقَى الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ سَادَةُ الْمُسْلِمِينَ وَخِيَارُهُمْ لَا يُبَتُّ أَمْرٌ دُونَهُمْ وَلَا يُقْضَى إِلَّا عَنْ مَشُورَتِهِمْ، وَإِنَّهُمْ قَدْ رَضُوا وَبَايَعُوا لِيَزِيدَ، فَبَايِعُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ! فَبَايَعَ النَّاسُ، وَكَانُوا يَتَرَبَّصُونَ بَيْعَةَ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ، ثُمَّ رَكِبَ رَوَاحِلَهُ وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَقِيَ النَّاسُ أُولَئِكَ النَّفَرَ فَقَالُوا لَهُمْ: زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ لَا تُبَايِعُونَ فَلِمَ؟ أَرَضِيتُمْ وَأَعْطَيْتُمْ وَبَايَعْتُمْ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا فَعَلْنَا: فَقَالُوا: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَرُدُّوا عَلَى الرَّجُلِ؟ قَالُوا: كَادَنَا وَخِفْنَا الْقَتْلَ. وَبَايَعَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الشَّامِ وَجَفَا بَنِي هَاشِمٍ، فَأَتَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ

لَهُ: مَا بَالُكَ جَفَوْتَنَا؟ قَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَمْ يُبَايِعْ لِيَزِيدَ فَلَمْ تُنْكِرُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ إِنِّي لَخَلِيقٌ أَنْ أَنْحَازَ إِلَى بَعْضِ السَّوَاحِلِ فَأُقِيمَ بِهِ ثُمَّ أَنْطَلِقُ بِمَا تَعْلَمُ حَتَّى أَدَعَ النَّاسَ كُلَّهُمْ خَوَارِجَ عَلَيْكَ: قَالَ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ تُعْطَوْنَ وَتَرْضَوْنَ وَتُرَادُّونَ. وَقِيلَ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: أُبَايِعُكَ عَلَى أَنِّي أَدْخُلُ فِيمَا تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، فَوَاللَّهِ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى حَبَشِيٍّ لَدَخَلْتُ مَعَهَا ثُمَّ عَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَأَغْلَقَ بَابَهُ وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ. قُلْتُ: ذِكْرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ وَفَاتَهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ. ذِكْرُ عَزْلِ ابْنِ زِيَادٍ عَنْ خُرَاسَانَ وَاسْتِعْمَالِ سَعِيدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةُ سَعِيدَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَلَى خُرَاسَانَ وَعَزَلَ ابْنَ زِيَادٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ مُعَاوِيَةَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ عَلَى خُرَاسَانَ، فَقَالَ: إِنَّ بِهَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ: فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ اصْطَنَعَكَ أَبِي حَتَّى بَلَغْتَ بِاصْطِنَاعِهِ الْمَدَى الَّذِي تُجَارَى إِلَيْهِ وَلَا تُسَامَى، فَمَا شَكَرْتَ بَلَاءَهُ وَلَا جَازَيْتَهُ وَقَدَّمْتَ هَذَا، يَعْنِي يَزِيدَ، وَبَايَعْتَ لَهُ، وَاللَّهِ لَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أَبًا وَأُمًّا وَنَفْسًا! فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَمَّا بَلَاءُ أَبِيكَ فَقَدْ يَحِقُّ عَلَيْكَ الْجَزَاءُ بِهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ شُكْرِي لِذَلِكَ أَنِّي قَدْ طَلَبْتُ بِدَمِهِ، وَأَمَّا فَضْلُ أَبِيكَ عَلَى أَبِيهِ فَهُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنِّي، وَأَمَّا فَضْلُ أُمِّكَ عَلَى أُمِّهِ فَلَعَمْرِي امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ خَيْرٌ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ كَلْبٍ، وَأَمَّا فَضْلُكَ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ الْغُوطَةَ مُلِئَتْ لِيَزِيدَ رِجَالًا مِثْلَكَ. فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ابْنُ عَمِّكَ وَأَنْتَ أَحَقُّ مَنْ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ، قَدْ عَتَبَ عَلَيْكَ فَأَعْتِبْهُ. فَوَلَّاهُ حَرْبَ خُرَاسَانَ، وَوَلَّى إِسْحَاقَ بْنَ طَلْحَةَ خَرَاجَهَا وَكَانَ إِسْحَاقُ ابْنُ خَالَةِ مُعَاوِيَةَ، أُمُّهُ أُمُّ أَبَانٍ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَلَمَّا صَارَ بِالرَّيِّ مَاتَ إِسْحَاقُ فَوَلِيَ سَعِيدٌ

حَرْبَهَا وَخَرَاجَهَا، فَلَمَّا قَدِمَ خُرَاسَانَ قَطَعَ النَّهْرَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الصُّغْدَ فَتَوَاقَفُوا يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ وَلَمْ يَقْتَتِلُوا، فَقَالَ مَالِكُ بْنُ الرَّيْبِ: مَا زِلْتَ يَوْمَ الصُّغْدِ تُرْعِدُ وَاقِفًا ... مِنَ الْجُبْنِ حَتَّى خِفْتُ أَنْ تَتَنَصَّرَا فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ اقْتَتَلُوا فَهَزَمَهُمْ سَعِيدٌ وَحَصَرَهُمْ فِي مَدِينَتِهِمْ، فَصَالَحُوهُ وَأَعْطَوْهُ رَهْنًا مِنْهُمْ خَمْسِينَ غُلَامًا مِنْ أَبْنَاءِ عُظَمَائِهِمْ، فَسَارَ إِلَى تِرْمِذَ فَفَتَحَهَا صُلْحًا وَلَمْ يَفِ لِأَهْلِ سَمَرْقَنْدَ وَجَاءَ بِالْغِلْمَانِ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ: وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ مَعَهُ قُثَمُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ [السَّنَةِ] مَاتَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

ثم دخلت سنة سبع وخمسين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ] 57 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ فِيهَا كَانَ مَشْتَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ بِأَرْضِ الرُّومِ. وَفِيهَا عُزِلَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَقِيلَ: لَمْ يُعْزَلْ مَرْوَانُ هَذِهِ السَّنَةَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ: وَكَانَ الْعَامِلُ عَلَى الْكُوفَةِ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، وَعَلَى خُرَاسَانَ سَعِيدَ بْنَ عُثْمَانَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُدَامَةَ السَّعْدِيُّ، وَلَهُ صُحْبَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَقْدَانَ السَّعْدِيُّ، وَإِنَّمَا

قِيلَ لَهُ السَّعْدِيُّ لِأَنَّ أَبَاهُ اسْتُرْضِعَ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ: وَعُثْمَانُ بْنُ شَيْبَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ، وَهُوَ جَدُّ بَنِي شَيْبَةَ سَدَنَةِ الْكَعْبَةِ، وَمِفْتَاحُهَا مَعَهُمْ إِلَى الْآنَ، وَأَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَقِيلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَجَبَيْرُ بْنُ مَطْعِمِ بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيُّ، لَهُ صُحْبَةٌ. وَأُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: بَقِيَتْ إِلَى قَتْلِ الْحُسَيْنِ.

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ] 58 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَالِكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيُّ أَرْضَ الرُّومِ، وَعَمْرُو بْنُ يَزِيدَ الْجُهَنِيُّ فِي الْبَحْرِ، وَقِيلَ: جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ. ذِكْرُ عَزْلِ الضَّحَّاكِ عَنِ الْكُوفَةِ وَاسْتِعْمَالِ ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ مُعَاوِيَةُ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ عَنِ الْكُوفَةِ وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ الثَّقَفِيَّ، وَهُوَ ابْنُ أُمِّ الْحَكَمِ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ مُعَاوِيَةَ. وَفِي عَمَلِهِ هَذِهِ السَّنَةَ خَرَجَتِ الْخَوَارِجُ الَّذِي كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ حَبَسَهُمْ فَجَمَعَهُمْ حَيَّانُ بْنُ ظَبْيَانَ السُّلَمِيُّ وَمُعَاذُ بْنُ جُوَيْنٍ الطَّائِيُّ فَخَطَبَاهُمْ وَحَثَّاهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، فَبَايَعُوا حَيَّانَ بْنَ ظَبْيَانَ وَخَرَجُوا إِلَى بَانِقْيَا، فَسَارَ إِلَيْهِمُ الْجَيْشُ مِنَ الْكُوفَةِ فَقَتَلُوهُمْ جَمِيعًا. ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أُمِّ الْحَكَمِ طَرَدَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ لِسُوءِ سِيرَتِهِ، فَلَحِقَ بِخَالِهِ مُعَاوِيَةَ فَوَلَّاهُ مِصْرَ، فَاسْتَقْبَلَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مِصْرَ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ إِلَى خَالِكَ، فَلَعَمْرِي لَا تَسِيرُ فِينَا سِيرَتَكَ فِي إِخْوَانِنَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ! فَرَجَعَ إِلَى مُعَاوِيَةَ:

ثُمَّ إِنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ وَفَدَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ إِلَى مُعَاوِيَةَ زُيِّنَتْ لَهُ الطَّرِيقُ بِقِبَابِ الرَّيْحَانِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، فَدَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ أُخْتُهُ أُمُّ الْحَكَمِ، فَقَالَتْ: مَنْ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بَخٍ بَخٍ! هَذَا مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ. قَالَتْ: لَا مَرْحَبًا، تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ! فَسَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكِ يَا أُمَّ الْحَكَمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ تَزَوَّجْتِ فَمَا أُكْرِمْتِ، وَوَلَدْتِ فَمَا أَنْجَبْتِ، أَرَدْتِ أَنْ يَلِيَ ابْنُكِ الْفَاسِقُ عَلَيْنَا فَيَسِيرَ فِينَا كَمَا سَارَ فِي إِخْوَانِنَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُرِيَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَضَرَبْنَاهُ ضَرْبًا يُطَأْطِئُ مِنْهُ وَلَوْ كَرِهَ هَذَا الْقَاعِدُ، يَعْنِي خَالَهُ مُعَاوِيَةَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهَا مُعَاوِيَةُ وَقَالَ: كُفِّي، فَكَفَّتْ. ذِكْرُ خُرُوجِ طَوَّافِ بْنِ غَلَّاقٍ كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْخَوَارِجِ بِالْبَصْرَةِ يَجْتَمِعُونَ إِلَى رَجُلٍ اسْمُهُ جِدَارٌ فَيَتَحَدَّثُونَ عِنْدَهُ وَيَعِيبُونَ السُّلْطَانَ، فَأَخَذَهُمُ ابْنُ زِيَادٍ فَحَبَسَهُمْ ثُمَّ دَعَا بِهِمْ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُخَلِّيَ سَبِيلَ الْقَاتِلِينَ، فَفَعَلُوا، فَأَطْلَقَهُمْ، وَكَانَ مِمَّنْ قَتَلَ طَوَّافٌ، فَعَذَلَهُمْ أَصْحَابُهُمْ وَقَالُوا: قَتَلْتُمْ إِخْوَانَكُمْ! قَالُوا: أُكْرِهْنَا وَقَدْ يُكْرَهُ الرَّجُلُ عَلَى الْكُفْرِ وَهُوَ مُطَمْئِنٌ بِالْإِيمَانِ. وَنَدِمَ طَوَّافٌ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ طَوَّافٌ: أَمَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَكَانُوا يَبْكُونَ، وَعَرَضُوا عَلَى أَوْلِيَاءِ مَنْ قَتَلُوا الدِّيَةَ فَأَبَوْا، وَعَرَضُوا عَلَيْهِمُ الْقَوَدَ فَأَبَوْا وَلَقِيَ طَوَّافٌ الْهَثْهَاتَ بْنَ ثَوْرٍ السَّدُوسِيَّ فَقَالَ لَهُ: أَمَا تَرَى لَنَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: مَا أَجِدُ لَكَ إِلَّا آيَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، قَوْلَهُ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110] . فَدَعَا طَوَّافٌ أَصْحَابَهُ إِلَى الْخُرُوجِ وَإِلَى أَنْ يَفْتِكُوا بِابْنِ زِيَادٍ، فَبَايَعُوهُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْبَصْرَةِ، فَسَعَى بِهِمْ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِمْ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ طَوَّافًا فَعَجَّلَ الْخُرُوجَ، فَخَرَجُوا

مِنْ لَيْلَتِهِمْ فَقَتَلُوا رَجُلًا، وَمَضَوْا إِلَى الْجَلْجَاءِ، فَنَدَبَ ابْنُ زِيَادٍ الشُّرَطَ الْبُخَارِيَّةَ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَ الشُّرَطُ حَتَّى دَخَلُوا الْبَصْرَةَ وَاتَّبَعُوهُمْ، وَذَلِكَ يَوْمُ عِيدِ الْفِطْرِ، وَكَثَّرَهُمُ النَّاسُ فَقَاتَلُوا فَقُتِلُوا، وَبَقِيَ طَوَّافٌ فِي سِتَّةِ نَفَرٍ، وَعَطِشَ فَرَسُهُ فَأَقْحَمَهُ الْمَاءَ، فَرَمَاهُ الْبُخَارِيَّةُ بِالنُّشَّابِ حَتَّى قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، ثُمَّ دَفَنَهُ أَهْلُهُ، فَقَالَ شَاعِرٌ مِنْهُمْ: يَا رَبِّ هَبْ لِي التُّقَى وَالصِّدْقَ فِي ثَبَتٍ ... وَاكْفِ الْمُهِمَّ فَأَنْتَ الرَّازِقُ الْكَافِي حَتَّى أَبِيعَ الَّتِي تَفْنَى بِآخِرَةٍ ... تَبْقَى عَلَى دِينِ مِرْدَاسٍ وَطَوَّافِ وَكَهْمَسٍ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ إِذْ نَفَرُوا ... إِلَى الْإِلَهِ ذَوِي أَخْبَابِ زَحَّافِ ذِكْرُ قَتْلِ عُرْوَةَ ابْنِ أُدَيَّةَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْخَوَارِجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى الْخَوَارِجِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً كَثِيرَةً، مِنْهُمْ: عُرْوَةُ ابْنُ أُدَيَّةَ أَخُو أَبِي بِلَالٍ مِرْدَاسِ ابْنِ أُدَيَّةَ، وَأُدَيَّةُ أُمُّهُمَا، وَأَبُوهُمَا حُدَيْرٌ، وَهُوَ تَمِيمِيٌّ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ كَانَ قَدْ خَرَجَ فِي رِهَانٍ لَهُ، فَلَمَّا جَلَسَ يَنْتَظِرُ الْخَيْلَ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَفِيهِمْ عُرْوَةُ، فَأَقْبَلَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ يَعِظُهُ، وَكَانَ مِمَّا قَالَ لَهُ: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ - وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ - وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 128 - 130] . فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ ظَنَّ ابْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِلَّا وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَقَامَ وَرَكِبَ وَتَرَكَ رِهَانَهُ: فَقِيلَ لِعُرْوَةَ: لَيَقْتُلَنَّكَ! فَاخْتَفِي، فَطَلَبَهُ ابْنُ زِيَادٍ فَهَرَبَ وَأَتَى الْكُوفَةَ، فَأُخِذَ وَقُدِمَ بِهِ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَقَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ ابْنَتَهُ. وَأَمَّا أَخُوهُ أَبُو بِلَالٍ مِرْدَاسٌ فَكَانَ عَابِدًا مُجْتَهِدًا عَظِيمَ الْقَدْرِ فِي الْخَوَارِجِ، وَشَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ فَأَنْكَرَ التَّحْكِيمَ، وَشَهِدَ النَّهْرَوَانَ مَعَ الْخَوَارِجِ، وَكَانَتِ الْخَوَارِجُ كُلُّهَا تَتَوَلَّاهُ، وَرَأَى عَلَى ابْنِ عَامِرٍ قَبَاءً أَنْكَرَهُ فَقَالَ: هَذَا لِبَاسُ الْفُسَّاقِ! فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: لَا تَقُلْ

هَذَا لِلسُّلْطَانِ فَإِنَّ مَنْ أَبْغَضَ السُّلْطَانَ أَبْغَضَهُ اللَّهُ، وَكَانَ لَا يَدِينُ بِالِاسْتِعْرَاضِ، وَيُحَرِّمُ خُرُوجَ النِّسَاءِ، وَيَقُولُ لَا نُقَاتِلُ إِلَّا مَنْ قَاتَلَنَا وَلَا نَجْبِي إِلَّا مَنْ حَمَيْنَا. وَكَانَتِ الْبَثْجَاءُ، امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ، تُحَرِّضُ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ وَتَذْكُرُ تَجَبُّرَهُ وَسُوءَ سِيرَتِهِ، وَكَانَتْ مِنَ الْمُجْتَهِدَاتِ، فَذَكَرَهَا ابْنُ زِيَادٍ، فَقَالَ لَهَا أَبُو بِلَالٍ: إِنَّ التَّقِيَّةَ لَا بَأْسَ بِهَا فَتَغَيَّبِي فَإِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ قَدْ ذَكَرَكِ. قَالَتْ: أَخْشَى أَنْ يَلْقَى أَحَدٌ بِسَبَبِي مَكْرُوهًا. فَأَخَذَهَا ابْنُ زِيَادٍ فَقَطَعَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا، فَمَرَّ بِهَا أَبُو بِلَالٍ فِي السُّوقِ فَعَضَّ عَلَى لِحْيَتِهِ وَقَالَ: أَهَذِهِ أَطْيَبُ نَفْسًا بِالْمَوْتِ مِنْكَ يَا مِرْدَاسُ؟ مَا مِيتَةٌ أُمُوتُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مِيتَةِ الْبَثْجَاءِ! وَمَرَّ أَبُو بِلَالٍ بِبَعِيرٍ قَدْ طُلِيَ بِقَطِرَانٍ فَغُشِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَتَلَا: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 50] . ثُمَّ إِنَّ ابْنَ زِيَادٍ أَلَحَّ فِي طَلَبِ الْخَوَارِجِ فَمَلَأَ مِنْهُمُ السِّجْنَ وَأَخَذَ النَّاسَ بِسَبَبِهِمْ وَحَبَسَ أَبَا بِلَالٍ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَ أَخَاهُ عُرْوَةَ، فَرَأَى السَّجَّانُ عِبَادَتَهُ فَأَذِنَ لَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي إِتْيَانِ أَهْلِهِ، فَكَانَ يَأْتِيهِمْ لَيْلًا وَيَعُودُ مَعَ الصُّبْحِ، وَكَانَ صَدِيقٌ لِمِرْدَاسٍ يُسَامِرُ ابْنَ زِيَادٍ، فَذَكَرَ ابْنُ زِيَادٍ الْخَوَارِجَ لَيْلَةً فَعَزَمَ عَلَى قَتْلِهِمْ، فَانْطَلَقَ صَدِيقُ مِرْدَاسٍ إِلَيْهِ فَأَعْلَمَهُ الْخَبَرَ، وَبَاتَ السَّجَّانُ بِلَيْلَةِ سُوءٍ خَوْفًا أَنْ يَعْلَمَ مِرْدَاسٌ فَلَا يَرْجِعُ، فَلَمَّا كَانَ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَعُودُ فِيهِ إِذَا بِهِ قَدْ أَتَى، فَقَالَ لَهُ السَّجَّانُ: أَمَا بَلَغَكَ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ الْأَمِيرُ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: ثُمَّ جِئْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَكُنْ جَزَاؤُكَ مِنِّي مَعَ إِحْسَانِكَ إِلَيَّ أَنْ تُعَاقَبَ. وَأَصْبَحَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَتَلَ الْخَوَارِجَ، فَلَمَّا أُحْضِرَ مِرْدَاسٌ قَامَ السَّجَّانُ، وَكَانَ ظِئْرًا لِعُبَيْدِ اللَّهِ، فَشَفَعَ فِيهِ وَقَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فَوَهَبَهُ لَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ. ثُمَّ إِنَّهُ خَافَ ابْنَ زِيَادٍ فَخَرَجَ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا إِلَى الْأَهْوَازِ، فَكَانَ إِذَا اجْتَازَ بِهِ مَالٌ أَخَذَ مِنْهُ عَطَاءَهُ وَعَطَاءَ أَصْحَابِهِ ثُمَّ يَرُدُّ الْبَاقِي، فَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ زِيَادٍ خَبَرَهُمْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا عَلَيْهِمْ أَسْلَمُ بْنُ زُرْعَةَ الْكِلَابِيُّ سَنَةَ سِتِّينَ، وَقِيلَ: أَبُو حُصَيْنٍ التَّمِيمِيُّ، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفَيْ رَجُلٍ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى أَبِي بِلَالٍ نَاشَدَهُمُ اللَّهَ أَنْ يُقَاتِلُوهُ فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَدَعَاهُمْ أَسْلَمُ إِلَى مُعَاوَدَةِ الْجَمَاعَةِ، فَقَالُو: أَتَرُدُّونَنَا إِلَى ابْنِ زِيَادٍ الْفَاسِقِ؟ فَرَمَى أَصْحَابُ أَسْلَمَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي بِلَالٍ فَقَتَلُوهُ، فَقَالَ أَبُو بِلَالٍ: قَدْ بَدَءُوكُمْ بِالْقِتَالِ. فَشَدَّ الْخَوَارِجُ عَلَى أَسْلَمَ وَأَصْحَابِهِ شَدَّةً رَجُلٍ وَاحِدٍ فَهَزَمُوهُمْ فَقَدِمُوا الْبَصْرَةَ، فَلَامَ ابْنُ

زِيَادٍ أَسْلَمَ وَقَالَ: هَزَمَكَ أَرْبَعُونَ وَأَنْتَ فِي أَلْفَيْنِ، لَا خَيْرَ فِيكَ! فَقَالَ: لَأَنْ تَلُومَنِي وَأَنَا حَيٌّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُثْنِيَ عَلَيَّ وَأَنَا مَيِّتٌ. فَكَانَ الصِّبْيَانُ إِذَا رَأَوْا أَسْلَمَ صَاحُوا بِهِ: أَمَا أَبُو بِلَالٍ وَرَاءَكَ! فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَنَهَاهُمْ فَانْتَهَوْا. (وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ: أَأَلْفَا مُؤْمِنٍ مِنْكُمْ زَعَمْتُمْ ... وَيَقْتُلُهُمْ بِآسِكَ أَرْبَعُونَا كَذَبْتُمْ لَيْسَ ذَاكَ كَمَا زَعَمْتُمْ ... وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ مُؤْمِنُونَا [هِيَ الْفِئَةُ الْقَلِيلَةُ قَدْ عَلِمْتُمْ ... عَلَى الْفِئَةِ الْكَثِيرَةِ يُنْصَرُونَا ] ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ. [الْوَفَيَاتُ] : (فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ) الْجُهَنِيُّ، وَلَهُ صُحْبَةٌ، وَشَهِدَ صِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ عَائِشَةُ، عَلَيْهَا السَّلَامُ. وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ، لَهُ صُحْبَةٌ. وَمَالِكُ بْنُ عُبَادَةَ الْغَافِقِيُّ، وَلَهُ صُحْبَةٌ. وَعَمِيرَةُ بْنُ يَثْرِبِيٍّ قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَاسْتُقْضِيَ مَكَانَهُ هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ.

ثم دخلت سنة تسع وخمسين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ] 59 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ مَشْتَى عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ بِأَرْضِ الرُّومِ فِي الْبَرِّ، وَغَزَا فِي الْبَحْرِ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ فِي الْبَحْرِ غَزْوَةٌ هَذِهِ السَّنَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ عَنِ الْكُوفَةِ وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَبَبُ عَزْلِهِ (وَقِيلَ: كَانَ عَزْلُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ) . ذِكْرُ وِلَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ خُرَاسَانَ وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ، وَقَدِمَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَيْسُ بْنُ الْهَيْثَمِ السُّلَمِيُّ، وَأَخَذَ أَسْلَمَ بْنَ زُرْعَةَ فَحَبَسَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ كَرِيمًا حَرِيصًا ضَعِيفًا لَمْ يَغْزُ غَزْوَةً وَاحِدَةً، وَبَقِيَ بِخُرَاسَانَ إِلَى أَنْ قُتِلَ الْحُسَيْنُ، فَقَدِمَ عَلَى يَزِيدَ وَمَعَهُ عِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ حَاسَبْنَاكَ وَأَخَذْنَا مَا مَعَكَ وَرَدَدْنَاكَ إِلَى عَمَلِكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَعْطَيْنَاكَ مَا مَعَكَ وَعَزَلْنَاكَ وَتُعْطِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ: بَلْ تُعْطِينِي مَا مَعِي وَتَعْزِلُنِي. فَفَعَلَ فَأَرْسَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى ابْنِ جَعْفَرٍ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَقَالَ: هَذِهِ خَمْسُمِائَةُ أَلْفٍ مِنْ يَزِيدَ وَخَمْسُمِائَةُ أَلْفٍ مِنِّي.

ذِكْرُ عَزْلِ ابْنِ زِيَادٍ عَنِ الْبَصْرَةِ وَعَوْدِهِ إِلَيْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ مُعَاوِيَةُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ عَنِ الْبَصْرَةِ وَأَعَادَهُ إِلَيْهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي وُجُوهِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَفِيهِمُ الْأَحْنَفُ، وَكَانَ سَيِّئَ الْمَنْزِلَةِ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا دَخَلُوا رَحَّبَ مُعَاوِيَةُ بِالْأَحْنَفِ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، فَأَحْسَنَ الْقَوْمُ الثَّنَاءَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ وَالْأَحْنَفُ سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا لَكَ يَا أَبَا بَحْرٍ لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ: إِنْ تَكَلَّمْتُ خَالَفْتُ الْقَوْمَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: انْهَضُوا فَقَدْ عَزَلْتُهُ عَنْكُمْ وَاطْلُبُوا وَالِيًا تَرْضَوْنَهُ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا أَتَى رَجُلًا مَنْ بَنِي أُمَيَّةَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالْأَحْنَفُ لَمْ يَبْرَحْ مِنْ مَنْزِلِهِ فَلَمْ يَأْتِ أَحَدًا، فَلَبِثُوا أَيَّامًا، ثُمَّ جَمَعَهُمْ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ لَهُمْ: مَنِ اخْتَرْتُمْ؟ فَاخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ وَالْأَحْنَفُ سَاكِتٌ، فَقَالَ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ: إِنْ وَلَّيْتَ عَلَيْنَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ لَمْ نَعْدِلْ بِعُبَيْدِ اللَّهِ أَحَدًا، وَإِنْ وَلَّيْتَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ. فَرَدَّهُ مُعَاوِيَةُ عَلَيْهِمْ وَأَوْصَاهُ بِالْأَحْنَفِ وَقَبَّحَ رَأْيَهُ فِي مُبَاعَدَتِهِ، فَلَمَّا هَاجَتِ الْفِتْنَةُ لَمْ يَفِ لَهُ غَيْرُ الْأَحْنَفِ. ذِكْرُ هِجَاءِ يَزِيدَ بْنِ مُفَرِّغٍ الْحِمْيَرِيِّ بَنِي زِيَادٍ وَمَا كَانَ مِنْهُ كَانَ يَزِيدُ بْنُ مُفَرِّغٍ الْحِمْيَرِيُّ مَعَ عَبَّادِ بْنِ زِيَادٍ بِسِجِسْتَانَ، فَاشْتَغَلَ عَنْهُ بِحَرْبِ التُّرْكِ، فَاسْتَبْطَأَهُ ابْنُ مُفَرِّغٍ، وَأَصَابَ الْجُنْدَ الَّذِينَ مَعَ عَبَّادٍ ضِيقٌ فِي عُلُوفَاتِ دَوَابِّهِمْ، فَقَالَ ابْنُ مُفَرِّغٍ: أَلَا لَيْتَ اللِّحَى كَانَتْ حَشِيشًا ... فَنَعْلِفَهَا خُيُولَ الْمُسْلَمِينَا وَكَانَ عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ عَظِيمَ اللِّحْيَةِ، فَقِيلَ: مَا أَرَادَ غَيْرَكَ. فَطُلِبَ فَهَرَبَ مِنْهُ وَهَجَاهُ بِقَصَائِدَ، وَكَانَ مِمَّا هَجَاهُ بِهِ قَوْلُهُ: إِذَا أَوْدَى مُعَاوِيَةُ بْنُ حَرْبٍ ... فَبَشِّرْ شَعْبَ رَحْلِكَ بِانْصِدَاعِ فَأَشْهِدْ أَنَّ أُمَّكَ لَمْ تُبَاشِرْ ... أَبَا سُفْيَانَ وَاضِعَةَ الْقِنَاعِ

وَلَكِنْ كَانَ أَمْرًا فِيهِ لَبْسٌ ... عَلَى وَجَلٍ شَدِيدٍ وَارْتِيَاعِ وَقَالَ أَيْضًا: أَلَا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ ... مُغَلْغَلَةً مِنَ الرَّجُلِ الْيَمَانِي أَتَغْضَبُ أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ عَفٌّ ... وَتَرْضَى أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ زَانِ فَأَشْهَدُ أَنَّ رِحْمَكَ مِنْ زِيَادٍ ... كَرِحْمِ الْفِيلِ مِنْ وَلَدِ الْأَتَانِ وَقَدِمَ يَزِيدُ بْنُ مُفَرِّغٍ الْبَصْرَةَ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِالشَّامِ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَخُوهُ عَبَّادٌ بِمَا كَانَ مِنْهُ، فَأَعْلَمَ عُبَيْدُ اللَّهِ مُعَاوِيَةَ بِهِ وَأَنْشَدَهُ الشِّعْرَ وَاسْتَأْذَنَهُ فِي قَتْلِ ابْنِ مُفَرِّغٍ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَأَمَرَهُ بِتَأْدِيبِهِ. وَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ مُفَرِّغٍ الْبَصْرَةَ اسْتَجَارَ بِالْأَحْنَفِ وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ فَلَمْ يُجِرْهُ أَحَدٌ، فَاسْتَجَارَ بِالْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ فَأَجَارَهُ وَأَدْخَلَهُ دَارَهُ، وَكَانَتِ ابْنَتُهُ عِنْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عُبَيْدُ اللَّهِ الْبَصْرَةَ أُخْبِرَ بِمَكَانِ ابْنِ مُفَرِّغٍ، وَأَتَى الْمُنْذِرَ عُبَيْدُ اللَّهِ مُسَلِّمًا، فَأَرْسَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ الشُّرَطَ إِلَى دَارِ الْمُنْذِرِ فَأَخَذُوا ابْنَ مُفَرِّغٍ وَأَتَوْهُ بِهِ وَالْمُنْذِرُ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ الْمُنْذِرُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ! فَقَالَ: يَا مُنْذِرُ يَمْدَحُكَ وَأَبَاكَ وَيَهْجُونِي وَأَبِي وَتُجِيرُهُ عَلَيَّ! ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُقِيَ دَوَاءً ثُمَّ حُمِلَ عَلَى حِمَارٍ وَطِيفَ بِهِ وَهُوَ يَسْلَحُ فِي ثِيَابِهِ، فَقَالَ يَهْجُو الْمُنْذِرَ: تَرَكْتُ قُرَيْشًا أَنْ أُجَاوِرَ فِيهِمُ ... وَجَاوَرَتْ عَبْدَ الْقَيْسِ أَهْلَ الْمُشَقَّرِ أُنَاسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوَارُهُمْ ... أَعَاصِيرَ مِنْ فَسْوِ الْعِرَاقِ الْمُبَذِّرَ

فَأَصْبَحَ جَارِي مِنْ جُذَيْمَةَ نَائِمًا ... وَلَا يَمْنَعُ الْجِيرَانَ غَيْرُ الْمُشَمِّرِ فَقَالَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ: يَغْسِلُ الْمَاءُ مَا صَنَعْتَ وَقَوْلِي ... رَاسِخٌ مِنْكَ فِي الْعِظَامِ الْبَوَالِي ثُمَّ سَيَّرَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى أَخِيهِ عَبَّادٍ بِسِجِسْتَانَ، فَكَلَّمَتِ الْيَمَانِيَةُ بِالشَّامِ مُعَاوِيَةَ فِيهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبَّادٍ فَأَخَذَهُ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَقَالَ فِي طَرِيقِهِ: عَدَسْ مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إِمَارَةٌ ... أَمِنْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ لَعَمْرِي لَقَدْ نَجَّاكِ مِنْ هُوَّةِ الرَّدَى ... إِمَامٌ وَحَبْلٌ لِلْأَنَامِ وَثِيقُ سَأَشْكُرُ مَا أَوْلَيْتَ مِنْ حُسْنِ نِعْمَةٍ ... وَمِثْلِي بِشُكْرِ الْمُنْعِمِينَ حَقِيقُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ بَكَى وَقَالَ: رُكِبَ مِنِّي مَا لَمْ يُرْكَبْ مِنْ مُسْلِمٍ مِثْلُهُ عَلَى غَيْرِ حَدَثٍ، قَالَ: أَوَلَسْتَ الْقَائِلَ: أَلَا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ الْقَصِيدَةَ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ الَّذِي عَظَّمَ حَقَّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَا قُلْتُ هَذَا، وَإِنَّمَا قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ أَخُو مَرْوَانَ وَاتَّخَذَنِي ذَرِيعَةً إِلَى هِجَاءِ زِيَادٍ. قَالَ: أَلَسْتَ الْقَائِلَ: فَأَشْهِدْ أَنَّ أُمَّكَ لَمْ تُبَاشِرْ ... أَبَا سُفْيَانَ وَاضِعَةَ الْقِنَاعِ فِي أَشْعَارٍ كَثِيرَةٍ هَجَوْتَ بِهَا ابْنَ زِيَادٍ؟ اذْهَبْ فَقَدْ عَفَوْنَا عَنْكَ فَانْزِلْ أَيَّ أَرْضِ اللَّهِ شِئْتَ. فَنَزَلَ الْمَوْصِلَ وَتَزَوَّجَ بِهَا. فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ بِنَائِهِ بِامْرَأَتِهِ خَرَجَ حِينَ أَصْبَحَ إِلَى

الصَّيْدِ فَلَقِيَ إِنْسَانًا عَلَى حِمَارٍ. فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ فَقَالَ: مِنَ الْأَهْوَازِ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ (مَاءُ مَسْرُقَانَ) ؟ قَالَ: عَلَى حَالِهِ. فَارْتَاحَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَقَدِمَهَا وَدَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فَآمَنَهُ. وَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ فَكُلِّمَ فِيهِ فَقَالَ: لَا أَرْضَى عَنْهُ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ ابْنُ زِيَادٍ. فَقَدِمَ الْبَصْرَةَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ وَقَالَ لَهُ: لَأَنْتَ زِيَادَةٌ فِي آلِ حَرْبٍ ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِحْدَى بَنَاتِي أَرَاكَ أَخًا وَعَمًّا وَابْنَ عَمٍّ ... فَلَا أَدْرِي بِغَيْبٍ مَا تَرَانِي [فَقَالَ] : أَرَاكَ شَاعِرَ سُوءٍ! وَرَضِيَ عَنْهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ حَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. وَكَانَ الْوَالِي عَلَى الْكُوفَةِ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، (وَعَلَى الْمَدِينَةِ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادٍ، وَعَلَى سِجِسْتَانَ عَبَّادَ بْنَ زِيَادٍ) ، وَعَلَى كَرْمَانَ شَرِيكَ بْنَ الْأَعْوَرِ. [الْوَفَيَاتُ] : وَفِيهَا مَاتَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتِّينَ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ مَشَاهِدَهُ كُلَّهَا. وَفِيهَا مَاتَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَوُلِدَ عَامَ الْهِجْرَةِ، وَقُتِلَ

أَبُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا. وَفِيهَا مَاتَ مُرَّةُ بْنُ كَعْبٍ الْبَهْزِيُّ السُّلَمِيُّ، وَلَهُ صُحْبَةٌ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو مَحْذُورَةَ الْجُمَحِيُّ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَزَلْ يُؤْذِنُ بِهَا حَتَّى مَاتَ وَوَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ بِمَكَّةَ فَدُفِنَ بِعَرَفَاتٍ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَحَمَلَ جِنَازَتَهُ وَلَدُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لِهَوَاهُ كَانَ فِي عُثْمَانَ. [غَزْوَةُ حِصْنِ كَمْخٍ] : وَفِيهَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ حِصْنَ كَمْخٍ وَمَعَهُمْ عُمَيْرُ بْنُ الْحُبَابِ السُّلَمِيُّ، فَصَعِدَ عَمِيرٌ السُّورَ وَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ حَتَّى كَشَفَ الرُّومَ فَصَعِدَ الْمُسْلِمُونَ، فَفَتَحَهُ بِعُمَيْرٍ، وَبِذَلِكَ كَانَ يَفْتَخِرُ وَيُفْخَرُ لَهُ بِذَلِكَ.

ثم دخلت سنة ستين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ] 60 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ غَزْوَةُ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ سُورِيَّةَ وَدُخُولُ جُنَادَةَ رُودِسَ وَهَدْمُهُ مَدِينَتَهَا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَ عَلَى وَفْدِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ) . ذِكْرُ وَفَاةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ خَطَبَ مُعَاوِيَةُ قَبْلَ مَرَضِهِ وَقَالَ: إِنِّي كَزَرْعٍ مُسْتَحْصَدٍ وَقَدْ طَالَتْ إِمْرَتِي عَلَيْكُمْ حَتَّى مَلِلْتُكُمْ وَمَلِلْتُمُونِي وَتَمَنَّيْتُ فِرَاقَكُمْ وَتَمَنَّيْتُمْ فِرَاقِي، وَلَنْ يَأْتِيَكُمْ بَعْدِي إِلَّا مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، كَمَا أَنَّ مَنْ قَبْلِي كَانَ خَيْرًا مِنِّي، وَقَدْ قِيلَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ» ، اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ لِقَاءَكَ فَأَحْبِبْ لِقَائِي وَبَارِكْ لِي فِيهِ! فَلَمْ يَمْضِ غَيْرُ قَلِيلٍ حَتَّى ابْتَدَأَ بِهِ مَرَضُهُ، فَلَمَّا مَرِضَ الْمَرَضَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ دَعَا ابْنَهُ يَزِيدَ فَقَالَ: يَا بُنِيَّ إِنِّي قَدْ كَفَيْتُكَ الشَّدَّ وَالتَّرْحَالَ، وَوَطَّأْتُ لَكَ الْأُمُورَ، وَذَلَّلْتُ لَكَ الْأَعْدَاءَ، وَأَخْضَعْتُ لَكَ رِقَابَ الْعَرَبِ، وَجَمَعْتُ لَكَ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ أَحَدٌ، فَانْظُرْ أَهْلَ الْحِجَازِ فَإِنَّهُمْ أَصْلُكَ، وَأَكْرِمْ مَنْ قَدِمَ عَلَيْكَ مِنْهُمْ، وَتَعَاهَدَ مَنْ غَابَ، وَانْظُرْ أَهْلَ الْعِرَاقِ:

فَإِنْ سَأَلُوكَ أَنْ تَعْزِلَ عَنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ عَامِلًا فَافْعَلْ، فَإِنَّ عَزْلَ عَامِلٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يُشْهَرَ عَلَيْكَ مِائَةُ أَلْفِ سَيْفٍ، وَانْظُرْ أَهْلَ الشَّامِ فَلْيَكُونُوا بِطَانَتَكَ وَعَيْبَتَكَ، فَإِنْ رَابَكَ مَنْ عَدُّوِكَ شَيْءٌ فَانْتَصِرْ بِهِمْ، فَإِذَا أَصَبْتَهُمْ فَارْدُدْ أَهْلَ الشَّامِ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَإِنَّهُمْ إِنْ أَقَامُوا بِغَيْرِ بِلَادِهِمْ تَغَيَّرَتْ أَخْلَاقُهُمْ، وَإِنِّي لَسْتُ أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ يُنَازِعَكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ: الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَإِنَّهُ رَجُلٌ قَدْ وَقَذَتْهُ الْعِبَادَةُ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ غَيْرُهُ بَايَعَكَ، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَهُوَ رَجُلٌ خَفِيفٌ وَلَنْ يَتْرُكَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ حَتَّى يُخْرِجُوهُ، فَإِنْ خَرَجَ وَظَفِرْتَ بِهِ فَاصْفَحْ عَنْهُ، فَإِنَّ لَهُ رَحِمًا مَاسَّةً وَحَقًّا عَظِيمًا وَقَرَابَةً مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا ابْنُ أَبِي بَكْرٍ فَإِنْ رَأَى أَصْحَابَهُ صَنَعُوا شَيْئًا صَنَعَ مِثْلَهُ، لَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا فِي النِّسَاءِ وَاللَّهْوِ، وَأَمَّا الَّذِي يَجْثِمُ لَكَ جُثُومَ الْأَسَدِ وَيُرَاوِغُكَ مُرَاوَغَةَ الثَّعْلَبِ فَإِنْ أَمْكَنَتْهُ فُرْصَةٌ وَثَبَ فَذَاكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَإِنْ هُوَ فَعَلَهَا بِكَ فَظَفِرْتَ بِهِ فَقَطِّعْهُ إِرَبًا إِرَبًا، وَاحْقِنْ دِمَاءَ قَوْمِكَ مَا اسْتَطَعْتَ. هَكَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذُكِرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ مُعَاوِيَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ يَزِيدَ كَانَ غَائِبًا فِي مَرَضِ أَبِيهِ وَمَوْتِهِ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ أَحْضَرَ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ وَمُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ الْمُرِّيَّ فَأَمَرَهُمَا أَنْ يُؤَدِّيَا عَنْهُ هَذِهِ الرِّسَالَةَ إِلَى يَزِيدَ ابْنِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. ثُمَّ مَاتَ بِدِمَشْقَ لِهِلَالِ رَجَبٍ، وَقِيلَ لِلنِّصْفِ مِنْهُ، وَقِيلَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْهُ، وَكَانَ مُلْكُهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا مُذِ اجْتَمَعَ لَهُ الْأَمْرُ وَبَايَعَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَقِيلَ كَانَ مُلْكُهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ إِلَّا أَيَّامًا، وَكَانَ عُمُرُهُ خَمْسًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ خَمْسٌ وَثَمَانِينَ. وَقِيلَ: وَلَمَّا اشْتَدَّتْ عِلَّتُهُ وَأُرْجِفَ بِهِ قَالَ لِأَهْلِهِ: احْشُوا عَيْنِي إِثْمِدًا وَادْهُنُوا رَأْسِي. فَفَعَلُوا وَبَرَّقُوا وَجْهَهُ بِالدُّهْنِ ثُمَّ مُهِّدَ لَهُ فَجَلَسَ وَأَذِنَ لِلنَّاسِ، فَسَلَّمُوا قِيَامًا وَلَمْ يَجْلِسْ

أَحَدٌ، فَلَمَّا خَرَجُوا عَنْهُ قَالُوا: هُوَ أَصَحُّ النَّاسِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ عِنْدِهِ: وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهِمْ ... أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ وَكَانَ بِهِ نُفَاثَاتٌ، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَسَانِي قَمِيصًا فَحَفِظْتُهُ، وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ يَوْمًا فَأَخَذْتُ قُلَامَتَهُ فَجَعَلْتُهَا فِي قَارُورَةٍ، فَإِذَا مُتُّ فَأَلْبِسُونِي ذَلِكَ الْقَمِيصَ وَاسْحَقُوا تِلْكَ الْقُلَامَةَ وَذَرُوهَا فِي عَيْنِي وَفَمِي فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَنِي بِبَرَكَتِهَا، ثُمَّ تَمَثَّلَ بِشِعْرِ الْأَشْهَبِ بْنِ رُمَيْلَةَ النَّهْشَلِيِّ: إِذَا مُتُّ مَاتَ الْجُودُ وَانْقَطَعَ النَّدَى ... مِنَ النَّاسِ إِلَّا مِنْ قَلِيلٍ مُصَرَّدِ وَرُدَّتْ أَكُفُّ السَّائِلِينَ وَأَمْسَكُوا ... مِنَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِخُلْفٍ مُجَدَّدِ فَقَالَتْ إِحْدَى بَنَاتِهِ: كَلَّا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْكَ. فَقَالَ مُتَمَثِّلًا بِشِعْرِ الْهُذَلِيِّ: وَإِذَا الْمَنِيَّةُ، الْبَيْتَ. وَقَالَ لِأَهْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ فَإِنَّهُ لَا وَاقِيَ لِمَنْ لَا يَتَّقِي اللَّهَ. ثُمَّ قَضَى وَأَوْصَى أَنْ يُرَدَّ نِصْفُ مَالِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَطِيبَ لَهُ الْبَاقِي لِأَنَّ عُمَرَ قَاسَمَ عُمَّالَهُ، وَأَنْشَدَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: إِنْ تُنَاقِشْ يَكُنْ نِقَاشُكَ يَا رَ ... بِّ عَذَابًا لَا طَوْقَ لِي بِالْعَذَابِ أَوْ تُجَاوِزْ فَأَنْتَ رَبٌّ صَفُوحٌ ... عَنْ مُسِيءٍ ذُنُوبُهُ كَالتُّرَابِ

وَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ أَخَذَتِ ابْنَتُهُ رَمْلَةُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهَا وَجَعَلَتْ تُفَلِّيهِ، فَقَالَ: إِنَّكِ لَتُفَلِّينَهُ حُوَّلًا قُلَّبًا، جَمَعَ الْمَالَ مِنْ شُبٍّ إِلَى دُبٍّ، فَلَيْتَهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ! ثُمَّ تَمَثَّلَ: لَقَدْ سَعَيْتُ لَكُمْ مِنْ سَعْيِ ذِي نَصَبٍ ... وَقَدْ كَفَيْتُكُمُ التَّطْوَافَ وَالرَّحَلَا وَبَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا يَفْرَحُونَ بِمَوْتِهِ، فَأَنْشَدَ: فَهَلْ مِنْ خَالِدٍ إِنْ مَا هَلَكْنَا ... وَهَلْ بِالْمَوْتِ يَا لِلنَّاسِ عَارُ؟ وَكَانَ فِي مَرَضِهِ رُبَّمَا اخْتَلَطَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَقَالَ مَرَّةً: كَمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْغُوطَةِ؟ فَصَاحَتْ بِنْتُهُ: وَاحُزْنَاهُ! فَأَفَاقَ فَقَالَ: إِنْ تَنْفِرِي فَقَدْ رَأَيْتِ مَنْفَرَا. فَلَمَّا مَاتَ خَرَجَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَأَكْفَانُ مُعَاوِيَةَ عَلَى يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ عُودَ الْعَرَبِ وَحَدَّ الْعَرَبِ وَجَدَّ الْعَرَبِ، قَطَعَ اللَّهُ بِهِ الْفِتْنَةَ وَمَلَّكَهُ عَلَى الْعِبَادِ وَفَتَحَ بِهِ الْبِلَادَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ وَهَذِهِ أَكْفَانُهُ وَنَحْنُ مُدْرِجُوهُ فِيهَا وَمُدْخِلُوهُ قَبْرَهُ وَمُخَلُّونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمَلِهِ ثُمَّ هُوَ الْهَرْجُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ يُرِيدُ [أَنْ] يَشْهَدَهُ فَعِنْدَ الْأُولَى. وَصَلَّى عَلَيْهِ الضَّحَّاكُ.

وَقِيلَ: لَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ، أَيْ مَرَضُ مُعَاوِيَةَ، كَانَ وَلَدُهُ يَزِيدُ بِحُوَّارِينَ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِ يَحُثُّونَهُ عَلَى الْمَجِيءِ لِيُدْرِكَهُ، فَقَالَ يَزِيدُ شِعْرًا: جَاءَ الْبَرِيدُ بِقِرْطَاسٍ يَخُبُّ بِهِ ... فَأَوْجَسَ الْقَلْبُ مِنْ قِرْطَاسِهِ فَزَعَا قُلْنَا: لَكَ الْوَيْلُ مَاذَا فِي كِتَابِكُمُ؟ ... قَالَ: الْخَلِيفَةُ أَمْسَى مُثْبَتًا وَجِعَا ثُمَّ انْبَعَثْنَا إِلَى خَوْضٍ مُزَمَّمَةٍ ... نَرْمِي الْفِجَاجَ بِهَا لَا نَأْتَلِي سِرَعَا فَمَادَتِ الْأَرْضُ أَوْ كَادَتْ تَمِيدُ بِنَا ... كَأَنَّ أَغْبَرَ مِنْ أَرْكَانِهَا انْقَطَعَا مَنْ لَمْ تَزَلْ نَفْسُهُ تُوفِي عَلَى شَرَفٍ ... تُوشِكْ مَقَالِيدُ تِلْكَ النَّفْسِ أَنْ تَقَعَا لَمَّا انْتَهَيْنَا وَبَابُ الدَّارِ مُنْصَفِقٌ ... وَصَوْتُ رَمْلَةَ رِيعَ الْقَلْبُ فَانْصَدَعَا ثُمَّ ارْعَوَى الْقَلْبُ شَيْئًا بَعْدَ طَيْرَتِهِ ... وَالنَّفْسُ تَعْلَمُ أَنْ قَدْ أُثْبِتَتْ جَزَعَا أَوْدَى ابْنُ هِنْدٍ وَأَوْدَى الْمَجْدُ يَتْبَعُهُ ... كَانَا جَمِيعًا فَمَاتَا قَاطِنَيْنِ مَعَا أَغَرُّ أَبْلَجُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِهِ ... لَوْ قَارَعَ النَّاسَ عَنْ أَحِسَابِهِمْ قَرَعَا

فَأَقْبَلَ يَزِيدُ وَقَدْ دُفِنَ فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ. ذِكْرُ نَسَبِهِ وَكُنْيَتِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَأَوْلَادِهِ أَمَّا نَسَبُهُ فَهُوَ: مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَأَمَّا نِسَاؤُهُ وَوَلَدُهُ، فَمِنْهُنَّ: مَيْسُونُ بِنْتُ بَحْدَلِ بْنِ أُنَيْفٍ الْكَلْبِيَّةِ أُمُّ يَزِيدَ ابْنِهِ، وَقِيلَ وَلَدَتْ بِنْتًا اسْمُهَا أَمَةُ رَبِّ الْمَشَارِقِ فَمَاتَتْ صَغِيرَةً: وَمِنْهُنَّ فَاخِتَةُ ابْنَةُ قَرَظَةَ بْنِ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مُنَافٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَعَبْدَ اللَّهِ ابْنَيْ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَحْمَقَ، اجْتَازَ يَوْمًا بِطَحَّانٍ وَبَغْلُهُ يَطْحَنُ، وَفِي عُنُقِهِ جَلَاجِلُ فَسَأَلَ عَنِ الْجَلَاجِلِ فَقَالَ: جَعَلْتُهَا فِي عُنُقِهِ لِأَعْلَمَ أَنْ قَدْ قَامَ فَلَمْ تَدُرِ الرَّحَا. فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَ وَحَرَّكَ رَأْسَهُ كَيْفَ تَعْلَمُ؟ فَقَالَ الطَّحَّانُ: إِنَّ بَغْلِي لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ مِثْلُ عَقْلِ الْأَمِيرِ. وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَمَاتَ صَغِيرًا. وَمِنْهُنَّ نَائِلَةُ ابْنَةُ عُمَارَةَ الْكِلَابِيَّةُ، تَزَوَّجَهَا وَقَالَ لِمَيْسُونَ: انْظُرِي إِلَيْهَا، فَنَظَرَتْ إِلَيْهَا وَقَالَتْ: رَأَيْتُهَا جَمِيلَةً، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ تَحْتَ سُرَّتِهَا خَالًا، لَيُوضَعَنَّ رَأْسُ زَوْجِهَا فِي حِجْرِهَا! فَطَلَّقَهَا مُعَاوِيَةُ وَتَزَوَّجَهَا حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا بَعْدَهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَقُتِلَ فَوُضِعَ رَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا. وَمِنْهُنَّ كَتْوَةُ بِنْتُ قَرَظَةَ أُخْتُ فَاخِتَةَ، وَغَزَا قُبْرُسَ وَهِيَ مَعَهُ فَمَاتَتْ هُنَاكَ. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ وَأَخْبَارِهِ وَقُضَاتِهِ وَكُتَّابِهِ لَمَّا بُويِعَ مُعَاوِيَةُ بِالْخِلَافَةِ اسْتَعْمَلَ عَلَى شُرْطَتِهِ قَيْسَ بْنَ حَمْزَةَ الْهَمْدَانِيَّ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ زِمْلَ بْنَ عَمْرٍو الْعُذْرِيَّ، وَقِيلَ السَّكْسَكِيَّ. وَكَانَ كَاتِبُهُ وَصَاحِبُ أَمْرِهِ سَرْجُونَ الرُّومِيَّ، وَعَلَى حَرَسِهِ رَجُلٌ مِنَ الْمَوَالِي يُقَالُ لَهُ الْمُخْتَارُ، وَقِيلَ أَبُو الْمُخَارِقِ مَالِكٌ مَوْلَى حِمْيَرَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ الْحَرَسَ، وَكَانَ عَلَى حُجَّابِهِ سَعْدٌ مَوْلَاهُ، وَعَلَى الْقَضَاءِ

فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَمَاتَ، فَاسْتَقْضَى أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ. وَكَانَ عَلَى دِيوَانِ الْخَاتَمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مِحْصَنٍ الْحِمْيَرِيُّ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ دِيوَانَ الْخَاتَمِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَمَرَ لِعَمْرِو بْنِ الزُّبَيْرِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَكَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ إِلَى زِيَادٍ، فَفَتَحَ عَمْرٌو الْكِتَابَ وَصَيَّرَ الْمِائَةَ مِائَتَيْنِ، فَلَمَّا رَفَعَ زِيَادٌ حِسَابَهُ أَنْكَرَهَا مُعَاوِيَةُ وَطَلَبَهَا مِنْ عَمْرٍو وَحَبَسَهُ، فَقَضَاهَا عَنْهُ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَحْدَثَ عَنْهُ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ دِيوَانَ الْخَاتَمِ وَحَزَمَ الْكُتُبَ، وَلَمْ تَكُنْ تُحْزَمُ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَذْكُرُونَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَدَهَاءَهُمَا وَعِنْدَكُمْ مُعَاوِيَةُ! قِيلَ: وَقَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ مِصْرَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: لَا تُسَلِّمُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ بِالْخِلَافَةِ فَإِنَّهُ أَهْيَبُ لَكُمْ فِي قَلْبِهِ وَصَغِّرُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ. فَلَمَّا قَدِمُوا قَالَ مُعَاوِيَةُ لِحُجَّابِهِ: كَأَنِّي بِابْنِ النَّابِغَةِ وَقَدْ صَغَّرَ أَمْرِي عِنْدَ الْقَوْمِ، فَانْظُرُوا إِذَا دَخَلَ الْقَوْمُ فَتَعْتِعُوهُمْ أَشَدَّ مَا يَحْضُرُكُمْ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْخَيَّاطِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَتَتَابَعَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: لَعَنَكُمُ اللَّهُ! نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُسَلِّمُوا عَلَيْهِ بِالْإِمَارَةِ فَسَلَّمْتُمْ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ! قِيلَ: وَدَخَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ وَلَدٌ لَهُ فَأَكْثَرَ مِنَ الْأَكْلِ، فَلَحَظَهُ مُعَاوِيَةُ، وَفَطِنَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَأَرَادَ أَنْ يَغْمِزَ ابْنَهُ فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْأَكْلِ، ثُمَّ عَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَلَيْسَ مَعَهُ ابْنُهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا فَعَلَ ابْنُكَ التِّلْقَامَةُ؟ قَالَ: اشْتَكَى. قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَكْلَهُ سَيُوَرِّثُهُ دَاءً. قَالَ جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءٍ: قَدِمَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي بُرْنُسٍ أَسْوَدَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِينَ اللَّهِ! قَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ. فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدِمَ الشَّيْخُ لِأُوَلِّيَهُ، وَاللَّهِ لَا أُوَلِّيهِ!

وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ: أَلَسْتُ أَنْصَحَ النَّاسِ لَكَ؟ قَالَ: بِذَلِكَ نِلْتَ مَا نِلْتَ. قَالَ جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءٍ أَيْضًا: كَانَ بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَنَالَ مِنْ عَلِيٍّ وَزَيْدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حَاضِرٌ، وَأُمُّهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيٍّ، فَعَلَاهُ بِالْعَصَا وَشَجَّهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِزَيْدٍ: عَمَدْتَ إِلَى شَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِ أَهْلِ الشَّامِ فَضَرَبْتَهُ! وَأَقْبَلَ عَلَى بُسْرٍ فَقَالَ: تَشْتُمُ عَلِيًّا وَهُوَ جَدُّهُ وَابْنُ الْفَارُوقِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ! أَتَرَى أَنْ يَصْبِرَ عَلَى ذَلِكَ؟ فَأَرْضَاهُمَا جَمِيعًا. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنِّي لَأَرْفَعُ نَفْسِي مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَنْبٌ أَعْظَمَ مِنْ عَفْوِي، وَجَهْلٌ أَكْبَرَ مِنْ حِلْمِي، وَعَوْرَةٌ لَا أُوَارِيهَا بِسَتْرِي، وَإِسَاءَةٌ أَكْثَرَ مِنْ إِحْسَانِي. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّكَ قَدْ لَهِجْتَ بِالشِّعْرِ، فَإِيَّاكَ وَالتَّشْبِيبَ بِالنِّسَاءِ فَتَعُرَّ الشَّرِيفَةَ، وَالْهِجَاءَ فَتَعُرَّ كَرِيمًا وَتَسْتَثِيرُ لَئِيمًا، وَالْمَدْحَ فَإِنَّهُ طُعْمَةُ الْوَقَاحِ، وَلَكِنِ افْخَرْ بِمَفَاخِرِ قَوْمِكَ وَقُلْ مِنَ الْأَمْثَالِ مَا تُزَيِّنُ بِهِ نَفْسَكَ وَتُؤَدِّبُ بِهِ غَيْرَكَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ: قِيلَ لِمُعَاوِيَةَ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَشَدُّهُمْ لِي تَحْبِيبًا إِلَى النَّاسِ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: الْعَقْلُ وَالْحِلْمُ وَالْعِلْمُ أَفْضَلُ مَا أُعْطِيَ الْعِبَادُ، فَإِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ، وَإِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ، وَإِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا غَضِبَ كَظَمَ، وَإِذَا قَدَرَ غَفَرَ، وَإِذَا أَسَاءَ اسْتَغْفَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَنْجَزَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ: أَغْلَظَ لِمُعَاوِيَةَ رَجُلٌ فَأَكْثَرَ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَحْلُمُ عَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ أَلْسِنَتِهِمْ مَا لَمْ يَحُولُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُلْكِنَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرٍ: لَامَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ عَلَى الْغِنَاءِ، فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ بُدَيْحٌ وَمُعَاوِيَةُ وَاضِعٌ رِجْلًا عَلَى رِجْلٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِبُدَيْحٍ: إِيهًا يَا

بُدَيْحُ! فَتَغَنَّى، فَحَرَّكَ مُعَاوِيَةُ رِجْلَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَهْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّ الْكَرِيمَ طَرُوبٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا رَأَيْتُ أَخْلَقَ لِلْمُلْكِ مِنْ مُعَاوِيَةَ، إِنْ كَانَ لَيَرِدُ النَّاسُ مِنْهُ عَلَى أَرْجَاءِ وَادٍ رَحْبٍ، وَلَمْ يَكُنْ كَالضَّيِّقِ الْحُصْحُصِ الْحَصِرِ، يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ مُغْضَبًا. وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو: وَقَفَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِقَبْرِ مُعَاوِيَةَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَتَرَحَّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ: قَبْرُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: قَبْرُ رَجُلٍ كَانَ وَاللَّهِ فِيمَا عَلِمْتُهُ يَنْطِقُ عَنْ عِلْمٍ، وَيَسْكُتُ عَنْ حِلْمٍ، إِذَا أَعْطَى أَغْنَى، وَإِذَا حَارَبَ أَفْنَى، ثُمَّ عَجَّلَ لَهُ الدَّهْرُ مَا أَخَّرَهُ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ بَعْدَهُ، هَذَا قَبْرُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُعَاوِيَةَ. وَمُعَاوِيَةُ أَوَّلُ خَلِيفَةٍ بَايَعَ لِوَلَدِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْبَرِيدَ، وَأَوَّلُ مَنْ سَمَّى الْغَالِيَةَ الَّتِي تُطَيِّبُ مِنَ الطِّيبِ غَالِيَةً، وَأَوَّلُ مَنْ عَمِلَ الْمَقْصُورَةَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَوَّلُ مَنْ خَطَبَ جَالِسًا، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. ذِكْرُ بَيْعَةِ يَزِيدَ قِيلَ: وَفِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ يَزِيدُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْخِلَافِ فِيهِ، فَلَمَّا تَوَلَّى كَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَلَى مَكَّةَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، وَعَلَى الْكُوفَةِ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَزِيدَ هِمَّةٌ إِلَّا بَيْعَةُ النَّفَرِ الَّذِينَ أَبَوْا عَلَى مُعَاوِيَةَ بَيْعَتَهُ، فَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ يُخْبِرُهُ بِمَوْتِ مُعَاوِيَةَ، وَكِتَابًا آخَرَ صَغِيرًا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَخُذْ حُسَيْنًا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَابْنَ الزُّبَيْرِ بِالْبَيْعَةِ أَخْذًا لَيْسَ فِيهِ رُخْصَةٌ حَتَّى يُبَايِعُوا، وَالسَّلَامُ. فَلَمَّا أَتَاهُ نَعْيُ مُعَاوِيَةَ فُظِعَ بِهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِ وَبَعَثَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَدَعَاهُ. وَكَانَ مَرْوَانُ عَامِلًا عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ قَبْلِ

الْوَلِيدِ، فَلَمَّا قَدِمَهَا الْوَلِيدُ كَانَ مَرْوَانُ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ مُتَكَارِهًا، فَلَمَّا رَأَى الْوَلِيدُ ذَلِكَ مِنْهُ شَتَمَهُ عِنْدَ جُلَسَائِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مَرْوَانَ فَانْقَطَعَ عَنْهُ وَلَمْ يَزَلْ مُصَارِمًا لَهُ حَتَّى جَاءَ نَعْيُ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا عَظُمَ عَلَى الْوَلِيدِ هَلَاكُهُ وَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ بَيْعَةِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ، اسْتَدْعَى مَرْوَانَ فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ بِمَوْتِ مُعَاوِيَةَ اسْتَرْجَعَ وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَاسْتَشَارَهُ الْوَلِيدُ كَيْفَ يَصْنَعُ. قَالَ: أَرَى أَنْ تَدْعُوَهُمُ السَّاعَةَ وَتَأْمُرَهُمْ بِالْبَيْعَةِ، فَإِنْ فَعَلُوا قَبِلْتَ مِنْهُمْ وَكَفَفْتَ عَنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا ضَرَبْتَ أَعْنَاقَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِمَوْتِ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّهُمْ إِنْ عَلِمُوا بِمَوْتِهِ وَثَبَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِنَاحِيَةٍ وَأَظْهَرَ الْخِلَافَ وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، أَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَلَا يَرَى الْقِتَالَ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَلِيَ عَلَى النَّاسِ إِلَّا أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ عَفْوًا. فَأَرْسَلَ الْوَلِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثٌ، إِلَى الْحُسَيْنِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ يَدْعُوهُمَا، فَوَجَدَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا جَالِسَانِ، فَأَتَاهُمَا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنِ الْوَلِيدُ يَجْلِسُ فِيهَا لِلنَّاسِ فَقَالَ: أَجِيبَا الْأَمِيرَ. فَقَالَا: انْصَرِفِ، الْآنَ نَأْتِيهِ. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِلْحُسَيْنِ: مَا تَرَاهُ بَعَثَ إِلَيْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَجْلِسُ فِيهَا؟ فَقَالَ الْحُسَيْنُ: أَظُنُّ أَنَّ طَاغِيَتَهُمْ قَدْ هَلَكَ فَبَعَثَ إِلَيْنَا لِيَأْخُذَنَا بِالْبَيْعَةِ قَبْلَ أَنْ يَفْشُوَ فِي النَّاسِ الْخَبَرُ. فَقَالَ: وَأَنَا مَا أَظُنُّ غَيْرَهُ، فَمَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ؟ قَالَ الْحُسَيْنُ: أَجْمَعُ فِتْيَانِي السَّاعَةَ ثُمَّ أَمْشِي إِلَيْهِ وَأُجْلِسُهُمْ عَلَى الْبَابِ وَأَدْخُلُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَإِنِّي أَخَافُهُ عَلَيْكَ إِذَا دَخَلْتَ. قَالَ: لَا آتِيهِ إِلَّا وَأَنَا قَادِرٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ. فَقَامَ فَجَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى بَابِ الْوَلِيدِ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي دَاخِلٌ فَإِذَا دَعَوْتُكُمْ أَوْ سَمِعْتُمْ صَوْتِي قَدْ عَلَا فَادْخُلُوا عَلَيَّ بِأَجْمَعِكُمْ وَإِلَّا فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ. ثُمَّ دَخَلَ فَسَلَّمَ، وَمَرْوَانُ عِنْدَهُ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: الصِّلَةُ خَيْرٌ مِنَ الْقَطِيعَةِ، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ مِنَ الْفَسَادِ، وَقَدْ آنَ لَكُمَا أَنْ تَجْتَمِعَا، أَصْلَحَ اللَّهُ ذَاتَ بَيْنِكُمَا، وَجَلَسَ، فَأَقْرَأَهُ الْوَلِيدُ الْكِتَابَ، وَنَعَى لَهُ مُعَاوِيَةَ وَدَعَاهُ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَاسْتَرْجَعَ الْحُسَيْنُ وَتَرَحَّمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَقَالَ: أَمَّا الْبَيْعَةُ فَإِنَّ مِثْلِي لَا يُبَايِعُ سِرًّا وَلَا يُجْتَزَأُ بِهَا مِنِّي سِرًّا، فَإِذَا خَرَجْتَ إِلَى النَّاسِ وَدَعَوْتَهُمْ لِلْبَيْعَةِ وَدَعَوْتَنَا مَعَهُمْ كَانَ الْأَمْرُ وَاحِدًا. فَقَالَ الْوَلِيدُ، وَكَانَ يُحِبُّ الْعَافِيَةَ: انْصَرِفْ. فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لَئِنْ فَارَقَكَ السَّاعَةَ وَلَمْ يُبَايِعْ لَا قَدَرْتَ مِنْهُ عَلَى مِثْلِهَا أَبَدًا حَتَّى تَكْثُرَ الْقَتْلَى بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، احْبِسْهُ فَإِنْ بَايَعَ وَإِلَّا ضَرَبْتَ عُنُقَهُ. فَوَثَبَ

عِنْدَ ذَلِكَ الْحُسَيْنُ وَقَالَ: ابْنَ الزَّرْقَاءِ أَأَنْتَ تَقْتُلُنِي أَمْ هُوَ؟ كَذَبْتَ وَاللَّهِ وَلَؤُمْتَ! ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَهُ. فَقَالَ مَرْوَانُ لِلْوَلِيدِ: عَصَيْتَنِي، لَا وَاللَّهِ لَا يُمَكِّنُكَ مِنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِهَا أَبَدًا، فَقَالَ الْوَلِيدُ: وَبِّخْ غَيْرَكَ يَا مَرْوَانُ، وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ عَنْهُ مِنْ مَالِ الدُّنْيَا وَمُلْكِهَا وَأَنِّي قَتَلْتُ حُسَيْنًا إِنْ قَالَ لَا أُبَايِعُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنَّ أَنَّ امْرَأً يُحَاسَبُ بِدَمِ الْحُسَيْنِ لَخَفِيفُ الْمِيزَانِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ مَرْوَانُ: قَدْ أَصَبْتَ. يَقُولُ لَهُ هَذَا وَهُوَ غَيْرُ حَامِدٍ لَهُ عَلَى رَأْيِهِ. وَأَمَّا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: الْآنَ آتِيكُمْ. ثُمَّ أَتَى دَارَهُ فَكَمَنَ فِيهَا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ فَوَجَدَهُ قَدْ جَمَعَ أَصْحَابَهُ وَاحْتَرَزَ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ الْوَلِيدُ وَهُوَ يَقُولُ: أَمْهِلُونِي. فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ مَوَالِيهِ، فَشَتَمُوهُ وَقَالُوا لَهُ: يَا ابْنَ الْكَاهِلِيَّةِ لَتَأْتِيَنَّ الْأَمِيرَ أَوْ لَيَقْتُلَنَّكَ! فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَرَبْتُ لِكَثْرَةِ الْإِرْسَالِ، فَلَا تُعَجِّلُونِي حَتَّى أَبْعَثَ إِلَى الْأَمِيرِ مَنْ يَأْتِينِي بِرَأْيِهِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَخَاهُ جَعْفَرَ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ، كُفَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَإِنَّكَ قَدْ أَفْزَعْتَهُ وَذَعَرْتَهُ وَهُوَ يَأْتِيكَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمُرْ رُسُلَكَ فَلْيَنْصَرِفُوا عَنْهُ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ فَانْصَرَفُوا. وَخَرَجَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَخَذَ طَرِيقَ الْفُرْعِ هُوَ وَأَخُوهُ جَعْفَرٌ لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ وَسَارَا نَحْوَ مَكَّةَ، فَسَرَّحَ الرِّجَالَ فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يُدْرِكُوهُ، فَرَجَعُوا وَتَشَاغَلُوا بِهِ عَنِ الْحُسَيْنِ لَيْلَتَهُمْ، ثُمَّ أَرْسَلَ الرِّجَالَ إِلَى الْحُسَيْنِ فَقَالَ لَهُمْ: أَصْبِحُوا ثُمَّ تَرَوْنَ وَنَرَى، وَكَانُوا يُبْقُونَ عَلَيْهِ، فَكَفُّوا عَنْهُ، فَسَارَ مِنْ لَيْلَتِهِ: وَكَانَ مَخْرَجُ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَبْلَهُ بِلَيْلَةٍ، وَأَخَذَ مَعَهُ بَنِيهِ وَإِخْوَتَهُ وَبَنِي أَخِيهِ وَجُلَّ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ: يَا أَخِي أَنْتَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ وَأَعَزُّهُمْ عَلَيَّ وَلَسْتُ أَذَّخِرُ النَّصِيحَةَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ أَحَقَّ بِهَا مِنْكَ، تَنَحَّ بِبَيْعَتِكَ عَنْ يَزِيدَ وَعَنِ الْأَمْصَارِ مَا اسْتَطَعْتَ وَابْعَثْ رُسُلَكَ إِلَى النَّاسِ وَادْعُهُمْ إِلَى نَفْسِكَ فَإِنْ بَايَعُوا لَكَ حَمِدْتَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى غَيْرِكَ لَمْ يَنْقُصِ اللَّهُ بِذَلِكَ دِينَكَ وَلَا عَقْلَكَ وَلَا تَذْهَبُ بِهِ مُرُوءَتُكَ وَلَا فَضْلُكَ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَأْتِيَ مِصْرًا وَجَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ فَيَخْتَلِفُوا

عَلَيْكَ، فَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ مَعَكَ وَأُخْرَى عَلَيْكَ، فَيَقْتَتِلُونَ فَتَكُونُ لِأَوَّلِ الْأَسِنَّةِ، فَإِذَا خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا نَفْسًا وَأَبًا وَأُمًّا أَضْيَعُهَا دَمًا وَأَذَلُّهَا أَهْلًا. قَالَ الْحُسَيْنُ: فَأَيْنَ أَذْهَبُ يَا أَخِي؟ قَالَ: انْزِلْ مَكَّةَ فَإِنِ اطْمَأَنَّتْ بِكَ الدَّارُ فَبِسَبِيلِ ذَلِكَ، وَإِنْ نَأْتِ بِكَ لَحِقْتَ بِالرِّمَالِ وَشَعَفِ الْجِبَالِ وَخَرَجْتَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى تَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُ النَّاسِ، وَيَفْرُقَ لَكَ الرَّأْيُ، فَإِنَّكَ أَصْوَبُ مَا يَكُونُ رَأْيًا وَأَحْزَمُهُ عَمَلًا حِينَ تَسْتَقْبِلُ الْأُمُورَ اسْتِقْبَالًا، وَلَا تَكُونُ الْأُمُورُ عَلَيْكَ أَبَدًا أَشْكَلَ مِنْهَا حِينَ تَسْتَدْبِرُهَا. قَالَ: يَا أَخِي قَدْ نَصَحْتَ وَأَشْفَقْتَ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ رَأْيُكَ سَدِيدًا وَمُوَفَّقًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ يَتَمَثَّلُ بُقُولِ يَزِيدَ بْنِ مُفَرِّغٍ: لَا ذَعَرْتُ السَّوَامَ فِي شَفَقِ الصُّبْ ... حِ مُغِيرًا وَلَا دُعِيتُ يَزِيدَا يَوْمَ أُعْطَى مِنَ الْمَهَانَةِ ضَيْمًا ... وَالْمَنَايَا يَرْصُدْنَنِي أَنْ أَحِيدَا وَلَمَّا سَارَ الْحُسَيْنُ نَحْوَ مَكَّةَ قَرَأَ: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] الْآيَةَ. فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ قَرَأَ: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: 22] الْآيَةَ. ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيدَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ لِيُبَايِعَ فَقَالَ: إِذَا بَايَعَ النَّاسُ بَايَعْتُ، فَتَرَكُوهُ وَكَانُوا لَا يَتَخَوَّفُونَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ فَعَادَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَقِيَهُمَا الْحُسَيْنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ فَسَأَلَاهُمَا: مَا وَرَاءَكُمَا؟ فَقَالَا: مَوْتُ مُعَاوِيَةَ وَبَيْعَةُ يَزِيدَ. فَقَالَ ابْنُ

عُمَرَ: لَا تُفَرِّقَا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدِمَ هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ الْمَدِينَةَ. فَلَمَّا بَايَعَ النَّاسُ بَايَعَا. قَالَ: وَدَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مَكَّةَ وَعَلَيْهَا عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ، فَلَمَّا دَخَلَهَا قَالَ: أَنَا عَائِذٌ بِالْبَيْتِ. وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي بِصَلَاتِهِمْ وَلَا يَفِيضُ بِإِفَاضَتِهِمْ، وَكَانَ يَقِفُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ نَاحِيَةً. ذِكْرُ عَزْلِ الْوَلِيدِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَوِلَايَةِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ عَنِ الْمَدِينَةِ، عَزَلَهُ يَزِيدُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ الْأَشْدَقَ، فَقَدِمَهَا فِي رَمَضَانَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَظِيمَ الْكِبَرِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى شُرْطَتِهِ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ لِمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ مِنَ الْبَغْضَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَضَرَبَهُمْ ضَرْبًا شَدِيدًا لِهَوَاهُمْ فِي أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، مِنْهُمْ: أَخُوهُ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَغَيْرُهُمْ، فَضَرَبَهُمُ الْأَرْبَعِينَ إِلَى الْخَمْسِينَ إِلَى السِّتِينَ. فَاسْتَشَارَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ فِيمَنْ يُرْسِلُهُ إِلَى أَخِيهِ. فَقَالَ: لَا تُوَجِّهْ إِلَيْهِ رَجُلًا أَنَكَأَ لَهُ مِنِّي. فَجَهَّزَ مَعَهُ النَّاسَ وَفِيهِمْ أُنَيْسُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ فِي سَبْعِمِائَةٍ، فَجَاءَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فَقَالَ لَهُ: لَا تَغْزُ مَكَّةَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُحِلَّ حُرْمَةَ الْبَيْتِ وَخَلُّوا ابْنَ الزُّبَيْرِ فَقَدْ كَبِرَ وَلَهُ سِتُّونَ سَنَةً وَهُوَ لَجُوجٌ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ: وَاللَّهِ لَنَغْزُوَنَّهُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ مِنْ رَغِمَ. وَأَتَى أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ إِلَى عَمْرٍو فَقَالَ لَهُ: لَا تَغْزُ مَكَّةَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّمَا أُذِنَ لِي بِالْقِتَالِ فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ» . فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: نَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْكَ أَيُّهَا الشَّيْخُ. فَسَارَ أُنَيْسٌ فِي مُقَدِّمَتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ يَزِيدَ كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ لِيُرْسِلَ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، فَفَعَلَ، فَأَرْسَلَهُ وَمَعَهُ جَيْشٌ نَحْوُ أَلْفَيْ رَجُلٍ، فَنَزَلَ أُنَيْسٌ بِذِي طُوًى وَنَزَلَ عَمْرٌو بِالْأَبْطَحِ، فَأَرْسَلَ عَمْرٌو إِلَى أَخِيهِ: بِرَّ يَمِينَ يَزِيدَ، وَكَانَ حَلَفَ أَنْ لَا يَقْبَلَ بَيْعَتَهُ إِلَّا أَنْ يُؤْتِيَ بِهِ فِي

جَامِعَةٍ، وَيُقَالُ: حَتَّى أَجْعَلَ فِي عُنُقِكَ جَامِعَةً مِنْ فِضَّةٍ لَا تُرَى، وَلَا يَضْرِبُ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فَإِنَّكَ فِي بَلَدٍ حَرَامٍ. فَأَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ نَحْوَ أُنَيْسٍ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِمَّنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ، فَهَزَمَهُ ابْنُ صَفْوَانَ بِذِي طُوًى وَأَجْهَزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَقَتَلَ أُنَيْسَ بْنَ عَمْرٍو وَسَارَ مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى عَمْرِو بْنِ الزُّبَيْرِ، فَتَفَرَّقَ عَنْ عَمْرٍو أَصْحَابُهُ، فَدَخَلَ دَارَ (ابْنِ) عَلْقَمَةَ، فَأَتَاهُ أَخُوهُ عُبَيْدَةُ فَأَجَارَهُ، ثُمَّ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ عَمْرًا، فَقَالَ: أَتُجِيرُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ! هَذَا مَا لَا يَصْلُحُ وَمَا أَمَرْتُكَ أَنْ تُجِيرَ هَذَا الْفَاسِقَ الْمُسْتَحِلَّ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ. ثُمَّ أَقَادَ عَمْرًا مِنْ كُلِّ مَنْ ضَرَبَهُ إِلَّا الْمُنْذِرَ وَابْنَهُ فَإِنَّهُمَا أَبَيَا أَنْ يَسْتَقِيدَا، وَمَاتَ تَحْتَ السِّيَاطِ. ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ مُرَاسَلَةِ الْكُوفِيِّينَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ لِيَسِيرَ إِلَيْهِمْ وَقَتْلِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ لَمَّا خَرَجَ الْحُسَيْنُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ لَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ فَقَالَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أَمَّا الْآنَ فَمَكَّةَ، وَأَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَخِيرُ اللَّهَ. قَالَ خَارَ اللَّهُ لَكَ وَجَعَلَنَا فِدَاكَ! فَإِذَا أَتَيْتَ مَكَّةَ فَإِيَّاكَ أَنْ تَقْرَبَ الْكُوفَةَ فَإِنَّهَا بَلْدَةٌ مَشْئُومَةٌ، بِهَا قُتِلَ أَبُوكَ وَخُذِلَ أَخُوكَ وَاغْتِيلَ بِطَعْنَةٍ كَادَتْ تَأْتِي عَلَى نَفْسِهِ، الْزَمِ الْحَرَمَ فَإِنَّكَ سَيِّدُ الْعَرَبِ لَا يَعْدِلُ بِكَ أَهْلُ الْحِجَازِ أَحَدًا وَيَتَدَاعَى إِلَيْكَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، لَا تُفَارِقِ الْحَرَمَ، فِدَاكَ عَمِّي وَخَالِي! فَوَاللَّهِ لَئِنْ هَلَكْتَ لَنُسْتَرَقَنَّ بَعْدَكَ. فَأَقْبَلَ حَتَّى نَزَلَ مَكَّةَ وَأَهْلُهَا مُخْتَلِفُونَ إِلَيْهِ وَيَأْتُونَهُ وَمَنْ بِهَا مِنَ الْمُعْتَمِرِينَ وَأَهْلِ الْآفَاقِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ بِهَا قَدْ لَزِمَ جَانِبَ الْكَعْبَةِ فَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَهَا عَامَّةَ النَّهَارِ وَيَطُوفُ وَيَأْتِي الْحُسَيْنَ فِيمَنْ يَأْتِيهِ وَلَا يَزَالُ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِالرَّأْيِ، وَهُوَ أَثْقَلُ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ لَا يُبَايِعُونَهُ (مَا دَامَ الْحُسَيْنُ بَاقِيًا) بِالْبَلَدِ. وَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ الْكُوفَةِ مَوْتُ مُعَاوِيَةَ وَامْتِنَاعُ الْحُسَيْنِ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ الْبَيْعَةِ

أَرَجَفُوا بِيَزِيدَ، وَاجْتَمَعَتِ الشِّيعَةُ فِي مَنْزِلِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ (الْخُزَاعِيِّ، فَذَكَرُوا مَسِيرَ الْحُسَيْنِ إِلَى مَكَّةَ وَكَتَبُوا إِلَيْهِ عَنْ نَفَرٍ، مِنْهُمْ: سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ الْخُزَاعِيُّ) ، وَالْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ وَحَبِيبُ بْنُ مُطَهَّرٍ وَغَيْرُهُمْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنَّنَا نَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَصَمَ عَدُوَّكَ الْجَبَّارَ الْعَنِيدَ الَّذِي انْتَزَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فَابْتَزَّهَا أَمْرَهَا، وَغَصَبَهَا فَيْئَهَا، وَتَأَمَّرَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ رِضًى مِنْهَا ثُمَّ قَتَلَ خِيَارَهَا، وَاسْتَبْقَى شِرَارَهَا، وَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْنَا إِمَامٌ فَأَقْبِلْ؛ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَنَا بِكَ عَلَى الْحَقِّ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ لَسْنَا نَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي جُمُعَةٍ وَلَا عِيدٍ، وَلَوْ بَلَغَنَا إِقْبَالُكَ إِلَيْنَا أَخْرَجْنَاهُ حَتَّى نُلْحِقَهُ بِالشَّامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَسَيَّرُوا الْكِتَابَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبُعٍ الْهَمْدَانِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَالٍ، ثُمَّ كَتَبُوا إِلَيْهِ كِتَابًا آخَرَ وَسَيَّرُوهُ بَعْدَ لَيْلَتَيْنِ، فَكَتَبَ النَّاسُ مَعَهُ نَحْوًا مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ صَحِيفَةً ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ رَسُولًا ثَالِثًا يَحُثُّونَهُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ وَحَجَّارُ بْنُ أَبْجَرَ وَيَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ وَيَزِيدُ بْنُ رُوَيْمٍ وَعُرْوَةُ بْنُ قَيْسٍ وَعَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ الزُّبَيْدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَيْرٍ التَّمِيمِيُّ بِذَلِكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِمُ الْحُسَيْنُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْكُتُبِ عِنْدَهُ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ فَهِمْتُ كُلَّ الَّذِي اقْتَصَصْتُمْ وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ أَخِي وَابْنَ عَمِّي وَثِقَتِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ وَأَمَرْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيَّ بِحَالِكُمْ وَأَمْرِكُمْ وَرَأْيِكُمْ، فَإِنْ كَتَبَ إِلَيَّ أَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ وَذَوِي الْحِجَى مِنْكُمْ عَلَى مِثْلِ مَا قَدِمَتْ بِهِ رُسُلُكُمْ أَقْدَمُ إِلَيْكُمْ وَشِيكًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَعَمْرِي مَا الْإِمَامُ إِلَّا الْعَامِلُ بِالْكِتَابِ وَالْقَائِمُ بِالْقِسْطِ وَالدَّائِنُ بِدِينِ الْحَقِّ، وَالسَّلَامُ. وَاجْتَمَعَ نَاسٌ مِنَ الشِّيعَةِ بِالْبَصْرَةِ فِي مَنْزِلِ امْرَأَةٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ بِنْتُ سَعْدٍ، وَكَانَتْ تَتَشَيَّعُ، وَكَانَ مَنْزِلُهَا لَهُمْ مَأْلَفًا يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ. فَعَزَمَ يَزِيدُ بْنُ نُبَيْطٍ عَلَى

الْخُرُوجِ إِلَى الْحُسَيْنِ، وَهُوَ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَكَانَ لَهُ بَنُونَ عَشْرَةٌ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَخْرُجُ مَعِي؟ فَخَرَجَ مَعَهُ ابْنَانِ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ، فَسَارُوا فَقَدِمُوا عَلَيْهِ بِمَكَّةَ ثُمَّ سَارُوا مَعَهُ فَقُتِلُوا مَعَهُ. ثُمَّ دَعَا الْحُسَيْنُ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ فَسَيَّرَهُ نَحْوَ الْكُوفَةِ وَأَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَكِتْمَانِ أَمْرِهِ وَاللُّطْفِ، فَإِنْ رَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ لَهُ عَجَّلَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ. فَأَقْبَلَ مُسْلِمٌ إِلَى الْمَدِينَةِ فَصَلَّى فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَدَّعَ أَهْلَهُ وَاسْتَأْجَرَ دَلِيلَيْنِ مِنْ قَيْسٍ، فَأَقْبَلَا بِهِ، فَضَلَّا الطَّرِيقَ وَعَطِشُوا، فَمَاتَ الدَّلِيلَانِ مِنَ الْعَطَشِ وَقَالَا لِمُسْلِمٍ: هَذَا الطَّرِيقُ إِلَى الْمَاءِ. فَكَتَبَ مُسْلِمٌ إِلَى الْحُسَيْنِ: إِنِّي أَقْبَلْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَاسْتَأْجَرْتُ دَلِيلَيْنِ فَضَلَّا الطَّرِيقَ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمَا الْعَطَشُ فَمَاتَا، وَأَقْبَلْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الْمَاءِ فَلَمْ نَنْجُ إِلَّا بِحُشَاشَةِ أَنْفُسِنَا، وَذَلِكَ الْمَاءُ بِمَكَانٍ يُدْعَى الْمَضِيقُ مِنْ بَطْنِ الْخُبَيْتِ، وَقَدْ تَطَيَّرْتُ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَعْفَيْتَنِي وَبَعَثْتَ غَيْرِي. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَكُونَ حَمَلَكَ عَلَى الْكِتَابِ إِلَيَّ إِلَّا الْجُبْنُ، فَامْضِ لِوَجْهِكَ، وَالسَّلَامُ. فَسَارَ مُسْلِمٌ حَتَّى أَتَى الْكُوفَةَ وَنَزَلَ فِي دَارِ الْمُخْتَارِ، وَقِيلَ غَيْرُهَا، وَأَقْبَلَتِ الشِّيعَةُ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ، فَكُلَّمَا اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ قَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ الْحُسَيْنِ فَيَبْكُونَ وَيَعِدُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْقِتَالَ وَالنُّصْرَةَ، وَاخْتَلَفَتْ [إِلَيْهِ] الشِّيعَةُ حَتَّى عُلِمَ بِمَكَانِهِ وَبَلَغَ ذَلِكَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، وَهُوَ أَمِيرُ الْكُوفَةِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَلَا تُسَارِعُو اإِلَى الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ، فَإِنَّ فِيهِمَا تَهْلِكُ الرِّجَالُ وَتُسْفَكُ الدِّمَاءُ وَتُغْصَبُ الْأَمْوَالُ. وَكَانَ حَلِيمًا نَاسِكًا يُحِبُّ الْعَافِيَةَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَا أُقَاتِلُ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنِي، وَلَا أَثِبُ عَلَى مَنْ لَا يَثِبُ عَلَيَّ، وَلَا أُنَبِّهُ نَائِمَكُمْ، وَلَا أَتَحَرَّشُ بِكُمْ، وَلَا آخُذُ بِالْقَرْفِ وَلَا الظِّنَّةِ وَلَا التُّهْمَةِ، وَلَكِنَّكُمْ إِنْ أَبْدَيْتُمْ صَفْحَتَكُمْ، وَنَكَثْتُمْ بَيْعَتَكُمْ، وَخَالَفْتُمْ إِمَامَكُمْ فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَأَضْرِبَنَّكُمْ بِسَيْفِي مَا ثَبَتَ قَائِمُهُ بِيَدِي، وَ [لَوْ] لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ نَاصِرٌ وَلَا مُعِينٌ، أَمَا إِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ مِنْكُمْ أَكْثَرَ مِمَّنْ يُرْدِيهِ الْبَاطِلُ. فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ سَعِيدٍ الْحَضْرَمِيُّ حَلِيفُ بَنِي أُمَيَّةَ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُصْلِحُ مَا تَرَى إِلَّا الْغَشْمُ، إِنَّ هَذَا الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ رَأْيُ الْمُسْتَضْعَفِينَ. فَقَالَ: أَكُونُ مِنْ

الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْأَعَزِّينَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَنَزَلَ. فَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ إِلَى يَزِيدَ يُخْبِرُهُ بِقُدُومِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ الْكُوفَةَ وَمُبَايَعَةِ النَّاسِ لَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنْ كَانَ لَكَ فِي الْكُوفَةِ حَاجَةٌ فَابْعَثْ إِلَيْهَا رَجُلًا قَوِيًّا يُنْفِذُ أَمْرَكَ وَيَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِكَ فِي عَدُوِّكَ، فَإِنَّ النُّعْمَانَ رَجُلٌ ضَعِيفٌ أَوْ هُوَ يَتَضَعَّفُ. وَكَانَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ إِلَيْهِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَعَمْرُو بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بِنَحْوِ ذَلِكَ. فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْكُتُبُ عِنْدَ يَزِيدَ دَعَا سَرْجُونَ مَوْلَى مُعَاوِيَةَ فَأَقْرَأَهُ الْكُتُبَ وَاسْتَشَارَهُ فِيمَنْ يُوَلِّيهِ الْكُوفَةَ، وَكَانَ يَزِيدُ عَاتِبًا عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ سَرْجُونُ: أَرَأَيْتَ لَوْ نُشِرَ لَكَ مُعَاوِيَةُ كَنْتَ تَأْخُذُ بِرَأْيِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَخْرِجْ عَهْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَى الْكُوفَةِ. فَقَالَ: هَذَا رَأْيُ مُعَاوِيَةَ، وَمَاتَ وَقَدْ أَمَرَ بِهَذَا الْكِتَابِ. فَأَخَذَ بِرَأْيِهِ وَجَمَعَ الْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِعَهْدِهِ وَسَيَّرَهُ إِلَيْهِ مَعَ مُسْلِمِ بْنِ عَمْرٍو الْبَاهِلِيِّ وَالِدِ قُتَيْبَةَ، فَأَمَرَهُ بِطَلَبِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ وَبِقَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ. فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ أُمِرَ بِالتَّجَهُّزِ لِيَبْرُزَ مِنَ الْغَدِ. وَكَانَ الْحُسَيْنُ قَدْ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ نُسْخَةً وَاحِدَةً إِلَى الْأَشْرَافِ، فَكَتَبَ إِلَى مَالِكِ بْنِ مِسْمَعٍ الْبَكْرِيِّ، وَالْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، وَالْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ، وَمَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَيْسِ بْنِ الْهَيْثَمِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ، يَدْعُوهُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ مَاتَتْ وَالْبِدْعَةَ قَدْ أُحْيِيَتْ، فَكُلُّهُمْ كَتَمُوا كِتَابَهُ إِلَّا الْمُنْذِرَ بْنَ الْجَارُودِ فَإِنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُونَ دَسِيسًا مِنِ ابْنِ زِيَادٍ، فَأَتَاهُ بِالرَّسُولِ وَالْكِتَابِ فَضَرَبَ عُنُقَ الرَّسُولِ وَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَوَاللَّهِ مَا بِي تُقْرَنُ الصَّعْبَةُ، وَمَا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ، وَإِنِّي لَنَكِلٌ لِمَنْ عَادَانِي وَسَهْمٌ لِمَنْ حَارَبَنِي، وَأَنْصَفَ الْقَارَةَ مَنْ رَامَاهَا، يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ إِنَّ أَمِيرَ

الْمُؤْمِنِينَ قَدْ وَلَّانِي الْكُوفَةَ وَأَنَا غَادٍ إِلَيْهَا بِالْغَدَاةِ وَقَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَيْكُمْ أَخِي عُثْمَانَ بْنَ زِيَادٍ، فَإِيَّاكُمْ وَالْخِلَافَ وَالْإِرْجَافَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ بَلَغَنِي عَنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ خِلَافٌ لَأَقْتُلَنَّهُ وَعَرِيفَهُ وَوَلِيَّهُ، وَلَآخُذَنَّ الْأَدْنَى بِالْأَقْصَى، حَتَّى تَسْتَقِيمُوا وَلَا يَكُونَ فِيكُمْ مُخَالِفٌ وَلَا مُشَاقٌّ، وَإِنِّي أَنَا ابْنُ زِيَادٍ أَشْبَهْتُهُ مِنْ بَيْنِ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى فَلَمْ يَنْتَزِعْنِي شَبَهُ خَالٍ وَلَا ابْنُ عَمٍّ. ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ وَمَعَهُ مُسْلِمُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ وَشَرِيكُ بْنُ الْأَعْوَرِ الْحَارِثِيُّ وَحَشَمُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَكَانَ شَرِيكٌ شِيعِيًّا، وَقِيلَ: كَانَ مَعَهُ خَمْسُمِائَةٍ فَتَسَاقَطُوا عَنْهُ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ سَقَطَ شَرِيكٌ، وَرَجَوْا أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِمْ وَيَسْبِقَهُ الْحُسَيْنُ إِلَى الْكُوفَةِ فَلَمْ يَقِفْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ حَتَّى دَخَلَ الْكُوفَةَ وَحْدَهُ، فَجَعَلَ يَمُرُّ بِالْمَجَالِسِ فَلَا يَشُكُّونَ أَنَّهُ الْحُسَيْنُ فَيَقُولُونَ: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ! وَهُوَ لَا يُكَلِّمُهُمْ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ دُورِهِمْ، فَسَاءَهُ مَا رَأَى مِنْهُمْ، وَسَمِعَ النُّعْمَانُ فَأَغْلَقَ عَلَيْهِ الْبَابَ وَهُوَ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ الْحُسَيْنُ، وَانْتَهَى إِلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ وَمَعَهُ الْخَلْقُ يَصِيحُونَ، فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَلَّا تَنَحَّيْتَ عَنِّي! فَوَاللَّهِ مَا أَنَا بِمُسْلِمٍ إِلَيْكَ أَمَانَتِي وَمَا لِي فِي قِتَالِكَ مِنْ حَاجَةٍ! فَدَنَا مِنْهُ عُبَيْدُ اللَّهِ وَقَالَ لَهُ: افْتَحْ لَا فَتَحْتَ! فَسَمِعَهَا إِنْسَانٌ خَلْفَهُ فَرَجَعَ إِلَى النَّاسِ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ ابْنُ مَرْجَانَةَ. فَفَتَحَ لَهُ النُّعْمَانُ فَدَخَلَ، وَأَغْلَقُوا الْبَابَ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، وَأَصْبَحَ فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقِيلَ: بَلْ خَطَبَهُمْ مِنْ يَوْمِهِ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّانِي مِصْرَكُمْ وَثَغْرَكُمْ وَفَيْئَكُمْ، وَأَمَرَنِي بِإِنْصَافِ مَظْلُومِكُمْ، وَإِعْطَاءِ مَحْرُومِكُمْ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَى سَامِعِكُمْ وَمُطِيعِكُمْ، وَبِالشِّدَّةِ عَلَى مُرِيبِكُمْ وَعَاصِيكُمْ، وَأَنَا مُتَّبِعٌ فِيكُمْ أَمْرَهُ، وَمُنَفِّذٌ فِيكُمْ عَهْدَهُ، فَأَنَا لِمُحْسِنِكُمْ كَالْوَالِدِ الْبَرِّ، وَلِمُطِيعِكُمْ كَالْأَخِ الشَّقِيقِ، وَسَيْفِي وَسَوْطِي عَلَى مَنْ تَرَكَ أَمْرِي وَخَالَفَ عَهْدِي، فَلْيُبْقِ امْرُؤٌ عَلَى نَفْسِهِ. ثُمَّ نَزَلَ فَأَخَذَ الْعُرَفَاءَ وَالنَّاسَ أَخْذًا شَدِيدًا وَقَالَ: اكْتُبُوا إِلَيَّ الْغُرَبَاءَ وَمَنْ فِيكُمْ

مِنْ طَلِبَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ فِيكُمْ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ الَّذِينَ رَأْيُهُمُ الْخِلَافُ وَالشِّقَاقُ، فَمَنْ كَتَبَهُمْ إِلَيَّ فَبَرِيءٌ، وَمَنْ لَمْ يَكْتُبْ لَنَا أَحَدًا فَلْيَضْمَنْ لَنَا مَا فِي عَرَافَتِهِ أَنْ لَا يُخَالِفَنَا فِيهِمْ مُخَالِفٌ وَلَا يَبْغِي عَلَيْنَا مِنْهُمْ بَاغٍ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَبَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ وَحَلَّالُ لَنَا دَمُهُ وَمَالُهُ، وَأَيُّمَا عَرِيفٍ وُجِدَ فِي عَرَافَتِهِ مِنْ بُغْيَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَحَدٌ لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَيْنَا صُلِبَ عَلَى بَابِ دَارِهِ وَأُلْقِيَتْ تِلْكَ الْعَرَافَةُ مِنَ الْعَطَاءِ وَسُيِّرَ إِلَى مَوْضِعٍ بِعُمَانَ الزَّارَةِ. ثُمَّ نَزَلَ. وَسَمِعَ مُسْلِمٌ بِمَقَالَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَخَرَجَ مِنْ دَارِ الْمُخْتَارِ وَأَتَى دَارَ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ الْمُرَادِيِّ فَدَخَلَ بَابَهُ وَاسْتَدْعَى هَانِئًا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ مَكَانَهُ فَقَالَ لَهُ مُسْلِمٌ: أَتَيْتُكَ لِتُجِيرَنِي وَتُضَيَّفَنِي. فَقَالَ لَهُ هَانِئٌ: لَقَدْ كَلَّفْتَنِي شَطَطًا، وَلَوْلَا دُخُولُكَ دَارِي لَأَحْبَبْتُ أَنْ تَنْصَرِفَ عَنِّي، غَيْرَ أَنَّهُ يَأْخُذُنِي مِنْ ذَلِكَ ذِمَامٌ، ادْخُلْ. فَآوَاهُ، فَاخْتَلَفَتِ الشِّيعَةُ إِلَيْهِ فِي دَارِ هَانِئٍ. وَدَعَا ابْنُ زِيَادٍ مَوْلًى لَهُ، وَأَعْطَاهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَالَ لَهُ: اطْلُبْ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ وَأَصْحَابَهُ وَالْقَهَمَ وَأَعْطِهِمْ هَذَا الْمَالَ وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّكَ مِنْهُمْ وَاعْلَمْ أَخْبَارَهُمْ. فَفَعَلَ ذَلِكَ وَأَتَى مُسْلِمَ بْنَ عَوْسَجَةَ الْأَسَدِيَّ بِالْمَسْجِدِ فَسَمِعَ النَّاسَ يَقُولُونَ: هَذَا يُبَايِعُ لِلْحُسَيْنِ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلِيَّ بِحُبِّ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ، وَهَذِهِ ثَلَاثُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَرَدْتُ بِهَا لِقَاءَ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدِمَ الْكُوفَةَ يُبَايِعُ لِابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سَمِعْتُ نَفَرًا يَقُولُونَ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَمْرَ هَذَا الْبَيْتِ وَإِنِّي أَتَيْتُكَ لِتَقْبِضَ الْمَالَ وَتُدْخِلَنِي عَلَى صَاحِبِكَ أُبَايِعُهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَخَذْتُ بَيْعَتِي لَهُ قَبْلَ لِقَائِي إِيَّاهُ. فَقَالَ: لَقَدْ سَرَّنِي لِقَاؤُكَ إِيَّايَ لِتَنَالَ الَّذِي تُحِبُّ وَيَنْصُرُ اللَّهُ بِكَ أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّهِ، وَقَدْ سَاءَنِي مَعْرِفَةُ النَّاسِ هَذَا الْأَمْرَ مِنِّي قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ مَخَافَةَ هَذَا الطَّاغِيَةِ وَسَطْوَتِهِ. فَأَخَذَ بَيْعَتَهُ وَالْمَوَاثِيقَ الْمُعَظَّمَةَ لَيُنَاصِحَنَّ وَلَيَكْتُمَنَّ، وَاخْتَلَفَ إِلَيْهِ أَيَّامًا لِيُدْخِلَهُ عَلَى مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ.

وَمَرِضَ هَانِئُ بْنُ عُرْوَةَ، فَأَتَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ يَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَارَةُ بْنُ عَبْدٍ السَّلُولِيُّ: إِنَّمَا جَمَاعَتُنَا وَكَيْدُنَا قَتْلُ هَذَا الطَّاغِيَةِ وَقَدْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ فَاقْتُلْهُ. فَقَالَ هَانِئٌ: مَا أُحِبُّ أَنْ يُقْتَلَ فِي دَارِي. وَجَاءَ ابْنُ زِيَادٍ فَجَلَسَ عِنْدَهُ ثُمَّ خَرَجَ، فَمَا مَكَثَ إِلَّا جُمُعَةً حَتَّى مَرِضَ شَرِيكُ بْنُ الْأَعْوَرِ، وَكَانَ قَدْ نَزَلَ عَلَى هَانِئٍ وَكَانَ كَرِيمًا عَلَى ابْنِ زِيَادٍ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ شَدِيدَ التَّشَيُّعِ، قَدْ شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَمَّارٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ: إِنِّي رَائِحٌ إِلَيْكَ الْعَشِيَّةَ. فَقَالَ لِمُسْلِمٍ: إِنَّ هَذَا الْفَاجِرَ عَائِدِي الْعَشِيَّةَ فَإِذَا جَلَسَ اخْرُجْ إِلَيْهِ فَاقْتُلْهُ ثُمَّ اقْعُدْ فِي الْقَصْرِ لَيْسَ أَحَدٌ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَإِنْ بَرَأْتُ مِنْ وَجَعِي سِرْتُ إِلَى الْبَصْرَةِ حَتَّى أَكْفِيَكَ أَمْرَهَا. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَشِيِّ أَتَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، فَقَامَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ لِيَدْخُلَ، فَقَالَ لَهُ شَرِيكٌ: لَا يَفُوتَنَّكَ إِذَا جَلَسَ. فَقَالَ هَانِئُ بْنُ عُرْوَةَ: لَا أُحِبُّ أَنْ يُقْتَلَ فِي دَارِي. فَجَاءَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَجَلَسَ وَسَأَلَ شَرِيكًا عَنْ مَرَضِهِ، فَأَطَالَ، فَلَمَّا رَأَى شَرِيكٌ أَنَّ مُسْلِمًا لَا يَخْرُجُ خَشِيَ أَنْ يَفُوتَهُ فَأَخَذَ يَقُولُ: مَا تَنْظُرُونَ بِسَلْمَى لَا تُحَيُوهَا ... اسْقُونِيهَا وَإِنْ كَانَتْ بِهَا نَفْسِي فَقَالَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: مَا شَأْنُهُ؟ أَتَرَوْنَهُ يَخْلِطُ؟ فَقَالَ لَهُ هَانِئٌ: نَعَمْ، مَا زَالَ هَذَا دَأْبُهُ قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَتَّى سَاعَتِهِ هَذِهِ، فَانْصَرَفَ. وَقِيلَ: إِنَّ شَرِيكًا لَمَّا قَالَ اسْقُونِيهَا وَخَلَطَ كَلَامَهُ فَطِنَ بِهِ مِهْرَانُ فَغَمَزَ عُبَيْدَ اللَّهِ فَوَثَبَ، فَقَالَ لَهُ شَرِيكٌ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ إِلَيْكَ. فَقَالَ: أَعُودُ إِلَيْكَ. فَقَالَ لَهُ مِهْرَانُ: إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَكَ. فَقَالَ: وَكَيْفَ مَعَ إِكْرَامِي لَهُ وَفِي بَيْتِ هَانِئٍ وَيَدُ أَبِي عِنْدَهُ؟ فَقَالَ لَهُ مِهْرَانُ: هُوَ مَا قُلْتُ لَكَ. فَلَمَّا قَامَ ابْنُ زِيَادٍ خَرَجَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ، فَقَالَ لَهُ شَرِيكٌ: مَا مَنَعَكَ مِنْ قَتْلِهِ؟ قَالَ: خَصْلَتَانِ، أَمَّا إِحْدَاهُمَا فَكَرَاهِيَةُ هَانِئٍ أَنْ يُقْتَلَ فِي مَنْزِلِهِ، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَحَدِيثٌ حَدَّثَهُ عَلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ الْإِيمَانَ قَيَّدَ الْفَتْكَ، فَلَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ بِمُؤْمِنٍ» . فَقَالَ لَهُ هَانِئٌ: لَوْ

قَتَلْتَهُ لَقَتَلْتَ فَاسِقًا فَاجِرًا كَافِرًا غَادِرًا! وَلِبَثَ شَرِيكٌ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثًا ثُمَّ مَاتَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ. فَلَمَّا عَلِمَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَنْ شَرِيكًا كَانَ حَرَّضَ مُسْلِمًا عَلَى قَتْلِهِ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُصَلِّي عَلَى جِنَازَةِ عِرَاقِيٍّ أَبَدًا، وَلَوْلَا أَنَّ قَبْرَ زِيَادٍ فِيهِمْ لَنَبَشْتُ شَرِيكًا. ثُمَّ إِنَّ مَوْلَى ابْنِ زِيَادٍ الَّذِي دَسَّهُ بِالْمَالِ اخْتَلَفَ إِلَى مُسْلِمِ بْنِ عَوْسَجَةَ بَعْدَ مَوْتِ شَرِيكٍ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ فَأَخَذَ بَيْعَتَهُ وَقَبَضَ مَالَهُ وَجَعَلَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِمْ وَيَعْلَمُ أَسْرَارَهَمْ، وَيَنْقِلُهَا إِلَى ابْنِ زِيَادٍ. وَكَانَ هَانِئٌ قَدِ انْقَطَعَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ، فَدَعَا عُبَيْدُ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ وَأَسْمَاءَ بْنَ خَارِجَةَ، وَقِيلَ: دَعَا مَعَهُمَا بِعَمْرِو بْنِ الْحَجَّاجِ الزُّبَيْدِيِّ فَسَأَلَهُمْ عَنْ هَانِئٍ وَانْقِطَاعِهِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ مَرِيضٌ. فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يَجْلِسَ عَلَى بَابِ دَارِهِ وَقَدْ بَرَأَ، فَالْقَوْهُ فَمُرُوهُ أَنْ لَا يَدَعَ مَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. فَأَتَوْهُ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الْأَمِيرَ قَدْ سَأَلَ عَنْكَ وَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ شَاكٍ لَعُدْتُهُ، وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّكَ تَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِكَ، وَقَدِ اسْتَبْطَأَكَ، وَالْجَفَاءُ لَا يَحْتَمِلُهُ السُّلْطَانُ، أَقْسَمْنَا عَلَيْكَ لَوْ رَكِبْتَ مَعَنَا. فَلَبِسَ ثِيَابَهُ وَرَكِبَ مَعَهُمْ. فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَصْرِ أَحَسَّتْ نَفْسُهُ بِالشَّرِّ فَقَالَ لِحَسَّانَ بْنِ أَسْمَاءَ بْنِ خَارِجَةَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنِّي لِهَذَا الرَّجُلِ لَخَائِفٌ، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ: مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ شَيْئًا فَلَا تَجْعَلْ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا، وَلَمْ يَعْلَمْ أَسْمَاءُ مِمَّا كَانَ شَيْئًا. وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ فَإِنَّهُ عَلِمَ بِهِ، قَالَ: فَدَخَلَ الْقَوْمُ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ وَهَانِئٌ مَعَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ ابْنُ زِيَادٍ قَالَ لِشُرَيْحٍ الْقَاضِي: أَتَتْكَ بِحَائِنٍ رِجْلَاهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أُرِيدُ حَيَاتَهُ وَيُرِيدُ قَتْلِي عَذِيرَكَ مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرَادِ وَكَانَ ابْنُ زِيَادٍ مُكْرِمًا لَهُ، فَقَالَ هَانِئٌ: وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَ: يَا هَانِئُ مَا هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي تَرَبَّصُ فِي دَارِكَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ! جِئْتَ بِمُسْلِمٍ فَأَدْخَلْتَهُ دَارَكَ وَجَمَعْتَ لَهُ السِّلَاحَ وَالرِّجَالَ وَظَنَنْتَ أَنَّ ذَلِكَ يَخْفَى عَلَيَّ! قَالَ: مَا فَعَلْتُ. قَالَ: بَلَى. وَطَالَ

بَيْنَهُمَا النِّزَاعُ، فَدَعَا ابْنُ زِيَادٍ مَوْلَاهُ ذَاكَ الْعَيْنَ، فَجَاءَ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَتَعْرِفُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَعَلِمَ هَانِئٌ أَنَّهُ كَانَ عَيْنًا عَلَيْهِمْ، فَسَقَطَ فِي يَدِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَاجَعَتْهُ نَفْسُهُ، قَالَ: اسْمَعْ مِنِّي وَصَدِّقْنِي، فَوَاللَّهِ لَا أَكْذِبُكَ، وَاللَّهِ مَا دَعَوْتُهُ وَلَا عَلِمْتُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ حَتَّى رَأَيْتُهُ جَالِسًا عَلَى بَابِي يَسْأَلُنِي النُّزُولَ عَلَيَّ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَدِّهِ وَلَزِمَنِي مِنْ ذَلِكَ ذِمَامٌ فَأَدْخَلْتُهُ دَارِي وَضِفْتُهُ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ الَّذِي بَلَغَكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتُكَ الْآنَ مَوْثِقًا تَطْمَئِنُّ بِهِ وَرَهِينَةً تَكُونُ فِي يَدِكَ حَتَّى أَنْطَلِقَ وَأُخْرِجَهُ مِنْ دَارِي وَأَعُودَ إِلَيْكَ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ. لَا تُفَارِقُنِي أَبَدًا حَتَّى تَأْتِيَنِي بِهِ قَالَ: لَا آتِيكَ بِضَيْفِي تَقْتُلُهُ أَبَدًا. فَلَمَّا كَثُرَ الْكَلَامُ قَامَ مُسْلِمُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، وَلَيْسَ بِالْكُوفَةِ شَامِيٌّ وَلَا بَصْرِيٌّ غَيْرُهُ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَإِيَّاهُ حَتَّى أُكَلِّمَهُ، لِمَا رَأَى مِنْ لَجَاجِهِ، وَأَخَذَ هَانِئًا وَخَلَا بِهِ نَاحِيَةً مِنِ ابْنِ زِيَادٍ بِحَيْثُ يَرَاهُمَا، فَقَالَ لَهُ: يَا هَانِئُ أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تَقْتُلَ نَفْسَكَ وَتُدْخِلَ الْبَلَاءَ عَلَى قَوْمِكَ! إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ ابْنُ عَمِّ الْقَوْمِ وَلَيْسُوا بِقَاتِلِيهِ وَلَا ضَائِرِيهِ، فَادْفَعْهُ إِلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَيْكَ بِذَلِكَ مَخْزَاةٌ وَلَا مَنْقَصَةٌ إِنَّمَا تَدْفَعُهُ إِلَى السُّلْطَانِ! قَالَ: بَلَى وَاللَّهِ إِنَّ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ خِزْيًا وَعَارًا، لَا أَدْفَعُ ضَيْفِي وَأَنَا صَحِيحٌ شَدِيدُ السَّاعِدِ كَثِيرُ الْأَعْوَانِ، وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ وَاحِدًا لَيْسَ لِي نَاصِرٌ لَمْ أَدْفَعْهُ حَتَّى أَمُوتَ دُونَهُ. فَسَمِعَ ابْنُ زِيَادٍ ذَلِكَ فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي. فَأَدْنَوْهُ مِنْهُ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَتَأْتِيَّنِي بِهِ أَوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ! قَالَ: إِذَنْ وَاللَّهِ تَكْثُرُ الْبَارِقَةُ حَوْلَ دَارِكَ! وَهُوَ يَرَى أَنَّ عَشِيرَتَهُ سَتَمْنَعُهُ. فَقَالَ: أَبِالْبَارِقَةِ تُخَوِّفُنِي؟ وَقِيلَ إِنَّ هَانِئًا لَمَّا رَأَى ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ عَيْنًا لِعُبَيْدِ اللَّهِ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ قَدْ كَانَ الَّذِي بَلَغَكَ، وَلَنْ أُضَيِّعَ يَدَكَ عِنْدِي وَأَنْتَ آمِنٌ وَأَهْلُكَ فَسِرْ حَيْثُ شِئْتَ. فَأَطْرَقَ عُبَيْدُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ وَمِهْرَانُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ وَفِي يَدِهِ مِعْكَزَةٌ، فَقَالَ: وَاذُلَّاهُ! هَذَا الْحَائِكُ يُؤَمِّنُكَ فِي سُلْطَانِكَ! فَقَالَ: خُذْهُ، فَأَخَذَ مِهْرَانُ ضَفِيرَتَيْ هَانِئٍ وَأَخَذَ عُبَيْدُ اللَّهِ الْقَضِيبَ وَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُ أَنْفَهُ وَجَبِينَهُ وَخَدَّهُ حَتَّى كَسَرَ أَنْفَهُ وَسَيَّلَ الدِّمَاءَ عَلَى ثِيَابِهِ وَنَثَرَ لَحْمَ خَدَّيْهِ وَجَبِينِهِ عَلَى لِحْيَتِهِ حَتَّى كَسَرَ الْقَضِيبَ، وَضَرَبَ هَانِئٌ يَدَهُ إِلَى قَائِمِ سَيْفِ شُرْطِيٍّ وَجَبَذَهُ فَمُنِعَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَحَرُورِيٌّ

أَحْلَلْتَ بِنَفْسِكَ وَحَلَّ لَنَا قَتْلُكَ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُلْقِي فِي بَيْتٍ وَأُغْلِقُ عَلَيْهِ. فَقَامَ إِلَيْهِ أَسْمَاءُ بْنُ خَارِجَةَ فَقَالَ: أَرْسِلْهُ يَا غَادِرُ! أَمَرَتْنَا أَنْ نَجِيئَكَ بِالرَّجُلِ فَلَمَّا أَتَيْنَاكَ بِهِ هَشَّمْتَ وَجْهَهُ وَسَيَّلَتْ دِمَاءَهُ وَزَعَمْتَ أَنَّكَ تَقْتُلُهُ. فَأَمَرَ بِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ فَلُهِزَ وَتُعْتِعَ ثُمَّ تُرِكَ فَجَلَسَ. فَأَمَّا ابْنُ الْأَشْعَثِ فَقَالَ: رَضِينَا بِمَا رَأَى الْأَمِيرُ، لَنَا كَانَ أَوْ عَلَيْنَا. وَبَلَغَ عَمْرَو بْنَ الْحَجَّاجِ أَنَّ هَانِئًا قَدْ قُتِلَ فَأَقْبَلَ فِي مَذْحِجٍ حَتَّى أَحَاطُوا بِالْقَصْرِ، وَنَادَى: أَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ، هَذِهِ فُرْسَانُ مَذْحِجٍ وَوُجُوهُهَا، لَمْ نَخْلَعْ طَاعَةً وَلَمْ نُفَارِقْ جَمَاعَةً. فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ لِشُرَيْحٍ الْقَاضِي، وَكَانَ حَاضِرًا: ادْخُلْ عَلَى صَاحِبِهِمْ فَانْظُرْ إِلَيْهِ ثُمَّ اخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّهُ حَيٌّ. فَفَعَلَ شُرَيْحٌ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ هَانِئٌ: يَا لِلْمُسْلِمِينَ! أَهَلَكَتْ عَشِيرَتِي؟ أَيْنَ أَهْلُ الدِّينِ؟ أَيْنَ أَهْلُ النَّصْرِ؟ أَيُخَلُّونَنِي وَعَدُوَّهُمْ وَابْنَ عَدُوِّهِمْ! وَسَمِعَ الضَّجَّةَ فَقَالَ: يَا شُرَيْحُ إِنِّي لَأَظُنُّهَا أَصْوَاتَ مَذْحِجٍ وَشِيعَتِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ عَشَرَةُ نَفَرٍ أَنْقَذُونِي. فَخَرَجَ شُرَيْحٌ وَمَعَهُ عَيْنٌ أَرْسَلَهُ ابْنُ زِيَادٍ، قَالَ شُرَيْحٌ: لَوْلَا مَكَانُ الْعَيْنِ لَأَبْلَغْتُهُمْ قَوْلَ هَانِئٍ. فَلَمَّا خَرَجَ شُرَيْحٌ إِلَيْهِمْ قَالَ: قَدْ نَظَرْتُ إِلَى صَاحِبِكُمْ وَإِنَّهُ حَيٌّ لَمْ يُقْتَلْ. فَقَالَ عَمْرٌو وَأَصْحَابُهُ: فَأَمَّا إِذْ لَمْ يُقْتَلُ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ! ثُمَّ انْصَرَفُوا. وَأَتَى الْخَبَرُ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ فَنَادَى فِي أَصْحَابِهِ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ! وَكَانَ شِعَارُهُمْ، وَكَانَ قَدْ بَايَعَهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَحَوْلَهُ فِي الدُّورِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ كَثِيرٌ، فَعَقَدَ مُسْلِمٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُزَيْزٍ الْكِنْدِيِّ عَلَى رُبْعِ كِنْدَةَ وَقَالَ: سِرْ أَمَامِي، وَعَقَدَ لِمُسْلِمِ بْنِ عَوْسَجَةَ الْأَسَدِيِّ عَلَى رُبْعِ مَذْحِجٍ وَأَسَدٍ، وَعَقَدَ لِأَبِي ثُمَامَةَ الصَّائِدِيِّ عَلَى

رُبْعِ تَمِيمٍ وَهَمْدَانَ، وَعَقَدَ لِعَبَّاسِ بْنِ جَعْدَةَ الْجَدَلِيِّ عَلَى رُبْعِ الْمَدِينَةِ، وَأَقْبَلَ نَحْوَ الْقَصْرِ. فَلَمَّا بَلَغَ ابْنَ زِيَادٍ إِقْبَالُهُ تَحَرَّزَ فِي الْقَصْرِ. وَأَغْلَقَ الْبَابَ، وَأَحَاطَ مُسْلِمٌ بِالْقَصْرِ وَامْتَلَأَ الْمَسْجِدُ وَالسُّوقُ مِنَ النَّاسِ وَمَا زَالُوا يَجْتَمِعُونَ حَتَّى الْمَسَاءَ، وَضَاقَ بِعُبَيْدِ اللَّهِ أَمْرُهُ وَلَيْسَ مَعَهُ فِي الْقَصْرِ إِلَّا ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنَ الشُّرَطِ وَعِشْرُونَ رَجُلًا مِنَ الْأَشْرَافِ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَمَوَالِيهِ، وَأَقْبَلَ أَشْرَافُ النَّاسِ يَأْتُونَ ابْنَ زِيَادٍ مِنْ قِبَلِ الْبَابِ الَّذِي يَلِي دَارَ الرُّومِيِّينَ وَالنَّاسُ يَسُبُّونَ ابْنَ زِيَادٍ وَأَبَاهُ. فَدَعَا ابْنُ زِيَادٍ كَثِيرَ بْنَ شِهَابٍ الْحَارِثِيَّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ فِيمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ مَذْحِجٍ فَيَسِيرَ وَيُخَذِّلَ النَّاسَ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ وَيُخَوِّفُهُمْ، وَأَمَرَ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ أَنْ يَخْرُجَ فِيمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ كِنْدَةَ وَحَضْرَمَوْتَ فَيَرْفَعَ رَايَةَ أَمَانٍ لِمَنْ جَاءَهُ مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ لِلْقَعْقَاعِ بْنِ شَوْرٍ الذُّهْلِيِّ وَشَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ التَّمِيمِيِّ وَحَجَّارِ بْنِ أَبْجَرَ الْعِجْلِيِّ وَشَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ الضَّبَابِيِّ وَتَرَكَ وُجُوهَ النَّاسِ عِنْدَهُ اسْتِئْنَاسًا بِهِمْ لِقِلَّةِ مَنْ مَعَهُ. وَخَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَرُ يُخَذِّلُونَ النَّاسَ، وَأَمَرَ عُبَيْدُ اللَّهِ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْأَشْرَافِ أَنْ يُشْرِفُوا عَلَى النَّاسِ مِنَ الْقَصْرِ فَيُمَنُّوا أَهْلَ الطَّاعَةِ وَيُخَوِّفُوا أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ مَقَالَةَ أَشْرَافِهِمْ أَخَذُوا يَتَفَرَّقُونَ حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ تَأْتِي ابْنَهَا وَأَخَاهَا وَتَقُولُ: انْصَرِفِ، النَّاسُ يَكْفُونَكَ، وَيَفْعَلُ الرَّجُلُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَمَا زَالُوا يَتَفَرَّقُونَ حَتَّى بَقِيَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمَسْجِدِ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خَرَجَ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ أَبْوَابِ كِنْدَةَ، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَى الْبَابِ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ أَحَدٌ، فَمَضَى فِي أَزِقَّةِ الْكُوفَةِ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، فَانْتَهَى إِلَى بَابِ امْرَأَةٍ مِنْ كِنْدَةَ يُقَالُ لَهَا طَوْعَةُ أُمُّ وَلَدٍ كَانَتْ لِلْأَشْعَثِ وَأَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا أُسَيْدٌ الْحَضْرَمِيُّ فَوَلَدَتْ لَهُ بِلَالًا، وَكَانَ بِلَالٌ قَدْ خَرَجَ مَعَ النَّاسِ وَهِيَ تَنْتَظِرُهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ابْنُ عَقِيلٍ وَطَلَبَ الْمَاءَ فَسَقَتْهُ، فَجَلَسَ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ تَشْرَبْ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَتْ: فَاذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ، فَسَكَتَ، فَقَالَتْ لَهُ ثَلَاثًا فَلَمْ يَبْرَحْ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ! إِنِّي لَا أُحِلُّ لَكَ الْجُلُوسَ عَلَى بَابِي. فَقَالَ لَهَا: لَيْسَ لِي فِي هَذَا الْمِصْرِ مَنْزِلٌ وَلَا عَشِيرَةٌ، فَهَلْ لَكِ إِلَى أَجْرٍ وَمَعْرُوفٍ وَلَعَلِّي أُكَافِئُكِ بِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ؟ قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ، كَذَبَنِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ وَغَرُّونِي. قَالَتِ: ادْخُلْ. فَأَدْخَلَتْهُ بَيْتًا فِي دَارِهَا وَعَرَضَتْ عَلَيْهِ الْعَشَاءَ فَلَمْ يَتَعَشَّ. وَجَاءَ ابْنُهَا فَرَآهَا تُكْثِرُ الدُّخُولَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ لَكِ لَشَأْنًا فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ

وَسَأَلَهَا فَلَمْ تُخْبِرْهُ، فَأَلَحَّ عَلَيْهَا فَأَخْبَرَتْهُ وَاسْتَكْتَمَتْهُ وَأَخَذَتْ عَلَيْهِ الْأَيْمَانَ بِذَلِكَ، فَسَكَتَ. وَأَمَّا ابْنُ زِيَادٍ فَلَمَّا لَمْ يَسْمَعِ الْأَصْوَاتَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ مِنْهُمْ أَحَدًا؟ فَنَظَرُوا فَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا، فَنَزَلَ إِلَى الْمَسْجِدِ قُبَيْلَ الْعَتَمَةِ وَأَجْلَسَ أَصْحَابَهُ حَوْلَ الْمِنْبَرِ وَأَمَرَ فَنُودِيَ: [أَلَا] بَرِئَتِ الذِّمَّةُ مِنْ رَجُلٍ مِنَ الشُّرَطِ وَالْعُرَفَاءِ وَالْمَنَاكِبِ وَالْمُقَاتِلَةِ صَلَّى الْعَتَمَةَ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ. فَامْتَلَأَ الْمَسْجِدُ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ ابْنَ عَقِيلٍ السَّفِيهَ الْجَاهِلَ قَدْ أَتَى مَا رَأَيْتُمْ مِنَ الْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ فَبَرِئَتِ الذِّمَّةُ مِنْ رَجُلٍ وَجَدْنَاهُ فِي دَارِهِ، وَمَنْ أَتَانَا بِهِ فَلَهُ دِيَتُهُ. وَأَمَرَهُمْ بِالطَّاعَةِ وَلُزُومِهَا، وَأَمَرَ الْحُصَيْنَ بْنَ تَمِيمٍ أَنْ يُمْسِكَ أَبْوَابَ السِّكَكِ ثُمَّ يُفَتِّشَ الدُّورَ، وَكَانَ عَلَى الشُّرَطِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ. وَدَخَلَ ابْنُ زِيَادٍ وَعَقَدَ لِعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ وَجَعَلَهُ عَلَى النَّاسِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَلَسَ لِلنَّاسِ. وَلَمَّا أَصْبَحَ بِلَالٌ ابْنُ تِلْكَ الْعَجُوزِ الَّتِي آوَتْ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ أَتَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ فَأَخْبَرَهُ بِمَكَانِ ابْنِ عَقِيلٍ، فَأَتَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَبَاهُ، وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ زِيَادٍ، فَأَسَرَّ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَأَخْبَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ ابْنَ زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: قُمْ فَأْتِنِي بِهِ السَّاعَةَ، وَبَعَثَ مَعَهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ السُّلَمِيَّ فِي سَبْعِينَ مِنْ قَيْسٍ حَتَّى أَتَوُا الدَّارَ الَّتِي فِيهَا ابْنُ عَقِيلٍ. فَلَمَّا سَمِعَ الْأَصْوَاتَ عَرَفَ أَنَّهُ قَدْ أُتِيَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ بِسَيْفِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ مِنَ الدَّارِ، ثُمَّ عَادُوا إِلَيْهِ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَأَخْرَجَهُمْ مِرَارًا، وَضَرَبَ بُكَيْرُ بْنُ حُمْرَانَ الْأَحْمَرِيُّ فَمَ مُسْلِمٍ فَقَطَعَ شَفَتَهُ الْعُلْيَا وَسَقَطَتْ ثَنِيَّتَاهُ، وَضَرَبَهُ مُسْلِمٌ عَلَى رَأْسِهِ وَثَنَّى بِأُخْرَى عَلَى حَبْلِ الْعَاتِقِ كَادَتْ تَطَّلِعُ عَلَى جَوْفِهِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ أَشْرَفُوا عَلَى سَطْحِ الْبَيْتِ وَجَعَلُوا يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ وَيُلْهِبُونَ النَّارَ فِي الْقَصَبِ وَيُلْقُونَهَا عَلَيْهِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خَرَجَ عَلَيْهِمْ بِسَيْفِهِ فَقَاتَلَهُمْ فِي السِّكَّةِ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ: لَكَ الْأَمَانُ فَلَا تَقْتُلْ نَفْسَكَ! فَأَقْبَلَ يُقَاتِلُهُمْ وَهُوَ يَقُولُ: أَقْسَمْتُ لَا أُقْتَلُ إِلَّا حُرًّا ... وَإِنْ رَأَيْتُ الْمَوْتَ شَيْئًا نُكْرًا أَوْ يَخْلِطُ الْبَارِدُ سُخْنًا مُرًّا ... رَدَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ فَاسْتَقَرَّا كُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا يُلَاقِي شَرًّا ... أَخَافُ أَنْ أُكْذَبَ أَوْ أُغَرًّا

فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: إِنَّكَ لَا تُكْذَبُ وَلَا تُخْدَعُ، الْقَوْمُ بَنُو عَمِّكَ وَلَيْسُوا بِقَاتِلِيكَ وَلَا ضَارِبِيكَ. وَكَانَ قَدْ أُثْخِنَ بِالْحِجَارَةِ وَعَجَزَ عَنِ الْقِتَالِ، فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى حَائِطِ تِلْكَ الدَّارِ، فَآمَنَهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ وَالنَّاسُ غَيْرَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ السُّلَمِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا نَاقَةَ لِي فِي هَذَا وَلَا جَمَلَ، وَأُتِيَ بِبَغْلَةٍ فَحُمِلَ عَلَيْهَا وَانْتَزَعُوا سَيْفَهُ، فَكَأَنَّهُ أَيِسَ مِنْ نَفْسِهِ، فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ ثُمَّ قَالَ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْكَ بَأْسٌ. قَالَ: وَمَا هُوَ إِلَّا الرَّجَاءُ، أَيْنَ أَمَانُكُمْ؟ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ السُّلَمِيُّ: مَنْ يَطْلُبُ مِثْلَ الَّذِي تَطْلُبُ إِذَا نَزَلَ بِهِ مِثْلُ الَّذِي نَزَلَ بِكَ لَمْ يَبْكِ؟ ! فَقَالَ: مَا أَبْكِي لِنَفْسِي وَلَكِنِّي أَبْكَى لِأَهْلِي الْمُنْقَلِبِينَ إِلَيْكُمْ، أَبْكِي لِلْحُسَيْنِ وَآلِ الْحُسَيْنِ. ثُمَّ قَالَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ: إِنِّي أَرَاكَ سَتَعْجِزُ عَنْ أَمَانِي فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَبْعَثَ مِنْ عِنْدِكَ رَجُلًا يُخْبِرُ الْحُسَيْنَ بِحَالِي وَيَقُولُ لَهُ عَنِّي لِيَرْجِعْ بِأَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا يَغُرُّهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ أَبِيكَ الَّذِينَ كَانَ يَتَمَنَّى فِرَاقَهُمْ بِالْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ! ثُمَّ كَتَبَ بِمَا قَالَ مُسْلِمٌ إِلَى الْحُسَيْنِ، فَلَقِيَهُ الرَّسُولُ بِزُبَالَةَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: كُلَّمَا قُدِّرَ نَازِلٌ عِنْدَ اللَّهِ ... نَحْتَسِبُ أَنْفُسَنَا وَفَسَادَ أُمَّتِنَا. وَكَانَ سَبَبُ مَسِيرِهِ مِنْ مَكَّةَ كِتَابُ مُسْلِمٍ إِلَيْهِ يُخْبِرُهُ أَنَّهُ بَايَعَهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَيَسْتَحِثُّهُ لِلْقُدُومِ. وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدِمَ بِهِ الْقَصْرَ، وَدَخَلَ مُحَمَّدٌ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فَأَخْبَرَهُ وَأَمَانَهُ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ: مَا أَنْتَ وَالْأَمَانُ! مَا أَرْسَلْنَاكَ لِتُؤَمِّنَهُ إِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ لِتَأْتِيَنَا بِهِ! فَسَكَتَ مُحَمَّدٌ، وَلَمَّا جَلَسَ مُسْلِمٌ عَلَى بَابِ الْقَصْرِ رَأَى جَرَّةً فِيهَا مَاءٌ بَارِدٌ، فَقَالَ: اسْقُونِي مِنْ هَذَا الْمَاءِ. فَقَالَ لَهُ مُسْلِمُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيِّ: أَتُرَاهَا مَا أَبْرَدَهَا! وَاللَّهِ لَا تَذُوقُ مِنْهَا قَطْرَةً حَتَّى تَذُوقَ الْحَمِيمَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ! فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَقِيلٍ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ إِذْ

تَرَكْتَهُ، وَنَصَحَ الْأُمَّةَ وَالْإِمَامَ إِذْ غَشَشْتَهُ، وَسَمِعَ وَأَطَاعَ إِذْ عَصَيْتَهُ، أَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَمْرٍو. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَقِيلٍ: لِأُمِّكَ الثَّكْلُ مَا أَجَفَاكَ وَأَفَظَّكَ وَأَقْسَى قَلْبَكَ وَأَغْلَظَكَ! أَنْتَ يَا ابْنَ بَاهِلَةَ أَوْلَى بِالْحَمِيمِ وَالْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ مِنِّي! قَالَ: فَدَعَا عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ بِمَاءٍ بَارِدٍ فَصُبَّ لَهُ فِي قَدَحٍ فَأَخَذَ لِيَشْرَبَ فَامْتَلَأَ الْقَدَحُ دَمًا، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، فَقَالَ: لَوْ كَانَ مِنَ الرِّزْقِ الْمَقْسُومِ شَرِبْتُهُ. وَأُدْخِلَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ فَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ بِالْإِمَارَةِ، فَقَالَ لَهُ الْحَرَسِيُّ: أَلَا تُسَلِّمُ عَلَى الْأَمِيرِ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ يُرِيدُ قَتْلِي فَمَا سَلَامِي عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ قَتْلِي فَلْيَكْثُرَنَّ تَسْلِيمِي عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: لَعَمْرِي لَتُقْتَلَنَّ! فَقَالَ: كَذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: فَدَعْنِي أُوصِي إِلَى بَعْضِ قَوْمِي. قَالَ: افْعَلْ. فَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعْدٍ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَرَابَةً وَلِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ وَهِيَ سِرٌّ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ مِنْ ذِكْرِهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: لَا تَمْتَنِعْ مِنْ حَاجَةِ ابْنِ عَمِّكَ. فَقَامَ مَعَهُ فَقَالَ: إِنَّ عَلَيَّ بِالْكُوفَةِ دَيْنًا اسْتَدَنْتُهُ مُنْذُ قَدِمْتُ الْكُوفَةَ سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاقْضِهَا عَنِّي وَانْظُرْ جُثَّتِي فَاسْتَوْهِبْهَا فَوَارِهَا وَابْعَثْ إِلَى الْحُسَيْنِ مَنْ يَرُدُّهُ. فَقَالَ عُمَرُ لِابْنِ زِيَادٍ: إِنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: لَا يَخُونُكَ الْأَمِينُ وَلَكِنْ قَدْ يُؤْتَمَنُ الْخَائِنُ، أَمَّا مَالُكَ فَهُوَ لَكَ تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ فَإِنْ لَمْ يُرِدْنَا لَمْ نُرِدْهُ، وَإِنْ أَرَادَنَا لَمْ نَكُفَّ عَنْهُ، وَأَمَّا جُثَّتُهُ فَإِنَّا لَنْ نُشَفِّعَكَ فِيهَا، وَقِيلَ إِنَّهُ قَالَ: أَمَّا جُثَّتُهُ فَإِنَّا إِذَا قَتَلْنَاهُ لَا نُبَالِي مَا صُنِعَ بِهَا. ثُمَّ قَالَ لِمُسْلِمٍ: يَا ابْنَ عَقِيلٍ أَتَيْتَ النَّاسَ وَأَمْرُهُمْ جَمِيعٌ وَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ لِتُشَتِّتَ بَيْنِهِمْ وَتُفَرِّقَ كَلِمَتَهُمْ! فَقَالَ: كَلَّا وَلَكِنَّ أَهْلَ هَذَا الْمِصْرِ زَعَمُوا أَنَّ أَبَاكَ قَتَلَ خِيَارَهُمْ وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ وَعَمِلَ فِيهِمْ أَعْمَالَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فَأَتَيْنَاهُمْ لِنَأْمُرَ بِالْعَدْلِ وَنَدْعُوَ إِلَى حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَقَالَ: وَمَا أَنْتَ وَذَاكَ يَا فَاسِقُ؟ أَلَمْ يَكُنْ يُعْمَلُ بِذَلِكَ فِيهِمْ إِذْ أَنْتَ تَشْرَبُ الْخَمْرَ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: أَنَا أَشْرَبُ الْخَمْرَ! وَاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّكَ غَيْرُ صَادِقٍ، وَأَنِّي لَسْتُ كَمَا ذَكَرْتَ، وَإِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ مِنِّي مَنْ يَلَغُ فِي دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا عَلَى الْغَضَبِ وَالْعَدَاوَةِ، وَهُوَ يَلْهُو وَيَلْعَبُ كَأَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: قَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْتُلْكَ قِتْلَةً لَمْ يُقْتَلْهَا أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ! قَالَ: أَمَا إِنَّكَ أَحَقُّ مَنْ أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مَا لَيْسَ فِيهِ، أَمَا إِنَّكَ لَا تَدَعُ سُوءَ الْقِتْلَةِ وَقُبْحَ الْمُثْلَةِ وَخُبْثَ السِّيرَةِ وَلُؤْمَ الْغَلَبَةِ وَلَا أَحَدَ مِنَ النَّاسِ أَحَقُّ بِهَا مِنْكَ. فَشَتَمَهُ ابْنُ زِيَادٍ وَشَتَمَ

الْحُسَيْنَ وَعَلِيًّا وَعَقِيلًا، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ مُسْلِمٌ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُصْعِدَ فَوْقَ الْقَصْرِ لِتُضْرَبَ رَقَبَتُهُ وَيُتْبِعُوا رَأْسَهُ جَسَدَهُ، فَقَالَ مُسْلِمٌ لِابْنِ الْأَشْعَثِ: وَاللَّهِ لَوْلَا أَمَانُكَ مَا اسْتَسْلَمْتُ، قُمْ بِسَيْفِكَ دُونِي، قَدْ أَخَفَرْتُ ذِمَّتَكَ. فَأُصْعِدَ مُسْلِمٌ فَوْقَ الْقَصْرِ وَهُوَ يَسْتَغْفِرُ وَيُسَبِّحُ، وَأُشْرِفَ بِهِ عَلَى مَوْضِعِ الْحَدَّائِينَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُ بُكَيْرُ بْنُ حُمْرَانَ الَّذِي ضَرَبَهُ مُسْلِمٌ، ثُمَّ أَتْبَعَ رَأْسَهُ جَسَدَهُ. فَلَمَّا نَزَلَ بُكَيْرٌ قَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: مَا كَانَ يَقُولُ وَأَنْتُمْ تَصْعَدُونَ بِهِ؟ قَالَ: كَانَ يُسَبِّحُ وَيَسْتَغْفِرُ، (فَلَمَّا أَدْنَيْتُهُ لِأَقْتُلَهُ) قُلْتُ لَهُ: ادْنُ مِنِّي، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي (أَمْكَنَ مِنْكَ) وَأَقَادَنِي مِنْكَ! فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً لَمْ تُغْنِ شَيْئًا، فَقَالَ: أَمَا تَرَى فِي خَدْشٍ تَخْدِشُنِيهِ وَفَاءً مِنْ دَمِكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ؟ فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: وَفَخْرًا عِنْدَ الْمَوْتِ! قَالَ: ثُمَّ ضَرَبْتُهُ الثَّانِيَةَ فَقَتَلْتُهُ. وَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ فَكَلَّمُ ابْنَ زِيَادٍ فِي هَانِئٍ وَقَالَ لَهُ: قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَتَهُ فِي الْمِصْرِ وَبَيْتَهُ، وَقَدْ عَلِمَ قَوْمُهُ أَنِّي أَنَا وَصَاحِبِي سُقْنَاهُ إِلَيْكَ، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ لَمَا وَهَبْتَهُ لِي فَإِنِّي أَكْرَهُ عَدَاوَةَ قَوْمِهِ: فَوَعَدَهُ أَنْ يَفْعَلَ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ مُسْلِمٍ مَا كَانَ، بَدَا لَهُ فَأَمَرَ بِهَانِئٍ حِينَ قُتِلَ مُسْلِمٌ فَأُخْرِجَ إِلَى السُّوقِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، قَتَلَهُ مَوْلًى تُرْكِيٌّ لَابْنِ زِيَادٍ، قَالَ: فَبَصُرَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحُصَيْنِ الْمُرَادِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَازِرٍ مَعَ ابْنِ زِيَادٍ فَقَتَلَهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزَّبِيرِ الْأَسَدِيُّ فِي قَتْلِ هَانِئٍ وَمُسْلِمٍ، وَقِيلَ قَالَهُ الْفَرَزْدَقُ، (الزَّبِيرُ بِفَتْحِ الزَّايِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) : فَإِنْ كُنْتِ لَا تَدْرِينَ مَا الْمَوْتُ فَانْظُرِي ... إِلَى هَانِئٍ فِي السُّوقِ وَابْنِ عَقِيلِ إِلَى بَطَلٍ قَدْ هَشَّمَ السَّيْفُ وَجْهَهُ ... وَآخَرَ يَهْوِي مِنْ طَمَارِ قَتِيلِ وَهِيَ أَبْيَاتٌ. وَبَعَثَ ابْنُ زِيَادٍ بِرَأْسَيْهِمَا إِلَى يَزِيدَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَزِيدُ يَشْكُرُهُ وَيَقُولُ لَهُ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ قَدْ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْعِرَاقِ، فَضَعِ الْمَرَاصِدَ وَالْمَسَالِحَ وَاحْتَرِسْ وَاحْبِسْ

عَلَى التُّهْمَةِ وَخُذْ عَلَى الظِّنَّةِ، غَيْرَ أَنْ لَا تَقْتُلَ إِلَّا مَنْ قَاتَلَكَ. وَقِيلَ: وَكَانَ مَخْرَجُ ابْنِ عَقِيلٍ بِالْكُوفَةِ لِثَمَانِي لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتِّينَ، وَقِيلَ: لِتَسَعٍ مَضَيْنَ مِنْهُ، قِيلَ وَكَانَ فِيمَنْ خَرَجَ مَعَهُ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، فَطَلَبَهُمَا ابْنُ زِيَادٍ وَحَبَسَهُمَا، وَكَانَ فِيمَنْ قَاتَلَ مُسْلِمًا مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ وَشَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ التَّمِيمِيُّ وَالْقَعْقَاعُ بْنُ شَوْرٍ، وَجَعَلَ شَبَثٌ يَقُولُ: انْتَظِرُوا بِهِمُ اللَّيْلَ يَتَفَرَّقُوا، فَقَالَ لَهُ الْقَعْقَاعُ: إِنَّكَ قَدْ سَدَدْتَ عَلَيْهِمْ وَجْهَ مَهْرَبِهِمْ فَافْرُجْ لَهُمْ يَتَفَرَّقُوا. ذِكْرُ مَسِيرِ الْحُسَيْنِ إِلَى الْكُوفَةِ قِيلَ لَمَّا أَرَادَ الْحُسَيْنُ الْمَسِيرَ إِلَى الْكُوفَةِ بِكُتُبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَيْهِ أَتَاهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَهُوَ بِمَكَّةَ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَتَيْتُكَ لِحَاجَةٍ أُرِيدُ ذِكْرَهَا نَصِيحَةً لَكَ، فَإِنْ كُنْتَ تَرَى أَنَّكَ مُسْتَنْصِحِي قُلْتُهَا وَأَدَّيْتُ مَا عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ فِيهَا، وَإِنْ ظَنَنْتَ أَنَّكَ لَا مُسْتَنْصِحِي كَفَفْتُ عَمَّا أُرِيدُ. فَقَالَ لَهُ: قُلْ، فَوَاللَّهِ مَا أَسَتَغِشُّكَ وَمَا أَظُنُّكَ بِشَيْءٍ مِنَ الْهَوَى. قَالَ لَهُ: قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ الْعِرَاقَ، وَإِنِّي مُشْفِقٌ عَلَيْكَ، إِنَّكَ تَأْتِي بَلَدًا فِيهِ عُمَّالُهُ وَأُمَرَاؤُهُ وَمَعَهُمْ بُيُوتُ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنْيَا وَالدِّرْهَمِ، فَلَا آمَنُ عَلَيْكَ أَنْ يُقَاتِلَكَ مَنْ وَعَدَكَ نَصْرَهُ وَمَنْ أَنْتَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِمَّنْ يُقَاتِلُكَ مَعَهُ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا يَا ابْنَ عَمِّ، فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ مَشَيْتَ بِنُصْحٍ وَتَكَلَّمْتَ بِعَقْلٍ، وَمَهْمَا يُقْضَ مِنْ أَمْرٍ يَكُنْ، أَخَذْتُ بِرَأْيِكَ أَوْ تَرَكْتُهُ، فَأَنْتَ عِنْدِي أَحْمَدُ مُشِيرٍ، وَأَنْصَحُ نَاصِحٍ. قَالَ: وَأَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَرْجَفَ النَّاسُ أَنَّكَ سَائِرٌ إِلَى الْعِرَاقِ، فَبَيِّنْ لِي مَا أَنْتَ صَانِعٌ؟ فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَجْمَعْتُ السَّيْرَ فِي أَحَدِ يَوْمَيَّ هَذَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنِّي أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، خَبِّرْنِي، رَحِمَكَ اللَّهُ، أَتَسِيرُ إِلَى قَوْمٍ قَتَلُوا أَمِيرَهُمْ وَضَبَطُوا بِلَادَهُمْ وَنَفَوْا عَدُوَّهُمْ؟ فَإِنْ كَانُوا فَعَلُوا ذَلِكَ فَسِرْ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا إِنَّمَا دَعَوْكَ إِلَيْهِمْ وَأَمِيرُهُمْ عَلَيْهِمْ قَاهِرٌ لَهُمْ وَعُمَّالُهُ تَجْبِي بِلَادَهُمْ فَإِنَّمَا دَعَوْكَ إِلَى

الْحَرْبِ، وَلَا آمَنُ عَلَيْكَ أَنْ يَغُرُّوكَ وَيُكَذِّبُوكَ وَيُخَالِفُوكَ وَيَخْذُلُوكَ وَيَسْتَنْفِرُوا إِلَيْكَ فَيَكُونُوا أَشَدَّ النَّاسِ عَلَيْكَ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: فَإِنِّي أَسْتَخِيرُ اللَّهَ وَأَنْظُرُ مَا يَكُونُ. فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَتَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَحَدَّثَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: مَا أَدْرِي مَا تَرْكُنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ وَكَفُّنَا عَنْهُمْ وَنَحْنُ أَبْنَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَوُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ دُونَهُمْ، خَبِّرْنِي مَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ؟ فَقَالَ الْحُسَيْنُ: لَقَدْ حَدَّثْتُ نَفْسِي بِإِتْيَانِ الْكُوفَةِ، وَلَقَدْ كَتَبَتْ إِلَيَّ شِيعَتِي بِهَا وَأَشْرَافُ النَّاسِ وَأَسْتَخِيرُ اللَّهَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَا لَوْ كَانَ لِي بِهَا مِثْلُ شِيعَتِكَ لَمَا عَدَلْتُ عَنْهَا. ثُمَّ خَشِيَ أَنْ يَتَّهِمَهُ فَقَالَ لَهُ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَقَمْتَ بِالْحِجَازِ ثُمَّ أَرَدْتَ هَذَا الْأَمْرَ هَا هُنَا لَمَا خَالَفْنَا عَلَيْكَ وَسَاعَدْنَاكَ وَبَايَعْنَاكَ وَنَصَحْنَا لَكَ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي أَنَّ لَهَا كَبْشًا بِهِ تُسْتَحَلُّ حُرْمَتُهَا، فَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْكَبْشَ. قَالَ: فَأَقِمْ إِنْ شِئْتَ وَتُوَلِّينِي أَنَا الْأَمْرَ فَتُطَاعُ وَلَا تُعْصَى. قَالَ: وَلَا أُرِيدُ هَذَا أَيْضًا ثُمَّ إِنَّهُمَا أَخْفَيَا كَلَامَهُمَا دُونَنَا، فَالْتَفَتَ الْحُسَيْنُ إِلَى مَنْ هُنَاكَ وَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي، جَعَلَنَا اللَّهُ فِدَاكَ! قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: أَقِمْ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ أَجْمَعُ لَكَ النَّاسَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَئِنْ أُقْتَلْ خَارِجًا مِنْهَا بِشِبْرٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَ فِيهَا، وَلَأَنْ أُقْتَلَ خَارِجًا مِنْهَا بِشِبْرَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقْتَلَ خَارِجًا مِنْهَا بِشِبْرٍ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ كُنْتُ فِي جُحْرِ هَامَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْهَوَامِّ لَاسْتَخْرَجُونِي حَتَّى يَقْضُوا بِي حَاجَتَهُمْ! وَاللَّهِ لَيَعْتَدُنَّ عَلَيَّ كَمَا اعْتَدَتِ الْيَهُودُ فِي السَّبْتِ: فَقَامَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْحِجَازِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ النَّاسَ لَا يَعْدِلُونَهُ بِي فَوَدَّ أَنِّي خَرَجْتُ حَتَّى يَخْلُوَ لَهُ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَشِيِّ أَوْ مِنَ الْغَدِ أَتَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَمِّ، إِنِّي أَتَصَبَّرُ وَلَا أَصْبِرُ، إِنِّي أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ فِي هَذَا الْوَجْهِ الْهَلَاكَ وَالِاسْتِئْصَالَ، إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَوْمٌ غُدُرٌ فَلَا تَقْرَبَنَّهُمْ، أَقِمْ فِي هَذَا الْبَلَدِ فَإِنَّكَ سَيِّدُ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يُرِيدُونَكَ كَمَا زَعَمُوا فَاكْتُبْ إِلَيْهِمْ فَلْيَنْفُوا عَامِلَهُمْ وَعَدُّوَهُمْ ثُمَّ أَقْدِمْ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ أَبَيْتَ

إِلَّا أَنْ تَخْرُجَ فَسِرْ إِلَى الْيَمَنِ فَإِنَّ بِهَا حُصُونًا وَشِعَابًا، وَهِيَ أَرْضٌ عَرِيضَةٌ طَوِيلَةٌ، وَلِأَبِيكَ بِهَا شِيعَةٌ، وَأَنْتَ عَنِ النَّاسِ فِي عُزْلَةٍ، فَتَكْتُبُ إِلَى النَّاسِ وَتُرْسِلُ وَتَبُثُّ دُعَاءَكَ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَأْتِيَكَ عِنْدَ ذَلِكَ الَّذِي تُحِبُّ فِي عَافِيَةٍ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: يَا ابْنَ عَمِّ إِنِّي وَاللَّهِ لَأَعْلَمُ أَنَّكَ نَاصِحٌ مُشْفِقٌ، وَقَدْ أَزْمَعْتُ وَأَجْمَعْتُ الْمَسِيرَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنْ كُنْتَ سَائِرًا فَلَا تَسِرْ بِنِسَائِكَ وَصِبْيَتِكَ فَإِنِّي لَخَائِفٌ أَنْ تُقْتَلَ كَمَا قُتِلَ عُثْمَانُ وَنِسَاؤُهُ وَوَلَدُهُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ أَقْرَرْتَ عَيْنَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِخُرُوجِكَ مِنَ الْحِجَازِ وَهُوَ الْيَوْمَ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مَعَكَ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ إِذَا أَخَذْتُ بِشَعْرِكَ وَنَاصِيَتِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَ عَلَيْنَا النَّاسُ أَطَعْتَنِي فَأَقَمْتَ، لَفَعَلْتُ ذَلِكَ. ثُمَّ خَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ عِنْدِهِ فَمَرَّ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: قَرَّتْ عَيْنُكَ يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ! ثُمَّ أَنْشَدَ قَائِلًا: يَا لَكَ مِنْ قُبَّرَةٍ بِمَعْمَرِ ... خَلَا لَكِ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي هَذَا الْحُسَيْنُ يَخْرُجُ إِلَى الْعِرَاقِ وَيُخَلِّيكَ وَالْحِجَازَ. قِيلَ: وَكَانَ الْحُسَيْنُ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا يَدَعُونَنِي حَتَّى يَسْتَخْرِجُوا هَذِهِ الْعَلَقَةَ مِنْ جَوْفِي، فَإِذَا فَعَلُوا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُذِلُّهُمْ حَتَّى يَكُونُوا أَذَلَّ مَنْ فَرْمِ الْمَرْأَةِ. قَالَ: وَالْفَرْمُ خِرْقَةٌ تَجْعَلُهَا الْمَرْأَةُ فِي قُبُلِهَا إِذَا حَاضَتْ. ثُمَّ خَرَجَ الْحُسَيْنُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَاعْتَرَضَهُ رُسُلُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْحِجَازِ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَعَ أَخِيهِ يَحْيَى، يَمْنَعُونَهُ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَمَضَى، وَتَضَارَبُوا بِالسِّيَاطِ، وَامْتَنَعَ الْحُسَيْنُ وَأَصْحَابُهُ وَسَارُوا فَمَرُّوا بِالتَّنْعِيمِ، فَرَأَى بِهَا عِيرًا قَدْ أَقْبَلَتْ مِنَ الْيَمَنِ بَعَثَ بِهَا بَحِيرُ بْنُ رَيْسَانَ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى الْيَمَنِ، وَعَلَى الْعِيرِ الْوَرْسُ وَالْحُلَلُ، فَأَخَذَهَا الْحُسَيْنُ وَقَالَ لِأَصْحَابِ الْإِبِلِ: مَنْ أَحَبَّ

مِنْكُمْ أَنْ يَمْضِيَ مَعَنَا إِلَى الْعِرَاقِ أَوْفَيْنَا كِرَاءَهُ وَأَحْسَنَّا صُحْبَتَهُ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُفَارِقَنَا مِنْ مَكَانِنَا أَعْطَيْنَاهُ نَصِيبَهُ مِنَ الْكِرَاءِ، فَمَنْ فَارَقَ مِنْهُمْ أَعْطَاهُ حَقَّهُ، وَمَنْ سَارَ مَعَهُ أَعْطَاهُ كِرَاءَهُ وَكَسَاهُ. ثُمَّ سَارَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الصِّفَاحِ لَقِيَهُ الْفَرَزْدَقُ الشَّاعِرُ فَقَالَ لَهُ: أَعْطَاكَ اللَّهُ سُؤْلَكَ وَأَمَلَكَ فِيمَا تُحِبُّ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنِ: بَيِّنْ لِي خَبَرَ النَّاسِ خَلْفَكَ. قَالَ: الْخَبِيرَ سَأَلْتَ، قُلُوبُ النَّاسِ مَعَكَ، وَسُيُوفُهُمْ مَعَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَالْقَضَاءُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: صَدَقْتَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَكُلَّ يَوْمٍ رَبُّنَا فِي شَأْنٍ، إِنْ نَزَلَ الْقَضَاءُ بِمَا نُحِبُّ فَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى نَعْمَائِهِ وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ عَلَى أَدَاءِ الشُّكْرِ، وَإِنْ حَالَ الْقَضَاءُ دُونَ الرَّجَاءِ فَلَمْ يَعْتَدِ مَنْ كَانَ الْحَقُّ نِيَّتَهُ، وَالتَّقْوَى سَرِيرَتَهُ. قَالَ: وَأَدْرَكَ الْحُسَيْنَ كِتَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ مَعَ ابْنَيْهِ عَوْنٍ وَمُحَمَّدٍ، وَفِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ لَمَا انْصَرَفْتَ حِينَ تَقْرَأُ كِتَابِي هَذَا، فَإِنِّي مُشْفِقٌ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ هَلَاكُكَ وَاسْتِئْصَالُ أَهْلِ بَيْتِكَ، إِنْ هَلَكْتَ الْيَوْمَ طُفِئَ نُورُ الْأَرْضِ، فَإِنَّكَ عَلَمُ الْمُهْتَدِينَ وَرَجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا تَعْجَلْ بِالسَّيْرِ فَإِنِّي فِي إِثْرِ كِتَابِي، وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ: وَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ لِلْحُسَيْنِ كِتَابًا تَجْعَلُ لَهُ الْأَمَانَ فِيهِ وَتُمَنِّيهِ فِيهِ الْبِرَّ وَالصِّلَةَ وَاسْأَلْهُ الرُّجُوعَ. وَكَانَ عَمْرٌو عَامِلَ يَزِيدَ عَلَى مَكَّةَ، فَفَعَلَ عَمْرٌو ذَلِكَ وَأَرْسَلَ الْكِتَابَ مَعَ أَخِيهِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَمَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَلَحِقَاهُ وَقَرَآ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَجَهِدَا أَنْ يَرْجِعَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَكَانَ مِمَّا اعْتَذَرَ بِهِ إِلَيْهِمَا أَنْ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رُؤْيَا رَأَيْتُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمِرْتُ فِيهَا بِأَمْرٍ أَنَا مَاضٍ لَهُ، عَلَيَّ كَانَ أَوْ لِي. فَقَالَا: مَا تِلْكَ الرُّؤْيَا؟ قَالَ: مَا حَدَّثْتُ بِهَا أَحَدًا وَمَا أَنَا مُحَدِّثٌ بِهَا أَحَدًا حَتَّى أَلْقَى رَبِّي. وَلَمَّا بَلَغَ ابْنَ زِيَادٍ مَسِيرُ الْحُسَيْنِ مِنْ مَكَّةَ بَعَثَ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ التَّمِيمِيَّ

صَاحِبَ شُرْطَتِهِ فَنَزَلَ الْقَادِسِيَّةَ وَنَظَّمَ الْخَيْلَ مَا بَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى خَفَّانِ، وَمَا بَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى الْقُطْقُطَانَةِ وَإِلَى جَبَلِ لَعْلَعَ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحُسَيْنُ الْحَاجِزَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ مَعَ قَيْسِ بْنِ مُسْهِرٍ الصَّيْدَاوِيِّ يُعَرِّفُهُمْ قُدُومَهُ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْجِدِّ فِي أَمْرِهِمْ، فَلَمَّا انْتَهَى قَيْسٌ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ أَخَذَهُ الْحُصَيْنُ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: اصْعَدِ الْقَصْرَ فَسُبَّ الْكَذَّابَ ابْنَ الْكَذَّابِ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ. فَصَعِدَ قَيْسٌ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ خَيْرُ خَلْقِ اللَّهِ، ابْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا رَسُولُهُ إِلَيْكُمْ وَقَدْ فَارَقْتُهُ بِالْحَاجِرِ فَأَجِيبُوهُ، ثُمَّ لَعَنَ ابْنَ زِيَادٍ وَأَبَاهُ وَاسْتَغْفَرَ لَعَلِيٍّ. فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ زِيَادٍ فَرُمِيَ مِنْ أَعْلَى الْقَصْرِ فَتَقَطَّعَ فَمَاتَ. ثُمَّ أَقْبَلَ الْحُسَيْنُ يَسِيرُ نَحْوَ الْكُوفَةِ فَانْتَهَى إِلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ الْعَرَبِ، فَإِذَا عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ! مَا أَقْدَمَكَ؟ فَاحْتَمَلَهُ فَأَنْزَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ الْحُسَيْنُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَحُرْمَةَ الْإِسْلَامِ أَنْ تُنْتَهَكَ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ فِي حُرْمَةِ قُرَيْشٍ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ فِي حُرْمَةِ الْعَرَبِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ طَلَبْتَ مَا فِي أَيْدِي بَنِي أُمَيَّةَ لَيَقْتُلُنَّكَ، وَلَئِنْ قَتَلُوكَ لَا يَهَابُونَ بَعْدَكَ أَحَدًا أَبَدًا، وَاللَّهِ إِنَّهَا لَحُرْمَةُ الْإِسْلَامِ [تُنْتَهَكُ] وَحُرْمَةُ قُرَيْشٍ وَحُرْمَةُ الْعَرَبِ، فَلَا تَفْعَلْ وَلَا تَأْتِ الْكُوفَةَ وَلَا تُعَرِّضْ نَفْسَكَ لِبَنِي أُمَيَّةَ! فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَمْضِيَ. وَكَانَ زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ الْبَجَلِيُّ قَدْ حَجَّ، وَكَانَ عُثْمَانِيًّا، فَلَمَّا عَادَ جَمَعَهُمَا الطَّرِيقُ، وَكَانَ يُسَايِرُ الْحُسَيْنَ مِنْ مَكَّةَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ مَعَهُ، فَاسْتَدْعَاهُ يَوْمًا الْحُسَيْنُ فَشُقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ ثُمَّ أَجَابَهُ عَلَى كُرْهٍ، فَلَمَّا عَادَ مِنْ عِنْدِهِ نَقَلَ ثَقَلَهُ إِلَى ثَقَلِ الْحُسَيْنِ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَتْبَعَنِي وَإِلَّا فَإِنَّهُ آخِرُ الْعَهْدِ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا، غَزَوْنَا بَلَنْجَرَ فَفُتِحَ عَلَيْنَا وَأَصَبْنَا غَنَائِمَ فَفَرِحْنَا وَكَانَ مَعَنَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ فَقَالَ لَنَا: إِذَا أَدْرَكْتُمْ سَيِّدَ شَبَابِ أَهْلِ مُحَمَّدٍ فَكُونُوا أَشَدَّ فَرَحًا بِقِتَالِكُمْ مَعَهُ بِمَا أَصَبْتُمُ الْيَوْمَ مِنَ

الْغَنَائِمِ، فَأَمَّا أَنَا فَأَسْتَوْدِعُكُمُ اللَّهَ! ثُمَّ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَقَالَ لَهَا: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ يُصِيبَكِ فِي سَبَبِي إِلَّا خَيْرٌ. وَلَزِمَ الْحُسَيْنَ حَتَّى قُتِلَ مَعَهُ. وَأَتَاهُ خَبَرُ قَتْلِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ بِالثَّعْلَبِيَّةِ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: نَنْشُدُكَ إِلَّا رَجَعْتَ مِنْ مَكَانِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِالْكُوفَةِ نَاصِرٌ وَلَا شِيعَةٌ بَلْ نَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ أَنْ يَكُونُوا عَلَيْكَ! فَوَثَبَ بَنُو عَقِيلٍ وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَبْرَحُ حَتَّى نُدْرِكَ ثَأْرَنَا أَوْ نَذُوقَ كَمَا ذَاقَ مُسْلِمٌ! فَقَالَ الْحُسَيْنُ: لَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ هَؤُلَاءِ: فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّكَ وَاللَّهِ مَا أَنْتَ مِثْلَ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، وَلَوْ قَدِمْتَ الْكُوفَةَ لَكَانَ النَّاسُ إِلَيْكَ أَسْرَعَ. ثُمَّ ارْتَحَلُوا فَانْتَهَوْا إِلَى زُبَالَةَ، وَكَانَ لَا يَمُرُّ بِمَاءٍ إِلَّا اتَّبَعَهُ مَنْ عَلَيْهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى زُبَالَةَ، فَأَتَاهُ خَبَرُ مَقْتَلِ أَخِيهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُقْطُرَ، وَكَانَ سَرَّحَهُ إِلَى مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ مِنَ الطَّرِيقِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِقَتْلِهِ، فَأَخَذَتْهُ خَيْلُ الْحُصَيْنِ، فَسَيَّرَهُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ: اصْعَدْ فَوْقَ الْقَصْرِ وَالْعَنِ الْكَذَّابَ ابْنَ الْكَذَّابِ ثُمَّ انْزِلْ حَتَّى أَرَى فِيكَ رَأْيِي. فَصَعِدَ فَأَعْلَمَ النَّاسَ بِقُدُومِ الْحُسَيْنِ وَلَعَنَ ابْنَ زِيَادٍ وَأَبَاهُ، فَأَلْقَاهُ مِنَ الْقَصْرِ فَتَكَسَّرَتْ عِظَامُهُ وَبَقِيَ بِهِ رَمَقٌ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّخْمِيُّ فَذَبَحَهُ فَلَمَّا عِيبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُرِيحَهُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَكُنِ الَّذِي ذَبَحَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ يُشْبِهُ عَبْدَ الْمَلِكِ. فَلَمَّا أَتَى الْحُسَيْنَ خَبَرُ قَتْلِ أَخِيهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَمُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ أَعْلَمَ النَّاسَ ذَلِكَ وَقَالَ: قَدْ خَذَلَنَا شِيعَتُنَا، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْصَرِفَ فَلْيَنْصَرِفْ لَيْسَ عَلَيْهِ مِنَّا ذِمَامٌ. فَتَفَرَّقُوا يَمِينًا وَشِمَالًا حَتَّى بَقِيَ فِي أَصْحَابِهِ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْأَعْرَابَ ظَنُّوا أَنَّهُ يَأْتِي بَلَدًا قَدِ اسْتَقَامَتْ لَهُ طَاعَةُ أَهْلِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَعْلَمُوا عَلَامَ يَقَدَمُونَ. ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ بَطْنَ الْعَقَبَةِ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالَ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ لَمَا انْصَرَفْتَ فَوَاللَّهِ مَا تَقَدَمُ إِلَّا عَلَى الْأَسِنَّةِ وَحَدِّ السُّيُوفِ، إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَعَثُوا إِلَيْكَ لَوْ كَانُوا كَفَوْكَ مَئُونَةَ الْقِتَالِ وَوَطَّئُوا لَكَ الْأَشْيَاءَ فَقَدِمْتَ عَلَيْهِمْ لَكَانَ ذَلِكَ رَأَيًا، فَأَمَّا عَلَى

هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي تُذْكَرُ فَلَا أَرَى أَنْ تَفْعَلَ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيَّ مَا ذَكَرْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، لَا يُغْلَبُ عَلَى أَمْرِهِ. ثُمَّ ارْتَحَلَ مِنْهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ الْأَشْدَقُ، وَكَانَ الْعَامِلَ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. [الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا مَاتَ جُرْهُدٌ الْأَسْلَمِيُّ لَهُ صُحْبَةٌ) . وَفِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ مَاتَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيِّ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ. وَفِي أَيَّامِهِ أَيْضًا مَاتَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ

الَّذِي يُشَبِّهُ جِبْرَائِيلَ إِذَا أُنْزِلَ بِالْوَحْيِ. وَفِي أَوَّلِ خِلَافَتِهِ مَاتَ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ بَدْرِيًّا، وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ. وَفِي أَيَّامِهِ مَاتَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ بِالْمَدِينَةِ. وَفِي أَيَّامِهِ مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيُّ، (وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ. وَفِي أَيَّامِهِ مَاتَ) عُتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ، (شَهِدَا بَدْرًا. وَفِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ مَاتَ سَهْلُ بْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ، وَهُوَ ابْنُ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ) ، بِدِمَشْقَ، وَفِي أَيَّامِهِ بَعْدَ سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ مَاتَ السَّائِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ السَّهْمِيُّ. وَمَاتَ فِي أَيَّامِهِ سُرَاقَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ. وَفِي أَيَّامِهِ مَاتَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ فِي أَوَّلِهَا، وَهُوَ بَدْرِيٌّ. وَفِي أَيَّامِهِ مَاتَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ الْمُزَنِيُّ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ نَهْرُ مَعْقِلٍ بِالْبَصْرَةِ، (وَقِيلَ: مَاتَ فِي أَيَّامِ يَزِيدَ. (مَعْقِلٌ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ. وَيَسَارٌ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ) .

وَفِي أَيَّامِهِ) مَاتَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدَبِ بْنِ عُمَيْرٍ صَاحِبُ بُدْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِيهَا مَاتَ نُعَيْمَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رِفَاعَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ فِيهِ مُزَاحٌ وَدُعَابَةٌ، وَشَهِدَ بَدْرًا، وَقِيلَ: بَلِ الَّذِي مَاتَ ابْنُهُ. وَفِي آخِرِ أَيَّامِهِ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ ابْنُ بُحَيْنَةَ، لَهُ صُحْبَةٌ. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلِ بْنِ عَبْدِ غُنْمٍ الْمُزَنِيُّ بِالْبَصْرَةِ. (وَمُغَفَّلٌ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ) . وَفِي أَيَّامِهِ مَاتَ هِنْدُ بْنُ جَارِيَةَ بْنِ هِنْدٍ الْأَسْلَمِيُّ. وَفِي سَنَةِ سِتِّينَ تُوُفِّيَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، سِتُّونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسِتُّونَ فِي الْإِسْلَامِ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ، وَقِيلَ: (مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ) ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْبَدْرِيِّينَ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ، وَلَا يَصِحُّ. وَفِي أَوَّلِ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ مَاتَ أَبُو بُرْدَةَ هَانِئُ بْنُ نِيَارٍ الْبَلَوِيُّ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ عَقَبِيُّ بَدْرِيٌّ، وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ حُرُوبَهُ كُلَّهَا. وَفِي أَيَّامِهِ مَاتَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ، لَهُ صُحْبَةٌ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ. وَفِي أَيَّامِهِ مَاتَ أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيُّ الْقُرَشِيُّ فِي آخِرِهَا، وَقِيلَ: شَهِدَ بُنْيَانَ

الْكَعْبَةِ أَيَّامَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ قُرَيْشًا حِينَ بَنَتْهَا. وَفِي أَوَّلِ أَيَّامِهِ مَاتَ (أَبُو حَثْمَةَ الْأَنْصَارِيُّ وَالِدُ سَهْلٍ) . (وَفِي آخِرِ أَيَّامِهِ مَاتَ) أَبُو قَيْسٍ الْجُهَنِيُّ، شَهِدَ الْفَتْحَ (وَفِي سَنَةِ سِتِّينَ تُوُفِّيَ) صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ بِسُمَيْسَاطَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قُتِلَ شَهِيدًا (قَبْلَ هَذَا) . وَفِيهَا تُوُفِّيَتِ الْكِلَابِيَّةُ الَّتِي اسْتَعَاذَتْ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تَزَوَّجَهَا فَفَارَقَهَا، وَكَانَتْ قَدْ أَصَابَهَا جُنُونٌ، وَتُوُفِّيَ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَفِي آخِرِ أَيَّامِهِ مَاتَ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ الْحَضْرَمِيُّ، وَأَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ (هِنْدُ بْنُ جَارِيَةَ بِالْجِيمِ، وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا. وَحَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ. أَبُو أُسَيْدٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ السِّينِ) .

ثم دخلت سنة إحدى وستين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ] 61 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ ذِكْرُ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَارَ الْحُسَيْنُ بْنُ شَرَّافٍ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ كَبَّرَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ: مِمَّ كَبَّرْتَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ النَّخْلَ. فَقَالَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي أَسَدٍ: مَا بِهَذِهِ الْأَرْضِ نَخْلَةٌ قَطُّ! فَقَالَ الْحُسَيْنُ: فَمَا هُوَ؟ فَقَالَا: لَا نَرَاهُ إِلَّا هَوَادِي الْخَيْلِ. فَقَالَ: وَأَنَا أَيْضًا أَرَاهُ ذَلِكَ. وَقَالَ لَهُمَا: أَمَا لَنَا مَلْجَأٌ نَلْجَأُ إِلَيْهِ نَجْعَلُهُ فِي ظُهُورِنَا وَنَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ مَنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَا: بَلَى، هَذَا ذُو حُسُمٍ إِلَى جَنْبِكَ تَمِيلُ إِلَيْهِ عَنْ يَسَارِكَ فَإِنْ سَبَقْتَ الْقَوْمَ إِلَيْهِ فَهُوَ كَمَا تُرِيدُ. فَمَالَ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ طَلَعَتِ الْخَيْلُ وَعَدَلُوا إِلَيْهِمْ، فَسَبَقَهُمُ الْحُسَيْنُ إِلَى الْجَبَلِ فَنَزَلَ، وَجَاءَ الْقَوْمُ وَهُمْ أَلْفُ فَارِسٍ مَعَ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ التَّمِيمِيُّ ثُمَّ الْيَرْبُوعِيُّ، فَوَقَفُوا مُقَابِلَ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ فِي حَرِّ الظَّهِيرَةِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ لِأَصْحَابِهِ وَفِتْيَانِهِ: اسْقُوا

الْقَوْمَ وَرَشِّفُوا الْخَيْلَ تَرْشِيفًا. فَفَعَلُوا، وَكَانَ مَجِيءُ الْقَوْمِ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ، أَرْسَلَهُمُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ التَّمِيمِيُّ فِي هَذِهِ الْأَلِفِ يَسْتَقْبِلُ الْحُسَيْنَ، فَلَمْ يَزَلْ مُوَاقِفًا الْحُسَيْنَ حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ، فَأَمْرَ الْحُسَيْنُ مُؤَذِّنَهُ بِالْأَذَانِ فَأَذَّنَ، وَخَرَجَ الْحُسَيْنُ إِلَيْهِمْ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهَا مَعْذِرَةٌ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، إِنِّي لَمْ آتِكُمْ حَتَّى أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ وَرُسُلُكُمْ أَنْ أَقْدِمْ إِلَيْنَا فَلَيْسَ لَنَا إِمَامٌ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا بِكَ عَلَى الْهُدَى، فَقَدْ جِئْتُكُمْ، فَإِنْ تُعْطُونِي مَا أَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ مِنْ عُهُودِكُمْ أَقْدَمُ مِصْرَكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أَوْ كُنْتُمْ لِمَقَدَمِي كَارِهِينَ انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَقْبَلْتُ مِنْهُ. فَسَكَتُوا وَقَالُوا لِلْمُؤَذِّنِ: أَقِمْ، فَأَقَامَ، وَقَالَ الْحُسَيْنُ لِلْحُرِّ: أَتُرِيدُ أَنْ تُصَلِّيَ أَنْتَ بِأَصْحَابِكَ؟ فَقَالَ: بَلْ صَلِّي أَنْتَ وَنُصَلِّي بِصَلَاتِكَ. فَصَلَّى بِهِمُ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ دَخَلَ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَانْصَرَفَ الْحُرُّ إِلَى مَكَانِهِ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمُ الْحُسَيْنُ الْعَصْرَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُمْ بِوَجْهِهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّكُمْ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ وَتَعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ يَكُنْ أَرْضَى لِلَّهِ، وَنَحْنُ أَهْلُ الْبَيْتِ أَوْلَى بِوِلَايَةِ هَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُدَّعِينَ مَا لَيْسَ لَهُمْ وَالسَّائِرِينَ فِيكُمْ بِالْجَوْرِ وَالْعُدْوَانِ، فَإِنْ أَنْتُمْ كَرِهْتُمُونَا وَجَهِلْتُمْ حَقَّنَا وَكَانَ رَأْيُكُمْ غَيْرَ مَا أَتَتْنِي بِهِ كُتُبُكُمْ وَرُسُلُكُمُ انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ. فَقَالَ الْحُرُّ: إِنَّا وَاللَّهِ مَا نَدْرِي مَا هَذِهِ الْكُتُبُ وَالرُّسُلُ الَّتِي تَذْكُرُ. فَأَخْرَجَ خُرْجَيْنِ مَمْلُوءَيْنِ صُحُفًا فَنَثَرَهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. فَقَالَ الْحُرُّ: فَإِنَّا لَسْنَا مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَتَبُوا إِلَيْكَ، وَقَدْ أُمِرْنَا أَنَّا إِذَا نَحْنُ لَقِينَاكَ أَنْ لَا نُفَارِقَكَ حَتَّى نُقْدِمَكَ الْكُوفَةَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: الْمَوْتُ أَدْنَى إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ! ثُمَّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَرَكِبُوا لِيَنْصَرِفُوا فَمَنْعَهُمُ الْحُرُّ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! مَا تُرِيدُ؟ قَالَ لَهُ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ غَيْرُكَ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُهَا لِي مَا تَرَكْتُ ذِكْرَ أُمِّهِ بِالثَّكْلِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ مَا لِي إِلَى ذِكْرِ أُمِّكَ مِنْ سَبِيلٍ إِلَّا بِأَحْسَنِ مَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ الْحُرُّ: أُرِيدُ أَنْ أَنْطَلِقَ بِكَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ. قَالَ الْحُسَيْنُ: إِذَنْ وَاللَّهِ لَا أَتْبَعُكَ. قَالَ الْحُرُّ: إِذَنْ وَاللَّهِ لَا أَدَعُكَ. فَتَرَادَّا الْكَلَامَ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: إِنِّي لَمْ أُؤْمَرْ بِقِتَالِكَ وَإِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ لَا أُفَارِقَكَ حَتَّى أُقْدِمَكَ الْكُوفَةَ، [فَإِذَا أَبَيْتَ] فَخُذْ طَرِيقًا لَا تُدْخِلُكَ الْكُوفَةَ وَلَا تَرُدُّكَ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى

أَكْتُبَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ وَتَكْتُبُ أَنْتَ إِلَى يَزِيدَ أَوْ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فَلَعَلَّ اللَّهَ يَأْتِي بِأَمْرٍ يَرْزُقُنِي فِيهِ الْعَافِيَةَ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ. فَتَيَاسَرَ عَنْ طَرِيقِ الْعُذَيْبِ وَالْقَادِسِيَّةِ وَالْحُرُّ يُسَايِرُهُ. ثُمَّ إِنَّ الْحُسَيْنَ خَطَبَهُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ رَأَى سُلْطَانًا جَائِرًا مُسْتَحِلًّا لِحُرَمِ اللَّهِ نَاكِثًا لِعَهْدِ اللَّهِ مُخَالِفًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَلَمْ يُغَيِّرْ مَا عَلَيْهِ بِفِعْلٍ وَلَا قَوْلٍ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مُدْخَلُهُ» . أَلَا وَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ وَتَرَكُوا طَاعَةَ الرَّحْمَنِ وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ وَأَحَلُّوا حَرَامَ اللَّهِ وَحَرَّمُوا حَلَالَهُ، وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ غَيَّرَ، وَقَدْ أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ وَرُسُلُكُمْ بِبَيْعَتِكُمْ، وَأَنَّكُمْ لَا تُسَلِّمُونِي وَلَا تَخْذُلُونِي فَإِنْ تَمَّمْتُمْ عَلَى بَيْعَتِكُمْ تُصِيبُوا رُشْدَكُمْ، وَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفْسِي مَعَ أَنْفُسِكُمْ، وَأَهْلِي مَعَ أَهْلِكُمْ، فَلَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَنَقَضْتُمْ عَهْدِي وَخَلَعْتُمْ بَيْعَتِي فَلَعَمْرِي مَا هِيَ لَكُمْ بِنَكِيرٍ، لَقَدْ فَعَلْتُمُوهَا بِأَبِي وَأَخِي وَابْنِ عَمِّي مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، وَالْمَغْرُورُ مَنِ اغْتَرَّ بِكُمْ، فَحَظَّكُمْ أَخْطَأْتُمْ، وَنَصِيبَكُمْ ضَيَّعْتُمْ، {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] وَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ، وَالسَّلَامُ. فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: إِنِّي أَذَكِّرُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، فَإِنِّي أَشْهَدُ لَئِنْ قَاتَلَتْ لَتُقْتَلَنَّ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَبِالْمَوْتِ تُخَوِّفُنِي؟ وَهَلْ يَعْدُو بِكُمُ الْخَطْبُ أَنْ تَقْتُلُونِي؟ وَمَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ! وَلَكِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخُو الْأَوْسِيِّ لِابْنِ عَمِّهِ وَهُوَ يُرِيدُ نُصْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تَذْهَبُ؟ فَإِنَّكَ مَقْتُولٌ فَقَالَ: سَأَمْضِي وَمَا بِالْمَوْتِ عَارٌ عَلَى الْفَتَى ... إِذَا مَا نَوَى خَيْرًا وَجَاهَدَ مُسْلِمَا وَوَاسَى رِجَالًا صَالِحِينَ بِنَفْسِهِ ... وَخَالَفَ مَثْبُورًا وَفَارَقَ مُجْرِمَا فَإِنْ عِشْتُ لَمْ أَنْدَمْ وَإِنْ مُتُّ لَمْ أُلَمْ ... كَفَى بِكَ ذُلًّا أَنْ تَعِيشَ وَتُرْغَمَا

فَلَمَّا سَمَّعَ ذَلِكَ الْحُرُّ تَنَحَّى عَنْهُ فَكَانَ يَسِيرُ نَاحِيَةً عَنْهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى عُذَيْبِ الْهِجَانَاتِ، كَانَ بِهِ هَجَائِنُ النُّعْمَانِ تُرْعَى هُنَاكَ فَنُسِبَ إِلَيْهَا، فَإِذَا هُوَ بِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الْكُوفَةِ عَلَى رَوَاحِلِهِمْ يُجَنِّبُونَ فَرَسًا لِنَافِعِ بْنِ هِلَالٍ يُقَالُ لَهُ الْكَامِلُ وَمَعَهُمْ دَلِيلُهُمُ الطِّرِمَّاحُ بْنُ عَدِيٍّ وَانْتَهَوْا إِلَى الْحُسَيْنِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمُ الْحُرُّ وَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَنَا حَابِسُهُمْ أَوْ رَادُّهُمْ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: لَأَمْنَعَنَّهُمْ مِمَّا أَمْنَعُ مِنْهُ نَفْسِي، إِنَّمَا هَؤُلَاءِ أَنْصَارِي وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَاءَ مَعِي، فَإِنْ تَمَّمْتَ عَلَى مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَإِلَّا نَاجَزْتُكَ. فَكَفَّ الْحُرُّ عَنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمُ الْحُسَيْنُ: أَخْبَرُونِي فِي خَبَرِ النَّاسِ خَلْفَكُمْ. فَقَالَ لَهُ مَجْمَعُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَائِذِيُّ، وَهُوَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَشْرَافُ النَّاسِ فَقَدْ أُعْظِمَتْ رِشْوَتُهُمْ، وَمُلِئَتْ غَرَائِرُهُمْ، فَهُمْ أَلْبٌ وَاحِدٌ عَلَيْكَ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ بَعْدَهُمْ فَإِنَّ قُلُوبَهُمْ تَهْوَى إِلَيْكَ وَسُيُوفَهُمْ غَدًا مَشْهُورَةٌ عَلَيْكَ. وَسَأَلَهُمْ عَنْ رَسُولِهِ قَيْسِ بْنِ مُسْهِرٍ، فَأَخْبَرُوهُ بِقَتْلِهِ وَمَا كَانَ مِنْهُ، فَتَرَقْرَقَتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ وَلَمْ يَمْلِكْ دَمْعَتَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَنَا وَلَهُمُ الْجَنَّةَ وَاجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِكَ وَرَغَائِبِ مَذْخُورِ ثَوَابِكَ. وَقَالَ لَهُ الطِّرِمَّاحُ بْنُ عَدِيٍّ: وَاللَّهِ مَا أَرَى مَعَكَ كَثِيرَ أَحَدٍ، وَلَوْ لَمْ يُقَاتِلْكَ إِلَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرَاهُمْ مُلَازِمِيكَ لَكَانَ كَفَى بِهِمْ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ قَبْلَ خُرُوجِي مِنَ الْكُوفَةِ بِيَوْمٍ ظَهْرَ الْكُوفَةِ وَفِيهِ مِنَ النَّاسِ مَا لَمْ تَرَ عَيْنَايَ جَمْعًا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ أَكْثَرَ مِنْهُ قَطُّ لِيَسِيرُوا إِلَيْكَ، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى أَنْ لَا تَقَدَمَ إِلَيْهِمْ شِبْرًا فَافْعَلْ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَنْزِلَ بَلَدًا يَمْنَعُكَ اللَّهُ بِهِ حَتَّى تَرَى رَأْيَكَ وَيَسْتَبِينَ لَكَ مَا أَنْتَ صَانِعٌ فَسِرْ حَتَّى أُنْزِلَكَ جَبَلَنَا أَجَأَ، فَهُوَ وَاللَّهِ جَبَلٌ امْتَنَعْنَا بِهِ مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ وَحِمْيَرَ وَالنُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَمِنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ، وَاللَّهِ مَا إِنْ دَخَلَ عَلَيْنَا ذُلٌّ قَطُّ، فَأَسِيرُ مَعَكَ حَتَّى أُنْزِلَكَ الْقُرَيَّةَ، ثُمَّ تَبْعَثُ إِلَى الرِّجَالِ مِمَّنْ بِأَجَأَ وَسَلْمَى مِنْ طَيِّئٍ، فَوَاللَّهِ لَا يَأْتِي عَلَيْكَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ حَتَّى يَأْتِيَكَ طَيِّئٌ رِجَالًا وَرُكْبَانًا، ثُمَّ

أَقِمْ فِينَا مَا بَدَا لَكَ، فَإِنَّ هَاجَكَ هَيْجٌ فَأَنَا زَعِيمٌ لَكَ بِعِشْرِينَ أَلْفِ طَائِيٍّ يَضْرِبُونَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِأَسْيَافِهِمْ، فَوَاللَّهِ لَا يُوصَلُ إِلَيْكَ أَبَدًا وَفِيهِمْ عَيْنٌ تَطَرُفُ. فَقَالَ لَهُ: جَزَاكَ اللَّهُ وَقَوْمَكَ خَيْرًا! إِنَّهُ قَدْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ قَوْلٌ لَسْنَا نَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الِانْصِرَافِ وَلَا نَدْرِي عَلَامَ (تَتَصَرَّفُ بِنَا وَبِهِمُ) الْأُمُورُ. فَوَدَّعَهُ وَسَارَ إِلَى أَهْلِهِ وَوَعَدَهُ أَنْ يُوصِلَ الْمِيرَةَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَعُودَ إِلَى نَصْرِهِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْحُسَيْنِ، فَلَمَّا بَلَغَ عُذَيْبَ الْهِجَانَاتِ لَقِيَهُ خَبَرُ قَتْلِهِ فَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ. ثُمَّ سَارَ الْحُسَيْنُ حَتَّى بَلَغَ قَصْرَ مُقَاتِلٍ فَرَأَى فُسْطَاطًا مَضْرُوبًا فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُرِّ الْجُعْفِيِّ. فَقَالَ: ادْعُوهُ لِي. فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ يَدْعُوهُ قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَّا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَدْخُلَهَا الْحُسَيْنُ وَأَنَا بِهَا، وَاللَّهِ مَا أُرِيدُ أَنْ أَرَاهُ وَلَا يَرَانِي. فَعَادَ الرَّسُولُ إِلَى الْحُسَيْنِ فَأَخْبَرَهُ، فَلَبِسَ الْحُسَيْنُ نَعْلَيْهِ ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَدَعَاهُ إِلَى نَصْرِهِ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ ابْنُ الْحُرِّ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، قَالَ: فَإِنْ لَا تَنْصُرْنِي فَاتَّقِ اللَّهَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يُقَاتِلُنَا، فَوَاللَّهِ لَا يَسْمَعُ وَاعِيَتَنَا أَحَدٌ ثُمَّ لَا يَنْصُرُنَا إِلَّا هَلَكَ. فَقَالَ لَهُ: أَمَّا هَذَا فَلَا يَكُونُ أَبَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ قَامَ الْحُسَيْنُ فَخَرَجَ إِلَى رَحْلِهِ ثُمَّ سَارَ لَيْلًا سَاعَةً فَخَفَقَ بِرَأْسِهِ خَفْقَةً ثُمَّ انْتَبَهَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ ابْنُهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَالَ: يَا أَبَتِ جُعِلْتُ فِدَاكَ! مِمَّ حَمِدْتَ وَاسْتَرْجَعْتَ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي خَفَقْتُ بِرَأْسِي خَفْقَةً فَعَنَّ لِي فَارِسٌ عَلَى فَرَسٍ، فَقَالَ: الْقَوْمُ يَسِيرُونَ وَالْمَنَايَا تَسِيرُ إِلَيْهِمْ، فَعَلِمْتُ أَنَّ أَنْفُسَنَا نُعِيَتَ إِلَيْنَا. فَقَالَ: يَا أَبَتِ لَا أَرَاكَ اللَّهُ سُوءًا. أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ؟ قَالَ: بَلَى وَالَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ. قَالَ: إِذَنْ لَا نُبَالِي أَنْ نَمُوتَ مُحِقِّينَ. فَقَالَ لَهُ: جَزَاكَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ خَيْرًا مَا جَزَى وَلَدًا عَنْ وَالِدِهِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ نَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ عَجَّلَ الرُّكُوبَ فَأَخَذَ يَتَيَاسَرُ بِأَصْحَابِهِ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَهُمْ، فَأَتَى الْحُرُّ فَرَدَّهُ وَأَصْحَابَهُ، فَجَعَلَ إِذَا رَدَّهُمْ نَحْوَ الْكُوفَةِ رَدًّا شَدِيدًا امْتَنَعُوا عَلَيْهِ وَارْتَفَعُوا، فَلَمْ يَزَالُوا يَتَيَاسَرُونَ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى نِينَوَى، الْمَكَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْحُسَيْنُ، فَلَمَّا نَزَلُوا إِذَا رَاكِبٌ مُقْبِلٌ مِنَ الْكُوفَةِ، فَوَقَفُوا يَنْتَظِرُونَهُ، فَسَلَّمَ عَلَى الْحُرِّ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَى الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ، وَدَفَعَ إِلَى الْحُرِّ كِتَابًا مِنِ ابْنِ زِيَادٍ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَجَعْجِعْ بِالْحُسَيْنِ حِينَ

يَبْلُغُكَ كِتَابِي وَيَقْدَمُ عَلَيْكَ رَسُولِي فَلَا تُنْزِلْهُ إِلَّا بِالْعَرَاءِ فِي غَيْرِ حِصْنٍ وَعَلَى غَيْرِ مَاءٍ، وَقَدْ أَمَرْتُ رَسُولِي أَنْ يَلْزَمَكَ فَلَا يُفَارِقَكَ حَتَّى يَأْتِيَنِي بِإِنْفَاذِكَ أَمْرِي، وَالسَّلَامُ. فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ قَالَ لَهُمُ الْحُرُّ: هَذَا كِتَابُ الْأَمِيرِ يَأْمُرُنِي أَنْ أُجَعْجِعَ بِكُمْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَأْتِينِي فِيهِ كِتَابُهُ، وَقَدْ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ لَا يُفَارِقَنِي حَتَّى أُنْفِذَ رَأْيَهُ وَأَمْرَهُ. وَأَخَذَهُمُ الْحُرُّ بِالنُّزُولِ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ وَلَا فِي قَرْيَةٍ، فَقَالُوا: دَعْنَا نَنْزِلْ فِي نِينَوَى أَوِ الْغَاضِرِيَّةَ أَوْ شُفَيَّةَ. فَقَالَ لَا أَسْتَطِيعُ، هَذَا الرَّجُلُ قَدْ بَعَثَ عَيْنًا عَلَيَّ. فَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ لِلْحُسَيْنِ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ وَاللَّهِ بَعْدَ مَا تَرَوْنَ إِلَّا مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، وَإِنَّ قِتَالَ هَؤُلَاءِ السَّاعَةَ أَهْوَنُ عَلَيْنَا مِنْ قِتَالِ مَنْ يَأْتِينَا مِنْ بَعْدِهِمْ، فَلَعَمْرِي لَيَأْتِيَنَّا مِنْ بَعْدِهِمْ مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ! فَقَالَ الْحُسَيْنُ: مَا كُنْتُ لِأَبْدَأَهُمْ بِالْقِتَالِ. فَقَالَا لَهُ زُهَيْرٌ: سِرْ بِنَا إِلَى هَذِهِ الْقَرْيَةِ حَتَّى نَنْزِلَهَا فَإِنَّهَا حَصِينَةٌ وَهِيَ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، فَإِنْ مَنَعُونَا قَاتَلْنَاهُمْ فَقِتَالُهُمْ أَهْوَنُ عَلَيْنَا مِنْ قِتَالِ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: مَا هِيَ؟ قَالَ: الْعَقْرُ. قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَقْرِ! ثُمَّ نَزَلَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّانِي مِنْ مُحَرَّمٍ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قِدَمَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مِنَ الْكُوفَةِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَكَانَ سَبَبُ مَسِيرِهِ إِلَيْهِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ إِلَى دَسْتَبَى، وَكَانَتِ الدَّيْلَمُ قَدْ خَرَجُوا إِلَيْهَا وَغَلَبُوا عَلَيْهَا وَكَتَبَ لَهُ عَهْدَهُ عَلَى الرَّيِّ، فَعَسْكَرَ بِالنَّاسِ فِي حَمَّامِ أَعْيَنَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحُسَيْنِ مَا كَانَ دَعَا ابْنُ زِيَادٍ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ وَقَالَ لَهُ: سِرْ إِلَى الْحُسَيْنِ فَإِذَا فَرَغْنَا مِمَّا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِرْتَ إِلَى عَمَلِكَ. فَاسْتَعْفَاهُ. فَقَالَ: نَعَمْ، عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَهْدَنَا. فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ: أَمْهِلْنِي الْيَوْمَ حَتَّى أَنْظُرَ. فَاسْتَشَارَ نُصَحَاءَهُ فَكُلُّهُمْ نَهَاهُ، وَأَتَاهُ حَمْزَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا خَالِيَ أَنْ تَسِيرَ إِلَى الْحُسَيْنِ فَتَأْثَمَ وَتَقْطَعَ رَحِمَكَ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ تَخْرُجَ مِنْ دُنْيَاكَ وَمَالِكَ وَسُلْطَانِ الْأَرْضِ لَوْ كَانَ لَكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَلْقَى اللَّهَ بِدَمِ الْحُسَيْنِ! فَقَالَ: أَفْعَلُ. وَبَاتَ لَيْلَتَهُ مُفَكِّرًا فِي أَمْرِهِ، فَسُمِعَ وَهُوَ يَقُولُ:

أَأُتْرَكُ مُلْكَ الرَّيِّ وَالرَّيُّ رَغْبَةٌ ... أَمْ أَرْجِعُ مَذْمُومًا بِقَتْلِ حُسَيْنِ وَفِي قَتْلِهِ النَّارُ الَّتِي لَيْسَ دُونَهَا ... حِجَابٌ وَمُلْكُ الرَّيِّ قُرَّةُ عَيْنِ ثُمَّ أَتَى ابْنَ زِيَادٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ وَلَّيْتَنِي هَذَا الْعَمَلَ وَسَمِعَ النَّاسُ بِهِ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَنْفُذَ لِي ذَلِكَ فَافْعَلْ وَابْعَثْ إِلَى الْحُسَيْنِ مِنْ أَشْرَافِ الْكُوفَةِ مَنْ لَسْتُ أَغْنَى فِي الْحَرْبِ مِنْهُ، وَسَمَّى أُنَاسًا. فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: لَسْتُ أَسْتَأْمِرُكَ فِيمَنْ أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ، فَإِنْ سَرْتَ بِجُنْدِنَا وَإِلَّا فَابْعَثْ إِلَيْنَا بِعَهْدِنَا. قَالَ: فَإِنِّي سَائِرٌ. فَأَقْبَلَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ حَتَّى نَزَلَ بِالْحُسَيْنِ، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ بَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولًا يَسْأَلُهُ مَا الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: كَتَبَ إِلَيَّ أَهْلُ مِصْرِكُمْ هَذَا أَنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا إِذْ كَرِهُونِي فَإِنِّي أَنْصَرِفُ عَنْهُمْ. فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَرَأَ ابْنُ زِيَادٍ الْكِتَابَ قَالَ: الْآنَ إِذْ عَلَقَتْ مَخَالِبُنَا بِهِ ... يَرْجُو النَّجَاةَ {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ص: 3] ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَعْرِضَ عَلَى الْحُسَيْنِ بَيْعَةَ يَزِيدَ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَأَيْنَا رَأْيَنَا، وَأَنْ يَمْنَعَهُ وَمَنْ مَعَهُ الْمَاءَ. فَأَرْسَلَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ عَمْرَو بْنَ الْحَجَّاجِ عَلَى خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ، فَنَزَلُوا عَلَى الشَّرِيعَةِ وَحَالُوا بَيْنَ الْحُسَيْنِ وَبَيْنَ الْمَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ قَتْلِ الْحُسَيْنِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَنَادَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْحُصَيْنِ الْأَزْدِيُّ وَعِدَادُهُ فِي بُجَيْلَةَ: يَا حُسَيْنُ أَمَا تَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ؟ لَا تَذُوقُ مِنْهُ قَطْرَةً حَتَّى تَمُوتَ عَطَشًا! فَقَالَ الْحُسَيْنُ: اللَّهُمَّ اقْتُلْهُ عَطَشًا وَلَا تَغْفِرْ لَهُ أَبَدًا. قَالَ: فَمَرِضَ فِيمَا بَعْدُ فَكَانَ يَشْرَبُ (الْمَاءَ) الْقُلَّةَ ثُمَّ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَبْغَرَ ثُمَّ يَقِيءُ ثُمَّ يَشْرَبُ فِيمَا يُرْوَى، فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ. فَلَمَّا اشْتَدَّ الْعَطَشُ عَلَى الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ أَمَرَ أَخَاهُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَلِيٍّ فَسَارَ فِي عِشْرِينَ رَاجِلًا يَحْمِلُونَ الْقِرَبَ وَثَلَاثِينَ فَارِسًا فَدَنَوْا مِنَ الْمَاءِ فَقَاتَلُوا عَلَيْهِ وَمَلَئُوا الْقِرَبَ وَعَادُوا، ثُمَّ بَعَثَ الْحُسَيْنُ إِلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ عَمْرَو بْنَ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيَّ

أَنِ الْقَنِي اللَّيْلَةَ بَيْنَ عَسْكَرِي وَعَسْكَرِكَ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ عُمَرُ، فَاجْتَمَعَا وَتَحَادَثَا طَوِيلًا ثُمَّ انْصَرَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى عَسْكَرِهِ، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ الْحُسَيْنَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ سَعْدٍ: اخْرُجْ مَعِي إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَنَدَعُ الْعَسْكَرَيْنِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَخْشَى أَنْ تُهْدَمَ دَارِي. قَالَ: أَبْنِيهَا لَكَ خَيْرًا مِنْهَا. قَالَ: تُؤْخَذُ ضِيَاعِي. قَالَ: أُعْطِيكَ خَيْرًا مِنْهَا مِنْ مَالِي بِالْحِجَازِ. فَكَرَهُ ذَلِكَ عُمَرُ. وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَسْمَعُوهُ، وَقِيلَ: بَلْ قَالَ لَهُ: اخْتَارُوا مِنِّي وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ أَرْجِعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَقْبَلْتُ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ أَضَعَ يَدِي فِي يَدِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَيَرَى فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ رَأْيَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَسِيرُوا بِي إِلَى أَيِّ ثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ شِئْتُمْ فَأَكُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِهِ لِي مَا لَهُمْ وَعَلَيَّ مَا عَلَيْهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ سَمْعَانَ أَنَّهُ قَالَ: صَحِبْتُ الْحُسَيْنَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ وَمِنْ مَكَّةَ إِلَى الْعِرَاقِ وَلَمْ أُفَارِقْهُ حَتَّى قُتِلَ، وَسَمِعْتُ جَمِيعَ مُخَاطِبَاتِهِ لِلنَّاسِ إِلَى يَوْمِ مَقْتَلِهِ، فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمْ مَا يَتَذَاكَرُ النَّاسُ أَنَّهُ يَضَعُ يَدَهُ فِي يَدِ يَزِيدَ، وَلَا أَنْ يُسَيِّرُوهُ إِلَى ثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: دَعُونِي أَرْجِعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَقْبَلْتُ مِنْهُ وَدَعُونِي أَذْهَبْ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الْعَرِيضَةِ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرُ النَّاسِ فَلَمْ يَفْعَلُوا. ثُمَّ الْتَقَى الْحُسَيْنُ وَعُمَرُ بْنُ سَعْدٍ مِرَارًا ثَلَاثًا وَأَرْبَعًا فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ أَطْفَأَ النَّائِرَةَ، وَجَمَعَ الْكَلِمَةَ، وَقَدْ أَعْطَانِي الْحُسَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَقْبَلَ مِنْهُ أَوْ أَنْ نُسَيِّرَهُ إِلَى أَيِّ ثَغْرٍ مِنَ الثُّغُورِ شِئْنَا، أَوْ أَنْ يَأْتِيَ يَزِيدَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، وَفِي هَذَا لَكُمْ رِضًى، وَلِلْأُمَّةِ صَلَاحٌ، فَلَمَّا قَرَأَ ابْنُ زِيَادٍ الْكِتَابَ قَالَ: هَذَا كِتَابُ رَجُلٍ نَاصِحٍ لِأَمِيرِهِ، مُشْفِقٍ عَلَى قَوْمِهِ، نَعَمْ قَدْ قَبِلْتُ. فَقَامَ إِلَيْهِ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ فَقَالَ: أَتَقْبَلُ هَذَا مِنْهُ وَقَدْ نَزَلَ بِأَرْضِكَ وَإِلَى جَنْبِكَ؟ وَاللَّهِ لَئِنْ رَحَلَ مِنْ بِلَادِكَ وَلَمْ يَضَعْ يَدَهُ فِي يَدِكَ لَيَكُونَنَّ أَوْلَى بِالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَلَتَكُونَنَّ أَوْلَى بِالضَّعْفِ وَالْعَجْزِ، فَلَا تُعْطِهِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ فَإِنَّهَا مِنَ الْوَهَنِ، وَلَكِنْ لِيَنْزِلْ عَلَى حُكْمِكَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَإِنْ عَاقَبْتَ كُنْتَ وَلِيَّ الْعُقُوبَةِ، وَإِنْ عَفَوْتَ كَانَ ذَلِكَ لَكَ،

وَاللَّهِ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ وَعُمَرَ يَتَحَدَّثَانِ عَامَّةَ اللَّيْلِ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ. فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ! اخْرُجْ بِهَذَا الْكِتَابِ إِلَى عُمَرَ فَلْيَعْرِضْ عَلَى الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ النُّزُولَ عَلَى حُكْمِي، فَإِنْ فَعَلُوا فَلْيَبْعَثْ بِهِمْ إِلَيَّ سِلْمًا، وَإِنْ أَبَوْا فَلْيُقَاتِلْهُمْ، وَإِنْ فَعَلَ فَاسْمَعْ لَهُ وَأَطِعْ، وَإِنْ أَبَى فَأَنْتَ الْأَمِيرُ عَلَيْهِ وَعَلَى النَّاسِ وَاضْرِبْ عُنُقَهُ وَابْعَثْ إِلَيَّ بِرَأْسِهِ. وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ إِلَى الْحُسَيْنِ لِتَكُفَّ عَنْهُ وَلَا لِتُمَنِّيَهُ وَلَا لِتَطَاوِلَهُ وَلَا لِتَقْعُدَ لَهُ عِنْدِي شَافِعًا، انْظُرْ فَإِنْ نَزَلَ الْحُسَيْنُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْحَكَمِ وَاسْتَسْلَمُوا فَابْعَثْ بِهِمْ إِلَيَّ سِلْمًا، وَإِنْ أَبَوْا فَازْحَفْ إِلَيْهِمْ حَتَّى تَقْتُلَهُمْ وَتُمَثِّلَ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ لِذَلِكَ مُسْتَحِقُّونَ، فَإِنْ قُتِلَ الْحُسَيْنُ فَأَوْطِئِ الْخَيْلَ صَدْرَهُ وَظَهْرَهُ فَإِنَّهُ عَاقٌّ شَاقٌّ قَاطِعٌ ظَلُومٌ، فَإِنْ أَنْتَ مَضَيْتَ لِأَمْرِنَا جَزَيْنَاكَ جَزَاءَ السَّامِعِ الْمُطِيعِ، وَإِنْ أَنْتَ أَبَيْتَ فَاعْتَزِلْ جُنْدَنَا وَخَلِّ بَيْنَ شَمِرٍ وَبَيْنَ الْعَسْكَرِ، وَالسَّلَامُ. فَلَمَّا أَخَذَ شَمِرُ الْكِتَابَ كَانَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْمَحَلِّ بْنِ حِزَامٍ عِنْدَ ابْنِ زِيَادٍ، وَكَانَتْ عَمَّتُهُ أُمُّ الْبَنِينَ بِنْتُ حِزَامٍ عِنْدَ عَلِيٍّ، فَوَلَدَتْ لَهُ الْعَبَّاسَ وَعَبْدَ اللَّهِ وَجَعْفَرًا وَعُثْمَانَ، فَقَالَ لِابْنِ زِيَادٍ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَكْتُبَ لِبَنِي أُخْتِنَا أَمَانًا فَافْعَلْ، فَكَتَبَ لَهُمْ أَمَانًا فَبَعَثَ بِهِ مَعَ مَوْلًى لَهُ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَوُا الْكِتَابَ قَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي أَمَانِكُمْ، أَمَانُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَمَانِ ابْنِ سُمَيَّةَ. فَلَمَّا أَتَى شَمِرٌ بِكِتَابِ ابْنِ زِيَادٍ إِلَى عُمَرَ قَالَ لَهُ: مَا لَكَ وَيْلَكَ قَبَّحَ اللَّهُ مَا جِئْتَ بِهِ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ أَنْتَ ثَنَيْتَهُ أَنْ يَقْبَلَ مَا كُنْتُ كَتَبْتُ إِلَيْهِ بِهِ، أَفْسَدْتَ عَلَيْنَا أَمْرًا كُنَّا رَجَوْنَا أَنْ يَصْلُحَ، وَاللَّهِ لَا يَسْتَسْلِمُ الْحُسَيْنُ أَبَدًا، وَاللَّهِ إِنَّ نَفْسَ أَبِيهِ لَبَيْنَ جَنْبَيْهِ. فَقَالَ لَهُ شَمِرٌ: مَا أَنْتَ صَانِعٌ؟ قَالَ: أَتَوَلَّى ذَلِكَ. وَنَهَضَ إِلَيْهِ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ لِتِسْعٍ مَضَيْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَجَاءَ شَمِرٌ فَدَعَا الْعَبَّاسَ بْنَ عَلِيٍّ وَإِخْوَتَهُ فَخَرَجُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَنْتُمْ يَا بَنِي أُخْتِي آمِنُونَ. فَقَالُوا لَهُ: لَعَنَكَ اللَّهُ وَلَعَنَ أَمَانَكَ! لَئِنْ كُنْتَ خَالَنَا أَتُؤَمِّنُنَا وَابْنُ رَسُولِ اللَّهِ لَا أَمَانَ لَهُ؟ ثُمَّ رَكِبَ عُمَرُ وَالنَّاسُ مَعَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالْحُسَيْنُ جَالِسٌ أَمَامَ بَيْتِهِ مُحْتَبِيًا بِسَيْفِهِ إِذْ خَفَقَ بِرَأْسِهِ عَلَى رُكْبَتِهِ، وَسَمِعَتْ أُخْتُهُ زَيْنَبُ الضَّجَّةَ فَدَنَتْ مِنْهُ فَأَيْقَظَتْهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ: إِنَّكَ تَرُوحُ إِلَيْنَا. قَالَ: فَلَطَمَتْ أُخْتُهُ وَجْهَهَا وَقَالَتْ: يَا وَيْلَتَاهُ! قَالَ: لَيْسَ لَكِ الْوَيْلُ يَا أُخَيَّةُ، اسْكُتِي رَحِمَكِ اللَّهُ! قَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ أَخُوهُ: يَا أَخِي أَتَاكَ الْقَوْمُ. فَنَهَضَ فَقَالَ: يَا أَخِي أَرْكَبُ بِنَفْسِي. فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: بَلْ أَرُوحُ أَنَا. فَقَالَ: ارْكَبْ أَنْتَ حَتَّى تَلْقَاهُمْ فَتَقُولَ: مَا لَكُمْ؟ وَمَا بَدَا لَكُمْ؟

وَتَسْأَلَهُمْ عَمَّا جَاءَ بِهِمْ. فَأَتَاهُمْ فِي نَحْوِ عِشْرِينَ فَارِسًا فِيهِمْ زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا جَاءَ [أَمْرُ] الْأَمِيرِ بِكَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَلَا تَعْجَلُوا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَأَعْرِضَ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْتُمْ. فَوَقَفُوا وَرَجَعَ الْعَبَّاسُ إِلَيْهِ بِالْخَبَرِ، وَوَقَفَ أَصْحَابُهُ يُخَاطِبُونَ الْقَوْمَ وَيُذَكِّرُونَهُمُ اللَّهَ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ الْعَبَّاسُ بِقَوْلِهِمْ قَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُؤَخِّرَهُمْ إِلَى غُدْوَةٍ لَعَلَّنَا نُصَلِّي لِرَبِّنَا (هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَنَدْعُوهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أُحِبُّ الصَّلَاةَ لَهُ وَتِلَاوَةَ كِتَابِهِ وَكَثْرَةَ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ) . وَأَرَادَ الْحُسَيْنُ أَيْضًا أَنْ يُوصِيَ أَهْلَهُ. فَرَجَعَ إِلَيْهِمُ الْعَبَّاسُ وَقَالَ لَهُمُ: انْصَرِفُوا عَنَّا الْعَشِيَّةَ حَتَّى نَنْظُرَ فِي هَذَا الْأَمْرِ، فَإِذَا أَصْبَحْنَا الْتَقَيْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِمَّا رَضِينَاهُ وَإِمَّا رَدَدْنَاهُ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: مَا تَرَى يَا شَمِرُ؟ قَالَ: أَنْتَ الْأَمِيرُ. فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ؟ فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ الزُّبَيْدِيُّ: سُبْحَانَ اللَّهِ! وَاللَّهِ لَوْ كَانُوا مِنَ الدَّيْلَمِ ثُمَّ سَأَلُوكُمْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُجِيبُوهُمْ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ: أَجِبْهُمْ لَعَمْرِي لَيُصْبِحُنَّكَ بِالْقِتَالِ غُدْوَةً. فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنْ يَفْعَلُوا مَا أَخَّرْتُهُمُ الْعَشِيَّةَ. ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُمْ. فَجَمَعَ الْحُسَيْنُ أَصْحَابَهُ بَعْدَ رُجُوعِ عُمَرَ فَقَالَ: أُثْنِي عَلَى اللَّهِ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ وَأَحْمَدُهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَحْمَدُكَ عَلَى أَنْ أَكْرَمَتْنَا بِالنُّبُوَّةِ وَجَعَلْتَ لَنَا أَسْمَاعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً وَعَلَّمْتَنَا الْقُرْآنَ وَفَقَّهْتَنَا فِي الدِّينِ فَاجْعَلْنَا لَكَ مِنَ الشَّاكِرِينَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَصْحَابًا أَوْفَى وَلَا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِي، وَلَا أَهْلَ بَيْتٍ أَبَرَّ وَلَا أَوْصَلَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَجَزَاكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا عَنِّي خَيْرًا، أَلَا وَإِنِّي لَأَظُنُّ يَوْمَنَا مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ غَدًا، وَإِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ جَمِيعًا فَانْطَلِقُوا فِي حِلٍّ لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنِّي ذِمَامٌ، هَذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذُوهُ جَمَلًا وَلْيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِيَدِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَجَزَاكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا، ثُمَّ تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ فِي سَوَادِكُمْ وَمَدَائِنِكُمْ حَتَّى يُفَرِّجَ اللَّهُ، فَإِنَّ الْقَوْمَ يَطْلُبُونِي وَلَوْ أَصَابُونِي لَهَوْا عَنْ طَلَبِ غَيْرِي. فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ وَأَبْنَاؤُهُ وَأَبْنَاءُ إِخْوَتِهِ وَأَبْنَاءُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ: لِمَ نَفْعَلُ هَذَا؟ لِنَبْقَى بَعْدَكَ! لَا أَرَانَا اللَّهُ ذَلِكَ أَبَدًا! فَقَالَ الْحُسَيْنُ: يَا بَنِي عَقِيلٍ حَسْبُكُمْ مِنَ الْقَتْلِ بِمُسْلِمٍ، اذْهَبُوا فَقَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ. قَالُوا: وَمَا نَقُولُ لِلنَّاسِ؟ نَقُولُ: تَرَكْنَا شَيْخَنَا وَسَيِّدَنَا وَبَنِي عُمُومَتِنَا خَيْرَ الْأَعْمَامِ وَلَمْ نَرْمِ مَعَهُمْ بِسَهْمٍ وَلَمْ نَطْعَنْ مَعَهُمْ بِرُمْحٍ وَلَمْ نَضْرِبْ بِسَيْفٍ وَلَا نَدْرِي مَا صَنَعُوا؟ لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ وَلَكِنَّا نَفْدِيكَ

بِأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَهْلِينَا وَنُقَاتِلُ مَعَكَ حَتَّى نَرِدَ مَوْرِدَكَ، فَقَبَّحَ اللَّهُ الْعَيْشَ بَعْدَكَ! وَقَامَ إِلَيْهِ مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ الْأَسَدِيُّ فَقَالَ: أَنْحَنُ نَتَخَلَّى عَنْكَ وَلَمْ نُعْذِرْ إِلَى اللَّهِ فِي أَدَاءِ حَقِّكَ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَا أُفَارِقُكَ حَتَّى أَكْسِرَ فِي صُدُورِهِمْ رُمْحِي وَأَضْرِبَهُمْ بِسَيْفِي مَا ثَبَتَ قَائِمُهُ بِيَدِي، وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعِي سِلَاحِي لَقَذْفَتُهُمْ بِالْحِجَارَةِ دُونَكَ حَتَّى أَمُوتَ مَعَكَ. وَتَكَلَّمَ أَصْحَابُهُ بِنَحْوِ هَذَا، فَجَزَاهُمُ اللَّهُ خَيْرًا. وَسَمِعَتْهُ أُخْتُهُ زَيْنَبُ تِلْكَ الْعَشِيَّةَ وَهُوَ فِي خِبَاءٍ لَهُ يَقُولُ، وَعِنْدَهُ حُوَيٌّ مَوْلَى أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ يُعَالِجُ سَيْفَهُ: يَا دَهْرُ أُفٍّ [لَكَ] مِنْ خَلِيلِ ... كَمْ لَكَ بِالْإِشْرَاقِ وَالْأَصِيلِ مِنْ صَاحِبٍ أَوْ طَالِبٍ قَتِيلِ ... وَالدَّهْرُ لَا يَقْنَعُ بِالْبَدِيلِ وَإِنَّمَا الْأَمْرُ إِلَى الْجَلِيلِ ... وَكُلُّ حَيٍّ سَالِكُ السَّبِيلِ فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَلَمَّا سَمِعَتْهُ لَمْ تَمْلِكْ نَفْسَهَا أَنْ وَثَبَتْ تَجُرُّ ثَوْبَهَا حَتَّى انْتَهَتَ إِلَيْهِ وَنَادَتْ: وَاثَكْلَاهُ! لَيْتَ الْمَوْتَ أَعْدَمَنِي الْحَيَاةَ الْيَوْمَ! مَاتَتْ فَاطِمَةُ أُمِّي وَعَلِيٌّ أَبِي وَالْحَسَنُ أَخِي يَا خَلِيفَةَ الْمَاضِي وَثِمَالَ الْبَاقِي! (فَذَهَبَ) فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَقَالَ: يَا أُخَيَّةُ لَا يُذْهِبَنَّ حِلْمَكِ الشَّيْطَانُ. قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي اسْتُقْتِلْتَ! نَفْسِي لِنَفْسِكَ الْفِدَى! فَرَدَّدَ غُصَّتَهُ وَتَرَقْرَقَتْ عَيْنَاهُ ثُمَّ قَالَ: لَوْ تُرِكَ الْقَطَا [لَيْلًا] لَنَامَ. فَلَطَمَتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ: وَاوَيْلَتَاهُ! أَفَتُغْصِبُكَ نَفْسُكَ اغْتِصَابًا، فَذَلِكَ أَقْرَحُ لِقَلْبِي وَأَشَدُّ عَلَى نَفْسِي! ثُمَّ لَطَمَتْ وَجْهَهَا وَشَقَّتْ جَيْبَهَا وَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، فَقَامَ إِلَيْهَا الْحُسَيْنُ فَصَبَّ الْمَاءَ عَلَى وَجْهِهَا وَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ وَتَعَزَّيْ بِعَزَاءِ اللَّهِ وَاعْلَمِي أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ يَمُوتُونَ وَأَهْلَ السَّمَاءِ لَا يَبْقَوْنَ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ، أَبِي خَيْرٌ مِنِّي وَأُمِّي خَيْرٌ مِنِّي وَأَخِي خَيْرٌ

مِنِّي، وَلِي وَلَهُمْ وَلِكُلِّ مُسْلِمٍ بِرَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ. فَعَزَّاهَا بِهَذَا وَنَحْوِهِ وَقَالَ لَهَا: يَا أُخَيَّةُ إِنِّي أُقْسِمُ عَلَيْكِ لَا تَشُقِّي عَلَيَّ جَيْبًا، وَلَا تَخْمِشِي عَلَيَّ وَجْهًا، وَلَا تَدْعِي عَلَيَّ بِالْوَيْلِ وَالثَّبُورِ إِنْ أَنَا هَلَكْتُ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقَرِّبُوا بَعْضَ بُيُوتِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَأَنْ يُدْخِلُوا الْأَطْنَابَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ وَيَكُونُوا بَيْنَ يَدَيِ الْبُيُوتِ، فَيَسْتَقْبِلُونَ الْقَوْمَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَالْبُيُوتُ عَلَى أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَمِنْ وَرَائِهِمْ. فَلَمَّا أَمْسَوْا قَامُوا اللَّيْلَ كُلَّهُ يُصَلُّونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ وَيَدْعُونَ. فَلَمَّا صَلَّى عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ الْغَدَاةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَقِيلَ الْجُمُعَةِ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، خَرَجَ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، وَعَبَّى الْحُسَيْنُ أَصْحَابَهُ وَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْغَدَاةِ، وَكَانَ مَعَهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ فَارِسًا، وَأَرْبَعُونَ رَاجِلًا، فَجَعَلَ زُهَيْرَ بْنَ الْقَيْنِ فِي مَيْمَنَةِ أَصْحَابِهِ، وَحَبِيبَ بْنَ مُطَهِّرٍ فِي مَيْسَرَتِهِمْ، وَأَعْطَى رَايَتَهُ الْعَبَّاسَ أَخَاهُ، وَجَعَلُوا الْبُيُوتَ فِي ظُهُورِهِمْ، وَأَمَرَ بِحَطَبٍ وَقَصَبٍ فَأُلْقِي فِي مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ مِنْ وَرَائِهِمْ كَأَنَّهُ سَاقِيَةٌ عَمِلُوهُ فِي سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، لِئَلَّا يُؤْتَوْا مِنْ وَرَائِهِمْ وَأَضْرَمَ نَارًا فَنَفَعَهُمْ ذَلِكَ. وَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى رُبُعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زُهَيْرٍ الْأَزْدِيَّ، وَعَلَى رُبُعِ رَبِيعَةَ وَكِنْدَةَ قَيْسَ بْنَ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَعَلَى رُبُعِ مَذْحِجٍ وَأَسَدٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي سَبْرَةَ الْجُعْفِيَّ، وَعَلَى رُبُعِ تَمِيمٍ وَهَمْدَانَ الْحُرَّ بْنَ يَزِيدَ الرِّيَاحِيَّ، فَشَهِدَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَقْتَلَ الْحُسَيْنِ إِلَّا الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ فَإِنَّهُ عَدَلَ إِلَى الْحُسَيْنِ وَقُتِلَ مَعَهُ، وَجَعَلَ عُمَرُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عَمْرَو بْنَ الْحَجَّاجِ الزُّبَيْدِيَّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ شَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ، وَعَلَى الْخَيْلِ عُرْوَةَ بْنَ قَيْسٍ الْأَحْمَسِيَّ، وَعَلَى الرِّجَالِ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ الْيَرْبُوعِيَّ التَّمِيمِيَّ، وَأَعْطَى الرَّايَةَ مَوْلَاهُ. فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْحُسَيْنِ أَمَرَ فَضُرِبَ لَهُ فُسْطَاطٌ، ثُمَّ أَمَرَ بِمِسْكٍ فَمِيثَ فِي جَفْنَةٍ، ثُمَّ دَخَلَ الْحُسَيْنُ فَاسْتَعْمَلَ النُّورَةَ، وَوَقَفَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ وَبُرَيْرُ بْنُ خُضَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ عَلَى بَابِ الْفُسْطَاطِ وَازْدَحَمَا أَيُّهُمَا يَطْلِي بَعْدَهُ، فَجَعَلَ بُرَيْرٌ يُهَازِلُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ مَا هَذِهِ بِسَاعَةِ بَاطِلٍ. فَقَالَ بُرَيْرٌ: وَاللَّهِ إِنَّ قَوْمِي لَقَدْ عَلِمُوا

أَنِّي مَا أَحْبَبْتُ الْبَاطِلَ شَابًّا وَلَا كَهْلًا، وَلَكِنَّنِي مُسْتَبْشِرٌ بِمَا نَحْنُ لَاقُونَ، وَاللَّهِ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحُورِ الْعِينِ إِلَّا أَنْ يَمِيلَ هَؤُلَاءِ عَلَيْنَا بِأَسْيَافِهِمْ. فَلَمَّا فَرَغَ الْحُسَيْنُ دَخَلَا، ثُمَّ رَكِبَ الْحُسَيْنُ دَابَّتَهُ وَدَعَا بِمُصْحَفٍ فَوَضَعَهُ أَمَامَهُ، وَاقْتَتَلَ أَصْحَابُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ وَرَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ، وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ، كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ وَيَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ وَيَشْمَتُ بِهِ الْعَدُوُّ أَنْزَلْتُهُ بِكَ وَشَكَوْتُهُ إِلَيْكَ رَغْبَةً إِلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ فَفَرَّجْتَهُ وَكَشَفْتَهُ وَكَفَيْتَنِيهِ، فَأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ، وَمُنْتَهَى كُلِّ رَغْبَةٍ. فَلَمَّا رَأَى أَصْحَابُ عُمَرَ النَّارَ تَلْتَهِبُ فِي الْقَصَبِ نَادَى شَمِرُ الْحُسَيْنَ: تَعَجَّلْتَ النَّارَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْقِيَامَةِ! فَعَرَفَهُ الْحُسَيْنُ فَقَالَ: أَنْتَ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا! ثُمَّ رَكِبَ الْحُسَيْنُ رَاحِلَتَهُ وَتَقَدَّمَ إِلَى النَّاسِ وَنَادَى بِصَوْتٍ عَالٍ يَسْمَعُهُ كُلُّ النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي وَلَا تُعَجِّلُونِي حَتَّى أَعِظَهُمْ بِمَا يَجِبُ لَكُمْ عَلَيَّ وَحَتَّى أَعْتَذِرَ إِلَيْكُمْ مِنْ مَقْدَمِي عَلَيْكُمْ، فَإِنْ قَبِلْتُمْ عُذْرِي وَصَدَّقْتُمْ قَوْلِي وَأَنْصَفْتُمُونِي كُنْتُمْ بِذَلِكَ أَسْعَدَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيَّ سَبِيلٌ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوا مِنِّي الْعُذْرَ {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71] ، {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] ! قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ أَخَوَاتُهُ قَوْلَهُ بَكَيْنَ وَصِحْنَ وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُنَّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِنَّ أَخَاهُ الْعَبَّاسَ وَابْنَهُ عَلِيًّا لِيُسْكِتَاهُنَّ، وَقَالَ لَعَمْرِي لَيَكْثُرَنَّ بُكَاؤُهُنَّ! فَلَمَّا ذَهَبَا قَالَ: لَا يَبْعَدُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا قَالَهَا حِينَ سَمِعَ بُكَاءَهُنَّ لِأَنَّهُ كَانَ نَهَاهُ أَنْ يَخْرُجَ بِهِنَّ مَعَهُ. فَلَمَّا سَكَتْنَ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً، فَمَا سُمِعَ أَبْلَغُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَانْسِبُونِي فَانْظُرُوا مَنْ أَنَا ثُمَّ رَاجِعُوا أَنْفُسَكُمْ فَعَاتِبُوهَا وَانْظُرُوا هَلْ يَصْلُحُ وَيَحِلُّ لَكُمْ قَتْلِي وَانْتِهَاكُ حُرْمَتِي، أَلَسْتُ ابْنَ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ وَابْنَ وَصِيِّهِ وَابْنِ عَمِّهِ، وَأَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَالْمُصَدِّقِ لِرَسُولِهِ؟ أَوَلَيِسَ حَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عَمُّ أَبِي؟ أَوَلَيِسَ جَعْفَرٌ الشَّهِيدُ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ عَمِّي؟

أَوْلَمَ يَبْلُغْكُمْ قَوْلُ مُسْتَفِيضٍ [فِيكُمْ] : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِي وَلِأَخِي: «أَنْتُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ (وَقُرَّةُ عَيْنِ أَهْلِ السُّنَّةِ) » ؟ فَإِنْ صَدَّقْتُمُونِي بِمَا أَقُولُ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَاللَّهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذِبًا مُذْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَيْهِ [أَهْلَهُ] ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي فَإِنَّ فِيكُمْ مَنْ إِنْ سَأَلْتُمُوهُ عَنْ ذَلِكَ أَخْبَرَكُمْ، سَلُوا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَوْ أَبَا سَعِيدٍ أَوْ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ أَوْ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَوْ أَنَسًا يُخْبِرُوكُمْ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَا فِي هَذَا حَاجِزٌ يَحْجِزُكُمْ عَنْ سَفْكِ دَمِي؟ فَقَالَ لَهُ شَمِرٌ: هُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ إِنْ كَانَ يَدْرِي مَا يَقُولُ! فَقَالَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ مُطَهِّرٍ: وَاللَّهِ إِنِّي أَرَاكَ تَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى سَبْعِينَ حَرْفًا، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَعَ عَلَى قَلْبِكَ فَلَا تَدْرِي مَا تَقُولُ. ثُمَّ قَالَ الْحُسَيْنُ: فَإِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا أَقُولُ أَوْ تَشُكُّونَ فِي أَنِّي ابْنُ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ابْنُ بِنْتِ نَبِيٍّ غَيْرِي مِنْكُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِكُمْ. أَخْبَرُونِي أَتَطْلُبُونِي بِقَتِيلٍ مِنْكُمْ قَتَلْتُهُ، أَوْ بِمَالٍ لَكُمُ اسْتَهْلَكْتُهُ أَوْ بِقِصَاصٍ مِنْ جِرَاحَةٍ؟ فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ، فَنَادَى: يَا شَبَثُ بْنَ رِبْعِيٍّ! وَيَا حَجَّارُ بْنَ أَبْجَرَ! وَيَا قَيْسُ بْنَ الْأَشْعَثِ! وَيَا زَيْدُ بْنَ الْحَارِثِ! أَلَمْ تَكْتُبُوا إِلَيَّ فِي الْقُدُومِ عَلَيْكُمْ؟ قَالُوا: لَمْ نَفْعَلْ. ثُمَّ قَالَ: بَلَى فَعَلْتُمْ. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِذْ كَرِهْتُمُونِي فَدَعُونِي أَنْصَرِفْ إِلَى مَأْمَنِي مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ قَيْسُ بْنُ الْأَشْعَثِ: أَوَلَا تَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ ابْنِ عَمِّكَ، يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ، فَإِنَّكَ لَنْ تَرَى إِلَّا مَا تُحِبُّ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَنْتَ أَخُو أَخِيكَ، أَتُرِيدُ أَنْ يَطْلُبَكَ بَنُو هَاشِمٍ بِأَكْثَرَ مِنْ دَمِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ؟ لَا وَاللَّهِ وَلَا أُعْطِيهِمْ بِيَدِي عَطَاءَ الذَّلِيلِ، وَلَا أُقِرُّ إِقْرَارَ الْعَبْدِ. عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ، أَعُوذُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ثُمَّ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ وَنَزَلَ عَنْهَا. وَخَرَجَ زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فِي السِّلَاحِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، نَذَارِ لَكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ نَذَارِ، إِنَّ حَقًّا عَلَى الْمُسْلِمِ نَصِيحَةُ الْمُسْلِمِ، وَنَحْنُ حَتَّى الْآنَ إِخْوَةٌ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ يَقَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ السَّيْفُ، فَإِذَا وَقَعَ السَّيْفُ انْقَطَعَتِ الْعِصْمَةُ وَكُنَّا نَحْنُ

أُمَّةٌ وَأَنْتُمْ أُمَّةٌ، إِنَّ اللَّهَ قَدِ ابْتَلَانَا وَإِيَّاكُمْ بِذُرِّيَّةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَنْظُرَ مَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَامِلُونَ، إِنَّا نَدْعُوكُمْ إِلَى نَصْرِهِ وَخِذْلَانِ الطَّاغِيَةِ ابْنِ الطَّاغِيَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَإِنَّكُمْ لَا تُدْرِكُونَ مِنْهُمَا إِلَّا سُوءًا، يُسْمِلَانِ أَعْيُنَكُمْ، وَيَقْطَعَانِ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ، وَيُمَثِّلَانِ بِكُمْ، وَيَرْفَعَانِكُمْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَيَقْتُلَانِ أَمَاثِلَكُمْ وَقُرَّاءَكُمْ، أَمْثَالَ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ وَأَصْحَابِهِ، وَهَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ وَأَشْبَاهِهِ! قَالَ: فَسَبُّوهُ وَأَثْنَوْا عَلَى ابْنِ زِيَادٍ وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَقْتُلَ صَاحِبَكَ وَمَنْ مَعَهُ أَوْ نَبْعَثَ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ إِلَى الْأَمِيرِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ سِلْمًا. فَقَالَ لَهُمْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ وَلَدَ فَاطِمَةَ أَحَقُّ بِالْوُدِّ وَالنَّصْرِ مِنِ ابْنِ سُمَيَّةَ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَمْ تَنْصُرُوهُمْ فَأُعِيذُكُمْ بِاللَّهِ أَنْ تَقْتُلُوهُمْ، خَلُّوا بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ ابْنِ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَلَعَمْرِي إِنَّ يَزِيدَ لَيَرْضَى مِنْ طَاعَتِكُمْ بِدُونِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ. فَرَمَاهُ شَمِرُ بِسَهْمٍ وَقَالَ: اسْكُتْ أَسْكَتَ اللَّهُ نَأْمَتَكَ، أَبْرَمْتَنَا بِكَثْرَةِ كَلَامِكَ! فَقَالَ زُهَيْرٌ: يَا ابْنَ الْبَوَّالِ عَلَى عَقِبَيْهِ! مَا إِيَّاكَ أُخَاطِبُ، إِنَّمَا أَنْتَ بَهِيمَةٌ! وَاللَّهِ مَا أَظُنُّكَ تُحْكِمُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ آيَتَيْنِ فَأَبْشِرْ بِالْخِزْيِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ. فَقَالَ شَمِرٌ: إِنَّ اللَّهَ قَاتِلُكَ وَصَاحِبَكَ عَنْ سَاعَةٍ. قَالَ: أَفَبِالْمَوْتِ تُخَوِّفُنِي؟ وَاللَّهِ لَلْمَوْتُ مَعَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْخُلْدِ مَعَكُمْ! ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ وَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ دِينِكُمْ هَذَا الْجِلْفُ الْجَافِي، فَوَاللَّهِ لَا تَنَالُ شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ قَوْمًا أَهْرَقُوا دِمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَقَتَلُوا مَنْ نَصَرَهُمْ وَذَبَّ عَنْ حَرِيمِهِمْ. فَأَمَرَهُ الْحُسَيْنُ فَرَجَعَ. وَلَمَّا زَحَفَ عُمَرُ نَحْوَ الْحُسَيْنِ أَتَاهُ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ فَقَالَ لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! أَمُقَاتِلٌ أَنْتَ هَذَا الرَّجُلُ؟ قَالَ لَهُ: إِي إِي وَاللَّهِ قِتَالًا أَيْسَرُهُ أَنْ تَسْقُطَ الرُّءُوسُ وَتُطِيحَ الْأَيْدِي. قَالَ: أَفَمَا لَكُمْ فِي وَاحِدَةٍ مِنَ الْخِصَالِ الَّتِي عَرَضَ عَلَيْكُمْ رِضًى؟ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ إِلَيَّ لَفَعَلْتُ، وَلَكِنَّ أَمِيرَكَ قَدْ أَبَى ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ يَدْنُو نَحْوَ الْحُسَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَأَخَذَتْهُ رِعْدَةٌ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهُ الْمُهَاجِرُ بْنُ أَوْسٍ: وَاللَّهِ إِنَّ أَمْرَكَ لَمُرِيبٌ! وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ فِي مَوْقِفٍ قَطُّ مِثْلَ مَا أَرَاهُ الْآنَ! وَلَوْ قِيلَ مَنْ أَشْجَعُ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَمَا عَدَوْتُكَ. فَقَالَ لَهُ: إِنِّي وَاللَّهِ أُخَيِّرُ نَفْسِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَلَا أَخْتَارُ عَلَى الْجَنَّةِ شَيْئًا وَلَوْ قُطِّعْتُ وَحُرِّقْتُ. ثُمَّ ضَرَبَ فَرَسَهُ فَلَحِقَ بِالْحُسَيْنِ، فَقَالَ لَهُ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ! أَنَا صَاحِبُكَ الَّذِي حَبَسْتُكَ عَنِ الرُّجُوعِ وَسَايَرْتُكَ فِي الطَّرِيقِ وَجَعْجَعْتُ بِكَ فِي هَذَا الْمَكَانِ، وَوَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ يَرُدُّونَ عَلَيْكَ مَا عَرَضْتَ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَلَا

يَبْلُغُونَ مِنْكَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ أَبَدًا فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَا أُبَالِي أَنْ أُطِيعَ الْقَوْمَ فِي بَعْضِ أَمْرِهِمْ وَلَا يَرَوْنَ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَأَمَّا هُمْ فَيَقْبَلُونَ بَعْضَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَوَاللَّهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَهَا مِنْكَ مَا رَكِبْتُهَا مِنْكَ، وَإِنِّي قَدْ جِئْتُكَ تَائِبًا مِمَّا كَانَ مِنِّي إِلَى رَبِّي مُؤَاسِيًا لَكَ بِنَفْسِي حَتَّى أَمُوتَ بَيْنَ يَدَيْكَ، أَفْتَرَى ذَلِكَ تَوْبَةً؟ قَالَ: نَعَمْ، يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْكَ وَيَغْفِرُ لَكَ. وَتَقَدَّمَ الْحُرُّ أَمَامَ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الْقَوْمُ أَلَا تَقْبَلُونَ مِنَ الْحُسَيْنِ خَصْلَةً مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الَّتِي عَرَضَ عَلَيْكُمْ فَيُعَافِيَكُمُ اللَّهُ مِنْ حَرْبِهِ وَقِتَالِهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ حَرَصْتُ لَوْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ لِأُمِّكُمُ الْهَبَلُ وَالْعُبْرُ! أَدَعَوْتُمُوهُ حَتَّى إِذَا أَتَاكُمْ أَسْلَمْتُمُوهُ وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ قَاتِلُوا أَنْفُسَكُمْ دُونَهُ ثُمَّ عَدَوْتُمْ لِتَقْتُلُوهُ؟ أَمْسَكْتُمْ بِنَفْسِهِ وَأَحَطْتُمْ بِهِ وَمَنَعْتُمُوهُ مِنَ التَّوَجُّهِ فِي بِلَادِ اللَّهِ الْعَرِيضَةِ حَتَّى يَأْمَنَ وَيَأْمَنَ أَهْلُ بَيْتِهِ، فَأَصْبَحَ كَالْأَسِيرِ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا ضُرًّا، وَمَنَعْتُمُوهُ وَمَنْ مَعَهُ عَنْ مَاءِ الْفُرَاتِ الْجَارِي يَشْرَبُهُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالْمَجُوسِيُّ وَيَتَمَرَّغُ فِيهِ خَنَازِيرُ السَّوَادِ وَكِلَابُهُ وَهَا هُوَ وَأَهْلُهُ قَدْ صَرَعَهُمُ الْعَطَشُ! بِئْسَمَا خَلَفْتُمْ مُحَمَّدًا فِي ذُرِّيَّتِهِ! لَا سَقَاكُمُ اللَّهُ يَوْمَ الظَّمَأِ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا وَتَنْزِعُوا عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ! فَرَمَوْهُ بِالنَّبْلِ، فَرَجَعَ حَتَّى وَقَفَ أَمَامَ الْحُسَيْنِ. ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ بِرَايَتِهِ، وَأَخَذَ سَهْمًا فَرَمَى بِهِ وَقَالَ: اشْهَدُوا لِي أَنِّي أَوَّلُ رَامٍ! ثُمَّ رَمَى النَّاسَ، وَبَرَزَ يَسَارٌ، مَوْلَى زِيَادٍ، وَسَالِمٌ، مَوْلَى عُبَيْدِ اللَّهِ، وَطَلَبَا الْبِرَازَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ الْكَلْبِيُّ، وَكَانَ قَدْ أَتَى الْحُسَيْنَ مِنَ الْكُوفَةِ وَسَارَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ، فَقَالَا لَهُ: مَنْ أَنْتِ؟ فَانْتَسَبَ لَهُمَا. فَقَالَا: لَا نَعْرِفُكَ، لِيَخْرُجْ إِلَيْنَا زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ، أَوْ حَبِيبُ بْنُ مُطَهِّرٍ، أَوْ بُرَيْرُ بْنُ خُضَيْرٍ. وَكَانَ يَسَارٌ أَمَامَ سَالِمٍ، فَقَالَ لَهُ الْكَلْبِيُّ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، وَبِكَ رَغْبَةٌ عَنْ مُبَارَزَةِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَمَا يَخْرُجُ إِلَيْكَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ! ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ حَتَّى بَرَدَ فَاشْتَغَلَ بِهِ يَضْرِبُهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ سَالِمٌ، فَلَمْ يَأْبَهْ لَهُ حَتَّى غَشِيَهُ فَضَرَبَهُ، فَاتَّقَاهُ الْكَلْبِيُّ بِيَدِهِ فَأَطَارَ أَصَابِعَ كَفِّهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَالَ عَلَيْهِ الْكَلْبِيُّ فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، وَأَخَذَتِ امْرَأَتُهُ عَمُودًا، وَكَانَتْ تُسَمَّى أُمَّ وَهْبٍ، وَأَقْبَلَتْ نَحْوَ زَوْجِهَا وَهِيَ تَقُولُ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! قَاتِلْ دُونَ الطَّيِّبِينَ ذُرِّيَّةِ مُحَمَّدٍ! فَرَدَّهَا نَحْوَ النِّسَاءِ، فَامْتَنَعَتْ

وَقَالَتْ: لَنْ أَدَعَكَ دُونَ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ. فَنَادَاهَا الْحُسَيْنُ فَقَالَ: جُزِيتُمْ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا! ارْجِعِي رَحِمَكِ اللَّهُ، لَيْسَ الْجِهَادُ إِلَى النِّسَاءِ. فَرَجَعَتْ. فَزَحَفَ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ فِي مَيْمَنَةِ عُمَرَ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْحُسَيْنِ جَثَوْا لَهُ عَلَى الرُّكَبِ وَأَشْرَعُوا الرِّمَاحَ نَحْوَهُمْ، فَلَمْ تَقْدَمْ خَيْلُهُمْ عَلَى الرِّمَاحِ، فَذَهَبَتِ الْخَيْلُ لِتَرْجِعَ فَرَشَقُوهُمْ بِالنَّبْلِ فَصَرَعُوا مِنْهُمْ رِجَالًا وَجَرَحُوا آخَرِينَ. وَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ ابْنُ حَوْزَةَ فَقَالَ: أَفِيكُمُ الْحُسَيْنُ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالُوا: نَعَمْ، فَمَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: يَا حُسَيْنُ أَبْشِرْ بِالنَّارِ! قَالَ لَهُ: كَذَبْتَ بَلْ أَقْدَمُ عَلَى رَبٍّ رَحِيمٍ وَشَفِيعٍ مُطَاعٍ، فَمَنْ أَنْتَ، قَالَ: ابْنُ حَوْزَةَ. فَرَفَعَ الْحُسَيْنُ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حُزَّهُ إِلَى النَّارِ! فَغَضِبَ ابْنُ حَوْزَةَ فَأَقْحَمَ فَرَسَهُ فِي نَهْرٍ بَيْنَهُمَا فَتَعَلَّقَتْ قَدَمُهُ بِالرِّكَابِ وَجَالَتْ بِهِ الْفَرَسُ فَسَقَطَ عَنْهَا فَانْقَطَعَتْ فَخِذُهُ وَسَاقُهُ وَقَدَمُهُ وَبَقِيَ جَنْبُهُ الْآخَرُ مُتَعَلِّقًا بِالرِّكَابِ يُضْرَبُ بِهِ كُلُّ حَجَرٍ وَشَجَرٍ حَتَّى مَاتَ. وَكَانَ مَسْرُوقُ بْنُ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيُّ قَدْ خَرَجَ مَعَهُمْ وَقَالَ لَعَلِّي أُصِيبَ رَأْسُ الْحُسَيْنِ، فَأُصِيبَ بِهِ مَنْزِلَةً عِنْدَ ابْنِ زِيَادٍ، فَلَمَّا رَأَى مَا صَنَعَ اللَّهُ بِابْنِ حَوْزَةَ بِدُعَاءِ الْحُسَيْنِ رَجَعَ وَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ شَيْئًا، لَا أُقَاتِلُهُمْ أَبَدًا. وَنَشِبَ الْقِتَالُ وَخَرَجَ يَزِيدُ بْنُ مَعْقِلٍ حَلِيفُ عَبْدِ الْقَيْسِ فَقَالَ: يَا بُرَيْرُ بْنُ خُضَيْرٍ كَيْفَ تَرَى اللَّهَ صَنَعَ بِكَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ صَنَعَ بِي خَيْرًا وَصَنَعَ بِكَ شَرًّا. فَقَالَ: كَذَبْتَ، وَقَبْلَ الْيَوْمِ مَا كُنْتَ كَذَّابًا، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ مِنَ الضَّالِّينَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ خُضَيْرٍ: هَلْ لَكَ أَنْ أُبَاهِلَكَ، أَنْ يَلْعَنَ اللَّهُ الْكَاذِبَ وَيَقْتُلَ الْمُبْطِلَ، ثُمَّ أَخْرُجَ أُبَارِزَكَ! فَخَرَجَا فَتَبَاهَلَا أَنْ يَلْعَنَ اللَّهُ الْكَاذِبَ وَيَقْتُلَ الْمُحِقُّ الْمُبْطِلَ ثُمَّ تَبَارَزُوا فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَ يَزِيدُ بْنُ مَعْقِلٍ بُرَيْرَ بْنَ خُضَيْرٍ فَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئًا وَضَرَبَهُ ابْنُ خُضَيْرٍ ضَرْبَةً قَدَّتِ الْمِغْفَرَ وَبَلَغْتِ الدِّمَاغَ فَسَقَطَ وَالسَّيْفُ فِي رَأْسِهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ رَضِيُّ بْنُ مُنْقِذٍ الْعَبْدِيُّ، فَاعْتَنَقَ ابْنَ خُضَيْرٍ، فَاعْتَرَكَا سَاعَةً ثُمَّ إِنَّ ابْنَ خُضَيْرٍ قَعَدَ عَلَى صَدْرِهِ، فَحَمَلَ كَعْبُ بْنُ جَابِرٍ الْأَزْدِيُّ عَلَيْهِ بِالرُّمْحِ فَوَضَعَهُ فِي ظَهْرِهِ حَتَّى غَيَّبَ السِّنَانَ فِيهِ، فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّ الرُّمْحِ نَزَلَ عَنْ رَضِيٍّ فَعَضَّ أَنْفَهُ وَقَطَعَ طَرَفَهُ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ كَعْبُ بْنُ جَابِرٍ فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ حَتَّى قَتَلَهُ، وَقَامَ رَضِيٌّ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْ قَبَائِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ كَعْبٌ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَعَنْتَ عَلَى ابْنِ

فَاطِمَةَ وَقَتَلَتْ بُرَيْرًا سَيِّدَ الْقُرَّاءِ، [وَاللَّهِ] لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا! وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ قَرَظَةَ الْأَنْصَارِيُّ وَقَاتَلَ دُونَ الْحُسَيْنِ فَقُتِلَ، وَكَانَ أَخُوهُ مَعَ عَمْرِوِ بْنِ سَعْدٍ، فَنَادَى: يَا حُسَيْنُ يَا كَذَّابُ ابْنَ الْكَذَّابِ! أَضْلَلْتَ أَخِي وَغَرَرْتَهُ حَتَّى قَتَلْتَهُ! فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُضِلَّ أَخَاكَ بَلْ هَدَّاهُ وَأَضَلَّكَ. قَالَ: قَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْتُلْكَ أَوْ أَمُوتَ دُونَكَ. فَحَمَلَ وَاعْتَرَضَهُ نَافِعُ بْنُ هِلَالٍ الْمُرَادِيُّ فَطَعَنَهُ فَصَرَعَهُ، فَحَمَلَ أَصْحَابُهُ فَاسْتَنْقَذُوهُ فَدُووِيَ بَعْدُ فَبَرَأَ. وَقَاتَلَ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ مَعَ الْحُسَيْنِ قِتَالًا شَدِيدًا، وَبَرَزَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ سُفْيَانَ فَقَتْلَهُ الْحُرُّ، وَقَاتَلَ نَافِعُ بْنُ هِلَالٍ مَعَ الْحُسَيْنِ أَيْضًا فَبَرَزَ إِلَيْهِ مُزَاحِمُ بْنُ حُرَيْثٍ فَقَتَلَهُ نَافِعٌ. فَصَاحَ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ بِالنَّاسِ: أَتَدْرُونَ مَنْ تُقَاتِلُونَ؟ فُرْسَانُ الْمِصْرِ، قَوْمًا مُسْتَمِيتِينَ، لَا يَبْرُزُ إِلَيْهِمْ مِنْكُمْ أَحَدٌ فَإِنَّهُمْ قَلِيلٌ وَقَلَّ مَا يَبْقَوْنَ، وَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَرْمُوهُمْ إِلَّا بِالْحِجَارَةِ لَقَتَلْتُمُوهُمْ. يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ الْزَمُوا طَاعَتَكُمْ وَجَمَاعَتَكُمْ، لَا تَرْتَابُوا فِي قَتْلِ مَنْ مَرَقَ مِنَ الدِّينِ وَخَالَفَ الْإِمَامَ. فَقَالَ عُمَرُ: الرَّأْيُ مَا رَأَيْتَ، وَمَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْمُبَارَزَةِ. قَالَ: وَسَمِعَهُ الْحُسَيْنُ فَقَالَ: يَا عَمْرُو بْنَ الْحَجَّاجِ أَعَلَيَّ تُحَرِّضُ النَّاسَ؟ أَنْحَنُ مَرَقْنَا مِنَ الدِّينِ أَمْ أَنْتُمْ؟ وَاللَّهِ لَتَعْلَمُنَّ لَوْ قُبِضَتْ أَرْوَاحُكُمْ وَمُتُّمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ أَيُّنَا الْمَارِقُ. ثُمَّ حَمَلَ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ عَلَى الْحُسَيْنِ مِنْ نَحْوِ الْفُرَاتِ فَاضْطَرَبُوا سَاعَةً، فَصُرِعَ مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ الْأَسَدِيُّ، وَانْصَرَفَ عَمْرٌو وَمُسْلِمٌ صَرِيعٌ، فَمَشَى إِلَيْهِ وَبِهِ رَمَقٌ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ يَا مُسْلِمُ بْنَ عَوْسَجَةَ، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 23] . وَدَنَا مِنْهُ حَبِيبُ بْنُ مُطَهِّرٍ وَقَالَ: عَزَّ عَلَيَّ مَصْرَعُكَ، أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ، وَلَوْلَا أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي فِي أَثَرِكَ لَاحِقٌ بِكَ لَأَحْبَبْتُ أَنْ تُوصِيَنِي حَتَّى أَحْفَظَكَ بِمَا أَنْتَ لَهُ أَهْلٌ. فَقَالَ: أُوصِيكَ بِهَذَا، رَحِمَكَ اللَّهُ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْحُسَيْنِ، أَنْ تَمُوتَ دُونَهُ. فَقَالَ: أَفْعَلُ. ثُمَّ مَاتَ مُسْلِمٌ وَصَاحَتْ جَارِيَةٌ لَهُ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ عَوْسَجَةَ! فَيُنَادِي أَصْحَابُ عَمْرٍو: قَتَلْنَا مُسْلِمًا. فَقَالَ شَبَثٌ لِبَعْضِ مَنْ حَوْلَهُ: ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ إِنَّمَا تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ بَأَيْدِيكُمْ وَتُذِلُّونَ أَنْفُسَكُمْ لِغَيْرِكُمْ، أَتَفْرَحُونَ بِقَتْلِ مِثْلِ مُسْلِمٍ؟ أَمَا وَالَّذِي أَسْلَمْتُ لَهُ لَرُبَّ مَوْقِفٍ لَهُ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَوْمَ سَلَقَ أَذْرَبِيجَانَ قَتَلَ سِتَّةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ أَنْ تَنَامَ خُيُولُ الْمُسْلِمِينَ، أَفَيُقْتَلُ مِثْلُهُ وَتَفْرَحُونَ؟

وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُ مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبَابِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي خُشْكَارَةَ الْبَجَلِيُّ. وَحَمَلَ شَمِرٌ فِي الْمَيْسَرَةِ فَثَبَتُوا لَهُ وَحَمَلُوا عَلَى الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَقُتِلَ الْكَلْبِيُّ وَقَدْ قَتَلَ رَجُلَيْنِ بَعْدَ الرَّجُلَيْنِ الْأَوَّلِينَ وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَتَلَهُ هَانِئُ بْنُ ثُبَيْتٍ الْحَضْرَمِيُّ وَبُكَيْرُ بْنُ حَيٍّ التَّيْمِيُّ مِنْ تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَقَاتَلَ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ قِتَالًا شَدِيدًا وَهُمُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ فَارِسًا، فَلَمْ تَحْمِلْ عَلَى جَانِبٍ مِنْ خَيْلِ الْكُوفَةِ إِلَّا كَشَفَتْهُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَزْرَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَهُوَ عَلَى خَيْلِ الْكُوفَةِ، بَعَثَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: أَلَا تَرَى مَا تَلْقَى خَيْلِي هَذَا الْيَوْمَ مِنْ هَذِهِ الْعِدَّةِ الْيَسِيرَةِ؟ ابْعَثْ إِلَيْهِمُ الرِّجَالَ وَالرُّمَاةَ. فَقَالَ لِشَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ: أَلَا تَقْدَمُ إِلَيْهِمْ! فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! شَيْخُ مُضَرَ وَأَهْلِ الْمِصْرِ عَامَّةً تَبْعَثُهُ فِي الرُّمَاةِ، لَمْ تَجِدْ لِهَذَا غَيْرِي! وَلَمْ يَزَالُوا يَرَوْنَ مَنْ شَبَثٍ الْكَرَاهَةَ لِلْقِتَالِ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي إِمَارَةِ مُصْعَبٍ: لَا يُعْطِي اللَّهُ أَهْلَ هَذَا الْمِصْرِ خَيْرًا أَبَدًا وَلَا يُسَدِّدُهُمْ لِرُشْدٍ، أَلَا تَعْجَبُونَ أَنَّا قَاتَلْنَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَعَ ابْنِهِ آلَ أَبِي سُفْيَانَ خَمْسَ سِنِينَ ثُمَّ عَدَوْنَا عَلَى ابْنِهِ وَهُوَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ نُقَاتِلُهُ مَعَ آلِ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ سُمَيَّةَ الزَّانِيَةِ، ضَلَالٌ يَا لَكَ مِنْ ضَلَالٍ! فَلَمَّا قَالَ شَبَثٌ ذَلِكَ دَعَا عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ فَبَعَثَ مَعَهُ الْمُجَفَّفَةَ وَخَمْسَمِائَةٍ مِنَ الْمُرَامِيَةِ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ رَشَقُوهُمْ بِالنَّبْلِ فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ عَقَرُوا خُيُولَهُمْ وَصَارُوا رَجَّالَةً كُلُّهُمْ، وَقَاتَلَ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ رَاجِلًا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَاتَلُوهُمْ، إِلَى أَنِ انْتَصَفَ النَّهَارُ، أَشَدَّ قِتَالٍ خَلَقَهُ اللَّهُ، لَا يَقْدِرُونَ يَأْتُونَهُمْ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ لِاجْتِمَاعِ مَضَارِبِهِمْ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عُمَرُ أَرْسَلَ رِجَالًا يُقَوِّضُونَهُمْ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَشَمَائِلِهِمْ لِيُحِيطُوا بِهِمْ، فَكَانَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ الثَّلَاثَةُ وَالْأَرْبَعَةُ يَتَخَلَّلُونَ الْبُيُوتَ فَيَقْتُلُونَ الرَّجُلَ وَهُوَ يُقَوِّضُ وَيَنْهَبُ، وَيَرْمُونَهُ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ يَعْقِرُونَهُ، فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ فَأُحْرِقَتْ، فَقَالَ لَهُمُ الْحُسَيْنُ: دَعَوْهُمْ فَلْيَحْرِقُوهَا فَإِنَّهُمْ إِذَا حَرَقُوهَا لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَجُوزُوا إِلَيْكُمْ مِنْهَا. فَكَانَ كَذَلِكَ. وَخَرَجَتِ امْرَأَةُ الْكَلْبِيِّ فَجَلَسَتْ عِنْدَ رَأْسِهِ تَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ وَتَقُولُ: هَنِيئًا لَكَ الْجَنَّةَ! فَأَمَرَ شَمِرٌ غُلَامًا اسْمُهُ رُسْتُمُ فَضَرَبَ رَأْسَهَا بِالْعَمُودِ فَمَاتَتْ مَكَانَهَا. وَحَمَلَ شَمِرٌ حَتَّى بَلَغَ فُسْطَاطَ الْحُسَيْنِ وَنَادَى: عَلَيَّ بِالنَّارِ حَتَّى أَحُرِّقَ هَذَا الْبَيْتَ

عَلَى أَهْلِهِ. فَصَاحَ النِّسَاءُ وَخَرَجْنَ، وَصَاحَ بِهِ الْحُسَيْنُ: أَنْتَ تَحْرِقُ بَيْتِي عَلَى أَهْلِي؟ حَرَقَكَ اللَّهُ بِالنَّارِ! فَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ مُسْلِمٍ لِشَمِرٍ: إِنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ [لَكَ] ، تُعَذِّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ وَتَقْتُلُ الْوِلْدَانَ وَالنِّسَاءَ، وَاللَّهِ إِنَّ فِي قَتْلِ الرِّجَالِ مَا يَرْضَى بِهِ أَمِيرُكَ! فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، فَجَاءَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ فَنَهَاهُ فَانْتَهَى، وَذَهَبَ لِيَنْصَرِفَ فَحَمَلَ عَلَيْهِ زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ فِي عَشْرَةٍ فَكَشَفَهُمْ عَنِ الْبُيُوتِ وَقَتَلُوا أَبَا عَزَّةَ الضَّبَابِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ شَمِرٍ. وَعَطَفَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ فَكَثَّرُوهُمْ، وَكَانُوا إِذَا قُتِلَ مِنْهُمُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ يَبِينُ فِيهِمْ لِقِلَّتِهِمْ، وَإِذَا قُتِلَ فِي أُولَئِكَ لَا يَبِينُ فِيهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ. وَلَمَّا حَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ قَالَ أَبُو ثُمَامَةَ الصَّائِدِيُّ لِلْحُسَيْنِ: نَفْسِي لِنَفْسِكَ الْفِدَاءُ! أَرَى هَؤُلَاءِ قَدِ اقْتَرَبُوا مِنْكَ، وَاللَّهِ لَا تُقْتَلُ حَتَّى أُقْتَلَ دُونَكَ، وَأُحِبَّ أَنَّ أَلْقَى رَبِّي وَقَدْ صَلَّيْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ! فَرَفَعَ الْحُسَيْنُ رَأَسَهُ وَقَالَ: ذَكَرْتَ الصَّلَاةَ جَعَلَكَ اللَّهُ مِنَ الْمُصَلِّينَ الذَّاكِرِينَ، نَعَمْ هَذَا أَوَّلُ وَقْتِهَا، ثُمَّ قَالَ: سَلُوهُمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنَّا حَتَّى نُصَلِّيَ. فَفَعَلُوا، فَقَالَ لَهُمُ الْحُصَيْنُ: إِنَّهَا لَا تُقْبَلُ. فَقَالَ لَهُ حَبِيبُ (بْنُ مُطَهِّرٍ: زَعَمْتَ لَا تُقْبَلُ الصَّلَاةُ مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُقْبَلُ) مِنْكَ يَا حِمَارُ! فَحَمَلَ عَلَيْهِ الْحُصَيْنُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ (حَبِيبٌ) فَضَرَبَ وَجْهَ فَرَسِهِ بِالسَّيْفِ فَشَبَّ فَسَقَطَ عَنْهُ الْحُصَيْنُ فَاسْتَنْقَذَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَاتَلَ حَبِيبٌ (قِتَالًا شَدِيدًا فَقَتَلَ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ اسْمُهُ بُدَيْلُ بْنُ صُرَيْمٍ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ آخِرُ مَنْ تَمِيمٍ فَطَعَنَهُ فَذَهَبَ لِيَقُومَ فَضَرَبَهُ الْحُصَيْنُ عَلَى رَأْسِهِ بِالسَّيْفِ فَوَقَعَ وَنَزَلَ إِلَيْهِ التَّمِيمِيُّ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، فَقَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ: أَنَا شَرِيكٌ فِي قَتْلِهِ. فَقَالَ الْآخَرُ: لَا وَاللَّهِ! فَقَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ: أَعْطِنِيهِ أُعَلِّقُهُ فِي عُنُقِ فَرَسِي كَيْمَا يَرَى النَّاسُ أَنِّي شَرِكْتُ فِي قَتْلِهِ ثُمَّ خُذْهُ وَامْضِ بِهِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فَلَا حَاجَةَ لِي فِيمَا تُعْطَاهُ. فَفَعَلَ وَجَالَ بِهِ فِي النَّاسِ ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْكُوفَةِ أَخَذَ الرَّأْسَ وَجَعَلَهُ فِي عُنُقِ فَرَسِهِ) ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فِي الْقَصْرِ فَبَصَرَ بِهِ الْقَاسِمُ بْنُ حَبِيبٍ، وَقَدْ رَاهَقَ، فَأَقْبَلَ مَعَ الْفَارِسِ لَا يُفَارِقُهُ، فَارْتَابَ بِهِ الرَّجُلُ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ، فَأَخْبَرَهُ وَطَلَبَ

الرَّأْسَ لِيَدْفِنَهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْأَمِيرَ لَا يَرْضَى أَنْ يُدْفَنَ وَأَرْجُو أَنْ يُثِيبَنِي الْأَمِيرُ. فَقَالَ لَهُ: لَكِنَّ اللَّهَ لَا يُثِيبُكَ إِلَّا أَسْوَأَ الثَّوَابِ. وَلَمْ يَزَلْ يَطْلُبُ غِرَّةَ قَاتِلِ أَبِيهِ حَتَّى كَانَ زَمَانُ مُصْعَبٍ، وَغَزَا مُصْعَبٌ بَاجُمَيْرَى، وَدَخَلَ الْقَاسِمُ عَسْكَرَهُ فَإِذَا قَاتِلُ أَبِيهِ فِي فُسْطَاطِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ نِصْفَ النَّهَارِ فَقَتَلَهُ. فَلَمَّا قُتِلَ حَبِيبٌ هَدَّ ذَلِكَ الْحُسَيْنَ، وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: أَحْتَسِبُ نَفْسِي وَحُمَاةَ أَصْحَابِي. وَحَمَلَ الْحُرُّ وَزُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ فَقَاتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَ إِذَا حَمَلَ أَحَدُهُمَا وَغَاضَ فِيهِمْ حَمَلَ الْآخَرُ حَتَّى يُخَلِّصَهُ، فَعَلَا ذَلِكَ سَاعَةً ثُمَّ إِنَّ رَجَّالَةً حَمَلَتْ عَلَى الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ فَقَتَلَتْهُ، وَقَتَلَ أَبُو ثُمَامَةَ الصَّائِدِيُّ ابْنَ عَمٍّ لَهُ كَانَ عَدُوَّهُ، ثُمَّ صَلَّوُا الظُّهْرَ، صَلَّى بِهِمُ الْحُسَيْنُ صَلَاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا بَعْدَ الظُّهْرِ، فَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ، وَوُصِلَ إِلَى الْحُسَيْنِ، فَاسْتَقْدَمَ الْحَنَفِيُّ أَمَامَهُ فَاسْتُهْدِفَ لَهُمْ يَرْمُونَهُ بِالنَّبْلِ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى سَقَطَ. وَقَاتَلَ زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ قِتَالًا شَدِيدًا، فَحَمَلَ عَلَيْهِ كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الشَّعْبِيُّ وَمُهَاجِرُ بْنُ أَوْسٍ فَقَتْلَاهُ، وَكَانَ نَافِعُ بْنُ هِلَالٍ الْجَمَلِيُّ قَدْ كَتَبَ اسْمَهُ عَلَى أَفَوَاهِ نَبْلِهِ، وَكَانَتْ مَسْمُومَةً، فَقَتَلَ بِهَا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا سِوَى مَنْ جُرِحَ، فَضُرِبَ حَتَّى كُسِرَتْ عَضُدَاهُ وَأُخِذَ أَسِيرًا، فَأَخَذَهُ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ فَأَتَى بِهِ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ وَالدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ وَهُوَ يَقُولُ: لَقَدْ قَتَلْتُ مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا سِوَى مَنْ جَرَحْتُ، وَلَوْ بَقِيَتْ لِي عَضُدٌ وَسَاعِدٌ مَا أَسَرْتُمُونِي. فَانْتَضَى شَمِرٌ سَيْفَهُ لِيَقْتُلَهُ، فَقَالَ لَهُ نَافِعٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَعَظُمَ عَلَيْكَ أَنْ تَلْقَى اللَّهَ بِدِمَائِنَا، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ مَنَايَانَا عَلَى يَدَيْ شَرَارِ خَلْقِهِ! فَقَتَلَهُ شَمِرٌ ثُمَّ حَمَلَ عَلَى أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ. فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ كَثُرُوا، وَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ يَمْنَعُونَ الْحُسَيْنَ وَلَا أَنْفُسَهُمْ تَنَافَسُوا أَنْ يُقْتَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنَا عَزْرَةَ الْغِفَارِيَّانِ إِلَيْهِ فَقَالَا: قَدْ حَازَنَا

النَّاسُ إِلَيْكَ. فَجَعَلَا يُقَاتِلَانِ بَيْنَ يَدِهِ، وَأَتَاهُ الْفَتَيَانِ الْجَابِرِيَّانِ وَهُمَا سَيْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْعٍ وَمَالِكُ بْنُ عَبْدِ بْنِ سُرَيْعٍ، وَهُمَا ابْنَا عَمٍّ وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ وَهُمَا يَبْكِيَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَا يُبْكِيكُمَا؟ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَا عَنْ سَاعَةٍ قَرِيرَيْ عَيْنٍ. فَقَالَا: وَاللَّهِ مَا عَلَى أَنْفُسِنَا نَبْكِي وَلَكِنْ نَبْكِي عَلَيْكَ، نَرَاكَ قَدْ أُحِيطُ بِكَ وَلَا نَقْدِرُ أَنْ نَمْنَعَكَ! فَقَالَ: جَزَاكُمَا اللَّهُ جَزَاءَ الْمُتَّقِينَ! وَجَاءَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَسْعَدَ الشِّبَامِيُّ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْحُسَيْنِ وَجَعَلَ يُنَادِي: {يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ - مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ - وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ - يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 30 - 33] . يَا قَوْمِ لَا تَقْتُلُوا الْحُسَيْنَ فَيُسْحِتَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61] ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: رَحِمَكَ اللَّهُ! إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْجَبُوا الْعَذَابَ حِينَ رَدُّوا مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَنَهَضُوا لِيَسْتَبِيحُوكَ وَأَصْحَابَكَ فَكَيْفَ بِهِمُ الْآنَ قَدْ قَتَلُوا إِخْوَانَكَ الصَّالِحِينَ! فَسَلَّمَ عَلَى الْحُسَيْنِ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَتَقَدَّمَ وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَتَقَدَمَ الْفَتَيَانِ الْجَابِرِيَّانِ فَوَدَّعَا الْحُسَيْنَ وَقَاتَلَا حَتَّى قُتِلَا. وَجَاءَ عَابِسُ بْنُ أَبِي شَيْبٍ الشَّاكِرِيُّ وَشَوْذَبٌ مَوْلَى شَاكِرٍ إِلَى الْحُسَيْنِ فَسَلَّمَا عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَا فَقَاتَلَا فَقُتِلَ شَوْذَبٌ، وَأَمَّا عَابِسٌ فَطَلَبَ الْبِرَازَ فَتَحَامَاهُ النَّاسُ لِشَجَاعَتِهِ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: ارْمُوهُ بِالْحِجَارَةِ، فَرَمَوْهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَلْقَى دِرْعَهُ وَمِغْفَرَهُ وَحَمَلَ عَلَى النَّاسِ فَهَزَمَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ رَجَعُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَادَّعَى قَتْلَهُ جَمَاعَةٌ. وَجَاءَ الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُشْرِفِيُّ إِلَى الْحُسَيْنِ فَقَالَ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ قَدْ عَلِمْتَ أَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي أُقَاتِلُ عَنْكَ مَا رَأَيْتُ مُقَاتِلًا، فَإِذَا لَمْ أَرَ مُقَاتِلًا فَأَنَا فِي حِلٍّ مِنْ الِانْصِرَافِ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: صَدَقْتَ، وَكَيْفَ لَكَ بِالنَّجَاءِ؟ إِنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ فَأَنْتَ فِي

حِلٍّ. قَالَ: فَأَقْبَلْتُ إِلَى فَرَسِي، وَكُنْتُ قَدْ تَرَكْتُهُ فِي خِبَاءٍ حَيْثُ رَأَيْتُ خَيْلَ أَصْحَابِنَا تُعْقَرُ، وَقَاتَلْتُ رَاجِلًا وَقَتَلْتُ رَجُلَيْنِ وَقَطَعْتُ يَدَ آخَرَ، وَدَعَا إِلَى الْحُسَيْنِ مِرَارًا، قَالَ: وَاسْتَخْرَجْتُ فَرَسِي وَاسْتَوَيْتُ عَلَيْهِ وَحَمَلْتُ عَلَى عَرْضِ الْقَوْمِ فَأَفْرَجُوا لِي وَتَبِعَنِي مِنْهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَفُتُّهُمْ وَسَلِمْتُ. وَجَثَا أَبُو الشَّعْثَاءِ الْكِنْدِيُّ، وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، بَيْنَ يَدَيِ الْحُسَيْنِ، فَرَمَى بِمِائَةِ سَهْمٍ مَا سَقَطَ مِنْهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَكُلَّمَا رَمَى يَقُولُ لَهُ الْحُسَيْنُ: اللَّهُمَّ سَدِّدْ رَمْيَتَهُ وَاجْعَلْ ثَوَابَهُ الْجَنَّةَ! وَكَانَ يَزِيدُ هَذَا فِيمَنْ خَرَجَ مَعَ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، فَلَمَّا رَدُّوا الشُّرُوطَ عَلَى الْحُسَيْنِ عَدَلَ إِلَيْهِ فَقَاتَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ. وَأَمَّا الصَّيْدَاوِيُّ عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ وَجَبَّارُ بْنُ الْحَارِثِ السَّلْمَانِيُّ وَسَعْدٌ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ خَالِدٍ وَمُجَمَّعُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَائِذِيُّ فَإِنَّهُمْ قَاتَلُوا أَوَّلَ الْقِتَالِ، فَلَمَّا وَغَلُوا فِيهِمْ عَطَفُوا إِلَيْهِمْ فَقَطَعُوهُمْ عَنْ أَصْحَابِهِمْ، فَحَمَلَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَلِيٍّ فَاسْتَنْقَذَهُمْ وَقَدْ جُرِحُوا، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ عَدُوُّهُمْ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَقَاتَلُوا فَقُتِلُوا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ. وَكَانَ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ سُوِيدُ بْنُ أَبِي الْمُطَاعِ الْخَثْعَمِيُّ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آلِ بَنِي أَبِي طَالِبٍ يَوْمَئِذٍ عَلِيٌّ الْأَكْبَرُ ابْنُ الْحُسَيْنِ، وَأُمُّهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي مُرَّةَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّةُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حَمَلَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ ... نَحْنُ وَرَبِّ الْبَيْتِ أَوْلَى بِالنَّبِيِّ تَاللَّهِ لَا يَحْكُمُ فِينَا ابْنُ الدَّعِيِّ فَفَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَحَمَلَ عَلَيْهِ مُرَّةُ بْنُ مُنْقِذٍ الْعَبْدِيُّ فَطَعَنَهُ فَصُرِعَ وَقَطَّعَهُ النَّاسُ بِسُيُوفِهِمْ، فَلَمَّا رَآهُ الْحُسَيْنُ قَالَ: قَتَلَ اللَّهُ قَوْمًا قَتَلُوكَ يَا بُنَيَّ! مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الرَّسُولِ: عَلَى الدُّنْيَا بَعْدَكَ الْعَفَاءُ. وَأَقْبَلَ الْحُسَيْنُ إِلَيْهِ وَمَعَهُ فِتْيَانُهُ،

فَقَالَ: احْمِلُوا أَخَاكُمْ، فَحَمَلُوهُ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيِ الْفُسْطَاطِ الَّذِي كَانُوا يُقَاتِلُونَ أَمَامَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَمْرَو بْنَ صُبَيْحٍ الصُّدَائِيَّ رَمَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ بِسَهْمٍ فَوَضَعَ كَفَّهُ عَلَى جَبْهَتِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُحَرِّكَهَا ثُمَّ رَمَاهُ بِسَهْمٍ آخَرَ فَقَتَلَهُ. وَحَمَلَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَحَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُطْبَةَ الطَّائِيُّ عَلَى عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَقَتَلَهُ، وَحَمَلَ عُثْمَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ أُسَيْرٍ الْجُهَنِيُّ وَبِشْرُ بْنُ سَوْطٍ الْهَمْدَانِيُّ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَتَلَاهُ، وَرَمَى عَبْدُ (اللَّهِ بْنُ عُرْوَةَ) الْخَثْعَمِيُّ جَعْفَرَ بْنَ عَقِيلٍ فَقَتَلَهُ. ثُمَّ حَمَلَ الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ وَبِيَدِهِ السَّيْفُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ الْأَزْدِيُّ فَضَرَبَ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ فَسَقَطَ الْقَاسِمُ إِلَى الْأَرْضِ لِوَجْهِهِ وَقَالَ: يَا عَمَّاهُ! فَانْقَضَّ الْحُسَيْنُ إِلَيْهِ كَالصَّقْرِ ثُمَّ شَدَّ شِدَّةَ لَيْثٍ أُغْضِبَ فَضَرَبَ عَمْرًا بِالسَّيْفِ فَاتَّقَاهُ بِيَدِهِ فَقَطَعَ يَدَهُ مِنَ الْمِرْفَقِ فَصَاحَ، وَحَمَلَتْ خَيْلُ الْكُوفَةِ لِيَسْتَنْقِذُوا عَمْرًا فَاسْتَقْبَلَتْهُ بِصُدُورِهَا وَجَالَتْ عَلَيْهِ فَوَطِئَتْهُ حَتَّى مَاتَ، وَانْجَلَتِ الْغَبَرَةُ وَالْحُسَيْنُ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِ الْقَاسِمِ وَهُوَ يَفْحَصُ بِرِجْلَيْهِ وَالْحُسَيْنُ يَقُولُ: بُعْدًا لِقَوْمٍ قَتَلُوكَ، وَمَنْ خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيكَ جَدُّكَ! ثُمَّ قَالَ: عَزَّ وَاللَّهِ عَلَى عَمِّكَ أَنْ تَدْعُوَهُ فَلَا يُجِيبُكَ أَوْ يُجِيبُكَ ثُمَّ لَا يَنْفَعُكَ صَوْتُهُ، وَاللَّهِ هَذَا الْيَوْمَ كَثُرَ وَاتِرُهُ وَقَلَّ نَاصِرُهُ! ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلَى صَدْرِهِ حَتَّى أَلْقَاهُ مَعَ ابْنِهِ عَلِيٍّ وَمَنْ قُتِلَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. وَمَكَثَ الْحُسَيْنُ طَوِيلًا مِنَ النَّهَارِ كُلَّمَا انْتَهَى إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ رَجَعَ عَنْهُ وَكَرِهَ أَنْ يَتَوَلَّى قَتْلَهُ وَعَظُمَ إِثْمُهُ [عَلَيْهِ] ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ النُّسَيْرِ أَتَاهُ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَ الْبُرْنُسَ، وَأَدْمَى رَأْسَهُ وَامْتَلَأَ الْبُرْنُسُ دَمًا، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: لَا أَكَلْتَ بِهَا وَلَا شَرِبْتَ وَحَشَرَكَ اللَّهُ مَعَ الظَّالِمِينَ! وَأَلْقَى الْبُرْنُسَ وَلَبِسَ الْقَلَنْسُوَةَ، وَأَخَذَ الْكِنْدِيُّ الْبُرْنُسَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى أَهْلِهِ أَخَذَ الْبُرْنُسَ يَغْسِلُ الدَّمَ عَنْهُ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَسَلَبَ ابْنِ [بِنْتِ] رَسُولِ اللَّهِ تُدْخِلُ بَيْتِي؟ أَخْرِجْهُ عَنِّي! قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ

ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقِيرًا بِشَرٍّ حَتَّى مَاتَ. وَدَعَا الْحُسَيْنُ بِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ صَغِيرٌ (فَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَذَبَحَهُ، فَأَخَذَ الْحُسَيْنُ دَمَهُ) فَصَبَّهُ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: رَبِّي إِنْ تَكُنْ حَبَسْتَ عَنَّا النَّصْرَ مِنَ السَّمَاءِ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ وَانْتَقِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ. وَرَمَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُقْبَةَ الْغَنَوِيُّ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَلِيٍّ لِإِخْوَتِهِ مِنْ أَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ وَجَعْفَرٍ وَعُثْمَانَ: تَقَدَّمُوا حَتَّى أَرِثَكُمْ فَإِنَّهُ لَا وَلَدَ لَكُمْ. فَفَعَلُوا فَقُتِلُوا، وَحَمَلَ هَانِئُ بْنُ ثُبَيْتٍ الْحَضْرَمِيُّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَتَلَهُ، وَرَمَى خَوَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ الْأَصْبَحِيُّ عُثْمَانَ بْنَ عَلِيٍّ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَبَانِ بْنِ دَارِمٍ فَقَتَلَهُ وَجَاءَ بِرَأْسِهِ، وَرَمَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَبَانٍ أَيْضًا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَتَلَهُ وَجَاءَ بِرَأْسِهِ. وَخَرَجَ غُلَامٌ مِنْ خِبَاءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَخْبِيَةِ فَأَخَذَ بِعُودٍ مِنْ عِيدَانِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ قِيلَ إِنَّهُ هَانِئٌ بْنُ ثُبَيْتٍ الْحَضْرَمِيُّ فَقَتَلَهُ. وَاشْتَدَّ عَطَشُ الْحُسَيْنِ فَدَنَا مِنَ الْفُرَاتِ لِيَشْرَبَ فَرَمَاهُ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ فِي فَمِهِ فَجَعَلَ يَتَلَقَّى الدَّمَ بِيَدِهِ وَرَمَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ مَا يُصْنَعُ بِابْنِ بِنْتِ نَبِيِّكَ! اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا، وَلَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا! وَقِيلَ الَّذِي رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَبَانِ بْنِ دَارِمٍ، فَمَكَثَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَسِيرًا ثُمَّ صَبَّ اللَّهُ عَلَيْهِ الظَّمَأَ فَجَعَلَ لَا يَرْوَى، فَكَانَ يُرَوَّحُ عَنْهُ وَيُبَرَّدُ لَهُ الْمَاءُ فِيهِ السُّكَّرُ وَعِسَاسٌ فِيهَا اللَّبَنُ وَيَقُولُ: اسْقُونِي، فَيُعْطَى الْقُلَّةَ أَوِ الْعُسَّ فَيَشْرَبُهُ، فَإِذَا شَرِبَهُ اضْطَجَعَ هُنَيْهَةً ثُمَّ يَقُولُ: اسْقُونِي قَتَلَنِي الظَّمَأُ، فَمَا لَبِثَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى انْقَدَّتْ بَطْنُهُ انْقِدَادَ بَطْنِ الْبَعِيرِ. ثُمَّ إِنَّ شَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ أَقْبَلَ فِي نَفَرٍ نَحْوِ عَشَرَةٍ مِنْ رِجَالِهِمْ نَحْوَ مَنْزِلِ

الْحُسَيْنِ فَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَحْلِهِ، فَقَالَ لَهُمُ الْحُسَيْنُ: وَيْلَكُمُ! إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ وَلَا تَخَافُونَ يَوْمَ الْمَعَادِ فَكُونُوا أَحْرَارًا ذَوِي أَحْسَابٍ، امْنَعُوا رَحْلِي وَأَهْلِي مِنْ طُغَاتِكُمْ وَجُهَّالِكُمْ. فَقَالُوا: ذَلِكَ لَكَ يَا ابْنَ فَاطِمَةَ. وَأَقْدَمَ عَلَيْهِ شَمِرٌ بِالرَّجَّالَةِ مِنْهُمْ: أَبُو الْجَنُوبِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْجُعْفِيُّ، وَالْقَشْعَمُ بْنُ نُذَيْرٍ الْجُعْفِيُّ، وَصَالِحُ بْنُ وَهْبٍ الْيَزَنِيُّ، وَسِنَانُ بْنُ أَنَسٍ النَّخَعِيُّ، وَخَوَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ الْأَصْبَحِيُّ، وَجَعَلَ شَمِرٌ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْحُسَيْنِ وَهُوَ يَحْمِلُ عَلَيْهِمْ فَيَنْكَشِفُونَ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَحَاطُوا بِهِ. وَأَقْبَلَ إِلَى الْحُسَيْنِ غُلَامٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَامَ إِلَى جَنْبِهِ وَقَدْ أَهْوَى بَحْرُ بْنُ كَعْبِ بْنِ تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ إِلَى الْحُسَيْنِ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ الْغُلَامُ: يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ أَتَقْتُلُ عَمِّي! فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، فَاتَّقَاهُ الْغُلَامُ بِيَدِهِ فَأَطَنَّهَا إِلَى الْجِلْدَةِ، فَنَادَى الْغُلَامُ: يَا أُمَّتَاهُ! فَاعْتَنَقَهُ الْحُسَيْنُ وَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي اصْبِرْ عَلَى مَا نَزَلَ بِكَ فَإِنَّ اللَّهَ يُلْحِقُكَ بِآبَائِكَ الطَّاهِرِينَ الصَّالِحِينَ، بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِيٍّ وَحَمْزَةَ وَجَعْفَرٍ وَالْحَسَنِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ: اللَّهُمَّ أَمْسِكْ عَنْهُمْ قَطْرَ السَّمَاءِ وَامْنَعْهُمْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ! اللَّهُمَّ فَإِنْ مَتَّعْتَهُمْ إِلَى حِينٍ فَفَرِّقْهُمْ فِرَقًا وَاجْعَلْهُمْ طَرَائِقَ قِدَدًا وَلَا تُرْضِ عَنْهُمُ الْوُلَاةَ أَبَدًا، فَإِنَّهُمْ دَعَوْنَا لِيَنْصُرُونَا فَعَدَوْا عَلَيْنَا فَقَتَلُونَا! ثُمَّ ضَارَبَ الرَّجَّالَةَ حَتَّى انْكَشَفُوا عَنْهُ، وَلَمَّا بَقِيَ الْحُسَيْنُ فِي ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ دَعَا بِسَرَاوِيلَ فَفَزَّرَهُ وَنَكَثَهُ لِئَلَّا يُسْلَبَهُ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: لَوْ لَبِسْتَ تَحْتَهُ التُّبَّانَ. قَالَ: ذَلِكَ ثَوْبُ مَذَلَّةٍ وَلَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَلْبَسَهُ. فَلَمَّا قُتِلَ سَلَبَهُ بَحْرُ بْنُ كَعْبٍ، وَكَانَتْ يَدَاهُ فِي الشِّتَاءِ تَنْضَحَانِ بِالْمَاءِ، وَفِي الصَّيْفِ تَيْبَسَانِ كَأَنَّهُمَا عُودٌ. وَحَمَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، فَحَمَلَ عَلَى الَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ فَتَفَرَّقُوا، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى الَّذِينَ عَنْ يَسَارِهِ فَتَفَرَّقُوا، فَمَا رُئِيَ مَكْثُورٌ قَطُّ قَدْ قُتِلَ وَلَدُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَأَصْحَابُهُ أَرْبَطَ جَأْشًا مِنْهُ، وَلَا أَمْضَى جَنَانًا وَلَا أَجْرَأَ مَقْدَمًا مِنْهُ، إِنْ كَانَتِ الرَّجَّالَةُ لَتَنْكَشِفُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ انْكِشَافَ الْمِعْزَى إِذَا شَدَّ فِيهَا الذِّئْبُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَتْ زَيْنَبُ وَهِيَ تَقُولُ: لَيْتَ السَّمَاءَ انْطَبَقَتْ عَلَى الْأَرْضِ! وَقَدْ دَنَا عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، فَقَالَتْ: يَا عُمَرُ أَيُقْتَلُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَأَنْتَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ؟ فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ

حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ عَلَى خَدَّيْهِ وَلِحْيَتِهِ وَصَرَفَ وَجْهَهُ عَنْهَا. وَكَانَ عَلَى الْحُسَيْنِ جُبَّةٌ مِنْ خَزٍّ، وَكَانَ مُعْتَمًّا مَخْضُوبًا بِالْوَسْمَةِ، وَقَاتَلَ رَاجِلًا قِتَالَ الْفَارِسِ الشُّجَاعِ يَتَّقِي الرَّمْيَةَ وَيَفْتَرِصُ الْعَوْرَةَ وَيَشُدُّ عَلَى الْخَيْلِ وَهُوَ يَقُولُ: أَعَلَى قَتْلِي تَجْتَمِعُونَ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَا تَقْتُلُونَ بَعْدِي عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، اللَّهُ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ لِقَتْلِهِ مِنِّي! وَايْمُ اللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُكْرِمَنِي اللَّهُ بِهَوَانِكُمْ ثُمَّ يَنْتَقِمَ لِي مِنْكُمْ مِنْ حَيْثُ لَا تَشْعُرُونَ! أَمَا وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتُمُونِي لَأَلْقَى اللَّهُ بَأْسَكُمْ بَيْنَكُمْ وَسَفَكَ دِمَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ مِنْكُمْ حَتَّى يُضَاعِفَ لَكُمُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. قَالَ: وَمَكَثَ طَوِيلًا مِنَ النَّهَارِ، وَلَوْ شَاءَ النَّاسُ أَنْ يَقْتُلُوهُ لَقَتَلُوهُ وَلَكِنَّهُمْ كَانَ يَتَّقِي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيُحِبُّ هَؤُلَاءِ أَنْ يَكْفِيَهُمْ هَؤُلَاءِ، فَنَادَى شَمِرٌ فِي النَّاسِ: وَيْحَكُمْ مَاذَا تَنْتَظِرُونَ بِالرَّجُلِ؟ اقْتُلُوهُ ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ! فَحَمَلُوا عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَضَرَبَ زُرْعَةُ بْنُ شَرِيكٍ التَّمِيمِيُّ عَلَى كَفِّهِ الْيُسْرَى وَضَرَبَ أَيْضًا عَلَى عَاتِقِهِ ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ وَهُوَ يَقُومُ وَيَكْبُو، وَحَمَلَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ سِنَانُ بْنُ أَنَسٍ النَّخَعِيُّ فَطَعَنَهُ بِالرُّمْحِ فَوَقَعَ، وَقَالَ لِخَوَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ الْأَصْبَحِيِّ: احْتَزَّ رَأْسَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ فَضَعُفَ وَأُرْعِدَ، فَقَالَ لَهُ سِنَانٌ، فَتَّ اللَّهُ عَضُدَكَ! وَنَزَلَ إِلَيْهِ فَذَبَحَهُ وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ فَدَفَعَهُ إِلَى خَوَلِيِّ، (وَسَلَبَ الْحُسَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ سَرَاوِيلَهُ) بَحْرُ بْنُ كَعْبٍ (وَأَخَذَ قَيْسُ بْنُ الْأَشْعَثِ قَطِيفَتَهُ، وَهِيَ مِنْ خَزٍّ، فَكَانَ يُسَمَّى بَعْدُ قَيْسَ قَطِيفَةَ) ، وَأَخَذَ نَعْلَيْهِ الْأَوْدِيُّ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ رَجُلٌ مِنْ دَارِمٍ، وَمَالَ النَّاسُ عَلَى الْوَرْسِ وَالْحُلَلِ وَالْإِبِلِ فَانْتَهَبُوهَا وَنَهَبُوا ثَقَلَهُ وَمَتَاعَهُ وَمَا عَلَى النِّسَاءِ حَتَّى إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ لَتَنْزِعُ ثَوْبَهَا مِنْ ظَهْرِهَا فَيُؤْخَذُ مِنْهَا. وَوُجِدَ بِالْحُسَيْنِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ طَعْنَةً وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ ضَرْبَةً (غَيْرَ الرَّمْيَةِ) . وَأَمَّا سُوِيدُ بْنُ الْمُطَاعِ فَكَانَ قَدْ صُرِعَ فَوَقَعَ بَيْنَ الْقَتْلَى مُثْخَنًا بِالْجِرَاحَاتِ، فَسَمِعَهُمْ يَقُولُونَ: قُتِلَ الْحُسَيْنُ! فَوَجَدَ خِفَّةً فَوَثَبَ وَمَعَهُ سِكِّينٌ، وَكَانَ سَيْفُهُ قَدْ أُخِذَ

فَقَاتَلَهُمْ بِسِكِّينِهِ سَاعَةً ثُمَّ قُتِلَ، قَتَلَهُ عُرْوَةُ بْنُ بَطَّانٍ الثَّعْلَبِيُّ وَزَيْدُ بْنُ رُقَادٍ الْجُنُبِيُّ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ. ثُمَّ انْتَهَوْا إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ فَأَرَادَ شَمِرٌ قَتْلَهُ، فَقَالَ لَهُ حُمَيْدُ بْنُ مُسْلِمٍ: سُبْحَانَ اللَّهُ أَتَقْتُلُ الصِّبْيَانَ! وَكَانَ مَرِيضًا، وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ فَقَالَ: لَا يَدْخُلَنَّ بَيْتَ هَذِهِ النِّسْوَةِ أَحَدٌ وَلَا يَعْرِضُ لِهَذَا الْغُلَامِ الْمَرِيضِ، وَمَنْ أَخَذَ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْئًا فَلْيَرُدُّهُ، فَلَمْ يَرُدَّ أَحَدٌ شَيْئًا. فَقَالَ النَّاسُ لِسِنَانِ بْنِ أَنَسٍ النَّخَعِيِّ: قَتَلْتَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَابْنَ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلْتَ أَعْظَمَ الْعَرَبِ خَطَرًا، أَرَادَ أَنْ يُزِيلَ مُلْكَ هَؤُلَاءِ، فَأْتِ أُمَرَاءَكَ فَاطْلُبْ ثَوَابَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ أَعْطَوْكَ بُيُوتَ أَمْوَالِهِمْ فِي قَتْلِهِ كَانَ قَلِيلًا. فَأَقْبَلَ عَلَى فَرَسِهِ، وَكَانَ شُجَاعًا شَاعِرًا بِهِ لَوْثَةٌ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَابِ فُسْطَاطِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَوْقِرْ رِكَابِي فِضَّةً وَذَهَبَا ... إِنِّي قَتَلْتُ السَّيِّدَ الْمُحَجَّبَا قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ أُمًّا وَأَبَا ... وَخَيْرَهُمْ إِذْ يُنْسَبُونَ نَسَبَا فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: أَشْهَدُ أَنَّكَ مَجْنُونٌ، أَدْخِلُوهُ عَلَيَّ. فَلَمَّا دَخَلَ حَذَفَهُ بِالْقَضِيبِ وَقَالَ: يَا مَجْنُونُ أَتَتَكَلَّمُ بِهَذَا الْكَلَامِ؟ وَاللَّهِ لَوْ سَمِعَكَ ابْنُ زِيَادٍ لَضَرَبَ عُنُقَكَ! وَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ عُقْبَةَ بْنَ سِمْعَانَ مَوْلَى الرَّبَابِ ابْنَةِ امْرِئِ الْقَيْسِ الْكَلْبِيَّةِ امْرَأَةِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ: مَا أَنْتِ؟ فَقَالَ: أَنَا عَبْدٌ مَمْلُوكٌ. فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ غَيْرُهُ وَغَيْرُ الْمُرَقَّعِ بْنِ ثُمَامَةَ الْأَسَدِيِّ، وَكَانَ قَدْ نَثَرَ نَبْلَهُ فَقَاتَلَ، فَجَاءَ نَفَرٌ مِنْ قَوْمِهِ فَآمَنُوهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا أُخْبِرَ ابْنُ زِيَادٍ خَبَرَهُ نَفَاهُ إِلَى الزَّارَةِ. ثُمَّ نَادَى عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ فِي أَصْحَابِهِ مَنْ يُنْتَدَبُ إِلَى الْحُسَيْنِ فَيُوطِئُهُ فَرَسَهُ، فَانْتَدَبَ عَشْرَةً، مِنْهُمْ إِسْحَاقُ بْنُ حَيْوَةَ الْحَضْرَمِيُّ، وَهُوَ الَّذِي سَلَبَ قَمِيصَ الْحُسَيْنِ، فَبَرِصَ بَعْدُ، فَأَتَوْا فَدَاسُوا الْحُسَيْنَ بِخُيُولِهِمْ حَتَّى رَضُّوا ظَهْرَهُ وَصَدْرَهُ. وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ رَجُلًا.

وَدَفَنَ الْحُسَيْنَ وَأَصْحَابَهُ أَهْلُ الْغَاضِرِيَّةِ مِنْ بَنِي أَسَدٍ بَعْدَ قَتْلِهِمْ بِيَوْمٍ. وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ ثَمَانِيَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا سِوَى الْجَرْحَى فَصَلَّى عَلَيْهِمْ عُمَرُ وَدَفَنَهُمْ. وَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ أُرْسِلَ رَأْسُهُ وَرُءُوسُ أَصْحَابِهِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ مَعَ خَوَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ وَحُمَيْدِ بْنِ مُسْلِمٍ الْأَزْدِيِّ، فَوَجَدَ خَوَلِيٌّ الْقَصْرَ مُغْلَقًا فَأَتَى مَنْزِلَهُ فَوَضَعَ الرَّأْسَ تَحْتَ إِجَّانَةٍ فِي مَنْزِلِهِ وَدَخَلَ فِرَاشَهُ وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ النَّوَّارِ: جِئْتُكِ بِغِنَى الدَّهْرِ، هَذَا رَأْسُ الْحُسَيْنِ مَعَكِ فِي الدَّارِ. فَقَالَتْ: وَيْلَكَ! جَاءَ النَّاسُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَجِئْتَ بِرَأْسِ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأَسَكَ بَيْتٌ أَبَدًا! وَقَامَتْ مِنَ الْفِرَاشِ فَخَرَجَتْ إِلَى الدَّارِ، قَالَتْ: فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ إِلَى نُورٍ يَسْطَعُ مِثْلِ الْعَمُودِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْإِجَّانَةِ، وَرَأَيْتُ طَيْرًا أَبْيَضَ يُرَفْرِفُ حَوْلَهَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا بِالرَّأْسِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ. وَقِيلَ: بَلِ الَّذِي حَمَلَ الرُّءُوسَ كَانَ شَمِرٌ وَقَيْسُ بْنُ الْأَشْعَثِ وَعَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ وَعُرْوَةُ بْنُ قَيْسٍ فَجَلَسَ ابْنُ زِيَادٍ وَأُذِّنَ لِلنَّاسِ فَأُحْضِرَتِ الرُّءُوسُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَنْكُتُ بِقَضِيبٍ بَيْنَ ثَنِيَّتِهِ سَاعَةً، فَلَمَّا رَآهُ زَيْدُ بْنُ الْأَرْقَمِ لَا يَرْفَعُ قَضِيبَهُ قَالَ: أَعْلِ هَذَا الْقَضِيبَ عَنْ هَاتَيْنِ الثَّنِيَّتَيْنِ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ رَأَيْتُ شَفَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَاتَيْنِ الشَّفَتَيْنِ يُقَبِّلُهُمَا! ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: أَبْكَى اللَّهُ عَيْنَيْكَ! فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّكَ شَيْخٌ قَدْ خَرِفْتَ وَذَهَبَ عَقْلُكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ. فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ الْعَبِيدُ بَعْدَ الْيَوْمِ، قَتَلْتُمُ ابْنَ فَاطِمَةَ، وَأَمَّرْتُمُ ابْنَ مَرْجَانَةَ، فَهُوَ يُقَتِّلُ خِيَارَكُمْ وَيَسْتَعْبِدُ شِرَارَكُمْ، فَرَضِيتُمْ بِالذُّلِّ، فَبُعْدًا لِمَنْ يَرْضَى بِالذُّلِّ! فَأَقَامَ عُمَرُ بَعْدَ قَتْلِهِ يَوْمَيْنِ ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى الْكُوفَةِ وَحَمَلَ مَعَهُ بَنَاتِ الْحُسَيْنِ وَأَخَوَاتِهِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الصِّبْيَانِ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مَرِيضٌ، فَاجْتَازُوا بِهِمْ عَلَى الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ صَرْعَى، فَصَاحَ النِّسَاءُ وَلَطَمْنَ خُدُودَهُنَّ، وَصَاحَتْ زَيْنَبُ أُخْتُهُ: يَا مُحَمَّدَاهُ صَلَّى عَلَيْكَ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ! هَذَا الْحُسَيْنُ بِالْعَرَاءِ، مُرَمَّلٌ بِالدِّمَاءِ، مُقَطَّعُ

الْأَعْضَاءِ، وَبَنَاتُكَ سَبَايَا، وَذُرِّيَّتُكَ مُقَتَّلَةٌ تَسْفِي عَلَيْهَا الصَّبَا! فَأَبْكَتْ كُلَّ عَدُوٍّ وَصَدِيقٍ. فَلَمَّا أَدْخَلُوهُمْ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ لَبِسَتْ زَيْنَبُ أَرْذَلَ ثِيَابِهَا وَتَنَكَّرَتْ وَحُفَّتْ بِهَا إِمَاؤُهَا، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: مَنْ هَذِهِ الْجَالِسَةُ؟ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ، فَقَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَهِيَ لَا تُكَلِّمُهُ، فَقَالَ بَعْضُ إِمَائِهَا: هَذِهِ زَيْنَبُ بِنْتُ فَاطِمَةَ. فَقَالَ لَهَا ابْنُ زِيَادٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَحَكُمْ وَقَتَلَكُمْ وَأَكْذَبَ أُحْدُوثَتَكُمْ! فَقَالَتْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْرَمْنَا بِمُحَمَّدٍ وَطَهَّرَنَا تَطْهِيرًا، لَا كَمَا تَقُولُ، وَإِنَّمَا يُفْتَضَحُ الْفَاسِقُ وَيُكَذَّبُ الْفَاجِرُ. فَقَالَ: فَكَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَهْلِ بَيْتِكِ؟ قَالَتْ: كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ فَتَخْتَصِمُونَ عِنْدَهُ. فَغَضِبَ ابْنُ زِيَادٍ وَقَالَ: قَدْ شَفَى اللَّهُ غَيْظِي مِنْ طَاغِيَتِكِ وَالْعُصَاةِ الْمَرَدَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكِ. فَبَكَتْ وَقَالَتْ: لَعَمْرِي لَقَدْ قَتَلْتَ كَهْلِي، وَأَبْرَزْتَ أَهْلِي، وَقَطَعْتَ فَرْعِي، وَاجْتَثَثْتَ أَصْلِي، فَإِنْ يَشْفِكَ هَذَا فَقَدِ اشْتَفَيْتَ. فَقَالَ لَهَا: هَذِهِ شَجَاعَةٌ، لَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ أَبُوكِ شُجَاعًا! فَقَالَتْ: مَا لِلْمَرْأَةِ وَالشَّجَاعَةُ! وَلَمَّا نَظَرَ ابْنُ زِيَادٍ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ. قَالَ: أَوَلَمَ يَقْتُلِ اللَّهُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ؟ فَسَكَتَ. فَقَالَ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ: كَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَيْضًا عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ النَّاسُ. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُ. فَسَكَتَ عَلِيٌّ. فَقَالَ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] ، {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145] . قَالَ: أَنْتَ وَاللَّهِ مِنْهُمْ. ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ: وَيْحَكَ! انْظُرْ هَذَا هَلْ أَدْرَكَ؟ إِنِّي لَأَحْسَبُهُ رَجُلًا. قَالَ فَكَشَفَ عَنْهُ مُرِّيُّ بْنُ مُعَاذٍ الْأَحْمَرِيُّ فَقَالَ: نَعَمْ قَدْ أَدْرَكَ. قَالَ: اقْتُلْهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: مَنْ تُوكِلُ بِهَذِهِ النِّسْوَةِ؟ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ زَيْنَبُ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ زِيَادٍ حَسْبُكَ مِنَّا، أَمَا رَوِيتَ مِنْ دِمَائِنَا، وَهَلْ أَبْقَيْتَ مِنَّا أَحَدًا! وَاعْتَنَقَتْهُ وَقَالَتْ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا إِنْ قَتَلْتَهُ لَمَا قَتَلْتَنِي مَعَهُ! وَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا ابْنَ زِيَادٍ إِنْ كَانَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنَّ قَرَابَةٌ فَابْعَثْ مَعَهُنَّ رَجُلًا تَقِيًّا يَصْحَبُهُنَّ بِصُحْبَةِ الْإِسْلَامِ. فَنَظَرَ إِلَيْهَا سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: عَجَبًا لِلرَّحِمِ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّهَا وَدَّتْ لَوْ أَنِّي قَتَلْتُهُ أَنِّي قَتَلْتُهَا مَعَهُ، دَعُوا الْغُلَامَ يَنْطَلِقُ مَعَ نِسَائِهِ. ثُمَّ نَادَى: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَهُمْ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْهَرَ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ، وَنَصَرَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ وَحِزْبَهُ، وَقَتَلَ الْكَذَّابَ ابْنَ الْكَذَّابِ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَشِيعَتَهُ.

فَوَثَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَفِيفٍ الْأَزْدِيُّ ثُمَّ الْوَالِبِيُّ، وَكَانَ ضَرِيرًا قَدْ ذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ يَوْمَ الْجَمَلِ مَعَ عَلِيٍّ وَالْأُخْرَى بِصِفِّينَ مَعَهُ أَيْضًا، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ الْمَسْجِدَ يُصَلِّي فِيهِ إِلَى اللَّيْلِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَةَ ابْنِ زِيَادٍ قَالَ: يَا ابْنَ مَرْجَانَةَ! إِنَّ الْكَذَّابَ ابْنَ الْكَذَّابِ أَنْتَ وَأَبُوكَ وَالَّذِي وَلَّاكَ وَأَبُوهُ! يَا ابْنَ مَرْجَانَةَ أَتَقْتُلُونَ أَبْنَاءَ النَّبِيِّينَ وَتَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِ الصِّدِّيقِينَ؟ فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِ. فَأَخَذُوهُ، فَنَادَى بِشِعَارِ الْأَزْدِ: يَا مَبْرُورُ! فَوَثَبَ إِلَيْهِ فَتْيَةٌ مِنَ الْأَزْدِ فَانْتَزَعُوهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ أَتَاهُ بِهِ فَقَتَلَهُ وَأَمَرَ بِصَلْبِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَصُلِبَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَأَمَرَ ابْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ فَطَيْفَ بِهِ فِي الْكُوفَةِ، وَكَانَ رَأْسُهُ أَوَّلَ رَأْسِ حُمِلَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى خَشَبَةٍ فِي قَوْلٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَوَّلَ رَأْسٍ حُمِلَ فِي الْإِسْلَامِ رَأْسُ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ. ثُمَّ أَرْسَلَ ابْنُ زِيَادٍ رَأْسَ الْحُسَيْنِ وَرُءُوسَ أَصْحَابِهِ مَعَ زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ إِلَى الشَّامِ إِلَى يَزِيدَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، وَقِيلَ: مَعَ شَمِرٍ وَجَمَاعَةٍ مَعَهُ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، وَفِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَدْ جَعَلَ ابْنُ زِيَادٍ الْغُلَّ فِي يَدَيْهِ وَرَقَبَتِهِ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى الْأَقْتَابِ، فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى بَلَغُوا الشَّامَ، فَدَخَلَ زَحْرُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى يَزِيدَ، فَقَالَ: مَا وَرَاءَكَ؟ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ وَبِنَصْرِهِ، وَرَدَ عَلَيْنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَسِتِّينَ مِنْ شِيعَتِهِ، فَسِرْنَا إِلَيْهِمْ فَسَأَلْنَاهُمْ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ الْأَمِيرِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَوِ الْقِتَالِ فَاخْتَارُوا الْقِتَالَ فَعَدَوْنَا عَلَيْهِمْ مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ فَأَحَطْنَا بِهِمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ السُّيُوفُ مَآخِذَهَا مِنْ هَامِّ الْقَوْمِ جَعَلُوا يَهْرَبُونَ إِلَى غَيْرِ وَزَرٍ، وَيَلُوذُونَ بِالْإِكَامِ وَالْحُفَرِ، كَمَا لَاذَ الْحَمَائِمُ مِنْ صَقَرٍ، فَوَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا جَزْرَ جَزُورٍ، أَوْ نَوْمَةَ قَائِلٍ، حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى آخِرِهِمْ! فَهَاتِيكَ أَجْسَادُهُمْ مُجَرَّدَةٌ، وَثِيَابُهُمْ مُرَمَّلَةٌ، وَخُدُودُهُمْ مُعَفَّرَةٌ، تَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ، وَتَسْفِي عَلَيْهِمُ الرِّيحُ، زُوَّارُهُمُ الْعُقْبَانُ وَالرَّخَمُ بِقِيِّ سَبْسَبٍ. قَالَ: فَدَمَعَتْ عَيْنَا يَزِيدَ وَقَالَ: كُنْتُ أَرْضَى مِنْ طَاغِيَتِكُمْ بِدُونِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ، لَعَنَ اللَّهُ ابْنَ سُمَيَّةَ! أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي صَاحِبُهُ لَعَفَوْتُ عَنْهُ، فَرَحِمَ اللَّهُ الْحُسَيْنَ! وَلَمْ يَصِلْهُ بِشَيْءٍ.

وَقِيلَ: إِنَّ آلَ الْحُسَيْنِ لَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْكُوفَةِ حَبَسَهُمُ ابْنُ زِيَادٍ وَأَرْسَلَ إِلَى يَزِيدَ بِالْخَبَرِ، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي الْحَبْسِ إِذْ سَقَطَ عَلَيْهِمْ حَجَرٌ فِيهِ كِتَابٌ مَرْبُوطٌ وَفِيهِ: إِنَّ الْبَرِيدَ سَارَ بِأَمْرِكُمْ إِلَى يَزِيدَ فَيَصِلُ يَوْمَ كَذَا وَيَعُودُ يَوْمَ كَذَا، فَإِنْ سَمِعْتُمُ التَّكْبِيرَ فَأَيْقِنُوا بِالْقَتْلِ، وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوا تَكْبِيرًا فَهُوَ الْأَمَانُ. فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ قُدُومِ الْبَرِيدِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ إِذَا حَجَرٌ قَدْ أُلْقِيَ وَفِيهِ كِتَابٌ يَقُولُ فِيهِ: أَوْصُوا وَاعْهَدُوا فَقَدْ قَارَبَ وُصُولُ الْبَرِيدِ. ثُمَّ جَاءَ الْبَرِيدُ بِأَمْرِ يَزِيدَ بِإِرْسَالِهِمْ إِلَيْهِ، فَدَعَا ابْنُ زِيَادٍ مُحَفِّرَ بْنَ ثَعْلَبَةَ وَشَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ وَسَيَّرَهُمَا بِالثَّقَلِ وَالرَّأْسِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى دِمَشْقَ نَادَى مُحَفِّرُ بْنُ ثَعْلَبَةَ عَلَى بَابِ يَزِيدَ: جِئْنَا بِرَأْسِ أَحْمَقِ النَّاسِ وَأَلْأَمِهِمْ! فَقَالَ يَزِيدُ: مَا وَلَدَتْ أُمُّ مُحَفِّرٍ أَلْأَمَ وَأَحْمَقَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ قَاطِعٌ ظَالِمٌ. ثُمَّ دَخَلُوا عَلَى يَزِيدَ فَوَضَعُوا الرَّأْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَحَدَّثُوهُ، فَسَمِعَتِ الْحَدِيثَ هِنْدَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كُرَيْزٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ يَزِيدَ، فَتَقَنَّعَتْ بِثَوْبِهَا وَخَرَجَتْ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرْأَسُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ ابْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَعْوِلِي عَلَيْهِ، وَحُدِّي عَلَى ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَرِيحَةِ قُرَيْشٍ، عَجَّلَ عَلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ فَقَتَلَهُ، قَتَلَهُ اللَّهُ! ثُمَّ أَذِنَ لِلنَّاسِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَالرَّأْسُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَعَهُ قَضِيبٌ وَهُوَ يَنْكُتُ بِهِ ثَغْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا وَإِيَّانَا كَمَا قَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ: أَبَى قَوْمُنَا أَنْ يُنْصِفُونَا فَأَنْصَفَتْ ... قَوَاضِبُ فِي أَيْمَانِنَا تَقْطُرُ الدَّمَا يُفَلِّقْنَ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ ... عَلَيْنَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا فَقَالَ لَهُ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ: أَتَنْكُتُ بِقَضِيبِكَ فِي ثَغْرِ الْحُسَيْنِ؟ أَمَا لَقَدْ أَخَذَ قَضِيبُكَ فِي ثَغْرِهِ مَأْخَذًا، لَرُبَّمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْشُفُهُ، أَمَا إِنَّكَ يَا يَزِيدُ تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَابْنُ زِيَادٍ شَفِيعُكَ، وَيَجِيءُ هَذَا وَمُحَمَّدٌ شَفِيعُهُ: ثُمَّ قَامَ فَوَلَّى.

فَقَالَ يَزِيدُ: وَاللَّهِ يَا حُسَيْنُ لَوْ كُنْتُ أَنَا صَاحِبُكَ مَا قَتَلْتُكَ. ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ أَتَى هَذَا؟ قَالَ: أَبِي عَلِيٌّ خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ، وَفَاطِمَةُ أُمِّي خَيْرٌ مِنْ أُمِّهِ، وَجَدِّي رَسُولُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ جَدِّهِ، وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وَأَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْهُ، فَأَمَّا قَوْلُهُ أَبُوهُ خَيْرٌ مِنْ أَبِي فَقَدْ حَاجَّ أَبِي أَبَاهُ إِلَى اللَّهِ وَعَلِمَ النَّاسُ أَيَّهُمَا حُكِمَ لَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ أُمِّي خَيْرٌ مِنْ أُمِّهِ فَلَعَمْرِي فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أُمِّي، وَأَمَّا قَوْلُهُ جَدِّي رَسُولُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ جَدِّهِ فَلَعَمْرِي مَا أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَرَى لِرَسُولِ اللَّهِ فِينَا عِدْلًا وَلَا نِدًّا، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ فِقْهِهِ، وَلَمْ يَقْرَأْ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26] . ثُمَّ أُدْخِلَ نِسَاءُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ وَالرَّأْسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَتْ فَاطِمَةُ وَسُكَيْنَةُ ابْنَتَا الْحُسَيْنِ تَتَطَاوَلَانِ لِتَنْظُرَا إِلَى الرَّأْسِ، وَجَعَلَ يَزِيدُ يَتَطَاوَلُ لِيَسْتُرَ عَنْهُمَا الرَّأْسَ. فَلَمَّا رَأَيْنَ الرَّأْسَ صِحْنَ، فَصَاحَ نِسَاءُ يَزِيدَ وَوَلْوَلَ بَنَاتُ مُعَاوِيَةَ. فَقَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ، وَكَانَتْ أَكْبَرَ مِنْ سُكَيْنَةَ: أَبَنَاتُ رَسُولِ اللَّهِ سَبَايَا يَا يَزِيدُ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَةَ أَخِي أَنَا لِهَذَا كُنْتُ أَكْرَهُ. قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا تُرِكَ لَنَا خُرْصٌ. فَقَالَ: مَا أَتَى إِلَيْكُنَّ أَعْظَمُ مِمَّا أُخِذَ مِنْكُنَّ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَ: هَبْ لِي هَذِهِ، يَعْنِي فَاطِمَةَ، فَأَخَذَتْ بِثِيَابِ أُخْتِهَا زَيْنَبَ، وَكَانَتْ أَكْبَرَ مِنْهَا، فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَذَبْتَ وَلَؤُمْتَ، مَا ذَلِكَ لَكَ وَلَا لَهُ. فَغَضِبَ يَزِيدُ وَقَالَ: كَذَبْتِ وَاللَّهِ، إِنَّ ذَلِكَ لِي وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ لَفَعَلْتُهُ. قَالَتْ كَلَّا وَاللَّهِ، مَا جَعَلَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مِلَّتِنَا وَتَدِينَ بِغَيْرِ دِينِنَا. فَغَضَبَ يَزِيدُ وَاسْتَطَارَ، ثُمَّ قَالَ: إِيَّايَ تَسْتَقْبِلِينَ بِهَذَا؟ إِنَّمَا خَرَجَ مِنَ الدِّينِ أَبُوكِ وَأَخُوكِ! قَالَتْ زَيْنَبُ: بِدِينِ اللَّهِ وَدِينِ أَبِي وَأَخِي وَجَدِّي اهْتَدَيْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ وَجَدُّكَ. قَالَ: كَذَبْتِ يَا عَدُوَّةَ اللَّهِ! قَالَتْ: أَنْتَ أَمِيرٌ تَشْتُمُ ظَالِمًا وَتَقْهَرُ بِسُلْطَانِكَ؟ فَاسْتَحَى وَسَكَتَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُنَّ وَأَدْخَلَهُنَّ دُورَ يَزِيدَ، فَلَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ مِنْ آلِ يَزِيدَ إِلَّا أَتَتْهُنَّ وَأَقَمْنَ الْمَأْتَمَ، وَسَأَلَهُنَّ عَمَّا أُخِذَ مِنْهُنَّ فَأَضْعَفَهُ لَهُنَّ، فَكَانَتْ سُكَيْنَةُ تَقُولُ: مَا رَأَيْتُ كَافِرًا بِاللَّهِ خَيْرًا مِنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ. ثُمَّ أَمَرَ بِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَأُدْخِلَ مَغْلُولًا فَقَالَ: لَوْ رَآنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَغْلُولِينِ لَفَكَّ عَنَّا. قَالَ: صَدَقْتَ. وَأَمَرَ بِفَكِّ غُلِّهِ عَنْهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: لَوْ رَآنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعَدَاءَ لَأَحَبَّ أَنْ يُقَرِّبَنَا. فَأَمَرَ بِهِ فَقُرِّبَ مِنْهُ، وَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: إِيهِ يَا عَلِيُّ بْنَ الْحُسَيْنِ، أَبُوكَ الَّذِي قَطَعَ رَحِمِي، وَجَهِلَ حَقِّي، وَنَازَعَنِي سُلْطَانِي، فَصَنَعَ اللَّهُ بِهِ مَا رَأَيْتَ. فَقَالَ عَلِيٌّ:

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ - لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22 - 23] . فَقَالَ يَزِيدُ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] . ثُمَّ سَكَتَ عَنْهُ وَأَمَرَ بِإِنْزَالِهِ وَإِنْزَالِ نِسَائِهِ فِي دَارِ عَلِيٍّ جَدِّهِ، وَكَانَ يَزِيدُ لَا يَتَغَدَّى وَلَا يَتَعَشَّى إِلَّا دَعَا عَلِيًّا إِلَيْهِ، فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ وَمَعَهُ عَمْرُو بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ، فَقَالَ لِعَمْرٍو: أَتُقَاتِلُ هَذَا؟ يَعْنِي خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ. فَقَالَ عَمْرٌو: أَعْطِنِي سِكِّينًا وَأَعْطِهِ سِكِّينًا حَتَّى أُقَاتِلَهُ. فَضَمَّهُ يَزِيدُ إِلَيْهِ وَقَالَ: شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمَ، هَلْ تَلِدُ الْحَيَّةَ إِلَّا حَيَّةً! وَقِيلَ: وَلَمَّا وَصَلَ رَأْسُ الْحُسَيْنِ إِلَى يَزِيدَ حَسُنَتْ حَالُ ابْنِ زِيَادٍ عِنْدَهُ وَزَادَهُ وَوَصَلَهُ وَسَرَّهُ مَا فَعَلَ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا (حَتَّى بَلَغَهُ بُغْضُ النَّاسِ لَهُ وَلَعْنُهُمْ وَسَبُّهُمْ) ، فَنَدِمَ عَلَى قَتْلِ الْحُسَيْنِ، فَكَانَ يَقُولُ: وَمَا عَلَيَّ لَوِ احْتَمَلْتُ الْأَذَى وَأَنْزَلْتُ الْحُسَيْنَ مَعِي فِي دَارِي وَحَكَّمْتُهُ فِيمَا يُرِيدُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ وَهَنٌ فِي سُلْطَانِي حِفْظًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِعَايَةً لِحَقِّهِ وَقَرَابَتِهِ، لَعَنَ اللَّهُ ابْنَ مَرْجَانَةَ فَإِنَّهُ اضْطَرَّهُ، وَقَدْ سَأَلَهُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِي أَوْ يَلْحَقَ بِثَغْرٍ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ اللَّهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ فَقَتَلَهُ، فَبَغَّضَنِي بِقَتْلِهِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَزَرَعَ فِي قُلُوبِهِمُ الْعَدَاوَةَ، فَأَبْغَضَنِي الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ بِمَا اسْتَعْظَمُوهُ مِنْ قَتْلِي الْحُسَيْنَ، مَا لِي وَلِابْنِ مَرْجَانَةَ، لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ! وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَ يَزِيدُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ أَنْ يُجَهِّزَهُمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَيُسَيِّرَ مَعَهُمْ رَجُلًا أَمِينًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَمَعَهُ خَيْلٌ يَسِيرُ بِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَدَعَا عَلِيًّا لِيُوَدِّعَهُ وَقَالَ لَهُ: لَعَنَ اللَّهُ ابْنَ مَرْجَانَةَ! أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي صَاحِبُهُ مَا سَأَلَنِي خَصْلَةً أَبَدًا إِلَّا أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا وَلَدَفَعْتُ الْحَتْفَ عَنْهُ بِكُلِّ مَا اسْتَطَعْتُ وَلَوْ بِهَلَاكِ بَعْضِ وَلَدِي، وَلَكِنْ قَضَى اللَّهُ مَا رَأَيْتَ. يَا بُنَيَّ كَاتِبْنِي حَاجَةً تَكُونُ لَكَ. وَأَوْصَى بِهِمْ هَذَا الرَّسُولَ، فَخَرَجَ بِهِمْ فَكَانَ يُسَايِرُهُمْ لَيْلًا فَيَكُونُونَ أَمَامَهُ بِحَيْثُ لَا يَفُوتُونَ طَرْفَهُ، فَإِذَا نَزَلُوا تَنَحَّى عَنْهُمْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَكَانُوا حَوْلَهُمْ كَهَيْئَةِ الْحَرَسِ، وَكَانَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ حَاجَتِهِمْ وَيَلْطُفُ بِهِمْ حَتَّى دَخَلُوا الْمَدِينَةَ. فَقَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَلِيٍّ لِأُخْتِهَا زَيْنَبَ: لَقَدْ أَحْسَنَ هَذَا الرَّجُلُ

إِلَيْنَا فَهَلْ لَكِ أَنْ نَصِلَهُ بِشَيْءٍ؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا مَعَنَا مَا نَصِلُهُ بِهِ إِلَّا حُلِيُّنَا، فَأَخْرَجَتَا سِوَارَيْنِ وَدُمْلُجَيْنِ لَهُمَا فَبَعَثَتَا بِهَا إِلَيْهِ وَاعْتَذَرَتَا، فَرَدَّ الْجَمِيعَ وَقَالَ: لَوْ كَانَ الَّذِي صَنَعْتُ لِلدُّنْيَا لَكَانَ فِي هَذَا مَا يُرْضِينِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُهُ إِلَّا لِلَّهِ وَلِقَرَابَتِكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَانَ مَعَ الْحُسَيْنِ امْرَأَتُهُ الرَّبَابُ بِنْتُ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَهِيَ أُمُّ ابْنَتِهِ سُكَيْنَةَ، وَحُمِلَتْ إِلَى الشَّامِ فِيمَنْ حُمِلَ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَخَطَبَهَا الْأَشْرَافُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأَتَّخِذَ حَمْوًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَقِيَتْ بَعْدَهُ سَنَةً لَمْ يُظِلَّهَا سَقْفُ بَيْتٍ حَتَّى بَلِيَتْ وَمَاتَتْ كَمَدًا، وَقِيلَ: إِنَّهَا أَقَامَتْ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً وَعَادَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَاتَتْ أَسَفًا عَلَيْهِ. فَأَرْسَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مُبَشِّرًا إِلَى الْمَدِينَةِ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ: مَا الْخَبَرُ؟ فَقَالَ: الْخَبَرُ عِنْدَ الْأَمِيرِ. فَقَالَ الْقُرَشِيُّ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، قُتِلَ الْحُسَيْنُ. وَدَخَلَ الْبَشِيرُ عَلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فَقَالَ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: مَا سَرَّ الْأَمِيرَ، قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ. فَقَالَ: نَادِ بِقَتْلِهِ، فَنَادَى، فَصَاحَ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ وَخَرَجَتِ ابْنَةُ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَعَهَا نِسَاؤُهَا حَاسِرَةً تَلْوِي ثَوْبَهَا وَهِيَ تَقُولُ: مَاذَا تَقُولُونَ إِنْ قَالَ النَّبِيُّ لَكُمْ ... مَاذَا فَعَلْتُمْ وَأَنْتُمْ آخِرُ الْأُمَمِ بِعِتْرَتِي وَبِأَهْلِي بَعْدَ مُفْتَقَدِي ... مِنْهُمْ أُسَارَى وَقَتْلَى ضُرِّجُوا بِدَمِ مَا كَانَ هَذَا جَزَائِي إِذْ نَصَحْتُ لَكُمْ ... أَنْ تُخْلِفُونِي بِسُوءٍ فِي ذَوِي رَحِمِي فَلَمَّا سَمِعَ عَمْرٌو أَصْوَاتَهُنَّ ضَحِكَ وَقَالَ: عَجَّتْ نِسَاءُ بَنِي زِيَادٍ عَجَّةً ... كَعَجِيجِ نِسْوَتِنَا غَدَاةَ الْأَرْنَبِ

وَالْأَرْنَبُ وَقْعَةٌ كَانَتْ لَبَنِي زُبَيْدٍ عَلَى بَنِي زِيَادٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَهَذَا الْبَيْتُ لِعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ. ثُمَّ قَالَ عَمْرٌو: وَاعِيَةٌ كَوَاعِيَةِ عُثْمَانَ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَأَعْلَمَ النَّاسَ قَتْلَهُ. وَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَتْلُ ابْنَيْهِ مَعَ الْحُسَيْنِ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَوَالِيهِ يُعَزِّيهِ وَالنَّاسُ يُعَزُّونَهُ، فَقَالَ مَوْلَاهُ: هَذَا مَا لَقِينَاهُ مِنَ الْحُسَيْنِ! فَحَذَفَهُ ابْنُ جَعْفَرٍ بِنَعْلِهِ وَقَالَ: يَا ابْنَ اللَّخْنَاءِ، الْحُسَيْنُ، تَقُولُ هَذَا؟ وَاللَّهِ لَوْ شَهِدْتُهُ لَأَحْبَبْتُ أَنْ لَا أُفَارِقَهُ حَتَّى أُقْتَلَ مَعَهُ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمِمَّا يُسَخِّي بِنَفْسِي عَنْهُمَا، وَيُهَوِّنُ عَلَيَّ الْمُصَابَ بِهِمَا أَنَّهُمَا أُصِيبَا مَعَ أَخِي وَابْنِ عَمِّي مُوَاسِيَيْنِ لَهُ صَابِرَيْنِ مَعَهُ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ لَمْ تَكُنْ آسَتِ الْحُسَيْنَ يَدِي فَقَدْ آسَاهُ وَلَدِي. وَلَمَّا وَفَدَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِالرَّأْسِ إِلَى الشَّامِ وَدَخَلُوا مَسْجِدَ دِمَشْقَ أَتَاهُمْ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَسَأَلَهُمْ: كَيْفَ صَنَعُوا؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَامَ عَنْهُمْ ثُمَّ أَتَاهُمْ أَخُوهُ يَحْيَى بْنُ الْحَكَمِ فَسَأَلَهُمْ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ الْكَلَامَ، فَقَالَ: حُجِبْتُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَنْ أُجَامِعَكُمْ عَلَى أَمْرٍ أَبَدًا! ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُمْ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يَزِيدَ قَالَ يَحْيَى بْنُ الْحَكَمِ: لُهَامٌ بِجَنْبِ الطَّفِّ أَدْنَى قَرَابَةً ... مِنِ ابْنِ زِيَادٍ الْعَبْدِ ذِي الْحَسَبِ الْوَغْلِ سُمَيَّةُ أَمْسَى نَسْلُهَا عَدَدَ الْحَصَى ... وَلَيْسَ لِآلِ الْمُصْطَفَى الْيَوْمَ مِنْ نَسْلِ فَضَرَبَ يَزِيدُ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: اسْكُتْ. قِيلَ: وَسَمِعَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَيْلَةَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ مُنَادِيًا يُنَادِي: أَيُّهَا الْقَاتِلُونَ جَهْلًا حُسَيْنَا ... أَبْشِرُوا بِالْعَذَابِ وَالتَّنْكِيلِ كُلُّ أَهْلِ السَّمَاءِ يَدْعُو عَلَيْكُمْ ... مِنْ نَبِيٍّ وَمَلْأَكٍ وَقَبِيلِ

قَدْ لُعِنْتُمْ عَلَى لِسَانِ ابْنِ دَاوُدَ ... وَمُوسَى وَصَاحِبِ الْإِنْجِيلِ وَمَكَثَ النَّاسُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً كَأَنَّمَا تُلَطَّخُ الْحَوَائِطُ بِالدِّمَاءِ سَاعَةَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ. قَالَ رَأْسُ جَالُوتَ ذَلِكَ الزَّمَانِ: مَا مَرَرْتُ بِكَرْبَلَاءَ إِلَّا وَأَنَا أُرَكِّضُ دَابَّتِي حَتَّى أَخْلُفَ الْمَكَانَ، لِأَنَّا كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ وَلَدَ نَبِيٍّ يُقْتَلُ بِذَلِكَ الْمَكَانِ، فَكُنْتُ أَخَافُ، فَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ أَمِنْتُ فَكُنْتُ أَسِيرُ وَلَا أُرَكِّضُ. قِيلَ وَكَانَ عُمُرُ الْحُسَيْنِ يَوْمَ قُتِلَ خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: قُتِلَ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَكَانَ قَتْلُهُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ. (بُرَيْرُ بْنُ خُضَيْرٍ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا، وَآخِرُهُ رَاءٌ. وَخُضَيْرٌ بِالْخَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ. ثُبَيْتٌ بِضَمِّ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا، وَآخِرُهُ تَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ فَوْقِهَا. وَمُحَفِّرٌ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَآخِرُهُ رَاءٌ) . ( [وَقَالَ] . . . التَّيْمِيُّ تَيْمُ مُرَّةَ يَرْثِي الْحُسَيْنَ وَأَهْلَهُ وَكَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى بَنِي [هَاشِمٍ] : مَرَرْتُ عَلَى أَبْيَاتِ آلِ مُحَمَّدٍ ... فَلَمْ أَرَهَا أَمْثَالَهَا يَوْمَ حَلَّتِ فَلَا يُبْعِدِ اللَّهُ الدِّيَارَ وَأَهْلَهَا ... وَإِنْ أَصْبَحَتْ مِنْ أَهِلِهَا قَدْ تَخَلَّتِ وَإِنَّ قَتِيلَ الطُّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... أَذَلَّ رِقَابَ الْمُسْلِمِينَ فَذَلَّتِ

وَكَانُوا رَجَاءً ثُمَّ أَضْحَوْا رَزِيَّةً ... لَقَدْ عَظُمَتْ تِلْكَ الرَّزَايَا وَجَلَّتِ وَعِنْدَ غَنِيٍّ قَطْرَةٌ مِنْ دِمَائِنَا ... سَنَجْزِيهِمْ يَوْمًا بِهَا حَيْثُ حَلَّتِ إِذَا افْتَقَرَتْ قَيْسٌ جَبَرْنَا فَقِيرَهَا ... تُقَتِّلُنَا قَيْسٌ إِذَا النَّعْلُ زِلَّتِ ) ذِكْرُ أَسْمَاءِ مَنْ قُتِلَ مَعَهُ قَالَ سُلَيْمَانُ: لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ وَمَنْ مَعَهُ حُمِلَتْ رُءُوسُهُمْ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَجَاءَتْ كِنْدَةُ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ رَأْسًا، وَصَاحِبُهُمْ قَيْسُ بْنُ الْأَشْعَثِ، وَجَاءَتْ هَوَازِنُ بِعِشْرِينَ رَأْسًا، وَصَاحِبُهُمْ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ الضَّبَابِيُّ، وَجَاءَتْ بَنُو تَمِيمٍ بِسَبْعَةَ عَشَرَ رَأْسًا، وَجَاءَتْ بَنُو أَسَدٍ بِسِتَّةِ أَرْؤُسٍ، وَجَاءَتْ مَذْحِجٌ بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ، وَجَاءَ سَائِرُ الْجَيْشِ بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ، فَذَلِكَ سَبْعُونَ رَأْسًا. وَقُتِلَ الْحُسَيْنُ، قَتَلَهُ سِنَانُ بْنُ أَنَسٍ النَّخَعِيُّ، لَعَنَهُ اللَّهُ، وَقُتِلَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأُمُّهُ أُمُّ الْبَنِينَ بِنْتُ حِزَامٍ، قَتَلَهُ (زَيْدُ بْنُ رُقَادٍ الْجُنُبِيُّ) وَحَكِيمُ بْنُ الطُّفَيْلِ السِّنْبِسِيُّ. وَقُتِلَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأُمُّهُ أُمُّ الْبَنِينَ أَيْضًا. وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، وَأُمُّهُ أُمُّ الْبَنِينَ أَيْضًا. وَقُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأُمُّهُ أُمُّ الْبَنِينَ أَيْضًا، رَمَاهُ خَوَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ. وَقُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي دَارِمٍ. وَقُتِلَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ، وَأُمُّهُ لَيْلَى

بِنْتُ مَسْعُودٍ الدَّارِمِيَّةُ، وَقَدْ شُكَّ فِي قَتْلِهِ. وَقُتِلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأُمُّهُ لَيْلَى ابْنَةُ أَبِي مُرَّةَ بْنِ عُرْوَةَ الثَّقَفِيِّ، وَأُمُّهَا مَيْمُونَةُ ابْنَةُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، قَتَلَهُ مُنْقِذُ بْنُ النُّعْمَانِ الْعَبْدِيُّ، وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأُمُّهُ الرَّبَابُ ابْنَةُ امْرِئِ الْقَيْسِ الْكَلْبِيِّ، قَتَلَهُ هَانِئُ بْنُ ثُبَيْتٍ الْحَضْرَمِيُّ. وَقُتِلَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَخِيهِ الْحَسَنِ أَيْضًا، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ [قَتَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُقْبَةَ الْغَنَوِيُّ، وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ] قَتَلَهُ حَرْمَلَةُ بْنُ الْكَاهِنِ، رَمَاهُ بِسَهْمٍ. وَقُتِلَ الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ أَيْضًا، قَتَلَهُ سَعْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْأَزْدِيُّ. وَقُتِلَ عَوْنُ بْنُ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُمُّهُ جُمَانَةُ بِنْتُ الْمُسَيَّبِ بْنِ نَجَبَةَ الْفَزَارِيِّ، قَتَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُطْبَةَ الطَّائِيُّ. وَقُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَأُمُّهُ الْخَوْصَاءُ بِنْتُ خَصَفَةَ بْنِ تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، قَتَلَهُ عَامِرُ بْنُ نَهْشَلٍ التَّيْمِيُّ. وَقُتِلَ جَعْفَرُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ بَنِينَ ابْنَةِ الشُّقْرِ بْنِ الْهِضَابِ، قَتَلَهُ بِشْرُ بْنُ الْخُوطِ الْهَمْدَانِيُّ. وَقُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَقِيلٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ، قَتَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ. وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَقِيلٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ، رَمَاهُ عَمْرُو بْنُ صُبَيْحٍ الصَّيْدَاوِيُّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ. وَقُتِلَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ بِالْكُوفَةِ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ. وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، وَأُمُّهُ رُقْيَةُ ابْنَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَتَلَهُ عَمْرُو بْنُ صُبَيْحٍ الصَّيْدَاوِيُّ، وَيُقَالُ قَتَلَهُ مَالِكُ بْنُ أُسَيْدٍ الْحَضْرَمِيُّ. وَقُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَعِيدِ بْنِ عَقِيلٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ، قَتَلَهُ لَقِيطُ بْنُ يَاسِرٍ الْجُهَنِيُّ. وَاسْتُصْغِرَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - وَأُمُّهُ خَوْلَةُ بِنْتُ مَنْظُورِ بْنِ زَبَّانَ الْفَزَارِيِّ، وَاسْتُصْغِرَ عَمْرُو بْنُ الْحُسَيْنِ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ، فَلَمْ يُقْتَلَا.

وَقَتِلَ مِنَ الْمَوَالِي سُلَيْمَانُ مَوْلَى الْحُسَيْنِ، قَتَلَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَوْفٍ الْحَضْرَمِيُّ، وَقُتِلَ مُنْجِحٌ مَوْلَى الْحُسَيْنِ أَيْضًا، وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُقْطُرٍ رَضِيعُ الْحُسَيْنِ. قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّيْلَةَ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا الْحُسَيْنُ وَبِيَدِهِ قَارُورَةٌ وَهُوَ يَجْمَعُ فِيهَا دَمًا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذِهِ دِمَاءُ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ أَرْفَعُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَأَصْبَحَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَعْلَمَ النَّاسَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ وَقَصِّ رُؤْيَاهُ، فَوُجِدَ قَدْ قُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى أُمَّ سَلَمَةَ تُرَابًا مِنْ تُرْبَةِ الْحُسَيْنِ حَمَلَهُ إِلَيْهِ جِبْرَائِيلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمِّ سَلَمَةَ: إِذَا صَارَ هَذَا التُّرَابُ دَمًا فَقَدْ قُتِلَ الْحُسَيْنُ. فَحَفِظَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ذَلِكَ التُّرَابَ فِي قَارُورَةٍ عِنْدَهَا، فَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ صَارَ التُّرَابُ دَمًا، فَأَعْلَمَتِ النَّاسَ بِقَتْلِهِ أَيْضًا. وَهَذَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ تُوُفِّيَتْ بَعْدَ الْحُسَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ زِيَادٍ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ سَعْدٍ بَعْدَ عَوْدِهِ مِنْ قَتْلِ الْحُسَيْنِ: يَا عُمَرُ ائْتِنِي بِالْكِتَابِ الَّذِي كَتَبْتُهُ إِلَيْكَ فِي قَتْلِ الْحُسَيْنِ. قَالَ: مَضَيْتُ لِأَمْرِكَ وَضَاعَ الْكِتَابُ. قَالَ: لِتَجِئْنِي بِهِ. قَالَ: ضَاعَ. قَالَ: لِتَجِئْنِي بِهِ. قَالَ: تُرِكَ وَاللَّهِ يُقْرَأُ عَلَى عَجَائِزِ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ اعْتِذَارًا إِلَيْهِنَّ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ نَصَحْتُكَ فِي الْحَسَنِ نَصِيحَةً لَوْ نَصَحْتُهَا أَبِي سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ لَكُنْتُ قَدْ أَدَّيْتَ حَقَّهُ. فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ زِيَادٍ، أَخُو عُبَيْدِ اللَّهِ: صَدَقَ وَاللَّهِ! لَوَدِدْتُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَنِي زِيَادٍ رَجُلٌ إِلَّا وَفِي أَنْفِهِ خِزَامَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْحُسَيْنَ لَمْ يُقْتَلْ! فَمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ. آخِرُ الْمَقْتَلِ. ذِكْرُ مَقْتَلِ أَبِي بِلَالٍ مِرْدَاسِ بْنِ حُدَيْرٍ الْحَنْظَلِيِّ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ سَبَبِ خُرُوجِهِ وَتَوْجِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ الْعَسَاكِرَ إِلَيْهِ فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ فَالْتِقَائِهِمْ بِآسَكَ وَهَزِيمَةِ عَسْكَرِ ابْنِ زِيَادٍ، فَلَمَّا هَزَمَهُمْ أَبُو بِلَالٍ وَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ زِيَادٍ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ عَلَيْهِمْ عَبَّادُ بْنُ الْأَخْضَرِ، وَالْأَخْضَرُ زَوْجُ أُمِّهِ، نُسِبَ إِلَيْهِ، وَهُوَ

عَبَّادُ بْنُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبَّادٍ التَّمِيمِيُّ، فَاتَّبَعَهُ حَتَّى لَحِقَهُ بِتَوَّجَ، فَصَفَّ لَهُ عَبَّادٌ وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بِلَالٍ فِيمَنْ مَعَهُ، فَثَبَتُوا وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ، فَقَالَ أَبُو بِلَالٍ: هَذَا يَوْمُ جُمُعَةٍ وَهُوَ يَوْمٌ عَظِيمٌ وَهَذَا وَقْتُ الْعَصْرِ فَدَعُونَا حَتَّى نُصَلِّيَ. فَأَجَابَهُمُ ابْنُ الْأَخْضَرِ وَتَحَاجَزُوا، فَعَجَّلَ ابْنُ الْأَخْضَرِ الصَّلَاةَ، وَقِيلَ قَطَعَهَا، وَالْخَوَارِجُ يُصَلُّونَ، فَشَدَّ عَلَيْهِمْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَهُمْ مَا بَيْنَ قَائِمٍ وَرَاكِعٍ وَسَاجِدٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ حَالِهِ، فَقُتِلُوا مِنْ آخِرِهِمْ وَأُخِذَ رَأْسُ أَبِي بِلَالٍ. وَرَجَعَ عَبَّادٌ إِلَى الْبَصْرَةِ فَرَصَدَهُ بِهَا عُبَيْدُ بْنُ هِلَالٍ وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ عَبَّادٌ يُرِيدُ قَصْرَ الْإِمَارَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ ابْنًا صَغِيرًا لَهُ، فَقَالُوا لَهُ: قِفْ حَتَّى نَسْتَفْتِيَكَ. فَوَقَفَ، فَقَالُوا: نَحْنُ إِخْوَةٌ أَرْبَعَةٌ قُتِلَ أَخُونَا فَمَا تَرَى؟ قَالَ: اسْتَعْدُوا الْأَمِيرَ. قَالُوا: قَدِ اسْتَعْدَيْنَاهُ فَلَمْ يُعْدِنَا. قَالَ: فَاقْتُلُوهُ قَتَلَهُ اللَّهُ! فَوَثَبُوا عَلَيْهِ وَحَكَّمُوا بِهِ فَأَلْقَى ابْنَهُ فَنَجَا وَقُتِلَ هُوَ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى الْخَوَارِجِ فَقُتِلُوا غَيْرَ عُبَيْدَةَ. وَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ عَبَّادٍ كَانَ ابْنُ زِيَادٍ بِالْكُوفَةِ وَنَائِبُهُ بِالْبَصْرَةِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَتَّبِعَ الْخَوَارِجَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَجَعَلَ يَأْخُذُهُمْ، فَإِذَا شُفِّعَ فِي أَحَدِهِمْ ضَمِنَهُ إِلَى أَنْ يَقْدَمَ ابْنُ زِيَادٍ، وَمَنْ لَمْ يَكْفُلْهُ أَحَدٌ حَبَسَهُ، وَأُتِيَ بِعُرْوَةَ بْنِ أُدَيَّةَ فَأَطْلَقَهُ وَقَالَ: أَنَا كَفِيلُكَ. فَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ زِيَادٍ أَخَذَ مَنْ فِي الْحَبْسِ مِنَ الْخَوَارِجِ فَقَتَلَهُمْ وَطَلَبَ الْكُفَلَاءِ بِمَنْ كُفِّلُوا بِهِ فَمَنْ أَتَى بِخَارِجِيٍّ أَطْلَقَهُ وَقَتَلَ الْخَارِجِيَّ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِالْخَارِجِيِّ قَتَلَهُ، ثُمَّ طَلَبَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ بِعُرْوَةَ بْنِ أُدَيَّةَ، قَالَ: لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: إِذَنْ أَقْتُلَكَ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْحَثُ عَنْهُ حَتَّى ظَفِرَ بِهِ وَأَحْضَرَهُ عِنْدَ ابْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: لَأُمَثِّلَنَّ بِكَ. فَقَالَ: اخْتَرْ لِنَفْسِكَ مِنَ الْقِصَاصِ مَا شِئْتَ بِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِّعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَصَلَبَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قُتِلَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. ذِكْرُ وِلَايَةِ سَلْمِ بْنِ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ قِيلَ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ يَزِيدُ سَلْمَ بْنَ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ.

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سَلْمًا قَدِمَ عَلَى يَزِيدَ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: يَا أَبَا حَرْبٍ أُوَلِّيكَ عَمَلَ أَخَوَيْكَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَبَّادٍ. فَقَالَ: مَا أَحَبَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَوَلَّاهُ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، فَوَجَّهَ سَلْمٌ الْحَارِثَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الْحَارِثِيَّ جَدَّ عِيسَى بْنِ شَبِيبٍ إِلَى خُرَاسَانَ، وَقَدِمَ سَلْمٌ الْبَصْرَةَ فَتَجَهَّزَ مِنْهَا، فَوَجَّهَ أَخَاهُ يَزِيدَ إِلَى سِجِسْتَانَ، فَكَتَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ إِلَى أَخِيهِ عَبَّادٍ يُخْبِرُهُ بِوِلَايَةِ سَلْمٍ، فَقَسَّمَ عَبَّادٌ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ [عَلَى] عَبِيدِهِ وَفَضَلَ فَضْلٌ فَنَادَى: مَنْ أَرَادَ سَلَفًا فَلْيَأْخُذْ، فَأَسْلَفَ كُلَّ مَنْ أَتَاهُ، وَخَرَجَ عَبَّادٌ مِنْ سِجِسْتَانَ. فَلَمَّا كَانَ بِجِيرَفْتَ بَلَغَهُ مَكَانُ سَلْمٍ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا جَبَلٌ، فَعَدَلَ عَنْهُ، فَذَهَبَ لِعَبَّادٍ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَلْفُ مَمْلُوكٍ أَقَلُّ مَا مَعَ أَحَدِهِمْ عَشَرَةُ آلَافٍ. وَسَارَ عَبَّادٌ عَلَى فَارِسَ فَقَدِمَ عَلَى يَزِيدَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْمَالِ، فَقَالَ: كُنْتُ صَاحِبَ ثَغْرٍ فَقَسَمْتُ مَا أَصَبْتُ بَيْنَ النَّاسِ. وَلَمَّا سَارَ سَلْمٌ إِلَى خُرَاسَانَ كَتَبَ مَعَهُ يَزِيدُ إِلَى أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ يَنْتَخِبُ لَهُ سِتَّةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَقِيلَ: أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَكَانَ سَلْمٌ يَنْتَخِبُ الْوُجُوهَ، فَخَرَجَ مَعَهُ عِمْرَانُ بْنُ الْفُضَيْلِ الْبُرْجُمِيُّ وَالْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ السُّلَمِيُّ وَطَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيُّ وَحَنْظَلَةُ بْنُ عَرَادَةَ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ الْعُدْوَانِيُّ وَصِلَةُ بْنُ أَشْيَمٍ الْعَدَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَسَارَ سَلْمٌ إِلَى خُرَاسَانَ وَعَبَرَ النَّهْرَ غَازِيًا، وَكَانَ عُمَّالُ خُرَاسَانَ قَبْلَهُ يَغْزُونَ، فَإِذَا دَخَلَ الشِّتَاءُ رَجَعُوا إِلَى مَرْوِ الشَّاهِجَانِ، فَإِذَا انْصَرَفَ الْمُسْلِمُونَ اجْتَمَعَ مُلُوكُ خُرَاسَانَ بِمَدِينَةٍ مِمَّا يَلِي خُوَارِزْمَ فَيَتَعَاقَدُونَ أَنْ لَا يَغْزُوَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَشَاوَرُونَ فِي أُمُورِهِمْ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَطْلُبُونَ إِلَى أُمَرَائِهِمْ غَزْوَ تِلْكَ الْمَدِينَةِ فَيَأْبَوْنَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ سَلْمٌ غَزَا فَشَتَا فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ وَسَأَلَهُ التَّوَجُّهَ إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ، فَوَجَّهَهُ فِي سِتَّةِ آلَافٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ، فَحَاصَرَهُمْ، فَطَلَبُوا أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنْ يَفْدُوا أَنْفُسَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَصَالَحُوهُ عَلَى نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَكَانَ فِي صُلْحِهِمْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ عُرُوضًا، فَكَانَ يَأْخُذُ الرَّأْسَ وَالدَّابَّةَ وَالْمَتَاعَ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ، فَبَلَغَتْ قِيمَةُ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَحَظِيَ بِهَا الْمُهَلَّبُ عِنْدَ سَلْمٍ، وَأَخَذَ سَلْمٌ مِنْ ذَلِكَ مَا أَعْجَبَهُ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى يَزِيدَ. وَغَزَا سَلْمٌ سَمَرْقَنْدَ وَعَبَرَتْ مَعَهُ النَّهْرَ امْرَأَتُهُ أُمُّ مُحَمَّدٍ ابْنَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ

أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيَّةُ، وَهِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ مِنَ الْعَرَبِ قُطِعَ بِهَا النَّهْرُ، فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنًا سَمَّاهُ صُغْدَى، وَاسْتَعَارَتِ امْرَأَتُهُ مِنَ امْرَأَةِ صَاحِبِ الصُّغْدِ حُلِيَّهَا فَلَمْ تُعِدْهُ إِلَيْهَا وَذَهَبَتْ بِهِ. وَوَجَّهَ جَيْشًا إِلَى خُجَنْدَةَ فِيهِمْ أَعْشَى هَمْدَانَ فَهُزِمُوا، فَقَالَ الْأَعْشَى: لَيْتَ خَيْلِي يَوْمَ الْخُجَنْدَةِ لَمْ تُهْ ... زَمْ وَغُودِرَتْ فِي الْمَكَرِّ سَلِيبَا تَحْضُرُ الطَّيْرُ مَصْرَعِي وَتَرَوَّحْ ... تُ إِلَى اللَّهِ بِالدِّمَاءِ خَضِيبَا ذِكْرُ وِلَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ وَطَلْحَةِ الطَّلَحَاتِ سِجِسْتَانَ وَلَمَّا اسْتَعْمَلَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ سَلْمَ بْنَ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ اسْتَعْمَلَ أَخَاهُ يَزِيدَ عَلَى سِجِسْتَانَ، فَغَدَرَ أَهْلُ كَابُلَ فَنَكَثُوا وَأَسَرُوا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ زِيَادٍ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ فِي جَيْشٍ فَاقْتَتَلُوا وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، فَمِمَّنْ قُتِلَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَصِلَةُ بْنُ أَشْيَمٍ أَبُو الصَّهْبَاءِ الْعَدَوِيُّ زَوْجُ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ سَلْمَ بْنَ زِيَادٍ سَيَّرَ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيَّ، وَهُوَ طَلْحَةُ الطَّلَحَاتِ، فَفَدَى أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ زِيَادٍ بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَسَارَ طَلْحَةُ مِنْ كَابُلَ إِلَى سِجِسْتَانَ وَالِيًا عَلَيْهَا، فَجَبَى الْمَالَ وَأَعْطَى زُوَّارَهُ، وَمَاتَ بِسِجِسْتَانَ وَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا مِنْ بَنِي يَشْكُرَ، فَأَخْرَجَتْهُ الْمُضَرِيَّةُ وَوَقَعَتِ الْعَصَبِيَّةُ فَطَمِعَ فِيهِمْ رِتْبِيلُ. ذِكْرُ وِلَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ الْمَدِينَةَ وَالْحِجَازَ وَعَزْلِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ يَزِيدُ عَمْرَو بْنَ سَعْدٍ عَنِ الْمَدِينَةِ وَوَلَّاهَا الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَظْهَرَ الْخِلَافَ عَلَى يَزِيدَ وَبُويِعَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَتْلِ الْحُسَيْنِ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ الْحُسَيْنِ قَامَ فِي النَّاسِ فَعَظَّمَ قَتْلَهُ وَعَابَ أَهْلَ الْكُوفَةِ خَاصَّةً وَأَهْلَ الْعِرَاقِ عَامَّةً، فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ أَهْلَ

الْعِرَاقِ غُدُرٌ فُجُرٌ إِلَّا قَلِيلًا، وَإِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ شِرَارُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَإِنَّهُمْ دَعَوُا الْحُسَيْنَ لِيَنْصُرُوهُ وَيُوَلُّوهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ ثَارُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: إِمَّا أَنْ تَضَعَ يَدَكَ فِي أَيْدِينَا، فَنَبْعَثُ بِكَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ ابْنِ سُمَيَّةَ فَيُمْضِي فِيكَ حُكْمَهُ، وَإِمَّا أَنْ تُحَارَبَ، فَرَأَى وَاللَّهِ أَنَّهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ قَلِيلٌ فِي كَثِيرٍ، فَإِنْ كَانَ اللَّهُ لَمْ يُطْلِعْ عَلَى الْغَيْبِ أَحَدًا أَنَّهُ مَقْتُولٌ وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ الْمِيتَةَ الْكَرِيمَةَ عَلَى الْحَيَاةِ الذَّمِيمَةِ، فَرَحِمَ اللَّهُ الْحُسَيْنَ وَأَخْزَى قَاتِلَهُ! لَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ مِنْ خِلَافِهِمْ إِيَّاهُ وَعِصْيَانِهِمْ مَا كَانَ فِي مِثْلِهِ وَاعِظٌ وَنَاهٍ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ مَا قُرِّرَ نَازِلٌ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا لَمْ يُدْفَعْ، أَفَبَعْدَ الْحُسَيْنِ نَطْمَئِنُّ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَنُصَدِّقُ قَوْلَهُمْ وَنَقْبَلُ لَهُمْ عَهْدًا؟ لَا وَاللَّهِ لَا نَرَاهُمْ لِذَلِكَ أَهْلًا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ قَتَلُوهُ طَوِيلًا بِاللَّيْلِ قِيَامُهُ، كَثِيرًا فِي النَّهَارِ صِيَامُهُ، أَحَقُّ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْهُمْ وَأَوْلَى بِهِ فِي الدِّينِ وَالْفَضْلِ، أَمَا وَاللَّهِ مَا كَانَ يُبَدِّلُ بِالْقُرْآنِ الْغِنَاءَ، وَلَا بِالْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ الْحُدَاءَ، وَلَا بِالصِّيَامِ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَلَا بِالْمَجَالِسِ فِي حَلَقِ الذِّكْرِ تِطْلَابِ الصَّيْدِ، يُعَرِّضُ بِيَزِيدَ، {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] . فَثَارَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا: أَظْهِرْ بَيْعَتَكَ فَإِنَّكَ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِذْ هَلَكَ الْحُسَيْنُ يُنَازِعُكَ هَذَا الْأَمْرَ. وَقَدْ كَانَ يُبَايِعُ سِرًّا وَيُظْهِرُ أَنَّهُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ. فَقَالَ لَهُمْ: لَا تُعَجِّلُوا، وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ يَوْمَئِذٍ عَامِلُ مَكَّةَ، وَهُوَ أَشَدُّ شَيْءٍ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُدَارِي وَيَرْفُقُ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَ يَزِيدَ مَا قَدْ جَمَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ مِنَ الْجُمُوعِ أَعْطَى اللَّهُ عَهْدًا لَيُوثِقَنَّهُ فِي سِلْسِلَةٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ مَعَ ابْنِ عِضَاهٍ الْأَشْعَرِيِّ وَسَعْدٍ وَأَصْحَابِهِمَا لَيَأْتُوهُ بِهِ فِيهَا، وَبَعَثَ مَعَهُمْ بُرْنُسَ خَزٍّ لِيُلْبِسُوهُ عَلَيْهَا لِئَلَّا تَظْهَرَ لِلنَّاسِ.

فَاجْتَازَ ابْنُ عِضَاهٍ بِالْمَدِينَةِ وَبِهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَأَخْبَرَهُ مَا قَدِمَ لَهُ، فَأَرْسَلَ مَرْوَانُ مَعَهُ وَلَدَيْنِ لَهُ أَحَدُهُمَا عَبْدُ الْعَزِيزِ وَقَالَ: إِذَا بَلَغَتْهُ رُسُلُ يَزِيدَ فَتَعَرَّضَا لَهُ وَلْيَتَمَثَّلْ أَحَدُكُمَا بِهَذَا الْقَوْلِ، فَقَالَ: فَخُذْهَا فَلَيْسَتْ لِلْعَزِيزِ بِخُطَّةٍ ... وَفِيهَا فِعَالٌ لِامْرِئٍ مُتَذَلِّلٍ أَعَامِرُ إِنَّ الْقَوْمَ سَامُوكَ خُطَّةً ... وَذَلِكَ فِي الْجِيرَانِ غَزْلٌ بِمِغْزَلِ أَرَاكَ إِذَا مَا كُنْتَ لِلْقَوْمِ نَاصِحًا ... يُقَالُ لَهُ بِالدَّلْوِ أَدْبِرْ وَأَقْبِلِ فَلَمَّا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ الرِّسَالَةَ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْأَبْيَاتَ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: يَا بَنِي مَرْوَانَ قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتُمَا فَأَخْبِرَا أَبَاكُمَا: إِنِّي لَمِنْ نَبْعَةٍ صُمٍّ مَكَاسِرُهَا ... إِذَا تَنَاوَحَتِ الْقَصْبَاءُ وَالْعُشَرُ فَلَا أَلِينُ لِغَيْرِ الْحَقِّ أَسْأَلُهُ ... حَتَّى يَلِينَ لِضِرْسِ الْمَاضِغِ الْحَجَرُ وَامْتَنَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ رُسُلِ يَزِيدَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ وَنَاسٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ لِيَزِيدَ: لَوْ شَاءَ عَمْرٌو لَأَخَذَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَسَرَّحَهُ إِلَيْكَ. فَعُزِلَ عَمْرٌو وَوَلِيَ الْوَلِيدُ الْحِجَازَ، وَأَخَذَ الْوَلِيدُ غِلْمَانَ عَمْرٍو وَمَوَالِيهِ فَحَبَسَهُمْ، فَكَلَّمَهُ عَمْرٌو فَأَبَى أَنْ يُخَلِّيَهُمْ، فَسَارَ عَنِ الْمَدِينَةِ لَيْلَتَيْنِ وَأَرْسَلَ إِلَى غِلْمَانِهِ بِعِدَّتِهِمْ مِنَ الْإِبِلِ، فَكَسَرُوا الْحَبْسَ وَسَارُوا إِلَيْهِ فَلَحِقُوهُ عِنْدَ وُصُولِهِ إِلَى الشَّامِ، فَدَخَلَ عَلَى يَزِيدَ وَأَعْلَمَهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ مُكَايَدَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَعَذَرَهُ وَعَلِمَ صِدْقَهُ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ حَجَّ بِالنَّاسِ الْوَلِيدُ هَذِهِ السَّنَةَ. وَكَانَ الْأَمِيرُ بِالْعِرَاقِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، وَعَلَى خُرَاسَانَ سَلْمُ بْنُ زِيَادٍ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحٌ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ النَّخَعِيُّ صَاحِبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ، وَقِيلَ: خَمْسٍ، وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمُنْذِرُ بْنُ الْجَارُودِ الْعَبْدِيُّ. وَجَابِرُ بْنُ عَتِيكٍ الْأَنْصَارِيُّ، (وَقِيلَ حُرٌّ) وَكَانَ عُمُرُهُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَشَهِدَ بَدْرًا. وَفِيهَا مَاتَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ، وَعُمُرُهُ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَمَانُونَ سَنَةً، لَهُ صُحْبَةٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ خَالِدُ بْنُ عُرْفُطَةَ اللَّيْثِيُّ، وَقِيلَ الْعُذْرِيُّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، (وَقِيلَ مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ، وَلَهُ صُحْبَةٌ) .

ثم دخلت سنة اثنتين وستين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ] 62 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ ذِكْرُ وَفْدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ لَمَّا وَلِيَ الْوَلِيدُ الْحِجَازَ أَقَامَ يُرِيدُ غِرَّةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَا يَجِدُهُ إِلَّا مُحْتَرِزًا مُمْتَنِعًا، وَثَارَ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ النَّخَعِيُّ بِالْيَمَامَةِ حِينَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ، وَثَارَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِالْحِجَازِ، وَكَانَ الْوَلِيدُ يُفِيضُ مِنَ الْمُعَرَّفِ وَيُفِيضُ مَعَهُ سَائِرُ النَّاسِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَاقِفٌ وَأَصْحَابُهُ، وَنَجْدَةُ وَاقِفٌ فِي أَصْحَابِهِ، ثُمَّ يُفِيضُ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِأَصْحَابِهِ وَنَجْدَةُ بِأَصْحَابِهِ، وَكَانَ نَجْدَةُ يَلْقَى ابْنَ الزُّبَيْرِ فَيُكْثِرُ، حَتَّى ظَنَّ أَكْثَرُ النَّاسِ أَنَّهُ سَيُبَايِعُهُ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَمِلَ بِالْمَكْرِ فِي أَمْرِ الْوَلِيدِ، فَكَتَبَ إِلَى يَزِيدَ: إِنَّكَ بَعَثْتَ إِلَيْنَا رَجُلًا أَخْرَقَ لَا يَتَّجِهُ لِرُشْدٍ وَلَا يَرْعَوِي لِعِظَةِ الْحَكِيمِ، فَلَوْ بَعَثْتَ رَجُلًا سَهْلَ الْخُلُقِ رَجَوْتُ أَنْ يَسْهُلَ مِنَ الْأُمُورِ مَا اسْتَوْعَرَ مِنْهَا، وَأَنْ يَجْتَمِعَ مَا تَفَرَّقَ. فَعَزَلَ يَزِيدُ الْوَلِيدَ وَوَلَّى عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانٍ، وَهُوَ فَتًى غِرٌّ حَدَثٌ لَمْ يُجَرِّبِ الْأُمُورَ وَلَمْ يُحَنِّكْهُ السِّنُّ، لَا يَكَادُ يَنْظُرُ فِي شَيْءٍ مِنْ سُلْطَانِهِ وَلَا عَمَلِهِ، فَبَعَثَ إِلَى يَزِيدَ وَفْدًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَرِجَالًا كَثِيرًا مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَقَدِمُوا عَلَى يَزِيدَ، فَأَكْرَمَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَعْظَمَ جَوَائِزَهُمْ، فَأَعْطَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ، وَكَانَ شَرِيفًا فَاضِلًا عَابِدًا سَيِّدًا، مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ مَعَهُ ثَمَانِيَةُ بَنِينَ، فَأَعْطَى كُلَّ وَلَدٍ عَشْرَةَ آلَافٍ. فَلَمَّا رَجَعُوا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ كُلُّهُمْ إِلَّا الْمُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُ قَدِمَ الْعِرَاقَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ، وَكَانَ يَزِيدُ قَدْ أَجَازَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمَّا قَدِمَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الْوَفْدُ الْمَدِينَةَ قَامُوا فِيهِمْ فَأَظْهَرُوا شَتْمَ يَزِيدَ وَعَيْبَهُ وَقَالُوا: قَدِمْنَا مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ دِينٌ يَشْرَبُ الْخَمْرَ،

وَيَضْرِبُ بِالطَّنَابِيرِ وَيَعْزِفُ عِنْدَهُ الْقِيَانُ وَيَلْعَبُ بِالْكِلَابِ وَيَسْمُرُ عِنْدَهُ الْحُرَّابُ، وَهُمُ اللُّصُوصُ، وَإِنَّا نُشْهِدُكُمْ أَنَّا قَدْ خَلَعْنَاهُ. وَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ فَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا بَنِيَّ هَؤُلَاءِ لَجَاهَدْتُهُ بِهِمْ، وَقَدْ أَعْطَانِي وَأَكْرَمَنِي وَمَا قَبِلْتُ مِنْهُ عَطَاءَهُ إِلَّا لِأَتَقَوَّى بِهِ. فَخَلَعَهُ النَّاسُ وَبَايَعُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ عَلَى خَلْعِ يَزِيدَ وَوَلَّوْهُ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَإِنَّهُ قَدِمَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ صَدِيقَ زِيَادٍ، فَأَتَاهُ كِتَابُ يَزِيدَ حَيْثُ بَلَغَهُ أَمْرُ الْمَدِينَةِ يَأْمُرُهُ بِحَبْسِ الْمُنْذِرِ، فَكَرِهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ضَيْفُهُ وَصَدِيقُ أَبِيهِ، فَدَعَاهُ وَأَخْبَرَهُ بِالْكِتَابِ، فَقَالَ لَهُ: إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ عِنْدِي فَقُمْ وَقُلِ ائْذَنْ لِي لِأَنْصَرِفَ إِلَى بِلَادِي، فَإِذَا قُلْتُ بَلْ أَقِمْ عِنْدِي فَلَكَ الْكَرَامَةُ وَالْمُوَاسَاةُ، فَقُلْ إِنَّ لِي ضَيْعَةً وَشُغْلًا وَلَا أَجِدُ بُدًّا لِي مِنْ الِانْصِرَافِ، فَإِنِّي آذَنُ لَكَ فِي الِانْصِرَافِ فَتَلْحَقُ بِأَهْلِكَ. فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ فَعَلَ الْمُنْذِرُ ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُ فِي الِانْصِرَافِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَكَانَ مِمَّنْ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى يَزِيدَ، وَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ أَجَازَنِي بِمِائَةِ أَلْفٍ وَلَا يَمْنَعُنِي مَا صَنَعَ بِي أَنْ أُخْبِرَكُمْ خَبَرَهُ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَسْكَرُ حَتَّى يَدَعَ الصَّلَاةَ! وَعَابَهُ بِمِثْلِ مَا عَابَهُ بِهِ أَصْحَابُهُ وَأَشَدَّ. فَبَعَثَ يَزِيدُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيَّ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَدَدَ النَّاسِ بِالْمَدِينَةِ قَوْمُكَ، فَإِنَّهُمْ مَا يَمْنَعُهُمْ شَيْءٌ عَمَّا يُرِيدُونَ، فَإِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَنْهَضُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ لَمْ يَجْتَرِئِ النَّاسُ عَلَى (خِلَافِي) . فَأَقْبَلَ النُّعْمَانُ فَأَتَى قَوْمَهُ فَأَمَرَهُمْ بِلُزُومِ الطَّاعَةِ وَخَوَّفَهُمُ الْفِتْنَةَ، قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ لَا طَاقَةَ لَكُمْ بِأَهْلِ الشَّامِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ الْعَدَوِيُّ: يَا نُعْمَانُ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى فَسَادِ مَا أَصْلَحَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِنَا وَتَفْرِيقِ جَمَاعَتِنَا؟ فَقَالَ النُّعْمَانُ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي بِكَ لَوْ نَزَلَ بِكَ الْجُمُوعُ وَقَامَتْ لَكَ عَلَى الرُّكَبِ تَضْرِبُ مَفَارِقَ الْقَوْمِ وَجِبَاهَهُمْ بِالسَّيْفِ وَدَارَتْ رَحَا الْمَوْتِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ رَكِبْتَ بَغْلَتَكَ إِلَى مَكَّةَ وَخَلَّفْتَ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينَ،

يَعْنِي الْأَنْصَارَ، يُقْتَلُونَ فِي سِكَكِهِمْ وَمَسَاجِدِهِمْ وَعَلَى أَبْوَابِ دُورِهِمْ. فَعَصَاهُ النَّاسُ وَانْصَرَفَ، وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ. ذِكْرُ وِلَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ نَافِعٍ إِفْرِيقِيَّةَ ثَانِيَةً وَمَا افْتَتَحَهُ فِيهَا وَقَتْلِهِ قَدْ ذَكَرْنَا عَزْلَ عُقْبَةَ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ وَعَوْدَهُ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَعَدَهُ بِإِعَادَتِهِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَتُوُفِّي مُعَاوِيَةُ وَعُقْبَةُ فِي الشَّامِ، فَاسْتَعْمَلَهُ يَزِيدُ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَأَرْسَلَهُ إِلَيْهَا، فَوَصَلَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ مُجِدًّا، وَقَبَضَ أَبَا الْمُهَاجِرِ أَمِيرَهَا وَأَوْثَقَهُ فِي الْحَدِيدِ وَتَرَكَ بِالْقَيْرَوَانِ جُنْدًا مَعَ الذَّرَارِيِّ وَالْأَمْوَالِ وَاسْتَخْلَفَ بِهَا زُهَيْرَ بْنَ قَيْسٍ الْبَلَوِيَّ، وَأَحْضَرَ أَوْلَادَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ بِعْتُ نَفْسِي مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا أَزَالُ أُجَاهِدُ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ. وَأَوْصَى بِمَا يُفْعَلُ بَعْدَهُ. ثُمَّ سَارَ فِي عَسْكَرٍ عَظِيمٍ حَتَّى دَخَلَ مَدِينَةَ بَاغَايَةَ، وَقَدِ اجْتَمَعَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الرُّومِ، فَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا وَانْهَزَمُوا عَنْهُ وَقَتَلَ فِيهِمْ قَتْلًا ذَرِيعًا وَغَنِمَ مِنْهُمْ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَدَخَلَ الْمُنْهَزِمُونَ الْمَدِينَةَ وَحَاصَرَهُمْ عُقْبَةُ. ثُمَّ كَرِهَ الْمُقَامَ عَلَيْهِمْ فَسَارَ إِلَى بِلَادِ الزَّابِ، وَهِيَ بِلَادٌ وَاسِعَةٌ فِيهَا عِدَّةُ مُدُنٍ وَقُرًى كَثِيرَةٌ، فَقَصَدَ مَدِينَتَهَا الْعُظْمَى وَاسْمُهَا أَرَبَةُ، فَامْتَنَعَ بِهَا مَنْ هُنَاكَ مِنَ الرُّومِ وَالنَّصَارَى، وَهَرَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْجِبَالِ، فَاقْتَتَلَ الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنَ النَّصَارَى عِدَّةَ دَفَعَاتٍ ثُمَّ انْهَزَمَ النَّصَارَى وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ فُرْسَانِهِمْ، (وَرَحَلَ إِلَى تَاهَرْتَ) . فَلَمَّا بَلَغَ الرُّومَ خَبَرُهُ اسْتَعَانُوا بِالْبَرْبَرِ فَأَجَابُوهُمْ وَنَصَرُوهُمْ، فَاجْتَمَعُوا فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ وَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ

تَعَالَى نَصَرَهُمْ فَانْهَزَمَتِ الرُّومُ وَالْبَرْبَرُ وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ وَكَثُرَ فِيهِمُ الْقَتْلُ وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ أَمْوَالَهُمْ وَسِلَاحَهُمْ. ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى طَنْجَةَ فَلَقِيَهُ بِطْرِيقٌ مِنَ الرُّومِ اسْمُهُ يَلْيَانُ فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً حَسَنَةً وَنَزَلَ عَلَى حُكْمِهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الْأَنْدَلُسِ فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْبَرْبَرِ، فَقَالَ: هُمْ كَثِيرُونَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ بِالسُّوسِ الْأَدْنَى، وَهُمْ كُفَّارٌ لَمْ يَدْخُلُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَلَهُمْ بَأْسٌ شَدِيدٌ. فَسَارَ عُقْبَةُ إِلَيْهِمْ نَحْوَ السُّوسِ الْأَدْنَى، وَهِيَ مَغْرِبُ طَنْجَةَ، فَانْتَهَى إِلَى أَوَائِلِ الْبَرْبَرِ، فَلَقَوْهُ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَقَتَلَ فِيهِمْ قَتْلًا ذَرِيعًا وَبَعَثَ خَيْلَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ هَرَبُوا إِلَيْهِ، وَسَارَ هُوَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى السُّوسِ الْأَقْصَى، وَقَدِ اجْتَمَعَ لَهُ الْبَرْبَرُ فِي عَالَمٍ لَا يُحْصَى، فَلَقِيَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمْ حَتَّى مَلُّوا وَغَنِمُوا مِنْهُمْ وَسَبَوْا سَبْيًا كَثِيرًا، وَسَارَ حَتَّى بَلَغَ مَالِيَانَ وَرَأَى الْبَحْرَ الْمُحِيطَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ لَوْلَا هَذَا الْبَحْرُ لَمَضَيْتُ فِي الْبِلَادِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِكَ. ثُمَّ عَادَ فَنَفَرَ الرُّومُ وَالْبَرْبَرُ عَنْ طَرِيقِهِ خَوْفًا مِنْهُ، وَاجْتَازَ بِمَكَانٍ يُعْرَفُ الْيَوْمَ بِمَاءِ الْفَرَسِ فَنَزَلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ مَاءٌ، فَلَحِقَ النَّاسَ عَطَشٌ كَثِيرٌ أَشْرَفُوا [مِنْهُ] عَلَى الْهَلَاكِ، فَصَلَّى عُقْبَةُ رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا (فَبَحَثَ فَرَسٌ لَهُ الْأَرْضَ بِيَدَيْهِ فَكَشَفَ لَهُ عَنْ صَفَاةٍ) فَانْفَجَرَ الْمَاءُ، فَنَادَى عُقْبَةُ فِي النَّاسِ فَحَفَرُوا أَحْسَاءَ كَثِيرَةً وَشَرِبُوا، فَسُمِّيَ مَاءَ الْفَرَسِ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَدِينَةِ طُبْنَةَ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَيْرَوَانِ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ، أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَقَدَّمُوا فَوْجًا فَوْجًا ثِقَةً مِنْهُ بِمَا نَالَ مِنَ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُ لَمْ يُبْقِ أَحَدًا يَخْشَاهُ، وَسَارَ إِلَى تَهُوذَةَ لِيَنْظُرَ إِلَيْهَا فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَلَمَّا رَآهُ الرُّومُ فِي قِلَّةٍ طَمِعُوا فِيهِ فَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنِ وَشَتَمُوهُ وَقَاتَلُوهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ.

ذِكْرُ خُرُوجِ كُسَيْلَةَ بْنِ لَمْزَمَ الْبَرْبَرِيِّ عَلَى عُقْبَةَ هَذَا كُسَيْلَةُ بْنُ لَمْزَمَ الْبَرْبَرِيُّ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ لَمَّا وَلِيَ أَبُو الْمُهَاجِرِ إِفْرِيقِيَّةَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْبَرْبَرِ وَأَبْعَدِهِمْ صَوْتًا، وَصَحِبَ أَبَا الْمُهَاجِرِ، فَلَمَّا وَلِيَ عُقْبَةُ عَرَّفَهُ أَبُو الْمُهَاجِرِ مَحَلَّ كُسَيْلَةَ وَأَمَرَهُ بِحِفْظِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ وَاسْتَخَفَّ بِهِ، وَأَتَى عُقْبَةُ بِغَنَمٍ فَأَمَرَ كُسَيْلَةَ بِذَبْحِهَا وَسَلْخِهَا مَعَ السَّلَّاخِينَ. فَقَالَ كُسَيْلَةُ: هَؤُلَاءِ فِتْيَانِي وَغِلْمَانِي يَكْفُونَنِي الْمُئُونَةَ. فَشَتَمَهُ وَأَمَرَهُ بِسَلْخِهَا، فَفَعَلَ، فَقَبَّحَ أَبُو الْمُهَاجِرِ هَذَا عِنْدَ عُقْبَةَ، فَلَمْ يَرْجِعْ، فَقَالَ لَهُ: أَوْثِقِ الرَّجُلَ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ مِنْهُ! فَتَهَاوَنَ بِهِ عُقْبَةُ. فَأَضْمَرَ كُسَيْلَةُ الْغَدْرَ، فَلَمَّا كَانَ الْآنُ وَرَأَى الرُّومُ قِلَّةَ مَنْ مَعَ عُقْبَةَ أَرْسَلُوا إِلَى كُسَيْلَةَ وَأَعْلَمُوهُ حَالَهُ، وَكَانَ فِي عَسْكَرِ عُقْبَةَ مُضْمِرًا لِلْغَدْرِ، وَقَدْ أَعْلَمَ الرُّومَ ذَلِكَ وَأَطْمَعَهُمْ. فَلَمَّا رَاسَلُوهُ أَظْهَرَ مَا كَانَ يُضْمِرُهُ وَجَمَعَ أَهْلَهُ وَبَنِي عَمِّهِ وَقَصَدَ عُقْبَةَ، فَقَالَ أَبُو الْمُهَاجِرِ: عَاجِلْهُ قَبْلَ أَنْ يَقْوَى جَمْعُهُ. وَكَانَ أَبُو الْمُهَاجِرِ مُوَثَّقًا فِي الْحَدِيدِ مَعَ عُقْبَةَ. فَزَحَفَ عُقْبَةُ إِلَى كُسَيْلَةَ، فَتَنَحَّى كُسَيْلَةُ عَنْ طَرِيقِهِ لِيَكْثُرَ جَمْعُهُ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو الْمُهَاجِرِ ذَلِكَ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ أَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ: كَفَى حَزَنًا أَنْ تُمْرَغَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا ... وَأُتْرَكَ مَشْدُودًا عَلَيَّ وَثَاقِيَا إِذَا قُمْتُ عَنَّانِي الْحَدِيدُ وَأُغْلِقَتْ ... مَصَارِعُ مَنْ دُونِي تُصِمُّ الْمُنَادِيَا فَبَلَغَ عُقْبَةُ ذَلِكَ فَأَطْلَقَهُ، فَقَالَ لَهُ: الْحَقْ بِالْمُسْلِمِينَ وَقُمْ بِأَمْرِهِمْ وَأَنَا أَغْتَنِمُ الشَّهَادَةَ. فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَالَ: وَأَنَا أَيْضًا أُرِيدُ الشَّهَادَةَ. فَكَسَّرَ عُقْبَةُ وَالْمُسْلِمُونَ أَجْفَانَ سُيُوفِهِمْ وَتَقَدَّمُوا إِلَى الْبَرْبَرِ وَقَاتَلُوهُمْ، فَقُتِلَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعُهُمْ لَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَأُسِرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيُّ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَخَلَّصَهُمْ صَاحِبُ قَفْصَةَ وَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى الْقَيْرَوَانِ. فَعَزَمَ زُهَيْرُ بْنُ قَيْسٍ الْبَلَوِيُّ عَلَى الْقِتَالِ، فَخَالَفَهُ حَنَشٌ الصَّنْعَانِيُّ وَعَادَ إِلَى

مِصْرَ، فَتَبِعَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، فَاضْطَرَّ زُهَيْرٌ إِلَى الْعَوْدِ مَعَهُمْ، فَسَارَ إِلَى بَرْقَةَ وَأَقَامَ بِهَا. وَأَمَّا كُسَيْلَةُ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمِيعُ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَقَصَدَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَبِهَا أَصْحَابُ الْأَنْفَالِ وَالذَّرَارِيِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ مِنْ كُسَيْلَةَ فَآمَنَهُمْ وَدَخَلَ الْقَيْرَوَانَ وَاسْتَوْلَى عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ قَوِيَ أَمْرُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَاسْتَعْمَلَ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ زُهَيْرَ بْنَ قَيْسٍ الْبَلَوِيَّ، وَكَانَ مُقِيمًا بِبَرْقَةَ مُرَابِطًا. ذِكْرُ وِلَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ قَيْسٍ إِفْرِيقِيَّةَ وَقَتْلِهِ وَقَتْلِ كُسَيْلَةَ لَمَّا وَلِيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ذُكِرَ عِنْدَهُ مَنْ بِالْقَيْرَوَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ (بِإِنْفَاذِ الْجُيُوشِ إِلَى) إِفْرِيقِيَّةَ لِاسْتِنْقَاذِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَى زُهَيْرِ بْنِ قَيْسٍ الْبَلَوِيِّ بِوِلَايَةَ إِفْرِيقِيَّةَ وَجَهَّزَ لَهُ جَيْشًا كَثِيرًا، فَسَارَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ. فَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى كُسَيْلَةَ، فَاحْتَفَلَ وَجَمَعَ وَحَشَدَ الْبَرْبَرَ وَالرُّومَ وَأَحْضَرَ أَشْرَافَ أَصْحَابِهِ وَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرْحَلَ إِلَى مَمْشَ فَأَنْزِلَهَا فَإِنَّ بِالْقَيْرَوَانِ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَهُمْ عَلَيْنَا عَهْدٌ فَلَا نَغْدِرُ بِهِمْ وَنَخَافُ إِنْ قَاتَلْنَا زُهَيْرًا (أَنْ يَثِبَ هَؤُلَاءِ مِنْ وَرَائِنَا، فَإِذَا نَزَلْنَا مَمْشَ أَمِنَّاهُمْ وَقَاتَلْنَا زُهَيْرًا) ، فَإِنْ ظَفِرْنَا بِهِمْ تَبِعْنَاهُمْ إِلَى طَرَابُلْسَ وَقَطَعْنَا أَثَرَهُمْ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ، وَإِنْ ظَفِرُوا بِنَا تَعَلَّقْنَا بِالْجِبَالِ وَنَجَوْنَا. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَرَحَلَ إِلَى مَمْشَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ زُهَيْرًا فَلَمْ يَدْخُلِ الْقَيْرَوَانَ بَلْ أَقَامَ ظَاهِرَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى أَرَاحَ وَاسْتَرَاحَ، وَرَحَلَ فِي طَلَبِ كُسَيْلَةَ، فَلَمَّا قَارَبَهُ نَزَلَ وَعَبَّى أَصْحَابَهُ وَرَكِبَ إِلَيْهِ، فَالْتَقَى الْعَسْكَرَانِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، حَتَّى أَيِسَ النَّاسُ مِنَ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ أَكْثَرَ النَّهَارِ، ثُمَّ نَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ وَانْهَزَمَ كُسَيْلَةُ وَأَصْحَابُهُ وَقُتِلَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ بِمَمْشَ، وَتَبِعَ الْمُسْلِمُونَ الْبَرْبَرَ وَالرُّومَ فَقَتَلُوا مَنْ أَدْرَكُوا مِنْهُمْ فَأَكْثَرُوا، وَفِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ ذَهَبَ رِجَالُ الْبَرْبَرِ وَالرُّومِ وَمُلُوكُهُمْ وَأَشْرَافُهُمْ، وَعَادَ زُهَيْرٌ إِلَى

الْقَيْرَوَانِ. ثُمَّ إِنَّ زُهَيْرًا رَأَى بِإِفْرِيقِيَّةَ مُلْكًا عَظِيمًا فَأَبَى أَنْ يُقِيمَ وَقَالَ: إِنَّمَا قَدِمْتُ لِلْجِهَادِ فَأَخَافُ أَنْ أَمِيلَ إِلَى الدُّنْيَا فَأَهْلِكَ. وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا، فَتَرَكَ بِالْقَيْرَوَانِ عَسْكَرًا وَهُمْ آمِنُونَ لِخُلُوِّ الْبِلَادِ مِنْ عَدْوٍ (أَوْ ذِي) شَوْكَةٍ، وَرَحَلَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ إِلَى مِصْرَ. وَكَانَ قَدْ بَلَغَ الرُّومَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مَسِيرُ زُهَيْرٍ مِنْ بَرْقَةَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ لِقِتَالِ كُسَيْلَةَ، فَاغْتَنَمُوا خُلُوَّهَا فَخَرَجُوا إِلَيْهَا فِي مَرَاكِبَ كَثِيرَةٍ وَقُوَّةٍ قَوِيَّةٍ مِنْ جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ وَأَغَارُوا عَلَى بَرْقَةَ، فَأَصَابُوا مِنْهَا سَبْيًا كَثِيرًا، وَقَتَلُوا وَنَهَبُوا، وَوَافَقَ ذَلِكَ قُدُومَ زُهَيْرٍ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ إِلَى بَرْقَةَ، فَأُخْبِرَ الْخَبَرَ، فَأَمَرَ الْعَسْكَرَ بِالسُّرْعَةِ وَالْجِدِّ فِي قِتَالِهِمْ، وَرَحَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَكَانَ الرُّومُ خَلْقًا كَثِيرًا، فَلَمَّا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ اسْتَغَاثُوا بِهِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الرُّجُوعُ وَبَاشَرَ الْقِتَالُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ وَعَظُمَ الْخَطْبُ وَتَكَاثَرَ الرُّومُ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا زُهَيْرًا وَأَصْحَابَهُ وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَعَادَ الرُّومُ بِمَا غَنِمُوا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. وَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِقَتْلِ زُهَيْرٍ عَظُمَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ ثُمَّ سَيَّرَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ حَسَّانَ بْنَ النُّعْمَانِ الْغَسَّانِيَّ، وَسَنَذْكُرُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَذْكُرَ وِلَايَةَ زُهَيْرٍ وَقَتْلَهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ هَا هُنَا لِيَتَّصِلَ خَبَرُ كُسَيْلَةَ وَمَقْتَلُهُ، فَإِنَّ الْحَادِثَةَ وَاحِدَةٌ وَإِذَا تَفَرَّقَتْ لَمْ تُعْلَمْ حَقِيقَتُهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ حَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ. وَفِيهَا وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَالِدُ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ الْهَاشِمِيُّ، وَلَهُ صُحْبَةٌ. وَمَسْلَمَةُ بْنُ مُخَلَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ عُمُرُهُ لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ سِنِينَ. وَتُوُفِّيَ بِمِصْرَ مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ، وَقِيلَ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. (مُخَلَّدٌ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِهَا) .

ثم دخلت سنة ثلاث وستين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ] 63 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ ذِكْرُ وَقْعَةِ الْحَرَّةِ كَانَ أَوَّلُ وَقْعَةِ الْحَرَّةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ خَلْعِ يَزِيدَ، فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ أَخْرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَامِلَ يَزِيدَ وَحَصَرُوا بَنِي أُمَيَّةَ (بَعْدَ بَيْعَتِهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ، فَاجْتَمَعَ بَنُو أُمَيَّةَ) وَمَوَالِيهِمْ وَمَنْ يَرَى رَأْيَهُمْ فِي أَلْفِ رَجُلٍ حَتَّى نَزَلُوا دَارَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَكَتَبُوا إِلَى يَزِيدَ يَسْتَغِيثُونَ بِهِ، فَقَدِمَ الرَّسُولُ إِلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ وَقَدْ وَضَعَ قَدَمَيْهِ فِي طَشْتٍ فِيهِ مَاءٌ لِنَقْرَسٍ كَانَ بِهِمَا، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ تَمَثَّلَ: لَقَدْ بَدَّلُوا الْحِلْمَ الَّذِي فِي سَجِيَّتِي ... فَبَدَّلْتُ قَوْمِي غِلْظَةً بِلِيَانِ ثُمَّ قَالَ: أَمَا يَكُونُ بَنُو أُمَيَّةَ أَلْفَ رَجُلٍ؟ فَقَالَ الرَّسُولُ: بَلَى وَاللَّهِ وَأَكْثَرُ. قَالَ: فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يُقَاتِلُوا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ! فَبَعَثَ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فَأَقْرَأَهُ الْكِتَابَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِمْ فِي النَّاسِ، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ ضَبَطْتُ لَكَ الْأُمُورَ وَالْبِلَادَ، فَأَمَّا الْآنَ إِذْ صَارَتْ دِمَاءُ قُرَيْشٍ تُهْرَقُ بِالصَّعِيدِ فَلَا أُحِبُّ أَنْ أَتَوَلَّى ذَلِكَ.

وَبَعَثَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمُحَاصَرَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا جَمَعْتَهُمَا لِلْفَاسِقِ، قَتْلَ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ وَغَزْوَ الْكَعْبَةِ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَعْتَذِرُ. فَبَعَثَ إِلَى مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ الْمُرِّيِّ، وَهُوَ الَّذِي سُمِّيَ مُسْرِفًا، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَرِيضٌ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: أَمَا يَكُونُ بَنُو أُمَيَّةَ أَلْفَ رَجُلٍ؟ فَقَالَ الرَّسُولُ: بَلَى. قَالَ: فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يُقَاتِلُوا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ! لَيْسَ هَؤُلَاءِ بِأَهْلٍ أَنْ يُنْصَرُوا فَإِنَّهُمُ الْأَذِلَّاءُ، دَعْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يُجْهِدُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَيَتَبَيَّنَ لَكَ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى طَاعَتِكَ وَمَنْ يَسْتَسْلِمُ. قَالَ: وَيْحَكَ! إِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ، فَاخْرُجْ بِالنَّاسِ. وَقِيلَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِيَزِيدَ: إِنَّ لَكَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَوْمًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَارْمِهِمْ بِمُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ قَدْ عَرَفْتُ نَصِيحَتَهُ. فَلَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَمَرَ مُسْلِمًا بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ، فَنَادَى فِي النَّاسِ بِالتَّجَهُّزِ إِلَى الْحِجَازِ وَأَنْ يَأْخُذُوا عَطَاءَهُمْ وَمَعُونَةً مِائَةَ دِينَارٍ، فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، وَخَرَجَ يَزِيدُ يَعْرِضُهُمْ وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفًا مُتَنَكِّبٌ قَوْسًا عَرَبِيَّةً، وَهُوَ يَقُولُ: أَبْلِغْ أَبَا بَكْرٍ إِذَا اللَّيْلُ سَرَى ... وَهَبَطَ الْقَوْمُ عَلَى وَادِي الْقُرَى أَجَمْعَ سَكْرَانَ مِنَ الْقَوْمِ تَرَى ... أَمْ جَمْعَ يَقْظَانَ نَفَى عَنْهُ الْكَرَى يَا عَجَبًا مِنْ مُلْحِدٍ يَا عَجَبَا ... مُخَادِعٍ بِالدِّينِ يَعْفُو بِالْعَرَى وَسَارَ الْجَيْشُ وَعَلَيْهِمْ مُسْلِمٌ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: إِنْ حَدَثَ بِكَ حَدَثٌ فَاسْتَخْلِفِ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ السَّكُونِيَّ، وَقَالَ لَهُ: ادْعُ الْقَوْمَ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابُوكَ وَإِلَّا فَقَاتِلْهُمْ، فَإِذَا ظَهَرْتَ عَلَيْهِمْ فَانْهَبْهَا ثَلَاثًا، فَكُلُّ مَا فِيهَا مِنْ مَالٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ سِلَاحٍ أَوْ طَعَامٍ فَهُوَ لِلْجُنْدِ، فَإِذَا مَضَتِ الثَّلَاثُ فَاكْفُفْ عَنِ النَّاسِ، وَانْظُرْ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ فَاكْفُفْ عَنْهُ وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ مَعَ النَّاسِ، وَإِنَّهُ قَدْ أَتَانِي كِتَابُهُ. وَقَدْ كَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ كَلَّمَ ابْنَ عُمَرَ لَمَّا أَخْرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَامِلَ يَزِيدَ وَبَنِي أُمَيَّةَ فِي أَنْ يُغَيِّبَ أَهْلَهُ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَكَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّ لِي حُرَمًا

وَحُرَمِي تَكُونُ مَعَ حُرَمِكَ. فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَبَعَثَ بِامْرَأَتِهِ، وَهِيَ عَائِشَةُ ابْنَةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَحُرَمُهُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ بِحُرَمِهِ وَحُرَمِ مَرْوَانَ إِلَى يَنْبُعَ، وَقِيلَ: بَلْ أَرْسَلَ حُرَمَ مَرْوَانَ وَأَرْسَلَ مَعَهُمُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ إِلَى الطَّائِفِ. وَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ أَنَّ يَزِيدَ قَدْ سَيَّرَ الْجُنُودَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: لَيْتَ السَّمَاءَ وَقَعَتْ عَلَى الْأَرْضِ، إِعْظَامًا لِذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّهُ ابْتُلِيَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ وَجَّهَ الْحَجَّاجَ فَحَصَرَ مَكَّةَ وَرَمَى الْكَعْبَةَ بِالْمَنْجَنِيقِ وَقَتَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ. وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ أَقْبَلَ بِالْجَيْشِ فَبَلَغَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ خَبَرَهُمْ، فَاشْتَدَّ حِصَارُهُمْ لِبَنِي أُمَيَّةَ بِدَارِ مَرْوَانَ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَكُفُّ عَنْكُمْ حَتَّى نَسْتَنْزِلَكُمْ وَنَضْرِبَ أَعْنَاقَكُمْ أَوْ تُعْطُونَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ أَنْ لَا تَبْغُونَا غَائِلَةً، وَلَا تَدُلُّوا لَنَا عَلَى عَوْرَةٍ، وَلَا تُظَاهِرُوا عَلَيْنَا عَدُوًّا، فَنَكُفَّ عَنْكُمْ وَنُخْرِجَكُمْ عَنَّا فَعَاهَدُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَدْ جَعَلُوا فِي كُلِّ مَنْهَلٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ زِقًّا مِنْ قَطْرَانٍ وَعُوَّرٍ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَسْتَقُوا بِدَلْوٍ حَتَّى وَرَدُوا الْمَدِينَةَ. فَلَمَّا أَخْرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَنِي أُمَيَّةَ سَارُوا بِأَثْقَالِهِمْ حَتَّى لَقُوا مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ بِوَادِي الْقُرَى فَدَعَا بِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَوَّلِ النَّاسِ فَقَالَ لَهُ: خَبِّرْنِي مَا وَرَاءَكَ وَأَشِرْ عَلَيَّ، فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَدْ أُخِذَ عَلَيْنَا الْعُهُودُ وَالْمَوَاثِيقُ أَنْ لَا نَدُلَّ عَلَى عَوْرَةٍ وَلَا نُظَاهِرَ عَدُوَّنَا. فَانْتَهَرَهُ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّكَ ابْنَ عُثْمَانَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ، وَايْمُ اللَّهِ (لَا أُقِيلُهَا قُرَشِيًّا) بَعْدَكَ! فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ، فَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ لِابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ: ادْخُلْ قَبْلِي لَعَلَّهُ يَجْتَزِئُ بِكَ عَنِّي. فَدَخَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ فَقَالَ: هَاتِ مَا عِنْدَكَ. فَقَالَ: نَعَمْ، أَرَى أَنْ تَسِيرَ بِمَنْ مَعَكَ، فَإِذَا انْتَهَيْتَ إِلَى ذِي نَخْلَةٍ نَزَلْتَ، فَاسْتَظَلَّ النَّاسُ فِي ظِلِّهِ فَأَكَلُوا مِنْ صَقْرِهِ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ مِنَ الْغَدِ مَضَيْتَ وَتَرَكْتَ الْمَدِينَةَ ذَاتَ الْيَسَارِ ثُمَّ دُرْتَ بِهَا حَتَّى تَأْتِيَهُمْ مِنْ قِبَلِ الْحَرَّةِ مُشَرِّقًا ثُمَّ تَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ، فَإِذَا اسْتَقْبَلْتَهُمْ وَقَدْ أَشْرَقَتْ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ طَلَعْتَ بَيْنَ أَكْتَافِ أَصْحَابِكَ فَلَا تُؤْذِيهِمْ وَيُصِيبُهُمْ أَذَاهَا وَيَرَوْنَ مِنِ ائْتِلَافِ بَيْضِكُمْ وَأَسِنَّةِ رِمَاحِكُمْ وَسُيُوفِكُمْ وَدُرُوعِكُمْ مَا لَا تَرَوْنَهُ أَنْتُمْ مَا دَامُوا مُغَرِّبِينَ، ثُمَّ قَاتِلْهُمْ وَاسْتَعِنِ اللَّهَ عَلَيْهِمْ.

فَقَالَ لَهُ مُسْلِمٌ: لِلَّهِ أَبُوكَ أَيَّ امْرِئٍ وَلَدَ! ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إِيهِ! فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ دَخَلَ عَلَيْكَ عَبْدُ الْمَلِكِ؟ قَالَ: بَلَى، وَأَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ الْمَلِكِ! قَلَّ مَا كَلَّمْتُ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ رَجُلًا بِهِ شَبِيهًا. فَقَالَ مَرْوَانُ: إِذَا لَقِيتَ عَبْدَ الْمَلِكِ فَقَدْ لَقِيتَنِي. ثُمَّ (إِنَّهُ صَارَ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَصْنَعُ) مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَجَاءَهُمْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ مُسْلِمٌ فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَزْعُمُ أَنَّكُمُ الْأَصْلُ، وَإِنِّي أَكْرَهُ إِرَاقَةَ دِمَائِكُمْ، وَإِنِّي أُؤَجِّلُكُمْ ثَلَاثًا، فَمَنِ ارْعَوَى وَرَاجَعَ الْحَقَّ قَبِلْنَا مِنْهُ وَانْصَرَفْتُ عَنْكُمْ وَسِرْتُ إِلَى هَذَا الْمَحَلِّ الَّذِي بِمَكَّةَ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ كُنَّا قَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْكُمْ. فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ قَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ مَا تَصْنَعُونَ، أَتُسَالِمُونَ أَمْ تُحَارِبُونَ؟ فَقَالُوا: بَلْ نُحَارِبُ. فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا بَلِ ادْخُلُوا فِي الطَّاعَةِ وَنَجْعَلُ جِدَّنَا وَشَوْكَتَنَا عَلَى أَهْلِ هَذَا الْمُلْحِدِ الَّذِي قَدْ جَمَعَ إِلَيْهِ الْمُرَّاقَ وَالْفُسَّاقَ مِنْ كُلِّ أَوْبٍ، يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ. فَقَالُوا لَهُ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ لَوْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَجُوزُوا إِلَيْهِ مَا تَرَكْنَاكُمْ، نَحْنُ نَدَعُكُمْ أَنْ تَأْتُوا بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ فَتُخِيفُوا أَهْلَهُ وَتُلْحِدُوا فِيهِ وَتَسْتَحِلُّوا حُرْمَتَهُ؟ ! لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ. وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَدِ اتَّخَذُوا خَنْدَقًا وَعَلَيْهِ جَمْعٌ مِنْهُمْ، وَكَانَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ عَلَى رُبُعٍ آخَرَ، وَهُمْ قُرَيْشٌ فِي جَانِبِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ، وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ، عَلَى رُبُعٍ آخَرَ، وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ، وَكَانَ أَمِيرُ جَمَاعَتِهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ الْأَنْصَارِيَّ فِي أَعْظَمِ تِلْكَ الْأَرْبَاعِ، وَهُمُ الْأَنْصَارُ. وَصَمَدَ مُسْلِمٌ فِيمَنْ مَعَهُ، فَأَقْبَلَ مِنْ نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى ضَرَبَ فُسْطَاطَهُ عَلَى طَرِيقِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ مَرِيضًا، فَأَمَرَ فَوُضِعَ لَهُ كُرْسِيٌّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَقَالَ يَا أَهْلَ الشَّامِ قَاتِلُوا عَنْ أَمِيرِكُمْ وَادْعُوا. فَأَخَذُوا لَا يَقْصِدُونَ رُبُعًا مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَاعِ إِلَّا هَزَمُوهُ، ثُمَّ وَجَّهَ الْخَيْلَ نَحْوَ ابْنِ الْغَسِيلِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ ابْنُ الْغَسِيلِ فِيمَنْ مَعَهُ فَكَشَفَهُمْ، فَانْتَهَوْا إِلَى مُسْلِمٍ، فَنَهَضَ فِي وُجُوهِهِمْ بِالرِّجَالِ وَصَاحَ بِهِمْ، فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا.

ثُمَّ إِنَّ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَاءَ إِلَى ابْنِ الْغَسِيلِ فَقَاتَلَ مَعَهُ فِي نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا قِتَالًا حَسَنًا، ثُمَّ قَالَ لِابْنِ الْغَسِيلِ: مَنْ كَانَ مَعَكَ فَارِسًا فَلْيَأْتِنِي فَلْيَقِفْ مَعِي، فَإِذَا حَمَلْتُ فَلْيَحْمِلُوا، فَوَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَبْلَغَ مُسْلِمًا فَأَقْتُلَهُ أَوْ أُقْتَلَ دُونَهُ. فَفَعَلَ ذَلِكَ وَجَمَعَ الْخَيْلَ إِلَيْهِ، فَحَمَلَ بِهِمُ الْفَضْلُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فَانْكَشَفُوا، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: احْمِلُوا أُخْرَى جُعِلْتُ فَدَاكُمْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ عَايَنْتُ أَمِيرَهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُ أَوْ أُقْتَلَ دُونَهُ. إِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الصَّبْرِ إِلَّا النَّصْرُ! ثُمَّ حَمَلَ وَحَمَلَ أَصْحَابُهُ، فَانْفَرَجْتُ خَيْلُ الشَّامِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ وَمَعَهُ نَحْوُ خَمْسِمِائَةِ رَاجِلٍ جُثَاةٌ عَلَى الرُّكَبِ مُشَرِّعِي الْأَسِنَّةِ نَحْوَ الْقَوْمِ، وَمَضَى الْفَضْلُ كَمَا هُوَ نَحْوَ رَايَةِ مُسْلِمٍ فَضَرَبَ رَأْسَ صَاحِبِهَا، فَقَطَّ الْمِغْفَرَ وَفَلَقَ هَامَتَهُ وَخَرَّ مَيِّتًا، وَقَالَ: خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! وَظَنَّ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَقَالَ: قَتَلْتُ طَاغِيَةَ الْقَوْمِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! فَقَالَ: أَخْطَأَتِ اسْتُكَ الْحُفْرَةَ! وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ غُلَامًا رُومِيًّا وَكَانَ شُجَاعًا، فَأَخَذَ مُسْلِمٌ رَايَتَهُ وَحَرَّضَ أَهْلَ الشَّامِ وَقَالَ: شُدُّوا مَعَ هَذِهِ الرَّايَةِ. فَمَشَى بِرَايَتِهِ وَشَدَّتْ تِلْكَ الرِّجَالُ أَمَامَ الرَّايَةِ، فَصُرِعَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، فَقُتِلَ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَطْنَابِ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ إِلَّا نَحْوٌ مِنْ عَشْرَةِ أَذْرُعٍ، وَقُتِلَ مَعَهُ زَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. وَأَقْبَلَتْ خَيْلُ مُسْلِمٍ وَرَجَّالَتُهُ نَحْوَ ابْنِ الْغَسِيلِ، وَهُوَ يُحَرِّضُ أَصْحَابَهُ وَيَذُمُّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، وَيُقَدِّمُ الْخَيْلَ إِلَى ابْنِ الْغَسِيلِ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمْ تَقْدَمْ عَلَيْهِمْ لِلرِّمَاحِ الَّتِي بِأَيْدِهِمْ وَالسُّيُوفِ، وَكَانَتْ تَتَفَرَّقُ عَنْهُمْ، فَنَادَى مُسْلِمٌ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِضَاهٍ الْأَشْعَرِيَّ وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَنْزِلَا فِي جُنْدِهِمَا، فَفَعَلَا وَتَقَدَّمَا إِلَيْهِمْ، فَقَالَ ابْنُ الْغَسِيلِ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ عَدُوَّكُمْ قَدْ أَصَابَ وَجْهَ الْقِتَالِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَاتِلَكُمْ بِهِ، وَإِنِّي قَدْ ظَنَنْتُ أَلَّا يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً حَتَّى يَفْصِلَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ إِمَّا لَكُمْ وَإِمَّا عَلَيْكُمْ، أَمَا إِنَّكُمْ أَهْلُ النُّصْرَةِ وَدَارُ الْهِجْرَةِ وَمَا أَظُنُّ أَنَّ رَبَّكُمْ أَصْبَحَ عَنْ أَهْلِ بَلَدٍ مِنْ بُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ بِأَرْضَى مِنْهُ عَنْكُمْ، وَلَا عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ مِنْ بُلْدَانِ الْعَرَبِ بِأَسْخَطَ مِنْهُ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَإِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْكُمْ مِيتَةً هُوَ مَيِّتٌ بِهَا لَا مَحَالَةَ، وَوَاللَّهِ مَا مِنْ مِيتَةٍ أَفْضَلُ مِنْ مَيْتَةِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ سَاقَهَا اللَّهُ إِلَيْكُمْ فَاغْتِنَمُوهَا.

ثُمَّ دَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَأَخَذَ أَهْلُ الشَّامِ يَرْمُونَهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَالَ ابْنُ الْغَسِيلِ لِأَصْحَابِهِ: عَلَامَ تُسْتَهْدَفُونَ لَهُمْ! مَنْ أَرَادَ التَّعْجِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ هَذِهِ الرَّايَةَ. فَقَالَ إِلَيْهِ كُلُّ مُسْتَمِيتٍ فَنَهَضَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ رُؤِيَ لِأَهْلِ هَذَا الْقِتَالِ، وَأَخَذَ ابْنُ الْغَسِيلِ يُقَدِّمُ بَنِيهِ وَاحِدًا وَاحِدًا، حَتَّى قُتِلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَضْرِبُ بِسَيْفِهِ وَيَقُولُ: بُعْدًا لِمَنْ رَامَ الْفَسَادَ وَطَغَى ... وَجَانَبَ الْحَقَّ وَآيَاتِ الْهُدَى لَا يُبْعِدُ الرَّحْمَنُ إِلَّا مَنْ عَصَى ثُمَّ قُتِلَ وَقُتِلَ مَعَهُ أَخُوهُ لِأُمِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، فَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ الدَّيْلَمَ قَتَلُونِي مَكَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ! وَقُتِلَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ وَمُحَمَّدُ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيُّ. فَمَرَّ بِهِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ! رُبَّ سَارِيَةٍ قَدْ رَأَيْتُكُ تُطِيلُ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى جَنْبِهَا. وَانْهَزَمَ النَّاسُ، وَكَانَ فِيمَنِ انْهَزَمَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بَعْدَمَا أَبْلَى. وَأَبَاحَ مُسْلِمٌ الْمَدِينَةَ ثَلَاثًا يَقْتُلُونَ النَّاسَ وَيَأْخُذُونَ الْمَتَاعَ وَالْأَمْوَالَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ مَنْ بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ. فَخَرَجَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ حَتَّى دَخَلَ فِي كَهْفِ الْجَبَلِ، فَتَبِعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، (فَاقْتَحَمَ عَلَيْهِ الْغَارَ، فَانْتَضَى أَبُو سَعِيدٍ سَيْفَهُ يُخَوِّفُ بِهِ الشَّامِيَّ) ، فَلَمْ يَنْصَرِفْ عَنْهُ، فَعَادَ أَبُو سَعِيدٍ وَأَغْمَدَ سَيْفَهُ وَقَالَ: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ. فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ. قَالَ: صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ. فَتَرَكَهُ وَمَضَى. وَقِيلَ: إِنَّ مُسْلِمًا لَمَّا نَزَلَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ (خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا) بِجُمُوعٍ كَثِيرَةٍ وَهَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، فَهَابَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ وَكَرِهُوا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ مُسْلِمٌ، وَكَانَ شَدِيدَ الْوَجَعِ، سَبَّهُمْ وَذَمَّهُمْ وَحَرَّضَهُمْ، فَقَاتَلُوهُمْ.

فَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي قِتَالِهِمْ إِذْ سَمِعُوا تَكْبِيرًا مِنْ خَلْفِهِمْ فِي جَوْفِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ أَدْخَلُوا أَهْلَ الشَّامِ الْمَدِينَةَ فَانْهَزَمَ النَّاسُ، فَكَانَ مَنْ أُصِيبَ فِي الْخَنْدَقِ أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ. وَدَعَا مُسْلِمٌ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ عَلَى أَنَّهُمْ خَوَلٌ لَهُ يَحْكُمُ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ مَنْ شَاءَ، فَمَنِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ قَتَلَهُ، وَطَلَبَ الْأَمَانَ لِيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَلِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ، وَلِمَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ، فَأُتِيَ بِهِمْ بَعْدَ الْوَقْعَةِ بِيَوْمٍ، فَقَالَ: بَايِعُوا عَلَى الشَّرْطِ. فَقَالَ الْقُرَشِيَّانِ: نُبَايِعُكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمَا. فَقَالَ مَرْوَانُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَتَقْتُلُ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ أَتَيَا بِأَمَانٍ؟ فَطَعَنَ بِخَاصِرَتِهِ بِالْقَضِيبِ، فَقَالَ: وَأَنْتَ وَاللَّهِ لَوْ قُلْتَ بِمَقَالَتِهِمَا لَقَتَلْتُكَ! وَجَاءَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ فَجَلَسَ مَعَ الْقَوْمِ فَدَعَا بِشَرَابٍ لِيُسْقَى، فَقَالَ لَهُ مُسْلِمٌ: أَيُّ الشَّرَابِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْعَسَلُ. قَالَ: اسْقُوهُ، فَشَرِبَ حَتَّى ارْتَوَى، فَقَالَ لَهُ: أَرَوِيتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَاللَّهِ لَا تَشْرَبُ بَعْدَهَا شَرْبَةً إِلَّا فِي نَارِ جَهَنَّمَ. فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ! فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي لَقِيتَنِي بِطَبَرِيَّةَ لَيْلَةَ خَرَجْتَ مِنْ عِنْدِ يَزِيدَ فَقُلْتَ: سِرْنَا شَهْرًا، وَرَجَعْنَا شَهْرًا، وَأَصْبَحْنَا صِفْرًا، نَرْجِعُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَخْلَعُ هَذَا الْفَاسِقَ ابْنَ الْفَاسِقِ وَنُبَايِعُ لِرَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ (أَوِ الْأَنْصَارِ فِيمَ غَطَفَانُ وَأَشْجَعُ مِنَ الْخَلْقِ وَالْخِلَافَةِ! إِنَّنِي آلَيْتُ بِيَمِينٍ لَا أَلْقَاكَ فِي حَرْبٍ أَقْدِرُ مِنْهُ عَلَى قَتْلِكَ إِلَّا فَعَلْتُ) . ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. وَأُتِيَ بِيَزِيدَ بْنِ وَهْبٍ، فَقَالَ لَهُ: بَايِعْ. قَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ: اقْتُلُوهُ. قَالَ: أَنَا أُبَايِعُكَ! قَالَ: لَا وَاللَّهِ، فَتَكَلَّمَ فِيهِ مَرْوَانُ لِصِهْرٍ كَانَ بَيْنَهُمَا، (فَأَمَرَ بِمَرْوَانَ فُوُجِئَتْ عُنُقُهُ) ثُمَّ قُتِلَ يَزِيدُ. ثُمَّ أَتَى مَرْوَانُ بِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، (فَجَاءَ يَمْشِي بَيْنَ مَرْوَانَ وَابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ) حَتَّى جَلَسَ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ، فَدَعَا مَرْوَانُ بِشَرَابٍ لِيَتَحَرَّمَ بِذَلِكَ [مِنْ مُسْلِمٍ] ، فَشَرِبَ مِنْهُ يَسِيرًا

ثُمَّ نَاوَلَهُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ، فَلَمَّا وَقَعَ فِي يَدِهِ قَالَ لَهُ مُسْلِمٌ: لَا تَشْرَبْ مِنْ شَرَابِنَا! فَارْتَعَدَتْ كَفُّهُ وَلَمْ يَأْمَنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَمْسَكَ الْقَدَحَ، فَقَالَ لَهُ: أَجِئْتَ تَمَشِّي بَيْنَ هَؤُلَاءِ لِتَأْمَنَ عِنْدِي؟ وَاللَّهِ لَوْ كَانَ إِلَيْهِمَا أَمْرٌ لَقَتَلْتُكَ! وَلَكِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْصَانِي بِكَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ كَاتَبْتَهُ، فَإِنْ شِئْتَ فَاشْرَبْ. فَشَرِبَ ثُمَّ أَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: لَعَلَّ أَهْلَكَ فَزِعُوا؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ. فَأَمَرَ بِدَابَّةٍ فَأُسْرِجَتْ لَهُ فَحَمَلَهُ عَلَيْهَا فَرُدَّ وَلَمْ يُلْزِمْهُ بِالْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ عَلَى مَا شَرَطَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَأُحْضِرَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ لِيُبَايِعَ، فَقَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ السَّكُونِيُّ: لَا يُبَايِعُ ابْنُ أُخْتِنَا إِلَّا كَبَيْعَةِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَكَانَتْ أُمُّ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ كِنْدِيَّةً، فَقَامَتْ كِنْدَةُ مَعَ الْحُصَيْنِ، فَتَرَكَهُ مُسْلِمٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَبِي الْعَبَّاسُ قَرْمُ بَنِي قُصَيٍّ ... وَأَخْوَالِي الْمُلُوكُ بَنُو وَلِيعَهْ هُمُ مَنَعُوا ذِمَارِي يَوْمَ جَاءَتْ ... كَتَائِبُ مُسْرِفٍ وَبَنُو اللَّكِيعَهْ أَرَادُونِي الَّتِي لَا عِزَّ فِيهَا ... فَحَالَتْ دُونَهُ أَيْدٌ سَرِيعَهْ يَعْنِي بِقَوْلِهِ مُسْرِفٌ: مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ، فَإِنَّهُ سُمِّي بَعْدَ وَقْعَةِ الْحَرَّةِ مُسْرِفًا، وَبَنُو وَلَيْعَةَ بَطْنٌ مِنْ كِنْدَةَ، مِنْهُمْ أُمُّهُ، وَاللَّكِيعَةُ أُمُّ أُمِّهِ. وَقِيلَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَمْ يَكُنْ فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمَئِذٍ إِلَى مُسْلِمٍ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الشَّامِ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: هَذَا الْخَبِيثُ ابْنُ الطَّيِّبِ، هَذَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، هِيهِ يَا عَمْرُو إِذَا ظَهَرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قُلْتَ أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ، وَإِنْ ظَهَرَ أَهْلُ الشَّامِ قُلْتَ أَنَا ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ. فَأَمَرَ بِهِ فَنُتِفَتْ لِحْيَتُهُ، (ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ الشَّامِ إِنَّ أُمَّ هَذَا كَانَتْ تُدْخِلُ الْجُعَلَ فِي فِيهَا ثُمَّ تَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَاجَيْتُكَ مَا فِي فَمِي؟ وَفِي فَمِهَا مَا شَاهَا وَبَاهَا، وَكَانَتْ مِنْ دَوْسٍ) ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ.

وَكَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ: قَدِمْتُ الشَّامَ فِي تِجَارَةٍ فَقَالَ لِي رَجُلٌ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنَ الْمَدِينَةِ. فَقَالَ: خَبِيثَةٌ. فَقُلْتُ: يُسَمِّيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَيْبَةَ وَتُسَمِّيهَا خَبِيثَةً! فَقَالَ: إِنَّ لِي وَلَهَا لَشَأْنًا، لَمَّا خَرَجَ النَّاسُ إِلَى وَقْعَةِ الْحَرَّةِ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي قَتَلْتُ رَجُلًا اسْمُهُ مُحَمَّدٌ أَدْخُلُ بِقَتْلِهِ النَّارَ، فَاجْتَهَدْتُ فِي أَنِّي لَا أَسِيرُ مَعَهُمْ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنِّي، فَسِرْتُ مَعَهُمْ وَلَمْ أُقَاتِلْ حَتَّى انْقَضَتِ الْوَقْعَةُ، فَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ فِي الْقَتْلَى بِهِ رَمَقٌ فَقَالَ: تَنَحَّ يَا كَلْبُ! فَأَنِفْتُ مِنْ كَلَامِهِ وَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ رُؤْيَايَ فَجِئْتُ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَتَصَفَّحُ الْقَتْلَى، فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلَ الَّذِي قَتَلْتُهُ قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ، لَا يَدْخُلُ قَاتِلُ هَذَا الْجَنَّةَ. قُلْتُ: وَمَنْ هَذَا؟ قَالَ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا وَكَنَّاهُ أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْتُلُونَنِي فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الدِّيَةَ فَلَمْ يَأْخُذُوا. وَمِمَّنْ قُتِلَ بِالْحَرَّةِ عَبْدُ اللَّهِ (بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَلَيْسَ بِصَاحِبِ الْأَذَانِ، ذَاكَ) ابْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. وَقُتِلَ أَيْضًا فِيهَا عُبَيْدُ اللَّهِ (بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ. وَوَهْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ. وَزُبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ) بْنُ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ الْكُوفِيُّ الزَّاهِدُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ يُسَمَّى يَوْمَئِذٍ الْعَائِذُ، وَيَرَوْنَ

الْأَمْرَ شُورَى، وَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِوَقْعَةِ الْحَرَّةِ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ مَعَ [سَعِيدٍ مَوْلَى] الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، (فَجَاءَهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَاسْتَعَدَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَعَرَفُوا) أَنَّ مُسْلِمًا نَازِلٌ بِهِمْ.

ثم دخلت سنة أربع وستين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ] 64 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ ذِكْرُ مَسِيرِ مُسْلِمٍ لِحِصَارِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَوْتِهِ فَلَمَّا فَرَغَ مُسْلِمٌ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَنَهْبِهَا، شَخَصَ بِمَنْ مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ يُرِيدُ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَمَنْ مَعَهُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ، وَقِيلَ: اسْتَخْلَفَ عَمْرَو بْنَ مَخْرَمَةَ الْأَشْجَعِيَّ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْمُشَلَّلِ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ، وَقِيلَ: مَاتَ بِثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَحْضَرَ الْحُصَيْنَ بْنَ النُّمَيْرِ وَقَالَ: يَا بْنَ بَرْذَعَةِ الْحِمَارِ! لَوْ كَانَ الْأَمْرُ إِلَيَّ مَا وَلَّيْتُكَ هَذَا الْجُنْدَ، وَلَكِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّاكَ. خُذْ عَنِّي أَرْبَعًا: اسْرِعِ السَّيْرَ، وَعَجِّلِ الْمُنَاجَزَةَ، وَعَمِّ الْأَخْبَارَ، وَلَا تُمَكِّنْ قُرَشِيًّا مِنْ أُذُنِكَ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَعْمَلْ قَطُّ بَعْدَ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ قَتْلِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَلَا أَرْجَى عِنْدِي فِي الْآخِرَةِ. فَلَمَّا مَاتَ سَارَ الْحُصَيْنُ بِالنَّاسِ فَقَدِمَ مَكَّةَ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَقَدْ بَايَعَ أَهْلُهَا وَأَهْلُ الْحِجَازِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَلَحِقَ بِهِ الْمُنْهَزِمُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ الْحَنَفِيُّ فِي النَّاسِ مِنَ الْخَوَارِجِ يَمْنَعُونَ الْبَيْتَ، وَخَرَجَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى لِقَاءِ أَهْلِ الشَّامِ وَمَعَهُ أَخُوهُ الْمُنْذِرُ، فَبَارَزَ الْمُنْذِرُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ضَرْبَةً مَاتَ مِنْهَا، ثُمَّ حَمَلَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَيْهِمْ حَمْلَةً انْكَشَفَ مِنْهَا أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَثَرَتْ بَغْلَةُ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: تَعْسًا! ثُمَّ

نَزَلَ فَصَاحَ بِأَصْحَابِهِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ الْمِسْوِرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَمُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَاتَلَا حَتَّى قُتِلَا جَمِيعًا، وَضَارَبَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى اللَّيْلِ ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ. هَذَا فِي الْحَصْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ أَقَامُوا عَلَيْهِ يُقَاتِلُونَهُ بَقِيَّةَ الْمُحَرَّمِ وَصَفَرَ كُلَّهُ حَتَّى إِذَا مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ رَمَوُا الْبَيْتَ بِالْمَجَانِيقِ وَحَرَقُوهُ بِالنَّارِ وَأَخَذُوا يَرْتَجِزُونَ وَيَقُولُونَ: خَطَّارَةٌ مِثْلُ الْفَنِيقِ الْمُزْبِدِ ... نَرْمِي بِهَا أَعْوَادَ هَذَا الْمَسْجِدِ وَقِيلَ: إِنَّ الْكَعْبَةَ احْتَرَقَتْ مِنْ نَارٍ كَانَ يُوقِدُهَا أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَأَقْبَلَتْ شَرَرَةٌ هَبَّتْ بِهَا الرِّيحُ فَاحْتَرَقَتْ ثِيَابُ الْكَعْبَةِ وَاحْتَرَقَ خَشَبُ الْبَيْتِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، (لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ قَدْ ذَكَرَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ تَرَكَ الْكَعْبَةَ لِيَرَاهَا النَّاسُ مُحْتَرِقَةً يُحَرِّضُهُمْ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ) . وَأَقَامَ أَهْلُ الشَّامِ يُحَاصِرُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَتَّى بَلَغَهُمْ نَعْيُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لِهِلَالِ رَبِيعٍ الْآخَرِ. ذِكْرُ وَفَاةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بِحُوَّارِينَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً (فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَقِيلَ: تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ) ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ عُمُرُهُ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَأُمُّهُ مَيْسُونُ بِنْتُ بِحَدْلِ بْنِ أُنَيْفٍ الْكَلْبِيَّةُ.

وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ مُعَاوِيَةُ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبُو لَيْلَى، وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ بَعْدَهُ، وَخَالِدٌ وَيُكْنَى أَبَا هَاشِمٍ، وَيُقَالُ إِنَّهُ أَصَابَ عَمَلَ الْكِيمْيَا، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَحَدٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ، وَأُمُّهُمْ أُمُّ هَاشِمٍ بِنْتُ [أَبِي هَاشِمِ بْنِ] عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَلَهُ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، كَانَ أَرَمَى الْعَرَبِ، وَأُمُّهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، (وَهُوَ الْأُسْوَارُ، وَعَبْدُ اللَّهِ الْأَصْغَرُ وَعُمَرُ) وَأَبُو بَكْرٍ وَعُتْبَةُ وَحَرْبٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدٌ لِأُمَّهَاتٍ شَتًّى. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ وَأَخْبَارِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْعُتْبِيُّ: نَظَرَ مُعَاوِيَةُ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ ابْنَةُ قَرَظَةَ إِلَى يَزِيدَ وَأُمُّهُ تُرَجِّلُهُ، فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنْهُ قَبَّلَتْهُ، فَقَالَتِ ابْنَةُ قَرَظَةَ: لَعَنَ اللَّهُ سَوَادَ سَاقَيْ أُمِّكِ! فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَمَّا وَاللَّهِ لَمَّا تَفَرَّجَتْ عَنْهُ وِرْكَاهَا خَيْرٌ مِمَّا تَفَرَّجَتْ عَنْهُ وِرْكَاكِ! وَكَانَ لِمُعَاوِيَةَ مِنِ ابْنَةِ قَرَظَةَ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ أَحْمَقَ، فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ وَلَكِنَّكَ تُؤْثِرُ هَذَا. فَقَالَ: سَوْفَ أُبَيِّنُ لَكَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ فَدُعِيَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ، فَلَمَّا حَضَرَ قَالَ: أَيْ بُنِيَّ إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُعْطِيَكَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ وَلَسْتَ بِسَائِلٍ شَيْئًا إِلَّا أَجَبْتُكَ إِلَيْهِ. فَقَالَ: حَاجَتِي أَنْ تَشْتَرِيَ لِي كَلْبًا فَارِهًا وَحِمَارًا. فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، أَنْتَ حِمَارٌ وَأَشْتَرِي لَكَ حِمَارًا! قُمْ فَاخْرُجْ. ثُمَّ أَحْضَرَ يَزِيدَ وَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ لِأَخِيهِ، فَخَرَّ سَاجِدًا ثُمَّ قَالَ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَلَّغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَأَرَاهُ فِيَّ هَذَا الرَّأْيِ، حَاجَتِي أَنْ تُعْتِقَنِي مِنَ النَّارِ لِأَنَّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ الْأُمَّةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَعْتَقَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، فَتَعْقِدَ لِيَ الْعَهْدَ بِعْدَكَ، وَتُوَلِّيَنِي الْعَامَ الصَّائِفَةَ، وَتَأْذَنَ لِي فِي الْحَجِّ إِذَا رَجَعْتُ، وَتُوَلِّيَنِي الْمَوْسِمَ، وَتَزِيدَ لِأَهْلِ الشَّامِ كُلَّ رَجُلٍ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، (وَتَفْرِضَ لِأَيْتَامِ بَنِي جُمَحٍ وَبَنِي سَهْمٍ وَبَنِي عَدِيٍّ لِأَنَّهُمْ حُلَفَائِي) . فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ فَعَلْتُ، وَقَبَّلَ وَجْهَهُ. فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ ابْنَةِ قَرَظَةَ: كَيْفَ رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: أَوْصِهِ بِهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَفَعَلَ.

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ سُبَيْنَةَ: حَجَّ يَزِيدُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَدِينَةَ جَلَسَ عَلَى شَرَابٍ لَهُ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحُسَيْنُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ إِنْ وَجَدَ رِيحَ الشَّرَابِ (عَرَفَهُ، فَحَجَبَهُ وَأَذِنَ لِلْحُسَيْنِ، فَلَمَّا دَخَلَ وَجَدَ رَائِحَةَ الشَّرَابِ) مَعَ الطِّيبِ فَقَالَ: لِلَّهِ دَرُّ طِيبِكَ مَا أَطْيَبَهُ! فَمَا هَذَا؟ قَالَ: هُوَ طِيبٌ يُصْنَعُ بِالشَّامِ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ فَشَرِبَهُ، ثُمَّ دَعَا بِآخِرٍ فَقَالَ: اسْقِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: عَلَيْكَ شَرَابَكَ أَيُّهَا الْمَرْءُ لَا عَيْنَ عَلَيْكَ مِنِّي، فَقَالَ يَزِيدُ: أَلَا يَا صَاحِ لِلْعَجَبْ ... دَعْوَتُكَ وَلَمْ تُجِبْ إِلَى الْفَتَيَاتِ وَالشَّهَوَاتِ ... وَالصَّهْبَاءِ وَالطَّرَبْ بَاطِيَةٌ مُكَلَّلَهْ ... عَلَيْهَا سَادَةُ الْعَرَبْ وَفِيهِنَّ الَّتِي تَبِلَتْ ... فُؤَادَكَ ثُمَّ لَمْ تَثِبْ فَنَهَضَ الْحُسَيْنُ وَقَالَ: بَلْ فُؤَادُكَ يَا ابْنَ مُعَاوِيَةَ تَبِلَتْ. وَقَالَ شَفِيقُ بْنُ سَلَمَةَ: لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ ثَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَدَعَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِلَى بَيْعَتِهِ، فَامْتَنَعَ وَظَنَّ يَزِيدُ أَنَّ امْتِنَاعَهُ تَمَسُّكٌ مِنْهُ بِبَيْعَتِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الْمُلْحِدَ ابْنَ الزُّبَيْرِ دَعَاكَ إِلَى بَيْعَتِهِ وَأَنَّكَ اعْتَصَمْتَ بِبَيْعَتِنَا وَفَاءً مِنْكَ لَنَا، فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ ذِي رَحِمٍ خَيْرَ مَا يَجْزِي الْوَاصِلِينَ لِأَرْحَامِهِمُ الْمُوفِينَ بِعُهُودِهِمْ، فَمَا أَنْسَ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَلَسْتُ بِنَاسٍ بِرَّكَ وَتَعْجِيلَ صِلَتِكَ بِالَّذِي أَنْتَ لَهُ أَهْلٌ، فَانْظُرْ مَنْ طَلَعَ عَلَيْكَ مِنَ الْآفَاقِ مِمَّنْ سَحَرَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِلِسَانِهِ فَأَعْلِمْهُمْ بِحَالِهِ فَإِنَّهُمْ مِنْكَ أَسْمَعُ النَّاسِ وَلَكَ أَطْوَعُ مِنْهُمْ لِلْمُحِلِّ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ جَاءَنِي كِتَابُكَ، فَأَمَّا تَرْكِي بَيْعَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَوَاللَّهِ مَا أَرْجُو بِذَلِكَ بِرَّكَ وَلَا حَمْدَكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بِالَّذِي أَنْوِي عَلِيمٌ، وَزَعَمْتَ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَاسٍ بِرِّي، فَاحْبِسْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ بِرَّكَ عَنِّي فَإِنِّي حَابِسٌ عَنْكَ بِرِّي، وَسَأَلْتَ أَنْ أُحَبِّبَ النَّاسَ إِلَيْكَ وَأُبَغِّضَهُمْ وَأُخَذِّلَهُمْ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَا وَلَا سُرُورَ وَلَا كَرَامَةَ، كَيْفَ وَقَدْ قَتَلْتَ حُسَيْنًا وَفِتْيَانَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَصَابِيحَ الْهُدَى وَنُجُومَ الْأَعْلَامِ غَادَرَتْهُمْ خُيُولُكَ بِأَمْرِكَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ مُرَمَّلِينَ بِالدِّمَاءِ، مَسْلُوبِينَ بِالْعَرَاءِ، (مَقْتُولِينَ بِالظِّمَاءِ، لَا مُكَفَّنِينَ وَلَا

مُوَسَّدِينَ) ، تَسْفِي عَلَيْهِمُ الرِّيَاحُ، وَيَنْشَى بِهِمْ عَرْجُ الْبِطَاحِ، حَتَّى أَتَاحَ اللَّهُ بِقَوْمٍ لَمْ يُشْرَكُوا فِي دِمَائِهِمْ كَفَّنُوهُمْ وَأَجَنُّوهُمْ، وَبِي وَبِهِمْ لَوْ عَزَزْتَ وَجَلَسْتَ مَجْلِسَكَ الَّذِي جَلَسْتَ، فَمَا أَنَسَ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَلَسْتُ بِنَاسٍ اطِّرَادَكَ حُسَيْنًا مِنْ حَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى حَرَمِ اللَّهِ، وَتَسْيِيرَكَ الْخُيُولَ إِلَيْهِ، فَمَا زِلْتَ بِذَلِكَ حَتَّى أَشْخَصْتَهُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَخَرَجَ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، فَنَزَلَتْ بِهِ خَيْلُكَ عَدَاوَةً مِنْكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرًا، فَطَلَبَ إِلَيْكُمُ الْمُوَادَعَةَ وَسَأَلَكُمُ الرَّجْعَةَ، فَاغْتَنَمْتُمْ قِلَّةَ أَنْصَارِهِ وَاسْتِئْصَالَ أَهْلِ بَيْتِهِ وَتَعَاوَنْتُمْ عَلَيْهِ كَأَنَّكُمْ قَتَلْتُمْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، فَلَا شَيْءَ أَعْجَبُ عِنْدِي مِنْ طِلَبْتِكَ وُدِّي وَقَدْ قَتَلْتَ وَلَدَ أَبِي وَسَيْفُكَ يَقْطُرُ مِنْ دَمِيَ وَأَنْتَ أَحَدُ ثَأْرِي وَلَا يُعْجِبُكَ أَنْ ظَفِرْتَ بِنَا الْيَوْمَ فَلَنَظْفَرَنَّ بِكَ يَوْمًا، وَالسَّلَامُ. (قَالَ الشَّرِيفُ أَبُو يَعْلَى حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيُّ، وَقَدْ جَرَى عِنْدَهُ ذِكْرُ يَزِيدَ: أَنَا لَا أُكَفِّرُ يَزِيدَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَى بَنِيَّ أَحَدًا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَعْطَانِي ذَلِكَ) . ذِكْرُ بَيْعَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ بِالْخِلَافَةِ بِالشَّامِ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِالْحِجَازِ، وَلَمَّا هَلَكَ يَزِيدُ بَلَغَ الْخَبَرُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ عَسْكَرِ الشَّامِ، وَكَانَ الْحِصَارُ قَدِ اشْتَدَّ مِنَ الشَّامِيِّينَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَنَادَاهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَهْلُ مَكَّةَ: عَلَامَ تُقَاتِلُونَ وَقَدْ هَلَكَ طَاغِيَتُكُمْ؟ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُمْ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحُصَيْنَ خَبَرُ مَوْتِهِ بَعَثَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: مَوْعِدُ مَا بَيْنَنَا اللَّيْلَةَ الْأَبْطَحِ، فَالْتَقَيَا وَتَحَادَثَا، فَرَاثَ فَرَسُ الْحُصَيْنِ، فَجَاءَ حَمَامُ الْحَرَمِ يَلْتَقِطُ رَوْثَ الْفَرَسِ، فَكَفَّ الْحُصَيْنُ فَرَسَهُ عَنْهُنَّ وَقَالَ: أَخَافَ أَنْ يَقْتُلَ فَرَسِي حَمَامَ الْحَرَمِ. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: تَتَحَرَّجُونَ مِنْ هَذَا وَأَنْتُمْ تَقْتُلُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرَمِ؟ فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ، هَلُمَّ فَلْنُبَايِعْكَ ثُمَّ اخْرُجْ مَعَنَا إِلَى الشَّامِ، فَإِنَّ هَذَا الْجُنْدَ الَّذِينَ مَعِي هُمْ وُجُوهُ الشَّامِ وَفُرْسَانُهُمْ، فَوَاللَّهِ لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ اثْنَانِ وَتُؤَمِّنُ النَّاسَ وَتُهْدِرُ هَذِهِ الدِّمَاءَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرَمِ. فَقَالَ لَهُ: أَنَا لَا أُهْدِرُ الدِّمَاءَ، وَاللَّهِ لَا

أَرْضَى أَنْ أَقْتُلَ بِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عِشْرَةً مِنْكُمْ. وَأَخْذَ الْحُصَيْنُ يُكَلِّمُهُ سِرًّا، وَهُوَ يَجْهَرُ وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ. فَقَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ: قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ يَعُدُّكَ بَعْدُ (دَاهِيًا وَأَرِيبًا) قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ لَكَ رَأْيًا، وَأَنَا أُكَلِّمُكَ سِرًّا وَتُكَلِّمُنِي جَهْرًا، وَأَدْعُوكَ إِلَى الْخِلَافَةِ (وَأَنْتَ لَا تُرِيدُ إِلَّا) الْقَتْلَ وَالْهَلَكَةَ. ثُمَّ فَارَقَهُ وَرَحَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ نَحْوَ الْمَدِينَةِ، وَنَدِمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى مَا صَنَعَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَمَّا الْمَسِيرُ إِلَى الشَّامِ فَلَا أَفْعَلُهُ وَلَكِنْ بَايِعُوا لِي هُنَاكَ فَإِنِّي مُؤَمِّنُكُمْ وَعَادِلٌ فِيكُمْ. فَقَالَ الْحُصَيْنُ: إِنْ لَمْ تَقْدَمْ بِنَفْسِكَ لَا يَتِمُّ الْأَمْرُ، فَإِنَّ هُنَاكَ نَاسًا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ يَطْلُبُونَ هَذَا الْأَمْرَ. وَسَارَ الْحُصَيْنُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَاجْتَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، فَكَانَ لَا يَنْفَرِدُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أُخِذَتْ دَابَّتُهُ، فَلَمْ يَتَفَرَّقُوا، وَخَرَجَ مَعَهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ، وَلَوْ خَرَجَ مَعَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ أَحَدٌ. فَوَصَلَ أَهْلُ الشَّامِ دِمَشْقَ وَقَدْ بُويِعَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى هَلَكَ، وَقِيلَ: بَلْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَمَاتَ. وَعُمُرُهُ إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ إِمَارَتِهِ أَمَرَ فَنُودِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي ضَعُفْتُ عَنْ أَمْرِكُمْ فَابْتَغَيْتُ لَكُمْ مِثْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ اسْتَخْلَفَهُ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَابْتَغَيْتُ سِتَّةً مِثْلَ [سِتَّةِ] الشُّورَى فَلَمْ أَجِدْهُمْ، فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِأَمْرِكُمْ فَاخْتَارُوا لَهُ مَنْ أَحْبَبْتُمْ. ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَتَغَيَّبَ حَتَّى مَاتَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ مَسْمُومًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ أَصَابَهُ الطَّاعُونُ مِنْ يَوْمِهِ فَمَاتَ أَيْضًا، وَقِيلَ: لَمْ يَمُتْ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ بِالنَّاسِ حَتَّى يَقُومَ لَهُمْ خَلِيفَةٌ، وَقِيلَ لِمُعَاوِيَةَ: لَوِ اسْتَخْلَفْتَ؟ فَقَالَ: لَا أَتَزَوَّدُ مَرَارَتَهَا وَأَتْرُكُ لِبَنِي أُمَيَّةَ حَلَاوَتَهَا.

ذِكْرُ حَالِ ابْنِ زِيَادٍ بَعْدَ مَوْتِ يَزِيدَ لَمَّا مَاتَ يَزِيدُ وَأَتَى الْخَبَرُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ مَعَ مَوْلَاهُ حُمْرَانَ، وَكَانَ رَسُولُهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ إِلَى يَزِيدَ بَعْدَهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ الْخَبَرُ أَسَرَّهُ إِلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الشَّامِ، فَأَمَرَ فَنُودِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَنَعَى يَزِيدَ (وَثَلَّبَهُ، فَقَالَ الْأَحْنَفُ: إِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِيَزِيدَ فِي أَعْنَاقِنَا بَيْعَةٌ، وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ: أَعْرَضَ عَنْ ذِي فَنَنٍ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ عُبَيْدُ اللَّهِ) ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ إِنَّ مُهَاجِرَنَا إِلَيْكُمْ وَدَارَنَا فِيكُمْ، وَمَوْلِدِي فِيكُمْ، وَلَقَدْ وَلِيتُكُمْ وَمَا يُحْصِي دِيوَانُ مُقَاتَلَتِكُمْ إِلَّا سَبْعِينَ أَلْفًا، وَلَقَدْ أَحْصَى الْيَوْمَ مِائَةَ أَلْفٍ، وَمَا كَانَ يُحْصَى دِيوَانُ عُمَّالِكُمْ إِلَّا تِسْعِينَ أَلْفًا، وَلَقَدْ أَحْصَى الْيَوْمَ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَمَا تَرَكْتُ لَكُمْ ذَا ظِنَّةٍ أَخَافُهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا وَهُوَ فِي سِجْنِكُمْ، وَإِنَّ يَزِيدَ قَدْ تُوُفِّيَ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ بِالشَّامِ وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَدَدًا وَأَعْرَضُهُمْ فَنَاءً وَأَغْنَاهُمْ عَنِ النَّاسِ وَأَوْسَعُهُمْ بِلَادًا، فَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ رَجُلًا تَرْضَوْنَهُ لِدِينِكُمْ وَجَمَاعَتِكُمْ، فَأَنَا أَوَّلُ رَاضٍ مَنْ رَضِيتُمُوهُ، فَإِنِ اجْتَمَعَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى رَجُلٍ تَرْضَوْنَهُ لِدِينِكُمْ وَجَمَاعَتِكُمْ دَخَلْتُمْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ ذَلِكَ كُنْتُمْ عَلَى جَدِيلَتِكُمْ حَتَّى تُعْطُوا حَاجَتَكُمْ، فَمَا بِكُمْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْبُلْدَانِ حَاجَةٌ وَلَا يَسْتَغْنِي النَّاسُ عَنْكُمْ. فَقَامَ خُطَبَاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقَالُوا: قَدْ سَمِعْنَا مَقَالَتَكَ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَقْوَى عَلَيْهَا مِنْكَ، فَهَلُمَّ فَلْنُبَايِعْكَ. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ. فَكَرَّرُوا عَلَيْهِ فَأَبَى عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا، ثُمَّ بَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ ثُمَّ انْصَرَفُوا وَمَسَحُوا أَيْدِيَهُمْ بِالْحِيطَانِ وَقَالُوا: أَيُظَنُّ ابْنُ مَرْجَانَةَ أَنَّنَا نَنْقَادُ لَهُ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفُرْقَةِ! فَلَمَّا بَايَعُوهُ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ مَعَ عَمْرِو بْنِ مِسْمَعٍ وَسَعْدِ بْنِ الْقَرْحَاءِ التَّمِيمِيِّ يُعْلِمُ أَهْلَ الْكُوفَةِ مَا صَنَعَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْبَيْعَةِ لَهُ، فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى الْكُوفَةِ،

وَكَانَ خَلِيفَتُهُ عَلَيْهَا عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، جَمَعَ النَّاسَ وَقَامَ الرَّسُولَانِ فَخَطَبَا أَهْلَ الْكُوفَةِ وَذَكَرَا لَهُمْ ذَلِكَ، فَقَامَ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الشَّيْبَانِيُّ، وَهُوَ ابْنُ رُوَيْمٍ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرَاحَنَا مِنِ ابْنِ سُمَيَّةَ! أَنَحْنُ نُبَايِعُهُ؟ لَا وَلَا كَرَامَةَ! وَحَصَبَهُمَا أَوَّلَ النَّاسِ ثُمَّ حَصَبَهُمَا النَّاسُ بَعْدَهُ، فَشَرَّفَتْ تِلْكَ الْفَعْلَةُ يَزِيدَ بْنَ رُوَيْمٍ فِي الْكُوفَةِ وَرَفَعَتْهُ. وَرَجَعَ الرَّسُولَانِ إِلَى الْبَصْرَةِ فَأَعْلَمَاهُ الْحَالَ، فَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: أَيَخْلَعُهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَنُوَلِّيهِ نَحْنُ! فَضَعُفَ سُلْطَانُهُ عِنْدَهُمْ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِالْأَمْرِ فَلَا يُقْضَى، وَيَرَى الرَّأْيَ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ، وَيَأْمُرُ بِحَبْسِ الْمُخْطِئِ فَيُحَالُ بَيْنَ أَعْوَانِهِ وَبَيْنَهُ. ثُمَّ جَاءَ إِلَى الْبَصْرَةِ سَلَمَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ الْحَنْظَلِيُّ التَّمِيمِيُّ فَوَقَفَ فِي السُّوقِ وَبِيَدِهِ لِوَاءٌ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَيَّ، إِنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى مَا لَمْ يَدْعُكُمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَائِذِ بِالْحَرَمِ، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ وَجَعَلُوا يُصَفِّقُونَ عَلَى يَدَيْهِ يُبَايِعُونَهُ. فَبَلَغَ الْخَبَرُ ابْنَ زِيَادٍ، فَجَمَعَ النَّاسَ فَخَطَبَهُمْ وَذَكَرَ لَهُمْ أَمْرَهُ مَعَهُمْ وَأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى مَنْ يَرْتَضُونَهُ، فَبَايَعَهُ مِنْهُمْ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَأَنَّهُمْ أَبَوْا غَيْرَهُ، وَقَالَ: إِنِّي بَلَغَنِي أَنَّكُمْ مَسَحْتُمْ أَكُفَّكُمْ بِالْحِيطَانِ وَبَابِ الدَّارِ وَقُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ، وَإِنِّي آمِرٌ بِالْأَمْرِ فَلَا يَنْفُذُ وَيُرَدُّ عَلَيَّ رَأْيِي وَيُحَالُ بَيْنَ أَعْوَانِي وَبَيْنَ طِلْبَتِي، ثُمَّ إِنَّ هَذَا سَلَمَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ يَدْعُو إِلَى الْخِلَافِ عَلَيْكُمْ لِيُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ وَيَضْرِبَ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ بِالسَّيْفِ. فَقَالَ الْأَحْنَفُ وَالنَّاسُ: نَحْنُ نَأْتِيكَ بِسَلَمَةَ، فَأَتَوْهُ بِسَلَمَةَ فَإِذَا جَمْعُهُ قَدْ كُثِفَ وَالْفَتْقُ قَدِ اتَّسَعَ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَعَدُوا عَنِ ابْنِ زِيَادٍ فَلَمْ يَأْتُوهُ. فَدَعَا عُبَيْدُ اللَّهِ رُؤَسَاءَ مُحَارَبَةِ السُّلْطَانِ وَأَرَادَهُمْ لِيُقَاتِلُوا مَعَهُ، قَالُوا: إِنْ أَمَرَنَا فُؤَادُنَا فَعَلْنَا. فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: مَا مِنْ خَلِيفَةٍ فَتُقَاتِلُ عَنْهُ فَإِنْ هُزِمْتَ رَجَعْتَ إِلَيْهِ فَأَمَدَّكَ، وَلَعَلَّ الْحَرْبَ تَكُونُ عَلَيْكَ (وَقَدِ اتَّخَذْنَا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْوَالًا) فَإِنْ ظَفِرُوا بِنَا أَهْلَكُونَا وَأَهْلَكُوهَا فَلَمْ تَبْقَ لَكَ بَقِيَّةٌ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ صَهْبَاءَ الْجَهْضَمِيِّ الْأَزْدِيِّ فَأَحْضَرَهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا حَارِثُ إِنَّ أَبِي أَوْصَانِي أَنِّي إِنِ احْتَجْتُ إِلَى الْهَرَبِ يَوْمًا أَنْ أَخْتَارَكُمْ. فَقَالَ الْحَارِثُ: إِنْ قُومِي قَدِ اخْتَبَرُوا أَبَاكَ، فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهُ مَكَانًا، وَلَا عِنْدَكَ مُكَافَأَةً، وَلَا أَرُدُّكَ

إِذَا اخْتَرْتَنَا، وَمَا أَدْرِي كَيْفَ أَمَانِي لَكَ، إِنْ أَخْرَجْتُكَ نَهَارًا أَخَافُ أَنْ تُقْتَلَ وَأُقْتَلَ، وَلَكِنِّي أُقِيمُ مَعَكَ إِلَى اللَّيْلِ ثُمَّ أُرْدِفُكَ خَلْفِي لِئَلَّا تُعْرَفَ. فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ. فَأَقَامَ عِنْدَهُ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ حَمَلَهُ خَلْفَهُ. وَكَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَفَرَّقَ ابْنُ زِيَادٍ بَعْضَهَا فِي مَوَالِيهِ وَادَّخَرَ الْبَاقِي فَبَقِيَ لِآلِ زِيَادٍ. وَسَارَ الْحَارِثُ بِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَكَانَ يَمُرُّ بِهِ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يَتَحَارَسُونَ مَخَافَةَ الْحَرُورِيَّةِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ يَسْأَلُهُ: أَيْنَ نَحْنُ؟ وَالْحَارِثُ يُخْبِرُهُ، فَلَمَّا كَانُوا فِي بَنِي سُلَيْمٍ قَالَ: أَيْنَ نَحْنُ؟ قَالَ: فِي بَنِي سُلَيْمٍ. قَالَ: سَلِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمَّا أَتَى بَنِي نَاجِيَةَ قَالَ: أَيْنَ نَحْنُ؟ قَالَ: فِي بَنِي نَاجِيَةَ. قَالَ: نَجَوْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ بَنُو نَاجِيَةَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: الْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ يَعْرِفُ رَجُلٌ مِنْهُمْ عُبَيْدَ اللَّهِ، فَقَالَ ابْنُ مَرْجَانَةَ! وَأَرْسَلَ سَهْمًا فَوَقَعَ فِي عِمَامَتِهِ. وَمَضَى بِهِ الْحَارِثُ فَأَنْزَلَهُ فِي دَارِ نَفْسِهِ فِي الْجَهَاضِمِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: يَا حَارِثُ إِنَّكَ أَحْسَنْتَ فَاصْنَعْ مَا أُشِيرُ بِهِ عَلَيْكَ، قَدْ عَلِمْتَ مَنْزِلَةَ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو فِي قَوْمِهِ وَشَرَفِهِ وَسِنَّهُ وَطَاعَةَ قَوْمِهِ لَهُ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَذْهَبَ بِي إِلَيْهِ فَأَكُونَ فِي دَارِهِ فَهِيَ فِي وَسَطِ الْأَزْدِ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فُرِّقَ عَلَيْكَ أَمْرُ قَوْمِكَ. فَأَخَذَهُ الْحَارِثُ فَدَخَلَا عَلَى مَسْعُودٍ، وَلَمْ يَشْعُرْ وَهُوَ جَالِسٌ يُصْلِحُ خُفًّا لَهُ، فَلَمَّا رَآهُمَا عَرَفَهُمَا فَقَالَ الْحَارِثُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرٍّ طَرَقْتَنِي بِهِ! قَالَ: مَا طَرَقْتُكَ إِلَّا بِخَيْرٍ، (قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ قَوْمَكَ أَنْجَوْا زِيَادًا وَوَفَوْا لَهُ فَصَارَتْ مَكْرَمَةً يَفْتَخِرُونَ بِهَا عَلَى الْعَرَبِ) ، وَقَدْ بَايَعْتُمْ عُبَيْدَ اللَّهِ بَيْعَةَ الرِّضَى عَنْ مَشُورَةٍ وَبَيْعَةٍ أُخْرَى قَبْلَ هَذِهِ، يَعْنِي بَيْعَةَ الْجَمَاعَةِ. قَالَ مَسْعُودٌ: أَتُرَى لَنَا أَنْ نُعَادِيَ أَهْلَ مِصْرِنَا فِي عُبَيْدِ اللَّهِ وَلَمْ نَجِدْ مِنْ أَبِيهِ مُكَافَأَةً وَلَا شُكْرًا فِيمَا صَنَعْنَا مَعَهُ؟ قَالَ الْحَارِثُ: إِنَّهُ لَا يُعَادِيكَ أَحَدٌ عَلَى الْوَفَاءِ عَلَى بَيْعَتِكَ حَتَّى تُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ، أَفَتُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِكَ بَعْدَمَا دَخَلَهُ عَلَيْكَ؟ وَأَمَرَهُ مَسْعُودٌ فَدَخَلَ بَيْتَ أَخِيهِ عَبْدِ الْغَافِرِ بْنِ عَمْرٍو، ثُمَّ رَكِبَ مَسْعُودٌ مِنْ لَيْلَتِهِ وَمَعَهُ الْحَارِثُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَطَافُوا فِي الْأَزْدِ فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ زِيَادٍ فُقِدَ وَإِنَّا لَا نَأْمَنُ أَنْ

تَلْحَظُوا بِهِ. فَأَصْبِحُوا فِي السِّلَاحِ. وَفَقَدَ النَّاسُ ابْنَ زِيَادٍ فَقَالُوا: مَا هُوَ إِلَّا فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ إِنَّ الْحَارِثَ لَمْ يُكَلِّمْ مَسْعُودًا بَلْ أَمَرَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَحَمَلَ مَعَهُ مِائَةَ أَلْفٍ وَأَتَى بِهَا أُمَّ بِسِطَامٍ امْرَأَةَ مَسْعُودٍ، (وَهِيَ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَمَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا فَأَذِنَتْ لَهُ فَقَالَ لَهَا: قَدْ أَتَيْتُكِ بِأَمْرٍ تَسُودِينَ بِهِ نِسَاءَ الْعَرَبِ وَتَتَعَجَّلِينَ بِهِ الْغِنَى. وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، وَأَمَرَهَا أَنْ تُدْخِلَ ابْنَ زِيَادٍ الْبَيْتَ وَتُلْبِسَهُ ثَوْبًا مِنْ ثِيَابِ مَسْعُودٍ، فَفَعَلَتْ، وَلَمَّا جَاءَ مَسْعُودٌ أَخَذَ بِرَأْسِهَا يَضْرِبُهَا، فَخَرَجَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَالْحَارِثُ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: قَدْ أَجَارْتَنِي وَهَذَا ثَوْبُكَ عَلَيَّ وَطَعَامُكَ فِي بَطْنِي. وَشَهِدَ الْحَارِثُ وَتَلَطَّفُوا بِهِ حَتَّى رَضِيَ، فَلَمْ يَزَلِ ابْنُ زِيَادٍ فِي بَيْتِهِ حَتَّى قُتِلَ مَسْعُودٌ فَسَارَ إِلَى الشَّامِ. وَلَمَّا فُقِدَ ابْنُ زِيَادٍ بَقِيَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فِي غَيْرِ أَمِيرٍ فَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يُؤَمِّرُونَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ تَرَاضَوْا بِقَيْسِ بْنِ الْهَيْثَمِ السُّلَمِيِّ وَبِالنُّعْمَانِ بْنِ سُفْيَانَ الرَّاسِبِيِّ الْحَرَمِيِّ لِيَخْتَارَا مَنْ يَرْضَيَانِ لَهُمْ، وَكَانَ رَأْيُ قَيْسٍ فِي بَنِي أُمَيَّةَ، وَرَأْيُ النُّعْمَانِ فِي بَنِي هَاشِمٍ، فَقَالَ النُّعْمَانُ: مَا أَرَى أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ فُلَانٍ، لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقِيلَ: بَلْ ذَكَرَ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْأَسْوَدِ الزُّهْرِيَّ، وَكَانَ هَوَى قَيْسٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا قَالَ النُّعْمَانُ ذَلِكَ خَدِيعَةً وَمَكْرًا بِقَيْسٍ، فَقَالَ قَيْسٌ: قَدْ قَلَّدْتُكَ أَمْرِي وَرَضِيتُ مَنْ رَضِيتَ، ثُمَّ خَرَجَا إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ قَيْسٌ: قَدْ رَضِيتُ مَنْ رَضِيَ النُّعْمَانُ. ذِكْرُ وِلَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْبَصْرَةَ لَمَّا اتَّفَقَ قَيْسٌ وَالنُّعْمَانُ وَرَضِيَ قَيْسٌ بِمَنْ يُؤَمِّرُهُ النُّعْمَانُ أَشْهَدَ عَلَيْهِ النُّعْمَانُ بِذَلِكَ وَأَخَذَ عَلَى قَيْسٍ وَعَلَى النَّاسِ الْعُهُودَ بِالرِّضَى، ثُمَّ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْأَسْوَدِ وَأَخَذَ بِيَدِهِ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ (حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ بَايَعَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ وَأَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمُلَقَّبِ بِبَبَّةَ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ) مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَقَّ أَهْلِ بَيْتِهِ وَقَرَابَتِهِ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَا تَنْقِمُونَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَمِّ نَبِيِّكُمْ وَأُمُّهُ هِنْدُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِمْ، فَهُوَ ابْنُ أُخْتِكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: رَضِيتُ لَكُمْ بِهِ، فَنَادَوْهُ: قَدْ رَضِينَا، وَبَايَعُوهُ وَأَقْبَلُوا بِهِ إِلَى دَارِ الْإِمَارَةِ حَتَّى نَزَلَهَا، وَذَلِكَ أَوَّلُ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ فِي بَيْعَتِهِ:

وَبَايَعْتُ أَقْوَامًا وَفَيْتُ بِعَهْدِهِمْ ... وَبَبَّةُ قَدْ بَايَعَتْهُ غَيْرَ نَادِمِ ذِكْرُ هَرَبِ ابْنِ زِيَادٍ إِلَى الشَّامِ ثُمَّ إِنَّ الْأَزْدَ وَرَبِيعَةَ جَدَّدُوا الْحِلْفَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَمَاعَةِ، وَأَنْفَقَ ابْنُ زِيَادٍ مَالًا كَثِيرًا فِيهِمْ حَتَّى تَمَّ الْحِلْفُ وَكَتَبُوا بِذَلِكَ بَيْنَهُمْ كِتَابَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو. فَلَمَّا سَمِعَ الْأَحْنَفُ أَنَّ الْأَزْدَ طَلَبَتْ إِلَى رَبِيعَةَ ذَلِكَ، قَالَ: لَا يَزَالُونَ لَهُمْ أَتْبَاعًا إِذَا أَتَوْهُمْ. فَلَمَّا تَحَالَفُوا اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَرُدُّوا ابْنَ زِيَادٍ إِلَى دَارِ الْإِمَارَةِ، فَسَارُوا، وَرَئِيسُهُمْ مَسْعُودُ بْنُ عَمْرٍو، وَقَالُوا لِابْنِ زِيَادٍ: سِرْ مَعَنَا، فَلَمْ يَفْعَلْ وَأَرْسَلَ مَعَهُ مَوَالِيَهُ عَلَى الْخَيْلِ وَقَالَ لَهُمْ: لَا تَتَحَدَّثُوا بِخَيْرٍ وَلَا بِشَرٍّ إِلَّا أَتَيْتُمُونِي بِهِ، فَجَعَلَ مَسْعُودٌ لَا يَأْتِي سِكَّةً وَلَا يَتَجَاوَزُ قَبِيلَةً إِلَّا أَتَى بَعْضُ أُولَئِكَ الْغِلْمَانِ ابْنَ زِيَادٍ بِالْخَبَرِ، وَسَارَتْ رَبِيعَةُ، وَعَلَيْهِمْ مَالِكُ بْنُ مِسْمَعٍ، فَأَخَذُوا سِكَّةَ الْمِرْبَدِ، وَجَاءَ مَسْعُودٌ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مَسْعُودًا وَأَهْلَ الْيَمَنِ وَرَبِيعَةَ قَدْ سَارُوا وَسَيُهَيَّجُ بَيْنَ النَّاسِ شَرٌّ، فَلَوْ أَصْلَحْتَ بَيْنَهُمْ أَوْ رَكِبْتَ فِي بَنِي تَمِيمٍ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ: أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ، لَا وَاللَّهِ لَا أُفْسِدَنَّ نَفْسِي فِي إِصْلَاحِهِمْ! وَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ مَسْعُودٍ يَقُولُ: لَأُنْكِحَنَّ بَبَّهْ جَارِيَةً فِي قُبَّهْ ... تَمْشُطُ رَأْسَ لُعْبَهْ هَذَا قَوْلُ الْأَزْدِ، وَأَمَّا قَوْلُ مُضَرَ فَيَقُولُونَ: إِنَّ أُمَّهُ كَانَتْ تُرَقِّصُهُ وَتَقُولُ هَذَا. وَصَعِدَ مَسْعُودٌ الْمِنْبَرَ وَسَارَ مَالِكُ بْنُ مِسْمَعٍ نَحْوَ دُورِ بَنِي تَمِيمٍ حَتَّى دَخَلَ سِكَّةَ بَنِي الْعَدَوِيَّةِ فَحَرَّقَ دُورَهُمْ لِمَا فِي نَفْسِهِ لِاسْتِعْرَاضِ ابْنِ خَازِمٍ رَبِيعَةَ بِهَرَاةَ. وَجَاءَ بَنُو

تَمِيمٍ إِلَى الْأَحْنَفِ فَقَالُوا: يَا أَبَا بَحْرٍ، إِنَّ رَبِيعَةَ وَالْأَزْدَ قَدْ تَحَالَفُوا وَقَدْ سَارُوا إِلَى الرَّحْبَةِ فَدَخَلُوهَا. فَقَالَ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِالْمَسْجِدِ مِنْهُمْ. فَقَالُوا: قَدْ دَخَلُوا الدَّارَ. فَقَالَ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِالدَّارِ مِنْهُمْ. فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ بِمِجْمَرٍ وَقَالَتْ لَهُ: مَا لَكَ وَلِلرِّيَاسَةِ، إِنَّمَا أَنْتَ امْرَأَةٌ تَتَجَمَّرُ! فَقَالَ: اسْتُ الْمَرْأَةِ أَحَقُّ بِالْمِجْمَرِ، فَمَا سُمِعَ مِنْهُ كَلِمَةٌ أَسْوَأُ مِنْهَا، ثُمَّ أَتَوْهُ فَقَالُوا: إِنَّ امْرَأَةً مِنَّا قَدْ سُلِبَتْ خَلْخَالَهَا، وَقَدْ قَتَلُوا الصَّبَّاغَ الَّذِي عَلَى طَرِيقِكَ وَقَتَلُوا الْمُقْعَدَ الَّذِي عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ دَخَلَ مَالِكُ بْنُ مِسْمَعٍ سِكَّةَ بَنِي الْعَدَوِيَّةِ فَحَرَّقَ. فَقَالَ الْأَحْنَفُ: أَقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا، فَفِي دُونِ هَذَا مَا يُحِلُّ قِتَالَهُمْ. فَشَهِدُوا عِنْدَهُ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ الْأَحْنَفُ: أَجَاءَ عَبَّادُ بْنُ الْحُصَيْنِ؟ قَالُوا: لَا، وَهُوَ عَبَّادُ بْنُ الْحُصَيْنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، ثُمَّ قَالَ: أَجَاءَ عَبَّادٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَهَاهُنَا عَبْسُ بْنُ طَلْقِ بْنِ رَبِيعَةَ الصُّرَيْمِيُّ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَدَعَاهُ فَانْتَزَعَ مِعْجَرًا فِي رَأْسِهِ فَعَقَدَهُ فِي رُمْحٍ ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: سِرْ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُخْزِهَا الْيَوْمَ فَإِنَّكَ لَمْ تُخْزِهَا فِيمَا مَضَى، وَصَاحَ النَّاسُ: هَاجَتْ زَبْرَاءُ! وَهِيَ أَمَةٌ لِلْأَحْنَفِ كَنَّوْا بِهَا عَنْهُ. فَسَارَ عَبْسٌ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا سَارَ عَبْسٌ جَاءَ عَبَّادٌ فَقَالَ: مَا صَنَعَ النَّاسُ؟ فَقِيلَ: سَارَ بِهِمْ عَبْسٌ. فَقَالَ: لَا أَسِيرُ تَحْتَ لِوَاءِ عَبْسٍ، وَعَادَ إِلَى بَيْتِهِ وَمَعَهُ سِتُّونَ فَارِسًا. فَلَمَّا وَصَلَ عَبْسٌ إِلَى الْمَسْجِدِ قَاتَلَ الْأَزْدُ عَلَى أَبْوَابِهِ، وَمَسْعُودٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يُحَضِّضُ النَّاسَ، فَقَاتَلَ غَطَفَانُ بْنُ أُنَيْفٍ التَّمِيمِيُّ وَهُوَ يَقُولُ: يَالَ تَمِيمٍ إِنَّهَا مَذْكُورَهْ ... إِنْ فَاتَ مَسْعُودٌ بِهَا مَشْهُورَهْ فَاسْتَمْسِكُوا بِجَانِبِ الْمَقْصُورَهْ

أَيْ لَا يَهْرُبُ [فَيَفُوتَ] . وَأَتَوْا مَسْعُودًا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَاسْتَنْزَلُوهُ فَقَتَلُوهُ، وَذَلِكَ أَوَّلُ شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَهَرَبَ أَشْيَمُ بْنُ شَقِيقِ بْنِ ثَوْرٍ فَطَعَنَهُ أَحَدُهُمْ فَنَجَا بِهَا، فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: لَوْ أَنَّ أَشْيَمَ لَمْ يَسْبِقْ أَسِنَّتَنَا ... وَأَخْطَأَ الْبَابَ إِذْ نِيرَانُنَا تَقِدُ إِذًا لَصَاحَبَ مَسْعُودًا وَصَاحِبَهُ ... وَقَدْ تَهَافَتَتِ الْأَعْفَاجُ وَالْكَبِدُ وَلَمَّا صَعِدَ مَسْعُودٌ الْمِنْبَرَ أَتَى ابْنُ زِيَادٍ فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ، فَتَهَيَّأَ لِيَجِيءَ إِلَى دَارِ الْإِمَارَةِ، فَأَتَوْهُ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ قُتِلَ مَسْعُودٌ، فَرَكِبَ وَلَحِقَ بِالشَّامِ. فَأَمَّا مَالِكُ بْنُ مِسْمَعٍ فَأَتَاهُ مِنْ مُضَرَ فَحَصَرُوهُ فِي دَارِهِ وَحَرَّقُوا دَارَهُ. وَلَمَّا هَرَبَ ابْنُ زِيَادٍ تَبِعُوهُ فَأَعْجَزَهُمْ فَنَهَبُوا مَا وَجَدُوا لَهُ، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ وَاقَدُ بْنُ خَلِيفَةَ التَّمِيمِيُّ: يَا رُبَّ جَبَّارٍ شَدِيدِ كَلْبُهْ ... قَدْ صَارَ فِينَا تَاجُهُ وَسَلَبُهْ مِنْهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ يَوْمَ نَسْلُبُهْ ... جِيَادَهُ وَبَزَّهُ وَنَنْهَبُهْ يَوْمَ الْتَقَى مِقْنَبُنَا وَمِقْنَبُهْ ... لَوْ لَمْ يُنَجِّ ابْنَ زِيَادٍ هَرَبُهْ وَقَدْ قِيلَ فِي قَتْلِ مَسْعُودٍ وَمَسِيرِ ابْنِ زِيَادٍ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ، هُوَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَجَارَ ابْنُ زِيَادٍ بِمَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو أَجَارَهُ، ثُمَّ سَارَ ابْنُ زِيَادٍ إِلَى الشَّامِ وَأَرْسَلَ مَعَهُ مَسْعُودٌ مِائَةً مِنَ الْأَزْدِ حَتَّى قَدِمُوا بِهِ إِلَى الشَّامِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ ذَاتَ لَيْلَةٍ قَالَ: قَدْ ثَقُلَ عَلَيَّ رُكُوبُ الْإِبِلِ فَوَطِّئُوا لِي عَلَى ذِي حَافِرٍ، فَجَعَلُوا لَهُ قَطِيفَةً عَلَى حِمَارٍ، فَرَكِبَهُ ثُمَّ سَارَ وَسَكَتَ طَوِيلًا. قَالَ مُسَافِرُ بْنُ شُرَيْحٍ الْيَشْكُرِيُّ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَئِنْ كَانَ نَائِمًا لَأُنَغِّصَنَّ عَلَيْهِ نَوْمَهُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: أَنَائِمٌ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، كُنْتُ أُحَدِّثَ نَفْسِي. قُلْتُ: أَفَلَا

أُحَدِّثُكَ بِمَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ؟ قَالَ: هَاتِ. قُلْتُ: كُنْتَ تَقُولُ: لَيْتَنِي لَمْ أَقْتُلْ حُسَيْنًا. قَالَ: وَمَاذَا؟ قُلْتُ: تَقُولُ: لَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ قَتَلْتُ مَنْ قَتَلْتُ. قَالَ: وَمَاذَا؟ قُلْتُ: تَقُولُ: لَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ بَنَيْتُ الْبَيْضَاءَ. قَالَ: وَمَاذَا؟ قُلْتُ: تَقُولُ: لَيْتَنِي لَمْ أَكُنِ اسْتَعْمَلْتُ الدَّهَاقِينَ. قَالَ: وَمَاذَا؟ قُلْتُ: تَقُولُ: لَيْتَنِي كُنْتُ أَسْخَى مِمَّا كُنْتُ. قَالَ: أَمَّا قَتْلِي الْحُسَيْنَ فَإِنَّهُ أَشَارَ إِلَيَّ يَزِيدُ بِقَتْلِهِ أَوْ قَتْلِي فَاخْتَرْتُ قَتْلَهُ، وَأَمَّا الْبَيْضَاءُ فَإِنِّي اشْتَرَيْتُهَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ الثَّقَفِيِّ وَأَرْسَلَ إِلَيَّ يَزِيدُ بِأَلْفِ أَلْفٍ فَأَنْفَقَهَا عَلَيْهَا، فَإِنْ بَقِيَتْ فَلِأَهْلِي، وَإِنْ هَلَكْتُ لَمْ آسَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الدَّهَاقِينِ فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ (وَزَاذَانَ فَرُّوخٍ وَقَعَا فِيَّ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ [حَتَّى ذَكَرُوا قُشُورَ الْأَرُزِّ] فَبَلَغَا بِخَرَاجِ الْعِرَاقِ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ، فَخَيَّرَنِي مُعَاوِيَةُ بَيْنَ الْعَزْلِ وَالضَّمَانِ، فَكَرِهْتُ الْعَزْلَ، فَكُنْتُ إِذَا اسْتَعْمَلْتُ الْعَرَبِيَّ كَسَرَ الْخَرَاجَ، فَإِنْ أَغْرَمْتُ عَشِيرَتَهُ أَوْ طَالَبْتُهُ أَوْغَرْتُ صُدُورَهُمْ، وَإِنْ تَرَكْتُهُ تَرَكْتُ مَالَ اللَّهِ وَأَنَا أَعْرِفُ مَكَانَهُ، فَوَجَدْتُ الدَّهَاقِينَ أَبْصَرَ بِالْجِبَايَةِ وَأَوْفَى بِالْأَمَانَةِ وَأَهْوَنَ بِالْمُطَالَبَةِ مِنْكُمْ، مَعَ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُكُمْ أُمَنَاءَ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَظْلِمُوا أَحَدًا، وَأَمَّا قَوْلُكَ فِي السَّخَاءِ فَمَا كَانَ لِي مَالٌ فَأَجُودَ بِهِ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ شِئْتُ لَأَخَذْتُ بَعْضَ مَالِكُمْ فَخَصَصْتُ بِهِ بَعْضَكُمْ دُونَ بَعْضٍ فَيَقُولُونَ مَا أَسْخَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُكَ لَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ قَتَلْتُ مَنْ قَتَلْتُ فَمَا عَمِلْتُ بَعْدَ كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ عَمَلًا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ عِنْدِي مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلْتُ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَلَكِنِّي سَأُخْبِرُكَ بِمَا حَدَّثْتُ بِهِ نَفْسِي، قُلْتُ: لَيْتَنِي كُنْتُ قَاتَلْتُ أَهْلَ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُمْ بَايَعُونِي طَائِعِينَ، وَلَقَدْ حَرَصْتُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّ بَنِي زِيَادٍ قَالُوا: إِنْ قَاتَلْتَهُمْ فَظَهَرُوا عَلَيْكَ لَمْ يُبْقُوا مِنَّا أَحَدًا، وَإِنَّ تَرَكْتَهُمْ تَغَيَّبَ الرَّجُلُ مِنَّا عِنْدَ أَخْوَالِهِ وَأَصْهَارِهِ فَوَقَعْتُ بِهِمْ، فَكُنْتُ أَقُولُ: لَيْتَنِي أَخْرَجْتُ أَهْلَ السِّجْنِ فَضَرَبْتُ أَعْنَاقَهُمْ، وَأَمَّا إِذْ فَاتَتْ هَاتَانِ فَلَيْتَنِي أَقْدَمُ الشَّامَ وَلَمْ يُبْرِمُوا أَمْرًا. قَالَ: فَقَدِمَ الشَّامَ وَلَمْ يُبْرِمُوا أَمْرًا، [فَكَأَنَّمَا] كَانُوا مَعَهُ صِبْيَانًا، وَقِيلَ: بَلْ قَدِمَ وَقَدْ أَبْرَمُوا فَنَقَضَ عَلَيْهِمْ مَا أَبْرَمُوا. فَلَمَّا سَارَ مِنَ الْبَصْرَةِ اسْتَخْلَفَ مَسْعُودًا عَلَيْهَا، فَقَالَ بَنُو تَمِيمٍ وَقَيْسٌ: لَا نَرْضَى بِهِ،

وَلَا نُوَلِّي إِلَّا رَجُلًا تَرْضَاهُ جَمَاعَتُنَا. فَقَالَ مَسْعُودٌ: قَدِ اسْتَخْلَفَنِي وَلَا أَدَعُ ذَلِكَ أَبَدًا. وَخَرَجَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَصْرِ وَدَخَلَهُ، وَاجْتَمَعَتْ تَمِيمٌ إِلَى الْأَحْنَفِ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الْأَزْدَ قَدْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ. قَالَ: إِنَّمَا هُوَ لَهُمْ وَلَكُمْ. قَالُوا: قَدْ دَخَلُوا الْقَصْرَ وَصَعِدَ مَسْعُودٌ الْمِنْبَرَ، وَكَانَتْ خَوَارِجُ قَدْ خَرَجُوا فَنَزَلُوا نَهْرَ الْأَسَاوِرَةِ حِينَ خَرَجَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الشَّامِ، فَزَعَمَ النَّاسُ أَنَّ الْأَحْنَفَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي قَدْ دَخَلَ الْقَصْرَ هُوَ لَنَا وَلَكُمْ عَدُوٌّ فَمَا يَمْنَعُكُمْ عَنْهُ! فَجَاءَتْ عِصَابَةٌ مِنْهُمْ حَتَّى دَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَمَسْعُودٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يُبَايِعُ مَنْ أَتَاهُ، فَرَمَاهُ عِلْجٌ يُقَالُ لَهُ مُسْلِمٌ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، دَخَلَ الْبَصْرَةَ فَأَسْلَمَ (ثُمَّ دَخَلَ فِي الْخَوَارِجِ، فَأَصَابَ قَلْبَهُ) فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: قَتَلَهُ الْخَوَارِجُ، فَخَرَجَتِ الْأَزْدُ إِلَى تِلْكَ الْخَوَارِجِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَجَرَحُوا فَطَرَدُوهُمْ عَنِ الْبَصْرَةِ. ثُمَّ قِيلَ لِلْأَزْدِ: إِنَّ تَمِيمًا قَتَلُوا مَسْعُودًا، فَأَرْسَلُوا يَسْأَلُونَ، فَإِذَا نَاسٌ مِنْ تَمِيمٍ تَقُولُهُ، فَاجْتَمَعَتِ الْأَزْدُ عِنْدَ ذَلِكَ فَرَأَّسُوا عَلَيْهِمْ زِيَادَ بْنَ عَمْرٍو أَخَا مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو وَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ مِسْمَعٍ فِي رَبِيعَةَ، وَجَاءَتْ تَمِيمٌ إِلَّا الْأَحْنَفَ يَقُولُونَ: قَدْ خَرَجَ الْقَوْمُ، وَهُوَ يَتَمَكَّثُ لَا يَخِفُّ لِلْفِتْنَةِ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ بِمِجْمَرٍ فَقَالَتُ: اجْلِسْ عَلَى هَذَا، أَيْ إِنَّمَا أَنْتَ امْرَأَةٌ. فَخَرَجَ الْأَحْنَفُ فِي بَنِي تَمِيمٍ وَمَعَهُمْ مَنْ بِالْبَصْرَةِ مِنْ قَيْسٍ فَالْتَقَوْا، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُمْ بَنُو تَمِيمٍ: اللَّهَ اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْأَزْدِ فِي دِمَائِنَا وَدِمَائِكُمْ، بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْقُرْآنُ وَمَنْ شِئْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا بَيِّنَةً، فَاخْتَارُوا أَفْضَلَ رَجُلٍ فِينَا فَاقْتُلُوهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَكُمْ بَيِّنَةٌ فَإِنَّا نَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَا وَلَا أَمَرْنَا وَلَا نَعْلَمُ لَهُ قَاتِلًا، وَإِنْ لَمْ تُرِيدُوا ذَلِكَ فَنَحْنُ نَدِي صَاحِبَكُمْ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَأَتَاهُمُ الْأَحْنَفُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ مِمَّا قِيلَ، وَسَفَرَ بَيْنَهُمْ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَطَلَبُوا عَشْرَ دِيَاتٍ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهِ. وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بَبَّةُ فَإِنَّهُ أَقَامَ يُصَلِّي بِهِمْ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ أَمِيرًا مِنْ قِبَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَقِيلَ: بَلْ كَتَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى عُمَرَ بِعَهْدِهِ عَلَى الْبَصْرَةِ، فَأَتَاهُ الْكِتَابُ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْعُمْرَةِ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَصَلَّى بِهِمْ حَتَّى قَدِمَ عُمَرُ، فَبَقِيَ عُمَرُ أَمِيرًا شَهْرًا حَتَّى قَدِمَ

الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ بِعَزْلِهِ وَوَلِيَهَا الْحَارِثُ، وَهُوَ الْقُبَاعُ. وَقِيلَ: اعْتَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بَبَّةُ أَهْلَ الْبَصْرَةِ بَعْدَ قَتْلِ مَسْعُودٍ بِسَبَبِ الْعَصَبِيَّةِ وَانْتِشَارِ الْخَوَارِجِ، فَكَتَبَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَكَتَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَصَلَّى بِهِمْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْلِحَ النَّاسَ بِفَسَادِ نَفْسِي، وَكَانَ يَتَدَيَّنُ. وَفِي أَيَّامِهِ سَارَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ إِلَى الْأَهْوَازِ مِنَ الْبَصْرَةِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَدُّوا رُسُلَ ابْنِ زِيَادٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، عَزَلُوا خَلِيفَتَهُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ وَقَالُوا: نُؤَمِّرُ عَلَيْنَا رَجُلًا إِلَى أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى خَلِيفَةٍ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، فَجَاءَتْ نِسَاءُ هَمْدَانَ يَبْكِينَ الْحُسَيْنَ، وَرِجَالُهُمْ مُتَقَلَّدُو السُّيُوفِ، فَأَطَافُوا بِالْمِنْبَرِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ: جَاءَ أَمْرٌ غَيْرُ مَا كُنَّا فِيهِ. وَكَانَتْ كِنْدَةُ تَقُومُ بِأَمْرِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ لِأَنَّهُمْ أَخْوَالُهُ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى عَامِرِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ الْجُمَحِيِّ، فَخَطَبَ أَهْلَ الْكُوفَةِ فَقَالَ: إِنْ لِكُلِّ قَوْمٍ أَشْرِبَةً وَلَذَّاتٍ فَاطْلُبُوهَا فِي مَظَانِّهَا، وَعَلَيْكُمْ بِمَا يَحِلُّ وَيُحْمَدُ، وَاكْسِرُوا شَرَابَكُمْ بِالْمَاءِ، وَتَوَارَوْا عَنِّي بِهَذِهِ الْجُدْرَانِ، فَقَالَ ابْنُ هَمَّامٍ: اشْرَبْ شَرَابَكَ وَانْعَمْ غَيْرَ مَحْسُودِ وَاكْسِرْهُ بِالْمَاءِ لَا تَعْصِ ابْنَ مَسْعُودِ إِنَّ الْأَمِيرَ لَهُ فِي الْخَمْرِ مَأْرَبَةٌ فَاشْرَبْ هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ مَرْصُودِ مَنْ ذَا يُحَرِّمُ مَاءَ الْمُزْنِ خَالَطَهُ فِي قَعْرِ خَابِيَةٍ مَاءُ الْعَنَاقِيدِ إِنِّي لَأَكْرَهُ تَشْدِيدَ الرُّوَاةِ لَنَا فِيهَا وَيُعْجِبُنِي قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودِ وَلَمَّا بَايَعَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَكَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ أَقَرَّهُ عَلَيْهَا، وَكَانَ يُلَقَّبُ

دُحْرُوجَةَ الْجُعَلِ، وَكَانَ قَصِيرًا، فَمَكَثَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مِنْ مَهْلِكِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ الْأَنْصَارِيُّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ عَلَى الْخَرَاجِ مِنْ عِنْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَاسْتَعْمَلَ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَبِ بْنَ قَيْسٍ عَلَى الْمَوْصِلِ، فَاجْتَمَعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَمَنْ بِالْقِبْلَةِ مِنَ الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْجَزِيرَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ إِلَّا أَهْلَ الْأُرْدُنِّ فِي إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ. وَكَانَ طَاعُونُ الْجَارِفِ بِالْبَصْرَةِ، فَمَاتَتْ أُمُّهُ فَمَا وُجِدَ لَهَا مَنْ يَحْمِلُهَا حَتَّى اسْتَأْجَرُوا لَهَا أَرْبَعَةَ أَعْلَاجٍ فَحَمَلُوهَا. ذِكْرُ خِلَافِ أَهْلِ الرَّيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ مَوْتِ يَزِيدَ خَالَفَ أَهْلُ الرَّيِّ، وَكَانَ عَلَيْهِمُ الْفَرُّخَانُ الرَّازِيُّ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ عَامِرُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَهُوَ أَمِيرُ الْكُوفَةِ، مُحَمَّدَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ عُطَارِدِ بْنِ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسِ التَّمِيمِيَّ، فَلَقِيَهُ أَهْلُ الرَّيِّ، فَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَامِرٌ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيَّ التَّمِيمِيَّ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَقُتِلَ الْفَرُّخَانُ وَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، وَكَانَ هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَيْرٍ مَعَ عَلِيٍّ بِصِفِّينَ عَلَى تَمِيمِ الْكُوفَةِ، ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا وَلِيَ الْحَجَّاجُ الْكُوفَةَ فَارَقَهَا وَسَارَ إِلَى الشَّامِ لِكَرَاهَتِهِ وِلَايَةَ الْحَجَّاجِ. ذِكْرُ بَيْعَةِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بِالشَّامِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِيهَا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمَّا بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ وَلَّى عُبَيْدَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ الْمَدِينَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جَحْدَمٍ الْفِهْرِيَّ مِصْرَ، وَأَخْرَجَ بَنِي أُمَيَّةَ وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ إِلَى الشَّامِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَلَمَّا قَدِمَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ أَخْبَرَ مَرْوَانَ بِمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ لَهُ وَلِبَنِي أُمَيَّةَ: نَرَاكُمْ فِي اخْتِلَاطٍ فَأَقِيمُوا أَمِيرَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْكُمْ شَأْمَكُمْ فَتَكُونَ فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ صَمَّاءُ. وَكَانَ

مِنْ رَأْيِ مَرْوَانَ أَنْ يَسِيرَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَيُبَايِعَهُ بِالْخِلَافَةِ، فَقَدِمَ ابْنُ زِيَادٍ مِنَ الْعِرَاقِ، وَبَلَغَهُ مَا يُرِيدُ مَرْوَانُ أَنْ يَفْعَلَ، فَقَالَ لَهُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ لَكَ مِنْ ذَلِكَ، أَنْتَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا تَمْضِي إِلَى أَبِي خُبَيْبٍ فَتُبَايِعُهُ، يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُكْنَى بِابْنِهِ خُبَيْبٍ! فَقَالَ: مَا فَاتَ شَيْءٌ بَعْدُ، فَقَامَ مَعَهُ بَنُو أُمَيَّةَ وَمَوَالِيهِمْ وَتَجَمَّعَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْيَمَنِ فَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ وَهُوَ يَقُولُ: مَا فَاتَ شَيْءٌ بَعْدُ، فَقَدِمَ دِمَشْقَ وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ قَدْ بَايَعَهُ أَهْلُهَا عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ وَيُقِيمَ لَهُ أَمْرَهُمْ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ سِرًّا. وَكَانَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ بِقَنْسَرِينَ يُبَايِعُ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ بِحِمْصَ يُبَايِعُ لَهُ أَيْضًا، وَكَانَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بِحَدْلٍ الْكَلْبِيُّ بِفِلَسْطِينَ عَامِلًا لِمُعَاوِيَةَ وَلِابْنِهِ يَزِيدَ وَهُوَ يُرِيدُ بَنِي أُمَيَّةَ، فَسَارَ إِلَى الْأُرْدُنِّ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى فِلَسْطِينَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيَّ، فَثَارَ نَاتِلُ بْنُ قَيْسٍ بِرَوْحٍ فَأَخْرَجَهُ مِنْ فِلَسْطِينَ وَبَايَعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ. وَكَانَ حَسَّانُ فِي الْأُرْدُنِّ يَدْعُو إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ لِأَهْلِ الْأُرْدُنِّ: مَا شَهَادَتُكُمْ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَتْلَى الْحَرَّةِ؟ قَالَ: نَشْهَدُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ وَأَنَّ قَتْلَى الْحَرَّةِ فِي النَّارِ. قَالَ: فَمَا شَهَادَتُكُمْ عَلَى يَزِيدَ وَقَتْلَاكُمْ بِالْحَرَّةِ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: فَأَنَا أَشْهَدُ لَئِنْ كَانَ يَزِيدُ وَشِيعَتُهُ عَلَى حَقٍّ إِنَّهُمُ الْيَوْمَ عَلَى حَقٍّ، وَلَئِنْ كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَشِيعَتُهُ عَلَى بَاطِلٍ إِنَّهُمُ الْيَوْمَ عَلَيْهِ. قَالُوا لَهُ: صَدَقْتَ، نَحْنُ نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ نُقَاتِلَ مَنْ خَالَفَكَ وَأَطَاعَ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى أَنْ تُجَنِّبَنَا هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ، يَعْنُونَ ابْنَيْ يَزِيدَ عَبْدَ اللَّهِ وَخَالِدًا، فَإِنَّا نَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَنَا النَّاسُ بِشَيْخٍ وَنَأْتِيَهُمْ بِصَبِيٍّ. وَكَتَبَ حِسَانُ إِلَى الضَّحَّاكِ كِتَابًا يُعَظِّمُ فِيهِ حَقَّ بَنِيَ أُمَيَّةَ وَحُسْنَ بَلَائِهِمْ عِنْدَهُ وَيَذُمُّ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَأَنَّهُ خَلَعَ خَلِيفَتَيْنِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ كِتَابَهُ عَلَى النَّاسِ، وَكَتَبَ كِتَابًا آخَرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الرَّسُولِ، وَاسْمُهُ بَاغِضَةُ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ قَرَأَ كِتَابِي عَلَى النَّاسِ وَإِلَّا فَاقْرَأْ هَذَا الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ. وَكَتَبَ حَسَّانُ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا ذَلِكَ، فَقَدَمَ بَاغِضَةُ فَدَفَعَ كِتَابَ الضَّحَّاكِ إِلَيْهِ وَكِتَابَ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ صَعِدَ الضَّحَّاكُ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ لَهُ بَاغِضَةُ لِيُقْرَأْ كِتَابُ حَسَّانَ عَلَى النَّاسِ. فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ: اجْلِسْ، فَقَامَ

إِلَيْهِ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: اجْلِسْ، فَأَخْرَجَ بَاغِضَةُ الْكِتَابَ وَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ: صَدَقَ حَسَّانُ وَكَذَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَشَتَمَهُ. وَقِيلَ: كَانَ الْوَلِيدُ قَدْ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ وَقَامَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي الْغِمْسِ الْغَسَّانِيُّ وَسُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ فَصَدَّقَا حَسَّانَ وَشَتَمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَقَامَ عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ الْحَكَمِيُّ فَشَتَمَ حَسَّانَ وَأَثْنَى عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَمَرَ الضَّحَّاكُ بِالْوَلِيدِ وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي الْغِمْسِ فَحُبِسُوا، وَجَالَ النَّاسُ وَوَثَبَتْ كَلْبٌ عَلَى عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ الْحَكَمِيِّ فَضَرَبُوهُ وَمَزَّقُوا ثِيَابَهُ، وَقَامَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ فَصَعِدَ مِرْقَاتَيْنِ مِنَ الْمِنْبَرِ وَسَكَنَ النَّاسُ، وَنَزَلَ الضَّحَّاكُ فَصَلَّى الْجُمُعَةَ وَدَخَلَ الْقَصْرَ. فَجَاءَتْ كَلْبٌ فَأَخْرَجُوا سُفْيَانَ، وَجَاءَتْ غَسَّانُ فَأَخْرَجُوا يَزِيدَ، وَجَاءَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ مَعَهُمَا أَخْوَالُهُمَا مِنْ كَلْبٍ فَأَخْرَجُوا الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ يُسَمُّونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمَ جَيْرُونَ الْأَوَّلِ. ثُمَّ خَرَجَ الضَّحَّاكُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَجَلَسَ فِيهِ وَذَكَرَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ فَسَبَّهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ شَابٌّ مِنْ كَلْبٍ فَضَرَبَهُ بِعَصَا، فَقَامَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَاقْتَتَلُوا، قِيسٌ تَدْعُو إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَنُصْرَةِ الضَّحَّاكِ، وَكَلْبٌ تَدْعُو إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ ثُمَّ إِلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ لِأَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهِمْ. وَدَخَلَ الضَّحَّاكُ دَارَ الْإِمَارَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْغَدِ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَبَعَثَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ مَا يَكْرَهُونَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا إِلَى حَسَّانَ وَيَكْتُبَ مَعَهُمْ لِيَسِيرَ مِنَ الْأُرْدُنِّ إِلَى الْجَابِيَةِ وَيَسِيرُونَ هُمْ مِنْ دِمَشْقَ فَيَجْتَمِعُونَ مَعَهُ بِالْجَابِيَةِ وَيُبَايِعُونَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، فَرَضُوا وَكَتَبُوا إِلَى حَسَّانَ، وَسَارَ الضَّحَّاكُ وَبَنُو أُمَيَّةَ نَحْوَ الْجَابِيَةِ، فَأَتَاهُ ثَوْرُ بْنُ مَعْنٍ السُّلَمِيُّ فَقَالَ: دَعَوْتَنَا إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَبَايَعْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنْتَ تَسِيرُ إِلَى هَذَا الْأَعْرَابِيِّ مِنْ كَلْبٍ تَسْتَخْلِفُ ابْنَ أُخْتِهِ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ! قَالَ الضَّحَّاكُ: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: الرَّأْيُ أَنْ تُظْهِرَ مَا كُنَّا نَكْتُمُ وَتَدْعُوَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ. فَرَجَعَ الضَّحَّاكُ وَمِنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ فَنَزَلَ بِمَرْجِ رَاهِطٍ وَدِمَشْقَ بِيَدِهِ، وَاجْتَمَعَ بَنُو أُمَيَّةَ وَحَسَّانُ وَغَيْرُهُمْ بِالْجَابِيَةِ، فَكَانَ حَسَّانُ يُصَلِّي بِهِمْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَالنَّاسُ يَتَشَاوَرُونَ، وَكَانَ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ السَّكُونِيُّ يَهْوَى خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ، (وَالْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ يَمِيلُ إِلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ مَالِكٌ لِلْحُصَيْنِ: هَلْ نُبَايِعُ هَذَا الْغُلَامَ الَّذِي نَحْنُ وَلَدْنَا أَبَاهُ وَقَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَتَنَا)

مِنْ أَبِيهِ فَإِنَّهُ يَحْمِلُنَا عَلَى رِقَابِ الْعَرَبِ غَدًا؟ يَعْنِي خَالِدًا. فَقَالَ الْحُصَيْنُ: لَا وَاللَّهِ لَا تَأْتِينَا الْعَرَبُ بِشَيْخٍ وَنَأْتِيهَا بِصَبِيٍّ. فَقَالَ مَالِكٌ: وَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَخْلَفْتَ مَرْوَانَ لَيَحْسُدُكَ عَلَى سَوْطِكَ وَشِرَاكِ نَعْلِكَ وَظِلِّ شَجَرَةٍ تَسْتَظِلُّ بِهَا، إِنَّ مَرْوَانَ أَبُو عَشِيرَةٍ وَأَخُو عَشِيرَةٍ فَإِنْ بَايَعْتُمُوهُ كُنْتُمْ عَبِيدًا لَهُمْ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِابْنِ أُخْتِكُمْ، فَقَالَ الْحُصَيْنُ: إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ قِنْدِيلًا مُعَلَّقًا مِنَ السَّمَاءِ وَأَنَّ مَنْ يَلِي الْخِلَافَةَ يَتَنَاوَلُهُ فَلَمْ يَنَلْهُ أَحَدٌ إِلَّا مَرْوَانَ، وَاللَّهِ لَنَسْتَخْلِفَنَّهُ. وَقَامَ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَذْكُرُونَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَصُحْبَتَهُ وَقِدَمَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ كَمَا تَذْكُرُونَ، وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ بِصَاحِبِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ الضَّعِيفُ، وَتَذْكُرُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ كَمَا تَذْكُرُونَ أَنَّهُ ابْنُ حَوَارِيِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ ابْنُ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، وَلَكِنَّهُ مُنَافِقٌ قَدْ خَلَعَ خَلِيفَتَيْنِ يَزِيدَ وَابْنَهُ مُعَاوِيَةَ وَسَفَكَ الدِّمَاءَ وَشَقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ الْمُنَافِقُ بِصَاحِبِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَأَمَّا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَوَاللَّهِ مَا كَانَ فِي الْإِسْلَامِ صَدْعٌ إِلَّا كَانَ مِمَّنْ يُشَعِّبُهُ، وَهُوَ الَّذِي قَاتَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَإِنَّا نَرَى لِلنَّاسِ أَنْ يُبَايِعُوا الْكَبِيرَ وَيَسْتَشِيرُوا الصَّغِيرَ، يَعْنِي بِالْكَبِيرِ مَرْوَانَ، وَبِالصَّغِيرِ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ. فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى الْبَيْعَةِ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، ثُمَّ لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، ثُمَّ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ مِنْ بَعْدِ خَالِدٍ، عَلَى أَنَّ إِمْرَةَ دِمَشْقَ لِعَمْرٍو وَإِمْرَةَ حِمْصَ لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ. فَدَعَا حَسَّانُ خَالِدًا فَقَالَ: يَا بْنَ أُخْتِي؛ إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَبَوْكَ لِحَدَاثَةِ سِنِّكَ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أُرِيدُ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا لَكَ وَلِأَهْلِ بَيْتِكَ وَمَا أُبَايِعُ مَرْوَانَ إِلَّا نَظَرًا لَكُمْ. فَقَالَ خَالِدٌ: بَلْ عَجَزْتَ عَنَّا. قَالَ: وَاللَّهِ مَا عَجَزْتُ عَنْكُمْ وَلَكِنَّ الرَّأْيَ لَكَ مَا رَأَيْتُ. ثُمَّ بَايَعُوا مَرْوَانَ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَقَالَ مَرْوَانُ حِينَ بُويِعَ لَهُ: لَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ أَمْرًا نَهْبَا ... يَسَّرْتُ غَسَّانَ لَهُمْ وَكَلْبَا وَالسَّكْسَكِيِّينَ رِجَالًا غُلْبَا ... وَطِيِّئًا تَأْبَاهُ إِلَّا ضَرْبَا

وَالِقِينُ تَمْشِي فِي الْحَدِيدِ نُكْبَا وَمِنْ تَنُوخَ مُشَمْخِرًّا صَعْبَا ... لَا يَأْخُذُونَ الْمُلْكَ إِلَّا غَصْبَا فَإِنْ دَنَتْ قَيْسٌ فَقُلْ لَا قُرْبَا (خُبَيْبٌ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ) . ذِكْرُ وَقْعَةِ مَرْجِ رَاهِطٍ وَقَتْلِ الضَّحَّاكِ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ لَمَّا بَايَعَهُ النَّاسُ سَارَ مِنَ الْجَابِيَةِ إِلَى مَرْجِ رَاهِطٍ، وَبِهِ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ وَمَعَهُ أَلْفُ فَارِسٍ، وَكَانَ قَدِ اسْتَمَدَّ الضَّحَّاكُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ وَهُوَ عَلَى حِمْصَ فَأَمَدَّهُ بِشُرَحْبِيلَ بْنِ ذِي الْكُلَاعِ، وَاسْتَمَدَّ أَيْضًا زُفَرَ بْنَ الْحَارِثِ وَهُوَ عَلَى قِنَّسْرِينَ فَأَمَدَّهُ بِأَهْلِ قِنَّسْرِينَ، وَأَمَدَّهُ نَاتِلُ بِأَهْلِ فِلَسْطِينَ، فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ، وَاجْتَمَعَ عَلَى مَرْوَانَ كَلْبٌ وَغَسَّانُ وَالسَّكَاسِكُ وَالسَّكُونُ، وَجَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ وَعَلَى مَسِيرَتِهِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي الْغِمْسِ الْغَسَّانِيُّ مُخْتَفِيًا بِدِمَشْقَ لَمْ يَشْهَدِ الْجَابِيَةَ، فَغَلَبَ عَلَى دِمَشْقَ وَأَخْرَجَ عَامِلَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ وَغَلَبَ عَلَى الْخَزَائِنِ وَبَيْتِ الْمَالِ وَبَايَعَ لِمَرْوَانَ وَأَمَدَّهُ بِالْأَمْوَالِ وَالرِّجَالِ وَالسِّلَاحِ، فَكَانَ أَوَّلَ فَتْحٍ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ. وَتَحَارَبَ مَرْوَانُ وَالضَّحَّاكُ بِمَرْجِ رَاهِطٍ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ الضَّحَّاكُ، قَتَلَهُ دِحْيَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَقُتِلَ مَعَهُ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الشَّامِ، وَقُتِلَ أَهْلُ الشَّامِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَقُتِلَتْ قَيْسٌ مَقْتَلَةً لَمْ يُقْتَلْ مِثْلَهَا فِي مَوْطِنٍ قَطُّ، وَكَانَ فِيمَنْ قُتِلَ هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ النُّمَيْرِيُّ سَيِّدُ قَوْمِهِ، كَانَ مَعَ الضَّحَّاكِ، قَتَلَهُ وَازِعُ بْنُ ذُؤَالَةَ الْكَلْبِيُّ، (فَلَمَّا سَقَطَ جَرِيحًا قَالَ: تَعِسْتَ ابْنَ ذَاتِ النَّوْفِ أَجْهِزْ عَلَى ... فَتًى يَرَى الْمَوْتَ خَيْرًا مِنْ فِرَارٍ وَأَلْزَمَا وَلَا تَتْرُكَنِّي بِالْحُشَاشَةِ إِنَّنِي ... صَبُورٌ إِذَا [مَا] النِّكْسُ مِثْلُكَ أَحْجَمَا فَعَادَ إِلَيْهِ وَازِعٌ فَقَتَلَهُ) .

وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ فِي آخِرِ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. وَلَمَّا رَأَى مَرْوَانُ رَأْسَ الضَّحَّاكِ سَاءَهُ ذَلِكَ وَقَالَ: الْآنَ حِينَ كَبِرَتْ سِنِّي وَدَقَّ عَظْمِي وَصِرْتُ فِي مِثْلِ ظِمْءِ الْحِمَارِ، أَقْبَلْتُ بِالْكَتَائِبِ أَضْرِبُ بَعْضَهَا بَعْضًا! وَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ مِنَ الْمَرْجِ لَحِقُوا بِأَجْنَادِهِمْ، فَانْتَهَى أَهْلُ حِمْصَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ خَرَجَ هَارِبًا لَيْلًا وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ نَائِلَةُ بِنْتُ عُمَارَةَ الْكَلْبِيَّةُ وَثَقَلُهُ وَأَوْلَادُهُ، فَتَحَيَّرَ لَيْلَتَهُ كُلَّهَا، وَأَصْبَحَ أَهْلُ حِمْصَ فَطَلَبُوهُ، وَكَانَ طَلَبَهُ عَمْرُو بْنُ الْجَلِيِّ الْكَلَاعِيُّ، فَقَتَلَهُ وَرَدَّ أَهْلَهُ وَالرَّأْسَ مَعَهُ، وَجَاءَتْ كَلْبٌ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ فَأَخَذُوا نَائِلَةَ وَوَلَدَهَا مَعَهَا. وَلَمَّا بَلَغَتِ الْهَزِيمَةُ زُفَرَ بْنَ الْحَارِثِ الْكِلَابِيَّ بِقِنِّسْرِينَ هَرَبَ مِنْهَا فَلَحِقَ بِقَرْقِيسْيَا وَعَلَيْهَا عِيَاضٌ الْحَرَشِيُّ، وَكَانَ يَزِيدُ وَلَّاهُ إِيَّاهَا، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَدْخُلَ الْحَمَّامَ، وَيَحْلِفَ لَهُ بِالطَّلِاقِ وَالْعِتَاقِ عَلَى أَنَّهُ حِينَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَمَّامِ لَا يُقِيمُ بِهَا، فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَهَا فَغَلَبَ عَلَيْهَا وَتَحَصَّنَ بِهَا وَلَمْ يَدْخُلْ حَمَّامَهَا، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قِيسٌ. وَهَرَبَ نَاتِلُ بْنُ قَيْسٍ الْجُذَامِيُّ عَنْ فِلَسْطِينَ فَلَحِقَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، وَاسْتَعْمَلَ مَرْوَانُ بَعْدَهُ عَلَى فِلَسْطِينَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ وَاسْتَوْثَقَ الشَّامُ لِمَرْوَانَ وَاسْتَعْمَلَ عُمَّالَهُ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ إِنَّمَا جَاءَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ وَهُمْ بِتَدْمُرَ، وَمَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ لِيُبَايِعَهُ وَيَأْخُذَ مِنْهُ الْأَمَانَ لِبَنِي أُمَيَّةَ، فَرَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ بِأَهْلِ تَدْمُرَ إِلَى الضَّحَّاكِ فَيُقَاتِلَهُ، وَوَافَقَهُ عَمْرُو بْنَ سَعِيدٍ وَأَشَارَ عَلَى مَرْوَانَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ لِيَسْقُطَ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ فَتَزَوَّجَهَا، وَهِيَ فَاخِتَةُ ابْنَةُ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ، ثُمَّ جَمَعَ بَنِي أُمَيَّةَ فَبَايَعُوهُ وَبَايَعَهُ أَهْلُ تَدْمُرَ، وَسَارَ إِلَى الضَّحَّاكِ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ، فَخَرَجَ الضَّحَّاكُ إِلَيْهِ فَتَقَاتَلَا فَانْهَزَمَ الضَّحَّاكُ وَمَنْ مَعَهُ وَقُتِلَ الضَّحَّاكُ.

وَسَارَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ إِلَى قَرْقِيسْيَا، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ قَيْسٌ، وَصَحِبَهُ فِي هَزِيمَتِهِ إِلَى قَرْقِيسْيَا شَابَّانِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَجَاءَتْ خَيْلُ مَرْوَانَ تَطْلُبُهُمْ، فَقَالَ الشَّابَّانِ لِزُفَرَ: انْجُ بِنَفْسِكَ فَإِنَّا نَحْنُ نُقْتَلُ، فَمَضَى زُفَرُ وَتَرَكَهُمَا فَقُتِلَا، (وَقَالَ زُفَرُ فِي ذَلِكَ: أَرِينِي سِلَاحِي لَا أَبَا لَكِ إِنَّنِي ... أَرَى الْحَرْبَ لَا تَزْدَادُ إِلَّا تَمَادِيَا أَتَانِي عَنْ مَرْوَانَ بِالْغَيْبِ أَنَّهُ ... مُقَيِّدٌ دَمِي أَوْ قَاطِعٌ مِنْ لِسَانِيَا فَفِي الْعِيسِ مَنْجَاةٌ وَفِي الْأَرْضِ مَهْرَبٌ ... إِذَا نَحْنُ رَفَّعْنَا لَهُنَّ الْمَثَانِيَا فَلَا تَحْسَبُونِي إِنْ تَغَيَّبْتُ غَافِلًا ... وَلَا تَفْرَحُوا إِنْ جِئْتُكُمْ بِلِقَائِيَا فَقَدْ يَنْبُتُ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِ الثَّرَى ... لَهُ وَرَقٌ مِنْ تَحْتِهِ الشَّرُّ بَادِيَا وَنَمْضِي وَلَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ دِمْنَةٌ ... وَتَبْقَى حَزَازَاتُ النُّفُوسِ كَمَا هِيَا لَعَمْرِي لَقَدْ أَبْقَتْ وَقِيعَةُ رَاهِطٍ ... لِحَسَّانَ صَدْعًا بَيِّنًا مُتَنَائِيَا فَلَمْ تُرَ مِنِّي نَبْوَةٌ قَبْلَ هَذِهِ فِرَارِي ... وَتَرْكِي صَاحِبَيَّ وَرَائِيَا عَشِيَّةَ أَدْعُو فِي الْقِرَانِ فَلَا أَرَى ... مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ عَلَيَّ وَلَا لِيَا أَيَذْهَبُ يَوْمٌ وَاحِدٌ إِنْ أَسَأْتُهُ ... بِصَالِحِ أَيَّامِي وَحُسْنِ بَلَائِيَا فَلَا صُلْحَ حَتَّى تَنْحِطَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا ... وَتَثْأَرَ مِنْ نِسْوَانِ كَلْبٍ نِسَائِيَا أَلَا لَيْتَ شِعْرِي. هَلْ تُصِيبَنَّ غَارَتِي ... تَنُوخًا وَحَيَّيْ طَيِّئٍ مِنْ شِفَائِيَا

فَأَجَابَهُ جَوَّاسُ بْنُ الْقَعْطَلِ: لَعَمْرِي لَقَدْ أَبْقَتْ وَقِيعَةُ رَاهِطٍ ... عَلَى زُفَرٍ مُرًّا مِنَ الدَّاءِ بَاقِيَا مُقِيمًا ثَوَى بَيْنَ الضُّلُوعِ مَحَلُّهُ ... وَبَيْنَ الْحَشَا أَعْيَا الطَّبِيبَ الْمُدَاوِيَا تَبْكِي عَلَى قَتْلَى سُلَيْمٍ وَعَامِرٍ ... وَذُبْيَانَ مَعْذُورًا وَتُبْكِي الْبَوَاكِيَا دَعَا بِالسِّلَاحِ ثُمَّ أَحْجَمَ إِذْ رَأَى ... سُيُوفَ جَنَابٍ وَالطَّوَالَ الْمُذَاكِيَا عَلَيْهَا كَأُسْدِ الْغَابِ فِتْيَانُ نَجْدَةٍ ... إِذَا شَرَعُوا نَحْوَ الطِّعَانِ الْعَوَالِيَا وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْجَلِيِّ الْكَلْبِيُّ: بَكَى زُفَرُ الْقَيْسِيُّ مِنْ هُلْكِ قَوْمِهِ ... بِعَبْرَةِ عَيْنٍ مَا يَجِفُّ سُجُومُهَا يَبْكِي عَلَى قَتْلَى أُصِيبَتْ بِرَاهِطٍ ... تُجَاوِبُهُ هَامُ الْقِفَارِ وَبُومُهَا أَبَحْنَا حِمًى لِلْحَيِّ قِيسٍ بِرَاهِطٍ ... وَوَلَّتْ شِلَالًا وَاسْتُبِيحَ حَرِيمُهَا يُبَكِّيهِمْ حَرَّانَ تَجْرِي دُمُوعُهُ ... يُرَجِّي نِزَارًا أَنْ تَئُوِبَ حُلُومُهَا فَمُتْ كَمَدًا أَوْ عِشْ ذَلِيلًا مُهَضَّمًا ... بِحَسْرَةِ نَفْسٍ لَا تَنَامُ هُمُومُهَا فِي أَبْيَاتِ. (يَزِيدَ بْنِ أَبِي الْغِمْسِ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَكَانَ قَدِ ارْتَدَّ

عَنِ الْإِسْلَامِ وَدَخَلَ الرُّومَ مَعَ جَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ ثُمَّ عَاوَدَ الْإِسْلَامَ وَشَهِدَ صِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَعَاشَ إِلَى أَيَّامِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. وَنَاتِلُ: بِالنُّونِ، وَالتَّاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ فَوْقَ بِاثْنَتَيْنِ) . ذِكْرُ فَتْحِ مَرْوَانَ مِصْرَ فَلَمَّا قُتِلَ الضَّحَّاكُ وَأَصْحَابُهُ وَاسْتَقَرَّ الشَّامُ لِمَرْوَانَ سَارَ إِلَى مِصْرَ فَقَدِمَهَا وَعَلَيْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَحْدَمٍ الْقُرَشِيُّ يَدْعُو إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَخَرَجَ إِلَى مَرْوَانَ فِيمَنْ مَعَهُ، وَبَعَثَ مَرْوَانُ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ حَتَّى دَخَلَ مِصْرَ، فَقِيلَ لِابْنِ جَحْدَمٍ ذَلِكَ، فَرَجَعَ وَبَايَعَ النَّاسُ مَرْوَانَ وَرَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ. فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ بَعَثَ إِلَيْهِ أَخَاهُ مُصْعَبًا فِي جَيْشٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الشَّامَ، فَقَتَلَهُ، فَانْهَزَمَ مُصْعَبٌ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ مُصْعَبٌ شُجَاعًا. ثُمَّ عَادَ مَرْوَانُ إِلَى دِمَشْقَ وَاسْتَقَرَّ بِهَا. وَقَدْ كَانَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ وَمَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ قَدِ اشْتَرَطَا عَلَى مَرْوَانَ شُرُوطًا لَهُمَا وَلِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، فَلَمَّا تَوَطَّنَ مُلْكَهُ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ وَمَالِكٌ عِنْدَهُ: إِنَّ قَوْمًا يَدَّعُونَ شُرُوطًا، مِنْهُمْ عَطَّارَةٌ مُكَحَّلَةٌ، يَعْنِي مَالِكًا وَكَانَ يَتَطَيَّبُ وَيَتَكَحَّلُ، فَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا وَلَمَّا تَرِدِي تِهَامَةَ وَيَبْلُغَ الْحِزَامُ الطُّبْيَيْنِ. فَقَالَ مَرْوَانُ: مَهْلًا يَا أَبَا سُلَيْمَانَ، إِنَّمَا دَاعَبْنَاكَ! فَقَالَ: هُوَ ذَاكَ. ذِكْرُ بَيْعَةِ أَهْلِ خُرَاسَانَ سَلْمَ بْنَ زِيَادٍ وَأَمْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ وَلَمَّا بَلَغَ سَلْمَ بْنَ زِيَادٍ، وَهُوَ بِخُرَاسَانَ، مَوْتُ يَزِيدَ كَتَمَ (ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَرَادَةَ: يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُغَلِّقُ بَابَهُ ... حَدَثَتْ أُمُورٌ شَأْنُهُنَّ عَظِيمُ قَتْلَى بِحَرَّةَ وَالَّذِينَ بِكَابُلٍ ... وَيَزِيدُ أُعْلِنَ شَأْنُهُ الْمَكْتُومُ أَبَنِي أُمَيَّةَ إِنَّ آخِرَ مَلْكِكُمْ ... جَسَدٌ بِحُوَّارِينَ ثُمَّ مُقِيمُ طَرَقَتْ مَنِيَّتُهُ وَعِنْدَ وِسَادِهِ ... كُوبُ وَزِقٌّ رَاعِفٌ مَرْثُومُ

وَمُرِنَّةٌ تَبْكِي عَلَى نَشْوَانِهِ ... بِالصُّبْحِ تَقْعُدُ مَرَّةً وَتَقُومُ فَلَمَّا أَظْهَرَ شِعْرَهُ أَظْهَرَ سَلْمٌ مَوْتَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَابْنِهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ عَلَى الرِّضَى حَتَّى يَسْتَقِيمَ أَمْرُ النَّاسِ عَلَى خَلِيفَةٍ، فَبَايَعُوهُ ثُمَّ نَكَثُوا بِهِ بَعْدَ شَهْرَيْنِ، وَكَانَ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ مَحْبُوبًا فِيهِمْ، فَلَمَّا خُلِعَ عَنْهُمُ اسْتُخْلِفَ عَلَيْهِمُ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ، وَلَمَّا كَانَ بِسَرَخْسَ لَقِيَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مَرْثَدٍ، أَحَدُ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَ لَهُ: ضَاقَتْ عَلَيْكَ نِزَارٌ حَتَّى خَلَّفْتَ عَلَى خُرَاسَانَ رَجُلًا مِنَ الْيَمَنِ؟ يَعْنِي الْمُهَلَّبَ، وَكَانَ أَزْدِيًّا وَالْأَزْدُ مِنَ الْيَمَنِ، فَوَلَّاهُ مَرْوَ الرُّوذِ وَالْفَارَيَابَ وَالطَّالَقَانَ وَالْجُوزَجَانَ، وَوَلَّى أَوْسَ بْنَ ثَعْلَبَةَ بْنَ زُفَرَ، وَهُوَ صَاحِبُ قَصْرِ أَوْسٍ بِالْبَصْرَةِ، هَرَاةَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى نَيْسَابُورَ لِقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ فَقَالَ: مَنْ وَلَّيْتَ خُرَاسَانَ؟ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: أَمَا وَجَدْتَ فِي الْمِصْرِ مَنْ تَسْتَعْمِلُهُ حَتَّى فَرَّقْتَ خُرَاسَانَ بَيْنَ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَالْيَمَنِ؟ اكْتُبْ لِي عَهْدًا عَلَى خُرَاسَانَ. فَكَتَبَ لَهُ وَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَسَارَ ابْنُ خَازِمٍ إِلَى مَرْوَ، وَبَلَغَ خَبَرُهُ الْمُهَلَّبَ فَأَقْبَلَ وَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، فَلَمَّا وَصَلَهَا ابْنُ خَازِمٍ مَنَعَهُ الْجُشَمِيُّ وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا مُنَاوَشَةٌ، فَأَصَابَتِ الْجُشَمِيَّ رَمْيَةٌ بِحَجَرٍ فِي جَبْهَتِهِ، وَتَحَاجَزُوا، وَدَخَلَهَا ابْنُ خَازِمٍ، وَمَاتَ الْجُشَمِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ. ثُمَّ سَارَ ابْنُ خَازِمٍ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ مَرْثَدٍ بِمَرْوِ الرُّوذِ فَقَاتَلَهُ أَيَّامًا فَقُتِلَ سُلَيْمَانُ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَمْرِو بْنِ مَرْثَدٍ وَهُوَ بِالطَّالَقَانِ فَاقْتَتَلُوا طَوِيلًا فَقُتِلَ عَمْرُو بْنُ مَرْثَدٍ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ فَلَحِقُوا بِهَرَاةَ بِأَوْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَرَجَعَ ابْنُ خَازِمٍ إِلَى مَرْوَ وَهَرَبَ مَنْ كَانَ بِمَرْوِ الرُّوذِ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ إِلَى هَرَاةَ وَانْضَمَّ إِلَيْهَا مَنْ كَانَ بِكُوَرِ خُرَاسَانَ مِنْ بَكْرٍ وَكَثُرَ جَمْعُهُمْ وَقَالُوا لِأَوْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ: نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَسِيرَ إِلَى ابْنِ خَازِمٍ وَتُخْرِجَ مُضَرَ مِنْ خُرَاسَانَ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ بَنُو صُهَيْبٍ، وَهُمْ مَوَالِي بَنِي جَحْدَمٍ: لَا نَرْضَى أَنْ نَكُونَ نَحْنُ وَمُضَرُ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ وَقَدْ قَتَلُوا سُلَيْمَانَ وَعَمْرًا ابْنِي مَرْثَدٍ، فَإِمَّا أَنْ تُبَايِعَنَا عَلَى هَذَا وَإِلَّا بَايَعْنَا غَيْرَكَ. فَأَجَابَهُمْ، فَبَايَعُوهُ، فَسَارَ إِلَيْهِمُ ابْنُ خَازِمٍ فَنَزَلَ عَلَى وَادٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ

هَرَاةَ، فَأَشَارَ الْبَكْرِيُّونَ بِالْخُرُوجِ مِنْ هَرَاةَ وَعَمَلِ خَنْدَقٍ، فَقَالَ أَوْسٌ: بَلْ نَلْزَمُ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا حَصِينَةٌ وَنُطَاوِلُ ابْنَ خَازِمٍ لِيَضْجَرَ وَيُعْطِيَنَا مَا نُرِيدُ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَخَرَجُوا وَخَنْدَقُوا خَنْدَقًا، وَقَاتَلَهُمُ ابْنُ خَازِمٍ نَحْوَ سَنَةٍ، وَقَالَ لَهُ هِلَالٌ الضَّبِّيُّ: إِنَّمَا تُقَاتِلُ إِخْوَتَكَ وَبَنِي أَبِيكَ، فَإِنْ نِلْتَ مِنْهُمُ الَّذِي تُرِيدُ فَمَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ، فَلَوْ أَعْطَيْتَهُمْ شَيْئًا يَرْضَوْنَ بِهِ وَأَصْلَحْتَ هَذَا الْأَمْرَ. قَالَ: وَاللَّهُ لَوْ خَرَجْنَا لَهُمْ مِنْ خُرَاسَانَ مَا رَضُوا. قَالَ هِلَالٌ: وَاللَّهِ لَا أُقَاتِلُ مَعَكَ أَنَا وَلَا رَجُلٌ أَوْ تُطِيعُنِي حَتَّى تَعْتَذِرَ إِلَيْهِمْ. قَالَ: فَأَنْتَ رَسُولِي إِلَيْهِمْ فَأَرْضِهِمْ. فَأَتَى هِلَالٌ أَوْسَ بْنَ ثَعْلَبَةَ فَنَاشَدَهُ اللَّهَ وَالْقَرَابَةَ فِي نِزَارٍ وَأَنْ يَحْفَظَ وَلَاءَهَا. فَقَالَ: هَلْ لَقِيتَ بَنِي صُهَيْبٍ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَالْقَهَمُ. قَالَ: فَخَرَجَ فَلَقِيَ جَمَاعَةً مِنْ رُؤَسَاءِ أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ مَا أَتَى لَهُ. فَقَالُوا لَهُ: هَلْ لَقِيتَ بَنِي صُهَيْبٍ؟ فَقَالَ: لَقَدْ عَظُمَ أَمْرُ بَنِي صُهَيْبٍ عِنْدَكُمْ، فَأَتَاهُمْ، فَقَالُوا: لَوْلَا أَنَّكَ رَسُولٌ لَقَتَلْنَاكَ. قَالَ: فَهَلْ يُرْضِيكُمْ شَيْءٌ؟ قَالُوا: وَاحِدَةٌ مِنِ اثْنَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَخْرُجُوا مِنْ خُرَاسَانَ، وَإِمَّا أَنْ تُقِيمُوا وَتَخْرُجُوا لَنَا عَنْ كُلِّ سِلَاحٍ وَكُرَاعٍ وَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ. فَرَجَعَ إِلَى ابْنِ خَازِمٍ، فَقَالَ: مَا عَنْكَ؟ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ: إِنَّ رَبِيعَةَ لَمْ تَزَلْ غِضَابًا عَلَى رَبِّهَا مُنْذُ بَعَثَ نَبِيَّهُ مِنْ مُضَرَ. وَأَقَامَ ابْنُ خَازِمٍ يُقَاتِلُهُمْ، فَقَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ: قَدْ طَالَ مُقَامُنَا، وَنَادَاهُمْ: يَا مَعْشَرَ رَبِيعَةَ أَرَضِيْتُمْ مِنْ خُرَاسَانَ بِخَنْدَقِكُمْ! فَأَحْفَظَهُمْ ذَلِكَ، فَتَنَادَوْا لِلْقِتَالِ، فَنَهَاهُمْ أَوْسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ عَنِ الْخُرُوجِ بِجَمَاعَتِهِمْ وَأَنْ يُقَاتِلُوا كَمَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ، فَعَصَوْهُ. فَقَالَ ابْنُ خَازِمٍ لِأَصْحَابِهِ: اجْعَلُوهُ يَوْمَكُمْ فَيَكُونُ الْمُلْكُ لِمَنْ غَلَبَ، وَإِذَا لَقِيتُمُ الْخَيْلَ فَاطْعَنُوهَا فِي مَنَاخِرِهَا. فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً وَانْهَزَمَتْ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى خَنْدَقِهِمْ وَتَفَرَّقُوا يَمِينًا وَشِمَالًا وَسَقَطَ النَّاسُ فِي الْخَنْدَقِ وَقُتِلُوا قَتْلًا ذَرِيعًا وَهَرَبَ أَوْسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ إِلَى سِجِسْتَانَ فَمَاتَ بِهَا أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، وَقُتِلَ مِنْ بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، وَغَلَبَ ابْنُ خَازِمٍ عَلَى هَرَاةَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا ابْنَهُ مُحَمَّدًا وَضَمَّ إِلَيْهِ شَمَّاسَ بْنَ دِثَارٍ الْعُطَارِدِيَّ، وَجَعَلَ بُكَيْرَ بَنَ وَسَّاجٍ الثَّقَفِيَّ عَلَى شُرْطَتِهِ وَرَجَعَ ابْنُ خَازِمٍ إِلَى مَرْوَ. وَأَغَارَتِ التُّرْكُ عَلَى قَصْرِ اسْغَادَ، وَابْنُ خَازِمٍ عَلَى هَرَاةَ، وَكَانَ فِيهِ نَاسٌ مِنَ الْأَزْدِ، فَحَصَرُوهُمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ خَازِمٍ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ زُهَيْرَ بْنَ حَيَّانَ فِي بَنِي تَمِيمٍ وَقَالَ لَهُ: إِيَّاكَ وَمُنَاوَأَةَ التُّرْكِ، إِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ. فَوَافَاهُمْ فِي يَوْمٍ بَارِدٍ، فَلَمَّا الْتَقَوْا حَمَلَ

عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَتِ التُّرْكُ وَاتَّبَعُوهُمْ حَتَّى مَضَى عَامَّةُ اللَّيْلِ، فَرَجَعَ زُهَيْرٌ وَقَدْ يَبَسَتْ يَدُهُ عَلَى رُمْحِهِ مِنَ الْبَرْدِ، فَجَعَلُوا يُسَخِّنُونَ الشَّحْمَ فَيَضَعُهُ عَلَى يَدِهِ وَدَهَنُوهُ وَأَوْقَدُوا لَهُ نَارًا فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى هَرَاةَ، (فَقَالَ فِي ذَلِكَ ثَابِتُ قُطْنَةَ: فَدَتْ نَفْسِي فَوَارِسَ مِنْ تَمِيمٍ ... عَلَى مَا كَانَ مِنْ ضَنْكِ الْمُقَامِ بِقَصْرِ الْبَاهِلِيِّ وَقَدْ أَرَانِي ... أُحَامِي حِينَ قَلَّ بِهِ الْمُحَامِي بِسَيْفِي بَعْدَ كَسْرِ الرُّمْحِ فِيهِمْ ... أَذُودُهُمُ بِذِي شَطَبٍ حُسَامِ أَكُرُّ عَلَيْهِمُ الْيَحْمُومَ كَرَّا ... كَكَرِّ الشُّرْبِ آنِيَةَ الْمُدَامِ فَلَوْلَا اللَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ ... وَضَرْبِي قَوْنَسَ الْمَلِكِ الْهُمَامِ إِذَا فَاظَتْ نِسَاءُ بَنِي دِثَارٍ ... أَمَامَ التُّرْكِ بَادِيَةَ الْخِدَامِ ) ذِكْرُ أُمِّ التَّوَّابِينَ قِيلَ: لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ وَرَجَعَ ابْنُ زِيَادٍ مِنْ مُعَسْكَرِهِ بِالنُّخَيْلَةِ وَدَخَلَ الْكُوفَةَ تَلَاقَتِ الشِّيعَةُ بِالتَّلَاوُمِ وَالتَّنَدُّمِ، وَرَأَتْ أَنْ قَدْ أَخْطَأَتْ خَطَأً كَبِيرًا بِدُعَائِهِمُ الْحُسَيْنَ وَتَرْكِهِمْ نُصْرَتَهُ وَإِجَابَتَهُ حَتَّى قُتِلَ إِلَى جَانِبِهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّهُ لَا يَغْسِلُ عَارَهُمْ وَالْإِثْمَ عَلَيْهِمْ إِلَّا قَتْلُ مَنْ قَتَلَهُ أَوِ الْقَتْلُ فِيهِمْ، فَاجْتَمَعُوا بِالْكُوفَةِ إِلَى خَمْسَةِ نَفَرٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الشِّيعَةِ: إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ الْخُزَاعِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ وَإِلَى الْمُسَيَّبِ بْنِ نَجَبَةَ الْفَزَارِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، وَإِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ الْأَزْدِيِّ، وَإِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَالٍ التَّيْمِيِّ، تَيْمِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَإِلَى رِفَاعَةَ بْنِ شَدَّادٍ الْبَجَلِيِّ، وَكَانُوا مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، فَاجْتَمَعُوا فِي مَنْزِلِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ الْخُزَاعِيِّ، فَبَدْأَهُمُ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّا ابْتُلِينَا بِطُولِ الْعُمُرِ وَالتَّعَرُّضِ لِأَنْوَاعِ الْفِتَنِ، فَنَرْغَبُ إِلَى رَبِّنَا أَنْ لَا يَجْعَلَنَا مِمَّنْ يَقُولُ لَهُ غَدًا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ

عَلِيًّا قَالَ: الْعُمُرُ الَّذِي أَعْذَرَ اللَّهُ فِيهِ إِلَى ابْنِ آدَمَ سِتُّونَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِينَا رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ بَلَغَهُ، وَقَدْ كُنَّا مُغْرَمِينَ بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِنَا فَوَجَدَنَا اللَّهُ كَاذِبِينَ فِي كُلِّ وَطَنٍ مِنْ مَوَاطِنِ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ بَلَغَنَا قَبْلَ ذَلِكَ كُتُبُهُ وَرُسُلُهُ وَأَعْذَرَ إِلَيْنَا فَسَأَلَنَا نَصْرَهُ عَوْدًا وَبَدْءًا وَعَلَانِيَةً فَبَخِلْنَا عَنْهُ بِأَنْفُسِنَا حَتَّى قُتِلَ إِلَى جَانِبِنَا لَا نَحْنُ نَصَرْنَاهُ بِأَيْدِينَا وَلَا جَادَلْنَا عَنْهُ بِأَلْسِنَتِنَا وَلَا قَوَّيْنَاهُ بِأَمْوَالِنَا وَلَا طَلَبْنَا لَهُ النُّصْرَةَ إِلَى عَشَائِرِنَا، فَمَا عُذْرُنَا عِنْدَ رَبِّنَا وَعِنْدَ لِقَاءِ نَبِيِّنَا وَقَدْ قُتِلَ فِينَا وَلَدُ حَبِيبِهِ وَذُرِّيَّتُهُ وَنَسْلُهُ؟ لَا وَاللَّهِ لَا عُذْرَ دُونَ أَنْ تَقْتُلُوا قَاتِلَهُ وَالْمُوَالِينَ عَلَيْهِ، أَوْ تُقْتَلُوا فِي طَلَبِ ذَلِكَ، فَعَسَى رَبُّنَا أَنْ يَرْضَى عَنَّا عِنْدَ ذَلِكَ، (وَلَا أَنَا بَعْدَ لِقَائِهِ لِعُقُوبَتِهِ بِآمِنٍ) . أَيُّهَا الْقَوْمُ وَلُّوا عَلَيْكُمْ رَجُلًا مِنْكُمْ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَكُمْ مِنْ أَمِيرٍ تَفْزَعُونَ إِلَيْهِ وَرَايَةٍ تَحِفُّونَ بِهَا. وَقَامَ رِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ هَدَاكَ لِأَصْوَبِ الْقَوْلِ وَبَدَأْتَ بِأَرْشَدِ الْأُمُورِ بِدُعَائِكَ إِلَى جِهَادِ الْفَاسِقِينَ وَإِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ، فَمَسْمُوعٌ مِنْكَ مُسْتَجَابٌ إِلَى قَوْلِكَ، وَقُلْتَ: وَلُّوا أَمْرَكُمْ رَجُلًا تَفْزَعُونَ إِلَيْهِ وَتَحِفُّونَ بِرَايَتِهِ وَقَدْ رَأَيْنَا مِثْلَ الَّذِي رَأَيْتَ، فَإِنْ تَكُنْ أَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ تَكُنْ عِنْدَنَا مَرْضِيًّا، وَفِينَا مُنْتَصِحًا، وَفِي جَمَاعَتِنَا مَحْبُوبًا، وَإِنْ رَأَيْتَ وَرَأَى أَصْحَابُنَا ذَلِكَ وَلَّيْنَا هَذَا الْأَمْرَ شَيْخَ الشِّيعَةِ وَصَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَا السَّابِقَةِ وَالْقَدَمِ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ الْخُزَاعِيَّ، الْمَحْمُودَ فِي بَأْسِهِ وَدِينِهِ، الْمَوْثُوقَ بِحَزْمِهِ.

وَتَكَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ بِنَحْوِ ذَلِكَ وَأَثْنَيَا عَلَى الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانَ. فَقَالَ الْمُسَيَّبُ: قَدْ أَصَبْتُمْ فَوَلُّوا أَمْرَكُمْ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ. فَتَكَلَّمَ سُلَيْمَانُ فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي لَخَائِفٌ أَلَّا يَكُونَ آخِرُنَا إِلَى هَذَا الدَّهْرِ الَّذِي نَكِدَتْ فِيهِ الْمَعِيشَةُ وَعَظُمَتْ فِيهِ الرَّزِيَّةُ وَشَمِلَ فِيهِ الْجَوْرُ أُولِي الْفَضْلِ مِنْ هَذِهِ الشِّيعَةِ لِمَا هُوَ خَيْرٌ، إِنَّا كُنَّا نَمُدُّ أَعْنَاقَنَا إِلَى قُدُومِ آلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُمَنِّيهِمُ النَّصْرَ وَنُحِثُّهُمْ عَلَى الْقُدُومِ، فَلَمَّا قَدِمُوا وَنَيْنَا وَعَجَزْنَا وَأَدْهَنَّا وَتَرَبَّصْنَا حَتَّى قُتِلَ فِينَا وَلَدُ نَبِيِّنَا وَسُلَالَتُهُ وَعُصَارَتُهُ وَبَضْعَةٌ مِنْ لَحْمِهِ وَدَمِهِ إِذْ جَعَلَ يَسْتَصْرِخُ وَيَسْأَلُ النَّصَفَ فَلَا يُعْطَى، اتَّخَذَهُ الْفَاسِقُونَ غَرَضًا لِلنَّبْلِ وَدَرِيئَةً لِلرِّمَاحِ حَتَّى أَقْصَدُوهُ، وَعَدَوْا عَلَيْهِ، (فَسَلَبُوهُ أَلَا) انْهَضُوا، فَقَدْ سَخِطَ عَلَيْكُمْ رَبُّكُمْ وَلَا تَرْجِعُوا إِلَى الْحَلَائِلِ وَالْأَبْنَاءِ حَتَّى يَرْضَى اللَّهُ، وَاللَّهِ مَا أَظُنُّهُ رَاضِيًا دُونَ أَنْ تُنَاجِزُوا مَنْ قَتَلَهُ، أَلَا لَا تَهَابُوا الْمَوْتَ فَمَا هَابَهُ أَحَدٌ قَطُّ إِلَّا ذُلَّ، وَكُونُوا كَبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] فَفَعَلُوا وَجَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ وَمَدُّوا الْأَعْنَاقَ حِينَ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يُنْجِيهِمْ مِنْ عَظِيمِ الذَّنْبِ إِلَّا الْقَتْلُ، فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ دُعِيتُمْ إِلَى مَا دُعُوا! أَحِدُّوا السُّيُوفَ وَرَكِّبُوا الْأَسِنَّةَ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]

حَتَّى تُدْعَوْا وَتُسْتَنْفَرُوا. فَقَالَ خَالِدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ يُنْجِينِي مِنْ ذَنْبِي وَيُرْضِي رَبِّي عَنِّي قَتْلِي نَفْسِي لَقَتَلْتُهَا، وَأَنَا أُشْهِدُ كُلَّ مَنْ حَضَرَ أَنَّ كُلَّ مَا أَصْبَحْتُ أَمْلِكُهُ سِوَى سِلَاحِي الَّذِي أُقَاتِلُ بِهِ عَدُوِّي صَدَقَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أُقَوِّيهِمْ بِهِ عَلَى قِتَالِ الْفَاسِقِينَ. قَالَ أَبُو الْمُعْتَمِرِ بْنُ حَنَشِ بْنِ رَبِيعَةَ الْكِنَانِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: حَسْبُكُمْ، مَنْ أَرَادَ مِنْ هَذَا شَيْئًا فَلْيَأْتِ بِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَالٍ التَّيْمِيَّ، فَإِذَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ كُلُّ مَا تُرِيدُونَ إِخْرَاجَهُ جَهَّزْنَا بِهِ ذَوِي الْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ مِنْ أَشْيَاعِكُمْ. وَكَتَبَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ إِلَى سَعْدِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ يُعْلِمُهُ بِمَا عَزَمُوا عَلَيْهِ وَيَدْعُوهُ إِلَى مُسَاعَدَتِهِمْ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الشِّيعَةِ بِالْمَدَائِنِ، فَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ حُذَيْفَةَ الْكِتَابَ عَلَى مَنْ بِالْمَدَائِنِ مِنَ الشِّيعَةِ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ يُعْلِمُونَهُ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَرَكَةِ إِلَيْهِ وَالْمُسَاعَدَةِ لَهُ. وَكَتَبَ سُلَيْمَانُ أَيْضًا كِتَابًا إِلَى الْمُثَنَّى بْنِ مُخَرِّبَةَ الْعَبْدِيِّ بِالْبَصْرَةِ مِثْلَ مَا كَتَبَ إِلَى سَعْدِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فَأَجَابَهُ الْمُثَنَّى: إِنَّنَا مَعْشَرَ الشِّيعَةِ حَمِدْنَا اللَّهَ عَلَى مَا عَزَمْتُمْ عَلَيْهِ وَنَحْنُ مُوَافُوكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِلْأَجَلِ الَّذِي ضَرَبْتَ. وَكَتَبَ فِي أَسْفَلِ الْكِتَابِ: تَبَصَّرْ كَأَنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ مُعْلِمًا ... عَلَى أَتْلَعِ الْهَادِي أَجَشَّ هَزِيمِ طَوِيلِ الْقَرَا نَهْدِ الشَّوَاةِ مُقَلَّصٍ ... مُلِحٍّ عَلَى فَأْسِ اللِّجَامِ أَزُومِ بِكُلِّ فَتًى لَا يَمْلَأُ الرَّوْعُ قَلْبَهُ ... مِحَشٍّ لِنَارِ الْحَرْبِ غَيْرِ سَئُومِ أَخِي ثِقَةٍ، يَنْوِي الْإِلَهَ بِسَعْيِهِ ... ضَرُوبٍ بِنَصْلِ السَّيْفِ غَيْرِ أَثِيمِ ) فَكَانَ أَوَّلَ مَا ابْتَدَءُوا بِهِ أَمْرَهُمْ بَعْدَ قَتْلِ الْحُسَيْنِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، فَمَا زَالُوا بِجَمْعِ

آلَةِ الْحَرْبِ وَدُعَاءِ النَّاسِ فِي السِّرِّ إِلَى الطَّلَبِ بِدَمِ الْحُسَيْنِ، فَكَانَ يُجِيبُهُمُ النَّفَرُ، وَلَمْ يَزَالُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ هَلَكَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ جَاءَ إِلَى سُلَيْمَانَ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: قَدْ هَلَكَ هَذَا الطَّاغِيَةُ وَالْأَمْرُ ضَعِيفٌ، فَإِنْ شِئْتَ وَثَبْنَا عَلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، وَكَانَ خَلِيفَةَ ابْنِ زِيَادٍ عَلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ أَظْهَرْنَا الطَّلَبَ بِدَمِ الْحُسَيْنِ وَتَتَبَّعْنَا قَتَلَتَهُ وَدَعَوْنَا النَّاسَ إِلَى أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ الْمُسْتَأْثِرِ عَلَيْهِمُ الْمَدْفُوعِينَ عَنْ حَقِّهِمْ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ: لَا تُعَجِّلُوا، إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ فَرَأَيْتُ أَنَّ قَتَلَةَ الْحُسَيْنِ هُمْ أَشْرَافُ الْكُوفَةِ وَفُرْسَانُ الْعَرَبِ وَهُمُ الْمُطَالَبُونَ بِدَمِهِ، وَمَتَى عَلِمُوا مَا تُرِيدُونَ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ عَلَيْكُمْ، وَنَظَرْتُ فِيمَنْ تَبِعَنِي مِنْكُمْ فَعَلِمْتُ أَنَّهُمْ لَوْ خَرَجُوا لَمْ يُدْرِكُوا ثَأْرَهُمْ وَلَمْ يَشْفُوا نُفُوسَهُمْ وَكَانُوا جُزُرًا لِعَدُوِّهِمْ، وَلَكِنْ بُثُّوا دُعَاتَكُمْ وَادْعُوا إِلَى أَمْرِكُمْ. فَفَعَلُوا وَاسْتَجَابَ لَهُمْ نَاسٌ كَثِيرٌ بَعْدَ هَلَاكِ يَزِيدَ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ أَخْرَجُوا عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ وَبَايَعُوا لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَسُلَيْمَانُ وَأَصْحَابُهُ يَدْعُونَ النَّاسَ. فَلَمَّا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ هَلَاكِ يَزِيدَ قَدِمَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الْكُوفَةَ فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ وَقَدِمَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ مِنْ قِبَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ) ، وَقَدِمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ مَعَهُ عَلَى خَرَاجِ الْكُوفَةِ. فَأَخَذَ الْمُخْتَارُ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى قِتَالِ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ وَيَقُولُ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَزِيرًا أَمِينًا. فَرَجَعَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا يُرِيدُ سُلَيْمَانُ أَنْ يَخْرُجَ فَيَقْتُلَ نَفْسَهُ وَمَنْ مَعَهُ وَلَيْسَ لَهُ بَصَرٌ بِالْحَرْبِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِ بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَقِيلَ لَهُ لِيَحْبِسَهُ، وَخُوِّفَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ إِنْ تَرَكَهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنْ هُمْ قَاتَلُونَا قَاتَلْنَاهُمْ، وَإِنْ تَرَكُونَا لَمْ نَطْلُبْهُمْ. إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَطْلُبُونَ بِدَمِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَرَحِمَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، إِنَّهُمْ آمِنُونَ، فَلْيَخْرُجُوا ظَاهِرِينَ وَلْيَسِيرُوا إِلَى مَنْ قَاتَلَ الْحُسَيْنَ، فَقَدْ أَقْبَلَ إِلَيْهِمْ، يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ، وَأَنَا لَهُمْ ظَهِيرٌ، هَذَا ابْنُ زِيَادٍ قَاتِلُ الْحُسَيْنِ وَقَاتِلُ أَخْيَارِكُمْ وَأَمَاثِلِكُمْ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْكُمْ، وَقَدْ فَارَقُوهُ

عَلَى لَيْلَةٍ مِنْ جِسْرِ مَنْبِجَ، فَقِتَالُهُ وَالِاسْتِعْدَادُ إِلَيْهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تَجْعَلُوا بَأْسَكُمْ بَيْنَكُمْ فَيَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَيَلْقَاكُمْ عَدُوُّكُمْ وَقَدْ ضَعُفْتُمْ، وَتِلْكَ أُمْنِيَتُهُ، وَقَدْ قَدِمَ عَلَيْكُمْ أَعْدَى خَلْقِ اللَّهِ لَكُمْ، مَنْ وَلِيَ عَلَيْكُمْ هُوَ وَأَبُوهُ سَبْعَ سِنِينَ لَا يُقْلِعَانِ عَنْ قَتْلِ أَهْلِ الْعَفَافِ وَالدِّينِ، (هُوَ الَّذِي قَتَلَكُمْ) ، وَمِنْ قِبَلِهِ أُتِيتُمْ، وَالَّذِي قَتَلَ مَنْ تُنَادُونَ بِدَمِهِ قَدْ جَاءَكُمْ فَاسْتَقْبِلُوهُ بِحَدِّكُمْ وَشَوْكَتِكُمْ وَاجْعَلُوهَا بِهِ وَلَا تَجْعَلُوهَا بِأَنْفُسِكُمْ، إِنِّي لَكُمْ نَاصِحٌ. وَكَانَ مَرْوَانُ قَدْ سَيَّرَ ابْنَ زِيَادٍ إِلَى الْجَزِيرَةِ، ثُمَّ إِذَا فَرَغَ مِنْهَا سَارَ إِلَى الْعِرَاقِ. فَلَمَّا فَرَغَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ مِنْ قَوْلِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ: أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنَ السَّيْفِ وَالْغَشْمِ مَقَالَةُ هَذَا الْمُدَاهِنِ، وَاللَّهِ لَئِنْ خَرَجَ عَلَيْنَا خَارِجٌ لَنَقْتُلَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَيْقَنَّا أَنَّ قَوْمًا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ عَلَيْنَا لَنَأْخُذَنَّ الْوَالِدَ بِوَلَدِهِ وَالْمَوْلُودَ بِوَالِدِهِ وَالْحَمِيمَ بِالْحَمِيمِ وَالْعَرِيفَ بِمَا فِي عَرَافَتِهِ حَتَّى يَدِينُوا لِلْحَقِّ وَيَذِلُّوا لِلطَّاعَةِ. فَوَثَبَ إِلَيْهِ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ فَقَطَعَ عَلَيْهِ مَنْطِقَهُ ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ النَّاكِثِينَ! أَنْتَ تُهَدِّدُنَا بِسَيْفِكَ وَغَشْمِكَ! أَنْتَ وَاللَّهِ أَذَلُّ مِنْ ذَلِكَ! إِنَّا لَا نَلُومُكَ عَلَى بُغْضِنَا وَقَدْ قَتَلْنَا أَبَاكَ وَجَدَّكَ، وَأَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ فَقَدْ قُلْتَ قَوْلًا سَدِيدًا. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَاللَّهِ لُتُقْتَلَنَّ وَقَدْ أَدْهَنَ هَذَا، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَالٍ: مَا اعْتِرَاضُكَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَمِيرِنَا؟ مَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِأَمِيرٍ إِنَّمَا أَنْتَ أَمِيرُ هَذِهِ الْجِزْيَةِ، فَأَقْبِلْ عَلَى خَرَاجِكَ، وَلَئِنْ أَفْسَدْتَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَقَدْ أَفْسَدَهُ وَالِدَاكَ وَكَانَتْ عَلَيْهِمَا دَائِرَةُ السَّوْءِ! فَشَتَمَهُمْ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ مَعَ إِبْرَاهِيمَ فَشَاتَمُوهُ، فَنَزَلَ الْأَمِيرُ مِنْ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَتَهَدَّدَهُ إِبْرَاهِيمُ بِأَنَّهُ يَكْتُبُ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ يَشْكُوهُ، فَجَاءَهُ عَبْدُ اللَّهِ فِي مَنْزِلِهِ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبْلَ عُذْرَهُ. ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ سُلَيْمَانَ خَرَجُوا يَنْشُرُونَ السِّلَاحَ ظَاهِرِينَ وَيَتَجَهَّزُونَ.

ذِكْرُ فِرَاقِ الْخَوَارِجِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فَارَقَ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ كَانُوا قَدِمُوا مَكَّةَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَكَانُوا قَدْ قَاتَلُوا مَعَهُ أَهْلَ الشَّامِ. وَكَانَ سَبَبُ قُدُومِهِمْ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ لَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ ابْنُ زِيَادٍ بَعْدَ قَتْلِ أَبِي بِلَالٍ اجْتَمَعُوا فَتَذَاكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْكِتَابَ، وَفَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجِهَادَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْكُمْ بِالْبَيَانِ، وَقَدْ جَرَّدَ أَهْلُ الظُّلْمِ فِيكُمُ السُّيُوفَ فَاخْرُجُوا بِنَا إِلَى هَذَا الَّذِي قَدْ ثَارَ بِمَكَّةَ فَإِنْ كَانَ عَلَى رَأْيِنَا جَاهَدْنَا مَعَهُ، وَإِنْ يَكُنْ عَلَى غَيْرِ رَأْيِنَا دَافَعْنَاهُ عَنِ الْبَيْتِ. وَكَانَ عَسْكَرُ الشَّامِ قَدْ سَارَ نَحْوَ ابْنِ الزُّبَيْرِ. فَسَارَ الْخَوَارِجُ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَسُرَّ بِمَقْدَمِهِمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفْتِيشٍ. فَقَاتَلُوا مَعَهُ أَهْلَ الشَّامِ حَتَّى مَاتَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَانْصَرَفَ أَهْلُ الشَّامِ. ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي صَنَعْتُمْ أَمْسِ لَغَيْرُ رَأْيٍ، تُقَاتِلُونَ مَعَ رَجُلٍ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّهُ لَيْسَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِكُمْ، وَقَدْ كَانَ أَمْسِ يُقَاتِلُكُمْ هُوَ وَأَبُوهُ وَيُنَادِي: يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَ! فَأْتُوهُ وَاسْأَلُوهُ عَنْ عُثْمَانَ فَإِنْ بَرِئَ مِنْهُ كَانَ وَلِيَّكُمْ، وَإِنْ أَبَى كَانَ عَدُوَّكُمْ. فَأَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ، فَنَظَرَ فَإِذَا أَصْحَابُهُ حَوْلَهُ قَلِيلٌ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ أَتَيْتُمُونِي حِينَ أَرَدْتُ الْقِيَامَ، وَلَكِنْ رَوِّحُوا إِلَيَّ الْعَشِيَّةَ حَتَّى أُعْلِمَكُمْ. فَانْصَرَفُوا، وَبَعَثَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَجَمَعَهُمْ حَوْلَهُ بِالسِّلَاحِ، وَجَاءَتِ الْخَوَارِجُ وَأَصْحَابُهُ حَوْلَهُ وَعَلَى رَأْسِهِ وَبِأَيْدِيهِمُ الْعَمَدُ، فَقَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ الرَّجُلَ قَدْ أَزْمَعَ خِلَافَكُمْ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ وَعُبَيْدَةُ بْنُ هِلَالٍ فَقَالَ عُبَيْدَةُ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا يَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، فَدَعَا إِلَى ذَلِكَ فَأَجَابَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَعَمِلَ فِيهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ وَاسْتَخْلَفَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ وَاسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَكِلَاهُمَا عَمِلَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، ثُمَّ إِنِ النَّاسَ اسْتَخْلَفُوا عُثْمَانَ، فَحَمَى الْأَحْمَاءَ، وَآثَرَ الْقُرْبَى، وَاسْتَعْمَلَ الْفَتَى وَرَفَعَ الدِّرَّةَ وَوَضَعَ السَّوْطَ وَمَزَّقَ الْكِتَابَ وَضَرَبَ مُنْكَرَ الْجَوْرِ، وَآوَى طَرِيدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَرَبَ السَّابِقِينَ بِالْفَضْلِ وَحَرَمَهُمْ، وَأَخَذَ فَيْءَ اللَّهِ الَّذِي أَفَاءَ عَلَيْهِمْ فَقَسَمَهُ فِي فُسَّاقِ

قُرَيْشٍ وَمُجَّانِ الْعَرَبِ، فَسَارَتْ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ فَقَتَلُوهُ، فَنَحْنُ لَهُمْ أَوْلِيَاءُ وَمِنَ ابْنِ عَفَّانَ وَأَوْلِيَائِهِ بُرَآءُ، فَمَا تَقُولُ أَنْتَ يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ؟ فَقَالَ: قَدْ فَهِمْتُ الَّذِي ذَكَرْتَ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ فَوْقَ مَا ذَكَرْتَ وَفَوْقَ مَا وَصَفْتَ، وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ بِهِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَقَدْ وُفِّقْتَ وَأَصَبْتَ، وَفَهِمْتُ الَّذِي ذَكَرْتَ بِهِ عُثْمَانَ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ الْيَوْمَ أَعْلَمَ بِابْنِ عَفَّانَ وَأَمْرِهِ مِنِّي، كُنْتُ مَعَهُ حَيْثُ نَقَمَ [الْقَوْمُ] عَلَيْهِ وَاسْتَعْتَبُوهُ فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا إِلَّا أَعْتَبَهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْهِ بِكِتَابٍ لَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَتَبَهُ يَأْمُرُ فِيهِ بِقَتْلِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا كَتَبْتُهُ فَإِنْ شِئْتُمْ فَهَاتُوا بَيِّنَتَكُمْ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَلَفْتُ لَكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا جَاءُوهُ بِبَيِّنَةٍ وَلَا اسْتَحْلَفُوهُ وَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا عَتَبْتَهُ بِهِ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ لِكُلِّ خَيْرٍ أَهْلٌ، وَأَنَا أُشْهِدُكُمْ وَمَنْ حَضَرَنِي أَنِّي وَلِيٌّ لِابْنِ عَفَّانَ وَعَدُوُّ أَعْدَائِهِ فَبَرِئَ اللَّهُ مِنْكُمْ. وَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ فَأَقْبَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ الْحَنْظَلِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّفَّارِ السَّعْدِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبَاضٍ وَحَنْظَلَةُ بْنُ بَيْهَسٍ وَبَنُو الْمَاحُوزِ: عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَالزُّبَيْرُ مِنْ بَنِي سَلِيطِ بْنِ يَرْبُوعٍ، وَكُلُّهُمْ مِنْ تَمِيمٍ، حَتَّى أَتَوُا الْبَصْرَةَ، وَانْطَلَقَ أَبُو طَالُوتَ، مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَأَبُو فُدَيْكٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَوْرِ بْنِ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَعَطِيَّةُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْيَشْكُرِيُّ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَوَثَبُوا بِهَا مَعَ أَبِي طَالُوتَ، ثُمَّ أَجْمَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَجْدَةَ بْنِ عَامِرٍ الْحَنَفِيِّ وَتَرَكُوا أَبَا طَالُوتَ. فَأَمَّا نَافِعٌ وَأَصْحَابُهُ فَإِنَّهُمْ قَدِمُوا الْبَصْرَةَ وَهُمْ عَلَى رَأْيِ أَبِي بِلَالٍ، وَاجْتَمَعُوا وَتَذَاكَرُوا فَضِيلَةَ الْجِهَادِ، فَخَرَجَ نَافِعٌ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ وُثُوبِ النَّاسِ بِابْنِ زِيَادٍ وَكَسْرِ الْخَوَارِجِ بَابَ السِّجْنِ، وَخَرَجُوا وَاشْتَغَلَ النَّاسُ عَنْهُمْ بِحَرْبِ الْأَزْدِ وَرَبِيعَةَ وَتَمِيمٍ، فَلَمَّا خَرَجَ نَافِعٌ تَبِعُوهُ، وَاصْطَلَحَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، فَتَجَرَّدَ النَّاسُ لِلْخَوَارِجِ وَأَخَافُوهُمْ، فَلَحِقَ نَافِعٌ بِالْأَهْوَازِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَخَرَجَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بِالْبَصْرَةِ إِلَى ابْنِ الْأَزْرَقِ إِلَّا مَنْ لَمْ يُرِدِ الْخُرُوجَ يَوْمَهُ ذَلِكَ، مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّفَّارِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبَاضٍ، وَرِجَالٌ مَعَهُمَا عَلَى رَأْيِهِمَا، وَنَظَرَ نَافِعٌ فَرَأَى أَنَّ وِلَايَةَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجِهَادِ مِنَ الَّذِينَ قَعَدُوا مِنَ الْخَوَارِجِ لَا تَحِلُّ لَهُ، وَأَنَّ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ لَا نَجَاةَ لَهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ ذَلِكَ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَحِلُّ لَهُمْ مُنَاكَحَتُهُمْ وَلَا أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ،

وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ وَأَخْذُ عِلْمِ الدِّينِ عَنْهُمْ، وَلَا يَحِلُّ مِيرَاثُهُمْ، وَرَأَى قَتْلَ الْأَطْفَالِ وَالِاسْتِعْرَاضَ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ كُفَّارٌ مِثْلُ كُفَّارِ الْعَرَبِ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ الْقَتْلُ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَفَارَقَهُ بَعْضُهُمْ، وَمِمَّنْ فَارَقَهُ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَسَارَ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَأَطَاعَهُ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ بِهَا وَتَرَكُوا أَبَا طَالُوتَ، فَكَتَبَ نَافِعٌ إِلَى ابْنِ إِبَاضٍ وَابْنِ الصَّفَّارِ يَدْعُوهُمَا وَمَنْ مَعَهُمَا إِلَى ذَلِكَ، فَقَرَأَ ابْنُ الصَّفَّارِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَقْرَأْهُ عَلَى أَصْحَابِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا وَيَخْتَلِفُوا، فَأَخَذَهُ ابْنُ إِبَاضٍ فَقَرَأَهُ، فَقَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ أَيَّ رَأْيٍ رَأَى! صَدَقَ نَافِعٌ، لَوْ كَانَ الْقَوْمُ مُشْرِكِينَ كَانَ أَصْوَبَ النَّاسِ رَأْيًا وَكَانَتْ سِيرَتُهُ كَسِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّهُ قَدْ كَذَبَ فِيمَا يَقُولُ، إِنَّ الْقَوْمَ بُرَآءُ مِنَ الشِّرْكِ وَلَكِنَّهُمْ كُفَّارٌ بِالنِّعَمِ وَالْأَحْكَامِ وَلَا يَحِلُّ لَنَا إِلَّا دِمَاؤُهُمْ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْنَا. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الصَّفَّارِ: بَرِئَ اللَّهُ مِنْكَ فَقَدْ قَصَّرْتَ، وَبَرِئَ اللَّهُ مِنِ ابْنِ الْأَزْرَقِ فَقَدْ غَلَا. فَقَالَ الْآخَرُ: بَرِئَ اللَّهُ مِنْكَ وَمِنْهُ. فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ وَاشْتَدَّتْ شَوْكَةُ ابْنِ الْأَزْرَقِ وَكَثُرَتْ جُمُوعُهُ وَأَقَامَ بِالْأَهْوَازِ يَجْبِي الْخَرَاجَ وَيَتَقَوَّى بِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَ الْبَصْرَةِ حَتَّى دَنَا مِنَ الْجِسْرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ مُسْلِمَ بْنَ عُبَيْسِ بْنِ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. (عُبَيْسٌ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الْمَضْمُومَةِ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ، وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ. وَعُبَيْدَةُ بْنُ بِلَالٍ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) . ذِكْرُ قُدُومِ الْمُخْتَارِ الْكُوفَةَ كَانَتِ الشِّيعَةُ تَسُبُّ الْمُخْتَارَ وَتَعِيبُهُ لِمَا كَانَ مِنْهُ فِي أَمْرِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ طُعِنَ فِي سَابَاطَ وَحُمِلَ إِلَى أَبْيَضِ الْمَدَائِنِ، حَتَّى [إِذَا] كَانَ زَمَنُ الْحُسَيْنِ، بَعَثَ الْحُسَيْنُ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ إِلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ فِي قَرْيَةٍ لَهُ تُدْعَى لَفَغَا، فَجَاءَهُ خَبَرُ ابْنِ عَقِيلٍ عِنْدَ الظُّهْرِ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ، وَلَمْ يَكُنْ خُرُوجُهُ عَنْ مِيعَادٍ كَمَا سَبَقَ، فَأَقْبَلَ الْمُخْتَارُ فِي مَوَالِيهِ فَانْتَهَى إِلَى بَابِ الْفِيلِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَقَدْ أَقْعَدَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ بِالْمَسْجِدِ وَمَعَهُ رَايَةٌ، فَوَقَفَ الْمُخْتَارُ لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ عَمْرًا فَاسْتَدْعَاهُ وَآمَنَهُ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ.

فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ ذَكَرَ عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ أَمْرَهُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ، فَأَحْضَرَهُ فِيمَنْ دَخَلَ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الْمُقْبِلُ فِي الْجُمُوعِ لِتَنْصُرَ ابْنَ عَقِيلٍ؟ قَالَ: لَمْ أَفْعَلْ وَلَكِنِّي أَقْبَلْتُ وَنَزَلْتُ تَحْتَ رَايَةِ عَمْرٍو، فَشَهِدَ لَهُ عَمْرٌو، فَضَرَبَ وَجْهَ الْمُخْتَارِ فَشَتَرَ عَيْنَهُ وَقَالَ: لَوْلَا شَهَادَةُ عَمْرٍو لَقَتَلْتُكَ! ثُمَّ حَبَسَهُ حَتَّى قُتِلَ الْحُسَيْنُ. ثُمَّ إِنَّ الْمُخْتَارَ بَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ تَزَوَّجَ أُخْتَ الْمُخْتَارِ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ، فَكَتَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى يَزِيدَ يَشْفَعُ فِيهِ، فَأَرْسَلَ يَزِيدُ إِلَى زِيَادٍ يَأْمُرُهُ بِإِطْلَاقِهِ، فَأَطْلَقَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُقِيمَ غَيْرَ ثَلَاثٍ. فَخَرَجَ الْمُخْتَارُ إِلَى الْحِجَازِ، فَلَقِيَهُ ابْنُ الْعِرْقِ وَرَاءَ وَاقِصَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَنْ عَيْنِهِ، فَقَالَ: خَبَطَهَا ابْنُ الزَّانِيَةِ بِالْقَضِيبِ فَصَارَتْ كَمَا تَرَى، ثُمَّ قَالَ: قَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْطَعْ أَنَامِلَهُ وَأَعْضَاءَهُ إِرَبًا إِرَبًا! ثُمَّ سَأَلَهُ الْمُخْتَارُ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: فَقَالَ: إِنَّهُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ وَإِنَّهُ يُبَايَعُ سِرًّا وَلَوِ اشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُ وَكَثُرَتْ رِجَالُهُ لَظَهَرَ. فَقَالَ الْمُخْتَارُ: إِنَّهُ رَجُلُ الْعَرَبِ الْيَوْمَ وَإِنِ اتَّبَعَ رَأْيِي أَكْفِهِ أَمْرَ النَّاسِ. إِنَّ الْفِتْنَةَ أَرْعَدَتْ وَأَبْرَقَتْ وَكَأَنْ قَدِ انْبَعَثَتْ، فَإِذَا سَمِعْتَ بِمَكَانٍ قَدْ ظَهَرَتْ بِهِ [فَقُلْ إِنَّ الْمُخْتَارَ] فِي عِصَابَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَطْلُبُ بِدَمِ الشَّهِيدِ الْمَظْلُومِ الْمَقْتُولِ بِالطَّفِّ، سَيِّدِ الْمُسْلِمِينَ وَابْنِ بِنْتِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَابْنِ سَيِّدِهَا، الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَوَرَبِّكَ لَأَقْتُلَنَّ بِقَتْلِهِ عِدَّةَ مَنْ قُتِلَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ. ثُمَّ سَارَ وَابْنُ الْعِرْقِ يَعْجَبُ مِنْ قَوْلِهِ، قَالَ ابْنُ الْعِرْقِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ مَا ذَكَرَهُ وَحَدَّثْتُ بِهِ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ، فَضَحِكَ وَقَالَ: لِلَّهِ دَرُّهُ أَيَّ رَجُلٍ دِينًا، وَمِسْعَرَ حَرْبٍ، وَمُقَارِعَ أَعْدَاءٍ كَانَ! ثُمَّ قَدِمَ الْمُخْتَارُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَكَتَمَ عَنْهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَمْرَهُ، فَفَارَقَهُ وَغَابَ عَنْهُ سَنَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقِيلَ إِنَّهُ بِالطَّائِفِ وَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ صَاحِبُ الْغَضَبِ وَمُسَيِّرُ الْجَبَّارِينَ. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَا لَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ؟ لَقَدِ انْبَعَثَ كَذَّابًا مُتَكَهِّنًا، إِنْ يُهْلِكِ اللَّهُ الْجَبَّارِينَ يَكُنِ الْمُخْتَارُ أَوَّلَهُمْ. فَهُوَ فِي حَدِيثِهِ إِذْ دَخَلَ الْمُخْتَارُ الْمَسْجِدَ فَطَافَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَجَلَسَ، فَأَتَاهُ

مَعَارِفُهُ يُحَدِّثُونَهُ، وَلَمْ يَأْتِ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَوَضَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَيْهِ عَبَّاسَ بْنَ سَهْلِ بْنِ مِسْعَرٍ، فَأَتَاهُ وَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: مِثْلُكَ يَغِيبُ عَنِ الَّذِي قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْأَشْرَافُ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ وَثَقِيفٍ! لَمْ تَبْقَ قَبِيلَةٌ إِلَّا وَقَدْ أَتَاهُ زَعِيمُهَا فَبَايَعَ هَذَا الرَّجُلَ. فَقَالَ: إِنِّي أَتَيْتُهُ الْعَامَ الْمَاضِي وَكَتَمَ عَنِّي خَبَرَهُ، فَلَمَّا اسْتَغْنَى عَنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُرِيَهُ أَنِّي مُسْتَغْنٍ عَنْهُ. فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: الْقَهُ اللَّيْلَةَ وَأَنَا مَعَكَ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ حَضَرَ عِنْدَ ابْنِ الزُّبَيْرِ بَعْدَ الْعَتَمَةِ، فَقَالَ الْمُخْتَارُ: أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ لَا تَقْضِيَ الْأُمُورَ دُونِي، وَعَلَى أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ دَاخِلٍ، وَإِذَا ظَهَرْتَ اسْتَعَنْتَ بِي عَلَى أَفْضَلِ عَمَلِكَ. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أُبَايِعُكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. فَقَالَ: وَشَرُّ غِلْمَانِي تُبَايِعُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهِ لَا أُبَايِعُكَ أَبَدًا إِلَّا عَلَى ذَلِكَ. فَبَايَعَهُ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ وَشَهِدَ مَعَهُ قِتَالَ الْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ وَأَبْلَى أَحْسَنَ بَلَاءٍ وَقَاتَلَ أَشَدَّ قِتَالٍ، وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ. فَلَمَّا هَلَكَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَأَطَاعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَقَامَ عِنْدَهُ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا رَآهُ لَا يَسْتَعْمِلُهُ جَعَلَ لَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَّا سَأَلَهُ عَنْ حَالِ النَّاسِ، فَأَخْبَرَهُ هَانِئُ بْنُ جُبَّةَ الْوَدَاعِيُّ بِاتِّسَاقِ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَلَى طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِلَّا أَنَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ هُمْ عَدَدُ أَهْلِهَا لَوْ كَانَ لَهُمْ مَنْ يَجْمَعُهُمْ عَلَى رَأْيِهِمْ أَكَلَ بِهِمُ الْأَرْضَ إِلَى يَوْمٍ [مَا] . فَقَالَ الْمُخْتَارُ: أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، أَنَا وَاللَّهِ لَهُمْ أَنْ أَجْمَعَهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَأُلْقِيَ بِهِمْ رُكْبَانَ الْبَاطِلِ، وَأُهْلِكَ بِهِمْ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ نَحْوَ الْكُوفَةِ فَوَصَلَ إِلَى نَهْرِ الْحِيرَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَاغْتَسَلَ وَلَبِسَ ثِيَابَهُ ثُمَّ رَكِبَ فَمَرَّ بِمَسْجِدِ السَّكُونِ وَجَبَّانَةِ كِنْدَةَ، لَا يَمُرُّ عَلَى مَجْلِسٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَى أَهْلِهِ وَقَالَ: أَبْشِرُوا بِالنُّصْرَةِ وَالْفَلْجِ، أَتَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ. وَمَرَّ بِبَنِي بَدَاءَ فَلَقِيَ عُبَيْدَةَ بْنَ عَمْرٍو الْبَدِّيَّ مِنْ كِنْدَةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: أَبْشِرْ بِالنَّصْرِ وَالْفَلْجِ، إِنَّكَ أَبَا عَمْرٍو عَلَى رَأْيٍ حَسَنٍ، لَنْ يَدَعَ اللَّهُ لَكَ مَعَهُ إِثْمًا إِلَّا غَفَرَهُ لَكَ، وَلَا ذَنْبًا إِلَّا سَتَرَهُ. وَكَانَ عُبَيْدَةُ مِنْ أَشْجَعِ النَّاسِ وَأَشْعَرِهِمْ وَأَشَدِّهِمْ تَشَيُّعًا وَحُبًّا لِعَلِيٍّ، وَكَانَ لَا يَصْبِرُ عَنِ الشَّرَابِ، فَقَالَ لَهُ: بَشَّرَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ! فَهَلْ أَنْتَ مُبَيِّنٌ لَنَا؟ قَالَ نَعَمِ، الْقَنِي اللَّيْلَةَ. ثُمَّ سَافَرَ بِبَنِي هِنْدٍ فَلَقِيَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ كَثِيرٍ فَرَحَّبَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: الْقَنِي أَنْتَ وَأَخُوكَ

اللَّيْلَةَ فَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِمَا تُحِبُّونَ. وَمَرَّ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ هَمْدَانَ فَقَالَ: قَدْ قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ بِمَا يَسُرُّكُمْ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ وَاسْتَشْرَفَ لَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَى سَارِيَةٍ فَصَلَّى عِنْدَهَا حَتَّى أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَصَلَّى مَعَ النَّاسِ ثُمَّ صَلَّى مَا بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْعَصْرِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى دَارِهِ، وَاخْتَلَفَ إِلَيْهِ الشِّيعَةُ، وَأَتَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ كَثِيرٍ وَأَخُوهُ وَعُبَيْدَةُ بْنُ عَمْرٍو، فَسَأَلَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ وَأَنَّهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْمَهْدِيَّ ابْنَ الْوَصِيِّ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ أَمِينًا وَوَزِيرًا وَمُنْتَخَبًا وَأَمِيرًا وَأَمَرَنِي بِقَتْلِ الْمُلْحِدِينَ وَالطَّلَبِ بِدَمِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَالدَّفْعِ عَنِ الضُّعَفَاءِ، فَكُونُوا أَوَّلَ خَلْقِ اللَّهِ إِجَابَةً. فَضَرَبُوا عَلَى يَدِهِ وَبَايَعُوهُ، وَبَعَثَ إِلَى الشِّيعَةِ وَقَدِ اجْتَمَعَتْ عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ وَقَالَ لَهُمْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ سُلَيْمَانَ لَيْسَ لَهُ بَصَرٌ بِالْحَرْبِ وَلَا تَجْرِبَةٌ بِالْأُمُورِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ فَيَقْتُلَكُمْ وَيَقْتُلَ نَفْسَهُ، وَأَنَا أَعْمَلُ عَلَى مِثَالٍ مُثِّلَ لِي وَأَمْرٍ بُيِّنَ لِي عَنْ وَلِيِّكُمْ، وَأَقْتُلُ عَدُوَّكُمْ وَأَشْفِي صُدُورَكُمْ، فَاسْمَعُوا قَوْلِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي، ثُمَّ انْتَشِرُوا. وَمَا زَالَ بِهَذَا وَنَحْوِهِ حَتَّى اسْتَمَالَ طَائِفَةً مِنَ الشِّيعَةِ وَصَارُوا يَخْتَلِفُونَ إِلَيْهِ وَيُعَظِّمُونَهُ، وَعُظَمَاءُ الشِّيعَةِ مَعَ سُلَيْمَانَ لَا يَعْدِلُونَ بِهِ أَحَدًا، وَهُوَ أَثْقَلُ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُ سُلَيْمَانَ. فَلَمَّا خَرَجَ سُلَيْمَانُ نَحْوَ الْجَزِيرَةِ قَالَ عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ وَشَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ وَزَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رُوَيْمٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْحَطَمِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ أَشَدُّ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلَيْمَانَ، إِنَّمَا خَرَجَ يُقَاتِلُ عَدُوَّكُمْ، وَإِنَّ الْمُخْتَارَ يُرِيدُ أَنْ يَثِبَ عَلَيْكُمْ فِي مِصْرِكُمْ، فَأَوْثِقُوهُ وَاسْجُنُوهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ أَمْرُ النَّاسِ. فَأَتَوْهُ فَأَخَذُوهُ بَغْتَةً، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: مَا لَكُمْ؟ فَوَاللَّهِ مَا ظَفِرَتْ أَكُفُّكُمْ! فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ: شُدَّهُ كِتَافًا وَمَشِّهِ حَافِيًا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ هَذَا بَرْجَلٍ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا غَدْرُهُ، إِنَّمَا أَخَذْنَاهُ عَلَى الظَّنِّ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَيْسَ هَذَا بِعُشِّكِ فَادْرُجِي. مَا هَذَا الَّذِي بَلَغَنَا عَنْكَ يَا ابْنَ أَبِي عُبَيْدٍ؟ فَقَالَ: مَا بَلَغَكَ عَنِّي إِلَّا بَاطِلٌ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غِشٍّ كَغِشِّ أَبِيكَ وَجَدِّكَ!

ثُمَّ حُمِلَ إِلَى السِّجْنِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ مُقَيَّدًا، فَكَانَ يَقُولُ فِي السِّجْنِ: أَمَا وَرَبِّ الْبِحَارِ، وَالنَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ، وَالْمَهَامِهِ وَالْقِفَارِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْأَبْرَارِ، وَالْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ، لَأَقْتُلَنَّ كُلَّ جَبَّارٍ، بِكُلِّ لَدْنٍ خَطَّارٍ، وَمُهَنَّدٍ بَتَّارٍ، بِجُمُوعِ الْأَنْصَارِ، لَيْسُوا بِمِيلٍ أَغْمَارٍ، وَلَا بِعُزَّلٍ أَشْرَارٍ، حَتَّى إِذَا أَقَمْتُ عَمُودَ الدِّينِ، وَزَايَلْتُ شَعْبَ صَدْعِ الْمُسْلِمِينَ، وَشَفَيْتُ غَلِيلَ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَدْرَكْتُ ثَأْرَ النَّبِيِّينَ، لَمْ يَكْبُرْ عَلَيَّ زَوَالُ الدُّنْيَا، وَلَمْ أَحْفِلْ بِالْمَوْتِ إِذَا أَتَى. وَقِيلَ فِي خُرُوجِ الْمُخْتَارِ إِلَى الْكُوفَةِ وَسَبَبِهِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُخْتَارَ قَالَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ عِنْدَهُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ قَوْمًا لَوْ أَنَّ لَهُمْ رَجُلًا لَهُ فِقْهٌ وَعِلْمٌ بِمَا يَأْتِي وَيَذَرُ لَاسْتَخْرَجَ لَكَ مِنْهُمْ جُنْدًا تُقَاتِلُ بِهِمْ أَهْلَ الشَّامِ. قَالَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: شِيعَةُ عَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ. قَالَ: فَكُنْ أَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ. فَبَعَثَهُ إِلَى الْكُوفَةِ، فَنَزَلَ نَاحِيَةً مِنْهَا يَبْكِي عَلَى الْحُسَيْنِ وَيَذْكُرُ مُصَابَهُ حَتَّى لَقُوهُ وَأَحَبُّوهُ فَنَقَلُوهُ إِلَى وَسَطِ الْكُوفَةِ وَأَتَاهُ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا قَوِيَ أَمْرُهُ سَارَ إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ حَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ فِيهَا أَخُوهُ عُبَيْدَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْحَطَمِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ التَّيْمِيُّ، وَعَلَى خُرَاسَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسِ بْنِ ثَابِتٍ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ بِمَكَّةَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ خَبَرُ مَوْتِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ أَصَابَتْهُ فِلْقَةُ حَجَرِ مَنْجَنِيقٍ فِي جَانِبِ وَجْهِهِ فَمَرِضَ أَيَّامًا وَمَاتَ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ بِخُرَاسَانَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فِي قَوْلٍ. وَفِي أَيَّامِ يَزِيدَ مَاتَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، لَهُ صُحْبَةٌ. وَفِي أَيَّامِهِ أَيْضًا مَاتَ عَائِذُ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيُّ بِالْبَصْرَةِ، وَشَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ) . وَفِي أَيَّامِ ابْنِ زِيَادٍ بِالْكُوفَةِ مَاتَ قَيْسُ بْنُ خَرَشَةَ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ، وَخَبَرُ مَوْتِهِ عَجِيبٌ مَعَ ابْنِ زِيَادٍ لِأَنَّهُ كَانَ قَوَّالًا بِالْحَقِّ. (وَفِي أَيَّامِهِ مَاتَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو الدُّئِلِيُّ. وَفِي أَيَّامِهِ) مَاتَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ أُحُدًا، وَذِكْرُهُ فِي تَبُوكَ مَشْهُورٌ. وَفِي أَيَّامِهِ مَاتَ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ شَقِيقُ بْنُ ثَوْرٍ السُّدُوسِيُّ.

ثم دخلت سنة خمس وستين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ] 65 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ ذِكْرُ مَسِيرِ التَّوَّابِينَ وَقَتْلِهِمْ لَمَّا أَرَادَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ الْخُزَاعِيُّ الشُّخُوصَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ بَعَثَ إِلَى رُءُوسِ أَصْحَابِهِ فَأَتَوْهُ، فَلَمَّا أَهَلَّ رَبِيعٌ الْآخِرُ خَرَجَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، وَكَانُوا تَوَاعَدُوا لِلْخُرُوجِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا أَتَى النُّخَيْلَةَ دَارَ فِي النَّاسِ فَلَمْ يُعْجِبْهُ عَدَدُهُمْ، فَأَرْسَلَ حَكِيمَ بْنَ مُنْقِذٍ الْكِنْدِيَّ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُصَيْرٍ الْكِنَانِيَّ، فَنَادَيَا فِي الْكُوفَةِ: يَا لَثَارَاتِ الْحُسَيْنِ! فَكَانَا أَوَّلَ خَلْقِ اللَّهِ دَعَوْا: يَا لَثَارَاتِ الْحُسَيْنِ. فَأَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ وَقَدْ أَتَاهُ نَحْوٌ مِمَّا فِي عَسْكَرِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي دِيوَانِهِ فَوَجَدَهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا مِمَّنْ بَايَعَهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا وَافَانَا مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا إِلَّا أَرْبَعَةُ آلَافٍ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْمُخْتَارَ يُثَبِّطُ النَّاسَ عَنْكَ، إِنَّهُ قَدْ تَبِعَهُ أَلْفَانِ. فَقَالَ: قَدْ بَقِيَ عَشَرَةُ آلَافٍ، أَمَا هَؤُلَاءِ بِمُؤْمِنِينَ؟ أَمَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ وَالْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ؟ فَأَقَامَ بِالنُّخَيْلَةِ ثَلَاثًا يَبْعَثُ إِلَى مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ نَحْوٌ مِنْ أَلْفِ رَجُلٍ. فَقَامَ إِلَيْهِ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ! إِنَّهُ لَا يَنْفَعُكَ الْكَارِهُ وَلَا يُقَاتِلُ مَعَكَ إِلَّا مَنْ أَخْرَجَتْهُ النِّيَّةُ، فَلَا تَنْتَظِرْ أَحَدًا وَجِدَّ فِي أَمْرِكَ. قَالَ: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ. ثُمَّ قَامَ سُلَيْمَانُ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كَانَ خَرَجَ يُرِيدُ بِخُرُوجِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَالْآخِرَةَ فَذَلِكَ مِنَّا وَنَحْنُ مِنْهُ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَمَنْ كَانَ إِنَّمَا يُرِيدُ الدُّنْيَا فَوَاللَّهِ مَا نَأْتِي فَيْئًا نَأْخُذُهُ وَغَنِيمَةً نَغْنَمُهَا مَا خَلَا رِضْوَانَ [اللَّهِ] ، وَمَا مَعَنَا مِنْ ذَهَبٍ وَلَا

فِضَّةٍ وَلَا مَتَاعٍ، وَمَا هِيَ إِلَّا سُيُوفُنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا، وَزَادٌ قَدْرُ الْبُلْغَةِ، فَمَنْ كَانَ يَنْوِي غَيْرَ هَذَا فَلَا يَصْحَبُنَا. فَتَنَادَى أَصْحَابُهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ: إِنَّا لَا نَطْلُبُ الدُّنْيَا وَلَيْسَ لَهَا خَرَجْنَا إِنَّمَا خَرَجْنَا نَطْلُبُ التَّوْبَةَ وَالطَّلَبَ بِدَمِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمَّا عَزَمَ سُلَيْمَانُ عَلَى الْمَسِيرِ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا إِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ، وَإِنْ يَكُنْ لَيْسَ صَوَابًا فَمِنْ قِبَلِي، إِنَّا خَرَجْنَا نَطْلُبُ بِدَمِ الْحُسَيْنِ، وَقَتَلَتُهُ كُلُّهُمْ بِالْكُوفَةِ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ وَرُءُوسُ الْأَرْبَاعِ وَالْقَبَائِلِ، فَأَيْنَ نَذْهَبُ هَا هُنَا وَنَدَعُ الْأَوْتَارَ؟ فَقَالَ أَصْحَابُهُ كُلُّهُمْ: هَذَا هُوَ الرَّأْيُ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: لَكِنْ أَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ، إِنَّ الَّذِي قَتَلَهُ وَعَبَّأَ الْجُنُودَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَا أَمَانَ لَهُ عِنْدِي دُونَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ فَأُمْضِي فِيهِ حُكْمِي، هَذَا الْفَاسِقُ ابْنُ الْفَاسِقِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، فَسِيرُوا إِلَيْهِ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ فَإِنْ يُظْهِرْكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ رَجَوْنَا أَنْ يَكُونَ مَنْ بَعْدَهُ أَهْوَنَ عَلَيْنَا مِنْهُ، وَرَجَوْنَا أَنْ يَدِينَ لَكُمْ أَهْلُ مِصْرِكُمْ فِي عَافِيَةٍ فَيَنْظُرُونَ إِلَى كُلِّ مَنْ شَرَكَ فِي دَمِ الْحُسَيْنِ فَيَقْتُلُونَهُ وَلَا يَغْشِمُوا، وَإِنْ تُسْتَشْهَدُوا فَإِنَّمَا قَاتَلْتُمُ الْمُحِلِّينَ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ، إِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَجْعَلُوا جِدَّكُمْ بِغَيْرِ الْمُحِلِّينَ، وَلَوْ قَاتَلْتُمْ أَهْلَ مِصْرِكُمْ مَا عَدَمَ رَجُلٌ أَنْ يَرَى رَجُلًا قَدْ قَتَلَ أَخَاهُ وَأَبَاهُ وَحَمِيمَهُ وَرَجُلًا يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَاسْتَخِيرُوا اللَّهَ وَسِيرُوا. وَبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ خُرُوجُ ابْنِ صُرَدٍ، فَأَتَيَاهُ فِي أَشْرَافِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَلَمْ يَصْحَبْهُمْ مَنْ شَرَكَ فِي دَمِ الْحُسَيْنِ خَوْفًا مِنْهُ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ يَبِيتُ فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ خَوْفًا مِنْهُمْ. فَلَمَّا أَتَيَاهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَخُونُهُ وَلَا يَغُشُّهُ، وَأَنْتُمْ إِخْوَانُنَا وَأَهْلُ بَلَدِنَا وَأَحَبُّ أَهْلِ مِصْرٍ خَلَقَهُ اللَّهُ إِلَيْنَا، فَلَا تَفْجَعُونَا بِأَنْفُسِكُمْ وَلَا تَنْقُصُوا عَدَدَنَا بِخُرُوجِكُمْ مِنْ جَمَاعَتِنَا، أَقِيمُوا مَعَنَا حَتَّى نَتَهَيَّأَ، فَإِذَا سَارَ عَدُّونَا إِلَيْنَا خَرَجْنَا إِلَيْهِ بِجَمَاعَتِنَا فَقَاتَلْنَاهُ. وَجَعَلَ لِسُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِهِ خَرَاجَ جُوخَى إِنْ أَقَامُوا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِثْلَهُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ لَهُمَا: قَدْ مَحَّضْتُمَا النَّصِيحَةَ وَاجْتَهَدْتُمَا فِي الْمَشُورَةِ، فَنَحْنُ بِاللَّهِ وَلَهُ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ وَلَا نَرَانَا إِلَّا سَائِرِينَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَأَقِيمُوا حَتَّى (نُعَبِّي مَعَكُمْ جَرِيدًا كَثِيفًا) فَتَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ بِجَمْعٍ كَثِيفٍ. وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُمْ إِقْبَالُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ

زِيَادٍ مِنَ الشَّامِ فِي جُنُودٍ. فَلَمْ يُقِمْ سُلَيْمَانُ، فَسَارَ عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، فَوَصَلَ دَارَ الْأَهْوَازِ وَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْهُ نَاسٌ كَثِيرٌ، (فَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ مَنْ تَخَلَّفَ [عَنْكُمْ] مَعَكُمْ، {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47] ، إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ، وَاخْتَصَّكُمْ بِفَضْلِ ذَلِكَ) . ثُمَّ سَارُوا فَانْتَهَوْا إِلَى قَبْرِ الْحُسَيْنِ، فَلَمَّا وَصَلُوا صَاحُوا صَيْحَةً وَاحِدَةً، فَمَا رُئِيَ أَكْثَرَ بَاكِيًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ وَتَابُوا عِنْدَهُ مِنْ خِذْلَانِهِ، وَتَرْكِ الْقِتَالِ مَعَهُ وَأَقَامُوا عِنْدَهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً يَبْكُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ وَيَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، (وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ عِنْدَ ضَرِيحِهِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ حُسَيْنًا الشَّهِيدَ ابْنَ الشَّهِيدِ، الْمَهْدِيَّ ابْنَ الْمَهْدِيِّ، الصِّدِّيقَ ابْنَ الصِّدِّيقِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نُشْهِدُكَ أَنَّا عَلَى دِينِهِمْ وَسَبِيلِهِمْ وَأَعْدَاءُ قَاتِلِيهِمْ وَأَوْلِيَاءُ مُحِبِّيهِمُ، اللَّهُمَّ إِنَّا خَذَلْنَا ابْنَ بِنْتِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاغْفِرْ لَنَا مَا مَضَى مِنَّا وَتُبْ عَلَيْنَا وَارْحَمْ حُسَيْنًا وَأَصْحَابَهُ الشُّهَدَاءَ الصِّدِّيقِينَ، وَإِنَّا نُشْهِدُكَ أَنَّا عَلَى دِينِهِمْ وَعَلَى مَا قُتِلُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ! وَزَادَهُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ حَنَقًا) . ثُمَّ سَارُوا بَعْدَ أَنْ كَانَ الرَّجُلُ يَعُودُ إِلَى ضَرِيحِهِ كَالْمُوَدِّعِ لَهُ، فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنِ ازْدِحَامِهِمْ عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، ثُمَّ أَخَذُوا عَلَى الْأَنْبَارِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ كِتَابًا، مِنْهُ: يَا قَوْمَنَا لَا تُطِيعُوا عَدُوَّكُمْ، أَنْتُمْ فِي أَهْلِ بِلَادِكُمْ خِيَارٌ كُلُّكُمْ، وَمَتَى يُصِبْكُمْ عَدُوُّكُمْ يَعْلَمُوا أَنَّكُمْ أَعْلَامُ مِصْرِكُمْ، فَيُطْمِعُهُمْ ذَلِكَ فِيمَنْ وَرَاءَكُمْ، يَا قَوْمَنَا {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 20] ، يَا قَوْمِ إِنَّ أَيْدِيَنَا وَأَيْدِيَكُمْ وَاحِدَةٌ وَعَدُوَّنَا وَعَدُوَّكُمْ وَاحِدٌ وَمَتَى تَجْتَمِعُ كَلِمَتُنَا عَلَى عَدُوِّنَا نَظْهَرُ عَلَى عَدُوِّنَا وَمَتَى تَخْتَلِفُ تَهُنْ شَوْكَتُنَا عَلَى مَنْ خَالَفْنَا، يَا قَوْمَنَا لَا تَسْتَغِشُّوا نُصْحِيَ، وَلَا تُخَالِفُوا أَمْرِي وَأَقْبِلُوا حِينَ يُقْرَأُ كِتَابِي عَلَيْكُمْ. وَالسَّلَامُ.

فَقَالَ سُلَيْمَانُ وَأَصْحَابُهُ: قَدْ أَبَيْنَا هَذَا وَنَحْنُ فِي مِصْرِنَا، فَحِينَ وَطَّنَا أَنْفُسَنَا عَلَى الْجِهَادِ وَدَنَوْنَا مِنْ أَرْضِ عَدُوِّنَا، مَا هَذَا بِرَأْيٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ يَشْكُرُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيَقُولُ: إِنَّ الْقَوْمَ قَدِ اسْتَبْشَرُوا بِبَيْعِهِمْ أَنْفُسَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَإِنَّهُمْ قَدْ تَابُوا مِنْ عَظِيمِ ذَنْبِهِمْ وَتَوَجَّهُوا إِلَى اللَّهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَرَضُوا بِمَا قَضَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: اسْتَمَاتَ الْقَوْمُ، أَوَّلُ خَبَرٍ يَأْتِيكُمْ عَنْهُمْ قَتْلُهُمْ، وَاللَّهِ لَيُقْتَلُنَّ كِرَامًا مُسْلِمِينَ. ثُمَّ سَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى قَرْقِيسْيَا عَلَى تَعْبِيَةٍ، وَبِهَا زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ قَدْ تَحَصَّنَ بِهَا مِنْهُمْ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُسَيَّبَ بْنَ نَجَبَةَ يَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ سُوقًا، فَأَتَى الْمُسَيَّبُ إِلَى بَابِ قَرْقِيسْيَا فَعَرَّفَهُمْ نَفْسَهُ وَطَلَبَ الْإِذْنَ عَلَى زُفَرَ، فَأَتَى هُذَيْلَ بْنِ زُفَرَ أَبَاهُ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ اسْمُهُ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ. فَقَالَ أَبُوهُ: أَمَا تَدْرِي يَا بُنَيَّ مَنْ هَذَا؟ هَذَا فَارِسُ مُضَرَ الْحَمْرَاءِ كُلِّهَا، إِذَا عُدَّ مِنْ أَشْرَافِهَا عَشْرَةٌ كَانَ أَحَدَهُمْ هُوَ، وَهُوَ بَعْدُ رَجُلٌ نَاسِكٌ لَهُ دِينٌ، إِيذَنْ لَهُ. فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَجْلَسَهُ إِلَى جَانِبِهِ وَسَأَلَهُ، فَعَرَّفَهُ الْمُسَيَّبُ حَالَهُ وَمَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ زُفَرُ: إِنَّا لَمْ نُغْلِقْ أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ إِلَّا لِنَعْلَمَ إِيَّانَا تُرِيدُونَ أَمْ غَيْرَنَا، وَمَا بِنَا عَجْزٌ عَنِ النَّاسِ وَمَا نُحِبُّ قِتَالَكُمْ، وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْكُمْ صَلَاحٌ وَسِيرَةٌ جَمِيلَةٌ. ثُمَّ أَمَرَ ابْنَهُ فَأَخْرَجَ لَهُمْ سُوقًا، وَأَمَرَ لِلْمُسَيَّبِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَفَرَسٍ، فَرَدَّ الْمَالَ وَأَخَذَ الْفَرَسَ وَقَالَ: لَعَلِّي أَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِنَّ عَرَجَ فَرَسِي. وَبَعَثَ زُفَرُ إِلَيْهِمْ بِخُبْزٍ كَثِيرٍ وَعَلَفٍ وَدَقِيقٍ حَتَّى اسْتَغْنَى النَّاسُ عَنِ السُّوقِ، إِلَّا أَنَّ الرَّجُلُ كَانَ يَشْتَرِي سَوْطًا أَوْ ثَوْبًا. ثُمَّ ارْتَحَلُوا مِنَ الْغَدِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ زُفَرُ يُشَيِّعُهُمْ وَقَالَ لِسُلَيْمَانَ: إِنَّهُ قَدْ سَارَ خَمْسَةُ أُمَرَاءَ مِنَ الرَّقَّةِ هُمُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ ذِي الْكَلَاعِ، وَأَدْهَمُ بْنُ مُحْرِزٍ، وَجَبَلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ مِثْلِ الشَّوْكِ وَالشَّجَرِ، فَإِنْ شِئْتُمْ دَخَلْتُمْ مَدِينَتَنَا وَكَانَتْ أَيْدِينَا وَاحِدَةً، فَإِذَا جَاءَنَا هَذَا الْعَدُوُّ قَاتَلْنَاهُمْ جَمِيعًا. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: قَدْ طَلَبَ أَهْلُ مِصْرِنَا ذَلِكَ مِنَّا فَأَبَيْنَا عَلَيْهِمْ. قَالَ زُفَرُ: فَبَادِرُوهُمْ إِلَى عَيْنِ الْوَرْدَةِ وَهِيَ رَأْسُ عَيْنٍ فَاجْعَلُوا الْمَدِينَةَ فِي

ظُهُورِكُمْ وَيَكُونُ الرُّسْتَاقُ وَالْمَاءُ وَالْمَادَّةُ فِي أَيْدِيكُمْ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَأَنْتُمْ آمِنُونَ مِنْهُ، فَاطْوُوا الْمَنَازِلَ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ جَمَاعَةً قَطُّ أَكْرَمَ مِنْكُمْ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَسْبِقُوهُمْ، وَإِنْ قَاتَلْتُمُوهُمْ فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ فِي فَضَاءٍ تُرَامُونَهُمْ وَتُطَاعِنُونَهُمْ فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ مِنْكُمْ، وَلَا آمَنُ أَنْ يُحِيطُوا بِكُمْ، فَلَا تَقِفُوا لَهُمْ فَيَصْرَعُوكُمْ، وَلَا تَصِفُّوا لَهُمْ، فَإِنِّي لَا أَرَى مَعَكُمْ رَجَّالَةً وَمَعَهُمُ الرَّجَّالَةُ وَالْفُرْسَانُ بَعْضُهُمْ يَحْمِي بَعْضًا، وَلَكِنِ الْقُوهُمْ فِي الْكَتَائِبِ وَالْمَقَانِبِ ثُمَّ بُثُّوهَا فِيمَا بَيْنَ مَيَمَنَتِهِمْ وَمَيْسَرَتِهِمْ وَاجْعَلُوا مَعَ كُلِّ كَتِيبَةٍ أُخْرَى إِلَى جَانِبِهَا، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى إِحْدَى الْكَتِيبَتَيْنِ رَحَلَتِ الْأُخْرَى فَنَفَّسَتْ عَنْهَا، وَمَتَى شَاءَتْ كَتِيبَةٌ ارْتَفَعَتْ، وَمَتَى شَاءَتْ كَتِيبَةٌ انْحَطَّتْ، وَلَوْ كُنْتُمْ صَفًّا وَاحِدًا فَزَحَفَتْ إِلَيْكُمُ الرَّجَّالَةُ فَدَفَعْتُمْ عَنِ الصَّفِّ انْتَقَضَ فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ. ثُمَّ وَدَّعَهُمْ وَدَعَا لَهُمْ وَدَعَوْا لَهُ وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ. ثُمَّ سَارُوا مُجِدِّينَ فَانْتَهَوْا إِلَى عَيْنِ الْوَرْدَةِ فَنَزَلُوا غَرْبَيَّهَا وَأَقَامُوا خَمْسًا فَاسْتَرَاحُوا وَأَرَاحُوا. وَأَقْبَلَ أَهْلُ الشَّامِ فِي عَسَاكِرِهِمْ حَتَّى كَانُوا مِنْ عَيْنِ الْوَرْدَةِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَقَامَ سُلَيْمَانُ فِي أَصْحَابِهِ وَذَكَرَ الْآخِرَةَ وَرَغَّبَ فِيهَا ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَاكُمْ عَدُوُّكُمُ الَّذِي دَأَبْتُمْ إِلَيْهِ فِي السَّيْرِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْدُقُوهُمُ الْقِتَالَ وَاصْبِرُوا، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلَا يُوَلِّيَنَّهُمُ امْرُؤٌ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ، وَلَا تَقْتُلُوا مُدْبِرًا، وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا مِنْ أَهْلِ دَعْوَتِكُمْ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَكُمْ بَعْدَ أَنْ تَأْسِرُوهُ، فَإِنَّ هَذِهِ كَانَتْ سِيرَةُ عَلِيٍّ فِي أَهْلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ أَنَا قُتِلْتُ فَأَمِيرُ النَّاسِ مُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ، فَإِنْ قُتِلَ فَالْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ، فَإِنْ قُتِلَ فَالْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَالٍ، فَإِنْ قُتِلَ فَالْأَمِيرُ رِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَدَقَ مَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ. ثُمَّ بَعَثَ الْمُسَيَّبَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ فَارِسٍ ثُمَّ قَالَ: سِرْ حَتَّى تَلْقَى أَوَّلَ عَسَاكِرِهِمْ فَشُنَّ عَلَيْهِمُ [الْغَارَةَ] ، فَإِنْ رَأَيْتَ مَا تُحِبُّهُ وَإِلَّا رَجَعْتَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَنْزِلَ [أَوْ تَدَعَ] أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَنْزِلُ أَوْ يَسْتَقْبِلُ آخِرَ ذَلِكَ، حَتَّى لَا تَجِدَ مِنْهُ بُدًّا. فَسَارَ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ ثُمَّ نَزَلَ السَّحَرَ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَرْسَلَ أَصْحَابَهُ فِي الْجِهَاتِ لِيَأْتُوهُ بِمَنْ يَلْقَوْنَ، فَأَتَوْهُ بِأَعْرَابِيٍّ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَدْنَى الْعَسَاكِرِ مِنْهُ، فَقَالَ: أَدْنَى عَسْكَرٍ مِنْ عَسَاكِرِهِمْ مِنْكَ عَسْكَرُ شُرَحْبِيلَ بْنِ ذِي الْكَلَاعِ، وَهُوَ مِنْكَ عَلَى رَأْسِ مِيلٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ هُوَ وَالْحُصَيْنُ، ادَّعَى الْحُصَيْنُ أَنَّهُ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَأَبَى شُرَحْبِيلُ ذَلِكَ، وَهُمَا يَنْتَظِرَانِ أَمْرَ ابْنِ زِيَادٍ.

فَسَارَ الْمُسَيَّبُ وَمَنْ مَعَهُ مُسْرِعِينَ فَأَشْرَفُوا عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَارُّونَ، فَحَمَلُوا فِي جَانِبِ عَسْكَرِهِمْ، فَانْهَزَمَ الْعَسْكَرُ وَأَصَابَ الْمُسَيَّبُ مِنْهُمْ رِجَالًا، فَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الْجِرَاحَ وَأَخَذُوا الدَّوَابَّ، وَخَلَّى الشَّامِيُّونَ عَسْكَرَهُمْ وَانْهَزَمُوا، فَغَنِمَ مِنْهُ أَصْحَابُ الْمُسَيَّبِ مَا أَرَادُوا ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى سُلَيْمَانَ مَوْفُورِينَ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ ابْنَ زِيَادٍ فَسَرَّحَ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ مُسْرِعًا حَتَّى نَزَلَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَخَرَجَ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ إِلَيْهِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمُ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ، وَسُلَيْمَانُ فِي الْقَلْبِ، وَجَعَلَ الْحُصَيْنُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ جَمَلَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ رَبِيعَةَ بْنَ الْمُخَارِقِ الْغَنَوِيَّ، فَلَمَّا دَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ دَعَاهُمْ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى الْجَمَاعَةِ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَدَعَاهُمْ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ إِلَى خَلْعِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَتَسْلِيمِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ إِلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ يُخْرِجُونَ مَنْ بِالْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ثُمَّ يُرَدُّ الْأَمْرُ إِلَى أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَبَى كُلٌّ مِنْهُمْ، فَحَمَلَتْ مَيْمَنَةُ سُلَيْمَانَ عَلَى مَيْسَرَةِ الْحُصَيْنِ، وَالْمَيْسَرَةُ أَيْضًا عَلَى الْمَيْمَنَةِ، وَحَمَلَ سُلَيْمَانُ فِي الْقَلْبِ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَمَا زَالَ الظَّفَرُ لِأَصْحَابِ سُلَيْمَانَ إِلَى أَنْ حَجَزَ بَيْنِهِمُ اللَّيْلُ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ صَبَّحَ الْحُصَيْنَ جَيْشٌ مَعَ ابْنِ ذِي الْكَلَاعِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، أَمَدَّهُمْ بِهِمْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، وَخَرَجَ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا لَمْ يَكُنْ أَشَدَّ مِنْهُ جَمِيعَ النَّهَارِ، لَمْ يَحْجِزْ بَيْنَهُمْ إِلَّا الصَّلَاةُ، فَلَمَّا أَمْسَوْا تَحَاجَزُوا وَقَدْ كَثُرَتِ الْجِرَاحُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَطَافَ الْقُصَّاصُ عَلَى أَصْحَابِ سُلَيْمَانَ يُحَرِّضُونَهُمْ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَهْلُ الشَّامِ أَتَاهُمْ أَدْهَمُ بْنُ مُحْرِزٍ الْبَاهِلِيُّ فِي نَحْوٍ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنِ ابْنِ زِيَادٍ، فَاقْتَتَلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى ارْتِفَاعِ الضُّحَى، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ كَثَّرُوهُمْ وَتَعَطَّفُوا عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَرَأَى سُلَيْمَانُ مَا لَقِيَ أَصْحَابُهُ، فَنَزَلَ وَنَادَى: عِبَادَ اللَّهِ مَنْ أَرَادَ الْبُكُورَ إِلَى رَبِّهِ وَالتَّوْبَةَ مِنْ ذَنْبِهِ فَإِلَيَّ! ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَةَ سَيْفِهِ وَنَزَلَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ وَكَسَرُوا جُفُونَ سُيُوفِهِمْ وَمَشَوْا مَعَهُ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَجَرَّحُوا فِيهِمْ فَأَكْثَرُوا الْجِرَاحَ. فَلَمَّا رَأَى الْحُصَيْنُ صَبْرَهُمْ وَبَأْسَهُمْ بَعَثَ الرَّجَّالَةَ تَرْمِيهِمْ بِالنَّبْلِ وَاكْتَنَفَتْهُمُ الْخَيْلُ وَالرِّجَالُ، فَقُتِلَ سُلَيْمَانُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، رَمَاهُ يَزِيدُ بْنُ الْحُصَيْنِ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ، ثُمَّ وَثَبَ ثُمَّ وَقَعَ.

فَلَمَّا قُتِلَ سُلَيْمَانُ أَخَذَ الرَّايَةَ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ وَتَرَحَّمَ عَلَى سُلَيْمَانَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَقَاتَلَ بِهَا سَاعَةً ثُمَّ رَجَعَ ثُمَّ حَمَلَ، فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، ثُمَّ قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، بَعْدَ أَنْ قَتَلَ رِجَالًا. فَلَمَّا قُتِلَ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ قَرَأَ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] . وَحَفَّ بِهِ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأَزْدِ. فَبَيْنَمَا هُمْ فِي الْقِتَالِ أَتَاهُمْ فُرْسَانٌ ثَلَاثَةٌ مِنْ سَعْدِ بْنِ حُذَيْفَةَ يُخْبِرُونَ بِمَسِيرِهِمْ فِي سَبْعِينَ وَمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ وَيُخْبِرُونَ أَيْضًا بِمَسِيرِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَعَ الْمُثَنَّى بْنِ مُخَرِّبَةَ الْعَبْدِيِّ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، (فَسُرَّ النَّاسُ) فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ: ذَلِكَ لَوْ جَاءُونَا وَنَحْنُ أَحْيَاءٌ. فَلَمَّا نَظَرَ الرُّسُلُ إِلَى مُصَارِعِ إِخْوَانِهِمْ سَاءَهُمْ ذَلِكَ وَاسْتَرْجَعُوا وَقَاتَلُوا مَعَهُمْ، وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ، قَتَلَهُ ابْنُ أَخِي رَبِيعَةَ بْنِ مُخَارِقٍ، وَحَمَلَ خَالِدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ فَطَعَنَهُ بِالسَّيْفِ، وَاعْتَنَقَهُ الْآخَرُ فَحَمَلَ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ فَخَلَّصُوهُ بِكَثْرَتِهِمْ وَقَتَلُوا خَالِدًا، وَبَقِيَتِ الرَّايَةُ لَيْسَ عِنْدَهَا أَحَدٌ، فَنَادَوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَالٍ فَإِذَا هُوَ قَدِ اصْطَلَى الْحَرْبَ فِي عِصَابَةٍ مَعَهُ، فَحَمَلَ رِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ فَكَشَفَ أَهْلَ الشَّامِ عَنْهُ، فَأَتَى فَأَخَذَ الرَّايَةَ وَقَاتَلَ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ أَرَادَ الْحَيَاةَ الَّتِي لَيْسَ بَعْدَهَا مَوْتٌ (وَالرَّاحَةَ الَّتِي لَيْسَ بَعْدَهَا نَصَبٌ، وَالسُّرُورَ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ حُزْنٌ) ، فَلْيَتَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ الْمُحِلِّينَ، وَالرَّوَاحِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْعَصْرِ، فَحَمَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَقَتَلُوا رِجَالًا وَكَشَفُوهُمْ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ تَعَطَّفُوا عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى رَدُّوهُمْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَكَانَ مَكَانُهُمْ لَا يُؤْتَى إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ تَوَلَّى قِتَالَهُمْ أَدْهَمُ بْنُ مُحْرِزٍ الْبَاهِلِيُّ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فِي خَيْلِهِ وَرَجْلِهِ، فَوَصَلَ ابْنُ مُحْرِزٍ إِلَى ابْنِ وَالٍ وَهُوَ يَتْلُو: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] الْآيَةَ، فَغَاظَ ذَلِكَ أَدْهَمَ بْنَ مُحْرِزٍ فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَضَرَبَ يَدَهُ فَأَبَانَهَا ثُمَّ تَنَحَّى عَنْهُ وَقَالَ: إِنِّي أَظُنُّكَ وَدِدْتَ أَنَّكَ عِنْدَ أَهْلِكَ. قَالَ ابْنُ وَالٍ: بِئْسَ مَا ظَنَنْتَ، وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ يَدُكَّ مَكَانَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِي مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ مَا فِي يَدِي لِيَعْظُمَ وِزْرُكَ وَيَعْظُمَ أَجْرِي. فَغَاظَهُ ذَلِكَ أَيْضًا، فَحَمَلَ عَلَيْهِ وَطَعَنَهُ

فَقَتَلَهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ مَا يَزُولُ. وَكَانَ ابْنُ وَالٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْعُبَّادِ، فَلَمَّا قُتِلَ أَتَوْا رِفَاعَةَ بْنَ شَدَّادٍ الْبَجَلِيَّ وَقَالُوا: لِتَأْخُذِ الرَّايَةَ. فَقَالَ: ارْجِعُوا بِنَا لَعَلَّ اللَّهَ يَجْمَعُنَا لِيَوْمِ شَرِّهِمْ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْفِ بْنِ الْأَحْمَرِ: هَلَكْنَا وَاللَّهِ، لَئِنِ انْصَرَفْتَ لَيَرْكَبُنَّ أَكْتَافَنَا فَلَا نَبْلُغُ فَرْسَخًا حَتَّى نَهْلِكَ عَنْ آخِرِنَا، وَإِنْ نَجَا مِنَّا نَاجٍ أَخَذَتْهُ الْعَرَبُ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهِمْ فَقُتِلَ صَبْرًا، هَذِهِ الشَّمْسُ قَدْ قَارَبَتِ الْغُرُوبَ فَنُقَاتِلُهُمْ عَلَى خَيْلِنَا، فَإِذَا غَسَقَ اللَّيْلُ رَكِبْنَا خُيُولَنَا أَوَّلَ اللَّيْلِ وَسِرْنَا حَتَّى نُصْبِحَ وَنَسِيرُ عَلَى مَهَلٍ، وَيَحْمِلُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَجَرِيحَهُ وَنَعْرِفُ الْوَجْهَ الَّذِي نَأْخُذُهُ. فَقَالَ رِفَاعَةُ: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ! وَأَخَذَ الرَّايَةَ وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَرَامَ أَهْلُ الشَّامِ إِهْلَاكَهُمْ قَبْلَ اللَّيْلِ فَلَمْ يَصِلُوا إِلَى ذَلِكَ لِشِدَّةِ قِتَالِهِمْ، وَتَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُزَيْزٍ الْكِنَانِيُّ فَقَاتَلَ أَهْلَ الشَّامِ وَمَعَهُ وَلَدُهُ مُحَمَّدُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَنَادَى بَنِي كِنَانَةَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَسَلَّمَ وَلَدَهُ إِلَيْهِمْ لِيُوصِلُوهُ إِلَى الْكُوفَةِ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ الْأَمَانَ، فَأَبَى ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. وَتَقَدَّمَ كَرِبُ بْنُ يَزِيدَ الْحِمْيَرِيُّ عِنْدَ الْمَسَاءِ فِي مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَاتَلَهُمْ أَشَدَّ قِتَالٍ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ ابْنُ ذِي الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيُّ الْأَمَانَ، قَالَ: قَدْ كُنَّا آمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّمَا خَرَجْنَا نَطْلُبُ أَمَانَ الْآخِرَةِ. فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى قُتِلُوا. وَتَقَدَّمَ صَخْرُ بْنُ هِلَالٍ الْمُزَنِيُّ فِي ثَلَاثِينَ مِنْ مُزَيْنَةَ فَقَاتَلُوا حَتَّى قُتِلُوا. فَلَمَّا أَمْسَوْا رَجَعَ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ، وَنَظَرَ رِفَاعَةُ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ قَدْ عُقِرَ بِهِ فَرَسُهُ وَجُرِحَ فَدَفَعَهُ إِلَى قَوْمِهِ ثُمَّ سَارَ بِالنَّاسِ لَيْلَتَهُ، وَأَصْبَحَ الْحُصَيْنُ لِيَلْتَقِيَهُمْ فَلَمْ يَرَهُمْ، فَلَمْ يَبْعَثْ فِي آثَارِهِمْ، وَسَارُوا حَتَّى أَتَوْا قَرْقِيسْيَا، فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ زُفَرُ الْإِقَامَةَ، فَأَقَامُوا ثَلَاثًا، فَأَضَافَهُمْ ثُمَّ زَوَّدَهُمْ وَسَارُوا إِلَى الْكُوفَةِ. ثُمَّ أَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ فِي أَهْلِ الْمَدَائِنِ فَبَلَغَ هِيتَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ، فَرَجَعَ فَلَقِيَ الْمُثَنَّى بْنَ مُخَرِّبَةَ الْعَدَوِيَّ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِصَنْدَوْدَاءَ فَأَخْبَرَهُ، فَأَقَامُوا حَتَّى أَتَاهُمْ رِفَاعَةُ فَاسْتَقْبَلُوهُ، وَبَكَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَقَامُوا يَوْمًا وَلَيْلَةً ثُمَّ تَفَرَّقُوا، فَسَارَ كُلُّ طَائِفَةٍ إِلَى بَلَدِهِمْ. وَلَمَّا بَلَغَ رِفَاعَةُ الْكُوفَةَ كَانَ الْمُخْتَارُ مَحْبُوسًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَمَرْحَبًا بِالْعُصْبَةِ

الَّذِينَ عَظَّمَ اللَّهُ لَهُمُ الْأَجْرَ حِينَ انْصَرَفُوا وَرَضِيَ فِعْلَهُمْ حِينَ قُتِلُوا، أَمَا وَرَبِّ الْبَيْتِ مَا خَطَا خَاطٍ مِنْكُمْ خُطْوَةً وَلَا رَبَا رَبْوَةً إِلَّا كَانَ ثَوَابُ اللَّهِ لَهُ أَعْظَمَ مِنَ الدُّنْيَا! إِنَّ سُلَيْمَانَ قَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ (وَجَعَلَ وَجْهَهُ مَعَ أَرْوَاحِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) ، وَلَمْ يَكُنْ بِصَاحِبِكُمُ الَّذِي بِهِ تُنْصَرُونَ، إِنِّي أَنَا الْأَمِيرُ الْمَأْمُورُ، وَالْأَمِينُ الْمَأْمُونُ، وَقَاتِلُ الْجَبَّارِينَ، وَالْمُنْتَقِمُ مِنْ أَعْدَاءِ الدِّينِ، الْمُقَيَّدُ مِنَ الْأَوْتَارِ، فَأَعِدُّوا وَاسْتَعِدُّوا وَأَبْشِرُوا، أَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَالطَّلَبِ بِدَمِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَالدَّفْعِ عَنِ الضُّعَفَاءِ، وَجِهَادِ الْمُحِلِّينَ، وَالسَّلَامُ. (وَكَانَ قَتْلُ سُلَيْمَانَ وَمَنْ مَعَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ) . وَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِقَتْلِ سُلَيْمَانَ وَانْهِزَامِ أَصْحَابِهِ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ (قَدْ أَهْلَكَ مِنْ رُءُوسِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مُلْقِحَ فِتْنَةٍ وَرَأْسَ ضَلَالَةٍ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ، أَلَا وَإِنَّ السُّيُوفَ تَرَكْنَ رَأْسَ الْمُسَيَّبِ خَذَارِيفَ، وَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ) مِنْهُمْ رَأْسَيْنِ عَظِيمَيْنِ ضَالَّيْنِ مُضِلَّيْنِ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ الْأَزْدِيَّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَالٍ الْبَكْرِيَّ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُمْ مَنْ عِنْدَهُ امْتِنَاعٌ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، فَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ حَيًّا، قَالَ أَعْشَى هَمْدَانَ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ مِمَّا يُكَتَّمُ ذَلِكَ الزَّمَانَ: أَلَمَّ خَيَالٌ مِنْكِ يَا أُمَّ غَالِبِ ... فَحُيِّيتِ عَنَّا مِنْ حَبِيبٍ مُجَانِبِ وَمَا زِلْتُ فِي شَجْوٍ وَمَا زِلْتُ مُقْصَدًا ... لِهَمٍّ عَرَانِي مِنْ فِرَاقِكِ نَاصِبِ فَمَا أَنَسَ لَا أَنَسَ انْفِتَالَكِ فِي الضُّحَى ... إِلَيْنَا مَعَ الْبِيضِ الْحِسَانِ الْخَرَاعِبِ

تَرَاءَتْ لَنَا هَيْفَاءَ مَهْضُومَةَ الْحَشَا ... لَطِيفَةَ طَيِّ الْكَشْحِ رَيَّا الْحَقَائِبِ مُبَتَّلَةً غَرَّاءَ رُؤْدٌ شَبَابُهَا ... كَشَمْسِ الضُّحَى تَنْكَلُّ بَيْنَ السَّحَائِبِ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا السَّحَابُ وَحَوْلَهُ بَدَا ... حَاجِبٌ مِنْهَا وَضَنَّتْ بِحَاجِبِ فَتِلْكَ الْهَوَى وَهْيَ الْجَوَى لِي وَالْمُنَى ... فَأَحْبِبْ بِهَا مِنْ خُلَّةٍ لَمْ تُصَاقِبِ وَلَا يُبْعِدُ اللَّهُ الشَّبَابَ وَذِكْرَهُ ... وَحُبَّ تَصَافِي الْمُعْصِرَاتِ الْكَوَاعِبِ وَيَزْدَادُ مَا أَحْبَبْتُهُ مِنْ عِتَابِنَا ... لُعَابًا وَسُقْيًا لِلْخَدِينِ الْمُقَارِبِ فَإِنِّي وَإِنْ لَمْ أَنْسَهُنَّ لَذَاكِرٌ ... رَزِيئَةَ مِخْبَاتٍ كَرِيمِ الْمَنَاصِبِ تَوَسَّلَ بِالتَّقْوَى إِلَى اللَّهِ صَادِقًا ... وَتَقْوَى الْإِلَهِ خَيْرُ تِكْسَابِ كَاسِبِ وَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا فَلَمْ يَلْتَبِسْ بِهَا ... وَتَابَ إِلَى اللَّهِ الرَّفِيعِ الْمَرَاتِبِ تَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا وَقَالَ اطَّرَحْتُهَا ... فَلَسْتُ إِلَيْهَا مَا حَيِيتُ بِآيِبِ وَمَا أَنَا فِيمَا يَكْرَهُ النَّاسُ فَقْدَهُ ... وَيَسْعَى لَهُ السَّاعُونَ فِيهَا بِرَاغِبِ فَوَجَّهَهُ نَحْوَ الثَّوِيَّةِ سَائِرًا ... إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فِي الْجُمُوعِ الْكَتَائِبِ بِقَوْمٍ هُمْ أَهْلُ التَّقِيَّةِ وَالنُّهَى ... مَصَالِيتُ أَنْجَادٌ سَرَاةُ مَنَاجِبِ مَضَوْا تَارِكِي رَأْيِ ابْنِ طَلْحَةَ حِسْبَةً ... وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلْأَمِيرِ الْمُخَاطِبِ فَسَارُوا وَهُمْ مَا بَيْنَ مُلْتَمِسِ الْتُقَى ... وَآخَرَ مِمَّا جَرَّ بِالْأَمْسِ تَائِبِ فَلَاقَوْا بِعَيْنِ الْوَرْدَةِ الْجَيْشَ فَاصِلًا ... إِلَيْهِمْ فَحَسُّوهُمْ بِبِيضٍ قَوَاضِبِ يَمَانِيَةٍ تَذَرِي الْأَكُفَّ وَتَارَةً ... بَخِيلٍ عِتَاقٍ مُقْرَبَاتٍ سَلَاهِبِ

فَجَاءَهُمُ جَمْعٌ مِنَ الشَّامِ بَعْدَهُ ... جُمُوعٌ كَمَوْجِ الْبَحْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ فَمَا بَرِحُوا حَتَّى أُبِيدَتْ سُرَاتُهُمْ ... فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ ثَمَّ غَيْرُ عَصَائِبِ وَغُودِرَ أَهْلُ الصَّبْرِ صَرْعَى فَأَصْبَحُوا ... تَعَاوَرَهُمْ رِيحُ الصَّبَا وَالْجَنَائِبِ فَأَضْحَى الْخُزَاعِيُّ الرَّئِيسُ مُجَدَّلًا ... كَأَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مَرَّةً وَيُحَارِبِ وَرَأْسُ بَنِي شَمْخٍ وَفَارِسُ قَوْمِهِ ... شَنُوءَةَ وَالتَّيْمِيُّ هَادِي الْكَتَائِبِ وَعَمْرُو بْنُ بِشْرٍ وَالْوَلِيدُ وَخَالِدٌ ... وَزَيْدُ بْنُ بَكْرٍ وَالْحُلَيْسُ بْنُ غَالِبِ وَضَارِبُ مِنْ هَمْدَانَ كُلَّ مُشَيِّعٍ ... إِذَا شَدَّ لَمْ يَنْكِلْ كَرِيمُ الْمَكَاسِبِ وَمِنْ كُلِّ قَوْمٍ قَدْ أُصِيبَ زَعِيمُهُمْ ... وَذُو حَسَبٍ فِي ذُرْوَةِ الْمَجْدِ ثَاقِبِ أَبَوْا غَيْرَ ضَرْبٍ يَفْلِقُ الْهَامَ وَقْعُهُ ... وَطَعْنٍ بِأَطْرَافِ الْأَسِنَّةِ صَائِبِ وَإِنَّ سَعِيدًا يَوْمَ يَدْمُرُ عَامِرًا ... لَأَشْجَعُ مِنْ لَيْثٍ بِدَرْبٍ مُوَاثِبِ فَيَا خَيْرَ جَيْشٍ بِالْعِرَاقِ وَأَهْلِهِ ... سَقَيْتُمْ رَوَايَا كُلِّ أَسْحَمَ سَاكِبِ فَلَا يَبْعَدَنْ فُرْسَانُنَا وَحُمَاتُنَا ... إِذَا الْبِيضُ أَبْدَتْ عَنْ خِدَامِ الْكَوَاعِبِ وَمَا قُتِلُوا حَتَّى أَثَارُوا عِصَابَةً ... مُحِلِّينَ نُورًا كَالشُّمُوسِ الضَّوَارِبِ وَقِيلَ: قُتِلَ سُلَيْمَانُ وَمَنْ مَعَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ. الْخُزَاعِيُّ الَّذِي هُوَ فِي هَذَا الشِّعْرِ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ الْخُزَاعِيُّ. وَرَأْسُ بَنِي شَمْخٍ هُوَ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ الْفَزَارِيُّ. وَرَأْسُ شَنُوءَةَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ الْأَزْدِيُّ، أَزِدُ

شَنُوءَةَ. وَالتَّيْمِيُّ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَالٍ التَّيْمِيُّ مِنْ تَيْمِ اللَّاتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ. وَالْوَلِيدُ [هُوَ] ابْنُ عُصَيْرٍ الْكِنَانِيُّ. وَخَالِدٌ هُوَ خَالِدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ. (نَجَبَةُ بِالنُّونِ وَالْجِيمِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفُتُوحَاتِ) . ذِكْرُ بَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنَيْ مَرْوَانَ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بِالْبَيْعَةِ لِابْنَيْهِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ لَمَّا هَزَمَ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ وَجَّهَهُ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى فِلَسْطِينَ رَجَعَ إِلَى مَرْوَانَ وَهُوَ بِدِمَشْقَ قَدْ غَلَبَ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ، فَبَلَغَ مَرْوَانَ أَنَّ عَمْرًا يَقُولُ: إِنَّ الْأَمْرَ لِي بَعْدَ مَرْوَانَ، فَدَعَا مَرْوَانُ حَسَّانَ بْنَ مَالِكِ بْنِ بِحَدْلٍ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُبَايِعَ لِابْنَيْهِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا بَلَغَهُ عَنْ عَمْرٍو، فَقَالَ: أَنَا أَكْفِيكَ عَمْرًا، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ عِنْدَ مَرْوَانَ عَشِيًّا قَامَ حَسَّانُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رِجَالًا يَتَمَنَّوْنَ أَمَانِيَّ، قَوْمُوا فَبَايِعُوا لِعَبْدِ الْمَلِكِ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَايَعُوا عَنْ آخِرِهِمْ. ذِكْرُ بَعْثِ ابْنِ زِيَادٍ وُحُبَيْشٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بَعْثَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ إِلَى الْجَزِيرَةِ وَمُحَارَبَةِ زُفَرَ بْنِ الْحَارِثِ بِقَرْقِيسْيَا وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى كُلِّ مَا يَفْتَحُهُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْجَزِيرَةِ تَوَجَّهَ لِقَصْدِ الْعِرَاقِ وَأَخْذِهِ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا كَانَ بِالْجَزِيرَةِ بَلَغَهُ مَوْتُ مَرْوَانَ وَأَتَاهُ كِتَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهِ أَبُوهُ وَيَحُثُّهُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ. وَالْبَعْثُ الْآخَرُ إِلَى الْمَدِينَةِ مَعَ حُبَيْشِ بْنِ دَلَجَةَ الْقَيْنِيِّ، فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَدِينَةِ وَعَلَيْهَا جَابِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفِ ابْنُ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِنْ قِبَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَهَرَبَ مِنْهُ جَابِرٌ. ثُمَّ إِنَّ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَهُوَ أَخُو عَمْرِو بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَجَّهَ جَيْشًا مِنَ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهَا، لِابْنِ الزُّبَيْرِ وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ الْحُنَيْفَ بْنَ النَّحَفِ التَّيْمِيِّ لِحَرْبِ

حُبَيْشٍ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ حُبَيْشٌ سَارَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَأَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْعَبَّاسَ بْنَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمِيرًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ فِي طَلَبِ حُبَيْشٍ حَتَّى يُوَافِيَ الْجُنْدَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الَّذِينَ عَلَيْهِمُ الْحُنَيْفُ، فَأَقْبَلَ عَبَّاسٌ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى لَحِقَهُمْ بِالرَّبَذَةِ، فَقَاتَلَهُمْ حُبَيْشٌ، فَرَمَاهُ يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ يُوسُفُ بْنُ الْحَكَمِ وَابْنُهُ الْحَجَّاجُ، وَهَمَّا عَلَى جَمَلٍ وَاحِدٍ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، فَتَحَرَّزَ مِنْهُمْ خَمْسُمِائَةٍ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ سَهْلٍ: انْزِلُوا عَلَى حُكْمِي، فَنَزَلُوا، فَقَتَلَهُمْ، وَرَجَعَ فَلُّ حُبَيْشٍ إِلَى الشَّامِ، وَلَمَّا دَخَلَ يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ الْمَدِينَةَ كَانَ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ فَاسْوَدَّتْ مِمَّا مَسَحَهُ النَّاسُ وَمِمَّا صَبُّوا عَلَيْهِ مِنَ الطِّيبِ. ذِكْرُ مَوْتِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ. وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ لَمْ يَسْتَخْلِفْ أَحَدًا، وَكَانَ حَسَّانُ بْنُ بِحَدْلٍ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ فِي أَخِيهِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَكَانَ صَغِيرًا، وَحَسَّانُ خَالُ أَبِيهِ يَزِيدَ، فَبَايَعَ حَسَّانُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ لِخَالِدٍ، فَلَمَّا بَايَعَهُ هُوَ وَأَهْلُ الشَّامِ قِيلَ لِمَرْوَانَ تَزَوَّجْ أُمَّ خَالِدٍ، وَهِيَ بِنْتُ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ، حَتَّى يَصْغُرَ شَأْنُهُ فَلَا يَطْلُبُ الْخِلَافَةَ، فَتَزَوَّجَهَا، فَدَخَلَ خَالِدٌ يَوْمًا عَلَى مَرْوَانَ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ وَهُوَ يَمْشِي بَيْنَ صَفَّيْنِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَأَحْمَقُ! تَعَالَ يَا ابْنَ الرَّطْبَةِ الِاسْتِ! يُقَصِّرُ بِهِ لِيُسْقِطَهُ مِنْ أَعْيُنِ أَهْلِ الشَّامِ. فَرَجَعَ خَالِدٌ إِلَى أُمِّهِ فَأَخْبَرَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: لَا يَعْلَمَنَّ ذَلِكَ مِنْكَ إِلَّا أَنَا، أَنَا أَكْفِيكَهُ. فَدَخَلَ عَلَيْهَا مَرْوَانُ فَقَالَ لَهَا: هَلْ قَالَ لَكِ خَالِدٌ فِيَّ شَيْئًا؟ قَالَتْ: لَا، إِنَّهُ أَشَدُّ لَكَ تَعْظِيمًا مِنْ أَنْ يَقُولَ فِيكَ شَيْئًا. فَصَدَّقَهَا وَمَكَثَ أَيَّامًا، ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ نَامَ عِنْدَهَا يَوْمًا، فَغَطَّتْهُ بِوِسَادَةٍ حَتَّى قَتَلَتْهُ، فَمَاتَ بِدِمَشْقَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقِيلَ: إِحْدَى وَسِتِّينَ. وَأَرَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَتْلَ أُمِّ خَالِدٍ، فَقِيلَ لَهُ: يَظْهَرُ عِنْدَ الْخَلْقِ أَنَّ امْرَأَةً قَتَلَتْ أَبَاكَ، فَتَرَكَهَا.

وَلَمَّا تُوُفِّيَ مَرْوَانُ قَامَ (بِأَمْرِ الشَّامِ) بَعْدَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، (وَكَانَ بِمِصْرَ ابْنُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بِطَاعَةِ أَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ) وُلِدَ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ، فَكَانَ النَّاسُ يَذُمُّونَهُ لِذَلِكَ، قِيلَ: إِنَّهُ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ قَوْمٌ مِنَ الْأَشْرَافِ، فَقَالَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ الْبَكْرِيِّ: بَلَغَنِي أَنَّكَ لَا تُشْبِهُ أَبَاكَ، فَقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأَشْبَهُ بِهِ مِنَ الْمَاءِ بِالْمَاءِ وَالْغُرَابِ بِالْغُرَابِ، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ بِمَنْ لَمْ تُنْضِجْهُ الْأَرْحَامُ، وَلَمْ يُولَدْ بِالتَّمَامِ، وَلَمْ يُشْبِهِ الْأَخْوَالَ وَالْأَعْمَامَ. قَالَ: مَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: سُوِيدُ بْنُ مَنْجُوفٍ، فَلَمَّا خَرَجَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَسُوِيدٌ قَالَ لَهُ سُوِيدٌ: مَا سَرَّنِي بِمَقَالَتِكَ لَهُ حُمْرُ النَّعَمِ. فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَمَا سَرَّنِي وَاللَّهِ بِاحْتِمَالِكَ إِيَّايَ وَسُكُوتِكَ سُودُهَا. ذِكْرُ صِفَتِهِ وَنَسَبِهِ وَأَخْبَارِهِ هُوَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَأُمُّهُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ مِنْ كِنَانَةَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَنَفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الطَّائِفِ لِأَنَّهُ يَتَجَسَّسُ عَلَيْهِ، وَرَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا يَمْشِي وَيَتَخَلَّجُ فِي مَشْيِهِ كَأَنَّهُ يَحْكِيهِ، فَقَالَ لَهُ: كُنْ كَذَلِكَ، فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَّمَ عُثْمَانُ أَبَا بَكْرٍ فِي رَدِّهِ، لِأَنَّهُ عَمَّهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَوَلِيَ عُمَرُ كَلَّمَهُ أَيْضًا فِي رَدِّهِ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ رَدَّهُ وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَنِي أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا أَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ. وَتُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَتُ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ فِي لَعْنِهِ وَلَعْنِ مَنْ فِي صُلْبِهِ، رَوَاهَا الْحَافِظُ، فِي أَسَانِيدِهَا كَلَامٌ. وَكَانَ مَرْوَانُ قَصِيرًا أَحْمَرَ أَوْقَصَ، يُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ، وَأَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَعْتَقَ

فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِائَةَ رَقَبَةٍ، وَوَلِيَ الْمَدِينَةَ لِمُعَاوِيَةَ مَرَّاتٍ، فَكَانَ إِذَا وَلِيَ يُبَالِغُ فِي سَبِّ عَلِيٍّ، وَإِذَا عُزِلَ وَوَلِيَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ كَفَّ عَنْهُ، (فَسُئِلَ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ وَعَنْ سَعِيدٍ، فَقَالَ: كَانَ مَرْوَانُ خَيْرًا لَنَا فِي السِّرِّ، وَسَعِيدٌ خَيْرًا لَنَا فِي الْعَلَانِيَةِ. وَقَدْ أُخْرِجَ حَدِيثُ مَرْوَانَ فِي الصَّحِيحِ، وَكَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يُصَلِّيَانِ خَلْفَهُ وَلَا يُعِيدَانِ الصَّلَاةَ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَدَّمَ الْخُطْبَةَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَقَبْلَ الصَّلَاةِ. وَلَمَّا مَاتَ بُويِعَ لِوَلَدِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ وَلِوَلَدِهِ بَنُو الزَّرْقَاءِ، يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يُرِيدُ ذَمَّهُمْ وَعَيْبَهُمْ، وَهِيَ الزَّرْقَاءُ بِنْتُ مَوْهَبٍ، جَدَّةُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ لِأَبِيهِ، وَكَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الرَّايَاتِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى بُيُوتِ الْبِغَاءِ، فَلِهَذَا كَانُوا يُذَمُّونَ بِهَا، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَبُو الْعَاصِ بْنُ أُمَيَّةَ وَالِدُ الْحَكَمِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، لَا يَكُونُ هَذَا مِنِ امْرَأَةٍ لَهُ وَهِيَ عِنْدُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حُبَيْشُ بْنُ دَلَجَةَ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ، ثُمَّ الْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَآخِرُهُ شِينٌ مُعْجَمَةٌ، وَدَلَجَةُ بِفَتْحِ الدَّالِ وَاللَّامِ) . ذِكْرُ مَقْتَلِ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّتْ شَوْكَةُ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ الْأَزَارِقَةُ مِنَ الْخَوَارِجِ. وَكَانَ سَبَبُ قُوَّتِهِ اشْتِغَالُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَاخْتِلَافُهُمْ بِسَبَبِ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو وَقَتْلِهِ، وَكَثُرَتْ جُمُوعُهُ وَأَقْبَلَ نَحْوَ الْجِسْرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ مُسْلِمَ بْنَ عُبَيْسِ بْنِ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَرَفَعَهُ عَنْ أَرْضِ الْبَصْرَةِ حَتَّى بَلَغَ دُولَابَ مِنْ أَرْضِ الْأَهْوَازِ، فَاقْتَتَلُوا هُنَاكَ، وَجَعَلَ مُسْلِمُ بْنُ عُبَيْسٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِ الْحَجَّاجَ بْنَ بَابٍ الْحِمْيَرِيَّ، وَعَلَى مَسِيرَتِهِ حَارِثَةَ بْنَ بَدْرٍ الْغُدَانِيَّ وَجَعَلَ ابْنُ الْأَزْرَقِ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عُبَيْدَ بْنَ هِلَالٍ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْمَاحُوزِ التَّمِيمِيَّ، وَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ، فَقُتِلَ مُسْلِمٌ أَمِيرُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَقُتِلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ أَمِيرُ الْخَوَارِجِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَأَمَّرَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ عَلَيْهِمُ الْحَجَّاجَ بْنَ بَابٍ الْحِمْيَرِيَّ، وَأَمَّرْتِ الْخَوَارِجُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمَاحُوزِ التَّمِيمِيَّ، وَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْحَجَّاجُ، فَأَمَّرَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ عَلَيْهِمْ رَبِيعَةَ بْنَ الْأَجْرَمِ التَّمِيمِيَّ، وَأَمَّرَتِ الْخَوَارِجُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْمَاحُوِزِ التَّمِيمِيَّ، ثُمَّ عَادُوا فَاقْتَتَلُوا حَتَّى أَمْسَوْا وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَمَلُّوا الْقِتَالَ. فَإِنَّهُمْ كَذَلِكَ مُتَوَاقِفُونَ مُتَحَاجِزُونَ إِذْ جَاءَتِ الْخَوَارِجُ سَرِيَّةٌ مُسْتَرِيحَةٌ لَمْ تَشْهَدِ الْقِتَالَ، فَحَمَلَتِ عَلَى النَّاسِ مِنْ نَاحِيَةِ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَانْهَزَمَ النَّاسُ وَقُتِلَ أَمِيرُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ رَبِيعَةُ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ أَيْضًا دُغْفُلُ بْنُ حَنْظَلَةَ الشَّيْبَانِيُّ النَّسَّابَةُ، وَأَخَذَ الرَّايَةَ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ، فَقَاتَلَ سَاعَةً، وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ عَنْهُ، فَقَاتَلَ وَحَمَى النَّاسَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى نَزَلَ بِالْأَهْوَازِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ فَأَفْزَعَهُمْ، وَبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ (بْنُ الزُّبَيْرِ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ) وَعَزَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ، فَأَقْبَلَتِ الْخَوَارِجُ نَحْوَ الْبَصْرَةِ. ذِكْرُ مُحَارِبَةِ الْمُهَلَّبِ الْخَوَارِجَ لَمَّا قَرُبَتِ الْخَوَارِجُ مِنَ الْبَصْرَةِ أَتَى أَهْلُهَا الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَتَوَلَّى حَرْبَهُمْ، فَأَشَارَ بِالْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ لِمَا يَعْلَمُ فِيهِ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالرَّأْيِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْحَرْبِ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مِنْ عِنْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَدْ وَلَّاهُ خُرَاسَانَ، فَقَالَ الْأَحْنَفُ: مَا لِهَذَا الْأَمْرِ غَيْرُ الْمُهَلَّبِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَشْرَافُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَكَلَّمُوهُ، فَأَبَى، فَكَلَّمَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، فَاعْتَذَرَ بِعَهْدِهِ عَلَى خُرَاسَانَ، فَوَضَعَ الْحَارِثُ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ كِتَابًا إِلَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ يَأْمُرُهُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ وَأَتَوْهُ بِالْكِتَابِ، فَلَمَّا قَرَأَهُ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَسِيرُ إِلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَجْعَلُوا لِي مَا غُلِبْتُ عَلَيْهِ وَتُقْطِعُونِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا أُقَوِّي بِهِ مَنْ مَعِي. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ وَكَتَبُوا لَهُ بِهِ كِتَابًا، وَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَأَمْضَاهُ، فَاخْتَارَ الْمُهَلَّبُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِمَّنْ يَعْرِفُ نَجْدَتَهُ وَشَجَاعَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، مِنْهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رِيَاحٍ الْأَنْصَارِيُّ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، وَخَرَجَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْخَوَارِجِ وَهُمْ عِنْدَ الْجِسْرِ الْأَصْغَرِ، فَحَارَبَهُمْ وَهُوَ فِي وُجُوهِ النَّاسِ وَأَشْرَافِهِمْ، فَدَفَعَهُمْ عَنِ الْجِسْرِ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ إِلَّا أَنْ يَدْخُلُوا، فَارْتَفَعُوا إِلَى الْجِسْرِ الْأَكْبَرِ إِلَيْهِمْ فِي الْخَيْلِ وَالرِّجَالِ. فَلَمَّا رَأَوْهُ قَدْ قَارَبَهُمُ ارْتَفَعُوا فَوْقَ ذَلِكَ.

وَلَمَّا بَلَغَ حَارِثَةَ بْنَ بَدْرٍ تَأْمِيرُ الْمُهَلَّبِ عَلَى قِتَالِ الْأَزَارِقَةِ قَالَ لِمَنْ مَعَهُ [مِنَ] النَّاسِ: كَرْنِبُوا وَدَوْلِبُوا حَيْثُ شِئْتُمْ فَاذْهَبُوا فَأَقْبَلَ بِمَنْ مَعَهُ نَحْوَ الْبَصْرَةِ فَرَدَّ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَرَكِبَ حَارِثَةُ فِي سَفِينَةٍ فِي نَهْرِ دُجَيْلٍ يُرِيدُ الْبَصْرَةَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ تَمِيمٍ وَعَلَيْهِ سِلَاحُهُ وَالْخَوَارِجُ وَرَاءَهُ، فَصَاحَ التَّمِيمِيُّ بِحَارِثَةَ يَسْتَغِيثُ بِهِ لِيَحْمِلَهُ مَعَهُ، فَقَرَّبَ السَّفِينَةَ إِلَى شَاطِئِ النَّهْرِ، وَهُوَ جُرْفٌ، فَوَثَبَ التَّمِيمِيُّ إِلَيْهَا فَغَاصَتْ بِجَمِيعِ مَنْ فِيهَا فَغَرِقُوا. وَأَمَّا الْمُهَلَّبُ فَإِنَّهُ سَارَ حَتَّى نَزَلَ بِالْخَوَارِجِ وَهُمْ بِنَهْرِ تِيرَى وَتَنَحَّوْا عَنْهُ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَسَيَّرَ الْمُهَلَّبُ إِلَى عَسْكَرِهِمُ الْجَوَاسِيسَ تَأْتِيهِ بِأَخْبَارِهِمْ، فَلَمَّا أَتَاهُ خَبَرُهُمْ سَارَ نَحْوَهُمْ وَاسْتَخْلَفَ أَخَاهُ الْمُعَارِكَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ عَلَى نَهْرِ تِيرَى، فَلَمَّا وَصَلَ الْأَهْوَازَ قَاتَلَتِ الْخَوَارِجُ مُقَدِّمَتَهُ، وَعَلَيْهِمُ ابْنُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ، فَجَالَ أَصْحَابُهُ ثُمَّ عَادُوا. فَلَمَّا رَأَى الْخَوَارِجُ صَبْرَهُمْ سَارُوا عَنْ سُوقِ الْأَهَاوِزِ إِلَى مَنَاذِرَ، فَسَارَ يُرِيدُهُمْ، فَلَمَّا قَارَبَهُمْ سَيَّرَ الْخَوَارِجُ جَمْعًا عَلَيْهِمْ وَاقَدٌ مَوْلَى أَبِي صُفْرَةَ إِلَى نَهْرِ تِيرَى وَبِهَا الْمَعَارِكُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْمُهَلَّبِ فَسَيَّرَ ابْنَهُ الْمُغِيرَةَ إِلَى نَهْرِ تِيرَى، فَأَنْزَلَ عَمَّهُ الْمُعَارِكَ وَدَفَنَهُ وَسَكَنَ النَّاسُ وَاسْتَخْلَفَ بِهَا جَمَاعَةً وَعَادَ إِلَى أَبِيهِ وَقَدْ نَزَلَ سُولَافَ. وَكَانَ الْمُهَلَّبُ شَدِيدَ الِاحْتِيَاطِ وَالْحَذَرِ، لَا يَنْزِلُ إِلَّا فِي خَنْدَقٍ وَهُوَ عَلَى تَعْبِيَةٍ وَيَتَوَلَّى الْحَرَسَ بِنَفْسِهِ، فَلَمَّا نَازَلَ الْخَوَارِجَ بِسُولَافَ رَكِبُوا وَوَقَفُوا لَهُ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا صَبَرَ فِيهِ الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ حَمَلَتِ الْخَوَارِجُ حَمْلَةً صَادِقَةً عَلَى الْمُهَلَّبِ وَأَصْحَابِهِ فَانْهَزَمُوا وَقُتِلَ مِنْهُمْ، وَثَبَتَ الْمُهَلَّبُ وَأَبْلَى ابْنُهُ الْمُغِيرَةَ يَوْمَئِذٍ بَلَاءً حَسَنًا ظَهَرَ فِيهِ أَثَرُهُ، وَنَادَى الْمُهَلَّبُ أَصْحَابَهُ فَعَادُوا إِلَيْهِ مَعَهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَرَادَ الْقِتَالَ بِمَنْ مَعَهُ فَنَهَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لِضَعْفِهِمْ وَكَثْرَةِ الْجِرَاحِ فِيهِمْ، فَتَرَكَ الْقِتَالَ وَسَارَ وَقَطَعَ دُجَيْلَ وَنَزَلَ بِالْعَاقُولِ لَا يُؤْتَى إِلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، (وَفِي يَوْمِ سُولَافَ يَقُولُ ابْنُ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ:

أَلَا طَرَقَتْ مِنْ آلِ مَيَّةَ طَارِقَهْ ... عَلَى أَنَّهَا مَعْشُوقَةُ الدَّلِّ عَاشِقَهْ تَمِيسُ وَأَرْضُ السُّوسِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... وَسُولَافُ رُسْتَاقٌ حَمَتْهُ الْأَزَارِقَهْ إِذَا نَحْنُ شَتَّى صَادَفَتْنَا عِصَابَةٌ ... حَرُورِيَّةٌ أَضْحَتْ مِنَ الدِّينِ مَارِقَهْ أَجَازَتْ إِلَيْنَا الْعَسْكَرَيْنِ كِلَيْهِمَا ... فَبَاتَتْ لَنَا دُونَ اللِّحَافِ مُعَانِقَهْ وَقَالَ فِيهِ بَعْضُ الْخَوَارِجِ: وَكَائِنْ تَرَكْنَا يَوْمَ سُولَافَ مِنْهُمُ ... أُسَارَى وَقَتْلَى فِي الْجَحِيمِ مَصِيرُهَا وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ فِيهِ. فَلَمَّا وَصَلَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْعَاقُولِ نَزَلَ فِيهِ وَأَقَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ ارْتَحَلَ وَسَارَ نَحْوَ الْخَوَارِجِ، وَهُمْ بِسِلَّى وَسِلَّبْرَى، فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْهُمْ وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَفْعَلُ أَشْيَاءَ يُحَدِّثُ بِهَا النَّاسَ لِيَنْشَطُوا إِلَى الْقِتَالِ فَلَا يَرَوْنَ لَهَا أَثَرًا، حَتَّى قَالَ الشَّاعِرُ: أَنْتَ الْفَتَى كُلُّ الْفَتَى ... لَوْ كُنْتَ تَصْدُقُ مَا تَقُولُ وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمُ الْكَذَّابَ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّهُ كَذَّابٌ فِي كُلِّ حَالٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَكَايَدَةً لِلْعَدُوِّ. فَلَمَّا نَزَلَ الْمُهَلَّبُ قَرِيبًا مِنَ الْخَوَرِاجِ وَخَنْدَقَ عَلَيْهِ، وَضَعَ الْمَسَالِحَ وَأَذْكَى الْعُيُونَ وَالْحَرَسَ وَالنَّاسَ عَلَى رَايَاتِهِمْ وَمَوَاقِفِهِمْ، وَأَبْوَابُ الْخَنْدَقِ مَحْفُوظَةٌ، فَكَانَ الْخَوَارِجُ إِذَا أَرَادُوا بَيَاتَهُ وَغِرَّتَهُ وَجَدُوا أَمْرًا مُحْكَمًا فَرَجَعُوا، فَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ إِنْسَانٌ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ الْخَوَارِجَ أَرْسَلُوا عُبَيْدَةَ بْنَ هِلَالٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْمَاحُوزِ فِي عَسْكَرٍ لَيْلًا إِلَى عَسْكَرِ الْمُهَلَّبِ لِيُبَيِّتُوهُ، فَصَاحُوا بِالنَّاسِ عَنْ يَمِينِهِمْ وَيَسَارِهِمْ فَوَجَدُوهُمْ عَلَى تَعْبِيَةٍ قَدْ

حَذِرُوا، فَلَمْ يَنَالُوا مِنْهُمْ شَيْئًا، وَأَصْبَحَ الْمُهَلَّبُ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي تَعْبِيَةٍ، وَجَعَلَ الْأَزْدَ وَتَمِيمًا مَيْمَنَةً، وَبَكْرَ بْنَ وَائِلٍ وَعَبْدَ الْقَيْسِ مَيْسَرَةً، وَأَهْلَ الْعَالِيَةِ فِي الْقَلْبِ، وَخَرَجَتِ الْخَوَارِجُ وَعَلَى مَيْمَنَتِهِمْ عُبَيْدَةُ بْنُ هِلَالٍ الْيَشْكُرِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْمَاحُوزِ، وَكَانُوا أَحْسَنَ عُدَّةً وَأَكْرَمَ خَيْلًا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ لِأَنَّهُمْ مَخَرُوا الْأَرْضَ وَجَرَّدُوهَا مَا بَيْنَ كَرْمَانَ إِلَى الْأَهْوَازِ. فَالْتَقَى النَّاسُ وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ عَامَّةَ النَّهَارِ، ثُمَّ إِنَّ الْخَوَارِجَ شَدَّتْ عَلَى النَّاسِ شَدَّةً مُنْكَرَةً، فَأَجْفَلُوا وَانْهَزَمُوا لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٌ، حَتَّى بَلَغَتِ الْهَزِيمَةُ الْبَصْرَةَ، وَخَافَ أَهْلُهَا السِّبَاءَ. وَأَسْرَعَ الْمُهَلَّبُ حَتَّى سَبَقَ الْمُنْهَزِمِينَ إِلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ، ثُمَّ نَادَى: إِلَيَّ عِبَادِ اللَّهِ! فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ أَكْثَرُهُمْ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْأَزْدِ، فَلَمَّا رَآهُمْ رَضِيَ عِدَّتَهُمْ فَخَطَبَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَوَعَدَهُمُ النَّصْرَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ أَحْجَارٍ، وَقَالَ: سِيرُوا بِنَا نَحْوَ عَسْكَرِهِمْ فَإِنَّهُمُ الْآنَ آمِنُونَ وَقَدْ خَرَجَتْ خَيْلُهُمْ فِي طَلَبِ إِخْوَانِكُمْ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ خَيْلُهُمْ حَتَّى تَسْتَبِيحُوا عَسْكَرَهُمْ وَتَقْتُلُوا أَمِيرَهُمْ. فَأَجَابُوهُ، فَأَقْبَلَ بِهِمْ رَاجِعًا، فَمَا شَعَرَتِ الْخَوَارِجُ إِلَّا وَالْمُهَلَّبُ يُقَاتِلُهُمْ فِي جَانِبِ عَسْكَرِهِمْ، فَلَقِيَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمَاحُوزِ وَالْخَوَارِجُ، فَرَمَاهُمْ أَصْحَابُ الْمُهَلَّبِ بِالْأَحْجَارِ حَتَّى أَثْخَنُوهُمْ ثُمَّ طَعَنُوهُمْ بِالرِّمَاحِ وَضَرَبُوهُمْ بِالسُّيُوفِ، فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً، فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمَاحُوزِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَغَنِمَ الْمُهَلَّبُ عَسْكَرَهُمْ، وَأَقْبَلَ مَنْ كَانَ فِي طَلَبِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ رَاجِعًا، وَقَدْ وَضَعَ لَهُمْ خَيْلًا وَرِجَالًا تَخْطَفُهُمْ وَتَقْتُلُهُمْ، وَانْكَفَئُوا رَاجِعِينَ مَذْلُولِينَ، فَارْتَفَعُوا إِلَى كَرْمَانَ وَجَانِبَ أَصْبَهَانَ. (قَالَ بَعْضُ الْخَوَارِجِ لَمَّا رَأَى قِتَالَ أَصْحَابِ الْمُهَلَّبِ بِالْحِجَارَةِ: أَتَانَا بِأَحْجَارٍ لِيَقْتُلَنَا بِهَا ... وَهَلْ تُقْتَلُ الْأَقْرَانُ وَيْحَكَ بِالْحَجَرِ! وَلَمَّا فَرَغَ الْمُهَلَّبُ مِنْهُمْ أَقَامَ مَكَانَهُ حَتَّى قَدِمَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى الْبَصْرَةِ أَمِيرًا، وَعَزَلَ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، (وَفِي هَذَا الْيَوْمِ يَقُولُ الصَّلَتَانِ الْعَبْدِيُّ: بِسِلَّى وَسِلَّبْرَى مَصَارِعُ فِتْيَةٍ ... كِرَامٍ وَقَتْلَى لَمْ تُوَسَّدْ خُدُودُهَا

فَلَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمَاحُوزِ) اسْتَخْلَفَ الْخَوَارِجُ الزُّبَيْرَ بْنَ الْمَاحُوزِ: وَكَتَبَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ يُعَرِّفُهُ ظَفَرَهُ، فَأَرْسَلَ الْحَارِثُ الْكِتَابَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ لِيَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ هُنَاكَ، وَكَتَبَ الْحَارِثُ إِلَى الْمُهَلَّبِ: (أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي كِتَابُكَ تَذْكُرُ فِيهِ نَصْرَ اللَّهِ وَظَفَرَ الْمُسْلِمِينَ، فَهَنِيئًا لَكَ يَا أَخَا الْأَزْدِ شَرَفُ الدُّنْيَا وَعِزُّهَا وَثَوَابُ الْآخِرَةِ وَفَضْلُهَا. فَلَمَّا قَرَأَ الْمُهَلَّبُ كِتَابَهُ ضَحِكَ وَقَالَ: أَمَا يَعْرِفُنِي إِلَّا بِأَخِي الْأَزْدِ! مَا هُوَ إِلَّا أَعْرَابِيٌّ جَافٍ) . وَقِيلَ: إِنَّ عُثْمَانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ قَاتَلَ الْخَوَارِجَ وَنَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَبْلَ مُسْلِمٍ، فَقُتِلَ عُثْمَانُ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ مِنَ الْخَوَارِجِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَسُيِّرَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَصْرَةِ بَعْدَهُ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ الْغُدَانِيُّ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَرَفَ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمْ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كَرْنِبُوا وَدَوْلِبُوا كَيْفَ شِئْتُمْ فَاذْهَبُوا يَعْنِي مَا شَاءَ، ثُمَّ سَارَ بَعْدَهُ مُسْلِمُ بْنُ عُبَيْسٍ) . وَقِيلَ: إِنَّ الْمُهَلَّبَ لَمَّا دَفَعَ الْخَوَارِجَ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى نَاحِيَةِ الْأَهْوَازِ أَقَامَ بَقِيَّةَ سَنَتِهِ يَجْبِي كُوَرَ دِجْلَةَ، وَرَزَقَ أَصْحَابَهُ، وَأَتَاهُ الْمَدَدُ مِنَ الْبَصْرَةِ حَتَّى بَلَغَ أَصْحَابُهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَزِيمَةُ الْخَوَارِجِ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ. ذِكْرُ نَجْدَةَ بْنِ عَامِرٍ الْحَنَفِيِّ هُوَ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَادِ بْنِ الْمُفَرِّجِ الْحَنَفِيُّ، وَكَانَ مَعَ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ، فَفَارَقَهُ لِإِحْدَاثِهِ فِي مَذْهَبِهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَسَارَ إِلَى الْيَمَامَةِ، وَدَعَا أَبَا طَالُوتَ إِلَى نَفْسِهِ، فَمَضَى إِلَى الْحَضَارِمِ فَنَهَبَهَا، وَكَانَتْ لِبَنِي حَنِيفَةَ، فَأَخَذَهَا مِنْهُمْ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فِيهَا مِنَ الرَّقِيقِ مَا عِدَّتُهُمْ وَعِدَّةُ أَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، فَغَنِمَ ذَلِكَ وَقَسَّمَهَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَذَلِكَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ فَكَثُرَ جَمْعُهُ. ثُمَّ إِنَّ عِيرًا خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، وَقِيلَ مِنَ الْبَصْرَةِ، تَحْمِلُ مَالًا وَغَيْرَهُ يُرَادُ بِهَا ابْنُ

الزُّبَيْرِ، فَاعْتَرَضَهَا نَجْدَةُ فَأَخَذَهَا وَسَاقَهَا حَتَّى أَتَى بِهَا أَبَا طَالُوتَ بِالْخَضَارِمِ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: اقْتَسِمُوا هَذَا الْمَالَ وَرُدُّوا هَؤُلَاءِ الْعَبِيدَ وَاجْعَلُوهُمْ يَعْمَلُونَ الْأَرْضَ لَكُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ. فَاقْتَسَمُوا الْمَالَ وَقَالُوا: نَجْدَةُ خَيْرٍ لَنَا مِنْ أَبِي طَالُوتَ، فَخَلَعُوا أَبَا طَالُوتَ وَبَايَعُوا نَجْدَةَ وَبَايَعَهُ أَبُو طَالُوتَ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ، وَنَجْدَةُ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً. ثُمَّ سَارَ فِي جَمْعٍ إِلَى بَنِي كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَلَقِيَهُمْ بِذِي الْمَجَازِ فَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَصَبَرَ كِلَابٌ وَعُطَيْفٌ ابْنَا قُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ الْقُشَيْرِيَّانِ وَقَاتَلَا حَتَّى قُتِلَا، وَانْهَزَمَ قَيْسُ بْنُ الرُّقَادِ الْجَعْدِيُّ فَلَحِقَهُ أَخُوهُ لِأَبِيهِ مُعَاوِيَةَ فَسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ رِدْفًا فَلَمْ يَفْعَلْ. وَرَجَعَ نَجْدَةُ إِلَى الْيَمَامَةِ فَكَثُرَ أَصْحَابُهُ فَصَارُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ سَارَ نَجْدَةُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، فَقَالَتِ الْأَزْدُ: نَجْدَةُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ وُلَاتِنَا لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْجُورَ وَوُلَاتُنَا يُجَوِّزُونَهُ، فَعَزَمُوا عَلَى مُسَالَمَتِهِ، وَاجْتَمَعَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ وَمَنْ بِالْبَحْرَيْنِ غَيْرَ الْأَزْدِ عَلَى مُحَارَبَتِهِ، فَقَالَ بَعْضُ الْأَزْدِ: نَجْدَةُ أَقْرَبُ إِلَيْكُمْ مِنْهُ إِلَيْنَا لِأَنَّكُمْ كُلُّكُمْ مِنْ رَبِيعَةَ فَلَا تُحَارِبُوهُ! وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَدَعُ نَجْدَةَ وَهُوَ حَرُورِيٌّ مَارِقٌ تَجْرِي عَلَيْنَا أَحْكَامُهُ. فَالْتَقَوْا بِالْقَطِيفِ فَانْهَزَمَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَسَبَى نَجْدَةُ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْقَطِيفِ، (فَقَالَ الشَّاعِرُ: نَصَحْتُ لِعَبْدِ الْقَيْسِ يَوْمَ قَطِيفِهَا ... وَمَا نَفْعُ نُصْحٍ، قِيلَ، لَا يُتَقَبَّلُ وَأَقَامَ نَجْدَةُ بِالْقَطِيفِ وَوَجَّهَ ابْنَهُ الْمُطَّرِحَ فِي جَمْعٍ إِلَى الْمُنْهَزِمِينَ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَاتَلُوهُ بِالثُّوَيْرِ، فَقُتِلَ الْمُطَّرِحُ بْنُ نَجْدَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَأَرْسَلَ نَجْدَةُ سَرِيَّةً إِلَى الْخَطِّ فَظَفِرَ بِأَهْلِهِ، وَأَقَامَ نَجْدَةُ بِالْبَحْرَيْنِ. فَلَمَّا قَدِمَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى الْبَصْرَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ بَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيَّ الْأَعْوَرَ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا (فَجَعَلَ يَقُولُ: اثْبُتْ نَجْدَةُ فَإِنَّا لَا نَفِرُّ) ، فَقَدِمَ وَنَجْدَةُ بِالْقَطِيفِ، فَأَتَى نَجْدَةُ إِلَى ابْنِ عُمَيْرٍ، وَهُوَ غَافِلٌ، فَقَاتَلَ طَوِيلًا وَافْتَرَقُوا، وَأَصْبَحَ ابْنُ عُمَيْرٍ فَهَالَهُ مَا رَأَى فِي عَسْكَرِهِ مِنَ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى، وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ نَجْدَةُ فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنِ انْهَزَمُوا، فَلَمْ يُبْقِ عَلَيْهِمْ نَجْدَةُ وَغَنِمَ مَا فِي عَسْكَرِهِمْ وَأَصَابَ جِوَارِيَ فِيهِنَّ أُمُّ وَلَدٍ لِابْنِ عُمَيْرٍ، فَعَرَضَ عَلَيْهَا أَنْ يُرْسِلَهَا إِلَى مَوْلَاهَا فَقَالَتْ: لَا حَاجَةَ بِي إِلَى مَنْ فَرَعَنِي وَتَرَكَنِي.

وَبَعَثَ نَجْدَةُ أَيْضًا بَعْدَ هَزِيمَةِ ابْنِ عُمَيْرٍ جَيْشًا إِلَى عُمَانَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَطِيَّةَ بْنَ الْأَسْوَدِ الْحَنَفِيَّ، وَقَدْ غَلَبَ عَلَيْهَا عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَابْنَاهُ سَعِيدٌ وَسُلَيْمَانُ يُعَشِّرَانِ السُّفُنَ وَيُجْبِيَانِ الْبِلَادَ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ عَطِيَّةُ قَاتَلُوهُ فَقُتِلَ عَبَّادٌ وَاسْتَوْلَى عَطِيَّةُ عَلَى الْبِلَادِ فَأَقَامَ بِهَا أَشْهُرًا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا يُكَنَّى أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَتَلَهُ سَعِيدُ وَسُلَيْمَانُ ابْنَا عَبَّادٍ وَأَهْلُ عُمَانَ. ثُمَّ خَالَفَ عَطِيَّةُ نَجْدَةَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَعَادَ إِلَى عُمَانَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ وَأَتَى كَرْمَانَ وَضَرَبَ بِهَا دَرَاهِمَ سَمَّاهَا الْعَطَوِيَّةَ وَأَقَامَ بِكَرْمَانَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُهَلَّبُ جَيْشًا، فَهَرَبَ إِلَى سِجِسْتَانَ ثُمَّ إِلَى السِّنْدِ، فَلَقِيَهُ خَيْلُ الْمُهَلَّبِ بِقَنْدَابِيلَ فَقَتَلَهُ، وَقِيلَ: قَتَلَهُ الْخَوَارِجُ. ثُمَّ بَعَثَ نَجْدَةُ إِلَى الْبَوَادِي بَعْدَ هَزِيمَةِ ابْنِ عُمَيْرٍ أَيْضًا مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِهَا الصَّدَقَةَ، فَقَاتَلَ أَصْحَابُهُ بَنِي تَمِيمٍ بِكَاظِمَةَ، وَأَعَانَ أَهْلُ طُوَيْلِعَ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَتَلُوا مِنَ الْخَوَارِجِ رَجُلًا، فَأَرْسَلَ نَجْدَةُ إِلَى أَهْلِ طُوَيْلِعَ مَنْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ رَجُلًا وَسَبَى. ثُمَّ إِنَّهُ دَعَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَجَابُوهُ، فَأَخَذَ مِنْهُمُ الصَّدَقَةَ، ثُمَّ سَارَ نَجْدَةُ إِلَى صَنْعَاءَ فِي خُفٍّ مِنَ الْجَيْشِ، فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا وَظَنُّوا أَنَّ وَرَاءَهُ جَيْشًا كَثِيرًا، فَلَمَّا لَمْ يَرَوْا مَدَدًا يَأْتِيهِ نَدِمُوا عَلَى بَيْعَتِهِ، وَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمْ أَقَلْتُكُمْ بَيْعَتَكُمْ وَجَعَلْتُكُمْ فِي حِلٍّ مِنْهَا وَقَاتَلْتُكُمْ. فَقَالُوا: لَا نَسْتَقِيلُ بَيْعَتَنَا. فَبَعَثَ إِلَى مُخَالِفِيهَا مِنْهُمُ الصَّدَقَةَ، وَبَعَثَ نَجْدَةُ أَبَا فُدَيْكٍ إِلَى حَضْرَمَوْتَ فَجَبَى صَدَقَاتِ أَهْلِهَا. وَحَجَّ نَجْدَةُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ فِي ثَمَانِمِائَةٍ وَسِتِّينَ رَجُلًا، وَقِيلَ فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ وَسِتِّمِائَةِ رَجُلٍ، وَصَالَحَ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ وَاحِدٍ بِأَصْحَابِهِ وَيَقِفَ بِهِمْ وَيَكُفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. فَلَمَّا صَدَرَ نَجْدَةُ عَنِ الْحَجِّ سَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَتَأَهَّبَ أَهْلُهَا لِقِتَالِهِ، وَتَقَلَّدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ سَيْفًا، فَلَمَّا كَانَ نَجْدَةُ بِنَخْلٍ أُخْبِرَ بِلُبْسِ ابْنِ عُمَرَ السِّلَاحَ، فَرَجَعَ إِلَى الطَّائِفِ وَأَصَابَ بِنْتًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ كَانَتْ عِنْدَ ظِئْرٍ لَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّ نَجْدَةَ لَيَتَعَصَّبُ لِهَذِهِ الْجَارِيَةِ فَامْتَحَنُوهُ، فَسَأَلَهُ بَعْضُهُمْ بَيْعَهَا مِنْهُ، فَقَالَ: قَدْ أَعْتَقْتُ نَصِيبِي مِنْهَا فَهِيَ حُرَّةٌ. قَالَ: فَزَوِّجْنِي إِيَّاهَا. قَالَ: هِيَ بَالِغٌ وَهِيَ

أَمْلَكُ بِنَفْسِهَا فَأَنَا أَسْتَأْمِرُهَا، فَقَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ دَعَا، قَالَ: قَدِ اسْتَأْمَرْتُهَا وَكَرِهَتِ الزَّوَاجَ. فَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ أَوْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَتَبَ إِلَيْهِ: وَاللَّهِ لَئِنْ أَحْدَثْتُ فِيهَا حَدَثًا لَأَطَأَنَّ بِلَادَكَ وَطْأَةً لَا يَبْقَى مَعَهَا بِكْرِيٌّ. وَكَتَبَ نَجْدَةُ إِلَى ابْنِ عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ، فَقَالَ: سَلُوا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَسَأَلُوهُ، وَمُسَاءَلَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَشْهُورَةٌ. وَلَمَّا سَارَ نَجْدَةُ مِنَ الطَّائِفِ أَتَاهُ عَاصِمُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ فَبَايَعَهُ عَنْ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ نَجْدَةُ الطَّائِفَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْحَجَّاجُ الطَّائِفَ لِمُحَارَبَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ لِعَاصِمٍ: يَا ذَا الْوَجْهَيْنِ بَايَعْتَ نَجْدَةَ! قَالَ: إِي وَاللَّهِ وَذُو عَشْرَةِ أَوْجُهٍ، أَعْطَيْتُ نَجْدَةَ الرِّضَى وَدَفَعْتُهُ عَنْ قَوْمِي وَبَلَدِي. وَاسْتَعْمَلَ الْحَارُوقَ، وَهُوَ حَرَّاقٌ، عَلَى الطَّائِفِ وَتَبَالَةَ وَالسَّرَاةِ، وَاسْتَعْمَلَ سَعْدَ الطَّلَائِعِ عَلَى مَا يَلِي نَجْرَانَ، وَرَجَعَ نَجْدَةُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ فَقَطَعَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ مِنْهَا وَمِنَ الْيَمَامَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ لَمَّا أَسْلَمَ قَطَعَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَهُمْ مُشْرِكُونَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَهْلُ اللَّهِ فَلَا تَمْنَعْهُمُ الْمِيرَةَ، فَجَعَلَهَا لَهُمْ، وَإِنَّكَ قَطَعْتَ الْمِيرَةَ عَنَّا وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ. فَجَعَلَهَا نَجْدَةُ لَهُمْ. وَلَمْ يَزَلْ عُمَّالُ نَجْدَةَ عَلَى النَّوَاحِي حَتَّى اخْتَلَفَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَطَمِعَ فِيهِمُ النَّاسُ، فَأَمَّا الْحَارُوقُ فَطَلَبُوهُ بِالطَّائِفِ فَهَرَبَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَقَبَةِ فِي طَرِيقِهِ لَحِقَهُ قَوْمٌ يَطْلُبُونَهُ فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُ. ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ عَلَى نَجْدَةَ وَقَتْلِهِ وَوِلَايَةِ أَبِي فُدَيْكٍ ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ نَجْدَةَ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ لِأَسْبَابٍ نَقَمُوهَا مِنْهُ، فَمِنْهَا: أَنَّ أَبَا سِنَانٍ حَيَّ بْنَ وَائِلٍ أَشَارَ عَلَى نَجْدَةَ بِقَتْلِ مَنْ أَجَابَهُ تَقِيَّةً، فَشَتَمَهُ نَجْدَةُ، فَهَمَّ بِالْفَتْكِ بِهِ فَقَالَ لَهُ نَجْدَةُ: كَلَّفَ اللَّهُ أَحَدًا عِلْمَ الْغَيْبِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَحْكُمَ بِالظَّاهِرِ. فَرَجَعَ أَبُو سِنَانٍ إِلَى نَجْدَةَ. وَمِنْهَا: أَنَّ عَطِيَّةَ بْنَ الْأَسْوَدِ خَالَفَ عَلَى نَجْدَةَ، وَسَبَبُهُ أَنَّ نَجْدَةَ سَيَّرَ سَرِيَّةَ بَحْرًا

وَسَرِيَّةً بَرًّا، فَأَعْطَى سَرِيَّةَ الْبَحْرِ أَكْثَرَ مِنْ سَرِيَّةِ الْبَرِّ، فَنَازَعَهُ عَطَيَّةُ حَتَّى أَغْضَبَهُ، فَشَتَمَهُ نَجْدَةُ، فَغَضِبَ عَلَيْهِ وَأَلَّبَ النَّاسَ عَلَيْهِ. وَكُلِّمَ نَجْدَةُ فِي رَجُلٍ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي عَسْكَرِهِ فَقَالَ: هُوَ رَجُلٌ شَدِيدُ النِّكَايَةِ عَلَى الْعَدُوِّ وَقَدِ اسْتَنْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِالْمُشْرِكِينَ. وَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى نَجْدَةَ يَدَعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ وَيُوَلِّيهِ الْيَمَامَةَ وَيُهْدِرَ لَهُ مَا أَصَابَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ، فَطَعَنَ عَلَيْهِ عَطِيَّةُ وَقَالَ: مَا كَاتَبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ حَتَّى عَلِمَ مِنْهُ دِهَانًا فِي الدِّينِ، وَفَارَقَهُ إِلَى عُمَانَ. وَمِنْهَا أَنَّ قَوْمًا فَارَقُوا نَجْدَةَ وَاسْتَنَابُوهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَعُودَ، ثُمَّ نَدِمُوا عَلَى اسْتِنَابَتِهِ وَتَفَرَّقُوا وَنَقَمُوا عَلَيْهِ أَشْيَاءَ أَخَرَ، فَخَالَفَ عَلَيْهِ عَامَّةُ مَنْ مَعَهُ فَانْحَازُوا عَنْهُ وَوَلَّوْا أَمْرَهُمْ أَبَا فُدَيْكٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَوْرٍ، أَحَدَ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَاسْتَخْفَى نَجْدَةُ، فَأَرْسَلَ أَبُو فُدَيْكٍ فِي طَلَبِهِ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَالَ: إِنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ فَجِيئُونِي بِهِ. وَقِيلَ لِأَبِي فُدَيْكٍ: إِنْ لَمْ تَقْتُلْ نَجْدَةَ تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْكَ، فَأَلَحَّ فِي طَلَبِهِ. وَكَانَ نَجْدَةُ مُسْتَخْفِيًا فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى حُجْرٍ، وَكَانَ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ اخْتَفَى عِنْدَهُمْ جَارِيَةٌ يُخَالِفُ إِلَيْهَا رَاعٍ لَهُمْ، فَأَخَذَتِ الْجَارِيَةُ مِنْ طِيبٍ كَانَ مَعَ نَجْدَةَ، فَسَأَلَهَا الرَّاعِي عَنْ أَمْرِ الطِّيبِ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَأَخْبَرَ الرَّاعِي أَصْحَابَ أَبِي فُدَيْكٍ بِنَجْدَةَ، فَطَلَبُوهُ، فَنَذَرَ بِهِمْ، فَأَتَى أَخْوَالَهُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَاسْتَخْفَى عِنْدَهُمْ. ثُمَّ أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَتَى بَيْتَهُ لِيَعْهَدَ إِلَى زَوْجَتِهِ، فَعَلِمَ بِهِ الْفُدَيْكِيَّةُ وَقَصَدُوهُ، فَسَبَقَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَأَعْلَمُهُ، فَخَرَجَ وَبِيَدِهِ السَّيْفُ، فَنَزَلَ الْفُدَيْكِيُّ عَنْ فَرَسِهِ وَقَالَ: إِنَّ فَرَسِي هَذَا لَا يُدْرَكُ فَارْكَبْهُ فَلَعَلَّكَ تَنْجُو عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَا أُحِبُّ الْبَقَاءَ وَلَقَدْ تَعَرَّضْتُ لِلشَّهَادَةِ فِي مَوَاطِنَ مَا هَذَا بِأَحْسَنِهَا، وَغَشِيَهُ أَصْحَابُ أَبِي فُدَيْكٍ فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ شُجَاعًا كَرِيمًا (وَهُوَ يَقُولُ: وَإِنْ جَرَّ مَوْلَانَا عَلَيْنَا جَرِيرَةً ... صَبَرْنَا لَهَا، إِنَّ الْكِرَامَ الدَّعَائِمُ ) وَلَمَّا قُتِلَ نَجْدَةُ سَخَّطَ قَتْلُهُ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي فُدَيْكٍ فَفَارَقُوهُ، وَثَارَ بِهِ مُسْلِمُ بْنُ جُبَيْرٍ فَضَرَبَهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ضَرْبَةً بِسِكِّينٍ فَقُتِلَ مُسْلِمٌ وَحُمِلَ أَبُو فُدَيْكٍ إِلَى مَنْزِلِهِ فَبَرَأَ.

ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ مُصْعَبٍ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ عُبَيْدَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَاسْتَعْمَلَ أَخَاهُ مُصْعَبًا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عُبَيْدَةَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ تَرَوْنَ مَا صَنَعَ اللَّهُ بِقَوْمٍ فِي نَاقَةٍ قِيمَتُهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَسُمِّيَ مُقَوِّمَ النَّاقَةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ مُصْعَبًا. ذِكْرُ بِنَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ الْكَعْبَةَ لَمَّا احْتَرَقَتِ الْكَعْبَةُ غَزَا أَهْلُ الشَّامِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَيَّامَ يَزِيدَ تَرَكَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ يُشَنِّعُ بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِابْنِ الزُّبَيْرِ شَرَعَ فِي بِنَائِهَا، فَأَمَرَ بِهَدْمِهَا حَتَّى أُلْحِقَتْ بِالْأَرْضِ، وَكَانَتْ قَدْ مَالَتْ حِيطَانُهَا مِنْ حِجَارَةِ الْمَنْجَنِيقِ، وَجَعَلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ عِنْدَهُ، وَكَانَ النَّاسُ يَطْفُونَ مِنْ وَرَاءِ الْأَسَاسِ، وَضَرَبَ عَلَيْهَا السُّورَ وَأَدْخَلَ فِيهَا الْحَجَرَ (وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ: " «لَوْلَا حِدْثَانُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ، لَرَدَدْتُ الْكَعْبَةَ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَزِيدُ فِيهَا الْحَجَرَ» ) . فَحَفَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَوَجَدَ أَسَاسًا أَمْثَالَ الْجِمَالِ فَحَرَّكُوا مِنْهَا صَخْرَةً فَبَرَقَتْ بَارِقَةٌ فَقَالَ: أَقِرُّوهَا عَلَى أَسَاسِهَا وَبِنَائِهَا، وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ، يُدْخَلُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيُخْرَجُ مِنَ الْآخَرِ. وَقِيلَ: كَانَتْ عِمَارَتُهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ ابْنِ خَازِمٍ وَبَنِي تَمِيمٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ ابْنِ خَازِمٍ السُّلَمِيِّ وَبَنِي تَمِيمٍ بِخُرَاسَانَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ بِخُرَاسَانَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَعَانُوا ابْنَ خَازِمٍ عَلَى مَنْ بِهَا مِنْ رَبِيعَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، فَلَمَّا صَفَتْ لَهُ خُرَاسَانُ جَفَا بَنِي تَمِيمٍ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ ابْنَهُ مُحَمَّدًا عَلَى هَرَاةَ، وَجَعَلَ عَلَى شُرْطَتِهِ بُكَيْرَ بْنَ وَسَّاجٍ، وَضَمَّ إِلَيْهِ شَمَّاسَ بْنَ دِثَارٍ الْعُطَارِدِيَّ، وَكَانَتْ أُمُّ مُحَمَّدٍ تَمِيمِيَّةً، فَلَمَّا جَفَا ابْنُ خَازِمٍ بَنِي تَمِيمٍ أَتَوُا ابْنَهُ مُحَمَّدًا بِهَرَاةَ، فَكَتَبَ ابْنُ خَازِمٍ إِلَى ابْنِهِ مُحَمَّدٍ وَإِلَى بُكَيْرٍ وَشَمَّاسٍ يِأْمُرُهُمْ بِمَنْعِهِمْ عَنْ هَرَاةَ، فَأَمَّا شَمَّاسٌ فَصَارَ مَعَ بَنِي تَمِيمٍ، وَأَمَّا بُكَيْرٍ فَإِنَّهُ مَنَعَهُمْ، فَأَقَامُوا بِبِلَادٍ هَرَاةَ، فَأَرْسَلَ بُكَيْرٌ إِلَى شَمَّاسٍ: إِنِّي أَعْطَيْتُكَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا فَأَعْطِ كُلَّ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَلْفًا عَلَى أَنْ يَنْصَرِفُوا. فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَأَقَامُوا يَتَرَصَّدُونَ مُحَمَّدًا، فَخَرَجَ يَتَصَيَّدُ فَأَخَذُوهُ وَشَدُّوهُ وِثَاقًا وَشَرِبُوا لَيْلَتَهُمْ وَجَعَلُوا يَبُولُونَ عَلَيْهِ كُلَّمَا أَرَادُوا الْبَوْلَ، فَقَالَ لَهُمْ شَمَّاسٌ: أَمَّا إِذْ بَلَغْتُمْ هَذَا مِنْهُ فَاقْتُلُوهُ بِصَاحِبَيْكُمَا اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا بِالسِّيَاطِ. وَكَانَ قَدْ ضَرَبَ رَجُلَيْنِ مِنْ تَمِيمٍ بِالسِّيَاطِ حَتَّى مَاتَا. فَقَامُوا إِلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ، فَنَهَاهُمْ عَنْهُ جَيْهَانُ بْنُ مَشْجَعَةَ الضَّبِّيُّ وَأَلْقَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَقَتَلُوا مُحَمَّدًا. فَشَكَرَ ابْنُ خَازِمٍ لِجَيْهَانَ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ فِيمَنْ قَتَلَ يَوْمَ فَرْتَنَا. وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى قَتْلَ مُحَمَّدٍ رَجُلَانِ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَجَلَةُ وَاسْمُ الْآخَرِ كُسَيْبٌ. فَقَالَ ابْنُ خَازِمٍ: بِئْسَ مَا اكْتَسَبَ كُسَيْبٌ لِقَوْمِهِ، وَلَقَدْ جَعَلَ عَجَلَةُ لِقَوْمِهِ شَرًّا. وَأَقْبَلَتْ تَمِيمٌ إِلَى مَرْوَ وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمُ الْحَرِيشَ بْنَ هِلَالٍ الْقُرَيْعِيَّ، وَأَجْمَعَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى قِتَالِ ابْنِ خَازِمٍ، فَقَاتَلَ الْحَرِيشُ بْنُ هِلَالٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَازِمٍ سَنَتَيْنِ فَلَمَّا طَالَتِ الْحَرْبُ خَرَجَ الْحَرِيشُ فَنَادَى ابْنَ خَازِمٍ وَقَالَ لَهُ: طَالَتِ الْحَرْبُ بَيْنَنَا فَعَلَامَ تَقْتُلُ قَوْمِي وَقَوْمَكَ؟ ابْرُزْ إِلَيَّ فَأَيُّنَا قَتَلَ صَاحِبَهُ صَارَتِ الْأَرْضُ لَهُ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ خَازِمٍ: قَدْ أَنْصَفْتَ. فَبَرَزَ إِلَيْهِ فَتَضَارَبَا وَتَصَاوَلَا تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ لَا يَقْدِرُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ غَفَلَ ابْنُ خَازِمٍ فَضَرَبَهُ الْحَرِيشُ عَلَى رَأْسِهِ فَأَلْقَى فَرْوَةَ رَأْسِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَانْقَطَعَ رِكَابُ الْحَرِيشِ وَانْتَزَعَ السَّيْفَ، وَلَزِمَ ابْنُ خَازِمٍ عُنُقَ فَرَسِهِ

رَاجِعًا إِلَى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ غَادَاهُمُ الْقِتَالُ، فَمَكَثُوا بِذَلِكَ بَعْدَ الضَّرْبَةِ أَيَّامًا ثُمَّ مَلَّ الْفَرِيقَانِ فَتَفَرَّقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةً إِلَى نَيْسَابُورَ مَعَ بَحِيرِ بْنِ وَرْقَاءَ، وَفِرْقَةً إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَفِرْقَةً فِيهَا الْحَرِيشُ إِلَى مَرْوِ الرُّوذِ، فَاتَّبَعَهُ ابْنُ خَازِمٍ إِلَى قَرْيَةٍ تُسَمَّى الْمَلْحَمَةَ، وَالْحَرِيشُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَقَدْ تَفَرَّقَتْ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَهُمْ فِي خَرِبَةٍ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ ابْنُ خَازِمٍ خَرَجَ إِلَيْهِ فِي أَصْحَابِهِ، فَحَمَلَ مَوْلًى لِابْنِ خَازِمٍ عَلَى الْحَرِيشِ فَضَرَبَهُ فَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، فَقَالَ الْحَرِيشُ لِرَجُلٍ مَعَهُ: إِنَّ سَيْفِي لَا يَصْنَعُ فِي سِلَاحِهِ شَيْئًا فَأَعْطِنِي خَشَبَةً، فَأَعْطَاهُ عُودًا مِنْ عُنَّابٍ، فَحَمَلَ عَلَى الْمَوْلَى فَضَرَبَهُ فَسَقَطَ وَقِيذًا، ثُمَّ قَالَ لِابْنِ خَازِمٍ: مَا تُرِيدُ مِنِّي وَقَدْ خَلَّيْتُكَ وَالْبِلَادَ؟ قَالَ: إِنَّكَ تَعُودُ إِلَيْهَا. قَالَ: لَا أَعُودُ، فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ خُرَاسَانَ وَلَا يَعُودَ إِلَى قِتَالِهِ، فَأَعْطَاهُ ابْنُ خَازِمٍ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَفَتَحَ لَهُ الْحَرِيشُ بَابَ الْقَصْرِ، فَدَخَلَهُ ابْنُ خَازِمٍ وَضَمِنَ لَهُ وَفَاءَ دَيْنِهِ وَتَحَدَّثَا طَوِيلَا. وَطَارَتْ قُطْنَةٌ عَنِ الضَّرْبَةِ الَّتِي بِرَأْسِ ابْنِ خَازِمٍ، فَأَخْذَهَا الْحَرِيشُ وَوَضَعَهَا مَكَانَهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ خَازِمٍ: مَسُّكَ الْيَوْمَ أَلْيَنُ مِنْ مَسِّكِ أَمْسِ. فَقَالَ الْحَرِيشُ: مَعْذِرَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا [أَنَّ] رِكَابِيَ انْقَطَعَ لَخَالَطَ السَّيْفُ رَأْسَكَ، قَالَ الْحَرِيشُ فِي ذَلِكَ: أَزَالَ عُظْمَ ذِرَاعِي عَنْ مُرَكَّبِهِ ... حَمْلُ الرُّدَيْنِيِّ فِي الْإِدْلَاجِ بِالسَّحَرِ حَوْلَيْنِ مَا اغْتَمَضَتْ عَيْنِي بِمَنْزِلَةٍ ... إِلَّا وَكَفِّي وِسَادٌ لِي عَلَى حَجَرِ بَزِّي الْحَدِيدُ وَسِرْبَالِي إِذَا هَجَعَتْ ... عَنِّي الْعُيُونُ مِحَالُ الْقَارِحِ الذَّكَرِ ) (بَحِيرُ بْنُ وَرْقَاءَ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ. وَالْحَرِيشُ بِالْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ) .

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ طَاعُونُ الْجَارِفِ بِالْبَصْرَةِ وَعَلَيْهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ، فَهَلَكَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَمَاتَتْ أُمُّ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهَا مَنْ يَحْمِلُهَا حَتَّى اسْتَأْجَرُوا مَنْ حَمَلَهَا، وَهُوَ الْأَمِيرُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُصْعَبٌ، وَعَلَى الْكُوفَةِ ابْنُ مُطِيعٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ الْحَارِثُ بْنُ رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ، وَعَلَى خُرَاسَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ السَّهْمِيُّ، وَكَانَ قَدْ عَمِيَ آخِرَ عُمُرِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ.

ثم دخلت سنة ست وستين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ] 66 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ ذِكْرُ وُثُوبِ الْمُخْتَارِ بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعَ الْأَوَّلِ وَثَبَ الْمُخْتَارُ بِالْكُوفَةِ وَأَخْرَجَ عَنْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ عَامِلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ لَمَّا قُتِلَ قَدِمَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِهِ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَدِمُوا وَجَدُوا الْمُخْتَارَ مَحْبُوسًا قَدْ حَبَسَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْحَطَمِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَبْسِ يُثْنِي عَلَيْهِمْ وَيَمِينِّهِمُ الظَّفَرَ وَيُعَرِّفُهُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَّرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، يَطْلُبُ الثَّأْرَ، فَقَرَأَ كِتَابَهُ رِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ وَالْمُثَنَّى بْنُ مُخَرِّبَةَ الْعَبْدِيُّ وَسَعْدُ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنُ الْيَمَانِ وَيَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَرُ بْنُ شُمَيْطٍ الْأَحْمَسِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ الْبَجَلِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَامِلٍ، فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ بَعَثُوا إِلَيْهِ ابْنَ كَامِلٍ يَقُولُونَ لَهُ: إِنَّنَا بِحَيْثُ يَسُرُّكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ نَأْتِيَكَ وَنُخْرِجَكَ مِنَ الْحَبْسِ فَعَلْنَا. فَأَتَاهُ فَأَخْبَرَهُ، فَسُّرَ بِذَلِكَ وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي أَخْرُجُ فِي أَيَّامِي هَذِهِ. وَكَانَ الْمُخْتَارُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّنِي قَدْ حُبِسْتُ مَظْلُومًا، وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمَا ابْنُ عُمَرَ فِي أَمْرِهِ، فَشَفَّعَاهُ وَأَخْرَجَاهُ مِنَ السِّجْنِ وَضَمِنَاهُ، وَحَلَّفَاهُ أَنَّهُ لَا يَبْغِيهِمَا غَائِلَةً وَلَا يَخْرُجُ عَلَيْهِمَا مَا كَانَ لَهُمَا سُلْطَانٌ، فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ أَلْفُ بَدَنَةٍ يَنْحَرُهَا عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَمَمَالِيكُهُ أَحْرَارٌ، ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ. فَلَمَّا خَرَجَ نَزَلَ بِدَارِهِ، فَقَالَ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ مَا أَحْمَقَهُمْ حِينَ يَرَوْنَ أَنِّي أَفِي لَهُمْ! أَمَّا حَلِفِي بِاللَّهِ فَإِنَّنِي إِذَا حَلَفْتُ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتُ خَيْرًا مِنْهَا (كَفَّرْتُ عَنْ)

يَمِينِي، وَخُرُوجِي عَلَيْهِمْ خَيْرٌ مِنْ كَفِّي عَنْهُمْ، وَأَمَّا هَدْيُ الْبُدْنِ وَعَتْقُ الْمَمَالِيكِ فَهُوَ أَهْوَنُ عَلِيَّ مِنْ بَصْقَةٍ، فَوَدِدْتُ أَنْ تَمَّ لِي أَمْرِي وَلَا أَمَلِكُ بَعْدَهُ مَمْلُوكًا أَبَدًا. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ إِلَيْهِ الشِّيعَةُ وَاتَّفَقُوا عَلَى الرِّضَى بِهِ، وَلَمْ يَزَلْ أَصْحَابُهُ يَكْثُرُونَ، وَأَمْرُهُ يَقْوَى حَتَّى عَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الْحَطَمِيَّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ عَلَى عَمَلِهِمَا بِالْكُوفَةِ، فَلَقِيَهُ بِحَيْرُ بْنُ رَيْسَانَ الْحِمْيَرِيُّ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى الْكُوفَةِ فَقَالَ لَهُ: لَا تَسِرِ اللَّيْلَةَ فَإِنَّ الْقَمَرَ بِالنَّاطِحِ فَلَا تَسِرْ، فَقَالَ لَهُ: وَهَلْ نَطْلُبُ إِلَّا النَّطْحَ! فَلَقِيَ نَطْحًا كَمَا يُرِيدُ، فَكَانَ الْبَلَاءُ مُوَكَّلًا بِمَنْطِقِهِ، وَكَانَ شُجَاعًا. وَسَارَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَسَرَ الْخَوَارِجُ وَقَالَ: كَانَتْ فِتْنَةً، فَسَكَتَ عَنْهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. وَكَانَ قُدُومُ ابْنِ مُطِيعٍ فِي رَمَضَانَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْهُ، وَجَعَلَ عَلَى شُرْطَتِهِ إِيَاسَ بْنَ مُضَارِبٍ الْعِجْلِيَّ، وَأَمَرَهُ بِحُسْنِ السِّيرَةِ وَالشِّدَّةِ عَلَى الْمُرِيبِ، وَلَمَّا قَدِمَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَهُمْ وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعَثَنِي عَلَى مِصْرِكُمْ وَثُغُورِكُمْ، وَأَمَرَنِي بِجِبَايَةِ فَيْئِكُمْ وَأَنْ لَا أَحْمِلَ فَضْلَ فَيْئِكُمْ عَنْكُمْ إِلَّا بِرِضًى مِنْكُمْ، وَأَنْ أَتَّبِعَ وَصِيَّةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الَّتِي أَوْصَى بِهَا عِنْدَ وَفَاتِهِ، وَسِيرَةَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْتَقِيمُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا وَخُذُوا عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِكُمْ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [وَلَا تَلُومُونِي] فَوَاللَّهِ لَأُوقِعَنَّ بِالسَّقِيمِ الْعَاصِيَ، وَلَأُقِيمَنَّ دَرْءَ الْأَصْعَرِ الْمُرْتَابِ. فَقَامَ إِلَيْهِ السَّائِبُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ فَقَالَ: أَمَّا حَمْلُ فَيْئِنَا بِرِضَانَا فَإِنَّا نَشْهَدُ أَنَا لَا نَرْضَى أَنْ يُحْمَلَ عَنَّا فَضْلُهُ وَأَنْ لَا يُقْسَمَ إِلَّا فِينَا، وَأَنْ لَا يُسَارَ فِينَا إِلَّا بِسِيرَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّتِي سَارَ بِهَا فِي بِلَادِنَا هَذِهِ حَتَّى هَلَكَ، وَلَا حَاجَةَ لَنَا فِي سِيرَةِ عُثْمَانَ فِي فَيْئِنَا وَلَا فِي أَنْفُسِنَا، وَلَا فِي سِيرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِينَا، وَإِنْ كَانَتْ أَهْوَنَ السِّيرَتَيْنِ عَلَيْنَا، وَقَدْ كَانَ يَفْعَلُ بِالنَّاسِ خَيْرًا. فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ: صَدَقَ السَّائِبُ وَبَرَّ. فَقَالَ ابْنُ مُطِيعٍ: نَسِيرُ فِيكُمْ بِكُلِّ سِيرَةٍ أَحْبَبْتُمُوهَا. ثُمَّ نَزَلَ.

وَجَاءَ إِيَاسُ بْنُ مُضَارِبٍ إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ السَّائِبَ بْنَ مَالِكٍ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ، فَابْعَثْ إِلَى الْمُخْتَارِ فَلْيَأْتِكَ، فَإِذَا جَاءَ فَاحْبِسْهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ أَمْرُ النَّاسِ، فَإِنَّ أَمْرَهُ قَدِ اسْتَجْمَعَ لَهُ وَكَأَنَّهُ قَدْ وَثَبَ بِالْمِصْرِ. فَبَعَثَ ابْنُ مُطِيعٍ إِلَى الْمُخْتَارِ زَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ وَحُسَيْنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَرْسَمِيَّ مِنْ هَمْدَانَ، فَقَالَا: أَجِبِ الْأَمِيرَ، فَعَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ، فَقَرَأَ زَائِدَةُ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] الْآيَةَ، فَأَلْقَى الْمُخْتَارُ ثِيَابَهُ وَقَالَ: أَلْقُوا عَلَيَّ قَطِيفَةً فَقَدْ وُعِكْتُ، إِنِّي لَأَجِدُ بَرْدًا شَدِيدًا، ارْجِعَا إِلَى الْأَمِيرِ فَأَعْلِمَاهُ حَالِي. فَعَادَا إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ فَأَعْلَمَاهُ، فَتَرَكَهُ. وَوَجَّهَ الْمُخْتَارُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَجَمَعَهُمْ حَوْلَهُ فِي الدُّورِ وَأَرَادَ أَنْ يَثِبَ فِي الْكُوفَةِ فِي الْمُحَرَّمِ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ شِبَامٍ، وَشِبَامٌ حَيٌّ مِنْ هَمْدَانَ، وَكَانَ شَرِيفًا اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ، فَلَقِيَ سَعِيدَ بْنَ مُنْقِذٍ الثَّوْرِيَّ وَسِعْرَ بْنَ أَبِي سِعْرٍ الْحَنَفِيَّ وَالْأَسْوَدَ بْنَ جَرَادٍ الْكِنْدِيَّ وَقَدَامَةَ بْنَ مَالِكٍ الْجُشَمِيَّ فَقَالَ لَهُمْ: إِنِ الْمُخْتَارَ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَ بِنَا وَلَا نَدْرِي أَرْسَلَهُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ أَمْ لَا، فَانْهَضُوا بِنَا إِلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ نُخْبِرُهُ بِمَا قَدِمَ عَلَيْنَا بِهِ الْمُخْتَارُ، فَإِنْ رَخَّصَ لَنَا فِي اتِّبَاعِهِ تَبِعْنَاهُ وَإِنْ نَهَانَا عَنْهُ اجْتَنَبْنَاهُ، فَوَاللَّهِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا آثَرَ عِنْدَنَا مِنْ سَلَامَةِ دِينِنَا. قَالُوا لَهُ: أَصَبْتَ. فَخَرَجُوا إِلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ سَأَلَهُمْ عَنْ حَالِ النَّاسِ فَأَخْبَرُوهُ عَنْ حَالِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ وَأَعْلَمُوهُ حَالَ الْمُخْتَارِ وَمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَاسْتَأْذَنُوهُ فِي اتِّبَاعِهِ. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ كَلَامِهِمْ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ فَضِيلَةَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْمُصِيبَةَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِمَّنْ دَعَاكُمْ إِلَى الطَّلَبِ بِدِمَائِنَا فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ انْتَصَرَ لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا بِمَنْ شَاءَ مَنْ خَلْقِهِ، وَلَوْ كَرِهَ لَقَالَ لَا تَفْعَلُوا. فَعَادُوا وَنَاسٌ مِنَ الشِّيعَةِ يَنْتَظِرُونَهُمْ مِمَّنْ أَعْلَمُوهُ بِحَالِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ شَقَّ عَلَى الْمُخْتَارِ وَخَافَ أَنْ يَعُودُوا بِأَمْرٍ يُخَذِّلُ الشِّيعَةَ عَنْهُ، فَلَمَّا قَدِمُوا الْكُوفَةَ دَخَلُوا عَلَى الْمُخْتَارِ قَبْلَ دُخُولِهِمْ إِلَى بُيُوتِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا وَرَاءَ كَمْ فَقَدَ فُتِنْتُمْ وَارْتَبْتُمْ! فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِنَصْرِكَ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اجْمَعُوا إِلَيَّ الشِّيعَةَ، فَجَمَعَ مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ نَفَرًا قَدْ أَحَبُّوا أَنْ يَعْلَمُوا مِصْدَاقَ مَا جِئْتُ بِهِ فَرَحَلُوا إِلَى الْإِمَامِ الْمَهْدِيِّ، فَسَأَلُوهُ عَمَّا قَدِمْتُ بِهِ عَلَيْكُمْ، فَنَبَّأَهُمْ أَنِّي وَزِيرُهُ وَظَهِيرُهُ وَرَسُولُهُ وَأَمَرَكُمْ بِاتِّبَاعِي وَطَاعَتِي فِيمَا

دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ مِنْ قِتَالِ الْمُحِلِّينَ وَالطَّلَبِ بِدِمَاءِ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمُ الْمُصْطَفَيْنَ. فَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ وَأَخْبَرَهُمْ بِحَالِهِمْ وَمَسِيرِهِمْ وَأَنَّ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ أَمَرَهُمْ بِمُظَاهَرَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: لِيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ وَاسْتَعِدُّوا وَتَأَهَّبُوا. وَقَامَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالُوا نَحْوًا مِنْ كَلَامِهِ. فَاسْتَجْمَعَتْ لَهُ الشِّيعَةُ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمُ الشَّعْبِيُّ وَأَبُوهُ شَرَاحِيلُ، فَلَمَّا تَهَيَّأَ أَمْرُهُ لِلْخُرُوجِ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّ أَشْرَافَ أَهْلِ الْكُوفَةِ مُجْمِعُونَ عَلَى قِتَالِكُمْ مَعَ ابْنِ مُطِيعٍ، فَإِنْ أَجَابَنَا إِلَى أَمْرِنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ رَجَوْنَا الْقُوَّةَ عَلَى عَدُوِّنَا، فَإِنَّهُ فَتًى رَئِيسٌ، وَابْنُ رَجُلٍ شَرِيفٍ، لَهُ عَشِيرَةٌ ذَاتُ عِزٍّ وَعَدَدٍ. فَقَالَ لَهُمُ الْمُخْتَارُ: فَالْقَوْهُ وَادْعُوهُ. فَخَرَجُوا إِلَيْهِ وَمَعَهُمُ الشَّعْبِيُّ فَأَعْلَمُوهُ حَالَهُمْ وَسَأَلُوهُ مُسَاعَدَتَهُمْ عَلَيْهِ وَذَكَرُوا لَهُ مَا كَانَ أَبُوهُ عَلَيْهِ مِنْ وَلَاءٍ عَلِيٍّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ. (فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَدْ أَجَبْتُكُمْ إِلَى الطَّلَبِ بِدَمِ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ عَلَى أَنْ تُوَلُّونِي الْأَمْرَ) فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ لِذَلِكَ أَهْلٌ وَلَكِنْ لَيْسَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ، هَذَا الْمُخْتَارُ قَدْ جَاءَنَا مِنْ قِبَلِ الْمَهْدِيِّ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِالْقِتَالِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِطَاعَتِهِ. فَسَكَتَ إِبْرَاهِيمُ وَلَمْ يُجِبْهُمْ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ فَأَخْبَرُوا الْمُخْتَارَ، فَمَكَثَ ثَلَاثًا ثُمَّ سَارَ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُوهُ فِيهِمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَأَلْقَى لَهُمُ الْوَسَائِدَ، فَجَلَسُوا عَلَيْهَا وَجَلَسَ الْمُخْتَارُ مَعَهُ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ: هَذَا كِتَابٌ مِنَ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ وَابْنُ خَيْرِ أَهْلِهَا قَبْلَ الْيَوْمِ بَعْدَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَهُوَ يَسْأَلُكَ أَنْ تَنْصُرَنَا وَتُؤَازِرَنَا. قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَكَانَ الْكِتَابُ مَعِي، فَلَمَّا قَضَى كَلَامَهُ قَالَ لِي: ادْفَعِ الْكِتَابَ إِلَيْهِ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ الشَّعْبِيُّ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: مِنْ مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْتَرِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ وَزِيرِي وَأَمِينِي الَّذِي ارْتَضَيْتُهُ لِنَفْسِي وَأَمَرْتُهُ بِقِتَالِ عَدُوِّي، وَالطَّلَبِ بِدِمَاءِ أَهْلِ بَيْتِي، فَانْهَضْ مَعَهُمْ بِنَفْسِكَ وَعَشِيرَتِكَ وَمَنْ أَطَاعَكَ فَإِنَّكَ إِنْ نَصَرْتَنِي وَأَجَبْتَ دَعْوَتِي، كَانَتْ لَكَ بِذَلِكَ عِنْدِي فَضِيلَةٌ، وَلَكَ أَعِنَّةُ الْخَيْلِ وَكُلُّ جَيْشٍ غَازٍ وَكُلُّ مِصْرٍ وَمِنْبَرٍ وَثَغْرٍ ظَهَرْتَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَ الْكُوفَةِ وَأَقْصَى بِلَادِ الشَّامِ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ قَالَ: قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ قَبْلَ الْيَوْمِ وَكَتَبْتُ فَلَمْ يَكْتُبْ إِلَيَّ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ. قَالَ الْمُخْتَارُ: إِنَّ ذَلِكَ زَمَانٌ وَهَذَا زَمَانٌ. قَالَ: فَمَنْ يَعْلَمُ

أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ [إِلَيَّ] ؟ فَشَهِدَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ مَعَهُ، مِنْهُمْ: زَيْدُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَرُ بْنُ شُمَيْطٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَامِلٍ وَجَمَاعَتُهُمْ إِلَّا الشَّعْبِيَّ. فَلَمَّا شَهِدُوا تَأَخَّرَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَدْرِ الْفِرَاشِ وَأَجْلَسَ الْمُخْتَارَ عَلَيْهِ وَبَايَعَهُ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلشَّعْبِيِّ: قَدْ رَأَيْتُكَ لَمْ تَشْهَدْ مَعَ الْقَوْمِ أَنْتَ وَلَا أَبُوكَ، أَفَتَرَى هَؤُلَاءِ شَهِدُوا عَلَى حَقٍّ؟ فَقَالَ لَهُ: هَؤُلَاءِ سَادَةُ الْقُرَّاءِ وَمَشْيَخَةُ الْمِصْرِ وَفُرْسَانُ الْعَرَبِ وَلَا يَقُولُ مِثْلُهُمْ إِلَّا حَقًّا. فَكَتَبَ أَسْمَاءَهُمْ وَتَرَكَهَا عِنْدَهُ، وَدَعَا إِبْرَاهِيمُ عَشِيرَتَهُ وَمَنْ أَطَاعَهُ وَأَقْبَلَ يَخْتَلِفُ إِلَى الْمُخْتَارِ كُلَّ عَشِيَّةٍ عِنْدَ الْمَسَاءِ يُدَبِّرُونَ أُمُورَهُمْ، وَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ. فَلَمَّا كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةُ عِنْدَ الْمَغْرِبِ صَلَّى إِبْرَاهِيمُ بِأَصْحَابِهِ ثُمَّ خَرَجَ يُرِيدُ الْمُخْتَارَ وَعَلَيْهِ عَلَى أَصْحَابِهِ السِّلَاحُ، وَقَدْ أَتَى إِيَاسُ بْنُ مُضَارِبٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْمُخْتَارَ خَارِجٌ عَلَيْكَ بِإِحْدَى هَاتَيْنِ اللَّيْلَتَيْنِ وَقَدْ بَعَثَ ابْنِي إِلَى الْكُنَاسَةِ فَلَوْ بَعَثْتَ فِي كُلِّ جَبَّانَةٍ عَظِيمَةٍ بِالْكُوفَةِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ لَهَابَ الْمُخْتَارُ وَأَصْحَابُهُ الْخُرُوجَ عَلَيْكَ. فَبَعَثَ ابْنُ مُطِيعٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيَّ إِلَى جَبَّانَةِ السَّبِيعِ، وَقَالَ: اكْفِنِي قَوْمَكَ وَلَا تُحْدِثَنَّ بِهَا حَدَثًا. وَبَعَثَ كَعْبَ بْنَ أَبِي كَعْبٍ الْخَثْعَمِيَّ إِلَى جَبَّانَةِ بِشْرٍ. وَبَعَثَ زَحْرَ بْنَ قَيْسٍ الْجُعْفِيَّ إِلَى جَبَّانَةِ كِنْدَةَ. وَبَعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مِخْنَفٍ إِلَى جَبَّانَةِ الصَّائِدِيِّينَ. وَبَعَثَ شَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ إِلَى جَبَّانَةِ سَالِمٍ. وَبَعَثَ يَزِيدَ بْنَ رُوَيْمٍ إِلَى جَبَّانَةِ الْمُرَادِ، وَأَوْصَى كُلًّا مِنْهُمْ أَنْ لَا يُؤْتَى مِنْ قِبَلِهِ. وَبَعَثَ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ إِلَى السَّبَخَةِ وَقَالَ: إِذَا سَمِعْتَ صَوْتَ الْقَوْمِ فَوَجِّهْ نَحْوَهُمْ. وَكَانَ خُرُوجُهُمْ إِلَى الْجَبَابِينَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ يُرِيدُ الْمُخْتَارَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّ الْجَبَابِينَ قَدْ مُلِئَتْ رِجَالًا، وَأَنَّ إِيَاسَ بْنَ مُضَارِبٍ فِي الشُّرَطِ قَدْ أَحَاطَ بِالسُّوقِ وَالْقَصْرِ، فَأَخَذَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوَ مِائَةِ دَارِعٍ، وَقَدْ لَبِسُوا عَلَيْهَا الْأَقْبِيَةَ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: تَجَنَّبِ الطَّرِيقَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُمَرَّنَ وَسَطَ السُّوقِ بِجَنْبِ الْقَصْرِ وَلَأُرْعِبَنَّ عَدُوَّنَا وَلَأُرِيَنَّهُمْ هَوَانَهُمْ عَلَيْنَا. فَسَارَ عَلَى بَابِ الْفِيلِ ثُمَّ عَلَى دَارِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، فَلَقِيَهُمْ إِيَاسُ بْنُ مُضَارِبٍ فِي

الشُّرَطِ مُظْهِرِينِ السِّلَاحَ. فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ. فَقَالَ إِيَاسٌ: مَا هَذَا الْجَمْعُ الَّذِي مَعَكَ وَمَا تُرِيدُ؟ لَسْتُ بِتَارِكِكَ حَتَّى آتِيَ بِكَ الْأَمِيرَ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: خَلِّ سَبِيلًا. قَالَ: لَا أَفْعَلُ، وَكَانَ مَعَ إِيَاسِ بْنِ مُضَارِبٍ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ يُقَالُ لَهُ أَبُو قَطَنٍ، وَكَانَ يُكْرِمُهُ، وَكَانَ صَدِيقًا لِابْنِ الْأَشْتَرِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْأَشْتَرِ: ادْنُ مِنِّي يَا أَبَا قَطَنٍ، فَدَنَا مِنْهُ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ إِلَى إِيَاسٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَخَذَ رُمْحًا كَانَ مَعَهُ وَطَعَنَ بِهِ إِيَاسًا فِي ثَغْرَةِ نَحْرِهِ فَصَرَعَهُ، وَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُ إِيَاسٍ وَرَجَعُوا إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ. فَبَعَثَ مَكَانَهُ ابْنَهُ رَاشِدَ بْنَ إِيَاسٍ عَلَى الشُّرَطِ، وَبَعَثَ مَكَانَ رَاشِدٍ إِلَى الْكُنَاسَةِ سُوِيدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمِنْقَرِيَّ أَبَا الْقَعْقَاعِ بْنَ سُوَيْدٍ. وَأَقْبَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى الْمُخْتَارِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّا اتَّعَدْنَا لِلْخُرُوجِ الْقَابِلَةَ، وَقَدْ جَاءَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنَ الْخُرُوجِ اللَّيْلَةَ، وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَفَرِحَ الْمُخْتَارُ بِقَتْلِ إِيَاسٍ وَقَالَ: هَذَا أَوَّلُ الْفَتْحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى! ثُمَّ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ مُنْقِذٍ: قُمْ فَأَشْعِلِ النِّيرَانَ فِي الْهَوَادِي وَالْقَصَبَ وَارْفَعْهَا وَسِرْ أَنْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ فَنَادِ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ، وَقُمْ أَنْتَ يَا سُفْيَانُ بْنَ لَيْلَى وَأَنْتَ يَا قُدَامَةُ بْنَ مَالِكٍ فَنَادِيَا: يَا لَثَارَاتِ الْحُسَيْنِ! ثُمَّ لَبِسَ سِلَاحَهُ. فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فِي الْجَبَابِينِ يَمْنَعُونَ أَصْحَابَنَا مِنْ إِتْيَانِنَا فَلَوْ سِرْتُ إِلَى قَوْمِي بِمَنْ مَعِي وَدَعَوْتُ مَنْ أَجَابَنِي وَسِرْتُ بِهِمْ فِي نَوَاحِي الْكُوفَةِ وَدَعَوْتُ بِشِعَارِنَا لَخَرَجَ إِلَيْنَا مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ وَمَنْ أَتَاكَ حَبَسْتَهُ عِنْدَكَ إِلَى مَنْ مَعَكَ، فَإِنْ عُوجِلْتَ كَانَ عِنْدَكَ مَنْ يَمْنَعُكَ إِلَى أَنْ آتِيَكَ. فَقَالَ لَهُ: افْعَلْ وَعَجِّلْ وَإِيَّاكَ أَنْ تَسِيرَ إِلَى أَمِيرِهِمْ تُقَاتِلُهُ وَلَا تُقَاتِلْ أَحَدًا وَأَنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ لَا تُقَاتِلَهُ إِلَّا أَنْ يَبْدَأَكَ أَحَدٌ بِقِتَالٍ. فَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى أَتَى قَوْمَهُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُلُّ مَنْ كَانَ أَجَابَهُ، وَسَارَ بِهِمْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ لَيْلًا طَوِيلًا وَهُوَ يَنْتَخِبُ الْمَوَاضِعَ الَّتِي فِيهَا الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ وَضَعَهُمُ ابْنُ مُطِيعٍ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَسْجِدِ السَّكُونِ أَتَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ خَيْلِ زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ الْجُعْفِيِّ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَمِيرٌ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ فَكَشَفَهُمْ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ جَبَّانَةَ كِنْدَةَ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَا غَضِبْنَا لِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكَ وَثُرْنَا لَهُمْ فَانْصُرْنَا عَلَى هَؤُلَاءِ. ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ هَزَمَهُمْ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى جَبَّانَةَ أُثَيْرٍ، فَتَنَادَوْا بِشِعَارِهِمْ، فَوَقَفَ فِيهَا، فَأَتَاهُ سُوِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمِنْقَرِيُّ وَرَجَا أَنْ يُصِيبَهُمْ فَيَحْظَى بِهَا عِنْدَ ابْنِ مُطِيعٍ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا وَهُوَ مَعَهُ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَصْحَابِهِ: يَا شُرْطَةَ

اللَّهِ انْزِلُوا فَإِنَّكُمْ أَوْلَى بِالنَّصْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ الَّذِينَ خَاضُوا فِي دِمَاءِ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ، فَنَزَلُوا، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ إِلَى الصَّحْرَاءِ فَانْهَزَمُوا، فَرَكِبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهُمْ يَتَلَاوَمُونَ، وَتَبِعَهُمْ حَتَّى أَدْخَلَهُمُ الْكُنَاسَةَ، فَقَالَ لِإِبْرَاهِيمَ أَصْحَابُهُ: اتْبَعْهُمْ وَاغْتَنِمْ مَا دَخَلَهُمْ مِنَ الرُّعْبِ. فَقَالَ: لَا وَلَكِنْ نَأْتِي صَاحِبَنَا يُؤَمِّنُ اللَّهُ بِنَا وَحْشَتَهُ، وَيَعْلَمُ مَا كَانَ مِنْ نَصْرِنَا لَهُ فَيَزْدَادُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ قُوَّةً، مَعَ أَنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُتِيَ. ثُمَّ سَارَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى أَتَى بَابَ الْمُخْتَارِ، فَسَمِعَ الْأَصْوَاتَ عَالِيَةً وَالْقَوْمَ يَقْتَتِلُونَ، وَقَدْ جَاءَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ مِنْ قِبَلِ السَّبَخَةِ، فَعَبَّأَ لَهُ الْمُخْتَارُ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ. وَجَاءَ حَجَّارُ بْنُ أَبْجَرَ الْعِجْلِيُّ فَجَعَلَ الْمُخْتَارُ فِي وَجْهِهِ أَحْمَرَ بْنَ شُمَيْطٍ. فَبَيْنَمَا النَّاسُ يَقْتَتِلُونَ إِذْ جَاءَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ قِبَلِ الْقَصْرِ فَبَلَغَ حَجَّارًا وَأَصْحَابَهُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَدْ أَتَاهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَزِقَّةِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ، وَجَاءَ قَيْسُ بْنُ طِهْفَةَ النَّهْدِيُّ فِي قَرِيبٍ مِنْ مِائَةٍ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ، فَحَمَلَ عَلَى شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ (وَهُوَ يُقَاتِلُ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ، فَخَلَّى لَهُمُ الطَّرِيقَ حَتَّى اجْتَمَعُوا وَأَقْبَلَ شَبَثٌ) إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ وَقَالَ لَهُ: اجْمَعِ الْأُمَرَاءَ الَّذِينَ بِالْجَبَابِينِ وَجَمِيعَ النَّاسِ ثُمَّ أَنْفِذْ إِلَى هَؤُلَاءِ فَقَاتِلْهُمْ، فَإِنَّ أَمْرَهُمْ قَدْ قَوِيَ وَقَدْ خَرَجَ الْمُخْتَارُ وَظَهَرَ وَاجْتَمَعَ لَهُ أَمْرُهُ. فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلُهُ الْمُخْتَارَ خَرَجَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى نَزَلَ فِي ظَهْرِ دَيْرِ هِنْدٍ فِي السَّبَخَةِ وَخَرَجَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ فَنَادَى فِي شَاكِرٍ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي دُورِهِمْ يَخَافُونَ أَنْ يَظْهَرُوا لِقُرْبِ كَعْبٍ الْخَثْعَمِيِّ مِنْهُمْ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ أَفْوَاهَ السِّكَكِ. فَلَمَّا أَتَاهُمْ أَبُو عُثْمَانَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ نَادَى: يَا لَثَارَاتِ الْحُسَيْنِ! يَا مَنْصُورُ أَمِتْ أَمِتْ! يَا أَيُّهَا الْحَيُّ الْمُهْتَدُونَ، إِنَّ أَمِينَ آلِ مُحَمَّدٍ وَوَزِيرَهُمْ قَدْ خَرَجَ فَنَزَلَ دَيْرَ هِنْدٍ وَبَعَثَنِي إِلَيْكُمْ دَاعِيًا وَمُبَشِّرًا، فَاخْرُجُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ! فَخَرَجُوا يَتَدَاعُونَ: يَا لَثَارَاتِ الْحُسَيْنِ! وَقَاتَلُوا كَعْبًا حَتَّى خَلَّى لَهُمُ الطَّرِيقَ، فَأَقْبَلُوا إِلَى الْمُخْتَارِ فَنَزَلُوا مَعَهُ، وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَتَادَةَ فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَتَيْنِ فَنَزَلَ مَعَ الْمُخْتَارِ، وَكَانَ قَدْ تَعَرَّضَ لَهُمْ كَعْبٌ، فَلَمَّا عَرَّفَهُمْ أَنَّهُمْ مِنْ قَوْمِهِ خَلَّى عَنْهُمْ. وَخَرَجَتْ شِبَامٌ، وَهُمْ حَيٌّ مِنْ هَمْدَانَ، مِنْ آخَرِ لَيْلَتِهِمْ، فَبَلَغَ خَبَرُهُمْ

عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيَّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْمُخْتَارَ فَلَا تَمُرُّوا عَلَى جَبَّانَةِ السَّبِيعِ. فَلَحِقُوا بِالْمُخْتَارِ، فَتَوَافَى إِلَى الْمُخْتَارِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَثَمَانُمِائَةٍ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا كَانُوا بَايَعُوهُ، فَاجْتَمَعُوا لَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ تَعْبِيَتِهِ وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ بِغَلَسَ. وَأَرْسَلَ ابْنُ مُطِيعٍ إِلَى الْجَبَابِينِ فَأَمَرَ مَنْ بِهَا أَنْ يَأْتُوا الْمَسْجِدَ، وَأَمَرَ رَاشِدَ بْنَ إِيَاسٍ فَنَادَى فِي النَّاسِ: بَرِئَتِ الذِّمَّةُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَأْتِ الْمَسْجِدَ اللَّيْلَةَ. فَاجْتَمَعُوا فَبَعَثَ ابْنُ مُطِيعٍ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ فِي نَحْوِ ثَلَاثَةِ آلَافٍ إِلَى الْمُخْتَارِ، وَبَعَثَ رَاشِدَ بْنَ إِيَاسٍ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنَ الشُّرَطِ. فَسَارَ شَبَثٌ إِلَى الْمُخْتَارِ، فَبَلَغَهُ خَبَرُهُ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَأَرْسَلَ مَنْ أَتَاهُ بِخَبَرِهِمْ، وَأَتَى إِلَى الْمُخْتَارِ ذَلِكَ الْوَقْتَ سِعْرُ بْنُ أَبِي سِعْرٍ الْحَنَفِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ، لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِتْيَانِهِ إِلَّا تِلْكَ السَّاعَةَ، فَرَأَى رَاشِدَ بْنَ إِيَاسٍ فِي طَرِيقِهِ فَأَخْبَرَ الْمُخْتَارَ خَبَرَهُ أَيْضًا، فَبَعَثَ الْمُخْتَارُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ إِلَى رَاشِدٍ فِي سَبْعِ مِائَةٍ، وَقِيلَ فِي سِتِّمِائَةِ فَارِسٍ وَسِتِّمِائَةِ رَاجِلٍ، وَبَعَثَ نُعَيْمَ بْنَ هُبَيْرَةَ، أَخَا مَصْقَلَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ وَسِتِّمِائَةِ رَاجِلٍ وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَمَرَهُمَا بِتَعْجِيلِ الْقِتَالِ وَأَنْ لَا يُسْتَهْدَفَا لِعَدُوِّهِمَا فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مِنْهُمَا، فَتَوَجَّهَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى رَاشِدٍ، وَقَدَّمَ الْمُخْتَارُ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ فِي مَوْضِعِ مَسْجِدِ شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ فِي تِسْعِمِائَةٍ أَمَامَهُ، فَتَوَجَّهَ نُعَيْمٌ إِلَى شَبَثٍ فَقَاتَلَهُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَجَعَلَ نُعَيْمٌ سِعْرَ بْنَ أَبِي سِعْرٍ عَلَى الْخَيْلِ وَمَشَى هُوَ فِي الرَّجَّالَةِ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ وَانْبَسَطَتْ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ شَبَثٍ حَتَّى دَخَلُوا الْبُيُوتَ، فَنَادَاهُمْ شَبَثٌ وَحَرَّضَهُمْ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، فَحَمَلُوا عَلَى أَصْحَابِ نُعَيْمٍ وَقَدْ تَفَرَّقُوا، فَهَزَمَهُمْ، وَصَبَرَ نُعَيْمٌ فَقُتِلَ، وَأَسِرُ سِعْرُ بْنُ أَبِي سِعْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَطْلَقَ الْعَرَبَ وَقَتَلَ الْمَوَالِي، وَجَاءَ شَبَثٌ حَتَّى أَحَاطَ بِالْمُخْتَارِ، وَكَانَ قَدْ وَهَنَ لِقَتْلِ نُعَيْمٍ. وَبَعَثَ ابْنُ مُطِيعٍ يَزِيدَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ رُوَيْمٍ فِي أَلْفَيْنِ، فَوَقَفُوا فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، وَوَلَّى الْمُخْتَارُ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ خَيْلَهُ وَخَرَجَ هُوَ فِي الرَّجَّالَةِ، فَحَمَلَتْ عَلَيْهِ خَيْلُ شَبَثٍ فَلَمْ يَبْرَحُوا مَكَانَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ: يَا مَعْشَرَ الشِّيعَةِ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تُقْتَلُونَ وَتُقْطَعُ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلُكُمْ وَتُسْمَلُ أَعْيُنُكُمْ وَتُرْفَعُونَ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ فِي حُبِّ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ، وَأَنْتُمْ مُقِيمُونَ فِي بُيُوتِكُمْ وَطَاعَةِ عَدُوِّكُمْ، فَمَا ظَنَّكُمْ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ إِذَا ظَهَرُوا عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ؟ وَاللَّهِ

لَا يَدَعُونَ مِنْكُمْ عَيْنًا تَطْرُفُ، وَلَيُقَتِّلُنَّكُمْ صَبْرًا، وَلَتَرَوْنَ مِنْهُمْ فِي أَوْلَادِكُمْ وَأَزْوَاجِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ مَا الْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَاللَّهِ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْهُمْ إِلَّا الصِّدْقُ وَالصَّبْرُ وَالطَّعْنُ الصَّائِبُ وَالضَّرْبُ الدِّرَاكُ، تَهَيَّئُوا لِلْحَمْلَةِ، فَتَيَسَّرُوا يَنْتَظِرُونَ أَمْرَهُ وَجَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ. وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ فَإِنَّهُ لَقِيَ رَاشِدًا فَإِذَا مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَصْحَابِهِ: لَا يَهُولَنَّكُمْ كَثْرَةُ هَؤُلَاءِ، فَوَاللَّهِ لَرُبَّ رَجُلٍ خَيْرٌ مِنْ عَشْرَةٍ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَقَدِمَ خُزَيْمَةُ بْنُ نَصْرٍ إِلَيْهِمْ فِي الْخَيْلِ، وَنَزَلَ هُوَ يَمْشِي فِي الرَّجَّالَةِ، وَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ لِصَاحِبِ رَايَتِهِ: تَقَدَّمَ بِرَايَتِكَ، امْضِ بِهَؤُلَاءِ وَبِهَا. وَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَحَمَلَ خُزَيْمَةُ بْنُ نَصْرٍ الْعَبْسِيُّ عَلَى رَاشِدٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ نَادَى: قَتَلْتُ رَاشِدًا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ رَاشِدٍ، وَأَقْبَلَ إِبْرَاهِيمُ وَخُزَيْمَةُ وَمَنْ مَعَهُمَا بَعْدَ قَتْلِ رَاشِدٍ نَحْوَ الْمُخْتَارِ، وَأَرْسَلَ الْبَشِيرُ إِلَى الْمُخْتَارِ بِقَتْلِ رَاشِدٍ، فَكَبَّرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَدَخَلَ أَصْحَابَ ابْنِ مُطِيعٍ الْفَشَلُ. وَأَرْسَلَ ابْنُ مُطِيعٍ حَسَّانَ بْنَ فَائِدِ بْنِ بَكْرٍ الْعَبْسِيَّ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ نَحْوِ أَلْفَيْنِ، فَاعْتَرَضَ إِبْرَاهِيمَ لِيَرُدَّهُ عَمَّنْ بِالسَّبَخَةِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مُطِيعٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ، فَانْهَزَمُوا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَتَأَخَّرَ حَسَّانُ يَحْمِي أَصْحَابَهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ خُزَيْمَةُ، فَعَرَفَهُ فَقَالَ: يَا حَسَّانُ لَوْلَا الْقَرَابَةُ لَقَتَلْتُكَ، فَانْجُ بِنَفْسِكَ. فَعَثَرَ بِهِ فَرَسُهُ فَوَقَعَ، فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ، فَقَاتَلَ سَاعَةً، قَالَ لَهُ خُزَيْمَةُ: أَنْتَ آمِنٌ فَلَا تَقْتُلْ نَفْسَكَ، وَكَفَّ عَنْهُ النَّاسُ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: هَذَا ابْنُ عَمِّي وَقَدْ آمَنْتُهُ، فَقَالَ: أَحْسَنْتَ! وَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُحْضِرَ فَأُرْكِبَهُ وَقَالَ: الْحَقْ بِأَهْلِكَ. وَأَقْبَلَ إِبْرَاهِيمُ نَحْوَ الْمُخْتَارِ وَشَبَثُ بْنِ رِبْعِيٍّ مُحِيطٌ بِهِ، فَلَقِيَهُ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ الَّتِي تَلِي السَّبَخَةَ، فَأَقْبَلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ لِيَصُدَّهُ عَنْ شَبَثٍ وَأَصْحَابِهِ، فَبَعَثَ إِبْرَاهِيمُ إِلَيْهِ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ نَصْرٍ وَسَارَ نَحْوَ الْمُخْتَارِ وَشَبِثٍ فِيمَنْ بَقِيَ مَعَهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ حَمَلَ عَلَى شَبَثٍ، وَحَمَلَ يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ، فَانْهَزَمَ شَبَثٌ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ، وَحَمَلَ خُزَيْمَةُ بْنُ نَصْرٍ عَلَى يَزِيدَ بْنِ الْحَارِثِ فَهَزَمَهُ، وَازْدَحَمُوا عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ وَفَوْقَ الْبُيُوتِ وَأَقْبَلَ الْمُخْتَارُ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ رَمَتْهُ الرُّمَاةُ بِالنَّبْلِ فَصَدُّوهُ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى الْكُوفَةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ. وَرَجَعَ النَّاسُ مِنَ السَّبَخَةِ مُنْهَزِمِينَ إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ، وَجَاءَهُ قَتْلُ رَاشِدِ بْنِ إِيَاسٍ فَسَقَطَ فِي يَدِهِ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ الزُّبَيْدِيُّ: أَيُّهَا الرَّجُلُ لَا تُلْقِ بِيَدِكَ وَاخْرُجْ إِلَى النَّاسِ وَانْدُبْهُمْ إِلَى عَدُوِّكَ، فَإِنَّ النَّاسَ كَثِيرٌ وَكُلُّهُمْ مَعَكَ إِلَّا هَذِهِ الطَّائِفَةَ الَّتِي خَرَجَتْ وَاللَّهُ يُخْزِيهَا، وَأَنَا أَوَّلُ مُنْتَدَبٍ، فَانْتَدِبْ مَعِي طَائِفَةً وَمَعَ غَيْرِي طَائِفَةً.

فَخَرَجَ ابْنُ مُطِيعٍ فَقَامَ فِي النَّاسِ وَوَبَّخَهُمْ عَلَى هَزِيمَتِهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُخْتَارِ وَأَصْحَابِهِ. وَلَمَّا رَأَى الْمُخْتَارُ أَنَّهُ قَدْ مَنَعَهُ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ دُخُولِ الْكُوفَةِ عَدَلَ إِلَى بُيُوتٍ مُزَيْنَةَ وَأَحْمَسَ وَبَارِقَ، وَبُيُوتُهُمْ مُنْفَرِدَةٌ، فَسَقَوْا أَصْحَابَهُ الْمَاءَ وَلَمْ يَشْرَبْ هُوَ، فَإِنَّهُ كَانَ صَائِمًا، فَقَالَ أَحْمَرُ بْنُ شُمَيْطٍ لِابْنِ كَامِلٍ: أَتُرَاهُ صَائِمًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَوْ أَفْطَرَ كَانَ أَقْوَى لَهُ. قَالَ: إِنَّهُ مَعْصُومٌ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَصْنَعُ. فَقَالَ أَحْمَرُ: صَدَقْتَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. فَقَالَ الْمُخْتَارُ: نِعْمَ الْمَكَانُ لِلْقِتَالِ هَذَا. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ هَزَمَهُمُ اللَّهُ وَأَدْخَلَ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، سِرْ بِنَا، فَوَاللَّهِ مَا دُونَ الْقَصْرِ مَانِعٌ. فَتَرَكَ الْمُخْتَارُ هُنَاكَ كُلَّ شَيْخٍ ضَعِيفٍ ذِي عِلَّةٍ (وَنَقَلَهُمْ) وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ، وَقَدِمَ إِبْرَاهِيمُ أَمَامَهُ، وَبَعَثَ ابْنُ مُطِيعٍ عَمْرَو بْنَ الْحَجَّاجِ (فِي أَلْفَيْنِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ الْمُخْتَارُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَنِ اطْوِهِ وَلَا تَقُمْ عَلَيْهِ، فَطَوَاهُ وَأَقَامَ، وَأَمَرَ الْمُخْتَارُ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ أَنْ يُوَاقِفَ عَمْرَو بْنَ الْحَجَّاجِ) ، فَمَضَى إِلَيْهِ، وَسَارَ الْمُخْتَارُ فِي أَثَرِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ وَقَفَ فِي مَوْضِعِ مُصَلَّى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَضَى إِبْرَاهِيمُ لِيَدْخُلَ الْكُوفَةَ مِنْ نَحْوِ الْكُنَاسَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ فِي أَلْفَيْنِ، فَسَرَّحَ إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ سَعِيدَ بْنَ مُنْقِذٍ الْهَمْدَانِيَّ فَوَاقَعَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ، فَسَارَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سِكَّةَ شَبَثٍ، فَإِذَا نَوْفَلُ بْنُ مُسَاحِقٍ فِي أَلْفَيْنِ، وَقِيلَ خَمْسَةِ آلَافٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ أَمَرَ ابْنُ مُطِيعٍ مُنَادِيًا فَنَادَى فِي النَّاسِ أَنِ الْحَقُوا بِابْنِ مُسَاحِقٍ. وَخَرَجَ ابْنُ مُطِيعٍ فَوَقَفَ بِالْكُنَاسَةِ وَاسْتَخْلَفَ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ عَلَى الْقَصْرِ، فَدَنَا ابْنُ الْأَشْتَرِ مِنِ ابْنِ مُطِيعٍ فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالنُّزُولِ وَقَالَ لَهُمْ: لَا يَهُولَنَّكُمْ أَنْ يُقَالَ جَاءَ شَبَثٌ وَآلُ عُتَيْبَةَ بْنُ النَّهَّاسِ وَآلُ الْأَشْعَثِ وَآلُ يَزِيدَ بْنُ الْحَارِثِ وَآلُ فُلَانٍ، فَسَمَّى بُيُوتَاتِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ وَجَدُوا حَرَّ السُّيُوفِ لَانْهَزَمُوا عَنِ ابْنِ مُطِيعٍ انْهِزَامَ الْمَعْزَى مِنَ الذِّئْبِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ. وَأَخَذَ ابْنُ الْأَشْتَرِ أَسْفَلَ قَبَائِهِ فَأَدْخَلَهُ فِي مِنْطَقَتِهِ، وَكَانَ الْقَبَاءُ عَلَى الدِّرْعِ، فَلَمْ يَلْبَثُوا حِينَ حَمَلَ عَلَيْهِمْ أَنِ انْهَزَمُوا يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ وَازْدَحَمُوا، وَانْتَهَى ابْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى ابْنِ مُسَاحِقٍ، فَأَخَذَ بِعِنَانِ دَابَّتِهِ وَرَفَعَ السَّيْفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ الْأَشْتَرِ أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنْ إِحْنَةٍ أَوْ تَطْلُبُنِي بِثَأْرٍ؟ فَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَقَالَ:

اذْكُرْهَا. فَكَانَ يَذْكُرُهَا لَهُ. وَدَخَلُوا الْكُنَاسَةَ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى دَخَلُوا السُّوقَ وَالْمَسْجِدَ وَحَصَرُوا ابْنَ مُطِيعٍ وَمَعَهُ الْأَشْرَافُ مِنَ النَّاسِ غَيْرَ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، فَإِنَّهُ أَتَى دَارَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْبَرِّ، وَجَاءَ الْمُخْتَارُ حَتَّى نَزَلَ جَانِبَ السُّوقِ. وَوَلَّى إِبْرَاهِيمَ حِصَارَ الْقَصْرِ وَمَعَهُ يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَرُ بْنُ شُمَيْطٍ، فَحَصَرُوهُمْ ثَلَاثًا، فَاشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ شَبَثٌ لِابْنِ مُطِيعٍ: (انْظُرْ لِنَفْسِكَ وَلِمَنْ مَعَكَ فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَهُمْ غَنَاءٌ عَنْكَ وَلَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ. فَقَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ. فَقَالَ شَبَثٌ) : الرَّأْيُ أَنْ تَأْخُذَ لِنَفْسِكَ وَلَنَا أَمَانًا وَنَخْرُجَ وَلَا تُهْلِكَ نَفْسَكَ وَمَنْ مَعَكَ. فَقَالَ ابْنُ مُطِيعٍ: إِنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ آخُذَ مِنْهُ أَمَانًا، وَالْأُمُورُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَقِيمَةٌ بِالْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ. قَالَ: فَتَخْرُجُ وَلَا يَشْعُرُ بِكَ أَحَدٌ، فَتَنْزِلُ بِالْكُوفَةِ عِنْدَ مَنْ تَثِقُ بِهِ حَتَّى تَلْحَقَ بِصَاحِبِكَ. وَأَشَارَ بِذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدٍ وَأَسْمَاءُ بْنُ خَارِجَةَ وَابْنُ مِخْنَفٍ وَأَشْرَافُ الْكُوفَةِ، فَأَقَامَ حَتَّى أَمْسَى وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الَّذِينَ صَنَعُوا هَذَا بِكُمْ أَرَاذِلُكُمْ وَأَخِسَّاؤُكُمْ وَأَنَّ أَشْرَافَكُمْ وَأَهْلَ الْفَضْلِ مِنْكُمْ سَامِعُونَ مُطِيعُونَ، وَأَنَا مُبَلِّغٌ ذَلِكَ صَاحِبِي وَمُعْلِمُهُ طَاعَتَكُمْ وَجِهَادَكُمْ حَتَّى كَانَ اللَّهُ الْغَالِبَ عَلَى أَمْرِهِ. فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا. وَخَرَجَ عَنْهُمْ وَأَتَى دَارَ أَبِي مُوسَى، (فَجَاءَ ابْنُ الْأَشْتَرِ وَنَزَلَ) الْقَصْرَ، فَفَتَحَ أَصْحَابُهُ الْبَابَ وَقَالُوا: يَا ابْنَ الْأَشْتَرِ آمَنُونَ نَحْنُ؟ قَالَ: أَنْتُمْ آمِنُونَ. فَخَرَجُوا فَبَايَعُوا الْمُخْتَارَ، وَدَخَلَ الْمُخْتَارُ الْقَصْرَ فَبَاتَ فِيهِ، وَأَصْبَحَ أَشْرَافُ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ وَعَلَى بَابِ الْقَصْرِ، وَخَرَجَ الْمُخْتَارُ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَعَدَ وَلِيَّهُ النَّصْرَ وَعَدُوَّهُ الْخُسْرَ، وَجَعَلَهُ فِيهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ وَعْدًا مَفْعُولًا وَقَضَاءً مَقْضِيًّا، وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى، أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا رُفِعَتْ لَنَا رَايَةٌ وَمُدَّتْ لَنَا غَايَةٌ، فَقِيلَ لَنَا فِي الرَّايَةِ أَنِ ارْفَعُوهَا وَفِي الْغَايَةِ أَنِ اجْرُوا إِلَيْهَا وَلَا تَعْدُوهَا، فَسَمِعْنَا دَعْوَةَ الدَّاعِي وَمَقَالَةَ الْوَاعِي، فَكَمْ مِنْ نَاعٍ وَنَاعِيَةٍ لِقَتْلَى فِي الْوَاعِيَةِ، وَبُعْدًا لِمَنْ طَغَى وَأَدْبَرَ وَعَصَى وَكَذَّبَ وَتَوَلَّى، أَلَا فَادْخُلُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَبَايِعُوا بَيْعَةَ هُدًى، فَلَا وَالَّذِي

جَعَلَ السَّمَاءَ سَقْفًا مَكْفُوفًا، وَالْأَرْضَ فِجَاجًا سُبُلًا، مَا بَايَعْتُمْ بَعْدَ بَيْعَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَآلِ عَلِيٍّ أَهْدَى مِنْهَا! ثُمَّ نَزَلَ وَدَخَلَ عَلَيْهِ أَشْرَافُ الْكُوفَةِ فَبَايَعُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالطَّلَبِ بِدِمَاءِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَجِهَادِ الْمُحِلِّينَ، وَالدَّفْعِ عَنِ الضُّعَفَاءِ، وَقِتَالِ مَنْ قَاتَلَنَا، وَسِلْمِ مَنْ سَالَمَنَا. وَكَانَ مِمَّنْ بَايَعَهُ الْمُنْذِرُ بْنُ حَسَّانَ وَابْنُهُ حَسَّانُ، فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ اسْتَقْبَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مُنْقِذٍ الثَّوْرِيُّ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الشِّيعَةِ، فَلَمَّا رَأَوْهُمَا قَالُوا: هَذَانِ وَاللَّهِ مِنْ رُءُوسِ الْجَبَّارِينَ، فَقَتَلُوا الْمُنْذِرَ وَابْنَهُ حَسَّانَ، فَنَهَاهُمْ سَعِيدٌ حَتَّى يَأْخُذُوا أَمْرَ الْمُخْتَارِ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُخْتَارُ ذَلِكَ كَرِهَهُ، وَأَقْبَلَ الْمُخْتَارُ يُمَنِّي النَّاسَ، وَيَسْتَجِرُّ مَوَدَّةَ الْأَشْرَافِ، وَيُحْسِنُ السِّيرَةَ. وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ مُطِيعٍ فِي دَارِ أَبِي مُوسَى، فَسَكَتَ، فَلَمَّا أَمْسَى بَعَثَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ: تَجَهَّزْ بِهَذِهِ فَقَدْ عَلِمْتُ مَكَانَكَ، وَأَنَّكَ لَمْ يَمْنَعْكَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَّا عَدَمُ النَّفَقَةِ. وَكَانَ بَيْنَهُمَا صَدَاقَةٌ. وَوَجَدَ الْمُخْتَارُ فِي بَيْتِ الْمَالِ تِسْعَةَ آلَافِ أَلْفٍ، (فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ الَّذِينَ قَاتَلَ بِهِمْ حِينَ حَصَرَ ابْنَ مُطِيعٍ فِي الْقَصْرِ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ [آلَافٍ] وَخَمْسُمِائَةٍ) ، لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَعْطَى سِتَّةَ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَتَوْهُ بَعْدَمَا أَحَاطَ بِالْقَصْرِ، وَأَقَامُوا مَعَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَتِلْكَ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ مِائَتَيْنِ مِائَتَيْنِ، وَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِخَيْرٍ، وَجَعَلَ الْأَشْرَافَ جُلَسَاءَهُ، وَجَعَلَ عَلَى شُرَطَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَامِلٍ الشَّاكِرِيَّ، وَعَلَى حَرَسِهِ كَيْسَانَ أَبَا عَمْرَةَ. فَقَامَ أَبُو عَمْرَةَ عَلَى رَأْسِهِ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى الْأَشْرَافِ بِحَدِيثِهِ وَوَجْهِهِ، فَقَالَ لِأَبِي عَمْرَةَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمَوَالِي: أَمَا تَرَى أَبَا إِسْحَاقَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى الْعَرَبِ مَا يَنْظُرُ إِلَيْنَا؟ فَسَأَلَهُ الْمُخْتَارُ عَمَّا قَالُوا، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَأَنْتُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْكُمْ، وَسَكَتَ طَوِيلًا ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22] . فَلَمَّا سَمِعُوهَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَبْشِرُوا، كَأَنَّكُمْ وَاللَّهِ قَدْ قُتِلْتُمْ. يَعْنِي الرُّؤَسَاءَ. وَكَانَ أَوَّلُ رَايَةٍ عَقَدَهَا الْمُخْتَارُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَخِي الْأَشْتَرِ عَلَى أَرْمِينِيَّةَ، وَبَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ عُطَارِدٍ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَبَعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ عَلَى الْمَوْصِلِ، وَبَعَثَ إِسْحَاقَ بْنَ مَسْعُودٍ عَلَى الْمَدَائِنِ وَأَرْضِ جُوخَى، وَبَعَثَ قُدَامَةَ بْنَ

أَبِي عِيسَى بْنِ زَمْعَةَ النَّصْرِيَّ حَلِيفَ ثَقِيفٍ عَلَى بِهْقُبَاذَ الْأَعْلَى، وَبَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبِ بْنِ قَرَظَةَ عَلَى بِهْقُبَاذَ الْأَوْسَطِ، وَبَعَثَ سَعْدَ بْنَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَلَى حُلْوَانَ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ الْأَكْرَادِ وَإِقَامَةِ الطُّرُقِ. وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَوْصِلِ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، فَلَمَّا وَلِيَ الْمُخْتَارُ وَبَعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَعِيدٍ إِلَى الْمَوْصِلِ أَمِيرًا سَارَ مُحَمَّدٌ عَنْهَا إِلَى تَكْرِيتَ، يَنْظُرُ مَا يَكُونُ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْمُخْتَارِ فَبَايَعَهُ. فَلَمَّا فَرَغَ الْمُخْتَارُ مِمَّا يُرِيدُ صَارَ يَجْلِسُ لِلنَّاسِ وَيَقْضِي بَيْنَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ لِي فِيمَا أُحَاوِلُ لَشُغْلًا عَنِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ أَقَامَ شُرَيْحًا يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ خَافَهُمْ شُرَيْحٌ فَتَمَارَضَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ عُثْمَانِيٌّ، وَإِنَّهُ شَهِدَ عَلَى حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، وَإِنَّهُ لَمْ يُبْلِغْ هَانِئَ بْنَ عُرْوَةَ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، وَإِنَّ عَلِيًّا عَزَلَهُ عَنِ الْقَضَاءِ. فَلَمَّا بَلَغَ شُرَيْحًا ذَلِكَ مِنْهُمْ تَمَارَضَ، فَجَعَلَ الْمُخْتَارُ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَرِضَ، فَجَعَلَ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَالِكٍ الطَّائِيَّ. ذِكْرُ قَتْلِ الْمُخْتَارِ قَتَلَةَ الْحُسَيْنِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ الْمُخْتَارُ بِمَنْ بِالْكُوفَةِ مِنْ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ لَمَّا اسْتَوْسَقَ لَهُ الشَّامُ بَعَثَ جَيْشَيْنِ: أَحَدُهُمَا إِلَى الْحِجَازِ عَلَيْهِ حُبَيْشُ بْنُ دَلَجَةَ الْقَيْنِيُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَمْرَهُ وَقَتْلَهُ، وَالْجَيْشُ الْآخَرُ إِلَى الْعِرَاقِ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ التَّوَّابِينَ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ لِابْنِ زِيَادٍ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَبَ الْكُوفَةَ ثَلَاثًا، فَاحْتُبِسَ بِالْجَزِيرَةِ وَبِهَا قَيْسُ عَيْلَانَ مَعَ زُفَرَ بْنِ الْحَارِثِ عَلَى طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَمْ يَزَلْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مُشْتَغِلًا بِهِمْ عَنِ الْعِرَاقِ نَحْوَ سَنَةٍ. فَتُوُفِّيَ مَرْوَانُ وَوُلِّيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، فَأَقَرَّ ابْنَ زِيَادٍ عَلَى مَا كَانَ أَبُوهُ وَلَّاهُ، وَأَمَرَهُ بِالْجِدِّ فِي أَمْرِهِ. فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْهُ فِي زُفَرَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قَيْسٍ شَيْءٌ أَقْبَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَكَتَبَ

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدٍ عَامِلُ الْمُخْتَارِ إِلَى الْمُخْتَارِ يُخْبِرُهُ بِدُخُولِ ابْنِ زِيَادٍ أَرْضَ الْمَوْصِلِ، وَأَنَّهُ قَدْ تَنَحَّى لَهُ عَنِ الْمَوْصِلِ إِلَى تَكْرِيتَ. فَدَعَا الْمُخْتَارُ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ الْأَسَدِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَيَنْزِلَ بِأَدَانِي أَرْضِهَا حَتَّى يَمُدَّهُ بِالْجُنُودِ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: خَلِّنِي أَنْتَخِبُ ثَلَاثَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَخَلِّنِي مِمَّا تُوَجِّهُنِي إِلَيْهِ، فَإِنِ احْتَجْتُ كَتَبْتُ إِلَيْكَ أَسْتَمِدُّكَ. فَأَجَابَهُ الْمُخْتَارُ، فَانْتَخَبَ لَهُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَسَارَ عَنِ الْكُوفَةِ، وَسَارَ مَعَهُ الْمُخْتَارُ وَالنَّاسُ يُشَيِّعُونَهُ، فَلَمَّا وَدَّعَهُ قَالَ لَهُ: إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ فَلَا تُنَاظِرْهُمْ، وَإِذَا مَكَّنَتْكَ الْفُرْصَةُ فَلَا تُؤَخِّرْهَا، وَلْيَكُنْ خَبَرُكَ كُلَّ يَوْمٍ عِنْدِي، وَإِنِ احْتَجْتَ إِلَى مَدَدٍ فَاكْتُبْ إِلَيَّ، مَعَ أَنِّي مُمِدُّكَ وَإِنْ لَمْ تَسْتَمِدَّ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ لِعَضُدِكَ، وَأَرْعَبُ لِعَدُوِّكَ. وَدَعَا لَهُ النَّاسُ بِالسَّلَامَةِ، وَدَعُوا لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: اسْأَلُوا اللَّهَ لِي بِالشَّهَادَةِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ فَاتَنِيَ النَّصْرُ لَا تَفُوتُنِي الشَّهَادَةُ. فَكَتَبَ الْمُخْتَارُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ أَنْ خَلِّ بَيْنَ يَزِيدَ وَبَيْنَ الْبِلَادِ. فَسَارَ يَزِيدُ إِلَى الْمَدَائِنِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى أَرْضِ جُوخَى وَالرَّاذَانَاتِ إِلَى أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَنَزَلَ بِبَاتِلَى، وَبَلَغَ خَبَرُهُ ابْنَ زِيَادٍ، فَقَالَ: لَأَبْعَثَنَّ إِلَى كُلِّ أَلْفٍ أَلْفَيْنِ. فَأَرْسَلَ رَبِيعَةَ بْنَ مُخَارِقٍ الْغَنَوِيَّ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُمْلَةَ الْخَثْعَمِيَّ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَسَارَ رَبِيعَةُ قَبْلَ عَبْدِ اللَّهِ بِيَوْمٍ فَنَزَلَ بِيَزِيدَ بْنِ أَنَسٍ (بِبَاتِلَى، فَخَرَجَ يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ) وَهُوَ مَرِيضٌ شَدِيدُ الْمَرَضِ، رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ يُمْسِكُهُ الرِّجَالُ، فَوَقَفَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَعَبَّأَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَقَالَ: إِنْ هَلَكْتُ فَأَمِيرُكُمْ وَرْقَاءُ بْنُ الْعَازِبِ الْأَسَدِيُّ، فَإِنْ هَلَكَ فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ضَمْرَةَ الْعُذْرِيُّ، فَإِنْ هَلَكَ فَأَمِيرُكُمْ سِعْرُ بْنُ أَبِي سِعْرٍ الْحَنَفِيُّ، وَجَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ سِعْرًا، وَعَلَى الْخَيْلِ وَرْقَاءَ، وَنَزَلَ هُوَ، فَوُضِعَ بَيْنَ الرِّجَالِ عَلَى سَرِيرٍ، وَقَالَ: قَاتِلُوا عَنْ أَمِيرِكُمْ إِنْ شِئْتُمْ أَوْ فِرُّوا عَنْهُ. وَهُوَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِمَا يَفْعَلُونَ، ثُمَّ يُغْمَى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُفِيقُ. وَاقْتَتَلَ النَّاسُ عِنْدَ فَلَقِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ إِلَى ارْتِفَاعِ الضُّحَى، فَانْهَزَمَ أَهْلُ الشَّامِ وَأُخِذَ عَسْكَرُهُمْ، وَانْتَهَى أَصْحَابُ يَزِيدَ إِلَى رَبِيعَةَ بْنِ مُخَارِقٍ وَقَدِ انْهَزَمَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَهُوَ نَازِلٌ يُنَادِي: يَا أَوْلِيَاءَ الْحَقِّ، أَنَا ابْنُ مُخَارِقٍ، إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ الْعَبِيدَ الْأُبَّاقَ وَمَنْ تَرَكَ الْإِسْلَامَ وَخَرَجَ مِنْهُ! فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ، فَقَاتَلُوا مَعَهُ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، ثُمَّ انْهَزَمَ أَهْلُ الشَّامِ وَقُتِلَ رَبِيعَةُ بْنُ مُخَارِقٍ، وَقَتَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَرْقَاءَ الْأَسَدِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ضَمْرَةَ

الْعُذْرِيُّ، فَلَمْ يَسِرِ الْمُنْهَزِمُونَ غَيْرَ سَاعَةٍ حَتَّى لَقِيَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَمَلَةَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ فَرَدَّ مَعَهُ الْمُنْهَزِمِينَ. وَنَزَلَ يَزِيدُ بِبَاتِلَى، فَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ يَتَحَارَسُونَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا يَوْمَ الْأَضْحَى خَرَجُوا إِلَى الْقِتَالِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ نَزَلُوا فَصَلُّوا الظُّهْرَ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى الْقِتَالِ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ الشَّامِ وَتُرِكَ ابْنُ جَمَلَةَ فِي جَمَاعَةٍ، فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَحَمَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُرَادٍ الْخَثْعَمِيُّ فَقَتَلَهُ، وَحَوَى أَهْلُ الْكُوفَةِ عَسْكَرَهُمْ، وَقَتَلُوا فِيهِمْ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَأَسَرُوا مِنْهُمْ ثَلَاثَمِائَةِ أَسِيرٍ، وَأَمَرَ يَزِيدُبْنُ أَنَسٍ بِقَتْلِهِمْ، وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ، فَقُتِلُوا، ثُمَّ مَاتَ آخِرَ النَّهَارِ، فَدَفَنَهُ أَصْحَابُهُ وَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ. وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ وَرْقَاءَ بْنَ عَازِبٍ الْأَسَدِيَّ، فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ، فَأَشِيرُوا عَلَيَّ، فَإِنِّي لَا أَرَى لَنَا بِأَهْلِ الشَّامِ طَاقَةً عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَقَدْ هَلَكَ يَزِيدُ وَتَفَرَّقَ عَنَّا بَعْضُ مَنْ مَعَنَا، فَلَوِ انْصَرَفْنَا الْيَوْمَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا لَقَالُوا: إِنَّمَا رَجَعْنَا عَنْهُمْ لِمَوْتِ أَمِيرِنَا، وَلَمْ يَزَالُوا لَنَا هَائِبِينَ، وَإِنْ لَقِينَاهُمُ الْيَوْمَ كُنَّا مُخَاطِرِينَ، فَإِنْ هَزَمُونَا الْيَوْمَ لَمْ تَنْفَعْنَا هَزِيمَتُنَا إِيَّاهُمْ بِالْأَمْسِ. فَقَالُوا: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ. فَانْصَرَفُوا. فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُخْتَارَ وَأَهْلَ الْكُوفَةِ، فَأَرْجَفَ النَّاسُ بِالْمُخْتَارِ وَقَالُوا: إِنَّ يَزِيدَ قُتِلَ، وَلَمْ يُصَدِّقُوا أَنَّهُ مَاتَ. فَدَعَا الْمُخْتَارُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ، وَأَمَّرَهُ عَلَى سَبْعَةِ آلَافٍ وَقَالَ لَهُ: سِرْ، فَإِذَا لَقِيتَ جَيْشَ يَزِيدَبْنِ أَنَسٍ فَأَنْتَ الْأَمِيرُ عَلَيْهِمْ، فَارْدُدْهُمْ مَعَكَ حَتَّى تَلْقَى ابْنَ زِيَادٍ وَأَصْحَابَهُ فَتُنَاجِزَهُمْ. فَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ فَعَسْكَرَ بِحَمَّامِ أَعْيَنَ وَسَارَ، فَلَمَّا سَارَ اجْتَمَعَ أَشْرَافُ الْكُوفَةِ عِنْدَ شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ وَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ الْمُخْتَارَ تَأَمَّرَ عَلَيْنَا بِغَيْرِ رِضًى مِنَّا، وَلَقَدْ أَدْنَى مَوَالِينَا، فَحَمَلَهُمْ عَلَى الدَّوَابِّ وَأَعْطَاهُمْ فَيْئَنَا. وَكَانَ شَبَثٌ شَيْخَهُمْ، وَكَانَ جَاهِلِيًّا إِسْلَامِيًّا، فَقَالَ لَهُمْ شَبَثٌ: دَعُونِي حَتَّى أَلْقَاهُ. فَذَهَبَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا أَنْكَرُوهُ إِلَّا ذَكَرَهُ لَهُ، فَأَخَذَ لَا يَذْكُرُ خَصْلَةً إِلَّا قَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ: أَنَا أُرْضِيهِمْ فِي هَذِهِ الْخَصْلَةِ، وَآتِي لَهُمْ كُلَّ مَا أَحَبُّوا. وَذَكَرَ لَهُ الْمَوَالِيَ وَمُشَارَكَتَهُمْ فِي الْفَيْءِ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ أَنَا تَرَكْتُ مَوَالِيَكُمْ، وَجَعَلْتُ فَيْئَكُمْ لَكُمْ، تُقَاتِلُونَ مَعِي

بَنِي أُمَيَّةَ وَابْنَ الزُّبَيْرِ، وَتُعْطُونِي عَلَى الْوَفَاءِ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ، وَمَا أَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ مِنَ الْأَيْمَانِ؟ فَقَالَ شَبَثٌ: حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى أَصْحَابِي، فَأَذْكُرَ لَهُمْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، وَأُجْمِعَ رَأْيُهُمْ عَلَى قِتَالِهِ. فَاجْتَمَعَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ، وَشَمِرٌ - حَتَّى دَخَلُوا عَلَى كَعْبِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ الْخَثْعَمِيِّ، فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ، فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ الْأَزْدِيِّ، فَدَعَوْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ أَطَعْتُمُونِي لَمْ تَخْرُجُوا. فَقَالُوا لَهُ: لِمَ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي أَخَافُ أَنْ تَتَفَرَّقُوا وَتَخْتَلِفُوا، وَمَعَ الرَّجُلِ شُجْعَانُكُمْ وَفُرْسَانُكُمْ مِثْلَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، ثُمَّ مَعَهُ عَبِيدُكُمْ وَمَوَالِيكُمْ، وَكَلِمَةُ هَؤُلَاءِ وَاحِدَةٌ، وَمَوَالِيكُمْ أَشُدُّ حَنَقًا عَلَيْكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، فَهُمْ مُقَاتِلُوكُمْ بِشَجَاعَةِ الْعَرَبِ وَعَدَاوَةِ الْعَجَمِ، وَإِنِ انْتَظَرْتُمُوهُ قَلِيلًا كُفِيتُمُوهُ بِقُدُومِ أَهْلِ الشَّامِ، (أَوْ مَجِيءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَتَكُونُوا قَدْ كُفِيتُمُوهُ) بِغَيْرِكُمْ، وَلَمْ تَجْعَلُوا بَأْسَكُمْ بَيْنَكُمْ. فَقَالُوا: نَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تُخَالِفَنَا وَتُفْسِدَ عَلَيْنَا رَأَيْنَا، وَمَا أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ! فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ، فَإِذَا شِئْتُمْ فَاخْرُجُوا. فَوَثَبُوا بِالْمُخْتَارِ بَعْدَ مَسِيرِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ، وَخَرَّجُوا بِالْجَبَابِينَ، كُلُّ رَئِيسٍ بِجَبَّانَةٍ. فَلَمَّا بَلَغَ الْمُخْتَارَ خُرُوجُهُمْ أَرْسَلَ قَاصِدًا مُجِدًّا إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ، فَلَحِقَهُ وَهُوَ بِسَابَاطَ يَأْمُرُهُ بِالرُّجُوعِ وَالسُّرْعَةِ، وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ: أَخْبِرُونِي مَاذَا تُرِيدُونَ، فَإِنِّي صَانِعٌ كُلَّ مَا أَحْبَبْتُمْ. قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَعْتَزِلَنَا، فَإِنَّكَ زَعَمْتَ أَنَّ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ بَعَثَكَ، وَلَمْ يَبْعَثْكَ. قَالَ: فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ وَفْدًا مِنْ قِبَلِكُمْ، وَأُرْسِلُ أَنَا إِلَيْهِ وَفْدًا، ثُمَّ انْظُرُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى يَظْهَرَ لَكُمْ. وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُرَيِّثَهُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَكَفُّوا أَيْدِيَهُمْ، وَقَدْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبِيعٍ فِي الْمَيْدَانِ، فَقَاتَلَهُ بَنُو شَاكِرٍ قِتَالًا شَدِيدًا، فَجَاءَهُ عُقْبَةُ بْنُ طَارِقٍ الْجُشَمِيُّ فَقَاتَلَ مَعَهُ سَاعَةً حَتَّى رَدَّهُمْ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلُ فَنَزَلَ عُقْبَةُ مَعَ شَمِرٍ وَمَعَهُ قَيْسُ عَيْلَانَ فِي جَبَّانَةِ سَلُولَ، وَنَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبِيعٍ مَعَ أَهْلِ الْيَمَنِ فِي جَبَّانَةِ السَّبِيعِ. وَلَمَّا سَارَ رَسُولُ الْمُخْتَارِ وَصَلَ إِلَى ابْنِ الْأَشْتَرِ عَشِيَّةَ يَوْمِهِ، فَرَجَعَ ابْنُ الْأَشْتَرِ بَقِيَّةَ

عَشِيَّتِهِ (تِلْكَ، ثُمَّ نَزَلَ حِينَ) أَمْسَى، [فَتَعَشَّى أَصْحَابُهُ] وَأَرَاحُوا دَوَابَّهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ سَارَ لَيْلَتَهُ كُلَّهَا وَمِنَ الْغَدِ، فَوَصَلَ الْعَصْرَ وَبَاتَ لَيْلَتَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ أَهْلُ الْقُوَّةَ. وَلَمَّا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْيَمَنِ بِجَبَّانَةِ السَّبِيعِ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَكَرِهَ كُلُّ رَأْسٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ صَاحِبُهُ، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مِخْنَفٍ: هَذَا أَوَّلُ الِاخْتِلَافِ، قَدِّمُوا الرِّضَى فِيكُمْ سَيِّدَ الْقُرَّاءِ رَفَاعَةَ بْنَ شَدَّادٍ الْبَجَلِيَّ. فَفَعَلُوا، فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي بِهِمْ حَتَّى كَانَتِ الْوَقْعَةُ. ثُمَّ إِنَّ الْمُخْتَارَ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ فِي السُّوقِ، وَلَيْسَ فِيهِ بُنْيَانٌ، فَأَمَرَ ابْنَ الْأَشْتَرِ فَسَارَ إِلَى مُضَرَ وَعَلَيْهِمْ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ عُطَارِدٍ، وَهُمْ بِالْكُنَاسَةِ، وَخَشِيَ أَنْ يُرْسِلَهُ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، فَلَا يُبَالِغُ فِي قِتَالِ قَوْمِهِ. وَسَارَ الْمُخْتَارُ نَحْوَ أَهْلِ الْيَمَنِ بِجَبَّانَةِ السَّبِيعِ، وَوَقَفَ عِنْدَ دَارِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَسَرَّحَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَحْمَرَ بْنَ شُمَيْطٍ الْبَجَلِيَّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَامِلٍ الشَّاكِرِيَّ، وَأَمَرَ كُلًّا مِنْهُمَا بِلُزُومِ طَرِيقٍ ذَكَرَهُ لَهُ يَخْرُجُ إِلَى جَبَّانَةِ السَّبِيعِ، وَأَسَرَّ إِلَيْهِمَا أَنَّ شِبَامًا قَدْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ يُخْبِرُونَهُ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ الْقَوْمَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَمَضَيَا كَمَا أَمَرَهُمَا. فَبَلَغَ أَهْلَ الْيَمَنِ مَسِيرُهُمَا، فَافْتَرَقُوا إِلَيْهِمَا، وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ، ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ أَحْمَرَ بْنِ شُمَيْطٍ وَأَصْحَابُ ابْنِ كَامِلٍ، وَوَصَلُوا إِلَى الْمُخْتَارِ، فَقَالَ: مَا وَرَاءَكُمْ؟ قَالُوا: هُزِمْنَا، وَقَدْ نَزَلَ أَحْمَرُ بْنُ شُمَيْطٍ وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ ابْنِ كَامِلٍ: مَا نَدْرِي مَا فَعَلَ ابْنُ كَامِلٍ. فَأَقْبَلَ بِهِمُ الْمُخْتَارُ نَحْوَ الْقَوْمِ حَتَّى بَلَغَ دَارَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ، فَوَقَفَ، ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قُرَادٍ الْخَثْعَمِيَّ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى ابْنِ كَامِلٍ وَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانَ قَدْ هَلَكَ فَأَنْتَ مَكَانَهُ وَقَاتِلِ الْقَوْمَ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا فَاتْرُكْ عِنْدَهُ ثَلَاثَمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِكَ، وَامْضِ فِي مِائَةٍ حَتَّى تَأْتِيَ جَبَّانَةَ السَّبِيعِ، فَتَأْتِيَ أَهْلَهَا مِنْ نَاحِيَةِ حَمَّامِ قَطَنٍ. فَمَضَى فَوَجَدَ ابْنَ كَامِلٍ يُقَاتِلُهُمْ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ صَبَرُوا مَعَهُ، فَتَرَكَ عِنْدَهُ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَسَارَ فِي مِائَةٍ حَتَّى أَتَى مَسْجِدَ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَظْهَرَ الْمُخْتَارُ، وَأَكْرَهُ أَنْ تَهْلِكَ أَشْرَافُ عَشِيرَتِي الْيَوْمَ، وَوَاللَّهِ لَأَنْ أَمُوتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَهْلِكُوا عَلَى يَدَيَّ، وَلَكِنْ قِفُوا، فَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّ شِبَامًا يَأْتُونَهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَلَعَلَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَنُعَافَى نَحْنُ مِنْهُ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عِنْدَ مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ.

وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ مَالِكَ بْنَ عَمْرٍو النَّهْدِيَّ، وَكَانَ شُجَاعًا، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَرِيكٍ النَّهْدِيَّ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى أَحْمَرَ بْنِ شُمَيْطٍ، فَانْتَهَوْا إِلَيْهِ وَقَدْ عَلَاهُ الْقَوْمُ وَكَثُرُوهُ، فَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا ابْنُ الْأَشْتَرِ، فَإِنَّهُ مَضَى إِلَى مُضَرَ فَلَقِيَ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ وَمَنْ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: وَيْحَكُمُ انْصَرِفُوا، فَمَا أُحِبُّ أَنْ يُصَابَ مِنْ مُضَرَ عَلَى يَدَيَّ. فَأَبَوْا وَقَاتَلُوهُ، فَهَزَمَهُمْ، وَجُرِحَ حَسَّانُ بْنُ فَائِدٍ الْعَبْسِيُّ، فَحُمِلَ إِلَى أَهْلِهِ فَمَاتَ، فَكَانَ مَعَ شَبَثٍ، وَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ إِلَى الْمُخْتَارِ بِهَزِيمَةِ مُضَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَحْمَرَ بْنِ شُمَيْطٍ وَابْنِ كَامِلٍ يُبَشِّرُهُمَا، فَاشْتَدَّ أَمْرُهُمَا. فَاجْتَمَعَ شِبَامٌ، وَقَدْ رَأَّسُوا عَلَيْهِمْ أَبَا الْقَلُوصِ، لِيَأْتُوا أَهْلَ الْيَمَنِ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَوْ جَعَلْتُمْ جِدَّكُمْ عَلَى مُضَرَ وَرَبِيعَةَ لَكَانَ أَصْوَبَ، وَأَبُو الْقَلُوصِ سَاكِتٌ، فَقَالُوا: مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] . فَسَارُوا مَعَهُ نَحْوَ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى جَبَّانَةِ السَّبِيعِ لَقِيَهُمْ عَلَى فَمِ السِّكَّةِ الْأَعْسَرُ الشَّاكِرِيُّ، فَقَتَلُوهُ وَنَادُوا فِي الْجَبَّانَةِ، وَقَدْ دَخَلُوهَا: يَا لِثَارَاتِ الْحُسَيْنِ! فَسَمِعَهَا يَزِيدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ ذِي مُرَّانَ الْهَمْدَانِيُّ فَقَالَ: يَا لِثَارَاتِ عُثْمَانَ! فَقَالَ لَهُمْ رِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ: مَا لَنَا وَلِعُثْمَانَ! لَا أُقَاتِلُ مَعَ قَوْمٍ يَبْغُونَ دَمَ عُثْمَانَ. فَقَالَ لَهُ نَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ: جِئْتَ بِنَا وَأَطَعْنَاكَ، حَتَّى إِذَا رَأَيْنَا قَوْمَنَا تَأْخُذُهُمُ السُّيُوفُ قُلْتَ: انْصَرِفُوا وَدَعُوهُمْ! فَعَطَفَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ، شِعْرٌ: أَنَا ابْنُ شَدَّادٍ عَلَى دِينِ عَلِي ... لَسْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ أَرْوَى بِوَلِي لَأَصْلِيَنَّ الْيَوْمَ فِيمَنْ يَصْطَلِي ... بِحَرِّ نَارِ الْحَرْبِ غَيْرُ مُؤْتَلِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَكَانَ رِفَاعَةُ مَعَ الْمُخْتَارِ، فَلَمَّا رَأَى كَذِبَهُ أَرَادَ قَتْلَهُ غِيلَةً، قَالَ: فَمَنَعَنِي قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنِ ائْتَمَنَهُ رَجُلٌ عَلَى دَمِهِ فَقَتَلَهُ، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ» .

فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ قَاتَلَ مَعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا سَمِعَ يَزِيدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: يَا لِثَارَاتِ عُثْمَانَ - عَادَ عَنْهُمْ، فَقَاتَلَ مَعَ الْمُخْتَارِ حَتَّى قُتِلَ، وَقُتِلَ يَزِيدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ ذِي مُرَّانَ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ صَهْبَانَ الْجَرْمِيُّ، وَكَانَ نَاسِكًا، وَقُتِلَ الْفُرَاتُ بْنُ زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ، وَجُرِحَ أَبُوهُ زَحْرٌ، وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ، وَقُتِلَ عُمَرُ بْنُ مِخْنَفٍ، وَقَاتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مِخْنَفٍ حَتَّى جُرِحَ، وَحَمَلَتْهُ الرِّجَالُ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَمَا يَشْعُرُ، وَقَاتَلَ حَوْلَهُ رِجَالٌ مِنَ الْأَزْدِ، وَانْهَزَمَ أَهْلُ الْيَمَنِ هَزِيمَةً قَبِيحَةً، وَأَخَذَ مِنْ دُورِ الْوَادِعِيِّينَ خَمْسَمِائَةِ أَسِيرٍ، فَأَتَى بِهِمُ الْمُخْتَارَ مُكَتَّفِينَ، فَأَمَرَ الْمُخْتَارُ بِإِحْضَارِهِمْ وَعَرْضِهِمْ عَلَيْهِ، وَقَالَ: انْظُرُوا مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ قَتْلَ الْحُسَيْنِ فَأَعْلِمُونِي. فَقَتَلَ كُلَّ مَنْ شَهِدَ قَتْلَ الْحُسَيْنِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ قَتِيلًا، وَأَخَذَ أَصْحَابُهُ يَقْتُلُونَ كُلَّ مَنْ كَانَ يُؤْذِيهِمْ. فَلَمَّا سَمِعَ الْمُخْتَارُ بِذَلِكَ أَمَرَ بِإِطْلَاقِ كُلِّ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْأُسَارَى، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمَوَاثِيقَ أَنْ لَا يُجَامِعُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَلَا يَبْغُوهُ وَأَصْحَابَهُ غَائِلَةً، وَنَادَى مُنَادِي الْمُخْتَارِ: مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، إِلَّا مَنْ شَرِكَ فِي دِمَاءِ آلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ الزُّبَيْدِيُّ مِمَّنْ شَهِدَ قَتْلَ الْحُسَيْنِ، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَأَخَذَ طَرِيقَ وَاقِصَةَ، فَلَمْ يُرَ لَهُ خَبَرٌ حَتَّى السَّاعَةِ، وَقِيلَ: أَدْرَكَهُ أَصْحَابُ الْمُخْتَارِ وَقَدْ سَقَطَ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ، فَذَبَحُوهُ وَأَخَذُوا رَأْسَهُ. وَلَمَّا قُتِلَ فُرَاتُ بْنُ زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ أَرْسَلَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ خَلِيفَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُعْفِيَّةُ، وَكَانَتِ امْرَأَةَ الْحُسَيْنِ، إِلَى الْمُخْتَارِ تَسْأَلُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي دَفْنِهِ، فَفَعَلَ، فَدَفَنَتْهُ. وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ غُلَامًا لَهُ يُدْعَى زُرْبَى (فِي طَلَبِ شَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُ قَالَ شَمِرٌ لِأَصْحَابِهِ: تَبَاعَدُوا عَنِّي، لَعَلِّي يَطْمَعُ فِيَّ، فَتَبَاعَدُوا عَنْهُ، فَطَمِعَ زُرْبَى عَنْ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ شَمِرٌ فَقَتَلَهُ، وَسَارَ شَمِرٌ حَتَّى نَزَلَ (مَسَاءً سَاتِيدَمَا، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ) مِنْهُ قَرْيَةً يُقَالُ لَهَا الْكِلْتَانِيَّةُ عَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ إِلَى جَانِبِ تَلٍّ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عِلْجًا فَضَرَبَهُ وَقَالَ: امْضِ بِكِتَابِي هَذَا إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ. فَمَضَى الْعِلْجُ حَتَّى دَخَلَ قَرْيَةً فِيهَا أَبُو عَمْرَةَ صَاحِبُ الْمُخْتَارِ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَهُ الْمُخْتَارُ إِلَى تِلْكَ الْقَرْيَةِ لِيَكُونَ مَسْلَحَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَلَقِيَ ذَلِكَ

الْعِلْجُ عِلْجًا آخَرَ مِنْ تِلْكَ الْقَرْيَةِ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مَنْ شَمِرٍ، فَبَيْنَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي عَمْرَةَ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْكَنُودِ، فَرَأَى الْكِتَابَ وَعُنْوَانُهُ: لِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِنْ شَمِرٍ، فَقَالُوا لِلْعِلْجِ: أَيْنَ هُوَ؟ فَأَخْبَرَهُمْ، فَإِذَا لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ إِلَّا ثَلَاثَةُ فَرَاسِخَ، قَالَ: فَأَقْبَلُوا يَسِيرُونَ إِلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ قَالَ لِشَمِرٍ أَصْحَابُهُ: لَوِ ارْتَحَلْتَ بِنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، فَإِنَّا نَتَخَوَّفُ بِهَا، فَقَالَ: أَوَكُلُّ هَذَا فَزَعًا مِنَ الْكَذَّابِ؟ ! وَاللَّهِ لَا أَتَحَوَّلُ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، مَلَأَ اللَّهُ قُلُوبَكُمْ رُعْبًا. فَإِنَّهُمْ لَنِيَامٌ إِذْ سُمِعَ وَقْعُ الْحَوَافِرِ، فَقَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: هَذَا صَوْتُ الدِّبَا. ثُمَّ اشْتَدَّ، فَذَهَبَ أَصْحَابُهُ لِيَقُومُوا فَإِذَا بِالْخَيْلِ قَدْ أَشْرَفَتْ مِنَ التَّلِّ، فَكَبَّرُوا وَأَحَاطُوا بِالْأَبْيَاتِ، فَوَلَّى أَصْحَابُهُ هَارِبِينَ وَتَرَكُوا خُيُولَهُمْ، وَقَامَ شَمِرٌ وَقَدِ اتَّزَرَ بِبُرْدٍ، وَكَانَ أَبْرَصَ، فَظَهَرَ بَيَاضُ بَرَصِهِ مِنْ فَوْقِ الْبُرْدِ وَهُوَ يُطَاعِنُهُمْ بِالرُّمْحِ، وَقَدْ عَجَّلُوهُ عَنْ لُبْسِ ثِيَابِهِ وَسِلَاحِهِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ قَدْ فَارَقُوهُ، فَلَمَّا أَبْعَدُوا عَنْهُ سَمِعُوا التَّكْبِيرَ وَقَائِلًا يَقُولُ: قُتِلَ الْخَبِيثُ، قَتَلَهُ ابْنُ أَبِي الْكَنُودِ. وَهُوَ الَّذِي رَأَى الْكِتَابَ مَعَ الْعِلْجِ، وَأُلْقِيَتْ جُثَّتُهُ لِلْكِلَابِ، قَالَ: وَسَمِعْتُهُ بَعْدَ أَنْ قَاتَلَنَا بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَلْقَاهُ وَأَخَذَ السَّيْفَ، فَقَاتَلَنَا بِهِ وَهُوَ يَرْتَجِزُ، شِعْرٌ: نَبَّهْتُمُ لَيْثَ عَرِينٍ بَاسِلًا ... جَهْمًا مُحَيَّاهُ يَدُقُّ الْكَاهِلَا لَمْ يُرَ يَوْمًا عَنْ عَدُوٍّ نَاكِلًا ... إِلَّا كَذَا مُقَاتِلًا أَوْ قَاتِلَا يُبْرِحُهُمْ ضَرْبًا وَيُرْوِي الْعَامِلَا وَأَقْبَلَ الْمُخْتَارُ إِلَى الْقَصْرِ مِنْ جَبَّانَةِ السَّبِيعِ وَمَعَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ الْبَارِقِيُّ أَسِيرًا فَنَادَاهُ، شِعْرٌ: امْنُنْ عَلَيَّ الْيَوْمَ يَا خَيْرَ مَعَدْ (وَخَيْرَ مَنْ حَلَّ بِشِحْرٍ وَالْجَنَدْ)

وَخَيْرَ مَنْ لَبَّى وَحَيَّا وَسَجَدْ فَأَرْسَلَهُ الْمُخْتَارُ إِلَى السِّجْنِ ثُمَّ أَحْضَرَهُ مِنَ الْغَدِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ، شِعْرٌ: أَلَا أَبْلِغْ أَبَا إِسْحَاقَ أَنَّا ... نَزَوْنَا نَزْوَةً كَانَتْ عَلَيْنَا خَرَجْنَا لَا نَرَى الضُّعَفَاءَ شَيْئًا ... وَكَانَ خُرُوجُنَا بَطَرًا وَحَيْنَا لَقِينَا مِنْهُمُ ضَرْبًا طِلَحْفًا ... وَطَعْنًا صَائِبًا حَتَّى انْثَنَيْنَا نُصِرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ كُلَّ يَوْمٍ ... بِكُلِّ كَتِيبَةٍ تَنْعَى حُسَيْنَا كَنَصْرِ مُحَمَّدٍ فِي يَوْمِ بَدْرٍ ... وَيَوْمِ الشِّعْبِ إِذْ لَاقَى حُنَيْنَا فَأَسْجِحْ إِذْ مَلَكْتَ فَلَوْ مَلَكْنَا ... لَجُرْنَا فِي الْحُكُومَةِ وَاعْتَدَيْنَا تَقَبَّلْ تَوْبَةً مِنِّي فَإِنِّي ... سَأَشْكُرُ إِنْ جَعَلْتَ النَّقْدَ دَيْنَا قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْمُخْتَارِ قَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، أَحَلِفُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُقَاتِلُ مَعَكَ عَلَى الْخُيُولِ الْبُلْقِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ: اصْعَدِ الْمِنْبَرَ فَأَعْلِمِ النَّاسَ. فَصَعِدَ فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ ثُمَّ نَزَلَ، فَخَلَا بِهِ [الْمُخْتَارُ] فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تَرَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَرَدْتَ مَا قَدْ عَرَفْتُ أَنْ لَا أَقْتُلَكَ، فَاذْهَبْ عَنِّي حَيْثُ شِئْتَ لَا تُفْسِدْ عَلَيَّ أَصْحَابِي. فَخَرَجَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَنَزَلَ عِنْدَ مُصْعَبٍ وَقَالَ، شِعْرٌ: أَلَا أَبْلِغْ أَبَا إِسْحَاقَ أَنِّي ... رَأَيْتُ الْبُلْقَ دُهْمًا مُصْمَتَاتِ كَفَرْتُ بِوَحْيِكُمْ وَجَعَلْتُ نَذْرًا ... عَلَيَّ قِتَالَكُمْ حَتَّى الْمَمَاتِ أُرِي عَيْنَيَّ مَا لَمْ تُبْصِرَاهُ ... كِلَانَا عَالِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ

وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَادَّعَى قَتْلَهُ سِعْرُ بْنُ أَبِي سِعْرٍ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ الشِّبَامِيُّ، وَشِبَامٌ، مِنْ هَمْدَانَ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِأَبِي الزُّبَيْرِ الشِّبَامِيِّ: أَتَقْتُلُ أَبِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ سَيِّدَ قَوْمِكَ؟ فَقَرَأَ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الْآيَةَ. وَانْجَلَتِ الْوَقْعَةُ عَنْ سَبْعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ قَتِيلًا مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانَ أَكْثَرُ الْقَتْلِ ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ. وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ لِسِتِّ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ. وَخَرَجَ أَشْرَافُ النَّاسِ فَلَحِقُوا بِالْبَصْرَةِ، وَتَجَرَّدَ الْمُخْتَارُ لِقَتَلَةِ الْحُسَيْنِ، وَقَالَ: مَا مِنْ دِينِنَا أَنْ نَتْرُكَ قَتَلَةَ الْحُسَيْنِ أَحْيَاءً، بِئْسَ نَاصِرُ آلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا إِذًا فِي الدُّنْيَا، أَنَا إِذًا الْكَذَّابُ كَمَا سَمَّوْنِي، وَإِنِّي أَسْتَعِينُ بِاللَّهِ عَلَيْهِمْ فَسَمُّوهُمْ لِي، ثُمَّ اتْبَعُوهُمْ حَتَّى تَقْتُلُوهُمْ، فَإِنِّي لَا يَسُوغُ لِيَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ حَتَّى أُطَهِّرَ الْأَرْضَ مِنْهُمْ. فَدُلَّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَيْدٍ الْجُهَنِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ بَشِيرٍ الْبَدِّيِّ، وَحَمَلِ بْنِ مَالِكٍ الْمُحَارِبِيِّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْمُخْتَارُ فَأَحْضَرَهُمْ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ! أَيْنَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ؟ أَدُّوا إِلَيَّ الْحُسَيْنَ، قَتَلْتُمْ مَنْ أُمِرْتُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا: رَحِمَكَ اللَّهُ! بُعِثْنَا كَارِهِينَ فَامْنُنْ عَلَيْنَا وَاسْتَبْقِنَا. فَقَالَ لَهُمْ: هَلَّا مَنَنْتُمْ عَلَى الْحُسَيْنِ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ فَاسْتَبْقَيْتُمُوهُ وَسَقَيْتُمُوهُ؟ وَكَانَ الْبَدِّيُّ صَاحِبَ بُرْنُسِهِ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَتُرِكَ يَضْطَرِبُ حَتَّى مَاتَ، وَقَتَلَ الْآخَرِينَ، وَأَمَرَ بِزِيَادِ بْنِ مَالِكٍ الضُّبَعِيِّ، وَبِعِمْرَانَ بْنِ خَالِدٍ الْقُشَيْرِيِّ، وَبِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي خِشْكَارَةَ الْبَجَلِيِّ، وَبِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْخَوْلَانِيِّ، فَأُحْضِرُوا عِنْدَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: يَا قَتْلَةَ الصَّالِحِينَ، وَقَتَلَةَ سَيِّدِ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَدْ أَقَادَ اللَّهُ مِنْكُمُ الْيَوْمَ، لَقَدْ جَاءَكُمُ الْوَرْسُ فِي يَوْمِ نَحْسٍ. وَكَانُوا نَهَبُوا مِنَ الْوَرْسِ الَّذِي كَانَ مَعَ الْحُسَيْنِ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا. وَأُحْضِرَ عِنْدَهُ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنَا صَلْخَتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَمْرٍو الْهَمْدَانِيُّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ أَعْشَى هَمْدَانَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، فَقُتِلُوا، وَأُحْضِرَ عِنْدَهُ: عُثْمَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ الدُّهْمَانِيُّ الْجُهَنِيُّ، وَأَبُو أَسْمَاءَ بِشْرُ بْنُ شُمَيْطٍ الْقَانِصِيُّ، وَكَانَا قَدِ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَقِيلٍ وَفِي سَلْبِهِ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهَمَا، وَأُحْرِقَا بِالنَّارِ.

ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ الْأَصْبَحِيِّ، وَهُوَ صَاحِبُ رَأْسِ الْحُسَيْنِ، فَاخْتَفَى فِي مَخْرَجِهِ، فَدَخَلَ أَصْحَابُ الْمُخْتَارِ يُفَتِّشُونَ عَنْهُ، فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ، وَاسْمُهَا الْعَيُوفُ بِنْتُ مَالِكٍ، وَكَانَتْ تُعَادِيهِ مُنْذُ جَاءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَتْ لَهُمْ: مَا تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا لَهَا: أَيْنَ زَوْجُكِ؟ قَالَتْ: لَا أَدْرِي، وَأَشَارَتْ بِيَدِهَا إِلَى الْمَخْرَجِ، فَدَخَلُوا فَوَجَدُوهُ وَعَلَى رَأْسِهِ قَوْصَرَّةٌ، فَأَخْرَجُوهُ وَقَتَلُوهُ إِلَى جَانِبِ أَهْلِهِ، وَأَحْرَقُوهُ بِالنَّارِ. ذِكْرُ مَقْتَلِ عَمْرِو بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ شَهِدَ قَتْلَ الْحُسَيْنِ ثُمَّ إِنَّ الْمُخْتَارَ قَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ: لَأَقْتُلَنَّ غَدًا رَجُلًا عَظِيمَ الْقَدَمَيْنِ، غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفَ الْحَاجِبَيْنِ، يَسُرُّ قَتْلُهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ. وَكَانَ عِنْدَهُ الْهَيْثَمُ بْنُ الْأَسْوَدِ النَّخَعِيُّ، فَعَلِمَ أَنَّهُ يَعْنِي عَمْرَو بْنَ سَعْدٍ، فَرَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَمْرٍو مَعَ ابْنِهِ الْعُرْيَانِ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَهُ لَهُ قَالَ: جَزَى اللَّهُ أَبَاكَ خَيْرًا، كَيْفَ يَقْتُلُنِي بَعْدَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ؟ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ أَكْرَمَ النَّاسِ عَلَى الْمُخْتَارِ لِقَرَابَتِهِ بِعَلِيٍّ، وَكَلَّمَهُ عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ لِيَأْخُذَ لَهُ أَمَانًا مِنَ الْمُخْتَارِ، فَفَعَلَ وَكَتَبَ لَهُ الْمُخْتَارُ أَمَانًا، وَشَرَطَ فِيهِ أَنْ لَا يُحْدِثَ، وَعَنَى بِالْحَدَثِ دُخُولَ الْخَلَاءِ. ثُمَّ إِنَّ عَمْرَو بْنَ سَعْدٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بَعْدَ عَوْدِ الْعُرْيَانِ عَنْهُ، فَأَتَى حَمَّامَهُ، فَأَخْبَرَ مَوْلًى لَهُ بِمَا كَانَ مِنْهُ وَبِأَمَانِهِ. فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: وَأَيُّ حَدَثٍ أَعْظَمُ مِمَّا صَنَعْتَ؟ تَرَكْتَ أَهْلَكَ وَرَحْلَكَ وَأَتَيْتَ إِلَى هَاهُنَا، ارْجِعْ وَلَا تَجْعَلْ عَلَيْكَ سَبِيلًا. فَرَجَعَ وَأَتَى الْمُخْتَارَ فَأَخْبَرَهُ بِانْطِلَاقِهِ، فَقَالَ: كَلَّا، إِنَّ فِي عُنُقِهِ سِلْسِلَةً سَتَرُدَّهُ. وَأَصْبَحَ الْمُخْتَارُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبَا عَمْرَةَ فَأَتَاهُ وَقَالَ: أَجِبِ الْأَمِيرَ. فَقَامَ عَمْرٌو فَعَثَرَ فِي جُبَّةٍ لَهُ، فَضَرَبَهُ أَبُو عَمْرَةَ بِسَيْفِهِ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ رَأْسَهُ فَأَحْضَرَهُ عِنْدَ الْمُخْتَارِ. فَقَالَ الْمُخْتَارُ لِابْنِهِ حَفْصِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَهُ: أَتَعْرِفُ مَنْ هَذَا. قَالَ: نَعَمْ، وَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُ! فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ، وَقَالَ الْمُخْتَارُ: هَذَا بِحُسَيْنٍ، وَهَذَا بِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَلَا سَوَاءَ، وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قُرَيْشٍ مَا وَفُّوا أُنْمُلَةً مِنْ أَنَامِلِهِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي تَهَيُّجِ الْمُخْتَارِ عَلَى قَتْلِهِ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ شَرَاحِيلَ الْأَنْصَارِيَّ أَتَى مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَجَرَى الْحَدِيثُ إِلَى أَنْ تَذَاكَرَا الْمُخْتَارَ، فَقَالَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَنَا شِيعَةٌ، وَقَتَلَةُ الْحُسَيْنِ عِنْدَهُ عَلَى الْكَرَاسِيِّ يُحَدِّثُونَهُ.

فَلَمَّا عَادَ يَزِيدُ أَخْبَرَ الْمُخْتَارَ بِذَلِكَ، فَقَتَلَ عَمْرَو بْنَ سَعْدٍ، وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ وَرَأْسِ ابْنِهِ إِلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يُعْلِمُهُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ فِي طَلَبِ الْبَاقِينَ مِمَّنْ حَضَرَ قَتْلَ الْحُسَيْنِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَرِيكٍ: أَدْرَكْتُ أَصْحَابَ الْأَرْدِيَةِ الْمُعَلَّمَةِ، وَأَصْحَابَ الْبَرَانِسِ السُّودِ مِنْ أَصْحَابِ السَّوَارِي، إِذَا مَرَّ بِهِمْ عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ قَالُوا: هَذَا قَاتِلُ الْحُسَيْنِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَهُ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: قَالَ عَلِيٌّ لِعَمْرِو بْنِ سَعْدٍ: كَيْفَ كُنْتَ إِذَا قُمْتَ مَقَامًا تُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَتَخْتَارُ النَّارَ؟ ثُمَّ إِنَّ الْمُخْتَارَ أَرْسَلَ إِلَى حَكِيمِ بْنِ طُفَيْلٍ الطَّائِيِّ، وَكَانَ أَصَابَ سَلْبَ الْعَبَّاسِ بْنِ عَلِيٍّ وَرَمَى الْحُسَيْنَ بِسَهْمٍ، وَكَانَ يَقُولُ: تَعَلَّقَ سَهْمِي بِسِرْبَالِهِ وَمَا ضَرَّهُ. فَأَتَاهُ أَصْحَابُ الْمُخْتَارِ فَأَخَذُوهُ، وَذَهَبَ أَهْلُهُ فَشَفَعُوا بِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، فَكَلَّمَهُمْ عَدِيٌّ فِيهِ، فَقَالُوا: ذَلِكَ إِلَى الْمُخْتَارِ. فَمَضَى عَدِيٌّ إِلَى الْمُخْتَارِ لِيَشْفَعَ فِيهِ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ قَدْ شَفَّعَهُ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ أَصَابَهُمْ يَوْمَ جَبَّانَةِ السَّبِيعِ، فَقَالَتِ الشِّيعَةُ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ يُشَفِّعَهُ الْمُخْتَارُ فِيهِ، فَقَتَلُوهُ رَمْيًا بِالسِّهَامِ كَمَا رَمَى الْحُسَيْنَ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ الْقُنْفُذُ، وَدَخَلَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ عَلَى الْمُخْتَارِ، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ، فَشَفَعَ فِيهِ عَدِيٌّ، فَقَالَ الْمُخْتَارَ: أَتَسْتَحِلُّ أَنْ تَطْلُبَ فِي قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ؟ فَقَالَ عَدِيٌّ: إِنَّهُ مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ. قَالَ: إِذًا نَدَعُهُ لَكَ. فَدَخَلَ ابْنُ كَامِلٍ فَأَخْبَرَ الْمُخْتَارَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ: مَا أَعْجَلَكُمْ إِلَى ذَلِكَ؟ أَلَا أَحْضَرْتُمُوهُ عِنْدِي؟ وَكَانَ قَدْ سَرَّهُ قَتْلُهُ. فَقَالَ ابْنُ كَامِلٍ: غَلَبَتْنِي عَلَيْهِ الشِّيعَةُ. فَقَالَ عَدِيٌّ لِابْنِ كَامِلٍ: كَذَبْتَ، وَلَكِنْ ظَنَنْتَ أَنَّ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ سَيُشَفِّعُنِي فَقَتَلْتَهُ. فَسَبَّهُ ابْنُ كَامِلٍ، فَنَهَاهُ الْمُخْتَارُ عَنْ ذَلِكَ. وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ إِلَى قَاتِلِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَهُوَ مُرَّةُ بْنُ مُنْقِذٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَكَانَ شُجَاعًا، فَأَحَاطُوا بِدَارِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَلَى فَرَسِهِ وَبِيَدِهِ رُمْحُهُ، فَطَاعَنَهُمْ، فَضَرَبَ عَلَى يَدِهِ وَهَرَبَ مِنْهُمْ فَنَجَا، وَلَحِقَ بِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَشُلَّتْ يَدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ إِلَى زَيْدِ بْنِ رُقَادٍ الْجُنُبِيِّ، كَانَ يَقُولُ: لَقَدْ رَمَيْتُ فَتًى مِنْهُمْ بِسَهْمٍ وَكَفُّهُ عَلَى جَبْهَتِهِ يَتَّقِي النَّبْلَ، فَأَثْبَتَ كَفَّهُ فِي جَبْهَتِهِ فَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُزِيلَ كَفَّهُ عَنْ جَبْهَتِهِ - وَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ - وَإِنَّهُ قَالَ حِينَ رَمَيْتُهُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُمُ اسْتَقَلُّونَا وَاسْتَذَلُّونَا، فَاقْتُلْهُمْ كَمَا قَتَلُونَا. ثُمَّ إِنَّهُ رَمَى الْغُلَامَ بِسَهْمٍ آخَرَ وَكَانَ يَقُولُ: جِئْتُهُ

وَهُوَ مَيِّتٌ، فَنَزَعْتُ سَهْمِي الَّذِي قَتَلْتُهُ بِهِ مِنْ جَوْفِهِ، فَلَمْ أَزَلْ أُنَضْنِضُهُ مِنْ جَبْهَتِهِ حَتَّى أَخَذْتُهُ وَبَقِيَ النَّصْلُ، فَلَمَّا أَتَاهُ أَصْحَابُ الْمُخْتَارِ خَرَجَ إِلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ لَهُمُ ابْنُ كَامِلٍ: لَا تَطْعَنُوهُ وَلَا تَضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ، ارْمُوهُ بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ، فَسَقَطَ، فَأَحْرَقُوهُ حَيًّا. وَطَلَبَ الْمُخْتَارُ سِنَانَ بْنَ أَنَسٍ الَّذِي كَانَ يَدَّعِي قَتْلَ الْحُسَيْنِ، فَرَآهُ قَدْ هَرَبَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَهَدَمَ دَارَهُ. وَطَلَبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُقْبَةَ الْغَنَوِيَّ، فَوَجَدَهُ قَدْ هَرَبَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، فَهَدَمَ دَارَهُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ مِنْهُمْ غُلَامًا. وَطَلَبَ آخَرَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ حَرْمَلَةُ بْنُ الْكَاهِنِ، كَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلًا مَنْ أَهْلِ الْحُسَيْنِ، فَفَاتَهُ. وَطَلَبَ أَيْضًا رَجُلًا مِنْ خَثْعَمٍ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْوَةَ الْخَثْعَمِيُّ، كَانَ يَقُولُ: رَمَيْتُ فِيهِمْ بِاثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا. فَفَاتَهُ وَلَحِقَ بِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَهَدَمَ دَارَهُ. وَطَلَبَ أَيْضًا عَمْرَو بْنَ الصُّبَيْحِ الصُّدَائِيَّ، كَانَ يَقُولُ: لَقَدْ طَعَنْتُ فِيهِمْ وَجَرَحْتُ، وَمَا قَتَلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا. فَأُتِيَ لَيْلًا فَأُخِذَ، وَأُحْضِرَ عِنْدَ الْمُخْتَارِ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ الرِّمَاحِ، وَطُعِنَ بِهَا حَتَّى مَاتَ. وَأَرْسَلَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَبِ، وَهُوَ فِي قَرْيَةٍ لَهُ إِلَى جَنْبِ الْقَادِسِيَّةِ، فَطَلَبُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَكَانَ قَدْ هَرَبَ إِلَى مُصْعَبٍ، فَهَدَمَ الْمُخْتَارُ دَارَهُ، وَبَنَى بِلَبِنِهَا وَطِينِهَا دَارَ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ، كَانَ زِيَادٌ قَدْ هَدَمَهَا. (بَحِيرُ بْنُ رِيسَانَ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ. شِبَامٌ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ: بَطْنٌ مِنْ هَمْدَانَ، وَهَمْدَانُ بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ. وَسِعْرٌ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ. وَأَحْمَرُ بْنُ شُمَيْطٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَشُمَيْطٌ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ. وَشَبَثٌ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. جَبَّانَةُ أُثِيرٍ

بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَبِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، وَبِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ، وَبِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ. عُتَيْبَةُ بْنُ النَّهَّاسِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ، ثُمَّ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ، وَبِالْيَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. حَسَّانُ بْنُ فَائِدٍ بِالْفَاءِ) . ذِكْرُ بَيْعَةِ الْمُثَنَّى الْعَبْدِيِّ لِلْمُخْتَارِ بِالْبَصْرَةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ دَعَا الْمُثَنَّى بْنُ مُخَرِّبَةَ الْعَبْدِيُّ بِالْبَصْرَةِ إِلَى رَبِيعَةَ الْمُخْتَارِ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ عَيْنَ الْوَرْدَةِ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، ثُمَّ رَجَعَ فَبَايَعَ لِلْمُخْتَارِ، فَسَيَّرَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ يَدْعُو بِهَا إِلَيْهِ، فَقَدِمَ الْبَصْرَةَ وَدَعَا بِهَا، فَأَجَابَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ أَتَى مَدِينَةَ الرِّزْقِ فَعَسْكَرَ عِنْدَهَا، وَجَمَعُوا الْمِيرَةَ بِالْمَدِينَةِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْقُبَاعُ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ، وَدَعَا بِهَا عَبَّادَ بْنَ حُصَيْنٍ، وَهُوَ عَلَى شُرْطَتِهِ، وَقَيْسَ بْنَ الْهَيْثَمِ فِي الشُّرَطِ وَالْمُقَاتِلَةِ، فَخَرَجُوا إِلَى السَّبْخَةِ، وَلَزِمَ النَّاسُ بُيُوتَهُمْ فَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ، وَأَقْبَلَ عَبَّادٌ فِيمَنْ مَعَهُ، فَتَوَاقَفَ هُوَ وَالْمُثَنَّى، فَسَارَ عَبَّادٌ نَحْوَ مَدِينَةِ الرِّزْقِ، وَتَرَكَ قَيْسًا مَكَانَهُ. فَلَمَّا أَتَى عَبَّادٌ مَدِينَةَ الرِّزْقِ أَصْعَدَ عَلَى سُورِهَا ثَلَاثِينَ رَجُلًا وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا سَمِعْتُمُ التَّكْبِيرَ فَكَبِّرُوا. وَرَجَعَ عَبَّادٌ إِلَى قَيْسٍ، وَأَنْشَبُوا الْقِتَالَ مَعَ الْمُثَنَّى، وَسَمِعَ الرِّجَالُ الَّذِينَ فِي دَارِ الرِّزْقِ التَّكْبِيرَ فَكَبَّرُوا، وَهَرَبَ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَسَمِعَ الْمُثَنَّى التَّكْبِيرَ مِنْ وَرَائِهِمْ فَهَرَبَ فِيمَنْ مَعَهُ، فَكَفَّ عَنْهُمْ قَيْسٌ وَعَبَّادٌ وَلَمْ يَتْبَعَاهُمْ. وَأَتَى الْمُثَنَّى قَوْمَهُ عَبْدَ الْقَيْسِ، فَأَرْسَلَ الْقُبَاعُ عَسْكَرًا إِلَى عَبْدِ الْقَيْسِ لِيَأْتُوهُ بِالْمُثَنَّى وَمَنْ مَعَهُ. فَلَمَّا رَأَى زِيَادُ بْنُ عَمْرٍو الْعَتَكِيُّ ذَلِكَ أَقْبَلَ إِلَى الْقُبَاعِ فَقَالَ لَهُ: لَتَرُدَّنَّ خَيْلَكَ عَنْ إِخْوَانِنَا أَوْ لَنُقَاتِلَنَّهُمْ. فَأَرْسَلَ الْقُبَاعُ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ، وَعُمَرَ بْنَ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيَّ ; لِيُصْلِحَا بَيْنَ النَّاسِ، فَأَصْلَحَ الْأَحْنَفُ الْأَمْرَ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ الْمُثَنَّى وَأَصْحَابُهُ عَنْهُمْ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ وَأَخْرَجُوهُمْ عَنْهُمْ، فَسَارَ الْمُثَنَّى إِلَى الْكُوفَةِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. (مُخَرِّبَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، ثُمَّ بَاءٍ مَفْتُوحَةٍ) . ذِكْرُ مَكْرِ الْمُخْتَارِ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَلَمَّا أَخْرَجَ الْمُخْتَارُ عَامِلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ الْكُوفَةِ، وَهُوَ ابْنُ مُطِيعٍ، سَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ،

وَكَرِهَ أَنْ يَأْتِيَ ابْنَ الزُّبَيْرِ مَهْزُومًا، فَلَمَّا اسْتَجْمَعَ لِلْمُخْتَارِ أَمْرُ الْكُوفَةِ أَخَذَ يُخَادِعُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: قَدْ عَرَفْتَ مُنَاصَحَتِي إِيَّاكَ، وَجُهْدِي عَلَى أَهْلِ عَدَاوَتِكَ، وَمَا كُنْتَ أَعْطَيْتَنِي إِذَا أَنَا فَعَلْتُ ذَلِكَ [مِنْ نَفْسِكَ] ، فَلَمَّا وَفَّيْتُ لَكَ لَمْ تَفِ بِمَا عَاهَدْتَنِي عَلَيْهِ، فَإِنْ تُرِدْ مُرَاجَعَتِي وَمُنَاصَحَتِي فَعَلْتُ، وَالسَّلَامُ. وَكَانَ قَصْدُ الْمُخْتَارِ أَنْ يَكُفَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْهُ لِيَتِمَّ أَمْرُهُ، وَالشِّيعَةُ لَا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ، فَأَرَادَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَسِلْمٌ هُوَ أَمْ حَرْبٌ، فَدَعَا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيَّ فَوَلَّاهُ الْكُوفَةَ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْمُخْتَارَ سَامِعٌ مُطِيعٌ. فَتَجَهَّزَ بِمَا بَيْنَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ إِلَى أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَسَارَ نَحْوَ الْكُوفَةِ. وَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى الْمُخْتَارِ بِذَلِكَ، فَدَعَا الْمُخْتَارُ زَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ، وَأَعْطَاهُ سَبْعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ لَهُ: هَذَا ضِعْفُ مَا أَنْفَقَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي طَرِيقِهِ إِلَيْنَا. وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُ خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ وَيَسِيرَ حَتَّى يَلْقَاهُ بِالطَّرِيقِ، وَيُعْطِيَهُ النَّفَقَةَ وَيَأْمُرَهُ بِالْعَوْدِ، فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا فَلْيُرِهِ الْخَيْلَ. فَأَخَذَ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ الْمَالَ وَسَارَ حَتَّى لَقِيَ عُمَرَ، فَأَعْطَاهُ الْمَالَ وَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ وَلَّانِي الْكُوفَةَ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِتْيَانِهَا. فَدَعَا زَائِدَةُ الْخَيْلَ، وَكَانَ قَدْ كَمَّنَهَا، فَلَمَّا رَآهَا قَدْ أَقْبَلَتْ أَخَذَ الْمَالَ وَسَارَ نَحْوَ الْبَصْرَةِ، فَاجْتَمَعَ هُوَ وَابْنُ مُطِيعٍ فِي إِمَارَةِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَذَلِكَ قَبْلَ وُثُوبِ الْمُثَنَّى بْنِ مُخَرِّبَةَ الْعَبْدِيِّ بِالْبَصْرَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ: إِنِّي اتَّخَذْتُ الْكُوفَةَ دَارًا، فَإِنْ سَوَّغْتَنِي ذَلِكَ وَأَمَرْتَ لِي بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ سِرْتُ إِلَى الشَّامِ، فَكَفَيْتُكَ ابْنَ مَرْوَانَ. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِلَى مَتَى أُمَاكِرُ كَذَّابَ ثَقِيفٍ وَيُمَاكِرُنِي؟ ثُمَّ تَمَثَّلَ، شِعْرٌ: عَارِي الْجَوَاعِرِ مَنْ ثَمُودٌ أَصْلُهُ عَبْدٌ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَنْ يَقْدُمُ وَكَتَبَ إِلَيْهِ: وَاللَّهِ وَلَا دِرْهَمٌ: وَلَا أَمْتَرِي [عَبْدَ] الْهَوَانِ بِبَدْرَتِي وَإِنِّي لَآتِي الْحَتْفَ مَا دُمْتُ أَسْمَعُ

ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ بَعَثَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ إِلَى وَادِي الْقُرَى، وَكَانَ الْمُخْتَارُ قَدْ وَادَعَ الزُّبَيْرَ لِيَكُفَّ عَنْهُ لِيَتَفَرَّغَ لِأَهْلِ الشَّامِ. فَكَتَبَ الْمُخْتَارُ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ: قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ مَرْوَانَ قَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ جَيْشًا، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَمْدَدْتُكَ بِمَدَدٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنْ كُنْتَ عَلَى طَاعَتِي فَبَايِعْ لِيَ النَّاسَ قِبَلَكَ، وَعَجِّلْ إِنْقَاذَ الْجَيْشِ، وَمُرْهُمْ لِيَسِيرُوا إِلَى مَنْ بِوَادِي الْقُرَى مِنْ جُنْدِ ابْنِ مَرْوَانَ فَلْيُقَاتِلُوهُمْ، وَالسَّلَامُ. فَدَعَا الْمُخْتَارُ شُرَحْبِيلَ بْنَ وَرْسٍ الْهَمْدَانِيَّ، فَسَيَّرَهُ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْمَوَالِي، وَلَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا سَبْعُمِائَةِ رَجُلٍ، وَقَالَ: سِرْ حَتَّى تَدْخُلَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا دَخَلْتَهَا فَاكْتُبْ إِلَيَّ بِذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي. وَهُوَ يُرِيدُ إِذَا دَخَلُوا الْمَدِينَةَ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، ثُمَّ يَأْمُرَ ابْنَ وَرْسٍ بِمُحَاصَرَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ. وَخَشِيَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَارُ إِنَّمَا يَكِيدُهُ، فَبَعَثَ مِنْ مَكَّةَ عَبَّاسَ بْنَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي أَلْفَيْنِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَنْفِرَ الْأَعْرَابَ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ رَأَيْتَ الْقَوْمَ عَلَى طَاعَتِي، وَإِلَّا فَكَايِدْهُمْ حَتَّى تُهْلِكَهُمْ. فَأَقْبَلَ عَبَّاسُ بْنُ سَهْلٍ حَتَّى لَقِيَ ابْنَ وَرْسٍ بِالرَّقِيمِ وَقَدْ عَبَّأَ ابْنُ وَرْسٍ أَصْحَابَهُ، وَأَتَى عَبَّاسٌ وَقَدْ تَقَطَّعَ أَصْحَابُهُ، وَرَأَى ابْنَ وَرْسٍ عَلَى الْمَاءِ وَقَدْ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ، فَدَنَا مِنْهُمْ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِ وَرْسٍ سِرًّا: أَلَسْتُمْ عَلَى طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَسِرْ بِنَا عَلَى عَدُوِّهِ الَّذِي بِوَادِي الْقُرَى. فَقَالَ ابْنُ وَرْسٍ: مَا أُمِرْتُ بِطَاعَتِكُمْ، إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ آتِيَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا أَتَيْتُهَا رَأَيْتُ رَأْيِي. فَقَالَ لَهُ عَبَّاسٌ: إِنْ كُنْتُمْ فِي طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُسَيِّرَكُمْ إِلَى وَادِي الْقُرَى. (فَقَالَ: لَا أَتْبَعُكَ، أَقْدُمُ الْمَدِينَةَ وَأَكْتُبُ إِلَى صَاحِبِي، فَيَأْمُرُنِي بِأَمْرِهِ. فَقَالَ عَبَّاسٌ: رَأْيُكَ أَفْضَلُ. وَفَطِنَ لِمَا يُرِيدُ وَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَسَائِرٌ إِلَى وَادِي الْقُرَى) . وَنَزَلَ عَبَّاسٌ وَبَعَثَ إِلَى ابْنِ وَرْسٍ بِجَزَائِرَ وَغَنَمٍ مُسَلَّخَةٍ، وَكَانُوا قَدْ مَاتُوا جُوعًا، فَذَبَحُوا وَاشْتَغَلُوا بِهَا وَاخْتَلَطُوا عَلَى الْمَاءِ، وَجَمَعَ عَبَّاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوَ أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ الشُّجْعَانِ وَأَقْبَلَ نَحْوَ فُسْطَاطِ ابْنِ وَرْسٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ نَادَى فِي أَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ إِلَيْهِ مِائَةُ رَجُلٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ عَبَّاسٌ، وَاقْتَتَلُوا يَسِيرًا، فَقُتِلَ ابْنُ وَرْسٍ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْحِفَاظِ، وَرَفَعَ عَبَّاسٌ رَايَةَ أَمَانٍ لِأَصْحَابِ ابْنِ وَرْسٍ، فَأَتَوْهَا إِلَّا نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ حِمْيَرٍ الْهَمْدَانِيِّ وَعَبَّاسِ بْنِ جَعْدَةَ الْجَدَلِيِّ، فَظَفِرَ ابْنُ سَهْلٍ مِنْهُمْ بِنَحْوٍ مِنْ مِائَتَيْنِ فَقَتَلَهُمْ، وَأَفْلَتَ الْبَاقُونَ فَرَجَعُوا، فَمَاتَ أَكْثَرُهُمْ فِي الطَّرِيقِ.

وَكَتَبَ الْمُخْتَارُ بِخَبَرِهِمْ إِلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ يَقُولُ: إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ جَيْشًا لِيُذِلُّوا لَكَ الْأَعْدَاءَ، وَيُحْرِزُوا الْبِلَادَ، فَلَمَّا قَارَبُوا طَيْبَةَ فُعِلَ بِهِمْ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ أَبْعَثَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَيْشًا كَثِيفًا، وَتَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِكَ رَجُلًا حَتَّى يَعْلَمُوا أَنِّي فِي طَاعَتِكَ فَافْعَلْ، فَإِنَّكَ سَتَجِدُهُمْ بِحَقِّكُمْ أَعَرَفَ، وَبِكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ أَرْأَفَ مِنْهُمْ بِآلِ الزُّبَيْرِ، وَالسَّلَامُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ، وَعَرَفْتُ تَعْظِيمَكَ لِحَقِّي وَمَا تَنْوِيهِ مِنْ سُرُورِي، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَيَّ مَا أُطِيعَ اللَّهُ فِيهِ، فَأَطِعِ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتَ، وَإِنِّي لَوْ أَرَدْتُ الْقِتَالَ لَوَجَدْتُ النَّاسَ إِلَيَّ سِرَاعًا، وَالْأَعْوَانَ لِي كَثِيرًا، وَلَكِنْ أَعْتَزِلُكُمْ وَأَصْبِرُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ. وَأَمَرَهُ بِالْكَفِّ عَنِ الدِّمَاءِ. ذِكْرُ حَالِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَسِيرِ الْجَيْشِ مِنَ الْكُوفَةِ ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ دَعَا مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ (وَشِيعَتِهِ) وَسَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ وُجُوهِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، مِنْهُمْ أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ، لَهُ صُحْبَةٌ - لِيُبَايِعُوهُ، فَامْتَنَعُوا وَقَالُوا: لَا نُبَايِعُ حَتَّى تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ. فَأَكْثَرَ الْوَقِيعَةَ فِي ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَذَمَّهُ، فَأَغْلَظَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَانِئٍ الْكِنْدِيُّ وَقَالَ: لَئِنْ لَمْ يَضُرَّكَ إِلَّا تَرْكُنَا بَيْعَتَكَ لَا يَضُرُّكَ شَيْءٌ، وَإِنَّ صَاحِبَنَا يَقُولُ: لَوْ بَايَعَتْنِي الْأُمَّةُ كُلُّهَا غَيْرَ سَعْدٍ مَوْلَى مُعَاوِيَةَ مَا قَبِلْتُهُ. وَإِنَّمَا عَرَّضَ بِذِكْرِ سَعْدٍ لِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ، فَسَبَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَسَبَّ أَصْحَابَهُ وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَخْبَرُوا ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ، فَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ، وَلَمْ يُلِحَّ عَلَيْهِمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. (فَلَمَّا اسْتَوْلَى الْمُخْتَارُ عَلَى الْكُوفَةِ، وَصَارَتِ الشِّيعَةُ تَدْعُو لِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، خَافَ ابْنُ الزُّبَيْرِ) أَنْ يَتَدَاعَى النَّاسُ إِلَى الرِّضَا بِهِ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ فِي الْبَيْعَةِ لَهُ، فَحَبَسَهُمْ بِزَمْزَمَ وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ وَإِعْطَاءِ اللَّهِ عَهْدًا إِنْ لَمْ يُبَايِعُوا أَنْ يُنَفِّذَ فِيهِمْ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، وَضَرَبَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَجَلًا. فَأَشَارَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى الْمُخْتَارِ يُعْلِمُهُ حَالَهُمْ، فَكَتَبَ إِلَى الْمُخْتَارِ بِذَلِكَ وَطَلَبَ مِنْهُ النَّجْدَةَ. فَقَرَأَ الْمُخْتَارُ الْكِتَابَ عَلَى النَّاسِ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا مَهْدِيُّكُمْ وَصَرِيحُ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ، (وَقَدْ تَرَكُوا مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ كَمَا يُحْظَرُ) عَلَى

الْغَنَمُ، يَنْتَظِرُونَ الْقَتْلَ وَالتَّحْرِيقَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لَسْتُ أَبَا إِسْحَاقَ إِنْ لَمْ أَنْصُرْهُمْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، وَإِنْ لَمْ أُسَرِّبِ الْخَيْلَ فِي أَثَرِ الْخَيْلِ كَالسَّيْلِ يَتْلُوهُ السَّيْلُ، حَتَّى يَحِلَّ بِابْنِ الْكَاهِلِيَّةِ الْوَيْلُ! يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّ خُوَيْلِدٍ أَبِي الْعَوَّامِ زُهْرَةَ بِنْتَ عَمْرٍو مِنْ بَنِي كَاهِلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ. فَبَكَى النَّاسُ وَقَالُوا: سَرِّحْنَا إِلَيْهِ وَعَجِّلْ. فَوَجَّهَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيَّ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا مِنْ أَهْلِ الْقُوَّةِ، وَوَجَّهَ ظَبْيَانَ بْنَ عُمَارَةَ أَخَا بَنِي تَمِيمٍ وَمَعَهُ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ لِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَسَيَّرَ أَبَا الْمُعَمِّرِ فِي مِائَةٍ، وَهَانِئَ بْنَ قَيْسٍ فِي مِائَةٍ، وَعُمَيْرَ بْنَ طَارِقٍ فِي أَرْبَعِينَ، وَيُونُسَ بْنَ عِمْرَانَ فِي أَرْبَعِينَ. فَوَصَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيُّ إِلَى ذَاتِ عِرْقٍ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى أَتَاهُ عُمَيْرٌ وَيُونُسُ فِي ثَمَانِينَ رَاكِبًا، فَبَلَغُوا مِائَةً وَخَمْسِينَ رَجُلًا، فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، (وَمَعَهُمُ الرَّايَاتُ) ، وَهُمْ يُنَادُونَ: يَا لِثَارَاتِ الْحُسَيْنِ! حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى زَمْزَمَ، وَقَدْ أَعَدَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحَطَبَ لِيَحْرِقَهُمْ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مِنَ الْأَجَلِ يَوْمَانِ، فَكَسَرُوا الْبَابَ وَدَخَلُوا عَلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالُوا: خَلِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَدُوِّ اللَّهِ ابْنِ الزُّبَيْرِ! فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَا أَسْتَحِلُّ الْقِتَالَ فِي الْحَرَامِ. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَاعْجَبًا لِهَذِهِ الْخَشَبِيَّةِ! يَنْعُونَ الْحُسَيْنَ كَأَنِّي أَنَا قَتَلْتُهُ، وَاللَّهِ لَوْ قَدَرْتُ عَلَى قَتَلَتِهِ لَقَتَلْتُهُمْ. وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ خَشَبِيَّةٌ ; لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا مَكَّةَ وَبِأَيْدِيهِمُ الْخَشَبُ، كَرَاهَةَ شَهْرِ السُّيُوفِ فِي الْحَرَمِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا الْحَطَبَ الَّذِي أَعَدَّهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أَتَحْسَبُونَ أَنِّي أُخَلِّي سَبِيلَهُمْ دُونَ أَنْ يُبَايِعَ وَيُبَايِعُوا؟ فَقَالَ الْجَدَلِيُّ: إِي وَرَبِّ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، لَتُخَلِّيَنَّ سَبِيلَهُ أَوْ لَنُجَالِدَنَّكَ بِأَسْيَافِنَا جِلَادًا يَرْتَابُ مِنْهُ الْمُبْطِلُونَ! فَكَفَّ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ أَصْحَابَهُ، وَحَذَّرَهُمُ الْفِتْنَةَ. ثُمَّ قَدِمَ بَاقِي الْجُنْدِ وَمَعَهُمُ الْمَالُ حَتَّى دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَكَبَّرُوا وَقَالُوا: يَا لِثَارَاتِ الْحُسَيْنِ! فَخَافَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَخَرَجَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى شِعْبِ عَلِيٍّ وَهُمْ يَسُبُّونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَيَسْتَأْذِنُونَ مُحَمَّدًا فِيهِ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ. فَاجْتَمَعَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي الشِّعْبِ أَرْبَعَةُ آلَافِ رَجُلٍ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمُ الْمَالَ وَعَزُّوا وَامْتَنَعُوا. فَلَمَّا قُتِلَ الْمُخْتَارُ تَضَعْضَعُوا وَاحْتَاجُوا.

ثُمَّ إِنَّ الْبِلَادَ اسْتَوْثَقَتْ لِابْنِ الزُّبَيْرِ بَعْدَ قَتْلِ الْمُخْتَارِ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ: ادْخُلْ فِي بَيْعَتِي وَإِلَّا نَابَذْتُكَ. وَكَانَ رَسُولَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ. فَقَالَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: بُؤْسًا لِأَخِيكَ، مَا أَلَجَّهُ فِيمَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَأَغْفَلَهُ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ! وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يُرِيدُ أَنْ يَثُورَ بِنَا، وَقَدْ أَذِنْتُ لِمَنْ أَحَبَّ الِانْصِرَافَ عَنَّا، فَإِنَّهُ لَا ذِمَامَ عَلَيْهِ مِنَّا وَلَا لَوْمَ، فَإِنِّي مُقِيمٌ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ. فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيُّ وَغَيْرُهُ، فَأَعْلَمُوهُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُفَارِقِيهِ. وَبَلَغَ خَبَرُهُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يُعْلِمُهُ أَنَّهُ إِنْ قَدِمَ عَلَيْهِ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَنْزِلُ إِلَى الشَّامِ إِنْ أَرَادَ حَتَّى يَسْتَقِيمَ أَمْرُ النَّاسِ، فَخَرَجَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجَ مَعَهُ كُثَيِّرُ عَزَّةَ وَهُوَ يَقُولُ، شِعْرٌ: هُدِيتَ يَا مَهْدِيَّنَا ابْنَ الْمُهْتَدِيِ ... أَنْتَ الَّذِي نَرْضَى بِهِ وَنَرْتَجِي أَنْتَ ابْنُ خَيْرِ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِي ... أَنْتَ إِمَامُ الْحَقِّ لَسْنَا نَمْتَرِي يَا ابْنَ عَلِيٍّ سِرْ وَمَنْ مِثْلُ عَلِي فَلَمَّا وَصَلَ مَدْيَنَ بَلَغَهُ غَدْرُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، فَنَدِمَ عَلَى إِتْيَانِهِ وَخَافَهُ، فَنَزَلَ أَيْلَةَ، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِفَضْلِ مُحَمَّدٍ وَكَثْرَةِ عِبَادَتِهِ وَزُهْدِهِ وَحُسْنِ هَدْيِهِ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمَلِكِ نَدِمَ عَلَى إِذْنِهِ لَهُ فِي قُدُومِهِ بَلَدَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ فِي سُلْطَانِي مَنْ لَمْ يُبَايِعْنِي. فَارْتَحَلَ إِلَى مَكَّةَ وَنَزَلَ شِعْبَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَأْمُرُهُ بِالرَّحِيلِ عَنْهُ، وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُسَيِّرَ نِسَاءَ مَنْ مَعَ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، فَسَيَّرَ نِسَاءً، مِنْهُنَّ امْرَأَةُ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، فَجَاءَتْ حَتَّى قَدِمَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ الطُّفَيْلُ، شِعْرٌ: إِنْ يَكُ سَيَّرَهَا مُصْعَبُ ... فَإِنِّي إِلَى مُصْعَبٍ مُتْعَبُ أَقُودُ الْكَتِيبَةَ مُسْتَلْئِمًا ... كَأَنِّي أَخُو عِزَّةٍ أَحْرَبُ وَهِيَ عِدَّةُ أَبْيَاتٍ. وَأَلَحَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ بِالِانْتِقَالِ إِلَى مَكَّةَ، فَاسْتَأْذَنَهُ أَصْحَابُهُ فِي قِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَلْبِسِ ابْنَ الزُّبَيْرِ لِبَاسَ الذُّلِّ وَالْخَوْفِ، وَسَلِّطْ عَلَيْهِ وَعَلَى أَشْيَاعِهِ مَنْ يَسُومُهُمُ الَّذِي يَسُومُ النَّاسَ. ثُمَّ سَارَ إِلَى الطَّائِفِ، فَدَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَغْلَظَ لَهُ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا كَلَامٌ كَرِهْنَا ذِكْرَهُ. وَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا فَلَحِقَ بِالطَّائِفِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُ

الْحَنَفِيَّةِ وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، وَبَقِيَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ حَتَّى حَصَرَ الْحَجَّاجُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَأَقْبَلَ مِنَ الطَّائِفِ فَنَزَلَ الشِّعْبَ، فَطَلَبَهُ الْحَجَّاجُ لِيُبَايِعَ عَبْدَ الْمَلِكِ، (فَامْتَنَعَ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ. فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَتَبَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ) يَطْلُبُ مِنْهُ الْأَمَانَ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يَأْمُرُهُ بِالْبَيْعَةِ، فَأَبَى وَقَالَ: قَدْ كَتَبْتُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَإِذَا جَاءَنِي جَوَابُهُ بَايَعْتُ. وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يُوصِيهِ بِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، فَتَرَكَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيُّ، وَمَعَهُ كِتَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِأَمَانِهِ وَبَسْطِ حَقِّهِ وَتَعْظِيمِ أَهْلِهِ، حَضَرَ عِنْدَ الْحَجَّاجِ، وَبَايَعَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ الشَّامَ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ لِلْحَجَّاجِ عَلَيْهِ سَبِيلًا، فَأَزَالَ حُكْمَ الْحَجَّاجِ عَنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يُبَايِعَا، فَقَالَا: حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ ثُمَّ نُبَايِعُ، فَإِنَّكَ فِي فِتْنَةٍ. فَعَظُمَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا، وَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَحَبَسَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي زَمْزَمَ، وَضَيَّقَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَنْزِلِهِ، وَأَرَادَ إِحْرَاقَهُمَا، فَأَرْسَلَ الْمُخْتَارُ جَيْشًا، كَمَا تَقَدَّمَ، فَأَزَالَ عَنْهُمَا ضَرَرَ ابْنِ الزُّبَيْرِ. فَلَمَّا قُتِلَ الْمُخْتَارُ قَوِيَ عَلَيْهِمَا ابْنُ الزُّبَيْرِ وَقَالَ: لَا تُجَاوِرَانِي، فَخَرَجَا إِلَى الطَّائِفِ، وَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ ابْنَهُ عَلِيًّا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِالشَّامِ وَقَالَ: لَئِنْ يُرَبِّنِي بَنُو عَمِّي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُرَبِّنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ. يَعْنِي بِبَنِي عَمِّهِ بَنِي أُمَيَّةَ ; لِأَنَّهُمْ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَلَدِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَيَعْنِي بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ. وَلَمَّا وَصَلَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، سَأَلَهُ عَنِ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ، فَقَالَ: اسْمِي عَلِيٌّ، وَالْكُنْيَةُ أَبُو الْحَسَنِ. فَقَالَ: لَا يَجْتَمِعُ هَذَا الِاسْمُ وَهَذِهِ الْكُنْيَةُ فِي عَسْكَرِيٍّ، أَنْتَ أَبُو مُحَمَّدٍ. وَلَمَّا وَصَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى الطَّائِفِ تُوُفِّيَ بِهِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِخُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ حِصَارُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ مَنْ كَانَ بِخُرَاسَانَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، بِسَبَبِ قَتْلِهِمُ ابْنَهُ مُحَمَّدًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَلَمَّا تَفَرَّقَتْ بَنُو تَمِيمٍ بِخُرَاسَانَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَتَى

قَصْرَ فَرْتَنَا عِدَّةٌ مِنْ فُرْسَانِهِمْ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ، فَوَلُّوا أَمْرَهُمْ عُثْمَانَ بْنَ بِشْرِ بْنِ الْمُحْتَفِزِ الْمَازِنِيَّ، وَمَعَهُ شُعْبَةُ بْنُ ظَهِيرٍ النَّهْشَلِيُّ، وَوَرْدُ بْنُ الْفَلَقِ الْعَنْبَرِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ ذُؤَيْبٍ الْعَدَوِيُّ، وَجَيْهَانُ بْنُ مَشْجَعَةَ الضَّبِّيُّ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ نَاشِبٍ الْعَدَوِيُّ، وَرَقَبَةُ بْنُ الْحُرِّ، فِي فُرْسَانٍ مِنْ تَمِيمٍ وَشُجْعَانِهِمْ، فَحَاصَرَهُمُ ابْنُ خَازِمٍ، فَكَانُوا يَخْرُجُونَ إِلَيْهِ فَيُقَاتِلُونَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى الْقَصْرِ. فَخَرَجَ ابْنُ خَازِمٍ يَوْمًا فِي سِتَّةِ آلَافٍ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْقَصْرِ، فَقَالَ لَهُمْ عُثْمَانُ بْنُ بِشْرٍ: ارْجِعُوا فَلَنْ تُطِيقُوهُ. فَحَلَفَ زُهَيْرُ بْنُ ذُؤَيْبٍ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ حَتَّى يَنْقُضَ صُفُوفَهُمْ. فَاسْتَبْطَنَ نَهْرًا قَدْ يَبِسَ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى حَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَحَطَّ أَوَّلَهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، وَاسْتَدَارَ وَكَرَّ رَاجِعًا، وَاتَّبَعُوهُ يَصِيحُونَ بِهِ، وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ أَنْ يَنْزِلَ إِلَيْهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَأَفْرَجُوا لَهُ حَتَّى رَجَعَ. فَقَالَ ابْنُ خَازِمٍ لِأَصْحَابِهِ: إِذَا طَاعَنْتُمْ زُهَيْرًا فَاجْعَلُوا فِي رِمَاحِكُمْ كَلَالِيبَ، ثُمَّ عَلِّقُوهَا فِي سِلَاحِهِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ يَوْمًا فَطَاعَنَهُمْ، فَأَعْلَقُوا فِيهِ أَرْبَعَةَ أَرْمَاحٍ بِالْكَلَالِيبِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِمْ، فَاضْطَرَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَخَلُّوا رِمَاحَهُمْ، فَعَادَ يَجُرُّ أَرْبَعَةَ أَرْمَاحٍ حَتَّى دَخَلَ الْقَصْرَ. فَأَرْسَلَ ابْنُ خَازِمٍ إِلَى زُهَيْرٍ يَضْمَنُ لَهُ مِائَةَ أَلْفٍ وَمَيْسَانَ طُعْمَةً لِيُنَاصِحَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ. فَلَمَّا طَالَ الْحِصَارُ عَلَيْهِمْ أَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ خَازِمٍ لِيُمَكِّنَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ لِيَتَفَرَّقُوا، فَقَالَ: لَا إِلَّا عَلَى حُكْمِي، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ. فَقَالَ زُهَيْرٌ: ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ! وَاللَّهِ لَيَقْتُلَنَّكُمْ عَنْ آخِرِكُمْ، وَإِنْ طِبْتُمْ بِالْمَوْتِ نَفْسًا فَمُوتُوا كِرَامًا، اخْرُجُوا بِنَا جَمِيعًا، فَإِمَّا أَنْ تَمُوتُوا كِرَامًا، وَإِمَّا يَنْجُو بَعْضُكُمْ وَيَهْلِكُ بَعْضُكُمْ، وَايْمُ اللَّهِ لَئِنْ شَدَدْتُمْ عَلَيْهِمْ شَدَّةً صَادِقَةً لَيُفْرِجُنَّ لَكُمْ، فَإِنْ شِئْتُمْ كُنْتُ أَمَامَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ كُنْتُ خَلْفَكُمْ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ. فَقَالَ: سَأُرِيكُمْ. ثُمَّ خَرَجَ هُوَ وَرَقَبَةُ بْنُ الْحُرِّ وَغُلَامٌ تُرْكِيٌّ وَابْنُ ظَهِيرٍ، فَحَمَلُوا عَلَى الْقَوْمِ حَمْلَةً مُنْكَرَةً، فَأَفْرَجُوا لَهُمْ، فَمَضَوْا، فَأَمَّا زُهَيْرٌ فَرَجَعَ وَنَجَا أَصْحَابُهُ. فَلَمَّا رَجَعَ زُهَيْرٌ إِلَى مَنْ بِالْقَصْرِ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُمْ، أَطِيعُونِي. قَالُوا: إِنَّا نَضْعُفُ عَنْ هَذَا وَنَطْمَعُ فِي الْحَيَاةِ. فَقَالَ: لَا أَكُونُ أَعْجَزَكُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ. فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ ابْنِ

خَازِمٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَقَيَّدَهُمْ وَحُمِلُوا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا، فَأَرَادَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ فَأَبَى عَلَيْهِ ابْنُهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ: إِنْ عَفَوْتَ عَنْهُمْ قَتَلْتُ نَفْسِي، فَقَتَلَهُمْ إِلَّا ثَلَاثَةً: أَحَدُهُمُ الْحَجَّاجُ بْنُ نَاشِبٍ، فَشَفَعَ فِيهِ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ، فَأَطْلَقَهُ، وَالْآخَرُ جَيْهَانُ بْنُ مَشْجَعَةَ الضَّبِّيُّ الَّذِي أَلْقَى نَفْسَهُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْآخَرُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَعْدٍ مِنْ تَمِيمٍ، وَهُوَ الَّذِي رَدَّ النَّاسَ عَنِ ابْنِ خَازِمٍ يَوْمَ لَحِقُوهُ، وَقَالَ: انْصَرِفُوا عَنْ فَارِسِ مُضَرَ. وَقَالَ: وَلَمَّا أَرَادُوا حَمْلَ زُهَيْرِ بْنِ ذُؤَيْبٍ وَهُوَ مُقَيَّدٌ أَبَى، وَاعْتَمَدَ عَلَى رُمْحِهِ فَوَثَبَ الْخَنْدَقَ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى ابْنِ خَازِمٍ يَحْجِلُ فِي قُيُودِهِ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ خَازِمٍ: كَيْفَ شُكْرُكَ إِنْ أَطْلَقْتُكَ وَأَطْعَمْتُكَ مَيْسَانَ؟ قَالَ: لَوْ لَمْ تَصْنَعْ بِي إِلَّا حَقْنَ دَمِي لَشَكَرْتُكَ. فَلَمْ يُمَكِّنْهُ ابْنُهُ مُوسَى مِنْ إِطْلَاقِهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: وَيْحَكَ نَقْتُلُ مِثْلَ زُهَيْرٍ! مَنْ لِقِتَالِ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ؟ مَنْ لِحِمَى نِسَاءِ الْعَرَبِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ شَرَكْتَ فِي دَمِ أَخِي لَقَتَلْتُكَ! فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ. فَقَالَ زُهَيْرٌ: إِنَّ لِي حَاجَةً، لَا تَقْتُلْنِي وَيُخْلَطُ دَمِي بِدِمَاءِ هَؤُلَاءِ اللِّئَامِ، فَقَدْ نَهَيْتُهُمْ عَمَّا صَنَعُوا، وَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يَمُوتُوا كِرَامًا وَيَخْرُجُوا عَلَيْكُمْ مُصْلِتِينَ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ فَعَلُوا لَأَذْعَرُوا بُنَيَّكَ هَذَا، وَشَغَلُوهُ بِنَفْسِهِ عَنْ طَلَبِ ثَأْرِ أَخِيهِ، فَأَبَوْا، وَلَوْ فَعَلُوا مَا قُتِلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى يَقْتُلَ رِجَالًا. فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ خَازِمٍ فَقُتِلَ نَاحِيَةً. فَلَمَّا بَلَغَ الْحَرِيشَ قَتْلُهُمْ قَالَ: أَعَاذِلَ إِنِّي لَمْ أُلِمْ فِي قِتَالِهِمْ ... وَقَدْ عَضَّ سَيْفِي كَبْشَهُمْ ثُمَّ صَمَّمَا أَعَاذِلَ مَا وُلِّيتُ حَتَّى تَبَدَّدَتْ ... رِجَالٌ وَحَتَّى لَمْ أَجِدْ مُتَقَدِّمَا أَعَاذِلَ أَفْنَانِي السِّلَاحُ، وَمَنْ يُطِلْ ... مُقَارَعَةَ الْأَبْطَالِ يَرْجِعْ مُكَلَّمَا أَعَيْنَيَّ إِنْ أَنَزَفْتُمَا الدَّمْعَ فَاسْكُبَا ... دَمًا لَازِمًا لِي دُونَ أَنْ تَسْكُبَا دَمَا أَبْعَدَ زُهَيْرٍ وَابْنِ بِشْرٍ تَتَابُعًا ... وَوَرْدٍ أُرَجِّي فِي خُرَاسَانَ مَغْنَمَا أَعَاذِلَ كَمْ مِنْ يَوْمِ حَرْبٍ شَهِدْتُهُ ... أَكُرُّ إِذَا مَا فَارِسُ السَّوْءِ أَحْجَمَا يَعْنِي زُهَيْرَ بْنَ ذُؤَيْبٍ، وَابْنُ بِشْرٍ هُوَ عُثْمَانُ، وَوَرْدَ بْنَ الْفَلَقِ.

ذِكْرُ مَسِيرِ ابْنِ الْأَشْتَرِ إِلَى قِتَالِ ابْنِ زِيَادٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَارَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ لِقِتَالِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَكَانَ مَسِيرُهُ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُخْتَارِ مِنْ وَقْعَةِ السَّبِيعِ بِيَوْمَيْنِ، وَأَخْرَجَ الْمُخْتَارُ مَعَهُ فُرْسَانَ أَصْحَابِهِ وَوُجُوهَهُمْ وَأَهْلَ الْبَصَائِرِ مِنْهُمْ مِمَّنْ لَهُ تَجْرِبَةٌ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُخْتَارُ يُشَيِّعُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ دَيْرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُمِّ الْحَكَمِ لَقِيَهُ أَصْحَابُ الْمُخْتَارِ مَعَهُ الْكُرْسِيُّ يَحْمِلُونَهُ عَلَى بَغْلٍ أَشْهَبَ وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ لَهُ بِالنَّصْرِ وَيَسْتَنْصِرُونَهُ، وَكَانَ سَادِنَ الْكُرْسِيِّ حَوْشَبٌ الْبَرْسَمِيُّ، فَلَمَّا رَآهُمُ الْمُخْتَارُ قَالَ: أَمَا وَرَبِّ الْمُرْسَلَاتِ عُرْفَا ... لَنَقْتُلَنَّ بَعْدَ صَفٍّ صَفَّا وَبَعْدَ أَلْفٍ قَاسِطِينَ أَلْفَا ثُمَّ وَدَّعَهُ الْمُخْتَارُ وَقَالَ لَهُ: خُذْ عَنِّي ثَلَاثًا: خَفِ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِكَ، وَعَجِّلِ السَّيْرَ، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ فَنَاجِزْهُمْ سَاعَةَ تَلْقَاهُمْ. وَرَجَعَ الْمُخْتَارُ، وَسَارَ إِبْرَاهِيمُ فَانْتَهَى إِلَى أَصْحَابِ الْكُرْسِيِّ، وَهُمْ عُكُوفٌ عَلَيْهِ قَدْ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ يَدْعُونَ اللَّهَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا، هَذِهِ سُنَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِذْ عَكَفُوا عَلَى عِجْلِهِمْ، ثُمَّ رَجَعُوا وَسَارَ إِلَى قَصْدِهِ. ذِكْرُ حَالِ الْكُرْسِيِّ الَّذِي كَانَ الْمُخْتَارُ يَسْتَنْصِرُ بِهِ قَالَ الطُّفَيْلُ بْنُ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ: أَضَقْنَا إِضَاقَةً شَدِيدَةً، فَخَرَجْتُ يَوْمًا فَإِذَا جَارٌ لِي زَيَّاتٌ عِنْدَهُ كُرْسِيٌّ رَكِبَهُ الْوَسَخُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ قُلْتُ لِلْمُخْتَارِ فِي هَذَا شَيْئًا. فَأَخَذْتُهُ مِنَ الزَّيَّاتِ وَغَسَلْتُهُ، فَخَرَجَ عُودُ نُضَارٍ قَدْ شَرِبَ الدُّهْنَ وَهُوَ يَبِصٌ، قَالَ فَقُلْتُ لِلْمُخْتَارِ: إِنِّي كُنْتُ أَكْتُمُكَ شَيْئًا، وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أَذْكُرَهُ لَكَ، إِنَّ أَبِي جَعْدَةَ كَانَ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيٍّ عِنْدَنَا، وَيَرْوِي أَنَّ فِيهِ أَثَرًا مِنْ عَلِيٍّ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَخَّرْتَهُ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ، ابْعَثْ بِهِ. فَأَحْضَرْتُهُ عِنْدَهُ وَقَدْ غُشِّيَ، فَأَمَرَ لِي بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ دَعَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَقَالَ الْمُخْتَارُ:

إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ أَمْرٌ إِلَّا وَهُوَ كَائِنٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِثْلُهُ، وَإِنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ التَّابُوتُ، وَإِنَّ هَذَا فِينَا مِثْلَ التَّابُوتِ. فَكَشَفُوا عَنْهُ، وَقَامَتِ السَّبَئِيَّةُ فَكَبَّرُوا. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ أَرْسَلَ الْمُخْتَارُ الْجُنْدَ لِقِتَالِ ابْنِ زِيَادٍ، وَخَرَجَ بِالْكُرْسِيِّ عَلَى بَغْلٍ وَقَدْ غُشِّيَ، فَقُتِلَ أَهْلُ الشَّامِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ فِتْنَةً، فَارْتَفَعُوا حَتَّى تَعَاطَوُا الْكُفْرَ. فَنَدِمْتُ عَلَى مَا صَنَعْتُ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ تَعِيبُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ قَالَ لِآلِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَكَانَتْ أُمُّ جَعْدَةَ أُمُّ هَانِئٍ أُخْتَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِأَبَوَيْهِ: ايتُونِي بِكُرْسِيِّ عَلِيٍّ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا هُوَ عِنْدَنَا. فَقَالَ: لَتَكُونُنَّ حَمْقَى، اذْهَبُوا فَأْتُونِي بِهِ. قَالَ: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَهُ بِكُرْسِيٍّ إِلَّا قَالَ: هَذَا هُوَ، وَقَبِلَهُ مِنْهُمْ. فَأَتَوْهُ بِكُرْسِيٍّ وَقَبَضَهُ مِنْهُمْ، وَخَرَجَتْ شِبَامٌ وَشَاكِرٌ وَرُءُوسُ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ وَقَدْ جَعَلُوا عَلَيْهِ الْحَرِيرَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَدَنَهُ مُوسَى بنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، كَانَ يُلِمُّ بِالْمُخْتَارِ لِأَنَّ أُمَّهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَعَتَبَ النَّاسُ عَلَى مُوسَى، فَتَرَكَهُ وَسَدَنَهُ حَوْشَبٌ الْبَرْسَمِيُّ حَتَّى هَلَكَ الْمُخْتَارُ، وَقَالَ أَعْشَى هَمْدَانَ فِي ذَلِكَ، شِعْرٌ: شَهِدْتُ عَلَيْكُمْ أَنَّكُمْ سَبَئِيَّةٌ ... وَإِنِّي بِكُمْ يَا شُرْطَةَ الشِّرْكِ عَارِفُ فَأُقْسِمُ مَا كُرْسِيُّكُمْ بِسَكِينَةٍ ... وَإِنْ كَانَ قَدْ لُفَّتْ عَلَيْهِ اللَّفَائِفُ وَأَنْ لَيْسَ كَالتَّابُوتِ فِينَا وَإِنْ سَعَتْ ... شِبَامٌ حَوَالَيْهِ وَنَهْدٌ وَخَارِفُ وَإِنِّي امْرُؤٌ أَحْبَبْتُ آلَ مُحَمَّدٍ ... وَتَابَعْتُ وَحْيًا ضُمِّنَتْهُ الْمَصَاحِفُ وَبَايَعْتُ عَبْدَ اللَّهِ لَمَّا تَتَابَعَتْ ... عَلَيْهِ قُرَيْشٌ شُمْطُهَا وَالْغَطَارِفُ وَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ اللَّيْثِيُّ: أَبْلِغْ أَبَا إِسْحَاقَ إِنْ جِئْتَهُ ... أَنِّي بِكُرْسِيِّكُمْ كَافِرُ

تَرَوْا شِبَامَ حَوْلَ أَعْوَادِهِ ... وَتَحْمِلُ الْوَحْيَ لَهُ شَاكِرُ مُحْمَرَّةً أَعْيُنُهُمْ حَوْلَهُ ... كَأَنَّهُنَّ الْحِمَّصُ الْحَادِرُ ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَامِلًا لِأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ لِابْنِ الزُّبَيْرِ أَيْضًا، وَكَانَ بِالْكُوفَةِ الْمُخْتَارُ مُتَغَلِّبًا عَلَيْهَا، وَبِخُرَاسَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَسْمَاءُ بْنُ حَارِثَةَ الْأَسْلَمِيُّ، وَلَهُ صُحْبَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ فِي إِمَارَةِ ابْنِ زِيَادٍ. وَتُوُفِّيَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقِيلَ: مَاتَ فِي إِمَارَةِ بِشْرِ بْنِ هَارُونَ. وَتُوُفِّيَ أَسْمَاءُ بْنُ خَارِجَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ سَيِّدُ قَوْمِهِ. (حَارِثَةُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ) .

ثم دخلت سنة سبع وستين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ] 67 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ ذِكْرُ مَقْتَلِ ابْنِ زِيَادٍ وَلَمَّا سَارَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ مِنَ الْكُوفَةِ أَسْرَعَ السَّيْرَ لِيَلْقَوُا ابْنَ زِيَادٍ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ أَرْضَ الْعِرَاقِ، وَكَانَ ابْنُ زِيَادٍ قَدْ سَارَ فِي عَسْكَرٍ عَظِيمٍ مِنَ الشَّامِ، فَبَلَغَ الْمَوْصِلَ وَمَلَكَهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، فَسَارَ إِبْرَاهِيمُ وَخَلَّفَ أَرْضَ الْعِرَاقِ وَأَوْغَلَ فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ، وَجَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ الطُّفَيْلَ بْنَ لَقِيطٍ النَّخَعِيَّ، وَكَانَ شُجَاعًا. فَلَمَّا دَنَا ابْنُ زِيَادٍ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ وَلَمْ يَسِرْ إِلَّا عَلَى تَعْبِيَةٍ وَاجْتِمَاعٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَبْعَثُ الطُّفَيْلَ عَلَى الطَّلَائِعِ حَتَّى يَبْلُغَ نَهْرَ الْخَازِرِ مِنْ بَلَدِ الْمَوْصِلِ، فَنَزَلَ بِقَرْيَةِ بَارِشْيَا. وَأَقْبَلَ ابْنُ زِيَادٍ إِلَيْهِ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْهُمْ عَلَى شَاطِئِ الْخَازِرِ. وَأَرْسَلَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُبَابِ السُّلَمِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ زِيَادٍ، إِلَى ابْنِ الْأَشْتَرِ: أَنِ الْقَنِي، وَكَانَتْ قَيْسٌ كُلُّهَا مُضْطَغِنَةً عَلَى ابْنِ مَرْوَانَ وَقْعَةَ مَرْجِ رَاهِطٍ، وَجُنْدُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَوْمَئِذٍ كَلْبٌ. فَاجْتَمَعَ عُمَيْرٌ وَابْنُ الْأَشْتَرِ، فَأَخْبَرَهُ عُمَيْرٌ أَنَّهُ عَلَى مَيْسَرَةِ ابْنِ زِيَادٍ، وَوَاعَدَهُ أَنْ يَنْهَزِمَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْأَشْتَرِ: مَا رَأْيُكَ؟ أُخَنْدِقُ عَلَيَّ وَأَتَوَقَّفُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً؟ فَقَالَ عُمَيْرٌ: لَا تَفْعَلْ، وَهَلْ يُرِيدُونَ إِلَّا هَذَا؟ فَإِنَّ الْمُطَاوَلَةَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَهُمْ كَثِيرٌ أَضْعَافُكُمْ، وَلَيْسَ يُطِيقُ الْقَلِيلُ الْكَثِيرَ فِي الْمُطَاوَلَةِ، وَلَكِنْ نَاجِزِ الْقَوْمَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ مُلِئُوا مِنْكُمْ رُعْبًا، وَإِنْ هُمْ شَامُّوا أَصْحَابَكَ، وَقَاتَلُوهُمْ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَمَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ - أَنِسُوا بِهِمْ وَاجْتَرَءُوا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الْآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ لِي مُنَاصِحٌ، وَبِهَذَا أَوْصَانِي صَاحِبِي. قَالَ عُمَيْرٌ: أَطِعْهُ فَإِنَّ الشَّيْخَ قَدْ ضَرَّسَتْهُ الْحَرْبُ وَقَاسَى مِنْهَا مَا لَمْ يُقَاسِهِ أَحَدٌ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَنَاهِضْهُمْ. وَعَادَ عُمَيْرٌ إِلَى أَصْحَابِهِ وَأَذْكَى ابْنُ الْأَشْتَرِ حَرَسَهُ، وَلَمْ يَدْخُلْ عَيْنَهُ غَمْضٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ السَّحَرُ الْأَوَّلُ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ، وَكَتَّبَ كَتَائِبَهُ، وَأَمَرَ أُمَرَاءَهُ، فَجَعَلَ سُفْيَانَ بْنَ يَزِيدَ

الْأَزْدِيَّ عَلَى مَيْمَنَتِهِ، وَعَلِيَّ بْنَ مَالِكٍ الْجُشَمِيَّ عَلَى مَيْسَرَتِهِ، وَهُوَ أَخُو الْأَحْوَصِ، وَجَعَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ أَخُو إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ لِأُمِّهِ، عَلَى الْخَيْلِ، وَكَانَتْ خَيْلُهُ قَلِيلَةً، وَجَعَلَ الطُّفَيْلَ بْنَ لَقِيطٍ عَلَى الرَّجَّالَةِ، وَكَانَتْ رَايَتُهُ مَعَ مُزَاحِمِ بْنِ مَالِكٍ. فَلَمَّا انْفَجَرَ الْفَجْرُ صَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَفَّ أَصْحَابَهُ، وَأَلْحَقَ كُلَّ أَمِيرٍ بِمَكَانِهِ، وَنَزَلَ إِبْرَاهِيمُ يَمْشِي وَيُحَرِّضُ النَّاسَ وَيُمَنِّيهِمُ الظَّفَرَ، وَسَارَ بِهِمْ رُوَيْدًا، فَأَشْرَفَ عَلَى تَلٍّ عَظِيمٍ مُشْرِفٍ عَلَى الْقَوْمِ، وَإِذَا أُولَئِكَ الْقَوْمُ لَمْ يَتَحَرَّكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَأَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زُهَيْرٍ السَّلُولِيَّ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، فَعَادَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: قَدْ خَرَجَ الْقَوْمُ عَلَى دَهَشٍ وَفَشَلٍ، لَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ وَلَيْسَ لَهُ كَلَامٌ إِلَّا: يَا شِيعَةَ أَبِي تُرَابٍ! يَا شِيعَةَ الْمُخْتَارِ الْكَذَّابِ! قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: الَّذِي بَيْنَنَا أَجَلُّ مِنَ الشَّتْمِ. وَرَكِبَ إِبْرَاهِيمُ وَسَارَ عَلَى الرَّايَاتِ يُحِثُّهُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ فِعْلَ ابْنِ زِيَادٍ بِالْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، مِنَ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ وَمَنْعِ الْمَاءِ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى قَتْلِهِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْمُ إِلَيْهِ، وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ زِيَادٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ السَّكُونِيَّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عُمَيْرَ بْنَ الْحُبَابِ السُّلَمِيَّ، وَعَلَى الْخَيْلِ شُرَحْبِيلَ بْنَ ذِي الْكُلَاعِ الْحِمْيَرِيَّ. فَلَمَّا تَدَانَى الصَّفَّانِ حَمَلَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ فِي مَيْمَنَةِ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى مَيْسَرَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَثَبَتَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ مَالِكٍ الْجُشَمِيُّ فَقُتِلَ، ثُمَّ أَخَذَ رَايَتَهُ قُرَّةُ بْنُ عَلِيٍّ، فَقُتِلَ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْبَأْسِ وَانْهَزَمَتِ الْمَيْسَرَةُ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَرْقَاءَ بْنِ جُنَادَةَ السَّلُولِيُّ ابْنُ أَخِي حُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَقْبَلَ الْمُنْهَزِمِينَ، فَقَالَ: إِلَيَّ يَا شُرْطَةَ اللَّهِ. فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ. فَقَالَ: هَذَا أَمِيرُكُمْ يُقَاتِلُ ابْنَ زِيَادٍ، ارْجِعُوا بِنَا إِلَيْهِ فَرَجَعُوا، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ كَاشِفٌ رَأْسَهُ يُنَادِي: إِلَيَّ شُرْطَةَ اللَّهِ، أَنَا ابْنُ الْأَشْتَرِ، إِنَّ خَيْرَ فُرَّارِكُمْ كُرَّارُكُمْ، لَيْسَ مُسِيئًا مَنْ أَعْتَبَ. فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ، وَحَمَلَتْ مَيْمَنَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَيْسَرَةِ ابْنِ زِيَادٍ وَهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَنْهَزِمَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُبَابِ، كَمَا زَعَمَ، فَقَاتَلَهُمْ عُمَيْرٌ قِتَالًا شَدِيدًا وَأَنِفَ مِنَ الْفِرَارِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: اقْصِدُوا هَذَا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ، فَوَاللَّهِ لَوْ هَزَمْنَاهُ لَانْجَفَلَ مَنْ تَرَوْنَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً انْجِفَالَ طَيْرٍ ذَعَرْتَهَا. فَمَشَى أَصْحَابُهُ إِلَيْهِمْ فَتَطَاعَنُوا، ثُمَّ صَارُوا إِلَى السُّيُوفِ وَالْعُمُدِ، فَاضْطَرَبُوا بِهَا مَلِيًّا، وَكَانَ صَوْتُ الضَّرْبِ بِالْحَدِيدِ كَصَوْتِ الْقَصَّارِينَ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ لِصَاحِبِ رَايَتِهِ: انْغَمِسْ بِرَايَتِكَ فِيهِمْ. فَيَقُولُ: لَيْسَ لِي مُتَقَدَّمٌ. فَيَقُولُ: بَلَى. فَإِذَا تَقَدَّمَ شَدَّ إِبْرَاهِيمُ بِسَيْفِهِ، فَلَا يَضْرِبُ [بِهِ] رَجُلًا إِلَّا صَرَعَهُ،

وَكَرَدَ إِبْرَاهِيمُ الرَّجَّالَةَ [مِنْ] بَيْنِ يَدَيْهِ كَأَنَّهُمُ الْحِمْلَانُ، وَحَمَلَ أَصْحَابُهُ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ زِيَادٍ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَتْلَى كَثِيرَةٌ. وَقِيلَ: إِنَّ عُمَيْرَ بْنَ الْحُبَابِ أَوَّلُ مَنِ انْهَزَمَ، وَإِنَّمَا كَانَ قِتَالُهُ أَوَّلًا تَعْذِيرًا. فَلَمَّا انْهَزَمُوا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنِّي قَدْ قَتَلْتُ رَجُلًا تَحْتَ رَايَةٍ مُنْفَرِدَةٍ عَلَى شَاطِئِ نَهْرِ الْخَازِرِ، فَالْتَمِسُوهُ، فَإِنِّي شَمَمْتُ مِنْهُ رَائِحَةَ الْمِسْكِ، شَرَّقَتْ يَدَاهُ، وَغَرَّبَتْ رِجْلَاهُ. فَالْتَمَسُوهُ فَإِذَا هُوَ ابْنُ زِيَادٍ قَتِيلًا بِضَرْبَةِ إِبْرَاهِيمَ فَقَدْ قَدَّتْهُ بِنِصْفَيْنِ وَسَقَطَ، كَمَا ذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ، فَأَخَذَ رَأْسَهُ وَأُحْرِقَتْ جُثَّتُهُ. وَحَمَلَ شَرِيكُ بْنُ جَدِيرٍ التَّغْلِبِيُّ عَلَى الْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ السَّكُونِيِّ وَهُوَ يَظُنُّهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، فَاعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَنَادَى التَّغْلِبِيُّ: اقْتُلُونِي وَابْنَ الزَّانِيَةِ! فَقَتَلُوا الْحُصَيْنَ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَتَلَ ابْنَ زِيَادٍ شَرِيكُ بْنُ جَدِيرٍ، وَكَانَ هَذَا شَرِيكٌ شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ، وَأُصِيبَتْ عَيْنُهُ، فَلَمَّا انْقَضَتْ أَيَّامُ عَلِيٍّ لَحِقَ شَرِيكٌ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَقَامَ بِهِ، فَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ عَاهَدَ اللَّهَ - تَعَالَى - إِنْ ظَهَرَ مَنْ يَطْلُبُ بِدَمِهِ لَيَقْتُلَنَّ ابْنَ زِيَادٍ أَوْ لَيَمُوتَنَّ دُونَهُ. فَلَمَّا ظَهَرَ الْمُخْتَارُ لِلطَّلَبِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ أَقْبَلَ إِلَيْهِ، وَسَارَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ، فَلَمَّا الْتَقَوْا حَمَلَ عَلَى خَيْلِ الشَّامِ يَهْتِكُهَا صَفًّا صَفًّا مَعَ أَصْحَابِهِ مِنْ رَبِيعَةَ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، وَثَارَ الرَّهْجُ، فَلَا يُسْمَعُ إِلَّا وَقْعُ الْحَدِيدِ، فَانْفَرَجَتْ عَنِ النَّاسِ وَهُمَا قَتِيلَانِ، شَرِيكٌ وَابْنُ زِيَادٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَشَرِيكٌ هُوَ الْقَائِلُ: كُلُّ عَيْشٍ قَدْ أَرَاهُ بَاطِلًا غَيْرَ رَكْزِ الرُّمْحِ فِي ظِلِّ الْفَرَسْ قَالَ: وَقُتِلَ شُرَحْبِيلُ بْنُ ذِي الْكُلَاعِ الْحِمْيَرِيُّ، وَادَّعَى قَتْلَهُ سُفْيَانُ بْنُ يَزِيدَ الْأَزْدِيُّ، وَوَرْقَاءُ بْنُ عَازِبٍ الْأَسَدِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زُهَيْرٍ السُّلَمِيُّ، وَكَانَ عُيَيْنَةُ بْنُ أَسْمَاءَ مَعَ ابْنِ زِيَادٍ، فَلَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ حَمَلَ أُخْتَهُ هِنْدَ بِنْتَ أَسْمَاءَ، وَكَانَتْ زَوْجَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَذَهَبَ بِهَا وَهُوَ يَرْتَجِزُ:

إِنْ تَصْرِمِي حِبَالَنَا فَرُبَّمَا ... أَرْدَيْتُ فِي الْهَيْجَا الْكَمِيَّ الْمُعْلِمَا وَلَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ زِيَادٍ تَبِعَهُمْ أَصْحَابُ إِبْرَاهِيمَ، فَكَانَ مَنْ غَرِقَ أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ، وَأَصَابُوا عَسْكَرَهُمْ وَفِيهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَأَرْسَلَ إِبْرَاهِيمُ الْبِشَارَةَ إِلَى الْمُخْتَارِ وَهُوَ بِالْمَدَائِنِ، وَأَنْفَذَ إِبْرَاهِيمُ عُمَّالَهُ إِلَى الْبِلَادِ، فَبَعَثَ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى نَصِيبِينَ، وَغَلَبَ عَلَى سِنْجَارَ وَدَارَا وَمَا وَالَاهُمَا مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ، فَوَلَّى زُفَرَ بْنَ الْحَارِثِ قَرْقِيسِيَا، وَحَاتِمَ بْنَ النُّعْمَانِ الْبَاهِلِيَّ حَرَّانَ، وَالرُّهَاءَ، وَسُمَيْسَاطَ، وَنَاحِيَتَهَا، وَوَلَّى عُمَيْرَ بْنَ الْحُبَابِ السُّلَمِيَّ كَفْرَتُوثَا، وَطُورَ عَبْدِينَ. وَأَقَامَ إِبْرَاهِيمُ بِالْمَوْصِلِ، وَأَنْفَذَ رَأْسَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ إِلَى الْمُخْتَارِ وَمَعَهُ رُءُوسُ قُوَّادِهِ، فَأُلْقِيَتْ فِي الْقَصْرِ، فَجَاءَتْ حَيَّةٌ دَقِيقَةٌ، فَتَخَلَّلَتِ الرُّءُوسَ حَتَّى دَخَلَتْ فِي فَمِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، ثُمَّ خَرَجَتْ مِنْ مَنْخَرِهِ، وَدَخَلَتْ فِي مِنْخَرِهِ وَخَرَجَتْ مِنْ فِيهِ، فَعَلَتْ هَذَا مِرَارًا، أَخْرَجَ هَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ الزُّيُوفَ فِي الْإِسْلَامِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، وَقَالَ بَعْضُ حُجَّابِ ابْنِ زِيَادٍ: دَخَلْتُ مَعَهُ الْقَصْرَ حِينَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ، فَاضْطَرَمَ فِي وَجْهِهِ نَارًا، فَقَالَ بِكُمِّهِ هَكَذَا عَلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: لَا تُحَدِّثَنَّ بِهَذَا أَحَدًا. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: قَالَتْ مُرْجَانَةُ لِابْنِهَا عُبَيْدِ اللَّهِ بَعْدَ قَتْلِ الْحُسَيْنِ: يَا خَبِيثُ، قَتَلْتَ ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَرَى الْجَنَّةَ أَبَدًا! وَقَالَ ابْنُ مُفَرَّغٍ حِينَ قُتِلَ ابْنُ زِيَادٍ: إِنَّ الْمَنَايَا إِذَا مَا زُرْنَ طَاغِيَةً ... هَتَّكْنَ أَسْتَارَ حِجَّابٍ وَأَبْوَابِ أَقُولُ بُعْدًا وَسُحْقًا عِنْدَ مَصْرَعِهِ ... لِابْنِ الْخَبِيثَةِ وَابْنِ الْكَوْدَنِ الْكَابِي لَا أَنْتَ زُوحِمْتَ عَنْ مُلْكٍ فَتَمْنَعُهُ ... وَلَا مَتَتَّ إِلَى قَوْمٍ بِأَسْبَابٍ لَا مِنْ نِزَارٍ وَلَا مِنْ جَذْمِ ذِي يَمَنٍ ... جُلْمُودَ ذَا أُلْقِيتْ مِنْ بَيْنِ أَلْهَابِ لَا تَقْبَلُ الْأَرْضُ مَوْتَاهُمْ إِذَا قُبِرُوا ... وَكَيْفَ تَقْبَلُ رِجْسًا بَيْنَ أَثْوَابِ؟

وَقَالَ سُرَاقَةُ الْبَارِقِيُّ يَمْدَحُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ: أَتَاكُمْ غُلَامٌ مِنْ عَرَانِينَ مَذْحِجٍ ... جَرِيٌّ عَلَى الْأَعْدَاءِ غَيْرُ نَكُولِ فَيَا ابْنَ زِيَادٍ بُؤْ بِأَعْظَمِ مَالِكٍ ... وَذُقْ حَدَّ مَاضِي الشَّفْرَتَيْنِ صَقِيلِ جَزَى اللَّهُ خَيْرًا شُرْطَةَ اللَّهِ إِنَّهُمْ ... شَفَوْا مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَمْسِ غَلِيلِي وَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُبَابِ السُّلَمِيُّ يَذُمُّ جَيْشَ ابْنِ زِيَادٍ: وَمَا كَانَ جَيْشٌ يَجْمَعُ الْخَمْرَ وَالزِّنَا ... مُحِلًّا إِذَا لَاقَى الْعَدُوَّ لِيُنْصَرَا ذِكْرُ وِلَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْبَصْرَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَهُوَ الْقُبَاعُ، عَنِ الْبَصْرَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَخَاهُ مُصْعَبًا. فَقَدِمَهَا مُصْعَبٌ مُتَلَثِّمًا، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ النَّاسُ: أَمِيرٌ أَمِيرٌ! وَجَاءَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَهُوَ الْأَمِيرُ، فَسَفَرَ مُصْعَبُ لِثَامَهُ فَعَرَفُوهُ، وَأَمَرَ مُصْعَبٌ الْحَارِثَ بِالصُّعُودِ إِلَيْهِ، فَأَجْلَسَهُ تَحْتَهُ بِدَرَجَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُصْعَبٌ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، {طسم - تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ - نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 1 - 3] إِلَى قَوْلِهِ: {مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] ، وَأَشَارَ نَحْوَ الْحِجَازِ، {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 6] ، وَأَشَارَ نَحْوَ الْكُوفَةِ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُلَقِّبُونَ أُمَرَاءَكُمْ، وَقَدْ لَقَّبْتُ نَفْسِي بِالْجَزَّارِ. ذِكْرُ مَسِيرِ مُصْعَبٍ إِلَى الْمُخْتَارِ وَقَتْلِ الْمُخْتَارِ وَلَمَّا هَرَبَ أَشْرَافُ الْكُوفَةِ مِنْ وَقْعَةِ السَّبِيعِ أَتَى جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى مُصْعَبٍ، فَأَتَاهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ عَلَى بَغْلَةٍ قَدْ قَطَعَ ذَنَبَهَا وَطَرَفَ أُذُنَهَا، وَشَقَّ قَبَاءَهُ وَهُوَ يُنَادِي: يَا غَزْوَتَاهُ! فَرُفِعَ خَبَرُهُ إِلَى مُصْعَبٍ، فَقَالَ: هَذَا شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ. فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ، فَأَتَاهُ أَشْرَافُ الْكُوفَةِ

فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَأَخْبَرُوهُ بِمَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَسَأَلُوهُ النَّصْرَ لَهُمْ، وَالْمَسِيرَ إِلَى الْمُخْتَارِ مَعَهُمْ. وَقَدِمَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ أَيْضًا وَاسْتَحَثَّهُ عَلَى الْمَسِيرِ، فَأَدْنَاهُ مُصْعَبٌ وَأَكْرَمَهُ لِشَرَفِهِ، وَقَالَ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ حِينَ أَكْثَرُوا عَلَيْهِ: لَا أَسِيرُ حَتَّى يَأْتِيَنِي الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ، وَهُوَ عَامِلُهُ عَلَى فَارِسَ، يَسْتَدْعِيهِ لِيَشْهَدَ مَعَهُمْ قِتَالَ الْمُخْتَارِ، فَأَبْطَأَ الْمُهَلَّبُ، وَاعْتَلَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَرَاجِ لِكَرَاهِيَةِ الْخُرُوجِ، فَأَمَرَ مُصْعَبٌ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُهَلَّبِ يَسْتَحِثَّهُ، فَأَتَاهُ مُحَمَّدٌ وَمَعَهُ كِتَابُ مُصْعَبٍ، فَلَمَّا قَرَأَهُ قَالَ لَهُ: أَمَا وَجَدَ مُصْعَبٌ بَرِيدًا غَيْرَكَ؟ فَقَالَ: مَا أَنَا بِبَرِيدٍ لِأَحَدٍ، غَيْرَ أَنَّ نِسَاءَنَا وَأَبْنَائَنَا وَحَرَمَنَا غَلَبَنَا عَلَيْهِمْ عَبِيدُنَا. فَأَقْبَلَ الْمُهَلَّبُ مَعَهُ بِجُمُوعٍ كَثِيرَةٍ وَأَمْوَالٍ عَظِيمَةٍ، فَقَدِمَ الْبَصْرَةَ، وَأَمَرَ مُصْعَبٌ بِالْعَسْكَرِ عِنْدَ الْجِسْرِ الْأَكْبَرِ، وَأَرْسَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مِخْنَفٍ إِلَى الْكُوفَةِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُخْرِجَ إِلَيْهِ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُثَبِّطَ النَّاسَ عَنِ الْمُخْتَارِ، وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى بَيْعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ سِرًّا، فَفَعَلَ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ مُسْتَتِرًا، ثُمَّ سَارَ مُصْعَبٌ فَقَدَّمَ أَمَامَهُ عَبَّادَ بْنَ الْحُصَيْنِ الْحَطَمِيَّ التَّمِيمِيَّ، وَبَعَثَ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِ، وَالْمُهَلَّبَ عَلَى مَسِيرَتِهِ، وَجَعَلَ مَالِكَ بْنَ مِسْمَعٍ عَلَى بَكْرٍ، وَمَالِكَ بْنَ الْمُنْذِرِ عَلَى عَبْدِ الْقَيْسِ، وَالْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ عَلَى تَمِيمٍ، وَزِيَادَ بْنَ عَمْرٍو الْعَتَكِيَّ عَلَى الْأَزْدِ، وَقَيْسَ بْنَ الْهَيْثَمِ عَلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ الْمُخْتَارَ، فَقَامَ فِي أَصْحَابِهِ فَأَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ، وَنَدَبَهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مَعَ أَحْمَرَ بْنِ شُمَيْطٍ، فَخَرَجَ وَعَسْكَرَ بِحَمَّامِ أَعْيَنَ، وَدَعَا الْمُخْتَارُ رُءُوسَ الْأَرْبَاعِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ ابْنِ الْأَشْتَرِ، فَبَعَثَهُمْ مَعَ أَحْمَرَ بْنِ شُمَيْطٍ، فَسَارَ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ ابْنُ كَامِلٍ الشَّاكِرِيُّ، فَوَصَلُوا إِلَى الْمَذَارِ، وَأَتَى مُصْعَبٌ فَعَسْكَرَ قَرِيبًا مِنْهُ، وَعَبَّأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُنْدَهُ ثُمَّ تَزَاحَفَا، فَجَعَلَ ابْنُ شُمَيْطٍ ابْنَ كَامِلٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وُهَيْبٍ الْجُشَمِيَّ، وَجَعَلَ أَبَا عَمْرَةَ مَوْلَى عُرَيْنَةَ عَلَى الْمَوَالِي. فَجَاءَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ وُهَيْبٍ الْجُشَمِيُّ إِلَى ابْنِ شُمَيْطٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْمَوَالِيَ وَالْعَبِيدَ أُولُوا خَوَرٍ عِنْدَ الْمَصْدُوقَةِ، وَإِنَّ مَعَهُمْ رِجَالًا كَثِيرًا عَلَى الْخَيْلِ وَأَنْتَ تَمْشِي، فَمُرْهُمْ فَلْيَمْشُوا مَعَكَ، فَإِنِّي أَتَخَوَّفُ أَنْ يَطِيرُوا عَلَيْهَا وَيُسْلِمُوكَ. وَكَانَ هَذَا غِشًّا مِنْهُ لِلْمَوَالِي، لِمَا كَانُوا لَقُوا مِنْهُمْ بِالْكُوفَةِ، فَأَحَبَّ أَنْ كَانَتْ عَلَيْهِمُ الْهَزِيمَةُ، وَأَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَلَمْ يَتَّهِمْهُ ابْنُ شُمَيْطٍ، فَفَعَلَ مَا أَشَارَ بِهِ، فَنَزَلَ الْمَوَالِي مَعَهُ. وَجَاءَ مُصْعَبٌ وَقَدْ جَعَلَ عَبَّادَ بْنَ الْحُصَيْنِ عَلَى الْخَيْلِ، فَدَنَا عَبَّادٌ مِنْ أَحْمَرَ

وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ: إِنَّا نَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَإِلَى بَيْعَةِ الْمُخْتَارِ، وَإِلَى أَنْ نَجْعَلَ هَذَا الْأَمْرَ شُورَى فِي آلِ الرَّسُولِ. فَرَجَعَ عَبَّادٌ فَأَخْبَرَ مُصْعَبًا، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَاحْمِلْ عَلَيْهِمْ. فَرَجَعَ وَحَمَلَ عَلَى ابْنِ شُمَيْطٍ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَنْزِلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَوْقِفِهِ، وَحَمَلَ الْمُهَلَّبُ عَلَى ابْنِ كَامِلٍ، فَجَالَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَنَزَلَ ابْنُ كَامِلٍ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُهَلَّبُ، ثُمَّ قَالَ الْمُهَلَّبُ لِأَصْحَابِهِ: كِرُّوا عَلَيْهِمْ كَرَّةً صَادِقَةً. فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةً مُنْكَرَةً، فَوَلَّوْا، وَصَبَرَ ابْنُ كَامِلٍ فِي رِجَالٍ مِنْ هَمْدَانَ سَاعَةً ثُمَّ انْهَزَمَ، وَحَمَلَ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، فَصَبَرَ سَاعَةً ثُمَّ انْصَرَفَ، وَحَمَلَ النَّاسُ جَمِيعًا عَلَى ابْنِ شُمَيْطٍ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَتَنَادَوْا: يَا مَعْشَرَ بَجِيلَةَ وَخَثْعَمٍ، الصَّبْرَ! فَنَادَاهُمُ الْمُهَلَّبُ: الْفِرَارُ الْيَوْمَ أَنْجَى لَكُمْ، عَلَامَ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ مَعَ هَذِهِ الْعَبِيدِ؟ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَى كَثْرَةَ الْقَتْلِ الْيَوْمَ إِلَّا فِي قَوْمِي. وَمَالَتِ الْخَيْلُ عَلَى رَجَّالَةِ ابْنِ شُمَيْطٍ فَانْهَزَمَتْ، وَبَعَثَ مُصْعَبٌ عَبَّادًا عَلَى الْخَيْلِ، فَقَالَ: أَيُّمَا أَسِيرٍ أَخَذْتَهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ. وَسَرَّحَ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ فِي خَيْلٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَقَالَ: دُونَكُمْ ثَأْرُكُمْ. فَكَانُوا أَشَدَّ عَلَى الْمُنْهَزِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، لَا يُدْرِكُونَ مُنْهَزِمًا إِلَّا قَتَلُوهُ، وَلَا يَأْخُذُونَ أَسِيرًا فَيَعْفُونَ عَنْهُ، فَلَمْ يَنْجُ مِنْ ذَلِكَ الْجَيْشِ إِلَّا طَائِفَةُ أَصْحَابِ الْخَيْلِ، وَأَمَّا الرَّجَّالَةُ فَأُبِيدُوا إِلَّا قَلِيلًا. قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ الْمُزَنِيُّ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَأَدْخَلْتُ السِّنَانَ فِي عَيْنِهِ، فَأَخَذْتُ أُخَضْخِضُ عَيْنَهُ بِهِ. فَقِيلَ لَهُ: أَفَعَلْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَنَا أَحَلَّ دِمَاءً مِنَ التُّرْكِ وَالدَّيْلَمِ. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ هَذَا قَاضِي الْبَصْرَةِ. فَلَمَّا فَرَغَ مُصْعَبٌ مِنْهُمْ أَقْبَلَ حَتَّى قَطَعَ مِنْ تِلْقَاءِ وَاسِطٍ، وَلَمْ تَكُنْ بُنِيَتْ بَعْدُ، فَأَخَذَ فِي كَسْكَرٍ، ثُمَّ حَمَلَ الرِّجَالَ وَأَثْقَالَهُمْ وَالضُّعَفَاءَ فِي السُّفُنِ، فَأُخِذُوا فِي نَهْرِ خَرْشَادَ إِلَى نَهْرِ قُوسَانَ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى الْفُرَاتِ. وَأَتَى الْمُخْتَارَ خَبَرُ الْهَزِيمَةِ وَمَنْ قُتِلَ بِهَا فِي فُرْسَانِ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: مَا مِنَ الْمَوْتِ بُدٌّ، وَمَا مِنْ مَيْتَةٍ أُمُوتُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ مَيْتَةَ ابْنِ شُمَيْطٍ. فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَا يُرِيدُ يُقَاتِلْ حَتَّى يُقْتَلَ. وَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ مُصْعَبًا قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ سَارَ حَتَّى وَصَلَ السَّيْلَحِينَ، وَنَظَرَ إِلَى مُجْتَمَعِ الْأَنْهَارِ: نَهْرِ الْحَيْرَةِ، وَنَهْرِ السَّيْلَحِينَ، وَنَهْرِ الْقَادِسِيَّةِ، وَنَهْرِ يُوسُفَ، فَسَكَّرَ

الْفُرَاتَ، فَذَهَبَ مَاؤُهَا فِي هَذِهِ الْأَنْهَارِ، وَبَقِيَتْ سُفُنُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي الطِّينِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ خَرَجُوا مِنَ السُّفُنِ إِلَى ذَلِكَ السَّكْرِ، فَأَصْلَحُوهُ وَقَصَدُوا الْكُوفَةَ، وَسَارَ الْمُخْتَارُ إِلَيْهِمْ فَنَزَلَ حَرُورَاءَ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُوفَةِ، وَكَانَ قَدْ حَصَّنَ الْقَصْرَ وَالْمَسْجِدَ، وَأَدْخَلَ إِلَيْهِ عُدَّةَ الْحِصَارِ. وَيُقْبِلُ مُصْعَبٌ وَقَدْ جَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ الْمُهَلَّبَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَعَلَى الْخَيْلِ عَبَّادَ بْنَ الْحُصَيْنِ، وَجَعَلَ الْمُخْتَارُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ سُلَيْمَ بْنَ يَزِيدَ الْكِنْدِيَّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ سَعِيدَ بْنَ مُنْقِذٍ الْهَمْدَانِيَّ، وَعَلَى الْخَيْلِ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ اللَّهِ النَّهْدِيَّ، وَعَلَى الرِّجَالِ مَالِكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ النَّهْدِيَّ. وَأَقْبَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ فِيمَنْ هَرَبَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَنَزَلَ بَيْنَ مُصْعَبٍ وَالْمُخْتَارِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمُخْتَارُ بَعَثَ إِلَى كُلِّ جَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَتَدَانَى النَّاسُ، فَحَمَلَ سَعِيدُ بْنُ مُنْقِذٍ عَلَى بَكْرٍ وَعَبْدِ الْقَيْسِ، وَهُمْ فِي مَيْمَنَةِ مُصْعَبٍ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَأَرْسَلَ مُصْعَبٌ إِلَى الْمُهَلَّبِ لِيَحْمِلَ عَلَى مَنْ بِإِزَائِهِ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَجْزُرَ الْأَزْدَ خَشْيَةَ أَهْلِ الْكُوفَةِ حَتَّى أَرَى فُرْصَتِي. وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ الْمَخْزُومِيِّ، فَحَمَلَ عَلَى مَنْ بِإِزَائِهِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعَالِيَةِ، فَكَشَفَهُمْ، فَانْتَهَوْا إِلَى مُصْعَبٍ، فَجَثَا مُصْعَبٌ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَبَرَكَ النَّاسُ عِنْدَهُ، فَقَاتَلُوا سَاعَةً وَتَحَاجَزُوا. ثُمَّ إِنَّ الْمُهَلَّبَ حَمَلَ فِي أَصْحَابِهِ عَلَى مَنْ بِإِزَائِهِ، فَحَطَمُوا أَصْحَابَ الْمُخْتَارِ حَطْمَةً مُنْكَرَةً، فَكَشَفُوهُمْ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو النَّهْدِيُّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ صِفِّينَ: اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ بِصِفِّينَ، اللَّهُمَّ أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ فِعْلِ هَؤُلَاءِ - لِأَصْحَابِهِ [حِينَ انْهَزَمُوا]- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ أَنْفُسِ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي أَصْحَابَ مُصْعَبٍ - ثُمَّ جَالَدَ بِسَيْفِهِ حَتَّى قُتِلَ. وَانْقَصَفَ أَصْحَابُ الْمُخْتَارِ كَأَنَّهُمْ أَجَمَةُ قَصَبٍ فِيهَا نَارٌ، وَحَمَلَ مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو النَّهْدِيُّ، وَهُوَ عَلَى الرَّجَّالَةِ، وَمَعَهُ نَحْوُ خَمْسِينَ رَجُلًا، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَسَاءِ، عَلَى أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ حَمْلَةً مُنْكَرَةً، فَقُتِلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ، وَقُتِلَ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ. وَقَاتَلَ الْمُخْتَارُ عَلَى فَمِ سِكَّةِ شَبَثٍ عَامَّةَ لَيْلَتِهِ، وَقَاتَلَ مَعَهُ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْبَأْسِ، وَقَاتَلَتْ مَعَهُ هَمْدَانُ أَشَدَّ قِتَالٍ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنِ الْمُخْتَارِ، فَقَالَ لَهُ مَنْ مَعَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، اذْهَبْ إِلَى الْقَصْرِ، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَهُ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَلَمْ تَكُنْ وَعَدْتَنَا الظَّفَرَ، وَأَنَّا سَنَهْزِمُهُمْ؟ فَقَالَ: أَمَا قَرَأْتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى -: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]

فَقِيلَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِالْبَدَاءِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ مُصْعَبٌ أَقْبَلَ يَسِيرُ فِيمَنْ مَعَهُ نَحْوَ السَّبْخَةِ، فَمَرَّ بِالْمُهَلَّبِ، فَقَالَ لَهُ الْمُهَلَّبُ: يَا لَهُ فَتْحًا، مَا أَهْنَأَهُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ. قَالَ: صَدَقْتَ. ثُمَّ قَالَ مُصْعَبٌ لِلْمُهَلَّبِ: إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَرْجَعَ الْمُهَلَّبُ، فَقَالَ مُصْعَبٌ: قَدْ كُنْتُ أَحِبُّ أَنْ يَشْهَدَ هَذَا الْفَتْحَ، أَتَدْرِي مَنْ قَتَلَهُ؟ إِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ شِيعَةٌ لِأَبِيهِ. ثُمَّ نَزَلَ السَّبْخَةَ فَقَطَعَ عَنْهُمُ الْمَاءَ وَالْمَادَّةَ، وَقَاتَلَهُمُ الْمُخْتَارُ وَأَصْحَابُهُ قِتَالًا ضَعِيفًا، وَاجْتَرَأَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ، فَكَانُوا إِذَا خَرَجُوا رَمَاهُمُ النَّاسُ مِنْ فَوْقِ الْبُيُوتِ، وَصَبُّوا عَلَيْهِمُ الْمَاءَ الْقَذِرَ، وَكَانَ أَكْثَرُ مَعَاشِهِمْ مِنَ النِّسَاءِ، تَأْتِي الْمَرْأَةُ مُتَخَفِّيَةً وَمَعَهَا الْقَلِيلُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَى أَهْلِهَا. فَفَطِنَ مُصْعَبٌ بِالنِّسَاءِ فَمَنَعَهُنَّ، فَاشْتَدَّ عَلَى الْمُخْتَارِ وَأَصْحَابِهِ الْعَطَشُ، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ مَاءَ الْبِئْرِ يَعْمَلُونَ فِيهِ الْعَسَلَ، فَكَانَ ذَلِكَ مَا يَرْوِي بَعْضَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ مُصْعَبًا أَمَرَ أَصْحَابَهُ، فَاقْتَرَبُوا مِنَ الْقَصْرِ وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمُ الْمُخْتَارُ: وَيْحَكُمُ إِنَّ الْحِصَارَ لَا يَزِيدُكُمْ إِلَّا ضَعْفًا، فَانْزِلُوا بِنَا فَنُقَاتِلُ حَتَّى نُقْتَلَ كِرَامًا إِنْ نَحْنُ قُتِلْنَا، فَوَاللَّهِ مَا أَنَا بِآيِسٍ إِنْ صَدَقْتُمُوهُمْ أَنْ يَنْصُرَكُمُ اللَّهُ. فَضَعُفُوا وَلَمْ يَفْعَلُوا. فَقَالَ لَهُمْ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لَا أُعْطِي بِيَدِي، وَلَا أُحَكِّمُكُمْ فِي نَفْسِي، وَإِذَا خَرَجْتُ فَقُتِلْتُ لَمْ تَزْدَادُوا إِلَّا ضَعْفًا وَذُلًّا، فَإِنْ نَزَلْتُمْ عَلَى حُكْمِهِمْ، وَثَبَتَ أَعْدَاؤُكُمْ فَقَتَلُوكُمْ، وَبَعْضُكُمْ يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ فَتَقُولُونَ: يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا الْمُخْتَارَ، وَلَوْ أَنَّكُمْ خَرَجْتُمْ مَعِي كُنْتُمْ إِنْ أَخْطَأْتُمُ الظَّفَرَ مُتُّمْ كِرَامًا. فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ الْمُخْتَارُ تَدَلَّى مِنَ الْقَصْرِ، فَلَحِقَ بِنَاسٍ مِنْ إِخْوَانِهِ، فَاخْتَفَى عِنْدَهُمْ سِرًّا. ثُمَّ إِنَّ الْمُخْتَارَ تَطَيَّبَ وَتَحَنَّطَ وَخَرَجَ مِنَ الْقَصْرِ فِي تِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَمِنْهُمُ السَّائِبُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَكَانَتْ تَحْتَهُ عَمْرَةُ بِنْتُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا أُخِذَ الْقَصْرُ وُجِدَ صَبِيًّا فَتَرَكُوهُ. فَلَمَّا خَرَجَ الْمُخْتَارُ قَالَ لِلسَّائِبِ: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ: مَا تَرَى أَنْتَ. قَالَ: وَيْحَكَ يَا أَحْمَقُ، إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَثَبَ بِالْحِجَازِ، وَرَأَيْتُ ابْنَ نَجْدَةَ وَثَبَ بِالْيَمَامَةِ، وَمَرْوَانُ بِالشَّامِ، وَكُنْتُ فِيهَا كَأَحَدِهِمْ، إِلَّا أَنِّي قَدْ طَلَبْتُ بِثَأْرِ أَهْلِ الْبَيْتِ إِذْ نَامَتْ عَنْهُ الْعَرَبُ، فَقَاتِلْ عَلَى حَسْبِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ نِيَّةٌ. فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَا

كُنْتُ أَصْنَعُ أَنْ أُقَاتِلَ عَلَى حَسْبِي. ثُمَّ تَقَدَّمَ الْمُخْتَارُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، قَتَلَهُ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ أَخَوَانِ، أَحَدُهُمَا طَرَفَةُ، وَالْآخَرُ طَرَّافٌ، ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَجَاجَةَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ قَتْلِهِ دَعَاهُمْ بَحِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمِسْكِيُّ وَمَنْ مَعَهُ بِالْقَصْرِ إِلَى مَا دَعَاهُمُ الْمُخْتَارُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، وَأَمْكَنُوا أَصْحَابَ مُصْعَبٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَأَخْرَجُوهُمْ مُكَتَّفِينَ، فَأَرَادَ إِطْلَاقَ الْعَرَبِ وَقَتْلَ الْمَوَالِي، فَأَبَى أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ، فَعُرِضُوا عَلَيْهِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ بَحِيرٌ الْمِسْكِيُّ، فَقَالَ لِمُصْعَبٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ابْتَلَانَا بِالْأَسْرِ، وَابْتَلَاكَ بِأَنْ تَعْفُوَ عَنَّا، هُمَا مَنْزِلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا رِضَاءُ اللَّهِ، وَالْأُخْرَى سُخْطُهُ، مَنْ عَفَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَزَادَ عِزًّا، وَمَنْ عَاقَبَ لَمْ يَأْمَنِ الْقِصَاصَ، يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ نَحْنُ أَهْلُ قِبْلَتِكُمْ وَعَلَى مِلَّتِكُمْ، وَلَسْنَا تُرْكًا وَلَا دَيْلَمًا، فَإِنْ خَالَفْنَا إِخْوَانَنَا مِنْ أَهْلِ مِصْرِنَا، (فَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَصَبْنَا وَأَخْطَؤُوا، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَخْطَأْنَا وَأَصَابُوا) ، فَاقْتَتَلْنَا بَيْنَنَا كَمَا اقْتَتَلَ أَهْلُ الشَّامِ بَيْنَهُمْ ثُمَّ اجْتَمَعُوا، وَكَمَا اقْتَتَلَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَاصْطَلَحُوا وَاجْتَمَعُوا، وَقَدْ مَلَكْتُمْ فَأَسْجِحُوا، وَقَدْ قَدَرْتُمْ فَاعْفُوا. فَمَا زَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ حَتَّى رَقَّ لَهُمُ النَّاسُ وَمُصْعَبٌ، وَأَرَادَ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُمْ. فَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ فَقَالَ: أَتُخَلِّي سَبِيلَهُمْ؟ اخْتَرْنَا أَوِ اخْتَرْهُمْ. وَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيُّ فَقَالَ مِثْلَهُ، وَقَامَ أَشْرَافُ الْكُوفَةِ فَقَالُوا مِثْلَهُمَا، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ، (لَا تَقْتُلْنَا وَاجْعَلْنَا عَلَى مُقَدِّمَتِكَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ غَدًا، فَمَا بِكُمْ عَنَّا غِنًى، فَإِنْ قُتِلْنَا لَمْ نُقْتَلْ) حَتَّى نُضْعِفَهُمْ لَكُمْ، وَإِنْ ظَفَرْنَا بِهِمْ كَانَ ذَلِكَ لَكُمْ. فَأَبَى عَلَيْهِمْ. فَقَالَ بَحِيرٌ الْمِسْكِيُّ: لَا تَخْلِطْ دَمِي بِدِمَائِهِمْ إِذْ عَصَوْنِي. فَقَتَلَهُمْ. وَقَالَ مُسَافِرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَمِرَانَ النَّاعِطِيُّ: مَا تَقُولُ يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ لِرَبِّكَ غَدًا وَقَدْ قَتَلْتَ أُمَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَكَّمُوكَ فِي أَنْفُسِهِمْ صَبْرًا؟ اقْتُلُوا مِنَّا بِعِدَّةِ مَنْ قَتَلْنَا مِنْكُمْ، فَفِينَا رِجَالٌ لَمْ يَشْهَدُوا مَوْطِنًا مِنْ حَرْبِنَا يَوْمًا وَاحِدًا، كَانُوا فِي السَّوَادِ وَجِبَايَةِ الْخَرَاجِ وَحِفْظِ الطُّرُقِ. فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ.

وَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُمُ اسْتَشَارَ مُصْعَبٌ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ، فَقَالَ: أَرَى أَنْ تَعْفُوَ، فَإِنَّ الْعَفْوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى. فَقَالَ أَشْرَافُ أَهْلِ الْكُوفَةِ: اقْتُلْهُمْ. وَضَجُّوا، فَقَتَلَهُمْ. فَلَمَّا قُتِلُوا قَالَ الْأَحْنَفُ: مَا أَدْرَكْتُمْ بِقَتْلِهِمْ ثَأْرًا، فَلَيْتَهُ لَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ وَبَالًا. وَبَعَثَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ امْرَأَةُ مُصْعَبٍ إِلَيْهِ فِي إِطْلَاقِهِمْ، فَوَجَدَهُمُ الرَّسُولُ قَدْ قُتِلُوا. وَأَمَرَ مُصْعَبٌ بِكَفِّ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَقُطِعَتْ وَسُمِّرَتْ بِمِسْمَارٍ إِلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ، فَبَقِيَتْ حَتَّى قَدِمَ الْحَجَّاجُ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَسَأَلَ عَنْهَا فَقِيلَ: هَذِهِ كَفُّ الْمُخْتَارِ، فَأَمَرَ بِنَزْعِهَا. وَبَعَثَ مُصْعَبٌ عُمَّالَهُ عَلَى الْجِبَالِ وَالسَّوَادِ، وَكَتَبَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ وَيَقُولُ لَهُ: إِنْ أَطَعْتَنِي فَلَكَ الشَّامُ وَأَعِنَّةُ الْخَيْلِ وَمَا غَلَبْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَرْضِ الْمَغْرِبِ مَا دَامَ لِآلِ الزُّبَيْرِ سُلْطَانٌ. وَأَعْطَاهُ عَهْدَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ. وَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى ابْنِ الْأَشْتَرِ يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ وَيَقُولُ: إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنِي فَلَكَ الْعِرَاقُ. فَاسْتَشَارَ إِبْرَاهِيمُ أَصْحَابَهُ فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَوْ لَمْ أَكُنْ أَصَبْتُ ابْنَ زِيَادٍ وَأَشْرَافَ الشَّامِ لَأَجَبْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ، مَعَ أَنِّي لَا أَخْتَارُ عَلَى أَهْلِ مِصْرِي وَعَشِيرَتِي غَيْرَهُمْ. فَكَتَبَ إِلَى مُصْعَبٍ بِالدُّخُولِ مَعَهُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ أَنْ أَقْبِلْ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ مُصْعَبًا إِقْبَالُهُ إِلَيْهِ بَعَثَ الْمُهَلَّبَ عَلَى عَمَلِهِ بِالْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ وَأَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ. ثُمَّ إِنَّ مُصْعَبًا دَعَا أُمَّ ثَابِتٍ بِنْتَ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ امْرَأَةَ الْمُخْتَارِ، وَعَمْرَةَ بِنْتَ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيَّةَ امْرَأَتَهُ الْأُخْرَى، فَأَحْضَرَهُمَا وَسَأَلَهُمَا عَنِ الْمُخْتَارِ. فَقَالَتْ أُمُّ ثَابِتٍ: نَقُولُ فِيهِ بِقَوْلِكَ أَنْتَ. فَأَطْلَقَهَا، وَقَالَتْ عَمْرَةُ: رَحِمَهُ اللَّهُ، كَانَ عَبْدًا لِلَّهِ صَالِحًا. فَحَبَسَهَا، وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: إِنَّهَا تَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَمَرَهُ بِقَتْلِهَا، فَقُتِلَتْ لَيْلًا بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ، قَتَلَهَا بَعْضُ الشُّرَطِ، ضَرَبَهَا ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ بِالسَّيْفِ وَهِيَ تَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ! يَا عَثْرَتَاهُ! فَرَفَعَ رَجُلٌ يَدَهُ فَلَطَمَ الْقَاتِلَ وَقَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، عَذَّبْتَهَا! ثُمَّ تَشَحَّطَتْ فَمَاتَتْ، فَتَعَلَّقَ الشُّرْطِيُّ بِالرَّجُلِ وَحَمَلَهُ إِلَى مُصْعَبٍ، فَقَالَ: خَلُّوهُ فَقَدْ رَأَى أَمْرًا فَظِيعًا. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ فِي ذَلِكَ: إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ عِنْدِي ... قَتْلَ بَيْضَاءَ حُرَّةٍ عُطْبُولِ

قُتِلَتْ هَكَذَا عَلَى غَيْرِ جُرْمٍ إِنَّ لِلَّهِ دَرُّهَا مِنْ قَتِيلِ ... كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُحْصَنَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ فِي ذَلِكَ أَيْضًا: أَتَى رَاكِبٌ بِالْأَمْرِ ذِي النَّبَإِ الْعَجَبْ ... بِقَتْلِ ابْنَةِ النُّعْمَانِ ذِي الدِّينِ وَالْحَسَبْ بِقَتْلِ فَتَاةٍ ذَاتِ دَلٍّ سَتِيرَةٍ ... مُهَذَّبَةِ الْأَخْلَاقِ وَالْخِيمِ وَالنَّسَبْ مُطَهَّرَةٍ مِنْ نَسْلِ قَوْمٍ أَكَارِمٍ ... مِنَ الْمُؤْثِرِينَ الْخَيْرَ فِي سَالِفِ الْحِقَبْ خَلِيلُ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى وَنَصِيرُهُ ... وَصَاحِبُهُ فِي الْحَرْبِ وَالضَّرْبِ وَالْكُرَبْ أَتَانِي بِأَنَّ الْمُلْحِدِينَ تَوَافَقُوا ... عَلَى قَتْلِهَا لَا جُنِّبُوا الْقَتْلَ وَالسَّلَبْ فَلَا هَنَأَتْ آلَ الزُّبَيْرِ مَعِيشَةٌ ... وَذَاقُوا لِبَاسَ الذُّلِّ وَالْخَوْفِ وَالْحَرَبْ كَأَنَّهُمُ إِذْ أَبْرَزُوهَا وَقُطِّعَتْ ... بِأَسْيَافِهِمْ فَازُوا بِمَمْلَكَةِ الْعَرَبِ أَلَمْ تَعْجَبِ الْأَقْوَامُ مِنْ قَتْلِ حُرَّةٍ ... مِنَ الْمُحْصَنَاتِ الدِّينِ مَحْمُودَةِ الْأَدَبْ مِنَ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ بَرِيئَةٍ ... مِنَ الذَّمِّ وَالْبُهْتَانِ وَالشَّكِّ وَالْكَذِبْ عَلَيْنَا كِتَابُ الْقَتْلِ وَالْبَأْسِ وَاجِبٌ ... وَهُنَّ الْعَفَافُ فِي الْحِجَالِ وَفِي الْحُجُبْ

عَلَى دِينِ أَجْدَادٍ لَهَا وَأُبُوَّةٍ كِرَامٍ مَضَتْ لَمْ تُخْزِ أَهْلًا وَلَمْ تُرِبْ ... مِنَ الْخَفِرَاتِ لَا خَرُوجٌ بَذِيَّةٌ مُلَائِمَةٌ تَبْغِي عَلَى جَارِهَا الْجُنُبْ ... وَلَا الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَلَمْ تَدْرِ مَا الْخَنَا وَلَمْ تَزْدَلِفْ يَوْمًا بِسُوءٍ وَلَمْ تُجِبْ ... عَجِبْتُ لَهَا إِذْ كُتِّفَتْ وَهْيَ حَيَّةٌ أَلَا إِنَّ هَذَا الْخَطْبَ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبْ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ إِنَّمَا أَظْهَرَ الْخِلَافَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ قُدُومِ مُصْعَبٍ الْبَصْرَةَ، وَإِنَّ مُصْعَبًا لَمَّا سَارَ إِلَيْهِ فَبَلَغَهُ مَسِيرُهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَحْمَرَ بْنَ شُمَيْطٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُوَاقِعَهُ بِالْمَذَارِ، وَقَالَ: إِنَّ الْفَتْحَ بِالْمَذَارِ ; لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ يُفْتَحُ عَلَيْهِ بِالْمَذَارِ فَتْحٌ عَظِيمٌ، فَظَنَّ أَنَّهُ هُوَ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِلْحَجَّاجِ فِي قِتَالِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ. وَأَمَرَ مُصْعَبٌ عَبَّادًا الْحَطَمِيَّ بِالْمَسِيرِ إِلَى جَمْعِ الْمُخْتَارِ، فَتَقَدَّمَ وَتَقَدَّمَ مَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَبَقِيَ مُصْعَبٌ عَلَى نَهْرِ الْبَصْرِيِّينَ، وَخَرَجَ الْمُخْتَارُ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا، وَزَحَفَ مُصْعَبٌ وَمَنْ مَعَهُ، فَوَافُوهُ مَعَ اللَّيْلِ، فَقَالَ الْمُخْتَارُ لِأَصْحَابِهِ: لَا يَبْرَحَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ حَتَّى يَسْمَعَ مُنَادِيًا يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، فَإِذَا سَمِعْتُمُوهُ فَاحْمِلُوا. فَلَمَّا طَلَعَ الْقَمَرُ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: يَا مُحَمَّدُ، فَحَمَلُوا عَلَى أَصْحَابِ مُصْعَبٍ، فَهَزَمُوهُمْ وَأَدْخَلُوهُمْ عَسْكَرَهُمْ، فَلَمْ يَزَالُوا يُقَاتِلُونَهُمْ حَتَّى أَصْبَحُوا، وَأَصْبَحَ الْمُخْتَارُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَأَصْحَابُهُ قَدْ أَوْغَلُوا فِي أَصْحَابِ مُصْعَبٍ، فَانْصَرَفَ الْمُخْتَارُ مُنْهَزِمًا حَتَّى دَخَلَ قَصْرَ الْكُوفَةِ، وَجَاءَ أَصْحَابُهُ حِينَ أَصْبَحُوا فَوَقَفُوا مَلِيًّا، فَلَمْ يَرَوُا الْمُخْتَارَ فَقَالُوا: قَدْ قُتِلَ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ مَنْ أَطَاقَ الْهَرَبَ، فَاخْتَفُوا بِدُورِ الْكُوفَةِ، وَتَوَجَّهَ مِنْهُمْ نَحْوَ الْقَصْرِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، فَوَجَدُوا الْمُخْتَارَ فِي الْقَصْرِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَكَانُوا قَدْ قَتَلُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ أَصْحَابِ مُصْعَبٍ خَلْقًا كَثِيرًا، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ. وَأَقْبَلَ مُصْعَبٌ فَأَحَاطَ بِالْقَصْرِ، وَحَاصَرَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، يَخْرُجُ الْمُخْتَارُ كُلَّ يَوْمٍ فَيُقَاتِلُهُمْ فِي سُوقِ الْكُوفَةِ. فَلَمَّا قُتِلَ الْمُخْتَارُ بَعَثَ مَنْ فِي الْقَصْرِ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَأَبَى مُصْعَبٌ، فَنَزَلُوا عَلَى

حُكْمِهِ، فَقَتَلَ مِنَ الْعَرَبِ سَبْعُمِائَةٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَسَائِرُهُمْ مِنَ الْعَجَمِ، وَكَانَ عِدَّةُ الْقَتْلَى سِتَّةَ آلَافِ رَجُلٍ. وَلَمَّا قُتِلَ الْمُخْتَارُ كَانَ عُمُرُهُ سَبْعًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ قَتْلُهُ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ. قِيلَ: إِنَّ مُصْعَبًا لَقِيَ ابْنَ عُمَرَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: أَنَا ابْنُ أَخِيكَ مُصْعَبٍ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَنْتَ الْقَاتِلُ سَبْعَةَ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرَ مَا بَدَا لَكَ. فَقَالَ مُصْعَبٌ: إِنَّهُمْ كَانُوا كَفَرَةً فَجَرَةً. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتَ عِدَّتَهُمْ غَنَمًا مِنْ تُرَاثِ أَبِيكَ لَكَانَ ذَلِكَ سَرَفًا. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَلَمْ يَبْلُغْكَ قَتْلُ الْكَذَّابِ؟ قَالَ: وَمَنِ الْكَذَّابُ؟ قَالَ: ابْنُ أَبِي عُبَيْدٍ. قَالَ: قَدْ بَلَغَنِي قَتْلُ الْمُخْتَارِ. قَالَ: كَأَنَّكَ نَكَرْتَ تَسْمِيَتَهُ كَذَّابًا، وَمُتَوَجِّعٌ لَهُ. قَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ قَتَلَ قَتَلَتَنَا، وَطَلَبَ ثَأْرَنَا، وَشَفَى غَلِيلَ صُدُورِنَا، وَلَيْسَ جَزَاؤُهُ مِنَّا الشَّتْمَ وَالشَّمَاتَةَ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: قَدْ قُتِلَ الْكَذَّابُ الْمُخْتَارُ، وَهَذَا رَأْسُهُ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ بَقِيَتْ لَكُمْ عَقَبَةٌ كَئُودٌ فَإِنْ صَعِدْتُمُوهَا فَأَنْتُمْ أَنْتُمْ، وَإِلَّا فَلَا. يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ. وَكَانَتْ هَدَايَا الْمُخْتَارِ تَأْتِي ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَقْبَلَانِهَا، وَقِيلَ: رَدَّ ابْنُ عُمَرَ هَدِيَّتَهُ. ذِكْرُ عَزْلِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَوِلَايَةِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ مُصْعَبًا عَنِ الْعِرَاقِ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ الْمُخْتَارَ، وَوَلَّى مَكَانَهُ ابْنَهُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ حَمْزَةُ جَوَّادًا مُخَلَّطًا، يَجُودُ أَحَيَانًا حَتَّى لَا يَدَعَ شَيْئًا يَمْلِكُهُ، وَيَمْنَعُ أَحْيَانًا مَا لَا يَمْنَعُ مِثْلُهُ، وَظَهَرَ مِنْهُ بِالْبَصْرَةِ خِفَّةٌ وَضَعْفٌ، فَيُقَالُ إِنَّهُ رَكِبَ يَوْمًا فَرَأَى فَيْضَ الْبَصْرَةِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْغَدِيرَ إِنْ رَفَقُوا بِهِ لَيَكْفِيَنَّهُمْ صَيَفَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ رَآهُ جَازِرًا فَقَالَ: قَدْ قُلْتُ لَوْ رَفَقُوا بِهِ لَكَفَاهُمْ. وَظَهَرَ مِنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ الْأَحْنَفُ إِلَى أَبِيهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنْهُمْ وَيُعِيدَ مُصْعَبًا، فَعَزَلَهُ، فَاحْتَمَلَ مَالًا كَثِيرًا

مِنْ مَالِ الْبَصْرَةِ، فَعَرَضَ لَهُ مَالِكُ بْنُ مَسْمَعٍ فَقَالَ لَهُ: لَا نَدَعُكَ تَخْرُجُ بِعَطَايَانَا. فَضَمِنَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَطَاءَ، فَكَفَّ عَنْهُ، وَشَخَصَ حَمْزَةُ بِالْمَالِ، وَأَتَى الْمَدِينَةَ فَأَوْدَعَهُ رِجَالًا، فَجَحَدُوهُ إِلَّا رَجُلًا وَاحَدًا فَوَفَى لَهُ، وَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَاهُ فَقَالَ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ! أَرَدْتُ أَنْ أُبَاهِيَ بِهِ بَنِي مَرْوَانَ فَنَكَصَ. وَقِيلَ: إِنَّ مُصْعَبًا أَقَامَ بِالْكُوفَةِ سَنَةً بَعْدَ قَتْلِ الْمُخْتَارِ مَعْزُولًا عَنِ الْبَصْرَةِ، عَزَلَهُ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا ابْنَهُ حَمْزَةَ، ثُمَّ إِنَّ مُصْعَبًا وَفَدَ عَلَى أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، فَرَدَّهُ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَقِيلَ: بَلِ انْصَرَفَ مُصْعَبٌ إِلَى الْبَصْرَةِ بَعْدَ قَتْلِ الْمُخْتَارِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْكُوفَةِ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، فَكَانَتَا فِي عَمَلِهِ، فَعَزَلَهُ أَخُوهُ عَنِ الْبَصْرَةِ وَاسْتَعْمَلَ ابْنَهُ حَمْزَةَ، ثُمَّ عَزَلَ حَمْزَةَ بِكِتَابِ الْأَحْنَفِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَرَدَّ مُصْعَبًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ حَجَّ بِالنَّاسِ [فِي هَذِهِ السَّنَةِ] عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ عَامِلُهُ عَلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَبِالشَّامِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَبِخُرَاسَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ بِالْكُوفَةِ مَعَ مُصْعَبٍ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ بِالْكُوفَةِ لَمَّا سَارَ مُصْعَبٌ إِلَى قِتَالِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. وَقُتِلَ هُبَيْرَةُ بْنُ مَرْيَمَ مَوْلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بِالْخَازَرِ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ وَثِقَاتِ الْمُحَدِّثِينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَأَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَلَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ. وَقَتَلَ مُصْعَبٌ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَعَبْدَ الرَّبِّ ابْنَيْ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، وَعِمْرَانَ بْنَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَتَلَهُمْ صَبْرًا بَعْدَ قَتْلِ الْمُخْتَارِ، وَبَعْدَ قَتْلِ أَصْحَابِهِ.

ثم دخلت سنة ثمان وستين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ] 68 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ ذِكْرُ عَزْلِ حَمْزَةَ وَوِلَايَةِ مُصْعَبٍ الْبَصْرَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ رَدَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ مُصْعَبًا إِلَى الْعِرَاقِ. وَسَبَبُهُ: أَنَّ الْأَحْنَفَ رَأَى مِنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اخْتِلَاطًا وَحُمْقًا، فَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ، فَعَزَلَهُ وَرَدَّ مُصْعَبًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْكُوفَةِ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ حَمْزَةَ أَنَّهُ قَصَّرَ بِالْأَشْرَافِ وَبَسَطَ يَدَهُ، فَفَزِعُوا إِلَى مَالِكِ بْنِ مِسْمَعٍ، فَضَرَبَ خَيْمَتَهُ عَلَى الْجِسْرِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حَمْزَةَ: الْحَقْ بِأَبِيكَ. وَأَخْرَجَهُ عَنِ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ الْعُدَيْلُ الْعِجْلِيُّ: إِذَا مَا خَشِينَا مِنْ أَمِيرٍ ظُلَامَةً ... دَعَوْنَا أَبَا سُفْيَانَ يَوْمًا فَعَسْكَرَا ذِكْرُ حُرُوبِ الْخَوَارِجِ بِفَارِسَ وَالْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ مُصْعَبٌ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ عَلَى فَارِسَ، وَوَلَّاهُ حَرْبَ الْأَزَارِقَةِ، وَكَانَ الْمُهَلَّبُ عَلَى حَرْبِهِمْ أَيَّامَ مُصْعَبٍ الْأُولَى، وَأَيَّامَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. فَلَمَّا عَادَ مُصْعَبٌ أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَ الْمُهَلَّبَ بِلَادَ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ وَأَرْمِينِيَّةَ ; لِيَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِفَارِسَ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَقَدِمَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَمَلِهِ ابْنَهُ الْمُغِيرَةَ، وَوَصَّاهُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَقَدِمَ الْبَصْرَةَ، فَعَزَلَهُ مُصْعَبٌ عَنْ حَرْبِ الْخَوَارِجِ وَبِلَادِ فَارِسَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمَا عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ. فَلَمَّا سَمِعَ الْخَوَارِجُ بِهِ قَالَ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ: قَدْ جَاءَكُمْ شُجَاعٌ، وَهُوَ شُجَاعٌ وَبَطَلٌ، جَاءَ يُقَاتِلُ لِدِينِهِ وَمُلْكِهِ بِطَبِيعَةٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا لِأَحَدٍ، مَا حَضَرَ حَرْبًا إِلَّا كَانَ أَوَّلَ فَارِسٍ يَقْتُلُ قِرْنَهُ.

وَكَانَ الْخَوَارِجُ قَدِ اسْتَعْمَلُوا عَلَيْهِمْ بَعْدَ قَتْلِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَاحُوزِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْمَاحُوزِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، فَجَاءَتِ الْخَوَارِجُ إِلَى إِصْطَخْرَ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ عُمَرُ ابْنَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ فِي خَيْلٍ، فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَرَادَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْمَاحُوزِ قِتَالَ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ قَطَرِيٌّ: إِنَّ عُمَرَ مَأْثُورٌ فَلَا نُقَاتِلُهُ. فَأَبَى فَقَاتَلَهُ، فَقُتِلَ مِنْ فُرْسَانِ الْخَوَارِجِ تِسْعُونَ رَجُلًا، وَطَعَنَ عُمَرُ صَالِحَ بْنَ مُخَارِقٍ، فَشَتَرَ عَيْنَهُ، وَضَرَبَ قَطَرِيًّا عَلَى جَبِينِهِ فَفَلَقَهُ، وَانْهَزَمَتِ الْخَوَارِجُ وَسَارُوا إِلَى سَابُورَ، فَعَادَ عُمَرُ وَلَقِيَهُمْ بِهَا وَمَعَهُ مُجَّاعَةُ بْنُ سِعْرٍ، فَقَتَلَ مُجَّاعَةُ بِعَمُودٍ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْخَوَارِجِ، وَكَادَ عُمَرُ يَهْلِكُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ، فَدَافَعَ عَنْهُ مُجَّاعَةُ، فَوَهَبَ لَهُ عُمَرُ تِسْعَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقِيلَ فِي ذَلِكَ: قَدْ ذُدْتُ عَادِيَةَ الْكَتِيبَةِ عَنْ فَتًى قَدْ كَادَ يُتْرَكُ لَحْمُهُ أَقْطَاعَا وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ، فَسَارُوا وَقَطَعُوا قَنْطَرَةً بَيْنَهُمَا لِيَمْتَنِعَ مِنْ طَلَبِهِمْ، وَقَصَدُوا نَحْوَ أَصْبَهَانَ، فَأَقَامُوا عِنْدَهَا حَتَّى قَوَوْا وَاسْتَعَدُّوا، ثُمَّ أَقْبَلُوا حَتَّى مَرُّوا بِفَارِسَ وَبِهَا عُمَرُ، فَقَطَعُوهَا فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُمْ بِهِ، أَخَذُوا عَلَى سَابُورَ، ثُمَّ عَلَى أَرَّجَانَ، حَتَّى أَتَوُا الْأَهْوَازَ. فَقَالَ مُصْعَبٌ: الْعَجَبُ لِعُمَرَ! قَطَعَ الْعَدُوُّ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِ مُحَارَبَتِهِ أَرْضَ فَارِسَ فَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ، وَلَوْ قَاتَلَهُمْ وَفَرَّ كَانَ أَعْذَرَ لَهُ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ: يَا ابْنَ مَعْمَرٍ مَا أَنْصَفْتَنِي، تَجْبِي الْفَيْءَ وَتَحِيدُ عَنِ الْعَدُوِّ، فَاكْفِنِي أَمْرَهُمْ. فَسَارَ عُمَرُ مِنْ فَارِسَ فِي أَثَرِهِمْ مُجِدًّا يَرْجُو أَنْ يَلْحَقَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا الْعِرَاقَ، وَخَرَجَ مُصْعَبٌ فَعَسْكَرَ عِنْدَ الْجِسْرِ الْأَكْبَرِ، وَعَسْكَرَ النَّاسُ مَعَهُ، وَبَلَغَ الْخَوَارِجَ وَهُمْ بِالْأَهْوَازِ إِقْبَالُ عُمَرَ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّ مُصْعَبًا قَدْ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْمَاحُوزِ: مِنْ سُوءِ الرَّأْيِ وُقُوعُكُمْ بَيْنَ هَاتَيْنِ الشَّوْكَتَيْنِ، انْهَضُوا بِنَا إِلَى عَدُوِّنَا نَلْقَهُمْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ. فَسَارَ بِهِمْ فَقَطَعَ بِهِمْ أَرْضَ جُوخَى وَالنَّهْرَوَانَاتِ، فَأَتَى الْمَدَائِنَ وَبِهَا كَرْدَمُ بْنُ مَرْثَدٍ الْقُرَادِيُّ، فَشَنُّوا الْغَارَةَ عَلَى أَهْلِ الْمَدَائِنِ يَقْتُلُونَ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَالْوِلْدَانَ، وَيَشُقُّونَ أَجْوَافَ الْحُبَالَى. فَهَرَبَ كَرْدَمُ، وَأَقْبَلُوا إِلَى سَابَاطَ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِي النَّاسِ يَقْتُلُونَ، وَأَرْسَلُوا جَمَاعَةً إِلَى الْكَرْخِ، فَلَقُوا أَبَا بَكْرِ بْنَ مِخْنَفٍ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ أَبُو بَكْرٍ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَأَفْسَدَ الْخَوَارِجُ فِي الْأَرْضِ. فَأَتَى أَهْلُ الْكُوفَةِ أَمِيرَهُمْ، وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَلَقَبُهُ الْقُبَاعُ، فَصَاحُوا بِهِ

وَقَالُوا: اخْرُجْ فَإِنَّ الْعَدُوَّ قَدْ أَظَلَّ عَلَيْنَا لَيْسَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ. فَخَرَجَ حَتَّى نَزَلَ النُّخَيْلَةَ فَأَقَامَ أَيَّامًا، فَوَثَبَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ، فَحَثَّهُ عَلَى الْمَسِيرِ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَأَقَامَ بِهِ حَتَّى دَخَلَ إِلَيْهِ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، فَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ بُطْءَ مَسِيرِهِ رَجَزُوا بِهِ فَقَالُوا: سَارَ بِنَا الْقُبَاعُ سَيْرًا نُكْرَا ... يَسِيرُ يَوْمًا وَيُقِيمُ شَهْرَا فَسَارَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَكَانَ كُلَّمَا نَزَلَ مَنْزِلًا أَقَامَ بِهِ حَتَّى يَصِيحَ بِهِ النَّاسُ، فَبَلَغَ الْفُرَاتَ فِي بِضْعَةِ عَشْرَ يَوْمًا، فَأَتَاهَا وَقَدِ انْتَهَى إِلَيْهَا الْخَوَارِجُ، فَقَطَعُوا الْجِسْرَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ وَأَخَذُوا رَجُلًا اسْمُهُ سِمَاكُ بْنُ يَزِيدَ وَمَعَهُ بِنْتٌ لَهُ، فَأَخَذُوهَا لِيَقْتُلُوهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ: يَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ! إِنَّ أَبِي مُصَابٌ فَلَا تَقْتُلُوهُ، وَأَمَّا أَنَا فَجَارِيَةٌ، وَاللَّهِ مَا أَتَيْتُ فَاحِشَةً قَطُّ، وَلَا آذَيْتُ جَارَةً لِي، وَلَا تَطَلَّعْتُ وَلَا تَشَرَّفْتُ قَطُّ. فَلَمَّا أَرَادُوا قَتْلَهَا سَقَطَتْ مَيِّتَةً، فَقَطَّعُوهَا بِأَسْيَافِهِمْ، وَبَقِيَ سِمَاكٌ مَعَهُمْ حَتَّى أَشْرَفُوا عَلَى الصَّرَاةِ، فَاسْتَقْبَلَ أَهْلَ الْكُوفَةِ فَنَادَاهُمُ: اعْبُرُوا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ قَلِيلٌ خَبِيثٌ. فَضَرَبُوا عُنُقَهُ وَصَلَبُوهُ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ لِلْحَارِثِ: انْدُبْ مَعِيَ النَّاسَ حَتَّى أَعْبُرَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْكِلَابِ فَأَجِيئَكَ بِرُءُوسِهِمْ. فَقَالَ شَبَثٌ، وَأَسْمَاءُ بْنُ خَارِجَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَغَيْرُهُمْ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، دَعْهُمْ فَلْيَذْهَبُوا. وَكَأَنَّهُمْ حَسَدُوا إِبْرَاهِيمَ. فَلَمَّا رَأَى الْخَوَارِجُ كَثْرَةَ النَّاسِ قَطَعُوا الْجِسْرَ، وَاغْتَنَمَ ذَلِكَ الْحَارِثُ فَتَحَبَّسَ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَوَّلَ الْقِتَالِ الرَّمْيَةُ بِالنَّبْلِ وَإِشْرَاعُ الرِّمَاحِ وَالطَّعْنُ، ثُمَّ الطَّعْنُ شَزْرًا، ثُمَّ السَّلَّةُ آخِرُ ذَلِكَ كُلِّهِ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: قَدْ أَحْسَنَ الْأَمِيرُ الصِّفَةَ، وَلَكِنْ مَتَى نَصْنَعُ هَذَا وَهَذَا الْبَحْرُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَمُرْ بِهَذَا الْجِسْرِ فَلْيُعْقَدْ، ثُمَّ عَبِّرْنَا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُرِيكَ مَا تُحِبُّ.

فَعَقَدَ الْجِسْرَ وَعَبَرَ النَّاسُ، فَطَارَدَ الْخَوَارِجَ حَتَّى أَتَوُا الْمَدَائِنَ، وَطَارَدَتْ بَعْضُ خَيْلِهِمْ عِنْدَ الْجِسْرِ طِرَادًا ضَعِيفًا فَرَجَعُوا، فَأَتْبَعَهُمُ الْحَارِثُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مِخْنَفٍ فِي سِتَّةِ آلَافٍ لِيُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ الْكُوفَةِ، وَقَالَ لَهُ: إِذَا وَقَعُوا فِي أَرْضِ الْبَصْرَةِ فَاتْرُكْهُمْ. فَسَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتْبَعُهُمْ حَتَّى وَقَعُوا فِي أَرْضٍ أَصْبَهَانَ، فَرَجَعَ عَنْهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ، وَقَصَدُوا الرَّيَّ وَعَلَيْهَا يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رُوَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ، فَقَاتَلَهُمْ، فَأَعَانَ أَهْلُ الرَّيِّ الْخَوَارِجَ، فَقُتِلَ يَزِيدُ وَهَرَبَ ابْنُهُ حَوْشَبٌ، وَدَعَاهُ أَبُوهُ لِيَدْفَعَ عَنْهُ فَلَمْ يَرْجِعْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَوْ كَانَ حُرًّا حَوْشَبٌ ذَا حَفِيظَةٍ ... رَأَى مَا رَأَى فِي الْمَوْتِ عِيسَى بْنُ مُصْعَبِ يَعْنِي أَنَّ عِيسَى بْنَ مُصْعَبٍ لَمْ يَفِرَّ عَنْ أَبِيهِ، بَلْ قَاتَلَ عَنْهُ مَعَهُ حَتَّى قُتِلَ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ يَوْمًا وَعِنْدَهُ حَوْشَبٌ هَذَا وَعِكْرِمَةُ بْنُ رِبْعِيٍّ: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى فَرَسٍ جَوَادٍ؟ فَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَرَسُ حَوْشَبٍ، فَإِنَّهُ نَجَا عَلَيْهِ يَوْمَ الرَّيِّ. وَقَالَ بِشْرٌ أَيْضًا يَوْمًا: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى بَغْلَةٍ قَوِيَّةِ الظَّهْرِ؟ فَقَالَ حَوْشَبٌ: بَغْلَةُ وَاصِلِ بْنِ مُسَافِرٍ. كَانَ عِكْرِمَةُ يُتَّهَمُ بِامْرَأَةِ وَاصِلٍ، فَتَبَسَّمَ بِشْرٌ وَقَالَ: لَقَدِ انْتَصَفْتَ. وَلَمَّا فَرَغَ الْخَوَارِجُ مِنَ الرَّيِّ انْحَطُّوا إِلَى أَصْبَهَانَ، فَحَاصَرُوهَا وَبِهَا عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ، فَصَبَرَ لَهُمْ، وَكَانَ يُقَاتِلُهُمْ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، وَيَرْمُونَ مِنَ السُّورِ بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ. وَكَانَ مَعَ عَتَّابٍ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ يُقَالُ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَكَانَ يَحْمِلُ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُ: كَيْفَ تَرَوْنَ يَا كِلَابَ النَّارِ ... شَدَّ أَبِي هُرَيْرَةَ الْهَرَّارِ يُهِرُّكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ... يَا ابْنَ أَبِي الْمَاحُوزِ وَالْأَشْرَارِ كَيْفَ تَرَى حَرْبِي عَلَى الْمِضْمَارِ فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى الْخَوَارِجِ كَمُنَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ فَصَرَعَهُ، فَاحْتَمَلَهُ أَصْحَابُهُ وَدَاوُوهُ حَتَّى بَرِأَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَلَى عَادَتِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْخَوَارِجَ أَقَامَتْ عَلَيْهِمْ أَشْهُرًا حَتَّى نَفِدَتْ أَطْعِمَتُهُمْ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحِصَارُ، وَأَصَابَهُمُ الْجُهْدُ الشَّدِيدُ، فَقَالَ لَهُمْ عَتَّابٌ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الْجُهْدِ مَا تَرَوْنَ، وَمَا بَقِيَ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ أَحَدُكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ، فَيَدْفِنَهُ أَخُوهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، ثُمَّ يَمُوتُ هُوَ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَدْفِنُهُ وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ بِالْقَلِيلِ، وَإِنَّكُمُ الْفُرْسَانُ الصُّلَحَاءُ، فَاخْرُجُوا بِنَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَبِكُمْ قُوَّةٌ وَحَيَاةٌ، قَبْلَ أَنْ تَضْعُفُوا عَنِ الْحَرَكَةِ مِنَ الْجُهْدِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو إِنْ صَدَقْتُمُوهُمْ أَنْ تَظْفَرُوا بِهِمْ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ.

ذِكْرُ قَتْلِ ابْنِ الْمَاحُوزِ وَإِمَارَةِ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ لَمَّا أَمَرَ عَتَّابٌ أَصْحَابَهُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ وَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ جَمَعَ النَّاسَ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِطَعَامٍ كَثِيرٍ، ثُمَّ خَرَجَ حِينَ أَصْبَحَ، فَأَتَى الْخَوَارِجَ وَهُمْ آمِنُونَ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ مِنْ عَسْكَرِهِمْ، وَانْتَهَوْا إِلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْمَاحُوزِ، فَنَزَلَ فِي عِصَابَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَانْحَازَتِ الْأَزَارِقَةُ إِلَى قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ الْمَازِنِيِّ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو نَعَامَةَ، فَبَايَعُوهُ، وَأَصَابَ عَتَّابٌ وَأَصْحَابُهُ مِنْ عَسْكَرِهِ مَا شَاءُوا، وَجَاءَ قَطَرِيٌّ فَنَزَلَ فِي عَسْكَرِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ سَارَ عَنْ أَصْبَهَانَ وَتَرَكَهَا، وَأَتَى نَاحِيَةَ كَرْمَانَ وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، وَجَبَى الْمَالَ وَقَوِيَ. ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى أَصْبَهَانَ، ثُمَّ أَتَى إِلَى أَرْضِ الْأَهْوَازِ، فَأَقَامَ بِهَا وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ عَامِلُ مُصْعَبٍ عَلَى الْبَصْرَةِ، فَكَتَبَ إِلَى مُصْعَبٍ يُخْبِرُهُ بِالْخَوَارِجِ وَأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا الْمُهَلَّبُ. فَبَعَثَ إِلَى الْمُهَلَّبِ وَهُوَ عَلَى الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ فَأَمَرَهُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَبَعَثَ إِلَى الْمَوْصِلِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ، وَجَاءَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَانْتَخَبَ النَّاسَ وَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ الْخَوَارِجِ، ثُمَّ أَقْبَلُوا إِلَيْهِ حَتَّى الْتَقَوْا بِسُولَافَ، فَاقْتَتَلُوا بِهَا ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ. ذِكْرُ حِصَارِ الرَّيِّ وَفِيهَا أَمَرَ مُصْعَبٌ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيَّ، عَامِلَهُ عَلَى أَصْبَهَانَ، بِالْمَسِيرِ إِلَى الرَّيِّ وَقِتَالِ أَهْلِهَا لِمُسَاعَدَتِهِمُ الْخَوَارِجَ عَلَى يَزِيدَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ رُوَيْمٍ، وَامْتِنَاعِهِمْ مِنْ مَدِينَتِهِمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ عَتَّابٌ فَنَازَلَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ وَعَلَيْهِمُ الْفَرُّخَانُ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِمْ عَتَّابٌ بِالْقِتَالِ، فَفَتَحَهَا عَنْوَةً وَغَنِمَ مَا فِيهَا، وَافْتَتَحَ سَائِرَ قِلَاعِ نَوَاحِيهَا. وَفِيهَا كَانَ بِالشَّامِ قَحْطٌ شَدِيدٌ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا مِنْ شِدَّتِهِ عَلَى الْغَزْوِ. وَفِيهَا عَسْكَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِبُطْنَانَ [حَبِيبٍ] ، وَهُوَ قَرِيبٌ [مِنْ] قِنَّسْرِينَ، وَشَتَّى بِهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ. ذِكْرُ خَبَرِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُرِّ وَمَقْتَلِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُرِّ الْجُعْفِيُّ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ قَوْمِهِ صَلَاحًا وَفَضْلًا وَاجْتِهَادًا، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ قَصَدَ مُعَاوِيَةَ، فَكَانَ مَعَهُ

لِمَحَبَّتِهِ عُثْمَانَ، وَشَهِدَ مَعَهُ صِفِّينَ هُوَ وَمَالِكُ بْنُ مِسْمَعٍ، وَأَقَامَ عُبَيْدُ اللَّهِ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ. وَكَانَ لَهُ زَوْجَةٌ بِالْكُوفَةِ، فَلَمَّا طَالَتْ غَيْبَتُهُ زَوَّجَهَا أَخُوهَا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ الْخَبِيصِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عُبَيْدَ اللَّهِ، فَأَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ، فَخَاصَمَ عِكْرِمَةَ إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ لَهُ: ظَاهَرْتَ عَلَيْنَا عَدُوَّنَا فَغُلْتَ. فَقَالَ لَهُ: أَيَمْنَعُنِي ذَلِكَ مِنْ عَدْلِكَ؟ قَالَ: لَا، فَقَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَكَانَتْ حُبْلَى، فَوَضَعَهَا عِنْدَ مَنْ يَثِقُ إِلَيْهِ حَتَّى وَضَعَتْ، فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِعِكْرِمَةَ، وَدَفَعَ الْمَرْأَةَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ، وَعَادَ إِلَى الشَّامِ فَأَقَامَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ عَلِيٌّ، فَلَمَّا قُتِلَ أَقْبَلَ إِلَى الْكُوفَةِ فَأَتَى إِخْوَانَهُ فَقَالَ: مَا أَرَى أَحَدًا يَنْفَعُهُ اعْتِزَالُهُ، كُنَّا بِالشَّامِ فَكَانَ مِنْ أَمْرِ مُعَاوِيَةَ كَيْتُ وَكَيْتُ، فَقَالُوا: وَكَانَ مِنْ أَمْرِ عَلِيٍّ كَيْتُ وَكَيْتُ، وَكَانُوا يَلْتَقُونَ بِذَلِكَ. فَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ وَقُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ لَمْ يَكُنْ عُبَيْدُ اللَّهِ فِيمَنْ حَضَرَ قَتْلَهُ، يَغِيبُ عَنْ ذَلِكَ تَعَمُّدًا، فَلَمَّا قُتِلَ جَعَلَ ابْنُ زِيَادٍ يَتَفَقَّدُ الْأَشْرَافَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَلَمْ يَرَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْحُرِّ، ثُمَّ جَاءَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ كُنْتَ يَا ابْنَ الْحُرِّ؟ قَالَ: كُنْتُ مَرِيضًا. قَالَ: مَرِيضَ الْقَلْبِ أَمْ مَرِيضَ الْبَدَنِ؟ فَقَالَ: أَمَّا قَلْبِي فَلَمْ يَمْرَضْ، وَأَمَّا بَدَنِي فَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيَّ بِالْعَافِيَةِ. قَالَ ابْنُ زِيَادٍ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ كُنْتَ مَعَ عَدُوِّنَا. فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ مَعَهُ لَرَأَى مَكَانِي. وَغَفَلَ عَنْهُ ابْنُ زِيَادٍ، فَخَرَجَ فَرَكِبَ فَرَسَهُ، ثُمَّ طَلَبَهُ ابْنُ زِيَادٍ فَقَالُوا: رَكِبَ السَّاعَةَ. فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِ. فَأَحْضَرَ الشُّرَطُ خَلْفَهُ، فَقَالُوا: أَجِبِ الْأَمِيرَ. فَقَالَ: أَبْلِغُوهُ عَنِّي أَنِّي لَا آتِيهِ طَائِعًا أَبَدًا. ثُمَّ أَجْرَى فَرَسَهُ، وَأَتَى مَنْزِلَ أَحْمَدَ بْنِ زِيَادٍ الطَّائِيِّ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى كَرْبِلَاءَ، فَنَظَرَ إِلَى مُصَارِعِ الْحُسَيْنِ وَمَنْ قُتِلَ مَعَهُ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، ثُمَّ مَضَى إِلَى الْمَدَائِنِ وَقَالَ فِي ذَلِكَ: يَقُولُ أَمِيرٌ غَادِرٌ وَابْنُ غَادِرٍ : أَلَا كُنْتَ قَاتَلْتَ الْحُسَيْنَ بْنَ فَاطِمَهْ ... وَنَفْسِي عَلَى خِذْلَانِهِ وَاعْتِزَالِهِ وَبَيْعَةِ هَذَا النَّاكِثِ الْعَهْدَ لَائِمَهْ ... فَيَا نَدَمِي أَنْ لَا أَكُونَ نَصَرْتُهُ أَلَا كُلُّ نَفْسٍ لَا تُشَدِّدُ نَادِمَهْ ... وَإِنِّي لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ مِنْ حُمَاتِهِ لَذُو حَسْرَةٍ أَنْ لَا تُفَارِقَ لَازِمَهْ

سَقَى اللَّهُ أَرْوَاحَ الَّذِينَ تَبَادَرُوا ... إِلَى نَصْرِهِ سُقْيًا مِنَ الْغَيْثِ دَائِمَهْ وَقَفْتُ عَلَى أَجْدَاثِهِمْ وَمَحَالِّهِمْ ... فَكَادَ الْحَشَا يَنْقَضُّ وَالْعَيْنُ سَاجِمَهْ لَعَمْرِي لَقَدْ كَانُوا مَصَالِيتَ فِي الْوَغَى ... سِرَاعًا إِلَى الْهَيْجَا حُمَاةً خَضَارِمَهْ تَأَسَّوْا عَلَى نَصْرِ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهِمْ ... بِأَسْيَافِهِمْ آسَادُ غِيلٍ ضَرَاغِمَهْ فَإِنْ يَقْتُلُوا فِي كُلِّ نَفْسٍ بَقِيَّةً ... عَلَى الْأَرْضِ قَدْ أَضْحَتْ لِذَلِكَ وَاجِمَهْ وَمَا إِنْ رَأَى الرَّاءُونَ أَفْضَلَ مِنْهُمُ ... لَدَى الْمَوْتِ سَادَاتٍ وَزُهْرًا قَمَاقِمَهْ يُقَتِّلُهُمْ ظُلْمًا وَيَرْجُو وِدَادَنَا ... فَدَعْ خُطَّةً لَيْسَتْ لَنَا بِمُلَائِمَهْ لَعَمْرِي لَقَدْ رَاغَمْتُمُونَا بِقَتْلِهِمْ ... فَكَمْ نَاقِمٍ مِنَّا عَلَيْكُمْ وَنَاقِمَهْ أَهِمُّ مِرَارًا أَنْ أَسِيرَ بِجَحْفَلٍ إِلَى فِئَةٍ ... زَاغَتْ عَنِ الْحَقِّ ظَالِمَهْ فَكُفُّوا وَإِلَّا زِدْتُكُمْ فِي كَتَائِبٍ أَشُدَّ عَلَيْكُمْ مِنْ زُحُوفِ الدَّيَالِمَهْ وَأَقَامَ ابْنُ الْحُرِّ بِمَنْزِلِهِ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ إِلَى أَنْ مَاتَ يَزِيدُ وَوَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، فَقَالَ: مَا أَرَى قُرَيْشًا تُنْصِفُ، أَيْنَ أَبْنَاءُ الْحَرَائِرِ؟ فَأَتَاهُ كُلُّ خَلِيعٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدَائِنِ فَلَمْ يَدَعْ مَالًا قُدِمَ بِهِ لِلسُّلْطَانِ إِلَّا أَخَذَ مِنْهُ عَطَاءَهُ وَعَطَاءَ أَصْحَابِهِ، وَيَكْتُبُ لِصَاحِبِ الْمَالِ بِذَلِكَ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَقَصَّى الْكُوَرَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَالِ أَحَدٍ وَلَا ذِمَّةٍ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى ظَهَرَ الْمُخْتَارُ وَسَمِعَ مَا يَعْمَلُ فِي السَّوَادِ، فَأَخَذَ امْرَأَتَهُ فَحَبَسَهَا، فَأَقْبَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ فِي أَصْحَابِهِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَكَسَرَ بَابَ السِّجْنِ وَأَخْرَجَهَا، وَأَخْرَجَ كُلَّ امْرَأَةٍ فِيهِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ: أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ تَوْبَةَ أَنَّنِي ... أَنَا الْفَارِسُ الْحَامِي حَقَائِقَ مَذْحِجِ

وَأَنِّي صَبَحْتُ السِّجْنَ فِي سَوْرَةِ الضُّحَى بِكُلِّ فَتًى حَامِي الذِّمَارِ مُدَجَّجِ ... فَمَا إِنْ بَرِحْنَا السَّجْنَ حَتَّى بَدَا لَنَا جَبِينٌ كَقَرْنِ الشَّمْسِ غَيْرُ مُشَنَّجِ ... وَخَدٌّ أَسِيلٌ عَنْ فَتَاةٍ حَبِيبَةٍ إِلَيْنَا سَقَاهَا كُلُّ دَانٍ مُشَجَّجِ ... فَمَا الْعَيْشُ إِلَّا أَنْ أَزُورَكِ آمِنًا كَعَادَتِنَا مِنْ قَبْلِ حَرْبِي وَمُخْرَجِي ... وَمَا زِلْتُ مَحْبُوسًا لِحَبْسِكِ وَاجِمًا وَإِنِّي بِمَا تَلْقِينَ مِنْ بَعْدِهِ شَجِي وَهِيَ طَوِيلَةٌ. وَجَعَلَ يَعْبَثُ بِعُمَّالِ الْمُخْتَارِ وَأَصْحَابِهِ، فَأُحْرِقَتْ بِهَمَذَانَ دَارُهُ، وَنَهَبُوا ضَيْعَتَهُ، فَسَارَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى ضِيَاعِ هَمَذَانَ، فَنَهَبَهَا جَمِيعَهَا، وَكَانَ يَأْتِي الْمَدَائِنَ فَيَمُرُّ بِعُمَّالِ جُوخَى، فَيَأْخُذُ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْمَالِ، ثُمَّ يَمِيلُ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ الْمُخْتَارُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ بَايَعَ الْمُخْتَارَ بَعْدَ امْتِنَاعٍ، وَأَرَادَ الْمُخْتَارُ أَنْ يَسْطُوَ بِهِ فَامْتَنَعَ لِأَجْلِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ. ثُمَّ سَارَ مَعَ ابْنِ الْأَشْتَرِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَلَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ قِتَالَ ابْنِ زِيَادٍ، أَظْهَرَ الْمَرَضَ. ثُمَّ فَارَقَ ابْنَ الْأَشْتَرِ وَأَقْبَلَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى الْأَنْبَارِ، فَأَغَارَ عَلَيْهَا وَأَخَذَ مَا فِي بَيْتِ مَالِهَا. فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ أَمَرَ الْمُخْتَارُ بِهَدْمِ دَارِهِ وَأَخْذِ امْرَأَتِهِ، فَفَعَلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَحَضَرَ مَعَ مُصْعَبٍ قِتَالَ الْمُخْتَارِ وَقَتْلَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ الْمُخْتَارُ قَالَ النَّاسُ لِمُصْعَبٍ فِي وِلَايَتِهِ الثَّانِيَةِ: إِنَّا لَا نَأْمَنُ أَنْ يَثِبَ ابْنُ الْحُرِّ بِالسَّوَادِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ بِابْنِ زِيَادٍ وَالْمُخْتَارِ، فَحَبَسَهُ، فَقَالَ: فَمَنْ مُبْلِغُ الْفِتْيَانِ أَنَّ أَخَاهُمُ ... أَتَى دُونَهُ بَابٌ شَدِيدٌ وَحَاجِبُهْ بِمَنْزِلَةٍ مَا كَانَ يَرْضَى بِمِثْلِهَا ... إِذَا قَامَ عَنَّتْهُ كُبُولٌ تُجَاذِبُهْ عَلَى السَّاقِ فَوْقَ الْكَعْبِ أَسْوَدُ صَامِتٌ ... شَدِيدٌ يُدَانِي خَطْوَهُ وَيُقَارِبُهْ وَمَا كَانَ ذَا مِنْ عُظْمِ جُرْمٍ ... جَرَمْتُهُ وَلَكِنْ سَعَى السَّاعِي بِمَا هُوَ كَاذِبُهْ

وَقَدْ كَانَ فِي الْأَرْضِ الْعَرِيضَةِ مَسْلَكٌ وَأَيُّ امْرِئٍ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَذَاهِبُهْ وَقَالَ: بِأَيِّ بَلَاءٍ أَمْ بِأَيَّةِ نِعْمَةٍ ... تَقَدَّمَ قَبْلِي مُسْلِمٌ وَالْمُهَلَّبُ ؟ يَعْنِي مُسْلِمَ بْنَ عَمْرٍو وَالِدَ قُتَيْبَةَ، وَالْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ. وَكَلَّمَ عُبَيْدُ اللَّهِ قَوْمًا مِنْ وُجُوهِ مَذْحِجٍ لِيَشْفَعُوا لَهُ إِلَى مُصْعَبٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى فِتْيَانِ مَذْحِجٍ وَقَالَ: الْبَسُوا السِّلَاحَ وَاسْتُرُوهُ، فَإِنْ شَفَّعَهُمْ مُصْعَبٌ فَلَا تَعْتَرِضُوا لِأَحَدٍ، وَإِنْ خَرَجُوا وَلَمْ يُشَفِّعْهُمْ فَاقْصِدُوا السِّجْنَ، فَإِنِّي سَأُعِينُكُمْ مِنْ دَاخِلٍ. فَلَمَّا شَفَعَ أُولَئِكَ النَّفَرُ فِيهِ شَفَّعَهُمْ مُصْعَبٌ وَأَطْلَقَهُ، فَأَتَى مَنْزِلَهُ وَأَتَاهُ النَّاسُ يُهَنِّئُونَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِمِثْلِ الْخُلَفَاءِ الْمَاضِينَ الْأَرْبَعَةِ، وَلَمْ نَرَ لَهُمْ فِينَا شَبِيهًا فَنُلْقِي إِلَيْهِ أَزِمَّتَنَا، فَإِنْ كَانَ مَنْ عَزَّ بَزَّ فَعَلَامَ نَعْقِدُ فِي أَعْنَاقِنَا بَيْعَةً، وَلَيْسُوا بِأَشْجَعَ مِنَّا لِقَاءً وَلَا أَعْظَمَ مَنَاعَةً؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -» ، وَكُلُّهُمْ عَاصٍ مُخَالِفٌ، قَوِيُّ الدُّنْيَا ضَعِيفُ الْآخِرَةِ، فَعَلَامَ تُسْتَحَلُّ حُرْمَتُنَا وَنَحْنُ أَصْحَابُ النُّخَيْلَةِ وَالْقَادِسِيَّةِ وَجَلُولَاءَ وَنَهَاوَنْدَ؟ نَلْقَى الْأَسِنَّةَ بِنُحُورِنَا، وَالسُّيُوفَ بِجِبَاهِنَا، ثُمَّ لَا يُعْرَفُ حَقُّنَا وَفَضْلُنَا؟ فَقَاتِلُوا عَنْ حَرِيمِكُمْ، فَإِنِّي قَدْ قَلَبْتُ ظَهْرَ الْمِجَنِّ، وَأَظْهَرْتُ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَخَرَجَ عَنِ الْكُوفَةِ وَحَارَبَهُمْ وَأَغَارَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ سَيْفَ بْنَ هَانِئٍ الْمُرَادِيَّ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ خَرَاجَ بَادُورَيَا وَغَيْرِهَا، وَيَدْخُلُ فِي الطَّاعَةِ، فَلَمْ يُجِبْ إِلَى ذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ الْأَبْرَدَ بْنَ قُرَّةَ الرِّيَاحِيَّ فَقَاتَلَهُ، فَهَزَمَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ وَضَرَبَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَيْضًا حُرَيْثَ بْنَ يَزِيدَ، فَقَتَلَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ الْحَجَّاجَ بْنَ جَارِيَةَ الْخَثْعَمِيَّ وَمُسْلِمَ بْنَ عَمْرٍو، فَلَقِيَاهُ بِنَهْرِ صَرْصَرَ، فَقَاتَلَهُمَا فَهَزَمَهُمَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ يَدْعُوهُ إِلَى الْأَمَانِ وَالصِّلَةِ، وَأَنْ يُوَلِّيَهُ أَيَّ بَلَدٍ شَاءَ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَأَتَى نَرْسَى فَفَرَّ دِهْقَانُهَا بِمَالِ الْفَلُّوجَةِ، فَتَبِعَهُ ابْنُ الْحُرِّ حَتَّى مَرَّ بِعَيْنِ تَمْرٍ وَعَلَيْهَا بِسْطَامُ بْنُ مَصْقَلَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ الشَّيْبَانِيُّ، فَالْتَجَأَ إِلَيْهِمُ الدِّهْقَانُ، فَخَرَجُوا إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَاتَلُوهُ، وَوَافَاهُمُ الْحَجَّاجُ بْنُ جَارِيَةَ الْخَثْعَمِيُّ فَحَمَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ، فَأَسَرَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ وَأَسَرَ أَيْضًا بِسْطَامَ بْنَ مَصْقَلَةَ وَنَاسًا كَثِيرًا، وَبَعَثَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَخَذُوا الْمَالَ الَّذِي مَعَ الدِّهْقَانِ، وَأَطْلَقَ الْأَسْرَى.

ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ أَتَى تَكْرِيتَ، فَأَقَامَ يَجْبِي الْخَرَاجَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ الْأَبْرَدَ بْنَ قُرَّةَ الرِّيَاحِيَّ، وَالْجَوْنَ بْنَ كَعْبٍ الْهَمْدَانِيَّ، فِي أَلْفٍ، وَأَمَدَّهُمُ الْمُهَلَّبُ بِيَزِيدَ بْنِ الْمُغَفَّلِ فِي خَمْسِمِائَةٍ، فَقَالَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: قَدْ أَتَاكَ جَمْعٌ كَثِيرٌ فَلَا تُقَاتِلْهُمْ. فَقَالَ: يُخَوِّفُنِي بِالْقَتْلِ قَوْمِي وَإِنَّمَا ... أَمُوتُ إِذَا جَاءَ الْكِتَابُ الْمُؤَجَّلُ لَعَلَّ الْقَنَا تُدْنِي بِأَطْرَافِهَا الْغِنَى ... فَنَحْيَا كِرَامًا أَوْ نَكُرَّ فَنُقْتَلُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفَقْرَ يُزْرِي بِأَهْلِهِ ... وَأَنَّ الْغِنَى فِيهِ الْعُلَى وَالتَّجَمُّلُ وَإِنَّكَ إِلَّا تَرْكَبِ الْهَوْلَ لَا تَنَلْ ... مِنَ الْمَالِ مَا يُرْضِي الصَّدِيقَ وَيَفْضُلُ وَقَاتَلَهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ يَوْمَيْنِ وَهُوَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، وَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْمَسَاءِ تَحَاجَزُوا، وَخَرَجَ عُبَيْدُ اللَّهِ مِنْ تَكْرِيتَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي سَائِرٌ بِكُمْ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَتَجَهَّزُوا، وَقَالَ: إِنِّي خَائِفٌ أَنْ أَمُوتَ وَلَمْ أَذْعَرْ مُصْعَبًا وَأَصْحَابَهُ. وَسَارَ نَحْوَ الْكُوفَةِ فَبَلَغَ كَسْكَرَ، فَأَخَذَ بَيْتَ مَالِهَا، ثُمَّ أَتَى الْكُوفَةَ فَنَزَلَ بِحَمَّامِ جَرِيرٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ فَقَاتَلَهُ، (فَخَرَجَ إِلَى دَيْرِ الْأَعْوَرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ حَجَّارَ بْنَ أَبْجَرَ، فَانْهَزَمَ حَجَّارٌ، فَشَتَمَهُ مُصْعَبٌ وَضَمَّ إِلَيْهِ الْجَوْنَ بْنَ كَعْبٍ الْهَمْدَانِيَّ وَعُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ، فَقَاتَلُوهُ) بِأَجْمَعِهِمْ، وَكَثُرَتِ الْجِرَاحَاتُ فِي عَسْكَرِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُرِّ، وَعُقِرَتْ خُيُولُهُمْ، فَانْهَزَمَ حَجَّارٌ، ثُمَّ رَجَعَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى أَمْسَوْا، وَخَرَجَ ابْنُ الْحُرِّ مِنَ الْكُوفَةِ. وَكَتَبَ مُصْعَبٌ إِلَى زَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ رُوَيْمٍ الشَّيْبَانِيِّ، وَهُوَ بِالْمَدَائِنِ، يَأْمُرُهُ بِقِتَالِ ابْنِ الْحُرِّ، فَقَدَّمَ ابْنَهُ حَوْشَبًا، فَلَقِيَهُ بِبَاجِسْرَى، فَهَزَمَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ وَقَتَلَ فِيهِمْ، وَأَقْبَلَ ابْنُ الْحُرِّ إِلَى الْمَدَائِنِ فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ، فَخَرَجَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْجَوْنَ بْنَ كَعْبٍ الْهَمْدَانِيَّ وَبِشْرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيَّ، فَنَزَلَ الْجَوْنُ بِحَوْلَايَا، وَقَدِمَ بِشْرٌ إِلَى تَامَرَّا فَلَقِيَ ابْنَ الْحُرِّ، فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحُرِّ وَهَزَمَ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ لَقِيَ الْجَوْنَ بْنَ كَعْبٍ بِحَوْلَايَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحُرِّ وَهَزَمَ أَصْحَابَهُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ بَشِيرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَشِيرٍ الْعِجْلِيُّ، فَقَاتَلَهُ بِسُورَاءَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَرَجَعَ عَنْهُ بَشِيرٌ، وَأَقَامَ ابْنُ

الْحُرِّ بِالسَّوَادِ، يُغِيرُ وَيَجْبِي الْخَرَاجَ. ثُمَّ لَحِقَ بِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهِ أَكْرَمَهُ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَالًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْحُرِّ لِيُوَجِّهَ مَعَهُ جُنْدًا يُقَاتِلُ بِهِمْ مُصْعَبًا، فَقَالَ لَهُ: سِرْ بِأَصْحَابِكَ، وَادْعُ مَنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ، وَأَنَا مُمِدُّكَ بِالرِّجَالِ. فَسَارَ بِأَصْحَابِهِ نَحْوَ الْكُوفَةِ، فَنَزَلَ بِقَرْيَةٍ إِلَى جَانِبِ الْأَنْبَارِ، فَاسْتَأْذَنَهُ أَصْحَابُهُ فِي إِتْيَانِ الْكُوفَةِ، فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُخْبِرُوا أَصْحَابَهُ بِقُدُومِهِ لِيَخْرُجُوا إِلَيْهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ الْقَيْسِيَّةَ فَأَتَوُا الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ عَامِلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِالْكُوفَةِ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُمْ جَيْشًا يُقَاتِلُونَ عُبَيْدَ اللَّهِ، وَيَغْتَنِمُونَ الْفُرْصَةَ فِيهِ بِتَفَرُّقِ أَصْحَابِهِ، فَبَعَثَ مَعَهُمْ جَيْشًا كَثِيفًا، فَسَارُوا فَلَقُوا ابْنَ الْحُرِّ، فَقَالَ لِابْنِ الْحُرِّ أَصْحَابُهُ: نَحْنُ نَفَرٌ يَسِيرٌ، وَهَذَا الْجَيْشُ لَا طَاقَةَ لَنَا فِيهِ. فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَهُمْ. وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ: يَا لَكَ يَوْمًا فَاتَ فِيهِ نَهْبِي ... وَغَابَ عَنِّي ثِقَتِي وَصَحْبِي ثُمَّ عَطَفُوا عَلَيْهِ فَكَشَفُوا أَصْحَابَهُ وَحَاوَلُوا أَنْ يَأْسِرُوهُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ، وَأَذِنَ لِأَصْحَابِهِ فِي الذَّهَابِ، فَذَهَبُوا فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ أَحَدٌ، وَجَعَلَ يُقَاتِلُ وَحْدَهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَاهِلَةَ يُكَنَّى أَبَا كُدَيَّةَ فَطَعَنَهُ، وَجَعَلُوا يَرْمُونَهُ وَيُكَتَّبُونَ عَلَيْهِ، وَلَا يَدْنُونَ مِنْهُ، وَهُوَ يَقُولُ: أَهَذِهِ نَبْلٌ أَمْ مَغَازِلُ؟ فَلَمَّا أَثْخَنَتْهُ الْجِرَاحُ خَاضَ إِلَى مَعْبَرٍ هُنَاكَ، فَدَخَلَهُ وَلَمْ يَدْخُلْ فَرَسُهُ، فَرَكِبَ السَّفِينَةَ وَمَضَى بِهِ الْمَلَّاحُ حَتَّى تَوَسَّطَ الْفُرَاتَ، فَأَشْرَفَتْ عَلَيْهِ الْخَيْلُ، وَكَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ نَبَطٌ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ فِي السَّفِينَةِ طَلِبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ فَاتَكُمْ قَتَلْنَاكُمْ، فَوَثَبَ ابْنُ الْحُرِّ لِيَرْمِيَ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ، فَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَظِيمُ الْخَلْقِ، فَقَبَضَ عَلَى يَدَيْهِ وَجِرَاحَاتُهُ تَجْرِي دَمًا، وَضَرَبَهُ الْبَاقُونَ بِالْمَجَاذِيفِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ نَحْوَ الْقَيْسِيَّةِ قَبَضَ عَلَى الَّذِي مَعَهُ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ مَعَهُ فِي الْمَاءِ فَغَرِقَا. وَقِيلَ فِي قَتْلِهِ: إِنَّهُ كَانَ يَغْشَى مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ بِالْكُوفَةِ، فَرَآهُ يُقَدِّمُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَصِيدَةً يُعَاتِبُ فِيهَا مُصْعَبًا وَيُخَوِّفُهُ مَسِيرَهُ إِلَى ابْنِ مَرْوَانَ، يَقُولُ فِيهَا: أَبْلِغْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رِسَالَةً ... فَلَسْتُ عَلَى رَأْيٍ قَبِيحٍ أُوَارِبُهْ

أَفِي الْحَقِّ أَنْ أُجْفَى وَيَجْعَلُ مُصْعَبٌ ... وَزِيرًا لَهُ مَنْ كُنْتُ فِيهِ أُحَارِبُهْ فَكَيْفَ وَقَدْ آتَيْتُكُمْ حَقَّ بَيْعَتِي ... وَحَقِّي يُلَوَّى عِنْدَكُمْ وَأُطَالِبُهْ وَأَبْلَيْتُكُمْ مَالًا يُضَيَّعُ مِثْلُهُ ... وَآسَيْتُكُمْ وَالْأَمْرُ صَعْبٌ مَرَاتِبُهْ فَلَمَّا اسْتَنَارَ الْمُلْكَ وَانْقَادَتِ الْعِدَى ... وَأُدْرِكَ مِنْ مُلْكِ الْعِرَاقِ رَغَائِبُهْ جَفَا مُصْعَبٌ عَنِّي وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ ... لَأَصْبَحَ فِيمَا بَيْنَنَا لَا أُعَاتِبُهُ لَقَدْ رَابَنِي مِنْ مُصْعَبٍ أَنَّ مُصْعَبًا ... أَرَى كُلَّ ذِي غِشِّ لَنَا هُوَ صَاحِبُهُ وَمَا أَنَا إِنْ حَلَأْتُمُونِي بِوَارِدٍ ... عَلَى كَدَرٍ قَدْ غُصَّ بِالْمَاءِ شَارِبُهْ وَمَا لِامْرِئٍ إِلَّا الَّذِي اللَّهُ سَائِقٌ ... إِلَيْهِ وَمَا قَدْ خَطَّ فِي الزَّبْرِ كَاتِبُهْ إِذَا قُمْتُ عِنْدَ الْبَابِ أَدْخَلَ مُسْلِمًا ... وَيَمْنَعُنِي أَنْ أَدْخُلَ الْبَابَ حَاجِبُهْ فَحَبَسَهُ مُصْعَبٌ، وَلَهُ مَعَهُ مُعَاتَبَاتٌ مِنَ الْحَبْسِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ قَصِيدَةً يَهْجُو فِيهَا قَيْسَ عَيْلَانَ، مِنْهَا: أَلَمْ تَرَ قَيْسًا قَيْسَ عَيْلَانَ بَرْقَعَتْ ... لِحَاهَا وَبَاعَتْ نَبْلَهَا بِالْمَغَازِلِ فَأَرْسَلَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكَلَّائِيُّ إِلَى مُصْعَبٍ: إِنِّي قَدْ كَفَيْتُكَ قِتَالَ ابْنِ الزَّرْقَاءِ - يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ - وَابْنُ الْحُرِّ يَهْجُو قَيْسًا، ثُمَّ إِنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ أَسَرُوا ابْنَ الْحُرِّ، فَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ:

أَلَمْ تَرَ قَيْسًا قَيْسَ عَيْلَانَ أَقْبَلَتْ ... وَسَارَتْ إِلَيْنَا فِي الْقَنَا وَالْقَنَابِلِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ عَيَّاشٌ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ قِيلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَافَى عَرَفَاتٍ أَرْبَعَةُ أَلْوِيَةٍ: لِوَاءٌ لِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَصْحَابِهِ، وَلِوَاءٌ لِابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَصْحَابِهِ، وَلِوَاءٌ لِبَنِي أُمَيَّةَ، وَلِوَاءٌ لِنَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ وَلَا فِتْنَةٌ، وَكَانَ أَصْحَابُ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَسْلَمَ الْجَمَاعَةِ. وَكَانَ الْعَامِلَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى الْمَدِينَةِ هَذِهِ السَّنَةَ جَابِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ مُصْعَبٌ أَخُوهُ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِالشَّامِ مُشَاقِقًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ. [الْوَفَيَاتُ] وَمَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَعُمُرُهُ أَرْبَعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَفِيهَا مَاتَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الطَّائِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ، وَعُمُرُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَمَاتَ أَبُو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ وَاسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ، وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو، وَهُوَ الْكَعْبِيُّ. (شُرَيْحٌ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ)

وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وُلِدَ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (حَاطِبٌ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ. وَبَلْتَعَةُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ، وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، الْمَفْتُوحَاتِ) .

ثم دخلت سنة تسع وستين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ] 69 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ ذِكْرُ قَتْلِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ وَغَلَبَ عَلَى دِمَشْقَ، فَقَتَلَهُ، وَقِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ سَنَةَ سَبْعِينَ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ أَقَامَ بِدِمَشْقَ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ قِنَّسْرِينَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ، ثُمَّ سَارَ يُرِيدُ قَرْقِيسِيَا وَبِهَا زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكَلَّائِيُّ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ مَعَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا بَلَغَ بُطْنَانَ حَبِيبٍ رَجَعَ عَمْرٌو لَيْلًا وَمَعَهُ حُمَيْدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْكَلْبِيُّ وَزُهَيْرُ بْنُ الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ، فَأَتَى دِمَشْقَ وَعَلَيْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ الثَّقَفِيُّ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ رُجُوعُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ هَرَبَ عَنْهَا، وَدَخَلَهَا عَمْرٌو فَغَلَبَ عَلَيْهَا وَعَلَى خَزَائِنِهَا، وَهَدَمَ دَارَ ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَخَطَبَهُمْ وَمَنَّاهُمْ وَوَعَدَهُمْ. وَأَصْبَحَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَفَقَدَ عَمْرًا، فَسَأَلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ خَبَرَهُ، فَرَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ فَقَاتَلَهُ أَيَّامًا، وَكَانَ عَمْرٌو إِذَا أَخْرَجَ حُمَيْدَ بْنَ حُرَيْثٍ عَلَى الْخَيْلِ أَخْرَجَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ سُفْيَانَ بْنَ الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيَّ، وَإِذَا أَخْرَجَ عَمْرٌو زُهَيْرَ بْنَ الْأَبْرَدِ أَخْرَجَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ حَسَّانَ بْنَ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ. ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ وَعَمْرًا اصْطَلَحَا وَكَتَبَا كِتَابًا وَآمَنَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَخَرَجَ عَمْرٌو فِي الْخَيْلِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَقْبَلَ حَتَّى أَوْطَأَ فَرَسَهُ أَطْنَابَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَانْقَطَعَتْ وَسَقَطَ السُّرَادِقُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَاجْتَمَعَا. وَدَخَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ دِمَشْقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ دُخُولِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ

أَرْسَلَ إِلَى عَمْرٍو أَنِ ائْتِنِي، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ اسْتَشَارَ كُرَيْبَ بْنَ أَبْرَهَةَ الْحِمْيَرِيَّ فِي قَتْلِ عَمْرٍو، فَقَالَ: لَا نَاقَةَ لِي فِي هَذَا وَلَا جَمَلَ، فِي مِثْلِ هَذَا هَلَكَتْ حِمْيَرٌ. فَلَمَّا أَتَى الرَّسُولُ عَمْرًا يَدْعُوهُ صَادَفَ عِنْدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لِعَمْرٍو: يَا أَبَا أُمَيَّةَ، أَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَمِنْ بَصَرِي، وَأَرَى لَكَ أَنْ لَا تَأْتِيَهُ. فَقَالَ عَمْرٌو: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ تُبَيْعَ ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: إِنَّ عَظِيمًا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ يَرْجِعُ فَيَغْلِقُ أَبْوَابَ دِمَشْقَ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُقْتَلَ. فَقَالَ عَمْرٌو: وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ نَائِمًا مَا انْتَهَبَنِي ابْنُ الزَّرْقَاءِ وَلَا اجْتَرَأَ عَلَيَّ، أَمَا إِنِّي رَأَيْتُ عُثْمَانَ الْبَارِحَةَ فِي الْمَنَامِ فَأَلْبَسَنِي قَمِيصَهُ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ زَوْجَ ابْنَةِ عَمْرٍو. ثُمَّ قَالَ عَمْرٌو لِلرَّسُولِ: أَنَا رَائِحٌ الْعَشِيَّةَ. فَلَمَّا كَانَ الْعِشَاءُ لَبِسَ عَمْرٌو دِرْعًا وَلَبِسَ عَلَيْهَا الْقَبَاءَ وَتَقَلَّدَ سَيْفَهُ، وَعِنْدَهُ حُمَيْدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْكَلْبِيُّ، فَلَمَّا نَهَضَ مُتَوَجِّهًا عَثُرَ بِالْبُسَاطِ، فَقَالَ لَهُ حُمَيْدٌ: وَاللَّهِ لَوْ أَطَعْتَنِي لَمْ تَأْتِهِ. وَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ الْكَلْبِيَّةُ كَذَلِكَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ وَمَضَى فِي مِائَةٍ مِنْ مَوَالِيهِ. وَقَدْ جَمَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ عِنْدَهُ بَنِي مَرْوَانَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ أُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَلَمْ يَزَلْ أَصْحَابُهُ يُحْبَسُونَ عِنْدَ كُلِّ بَابٍ حَتَّى بَلَغَ قَارِعَةَ الدَّارِ وَمَا مَعَهُ إِلَّا وَصِيفٌ لَهُ، فَنَظَرَ عَمْرٌو إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَإِذَا حَوْلَهُ بَنُو مَرْوَانَ، وَحَسَّانُ بْنُ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيُّ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ الْخُزَاعِيُّ، فَلَمَّا رَأَى جَمَاعَتَهُمْ أَحَسَّ بِالشَّرِّ، فَالْتَفَتَ إِلَى وَصِيفِهِ وَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَى أَخِي يَحْيَى فَقُلْ لَهُ يَأْتِنِي، فَلَمْ يَفْهَمِ الْوَصِيفُ فَقَالَ لَهُ: لَبَّيْكَ! فَقَالَ عَمْرٌو: اغْرُبْ عَنِّي فِي حَرْقِ اللَّهِ وَنَارِهِ! وَأَذِنَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِحَسَّانَ وَقَبِيصَةَ، فَقَامَا فَلَقِيَا عَمْرًا فِي الدَّارِ، فَقَالَ عَمْرٌو لِوَصِيفِهِ: انْطَلِقْ إِلَى يَحْيَى فَمُرْهُ أَنْ يَأْتِيَنِي. فَقَالَ: لَبَّيْكَ! فَقَالَ عَمْرٌو: اغْرُبْ عَنِّي. فَلَمَّا خَرَجَ حَسَّانُ وَقَبِيصَةُ أُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ وَدَخَلَ عَمْرٌو، فَرَحَّبَ بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَالَ: هَاهُنَا هَاهُنَا يَا أَبَا أُمَيَّةَ! فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَجَعَلَ يُحَادِثُهُ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ، خُذِ السَّيْفَ عَنْهُ. فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّا لِلَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَتَطْمَعُ أَنْ تَجْلِسَ مَعِي مُتَقَلِّدًا سَيْفَكَ؟ فَأَخَذَ السَّيْفَ عَنْهُ، ثُمَّ تَحَدَّثَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ، إِنَّكَ حَيْثُ خَلَعْتَنِي أَلَيْتُ بِيَمِينٍ إِنْ أَنَا مَلَأْتُ عَيْنِي مِنْكَ وَأَنَا مَالِكٌ لَكَ أَنْ أَجْعَلَكَ فِي جَامِعَةٍ. فَقَالَ لَهُ بَنُو مَرْوَانَ: ثُمَّ تُطْلِقُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَا عَسَيْتُ أَنْ

أَصْنَعَ بِأَبِي أُمَيَّةَ؟ فَقَالَ بَنُو مَرْوَانَ: أَبِرَّ قَسَمَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عَمْرٌو: قَدْ أَبَرَّ اللَّهُ قَسَمَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَخْرَجَ مِنْ تَحْتِ فِرَاشِهِ جَامِعَةً وَقَالَ: يَا غُلَامُ، قُمْ فَاجْمَعْهُ فِيهَا. فَقَامَ الْغُلَامُ فَجَمَعَهُ فِيهَا. فَقَالَ عَمْرٌو: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تُخْرِجَنِي فِيهَا عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَمَكْرًا يَا أَبَا أُمَيَّةَ عِنْدَ الْمَوْتِ؟ لَا وَاللَّهِ مَا كُنَّا لِنُخْرِجَكَ فِي جَامِعَةٍ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ. ثُمَّ جَذَبَهُ جَذْبَةً أَصَابَ فَمَهُ السَّرِيرُ فَكَسَرَ ثَنِيَّتَيْهِ. فَقَالَ عَمْرٌو: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كُسِرَ عَظْمٌ مِنِّي فَلَا تَرْكَبْ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تُبْقِي عَلَيَّ إِنْ أَنَا أَبْقَيْتُ عَلَيْكَ وَتَصْلُحُ قُرَيْشٌ لَأَطْلَقْتُكَ، وَلَكِنْ مَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ فِي بَلَدِهِ قَطُّ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ إِلَّا أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ. فَلَمَّا رَأَى عَمْرٌو أَنَّهُ يُرِيدُ قَتْلَهُ قَالَ: أَغَدْرًا يَا ابْنَ الزَّرْقَاءِ! وَقِيلَ: إِنَّ عَمْرًا لَمَّا سَقَطَتْ ثَنِيَّتَاهُ جَعَلَ يَمَسُّهُمَا، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: يَا عَمْرُو، أَرَى ثَنِيَّتَيْكَ قَدْ وَقَعَتَا مِنْكَ مَوْقِعًا لَا تَطِيبُ نَفْسُكَ بَعْدَهُ. وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ الْعَصْرَ فَخَرَجَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَأَمَرَ أَخَاهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ عَمْرٌو: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ أَنْ تَلِيَ قَتْلِي، لِيَقْتُلْنِي مَنْ هُوَ أَبْعَدُ رَحِمًا مِنْكَ. فَأَلْقَى السَّيْفَ وَجَلَسَ، وَصَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ صَلَاةً خَفِيفَةً وَدَخَلَ وَغُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ. وَرَأَى النَّاسُ عَبْدَ الْمَلِكِ حِينَ خَرَجَ وَلَيْسَ مَعَهُ عَمْرٌو، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَأَقْبَلَ فِي النَّاسِ وَمَعَهُ أَلْفُ عَبْدٍ لِعَمْرٍو، وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَثِيرٌ، فَجَعَلُوا يَصِيحُونَ بِبَابِ عَبْدِ الْمَلِكِ: أَسْمِعْنَا صَوْتَكَ يَا أَبَا أُمَيَّةَ! فَأَقْبَلَ مَعَ يَحْيَى حُمَيْدُ بْنُ حُرَيْثٍ وَزُهَيْرُ بْنُ الْأَبْرَدِ، فَكَسَرُوا بَابَ الْمَقْصُورَةِ وَضَرَبُوا النَّاسَ بِالسُّيُوفِ، وَضُرِبَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى رَأْسِهِ، وَاحْتَمَلَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَبِيٍّ صَاحِبُ الدِّيوَانِ، فَأَدْخَلَهُ بَيْتَ الْقَرَاطِيسِ. وَدَخَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ حِينَ صَلَّى فَرَأَى عَمْرًا بِالْحَيَاةِ، فَقَالَ لِعَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقْتُلَهُ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ نَاشَدَنِي اللَّهَ وَالرَّحِمَ فَرَقَقْتُ لَهُ. فَقَالَ لَهُ: أَخْزَى اللَّهُ أُمَّكَ الْبَوَّالَةَ عَلَى

عَقِبَيْهَا، فَإِنَّكَ لَمْ تُشْبِهْ غَيْرَهَا! ثُمَّ أَخَذَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَرْبَةَ فَطَعَنَ بِهَا عَمْرًا، فَلَمْ تَجُزْ، ثُمَّ ثَنَى فَلَمْ تَجُزْ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى عَضُدِهِ فَرَأَى الدِّرْعَ فَقَالَ: وَدِرْعٌ أَيْضًا؟ إِنْ كُنْتَ لَمُعِدًّا! فَأَخَذَ الصَّمْصَامَةَ، وَأَمَرَ بِعَمْرٍو فَصُرِعَ، وَجَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ فَذَبَحَهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا عَمْرُو إِنْ لَا تَدَعْ شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي ... أَضْرِبْكَ حَيْثُ تَقُولُ الْهَامَةُ اسْقُونِي وَانْتَفَضَ عَبْدُ الْمَلِكِ رِعْدَةً، فَحُمِلَ عَنْ صَدْرِهِ فَوُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا قَطُّ، قَتَلَهُ صَاحِبُ دُنْيَا وَلَا طَالِبُ آخِرَةٍ. وَدَخَلَ يَحْيَى وَمَنْ مَعَهُ عَلَى بَنِي مَرْوَانَ يُخْرِجُهُمْ وَمَنْ كَانَ مِنْ مَوَالِيهِمْ، فَقَاتَلُوا يَحْيَى وَأَصْحَابَهُ، وَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ الثَّقَفِيُّ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الرَّأْسَ، فَأَلْقَاهُ إِلَى النَّاسِ، وَقَامَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ وَأَخَذَ الْمَالَ فِي الْبِدَرِ، فَجَعَلَ يُلْقِيهَا إِلَى النَّاسِ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ الرَّأْسَ وَالْأَمْوَالَ (انْتَهَبُوا الْأَمْوَالَ وَتَفَرَّقُوا) ، ثُمَّ أَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ فَجُبِيَتْ حَتَّى عَادَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ إِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِ عَمْرٍو حِينَ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ غُلَامَهُ أَبَا الزُّعَيْزِعَةِ، فَقَتَلَهُ وَأَلْقَى رَأْسَهُ إِلَى النَّاسِ، وَرُمِيَ يَحْيَى بِصَخْرَةٍ فِي رَأْسِهِ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الْمَلِكِ سَرِيرَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَخَرَجَ وَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَفَقَدَ الْوَلِيدَ ابْنَهُ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانُوا قَتَلُوهُ لَقَدْ أَدْرَكُوا ثَأْرَهُمْ. فَأَتَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَبِيٍّ الْكِنَانِيُّ، فَقَالَ: الْوَلِيدُ عِنْدِي، وَقَدْ جُرِحَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَأْسٌ. وَأُتِيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ فَقَالَ: جُعِلْتُ فَدَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَتَرَاكَ قَاتِلًا بَنِي أُمَيَّةَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ! فَأَمَرَ بِيَحْيَى فَحُبِسَ. وَأَرَادَ قَتْلَ عَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدٍ، فَشَفَعَ فِيهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَيْضًا، وَأَرَادَ قَتْلَ عَامِرِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْكَلْبِيِّ، فَشَفَعَ فِيهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَأَمَرَ بِبَنِي عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فَحُبِسُوا، ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ مَعَ عَمِّهِمْ يَحْيَى، فَأَلْحَقَهُمْ بِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ.

ثُمَّ بَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى امْرَأَةِ عَمْرٍو الْكَلْبِيَّةِ: ابْعَثِي إِلَيَّ كِتَابَ الصُّلْحِ الَّذِي كَتَبْتُهُ لِعَمْرٍو. فَقَالَتْ لِرَسُولِهِ: ارْجِعْ فَأَعْلِمْهُ أَنَّ ذَلِكَ الصُّلْحَ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ لِيُخَاصِمَكَ عِنْدَ رَبِّهِ. وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَعَمْرٌو يَلْتَقِيَانِ فِي النَّسَبِ فِي أُمَيَّةَ، هَذَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَذَاكَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَكَانَتْ أُمُّ عَمْرٍو أُمُّ الْبَنِينَ بِنْتُ الْحَكَمِ عَمَّةَ عَبْدِ الْمَلِكِ. فَلَمَّا قَتَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ مُصْعَبًا، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ - دَخَلَ أَوْلَادُ عَمْرٍو عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُمْ أَرْبَعَةٌ: أُمَيَّةُ، وَسَعِيدٌ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَمُحَمَّدٌ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمْ قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ أَهْلُ بَيْتٍ لَمْ تَزَالُوا تَرَوْنَ لَكُمْ عَلَى جَمِيعِ قَوْمِكُمْ فَضْلًا لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ لَكُمْ، وَإِنَّ الَّذِي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِيكُمْ لَمْ يَكُنْ حَدِيثًا، وَلَكِنْ كَانَ قَدِيمًا فِي أَنْفُسِ أَوَّلِيكُمْ عَلَى أَوَّلِينَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَأُقْطِعَ بِأُمَيَّةَ، وَكَانَ أَكْبَرَهُمْ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَكَلَّمَ، فَقَامَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ الْأَوْسَطَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا تَنْعَى عَلَيْنَا أَمْرًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَهَدَمَ ذَلِكَ وَوَعَدَ جَنَّةً وَحَذَّرَ نَارًا، وَأَمَّا الَّذِي كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّكَ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا صَنَعْتَ، وَقَدْ وَصَلَ عَمْرٌو إِلَى اللَّهِ، وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا، وَلَعَمْرِي لَئِنْ أَخَذْتَنَا بِمَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ لَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَنَا مِنْ ظَهْرِهَا. فَرَقَّ لَهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَالَ: إِنَّ أَبَاكُمْ خَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَنِي أَوْ أَقْتُلَهُ، فَاخْتَرْتُ قَتْلَهُ عَلَى قَتْلِي، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَمَا أَرْغَبَنِي فِيكُمْ، وَأَوْصَلَنِي لِقَرَابَتِكُمْ! وَأَحْسَنَ جَائِزَتَهُمْ وَوَصَلَهُمْ وَقَرَّبَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ قَالَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ ذَاتَ يَوْمٍ: عَجِبْتُ كَيْفَ أَصَبْتَ غِرَّةَ عَمْرٍو. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَدْنَيْتُهُ مِنِّي لِيَسْكُنَ رَوْعُهُ ... فَأَصُولُ صَوْلَةَ حَازِمٍ مُسْتَمْكِنِ غَضَبًا وَمَحْمِيَةً لِدِينِي إِنَّهُ ... لَيْسَ الْمُسِيءُ سَبِيلُهُ كَالْمُحْسِنِ

وَقِيلَ: إِنَّمَا خَلْعُ عَمْرٍو وَقَتْلُهُ حِينَ سَارَ عَبْدُ الْمَلِكِ نَحْوَ الْعِرَاقِ لِقِتَالِ مُصْعَبٍ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: إِنَّكَ تَخْرُجُ إِلَى الْعِرَاقِ وَقَدْ كَانَ أَبُوكَ جَعَلَ لِي هَذَا الْأَمْرَ بَعْدَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ قَاتَلْتُ مَعَهُ، فَاجْعَلْ هَذَا الْأَمْرَ لِي بَعْدَكَ، فَلَمْ يُجِبْهُ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى ذَلِكَ، فَرَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَانَ مِنْ قَتْلِهِ مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدِ اسْتَخْلَفَ عَمْرًا عَلَى دِمَشْقَ، فَخَالَفَهُ وَتَحَصَّنَ بِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بِقَتْلِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ ابْنَ الزَّرْقَاءِ قَتَلَ لَطِيمَ الشَّيْطَانِ، {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] وَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] يُرْفَعُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِوَاءٌ عَلَى قَدْرِ غَدْرَتِهِ. ذِكْرُ عِصْيَانِ الْجَرَاجِمَةِ بِالشَّامِ لَمَّا امْتَنَعَ عَمْرُوبْنُ سَعِيدٍ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ خَرَجَ أَيْضًا قَائِدٌ مِنْ قُوَّادِ الضَّوَاحِي فِي جَبَلِ اللُّكَّامِ، وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْجَرَاجِمَةِ وَالْأَنْبَاطِ وَأُبَّاقِ عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ سَارَ إِلَى لُبْنَانَ، فَلَمَّا فَرَغَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ عَمْرٍو أَرْسَلَ إِلَى هَذَا الْخَارِجِ عَلَيْهِ، فَبَذَلَ لَهُ كُلَّ جُمُعَةٍ أَلْفَ دِينَارٍ، فَرَكَنَ إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُفْسِدْ فِي الْبِلَادِ، ثُمَّ وَضَعَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ سُحَيْمَ بْنَ الْمُهَاجِرِ، فَتَلَطَّفَ حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهِ مُتَنَكِّرًا، فَأَظْهَرَ لَهُ مُمَالَأَتَهُ، وَذَمَّ عَبْدَ الْمَلِكِ وَشَتَمَهُ، وَوَعَدَهُ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى عَوْرَاتِهِ وَمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الصُّلْحِ. فَوَثِقَ بِهِ. ثُمَّ إِنَّ سُحَيْمًا عَطَفَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ غَارُّونَ غَافِلُونَ بِجَيْشٍ مَعَ مَوَالِي عَبْدِ الْمَلِكِ وَبَنِي أُمَيَّةَ وَجُنْدٍ مِنْ ثِقَاتِ جُنْدِهِ وَشُجْعَانِهِمْ كَانَ أَعَدَّهُمْ بِمَكَانٍ خَفِيٍّ قَرِيبٍ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ: مَنْ أَتَانَا مِنَ الْعَبِيدِ، يَعْنِي الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، فَهُوَ حُرٌّ وَيُثَبَّتَ فِي الدِّيوَانِ، فَانْفَضَّ إِلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَكَانُوا مِمَّنْ قَاتَلَ مَعَهُ، فَقُتِلَ الْخَارِجُ وَمَنْ أَعَانَهُ مِنَ الرُّومِ، وَقُتِلَ نَفَرٌ مِنَ الْجَرَاجِمَةِ وَالْأَنْبَاطِ، وَنَادَى الْمُنَادِي بِالْأَمَانِ فِيمَنْ لَقِيَ مِنْهُمْ، فَتَفَرَّقُوا فِي قُرَاهُمْ وَسُدَّ الْخَلَلُ، وَعَادَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَوَفَى لِلْعَبِيدِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ زُهَيْرُ بْنُ قَيْسٍ أَمِيرُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَفِيهَا حُكِّمَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ بِمِنًى وَسَلَّ سَيْفَهُ، وَكَانُوا جَمَاعَةً، فَأَمْسَكَ اللَّهُ أَيْدِيهِمْ فَقُتِلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ لَهُ أَخُوهُ مُصْعَبٌ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحٌ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ، وَلَهُ خَمْسٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.

ثم دخلت سنة سبعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ] 70 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَتِ الرُّومُ وَاسْتَجَاشُوا عَلَى مَنْ بِالشَّامِ، فَصَالَحَ عَبْدُ الْمَلِكِ مَلِكَهُمْ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهِ كُلَّ جُمُعَةٍ أَلْفَ دِينَارٍ خَوْفًا مِنْهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَفِيهَا شَخَصَ مُصْعَبٌ إِلَى مَكَّةَ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَمَعَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَدَوَابُّ كَثِيرَةٌ، قَسَّمَهَا فِي قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَنَهَضَ وَنَحَرَ بُدْنًا كَثِيرَةً. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ عُمَّالُهُ فِيهَا مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. ذِكْرُ يَوْمِ الْجُفْرَةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يُرِيدُ مُصْعَبًا، فَقَالَ لَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ: إِنْ وَجَّهْتَنِي إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَتْبَعْتَنِي خَيْلًا يَسِيرَةً - رَجَوْتُ أَنْ أَغْلِبَ لَكَ عَلَيْهَا. فَوَجَّهَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَقَدِمَهَا مُسْتَخْفِيًا فِي خَاصَّتِهِ حَتَّى نَزَلَ عَلَى عَمْرِو بْنِ أَصْمَعَ، وَقِيلَ: نَزَلَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَصْمَعَ الْبَاهِلِيِّ، فَأَرْسَلَ عَمْرٌو إِلَى عَبَّادِ بْنِ الْحُصَيْنِ، وَهُوَ عَلَى شُرْطَةِ ابْنِ مَعْمَرٍ، وَكَانَ مُصْعَبٌ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَرَجَا ابْنُ أَصْمَعَ أَنْ

يُبَايِعَهُ عَبَّادُ بْنُ الْحُصَيْنِ وَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ خَالِدًا، وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَعْلَمَ ذَلِكَ لِتَكُونَ ظَهْرًا لِي. فَوَافَاهُ الرَّسُولُ حِينَ نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ، فَقَالَ عَبَّادٌ: قُلْ لَهُ: وَاللَّهِ لَا أَضَعُ لَبِدَ فَرَسِي حَتَّى آتِيكَ فِي الْخَيْلِ. فَقَالَ ابْنُ أَصْمَعَ لِخَالِدٍ: إِنَّ عَبَّادًا يَأْتِينَا السَّاعَةَ، وَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَمْنَعَكَ عَنْهُ، فَعَلَيْكَ بِمَالِكِ بْنِ مِسْمَعٍ. فَخَرَجَ خَالِدٌ يَرْكُضُ وَقَدْ أَخْرَجَ رِجْلَيْهِ مِنَ الرِّكَابَيْنِ حَتَّى أَتَى مَالِكًا، فَقَالَ: أَجِرْنِي. فَأَجَارَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَالْأَزْدِ، فَكَانَ أَوَّلَ رَايَةٍ أَتَتْهُ رَايَةُ بَنِي يَشْكُرَ، وَأَقْبَلَ عَبَّادٌ فِي الْخَيْلِ، فَتَوَاقَفُوا وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ عَدَوْا إِلَى جُفْرَةِ نَافِعِ بْنِ الْحَارِثِ، وَمَعَ خَالِدٍ رِجَالٌ مِنْ تَمِيمٍ، مِنْهُمْ: صَعْصَعَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ بِشْرٍ، وَمُرَّةُ بْنُ مِحْكَانٍ وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ أَصْحَابُ خَالِدٍ جُفْرِيَّةً يَنْتَسِبُونَ إِلَى الْجُفْرَةِ، وَأَصْحَابُ ابْنِ مَعْمَرٍ زُبَيْرِيَّةً، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ خَالِدٍ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، وَحُمْرَانُ بْنُ أَبَانٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَمِنَ الزُّبَيْرِيَّةِ: قَيْسُ بْنُ الْهَيْثَمِ السُّلَمِيُّ. وَوَجَّهَ مُصْعَبٌ زَحْرَ بْنَ قَيْسٍ الْجُعْفِيَّ مَدَدًا لِابْنِ مَعْمَرٍ فِي أَلْفٍ، وَوَجَّهْ عَبْدُ الْمَلِكِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ مَدَدًا لِخَالِدٍ. فَأَرْسَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الْبَصْرَةِ مَنْ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ، فَعَادَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ بِتَفَرُّقِ الْقَوْمِ، فَرَجَعَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ. فَاقْتَتَلُوا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَأُصِيبَتْ عَيْنُ مَالِكِ بْنِ مِسْمَعٍ، وَضَجِرَ مِنَ الْحَرْبِ، وَمَشَتْ بَيْنَهُمُ السُّفَرَاءُ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَخْرُجَ خَالِدٌ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ. ثُمَّ لَحِقَ مَالِكٌ بِثَأَجٍ. وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ رَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ، فَلَمْ يَكُنْ لِمُصْعَبٍ هِمَّةٌ إِلَّا الْبَصْرَةُ، وَطَمِعَ أَنْ يُدْرِكَ بِهَا خَالِدًا، فَوَجَدَهُ قَدْ خَرَجَ، وَسَخِطَ مُصْعَبٌ عَلَى ابْنِ مَعْمَرٍ، وَأَحْضَرَ أَصْحَابَ خَالِدٍ فَشَتَمَهُمْ وَسَبَّهُمْ، فَقَالَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ: يَا ابْنَ مَسْرُوحٍ، إِنَّمَا أَنْتَ ابْنُ كَلْبَةٍ تَعَاوَرَهَا الْكِلَابُ، فَجَاءَتْ بِأَحْمَرَ وَأَصْفَرَ وَأَسْوَدَ مِنْ كُلِّ كَلْبٍ بِمَا يُشْبِهُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ أَبُوكَ عَبْدًا نَزَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حِصْنِ الطَّائِفِ، ثُمَّ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ زَنَى بِأُمِّكُمْ، وَاللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَأُلْحِقَنَّكُمْ بِنَسَبِكُمْ. ثُمَّ دَعَا حُمْرَانَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا أَنْتَ ابْنُ يَهُودِيَّةٍ عِلْجٌ نَبَطِيٌّ سُبِيتَ مِنْ عَيْنِ التَّمْرِ. وَقَالَ لِلْحَكَمِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَضَالَةَ

الزَّهْرَانِيِّ، وَلِعَلِيِّ بْنِ أَصْمَعَ، وَلِعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ بِشْرٍ، وَغَيْرِهِمْ نَحْوَ هَذَا مِنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، وَضَرْبِهِمْ مِائَةَ مِائَةٍ، وَحَلَقَ رُءُوسَهُمْ وَلِحَاهُمْ، وَهَدَمَ دُورَهُمْ وَصَحَّرَهُمْ فِي الشَّمْسِ ثَلَاثًا، وَحَمَلَهُمْ عَلَى طَلَاقِ نِسَائِهِمْ، وَجَمَّرَ أَوْلَادَهُمْ فِي الْبُعُوثِ، وَطَافَ بِهِمْ فِي أَقْطَارِ الْبَصْرَةِ، وَأَحْلَفَهُمْ أَنْ لَا يَنْكِحُوا الْحَرَائِرَ، وَهَدَمَ دَارَ مَالِكِ بْنِ مِسْمَعٍ وَأَخَذَ مَا فِيهَا، فَكَانَ مِمَّا أَخَذَ جَارِيَةٌ وَلَدَتْ لَهُ عَمْرَو بْنَ مُصْعَبٍ. وَأَقَامَ مُصْعَبٌ بِالْبَصْرَةِ، ثُمَّ شَخَصَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى حَرْبِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. (الْمُغِيرَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَبِالْغَيْنِ، وَالرَّاءِ. خَالِدُ بْنُ أَسِيدٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَكَسْرِ السِّينِ. وَالْجُفْرَةُ بِضَمِّ الْجِيمِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ) . [وَفَاةُ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ جَدُّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِأُمِّهِ، وَوُلِدَ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَنَتَيْنِ. ذِكْرُ مَقْتَلِ عُمَيْرِ بْنِ الْحُبَابِ بْنِ جَعْدَةَ السُّلَمِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُبَابِ بْنِ جَعْدَةَ السُّلَمِيُّ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ سَبَبَ الْحَرْبِ بَيْنَ قَيْسٍ وَتَغْلِبَ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى قَتْلِ عُمَيْرٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا انْقَضَى أَمْرُ مَرْجِ رَاهِطٍ، وَسَارَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكَلَّائِيُّ إِلَى قَرْقِيسِيَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَبَايَعَ عُمَيْرُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَفِي نَفْسِهِ مَا فِيهَا بِسَبَبِ قَتْلِ قَيْسٍ بِالْمَرْجِ، فَلَمَّا سَيَّرَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ إِلَى الْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ كَانَ عُمَيْرٌ مَعَهُ، فَلَقُوا سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ بِعَيْنِ الْوَرْدَةِ، وَسَارَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى قَرْقِيسِيَا لِقِتَالِ زُفَرَ، فَثَبَّطَهُ عُمَيْرٌ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْمَوْصِلِ قَبْلَ وُصُولِ جَيْشِ الْمُخْتَارِ إِلَيْهَا، وَسَارَ إِلَيْهَا وَلَقِيَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ بِالْخَازِرِ، فَمَالَ عُمَيْرٌ مَعَهُ، فَانْهَزَمَ جَيْشُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَقُتِلَ هُوَ، فَأَتَى عُمَيْرٌ قَرْقِيسِيَا وَصَارَ مَعَ زُفَرَ، فَجَعَلَا يَطْلُبَانِ كَلْبًا وَالْيَمَانِيَةَ بِمَنْ قَتَلُوا مِنْ قَيْسٍ، وَكَانَ مَعَهُمَا قَوْمٌ مِنْ تَغْلِبَ يُقَاتِلُونَ مَعَهُمَا وَيَدُلُّونَهُمَا.

وَشُغِلَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْهُمَا بِمُصْعَبٍ، وَتَغَلَّبَ عُمَيْرٌ عَلَى نَصِيبِينَ. ثُمَّ إِنَّهُ مَلَّ الْمُقَامَ بِقَرْقِيسِيَا، فَاسْتَأْمَنَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَآمَنَهُ، ثُمَّ غَدَرَ بِهِ فَحَبَسَهُ عِنْدَ مَوْلَاهُ الرَّيَّانِ، فَسَقَاهُ عُمَيْرٌ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْحَرَسِ خَمْرًا حَتَّى أَسْكَرَهُمْ، وَتَسَلَّقَ فِي سُلَّمٍ مِنْ حِبَالٍ، وَخَرَجَ مِنَ الْحَبْسِ وَعَادَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَنَزَلَ عَلَى نَهْرِ الْبَلِيخِ بَيْنَ حَرَّانَ وَالرَّقَّةِ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قَيْسٌ، فَكَانَ يُغِيرُ بِهِمْ عَلَى كَلْبٍ وَالْيَمَانِيَةِ، وَكَانَ مَنْ مَعَهُ يَسْتَأْوُونَ جَوَارِيَ تَغْلِبَ، وَيُسَخِّرُونَ مَشَايِخَهُمْ مِنَ النَّصَارَى، فَهَاجَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ شَرًّا لَمْ يَبْلُغِ الْحَرْبَ، وَذَلِكَ قَبْلَ مَسِيرِ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى مُصْعَبٍ وَزُفَرَ. ثُمَّ إِنَّ عُمَيْرًا أَغَارَ عَلَى كَلْبٍ، ثُمَّ رَجَعَ فَنَزَلَ عَلَى الْخَابُورِ، وَكَانَتْ مَنَازِلُ تَغْلِبَ بَيْنَ الْخَابُورِ وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ. وَكَانَتْ بِحَيْثُ نَزَلَ عُمَيْرٌ امْرَأَةٌ مِنْ تَمِيمٍ نَاكِحٌ فِي تَغْلِبَ يُقَالُ لَهَا أُمُّ دُوَيْلٍ، فَأَخَذَ غُلَامٌ مِنْ بَنِي الْحَرِيشِ أَصْحَابِ عُمَيْرٍ عَدَدًا مِنْ غَنَمِهَا، فَشَكَتْ إِلَى عُمَيْرٍ، فَلَمْ يَمْنَعْ عَنْهَا، فَأَخَذُوا الْبَاقِيَ، فَمَانَعَهُمْ قَوْمٌ مِنْ تَغْلِبَ، فَقُتِلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مُجَاشِعٌ التَّغْلِبِيُّ، وَجَاءَ دُوَيْلٌ فَشَكَتْ أُمُّهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ فَارِسًا مِنْ فُرْسَانِ تَغْلِبَ، فَسَارَ فِي قَوْمِهِ، وَجَعَلَ يُذَكِّرُهُمْ مَا تَصْنَعُ بِهِمْ قَيْسٌ، وَيَشْكُوا إِلَيْهِمْ مَا أُخِذَ مِنْ غَنَمِ أُمِّهِ، فَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ شُعَيْثَ بْنَ مُلَيْكٍ التَّغْلِبِيَّ، وَأَغَارُوا عَلَى بَنِي الْحَرِيشِ وَمَعَهُمْ قَوْمٌ مِنْ نُمَيْرٍ، فَقَتَلَ فِيهِمُ التَّغْلِبِيُّونَ، وَاسْتَاقُوا ذَوْدًا لِامْرَأَةٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهَا أُمُّ الْهَيْثَمِ، فَمَانَعَهُمُ الْقَيْسِيُّونَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى مَنْعِهِمْ، فَقَالَ الْأَخْطَلُ: فَإِنْ تَسْأَلُونَا بِالْحَرِيشِ فَإِنَّنَا ... مُنِينَا بِنُوكٍ مِنْهُمُ وَفُجُورِ غَدَاةَ تَحَامَتْنَا الْحَرِيشُ كَأَنَّهَا ... كِلَابٌ بَدَتْ أَنْيَابُهَا لِهَرِيرِ وَجَاؤُوا بِجَمْعٍ نَاصِرٍ أُمَّ هَثْيَمٍ ... فَمَا رَجَعُوا مِنْ ذَوْدِهَا بِبَعِيرِ يَوْمُ مَاكِسِينَ وَلَمَّا اسْتَحْكَمَ الشَّرُّ بَيْنَ قَيْسٍ وَتَغْلِبَ، وَعَلَى قَيْسٍ عُمَيْرٌ، وَعَلَى تَغْلِبَ شُعَيْثٌ، غَزَا عُمَيْرٌ بَنِي تَغْلِبَ وَجَمَاعَتَهُمْ بِمَاكِسِينَ مِنَ الْخَابُورِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَهِيَ أَوَّلُ

وَقْعَةٍ لَهُمْ، فَقُتِلَ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ خَمْسُمِائَةٍ، وَقُتِلَ شُعَيْثٌ، وَكَانَتْ رِجْلُهُ قُطِعَتْ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قَيْسٌ وَنَحْنُ نَعْلَمْ ... أَنَّ الْفَتَى يَقْتُلُ وَهُوَ أَجْذَمْ يَوْمُ الثَّرْثَارِ الْأَوَّلِ وَالثَّرْثَارُ نَهَرٌ أَصْلُ مَنْبَعِهِ شَرْقِيُّ سِنْجَارَ، وَبِالْقُرْبِ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا سُرَّقَ، وَيُفْرِغُ فِي دِجْلَةَ بَيْنَ الْكَحِيلِ وَرَأْسِ الْأَيْلِ مِنْ عَمَلِ الْفَرَجِ. لَمَّا قُتِلَ بِمَاكِسِينَ مَنْ ذَكَرْنَا اسْتَمَدَّتْ تَغْلِبُ وَحَشَدَتْ، وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهَا النَّمِرُ بْنُ قَاسِطٍ، وَأَتَاهَا الْمُشَجَّرُ بْنُ الْحَارِثِ الشَّيْبَانِيُّ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِهِمْ بِالْجَزِيرَةِ، وَأَتَاهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ مُنْجِدًا لَهُمْ عَلَى قَيْسٍ، فَلِذَلِكَ حَقَدَ عَلَيْهِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ حَتَّى قَتَلَ أَخَاهُ النَّابِئَ بْنَ زِيَادٍ، وَاسْتَنْجَدَ عُمَيْرٌ تَمِيمًا وَأَسَدًا، فَلَمْ يُنْجِدْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَالْتَقَوْا عَلَى الثَّرْثَارِ، وَقَدْ جَعَلَتْ تَغْلِبُ عَلَيْهَا بَعْدَ شُعَيْبٍ زِيَادَ بْنَ هَوْبَرٍ، وَيُقَالُ: يَزِيدَ بْنَ هَوْبَرٍ التَّغْلِبِيَّ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَتْ قَيْسٌ، وَقَتَلَتْ تَغْلِبُ وَمَنْ مَعَهَا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَبَقَرُوا بُطُونَ ثَلَاثِينَ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَقَالَتْ لَيْلَى بِنْتُ الْحَارِسِ التَّغْلِبِيَّةُ، وَقِيلَ هِيَ لِلْأَخْطَلِ: لَمَّا رَأَوْنَا وَالصَّلِيبَ طَالِعَا ... وَمَارَسَرْجِيسَ وَسُمًّا نَاقِعَا وَالْخَيْلَ لَا تَحْمِلُ إِلَّا دَارِعَا ... وَالْبِيضَ فِي أَيْمَانِنَا قَوَاطِعَا خَلَّوْا لَنَا الثَّرْثَارَ وَالْمَزَارِعَا ... وَحِنْطَةً طَيْسًا وَكَرْمًا يَانِعَا يَوْمُ الثَّرْثَارِ الثَّانِي ثُمَّ إِنَّ قَيْسًا تَجَمَّعَتْ وَاسْتَمَدَّتْ وَاسْتَعَدَّتْ وَعَلَيْهَا عُمَيْرُ بْنُ الْحُبَابِ، وَأَتَاهُمْ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ قَرْقِيسِيَا، وَكَانَ رَئِيسَ بَنِي تَغْلِبَ، وَالنَّمِرِ، وَمَعَهُمَا ابْنُ هَوْبَرٍ، فَالْتَقَوْا بِالثَّرْثَارِ،

وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ اقْتَتَلَهُ النَّاسُ، وَانْهَزَمَتْ بَنُو عَامِرٍ، وَكَانَتْ عَلَى مُجَنَّبَةِ قَيْسٍ، وَصَبَرَتْ سُلَيْمٌ وَأَعْصَرَتْ حَتَّى انْهَزَمَتْ تَغْلِبُ وَمَنْ مَعَهَا، وَقُتِلَ ابْنَا عَبْدِ يَشُوعَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَشْرَافِ تَغْلِبَ، فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُبَابِ: فِدًا لِفَوَارِسِ الثَّرْثَارِ نَفْسِي ... وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ أَهْلٍ وَمَالِ وَوَلَّتْ عَامِرٌ عَنَّا فَأَجْلَتْ ... وَحَوْلِي مِنْ رَبِيعَةَ كَالْجِبَالِ أُكَاوِحُهُمْ بِدُهْمٍ مِنْ سُلَيْمٍ ... وَأُعْصِرُ كَالْمَصَاعِيبِ النِّهَالِ وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ: أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي عُمَيْرًا ... رِسَالَةَ نَاصِحٍ وَعَلَيْهِ زَارِي أَنَتْرُكُ حَيَّ ذِي يَمَنٍ وَكَلْبًا ... وَنَجْعَلُ جِدَّنَا بِكَ فِي نِزَارِ كَمُعْتَمِدٍ عَلَى إِحْدَى يَدَيْهِ ... فَخَانَتْهُ بِوَهْنٍ وَانْكِسَارِ يَوْمُ الْفُدَيْنِ وَأَغَارَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُبَابِ عَلَى الْفُدَيْنِ، وَهِيَ قَرْيَةٌ عَلَى الْخَابُورِ، وَقَتَلَ مَنْ بِهَا مِنْ بَنِي تَغْلِبَ، فَهَزَمَهُمْ، فَقَالَ نُفَيْعُ بْنُ صَفَّارٍ الْمُحَارِبِيُّ: لَوْ تُسْأَلُ الْأَرْضُ الْفَضَاءُ عَلَيْكُمُ ... شَهِدَ الْفُدَيْنُ بِهُلْكِكُمْ وَالصُّوَّرُ وَالصُّوَّرُ: قَرْيَةٌ مِنَ الْفُدَيْنِ. يَوْمُ السُّكَيْرِ وَهُوَ عَلَى الْخَابُورِ، يُسَمَّى سُكَيْرَ الْعَبَّاسِ. ثُمَّ اجْتَمَعُوا وَالْتَقَوْا بِالسُّكَيْرِ، وَعَلَى قَيْسٍ عُمَيْرُ بْنُ الْحُبَابِ، وَعَلَى تَغْلِبَ وَالنَّمِرِ يَزِيدُ بْنُ هَوْبَرٍ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَتْ تَغْلِبُ وَالنَّمِرُ، وَهَرَبَ عُمَيْرُ بْنُ جَنْدَلٍ، وَهُوَ مِنْ فُرْسَانِ تَغْلِبَ، فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُبَابِ:

وَأَفْلَتَنَا يَوْمَ السُّكَيْرِ ابْنُ جَنْدَلٍ ... عَلَى سَابِحٍ عُوجِ اللَّبَانِ مُثَابِرِ وَنَحْنُ كَرَرْنَا الْخَيْلَ قِدْمًا شَوَاذِبًا ... دِقَاقَ الْهَوَادِي دَامِيَاتِ الدَّوَائِرِ وَقَالَ ابْنُ صَفَّارٍ: صَبَحْنَاكُمْ بِهِنَّ عَلَى سُكَيْرٍ ... وَلَاقَيْتُمْ هُنَاكَ الْأَقْوَرِينَا يَوْمُ الْمَعَارِكِ وَالْمَعَارِكُ بَيْنَ الْحَضْرِ وَالْعَتِيقِ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، اجْتَمَعَتْ تَغْلِبُ بِهَذَا الْمَكَانِ فَالْتَقَوْا هُمْ وَقَيْسٌ، فَاقْتَتَلُوا بِهِ فَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ، فَانْهَزَمَتْ تَغْلِبُ، وَقَالَ ابْنُ صَفَّارٍ: وَلَقَدْ تَرَكْنَا بِالْمَعَارِكِ مِنْكُمُ ... وَالْحَضْرِ وَالثَّرْثَارِ أَجْسَادًا جُثَا فَيُقَالُ: إِنَّ يَوْمَ الْمَعَارِكِ وَالْحَضْرِ وَاحِدٌ، هَزَمُوهُمْ إِلَى الْحَضْرِ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ بَشَرًا كَثِيرًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمَا يَوْمَانِ كَانَا لِقَيْسٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [يَوْمُ لِبَّى] وَالْتَقَوْا أَيْضًا بِلِبَّى فَوْقَ تَكْرِيتَ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَتَنَاصَفُوا، فَقَيْسٌ تَقُولُ: كَانَ الْفَضْلُ لَنَا، وَتَغْلِبُ تَقُولُ: كَانَ الْفَضْلُ لَنَا. يَوْمُ الشَّرْعَبِيَّةِ ثُمَّ الْتَقَوْا بِالشَّرْعَبِيَّةِ، وَعَلَى قَيْسٍ عُمَيْرُ بْنُ الْحُبَابِ، وَعَلَى تَغْلِبَ وَأَلْفَافِهَا ابْنُ هَوْبَرٍ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ شَدِيدٌ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ عَمَّارُ بْنُ الْمُهَزَّمِ السُّلَمِيُّ، وَكَانَ لِتَغْلِبَ عَلَى قَيْسٍ، قَالَ الْأَخْطَلُ: وَلَقَدْ بَكَى الْجَحَّافُ لَمَّا أَوْقَعَتْ ... بِالشَّرْعَبِيَّةِ إِذْ رَأَى الْأَهْوَالَا

يَعْنِي أَوْقَعَتِ الْخَيْلُ. وَالشَّرْعَبِيَّةُ: مِنْ بِلَادِ تَغْلِبَ. وَالشَّرْعَبِيَّةُ أَيْضًا: بِبِلَادِ مَنْبِجَ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْوَقْعَةَ كَانَتْ بِبِلَادِ مَنْبِجَ، وَذَلِكَ خَطَأٌ. يَوْمُ الْبَلِيخِ وَاجْتَمَعَتْ تَغْلِبُ وَسَارَتْ إِلَى الْبَلِيخِ، وَهُنَاكَ عُمَيْرٌ فِي قَيْسٍ، وَالْبَلِيخُ نَهْرٌ بَيْنَ حَرَّانَ وَالرَّقَّةِ، فَالْتَقَوْا وَانْهَزَمَتْ تَغْلِبُ وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهَا، وَبُقِرَتْ بُطُونُ النِّسَاءِ كَمَا فَعَلُوا يَوْمَ الثَّرْثَارِ، فَقَالَ ابْنُ صَفَّارٍ: زُرْقُ الرِّمَاحِ وَوَقْعُ كُلِّ مُهَنَّدٍ ... زَلْزَلْنَ قَلْبَكَ بِالْبَلِيخِ فَزَالَا يَوْمُ الْحَشَّاكِ، وَمَقْتَلُ عُمَيْرِ بْنِ الْحُبَابِ السُّلَمِيِّ وَابْنِ هَوْبَرٍ التَّغْلِبِيِّ لَمَّا رَأَتْ تَغْلِبُ إِلْحَاحَ عُمَيْرِ بْنِ الْحُبَابِ عَلَيْهَا جَمَعَتْ حَاضِرَتَهَا وَبَادِيَتَهَا، وَسَارُوا إِلَى الْحَشَّاكِ، وَهُوَ تَلٌّ قَرِيبٌ مِنَ الشَّرْعَبِيَّةِ، وَإِلَى جَنْبِهِ بِرَاقٌ، وَدَلَفَ إِلَيْهِ عُمَيْرٌ فِي قَيْسٍ وَمَعَهُ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكَلَّائِيُّ وَابْنُهُ الْهُذَيْلُ بْنُ زُفَرَ، وَعَلَى تَغْلِبَ ابْنُ هَوْبَرٍ، وَاقْتَتَلُوا عِنْدَ تَلِّ الْحَشَّاكِ أَشَدَّ قِتَالٍ وَأَبْرَحَهُ، حَتَّى جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا وَاقْتَتَلُوا مِنَ الْغَدِ إِلَى اللَّيْلِ، ثُمَّ تَحَاجَزُوا. وَأَصْبَحَتْ تَغْلِبُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَتَعَاقَدُوا أَنْ لَا يَفِرُّوا، فَلَمَّا رَأَى عُمَيْرٌ حَدَّهُمْ، وَأَنَّ نِسَاءَهُمْ مَعَهُمْ قَالَ لِقَيْسٍ: يَا قَوْمِ، أَرَى لَكُمْ أَنْ تَنْصَرِفُوا عَنْ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ مُسْتَقْتِلُونَ، فَإِذَا اطْمَأَنُّوا وَصَارُوا إِلَى سَرْحِهِمْ وَجَّهْنَا إِلَى كُلِّ قَوْمٍ مِنْهُمْ مَنْ يُغِيرُ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ حَاتِمِ بْنِ النُّعْمَانِ الْبَاهِلِيُّ: قَتَلْتَ فُرْسَانَ قَيْسٍ أَمْسِ وَأَوَّلَ أَمْسِ، ثُمَّ مُلِئَ سَحْرُكَ وَجَبُنْتَ! وَيُقَالُ: إِنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ أَسْمَاءَ بْنِ خَارِجَةَ الْفَزَارِيَّ قَالَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ أَتَاهُ مُنْجِدًا، فَغَضِبُ عُمَيْرٌ وَقَالَ: كَأَنِّي بِكَ وَقَدْ حَمِسَ الْوَغَى أَوَّلُ فَارٍّ! فَنَزَلَ عُمَيْرٌ وَجَعَلَ يُقَاتِلُ رَاجِلًا وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا عُمَيْرٌ وَأَبُو الْمُغَلِّسْ ... قَدْ أَحْبِسُ الْقَوْمَ بِضَنْكٍ فَاحْبِسْ

وَانْهَزَمَ زُفَرُ يَوْمَئِذٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، فَلَحِقَ بِقَرْقِيسِيَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْحَرَكَةِ إِلَيْهِ بِقَرْقِيسِيَا، فَبَادَرَ لِلتَّأَهُّبِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ادَّعَى ذَلِكَ حِينَ فَرَّ اعْتِذَارًا، وَانْهَزَمَتْ قَيْسٌ وَرَكِبَتْ تَغْلِبُ وَمَنْ مَعَهَا أَكْتَافَهُمْ يَقُولُونَ: أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ تَغْلِبَ تَغْلِبُ؟ وَشَدَّ عَلَى عُمَيْرٍ جُمَيْلُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ فَقَتَلَهُ، وَقِيلَ: بَلْ تَغَاوَى عَلَى عُمَيْرٍ غُلَامَانِ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ فَرَمَيَاهُ بِالْحِجَارَةِ، وَقَدْ أَعْيَا فَأَثْخَنَاهُ، وَكَرَّ عَلَيْهِ ابْنُ هَوْبَرٍ فَقَتَلَهُ. وَأَصَابَتِ ابْنَ هَوْبَرٍ يَوْمَئِذٍ جِرَاحَةٌ، فَلَمَّا انْقَضَتِ الْحَرْبُ أَوْصَى بَنِي تَغْلِبَ بِأَنْ يُوَلُّوا أَمْرَهُمْ مُرَادَ بْنَ عَلْقَمَةَ الزُّهَيْرِيَّ. وَقِيلَ: خَرَجَ ابْنُ هَوْبَرٍ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِهِمْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَأَوْصَى أَنْ يُوَلُّوا أَمْرَهُمْ مُرَادًا، وَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَكَانَ مُرَادٌ رَئِيسَهُمْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَعَبَّأَهُمْ عَلَى رَايَاتِهِمْ، وَأَمَرَ كُلَّ بَنِي أَبٍ أَنْ يَجْعَلُوا نِسَاءَهُمْ خَلْفَهُمْ، فَلَمَّا أَبْصَرَهُمْ عُمَيْرٌ قَالَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَرِقْتُ بِأَثْنَاءِ الْفُرَاتِ وَشَفَّنِي ... نَوَائِحُ أَبْكَاهَا قَتِيلُ ابْنِ هَوْبَرِ وَلَمْ تَظْلِمِي إِنْ نُحْتِ أُمَّ مُغَلِّسٍ ... قَتِيلَ النَّصَارَى فِي نَوَائِحِ حُسَّرِ وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ يُنْكِرُ قَتْلَ ابْنِ هَوْبَرٍ عُمَيْرًا: وَإِنَّ عُمَيْرًا يَوْمَ لَاقَتْهُ تَغْلِبُ ... قَتِيلُ جُمَيْلٍ لَا قَتِيلُ ابْنِ هَوْبَرِ وَكَثُرَ الْقَتْلُ يَوْمَئِذٍ فِي بَنِي سُلَيْمٍ وَغَنِيٍّ خَاصَّةً، وَقُتِلَ مِنْ قَيْسٍ أَيْضًا يَوْمَئِذٍ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَبَعَثَتْ بَنُو تَغْلِبَ رَأْسَ عُمَيْرِ بْنِ الْحُبَابِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِدِمَشْقَ، فَأَعْطَى الْوَفْدَ وَكَسَاهُمْ. فَلَمَّا صَالَحَ عَبْدُ الْمَلِكِ زُفَرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ قَالَ الْأَخْطَلُ : بَنِي أُمَيَّةَ قَدْ تَنَاضَلَتْ دُونَكُمُ ... أَبْنَاءُ قَوْمٍ هُمُ آوَوْا وَهُمْ نَصَرُوا وَقَيْسُ عَيْلَانَ حَتَّى أَقْبَلُوا رَقَصًا ... فَبَايَعُوا لَكَ قَسْرًا بَعْدَمَا قُهِرُوا

ضَجُّوا مِنَ الْحَرْبِ إِذْ عُضَّتْ غَوَارِبُهُمْ وَقَيْسُ عَيْلَانَ مِنْ أَخْلَاقِهَا الضَّجَرُ فِي أَبْيَاتٍ كَثِيرَةٍ. فَلَمَّا قُتِلَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُبَابِ وَقَفَ رَجُلٌ عَلَى أَسْمَاءَ بْنِ خَارِجَةَ الْفَزَارِيِّ بِالْكُوفَةِ فَقَالَ: قَتَلَتْ بَنُو تَغْلِبَ عُمَيْرَ بْنَ الْحُبَابِ. فَقَالَ: لَا بَأْسَ، إِنَّمَا قُتِلَ الرَّجُلُ فِي دِيَارِ الْقَوْمِ مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، ثُمَّ قَالَ: يَدِي رَهْنٌ عَلَى سُلَيْمٍ بِغَارَةٍ ... تَشِيبُ لَهَا أَصْدَاغُ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ وَتَتْرُكُ أَوْلَادَ الْفَدَوْكَسِ عَالَةً ... يَتَامَى أَيَامَى نُهْزَةً لِلْقَبَائِلِ يَوْمُ الْكُحَيْلِ وَهُوَ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ فِي جَانِبِ دِجْلَةَ الْغَرْبِيِّ. وَسَبَبُهُ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُبَابِ السُّلَمِيُّ أَتَى تَمِيمُ بْنُ عُمَيْرٍ زُفَرَ بْنَ الْحَارِثِ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ لَهُ بِثَأْرِهِ، فَامْتَنَعَ، فَقَالَ الْهُذَيْلُ بْنُ زُفَرَ لِأَبِيهِ: وَاللَّهِ لَئِنْ ظَفِرَتْ بِهِمْ تَغْلِبُ، إِنَّ ذَلِكَ لَعَارٌ عَلَيْكَ، وَلَئِنْ ظَفِرُوا بِتَغْلِبَ وَقَدْ خَذَلَتْهُمْ إِنَّ ذَلِكَ لَأَشَدُّ. فَاسْتَخْلَفَ زُفَرُ عَلَى قَرْقِيسِيَا أَخَاهُ أَوْسَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعَزَمَ عَلَى أَنْ يُغِيرَ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ وَيَغْزُوهُمْ، فَوَجَّهَ خَيْلًا إِلَى بَنِي فَدَوْكَسَ بَطْنٍ مِنْ تَغْلِبَ، فَقُتِلَ رِجَالُهُمْ، وَاسْتُبِيحَتْ أَمْوَالُهُمْ وَنِسَائُهُمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ غَيْرُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ اسْتَجَارَتْ، فَأَجَارَهَا يَزِيدُ بْنُ حُمْرَانَ. وَوَجَّهَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ ابْنَهُ الْهُذَيْلَ فِي جَيْشٍ إِلَى بَنِي كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ، فَقَتَلَ فِيهِمْ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَبَعَثَ زُفَرُ أَيْضًا مُسْلِمَ بْنَ رَبِيعَةَ الْعُقَيْلِيَّ إِلَى قَوْمِ تَغْلِبَ مُجْتَمِعِينَ، فَأَكْثَرَ فِيهِمُ الْقَتْلَ. ثُمَّ قَصَدَ زُفَرُ لِبَنِي تَغْلِبَ وَقَدِ اجْتَمَعُوا بِالْعَقِيقِ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَلَمَّا أَحَسَّتْ بِهِ ارْتَحَلَتْ تُرِيدُ عُبُورَ دِجْلَةَ، فَلَمَّا صَارَتْ بِالْكُحَيْلِ لَحِقَهُمْ زُفَرُ فِي الْقَيْسِيَّةِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَتَرَجَّلَ أَصْحَابُ زُفَرَ أَجْمَعُونَ، وَبَقِيَ زُفَرُ عَلَى بَغْلٍ لَهُ، فَقَتَلُوهُمْ لَيْلَتَهُمْ، وَبَقَرُوا بُطُونَ نِسَاءٍ مِنْهُمْ، وَغَرِقَ فِي دِجْلَةَ أَكْثَرُ مِمَّنْ قُتِلَ بِالسَّيْفِ، فَأَتَى فَلُّهُمْ لِبَّى، فَوَجَّهَ زُفَرُ ابْنَهُ الْهُذَيْلَ فَأَوْقَعَ بِهِمْ، إِلَّا مَنْ عَبَرَ فَنَجَا، وَأَسَرَ زُفَرُ مِنْهُمْ مِائَتَيْنِ فَقَتَلَهُمْ صَبْرًا، فَقَالَ زُفَرُ:

أَلَا يَا عَيْنِ بَكِّي بِانْسِكَابٍ ... وَبَكِّي عَاصِمًا وَابْنَ الْحُبَابِ فَإِنْ تَكُ تَغْلِبٌ قَتَلَتْ عُمَيْرًا ... وَرَهْطًا مِنْ غَنِيٍّ فِي الْحِرَابِ فَقَدْ أَفْنَى بَنِي جُشَمِ بْنِ بَكْرٍ ... وَنَمْرَهُمُ فَوَارِسَ مِنْ كِلَابِ قَتَلْنَا مِنْهُمُ مِائَتَيْنِ صَبْرًا ... وَمَا عَدَلُوا عُمَيْرَ بْنَ الْحُبَابِ وَقَالَ ابْنُ صَفَّارٍ الْمُحَارِبِيُّ: أَلَمْ تَرَ حَرْبَنَا تَرَكَتْ حُبَيْبًا ... مُحَالِفُهَا الْمَذَلَّةُ وَالصَّغَارُ وَقَدْ كَانُوا أُولِي عِزٍّ فَأَضْحَوْا ... وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الذُّلِّ انْتِصَارُ وَأُسِرَ الْقَطَامِيُّ التَّغْلِبِيُّ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِمْ وَأُخِذَ مَالُهُ، فَقَامَ زُفَرُ بِأَمْرِهِ حَتَّى رَدَّ عَلَيْهِ مَالَهُ وَوَصَلَهُ، فَقَالَ فِيهِ: إِنِّي وَإِنْ كَانَ قَوْمِي لَيْسَ بَيْنَهُمُ ... وَبَيْنَ قَوْمِكَ إِلَّا ضَرْبَةُ الْهَادِي مُثْنٍ عَلَيْكَ بِمَا أَوْلَيْتَ مِنْ حَسَنٍ ... وَقَدْ تَعَرَّضَ [لِي] مِنْ مَقْتَلٍ بَادِي (حُبَيْبٌ الَّذِي فِي الشِّعْرِ هُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمِلَةِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ فِي نَسَبِ بَنِي تَغْلِبَ) . يَوْمُ الْبِشْرِ لِمَا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ، وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ - قَدِمَ عَلَيْهِ الْأَخْطَلُ الشَّاعِرُ التَّغْلِبِيُّ، وَعِنْدَهُ الْجَحَّافُ بْنُ حُكَيْمٍ السُّلَمِيُّ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَتَعْرِفُ هَذَا يَا أَخْطَلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الَّذِي أَقُولُ فِيهِ: أَلَا سَائِلِ الْجَحَّافَ هَلْ هُوَ ثَائِرٌ ... بِقَتْلَى أُصِيبَتْ مِنْ سُلَيْمٍ وَعَامِرِ

وَأَنْشَدَ الْقَصِيدَةَ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، وَكَانَ الْجَحَّافُ يَأْكُلُ رُطَبًا، فَجَعَلَ النَّوَى يَتَسَاقَطُ مِنْ يَدِهِ غَيْظًا، وَأَجَابَهُ وَقَالَ: بَلَى سَوْفَ نُبْكِيهِمْ بِكُلِّ مُهَنَّدٍ ... وَنَنْعَى عُمَيْرًا بِالرِّمَاحِ الشَّوَاجِرِ ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ النَّصْرَانِيَّةِ، مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ تَجْتَرِئَ عَلَيَّ بِمِثْلِ هَذَا! فَأُرْعِدَ الْأَخْطَلُ مِنْ خَوْفِهِ، ثُمَّ قَامَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَأَمْسَكَ ذَيْلَهُ وَقَالَ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ. فَقَالَ: أَنَا لَكَ مُجِيرٌ. ثُمَّ قَامَ الْجَحَّافُ وَمَشَى وَهُوَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ وَلَا يَعْقِلُ بِهِ، فَتَلَطَّفَ لِبَعْضِ كُتَّابِ الدِّيوَانِ حَتَّى اخْتَلَقَ لَهُ عَهْدًا عَلَى صَدَقَاتِ تَغْلِبَ وَبَكْرٍ بِالْجَزِيرَةِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ وَلَّانِي هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، فَمَنْ أَرَادَ اللِّحَاقَ بِي فَلْيَفْعَلْ. ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى رُصَافَةَ هِشَامٍ فَأَعْلَمَ أَصْحَابَهُ مَا كَانَ مِنَ الْأَخْطَلِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ افْتَعَلَ كِتَابًا، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَالٍ، فَمَنْ كَانَ أَحَبَّ أَنْ يَغْسِلَ عَنِّي الْعَارَ وَعَنْ نَفْسِي فَلْيَصْحَبْنِي، فَإِنِّي قَدْ أَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَغْسِلَ رَأْسِي حَتَّى أُوقِعَ فِي بَنِي تَغْلِبَ. فَرَجَعُوا عَنْهُ غَيْرَ ثَلَاثِمِائَةٍ قَالُوا لَهُ: نَمُوتُ بِمَوْتِكَ، وَنَحْيَا بِحَيَاتِكَ. فَسَارَ لَيْلَتَهُ حَتَّى صَبَّحَ الرَّحُوبَ، وَهُوَ مَاءٌ لِبَنِي جُشَمِ بْنِ بَكْرٍ مِنْ تَغْلِبَ، فَصَادَفَ عَلَيْهِ جَمَاعَةً عَظِيمَةً مِنْهُمْ، فَقَتَلَ فِيهِمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَأُسِرَ الْأَخْطَلُ وَعَلَيْهِ عَبَاءَةٌ وَسِخَةٌ، فَظَنَّهُ الَّذِي أَسَرَهُ عَبْدًا، فَسَأَلَهُ مَنْ هُوَ، فَقَالَ: عَبْدٌ. فَأَطْلَقَهُ، فَرَمَى بِنَفْسِهِ فِي جُبٍّ، فَخَافَ أَنْ يَرَاهُ مَنْ يَعْرِفُهُ فَيَقْتُلَهُ. فَلَمَّا انْصَرَفَ الْجَحَّافُ خَرَجَ مِنَ الْجُبِّ، وَأَسْرَفَ الْجَحَّافُ فِي الْقَتْلِ، وَبَقَرَ الْبُطُونَ عَنِ الْأَجِنَّةِ، وَفَعَلَ أَمْرًا عَظِيمًا، فَلَمَّا عَادَ عَنْهُمْ قَدِمَ الْأَخْطَلُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَنْشَدَهُ قَوْلَهُ: لَقَدْ أَوْقَعَ الْجَحَّافُ بِالْبِشْرِ وَقْعَةً إِلَى اللَّهِ مِنْهَا الْمُشْتَكَى وَالْمُعَوَّلِ فَهَرَبَ الْجَحَّافُ، فَطَلَبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَلَحِقَ بِبِلَادِ الرُّومِ، وَقَالَ بَعْدَ وَقْعَةِ الْبِشْرِ يُخَاطِبُ الْأَخْطَلَ:

أَبَا مَالِكٍ هَلْ لُمْتَنِي أَوْ حَضَضْتَنِي ... عَلَى الْقَتْلِ أَمْ هَلْ لَامَنِي كُلُّ لَائِمِ أَلَمْ أُفْنِكُمْ قَتْلًا وَأَجْدَعَ أَنْفَكُمْ ... بِفِتْيَانِ قَيْسٍ وَالسُّيُوفِ الصَّوَارِمِ بِكُلِّ فَتًى يَنْعَى عُمَيْرًا بِسَيْفِهِ ... إِذَا اعْتَصَمَتْ أَيْمَانُهُمْ بِالْقَوَائِمِ فَإِنْ تَطْرُدُونِي تَطْرُدُونِي وَقَدْ جَرَى ... بِيَ الْوَرْدُ يَوْمًا فِي دِمَاءِ الْأَرَاقِمِ نَكَحْتُ بِسَيْفِي فِي زُهَيْرٍ وَمَالِكٍ ... نِكَاحَ اغْتِصَابٍ لَا نِكَاحَ دَرَاهِمِ فِي أَبْيَاتٍ. وَلَمْ يَزَلِ الْجَحَّافُ يَتَرَدَّدُ فِي بِلَادِ الرُّومِ مِنْ طَرَابِزُنْدَةَ إِلَى قَالِيقَلَا، وَبَعَثَ إِلَى بِطَانَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ قَيْسٍ حَتَّى أَخَذُوا لَهُ الْأَمَانَ، فَآمَنَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَأَلْزَمَهُ دِيَاتِ مَنْ قَتَلَ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْكُفَلَاءَ وَسَعَى فِيهَا، فَأَتَى الْحَجَّاجَ مِنَ الشَّامِ فَطَلَبَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: مَتَى عَهِدْتَنِي خَائِنًا؟ فَقَالَ لَهُ: وَلَكِنَّكَ سَيِّدُ قَوْمِكَ وَلَكَ عِمَالَةٌ وَاسِعَةٌ. فَقَالَ: لَقَدْ أُلْهِمْتَ الصِّدْقَ. فَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَجَمَعَ الدِّيَاتِ فَأَوْصَلَهَا. ثُمَّ تَنَسَّكَ بَعْدُ وَصَلُحَ، وَمَضَى حَاجًّا، فَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَجَعَلَ يُنَادِي: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَمَا أَظُنُّ تَفْعَلُ. فَسَمِعَهُ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ: يَا شَيْخُ، قُنُوطُكَ شَرٌّ مِنْ ذَنْبِكَ. (وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ عَوْدِهِ كَانَ أَنَّ الْجَحَّافَ أَكْرَمَهُ مَلِكُ الرُّومِ وَقَرَّبَهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةَ وَيُعْطِيهِ مَا شَاءَ، فَقَالَ: مَا أَتَيْتُكَ رَغْبَةً عَنِ الْإِسْلَامِ. وَلَقِيَ الرُّومُ تِلْكَ السَّنَةَ عَسَاكِرَ الْمُسْلِمِينَ صَائِفَةً، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَخْبَرُوا عَبْدَ الْمَلِكِ أَنَّهُمْ هَزَمَهُمُ الْجَحَّافُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ يُؤَمِّنُهُ، فَسَارَ وَقَصَدَ الْبِشْرَ وَبِهِ حَيٌّ مِنْ بِشْرٍ، وَقَدْ لَبِسَ أَكْفَانَهُ وَقَالَ: قَدْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ أُعْطِي الْقَوَدَ مِنْ نَفْسِي. وَأَرَادَ شَبَابُهُمْ قَتْلَهُ، فَنَهَاهُمْ شُيُوخُهُمْ، فَعَفَوْا عَنْهُ

وَحَجَّ، فَسَمِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَهُوَ يَطُوفُ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَمَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ كُنْتَ الْجَحَّافَ مَا زِدْتَ عَلَى هَذَا. قَالَ: فَأَنَا الْجَحَّافُ) .

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ] 71 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ ذِكْرُ مَقْتَلِ مُصْعَبٍ وَمُلْكِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْعِرَاقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَاسْتَوْلَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ لَمَّا قُتِلَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَضَعَ السَّيْفَ فَقَتَلَ مَنْ خَالَفَهُ، فَصَفَا لَهُ الشَّامُ. فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ لَهُ مُخَالِفٌ فِيهِ أَجْمَعَ الْمَسِيرَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِالْعِرَاقِ، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ يَحْيَى بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ عَمُّهُ بِأَنْ يَقْنَعَ بِالشَّامِ وَيَتْرُكَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَالْعِرَاقَ، وَكَانَ يَقُولُ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَنْ أَرَادَ صَوَابَ الرَّأْيِ فَلْيُخَالِفْ يَحْيَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَامَ جَدْبٌ، وَقَدْ غَزَوْتَ سَنَتَيْنِ فَلَمْ تَظْفَرْ، فَأَقِمْ عَامَكَ هَذَا. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: الشَّامُ بَلَدٌ قَلِيلُ الْمَالِ، وَلَا آمَنُ نَفَادَهُ، وَقَدْ كَتَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَشْرَافِ الْعِرَاقِ يَدْعُونَنِي إِلَيْهِمْ. وَقَالَ أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ: الرَّأْيُ أَنْ تَطْلُبَ حَقَّكَ وَتَسِيرَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّأْيُ أَنْ تُقِيمَ وَتَبْعَثَ بَعْضَ أَهْلِكَ وَتَمُدَّهُ بِالْجُنُودِ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّهُ لَا يَقُومُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَّا قُرَشِيٌّ لَهُ رَأْيٌ، وَلَعَلِّي أَبْعَثُ مَنْ لَهُ شَجَاعَةٌ وَلَا رَأْيَ لَهُ، وَإِنِّي بَصِيرٌ بِالْحَرْبِ شُجَاعٌ بِالسَّيْفِ إِنِ احْتَجْتُ إِلَيْهِ، وَمُصْعَبٌ شُجَاعٌ مِنْ بَيْتِ شَجَاعَةٍ، وَلَكِنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ يُحِبُّ الْخَفْضَ، وَمَعَهُ مَنْ يُخَالِفُهُ، وَمَعِي مَنْ يَنْصَحُ لِي. فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ وَدَّعَ زَوْجَتَهُ عَاتِكَةَ بِنْتَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَبَكَتْ وَبَكَى جَوَارِيهَا لِبُكَائِهَا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ كُثَيِّرَ عَزَّةَ! لَكَأَنَّهُ يُشَاهِدُنَا حِينَ يَقُولُ: إِذَا مَا أَرَادَ الْغَزْوَ لَمْ يَثْنِ هَمَّهُ ... حَصَانٌ عَلَيْهَا عِقْدُ دُرٍّ يَزِينُهَا نَهَتْهُ فَلَمَّا لَمْ تَرَ النَّهْيَ عَاقَهُ ... بَكَتْ وَبَكَى مِمَّا عَنَاهَا قَطِينُهَا

وَسَارَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَمَّا بَلَغَ مُصْعَبًا مَسِيرُهُ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ أَرْسَلَ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَهُوَ يُقَاتِلُ الْخَوَارِجَ، يَسْتَشِيرُهُ، وَقِيلَ: بَلْ أَحْضَرَهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ لِمُصْعَبٍ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَدْ كَاتَبُوا عَبْدَ الْمَلِكِ وَكَاتَبَهُمْ، فَلَا تُبْعِدْنِي عَنْكَ. فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: إِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَدْ أَبَوْا (أَنْ يَسِيرُوا حَتَّى أَجْعَلَكَ عَلَى قِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَهُمْ قَدْ بَلَغُوا سُوقَ الْأَهْوَازِ، وَأَنَا أَكْرَهُ إِذْ سَارَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَيَّ أَنْ لَا أَسِيرَ إِلَيْهِ، فَاكْفِنِي هَذَا الثَّغْرَ. فَعَادَ إِلَيْهِمْ، وَسَارَ مُصْعَبٌ إِلَى الْكُوفَةِ وَمَعَهُ الْأَحْنَفُ، فَتُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ، وَأَحْضَرَ مُصْعَبٌ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ، وَكَانَ عَلَى الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ جَعَلَهُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ، وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بَاجُمَيْرَى، وَهِيَ قَرِيبٌ [مِنْ] أَوَانَا، وَهِيَ مِنْ مَسْكِنٍ، فَعَسْكَرَ هُنَاكَ. وَسَارَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ، وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، فَنَزَلُوا بِقَرْقِيسِيَا، وَحَصَرُوا زُفَرَ بْنَ الْحَارِثِ الْكَلَّائِيَّ، ثُمَّ صَالَحَهُمْ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. وَسَيَّرَ زُفَرُ ابْنَهُ الْهُذَيْلَ مَعَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ مَعَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ. فَلَمَّا اصْطَلَحَا سَارَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَمَنْ مَعَهُ، فَنَزَلُوا بِمَسْكِنٍ قَرِيبًا مِنْ عَسْكَرِ مُصْعَبٍ، بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ ثَلَاثَةُ فَرَاسِخَ، وَيُقَالُ: فَرْسَخَانِ، وَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ مَنْ كَاتَبَهُ وَمَنْ لَمْ يُكَاتِبْهُ، وَبَذَلَ لِجَمِيعِهِمْ أَصْبَهَانَ طُعْمَةً، وَقِيلَ: إِنَّ كُلَّ مَنْ كَاتَبَهُ طَلَبَ مِنْهُ إِمْرَةَ أَصْبَهَانَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ هَذِهِ أَصْبَهَانُ حَتَّى كُلُّهُمْ يَطْلُبُهَا! فَكُلٌّ مِنْهُمْ أَخْفَى كِتَابَهُ، إِلَّا إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ، فَإِنَّهُ أَحْضَرَ كِتَابَهُ عِنْدَ مُصْعَبٍ مَخْتُومًا، فَقَرَأَهُ مُصْعَبٌ، فَإِذَا هُوَ يَدْعُوهُ إِلَى نَفْسِهِ وَيَجْعَلُ لَهُ وِلَايَةَ الْعِرَاقِ، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَتَدْرِي مَا فِيهِ. قَالَ: لَا. قَالَ: يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّ هَذَا لَمَا يُرْغَبُ فِيهِ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَا كُنْتُ لِأَتَقَلَّدَ الْغَدْرَ وَالْخِيَانَةَ، وَوَاللَّهِ مَا عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِأَيْأَسَ مِنْهُ مِنِّي، وَلَقَدْ كَتَبَ إِلَى أَصْحَابِكَ كُلِّهِمْ مِثْلَ الَّذِي كَتَبَ إِلَيَّ، فَأَطِعْنِي وَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. قَالَ: إِذًا لَا يُنَاصِحُنِي عَشَائِرُهُمْ. قَالَ: فَأَوْقِرْهُمْ حَدِيدًا وَابْعَثْ بِهِمْ إِلَى أَبْيَضِ كِسْرَى، وَاحْبِسْهُمْ هُنَاكَ، وَوَكِّلْ بِهِمْ مَنْ إِنْ غُلِبْتَ وَتَفَرَّقَتْ عَشَائِرُهُمْ عَنْكَ ضَرَبَ

رِقَابَهُمْ، وَإِنْ ظَهَرْتَ مَنَنْتَ عَلَى عَشَائِرِهِمْ بِإِطْلَاقِهِمْ. فَقَالَ: إِنِّي لَفِي شُغُلٍ عَنْ ذَلِكَ، فَرَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَحْرٍ، يَعْنِي الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ، إِنْ كَانَ لَيُحَذِّرُنِي غَدْرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَيَقُولُ: هُمْ كَالْمُومِسَةِ تُرِيدُ كُلَّ يَوْمٍ بَعْلًا، وَهُمْ يُرِيدُونَ كُلَّ يَوْمٍ أَمِيرًا. فَلَمَّا رَأَى قَيْسُ بْنُ الْهَيْثَمِ مَا عَزَمَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدْرِ لِمُصْعَبٍ قَالَ لَهُمْ: وَيْحَكُمُ! لَا تُدْخِلُوا أَهْلَ الشَّامِ عَلَيْكُمْ! فَوَاللَّهِ لَئِنْ يُطْعَمُوا بِعَيْشِكُمْ لَيُضَيِّقُنَّ عَلَيْكُمْ مَنَازِلَكُمْ، وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ سَيِّدَ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى بَابِ الْخَلِيفَةِ يَفْرَحُ إِنْ أَرْسَلَهُ فِي حَاجَةٍ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا فِي الصَّوَائِفِ وَإِنَّ زَادَ أَحَدِنَا عَلَى عِدَّةِ أَجَمَالٍ، وَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْ وُجُوهِهِمْ لِيَغْزُو عَلَى فَرَسِهِ وَزَادُهُ خَلْفَهُ. فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ. فَلَمَّا تَدَانَى الْعَسْكَرَانِ أَرْسَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى مُصْعَبٍ رَجُلًا مِنْ كَلْبٍ وَقَالَ لَهُ: أَقْرِئِ ابْنَ أُخْتِكَ السَّلَامَ - وَكَانَتْ أُمُّ مُصْعَبٍ كَلْبِيَّةً - وَقُلْ لَهُ يَدَعُ دُعَاءَهُ إِلَى أَخِيهِ، وَأَدَعُ دُعَائِي إِلَى نَفْسِي، وَيَجْعَلُ الْأَمْرَ شُورَى. فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: قُلْ لَهُ: السَّيْفُ بَيْنَنَا. فَقَدَّمَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَخَاهُ مُحَمَّدًا، وَقَدَّمَ مُصْعَبٌ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ، فَالْتَقَيَا، فَتَنَاوَشَ الْفَرِيقَانِ، فَقُتِلَ صَاحِبُ لِوَاءِ مُحَمَّدٍ، وَجَعَلَ مُصْعَبٌ يَمُدُّ إِبْرَاهِيمَ، فَأَزَالَ مُحَمَّدًا عَنْ مَوْقِفِهِ، فَوَجَّهَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ إِلَى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَقُتِلَ مُسْلِمُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ وَالِدُ قُتَيْبَةَ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ مُصْعَبٍ، وَأَمَدَّ مُصْعَبٌ إِبْرَاهِيمَ بِعَتَّابِ بْنِ وَرْقَاءَ، فَسَاءَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ: قَدْ قُلْتُ لَهُ: لَا تَمُدَّنِي بِعَتَّابٍ وَضُرَبَائِهِ، وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! فَانْهَزَمَ عَتَّابٌ بِالنَّاسِ، وَكَانَ قَدْ كَاتَبَ عَبْدَ الْمَلِكِ وَبَايَعَهُ، فَلَمَّا انْهَزَمَ صَبَرَ ابْنُ الْأَشْتَرِ فَقُتِلَ، قَتَلَهُ عُبَيْدُ بْنُ مَيْسَرَةَ مَوْلَى بَنِي عُذْرَةَ، وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ. وَتَقَدَّمَ أَهْلُ الشَّامِ فَقَاتَلَهُمْ مُصْعَبٌ، وَقَالَ لِقَطْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيِّ: قَدِّمْ خَيْلَكَ أَبَا عُثْمَانَ. فَقَالَ: أَكْرَهُ أَنْ تُقْتَلَ مَذْحِجٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ. فَقَالَ لِحَجَّارِ بْنِ أَبْخَرَ: يَا أَبَا أَسِيدٍ، قَدِّمْ خَيْلَكَ. قَالَ: إِلَى هَؤُلَاءِ الْأَنْتَانِ! قَالَ: مَا تَتَأَخَّرُ إِلَيْهِ أَنْتَنُ! فَقَالَ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَحَدٌ هَذَا فَأَفْعَلُهُ. فَقَالَ مُصْعَبٌ: يَا

إِبْرَاهِيمُ، وَلَا إِبْرَاهِيمَ لِيَ الْيَوْمَ! ثُمَّ الْتَفَتَ فَرَأَى عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، فَاسْتَدْنَاهُ فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ كَيْفَ صَنَعَ بِامْتِنَاعِهِ عَنِ النُّزُولِ عَلَى حُكْمِ ابْنِ زِيَادٍ وَعَزْمِهِ عَلَى الْحَرْبِ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... تَأَسَّوْا فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَّأَسِّيَا قَالَ عُرْوَةُ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَا يَبْرَحُ حَتَّى يُقْتَلَ. ثُمَّ دَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ مِنْ مُصْعَبٍ وَنَادَاهُ: أَنَا ابْنُ عَمِّكَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ، فَاقْبَلْ أَمَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ، يَعْنِي أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ. قَالَ: فَإِنَّ الْقَوْمَ خَاذِلُوكَ. فَأَبَى مَا عَرَضَ عَلَيْهِ. فَنَادَى مُحَمَّدٌ عِيسَى بْنَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ لَهُ، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: انْظُرْ مَا يُرِيدُ مِنْكَ. فَدَنَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي لَكَ وَلِأَبِيكَ نَاصِحٌ وَلَكُمَا الْأَمَانُ. فَرَجَعَ إِلَى أَبِيهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَظُنُّ الْقَوْمَ يَفُونَ لَكَ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ فَافْعَلْ. فَقَالَ: لَا تَتَحَدَّثُ نِسَاءُ قُرَيْشٍ أَنِّي خَذَلْتُكَ، وَرَغِبْتُ بِنَفْسِي عَنْكَ. قَالَ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ إِلَى عَمِّكَ بِمَكَّةَ، فَأَخْبِرْهُ بِمَا صَنَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَدَعْنِي فَإِنِّي مَقْتُولٌ. فَقَالَ: لَا أُخْبِرُ عَنْكَ قُرَيْشًا أَبَدًا، وَلَكِنْ يَا أَبَهِ الْحَقْ بِالْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ، أَوِ الْحَقْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ مُصْعَبٌ: لَا تَتَحَدَّثُ قُرَيْشٌ أَنِّي فَرَرْتُ. وَقَالَ لِابْنِهِ عِيسَى: تَقَدَّمْ إِذَنْ أَحْتَسِبُكَ، فَتَقَدَّمَ وَمَعَهُ نَاسٌ فَقُتِلَ وَقُتِلُوا، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ لِيَحْتَزَّ رَأْسَ عِيسَى، فَحَمَلَ عَلَيْهِ مُصْعَبٌ فَقَتَلَهُ وَشَدَّ عَلَى النَّاسِ، فَانْفَرَجُوا لَهُ، وَعَادَ ثُمَّ حَمَلَ ثَانِيَةً فَانْفَرَجُوا لَهُ، وَبَذَلَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ الْأَمَانَ وَقَالَ: إِنَّهُ يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ تُقْتَلَ، فَاقْبَلْ أَمَانِي وَلَكَ حُكْمُكَ فِي الْمَالِ وَالْعَمَلِ. فَأَبَى وَجَعَلَ يُضَارِبُ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: هَذَا وَاللَّهِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: وَمُدَجَّجٍ كَرِهَ الْكُمَاةُ نِزَالَهُ ... لَا مُمْعِنًا هَرَبًا وَلَا مُسْتَسْلِمَا وَدَخَلَ مُصْعَبٌ سُرَادِقَهُ، فَتَحَنَّطَ وَرَمَى السُّرَادِقَ وَخَرَجَ فَقَاتَلَ، فَأَتَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ

زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ، فَدَعَاهُ إِلَى الْمُبَارَزَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا كَلْبُ، اعْزَبْ! مِثْلِي يُبَارِزُ مِثْلَكَ! وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُصْعَبٌ فَضَرَبَهُ عَلَى الْبَيْضَةِ، فَهَشَّمَهَا وَجَرَحَهُ، فَرَجَعَ وَعَصَبَ رَأْسَهُ، وَتَرَكَ النَّاسُ مُصْعَبًا وَخَذَلُوهُ حَتَّى بَقِيَ فِي سَبْعَةِ أَنْفُسٍ، وَأُثْخِنَ مُصْعَبٌ بِالرَّمْيِ وَكَثُرَتِ الْجِرَاحَاتُ فِيهِ، فَعَادَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ، فَضَرَبَهُ مُصْعَبٌ فَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا لِضَعْفِهِ بِكَثْرَةِ الْجِرَاحَاتِ، وَضَرَبَهُ ابْنُ ظَبْيَانَ فَقَتَلَهُ. وَقِيلَ: بَلْ نَظَرَ إِلَيْهِ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ الثَّقَفِيُّ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ، وَقَالَ: يَا لِثَارَاتِ الْمُخْتَارِ! فَصَرَعَهُ، وَأَخَذَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ رَأْسَهُ، وَحَمَلَهُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْشَدَ: نُعَاطِي الْمُلُوكَ الْحَقَّ مَا قَسَّطُوا لَنَا ... وَلَيْسَ عَلَيْنَا قَتْلُهُمْ بِمُحَرَّمِ فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ الْمَلِكِ الرَّأْسَ سَجَدَ. قَالَ ابْنُ ظَبْيَانَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَقْتُلَ عَبْدَ الْمَلِكِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكُونُ قَدْ قَتَلْتُ مَلِكَيِ الْعَرَبِ وَأَرَحْتُ النَّاسَ مِنْهُمَا. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَقْتُلَ ابْنَ ظَبْيَانَ فَأَكُونُ قَدْ قَتَلْتُ أَفْتَكَ النَّاسِ بِأَشْجَعِ النَّاسِ. وَأَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِابْنِ ظَبْيَانَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: لَمْ أَقْتُلْهُ عَلَى طَاعَتِكَ، وَإِنَّمَا قَتَلْتُهُ عَلَى قَتْلِ أَخِي النَّابِئِ بْنِ زِيَادٍ. وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا. وَكَانَ قَتْلُ مُصْعَبٍ بِدَيْرِ الْجَاثَلِيقِ عِنْدَ نَهْرِ دُجَيْلٍ، فَأَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِهِ وَبِابْنِهِ عِيسَى فَدُفِنَا، وَقَالَ: كَانَتِ الْحُرْمَةُ بَيْنَنَا قَدِيمَةً، وَلَكِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِ النَّابِئِ أَنَّهُ قَطَعَ الطَّرِيقَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي نُمَيْرٍ، فَأُحْضِرَا عِنْدَ مُطَرِّفِ بْنِ سَيْدَانَ الْبَاهِلِيِّ صَاحِبِ شُرْطَةِ مُصْعَبٍ، فَقَتَلَ النَّابِئَ، وَضَرَبَ النُّمَيْرِيَّ وَأَطْلَقَهُ، فَجَمَعَ عُبَيْدُ اللَّهِ جَمْعًا، وَقَصَدَ مُطَرِّفًا بَعْدَ أَنْ عَزَلَهُ مُصْعَبٌ عَنْ شُرْطَتِهِ وَوَلَّاهُ الْأَهْوَازَ، وَسَارَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الْمُطَرِّفِ فَقَتَلَهُ، فَبَعَثَ مُصْعَبٌ مُكْرَمَ بْنَ مُطَرِّفٍ فِي طَلَبِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ عَسْكَرَ مُكْرَمٍ، فَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَلْقَ عُبَيْدَ اللَّهِ، كَانَ قَدْ لَحِقَ بِعَبْدِ الْمَلِكِ. وَقِيلَ فِي قَتْلِهِ غَيْرُ ذَلِكَ.

فَلَمَّا أُتِيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِرَأْسِ مُصْعَبٍ نَظَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ: مَتَى تَغْذُو قُرَشِيَّةٌ مِثْلَكَ! وَكَانَا يَتَحَدَّثَانِ إِلَى حُبَّى وَهُمَا بِالْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهَا: قُتِلَ مُصْعَبٌ. فَقَالَتْ: تَعِسَ قَاتِلُهُ! فَقِيلَ: قَتَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ. فَقَالَتْ: وَا بِأَبِي الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ! ثُمَّ دَعَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ جُنْدَ الْعِرَاقِ إِلَى بَيْعَتِهِ فَبَايَعُوهُ، وَسَارَ حَتَّى دَخَلَ الْكُوفَةَ، فَأَقَامَ بِالنُّخَيْلَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَخَطَبَ النَّاسَ بِالْكُوفَةِ، فَوَعَدَ الْمُحْسِنَ وَتَوَعَّدَ الْمُسِيءَ، فَقَالَ: إِنَّ الْجَامِعَةَ الَّتِي وُضِعَتْ فِي عُنُقِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عِنْدِي، وَوَاللَّهِ لَا أَضَعُهَا فِي عُنُقِ رَجُلٍ فَأَنْتَزِعُهَا إِلَّا صُعُدًا، لَا أَفُكُّهَا عَنْهُ فَكًّا، فَلَا يُبْقِيَنَّ امْرُؤٌ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يُولِغَنَّ دَمَهُ، وَالسَّلَامُ. وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ فَبَايَعُوهُ، فَحَضَرَتْ قُضَاعَةُ، فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ سَلِمْتُمْ وَأَنْتُمْ قَلِيلٌ مَعَ مُضَرَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْلَى النَّهْدِيُّ: نَحْنُ أَعَزُّ مِنْهُمْ، وَأَمْنَعُ بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ مِنَّا. ثُمَّ جَاءَتْ مَذْحِجٌ فَقَالَ: مَا أَرَى لِأَحَدٍ مَعَ هَؤُلَاءِ بِالْكُوفَةِ شَيْئًا. ثُمَّ جَاءَتْ جُعْفَى فَقَالَ: إِيتُونِي بِابْنِ أُخْتِكُمْ، يَعْنِي يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مَذْحِجِيَّةً، فَقَالُوا: هُوَ آمِنٌ؟ فَقَالَ: وَتَشْتَرِطُونَ أَيْضًا؟ ! فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: إِنَّا مَا نَشْتَرِطُ جَهْلًا بِحَقِّكَ، وَلَكِنَّا نَتَسَحَّبُ عَلَيْكَ تَسَحُّبَ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ. فَقَالَ: نِعْمَ أَنْتُمُ الْحَيُّ! إِنْ كُنْتُمْ لَفُرْسَانًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، لِيَحْضُرْ فَهُوَ آمِنٌ. فَأَتَوْهُ بِهِ فَبَايَعَهُ. ثُمَّ أَتَتْهُ عَدْوَانُ، فَقَدَّمُوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ رَجُلًا جَمِيلًا وَسِيمًا، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: عَذِيرَ الْحَيِّ مِنْ عَدْوَا ... نَ كَانُوا حَيَّةَ الْأَرْضِ بَغَى بَعْضُهُمُ بَعْضًا ... فَلَمْ يَرْعُوا عَلَى بَعْضِ وَمِنْهُمْ كَانَتِ السَّادَاتُ ... وَالْمُوفُونَ بِالْقَرْضِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ الْجَمِيلِ فَقَالَ: إِيهِ! فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ الْجَدَلِيُّ، وَكَانَ خَلْفَهُ:

وَمِنْهُمْ حَكَمٌ يَقْضِي ... فَلَا يُنْقَضُ مَا يَقْضِي وَمِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُ الْحَجَّ ... بِالسُّنَّةِ وَالْفَرْضِ وَهُمْ مُذْ وُلِدُوا شَبُّوا ... بِسِرِّ النَّسَبِ الْمَحْضِ فَأَقْبَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى ذَلِكَ الْجَمِيلِ فَقَالَ: مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ مَعْبَدٌ مِنْ وَرَائِهِ: هُوَ ذُو الْإِصْبَعِ. فَأَقْبَلَ عَلَى الْجَمِيلِ فَقَالَ: لِمَ تُسَمَّى ذَا الْإِصْبَعِ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ مَعْبَدٌ: لِأَنَّ حَيَّةً نَهَشَتْ إِصْبَعَهُ فَقَطَعَتْهَا. فَأَقْبَلَ عَلَى الْجَمِيلِ فَقَالَ: مَا كَانَ اسْمُهُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ مَعْبَدٌ: حَرْثَانُ بْنُ الْحَارِثِ. فَقَالَ لِلْجَمِيلِ: مِنْ أَيِّكُمْ هُوَ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ مَعْبَدٌ: مِنْ بَنِي نَاجٍ. ثُمَّ قَالَ لِلْجَمِيلِ: كَمْ عَطَاؤُكَ؟ قَالَ: سَبْعُمِائَةٍ. قَالَ لِمَعْبَدٍ: كَمْ عَطَاؤُكَ؟ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةٍ. فَقَالَ لِكَاتِبِهِ: اجْعَلْ مَعْبَدًا فِي سَبْعِمِائَةٍ، وَانَقُصْ مِنْ عَطَاءِ هَذَا أَرْبَعَمِائَةٍ. فَفَعَلَ. ثُمَّ جَاءَتْ كِنْدَةُ فَنَظَرَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الْأَشْعَثِ فَأَوْصَى بِهِ أَخَاهُ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ. وَأَقْبَلَ دَاوُدُ بْنُ قَحْذَمٍ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، عَلَيْهِمُ الْأَقْبِيَةُ الدَّاوُدِيَّةُ، وَبِهِ سُمِّيَتْ، فَجَلَسَ مَعَ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى سَرِيرِهِ، (فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ) ، ثُمَّ نَهَضَ وَنَهَضُوا مَعَهُ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقُ، لَوْلَا أَنَّ صَاحِبَهُمْ جَاءَنِي مَا أَعْطَانِي أَحَدٌ مِنْهُمْ طَاعَةً. ثُمَّ وَلَّى قَطَنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيَّ الْكُوفَةَ، ثُمَّ عَزَلَهُ فَاسْتَعْمَلَ أَخَاهُ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيَّ عَلَى هَمَذَانَ، وَيَزِيدَ بْنَ رُوَيْمٍ عَلَى الرَّيِّ، وَلَمْ يَفِ لِأَحَدٍ شَرَطَ لَهُ أَصْبَهَانَ، وَقَالَ: عَلَيَّ بِهَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ الَّذِينَ أَنْغَلُوا الشَّامَ، وَأَفْسَدُوا الْعِرَاقَ. فَقِيلَ: قَدْ أَجَارَهُمْ رُؤَسَاءُ عَشَائِرِهِمْ. فَقَالَ: وَهَلْ يُجِيرُ عَلَيَّ أَحَدٌ؟ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَسَدٍ وَالِدُ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ قَدْ لَجَأَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَلَجَأَ إِلَيْهِ أَيْضًا يَحْيَى بْنُ مَعْيُوفٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَلَجَأَ الْهُذَيْلُ بْنُ زُفَرَ بْنِ الْحَارِثِ،

وَكَانَ مَعَ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَعَمْرُو بْنُ يَزِيدَ الْحَكَمِيُّ - إِلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، فَآمَنَهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ فَظَهَرُوا. فَصَنَعَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ لِعَبْدِ الْمَلِكِ طَعَامًا كَثِيرًا، وَأَمَرَ بِهِ إِلَى الْخَوَرْنَقِ، وَأَذِنَ إِذْنًا عَامًّا، فَدَخَلَ النَّاسُ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ، فَدَخَلَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، ثُمَّ جَاءَتِ الْمَوَائِدُ فَأَكَلُوا، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا أَلَذَّ عَيْشَنَا لَوْ دَامَ، وَلَكِنَّا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ: وَكُلُّ جَدِيدٍ يَا أُمَيْمَ إِلَى بِلًى ... وَكُلُّ امْرِئٍ يَصِيرُ يَوْمًا إِلَى كَانْ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ طَافَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي الْقَصْرِ وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ مَعَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهُ: لِمَنْ هَذَا الْبَيْتُ؟ وَمَنْ بَنَى هَذَا الْبَيْتَ؟ وَعَمْرٌو يُخْبِرُهُ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: اعْمَلْ عَلَى مَهَلٍ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ ... وَاكْدَحْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانْ فَكَأَنَّ مَا قَدْ كَانَ لَمْ يَكُ إِذْ مَضَى ... وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ قَدْ كَانْ وَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَازِمٍ مَسِيرُ مُصْعَبٍ لِقِتَالِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: أَمَعَهُ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ؟ قِيلَ: لَا، اسْتَعْمَلَهُ عَلَى فَارِسَ. قَالَ: أَمَعَهُ الْمُهَلَّبُ؟ قِيلَ: لَا، اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْخَوَارِجِ. قَالَ: أَمَعَهُ عَبَّادُ بْنُ الْحُصَيْنِ؟ قِيلَ: اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْبَصْرَةِ. قَالَ: وَأَنَا بِخُرَاسَانَ. خُذِينِي فَجُرِّينِي جَعَارِ وَأَبْشِرِي ... بِلَحْمِ امْرِئٍ لَمْ يَشْهَدِ الْيَوْمَ نَاصِرُهْ وَلَمَّا قُتِلَ مُصْعَبٌ بَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ رَأَسَهُ إِلَى الْكُوفَةِ، أَوْ حَمَلَهُ مَعَهُ إِلَيْهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ بِمِصْرَ، فَلَمَّا رَآهُ وَقَدْ قَطَعَ السَّيْفُ أَنْفَهُ قَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ! أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتَ مِنْ أَحْسَنِهِمْ خُلُقًا، وَأَشَدِّهِمْ بَأْسًا، وَأَسْخَاهُمْ نَفْسًا. ثُمَّ سَيَّرَهُ إِلَى الشَّامِ فَنُصِبَ بِدِمَشْقَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِ فِي نَوَاحِي الشَّامِ، فَأَخَذَتْهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ

مُعَاوِيَةَ زَوْجَةُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَهِيَ أُمُّ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَغَسَّلَتْهُ وَدَفَنَتْهُ وَقَالَتْ: أَمَا رَضِيتُمْ بِمَا صَنَعْتُمْ حَتَّى تَطُوفُوا بِهِ فِي الْمُدُنِ؟ هَذَا بَغْيٌ. وَكَانَ عُمُرُ مُصْعَبٍ حِينَ قُتِلَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. قَالَ يَوْمًا عَبْدُ الْمَلِكِ لِجُلَسَائِهِ: مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ؟ قَالُوا: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: اسْلُكُوا غَيْرَ هَذَا الطَّرِيقِ. قَالُوا: عُمَيْرُ بْنُ الْحُبَابِ. قَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ عُمَيْرًا! لِصٌّ، ثَوْبٌ يُنَازِعُ عَلَيْهِ أَعَزُّ عِنْدَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَدِينِهِ. قَالُوا: فَشَبِيبٌ. قَالَ: إِنَّ لِلْحَرُورِيَّةِ لَطَرِيقًا. قَالُوا: فَمَنْ؟ قَالَ: مُصْعَبٌ، كَانَ عِنْدَهُ عَقِيلَتَا قُرَيْشٍ سُكَيْنَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ وَعَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ، ثُمَّ هُوَ أَكْثَرُ النَّاسِ مَالًا، جَعَلْتُ لَهُ الْأَمَانَ وَوِلَايَةَ الْعِرَاقِ، وَعَلِمَ أَنِّي سَأَفِي لَهُ لِلْمَوَدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَنَا، فَحَمَى أَنْفًا وَأَبَى وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. فَقَالَ رَجُلٌ: كَانَ مُصْعَبٌ يَشْرَبُ النَّبِيذَ. قَالَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَ الْمُرُوءَةَ، فَأَمَّا مُذْ طَلَبَهَا فَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الْمَاءَ يُنْقِصُ مُرُوءَتَهُ مَا ذَاقَهُ. قَالَ الْأُقَيْشِرُ الْأَسَدِيُّ: حَمَى أَنْفَهُ أَنْ يَقْبَلَ الضَّيْمَ مُصْعَبٌ ... فَمَاتَ كَرِيمًا لَمْ تُذَمَّ خَلَائِقُهُ وَلَوْ شَاءَ أَعْطَى الضَّيْمَ مَنْ رَامَ هَضْمَهُ ... فَعَاشَ مَلُومًا فِي الرِّجَالِ طَرَائِقُهْ وَلَكِنْ مَضَى وَالْبَرْقُ يَبْرُقُ خَالُهُ ... يُشَاوِرُهُ مَرًّا وَمَرًّا يُعَانِقُهُ فَوَلَّى كَرِيمًا لَمْ تَنَلْهُ مَذَمَّةٌ ... وَلَمْ يَكُ رَغْدًا تَطَّبِيهِ نَمَارِقُهْ وَقَالَ عَرْفَجَةُ بْنُ شَرِيكٍ: مَا لِابْنِ مَرْوَانَ أَعْمَى اللَّهُ نَاظِرَهُ ... وَلَا أَصَابَ رَغِيبَاتٍ وَلَا نَفَلَا يَرْجُو الْفَلَاحَ ابْنُ مَرْوَانَ وَقَدْ قَتَلَتْ ... خَيْلُ ابْنِ مَرْوَانَ حُرًّا مَاجِدًا بَطَلًا يَا ابْنَ الْحَوَارِيِّ كَمْ مِنْ نِعْمَةٍ لَكُمُ ... لَوْ رَامَ غَيْرُكُمُ أَمْثَالَهَا شُغِلَا حُمِّلْتُمُ فَحَمَلْتُمْ كُلَّ مُعْضِلَةٍ ... إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا حَمَّلْتَهُ حَمَلَا

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْأَسَدِيُّ فِي إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ - هَذَا الزَّبِيرُ: بِفَتْحِ الزَّايِ وَكَسْرِ الْبَاءِ -: سَأَبْكِي وَإِنْ لَمْ تَبْكِ فِتْيَانُ مَذْحِجٍ فَتَاهَا إِذَا اللَّيْلُ التِّمَامُ تَأَوَّبَا ... فَتًى لَمْ يَكُنْ فِي مِرَّةِ الْحَرْبِ جَاهِلًا وَلَا بِمُطِيعٍ فِي الْوَغَى مَنْ تَهَيَّبَا أَبَانَ أُنُوفَ الْحَيِّ قَحْطَانَ قَتْلُهُ وَأَنْفَ نِزَارٍ قَدْ أَبَانَ فَأَوْعَبَا ... فَمَنْ يَكُ أَمْسَى خَائِنًا لِأَمِيرِهِ فَمَا خَانَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْمَوْتِ مُصْعَبَا وَحِينَ قُتِلَ مُصْعَبٌ كَانَ الْمُهَلَّبُ يُحَارِبُ الْأَزَارِقَةَ بِسُولَافَ، (بَلَدٌ بِفَارِسَ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ) ، ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، فَبَلَغَ قَتْلُهُ الْأَزَارِقَةَ قَبْلَ الْمُهَلَّبِ، فَصَاحُوا بِأَصْحَابِ الْمُهَلَّبِ: مَا قَوْلُكُمْ فِي مُصْعَبٍ؟ قَالُوا: أَمِيرُ هُدًى، وَهُوَ وَلِيُّنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَنَحْنُ أَوْلِيَاؤُهُ. قَالُوا: فَمَا قَوْلُكُمْ فِي عَبْدِ الْمَلِكِ؟ قَالُوا: ذَاكَ ابْنُ اللَّعِينِ، نَحْنُ نَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ، وَهُوَ أَحَلُّ دَمًا مِنْكُمْ. قَالُوا: فَإِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ قَتَلَ مُصْعَبًا، وَسَتَجْعَلُونَ غَدًا عَبْدَ الْمَلِكِ إِمَامَكُمْ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ سَمِعَ الْمُهَلَّبُ وَأَصْحَابُهُ قَتْلَ مُصْعَبٍ، فَبَايَعَ الْمُهَلَّبُ النَّاسَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَصَاحَ بِهِمُ الْخَوَارِجُ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ! مَا تَقُولُونَ فِي مُصْعَبٍ؟ قَالُوا: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ، لَا نُخْبِرُكُمْ. وَكَرِهُوا أَنْ يُكَذِّبُوا أَنْفُسَهُمْ. قَالُوا: وَمَا قَوْلُكُمْ فِي عَبْدِ الْمَلِكِ؟ قَالُوا: خَلِيفَتُنَا. وَلَمْ يَجِدُوا بُدًّا إِذْ بَايَعُوهُ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ. قَالُوا: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ! أَنْتُمْ بِالْأَمْسِ تَبْرَأُونَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ الْيَوْمَ إِمَامُكُمْ، وَقَدْ قَتَلَ أَمِيرَكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوَلُّونَهُ! فَأَيُّهُمَا الْمُهْتَدِي وَأَيُّهُمَا الْمُبْطِلُ؟ قَالُوا: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ، رَضِينَا بِذَلِكَ إِذْ كَانَ يَتَوَلَّى أَمْرَنَا وَنَرْتَضِي بِهَذَا. قَالُوا: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنَّكُمْ إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ وَعَبِيدُ الدُّنْيَا. وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ قَتْلُ أَخِيهِ مُصْعَبٍ قَامَ فِي النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، أَلَا وَإِنَّهُ لَمْ يُذْلِلِ اللَّهُ مَنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ وَإِنْ كَانَ فَرْدًا، وَلَمْ يُعْزِزْ مَنْ كَانَ وَلِيَّهُ الشَّيْطَانُ وَإِنْ كَانَ النَّاسُ مَعَهُ طُرًّا، أَلَا وَإِنَّهُ قَدْ أَتَانَا مِنَ الْعِرَاقِ خَبَرٌ أَحْزَنَنَا وَأَفْرَحَنَا، أَتَانَا قَتْلُ مُصْعَبٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا الَّذِي أَفْرَحَنَا فَعِلْمُنَا أَنَّ قَتْلَهُ شَهَادَةٌ، وَأَمَّا الَّذِي أَحْزَنَنَا فَإِنَّ لِفُرَاقِ الْحَمِيمِ لَوْعَةٌ يَجِدُهَا حَمِيمُهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، يَرْعَوِي بَعْدَهَا ذَوُو الرَّأْيِ الْجَمِيلِ إِلَى الصَّبْرِ وَكَرِيمِ الْعَزَاءِ، وَمَا مُصْعَبٌ إِلَّا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ وَعَوْنٌ مِنْ أَعْوَانِي، أَلَا وَإِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ أَهْلُ الْغَدْرِ وَالنِّفَاقِ أَسْلَمُوهُ وَبَاعُوهُ بِأَقَلِّ الثَّمَنِ، فَإِنْ يُقْتَلْ فَمَهْ! وَاللَّهِ مَا نَمُوتُ عَلَى مَضَاجِعِنَا كَمَا يَمُوتُ بَنُو أَبِي الْعَاصِ! وَاللَّهِ مَا قُتِلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فِي زَحْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا نَمُوتُ إِلَّا قَعْصًا بِالرِّمَاحِ وَتَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا عَارِيَةٌ مِنَ الْمُلْكِ الْأَعْلَى الَّذِي لَا يَزُولُ سُلْطَانُهُ، وَلَا يَبِيدُ مُلْكُهُ، فَإِنْ تُقْبِلْ لَا آخُذُهَا أَخْذَ الْبَطِرِ، وَإِنْ تُدْبِرْ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهَا بُكَاءَ الضَّرْعِ الْمَهِينِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ. حَجَّارُ بْنُ أَبْجَرَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو أُسَيْدٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَفَتْحِ السِّينِ. وَحُبَّى: بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُمَالَةِ، وَآخِرُهُ يَاءٌ مُثْنَّاةٌ مِنْ تَحْتِهَا. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَالزَّايِ) . ذِكْرُ وِلَايَةِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَنَازَعَ وِلَايَةَ الْبَصْرَةِ حُمْرَانُ بْنُ أَبَانٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي بَكْرَةَ: أَنَا أَعْظَمُ مِنْكَ، كُنْتُ أُنْفِقُ عَلَى أَصْحَابِ خَالِدٍ يَوْمَ الْجُفْرَةِ. فَقِيلَ لَحُمْرَانَ: إِنَّكَ لَا تَقْوَى عَلَى ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، فَاسْتَعِنْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَهْيَمِ. فَاسْتَعَانَ بِهِ،

فَغَلَبَ عَلَى الْبَصْرَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ عَلَى شُرَطِهَا، وَكَانَ لَحُمْرَانَ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْمُنَازَعَةُ بَعْدَ قَتْلِ مُصْعَبٍ. فَلَمَّا اسْتَوْلَى عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى الْعِرَاقِ بَعْدَ قَتْلِهِ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْبَصْرَةِ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ، فَوَجَّهَ خَالِدٌ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ إِلَيْهَا خَلِيفَةً لَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى حُمْرَانَ قَالَ: أَقَدْ جِئْتَ لَا جِئْتَ! فَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَلَيْهَا حَتَّى قَدِمَ خَالِدٌ، وَلَمَّا فَرَغَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ أَمْرِ الْعِرَاقِ عَادَ إِلَى الشَّامِ. ذِكْرُ أَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَزُفَرَ بْنِ الْحَارِثِ قَدْ ذَكَرْنَا فِي وَقْعَةِ رَاهِطٍ مَسِيرَ زُفَرَ إِلَى قَرْقِيسِيَا وَاجْتِمَاعَ قَيْسٍ عَلَيْهِ، وَالسَّبَبَ فِي اسْتِيلَائِهِ عَلَيْهَا وَمَا كَانَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ عَلَى بَيْعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَفِي طَاعَتِهِ. فَلَمَّا مَاتَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَوَلِيَ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَى أَبَانَ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَهُوَ عَلَى حِمْصٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى زُفَرَ، فَسَارَ إِلَيْهِ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَمِيتٍ الطَّائِيُّ، فَوَاقَعَ عَبْدُ اللَّهِ زُفَرَ قَبْلَ وُصُولِ أَبَانَ، وَكَثُرَ فِي أَصْحَابِهِ الْقَتْلُ، قُتِلَ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ، فَلَامَهُ أَبَانُ عَلَى عَجَلَتِهِ، وَأَقْبَلَ أَبَانُ فَوَاقَعَ زُفَرَ، فَقُتِلَ ابْنُهُ وَكِيعُ بْنُ زُفَرَ، وَأَدْرَكَتْ طَيِّءٌ ثَقَلَ زُفَرَ وَنِسَاءِهِ، فَاسْتَوْهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ النِّسَاءَ وَأَلْحَقَهُنَّ بِزُفَرَ بِقَرْقِيسِيَا، فَقَالَ زُفَرُ: عَلِقْنَ بِحَبْلٍ مِنْ حُصَيْنٍ لَوَ انَّهُ ... تَغَيَّبَ حَالَتْ دُونَهُنَّ الْمَصَائِرُ أَبُوكُمْ أَبُونَا فِي الْقَدِيمِ وَإِنَّنِي ... لِغَابِرُكُمْ فِي آخِرِ الدَّهْرِ شَاكِرُ وَكَانَ يُقَالُ لِزُفَرَ إِنَّهُ مِنْ كِنْدَةَ. ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ لَمَّا أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى مُصْعَبٍ سَارَ إِلَى قَرْقِيسِيَا، فَحَصَرَ زُفَرَ فِيهَا وَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، فَأَمَرَ زُفَرُ أَنْ يُنَادِيَ [فِي] عَسْكَرِ عَبْدِ الْمَلِكِ: لِمَ نَصَبْتُمْ عَلَيْنَا الْمَجَانِيقَ؟ قَالَ: لِنَثْلِمَ ثُلْمَةً نُقَاتِلُكُمْ عَلَيْهَا. فَقَالَ زُفَرُ: قُولُوا لَهُمْ: فَإِنَّا لَا نُقَاتِلُكُمْ مِنْ وَرَاءِ الْحِيطَانِ، وَلَكِنَّا نَخْرُجُ إِلَيْكُمْ. وَثَلَمَتِ الْمَنْجَنِيقُ مِنَ الْمَدِينَةِ بُرْجًا مِمَّا يَلِي حُرَيْثَ بْنَ بَحْدَلٍ، فَقَالَ زُفَرُ: لَقَدْ تَرَكَتْنِي مَنْجَنِيقُ ابْنِ بَحْدَلٍ ... أَحِيدُ عَنِ الْعُصْفُورِ حِينَ يَطِيرُ

وَكَانَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مُجِدًّا فِي قِتَالِهِمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ زُفَرَ مِنْ بَنِي كَلَابٍ: لَأَقُولَنَّ لِخَالِدٍ كَلَامًا لَا يَعُودُ إِلَى مَا يَصْنَعُ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ خَرَجَ خَالِدٌ لِلْمُحَارَبَةِ، فَقَالَ لَهُ الْكَلَابِيُّ: مَاذَا ابْتِغَاءُ خَالِدٍ وَهَمُّهْ إِذْ سَلَبَ الْمُلْكَ وَنِيكَتُ امُّهْ فَاسْتَحْيَا وَعَادَ وَلَمْ يَرْجِعْ يُقَاتِلُهُمْ. وَقَالَتْ كَلْبٌ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: إِنَّا إِذَا لَقِيَنَا زُفَرَ انْهَزَمَتِ الْقَيْسِيَّةُ الَّذِينَ مَعَكَ، فَلَا تَخْلِطْهُمْ مَعَنَا. فَفَعَلَ، فَكَتَبَتِ الْقَيْسِيَّةُ عَلَى نَبْلِهَا: إِنَّهُ لَيْسَ يُقَاتِلُكُمْ غَدًا مُضَرِيٌّ، وَرَمَوُا النَّبْلَ إِلَى قَرْقِيسِيَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ زُفَرُ دَعَا ابْنَهُ الْهُذَيْلَ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَقِيلَ: [كَانَ] يُكَنَّى أَبَا الْكَوْثَرِ، فَقَالَ: اخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَشُدَّ عَلَيْهِمْ شَدَّةً لَا تَرْجِعْ حَتَّى تَضْرِبَ فُسْطَاطَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْتَ دُونَ أَنْ تَطَأَ أَطْنَابَ فُسْطَاطِهِ لَأَقْتُلَنَّكَ. فَجَمَعَ الْهُذَيْلُ خَيْلَهُ وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَصَبَرُوا قَلِيلًا ثُمَّ انْكَشَفُوا، وَتَبِعَهُمُ الْهُذَيْلُ بِخَيْلِهِ حَتَّى وَطِئُوا أَطْنَابَ الْفُسْطَاطِ وَقَطَعُوا بَعْضَهَا ثُمَّ رَجَعُوا، فَقَبَّلَ زُفَرُ رَأَسَ الْهُذَيْلِ وَقَالَ: لَا يَزَالُ عَبْدُ الْمَلِكِ يُحِبُّكَ بَعْدَهَا أَبَدًا. فَقَالَ الْهُذَيْلُ: وَاللَّهِ لَوْ شِئْتَ أَنْ أَدْخُلَ الْفُسْطَاطَ لَفَعَلْتُ. فَقَالَ زُفَرُ: أَلَا لَا أُبَالِي مَنْ أَتَاهُ حِمَامُهُ ... إِذَا مَا الْمَنَايَا عَنْ هُذَيْلٍ تَجَلَّتِ تَرَاهُ أَمَامَ الْخَيْلِ أَوَّلَ فَارِسٍ ... وَيَضْرِبُ فِي أَعْجَازِهَا إِنْ تَوَلَّتِ وَلَمَّا ثُلِمَ بُرْجُ قَرْقِيسِيَا قَالَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بَعْضُ أَهْلِهِ: لَوْ قَاتَلْتَهُمْ بِقُضَاعَةَ لَمَلَكْتَهُمْ. فَفَعَلَ وَقَاتَلَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْمَسَاءِ انْكَشَفَتْ قُضَاعَةُ وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَأَقْبَلَ رُوحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ إِلَى بُرْجٍ مِنْهَا، فَسَأَلَ أَهْلَهُ وَقَالَ: نَشَدْتُكُمُ اللَّهَ كَمْ قَتَلْنَا مِنْكُمْ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ لَمْ يُقْتَلْ مِنَّا أَحَدٌ، وَلَمْ يُجْرَحْ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالُوا: نَشَدْنَاكَ اللَّهَ كَمْ قُتِلَ مِنْكُمْ؟ قَالَ: عِدَّةُ فُرْسَانٍ، وَجَرَحْتُمْ مَا لَا يُحْصَى، فَلَعَنَ اللَّهُ ابْنَ بَحْدَلٍ! وَرَجَعَ رَوْحٌ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَقَالَ: إِنَّ ابْنَ بَحْدَلٍ يُمَنِّيكَ الْبَاطِلَ، فَأَعْرِضْ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ كَلْبٍ يُقَالُ لَهُ الذَّيَّالُ يَخْرُجُ فَيَسُبُّ زُفَرَ فَيُكْثِرُ، فَقَالَ زُفَرُ لِلْهُذَيْلِ ابْنِهِ

أَوْ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: أَمَا تَكْفِينِي هَذَا؟ قَالَ: أَنَا أَجِيئُكَ بِهِ. فَدَخَلَ عَسْكَرَ عَبْدِ الْمَلِكِ لَيْلًا فَجَعَلَ يُنَادَى: مَنْ يَعْرِفُ بَغْلًا مِنْ صِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا؟ حَتَّى انْتَهَى إِلَى خِبَاءِ الرَّجُلِ وَقَدْ عَرَفَهُ. فَقَالَ الرَّجُلُ: رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ ضَالَّتَكَ. فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ عَيِيتُ فَلَوْ أَذِنْتَ لِي فَاسْتَرَحْتُ قَلِيلًا. قَالَ: ادْخُلْ، فَدَخَلَ وَالرَّجُلُ وَحْدَهُ فِي خِبَائِهِ، فَرَمَى بِنَفْسِهِ وَنَامَ صَاحِبُ الْخِبَاءِ، فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَيْقَظَهُ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ تَكَلَّمْتَ لَأَقْتُلَنَّكَ. قَالَ: قُتِلْتُ أَوْ سَلِمْتُ فَمَاذَا يَنْفَعُكَ قَتْلِي؟ (قَالَ: لَئِنْ) سَكَتَّ وَجِئْتَ مَعِي إِلَى زُفَرَ، فَلَكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ أَنْ أَرُدَّكَ إِلَى عَسْكَرِكَ بَعْدَ أَنْ يَصِلَكَ زُفَرُ وَيُحْسِنَ إِلَيْهِ. فَخَرَجَا وَهُوَ يُنَادِي: مَنْ دَلَّ عَلَى بَغْلٍ مِنْ صِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا؟ حَتَّى أَتَى زُفَرَ وَالرَّجُلُ مَعَهُ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ آمَنَهُ، فَوَهَبَ لَهُ زُفَرُ دَنَانِيرَ، وَحَمَلَهُ عَلَى رِحَالَةِ النِّسَاءِ، وَأَلْبَسَهُ ثِيَابَهُنَّ، وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلًا حَتَّى دَنَوْا مِنْ عَسْكَرِ عَبْدِ الْمَلِكِ. فَنَادَوْا: هَذِهِ جَارِيَةٌ قَدْ بَعَثَ بِهَا زُفَرُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ. وَانْصَرَفُوا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْعَسْكَرِ عَرَفُوهُ، وَأَخْبَرُوا عَبْدَ الْمَلِكِ الْخَبَرَ، فَضَحِكَ وَقَالَ: لَا يُبْعِدُ اللَّهُ رَجُلًا نُصِرَ، وَاللَّهِ إِنَّ قَتْلَهُمْ لَذُلٌّ، وَإِنَّ تَرْكَهُمْ لَحَسْرَةٌ. وَكَفَّ الرَّجُلُ فَلَمْ يَعُدْ يَسُبُّ زُفَرَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ هَرَبَ مِنَ الْعَسْكَرِ. ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ أَمَرَ أَخَاهُ مُحَمَّدًا أَنْ يَعْرِضَ عَلَى زُفَرَ وَابْنِهِ الْهُذَيْلِ الْأَمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَمَنْ مَعَهُمَا وَمَالِهِمْ، وَأَنْ يُعْطَيَا مَا أَحَبَّا. فَفَعَلَ مُحَمَّدٌ ذَلِكَ، فَأَجَابَ الْهُذَيْلُ وَكَلَّمَ أَبَاهُ وَقَالَ لَهُ: لَوْ صَالَحْتَ هَذَا الرَّجُلَ فَقَدْ أَطَاعَهُ النَّاسُ، وَهُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ. فَأَجَابَ عَلَى أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي بَيْعَتِهِ سَنَةً، وَأَنْ يَنْزِلَ حَيْثُ شَاءَ، وَلَا يُعِينَ عَبْدَ الْمَلِكِ عَلَى قِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. فَبَيْنَا الرُّسُلُ تَخْتَلِفُ بَيْنَهُمَا إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ كَلْبٍ، فَقَالَ: قَدْ هُدِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةُ أَبْرَاجٍ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَا أُصَالِحُهُمْ. وَزَحَفَ إِلَيْهِمْ، فَهَزَمُوا أَصْحَابَهُ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ عَسْكَرَهُمْ. فَقَالَ: أَعْطُوهُمْ مَا أَرَادُوا. فَقَالَ زُفَرُ: لَوْ كَانَ قَبْلَ هَذَا لَكَانَ أَحْسَنَ. وَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ عَلَى أَمَانِ الْجَمِيعِ، وَوَضْعِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ، وَأَنْ لَا يُبَايِعَ عَبْدَ الْمَلِكِ حَتَّى يَمُوتَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِلْبَيْعَةِ لَهُ فِي عُنُقِهِ، وَأَنْ يُعْطَى مَالًا يُقَسِّمُهُ فِي أَصْحَابِهِ. وَخَافَ زُفَرُ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ كَمَا غَدَرَ بِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، فَلَمْ يَنْزِلْ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِقَضِيبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَانًا لَهُ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَالَ ابْنُ عِضَاةَ الْأَشْعَرِيُّ: أَنَا كُنْتُ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَجْلِسِ مِنْهُ. فَقَالَ زُفَرُ: كَذَبْتَ هُنَاكَ، إِنِّي

عَادَيْتُ فَضَرَرْتُ، وَوَالَيْتُ فَنَفَعْتُ. وَلَمَّا رَأَى عَبْدُ الْمَلِكِ قِلَّةَ مَنْ مَعَ زُفَرَ قَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْقِلَّةِ لَحَاصَرْتُهُ أَبَدًا حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِي. فَبَلَغَ قَوْلُهُ زُفَرَ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ رَجَعْنَا وَرَجَعْتَ. فَقَالَ: بَلْ نَفِي لَكَ يَا أَبَا الْهُذَيْلِ. وَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا: بَلَغَنِي أَنَّكَ مِنْ كِنْدَةَ. فَقَالَ: وَمَا خَيْرُ مَنْ لَا يَبْغِي حَسَدًا، وَلَا يَدَّعِي رَغْبَةً! وَتَزَوَّجَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الرَّبَابَ بِنْتَ زُفَرَ، فَكَانَ يُؤْذَنُ لِأَخَوَيْهَا الْهُذَيْلِ وَالْكَوْثَرِ فِي أَوَّلِ النَّاسِ. وَأَمَرَ زُفَرُ ابْنَهُ الْهُذَيْلَ أَنْ يَسِيرَ مَعَ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى قِتَالِ مُصْعَبٍ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ لَا عَهْدَ عَلَيْكَ. فَسَارَ مَعَهُ، فَلَمَّا قَارَبَ مُصْعَبًا هَرَبَ إِلَيْهِ، وَقَاتَلَ مَعَ ابْنِ الْأَشْتَرِ، فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الْأَشْتَرِ اخْتَفَى الْهُذَيْلُ بِالْكُوفَةِ حَتَّى اسْتُؤْمِنَ لَهُ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ فَآمَنَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ افْتَتَحَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَيْسَارِيَّةَ، فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ. وَفِيهَا نَزَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ جَابِرَ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفٍ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، وَهُوَ آخِرُ وَالٍ كَانَ لَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى أَتَاهُ طَارِقُ بْنُ عَمْرٍو مَوْلَى عُثْمَانَ، فَهَرَبَ طَلْحَةُ، وَأَقَامَ طَارِقٌ بِهَا حَتَّى سَارَ لِقِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي إِمَارَةِ مُصْعَبٍ مَاتَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ بِالْكُوفَةِ، وَيَزِيدُ بْنُ مُفَرِّغٍ الْحِمْيَرِيُّ

الشَّاعِرُ بِهَا أَيْضًا. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيُّ، شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَخَيْبَرَ. وَفِي أَيَّامِهِ مَاتَ شُتَيْرُ بْنُ شَكَلٍ الْقَيْسِيُّ الْكُوفِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ. (شُتَيْرٌ بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ التَّاءِ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ، وَبَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ. وَشَكَلٌ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْكَافِ، وَآخِرُهُ لَامٌ) .

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ] 72 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ ذِكْرُ أَمْرِ الْخَوَارِجِ لَمَّا اسْتَقَرَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بِالْكُوفَةِ بَعْدَ قَتْلِ مُصْعَبٍ اسْتَعْمَلَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْبَصْرَةِ، فَلَمَّا قَدِمَهَا خَالِدٌ كَانَ الْمُهَلَّبُ يُحَارِبُ الْأَزَارِقَةَ، فَجَعَلَهُ عَلَى خَرَاجِ الْأَهْوَازِ وَمَعُونَتِهَا، وَسَيَّرَ أَخَاهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى قِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ مُقَاتِلَ بْنَ مِسْمَعٍ، فَخَرَجَا يَطْلُبَانِ الْأَزَارِقَةَ، فَأَتَتِ الْخَوَارِجُ مِنْ نَاحِيَةِ كَرْمَانَ إِلَى دَارَبْجِرْدَ، وَأَرْسَلَ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ الْمَازِنِيُّ مَعَ صَالِحِ بْنِ مُخَارِقٍ تِسْعَمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَقْبَلَ يَسِيرُ بِهِمْ حَتَّى اسْتَقْبَلَ عَبْدَ الْعَزِيزِ وَهُوَ يَسِيرُ مَهَلًا عَلَى غَيْرِ تَعْبِيَةٍ، فَانْهَزَمَ بِالنَّاسِ، وَنَزَلَ مُقَاتِلُ بْنُ مِسْمَعٍ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَانْهَزَمَ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَأُخِذَتِ امْرَأَتُهُ ابْنَةُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ، فَأُقِيمَتْ فِيمَنْ يَزِيدُ، فَبَلَغَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ أَلْفٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهَا مِنْ رُءُوسِ الْخَوَارِجِ فَقَالَ: تَنَحُّوا هَكَذَا، مَا أَرَى هَذِهِ الْمُشْرِكَةَ إِلَّا قَدْ فَتَنَتْكُمْ! وَضَرَبَ عُنُقَهَا، وَلَحِقَ بِالْبَصْرَةِ، فَرَآهُ آلُ الْمُنْذِرِ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي أَنَحْمِدُكَ أَمْ نَذُمُّكَ! فَكَانَ يَقُولُ: مَا فَعَلْتُهُ إِلَّا غَيْرَةً وَحَمِيَّةً. وَانْتَهَى عَبْدُ الْعَزِيزِ إِلَى رَامَهُرْمُزَ، وَأَتَى الْمُهَلَّبَ خَبَرُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ شَيْخًا مِنَ الْأَزْدِ وَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانَ مُنْهَزِمًا فَعَزِّهِ. فَأَتَاهُ الرَّجُلُ فَرَآهُ نَازِلًا فِي نَحْوِ ثَلَاثِينَ فَارِسًا كَئِيبًا حَزِينًا، فَأَبْلَغَهُ الرِّسَالَةَ، وَعَادَ إِلَى الْمُهَلَّبِ بِالْخَبَرِ، فَأَرْسَلَ الْمُهَلَّبُ إِلَى أَخِيهِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يُخْبِرُهُ بِهَزِيمَتِهِ. فَقَالَ لِلرَّسُولِ: كَذَبْتَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ، فَإِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فَاضْرِبْ عُنُقِي، وَإِنْ كُنْتُ صَادِقًا فَأَعْطِنِي جُبَّتَكَ وَمُطْرَفَكَ. قَالَ: قَدْ رَضِيتَ مِنَ الْخَطَرِ الْعَظِيمِ بِالْخَطَرِ الْيَسِيرِ. وَحَبَسَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ حَتَّى صَحَّ خَبَرُ الْهَزِيمَةِ.

قَالَ ابْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتُ فِي هَزِيمَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَفِرَارِهِ عَنِ امْرَأَتِهِ: عَبْدَ الْعَزِيزِ فَضَحْتَ جَيْشَكَ كُلَّهُمْ ... وَتَرَكْتَهُمْ صَرْعَى بِكُلِّ سَبِيلِ مِنْ بَيْنِ ذِي عَطَشٍ يَجُودُ بِنَفْسِهِ ... وَمُلَحَّبٍ بَيْنَ الرِّجَالِ قَتِيلِ هَلَّا صَبَرْتَ مَعَ الشَّهِيدِ مُقَاتِلًا ... إِذْ رُحْتَ مُنْتَكِثَ الْقُوَى بِأَصِيلِ وَتَرَكْتَ جَيْشَكَ لَا أَمِيرَ عَلَيْهِمُ ... فَارْجِعْ بِعَارٍ فِي الْحَيَاةِ طَوِيلِ وَنَسِيتَ عُرْسَكَ إِذْ تُقَادُ سَبِيَّةً ... تَبْكِي الْعُيُونُ بِرَنَّةٍ وَعَوِيلِ فَكَتَبَ خَالِدٌ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ، وَسَأَلْتُ رَسُولَكَ عَنِ الْمُهَلَّبِ فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عَامِلٌ عَلَى الْأَهْوَازِ، فَقَبَّحَ اللَّهُ رَأْيَكَ حِينَ تَبْعَثُ أَخَاكَ أَعْرَابِيًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى الْقِتَالِ وَتَدَعُ الْمُهَلَّبَ يَجْبِي الْخَرَاجَ، وَهُوَ الْمَيْمُونُ النَّقِيبَةُ، الْمُقَاسِي لِلْحَرْبِ، ابْنُهَا وَابْنُ أَبْنَائِهَا، أَرْسِلْ إِلَى الْمُهَلَّبِ يَسْتَقْبِلْهُمْ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَى بِشْرٍ بِالْكُوفَةِ لِيَمُدَّكَ بِجَيْشٍ، فَسِرْ مَعَهُمْ، وَلَا تَعْمَلْ فِي عَدُوِّكَ بِرَأْيٍ حَتَّى يَحْضُرَهُ الْمُهَلَّبُ، وَالسَّلَامُ. وَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى بِشْرٍ أَخِيهِ بِالْكُوفَةِ يَأْمُرُهُ بِإِنْفَاذِ خَمْسَةِ آلَافٍ مَعَ رَجُلٍ يَرْضَاهُ لِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، فَإِذَا قَضَوْا غَزْوَتَهُمْ سَارُوا إِلَى الرَّيِّ، فَقَاتَلُوا عَدُوَّهُمْ، وَكَانُوا مَسْلَحَةً. فَبَعَثَ بِشْرٌ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَكَتَبَ لَهُ عَهْدًا عَلَى الرَّيِّ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ قِتَالِهِ. وَخَرَجَ خَالِدٌ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ حَتَّى قَدِمَ الْأَهْوَازَ، وَقَدِمَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَجَاءَتِ الْأَزَارِقَةُ حَتَّى دَنَوْا مِنَ الْأَهْوَازِ، فَقَالَ الْمُهَلَّبُ لِخَالِدٍ: إِنِّي أَرَى هَاهُنَا سُفُنًا كَثِيرَةً، فَضُمَّهَا إِلَيْكَ فَإِنَّهُمْ سَيَحْرِقُونَهَا. فَلَمْ يَمْضِ إِلَّا سَاعَةً حَتَّى أَرْسَلُوا إِلَيْهَا فَأَحْرَقُوهَا. وَجَعَلَ خَالِدٌ الْمُهَلَّبَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ دَاوُدَ بْنَ قَحْذَمٍ مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَمَرَّ الْمُهَلَّبُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَلَمْ يُخَنْدِقْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا يَمْنَعُكَ مِنَ الْخَنْدَقِ؟ فَقَالَ: هُمْ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ ضَرْطَةِ الْجَمَلِ. فَقَالَ: لَا يَهُونُوا عَلَيْكَ، فَإِنَّهُمْ سِبَاعُ الْعَرَبِ.

وَلَمْ يَبْرَحِ الْمُهَلَّبُ حَتَّى خَنْدَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ، فَأَقَامُوا نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ زَحَفَ إِلَيْهِمْ بِالنَّاسِ، فَرَأَوْا أَمْرًا هَالَهُمْ مِنْ كَثْرَةِ النَّاسِ، فَكَثُرَتْ عَلَيْهِمُ الْخَيْلُ وَزَحَفَتْ إِلَيْهِمْ، فَانْصَرَفُوا كَأَنَّهُمْ عَلَى حَامِيَةٍ وَهُمْ مُوَلُّونَ، لَا يَرَوْنَ طَاقَةً بِقِتَالِ جَمَاعَةِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ خَالِدٌ دَاوُدَ بْنَ قَحْذَمٍ فِي آثَارِهِمْ، وَانْصَرَفَ خَالِدٌ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَسَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى الرَّيِّ، وَأَقَامَ الْمُهَلَّبُ بِالْأَهْوَازِ، وَكَتَبَ خَالِدٌ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِذَلِكَ. فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ بِشْرٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَبْعَثَ أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَعَ رَجُلٍ بَصِيرٍ بِالْحَرْبِ إِلَى فَارِسَ فِي طَلَبِ الْأَزَارِقَةِ، وَيَأْمُرُ صَاحِبَهُ بِمُوَافَقَةِ دَاوُدَ بْنِ قَحْذَمٍ إِنِ اجْتَمَعَا. فَبَعَثَ بِشْرٌ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَسَارُوا حَتَّى لَحِقُوا دَاوُدَ فَاجْتَمَعُوا، ثُمَّ اتَّبَعُوا الْخَوَارِجَ حَتَّى هَلَكَتْ خُيُولُ عَامَّتِهِمْ، وَأَصَابَهُمُ الْجُوعُ وَالْجُهْدُ، وَرَجَعَ عَامَّةُ الْجَيْشَيْنِ مُشَاةً إِلَى الْأَهْوَازِ. [خُرُوجُ أَبِي فُدَيْكٍ الْخَارِجِيِّ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ خُرُوجُ أَبِي فُدَيْكٍ الْخَارِجِيِّ، وَهُوَ مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَغَلَبَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَقَتَلَ نَجْدَةَ بْنَ عَامِرٍ الْحَنَفِيَّ، فَاجْتَمَعَ عَلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ نُزُولُ قَطَرِيٍّ الْأَهْوَازَ وَأَمْرُ أَبِي فُدَيْكٍ، فَبَعَثَ أَخَاهُ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي جُنْدٍ كَثِيفٍ إِلَى أَبِي فُدَيْكٍ، فَهَزَمَهُ أَبُو فُدَيْكٍ، وَأَخَذَ جَارِيَةً لَهُ فَاتَّخَذَهَا لِنَفْسِهِ، فَكَتَبَ خَالِدٌ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِذَلِكَ. ذِكْرُ قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ وَلَمَّا قُتِلَ مُصْعَبٌ كَانَ ابْنُ خَازِمٍ يُقَاتِلُ بَحِيرَ بْنَ وَرْقَاءَ الصُّرَيْمِيَّ التَّمِيمِيَّ بِنَيْسَابُورَ، فَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى ابْنِ خَازِمٍ يَدْعُوهُ إِلَى الْبَيْعَةِ لَهُ وَيُطْعِمُهُ خُرَاسَانَ سَبْعَ سِنِينَ، وَأَرْسَلَ الْكِتَابَ مَعَ سَوَادَةَ بْنِ أَشْتَمَ النُّمَيْرِيِّ، وَقِيلَ: مَعَ مُكَمِّلٍ الْغَنَوِيِّ. فَقَالَ ابْنُ خَازِمٍ: لَوْلَا أَنْ أُضَرِّبَ بَيْنَ [بَنِي] سُلَيْمٍ وَ [بَنِي] عَامِرٍ لَقَتَلْتُكَ، وَلَكِنْ كُلْ كِتَابَكَ. فَأَكَلَهُ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ الْكِتَابُ مَعَ سَوَادَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ النُّمَيْرِيِّ، وَقِيلَ: مَعَ مُكَمِّلٍ الْغَنَوِيِّ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ خَازِمٍ: إِنَّمَا بَعَثَكَ أَبُو الذِّبَّانِ لِأَنَّكَ مِنْ غَنِيٍّ، وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي لَا أَقْتُلُ رَجُلًا مِنْ قَيْسٍ، وَلَكِنْ كُلْ كِتَابَهُ.

وَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى بُكَيْرِ بْنِ وَسَّاجٍ، وَكَانَ خَلِيفَةَ ابْنِ خَازِمٍ عَلَى مَرْوَ، بِعَهْدِهِ عَلَى خُرَاسَانَ، وَوَعْدِهِ وَمُنَاهُ، فَخَلَعَ بُكَيْرٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَدَعَا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَجَابَهُ أَهْلُ مَرْوَ، وَبَلَغَ ابْنَ خَازِمٍ، فَخَافَ أَنْ يَأْتِيَهُ بُكَيْرٌ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ مَرْوَ وَأَهْلُ نَيْسَابُورَ، فَتَرَكَ بَحِيرًا وَأَقْبَلَ إِلَى مَرْوَ وَيَزِيدُ ابْنُهُ بِتِرْمِذَ، فَاتَّبَعَهُ بَحِيرٌ، فَلَحِقَهُ بِقَرْيَةٍ عَلَى ثَمَانِيَةِ فَرَاسِخَ مِنْ مَرْوَ، فَقَاتَلَهُ ابْنُ خَازِمٍ، فَقُتِلَ ابْنُ خَازِمٍ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُ وَكِيعُ بْنُ عَمْرٍو الْقُرَيْعِيُّ، أَعْثَرَهُ وَكِيعٌ، وَبَحِيرُ بْنُ وَرْقَاءَ، وَعَمَّارُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَطَعَنُوهُ فَصَرَعُوهُ، وَقَعَدَ وَكِيعٌ عَلَى صَدْرِهِ فَقَتَلَهُ. فَقَالَ بَعْضُ الْوُلَاةِ لِوَكِيعٍ: كَيْفَ قَتَلْتَهُ؟ قَالَ: غَلَبْتُهُ بِفَضْلِ الْقَنَا، فَلَمَّا صُرِعَ قَعَدْتُ عَلَى صَدْرِهِ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَقُومَ، قُلْتُ: يَا لِثَارَاتِ دُوَيْلَةَ! وَهُوَ أَخُو وَكِيعٍ لِأُمِّهِ، قُتِلَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْحُرُوبِ. قَالَ وَكِيعٌ: فَتَنَخَّمَ فِي وَجْهِي وَقَالَ: لَعَنَكَ اللَّهُ! أَتَقْتُلُ كَبْشَ مُضَرَ بِأَخِيكَ وَهُوَ لَا يُسَاوِي كَفًّا مِنْ نَوًى؟ أَوْ قَالَ: مِنْ تُرَابٍ. قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ أَكْثَرَ رِيقًا مِنْهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَبَعَثَ بَحِيرٌ سَاعَةَ قَتْلِ ابْنِ خَازِمٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُخْبِرُهُ بِقَتْلِهِ، وَلَمْ يَبْعَثْ بِالرَّأْسِ، وَبَعَثَ بَحِيرٌ بُكَيْرَ بْنَ وَسَّاجٍ فِي أَهْلِ مَرْوَ، فَوَافَاهُمْ حِينَ قُتِلَ ابْنُ خَازِمٍ، فَأَرَادَ أَخْذَ الرَّأْسِ وَإِنْفَاذَهُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَمَنَعَهُ بَحِيرٌ، فَضَرَبَهُ بُكَيْرٌ بِعَمُودٍ وَحَبَسَهُ، وَسَيَّرَ الرَّأْسَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يُخْبِرُهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ. فَلَمَّا قَدِمَ الرَّأْسُ دَعَا عَبْدُ الْمَلِكِ بِرَسُولِ بَحِيرٍ وَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، وَمَا فَارَقْتُ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ ابْنُ خَازِمٍ. وَقِيلَ: إِنَّ ابْنَ خَازِمٍ إِنَّمَا قُتِلَ بَعْدَ قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ أَنْفَذَ إِلَيْهِ رَأْسَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَدَعَاهُ إِلَى نَفْسِهِ، فَغَسَّلَ الرَّأْسَ وَكَفَّنَهُ وَبَعَثَهُ إِلَى أَهْلِهِ بِالْمَدِينَةِ، وَأَطْعَمَ الرَّسُولَ الْكِتَابَ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّكَ رَسُولٌ لَقَتَلْتُكَ. وَقِيلَ: بَلْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَتَلَهُ، وَحَلَفَ أَنْ لَا يُطِيعَ عَبْدَ الْمَلِكِ أَبَدًا. (بَحِيرٌ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ) .

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ كَانَ الْعَامِلُ عَلَى الْمَدِينَةِ طَارِقًا لِعَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ، وَعَلَى قَضَائِهَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى قَضَائِهَا هِشَامَ بْنَ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، بُكَيْرَ بْنَ وَسَّاجٍ، وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَازِمٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ. عَبِيدَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ.

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ] 73 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ ذِكْرُ قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا بُويِعَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِالشَّامِ بَعَثَ إِلَى الْمَدِينَةِ عُرْوَةَ بْنَ أُنَيْفٍ فِي سِتَّةِ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ، وَأَنْ يُعَسْكِرَ بِالْعَرْصَةِ، وَكَانَ عَامِلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى الْمَدِينَةِ الْحَارِثُ بْنُ حَاطِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيُّ، فَهَرَبَ الْحَارِثُ، وَكَانَ ابْنُ أُنَيْفٍ يَدْخُلُ وَيُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، فَأَقَامَ شَهْرًا وَلَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهِمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَحَدًا. وَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ، فَعَادَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ الْقُرَظِيُّ، ثُمَّ عَادَ الْحَارِثُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ سُلَيْمَانَ بْنَ خَالِدٍ الزُّرَقِيَّ الْأَنْصَارِيَّ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا عَامِلًا عَلَى خَيْبَرَ وَفَدَكَ، فَنَزَلَ فِي عَمَلِهِ، فَبَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ الْحَكَمِ - وَقِيلَ: اسْمُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَهُوَ أَصَحُّ - فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ وَادِي الْقُرَى، وَسَيَّرَ سَرِيَّةً عَلَيْهَا أَبُو الْقَمْقَامِ فِي خَمْسِمِائَةٍ إِلَى سُلَيْمَانَ، فَوَجَدَهُ قَدْ هَرَبَ، فَطَلَبُوهُ فَأَدْرَكُوهُ، فَقَتَلُوهُ وَمَنْ مَعَهُ. فَاغْتَمَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِقَتْلِهِ وَقَالَ: قَتَلُوا رَجُلًا مُسْلِمًا صَالِحًا بِغَيْرِ ذَنْبٍ. وَعَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحَارِثَ، وَاسْتَعْمَلَ مَكَانَهُ جَابِرَ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيَّ، فَوَجَّهَ جَابِرٌ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قَيْسٍ فِي سِتِّمِائَةِ فَارِسٍ وَأَرْبَعِينَ فَارِسًا إِلَى خَيْبَرَ، فَوَجَدُوا أَبَا الْقَمْقَامِ وَمَنْ مَعَهُ مُقِيمِينَ بِفَدَكَ يَعْسِفُونَ النَّاسَ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ أَبِي الْقَمْقَامِ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ رَجُلًا، فَقُتِلُوا صَبْرًا. وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ الْخَمْسُمِائَةِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ. وَوَجَّهَ عَبْدُ الْمَلِكِ طَارِقَ بْنَ عَمْرٍو مَوْلَى عُثْمَانَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْزِلَ بَيْنَ أَيْلَةَ وَوَادِي الْقُرَى، وَيَمْنَعَ عُمَّالَ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِنَ الِانْتِشَارِ، وَيَسُدَّ خَلَلًا إِنْ ظَهَرَ لَهُ. فَوَجَّهَ طَارِقٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ خَيْلًا، فَاقْتَتَلُوا، فَأُصِيبَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَأُصِيبَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَكْثَرُ مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ.

وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ كَتَبَ إِلَى الْقُبَاعِ أَيَّامَ كَانَ عَامِلَهُ عَلَى الْبَصْرَةِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ أَلْفَيْ فَارِسٍ لِيُعِينُوا عَامِلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ أَلْفَيْ رَجُلٍ، فَلَمَّا قُتِلَ أَبُو بَكْرٍ أَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ جَابِرَ بْنَ الْأَسْوَدِ أَنْ يُسَيِّرَ جَيْشَ الْبَصْرَةِ إِلَى قِتَالِ طَارِقٍ، فَسَارَ الْبَصْرِيُّونَ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَبَلَغَ طَارِقًا الْخَبَرُ، فَسَارَ نَحْوَهُ، فَالْتَقَيَا، فَقُتِلَ مُقَدِّمُ الْبَصْرِيِّينَ، وَقُتِلَ أَصْحَابُهُ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَطَلَبَ طَارِقٌ مُدْبِرَهُمْ، وَأَجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَبْقِ أَسِيرَهُمْ. وَرَجَعَ طَارِقٌ إِلَى وَادِي الْقُرَى، وَكَانَ عَامِلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِالْمَدِينَةِ جَابِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَعَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ جَابِرًا، وَاسْتَعْمَلَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، الَّذِي يُعْرَفُ بِطَلْحَةِ النَّدَى، سَنَةَ سَبْعِينَ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى أَخْرَجَهُ طَارِقٌ. فَلَمَّا قَتَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ مُصْعَبًا وَأَتَى الْكُوفَةَ، وَجَّهَ مِنْهَا الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ فِي أَلْفَيْنِ، وَقِيلَ: فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، لِقِتَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي تَسْيِيرِهِ دُونَ غَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: قَدْ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَخَذْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَسَلَخْتُهُ، فَابْعَثْنِي إِلَيْهِ وَوَلِّنِي قِتَالَهُ. فَبَعَثَهُ وَكَتَبَ مَعَهُ أَمَانًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَنْ مَعَهُ إِنْ أَطَاعُوا، فَسَارَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِلْمَدِينَةِ، وَنَزَلَ الطَّائِفَ، وَكَانَ يَبْعَثُ الْخَيْلَ إِلَى عَرَفَةَ، وَيَبْعَثُ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَيْضًا فَيَقْتَتِلُونَ بِعَرَفَةَ، فَتَنْهَزِمُ خَيْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَتَعُودُ خَيْلُ الْحَجَّاجِ بِالظَّفَرِ. ثُمَّ كَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي دُخُولِ الْحَرَمِ وَحَصْرِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَيُخْبِرُهُ بِضَعْفِهِ وَتَفَرُّقِ أَصْحَابِهِ، وَيَسْتَمِدُّهُ، فَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى طَارِقٍ يَأْمُرُهُ بِاللِّحَاقِ بِالْحَجَّاجِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَأَخْرَجَ عَامِلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْهَا، وَجَعَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ اسْمُهُ ثَعْلَبَةُ، فَكَانَ ثَعْلَبَةُ يُخْرِجُ الْمُخَّ وَهُوَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَأْكُلُهُ وَيَأْكُلُ عَلَيْهِ التَّمْرَ لِيَغِيظَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ شَدِيدًا عَلَى أَهْلِ الزُّبَيْرِ، وَقَدِمَ طَارِقٌ عَلَى الْحَجَّاجِ بِمَكَّةَ فِي سَلْخِ ذِي الْحِجَّةِ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ. وَأَمَّا الْحَجَّاجُ فَإِنَّهُ قَدِمَ مَكَّةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَقَدْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ، فَنَزَلَ بِئْرَ مَيْمُونٍ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ تِلْكَ السَّنَةَ الْحَجَّاجُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ بِالْكَعْبَةِ، وَلَا سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، مَنَعَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ يَلْبَسُ السِّلَاحَ وَلَا يَقْرُبُ النِّسَاءَ وَلَا الطِّيبَ إِلَى أَنْ قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَلَمْ يَحُجَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَلَا أَصْحَابُهُ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقِفُوا بِعَرَفَةَ، وَلَمْ يَرْمُوا الْجِمَارَ،

وَنَحَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بُدْنَهُ بِمَكَّةَ. وَلَمَّا حَصَرَ الْحَجَّاجُ ابْنَ الزُّبَيْرِ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، وَرَمَى بِهِ الْكَعْبَةَ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُنْكِرُ ذَلِكَ أَيَّامَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: خُذِلَ فِي دِينِهِ. وَحَجَّ ابْنُ عُمَرَ تِلْكَ السَّنَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْحَجَّاجِ: أَنِ اتَّقِ اللَّهَ، وَاكْفُفْ هَذِهِ الْحِجَارَةَ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّكَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ وَبَلَدٍ حَرَامٍ، وَقَدْ قَدِمَتْ وُفُودُ اللَّهِ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ لِيُؤَدُّوا فَرِيضَةَ اللَّهِ وَيَزْدَادُوا خَيْرًا، وَإِنَّ الْمَنْجَنِيقَ قَدْ مَنَعَهُمْ عَنِ الطَّوَافِ، فَاكْفُفْ عَنِ الرَّمْيِ حَتَّى يَقْضُوا مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بِمَكَّةَ. فَبَطَّلَ الرَّمْيَ حَتَّى عَادَ النَّاسُ مِنْ عَرَفَاتٍ وَطَافُوا وَسَعَوْا، وَلَمْ يَمْنَعِ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحَاجَّ مِنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ نَادَى مُنَادِي الْحَجَّاجِ: انْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ، فَإِنَّا نَعُودُ بِالْحِجَارَةِ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ الْمُلْحِدِ. وَأَوَّلُ مَا رُمِيَ بِالْمَنْجَنِيقِ إِلَى الْكَعْبَةِ رَعَدَتِ السَّمَاءُ وَبَرَقَتْ، وَعَلَا صَوْتُ الرَّعْدِ عَلَى الْحِجَارَةِ، فَأَعْظَمَ ذَلِكَ أَهْلُ الشَّامِ وَأَمْسَكُوا أَيْدِيَهُمْ، فَأَخَذَ الْحَجَّاجُ حَجَرَ الْمَنْجَنِيقِ بِيَدِهِ، فَوَضَعَهُ فِيهِ وَرَمَى بِهِ مَعَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَاءَتِ الصَّوَاعِقُ فَقَتَلَتْ مِنْ أَصْحَابِهِ اثْنَيْ عَشْرَ رَجُلًا، فَانْكَسَرَ أَهْلُ الشَّامِ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: يَا أَهْلَ الشَّامِ، لَا تُنْكِرُوا هَذَا، فَإِنِّي ابْنُ تِهَامَةَ وَهَذِهِ صَوَاعِقُهَا، وَهَذَا الْفَتْحُ قَدْ حَضَرَ، فَأَبْشِرُوا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَاءَتِ الصَّاعِقَةُ، فَأَصَابَتْ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عِدَّةً، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُصَابُونَ وَأَنْتُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَهُمْ عَلَى خِلَافِهَا؟ وَكَانَ الْحَجَرُ يَقَعُ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَا يَنْصَرِفُ، وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ يَقُولُونَ: يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ طَالَمَا عَصَيْكَا وَطَالَمَا عَنَّيْتَنَا إِلَيْكَا لَتُجْزَيَنَّ بِالَّذِي أَتَيْكَا

يَعْنُونَ: عَصَيْتَ وَأَتَيْتَ. وَقَدِمَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ الْأَعْرَابِ فَقَالُوا: قَدِمْنَا لِلْقِتَالِ مَعَكَ، فَنَظَرَ فَإِذَا مَعَ كُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ سَيْفٌ كَأَنَّهُ شَفْرَةٌ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ غِمْدِهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَعْرَابِ، لَا قَرَّبَكُمُ اللَّهُ! فَوَاللَّهِ إِنَّ سِلَاحَكُمْ لَرَثٌّ، وَإِنَّ حَدِيثَكُمْ لَغَثٌّ، وَإِنَّكُمْ لَقُتَّالٌ فِي الْجَدْبِ، أَعْدَاءٌ فِي الْخِصْبِ. فَتَفَرَّقُوا، وَلَمْ يَزَلِ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ دَائِمًا، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ عِنْدَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ حَتَّى ذَبَحَ فَرَسَهُ، وَقَسَّمَ لَحْمَهَا فِي أَصْحَابِهِ، وَبِيعَتِ الدَّجَاجَةُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَالْمُدُّ الذُّرَةُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنَّ بُيُوتَ ابْنِ الزُّبَيْرِ لَمَمْلُوءَةٌ قَمْحًا وَشَعِيرًا وَذُرَةً وَتَمْرًا، وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ يَنْتَظِرُونَ فَنَاءَ مَا عِنْدَهُ، وَكَانَ يَحْفَظُ ذَلِكَ وَلَا يُنْفِقُ مِنْهُ إِلَّا مَا يُمْسِكُ الرَّمَقَ، وَيَقُولُ: أَنْفُسُ أَصْحَابِي قَوِيَّةٌ مَا لَمْ يَفْنَ. فَلَمَّا كَانَ قُبَيْلَ مَقْتَلِهِ تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ وَخَرَجُوا إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْأَمَانِ، خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ نَحْوُ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَكَانَ مِمَّنْ فَارَقَهُ ابْنَاهُ حَمْزَةُ وَخُبَيْبٌ، أَخَذَا لِأَنْفُسِهِمَا أَمَانًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِابْنِهِ الزُّبَيْرِ: خُذْ لِنَفْسِكَ أَمَانًا كَمَا فَعَلَ أَخَوَاكَ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ بَقَاءَكُمْ. فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَرْغَبَ بِنَفْسِي عَنْكَ. فَصَبَرَ مَعَهُ فَقُتِلَ. وَلَمَّا تَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ خَطَبَ الْحَجَّاجُ النَّاسَ وَقَالَ: قَدْ تَرَوْنَ قِلَّةَ مَنْ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْدِ وَالضِّيقِ. فَفَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا، فَتَقَدَّمُوا، فَمَلَئُوا مَا بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الْأَبْوَاءِ. فَدَخَلَ عَلَى أُمِّهِ فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ، قَدْ خَذَلَنِي النَّاسُ حَتَّى وَلَدَيَّ وَأَهْلِي، وَلَمْ يَبْقَ مَعِي إِلَّا الْيَسِيرُ، وَمَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ صَبْرِ سَاعَةٍ، وَالْقَوْمُ يُعْطُونِي مَا أَرَدْتُ مِنَ الدُّنْيَا، فَمَا رَأْيُكِ؟ فَقَالَتْ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ، إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ عَلَى حَقٍّ وَإِلَيْهِ تَدْعُو، فَامْضِ لَهُ، فَقَدْ قُتِلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُكَ، وَلَا تُمَكِّنْ مِنْ رَقَبَتِكَ يَتَلَعَّبْ بِهَا غِلْمَانُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا أَرَدْتَ الدُّنْيَا، فَبِئْسَ الْعَبْدُ أَنْتَ، أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ وَمَنْ قُتِلَ مَعَكَ، وَإِنْ قُلْتَ: كُنْتُ عَلَى حَقٍّ، فَلَمَّا وَهَنَ أَصْحَابِي ضَعُفْتُ - فَهَذَا لَيْسَ فِعْلُ الْأَحْرَارِ وَلَا أَهْلِ الدِّينِ، كَمْ خُلُودُكَ فِي الدُّنْيَا! الْقَتْلُ أَحْسَنُ! فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ، أَخَافُ إِنْ قَتَلَنِي أَهْلُ الشَّامِ أَنْ يُمَثِّلُوا بِي وَيَصْلُبُونِي. قَالَتْ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ الشَّاةَ [إِذَا ذُبِحَتْ] لَا تَتَأَلَّمُ بِالسَّلْخِ، فَامْضِ عَلَى بَصِيرَتِكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ.

فَقَبَّلَ رَأْسَهَا وَقَالَ: هَذَا رَأْيَيٌ وَالَّذِي (قُمْتُ بِهِ دَاعِيًا) إِلَى يَوْمِي هَذَا، مَا رَكَنْتُ إِلَى الدُّنْيَا وَلَا أَحْبَبْتُ الْحَيَاةَ فِيهَا، وَمَا دَعَانِي إِلَى الْخُرُوجِ إِلَّا الْغَضَبُ لِلَّهِ، وَأَنْ تُسْتَحَلَّ حُرُمَاتُهُ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَ رَأْيَكِ، فَقَدْ زِدْتِنِي بَصِيرَةً، فَانْظُرِي يَا أُمَّاهُ، فَإِنِّي مَقْتُولٌ فِي يَوْمِي هَذَا، فَلَا يَشْتَدَّ حُزْنُكِ، وَسَلِّمِي الْأَمْرَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّ ابْنَكَ لَمْ يَتَعَمَّدْ إِتْيَانَ مُنْكَرٍ، وَلَا عَمَلًا بِفَاحِشَةٍ، وَلَمْ يَجُرْ فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَلَمْ يَغْدِرْ فِي أَمَانٍ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ ظُلْمَ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي ظُلْمٌ عَنْ عُمَّالِي فَرَضِيتُ بِهِ، بَلْ أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ آثَرَ عِنْدِي مِنْ رِضَا رَبِّي، اللَّهُمَّ لَا أَقُولُ هَذَا تَزْكِيَةً لِنَفْسِي، وَلَكِنِّي أَقُولُهُ تَعْزِيَةً لِأُمِّي حَتَّى تَسْلُوَ عَنِّي! . فَقَالَتْ أُمُّهُ: [إِنِّي] لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ عَزَائِي فِيكَ جَمِيلًا، إِنْ تَقَدَّمْتَنِي احْتَسَبْتُكَ، وَإِنْ ظَفَرْتَ سُرِرْتُ بِظَفَرِكَ، اخْرُجْ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُكَ. فَقَالَ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، فَلَا تَدَعِي الدُّعَاءَ لِي. قَالَتْ: لَا أَدَعُهُ لَكَ أَبَدًا، فَمَنْ قُتِلَ عَلَى بَاطِلٍ فَقَدْ قُتِلْتَ عَلَى حَقٍّ. ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ طُولَ ذَاكَ الْقِيَامِ فِي اللَّيْلِ الطَّوِيلِ، وَذَلِكَ النَّحِيبَ وَالظَّمَأَ فِي هَوَاجِرِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَبِرَّهُ بِأَبِيهِ وَبِي! اللَّهُمَّ قَدْ سَلَّمْتُهُ لِأَمْرِكَ فِيهِ، وَرَضِيتُ بِمَا قَضَيْتَ، فَأَثِبْنِي فِيهِ ثَوَابَ الصَّابِرِينَ الشَّاكِرِينَ! . فَتَنَاوَلَ يَدَيْهَا لِيُقَبِّلَهُمَا فَقَالَتْ: هَذَا وَدَاعٌ فَلَا تَبْعَدْ. فَقَالَ لَهَا: جِئْتُ مُوَدِّعًا ; لِأَنِّي أَرَى هَذَا آخِرَ أَيَّامِي مِنَ الدُّنْيَا. قَالَتْ: امْضِ عَلَى بَصِيرَتِكَ، وَادْنُ مِنِّي حَتَّى أُوَدِّعَكَ. فَدَنَا مِنْهَا فَعَانَقَهَا وَقَبَّلَهَا، فَوَقَعَتْ يَدُهَا عَلَى الدِّرْعِ فَقَالَتْ: مَا هَذَا صَنِيعُ مَنْ يُرِيدُ مَا تُرِيدُ. فَقَالَ: مَا لَبِسْتُهُ إِلَّا لِأَشُدَّ مِنْكِ. قَالَتْ: فَإِنَّهُ لَا يَشُدُّ مِنِّي. فَنَزَعَهَا ثُمَّ دَرَجَ كُمَّيْهِ، وَشَدَّ أَسْفَلَ قَمِيصِهِ وُجَبَّةَ خَزٍّ تَحْتَ أَثْنَاءِ السَّرَاوِيلِ، وَأَدْخَلَ أَسْفَلَهَا تَحْتَ الْمِنْطَقَةِ، وَأُمُّهُ تَقُولُ لَهُ: الْبَسْ ثِيَابَكَ مُشَمَّرَةً. فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنِّي إِذَا أَعْرِفُ يَوْمِي أَصْبِرْ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ يَوْمَهُ الْحُرُّ

إِذْ بَعْضُهُمْ يَعْرِفُ ثُمَّ يُنْكِرْ فَسَمِعَتْهُ فَقَالَتْ: تَصْبِرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَبَوَاكَ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ، وَأُمُّكَ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ. فَحَمَلَ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ (حَمْلَةً مُنْكَرَةً فَقَتَلَ مِنْهُمْ، ثُمَّ انْكَشَفَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: لَوْ لَحِقْتَ بِمَوْضِعِ كَذَا. قَالَ: بِئْسَ الشَّيْخُ أَنَا إِذًا فِي الْإِسْلَامِ لَئِنْ أَوْقَعْتُ قَوْمًا فَقُتِلُوا ثُمَّ فَرَرْتُ عَنْ مِثْلِ مَصَارِعِهِمْ. وَدَنَا أَهْلُ الشَّامِ) حَتَّى امْتَلَأَتْ مِنْهُمُ الْأَبْوَابُ، وَكَانُوا يَصِيحُونَ بِهِ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، فَيَقُولُ: وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا وَجَعَلَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ، فَكَانَ لِأَهْلِ حِمْصٍ الْبَابُ الَّذِي يُوَاجِهُ بَابَ الْكَعْبَةِ، وَلِأَهْلِ دِمَشْقَ بَابُ بَنِي شَيْبَةَ، وَلِأَهْلِ الْأُرْدُنِّ بَابُ الصَّفَا، وَلِأَهْلِ فَلَسْطِينَ بَابُ بَنِي جُمَحٍ، وَلِأَهْلِ قِنَّسْرِينَ بَابُ بَنِي تَمِيمٍ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ وَطَارِقٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَبْطَحِ إِلَى الْمَرْوَةِ، فَمَرَّةً يَحْمِلُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ وَمَرَّةً فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ، فَكَأَنَّهُ أَسَدٌ فِي أَجَمَةٍ مَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، يَعْدُو فِي أَثَرِ الْقَوْمِ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ، ثُمَّ يَصِيحُ: أَبَا صَفْوَانَ! وَيْلُ أُمِّهِ فَتْحًا لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ: لَوْ كَانَ قِرْنِي وَاحِدًا كَفَيْتُهُ! فَيَقُولُ أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ: إِي وَاللَّهِ وَأَلْفُ. فَلَمَّا رَأَى الْحَجَّاجُ أَنَّ النَّاسَ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ غَضِبَ وَتَرَجَّلَ، وَأَقْبَلَ يَسُوقُ

النَّاسَ وَيَصْمُدُ بِهِمْ صَمْدَ صَاحِبِ عَلَمِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَتَقَدَّمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى صَاحِبِ عَلَمِهِ وَضَارَبَهُمْ وَانْكَشَفُوا، وَعَرَجَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْمَقَامِ، فَحَمَلُوا عَلَى صَاحِبِ عَلَمِهِ فَقَتَلُوهُ عِنْدَ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَصَارَ الْعَلَمُ بِأَيْدِي أَصْحَابِ الْحَجَّاجِ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ تَقَدَّمَ فَقَاتَلَ بِغَيْرِ عَلَمٍ، فَضَرَبَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَقَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْحَوَارِيِّ! وَضَرَبَ آخَرُ وَكَانَ حَبَشِيًّا، فَقَطَعَ يَدَهُ وَقَالَ: اصْبِرْ أَبَا حُمَمَةَ، اصْبِرِ ابْنَ حَامٍ. وَقَاتَلَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي فَرَرْتُ يَوْمَ الْحَرَّهْ ... وَالْحُرُّ لَا يَفِرُّ إِلَّا مَرَّهْ وَالْيَوْمَ أَجْزِي فَرَّةً بِكَرَّهْ وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَصَابَتْهُ جِرَاحٌ فَمَاتَ مِنْهَا بَعْدَ أَيَّامٍ. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِأَصْحَابِهِ وَأَهْلِهِ - يَوْمَ قُتِلَ - بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ: اكْشِفُوا وُجُوهَكُمْ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْكُمْ - وَعَلَيْهِمُ الْمَغَافِرُ -. فَفَعَلُوا. فَقَالَ: يَا آلَ الزُّبَيْرِ، لَوْ طِبْتُمْ بِي نَفْسًا عَنْ أَنْفُسِكُمْ كُنَّا أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْعَرَبِ اصْطَلَحْنَا فِي اللَّهِ، فَلَا يَرُعْكُمْ وَقْعُ السُّيُوفِ، فَإِنَّ أَلَمَ الدَّوَاءِ لِلْجِرَاحِ أَشَدُّ مِنْ أَلَمِ وَقْعِهَا، صُونُوا سُيُوفَكُمْ كَمَا تَصُونُونَ وُجُوهَكُمْ، غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ مِنَ الْبَارِقَةِ، وَلْيَشْغَلْ كُلَّ امْرِئٍ قِرْنُهُ، وَلَا تَسْأَلُوا عَنِّي، فَمَنْ كَانَ سَائِلًا عَنِّي فَإِنِّي فِي الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، احْمِلُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى بَلَغَ بِهِمُ الْحَجُونَ، فَرُمِيَ بِآجُرَّةٍ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنَ السَّكُونِ، فَأَصَابَتْهُ فِي وَجْهِهِ، فَأُرْعِشَ لَهَا وَدَمِيَ وَجْهُهُ، فَلَمَّا وَجَدَ الدَّمَ عَلَى وَجْهِهِ قَالَ: فَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تُدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدِّمَا وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَتَعَاوَرُوا عَلَيْهِ، فَقَتَلُوهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَلَهُ

ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَتَوَلَّى قَتْلَهُ رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ، وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ فَسَجَدَ، وَوَفَّدَ السَّكُونِيَّ وَالْمُرَادِيَّ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْخَبَرِ، فَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ. وَسَارَ الْحَجَّاجُ وَطَارِقٌ حَتَّى وَقَفَا عَلَيْهِ، فَقَالَ طَارِقٌ: مَا وَلَدَتِ النِّسَاءُ أَذْكَرَ مِنْ هَذَا. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَتَمْدَحُ مُخَالِفَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ أَعْذَرُ لَنَا، وَلَوْلَا هَذَا لَمَا كَانَ لَنَا عُذْرٌ، إِنَّا مُحَاصِرُوهُ مُنْذُ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ فِي غَيْرِ جُنْدٍ وَلَا حِصْنٍ وَلَا مَنَعَةٍ، فَيَنْتَصِفُ مِنَّا، بَلْ يَفْضُلُ عَلَيْنَا. فَبَلَغَ كَلَامُهُمَا عَبْدَ الْمَلِكِ، فَصَوَّبَ طَارِقًا. وَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَبَّرَ أَهْلُ الشَّامِ فَرَحًا بِقَتْلِهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: انْظُرُوا إِلَى هَؤُلَاءِ، وَلَقَدْ كَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ فَرَحًا بِوِلَادَتِهِ، وَهَؤُلَاءِ يُكَبِّرُونَ [فَرَحًا] بِقَتْلِهِ. وَبَعَثَ الْحَجَّاجُ بِرَأْسِهِ وَرَأْسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ وَرَأْسِ عِمَارَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ ذُهِبَ بِهَا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأَخَذَ جُثَّتَهُ فَصَلَبَهَا عَلَى الثَّنِيَّةِ الْيُمْنَى بِالْحَجُونِ. فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَسْمَاءُ: قَاتَلَكَ اللَّهُ! عَلَى مَاذَا صَلَبْتَهُ؟ قَالَ: اسْتَبَقْتُ أَنَا وَهُوَ إِلَى هَذِهِ الْخَشَبَةِ وَكَانَتْ لَهُ. فَاسْتَأْذَنَتْهُ فِي تَكْفِينِهِ وَدَفْنِهِ، فَأَبَى وَوَكَّلَ بِالْخَشَبَةِ مَنْ يَحْرُسُهَا، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُخْبِرُهُ بِصَلْبِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَلُومُهُ وَيَقُولُ: أَلَا خَلَّيْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ! فَأَذِنَ لَهَا الْحَجَّاجُ، فَدَفَنَتْهُ بِالْحَجُونِ، فَمَرَّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا خُبَيْبٍ! أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، وَلَقَدْ كُنْتَ صَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولًا لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ قَوْمًا أَنْتَ شَرُّهُمْ لَنِعْمَ الْقَوْمُ. وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَبْلَ قَتْلِهِ بَقِيَ أَيَّامًا يَسْتَعْمِلُ الصَّبْرَ وَالْمِسْكَ لِئَلَّا يُنْتِنَ، فَلَمَّا صُلِبَ ظَهَرَتْ مِنْهُ رَائِحَةُ الْمِسْكِ، فَقِيلَ: (إِنَّ الْحَجَّاجَ صَلَبَ مَعَهُ كَلْبًا مَيِّتًا، فَغَلَبَ عَلَى رِيحِ الْمِسْكِ، وَقِيلَ: بَلْ صَلَبَ مَعَهُ سِنَّوْرًا) . وَلَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ رَكِبَ أَخُوهُ عُرْوَةُ نَاقَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، فَسَارَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَدِمَ الشَّامَ قَبْلَ وُصُولِ رُسُلِ الْحَجَّاجِ بِقَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَتَى بَابَ عَبْدِ الْمَلِكِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَذِنَ

لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ سَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ وَرَحَّبَ بِهِ وَعَانَقَهُ، وَأَجْلَسَهُ عَلَى السَّرِيرِ، فَقَالَ عُرْوَةُ: مَتَّتْ بِأَرْحَامٍ إِلَيْكَ قَرِيبَةٍ ... وَلَا قُرْبَ لِلْأَرْحَامِ مَا لَمْ تُقَرَّبِ ثُمَّ تَحَدَّثَا حَتَّى جَرَى ذِكْرُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ عُرْوَةُ: إِنَّهُ كَانَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَمَا فَعَلَ؟ قَالَ: قُتِلَ. فَخَرَّ سَاجِدًا، فَقَالَ عُرْوَةُ: إِنَّ الْحَجَّاجَ صَلَبَهُ، فَهَبْ جُثَّتَهُ لِأُمِّهِ. قَالَ: نَعَمْ. وَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يُعَظِّمُ صَلْبَهُ. وَكَانَ الْحَجَّاجُ لَمَّا فَقَدَ عُرْوَةَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ عُرْوَةَ كَانَ مَعَ أَخِيهِ، فَلَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ أَخَذَ مَالًا مِنْ مَالِ اللَّهِ فَهَرَبَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّهُ لَمْ يَهْرَبْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي مُبَايِعًا وَقَدْ آمَنْتُهُ وَحَلَّلْتُهُ مِمَّا كَانَ، وَهُوَ قَادِمٌ عَلَيْكَ فَإِيَّاكَ وَعُرْوَةَ. وَعَادَ عُرْوَةُ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ عَنْهَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا. فَأَنْزَلَ الْحَجَّاجُ جُثَّةَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْخَشَبَةِ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ، فَغَسَّلَتْهُ، فَلَمَّا أَصَابَهُ الْمَاءُ تَقَطَّعَ، فَغَسَّلَتْهُ عُضْوًا عُضْوًا فَاسْتَمْسَكَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُرْوَةُ، فَدَفَنَتْهُ. وَقِيلَ: إِنَّ عُرْوَةَ لَمَّا كَانَ غَائِبًا عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ وَعَاوَدَهُ فِي إِنْفَاذِ عُرْوَةَ إِلَيْهِ، فَهَمَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بِإِنْفَاذِهِ فَقَالَ عُرْوَةُ: لَيْسَ الذَّلِيلُ مَنْ قَتَلْتُمُوهُ، وَلَكِنَّ الذَّلِيلَ مَنْ مَلَكْتُمُوهُ، وَلَيْسَ بِمَلُومٍ مَنْ صَبَرَ فَمَاتَ، وَلَكِنَّ الْمَلُومَ مَنْ فَرَّ مِنَ الْمَوْتِ. فَسَمِعَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لَنْ تَسْمَعَ مِنَّا شَيْئًا تَكْرَهُهُ. وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ أَحَدٌ، مَنَعَ الْحَجَّاجُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَمَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِدَفْنِهِ، وَقِيلَ: صَلَّى عَلَيْهِ غَيْرُ عُرْوَةَ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أُلْقِيَ فِي مَقَابِرِ الْيَهُودِ، وَعَاشَتْ أُمُّهُ بَعْدَهُ قَلِيلًا وَمَاتَتْ، وَكَانَتْ قَدْ أُضِرَّتْ، وَهِيَ أُمُّ عُرْوَةَ أَيْضًا. فَلَمَّا فَرَغَ الْحَجَّاجُ مِنْ أَمْرِ ابْنِ الزُّبَيْرِ دَخَلَ مَكَّةَ، فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأَمَرَ بِكَنْسِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالدَّمِ، وَسَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَقَامَ بِهَا شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ، فَأَسَاءَ إِلَى أَهْلِهَا وَاسْتَخَفَّ بِهِمْ، وَقَالَ: أَنْتُمْ قَتَلَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، وَخَتَمَ أَيْدِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالرُّصَاصِ اسْتِخْفَافًا بِهِمْ، كَمَا يُفْعَلُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ، مِنْهُمْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،

وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ حِينَ خَرَجَ مِنْهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَنِي مِنْ (أُمِّ نَتَنٍ) ، أَهْلُهَا أَخْبَثُ بَلَدٍ وَأَغَشُّهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَحْسَدُهُمْ لَهُ عَلَى نِعْمَةِ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ مَا كَانَتْ تَأْتِينِي كُتُبُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِمْ لَجَعَلْتُهَا مِثْلَ جَوْفِ الْحِمَارِ أَعْوَادًا يَعُودُونَ بِهَا، وَرِمَّةً قَدْ بَلِيَتْ، يَغُولُونَ مِنْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَبَلَغَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلُهُ فَقَالَ: إِنَّ وَرَاءَهُ مَا يَسُوءُهُ، قَدْ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا قَالَ، ثُمَّ أَخَذَهُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ أَنْظَرَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ وِلَايَةَ الْحَجَّاجِ الْمَدِينَةَ وَمَا فَعَلَهُ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ فِي صَفَرٍ. (خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَبِبَائَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ بَيْنَهُمَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُكَنَّى بِهِ وَبِأَبِي بَكْرٍ أَيْضًا) . ذِكْرُ عُمُرِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَسِيرَتِهِ كَانَ لَهُ مِنَ الْعُمُرِ حِينَ قُتِلَ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، لِأَنَّهُ بُويِعَ لَهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَتْ لَهُ جَمَّةٌ مَفْرُوقَةٌ طَوِيلَةٌ. قَالَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِذَا سَجَدَ وَقَعَتِ الْعَصَافِيرُ عَلَى ظَهْرِهِ، تَظُنُّهُ حَائِطًا لِسُكُونِهِ وَطُولِ سُجُودِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قَسَّمَ عَبْدُ اللَّهِ الدَّهْرَ ثَلَاثَ حَالَاتٍ: فَلَيْلَةٌ قَائِمٌ حَتَّى الصَّبَاحِ، وَلَيْلَةٌ رَاكِعٌ حَتَّى الصَّبَاحِ، وَلَيْلَةٌ سَاجِدٌ حَتَّى الصَّبَاحِ. وَقِيلَ: أَوَّلُ مَا عُلِمَ مِنْ هِمَّةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ وَهُوَ صَبِيٌّ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَصَاحَ عَلَيْهِمْ فَفَرُّوا، وَمَشَى ابْنُ الزُّبَيْرِ الْقَهْقَرَى وَقَالَ: يَا صِبْيَانُ، اجْعَلُونِي أَمِيرَكُمْ، وَشُدُّوا بِنَا عَلَيْهِ. فَفَعَلُوا. وَمَرَّ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَلْعَبُ، فَفَرَّ

الصِّبْيَانُ وَوَقَفَ هُوَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا لَكَ لَمْ تَفِرَّ مَعَهُمْ؟ فَقَالَ: لَمْ أُجْرِمْ فَأَخَافَكَ، وَلَمْ تَكُنِ الطَّرِيقُ ضَيِّقَةً فَأُوَسِّعَ لَكَ. وَقَالَ قَطَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُوَاصِلُ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ. قَالَ خَالِدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُفْطِرُ فِي الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَنْزِعْ (ثِيَابَهُ عَنْ ظَهْرِهِ) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَكُنْ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْعِبَادَةِ يَعْجِزُ عَنْهُ النَّاسُ إِلَّا تَكَلَّفَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَلَقَدْ جَاءَ سَيْلٌ طَبَّقَ الْبَيْتَ، فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَطُوفُ سِبَاحَةً. قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: كَانَ أَوَّلَ مَا أَفْصَحَ بِهِ عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ صَغِيرٌ - السَّيْفُ، فَكَانَ لَا يَضَعُهُ مِنْ يَدِهِ، فَكَانَ الزُّبَيْرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لَكَ مِنْهُ يَوْمٌ وَأَيَّامٌ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَا شَيْءٌ كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ كَعْبٌ إِلَّا وَقَدْ جَاءَ عَلَى مَا قَالَ إِلَّا قَوْلَهُ: فَتَى ثَقِيفٍ يَقْتُلُنِي، وَهَذَا رَأْسُهُ بَيْنَ يَدَيَّ - يَعْنِي الْمُخْتَارَ -. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: وَلَا يَشْعُرُ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْحَجَّاجَ قَدْ خُبِّئَ لَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي جَمِيلَةَ الْأَنْصَارِيُّ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ مَصْلُوبٌ بَعْدَ قَتْلِهِ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ أَبَا خُبَيْبٍ! إِنَّكَ كُنْتَ لَصَوَّامًا قَوَّامًا، وَلَقَدْ أَفْلَحَتْ قُرَيْشٌ إِنْ كُنْتَ شَرَّهَا. وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ صَلَبَهُ، ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي مَقَابِرِ الْيَهُودِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ يَسْتَحْضِرُهَا، فَلَمْ تَحْضُرْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا: لَتَأْتِيَنِّي أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ مَنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ. فَلَمْ تَأْتِهِ، فَقَامَ إِلَيْهَا. فَلَمَّا حَضَرَ قَالَ لَهَا: كَيْفَ رَأَيْتِنِي صَنَعْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَى ابْنِي دُنْيَاهُ، وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّثَنَا «أَنَّ فِي ثَقِيفٍ (كَذَّابًا وَمُبِيرًا» ، فَأَمَّا الْكَذَّابُ) فَقَدْ رَأَيْنَاهُ - تَعْنِي الْمُخْتَارَ - وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَأَنْتَ هُوَ. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ.

وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ: أَتَذْكُرُ يَوْمَ لَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا وَأَنْتَ، فَأَخَذَ ابْنَيْ فَاطِمَةَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَحَمَلَنَا وَتَرَكَكَ. وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُ هَذَا مَا سَأَلَهُ. ذِكْرُ وِلَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ الْجَزِيرَةَ وَأَرْمِينِيَّةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَخَاهُ مُحَمَّدًا عَلَى الْجَزِيرَةِ وَأَرْمِينِيَّةَ، فَغَزَا مِنْهَا وَأَثْخَنَ [فِي] الْعَدُوِّ، وَكَانَتْ بُحَيْرَةُ الطِّرِّيخِ الَّتِي بِأَرْمِينِيَّةَ مُبَاحَةً لَمْ يَعْرِضْ لَهَا أَحَدٌ، بَلْ يَأْخُذُ مِنْهَا مَنْ شَاءَ، فَمَنَعَ مِنْ صَيْدِهَا، وَجَعَلَ عَلَيْهَا مَنْ يَأْخُذُهُ وَيَبِيعُهُ وَيَأْخُذُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَهُ لِابْنِهِ مَرْوَانَ، ثُمَّ أُخِذَتْ مِنْهُ لَمَّا انْتَقَلَتِ الدَّوْلَةُ عَنْهُمْ، وَهِيَ إِلَى الْآنَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الْحَجَرِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ. وَهَذَا الطِّرِّيخُ مِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا ; لِأَنَّ سَمَكَهُ صَغِيرٌ، لَهُ كُلُّ سَنَةٍ مَوْسِمٌ، يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ فِي نَهْرٍ يَصُبُّ إِلَيْهَا كَثِيرًا، يُؤْخَذُ بِالْأَيْدِي وَالْآلَاتِ الْمَصْنُوعَةِ لَهُ، فَإِذَا انْقَضَى مَوْسِمُهُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ شَيْءٌ. ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي فُدَيْكٍ الْخَارِجِيِّ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ قَتْلَ نَجْدَةَ بْنِ عَامِرٍ الْخَارِجِيِّ وَطَاعَةَ أَصْحَابِهِ أَبَا فُدَيْكٍ، وَثَبَتَ قَدَمُ أَبِي فُدَيْكٍ إِلَى الْآنَ، فَأَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ أَنْ يَنْدُبَ النَّاسَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَيَسِيرُ إِلَى قِتَالِهِ، فَنَدَبَهُمْ وَانْتَدَبَ مَعَهُ عَشَرَةَ آلَافٍ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ، ثُمَّ سَارَ بِهِمْ، وَجَعَلَ أَهْلَ الْكُوفَةِ عَلَى الْمَيْمَنَةِ، وَعَلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأَهْلَ الْبَصْرَةِ عَلَى الْمَيْسَرَةِ وَعَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ مُوسَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي عُمَرَ، وَجَعَلَ خَيْلَهُ فِي الْقَلْبِ، وَسَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْبَحْرَيْنِ، فَالْتَقَوْا وَاصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ، فَحَمَلَ أَبُو فُدَيْكٍ وَأَصْحَابُهُ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَكَشَفُوا مَيْسَرَةَ عُمَرَ حَتَّى أَبْعَدُوا، إِلَّا الْمُغِيرَةَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَمُجَّاعَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَفُرْسَانَ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ مَالُوا إِلَى صَفِّ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِالْمَيْمَنَةِ، وَجُرِحَ عُمَرُ بْنُ مُوسَى. فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْمَيْسَرَةِ أَهْلَ الْمَيْمَنَةِ لَمْ يَنْهَزِمُوا رَجَعُوا وَقَاتَلُوا وَمَا عَلَيْهِمْ أَمِيرٌ، لِأَنَّ

أَمِيرَهُمْ عُمَرَ بْنَ مُوسَى كَانَ جَرِيحًا، فَحَمَلُوهُ مَعَهُمْ، وَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ حَتَّى دَخَلُوا عَسْكَرَ الْخَوَارِجِ، وَحَمَلَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنَ الْمَيْمَنَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَيْسَرَةِ حَتَّى اسْتَبَاحُوا عَسْكَرَهُمْ، وَقَتَلُوا أَبَا فُدَيْكٍ، وَحَصَرُوا أَصْحَابَهُ بِالْمُشَقَّرِ، فَنَزَلُوا عَلَى الْحُكْمِ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ نَحْوُ سِتَّةِ آلَافٍ وَأُسِرَ ثَمَانُمِائَةٍ، وَوَجَدُوا جَارِيَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ حُبْلَى مِنْ أَبِي فُدَيْكٍ، وَعَادُوا إِلَى الْبَصْرَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْبَصْرَةِ، وَوَلَّاهَا أَخَاهُ بِشْرًا، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، فَاجْتَمَعَ لَهُ الْمِصْرَانِ الْكُوفَةُ وَالْبَصْرَةُ، فَسَارَ بِشْرٌ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ. وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ الرُّومَ صَائِفَةً فَهَزَمَهُمْ، وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ عُثْمَانَ بْنِ الْوَلِيدِ بِالرُّومِ مِنْ نَاحِيَةِ أَرْمِينِيَّةَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَالرُّومُ فِي سِتِّينَ أَلْفًا، فَهَزَمَهُمْ وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْحَجَّاجُ، وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ وَالْيَمَنِ وَالْيَمَامَةِ. وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ، وَقِيلَ: كَانَ عَلَى الْكُوفَةِ بِشْرٌ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ بُكَيْرُ بْنُ وَسَّاجٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بِمَكَّةَ، وَدُفِنَ بِذِي طَوًى، وَقِيلَ بِفَخٍّ، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّ الْحَجَّاجَ أَمَرَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَضَرَبَ ظَهْرَ قَدَمِهِ بِزُجِّ رُمْحٍ مَسْمُومٍ، فَمَاتَ مِنْهَا، وَعَادَهُ الْحَجَّاجُ فِي مَرَضِهِ، فَقَالَ: مَنْ فَعَلَ بِكَ هَذَا؟ قَالَ: أَنْتَ ; لِأَنَّكَ أَمَرْتَ بِحَمْلِ السِّلَاحِ فِي بَلَدٍ لَا يَحِلُّ حَمْلُهُ فِيهِ. وَكَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ غَيْرُ

ذَلِكَ، وَكَانَ عُمُرُهُ سَبْعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَفِيهَا مَاتَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ. وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ. وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ. وَمَالِكُ بْنُ مِسْمَعٍ أَبُو غَسَّانَ الْبَكْرِيُّ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَوُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَتُوُفِّيَ سَلْمُ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَبِيهِ قَبْلَ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ. وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ ابْنِهَا بِقَلِيلٍ، وَكَانَتْ قَدْ عَمِيَتْ، وَكَانَتْ مُطَلَّقَةً مِنَ الزُّبَيْرِ، قِيلَ: إِنَّ ابْنَهَا عَبْدَ اللَّهِ قَالَ لَهُ: مِثْلِي لَا تُوطَأُ أُمُّهُ، فَطَلَّقَهَا. وَفِيهَا مَاتَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، وَكَانَ أَوَّلَ مَشَاهِدِهِ خَيْبَرُ. وَمُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ قَبْلَ ابْنِ عُمَرَ بِيَسِيرٍ. وَفِيهَا مَاتَ مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَلَهُ صُحْبَةٌ. وَفِيهَا قُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَلَهُ صُحْبَةٌ. رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ. وَمُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ بِضَمِّ الْحَاءِ، وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَآخِرُهُ جِيمٌ.

ثم دخلت سنة أربع وسبعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ] 74 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ طَارِقًا عَنِ الْمَدِينَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّاجَ، فَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا، وَفَعَلَ بِالصَّحَابَةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَخَرَجَ عَنْهَا مُعْتَمِرًا. وَفِيهَا هَدَمَ الْحَجَّاجُ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ الَّذِي كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَنَاهُ، وَأَعَادَهَا إِلَى الْبِنَاءِ الْأَوَّلِ، وَأَخْرَجَ الْحِجْرَ مِنْهَا، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَقُولُ: كَذَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى عَائِشَةَ فِي أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: قَالَ غَيْرُ ابْنِ الزُّبَيْرِ: إِنَّهَا رَوَتْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي تَرَكْتُهُ وَمَا يُحَمَّلُ. وَفِيهَا اسْتَقْضَى عَبْدُ الْمَلِكِ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ. ذِكْرُ وِلَايَةِ الْمُهَلَّبِ حَرْبَ الْأَزَارِقَةِ لَمَّا اسْتَعْمَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَخَاهُ بِشْرًا عَلَى الْبَصْرَةِ سَارَ إِلَيْهَا، فَأَتَاهُ كِتَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَبْعَثَ الْمُهَلَّبَ إِلَى حَرْبِ الْأَزَارِقَةِ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَوُجُوهِهِمْ، وَكَانَ يَنْتَخِبُ مِنْهُمْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتْرُكَهُ وَرَاءَهُ فِي الْحَرْبِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْعَثَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ رَجُلًا شَرِيفًا مَعْرُوفًا بِالْبَأْسِ وَالنَّجْدَةِ وَالتَّجْرِبَةِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتْبَعُوا الْخَوَارِجَ أَيْنَ كَانُوا حَتَّى يُهْلِكُوهُمْ. فَأَرْسَلَ الْمُهَلَّبُ جُدَيْعَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ قَبِيصَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْتَخِبَ النَّاسَ مِنَ الدِّيوَانِ،

وَشَقَّ عَلَى بِشْرٍ أَنَّ إِمْرَةَ الْمُهَلَّبِ جَاءَتْ مِنْ [قِبَلِ] عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَوْغَرَتْ صَدْرَهُ عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ أَذْنَبَ إِلَيْهِ، فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مِخْنَفٍ فَقَالَ لَهُ: قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَتَكَ عِنْدِي، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أُوَلِّيَكَ هَذَا الْجَيْشَ الَّذِي أُسَيِّرُهُ مِنَ الْكُوفَةِ لِلَّذِي عَرَفْتُهُ مِنْكَ، فَكُنْ عِنْدَ أَحْسَنِ ظَنِّي بِكَ، وَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْكَذَا كَذَا، يَقَعُ فِي الْمُهَلَّبِ، فَاسْتَبِدَّ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ، وَلَا تَقْبَلَنَّ لَهُ مَشُورَةً وَلَا رَأْيًا، وَتَنَقَّصْهُ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَتَرَكَ أَنْ يُوصِيَنِي بِالْجَيْشِ، وَقِتَالِ الْعَدُوِّ، وَالنَّظَرِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَأَقْبَلَ يُغْرِينِي بِابْنِ عَمِّي كَأَنِّي مِنَ السُّفَهَاءِ، مَا رَأَيْتُ شَخْصًا مِثْلِي طُمِعَ مِنْهُ فِي مِثْلِ هَذَا، قَالَ: فَلَمَّا رَأَى أَنِّي لَسْتُ بِنَشِيطٍ إِلَى جَوَابِهِ قَالَ لِي: مَا لَكَ؟ قُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، وَهَلْ يَسَعُنِي إِلَّا إِنْفَاذُ أَمْرِكَ فِيمَا أَحْبَبْتُ وَكَرِهْتُ! وَسَارَ الْمُهَلَّبُ حَتَّى نَزَلَ رَامَهُرْمُزَ، فَلَقِيَ بِهَا الْخَوَارِجَ فَخَنْدَقَ عَلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَعَهُ بِشْرُ بْنُ جَرِيرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَزَحْرُ بْنُ قَيْسٍ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى مِيلٍ مِنَ الْمُهَلَّبِ، حَيْثُ يَتَرَاءَى الْعَسْكَرَانِ بِرَامَهُرْمُزَ، فَلَمْ يَلْبَثِ الْعَسْكَرُ إِلَّا عَشْرًا حَتَّى أَتَاهُمْ نَعْيُ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ، تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ، فَتَفَرَّقَ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ، وَاسْتَخْلَفَ بِشْرٌ عَلَى الْبَصْرَةِ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، وَكَانَ خَلِيفَتَهُ عَلَى الْكُوفَةِ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ. وَكَانَ الَّذِينَ انْصَرَفُوا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ زَحْرُ بْنُ قَيْسٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ، فَأَتَوُا الْأَهْوَازَ، فَاجْتَمَعَ بِهَا نَاسٌ كَثِيرٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ يَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَيُهَدِّدُهُمْ - إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا - بِالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، وَيُحَذِّرُهُمْ عُقُوبَةَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا قَرَأَ الرَّسُولُ مِنَ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ سَطْرًا أَوْ سَطْرَيْنِ قَالَ زَحْرٌ: أَوْجِزْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ لَمْ يَلْتَفِتِ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ زَحْرٌ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى نَزَلُوا إِلَى جَانِبِ الْكُوفَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ: إِنَّ النَّفَرَ لَمَّا بَلَغَهُمْ وَفَاةُ الْأَمِيرِ تَفَرَّقُوا، فَأَقْبَلْنَا إِلَى مِصْرِنَا وَأَحْبَبْنَا أَلَّا نَدْخُلَ إِلَّا بِإِذْنِ الْأَمِيرِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ عَوْدَهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْكُوفَةِ، فَانْتَظَرُوا اللَّيْلَ ثُمَّ دَخَلُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ، فَأَقَامُوا حَتَّى قَدِمَ الْحَجَّاجُ أَمِيرًا.

ذِكْرُ عَزْلِ بُكَيْرٍ عَنْ خُرَاسَانَ، وَوِلَايَةِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بُكَيْرَ بْنَ وَسَّاجٍ عَنْ خُرَاسَانَ، وَوَلَّاهَا أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، وَكَانَتْ وِلَايَةُ بُكَيْرٍ سَنَتَيْنِ. وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ أَنَّ تَمِيمًا اخْتَلَفَتْ بِهَا، فَصَارَتْ مُقَاعِسُ وَالْبُطُونُ يَتَعَصَّبُونَ لِبَحِيرٍ، وَيَطْلُبُونَ بُكَيْرًا، وَصَارَتْ عَوْفٌ وَالْأَبْنَاءُ يَتَعَصَّبُونَ لِبُكَيْرٍ، وَكُلُّ هَذِهِ بُطُونٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَخَافَ أَهْلُ خُرَاسَانَ أَنْ تَعُودَ الْحَرْبُ وَتَفْسَدَ الْبِلَادُ وَيَقْهَرَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَكَتَبُوا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِذَلِكَ، وَأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ إِلَّا عَلَى رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ لَا يَحْسُدُونَهُ وَلَا يَتَعَصَّبُونَ عَلَيْهِ، فَاسْتَشَارَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِيمَنْ يُوَلِّيهِ، فَقَالَ أُمَيَّةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَدَارَكْهُمْ بِرَجُلٍ مِنْكَ. قَالَ: لَوْلَا انْهِزَامُكَ عَنْ أَبِي فُدَيْكٍ كُنْتَ لَهَا. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ مَا انْهَزَمْتُ حَتَّى خَذَلَنِيَ النَّاسُ، وَلَمْ أَجِدْ مُقَاتِلًا، فَرَأَيْتُ أَنَّ انْحِيَازِي إِلَى فِئَةٍ أَفْضَلُ مِنْ تَعْرِيضِي عُصْبَةً بَقِيَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلْهَلَكَةِ، وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْكَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِعُذْرِي، وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ ذَلِكَ. فَوَلَّاهُ خُرَاسَانَ. وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُحِبُّهُ، فَقَالَ النَّاسُ: مَا رَأَيْنَا أَحَدًا عُوِّضَ مِنْ هَزِيمَةٍ مَا عُوِّضَ أُمَيَّةُ. فَلَمَّا سَمِعَ بُكَيْرٌ بِمَسِيرِهِ أَرْسَلَ إِلَى بَحِيرٍ وَهُوَ فِي حَبْسِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مَقْتَلِ ابْنِ خَازِمٍ، يَطْلُبُ مِنْهُ الصُّلْحَ، فَامْتَنَعَ بَحِيرٌ وَقَالَ: ظَنَّ بُكَيْرٌ أَنَّ خُرَاسَانَ تَبْقَى لَهُ فِي الْجَمَاعَةِ. وَمَشَتِ السُّفَرَاءُ بَيْنَهُمْ، فَأَبَى ذَلِكَ بَحِيرٌ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ضِرَارُ بْنُ حُصَيْنٍ الضَّبِّيُّ فَقَالَ: أَرَاكَ أَحْمَقَ! يُرْسِلُ إِلَيْكَ ابْنُ عَمِّكَ يَعْتَذِرُ إِلَيْكَ، وَأَنْتَ أَسِيرُهُ وَالسَّيْفُ بِيَدِهِ، وَلَوْ قَتَلَكَ مَا حَبِقْتَ، فَلَا تَقْبَلُ مِنْهُ؟ ! اقْبَلِ الصُّلْحَ، وَاخْرُجْ وَأَنْتَ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكَ. فَقَبِلَ مِنْهُ وَصَالَحَ بُكَيْرًا. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بُكَيْرٌ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَأَخَذَ عَلَيْهِ أَلَّا يُقَاتِلَهُ، وَخَرَجَ بَحِيرٌ فَأَقَامَ يَسْأَلُ عَنْ مَسِيرِ أُمَيَّةَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ قَدْ قَارَبَ نَيْسَابُورَ سَارَ إِلَيْهِ وَلَقِيَهُ بِهَا، فَأَخْبَرَهُ عَنْ خُرَاسَانَ وَمَا يَحْسُنُ بِهِ طَاعَةُ أَهْلِهَا، وَرَفَعَ عَلَى بُكَيْرٍ أَمْوَالًا أَخَذَهَا، وَحَذَّرَهُ غَدْرَهُ وَسَارَ مَعَهُ حَتَّى قَدِمَ مَرْوَ، وَكَانَ أُمَيَّةُ كَرِيمًا، وَلَا يَعَرِضُ لِبُكَيْرٍ وَلَا لِعُمَّالِهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ شُرْطَتَهُ فَأَبَى، فَوَلَّاهَا بَحِيرَ بْنَ وَرْقَاءَ، فَلَامَ بُكَيْرًا رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ: كُنْتُ بِالْأَمْسِ أَمِيرًا تُحْمَلُ الْحِرَابُ بَيْنَ يَدَيَّ، فَأَصِيرُ الْيَوْمَ أَحْمِلُ الْحَرْبَةَ! ثُمَّ خَيَّرَ أُمَيَّةُ بُكَيْرًا أَنْ يُوَلِّيَهُ مَا شَاءَ مِنْ خُرَاسَانَ، فَاخْتَارَ طَخَارِسْتَانَ، قَالَ: فَتَجَهَّزَ لَهَا، فَأَنْفَقَ مَالًا كَثِيرًا. فَقَالَ بَحِيرٌ لِأُمَيَّةَ: إِنْ أَتَى طَخَارِسْتَانَ خَلَعَكَ. وَحَذَّرَهُ، فَلَمْ يُولِّهِ.

أَسِيدٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَكَسْرِ السِّينِ. وَبَحِيرٌ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِ الْحَاءِ. ذِكْرُ وِلَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ سِجِسْتَانَ لَمَّا وَصَلَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى كَرْمَانَ اسْتَعْمَلَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ عَلَى سِجِسْتَانَ، فَلَمَّا قَدِمَهَا غَزَا رُتْبِيلَ الَّذِي مَلَكَ بَعْدَ الْمَقْتُولِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ رُتْبِيلُ هَائِبًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا وَصَلَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى بُسْتٍ أَرْسَلَ رُتْبِيلُ يَطْلُبُ الصُّلْحَ وَبَذَلَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِهَدَايَا وَرَقِيقٍ، فَأَبَى عَبْدُ اللَّهِ قَبُولَ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنْ مَلَأَ لِي هَذَا الرِّوَاقَ ذَهَبًا، وَإِلَّا فَلَا صُلْحَ. وَكَانَ غِرًّا، فَخَلَى لَهُ رُتْبِيلُ الْبِلَادَ حَتَّى أَوْغَلَ فِيهَا، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الشِّعَابَ وَالْمَضَايِقَ، وَطَلَبَ أَنْ يُخَلِّيَ عَنْهُ وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَبَى رُتْبِيلُ وَقَالَ: بَلْ يَأْخُذُ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ صُلْحًا، وَيَكْتُبُ لَنَا بِهِ كِتَابًا، وَلَا يَغْزُو بِلَادَنَا مَا كُنْتُ أَمِيرًا، وَلَا يَحْرِقْ وَلَا يُخَرِّبْ. فَفَعَلَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمَلِكِ فَعَزَلَهُ. ذِكْرُ وِلَايَةِ حَسَّانَ بْنِ النُّعْمَانِ إِفْرِيقِيَّةَ قَدْ ذَكَرْنَا وِلَايَةَ زُهَيْرِ بْنِ قَيْسٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَكَانَ قَتْلُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ، فَلَمَّا عَلِمَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَتْلَهُ عَظُمَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَهَمَّهُ ذَلِكَ، وَشَغَلَهُ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، جَهَّزَ جَيْشًا كَثِيرًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى إِفْرِيقِيَّةَ حَسَّانَ بْنَ النُّعْمَانِ الْغَسَّانِيَّ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَيْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمْ يَدْخُلْ إِفْرِيقِيَّةَ قَطُّ جَيْشٌ مِثْلُهُ. فَلَمَّا وَرَدَ الْقَيْرَوَانَ تَجَهَّزَ مِنْهَا وَسَارَ إِلَى قَرْطَاجَنَّةَ، وَكَانَ صَاحِبُهَا أَعْظَمَ مُلُوكِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ قَطُّ حَارَبُوهَا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا رَأَى بِهَا مِنَ الرُّومِ وَالْبَرْبَرِ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً، فَقَاتَلَهُمْ وَحَصَرَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ كَثِيرًا، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى الْهَرَبِ، فَرَكِبُوا فِي مَرَاكِبِهِمْ، وَسَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى صِقِلِّيَةَ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَدَخَلَهَا حَسَّانُ بِالسَّيْفِ، فَسَبَى وَنَهَبَ، وَقَتَلَهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَأَرْسَلَ الْجُيُوشَ فِيمَا حَوْلَهَا، فَأَسْرَعُوا إِلَيْهِ خَوْفًا، فَأَمَرَهُمْ فَهَدَمُوا مِنْ قَرْطَاجَنَّةَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ.

ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ الرُّومَ وَالْبَرْبَرَ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ فِي صَطْفُورَةَ وَبَنْزِرْتَ، وَهُمَا مَدِينَتَانِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ، وَلَقِيَ مِنْهُمْ شِدَّةً وَقُوَّةً، فَصَبَرَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَانْهَزَمَتِ الرُّومُ وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى بِلَادِهِمْ، وَلَمْ يَتْرُكْ حَسَّانُ مَوْضِعًا مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَّا وَطِئَهُ، وَخَافَهُ أَهْلُ إِفْرِيقِيَّةَ خَوْفًا شَدِيدًا، وَلَجَأَ الْمُنْهَزِمُونَ مِنَ الرُّومِ إِلَى مَدِينَةِ بَاجَةَ، فَتَحَصَّنُوا بِهَا، وَتَحَصَّنَ الْبَرْبَرُ بِمَدِينَةِ بُونَةَ، فَعَادَ حَسَّانُ إِلَى الْقَيْرَوَانِ لِأَنَّ الْجِرَاحَ قَدْ كَثُرَتْ فِي أَصْحَابِهِ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى صَحُّوا. ذِكْرُ تَخْرِيبِ إِفْرِيقِيَّةَ لَمَّا صَلُحَ النَّاسُ قَالَ حَسَّانُ: دُلُّونِي عَلَى أَعْظَمِ مَنْ بَقِيَ مِنْ مُلُوكِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَدَلُّوهُ عَلَى امْرَأَةٍ تَمْلِكُ الْبَرْبَرَ تُعْرَفُ بِالْكَاهِنَةِ، وَكَانَتْ تُخْبِرُهُمْ بِأَشْيَاءَ مِنَ الْغَيْبِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتِ الْكَاهِنَةَ، وَكَانَتْ بَرْبَرِيَّةً، وَهِيَ بِجَبَلِ أُورَاسَ، وَقَدِ اجْتَمَعَ حَوْلَهَا الْبَرْبَرُ بَعْدَ قَتْلِ كُسَيْلَةَ، فَسَأَلَ أَهْلَ إِفْرِيقِيَّةَ عَنْهَا، فَعَظَّمُوا مَحَلَّهَا وَقَالُوا لَهُ: إِنْ قَتَلْتَهَا لَمْ تَخْتَلِفِ الْبَرْبَرُ بَعْدَهَا عَلَيْكَ. فَسَارَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا قَارَبَهَا هَدَمَتْ حِصْنَ بَاغَايَةَ ظَنًّا مِنْهَا أَنَّهُ يُرِيدُ الْحُصُونَ، فَلَمْ يُعَرِّجْ حَسَّانُ عَلَى ذَلِكَ وَسَارَ إِلَيْهَا، فَالْتَقَوْا عَلَى نَهْرِ نِينِي، وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَانْهَزَمَ حَسَّانُ وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ أَطْلَقَتْهُمُ الْكَاهِنَةُ، سِوَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ الْقَيْسِيِّ، وَكَانَ شَرِيفًا شُجَاعًا، فَاتَّخَذَتْهُ وَلَدًا. وَسَارَ حَسَّانُ حَتَّى فَارَقَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَأَقَامَ وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ الْحَالَ، فَأَمَرَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بِالْمُقَامِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ أَمْرُهُ. فَأَقَامَ بِعَمَلِ بَرْقَةَ خَمْسَ سِنِينَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَكَانُ قُصُورَ حَسَّانَ إِلَى الْآنِ، وَمَلَكَتِ الْكَاهِنَةُ إِفْرِيقِيَّةَ كُلَّهَا، وَأَسَاءَتِ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا وَعَسَفَتْهُمْ وَظَلَمَتْهُمْ. ثُمَّ سَيَّرَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ الْجُنُودَ وَالْأَمْوَالَ، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَقِتَالِ الْكَاهِنَةِ، فَأَرْسَلَ حَسَّانُ رَسُولًا سِرًّا إِلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَهُوَ عِنْدَ الْكَاهِنَةِ، بِكِتَابٍ يَسْتَعْلِمُ مِنْهُ الْأُمُورَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدٌ جَوَابَهُ فِي رُقْعَةٍ يُعَرِّفُهُ تَفَرُّقَ الْبَرْبَرِ، وَيَأْمُرُهُ بِالسُّرْعَةِ، وَجَعَلَ الرُّقْعَةَ فِي خُبْزَةٍ، وَعَادَ الرَّسُولُ، فَخَرَجَتِ الْكَاهِنَةُ نَاشِرَةً شَعْرَهَا تَقُولُ: ذَهَبَ مُلْكُهُمْ فِيمَا

يَأْكُلُ النَّاسُ. فَطُلِبَ الرَّسُولُ فَلَمْ يُوجَدْ، فَوَصَلَ إِلَى حَسَّانَ وَقَدِ احْتَرَقَ الْكِتَابُ بِالنَّارِ، فَعَادَ إِلَى خَالِدٍ وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِمَا كَتَبَ أَوَّلًا، وَأَوْدَعَهُ قَرَبُوسَ السَّرْجِ. فَسَارَ حَسَّانُ، فَلَمَّا عَلِمَتِ الْكَاهِنَةُ بِمَسِيرِهِ إِلَيْهَا قَالَتْ: إِنَّ الْعَرَبَ يُرِيدُونَ الْبِلَادَ وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نُرِيدُ الْمَزَارِعَ وَالْمَرَاعِيَ، وَلَا أَرَى إِلَّا [أَنْ] أُخَرِّبَ إِفْرِيقِيَّةَ حَتَّى يَيْأَسُوا مِنْهَا. وَفَرَّقَتْ أَصْحَابَهَا لِيُخَرِّبُوا الْبِلَادَ، فَخَرَّبُوهَا وَهَدَمُوا الْحُصُونَ وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَهَذَا هُوَ الْخَرَابُ الْأَوَّلُ لِإِفْرِيقِيَّةَ. فَلَمَّا قَرُبَ حَسَّانُ مِنَ الْبِلَادِ لَقِيَهُ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِهَا مِنَ الرُّومِ يَسْتَغِيثُونَ مِنَ الْكَاهِنَةِ، وَيَشْكُونَ إِلَيْهِ مِنْهَا، فَسَرَّهُ ذَلِكَ وَسَارَ إِلَى قَابِسَ، فَلَقِيَهُ أَهْلُهَا بِالْأَمْوَالِ وَالطَّاعَةِ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَتَحَصَّنُونَ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَجَعَلَ فِيهَا عَامِلًا، وَسَارَ إِلَى قَفْصَةَ لِيَتَقَرَّبَ الطَّرِيقَ، فَأَطَاعَهُ مَنْ بِهَا وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَعَلَى قَسْطِيلِيَةَ وَنَفْزَاوَةَ. وَبَلَغَ الْكَاهِنَةَ قُدُومُهُ، فَأَحْضَرَتْ وَلَدَيْنِ لَهَا وَخَالِدَ بْنَ يَزِيدَ، وَقَالَتْ لَهُمْ: إِنَّنِي مَقْتُولَةٌ، فَامْضُوا إِلَى حَسَّانَ، وَخُذُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْهُ أَمَانًا. فَسَارُوا إِلَيْهِ وَبَقُوا مَعَهُ، وَسَارَ حَسَّانُ نَحْوَهَا، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ الْفَنَاءُ، ثُمَّ نَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ، وَانْهَزَمَ الْبَرْبَرُ وَقُتِلُوا قَتْلًا ذَرِيعًا، وَانْهَزَمَتِ الْكَاهِنَةُ، ثُمَّ أُدْرِكَتْ فَقُتِلَتْ. ثُمَّ إِنَّ الْبَرْبَرَ اسْتَأْمَنُوا إِلَى حَسَّانَ، فَآمَنَهُمْ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ عَسْكَرٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عُدَّتَهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا يُجَاهِدُونَ الْعَدُوَّ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَجَعَلَ عَلَى هَذَا الْعَسْكَرِ ابْنَيِ الْكَاهِنَةِ. ثُمَّ فَشَا الْإِسْلَامُ فِي الْبَرْبَرِ، وَعَادَ حَسَّانُ إِلَى الْقَيْرَوَانِ فِي رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ، وَأَقَامَ لَا يُنَازِعُهُ أَحَدٌ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ. فَلَمَّا وَلِيَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَلَّى إِفْرِيقِيَّةَ عَمَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَرْوَانَ، فَعَزَلَ عَنْهَا حَسَّانَ، وَاسْتَعْمَلَ مُوسَى بْنَ نُصَيْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْكَاهِنَةَ خَرَجَتْ غَضَبًا لِقَتْلِ كُسَيْلَةَ، وَمَلَكَتْ إِفْرِيقِيَّةَ جَمِيعَهَا، وَعَمِلَتْ بِأَهْلِهَا الْأَفَاعِيلَ الْقَبِيحَةَ، وَظَلَمَتْهُمُ الظُّلْمَ الشَّنِيعَ، وَنَالَ مَنْ بِالْقَيْرَوَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَذًى شَدِيدًا بَعْدَ قَتْلِ زُهَيْرِ بْنِ قَيْسٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، فَاسْتَعْمَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ حَسَّانَ بْنَ النُّعْمَانِ، فَسَارَ فِي جُيُوشٍ كَثِيرَةٍ وَقَصَدَ الْكَاهِنَةَ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَعَادَ حَسَّانُ مُنْهَزِمًا إِلَى نَوَاحِي بَرْقَةَ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى

سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ جَيْشًا كَثِيفًا، وَأَمَرَهُ بِقَصْدِ الْكَاهِنَةِ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَقَاتَلَهَا فَهَزَمَهَا، وَقَتَلَهَا وَقَتَلَ أَوْلَادَهَا، وَعَادَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قَتَلَ الْكَاهِنَةَ عَادَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ رَجُلًا اسْمُهُ أَبُو صَالِحٍ، إِلَيْهِ يُنْسَبُ فَحْصُ صَالِحٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ حَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْمَدِينَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحٌ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ اعْتَمَرَ هَذِهِ السَّنَةَ. وَلَا يَصِحُّ. (وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ الرُّومَ صَائِفَةً، فَبَلَغَ أَنْدُولِيَّةَ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ السُّوَائِيُّ فِي إِمَارَةِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ بِالْكُوفَةِ، وَفِي إِمَارَتِهِ أَيْضًا مَاتَ أَبُو جُحَيْفَةَ بِالْكُوفَةِ. وَفِيهَا مَاتَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونَ الْأَوْدِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَهُوَ مِنَ الْمُعَمِّرِينَ. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَكَانَ مِنْ عُمَّالِ عُمَرَ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ. وَفِيهَا مَاتَ

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ التَّيْمِيُّ، وَلَهُ صُحْبَةٌ. وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ حَاطِبِ بْنِ الْحَارِثِ الْجُمَحِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ مُعَلَّى الْأَنْصَارِيُّ. وَفِيهَا مَاتَ أَوْسُ بْنُ ضَمْعَجٍ الْكُوفِيُّ. ضَمْعَجٌ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْجِيمِ.

ثم دخلت سنة خمس وسبعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ] 75 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ الصَّائِفَةَ حِينَ خَرَجَتِ الرُّومُ مِنْ قِبَلِ مَرْعَشٍ. ذِكْرُ وِلَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الْعِرَاقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ الْعِرَاقَ دُونَ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بِعَهْدِهِ عَلَى الْعِرَاقِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَسَارَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَاكِبًا عَلَى النَّجَائِبِ حَتَّى دَخَلَ الْكُوفَةَ حِينَ انْتَشَرَ النَّهَارُ، فَجْأَةً، وَقَدْ كَانَ بِشْرٌ بَعَثَ الْمُهَلَّبَ إِلَى الْخَوَارِجِ، فَبَدَأَ الْحَجَّاجُ بِالْمَسْجِدِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَهُوَ مُتَلَثِّمٌ بِعِمَامَةِ خَزٍّ حَمْرَاءَ فَقَالَ: عَلَيَّ بِالنَّاسِ، فَحَسِبُوهُ وَأَصْحَابَهُ خَارِجِيَّةً، فَهَمُّوا بِهِ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَنْتَظِرُ اجْتِمَاعَهُمْ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ وَهُوَ سَاكِتٌ قَدْ أَطَالَ السُّكُوتَ، فَتَنَاوَلَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَيْرٍ حَصْبَاءَ وَأَرَادَ [أَنْ] يَحْصِبَهُ بِهَا وَقَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ مَا أَغْبَاهُ وَأَذَمَّهُ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسَبُ خَبَرَهُ كَرُوَائِهِ. فَلَمَّا تَكَلَّمَ الْحَجَّاجُ جَعَلَتِ الْحَصْبَاءُ تَنْتَثِرُ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ بِهِ، قَالَ: ثُمَّ كَشَفَ الْحَجَّاجُ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ: أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَّاعُ الثَّنَايَا ... مَتَى أَضَعِ الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِي

أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْمِلُ الشَّرَّ مَحْمَلَهُ، وَأَحْذُوهُ بِنَعْلِهِ، وَأَجْزِيهِ بِمِثْلِهِ، وَإِنِّي لَأَرَى رُؤُوسًا قَدْ أَيْنَعَتْ وَقَدْ حَانَ قِطَافُهَا، إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى الدِّمَاءِ بَيْنَ الْعَمَائِمِ وَاللِّحَى: قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا تَشْمِيرًا ... هَذَا أَوَانُ الْحَرْبِ فَاشْتَدِّي زِيَمْ قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ ... لَيْسَ بِرَاعِي إِبِلٍ وَلَا غَنَمْ وَلَا بِجَزَّارٍ عَلَى ظَهْرِ وَضَمْ ثُمَّ قَالَ: قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِعَصْلَبِيٍّ ... أَرْوَعَ خَرَّاجٍ مِنَ الدَّوِّيِّ مُهَاجِرٍ لَيْسَ بِأَعْرَابِيِّ ... لَيْسَ أَوَانَ بَكْرَةِ الْخِلَاطِ جَاءَتْ بِهِ وَالْقُلُّصِ الْأَعْلَاطِ ... تَهْوِي هُوِيَّ سَابِقِ الْغَطَاطِ إِنِّي وَاللَّهِ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ مَا أُغْمَزُ كَتِغْمَازِ التِّينِ، وَلَا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ، وَلَقَدْ فُرِرْتُ عَنْ ذَكَاءٍ، وَجَرَيْتُ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى. ثُمَّ قَرَأَ:

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] ، وَأَنْتُمْ أُولَئِكَ وَأَشْبَاهُ أُولَئِكَ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ الْمَلِكِ نَثَرَ كِنَانَتَهُ، فَعَجَمَ عِيدَانَهَا، فَوَجَدَنِي أَمَرَّهَا عُودًا، وَأَصْلَبَهَا مَكْسَرًا، فَوَجَّهَنِي إِلَيْكُمْ، وَرَمَى بِي فِي نُحُورِكُمْ، فَإِنَّكُمْ أَهْلُ بَغْيٍ وَخِلَافٍ وَشِقَاقٍ وَنِفَاقٍ، فَإِنَّكُمْ طَالَمَا أَوْضَعْتُمْ فِي الشَّرِّ، وَسَنَنْتُمْ سُنَنَ الْغَيِّ، فَاسْتَوْثِقُوا وَاسْتَقِيمُوا، فَوَاللَّهِ لَأُذِيقَنَّكُمُ الْهَوَانَ، وَلَأُمْرِيَنَّكُمْ بِهِ حَتَّى تَدِرُّوا، وَلَأَلْحُوَنَّكُمْ لَحْوَ الْعُودِ، وَلَأَعْصُبَنَّكُمْ عَصْبَ السَّلَمَةِ حَتَّى تُذَلُّوا، وَلَأَضْرِبَنَّكُمْ ضَرْبَ غَرَائِبِ الْإِبِلِ حَتَّى تَذَرُوا الْعِصْيَانَ وَتَنْقَادُوا، وَلَأَقْرَعَنَّكُمْ قَرْعَ الْمَرْوَةِ حَتَّى تَلِينُوا، إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعِدُ إِلَّا وَفَيْتُ، وَلَا أَخْلُقُ إِلَّا فَرَيْتُ، فَإِيَّايَ وَهَذِهِ الْجَمَاعَاتِ، فَلَا يَرْكَبَنَّ رَجُلٌ إِلَّا وَحْدَهُ، أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقْبِلُنَّ عَلَى الْإِنْصَافِ، وَلَتَدَعُنَّ الْإِرْجَافَ، وَقِيلًا وَقَالًا وَمَا تَقُولُ وَمَا يَقُولُ وَأَخْبَرَنِي فُلَانٌ، أَوْ لَأَدَعَنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ شُغْلًا فِي جَسَدِهِ! فِيمَ أَنْتُمْ وَذَاكَ؟ وَاللَّهِ لَتَسْتَقِيمُنَّ عَلَى الْحَقِّ، أَوْ لَأَضْرِبَنَّكُمْ بِالسَّيْفِ ضَرْبًا يَدَعُ النِّسَاءَ أَيَامَى، وَالْوِلْدَانَ يَتَامَى، حَتَّى تَذَرُوا السُّمَّهَى، وَتُقْلِعُوا عَنْ هَا وَهَا، أَلَا إِنَّهُ لَوْ سَاغَ لِأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَتُهُمْ مَا جُبِيَ فَيْءٌ، وَلَا قُوتِلَ عَدُوٌّ، وَلَعُطِّلَتِ الثُّغُورُ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ يُغْزَوْنَ كَرْهًا مَا غُزُوا طَوْعًا! وَقَدْ بَلَغَنِي رَفْضُكُمُ الْمُهَلَّبَ، وَإِقْبَالُكُمْ عَلَى مِصْرِكُمْ عَاصِينَ مُخَالِفِينَ، وَإِنِّي

أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا أَجِدُ أَحَدًا مِنْ عَسْكَرِهِ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَأَنْهَبْتُ دَارَهُ! ثُمَّ أَمَرَ بِكِتَابِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقُرِئَ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَالَ الْقَارِئُ: أَمَّا بَعْدُ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكُمْ، قَالَ لَهُ: اقْطَعْ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبِيدَ الْعَصَا، يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَرُدُّ رَادٌّ مِنْكُمُ السَّلَامَ! أَمَا وَاللَّهِ لَأُؤَدِّبَنَّكُمْ غَيْرَ هَذَا الْأَدَبِ! ثُمَّ قَالَ لِلْقَارِئِ: اقْرَأْ، فَلَمَّا قَرَأَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ قَالُوا بِأَجْمَعِهِمْ: سَلَامُ اللَّهِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. ثُمَّ دَخَلَ مُنْزِلَهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ دَعَا الْعُرَفَاءَ وَقَالَ: أَلْحِقُوا النَّاسَ بِالْمُهَلَّبِ، وَائْتُونِي بِالْبَرَاءَاتِ بِمُوَافَاتِهِمْ، وَلَا تَغْلِقُنَّ أَبْوَابَ الْجِسْرِ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا حَتَّى تَنْقَضِيَ هَذِهِ الْمُدَّةُ. تَفْسِيرُ هَذِهِ الْخُطْبَةِ قَوْلُهُ: أَنَا ابْنُ جَلَا، فَابْنُ جَلَا هُوَ الصُّبْحُ لِأَنَّهُ يَجْلُو الظُّلْمَةَ. وَقَوْلُهُ: (فَاشْتَدِّي زِيَمْ) ، هُوَ اسْمٌ لِلْحَرْبِ. وَالْحُطَمُ: الَّذِي يَحْطِمُ كُلَّ مَا مَرَّ بِهِ. وَالْوَضَمُ: مَا وُقِيَ بِهِ اللَّحْمُ عَنِ الْأَرْضِ. وَالْعَصْلَبِيُّ: الشَّدِيدُ. وَالْأَعْلَاطُ مِنَ الْإِبِلِ: الَّتِي لَا أَرْسَانَ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: فَعَجَمَ عِيدَانَهَا، أَيْ عَضَّهَا وَاخْتَبَرَهَا. وَقَوْلُهُ: لَأَعْصِبَنَّكُمْ عَصْبَ السَّلَمَةِ، فَالْعَصْبُ الْقَطْعُ، وَالسَّلَمُ شَجَرٌ مِنَ الْعِضَاهِ. وَقَوْلُهُ: لَا أَخْلُقُ إِلَّا فَرَيْتُ، فَالْخَلْقُ التَّقْدِيرُ، وَيُقَالُ: فَرَيْتُ الْأَدِيمَ إِذَا أَصْلَحْتُهُ. وَالسُّمَّهَى: الْبَاطِلُ، وَأَصْلُهُ مَا تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ مُخَاطَ الشَّيْطَانِ. وَالْعُطَاطُ، بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَقِيلَ بِفَتْحِهَا: ضَرْبٌ مِنَ الطَّيْرِ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ سَمِعَ تَكْبِيرًا فِي السُّوقِ، فَخَرَجَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ

فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، وَأَهْلَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ، وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ! إِنِّي سَمِعْتُ تَكْبِيرًا لَيْسَ بِالتَّكْبِيرِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ التَّكْبِيرُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّرْهِيبُ، وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّهَا عَجَاجَةٌ تَحْتَهَا قَصْفٌ، يَا بَنِي اللَّكِيعَةِ وَعَبِيدَ الْعَصَا، وَأَبْنَاءَ الْأَيَامَى، أَلَا يَرْبَعُ رَجُلٌ مِنْكُمْ عَلَى ظَلْعِهِ، وَيُحْسِنُ حَقْنَ دَمِهِ، وَيَعْرِفُ مَوْضِعَ قَدَمِهِ! فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَأُوشِكُ أَنْ أُوقِعَ بِكُمْ وَقْعَةً تَكُونُ نَكَالًا لِمَا قَبْلَهَا، وَأَدَبًا لِمَا بَعْدَهَا. فَقَامَ عُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ الْحَنْظَلِيُّ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، أَنَا فِي هَذَا الْبَعْثِ، وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلِيلٌ، وَابْنِي هَذَا أَشَبُّ مِنِّي. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: هَذَا خَيْرٌ لَنَا مِنْ أَبِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ. قَالَ: أَسَمِعْتَ كَلَامَنَا بِالْأَمْسِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَسْتَ الَّذِي غَزَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ، أَفَلَا إِلَى عُثْمَانَ بُعِثْتَ بَدَلًا؟ وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ حَبَسَ أَبِي، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا. قَالَ: أَوَلَسْتَ الْقَائِلَ: هَمَمْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي ... تَرَكْتُ عَلَى عُثْمَانَ تَبْكِي حَلَائِلُهْ إِنِّي لَأَحْسَبُ أَنَّ فِي قَتْلِكَ صَلَاحَ الْمِصْرَيْنِ. وَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ رَقَبَتُهُ، وَأُنْهِبَ مَالُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ عَنْبَسَةَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَالَ لِلْحَجَّاجِ: أَتَعْرِفُ هَذَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: هَذَا أَحَدُ قَتَلَةِ عُثْمَانَ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ! أَفَلَا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بُعِثْتَ بَدِيلًا؟ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: أَلَا إِنَّ عُمَيْرَ بْنَ ضَابِئٍ أَتَى بَعْدَ ثَلَاثَةٍ، وَكَانَ سَمِعَ النِّدَاءَ فَأَمَرْنَا بِقَتْلِهِ، أَلَا إِنَّ ذِمَّةَ اللَّهِ بَرِيئَةٌ مِمَّنْ لَمْ يَأْتِ اللَّيْلَةَ مِنْ جُنْدِ الْمُهَلَّبِ. فَخَرَجَ النَّاسُ فَازْدَحَمُوا عَلَى الْجِسْرِ، وَخَرَجَ الْعُرَفَاءُ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَهُوَ بِرَامَهُرْمُزَ، فَأَخَذُوا كُتُبَهُ بِالْمُوَافَاةِ. فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: قَدِمَ الْعِرَاقَ الْيَوْمَ رَجُلٌ ذَكَرٌ، الْيَوْمَ قُوتِلَ الْعَدُوُّ. فَلَمَّا قَتَلَ الْحَجَّاجُ عُمَيْرًا لَقِيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَامِرٍ الْأَسَدِيُّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزَّبِيرِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْخَبَرِ، فَقَالَ:

أَقُولُ لِإِبْرَاهِيمَ لَمَّا لَقِيتُهُ ... أَرَى الْأَمْرَ أَضْحَى مُنْصِبًا مُتَشَعِّبَا تَجَهَّزْ وَأَسْرِعْ فَالْحَقِ الْجَيْشَ لَا أَرَى ... سِوَى الْجَيْشِ إِلَّا فِي الْمَهَالِكِ مَذْهَبَا تَخَيَّرْ فَإِمَّا أَنْ تَزُورَ ابْنَ ضَابِئٍ ... عُمَيْرًا وَإِمَّا أَنْ تَزُورَ الْمُهَلَّبَا هُمَا خُطَّتَا خَسْفٍ نَجَاؤُكَ مِنْهُمَا ... رُكُوبُكَ حَوْلِيًّا مِنَ الثَّلْجِ أَشْهَبَا فَحَالَ وَلَوْ كَانَتْ خُرَاسَانُ دُونَهُ ... رَآهَا مَكَانَ السُّوقِ أَوْ هِيَ أَقْرَبَا فَكَائِنْ تَرَى مِنْ مُكْرَهِ الْغَزْوِ مُسْمِرًا ... تَحَمَّمَ حِنْوَ السَّرْجِ حَتَّى تَحَنَّبَا تَحَمَّمَ، أَيْ لَزِمَهُ حَتَّى صَارَ كَالْحَمِيمِ. وَتَحَنَّبَ: اعْوَجَّ. وَالزَّبِيرُ هَاهُنَا بِفَتْحِ الزَّايِ وَكَسْرِ الْبَاءِ. قِيلَ: وَكَانَ قُدُومُ الْحَجَّاجِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَوَجَّهَ الْحَكَمَ بْنَ أَيُّوبَ الثَّقَفِيَّ عَلَى الْبَصْرَةِ أَمِيرًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَدَّ عَلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَبَلَغَ خَالِدًا الْخَبَرُ فَخَرَجَ عَنِ الْبَصْرَةِ، فَنَزَلَ الْجَلْحَاءَ، وَشَيَّعَهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَقَسَّمَ فِيهِمْ أَلْفَ أَلْفٍ. فَكَانَ الْحَجَّاجُ أَوَّلَ مَنْ عَاقَبَ بِالْقَتْلِ عَلَى التَّخَلُّفِ عَنِ الْوَجْهِ الَّذِي يُكْتَبُ إِلَيْهِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَخَلَّ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُكْتَبُ إِلَيْهِ زَمَنَ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ نُزِعَتْ عِمَامَتُهُ، وَيُقَامُ لِلنَّاسِ، وَيُشْهَرُ أَمْرُهُ، فَلَمَّا وَلِيَ مُصْعَبٌ قَالَ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ حَلْقَ الرُّءُوسِ وَاللِّحَى، فَلَمَّا وَلِيَ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ زَادَ فِيهِ، فَصَارَ يَرْفَعُ الرَّجُلَ عَنِ الْأَرْضِ وَيُسَمَّرُ فِي يَدَيْهِ مِسْمَارَانِ فِي حَائِطٍ، فَرُبَّمَا مَاتَ وَرُبَّمَا خَرَقَ الْمِسْمَارُ كَفَّهُ فَسَلِمَ، فَقَالَ شَاعِرٌ: لَوْلَا مَخَافَةُ بِشْرٍ أَوْ عُقُوبَتِهِ ... وَأَنْ يُنَوَّطَ فِي كَفَّيَّ مِسْمَارُ إِذًا لَعَطَّلْتُ ثَغْرِي ثُمَّ زُرْتُكُمُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يَهْوَاهُ زَوَّارُ فَلَمَّا كَانَ الْحَجَّاجُ قَالَ: هَذَا لَعِبٌ، أَضْرِبُ عُنُقَ مَنْ يَخْلُ مَكَانُهُ مِنَ الثَّغْرِ.

ذِكْرُ وِلَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَسْلَمَ السِّنْدَ وَقَتْلِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى السِّنْدِ سَعِيدَ بْنَ أَسْلَمَ بْنِ زُرْعَةَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ مُعَاوِيَةُ وَمُحَمَّدٌ ابْنَا الْحَارِثِ الْعِلَاقِيَّانِ فَقَتَلَاهُ، وَغَلَبَا عَلَى الْبِلَادِ، فَأَرْسَلَ الْحَجَّاجُ مُجَّاعَةَ بْنَ سِعْرٍ التَّمِيمِيَّ إِلَى السِّنْدِ، فَغَلَبَ عَلَى ذَلِكَ الثَّغْرِ، وَغَزَا وَفَتَحَ أَمَاكِنَ مِنْ قَنْدَابِيلَ، وَمَاتَ مُجَّاعَةُ بَعْدَ سَنَةٍ بِمُكْرَانَ، فَقِيلَ فِيهِ: مَا مِنْ مَشَاهِدِكَ الَّتِي شَاهَدْتَهَا ... إِلَّا يَزِيدُكَ ذِكْرُهَا مُجَّاعَا ذِكْرُ وُثُوبِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِالْحَجَّاجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْحَجَّاجُ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْبَصْرَةَ خَطَبَهُمْ بِمِثْلِ خُطْبَتِهِ بِالْكُوفَةِ، وَتَوَعَّدَ مَنْ رَآهُ مِنْهُمْ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ وَلَمْ يَلْحَقْ بِالْمُهَلَّبِ، فَأَتَاهُ شَرِيكُ بْنُ عَمْرٍو الْيَشْكُرِيُّ، وَكَانَ بِهِ فَتْقٌ، وَكَانَ أَعْوَرَ يَضَعُ عَلَى عَيْنِهِ قِطْعَةً، فَلُقِّبَ ذَا الْكُرْسُفَةِ، فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنَّ بِي فَتْقًا، وَقَدْ رَآهُ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ فَعَذَرَنِي، وَهَذَا عَطَائِي مَرْدُودٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ. فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، فَلَمْ يَبْقَ بِالْبَصْرَةِ أَحَدٌ مِنْ عَسْكَرِ الْمُهَلَّبِ إِلَّا لَحِقَ بِهِ. فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: لَقَدْ أَتَى الْعِرَاقَ رَجُلٌ ذَكَرٌ. وَتَتَابَعَ النَّاسُ مُزْدَحِمِينَ إِلَيْهِ حَتَّى كَثُرَ جَمْعُهُ. ثُمَّ سَارَ الْحَجَّاجُ إِلَى رُسْتَقْبَاذَ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُهَلَّبِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَشُدَّ ظَهْرَ الْمُهَلَّبِ وَأَصْحَابِهِ بِمَكَانِهِ، فَقَامَ بِرُسْتَقْبَاذَ خَطِيبًا حِينَ نَزَلَهَا فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمِصْرَيْنِ! هَذَا الْمَكَانُ وَاللَّهِ مَكَانُكُمْ شَهْرًا بَعْدَ شَهْرٍ وَسَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ، حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ عَدُوَّكُمْ هَؤُلَاءِ الْخَوَارِجَ الْمُطِلِّينَ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ إِنَّهُ خَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: إِنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي زَادَكُمْ إِيَّاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ إِنَّمَا هِيَ زِيَادَةٌ مُخْسِرَةٌ بَاطِلَةٌ [مِنْ] مُلْحِدٍ فَاسِقٍ مُنَافِقٍ، وَلَسْنَا نُجِيزُهَا! وَكَانَ مُصْعَبٌ قَدْ زَادَ النَّاسَ فِي الْعَطَاءِ مِائَةَ مِائَةٍ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَارُودِ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِزِيَادَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، إِنَّمَا هِيَ زِيَادَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ قَدْ أَنْفَذَهَا وَأَجَازَهَا عَلَى يَدِ أَخِيهِ بِشْرٍ. فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: مَا أَنْتَ

وَالْكَلَامُ! لَتُحْسِنَنَّ حَمْلَ رَأْسِكَ أَوْ لَأَسْلُبَنَّكَ إِيَّاهُ! فَقَالَ: وَلِمَ؟ إِنِّي لَكَ لَنَاصِحٌ، وَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ وَرَائِي. فَنَزَلَ الْحَجَّاجُ وَمَكَثَ أَشْهُرًا لَا يَذْكُرُ الزِّيَادَةَ، ثُمَّ أَعَادَ الْقَوْلَ فِيهَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْجَارُودِ مِثْلَ رَدِّهِ الْأَوَّلِ. فَقَامَ مَصْقَلَةُ بْنُ كَرِبٍ الْعَبْدِيُّ أَبُو رَقَبَةَ بْنُ مَصْقَلَةَ الْمُحَدِّثُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ لِلرَّعِيَّةِ أَنْ تَرُدَّ عَلَى رَاعِيهَا، وَقَدْ سَمِعْنَا مَا قَالَ الْأَمِيرُ، فَسَمْعًا وَطَاعَةً فِيمَا أَحْبَبْنَا وَكَرِهْنَا. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَارُودِ: يَا ابْنَ الْجَرْمَقَانِيَّةِ! مَا أَنْتَ وَهَذَا! وَمَتَى كَانَ مِثْلُكَ يَتَكَلَّمُ وَيَنْطِقُ فِي مِثْلِ هَذَا؟ وَأَتَى الْوُجُوهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْجَارُودِ فَصَوَّبُوا رَأْيَهُ وَقَوْلَهُ، وَقَالَ الْهُذَيْلُ بْنُ عِمْرَانَ الْبَرْجَمِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَكِيمِ بْنِ زِيَادٍ الْمُجَاشِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا: نَحْنُ مَعَكَ وَأَعْوَانُكَ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ غَيْرُ كَافٍّ حَتَّى يُنْقِصَنَا هَذِهِ الزِّيَادَةَ، فَهَلُمَّ نُبَايِعُكَ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْعِرَاقِ، ثُمَّ نَكْتُبُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ نَسْأَلُهُ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ، فَإِنْ أَبَى خَلَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ هَائِبٌ لَنَا مَا دَامَتِ الْخَوَارِجُ. فَبَايَعَهُ النَّاسُ سِرًّا وَأَعْطَوْهُ الْمَوَاثِيقَ عَلَى الْوَفَاءِ، وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضِهِمُ الْعُهُودَ. وَبَلَغَ الْحَجَّاجَ مَا هُمْ فِيهِ فَأَحْرَزَ بَيْتَ الْمَالِ وَاحْتَاطَ فِيهِ. فَلَمَّا تَمَّ لَهُمْ أَمْرُهُمْ أَظْهَرُوهُ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَارُودِ عَبْدَ الْقَيْسِ عَلَى رَايَاتِهِمْ، وَخَرَجَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى بَقِيَ الْحَجَّاجُ وَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا خَاصَّتُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، فَخَرَجُوا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَقَطَعَ ابْنُ الْجَارُودِ وَمَنْ مَعَهُ الْجِسْرَ، وَكَانَتْ خَزَائِنُ الْحَجَّاجِ وَالسِّلَاحُ مِنْ وَرَائِهِ. فَأَرْسَلَ الْحَجَّاجُ أَعْيَنَ، صَاحِبَ حَمَّامِ أَعْيَنَ بِالْكُوفَةِ، إِلَى ابْنِ الْجَارُودِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ الْجَارُودِ: وَمَنِ الْأَمِيرُ! لَا وَلَا كَرَامَةَ لِابْنِ أَبِي رِغَالٍ! وَلَكِنْ لِيَخْرُجَ عَنَّا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، وَإِلَّا قَاتَلْنَاهُ! فَقَالَ أَعْيَنُ: فَإِنَّهُ يَقُولُ لَكَ: أَتَطِيبُ نَفْسًا بِقَتْلِكَ وَقَتْلِ أَهْلِ بَيْتِكَ وَعَشِيرَتِكَ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ لَمْ يَأْتِنِي لَأَدَعَنَّ قَوْمَكَ عَامَّةً وَأَهْلَكَ خَاصَّةً حَدِيثًا لِلْغَابِرِينَ. وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ حَمَّلَ أَعْيَنَ هَذِهِ الرِّسَالَةَ. فَقَالَ ابْنُ الْجَارُودِ: لَوْلَا أَنَّكَ رَسُولٌ لَقَتَلْتُكَ يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ! وَأَمَرَ فَوُجِئَ فِي عُنُقِهِ، وَأُخْرِجَ. وَاجْتَمَعَ النَّاسُ لِابْنِ الْجَارُودِ، فَأَقْبَلَ بِهِمْ زَحْفًا نَحْوَ الْحَجَّاجِ، وَكَانَ رَأْيُهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهُ عَنْهُمْ وَلَا يُقَاتِلُوهُ، فَلَمَّا صَارُوا إِلَيْهِ نَهَبُوهُ فِي فُسْطَاطِهِ، وَأَخَذُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ مَتَاعِهِ وَدَوَابِّهِ، وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ فَأَخَذُوا امْرَأَتَهُ ابْنَةَ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَجَاءَتْ مُضَرُ، فَأَخَذُوا امْرَأَتَهُ الْأُخْرَى أُمَّ سَلَمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو أَخِي سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو. فَخَافَهُ

السُّفَهَاءُ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ انْصَرَفُوا عَنِ الْحَجَّاجِ وَتَرَكُوهُ، فَأَتَاهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَصَارُوا مَعَهُ خَائِفِينَ مِنْ مُحَارَبَةِ الْخَلِيفَةِ. فَجَعَلَ الْغَضْبَانُ بْنُ الْقَبَعْثَرَى الشَّيْبَانِيُّ يَقُولُ لِابْنِ الْجَارُودِ: تَعَشَّ بِالْجَدْيِ قَبْلَ أَنْ يَتَغَدَّى بِكَ، أَمَا تَرَى مَنْ قَدْ أَتَاهُ مِنْكُمْ؟ وَلَئِنْ أَصْبَحَ لَيَكْثُرَنَ نَاصِرُهُ، وَلَتَضْعُفَنَّ مُنَّتُكُمْ! فَقَالَ: قَدْ قَرُبَ الْمَسَاءُ، وَلَكِنَّا نُعَاجِلُهُ بِالْغَدَاةِ. وَكَانَ مَعَ الْحَجَّاجِ عُثْمَانُ بْنُ قَطَنٍ، وَزِيَادُ بْنُ عَمْرٍو الْعَتَكِيُّ، وَكَانَ زِيَادٌ عَلَى شُرْطَةِ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَا تَرَيَانِ؟ أَنْ آخُذَ لَكَ مِنَ الْقَوْمِ أَمَانًا، وَتَخْرُجَ حَتَّى تَلْحَقَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدَ ارْفَضَّ أَكْثَرُ النَّاسِ عَنْكَ، وَلَا أَرَى لَكَ أَنْ تُقَاتِلَ بِمَنْ مَعَكَ. فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ قَطَنٍ الْحَارِثِيُّ: لَكِنِّي لَا أَرَى ذَلِكَ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ شَرِكَكَ فِي أَمْرِكَ، وَخَلَطَكَ بِنَفْسِهِ، وَاسْتَنْصَحَكَ وَسَلَّطَكَ، فَسِرْتَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ أَعْظَمُ النَّاسِ خَطَرًا، فَقَتَلْتَهُ، فَوَلَّاكَ اللَّهُ شَرَفَ ذَلِكَ وَسَنَاهُ، وَوَلَّاكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْحِجَازَ، ثُمَّ رُفِعْتَ فَوَلَّاكَ الْعِرَاقَيْنِ، فَحَيْثُ جَرَيْتَ إِلَى الْمَدَى، وَأَصَبْتَ الْغَرَضَ الْأَقْصَى، تَخْرُجُ عَلَى قَعُودٍ إِلَى الشَّامِ، وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لَا نِلْتَ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ مِثْلَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانٍ أَبَدًا، وَلَيَتَّضِعَنَّ شَأْنُكَ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ نَمْشِيَ بِسُيُوفِنَا مَعَكَ فَنُقَاتِلُ حَتَّى نَلْقَى ظَفَرًا، أَوْ نَمُوتَ كِرَامًا. فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: الرَّأْيُ مَا رَأَيْتَ. وَحَفِظَ هَذَا لِعُثْمَانَ، وَحَقَدَهَا عَلَى زِيَادِ بْنِ عَمْرٍو. وَجَاءَ عَامِلُ ابْنِ مِسْمَعٍ إِلَى الْحَجَّاجِ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَخَذْتُ لَكَ أَمَانًا مِنَ النَّاسِ، فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ لِيَسْمَعَ النَّاسُ وَيَقُولَ: وَاللَّهِ لَا أُؤَمِّنُهُمْ أَبَدًا حَتَّى يَأْتُوا بِالْهُذَيْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمٍ. وَأَرْسَلَ إِلَى عُبَيْدِ بْنِ كَعْبٍ النُّمَيْرِيِّ يَقُولُ: هَلُمَّ إِلَيَّ فَامْنَعْنِي. فَقَالَ: قُلْ لَهُ: إِنْ أَتَيْتَنِي مَنَعْتُكَ. فَقَالَ: لَا وَلَا كَرَامَةَ! وَبَعَثَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عُطَارِدٍ كَذَلِكَ، فَأَجَابَهُ مِثْلَ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: لَا نَاقَتِي فِي هَذَا وَلَا جَمَلِي. وَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمٍ الْمُجَاشِعِيِّ فَأَجَابَهُ كَذَلِكَ أَيْضًا. وَمَرَّ عَبَّادُ بْنُ الْحُصَيْنِ الْحَبَطِيُّ بِابْنِ الْجَارُودِ وَابْنِ الْهُذَيْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمٍ وَهُمْ يَتَنَاجَوْنَ، فَقَالَ: أَشْرِكُونَا فِي نَجْوَاكُمْ. فَقَالُوا: هَيْهَاتَ أَنْ يَدْخُلَ فِي نَجْوَانَا أَحَدٌ مِنْ

بَنِي الْحَبَطِ! فَغَضِبَ وَصَارَ إِلَى الْحَجَّاجِ فِي مِائَةِ رَجُلٍ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: مَا أُبَالِي مَنْ تَخَلَّفَ بَعْدَكَ. وَسَعَى قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ فِي قَوْمِهِ فِي بَنِي أَعْصُرَ؟ وَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا نَدَعُ قَيْسًا يُقْتَلُ وَلَا يُنْهَبُ مَالُهُ، يَعْنِي الْحَجَّاجَ، وَأَقْبَلَ إِلَى الْحَجَّاجِ. وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ، فَلَمَّا جَاءَهُ هَؤُلَاءِ اطْمَأَنَّ، ثُمَّ جَاءَهُ سَبْرَةُ بْنُ عَلِيٍّ الْكِلَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ زُرْعَةَ الْكِلَابِيُّ فَسَلَّمَ، فَأَدْنَاهُ مِنْهُ، وَأَتَاهُ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ الْأَزْدِيُّ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مِسْمَعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ مِسْمَعٍ: إِنْ شِئْتَ أَتَيْتُكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَقَمْتُ وَثَبَّطْتُ النَّاسَ عَنْكَ. فَقَالَ: أَقِمْ وَثَبِّطِ النَّاسَ عَنِّي. فَلَمَّا اجْتَمَعَ إِلَى الْحَجَّاجِ جَمْعٌ يُمْنَعُ بِمِثْلِهِمْ، خَرَجَ فَعَبَّأَ أَصْحَابَهُ، وَتَلَاحَقَ النَّاسُ بِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ إِذَا حَوْلَهُ نَحْوُ سِتَّةِ آلَافٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. فَقَالَ ابْنُ الْجَارُودِ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانِ: مَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: تَرَكْتَ الرَّأْيَ أَمْسِ حِينَ قَالَ لَكَ الْغَضْبَانُ تَعَشَّ بِالْجَدْيِ قَبْلَ أَنْ يَتَغَدَّى بِكَ، وَقَدْ ذَهَبَ الرَّأْيُ وَبَقِيَ الصَّبْرُ. فَدَعَا ابْنُ الْجَارُودِ بِدِرْعٍ فَلَبِسَهَا مَقْلُوبَةً، فَتَطَيَّرَ. وَحَرَّضَ الْحَجَّاجُ أَصْحَابَهُ وَقَالَ: لَا يَهُولَنَّكُمْ مَا تَرَوْنَ مِنْ كَثْرَتِهِمْ. وَتَزَاحَفَ الْقَوْمُ وَعَلَى مَيْمَنَةِ ابْنِ الْجَارُودِ الْهُذَيْلُ بْنُ عِمْرَانَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ، وَعَلَى مَيْمَنَةِ الْحَجَّاجِ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَيُقَالُ عَبَّادُ بْنُ الْحُصَيْنِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ سَعِيدُ بْنُ أَسْلَمَ، فَحَمَلَ ابْنُ الْجَارُودِ فِي أَصْحَابِهِ حَتَّى جَازَ أَصْحَابَ الْحَجَّاجِ، فَعَطَفَ الْحَجَّاجُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا سَاعَةً، وَكَادَ ابْنُ الْجَارُودِ يَظْفَرُ، فَأَتَاهُ سَهْمُ غَرْبٍ فَأَصَابَهُ فَوَقَعَ مَيِّتًا. وَنَادَى مُنَادِي الْحَجَّاجِ بِأَمَانِ النَّاسِ إِلَّا الْهُذَيْلَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَكِيمٍ، وَأَمَرَ أَنْ لَا يُتْبَعَ الْمُنْهَزِمُونَ، وَقَالَ: الِاتِّبَاعُ مِنْ سُوءِ الْغَلَبَةِ. فَانْهَزَمَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ، وَأَتَى سَعِيدَ بْنَ عِيَاذِ بْنِ الْجُلُنْدِيِّ الْأَزْدِيَّ بِعُمَانَ، فَقِيلَ لِسَعِيدٍ: إِنَّهُ رَجُلٌ فَاتِكٌ فَاحْذَرْهُ، فَلَمَّا جَاءَ الْبِطِّيخُ بَعَثَ إِلَيْهِ بِنِصْفِ بِطِّيخَةٍ مَسْمُومَةٍ وَقَالَ: هَذَا أَوَّلُ شَيْءٍ جَاءَ مِنَ الْبِطِّيخِ، وَقَدْ أَكَلْتُ نِصْفَ بِطِّيخَةٍ وَبَعَثْتُ بِنِصْفِهَا، فَأَكَلَهَا عُبَيْدُ اللَّهِ فَأَحَسَّ بِالشَّرِّ، فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَقْتُلَهُ فَقَتَلَنِي. وَحُمِلَ رَأْسُ ابْنِ الْجَارُودِ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَأْسًا مِنْ وُجُوهِ أَصْحَابِهِ إِلَى الْمُهَلَّبِ، فَنُصِبَتْ لِيَرَاهَا الْخَوَارِجُ وَيَيْأَسُوا مِنَ الِاخْتِلَافِ. وَحَبَسَ الْحَجَّاجُ عُبَيْدَ بْنَ كَعْبٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عُمَيْرٍ ; حَيْثُ قَالَا لِلْحَجَّاجِ: تَأْتِينَا

لِنَمْنَعَكَ. وَحَبَسَ الْغَضْبَانَ بْنَ الْقَبَعْثَرَى وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الْقَائِلُ تَعَشَّ بِالْجَدْيِ قَبْلَ أَنْ يَتَغَدَّى بِكَ؟ فَقَالَ: مَا نُفِعْتُ مِنْ قِيلَتِي لَهُ، وَلَا ضُرِرْتُ مِنْ قِيلَتِي فِيكَ. فَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ بِإِطْلَاقِهِ. وَقُتِلَ مَعَ ابْنِ الْجَارُودِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَلَا أَرَى أَنَسًا يُعِينُ عَلَيَّ! فَلَمَّا دَخَلَ الْبَصْرَةَ أَخَذَ مَالَهُ، فَحِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ أَنَسٌ قَالَ: لَا مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا بِكَ يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ! شَيْخُ ضَلَالَةٍ، جَوَّالٌ فِي الْفِتَنِ، مَرَّةً مَعَ أَبِي تُرَابٍ، وَمَرَّةً مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَرَّةً مَعَ ابْنِ الْجَارُودِ! أَمَا وَاللَّهِ لَأُجَرِّدَنَّكَ جَرْدَ الْقَضِيبِ، وَلَأَعْصِبَنَّكَ عَصْبَ السَّلَمَةِ، وَلَأَقْلَعَنَّكَ قَلْعَ الصَّمْغَةِ! فَقَالَ أَنَسٌ: مَنْ يَعْنِي الْأَمِيرُ؟ قَالَ إِيَّاكَ أَعْنِي،، أَصَمَّ اللَّهُ صَدَاكَ! فَرَجَعَ أَنَسٌ فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ كِتَابًا يَشْكُو فِيهِ الْحَجَّاجَ وَمَا صَنَعَ بِهِ. فَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ: أَمَّا بَعْدُ، يَا ابْنَ أُمِّ الْحَجَّاجِ، فَإِنَّكَ عَبْدٌ طَمَتْ بِكَ الْأُمُورُ، فَعَلَوْتَ فِيهَا حَتَّى عَدَوْتَ طَوْرَكَ، وَجَاوَزْتَ قَدْرَكَ، يَا ابْنَ الْمُسْتَفْرِمَةِ بِعَجَمِ الزَّبِيبِ، لَأَغْمِزَنَّكَ غَمْزَةً كَبَعْضِ غَمَزَاتِ اللُّيُوثِ الثَّعَالِبَ، وَلَأَخْبِطَنَّكَ خَبْطَةً تَوَدُّ لَهَا أَنَّكَ رَجَعْتَ فِي مَخْرَجِكَ مِنْ بَطْنِ أُمِّكَ، أَمَا تَذْكُرُ حَالَ آبَائِكَ فِي الطَّائِفِ حَيْثُ كَانُوا يَنْقُلُونَ الْحِجَارَةَ عَلَى ظُهُورِهِمْ، وَيَحْتَفِرُونَ الْآبَارَ بِأَيْدِيهِمْ فِي أَوْدِيَتِهِمْ وَمِيَاهِهِمْ؟ أَنَسِيتَ حَالَ آبَائِكَ فِي اللُّؤْمِ وَالدَّنَاءَةِ فِي الْمُرُوَّةِ وَالْخُلُقِ؟ وَقَدْ بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي كَانَ مِنْكَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ جُرْأَةً وَإِقْدَامًا، وَأَظُنُّكَ أَرَدْتَ أَنْ تَسْبُرَ مَا عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَمْرِهِ، فَتَعْلَمَ إِنْكَارَهُ ذَلِكَ وَإِغْضَاءَهُ عَنْكَ، فَإِنْ سَوَّغَكَ مَا كَانَ مِنْكَ مَضَيْتَ عَلَيْهِ قُدُمًا، فَعَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ مِنْ عِنْدِ أَخْفَشِ الْعَيْنَيْنِ، أَصَكِّ الرِّجْلَيْنِ، مَمْسُوحِ الْجَاعِرَتَيْنِ! وَلَوْلَا أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَظُنُّ أَنَّ الْكَاتِبَ أَكْثَرَ فِي الْكِتَابَةِ عَنِ الشَّيْخِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِيكَ لَأَرْسَلَ مَنْ يَسْحَبُكَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، حَتَّى يَأْتِيَ بِكَ أَنَسًا فَيَحْكُمُ فِيكَ، فَأَكْرِمْ أَنَسًا وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَاعْرِفْ لَهُ حَقَّهُ وَخِدْمَتَهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تُقَصِّرَنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ حَوَائِجِهِ، وَلَا يَبْلُغَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْكَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ فِيهِ إِلَيْكَ مِنْ

أَمْرِ أَنَسٍ وَبِرِّهِ وَإِكْرَامِهِ، فَيَبْعَثُ إِلَيْكَ مَنْ يَضْرِبُ ظَهْرَكَ، وَيَهْتِكُ سِتْرَكَ، وَيُشْمِتُ بِكَ عَدُوَّكَ، وَالْقَهُ فِي مَنْزِلِهِ مُتَنَصِّلًا إِلَيْهِ، وَلْيَكْتُبْ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِرِضَاهُ عَنْكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالسَّلَامُ. وَبَعَثَ بِالْكِتَابِ مَعَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، فَأَتَى إِسْمَاعِيلُ أَنَسًا بِكِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ فَقَرَأَهُ، وَأَتَى الْحَجَّاجَ بِالْكِتَابِ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ يَقْرَؤُهُ وَوَجْهُهُ يَتَغَيَّرُ وَيَتَغَبَّرُ، وَجَبِينُهُ يَرْشَحُ عَرَقًا وَيَقُولُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ اجْتَمَعَ بِأَنَسٍ، فَرَحَّبَ بِهِ الْحَجَّاجُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَعْلَمَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إِذْ كَانَ مِنَ ابْنِكَ مَا كَانَ، وَإِذْ بَلَغْتُ مِنْكَ مَا بَلَغْتُ - أَنِّي إِلَيْهِمْ بِالْعُقُوبَةِ أَسْرَعُ. فَقَالَ أَنَسٌ: مَا شَكَوْتُ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، وَحَتَّى زَعَمْتَ أَنَّا الْأَشْرَارُ وَقَدْ سَمَّانَا اللَّهُ الْأَنْصَارَ، وَزَعَمْتَ أَنَّا أَهْلُ النِّفَاقِ وَنَحْنُ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ، وَسَيَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، فَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى التَّغْيِيرِ، لَا يُشْبِهُ الْحَقُّ عِنْدَهُ الْبَاطِلَ، وَلَا الصِّدْقُ الْكَذِبَ، وَزَعَمْتَ أَنَّكَ اتَّخَذْتَنِي ذَرِيعَةً وَسُلَّمًا إِلَى مَسَاءَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِاسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنِّي، وَلَمْ يَكُنْ لِي عَلَيْكَ قُوَّةٌ، فَوَكَّلْتُكَ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَحَفِظَ مِنْ حَقِّي مَا لَمْ تَحْفَظْ، فَوَاللَّهِ لَوْ أَنَّ النَّصَارَى عَلَى كُفْرِهِمْ رَأَوْا رَجُلًا خَدَمَ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ يَوْمًا وَاحِدًا، لَعَرَفُوا مِنْ حَقِّهِ مَا لَمْ تَعْرِفْ أَنْتَ مِنْ حَقِّي، وَقَدْ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ سِنِينَ. وَبَعْدُ فَإِنْ رَأَيْنَا خَيْرًا حَمِدْنَا اللَّهَ عَلَيْهِ وَأَثْنَيْنَا، وَإِنْ رَأَيْنَا غَيْرَ ذَلِكَ صَبَرْنَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَرَدَّ عَلَيْهِ الْحَجَّاجُ مَا كَانَ أَخَذَ مِنْهُ. ذِكْرُ شِيرَ زَنْجِي وَالزَّنْجِ مَعَهُ اجْتَمَعَ الزَّنْجُ بِفُرَاتِ الْبَصْرَةِ فِي آخِرِ أَيَّامِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَمْ يَكُونُوا بِالْكَثِيرِ، فَأَفْسَدُوا وَتَنَاوَلُوا الثِّمَارَ، وَوَلِيَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ الْبَصْرَةَ وَقَدْ كَثُرُوا، فَشَكَا النَّاسُ إِلَيْهِ مَا نَالَهُمْ مِنْهُمْ، فَجَمَعَ لَهُمْ جَيْشًا، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ تَفَرَّقُوا، وَأَخَذَ بَعْضَهُمْ فَقَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ ابْنِ الْجَارُودِ مَا ذَكَرْنَا خَرَجَ الزَّنْجُ أَيْضًا، فَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِالْفُرَاتِ، وَجَعَلُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا اسْمُهُ رَبَاحٌ، وَيُلَقَّبُ شِيرَ زَنْجِي، يَعْنِي أَسَدَ الزَّنْجِ،

فَأَفْسَدُوا، فَلَمَّا فَرَغَ الْحَجَّاجُ مِنَ ابْنِ الْجَارُودِ أَمَرَ زِيَادَ بْنَ عَمْرٍو، وَهُوَ عَلَى شُرْطَةِ الْبَصْرَةِ، أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا يُقَاتِلُهُمْ، فَفَعَلَ وَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا عَلَيْهِ ابْنُهُ حَفْصُ بْنُ زِيَادٍ، فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلُوهُ وَهَزَمُوا أَصْحَابَهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا آخَرَ، فَهَزَمَ الزَّنْجَ وَقَتَلَهُمْ، وَاسْتَقَامَتِ الْبَصْرَةُ. ذِكْرُ إِجْلَاءِ الْخَوَارِجِ عَنْ رَامَهُرْمُزَ وَقَتْلِ ابْنِ مِخْنَفٍ لَمَّا أَتَى كِتَابُ الْحَجَّاجِ إِلَى الْمُهَلَّبِ وَابْنِ مِخْنَفٍ يَأْمُرُهُمَا بِمُنَاهَضَةِ الْخَوَارِجِ، زَحَفُوا إِلَيْهِمْ، وَقَاتَلُوهُمْ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ، فَانْهَزَمَتِ الْخَوَارِجُ كَأَنَّهُمْ عَلَى حَامِيَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ قِتَالٌ، وَسَارَ الْخَوَارِجُ حَتَّى نَزَلُوا كَازَرُونَ، وَسَارَ الْمُهَلَّبُ وَابْنُ مِخْنَفٍ حَتَّى نَزَلُوا بِهِمْ، وَخَنْدَقَ الْمُهَلَّبُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ لِابْنِ مِخْنَفٍ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُخَنْدِقَ عَلَيْكَ فَافْعَلْ. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: نَحْنُ خَنْدَقْنَا سُيُوفَنَا. فَأَتَى الْخَوَارِجُ الْمُهَلَّبَ لِيُبَيِّتُوهُ، فَوَجَدُوهُ قَدْ تَحَرَّزَ، فَمَالُوا نَحْوَ ابْنِ مِخْنَفٍ، فَوَجَدُوهُ لَمْ يُخَنْدِقْ فَقَاتَلُوهُ، فَانْهَزَمَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، فَنَزَلَ فَقَاتَلَ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقُتِلَ وَقُتِلُوا [حَوْلَهُ] ، فَقَالَ شَاعِرُهُمْ: لِمَنِ الْعَسْكَرُ الْمُكَلَّلُ بِالصَّرْ ... عَى فَهُمْ بَيْنَ مَيِّتٍ وَقَتِيلِ فَتَرَاهُمْ تَسْفِي الرِّيَاحُ عَلَيْهِمْ ... حَاصِبَ الرَّمْلِ بَعْدَ جَرِّ الذُّيُولِ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. فَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ كِتَابُ الْحَجَّاجِ بِمُنَاهَضَةِ الْخَوَارِجِ نَاهَضَهُمُ الْمُهَلَّبُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَمَالَتِ الْخَوَارِجُ إِلَى الْمُهَلَّبِ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى عَسْكَرِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَدَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِالْخَيْلِ وَالرِّجَالِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الظُّهْرِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَرَأَتِ الْخَوَارِجُ مَا يَجِيءُ مِنْ عَسْكَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنَ الرِّجَالِ، ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ خَفَّ أَصْحَابُهُ، فَجَعَلُوا بِإِزَاءِ الْمُهَلَّبِ مَنْ يَشْغَلُهُ، وَانْصَرَفُوا بِجُنْدِهِمْ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ قَصَدُوهُ نَزَلَ وَنَزَلَ مَعَهُ الْقُرَّاءُ، مِنْهُمْ: أَبُو الْأَحْوَصِ، صَاحِبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَخُزَيْمَةُ بْنُ نَصْرٍ أَبُو نَصْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ الْعَبْسِيُّ، الَّذِي قُتِلَ مَعَ زَيْدِ بْنِ

عَلِيٍّ، وَصُلِبَ مَعَهُ بِالْكُوفَةِ، وَنَزَلَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ أَحَدٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا، وَحَمَلَتْ عَلَيْهِمُ الْخَوَارِجُ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْكَشَفَ النَّاسُ عَنْهُ، وَبَقِيَ فِي عِصَابَةٍ مِنْ أَهْلِ الصَّبْرِ ثَبَتُوا مَعَهُ، وَكَانَ ابْنُهُ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِيمَنْ بَعَثَهُ إِلَى الْمُهَلَّبِ، فَنَادَى فِي النَّاسِ لِيَتْبَعُوهُ إِلَى أَبِيهِ، فَلَمْ يَتْبَعْهُ إِلَّا نَاسٌ قَلِيلٌ، فَجَاءَ حَتَّى دَنَا مِنْ أَبِيهِ، فَحَالَتِ الْخَوَارِجُ بَيْنَهُمَا، فَقَاتَلَ حَتَّى جُرِحَ. وَقَاتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى تَلٍّ مُشْرِفٍ، حَتَّى ذَهَبَ نَحْوٌ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قُتِلَ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَاءَ الْمُهَلَّبُ فَدَفَنَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِذَلِكَ فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَذَمَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ. وَبَعَثَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَسْكَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْمَعَ لِلْمُهَلَّبِ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ طَاعَتِهِ، فَجَاءَ إِلَى الْعَسْكَرِ، وَقَاتَلَ الْخَوَارِجَ وَأَمْرُهُ إِلَى الْمُهَلَّبِ وَهُوَ يَقْضِي أُمُورَهُ، وَلَا يَكَادُ يَسْتَشِيرُ الْمُهَلَّبَ. فَوَضَعَ عَلَيْهِ الْمُهَلَّبُ رِجَالًا اصْطَنَعَهُمْ وَأَغْرَاهُمْ بِهِ، مِنْهُمْ بِسْطَامُ بْنُ مَصْقَلَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ. وَجَرَى بَيْنَ عَتَّابٍ وَالْمُهَلَّبِ ذَاتَ يَوْمٍ كَلَامٌ أَغْلَظَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَرَفَعَ الْمُهَلَّبُ الْقَضِيبَ عَلَى عَتَّابٍ، فَوَثَبَ إِلَيْهِ ابْنُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، فَقَبَضَ الْقَضِيبَ وَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ! شَيْخٌ مِنْ أَشْيَاخِ الْعَرَبِ، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، إِنْ سَمِعْتَ [مِنْهُ] بَعْضَ مَا تَكْرَهُ، فَاحْتَمِلْهُ لَهُ فَإِنَّهُ لِذَلِكَ أَهْلٌ. فَفَعَلَ، فَافْتَرَقَا، فَأَرْسَلَ عَتَّابٌ إِلَى الْحَجَّاجِ يَشْكُو الْمُهَلَّبَ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ حَاجَةً مِنَ الْحَجَّاجِ إِلَيْهِ فِيمَا لَقِيَ أَشْرَافُ الْكُوفَةِ مِنْ شَبِيبٍ، فَاسْتَقْدَمَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ الْجَيْشَ مَعَ الْمُهَلَّبِ، فَجَعَلَ الْمُهَلَّبُ عَلَيْهِمُ ابْنَهُ حَبِيبًا. وَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ الْبَارِقِيُّ يَرْثِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مِخْنَفٍ: ثَوَى سَيِّدُ الْأَزْدَيْنِ أَزْدِ شَنُوءَةَ ... وَأَزْدِ عُمَانَ رَهْنَ رَمْسٍ بِكَازِرِ وَضَارَبَ حَتَّى مَاتَ أَكْرَمَ مِيتَةٍ ... بِأَبْيَضَ صَافٍ كَالْعَقِيقَةِ بَاتِرِ وَصُرِّعَ عِنْدَ التَّلِّ تَحْتَ لِوَائِهِ ... كِرَامُ الْمَسَاعِي مِنْ كِرَامِ الْمَعَاشِرِ

قَضَى نَحْبَهُ يَوْمَ اللِّقَاءِ ابْنُ مِخْنَفٍ ... وَأَدْبَرَ عَنْهُ كُلُّ أَلْوَثَ دَاثِرِ أَمَدَّ وَلَمْ يُمْدَدْ فَرَاحَ مُشَمِّرًا ... إِلَى اللَّهِ لَمْ يَذْهَبْ بِأَثْوَابِ غَادِرِ وَأَقَامَ الْمُهَلَّبُ بِسَابُورَ يُقَاتِلُهُمْ نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَحَرَّكَ صَالِحُ بْنُ مُسَرَّحٍ أَحَدُ بَنِي امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ مِنْ تَمِيمٍ، وَكَانَ يَرَى رَأْيَ الصُّفْرِيَّةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَرَجَ فِيهِمْ، وَحَجَّ هَذِهِ السَّنَةَ وَمَعَهُ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ، وَسُوَيْدٌ، وَالْبَطِينُ، وَأَشْبَاهُهُمْ، وَحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الْمَلِكِبْنُ مَرْوَانَ، فَهَمَّ شَبِيبٌ أَنْ يَفْتِكَ بِهِ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ خَبَرِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ يَأْمُرُهُ بِطَلَبِهِمْ، وَكَانَ شَيْخًا صَالِحًا يَأْتِي الْكُوفَةَ، فَيُقِيمُ بِهَا الشَّهْرَ وَنَحْوَهُ، فَيَلْقَى أَصْحَابَهُ وَيُعِدُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا طَلَبَهُ الْحَجَّاجُ نَبَتْ بِهِ الْكُوفَةُ، فَتَرَكَهَا. وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ الصَّائِفَةَ عِنْدَ خُرُوجِ الرُّومِ إِلَى الْعُمْقِ مِنْ نَاحِيَةِ مَرْعَشٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَخَطَبَ النَّاسَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي لَسْتُ بِالْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضْعَفِ، يَعْنِي عُثْمَانَ، وَلَا بِالْخَلِيفَةِ الْمُدَاهِنِ، يَعْنِي مُعَاوِيَةَ، وَلَا بِالْخَلِيفَةِ الْمَأْفُونِ، يَعْنِي يَزِيدَ، أَلَا وَإِنِّي لَا أُدَاوِي هَذِهِ الْأُمَّةَ إِلَّا بِالسَّيْفِ حَتَّى تَسْتَقِيمَ لِي قَنَاتُكُمْ، وَإِنَّكُمْ تُحَفِّظُونَنَا أَعْمَالَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَلَا تَعْمَلُونَ مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّكُمْ تَأْمُرُونَنَا بِتَقْوَى اللَّهِ وَتَنْسَوْنَ ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَاللَّهِ لَا يَأْمُرُنِي أَحَدٌ

بِتَقْوَى اللَّهِ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ. ثُمَّ نَزَلَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ السُّلَمِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ بِالشَّامِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ.

ثم دخلت سنة ست وسبعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ] 76 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ ذِكْرُ خُرُوجِ صَالِحِ بْنِ مُسَرِّحٍ كَانَ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ التَّمِيمِيُّ رَجُلًا نَاسِكًا، مُصْفَرَّ الْوَجْهِ، صَاحِبَ عِبَادَةٍ، وَكَانَ بِدَارَا وَأَرْضِ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ، وَلَهُ أَصْحَابٌ يَقْرَأُ بِهِمُ الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ وَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ وَإِنْكَارِ الظُّلْمِ وَجِهَادِ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ، فَأَجَابُوهُ، وَحَثَّهُمْ عَلَيْهِمْ، فَرَاسَلَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَتَلَاقَوْا بِهِ، فَبَيْنَا هُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ قَدِمَ عَلَيْهِ كِتَابُ شَبِيبٍ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ كُنْتَ تُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِكَ الْيَوْمَ، فَأَنْتَ شَيْخُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَنْ نَعْدِلَ بِكَ أَحَدًا، وَإِنْ أَرَدْتَ تَأْخِيرَ ذَلِكَ [الْيَوْمِ] أَعْلِمْنِي، فَإِنَّ الْآجَالَ غَادِيَةٌ وَرَائِحَةٌ، وَلَا آمَنُ أَنْ تَخْتَرِمَنِيَ الْمَنِيَّةُ وَلَمْ أُجَاهِدِ الظَّالِمِينَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ صَالِحٌ: إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَّا انْتِظَارُكَ، فَأَقْبِلْ إِلَيْنَا، فَإِنَّكَ مِمَّنْ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ رَأْيِهِ، وَلَا تُقْضَى دُونَهُ الْأُمُورُ. فَلَمَّا قَرَأَ شَبِيبٌ كِتَابَهُ دَعَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ: أَخُوهُ مُصَادُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَالْمُحَلِّلُ بْنُ وَائِلٍ الْيَشْكُرِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَخَرَجَ بِهِمْ حَتَّى قَدِمَ عَلَى صَالِحٍ بِدَارَا، فَلَمَّا لَقِيَهُ قَالَ: اخْرُجْ بِنَا رَحِمَكَ اللَّهُ، فَوَاللَّهِ مَا تَزْدَادُ [السُّنَّةُ] إِلَّا دُرُوسًا، وَلَا يَزْدَادُ الْمُجْرِمُونَ إِلَّا طُغْيَانًا. فَبَثَّ صَالِحٌ رُسُلَهُ، وَوَاعَدَ أَصْحَابَهُ الْخُرُوجَ إِلَى ذَلِكَ هِلَالَ صَفَرٍ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ، فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَسَأَلَهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْقِتَالِ قَبْلَ الدُّعَاءِ أَمْ بَعْدَهُ؟ فَقَالَ: بَلْ نَدْعُوهُمْ، فَإِنَّهُ أَقْطَعُ لِحُجَّتِهِمْ. فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تَرَى فِيمَنْ قَاتَلَنَا فَظَفِرْنَا بِهِ، مَا تَقُولُ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ؟ فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ قَتَلْنَا وَغَنِمْنَا فَلَنَا، وَإِنْ عَفَوْنَا فَمُوَسَّعٌ عَلَيْنَا.

ثُمَّ وَعَظَ أَصْحَابَهُ وَأَمَرَهُمْ بِأَمْرِهِ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَكْثَرَكُمْ رَجَّالَةٌ، وَهَذِهِ دَوَابٌّ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، فَابْدَؤُوا بِهَا فَاحْمِلُوا عَلَيْهَا رِجَالَكُمْ، وَتَقَوَّوْا بِهَا عَلَى عَدُوِّكُمْ. فَخَرَجُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَأَخَذُوا الدَّوَابَّ فَاحْتَمَلُوا عَلَيْهَا، وَأَقَامُوا بِأَرْضِ دَارَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَتَحَصَّنَ مِنْهُمْ أَهْلُهَا وَأَهْلُ نَصِيبِينَ وَسِنْجَارَ، وَكَانَ خُرُوجُهُ وَهُوَ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ: وَعَشْرَةٍ. وَبَلَغَ مُحَمَّدًا مَخْرَجُهُمْ، وَهُوَ أَمِيرُ الْجَزِيرَةِ، فَأَرْسَلَ عَدِيَّ بْنَ عَدِيٍّ الْكِنْدِيَّ إِلَيْهِمْ فِي أَلْفِ فَارِسٍ، فَسَارَ مِنْ حَرَّانَ، فَنَزَلَ دَوْغَانَ، وَكَانُوا أَوَّلَ جَيْشٍ سَارَ إِلَى صَالِحٍ، وَسَارَ عَدِيٌّ وَكَأَنَّهُ يُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ. وَأَرْسَلَ إِلَى صَالِحٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ وَيُعْلِمُهُ أَنَّهُ يَكْرَهُ قِتَالَهُ، وَكَانَ عَدِيٌّ نَاسِكًا، فَأَعَادَ صَالِحٌ: إِنْ كُنْتَ تَرَى رَأْيَنَا خَرَجْنَا عَنْكَ، وَإِلَّا فَنَرَى رَأْيَنَا. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَدِيٌّ: إِنِّي لَا أَرَى رَأْيَكَ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ قِتَالَكَ وَقِتَالَ غَيْرِكَ. فَقَالَ صَالِحٌ لِأَصْحَابِهِ: ارْكَبُوا. فَرَكِبُوا، وَحَبَسَ الرَّسُولَ عِنْدَهُ وَمَضَى بِأَصْحَابِهِ، فَأَتَى عَدِيًّا وَهُوَ يُصَلِّي الضُّحَى، فَلَمْ يَشْعُرُوا إِلَّا وَالْخَيْلُ طَالِعَةٌ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهَا تَنَادَوْا، وَجَعَلَ صَالِحٌ شَبِيبًا فِي مَيْمَنَتِهِ، وَسُوَيْدَ بْنَ سُلَيْمٍ فِي مَيْسَرَتِهِ، وَوَقَفَ فِي الْقَلْبِ، فَأَتَاهُمْ وَهُمْ عَلَى غَيْرِ تَعْبِيَةٍ، وَبَعْضُهُمْ يَجُولُ فِي بَعْضٍ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ شَبِيبٌ وَسُوَيْدٌ فَانْهَزَمُوا، وَأُتِيَ عَدِيُّ بْنُ عَدِيٍّ بِدَابَّتِهِ فَرَكِبَهَا وَانْهَزَمَ، وَجَاءَ صَالِحٌ وَنَزَلَ فِي مُعَسْكَرِهِ، وَأَخَذُوا مَا فِيهِ. وَدَخَلَ أَصْحَابُ عَدِيٍّ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، فَغَضِبَ عَلَى عَدِيٍّ، ثُمَّ دَعَا خَالِدَ بْنَ جَزْءٍ السُّلَمِيَّ، فَبَعَثَهُ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَدَعَا الْحَارِثَ بْنَ جَعْوَنَةَ الْعَامِرِيَّ، فَبَعَثَهُ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَقَالَ: اخْرُجَا إِلَى هَذِهِ الْمَارِقَةِ، وَأَغِذَّا السَّيْرَ، فَأَيُّكُمَا سَبَقَ فَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَى صَاحِبِهِ. فَخَرَجَا مُتَسَانِدَيْنِ يَسْأَلَانِ عَنْ صَالِحٍ، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهُ نَحْوَ آمِدَ، فَقَصَدَاهُ، فَوَجَّهَ صَالِحٌ شَبِيبًا فِي شَطْرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ جَعْوَنَةَ، وَتَوَجَّهَ هُوَ نَحْوَ خَالِدٍ، فَاقْتَتَلُوا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ أَشَدَّ قِتَالٍ، فَلَمْ تَثْبُتْ خَيْلُ مُحَمَّدٍ لِخَيْلِ صَالِحٍ، فَلَمَّا رَأَى أَمِيرَاهُمْ ذَلِكَ تَرَجَّلَا، وَتَرَجَّلَ مَعَهُمَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِمَا، فَلَمْ يَقْدِرْ أَصْحَابُ صَالِحٍ حِينَئِذٍ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا إِذَا حَمَلُوا اسْتَقْبَلَتْهُمُ الرَّجَّالَةُ بِالرِّمَاحِ، وَرَمَاهُمُ الرُّمَاةُ بِالنَّبْلِ، وَطَارَدَهُمْ خَيَّالَتُهُمْ، فَقَاتَلُوهُمْ إِلَى الْمَسَاءِ، فَكَثُرَتِ الْجِرَاحُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ صَالِحٍ نَحْوُ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَمِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ. فَلَمَّا أَمْسَوْا تَرَاجَعُوا، فَاسْتَشَارَ صَالِحٌ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ شَبِيبٌ: إِنَّ الْقَوْمَ قَدِ اعْتَصَمُوا

بِخَنْدَقِهِمْ، فَلَا أَرَى أَنْ نُقِيمَ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ صَالِحٌ: وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ. فَخَرَجُوا مِنْ لَيْلَتِهِمْ سَائِرِينَ، فَقَطَعُوا أَرْضَ الْجَزِيرَةِ وَأَرْضَ الْمَوْصِلِ، وَانْتَهَوْا إِلَى الدَّسْكَرَةِ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْحَجَّاجَ سَرَّحَ إِلَيْهِمُ الْحَارِثَ بْنَ عُمَيْرَةَ بْنِ ذِي الشِّعَارِ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَسَارَ حَتَّى دَنَا مِنَ الدَّسْكَرَةِ، وَخَرَجَ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ حَتَّى أَتَى قَرْيَةً يُقَالُ لَهَا مَدْبَجُ عَلَى تُخُومِ مَا بَيْنَ الْمَوْصِلِ وَجُوخَى، وَصَالِحٌ فِي تِسْعِينَ رَجُلًا، فَلَقِيَهُمُ الْحَارِثُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ سُوَيْدُ بْنُ سُلَيْمٍ فِي مَيْسَرَةِ صَالِحٍ، وَثَبَتَ صَالِحٌ، فَقُتِلَ، وَقَاتَلَ شَبِيبٌ حَتَّى صُرِعَ عَنْ فَرَسِهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ رَاجِلًا، فَانْكَشَفُوا عَنْهُ، فَجَاءَ إِلَى مَوْقِفٍ صَالِحٍ فَأَصَابَهُ قَتِيلًا، فَنَادَى: إِلَيَّ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَاذُوا بِهِ. فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لِيَجْعَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ظَهْرَهُ إِلَى ظَهْرِ صَاحِبِهِ، وَلِيُطَاعِنْ عَدُوَّهُ حَتَّى يَدْخُلَ هَذَا الْحُصَيْنَ وَنَرَى رَأْيَنَا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَدَخَلُوا الْحُصَيْنَ جَمِيعُهُمْ، وَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَأَحَاطَ بِهِمُ الْحَارِثُ وَأَحْرَقَ عَلَيْهِمُ الْبَابَ، وَقَالَ: إِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ. (مُسَرِّحٌ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ. وَجَعْوَنَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْوَاوِ، وَآخِرُهُ نُونٌ) . ذِكْرُ بَيْعَةِ شَبِيبٍ الْخَارِجِيِّ وَمُحَارَبَةِ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرَةَ فَلَمَّا أَحْرَقَ الْحَارِثُ الْبَابَ عَلَى شَبِيبٍ وَمَنْ مَعَهُ وَقَالَ: إِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ، وَنُصَبِّحُهُمْ غَدًا فَنُقَتِّلُهُمْ، وَانْصَرَفَ إِلَى عَسْكَرِهِ - قَالَ شَبِيبٌ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَوَاللَّهِ لَئِنْ صَبَّحَكُمْ هَؤُلَاءِ غَدْوَةً إِنَّهُ لَهَلَاكُكُمْ. فَقَالُوا: مُرْنَا بِأَمْرِكَ. فَقَالَ: بَايِعُونِي أَوْ مَنْ شِئْتُمْ مِنْ أَصْحَابِكُمْ، وَاخْرُجُوا بِنَا حَتَّى نَشُدَّ عَلَيْهِمْ فِي عَسْكَرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ آمِنُونَ. فَبَايَعُوا شَبِيبًا، وَهُوَ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَأَتَوْا بِاللُّبُودِ فَبَلُّوهَا، وَجَعَلُوهَا عَلَى جَمْرِ الْبَابِ وَخَرَجُوا، فَلَمْ يَشْعُرِ الْحَارِثُ إِلَّا وَشَبِيبٌ وَأَصْحَابُهُ يُضَارِبُونَهُمْ بِالسُّيُوفِ فِي جَوْفِ الْعَسْكَرِ، فَصُرِعَ الْحَارِثُ، فَاحْتَمَلَهُ أَصْحَابُهُ وَانْهَزَمُوا نَحْوَ الْمَدَائِنِ، وَحَوَى شَبِيبٌ عَسْكَرَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْجَيْشُ أَوَّلَ جَيْشٍ هَزَمَهُ شَبِيبٌ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ أَصْحَابِ شَبِيبٍ وَغَيْرِهِ ثُمَّ إِنَّ شَبِيبًا لَقِيَ سَلَامَةَ بْنَ سِنَانٍ التَّيْمِيَّ، تَيْمِ شَيْبَانَ، بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَدَعَاهُ إِلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَشَرَطَ عَلَيْهِ سَلَامَةُ أَنْ يَنْتَخِبَ فَارِسًا يَنْطَلِقُ بِهِمْ نَحْوَ عَنَزَةَ، فَيَشْفِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَتَلُوا أَخَاهُ فَضَالَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ فَضَالَةَ كَانَ خَرَجَ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا حَتَّى نَزَلَ مَاءً يُقَالُ لَهُ الشَّجَرَةُ، عَلَيْهِ أَثْلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَعَلَيْهِ عَنَزَةُ نَازِلُونَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: نَقْتُلُ هَؤُلَاءِ، وَنَغْدُو عَلَى أَمِيرِنَا فَيُعْطِينَا شَيْئًا. فَقَالَ أَخْوَالُهُ مِنْ بَنِي نَصْرٍ: لَا نُسَاعِدُكُمْ عَلَى قَتْلِ ابْنِ أَخِينَا. فَنَهَضَتْ عَنَزَةُ فَقَتَلُوهُمْ، وَأَتَوْا بِرُءُوسِهِمْ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَلِذَلِكَ أَنْزَلَهُمْ بَانِقْيَا وَفَرَضَ لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَرَائِضُ إِلَّا قَلِيلَةً، فَقَالَ سَلَامَةُ أَخُو فَضَالَةَ يَذْكُرُ قَتْلَ أَخِيهِ وَخُذْلَانَ أَخْوَالِهِ إِيَّاهُ: وَمَا خِلْتُ أَخْوَالَ الْفَتَى يُسْلِمُونَهُ ... لِوَقْعِ السِّلَاحِ قَبْلَ مَا فَعَلَتْ نَصْرُ وَكَانَ خُرُوجُ فَضَالَةَ قَبْلَ خُرُوجِ صَالِحٍ. فَأَجَابَهُ شَبِيبٌ، فَخَرَجَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى عَنَزَةَ، فَجَعَلَ يَقْتُلُ مَحَلَّةً بَعْدَ مَحَلَّةٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِيهِمْ خَالَتُهُ قَدْ أَكَبَّتْ عَلَى ابْنٍ لَهَا، وَهُوَ غُلَامٌ حِينَ احْتَلَمَ، فَأَخْرَجَتْ ثَدْيَهَا وَقَالَتْ: أَنْشُدُكَ بِرَحِمِ هَذَا يَا سَلَامَةُ! فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فَضَالَةَ مُذْ أَنَاخَ بِأَصْلِ الشَّجَرَةِ - يَعْنِي أَخَاهُ - لَتَقُومِنَّ عَنْهُ أَوْ لَأَجْمَعَنَّكُمَا بِالرُّمْحِ! فَقَامَتْ عَنْهُ فَقَتَلَهُ. ذِكْرُ مَسِيرِ شَبِيبٍ إِلَى بَنِي شَيْبَانَ وَإِيقَاعِهِ بِهِمْ ثُمَّ أَقْبَلَ شَبِيبٌ فِي خَيْلِهِ نَحْوَ رَاذَانَ، فَهَرَبَ مِنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ وَمَعَهُمْ نَاسٌ مِنْ غَيْرِهِمْ قَلِيلٌ، حَتَّى نَزَلُوا دَيْرَ خُرَّزَادَ إِلَى جَنْبِ حَوْلَايَا، وَهُمْ نَحْوُ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَشَبِيبٌ فِي نَحْوِ سَبْعِينَ رَجُلًا أَوْ يَزِيدُونَ قَلِيلًا، فَنَزَلَ بِهِمْ فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ شَبِيبًا سَرَى فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا إِلَى أُمِّهِ، وَكَانَتْ فِي صَفْحِ جَبَلِ سَاتِيدَمَا، فَقَالَ: لَآتِيَنَّ بِهَا تَكُونُ فِي عَسْكَرِي لَا تُفَارِقُنِي حَتَّى تَمُوتَ أَوْ أَمُوتَ. فَسَارَ بِهِمْ سَاعَةً، وَإِذَا هُوَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ فِي أَمْوَالِهِمْ مُقِيمِينَ، لَا يَرَوْنَ أَنَّ شَبِيبًا يَمُرُّ بِهِمْ وَلَا يَشْعُرُ بِهِمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَ ثَلَاثِينَ شَيْخًا فِيهِمْ حَوْثَرَةُ بْنُ أَسَدٍ، وَمَضَى شَبِيبٌ إِلَى أُمِّهِ فَحَمَلَهَا، وَأَشْرَفَ رَجُلٌ مِنَ الدَّيْرِ عَلَى أَصْحَابِ شَبِيبٍ، وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ شَبِيبٌ عَلَيْهِمْ

أَخَاهُ مُصَادَ بْنَ يَزِيدَ، وَهُمْ قَدْ حَصَرُوا مَنْ فِي الدَّيْرِ، فَقَالَ: يَا قَوْمُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] ، فَكُفُّوا عَنَّا حَتَّى نَخْرُجَ إِلَيْكُمْ عَلَى أَمَانٍ، وَتَعْرِضُوا عَلَيْنَا أَمْرَكُمْ، فَإِنْ قَبِلْنَاهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ دِمَاؤُنَا وَأَمْوَالُنَا، وَإِنْ نَحْنُ لَمْ نَقْبَلْهُ رَدَدْتُمُونَا إِلَى مَأْمَنِنَا، ثُمَّ رَأَيْتُمْ رَأْيَكُمْ. فَأَجَابُوهُمْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِمْ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ شَبِيبٍ قَوْلَهُمْ، فَقَبِلُوهُ كُلَّهُ، ثُمَّ خَالَطُوهُ وَنَزَلُوا إِلَيْهِمْ، وَجَاءَ شَبِيبٌ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَصَبْتُمْ وَوُفِّقْتُمْ. ذِكْرُ الْوَقْعَةِ بَيْنَ شَبِيبٍ وَسُفْيَانَ الْخَثْعَمِيِّ ثُمَّ إِنَّ شَبِيبًا ارْتَحَلَ، فَخَرَجَ مَعَهُ طَائِفَةٌ وَأَقَامَتْ طَائِفَةٌ، وَسَارَ شَبِيبٌ فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ نَحْوَ أَذْرَبِيجَانَ، وَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى سُفْيَانَ بْنِ أَبِي الْعَالِيَةِ الْخَثْعَمِيِّ يَأْمُرُهُ بِالْقُفُولِ، وَكَانَ مَعَهُ أَلْفُ فَارِسٍ، يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا طَبَرِسْتَانَ. فَلَمَّا أَتَاهُ كِتَابُ الْحَجَّاجِ صَالَحَ صَاحِبَ طَبَرِسْتَانَ وَرَجَعَ، فَأَمَرَهُ الْحَجَّاجُ بِنُزُولِ الدَّسْكَرَةِ حَتَّى يَأْتِيَهُ جَيْشُ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرَةَ الْهَمْدَانِيِّ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ صَالِحًا، وَحَتَّى تَأْتِيَهُ خَيْلُ الْمَنَاظِرِ، ثُمَّ يَسِيرُ إِلَى شَبِيبٍ. فَأَقَامَ بِالدَّسْكَرَةِ، وَنُودِيَ فِي جَيْشِ الْحَارِثِ: الْحَرْبُ بِالْكُوفَةِ وَالْمَدَائِنِ، فَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوْا سُفْيَانَ، وَأَتَتْهُ خَيْلُ الْمَنَاظِرِ عَلَيْهِمْ سَوْرَةُ بْنُ الْحُرِّ التَّمِيمِيُّ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَوْرَةُ بِالتَّوَقُّفِ حَتَّى يَلْحَقَهُ، فَعَجَّلَ سُفْيَانُ فِي طَلَبِ شَبِيبٍ، فَلَحِقَهُ بِخَانِقِينَ، وَارْتَفَعَ شَبِيبٌ عَنْهُمْ حَتَّى كَأَنَّهُ يَكْرَهُ قِتَالَهُمْ، وَأَكْمَنَ أَخَاهُ مُصَادًا فِي هَزْمٍ مِنَ الْأَرْضِ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا فَارِسًا، وَمَضَى فِي سَفْحِ الْجَبَلِ، فَقَالُوا: هَرَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، فَاتَّبَعُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ عَدِيُّ بْنُ عُمَيْرَةَ الشَّيْبَانِيُّ: لَا تُعَجِّلُوا حَتَّى نُبْصِرَ الْأَرْضَ لِئَلَّا يَكُونَ قَدْ كَمَّنَ فِيهَا كَمِينًا. فَلَمْ يَلْتَفِتُوا، فَاتَّبَعُوهُ، فَلَمَّا جَازُوا الْكَمِينَ رَجَعَ عَلَيْهِمْ شَبِيبٌ، وَخَرَجَ أَخُوهُ فِي الْكَمِينِ، فَانْهَزَمَ النَّاسُ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَثَبَتَ سُفْيَانُ فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَحَمَلَ سُوَيْدُ بْنُ سُلَيْمٍ عَلَى سُفْيَانَ فَطَاعَنَهُ، ثُمَّ تَضَارَبَا بِالسُّيُوفِ، وَاعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَوَقَعَا إِلَى الْأَرْضِ. ثُمَّ تَحَاجَزُوا، وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ شَبِيبٌ فَانْكَشَفُوا، وَأَتَى سُفْيَانَ غُلَامٌ لَهُ، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَأَرْكَبَهُ وَقَاتَلَ دُونَهُ، فَقُتِلَ الْغُلَامُ وَنَجَا سُفْيَانُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابِلَ مَهْرُوذَ، وَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْخَبَرِ، وَيُعَرِّفُهُ وُصُولَ الْجُنْدِ إِلَّا سَوْرَةَ بْنَ

الْحُرِّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ مَعِيَ الْقِتَالَ، فَلَمَّا قَرَأَ الْحَجَّاجُ الْكِتَابَ أَثْنَى عَلَيْهِ. ذِكْرُ الْوَقْعَةَ بَيْنَ شَبِيبٍ وَسَوْرَةَ بْنِ الْحُرِّ فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُ سُفْيَانَ إِلَى الْحَجَّاجِ كَتَبَ إِلَى سَوْرَةَ بْنِ الْحُرِّ يَلُومُهُ وَيَتَهَدَّدُهُ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَنْتَخِبَ مِنَ الْمَدَائِنِ خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ، وَيَسِيرَ بِهِمْ وَبِمَنْ مَعَهُ إِلَى شَبِيبٍ. فَفَعَلَ ذَلِكَ سَوْرَةُ وَسَارَ نَحْوَ شَبِيبٍ، وَشَبِيبٌ يَجُولُ فِي جُوخَى، وَسَوْرَةُ فِي طَلَبِهِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَدَائِنِ، فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ، وَأَخَذَ مِنْهَا دَوَابَّ وَقَتَلَ مَنْ ظَهَرَ لَهُ، فَأَتَى فَقِيلَ لَهُ: هَذَا سَوْرَةُ قَدْ أَقْبَلَ. فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى النَّهْرَوَانَ، فَصَلُّوا وَتَرَحَّمُوا عَلَى أَصْحَابِهِمُ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ، وَتَبَرَّءُوا مِنْ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ. وَأَخْبَرَتْ سَوْرَةَ عُيُونُهُ بِمَنْزِلِ شَبِيبٍ، فَدَعَا أَصْحَابَهُ فَقَالَ: إِنَّ شَبِيبًا لَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةِ رَجُلٍ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَنْتَخِبَكُمْ فَأَسِيرُ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ شُجْعَانِكُمْ، فَآتِيهِ وَهُوَ آمِنٌ بَيَاتَكُمْ، فَإِنِّي أَرْجُو مِنَ اللَّهِ أَنْ يَصْرَعَهُمْ. فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ، فَانْتَخَبَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ النَّهْرَوَانِ، وَبَاتَ شَبِيبٌ وَقَدْ أَذْكَى الْحَرَسَ، فَلَمَّا دَنَا أَصْحَابُ سَوْرَةَ عَلِمُوا بِهِمْ، فَاسْتَوَوْا عَلَى خُيُولِهِمْ، وَتَعَبَّوْا تَعْبِيَتَهُمْ لِلْحَرْبِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ سَوْرَةُ رَآهُمْ قَدْ حَذِرُوا، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَثَبَتُوا لَهُ وَضَارَبُوهُمْ، وَصَاحَ شَبِيبٌ بِأَصْحَابِهِ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى تَرَكُوا الْعَرْصَةَ، وَشَبِيبٌ يَقُولُ: مَنْ يَنِكِ الْعَيْرَ يَنِكْ نَيَّاكَا جَنْدَلَتَانِ اصْطَكَّتَا اصْطِكَاكَا فَرَجَعَ سَوْرَةُ إِلَى عَسْكَرِهِ وَقَدْ هُزِمَ الْفُرْسَانُ وَأَهْلُ الْقُوَّةِ، فَتَحَمَّلَ بِهِمْ وَأَقْبَلَ نَحْوَ الْمَدَائِنِ، وَاتَّبَعَهُ شَبِيبٌ يَرْجُو أَنْ يُدْرِكَهُ فَيُصِيبَ عَسْكَرَهُ. فَوَصَلَ إِلَيْهِمْ وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ الْمَدَائِنَ، وَخَرَجَ ابْنُ أَبِي الْعُصَيْفِرِ أَمِيرُ الْمَدَائِنِ فِي أَهْلِ الْمَدَائِنِ، فَرَمَوْا أَصْحَابَ شَبِيبٍ بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، فَارْتَفَعَ شَبِيبٌ عَنِ الْمَدَائِنِ، فَمَرَّ عَلَى كَلْوَاذَى، فَأَصَابَ بِهَا دَوَابَّ كَثِيرَةً لِلْحَجَّاجِ، فَأَخَذَهَا وَمَضَى إِلَى تَكْرِيتَ، وَأُرْجِفَ النَّاسُ بِالْمَدَائِنِ بِوُصُولِ شَبِيبٍ إِلَيْهِمْ، فَهَرَبَ مَنْ بِهَا مِنَ الْجُنْدِ نَحْوَ الْكُوفَةِ، وَكَانَ شَبِيبٌ بِتَكْرِيتَ، وَلَامَ الْحَجَّاجُ سَوْرَةَ وَحَبَسَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ شَبِيبٍ وَالْجَزْلِ بْنِ سَعِيدٍ، وَقَتْلِ سَعِيدِ بْنِ مُجَالِدٍ فَلَمَّا قَدِمَ الْفَلُّ الْكُوفَةَ سَيَّرَ الْحَجَّاجُ الْجَزْلَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ الْكِنْدِيَّ، وَاسْمُهُ عُثْمَانُ، نَحْوَ شَبِيبٍ، وَأَوْصَاهُ بِالِاحْتِيَاطِ وَتَرْكِ الْعَجَلَةِ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَبْعَثْ مَعِي مِنَ الْجُنْدِ الْمَهْزُومِ أَحَدًا، فَإِنَّهُمْ قَدْ دَخَلَهُمُ الرُّعْبُ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ. قَالَ: قَدْ أَحْسَنْتَ. فَأَخْرَجَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَسَارُوا مَعَهُ، فَقَدَّمَ الْجَزْلُ بَيْنَ يَدَيْهِ عِيَاضَ بْنَ أَبِي لُبْنَةَ الْكِنْدِيَّ، فَسَارُوا فِي طَلَبِ شَبِيبٍ، وَجَعَلَ شَبِيبٌ يُرِيهِ الْهَيْبَةَ لَهُ، فَيَخْرُجُ مِنْ رُسْتَاقٍ إِلَى رُسْتَاقٍ وَلَا يُقِيمُ، إِرَادَةَ أَنْ يُفَرِّقَ الْجَزْلُ أَصْحَابَهُ، فَيَلْقَاهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ تَعْبِيَةٍ. فَجَعَلَ الْجَزْلُ لَا يَسِيرُ إِلَّا عَلَى تَعْبِيَةٍ، وَلَا يَنْزِلُ إِلَّا خَنْدَقَ عَلَى نَفْسِهِ. فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى شَبِيبٍ دَعَا أَصْحَابَهُ، وَكَانُوا مِائَةً وَسِتِّينَ رَجُلًا، فَفَرَّقَهُمْ أَرْبَعَ فِرَقٍ، عَلَى كُلِّ أَرْبَعِينَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَعَلَ أَخَاهُ مُصَادًا فِي أَرْبَعِينَ، وَسُوَيْدَ بْنَ سُلَيْمٍ فِي أَرْبَعِينَ، وَالْمُحَلِّلَ بْنَ وَائِلٍ فِي أَرْبَعِينَ، وَبَقِيَ هُوَ فِي أَرْبَعِينَ، وَأَتَتْهُ عُيُونُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْجَزْلَ بِدَيْرِ يَزْدَجِرْدَ، فَأَمَرَ شَبِيبٌ أَصْحَابَهُ فَعَلَّقُوا عَلَى دَوَابِّهِمْ، ثُمَّ سَارَ بِهِمْ، وَأَمَرَ كُلَّ رَأْسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَأْتِيَ الْجَزْلَ مِنْ جِهَةٍ ذَكَرَهَا لَهُ، وَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُبَيِّتَهُ، وَأَمَرَهُمْ بِالْجِدِّ فِي الْقِتَالِ، فَسَارَ أَخُوهُ فَانْتَهَى إِلَى دَيْرِ الْخَرَّارَةِ، فَرَأَى لِلْجَزْلِ مَسْلَحَةً مَعَ ابْنِ أَبِي لُبْنَةَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ مُصَادٌ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا، فَقَاتَلُوهُ سَاعَةً، ثُمَّ انْدَفَعُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدْ أَدْرَكَهُمْ شَبِيبٌ، فَقَالَ: ارْكَبُوا أَكْتَافَهُمْ لِتَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ عَسْكَرَهُمْ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ. وَاتَّبَعُوهُمْ مُلِحِّينَ، فَانْتَهَوْا إِلَى عَسْكَرِهِمْ، فَمَنَعَهُمْ أَصْحَابُهُ مِنْ دُخُولِ خَنْدَقِهِمْ، وَكَانَ لِلْجَزْلِ مَسَالِحُ أُخْرَى، فَرَجَعَتْ فَمَنَعَتْهُمْ مِنْ دُخُولِ الْخَنْدَقِ، وَقَالَ: انْضَحُوا عَنْكُمْ بِالنَّبْلِ. وَجَعَلَ شَبِيبٌ يَحْمِلُ عَلَى الْمَسَالِحِ حَتَّى اضْطَرَّهُمْ إِلَى الْخَنْدَقِ، وَرَشَقَهُمْ أَهْلُ الْعَسْكَرِ بِالنَّبْلِ. فَلَمَّا رَأَى شَبِيبٌ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: سِيرُوا وَدَعُوهُمْ. فَمَضَى عَلَى الطَّرِيقِ، ثُمَّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَاسْتَرَاحُوا، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِمْ رَاجِعًا إِلَى الْجَزْلِ أَيْضًا عَلَى التَّعْبِيَةِ الْأُولَى وَقَالَ: أَطِيفُوا بِعَسْكَرِهِمْ. فَأَقْبَلُوا وَقَدْ أَدْخَلَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ مَسَالِحَهُمْ إِلَيْهِمْ (وَقَدْ أَمِنُوا، فَمَا شَعَرُوا إِلَّا بِوَقْعِ حَوَافِرِ الْخَيْلِ، فَانْتَهَوْا إِلَيْهِمْ) قَبْلَ الصُّبْحِ، وَأَحَاطُوا بِعَسْكَرِهِمْ مِنْ جِهَاتِهِ الْأَرْبَعِ، فَقَاتَلُوهُمْ.

ثُمَّ إِنَّ شَبِيبًا أَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ مُصَادٍ، وَهُوَ يُقَاتِلُهُمْ مِنْ نَحْوِ الْكُوفَةِ، أَنْ أَقْبِلْ إِلَيْنَا وَخَلِّ لَهُمُ الطَّرِيقَ، فَفَعَلَ، وَقَاتَلُوهُمْ مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ حَتَّى أَصْبَحُوا، فَسَارَ شَبِيبٌ وَتَرَكَهُمْ وَلَمْ يَظْفَرْ بِهِمْ، فَنَزَلَ عَلَى مِيلٍ وَنِصْفٍ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى جَرْجَرَايَا. وَأَقْبَلَ الْجَزْلُ فِي طَلَبِهِمْ عَلَى تَعْبِيَةٍ وَلَا يَنْزِلُ إِلَّا فِي خَنْدَقٍ. وَسَارَ شَبِيبٌ فِي أَرْضِ جُوخَى وَغَيْرِهَا يَكْسِرُ الْخَرَاجَ، فَطَالَ ذَلِكَ عَلَى الْحَجَّاجِ، فَكَتَبَ إِلَى الْجَزْلِ يُنْكِرُ عَلَيْهِ إِبْطَاءَهُ، وَيَأْمُرُهُ بِمُنَاهَضَتِهِمْ، فَجَدَّ فِي طَلَبِهِمْ، وَبَعَثَ الْحَجَّاجُ سَعِيدَ بْنَ مُجَالِدٍ عَلَى جَيْشِ الْجَزْلِ، وَأَمَرَهُ بِالْجِدِّ فِي قِتَالِ شَبِيبٍ وَتَرْكِ الْمُطَاوَلَةِ. فَوَصَلَ سَعِيدٌ إِلَى الْجَزْلِ، وَهُوَ بِالنَّهْرَوَانِ قَدْ خَنْدَقَ عَلَيْهِ، وَقَامَ فِي الْعَسْكَرِ وَوَبَّخَهُمْ وَعَجَّزَهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ وَأَخْرَجَ مَعَهُ النَّاسَ، وَضَمَّ إِلَيْهِ خُيُولَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ لِيَسِيرَ بِهِمْ جَرِيدَةً إِلَى شَبِيبٍ، وَيَتْرُكَ الْبَاقِينَ مَكَانَهُمْ، فَقَالَ لَهُ الْجَزْلُ: مَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ؟ قَالَ: أَقْدَمُ عَلَى شَبِيبٍ فِي هَذِهِ الْخَيْلِ. فَقَالَ لَهُ الْجَزْلُ: أَقِمْ أَنْتَ فِي جَمَاعَةِ النَّاسِ فَارِسِهِمْ وَرَاجِلِهِمْ وَأَبْرُزْ لَهُمْ، فَوَاللَّهِ لَيَقْدُمُنَّ عَلَيْكَ، وَلَا تُفَرِّقْ أَصْحَابَكَ. فَقَالَ: قِفْ أَنْتَ فِي الصَّفِّ. فَقَالَ الْجَزْلُ: يَا سَعِيدُ، لَيْسَ لِي فِي مَا صَنَعْتَ رَأْيٌ، أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ. وَوَقَفَ الْجَزْلُ فَصَفَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَقَدْ أَخْرَجَهُمْ مِنَ الْخَنْدَقِ. وَتَقَدَّمَ سَعِيدُ بْنُ مُجَالِدٍ وَمَعَهُ النَّاسُ، وَقَدْ أَخَذَ شَبِيبٌ إِلَى قَطِيطِيَا فَدَخَلَهَا، وَأَمَرَ دِهْقَانًا أَنْ يُصْلِحَ لَهُمْ غَدَاءً، فَفَعَلَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ، فَلَمْ يَفْرَغْ مِنَ الْغَدَاءِ حَتَّى أَتَاهُ سَعِيدٌ فِي ذَلِكَ الْعَسْكَرِ، فَأَقْبَلَ الدِّهْقَانُ فَأَعْلَمَ شَبِيبًا بِهِمْ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ، قَرِّبِ الْغَدَاءَ. فَقَرَّبَهُ، فَأَكَلَ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَرَكِبَ بَغْلًا لَهُ وَخَرَجَ عَلَيْهِ، وَسَعِيدٌ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلْحَكَمِ (الْحَكِيمِ) ، أَنَا أَبُو مُدَلِّهِ، اثْبُتُوا إِنْ شِئْتُمْ. وَجَعَلَ سَعِيدٌ يَقُولُ: هَؤُلَاءِ إِنَّمَا هُمْ أَكَلَةُ رَأْسٍ، وَجَعَلَ يَجْمَعُ خَيْلَهُ وَيُرْسِلُهَا فِي أَثَرِ شَبِيبٍ، فَلَمَّا رَأَى شَبِيبٌ تَفَرُّقَهُمْ جَمَعَ أَصْحَابَهُ وَقَالَ: اسْتَعْرِضُوهُمْ، فَوَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ أَمِيرَهُمْ أَوْ لَيَقْتُلَنِّي. وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ مُسْتَعْرِضًا، فَهَزَمَهُمْ، وَثَبَتَ سَعِيدٌ وَنَادَى أَصْحَابَهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ شَبِيبٌ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، وَانْهَزَمَ ذَلِكَ الْجَيْشُ، وَقُتِلُوا كُلَّ قِتْلَةٍ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْجَزْلِ، فَنَادَاهُمْ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِلَيَّ إِلَيَّ! وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى حُمِلَ مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى جَرِيحًا، وَقَدِمَ الْمُنْهَزِمُونَ الْكُوفَةَ، وَكَتَبَ الْجَزْلُ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْخَبَرِ، وَيُخْبِرُهُ بِقَتْلِ سَعِيدٍ، وَأَقَامَ بِالْمَدَائِنِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يُثْنِي عَلَيْهِ وَيَشْكُرُهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ حَيَّانَ بْنَ أَبْجَرَ لِيُدَاوِيَ

جِرَاحَتَهُ، وَأَلْفَيْ دِرْهَمٍ لِيُنْفِقَهَا، وَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُصَيْفِرٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَكَانَ يَعُودُهُ وَيَتَعَاهَدُهُ بِالْهَدِيَّةِ. وَسَارَ شَبِيبٌ نَحْوَ الْمَدَائِنِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ [لَهُ] إِلَى أَهْلِهَا مَعَ الْمَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْكَرْخِ، فَعَبَرَ دِجْلَةَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَى سُوقِ بَغْدَادَ فَآمَنَهُمْ، وَكَانَ يَوْمَ سُوقِهِمْ، وَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ يَخَافُونَهُ، وَاشْتَرَى أَصْحَابُهُ دَوَابَّ وَأَشْيَاءَ يُرِيدُونَهَا. ذِكْرُ مَسِيرِ شَبِيبٍ إِلَى الْكُوفَةِ ثُمَّ سَارَ شَبِيبٌ إِلَى الْكُوفَةِ، فَنَزَلَ عِنْدَ حَمَّامِ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ، فَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ مَكَانُهُ بَعَثَ سُوَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيَّ فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: الْقَ شَبِيبًا، فَإِنِ اسْتَطْرَدَ لَكَ فَلَا تَتْبَعْهُ. فَخَرَجَ وَعَسْكَرَ بِالسَّبْخَةِ، فَبَلَغَهُ أَنَّ شَبِيبًا قَدْ أَقْبَلَ، فَسَارَ نَحْوَهُ، فَكَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ عُثْمَانَ بْنَ قَطَنٍ، فَعَسْكَرَ بِالنَّاسِ فِي السَّبْخَةِ، وَسَارَ سُوَيْدٌ إِلَى زُرَارَةَ، فَهُوَ يُعَبِّئُ أَصْحَابَهُ إِذْ قِيلَ: قَدْ أَتَاكَ شَبِيبٌ، فَنَزَلَ وَنَزَلَ مَعَهُ جُلُّ أَصْحَابِهِ، فَأُخْبِرَ أَنَّ شَبِيبًا قَدْ تَرَكَكَ وَعَبَرَ الْفُرَاتَ وَهُوَ يُرِيدُ الْكُوفَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَنَادَى فِي أَصْحَابِهِ فَرَكِبُوا فِي آثَارِهِمْ، وَبَلَغَ مَنْ بِالسَّبْخَةِ مَعَ عُثْمَانَ إِقْبَالُ شَبِيبٍ إِلَيْهِمْ، فَصَاحَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَهَمُّوا أَنْ يَدْخُلُوا الْكُوفَةَ حَتَّى قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ سُوَيْدًا فِي آثَارِهِمْ قَدْ لَحِقَهُمْ وَهُوَ يُقَاتِلُهُمْ، وَحَمَلَ شَبِيبٌ عَلَى سُوَيْدٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ حَمْلَةً مُنْكَرَةً، فَلَمْ يَقْدِرْ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَأَخَذَ عَلَى بُيُوتِ الْكُوفَةِ نَحْوَ الْحِيرَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَسَاءِ، وَتَبِعَهُ سُوَيْدٌ إِلَى الْحِيرَةِ، فَرَآهُ قَدْ تَرَكَ الْحِيرَةَ وَذَهَبَ، فَتَرَكَهُ سُوَيْدٌ وَأَقَامَ حَتَّى أَصْبَحَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْحَجَّاجِ يُعْلِمُهُ بِمَسِيرِ شَبِيبٍ. ذِكْرُ مُحَارَبَةِ شَبِيبٍ أَهْلَ الْبَادِيَةِ وَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى سُوَيْدٍ يَأْمُرُهُ بِاتِّبَاعِهِ، فَاتَّبَعَهُ، وَمَضَى شَبِيبٌ حَتَّى أَغَارَ أَسْفَلَ الْفُرَاتِ عَلَى مَنْ وَجَدَ مِنْ قَوْمِهِ، وَارْتَفَعَ فِي الْبَرِّ وَرَاءَ خَفَّانِ، فَأَصَابَ رِجَالًا مِنْ بَنِي الْوَرَثَةِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مِنْهُمْ حَنْظَلَةُ بْنُ مَالِكٍ، وَمَضَى شَبِيبٌ حَتَّى أَتَى

بَنِي أَبِيهِ عَلَى اللَّصَفِ، وَعَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ الْفِزْرُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي الصَّلْتِ، وَكَانَ يَنْهَى شَبِيبًا عَنْ رَأْيِهِ، وَكَانَ شَبِيبٌ يَقُولُ: لَئِنْ مَلَكْتُ سَبْعَةَ أَعِنَّةٍ لَأَغْزُوَنَّ الْفِزْرَ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ خَبَرُ شَبِيبٍ رَكِبَ الْفِزْرُ فَرَسًا، وَخَرَجَ مِنْ وَرَاءِ الْبُيُوتِ، وَانْهَزَمَ مِنْهُ الرِّجَالُ، وَرَجَعَ وَقَدْ أَخَافَ أَهْلَ الْبَادِيَةِ، فَأَخَذَ عَلَى الْقُطْقُطَانَةِ، ثُمَّ عَلَى قَصْرِ بَنِي مُقَاتِلٍ، ثُمَّ عَلَى الْحَصَّاصَةِ، ثُمَّ عَلَى الْأَنْبَارِ، وَمَضَى حَتَّى دَخَلَ دَقُوقَاءَ، ثُمَّ ارْتَفَعَ إِلَى أَدَانِي أَذْرَبِيجَانَ. فَلَمَّا أَبْعَدَ سَارَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. فَمَا شَعَرَ النَّاسُ إِلَّا وَقَدْ أَتَاهُمْ كِتَابُ دِهْقَانِ بَابِلَ مَهْرُوذَ إِلَى عُرْوَةَ يَذْكُرُ لَهُ أَنَّ بَعْضَ جُبَاةِ الْخَرَاجِ أَخْبَرَهُ أَنْ شَبِيبًا قَدْ نَزَلَ خَانِيجَارَ، وَهُوَ عَلَى قَصْدِ الْكُوفَةِ، فَأَرْسَلَ عُرْوَةُ الْكِتَابَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْبَصْرَةِ، فَأَقْبَلَ مُجِدًّا نَحْوَ الْكُوفَةِ يُسَابِقُ شَبِيبًا إِلَيْهَا. ذِكْرُ دُخُولِ شَبِيبٍ الْكُوفَةَ وَأَقْبَلَ شَبِيبٌ إِلَى قَرْيَةٍ اسْمُهَا حَرْبَى، فَقَالَ: حَرْبٌ يُصْلَى بِهَا عَدُوُّكُمْ. ثُمَّ سَارَ فَنَزَلَ عَقْرَقُوفَ، فَقَالَ لَهُ سُوَيْدُ بْنُ سُلَيْمٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ تَحَوَّلْتَ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الْمَشْئُومَةِ الِاسْمِ. قَالَ: وَقَدْ تَطَيَّرْتَ أَيْضًا! وَاللَّهِ لَا أَسِيرُ إِلَى عَدُوِّي إِلَّا مِنْهَا، إِنَّمَا شُؤْمُهَا عَلَى عَدُوِّنَا، وَالْعَقْرُ لَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ سَارَ مِنْهَا يُبَادِرُ الْحَجَّاجَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَتْ كُتُبُ عُرْوَةَ تَرِدُ عَلَيْهِ، أَعْنِي الْحَجَّاجَ، يَحُثُّهُ عَلَى الْعَجَلِ إِلَيْهِمْ، فَطَوَى الْحَجَّاجُ الْمَنَازِلَ، فَنَزَلَهَا الْحَجَّاجُ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَنَزَلَ شَبِيبٌ بِالسَّبْخَةِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، فَأَكَلُوا شَيْئًا ثُمَّ رَكِبُوا خُيُولَهُمْ، فَدَخَلُوا الْكُوفَةَ وَبَلَغُوا السُّوقَ، وَضَرَبَ شَبِيبٌ بَابَ الْقَصْرِ بِعَمُودِهِ، فَأَثَّرَ فِيهِ أَثَرًا عَظِيمًا، ثُمَّ وَقَفَ عِنْدَ الْمِصْطَبَةِ وَقَالَ: عَبْدٌ دَعِيٌّ مِنْ ثَمُودٍ أَصْلُهُ ... لَا بَلْ يُقَالُ أَبُو أَبِيهِمْ يَقْدُمُ

يَعْنِي الْحَجَّاجَ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: إِنَّ ثَقِيفًا بَقَايَا ثَمُودٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُمْ مِنْ نَسْلِ يَقْدُمَ الْإِيَادِيِّ. ثُمَّ اقْتَحَمُوا الْمَسْجِدَ الْأَعْظَمَ، وَكَانَ لَا يَزَالُ فِيهِ قَوْمٌ يُصَلُّونَ، فَقَتَلُوا عَقِيلَ بْنَ مُصْعَبٍ الْوَادِعِيَّ، وَعَدِيَّ بْنَ عَمْرٍو الثَّقَفِيَّ، وَأَبَا لَيْثِ بْنَ أَبِي سُلَيْمٍ، وَمَرُّوا بِدَارِ حَوْشَبٍ، وَهُوَ عَلَى الشَّرْطِ، فَقَالُوا: إِنَّ الْأَمِيرَ يَطْلُبُهُ، فَأَرَادَ الرُّكُوبَ، ثُمَّ أَنْكَرَهُمْ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَقَتَلُوا غُلَامَهُ، ثُمَّ أَتَى الْجَحَّافَ بْنَ نُبَيْطٍ الشَّيْبَانِيَّ فَقَالَ لَهُ: انْزِلْ لِنَقْضِيَكَ ثَمَنَ الْبَكْرَةِ الَّتِي اشْتَرَيْتُ مِنْكَ بِالْبَادِيَةِ. فَقَالَ الْجَحَّافُ: أَمَا ذَكَرْتَ أَمَانَتَكَ إِلَّا وَاللَّيْلُ أَظْلَمُ وَأَنْتَ عَلَى فَرَسِكَ يَا سُوَيْدٌ؟ قَبَّحَ اللَّهُ دِينًا لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَقَتْلِ الْقَرَابَةِ. ثُمَّ مَرُّوا بِمَسْجِدِ ذُهْلٍ فَرَأَوْا ذُهْلَ بْنَ الْحَارِثِ، وَكَانَ يُطِيلُ الصَّلَاةَ فِيهِ، فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ خَرَجُوا مِنَ الْكُوفَةِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّضْرُ بْنُ قَعْقَاعِ بْنِ شَوْرٍ الذُّهْلِيُّ، فَقَالَ لَهُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ. فَقَالَ لَهُ سُوَيْدٌ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَيْلَكَ! فَقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ لَهُ شَبِيبٌ: يَا نَضْرُ، لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَرَادَ يَلْعَنُهُ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. فَشَدَّ أَصْحَابُ شَبِيبٍ عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ قَدْ أَقْبَلَ مَعَ الْحَجَّاجِ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَتَخَلَّفَ عَنْهُ، وَكَانَتْ أُمُّ النَّضْرِ نَاجِيَةَ بِنْتَ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ الشَّيْبَانِيِّ، فَأَحَبَّ شَبِيبٌ نَجَاتَهُ. ثُمَّ خَرَجُوا نَحْوَ الْمَرْدَمَةِ، وَأَمَرَ الْحَجَّاجُ مُنَادِيًا فَنَادَى: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، وَهُوَ فَوْقَ بَابِ الْقَصْرِ، وَعِنْدَهُ مِصْبَاحٌ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَتَاهُ عُثْمَانُ بْنُ قَطَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ ذِي الْغُصَّةِ، فَقَالَ: أَعْلِمُوا الْأَمِيرَ بِمَكَانِي. فَقَالَ لَهُ غُلَامٌ لِلْحَجَّاجِ: قِفْ بِمَكَانِكَ. وَجَاءَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ بَعَثَ بِشْرَ بْنَ غَالِبٍ الْأَسَدِيَّ فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ، وَزَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ الثَّقَفِيَّ فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ، (وَأَبَا الضُّرَيْسِ مَوْلَى بَنِي تَمِيمٍ فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ) ، وَعَبْدَ الْأَعْلَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، وَزِيَادَ بْنَ عَمْرٍو الْعَتَكِيَّ. وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَ مُحَمَّدَ بْنَ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَى سِجِسْتَانَ، وَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ لِيُجَهِّزَهُ وَيُسَيِّرَهُ سَرِيعًا فِي أَلْفِ رَجُلٍ إِلَى عَمَلِهِ، فَأَقَامَ يَتَجَهَّزُ، وَحَدَثَ مِنْ أَمْرِ شَبِيبٍ مَا حَدَثَ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: تَلْقَى شَبِيبًا وَهَذِهِ الْخَارِجَةَ

فَتُجَاهِدُهُمْ، وَيَكُونُ الظَّفَرُ لَكَ وَيَطِيرُ اسْمُكَ، ثُمَّ تَمْضِي إِلَى عَمَلِكَ. فَسَيَّرَهُ مَعَهُمْ، وَقَالَ لِهَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءِ: إِنْ كَانَ حَرْبٌ فَأَمِيرُكُمْ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ. فَسَارَ هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءُ فَنَزَلُوا أَسْفَلَ الْفُرَاتِ، فَتَرَكَ شَبِيبٌ الْوَجْهَ الَّذِي هُمْ فِيهِ، وَأَخَذَ نَحْوَ الْقَادِسِيَّةِ. ذِكْرُ مُحَارَبَةِ شَبِيبٍ زَحْرَ بْنَ قَيْسٍ وَوَجَّهَ الْحَجَّاجُ جَرِيدَةَ خَيْلٍ نَقَاوَةَ أَلْفِ وَثَمَانِمِائَةِ فَارِسٍ مَعَ زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ، وَقَالَ لَهُ: اتْبَعْ شَبِيبًا حَتَّى تُوَاقِعَهُ أَيْنَ أَدْرَكْتَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَاهِبًا، فَاتْرُكْهُ مَا لَمْ يَعْطِفْ عَلَيْكَ أَوْ يُقِيمُ. فَخَرَجَ زَحْرٌ حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّيْلَحِينِ، وَأَقْبَلَ شَبِيبٌ نَحْوَهُ، فَالْتَقَيَا، فَجَمَعَ شَبِيبٌ خَيْلَهُ، ثُمَّ اعْتَرَضَ بِهِمُ الصَّفَّ حَتَّى انْتَهَى إِلَى زَحْرٍ، فَقَاتَلَ زَحْرٌ حَتَّى صُرِعَ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَلَمَّا كَانَ السَّحَرُ وَأَصَابَهُ الْبَرْدُ قَامَ يَتَمَشَّى حَتَّى دَخَلَ قَرْيَةً فَبَاتَ بِهَا، وَحُمِلَ مِنْهَا إِلَى الْكُوفَةِ، وَبِوَجْهِهِ وَبِرَأْسِهِ بِضْعَ عَشْرَةَ جِرَاحَةً، فَمَكَثَ أَيَّامًا ثُمَّ أَتَى الْحَجَّاجَ فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ شَهِيدٌ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا. ذِكْرُ مُحَارَبَةِ الْأُمَرَاءِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُمْ وَقَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ فَلَمَّا هُزِمَ أَصْحَابُ زَحْرٍ قَالَ أَصْحَابُ شَبِيبٍ لِشَبِيبٍ: قَدْ هَزَمْنَا لَهُمْ جُنْدًا، انْصَرِفْ بِنَا الْآنَ وَافْرِينَ. فَقَالَ لَهُمْ: هَذِهِ الْهَزِيمَةُ قَدْ أَرْعَبَتْ هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءَ وَالْجُنُودَ الَّذِينَ فِي طَلَبِكُمْ، فَاقْصُدُوا بِنَا نَحْوَهُمْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَاتَلْنَاهُمْ فَمَا دُونَ الْحَجَّاجِ مَانِعٌ، وَنَأْخُذُ الْكُوفَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. فَقَالُوا: نَحْنُ لِرَأْيِكَ تَبَعٌ. فَسَارَ وَسَأَلَ عَنِ الْأُمَرَاءِ فَأُخْبِرَ أَنَّهُمْ بِرُوذْبَارَ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَرْسَخًا مِنَ الْكُوفَةِ، فَقَصَدَهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْحَجَّاجُ يُعْلِمُهُمْ بِمَسِيرِهِ وَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ أَمِيرَ الْجَمَاعَةِ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ. وَانْتَهَى إِلَيْهِمْ شَبِيبٌ وَقَدْ تَعَبَّؤُوا لِلْحَرْبِ، فَكَانَ عَلَى مَيْمَنَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ زِيَادُ بْنُ عَمْرٍو الْعَتَكِيُّ، وَفِي مَيْسَرَتِهِمْ بِشْرُ بْنُ غَالِبٍ الْأَسَدِيُّ، وَكُلُّ أَمِيرٍ وَاقِفٌ فِي أَصْحَابِهِ، وَأَقْبَلَ

شَبِيبٌ عَلَى فَرَسٍ كُمَيْتٍ أَغَرَّ فِي ثَلَاثِ كَتَائِبَ، كَتِيبَةٍ فِيهَا سُوَيْدُ بْنُ سُلَيْمٍ، فَوَقَفَ بِإِزَاءِ الْمَيْمَنَةِ، وَكَتِيبَةٍ فِيهَا مُصَادٌ، أَخُو شَبِيبٍ، فَوَقَفَ بِإِزَاءِ الْمَيْسَرَةِ، وَوَقَفَ شَبِيبٌ مُقَابِلَ الْقَلْبِ. فَخَرَجَ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ يَسِيرُ فِي النَّاسِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ لِعَدُوِّهِمْ وَالْقِتَالِ، وَيُطْمِعُهُمْ فِي عَدُوِّهِمْ لِقِلَّتِهِ وَبَاطِلِهِ، وَكَثْرَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَوْقِفِهِ، فَحَمَلَ سُوَيْدُ بْنُ سُلَيْمٍ عَلَى زِيَادِ بْنِ عَمْرٍو، فَانْكَشَفُوا، وَثَبَتَ زِيَادٌ فِي نَحْوٍ مِنْ نِصْفِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ ارْتَفَعَ عَنْهُمْ سُوَيْدٌ قَلِيلًا، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ ثَانِيَةً، فَتَطَاعَنُوا سَاعَةً، وَصَبَرَ زِيَادٌ سَاعَةً، وَقَاتَلَ زِيَادٌ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَاتَلَ سُوَيْدٌ أَيْضًا قِتَالًا شَدِيدًا، وَإِنَّهُ لَأَشْجَعُ الْعَرَبِ، ثُمَّ ارْتَفَعَ سُوَيْدٌ عَنْهُمْ، وَإِذَا أَصْحَابُ زِيَادٍ يَتَفَرَّقُونَ، فَقَالَ لِسُوَيْدٍ أَصْحَابُهُ: أَلَا تَرَاهُمْ يَتَفَرَّقُونَ؟ احْمِلْ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ لَهُمْ شَبِيبٌ: خَلُّوهُمْ حَتَّى يَخِفُّوا. فَتَرَكَهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ حَمَلَ الثَّالِثَةَ فَانْهَزَمُوا، وَأَخَذَتْ زِيَادَ بْنَ عَمْرٍو السُّيُوفُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَمَا ضَرَّهُ مِنْهَا شَيْءٌ لِلُّبْسَةِ الَّتِي عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ انْهَزَمَ وَقَدْ جُرِحَ جِرَاحَةً يَسِيرَةً، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَسَاءِ. ثُمَّ حَمَلُوا عَلَى عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ فَهَزَمُوهُ، وَلَمْ يُقَاتِلْ كَثِيرًا، وَلَحِقَ بِزِيَادِ بْنِ عَمْرٍو، فَمَضَيَا مُنْهَزِمَيْنِ، وَحَمَلَتِ الْخَوَارِجُ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ، فَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا وَصَبَرَ لَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ مُصَادًا أَخَا شَبِيبٍ حَمَلَ عَلَى بِشْرِ بْنِ غَالِبٍ وَهُوَ فِي مَيْسَرَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَصَبَرَ بِشْرٌ وَنَزَلَ، وَنَزَلَ مَعَهُ نَحْوُ خَمْسِينَ رَجُلًا، فَقَاتَلُوا حَتَّى قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ. وَحَمَلَتِ الْخَوَارِجُ عَلَى أَبِي الضُّرَيْسِ مَوْلَى بَنِي تَمِيمٍ، وَهُوَ يَلِي بِشْرَ بْنَ غَالِبٍ، فَهَزَمُوهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْقِفِ أَعْيَنَ فَهَزَمُوهُمَا، حَتَّى انْتَهَوْا بِهِمَا إِلَى زَائِدَةَ بْنِ قُدَامَةَ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ نَادَى: يَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ! الْأَرْضَ الْأَرْضَ، لَا يَكُونُوا عَلَى كُفْرِهِمْ أَصْبَرُ مِنْكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمْ. فَقَاتَلَهُمْ عَامَّةَ اللَّيْلِ حَتَّى كَانَ السَّحَرُ. ثُمَّ إِنَّ شَبِيبًا حَمَلَ عَلَيْهِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ، وَتَرَكَهُمْ رِبْضَةً حَوْلَهُ. وَلَمَّا قُتِلَ زَائِدَةُ دَخَلَ أَبُو الضُّرَيْسِ وَأَعْيَنَ جَوْسَقًا عَظِيمًا، وَقَالَ شَبِيبٌ لِأَصْحَابِهِ: ارْفَعُوا السَّيْفَ [عَنِ النَّاسِ] وَادْعُوهُمْ إِلَى الْبَيْعَةِ. فَدَعَوْهُمْ إِلَى الْبَيْعَةِ عِنْدَ الْفَجْرِ فَبَايَعُوهُ. وَكَانَ فِيمَنْ بَايَعَهُ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ شَبِيبٌ لِأَصْحَابِهِ: هَذَا ابْنُ أَحَدِ الْحَكَمَيْنِ. فَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَقَالَ شَبِيبٌ: مَا ذَنْبُ هَذَا؟ وَتَرَكَهُ، وَسَلَّمُوا عَلَى شَبِيبٍ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، فَبَقُوا كَذَلِكَ حَتَّى انْفَجَرَ الْفَجْرُ، فَلَمَّا ظَهَرَ الْفَجْرُ أَمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى مُؤَذِّنَهُ فَأَذَّنَ، وَكَانَ لَمْ يَنْهَزِمْ، فَسَمِعَ شَبِيبٌ الْأَذَانَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ

طَلْحَةَ لَمْ يَبْرَحْ. فَقَالَ: قَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ حُمْقَهُ وَخُيَلَاءَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى هَذَا. ثُمَّ نَزَلَ شَبِيبٌ فَأَذَّنَ هُوَ وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الصُّبْحَ، ثُمَّ رَكِبُوا فَحَمَلُوا عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَانْهَزَمَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَثَبَتَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَأَخَذَتِ الْخَوَارِجُ مَا كَانَ فِي الْعَسْكَرِ، وَانْهَزَمَ الَّذِينَ كَانُوا بَايَعُوا شَبِيبًا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. ثُمَّ أَتَى شَبِيبٌ الْجَوْسَقَ الَّذِي فِيهِ أَعْيَنَ وَأَبُو الضُّرَيْسِ فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ، فَأَقَامَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَسَارَ عَنْهُمْ. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: مَا دُونَ الْكُوفَةِ أَحَدٌ يَمْنَعُ. فَنَظَرَ وَإِذَا أَصْحَابُهُ قَدْ جُرِحُوا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا عَلَيْكُمْ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلْتُمْ. فَخَرَجَ بِهِمْ عَلَى نِفَّرَ، ثُمَّ عَلَى الصَّرَاةِ، فَأَتَى خَانِيجَارَ فَأَقَامَ بِهَا. فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ مَسِيرُهُ نَحْوَ نِفَّرَ فَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ الْمَدَائِنَ، وَهِيَ بَابُ الْكُوفَةِ، وَمَنْ أَخَذَهَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنَ السَّوَادِ أَكْثَرُهُ، فَهَالَ ذَلِكَ الْحَجَّاجَ، فَبَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ قَطَنٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَدَائِنِ وَجُوخَى وَالْأَنْبَارِ، وَعَزَلَ عَنْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي عُصَيْفِرٍ، وَكَانَ بِهَا الْجَزْلُ يُدَاوِي جِرَاحَتَهُ، فَلَمْ يَتَعَهَّدْهُ عُثْمَانُ كَمَا كَانَ ابْنُ أَبِي عُصَيْفِرٍ يَفْعَلُ، فَقَالَ الْجَزْلُ: اللَّهُمَّ زِدِ ابْنَ أَبِي عُصَيْفِرٍ جُودًا وَفَضْلًا، وَزِدْ عُثْمَانَ بْنَ قَطَنٍ بُخْلًا وَضِيقًا. وَقَدْ قِيلَ فِي مَقْتَلِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى غَيْرُ هَذَا، وَالَّذِي ذُكِرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مُوسَى كَانَ قَدْ شَهِدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ قِتَالَ أَبِي فُدَيْكٍ، وَكَانَ شُجَاعًا ذَا بَأْسٍ، فَزَوَّجَهُ عُمَرُ ابْنَتَهُ، وَكَانَتْ أُخْتُهُ تَحْتَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَوَلَّاهُ سِجِسْتَانَ، فَمَرَّ بِالْكُوفَةِ وَفِيهَا الْحَجَّاجُ فَقِيلَ لَهُ: إِنْ صَارَ هَذَا بِسِجِسْتَانَ مَعَ صِهْرِهِ، لِعَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَجَأَ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِمَّنْ تَطْلُبُ - مَنَعَكَ مِنْهُ فَقَالَ: وَمَا الْحِيلَةُ؟ قَالَ: تَأْتِيهِ وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَتَذْكُرُ نَجْدَتَهُ وَبَأْسَهُ، وَأَنَّ شَبِيبًا فِي طَرِيقِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ أَعْيَاكَ، وَتَرْجُو أَنْ يُرِيحَ اللَّهُ مِنْهُ عَلَى يَدِهِ، فَيَكُونُ لَهُ ذِكْرُهُ وَفَخْرُهُ. فَفَعَلَ الْحَجَّاجُ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ مُحَمَّدٌ وَعَدَلَ إِلَى شَبِيبٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ شَبِيبٌ: إِنَّكَ مَخْدُوعٌ، وَإِنَّ الْحَجَّاجَ قَدِ اتَّقَى بِكَ وَأَنْتَ جَارٌ لَكَ حَقٌّ، فَانْطَلِقْ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ، وَلَكَ اللَّهُ لَا أُوذِيكَ. فَأَبَى إِلَّا مُحَارَبَتَهُ، فَوَاقَفَهُ شَبِيبٌ وَأَعَادَ إِلَيْهِ الرَّسُولَ، فَأَبَى وَطَلَبَ الْبِرَازَ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ الْبَطِينُ بْنُ قَعْنَبٍ، وَسُوَيْدُ بْنُ سُلَيْمٍ، فَأَبَى إِلَّا شَبِيبًا، فَقَالُوا ذَلِكَ لِشَبِيبٍ، فَبَرَزَ شَبِيبٌ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ فِي دَمِكَ، فَإِنَّ لَكَ جِوَارًا. فَأَبَى، فَحَمَلَ شَبِيبٌ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ

بِعَمُودٍ حَدِيدٍ وَزْنُهُ اثْنَا عَشَرَ رَطْلًا بِالشَّامِيِّ، فَهَشَّمَ الْبَيْضَةَ وَرَأْسَهُ، فَسَقَطَ مَيِّتًا، ثُمَّ كَفَّنَهُ وَدَفَنَهُ، وَابْتَاعَ مَا غَنِمُوا مِنْ عَسْكَرِهِ فَبَعَثَهُ إِلَى أَهْلِهِ وَاعْتَذَرَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: هُوَ جَارِي، وَلِي أَنْ أَهَبَ مَا غَنِمْتُ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ. ذِكْرُ مُحَارَبَةِ شَبِيبٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَقَتْلِ عُثْمَانَ بْنِ قَطَنٍ ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ دَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْتَخِبَ مِنَ النَّاسِ سِتَّةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَيَسِيرُ فِي طَلَبِ شَبِيبٍ أَيْنَ كَانَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَسَارَ نَحْوَهُ، وَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ يَتَهَدَّدُهُمْ بِالْقَتْلِ وَالتَّنْكِيدِ إِنِ انْهَزَمُوا. فَوَصَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى الْمَدَائِنِ، فَأَتَى الْجَزْلَ يَعُودُهُ مِنْ جِرَاحَتِهِ، فَأَوْصَاهُ الْجَزْلُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَحَذَّرَهُ مِنْ شَبِيبٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَعْطَاهُ فَرَسًا كَانَتْ لَهُ تُسَمَّى الْفُسَيْفِسَاءَ، وَكَانَتْ لَا تُجَارَى، ثُمَّ وَدَّعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَسَارَ إِلَى شَبِيبٍ. فَسَارَ شَبِيبٌ إِلَى دَقُوقَاءَ وَشَهْرَزُورَ، فَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي طَلَبِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالتُّخُومِ وَقَفَ وَقَالَ: هَذِهِ أَرْضُ الْمَوْصِلِ فَلْيُقَاتِلُوا عَنْهَا. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ: أَمَّا بَعْدُ، فَاطْلُبْ شَبِيبًا وَاسْلُكْ فِي أَثَرِهِ أَيْنَ سَلَكَ، حَتَّى تُدْرِكَهُ فَتَقْتُلَهُ أَوْ تَنْفِيهِ، فَإِنَّمَا السُّلْطَانُ سُلْطَانُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْجُنْدُ جُنْدُهُ، وَالسَّلَامُ. فَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي أَثَرِ شَبِيبٍ، [فَكَانَ شَبِيبٌ] يَدَعُهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنْهُ فَيُبَيِّتُهُ، فَيَجِدُهُ قَدْ خَنْدَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَحَذِرَ، فَيَتْرُكُهُ وَيَسِيرُ، فَيَتْبَعُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. فَإِذَا بَلَغَ شَبِيبًا مَسِيرُهُ أَتَاهُمْ وَهُمْ سَائِرُونَ، فَيَجِدُهُمْ عَلَى تَعْبِيَةٍ فَلَا يُصِيبُ مِنْهُ غِرَّةً، ثُمَّ جَعَلَ إِذَا دَنَا مِنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَسِيرُ عِشْرِينَ فَرْسَخًا أَوْ مَا يُقَارِبُهَا فَيَنْزِلُ فِي أَرْضٍ خَشِنَةٍ غَلِيظَةٍ وَيَتْبَعُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَإِذَا دَنَا مِنْهُ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى عَذَّبَ ذَلِكَ الْجَيْشَ وَشَقَّ عَلَيْهِ وَأَحْفَى دَوَابَّهُمْ، وَلَقُوا مِنْهُ كُلَّ بَلَاءٍ، وَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتْبَعُهُ حَتَّى مَرَّ بِهِ عَلَى خَانِقِينَ وَجَلُولَاءَ وَسَامِرَّا، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْبَتِّ، وَهِيَ مِنْ قُرَى الْمَوْصِلِ، لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَوَادِ الْكُوفَةِ إِلَّا نَهْرُ حَوْلَايَا، وَهُوَ فِي رَاذَانَ الْأَعْلَى مِنْ أَرْضِ جُوخَى، وَنَزَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي عَوَاقِيلَ مِنَ النَّهْرِ ; لِأَنَّهَا مِثْلُ الْخَنْدَقِ.

فَأَرْسَلَ شَبِيبٌ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ عِيدٌ لَنَا وَلَكُمْ، يَعْنِي عِيدَ النَّحْرِ، فَهَلْ لَكَ فِي الْمُوَادَعَةِ حَتَّى تَمْضِيَ هَذِهِ الْأَيَّامُ؟ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ يُحِبُّ الْمُطَاوَلَةَ، وَكَتَبَ عُثْمَانُ بْنُ قَطَنٍ إِلَى الْحَجَّاجِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَدْ حَفَرَ جُوخَى كُلَّهَا خَنْدَقًا وَاحِدًا، وَكَسَرَ خَرَاجَهَا، وَخَلَّى شَبِيبًا يَأْكُلُ أَهْلَهَا، وَالسَّلَامُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْجَيْشِ، وَجَعَلَهُ أَمِيرَهُمْ، وَعَزَلَ عَنْهُمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَبَعَثَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْمَدَائِنِ مُطَرِّفَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَسَارَ عُثْمَانُ حَتَّى قَدِمَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَسْكَرِ الْكُوفَةِ، فَوَصَلَ عَشِيَّةَ الثُّلَاثَاءِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَنَادَى النَّاسَ وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ: أَيُّهَا النَّاسُ، اخْرُجُوا إِلَى عَدُوِّكُمْ. فَوَثَبَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَقَالُوا: هَذَا الْمَسَاءُ قَدْ غَشِيَنَا، وَالنَّاسُ لَمْ يُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْحَرْبِ، فَبِتِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اخْرُجْ عَلَى تَعْبِيَةٍ، وَهُوَ يَقُولُ: لَأُنَاجِزَنَّهُمْ، فَلَتَكُونَنَّ الْفُرْصَةُ لِي أَوْ لَهُمْ. فَأَتَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَنْزَلَهُ. وَكَانَ شَبِيبٌ قَدْ نَزَلَ بِبَيْعَةِ الْبَتِّ، فَأَتَاهُ أَهْلُهَا فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ تَرْحَمُ الضُّعَفَاءَ وَأَهْلَ الذِّمَّةِ، وَيُكَلِّمُكَ مَنْ تَلِي عَلَيْهِ وَيَشْكُونَ إِلَيْكَ فَتَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ جَبَابِرَةٌ لَا يُكَلِّمُونَ وَلَا يَقْبَلُونَ الْعُذْرَ، وَاللَّهِ لَئِنْ بَلَغَهُمْ أَنَّكَ مُقِيمٌ فِي بَيْعَتِنَا لَيَقْتُلُنَّنَا إِذَا ارْتَحَلْتَ عَنَّا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَنْزِلَ جَانِبَ الْقَرْيَةِ وَلَا تَجْعَلْ عَلَيْنَا مَقَالًا فَافْعَلْ. فَخَرَجَ عَنِ الْبَيْعَةِ فَنَزَلَ جَانِبَ الْقَرْيَةِ. وَبَاتَ عُثْمَانُ لَيْلَتَهُ كُلَّهَا يُحَرِّضُ أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ خَرَجَ بِالنَّاسِ كُلِّهِمْ، فَاسْتَقْبَلَتْهُمْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَغَبَرَةٌ شَدِيدَةٌ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا لَهُ: نَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تَخْرُجَ بِنَا وَالرِّيحُ عَلَيْنَا. فَأَقَامَ بِهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَقَدْ عَبَّأَ النَّاسَ، فَجَعَلَ فِي الْمَيْمَنَةِ خَالِدَ بْنَ نَهِيكِ بْنِ قَيْسٍ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عَقِيلَ بْنَ شَدَّادٍ السَّلُولِيَّ، وَنَزَلَ هُوَ فِي الرَّجَّالَةِ، وَعَبَرَ شَبِيبٌ النَّهْرَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ يَوْمَئِذٌ فِي مِائَةٍ وَأَحَدٍ وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فَوَقَفَ هُوَ فِي الْمَيْمَنَةِ، وَجَعَلَ أَخَاهُ مُصَادًا فِي الْقَلْبِ، وَجَعَلَ سُوَيْدَ بْنَ سُلَيْمٍ فِي الْمَيْسَرَةِ، وَزَحَفَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَقَالَ شَبِيبٌ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي حَامِلٌ عَلَى مَيْسَرَتِهِمْ مِمَّا يَلِي النَّهْرَ، فَإِذَا هَزَمْتُهَا فَلْيَحْمِلْ صَاحِبُ مَيْسَرَتِي عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ، وَلَا يَبْرَحْ صَاحِبُ الْقَلْبِ حَتَّى يَأْتِيَهُ أَمْرِي. وَحَمَلَ عَلَى مَيْسَرَةِ عُثْمَانَ فَانْهَزَمُوا، وَنَزَلَ عَقِيلُ بْنُ شَدَّادٍ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَقُتِلَ أَيْضًا مَالِكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَمْدَانِيُّ عَمُّ عَيَّاشِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنْتُوفِ، وَدَخَلَ شَبِيبٌ عَسْكَرَهُمْ، وَحَمَلَ سُوَيْدٌ عَلَى مَيْمَنَةِ عُثْمَانَ، فَهَزَمَهَا وَعَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ نَهِيكٍ، فَقَاتَلَهُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَحَمَلَ شَبِيبٌ مِنْ وَرَائِهِ فَقَتَلَهُ. وَتَقَدَّمَ عُثْمَانُ بْنُ قَطَنٍ وَقَدْ نَزَلَ مَعَهُ الْعُرَفَاءُ وَأَشْرَافُ النَّاسِ وَالْفُرْسَانُ نَحْوَ الْقَلْبِ، وَفِيهِ مُصَادٌ أَخُو شَبِيبٍ فِي نَحْوٍ مِنْ سِتِّينَ رَجُلًا، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ عُثْمَانُ شَدَّ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ

مَعَهُ، فَضَارَبُوهُمْ حَتَّى فَرَّقُوا بَيْنَهُمْ، وَحَمَلَ شَبِيبٌ بِالْخَيْلِ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَمَا شَعَرَ عُثْمَانُ وَمَنْ مَعَهُ إِلَّا وَالرِّمَاحُ فِي أَكْتَافِهِمْ تُكِبُّهُمْ لِوُجُوهِهِمْ، وَعَطَفَ عَلَيْهِمْ سُوَيْدُ بْنُ سُلَيْمٍ أَيْضًا فِي خَيْلِهِ، وَرَجَعَ مُصَادٌ وَأَصْحَابُهُ فَاضْطَرَبُوا سَاعَةً، وَقَاتَلَ عُثْمَانُ بْنُ قَطَنٍ أَحْسَنَ قِتَالٍ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَحَاطُوا بِهِ، وَضَرَبَهُ مُصَادٌ أَخُو شَبِيبٍ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ اسْتَدَارَ لَهَا وَقَالَ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37] ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ قَتَلُوهُ، وَوَقَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَأَتَاهُ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ عَلَى بَغْلِهِ، فَعَرَفَهُ فَأَرْكَبَهُ مَعَهُ، وَنَادَى فِي النَّاسِ: الْحَقُوا بِدَيْرِ أَبِي مَرْيَمَ، ثُمَّ انْطَلَقَا ذَاهِبَيْنِ. وَرَأَى وَاصِلٌ السَّكُونِيُّ فَرَسَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الَّتِي أَعْطَاهُ الْجَزْلُ تَجُولُ فِي الْعَسْكَرِ، فَأَخَذَهَا بَعْضُ أَصْحَابِ شَبِيبٍ، فَظَنَّ أَنَّهُ قُتِلَ، فَطَلَبَهُ فِي الْقَتْلَى فَلَمْ يَجِدْهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَأُعْطِيَ خَبَرَهُ، فَاتَّبَعَهُ وَاصِلٌ عَلَى بِرْذَوْنِهِ وَمَعَهُ غُلَامُهُ عَلَى بَغْلٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمَا نَزَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ لِيُقَاتِلَا، فَلَمَّا رَآهُمَا وَاصِلٌ عَرَفَهُمَا وَقَالَ: إِنَّكُمَا تَرَكْتُمَا النُّزُولَ فِي مَوْضِعِهِ، فَلَا تَنْزِلَا الْآنَ! وَحَسَرَ عِمَامَتَهُ عَنْ وَجْهِهِ فَعَرَفَاهُ، وَقَالَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ: قَدْ أَتَيْتُكَ بِهَذَا الْبِرْذَوْنِ لِتَرْكَبَهُ. فَرَكِبَهُ وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ الْبَقَّارِ. وَأَمَرَ شَبِيبٌ أَصْحَابَهُ فَرَفَعُوا السَّيْفَ عَنِ النَّاسِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْبَيْعَةِ فَبَايَعُوهُ. وَقُتِلَ مِنْ كِنْدَةَ يَوْمَئِذٍ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، وَقُتِلَ مُعْظَمُ الْعُرَفَاءِ. وَبَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِدَيْرِ الْبَقَّارِ، فَأَتَاهُ فَارِسَانِ فَصَعِدَا إِلَيْهِ، فَخَلَا أَحَدُهُمَا بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ طَوِيلًا، ثُمَّ نَزَلَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ كَانَ شَبِيبًا، وَقَدْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُكَاتَبَةٌ، وَسَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَتَّى أَتَى دَيْرَ أَبِي مَرْيَمَ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَقَالُوا لَهُ: إِنْ سَمِعَ شَبِيبٌ بِمَكَانِكَ أَتَاكَ فَكُنْتَ لَهُ غَنِيمَةً. فَخَرَجَ إِلَى الْكُوفَةِ وَاخْتَفَى مِنَ الْحَجَّاجِ حَتَّى أُخِذَ لَهُ الْأَمَانُ مِنْهُ. ذِكْرُ ضَرْبِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ضَرَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ ضَرْبَهَا فِي الْإِسْلَامِ، فَانْتَفَعَ النَّاسُ بِذَلِكَ.

وَكَانَ سَبَبُ ضَرْبِهَا أَنَّهُ كَتَبَ فِي صُدُورِ الْكُتُبِ إِلَى الرُّومِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وَذَكَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ التَّارِيخِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَلِكُ الرُّومِ: إِنَّكُمْ قَدْ أَحْدَثْتُمْ كَذَا وَكَذَا، فَاتْرُكُوهُ وَإِلَّا أَتَاكُمْ فِي دَنَانِيرِنَا مِنْ ذِكْرِ نَبِيِّكُمْ مَا تَكْرَهُونَ. فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. فَأَحْضَرَ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَاسْتَشَارَهُ فِيهِ، فَقَالَ: حَرِّمْ دَنَانِيرَهُمْ، وَاضْرِبْ لِلنَّاسِ سَكَّةً فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ - تَعَالَى -. فَضَرَبَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ. ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ ضَرَبَ الدَّرَاهِمَ وَنَقَشَ فِيهَا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ لِمَكَانِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ يَمَسُّهَا، وَنَهَى أَنْ يَضْرِبَ أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَضَرَبَ سُمَيْرٌ الْيَهُودِيُّ، فَأَخَذَهُ لِيَقْتُلَهُ، فَقَالَ لَهُ: عِيَارُ دِرْهَمِي أَجْوَدُ مِنْ دَرَاهِمِكَ، فَلِمَ تَقْتُلُنِي؟ فَلَمْ يَتْرُكْهُ، فَوَضَعَ لِلنَّاسِ سِنَجَ الْأَوْزَانِ لِيَتْرُكَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَكَانَ النَّاسُ لَا يَعْرِفُونَ الْوَزْنَ، إِنَّمَا يَزِنُونَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، فَلَمَّا وَضَعَ لَهُمْ سُمَيْرٌ السِّنَجَ كَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ غَبْنِ بَعْضٍ. وَأَوَّلُ مَنْ شَدَّدَ فِي أَمْرِ الْوَزْنِ وَخَلَّصَ الْفِضَّةَ أَبْلَغَ مِنْ تَخْلِيصِ مَنْ قَبْلَهُ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ أَيَّامَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَجَوَّدَ الدَّرَاهِمَ، وَخَلَّصَ الْعِيَارَ وَاشْتَدَّ فِيهِ. ثُمَّ كَانَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ أَيَّامَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَاشْتَدَّ أَكْثَرَ مِنَ ابْنِ هُبَيْرَةَ. ثُمَّ وَلِيَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، فَأَفْرَطَ فِي الشِّدَّةِ، فَامْتَحَنَ يَوْمًا الْعِيَارَ، فَوَجَدَ دِرْهَمًا يَنْقُصُ حَبَّةً، فَضَرَبَ كُلَّ صَانِعٍ أَلْفَ سَوْطٍ. وَكَانُوا مِائَةَ صَانِعٍ، فَضَرَبَ فِي حَبَّةٍ مِائَةَ أَلْفِ سَوْطٍ. وَكَانَتِ الْهُبَيْرِيَّةُ وَالْخَالِدِيَّةُ وَالْيُوسُفِيَّةُ أَجْوَدَ نُقُودِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَلَمْ يَكُنِ الْمَنْصُورُ يَقْبَلُ فِي الْخَرَاجِ غَيْرَهَا، فَسُمِّيَتِ الدَّرَاهِمُ الْأُولَى مَكْرُوهَةً. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَكْرُوهَةَ الدَّرَاهِمُ الَّتِي ضَرَبَهَا الْحَجَّاجُ وَنَقَشَ عَلَيْهَا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، فَكَرِهَهَا الْعُلَمَاءُ لِأَجْلِ مَسِّ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ. وَكَانَتْ دَرَاهِمُ الْأَعْجَامِ مُخْتَلِفَةً كِبَارًا وَصِغَارًا، وَكَانُوا يَضْرِبُونَ مِثْقَالًا، وَهُوَ وَزْنُ عِشْرِينَ قِيرَاطًا، وَمِنْهَا وَزْنُ اثْنَيْ عَشَرَ قِيرَاطًا، وَمِنْهَا وَزْنُ عَشَرَةِ قَرَارِيطَ، وَهِيَ أَصْنَافُ

الْمَثَاقِيلِ، فَلَمَّا ضُرِبَ الدَّرَاهِمُ فِي الْإِسْلَامِ أَخَذُوا عِشْرِينَ قِيرَاطًا، وَاثْنَيْ عَشَرَ قِيرَاطًا، وَعَشَرَةَ قَرَارِيطَ، فَوَجَدُوا ذَلِكَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ قِيرَاطًا، فَضَرَبُوا عَلَى الثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا، فَوَزَنَ الدِّرْهَمُ الْعَرَبِيُّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا، فَصَارَ وَزْنُ كُلِّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ. وَقِيلَ: إِنَّ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ ضَرَبَ دَرَاهِمَ قَلِيلَةً أَيَّامَ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ كُسِرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّامَ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فِي أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَفَدَ يَحْيَى بْنُ الْحَكَمِ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ الْمَدِينَةَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ. وَفِيهَا وُلِدَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ. وَأَقَامَ الْحَجَّ لِلنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ عَلَى الْعِرَاقِ الْحَجَّاجُ، وَعَلَى خُرَاسَانَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحٌ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى. وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ الرُّومَ مِنْ نَاحِيَةِ مَلَطْيَةَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ حَبَّةُ بْنُ جُوَيْنٍ الْعُرَنِيُّ صَاحِبُ عَلِيٍّ. (حَبَّةُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى عُرَنَةَ، بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الْمَضْمُومَةِ، وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالنُّونِ) .

ثم دخلت سنة سبع وسبعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ] 77 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ ذِكْرُ مُحَارَبَةِ شَبِيبٍ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ وَزُهْرَةَ بْنَ حَوِيَّةَ وَقَتْلِهِمَا وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ شَبِيبٌ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيَّ وَزُهْرَةَ بْنَ حَوِيَّةَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ شَبِيبًا لَمَّا هَزَمَ الْجَيْشَ الَّذِي كَانَ وَجَّهَهُ الْحَجَّاجُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَقُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ قَطَنٍ، كَانَ ذَلِكَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَأَتَى شَبِيبٌ مَاهَ بَهْرَاذَانَ فَصَيَّفَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَأَتَاهُ نَاسٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا، وَمِمَّنْ كَانَ الْحَجَّاجُ يَطْلُبُهُمْ بِمَالٍ أَوْ تَبِعَاتٍ. فَلَمَّا ذَهَبَ الْحَرُّ خَرَجَ شَبِيبٌ فِي نَحْوِ ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ فَأَقْبَلَ نَحْوَ الْمَدَائِنِ، وَعَلَيْهَا مُطَرِّفُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، فَجَاءَ حَتَّى نَزَلَ قَنَاطِرَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، فَكَتَبَ عَظِيمُ بَابِلَ مَهْرُوذُ إِلَى الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَتُقَاتِلُنَّ عَنْ بِلَادِكُمْ وَعَنْ فَيْئِكُمْ، أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَى قَوْمٍ هُمْ أَطْوَعُ وَأَصْبَرُ عَلَى اللَّأْوَاءِ وَالْقَيْظِ مِنْكُمْ، فَيُقَاتِلُونَ عَدُوَّكُمْ وَيَأْكُلُونَ فَيْئَكُمْ. فَقَامَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَمَكَانٍ فَقَالُوا: نَحْنُ نُقَاتِلُهُمْ وَنَعْتِبُ الْأَمِيرَ، فَلْيَنْدُبْنَا الْأَمِيرُ إِلَيْهِمْ. وَقَامَ إِلَيْهِ زُهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَتِمُّ قَائِمًا حَتَّى يُؤْخَذَ بِيَدِهِ، فَقَالَ [لَهُ] : أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنَّمَا تَبْعَثُ إِلَيْهِمُ النَّاسَ مُتَقَطِّعِينَ، فَاسْتَنْفِرِ النَّاسَ إِلَيْهِمْ كَافَّةً، وَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلًا شُجَاعًا مُجَرِّبًا مِمَّنْ يَرَى الْفِرَارَ هَضْمًا وَعَارًا، وَالصَّبْرَ مَجْدًا وَكَرَمًا. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: فَأَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَاخْرُجْ. فَقَالَ زُهْرَةُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنَّمَا يَصْلُحُ الرَّجُلُ يَحْمِلُ الدِّرْعَ وَالرُّمْحَ، وَيَهُزُّ السَّيْفَ، وَيَثْبُتُ عَلَى [مَتْنِ] الْفَرَسِ، وَأَنَا لَا أُطِيقُ مِنْ هَذَا شَيْئًا، وَقَدْ ضَعُفَ بَصَرِي [وَضَعُفْتُ] ، وَلَكِنْ أَخْرِجْنِي مَعَ الْأَمِيرِ فِي

النَّاسِ، فَأَكُونُ مَعَهُ وَأُشِيرُ عَلَيْهِ بِرَأْيِي. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا عَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فِي أَوَّلِ أَمْرِكَ وَآخِرِهِ، فَقَدْ نَصَحْتَ. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، سِيرُوا بِأَجْمَعِكُمْ كَافَّةً. فَانْصَرَفَ النَّاسُ يَتَجَهَّزُونَ وَلَا يَدْرُونَ مَنْ أَمِيرُهُمْ. وَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُخْبِرُهُ أَنَّ شَبِيبًا قَدْ شَارَفَ الْمَدَائِنَ وَأَنَّهُ يُرِيدُ الْكُوفَةَ، وَقَدْ عَجَزَ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَنْ قِتَالِهِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، [فِي كُلِّهَا] يَقْتُلُ أُمَرَاءَهُمْ وَيَهْزِمُ جُنُودَهُمْ، وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ جُنْدًا مِنَ الشَّامِ، يُقَاتِلُونَ الْخَوَارِجَ وَيَأْكُلُونَ الْبِلَادَ. فَلَمَّا أَتَى الْكِتَابُ بَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ سُفْيَانَ بْنَ الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيَّ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَحَبِيبَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَكَمِيَّ فِي أَلْفَيْنِ. فَبَعَثَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَتَّابِ بْنِ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيِّ، وَهُوَ مَعَ الْمُهَلَّبِ، يَسْتَدْعِيهِ، وَكَانَ عَتَّابٌ قَدْ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يَشْكُو مِنَ الْمُهَلَّبِ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَضُمَّهُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ عَتَّابًا طَلَبَ مِنَ الْمُهَلَّبِ أَنْ يَرْزُقَ أَهْلَ الْكُوفَةِ الَّذِينَ مَعَهُ مِنْ مَالِ فَارِسَ، فَأَبَى عَلَيْهِ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا مُنَافَرَةٌ، فَكَادَتْ تُؤَدِّي إِلَى الْحَرْبِ، فَدَخَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بَيْنَهُمَا فَأَصْلَحَ الْأَمْرَ، وَأَلْزَمَ أَبَاهُ بِرِزْقِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَ يَشْكُو مِنْهُ. فَلَمَّا وَرَدَ كِتَابُهُ سُرَّ الْحَجَّاجُ بِذَلِكَ وَاسْتَدْعَاهُ، ثُمَّ جَمَعَ الْحَجَّاجُ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَنْ يُوَلِّيهِ أَمْرَ الْجَيْشِ، فَقَالُوا: رَأْيُكَ أَفْضَلُ. فَقَالَ: قَدْ بَعَثْتُ إِلَى عَتَّابٍ، وَهُوَ قَادِمٌ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَةَ أَوِ الْقَابِلَةَ. فَقَالَ زُهْرَةُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، رَمَيْتَهُمْ بِحَجَرِهِمْ، وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ إِلَيْكَ حَتَّى نَظْفَرَ أَوْ نُقْتَلَ. وَقَالَ لَهُ قَبِيصَةُ بْنُ وَالِقٍ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ تَحَدَّثُوا أَنَّ جَيْشًا قَدْ وَصَلَ إِلَيْكَ مِنَ الشَّامِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدْ هُزِمُوا، وَهَانَ عَلَيْهِمُ الْفِرَارُ، فَقُلُوبُهُمْ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ فِيهِمْ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ، وَلَا يُبَيِّتُوا إِلَّا وَهُمْ مُحْتَاطُونَ، فَإِنَّكَ تُحَارِبُ حُوَّلًا قُلَّبًا ظَعَّانًا رَحَّالًا، وَقَدْ جَهَّزْتَ إِلَيْهِمْ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَسْتَ وَاثِقًا بِهِمْ كُلَّ الثِّقَةِ، وَإِنَّ شَبِيبًا بَيْنَا هُوَ فِي أَرْضٍ إِذَا هُوَ فِي أُخْرَى، وَلَا آمَنُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَ الشَّامِ وَهُمْ آمِنُونَ، فَإِنْ يَهْلِكُوا نَهْلِكْ وَيَهْلِكِ الْعِرَاقُ. قَالَ لَهُ: لِلَّهِ أَبُوكَ، مَا أَحْسَنَ مَا أَشَرْتَ بِهِ! وَأَرْسَلَ إِلَى الشَّامِ يُحَذِّرُهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَأْتُوا عَلَى عَيْنِ التَّمْرِ. فَفَعَلُوا. وَقَدِمَ عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَبَعَثَهُ الْحَجَّاجُ عَلَى ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَعَسْكَرَ بِحَمَّامِ

أَعْيَنَ، وَأَقْبَلَ شَبِيبٌ حَتَّى انْتَهَى إِلَى كَلْوَاذَى، فَقَطَعَ فِيهَا دِجْلَةَ، (ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ مَدِينَةَ بَهُرَسِيرَ الدُّنْيَا، فَصَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُطَرِّفٍ [جِسْرُ] دِجْلَةَ) ، وَقَطَعَ مُطَرِّفٌ الْجِسْرَ وَبَعَثَ إِلَى شَبِيبٍ: أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ رِجَالًا مِنْ وُجُوهِ أَصْحَابِكَ أُدَارِسُهُمُ الْقُرْآنَ، وَأَنْظُرُ فِيمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ قَعْنَبَ بْنَ سُوَيْدٍ وَالْمُحَلِّلَ وَغَيْرَهُمَا، وَأَخَذَ مِنْهُ رَهَائِنَ إِلَى أَنْ يَعُودُوا، فَأَقَامُوا عِنْدَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى شَيْءٍ. فَلَمَّا لَمْ يَتْبَعْهُ مُطَرِّفٌ تَهَيَّأَ لِلْمَسِيرِ إِلَى عَتَّابٍ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي كُنْتُ عَازِمًا أَنْ آتِيَ أَهْلَ الشَّامِ جَرِيدَةً، وَأَلْقَاهُمْ عَلَى غِرَّةٍ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلُوا بِأَمِيرٍ مِثْلِ الْحَجَّاجِ، وَمِصْرٍ مِثْلِ الْكُوفَةِ، فَثَبَّطَنِي عَنْهُمْ مُطَرِّفٌ، وَقَدْ جَاءَتْنِي عُيُونِي، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ أَوَائِلَهُمْ قَدْ دَخَلُوا عَيْنَ التَّمْرِ، فَهُمُ الْآنَ قَدْ شَارَفُوا الْكُوفَةَ، وَقَدْ أَخْبَرُونِي أَنَّ عَتَّابًا وَمَنْ مَعَهُ بِالْبَصْرَةِ، فَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَتَيَسَّرُوا لِلْمَسِيرِ إِلَى عَتَّابٍ. وَخَافَ مُطَرِّفُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَنْ يَبْلُغَ خَبَرُهُ مَعَ شَبِيبٍ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَخَرَجَ نَحْوَ الْجِبَالِ. فَأَرْسَلَ شَبِيبٌ أَخَاهُ مُصَادًا إِلَى الْمَدَائِنِ وَعَقَدَ الْجِسْرَ، وَأَقْبَلَ عَتَّابٌ إِلَيْهِ حَتَّى نَزَلَ بِسُوقِ حَكَمَةَ، وَقَدْ خَرَجَ مَعَهُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَمِنَ الشَّبَابِ وَالْأَتْبَاعِ عَشَرَةُ آلَافٍ، فَكَانُوا خَمْسِينَ أَلْفًا، وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ قَالَ لَهُمْ حِينَ سَارُوا: إِنَّ لِلسَّائِرِ الْمُجْتَهِدِ الْكَرَامَةَ وَالْأَثَرَةَ، وَلِلْهَارِبِ الْهَوَانَ وَالْجَفْوَةَ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَئِنْ فَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ كَفِعْلِكُمْ فِي الْمَوَاطِنِ الْأُخَرِ لَأُوَلِّيَنَّكُمْ كَنَفًا خَشِنًا، وَلَأُعْرِكَنَّكُمْ بِكَلْكَلٍ ثَقِيلٍ. فَلَمَّا بَلَغَ عَتَّابٌ سُوقَ حَكَمَةَ أَتَاهُ شَبِيبٌ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ بِالْمَدَائِنِ أَلْفَ رَجُلٍ، فَحَثَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَسَارَ بِهِمْ، فَتَخَلَّفَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِسَابَاطَ، وَصَلَّى الْعَصْرَ وَسَارَ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى عَتَّابٍ وَعَسْكَرِهِ، فَلَمَّا رَآهُمْ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، وَكَانَ عَتَّابٌ قَدْ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ، فَجَعَلَ فِي الْمَيْمَنَةِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ، وَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّكَ شَرِيفٌ صَابِرٌ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَصْبِرَنَّ مَا ثَبَتَ مَعِيَ إِنْسَانٌ. وَقَالَ لِقَبِيصَةَ بْنِ وَالِقٍ الثَّعْلَبِيِّ: اكْفِنِي الْمَيْسَرَةَ. فَقَالَ: أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا أَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ إِلَّا أَنْ أُقَامَ. فَجَعَلَ عَلَيْهَا نُعَيْمَ بْنَ عُلَيْمٍ، وَبَعَثَ حَنْظَلَةَ بْنَ الْحَارِثِ الْيَرْبُوعِيَّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ وَشَيْخُ أَهْلِ بَيْتِهِ، عَلَى الرَّجَّالَةِ، وَصَفَّهُمْ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ: صَفٌّ فِيهِمْ أَصْحَابُ السُّيُوفِ، وَصَفٌّ فِيهِمْ أَصْحَابُ الرِّمَاحِ، وَصَفٌّ فِيهِمُ الرُّمَاةُ، ثُمَّ سَارَ فِي النَّاسِ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ الْقَصَّاصُ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ مَنْ يَرْوِي شِعْرَ عَنْتَرَةَ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ. فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ، كَأَنِّي بِكُمْ قَدْ فَرَرْتُمْ عَنْ عَتَّابِ بْنِ وَرْقَاءَ، وَتَرَكْتُمُوهُ تَسْفِي فِي اسْتِهِ الرِّيحُ!

ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى جَلَسَ فِي الْقَلْبِ وَمَعَهُ زُهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ جَالِسٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَهْمٍ الْعَدَوِيُّ. وَأَقْبَلَ شَبِيبٌ وَهُوَ فِي سِتِّمِائَةٍ وَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِهِ أَرْبَعُمِائَةٍ، فَقَالَ: لَقَدْ تَخَلَّفَ عَنَّا مَنْ لَا أُحِبُّ أَنْ يَرَى فِينَا، فَجَعَلَ سُوَيْدَ بْنَ سُلَيْمٍ فِي مِائَتَيْنِ فِي الْمَيْسَرَةِ، وَجَعَلَ الْمُحَلِّلَ بْنَ وَائِلٍ فِي مِائَتَيْنِ فِي الْقَلْبِ، وَمَضَى هُوَ فِي مِائَتَيْنِ إِلَى الْمَيْمَنَةِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ حِينَ أَضَاءَ الْقَمَرُ، فَنَادَاهُمْ: لِمَنْ هَذِهِ الرَّايَاتُ؟ فَقَالُوا: رَايَاتٌ لِرَبِيعَةَ. قَالَ: طَالَمَا نَصَرَتِ الْحَقَّ، وَطَالَمَا نَصَرَتِ الْبَاطِلَ، وَاللَّهِ لَأُجَاهِدَنَّكُمْ مُحْتَسِبًا، أَنَا شَبِيبٌ، لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، لِلْحَكَمِ، اثْبُتُوا إِنْ شِئْتُمْ! ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ فَفَضَّهُمْ، فَثَبَتَ أَصْحَابُ رَايَاتِ قَبِيصَةَ بْنِ وَالِقٍ، وَعُبَيْدِ بْنِ الْحُلَيْسِ، وَنُعَيْمِ بْنِ عُلَيْمٍ فَقُتِلُوا، وَانْهَزَمَتِ الْمَيْسَرَةُ كُلُّهَا، وَنَادَى النَّاسُ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ: قُتِلَ قَبِيصَةُ! وَقَالَ شَبِيبٌ: قَتَلْتُمُوهُ، وَمِثْلَهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175] . ثُمَّ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: وَيْحَكَ لَوْ ثَبَتَّ عَلَى إِسْلَامِكَ الْأَوَّلِ سَعِدْتَ! وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ هَذَا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ، ثُمَّ جَاءَ يُقَاتِلُكُمْ مَعَ الْفَسَقَةِ. ثُمَّ إِنَّ شَبِيبًا حَمَلَ مِنَ الْمَيْسَرَةِ عَلَى عَتَّابٍ، وَحَمَلَ سُوَيْدُ بْنُ سُلَيْمٍ عَلَى الْمَيْمَنَةِ، وَعَلَيْهِمَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَاتَلَهُمْ فِي رِجَالٍ مِنْ تَمِيمٍ وَهَمْدَانَ، فَمَا زَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى قِيلَ لَهُمْ قُتِلَ عَتَّابٌ، فَانْفَضُّوا. وَلَمْ يَزَلْ عَتَّابٌ جَالِسًا عَلَى طَنْفَسَةٍ فِي الْقَلْبِ وَمَعَهُ زُهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ إِذْ غَشِيَهُمْ شَبِيبٌ، فَقَالَ لَهُ عَتَّابٌ: يَا زُهْرَةُ، هَذَا يَوْمٌ كَثُرَ فِيهِ الْعَدَدُ، وَقَلَّ فِيهِ الْغَنَاءُ، وَالَهَفِي عَلَى خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ تَمِيمٍ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ، أَلَا صَابِرٌ لِعَدُوِّهِ؟ أَلَا مُوَاسٍ بِنَفْسِهِ؟ فَانْفَضُّوا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ، فَقَالَ [لَهُ] زُهْرَةُ: أَحْسَنْتَ يَا عَتَّابُ، فَعَلْتَ فِعْلًا [لَا يَفْعَلُهُ] مِثْلُكَ. أَبْشِرْ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - قَدْ أَهْدَى إِلَيْنَا الشَّهَادَةَ عِنْدَ فَنَاءِ أَعْمَارِنَا. فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ شَبِيبٌ وَثَبَ فِي عِصَابَةٍ قَلِيلَةٍ صَبَرَتْ مَعَهُ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَشْعَثِ قَدْ هَرَبَ وَتَبِعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ. فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ ذَلِكَ الْفَتَى يُبَالِي مَا صَنَعَ. ثُمَّ قَاتَلَهُمْ سَاعَةً، فَرَآهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ شَبِيبٍ يُقَالُ لَهُ عَامِرُ بْنُ عُمَرَ التَّغْلِبِيُّ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ، وَوَطِئَتِ الْخَيْلُ زُهْرَةَ بْنَ حَوِيَّةَ، فَأَخَذَ يَذُبُّ بِسَيْفِهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ،

فَجَاءَهُ الْفَضْلُ بْنُ عَامِرٍ الشَّيْبَانِيُّ فَقَتَلَهُ، فَانْتَهَى إِلَيْهِ شَبِيبٌ فَرَآهُ صَرِيعًا فَعَرَفَهُ، فَقَالَ: هَذَا زُهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتَ قُتِلْتَ عَلَى ضَلَالَةٍ لَرُبَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ حَسُنَ فِيهِ بَلَاؤُكَ، وَعَظُمَ فِيهِ غَنَاؤُكَ! وَلَرُبَّ خَيْلٍ لِلْمُشْرِكِينَ هَزَمْتَهَا، وَقَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ جَمٍّ أَهْلُهَا قَدِ افْتَتَحْتَهَا! ثُمَّ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّكَ تُقْتَلُ نَاصِرًا لِلظَّالِمِينَ. وَتَوَجَّعَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: إِنَّكَ لَتَتَوَجَّعُ لِرَجُلٍ كَافِرٍ. فَقَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ بِأَعْرَفَ بِضَلَالَتِهِمْ مِنِّي، وَلَكِنِّي أَعْرِفُ مِنْ قَدِيمِ أَمْرِهِمْ مَا لَا تَعْرِفُ، مَا لَوْ ثَبَتُوا عَلَيْهِ لَكَانُوا إِخْوَانَنَا. فَاسْتَمْسَكَ شَبِيبٌ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ وَالنَّاسِ، فَقَالَ: ارْفَعُوا السَّيْفَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ وَهَرَبُوا مِنْ تَحْتِ لَيْلَتِهِمْ، وَحَوَى مَا فِي الْعَسْكَرِ، وَبَعَثَ إِلَى أَخِيهِ فَأَتَاهُ مِنَ الْمَدَائِنِ. وَأَقَامَ شَبِيبٌ بَعْدَ الْوَقْعَةِ بِبَيْتِ قُرَّةَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ سَارَ نَحْوَ الْكُوفَةِ، فَنَزَلَ بُسُورَا وَقَتَلَ عَامِلَهَا. وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ وَعَسْكَرُ الشَّامِ قَدْ دَخَلُوا الْكُوفَةَ، فَشَدُّوا ظَهْرَ الْحَجَّاجِ وَاسْتَغْنَى بِهِ وَبِعَسْكَرِهِ عَنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، لَا أَعَزَّ اللَّهُ مَنْ أَرَادَ بِكُمُ الْعِزَّ، وَلَا نَصَرَ مَنْ أَرَادَ بِكُمُ النَّصْرَ، اخْرُجُوا عَنَّا فَلَا تَشْهَدُوا مَعَنَا قِتَالَ عَدُوِّنَا، انْزِلُوا بِالْحِيرَةِ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا يُقَاتِلْ مَعَنَا إِلَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ قِتَالَ عَتَّابٍ. ذِكْرُ قُدُومِ شَبِيبٍ الْكُوفَةَ أَيْضًا وَانْهِزَامِهِ عَنْهَا ثُمَّ سَارَ شَبِيبٌ مِنْ سُورَا فَنَزَلَ حَمَّامَ أَعْيَنَ، فَدَعَا الْحَجَّاجُ الْحَارِثَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الثَّقَفِيَّ، فَوَجَّهَهُ فِي نَاسٍ مِنَ الشُّرَطِ لَمْ يَشْهَدُوا يَوْمَ عَتَّابٍ وَغَيْرِهِمْ، فَخَرَجَ فِي نَحْوِ أَلْفٍ، فَنَزَلَ زُرَارَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ شَبِيبًا، فَعَجَّلَ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ حَمَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَجَاءَ الْمُنْهَزِمُونَ فَدَخَلُوا الْكُوفَةَ، وَجَاءَ شَبِيبٌ فَعَسْكَرَ بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ وَأَقَامَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ غَيْرُ قَتْلِ الْحَارِثِ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي أَخْرَجَ الْحَجَّاجُ مَوَالِيَهُ، فَأَخَذُوا بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ، وَجَاءَ شَبِيبٌ فَنَزَلَ السَّبْخَةَ وَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ أَخْرَجَ الْحَجَّاجُ أَبَا الْوَرْدِ مَوْلَاهُ،

عَلَيْهِ تِجْفَافٌ، وَمَعَهُ غِلْمَانٌ لَهُ وَقَالُوا: هَذَا الْحَجَّاجُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ شَبِيبٌ فَقَتَلَهُ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا الْحَجَّاجُ فَقَدْ أَرَحْتُكُمْ مِنْهُ. ثُمَّ أَخْرَجَ الْحَجَّاجُ غُلَامَهُ طَهْمَانَ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْعُدَّةِ وَالْحَالَةِ، فَقَتَلَهُ شَبِيبٌ وَقَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا الْحَجَّاجُ فَقَدْ أَرَحْتُكُمْ مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ خَرَجَ ارْتِفَاعَ النَّهَارِ مِنَ الْقَصْرِ، فَطَلَبَ بَغْلًا يَرْكَبُهُ إِلَى السَّبْخَةِ، فَأُتِيَ بِبَغْلٍ، فَرَكِبَهُ وَمَعَهُ أَهْلُ الشَّامِ، فَخَرَجَ، فَلَمَّا رَأَى الْحَجَّاجُ شَبِيبًا وَأَصْحَابَهُ نَزَلَ، وَكَانَ شَبِيبٌ فِي سِتِّمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَقْبَلَ نَحْوَ الْحَجَّاجِ، وَجَعَلَ الْحَجَّاجُ سَبْرَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ فِي جَمَاعَةِ النَّاسِ، وَدَعَا الْحَجَّاجُ بِكُرْسِيٍّ فَقَعَدَ عَلَيْهِ ثُمَّ نَادَى: [يَا] أَهْلَ الشَّامِ، أَنْتُمْ أَهْلُ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ [وَالصَّبْرِ] وَالْيَقِينِ، فَلَا يَغْلِبَنَّ بَاطِلُ هَؤُلَاءِ الْأَرْجَاسِ حَقَّكُمْ، غُضُّوا الْأَبْصَارَ، وَاجْثُوا عَلَى الرُّكَبِ، وَاسْتَقْبِلُوهُمْ بِأَطْرَافِ الْأَسِنَّةِ. فَفَعَلُوا وَأَشْرَعُوا الرِّمَاحَ، وَكَأَنَّهُمْ حَرَّةٌ سَوْدَاءُ، وَأَقْبَلَ شَبِيبٌ فِي ثَلَاثَةِ كَرَادِيسَ، كَتِيبَةٌ مَعَهُ، وَكَتِيبَةٌ مَعَ سُوَيْدِ بْنِ سُلَيْمٍ، وَكَتِيبَةٌ مَعَ الْمُحَلِّلِ بْنِ وَائِلٍ، وَقَالَ لِسُوَيْدٍ: احْمِلْ عَلَيْهِمْ فِي خَيْلِكَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَثَبَتُوا لَهُ وَوَثَبُوا فِي وَجْهِهِ بِأَطْرَافِ الرِّمَاحِ، فَطَعَنُوهُ حَتَّى انْصَرَفَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. وَصَاحَ الْحَجَّاجُ: هَكَذَا فَافْعَلُوا، وَأَمَرَ بِكُرْسِيِّهِ فَقُدِّمَ، وَأَمَرَ شَبِيبٌ الْمُحَلِّلَ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَفَعَلُوا بِهِ كَذَلِكَ، فَنَادَاهُمُ الْحَجَّاجُ: هَكَذَا فَافْعَلُوا، وَأَمَرَ بِكُرْسِيِّهِ فَقُدِّمَ. ثُمَّ إِنَّ شَبِيبًا حَمَلَ عَلَيْهِمْ فِي كَتِيبَتِهِ، فَثَبَتُوا لَهُ وَصَنَعُوا بِهِ كَذَلِكَ، فَقَاتَلَهُمْ طَوِيلًا، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ طَاعَنُوهُ حَتَّى أَلْحَقُوهُ بِأَصْحَابِهِ. فَلَمَّا رَأَى صَبْرَهُمْ نَادَى: يَا سُوَيْدُ، احْمِلْ عَلَيْهِمْ بِأَصْحَابِكَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ السِّكَّةِ، لَعَلَّكَ تُزِيلُ أَهْلَهَا، وَتَأْتِي الْحَجَّاجَ مِنْ وَرَائِهِ، وَنَحْمِلُ نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ أَمَامِهِ. فَحَمَلَ سُوَيْدٌ، فَرُمِيَ مِنْ فَوْقِ الْبُيُوتِ وَأَفْوَاهِ السِّكَكِ فَرَجَعَ. وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ جَعَلَ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ رِدْءًا لَهُ، لِئَلَّا يُؤْتَوْا مِنْ خَلْفِهِمْ، فَجَمَعَ شَبِيبٌ أَصْحَابَهُ لِيَحْمِلَ بِهِمْ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: اصْبِرُوا لِهَذِهِ الشِّدَّةِ الْوَاحِدَةِ، ثُمَّ هُوَ الْفَتْحُ. فَجَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ. وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ شَبِيبٌ بِجَمِيعِ أَصْحَابِهِ، فَوَثَبُوا فِي وَجْهِهِ، وَمَا زَالُوا يُطَاعِنُونَهُ وَيُضَارِبُونَهُ قُدُمًا، وَيَدْفَعُونَهُ وَأَصْحَابَهُ حَتَّى أَجَازُوهُمْ مَكَانَهُمْ، وَأَمَرَ شَبِيبٌ أَصْحَابَهُ بِالنُّزُولِ، فَنَزَلَ نِصْفُهُمْ، وَجَاءَ الْحَجَّاجُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَسْجِدِ شَبِيبٍ ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ الشَّامِ، هَذَا أَوَّلُ الْفَتْحِ، وَصَعِدَ الْمَسْجِدَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مَعَهُمُ النَّبْلُ لِيَرْمُوهُمْ إِنْ دَنَوْا مِنْهُ، فَاقْتَتَلُوا عَامَّةَ النَّهَارِ أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ حَتَّى أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِصَاحِبِهِ.

ثُمَّ إِنَّ خَالِدَ بْنَ عَتَّابٍ قَالَ لِلْحَجَّاجِ: ائْذَنْ لِي فِي قِتَالِهِمْ فَإِنِّي مَوْتُورٌ، فَأَذِنَ لَهُ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَصَدَ عَسْكَرَهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَقَتَلَ مُصَادًا أَخَا شَبِيبٍ، وَقَتَلَ امْرَأَتَهُ غَزَالَةَ، وَحَرَّقَ فِي عَسْكَرِهِ. وَأَتَى الْخَبَرُ الْحَجَّاجَ وَشَبِيبًا، فَكَبَّرَ الْحَجَّاجُ وَأَصْحَابُهُ، وَأَمَّا شَبِيبٌ فَرَكِبَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَقَالَ الْحَجَّاجُ لِأَهْلِ الشَّامِ: احْمِلُوا عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَتَاهُمْ مَا أَرْعَبَهُمْ. فَشَدُّوا عَلَيْهِمْ فَهَزَمُوهُمْ، وَتَخَلَّفَ شَبِيبٌ فِي حَامِيَةِ النَّاسِ. فَبَعَثَ الْحَجَّاجُ إِلَى خَيْلِهِ: أَنْ دَعُوهُ، فَتَرَكُوهُ وَرَجَعُوا، وَدَخَلَ الْحَجَّاجُ الْكُوفَةَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا قُوتِلَ شَبِيبٌ قَبْلَهَا، وَلَّى وَاللَّهِ هَارِبًا وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ يُكْسَرُ فِي اسْتِهَا الْقَصَبُ. ثُمَّ دَعَا حَبِيبَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَكَمِيَّ فَبَعَثَهُ فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ فَارِسٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فِي أَثَرِ شَبِيبٍ وَقَالَ لَهُ: احْذَرْ بَيَاتَهُ، وَحَيْثُ لَقِيتَهُ فَانْزِلْ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدْ فَلَّ حَدَّهُ، وَقَصَمَ نَابَهُ. فَخَرَجَ فِي أَثَرِهِ حَتَّى نَزَلَ الْأَنْبَارَ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ نَادَى عِنْدَ انْهِزَامِهِمْ: مَنْ جَاءَنَا مِنْكُمْ فَهُوَ آمِنٌ. فَتَفَرَّقَ عَنْ شَبِيبٍ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. فَلَمَّا نَزَلَ حَبِيبٌ الْأَنْبَارَ أَتَاهُمْ شَبِيبٌ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، وَكَانَ حَبِيبٌ قَدْ جَعَلَ أَصْحَابَهُ أَرْبَاعًا، وَقَالَ لِكُلِّ رُبُعٍ مِنْهُمْ: لِيَمْنَعْ كُلُّ رُبُعٍ مِنْكُمْ جَانِبَهُ، فَإِنْ قَاتَلَ هَذَا الرُّبُعُ فَلَا يُعِنْهُمُ الرُّبُعُ الْآخَرُ، فَإِنَّ الْخَوَارِجَ قَرِيبٌ مِنْكُمْ، فَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى أَنَّكُمْ مُبَيَّتُونَ وَمُقَاتَلُونَ. فَأَتَاهُمْ شَبِيبٌ وَهُمْ عَلَى تَعْبِيَةٍ، فَحَمَلَ عَلَى رُبُعٍ فَقَاتَلَهُمْ طَوِيلًا، فَمَا زَالَتْ قَدَمُ إِنْسَانٍ عَنْ مَوْضِعِهَا، ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَأَقْبَلَ إِلَى رُبُعٍ آخَرَ فَكَانُوا كَذَلِكَ، ثُمَّ أَتَى رُبُعًا آخَرَ فَكَانُوا كَذَلِكَ، ثُمَّ الرُّبُعَ الرَّابِعَ، فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ حَتَّى ذَهَبَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ اللَّيْلِ، ثُمَّ نَازَلَهُمْ رَاجِلًا، فَسَقَطَتْ مِنْهُمُ الْأَيْدِي، وَكَثُرَتِ الْقَتْلَى، وَفُقِئَتِ الْأَعْيُنُ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ شَبِيبٍ نَحْوُ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَمِنْ أَهْلِ الشَّامِ نَحْوُ مِائَةٍ، وَاسْتَوْلَى التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، (حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَضْرِبُ بِسَيْفِهِ فَلَا يَصْنَعُ شَيْئًا) ، وَحَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُقَاتِلُ جَالِسًا، فَمَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ مِنَ التَّعَبِ. فَلَمَّا يَئِسَ شَبِيبٌ مِنْهُمْ تَرَكَهُمْ وَانْصَرَفَ عَنْهُمْ. ثُمَّ قَطَعَ دِجْلَةَ وَأَخَذَ فِي أَرْضِ جُوخَى، ثُمَّ قَطَعَ دِجْلَةَ مَرَّةً أُخْرَى عِنْدَ وَاسِطَ، ثُمَّ أَخَذَ نَحْوَ الْأَهْوَازِ، ثُمَّ إِلَى فَارِسَ، ثُمَّ إِلَى كَرْمَانَ لِيَسْتَرِيحَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ.

وَقِيلَ فِي هَزِيمَتِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ قَدْ بَعَثَ إِلَى شَبِيبٍ أَمِيرًا فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَمِيرًا فَقَتَلَهُ، أَحَدُهُمَا أَعْيَنُ صَاحِبُ حَمَّامِ أَعْيَنَ، ثُمَّ جَاءَ شَبِيبٌ حَتَّى دَخَلَ الْكُوفَةَ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ غَزَالَةُ، وَكَانَتْ نَذَرَتْ أَنْ تُصَلِّيَ فِي جَامِعِ الْكُوفَةِ رَكْعَتَيْنِ تَقْرَأُ فِيهِمَا الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، وَاتَّخَذَ فِي عَسْكَرِهِ أَخْصَاصًا. فَجَمَعَ الْحَجَّاجُ لَيْلًا بَعْدَ أَنْ لَقِيَ مِنْ شَبِيبٍ النَّاسُ مَا لَقُوا، فَاسْتَشَارَهُمْ فِي أَمْرِ شَبِيبٍ، فَأَطْرَقُوا، وَفَصَلَ قُتَيْبَةَ مِنَ الصَّفِّ فَقَالَ: أَتَأْذَنُ لِي فِي الْكَلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّ الْأَمِيرَ مَا رَاقَبَ اللَّهَ وَلَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا نُصْحَ الرَّعِيَّةِ. قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ تَبْعَثُ الرَّجُلَ الشَّرِيفَ وَتَبْعَثُ مَعَهُ رَعَاعًا، فَيَنْهَزِمُونَ وَيَسْتَحْيِي أَنْ يَنْهَزِمَ فَيُقْتَلُ. قَالَ: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: الرَّأْيُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ فَتُحَاكِمَهُ. قَالَ: فَانْظُرْ لِي مُعَسْكَرًا. فَخَرَجَ النَّاسُ يَلْعَنُونَ عَنْبَسَةَ بْنَ سَعِيدٍ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَلَّمَ الْحَجَّاجَ فِيهِ حَتَّى جَعَلَهُ مِنْ صَحَابَتِهِ، وَصَلَّى الْحَجَّاجُ مِنَ الْغَدِ الصُّبْحَ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ، وَأَقْبَلَ قُتَيْبَةُ وَقَدْ رَأَى مُعَسْكَرًا حَسَنًا، فَدَخَلَ إِلَى الْحَجَّاجِ، ثُمَّ خَرَجَ وَمَعَهُ لِوَاءٌ مَنْشُورٌ، وَخَرَجَ الْحَجَّاجُ يَتْبَعُهُ حَتَّى خَرَجَ إِلَى السَّبْخَةِ وَبِهَا شَبِيبٌ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَتَوَاقَفُوا، وَقِيلَ لِلْحَجَّاجِ: لَا تُعَرِّفْهُ مَكَانَكَ، فَأَخْفَى مَكَانَهُ، وَشَبَّهَ لَهُ أَبَا الْوَرْدِ مَوْلَاهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ شَبِيبٌ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ بِعَمُودٍ فَقَتَلَهُ، وَحَمَلَ شَبِيبٌ عَلَى خَالِدِ بْنِ عَتَّابٍ وَمَنْ مَعَهُ وَهُوَ عَلَى مَيْسَرَةِ الْحَجَّاجِ، فَبَلَغَ بِهِمُ الرَّحْبَةَ، وَحَمَلَ عَلَى مَطَرِ بْنِ نَاجِيَةَ وَهُوَ عَلَى مَيْمَنَةِ الْحَجَّاجِ فَكَشَفَهُ، فَنَزَلَ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ، وَنَزَلَ أَصْحَابُهُ، وَجَلَسَ عَلَى عَبَاءَةٍ وَمَعَهُ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ، فَإِنَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ تَنَاوَلَ مَصْقَلَةُ بْنُ مُهَلْهِلٍ الضَّبِّيُّ لِجَامَ شَبِيبٍ وَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي صَالِحِ بْنِ مُسَرِّحٍ، وَبِمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَعَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَبَرِئَ مِنْ صَالِحٍ. فَقَالَ لَهُ مَصْقَلَةُ: بَرِئَ اللَّهُ مِنْكَ، وَفَارَقَهُ إِلَّا أَرْبَعِينَ فَارِسًا، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: قَدِ اخْتَلَفُوا، وَأَرْسَلَ إِلَى خَالِدِ بْنِ عَتَّابٍ، فَأَتَى بِهِمْ فِي عَسْكَرِهِمْ فَقَاتَلَهُمْ فَقُتِلَتْ غَزَالَةُ، وَمُرَّ بِرَأْسِهَا إِلَى الْحَجَّاجِ مَعَ فَارِسٍ، فَعَرَفَهُ شَبِيبٌ، فَأَمَرَ رَجُلًا فَحَمَلَ عَلَى الْفَارِسِ فَقَتَلَهُ وَجَاءَ بِالرَّأْسِ، فَأَمَرَ بِهِ فَغُسِّلَ ثُمَّ دَفَنَهُ. وَمَضَى الْقَوْمُ عَلَى حَامِيَتِهِمْ، وَرَجَعَ خَالِدٌ فَأَخْبَرَ الْحَجَّاجَ بِانْصِرَافِهِمْ، فَأَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهِمْ، فَاتَّبَعَهُمْ يَحْمِلُ عَلَيْهِمْ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ فَقَاتَلُوهُ حَتَّى بَلَغُوا بِهِ الرَّحْبَةَ، وَأُتِيَ شَبِيبٌ بِخُوطِ بْنِ عُمَيْرٍ السَّدُوسِيِّ فَقَالَ: يَا خُوطُ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ. فَقَالَ: (إِنَّ خُوطًا مِنْ أَصْحَابِكُمْ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَخَافُ. فَأَطْلَقَهُ، وَأُتِيَ بِعُمَيْرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ فَقَالَ: يَا عُمَيْرُ،

لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ. فَقَالَ: فِي) سَبِيلِ اللَّهِ شَبَابِي. فَرَدَّدَ عَلَيْهِ شَبِيبٌ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ. فَلَمْ يَفْقَهْ مَا يُرِيدُ، فَقَتَلَهُ. وَقُتِلَ مُصَادٌ أَخُو شَبِيبٍ، وَجَعَلَ شَبِيبٌ يَنْتَظِرُ الثَّمَانِيَةَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا خَالِدًا، فَأَبْطَئُوا وَلَمْ يَقْدَمْ أَصْحَابُ الْحَجَّاجِ عَلَى شَبِيبٍ هَيْبَةً لَهُ، وَأَتَى إِلَى شَبِيبٍ أَصْحَابُهُ الثَّمَانِيَةُ، فَسَارُوا وَاتَّبَعَهُمْ خَالِدٌ وَقَدْ دَخَلُوا إِلَى دَيْرٍ بِنَاحِيَةِ الْمَدَائِنِ، فَحَصَرَهُمْ فِيهِ، فَخَرَجُوا عَلَيْهِ فَهَزَمُوهُ نَحْوَ فَرْسَخَيْنِ، فَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي دِجْلَةَ مُنْهَزِمِينَ، وَأَلْقَى خَالِدٌ نَفْسَهُ فِيهَا بِفَرَسِهِ وَلِوَاؤُهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ شَبِيبٌ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، هَذَا أَسَدُ النَّاسٍ! فَقِيلَ: هُوَ خَالِدُ بْنُ عَتَّابٍ. فَقَالَ: مُعْرَقٌ [لَهُ] فِي الشَّجَاعَةِ، وَلَوْ عَرَفْتُهُ لَأَقْحَمْتُ خَلْفَهُ وَلَوْ دَخَلَ النَّارَ. ثُمَّ سَارَ إِلَى كَرْمَانَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَسْتَمِدُّهُ، وَيُعَرِّفُهُ عَجْزَ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَنْ قِتَالِ شَبِيبٍ، فَسَيَّرَ سُفْيَانَ بْنَ الْأَبْرَدِ فِي جَيْشٍ إِلَيْهِ. ذِكْرُ مَهْلَكِ شَبِيبٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَلَكَ شَبِيبٌ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ أَنْفَقَ فِي أَصْحَابِ سُفْيَانَ بْنِ الْأَبْرَدِ مَالًا عَظِيمًا بَعْدَ أَنْ عَادَ شَبِيبٌ عَنْ مُحَارَبَتِهِمْ وَقَصَدَ كَرْمَانَ بِشَهْرَيْنِ، وَأَمَرَ سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ بِقَصْدِ شَبِيبٍ، فَسَارَ نَحْوَهُ، وَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ زَوْجِ ابْنَتِهِ، وَهُوَ عَامِلُهُ عَلَى الْبَصْرَةِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يُرْسِلَ أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِلَى سُفْيَانَ، فَسَيَّرَهُمْ مَعَ زِيَادِ بْنِ عَمْرٍو الْعَتَكِيِّ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَى سُفْيَانَ حَتَّى الْتَقَى سُفْيَانُ مَعَ شَبِيبٍ، وَكَانَ شَبِيبٌ قَدْ أَقَامَ بِكَرْمَانَ، فَاسْتَرَاحَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ثُمَّ أَقْبَلَ رَاجِعًا، فَالْتَقَى مَعَ سُفْيَانَ بِجِسْرِ دُجَيْلِ الْأَهْوَازِ، فَعَبَرَ شَبِيبٌ الْجِسْرَ إِلَى سُفْيَانَ، فَوَجَدَ سُفْيَانَ قَدْ نَزَلَ فِي الرِّجَالِ، (وَجَعَلَ مُهَاصِرَ بْنَ سَيْفٍ عَلَى الْخَيْلِ. وَأَقْبَلَ شَبِيبٌ فِي ثَلَاثَةِ كَرَادِيسَ فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، وَرَجَعَ شَبِيبٌ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ حَمْلَةً، وَلَا يَزُولُ أَهْلُ الشَّامِ، وَقَالَ لَهُمْ سُفْيَانُ: لَا تَتَفَرَّقُوا، وَلْيَزْحَفِ الرِّجَالُ) إِلَيْهِمْ زَحْفًا. فَمَا زَالُوا يُضَارِبُونَهُمْ وَيُطَاعِنُونَهُمْ حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إِلَى الْجِسْرِ. فَلَمَّا انْتَهَى شَبِيبٌ إِلَى الْجِسْرِ نَزَلَ، وَنَزَلَ مَعَهُ

نَحْوُ مِائَةٍ، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى الْمَسَاءِ، وَأَوْقَعُوا بِأَهْلِ الشَّامِ مِنَ الضَّرْبِ وَالطَّعْنِ مَا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ. فَلَمَّا رَأَى سُفْيَانُ عَجْزَهُ عَنْهُمْ، وَخَافَ أَنْ يُنْصَرُوا عَلَيْهِ - أَمَرَ الرُّمَاةَ أَنْ يَرْمُوهُمْ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَسَاءِ، وَكَانُوا نَاحِيَةً، فَتَقَدَّمُوا وَرَمَوْا شَبِيبًا سَاعَةً، فَحَمَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الرُّمَاةِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى اخْتَلَطَ الظَّلَامُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ سُفْيَانُ لِأَصْحَابِهِ: لَا تَتْبَعُوهُمْ. فَلَمَّا انْتَهَى شَبِيبٌ إِلَى الْجِسْرِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: اعْبُرُوا، وَإِذَا أَصْبَحْنَا بَاكَرْنَاهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَعَبَرُوا أَمَامَهُ وَتَخَلَّفَ فِي آخِرِهِمْ، وَجَاءَ لِيَعْبُرَ وَهُوَ عَلَى حِصَانٍ، وَكَانَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَرَسٌ أُنْثَى، فَنَزَا فَرَسُهُ عَلَيْهَا وَهُوَ عَلَى الْجِسْرِ، فَاضْطَرَبَتِ الْحَجَرُ تَحْتَهُ، وَنَزَلَ حَافِرُ فَرَسِ شَبِيبٍ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ، فَلَمَّا سَقَطَ قَالَ: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42] ، وَانْغَمَسَ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ ارْتَفَعَ وَقَالَ: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96] ، وَغَرِقَ. وَقِيلَ فِي قَتْلِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ تِلْكَ الْبَصِيرَةُ النَّافِذَةُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ مِنْ عَشَائِرِهِمْ رِجَالًا، فَكَانَ قَدْ أَوْجَعَ قُلُوبَهُمْ، وَكَانَ مِنْهُمْ رَجُلٌ اسْمُهُ مُقَاتِلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ شَيْبَانَ، فَلَمَّا قَتَلَ شَبِيبٌ مِنْ بَنِي تَيْمٍ أَغَارَ هُوَ عَلَى بَنِي مُرَّةَ بْنِ هَمَّامٍ رَهْطِ شَبِيبٍ فَقَتَلَ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ شَبِيبٌ: مَا حَمَلَكَ عَلَى قَتْلِهِمْ بِغَيْرِ أَمْرِي؟ فَقَالَ لَهُ: قَتَلْتَ كُفَّارَ قَوْمِي، فَقَتَلْتُ كُفَّارَ قَوْمِكَ، وَمِنْ دِينِنَا قَتْلُ مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ رَأْيِنَا، وَمَا أَصَبْتَ مِنْ رَهْطِي أَكْثَرُ مِمَّا أَصَبْتُ مِنْ رَهْطِكَ، وَمَا يَحِلُّ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَجِدَ عَلَى قَتْلِ الْكَافِرِينَ. قَالَ: لَا أَجِدُ. وَكَانَ مَعَهُ أَيْضًا رِجَالٌ كَثِيرٌ قَدْ قَتَلَ مِنْ عَشَائِرِهِمْ، فَلَمَّا تَخَلَّفَ فِي آخِرِ النَّاسِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلْ لَكُمْ أَنْ نَقْطَعَ بِهِ الْجِسْرَ فَنُدْرِكَ ثَأْرَنَا؟ فَقَطَعُوا الْجِسْرَ، فَمَالَتْ بِهِ السُّفُنُ، فَنَفَرَ بِهِ الْفَرَسُ، فَوَقَعَ فِي الْمَاءِ فَغَرِقَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ. وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ يُرِيدُونَ الِانْصِرَافَ، فَأَتَاهُمْ صَاحِبُ الْجِسْرِ فَقَالَ لِسُفْيَانَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ، فَنَادُوا بَيْنَهُمْ: غَرِقَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ! ثُمَّ إِنَّهُمُ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ وَتَرَكُوا عَسْكَرَهُمْ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَكَبَّرَ سُفْيَانُ وَكَبَّرَ أَصْحَابُهُ، وَأَقْبَلَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْجِسْرِ، وَبَعَثَ إِلَى الْعَسْكَرِ وَإِذَا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، وَإِذَا هُوَ أَكْثَرُ الْعَسَاكِرِ خَيْرًا، ثُمَّ

اسْتَخْرَجُوا شَبِيبًا، فَشَقُّوا جَوْفَهُ وَأَخْرَجُوا قَلْبَهُ، وَكَانَ صَلْبًا كَأَنَّهُ صَخْرَةٌ، فَكَانَ يُضْرَبُ بِهِ الصَّخْرَةَ فَيَثِبُ عَنْهَا قَامَةَ الْإِنْسَانِ. قِيلَ: وَكَانَ شَبِيبٌ يُنْعَى إِلَى أُمِّهِ، فَيُقَالُ: قُتِلَ، فَلَا تَقْبَلُ ذَلِكَ، فَلَمَّا قِيلَ لَهَا غَرِقَ صَدَّقَتْ ذَلِكَ وَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُ حِينَ وَلَدْتُهُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنِّي شِهَابُ نَارٍ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَا يُطْفِئُهُ إِلَّا الْمَاءُ. وَكَانَتْ أُمُّهُ جَارِيَةً رُومِيَّةً قَدِ اشْتَرَاهَا أَبُوهُ، فَأَوْلَدَهَا شَبِيبًا مِنْهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ قُبُلِي شِهَابُ نَارٍ، فَذَهَبَ سَاطِعًا فِي السَّمَاءِ وَبَلَغَ الْآفَاقَ كُلَّهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ وَقَعَ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ فَخَبَا، وَقَدْ وَلَدْتُهُ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا الَّذِي تُهْرِيُقُونَ فِيهِ الدِّمَاءَ، وَقَدْ أَوَّلْتُ ذَلِكَ أَنَّ وَلَدِي يَكُونُ صَاحِبَ دِمَاءٍ، وَأَنَّ أَمْرَهُ سَيَعْلُو فَيَعْظُمُ سَرِيعًا. وَكَانَ أَبُوهُ يَخْتَلِفُ بِهِ إِلَى اللَّصَفِ أَرْضِ قَوْمِهِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ. ذِكْرُ خُرُوجِ مُطَرِّفِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قِيلَ: إِنَّ بَنِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ كَانُوا صُلَحَاءَ أَشْرَافًا بِأَنْفُسِهِمْ مَعَ شَرَفِ أَبِيهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ الْحَجَّاجُ وَرَآهُمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ رِجَالُ قَوْمِهِمْ، فَاسْتَعْمَلَ عُرْوَةَ عَلَى الْكُوفَةِ، وَمُطَرِّفًا عَلَى الْمَدَائِنِ، وَحَمْزَةَ عَلَى هَمَذَانَ، وَكَانُوا فِي أَعْمَالِهِمْ أَحْسَنَ النَّاسِ سِيرَةً، وَأَشَدَّهُمْ عَلَى الْمُرِيبِ، وَكَانَ مُطَرِّفٌ عَلَى الْمَدَائِنِ عِنْدَ خُرُوجِ شَبِيبٍ وَقُرْبِهِ مِنْهَا، كَمَا سَبَقَ، فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَدَّهُ بِسَبْرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ وَغَيْرِهِ، وَأَقْبَلَ شَبِيبٌ حَتَّى نَزَلَ بَهُرَسِيرَ، وَكَانَ مُطَرِّفٌ بِالْمَدِينَةِ الْعَتِيقَةِ، وَهِيَ الَّتِي فِيهَا إِيوَانُ كِسْرَى، فَقَطَعَ مُطَرِّفٌ الْجِسْرَ، وَبَعَثَ إِلَى شَبِيبٍ يَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ لِيَنْظُرَ فِيمَا يَدْعُونَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عِدَّةً مِنْهُمْ، فَسَأَلَهُمْ مُطَرِّفٌ عَمَّا يَدْعُونَ إِلَيْهِ، فَقَالُوا: نَدْعُوا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ الَّذِي نَقَمْنَا مِنْ قَوْمِنَا الِاسْتِئْثَارَ بِالْفَيْءِ، وَتَعْطِيلَ الْحُدُودِ، (وَالتَّسَلُّطَ بِالْجَبْرِيَّةِ) . فَقَالَ لَهُمْ مُطَرِّفٌ: مَا دَعَوْتُمْ إِلَّا إِلَى حَقٍّ، وَمَا نَقَمْتُمْ إِلَّا جَوْرًا ظَاهِرًا، أَنَا لَكُمْ مُتَابِعٌ

فَتَابِعُونِي عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ ; لِيَجْتَمِعَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ. فَقَالُوا: اذْكُرْهُ فَإِنْ يَكُنْ حَقًّا نُجِبْكَ إِلَيْهِ. قَالَ: أَدْعُوكُمْ إِلَى أَنْ نُقَاتِلَ هَؤُلَاءِ الظَّلَمَةَ عَلَى إِحْدَاثِهِمْ، وَنَدْعُوَهُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الْأَمْرُ شُورَى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، يُؤَمِّرُونَ مَنْ يَرْتَضُونَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي تَرَكَهُمْ عَلَيْهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِذَا عَلِمَتْ أَنَّ مَا يُرَادُ بِالشُّورَى الرِّضَى مِنْ قُرَيْشٍ رَضُوا، وَكَثُرَ تَبَعُكُمْ وَأَعْوَانُكُمْ. فَقَالُوا: هَذَا مَا لَا نُجِيبُكَ إِلَيْهِ. وَقَامُوا مِنْ عِنْدِهِ وَتَرَدَّدُوا بَيْنَهُمْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ تَجْتَمِعْ كَلِمَتُهُمْ، فَسَارُوا مِنْ عِنْدِهِ. وَأَحْضَرَ مُطَرِّفٌ نُصَحَاءَهُ وَثِقَاتِهِ، فَذَكَرَ لَهُمْ ظُلْمَ الْحَجَّاجِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَنَّهُ مَا زَالَ يُؤْثِرُ مُخَالَفَتَهُمْ وَمُنَاهَضَتَهُمْ، وَأَنَّهُ يَرَى ذَلِكَ دِينًا لَوْ وَجَدَ عَلَيْهِ أَعْوَانًا، وَذَكَرَ لَهُمْ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِ شَبِيبٍ، وَأَنَّهُمْ لَوْ تَابَعُوهُ عَلَى رَأْيِهِ لَخَلَعَ عَبْدَ الْمَلِكِ وَالْحَجَّاجَ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُ. فَقَالُوا لَهُ: اخْفِ هَذَا الْكَلَامَ وَلَا تُظْهِرْهُ لِأَحَدٍ. فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، مَوْلَى أَبِيهِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: وَاللَّهِ لَا يَخْفَى عَلَى الْحَجَّاجِ مِمَّا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَلَيُزَادَنَّ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَلَوْ كُنْتَ فِي السَّحَابِ لَالْتَمَسَكَ الْحَجَّاجُ حَتَّى يَهْلِكَ، فَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ! فَوَافَقَهُ أَصْحَابُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَسَارَ عَنِ الْمَدَائِنِ نَحْوَ الْجِبَالِ، فَلَقِيَهُ قَبِيصَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخَثْعَمِيُّ بِدَيْرِ يَزْدَجِرْدَ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَعْطَاهُ نَفَقَةً وَكِسْوَةً، فَصَحِبَهُ ثُمَّ عَادَ عَنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مُطَرِّفٌ لِأَصْحَابِهِ بِالدَّسْكَرَةِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ، وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَكَانَ رَأْيُهُ خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْحَجَّاجِ، وَالدُّعَاءَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ شُورَى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، يَرْتَضُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَنْ أَحَبُّوهُ. فَبَايَعَهُ الْبَعْضُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَجَعَ عَنْهُ الْبَعْضُ. وَكَانَ مِمَّنْ رَجَعَ عَنْهُ سَبْرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ، فَجَاءَ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَقَاتَلَ شَبِيبًا مَعَ أَهْلِ الشَّامِ. وَسَارَ مُطَرِّفٌ نَحْوَ حُلْوَانَ، وَكَانَ بِهَا سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيُّ مِنْ قِبَلِ الْحَجَّاجِ، فَأَرَادَ هُوَ وَالْأَكْرَادُ مَنْعَهُ لِيُعْذَرَ عِنْدَ الْحَجَّاجِ، فَجَازَهُ مُطَرِّفٌ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْهُ، وَأَوْقَعَ مُطَرِّفٌ بِالْأَكْرَادِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ وَسَارَ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ هَمَذَانَ وَبِهَا أَخُوهُ حَمْزَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ تَرَكَهَا ذَاتَ الْيَسَارِ، وَقَصَدَ مَاهَ دِينَارٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ حَمْزَةَ يَسْتَمِدُّهُ بِالْمَالِ وَالسِّلَاحِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ سِرًّا مَا طَلَبَ. وَسَارَ مُطَرِّفٌ حَتَّى بَلَغَ قُمَّ وَقَاشَانَ، وَبَعَثَ عُمَّالَهُ عَلَى تِلْكَ النَّوَاحِي،

وَأَتَاهُ النَّاسُ، وَكَانَ مِمَّنْ أَتَاهُ: سُوَيْدُ بْنُ سِرْحَانَ الثَّقَفِيُّ، وَبُكَيْرُ بْنُ هَارُونَ النَّخَعِيُّ، مِنَ الرَّيِّ، فِي نَحْوِ مِائَةِ رَجُلٍ. وَكَتَبَ الْبَرَاءُ بْنُ قَبِيصَةَ، وَهُوَ عَامِلُ الْحَجَّاجِ عَلَى أَصْبَهَانَ، إِلَيْهِ يُعَرِّفُهُ حَالَ مُطَرِّفٍ وَيَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَدَّهُ بِالرِّجَالِ بَعْدَ الرِّجَالِ عَلَى دَوَابِّ الْبَرِيدِ، وَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَدِيِّ بْنِ زِيَادٍ عَامِلِ الرَّيِّ يَأْمُرُهُ بِقَصْدِ مُطَرِّفٍ، وَأَنْ يَجْتَمِعَ هُوَ وَالْبَرَاءُ عَلَى مُحَارَبَتِهِ، فَسَارَ عَدِيٌّ مِنَ الرَّيِّ، فَاجْتَمَعَ هُوَ وَالْبَرَاءُ بْنُ قَبِيصَةَ، وَكَانَ عَدِيٌّ هُوَ الْأَمِيرُ، فَاجْتَمَعُوا فِي نَحْوِ سِتَّةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى الْحَجَّاجِ يَعْتَذِرُ، فَأَظْهَرَ قَبُولَ عُذْرِهِ وَأَرَادَ عَزْلَهُ، وَخَافَ أَنْ يَمْتَنِعَ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ الْعِجْلِيِّ، وَهُوَ عَلَى شُرْطَةِ حَمْزَةَ بِهَمَذَانَ، بِعَهْدِهِ عَلَى هَمَذَانَ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَقْبِضَ عَلَى حَمْزَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَكَانَ بِهَمَذَانَ مِنْ عِجْلٍ وَرَبِيعَةَ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَسَارَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى حَمْزَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ، فَأَقْرَأَهُ الْعَهْدَ بِوِلَايَةِ هَمَذَانَ وَكِتَابَ الْحَجَّاجِ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً. فَقَبَضَ قَيْسٌ عَلَى حَمْزَةَ وَجَعَلَهُ فِي السِّجْنِ، وَتَوَلَّى قَيْسٌ هَمَذَانَ، وَتَفَرَّغَ قَلْبُ الْحَجَّاجِ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ لِقِتَالِ مُطَرِّفٍ، وَكَانَ يَخَافُ مَكَانَ حَمْزَةَ بِهَمَذَانَ لِئَلَّا يَمُدَّ أَخَاهُ بِالْمَالِ وَالسِّلَاحِ، وَلَعَلَّهُ يُنْجِدُهُ بِالرِّجَالِ. فَلَمَّا قُبِضَ عَلَيْهِ سَكَنَ قَلْبُهُ وَتَفَرَّغَ بَالُهُ، وَلَمَّا اجْتَمَعَ عَدِيُّ بْنُ زِيَادٍ الْإِيَادِيُّ، وَالْبَرَاءُ بْنُ قَبِيصَةَ - سَارَا نَحْوَ مُطَرِّفٍ فَخَنْدَقَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَنَوُا اصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ مُطَرِّفٍ، وَقُتِلَ مُطَرِّفٌ وَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، قَتَلَهُ عُمَيْرُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْفَزَارِيُّ، وَحَمَلَ رَأْسَهُ فَتَقَدَّمَ بِذَلِكَ عِنْدَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقَاتَلَ ابْنُ هُبَيْرَةَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا. وَقُتِلَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ صَاحِبَ رَايَةِ مُطَرِّفٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَفِيفٍ الْأَزْدِيُّ، وَكَانَ نَاسِكًا صَالِحًا. وَبَعَثَ عَدِيُّ بْنُ زِيَادٍ إِلَى الْحَجَّاجِ أَهْلَ الْبَلَاءِ، فَأَكْرَمَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَآمَنَ عَدِيٌّ بُكَيْرَ بْنَ هَارُونَ، وَسُوَيْدَ بْنَ سِرْحَانَ، وَغَيْرَهُمَا، وَطَلَبَ مِنْهُ الْأَمَانَ لِلْحَجَّاجِ بْنِ حَارِثَةَ الْخَثْعَمِيِّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ كِتَابَ الْحَجَّاجِ يَأْمُرُهُ بِإِرْسَالِهِ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ حَيًّا، فَاخْتَفَى ابْنُ حَارِثَةَ حَتَّى عُزِلَ عَدِيٌّ، ثُمَّ ظَهَرَ فِي إِمَارَةِ خَالِدِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ وَرْقَاءَ. وَكَانَ الْحَجَّاجُ يَقُولُ: إِنَّ مُطَرِّفًا لَيْسَ بِوَلَدٍ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، إِنَّمَا هُوَ وَلَدُ مَصْقَلَةَ بْنِ

سَبْرَةَ الشَّيْبَانِيِّ، وَكَانَ مَصْقَلَةُ وَالْمُغِيرَةُ يَدَّعِيَانِهِ، فَأُلْحِقَ بِالْمُغِيرَةِ وَجُلِدَ مَصْقَلَةُ الْحَدَّ، فَلَمَّا أُظْهِرَ رَأْيُ الْخَوَارِجِ قَالَ الْحَجَّاجُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ رَبِيعَةَ كَانُوا مِنْ خَوَارِجَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ. ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأَزَارِقَةِ قَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَ الْمُهَلَّبِ إِلَى الْأَزَارِقَةِ وَمُحَارَبَتَهُمْ إِلَى أَنْ فَارَقَهُ عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيُّ وَرَجَعَ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَأَقَامَ الْمُهَلَّبُ بَعْدَ مَسِيرِ عَتَّابٍ عَنْهُ يُقَاتِلُ الْخَوَارِجَ، فَقَاتَلَهُمْ عَلَى سَابُورَ نَحْوَ سَنَةٍ قِتَالًا شَدِيدًا. ثُمَّ إِنَّهُ زَاحَفَهُمْ يَوْمَ الْبُسْتَانِ فَقَاتَلَهُمْ أَشَدَّ قِتَالٍ، وَكَانَتْ كَرْمَانُ بِيَدِ الْخَوَارِجِ، وَفَارِسَ بِيَدِ الْمُهَلَّبِ. فَضَاقَ عَلَى الْخَوَارِجِ مَكَانُهُمْ، لَا يَأْتِيهِمْ مِنْ فَارِسَ مَادَّةٌ، فَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوْا كَرْمَانَ، وَتَبِعَهُمُ الْمُهَلَّبُ بِالْعَسَاكِرِ حَتَّى نَزَلَ بِجِيرَفْتَ، وَهِيَ مَدِينَةُ كَرْمَانَ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا. فَلَمَّا صَارَتْ فَارِسُ كُلُّهَا فِي يَدِ الْمُهَلَّبِ أَرْسَلَ الْحَجَّاجُ الْعُمَّالَ عَلَيْهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَتْرُكَ بِيَدِ الْمُهَلَّبِ فَسَا، وَدَرَابَجَرْدَ، وَكُورَةَ إِصْطَخْرَ، تَكُونُ لَهُ مَعُونَةً عَلَى الْحَرْبِ، فَتَرَكَهَا لَهُ، وَبَعَثَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْمُهَلَّبِ الْبَرَاءَ بْنَ قَبِيصَةَ لِيُحِثَّهُ عَلَى قِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَيَأْمُرَهُ بِالْجِدِّ، وَأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ عِنْدَهُ. فَخَرَجَ الْمُهَلَّبُ بِالْعَسَاكِرِ، فَقَاتَلَ الْخَوَارِجَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ إِلَى الظُّهْرِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَالْبَرَاءُ عَلَى مَكَانٍ عَالٍ يَرَاهُمْ، فَجَاءَ إِلَى الْمُهَلَّبِ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَتِيبَةً وَلَا فُرْسَانًا أَصْبَرَ وَلَا أَشَدَّ مِنَ الْفُرْسَانِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكَ. ثُمَّ إِنَّ الْمُهَلَّبَ رَجَعَ الْعَصْرَ، فَقَاتَلَهُمْ كَقِتَالِهِمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، لَا يَصُدُّ كَتِيبَةً عَنْ كَتِيبَةٍ، وَخَرَجَتْ كَتِيبَةٌ مِنْ كَتَائِبِ الْخَوَارِجِ لِكَتِيبَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمُهَلَّبِ، فَاشْتَدَّ بَيْنَهُمُ الْقِتَالُ إِلَى أَنْ حَجَزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالَ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ. وَقَالَ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ. وَانْصَرَفُوا عِنْدَ الْمَسَاءِ. فَقَالَ الْمُهَلَّبُ لِلْبَرَاءِ بْنِ قَبِيصَةَ: كَيْفَ رَأَيْتَ قَوْمًا مَا يُعِينُكَ عَلَيْهِمْ إِلَّا اللَّهُ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ -؟ فَأَحْسَنَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْبَرَاءِ، وَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَانْصَرَفَ الْبَرَاءُ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَعَرَّفَهُ عُذْرَ الْمُهَلَّبِ. ثُمَّ إِنَّ الْمُهَلَّبَ قَاتَلَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، لَا يَقْدِرُ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ. ثُمَّ إِنَّ عَامِلًا لِقَطَرِيٍّ عَلَى نَاحِيَةِ كَرْمَانَ يُدْعَى الْمُقَعْطَرَ الضَّبِّيَّ قَتَلَ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَوَثَبَتِ الْخَوَارِجُ إِلَى قَطَرِيٍّ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُقِيدَهُمْ مِنَ الْمُقَعْطَرِ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَالَ: إِنَّهُ تَأَوَّلَ فَأَخْطَأَ التَّأْوِيلَ، مَا

أَرَى أَنْ تَقْتُلُوهُ، وَهُوَ مِنْ ذَوِي السَّابِقَةِ فِيكُمْ. فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ الِاخْتِلَافُ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِي عَسْكَرِهِمْ يَعْمَلُ النُّصُولَ الْمَسْمُومَةَ، فَيَرْمِي بِهَا أَصْحَابَ الْمُهَلَّبِ، فَشَكَا أَصْحَابُهُ مِنْهَا، فَقَالَ: أَكْفِيكُمُوهُ، فَوَجَّهَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَمَعَهُ كِتَابٌ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُلْقِيَهُ فِي عَسْكَرِ قَطَرِيٍّ وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَوَقَعَ الْكِتَابُ إِلَى قَطَرِيٍّ، فَرَأَى فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ نِصَالَكَ وَصَلَتْ، وَقَدْ أَنْفَذْتُ إِلَيْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. فَأَحْضَرَ الصَّانِعَ فَسَأَلَهُ فَجَحَدَ، فَقَتَلَهُ قَطَرِيٌّ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عَبْدُ رَبِّهُ الْكَبِيرُ قَتْلَهُ، وَاخْتَلَفُوا. ثُمَّ وَضَعَ الْمُهَلَّبُ رَجُلًا نَصْرَانِيًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ قَطَرِيًّا وَيَسْجُدَ لَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْخَوَارِجُ: إِنَّ هَذَا قَدِ اتَّخَذَكَ إِلَهًا. وَوَثَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى النَّصْرَانِيِّ فَقَتَلَهُ، فَزَادَ اخْتِلَافُهُمْ، وَفَارَقَ بَعْضُهُمْ قَطَرِيًّا، ثُمَّ وَلُّوا عَبْدَ رَبِّهِ الْكَبِيرَ وَخَلَعُوا قَطَرِيًّا، وَبَقِيَ مَعَ قَطَرِيٍّ مِنْهُمْ نَحْوٌ مِنْ رُبْعِهِمْ أَوْ خُمُسِهِمْ، وَاقْتَتَلُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ نَحْوًا مِنْ شَهْرٍ. وَكَتَبَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ عَلَى حَالِ اخْتِلَافِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعُوا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُهَلَّبُ: إِنِّي لَسْتُ أَرَى أَنْ أُقَاتِلَهُمْ مَا دَامَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَإِنْ تَمُّوا عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي نُرِيدُ، وَفِيهِ هَلَاكُهُمْ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا لَمْ يَجْتَمِعُوا إِلَّا وَقَدْ رَقَّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَأُنَاهِضُهُمْ حِينَئِذٍ وَهُمْ أَهْوَنُ مَا كَانُوا وَأَضْعَفُهُ شَوْكَةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَالسَّلَامُ. فَسَكَتَ عَنْهُ الْحَجَّاجُ، وَتَرَكَهُمُ الْمُهَلَّبُ يَقْتَتِلُونَ شَهْرًا لَا يُحَرِّكُهُمْ، ثُمَّ إِنَّ قَطَرِيًّا خَرَجَ بِمَنِ اتَّبَعَهُ نَحْوَ طَبَرِسْتَانَ، وَبَايَعَ الْبَاقُونَ عَبَدَ رَبِهِ الْكَبِيرَ. ذِكْرُ مَقْتَلِ عَبْدِ رَبِّهِ الْكَبِيرِ لَمَّا سَارَ قَطَرِيٌّ إِلَى طَبَرِسْتَانَ وَأَقَامَ عَبْدُ رَبِّهِ الْكَبِيرُ بِكَرْمَانَ نَهَضَ إِلَيْهِمُ الْمُهَلَّبُ، فَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَحَصَرَهُمْ بِجِيرَفْتَ، وَكَرَّرَ قِتَالَهُمْ وَهُوَ لَا يَنَالُ مِنْهُمْ حَاجَتَهُ. ثُمَّ إِنَّ الْخَوَارِجَ طَالَ عَلَيْهِمُ الْحِصَارُ فَخَرَجُوا مِنْ جِيرَفْتَ بِأَمْوَالِهِمْ وَحُرَمِهِمْ، فَقَاتَلَهُمُ الْمُهَلَّبُ قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى عُقِرَتِ الْخَيْلُ، وَتَكَسَّرَالسِّلَاحُ، وَقُتِلَ الْفُرْسَانُ، فَتَرَكَهُمْ، فَسَارُوا،

وَدَخَلَ الْمُهَلَّبُ جِيرَفْتَ، ثُمَّ سَارَ يَتْبَعُهُمْ إِلَى أَنْ لَحِقَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مِنْ جِيرَفْتَ، فَقَاتَلَهُمْ مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ وَكَفَّ عَنْهُمْ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ إِنَّ عَبَدَ رَبِّهِ جَمَعَ أَصْحَابَهُ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! إِنَّ قَطَرِيًا وَمَنْ مَعَهُ هَرَبُوا، طَلَبَ الْبَقَاءِ وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فَالْقَوْا عَدُوَّكُمْ وَهَبُوا أَنْفُسَكُمْ لِلَّهِ. ثُمَّ عَادَ لِلْقِتَالِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أَنْسَاهُمْ مَا قَبْلَهُ، فَبَايَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمُهَلَّبِ عَلَى الْمَوْتِ، ثُمَّ تَرَجَّلَتِ الْخَوَارِجُ وَعَقَرُوا دَوَابَّهُمْ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَعَظُمَ الْخَطْبُ حَتَّى قَالَ الْمُهَلَّبُ: مَا مَرَّ بِي مِثْلُ هَذَا. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْزَلَ نَصْرَهُ عَلَى الْمُهَلَّبِ وَأَصْحَابِهِ، وَهُزِمَ الْخَوَارِجُ وَكَثُرَ الْقَتْلَى فِيهِمْ، وَكَانَ فِيمَنْ قُتِلَ عَبْدُ رَبِّهِ الْكَبِيرِ، وَكَانَ عَدَدُ الْقَتْلَى أَرْبَعَةَ آلَافِ قَتِيلٍ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، وَأُخِذَ عَسْكَرُهُمْ وَمَا فِيهِ وَسُبُوا ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْبُونَ نِسَاءَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ يَذْكُرُ قَتْلَ عَبْدِ رَبِّهِ الْكَبِيرِ وَأَصْحَابِهِ: لَقَدْ مَسَّ مِنَّا عَبَدَ رَبٍّ وَجُنْدَهُ ... عِقَابٌ فَأَمْسَى سَبْيُهُمْ فِي الْمَقَاسِمِ سَمَا لَهُمْ بِالْجَيْشِ حَتَّى أَزَاحَهُمْ ... بِكَرْمَانَ عَنْ مَثْوًى مِنَ الْأَرْضِ نَاعِمِ وَمَا قَطَرِيُّ الْكُفْرِ إِلَّا نَعَامَةٌ ... طَرِيدٌ يُدَوِّي لَيْلَهُ غَيْرَ نَائِمِ إِذَا فَرَّ مِنَّا هَارِبًا كَانَ وَجْهُهُ ... طَرِيقًا سِوَى قَصْدِ الْهُدَى وَالْمَعَالِمِ فَلَيْسَ بِمُنْجِيهِ الْفِرَارُ وَإِنَّ جَرَتْ ... بِهِ الْفُلْكُ فِي لُجٍّ مِنَ الْبَحْرِ دَائِمِ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا تَرَكْنَاهَا لِشُهْرَتِهَا. وَأَحْسَنَ الْحَجَّاجُ إِلَى أَهْلِ الْبَلَاءِ وَزَادَهُمْ، وَسَيَّرَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْحَجَّاجِ مُبَشِّرًا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَخْبَرَهُ عَنِ الْجَيْشِ وَعَنِ الْخَوَارِجِ، وَذَكَرَ حُرُوبَهُمْ، وَأَخْبَرَهُ عَنْ بَنِي الْمُهَلَّبِ فَقَالَ: الْمُغِيرَةُ فَارِسُهُمْ وَسَيِّدُهُمْ، وَكَفَى بِيَزِيدَ فَارِسًا شُجَاعًا، وَجَوَّادُهُمْ وَسَخِيُّهُمْ قَبِيصَةُ، وَلَا يَسْتَحْيِي الشُّجَاعُ أَنْ يَفِرَّ مِنْ مُدْرِكَةٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ سُمٌّ نَاقِعٌ، وَحَبِيبٌ مَوْتٌ زُعَافٌ، وَمُحَمَّدٌ لَيْثُ غَابٍ، وَكَفَاكَ بِالْمُفَضَّلِ نَجْدَةً. قَالَ: فَأَيُّهُمْ كَانَ أَنْجَدُ؟ قَالَ: كَانُوا كَالْحَلْقَةِ الْمُفْرَغَةِ لَا يُعْرَفُ طَرَفُهَا. فَاسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ وَكَتَبَ إِلَى الْمُهَلَّبِ يَشْكُرُهُ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يُوَلِّيَ كَرْمَانَ مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَيَجْعَلَ فِيهَا مَنْ يَحْمِيهَا وَيَقْدَمُ إِلَيْهِ. فَاسْتَعْمَلَ عَلَى كَرْمَانَ يَزِيدَ ابْنَهُ، وَسَارَ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَكْرَمَهُ وَأَجْلَسَهُ إِلَى جَانِبِهِ وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، أَنْتُمْ عَبِيدُ الْمُهَلَّبِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَنْتَ كَمَا قَالَ لَقِيطُ بْنُ يَعْمُرَ الْإِيَادِيُّ فِي صِفَةِ أُمَرَاءِ الْجُيُوشِ:

وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمُ ... رَحْبَ الذِّرَاعِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُضْطَلِعَا لَا مُتْرَفًا إِنْ رَخَاءُ الْعَيْشِ سَاعَدَهُ ... وَلَا إِذَا عَضَّ مَكْرُوهٌ بِهِ خَشَعَا مُسَهَّدَ النَّوْمِ تَعْنِيهِ ثُغُورُكُمُ ... يَرُومُ مِنْهَا إِلَى الْأَعْدَاءِ مُطَّلَعَا مَا انْفَكَّ يَحْلِبُ هَذَا الدَّهْرَ أَشْطُرَهُ ... يَكُونُ مُتَّبِعًا طَوْرًا وَمُتَّسِعَا وَلَيْسَ يَشْغَلُهُ مَالٌ يُثَمِّرُهُ ... عَنْكُمْ وَلَا وَلَدٌ يَبْغِي لَهُ الرَّفَعَا حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ ... مُسْتَحْكِمَ السِّنِّ لَا قَحْمًا وَلَا ضَرَعَا وَهِيَ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ هَذَا هُوَ الْأَجْوَدُ مِنْهَا. ذِكْرُ قَتْلِ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ وَعُبَيْدَةَ بْنِ هِلَالٍ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ هَلَكَةُ قَطَرِيٍّ وَعُبَيْدَةُ بْنُ هِلَالٍ وَمَنْ [كَانَ] مَعَهُمَا مِنَ الْأَزَارِقَةِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَمْرَهُمْ لَمَّا تَشَتَّتَ بِالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَسَارَ قَطَرِيٌّ نَحْوَ طَبَرِسْتَانَ، وَبَلَغَ خَبَرُهُ الْحَجَّاجَ - سَيَّرَ إِلَيْهِ سُفْيَانَ بْنَ الْأَبْرَدِ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ. وَسَارَ سُفْيَانُ وَاجْتَمَعَ مَعَهُ إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ فِي جَيْشٍ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ بِطَبَرِسْتَانَ، فَأَقْبَلُوا فِي طَلَبِ قَطَرِيٍّ، فَلَحِقُوهُ فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ طَبَرِسْتَانَ فَقَاتَلُوهُ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَوَقَعَ عَنْ دَابَّتِهِ، فَتَدَهْدَهَ إِلَى أَسْفَلِ الشِّعْبِ، وَأَتَاهُ عِلْجٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، فَقَالَ لَهُ قَطَرِيٌّ: اسْقِنِي الْمَاءَ. فَقَالَ الْعِلْجُ: أَعْطِنِي شَيْئًا. فَقَالَ: مَا مَعِي إِلَّا سِلَاحِي، وَأَنَا أُعْطِيكَهُ إِذَا أَتَيْتَنِي بِالْمَاءِ. فَانْطَلَقَ الْعِلْجُ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى قَطَرِيٍّ، ثُمَّ حَدَّرَ عَلَيْهِ حَجَرًا مِنْ فَوْقِهِ، فَأَصَابَ وَرِكَهُ فَأَوْهَنَهُ، فَصَاحَ بِالنَّاسِ، فَأَقْبَلُوا نَحْوَهُ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعِلْجُ، غَيْرَ أَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ أَشْرَافِهِمْ لِكَمَالِ سِلَاحِهِ وَحُسْنِ هَيْئَتِهِ، فَجَاءَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَقَتَلُوهُ، مِنْهُمْ: سَوْرَةُ بْنُ الْحُرِّ التَّمِيمِيُّ، وَجَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ، وَالصَّبَّاحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَبَاذَانُ مَوْلَاهُمْ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ ادَّعَى قَتْلَهُ.

فَجَاءَ إِلَيْهِمْ أَبُو الْجَهْمِ بْنُ كِنَانَةَ فَقَالَ لَهُمُ: ادْفَعُوا رَأْسَهُ إِلَيَّ حَتَّى تَصْطَلِحُوا، فَدَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ عَلَى الْكُوفَةِ، فَأَرْسَلَهُ مَعَهُ إِلَى سُفْيَانَ، فَسَيَّرَ سُفْيَانُ الرَّأْسَ مَعَ أَبِي الْجَهْمِ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَسَيَّرَهُ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَجَعَلَ عَطَاءَهُ فِي أَلْفَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ سُفْيَانَ سَارَ إِلَيْهِمْ فَأَحَاطَ بِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ مُنَادِيهِ فَنَادَى: مَنَ قَتَلَ صَاحِبَهُ وَجَاءَ إِلَيْنَا فَهُوَ آمِنٌ. فَقَالَ عُبَيْدَةُ بْنُ هِلَالٍ فِي ذَلِكَ: لَعَمْرِي لَقَدْ قَامَ الْأَصَمُّ بِخُطْبَةٍ ... لِذِي الشَّكِّ مِنْهَا فِي الصُّدُورِ غَلِيلُ لَعَمْرِي لَئِنْ أَعْطَيْتُ سُفْيَانَ بَيْعَتِي ... وَفَارَقْتُ دِينِي إِنَّنِي لَجَهُولُ إِلَى اللَّهِ أَشْكُو مَا تَرَى بِجِيَادِنَا ... تَسَاوَكُ هَزْلَى مُخُّهُنَّ قَلِيلُ تَعَاوَرَهَا الْقُذَّافُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ... بِقُومِسَ حَتَّى صَعْبَهُنَّ ذَلُولُ فَإِنْ يَكُ أَفْنَاهَا الْحِصَارُ فَرُبَّمَا ... تَشَحَّطَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ قَتِيلُ وَقَدْ كُنَّ مِمَّا إِنْ يُقَدْنَ عَلَى الْوَجَى ... لَهُنَّ بِأَبْوَابِ الْقِبَابِ صَهِيلُ وَحَصَرَهُمْ سُفْيَانُ حَتَّى أَكَلُوا دَوَابَّهُمْ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَيْهِ فَقَاتَلُوهُ، فَقَتَلَهُمْ وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْحَجَّاجِ. ثُمَّ دَخَلَ سُفْيَانُ دُنْبَاوَنْدَ وَطَبَرِسْتَانَ، فَكَانَ هُنَاكَ حَتَّى عَزَلَهُ الْحَجَّاجُ قَبْلَ الْجَمَاجِمِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَانْقَرَضَتِ الْأَزَارِقَةُ بَعْدَ مَقْتَلِ قَطَرِيٍّ وَعُبَيْدَةَ، إِنَّمَا كَانُوا دُفْعَةً مُتَّصِلَةً أَهْلَ عَسْكَرٍ وَاحِدٍ، وَأَوَّلُ رُؤَسَائِهِمْ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ، وَآخِرُهُمْ قَطَرِيٌّ وَعُبَيْدَةُ، وَاتَّصَلَ أَمْرُهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، إِلَّا أَنِّي أَشُكُّ فِي صُبَيْحٍ الْمَازِنِيِّ التَّمِيمِيِّ مَوْلَى سَوَّارِ بْنِ الْأَشْعَرِ الْخَارِجِ أَيَّامِ هِشَامٍ، قِيلَ: هُوَ مِنَ الْأَزَارِقَةِ أَوِ الصُّفْرِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ، بَلْ قُتِلَ عُقَيْبَ خُرُوجِهِ. ذِكْرُ قَتْلِ بُكَيْرِ بْنِ وَسَّاجٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ بُكَيْرَ بْنَ وَسَّاجٍ.

وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ عَامِلُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى خُرَاسَانَ، أَمَرَ بُكَيْرًا بِالتَّجْهِيزِ لِغَزْوِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَّاهُ طُخَارِسْتَانَ، فَتَجَهَّزَ لَهُ، فَوَشَى بِهِ بَحِيرُ بْنُ وَرْقَاءَ إِلَى أُمَيَّةَ، فَمَنَعَهُ عَنْهَا، فَلَمَّا أَمَرَهُ بِغَزْوِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ تَجَهَّزَ وَأَنْفَقَ نَفَقَةً كَثِيرَةً وَادَّانَ فِيهَا، فَقَالَ بَحِيرٌ لِأُمَيَّةَ: إِنْ صَارَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ النَّهْرُ خَلَعَ الْخَلِيفَةَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أُمَيَّةُ: أَنْ أَقِمْ لَعَلِّي أَغْزُو فَتَكُونَ مَعِيَ. فَغَضِبَ بُكَيْرٌ وَقَالَ: كَأَنَّهُ يُضَارُّنِي. وَكَانَ عُقَابُ ذُو اللِّقْوَةِ الْغُدَانِيُّ اسْتَدَانَ لِيَخْرُجَ مَعَ بُكَيْرٍ، فَأَخَذَهُ غُرَمَاؤُهُ فَحُبِسَ حَتَّى أَدَّى عَنْهُ بُكَيْرٌ. ثُمَّ إِنَّ أُمَيَّةَ تَجَهَّزَ لِلْغَزْوِ إِلَى بُخَارَى، ثُمَّ يَعُودُ مِنْهَا إِلَى مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ بِتِرْمِذَ، وَتَجَهَّزَ النَّاسُ مَعَهُ وَفِيهِمْ بُكَيْرٌ، وَسَارُوا، فَلَمَّا بَلَغُوا النَّهْرَ وَأَرَادُوا قَطْعَهُ قَالَ أُمَيَّةُ لِبُكَيْرٍ: إِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ ابْنِي عَلَى خُرَاسَانَ، وَأَخَافُ أَنَّهُ لَا يَضْبِطُهَا لِأَنَّهُ غُلَامٌ حَدَثٌ، فَارْجِعْ إِلَى مَرْوَ فَاكْفِنِيهَا، فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَهَا، فَقُمْ بِأَمْرِ ابْنِي. فَانْتَخَبَ بُكَيْرٌ فُرْسَانًا كَانَ عَرَفَهُمْ وَوَثِقَ بِهِمْ وَرَجَعَ، وَمَضَى أُمَيَّةُ إِلَى بُخَارَى لِلْغُزَاةِ. فَقَالَ عُقَابٌ ذُو اللِّقْوَةِ لِبُكَيْرٍ: إِنَّا طَلَبْنَا أَمِيرًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَاءَنَا أَمِيرٌ يَلْعَبُ بِنَا وَيُحَوِّلُنَا مِنْ سِجْنٍ إِلَى سِجْنٍ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَحْرِقَ هَذِهِ السُّفُنَ، وَنَمْضِيَ إِلَى مَرْوَ، وَنَخْلَعَ أُمَيَّةَ وَنُقِيمَ بِمَرْوَ وَنَأْكُلَهَا إِلَى يَوْمٍ مَا. وَوَافَقَهُ الْأَحْنَفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ عَلَى هَذَا. قَالَ بُكَيْرٌ: أَخَافَ أَنْ يَهْلِكَ هَؤُلَاءِ الْفُرْسَانُ الَّذِينَ مَعِي. قَالَ: إِنْ هَلَكَ هَؤُلَاءِ فَأَنَا أَتِيكَ مِنْ أَهْلِ مَرْوَ بِمَا شِئْتَ. قَالَ: يَهْلِكُ الْمُسْلِمُونَ. قَالَ: إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ يُنَادِيَ مُنَادٍ: مَنْ أَسْلَمَ رَفَعْنَا عَنْهُ الْخَرَاجَ، فَيَأْتِيكَ خَمْسُونَ أَلْفًا أَسْمَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَطْوَعُ. قَالَ: فَيَهْلِكُ أُمَيَّةُ وَمَنْ مَعَهُ. قَالَ: وَلِمَ يَهْلِكُونَ وَلَهُمْ عَدَدٌ وَعِدَّةٌ وَنَجْدَةٌ وَسِلَاحٌ ظَاهِرٌ، لِيُقَاتِلُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَبْلُغُوا الصِّينَ! فَحَرَقَ بُكَيْرٌ السُّفُنَ وَرَجَعَ إِلَى مَرْوَ، فَأَخَذَ ابْنُ أُمَيَّةَ بِحَبْسِهِ وَخَلْعِ أُمَيَّةَ. وَبَلَغَ أُمَيَّةَ الْخَبَرُ فَصَالَحَ أَهْلَ بُخَارَى عَلَى فِدْيَةٍ قَلِيلَةٍ، وَرَجَعَ وَأَمَرَ بِاتِّخَاذِ السُّفُنِ، وَعَبَرَ وَذَكَرَ لِلنَّاسِ إِحْسَانَهُ إِلَى بُكَيْرٍ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَأَنَّهُ كَافَأَهُ بِالْعِصْيَانِ، وَسَارَ إِلَى مَرْوَ، وَأَتَاهُ مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، وَأَرْسَلَ أُمَيَّةُ شَمَّاسَ بْنَ دِثَارٍ فِي ثَمَانِمِائَةٍ، فَسَارَ إِلَيْهِ بُكَيْرٌ وَبَيَّتَهُ فَهَزَمَهُ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا، فَكَانُوا يَأْخُذُونَ سِلَاحَهُمْ وَيُطْلِقُونَهُمْ، وَقَدِمَ أُمَيَّةُ فَتَلَقَّاهُ شَمَّاسٌ، فَقَدَّمَ أُمَيَّةُ ثَابِتَ بْنَ قُطْبَةَ، فَلَقِيَهُ بُكَيْرٌ فَأَسَرَ ثَابِتًا وَفَرَّقَ جَمْعَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ لِيَدٍ كَانَتْ لِثَابِتٍ عِنْدَهُ.

وَأَقْبَلَ أُمَيَّةُ وَقَاتَلَهُ بُكَيْرٌ، فَانْكَشَفَ يَوْمًا أَصْحَابُهُ، فَحَمَاهُمْ بُكَيْرٌ، ثُمَّ الْتَقَوْا يَوْمًا آخَرَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ الْتَقَوْا يَوْمًا آخَرَ، فَضَرَبَ بُكَيْرٌ ثَابِتَ بْنَ قُطْبَةَ عَلَى رَأْسِهِ، فَحَمَلَ حُرَيْثُ بْنُ قُطْبَةَ أَخُو ثَابِتٍ عَلَى بُكَيْرٍ، فَانْحَازَ بُكَيْرٌ وَانْكَشَفَ أَصْحَابُهُ، وَاتَّبَعَ حُرَيْثٌ بُكَيْرًا حَتَّى بَلَغَ الْقَنْطَرَةَ، وَنَادَاهُ: إِلَى أَيْنَ يَا بُكَيْرُ؟ فَرَجَعَ، فَضَرَبَهُ حُرَيْثٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَطَعَ الْمِغْفَرَ، وَعَضَّ السَّيْفُ رَأْسَهُ فَصُرِعَ، وَاحْتَمَلَهُ أَصْحَابُهُ فَأَدْخَلُوهُ الْمَدِينَةَ، وَكَانُوا يُقَاتِلُونَهُمْ. فَكَانَ أَصْحَابُ بُكَيْرٍ يَغْدُونَ فِي الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ مِنْ أَحْمَرَ وَأَصْفَرَ، فَيَجْلِسُونَ يَتَحَدَّثُونَ وَيُنَادِي مُنَادِيهِمْ: مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ رَمَيْنَا إِلَيْهِ بِرَأْسِ رَجُلٍ مِنْ وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ. فَلَا يَرْمِيهِمْ أَحَدٌ. وَخَافَ بُكَيْرٌ إِنْ طَالَ الْحِصَارُ أَنْ يَخْذُلَهُ النَّاسُ، فَطَلَبَ الصُّلْحَ، وَأَحَبَّ ذَلِكَ أَيْضًا أَصْحَابُ أُمَيَّةَ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَقْضِيَ أُمَيَّةُ عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ، وَيَصِلَ أَصْحَابَهُ، وَيُوَلِّيَهُ أَيَّ كُوَرِ خُرَاسَانَ شَاءَ، وَلَا يَسْمَعُ قَوْلَ بَحِيرٍ فِيهِ، وَإِنْ رَابَهُ رَيْبٌ فَهُوَ آمِنٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَدَخَلَ أُمَيَّةُ مَدِينَةَ مَرْوَ وَوَفَى لِبُكَيْرٍ وَعَادَ إِلَى مَا كَانَ مِنْ إِكْرَامِهِ، وَأَعْطَى أُمَيَّةُ عُقَابًا عِشْرِينَ أَلْفًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ بُكَيْرًا لَمْ يَصْحَبْ أُمَيَّةَ إِلَى النَّهْرِ، كَانَ أُمَيَّةُ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى مَرْوَ، فَلَمَّا سَارَ أُمَيَّةُ وَعَبَرَ النَّهْرَ خَلَعَهُ، فَجَرَى الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَكَانَ أُمَيَّةُ سَهْلًا لَيِّنًا سَخِيًّا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ ثَقِيلًا عَلَى أَهْلِ خُرَاسَانَ، وَكَانَ فِيهِ زَهْوٌ شَدِيدٌ، وَكَانَ يَقُولُ: مَا تَكْفِينِي خُرَاسَانُ لِمَطْبَخِي. وَعَزَلَ أُمَيَّةُ بَحِيرًا عَنْ شُرْطَتِهِ، وَوَلَّاهَا عَطَاءَ بْنَ أَبِي السَّائِبِ. وَطَالَبَ أُمَيَّةُ النَّاسَ بِالْخَرَاجِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ بُكَيْرٌ يَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَهُ النَّاسُ، فَذَكَرُوا شِدَّةَ أُمَيَّةَ وَذَمُّوهُ، وَبَحِيرٌ وَضِرَارُ بْنُ حُصَيْنٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَارِيَةَ بْنِ قُدَامَةَ فِي الْمَسْجِدِ، فَنَقَلَ بَحِيرٌ ذَلِكَ إِلَى أُمَيَّةَ، فَكَذَّبَهُ، فَادَّعَى شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ، فَشَهِدَ مُزَاحِمُ بْنُ أَبِي الْمُجَشَّرِ السُّلَمِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَمْزَحُ فَتَرَكَهُ أُمَيَّةُ. ثُمَّ إِنَّ بَحِيرًا أَتَى أُمَيَّةَ وَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ إِنَّ بُكَيْرًا قَدْ دَعَانِي إِلَى خَلْعِكَ، وَقَالَ: لَوْلَا مَكَانُكَ لَقَتَلْتُ هَذَا الْقُرَشِيَّ وَأَكَلْتُ خُرَاسَانَ، فَلَمْ يُصَدِّقْهُ أُمَيَّةُ، فَاسْتَشْهَدَ جَمَاعَةً ذَكَرَ بُكَيْرٌ أَنَّهُمْ أَعْدَاؤُهُ، فَقَبَضَ أُمَيَّةُ عَلَى بُكَيْرٍ وَعَلَى بَدَلٍ وَشَمَرْدَلٍ ابْنَيْ أَخِيهِ، ثُمَّ أَمَرَ أُمَيَّةُ

بَعْضَ رُؤَسَاءِ مَنْ مَعَهُ بِقَتْلِ بُكَيْرٍ، فَامْتَنَعُوا، فَأَمَرَ بَحِيرًا بِقَتْلِهِ فَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ أُمَيَّةُ ابْنَيْ أَخِي بُكَيْرٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبَرَ أُمَيَّةُ نَهْرَ بَلْخٍ لِلْغَزْوِ، فَحُوصِرَ حَتَّى جَهِدَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ نَجَوْا بَعْدَمَا أَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَاكِ، وَرَجَعُوا إِلَى مَرْوَ. وَحَجَّ هَذِهِ السَّنَةَ بِالنَّاسِ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ الْحَجَّاجُ، وَعَلَى خُرَاسَانَ أُمَيَّةُ. وَغَزَا هَذِهِ السَّنَةَ الصَّائِفَةَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ.

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ] 78 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ ذِكْرُ عَزْلِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَوِلَايَةِ الْمُهَلَّبِ خُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، وَضَمَّهُمَا إِلَى أَعْمَالِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، فَفَرَّقَ عُمَّالَهُ فِيهِمَا، فَبَعَثَ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ عَلَى خُرَاسَانَ، وَقَدْ فَرَغَ مِنَ الْأَزَارِقَةِ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى الْحَجَّاجِ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَدَعَا أَصْحَابَ الْبَلَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الْمُهَلَّبِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَزَادَهُمْ. وَبَعَثَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ عَلَى سِجِسْتَانَ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى الْبَصْرَةِ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ، فَلَمَّا اسْتَعْمَلَ الْمُهَلَّبَ عَلَى خُرَاسَانَ سَيَّرَ ابْنَهُ حَبِيبًا إِلَيْهَا، فَلَمَّا وَدَّعَ الْحَجَّاجَ أَعْطَاهُ بَغْلَةً خَضْرَاءَ، فَسَارَ عَلَيْهَا وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْبَرِيدِ، فَسَارَ عِشْرِينَ يَوْمًا حَتَّى وَصَلَ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا دَخَلَ بَابَ مَرْوَ لَقِيَهُ حَمْلُ حَطَبٍ فَنَفَرَتِ الْبَغْلَةُ، فَعَجِبُوا مِنْ نِفَارِهَا بَعْدَ ذَلِكَ التَّعَبِ وَشِدَّةِ السَّيْرِ. فَلَمَّا وَصَلَ خُرَاسَانَ لَمْ يَعْرِضْ لِأُمَيَّةَ وَلَا لِعُمَّالِهِ، وَأَقَامَ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ الْمُهَلَّبُ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَكَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ أَمِيرُ الْكُوفَةِ

وَالْبَصْرَةِ وَخُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ وَكَرْمَانَ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ، وَكَانَ نَائِبُهُ بِخُرَاسَانَ الْمُهَلَّبَ، وَبِسِجِسْتَانَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ، وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحٌ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ، فِيمَا قِيلَ. [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ «مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَارِيُّ وَلَهُ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَمَسَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْسِهِ» . (الْقَارِيُّ بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ) . وَفِيهَا مَاتَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَتُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَلَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ.

ثم دخلت سنة تسع وسبعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ] 79 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ ذِكْرُ غَزْوِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ رُتْبِيلَ لَمَّا وَلَّى الْحَجَّاجُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ سِجِسْتَانَ، وَذَلِكَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ، مَكَثَ سَنَةً لَمْ يَغْزُ، وَكَانَ رُتْبِيلُ مُصَالِحًا، وَكَانَ يُؤَدِّي الْخَرَاجَ، وَرُبَّمَا امْتَنَعَ مِنْهُ. فَبَعَثَ الْحَجَّاجُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ يَأْمُرُهُ بِمُنَاجَزَتِهِ، وَأَنْ لَا يَرْجِعَ حَتَّى يَسْتَبِيحَ بِلَادَهُ، وَيَهْدِمَ قِلَاعَهُ، وَيُقَيِّدَ رِجَالَهُ. فَسَارَ عُبَيْدُ اللَّهِ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، وَمَضَى عُبَيْدُ اللَّهِ حَتَّى دَخَلَ بِلَادَ رُتْبِيلَ، فَأَصَابَ مِنَ الْغَنَائِمِ مَا شَاءَ، وَهَدَمَ حُصُونًا، وَغَلَبَ عَلَى أَرْضٍ مِنْ أَرَاضِيهِمْ، وَأَصْحَابُ رُتْبِيلَ مِنَ التُّرْكِ يَتْرُكُونَ لَهُمْ أَرْضًا بَعْدَ أَرْضٍ، حَتَّى أَمْعَنُوا فِي بِلَادِهِمْ وَدَنَوْا مِنْ مَدِينَتِهِمْ، وَكَانُوا مِنْهَا عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، فَأَخَذُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْعِقَابَ وَالشِّعَابَ، فَسُقِطَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، فَظَنُّوا أَنْ قَدْ هَلَكُوا، فَصَالَحَهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عَلَى سَبْعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ يُوَصِّلُهَا إِلَى رُتْبِيلَ لِيُمَكِّنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ أَرْضِهِ، فَلَقِيَهُ شُرَيْحٌ فَقَالَ لَهُ: إِنَّكُمْ لَا تُصَالِحُونَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا حَسَبَهُ السُّلْطَانُ مِنْ أُعْطِيَّاتِكُمْ، وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْعُمُرِ طَوِيلًا، وَقَدْ كُنْتُ أَطْلُبُ الشَّهَادَةَ مُنْذُ زَمَانٍ، وَإِنْ فَاتَتْنِي الْيَوْمَ الشَّهَادَةُ مَا أُدْرِكُهَا حَتَّى أَمُوتَ. ثُمَّ قَالَ شُرَيْحٌ: يَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، تَعَاوَنُوا عَلَى عَدُوِّكُمْ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي بَكْرَةَ: إِنَّكَ شَيْخٌ قَدْ خَرِفْتَ. فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: إِنَّمَا حَسْبُكَ أَنْ يُقَالَ بُسْتَانُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَحَمَّامُ عُبَيْدِ اللَّهِ. يَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ مَنْ أَرَادَ مِنْكُمُ الشَّهَادَةَ فَإِلَيَّ. فَاتَّبَعَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ غَيْرُ كَثِيرٍ، وَفُرْسَانُ النَّاسِ، وَأَهْلُ الْحُفَّاظِ، فَقَاتَلُوا حَتَّى أُصِيبُوا إِلَّا قَلِيلًا، وَجَعَلَ شُرَيْحٌ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:

أَصْبَحْتُ ذَا بَثٍّ أُقَاسِي الْكِبَرَا ... قَدْ عِشْتُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ أَعْصُرَا ثَمَّةَ أَدْرَكْنَا النَّبِيَّ الْمُنْذِرَا ... وَبَعْدَهُ صِدِّيقَهُ وَعُمَرَا وَيَوْمَ مِهْرَانَ وَيَوْمَ تُسْتَرَا ... وَالْجَمْعَ فِي صِفِّينِهِمْ وَالنَّهَرَا وَبَاجُمَيْرَاتٍ مَعَ الْمُشَقَّرَا ... هَيْهَاتَ مَا أَطْوَلَ هَذَا عُمُرَا وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَنَجَا مَنْ نَجَا مِنْهُمْ، فَخَرَجُوا مِنْ بِلَادِ رُتْبِيلَ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّاسُ بِالْأَطْعِمَةِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَكَلَ وَشَبِعَ مَاتَ، فَحَذِرَ النَّاسُ وَجَعَلُوا يُطْعِمُونَهُمُ السَّمْنَ قَلِيلًا حَتَّى اسْتَمْرَءُوا، وَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَجَّاجَ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّهُ قَدْ جَهَّزَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ جَيْشًا كَثِيفًا، وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي إِرْسَالِهِ إِلَى بِلَادِ رُتْبِيلَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَصَابَ أَهْلَ الشَّامِ طَاعُونٌ شَدِيدٌ حَتَّى كَادُوا يَفْنَوْنَ، فَلَمْ يَغْزُ تِلْكَ السَّنَةَ أَحَدٌ فِيمَا قِيلَ. وَفِيهَا أَصَابَ أَهْلُ الرُّومِ أَهْلَ أَنْطَاكِيَّةَ وَظَفِرُوا بِهِمْ. وَفِيهَا اسْتَعْفَى شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ عَنِ الْقَضَاءِ، فَأَعْفَاهُ الْحَجَّاجُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْقَضَاءِ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى الْعِرَاقِ وَالشَّرْقِ كُلِّهِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ. وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ، وَوُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.

ثم دخلت سنة ثمانين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ] 80 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَتَى سَيْلٌ بِمَكَّةَ فَذَهَبَ بِالْحُجَّاجِ، وَكَانَ يَحْمِلُ الْإِبِلَ عَلَيْهَا الْأَحْمَالُ وَالرِّجَالُ مَا لِأَحَدٍ فِيهِمْ حِيلَةٌ، وَغَرِقَتْ بُيُوتُ مَكَّةَ، وَبَلَغَ السَّيْلُ الرُّكْنَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْعَامُ الْجُحَافَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ بِالْبَصْرَةِ طَاعُونُ الْجَارِفِ. ذِكْرُ غَزْوَةِ الْمُهَلَّبِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَطَعَ الْمُهَلَّبُ نَهْرَ بَلْخٍ وَنَزَلَ عَلَى كِشَّ، وَكَانَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَبُو الْأَدْهَمِ الزَّمَانِيُّ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَهُوَ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، وَكَانَ أَبُو الْأَدْهَمِ يُغْنِي غَنَاءَ أَلْفَيْنِ فِي الْبَأْسِ وَالتَّدْبِيرِ وَالنَّصِيحَةِ، فَأَتَى الْمُهَلَّبَ وَهُوَ نَازِلٌ عَلَى كِشَّ ابْنُ عَمِّ مَلِكِ الْخُتَّلِ، فَدَعَاهُ إِلَى غَزْوِ الْخُتَّلِ، فَوَجَّهَ مَعَهُ ابْنَهُ يَزِيدَ، وَكَانَ اسْمُ مَلِكِ الْخُتَّلِ الشِّبْلُ، فَنَزَلَ يَزِيدُ وَنَزَلَ ابْنُ عَمِّ الْمَلِكِ نَاحِيَةً، فَبَيَّتَهُ الشِّبْلُ وَأَخَذَهُ فَقَتَلَهُ، وَحَصَرَ يَزِيدُ قَلْعَةَ الشِّبْلِ، فَصَالَحُوهُ عَلَى فِدْيَةٍ حُمِلَتْ إِلَيْهِ، وَرَجَعَ يَزِيدُ عَنْهُمْ، وَوَجَّهَ الْمُهَلَّبُ ابْنَهُ حَبِيبًا فَوَافَى صَاحِبَ بُخَارَى فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَنَزَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَدُوِّ قَرْيَةً، فَسَارَ إِلَيْهِمْ حَبِيبٌ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ فَقَتَلَهُمْ وَأَحْرَقَ الْقَرْيَةَ، فَسُمِّيَتِ الْمُحْتَرِقَةَ، وَرَجَعَ حَبِيبٌ إِلَى أَبِيهِ. وَأَقَامَ الْمُهَلَّبُ بِكِشَّ سَنَتَيْنِ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ تَقَدَّمْتَ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ. فَقَالَ: لَيْتَ حَظِّيَ مِنْ هَذِهِ الْغَزَاةِ سَلَامَةُ هَذَا الْجُنْدِ وَعَوْدُهُمْ سَالِمِينَ.

وَلَمَّا كَانَ الْمُهَلَّبُ بِكِشَّ أَتَاهُمْ قَوْمٌ مِنْ مُضَرَ، فَحَبَسَهُمْ بِهَا، فَلَمَّا رَجَعَ أَطْلَقَهُمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ: إِنْ كُنْتَ أَصَبْتَ بِحَبْسِهِمْ، فَقَدْ أَخْطَأْتَ بِإِطْلَاقِهِمْ، وَإِنْ كُنْتَ أَصَبْتَ بِإِطْلَاقِهِمْ، فَقَدْ ظَلَمْتَهُمْ إِذْ حَبَسْتَهُمْ. فَكَتَبَ الْمُهَلَّبُ: خِفْتُهُمْ وَحَبَسْتُهُمْ، فَلَمَّا أَمِنْتُهُمْ خَلَّيْتُهُمْ. وَكَانَ فِيمَنْ حُبِسَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي شَيْخٍ الْقُشَيْرِيُّ. وَصَالَحَ الْمُهَلَّبُ أَهْلَ كِشَّ عَلَى فِدْيَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُمْ، وَأَتَاهُ كِتَابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ بِخَلْعِ الْحَجَّاجِ وَيَدْعُوهُ إِلَى مُسَاعَدَتِهِ، فَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ وَأَقَامَ بِكِشَّ. ذِكْرُ تَسْيِيرِ الْجُنُودِ إِلَى رُتْبِيلَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ قَدْ ذَكَرْنَا حَالَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ دَخَلَ بِهِمُ ابْنُ أَبِي بَكْرَةَ بِلَادَ رُتْبِيلَ، وَاسْتَأْذَنَ الْحَجَّاجُ عَبْدَ الْمَلِكِ فِي تَسْيِيرِ الْجُنُودِ نَحْوَ رُتْبِيلَ، فَأَذِنَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي ذَلِكَ، فَأَخَذَ الْحَجَّاجُ فِي تَجْهِيزِ الْجَيْشِ، فَجَعَلَ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَعَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَجَدَّ فِي ذَلِكَ، وَأَعْطَى النَّاسَ أُعْطِيَاتِهِمْ كَمَلًا، وَأَنْفَقَ فِيهِمْ أَلْفَيْ أَلْفٍ سِوَى أُعْطِيَاتِهِمْ، وَأَنْجَدَهُمْ بِالْخَيْلِ الرَّائِقَةِ وَالسِّلَاحِ الْكَامِلِ، وَأَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ يُوصَفُ بِشَجَاعَةٍ وَغَنَاءٍ، مِنْهُمْ عُبَيْدُ بْنُ أَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيُّ وَغَيْرُهُ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ الْجُنْدَيْنِ بَعَثَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ يُبْغِضُهُ وَيَقُولُ: مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ إِلَّا أَرَدْتُ قَتْلَهُ. وَسَمِعَ الشَّعْبِيُّ ذَلِكَ مِنَ الْحَجَّاجِ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَخْبَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُحَاوِلَنَّ أَنْ أُزِيلَ الْحَجَّاجَ عَنْ سُلْطَانِهِ. فَلَمَّا أَرَادَ الْحَجَّاجُ أَنْ يَبْعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَلَى ذَلِكَ الْجَيْشِ أَتَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْأَشْعَثِ فَقَالَ لَهُ: لَا تَبْعَثْهُ، فَوَاللَّهِ مَا جَازَ جِسْرَ الْفُرَاتِ فَرَأَى لِوَالٍ عَلَيْهِ طَاعَةً، وَإِنِّي أَخَافُ خِلَافَهُ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: هُوَ أَهْيَبُ لِي مِنْ أَنْ يُخَالِفَ أَمْرِي. وَسَيَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى قَدِمَ سِجِسْتَانَ، فَجَمَعَ أَهْلَهَا فَخَطَبَهُمْ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْحَجَّاجَ وَلَّانِي ثَغْرَكُمْ، وَأَمَرَنِي بِجِهَادِ

عَدُوِّكُمُ الَّذِي اسْتَبَاحَ بِلَادَكُمْ، فَإِيَّاكُمْ أَنْ يَتَخَلَّفَ مِنْكُمْ أَحَدٌ، فَتَمَسَّهُ الْعُقُوبَةُ. فَعَسْكَرُوا مَعَ النَّاسِ وَتَجَهَّزُوا، وَسَارَ بِأَجْمَعِهِمْ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ رُتْبِيلَ، فَأَرْسَلَ يَعْتَذِرُ وَيَبْذُلُ الْخَرَاجَ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، وَسَارَ إِلَيْهِ وَدَخَلَ بِلَادَهُ، وَتَرَكَ لَهُ رُتْبِيلُ أَرْضًا أَرْضًا، وَرُسْتَاقًا رُسْتَاقًا، وَحِصْنًا حِصْنًا، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يَحْوِي ذَلِكَ، وَكُلَّمَا حَوَى بَلَدًا بَعَثَ إِلَيْهِ عَامِلًا، وَجَعَلَ مَعَهُ أَعْوَانًا، وَجَعَلَ الْأَرْصَادَ عَلَى الْعِقَابِ وَالشِّعَابِ، وَوَضَعَ الْمَسَالِحَ بِكُلِّ مَكَانٍ مَخُوفٍ، حَتَّى إِذَا جَازَ مِنْ أَرْضِهِ [أَرْضًا] عَظِيمَةً، وَمَلَأَ النَّاسُ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْغَنَائِمِ الْعَظِيمَةِ - مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْوُغُولِ فِي أَرْضِ رُتْبِيلَ، وَقَالَ: نَكْتَفِي بِمَا قَدْ أَصَبْنَاهُ الْعَامَ مِنْ بِلَادِهِمْ حَتَّى نَجْبِيَهَا وَنَعْرِفَهَا، وَيَجْتَرِئُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى طُرُقِهَا، وَفِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ نَأْخُذُ مَا وَرَاءَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - حَتَّى نُقَاتِلَهُمْ فِي آخِرِ ذَلِكَ عَلَى كُنُوزِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَأَقْصَى بِلَادِهِمْ، حَتَّى يُهْلِكَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى -. ثُمَّ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَبِمَا يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ. وَقَدْ قِيلَ فِي إِرْسَالِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ قَدْ تَرَكَ بِكَرْمَانَ هِمْيَانَ بْنَ عَدِيٍّ السَّدُوسِيَّ، يَكُونُ بِهَا مَسْلَحَةً إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ عَامِلُ سِجِسْتَانَ وَالسِّنْدَ، فَعَصَى هِمْيَانُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُحَمَّدٍ، فَحَارَبَهُ فَانْهَزَمَ هِمْيَانُ، وَأَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِمَوْضِعِهِ. ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ مَاتَ، وَكَانَ عَامِلًا عَلَى سِجِسْتَانَ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ عَهْدَهُ عَلَيْهَا، وَجَهَّزَ إِلَيْهِ هَذَا الْجَيْشَ، فَكَانَ يُسَمَّى جَيْشَ الطَّوَاوِيسِ لِحُسْنِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَكَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ عَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ الْحَجَّاجُ، وَكَانَ عَلَى خُرَاسَانَ الْمُهَلَّبُ مِنْ قِبَلِ الْحَجَّاجِ، وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ أَبُو بُرْدَةَ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ أَسْلَمُ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعِينَ. وَفِيهَا قُتِلَ مَعْبَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ الْجُهَنِيُّ الَّذِي يَرْوِي حَدِيثَ الدِّبَاغِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِالْقَدَرِ فِي الْبَصْرَةِ، قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ، وَقِيلَ: قَتَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِدِمَشْقَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَلَهُ صُحْبَةٌ، وَكَانَ عَلَى غَزْوِ الْبَحْرِ أَيَّامَ مُعَاوِيَةَ كُلِّهَا. وَفِيهَا مَاتَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أُخْتِ النَّمِرِ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِيهَا تُوُفِّيَ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ، (بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْكُوفَةِ. وَجُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرِ بْنِ مَالِكٍ الْحَضْرَمِيُّ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَلَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ.

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ] 81 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ابْنَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ فَفَتَحَ قَالِيقَلَا. ذِكْرُ مَقْتَلِ بَحِيرِ بْنِ وَرْقَاءَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ بَحِيرُ بْنُ وَرْقَاءَ الصُّرَيْمِيُّ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ بُكَيْرُ بْنُ وَسَّاجٍ، وَكِلَاهُمَا تَمِيمِيَّانِ، بِأَمْرِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ إِيَّاهُ بِذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، قَالَ عُثْمَانُ بْنُ رَجَاءَ بْنِ جَابِرٍ أَحَدُ بَنِي عَوْفِ بْنِ سَعْدٍ مِنَ الْأَبْنَاءِ يُحَرِّضُ بَعْضَ آلِ بُكَيْرٍ مِنَ الْأَبْنَاءِ، وَالْأَبْنَاءُ عِدَّةُ بُطُونٍ مِنْ تَمِيمٍ سُمُّوا بِذَلِكَ: لَعَمْرِي لَقَدْ أَغْضَيْتَ عَيْنًا عَلَى الْقَذَى ... وَبِتَّ بَطِينًا مِنْ رَحِيقٍ مُرَوَّقِ وَخَلَّيْتَ ثَأْرًا طُلَّ وَاخْتَرْتَ نَوْمَةً ... وَمَنْ يَشْرَبِ الصَّهْبَاءَ بِالْوِتْرِ يُسْبَقِ فَلَوْ كُنْتَ مِنْ عَوْفِ بْنِ سَعْدٍ ذُؤَابَةً ... تَرَكْتَ بَحِيرًا فِي دَمٍ مُتَرَقْرِقِ فَقُلْ لِبَحِيرٍ نَمْ وَلَا تَخْشَ ثَائِرًا ... بِبَكْرٍ فَعَوْفٌ أَهْلُ شَاءٍ حَبَلَّقِ دَعِ الضَّأْنَ يَوْمًا قَدْ سُبِقْتُمْ بِوِتْرِكُمْ ... وَصِرْتُمْ حَدِيثًا بَيْنَ غَرْبٍ وَمَشْرِقِ

وَهُبُّوا فَلَوْ أَمْسَى بُكَيْرٌ كَعَهْدِهِ لَغَادَاهُمُ زَحْفًا بِجَأْوَاءَ فَيْلَقِ وَقَالَ أَيْضًا: فَلَوْ كَانَ بَكْرٌ بَارِزًا فِي أَدَاتِهِ ... وَذِي الْعَرْشِ لَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ بَحِيرُ فَفِي الدَّهْرِ إِنْ أَبْقَانِيَ الدَّهْرُ مَطْلَبٌ ... وَفِي اللَّهِ طَلَّابٌ بِذَاكَ جَدِيرُ فَبَلَغَ بَحِيرًا أَنَّ رَهْطَ بُكَيْرٍ مِنَ الْأَبْنَاءِ يَتَوَعَّدُونَهُ فَقَالَ: تَوَعَّدَنِي الْأَبْنَاءُ جَهْلًا كَأَنَّمَا يَرَوْنَ فِنَائِي مُقْفِرًا مِنْ بَنِي كَعْبِ رَفَعْتُ لَهُ كَفِّي بِعَضْبٍ مُهَنَّدٍ حُسَامٍ كَلَوْنِ الثَّلْجِ ذِي رَوْنَقٍ عَضْبِ فَتَعَاقَدَ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَوْفٍ عَلَى الطَّلَبِ بِدَمِ بُكَيْرٍ، فَخَرَجَ فَتًى مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ شَمَرْدَلٌ مِنَ الْبَادِيَةِ حَتَّى قَدِمَ خُرَاسَانَ فَرَأَى بَحِيرًا وَاقِفًا فَحَمَلَ عَلَيْهِ، فَطَعَنَهُ فَصَرَعَهُ، وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: خَارِجِيٌّ، وَرَاكَضَهُمْ، فَعَثَرَ بِهِ فَرَسُهُ، فَسَقَطَ عَنْهُ فَقُتِلَ. وَخَرَجَ صَعْصَعَةُ بْنُ حَرْبٍ الْعَوْفِيُّ مِنَ الْبَادِيَةِ، وَقَدْ بَاعَ غُنَيْمَاتٍ لَهُ وَمَضَى إِلَى سِجِسْتَانَ، فَجَاوَرَ قَرَابَةً لِبَحِيرٍ مُدَّةً، وَادَّعَى إِلَى بَنِي حَنِيفَةَ مِنَ الْيَمَامَةِ، وَأَطَالَ مُجَالَسَتَهُمْ حَتَّى أَنِسُوا بِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ لِي بِخُرَاسَانَ مِيرَاثًا، فَاكْتُبُوا لِي إِلَى بَحِيرٍ كِتَابًا لِيُعِينَنِي عَلَى حَقِّي. فَكَتَبُوا لَهُ، وَسَارَ فَقَدِمَ عَلَى بَحِيرٍ وَهُوَ مَعَ الْمُهَلَّبِ فِي غَزْوَتِهِ، فَلَقِيَ قَوْمًا مِنْ بَنِي عَوْفٍ، فَأَخْبَرَهُمْ أَمْرَهُ، وَلَقِيَ بَحِيرًا فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَأَنَّ لَهُ مَالًا بِسِجِسْتَانَ وَمِيرَاثًا بِمَرْوَ، وَقَدِمَ لِيَبِيعَهُ وَيَعُودَ إِلَى الْيَمَامَةِ. فَأَنْزَلَهُ بَحِيرٌ وَأَمَرَ لَهُ بِنَفَقَةٍ وَوَعَدَهُ، فَقَالَ صَعْصَعَةُ: أُقِيمُ عِنْدَكَ حَتَّى يَرْجِعَ النَّاسُ. فَأَقَامَ شَهْرًا يَحْضَرُ مَعَهُ بَابَ الْمُهَلَّبِ، وَكَانَ بَحِيرٌ قَدْ حَذِرَ، فَلَمَّا أَتَاهُ صَعْصَعَةُ بِكِتَابِ أَصْحَابِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ حَنِيفَةَ، آمَنَهُ.

فَجَاءَ يَوْمًا صَعْصَعَةُ وَبَحِيرٌ عِنْدَ الْمُهَلَّبِ عَلَيْهِ قَمِيصٌ وَرِدَاءٌ، فَقَعَدَ خَلْفَهُ، وَدَنَا مِنْهُ كَأَنَّهُ يُكَلِّمُهُ، فَوَجَأَهُ بِخِنْجَرٍ مَعَهُ فِي خَاصِرَتِهِ، فَغَيَّبَهُ فِي جَوْفِهِ، وَنَادَى: يَا لِثَارَاتِ بُكَيْرٍ! فَأُخِذَ وَأُتِيَ بِهِ الْمُهَلَّبَ، فَقَالَ لَهُ: بُؤْسًا لَكَ! مَا أَدْرَكْتَ بِثَأْرِكَ وَقَتَلْتَ نَفْسَكَ، وَمَا عَلَى بَحِيرٍ بَأْسٌ. فَقَالَ: لَقَدْ طَعَنْتُهُ طَعْنَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ النَّاسِ لَمَاتُوا، وَلَقَدْ وَجَدْتُ رِيحَ بَطْنِهِ فِي يَدِي. فَحَبَسَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ الْأَبْنَاءِ فَقَبَّلُوا رَأْسَهُ. وَمَاتَ بَحِيرٌ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ صَعْصَعَةُ لَمَّا مَاتَ بَحِيرٌ: اصْنَعُوا الْآنَ مَا شِئْتُمْ، أَلَيْسَ قَدْ حَلَّتْ نُذُورُ أَبْنَاءِ بَنِي عَوْفٍ وَأَدْرَكْتُ بِثَأْرِي؟ وَاللَّهِ لَقَدْ أَمْكَنَنِي مِنْهُ خَالِيًا غَيْرَ مَرَّةٍ فَكَرِهْتُ أَنْ أَقْتُلَهُ سِرًّا. فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَسْخَى نَفْسًا بِالْمَوْتِ مِنْ هَذَا. وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُهَلَّبَ بَعَثَهُ إِلَى بَحِيرٍ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، فَقَتَلَهُ، وَمَاتَ بَحِيرٌ بَعْدَهُ. وَعَظُمَ مَوْتُهُ عَلَى الْمُهَلَّبِ، وَغَضِبَتْ عَوْفٌ وَالْأَبْنَاءُ وَقَالُوا: عَلَامَ قُتِلَ صَاحِبُنَا، وَإِنَّمَا أَخَذَ بِثَأْرِهِ؟ فَنَازَعَهُمْ مُقَاعِسُ وَالْبُطُونُ، وَكُلُّهُمْ بُطُونٌ مِنْ تَمِيمٍ، حَتَّى خَافَ النَّاسُ أَنْ يَعْظُمَ الْأَمْرُ، فَقَالَ أَهْلُ الْحِجَى: احْمِلُوا دَمَ صَعْصَعَةَ، وَاجْعَلُوا دَمَ بَحِيرٍ بِبُكَيْرٍ، فَوَدَوْا صَعْصَعَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَبْنَاءِ يَمْدَحُ صَعْصَعَةَ: لِلَّهِ دَرُّ فَتًى تَجَاوَزَ هَمُّهُ ... دُونَ الْعِرَاقِ مَفَاوِزًا وَبُحُورَا مَا زَالَ يُدْئِبُ نَفْسَهُ وَرِكَابَهُ ... حَتَّى تَنَاوَلَ فِي الْحُرُوبِ بَحِيرَا ذِكْرُ دُخُولِ الدَّيْلَمِ قَزْوِينَ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ كَانَتْ قَزْوِينُ ثَغْرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نَاحِيَةِ دَيْلَمَ، فَكَانَتِ الْعَسَاكِرُ لَا تَبْرَحُ مُرَابِطَةً بِهَا، يَتَحَارَسُونَ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ رَابِطٍ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ الْجُعْفِيُّ، وَكَانَ فَارِسًا شُجَاعًا عَظِيمَ الْغَنَاءِ فِي حُرُوبِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَزْوِينَ رَأَى النَّاسَ يَتَحَارَسُونَ فَلَا يَنَامُونَ اللَّيْلَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَتَخَافُونَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْكُمُ الْعَدُوُّ مَدِينَتَكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: لَقَدْ أَنْصَفُوكُمْ إِنْ فَعَلُوا، افْتَحُوا الْأَبْوَابَ وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ. فَفَتَحُوهَا. وَبَلَغَ ذَلِكَ الدَّيْلَمَ فَسَارُوا إِلَيْهِمْ وَبَيَّتُوهُمْ وَهَجَمُوا إِلَى الْبَلَدِ، وَتَصَايَحَ النَّاسُ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: أَغْلِقُوا أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، فَقَدْ أَنْصَفُونَا وَقَاتِلُوهُمْ. فَأَغْلَقُوا

الْأَبْوَابَ وَقَاتَلُوهُمْ، وَأَبْلَى ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ بَلَاءً عَظِيمًا، وَظَفِرَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَلَمْ يَفْلِتْ مِنَ الدَّيْلَمِ أَحَدٌ، وَاشْتَهَرَ اسْمُهُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَعُدِ الدَّيْلَمُ بَعْدَهَا يُقْدِمُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ أَرْضِهِمْ. فَصَارَ مُحَمَّدٌ فَارِسَ ذَلِكَ الثَّغْرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَكَانَ يُدْمِنُ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى أَيَّامِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَمَرَ بِتَسْيِيرِهِ إِلَى زُرَارَةَ، وَهِيَ دَارُ الْفُسَّاقِ بِالْكُوفَةِ، فَسُيِّرَ إِلَيْهَا، فَأَغَارَتِ الدَّيْلَمُ وَنَالَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَظَهَرَ الْخَلَلُ بَعْدَهُ، فَكَتَبُوا إِلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمِيرِ الْكُوفَةِ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمُ ابْنَ أَبِي سَبْرَةَ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، فَأَذِنَ لَهُ فِي عَوْدِهِ إِلَى الثَّغْرِ، فَعَادَ إِلَيْهِ وَحَمَاهُ. وَلِمُحَمَّدٍ أَخٌ يُقَالُ لَهُ خُثَيْمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ اسْمُ أَبِي سَبْرَةَ، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ. ذِكْرُ خِلَافِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ عَلَى الْحَجَّاجِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنْدِ الْعِرَاقِ عَلَى الْحَجَّاجِ، وَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ لِحَرْبِهِ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمَّا بَعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُحَمَّدٍ عَلَى الْجَيْشِ إِلَى بِلَادِ رُتْبِيلَ فَدَخَلَهَا وَأَخَذَ مِنْهَا الْغَنَائِمَ وَالْحُصُونَ - كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، وَأَنَّ رَأْيَهُ أَنْ يَتْرُكُوا التَّوَغُّلَ فِي بِلَادِ رُتْبِيلَ حَتَّى يَعْرِفُوا طَرِيقَهَا وَيَجْبُوا خَرَاجَهَا، عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ. فَلَمَّا أَتَى كِتَابُهُ إِلَى الْحَجَّاجِ كَتَبَ جَوَابَهُ: إِنَّ كِتَابَكَ كِتَابُ امْرِئٍ يُحِبُّ الْهُدْنَةَ وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْمُوَادَعَةِ، قَدْ صَانَعَ عَدُوًّا قَلِيلًا ذَلِيلًا، قَدْ أَصَابُوا [مِنَ] الْمُسْلِمِينَ جُنْدًا كَانَ بَلَاؤُهُمْ حَسَنًا، وَغَنَاؤُهُمْ عَظِيمًا، وَإِنَّكَ حَيْثُ تَكُفُّ عَنْ ذَلِكَ الْعَدُوِّ بِجُنْدِي وَحَدِّي لَسَخِيُّ النَّفْسِ بِمَنْ أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَامْضِ لِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ مِنَ الْوُغُولِ فِي أَرْضِهِمْ، وَالْهَدْمِ لِحُصُونِهِمْ، وَقَتْلِ مُقَاتِلَتِهِمْ، وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ كِتَابًا آخَرَ بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَمُرْ مَنْ قِبَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَحْرِقُوا وَلِيُقِيمُوا بِهَا، فَإِنَّهَا دَارُهُمُ حَتَّى يَفْتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ ثَالِثًا بِذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُ: إِنْ مَضَيْتَ لِمَا أَمَرْتُكَ، وَإِلَّا فَأَخُوكَ إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَمِيرُ النَّاسِ.

فَدَعَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي لَكُمْ نَاصِحٌ وَلِصَلَاحِكُمْ مُحِبٌّ، وَلَكُمْ فِي كُلِّ مَا يُحِيطُ بِكُمْ نَفْعُهُ نَاظِرٌ، وَقَدْ كَانَ رَأْيِي فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَدُوِّي بِمَا رَضِيَهُ ذَوُو أَحْلَامِكُمْ وَأُولُو التَّجْرِبَةِ مِنْكُمْ، وَكَتَبْتُ بِذَلِكَ إِلَى أَمِيرِكُمُ الْحَجَّاجِ، فَأَتَانِي كِتَابُهُ يُعَجِّزُنِي وَيُضَعِّفُنِي، وَيَأْمُرُنِي بِتَعْجِيلِ الْوُغُولِ بِكُمْ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَهِيَ الْبِلَادُ الَّتِي هَلَكَ فِيهَا إِخْوَانُكُمْ بِالْأَمْسِ، وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ أَمْضِي إِذَا مَضَيْتُمْ، وَآبَى إِذَا أَبَيْتُمْ. فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَقَالُوا: بَلْ نَأْبَى عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ، وَلَا نَسْمَعُ لَهُ وَلَا نُطِيعُ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ الْكِنَانِيُّ، وَلَهُ صُحْبَةٌ، فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْحَجَّاجَ يَرَى بِكُمْ مَا رَأَى الْقَائِلُ الْأَوَّلُ: احْمِلْ عَبْدَكَ عَلَى الْفَرَسِ، فَإِنْ هَلَكَ هَلَكَ، وَإِنْ نَجَا فَلَكَ. إِنَّ الْحَجَّاجَ مَا يُبَالِي أَنْ يُخَاطِرَ بِكُمْ فَيُقْحِمَكُمْ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَيَغْشَى اللُّهُوبَ وَاللُّصُوبَ، فَإِنْ ظَفَرْتُمْ وَغَنِمْتُمْ أَكَلَ الْبِلَادَ وَحَازَ الْمَالَ، وَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي سُلْطَانِهِ، وَإِنْ ظَفِرَ عَدُوُّكُمْ كُنْتُمْ أَنْتُمُ الْأَعْدَاءَ الْبُغَضَاءَ الَّذِينَ لَا يُبَالِي عَنَتَهُمْ، وَلَا يُبْقِي عَلَيْهِمْ. اخْلَعُوا عَدُوَّ اللَّهِ الْحَجَّاجَ، وَبَايِعُوا الْأَمِيرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوَّلُ خَالِعٍ. فَنَادَى النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ: فَعَلْنَا فَعَلْنَا، قَدْ خَلَعْنَا عَدُوَّ اللَّهِ. وَقَامَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ! إِنَّكُمْ إِنْ أَطَعْتُمُ الْحَجَّاجَ جَعَلَ هَذِهِ الْبِلَادَ بِلَادَكُمْ مَا بَقِيتُمْ، وَجَمَّرَكُمْ تَجْمِيرَ فِرْعَوْنَ الْجُنُودَ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَّرَ الْبُعُوثَ، وَلَنْ تُعَايِنُوا الْأَحِبَّةَ أَوْ يَمُوتَ أَكْثَرُكُمْ فِيمَا أَرَى، فَبَايِعُوا أَمِيرَكُمْ، وَانْصَرِفُوا إِلَى عَدُوِّكُمُ الْحَجَّاجِ فَانْفُوهُ عَنْ بِلَادِكُمْ. فَوَثَبَ النَّاسُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَبَايَعُوهُ عَلَى خَلْعِ الْحَجَّاجِ، وَنَفْيِهِ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، وَعَلَى النُّصْرَةِ لَهُ. وَلَمْ يُذْكَرْ عَبْدُ الْمَلِكِ. وَجَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى بُسْتٍ عِيَاضَ بْنَ هِمْيَانَ الشَّيْبَانِيَّ، وَعَلَى زَرَنْجَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ التَّمِيمِيَّ، وَصَالَحَ رُتْبِيلَ عَلَى أَنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ إِنْ ظَهَرَ فَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ أَبَدًا مَا بَقِيَ، وَإِنْ هُزِمَ فَأَرَادَ مَنَعَهُ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَسَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَعْشَى هَمْدَانَ وَهُوَ يَقُولُ:

شَطَّتْ نَوَى مَنْ دَارُهُ بِالْإِيوَانْ ... إِيوَانِ كِسْرَى ذِي الْقُرَى وَالرَّيْحَانْ مِنْ عَاشِقٍ أَمْسَى بِزَابُلِسْتَانْ ... إِنَّ ثَقِيفًا مِنْهُمُ الْكَذَّابَانْ كَذَّابُهَا الْمَاضِي وَكَذَّابٌ ثَانْ ... أَمْكَنَ رَبِّي مِنْ ثَقِيفِ هَمْدَانْ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ يُسَلِّي مَا كَانْ ... إِنَّا سَمَوْنَا لِلْكَفُورِ الْفَتَّانْ حِينَ طَغَى فِي الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانْ ... بِالسَّيِّدِ الْغِطْرِيفِ عَبْدِ الرَّحْمَنْ سَارَ بِجَمْعٍ كَالدَّبَا مِنْ قَحْطَانْ ... وَمِنْ مَعَدٍّ قَدْ أَتَى ابْنُ عَدْنَانْ بِجَحْفَلٍ جَمٍّ شَدِيدِ الْأَرْكَانْ ... فَقُلْ لِحَجَّاجٍ وَلِيِّ الشَّيْطَانْ يَثْبُتْ بِجَمْعِ مَذْحِجٍ وَهَمْدَانْ ... فَإِنَّهُمْ سَاقُوهُ كَأْسَ الذَّيْفَانْ وَمُلْحِقُوهُ بِقُرَى ابْنِ مَرْوَانْ وَجَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ عَطِيَّةَ بْنَ عَمْرٍو الْعَنْبَرِيَّ، وَجَعَلَ عَلَى كَرْمَانَ حُرَيْثَةَ بْنَ عَمْرٍو التَّمِيمِيَّ، فَلَمَّا بَلَغَ فَارِسَ اجْتَمَعَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَقَالُوا: إِذَا خَلَعْنَا الْحَجَّاجَ عَامِلَ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَدْ خَلَعْنَا عَبْدَ الْمَلِكِ. فَاجْتَمَعُوا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَكَانَ أَوَّلَ النَّاسِ خَلَعَ عَبْدَ الْمَلِكِ تِيجَانُ بْنُ أَبْجَرَ مِنْ تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، قَامَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي خَلَعْتُ أَبَا ذِبَّانَ كَخَلْعِي قَمِيصِي. فَخَلَعَهُ النَّاسُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَبَايَعُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ: نُبَايِعُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى جِهَادِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَخَلْعِهِمْ، وَجِهَادِ الْمُحِلِّينَ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ خَلْعُهُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يُعَجِّلَ بِعْثَةَ الْجُنُودِ إِلَيْهِ. وَسَارَ الْحَجَّاجُ حَتَّى نَزَلَ الْبَصْرَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمُهَلَّبَ خَبَرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ مِنْ خُرَاسَانَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَدْ أَقْبَلُوا إِلَيْكَ وَهُمْ مِثْلُ السَّيْلِ، لَيْسَ يَرُدُّهُمْ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى قَرَارِهِ، وَإِنَّ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ شِرَّةٌ فِي أَوَّلِ مَخْرَجِهِمْ،

وَصَبَابَةٌ إِلَى أَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَسْقُطُوا إِلَى أَهَالِيهِمْ وَيَشُمُّوا أَوْلَادَهُمْ، ثُمَّ وَاقِعْهُمْ عِنْدَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ سَبَّهُ وَقَالَ: مَا إِلَيَّ نَظَرٌ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ لِابْنِ عَمِّهِ. يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ. وَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُ الْحَجَّاجِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ هَالَهُ، وَدَعَا خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ، فَأَقْرَأَهُ الْكِتَابَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كَانَ الْحَدَثُ مِنْ سِجِسْتَانَ فَلَا تَخَفْهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ خُرَاسَانَ فَإِنِّي أَتَخَوَّفُهُ. فَجَهَّزَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْجُنْدَ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَكَانُوا يَصِلُونَ إِلَى الْحَجَّاجِ عَلَى الْبَرِيدِ، مِنْ مِائَةٍ، وَمِنْ خَمْسِينَ، وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ، وَكُتُبُ الْحَجَّاجِ تَتَّصِلُ بِعَبْدِ الْمَلِكِ كُلَّ يَوْمٍ بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. فَسَارَ الْحَجَّاجُ مِنَ الْبَصْرَةِ لِيَلْتَقِيَ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَنَزَلَ تُسْتَرَ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُقَدِّمَةً إِلَى دُجَيْلٍ، فَلَقُوا عِنْدَهُ خَيْلًا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْحَجَّاجِ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْأَضْحَى سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ. فَلَمَّا أَتَى خَبَرُ الْهَزِيمَةِ إِلَى الْحَجَّاجِ رَجَعَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَتَبِعَهُ أَصْحَابُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَأَصَابُوا بَعْضَ أَثْقَالِهِمْ، وَأَقْبَلَ الْحَجَّاجُ حَتَّى نَزَلَ الزَّاوِيَةَ، وَجَمَعَ عِنْدَهُ الطَّعَامَ، وَتَرَكَ الْبَصْرَةَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَلَمَّا رَجَعَ نَظَرَ فِي كِتَابِ الْمُهَلَّبِ فَقَالَ: لِلَّهِ دَرُّهُ أَيُّ صَاحِبِ حَرْبٍ هُوَ! وَفَرَّقَ فِي النَّاسِ مِائَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَأَقْبَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَتَّى دَخَلَ الْبَصْرَةَ، فَبَايَعَهُ جَمِيعُ أَهْلِهَا قُرَّاؤُهَا وَكُهُولُهَا، مُسْتَبْصِرِينَ فِي قِتَالِ الْحَجَّاجِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي سُرْعَةِ إِجَابَتِهِمْ إِلَى بَيْعَتِهِ أَنَّ عُمَّالَ الْحَجَّاجِ كَتَبُوا إِلَيْهِ: إِنَّ الْخَرَاجَ قَدِ انْكَسَرَ، وَإِنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ قَدْ أَسْلَمُوا وَلَحِقُوا بِالْأَمْصَارِ. فَكَتَبَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا: إِنَّ مَنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ مِنْ قَرْيَةٍ فَلْيَخْرُجْ إِلَيْهَا. فَأَخْرَجَ النَّاسَ لِتُؤْخَذَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، فَجَعَلُوا يَبْكُونَ وَيُنَادُونَ: يَا مُحَمَّدَاهُ يَا مُحَمَّدَاهُ! وَلَا يَدْرُونَ أَيْنَ يَذْهَبُونَ، وَجَعَلَ قُرَّاءُ الْبَصْرَةِ يَبْكُونَ لِمَا يَرَوْنَ، فَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ الْأَشْعَثِ عُقَيْبَ ذَلِكَ بَايَعُوهُ عَلَى حَرْبِ الْحَجَّاجِ وَخَلْعِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَخَنْدَقَ الْحَجَّاجُ عَلَى نَفْسِهِ، وَخَنْدَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَكَانَ دُخُولُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَصْرَةَ فِي آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَ مِمَّنْ حَجَّ أُمُّ الدَّرْدَاءِ الصُّغْرَى. وَفِيهَا وُلِدَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ. وَكَانَ الْعَامِلُ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ، وَعَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ كُلِّهِ الْحَجَّاجَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ الْمُهَلَّبَ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ أَبَا بُرْدَةَ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أُذَيْنَةَ. وَكَانَتْ سِجِسْتَانُ وَكَرْمَانُ وَفَارِسُ وَالْبَصْرَةُ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ] 82 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْحَجَّاجِ وَابْنِ الْأَشْعَثِ قِيلَ: فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اقْتَتَلَ عَسْكَرُ الْحَجَّاجِ وَعَسْكَرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ قِتَالًا شَدِيدًا، فَتَزَاحَفُوا فِي الْمُحَرَّمِ عِدَّةَ دَفَعَاتٍ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي آخِرِ الْمُحَرَّمِ اشْتَدَّ قِتَالُهُمْ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْحَجَّاجِ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَيْهِ، وَقَاتَلُوا عَلَى خَنَادِقِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَزَاحَفُوا آخِرَ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَجَالَ أَصْحَابُ الْحَجَّاجِ وَتَقَوَّضَ صَفُّهُمْ، فَجَثَا الْحَجَّاجُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ: لِلَّهِ دَرُّ مُصْعَبٍ، مَا كَانَ أَكْرَمَهُ حِينَ نَزَلَ بِهِ مَا نَزَلْ وَعَزَمَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفِرُّ. فَحَمَلَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ عَلَى الْمَيْمَنَةِ الَّتِي لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فَهَزَمَهَا، وَانْهَزَمَ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَأَقْبَلُوا نَحْوَ الْكُوفَةِ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مِنْهُمْ عُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْغَافِرِ الْأَزْدِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، قُتِلُوا رِبْضَةً وَاحِدَةً مَعَهُ. وَلَمَّا بَلَغَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْكُوفَةَ تَبِعَهُ أَهْلُ الْقُوَّةِ وَأَصْحَابُ الْخَيْلِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَاجْتَمَعَ مَنْ بَقِيَ فِي الْبَصْرَةِ (مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَبَايَعُوهُ، فَقَاتَلَ بِهِمُ الْحَجَّاجَ خَمْسَ لَيَالٍ أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَحِقَ بِابْنِ الْأَشْعَثِ، وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ) ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ طُفَيْلُ بْنُ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، فَقَالَ أَبُوهُ يَرْثِيهِ، وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ: خَلَّى طُفَيْلٌ عَلَيَّ الْهَمَّ فَانْشَعَبَا ... وَهَدَّ ذَلِكَ رُكْنِي هَدَّةً عَجَبَا مَهْمَا نَسِيتُ فَلَا أَنْسَاهُ إِذْ حَدَقَتْ ... بِهِ الْأَسِنَّةُ مَقْتُولًا وَمُنْسَلِبَا

وَأَخْطَأَتْنِي الْمَنَايَا لَا تُطَالِعُنِي حَتَّى كَبِرْتُ وَلَمْ يَتْرُكْنَ لِي نَشَبَا ... وَكُنْتُ بَعْدَ طُفَيْلٍ كَالَّذِي نَضَبَتْ عَنْهُ السُّيُولُ وَغَاضَ الْمَاءُ فَانْقَضَبَا وَهِيَ أَبْيَاتٌ عِدَّةٌ، وَهَذِهِ الْوَقْعَةُ تُسَمَّى يَوْمَ الزَّاوِيَةِ. فَأَقَامَ الْحَجَّاجُ أَوَّلَ صَفَرٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْبَصْرَةِ الْحَكَمَ بْنَ أَيُّوبَ الثَّقَفِيَّ. وَسَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى الْكُوفَةِ، وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى الْبَصْرَةِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ الْحَضْرَمِيَّ حَلِيفَ بَنِي أُمَيَّةَ، فَقَصَدَهُ مَطَرُ بْنُ نَاجِيَةَ الْيَرْبُوعِيُّ، فَتَحَصَّنَ مِنْهُ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ فِي الْقَصْرِ، وَوَثَبَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مَعَ مَطَرٍ، فَأَخْرَجَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَكَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَاسْتَوْلَى مَطَرٌ عَلَى الْقَصْرِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ، وَفَرَّقَ فِيهِمْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. فَلَمَّا وَصَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى الْكُوفَةِ كَانَ مَطَرٌ بِالْقَصْرِ، فَخَرَجَ أَهْلُ الْكُوفَةِ يَسْتَقْبِلُونَهُ، وَدَخَلَ الْكُوفَةَ وَقَدْ سَبَقَ إِلَيْهِ هَمْدَانُ، فَكَانُوا حَوْلَهُ، فَأَتَى الْقَصْرَ، فَمَنَعَهُ مَطَرُ بْنُ نَاجِيَةَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَأَصْعَدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ النَّاسَ فِي السَّلَالِيمِ إِلَى الْقَصْرِ، فَأَخَذُوهُ، فَأُتِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِمَطَرِ بْنِ نَاجِيَةَ فَحَبَسَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَصَارَ مَعَهُ. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِالْكُوفَةِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَقَصَدَهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ الْهَاشِمِيُّ بَعْدَ قِتَالِهِ الْحَجَّاجَ بِالْبَصْرَةِ. وَقَتَلَ الْحَجَّاجُ يَوْمَ الزَّاوِيَةِ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا خَدَعَهُمْ بِالْأَمَانِ، وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: لَا أَمَانَ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، فَسَمَّى رِجَالًا، فَقَالَ الْعَامَّةُ: قَدْ آمَنَ النَّاسَ، فَحَضَرُوا عِنْدَهُ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا. ذِكْرُ وَقْعَةِ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ وَكَانَتْ وَقْعَةُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: كَانَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ الْحَجَّاجَ سَارَ مِنَ الْبَصَرِهِ إِلَى الْكُوفَةِ لِقِتَالِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَنَزَلَ دَيْرَ قُرَّةَ، وَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنَ الْكُوفَةِ، فَنَزَلَ دَيْرَ الْجَمَاجِمِ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: إِنَّ

عَبْدَ الرَّحْمَنِ نَزَلَ دَيْرَ الْجَمَاجِمِ، وَنَزَلْتُ دَيْرَ الْقُرَّةِ، أَمَا تُزْجَرُ الطَّيْرُ؟ وَاجْتَمَعَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَالْقُرَّاءُ وَأَهْلُ الثُّغُورِ وَالْمَسَالِحُ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِ الْحَجَّاجِ لِبُغْضِهِ، وَكَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ مِمَّنْ يَأْخُذُ الْعَطَاءَ، وَمَعَهُمْ مِثْلُهُمْ، وَجَاءَتِ الْحَجَّاجَ أَيْضًا أَمْدَادٌ مِنَ الشَّامِ قَبْلَ نُزُولِهِ بِدَيْرِ قُرَّةَ، وَخَنْدَقَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَ النَّاسُ يَقْتَتِلُونَ كُلَّ يَوْمٍ، وَلَا يَزَالُ أَحَدُهُمَا يُدْنِي خَنْدَقَهُ مِنَ الْآخَرِ. ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ وَأَهْلَ الشَّامِ قَالُوا: إِنْ كَانَ يَرْضَى أَهْلُ الْعِرَاقِ بِنَزْعِ الْحَجَّاجِ عَنْهُمْ نَزَعْنَاهُ، فَإِنَّ عَزْلَهُ أَيْسَرُ مِنْ حَرْبِهِمْ، وَنَحْقِنُ بِذَلِكَ الدِّمَاءَ. فَبَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ وَأَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ، إِلَى الْحَجَّاجِ فِي جُنْدٍ كَثِيفٍ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَعْرِضَا عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ عَزْلَ الْحَجَّاجِ، وَأَنْ يُجْرِيَا عَلَيْهِمْ أُعْطِيَاتِهِمْ كَمَا تُجْرَى عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، وَأَنْ يَنْزِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَيَّ بَلَدٍ شَاءَ مِنْ بَلَدِ الْعِرَاقِ، فَإِذَا نَزَلَهُ كَانَ وَالِيًا عَلَيْهِ مَا دَامَ حَيًّا وَعَبْدُ الْمَلِكِ خَلِيفَةً، فَإِنْ أَجَابَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى ذَلِكَ عَزَلَا الْحَجَّاجَ عَنْهَا، وَصَارَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ أَمِيرَ الْعِرَاقِ، وَإِنْ أَبَى أَهْلُ الْعِرَاقِ قَبُولَ ذَلِكَ، فَالْحَجَّاجُ أَمِيرُ الْجَمَاعَةِ، وَوَالِي الْقِتَالِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي طَاعَتِهِ. فَلَمْ يَأْتِ الْحَجَّاجَ أَمْرٌ قَطُّ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِ وَلَا أَوْجَعَ لِقَلْبِهِ مِنْ ذَلِكَ، مَخَافَةَ أَنْ يَقْبَلَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَزْلَهُ، فَيُعْزَلُ عَنْهُمْ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْطَيْتَ أَهْلَ الْعِرَاقِ نَزْعِي لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يُخَالِفُوكَ وَيَسِيرُوا إِلَيْكَ، وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا جُرْأَةً عَلَيْكَ، أَلَمْ تَرَ وَيَبْلُغْكَ وُثُوبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَعَ الْأَشْتَرِ عَلَى ابْنِ عَفَّانَ، وَسُؤَالُهُمْ نَزْعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَلَمَّا نَزَعَهُ لَمْ تَتِمَّ لَهُمُ السَّنَةُ حَتَّى سَارُوا إِلَى عُثْمَانَ فَقَتَلُوهُ، وَإِنَّ الْحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ. فَأَبَى عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَّا عَرْضَ عَزْلِهِ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَلَمَّا اجْتَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ مَعَ الْحَجَّاجِ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، أَنَا ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ يُعْطِيكُمْ كَذَا وَكَذَا. وَخَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ وَقَالَ: أَنَا رَسُولُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْكُمْ كَذَا وَكَذَا، فَذَكَرَ هَذِهِ الْخِصَالَ. فَقَالُوا: نَرْجِعُ الْعَشِيَّةَ. فَرَجَعُوا وَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عِنْدَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ أُعْطِيتُمْ أَمْرًا، انْتِهَازُكُمُ الْيَوْمَ إِيَّاهُ فُرْصَةٌ، وَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ عَلَى النِّصْفِ، فَإِنْ كَانُوا اعْتَدُوا عَلَيْكُمْ بِيَوْمِ الزَّاوِيَةِ، فَأَنْتُمْ تَعْتَدُونَ عَلَيْهِمْ بِيَوْمِ تُسْتَرَ،

فَاقْبَلُوا مَا عَرَضُوا عَلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ أَعِزَّاءُ أَقْوِيَاءُ لِقَوْمٍ هُمْ لَكُمْ هَائِبُونَ، وَأَنْتُمْ لَهُمْ مُنْتَقِصُونَ، فَوَاللَّهِ لَا زِلْتُمْ عَلَيْهِمْ جُرَآءُ، وَعِنْدَهُمْ أَعِزَّاءُ، أَبَدًا مَا بَقِيتُمْ، إِنْ أَنْتُمْ قَبِلْتُمْ. فَوَثَبَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَهُمْ، فَأَصْبَحُوا فِي الضَّنْكِ وَالْمَجَاعَةِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَنَحْنُ ذَوُو الْعَدَدِ الْكَثِيرِ، وَالسِّعْرِ الرَّخِيصِ، وَالْمَادَّةِ الْقَرِيبَةِ، لَا وَاللَّهِ لَا نَقْبَلُ! وَأَعَادُوا خَلْعَهُ ثَانِيَةً. وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَامَ بِخَلْعِهِ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذُؤَابٍ السُّلَمِيُّ، وَعُمَيْرُ بْنُ تِيجَانَ، وَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى خَلْعِهِ بِالْجَمَاجِمِ أَجْمَعَ مِنْ خَلْعِهِمْ إِيَّاهُ بِفَارِسَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ لِلْحَجَّاجِ: شَأْنُكَ بِعَسْكَرِكَ وَجُنْدِكَ، وَاعْمَلْ بِرَأْيِكَ، فَإِنَّا قَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَسْمَعَ لَكَ وَنُطِيعَ. فَقَالَ: قَدْ قُلْتُ: إِنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَذَا الْأَمْرِ غَيْرُكُمْ. فَكَانَا يُسَلِّمَانِ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمَا بِالْإِمْرَةِ. فَلَمَّا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ بِالْجَمَاجِمِ عَلَى خَلْعِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَلَا إِنَّ بَنِي مَرْوَانَ يُعَيَّرُونَ بِالزُّرَقَاءِ، وَاللَّهِ مَا لَهُمْ نَسَبٌ أَصَحُّ مِنْهُ، إِلَّا أَنَّ بَنِي [أَبِي] الْعَاصِ أَعْلَاجٌ مِنْ أَهْلِ صَفُّورِيَةَ، فَإِنْ يَكُنْ هَذَا الْأَمْرُ (فِي قُرَيْشٍ فَعَنِّي فُقِئَتْ) بَيْضَةُ قُرَيْشٍ، وَإِنْ يَكُ فِي الْعَرَبِ فَأَنَا ابْنُ الْأَشْعَثِ، وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ يُسْمِعُ النَّاسَ، وَبَرَزُوا لِلْقِتَالِ. فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سُلَيْمٍ الْكَلْبِيَّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عِمَارَةَ بْنَ تَمِيمٍ اللَّخْمِيَّ، وَعَلَى خَيْلِهِ سُفْيَانَ بْنَ الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيَّ، وَعَلَى رَجَّالِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبِيبٍ الْحَكَمِيَّ، وَجَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى مَيْمَنَتِهِ الْحَجَّاجَ بْنَ حَارِثَةَ الْخَثْعَمِيَّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ الْأَبْرَدَ بْنَ قُرَّةَ التَّمِيمِيَّ، وَعَلَى خَيْلِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ الْهَاشِمِيَّ، وَعَلَى رَجَّالِهِ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلَى مُجَنَّبَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رِزَامٍ الْحَارِثِيَّ، وَجَعَلَ عَلَى الْقُرَّاءِ جَبَلَةَ بْنَ زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ الْجُعْفِيَّ، وَفِيهِمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى. ثُمَّ أَخَذُوا يَتَزَاحَفُونَ كُلَّ يَوْمٍ وَيَقْتَتِلُونَ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ تَأْتِيهِمْ مَوَادُّهُمْ مِنَ الْكُوفَةِ وَسَوَادِهَا، وَهُمْ فِي خِصْبٍ، وَأَهْلُ الشَّامِ فِي ضَنْكٍ شَدِيدٍ، قَدْ غَلَتْ عَلَيْهِمُ الْأَسْعَارُ، وَفُقِدَ عِنْدَهُمُ اللَّحْمُ كَأَنَّهُمْ فِي حِصَارٍ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ يُغَادُونَ الْقِتَالَ وَيُرَاوِحُونَ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ جَبَلَةُ بْنُ زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَتْ كَتِيبَتُهُ تُدْعَى الْقُرَّاءَ تُحُمِّلَ عَلَيْهِمْ فَلَا

يَبْرَحُونَ، وَكَانُوا قَدْ عُرِفُوا بِذَلِكَ، وَكَانَ فِيهِمْ كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ، وَكَانَ رَجُلًا رَكِينًا. فَخَرَجُوا ذَاتَ يَوْمٍ كَمَا كَانُوا يَخْرُجُونَ، وَعَبَّأَ الْحَجَّاجُ صُفُوفَهُ، وَعَبَّأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَصْحَابَهُ، وَعَبَّأَ الْحَجَّاجُ لِكَتِيبَةِ الْقُرَّاءِ ثَلَاثَ كَتَائِبَ، وَبَعَثَ عَلَيْهَا الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ، فَأَقْبَلُوا نَحْوَهُمْ، فَحَمَلُوا عَلَى الْقُرَّاءِ ثَلَاثَ حَمَلَاتٍ، كُلُّ كَتِيبَةٍ تَحْمِلُ حَمْلَةً، فَلَمْ يَبْرَحُوا وَصَبَرُوا. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْمُهَلَّبِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بِخُرَاسَانَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ أَبُوهُ الْمُهَلَّبُ عَلَى عَمَلِهِ بِخُرَاسَانَ، فَمَاتَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ، فَأَتَى الْخَبَرُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ وَأَهْلَ الْعَسْكَرِ، فَلَمْ يُخْبِرُوا الْمُهَلَّبَ، فَأَمَرَ يَزِيدُ النِّسَاءَ فَصَرَخْنَ، فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: مَاتَ الْمُغِيرَةُ. فَاسْتَرْجَعَ وَجَزِعَ حَتَّى ظَهَرَ جَزَعُهُ، فَلَامَهُ بَعْضُ خَاصَّتِهِ، ثُمَّ دَعَا يَزِيدَ وَوَجَّهَهُ إِلَى مَرْوَ، وَوَصَّاهُ بِمَا يَعْمَلُ وَإِنَّ دُمُوعَهُ لَتَنْحَدِرُ عَلَى لِحْيَتِهِ. فَكَانَ الْمُهَلَّبُ مُقِيمًا بِكِشَّ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ يُحَارِبُ أَهْلَهَا، فَسَارَ يَزِيدُ فِي سِتِّينَ فَارِسًا، وَيُقَالُ سَبْعِينَ، فَلَقِيَهُمْ خَمْسُمِائَةٍ مِنَ التُّرْكِ فِي مَفَازَةِ بُسْتٍ، فَقَالُوا: مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: تُجَّارٌ. قَالُوا: فَأَعْطُونَا شَيْئًا. فَأَبَى يَزِيدُ، فَأَعْطَاهُمْ مُجَّاعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَتَكِيُّ ثَوْبًا وَكَرَابِيسَ وَقَوْسًا، فَانْصَرَفُوا، ثُمَّ غَدَرُوا وَعَادُوا إِلَيْهِمْ فَقَاتَلُوهُمْ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَمَعَ يَزِيدَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ، فَقَالَ: اسْتَبْقِنِي. فَاسْتَبْقَاهُ. فَحَمَلَ الْخَارِجِيُّ عَلَيْهِمْ حَتَّى خَالَطَهُمْ وَصَارَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَقَتَلَ رَجُلًا، ثُمَّ كَرَّ حَتَّى خَالَطَهُمْ وَقَتَلَ رَجُلًا، وَرَجَعَ إِلَى يَزِيدَ، وَقَتَلَ يَزِيدُ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ، وَرُمِيَ يَزِيدُ فِي سَاقِهِ، فَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُمْ، وَصَبَرَ [لَهُمْ] يَزِيدُ حَتَّى حَاجَزُوهُمْ، فَقَالُوا: قَدْ غَدَرْنَا، وَلَا نَنْصَرِفُ حَتَّى نَمُوتَ أَوْ تَمُوتُوا، أَوْ تُعْطُونَا شَيْئًا. فَلَمْ يُعْطِهِمْ يَزِيدُ شَيْئًا. فَقَالَ مُجَّاعَةُ: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ، قَدْ هَلَكَ الْمُغِيرَةُ، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تَهْلِكَ فَتَجْتَمِعُ عَلَى الْمُهَلَّبِ الْمُصِيبَةُ. فَقَالَ: إِنَّ الْمُغِيرَةَ لَمْ يَعْدُ أَجْلَهُ، وَلَسْتُ أَعْدُو أَجْلِي. فَرَمَى إِلَيْهِمْ مُجَّاعَةُ بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ، فَأَخَذُوهَا وَانْصَرَفُوا.

ذِكْرُ صُلْحِ الْمُهَلَّبِ أَهْلَ كِشَّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ صَالَحَ الْمُهَلَّبُ أَهْلَ كِشَّ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ اتَّهَمَ قَوْمًا مِنْ مُضَرَ فَحَبَسَهُمْ، وَصَالَحَ وَقَفَلَ، وَخَلَّفَ حُرَيْثَ بْنَ قُطْبَةَ مَوْلَى خُزَاعَةَ وَقَالَ: إِذَا اسْتَوْفَيْتَ الْفِدْيَةَ فَرُدَّ عَلَيْهِمُ الرَّهْنَ. وَسَارَ الْمُهَلَّبُ، فَلَمَّا صَارَ بِبَلْخٍ كَتَبَ إِلَى حُرَيْثٍ: إِنِّي لَسْتُ آمَنُ إِنْ رَدَدْتُ عَلَيْهِمُ الرَّهْنَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْكَ، فَإِذَا قَبَضْتَ الْفِدْيَةَ فَلَا تُخَلِّ الرَّهْنَ حَتَّى تَقْدَمَ أَرْضَ بَلْخٍ. فَقَالَ حُرَيْثٌ لِمَلِكِ كِشَّ: إِنَّ الْمُهَلَّبَ كَتَبَ إِلَيَّ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ عَجَّلْتَ الْفِدْيَةَ سَلَّمْتُ إِلَيْكَ الرَّهْنَ وَسِرْتُ وَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ كِتَابَهُ وَرَدَ وَقَدِ اسْتَوْفَيْتُهَا مِنْكُمْ، وَرَدَدْتُ عَلَيْكُمُ الرَّهْنَ. فَعَجَّلَ مَلِكُ كِشَّ الْفِدْيَةَ وَأَخَذَ الرَّهْنَ، وَرَجَعَ حُرَيْثٌ، فَعَرَضَ لَهُمُ التُّرْكُ فَقَالُوا لَهُ: افْدِ نَفْسَكَ وَمَنْ مَعَكَ، فَقَدْ لَقِينَا يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ فَفَدَى نَفْسَهُ. فَقَالَ حُرَيْثٌ: وَلَدَتْنِي إِذًا أُمُّ يَزِيدَ. وَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلَهُمْ وَأَسَرَ مِنْهُمْ أَسْرَى، فَفَدَوْهُمْ، فَأَطْلَقَهُمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْفِدَاءَ. وَبَلَغَ الْمُهَلَّبَ قَوْلُهُ فَقَالَ: يَأْنَفُ الْعَبْدُ أَنْ تَلِدَهُ أُمُّ يَزِيدَ. فَغَضِبَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ بِبَلْخٍ قَالَ: أَيْنَ الرَّهْنُ؟ قَالَ: خَلَّيْتُهُمْ قَبْلَ وُصُولِ كِتَابِكَ، وَقَدْ كُفِيتُ مَا خِفْتَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَقَرَّبْتَ إِلَيْهِمْ. وَأَمَرَ بِتَجْرِيدِهِ، فَجَزِعَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى ظَنَّ الْمُهَلَّبُ أَنَّ بِهِ مَرَضًا، فَجَرَّدَهُ وَضَرَبَهُ ثَلَاثِينَ سَوْطًا. فَقَالَ حُرَيْثٌ: وَدِدْتُ أَنَّهُ ضَرَبَنِي ثَلَاثَمِائَةٍ وَلَمْ يُجَرِّدْنِي، أَنَفَةً وَحَيَاءً. وَحَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ الْمُهَلَّبَ. فَرَكِبَ يَوْمًا مَعَ الْمُهَلَّبِ فَأَمَرَ غُلَامَيْنِ لَهُ أَنْ يَضْرِبَا الْمُهَلَّبَ، فَلَمْ يَفْعَلَا وَقَالَا: نَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ. وَتَرَكَ حُرَيْثٌ إِتْيَانَ الْمُهَلَّبِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَخَاهُ ثَابِتَ بْنَ قُطْبَةَ لِيَأْتِيَهُ بِهِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ كَبَعْضِ وَلَدِي أَدِّبْهُ كَبَعْضِهِمْ. فَأَتَى ثَابِتٌ أَخَاهُ وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ إِلَى الْمُهَلَّبِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَحَلَفَ لَيَقْتُلَنَّهُ، فَقَالَ ثَابِتٌ: إِنْ كَانَ هَذَا رَأْيَكَ فَاخْرُجْ بِنَا إِلَى مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ. وَخَافَ ثَابِتٌ أَنْ يَقْتُلَ حُرَيْثٌ الْمُهَلَّبَ فَيُقْتَلُونَ جَمِيعًا، فَخَرَجَا فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِمَا الْمُنْقَطِعِينَ إِلَيْهِمَا. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ يَزِيدَ خُرَاسَانَ لَمَّا صَالَحَ الْمُهَلَّبُ أَهْلَ كِشَّ رَجَعَ يُرِيدُ مَرْوَ، فَلَمَّا كَانَ بِمَرْوِ الرُّوذِ أَخَذَتْهُ الشَّوْصَةُ، وَقِيلَ الشَّوْكَةُ، فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَوْصَى إِلَى ابْنِهِ حَبِيبٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ:

قَدِ اسْتُخْلِفَ عَلَيْكُمْ يَزِيدُ فَلَا تُخَالِفُوهُ. فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الْمُفَضَّلُ: لَوْ لَمْ تُقَدِّمْهُ لَقَدَّمْنَاهُ. وَأَحْضَرَ وَلَدَهُ فَوَصَّاهُمْ، وَأَحْضَرَ سِهَامًا فَحُزِّمَتْ، فَقَالَ: أَتَكْسِرُونَهَا مُجْتَمِعَةً؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَتَكْسِرُونَهَا مُتَفَرِّقَةً؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَهَكَذَا الْجَمَاعَةُ. ثُمَّ قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ ; فَإِنَّهَا تُنْسِئُ فِي الْأَجَلِ، وَتُثْرِي الْمَالَ، وَتُكْثِرُ الْعَدَدَ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْقَطِيعَةِ ; فَإِنَّهَا تُعْقِبُ النَّارَ وَالْقِلَّةَ وَالذِّلَّةَ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَلْيَكُنْ فِعَالُكُمْ أَفْضَلَ مِنْ مَقَالِكُمْ، وَاتَّقُوا الْجَوَابَ وَزِلَّةَ اللِّسَانِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ تَزِلُّ قَدَمُهُ فَيَنْتَعِشُ مِنْهَا، وَيَزِلُّ لِسَانُهُ فَيَهْلِكُ، اعْرَفُوا لِمَنْ يَغْشَاكُمْ حَقَّهُ، فَكَفَى بِغُدُوِّ الرَّجُلِ وَرَوَاحِهِ إِلَيْكُمْ تَذْكِرَةً لَهُ، وَآثِرُوا الْجُودَ عَلَى الْبُخْلِ، وَأَحْيُوا الْعُرْفَ، وَاصْنَعُوا الْمَعْرُوفَ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْعَرَبِ تَعِدُهُ الْعِدَةَ، فَيَمُوتُ دُونَكَ، فَكَيْفَ بِالصَّنِيعَةِ عِنْدَهُ! عَلَيْكُمْ فِي الْحَرْبِ بِالتُّؤَدَةِ وَالْمَكِيدَةِ، فَإِنَّهَا أَنْفَعُ مِنَ الشَّجَاعَةِ، وَإِذَا كَانَ اللِّقَاءُ نَزَلَ الْقَضَاءُ، فَإِنْ أَخَذَ الرَّجُلُ بِالْحَزْمِ فَظَفِرَ قِيلَ: أَتَى الْأَمْرَ مِنْ وَجْهِهِ فَظَفِرَ، فَحُمِدَ، وَإِنْ لَمْ يَظْفَرْ قِيلَ: مَا فَرَّطَ وَلَا ضَيَّعَ وَلَكِنَّ الْقَضَاءَ غَالِبٌ، وَعَلَيْكُمْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِ السُّنَنِ وَأَدَبِ الصَّالِحِينَ، وَإِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْكَلَامِ فِي مَجَالِسِكُمْ. ثُمَّ مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ نَهَارُ بْنُ تَوْسِعَةَ التَّمِيمِيُّ يَرْثِيهِ: أَلَا ذَهَبَ الْمَعْرُوفُ وَالْعِزُّ وَالْغِنَى وَمَاتَ النَّدَى وَالْجُودُ بَعْدَ الْمُهَلَّبِ أَقَامَ بِمَرْوِ الرُّوذِ رَهْنَ ضَرِيحِهِ وَقَدْ غَابَ عَنْهُ كُلُّ شَرْقٍ وَمَغْرِبِ إِذَا قِيلَ أَيُّ النَّاسِ أَوْلَى بِنِعْمَةٍ عَلَى النَّاسِ؟ قُلْنَا هُوَ وَلَمْ نَتَهَيَّبِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ كَتَبَ ابْنُهُ يَزِيدُ إِلَى الْحَجَّاجِ يُعْلِمُهُ بِوَفَاتِهِ، فَأَقَرَّ يَزِيدَ عَلَى خُرَاسَانَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ عَنِ الْمَدِينَةِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ،

وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيَّ، فَعَزَلَ هِشَامٌ نَوْفَلَ بْنَ مُسَاحِقٍ عَنْ قَضَاءِ الْمَدِينَةِ، وَوَلَّى عَلَى الْقَضَاءِ عَمْرَو بْنَ خَالِدٍ الزُّرَقِيَّ، وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ أَرْمِينِيَّةَ فَهَزَمَهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ الصُّلْحَ فَصَالَحَهُمْ، وَوَلَّى عَلَيْهِمْ أَبَا شَيْخٍ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَغَدَرُوا بِهِ فَقَتَلُوهُ، وَقِيلَ: بَلْ قَتَلُوهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثِيُّ بِدُجَيْلٍ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْجَوْزَاءِ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرِّبْعِيُّ، وَعَطَاءُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّلِيمِيُّ الْعَابِدُ. (السَّلِيمِيُّ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَسْرِ اللَّامِ) . وَفِيهَا مَاتَ زَاذَانُ، وَأَبُو وَائِلٍ. وَعُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ التَّيْمِيُّ، وَعُمُرُهُ سِتُّونَ سَنَةً. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ.

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ] 83 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ ذِكْرُ بَقِيَّةِ الْوَقْعَةِ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ فَلَمَّا حَمَلَتْ كَتَائِبُ الْحَجَّاجِ الثَّلَاثِ عَلَى الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَلَيْهِمْ جَبَلَةُ بْنُ زَحْرٍ نَادَى جَبَلَةُ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى! يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ! إِنَّ الْفِرَارَ لَيْسَ بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِأَقْبَحَ مِنْهُ بِكُمْ، إِنِّي سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَفَعَ اللَّهُ دَرَجَتَهُ فِي الصَّالِحِينَ، وَآتَاهُ ثَوَابَ الصَّادِقِينَ وَالشُّهَدَاءِ - يَقُولُ يَوْمَ لَقِينَا أَهْلَ الشَّامِ: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، إِنَّهُ مَنْ رَأَى عُدْوَانًا يُعْمَلُ بِهِ، وَمُنْكَرًا يُدْعَى إِلَيْهِ، فَأَنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ - فَقَدْ سَلِمَ وَبَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَهُ بِلِسَانِهِ فَقَدْ أُجِرَ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ، وَمَنْ أَنْكَرَهُ بِالسَّيْفِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَكَلِمَةُ الظَّالِمِينَ السُّفْلَى، فَذَلِكَ الَّذِي أَصَابَ سَبِيلَ الْهُدَى، وَنَوَّرَ فِي قَلْبِهِ الْيَقِينُ، فَقَاتِلُوا هَؤُلَاءِ الْمُحِلِّينَ الْمُحْدِثِينَ الْمُبْتَدِعِينَ الَّذِينَ جَهِلُوا الْحَقَّ فَلَا يَعْرِفُونَهُ، وَعَمِلُوا بِالْعُدْوَانِ فَلَيْسَ يُنْكِرُونَهُ. وَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَاتِلُوهُمْ عَلَى دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ. فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَاتِلُوهُمْ وَلَا يَأْخُذْكُمْ حَرَجٌ مِنْ قِتَالِهِمْ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ عَلَى بَسِيطِ الْأَرْضِ أَعْمَلَ بِظُلْمٍ، وَلَا أَجْوَرَ فِي حُكْمٍ، مِنْهُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَالَ جَبَلَةُ: احْمِلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةً صَادِقَةً، وَلَا تَرُدُّوا وُجُوهَكُمْ عَنْهُمْ حَتَّى تُوَاقِعُوا صَفَّهُمْ. فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَضَرَبُوا الْكَتَائِبَ حَتَّى أَزَالُوهَا وَفَرَّقُوهَا، وَتَقَدَّمُوا حَتَّى وَاقَعُوا صَفَّهُمْ، فَأَزَالُوهُ عَنْ مَكَانِهِ، ثُمَّ رَجَعُوا فَوَجَدُوا جَبَلَةَ بْنَ زَحْرٍ قَتِيلًا لَا يَدْرُونَ كَيْفَ قُتِلَ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ أَصْحَابَهُ لَمَّا حَمَلُوا عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فَفَرَّقُوهُمْ وَقَفَ لِأَصْحَابِهِ لِيَرْجِعُوا إِلَيْهِ، فَافْتَرَقَتْ فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَوَقَفَتْ نَاحِيَةً، فَلَمَّا رَأَوْا أَصْحَابَ جَبَلَةَ قَدْ

تَقَدَّمُوا، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَذَا جَبَلَةُ، احْمِلُوا عَلَيْهِ مَا دَامَ أَصْحَابُهُ مَشَاغِيلَ بِالْقِتَالِ. فَحَمَلُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يُوَلِّ، لَكِنَّهُ حَمَلَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُ، الْوَلِيدُ بْنُ نُحَيْتٍ الْكَلْبِيُّ، وَجِيءَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَبَشَّرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ. فَلَمَّا رَجَعَ أَصْحَابُ جَبَلَةَ وَرَأَوْهُ قَتِيلًا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَتَنَاعُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: لَا يَظْهَرَنَّ عَلَيْكُمْ قَتْلُ جَبَلَةَ، إِنَّمَا كَانَ كَرَجُلٍ مِنْكُمْ أَتَتْهُ مَنِيَّتُهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِيَتَقَدَّمَ [يَوْمَهُ] وَلَا لِيَتَأَخَّرَ [عَنْهُ] . وَظَهَرَ الْفَشَلُ فِي الْقُرَّاءِ، وَنَادَاهُمْ أَهْلُ الشَّامِ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ، قَدْ هَلَكْتُمْ، وَقَدْ قُتِلَ طَاغِيَتُكُمْ! وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ بِسْطَامُ بْنُ مَصْقَلَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ الشَّيْبَانِيُّ، فَفَرِحُوا بِهِ وَقَالُوا: تَقَدَّمْ مَقَامَ جَبَلَةَ. وَكَانَ قُدُومُهُ مِنَ الرَّيِّ، فَلَمَّا أَتَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ جَعَلَهُ عَلَى رَبِيعَةَ، وَكَانَ شُجَاعًا، فَقَاتَلَ يَوْمًا، فَدَخَلَ عَسْكَرَ الْحَجَّاجِ، فَأَخَذَ أَصْحَابُهُ ثَلَاثِينَ امْرَأَةً فَأَطْلَقَهُنَّ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: مَنَعُوا نِسَاءَهُمْ، لَوْ لَمْ يَرُدُّوهُنَّ لَسَبَيْتُ نِسَاءَهُمْ إِذَا ظَهَرْتُ عَلَيْهِمْ. وَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الرُّؤَاسِيُّ أَبُو حُمَيْدٍ، فَدَعَا إِلَى الْمُبَارَزَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَتَضَارَبَا، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا الْغُلَامُ الْكِلَابِيُّ. فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَنْ أَنْتَ؟ وَإِذَا هُمَا ابْنَا عَمٍّ، فَتَحَاجَزَا. وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رِزَامٍ الْحَارِثِيُّ، فَطَلَبَ الْمُبَارَزَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ عَسْكَرِ الْحَجَّاجِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ خَرَجَ، فَقَالُوا: جَاءَ لَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ! فَطَلَبَ الْمُبَارَزَةَ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ لِلْجَرَّاحِ: اخْرُجْ إِلَيْهِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا: وَيْحَكَ يَا جَرَّاحُ مَا أَخْرَجَكَ؟ قَالَ: ابْتُلِيتُ بِكَ. قَالَ: فَهَلْ لَكَ فِي خَيْرٍ؟ قَالَ الْجَرَّاحُ: مَا هُوَ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَنْهَزِمُ لَكَ وَتَرْجِعُ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَقَدْ أَحْسَنْتَ عِنْدَهُ وَحَمَدَكَ، وَأَمَّا أَنَا فَأَحْتَمِلُ مُقَالَةَ النَّاسِ فِي انْهِزَامِي حُبًّا لِسَلَامَتِكَ، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ قَتْلَ مِثْلِكَ مِنْ قَوْمِي. قَالَ: افْعَلْ. فَحَمَلَ الْجَرَّاحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَاسْتَطْرَدَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ الْجَرَّاحُ بِجِدٍّ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَصَاحَ لِعَبْدِ اللَّهِ غُلَامُهُ، وَكَانَ نَاحِيَةً مَعَهُ مَاءٌ لِيَشْرَبَهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي، إِنَّ الرَّجُلَ يُرِيدُ قَتْلَكَ! فَعَطَفَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى الْجَرَّاحِ، فَضَرَبَهُ بِعَمُودٍ عَلَى رَأْسِهِ فَصَرَعَهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا جَرَّاحُ، بِئْسَ مَا جَزَيْتَنِي! أَرَدْتُ بِكَ الْعَافِيَةَ وَأَرَدْتَ قَتْلِي! انْطَلِقْ فَقَدْ تَرَكْتُكَ لِلْقَرَابَةِ وَالْعَشِيرَةِ. وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ يَحْمِلَانِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ بَعْدَ قَتْلِ جَبَلَةَ بْنِ زَحْرٍ حَتَّى يُخَالِطَاهُمْ، وَكَانَتْ مُدَّةُ الْحَرْبِ مِائَةَ يَوْمٍ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ نُزُولُهُمْ

بِالْجَمَاجِمِ لِثَلَاثٍ مَضَيْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ مَضَيْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْهَزِيمَةِ اقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، وَاسْتَظْهَرَ أَصْحَابُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى أَصْحَابِ الْحَجَّاجِ، وَاسْتَعْلُوا عَلَيْهِمْ وَهُمْ آمِنُونَ أَنْ يُهْزَمُوا. فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ حَمَلَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ، وَهُوَ فِي مَيْمَنَةِ الْحَجَّاجِ، عَلَى الْأَبْرَدِ بْنِ قُرَّةَ التَّمِيمِيِّ، وَهُوَ عَلَى مَيْسَرَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَانْهَزَمَ الْأَبْرَدُ بْنُ قُرَّةَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ يُذْكَرُ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ صُولِحَ عَلَى أَنْ يَنْهَزِمَ بِالنَّاسِ، فَلَمَّا انْهَزَمَ تَقَوَّضَتِ الصُّفُوفُ مِنْ نَحْوِهِ وَرَكِبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَصَعِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمِنْبَرُ يُنَادِي النَّاسَ: إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ، فَثَبَتَ حَتَّى دَنَا مِنْهُ أَهْلُ الشَّامِ، فَقَاتَلَ مَنْ مَعَهُ، وَدَخَلَ أَهْلُ الشَّامِ الْعَسْكَرَ، فَأَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الْمُفَضَّلِ الْأَزْدِيُّ فَقَالَ لَهُ: انْزِلْ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُؤْسَرَ، وَلَعَلَّكَ إِنِ انْصَرَفْتَ أَنْ تَجْمَعَ لَهُمْ جَمْعًا يُهْلِكُهُمُ اللَّهُ بِهِ. فَنَزَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، ثُمَّ رَجَعَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَعَادَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى الشَّامِ، وَأَخَذَ الْحَجَّاجُ يُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ يُبَايِعُ أَحَدًا إِلَّا قَالَ لَهُ: اشْهَدْ أَنَّكَ كَفَرْتَ، فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، بَايَعَهُ، وَإِلَّا قَتَلَهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ خَشْعَمٍ كَانَ مُعْتَزِلًا لِلنَّاسِ جَمِيعًا، فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَأَخْبَرَهُ بِاعْتِزَالِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مُتَرَبِّصٌ، أَتَشْهَدُ أَنَّكَ كَافِرٌ؟ قَالَ: بِئْسَ الرَّجُلُ أَنَا! أَعْبُدُ اللَّهَ ثَمَانِينَ سَنَةً ثُمَّ أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ! قَالَ: إِذًا أَقْتُلُكَ. قَالَ: وَإِنْ قَتَلْتَنِي. فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ إِلَّا رَحِمَهُ. ثُمَّ دَعَا بِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الْمُقْتَصُّ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ؟ (قَدْ كُنْتُ أُحِبُّ مِنْ أَنْ أَجِدَ) عَلَيْكَ سَبِيلًا. قَالَ: عَلَى أَيِّنَا أَنْتَ أَشَدُّ غَضَبًا، عَلَيْهِ حِينَ أَقَادَ مِنْ نَفْسِهِ، أَمْ عَلَيَّ حِينَ عَفَوْتُ عَنْهُ؟ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ مِنْ ثَقِيفٍ، (لَا تَصْرِفْ عَلَيَّ أَنْيَابَكَ، وَلَا تُكَشِّرْ) عَلَيَّ كَالذِّئْبِ، وَاللَّهِ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِي إِلَّا ظِمْءَ الْحِمَارِ، اقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ، فَإِنَّ الْمَوْعِدَ اللَّهُ، وَبَعْدَ الْقَتْلِ الْحِسَابَ. قَالَ الْحَجَّاجُ: فَإِنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْكَ. قَالَ: ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ إِلَيْكَ. فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ، وَكَانَ خِصِّيصًا بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأُتِيَ بِآخَرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: أَرَى رَجُلًا مَا أَظُنُّهُ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَتُخَادِعَنِي عَنْ نَفْسِي؟ أَنَا أَكْفَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَكْفَرُ مِنْ فِرْعَوْنَ. فَضَحِكَ مِنْهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ.

وَأَقَامَ بِالْكُوفَةِ شَهْرًا، وَأَنْزَلَ أَهْلَ الشَّامِ بُيُوتَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، أَنْزَلَهُمُ الْحَجَّاجُ فِيهَا مَعَ أَهْلِهَا، (وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَنْزَلَ الْجُنْدَ فِي بُيُوتِ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ إِلَى الْآنَ لَا سِيَّمَا فِي بِلَادِ الْعَجَمِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . ذِكْرُ الْوَقْعَةِ بِمَسْكِنٍ وَلَمَّا انْهَزَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَتَى الْبَصْرَةَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ فِيهِمْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْقُرَشِيُّ، وَكَانَ بِالْمَدَائِنِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ، فَلَحِقَ ابْنُ سَعْدٍ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ نَحْوَ الْحَجَّاجِ وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ فِيهِمْ بِسْطَامُ بْنُ مَصْقَلَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ الشَّيْبَانِيُّ، وَقَدْ بَايَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ عَلَى الْمَوْتِ، فَاجْتَمَعُوا بِمَسْكِنٍ، وَخَنْدَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَجَعَلَ الْقِتَالَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَقَدِمَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ خُرَاسَانَ فِي نَاسٍ مِنْ بَعْثِ الْكُوفَةِ، فَاقْتَتَلُوا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَشَدَّ قِتَالٍ، فَقُتِلَ زِيَادُ بْنُ غَيْثَمٍ الْقَيْنِيُّ، وَكَانَ عَلَى مَسَالِحِ الْحَجَّاجِ، فَهَدَّهُ ذَلِكَ وَهَدَّ أَصْحَابَهُ. وَبَاتَ الْحَجَّاجُ يُحَرِّضُ أَصْحَابَهُ، وَلَمَّا أَصْبَحُوا بَاكَرُوا الْقِتَالَ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ كَانَ بَيْنَهُمْ، فَانْكَشَفَتْ خَيْلُ سُفْيَانَ بْنِ الْأَبْرَدِ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ الْمُهَلَّبِ فَحَمَلَ عَلَى أَصْحَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحَمَلَ أَصْحَابُ الْحَجَّاجِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَانْهَزَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَصْحَابُهُ، وَقُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى الْفَقِيهُ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ، وَمَشَى بِسْطَامُ بْنُ مَصْقَلَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ مِنْ شُجْعَانِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، فَكَسَرُوا جُفُونَ سُيُوفِهِمْ، وَحَثَّ أَصْحَابَهُ عَلَى الْقِتَالِ، فَحَمَلُوا عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فَكَشَفُوهُمْ مِرَارًا، فَدَعَا الْحَجَّاجُ الرُّمَاةَ فَرَمَوْهُمْ، وَأَحَاطَ بِهِمُ النَّاسُ، فَقُتِلُوا إِلَّا قَلِيلًا، وَمَضَى ابْنُ الْأَشْعَثِ نَحْوَ سِجِسْتَانَ. وَقَدْ قِيلَ فِي هَزِيمَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِمَسْكِنٍ غَيْرُ هَذَا، وَالَّذِي قِيلَ: إِنَّهُ اجْتَمَعَ هُوَ وَالْحَجَّاجُ بِمَسْكِنٍ، وَكَانَ عَسْكَرُ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَالْحَجَّاجِ بَيْنَ دِجْلَةَ وَالسِّيبِ وَالْكَرْخِ، فَاقْتَتَلُوا شَهْرًا وَدُونَهُ، فَأَتَى شَيْخٌ فَدَلَّ الْحَجَّاجَ عَلَى طَرِيقٍ مِنْ وَرَاءِ الْكَرْخِ فِي أَجَمَةٍ وَضَحْضَاحٍ مِنَ الْمَاءِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَقَالَ لِقَائِدِهِمْ: إِنْ صَدَقَ فَأَعْطِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَإِنَّ كَذَبَ فَاقْتُلْهُ. فَسَارَ بِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ قَاتَلَ أَصْحَابَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَانْهَزَمَ

الْحَجَّاجُ فَعَبَرَ السِّيبَ، وَرَجَعَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى عَسْكَرِهِ آمِنًا، وَنَهَبَ عَسْكَرَ الْحَجَّاجِ فَأَمِنُوا وَأَلْقَوُا السِّلَاحَ، فَلَمْ يَشْعُرُوا نِصْفَ اللَّيْلِ إِلَّا وَالسَّيْفُ يَأْخُذُهُمْ مِنْ تِلْكَ السَّرِيَّةِ، فَغَرِقَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَكْثَرُ مِمَّنْ قُتِلَ، وَرَجَعَ الْحَجَّاجُ فِي عَسْكَرِهِ عَلَى الصَّوْتِ، فَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوا، فَكَانَ عِدَّةُ مَنْ قُتِلَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، وَبِسْطَامُ بْنُ مَصْقَلَةَ، وَعَمْرُو بْنُ ضُبَيْعَةَ الرَّقَاشِيُّ، وَبِشْرُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ، وَغَيْرُهُمْ. ذِكْرُ مَسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى رُتْبِيلَ وَمَا جَرَى لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ وَلَمَّا انْهَزَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ مَسْكِنٍ سَارَ إِلَى سِجِسْتَانَ، فَأَتْبَعَهُ الْحَجَّاجُ ابْنَهُ مُحَمَّدًا، وَعُمَارَةَ بْنَ تَمِيمٍ اللَّخْمِيَّ، وَعُمَارَةُ عَلَى الْجَيْشِ، فَأَدْرَكَهُ عُمَارَةُ بِالسُّوسِ فَقَاتَلَهُ سَاعَةً، فَانْهَزَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمَنْ مَعَهُ، وَسَارُوا حَتَّى أَتَوْا سَابُورَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْأَكْرَادُ، فَقَاتَلَهُمْ عُمَارَةُ قِتَالًا شَدِيدًا عَلَى الْعَقَبَةِ، فَجُرِحَ عُمَارَةُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَانْهَزَمَ عُمَارَةُ وَتَرَكَ لَهُمُ الْعَقَبَةَ. وَسَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَتَّى أَتَى كَرْمَانَ وَعُمَارَةُ يَتْبَعُ أَثَرَهُمْ، فَدَخَلَ بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ قَصْرًا فِي مَفَازَةِ كَرْمَانَ، فَإِذَا فِيهِ كِتَابٌ قَدْ كَتَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ شِعْرِ ابْنِ جِلْدَةَ الْيَشْكُرِيِّ، وَهِيَ طَوِيلَةٌ: أَيَا لَهَفًا وَيَا حَزَنًا جَمِيعًا ... وَيَا حَرَّ الْفُؤَادِ لِمَا لَقِينَا تَرَكْنَا الدِّينَ وَالدُّنْيَا جَمِيعًا ... وَأَسْلَمْنَا الْحَلَائِلَ وَالْبَنِينَا فَمَا كُنَّا أُنَاسًا أَهْلَ دِينٍ ... فَنَصْبِرَ فِي الْبَلَاءِ إِذَا ابْتُلِينَا فَمَا كُنَّا أُنَاسًا أَهْلَ دُنْيَا ... فَنَمْنَعُهَا وَلَوْ لَمْ نَرْجُ دِينَا تَرَكْنَا دُورَنَا لِطَغَامِ عَكٍّ ... وَأَنْبَاطِ الْقُرَى وَالْأَشْعَرِينَا

فَلَمَّا وَصَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى كَرْمَانَ أَتَاهُ عَامِلُهُ، وَقَدْ هَيَّأَ لَهُ نُزُلًا فَنَزَلَ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى سِجِسْتَانَ، فَأَتَى زَرَنْجَ وَفِيهَا عَامِلُهُ، فَأَغْلَقَ بَابَهَا وَمَنَعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ مِنْ دُخُولِهَا، فَأَقَامَ عَلَيْهَا أَيَّامًا لِيَفْتَحَهَا فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا، فَسَارَ إِلَى بُسْتٍ، وَكَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عِيَاضَ بْنَ هِمْيَانَ بْنِ هِشَامٍ السَّدُوسِيَّ الشَّيْبَانِيَّ، فَاسْتَقْبَلَهُ وَأَنْزَلَهُ، فَلَمَّا غَفَلَ أَصْحَابُهُ قَبَضَ عَلَيْهِ عِيَاضٌ وَأَوْثَقَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْمَنَ بِهِ عِنْدَ الْحَجَّاجِ. وَقَدْ كَانَ رُتْبِيلُ مَلِكُ التُّرْكِ سَمِعَ بِمَقْدَمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَسَارَ إِلَيْهِ لِيَسْتَقْبِلَهُ، فَلَمَّا قَبَضَهُ عِيَاضٌ نَزَلَ رُتْبِيلُ عَلَى بُسْتٍ، وَبَعَثَ إِلَى عِيَاضٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَئِنْ آذَيْتَهُ بِمَا يَقْذِي عَيْنَهُ، أَوْ ضَرَرْتَهُ بِبَعْضِ الضَّرَرِ، أَوْ أَخَذْتَ مِنْهُ وَلَوْ حَبْلًا مِنْ شَعْرٍ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَسْتَنْزِلَكَ وَأَقْتُلَكَ وَجَمِيعَ مَنْ مَعَكَ، وَأَسْبِي ذَرَارِيَّكُمْ، وَأَغْنَمَ أَمْوَالَكُمْ. فَاسْتَأْمَنَهُ عِيَاضٌ، فَأَطْلَقَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَأَرَادَ قَتْلَ عِيَاضٍ فَمَنَعَهُ رُتْبِيلُ. ثُمَّ سَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَعَ رُتْبِيلَ إِلَى بِلَادِهِ، فَأَنْزَلَهُ وَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهِ. وَكَانَ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنَ الرُّءُوسِ وَالْقَادَةِ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا أَمَانَ الْحَجَّاجِ وَنَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ - قَدْ تَبِعُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَبَلَغُوا سِجِسْتَانَ فِي نَحْوِ سِتِّينَ أَلْفًا، وَنَزَلُوا عَلَى زَرَنْجَ يُحَاصِرُونَ مَنْ بِهَا، وَكَتَبُوا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَسْتَدْعُونَهُ وَيُخْبِرُونَهُ أَنَّهُمْ عَلَى قَصْدِ خُرَاسَانَ لِيَقْوَوْا بِمَنْ بِهَا مِنْ عَشَائِرِهِمْ، فَأَتَاهُمْ، وَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِلَى أَنْ قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. فَلَمَّا أَتَتْ كُتُبُهُمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ سَارَ إِلَيْهِمْ، فَفَتَحُوا زَرَنْجَ، وَسَارَ نَحْوَهُمْ عُمَارَةُ بْنُ تَمِيمٍ فِي أَهْلِ الشَّامِ، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَصْحَابُهُ: اخْرُجْ بِنَا عَنْ سِجِسْتَانَ إِلَى خُرَاسَانَ. فَقَالَ: إِنَّ بِهَا يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ وَهُوَ رَجُلٌ شُجَاعٌ، وَلَا يَتْرُكُ لَكُمْ سُلْطَانَهُ، وَلَوْ دَخَلْنَاهَا لَقَاتَلَنَا وَتَبِعَنَا أَهْلُ الشَّامِ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْنَا أَهْلُ خُرَاسَانَ وَأَهْلُ الشَّامِ. فَقَالُوا: لَوْ دَخَلْنَا خُرَاسَانَ لَكَانَ مَنْ يَتْبَعُنَا أَكْثَرَ مِمَّنْ يُقَاتِلُنَا. فَسَارَ مَعَهُمْ حَتَّى بَلَغُوا هَرَاةَ، فَهَرَبَ مِنْ أَصْحَابِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ الْقُرَشِيُّ فِي أَلْفَيْنِ، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إِنِّي كُنْتُ فِي مَأْمَنٍ وَمَلْجَإٍ، فَجَاءَتْنِي كُتُبُكُمْ أَنْ أَقْبِلْ فَإِنَّ أَمْرَنَا وَاحِدٌ، فَلَعَلَّنَا نُقَاتِلُ عَدُوَّنَا، فَأَتَيْتُكُمْ، فَرَأَيْتُمْ أَنْ أَمْضِيَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَجْتَمِعُونَ إِلَيَّ وَأَنَّكُمْ لَا تَتَفَرَّقُونَ، وَهَذَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَدْ صَنَعَ مَا رَأَيْتُمْ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ، أَمَّا أَنَا فَمُنْصَرِفٌ إِلَى صَاحِبِي الَّذِي أَتَيْتُ مِنْ عِنْدِهِ. فَتَفَرَّقَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَبَقِيَ مَعَهُ طَائِفَةٌ، وَبَقِيَ أَعْظَمُ الْعَسْكَرِ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ فَبَايَعُوهُ، وَمَضَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى رُتْبِيلَ، وَسَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ

الْعَبَّاسِ إِلَى هَرَاةَ، فَلَقُوا بِهَا الرُّقَادَ الْأَزْدِيَّ فَقَتَلُوهُ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ. وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَشْعَثِ لَمَّا انْهَزَمَ مِنْ مَسْكِنٍ أَتَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ هَرَاةَ، وَأَتَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَبَّاسِ سِجِسْتَانَ، فَاجْتَمَعَ فَلُّ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَسَارَ إِلَى خُرَاسَانَ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا، فَنَزَلَ هَرَاةَ، وَلَقُوا الرُّقَادَ فَقَتَلُوهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ: قَدْ كَانَ لَكَ فِي الْبِلَادِ مُتَّسَعٌ وَمَنْ هُوَ أَهْوَنُ مِنِّي شَوْكَةً، فَارْتَحِلْ إِلَى بَلَدٍ لَيْسَ لِي فِيهِ سُلْطَانٌ، فَإِنِّي أَكْرَهُ قِتَالَكَ، وَإِنْ أَرَدْتَ مَالًا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ. فَأَعَادَ الْجَوَابَ: إِنَّا مَا نَزَلْنَا لِمُحَارَبَةٍ وَلَا لِمُقَامٍ، وَلَكِنَّا أَرَدْنَا أَنْ نُرِيحَ ثُمَّ نَرْحَلُ عَنْكَ، وَلَيْسَتْ بِنَا إِلَى الْمَالِ حَاجَةٌ. وَأَقْبَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَبَّاسِ عَلَى الْجِبَايَةِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ فَقَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرِيحَ ثُمَّ يَرْتَحِلَ لَمْ يَجْبِ الْخَرَاجَ. فَسَارَ يَزِيدُ نَحْوَهُ وَأَعَادَ مُرَاسَلَتَهُ: إِنَّكَ قَدْ أَرَحْتَ وَسَمِنْتَ وَجَبَيْتَ الْخَرَاجَ، فَلَكَ مَا جَبَيْتَ وَزِيَادَةٌ، فَاخْرُجْ عَنِّي فَإِنِّي أَكْرَهُ قِتَالَكَ. فَأَبَى إِلَّا الْقِتَالَ، وَكَاتَبَ جُنْدَ يَزِيدَ يَسْتَمِيلُهُمْ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِهِ، فَعَلِمَ يَزِيدُ فَقَالَ: جَلَّ الْأَمْرُ عَنِ الْعِتَابِ. ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ فَقَاتَلَهُ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ كَثِيرُ قِتَالٍ حَتَّى تَفَرَّقَ أَصْحَابُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْهُ، وَصَبَرَ وَصَبَرَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ ثُمَّ انْهَزَمُوا، وَأَمَرَ يَزِيدُ أَصْحَابَهُ بِالْكَفِّ عَنِ اتِّبَاعِهِمْ، وَأَخَذُوا مَا كَانَ فِي عَسْكَرِهِمْ، وَأَسَرُوا مِنْهُمْ أَسْرَى، وَكَانَ مِنْهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُمَرُ بْنُ مُوسَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ، وَعَبَّاسُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، وَالْهِلْقَامُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ، وَفَيْرُوزُ حُصَيْنٍ، وَأَبُو الْفَلْجِ مَوْلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ، وَسَوَّارُ بْنُ مَرْوَانَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ الزَّهْرَانِيُّ الْأَزْدِيُّ. وَلَحِقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَبَّاسِ بِالسِّنْدِ، وَأَتَى ابْنُ سَمُرَةَ مَرْوَ، وَانْصَرَفَ يَزِيدُ إِلَى مَرْوَ، وَبَعَثَ الْأَسْرَى إِلَى الْحَجَّاجِ مَعَ سَبْرَةَ وَنَجْدَةَ، فَلَمَّا أَرَادَ تَسْيِيرَهُمْ قَالَ لَهُ أَخُوهُ حَبِيبٌ: بِأَيِّ وَجْهٍ تَنْظُرُ إِلَى الْيَمَانِيَّةِ وَقَدْ بَعَثْتَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ طَلْحَةَ؟ فَقَالَ يَزِيدُ: إِنَّهُ الْحَجَّاجُ وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ. قَالَ: وَطِّنْ نَفْسَكَ عَلَى الْعَزْلِ، وَلَا تُرْسِلْ بِهِ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أُلْزِمَ الْمُهَلَّبُ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَأَدَّاهَا طَلْحَةُ عَنْهُ. فَأَطْلَقَهُ يَزِيدُ، وَلَمْ يُرْسِلْ يَزِيدُ أَيْضًا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ فَضَالَةَ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَزْدِ، وَأَرْسَلَ الْبَاقِينَ. فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى الْحَجَّاجِ قَالَ لِحَاجِبِهِ: إِذَا دَعَوْتُكَ بِسَيِّدِهِمْ فَأْتِنِي بِفَيْرُوزَ. وَكَانَ بِوَاسِطِ الْقَصَبِ قَبْلَ أَنْ تُبْنَى مَدِينَةُ وَاسِطٍ. فَقَالَ لِحَاجِبِهِ: ائْتِنِي بِسَيِّدِهِمْ. فَقَالَ

لِفَيْرُوزَ: قُمْ. فَقَامَ، فَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ. فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: أَبَا عُثْمَانَ، مَا أَخْرَجَكَ مَعَ هَؤُلَاءِ؟ فَوَاللَّهِ مَا لَحْمُكَ مِنْ لُحُومِهِمْ، وَلَا دَمُكَ مِنْ دِمَائِهِمْ! قَالَ: فِتْنَةٌ عَمَّتِ النَّاسَ. قَالَ: اكْتُبْ إِلَيَّ أَمْوَالَكَ. قَالَ: اكْتُبْ يَا غُلَامُ أَلْفَ أَلْفٍ وَأَلْفَيْ أَلْفٍ، فَذَكَرَ مَالًا كَثِيرًا. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَيْنَ هَذِهِ الْأَمْوَالُ؟ قَالَ: عِنْدِي. قَالَ: فَأَدِّهَا. قَالَ: وَأَنَا آمَنُ عَلَى دَمِي؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَتُؤَدِّيَنَّهَا ثُمَّ لَأَقْتُلَنَّكَ. قَالَ: وَاللَّهِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ دَمِي وَمَالِي. فَأَمَرَ بِهِ فَنُحِّيَ. ثُمَّ أَحْضَرَ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ لَهُ: يَا ظِلَّ الشَّيْطَانِ! أَعْظَمَ النَّاسِ تِيهًا وَكِبْرًا تَأْبَى بَيْعَةَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَتَتَشَبَّهُ بِالْحُسَيْنِ وَبِابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ ضَرَبْتَ مُؤَذِّنًا؟ وَجَعَلَ يَضْرِبُ رَأْسَهُ بِعُودٍ فِي يَدِهِ حَتَّى أَدْمَاهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. ثُمَّ دَعَا بِعُمَرَ بْنِ مُوسَى فَقَالَ: يَا عَبْدَ الْمَرْأَةِ! أَتَقُومُ بِالْعَمُودِ عَلَى رَأْسِ ابْنِ الْحَائِكِ، يَعْنِي ابْنَ الْأَشْعَثِ، وَتَشْرَبُ مَعَهُ فِي الْحَمَّامِ! فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، كَانَتْ فِتْنَةً شَمِلَتِ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ فَدَخَلْنَا فِيهَا، فَقَدْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنَّا، فَإِنْ عَفَوْتَ فَبِحِلْمِكَ وَبِفَضْلِكَ، وَإِنْ عَاقَبْتَ عَاقَبْتَ ظَلَمَةً مُذْنِبِينَ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَمَّا أَنَّهَا شَمَلَتِ الْبَرَّ فَكَذَبْتَ، وَلَكِنَّهَا شَمَلَتِ الْفَاجِرَ، وَعُوفِيَ مِنْهَا الْأَبْرَارُ، وَأَمَّا اعْتِرَافُكَ فَعَسَى أَنْ يَنْفَعَكَ. وَرَجَا لَهُ النَّاسُ السَّلَامَةَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. ثُمَّ دَعَا بِالْهِلْقَامِ بْنِ نُعَيْمٍ فَقَالَ: أَحْبَبْتَ أَنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ طَلَبَ مَا طَلَبَ، مَا الَّذِي أَمَّلْتَ أَنْتَ مَعَهُ؟ قَالَ: أَمَّلْتُ أَنْ يَمْلِكَ فَيُوَلِّينِي الْعِرَاقَ كَمَا وَلَّاكَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِيَّاهُ. فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. ثُمَّ دَعَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: لَا رَأَتْ عَيْنُكَ الْجَنَّةَ إِنْ أَفْلَتَّ! فَقَالَ: جَزَى اللَّهُ ابْنَ الْمُهَلَّبِ بِمَا صَنَعَ. قَالَ: وَمَا صَنَعَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ كَاسَ فِي إِطْلَاقِ أُسْرَتِهِ وَقَادَ نَحْوَكَ فِي أَغْلَالِهَا مُضَرَا وَقَى بِقَوْمِكَ وِرْدَ الْمَوْتِ أُسْرَتَهُ وَكَانَ قَوْمُكَ أَدْنَى عِنْدَهُ خَطَرَا فَأَطْرَقَ الْحَجَّاجُ وَوَقَرَتْ فِي قَلْبِهِ وَقَالَ: وَمَا أَنْتَ وَذَاكَ؟ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. وَلَمْ تَزَلْ كَلِمَتُهُ فِي نَفْسِ الْحَجَّاجِ حَتَّى عَزَلَ يَزِيدَ عَنْ خُرَاسَانَ وَحَبَسَهُ. ثُمَّ أَمَرَ بِفَيْرُوزَ فَعُذِّبَ، وَكَانَ يَشُدُّ عَلَيْهِ الْقَصَبَ الْفَارِسِيَّ الْمَشْقُوقَ، يُجَرُّ عَلَيْهِ حَتَّى يُجْرَحَ بِهِ، ثُمَّ يُنْضَحُ عَلَيْهِ الْخَلُّ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِالْمَوْتِ قَالَ لِصَاحِبِ الْعَذَابِ: إِنَّ النَّاسَ لَا يَشُكُّونَ أَنْ قَدْ قُتِلْتُ، وَلِي وَدَائِعُ وَأَمْوَالٌ عِنْدَ النَّاسِ لَا تُؤَدَّى إِلَيْكُمْ أَبَدًا، فَأَظْهِرْنِي لِلنَّاسِ لِيَعْلَمُوا أَنِّي حَيٌّ فَيُؤَدُّوا الْمَالَ. فَأَعْلَمَ الْحَجَّاجَ، فَقَالَ: أَظْهِرْهُ. فَأُخْرِجَ إِلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، فَصَاحَ فِي النَّاسِ: مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا فَيْرُوزُ حُصَيْنٍ،

إِنَّ لِي عِنْدَ أَقْوَامٍ مَالًا، فَمَنْ كَانَ لِي عِنْدَهُ شَيْءٌ فَهُوَ لَهُ، وَهُوَ مِنْهُ فِي حِلٍّ، فَلَا يُؤَدِّ أَحَدٌ مِنْهُمْ دِرْهَمًا، لِيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ. فَأَمَرَ بِهِ الْحَجَّاجُ فَقُتِلَ. وَأَمَرَ بِقَتْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي قُرَّةَ الْكِنْدِيِّ، وَكَانَ شَرِيفًا، وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ أَعْشَى هَمْدَانَ، فَقَالَ: إِيهِ عَدُوَّ اللَّهِ! أَنْشِدْنِي قَوْلَكَ بَيْنَ الْأَشَجِّ وَبَيْنَ قَيْسٍ. قَالَ: بَلْ أُنْشِدُكَ مَا قُلْتُ لَكَ. قَالَ: بَلْ أَنْشِدْنِي هَذِهِ. فَأَنْشَدَهُ: أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتَمِّمَ نُورَهُ ... وَيُطْفِئَ نَارَ الْفَاسِقِينَ فَتَخْمُدَا وَيُظْهِرَ أَهْلَ الْحَقِّ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ ... وَيُعْدِلَ وَقْعَ السَّيْفِ مَنْ كَانَ أَصْيَدَا وَيُنْزِلَ ذُلًّا بِالْعِرَاقِ وَأَهْلِهِ ... لِمَا نَقَضُوا الْعَهْدَ الْوَثِيقَ الْمُؤَكَّدَا وَمَا أَحْدَثُوا مِنْ بِدْعَةٍ وَعَظِيمَةٍ ... مِنَ الْقَوْلِ لَمْ تَصْعَدْ إِلَى اللَّهِ مَصْعَدَا وَمَا نَكَثُوا مِنْ بَيْعَةٍ بَعْدَ بَيْعَةٍ ... إِذَا ضَمِنُوهَا الْيَوْمَ خَاسُوا بِهَا غَدَا وَجُبْنًا حَشَاهُ رَبُّهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ ... فَمَا يَقْرَبُونَ النَّاسَ إِلَّا تَهَدُّدَا فَلَا صِدْقَ فِي قَوْلٍ وَلَا صَبْرَ ... عِنْدَهُمْ وَلَكِنَّ فَخْرًا فِيهِمُ وَتَزَيُّدَا فَكَيْفَ رَأَيْتَ اللَّهَ فَرَّقَ جَمْعَهَمْ ... وَمَزَّقَهُمْ عَرْضَ الْبِلَادِ وَشَرَّدَا فَقَتْلَاهُمُ قَتْلَى ضَلَالٍ وَفِتْنَةٍ ... وَجَيْشُهُمْ أَمْسَى ذَلِيلًا مُطَرَّدَا وَلَمَّا زَحَفْنَا لِابْنِ يُوسُفَ غُدْوَةً ... وَأَبْرَقَ مِنْهُ الْعَارِضَانِ وَأَرْعَدَا قَطَعْنَا إِلَيْهِ الْخَنْدَقَيْنِ وَإِنَّمَا ... قَطَعْنَا وَأَفْضَيْنَا إِلَى الْمَوْتِ مُرْصِدَا فَكَافَحَنَا الْحَجَّاجُ دُونَ صُفُوفِنَا ... كِفَاحًا وَلَمْ يَضْرِبْ لِذَلِكَ مَوْعِدَا

بِصَفٍّ كَأَنَّ الْمَوْتَ فِي حُجُزَاتِهِمْ إِذَا مَا تَجَلَّى بَيْضُهُ وَتَوَقَّدَا ... دَلَفْنَا إِلَيْهِ فِي صُفُوفٍ كَأَنَّهَا جِبَالُ شَرَوْرَى أَوْ نِعَافٍ فَشَهْمَدَا ... فَمَا لَبِثَ الْحَجَّاجُ أَنْ سَلَّ سَيْفَهُ عَلَيْنَا فَوَلَّى جَمْعُنَا وَتَبَدَّدَا ... وَمَا زَاحَفَ الْحَجَّاجُ إِلَّا رَأَيْتَهُ مُعَانًا مُلَقًى لِلْفُتُوحِ مُعَوَّدَا ... وَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَفِي مُرْجَحِنَّةٍ نُشَبِّهُهَا قِطْعًا مِنَ اللَّيْلِ أَسْوَدَا ... فَمَا شَرَعُوا رُمْحًا وَلَا جَرَّدُوا ظُبًى أَلَا إِنَّمَا لَاقَى الْجَبَانُ فَجَرَّدَا ... وَكَرَّتْ عَلَيْنَا خَيْلُ سُفْيَانَ كَرَّةً بِفُرْسَانِهَا وَالسَّمْهَرِيِّ مُقَصَّدَا ... وَسُفْيَانُ يَهْدِيهَا كَأَنَّ لِوَاءَهَا مِنَ الطَّعْنِ سِنْدٌ بَاتَ بِالصِّبْغِ مُجْسَدَا ... كُهُولٌ وَمُرْدٌ مِنْ قُضَاعَةَ حَوْلَهُ مَسَاعِيرُ أَبْطَالٍ إِذَا النِّكْسُ عَرَّدَا ... إِذَا قَالَ شُدُّوا شَدَّةً حَمَلُوا مَعًا فَأَنْهَلَ خِرْصَانَ الرِّمَاحِ وَأَوْرَدَا ... جُنُودُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَخَيْلِهِ وَسُلْطَانُهُ أَمْسَى عَزِيزًا مُؤَيَّدَا ... فَيَهْنِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ظُهُورُهُ عَلَى أُمَّةٍ كَانُوا سُعَاةً وَحُسَّدَا ... نَزَوْا يَشْتَكُونَ الْبَغْيَ مِنْ أُمَرَائِهِمْ وَكَانُوا هُمُ أَبَغَى الْبُغَاةِ وَأَعْنَدَا ... وَجَدْنَا بَنِي مَرْوَانَ خَيْرَ أَئِمَّةٍ وَأَفْضَلَ هَذَا النَّاسِ حِلْمًا وَسُؤْدُدَا ... وَخَيْرَ قُرَيْشٍ فِي قُرَيْشٍ أَرُومَةً وَأَكْرَمَهُمْ إِلَّا النَّبِيَّ مُحَمَّدَا

إِذَا مَا تَدَبَّرْنَا عَوَاقِبَ أَمْرِهِ ... وَجَدْنَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُسَدَّدَا سَيَغْلِبُ قَوْمًا حَارَبُوا اللَّهَ ... جَهْرَةً وَإِنْ كَايَدُوهُ كَانَ أَقْوَى وَأَكْيَدَا كَذَاكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ كَانَ قَلْبُهُ ... مَرِيضًا وَمَنْ وَالَى النِّفَاقَ وَأَلْحَدَا وَقَدْ تَرَكُوا الْأَهْلِينَ وَالْمَالَ خَلْفَهُمْ ... وَبِيضًا عَلَيْهِنَّ الْجَلَابِيبُ خُرَّدَا يُنَادِيهِمُ مُسْتَعْبِرَاتٍ إِلَيْهِمُ وَيُذْرِينَ ... دَمْعًا فِي الْخُدُودِ وَإِثْمِدَا أَنَكْثًا وَعِصْيَانًا وَغَدْرًا وَذِلَّةً ... أَهَانَ الْإِلَهُ مَنْ أَهَانَ وَأَبْعَدَا لَقَدْ شَأَمَ الْمِصْرَيْنِ فَرْخُ مُحَمَّدٍ ... بِحَقٍّ وَمَا لَاقَى مِنَ الطَّيْرِ أَسْعَدَا كَمَا شَأَمَ اللَّهُ النُّجَيْرَ وَأَهْلَهُ ... بِجَدٍّ لَهُ قَدْ كَانَ أَشْقَى وَأَنْكَدَا فَقَالَ. أَهْلُ الشَّامِ: أَحْسَنَ، أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: لَا، لَمْ يُحْسِنْ، إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا أَرَادَ بِهَا. ثُمَّ قَالَ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ! وَاللَّهِ لَا نَحْمِدُكَ [عَلَى هَذَا الْقَوْلِ] ، إِنَّمَا قُلْتَ تَأَسُّفَ أَنْ لَا يَكُونَ ظَهَرَ وَظَفِرَ، وَتَحْرِيضًا لِأَصْحَابِكَ عَلَيْنَا، وَلَيْسَ عَنْ هَذَا سَأَلْنَاكَ، أَنْشِدْنَا قَوْلَكَ بَيْنَ الْأَشَجِّ وَبَيْنَ قَيْسِ بَاذِخٍ، فَأَنْشَدَهُ، فَلَمَّا قَالَ: بَخٍ بَخٍ لِوَالِدِهِ وَلِلْمَوْلُودِ قَالَ الْحَجَّاجُ: وَاللَّهِ لَا تُبَخْبِخُ بَعْدَهَا أَبَدًا! فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: ابْنُ عَبَّاسٍ، هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَقَوْلُهُ: سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ مِنْ قُوَّادِ الْعَسَاكِرِ الشَّامِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: فَرْخُ مُحَمَّدٍ، هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ. وَقَوْلُهُ:

الْأَشَجُّ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ. وَقَوْلُهُ: بَيْنَ قَيْسٍ، هُوَ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ الرِّيَاحِيُّ، وَهُوَ جَدُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ لِأُمِّهِ. وَقَوْلُهُ: كَمَا شَأَمَ اللَّهُ النُّجَيْرَ وَأَهْلَهُ بِجَدٍّ لَهُ، يَعْنِي لَمَّا ارْتَدَّ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ جَدُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَبِعَهُ كِنْدَةُ، فَلَمَّا حَارَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَحَصَرُوهُمْ بِالنُّجَيْرِ أَخَذُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي قَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ. قِيلَ: وَأُتِيَ الْحَجَّاجُ بِأَسِيرَيْنِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ لِي عِنْدَكَ يَدًا. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: ذَكَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَوْمًا أُمَّكَ بِسُوءٍ فَنَهَيْتُهُ. قَالَ: وَمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ؟ قَالَ: هَذَا الْأَسِيرُ الْآخَرُ، فَسَأَلَهُ الْحَجَّاجُ فَصَدَّقَهُ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: فَلِمَ لَمْ تَفْعَلْ كَمَا فَعَلَ؟ قَالَ: وَيَنْفَعُنِي الصِّدْقُ عِنْدَكَ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: مَنَعَنِي الْبُغْضُ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. قَالَ: خَلُّوا عَنْ هَذَا لِفِعْلِهِ، وَعَنْ هَذَا لِصِدْقِهِ. قِيلَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، قُتِلَ جَدِّي يَوْمَ بَدْرٍ، وَقُتِلَ جَدِّي فُلَانٌ يَوْمَ أُحُدٍ، وَجَعَلَ يَذْكُرُ مَنَاقِبَ سَلَفِهِ، فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى عَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: هَذِهِ الْمَنَاقِبُ وَاللَّهِ، لَا يَوْمَ مَسْكِنٍ وَيَوْمَ الْجَمَاجِمِ وَيَوْمَ رَاهِطٍ! وَأَنْشَدَ: تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا ذِكْرُ مَا جَرَى لِلشَّعْبِيِّ مَعَ الْحَجَّاجِ لَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِالْجَمَاجِمِ نَادَى مُنَادِي الْحَجَّاجِ: مَنْ لَحِقَ بِقُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ فَهُوَ آمِنٌ، وَكَانَ قَدْ وَلَّاهُ الرَّيَّ وَسَارَ إِلَيْهِ، فَلَحِقَ بِهِ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ مِنْهُمُ الشَّعْبِيُّ، فَذَكَرَهُ الْحَجَّاجُ يَوْمًا فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ: إِنَّهُ لَحِقَ بِقُتَيْبَةَ بِالرَّيِّ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى قُتَيْبَةَ يَأْمُرُهُ بِإِرْسَالِ الشَّعْبِيِّ، فَأَرْسَلَهُ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى الْحَجَّاجِ لَقِيتُ ابْنَ أَبِي مُسْلِمٍ، وَكَانَ صَدِيقًا لِي، فَاسْتَشَرْتُهُ [فَقَالَ] : اعْتَذِرْ مَهْمَا اسْتَطَعْتَ. وَأَشَارَ بِمِثْلِ ذَلِكَ إِخْوَانِي وَنُصَحَائِي، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَى الْحَجَّاجِ رَأَيْتُ غَيْرَ مَا ذَكَرُوا لِي، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ وَقُلْتُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَمَرُونِي أَنْ أَعْتَذِرَ بِغَيْرِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَايْمُ اللَّهِ لَا أَقُولُ فِي هَذَا الْمَقَامِ

إِلَّا الْحَقَّ، قَدْ وَاللَّهِ مَرَدْنَا عَلَيْكَ، وَحَرَّضْنَا وَجَهِدْنَا، فَمَا كُنَّا بِالْأَقْوِيَاءِ الْفَجَرَةِ، وَلَا بِالْأَتْقِيَاءِ الْبَرَرَةِ، وَلَقَدْ نَصَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَأَظْفَرَكَ بِنَا، فَإِنْ سَطَوْتَ فَبِذُنُوبِنَا وَمَا جَرَتْ إِلَيْهِ أَيْدِينَا، وَإِنْ عَفَوْتَ عَنَّا فَبِحِلْمِكَ، وَبَعْدُ فَالْحُجَّةُ لَكَ عَلَيْنَا. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَنْتَ وَاللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ قَوْلًا مِمَّنْ يَدْخُلُ عَلَيْنَا يَقْطُرُ سَيْفُهُ مِنْ دِمَائِنَا، ثُمَّ يَقُولُ: مَا فَعَلْتُ وَلَا شَهِدْتُ، وَقَدْ أَمِنْتَ يَا شَعْبِيُّ، كَيْفَ وَجَدْتَ النَّاسَ بَعْدَنَا؟ فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، اكْتَحَلْتُ بَعْدَكَ السَّهَرَ، وَاسْتَوْعَرْتُ الْجَنَابَ، وَاسْتَحْلَسْتُ الْخَوْفَ، وَفَقَدْتُ صَالِحَ الْإِخْوَانِ، وَلَمْ أَجِدْ مِنَ الْأَمِيرِ خَلَفًا. قَالَ: انْصَرِفْ يَا شَعْبِيُّ. فَانْصَرَفْتُ. ذِكْرُ خَلْعِ عُمَرَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ بِالرَّيِّ وَمَا كَانَ مِنْهُ لَمَّا ظَفِرَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الْأَشْعَثِ لَحِقَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ بِعُمَرَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَكَانَ قَدْ غَلَبَ عَلَى الرَّيِّ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِالرَّيِّ أَرَادُوا أَنْ يَحْظَوْا عِنْدَ الْحَجَّاجِ بِأَمْرٍ يَمْحُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ عَثْرَةَ الْجَمَاجِمِ، فَأَشَارُوا عَلَى عُمَرَ بِخَلْعِ الْحَجَّاجِ وَقُتَيْبَةَ، فَامْتَنَعَ، فَوَضَعُوا عَلَيْهِ أَبَاهُ أَبَا الصَّلْتِ، وَكَانَ بِهِ بَارًّا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَلْزَمَهُ بِهِ وَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، إِذَا سَارَ هَؤُلَاءِ تَحْتَ لِوَائِكَ لَا أُبَالِي أَنْ تُقْتَلَ غَدًا. فَفَعَلَ. فَلَمَّا قَارَبَ قُتَيْبَةُ الرَّيَّ بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَاسْتَعَدَّ لِقِتَالِهِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَغَدَرَ أَصْحَابُ عُمَرَ بِهِ، وَأَكْثَرُهُمْ مِنْ تَمِيمٍ، فَانْهَزَمَ وَلَحِقَ بِطَبَرِسْتَانَ، فَآوَاهُ الْأَصْبَهْبَذُ وَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ. فَقَالَ عُمَرُ لِأَبِيهِ: إِنَّكَ أَمَرْتَنِي بِخَلْعِ الْحَجَّاجِ وَقُتَيْبَةَ فَأَطَعْتُكَ، وَكَانَ خِلَافَ رَأْيِي فَلَمْ أَحْمِدْ رَأْيَكَ، وَقَدْ نَزَلْنَا بِهَذَا الْعِلْجِ الْأَصْبَهْبَذِ فَدَعْنِي حَتَّى أَثِبَ عَلَيْهِ، فَأَقْتُلَهُ وَأَجْلِسَ مَمْلَكَتَهُ، فَقَدْ عَلِمَتِ الْأَعَاجِمُ أَنِّي أَشْرَفُ مِنْهُ. فَقَالَ أَبُوهُ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ هَذَا لِرَجُلٍ آوَانَا وَنَحْنُ خَائِفُونَ، وَأَكْرَمَنَا وَأَنْزَلَنَا. فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ أَعْلَمُ وَسَتَرَى. وَدَخَلَ قُتَيْبَةُ الرَّيَّ وَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِخَبَرِ عُمَرَ وَانْهِزَامِهِ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْأَصْبَهْبَذِ: أَنِ ابْعَثْ بِهِمْ أَوْ بِرُءُوسِهِمْ، وَإِلَّا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْكَ الذِّمَّةُ. فَصَنَعَ لَهُمُ الْأَصْبَهْبَذُ طَعَامًا وَأَحْضَرَهُمَا، فَقَتَلَ عُمَرَ وَبَعَثَ أَبَاهُ أَسِيرًا، وَقِيلَ: بَلْ قَتَلَهُمَا وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمَا.

ذِكْرُ بِنَاءِ مَدِينَةِ وَاسِطٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَنَى الْحَجَّاجُ وَاسِطًا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ ضَرَبَ الْبَعْثَ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى خُرَاسَانَ، وَعَسْكَرَ بِحَمَّامِ عُمَرَ، وَكَانَ فَتًى مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، فَانْصَرَفَ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى ابْنَةِ عَمِّهِ لَيْلًا، فَطَرَقَ الْبَابَ طَارِقٌ، وَدَقَّهُ دَقًّا شَدِيدًا، فَإِذَا سَكْرَانُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَقَالَتْ لِلرَّجُلِ ابْنَةُ عَمِّهِ: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ هَذَا الشَّامِيِّ شَرًّا، يَفْعَلُ بِنَا كُلَّ لَيْلَةٍ مَا تَرَى، يُرِيدُ الْمَكْرُوهَ، وَقَدْ شَكَوْتُهُ إِلَى مَشْيَخَةِ أَصْحَابِهِ. فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا: ائْذَنِي لَهُ، فَأَذِنَتْ لَهُ، فَقَتَلَهُ زَوْجُهَا، فَلَمَّا أَذَّنَ الْفَجْرُ خَرَجَ إِلَى الْعَسْكَرِ، وَقَالَ لِابْنَةِ عَمِّهِ: إِذَا صَلَّيْتِ الْفَجْرَ فَابْعَثِي إِلَى الشَّامِيِّينَ لِيَأْخُذُوا صَاحِبَهُمْ، فَإِذَا أَحْضَرُوكِ عِنْدَ الْحَجَّاجِ فَاصْدُقِيهِ الْخَبَرَ عَلَى وَجْهِهِ. فَفَعَلَتْ فَأُحْضِرَتْ عِنْدَ الْحَجَّاجِ فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ: صَدَقْتِنِي. وَقَالَ لِلشَّامِيِّينَ: خُذُوا صَاحِبَكُمْ لَا قَوَدَ لَهُ وَلَا عَقْلَ، فَإِنَّهُ قَتِيلُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ. ثُمَّ نَادَى مُنَادٍ: لَا يَنْزِلَنَّ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ أَنْزَلَ أَهْلَ الشَّامِ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَخَرَجَ أَهْلُ الشَّامِ فَعَسْكَرُوا، وَبَعَثَ رُوَّادًا يَرْتَادُونَ لَهُ مَنْزِلًا، وَأَقْبَلَ حَتَّى نَزَلَ مَوْضِعَ وَاسِطٍ، فَإِذَا رَاهِبٌ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِمَوْضِعِ وَاسِطٍ بَالَ الْحِمَارُ، فَنَزَلَ الرَّاهِبُ فَاحْتَفَرَ ذَلِكَ الْبَوْلَ، وَاحْتَمَلَهُ وَرَمَاهُ فِي دِجْلَةَ وَالْحَجَّاجُ يَرَاهُ. فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِ. فَأُتِيَ بِهِ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَهُ؟ قَالَ: نَجِدُ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ يُبْنَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَسْجِدٌ يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ مَا دَامَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يُوَحِّدُهُ. فَاخْتَطَّ الْحَجَّاجُ مَدِينَةَ وَاسِطٍ وَبَنَى الْمَسْجِدَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ. وَكَانَ الْعُمَّالُ هَذِهِ السَّنَةَ سِوَى الْمَدِينَةِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي السَّنَةِ قَبْلَهَا. قِيلَ: وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ سَيَّرَ نِسَاءَهُ وَأَهْلَهُ إِلَى الشَّامِ خَوْفًا مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَفِيهِنَّ أُخْتُهُ زَيْنَبُ الَّتِي ذَكَرَهَا النُّمَيْرُ فِي شِعْرِهِ، فَلَمَّا هُزِمَ ابْنُ الْأَشْعَثِ أَرْسَلَ

الْبَشِيرُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِذَلِكَ، وَكَتَبَ كِتَابًا إِلَى أُخْتِهِ زَيْنَبَ، فَأَخَذَتِ الْكِتَابَ وَهِيَ رَاكِبَةٌ، فَنَفَرَتِ الْبَغْلَةُ مِنْ قَعْقَعَةِ الْكِتَابِ، فَسَقَطَتْ زَيْنَبُ فَمَاتَتْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَمِائَةِ سَنَةٍ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَفِيهَا مَاتَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَعُمُرُهُ مِائَةٌ وَاثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَأَبُو وَائِلٍ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى مِنَ الْهِجْرَةِ.

ثم دخلت سنة أربع وثمانين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ] 84 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ ذِكْرُ قَتْلِ ابْنِ الْقِرِّيَةِ وَفِيهَا قَتَلَ الْحَجَّاجُ أَيُّوبَ بْنَ الْقِرِّيَةِ، وَكَانَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ، فَلَمَّا هُزِمَ ابْنُ الْأَشْعَثِ الْتَحَقَ أَيُّوبُ بِحَوْشَبِ بْنِ يَزِيدَ عَامِلِ الْحَجَّاجِ عَلَى الْكُوفَةِ، فَاسْتَحْضَرَهُ الْحَجَّاجُ، فَقَالَ لَهُ: أَقِلْنِي عَثْرَتِي، وَاسْقِنِي رِيقِي، فَإِنَّهُ لَيْسَ جَوَادٌ إِلَّا لَهُ كَبْوَةٌ، وَلَا شُجَاعٌ إِلَّا لَهُ هَبْوَةٌ، وَلَا صَارِمٌ إِلَّا لَهُ نَبْوَةٌ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: كَلَّا، وَاللَّهِ لَأُزِيرَنَّكَ جَهَنَّمَ. قَالَ: فَأَرِحْنِي فَإِنِّي أَجِدُ حَرَّهَا! فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. فَلَمَّا رَآهُ قَتِيلًا قَالَ: لَوْ تَرَكْنَاهُ حَتَّى نَسْمَعَ مِنْ كَلَامِهِ. ذِكْرُ فَتْحِ قَلْعَةِ نَيْزَكٍ بِبَاذَغِيسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ قَلْعَةَ نَيْزَكٍ، وَكَانَ يَزِيدُ قَدْ وَضَعَ عَلَى نَيْزَكٍ الْعُيُونَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَرُوجُ نَيْزَكٍ عَنْهَا سَارَ إِلَيْهَا فَحَاصَرَهَا، فَمَلَكَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّخَائِرِ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْصَنِ الْقِلَاعِ وَأَمْنَعِهَا، وَكَانَ نَيْزَكٌ إِذَا رَآهَا سَجَدَ لَهَا تَعْظِيمًا لَهَا، وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَعْدَانَ الْأَشْقَرِيُّ يَذْكُرُهَا: وَبَاذَغِيسُ الَّتِي مَنْ حَلَّ ذُرْوَتَهَا ... عَزَّ الْمُلُوكَ فَإِنْ شَاءَ جَارَ أَوْ ظَلَمَا مَنِيعَةٌ لَمْ يَكِدْهَا قَبْلَهُ مَلِكٌ ... إِلَّا إِذَا وَاجَهَتْ جَيْشًا لَهُ وَجَمَا تُخَالُ نِيرَانُهَا مِنْ بُعْدِ مَنْظَرِهَا ... بَعْضَ النُّجُومِ إِذَا مَا لَيْلُهَا عَتَمَا

وَهِيَ أَبْيَاتٌ عِدَّةٌ، وَقَالَ أَيْضًا يَذْكُرُ يَزِيدَ وَفَتْحَهَا: نَفَى نَيْزَكًا عَنْ بَاذَغِيسَ وَنَيْزَكٌ ... بِمَنْزِلَةٍ أَعْيَا الْمُلُوكَ اغْتِصَابُهَا مُحَلِّقَةٍ دُونَ السَّمَاءِ كَأَنَّهَا ... غَمَامَةُ صَيْفٍ زَالَ عَنْهَا سَحَابُهَا وَلَا تَبْلُغُ الْأَرْوَى شَمَارِيخَهَا ... الْعُلَى وَلَا الطَّيْرُ إِلَّا نَسْرُهَا وَعُقَابُهَا وَمَا خُوِّفَتْ بِالذِّئْبِ وِلْدَانُ أَهْلِهَا ... وَلَا نَبَحَتْ إِلَّا النُّجُومَ كِلَابُهَا فِي أَبْيَاتِ غَيْرِهَا. فَلَمَّا فَتَحَهَا كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْفَتْحِ، وَكَانَ يَكْتُبُ لَهُ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ الْعَدْوَانِيُّ حَلِيفُ هُذَيْلٍ: إِنَّا لَحِقْنَا الْعَدُوَّ فَمَنَحَنَا اللَّهُ أَكْتَافَهُمْ، فَقَتَلْنَا طَائِفَةً وَأَسَرْنَا طَائِفَةً، وَلَحِقَتْ طَائِفَةٌ بِرُءُوسِ الْجِبَالِ وَعَرَاعِرِ الْأَوْدِيَةِ، فَأَهْضَامِ الْغِيطَانِ، وَأَثْنَاءِ الْأَنْهَارِ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: مَنْ يَكْتُبُ لِيَزِيدَ؟ فَقِيلَ: يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِحَمْلِهِ عَلَى الْبَرِيدِ. فَقَدِمَ إِلَيْهِ أَفْصَحُ النَّاسِ. فَقَالَ: أَيْنَ وُلِدْتَ؟ قَالَ: بِالْأَهْوَازِ. [قَالَ] : فَهَذِهِ الْفَصَاحَةُ مِنْ أَيْنَ؟ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ كَلَامِ أَبِي، وَكَانَ فَصِيحًا. قَالَ: أَخْبِرْنِي، هَلْ يَلْحَنُ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَثِيرًا. قَالَ: فَفُلَانٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي هَلْ أَلْحَنُ؟ قَالَ: نَعَمْ تَلْحَنُ لَحْنًا خَفِيًّا، تَزِيدُ حَرْفًا، وَتُنْقِصُ حَرْفًا، وَتَجْعَلُ أَنْ فِي مَوْضِعٍ إِنْ، وَإِنْ فِي مَوْضِعِ أَنْ. قَالَ: قَدْ أَجَّلْتُكَ ثَلَاثًا، فَإِنْ وَجَدْتُكَ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ قَتَلْتُكَ. فَرَجَعَ إِلَى خُرَاسَانَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الرُّومَ فَفَتَحَ الْمِصِّيصَةَ وَبَنَى حِصْنَهَا، وَوَضَعَ بِهَا ثَلَاثَمِائَةِ مُقَاتِلٍ مِنْ ذَوِي الْبَأْسِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ سَكَنُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَبَنَى مَسْجِدَهَا.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ. وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ أَرْمِينِيَّةَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ نَوْفَلٍ الْمُلَقَّبُ بِبَبَّةَ بِعُمَانَ، وَكَانَ يَسْكُنُ الْبَصْرَةَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

ثم دخلت سنة خمس وثمانين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ] 85 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ ذِكْرُ هِلَاكِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ لَمَّا انْصَرَفَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى رُتْبِيلَ مِنْ هَرَاةَ قَالَ لَهُ عَلْقَمَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْدِيُّ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَدْخُلَ مَعَكَ لِأَنِّي أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ وَعَلَى مَنْ مَعَكَ، [وَاللَّهِ] لَكَأَنِي بِالْحَجَّاجِ وَقَدْ كَتَبَ إِلَى رُتْبِيلَ يُرَغِّبُهُ وَيُرَهِّبُهُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ بَعَثَ بِكَ سَلْمًا أَوْ قَتَلَكُمْ، وَلَكِنْ مَعِي خَمْسُمِائَةٍ قَدْ تَبَايَعْنَا عَلَى أَنْ نَدْخُلَ مَدِينَةً نَتَحَصَّنُ بِهَا حَتَّى نُعْطَى الْأَمَانَ، أَوْ نَمَوْتَ كِرَامًا، وَلَمْ يَدْخُلْ إِلَى بِلَادِ رُتْبِيلَ مَعَهُ، وَخَرَجَ هَؤُلَاءِ الْخَمْسُمِائَةِ وَجَعَلُوا عَلَيْهِمْ مَوْدُودًا الْبَصْرِيَّ، وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ عُمَارَةُ بْنُ تَمِيمٍ اللَّخْمِيُّ فَحَاصَرَهُمْ، فَامْتَنَعُوا حَتَّى آمَنَهُمْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ، فَوَفَى لَهُمْ. وَتَتَابَعَتْ كُتُبُ الْحَجَّاجِ إِلَى رُتْبِيلَ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنِ ابْعَثْ بِهِ إِلَيَّ، وَإِلَّا وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَأُوطِئَنَّ أَرْضَكَ أَلْفَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ. وَكَانَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَجُلٌ مِنْ تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ عُبَيْدُ بْنُ سُبَيْعٍ التَّمِيمِيُّ، وَكَانَ رَسُولَهُ إِلَى رُتْبِيلٍ، فَخُصَّ بِرُتْبِيلَ وَخَفَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ لِأَخِيهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ: إِنِّي لَا آمَنُ غَدْرَ هَذَا التَّمِيمِيِّ، فَاقْتُلْهُ. فَخَافَهُ عُبَيْدٌ وَوَشَى بِهِ إِلَى رُتْبِيلَ، وَخَوَّفَهُ الْحَجَّاجَ، وَدَعَاهُ إِلَى الْغَدْرِ بِابْنِ الْأَشْعَثِ وَقَالَ لَهُ: أَنَا آخِذٌ لَكَ مِنَ الْحَجَّاجِ عَهْدًا لَيَكُفَّنَّ عَنْ أَرْضِكَ سَبْعَ سِنِينَ، عَلَى أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَخَرَجَ عُبَيْدٌ إِلَى عُمَارَةَ سِرًّا، فَذَكَرَ لَهُ مَا اسْتَقَرَّ مَعَ رُتْبِيلَ وَمَا بَذَلَ لَهُ، وَكَتَبَ عُمَارَةُ إِلَى الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ، وَأَجَابَهُ إِلَيْهِ أَيْضًا، وَبَعَثَ رُتْبِيلُ بِرَأْسِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى الْحَجَّاجِ. وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ كَانَ قَدْ أَصَابَهُ السُّلُّ فَمَاتَ، فَأَرْسَلَ رُتْبِيلُ إِلَيْهِ، فَقَطَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْفَنَ وَأَرْسَلَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ.

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ رُتْبِيلَ لَمَّا صَالَحَ عُمَارَةَ بْنَ تَمِيمٍ اللَّخْمِيَّ عَلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ - كَتَبَ عُمَارَةُ إِلَى الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ، فَأَطْلَقَ لَهُ خَرَاجَ بِلَادِهِ عَشْرَ سِنِينَ، فَأَرْسَلَ رُتْبِيلُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَثَلَاثِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَحَضَرُوا، فَقَيَّدَهُمْ وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى عُمَارَةَ، فَأَلْقَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ نَفْسَهُ مِنْ سَطْحِ قَصْرٍ فَمَاتَ، فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَسَيَّرَهُ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، وَسَيَّرَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: هَيْهَاتَ مَوْضِعُ جُثَّةٍ مِنْ رَأْسِهَا ... رَأْسٌ بِمِصْرَ وَجُثَّةٌ بِالرُّخَّجِ وَقِيلَ: إِنَّ هَلَاكَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ. ذِكْرُ عَزْلِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ عَنْ خُرَاسَانَ وَوِلَايَةِ أَخِيهِ الْمُفَضَّلِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْحَجَّاجُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ عَنْ خُرَاسَانَ. وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ إِيَّاهُ أَنَّ الْحَجَّاجَ وَفَدَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَمَرَّ فِي طَرِيقِهِ بِرَاهِبٍ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا. فَدَعَا بِهِ وَسَأَلَهُ: هَلْ تَجِدُونَ فِي كُتُبِكُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ وَنَحْنُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مُسَمًّى أَمْ مَوْصُوفٌ؟ فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ نَجِدُهُ مَوْصُوفًا بِغَيْرِ اسْمٍ، وَمُسَمًّى بِغَيْرِ صِفَةٍ. قَالَ: فَمَا تَجِدُونَ صِفَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: نَجِدُهُ فِي زَمَانِنَا: مَلِكٌ أَفْرَعْ، مَنْ يَقُمْ لِسَبِيلِهِ يُصْرَعْ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ اسْمُ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ، ثُمَّ رَجُلٌ اسْمُهُ اسْمُ نَبِيٍّ يُفْتَحُ بِهِ عَلَى النَّاسِ. قَالَ: أَفَتَعْلَمُ مَنْ يَلِي بَعْدِي؟ قَالَ: نَعَمْ، رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ. قَالَ: أَفَتَعْرِفُ صِفَتَهُ؟ قَالَ: يَغْدِرُ غَدْرَةً، لَا أَعْرِفُ غَيْرَ هَذَا. فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، ثُمَّ سَارَ وَهُوَ وَجِلٌ مِنْ قَوْلِ الرَّاهِبِ. ثُمَّ عَادَ وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَذُمُّ يَزِيدَ وَآلَ الْمُهَلَّبِ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّهُمْ زُبَيْرِيَّةٌ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنِّي لَا أَرَى طَاعَتَهُمْ لِآلِ الزُّبَيْرِ نَقْصًا بِآلِ الْمُهَلَّبِ، وَفَاؤُهُمْ لَهُمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْوَفَاءِ لِي. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يُخَوِّفُهُ غَدْرَهُ وَبِمَا قَالَ الرَّاهِبُ. فَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَيْهِ: إِنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ فِي يَزِيدَ وَآلِ الْمُهَلَّبِ، فَسَمِّ لِي رَجُلًا يَصْلُحُ لِخُرَاسَانَ. فَسَمَّى قُتَيْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ وَلِّهِ. وَبَلَغَ يَزِيدَ أَنَّ الْحَجَّاجَ عَزَلَهُ، فَقَالَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ: مَنْ تَرَوْنَ الْحَجَّاجُ يُوَلِّي خُرَاسَانَ؟

قَالُوا: رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ. قَالَ: كَلَّا، وَلَكِنَّهُ يَكْتُبُ إِلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ بِعَهْدِهِ، فَإِذَا قَدِمْتُ عَلَيْهِ عَزَلَهُ، وَوَلَّى رَجُلًا مِنْ قَيْسٍ، وَأَخْلِقْ بِقُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ. فَلَمَّا أَذِنَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي عَزْلِ يَزِيدَ كَرِهَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ بِعَزْلِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ أَخَاهُ الْمُفَضَّلَ وَيُقْبِلَ إِلَيْهِ. وَاسْتَشَارَ يَزِيدُ حُضَيْنَ بْنَ الْمُنْذِرِ الرَّقَاشِيَّ، فَقَالَ لَهُ: أَقِمْ وَاعْتَلَّ، وَاكْتُبْ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لِيُقِرَّكَ، فَإِنَّهُ حَسَنُ الْحَالِ وَالرَّأْيِ فِيكَ. قَالَ يَزِيدُ: نَحْنُ أَهْلُ بَيْتٍ قَدْ بُورِكَ لَنَا فِي الطَّاعَةِ، وَأَنَا أَكْرَهُ الْخِلَافَ. فَأَخَذَ يَتَجَهَّزُ، فَأَبْطَأَ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْمُفَضَّلِ: إِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ خُرَاسَانَ. فَجَعَلَ الْمُفَضَّلُ يَسْتَحِثُّ يَزِيدَ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: إِنَّ الْحَجَّاجَ لَا يُقِرُّكَ بَعْدِي، وَإِنَّمَا دَعَاهُ إِلَى مَا صَنَعَ مَخَافَةَ أَنْ أَمْتَنِعَ عَلَيْهِ، وَسَتَعْلَمُ. وَخَرَجَ يَزِيدُ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، وَأَقَرَّ الْحَجَّاجُ أَخَاهُ الْمُفَضَّلَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ عَزْلِهِ أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَمٌّ إِلَّا يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَقَدْ كَانَ أَذَلَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ كُلَّهُمْ إِلَّا آلَ الْمُهَلَّبِ وَمَنْ مَعَهُمْ بِخُرَاسَانَ، وَتَخَوَّفَهُ عَلَى الْعِرَاقِ، وَكَانَ يَبْعَثُ إِلَيْهِ لِيَأْتِيَهُ فَيَعْتَلَّ عَلَيْهِ بِالْعَدُوِّ وَالْحُرُوبِ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِعَزْلِ يَزِيدَ، وَيُخْبِرُهُ بِطَاعَتِهِمْ لِآلِ الزُّبَيْرِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، وَسَاقَ بَاقِيَ الْخَبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ حُضَيْنٌ لِيَزِيدَ: أَمَرْتُكَ أَمْرًا حَازِمًا فَعَصَيْتَنِي فَأَصْبَحْتَ مَسْلُوبَ الْإِمَارَةِ نَادِمَا فَمَا أَنَا بِالْبَاكِي عَلَيْكَ صَبَابَةً وَمَا أَنَا بِالدَّاعِي لِتَرْجِعَ سَالِمَا قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ قُتَيْبَةُ خُرَاسَانَ قَالَ لِحُضَيْنٍ: مَا قُلْتَ لِيَزِيدَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَمَرْتُكَ أَمْرًا حَازِمًا فَعَصَيْتَنِي فَنَفْسُكَ أَوْلِ اللَّوْمَ إِنْ كُنْتَ لَائِمَا فَإِنْ يَبْلُغِ الْحَجَّاجَ أَنْ قَدْ عَصَيْتَهُ فَإِنَّكَ تَلْقَى أَمْرَهُ مُتَفَاقِمَا قَالَ: فَمَاذَا أَمَرْتَهُ بِهِ فَعَصَاكَ؟ قَالَ: أَمَرْتُهُ أَنْ لَا يَدَعَ صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا حَمَلَهَا إِلَى الْأَمِيرِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: فَوَجَدَهُ قُتَيْبَةُ قَارِحًا.

وَقِيلَ: كَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى يَزِيدَ: اغْزُ خَوَارِزْمَ، فَكَتَبَ: إِنَّهَا قَلِيلَةُ السَّلَبِ، شَدِيدَةُ الْكَلَبِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ: اسْتَخْلِفْ وَاقْدِمْ. فَكَتَبَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَغْزُوَ خَوَارِزْمَ. فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ: لَا تَغْزُهَا فَإِنَّهَا كَمَا ذَكَرْتَ. فَغَزَا وَلَمْ يُطِعْهُ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا وَأَصَابَ سَبْيًا، وَقَتَلَ فِي الشِّتَاءِ، وَأَصَابَ النَّاسَ بَرْدٌ، فَأَخَذُوا ثِيَابَ الْأَسْرَى، فَمَاتَ ذَلِكَ السَّبْيُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ أَنِ اقْدِمْ. فَسَارَ إِلَيْهِ، فَكَانَ لَا يَمُرُّ بِبَلَدٍ إِلَّا فَرَشَ أَهْلُهُ الرَّيَاحِينَ. (حُضَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَضْمُومَةِ، وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَآخِرُهُ نُونٌ) . ذِكْرُ غَزْوِ الْمُفَضَّلِ بَاذَغِيسَ وَآخَرُونَ لَمَّا وَلِيَ الْمُفَضَّلُ خُرَاسَانَ غَزَا بَاذَغِيسَ فَفَتَحَهَا، وَأَصَابَ مَغْنَمًا فَقَسَّمَهُ، فَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ ثَمَانِيَ مِائَةٍ. ثُمَّ غَزَا آخَرُونَ وَشُومَانَ، فَغَنِمَ وَقَسَّمَ مَا أَصَابَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُفَضَّلِ بَيْتُ مَالٍ، كَانَ يُعْطِي النَّاسَ كُلَّمَا جَاءَ شَيْءٌ، وَإِنْ غَنِمَ شَيْئًا قَسَّمَهُ بَيْنَهُمْ. ذِكْرُ مَقْتَلِ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ بِتِرْمِذَ. وَكَانَ سَبَبُ مَصِيرِهِ إِلَى تِرْمِذَ أَنَّ أَبَاهُ لَمَّا قَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، تَفَرَّقَ عَنْهُ أَكْثَرُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْهُمْ، فَخَرَجَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَخَافَ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى ثَقَلِهِ بِمَرْوَ، فَقَالَ لِابْنِهِ مُوسَى: خُذْ ثَقَلِي، وَاقْطَعْ نَهْرَ بَلْخٍ حَتَّى تَلْتَجِئَ إِلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ، وَإِلَى حِصْنٍ تُقِيمُ فِيهِ. فَرَحَلَ مُوسَى عَنْ مَرْوَ فِي عِشْرِينَ وَمِائَتَيْ فَارِسٍ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ تَتِمَّةُ أَرْبَعِمِائَةٍ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَأَتَى زَمَّ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا، فَظَفِرَ بِهِمْ فَأَصَابَ مَالًا، وَقَطَعَ النَّهْرَ وَأَتَى بُخَارَى، فَسَأَلَ صَاحِبَهَا أَنْ يَلْجَأَ إِلَيْهِ فَأَبَى. فَخَافَهُ وَقَالَ: رَجُلٌ فَاتِكٌ وَأَصْحَابُهُ مِثْلُهُ فَلَا آمَنُهُ. وَوَصَلَهُ وَسَارَ، فَلَمْ يَأْتِ مَلِكًا يَلْجَأُ إِلَيْهِ إِلَّا كَرِهَ مُقَامَهُ عِنْدَهُ، فَأَتَى سَمَرْقَنْدَ فَأَقَامَ بِهَا، وَأَكْرَمَهُ مَلِكُهَا طَرْخُونُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي الْمُقَامِ، وَأَقَامَ مَا شَاءَ اللَّهُ.

وَلِأَهْلِ الصُّغْدِ مَائِدَةٌ يُوضَعُ عَلَيْهَا لَحْمٌ وَخَلٌّ وَخُبْزٌ وَإِبْرِيقُ شَرَابٍ، وَذَلِكَ كُلُّ عَامٍ يَوْمًا، يَجْعَلُونَ ذَلِكَ لِفَارِسِ الصُّغْدِ، فَلَا يَقْرَبُهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ أَحَدٌ بَارَزَهُ، فَأَيُّهُمَا قَتَلَ صَاحِبَهُ فَالْمَائِدَةُ لَهُ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ مُوسَى: مَا هَذِهِ الْمَائِدَةُ؟ فَأُخْبِرَ، فَجَلَسَ فَأَكَلَ مَا عَلَيْهَا، وَقِيلَ لِصَاحِبِ الْمَائِدَةِ فَجَاءَ مُغَضَبًا وَقَالَ: يَا عَرَبِيُّ بَارِزْنِي! فَبَارَزَهُ فَقَتَلَهُ صَاحِبُ مُوسَى، فَقَالَ مَلِكُ الصُّغْدِ: أَنْزَلْتُكُمْ وَأَكْرَمْتُكُمْ فَقَتَلْتُمْ فَارِسِي، لَوْلَا أَنِّي آمَنْتُكَ وَأَصْحَابَكَ لَقَتَلْتُكُمْ، اخْرُجُوا عَنْ بَلَدِي. فَخَرَجُوا. فَأَتَى كِشَّ، فَضَعُفَ صَاحِبُهَا عَنْهُ، فَاسْتَنْصَرَ طَرْخُونَ فَأَتَاهُ، فَخَرَجَ مُوسَى إِلَيْهِ وَقَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ سَبْعُمِائَةِ فَارِسٍ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى أَمْسَوْا وَتَحَاجَزُوا، وَبِأَصْحَابِ مُوسَى جِرَاحٌ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لِزُرْعَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ: احْتَلْ لَنَا عَلَى طَرْخُونَ. فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، مَا حَاجَتُكَ إِلَى أَنْ تَقْتُلَ مُوسَى وَتُقْتَلَ مَعَهُ، فَإِنَّكَ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ حَتَّى يَقْتُلُوا [مِثْلَ] عِدَّتِهِمْ مِنْكُمْ، وَلَوْ قَتَلْتَهُ وَإِيَّاهُمْ جَمِيعًا (مَا نِلْتَ حَظًّا) ، لِأَنَّ لَهُ قَدْرًا فِي الْعَرَبِ، فَلَا يَأْتِي أَحَدٌ خُرَاسَانَ إِلَّا طَالَبَكَ بِدَمِهِ. فَقَالَ: لَيْسَ لِي إِلَى تَرْكِ كِشَّ فِي يَدِهِ سَبِيلٌ. قَالَ: فَكُفَّ عَنْهُ حَتَّى يَرْتَحِلَ. فَكَفَّ. وَسَارَ مُوسَى فَأَتَى تِرْمِذَ وَبِهَا حِصْنٌ يُشْرِفُ عَلَى جَانِبِ النَّهْرِ، فَنَزَلَ مُوسَى خَارِجَ الْحِصْنِ، وَسَأَلَ تِرْمِذَشَاهَ أَنْ يُدْخِلَهُ حِصْنَهُ فَأَبَى، فَأَهْدَى لَهُ مُوسَى وَلَاطَفَهُ حَتَّى حَصَلَ بَيْنَهُمَا مَوَدَّةٌ، وَخَرَجَ فَتَصَيَّدَ مَعَهُ. فَصَنَعَ صَاحِبُ تِرْمِذَ طَعَامًا، وَأَحْضَرَ مُوسَى لِيَأْكُلَ مَعَهُ، وَلَا يَحْضُرُ إِلَّا فِي مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَاخْتَارَ مُوسَى مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَدَخَلُوا الْحِصْنَ وَأَكَلُوا، فَلَمَّا فَرَغُوا قَالَ لَهُ: اخْرُجْ. قَالَ: لَا أَخْرُجُ حَتَّى يَكُونَ الْحِصْنُ بَيْتِي أَوْ قَبْرِي. وَقَاتَلَهُمْ فَقُتِلَ مِنْهُمْ عِدَّةٌ، وَهَرَبَ الْبَاقُونَ، وَاسْتَوْلَى مُوسَى عَلَيْهَا، وَأَخْرَجَ تِرْمِذَشَاهَ مِنْهَا وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَلَا لِأَصْحَابِهِ، فَأَتَوُا التُّرْكَ يَسْتَنْصِرُونَهُمْ عَلَى مُوسَى فَلَمْ يَنْصُرُوهُمْ وَقَالُوا: لَا نُقَاتِلُ هَؤُلَاءِ. وَأَقَامَ مُوسَى بِتِرْمِذَ، فَأَتَاهُ جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِيهِ فَقَوِيَ بِهِمْ، فَكَانَ يَخْرُجُ فَيُغِيرُ عَلَى مَا حَوْلَهُ. ثُمَّ وَلِيَ بُكَيْرُ بْنُ وَسَّاجٍ خُرَاسَانَ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ، ثُمَّ قَدِمَ أُمَيَّةُ فَسَارَ بِنَفْسِهِ يُرِيدُ مُخَالَفَةَ بُكَيْرٍ فَرَجَعَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. ثُمَّ إِنَّ أُمَيَّةَ وَجَّهَ إِلَى مُوسَى بَعْدَ صُلْحِ بُكَيْرٍ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَعَادَ أَهْلُ تِرْمِذَ إِلَى التُّرْكِ، فَاسْتَنْصَرُوهُمْ وَأَعْلَمُوهُمْ أَنَّهُ قَدْ غَزَاهُ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ وَحَصَرُوهُ. فَسَارَتِ التُّرْكُ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ إِلَى الْخُزَاعِيِّ، فَأَطَافَ بِمُوسَى التُّرْكُ وَالْخُزَاعِيُّ، فَكَانَ يُقَاتِلُ الْخُزَاعِيَّ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَالتُّرْكَ آخِرَ النَّهَارِ، فَقَاتَلَهُمْ

شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً. ثُمَّ إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّتَ الْخُزَاعِيَّ وَعَسْكَرَهُ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ خَالِدِ بْنِ حُصَيْنٍ الْكِلَابِيُّ: لِيَكُنِ الْبَيَاتُ بِالْعَجَمِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ أَشَدُّ حَذَرًا وَأَجْرَأُ عَلَى اللَّيْلِ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ الْعَجَمِ تَفَرَّغْنَا لِلْعَرَبِ. فَأَقَامَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، وَخَرَجَ مُوسَى فِي أَرْبَعِمِائَةٍ وَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ خَالِدٍ: اخْرُجْ بَعْدَنَا، فَكُنْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ قَرِيبًا، فَإِذَا سَمِعْتُمْ تَكْبِيرَنَا فَكَبِّرُوا. ثُمَّ سَارَ حَتَّى ارْتَفَعَ فَوْقَ عَسْكَرِ التُّرْكِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِمْ، وَجَعَلَ أَصْحَابَهُ أَرْبَاعًا، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ أَصْحَابُ الْأَرْصَادِ قَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: عَابِرُو سَبِيلٍ. فَلَمَّا جَاوَزُوا الرَّصَدَ حَمَلُوا عَلَى التُّرْكِ وَكَبَّرُوا، فَلَمْ يَشْعُرِ التُّرْكُ إِلَّا بِوَقْعِ السُّيُوفِ فِيهِمْ، فَسَارُوا يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَوَلَّوْا، فَأُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَحَوُوا عَسْكَرَهُمْ وَأَصَابُوا سِلَاحًا كَثِيرًا وَمَالًا، وَأَصْبَحَ الْخُزَاعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَقَدْ كَسْرَهُمْ ذَلِكَ، فَخَافُوا مِثْلَهَا، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ لِمُوسَى: إِنَّنَا لَا نَظْفَرُ إِلَّا بِمَكِيدَةٍ، وَلَهُمْ أَمْدَادًا، وَهُمْ كَثِيرُونَ، فَدَعْنِي آتِهِ لَعَلِّي أُصِيبُ فُرْصَةً، فَاضْرِبْنِي وَخَلَاكَ ذَمٌّ. فَقَالَ لَهُ مُوسَى: تَتَعَجَّلُ الضَّرْبَ وَتَتَعَرَّضُ لِلْقَتْلِ. قَالَ: أَمَّا التَّعَرُّضُ لِلْقَتْلِ فَأَنَا كُلُّ يَوْمٍ مُتَعَرِّضٌ لَهُ، وَأَمَّا الضَّرْبُ فَمَا أَيْسَرَهُ فِي جَنْبِ مَا أُرِيدُ. فَضَرَبَهُ مُوسَى خَمْسِينَ سَوْطًا، فَخَرَجَ مِنْ عَسْكَرِ مُوسَى وَأَتَى عَسْكَرَ الْخُزَاعِيِّ مُسْتَأْمِنًا، وَقَالَ: أَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، فَلَمَّا قُتِلَ أَتَيْتُ ابْنَهُ فَكُنْتُ مَعَهُ، وَإِنَّهُ اتَّهَمَنِي وَقَالَ: قَدْ تَعَصَّبْتَ لِعَدُوِّنَا وَأَنْتَ عَيْنٌ لَهُ، فَضَرَبَنِي وَلَمْ آمَنِ الْقَتْلَ فَهَرَبْتُ مِنْهُ. فَآمَنَهُ الْخُزَاعِيُّ وَأَقَامَ مَعَهُ، فَدَخَلَ يَوْمًا وَهُوَ خَالٍ وَلَمْ يَرَ عِنْدَهُ سِلَاحًا، فَقَالَ كَأَنَّهُ يَنْصَحُ لَهُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنَّ مِثْلَكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ. قَالَ: إِنَّ مَعِي سِلَاحًا. فَرَفَعَ طَرَفَ فِرَاشِهِ فَإِذَا سَيْفٌ مُنْتَضًى، فَأَخَذَهُ عَمْرٌو فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، وَخَرَجَ فَرَكِبَ فَرَسَهُ وَأَتَى مُوسَى، وَتَفَرَّقَ ذَلِكَ الْجَيْشُ، وَأَتَى بَعْضُهُمْ مُوسَى مُسْتَأْمِنًا فَآمَنَهُ، وَلَمْ يُوَجِّهْ إِلَيْهِ أُمَيَّةُ أَحَدًا. وَعُزِلَ أُمَيَّةُ وَقِدَمَ الْمُهَلَّبُ أَمِيرًا، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمُوسَى وَقَالَ لِبْنَيْهِ: إِيَّاكُمْ وَمُوسَى، فَإِنَّكُمْ لَا تَزَالُونَ وُلَاةَ خُرَاسَانَ مَا دَامَ هَذَا الثَّبِطُ بِمَكَانِهِ، فَإِنْ قُتِلَ فَأَوَّلُ طَالِعٍ عَلَيْكُمْ أَمِيرٌ عَلَى خُرَاسَانَ مِنْ قَيْسٍ. فَلَمَّا مَاتَ الْمُهَلَّبُ وَوَلِيَ يَزِيدُ لَمْ يَتَعَرَّضْ أَيْضًا لِمُوسَى. وَكَانَ الْمُهَلَّبُ قَدْ ضَرَبَ حُرَيْثَ بْنَ قُطْبَةَ الْخُزَاعِيَّ، فَخَرَجَ هُوَ وَأَخُوهُ ثَابِتٌ إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا وَلِيَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ أَخَذَ أَمْوَالَهُمَا وَحُرَمَهُمَا، وَقَتَلَ أَخَاهُمَا لِأُمِّهِمَا الْحَارِثَ بْنَ مُنْقِذٍ، فَخَرَجَ ثَابِتٌ إِلَى طَرْخُونَ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا صَنَعَ بِهِ، وَكَانَ ثَابِتٌ مَحْبُوبًا إِلَى التُّرْكِ بَعِيدَ الصَّوْتِ فِيهِمْ، فَغَضِبَ لَهُ طَرْخُونُ، وَجَمَعَ لَهُ نَيْزَكَ وَالسَّبْلَ وَأَهْلَ بُخَارَى وَالصَّغَانِيانَ، فَقَدِمُوا مَعَ ثَابِتٍ إِلَى مُوسَى، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَى مُوسَى فَلُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ

الْعَبَّاسِ مِنْ هَرَاةَ، وَفَلُّ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنَ الْعِرَاقِ، وَمِنْ نَاحِيَةِ كَابُلَ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ وَحُرَيْثٌ: سِرْ حَتَّى تَقْطَعَ النَّهْرَ، وَتُخْرِجَ يَزِيدَ عَنْ خُرَاسَانَ وَنُوَلِّيكَ. فَهَمَّ أَنْ يَفْعَلَ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: إِنْ أَخْرَجْتَ يَزِيدَ عَنْ خُرَاسَانَ تَوَلَّى ثَابِتٌ وَأَخُوهُ خُرَاسَانَ وَغَلَبَاكَ عَلَيْهَا. فَلَمْ يَسِرْ وَقَالَ لِثَابِتٍ وَحُرَيْثٍ: إِنْ أَخْرَجْنَا يَزِيدَ قَدِمَ عَامِلٌ لِعَبْدِ الْمَلِكِ، وَلَكِنَّا نُخْرِجُ عُمَّالَ يَزِيدَ عَمَّا وَرَاءَ النَّهْرِ وَيَكُونُ لَنَا، فَأَخْرَجُوا عُمَّالَ يَزِيدَ عَمَّا وَرَاءَ النَّهْرِ وَجَبَوُا الْأَمْوَالَ، فَقَوِيَ أَمْرُهُمْ، وَانْصَرَفَ طَرْخُونُ وَمَنْ مَعَهُ، وَاسْتَبَدَّ ثَابِتٌ وَحُرَيْثٌ بِتَدْبِيرِ الْأَمْرِ، وَالْأَمِيرُ مُوسَى لَيْسَ لَهُ غَيْرُ الِاسْمِ. فَقِيلَ لِمُوسَى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأُمُورِ شَيْءٌ، وَالْأُمُورُ إِلَى ثَابِتٍ وَحُرَيْثٍ فَاقْتُلْهُمَا وَتَوَلَّ الْأَمْرَ. فَأَبَى، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ حَتَّى أَفْسَدُوا قَلْبَهُ عَلَيْهِمَا، وَهَمَّ بِقَتْلِهِمَا. فَإِنَّهُمْ لَفِي ذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْهِمُ الْهَيَاطِلَةُ وَالتُّبَّتُ وَالتُّرْكُ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا لَا يُعِدُّونَ الْحَاسِرَ، وَلَا صَاحِبَ الْبَيْضَةِ الْجَمَّاءِ، وَلَا يُعِدُّونَ إِلَّا صَاحِبَ بَيْضَةٍ ذَاتِ قَوْنَسٍ. فَخَرَجَ ابْنُ خَازِمٍ وَقَاتَلَهُمْ فِيمَنْ مَعَهُ، وَوَقَفَ مَلِكُ التُّرْكِ عَلَى تَلٍّ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ فِي أَكْمَلِ عُدَّةٍ، وَالْقِتَالُ أَشَدُّ مَا كَانَ، فَقَالَ مُوسَى: إِنْ أَزَلْتُمْ هَؤُلَاءِ فَلَيْسَ الْبَاقُونَ بِشَيْءٍ. فَقَصَدَ لَهُمْ حُرَيْثُ بْنُ قُطْبَةَ فَقَاتَلَهُمْ وَأَلَحَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَزَالَهُمْ عَنِ التَّلِّ، وَرُمِيَ حُرَيْثٌ بِنَشَّابَةٍ فِي جَبْهَتِهِ، فَتَحَاجَزُوا، فَبَيَّتَهُمْ مُوسَى، وَحَمَلَ أَخُوهُ خَازِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ حَتَّى وَصَلَ إِلَى شَمْعَةِ مُلْكِهِمْ، فَوَجَأَ رَجُلًا مِنْهُمْ بِقَبِيعَةِ سَيْفِهِ، فَطَعَنَ فَرَسَهُ، فَاحْتَمَلَهُ الْفَرَسُ فَأَلْقَاهُ فِي نَهْرِ بَلْخٍ فَغَرِقَ، وَقُتِلَ مِنَ التُّرْكِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَنَجَا مَنْ نَجَا مِنْهُمْ بِشَرٍّ، وَمَاتَ حُرَيْثٌ بَعْدَ يَوْمَيْنِ. وَرَجَعَ مُوسَى، وَحَمَلَ مَعَهُ الرُّؤُوسَ فَبَنَى مِنْهَا جَوْسَقَيْنِ. وَقَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: قَدْ كُفِينَا أَمْرَ حُرَيْثٍ، فَاكْفِنَا أَمْرَ ثَابِتٍ. فَأَبَى، وَبَلَغَ ثَابِتًا بَعْضُ مَا يَخُوضُونَ فِيهِ، فَدَسَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيَّ - عَمَّ نَصْرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَامِلَ أَبِي مُسْلِمٍ عَلَى الرَّيِّ - عَلَى مُوسَى، وَقَالَ: إِيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ سَأَلُوكَ فَقُلْ: أَنَا مِنْ سَبْيِ الْبَامِيَانِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ وَاتَّصَلَ بِمُوسَى، وَكَانَ يَخْدِمُهُ وَيَنْقُلُ إِلَى ثَابِتٍ خَبَرَهُمْ، فَحَذِرَ ثَابِتٌ، وَأَلَحَّ الْقَوْمُ عَلَى مُوسَى. فَقَالَ لَهُمْ لَيْلَةً: لَقَدْ أَكْثَرْتُمْ عَلَيَّ وَفِيمَا تُرِيدُونَ هَلَاكُكُمْ، فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ تَقْتُلُونَهُ، وَأَنَا لَا أَغْدِرُ بِهِ؟ قَالَ لَهُ أَخُوهُ نُوحٌ: إِذَا أَتَاكَ غَدًا عَدَلْنَا بِهِ إِلَى بَعْضِ الدُّورِ، فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ هَلَاكُكُمْ، وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ.

فَخَرَجَ الْغُلَامُ فَأَتَى ثَابِتًا فَأَخْبَرَهُ، فَخَرَجَ مِنْ لَيْلَتِهِ فِي عِشْرِينَ فَارِسًا وَمَضَى. وَأَصْبَحُوا فَلَمْ يَرَوْهُ وَلَمْ يَرَوُا الْغُلَامَ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ كَانَ عَيْنًا لَهُ. وَنَزَلَ ثَابِتٌ بِحُوشَرَا، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَأَقْبَلَ مُوسَى إِلَيْهِ وَقَاتَلَهُ، وَتَحَصَّنَ ثَابِتٌ بِالْمَدِينَةِ، وَأَتَاهُ طَرْخُونُ مُعِينًا لَهُ، فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى تِرْمِذَ، وَأَقْبَلَ ثَابِتٌ وَطَرْخُونُ وَمَعَهُمَا أَهْلُ بُخَارَى وَنَسَفَ وَكِشَّ، فَاجْتَمَعُوا فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا، فَحَصَرُوا مُوسَى حَتَّى جَهِدَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ قَالَ يَزِيدُ بْنُ هُذَيْلٍ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ ثَابِتًا أَوْ لَأَمُوتَنَّ. فَخَرَجَ إِلَى ثَابِتٍ فَاسْتَأْمَنَهُ، فَقَالَ لَهُ ظُهَيْرٌ: أَنَا أَعْرَفُ بِهَذَا مِنْكَ، مَا أَتَاكَ إِلَّا بِغَدْرِهِ فَاحْذَرْهُ، فَأَخَذَ ابْنَيْهِ قُدَامَةَ وَالضَّحَّاكَ رَهْنًا، فَكَانَا فِي يَدِ ظُهَيْرٍ. وَأَقَامَ يَزِيدُ يَلْتَمِسُ غِرَّةَ ثَابِتٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا يُرِيدُ حَتَّى مَاتَ ابْنٌ لِزِيَادٍ الْقَصِيرِ الْخُزَاعِيِّ، فَخَرَجَ ثَابِتٌ إِلَيْهِ لِيُعَزِّيَهُ وَهُوَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ وَقَدْ غَابَتِ الشَّمْسُ، فَدَنَا يَزِيدُ مِنْ ثَابِتٍ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَوَصَلَ إِلَى الدِّمَاغِ وَهَرَبَ فَسَلِمَ، وَأَخَذَ طَرْخُونُ قُدَامَةَ وَالضَّحَّاكَ ابْنَيْ يَزِيدَ فَقَتَلَهُمَا، وَعَاشَ ثَابِتٌ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَمَاتَ، وَقَامَ بِأَمْرِ الْعَجَمِ بَعْدَ مَوْتِ ثَابِتٍ طَرْخُونُ، وَقَامَ ظُهَيْرٌ بِأَمْرِ أَصْحَابِ ثَابِتٍ، فَقَامَا قِيَامًا ضَعِيفًا، وَانْتَشَرَ أَمْرُهُمْ وَأَجْمَعَ مُوسَى عَلَى بَيَاتِهِمْ، فَأُخْبِرَ طَرْخُونُ بِذَلِكَ فَضَحِكَ، وَقَالَ: مُوسَى يَعْجِزُ أَنْ يَدْخُلَ مُتَوَضَّأَهُ، فَكَيْفَ يُبَيِّتُنَا؟ لَا يَحْرُسُ اللَّيْلَةَ أَحَدٌ. فَخَرَجَ مُوسَى فِي ثَمَانِمِائَةٍ وَجَعَلَهُمْ أَرْبَاعًا وَبَيَّتَهُمْ، وَكَانَ لَا يَمُرُّ بِشَيْءٍ إِلَّا ضَرَبُوهُ، مِنْ رَجُلٍ وَدَابَّةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَبِسَ نَيْزَكٌ سِلَاحَهُ وَوَقَفَ، وَأَرْسَلَ طَرْخُونُ إِلَى مُوسَى أَنْ كُفَّ أَصْحَابَكَ، فَإِنَّا نَرْحَلُ إِذَا أَصْبَحْنَا. فَرَجَعَ مُوسَى وَارْتَحَلَ طَرْخُونُ وَالْعَجَمُ جَمِيعًا. فَكَانَ أَهْلُ خُرَاسَانَ يَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مُوسَى وَلَا سَمِعْنَا بِهِ، قَاتَلَ مَعَ أَبِيهِ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ يَسِيرُ فِي بِلَادِ خُرَاسَانَ، فَأَتَى مَلِكًا فَغَلَبَ عَلَى مَدِينَتِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا، وَسَارَ الْجُنُودُ مِنَ الْعَرَبِ وَالتُّرْكِ إِلَيْهِ، وَكَانَ يُقَاتِلُ الْعَرَبَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَالتُّرْكَ آخِرَ النَّهَارِ. وَأَقَامَ مُوسَى فِي الْحِصْنِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَصَارَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ لِمُوسَى لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ. فَلَمَّا عُزِلَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَوَلِيَ الْمُفَضَّلُ أَرَادَ أَنْ يَحْظَى عِنْدَ الْحَجَّاجِ بِقِتَالِ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَيَّرَ عُثْمَانَ بْنَ مَسْعُودٍ إِلَيْهِ فِي جَيْشٍ، وَكَتَبَ إِلَى مُدْرِكِ بْنِ الْمُهَلَّبِ وَهُوَ بِبَلْخٍ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ مَعَهُ، فَعَبَرَ النَّهْرَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَكَتَبَ إِلَى السَّبْلِ وَإِلَى

طَرْخُونَ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ، فَحَصَرُوا مُوسَى وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ. فَمَكَثَ شَهْرَيْنِ فِي ضِيقٍ، وَقَدْ خَنْدَقَ عُثْمَانُ عَلَيْهِ وَحَذِرَ الْبَيَاتَ، فَقَالَ مُوسَى لِأَصْحَابِهِ: اخْرُجُوا بِنَا، حَتَّى مَتَى نَصْبِرُ، فَاجْعَلُوا يَوْمَكُمْ مَعَهُمْ إِمَّا ظَفِرْتُمْ وَإِمَّا قُتِلْتُمْ، وَاقْصِدُوا التُّرْكَ. فَخَرَجُوا وَخَلَّفَ النَّضْرَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ فِي الْمَدِينَةِ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ قُتِلْتُ فَلَا تَدْفَعَنَّ الْمَدِينَةَ إِلَى عُثْمَانَ، وَادْفَعْهَا إِلَى مُدْرِكِ بْنِ الْمُهَلَّبِ. وَخَرَجَ وَجَعَلَ ثُلُثَ أَصْحَابِهِ بِإِزَاءِ عُثْمَانَ، وَقَالَ: لَا تُقَاتِلُوهُ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَكُمْ. وَقَصَدَ لِطَرْخُونَ وَأَصْحَابَهُ فَصَدَقُوهُمُ الْقِتَالَ، فَانْهَزَمَ طَرْخُونُ وَأَخَذُوا عَسْكَرَهُمْ، وَزَحَفَتِ التُّرْكُ وَالصُّغْدُ فَحَالُوا بَيْنَ مُوسَى وَالْحِصْنِ، فَقَاتَلَهُمْ، فَعَقَرُوا فَرَسَهُ فَسَقَطَ، فَقَالَ لِمَوْلًى لَهُ: احْمِلْنِي، فَقَالَ: الْمَوْتُ كَرِيهٌ، وَلَكِنِ ارْتَدِفْ، فَإِنْ نَجَوْنَا نَجَوْنَا جَمِيعًا، وَإِنْ هَلَكْنَا هَلَكْنَا جَمِيعًا. قَالَ: فَارْتَدَفَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ حِينَ وَثَبَ قَالَ: وَثْبَةُ مُوسَى وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! وَقَصَدَ إِلَى مُوسَى، وَعُقِرَتْ دَابَّةُ مُوسَى فَسَقَطَ هُوَ وَمَوْلَاهُ، فَقَتَلُوهُ، وَنَادَى مُنَادِي عُثْمَانَ: مَنْ لَقِيتُمُوهُ فَخُذُوهُ أَسِيرًا، وَلَا تَقْتُلُوا أَحَدًا. فَقَتَلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنَ الْأَسْرَى خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْعَرَبِ خَاصَّةً، فَكَانَ يَقْتُلُ الْعَرَبَ، وَيَضْرِبُ الْمَوْلَى وَيُطْلِقُهُ، وَكَانَ فَظًّا غَلِيظًّا. وَكَانَ الَّذِي أَجْهَزَ عَلَى مُوسَى وَاصِلُ بْنُ طَيْسَلَةَ الْعَنْبَرِيُّ. وَبَقِيَتِ الْمَدِينَةُ بِيَدِ النَّضْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، فَلَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى عُثْمَانَ، وَسَلَّمَهَا إِلَى مُدْرِكِ بْنِ الْمُهَلَّبِ وَآمَنَهُ، فَسَلَّمَهَا مُدْرِكٌ إِلَى عُثْمَانَ. وَكَتَبَ الْمُفَضَّلُ إِلَى الْحَجَّاجِ بِقَتْلِ مُوسَى فَقَالَ: الْعَجَبُ مِنْهُ! أَكْتُبُ إِلَيْهِ بِقَتْلِ ابْنِ سَبْرَةَ فَيَكْتُبُ إِلَيَّ أَنَّهُ لِمَآبِهِ، وَيَكْتُبُ إِلَيَّ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَ مُوسَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ. وَلَمْ يَسُرَّهُ قَتْلُ مُوسَى لِأَنَّهُ مِنْ قَيْسٍ. وَقُتِلَ مُوسَى سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، وَضَرَبَ رَجُلٌ مِنَ الْجُنْدِ سَاقَ مُوسَى، فَلَمَّا وَلِيَ قُتَيْبَةُ قَالَ: مَا دَعَاكَ إِلَى مَا صَنَعْتَ بِفَتَى الْعَرَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ قَالَ: كَانَ قَتَلَ أَخِي. فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. ذِكْرُ مَوْتِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ وَالْبَيْعَةِ لِلْوَلِيدِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ أَرَادَ أَنْ يَخْلَعَ أَخَاهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَيُبَايِعَ لِابْنِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ وَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّكَ تَبْعَثُ

عَلَى نَفْسِكَ صَوْتَ عَارٍ، وَلَعَلَّ الْمَوْتَ يَأْتِيهِ [فَتَسْتَرِيحَ مِنْهُ] . فَكَفَّ عَنْهُ وَنَفْسُهُ تُنَازِعُهُ إِلَى خَلْعِهِ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ، وَكَانَ أَجَلَّ النَّاسِ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ خَلَعْتَهُ مَا انْتَطَحَ فِيهِ عَنْزَانِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُجِيبُكَ إِلَى ذَلِكَ. قَالَ: نُصْبِحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَنَامَ رَوْحٌ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ وَهُمَا نَائِمَانِ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ تَقَدَّمَ إِلَى حُجَّابِهِ أَنْ لَا يَحْجُبُوا قَبِيصَةَ عَنْهُ، وَكَانَ إِلَيْهِ الْخَاتَمُ وَالسِّكَّةُ، تَأْتِيهِ الْأَخْبَارُ قَبْلَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْكُتُبُ. فَلَمَّا دَخَلَ سَلَّمَ عَلَيْهِ، قَالَ: آجَرَكَ اللَّهُ فِي عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخِيكَ. قَالَ: هَلْ تُوُفِّيَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَوْحٍ وَقَالَ: كَفَانَا اللَّهُ مَا كُنَّا نُرِيدُ، وَكَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لَكَ يَا قَبِيصَةُ. فَقَالَ قَبِيصَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الرَّأْيَ كُلَّهُ فِي الْأَنَاةِ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْعَجَلَةِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، رَأَيْتَ أَمْرَ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، أَلَمْ تَكُنِ الْعَجَلَةُ فِيهِ خَيْرًا مِنَ الْأَنَاةِ؟ وَكَانَتْ وَفَاةُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي جُمَادَى الْأُولَى فِي مِصْرَ، فَضَمَّ عَبْدُ الْمَلِكِ عَمَلَهُ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَوَلَّاهُ مِصْرَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُزَيِّنُ لَهُ بَيْعَةَ الْوَلِيدِ، وَأَوْفَدَ فِي ذَلِكَ وَفْدًا، فَلَمَّا أَرَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ خَلْعَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْبَيْعَةَ لِلْوَلِيدِ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ يَصِيرَ هَذَا الْأَمْرُ لِابْنِ أَخِيكَ. فَأَبَى، فَكَتَبَ إِلَيْهِ لِيَجْعَلَ الْأَمْرَ لَهُ، وَيَجْعَلَهُ لَهُ أَيْضًا مِنْ بَعْدِهِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ: إِنِّي أَرَى فِي ابْنِي أَبِي بَكْرٍ مَا تَرَى فِي الْوَلِيدِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ لِيَحْمِلَ خَرَاجَ مِصْرَ، فَأَجَابَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ: إِنِّي وَإِيَّاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ بَلَغْنَا سِنًّا لَمْ يَبْلُغْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ إِلَّا كَانَ بَقَاؤُهُ قَلِيلًا، وَإِنَّا لَا نَدْرِي أَيُّنَا يَأْتِيهِ الْمَوْتُ أَوَّلًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ لَا تُفْسِدَ عَلَيَّ بَقِيَّةَ عُمُرِي فَافْعَلْ. فَرَقَّ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ وَتَرَكَهُ، وَقَالَ لِلْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَكُمَا الْخِلَافَةَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْعِبَادِ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ حَيْثُ رَدَّهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ قَطَعَنِي فَاقْطَعْهُ. فَلَمَّا مَاتَ عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ أَهْلُ الشَّامِ: رُدَّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَمْرَهُ. فَلَمَّا أَتَى خَبَرُ مَوْتِهِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ أَمَرَ النَّاسَ بِالْبَيْعَةِ لِابْنَيْهِ الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ، فَبَايَعُوا، وَكَتَبَ بِالْبَيْعَةِ لَهُمَا إِلَى الْبُلْدَانِ. وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، فَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ فَأَجَابُوا، إِلَّا سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَإِنَّهُ أَبَى وَقَالَ: لَا أُبَايِعُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ حَيٌّ، فَضَرَبَهُ هِشَامٌ ضَرْبًا مُبَرِّحًا،

وَطَافَ بِهِ وَهُوَ فِي تُبَّانِ شَعْرٍ حَتَّى بَلَغَ رَأْسَ الثَّنِيَّةِ الَّتِي يَقْتُلُونَ وَيَصْلُبُونَ عِنْدَهَا، ثُمَّ رَدُّوهُ وَحَبَسُوهُ. فَقَالَ سَعِيدٌ: لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ [لَا] يَصْلُبُونَنِي مَا لَبِسْتُ ثِيَابَ مَسُوحٍ، وَلَكِنَّنِي قُلْتُ: يَصْلُبُونَنِي فَيَسْتُرُنِي. فَبَلَغَ عَبْدَ الْمَلِكِ الْخَبَرُ فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ هِشَامًا، إِنَّمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَهُ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يُبَايِعَ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ أَوْ يَكُفُّ عَنْهُ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَلُومُهُ وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ سَعِيدًا لَيْسَ عِنْدَهُ شِقَاقٌ وَلَا خِلَافٌ. وَقَدْ كَانَ سَعِيدٌ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَالَ: لَا أُبَايِعُ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ. فَضَرَبَهُ جَابِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَامِلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ سِتِّينَ سَوْطًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَكَتَبَ إِلَى جَابِرٍ يَلُومُهُ وَقَالَ: مَا لَنَا وَلِسَعِيدٍ، دَعْهُ لَا تَعْرِضْ لَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ بَيْعَةَ الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، قَبْلَ قُدُومِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى أَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ مِصْرَ، فَلَمَّا فَارَقَهُ وَصَّاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فَقَالَ: ابْسُطْ بِشْرَكَ، وَأَلِنْ كَنَفَكَ، وَآثِرِ الرِّفْقَ فِي الْأُمُورِ، فَهُوَ أَبْلَغُ بِكَ، وَانْظُرْ حَاجِبَكَ، وَلْيَكُنْ مِنْ خَيْرِ أَهْلِكَ، فَإِنَّهُ وَجْهُكَ وَلِسَانُكَ، وَلَا يَقِفَنَّ أَحَدٌ بِبَابِكَ إِلَّا أَعْلَمَكَ مَكَانَهُ، لِتَعْلَمَ أَنْتَ الَّذِي تَأْذَنُ لَهُ أَوْ تَرُدُّهُ، فَإِذَا خَرَجْتَ إِلَى مَجْلِسِكَ فَابْدَأْ جُلَسَاءَكَ بِالْكَلَامِ يَأْنَسُوا بِكَ، وَتَثْبُتَ فِي قُلُوبِهِمْ مَحَبَّتُكَ، وَإِذَا انْتَهَى إِلَيْكَ مُشْكِلٌ فَاسْتَظْهِرْ عَلَيْهِ بِالْمُشَاوَرَةِ، فَإِنَّهَا تَفْتَحُ مَغَالِيقَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ لَكَ نِصْفَ الرَّأْيِ وَلِأَخِيكَ نَصْفَهُ، وَلَنْ يَهْلِكَ امْرُؤٌ عَنْ مَشُورَةٍ، وَإِذَا سَخِطْتَ عَلَى أَحَدٍ فَأَخِّرْ عُقُوبَتَهُ، فَإِنَّكَ عَلَى الْعُقُوبَةِ بَعْدَ التَّوَقُّفِ عَنْهَا أَقْدَرُ مِنْكَ عَلَى رَدِّهَا بَعْدَ إِمْضَائِهَا. وَالسَّلَامُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ حَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ. وَكَانَ الْعَامِلَ عَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ. وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ أَرْمِينِيَّةَ، فَصَافَ فِيهَا وَشَتَّى.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيُّ، وَقِيلَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، وَكَانَ لَهُ لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعُ سِنِينَ.

ثم دخلت سنة ست وثمانين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ] 86 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ ذِكْرُ وَفَاةِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ مُنْتَصَفَ شَوَّالٍ، وَكَانَ يَقُولُ: أَخَافُ الْمَوْتَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فِيهِ وُلِدْتُ، وَفِيهِ فُطِمْتُ، وَفِيهِ جَمَعْتُ الْقُرْآنَ، وَفِيهِ بَايَعَ لِي النَّاسُ. فَمَاتَ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ حِينَ أَمِنَ الْمَوْتَ فِي نَفْسِهِ. وَكَانَ عُمُرُهُ سِتِّينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ مِنْ لَدُنْ قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إِلَّا سَبْعَ لَيَالٍ، وَقِيلَ: وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: إِنْ شَرِبَ الْمَاءَ مَاتَ. فَاشْتَدَّ عَطَشُهُ فَقَالَ: يَا وَلِيدُ، اسْقِنِي مَاءً. قَالَ: لَا أُعِينُ عَلَيْكَ. فَقَالَ لِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ: اسْقِينِي مَاءً. فَمَنَعَهَا الْوَلِيدُ. فَقَالَ: لَتَدَعَنَّهَا أَوْ لَأَخْلَعَنَّكَ. فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ، فَسَقَتْهُ فَمَاتَ. وَدَخَلَ الْوَلِيدُ عَلَيْهِ وَابْنَتُهُ فَاطِمَةُ عِنْدَ رَأْسِهِ تَبْكِي فَقَالَ: كَيْفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: هُوَ أَصْلَحُ. فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَمُسْتَخْبِرٌ عَنَّا يُرِيدُ لَنَا الرَّدَى وَمُسْتَخْبِرَاتٌ وَالدُّمُوعُ سَوَاجِمُ وَأَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهَا أَزْيَنُ حِلْيَةٍ وَأَحْصَنُ كَهْفٍ، لِيَعْطِفِ الْكَبِيرُ مِنْكُمْ عَلَى الصَّغِيرِ، وَلْيَعْرِفِ الصَّغِيرُ حَقَّ الْكَبِيرِ، وَانْظُرُوا مَسْلَمَةَ فَاصْدُرُوا عَنْ رَأْيِهِ، فَإِنَّهُ نَابُكُمُ الَّذِي عَنْهُ تَفْتَرُّونَ، وَمَجَنُّكُمُ الَّذِي عَنْهُ تَرْمُونَ، فَأَكْرِمُوا الْحَجَّاجَ، فَإِنَّهُ الَّذِي وَطَّأَ لَكُمُ الْمَنَابِرَ، وَدَوَّخَ لَكُمُ الْبِلَادَ، وَأَذَلَّ الْأَعْدَاءَ، وَكُونُوا بَنِي أُمٍّ بَرَرَةً لَا تَدِبُّ بَيْنَكُمُ الْعَقَارِبُ، وَكُونُوا فِي الْحَرْبِ أَمْرَارًا، فَإِنَّ الْقِتَالَ لَا يُقَرِّبُ مَيْتَةً، وَكُونُوا لِلْمَعْرُوفِ

مَنَارًا، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ يَبْقَى أَجْرُهُ وَذِكْرُهُ، وَضَعُوا مَعْرُوفَكُمْ عِنْدَ ذَوِي الْأَحْسَابِ، فَإِنَّهُمْ أَصْوَنُ لَهُ وَأَشْكَرُ لِمَا يُؤْتَى إِلَيْهِمْ مِنْهُ، وَتَمَغَّدُوا ذُنُوبَ أَهْلِ الذُّنُوبِ، فَإِنِ اسْتَقَالُوا فَأَقِيلُوا، وَإِنْ عَادُوا فَانْتَقِمُوا. وَلَمَّا تُوُفِّيَ دُفِنَ خَارِجَ بَابِ الْجَابِيَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْوَلِيدُ، فَتَمَثَّلَ هِشَامٌ: فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا فَقَالَ الْوَلِيدُ: اسْكُتْ، فَإِنَّكَ تَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ شَيْطَانٍ، أَلَا قُلْتَ كَمَا قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ: إِذَا مُقْرَمٌ مِنَّا ذَرَا حَدُّ نَابِهِ تَخَمَّطَ مِنَّا نَابُ آخَرَ مُقْرَمِ وَقِيلَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ تَمَثَّلَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ ; لِأَنَّ هِشَامًا كَانَ صَغِيرًا لَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَدْ رَثَى الشُّعَرَاءُ عَبْدَ الْمَلِكِ، كُثَيِّرُ عَزَّةَ وَغَيْرُهُ، فَمِمَّا قِيلَ فِيهِ: سَقَاكَ ابْنَ مَرْوَانٍ مِنَ الْغَيْثِ مُسْبِلُ أَجَشُّ شَمَالِيٌّ يَجُودُ وَيَهْطِلُ فَمَا فِي حَيَاةٍ بَعْدَ مَوْتِكَ رَغْبَةٌ لِحُرٍّ وَإِنْ كُنَّا الْوَلِيدَ نُؤَمَّلُ ذِكْرُ نَسَبِهِ وَأَوْلَادِهِ وَأَزْوَاجِهِ أَمَّا نَسَبُهُ فَهُوَ أَبُو الْوَلِيدِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. وَأُمُّهُ عَائِشَةُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ. وَأَمَّا أَوْلَادُهُ وَأَزْوَاجُهُ فَمِنْهُمْ: الْوَلِيدُ، وَسُلَيْمَانُ، وَمَرْوَانُ الْأَكْبَرُ دَرَجَ، وَعَائِشَةُ، أُمُّهُمْ وَلَّادَةُ بِنْتُ الْعَبَّاسِ بْنِ جَزْءِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ الْعَبْسِيَّةُ. وَمِنْهُمْ: يَزِيدُ، وَمَرْوَانُ، وَمُعَاوِيَةُ دَرَجَ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ، وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ ابْنَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. وَمِنْهُمْ هِشَامٌ، وَأُمُّهُ أُمُّ هِشَامٍ بِنْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّةُ، وَاسْمُهَا عَائِشَةُ، وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ بَكَّارٌ، أُمُّهُ عَائِشَةُ بِنْتُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَمِنْهُمُ الْحَكَمُ دَرَجَ، أُمُّهُ أُمُّ أَيُّوبَ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. وَمِنْهُمْ فَاطِمَةُ بِنْتُ

عَبْدِ الْمَلِكِ، أُمُّهَا أُمُّ الْمُغِيرَةِ بِنْتُ الْمُغِيرَةِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ، وَمَسْلَمَةُ، وَالْمُنْذِرُ، وَعَنْبَسَةُ، وَمُحَمَّدٌ، وَسَعِيدُ الْخَيْرِ، وَالْحَجَّاجُ، لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ. وَكَانَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ شَقْرَاءُ بِنْتُ مُسْلِمِ بْنِ حُلَيْسٍ الطَّائِيِّ، وَأُمُّ أَبِيهَا ابْنَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَقِيلَ: كَانَ عِنْدَهُ ابْنَةٌ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَلَا يَصِحُّ. ذِكْرُ بَعْضِ أَخْبَارِهِ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَاقِلًا، حَازِمًا، أَدِيبًا، لَبِيبًا، عَالِمًا. قَالَ أَبُو الزِّيَادِ: كَانَ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةً: سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَقَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ، وَعَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا ذَاكَرْتُ أَحَدًا إِلَّا وَجَدْتُ لِيَ الْفَضْلَ عَلَيْهِ إِلَّا عَبْدَ الْمَلِكِ، فَإِنِّي مَا ذَاكَرْتُهُ حَدِيثًا إِلَّا زَادَنِي فِيهِ، وَلَا شِعْرًا إِلَّا زَادَنِي فِيهِ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ عُقْبَةَ الْخَطَائِيُّ: قِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ. فَقَالَ: شَيَّبَنِي ارْتِقَاءُ الْمَنَابِرِ وَخَوْفُ اللَّحْنِ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَقْوَى عَلَى هَذَا الْأَمْرِ مِنِّي، إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَطَوِيلُ الصَّلَاةِ، كَثِيرُ الصِّيَامِ، وَلَكِنْ لِبُخْلِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَائِسًا. قَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: قِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ فِي مَرَضِهِ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: أَجِدُنِي كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94] الْآيَةَ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ أَبِيهِ: اسْتَأْذَنَ قَوْمٌ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَهُوَ شَدِيدُ الْمَرَضِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَقَدْ أَسْنَدَهُ خَصِيٌّ إِلَى صَدْرِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ دَخَلْتُمْ عَلَيَّ عِنْدَ إِقْبَالِ آخِرَتِي وَإِدْبَارِ دُنْيَايَ، وَإِنِّي تَذَكَّرْتُ أَرْجَى عَمَلٍ لِي فَوَجَدْتُهَا غَزْوَةً

غَزْوَتُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنَا خِلْوٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيًّا أَبْوَابَنَا هَذِهِ الْخَبِيثَةَ أَنْ تُطِيفُوا بِهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ التَّنُوخِيُّ: لَمَّا نَزَلَ بِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ الْمَوْتُ أَمَرَ بِفَتْحِ بَابِ قَصْرِهِ، فَإِذَا قَصَّارٌ يُقَصِّرُ ثَوْبًا فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ قَصَّارًا! يَا لَيْتَنِي كُنْتُ قَصَّارًا! مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَهُمْ يَفْزَعُونَ إِلَيْنَا وَلَا نَفْزَعُ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ حِينَ ثَقُلَ جَعَلَ يَلُومُ نَفْسَهُ، وَيَضْرِبُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ أَكْتَسِبُ يَوْمًا بِيَوْمٍ مَا يُقَوِّتُنِي، وَأَشْتَغِلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِابْنِ خَازِمٍ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ عِنْدَ الْمَوْتِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَا نَتَمَنَّى عِنْدَ الْمَوْتِ مَا هُمْ فِيهِ. وَقَالَ مَسْعُودُ بْنُ خَلَفٍ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فِي مَرَضِهِ: وَاللَّهِ وَدِدْتُ أَنِّي عَبْدٌ لِرَجُلٍ مِنْ تِهَامَةَ أَرْعَى غَنَمًا فِي جِبَالِهَا، وَأَنِّي لَمْ أَكُ شَيْئًا. وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى الْمُؤَدِّبُ: يُرْوَى أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ لَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ قَالَ: ارْفَعُونِي عَلَى شَرَفٍ. فَفُعِلَ ذَلِكَ. فَتَنَسَّمَ الرَّوْحَ ثُمَّ قَالَ: يَا دُنْيَا مَا أَطْيَبَكِ! إِنَّ طَوِيلَكِ لَقَصِيرٌ، وَإِنَّ كَبِيرَكِ لَحَقِيرٌ، وَإِنْ كُنَّا مِنْكِ لَفِي غُرُورٍ! وَتَمَثَّلَ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ: إِنْ تُنَاقِشْ يَكُنْ نِقَاشُكَ يَارَبِّ عَذَابًا، لَا طَوْقَ لِي بِالْعَذَابِ أَوْ تُجَاوِزْ فَأَنْتَ رَبٌّ صَفُوحٌ عَنْ مُسِيءٍ ذُنُوبُهُ كَالتُّرَابِ وَيُرْوَى أَنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ تَمَثَّلَ بِهَا مُعَاوِيَةُ، وَيَحِقُّ لِعَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ يَحْذَرَ هَذَا الْحَذَرَ وَيَخَافَ، فَإِنَّ مَنْ يَكُنِ الْحَجَّاجُ بَعْضَ سَيِّئَاتِهِ يَعْلَمُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَقْدَمُ عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، صِرْتُ أَعْمَلُ الْخَيْرَ فَلَا أُسِرُّ بِهِ، وَأَصْنَعُ الشَّرَّ فَلَا أُسَاءُ بِهِ. فَقَالَ: الْآنَ تَكَامَلَ فِيكَ مَوْتُ الْقَلْبِ. وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَوَّلَ مَنْ غَدَرَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِعْلُهُ بِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ نَقَلَ الدِّيوَانَ مِنَ الْفَارِسِيَّةِ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَأَوَّلَ مَنْ نَهَى عَنِ الْكَلَامِ فِي حَضْرَةِ الْخُلَفَاءِ، وَكَانَ النَّاسُ قَبْلَهُ يُرَاجِعُونَهُمْ، وَأَوَّلَ خَلِيفَةٍ بَخِلَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ رَشْحُ

الْحِجَارَةِ لِبُخْلِهِ، وَأَوَّلَ مَنْ نَهَى عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: وَلَا يَأْمُرُنِي أَحَدٌ بِتَقْوَى اللَّهِ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ذِكْرُ خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمَّا دُفِنَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ انْصَرَفَ الْوَلِيدُ عَنْ قَبْرِهِ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، فَخَطَبَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مُصِيبَتِنَا لِمَوْتِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْنَا مِنَ الْخِلَافَةِ، قُومُوا فَبَايِعُوا. وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَزَّى نَفْسَهُ وَهَنَّأَهَا، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَامَ لِبَيْعَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هَمَّامٍ السَّلُولِيَّ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُ أَعْطَاكَ الَّتِي لَا فَوْقَهَا ... وَقَدْ أَرَادَ الْمُلْحِدُونَ عَوْقَهَا عَنْكَ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا سَوْقَهَا ... إِلَيْكَ حَتَّى قَلَّدُوكَ طَوْقَهَا فَبَايَعَهُ ثُمَّ قَامَ النَّاسُ لِبَيْعَتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْوَلِيدَ لَمَّا صَعِدَ الْمِنْبَرَ حَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ اللَّهُ، وَلَا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ، وَهَذَا كَانَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَسَابِقِ عِلْمِهِ، وَمَا كَتَبَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَحَمَلَةِ عَرْشِهِ الْمَوْتُ، وَقَدْ صَارَ إِلَى مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ وَلِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالَّذِي يَحِقُّ عَلَيْهِ لِلَّهِ مِنَ الشِّدَّةِ عَلَى الْمُرِيبِ، وَاللِّينِ لِأَهْلِ الْحَقِّ وَالْفَضْلِ، وَإِقَامَةِ مَنْ أَقَامَ اللَّهُ مِنْ مَنَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَعْلَامِ مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ، وَغَزْوِ الثُّغُورِ، وَشَنِّ الْغَارَةِ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ، فَلَمْ يَكُنْ عَاجِزًا وَلَا مُفَرِّطًا. أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْفَرْدِ. أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَبْدَى لَنَا ذَاتَ نَفْسِهِ ضَرَبْنَا الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ، وَمَنْ سَكَتَ مَاتَ

بِدَائِهِ، ثُمَّ نَزَلَ، وَكَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا. ذِكْرُ وِلَايَةِ قُتَيْبَةَ خُرَاسَانَ وَمَا كَانَ مِنْهُ هَذِهِ السَّنَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ قُتَيْبَةُ خُرَاسَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا لِلْحَجَّاجِ، فَقَدِمَهَا وَالْمُفَضَّلُ يَعْرِضُ الْجُنْدَ لِلْغَزَاةِ، فَخَطَبَ قُتَيْبَةُ النَّاسَ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ وَسَارَ، وَجَعَلَ بِمُرْوَ عَلَى حَرْبِهَا إِيَاسَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَلَى الْخَرَاجِ عُثْمَانَ السَّعِيدِيَّ. فَلَمَّا كَانَ بِالطَّالْقَانِ أَتَاهُ دَهَاقِينُ بَلْخٍ وَسَارُوا مَعَهُ، فَقَطَعَ النَّهْرَ، فَتَلَقَّاهُ مَلِكُ الصَّغَانَيَانِ بِهَدَايَا وَمَفَاتِيحَ مِنْ ذَهَبٍ وَدَعَاهُ إِلَى بِلَادِهِ، فَمَضَى مَعَهُ، فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ ; لِأَنَّ مَلِكَ آخْرُونَ وَشُومَانَ كَانَ يُسِيءُ جِوَارَهُ. ثُمَّ سَارَ قُتَيْبَةُ مِنْهَا إِلَى آخْرُونَ وَشُومَانَ، وَهُمَا مِنْ طَخَارِسْتَانَ، فَصَالَحَهُ مَلِكُهَا عَلَى فِدْيَةٍ أَدَّاهَا إِلَيْهِ فَقَبِلَهَا قُتَيْبَةُ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَرْوَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْجُنْدِ أَخَاهُ صَالِحَ بْنَ مُسْلِمٍ، فَفَتَحَ صَالِحٌ بَعْدَ رُجُوعِ قُتَيْبَةَ كَاشَّانَ وَأُورِشْتَ، وَهِيَ مِنْ فَرْغَانَةَ، وَفَتَحَ أَخْسَيْكِتَ، وَهِيَ مَدِينَةُ فَرْغَانَةَ الْقَدِيمَةِ، وَكَانَ مَعَهُ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، فَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا. وَقِيلَ: إِنَّ قُتَيْبَةَ قَدِمَ خُرَاسَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، فَعَرَضَ الْجُنْدَ، فَغَزَا آخْرُونَ وَشُومَانَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَرْوَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَقَامَ السَّنَةَ، وَلَمْ يَقْطَعِ النَّهْرَ لِسَبَبِ بِلْخَ، فَإِنَّ بَعْضَهَا كَانَ مُنْتَقِضًا عَلَيْهِ فَحَارَبَهُمْ، وَكَانَ مِمَّنْ سَبَى امْرَأَةَ بَرْمَكَ أَبِي خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، وَكَانَ بَرْمَكُ عَلَى النُّوبْهَارِ، فَصَارَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ أَخِي قُتَيْبَةَ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ بَلْخَ صَالَحُوهُ، وَأَمَرَ قُتَيْبَةُ بِرَدِّ السَّبْيِ، فَقَالَتِ امْرَأَةُ بَرْمَكَ لِعَبْدِ اللَّهِ: إِنِّي قَدْ عَلِقْتُ مِنْكَ، وَحَضَرَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُسْلِمٍ الْوَفَاةُ، فَأَوْصَى أَنْ يُلْحَقَ بِهِ مَا فِي بَطْنِهَا، وَرُدَّتْ إِلَى بَرْمَكَ. فَذُكِرَ أَنَّ وَلَدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ جَاءُوا أَيَّامَ الْمَهْدِيِّ حِينَ قَدِمَ الرَّيَّ إِلَى خَالِدٍ فَادَّعُوهُ. فَقَالَ لَهُمْ مُسْلِمُ بْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ لَكُمْ إِنِ اسْتَلْحَقْتُمُوهُ فَفَعَلَ [مِنْ] أَنْ تُزَوِّجُوهُ. فَتَرَكُوهُ. وَكَانَ بَرْمَكُ طَبِيبًا.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرْضَ الرُّومِ. وَفِيهَا حَبَسَ الْحَجَّاجُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَعَزَلَ حَبِيبَ بْنَ الْمُهَلَّبِ عَنْ كَرْمَانَ، وَعَبْدَ الْمَلِكِ عَنْ شُرْطَتِهِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ. وَكَانَ الْأَمِيرُ عَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ كُلِّهِ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي أَيَّامِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَاتَ أُسَيْدُ بْنُ ظُهَيْرٍ الْأَنْصَارِيُّ. (أُسَيْدٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ. وَظُهَيْرٌ بِضَمِّ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ) . وَفِيهَا مَاتَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَهُوَ ابْنُ أُمِّ سَلَمَةَ. وَفِي أَيَّامِهِ مَاتَ عَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيُّ، وَلَهُ صُحْبَةٌ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ الْخُزَاعِيُّ، وَوُلِدَ أَوَّلَ سَنَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَحَنَّكَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ عَلَى خَاتَمِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَكَانَ فَقِيهًا. وَفِي أَيَّامِهِ مَاتَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَوُلِدَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَفِي أَيَّامِهِ مَاتَ سَلَمَةُ بْنُ أُمِّ سَلَمَةَ رَبِيبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى الْأَسْلَمِيُّ، وَقِيلَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَخَيْبَرَ. وَفِي آخِرِ أَيَّامِهِ مَاتَ الْوَلِيدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْأَنْصَارِيُّ، وَوُلِدَ فِي آخِرِ زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ لَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ أَبُو مِجْلَزٍ السَّدُوسِيُّ.

ثم دخلت سنة سبع وثمانين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ] 87 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ ذِكْرُ إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالْمَدِينَةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْوَلِيدُ هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْمَدِينَةِ لِسَبْعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ عَلَيْهَا أَرْبَعَ سِنِينَ غَيْرَ شَهْرٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَوَلَّى عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَدِينَةَ، فَقَدِمَهَا وَالِيًا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَثَقَلُهُ عَلَى ثَلَاثِينَ بَعِيرًا، فَنَزَلَ دَارَ مَرْوَانَ، وَجَعَلَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ النَّاسُ فَيُسَلِّمُونَ، فَلَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ دَعَا عَشْرَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ فِي الْمَدِينَةِ: عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَبَا بَكْرِ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، وَالْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَخَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا دَعَوْتُكُمْ لِأَمْرٍ تُؤْجَرُونَ عَلَيْهِ، وَتَكُونُونَ فِيهِ أَعْوَانًا عَلَى الْحَقِّ، لَا أُرِيدُ أَنْ أَقْطَعَ أَمْرًا إِلَّا بِرَأْيِكُمْ أَوْ بِرَأْيِ مَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَحَدًا يَتَعَدَّى، أَوْ بَلَغَكُمْ عَنْ عَامِلٍ لِي ظُلَامَةٌ فَأُحَرِّجُ اللَّهَ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ إِلَّا بَلَّغَنِي. فَخَرَجُوا يَجْزُونَهُ خَيْرًا وَافْتَرَقُوا. وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَقِفَ هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ لِلنَّاسِ، وَكَانَ سَيِّئَ الرَّأْيِ فِيهِ، وَكَانَ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ يُسِيءُ جِوَارَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَخَافَهُ هِشَامٌ، فَتَقَدَّمَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ إِلَى خَاصَّتِهِ أَلَّا يَعْرِضَ لَهُ أَحَدٌ بِكَلِمَةٍ، وَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ وَقَدْ وُقِفَ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ، فَنَادَاهُ هِشَامٌ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] . ذِكْرُ صُلْحِ قُتَيْبَةَ وَنِيزَكَ وَلَمَّا صَالَحَ قُتَيْبَةُ مَلِكَ شُومَانَ كَتَبَ إِلَى نِيزَكَ طَرْخَانَ صَاحِبِ بَاذَغِيسَ فِي إِطْلَاقِ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَتَهَدَّدُهُ، فَخَافَهُ نِيزَكُ فَأَطْلَقَ الْأَسْرَى وَبَعَثَ بِهِمْ

إِلَيْهِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ قُتَيْبَةُ مَعَ سُلَيْمٍ النَّاصِحِ مَوْلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ يَدْعُوهُ إِلَى الصُّلْحِ وَإِلَى أَنْ يُؤَمِّنَهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَقْدَمْ عَلَيْهِ لَيَغْزُونَّهُ ثُمَّ لَيَطْلُبَنَّهُ حَيْثُ كَانَ، حَتَّى يَظْفَرَ بِهِ أَوْ يَمُوتَ دُونَهُ. فَقَدِمَ سُلَيْمٌ بِالْكِتَابِ، فَقَالَ لَهُ نِيزَكُ، وَكَانَ يَسْتَنْصِحُهُ: يَا سُلَيْمُ مَا أَظُنُّ عِنْدَ صَاحِبِكَ خَيْرًا، كَتَبَ إِلَيَّ كِتَابًا لَا يُكْتَبُ إِلَى مِثْلِي. فَقَالَ لَهُ سُلَيْمٌ: إِنَّهُ رَجُلٌ شَدِيدٌ فِي سُلْطَانِهِ، سَهْلٌ إِذَا سُوهِلَ، صَعْبٌ إِذَا عُوسِرَ، فَلَا يَمْنَعْكَ مِنْهُ غِلْظَةُ كِتَابِهِ إِلَيْكَ، فَأَحْسِنْ حَالَكَ عِنْدَهُ. فَقَامَ نِيزَكُ مَعَ سُلَيْمٍ، فَصَالَحَهُ أَهْلُ بَاذَغِيسَ عَلَى أَنْ لَا يَدْخُلَهَا قُتَيْبَةُ. ذِكْرُ غَزْوِ الرُّومِ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الرُّومَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ عَدَدًا كَثِيرًا بِسُوسْنَةَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمِصِّيصَةِ، وَفَتَحَ حُصُونًا. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي غَزَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَفَتَحَ حِصْنَ بُولَقَ وَحِصْنَ الْأَخْرَمِ وَحِصْنَ بُولَسَ وَقُمْقُمَ، وَقَتَلَ مِنَ الْمُسْتَعْرِبَةِ نَحْوًا مِنْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَسَبَى ذُرِّيَّتَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ. ذِكْرُ غَزْوِ قُتَيْبَةَ بِيكَنْدَ وَلَمَّا صَالَحَ قُتَيْبَةُ نِيزَكَ أَقَامَ إِلَى وَقْتِ الْغَزْوِ، فَغَزَا بِيكَنْدَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، وَهِيَ أَدْنَى مَدَائِنِ بُخَارَى إِلَى النَّهْرِ، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِمُ اسْتَنْصَرُوا الصُّغْدَ، وَاسْتَمَدُّوا مَنْ حَوْلَهُمْ، فَأَتَوْهُمْ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَأَخَذُوا الطُّرُقَ عَلَى قُتَيْبَةَ، فَلَمْ يَنْفُذْ لِقُتَيْبَةَ رَسُولٌ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ خَبَرٌ شَهْرَيْنِ، وَأَبْطَأَ خَبَرُهُ عَلَى الْحَجَّاجِ فَأَشْفَقَ عَلَى الْجُنْدِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ، وَهُمْ يَقْتَتِلُونَ كُلَّ يَوْمٍ. وَكَانَ لِقُتَيْبَةَ عَيْنٌ مِنَ الْعَجَمِ، يُقَالُ لَهُ تَنْدُرُ، فَأَعْطَاهُ أَهْلُ بُخَارَى مَالًا لِيَرُدَّ عَنْهُمْ قُتَيْبَةَ، فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ سِرًّا مِنَ النَّاسِ: إِنَّ الْحَجَّاجَ قَدْ عُزِلَ، وَقَدْ أَتَى عَامِلٌ إِلَى خُرَاسَانَ، فَلَوْ رَجَعْتَ بِالنَّاسِ كَانَ أَصْلَحَ. فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُظْهِرَ الْخَبَرَ فَيَهْلِكَ النَّاسُ، ثُمَّ

أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْجِدِّ فِي الْقِتَالِ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ الْكُفَّارُ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ قَتْلًا وَأَسْرًا كَيْفَ شَاءُوا، وَتَحَصَّنَ مَنْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ بِهَا، فَوَضَعَ قُتَيْبَةُ الْفَعَلَةَ لِيَهْدِمَ سُورَهَا، فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ، فَصَالَحَهُمْ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَامِلًا، وَارْتَحَلَ عَنْهُمْ يُرِيدُ الرُّجُوعَ، فَلَمَّا سَارَ خَمْسَةَ فَرَاسِخَ نَقَضُوا الصُّلْحَ وَقَتَلُوا الْعَامِلَ وَمَنْ مَعَهُ، فَرَجَعَ قُتَيْبَةُ فَنَقَبَ سُورَهُمْ فَسَقَطَ، فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَدَخَلَهَا عَنْوَةً، وَقَتَلَ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ. وَكَانَ فِيمَنْ أُخِذُوا فِي الْمَدِينَةِ رَجُلٌ أَعْوَرُ هُوَ الَّذِي اسْتَجَاشَ التُّرْكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لِقُتَيْبَةَ: أَنَا أَفْدِي نَفْسِي بِخَمْسَةِ آلَافِ حَرِيرَةٍ، قِيمَتُهَا أَلْفُ أَلْفٍ. فَاسْتَشَارَ قُتَيْبَةُ النَّاسَ فَقَالُوا: هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الْغَنَائِمِ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَ كَيْدُ هَذَا، قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا يُرَوَّعُ بِكَ مُسْلِمٌ أَبَدًا! فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. وَأَصَابُوا فِيهَا مِنَ الْغَنَائِمِ وَالسِّلَاحِ، وَآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا لَا يُحْصَى، وَلَا أَصَابُوا بِخُرَاسَانَ مِثْلَهُ، فَقَوِيَ الْمُسْلِمُونَ، وَوَلِيَ قَسْمَ الْغَنَائِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَأْلَانَ الْعَدَوِيُّ أَحَدُ بَنِي مِلْكَانَ، وَكَانَ قُتَيْبَةُ يُسَمِّيهِ الْأَمِينَ ابْنَ الْأَمِينِ، فَإِنَّهُ كَانَ أَمِينًا. وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ أَمَانَةِ أَبِيهِ أَنَّ مُسْلِمًا الْبَاهِلِيَّ أَبَا قُتَيْبَةَ قَالَ لِوَأْلَانَ: إِنَّ عِنْدِي مَالًا أُحِبُّ أَنْ أَسْتَوْدِعَكَهُ وَلَا يَعْلَمَ بِهِ أَحَدٌ. قَالَ وَأْلَانُ: ابْعَثْ بِهِ مَعَ رَجُلٍ تَثِقُ بِهِ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، وَمُرْهُ إِذَا رَأَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ رَجُلًا أَنْ يَضَعَ الْمَالَ وَيَنْصَرِفَ. فَجَعَلَ مُسْلِمٌ الْمَالَ فِي خُرْجٍ، وَحَمَلَهُ عَلَى بَغْلٍ، وَقَالَ لِمَوْلًى لَهُ: انْطَلِقْ بِهَذَا الْمَالِ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا جَالِسًا، فَخَلِّ الْبَغْلَ وَانْصَرِفْ. فَفَعَلَ الْمَوْلَى مَا أَمَرَهُ، وَأَتَى الْمَكَانَ، وَكَانَ وَأْلَانُ قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ وَانْتَظَرَ، وَأَبْطَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ مُسْلِمٍ، فَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ فَانْصَرَفَ، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ فَجَلَسَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَجَاءَ مَوْلَى مُسْلِمٍ فَرَآهُ فَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْبَغْلَ وَرَجَعَ، فَأَخَذَ التَّغْلِبِيُّ الْبَغْلَ وَالْمَالَ وَرَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَظَنَّ مُسْلِمٌ أَنَّ الْمَالَ قَدْ أَخَذَهُ وَأْلَانُ، فَلَمْ يَسْأَلْهُ حَتَّى احْتَاجَ إِلَيْهِ، فَلَقِيَهُ فَقَالَ: مَالِي! فَقَالَ: مَا قَبَضْتُ شَيْئًا، وَلَا لَكَ عِنْدِي مَالٌ، فَكَانَ مُسْلِمٌ يَشْكُوهُ إِلَى النَّاسِ، فَشَكَاهُ يَوْمًا وَالتَّغْلِبِيُّ جَالِسٌ، فَخَلَا بِهِ التَّغَلِبِيُّ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْمَالِ، فَأَخْبَرَهُ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَسَلَّمَ الْمَالَ إِلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَكَانَ مُسْلِمٌ يَأْتِي النَّاسَ وَالْقَبَائِلَ، فَيَذْكُرُ لَهُمْ عُذْرَ وَأْلَانَ وَيُخْبِرُهُمُ الْخَبَرَ. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ قُتَيْبَةُ مِنْ فَتْحِ بِيكَنْدَ رَجَعَ إِلَى مَرْوَ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ حَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْمَدِينَةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَزْمٍ. وَكَانَ عَلَى الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ الْحَجَّاجُ، وَكَانَ خَلِيفَتُهُ عَلَى الْبَصْرَةِ هَذِهِ السَّنَةِ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ، وَعَلَى قَضَائِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُذَيْنَةَ، وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ بِالْيَمَنِ، وَكَانَ أَصْغَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بِسَنَةٍ. وَفِيهَا مَاتَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ فِي طَاعُونِ الْجَارِفِ بِالْبَصْرَةِ. وَفِيهَا مَاتَ الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ الْكِنْدِيُّ، لَهُ صُحْبَةٌ، وَقِيلَ مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ. وَفِيهَا مَاتَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسِيدٍ. (أَسِيدٌ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. الشِّخِّيرُ: بِكَسْرِ الشِّينِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، وَتَشْدِيدِ الْخَاءِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ) .

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ] 88 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ ذِكْرُ فَتْحِ طُوَانَةَ مِنْ بَلَدِ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَلَدَ الرُّومِ، وَكَانَ الْوَلِيدُ قَدْ كَتَبَ إِلَى صَاحِبِ أَرْمِينِيَّةَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى مِلْكِ الرُّومِ يُعَرِّفُهُ أَنَّ الْخَزَرَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ مُلُوكِ جِبَالِ أَرْمِينِيَّةَ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى قَصْدِ بِلَادِهِ، فَفِعْلَ ذَلِكَ، وَقَطَعَ الْوَلِيدُ الْبَعْثَ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ، وَأَكْثَرَ وَأَعْظَمَ جِهَازَهُ، وَسَارُوا نَحْوَ الْجَزِيرَةِ، ثُمَّ عَطَفُوا مِنْهَا إِلَى بَلَدِ الرُّومِ، فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالرُّومُ، فَانْهَزَمَ الرُّومُ ثُمَّ رَجَعُوا، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، فَبَقِيَ الْعَبَّاسُ فِي نَفَرٍ، مِنْهُمُ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ الْجُمَحِيُّ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: أَيْنَ أَهْلُ الْقُرْآنِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ: نَادِهِمْ يَأْتُوكَ. فَنَادَى الْعَبَّاسُ: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ! فَأَقْبَلُوا جَمِيعًا، فَهَزَمَ اللَّهُ الرُّومَ حَتَّى دَخَلُوا طُوَانَةَ، وَحَصَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَفَتَحُوهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى. قِيلَ: وَفِيهَا وُلِدَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. ذِكْرُ عِمَارَةِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَأْمُرُهُ بِإِدْخَالِ حُجَرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ مَا فِي نَوَاحِيهِ

حَتَّى يَكُونَ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ فِي مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، وَيَقُولُ لَهُ: قَدِّمِ الْقِبْلَةَ إِنْ قَدَرْتَ، وَأَنْتَ تَقْدِرُ لِمَكَانِ أَخْوَالِكَ، وَإِنَّهُمْ لَا يُخَالِفُونَكَ، فَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ، فَقَوِّمُوا مُلْكَهُ قِيمَةَ عَدْلٍ، وَاهْدِمْ عَلَيْهِمْ، وَادْفَعِ الْأَثْمَانَ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ لَكَ فِي عُمَرَ وَعُثْمَانَ أُسْوَةٌ. فَأَحْضَرَهُمْ عُمَرُ وَأَقْرَأَهُمُ الْكِتَابَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى الثَّمَنِ، فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ، وَأَخَذُوا فِي هَدْمِ بُيُوتِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَنَى الْمَسْجِدَ، وَقَدِمَ عَلَيْهِمُ الْفَعَلَةُ مِنَ الشَّامِ، أَرْسَلَهُمُ الْوَلِيدُ، وَبَعَثَ الْوَلِيدُ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يُعْلِمُهُ أَنَّهُ قَدْ هَدَمَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيُعَمِّرَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَلِكُ الرُّومِ مِائَةَ أَلْفِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ، وَمِائَةَ عَامِلٍ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ مِنَ الْفُسَيْفِسَاءِ بِأَرْبَعِينَ جَمَلًا، فَبَعَثَ الْوَلِيدُ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَحَضَرَ عُمَرُ وَمَعَهُ النَّاسُ، فَوَضَعُوا أَسَاسَهُ، وَابْتَدَءُوا بِعِمَارَتِهِ. قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الرُّومَ أَيْضًا، فَفَتَحَ ثَلَاثَةَ حُصُونٍ: - أَحَدُهَا حِصْنُ قُسْطَنْطِينَ -، وَغَزَالَةَ، وَحِصْنَ الْأَخْرَمِ، وَقَتَلَ مِنَ الْمُسْتَعْرِبَةِ نَحْوًا مِنْ أَلْفٍ وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ. ذِكْرُ غَزْوِ نُومُشَكَتَ وَرَامِثْنَةَ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ نُومُشَكَثَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى مَرْوَ أَخَاهُ يَسَارَ بْنَ مُسْلِمٍ، فَتَلَقَّاهُ أَهْلُهَا فَصَالَحَهُمْ، ثُمَّ سَارَ إِلَى رَامِثْنَةَ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا وَانْصَرَفَ عَنْهُمْ. وَزَحَفَ إِلَيْهِ التُّرْكُ وَمَعَهُمُ الصُّغْدُ وَأَهْلُ فَرْغَانَةَ فِي مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَمَلِكُهُمْ كُورْمَغَانُونُ بْنُ أُخْتِ مَلِكِ الصِّينِ، فَاعْتَرَضُوا الْمُسْلِمِينَ، فَلَحِقُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ

مُسْلِمٍ أَخَا قُتَيْبَةَ وَهُوَ عَلَى السَّاقَةِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ قُتَيْبَةَ وَأَوَائِلِ الْعَسْكَرِ مِيلٌ، فَلَمَّا قَرُبُوا مِنْهُ أَرْسَلَ إِلَى قُتَيْبَةَ بِخَبَرِهِ، وَأَدْرَكَهُ التُّرْكُ فَقَاتَلُوهُ، وَرَجَعَ قُتَيْبَةُ فَانْتَهَى إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ يُقَاتِلُ التُّرْكَ، وَقَدْ كَادَ التُّرْكُ يَظْهَرُونَ، فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ قُتَيْبَةَ طَابَتْ نُفُوسُهُمْ، وَقَاتَلُوا إِلَى الظُّهْرِ، وَأَبْلَى يَوْمَئِذٍ نِيزَكُ، وَهُوَ مَعَ قُتَيْبَةَ، فَانْهَزَمَ التُّرْكُ، وَرَجَعَ قُتَيْبَةُ فَقَطَعَ النَّهْرَ عِنْدَ تِرْمِذَ وَأَتَى مَرْوَ. ذِكْرُ مَا عَمِلَ الْوَلِيدُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي تَسْهِيلِ الثَّنَايَا وَحَفْرِ الْآبَارِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ الْفَوَّارَةَ بِالْمَدِينَةِ، فَعَمِلَهَا وَأَجْرَى مَاءَهَا، فَلَمَّا حَجَّ الْوَلِيدُ وَرَآهَا أَعْجَبَتْهُ، فَأَمَرَ لَهَا بِقُوَّامٍ يَقُومُونَ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ أَهْلَ الْمَسْجِدِ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهَا، وَكَتَبَ إِلَى الْبُلْدَانِ جَمِيعِهَا بِإِصْلَاحِ الطُّرُقِ، وَعَمَلِ الْآبَارِ، وَمَنْعِ الْمُجَذَّمِينَ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى النَّاسِ، وَأَجْرَى لَهُمُ الْأَرْزَاقَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَوَصَلَ جَمَاعَةً مِنْ قُرَيْشٍ، وَسَاقَ مَعَهُ بُدْنًا وَأَحْرَمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَلَمَّا كَانَ بِالتَّنْعِيمِ أُخْبِرَ أَنَّ مَكَّةَ قَلِيلَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَى الْحَاجِّ الْعَطَشَ، فَقَالَ عُمَرُ: تَعَالَوْا نَدْعُ اللَّهَ تَعَالَى، فَدَعَا وَدَعَا مَعَهُ النَّاسُ، فَمَا وَصَلُوا الْبَيْتَ إِلَّا مَعَ الْمَطَرِ وَسَالَ الْوَادِي، فَخَافَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ شِدَّتِهِ، وَمُطِرَتْ عَرَفَةُ وَمَكَّةُ وَكَثُرَ الْخِصْبُ. وَقِيلَ إِنَّمَا حَجَّ هَذِهِ السَّنَةَ عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ، وَقِيلَ: بَلْ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَلَهُ مِائَةُ سَنَةٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ الْمَازِنِيُّ مِنْ مَازِنِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَكَانَ مِمَّنْ صَلَّى الْقِبْلَتَيْنِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالشَّامِ مِنَ الصَّحَابَةِ. (بُسْرُ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ) .

ثم دخلت سنة تسع وثمانين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ] 89 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ ذِكْرُ غَزْوِ الرُّومِ قِيلَ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الرُّومَ، فَافْتَتَحَ مَسْلَمَةُ حِصْنَ عَمُّورِيَّةَ، وَفَتْحَ الْعَبَّاسُ أَذْرُولِيَّةَ، وَلَقِيَ مِنَ الرُّومِ جَمْعًا فَهَزَمَهُمْ. وَقِيلَ: إِنْ مَسْلَمَةَ قَصَدَ عَمُّورِيَّةَ، فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا مِنَ الرُّومِ كَثِيرًا، فَهَزَمَهُمْ وَافْتَتَحَ هِرَقْلَةَ وَقَمُونِيَةَ، وَغَزَا الْعَبَّاسُ الصَّائِفَةَ مِنْ نَاحِيَةٍ الْبَذَنْدُونِ. ذِكْرُ غَزْوِ قُتَيْبَةَ بُخَارَى وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَتَى قُتَيْبَةَ كِتَابُ الْحَجَّاجِ يَأْمُرُهُ بِقَصْدِ وَرْدَانَ خُذَاهْ، فَعَبَرَ النَّهْرَ مِنْ زَمٍّ، فَلَقِيَ الصُّغْدَ وَأَهْلَ كَشَّ وَنَسَفَ فِي طَرِيقِ الْمَفَازَةِ فَقَاتَلُوهُ، فَظَفِرَ بِهِمْ، وَمَضَى إِلَى بُخَارَى، فَنَزَلَ خَرْقَانَةَ السُّفْلَى عَنْ يَمِينِ وَرْدَانَ، فَلَقَوْهُ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ فَظَفِرَ بِهِمْ، وَغَزَا وَرْدَانَ خُذَاهْ مَلِكَ بُخَارَى، فَلَمْ يَظْفَرْ بِشَيْءٍ، فَرَجَعَ إِلَى مَرْوَ وَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِخَبَرِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ أَنَّ صَوِّرْهَا [لِي] ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِصُورَتِهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ أَنْ تُبْ إِلَى اللَّهِ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ، مِمَّا كَانَ مِنْكَ، وَأْتِهَا مِنْ مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنَّ كِسْ بِكَشَّ، وَانْسِفْ نَسَفَ، وَرِدْ وَرْدَانَ، وَإِيَّاكَ وَالتَّحْوِيطَ، وَدَعْنِي مِنْ ثَنَيَاتِ الطَّرِيقِ.

وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ فَتْحُ بُخَارَى سَنَةَ تِسْعِينَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ وِلَايَةِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ مَكَّةَ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلِيَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ مَكَّةَ، فَخَطَبَ أَهْلَهَا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّهُمَا أَعْظَمُ، خَلِيفَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ، أَوْ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ؟ وَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَعْلَمُوا فَضْلَ الْخَلِيفَةِ إِلَّا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ اسْتَسْقَاهُ فَسَقَاهُ مِلْحًا أُجَاجًا، وَاسْتَسْقَاهُ الْخَلِيفَةُ فَسَقَاهُ عَذْبًا فُرَاتًا، يَعْنِي بِالْمِلْحِ زَمْزَمَ، وَبِالْمَاءِ الْفُرَاتِ بِئْرًا حَفَرَهَا الْوَلِيدُ بِثَنِيَّةِ طِوًى فِي ثَنِيَّةِ الْحَجُونِ، وَكَانَ مَاؤُهَا عَذْبًا، وَكَانَ يَنْقُلُ مَاءَهَا وَيَضَعُهُ فِي حَوْضٍ إِلَى جَنْبِ زَمْزَمَ، لِيُعْرَفَ فَضْلُهُ عَلَى زَمْزَمَ، فَغَارَتِ الْبِئْرُ وَذَهَبَ مَاؤُهَا، فَلَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ الْيَوْمَ. وَقِيلَ: وَلِيَهَا سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ. ذِكْرُ قَتْلِ ذَاهِرَ مَلِكِ السِّنْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي عُقَيْلٍ الثَّقَفِيِّ، - يَجْتَمِعُ هُوَ وَالْحَجَّاجُ فِي الْحَكَمِ -، ذَاهِرَ بْنَ صَعْصَعَةَ مَلِكَ السِّنْدِ، وَمَلَكَ بِلَادَهُ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الثَّغْرِ وَسَيَّرَ مَعَهُ سِتَّةَ أَلَافِ مُقَاتِلٍ، وَجَهَّزَهُ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ حَتَّى الْمَسَالِّ وَالْإِبَرِ وَالْخُيُوطِ، فَسَارَ مُحَمَّدُ إِلَى مُكْرَانَ فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، ثُمَّ أَتَى قَنَّزْبُورَ فَفَتَحَهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى أَرْمَائِيلَ فَفَتَحَهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى الدَّيْبُلِ، فَقَدِمَهَا يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَوَافَتْهُ سُفُنٌ كَانَ حَمَلَ فِيهَا الرِّجَالَ وَالسِّلَاحَ وَالْأَدَاةَ، فَخَنْدَقَ حِينَ نَزَلَ الدَّيْبُلَ، وَأَنْزَلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ، وَنَصَبَ مَنْجَنِيقًا يُقَالُ لَهُ الْعَرُوسُ، كَانَ يَمُدُّ بِهِ خَمْسُمِائَةِ رَجُلٍ، وَكَانَ بِالدَّيْبُلِ بُدٌّ عَظِيمٌ عَلَيْهِ دَقَلٌ عَظِيمٌ، وَعَلَى الدَّقَلِ رَايَةٌ حَمْرَاءُ، إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ أَطَافَتْ بِالْمَدِينَةِ،

وَكَانَتْ تَدُورُ، وَالْبُدُّ صَنَمٌ فِي بِنَاءٍ عَظِيمٍ، تَحْتَ مَنَارَةٍ عَظِيمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ، وَفِي رَأْسِ الْمَنَارَةِ هَذَا الدَّقَلُ، وَكُلُّ مَا يُعْبَدُ فَهُوَ عِنْدَهُمْ بُدٌّ. فَحَصَرَهَا وَطَالَ حِصَارُهَا، فَرَمَى الدَّقَلَ بِحَجْرِ الْعَرُوسِ فَكَسَرَهُ، فَتَطَيَّرَ الْكُفَّارُ بِذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدًا أَتَى وَنَاهَضَهُمْ وَقَدْ خَرَجُوا إِلَيْهِ، فَهَزَمَهُمْ حَتَّى رَدَّهُمْ إِلَى الْبَلَدِ، وَأَمَرَ بِالسَّلَالِيمِ فَنُصِبَتْ، وَصَعِدَ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، وَكَانَ أَوَّلَهُمْ صُعُودًا رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَفُتِحَتْ عَنْوَةً، وَقَتَلَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهَرَبَ عَامِلُ ذَاهِرَ عَنْهَا، وَأَنْزَلَهَا مُحَمَّدٌ أَرْبَعَةَ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَنَى جَامِعَهَا، وَسَارَ عَنْهَا إِلَى الْبِيرُونَ، وَكَانَ أَهْلُهَا بَعَثُوا إِلَى الْحَجَّاجِ فَصَالَحُوهُ، فَلَقُوا مُحَمَّدًا بِالْمِيرَةِ وَأَدْخَلُوهُ مَدِينَتَهُمْ، وَسَارَ عَنْهَا وَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِمَدِينَةٍ إِلَّا فَتَحَهَا حَتَّى عَبَرَ نَهْرًا دُونَ مِهْرَانَ، فَأَتَاهُ أَهْلُ سَرْبَيْدِسَ فَصَالَحُوهُ، وَوَظَّفَ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجَ وَسَارَ عَنْهُمْ إِلَى سَهْبَانَ فَفَتَحَهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى نَهْرِ مِهْرَانَ فَنَزَلَ فِي وَسَطِهِ. وَبَلَغَ خَبَرُهُ ذَاهِرَ، فَاسْتَعَدَّ لِمُحَارَبَتِهِ، وَبَعَثَ جَيْشًا إِلَى سَدُوسْتَانَ، فَطَلَبَ أَهْلُهَا الْأَمَانَ وَالصُّلْحَ، فَآمَنَهُمْ وَوَظَّفَ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجَ، ثُمَّ عَبَرَ مُحَمَّدٌ مِهْرَانَ مِمَّا يَلِي بِلَادَ رَاسِلَ الْمَلِكِ عَلَى جِسْرٍ عَقَدَهُ، وَذَاهِرُ مُسْتَخِفٌّ بِهِ، فَلَقِيَهُ مُحَمَّدُ وَالْمُسْلِمُونَ وَهُوَ عَلَى فِيلٍ وَحَوْلَهُ الْفِيَلَةُ، وَمَعَهُ التَّكَاكِرَةُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَتَرَجَّلَ ذَاهِرُ، فَقُتِلَ عِنْدَ الْمَسَاءِ، ثُمَّ انْهَزَمَ الْكُفَّارُ، وَقَتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ كَيْفَ شَاءُوا، وَقَالَ قَاتِلُهُ: الْخَيْلُ تَشْهَدُ يَوْمَ ذَاهِرَ وَالْقَنَا وَمُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ أَنِّي فَرَجْتُ الْجَمْعَ غَيْرَ مُعَرِّدٍ حَتَّى عَلَوْتُ عَظِيمَهُمْ بِمُهَنَّدِ فَتَرَكْتُهُ تَحْتَ الْعَجَاجِ مُجَنْدَلًا مَتَعَفِّرَ الْخَدَّيْنِ غَيْرَ مُوَسَّدِ فَلَمَّا قُتِلَ ذَاهِرُ غَلَبَ مُحَمَّدُ عَلَى بِلَادِ السِّنْدِ، وَفَتَحَ مَدِينَةَ رَاوَرَ عَنْوَةً، وَكَانَ بِهَا

امْرَأَةٌ لِذَاهِرَ، فَخَافَتْ أَنْ تُؤْخَذَ، فَأَحْرَقَتْ نَفْسَهَا وَجَوَارِيَهَا وَجَمِيعَ مَالِهَا. ثُمَّ سَارَ إِلَى بِرْهَمِنْابَاذَ الْعَتِيقَةَ، وَهِيَ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنَ الْمَنْصُورَةِ، وَلَمْ تَكُنِ الْمَنْصُورَةُ يَوْمَئِذٍ، كَانَ مَوْضِعُهَا غَيْضَةً، وَكَانَ الْمُنْهَزِمُونَ مِنَ الْكُفَّارِ بِهَا، فَقَاتَلُوهُ فَفَتَحَهَا مُحَمَّدُ عَنْوَةً، وَقَتَلَ بِهَا بَشَرًا كَثِيرًا وَخُرِّبَتْ. وَسَارَ يُرِيدُ الرُّورَ وَبَغْرُورَ، فَلَقِيَهُ أَهْلُ سَاوَنْدَرَى فَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى بِسَمْدَ وَصَالَحَ أَهْلَهَا، وَوَصَلَ إِلَى الرُّورَ، وَهِيَ مِنْ مَدَائِنِ السِّنْدِ عَلَى جَبَلٍ، فَحَصَرَهُمْ شُهُورًا فَصَالَحُوهُ، وَسَارَ إِلَى السِّكَّةِ فَفَتَحَهَا، ثُمَّ قَطَعَ نَهْرَ بَيَاسَ إِلَى الْمُلْتَانِ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا وَانْهَزَمُوا، فَحَصَرَهُمْ مُحَمَّدُ، فَجَاءَهُ إِنْسَانٌ وَدَلَّهُ عَلَى قَطْعِ الْمَاءِ الَّذِي يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ فَقَطَعَهُ، فَعَطِشُوا فَأَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ وَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ، وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ وَسَدَنَةَ الْبُدِّ، وَهُمْ سِتَّةُ آلَافٍ، وَأَصَابُوا ذَهَبًا كَثِيرًا، فَجُمِعَ فِي بَيْتٍ طُولُهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ وَعَرْضُهُ ثَمَانِيَةُ أَذْرُعٍ يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ كُوَّةٍ فِي وَسَطِهِ، فَسُمِّيَتِ الْمُلْتَانَ: فَرْجُ بَيْتِ الذَّهَبِ، وَالْفَرْجُ الثَّغْرُ، وَكَانَ بُدُّ الْمُلْتَانِ تُهْدَى إِلَيْهِ الْأَمْوَالُ، وَيُحَجُّ مِنَ الْبِلَادِ، وَيَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ وَلِحَاهُمْ عِنْدَهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ صَنَمَهُ هُوَ أَيُّوبُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَظُمَتْ فُتُوحُهُ، وَنَظَرَ الْحَجَّاجُ فِي النَّفَقَةِ عَلَى ذَلِكَ الثَّغْرِ، فَكَانَتْ سِتِّينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَنَظَرَ فِي الَّذِي حُمِلَ فَكَانَ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَقَالَ: رَبِحْنَا سِتِّينَ أَلْفًا، وَأَدْرَكْنَا ثَأْرَنَا وَرَأْسَ ذَاهِرَ. ثُمَّ مَاتَ الْحَجَّاجُ، وَنَذْكُرُ أَمْرَ مُحَمَّدٍ عِنْدَ مَوْتِ الْحَجَّاجِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَ نُصَيْرٌ وَالِدُهُ عَلَى حَرَسِ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا سَارَ مُعَاوِيَةُ إِلَى صِفِّينَ لَمْ يَسِرْ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا يَمْنَعُكَ مِنَ الْمَسِيرِ مَعِي إِلَى قِتَالِ عَلِيٍّ وَيَدِي عِنْدَكَ مَعْرُوفَةٌ؟ فَقَالَ لَا أُشْرِكُكَ بِكُفْرِ مَنْ أَوْلَى بِالشُّكْرِ مِنْكَ، وَهُوَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ. فَسَكَتَ عَنْهُ مُعَاوِيَةُ. فَوَصَلَ مُوسَى إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَبِهَا صَالِحٌ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ حَسَّانُ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَ

الْبَرْبَرُ قَدْ طَمِعُوا فِي الْبِلَادِ بَعْدَ مَسِيرِ حَسَّانَ، فَلَمَّا وَصَلَ مُوسَى عَزَلَ صَالِحًا، وَبَلَغَهُ أَنَّ بِأَطْرَافِ الْبِلَادِ قَوْمًا خَارِجِينَ عَنِ الطَّاعَةِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ، فَقَاتَلَهُمْ فَظَفِرَ بِهِمْ، وَسَبَى مِنْهُمْ أَلْفَ رَأْسٍ، وَسَيَّرَهُ فِي الْبَحْرِ إِلَى جَزِيرَةٍ مَيُورْقَةَ، فَنَهَبَهَا وَغَنِمَ مِنْهَا مَا لَا يُحْصَى وَعَادَ سَالِمًا، فَوَجَّهَ ابْنَهُ هَارُونَ إِلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى، فَظَفِرَ بِهِمْ وَسَبَى مِنْهُمْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَتَوَجَّهَ هُوَ بِنَفْسِهِ إِلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى، فَغَنِمَ نَحْوَ ذَلِكَ، فَبَلَغَ الْخُمُسُ سِتِّينَ أَلْفَ رَأْسٍ مِنَ السَّبْيِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ أَنَّهُ سَمِعَ بِسَبْيٍ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا. ثُمَّ إِنَّ إِفْرِيقِيَّةَ قَحَطَتْ وَاشْتَدَّ بِهَا الْغَلَاءُ، فَاسْتَسْقَى بِالنَّاسِ، وَخَطَبَهُمْ وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَلِيدَ، وَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذَا مَقَامٌ لَا يُدْعَى فِيهِ لِأَحَدٍ وَلَا يُذْكَرُ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَسُقِيَ النَّاسُ وَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ، ثُمَّ خَرَجَ غَازِيًا إِلَى طَنْجَةَ يُرِيدُ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَقَدْ هَرَبُوا خَوْفًا مِنْهُ، فَتَبِعَهُمْ وَقَتَلَهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا حَتَّى بَلَغَ السُّوسَ الْأَدْنَى لَا يُدَافِعُهُ أَحَدٌ، فَاسْتَأْمَنَ الْبَرْبَرُ إِلَيْهِ وَأَطَاعُوهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى طَنْجَةَ مَوْلَاهُ طَارِقَ بْنَ زِيَادٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ صَدَفِيٌّ. وَجَعَلَ مَعَهُ جَيْشًا كَثِيفًا جُلُّهُمْ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَجَعَلَ مَعَهُمْ مَنْ يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ وَالْفَرَائِضَ، وَعَادَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ. فَمَرَّ بِقَلْعَةِ مِجَّانَةَ، فَتَحَصَّنَ أَهْلُهَا مِنْهُ وَتَرَكَ عَلَيْهَا مَنْ يُحَاصِرُهَا مَعَ بِشْرِ بْنِ فُلَانٍ، فَفَتَحَهَا، فَسُمِّيَتْ قَلْعَةُ بِشْرٍ إِلَى الْآنِ، وَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لَهُ

فِي إِفْرِيقِيَّةَ مَنْ يُنَازِعُهُ. وَقِيلَ: كَانَتْ وِلَايَةُ مُوسَى سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ، اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ، وَهُوَ حِينَئِذٍ عَلَى مِصْرَ لِأَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ التُّرْكَ مِنْ نَاحِيَةِ أَذْرَبِيجَانَ، فَفَتَحَ حُصُونًا وَمَدَائِنَ هُنَاكَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ الْعُذْرِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَقِيلَ: وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ. (صُعَيْرٌ: بِضَمِّ الصَّادِ، وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ) . وَفِيهَا مَاتَ ظَلِيمٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ بِإِفْرِيقِيَّةَ. (ظَلِيمٌ: بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَكَسْرِ اللَّامِ) .

ثم دخلت سنة تسعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ] 90 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ ذِكْرُ فَتْحِ بُخَارَى قَدْ ذَكَرْنَا وُرُودَ كِتَابِ الْحَجَّاجِ إِلَى قُتَيْبَةَ يَأْمُرُهُ بِالتَّوْبَةِ عَنِ انْصِرَافِهِ عَنْ وَرْدَانَ خُذَاهْ مَلِكَ بُخَارَى، وَيُعَرِّفُهُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَأْتِي بَلَدَهُ مِنْهُ، فَلَمَّا وَرَدَ الْكِتَابُ عَلَى قُتَيْبَةَ خَرَجَ غَازِيًا إِلَى بُخَارَى سَنَةَ تِسْعِينَ، فَاسْتَجَاشَ وَرَدَانُ خُذَاهُ بِالصُّغْدِ وَالتُّرْكِ مِنْ حَوْلِهِ فَأَتَوْهُ، وَقَدْ سَبَقَ إِلَيْهَا قُتَيْبَةُ فَحَصَرَهَا، فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ أَمْدَادُهُمْ خَرَجُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ، فَقَالَتِ الْأَزْدُ: اجْعَلُونَا نَاحِيَةً وَخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ قِتَالِهِمْ. فَقَالَ قُتَيْبَةُ: تَقَدَّمُوا، فَتَقَدَّمُوا وَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ إِنَّ الْأَزْدَ انْهَزَمُوا حَتَّى دَخَلُوا الْعَسْكَرَ، وَرَكِبَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَحَطَّمُوهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ عَسْكَرَهُمْ، وَجَازُوهُ حَتَّى ضَرَبَ النِّسَاءُ وُجُوهَ الْخَيْلِ وَبَكَيْنَ، فَكَرُّوا رَاجِعِينَ، فَانْطَوَتْ مُجَنِّبَتَا الْمُسْلِمِينَ عَلَى التُّرْكِ، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى رَدُّوهُمْ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ، فَوَقَفَ التُّرْكُ عَلَى نَشَزٍ، فَقَالَ قُتَيْبَةُ: مَنْ يُزِيلُهُمْ عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ؟ فَلَمْ يَقْدُمْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَتَى بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ لَهُمْ: يَوْمٌ كَأَيَّامِكُمْ، فَأَخَذَ وَكِيعٌ اللِّوَاءَ وَقَالَ: يَا بَنِي تَمِيمٍ أَتُسَلِّمُونَنِي الْيَوْمَ؟ قَالُوا: لَا يَا أَبَا مُطَرِّفٍ. وَكَانَ هُرَيْمُ بْنُ أَبِي طَحْمَةَ عَلَى خَيْلِ تَمِيمٍ، وَوَكِيعٌ رَأَسَهُمْ، فَقَالَ وَكِيعٌ: يَا هُرَيْمُ قَدِّمْ خَيْلَكَ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ الرَّايَةَ، فَتَقَدَّمَ هُرَيْمٌ وَتَقَدَّمَ وَكِيعٌ فِي الرَّجَّالَةِ، فَانْتَهَى هُرَيْمٌ إِلَى نَهْرٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التُّرْكِ، فَوَقَفَ فَقَالَ وَكِيعٌ: تَقَدَّمْ يَا هُرَيْمُ، فَنَظَرَ هُرَيْمٌ نَظَرَ الْجَمَلِ الْهَائِجِ الصَّائِلِ وَقَالَ: أَأُقْحِمُ الْخَيْلَ هَذَا النَّهْرَ؟ فَإِنِ انْكَشَفَتْ كَانَ هَلَاكُهَا يَا أَحْمَقُ. فَقَالَ وَكِيعٌ: يَابْنَ اللَّخْنَاءِ، أَتَرُدُّ أَمْرِي! فَحَذَفَهُ بِعَمُودٍ كَانَ مَعَهُ، فَعَبَرَ هُرَيْمٌ فِي الْخَيْلِ، وَانْتَهَى وَكِيعٌ إِلَى النَّهْرِ، فَعَمِلَ عَلَيْهِ جِسْرًا مِنْ خَشَبٍ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى الْمَوْتِ فَلْيَعْبُرْ، وَإِلَّا فَلْيَثْبُتْ مَكَانَهُ. فَمَا عَبَرَ مَعَهُ إِلَّا ثَمَانُمِائَةِ رَجُلٍ، فَلَمَّا عَبَرَ بِهِمْ وَدَنَا مِنَ الْعَدُوِّ قَالَ لِهُرَيْمٍ: إِنِّي مُطَاعِنُهُمْ، فَاشْغَلْهُمْ عَنَّا بِالْخَيْلِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى خَالَطَهُمْ، وَحَمَلَ هُرَيْمٌ فِي الْخَيْلِ فَطَاعَنُوهُمْ، وَلَمْ يَزَالُوا يُقَاتِلُونَهُمْ حَتَّى حَدَرُوهُمْ مِنَ التَّلِّ، وَنَادَى قُتَيْبَةُ: مَا تَرَوْنَ الْعَدُوَّ مُنْهَزِمِينَ؟ فَلَمْ يَعْبُرْ أَحَدٌ النَّهْرَ حَتَّى انْهَزَمُوا، وَعَبَرَ النَّاسُ، وَنَادَى قُتَيْبَةُ: مَنْ أَتَى بِرَأْسٍ فَلَهُ مِائَةٌ، فَأُتِيَ بِرُءُوسٍ كَثِيرَةٍ، فَجَاءَ يَوْمَئِذٍ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي قُرَيْعٍ، كُلُّ

رَجُلٍ بِرَأْسٍ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: قُرَيْعِيُّ. فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَزْدِ بِرَأْسٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: قُرَيْعِيُّ، فَعَرَفَهُ جَهْمُ بْنُ زَحْرٍ، فَقَالَ: كَذِبَ، وَاللَّهِ إِنَّهُ أَزْدِيٌّ. فَقَالَ لَهُ قُتَيْبَةُ: مَا دَعَاكَ إِلَى هَذَا؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ كُلَّ مَنْ جَاءَ يَقُولُ: قُرَيْعِيُّ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ أَنْ يَقُولَهُ، فَضَحِكَ قُتَيْبَةُ. وَجُرِحَ خَاقَانُ وَابْنُهُ، وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَكَتَبَ [قُتَيْبَةُ] بِالْفَتْحِ إِلَى الْحَجَّاجِ. ذِكْرُ صُلْحِ قُتَيْبَةَ مَعَ الصُّغْدِ لَمَّا أَوْقَعَ قُتَيْبَةُ بِأَهْلِ بُخَارَى هَابَهُ الصُّغْدُ، فَرَجَعَ طَرْخُونُ مِلْكُهُمْ وَمَعَهُ فَارِسَانِ، فَدَنَا مِنْ عَسْكَرِ قُتَيْبَةَ، فَطَلَبَ رَجُلًا يُكَلِّمُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قُتَيْبَةُ حَيَّانَ النَّبَطِيَّ، فَطَلَبَ الصُّلْحَ عَلَى فِدْيَةٍ يُؤَدِّيهَا إِلَيْهِمْ، فَأَجَابَهُ قُتَيْبَةُ إِلَى مَا طَلَبَ وَصَالَحَ، وَرَجَعَ طَرْخُونُ إِلَى بِلَادِهِ وَرَجَعَ قُتَيْبَةُ وَمَعَهُ نِيزَكُ. (حَيَّانُ: بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ نُونٌ) . ذِكْرُ غَدْرِ نِيزَكُ وَفَتْحِ الطَّالْقَانِ قِيلَ: لَمَّا رَجَعَ قُتَيْبَةُ مِنْ بُخَارَى وَمَعَهُ نِيزَكُ وَقَدْ خَافَ لِمَا يَرَى مِنَ الْفُتُوحِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَنَا مَعَ هَذَا، وَلَسْتُ آمَنُهُ، فَلَوِ اسْتَأْذَنْتُهُ وَرَجِعْتُ كَانَ الرَّأْيُ. قَالُوا: افْعَلْ. فَاسْتَأْذَنَ قُتَيْبَةَ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ بِآمُلَ، فَرَجَعَ طَخَارِسْتَانَ، وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى أَتَى النُّوبَهَارَ، فَنَزَلَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَتَبَرَّكُ بِهِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا أَشُكُّ أَنَّ قُتَيْبَةَ قَدْ نَدِمَ عَلَى إِذْنِهِ لِي، وَسَيَبْعَثُ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَأْمُرُهُ بِحَبْسِي. وَنَدِمَ قُتَيْبَةُ عَلَى إِذْنِهِ لَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمُغِيرَةِ يَأْمُرُهُ بِحَبْسِ نِيزَكَ، وَسَارَ نِيزَكُ وَتَبِعَهُ الْمُغَيَّرَةُ، فَوَجَدَهُ قَدْ دَخَلَ شِعْبَ خُلْمٍ، فَرَجَعَ الْمُغِيرَةُ، وَأَظْهَرَ نِيزَكُ الْخَلْعَ وَكَتَبَ إِلَى أَصْبَهْبَذَ بَلْخَ، وَإِلَى بَاذَانَ مَلِكِ مَرْوِ الرُّوذِ، وَإِلَى مَلِكِ الطَّالْقَانِ، وَإِلَى مَلِكِ الْفَارِيَابِ، وَإِلَى مَلِكٍ الْجُوزَجَانِ، أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى خَلْعِ قُتَيْبَةَ، فَأَجَابُوهُ، فَوَاعَدَهُمُ الرَّبِيعَ أَنْ يَجْتَمِعُوا

وَيَغْزُوا قُتَيْبَةَ، وَكَتَبَ إِلَى كَابُلَ شَاهْ يَسْتَظْهِرُ بِهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِثَقَلِهِ وَمَالِهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ إِنِ اضْطَرَّ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ. وَكَانَ جَبْغَوَيْهِ مَلِكُ طَخَارِسْتَانَ ضَعِيفًا، فَأَخَذَهُ نِيزَكُ فَقَيَّدَهُ بِقَيْدٍ مِنْ ذَهَبٍ لِئَلَّا يُخَالِفَ عَلَيْهِ، وَكَانَ جَبْغَوَيْهِ هُوَ الْمَلِكَ، وَنِيزَكُ عَبْدَهُ، فَاسْتَوْثَقَ مِنْهُ وَأَخْرَجَ عَامِلَ قُتَيْبَةَ مِنْ بِلَادِ جَبْغَوَيْهِ. وَبَلَغَ قُتَيْبَةَ خَلْعُهُ قَبْلَ الشِّتَاءِ وَقَدْ تَفَرَّقَ الْجُنْدُ، فَبَعَثَ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُسْلِمٍ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا إِلَى الْبَرُوقَانِ، وَقَالَ: أَقِمْ بِهَا وَلَا تُحْدِثْ شَيْئًا، فَإِذَا انْقَضَى الشِّتَاءُ سِرْ نَحْوَ طَخَارِسْتَانَ، وَاعْلَمْ أَنِّي قَرِيبٌ مِنْكَ. فَسَارَ، فَلَمَّا كَانَ آخِرَ الشِّتَاءِ كَتَبَ قُتَيْبَةُ إِلَى نَيْسَابُورَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ لِيَقْدَمَ عَلَيْهِ الْجُنُودُ، فَقَدِمُوا قَبْلَ أَوَانِهِمْ، فَسَارَ نَحْوَ الطَّالْقَانِ، وَكَانَ مَلِكُهَا قَدْ خَلَعَ وَطَابَقَ نِيزَكَ عَلَى الْخَلْعِ، فَأَتَاهُ قُتَيْبَةُ فَأَوْقَعَ بِأَهْلِ الطَّالْقَانِ، فَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَصَلَبَ مِنْهُمْ سِمَاطَيْنِ أَرْبَعَةَ فَرَاسِخَ فِي نِظَامٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ انْقَضَتِ السَّنَةُ قَبْلَ مُحَارَبَةِ نِيزَكَ، وَسَنَذْكُرُ تَمَامَ خَبَرِهِ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ذِكْرُ هَرَبِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ وَإِخْوَتِهِ مِنْ سِجْنِ الْحَجَّاجِ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَرَبَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَإِخْوَتُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنْ سِجْنَ الْحَجَّاجِ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ خَرَجَ إِلَى رُسْتَقَابَاذَ لِلْبَعْثِ، لِأَنَّ الْأَكْرَادَ كَانُوا قَدْ غَلَبُوا عَلَى فَارِسَ، وَخَرَجَ مَعَهُ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَإِخْوَتُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَالْمُفَضَّلُ فِي عَسْكَرِهِ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ كَهَيْئَةِ الْخَنْدَقِ، وَجَعَلَهُمْ فِي فُسْطَاطٍ قَرِيبٍ مِنْهُ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ الْحَرَسَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ سِتَّةَ آلَافِ أَلْفٍ، وَأَخَذَ يُعَذِّبُهُمْ، فَكَانَ يَزِيدُ يَصْبِرُ صَبْرًا حَسَنًا، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَغِيظُ الْحَجَّاجَ مِنْهُ. فَقِيلَ لِلْحَجَّاجِ إِنَّهُ رُمِيَ فِي سَاقِهِ بِنُشَّابَةٍ، فَثَبَتَ نَصْلُهَا فِيهِ، فَهُوَ لَا يَمَسُّهَا إِلَّا صَاحَ، فَأَمَرَ أَنْ يُعَذَّبَ فِي سَاقِهِ، فَلَمَّا فَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ صَاحَ، وَأُخْتُهُ هِنْدُ بِنْتُ الْمُهَلَّبِ عِنْدَ الْحَجَّاجِ، فَلَمَّا سَمِعَتْ صَوْتَهُ صَاحَتْ وَنَاحَتْ، فَطَلَّقَهَا الْحَجَّاجُ، ثُمَّ إِنَّهُ كَفَّ عَنْهُمْ، وَأَقْبَلَ يَسْتَأْدِيهُمْ وَهُمْ يَعْمَلُونَ فِي التَّخَلُّصِ، فَبَعَثُوا إِلَى أَخِيهِمْ مَرْوَانَ، وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ، أَنْ يَضْمَنَ لَهُمْ خَيْلًا وَيُرِيَ النَّاسَ أَنَّهُ يُرِيدُ بَيْعَهَا لِتَكُونَ عُدَّةً. فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَكَانَ أَخُوهُ حَبِيبٌ يُعَذَّبُ بِالْبَصْرَةِ أَيْضًا. فَصَنَعَ يَزِيدُ لِلْحَرَسِ طَعَامًا كَثِيرًا، وَأَمَرَ لَهُمْ بِشَرَابٍ، فَسُقُوا وَاشْتَغَلُوا بِهِ، وَلَبِسَ يَزِيدُ

ثِيَابَ طَبَّاخِهِ، وَخَرَجَ وَقَدْ جَعَلَ لَهُ لِحْيَةً بَيْضَاءَ، فَرَآهُ بَعْضُ الْحَرَسِ فَقَالَ: كَانَتْ هَذِهِ مِشْيَةُ يَزِيدَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ فَرَأَى لِحْيَتَهُ بَيْضَاءَ فِي اللَّيْلِ، فَتَرَكَهُ وَعَادَ، فَخَرَجَ الْمُفَضَّلُ وَلَمْ يُفْطَنْ لَهُ، فَجَاءُوا إِلَى سُفُنٍ مُعَدَّةٍ فَرَكِبُوهَا، يَزِيدُ وَالْمُفَضَّلُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ، وَسَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى أَصْبَحُوا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا عَلِمَ بِهِمُ الْحَرَسُ فَرَفَعُوا خَبَرَهُمْ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَفَزِعَ وَظَنَّ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ خُرَاسَانَ لِيَفْتِنُوا بِهَا، فَبَعَثَ الْبَرِيدَ إِلَى قُتَيْبَةَ بِخَبَرِهِمْ وَيَأْمُرُهُ بِالْحَذَرِ. وَلَمَّا دَنَا يَزِيدُ مِنَ الْبَطَائِحِ اسْتَقْبَلَتْهُ الْخَيْلُ فَخَرَجُوا عَلَيْهَا وَمَعَهُمْ دَلِيلٌ مِنْ كَلْبٍ، فَأَخَذُوا طَرِيقَ الشَّامِ عَلَى طَرِيقِ السَّمَاوَةِ، وَأَتَى الْحَجَّاجُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ أَخَذُوا طَرِيقَ الشَّامِ، فَبَعَثَ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ. ثُمَّ سَارَ يَزِيدُ فَقَدِمَ فِلَسْطِينَ، فَنَزَلَ عَلَى وُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيِّ، وَكَانَ كَرِيمًا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَجَاءَ وُهَيْبٌ إِلَى سُلَيْمَانَ، فَأَعْلَمَهُ بِحَالِ يَزِيدَ وَإِخْوَتِهِ، وَأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَعَاذُوا بِهِ مِنَ الْحَجَّاجِ، قَالَ: فَأْتِنِي بِهِمْ فَهُمْ آمِنُونَ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا وَأَنَا حَيٌّ. فَجَاءَ بِهِمْ إِلَيْهِ، وَكَانُوا فِي مَكَانٍ آمِنٍ. وَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْوَلِيدِ: إِنَّ آلَ الْمُهَلَّبِ خَانُوا أَمَانَ اللَّهِ وَهَرَبُوا مِنِّي وَلَحِقُوا بِسُلَيْمَانَ. وَكَانَ الْوَلِيدُ قَدْ حَذَّرَهُمْ، وَظَنَّ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ خُرَاسَانَ لِلْفِتْنَةِ بِهَا، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ عِنْدَ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ سَكَنَ بَعْضُ مَا بِهِ، وَطَارَ غَضَبًا لِلْمَالِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ، فَكَتَبَ سُلَيْمَانُ إِلَى الْوَلِيدِ: إِنَّ يَزِيدَ عِنْدِي وَقَدْ آمَنْتُهُ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافِ أَلْفٍ، لِأَنَّ الْحَجَّاجَ أَغْرَمَهُ سِتَّةَ آلَافِ أَلْفٍ، فَأَدَّى ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفٍ، وَالَّذِي بَقِيَ عَلَيْهِ أَنَا أُؤَدِّيهِ. فَكَتَبَ الْوَلِيدُ: وَاللَّهِ لَا أُؤَمِّنُهُ حَتَّى تَبْعَثَ بِهِ إِلَيَّ. فَكَتَبَ: لَئِنْ أَنَا بَعَثْتُ بِهِ إِلَيْكَ لَأَجِيئَنَّ مَعَهُ. فَكَتَبَ الْوَلِيدُ: وَاللَّهِ لَئِنْ جِئْتَنِي لَا أُؤَمِّنُهُ. فَقَالَ يَزِيدُ: أَرْسِلْنِي إِلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ أُوقِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَكَ عَدَوَاةً، وَلَا أَنْ يَتَشَأَّمَ النَّاسُ بِي لَكُمَا، وَاكْتُبْ مَعِي بِأَلْطَفِ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ. فَأَرْسَلَهُ وَأَرْسَلَ مَعَهُ ابْنَهُ أَيُّوبَ، وَكَانَ الْوَلِيدُ قَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ مُقَيَّدًا، فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِابْنِهِ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَادْخُلْ أَنْتَ وَيَزِيدُ فِي سِلْسِلَةٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا رَأَى الْوَلِيدُ ابْنَ أَخِيهِ فِي سِلْسِلَةٍ قَالَ: لَقَدْ بَلَغْنَا مِنْ سُلَيْمَانَ. وَدَفَعَ أَيُّوبُ كِتَابَ أَبِيهِ إِلَى عَمِّهِ وَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَفْسِي فَدَاؤُكَ، لَا تَخْفِرْ ذِمَّةَ أَبِي وَأَنْتَ أَحَقُّ مَنْ مَنَعَهَا، وَلَا تَقْطَعْ مِنَّا رَجَاءَ مَنْ رَجَا السَّلَامَةَ فِي جِوَارِنَا لِمَكَانِنَا مِنْكَ، وَلَا تُذِلَّ مَنْ رَجَا الْعِزَّ فِي الِانْقِطَاعِ إِلَيْنَا لِعِزِّنَا بِكَ. فَقَرَأَ الْوَلِيدُ كِتَابَ سُلَيْمَانَ، فَإِذَا هُوَ يَسْتَعْطِفُهُ، وَيَشْفَعُ إِلَيْهِ، وَيَضْمَنُ إِيصَالَ الْمَالِ، فَلَمَّا

قَرَأَ الْكِتَابَ قَالَ: لَقَدْ شَقَقْنَا عَلَى سُلَيْمَانَ. وَتَكَلَّمَ يَزِيدُ وَاعْتَذَرَ، فَأَمَّنَهُ الْوَلِيدُ، فَرَجَعَ إِلَى سُلَيْمَانَ، وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى الْحَجَّاجِ: إِنِّي لَمْ أَصِلْ إِلَى يَزِيدَ وَأَهْلِهِ مَعَ سُلَيْمَانَ، فَاكْفُفْ عَنْهُمْ. فَكَفَّ عَنْهُمْ. وَكَانَ أَبُو عُيَيْنَةَ بْنُ الْمُهَلَّبِ عِنْدَ الْحَجَّاجِ عَلَيْهِ أَلْفُ أَلْفٍ، فَتَرَكَهَا وَكَفَّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ الْمُهَلَّبِ. وَأَقَامَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ عِنْدَ سُلَيْمَانَ يَهْدِي إِلَيْهِ الْهَدَايَا وَيَصْنَعُ لَهُ الْأَطْعِمَةَ، وَكَانَ لَا يَأْتِي [يَزِيدَ] هَدِيَّةٌ إِلَّا بَعَثَ بِهَا إِلَى سُلَيْمَانَ، وَلَا يَأْتِي سُلَيْمَانَ هَدِيَّةٌ إِلَّا بَعَثَ بِنِصْفِهَا إِلَى يَزِيدَ، وَكَانَ لَا تُعْجِبُهُ جَارِيَةٌ إِلَّا بَعَثَ بِهَا إِلَى يَزِيدَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرْضَ الرُّومِ، فَفَتَحَ الْحُصُونَ الْخَمْسَةَ الَّتِي بِسُورِيَةَ، وَغَزَا عَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ حَتَّى بَلَغَ أَرْزَنَ وَبَلَغَ سُورِيَةَ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قُرَّةَ بْنَ شَرِيكٍ عَلَى مِصْرَ، وَعَزَلَ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِيهَا أَسَرَتِ الرُّومُ خَالِدَ بْنَ كَيْسَانَ صَاحِبَ الْبَحْرِ، فَأَهْدَاهُ مَلِكُهُمْ إِلَى الْوَلِيدِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ. وَكَانَ عَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ كُلِّهِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، وَعَامِلُهُ عَلَى الْبَصْرَةِ

الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُذَيْنَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَعَلَى مِصْرَ قُرَّةُ بْنُ شَرِيكٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ: ثَلَاثَ وَتِسْعِينَ، وَكَانَ عُمُرُهُ سِتًّا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: مِائَةً وَسِتَ سِنِينَ، وَقِيلَ: وَسَبْعَ، وَقِيلَ: وَثَلَاثَ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْعَالِيَةِ الرِّيَاحَيُّ، فِي شَوَّالٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ اللَّيْثِيُّ النَّحْوِيُّ، أَخَذَ النَّحْوَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ تِسْعِينَ.

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ] 91 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ ذِكْرُ تَتِمَّةَ خَبَرِ قُتَيْبَةَ مَعَ نِيزَكَ قَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَ قُتَيْبَةَ إِلَى نِيزَكَ وَمَا جَرَى لَهُ بِالطَّالْقَانِ وَقَتْلِ مَنْ قَتَلَ بِهَا، فَلَمَّا فَتَحَ الطَّالْقَانَ اسْتَعْمَلَ أَخَاهُ عُمَرَ بْنَ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ: إِنَّ مَلِكَهَا لَمْ يُحَارِبْ قُتَيْبَةَ، فَكَفَّ عَنْهُ، وَكَانَ بِهَا لُصُوصٌ، فَقَتَلَهُمْ قُتَيْبَةُ وَصَلَبَهُمْ، ثُمَّ سَارَ قُتَيْبَةُ إِلَى الْفَارِيَابِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ مَلِكُهَا مُقِرًّا مُذْعِنًا، فَقَبِلَ مِنْهُ وَلَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِهِ. وَبَلَغَ مَلِكَ الْجُوزَجَانِ خَبَرُهُمْ، فَهَرَبَ إِلَى الْجِبَالِ، وَسَارَ قُتَيْبَةُ إِلَى الْجُوزَجَانِ، فَلَقِيَهُ أَهْلُهَا سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَقْتُلْ بِهَا أَحَدًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عَامِرَ بْنَ مَالِكٍ الْحِمَّانِيَّ. ثُمَّ أَتَى بَلْخَ، فَلَقِيَهُ أَهْلُهَا، فَلَمْ يُقِمْ بِهَا إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا، وَسَارَ يَتْبَعُ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى شِعْبِ خُلْمٍ، وَمَضَى نِيزَكُ إِلَى بَغْلَانَ، وَخَلَّفَ مُقَاتِلَةً عَلَى فَمِ الشِّعْبِ وَمَضَايِقِهِ لِيَمْنَعُوهُ، وَوَضَعَ مُقَاتِلَتَهُ فِي قَلْعَةٍ حَصِينَةٍ مِنْ وَرَاءِ الشِّعْبِ. فَأَقَامَ قُتَيْبَةُ أَيَّامًا يُقَاتِلُهُمْ عَلَى مَضِيقِ الشِّعْبِ لَا يَقْدِرُ عَلَى دُخُولِهِ وَلَا يَعْرِفُ طَرِيقًا يَسْلُكُهُ إِلَى نِيزَكَ إِلَّا الشِّعْبَ أَوْ مَفَازَةٍ لَا تَحْتَمِلُهَا الْعَسَاكِرُ، فَبَقِيَ مُتَحَيِّرًا، فَقَدِمَ إِنْسَانٌ، فَاسْتَأْمَنَهُ عَلَى أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَدْخَلِ الْقَلْعَةِ الَّتِي مِنْ وَرَاءِ الشِّعْبِ، فَآمَنَهُ قُتَيْبَةُ، وَبَعَثَ مَعَهُ رِجَالًا، فَانْتَهَى بِهِمْ إِلَى الْقَلْعَةِ مِنْ وَرَاءِ شِعْبِ خُلْمٍ، فَطَرَقُوهُمْ وَهُمْ آمِنُونَ، فَقَتَلُوهُمْ، وَهَرَبَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ وَمَنْ كَانَ فِي الشِّعْبِ، فَدَخَلَ قُتَيْبَةُ الشِّعْبَ فَأَتَى الْقَلْعَةَ، وَمَضَى إِلَى سِمِنْجَانَ فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى نِيزَكَ، وَقَدِمَ أَخَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. فَارْتَحَلَ نِيزَكُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَقَطَعَ وَادِيَ فَرْغَانَةَ، وَوَجَّهَ ثَقَلَهُ وَأَمْوَالَهُ إِلَى كَابُلِ شَاهْ،

وَمَضَى حَتَّى نَزَلَ الْكُرْزَ (وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتْبَعُهُ، فَنَزَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ حِذَاءَ الْكُرْزِ) ، وَنَزَلَ قُتَيْبَةُ بِمَنْزِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَرْسَخَانِ، فَتَحَصَّنَ نِيزَكُ فِي الْكُرْزِ وَلَيْسَ إِلَيْهِ مَسْلَكٌ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ صَعْبٌ لَا تُطِيقُهُ الدَّوَابُّ، فَحَصَرَهُ قُتَيْبَةُ شَهْرَيْنِ حَتَّى قَلَّ مَا فِي يَدِ نِيزَكَ مِنَ الطَّعَامِ وَأَصَابَهُمُ الْجُدَرِيُّ، وَجُدِرَ جَبْغَوَيْهِ. وَخَافَ قُتَيْبَةُ الشِّتَاءَ، فَدَعَا سُلَيْمًا النَّاصِحَ، فَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَى نِيزَكَ وَاحْتَلْ لِتَأْتِيَنِي بِهِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَإِنِ احْتَالَ وَأَبَى فَآمِنْهُ، وَاعْلَمْ أَنِّي إِنْ عَايَنْتُكَ وَلَيْسَ هُوَ مَعَكَ صَلَبْتُكَ. قَالَ: فَاكْتُبْ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا يُخَالِفْنِي، فَكَتَبَ إِلَيْهِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: ابْعَثْ رِجَالًا لِيَكُونُوا عَلَى فَمِ الشِّعْبِ، فَإِذَا خَرَجْتُ أَنَا وَنِيزَكُ فَلْيَعْطِفُوا مِنْ وَرَائِنَا فَيَحُولُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشِّعْبِ، فَبَعَثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ خَيْلًا، فَكَانَتْ هُنَاكَ، وَحَمَلَ سُلَيْمٌ مَعَهُ أَطْعِمَةً وَأَخْبِصَةً أَوَقَارًا، وَأَتَى نِيزَكَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ أَسَأْتَ إِلَى قُتَيْبَةَ وَغَدَرْتَ. قَالَ نِيزَكُ: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ تَأْتِيَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِبَارِحٍ، وَقَدْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَشْتُوَ مَكَانَهُ هَلَكَ أَوْ سَلِمَ. قَالَ نِيزَكُ: فَكَيْفَ آتِيهِ عَلَى غَيْرِ أَمَانٍ؟ قَالَ: مَا أَظُنُّهُ يُؤَمِّنُكَ; لِمَا فِي نَفْسِهِ عَلَيْكَ; لِأَنَّكَ قَدْ مَلَأْتَهُ غَيْظًا، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ لَا يَعْلَمَ [بِكَ] حَتَّى تَضَعَ يَدَكَ فِي يَدِهِ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَسْتَحِيَ وَيَعْفُوَ [عَنْكَ] ، قَالَ: إِنِّي أَرَى نَفْسِي تَأْبَى هَذَا وَهُوَ إِنْ رَآنِي قَتَلَنِي، فَقَالَ سُلَيْمٌ: مَا أَتَيْتُكَ إِلَّا لِأُشِيرَ عَلَيْكَ بِهَذَا، وَلَوْ فَعَلْتَ لَرَجَوْتُ أَنْ تَسْلَمَ وَتَعُودَ حَالُكَ عِنْدَهُ، فَإِذَا أَبَيْتَ فَإِنِّي مُنْصَرِفٌ. وَقَدَّمَ سُلَيْمٌ الطَّعَامَ الَّذِي مَعَهُ، وَلَا عَهْدَ لَهُمْ بِمِثْلِهِ، فَانْتَهَبَهُ أَصْحَابُ نِيزَكَ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمٌ: إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، أَرَى أَصْحَابَكَ قَدْ جَهِدُوا، وَإِنْ طَالَ بِهِمُ الْحِصَارُ لَمْ آمَنْهُمْ أَنْ يَسْتَأْمِنُوا بِكَ، فَأْتِ قُتَيْبَةَ، فَقَالَ: لَا آمَنُهُ عَلَى نَفْسِي وَلَا آتِيهِ إِلَّا بِأَمَانٍ، وَإِنَّ ظَنِّي أَنْ يَقْتُلَنِي وَإِنْ آمَنَنِي، وَلَكِنَّ الْأَمَانَ أَعْذَرُ إِلَيَّ. فَقَالَ سُلَيْمٌ: قَدْ آمَنَكَ، أَفَتَتَّهِمُنِي؟ قَالَ: لَا. وَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: اقْبَلْ قَوْلَ سُلَيْمٍ فَلَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا. فَخَرَجَ مَعَهُ وَمَعَ جَبْغَوَيْهِ وَصُولُ طَرْخَانَ، خَلِيفَةُ جَبْغَوَيْهِ، وَحَبَسَ طَرْخَانَ صَاحِبَ شُرْطَتِهِ وَشَقْرَانَ ابْنَ أَخِي نِيزَكَ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الشِّعْبِ عَطَفَتِ الْخَيْلُ الَّتِي خَلَّفَهَا سُلَيْمٌ، فَحَالُوا بَيْنَ الْأَتْرَاكِ أَصْحَابِ نِيزَكَ وَالْخُرُوجِ، فَقَالَ نِيزَكُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ. قَالَ سُلَيْمٌ: تَخَلُّفُ هَؤُلَاءِ عَنْكَ خَيْرٌ لَكَ. وَأَقْبَلَ سُلَيْمٌ وَنِيزَكُ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى دَخَلُوا إِلَى قُتَيْبَةَ، فَحَبَسَهُمْ وَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ نِيزَكَ، وَوَجَّهَ قُتَيْبَةُ [مُعَاوِيَةَ بْنَ عَامِرِ بْنِ عَلْقَمَةَ

الْعَلِيمِيَّ، فَاسْتَخْرَجَ] مَا كَانَ فِي الْكُرْزِ مِنْ مَتَاعٍ وَمَنْ كَانَ فِيهِ فَقَدِمَ بِهِ عَلَى قُتَيْبَةَ. فَانْتَظَرَ بِهِمْ كِتَابَ الْحَجَّاجِ، فَأَتَاهُ كِتَابُ الْحَجَّاجِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَأْمُرُهُ بِقَتْلِ نِيزَكَ، فَدَعَا قُتَيْبَةُ النَّاسَ وَاسْتَشَارَهُمْ فِي قَتْلِهِ، وَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ ضِرَارُ بْنُ حُصَيْنٍ: إِنِّي سَمِعْتُكَ تَقُولُ: أَعْطَيْتُ اللَّهَ عَهْدًا إِنْ أَمْكَنَكَ مِنْهُ أَنْ تَقْتُلَهُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَلَا يَنْصُرُكَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَبَدًا. فَدَعَا نِيزَكَ فَضَرَبَ رَقَبَتَهُ بِيَدِهِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ صُولٍ، وَابْنِ أَخِي نِيزَكَ، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ سَبْعَمِائَةٍ، وَقِيلَ: اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَصَلَبَ نِيزَكَ وَابْنَ أَخِيهِ، وَبَعْثَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَقَالَ نَهَارُ بْنُ تَوْسِعَةَ فِي قَتْلِ نِيزَكَ: لَعَمْرِي لَنَعِمَتْ غَزْوَةُ الْجُنْدِ غَزْوَةً قَضَتْ نَحْبَهَا مِنْ نِيزَكٍ وَتَعَلَّتِ وَأَخَذَ الزُّبَيْرُ مَوْلَى عَبَّاسٍ الْبَاهِلِيِّ حُقًّا لِنِيزَكَ فِيهِ جَوْهَرٌ، وَكَانَ أَكْثَرُ مَنْ فِي بِلَادِهِ مَالًا وَعَقَارًا مِنْ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ، وَأَطْلَقَ قُتَيْبَةُ جَبْغَوَيْهِ وَمَنَّ عَلَيْهِ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْوَلِيدِ، فَلَمْ يَزَلْ بِالشَّامِ حَتَّى مَاتَ الْوَلِيدُ. كَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: غَدَرَ قُتَيْبَةُ بِنِيزَكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَا تَحْسَبَنَّ الْغَدْرَ حَزْمًا فَرُبَّمَا ... تَرَقَّتْ بِهِ الْأَقْدَامُ يَوْمًا فَزَلَّتِ فَلَمَّا قَتَلَ قُتَيْبَةُ نِيزَكَ رَجَعَ إِلَى مَرْوَ، وَأَرْسَلَ مَلِكُ الْجُوزَجَانِ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَآمَنُهُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَهُ، فَطَلَبَ رَهْنًا وَيُعْطِيَ رَهَائِنَ، فَأَعْطَاهُ قُتَيْبَةُ حَبِيبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ الْبَاهِلِيَّ، وَأَعْطَى مَلِكُ الْجُوزَجَانِ رَهَائِنَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَقَدِمَ عَلَى قُتَيْبَةَ [فَصَالَحَهُ] ، ثُمَّ رَجَعَ فَمَاتَ بِالطَّالْقَانِ، فَقَالَ أَهْلُ الْجُوزَجَانِ: إِنَّهُمْ سَمُّوهُ، فَقَتَلُوا حَبِيبًا، وَقَتَلَ قُتَيْبَةُ الرَّهَائِنَ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدَهُ. ذِكْرُ غَزْوِ شُومَانَ وَكِشَّ وَنَسَفَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ قُتَيْبَةُ إِلَى شُومَانَ فَحَصَرَهَا.

وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَلِكَهَا طَرَدَ عَامِلَ قُتَيْبَةَ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قُتَيْبَةُ رَسُولَيْنِ، أَحَدُهُمَا مِنَ الْعَرَبِ اسْمُهُ عَيَّاشٌ، وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، يَدْعُوَانِ مَلِكَ شُومَانَ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا كَانَ صَالَحَ عَلَيْهِ. فَقَدِمَا شُومَانَ، فَخَرَجَ أَهْلُهَا إِلَيْهِمَا فَرَمَوْهُمَا، فَانْصَرَفَ الْخُرَاسَانِيُّ، وَقَاتَلَهُمْ عِيَاشٌ فَقَتَلُوهُ، وَوَجَدُوا بِهِ سِتِّينَ جِرَاحَةً. وَبَلَغَ قَتْلُهُ قُتَيْبَةَ فَسَارَ إِلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ، فَلَمَّا أَتَاهَا أَرْسَلَ صَالِحُ بْنُ مُسْلِمٍ أَخُو قُتَيْبَةَ [رَجُلًا] إِلَى مَلِكِهَا، وَكَانَ صَدِيقًا لَهُ، يَأْمُرُهُ بِالطَّاعَةِ وَيَضْمَنُ لَهُ رِضَا قُتَيْبَةَ إِنْ رَجَعَ إِلَى الصُّلْحِ، فَأَبَى وَقَالَ لِرَسُولِ صَالِحٍ: أَتُخَوِّفُنِي مِنْ قُتَيْبَةَ وَأَنَا أَمْنَعُ الْمُلُوكِ حِصْنًا؟ فَأَتَاهُ قُتَيْبَةُ وَقَدْ تَحَصَّنَ بِبَلَدِهِ فَوَضَعَ عَلَيْهِ الْمَجَانِيقَ، وَرَمَى الْحِصْنَ فَهَشَّمَهُ، وَقَتَلَ رَجُلًا فِي مَجْلِسِ الْمَلِكِ بِحَجَرٍ، فَلَمَّا خَافَ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ قُتَيْبَةُ جَمَعَ مَا كَانَ بِالْحِصْنِ مِنْ مَالٍ وَجَوْهَرٍ وَرَمَى بِهِ فِي بِئْرٍ بِالْقَلْعَةِ لَا يُدْرَكُ قَعْرُهَا، ثُمَّ فَتَحَ الْقَلْعَةَ وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، وَأَخَذَ قُتَيْبَةُ الْقَلْعَةَ عَنْوَةً، فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ. ثُمَّ سَارَ إِلَى كَشَّ وَنَسَفَ فَفَتَحَهُمَا. وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ فَارَيَابُ فَأَحْرَقَهَا، فَسُمِّيَتِ الْمُحْتَرِقَةَ، وَسَيَّرَ مِنْ كَشَّ وَنَسَفَ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى الصُّغْدِ، وَمَلِكُهَا طَرْخُونُ، فَقَبَضَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ طَرْخُونَ مَا كَانَ صَالَحَهُ عَلَيْهِ قُتَيْبَةُ، وَدَفْعَ إِلَيْهِ رُهُنًا كَانُوا مَعَهُ، وَرَجَعَ إِلَى قُتَيْبَةَ بِبُخَارَى، وَكَانَ قَدْ سَارَ إِلَيْهَا مِنْ كَشَّ وَنَسَفَ، فَرَجَعُوا إِلَى مَرْوَ. وَلَمَّا كَانَ قُتَيْبَةُ بِبُخَارَى مَلَّكَ بُخَارَاخُذَاهْ، وَكَانَ غُلَامًا حَدَثًا، وَقَتَلَ مَنْ يَخَافُ أَنْ يُضَادَّهُ. وَقِيلَ: إِنَّ قُتَيْبَةَ سَارَ بِنَفْسِهِ إِلَى الصُّغْدِ، فَلَمَّا رَجَعَ عَنْهُمْ قَالَتِ الصُّغْدُ لِطَرْخُونَ: إِنَّكَ قَدْ رَضِيتَ بِالذُّلِّ، وَاسْتَطَبْتَ الْجِزْيَةَ، وَأَنْتَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيكَ، فَحَبَسُوهُ وَوَلَّوْا غَوْزَكَ، فَقَتَلَ طَرْخُونُ نَفْسَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ قِيلَ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ الْوَلِيدُ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ عَلَى مَكَّةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَالِيًا عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ الْوَلِيدُ، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ ذِكْرُهُ أَيْضًا، فَلَمَّا وَلِيَ مَكَّةَ خَطَبَهُمْ وَعَظَّمَ أَمْرَ الْخِلَافَةِ وَحَثَّهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ، فَقَالَ: لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْوَحْشَ الَّتِي تَأْمَنُ فِي الْحَرَمِ لَوْ نَطَقَتْ لَمْ تُقِرَّ بِالطَّاعَةِ لَأَخْرَجْتُهَا مِنْهُ، فَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ،

فَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَوُتَى بِأَحَدٍ يَطْعَنُ عَلَى إِمَامِهِ إِلَّا صَلَبْتُهُ فِي الْحَرَمِ، إِنِّي لَا أَرَى فِيمَا كَتَبَ بِهِ الْخَلِيفَةُ أَوْ رَآهُ إِلَّا إِمْضَاءَهُ. وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ يَنْظُرُ إِلَى بِنَائِهِ، وَأَخْرَجَ النَّاسَ مِنْهُ، وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ لَمْ يَجْرُؤْ أَحَدٌ مِنَ الْحَرَسِ أَنْ يُخْرِجَهُ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ قُمْتَ. قَالَ: لَا أَقُومُ حَتَّى يَأْتِيَ الْوَقْتُ الَّذِي كُنْتُ أَقُومُ فِيهِ. فَقِيلَ: لَوْ سَلَّمْتَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: فَجَعَلْتُ أَعْدِلُ بِالْوَلِيدِ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ لِئَلَّا يَرَاهُ، فَالْتَفَتَ الْوَلِيدُ [إِلَى] الْقِبْلَةِ فَقَالَ: مَنْ ذَلِكَ الشَّيْخُ؟ أَهْوَ سَعِيدٌ؟ قَالَ عُمَرُ: نَعَمْ، وَمِنْ حَالِهِ كَذَا وَكَذَا، فَلَوْ عَلِمَ بِمَكَانِكَ; لَقَامَ فَسَلَّمَ عَلَيْكَ، وَهُوَ ضَعِيفُ الْبَصَرِ. قَالَ الْوَلِيدُ: قَدْ عَلِمْتُ حَالَهُ وَنَحْنُ نَأْتِيهِ. فَدَارَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى أَتَاهُ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ أَيُّهَا الشَّيْخُ؟ فَوَاللَّهِ مَا تَحَرَّكَ سَعِيدٌ بَلْ قَالَ: بِخَيْرٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، فَكَيْفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَكَيْفَ حَالُهُ؟ فَانْصَرَفَ وَهُوَ يَقُولُ لِعُمَرَ: هَذَا بَقِيَّةُ النَّاسِ! وَقَسَّمَ بِالْمَدِينَةِ دَقِيقًا كَثِيرًا وَآنِيَةً مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَأَمْوَالًا، وَصَلَّى بِالْمَدِينَةِ الْجُمُعَةَ فَخَطَبَ الْخُطْبَةَ الْأُولَى جَالِسًا، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ الْخُطْبَةَ الثَّانِيَةَ قَائِمًا. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى: فَقُلْتُ لِرَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ وَهُوَ مَعَهُ: أَهَكَذَا تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، مُكَرِّرًا، وَهَكَذَا صَنَعَ مُعَاوِيَةُ وَهَلُمَّ جَرَّا. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: هَلَّا تُكَلِّمُهُ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ أَنَّهُ كَلَّمَ عَبْدَ الْمَلِكِ وَلَمْ يَتْرُكِ الْقُعُودَ، وَقَالَ: هَكَذَا خَطَبَ عُثْمَانُ. قَالَ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا خَطَبَ إِلَّا قَائِمًا. قَالَ رَجَاءٌ: رُوِيَ لَهُمْ شَيْءٌ فَاقْتَدَوْا بِهِ. قَالَ إِسْحَاقُ: وَلَمْ نَرَ مِنْهُمْ أَشَدَّ تَجَبُّرًا مِنْهُ. وَكَانَ الْعُمَّالُ عَلَى الْبِلَادِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ غَيْرَ مَكَّةَ، فَإِنَّ خَالِدًا كَانَ عَامِلَهَا، وَقِيلَ: إِنَّ عَامِلَهَا هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْوَلِيدِ الصَّائِفَةَ، وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ الْجَيْشِ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِيهَا عَزَلَ الْوَلِيدُ عَمَّهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ عَنِ الْجَزِيرَةِ وَأَرْمِينِيَّةَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَخَاهُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَغَزَا مَسْلَمَةُ التُّرْكَ مِنْ نَاحِيَةِ أَذْرَبِيجَانَ حَتَّى بَلَغَ الْبَابَ، وَفَتَحَ مَدَائِنَ وَحُصُونًا، وَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ.

ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ] 92 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرْضَ الرُّومِ، فَفَتَحَ حُصُونًا ثَلَاثَةً، وَجَلًّا أَهْلَ سُوسَنَةَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ. ذِكْرُ فَتْحِ الْأَنْدَلُسِ وَفِيهَا غَزَا طَارِقُ بْنُ زِيَادٍ مَوْلَى مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ الْأَنْدَلُسَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فِلْقَيْ مَلِكَ الْأَنْدَلُسِ، وَاسْمُهُ أَذْرِينُوقُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ، وَهُمْ مُلُوكِ عَجَمِ الْأَنْدَلُسِ، فَزَحَفَ لَهُ طَارِقٌ بِجَمِيعِ مَنْ مَعَهُ، وَزَحَفَ الْأَذْرِينُوقُ وَعَلَيْهِ تَاجُهُ وَجَمِيعُ الْحِلْيَةِ الَّتِي كَانَ يَلْبَسُهَا الْمُلُوكُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ الْأَذْرِينُوقُ، وَفُتِحَ الْأَنْدَلُسُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ. هَذَا جَمِيعُهُ ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ فِي فَتْحِ الْأَنْدَلُسِ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ الْعَظِيمِ وَالْفَتْحِ الْمُبِينِ لَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَأَنَا أَذْكُرُ فَتْحَهَا عَلَى وَجْهٍ أَتَمَّ مِنْ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، مِنْ تَصَانِيفِ أَهْلِهَا، إِذْ هُمْ أَعْلَمُ بِبِلَادِهِمْ. قَالُوا: أَوَّلُ مَنْ سَكَنَهَا قَوْمٌ يُعْرَفُونَ بِالْأَنْدَلُشِ، بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ، فَسُمِّيَ الْبَلَدُ بِهِمْ، ثُمَّ عُرِّبَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ، وَالنَّصَارَى يُسَمُّونَ الْأَنْدَلُسَ أَشْبَانِيَّةَ، بِاسْمِ رَجُلٍ صُلِبَ فِيهَا يُقَالُ لَهُ: أَشْبَانِسُ، وَقِيلَ: بِاسْمِ مَلِكٍ كَانَ بِهَا فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ اسْمُهُ إِشْبَانُ بْنُ طِيطَسَ، وَهَذَا هُوَ اسْمُهَا عِنْدَ بَطْلَيْمُوسَ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِأَنْدَلُسَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمَّرَهَا. قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ سَكَنَ الْأَنْدَلُسَ بَعْدَ الطُّوفَانِ قَوْمٌ يُعْرَفُونَ بِالْأَنْدَلُسِ، فَعَمَرُوهَا وَتَدَاوَلُوا مُلْكَهَا دَهْرًا طَوِيلًا، وَكَانُوا مَجُوسًا، ثُمَّ حَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ، وَتَوَالَى عَلَيْهِمُ الْقَحْطُ،

فَهَلَكَ أَكْثَرُهُمْ، وَفَرَّ مِنْهَا مَنْ أَطَاقَ الْفِرَارَ، فَخَلَتِ الْأَنْدَلُسُ مِائَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ ابْتَعَثَ اللَّهُ لِعِمَارَتِهَا الْأَفَارِقَةَ، فَدَخَلَ إِلَيْهَا قَوْمٌ مِنْهُمْ أَجْلَاهُمْ مَلِكُ إِفْرِيقِيَّةَ تَخَفُّفًا مِنْهُمْ لِقَحْطٍ تَوَالَى عَلَى بِلَادِهِ حَتَّى كَادَ يُفْنِي أَهْلَهَا، فَحَمَلَهُمْ فِي السُّفُنِ مَعَ أَمِيرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَأَرْسَوْا بِجَزِيرَةِ قَادِسَ، وَرَأَوُا الْأَنْدَلُسَ قَدْ أَخْصَبَتْ بِلَادُهَا، وَجَرَتْ أَنْهَارُهَا، فَسَكَنُوهَا، وَعَمَّرُوهَا، وَنَصَبُوا لَهُمْ مُلُوكًا يَضْبِطُونَ أَمْرَهُمْ، وَهُمْ عَلَى دِينِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَكَانَتْ دَارُ مَمْلَكَتِهِمْ طَالِقَةَ الْخَرَابِ مِنْ أَرْضِ إِشْبِيلِيَّةَ بَنَوْهَا وَسَكَنُوهَا، وَأَقَامُوا مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، مَلَكَ مِنْهُمْ فِيهَا أَحَدَ عَشَرَ مَلِكًا. ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَجَمَ رُومَةَ، وَمَلِكُهُمْ إِشْبَانُ بْنُ طِيطَسَ، فَغَزَاهُمْ وَمَزَّقَهُمْ وَقَتَلَ فِيهِمْ، وَحَاصَرَهُمْ بِطَالِقَةَ وَقَدْ تَحَصَّنُوا فِيهَا فَابْتَنَى عَلَيْهِمْ إِشْبَانِيَّةَ، وَهِيَ إِشْبِيلِيَّةَ، وَاتَّخَذَهَا دَارَ مَمْلَكَتِهِ، وَكَثُرَتْ جُمُوعُهُ وَعَتَا وَتَجَبَّرَ، وَغَزَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَغَنِمَ مَا فِيهِ وَقَتَلَ فِيهِ مِائَةَ أَلْفٍ، وَنَقَلَ الْمَرْمَرَ مِنْهُ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ وَغَيْرِهَا، وَغَنِمَ أَيْضًا مَائِدَةَ سُلَيْمَانَبْنِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ الَّتِي غَنِمَهَا طَارِقٌ مِنْ طُلَيْطِلَةَ لَمَّا افْتَتَحَهَا، وَغَنِمَ أَيْضًا قُلَيْلَةَ الذَّهَبِ وَالْحَجَرِ الَّذِي لُقِيَ بِمَارِدَةَ. وَكَانَ هَذَا إِشْبَانُ قَدْ وَقَفَ عَلَيْهِ الْخَضِرُ وَهُوَ يَحْرُثُ الْأَرْضَ فَقَالَ لَهُ: يَا إِشْبَانُ سَوْفَ تَحْظَى وَتَمْلِكُ وَتَعْلُو، فَإِذَا مَلَكْتَ إِيلِيَاءَ فَارْفُقْ بِذُرِّيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ. فَقَالَ: أَتُسْخَرُ مِنِّي؟ كَيْفَ يَنَالُ مِثْلِي الْمُلْكَ؟ فَقَالَ: قَدْ جَعَلَهُ فِيكَ مَنْ جَعَلَ عَصَاكَ هَذِهِ كَمَا تَرَى. فَنَظَرَ فَإِذَا هِيَ قَدْ أَوْرَقَتْ، فَارْتَاعَ وَذَهَبَ عَنْهُ الْخَضِرُ، وَقَدْ وَثِقَ إِشْبَانُ بِقَوْلِهِ، فَدَاخَلَ النَّاسَ، فَارْتَقَى حَتَّى مَلَكَ مُلْكًا عَظِيمًا، وَكَانَ مُلْكُهُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَدَامَ مُلْكُ الْإِشْبَانِيِّينَ بَعْدَهُ إِلَى أَنْ مُلِّكَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ مَلِكًا. ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَجَمِ رُومَةَ أَمَّةٌ يُدْعَونَ الْبَشْنُولِيَّاتِ، وَمَلِكُهُمْ طُوَيْشُ بْنُ نِيطَهْ، وَذَلِكَ حِينَ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ، فَغَلَبُوا عَلَيْهَا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى مُلْكِهَا، وَكَانَتْ مَدِينَةُ مَارِدَةَ دَارَ مَمْلَكَتِهِمْ، وَمَلَكَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ مَلِكًا. ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ أُمَّةُ الْقُوطِ مَعَ مَلِكٍ لَهُمْ، فَغَلَبُوا عَلَى الْأَنْدَلُسِ فَاقْتَطَعُوهَا مِنْ يَوْمِئِذٍ

عَنْ صَاحِبِ رُومَةَ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ ظُهُورِهِمْ مِنْ نَاحِيَةِ إِيطَالِيَّةَ شَرْقِ الْأَنْدَلُسِ، فَأَغَارَتْ عَلَى بِلَادِ مَجْدُونِيَّةَ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ قِلْيُوذِيُوسَ قَيْصَرَ، ثَالِثِ الْقَيَاصِرَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ وَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ فِيهِمْ، وَلَمْ يَظْهَرُوا بَعْدَهَا إِلَى أَيَّامِ قُسْطَنْطِينَ الْأَكْبَرِ وَأَعَادُوا الْغَارَةَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَلَمْ يَثْبُتُوا لَهُ، وَانْقَطَعَ خَبَرُهُمْ إِلَى ثُلُثِ دَوْلَةِ قَيْصَرَ، فَإِنَّهُمْ قَدَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَمِيرًا اسْمُهُ لُذْرِيقُ، وَكَانَ يَعْبُدُ الْأَوْثَانَ، فَسَارَ إِلَى رُومَةَ لِيَحْمِلَ النَّصَارَى عَلَى السُّجُودِ لِأَوْثَانِهِ، فَظَهَرَ مِنْهُ سُوءُ سِيرَتِهِ، فَتَخَاذَلَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ وَمَالُوا إِلَى أَخِيهِ وَحَارَبُوهُ، فَاسْتَعَانَ بِصَاحِبِ رُومَةَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَهَزَمَ أَخَاهُ، وَدَانَ بِدِينِ النَّصَارَى، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ إِقْرِيطُ، وَبَعْدَهُ إِمْلَرِيقُ، وَبَعْدَهُ وَغْدِيشُ، وَكَانُوا قَدْ عَادُوا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَجَمَعَ مِنْ أَصْحَابِهِ مِائَةَ أَلْفٍ وَسَارَ إِلَى رُومَةَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ مَلِكُ الرُّومِ جَيْشًا، فَهَزَمُوهُ وَقَتَلُوهُ. ثُمَّ بَعْدَهُ الرِّيقُ، وَكَانَ زِنْدِيقًا شُجَاعًا، فَسَارَ لِيَأْخُذَ بِثَأْرِ وَغْدِيشَ وَمَنْ قُتِلَ مَعَهُ، وَنَازَلَ رُومِيَّةَ وَحَاصَرَهَا، وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا، وَدَخَلَهَا عَنْوَةً وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَمَعَ أُسْطُولَ الْبَحْرِ وَسَارَ إِلَى صِقِلِّيَةَ لِيَفْتَحَهَا وَيَغْنَمَ مَا فِيهَا، فَغَرَقَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ فِي الْبَحْرِ، وَهُوَ فِيمَنْ غَرِقَ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ أَطْلُوفُ سِتَّ سِنِينَ، وَخَرَجَ عَنْ بَلَدِ إِيطَالِيَّةَ، وَأَقَامَ بِبَلَدِ غَالِيِسَ مُجَاوِرًا أَقْصَى الْأَنْدَلُسِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى بَرْشِلُونَةَ. ثُمَّ بَعْدَهُ أَخُوهُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ بَعْدَهُ وَالْيَا، ثُمَّ بُورَدَزَارِيشُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ ابْنُهُ طَرَشْمَنْدُ، ثُمَّ بَعْدَهُ أَخُوهُ لُذْرِيقُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ بَعْدَهُ أُورِيقُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ بَعْدَهُ الرِّيقُ بِطَلُوشَةَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ عِشْلِيقُ، ثُمَّ أَمْلِيقُ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ تُوذِيُوشُ

سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ بَعْدَهُ طُودِتِقْلِيسُ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ بَعْدَهُ أَثْلَةُ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ بَعْدَهُ أَطْلَنْجَهْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ بَعْدَهُ لِيُوبَا ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ بَعْدَهُ أَخُوهُ لُوِيلْدُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ طُلَيْطِلَةَ دَارَ مُلْكٍ، وَنَزَلَهَا لِيَكُونَ مُتَوَسِّطًا لِمُلْكِهِ لِيُحَارِبَ مَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ عَنْ قَرِيبٍ، فَلَمْ يَزَلْ يُحَارِبُ مَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ حَتَّى احْتَوَى عَلَى جَمِيعِ الْأَنْدَلُسِ، وَبَنَى مَدِينَةَ رُقُوبَلَ وَأَتْقَنَهَا وَأَكْثَرَ بَسَاتِينَهَا، وَهُوَ عَلَى الْقُرْبِ مِنْ طُلَيْطِلَةَ، وَسَمَّاهَا بِاسْمِ وَلَدِهِ، وَغَزَا بِلَادَ الْبَشْقَنْسِ حَتَّى أَذَلَّهُمْ، وَخَطَبَ إِلَى مَلِكِ الْفِرِنْجِ ابْنَتَهُ لِوَلَدِهِ أَرْمِنْجِلْدَ، فَزَوَّجَهُ وَأَسْكَنَهُ إِشْبِيلِيَّةَ، فَحَسَّنَتْ لَهُ عِصْيَانَ وَالِدِهِ، فَفَعَلَ، فَسَارَ إِلَيْهِ أَبَوْهُ وَحَصَرَهُمَا وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَطَالَ مَقَامُهُ إِلَى أَنْ أَخَذَهُ عَنْوَةً، وَسَجَنَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ لُوِيلِدَ ابْنُهُ رِكُرْدُ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، فَجَمَعَ الْأَسَاقِفَةَ وَغَيَّرَ سِيرَةَ أَبِيهِ وَسَلَّمَ الْبِلَادَ إِلَيْهِمْ، وَكَانُوا نَحْوَ ثَمَانِينَ أُسْقُفًا، وَكَانَ تَقِيًّا عَفِيفًا قَدْ لَبِسَ ثِيَابَ الرُّهْبَانِ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْكَنِيسَةَ الْمَعْرُوفَةَ بِالْوَزْقَةِ بِإِزَاءِ مَدِينَةِ وَادِي آشْ. ثُمَّ بَعْدَهُ ابْنُهُ لِيُوبَا فَسَارَ كَسِيرَةِ أَبِيهِ، فَاغْتَالَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقُوطِ يُقَالُ لَهُ بِتْرِيقُ، فَقَتَلَهُ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ بِتْرِيقُ هَذَا بِغَيْرِ رِضَا أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ مُجْرِمًا طَاغِيًا فَاسِقًا، فَثَارَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ خَاصَّتِهِ فَقَتَلَهُ. (ثُمَّ مَلَكَ مِنْ بَعْدِهِ غَنْدِمَارُ سَنَتَيْنِ) ، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ سَيْسَيْفُوطُ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، ثُمَّ بَعْدَهُ ابْنُهُ رِكْرِيدُ، وَكَانَ صَغِيرًا عُمْرُهُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَمَاتَ، ثُمَّ مَلَكَ شَنْتَلَهْ، وَكَانَ مُلْكُهُ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَكَانَ مَشْكُورًا، ثُمَّ بَعْدَهُ سِشْنِنْدُ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ بَعْدَهُ خَنْتَلَةُ سِتَّةَ أَعْوَامٍ، ثُمَّ بَعْدَهُ (خِنِدْسُ أَرْبَعَةَ أَعْوَامٍ، ثُمَّ

بَعْدَهُ بُنْبَانُ ثَمَانِيَةُ أَعْوَامٍ، ثُمَّ بَعْدَهُ) أَرَوَى سَبْعَ سِنِينَ. وَكَانَ فِي دَوْلَتِهِ قَحْطٌ شَدِيدٌ حَتَّى كَادَتْ بِلَادُ الْأَنْدَلُسِ تَخْرَبُ لِشِدَّةِ الْجُوعِ. ثُمَّ بَعْدَهُ أَبْقَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ جَائِرًا مَذْمُومًا، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ غِيطْشَةَ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ لِلْهِجْرَةِ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ لَيِّنَ الْعَرِيكَةِ وَأَطْلَقَ كُلَّ مَحْبُوسٍ كَانَ فِي سِجْنِ أَبِيهِ، وَأَدَّى الْأَمْوَالَ إِلَى أَرْبَابِهَا. ثُمَّ تُوُفِّيَ وَخَلَفَ وَلَدَيْنِ، فَلَمْ يَرْضَ بِهِمَا أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ، وَتَرَاضَوْا بِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ رُذَرِيقُ، وَكَانَ شُجَاعًا وَلَيْسَ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ، وَكَانَتْ عَادَةُ مُلُوكِ الْأَنْدَلُسِ أَنَّهُمْ يَبْعَثُونَ أَوْلَادَهُمُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ إِلَى مَدِينَةِ طُلَيْطِلَةَ يَكُونُونَ فِي خِدْمَةِ الْمَلِكِ، لَا يَخْدُمُهُ غَيْرُهُمْ يَتَأَدَّبُونَ بِذَلِكَ، فَإِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ أَنْكَحَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَتَوَلَّى تَجْهِيزَهُمْ، فَلَمَّا وَلِيَ رُذَرِيقُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يُولْيَانُ، وَهُوَ صَاحِبُ الْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ وَسَبْتَةَ وَغَيْرِهِمَا، ابْنَةً لَهُ، فَاسْتَحْسَنَهَا رُذَرِيقُ وَافْتَضَّهَا، فَكَتَبَتْ إِلَى أَبِيهَا، فَأَغْضَبَهُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ عَامِلِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ بِالطَّاعَةِ، وَاسْتَدْعَاهُ إِلَيْهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ فَأَدْخَلَهُ يُولْيَانُ مَدَائِنَهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعُهُودَ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ بِمَا يَرْضَى بِهِ، ثُمَّ وَصَفَ لَهُ الْأَنْدَلُسَ وَدَعَاهُ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ آخِرُ سِنَةِ تِسْعِينَ. فَكَتَبَ مُوسَى إِلَى الْوَلِيدِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ يُولْيَانُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ: خُضْهَا بِالسَّرَايَا، وَلَا تُغَرِّرْ بِالْمُسْلِمِينَ فِي بَحْرٍ شَدِيدِ الْأَهْوَالِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُوسَى: إِنَّهُ لَيْسَ بِبَحْرٍ مُتَّسِعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ خَلِيجٌ يَبِينُ مَا وَرَاءَهُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ أَنِ اخْتَبِرْهَا بِالسَّرَايَا، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا حَكَيْتَ. فَبَعَثَ رَجُلًا مِنْ مَوَالِيهِ يُقَالُ لَهُ طَرِيفٌ فِي أَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ وَمَعَهُمْ مِائَةُ فَرَسٍ، فَسَارَ فِي أَرْبَعِ سَفَائِنَ، فَخَرَجَ فِي جَزِيرَةٍ بِالْأَنْدَلُسِ، فَسُمِّيَتْ جَزِيرَةُ طَرِيفٍ لِنُزُولِهِ فِيهَا، ثُمَّ أَغَارَ عَلَى الْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ، فَأَصَابَ غَنِيمَةً كَثِيرَةً، وَرَجَعَ سَالِمًا فِي رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ. فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ تَسَرَّعُوا إِلَى الْغَزْوِ. ثُمَّ إِنَّ مُوسَى دَعَا مَوْلًى لَهُ كَانَ عَلَى مُقَدِّمَاتِ جُيُوشِهِ يُقَالُ لَهُ طَارِقُ بْنُ زِيَادٍ، فَبَعَثَهُ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُهُمُ الْبَرْبَرُ وَالْمُوَالِي وَأَقَلُّهُمُ الْعَرَبُ، فَسَارُوا فِي الْبَحْرِ، وَقَصَدَ إِلَى جَبَلٍ مُنِيفٍ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِالْبَرِّ فَنَزَلَهُ، فَسُمِّيَ الْجَبَلُ جَبَلَ طَارِقٍ إِلَى الْيَوْمِ، وَلَمَّا مَلَكَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ الْبِلَادَ أَمَرَ بِبِنَاءِ مَدِينَةٍ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ وَسَمَّاهُ جَبَلَ الْفَتْحِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ هَذَا الِاسْمُ وَجَرَتِ الْأَلْسِنَةُ عَلَى الْأَوَّلِ.

وَكَانَ حُلُولُ طَارِقٍ فِيهِ فِي رَجَبٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَلَمَّا رَكِبَ طَارِقٌ الْبَحْرَ غَلَبَتْهُ عَيْنُهُ، فَرَأَى النَّبِيَّ وَمَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ قَدْ تَقَلَّدُوا السُّيُوفَ وَتَنْكَبُّوا الْقِسِيَّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا طَارِقُ تَقَدَّمْ لِشَأْنِكَ. وَأَمَرَهُ بِالرِّفْقِ بِالْمُسْلِمِينَ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، فَنَظَرَ طَارِقٌ فَرَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابَهُ قَدْ دَخَلُوا الْأَنْدَلُسَ أَمَامَهُ، فَاسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهُ مُسْتَبْشِرًا، وَبَشَّرَ أَصْحَابَهُ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ، وَلَمْ يَشُكَّ فِي الظَّفَرِ. فَلَمَّا تَكَامَلَ أَصْحَابُ طَارِقٍ بِالْجَبَلِ نَزَلَ إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَفَتَحَ الْجَزِيرَةَ الْخَضْرَاءَ، فَأَصَابَ بِهَا عَجُوزًا، فَقَالَتْ لَهُ: إِنِّي كَانَ لِي زَوْجٌ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْحَوَادِثِ، وَكَانَ يُحَدِّثُهُمْ عَنْ أَمِيرٍ يَدْخُلُ بَلَدَهُمْ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ، وَوَصَفَ مِنْ نَعْتِهِ أَنَّهُ ضَخْمُ الْهَامَةِ، وَأَنَّ فِي كَتِفِهِ الْيُسْرَى شَامَةٌ عَلَيْهَا شَعْرٌ، فَكَشَفَ طَارِقٌ ثَوْبَهُ، فَإِذَا الشَّامَةُ كَمَا ذَكَرَتْ، فَاسْتَبْشَرَ طَارِقٌ أَيْضًا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ. وَنَزَلَ مِنَ الْجَبَلِ إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَافْتَتَحَ الْجَزِيرَةَ الْخَضْرَاءَ وَغَيْرَهَا، وَفَارَقَ الْحِصْنَ الَّذِي فِي الْجَبَلِ. وَلَمَّا بَلَغَ رُذَرِيقُ غَزْوَ طَارِقٍ بِلَادَهُ عَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ غَائِبًا فِي غَزَاتِهِ، فَرَجَعَ مِنْهَا وَطَارِقٌ قَدْ دَخَلَ بِلَادَهُ، فَجَمَعَ لَهُ جَمْعًا يُقَالُ بَلَغَ مِائَةَ أَلْفٍ، فَلَمَّا بَلَغَ طَارِقًا الْخَبَرُ كَتَبَ إِلَى مُوسَى يَسْتَمِدُّهُ وَيُخْبِرُهُ بِمَا فَتَحَ، وَأَنَّهُ زَحَفَ إِلَيْهِ مَلِكُ الْأَنْدَلُسِ بِمَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، فَتَكَامَلَ الْمُسْلِمُونَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَمَعَهُمْ يُولْيَانُ يَدُلُّهُمْ عَلَى عَوْرَةِ الْبِلَادِ، وَيَتَجَسَّسُ لَهُمُ الْأَخْبَارَ. فَأَتَاهُمْ رُذَرِيقُ فِي جُنْدِهِ، فَالْتَقَوْا عَلَى نَهْرِ لَكَّةَ مِنْ أَعْمَالِ شَذُونَةَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ، وَاتَّصَلَتِ الْحَرْبُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ وَمَيْسَرَتِهِ وَلَدَا الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الْهَزِيمَةِ بُغْضًا لِرُذَرِيقَ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا امْتَلَأَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ عَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَبَقِيَ الْمُلْكُ لَنَا. فَانْهَزَمُوا وَهَزَمَ اللَّهُ رُذَرِيقَ وَمَنْ مَعَهُ، وَغَرِقَ رُذَرِيقُ فِي النَّهْرِ، وَسَارَ طَارِقٌ إِلَى مَدِينَةِ إِسْتِجَةَ مُتَّبِعًا لَهُمْ، فَلَقِيَهُ أَهْلُهَا وَمَعَهُمْ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْهَزَمَ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ، وَلَمْ يَلْقَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهَا حَرْبًا مِثْلَهَا. وَنَزَلَ طَارِقٌ عَلَى عَيْنٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَدِينَةِ إِسْتِجَةَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ، فَسُمِّيَتْ عَيْنُ طَارِقٍ إِلَى الْآنِ.

وَلَمَّا سَمِعَتِ الْقُوطُ بِهَاتَيْنِ الْهَزِيمَتَيْنِ قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يَفْعَلُ فِعْلَ طَرِيفٍ، فَهَرَبُوا إِلَى طُلَيْطِلَةَ، وَكَانَ قَدْ أَوْهَمَهُمْ أَنَّهُ يَأْكُلُهُمْ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ. فَلَمَّا دَخَلُوا طُلَيْطِلَةَ، وَأَخْلَوْا مَدَائِنَ الْأَنْدَلُسِ قَالَ لَهُ يُولْيَانُ: قَدْ فَرَغْتَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، فَفَرِّقْ جُيُوشَكَ وَسِرْ أَنْتَ إِلَى طُلَيْطِلَةَ. فَفَرَّقَ جُيُوشَهُ مِنْ مَدِينَةِ إِسْتِجَةَ، وَبَعَثَ جَيْشًا إِلَى قُرْطُبَةَ، وَجَيْشًا إِلَى غَرْنَاطَةَ، وَجَيْشًا إِلَى مَالِقَةَ، وَجَيْشًا إِلَى تُدْمِيرَ، وَسَارَ هُوَ وَمُعْظَمُ الْجَيْشِ إِلَى جَيَّانَ يُرِيدُ طُلَيْطِلَةَ. فَلَمَّا بَلَغَ طُلَيْطِلَةَ وَجَدَهَا خَالِيَةً، وَقَدْ لَحِقَ مَنْ كَانَ بِهَا بِمَدِينَةٍ خَلْفَ الْجَبَلِ يُقَالُ لَهَا: مَايَةَ. فَأَمَّا الْجَيْشُ الَّذِي سَارَ إِلَى قُرْطُبَةَ فَإِنَّهُمْ دَلَّهُمْ رَاعٍ عَلَى ثَغْرَةٍ فِي سُورِهَا، فَدَخَلُوا مِنْهَا الْبَلَدَ وَمَلَكُوهُ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَصَدُوا تُدْمِيرَ فَلَقِيَهُمْ صَاحِبُهَا، وَاسْمُهُ تُدْمِيرُ وَبِهِ سُمِّيَتْ، وَكَانَ اسْمُهَا أَرْوَيُولَةَ، وَكَانَ مَعَهُ جَيْشٌ كَثِيفٌ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْهَزَمَ فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأَمَرَ تُدْمِيرُ النِّسَاءَ، فَلَبِسْنَ السِّلَاحَ، ثُمَّ صَالَحَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا، وَفَتَحَ سَائِرُ الْجُيُوشِ مَا قَصَدُوا إِلَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ. وَأَمَّا طَارِقٌ، فَلَمَّا رَأَى طُلَيْطِلَةَ فَارِغَةً ضَمَّ إِلَيْهَا الْيَهُودَ، وَتَرَكَ مَعَهُمْ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَسَارَ هُوَ إِلَى وَادِي الْحِجَارَةِ، فَقَطَعَ الْجَبَلَ مِنْ فَجٍّ فِيهِ، فَسُمِّيَ بِفَجِّ طَارِقٍ إِلَى الْيَوْمِ. وَانْتَهَى إِلَى مَدِينَةٍ خَلْفَ الْجَبَلِ تُسَمَّى مَدِينَةَ الْمَائِدَةِ، وَفِيهَا وَجَدَ مَائِدَةَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ مِنْ زَبَرْجَدٍ خُضْرٍ، حَافَّاتُهَا وَأَرْجُلُهَا مِنْهَا مُكَلَّلَةٌ بِاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالْيَاقُوتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ لَهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ رِجْلًا. ثُمَّ مَضَى إِلَى مَدِينَةِ مَايَةَ، فَغَنِمَ مِنْهَا وَرَجَعَ إِلَى طُلَيْطِلَةَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ. وَقِيلَ: اقْتَحَمَ أَرْضَ جِلِّيقِيَّةَ، فَخَرَقَهَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَدِينَةِ إِسْتَرْقَةَ، وَانْصَرَفَ إِلَى طُلَيْطِلَةَ، وَوَافَتْهُ جُيُوشُهُ الَّتِي وَجَّهَهَا مِنْ إِسْتِجَةَ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ فَتْحِ تِلْكَ الْمُدُنِ الَّتِي سَيَّرَهُمْ إِلَيْهَا. وَدَخْلَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ الْأَنْدَلُسَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ مَا صَنَعَ طَارِقٌ فَحَسَدَهُ، فَلَمَّا عَبَرَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ وَنَزَلَ الْجَزِيرَةَ الْخَضْرَاءَ قِيلَ لَهُ: تَسْلُكُ طَرِيقَ طَارِقٍ، فَأَبَى، فَقَالَ لَهُ الْأَدِلَّاءُ: نَحْنُ نَدُلُّكَ عَلَى طَرِيقٍ أَشْرَفَ مِنْ طَرِيقِهِ وَمَدَائِنَ لَمْ تُفْتَحْ بَعْدُ، وَوَعَدَهُ يُولْيَانُ بِفَتْحٍ عَظِيمٍ، فَسُرَّ بِذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ غَمَّهُ.

فَسَارُوا بِهِ إِلَى مَدِينَةِ ابْنِ السُّلَيْمِ فَافْتَتَحَهَا عَنْوَةً، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَدِينَةِ قَرْمُونَةَ، وَهِيَ أَحْصَنُ مُدُنِ الْأَنْدَلُسِ، فَقَدِمَ إِلَيْهَا يُولْيَانُ وَخَاصَّتُهُ، فَأَتَوْهُمْ عَلَى حَالِ الْمُنْهَزِمِينَ مَعَهُمُ السِّلَاحُ، فَأَدْخَلُوهُمْ مَدِينَتَهُمْ، فَأَرْسَلَ مُوسَى إِلَيْهِمُ الْخَيْلَ، فَفَتَحُوهَا لَهُمْ لَيْلًا، فَدَخَلَهَا الْمُسْلِمُونَ وَمَلَكُوهَا، ثُمَّ سَارَ مُوسَى إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَدَائِنِ الْأَنْدَلُسِ بُنْيَانًا وَأَعَزِّهَا آثَارًا، فَحَصَرَهَا أَشْهُرًا، وَفَتَحَهَا وَهَرَبَ مَنْ بِهَا، فَأَنْزَلَهَا مُوسَى الْيَهُودَ، وَسَارَ إِلَى مَدِينَةٍ مَارِدَةَ فَحَصَرَهَا، وَقَدْ كَانَ أَهْلُهَا خَرَجُوا إِلَيْهِ فَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَمِنَ لَهُمْ مُوسَى لَيْلًا فِي مَقَاطِعِ الصَّخْرِ، فَلَمْ يَرَهُمُ الْكُفَّارُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا زَحَفَ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَادَتِهِمْ، فَخَرَجُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْكَمِينِ وَأَحْدَقُوا بِهِمْ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَلَدِ، وَقَتَلُوهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَنَجَا مَنْ نَجَا مِنْهُمْ، فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَتْ حَصِينَةً، فَحَصَرَهُمْ بِهَا أَشْهُرًا، وَقَاتَلَهُمْ، وَزَحَفَ إِلَيْهِمْ بِدَبَّابَةٍ عَمِلَهَا وَنَقَبُوا سُورَهَا، فَخَرَجَ أَهْلُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلُوهُمْ عِنْدَ الْبُرْجِ، فَسَمِّي بُرْجَ الشُّهَدَاءِ إِلَى الْيَوْمِ، ثُمَّ افْتَتَحَهَا آخِرَ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ يَوْمَ الْفِطْرِ صُلْحًا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَمْوَالِ الْقَتْلَى يَوْمَ الْكَمِينِ وَأَمْوَالَ الْهَارِبِينَ إِلَى جِلِّيقِيَّةَ وَأَمْوَالَ الْكَنَائِسِ وَحُلِيَّهَا لِلْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ إِشْبِيلِيَّةَ اجْتَمَعُوا وَقَصَدُوهَا، فَقَتَلُوا مَنْ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَّرَ مُوسَى إِلَيْهَا ابْنَهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بِجَيْشٍ، فَحَصَرَهَا وَمَلَكَهَا عَنْوَةً، وَقَتَلَ مَنْ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، وَسَارَ عَنْهَا إِلَى لَبْلَةَ وَبَاجَةَ، فَمَلَكَهَا، وَعَادَ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ. وَسَارَ مُوسَى مِنْ مَدِينَةٍ مَارِدَةَ فِي شَوَّالٍ يُرِيدُ طُلَيْطِلَةَ، فَخَرَجَ طَارِقٌ إِلَيْهِ فَلَقِيَهُ، فَلَمَّا أَبْصَرَهُ نَزَلَ إِلَيْهِ، فَضَرَبَهُ مُوسَى بِالسَّوْطِ عَلَى رَأْسِهِ، وَوَبَّخَهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ خِلَافِهِ، ثُمَّ سَارَ بِهِ إِلَى مَدِينَةِ طُلَيْطِلَةَ، فَطَلَبَ مِنْهُ مَا غَنِمَ وَالْمَائِدَةَ أَيْضًا، فَأَتَاهُ بِهَا وَقَدِ انْتَزَعَ رِجْلًا مِنْ أَرْجُلِهَا، فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي، كَذَلِكَ وَجَدْتُهَا، فَعَمِلَ عِوَضَهَا مِنْ ذَهَبٍ. وَسَارَ مُوسَى إِلَى سَرَقُسْطَةَ وَمَدَائِنِهَا، فَافْتَتَحَهَا وَأَوْغَلَ فِي بِلَادِ الْفِرِنْجِ، فَانْتَهَى إِلَى مَفَازَةٍ كَبِيرَةٍ وَأَرْضٍ سَهْلَةٍ ذَاتَ آثَارٍ، فَأَصَابَ فِيهَا صَنَمًا قَائِمًا فِيهِ مَكْتُوبٌ بِالنَّقْرِ: يَا بَنِي إِسْمَاعِيلَ إِلَى هَاهُنَا مُنْتَهَاكُمْ فَارْجِعُوا، وَإِنْ سَأَلْتُمْ إِلَى مَاذَا تَرْجِعُونَ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّكُمْ تَرْجِعُونَ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِيمَا بَيْنَكُمْ، حَتَّى يَضْرِبَ بَعْضُكُمْ أَعْنَاقَ بَعْضٍ، وَقَدْ فَعَلْتُمْ. فَرَجَعَ وَوَافَاهُ رَسُولُ الْوَلِيدِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ عَنِ الْأَنْدَلُسِ وَالْقُفُولِ إِلَيْهِ،

فَسَاءَهُ ذَلِكَ وَمَطَلَ الرَّسُولَ، وَهُوَ يَقْصِدُ بِلَادَ الْعَدُوِّ فِي غَيْرِ نَاحِيَةِ الصَّنَمِ، يَقْتُلُ، وَيَسْبِي، وَيَهْدِمُ الْكَنَائِسَ، وَيُكَسِّرُ النَّوَاقِيسَ، حَتَّى بَلَغَ صَخْرَةَ بِلَايْ عَلَى الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ، وَهُوَ فِي قُوَّةٍ وَظُهُورٍ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ رَسُولٌ آخَرُ لِلْوَلِيدِ يَسْتَحِثُّهُ، وَأَخَذَ بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ وَأَخْرَجَهُ، وَكَانَ مُوَافَاةُ الرَّسُولِ بِمَدِينَةٍ لَكَّ بِجِلِّيقِيَّةَ، وَخَرَجَ عَلَى الْفَجِّ الْمَعْرُوفِ بِفَجِّ مُوسَى، وَوَافَاهُ طَارِقٌ مِنَ الثَّغْرِ الْأَعْلَى، فَأَقْفَلَهُ مَعَهُ وَمَضَيَا جَمِيعًا. وَاسْتَخْلَفَ مُوسَى عَلَى الْأَنْدَلُسِ ابْنَهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مُوسَى، فَلَمَّا عَبَرَ الْبَحْرَ إِلَى سَبْتَهَ اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا وَعَلَى طَنْجَةَ وَمَا وَالَاهُمَا ابْنَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَأَعْمَالِهَا ابْنَهُ الْكَبِيرَ عَبْدَ اللَّهِ، وَسَارَ إِلَى الشَّامِ، وَحَمَلَ الْأَمْوَالَ الَّتِي غُنِمَتْ مِنَ الْأَنْدَلُسِ وَالذَّخَائِرَ وَالْمَائِدَةَ، وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ بِكْرٍ مِنْ بَنَاتِ مُلُوكِ الْقُوطِ وَأَعْيَانِهِمْ، وَمِنْ نَفِيسِ الْجَوْهَرِ وَالْأَمْتِعَةِ مَا لَا يُحْصَى، فَوَرَدَ الشَّامَ، وَقَدْ مَاتَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَاسْتُخْلِفَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ مُنْحَرِفًا عَنْ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ، فَعَزَلَهُ عَنْ جَمِيعِ أَعْمَالِهِ، وَأَقْصَاهُ وَحَبَسَهُ وَأَغْرَمَهُ حَتَّى احْتَاجَ أَنْ يَسْأَلَ الْعَرَبَ فِي مَعُونَتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ قَدِمَ الشَّامَ وَالْوَلِيدُ حَيٌّ، وَكَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ وَادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَتَحَ الْأَنْدَلُسَ، وَأَخْبَرَهُ خَبَرَ الْمَائِدَةِ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ عَرَضَ عَلَيْهِ مَا مَعَهُ وَعَرْضَ الْمَائِدَةَ، وَمَعَهُ طَارِقٌ، فَقَالَ طَارِقٌ: أَنَا غَنِمْتُهَا. فَكَذَّبَهُ مُوسَى. فَقَالَ طَارِقٌ لِلْوَلِيدِ: سَلْهُ عَنْ رِجْلِهَا الْمَعْدُومَةِ. فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا عِلْمٌ، فَأَظْهَرَهَا طَارِقٌ، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَخْفَاهَا لِهَذَا السَّبَبِ. فَعَلِمَ الْوَلِيدُ صِدْقَ طَارِقٍ، وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا لِأَنَّهُ كَانَ حَبَسَهُ وَضَرَبَهُ حَتَّى أَرْسَلَ الْوَلِيدُ فَأَخْرَجَهُ، وَقِيلَ: لَمْ يَحْبِسْهُ. قَالُوا: وَلَمَّا دَخَلَتِ الرُّومُ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ كَانَ فِي مَمْلَكَتِهِمْ بَيْتٌ إِذَا وَلِيَ مَلِكٌ مِنْهُمْ أَقْفَلَ عَلَيْهِ قُفْلًا، فَلَمَّا مَلَكَتِ الْقُوطُ فَعَلُوا كَفِعْلِهِمْ، فَلَمَّا مَلَكَ رُذَرِيقُ أَرَادَ فَتْحَ الْأَقْفَالِ، فَنَهَاهُ أَكَابِرُ أَهْلِ الْبِلَادِ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، وَفَتَحَ الْأَقْفَالَ، فَرَأَى فِي الْبَيْتِ صُوَرَ الْعَرَبِ وَعَلَيْهِمُ الْعَمَائِمُ الْحُمْرُ عَلَى خُيُولٍ شُهُبٍ، وَفِيهِ كِتَابٌ: إِذَا فُتِحَ هَذَا الْبَيْتُ دَخَلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ هَذَا الْبَلَدَ. فَفُتِحَتِ الْأَنْدَلُسُ تِلْكَ السَّنَةَ. فَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي فَتْحِ الْأَنْدَلُسِ، وَنَذْكُرُ بَاقِيَ أَخْبَارِ الْأَنْدَلُسِ عِنْدَ أَوْقَاتِ حُدُوثِهَا عَلَى مَا شَرَطْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ذِكْرُ غَزْوَةِ جَزِيرَةِ سَرْدَانِيَّةَ هَذِهِ الْجَزِيرَةُ فِي بَحْرِ الرُّومِ، وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْجَزَائِرِ مَا عَدَا جَزِيرَةَ صِقِلِّيَةَ وَأَقْرِيطِشَ، وَهِيَ كَثِيرَةُ الْفَوَاكِهِ، وَلَمَّا فَتَحَ مُوسَى بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ سَيَّرَ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ فِي الْبَحْرِ إِلَى هَذِهِ الْجَزِيرَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ، فَدَخَلُوهَا، وَعَمَدَ النَّصَارَى إِلَى مَالِهِمْ مِنْ آنِيَةِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، فَأَلْقَوُا الْجَمِيعَ فِي الْمِينَاءِ الَّذِي لَهُمْ، وَجَعَلُوا أَمْوَالَهُمْ فِي سَقْفٍ بَنَوْهُ لِلْبَيْعَةِ الْعُظْمَى الَّتِي لَهُمْ تَحْتَ السَّقْفِ الْأَوَّلِ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ فِيهَا مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، وَأَكْثَرُوا الْغُلُولَ. فَاتَّفَقَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اغْتَسَلَ فِي الْمِينَاءِ، فَعَلِقَتْ رِجْلُهُ فِي شَيْءٍ، فَأَخْرَجَهُ فَإِذَا صَحْفَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى تِلْكَ الْكَنِيسَةِ، فَنَظَرَ إِلَى حَمَامٍ فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَأَخْطَأَهُ، وَوَقَعَ فِي السَّقْفِ، وَانْكَسَرَ لَوْحٌ، فَنَزَلَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَأَخَذُوا الْجَمِيعَ، وَازْدَادَ الْمُسْلِمُونَ غُلُولًا، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَذْبَحُ الْهِرَّةَ وَيَرْمِي مَا فِي جَوْفِهَا فَيَمْلَأُهُ دَنَانِيرَ وَيَخِيطُ عَلَيْهَا وَيُلْقِيهَا فِي الطَّرِيقِ، فَإِذَا خَرَجَ أَخَذَهَا، وَكَانَ يَضَعُ قَائِمَ سَيْفِهِ عَلَى الْجَفْنِ، وَيَمْلَأَهُ ذَهَبًا. فَلَمَّا رَكِبُوا فِي الْبَحْرِ سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ غَرِّقْهُمْ، فَغَرِقُوا عَنْ آخِرِهِمْ، فَوَجَدُوا أَكْثَرَ الْغَرْقَى وَالدَّنَانِيرُ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ. [سَنَةَ 135 هـ] وَفِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ غَزَاهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ الْفِهْرِيُّ، فَقَتَلَ مَنْ بِهَا قَتْلًا ذَرِيعًا، ثُمَّ صَالَحُوهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، فَأُخِذَتْ مِنْهُمْ وَبَقِيَتْ وَلَمْ يَغْزُهَا بَعْدَهُ أَحَدٌ، فَعَمَّرَهَا الرُّومُ. [سَنَةَ 323 هـ] فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، أَخْرَجَ إِلَيْهَا الْمَنْصُورُ بْنُ الْقَائِمِ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ أُسْطُولًا مِنَ الْمَهْدِيَّةِ، فَمَرُّوا بِجِنْوَةَ، فَفَتَحُوا الْمَدِينَةَ، وَأَوْقَعُوا بِأَهْلٍ سَرْدَانِيَّةَ وَسَبَوْا فِيهَا، وَأَحْرَقُوا مَرَاكِبَ كَثِيرَةً، وَأَخْرَبُوا جِنْوَةَ وَغَنِمُوا مَا فِيهَا.

[سَنَةَ 604 هـ] وَفِي سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِمِائَةٍ غَزَاهَا مُجَاهِدٌ الْعَامِرِيُّ مِنْ دَانِيَةَ، وَكَانَ صَاحِبُهَا فِي الْبَحْرِ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مَرْكِبًا، فَفَتَحَهَا، وَقَتَلَ فَأَكْثَرَ، وَسَبَى النِّسَاءَ وَالذُّرِّيَّةَ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ مُلُوكُ الرُّومِ، فَجَمَعُوا إِلَيْهِ، وَسَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الْبَرِّ الْكَبِيرِ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ، فَاقْتَتَلُوا، وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، وَأُخْرِجُوا مِنْ جَزِيرَةِ سَرْدَانِيَّةَ، وَأُخِذَتْ بَعْضُ مَرَاكِبِهِمْ، وَأُسِرَ أَخُو مُجَاهِدٍ وَابْنُهُ عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، وَرَجَعَ بِمَنْ بَقِيَ إِلَى دَانِيَةَ، وَلَمْ تَغْزَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا جَمِيعَ أَخْبَارِهَا هَاهُنَا لِقِلَّتِهَا، وَإِذَا تَفَرَّقَتْ لَمْ تُعْرَفْ كَمَا يَجِبُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرْضَ الرُّومِ، فَفَتَحَ حُصُونًا ثَلَاثَةً، وَجَلًّا أَهْلَ سُوسَنَةَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا قُتَيْبَةُ سِجِسْتَانَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَأَرَادَ قَصْدَ رُتْبِيلَ الْأَعْظَمَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُتَيْبَةُ سِجِسْتَانَ أَرْسَلَ رُتْبِيلُ إِلَيْهِ رُسُلًا بِالصُّلْحِ، فَقَبِلَ ذَلِكَ وَانْصَرَفَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ رَبِّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيَّ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَكَانَ عُمَّالُ الْأَمْصَارِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ الْبَصْرِيُّ، وَمِنْ وَلَدِ نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، بِالْمَدِينَةِ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً.

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ] 93 - ذِكْرُ صُلْحِ خُوَارَزْمِشَاهْ وَفَتْحِ خَامْ جُرْدَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ صَالَحَ قُتَيْبَةُ خُوَارَزْمَشَاهْ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَلِكَ خُوَارَزْمَ كَانَ ضَعِيفًا، فَغَلَبَهُ أَخُوهُ خُرَّزَادُ عَلَى أَمْرِهِ، وَكَانَ أَصْغَرَ مِنْهُ، وَكَانَ إِذَا بَلَغَهُ أَنَّ عِنْدَ أَحَدٍ مِمَّنْ هُوَ مُنْقَطِعٌ إِلَى الْمَلِكِ جَارِيَةً أَوْ مَالًا أَوْ دَابَّةً أَوْ بِنْتًا أَوْ أُخْتًا أَوِ امْرَأَةً جَمِيلَةً أَرْسَلَ إِلَيْهِ وَأَخَذَهُ مِنْهُ، وَكَانَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا الْمَلِكُ، فَإِذَا قِيلَ لِلْمَلِكِ، قَالَ: لَا أَقْوَى بِهِ وَهُوَ مُغْتَاظٌ عَلَيْهِ. فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَتَبَ إِلَى قُتَيْبَةَ يَدْعُوهُ إِلَى أَرْضِهِ لِيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ أَخَاهُ وَكُلَّ مَنْ يُضَادَّهُ لِيَحْكُمَ فِيهِمْ بِمَا يَرَى، وَلَمْ يَطَّلِعْ أَحَدٌ مِنْ مَرَازِبَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ قُتَيْبَةُ إِلَى مَا طَلَبَ، وَتَجَهَّزُ لِلْغَزْوِ، وَأَظْهَرَ قُتَيْبَةُ أَنَّهُ يُرِيدُ الصُّغْدَ، وَسَارَ مِنْ مَرْوَ، وَجَمَعَ خُوَارَزْمَشَاهْ أَجْنَادُهُ وَدَهَاقِنَتَهُ، فَقَالَ: إِنَّ قُتَيْبَةَ يُرِيدُ الصُّغْدَ وَلَيْسَ يُغَازِيكُمْ، فَهَلُمُّوا نَتَنَعَّمُ فِي رَبِيعِنَا هَذَا. فَأَقْبَلُوا عَلَى الشُّرْبِ وَالتَّنَعُّمِ، فَلَمْ يَشْعُرُوا حَتَّى نَزَلَ قُتَيْبَةُ فِي هِزَارَسِبَ، فَقَالَ خُوَارَزْمَشَاهْ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: نَرَى أَنْ نُقَاتِلَهُ. قَالَ: لَكِنِّي لَا أَرَى ذَلِكَ; لِأَنَّهُ قَدْ عَجَزَ عَنْهُ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنَّا وَأَشَدُّ شَوْكَةً، وَلَكِنْ أَصْرِفُهُ بِشَيْءٍ أُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ. فَسَارَ خُوَارَزْمَشَاهْ فَنَزَلَ بِمَدِينَةِ الْفِيلِ مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ، وَهِيَ أَحْصَنُ بِلَادِهِ، وَقُتَيْبَةُ لَمْ يَعْبُرِ النَّهْرَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ خُوَارَزْمُشَاهْ، فَصَالَحَهُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ رَأْسٍ وَعَيْنٍ وَمَتَاعٍ، وَعَلَى أَنْ يُعِينَهُ عَلَى خَامَ جُرْدَ، فَقَبِلَ قُتَيْبَةُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ رَأْسٍ، ثُمَّ بَعَثَ قُتَيْبَةُ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى خَامَ جُرْدَ، وَكَانَ يُغَازِي خُوَارَزْمَشَاهْ، فَقَاتَلَهُ فَقَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَغَلَبَ عَلَى أَرْضِهِ، وَقَدِمَ مِنْهُمْ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ أَسِيرٍ، فَقَتَلَهُمْ قُتَيْبَةُ، وَسَلَّمَ قُتَيْبَةُ إِلَى خُوَارَزْمَشَاهْ أَخَاهُ وَمَنْ كَانَ يُخَالِفُهُ، فَقَتَلَهُمْ وَدَفَعَ أَمْوَالَهُمْ إِلَى قُتَيْبَةَ.

ذِكْرُ فَتْحِ سَمَرْقَنْدَ فَلَمَّا قَبَضَ قُتَيْبَةُ صُلْحَ خُوَارَزْمَشَاهْ قَامَ إِلَيْهِ الْمُجَشِّرُ بْنُ مُزَاحِمٍ السُّلَمِيُّ. فَقَالَ لَهُ سِرًّا: إِنْ أَرَدْتَ الصُّغْدَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ فَالْآنَ، فَإِنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَامِلُ هَذَا، وَإِنَّمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَةُ أَيَّامٍ. قَالَ: أَشَارَ عَلَيْكَ بِهَذَا أَحَدٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَسَمِعَهُ مِنْكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ تَكَلَّمَ بِهِ أَحَدٌ لَأَضْرِبَّنَ عُنُقَكَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَمَرَ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَسَارَ فِي الْفُرْسَانِ وَالرُّمَاةِ، وَقَدَّمَ الْأَثْقَالَ إِلَى مَرْوَ، فَسَارَ يَوْمَهُ، فَلَمَّا أَمْسَى كَتَبَ إِلَيْهِ قُتَيْبَةُ: إِذَا أَصْبَحْتَ فَوَجِّهِ الْأَثْقَالَ إِلَى مَرْوَ، وَسِرْ بِالْفُرْسَانِ وَالرُّمَاةِ نَحْوَ الصُّغْدِ، وَاكْتُمِ الْأَخْبَارَ، فَإِنِّي فِي الْأَثَرِ. فَفَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَا أَمَرَهُ، وَخَطَبَ قُتَيْبَةُ النَّاسَ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الصُّغْدَ شَاغِرَةٌ بِرِجْلِهَا، وَقَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَصَنَعُوا مَا بَلَغَكُمْ، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ خُوَارَزْمُ وَالصُّغْدُ كَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. ثُمَّ سَارَ فَأَتَى الصُّغْدَ فَبَلَغَهَا بَعْدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ، وَقَدِمَ مَعَهُ أَهْلُ خُوَارَزْمَ وَبُخَارَى، فَقَاتَلُوهُ شَهْرًا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُمْ مَحْصُورُونَ. وَخَافَ أَهْلُ الصُّغْدِ طُولَ الْحِصَارِ، فَكَتَبُوا إِلَى الْمَلِكِ الشَّاشِ وَخَاقَانَ وَأَخْشَادَ فَرْغَانَةَ: إِنَّ الْعَرَبَ [إِنْ] ظَفِرُوا بِنَا أَتَوْكُمْ بِمِثْلِ مَا أَتَوْنَا بِهِ، فَانْظُرُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَهْمَا كَانَ عِنْدَكُمْ مِنْ قُوَّةٍ فَابْذُلُوهَا. فَنَظَرُوا، وَقَالُوا: إِنَّمَا نُؤْتَى مِنْ سَفِلَتِنَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ كَوَجْدِنَا. فَانْتَخَبُوا مِنْ أَوْلَادِ الْمُلُوكِ وَأَهْلِ النَّجْدَةِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمَرَازِبَةِ وَالْأَسَاوِرَةِ وَالْأَبْطَالِ، وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يَأْتُوا عَسْكَرَ قُتَيْبَةَ فَيُبَيِّتُوهُ، فَإِنَّهُ مَشْغُولٌ عَنْهُ بِحِصَارِ سَمَرْقَنْدَ، وَوَلَّوْا عَلَيْهِ ابْنًا لِخَاقَانَ، فَسَارُوا. وَبَلَغَ قُتَيْبَةَ الْخَبَرُ، فَانْتَخَبَ مِنْ عَسْكَرِهِ أَرْبَعَمِائَةٍ، وَقِيلَ: سِتَّمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَأَعْلَمَهُمُ الْخَبَرَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى عَدُوِّهِمْ، فَسَارُوا وَعَلَيْهِمْ صَالِحُ بْنُ مُسْلِمٍ، فَنَزَلُوا عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنَ الْعَسْكَرِ عَلَى طَرِيقِ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ صَالِحٌ لَهُ كَمِينَيْنِ، فَلَمَّا مَضَى نِصْفُ اللَّيْلِ جَاءَهُمْ عَدُوُّهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا صَالِحًا حَمَلُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا اقْتَتَلُوا شَدَّ الْكَمِينَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، فَلَمْ يُرَ قَوْمٌ كَانُوا أَشَدَّ مِنْ أُولَئِكَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّا لَنُقَاتِلُهُمْ إِذْ رَأَيْتُ تَحْتَ اللَّيْلِ قُتَيْبَةَ وَقَدْ جَاءَ سِرًّا، فَضَرَبْتُ ضَرْبَةً أَعْجَبَتْنِي. فَقُلْتُ: كَيْفَ تَرَى بِأُمِّي وَأَبِي؟ قَالَ: اسْكُتْ فَضَّ اللَّهُ فَاكَ. قَالَ: فَقَتَلْنَاهُمْ فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ، وَحَوَيْنَا أَسَلَابَهُمْ وَسِلَاحَهُمْ، فَاحْتَزَزْنَا رُءُوسَهُمْ وَأَسَرْنَا مِنْهُمْ أَسْرَى، فَسَأَلْنَاهُمْ عَمَّنْ قَتَلْنَا

فَقَالُوا: مَا قَتَلْتُمْ إِلَّا ابْنَ مَلِكٍ أَوْ عَظِيمًا أَوْ بَطَلًا، كَانَ الرَّجُلُ يُعَدُّ بِمِائَةِ رَجُلٍ، وَكَتَبْنَا أَسْمَاءَهُمْ عَلَى آذَانِهِمْ، ثُمَّ دَخَلْنَا الْعَسْكَرَ حِينَ أَصْبَحْنَا، فَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْنَا بِهِ مِنَ الْقَتْلَى وَالْأَسْرَى وَالْخَيْلِ وَمَنَاطِقِ الذَّهَبِ وَالسِّلَاحِ، قَالَ: وَأَكْرَمَنِي قُتَيْبَةُ وَأَكْرَمَ مَعِي جَمَاعَةً، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ رَأَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي رَأَى مِنِّي. وَلَمَّا رَأَى الصُّغْدُ ذَلِكَ انْكَسَرُوا، وَنَصَبَ قُتَيْبَةُ عَلَيْهِمُ الْمَجَانِيقَ فَرَمَاهُمْ وَثَلَمَ ثُلْمَةً، فَقَامَ عَلَيْهَا رَجُلٌ شَتَمَ قُتَيْبَةَ، فَرَمَاهُ بَعْضُ الرُّمَاةِ فَقَتَلَهُ، فَأَعْطَاهُ قُتَيْبَةُ عَشَرَةَ آلَافٍ. وَسَمِعَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ قُتَيْبَةَ وَهُوَ يَقُولُ كَأَنَّمَا يُنَاجِي نَفْسَهُ: حَتَّى مَتَى يَا سَمَرْقَنْدُ يُعَشِّشُ فِيكِ الشَّيْطَانُ؟ أَمَّا وَاللَّهِ [لَئِنْ] أَصْبَحْتُ لَأُحَاوِلَنَّ مِنْ أَهْلِكِ أَقْصَى غَايَةٍ. فَانْصَرَفَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كَمْ مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ غَدًا! وَأَخْبَرَ الْخَبَرَ. فَلَمَّا أَصْبَحَ قُتَيْبَةُ أَمَرَ النَّاسَ بِالْجِدِّ فِي الْقِتَالِ، فَقَاتَلُوهُمْ وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَأَمَرَهُمْ قُتَيْبَةُ أَنْ يَبْلُغُوا ثُلْمَةَ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلُوا التِّرَسَةَ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَحَمَلُوا، فَبَلَغُوهَا وَوَقَفُوا عَلَيْهَا، وَرَمَاهُمُ الصُّغْدُ بِالنُّشَّابِ فَلَمْ يَبْرَحُوا. فَأَرْسَلَ الصُّغْدُ إِلَى قُتَيْبَةَ فَقَالُوا لَهُ: انْصَرِفْ عَنَّا الْيَوْمَ حَتَّى نُصَالِحَكَ غَدًا. فَقَالَ قُتَيْبَةُ: لَا نُصَالِحُهُمْ إِلَّا وَرِجَالُنَا عَلَى الثُّلْمَةِ، وَقِيلَ: بَلْ قَالَ قُتَيْبَةُ: جَزِعَ الْعَبِيدُ، انْصَرِفُوا عَلَى ظَفَرِكُمْ، فَانْصَرَفُوا فَصَالَحَهُمْ مِنَ الْغَدِ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفِ مِثْقَالٍ فِي كُلِّ عَامٍ، وَأَنْ يُعْطُوهُ تِلْكَ السَّنَةَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَأَنْ يُخْلُوا الْمَدِينَةَ لِقُتَيْبَةَ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِيهَا مُقَاتِلٌ، فَيَبْنِي فِيهَا مَسْجِدًا، وَيَدْخُلُ وَيُصَلِّي وَيَخْطُبُ وَيَتَغَدَّى وَيَخْرُجُ. فَلَمَّا تَمَّ الصُّلْحُ وَأَخْلَوُا الْمَدِينَةَ وَبَنَوُا الْمَسْجِدَ دَخَلَهَا قُتَيْبَةُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ انْتَخَبَهُمْ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى فِيهِ وَخَطَبَ، وَأَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الصُّغْدِ: مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَهُ فَلْيَأْخُذْ فَإِنِّي لَسْتُ خَارِجًا مِنْهَا وَلَسْتُ آخُذُ مِنْكُمْ إِلَّا مَا صَالَحْتُكُمْ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ الْجُنْدَ يُقِيمُونَ فِيهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِمْ فِي الصُّلْحِ مِائَةَ أَلْفِ فَارِسٍ، وَبُيُوتَ النِّيرَانِ وَحِلْيَةَ الْأَصْنَامِ، فَقَبَضَ ذَلِكَ، وَأُتِيَ بِالْأَصْنَامِ فَكَانَتْ كَالْقَصْرِ الْعَظِيمِ، وَأَخَذَ مَا عَلَيْهَا، وَأَمَرَ بِهَا فَأُحْرِقَتْ. فَجَاءَهُ غَوْزَكُ فَقَالَ: إِنْ شُكْرَكَ عَلَيَّ وَاجِبٌ، لَا تَتَعَرَّضْ لِهَذِهِ الْأَصْنَامِ، فَإِنَّ مِنْهَا أَصْنَامًا مَنْ أَحْرَقَهَا هَلَكَ. فَقَالَ قُتَيْبَةُ: أَنَا أَحْرِقُهَا بِيَدِي، فَدَعَا بِالنَّارِ فَكَبَّرَ، ثُمَّ أَشْعَلَهَا فَاحْتَرَقَتْ، فَوَجَدُوا مِنْ بَقَايَا مَسَامِيرِ الذَّهَبِ خَمْسِينَ أَلْفَ مِثْقَالٍ. وَأَصَابَ بِالصُّغْدِ جَارِيَةً مِنْ وَلَدِ يَزْدِجَرْدَ، فَأَرْسَلَهَا إِلَى الْحَجَّاجِ، فَأَرْسَلَهَا الْحَجَّاجُ

إِلَى الْوَلِيدِ، فَوَلَدَتْ لَهُ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ. وَأَمَرَ غَوْزَكَ بِالِانْتِقَالِ عَنْهَا فَانْتَقَلَ. وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَ سَمَرْقَنْدَ خَرَجُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ يُقَاتِلُونَهُمْ يَوْمَ فَتْحِهَا، وَقَدْ أَمَرَ قُتَيْبَةُ بِسَرِيرٍ فَأُبْرِزَ وَقَعَدَ عَلَيْهِ، فَطَاعَنُوهُمْ حَتَّى جَازُوا قُتَيْبَةَ وَإِنَّهُ لِمُحْتَبٍ بِسَيْفِهِ مَا حَلَّ حَبَوْتَهُ، وَانْطَوَتْ مُجَنِّبَتَا الْمُسْلِمِينَ عَلَى الَّذِينَ هَزَمُوا الْقَلْبَ، فَهَزَمُوهُمْ حَتَّى رَدُّوهُمْ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ فَصَالَحُوهُمْ، وَصَنَعَ غَوْزَكُ طَعَامًا وَدَعَا قُتَيْبَةَ، فَأَتَاهُ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا بَعُدَ اسْتَوْهَبَ مِنْهُ سَمَرْقَنْدَ وَقَالَ لِلْمَلِكِ: انْتَقِلْ عَنْهَا، فَلَمْ نَجِدْ بُدًّا مِنْ طَاعَتِهِ، وَتَلَا قُتَيْبَةُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} [النجم: 50] ، {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم: 51] . وَحُكِيَ عَنِ الَّذِي أَرْسَلَهُ قُتَيْبَةُ إِلَى الْحَجَّاجِ بِفَتْحِ سَمَرْقَنْدَ قَالَ: فَأَرْسَلَنِي الْحَجَّاجُ إِلَى الْوَلِيدِ، فَقَدِمْتُ دِمَشْقَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَدَخَلَتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا إِلَى جَنْبِي رَجُلٌ ضَرِيرٌ، فَسَأَلَنِي: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنْ خُرَاسَانَ، وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرَ سَمَرْقَنْدَ. فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مَا افْتَتَحْتُمُوهَا إِلَّا غَدْرًا! وَإِنَّكُمْ يَا أَهْلَ خُرَاسَانَ الَّذِينَ تَسْلُبُونَ بَنِي أُمَيَّةَ مُلْكَهُمْ، ثُمَّ تَنْقُضُونَ دِمَشْقَ حَجَرًا حَجَرًا. فَلَمَّا فَتَحَ قُتَيْبَةُ سَمَرْقَنْدَ قِيلَ: [إِنَّ] هَذَا لَأَعْدَى الْعَيْرَيْنِ، لِأَنَّهُ فَتَحَ سَمَرْقَنْدَ وَخُوَارَزْمَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَارِسَ إِذَا صَرَعَ فِي طَلْقٍ وَاحِدٍ عَيْرَيْنِ قِيلَ: عَادَى عَيْرَيْنِ. فَلَمَّا فَتَحَهَا قُتَيْبَةُ دَعَا نَهَارَ بْنَ تَوْسِعَةَ فَقَالَ: يَا نَهَارُ أَيْنَ قَوْلُكَ: أَلَا ذَهَبَ الْغَزْوُ الْمُقَرِّبُ لِلْغِنَى ... وَمَاتَ النَّدَى وَالْجُودُ بَعْدَ الْمُهَلَّبِ أَقَامَا بِمُرْوِ الرُّوذِ رَهَنَ ضَرِيحِهِ ... وَقَدْ غُيِّبَا عَنْ كُلِّ شَرْقٍ وَمَغْرِبِ أَفَغَزْوٌ هَذَا؟ قَالَ: لَا، هَذَا أَحْسَنُ، وَأَنَا الَّذِي أَقُولُ: وَمَا كَانَ مُذْ كُنَّا وَلَا كَانَ قَبْلَنَا ... وَلَا هُوَ فِيمَا بَعْدَنَا كَابْنِ مُسْلِمِ

أَعَمَّ لِأَهْلِ الشِّرْكِ قَتْلًا بِسَيْفِهِ وَأَكْثَرَ فِينَا مَقْسِمًا بَعْدَ مَقْسِمِ قَالَ: وَقَالَ الشُّعَرَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْكُمَيْتُ مِنْ قَصِيدَةٍ: ( كَانَتْ سَمَرْقَنْدُ أَحْقَابًا يَمَانِيَةً ... فَالْيَوْمَ تَنْسُبُهَا قَيْسِيَّةً مُضَرُ وَقَالَ كَعْبٌ الْأَشْقَرِيُّ، وَقِيلَ رَجُلٌ مِنْ جُعْفَى) : كُلَّ يَوْمٍ يَحْوِي قُتَيْبَةُ نَهْبًا ... وَيَزِيدُ الْأَمْوَالَ مَالًا جَدِيدَا بَاهِلِيٌّ قَدْ أُلْبِسَ التَّاجَ حَتَّى ... شَابَ مِنْهُ مَفَارِقٌ كُنَّ سُودَا دَوَّخَ الصُّغْدَ بِالْكَتَائِبِ حَتَّى ... تَرَكَ الصُّغْدَ بِالْعَرَاءِ قُعُودَا فَوَلِيدٌ يَبْكِي لِفَقْدِ أَبِيهِ ... وَأَبٌ مُوجَعٌ يُبَكِّي الْوَلِيدَا ثُمَّ رَجَعَ قُتَيْبَةُ إِلَى مَرْوَ، وَكَانَ أَهْلُ خُرَاسَانَ يَقُولُونَ: إِنْ قُتَيْبَةَ غَدَرَ بِأَهْلِ سَمَرْقَنْدَ فَمَلَكَهَا غَدْرًا. وَكَانَ عَامِلُهُ عَلَى خُوَارَزْمَ إِيَاسَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى حَرْبِهَا، وَكَانَ ضَعِيفًا، وَكَانَ عَلَى خَرَاجِهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ مَوْلَى مُسْلِمٍ. فَاسْتَضْعَفَ أَهْلُ خُوَارَزْمَ إِيَاسًا، فَجَمَعُوا لَهُ، فَكَتَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى قُتَيْبَةَ، فَبَعَثَ قُتَيْبَةُ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ عَامِلًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ إِيَاسًا وَحَيَّانَ النَّبَطِيَّ مِائَةً مِائَةً وَيَحْلِقَهُمَا. فَلَمَّا قَرُبَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ خُوَارَزْمَ أَرْسَلَ إِلَى إِيَاسٍ فَأَنْذَرَهُ، فَتَنَحَّى، وَقَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَخَذَ حَيَّانَ فَضَرَبَهُ وَحَلَقَهُ. ثُمَّ وَجَّهَ قُتَيْبَةُ الْجُنُودَ إِلَى خُوَارَزْمَ مَعَ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَبَلَغَهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُغِيرَةُ اعْتَزَلَ أَبْنَاءُ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ خُوَارَزْمَشَاهْ وَقَالُوا: لَا نُعِينُكَ، فَهَرَبَ إِلَى بِلَادِ التُّرْكِ، وَقَدِمَ الْمُغِيرَةُ فَقَتَلَ وَسَبَى، فَصَالَحَهُ الْبَاقُونَ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَقَدِمَ عَلَى قُتَيْبَةَ فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى نَيْسَابُورَ.

ذِكْرُ فَتْحِ طُلَيْطِلَةَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَضِبَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ عَلَى مَوْلَاهُ طَارِقٍ فَسَارَ إِلَيْهِ فِي رَجَبٍ مِنْهَا، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُوسَى، وَعَبَرَ مُوسَى إِلَى طَارِقٍ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، فَتَلَقَّاهُ وَتَرَضَّاهُ، فَرَضِيَ عَنْهُ، وَقَبِلَ عُذْرَهُ، وَسَيَّرَهُ إِلَى طُلَيْطِلَةَ، وَهِيَ مِنْ عِظَامِ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَهِيَ مِنْ قُرْطُبَةَ عَلَى عِشْرِينَ يَوْمًا، فَفَتَحَهَا وَأَصَابَ فِيهَا مَائِدَةَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا فِيهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوْهَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. قُلْتُ: لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا، وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ مِنْ فَتْحِ الْأَنْدَلُسِ وَدُخُولِ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ إِلَى طَارِقٍ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَتِهِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي سَيَّرَ طَارِقًا وَهُوَ بِالْأَنْدَلُسِ، فَفَتَحَ مَدِينَةَ طُلَيْطِلَةَ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ فِي تَوَارِيخِهِمْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. ذِكْرُ عَزْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنِ الْحِجَازِ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْوَلِيدُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ يُخْبِرُهُ بِعَسْفِ الْحَجَّاجِ أَهْلَ الْعِرَاقِ وَاعْتِدَائِهِ عَلَيْهِمْ وَظُلْمِهِ لَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَجَّاجَ فَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ: إِنَّ مَنْ عِنْدِي مِنَ الْمُرَّاقِ وَأَهْلِ الشِّقَاقِ قَدْ جَلَوْا عَنِ الْعِرَاقِ وَلَحِقُوا بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَإِنَّ ذَلِكَ وَهَنٌ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ يَسْتَشِيرُهُ فِيمَنْ يُوَلِّيهِ الْمَدِينَةَ وَمَكَّةَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِخَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعُثْمَانَ بْنِ حَيَّانَ، فَوَلَّى خَالِدًا مَكَّةَ، وَعُثْمَانَ الْمَدِينَةَ، وَعَزَلَ عُمَرَ عَنْهُمَا. فَلَمَّا خَرَجَ عُمَرُ مِنَ الْمَدِينَةِ قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ مِمَّنْ نَفَتْهُ الْمَدِينَةُ، يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَنْفِي خَبَثَهَا» . وَكَانَ عَزْلُهُ عَنْهَا فِي شَعْبَانَ، وَلَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ مَكَّةَ أَخْرَجَ مَنْ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ كَرْهًا، وَتَهَدَّدَ مَنْ أَنْزَلَ عِرَاقِيًّا أَوْ أَجَّرَهُ دَارًا، وَاشْتَدَّ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَسَفَهُمْ وَجَارَ فِيهِمْ، وَمَنَعَهُمْ مِنْ إِنْزَالِ عِرَاقِيٍّ، وَكَانُوا أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كُلُّ مَنْ خَافَ الْحَجَّاجَ لَجَأَ إِلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.

(وَقِيلَ: إِنَّمَا اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ حَيَّانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وِلَايَةُ خَالِدٍ مَكَّةَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الرُّومَ فَفَتَحَ سَبَسْطِيَةَ، وَالْمَرْزُبَانِينَ، وَطَرَسُوسَ. وَفِيهَا غَزَا مَرْوَانُ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَلَغَ خُنْجَرَةَ. وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ الرُّومَ أَيْضًا، فَفَتَحَ مَاسِيسَةَ، وَحِصْنَ الْحَدِيدِ، وَغَزَالَةَ مِنْ نَاحِيَةِ مَلَطْيَةَ. وَفِيهَا أَجْدَبَ أَهْلُ إِفْرِيقِيَّةَ، فَاسْتَسْقَى مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ فَسُقُوا. وَفِيهَا كَتَبَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَبْلَ أَنْ يَعْزِلَهُ يَأْمُرُهُ بِضَرْبِ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَيَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ مَاءً بَارِدًا، فَضَرَبَهُ خَمْسِينَ سَوْطًا، وَصَبَّ عَلَيْهِ مَاءً بَارِدًا فِي يَوْمٍ شَاتٍ، وَوَقَفَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ.

(خُبَيْبٌ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَبَائَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ، بَيْنَهُمَا يَاءٌ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ) . وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْوَلِيدِ. وَكَانَ عَلَى الْأَمْصَارِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ إِلَّا الْمَدِينَةَ، فَإِنَّ عَامِلَهَا عُثْمَانَ بْنَ حَيَّانَ قَدِمَهَا فِي شَوَّالٍ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وِلَايَةِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَكَّةَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ، وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَتِسْعِينَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ وَلِيَهَا هَذِهِ السَّنَةَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ. وَأَبُو الْعَالِيَةِ الْبَرَاءُ، وَاسْمُهُ زِيَادُ بْنُ فَيْرُوزَ، وَكَانَ مَوْلًى لِأَعْرَابِيَّةٍ مِنْ بَنِي رِيَاحٍ، وَلَيْسَ بِأَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ، ذَاكَ كَانَ مَوْتُهُ سَنَةَ تِسْعِينَ. وَفِيهَا مَاتَ بِلَالُ بْنُ أَبِي الدَّرْدَاءِ الْأَنْصَارِيُّ قَاضِي دِمَشْقَ.

ثم دخلت سنة أربع وتسعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ] 94 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ ذِكْرُ قَتْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ خُرُوجَهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ جَعَلَهُ عَلَى عَطَاءِ الْجُنْدِ حِينَ وَجَّهَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى رُتْبِيلَ لِقِتَالِهِ، فَلَمَّا خَلَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْحَجَّاجَ كَانَ سَعِيدٌ فِيمَنْ خَلَعَ، فَلَمَّا هُزِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَدَخَلَ بِلَادَ رُتْبِيلَ هَرَبَ سَعِيدٌ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَامِلِهَا بِأَخْذِ سَعِيدٍ، فَخَرَجَ الْعَامِلُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَى سَعِيدٍ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ وَيَأْمُرُهُ بِمُفَارَقَتِهِ، فَسَارَ عَنْهُ فَأَتَى أَذْرَبِيجَانَ، فَطَالَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فَاغْتَمَّ بِهَا، فَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ بِهَا هُوَ وَأُنَاسٌ أَمْثَالُهُ يَسْتَخْفُونَ، فَلَا يُخْبِرُونَ أَحَدًا أَسْمَاءَهُمْ. فَلَمَّا وَلِيَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَكَّةَ، قِيلَ لِسَعِيدٍ: إِنَّهُ رَجُلُ سَوْءٍ، فَلَوْ سِرْتَ عَنْ مَكَّةَ. قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ فَرَرْتُ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنَ اللَّهِ، وَسَيَجِيئُنِي مَا كَتَبَ اللَّهُ لِي. فَلَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ مَكَّةَ كَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ بِحَمْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَأَخَذَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدًا وَطَلْقَ بْنَ حَبِيبٍ، فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ، فَمَاتَ طَلْقٌ بِالطَّرِيقِ، وَحُبِسَ مُجَاهِدٌ حَتَّى مَاتَ الْحَجَّاجُ. وَكَانَ سَيْرُهُمْ مَعَ حَرَسَيْنِ، فَانْطَلَقَ أَحَدُهُمَا لِحَاجَةٍ وَبَقِيَ الْآخَرُ، فَقَالَ لِسَعِيدٍ، وَقَدِ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ لَيْلًا: يَا سَعِيدُ، إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْ دَمِكَ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي، فَقِيلَ لِي: وَيْلَكَ! تَبَرَّأْ مِنْ دَمِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ! فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ فَإِنِّي لَا أَطْلُبُكَ. فَأَبَى سَعِيدٌ، فَرَأَى ذَلِكَ الْحَرَسُ مِثْلَ تِلْكَ الرُّؤْيَا ثَلَاثًا، وَيَأْذَنُ لِسَعِيدٍ فِي الذَّهَابِ وَهُوَ لَا يَفْعَلُ. فَقَدِمُوا بِهِ الْكُوفَةَ، فَأُنْزِلَ فِي دَارِهِ، وَأَتَاهُ قُرَّاءُ الْكُوفَةِ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ وَهُوَ يَضْحَكُ وَبُنَيَّةٌ لَهُ فِي حِجْرِهِ، فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَى الْقَيْدِ فِي رِجْلِهِ بَكَتْ، ثُمَّ أَدْخَلُوهُ عَلَى الْحَجَّاجِ، فَلَمَّا أُتِيَ بِهِ، قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ ابْنَ النَّصْرَانِيَّةِ! يَعْنِي خَالِدًا، وَكَانَ هُوَ أَرْسَلَهُ، أَمَّا كُنْتُ أَعْرِفُ مَكَانَهُ؟ بَلَى وَاللَّهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ بِمَكَّةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا سَعِيدُ أَلَمْ أُشْرِكْكَ فِي

إِمَامَتِي؟ أَلَمْ أَفْعَلْ؟ أَلَمْ أَسْتَعْمِلْكَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا أَخْرَجَكَ عَلَيَّ؟ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا امْرُؤٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يُخْطِئُ مَرَّةً وَيُصِيبُ مَرَّةً. فَطَابَتْ نَفْسُ الْحَجَّاجِ، ثُمَّ عَاوَدَهُ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةً فِي عُنُقِي، فَغَضِبَ الْحَجَّاجُ وَانْتَفَخَ، وَقَالَ: يَا سَعِيدُ أَلَمْ أَقْدَمْ مَكَّةَ، فَقَتَلْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَخَذْتُ بَيْعَةَ أَهْلِهَا، وَأَخَذْتُ بَيْعَتَكَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ الْكُوفَةَ وَالِيًا، فَجَدَّدْتُ الْبَيْعَةَ، فَأَخَذْتُ بَيْعَتَكَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ثَانِيَةً؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَتَنْكُثُ بَيْعَتَيْنِ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتُوفِي بِوَاحِدَةٍ لِلْحَائِكِ ابْنِ الْحَائِكِ، وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّكَ! قَالَ: إِنِّي إِذًا لَسَعِيدٌ كَمَا سَمَّتْنِي أُمِّي. فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ رَقَبَتُهُ، فَبَدَرَ رَأْسُهُ عَلَيْهِ كُمَّةٌ بَيْضَاءُ لَاطِيَةٌ، فَلَمَّا سَقَطَ رَأْسُهُ هَلَّلَ ثَلَاثًا، أَفْصَحَ بِمَرَّةٍ وَلَمْ يُفْصِحْ بِمَرَّتَيْنِ. فَلَمَّا قُتِلَ الْتَبَسَ عَقْلُ الْحَجَّاجِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: قُيُودُنَا قُيُودُنَا! فَظَنُّوا أَنَّهُ يُرِيدُ الْقُيُودَ، فَقَطَعُوا رِجْلَيْ سَعِيدٍ مِنْ أَنْصَافِ سَاقَيْهِ وَأَخَذُوا الْقُيُودَ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ إِذَا نَامَ يَرَاهُ فِي مَنَامِهِ يَأْخُذُ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ، فَيَقُولُ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ فِيمَ قَتَلْتَنِي؟ فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ! مَا لِي وَلِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ! ذِكْرُ غَزْوَةِ الشَّاشِ وَفَرْغَانَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَطَعَ قُتَيْبَةُ النَّهْرَ، وَفَرَضَ عَلَى أَهْلِ بُخَارَى وَكَشَّ وَنَسَفَ وَخُوَارَزْمَ عِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، فَسَارُوا مَعَهُ، فَوَجَّهَهُمْ إِلَى الشَّاشِ، وَتَوَجَّهَ هُوَ إِلَى فَرْغَانَةَ فَأَتَى خُجَنْدَةَ، فَجَمَعَ لَهُ أَهْلُهَا فَلَقُوهُ فَاقْتَتَلُوا مِرَارًا، كُلُّ ذَلِكَ يَكُونُ الظَّفَرُ لِلْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ إِنَّ قُتَيْبَةَ أَتَى كَاشَانَ مَدِينَةَ فَرْغَانَةَ، وَأَتَاهُ الْجُنُودُ الَّذِينَ وَجَّهَهُمْ إِلَى الشَّاشِ وَقَدْ فَتَحُوهَا وَأَحْرَقُوا أَكْثَرَهَا، وَانْصَرَفَ إِلَى مَرْوَ، وَقَالَ سَحْبَانُ يَذْكُرُ قِتَالَهُمْ بِخُجَنْدَةَ فَقَالَ: فَسَلِ الْفَوَارِسَ فِي خُجَنْ ... دَةَ تَحْتَ مُرْهَفَةِ الْعَوَالِي هَلْ كُنْتُ أَجْمَعَهُمْ إِذَا ... هُزِمُوا وَأُقْدِمُ فِي الْقِتَالِ أَمْ كُنْتُ أَضْرِبُ هَامَةَ الْ ... عَاتِي وَأَصْبِرُ لِلْعَوَالِي

هَذَا وَأَنْتَ قَرِيعُ قَيْ سٍ كُلِّهَا ضَخَمُ النَّوَالِ ... وَفَضَلْتَ قَيْسًا فِي النَّدَى وَأَبُوكَ فِي الْحِجَجِ الْخَوَالِي ... وَلَقَدْ تَبَيَّنَ عَدْلُ حُكْ مِكَ فِيهِمُ فِي كُلِّ حَالِ ... تَمَّتْ مُرُوءَتُكُمْ وَنَا غَى عِزُّكُمْ غُلْبَ الْجِبَالِ ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ أَرْضَ الرُّومِ فَفَتَحَ أَنْطَاكِيَّةَ. وَفِيهَا غَزَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَلَغَ غَزَالَةَ، وَبَلَغَ الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ الْمُعَيْطِيُّ بُرْجَ الْحَمَامِ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي كَبْشَةَ أَرْضَ سُورِيَةَ. وَفِيهَا كَانَتِ الزَّلَازِلُ بِالشَّامِ، وَدَامَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَخَرَّبَتِ الْبِلَادَ، وَكَانَ عِظَمُ ذَلِكَ فِي أَنْطَاكِيَّةَ. وَفِيهَا افْتَتَحَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ أَرْضَ الْهِنْدِ.

[الْوَفَيَاتُ] وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فِي أَوَّلِهَا. ثُمَّ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ. ثُمَّ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ. وَاسْتَقْضَى الْوَلِيدُ عَلَى الشَّامِ سُلَيْمَانَ بْنَ حَبِيبٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقِيلَ: عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَ الْعَامِلُ بِمَكَّةَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَبِالْمَدِينَةِ عُثْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، وَبِمِصْرَ قُرَّةُ بْنُ شَرِيكٍ، وَبِخُرَاسَانَ قُتَيْبَةُ مِنْ قِبَلِ الْحَجَّاجِ.

ثم دخلت سنة خمس وتسعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ] 95 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ ذِكْرُ غَزْوَةِ الشَّاشِ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ الْحَجَّاجُ جَيْشًا مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى قُتَيْبَةَ فَغَزَا بِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ بِالشَّاشِ أَوْ بِكَشَّ مَاهَانَ أَتَاهُ مَوْتُ الْحَجَّاجِ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، فَغَمَّهُ ذَلِكَ وَتَمَثَّلَ يَقُولُ: لَعَمْرِي لَنِعْمَ الْمَرْءُ مِنْ آلِ جَعْفَرٍ ... بِحَوْرَانَ أَمْسَى أَعَلَقَتْهُ الْحَبَائِلُ فَإِنْ تَحْيَ لَا أَمْلَلْ حَيَاتِي وَإِنْ تَمُتْ ... فَمَا فِي حَيَاةٍ بَعْدَ مَوْتِكَ طَائِلُ وَرَجَعَ إِلَى مَرْوَ وَتَفَرَّقَ بالنَّاسِ، فَأَتَاهُ كِتَابُ الْوَلِيدِ: قَدْ عَرَفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بَلَاءَكَ وَجِدَّكَ وَاجْتِهَادَكَ فِي جِهَادِ أَعْدَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ رَافِعُكَ وَصَانِعٌ بِكَ الَّذِي يَجِبُ لَكَ، فَالْمُمْ مَغَازِيَكَ، وَانْتَظِرْ ثَوَابَ رَبِّكَ، وَلَا تَغِبْ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ كُتُبُكَ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَلَائِكَ وَالثَّغْرَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ قِيلَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ ذُكِرَ عِنْدَهُ ظُلْمُ الْحَجَّاجِ وَغَيْرِهِ مِنْ وُلَاةِ الْأَمْصَارِ أَيَّامَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ: الْحَجَّاجُ بِالْعِرَاقِ، وَالْوَلِيدُ بِالشَّامِ، وَقُرَّةُ بِمِصْرَ، وَعُثْمَانُ بِالْمَدِينَةِ، وَخَالِدٌ بِمَكَّةَ، اللَّهُمَّ قَدِ امْتَلَأَتِ الدُّنْيَا ظُلْمًا وَجَوْرًا فَأَرِحِ النَّاسَ! فَلَمْ يَمْضِ غَيْرُ قَلِيلٍ حَتَّى تُوُفِّيَ الْحَجَّاجُ وَقُرَّةُ بْنُ شَرِيكٍ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ تَبِعَهُمَا الْوَلِيدُ، وَعُزِلَ عُثْمَانُ وَخَالِدٌ، وَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَعُمَرَ.

وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِقِصَّةِ [ابْنِ] عُمَرَ مَعَ زِيَادِ بْنِ أَبِيهِ، حَيْثُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَقُولُ لَهُ: قَدْ ضَبَطْتُ الْعِرَاقَ بِشَمَالِي وَيَمِينِي فَارِغَةٌ. يُعَرِّضُ بِإِمَارَةِ الْحِجَازِ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ: اللَّهُمَّ أَرِحْنَا مِنْ يَمِينِ زِيَادٍ، وَأَرِحْ أَهْلَ الْعِرَاقِ مِنْ شِمَالِهِ. فَكَانَ أَوَّلُ خَبَرٍ جَاءَهُ مَوْتَ زِيَادٍ. وَكَانَتْ وَفَاةُ الْحَجَّاجِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ: كَانَتْ وَفَاتُهُ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ أَرْبَعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ الْعِرَاقَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ اسْتَخْلَفَ عَلَى الصَّلَاةِ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَجَّاجِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى حَرْبِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ يَزِيدَ بْنَ أَبِي كَبْشَةَ، وَعَلَى خَرَاجِهِمَا يَزِيدَ بْنَ أَبِي مُسْلِمٍ، فَأَقَرَّهُمَا الْوَلِيدُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يُغَيِّرْ أَحَدًا مِنْ عُمَّالِ الْحَجَّاجِ. ذِكْرُ نَسَبِهِ وَشَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ هُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي عَقِيلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتِّبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ. قَالَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ: خَطَبَنَا الْحَجَّاجُ فَذَكَرَ الْقَبْرَ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: إِنَّهُ بَيْتُ الْوَحْدَةِ، إِنَّهُ بَيْتُ الْغُرْبَةِ، وَبَيْتُ كَذَا وَكَذَا، حَتَّى بَكَى وَأَبْكَى، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ: سَمِعْتُ مَرْوَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: خَطَبَنَا عُثْمَانُ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «مَا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى قَبْرٍ أَوْ ذَكَرَهُ إِلَّا بَكَى» . وَقَدْ رُوِيَ أَحَادِيثُ غَيْرُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ. وَقَالَ ابْنُ عَوْفٍ: كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ يَقْرَأُ عَرَفْتُ أَنَّهُ طَالَمَا دَرَسَ الْقُرْآنَ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: مَا رَأَيْتُ أَفْصَحَ مِنَ الْحَجَّاجِ وَمِنَ الْحَسَنِ، وَكَانَ الْحَسَنُ أَفْصَحَ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ: قَالَ الْحَجَّاجُ يَوْمًا: مَنْ كَانَ لَهُ بَلَاءٌ فَلْيَقُمْ،

فَنُعْطِيهِ عَلَى بَلَائِهِ. فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَعْطِنِي عَلَى بَلَائِي. قَالَ: وَمَا بَلَاؤُكَ؟ قَالَ: قَتَلْتُ الْحُسَيْنَ. قَالَ: كَيْفَ قَتَلْتَهُ؟ قَالَ: دَسَرْتُهُ بِالرُّمْحِ دَسْرًا، وَهَبَرْتُهُ بِالسَّيْفِ هَبْرًا، وَمَا أَشْرَكْتُ مَعِيَ فِي قَتْلِهِ أَحَدًا. قَالَ: فَإِنَّكَ لَا تَجْتَمِعُ أَنْتَ وَهُوَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ: اخْرُجْ! وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا. قِيلَ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ يَأْمُرُهُ بِقَتْلِ أَسْلَمَ بْنِ عَبْدٍ الْبِكْرِيِّ بِشَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهُ، فَأَحْضَرَهُ الْحَجَّاجُ وَقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ غَائِبٌ وَأَنْتَ حَاضِرٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الْآيَةَ، وَالَّذِي بَلَغَهُ عَنِّي بَاطِلٌ، فَاكْتُبْ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنِّي أَعُولُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ امْرَأَةً وَهُنَّ بِالْبَابِ، فَأَحْضَرَهُنَّ، فَهَذِهِ أُمُّهُ، وَهَذِهِ عَمَّتُهُ وَزَوْجَتُهُ وَابْنَتُهُ، وَكَانَ فِي آخِرِهِنَّ جَارِيَةٌ قَارَبَتْ عَشْرَ سِنِينَ. فَقَالَ لَهَا: مَنْ أَنْتِ مِنْهُ؟ قَالَتِ: ابْنَتُهُ، أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ! ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ: أَحَجَّاجُ لَمْ تَشْهَدْ مَقَامَ بَنَاتِهِ ... وَعَمَّاتِهِ يَنْدُبْنَهُ اللَّيْلَ أَجْمَعَا أَحَجَّاجُ لَمْ تَقْبَلْ بِهِ أَنْ قَتَلْتَهُ ... ثَمَانًا وَعَشْرًا وَاثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعَا أَحَجَّاجُ مَنْ هَذَا يَقُومُ مَقَامَهُ ... عَلَيْنَا فَمَهْلًا إِنْ تَزِدْنَا تَضَعْضُعَا أَحَجَّاجُ إِمَّا أَنْ تَجُودَ بِنِعْمَةٍ عَلَيْنَا وَإِمَّا أَنْ تُقَتِّلَنَا مَعَا فَبَكَى الْحَجَّاجُ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَعَنْتُ الدَّهْرَ عَلَيْكُنَّ، وَلَا زِدْتُكُنَّ تَضَعْضُعَا. وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِخَبَرِ الرَّجُلِ وَالْجَارِيَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتَ، فَأَحْسِنْ صِلَتَهُ، وَتَفَقَّدِ الْجَارِيَةَ. فَفَعَلَ. وَقَالَ عَاصِمُ ابْنُ بَهْدَلَةَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ يَقُولُ: اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، هَذَا وَاللَّهِ مَثْنَوِيَّةٌ، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ لَيْسَ فِي مَثْنَوِيَّةٍ، وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فَخَرَجْتُمْ مِنْ هَذَا حَلَّتْ لِي دِمَاؤُكُمْ، وَلَا أَجِدُ أَحَدًا يَقْرَأُ عَلَيَّ قِرَاءَةَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ، إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَلَأَحُكَّنَّهَا مِنَ الْمُصْحَفِ وَلَوْ بِضِلَعِ

خِنْزِيرٍ، قَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَعْمَشِ. فَقَالَ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي لَأَقْرَأَنَّهَا عَلَى رَغْمِ أَنْفِكَ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَوْ جَاءَتْ كُلُّ أَمَةٍ بِخَبِيثِهَا وَجِئْنَا بِالْحَجَّاجِ لَغَلَبْنَاهُمْ. قَالَ مَنْصُورٌ: سَأَلْنَا إِبْرَاهِيمَ الشُّجَاعِيَّ، عَنِ الْحَجَّاجِ فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ قَالَ لِلْحَجَّاجِ: مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ عَارِفٌ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ، فَعِبْ نَفْسَكَ وَلَا تَخْبَأْ مِنْهَا شَيْئًا. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا لَجُوجٌ حَقُودٌ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِذًا بَيْنَكَ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ نَسَبٌ. فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا رَآنِي سَالَمَنِي. قَالَ الْحَسَنُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ ائْتَمَنْتُهُمْ فَخَانُونِي، وَنَصَحْتُهُمْ فَغَشُّونِي، اللَّهُمَّ فَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ غُلَامَ ثَقِيفٍ يَحْكُمُ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ! فَوَصَفَهُ وَهُوَ يَقُولُ: الزَّيَّالُ، مُفَجِّرُ الْأَنْهَارِ، يَأْكُلُ خُضْرَتَهَا، وَيَلْبَسُ فَرْوَتَهَا. قَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ وَاللَّهِ صِفَةُ الْحَجَّاجِ. قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: قَالَ عَلِيٌّ لِرَجُلٍ: لَا تَمُوتُ حَتَّى تُدْرِكَ فَتَى ثَقِيفٍ، قِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا فَتَى ثَقِيفٍ؟ قَالَ: لَيُقَالَنَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اكْفِنَا زَاوِيَةً مِنْ زَوَايَا جَهَنَّمَ، رَجُلٌ يَمْلِكُ عِشْرِينَ أَوْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، لَا يَدَعُ لِلَّهِ مَعْصِيَةً إِلَّا ارْتَكَبَهَا حَتَّى لَوْ لَمْ تَبْقَ إِلَّا مَعْصِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَابٌ مُغْلَقٌ لَكَسَرَهُ حَتَّى يَرْتَكِبَهَا، يَقْتُلُ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ. وَقِيلَ: أُحْصِيَ مَنْ قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ صَبْرًا فَكَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ: إِنِ الْحَجَّاجَ مَرَّ بِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ يَخْطُرُ فِي مِشْيَتِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ لِخَالِدٍ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ خَالِدٌ؟ بَخٍ بَخٍ! هَذَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. فَسَمِعَهَا الْحَجَّاجُ فَرَجَعَ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا يَسُرُّنِي

أَنَّ الْعَاصَ وَلَدَنِي، وَلَكِنِّي ابْنُ الْأَشْيَاخِ مِنْ ثَقِيفٍ وَالْعَقَائِلِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَنَا الَّذِي ضَرَبْتُ بِسَيْفِي هَذَا مِائَةَ أَلْفٍ كُلُّهُمْ يَشْهَدُ أَنَّ أَبَاكَ كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيُضْمِرُ الْكُفْرَ. ثُمَّ وَلَّى وَهُوَ يَقُولُ: بَخٍ بَخٍ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ! فَهُوَ قَدِ اعْتَرَفَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ بِمِائَةِ أَلْفِ قَتِيلٍ عَلَى ذَنْبٍ وَاحِدٍ. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بَعْدَ مَوْتِ الْحَجَّاجِ وَقَتْلِهِ لَمَّا مَاتَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بِالْمُلْتَانِ، فَأَتَاهُ خَبَرُ وَفَاتِهِ، فَرَجَعَ إِلَى الرُّورِ وَالْبَغْرُورِ، وَكَانَ قَدْ فَتَحَهُمَا، فَأَعْطَى النَّاسَ، وَوَجَّهَ إِلَى الْبَيْلَمَانِ جَيْشًا، فَلَمْ يُقَاتِلُوا وَأَعْطَوُا الطَّاعَةَ، وَسَأَلَهُ أَهْلُ سُرَشْتَ، وَهِيَ مَغْزَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأَهْلُهَا يَقْطَعُونَ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ أَتَى مُحَمَّدٌ الْكَيْرَجَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ دَوْهَرُ فَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ دَوْهَرُ وَهَرَبَ، وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ، وَنَزَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى حُكْمِ مُحَمَّدٍ فَقَتَلَ وَسَبَى، قَالَ الشَّاعِرُ: نَحْنُ قَتَلْنَا ذَاهِرًا وَدَوْهَرَا ... وَالْخَيْلُ تَرْدِي مِنْسَرًا فَمِنْسَرَا وَمَاتَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَوَلِيَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَوَلَّى يَزِيدَ بْنَ أَبِي كَبْشَةَ السَّكْسَكِيَّ السِّنْدَ، فَأَخَذَ مُحَمَّدًا وَقَيَّدَهُ وَحَمَلَهُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ مُتَمَثِّلًا: أَضَاعُونِي وَأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا ... لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ فَبَكَى أَهْلُ السِّنْدِ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْعِرَاقِ حَبَسَهُ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِوَاسِطَ، فَقَالَ: فَلَئِنْ ثَوَيْتُ بِوَاسِطٍ وَبِأَرْضِهَا ... رَهْنَ الْحَدِيدِ مُكَبَّلًا مَغْلُولَا فَلَرُبَّ قَيْنَةِ فَارِسٍ قَدْ رُعْتُهَا ... وَلَرُبَّ قَرْنٍ قَدْ تَرَكْتُ قَتِيلَا وَقَالَ:

وَلَوْ كُنْتُ أَجْمَعْتُ الْفِرَارَ لَوُطِّئَتْ ... إِنَاثٌ أُعِدَّتْ لِلْوَغَى وَذُكُورُ وَمَا دَخَلَتْ خَيْلُ السَّكَاسِكِ أَرْضَنَا ... وَلَا كَانَ مِنْ عَكٍّ عَلَيَّ أَمِيرُ وَمَا كُنْتُ لِلْبُدِّ الْمَزُونِيِّ تَابِعًا ... فَيَا لَكَ دَهْرٌ بِالْكِرَامِ عَثُورُ فَعَذَّبَهُ صَالِحٌ فِي رِجَالٍ مِنْ آلِ أَبِي عَقِيل حَتَّى قَتَلَهُ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَتْلَ آدَمَ أَخَا صَالِحٍ، وَكَانَ يَرَى رَأْيَ الْخَوَارِجِ، وَقَالَ حَمْزَةُ بْنُ بَيْضٍ الْحَنَفِيُّ يَرْثِي مُحَمَّدًا: إِنَّ الْمُرُوءَةَ وَالسَّمَاحَةَ وَالنَّدَى ... لِمُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ سَاسَ الْجُيُوشَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً ... يَا قُرْبَ ذَلِكَ سُؤْدُدًا مِنْ مَوْلِدِ وَقَالَ آخَرُ: سَاسَ الرِّجَالَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً ... وَلِدَاتُهُ إِذْ ذَاكَ فِي أَشْغَالِ وَمَاتَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي كَبْشَةَ بَعْدَ قُدُومِهِ أَرْضَ السِّنْدِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَاسْتَعْمَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى السِّنْدِ حَبِيبَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، فَقَدِمَهَا وَقَدْ رَجَعَ مُلُوكُ السِّنْدِ إِلَى مَمَالِكِهِمْ وَرَجَعَ جَيْشَبَهْ بْنُ ذَاهِرٍ إِلَى بِرْهَمْنَابَاذَ، فَنَزَلَ حَبِيبٌ عَلَى شَاطِئِ مِهْرَانَ، فَأَعْطَاهُ أَهْلُ الرُّورِ الطَّاعَةَ، وَحَارَبَ قَوْمًا فَظَفِرَ بِهِمْ. ثُمَّ مَاتَ سُلَيْمَانُ وَاسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَكَتَبَ إِلَى الْمُلُوكِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالطَّاعَةِ عَلَى أَنْ يُمَلِّكَهُمْ، وَلَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ. فَأَسْلَمَ جَيْشَبَهْ وَالْمُلُوكُ، وَتَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْعَرَبِ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيُّ عَامِلَ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ الثَّغْرِ، فَغَزَا بَعْضَ الْهِنْدِ

فَظَفِرَ. ثُمَّ إِنَّ الْجُنَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَلِيَ السِّنْدَ أَيَّامَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَتَى الْجُنَيْدُ شَطَّ مِهْرَانَ فَمَنَعَهُ جَيْشَبَهْ بْنُ ذَاهِرٍ الْعُبُورَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، وَوَلَّانِي الرَّجُلُ الصَّالِحُ بِلَادِي وَلَسْتُ آمَنُكَ، فَأَعْطَاهُ رُهُنًا وَأَخَذَ مِنْهُ رُهُنًا عَلَى خَرَاجِ بِلَادِهِ، ثُمَّ تَرَادَّا وَكَفَرَ جَيْشَبَهْ وَحَارَبَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُحَارِبْ وَلَكِنَّ الْجُنَيْدَ تَجَنَّى عَلَيْهِ، فَأَتَى الْهِنْدَ فَجَمَعَ جُمُوعًا، وَأَعَدَّ السُّفُنَ وَاسْتَعَدَّ لِلْحَرْبِ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْجُنَيْدُ بِالسُّفُنِ، فَالْتَقَوْا فِي بَطِيحَةَ، فَأُخِذَ جَيْشَبَهْ أَسِيرًا، وَقَدْ جَنَحَتْ سَفِينَتُهُ، فَقَتَلَهُ الْجُنَيْدُ وَهَرَبَ صَصَّةُ بْنُ ذَاهِرٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى الْعِرَاقِ فَيَشْكُوَ غَدْرَ الْجُنَيْدِ، فَلَمْ يَزَلِ الْجُنَيْدُ يُؤْنِسُهُ حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ فَقَتَلَهُ. وَغَزَا الْجُنَيْدُ الْكَيْرَجَ، وَكَانُوا قَدْ نَقَضُوا، فَاتَّخَذُوا كَبْشًا وَصَكَّ بِهَا سُورَ الْمَدِينَةِ، فَثَلَمَهُ وَدَخَلَهَا، فَقَتَلَ وَسَبَى، وَوَجَّهَ الْعُمَّالَ إِلَى الْمَرْمَذِ وَالْمَنْدَلِ وَدَهْنَجَ وَبُرُوَنْجَ. وَكَانَ الْجُنَيْدُ يَقُولُ: الْقَتْلُ فِي الْجَزَعِ أَكْبَرُ مِنْهُ فِي الصَّبْرِ. وَوَجَّهَ جَيْشًا إِلَى أَزِينَ فَأَغَارُوا عَلَيْهَا وَحَرَّقُوا رَبْضَهَا، وَفَتَحَ الْبَيْلَمَانَ، وَحَصَلَ عِنْدَهُ سِوَى مَا حَمَلَ أَرْبَعُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَحَمَلَ مِثْلَهَا، وَوَلَّى الْجُنَيْدُ تَمِيمَ بْنَ زَيْدٍ الْقَيْنِيَّ، فَضَعُفَ وَوَهَنَ، وَمَاتَ قَرِيبًا مِنَ الدَّيْبُلِ. وَفِي أَيَّامِهِ خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ بِلَادِ الْهِنْدِ وَرَفَضُوا مَرَاكِزَهُمْ، ثُمَّ وُلِّيَ الْحَكَمُ بْنُ عَوَّامٍ الْكَلْبِيُّ، وَقَدْ كَفَرَ أَهْلُ الْهِنْدِ إِلَّا أَهْلَ قَصَّةَ، فَبَنَى مَدِينَةً سَمَّاهَا الْمَحْفُوظَةَ، وَجَعَلَهَا مَأْوَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مَعَهُ عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ، وَكَانَ يُفَوِّضُ إِلَيْهِ عَظِيمَ الْأُمُورِ، فَأَغْزَاهُ مِنَ الْمَحْفُوظَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ وَقَدْ ظَفِرَ أَمَرَهُ فَبَنَى مَدِينَةً وَسَمَّاهَا الْمَنْصُورَةَ، فَهِيَ الَّتِي يَنْزِلُهَا الْأُمَرَاءُ، وَاسْتَخْلَصَ مَا كَانَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ، وَرَضِيَ النَّاسُ بِوِلَايَتِهِ، وَكَانَ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ يَقُولُ: وَاعْجَبَا! وَلَّيْتُ فَتَى الْعَرَبِ، يَعْنِي تَمِيمًا، فَرُفِضَ وَتُرِكَ، وَوَلَّيْتُ

أَبْخَلَ الْعَرَبِ فَرُضِيَ بِهِ. ثُمَّ قُتِلَ الْحَكَمُ، وَكَانَ الْعُمَّالُ يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ، فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ نَاحِيَةً وَيَأْخُذُونَ مَا تَيَسَّرَ لَهُمْ لِضَعْفِ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ، إِلَى أَنْ جَاءَتِ الدَّوْلَةُ الْمُبَارَكَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَيَّامَ الْمَأْمُونِ بَقِيَّةَ أَخْبَارِ السِّنْدِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الرُّومَ فَفَتَحَ هِرَقْلَةَ وَغَيْرَهَا. وَفِيهَا فُتِحَ آخِرُ الْهِنْدِ إِلَّا الْكَيْرَجَ وَالْمَنْدَلَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ افْتَتَحَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ قِنَّسْرِينَ. وَفِيهَا قُتِلَ الْوَضَّاحِيُّ بِأَرْضِ الرُّومِ وَنَحْوُ أَلْفِ رَجُلٍ مَعَهُ. وَفِيهَا وُلِدَ الْمَنْصُورُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَ عُمَّالُ الْأَمْصَارِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. [الوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَلٍّ، وَكَانَ عُمُرُهُ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ فِي مَوْتِهِ غَيْرُ ذَلِكَ.

وَفِيهَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ إِيَاسٍ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ، وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَفِي إِمَارَةِ الْحَجَّاجِ مَاتَ سَفِينَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ. وَفِيهَا مَاتَ جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَهُوَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْوَانَ مِنَ الرَّضَاعَةِ. وَفِي إِمَارَةِ الْحَجَّاجِ قُتِلَ أَبُو الْأَحْوَصِ عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ نَضْلَةَ الْجُشَمِيُّ الْكُوفِيُّ، قَتَلَهُ الْخَوَارِجُ.

ثم دخلت سنة ست وتسعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ] 96 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ ذِكْرُ فَتَحِ قُتَيْبَةَ مَدِينَةَ كَاشْغَرَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا قُتَيْبَةُ كَاشْغَرَ، فَسَارَ وَحَمَلَ مَعَ النَّاسِ عِيَالَاتِهِمْ لِيَضَعَهُمْ بِسَمَرْقَنْدَ، فَلَمَّا عَبَرَ النَّهْرَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى مَعْبَرِ النَّهْرِ لِيَمْنَعَ مَنْ يَرْجِعُ إِلَّا بِجَوَازٍ مِنْهُ، وَمَضَى إِلَى فَرْغَانَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى شِعْبِ عِصَامٍ مَنْ يُسَهِّلُ الطَّرِيقَ إِلَى كَاشْغَرَ، وَهِيَ أَدْنَى مَدَائِنِ الصِّينِ، وَبَعَثَ جَيْشًا مَعَ كَبِيرِ بْنِ فُلَانٍ إِلَى كَاشْغَرَ، فَغَنِمَ وَسَبَى سَبْيًا، فَخَتَمَ أَعْنَاقَهُمْ، وَأَوْغَلَ حَتَّى بَلَغَ قَرِيبَ الصِّينِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَلِكُ الصِّينِ: أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ رَجُلًا شَرِيفًا يُخْبِرُنِي عَنْكُمْ وَعَنْ دِينِكُمْ. فَانْتَخَبَ قُتَيْبَةُ عَشَرَةً لَهُمْ جَمَالٌ وَأَلْسُنٌ وَبَأْسٌ وَعَقْلٌ وَصَلَاحٌ، فَأَمَرَ لَهُمْ بِعُدَّةٍ حَسَنَةٍ وَمَتَاعٍ حَسَنٍ مِنَ الْخَزِّ وَالْوَشْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَخُيُولٍ حَسَنَةٍ، وَكَانَ مِنْهُمْ هُبَيْرَةُ بْنُ مُشَمْرَجٍ الْكِلَابِيُّ، فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَيْهِ، فَأَعْلِمُوهُ أَنِّي قَدْ حَلَفْتُ أَنِّي لَا أَنْصَرِفُ حَتَّى أَطَأَ بِلَادَهُمْ، وَأَخْتِمَ مُلُوكَهُمْ وَأَجْبِيَ خَرَاجَهُمْ. فَسَارُوا وَعَلَيْهِمْ هُبَيْرَةُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِمْ دَعَاهُمْ مَلِكُ الصِّينِ، فَلَبِسُوا ثِيَابًا بَيَاضًا تَحْتَهَا الْغَلَائِلُ، وَتَطَيَّبُوا وَلَبِسُوا النِّعَالَ وَالْأَرْدِيَةَ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ عُظَمَاءُ قَوْمِهِ، فَجَلَسُوا، فَلَمْ يُكَلِّمْهُمُ الْمَلِكُ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ عِنْدَهُ، فَنَهَضُوا. فَقَالَ الْمَلِكُ لِمَنْ حَضَرَهُ: كَيْفَ رَأَيْتُمْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالُوا: رَأَيْنَا قَوْمًا مَا هُمْ إِلَّا نِسَاءٌ، مَا بَقِيَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا انْتَشَرَ مَا عِنْدَهُ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَعَاهُمْ، فَلَبِسُوا الْوَشْيَ وَالْعَمَائِمَ الْخَزَّ وَالْمَطَارِفَ، وَغَدَوْا عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلُوا قِيلَ لَهُمْ: ارْجِعُوا، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كَيْفَ رَأَيْتُمْ هَذِهِ الْهَيْئَةَ؟ قَالُوا: هَذِهِ أَشْبَهُ بِهَيْئَةِ الرِّجَالِ مِنْ تِلْكَ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ دَعَاهُمْ، فَشَدُّوا سِلَاحَهُمْ وَلَبِسُوا الْبَيْضَ وَالْمَغَافِرَ، وَأَخَذُوا السُّيُوفَ وَالرِّمَاحَ وَالْقِسِيَّ وَرَكِبُوا. فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ مَلِكُ الصِّينِ فَرَأَى مِثْلَ الْجَبَلِ، فَلَمَّا دَنَوْا رَكَزُوا رِمَاحَهُمْ وَأَقْبَلُوا مُشَمِّرِينَ، فَقِيلَ لَهُمْ: ارْجِعُوا، فَرَكِبُوا خُيُولَهُمْ وَأَخَذُوا رِمَاحَهُمْ وَدَفَعُوا خَيْلَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَتَطَارَدُونَ. فَقَالَ الْمَلِكُ لِأَصْحَابِهِ: كَيْفَ تَرَوْنَهُمْ؟ قَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هَؤُلَاءِ.

فَلَمَّا أَمْسَى بَعَثَ إِلَيْهِمْ: أَنِ ابْعَثُوا إِلَيَّ زَعِيمَكُمْ. فَبَعَثُوا إِلَيْهِ هُبَيْرَةُ بْنُ مُشَمْرَجٍ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ رَأَيْتُمْ عِظَمَ مُلْكِي وَأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مَنَعَكُمْ مِنِّي، وَأَنْتُمْ فِي يَدِي بِمَنْزِلَةِ الْبَيْضَةِ فِي كَفِّي، وَإِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ أَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ تَصْدُقُونِي قَتَلْتُكُمْ. قَالَ: سَلْ. قَالَ: لِمَ صَنَعْتُمْ بِزِيِّكُمُ الْأَوَّلِ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ مَا صَنَعْتُمْ؟ قَالَ: أَمَّا زِيُّنَا الْيَوْمَ الْأَوَّلَ فَلِبَاسُنَا فِي أَهْلِنَا، وَأَمَّا الْيَوْمَ الثَّانِي فَزِيُّنَا إِذْ أَمِنَّا أُمَرَاءَنَا، وَأَمَّا الثَّالِثَ فَزِيُّنَا لِعَدِوِّنَا. قَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا دَبَّرْتُمْ دَهْرَكُمْ، فَقُولُوا لِصَاحِبِكُمْ يَنْصَرِفُ، فَإِنِّي قَدْ عَرَفْتُ قِلَّةَ أَصْحَابِهِ، وَإِلَّا بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ مَنْ يُهْلِكُكُمْ. قَالَ: كَيْفَ يَكُونُ قَلِيلُ الْأَصْحَابِ مَنْ أَوَّلُ خَيْلِهِ فِي بِلَادِكَ وَآخِرُهَا فِي مَنَابِتِ الزَّيْتُونِ؟ وَأَمَّا تَخْوِيفُكَ إِيَّانَا بِالْقَتْلِ، فَإِنَّ لَنَا آجَالًا إِذَا حَضَرَتْ فَأَكْرَمُهَا الْقَتْلُ، وَلَسْنَا نَكْرَهُهُ وَلَا نَخَافُهُ، وَقَدْ حَلَفَ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ حَتَّى يَطَأَ أَرْضَكُمْ، وَيَخْتِمَ مُلُوكَكُمْ، وَيُعْطَى الْجِزْيَةَ. فَقَالَ: فَإِنَّا نُخْرِجُهُ مِنْ يَمِينِهِ وَنَبْعَثُ تُرَابَ أَرْضِنَا فَيَطَأَهُ، وَنَبْعَثُ إِلَيْهِ بِبَعْضِ أَبْنَائِنَا فَيَخْتِمَهُمْ، وَنَبْعَثُ إِلَيْهِ بِجِزْيَةٍ يَرْضَاهَا. فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ وَأَرْبَعَةِ غِلْمَانٍ مِنْ أَبْنَاءِ مُلُوكِهِمْ، ثُمَّ أَجَازَهُمْ فَأَحْسَنَ، فَقَدِمُوا عَلَى قُتَيْبَةَ، فَقَبِلَ قُتَيْبَةُ الْجِزْيَةَ، وَخَتَمَ الْغِلْمَانَ وَرَدَّهُمْ، وَوَطِئَ التُّرَابَ. فَقَالَ سَوَادَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ السَّلُولِيُّ: لَا عَيْبَ فِي الْوَفْدِ الَّذِينَ بَعَثْتَهُمْ ... لِلصِّينِ إِنْ سَلَكُوا طَرِيقَ الْمَنْهَجِ كَسَرُوا الْجُفُونَ عَلَى الْقَذَى خَوْفَ الرَّدَى حَاشَا الْكَرِيمَ هُبَيْرَةَ بْنَ مُشَمْرَجٍ ... أَدَّى رِسَالَتَكَ الَّتِي اسْتَرْعَيْتَهُ فَأَتَاكَ مِنْ حِنْثِ الْيَمِينِ بِمَخْرَجِ فَأَوْفَدَ قُتَيْبَةُ هُبَيْرَةَ إِلَى الْوَلِيدِ، فَمَاتَ بِقَرْيَةَ مِنْ فَارِسَ، فَرَثَاهُ سَوَادَةُ فَقَالَ: لِلَّهِ دَرُّ هُبَيْرَةَ بْنِ مُشَمْرَجِ ... مَاذَا تَضَمَّنَ مِنْ نَدًى وَجَمَالِ وَبَدِيهَةٍ يَعْيَا بِهَا أَبْنَاؤُهَا ... عِنْدَ احْتِفَالِ مَشَاهِدِ الْأَقْوَالِ كَانَ الرَّبِيعَ إِذَا السُّيُوفُ تَتَابَعَتْ ... وَاللَّيْثَ عِنْدَ تَكَعْكُعِ الْأَبْطَالِ

فَسَقَى بِقَرْيَةَ حَيْثُ أَمْسَى قَبْرُهُ غُرٌّ يَرُحْنَ بِمُسْبِلٍ هَطَّالِ ... بَكَتِ الْجِيَادُ الصَّافِنَاتُ لِفَقْدِهِ وَبَكَاهُ كُلُّ مُثَقَّفٍ عَسَّالِ ... وَبَكَتْهُ شُعْثٌ لَمْ يَجِدْنَ مُوَاسِيًا فِي الْعَامِ ذِي السَّنَوَاتِ وَالْإِمْحَالِ وَوَصْلَ الْخَبَرُ إِلَى قُتَيْبَةَ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ بِمَوْتِ الْوَلِيدِ. وَكَانَ قُتَيْبَةُ إِذَا رَجَعَ مِنْ غَزَاتِهِ كُلَّ سَنَةٍ اشْتَرَى اثْنَيْ عَشَرَ فَرَسًا وَاثْنَيْ عَشَرَ هَجِينًا، فَتَحَدَّرَ إِلَى وَقْتِ الْغَزْوِ، فَإِذَا تَأَهَّبَ لِلْغَزْوِ ضَمَّرَهَا وَحَمَلَ عَلَيْهَا الطَّلَائِعَ، وَكَانَ يَجْعَلُ الطَّلَائِعَ فُرْسَانَ النَّاسِ وَأَشْرَافَهُمْ وَمَعَهُمْ مِنَ الْعَجَمِ مَنْ يَسْتَنْصِحُهُ، وَإِذَا بَعَثَ طَلِيعَةً أَمَرَ بِلَوْحٍ فَنُقِشَ، ثُمَّ شَقَّهُ بِنِصْفَيْنِ، وَجَعَلَ شِقَّةً عِنْدَهُ، وَيُعْطِي نِصْفَهُ الطَّلِيعَةَ، وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَدْفِنُوهُ فِي مَوْضِعٍ يَصِفُهُ لَهُمْ مِنْ شَجَرَةٍ أَوْ مَخَاضَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، ثُمَّ يَبْعَثُ بَعْدَ الطَّلِيعَةِ مَنْ يَسْتَخْرِجُهُ لِيَعْلَمَ أَصْدَقَتِ الطَّلِيعَةُ أَمْ لَا. وَفِيهَا غَزَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الشَّاتِيَةَ وَرَجَعَ وَقَدْ مَاتَ الْوَلِيدُ. ذِكْرُ مَوْتِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَفِي النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي قَوْلِ جَمِيعِهِمْ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ تِسْعَ سِنِينَ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: تِسْعَ سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدَيْرِ مُرَّانَ، وَدُفِنَ خَارِجَ الْبَابِ الصَّغِيرِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ عُمُرُهُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: كَانَ عُمُرُهُ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: سِتًّا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَقِيلَ: تِسْعًا وَأَرْبَعِينَ. وَخَلَّفَ تِسْعَةَ عَشَرَ ابْنًا، وَكَانَ دَمِيمًا يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ، وَكَانَ سَائِلَ الْأَنْفِ جِدًّا، فَقِيلَ فِيهِ:

فَقَدْتُ الْوَلِيدَ وَأَنْفًا لَهُ ... كَمِثْلِ الْفَصِيلِ بَدَا أَنْ يَبُولَا وَلَمَّا دُلِّيَ فِي جِنَازَتِهِ جُمِعَتْ رُكْبَتَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَقَالَ ابْنُهُ: أَعَاشَ أَبِي؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ فِيمَنْ دَفَنَهُ: عُوجِلَ وَاللَّهِ أَبُوكَ! وَاتَّعَظَ بِهِ عُمَرُ. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَةِ الْوَلِيدِ وَكَانَ الْوَلِيدُ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ أَفْضَلِ خَلَائِفِهِمْ، بَنَى الْمَسَاجِدَ، مَسْجِدَ دِمَشْقَ، وَمَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، عَلَى سَاكِنِهَا السَّلَامُ، وَالْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، وَوَضَعَ الْمَنَائِرَ، وَأَعْطَى الْمُجَذَّمِينَ، وَمَنَعَهُمْ مِنْ سُؤَالِ النَّاسِ، وَأَعْطَى كُلَّ مُقْعَدٍ خَادِمًا، وَكُلَّ ضَرِيرِ قَائِدًا، وَفَتَحَ فِي وِلَايَتِهِ فُتُوحًا عِظَامًا، مِنْهَا: الْأَنْدَلُسُ، وَكَاشْغَرَ، وَالْهِنْدَ. وَكَانَ يَمُرُّ بِالْبَقَّالِ فَيَقِفُ عَلَيْهِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ حُزْمَةَ بَقْلٍ فَيَقُولُ: بِكَمْ هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِفَلْسٍ. فَيَقُولُ: زِدْ فِيهَا. وَكَانَ صَاحِبَ بِنَاءٍ وَاتِّخَاذِ الْمَصَانِعِ وَالضَّيَاعِ، وَكَانَ النَّاسُ يَلْتَقُونَ فِي زَمَانِهِ فَيَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنِ الْبِنَاءِ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ صَاحِبَ طَعَامٍ وَنِكَاحٍ، فَكَانَ النَّاسُ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنِ النِّكَاحِ وَالطَّعَامِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ صَاحِبَ عِبَادَةٍ، وَكَانَ النَّاسُ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنِ الْخَيْرِ مَا وِرْدُكَ اللَّيْلَةَ؟ وَكَمْ تَحْفَظُ مِنَ الْقُرْآنِ؟ وَكَمْ تَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ؟ وَمَرِضَ الْوَلِيدُ مَرْضَةً قَبْلَ وَفَاتِهِ وَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَبَقِيَ يَوْمَهُ ذَلِكَ كَأَنَّهُ مَيِّتٌ، فَبَكَوْا عَلَيْهِ وَسَارَتِ الْبُرُدُ بِمَوْتِهِ، فَاسْتَرْجَعَ الْحَجَّاجُ وَشَدَّ فِي يَدِهِ حَبْلًا إِلَى أُسْطُوَانَةٍ وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ مَنْ لَا رَحْمَةَ لَهُ، فَقَدْ طَالَ مَا سَأَلْتُكَ أَنْ تَجْعَلَ مَنِيَّتِي قَبْلَهُ! فَإِنَّهُ كَذَلِكَ يَدْعُو إِذْ قَدِمَ عَلَيْهِ الْبَرِيدُ بِإِفَاقَتِهِ. وَلَمَّا أَفَاقَ الْوَلِيدُ قَالَ: مَا أَحَدٌ أَشَدُّ سُرُورًا بِعَافِيَتِي مِنَ الْحَجَّاجِ، ثُمَّ لَمْ يَمُتْ حَتَّى ثَقُلَ الْحَجَّاجُ عَلَيْهِ. وَكَانَ الْوَلِيدُ أَرَادَ أَنْ يَخْلَعَ أَخَاهُ سُلَيْمَانَ وَيُبَايِعَ لِوَلَدِهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَبَى سُلَيْمَانُ،

فَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَّا الْحَجَّاجُ وَقُتَيْبَةُ وَخَوَاصٌّ مِنَ النَّاسِ، فَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى سُلَيْمَانَ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَأَبْطَأَ، فَعَزَمَ الْوَلِيدُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَيْهِ لِيَخْلَعَهُ، وَأَخْرَجَ خِيَمَهُ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِ. وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدَ دِمَشْقَ كَانَ فِيهِ كَنِيسَةٌ، فَهَدَمَهَا وَبَنَاهَا مَسْجِدًا، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ شَكَوْا إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: إِنَّ مَا كَانَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ فُتِحَ عَنْوَةً، وَنَحْنُ نَرُدُّ عَلَيْكُمْ كَنِيسَتَكُمْ وَنَهْدِمُ كَنِيسَةَ تُومَا، فَإِنَّهَا فُتِحْتَ عَنْوَةً وَنَبْنِيهَا مَسْجِدًا. فَقَالُوا: بَلْ نَدَعُ لَكُمْ هَذَا وَدَعَوْا كَنِيسَةَ تُومَا. وَكَانَ الْوَلِيدُ لَحَّانًا لَا يُحْسِنُ النَّحْوَ، دَخَلَ عَلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ فَمَتَّ إِلَيْهِ بِصِهْرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَرَابَتِهِ، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: مَنْ خَتَنَكَ؟ بِفَتْحِ النُّونِ، وَظَنَّ الْأَعْرَابِيُّ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخِتَانَ، فَقَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ. فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: إِنَّمَا يُرِيدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ خَتَنُكَ؟ وَضَمَّ النُّونَ. فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: نَعَمْ فُلَانٌ، وَذَكَرَ خَتْنَهُ. وَعَاتَبَهُ أَبُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَلِي الْعَرَبَ إِلَّا مَنْ يُحْسِنُ كَلَامَهُمْ. فَجَمَعَ أَهْلَ النَّحْوِ، وَدَخَلَ بَيْتًا فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ خَرَجَ وَهُوَ أَجْهَلُ مِنْهُ يَوْمَ دَخَلَ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: قَدْ أَعْذَرَ. فَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ [كَانَ] يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي رَمَضَانَ كُلَّ يَوْمٍ خَتْمَةً، وَخَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةُ، وَضَمَّ التَّاءَ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: عَلَيْكَ وَأَرَاحَتْنَا مِنْكَ. ذِكْرُ خِلَافَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَبَيْعَتِهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ الْوَلِيدُ وَهُوَ بِالرَّمْلَةِ. وَفِيهَا عَزَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عُثْمَانَ بْنَ حَيَّانَ عَنِ الْمَدِينَةِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَجْلِدَ أَبَا بَكْرٍ وَيَحْلِقَ لِحْيَتَهُ مِنَ الْغَدِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَ الْبَرِيدُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِتَأْمِيرِهِ وَعَزْلِ عُثْمَانَ وَحَدِّهِ، [وَأَنْ] يُقَيِّدَهُ.

وَفِيهَا عَزَلَ سُلَيْمَانُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي مُسْلِمٍ عَنِ الْعِرَاقِ، وَاسْتَعْمَلَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَجَعَلَ صَالِحَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْخَرَاجِ، وَأَمَرَهُ بِقَتْلِ بَنِي عَقِيلٍ وَبَسْطِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْحَجَّاجِ، فَكَانَ يُعَذِّبُهُمْ وَيَلِي عَذَابَهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ قَدِ اسْتَعْمَلَ أَخَاهُ زِيَادًا عَلَى حَرْبِ عُثْمَانَ. ذِكْرُ مَقْتَلِ قُتَيْبَةَ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيِّ بِخُرَاسَانَ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرَادَ أَنْ يَنْزِعَ أَخَاهُ سُلَيْمَانَ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَيَجْعَلَ [بَدَلَهُ] ابْنَهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ الْحَجَّاجُ وَقُتَيْبَةُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. فَلَمَّا مَاتَ الْوَلِيدُ وَوَلِيَ سُلَيْمَانُ خَافَهُ قُتَيْبَةُ، وَخَافَ أَنْ يُوَلِّيَ سُلَيْمَانُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ خُرَاسَانَ، فَكَتَبَ قُتَيْبَةُ إِلَى سُلَيْمَانَ كِتَابًا يُهَنِّئُهُ بِالْخِلَافَةِ وَيَذْكُرُ بَلَاءَهُ وَطَاعَتَهُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ وَالْوَلِيدِ، وَأَنَّهُ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَعْزِلْهُ عَنْ خُرَاسَانَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا آخَرَ يُعْلِمْهُ فِيهِ فُتُوحَهُ وَنِكَايَتَهُ، وَعِظَمَ قَدْرِهِ عِنْدَ مُلُوكِ الْعَجَمِ وَهَيْبَتِهِ فِي صُدُورِهِمْ، وَعِظَمِ صَوْلَتِهِ فِيهِمْ، وَيَذُمُّ أَهْلَ الْمُهَلَّبِ، وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ لَئِنِ اسْتَعْمَلَ يَزِيدَ عَلَى خُرَاسَانَ لَيَخْلَعَنَّهُ. وَكَتَبَ كِتَابًا ثَالِثًا فِيهِ خَلْعُهُ، وَبَعَثَ الْكُتُبَ مَعَ رَجُلٍ مِنْ بَاهِلَةَ، فَقَالَ لَهُ: ادْفَعِ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ كَانَ يَزِيدُ حَاضِرًا فَقَرَأَهُ ثُمَّ أَلْقَاهُ إِلَى يَزِيدَ فَادْفَعْ إِلَيْهِ هَذَا الثَّانِي، فَإِنَّ قَرَأَهُ وَدَفَعَهُ إِلَى يَزِيدَ، فَادْفَعْ إِلَيْهِ هَذَا الثَّالِثَ، فَإِنْ قَرَأَ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَدْفَعْهُ إِلَى يَزِيدَ فَاحْبِسِ الْكِتَابَيْنِ الْآخَرَيْنِ. فَقَدِمَ رَسُولُ قُتَيْبَةَ عَلَى سُلَيْمَانَ وَعِنْدَهُ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ، فَقَرَأَهُ وَأَلْقَاهُ إِلَى يَزِيدَ، فَدَفْعَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ الْآخَرَ، فَقَرَأَهُ، وَأَلْقَاهُ إِلَى يَزِيدَ، فَأَعْطَاهُ الْكِتَابَ الثَّالِثَ، فَقَرَأَهُ، فَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَخَتَمَهُ وَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ. وَقِيلَ: كَانَ فِي الْكِتَابِ الثَّالِثِ: لَئِنْ لَمْ تُقِرَّنِي عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ وَتُؤَمِّنُنِي لَأَخْلَعَنَّكَ، وَلَأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْكَ رِجَالًا وَخَيْلًا.

ثُمَّ أَمَرَ سُلَيْمَانُ بِرَسُولِ قُتَيْبَةَ فَأُنْزِلَ، فَأَحْضَرَهُ لَيْلًا فَأَعْطَاهُ دَنَانِيرَ جَائِزَتَهُ، وَأَعْطَاهُ عَهْدَ قُتَيْبَةَ عَلَى خُرَاسَانَ، وَسَيَّرَ مَعَهُ رَسُولًا بِذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَا بِحُلْوَانَ بَلَغَهُمَا خَلْعُ قُتَيْبَةَ، فَرَجَعَ رَسُولُ سُلَيْمَانَ. وَكَانَ قُتَيْبَةُ لَمَّا هَمَّ بِخَلْعِ سُلَيْمَانَ اسْتَشَارَ إِخْوَتَهُ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اقْطَعْ بَعْثًا فَوَجِّهْ فِيهِ كُلَّ مَنْ تَخَافُهُ، وَوَجِّهْ قَوْمًا إِلَى مَرْوَ، وَسِرْ حَتَّى تَنْزِلَ سَمَرْقَنْدَ، وَقُلْ لِمَنْ مَعَكَ: مَنْ أَحَبَّ الْمُقَامَ فَلَهُ الْمُوَاسَاةُ، وَمَنْ أَرَادَ الِانْصِرَافَ فَغَيْرُ مُسْتَكْرَهٍ، فَلَا يُقِيمُ عِنْدَكَ إِلَّا مُنَاصِحٌ، وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ أَحَدٌ. وَقَالَ لَهُ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ: اخْلَعْهُ مَكَانَكَ، فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ رَجُلَانِ. فَخَلَعَ سُلَيْمَانَ مَكَانَهُ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى خَلْعِهِ، وَذَكَرَ أَثَرَهُ فِيهِمْ وَسُوءَ أَثَرِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، فَلَمْ يَجُبْهُ أَحَدٌ، فَغَضِبَ وَقَالَ: لَا أَعَزَّ اللَّهُ مَنْ نَصَرْتُمْ! ثُمَّ وَاللَّهِ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى عَنْزٍ مَا كَسَرْتُمْ قَرْنَهَا! يَا أَهْلَ السَّافِلَةِ، وَلَا أَقُولُ يَا أَهْلَ الْعَالِيَةِ، أَوْبَاشَ الصَّدَقَةِ (جَمَعْتُكُمْ كَمَا تُجْمَعُ إِبِلُ الصَّدَقَةِ) مِنْ كُلِّ أَوْبٍ! يَا مَعْشَرَ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ! يَا أَهْلَ النَّفْخِ وَالْكَذِبِ وَالْبُخْلِ! بِأَيِّ يَوْمَيْكُمْ تَفْخَرُونَ؟ بِيَوْمِ حَرْبِكُمْ، أَوْ بِيَوْمِ سِلْمِكُمْ! يَا أَصْحَابَ مُسَيْلِمَةَ! يَا بَنِي ذَمِيمٍ، وَلَا أَقُولُ تَمِيمٍ! يَا أَهْلَ الْجَوْرِ وَالْقَصْفِ، كُنْتُمْ تُسَمَّوْنَ الْغَدْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَيْسَانَ! يَا أَصْحَابَ سِجَاحَ! يَا مَعْشَرَ عَبْدِ الْقَيْسِ الْقُسَاةِ، تَبَدَّلْتُمْ بِتَأْبِيرِ النَّخْلِ أَعِنَّةَ الْخَيْلِ! يَا مَعْشَرَ الْأَزْدِ تَبَدَّلْتُمْ بِقُلُوسِ السُّفُنِ أَعِنَّةَ الْخَيْلِ! إِنَّ هَذَا بِدْعَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، الْأَعْرَابُ وَمَا الْأَعْرَابُ! لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ! يَا كُنَاسَةَ الْمِصْرَيْنِ، جَمَعْتُكُمْ مِنْ مَنَابِتِ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ، تَرْكَبُونَ الْبَقَرَ وَالْحُمُرَ، فَلَمَّا جَمَعْتُكُمْ قُلْتُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ! أَمَّا وَاللَّهِ إِنِّي لَابْنُ أَبِيهِ وَأَخُو

أَخِيهِ! وَاللَّهِ لَأَعْصِبَنَّكُمْ عَصْبَ السَّلِمَةِ! إِنَّ حَوْلَ الصِّلِّيَانِ لَزَمْزَمَةٌ! يَا أَهْلَ خُرَاسَانَ أَتُدْرُونَ مَنْ وَلِيُّكُمْ؟ [وَلِيُّكُمْ] يَزِيدُ بْنُ ثَرْوَانَ. كَأَنِّي بِأَمِيرٍ جَاءَكُمْ فَغَلَبَكُمْ عَلَى فَيْئِكُمْ وَظِلَالِكُمْ! ارْمُوا غَرَضَكُمُ الْقَصِيَّ! حَتَّى مَتَى يَتَبَطَّحُ أَهْلُ الشَّامِ بِأَفْنِيَتِكُمْ! يَا أَهْلَ خُرَاسَانَ انْسُبُونِي تَجِدُونِي عِرَاقِيَّ الْأُمِّ وَالْمَوْلِدِ وَالرَّأْيِ وَالْهَوَى وَالدِّينِ، وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِيمَا تَرَوْنَ مِنَ الْأَمْنِ وَالْعَافِيَةِ! قَدْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمُ الْبِلَادَ وَآمَنَ سُبُلَكُمْ، فَالظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنْ مَرْوَ إِلَى بَلْخٍ بِغَيْرِ جَوَازٍ، فَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ وَاسْأَلُوهُ الشُّكْرَ وَالْمَزِيدَ. ثُمَّ نَزَلَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ، فَأَتَاهُ أَهْلُهُ وَقَالُوا: مَا رَأَيْنَاكَ كَالْيَوْمِ قَطُّ، وَلَامُوهُ. فَقَالَ: لَمَّا تَكَلَّمْتُ فَلَمْ يُجِبْنِي أَحَدٌ غَضِبْتُ فَلَمْ أَدْرِ مَا قُلْتُ. وَغَضِبَ النَّاسُ، وَكَرِهُوا خَلْعَ سُلَيْمَانَ، فَأَجْمَعُوا عَلَى خَلْعِ قُتَيْبَةَ وَخِلَافِهِ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ الْأَزْدَ، فَأَتَوْا حُضَيْنَ بْنَ الْمُنْذِرِ (بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ) ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا قَدْ دَعَا إِلَى خَلْعِ الْخَلِيفَةِ، وَفِيهِ فَسَادُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَقَدْ شَتَمَنَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ: إِنَّ مُضَرَ بِخُرَاسَانَ كَثِيرَةٌ، وَتَمِيمٌ أَكْثَرُهَا، وَهُمْ فُرْسَانُ خُرَاسَانَ، وَلَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَصِيرَ الْأَمْرُ فِي غَيْرِ مُضَرَ، فَإِنْ أَخْرَجْتُمُوهُمْ مِنْهُ أَعَانُوا قُتَيْبَةَ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ وَقَالُوا: مَنْ تَرَى مِنْ تَمِيمٍ؟ قَالَ: لَا أَرَى غَيْرَ وَكِيعٍ. فَقَالَ حَيَّانُ النَّبَطِيُّ مَوْلَى بَنِي شَيْبَانَ: إِنَّ أَحَدًا لَا يَتَوَلَّى هَذَا غَيْرُ وَكِيعٍ، فَيَصْلَى بِحَرِّهِ، وَيَبْذُلُ دَمَهُ، وَيَتَعَرَّضُ لِلْقَتْلِ، فَإِنْ قَدِمَ أَمِيرٌ أَخَذَهُ بِمَا جَنَى، فَإِنَّهُ لَا يَنْظُرُ فِي عَاقِبَةٍ، وَلَهُ عَشِيرَةٌ تُطِيعُهُ، وَهُوَ مَوْتُورٌ يَطْلُبُ قُتَيْبَةَ بِرِيَاسَتِهِ الَّتِي صَرَفَهَا عَنْهُ، وَصَيَّرَهَا لِضِرَارِ بْنِ حُصَيْنٍ الضَّبِّيِّ، فَمَشَى النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ سِرًّا. وَقِيلَ لِقُتَيْبَةَ: لَيْسَ يُفْسِدُ أَمْرَ النَّاسِ إِلَّا حَيَّانَ، فَأَرَادَ أَنْ يَغْتَالَهُ، وَكَانَ حَيَّانُ يُلَاطِفُ

خَدَمَ الْوُلَاةِ، فَدَعَا قُتَيْبَةُ رَجُلًا فَأَمَرَهُ بِقَتْلِ حَيَّانَ، وَسَمْعِ بَعْضُ الْخَدَمِ فَأَتَى حَيَّانَ فَأَخْبَرَهُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُهُ يَدْعُوهُ تَمَارَضَ. وَأَتَى النَّاسُ وَكِيعًا وَسَأَلُوهُ أَنْ يَلِيَ أَمْرَهُمْ، فَفَعَلَ. وَبِخُرَاسَانَ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْعَالِيَةِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ تِسْعَةُ آلَافٍ، وَمَنْ بَكْرٍ سَبْعَةُ آلَافٍ، وَرَئِيسُهُمْ حُضَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَمِنْ تَمِيمٍ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَعَلَيْهِمْ ضِرَارُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَعَبْدُ الْقَيْسِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُلْوَانَ، وَالْأَزْدُ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَوْذَانَ، وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ سَبْعَةُ آلَافٍ، وَعَلَيْهِمْ جَهْمُ بْنُ زَحْرٍ، وَالْمَوَالِي سَبْعَةُ آلَافٍ، عَلَيْهِمْ حَيَّانُ، وَهُوَ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَقِيلَ: مِنْ خُرَاسَانَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ نَبَطِيٌّ لِلُكْنَتِهِ. فَأَرْسَلَ حَيَّانُ إِلَى وَكِيعٍ: إِنْ أَنَا كَفَفْتُ عَنْكَ وَأَعَنْتُكَ أَتَجْعَلُ لِي الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ مِنْ نَهْرِ بِلْخٍ [وَ] خَرَاجُهُ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَمَا دُمْتُ أَمِيرًا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ حَيَّانُ لِلْعَجَمِ: هَؤُلَاءِ يُقَاتِلُونَ عَلَى غَيْرِ دِينٍ، فَدَعُوهُمْ يَقْتُلْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَفَعَلُوا فَبَايَعُوا وَكِيعًا سِرًّا. وَقِيلَ لِقُتَيْبَةَ: إِنَّ النَّاسَ يُبَايِعُونَ وَكِيعًا. فَدَسَّ ضِرَارَ بْنَ سِنَانٍ الضَّبِّيَّ إِلَى وَكِيعٍ، فَبَايَعَهُ سِرًّا، فَظَهَرَ لِقُتَيْبَةَ أَمْرُهُ، فَأَرْسَلَ يَدَعُوهُ، فَوَجَدَهُ قَدْ طَلَى رِجْلَيْهِ بِمَغْرَةٍ، وَعَلَّقَ عَلَى رَأْسِهِ حِرْزًا، وَعِنْدَهُ رَجُلَانِ يَرْقِيَانِ رِجْلَهُ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: قَدْ تَرَى مَا بِرِجْلِي. فَرَجَعَ فَأَخْبَرَ قُتَيْبَةَ، فَأَعَادَهُ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: لَتَأْتِيَنِّي مَحْمُولًا. قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ. فَقَالَ قُتَيْبَةُ لِصَاحِبِ شُرْطَتِهِ: انْطَلِقْ إِلَى وَكِيعٍ فَأْتِنِي بِهِ، فَإِنْ أَبَى فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، وَوَجَّهَ مَعَهُ خَيْلًا، وَقِيلَ: أَرْسَلَ إِلَيْهِ شُعْبَةَ بْنَ ظُهَيْرٍ التَّمِيمِيَّ، فَقَالَ لَهُ وَكِيعٌ: يَا ابْنَ ظُهَيْرٍ، الْبَثْ قَلِيلًا تَلْحَقِ الْكَتَائِبَ. وَلَبِسَ سِلَاحَهُ وَنَادَى فِي النَّاسِ، فَأَتَوْهُ، وَرَكِبَ فَرَسَهُ وَخَرَجَ، فَتَلَقَّاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ بَنِي أَسَدٍ. قَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: ضِرْغَامَةُ. قَالَ: ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ لَيْثٍ، فَأَعْطَاهُ رَايَتَهُ، وَقِيلَ كَانَتْ مَعَ عُقْبَةَ بْنِ شِهَابٍ الْمَازِنِيِّ. وَأَتَاهُ النَّاسُ أَرْسَالًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ،، فَتَقَدَّمَ بِهِمْ وَهُوَ يَقُولُ: قَرْمٌ إِذَا حُمِّلَ مَكْرُوهَةً شَدَّ الشَّرَاسِيفَ لَهَا وَالْحَزِيمْ وَاجْتَمَعَ إِلَى قُتَيْبَةَ أَهْلُ بَيْتِهِ وَخَوَاصُّ أَصْحَابِهِ وَثِقَاتُهُ، مِنْهُمْ إِيَاسُ بْنُ بَيْهَسَ بْنِ

عَمْرٍو، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ قُتَيْبَةَ، فَأَمَرَ قُتَيْبَةُ رَجُلًا فَنَادَى: أَيْنَ بَنُو عَامِرٍ؟ فَقَالَ لَهُ مُحَقِّرُ بْنُ جَزْءٍ الْعَلَائِيُّ، وَهُوَ قَيْسِيٌّ أَيْضًا، وَكَانَ قُتَيْبَةُ قَدْ جَفَاهُمْ: نَادِهِمْ حَيْثُ وَضَعْتَهُمْ. قَالَ قُتَيْبَةُ: نَادِ: أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ. قَالَ مُحَقِّرٌ: أَنْتَ قَطَعْتَهَا. قَالَ: نَادِ: لَكُمُ الْعُتْبَى. قَالَ مُحَقِّرٌ: لَا أَقَالَنَا اللَّهُ إِذَنْ، فَقَالَ قُتَيْبَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: يَا نَفْسُ صَبْرًا عَلَى مَا كَانَ مِنْ أَلَمٍ ... إِذْ لَمْ أَجِدْ لِفُضُولِ الْعَيْشِ أَقْرَانَا وَدَعَا بِبِرْذَوْنٍ لَهُ مُدَرَّبٍ لِيَرْكَبَهُ، فَجَعَلَ يَمْنَعُهُ حَتَّى أَعْيَا. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَادَ إِلَى سَرِيرِهِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَقَالَ: دَعُوهُ، إِنَّ هَذَا أَمْرٌ يُرَادُ. وَجَاءَ حَيَّانُ النَّبَطِيُّ فِي الْعَجَمِ وَقُتَيْبَةُ وَاجِدٌّ عَلَيْهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَخُو قُتَيْبَةَ لَحَيَّانَ: احْمِلْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ حَيَّانُ: لَمْ يَأْنِ بَعْدُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: نَاوِلْنِي قَوْسِي. فَقَالَ حَيَّانُ: لَيْسَ هَذَا بِيَوْمِ قَوْسٍ. وَقَالَ حَيَّانُ لِابْنِهِ: إِذَا رَأَيْتَنِي قَدْ حَوَّلْتُ قَلَنْسُوَتِي وَمَضَيْتُ نَحْوَ عَسْكَرِ وَكِيعٍ، فَمِلْ بِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْعَجَمِ إِلَيَّ. فَلَمَّا حَوَّلَ حَيَّانُ قَلَنْسُوَتَهُ مَالَتِ الْأَعَاجِمُ إِلَى عَسْكَرِ وَكِيعٍ وَكَبَّرُوا. فَبَعَثَ قُتَيْبَةُ أَخَاهُ صَالِحًا إِلَى النَّاسِ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضَبَّةَ، وَقِيلَ: مِنْ بَلْعَمٍ، فَأَصَابَ رَأْسَهُ، فَحُمِلَ إِلَى قُتَيْبَةَ وَرَأْسُهُ مَائِلٌ، فَوُضِعَ فِي مُصَلَّاهُ، وَجَلَسَ قُتَيْبَةُ عِنْدَهُ سَاعَةً. وَتَهَايَجَ النَّاسُ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَخُو قُتَيْبَةَ نَحْوَهُمْ، فَرَمَاهُ أَهْلُ السُّوقِ وَالْغَوْغَاءِ فَقَتَلُوهُ، وَأَحْرَقَ النَّاسُ مَوْضِعًا كَانَتْ فِيهِ إِبِلٌ لِقُتَيْبَةَ وَدَوَابِّهِ، وَدَنَوْا مِنْهُ. فَقَاتَلَ عَنْهُ رَجُلٌ مِنْ بَاهِلَةَ، فَقَالَ لَهُ قُتَيْبَةُ: انْجُ بِنَفْسِكَ. فَقَالَ: بِئْسَ مَا جَزَيْتُكَ إِذًا، وَقَدْ أَطْعَمْتَنِي الْجَرْدَقَ، وَأَلْبَسَتْنِي النَّرْمَقَ. وَجَاءَ النَّاسُ حَتَّى بَلَغُوا فُسْطَاطَهُ فَقَطَّعُوا أَطْنَابَهُ، وَجُرِحَ قُتَيْبَةُ جِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَقَالَ جَهْمُ بْنُ زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ لِسَعْدٍ: انْزِلْ فَخُذْ رَأْسَهُ، فَنَزَلَ سَعْدٌ فَشَقَّ الْفُسْطَاطَ، وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَقُتِلَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ إِخْوَتِهِ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَصَالِحٌ، وَحَصِينٌ،

وَعَبْدُ الْكَرِيمِ، وَمُسْلِمٌ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ ابْنُهُ، وَقِيلَ: قُتِلَ عَبْدُ الْكَرِيمِ بِقَزْوِينَ. وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ قُتِلَ مَعَ قُتَيْبَةَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، وَنَجَا عُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ أَخُو قُتَيْبَةَ، نَجَّاهُ أَخْوَالُهُ. وَكَانَتْ أُمُّهُ الْغَبْرَاءَ بِنْتَ ضِرَارِ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ الْقَيْسِيَّةَ. فَلَمَّا قُتِلَ قُتَيْبَةُ صَعِدَ وَكِيعٌ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: مَثَلِي وَمَثَلُ قُتَيْبَةَ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ: مَنْ يَنِكِ الْعِيرَ يَنِكْ نَيَّاكَا أَرَادَ قُتَيْبَةُ قَتْلِي وَأَنَا قَتَّالٌ قَدْ جَرَّبُونِي ثُمَّ جَرَّبُونِي ... مِنْ غَلْوَتَيْنِ وَمِنَ الْمِئَيْنِ حَتَّى إِذَا شِبْتُ وَشَيَّبُونِي ... خَلَّوْا عَنَانِي وَتَنَكَّبُونِي أَنَا أَبُو مُطَرِّفٍ! ثُمَّ قَالَ: أَنَا ابْنُ خِنْدِفَ تَنْمِينِي قَبَائِلُهَا ... بِالصَّالِحَاتِ وَعَمِّي قَيْسُ عَيْلَانَا ثُمَّ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فَقَالَ: شَيْخٌ إِذَا حُمِّلَ مَكْرُوهَةً ... شَدَّ الشَّرَاسِيفَ لَهَا وَالْحَزِيمْ وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ ثُمَّ لَأَقْتُلَنَّ! وَلَأُصَلِّبَنَّ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّ! إِنَّ مَرْزُبَانَكُمْ هَذَا ابْنَ الزَّانِيَةِ قَدْ أَغْلَى أَسْعَارَكُمْ! وَاللَّهِ لَيَصِيرَنَّ الْقَفِيزُ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ أَوْ لَأُصَلَّبَنَّهُ! صَلُّوا عَلَى نَبِيِّكُمْ. ثُمَّ نَزَلَ، وَطَلَبَ وَكِيعٌ رَأْسَ قُتَيْبَةَ وَخَاتَمَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْأَزْدَ أَخَذَتْهُ. فَخَرَجَ وَكِيعٌ مُشْهِرًا وَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَا أَبْرَحُ حَتَّى أُوتَى بِالرَّأْسِ، أَوْ يَذْهَبَ رَأْسِي مَعَهُ. فَقَالَ لَهُ حُضَيْنٌ: اسْكُنْ يَا أَبَا مُطَرِّفٍ فَإِنَّكَ تُؤْتَى بِهِ. وَذَهَبَ حُضَيْنٌ إِلَى الْأَزْدِ، وَهُوَ سَيِّدُهُمْ، فَأَمَرَهُمْ بِتَسْلِيمِ الرَّأْسِ إِلَى وَكِيعٍ، فَسَلَّمُوهُ إِلَيْهِ، فَسَيَّرَهُ إِلَى سُلَيْمَانَ مَعَ نَفَرٍ لَيْسَ فِيهِمْ تَمِيمِيٌّ، وَوَفَى وَكِيعٌ لَحَيَّانَ النَّبَطِيِّ بِمَا كَانَ ضَمِنَ لَهُ. فَلَمَّا أُتِيَ سُلَيْمَانُ بِرَأْسِ قُتَيْبَةَ وَرُءُوسِ أَهْلِهِ كَانَ عِنْدَهُ الْهُذَيْلُ بْنُ زُفَرَ بْنَ الْحَارِثِ،

فَقَالَ لَهُ: هَلْ سَاءَكَ هَذَا يَا هُذَيْلُ؟ فَقَالَ: لَوْ سَاءَنِي لَسَاءَ قَوْمًا كَثِيرًا. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مَا أَرَدْتُ هَذَا كُلَّهُ. وَإِنَّمَا قَالَ سُلَيْمَانُ هَذَا لِلْهُذَيْلِ ; لِأَنَّهُ هُوَ وَقُتَيْبَةُ مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ، ثُمَّ أَمَرَ بِالرِّءُوسِ فَدُفِنَتْ، وَلَمَّا قُتِلَ قُتَيْبَةُ قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ قَتَلْتُمْ قُتَيْبَةَ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مِنَّا فَمَاتَ لَجَعَلْنَاهُ فِي تَابُوتٍ، فَكُنَّا نَسْتَسْقِي بِهِ وَنَسْتَفْتِحُ بِهِ إِذَا غَزَوْنَا، وَمَا صَنَعَ أَحَدٌ بِخُرَاسَانَ قَطُّ مَا صَنَعَ قُتَيْبَةُ، إِلَّا أَنَّهُ غَدَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إِلَيْهِ: أَنِ اخْتَلْهُمْ وَاقْتُلْهُمْ لِلَّهِ. وَقَالَ الْإِصْبَهْبَذُ: قَتَلْتُمْ قُتَيْبَةَ وَيَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ وَهُمَا سَيِّدَا الْعَرَبِ. قِيلَ لَهُ أَيُّهُمَا كَانَ أَعَظَمُ عِنْدَكُمْ وَأَهْيَبُ؟ قَالَ: لَوْ كَانَ قُتَيْبَةُ بِأَقْصَى جُحْرٍ فِي الْغَرْبِ مُكَبَّلًا وَيَزِيدُ مَعَنَا فِي بِلَادِنَا وَالٍ عَلَيْنَا، لَكَانَ قُتَيْبَةُ أَهْيَبَ فِي صُدُورِنَا وَأَعْظَمَ مِنْ يَزِيدَ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ فِي ذَلِكَ: أَتَانِي وَرَحْلِي فِي الْمَدِينَةِ وَقْعَةٌ ... لِآلِ تَمِيمٍ أَقْعَدَتْ كُلَّ قَائِمِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُمَانَةَ الْبَاهِلِيُّ يَرْثِي قُتَيْبَةَ: كَأَنَّ أَبَا حَفْصٍ قُتَيْبَةَ لَمْ يَسِرْ ... بِجَيْشٍ إِلَى جَيْشٍ وَلَمْ يَعْلُ مِنْبَرَا وَلَمْ تَخْفُقِ الرَّايَاتُ وَالْجَيْشُ حَوْلَهُ ... وُقُوفٌ وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ النَّاسُ عَسْكَرَا دَعَتْهُ الْمَنَايَا فَاسْتَجَابَ لِرَبِّهِ ... وَرَاحَ إِلَى الْجَنَّاتِ عَفًّا مُطَهَّرَا فَمَا رُزِئَ الْإِسْلَامُ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ... بِمِثْلِ أَبِي حَفْصٍ فَبَكِّيهِ عَبْهَرَا وَعَبْهَرُ: أَمْ وَلَدٍ لَهُ. قِيلَ: وَقَالَ شُيُوخٌ مِنْ غَسَّانَ: كُنَّا بِثَنِيَّةِ الْعُقَابِ، إِذَا نَحْنُ بَرْجُلٍ مَعَهُ عَصًا وَجِرَابٌ، قُلْنَا: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خُرَاسَانَ. قُلْنَا: هَلْ كَانَ بِهَا مِنْ خَبَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُتِلَ بِهَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ أَمْسِ. فَعَجِبْنَا لِقَوْلِهِ، فَلَمَّا رَأَى إِنْكَارَنَا قَالَ: أَيْنَ

يَرَوْنِي اللَّيْلَةَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ؟ وَتَرَكَنَا وَمَضَى، فَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى خُيُولِنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْبِقُ الطَّرْفَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ قُرَّةُ بْنُ شَرِيكٍ الْعَبْسِيُّ أَمِيرُ مِصْرَ فِي صَفَرٍ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ فِي الشَّهْرِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْحَجَّاجُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ (بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ) . وَعَلَى حَرْبِ الْعِرَاقِ وَصَلَاتِهَا: يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ. وَعَلَى خَرَاجِهَا: صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَعَلَى الْبَصْرَةِ: سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ مِنْ قِبَلِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ. وَعَلَى قَضَائِهَا: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُذَيْنَةَ. وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُوسَى. وَعَلَى حَرْبِ خُرَاسَانَ وَكِيعُ بْنُ أَبِي سُودٍ. [الوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي، وَقِيلَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةٌ. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ.

وَمَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَلَهُ صُحْبَةٌ. وَفِي وِلَايَةِ الْوَلِيدِ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ، قِيلَ لَهُ صُحْبَةٌ. وَأَبُو سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، كَانَ يَسْكُنُ الْمَقَابِرَ فَنُسِبَ إِلَيْهَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ الْفَقِيهُ. وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَلَهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي أَيَّامِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَعَبَّاسُ بْنُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ.

ثم دخلت سنة سبع وتسعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ] 97 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ ذِكْرُ مَقْتَلِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ أَبَاهُ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْأَنْدَلُسِ، كَمَا ذَكَرْنَا، عِنْدَ عَوْدِهِ إِلَى الشَّامِ، فَضَبَطَهَا وَسَدَّدَ أُمُورَهَا، وَحَمَى ثُغُورَهَا، وَافْتَتَحَ فِي إِمَارَتِهِ مَدَائِنَ بَقِيَتْ بَعْدَ أَبِيهِ، وَكَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا، وَتَزَوَّجَ امْرَأَةَ رُذَرِيقَ، فَحَظِيَتْ عِنْدَهُ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ، فَحَمَلَتْهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَصْحَابَهُ وَرَعِيَّتَهُ بِالسُّجُودِ لَهُ إِذَا دَخَلُوا عَلَيْهِ كَمَا كَانَ يُفْعَلُ لِزَوْجِهَا رُذَرِيقَ. فَقَالَ لَهَا: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي دِينِنَا. فَلَمْ تَزَلْ بِهِ حَتَّى أَمَرَ فَفُتِحَ بَابٌ قَصِيرٌ لِمَجْلِسِهِ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ فِيهِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا دَخَلَ مِنْهُ طَأْطَأَ رَأْسَهُ فَيَصِيرُ كَالرَّاكِعِ، فَرَضِيَتْ بِهِ، فَصَارَ كَالسُّجُودِ عِنْدَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: الْآنَ لَحِقْتَ بِالْمُلُوكِ، وَبَقِيَ أَنْ أَعْمَلَ لَكَ تَاجًا مِمَّا عِنْدِي مِنَ الذَّهَبِ وَاللُّؤْلُؤِ، فَأَبَى، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ حَتَّى فَعَلَ. فَانْكَشَفَ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَقِيلَ: تَنَصَّرَ، وَفَطِنُوا لِلْبَابِ، فَثَارُوا عَلَيْهِ، فَقَتَلُوهُ فِي آخِرِ سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بَعْثَ إِلَى الْجُنْدِ فِي قَتْلِهِ عِنْدَ سُخْطِهِ عَلَى وَالِدِهِ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمِحْرَابِ، فَصَلَّى الصُّبْحَ وَقَدْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةَ الْوَاقِعَةِ، فَضَرَبُوهُ بِالسُّيُوفِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَأَخَذُوا رَأْسَهُ فَسَيَّرُوهُ إِلَى سُلَيْمَانَ، فَعَرَضَهُ سُلَيْمَانُ عَلَى أَبِيهِ، فَتَجَلَّدَ لِلْمُصِيبَةِ، وَقَالَ: هَنِيئًا لَهُ بِالشَّهَادَةِ، فَقَدْ قَتَلْتُمُوهُ وَاللَّهِ صَوَّامًا قَوَّامًا. وَكَانُوا يَعُدُّونَهَا مِنْ زَلَّاتِ سُلَيْمَانَ. وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ فِي آخِرِهَا. ثُمَّ إِنْ سُلَيْمَانَ وَلَّى الْأَنْدَلُسَ الْحُرَّ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الثَّقَفِيَّ، فَأَقَامَ وَالِيًا عَلَيْهَا إِلَى أَنِ

اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَعَزَلَهُ، هَذَا آخِرُ مَا أَرَدْنَا ذِكْرَهُ مِنْ قَتْلِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ. وَفِيهَا عَزَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ الْقُرَشِيَّ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ سُلَيْمَانُ فَعُزِلَ، فَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَكَانَهُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ سَنَةَ مِائَةٍ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، فَأَسْلَمَ الْبَرْبَرُ فِي أَيَّامِهِ جَمِيعُهُمْ. ذِكْرُ وِلَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ خُرَاسَانَ وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا وَلَّى يَزِيدَ الْعِرَاقَ فَوَّضَ إِلَيْهِ حَرْبَهَا وَالصَّلَاةَ بِهَا وَخَرَاجَهَا، فَنَظَرَ يَزِيدُ لِنَفْسِهِ، وَقَالَ: إِنَّ الْعِرَاقَ قَدْ أَخْرَبَهَا الْحَجَّاجُ، وَأَنَا الْيَوْمَ رَجُلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَمَتَى قَدِمْتُهَا وَأَخَذْتُ النَّاسَ بِالْخَرَاجِ وَعَذَّبْتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ صِرْتُ مِثْلَ الْحَجَّاجِ، وَأَعَدْتُ عَلَيْهِمُ السُّجُونَ، وَمَا عَافَاهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، وَمَتَى لَمْ آتِ سُلَيْمَانَ بِمِثْلِ مَا كَانَ الْحَجَّاجُ أَتَى بِهِ لَمْ يَقْبَلْ مِنِّي. فَأَتَى يَزِيدُ سُلَيْمَانَ وَقَالَ: أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ بَصِيرٍ بِالْخَرَاجِ تَوَلِّيهِ إِيَّاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى [بَنِي] تَمِيمٍ، فَوَلَّاهُ الْخَرَاجَ وَسَيَّرَهُ قَبْلَ يَزِيدَ، فَنَزَلَ وَاسِطًا، وَأَقْبَلَ يَزِيدُ، فَخَرَجَ النَّاسُ يَتَلَقَّوْنَهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ صَالِحٌ حَتَّى قَرُبَ يَزِيدُ، فَخَرَجَ صَالِحٌ فِي الدُّرَّاعَةِ، بَيْنَ يَدَيْهِ أَرْبَعُمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَلَقِيَ يَزِيدَ وَسَايَرَهُ، فَنَزَلَ يَزِيدُ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ صَالِحٌ فَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ شَيْءٍ، وَاتَّخَذَ [يَزِيدُ] أَلْفَ خِوَانٍ يُطْعِمُ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَأَخَذَهَا صَالِحٌ، فَقَالَ يَزِيدُ: اكْتُبْ ثَمَنَهَا عَلَيَّ. وَاشْتَرَى يَزِيدُ مَتَاعًا وَكَتَبَ صَكًّا بِثَمَنِهِ إِلَى صَالِحٍ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ وَقَالَ لِيَزِيدَ: إِنَّ الْخَرَاجَ لَا يَقُومُ بِمَا تُرِيدُ وَلَا يَرْضَى بِهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَتُؤْخَذُ بِهِ. فَضَاحَكَهُ يَزِيدُ، وَقَالَ: أَجْرِ هَذَا الْمَالَ هَذِهِ الْمَرَّةَ وَلَا أَعُودُ. فَفَعَلَ صَالِحٌ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ لَمْ يَجْعَلْ خُرَاسَانَ إِلَى يَزِيدَ، فَضَجِرَ يَزِيدُ مِنَ الْعِرَاقِ لِتَضْيِيقِ صَالِحٍ عَلَيْهِ، فَدَعَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْأَهْتَمِ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُكَ لِأَمْرٍ قَدْ أَهَمَّنِي فَأُحِبُّ أَنْ تَكْفِيَنِيهِ. قَالَ: أَفْعَلُ. قَالَ: أَنَا فِيمَا تَرَى مِنَ الضِّيقِ وَقَدْ ضَجِرْتُ مِنْهُ، وَخُرَاسَانُ شَاغِرَةٌ بِرَجُلِهَا فَهَلْ

مِنْ حِيلَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَرِّحْنِي إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَاكْتُمْ مَا أَخْبَرْتُكَ. وَكَتَبَ إِلَى سُلَيْمَانَ يُخْبِرُهُ بِحَالِ الْعِرَاقِ، وَأَثْنَى عَلَى ابْنِ الْأَهْتَمِ، وَذَكَرَ عِلْمَهُ بِهَا، وَسَيَّرَ ابْنَ الْأَهْتَمِ عَلَى الْبَرِيدِ. فَأَتَى سُلَيْمَانَ وَاجْتَمَعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: إِنْ يَزِيدَ كَتَبَ إِلَيَّ يَذْكُرُ عِلْمَكَ بِالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، فَكَيْفَ عِلْمُكَ بِهَا؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَا، بِهَا وُلِدْتُ وَبِهَا نَشَأَتْ، وَلِي بِهَا وَبِأَهْلِهَا خَبَرٌ وَعِلْمٌ. قَالَ: فَأَشِرْ عَلَيَّ بِرَجُلٍ أُوَلِّيهِ خُرَاسَانَ. قَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ بِمَنْ يُرِيدُ، فَإِنْ ذَكَرَ مِنْهُمْ أَحَدًا أَخْبَرْتُهُ بِرَأْيِي فِيهِ. فَسَمَّى رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ رِجَالِ خُرَاسَانَ. قَالَ: فَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمُهَلَّبِ. قَالَ: لَا يَصْلُحُ فَإِنَّهُ يَصْبُوَا عَنْ هَذَا، فَلَيْسَ لَهُ مَكْرُ أَبِيهِ، وَلَا شَجَاعَةُ أَخِيهِ. حَتَّى عَدَّدَ رِجَالًا، وَكَانَ آخِرُ مَنْ ذَكَرَ وَكِيعُ بْنُ أَبِي سُودٍ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَكِيعٌ رَجُلٌ شُجَاعٌ صَارِمٌ رَئِيسٌ مِقْدَامٌ، وَمَا أَحَدٌ أَوْجَبُ شُكْرًا وَلَا أَعْظَمُ عِنْدِي يَدًا مِنْ وَكِيعٍ، لَقَدْ أَدْرَكَ بِثَأْرِي وَشَفَانِي مِنْ عَدُوِّي، وَلَكِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْظَمُ حَقًّا وَالنَّصِيحَةُ لَهُ تَلْزَمُنِي، إِنَّ وَكِيعًا لَمْ تَجْتَمِعْ لَهُ مِائَةُ عِنَانٍ قَطُّ إِلَّا حَدَّثَ نَفْسَهُ بِغَدْرَةٍ، خَامِلٌ فِي الْجَمَاعَةِ ثَابِتٌ فِي الْفِتْنَةِ، قَالَ: مَا هُوَ مِمَّنْ تَسْتَعِينُ بِهِ، فَمَنْ لَهَا وَيْحَكَ؟ قَالَ: رَجُلٌ أَعْلَمُهُ لَمْ يُسِمِّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: لَا أَذْكُرُهُ حَتَّى يَضْمَنَ لِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ سَتْرَ ذَلِكَ، وَأَنْ يُجِيرَنِي مِنْهُ إِنْ عَلِمَ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ. قَالَ: الْعِرَاقُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ خُرَاسَانَ. قَالَ ابْنُ الْأَهْتَمِ: قَدْ عَلِمْتُ وَلَكِنْ تُكْرِهُهُ فَيَسْتَخْلِفُ عَلَى الْعِرَاقِ وَيَسِيرُ. قَالَ: أَصَبْتَ الرَّأْيَ. فَكَتَبَ عَهْدَ يَزِيدَ عَلَى خُرَاسَانَ، وَسَيَّرَهُ مَعَ ابْنِ الْأَهْتَمِ، فَأَتَى يَزِيدَ بِهِ، فَأَمَرَهُ بِالْجِهَازِ لِلْمَسِيرِ سَاعَتَهُ، وَقَدَّمَ ابْنَهُ مَخْلَدًا إِلَى خُرَاسَانَ مِنْ يَوْمِهِ، ثُمَّ سَارَ يَزِيدُ بَعْدَهُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى وَاسِطَ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْبَصْرَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِلَالٍ الْكِلَابِيَّ، وَجَعَلَ أَخَاهُ مَرْوَانَ بْنَ الْمُهَلَّبِ عَلَى حَوَائِجِهِ وَأُمُورِهِ بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ أَوْثَقَ إِخْوَتِهِ عِنْدَهُ، وَاسْتَخْلَفَ بِالْكُوفَةِ حَرْمَلَةَ بْنَ عُمَيْرٍ اللَّخْمِيَّ أَشْهُرًا ثُمَّ عَزَلَهُ، وَوَلَّى بَشِيرَ بْنَ حَيَّانَ النَّهْدِيَّ. وَكَانَتْ قَيْسُ تَزْعُمُ أَنَّ قُتَيْبَةَ لَمْ يَخْلَعْ، فَلَمَّا سَارَ يَزِيدُ إِلَى خُرَاسَانَ أَمَرَهُ سُلَيْمَانُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ قُتَيْبَةَ، فَإِنْ أَقَامَتْ قَيْسٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ قُتَيْبَةَ لَمْ يَخْلَعْ أَنْ يُقِيدَ وَكِيعًا بِهِ، وَلَمَّا وَصَلَ مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ مَرْوَ أَخَذَهُ، فَحَبَسَهُ وَعَذَّبَهُ، وَأَخَذَ أَصْحَابَهُ وَعَذَّبَهُمْ قَبْلَ قُدُومِ أَبِيهِ، وَكَانَتْ وِلَايَةُ وَكِيعٍ خُرَاسَانَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ عَشْرَةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ قَدِمَ يَزِيدُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خُرَاسَانَ فَأَدْنَى أَهْلَ الشَّامِ وَقَوْمًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، فَقَالَ نَهَارُ بْنُ تَوْسِعَةَ فِي ذَلِكَ:

وَمَا كُنَّا نُؤَمِّلُ مِنْ أَمِيرٍ ... كَمَا كُنَّا نُؤَمِّلُ مِنْ يَزِيدِ فَأَخْطَأَ ظَنُّنَا فِيهِ وَقِدَمًا ... زَهِدْنَا فِي مُعَاشَرَةِ الزَّهِيدِ إِذَا لَمْ يُعْطِنَا نَصَفًا أَمِيرٌ ... مَشَيْنَا نَحْوَهُ مَشْيَ الْأَسْوَدِ فَمَهْلًا يَا يَزِيدُ أَنِبْ إِلَيْنَا ... وَدَعْنَا مِنْ مُعَاشَرَةِ الْعَبِيدِ نَجِيءُ وَلَا نَرَى إِلَّا صُدُودًا ... عَلَى أَنَّا نُسَلِّمُ مِنْ بَعِيدِ وَنَرْجِعُ خَائِبِينَ بِلَا نَوَالٍ ... فَمَا بَالُ التَّجَهُّمِ وَالصُّدُودِ ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْجُيُوشَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَاسْتَعْمَلَ ابْنَهُ دَاوُدَ عَلَى الصَّائِفَةِ فَافْتَتَحَ حِصْنَ الْمَرْأَةِ. وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ أَرْضَ الْوَضَّاحِيَّةَ، فَفَتَحَ الْحِصْنَ الَّذِي فَتَحَهُ الْوَضَّاحُ صَاحِبُ الْوَضَّاحِيَّةَ. وَفِيهَا غَزَا عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ أَرْضَ الرُّومِ فِي الْبَحْرِ، فَشَتَّى فِيهَا. وَفِيهَا حَجَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالنَّاسِ. وَفِيهَا عُزِلَ دَاوُدُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَضْرَمِيُّ عَنْ مَكَّةَ، وَكَانَ عَمَلُهُ عَلَيْهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَوُلِّيَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ. وَكَانَ عُمَّالُ الْأَمْصَارِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ.

[الوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَمِائَةٍ. وَفِيهَا مَاتَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ الَّذِي فَتَحَ الْأَنْدَلُسَ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ الْبَجَلِيُّ وَقَدْ جَاوَزَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيُسَلِّمَ، فَرَآهُ قَدْ تُوُفِّيَ، وَرَوَى عَنِ الْعَشَرَةِ، وَقِيلَ: لَمْ يَرْوِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَذَهَبَ عَقْلُهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. حَازِمٌ: بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ مَوْلَى أَشْجَعَ، وَاسْمُ أَبِي الْجَعْدِ رَافِعٌ.

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ] 98 - ذِكْرُ مُحَاصَرَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى دَابِقٍ، وَجَهَّزَ جَيْشًا مَعَ أَخِيهِ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ لِيَسِيرَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَمَاتَ مَلِكُ الرُّومِ، فَأَتَاهُ أَلْيُونُ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ فَأَخْبَرَهُ، فَضَمِنَ لَهُ فَتْحَ الرُّومِ، فَوَجَّهَ مَسْلَمَةَ مَعَهُ، فَسَارَا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا أَمَرَ كُلَّ فَارِسٍ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ مُدَّيْنِ مِنْ طَعَامٍ عَلَى عَجُزِ فَرَسِهِ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا أَتَاهَا أَمَرَ بِالطَّعَامِ فَأُلْقِيَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، وَقَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: لَا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَأَغِيرُوا فِي أَرْضِهِمْ وَازْرَعُوا. وَعَمِلَ بُيُوتًا مِنْ خَشَبٍ، فَشَتَّى فِيهَا وَصَافَ، وَزَرَعَ النَّاسُ، وَبَقِيَ الطَّعَامُ فِي الصَّحْرَاءِ وَالنَّاسُ يَأْكُلُونَ مَا أَصَابُوا مِنَ الْغَارَاتِ وَمِنَ الزَّرْعِ، وَأَقَامَ مَسْلَمَةُ قَاهِرًا لِلرُّومِ مَعَهُ أَعْيَانُ النَّاسِ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ، وَمُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زَكَرِيَّا الْخُزَاعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. فَأَرْسَلَ الرُّومُ إِلَى مَسْلَمَةَ يُعْطُونَهُ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ دِينَارًا، فَلَمْ يَقْبَلْ. فَقَالَتِ الرُّومُ لَأَلْيُونَ: إِنْ صَرَفْتَ عَنَّا الْمُسْلِمِينَ مَلَّكْنَاكَ. فَاسْتَوْثَقَ مِنْهُمْ، فَأَتَى مَسْلَمَةَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الرُّومَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّكَ لَا تَصْدُقُهُمُ الْقِتَالَ، وَأَنَّكَ تُطَاوِلُهُمْ مَا دَامَ الطَّعَامُ عِنْدَكَ، فَلَوْ أَحْرَقْتَهُ أَعْطَوُا الطَّاعَةَ بِأَيْدِيهِمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُحْرِقَ، فَقَوِيَ الرُّومُ وَضَاقَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى كَادُوا يَهْلِكُونَ، وَبَقُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ سُلَيْمَانُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا خَدَعَ أَلْيُونَ مَسْلَمَةَ بِأَنْ يَسْأَلَهُ أَنْ يُدْخِلَ الطَّعَامَ إِلَى الرُّومِ بِمِقْدَارِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ لَيْلَةً وَاحِدَةً، لِيُصَدِّقُوهُ أَنَّ أَمْرَهُ وَأَمْرَ مَسْلَمَةَ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ مِنَ السَّبْيِ وَالْخُرُوجِ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُ، وَكَانَ أَلْيُونُ قَدِ اعَدَّ السُّفُنَ وَالرِّجَالَ، فَنَقَلُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ الطَّعَامَ، فَلَمْ يَتْرُكُوا فِي تِلْكَ الْحَظَائِرِ إِلَّا مَا لَا يَذْكَرُ، وَأَصْبَحَ أَلْيُونُ مُحَارِبًا، وَقَدْ خُدِعَ

خَدِيعَةً لَوْ كَانَتِ امْرَأَةً لَعِيبَتْ بِهَا، وَلَقِيَ الْجُنْدُ مَا لَمْ يَلْقَهُ جَيْشٌ آخَرُ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَخَافُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْعَسْكَرِ وَحْدَهُ، وَأَكَلُوا الدَّوَابَّ وَالْجُلُودَ وَأُصُولَ الشَّجَرِ وَالْوَرَقِ، وَكُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ التُّرَابِ، وَسُلَيْمَانُ مُقِيمٌ بِدَابِقٍ، وَتَوَلَّى الشِّتَاءُ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُمِدَّهُمْ حَتَّى مَاتَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَايَعَ سُلَيْمَانُ لِابْنِهِ أَيُّوبَ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، فَمَاتَ أَيُّوبُ قَبْلَ أَبِيهِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتْ مَدِينَةُ الصَّقَالِبَةِ، وَكَانَتْ بُرْجَانُ قَدْ أَغَارَتْ عَلَى مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ فِي قِلَّةٍ، فَكَتَبَ إِلَى سُلَيْمَانَ يَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَدَّهُ، فَمَكَرَتْ بِهِمُ الصَّقَالِبَةُ ثُمَّ انْهَزَمُوا. وَفِيهَا غَزَا الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، فَأُصِيبَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ أَنْطَاكِيَّةَ، وَأَصَابَ الْوَلِيدُ نَاسًا مِنْ ضَوَاحِي الرُّومِ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ بَشَرًا كَثِيرًا. ذِكْرُ فَتَحِ جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ لَمَّا قَدِمَ خُرَاسَانَ. وَسَبَبُ غَزْوِهِمَا وَاهْتِمَامِهِ بِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالشَّامِ كَانَ سُلَيْمَانُ كُلَّمَا فَتَحَ قُتَيْبَةُ فَتْحًا يَقُولُ لِيَزِيدَ: أَلَا تَرَى إِلَى مَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى قُتَيْبَةَ؟ فَيَقُولُ يَزِيدُ: مَا فَعَلَتْ جُرْجَانُ (الَّتِي قَطَعَتِ الطَّرِيقَ، وَأَفْسَدَتْ قُومِسَ وَنَيْسَابُورَ وَيَقُولُ: هَذِهِ الْفُتُوحُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، الشَّانُ هِيَ جُرْجَانُ. فَلَمَّا وَلَّاهُ سُلَيْمَانُ خُرَاسَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ هِمَّةٌ غَيْرُ جُرْجَانَ) ، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي مِائَةِ أَلْفٍ

مِنَ أَهْلِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، سِوَى الْمَوَالِي وَالْمُتَطَوِّعَةِ، وَلَمْ تَكُنْ جُرْجَانُ يَوْمَئِذٍ مَدِينَةً، إِنَّمَا هِيَ جِبَالٌ وَمَخَارِمُ وَأَبْوَابٌ، يَقُومُ الرَّجُلُ عَلَى بَابٍ مِنْهَا فَلَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. فَابْتَدَأَ بِقُهِسْتَانَ فَحَاصَرَهَا، وَكَانَ أَهْلُهَا طَائِفَةً مِنَ التُّرْكِ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا. وَكَانَ أَهْلُهَا يَخْرُجُونَ وَيُقَاتِلُونَ، فَيَهْزِمُهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي كُلِّ ذَلِكَ، فَإِذَا هُزِمُوا دَخَلُوا الْحِصْنَ. فَخَرَجُوا ذَاتَ يَوْمٍ وَخَرَجَ إِلَيْهِمُ النَّاسُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَحَمَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَلَى تُرْكِيٍّ قَدْ صَدَّ النَّاسَ عَنْهُ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَثَبَتَ سَيْفُ التُّرْكِيِّ فِي بَيْضَةِ ابْنِ أَبِي سَبْرَةَ، وَضَرَبَهُ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ فَقَتَلَهُ، وَرَجَعَ وَسَيْفُهُ يَقْطُرُ دَمًا، وَسَيْفُ التُّرْكِيِّ فِي بَيْضَتِهِ، فَنَظَرَ النَّاسُ إِلَى أَحْسَنِ مَنْظَرٍ رَأَوْهُ. وَخَرَجَ يَزِيدُ بَعْدَ ذَلِكَ يَوْمًا يَنْظُرُ مَكَانًا يَدْخُلُ مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ وُجُوهِ النَّاسِ وَفُرْسَانِهِمْ، فَلَمْ يَشْعُرُوا حَتَّى هَجَمَ عَلَيْهِمُ التُّرْكُ فِي نَحْوِ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَقَاتَلُوهُمْ سَاعَةً، وَقَاتَلَ يَزِيدُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَسَلِمُوا وَانْصَرَفُوا، وَكَانُوا قَدْ عَطِشُوا، فَانْتَهَوْا إِلَى الْمَاءِ فَشَرِبُوا، وَرَجَعَ عَنْهُمُ الْعَدُوُّ. ثُمَّ إِنَّ يَزِيدَ أَلَحَّ عَلَيْهِمْ فِي الْقِتَالِ، وَقَطَعَ عَنْهُمُ الْمَوَادَّ حَتَّى ضَعِفُوا وَعَجَزُوا. فَأَرْسَلَ صُولُ، دِهْقَانُ قُهِسْتَانَ، إِلَى يَزِيدَ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُصَالِحَهُ وَيُؤَمِّنَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، لِيَدْفَعَ إِلَيْهِ الْمَدِينَةَ بِمَا فِيهَا، فَصَالَحَهُ وَوَفَى لَهُ، وَدَخْلَ الْمَدِينَةَ، فَأَخَذَ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْكُنُوزِ وَالسَّبْيِ مَا لَا يُحْصَى، وَقَتْلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ تُرْكِيٍّ صَبْرًا، وَكَتَبَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بِذَلِكَ. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى جُرْجَانَ. وَكَانَ أَهْلُ جُرْجَانَ قَدْ صَالَحَهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَكَانُوا يَجْبُونَ أَحْيَانًا مِائَةَ أَلْفٍ، وَأَحْيَانًا مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَأَحْيَانًا ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ، وَرُبَّمَا أَعْطَوْا ذَلِكَ وَرُبَّمَا مَنَعُوهُ، ثُمَّ امْتَنَعُوا وَكَفَرُوا، فَلَمْ يُعْطُوا خَرَاجًا، وَلَمْ يَأْتِ جُرْجَانَ بَعْدَ سَعِيدٍ أَحَدٌ، وَمَنَعُوا ذَلِكَ الطَّرِيقَ، فَلَمْ يَكُنْ يَسْلُكُ طَرِيقَ خُرَاسَانَ أَحَدٌ إِلَّا عَلَى فَارِسَ وَكَرْمَانَ. وَأَوَّلُ مَنْ صَيَّرَ الطَّرِيقَ مِنْ قُومِسَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ حِينَ وَلِيَ خُرَاسَانَ. وَبَقِيَ أَمْرُ جُرْجَانَ كَذَلِكَ حَتَّى وَلِيَ يَزِيدُ وَأَتَاهُمْ، فَاسْتَقْبَلُوهُ بِالصُّلْحِ، وَزَادُوهُ وَهَابُوهُ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَصَالَحَهُمْ. فَلَمَّا فَتَحَ قُهِسْتَانَ وَجُرْجَانَ طَمِعَ فِي طَبَرِسْتَانَ أَنْ يَفْتَحَهَا، فَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهَا، فَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُعَمَّرِ الْيَشْكُرِيَّ عَلَى السَّاسَانِ وَقُهِسْتَانَ، وَخَلَّفَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى أَدَانِي جُرْجَانَ مِمَّا يَلِي طَبَرِسْتَانَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَى أَيْذُوسَا رَاشِدَ بْنَ عَمْرٍو، وَجَعَلَهُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَدَخَلَ بِلَادَ طَبَرِسْتَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْإِصْبَهْبَذُ صَاحِبُهَا يَسْأَلُهُ الصُّلْحَ وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْ طَبَرِسْتَانَ، فَأَبَى يَزِيدُ، وَرَجَا أَنْ يَفْتَتِحَهَا، وَوَجَّهَ أَخَاهُ أَبَا عُيَيْنَةَ مِنْ

وَجْهٍ، وَابْنَهُ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ مِنْ وَجْهٍ، وَأَبَا الْجَهْمِ الْكَلْبِيَّ مِنْ وَجْهٍ، وَقَالَ: إِذَا اجْتَمَعْتُمْ فَأَبُوا عُيَيْنَةَ عَلَى النَّاسِ. فَسَارَ أَبُو عُيَيْنَةَ وَأَقَامَ يَزِيدُ مُعَسْكَرًا. وَاسْتَجَاشَ الْإِصْبَهْبَذُ أَهْلَ جِيلَانَ وَالدَّيْلَمَ، فَأَتَوْهُ فَالْتَقَوْا فِي سَفْحِ جَبَلٍ، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْجَبَلِ، فَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى فَمِ الشِّعْبِ، فَدَخَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَصَعِدَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْجَبَلِ وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَرُومُونَ الصُّعُودَ، فَرَمَاهُمُ الْعَدُوُّ بِالنُّشَّابِ وَالْحِجَارَةِ، فَانْهَزَمَ أَبُو عُيَيْنَةَ وَالْمُسْلِمُونَ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، يَتَسَاقَطُونَ فِي الْجَبَلِ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى عَسْكَرِ يَزِيدَ، وَكَفَّ عَدُّوهُمْ عَنِ اتِّبَاعِهِمْ، وَخَافَهُمُ الْإِصْبَهْبَذُ، فَكَانَ أَهْلُ جُرْجَانَ وَمُقَدِّمُهُمُ الْمَرْزُبَانُ يَسْأَلُهُمْ أَنْ يُبَيِّتُوا مِنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَقْطَعُوا عَنْ يَزِيدَ الْمَادَّةَ وَالطَّرِيقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَيَعِدُهُمْ أَنْ يُكَافِئَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَثَارُوا بِالْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلُوهُمْ أَجْمَعِينَ وَهُمْ غَارُّونَ فِي لَيْلَةٍ، وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعَمَّرِ وَجَمِيعُ مَنْ مَعَهُ فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَكَتَبُوا إِلَى الْإِصْبَهْبَذِ بِأَخْذِ الْمَضَايِقِ وَالطُّرُقِ. وَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ وَأَصْحَابَهُ فَعَظُمَ عَلَيْهِمْ وَهَالَهُمْ، وَفَزِعَ يَزِيدُ إِلَى حَيَّانَ النَّبَطِيَّ وَقَالَ لَهُ: لَا يَمْنَعُكَ مَا كَانَ مِنِّي إِلَيْكَ مِنْ نَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ جَاءَنَا عَنْ جُرْجَانَ مَا جَاءَنَا فَاعْمَلْ فِي الصُّلْحِ. فَقَالَ: نَعَمْ. فَأَتَى حَيَّانُ الْإِصْبَهْبَذَ فَقَالَ: أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ، وَإِنْ كَانَ الدِّينُ فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ، فَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ يَزِيدَ، وَقَدْ بَعَثَ يَسْتَمِدُّ وَأَمْدَادُهُ مِنْهُ قَرِيبَةٌ، وَإِنَّمَا أَصَابُوا مِنْهُ طَرَفًا، وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يَأْتِيَكَ مَنْ لَا تَقُومُ لَهُ، فَأَرِحْ نَفْسَكَ وَصَالِحْهُ، فَإِنْ صَالَحْتَهُ صَيَّرَ حَدَّهُ عَلَى أَهْلِ جُرْجَانَ بِغَدْرِهِمْ وَقَتْلِهِمْ أَصْحَابَهُ. فَصَالَحَهُ عَلَى سَبْعِمِائَةِ أَلْفٍ، وَقِيلَ خَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ وَقْرِ زَعْفَرَانَ، أَوْ قِيمَتِهِ مِنَ الْعَيْنِ، وَأَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ، عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تُرْسٌ وَطَيْلَسَانُ، وَمَعَ كُلِّ رَجُلٍ جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ وَخِرْقَةُ حَرِيرٍ وَكُسْوَةٌ. ثُمَّ رَجَعَ حَيَّانُ إِلَى يَزِيدَ، فَقَالَ: ابْعَثْ مِنْ (يَحْمِلُ صُلْحَهُمْ) ، فَقَالَ: مِنْ عِنْدِهِمْ أَوْ مِنْ عِنْدِنَا؟ قَالَ: مِنْ عِنْدِهِمْ، وَكَانَ يَزِيدُ قَدْ طَابَتْ نَفْسُهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا سَأَلُوا وَيَرْجِعَ إِلَى جُرْجَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَى يَزِيدَ مَنْ يَقْبِضُ مَا صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ حَيَّانُ، فَانْصَرَفَ إِلَى جُرْجَانَ. وَكَانَ يَزِيدُ قَدْ أَغْرَمَ حَيَّانَ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حَيَّانَ كَتَبَ إِلَى مَخْلَدِ بْنِ يَزِيدَ، فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: تَكْتُبُ إِلَى مَخْلَدٍ وَتَبْدَأُ بِنَفْسِكَ. قَالَ: نَعَمْ،

وَإِنْ لَمْ يَرْضَ لَقِيَ مَا لَقِيَ قُتَيْبَةُ. فَبَعَثَ مَخْلَدٌ الْكِتَابَ إِلَى أَبِيهِ يَزِيدَ، فَأَغْرَمَهُ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ مَسِيرِ يَزِيدَ إِلَى جُرْجَانَ أَنَّ صُولًا التُّرْكِيَّ كَانَ يَنْزِلُ قُهِسْتَانَ وَالْبُحَيْرَةَ، وَهِيَ جَزِيرَةٌ فِي الْبَحْرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قُهِسْتَانَ خَمْسَةُ فَرَاسِخَ، وَهُمَا مِنْ جُرْجَانَ مِمَّا يَلِي خُوَارَزْمَ، وَكَانَ يُغِيرُ عَلَى فَيْرُوزَ [بْنِ] قَوْلٍ مَرْزُبَانِ جُرْجَانَ، فَيُصِيبُ مِنْ بِلَادِهِ. فَخَافَهُ فَيْرُوزُ، فَسَارَ إِلَى يَزِيدَ بِخُرَاسَانَ وَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ قُدُومِهِ، فَقَالَ: خِفْتُ صُولًا فَهَرَبْتُ مِنْهُ، وَأَخَذَ صُولٌ جُرْجَانَ. فَقَالَ يَزِيدُ لِفَيْرُوزَ: هَلْ مِنْ حِيلَةٍ لِقِتَالِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، شَيْءٌ وَاحِدٌ إِنْ ظَفِرْتَ بِهِ قَتَلْتَهُ وَأَعْطَى بِيَدِهِ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: تَكْتُبُ إِلَى الْإِصْبَهْبَذِ كِتَابًا تَسْأَلُهُ فِيهِ أَنْ يَحْتَالَ لِصُولٍ حَتَّى يُقِيمَ بِجُرْجَانَ، وَاجْعَلْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا، فَإِنَّهُ يَبْعَثُ بِكِتَابِكَ إِلَى صُولٍ يَتَقَرَّبُ [بِهِ] إِلَيْهِ فَيَتَحَوَّلُ عَنْ جُرْجَانَ فَيَنْزِلُ الْبُحَيْرَةَ، وَإِنْ تَحَوَّلَ عَنْ جُرْجَانَ وَحَاصَرْتَهُ ظَفِرْتَ بِهِ. فَفَعَلَ يَزِيدُ ذَلِكَ، وَضَمِنَ لِلْإصْبَهْبَذَ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ إِنْ هُوَ حَبَسَ صُولًا عَنِ الْبُحَيْرَةِ لِيُحَاصِرَهُ بِجُرْجَانَ، فَأَرْسَلَ الْإِصْبَهْبَذُ الْكِتَابَ إِلَى صُولٍ، فَلَمَّا أَتَاهُ الْكِتَابُ رَحَلَ إِلَى الْبُحَيْرَةِ لِيَتَحَصَّنَ بِهَا، وَبَلَغَ يَزِيدُ مَسِيرَهُ فَخَرَجَ إِلَى جُرْجَانَ وَمَعَهُ فَيْرُوزُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى خُرَاسَانَ ابْنَهُ مَخْلَدًا، وَعَلَى سَمَرْقَنْدَ وَكَشَّ وَنَسَفَ وَبُخَارَى ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ، وَعَلَى طَخَارِسْتَانَ حَاتِمَ بْنَ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَأَقْبَلَ حَتَّى أَتَى جُرْجَانَ، فَدَخَلَهَا وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْهَا أَحَدٌ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى الْبُحَيْرَةِ فَحَصَرَ صُولًا بِهَا، فَكَانَ يَخْرُجُ إِلَيْهِ صُولٌ فَيُقَاتِلُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ، فَمَكَثُوا بِذَلِكَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَأَصَابَهُمْ مَرَضٌ وَمَوْتٌ، فَأَرْسَلَ صُولٌ يَطْلُبُ الصُّلْحَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ أَهْلِهِ وَخَاصَّتِهِ، وَيُسَلِّمُ إِلَيْهِ الْبُحَيْرَةَ، فَأَجَابَهُ يَزِيدُ، فَخَرَجَ بِمَالِهِ وَثَلَاثِمِائَةٍ مِمَّنْ أَحَبَّ. وَقَتْلَ يَزِيدُ مِنَ الْأَتْرَاكِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا صَبْرًا، وَأَطْلَقَ الْبَاقِينَ. وَطَلَبَ الْجُنْدُ أَرْزَاقَهُمْ، فَقَالَ لِإِدْرِيسَ بْنِ حَنْظَلَةَ الْعَمِّيِّ: أَحْصِ لَنَا مَا فِي الْبُحَيْرَةِ حَتَّى نُعْطِيَ الْجُنْدَ. فَدَخَلَهَا إِدْرِيسُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِحْصَاءِ مَا فِيهَا، فَقَالَ لِيَزِيدَ: لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ وَهُوَ فِي ظُرُوفٍ، فَتُحْصَى الْجَوَالِيقُ وَيُعَلَّمُ مَا فِيهَا وَيُعْطَى الْجُنْدُ فَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا عَرَفْنَا مَا أَخَذَ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْأُرْزِ وَالسِّمْسِمِ وَالْعَسَلِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَأَخَذُوا شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَلَى خَزَائِنِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، فَرَفَعُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ أَخَذَ خَرِيطَةً، فَسَأَلَهُ يَزِيدُ عَنْهَا، فَأَتَاهُ بِهَا فَأَعْطَاهَا شَهْرًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:

لَقَدْ بَاعَ شَهْرٌ دِينَهُ بِخَرِيطَةٍ ... فَمَنْ يَأْمَنِ الْقُرَّاءَ بِعْدَكَ يَا شَهْرُ وَقَالَ مُرَّةُ الْحَنَفِيُّ: يَا ابْنَ الْمُهَلَّبِ مَا أَرَدْتَ إِلَى امْرِئٍ ... لَوْلَاكَ كَانَ كَصَالِحِ الْقُرَّاءِ وَأَصَابَ يَزِيدُ بِجُرْجَانَ تَاجًا فِيهِ جَوْهَرٌ فَقَالَ: أَتَرَوْنَ أَحَدًا يَزْهَدُ فِي هَذَا؟ قَالُوا: لَا. فَدَعَا مُحَمَّدَ بْنَ وَاسِعٍ الْأَزْدِيَّ فَقَالَ: خُذْ هَذَا التَّاجَ. قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. قَالَ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ. فَأَخَذَهُ، فَأَمْرَ يَزِيدُ رَجُلًا يَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ بِهِ، فَلَقِيَ سَائِلًا فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ السَّائِلَ وَأَتَى بِهِ يَزِيدَ وَأَخْبَرَهُ، فَأَخَذَ يَزِيدُ التَّاجَ وَعَوَّضَ السَّائِلَ مَالًا كَثِيرًا. ذِكْرُ فَتَحِ جُرْجَانَ الْفَتْحَ الثَّانِي قَدْ ذَكَرْنَا فَتْحَ جُرْجَانَ وَقُهِسْتَانَ وَغَدْرَ أَهْلِ جُرْجَانَ، فَلَمَّا صَالَحَ يَزِيدُ أَصْبَهْبَذَ طَبَرِسْتَانَ سَارَ إِلَى جُرْجَانَ، وَعَاهَدَ اللَّهَ تَعَالَى لَئِنْ ظَفِرَ بِهِمْ لَا يَرْفَعُ السَّيْفَ حَتَّى يَطْحَنَ بِدِمَائِهِمْ، وَيَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ الطَّحِينِ. فَأَتَاهَا وَحَصَرَ أَهْلَهَا بِحِصْنِ فَجَاهْ وَمَنْ يَكُونُ بِهَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى عُدَّةٍ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، فَحَصَرَهُمْ يَزِيدُ فِيهَا سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَهُمْ يَخْرُجُونَ إِلَيْهِ فِي الْأَيَّامِ فَيُقَاتِلُونَهُ وَيَرْجِعُونَ. فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ عَجَمِ خُرَاسَانَ يَتَصَيَّدُ، وَقِيلَ: رَجُلٌ مِنْ طَيْءٍ، فَأَبْصَرَ وَعْلًا فِي الْجَبَلِ، وَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى هَجَمَ عَلَى عَسْكَرِهِمْ، فَرَجَعَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَصْحَابَهُ، وَجَعَلَ يُخَرِّقُ قَبَاءَهُ وَيَعْقِدُ عَلَى الشَّجَرِ عَلَامَاتٍ، فَأَتَى يَزِيدَ فَأَخْبَرَهُ، فَضَمِنَ لَهُ يَزِيدُ دِيَةً إِنْ دَلَّهُمْ عَلَى الْحِصْنِ، فَانْتَخَبَ مَعَهُ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمُ ابْنَهُ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ غُلِبْتَ عَلَى الْحَيَاةِ فَلَا تُغْلَبَنَّ عَلَى الْمَوْتِ، وَإِيَّاكَ أَنْ أَرَاكَ عِنْدِي مَهْزُومًا. وَضَمَّ إِلَيْهِ جَهْمَ بْنَ زَحْرٍ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ: مَتَى تَصِلُونَ؟ قَالَ: غَدًا الْعَصْرُ. قَالَ يَزِيدُ: سَأَجْهَدُ عَلَى مُنَاهَضَتِهِمْ عِنْدَ الظُّهْرِ. فَسَارُوا فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ وَقْتَ الظُّهْرِ أَحْرَقَ يَزِيدُ كُلَّ حَطَبٍ كَانَ عِنْدَهُمْ، فَصَارَ مِثْلَ الْجِبَالِ مِنَ النِّيرَانِ، فَنَظَرَ الْعَدُوُّ إِلَى النِّيرَانِ فَهَالَهُمْ ذَلِكَ فَخَرَجُوا إِلَيْهِمْ، وَتَقَدَّمَ يَزِيدُ إِلَيْهِمْ

فَاقْتَتَلُوا، وَهَجَمَ أَصْحَابُ يَزِيدَ الَّذِينَ سَارُوا عَلَى عَسْكَرِ التُّرْكِ قَبْلَ الْعَصْرِ وَهُمْ آمَنُونَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَيَزِيدُ يُقَاتِلُهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَمَا شَعَرُوا إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَانْقَطَعُوا جَمِيعًا إِلَى حِصْنِهِمْ، وَرَكِبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَأَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ، وَنَزَلُوا عَلَى حَكَمِ يَزِيدَ، فَسَبَى ذَرَارِيَهُمْ وَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَصَلَبَهُمْ فَرْسَخَيْنِ إِلَى يَمِينِ الطَّرِيقِ وَيَسَارِهِ، وَقَادَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا إِلَى وَادِي جُرْجَانَ وَقَالَ: مَنْ طَلَبَهُمْ بِثَأْرٍ فَلْيُقْتَلْ. فَكَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُ الْأَرْبَعَةَ وَالْخَمْسَةَ، وَأَجْرَى الْمَاءَ عَلَى الدَّمِ وَعَلَيْهِ أَرْحَاءٌ لِيَطْحَنَ بِدِمَائِهِمْ لِيُبِرَّ يَمِينَهُ، فَطَحَنَ وَخَبَزَ وَأَكَلَ، وَقِيلَ: قَتَلَ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا. وَبَنَى مَدِينَةَ جُرْجَانَ، وَلَمْ تَكُنْ بُنِيَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مَدِينَةً، وَرَجَعَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى جُرْجَانَ جَهْمَ بْنَ زَحْرٍ الْجَعْفِيَّ، وَقِيلَ: بَلْ قَالَ يَزِيدُ لِأَصْحَابِهِ لَمَّا سَارُوا: إِذَا وَصَلْتُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ انْتَظِرُوا، فَإِذَا كَانَ السَّحَرُ كَبِّرُوا وَاقْصُدُوا الْبَابَ، فَسَتَجِدُونِي قَدْ نَهَضْتُ بِالنَّاسِ إِلَيْهِ. فَلَمَّا دَخَلَ ابْنُ زَحْرٍ الْمَدِينَةَ أَمْهَلَ حَتَّى كَانَتِ السَّاعَةُ الَّتِي أَمَرَهُ يَزِيدُ أَنْ يَنْهَضَ فِيهَا، فَكَبَّرَ، فَفَزِعَ أَهْلُ الْحِصْنِ، وَكَانَ أَصْحَابُ يَزِيدَ لَا يَلْقَوْنَ أَحَدًا إِلَّا قَتَلُوهُ، وَدَهِشَ التُّرْكُ، فَبَقُوا لَا يَدْرُونَ أَيْنَ يَتَوَجَّهُونَ، وَسَمِعَ يَزِيدُ التَّكْبِيرَ، فَسَارَ فِي النَّاسِ إِلَى الْبَابِ، فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ أَحَدًا يَمْنَعُهُ وَهُمْ مَشْغُولُونَ بِالْمُسْلِمِينَ، فَدَخَلَ الْحِصْنَ مِنْ سَاعَتِهِ وَأَخْرَجَ مَنْ فِيهِ وَصَلَبَهُمْ فَرْسَخَيْنِ مِنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ وَيَسَارِهِ، فَصَلَبَهُمْ أَرْبَعَةَ فَرَاسِخَ، وَسَبَى أَهْلَهَا وَغَنِمَ مَا فِيهَا، وَكَتَبَ إِلَى سُلَيْمَانَ بِالْفَتْحِ يُعَظِّمُهُ وَيُخْبِرُهُ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ عِنْدَهُ مِنَ الْخُمُسِ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ أَلْفٍ، فَقَالَ لَهُ كَاتِبُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي قُرَّةَ مَوْلَى بَنِي سَدُوسٍ: لَا تَكْتُبْ تَسْمِيَةَ الْمَالِ، فَإِنَّكَ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِمَّا اسْتَكْثَرَهُ فَأَمَرَكَ بِحَمْلِهِ، وَإِمَّا سَمَحَتْ نَفْسُهُ لَكَ بِهِ فَأَعْطَاكَهُ، فَتُكَلَّفُ الْهَدِيَّةَ، فَلَا يَأْتِيهِ مِنْ قَبِلَكِ شَيْءٌ إِلَّا اسْتَقَلَّهُ، فَكَأَنِّي بِكَ قَدِ اسْتَغْرَقْتَ مَا سَمَّيْتَ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ مَوْقِعًا، وَيَبْقَى الْمَالُ الَّذِي سَمَّيْتَ مُخَلَّدًا فِي دَوَاوِينِهِمْ، فَإِنْ وَلِيَ وَالٍ بَعْدَهُ أَخَذَكَ بِهِ، وَإِنْ وَلِيَ مَنْ يَتَحَامَلُ عَلَيْكَ لَمْ يَرْضَ بِأَضْعَافِهِ، وَلَكِنِ اكْتُبْ فَسَلْهُ الْقُدُومَ، وَشَافِهْهُ بِمَا أَحْبَبْتَ فَهُوَ أَسْلَمُ. فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ وَأَمْضَى الْكِتَابَ، وَقِيلَ: كَانَ الْمَبْلَغُ أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ وَلِيُّ عَهْدٍ.

وَفِيهَا فُتِحَتْ مَدِينَةُ الصَّقَالِبَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَفِيهَا غَزَا دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَرْضَ الرُّومِ، فَفَتَحَ حِصْنَ الْمَرْأَةِ مِمَّا يَلِي مَلَطْيَةَ. وَفِيهَا كَانَتِ الزَّلَازِلُ فِي الدُّنْيَا كَثِيرَةٌ وَدَامَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. [الوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَيُعْرَفُ بِمَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيُّ. وَسَعِيدُ بْنُ مَرْجَانَةَ مَوْلَى قُرَيْشٍ، وَهِيَ أُمُّهُ، وَاسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ اللَّهِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى مَكَّةَ، وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ إِلَّا الْبَصْرَةَ، فَإِنَّ يَزِيدَ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيَّ.

ثم دخلت سنة تسع وتسعين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ] 99 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ ذِكْرُ مَوْتِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ، فَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ تُوُفِّيَ فِيهَا لِعَشَرٍ مَضَيْنَ مِنْ صِفْرٍ، فَتَكُونُ وِلَايَتُهُ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ إِلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: سُلَيْمَانُ مِفْتَاحُ الْخَيْرِ، ذَهَبَ عَنْهُمُ الْحَجَّاجُ، وَوَلِيَ سُلَيْمَانُ، فَأَطْلَقَ الْأَسْرَى، وَأَخْلَى السُّجُونَ، وَأَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ، وَاسْتَخْلَفَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَكَانَ مَوْتُهُ بِدَابِقٍ مِنْ أَرْضِ قِنَّسْرِينَ، لَبِسَ يَوْمًا حُلَّةً خَضْرَاءَ وَعِمَامَةً خَضْرَاءَ، وَنَظَرَ فِي الْمِرْآةِ، فَقَالَ: أَنَا الْمَلِكُ الْفَتَى، فَمَا عَاشَ جُمُعَةً، وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ جَارِيَةٌ، فَقَالَ: مَا تَنْظُرِينَ؟ فَقَالَتْ: أَنْتَ نِعْمَ الْمَتَاعُ لَوْ كُنْتَ تَبْقَى ... غَيْرَ أَنْ لَا بَقَاءَ لِلْإِنْسَانِ لَيْسَ فِيمَا عَلِمْتُهُ فِيكَ عَيْبٌ ... كَانَ فِي النَّاسِ غَيْرَ أَنَّكَ فَانِ

قِيلَ: وَشَهِدَ سُلَيْمَانُ جِنَازَةً بِدَابِقٍ، فَدُفِنَتْ فِي حَقْلٍ، فَجَعَلَ سُلَيْمَانَ يَأْخُذُ مِنْ تِلْكَ التُّرْبَةِ وَيَقُولُ: مَا أَحْسَنَ هَذِهِ [التُّرْبَةَ] وَأَطْيَبَهَا! فَمَا أَتَى عَلَيْهِ جُمُعَةٌ حَتَّى دُفِنَ إِلَى جَنْبِ [ذَلِكَ] الْقَبْرِ. قِيلَ: حَجَّ سُلَيْمَانُ وَحَجَّ الشُّعَرَاءُ، فَلَمَّا كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَافِلًا تَلَقَّوْهُ بِنَحْوِ أَرْبَعِمِائَةِ أَسِيرٍ مِنَ الرُّومِ، فَقَعَدَ سُلَيْمَانُ وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَدَّمَ بِطْرِيقَهُمْ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اضْرِبْ عُنُقَهُ! فَأَخَذَ سَيْفًا مِنْ حَرَسِيٍّ فَضَرَبَهُ، فَأَبَانَ الرَّأْسَ، وَأَطَنَّ السَّاعِدَ وَبَعْضَ الْغُلِّ، وَدَفَعَ الْبَقِيَّةَ إِلَى الْوُجُوهِ يَقْتُلُونَهُمْ، وَدَفَعَ إِلَى جَرِيرٍ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَأَعْطَاهُ بَنُو عَبْسٍ سَيْفًا جَيِّدًا، فَضَرَبَهُ فَأَبَانَ رَأْسَهُ، وَدَفَعَ إِلَى الْفَرَزْدَقِ أَسِيرًا فَأَعْطَوْهُ سَيْفًا رَدِيًّا لَا يَقْطَعُ، فَضَرَبَ بِهِ الْأَسِيرَ ضَرَبَاتٍ، فَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، فَضَحِكَ سُلَيْمَانُ وَالْقَوْمُ، وَشَمِتَتْ بِهِ بَنُو عَبْسٍ أَخْوَالُ سُلَيْمَانَ، وَأَلْقَى السَّيْفَ وَأَنْشَأَ يَقُولُ: وَإِنْ يَكُ سَيْفٌ خَانَ أَوْ قَدَرٌ أَتَى ... بِتَأْخِيرِ نَفْسٍ حَتْفُهَا غَيْرُ شَاهِدِ فَسَيْفُ بَنِي عَبْسٍ وَقَدْ ضَرَبُوا بِهِ ... نَبَا بِيَدَيْ وَرْقَاءَ عَنْ رَأْسِ خَالِدِ كَذَاكَ سُيُوفُ الْهِنْدِ تَنْبُو ظُبَاتُهَا ... وَتَقْطَعُ أَحْيَانًا مَنَاطَ الْقَلَائِدِ وَرْقَاءُ هُوَ وَرْقَاءُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ الْعَبْسِيُّ، ضَرَبَ خَالِدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ، وَخَالِدٌ قَدْ أَكَبَّ عَلَى [أَبِيهِ] زُهَيْرٍ وَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَصَرَعَهُ، فَأَقْبَلَ وَرْقَاءُ فَضَرَبَ خَالِدًا ضَرَبَاتٍ، فَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، فَقَالَ وَرْقَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ: رَأَيْتُ زُهَيْرًا تَحْتَ كَلْكَلِ خَالِدٍ ... فَأَقْبَلْتُ أَسْعَى كَالْعُجُولِ أُبَادِرُ فَشُلَّتْ يَمِينِي يَوْمَ أَضْرِبُ خَالِدًا ... وَيَمْنَعُهُ مِنِّي الْحَدِيدُ الْمُظَاهَرُ

ذِكْرُ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا كَانَ بِدَابِقٍ مَرِضَ، عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَلَمَّا ثَقُلَ عَهِدَ فِي كِتَابٍ كَتَبَهُ لِبَعْضِ بَنِيهِ، وَهُوَ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ، فَقَالَ لَهُ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ: مَا تَصْنَعُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ إِنَّهُ مِمَّا يَحْفَظُ الْخَلِيفَةَ فِي قَبْرِهِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى النَّاسِ الرَّجُلَ الصَّالِحَ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: أَنَا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ وَأَنْظُرُ [فِيهِ] . وَلَمْ أَعْزِمْ [عَلَيْهِ] ، فَمَكَثَ سُلَيْمَانُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ خَرَقَهُ وَدَعَا رَجَاءً، فَقَالَ: مَا تَرَى فِي وَلَدِي دَاوُدَ؟ فَقَالَ رَجَاءٌ: هُوَ غَائِبٌ عَنْكَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَلَا تَدْرِي أَحَيٌّ [هُوَ] أَمْ لَا. قَالَ: فَمَنْ تَرَى؟ قَالَ رَجَاءٌ: رَأْيُكَ. قَالَ: فَكَيْفَ تَرَى فِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ؟ قَالَ رَجَاءٌ: فَقُلْتُ: أَعْلَمُهُ وَاللَّهِ خَيِّرًا فَاضِلًا سَلِيمًا. قَالَ سُلَيْمَانُ: هُوَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَئِنْ وَلَّيْتُهُ وَلَمْ أُوَلِ أَحَدًا سِوَاهُ لِتَكُونَنَّ فِتْنَةً وَلَا يَتْرُكُونَهُ أَبَدًا يَلِي عَلَيْهِمْ، إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمْ بَعْدَهُ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ عَهِدَ إِلَى الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ أَنْ يَجْعَلَا أَخَاهُمَا يَزِيدَ وَلِيَّ عَهْدٍ، فَأَمَرَ سُلَيْمَانُ أَنْ يُجْعَلَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بَعْدَ عُمَرَ، وَكَانَ يَزِيدُ غَائِبًا فِي الْمَوْسِمِ. قَالَ رَجَاءٌ: قُلْتُ رَأْيَكَ. فَكَتَبَ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ سُلَيْمَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، إِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ الْخِلَافَةَ بَعْدِي وَمِنْ بَعْدِكَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُطْمَعَ فِيكُمْ ". وَخَتَمَ الْكِتَابَ. فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بْنِ جَابِرٍ الْعَبْسِيِّ صَاحِبِ شُرْطَتِهِ، فَقَالَ: ادْعُ أَهْلَ بَيْتِي. فَجَمَعَهُمْ كَعْبٌ. ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَانُ لِرَجَاءٍ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمْ: اذْهَبْ بِكِتَابِي إِلَيْهِمْ، وَأَخْبِرْهُمْ بِكِتَابِي، وَمُرْهُمْ فَيُبَايِعُوا مَنْ وَلَّيْتُ فِيهِ. فَفَعَلَ رَجَاءٌ، فَقَالُوا: نَدْخُلُ وَنُسَلِّمُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَدَخَلُوا، فَقَالَ لَهُمْ سُلَيْمَانُ: فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي فِي يَدِ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَهْدِي، فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لِمَنْ سَمَّيْتُ فِيهِ. فَبَايَعُوهُ رَجُلًا رَجُلًا، وَتَفَرَّقُوا. وَقَالَ رَجَاءٌ: فَأَتَانِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَذَا أَسْنَدَ إِلَيَّ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ وَحُرْمَتِي وَمَوَدَّتِي إِلَّا أَعْلَمْتَنِي إِنْ كَانَ ذَلِكَ، حَتَّى أَسَتَعْفِيَهُ الْآنَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ حَالٌ لَا أَقْدِرُ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ. قَالَ رَجَاءٌ: مَا أَنَا بِمُخْبِرِكَ [حَرْفًا] . قَالَ: فَذَهَبَ عُمَرُ عَنِّي غَضْبَانَ. قَالَ رَجَاءٌ: وَلَقِيَنِي هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ: إِنَّ لِي بِكَ حُرْمَةً وَمَوَدَّةً قَدِيمَةً، وَعِنْدِي شُكْرٌ، فَأَعْلِمْنِي بِهَذَا الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ إِلَى غَيْرِي تَكَلَّمْتُ، وَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَذْكُرَ،

شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَبَدًا. قَالَ رَجَاءٌ: فَأَبَيْتُ أَنْ أُخْبِرَهُ حَرْفًا، فَانْصَرَفَ هِشَامٌ وَهُوَ يَضْرِبُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ يَقُولُ: فَإِلَى مَنْ إِذَا نُحِّيَتْ عَنِّي؟ أَتَخْرُجُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمَلِكِ؟ قَالَ رَجَاءٌ: وَدَخَلْتُ عَلَى سُلَيْمَانَ فَإِذَا هُوَ يَمُوتُ، فَجَعَلْتُ إِذَا أَخَذَتْهُ سَكْرَةٌ مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ حَرَّفْتُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَيَقُولُ حِينَ يُفِيقُ: لَمْ يَأْنِ بَعْدُ. فَفَعَلْتُ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ قَالَ: مِنَ الْآنَ يَا رَجَاءُ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ شَيْئًا، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَحَرَّفْتُهُ، فَمَاتَ، فَلَمَّا غَمَّضْتُهُ وَسَجَّيْتُهُ وَأَغْلَقْتُ الْبَابَ، أَرْسَلَتْ إِلَيَّ زَوْجَتُهُ فَقَالَتْ: كَيْفَ أَصْبَحَ؟ فَقُلْتُ: هُوَ نَائِمٌ قَدْ تَغَطَّى. وَنَظَرَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ مُتَغَطِّيًا فَرَجَعَ فَأَخْبَرَهَا، فَظَنَّتْ أَنَّهُ نَائِمٌ، قَالَ: فَأَجْلَسْتُ عَلَى الْبَابِ مَنْ أَثِقُ بِهِ، وَأَوْصَيْتُهُ أَنْ لَا يَبْرَحَ وَلَا يَتْرُكَ أَحَدًا يَدْخُلُ عَلَى الْخَلِيفَةِ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَأَرْسَلْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ جَابِرٍ، فَجَمَعَ أَهْلَ بَيْتِ سُلَيْمَانَ، فَاجْتَمَعُوا فِي مَسْجِدِ دَابِقٍ، فَقُلْتُ: بَايِعُوا. فَقَالُوا: قَدْ بَايَعْنَا مَرَّةً. قُلْتُ: وَأُخْرَى، هَذَا عَهْدُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَبَايَعُوا الثَّانِيَةَ، فَلَمَّا بَايَعُوا بَعْدَ مَوْتِهِ رَأَيْتُ أَنِّي قَدْ أَحْكَمْتُ الْأَمْرَ، فَقُلْتُ: قُومُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ، فَقَدْ مَاتَ. قَالُوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! وَقَرَأْتُ الْكِتَابَ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى ذِكْرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ هِشَامٌ: لَا نُبَايِعُهُ وَاللَّهِ أَبَدًا. قُلْتُ: أَضْرِبُ وَاللَّهِ عُنُقَكَ، قُمْ فَبَايِعْ، فَقَامَ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ. قَالَ رَجَاءٌ: فَأَخَذْتُ بِضَبْعَيْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَجْلَسْتُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَسْتَرْجِعُ لِمَا وَقَعَ فِيهِ، وَهِشَامٌ يَسْتَرْجِعُ لِمَا أَخْطَأَهُ. فَبَايَعُوهُ. وَغُسِّلَ سُلَيْمَانُ وَكُفِّنَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَدُفِنَ. فَلَمَّا دُفِنَ أُتِيَ عُمَرُ بِمَرَاكِبِ الْخِلَافَةِ وَلِكُلِّ دَابَّةٍ سَائِسٌ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: مَرَاكِبُ الْخِلَافَةِ. قَالَ: دَابَّتِي أَوْفَقُ لِي، وَرَكِبَ دَابَّتَهُ وَصَرَفْتُ تِلْكَ الدَّوَابَ، ثُمَّ أَقْبَلَ سَائِرًا، فَقِيلَ لَهُ: أَمَنْزِلُ الْخِلَافَةِ؟ فَقَالَ: فِيهِ عِيَالُ أَبِي أَيُّوبَ، يَعْنِي سُلَيْمَانَ، وَفِي فُسْطَاطِي كِفَايَةٌ حَتَّى يَتَحَوَّلُوا. فَأَقَامَ فِي مَنْزِلِهِ حَتَّى فَرَّغُوهُ. قَالَ رَجَاءٌ: فَأَعْجَبَنِي مَا صَنَعَ فِي الدَّوَابِّ وَمَنْزِلِ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ دَعَا كَاتِبًا فَأَمْلَى عَلَيْهِ كِتَابًا وَاحِدًا وَأَمْرَهُ أَنْ يَنْسَخَهُ وَيُسَيِّرَهُ إِلَى كُلِّ بَلَدٍ. وَبَلَغَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَ غَائِبًا، عَنْ مَوْتِ سُلَيْمَانَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِبَيْعَةِ عُمَرَ، فَعَقَدَ لِوَاءً وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَبَلَغَهُ بَيْعَةُ عُمَرَ بِعَهْدِ سُلَيْمَانَ، وَأَقْبَلَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ بَايَعْتَ مَنْ قِبَلَكَ وَأَرَدْتَ دُخُولَ دِمَشْقَ! فَقَالَ: قَدْ كَانَ ذَاكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ

بَلَغَنِي أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ عَهِدَ لِأَحَدٍ، فَخِفْتُ عَلَى الْأَمْوَالِ أَنْ تُنْهَبَ. فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ بَايَعْتَ وَقُمْتَ بِالْأَمْرِ لَمْ أُنَازِعْكَ فِيهِ وَلَقَعَدْتُ فِي بَيْتِي. فَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: مَا أُحِبُّ أَنَّهُ وَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ غَيْرُكَ، وَبَايَعَهُ، وَكَانَ يُرْجَى لِسُلَيْمَانَ بِتَوْلِيَتِهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَتَرْكِ وَلَدِهِ. فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْبَيْعَةُ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ لِامْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ: إِنْ أَرَدْتِ صُحْبَتِي فَرُدِّي مَا مَعَكِ مِنْ مَالٍ وَحُلِيٍّ وَجَوْهَرٍ إِلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ لَهُمْ، فَإِنِّي لَا أَجْتَمِعُ أَنَا وَأَنْتِ وَهُوَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ. فَرَدَّتْهُ جَمِيعَهُ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُمَرُ وَوَلِيَ أَخُوهَا يَزِيدُ رَدَّهُ عَلَيْهَا، وَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ عُمَرَ ظَلَمَكِ. قَالَتْ: كَلَّا وَاللَّهِ. وَامْتَنَعَتْ مِنْ أَخْذِهِ، وَقَالَتْ: مَا كُنْتُ أُطِيعُهُ حَيًّا وَأَعْصِيهِ مَيِّتًا. فَأَخَذَهُ يَزِيدُ وَفَرَّقَهُ عَلَى أَهْلِهِ. ذِكْرُ تَرْكِ سَبِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَنُو أُمَيَّةَ يَسُبُّونَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى أَنْ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخِلَافَةَ، فَتَرَكَ ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى الْعُمَّالِ فِي الْآفَاقِ بِتَرْكِهِ. وَكَانَ سَبَبُ مَحَبَّتِهِ عَلِيًّا أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ بِالْمَدِينَةِ أَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ وَكُنْتُ أَلْزَمُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، فَبَلَغَهُ عَنِّي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُهُ يَوْمًا وَهُوَ يُصَلِّي، فَأَطَالَ الصَّلَاةَ، فَقَعَدْتُ أَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ لِي: مَتَى عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ وَبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ بَعْدَ أَنْ رَضِيَ عَنْهُمْ؟ قُلْتُ: لَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ. قَالَ: فَمَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكَ فِي عَلِيٍّ؟ فَقُلْتُ: مَعْذِرَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ! وَتَرَكْتُ مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَبِي إِذَا خَطَبَ فَنَالَ مِنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، تَلَجْلَجَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَهْ، إِنَّكَ تَمْضِي فِي خُطْبَتِكَ فَإِذَا أَتَيْتَ عَلَى ذِكْرِ عَلِيٍّ عَرَفْتُ مِنْكَ تَقْصِيرًا؟ قَالَ: أَوَفَطِنْتَ لِذَلِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّ الَّذِينَ حَوْلَنَا لَوْ يَعْلَمُونَ مِنْ عَلِيٍّ مَا نَعْلَمُ تَفَرَّقُوا عَنَّا إِلَى أَوْلَادِهِ. فَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا مَا يَرْتَكِبُ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ

لِأَجْلِهَا، فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَكَتَبَ بِتَرْكِهِ، وَقَرَأَ عِوَضَهُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] الْآيَةَ، فَحَلَّ هَذَا الْفِعْلُ عِنْدَ النَّاسِ مَحَلًّا حَسَنًا، وَأَكْثَرُوا مَدْحَهُ بِسَبَبِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ كُثَيِّرِ عَزَّةَ: وَلِيتَ وَلَمْ تَشْتُمْ عَلِيًّا وَلَمْ تُخِفْ ... بَرِيًّا وَلَمْ تَتْبَعْ مَقَالَةَ مُجْرِمِ تَكَلَّمْتَ بِالْحَقِّ الْمُبِينِ وَإِنَّمَا ... تُبَيَّنُ آيَاتُ الْهُدَى بِالتَّكَلُّمِ وَصَدَّقْتَ مَعْرُوفَ الَّذِي قُلْتَ بِالَّذِي ... فَعَلْتَ فَأَضْحَى رَاضِيًا كُلُّ مُسْلِمِ أَلَا إِنَّمَا يَكْفِي الْفَتَى بَعْدَ زَيْغِهِ ... مِنَ الْأَوَدِ الْبَادِي ثِقَافُ الْمُقَوِّمِ فَقَالَ عُمَرُ حِينَ أَنْشَدَهُ هَذَا الشِّعْرَ: أَفْلَحْنَا إِذًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى مَسْلَمَةَ، وَهُوَ بِأَرْضِ الرُّومِ، يَأْمُرُهُ بِالْقُفُولِ مِنْهَا بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَوَجَّهَ لَهُ خَيْلًا عِتَاقًا وَطَعَامًا كَثِيرًا، وَحَثَّ النَّاسَ عَلَى مَعُونَتِهِمْ. وَفِيهَا أَغَارَتِ التُّرْكُ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَمَاعَةً، فَوَجَّهَ عُمَرُ: [عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ] حَاتِمِ بْنِ الْبَاهِلِيِّ فَقَتَلَ أُولَئِكَ التُّرْكَ وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الْيَسِيرَ، وَقَدِمَ عَلَى عُمَرَ مِنْهُمْ بِخَمْسِينَ أَسِيرًا.

وَفِيهَا عَزَلَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ عَنِ الْعِرَاقِ، وَوَجَّهَ إِلَى الْبَصْرَةِ عَدِيَّ بْنَ أَرْطَاةَ الْفَزَارِيَّ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيُّ الْقُرَشِيُّ، وَضَمَّ إِلَيْهِ أَبَا الزِّنَادِ، وَكَانَ كَاتِبُهُ، وَبَعَثَ عَدِيٌّ فِي أَثَرِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ مُوسَى بْنَ الْوَجِيهِ الْحِمْيَرِيَّ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَازِمٍ، وَكَانَ عَامِلُ [عُمَرَ عَلَى] الْمَدِينَةِ. وَكَانَ الْعَامِلُ عَلَى مَكَّةَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ. وَعَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَعَلَى الْقَضَاءِ بِهَا عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ. وَكَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ، وَعَلَى الْقَضَاءِ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ، ثُمَّ اسْتَعْفَى عَدِيًّا، فَأَعْفَاهُ وَاسْتَقْضَى إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، وَقِيلَ: بَلْ شَكَا الْحَسَنُ، فَعَزَلَهُ عَدِيٌّ، وَاسْتَقْضَى إِيَاسًا. وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى خُرَاسَانَ: الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ. [الوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ بِالْمَدِينَةِ. وَمَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَبُو ظَبْيَانَ بْنُ حُصَيْنِ بْنِ جُنْدُبٍ الْجَنْبِيُّ وَالِدُ قَابُوسٍ، (ظَبْيَانَ بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ) .

وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو هَاشِمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ سُمٍّ سُقِيَهُ عِنْدَ عَوْدِهِ مِنَ الشَّامِ، وَضَعَ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مَنْ سَقَاهُ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِذَلِكَ عَادَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ بِالْحُمَيْمَةِ، فَعَرَّفَهُ حَالَهُ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ الْخِلَافَةَ صَائِرَةٌ إِلَى وَلَدِهِ، وَأَعْلَمَهُ كَيْفَ يَصْنَعُ، ثُمَّ مَاتَ عِنْدَهُ. وَفِي أَيَّامِ سُلَيْمَانَ تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ شُرَيْحٍ الْمُغَنِّي الْمَشْهُورُ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَبُو الْخَطَّابِ.

ثم دخلت سنة مائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ مِائَةٍ] 100 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ مِائَةٍ ذِكْرُ خُرُوجِ شَوْذَبٍ الْخَارِجِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ شَوْذَبٌ، وَاسْمُهُ بِسْطَامٌ، مِنْ بَنِي يَشْكُرَ، فِي جُوخَى، وَكَانَ فِي ثَمَانِينَ رَجُلًا، فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ عَامِلِهِ بِالْكُوفَةِ أَنْ لَا يُحَرِّكَهُمْ حَتَّى يَسْفِكُوا دِمَاءً، وَيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، فَإِنْ فَعَلُوا وَجِّهْ إِلَيْهِمْ رَجُلًا صَلِيبًا حَازِمًا فِي جُنْدٍ. فَبَعَثَ عَبْدُ الْحَمِيدِ مُحَمَّدَ بْنَ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ فِي أَلْفَيْنِ وَأَمْرَهُ بِمَا كَتَبَ بِهِ عُمَرُ، وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى بِسْطَامٍ يَسْأَلُهُ عَنْ مَخْرَجِهِ، فَقَدِمَ كِتَابُ عُمَرَ عَلَيْهِ وَقَدْ قَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، فَقَامَ بِإِزَائِهِ لَا يَتَحَرَّكُ. فَكَانَ فِي كِتَابِ عُمَرَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ خَرَجْتَ غَضَبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلَسْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنِّي، فَهَلُمَّ إِلَيَّ أُنَاظِرُكَ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ بِأَيْدِينَا دَخَلْتَ فِيمَا دَخَلَ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِكَ نَظَرْنَا فِي أَمْرِكَ. فَكَتَبَ بِسْطَامٌ إِلَى عُمَرَ: قَدْ أَنْصَفْتَ وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ رَجُلَيْنِ يُدَارِسَانِكَ وَيُنَاظِرَانِكَ. وَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ مَوْلًى لِبَنِي شَيْبَانَ حَبَشِيًّا اسْمُهُ عَاصِمٌ، وَرَجُلًا مِنْ بَنِي يَشْكُرَ، فَقَدِمَا عَلَى عُمَرَ بِخُنَاصِرَةَ، فَدَخَلَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَا أَخْرَجَكُمَا هَذَا الْمَخْرَجَ، وَمَا الَّذِي نَقَمْتُمْ؟ فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا نَقَمْنَا سِيرَتَكَ، إِنَّكَ لَتَتَحَرَّى الْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ، فَأَخْبِرْنَا عَنْ قِيَامِكَ بِهَذَا الْأَمْرِ، أَعَنْ رِضًى مِنَ النَّاسِ وَمَشُورَةٍ، أَمِ ابْتَزَزْتُمْ أَمْرَهُمْ؟ فَقَالَ عُمَرُ: مَا سَأَلْتُهُمُ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِمْ، وَلَا غَلَبْتُهُمْ عَلَيْهَا، وَعَهِدَ إِلَيَّ رَجُلٌ كَانَ

قَبْلِي فَقُمْتُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيَّ أَحَدٌ، وَلَمْ يَكْرَهْهُ غَيْرُكُمْ، وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ الرِّضَا بِكُلِّ مَنْ عَدَلَ وَأَنْصَفَ مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ، فَاتْرُكُونِي ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَإِنْ خَالَفْتُ الْحَقَّ وَرَغِبْتُ عَنْهُ; فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ. قَالَا: بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَمْرٌ وَاحِدٌ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَا: رَأَيْنَاكَ خَالَفْتَ أَعْمَالَ أَهْلِ بَيْتِكَ، وَسَمَّيْتَهَا مَظَالِمَ، فَإِنْ كُنْتَ عَلَى هُدًى وَهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ، فَالْعَنْهُمْ وَابْرَأْ مِنْهُمْ. فَقَالَ عُمَرً: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ لَمْ تَخْرِجُوا طَلَبًا لِلدُّنْيَا، وَلَكِنَّكُمْ أَرَدْتُمُ الْآخِرَةَ، فَأَخْطَأْتُمْ طَرِيقَهَا، إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، لَمْ يَبْعَثْ رَسُولَهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَعَّانًا، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] . وَقَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] . وَقَدْ سَمَّيْتُ أَعْمَالَهُمْ ظُلْمًا، وَكَفَى بِذَلِكَ ذَمًّا وَنَقْصًا، وَلَيْسَ لَعْنُ أَهْلِ الذُّنُوبِ فَرِيضَةً لَا بُدَّ مِنْهَا، فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّهَا فَرِيضَةٌ فَأَخْبِرْنِي مَتَى لَعَنْتَ فِرْعَوْنَ؟ قَالَ: مَا أَذْكُرُ مَتَى لَعَنْتُهُ. قَالَ: أَفَيَسَعُكَ أَنْ لَا تَلْعَنَ فِرْعَوْنَ وَهُوَ أَخْبَثُ الْخَلْقِ وَشَرُّهُمْ، وَلَا يَسَعُنِي أَنْ لَا أَلْعَنَ أَهْلَ بَيْتِي وَهُمْ مُصَلُّونَ صَائِمُونَ! قَالَ: أَمَا هُمْ كُفَّارٌ بِظُلْمِهِمْ؟ قَالَ: لَا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ، فَكَانَ مَنْ أَقَرَّ بِهِ وَبِشَرَائِعِهِ قَبِلَ مِنْهُ، فَإِنَّ أَحْدَثَ حَدَثًا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. فَقَالَ الْخَارِجِيُّ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَعَا النَّاسَ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْإِقْرَارِ بِمَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِهِ. قَالَ عُمَرُ: فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقُولُ: لَا أَعْمَلُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ السَّفَاءُ. قَالَ عَاصِمٌ: فَابْرَأْ مِمَّا خَالَفَ عَمَلَكَ وَرُدَّ أَحْكَامَهُمْ. قَالَ عُمَرُ: أَخْبِرَانِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، أَلَيْسَا عَلَى حَقٍّ؟ قَالَا: بَلَى. قَالَ: أَتَعْلَمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حِينَ قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ سَفَكَ دِمَاءَهُمْ، وَسَبَى الذَّرَارِيَّ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ؟ قَالَا: بَلَى. قَالَ: أَتَعْلَمَانِ أَنَّ عُمَرَ رَدَّ السَّبَايَا بَعْدَهُ إِلَى عَشَائِرِهِمْ بِفِدْيَةٍ؟ قَالَا: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ عُمَرُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَا: لَا. قَالَ: أَفَتَبْرَءُونَ أَنْتُمْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؟ قَالَا: لَا. قَالَ: فَأَخْبِرَانِي عَنْ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ وَهُمْ أَسْلَافُكُمْ، هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ خَرَجُوا فَلَمْ يَسْفِكُوا دَمًا، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا، وَأَنَّ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ قَتَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبَّابٍ وَجَارِيَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ؟ قَالَا: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ بَرِئَ مَنْ لَمْ يَقْتُلْ مِمَّنْ قَتَلَ وَاسْتَعْرَضَ؟ قَالَا: لَا: أَفَتَبْرَءُونَ أَنْتُمْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ؟ (قَالَا: لَا) . قَالَ: أَفَيَسَعُكُمْ أَنْ تَتَوَلَّوْا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَهْلَ الْبَصْرَةِ وَأَهْلَ الْكُوفَةِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ

اخْتِلَافَ أَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَسَعُنِي إِلَّا الْبَرَاءَةُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي وَالدِّينُ وَاحِدٌ! فَاتَّقُوا اللَّهَ! فَإِنَّكُمْ جُهَّالٌ، تَقْبَلُونَ مِنَ النَّاسِ مَا رَدَّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ مَا قَبِلَ، وَيَأْمَنُ عِنْدَكُمْ مَنْ خَافَ عِنْدَهُ، وَيَخَافُ عِنْدَكُمْ مِنْ أَمْنِ عِنْدَهُ، فَإِنَّكُمْ يَخَافُ عِنْدَكُمْ مَنْ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَكَانَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ آمِنًا وَحَقَنَ دَمَهُ وَمَالَهُ، وَأَنْتُمْ تَقْتُلُونَهُ، وَيَأْمَنُ عِنْدَكُمْ سَائِرُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، فَتُحَرِّمُونَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. قَالَ الْيَشْكُرِيُّ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَلِيَ قَوْمًا وَأَمْوَالَهُمْ، فَعَدَلَ فِيهَا، ثُمَّ صَيَّرَهَا بَعْدَهُ إِلَى رَجُلٍ غَيْرِ مَأْمُونٍ، أَتَرَاهُ أَدَّى الْحَقَّ الَّذِي يَلْزَمُهُ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ تَرَاهُ قَدْ سَلِمَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَتُسَلِّمُ هَذَا الْأَمْرَ إِلَى يَزِيدَ مِنْ بَعْدِكَ، وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّهُ لَا يَقُومُ فِيهِ بِالْحَقِّ؟ قَالَ: إِنَّمَا وَلَّاهُ غَيْرِي وَالْمُسْلِمُونَ أَوْلَى بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ فِيهِ بَعْدِي. قَالَ: أَفْتَرَى ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ مَنْ وَلَّاهُ حَقًّا؟ فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: أَنْظِرَانِي ثَلَاثًا. فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ عَادَا إِلَيْهِ، فَقَالَ عَاصِمٌ: أَشْهَدُ أَنَّكَ عَلَى حَقٍّ. فَقَالَ عُمَرُ لِلْيَشْكُرِيِّ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا وَصَفْتَ، وَلَكِنِّي لَا أَفْتَاتُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَمْرٍ، اعْرِضْ عَلَيْهِمْ مَا قُلْتَ وَاعْلَمْ مَا حُجَّتُهُمْ. فَأَمَّا عَاصِمٌ فَأَقَامَ عِنْدَ عُمَرَ، فَأَمَرَ لَهُ عُمَرُ بِالْعَطَاءِ، فَتُوُفِّيَ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. فَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: أَهْلَكَنِي أَمْرُ يَزِيدَ وَخُصِمْتُ فِيهِ، فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. فَخَافَ بَنُو أُمَيَّةَ أَنْ يُخْرِجَ مَا بِأَيْدِيهمْ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَأَنْ يَخْلَعَ يَزِيدَ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، فَوَضَعُوا عَلَى عُمَرَ مَنْ سَقَاهُ سُمًّا، فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا ثَلَاثًا حَتَّى مَرِضَ وَمَاتَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ مُقَابِلٌ الْخَوَارِجَ لَا يَتَعَرَّضُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَتَعَرَّضُونَ إِلَيْهِ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَنْتَظِرُ عَوْدَ الرُّسُلِ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَتُوُفِّيَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ وَاسْتِعْمَالِ الْجَرَّاحِ عَلَى خُرَاسَانَ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ يَأْمُرُهُ بِإِنْفَاذِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ إِلَيْهِ مُوثَقًا، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى عَمَلِهِ وَيُقْبِلَ إِلَيْهِ، فَاسْتَخْلَفَ مَخْلَدًا ابْنَهُ، وَقَدِمَ مِنْ خُرْسَانَ وَنَزَلَ وَاسِطًا، ثُمَّ رَكِبَ السُّفُنَ يُرِيدُ

الْبَصْرَةَ، فَبَعَثَ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ مُوسَى بْنَ الْوَجِيهِ الْحِمْيَرِيَّ، فَلَحِقَهُ فِي نَهْرِ مَعْقِلٍ عِنْدَ الْجِسْرِ، فَأَوْثَقَهُ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَدَعَا بِهِ عُمَرُ، وَكَانَ يُبْغِضُ يَزِيدَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ جَبَابِرَةٌ وَلَا أُحِبُّ مِثْلَهُمْ. وَكَانَ يَزِيدُ يُبْغِضُ عُمَرَ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ مُرَاءٍ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ عَرَفَ يَزِيدُ أَنَّهُ بَعِيدٌ مِنَ الرِّيَاءِ، وَلَمَّا دَعَا عُمَرُ يَزِيدَ سَأَلَهُ عَنِ الْأَمْوَالِ الَّتِي كَتَبَ بِهَا إِلَى سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: كُنْتُ مِنْ سُلَيْمَانَ بِالْمَكَانِ الَّذِي قَدْ رَأَيْتَ، وَإِنَّمَا كَتَبْتُ إِلَى سُلَيْمَانَ لِأُسْمِعَ النَّاسَ بِهِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ لِيَأْخُذَنِي بِهِ. فَقَالَ لَهُ: لَا أَجِدُ فِي أَمْرِكَ إِلَّا حَبْسَكَ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَأَدِّ مَا قِبَلَكَ، فَإِنَّهَا حُقُوقُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَسَعُنِي تَرْكُهَا. وَحَبَسَهُ بِحِصْنِ حَلَبَ. وَبَعَثَ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ، فَسَرَّحَهُ إِلَى خُرَاسَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، وَأَقْبَلَ مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ مِنْ خُرَاسَانَ يُعْطِي النَّاسَ، فَفَرَّقَ أَمْوَالًا عَظِيمَةً، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ صَنَعَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِوِلَايَتِكَ، وَقَدِ ابْتُلِينَا بِكَ، فَلَا نَكُنْ نَحْنُ أَشْقَى النَّاسِ بِوِلَايَتِكَ، عَلَامَ تَحْبِسُ هَذَا الشَّيْخَ؟ أَنَا أَتَحَمَّلُ مَا عَلَيْهِ، فَصَالِحْنِي عَلَى مَا تَسْأَلُ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا إِلَّا أَنْ يَحْمِلَ الْجَمِيعَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانَتْ لَكَ بَيِّنَةٌ فَخُذْ بِهَا، وَإِلَّا فَصَدِّقْ مُقَالَةَ يَزِيدَ وَاسْتَحْلِفْهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَصَالِحْهُ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا آخُذُهُ إِلَّا بِجَمِيعِ الْمَالِ. فَخَرَجَ مَخْلَدٌ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ مَخْلَدٌ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى مَاتَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ: الْيَوْمَ مَاتَ فَتَى الْعَرَبِ، وَأَنْشَدَ: بَكَوْا حُذَيْفَةَ لَمْ يُبَكُّوا مِثْلَهُ ... حَتَّى تَبِيدَ خَلَائِقٌ لَمْ تُخْلَقِ فَلَمَّا أَبَى يَزِيدُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى عُمَرَ شَيْئًا أَلْبَسَهُ جُبَّةَ صُوفٍ، وَحَمَلَهُ عَلَى جَمَلٍ، وَقَالَ: سِيرُوا بِهِ إِلَى دَهْلَكَ. فَلَمَّا خَرَجَ، وَمَرُّوا بِهِ عَلَى النَّاسِ، أَخَذَ يَقُولُ: أَمَا لِي عَشِيرَةٌ؟ إِنَّمَا يَذْهَبُ إِلَى دَهْلَكَ الْفَاسِقُ وَاللِّصُّ. فَدَخَلَ سَلَامَةُ بْنُ نُعَيْمٍ الْخَوْلَانِيُّ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ارْدُدْ يَزِيدَ إِلَى مَحْبِسِهِ فَإِنِّي أَخَافُ إِنْ أَمْضَيْتَهُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ قَوْمُهُ، فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَبُوا لَهُ. فَرَدَّهُ إِلَى مَحْبِسِهِ، فَبَقِيَ فِيهِ حَتَّى بَلَغَهُ مَرَضُ عُمَرَ.

ذِكْرُ عَزْلِ الْجَرَّاحِ وَاسْتِعْمَالِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُعَيْمٍ الْقُشَيْرِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَقِيلَ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عُمَرُ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ عَنْ خُرَاسَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ نُعَيْمٍ الْقُشَيْرِيَّ، وَكَانَ عَزْلُ الْجَرَّاحِ فِي رَمَضَانَ. كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنْ يَزِيدَ لَمَّا عُزِلَ عَنْ خُرَاسَانَ أَرْسَلَ عَامِلُ الْعِرَاقِ عَامِلًا عَلَى جُرْجَانَ، فَأَخَذَ جَهْمَ بْنَ زَحْرٍ الْجُعْفِيَّ، وَكَانَ عَلَى جُرْجَانَ عَامِلًا لِيَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، فَحَبَسَهُ وَقَيَّدَهُ، وَحَبَسَ رَهْطًا قَدِمُوا مَعَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْجَرَّاحِ بِخُرَاسَانَ، فَأَطْلَقَ أَهْلُ جُرْجَانَ عَامِلَهُمْ، وَقَالَ الْجَرَّاحُ لِجَهْمٍ: لَوْلَا أَنَّكَ ابْنُ عَمِّي لَمْ أُسَوِّغْكَ هَذَا. فَقَالَ جَهْمٌ: وَلَوْلَا أَنَّكَ ابْنُ عَمِّي لَمْ آتِكَ. وَكَانَ جَهْمٌ سِلْفَ الْجَرَّاحِ مِنْ قِبَلِ ابْنَتَيِ الْحُصَيْنِ بْنِ الْحَارِثِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ ابْنَ عَمِّهِ فَلِأَنَّ الْحَكَمَ وَالْجُعْفِيَّ ابْنَا سَعْدٍ الْقُشَيْرِيِّ. فَقَالَ لَهُ الْجَرَّاحُ: خَالَفْتَ إِمَامَكَ، فَاغْزُ لَعَلَّكَ تَظْفَرُ، فَيَصْلُحُ أَمْرُكَ عِنْدَهُ. فَوَجَّهَهُ إِلَى الْخُتَّلِ، فَغَنِمَ مِنْهُمْ وَرَجِعَ، وَأَوْفَدَ الْجَرَّاحُ إِلَى عُمَرَ وَفْدًا، رَجُلَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ، وَرَجُلًا مِنَ الْمَوَالِي يُكَنَّى أَبَا الصَّيْدِ، فَتَكَلَّمَ الْعَرَبِيَّانِ وَالْمَوْلَى سَاكِتٌ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَنْتَ مِنَ الْوَفْدِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الْكَلَامِ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِشْرُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَوَالِي يَغْزُونَ بِلَا عَطَاءٍ وَلَا رِزْقٍ، وَمِثْلُهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا مِنَ الذِّمَّةِ يُؤْخَذُونَ بِالْخَرَاجِ، فَأَمِيرُنَا عَصَبِيٌّ جَافٍ يَقُومُ عَلَى مِنْبَرِنَا، فَيَقُولُ: أَتَيْتُكُمْ حَفِيًّا، وَأَنَا الْيَوْمُ عَصَبِيٌّ، وَاللَّهِ لَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مِائَةٍ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَهُوَ بَعْدُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ الْحَجَّاجِ، قَدْ عَمِلَ بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ. قَالَ عُمَرُ: إِذَنْ بِمِثْلِكَ يُوفَدُ. فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى الْجَرَّاحِ: انْظُرْ مَنْ صَلَّى قِبَلَكَ [إِلَى الْقِبْلَةِ] فَضَعْ عَنْهُ الْجِزْيَةَ. فَسَارَعَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقِيلَ لِلْجَرَّاحِ: إِنِ النَّاسَ قَدْ سَارَعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ نُفُورًا مِنَ الْجِزْيَةِ، فَامْتَحِنْهُمْ بِالْخِتَانِ. فَكَتَبَ الْجَرَّاحُ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَيْهِ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ

مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَاعِيًا وَلَمْ يَبْعَثْهُ خَاتِنًا، وَقَالَ: إِيتُونِي رَجُلًا صَدُوقًا أَسْأَلُهُ عَنْ خُرَاسَانَ. فَقِيلَ لَهُ: عَلَيْكَ بِأَبِي مِجْلَزٍ. فَكَتَبَ إِلَى الْجَرَّاحِ: أَنْ أَقْبِلْ وَاحْمِلْ أَبَا مِجْلَزٍ، وَخَلِّفْ عَلَى حَرْبِ خُرَاسَانَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ نُعَيْمٍ الْعَامِرِيَّ. فَخَطَبَ الْجَرَّاحُ وَقَالَ: يَا أَهْلَ خُرَاسَانَ جِئْتُكُمْ فِي ثِيَابِي هَذِهِ الَّتِي عَلَيَّ وَعَلَى فَرَسِي، لَمْ أُصِبْ مِنْ مَالِكُمْ إِلَّا حِلْيَةَ سَيْفِي. وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِلَّا فَرَسٌ وَبَغْلَةٌ. فَسَارَ عَنْهُمْ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ قَالَ: مَتَى خَرَجْتَ؟ قَالَ: فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. قَالَ: صَدَقَ مَنْ وَصَفَكَ بِالْجَفَاءِ، هَلَّا أَقَمْتَ حَتَّى تُفْطِرَ ثُمَّ تَخْرُجَ! وَكَانَ الْجَرَّاحُ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ: إِنِّي قَدِمْتُ خُرَاسَانَ، فَوَجَدْتُ قَوْمًا قَدْ أَبْطَرَتْهُمُ الْفِتْنَةُ، فَأَحَبُّ الْأُمُورِ إِلَيْهِمْ أَنْ يَعُودُوا لِيَمْنَعُوا حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ يَكْفِهِمْ إِلَّا السَّيْفُ وَالسَّوْطُ، فَكَرِهْتُ الْإِقْدَامَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: يَا ابْنَ أُمِّ الْجَرَّاحِ، أَنْتَ أَحْرَصُ عَلَى الْفِتْنَةِ مِنْهُمْ، لَا تَضْرِبَنَّ مُؤْمِنًا وَلَا مُعَاهِدًا سَوْطًا إِلَّا فِي الْحَقِّ، وَاحْذَرِ الْقِصَاصَ، فَإِنَّكَ صَائِرٌ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَتَقْرَأُ كِتَابًا: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] . فَلَمَّا قَدِمَ الْجَرَّاحُ عَلَى عُمَرَ، وَقَدِمَ أَبُو مِجْلَزٍ، قَالَ لَهُ عُمَرُ: أَخْبِرْنِي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: يُكَافِي الْأَكْفَاءَ، وَيُعَادِي الْأَعْدَاءَ، وَهُوَ أَمِيرٌ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيُقْدِمُ إِنْ وَجَدَ مَنْ يُسَاعِدُهُ. قَالَ: فَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نُعَيْمٍ؟ قَالَ: يُحِبُّ الْعَافِيَةَ وَالتَّأَنِّي، وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ. فَوَلَّاهُ الصَّلَاةَ وَالْحَرْبَ، وَوَلَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْقُشَيْرِيَّ الْخَرَاجَ، وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ خُرَاسَانَ: إِنِّي اسْتَعْمَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَلَى حَرْبِكُمْ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ [بْنَ عَبْدِ اللَّهِ] عَلَى خَرَاجِكُمْ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمَا يَأْمُرُهُمَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ. فَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نُعَيْمٍ عَلَى خُرَاسَانَ حَتَّى مَاتَ عُمَرُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَوَجَّهَ مَسْلَمَةُ سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْحَارِثَ بْنَ الْحَكَمِ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَنِصْفٍ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ الدَّعْوَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ الدُّعَاةَ فِي الْآفَاقِ.

وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ يَنْزِلُ أَرْضَ الشَّرَاةِ مِنْ أَعْمَالِ الْبَلْقَاءِ بِالشَّامِ، فَسَارَ أَبُو هَاشِمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى الشَّامِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَاجْتَمَعَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَحْسَنَ صُحْبَتَهُ، وَاجْتَمَعَ أَبُو هَاشِمٍ بِسُلَيْمَانَ وَأَكْرَمَهُ وَقَضَى حَوَائِجَهُ، وَرَأَى مِنْ عِلْمِهِ وَفَصَاحَتِهِ مَا حَسَدَهُ عَلَيْهِ وَخَافَهُ، فَوَضَعَ عَلَيْهِ مَنْ وَقَفَ عَلَى طَرِيقِهِ فَسَمَّهِ فِي لَبَنٍ. فَلَمَّا أَحَسَّ أَبُو هَاشِمٍ بِالشَّرِّ قَصْدَ الْحُمَيْمَةَ مِنْ أَرْضِ الشَّرَاةِ، وَبِهَا مُحَمَّدٌ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ صَائِرٌ إِلَى وَلَدِهِ، وَعَرَّفَهُ مَا يَعْمَلُ، وَكَانَ أَبُو هَاشِمٍ قَدْ أَعْلَمَ شِيعَتَهُ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ عِنْدَ تَرَدُّدِهِمْ إِلَيْهِ أَنَّ الْأَمْرَ صَائِرٌ إِلَى وَلَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَمَرَهُمْ بِقَصْدِهِ بَعْدَهُ. فَلَمَّا مَاتَ أَبُو هَاشِمٍ قَصَدُوا مُحَمَّدًا وَبَايَعُوهُ، وَعَادُوا فَدَعُوا النَّاسَ إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُمْ، وَكَانَ الَّذِينَ سَيَّرَهُمْ إِلَى الْآفَاقِ جَمَاعَةٌ، فَوَجَّهَ مَيْسَرَةَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَوَجَّهَ مُحَمَّدَ بْنَ خُنَيْسٍ، وَأَبَا عِكْرِمَةَ السَّرَّاجَ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ، وَحَيَّانَ الْعَطَّارَ، خَالَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَلَمَةَ، إِلَى خُرَاسَانَ، وَعَلَيْهَا الْجَرَّاحُ الْحَكَمِيُّ، وَأَمْرَهُمْ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ وَإِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ. فَلَقُوا مَنْ لَقُوا. ثُمَّ انْصَرَفُوا بِكُتُبِ مَنِ اسْتَجَابَ لَهُمْ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، فَدَفَعُوهَا إِلَى مَيْسَرَةَ، فَبَعَثَ بِهَا مَيْسَرَةُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَاخْتَارَ أَبُو مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا نُقَبَاءً، مِنْهُمْ: سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ الْخُزَاعِيُّ، وَلَاهِزُ بْنُ قُرَيْظٍ التَّمِيمِيُّ، وَقَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ الطَّائِيُّ، وَمُوسَى بْنُ كَعْبٍ التَّمِيمِيُّ، وَخَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ بْنِ ذُهْلٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُجَاشِعٍ التَّمِيمِيُّ، وَعِمْرَانُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو النَّجْمِ مَوْلَى آلِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَمَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيُّ، وَطَلْحَةُ بْنُ زُرَيْقٍ الْخُزَاعِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ أَعْيَنَ أَبُو حَمْزَةَ مَوْلَى خُزَاعَةَ، وَشِبْلُ بْنُ طَهْمَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْهَرَوِيُّ مَوْلًى لِبَنِي حَنِيفَةَ، وَعِيسَى بْنُ أَعْيَنَ مَوْلَى خُزَاعَةَ، وَاخْتَارَ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ كِتَابًا لِيَكُونَ لَهُمْ مِثَالًا وَسِيرَةً يَسِيرُونَ بِهَا. (الْحُمَيْمَةُ: بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالشَّرَاةِ: بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ) . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمْرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَهْلَ طُرَنْدَةَ بِالْقُفُولِ عَنْهَا إِلَى مَلَطْيَةَ، وَطُرَنْدَةَ

وَاغِلَةٌ فِي الْبِلَادِ الرُّومِيَّةِ مِنْ مَلَطْيَةَ بِثَلَاثِ مَرَاحِلَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَدْ أَسْكَنَهَا الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ غَزَاهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ، وَمَلَطْيَةُ يَوْمَئِذٍ خَرَابٌ، وَكَانَ يَأْتِيهِمْ جُنْدٌ مِنَ الْجَزِيرَةِ يُقِيمُونَ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنْ يَنْزِلَ الثَّلْجُ، وَيَعُودُونَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ إِلَى أَنْ وَلِيَ عُمَرُ، فَأَمَرَهُمْ بِالْعَوْدِ إِلَى مَلَطْيَةَ، وَأَخْلَى طُرَنْدَةَ خَوْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَدِوِّ، وَأَخْرَبَ طُرَنْدَةَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَلَطْيَةَ جَعُونَةَ بْنَ الْحَارِثِ أَحَدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ. وَفِيهَا كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى مُلُوكِ السِّنْدِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَى أَنْ يُمَلِّكَهُمْ بِلَادَهُمْ، وَلَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كَانَتْ سِيرَتُهُ بِلَغَتْهُمْ، فَأَسْلَمَ جَيْشَبَهْ بْنُ ذَاهِرَ، وَالْمُلُوكُ تَسَمَّوْا لَهُ بِأَسْمَاءِ الْعَرَبِ، وَكَانَ عُمَرُ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَلَى ذَلِكَ الثَّغْرِ عَمْرُو بْنُ مُسْلِمٍ أَخَا قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، فَغَزَا بَعْضَ الْهِنْدِ، فَظَفِرَ وَبَقِيَ مُلُوكُ السِّنْدِ مُسْلِمِينَ عَلَى بِلَادِهِمْ أَيَّامَ عُمَرَ وَيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا كَانَ أَيَّامَ هِشَامٍ ارْتَدُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ سَبَبُهُ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهَا أَغْزَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْوَلِيدَ بْنَ هِشَامٍ الْمُعَيْطِيَّ، وَعَمْرَو بْنَ قَيْسٍ الْكِنْدِيَّ الصَّائِفَةَ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عُمَرَ بْنَ هُبَيْرَةَ الْفَزَارِيَّ عَلَى الْجَزِيرَةِ عَامِلًا عَلَيْهِمْ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو. وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ إِلَّا عَامِلَ خُرَاسَانَ. وَكَانَ عَلَى حَرْبِهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نُعَيْمٍ، وَعَلَى خَرَاجِهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي آخِرِهَا. (وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى

إِفْرِيقِيَّةَ، وَاسْتَعْمَلَ السَّمْحَ بْنَ مَالِكٍ الْخَوْلَانِيَّ عَلَى الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ قَدْ رَأَى مِنْهُ أَمَانَةً وَدِيَانَةً عِنْدَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَاسْتَعْمَلَهُ) . [الوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ بِمَكَّةَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَفِيهَا مَاتَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، (وَقِيلَ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ الْهَمْدَانِيُّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ الْفَقِيهُ) ، وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ، وَكَانَ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمَّاهُ وَكَنَّاهُ بِجَدِّهِ لِأُمِّهِ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ بَدْرٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ مَوْلَى الْحَضْرَمِيِّينَ، (بُسْرُ: بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ) . وَعِيسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ.

وَمُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ. وَرِبْعِيُّ بْنُ حِرَاشٍ الْكُوفِيُّ، (حِرَاشٌ: بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ) ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ. وَحَنَشُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّنْعَانِيُّ، كَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، فَلَمَّا قُتِلَ انْتَقَلَ إِلَى مِصْرَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اخْتَطَّ جَامِعَ سَرَقُسْطَةَ بِالْأَنْدَلُسِ. (حَنَشٌ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ، وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ) .

ثم دخلت سنة إحدى ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَمِائَةٍ] 101 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَمِائَةٍ ذِكْرُ هَرَبِ ابْنِ الْمُهَلَّبِ قَدْ ذَكَرْنَا حَبْسَ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا حَتَّى اشْتَدَّ مَرَضُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَعَمِلَ فِي الْهَرَبِ، فَخَافَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لِأَنَّهُ قَدْ عَذَّبَ أَصْهَارَهُ آلَ أَبِي عَقِيلٍ، وَكَانَتْ أُمُّ الْحَجَّاجِ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، وَهِيَ ابْنَةُ أَخِي الْحَجَّاجِ، زَوْجَةُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَ سَبَبُ تَعْذِيبِهِمْ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ طَلَبَ آلَ أَبِي عَقِيلٍ، فَأَخَذَهُمْ وَسَلَّمَهُمْ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ لِيُخَلِّصَ أَمْوَالَهُمْ، فَعَذَّبَهُمْ وَبَعَثَ ابْنُ الْمُهَلَّبِ إِلَى الْبَلْقَاءِ مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ، وَبِهَا خَزَائِنُ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَعِيَالُهُ، فَنَقَلَهُمْ وَمَا مَعَهُمْ إِلَيْهِ، وَكَانَ فِيمَنْ أُتِيَ بِهِ أُمُّ الْحَجَّاجِ زَوْجَةُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، (وَقِيلَ: بَلْ أُخْتٌ لَهَا، فَعَذَّبَهَا، فَأَتَى يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ) إِلَى ابْنِ الْمُهَلَّبِ فِي مَنْزِلِهِ فَشَفَعَ فِيهَا، فَلَمْ يُشَفِّعْهُ، فَقَالَ: الَّذِي قَرَّرْتُمْ عَلَيْهَا أَنَا أَحْمِلُهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، فَقَالَ لِابْنِ الْمُهَلَّبِ: أَمَّا وَاللَّهِ لَئِنْ وُلِّيتُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْئًا لَأَقْطَعَنَّ مِنْكَ عُضْوًا! فَقَالَ ابْنُ الْمُهَلَّبِ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ لَأَرْمِيَنَّكَ بِمِائَةِ أَلْفِ سَيْفٍ. فَحَمَلَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ (مَا كَانَ عَلَيْهَا) ، وَكَانَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقِيلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ خَافَ ابْنُ الْمُهَلَّبِ مِنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَوَالِيهِ، فَأَعَدُّوا لَهُ إِبِلًا وَخَيْلًا، وَوَاعَدَهُمْ مَكَانًا يَأْتِيهِمْ فِيهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَامِلِ حَلَبَ مَالًا، وَإِلَى الْحَرَسِ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ، وَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ ثَقُلَ وَلَيْسَ بِرَجَاءٍ، وَإِنْ وَلِيَ يَزِيدُ يَسْفِكُ دَمِي. فَأَخْرَجُوهُ، فَهَرَبَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَاعَدَ أَصْحَابَهُ فِيهِ، فَرَكِبَ الدَّوَابَّ وَقَصَدَ الْبَصْرَةَ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كِتَابًا يَقُولُ: إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ وَثِقْتُ بِحَيَاتِكَ لَمْ أَخْرُجْ مِنْ مَحْبِسِكَ، وَلَكِنِّي خِفْتُ أَنْ يَلِيَ يَزِيدُ، فَيَقْتُلَنِي شَرَّ قِتْلَةٍ. فَوَرَدَ الْكِتَابُ

وَبِهِ رَمَقٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِالْمُسْلِمِينَ سُوءًا فَأَلْحِقْهُ بِهِ وَهِضْهُ فَقَدْ هَاضَنِي. وَمَرَّ يَزِيدُ فِي طَرِيقِهِ بِالْهُذَيْلِ بْنِ زُفَرَ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانَ يَخَافُهُ، فَلَمْ يَشْعُرِ الْهُذَيْلُ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَ يَزِيدُ وَدَعَا بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ، فَاسْتَحْيَا مِنْهُ الْهُذَيْلُ وَعَرَضَ عَلَيْهِ خَيْلَهُ وَغَيْرَهَا، فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا. وَقِيلَ فِي سَبَبِ خَوْفِ ابْنِ الْمُهَلَّبِ مِنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ وَفَاةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قِيلَ: تُوُفِّيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ، وَكَانَتْ شَكْوَاهُ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَلَمَّا مَرِضَ، قِيلَ لَهُ: لَوْ تَدَاوَيْتَ. قَالَ: لَوْ كَانَ دَوَائِي فِي مَسْحِ أُذُنِي مَا مَسَحْتُهَا، نِعْمَ الْمَذْهُوبُ إِلَيْهِ رَبِّي، وَكَانَ مَوْتُهُ بِدَيْرِ سَمْعَانَ، وَقِيلَ: بِخُنَاصِرَةَ، وَدُفِنَ بِدَيْرِ سَمْعَانَ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ عُمُرُهُ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَقِيلَ: كَانَ عُمُرُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَكَانَتْ كُنْيَتُهُ أَبَا حَفْصٍ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: أَشُجُّ بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ قَدْ رَمَحَتْهُ دَابَّةٌ مِنْ دَوَابِّ أَبِيهِ: فَشَجَّتْهُ وَهُوَ غُلَامٌ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّهِ، فَضَمَّتْهُ إِلَيْهَا وَعَذَلَتْ أَبَاهُ وَلَامَتْهُ حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْ مَعَهُ حَاضِنًا، فَقَالَ لَهَا عَبْدُ الْعَزِيزِ: اسْكُتِي يَا أُمَّ عَاصِمٍ، فَطُوبَاكِ إِنْ كَانَ أَشُجَّ بَنِي أُمَيَّةَ. قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا وَضَعْتُ الْوَلِيدَ فِي حُفْرَتِهِ نَظَرْتُ فَإِذَا وَجْهُهُ قَدِ اسْوَدَّ، فَإِذْ مِتُّ وَدُفِنْتُ فَاكْشِفْ عَنْ وَجْهِي، فَفَعَلْتُ فَرَأَيْتُهُ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ أَيَّامَ تَنَعُّمِهِ. وَقِيلَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: يَا لَيْتَ شِعْرِي مِنْ هَذَا الَّذِي مِنْ وَلَدِ عُمَرَ، فِي وَجْهِهِ عَلَامَةٌ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا؟

وَكَانَتْ أُمُّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أُمُّ عَاصِمٍ بِنْتُ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَرَثَاهُ الشُّعَرَاءُ فَأَكْثَرُوا، فَقَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ: أَقُولُ لَمَّا أَتَانِي ثَمَّ مَهْلِكُهُ ... لَا تَبْعُدَنَّ قِوَامَ الْحَقِّ وَالدِّينِ قَدْ غَادَرُوا فِي ضَرِيحِ اللَّحْدِ مُنْجَدِلًا ... بِدَيْرِ سَمْعَانَ قِسْطَاسَ الْمَوَازِينِ وَرَثَاهُ جَرِيرٌ وَالْفَرَزْدَقُ وَغَيْرُهُمَا. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ قِيلَ: لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ كَتَبَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَبَضَهُ وَاسْتَخْلَفَنِي، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ بَعْدِي إِنْ كَانَ، وَإِنَّ الَّذِي وَلَّانِي اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدَّرَ لِي لَيْسَ عَلَيَّ بِهَيِّنٍ، وَلَوْ كَانَتْ رَغْبَتِي فِي اتِّخَاذِ أَزْوَاجٍ، أَوِ اعْتِقَادِ أَمْوَالٍ، لَكَانَ فِي الَّذِي أَعْطَانِي مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ بَلَغَ بِي، أَفْضَلَ مَا بَلَغَ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَنَا أَخَافُ فِيمَا ابْتُلِيتُ بِهِ حِسَابًا شَدِيدًا، وَمَسْأَلَةً غَلِيظَةً، إِلَّا مَا عَفَا اللَّهُ وَرَحِمَ، وَقَدْ بَايَعَ مَنْ قِبَلَنَا، فَبَايِعْ مَنْ قِبَلَكَ. فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ قِيلَ لَهُ: لَسْتَ مِنْ عُمَّالِهِ، لِأَنَّ كَلَامَهُ لَيْسَ كَكَلَامِ مَنْ مَضَى مِنْ أَهْلِهِ. فَدَعَا يَزِيدُ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَبَايَعُوا. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُعَيْمٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَاعْمَلْ عَمَلَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. قَالَ طُفَيْلُ بْنُ مِرْدَاسٍ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي السَّرِيِّ: أَنِ اعْمَلْ خَانَاتٍ، فَمَنْ مَرَّ بِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَاقْرُوهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَتَعَهَّدُوا دَوَابَّهُمْ، وَمَنْ كَانَتْ بِهِ عِلَّةٌ فَاقْرُوهُ

يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا بِهِ، فَأَبْلِغْهُ بَلَدَهُ. فَلَمَّا أَتَاهُ كِتَابُ عُمَرَ قَالَ لَهُ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ: قُتَيْبَةُ ظَلَمَنَا وَغَدَرَ بِنَا فَأَخَذَ بِلَادَنَا، وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْعَدْلَ وَالْإِنْصَافَ، فَأْذَنْ لَنَا فَلْيَقْدَمْ مِنَّا وَفْدٌ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَذِنَ لَهُمْ، فَوَجَّهُوا وَفْدًا إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ لَهُمْ إِلَى سُلَيْمَانَ: إِنَّ أَهْلَ سَمَرْقَنْدَ شَكَوْا ظُلْمًا وَتَحَامُلًا مِنْ قُتَيْبَةَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَأَجْلِسْ لَهُمُ الْقَاضِي، فَلْيَنْظُرْ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ قَضَى لَهُمْ، فَأَخْرِجِ الْعَرَبَ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ كَمَا كَانُوا قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِمْ قُتَيْبَةُ. قَالَ: فَأَجْلَسَ لَهُمْ سُلَيْمَانُ جُمَيْعَ بْنَ حَاضِرٍ الْقَاضِيَ، فَقَضَى أَنْ يَخْرُجَ عَرَبُ سَمَرْقَنْدَ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ، وَيُنَابِذُوهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، فَيَكُونُ صُلْحًا جَدِيدًا، أَوْ ظَفَرًا عَنْوَةً. فَقَالَ أَهْلُ الصُّغْدِ: بَلَى نَرْضَى بِمَا كَانَ وَلَا نُحْدِثُ حَرْبًا، وَتَرَاضَوْا بِذَلِكَ. قَالَ دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدْ أَصَابَهُمْ بَلَاءٌ وَشِدَّةٌ وَجَوْرٌ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ، وَسُنَّةٌ خَبِيثَةٌ سَنَّهَا عَلَيْهِمْ عُمَّالُ السُّوءِ، وَإِنَّ قِوَامَ الدِّينِ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ، فَلَا يَكُونَنَّ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّهُ لَا قَلِيلَ مِنَ الْإِثْمِ، وَلَا تَحْمِلْ خَرَابًا عَلَى عَامِرٍ، وَخُذْ مِنْهُ مَا أَطَاقَ، وَأَصْلِحْهُ حَتَّى يُعَمَّرَ، وَلَا يُؤْخَذَنَّ مِنَ الْعَامِرِ إِلَّا وَظِيفَةَ الْخَرَاجِ فِي رِفْقٍ وَتَسْكِينٍ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَا تَأْخُذَنَّ أُجُورَ الضَّرَّابِينَ، وَلَا هَدِيَّةَ النَّوْرُوزِ وَالْمَهْرَجَانِ، وَلَا ثَمَنَ الصُّحُفِ، وَلَا أُجُورَ الْفُيُوجِ، وَلَا أُجُورَ الْبُيُوتِ، وَلَا دِرْهَمَ النِّكَاحِ، وَلَا خَرَاجَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَاتَّبِعْ فِي ذَلِكَ أَمْرِي، فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ مِنْ ذَلِكَ مَا وَلَّانِي اللَّهُ، وَلَا تُعَجِّلْ دُونِي بِقَطْعٍ وَلَا صَلْبٍ حَتَّى تُرَاجِعَنِي فِيهِ، وَانْظُرْ مَنْ أَرَادَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ أَنْ يَحُجَّ، فَعَجِّلْ لَهُ مِائَةً لِيَحُجَّ بِهَا، وَالسَّلَامُ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمَلِكِ،

رَحِمَهَا اللَّهُ، امْرَأَةُ عُمَرَ: لَمَّا مَرِضَ عُمَرُ اشْتَدَّ قَلَقُهُ لَيْلَةً، فَسَهِرْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أَمَرْتُ وَصِيفًا لَهُ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدٌ لِيَكُونَ عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ كُنْتُ قَرِيبًا مِنْهُ، ثُمَّ نِمْنَا، فَلَمَّا انْتَفَخَ النَّهَارُ اسْتَيْقَظْتُ، فَتَوَجَّهْتُ إِلَيْهِ، فَرَأَيْتُ مَرْثَدًا خَارِجًا مِنَ الْبَيْتِ نَائِمًا، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَخْرَجَكَ؟ قَالَ: هُوَ أَخْرَجَنِي، وَقَالَ لِي: إِنِّي أَرَى شَيْئًا مَا هُوَ بِإِنْسٍ وَلَا جِنٍّ، فَخَرَجْتُ فَسَمِعْتُهُ يَتْلُو: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] . قَالَتْ: فَدَخَلْتُ فَوَجَدْتُهُ بَعْدَمَا دَخَلْتُ قَدْ وَجَّهَ نَفْسَهُ لِلْقِبْلَةِ وَهُوَ مَيِّتٌ. قَالَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ أَعُودُهُ فَإِذَا عَلَيْهِ قَمِيصٌ وَسِخَ، فَقُلْتُ لِامْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ، وَكَانَتْ أُخْتُ مَسْلَمَةَ: اغْسِلُوا ثِيَابَ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَتْ: نَفْعَلُ. ثُمَّ عُدْتُ فَإِذَا الْقَمِيصُ عَلَى حَالِهِ. فَقُلْتُ: أَلَمْ آمُرْكُمْ أَنْ تَغْسِلُوا قَمِيصَهُ؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لَهُ غَيْرُهُ. قِيلَ: وَكَانَتْ نَفَقَتُهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ. قِيلَ: وَكَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ قَدْ بَعَثَ ابْنَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَتَأَدَّبَ بِهَا، فَكَتَبَ إِلَى صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ أَنْ يَتَعَاهَدَهُ، فَأَبْطَأَ عُمَرُ يَوْمًا عَنِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ؟ فَقَالَ: كَانَتْ مُرَجِّلَتِي تُصْلِحُ شَعْرِي، فَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ أَبُوهُ رَسُولًا، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى حَلَقَ شَعْرَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ: إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ نَجِيبَةً، وَإِنَّ نَجِيبَةَ بَنِي أُمَيَّةَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَتَيْنَا عُمَرَ نُعَلِّمُهُ، فَلَمْ نَبْرَحْ حَتَّى تَعَلَّمْنَا مِنْهُ. وَقَالَ مَيْمُونٌ: كَانَتِ الْعُلَمَاءُ عِنْدَ عُمَرَ تَلَامِذَةً. وَقِيلَ لِعُمَرَ: مَا كَانَ بَدْءُ إِنَابَتِكَ؟

قَالَ: أَرَدْتُ ضَرْبَ غُلَامٍ لِي فَقَالَ: اذْكُرْ لَيْلَةً صَبِيحَتُهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ عُمَرُ: مَا كَذِبْتُ مُنْذُ عَلِمْتُ أَنَّ الْكَذِبَ يَضُرُّ أَهْلَهُ. وَقَالَ رِيَاحُ بْنُ عُبَيْدَةَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَشَيْخٌ مُتَوَكِّئٌ عَلَى يَدِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ وَدَخَلَ قُلْتُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، مَنِ الشَّيْخُ الَّذِي كَانَ مُتَوَكِّئًا عَلَى يَدِكَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: ذَاكَ أَخِي الْخَضِرُ، أَعْلَمَنِي أَنِّي سَأَلِي أَمْرَ الْأُمَّةِ، وَأَنِّي سَأَعْدِلُ فِيهَا. قَالَ: وَأَتَاهُ أَصْحَابُ مَرَاكِبِ الْخِلَافَةِ يَطْلُبُونَ عَلَفَهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَبِيعَتْ، وَجَعَلَ أَثْمَانَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ وَقَالَ: تَكْفِينِي بَغْلَتِي هَذِهِ. قَالَ: وَلَمَّا رَجَعَ مِنْ جِنَازَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ رَآهُ مَوْلًى لَهُ مُغْتَمًّا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَلَا غَرْبِهَا إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُؤَدِّيَ إِلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْهُ. قَالَ: وَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَجَوَارِيهِ: إِنَّهُ قَدْ شُغِلَ بِمَا فِي عُنُقِهِ عَنِ النِّسَاءِ، وَخَيَّرَهُنَّ بَيْنَ أَنْ يُقِمْنَ عِنْدَهُ أَوْ يُفَارِقْنَهُ، فَبَكَيْنَ وَاخْتَرْنَ الْمُقَامَ مَعَهُ. قَالَ: وَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَكَانَتْ أَوَّلَ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ صَحِبَنَا فَلْيَصْحَبْنَا بِخَمْسٍ، وَإِلَّا فَلَا يَقْرَبْنَا: يَرْفَعُ إِلَيْنَا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ رَفْعَهَا، وَيُعِينُنَا عَلَى الْخَيْرِ بِجُهْدِهِ، وَيَدُلُّنَا مِنَ الْخَيْرِ عَلَى مَا نَهْتَدِي إِلَيْهِ، وَلَا يَغْتَابَنَّ أَحَدًا، وَلَا يَعْتَرِضُ فِي مَا لَا يَعْنِيهِ. فَانْقَشَعَ الشُّعَرَاءُ وَالْخُطَبَاءُ، وَثَبَتَ عِنْدَهُ الْفُقَهَاءُ وَالزُّهَّادُ وَقَالُوا: مَا يَسَعُنَا أَنْ نُفَارِقَ هَذَا الرَّجُلَ حَتَّى يُخَالِفَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ. قَالَ: فَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ أَحْضَرَ قُرَيْشًا وَوُجُوهَ النَّاسِ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ فَدَكَ كَانَتْ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ يَضَعُهَا حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ، ثُمَّ وَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ كَذَلِكَ وَعُمَرُ كَذَلِكَ، ثُمَّ

أُقْطِعَهَا مَرْوَانُ، ثُمَّ إِنَّهَا صَارَتْ إِلَيَّ، وَلَمْ تَكُنْ مِنْ مَالِي أَعُودُ مِنْهَا عَلَيَّ، وَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ رَدَدْتُهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَانْقَطَعَتْ ظُهُورُ النَّاسِ وَيَئِسُوا مِنَ الظُّلْمِ. قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِمَوْلَاهُ مُزَاحِمٍ: إِنَّ أَهْلِي أَقْطَعُونِي مَا لَمْ يَكُنْ إِلَيَّ أَنْ آخُذَهُ، وَلَا لَهُمْ أَنْ يُعْطُونِيهِ، وَإِنِّي قَدْ هَمَمْتُ بِرَدِّهِ عَلَى أَرْبَابِهِ. قَالَ: فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِوَلَدِكَ؟ فَجَرَتْ دُمُوعُهُ وَقَالَ: أَكِلُهُمْ إِلَى اللَّهِ. قَالَ: وَجَدَ لِوَلَدِهِ مَا يَجِدُ النَّاسُ، فَخَرَجَ مُزَاحِمٌ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَزَمَ عَلَى كَذَا وَكَذَا، وَهَذَا أَمْرٌ يَضُرُّكُمْ وَقَدْ نَهَيْتُهُ عَنْهُ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: بِئْسَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ أَنْتَ! ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ عَلَى أَبِيهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ مُزَاحِمًا أَخْبَرَنِي بِكَذَا وَكَذَا فَمَا رَأْيُكَ؟ قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقُومَ بِهِ الْعَشِيَّةَ. قَالَ: عَجِّلْهُ فَمَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ يَحْدُثَ لَكَ حَدَثٌ أَوْ يَحْدُثَ بِقَلْبِكَ حَدَثٌ؟ فَرَفَعَ عُمَرُ يَدَيْهِ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِي مَنْ يُعِينُنِي عَلَى دِينِي! ثُمَّ قَامَ بِهِ مِنْ سَاعَتِهِ فِي النَّاسِ وَرَدَّهَا. قَالَ: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ الْخِلَافَةَ أَخَذَ مِنْ أَهْلِهِ مَا بِأَيْدِيهِمْ وَسَمَّى ذَلِكَ مَظَالِمَ، فَفَزِعَ بَنُو أُمَيَّةَ إِلَى عَمَّتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ مَرْوَانَ، فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ لَهُ: تَكَلَّمْ أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَحْمَةً وَلَمْ يَبْعَثْهُ عَذَابًا إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، ثُمَّ اخْتَارَ لَهُ مَا عِنْدَهُ، وَتَرَكَ لِلنَّاسِ نَهْرًا شُرْبُهُمْ سَوَاءٌ، ثُمَّ وَلِيَ أَبُو بَكْرٍ فَتَرَكَ النَّهْرَ عَلَى حَالِهِ، ثُمَّ وَلِيَ عُمَرُ فَعَمِلَ عَمَلَهُمَا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ النَّهْرُ يَسْتَقِي مِنْهُ يَزِيدُ، وَمَرْوَانُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ ابْنُهُ، وَالْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ ابْنَا عَبْدِ الْمَلِكِ، حَتَّى أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَيَّ، وَقَدْ يَبِسَ النَّهْرُ الْأَعْظَمُ، فَلَمْ يَرْوِ أَصْحَابَهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. فَقَالَتْ: حَسْبُكَ، قَدْ أَرَدْتُ كَلَامَكَ، (فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مَقَالَتُكَ هَذِهِ فَلَا أَذْكُرُ شَيْئًا أَبَدًا. فَرَجَعَتْ إِلَيْهِمْ فَأَخْبَرَتْهُمْ كَلَامَهُ) . وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا قَالَتْ لَهُ: إِنَّ بَنِيَ أُمَيَّةَ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا قَالَ لَهَا هَذَا الْكَلَامَ قَالَتْ لَهُ: إِنَّهُمْ يُحَذِّرُونَكَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِهِمْ، (فَغَضِبَ وَقَالَ: كُلُّ يَوْمٍ أَخَافُهُ غَيْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا أَمِنْتُ شَرَّهُ. فَرَجَعَتْ إِلَيْهِمْ) فَأَخْبَرَتْهُمْ وَقَالَتْ: أَنْتُمْ فَعَلْتُمْ هَذَا بِأَنْفُسِكُمْ، تَزَوَّجْتُمْ بِأَوْلَادِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَجَاءَ يُشْبِهُ جَدَّهُ. فَسَكَتُوا.

قَالَ: وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الْخُلَفَاءُ خَمْسَةٌ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَا كَانَ سِوَاهُمْ فَهُمْ مُنْتَزُونَ. قَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مِثْلَهُ، قَالَ: وَكَانَ يَكْتُبُ إِلَى عُمَّالِهِ بِثَلَاثٍ، فَهِيَ تَدُورُ بَيْنَهُمْ: بِإِحْيَاءِ سُنَّةٍ، أَوْ إِطْفَاءِ بِدْعَةٍ، أَوْ قَسْمٍ فِي مَسْكَنَةٍ، أَوْ رَدِّ مَظْلَمَةٍ. قَالَ: وَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ تُثْنِي عَلَيْهِ وَتَقُولُ: لَوْ كَانَ بَقِيَ لَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا احْتَجْنَا بِعَهْدِهِ إِلَى أَحَدٍ. قَالَتْ فَاطِمَةُ امْرَأَتُهُ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مُصَلَّاهُ وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقُلْتُ: أَحَدَثَ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: إِنِّي تَقَلَّدْتُ أَمْرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، فَتَفَكَّرْتُ فِي الْفَقِيرِ الْجَائِعِ، وَالْمَرِيضِ الضَّائِعِ، وَالْغَازِي، وَالْمَظْلُومِ الْمَقْهُورِ، وَالْغَرِيبِ الْأَسِيرِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَذِي الْعِيَالِ الْكَثِيرِ، وَالْمَالِ الْقَلِيلِ، وَأَشْبَاهِهِمْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، فَعَلِمْتُ أَنَّ رَبِّي سَيَسْأَلُنِي عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ خَصْمِي دُونَهُمْ مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى اللَّهِ، فَخَشِيتُ أَنْ لَا تَثْبُتَ حُجَّتِي عِنْدَ الْخُصُومَةِ، فَرَحِمْتُ نَفْسِي فَبَكَيْتُ. قِيلَ: وَلَمَّا مَرِضَ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ مَرَضَ مَوْتِهِ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ أَعْوَانِهِ عَلَى الْعَدْلِ، دَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: أَجِدُنِي فِي الْحَقِّ. قَالَ: يَا بُنَيَّ أَنْ تَكُونَ فِي مِيزَانِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ فِي مِيزَانِكَ. فَقَالَ ابْنُهُ: يَا أَبَتَاهُ لَأَنْ يَكُونَ مَا تُحِبُّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَا أُحِبُّ، فَمَاتَ فِي مَرَضِهِ وَلَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. قِيلَ: وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِأَبِيهِ عُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا تَقُولُ لِرَبِّكَ إِذَا أَتَيْتَهُ، وَقَدْ تَرَكْتَ حَقًّا لَمْ تُحْيِهِ وَبَاطِلًا لَمْ تُمِتْهُ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّ أَبَاكَ وَأَجْدَادَكَ قَدْ دَعُّوُا النَّاسَ عَنِ الْحَقِّ، فَانْتَهَتِ الْأُمُورُ إِلَيَّ، وَقِيلَ أَقْبَلَ شَرُّهَا وَأَدْبَرَ خَيْرُهَا، وَلَكِنْ أَلَيْسَ حَسَنًا وَجَمِيلًا أَلَّا تَطْلُعَ الشَّمْسُ عَلَيَّ فِي يَوْمٍ إِلَّا أَحْيَيْتُ فِيهِ حَقًّا، وَأَمَتُّ فِيهِ بَاطِلًا، حَتَّى يَأْتِيَنِيَ الْمَوْتُ، فَأَنَا عَلَى ذَلِكَ؟ وَقَالَ لَهُ أَيْضًا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ انْقَدْ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِنْ جَاشَتْ بِي وَبِكَ الْقُدُورُ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنْ بَادَهْتُ النَّاسَ بِمَا تَقُولُ أَحْوَجُونِي إِلَى السَّيْفِ، وَلَا خَيْرَ فِي خَيْرٍ لَا يَحْيَا إِلَّا بِالسَّيْفِ، فَكَرَّرَ ذَلِكَ. قِيلَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عُمَّالِهِ نُسْخَةً وَاحِدَةً: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ،

عَزَّ وَجَلَّ، أَكْرَمَ بِالْإِسْلَامِ أَهْلَهُ، وَشَرَّفَهُمْ وَأَعَزَّهُمْ، وَضَرَبَ الذِّلَّةَ وَالصِّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، وَجَعَلَهُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَلَا تُوَلِّيَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ ذِمَّتِهِمْ وَخَرَاجِهِمْ، فَتَتَبَسَّطَ عَلَيْهِ أَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ، فَتُذِلَّهُمْ بَعْدَ أَنْ أَعَزَّهُمُ اللَّهُ، وَتُهِينَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَتُعَرِّضَهُمْ لِكَيْدِهِمْ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَيْهِمْ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يُؤْمَنُ غِشُّهُمْ إِيَّاهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُ: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] ، وَ {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] ، وَالسَّلَامُ. فَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ. (وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ: مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ فِي قَوْلٍ، وَأَبُو صَالِحٍ ذَكْوَانُ) . ذِكْرُ خِلَافَةِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَفِيهَا تَوَلَّى يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ الْخِلَافَةَ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو خَالِدٍ، بِعَهْدٍ مِنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَمَّا احْتُضِرَ عُمَرُ، قِيلَ لَهُ: اكْتُبْ إِلَى يَزِيدَ فَأَوْصِهِ بِالْأُمَّةِ، قَالَ: بِمَاذَا أُوصِيهِ؟ إِنَّهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَاتَّقِ يَا يَزِيدُ الصَّرْعَةَ بَعْدَ الْغَفْلَةِ، حِينَ لَا تُقَالُ الْعَثْرَةُ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى الرَّجْعَةِ، إِنَّكَ تَتْرُكُ مَا تَتْرُكُ لِمَنْ لَا يَحْمَدُكَ، وَتَصِيرُ إِلَى مَنْ لَا يَعْذُرُكَ، وَالسَّلَامُ. فَلَمَّا وَلِيَ يَزِيدُ نَزَعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّ عَلَيْهَا، وَاسْتَقْضَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيَّ، وَأَرَادَ مُعَارَضَةَ ابْنِ حَزْمٍ فَلَمْ يَجِدْ عَلَيْهِ سَبِيلًا، حَتَّى شَكَا عُثْمَانُ بْنُ حَيَّانَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنِ ابْنِ حَزْمٍ، وَأَنَّهُ ضَرَبَهُ حَدَّيْنِ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ

يُقِيدَهُ مِنْهُ، فَكَتَبَ يَزِيدُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الضَّحَّاكِ كِتَابًا: أَمَّا بَعْدُ فَانْظُرْ فِيمَا ضَرَبَ ابْنُ حَزْمٍ ابْنَ حَيَّانَ، فَإِنْ كَانَ ضَرَبَهُ فِي أَمْرٍ بَيِّنٍ أَوْ أَمْرٍ يُخْتَلَفُ فِيهِ، فَلَا تَلْتَفِتُ إِلَيْهِ. فَأَرْسَلَ ابْنُ الضَّحَّاكِ فَأَحْضَرَ ابْنَ حَزْمٍ، وَضَرَبَهُ حَدَّيْنِ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ. وَعَمَدَ يَزِيدُ إِلَى كُلِّ مَا صَنَعَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِمَّا لَمْ يُوَافِقْ هَوَاهُ، فَرَدَّهُ، وَلَمْ يَخَفْ شَنَاعَةً عَاجِلَةً، وَلَا إِثْمًا عَاجِلًا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ أَخَا الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ كَانَ عَلَى الْيَمَنِ، فَجَعَلَ عَلَيْهِمْ خَرَاجًا مُجَدَّدًا، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِأَمْرِهِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ، وَتَرْكِ مَا جَدَّدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، وَقَالَ: لَأَنْ يَأْتِيَنِي مِنَ الْيَمَنِ حِصَّةُ ذُرَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْوَضِيعَةِ، فَلَمَّا وَلِيَ يَزِيدُ بَعْدَ عُمَرَ أَمَرَ بَرَدِهَا، وَقَالَ لِعَامِلِهِ: خُذْهَا مِنْهُمْ وَلَوْ صَارُوا حَرَضًا، وَالسَّلَامُ. ذِكْرُ مَقْتَلِ شَوْذَبٍ الْخَارِجِيِّ قَدْ ذَكَرْنَا خُرُوجَهُ وَمُرَاسَلَتَهُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِمُنَاظَرَتِهِ، فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ أَحَبَّ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَى الْكُوفَةِ، أَنْ يَحْظَى عِنْدَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ يَأْمُرُهُ بِمُنَاجَزَةِ شَوْذَبٍ، وَاسْمُهُ بِسْطَامٌ، وَلَمْ يَرْجِعْ رَسُولَا شَوْذَبٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِ عُمَرَ. فَلَمَّا رَأَوْا مُحَمَّدًا يَسْتَعِدُّ لِلْحَرْبِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ شَوْذَبٌ: مَا أَعْجَلَكُمْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ! أَلَيْسَ قَدْ تَوَاعَدْنَا إِلَى أَنْ يَرْجِعَ الرَّسُولَانِ؟ فَأَرْسَلَ مُحَمَّدٌ: إِنَّهُ لَا يَسَعُنَا تَرْكُكُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَقَالَتِ الْخَوَارِجُ: مَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ هَذَا إِلَّا وَقَدْ مَاتَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ. فَاقْتَتَلُوا فَأُصِيبَ مِنَ الْخَوَارِجِ نَفَرٌ، وَقُتِلَ الْكَثِيرُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَانْهَزَمُوا، وَجُرِحُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ فِي اسْتِهِ، فَدَخْلَ الْكُوفَةَ، وَتَبِعَهُمُ الْخَوَارِجُ حَتَّى بَلَغُوا الْكُوفَةَ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مَكَانِهِمْ. وَأَقَامَ شَوْذَبٌ يَنْتَظِرُ صَاحِبَيْهِ، فَقَدِمَا عَلَيْهِ وَأَخْبَرَاهُ بِمَوْتِ عُمَرَ، وَوَجَّهَ يَزِيدُ مَنْ عِنْدَ تَمِيمِ بْنِ الْحُبَابِ فِي أَلْفَيْنِ قَدْ أَرْسَلَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ يَزِيدَ لَا يُفَارِقُهُمْ عَلَى مَا فَارَقَهُمْ عَلَيْهِ عُمَرُ، فَلَعَنُوهُ وَلَعَنُوا يَزِيدَ مَعَهُ وَحَارَبُوهُ، فَقَتَلُوهُ وَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ، وَلَجَأَ

بَعْضُهُمْ إِلَى الْكُوفَةِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى يَزِيدَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ نَجْدَةَ بْنَ الْحَكَمِ الْأَزْدِيَّ فِي جَمْعٍ، فَقَتَلُوهُ وَهَزَمُوا أَصْحَابَهُ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ الشَّحَّاجُ بْنُ وَدَاعٍ فِي أَلْفَيْنِ، فَقَتَلُوهُ وَهَزَمُوا أَصْحَابَهُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ نَفَرٌ، مِنْهُمْ هُدْبَةُ ابْنُ عَمِّ شَوْذَبٍ. فَقَالَ أَيُّوبُ بْنُ خَوْلِيٍّ يَرْثِيهِمْ: تَرَكْنَا تَمِيمًا فِي الْغُبَارِ مُلَحَّبًا ... تُبَكِّي عَلَيْهِ عِرْسُهُ وَقَرَائِبُهْ وَقَدْ أَسْلَمَتْ قَيْسٌ تَمِيمًا وَمَالِكًا ... كَمَا أَسْلَمَ الشَّحَّاجَ أَمْسِ أَقَارِبُهْ وَأَقْبَلَ مِنْ حَرَّانَ يَحْمِلُ رَايَةً ... يُغَالِبُ أَمْرَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَالِبُهْ فَيَا هُدْبُ لِلْهَيْجَا، وَيَا هُدْبُ لِلنَّدَى ... وَيَا هُدْبُ لِلْخَصْمِ الْأَلَدِّ يُحَارِبُهْ وَيَا هُدْبُ كَمْ مِنْ مُلْجِمٍ قَدْ أَجَبْتَهُ ... وَقَدْ أَسْلَمَتْهُ لِلرِّيَاحِ جُوَالِبُهْ وَكَانَ أَبُو شَيْبَانَ خَيْرَ مُقَاتِلٍ ... يُرَجَّى وَيَخْشَى حَرْبَهُ مَنْ يُحَارِبُهْ فَفَازَ وَلَاقَى اللَّهَ فِي الْخَيْرِ كُلِّهِ ... وَخَذَّمَهُ بِالسَّيْفِ فِي اللَّهِ ضَارِبُهْ تَزَوَّدَ مِنْ دُنْيَاهُ دِرْعًا وَمِغْفَرًا ... وَعَضْبًا حُسَامًا لَمْ تَخُنْهُ مَضَارِبُهْ وَأَجْرَدَ مَحْبُوكَ السَّرَاةِ كَأَنَّهُ ... إِذَا انْقَضَّ وَافِي الرِّيشِ حُجْنٌ مَخَالِبُهْ وَأَقَامَ الْخَوَارِجُ بِمَكَانِهِمْ حَتَّى دَخَلَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْكُوفَةَ، فَشَكَا إِلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ، مَكَانَ شَوْذَبٍ وَخَوَّفُوهُ مِنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَسْلَمَةُ سَعِيدَ بْنَ عَمْرٍو الْحَرَشِيَّ، وَكَانَ فَارِسًا، فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَتَاهُ وَهُوَ بِمَكَانِهِ، فَرَأَى شَوْذَبٌ وَأَصْحَابُهُ مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الشَّهَادَةَ فَقَدْ جَاءَتْهُ، وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ الدُّنْيَا فَقَدْ ذَهَبَتْ. فَكَسَرُوا أَغْمَادَ السُّيُوفِ وَحَمَلُوا فَكَشَفُوا سَعِيدًا وَأَصْحَابَهُ مِرَارًا، حَتَّى خَافَ سَعِيدٌ الْفَضِيحَةَ،

فَوَبَّخَ أَصْحَابَهُ وَقَالَ: مِنْ هَذِهِ الشِّرْذِمَةِ - لَا أَبَ لَكُمْ - تَفِرُّونَ! يَا أَهْلَ الشَّامِ يَوْمًا كَأَيَّامِكُمْ! فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَطَحَنُوهُمْ طَحْنًا، وَقَتَلُوا بِسْطَامًا، وَهُوَ شَوْذَبٌ، وَأَصْحَابَهُ. ذِكْرُ مَوْتِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَخُو عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَ الْجَزِيرَةَ وَأَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، وَغَزَا الرُّومَ وَأَهْلَ أَرْمِينِيَّةَ عِدَّةَ دَفَعَاتٍ، وَكَانَ شُجَاعًا قَوِيًّا، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَحْسُدُهُ لِذَلِكَ، فَلَمَّا انْتَظَمَتِ الْأُمُورُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ أَظْهَرَ مَا فِي نَفْسِهِ لَهُ، فَتَجَهَّزَ مُحَمَّدٌ لِيَسِيرَ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ، فَلَمَّا وَدَّعَ عَبْدَ الْمَلِكِ سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ مَسِيرِهِ، فَقَالَ وَأَنْشَدَ: وَإِنَّكَ لَا تَرَى طَرْدًا لِحُرٍّ ... كَإِلْصَاقٍ بِهِ بَعْضَ الْهَوَانِ فَلَوْ كُنَّا بِمَنْزِلَةٍ جَمِيعًا ... جَرَيْتُ وَأَنْتَ مُضْطَرِبُ الْعِنَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَتُقِيمَنَّ، فَوَاللَّهِ لَا رَأَيْتَ مِنِّي مَا تَكْرَهُ، وَصَلُحَ لَهُ، وَلَمَّا أَرَادَ الْوَلِيدُ عَزْلَهُ طَلَبَ مَنْ يَسُدُّ مَكَانَهُ، فَلَمْ يُقْدِمْ أَحَدٌ عَلَيْهِ إِلَّا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ. ذِكْرُ دُخُولِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ الْبَصْرَةَ وَخَلْعِهِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَرَبَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ مِنْ حَبْسِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ وَبُويِعَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَإِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ يَأْمُرُهُمَا بِالتَّحَرُّزِ مِنْ يَزِيدَ وَيُعَرِّفْهُمَا هَرَبَهُ، وَأَمَرَ عَدِيًّا أَنْ يَأْخُذَ مَنْ بِالْبَصْرَةِ مِنْ آلِ الْمُهَلَّبِ، فَأَخَذَهُمْ وَحَبَسَهُمْ، فِيهِمْ: الْمُفَضَّلُ، وَحَبِيبٌ، وَمَرْوَانُ بَنُو الْمُهَلَّبِ، وَأَقْبَلَ يَزِيدُ حَتَّى ارْتَفَعَ عَلَى الْقُطقُطَانَةِ، وَبَعَثَ عَبْدُ الْحَمِيدِ جُنْدًا إِلَيْهِمْ، عَلَيْهِمْ هِشَامُ بْنُ مُسَاحِقٍ الْعَامِرِيُّ، عَامِرُ بَنِي لُؤَيٍّ، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا الْعُذَيْبِ، وَمَرَّ يَزِيدُ قَرِيبًا مِنْهُمْ فَلَمْ يُقْدِمُوا عَلَيْهِ. وَمَضَى يَزِيدُ نَحْوَ الْبَصْرَةِ، وَقَدْ جَمَعَ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ وَخَنْدَقَ عَلَيْهَا، وَبَعَثَ عَلَى خَيْلِ الْبَصْرَةِ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ الثَّقَفِيِّ، وَجَاءَ يَزِيدُ فِي أَصْحَابِهِ

الَّذِينَ مَعَهُ، فَالتَّقَاهُ أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فِيمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ وَمَوَالِيهِ، فَبَعَثَ عَدِيٌّ عَلَى كُلِّ خُمُسٍ مِنْ أَخْمَاسِ الْبَصْرَةِ رَجُلًا، فَبَعَثَ عَلَى الْأَزْدِ: الْمُغِيرَةَ بْنَ زِيَادِ بْنِ عَمْرٍو الْعَتَكِيَّ، وَبَعَثَ عَلَى تَمِيمٍ: مُحْرِزَ بْنَ حُمْرَانَ السَّعْدِيَّ، وَعَلَى خُمُسِ بَكْرٍ: مُفَرِّجَ بْنَ شَيْبَانَ بْنِ مَالِكِ بْنِ مِسْمَعٍ، وَعَلَى عَبْدِ الْقَيْسِ [مَالِكَ بْنَ] الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ، وَعَلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ: عَبْدَ الْأَعْلَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، وَأَهْلُ الْعَالِيَةِ قُرَيْشٌ، وَكِنَانَةُ وَالْأَزْدُ، وَبَجِيلَةُ، وَخَثْعَمُ، وَقَيْسُ عَيْلَانَ كُلُّهَا، وَمُزَيْنَةُ، وَأَهْلُ الْعَالِيَةِ وَالْكُوفَةِ يُقَالُ لَهُمْ رُبُعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. فَأَقْبَلَ يَزِيدُ لَا يَمُرُّ بِخَيْلٍ (مِنْ خَيْلِهِمْ، وَلَا قَبِيلَةٍ مِنْ قَبَائِلِهِمْ إِلَّا تَنَحَّوْا لَهُ عَنْ طَرِيقِهِ، وَأَقْبَلَ يَزِيدُ حَتَّى نَزَلَ دَارَهُ) ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَدِيٍّ: أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ إِخْوَتِي، وَإِنِّي أُصَالِحُكَ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَأُخَلِّيكَ وَإِيَّاهَا حَتَّى آخُذَ لِنَفْسِي مِنْ يَزِيدَ مَا أُحِبُّ. فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، فَسَارَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنُ الْمُهَلَّبِ إِلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَبَعَثَ مَعَهُ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ خَالِدًا الْقَسْرِيَّ، وَعَمْرَو بْنَ يَزِيدٍ الْحَكَمِيَّ بِأَمَانِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ وَأَهْلِهِ. وَأَخَذَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ يُعْطِي مَنْ أَتَاهُ قِطَعَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَمَالَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَكَانَ عَدِيٌّ لَا يُعْطِي إِلَّا دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ وَيَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أُعْطِيَكُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ دِرْهَمًا إِلَّا بِأَمْرِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلَكِنْ تَبَلَّغُوا بِهَذِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْفَرَزْدَقُ: أَظُنُّ رِجَالَ الدِّرْهَمَيْنِ تَقُودُهُمْ ... إِلَى الْمَوْتِ آجَالٌ لَهُمْ وَمُصَارِعُ وَأَكْيَسُهُمْ مَنْ قَرَّ فِي قَعْرِ بَيْتِهِ ... وَأَيْقَنَ أَنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ وَاقِعُ وَخَرَجَتْ بَنُو عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ مِنْ أَصْحَابِ عَدِيٍّ فَنَزَلُوا الْمِرْبَدَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ دَارِسٌ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَهَزَمَهُمْ.

وَخَرَجَ يَزِيدُ حِينَ اجْتَمَعَ النَّاسُ لَهُ حَتَّى نَزَلَ جَبَّانَةَ بَنِي يَشْكُرَ، وَهِيَ النِّصْفُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَصْرِ، فَلَقِيَهُ قَيْسٌ وَتَمِيمٌ وَأَهْلُ الشَّامِ وَاقْتَتَلُوا هُنَيْهَةَ، وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ يَزِيدَ فَانْهَزَمُوا، وَتَبِعَهُمُ ابْنُ الْمُهَلَّبِ حَتَّى دَنَا مِنَ الْقَصْرِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَدِيٌّ بِنَفْسِهِ، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مُوسَى بْنُ الْوَجِيهِ الْحِمْيَرِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ الْمُصَرِّفِ الْأَوْدِيُّ، وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ الْحَجَّاجِ وَأَشْرَافِ أَهْلِ الشَّامِ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ عَدِيٍّ، وَسَمِعَ إِخْوَةُ يَزِيدَ، وَهُمْ فِي مَحْبِسِ عَدِيٍّ، الْأَصْوَاتَ تَدْنُو وَالنُّشَّابَ تَقَعُ فِي الْقَصْرِ، وَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنِّي أَرَى أَنَّ يَزِيدَ قَدْ ظَهَرَ، وَلَا آمَنُ مَنْ مَعَ عَدِيٍّ مِنْ مُضَرَ وَ [أَهْلِ] الشَّامِ أَنْ يَأْتُونَا فَيَقْتُلُونَا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْنَا يَزِيدُ، فَأَغْلِقُوا الْبَابَ وَأَلْقُوا عَلَيْهِ الرَّحْلَ. فَفَعَلُوا، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ مَوْلَى بَنِي عَامِرٍ، وَكَانَ عَلَى حَرَسِ عَدِيٍّ، فَجَاءَ يَشْتَدُّ إِلَى الْبَابِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَأَخَذُوا يُعَالِجُونَ الْبَابَ، فَلَمْ يُطِيقُوا قَلْعَهُ، وَأَعْجَلَهُمُ النَّاسُ فَخَلَّوْا عَنْهُمْ. وَجَاءَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ حَتَّى نَزَلَ دَارًا لِسُلَيْمَانَ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَبِيهِ، إِلَى جَنْبِ الْقَصْرِ، وَأَتَى بِالسَّلَالِيمِ وَفَتَحَ الْقَصْرَ، وَأُتِيَ بِعَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ، فَحَبَسَهُ، وَقَالَ لَهُ: لَوْلَا حَبْسُكَ إِخْوَتِي لَمَا حَبَسْتُكَ. فَلَمَّا ظَهَرَ يَزِيدُ هَرَبَ رُءُوسُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْ تَمِيمٍ، وَقَيْسٍ، وَمَالِكِ بْنِ الْمُنْذِرِ، فَلَحِقُوا بِالْكُوفَةِ، وَلَحِقَ بَعْضُهُمْ بِالشَّامِ، وَخَرَجَ الْمُغِيرَةُ بْنُ زِيَادِ (بْنِ عَمْرٍو الْعَتَكِيُّ نَحْوَ الشَّامِ، فَلَقِيَ خَالِدًا الْقَسْرِيَّ، وَعَمْرَو بْنَ يَزِيدَ الْحَكَمِيَّ، وَمَعَهُمَا حُمَيْدَ بْنَ) عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمُهَلَّبِ قَدْ أَقْبَلُوا بِأَمَانِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَكُلِّ شَيْءٍ أَرَادَهُ، فَسَأَلَاهُ عَنِ الْخَبَرِ، فَخَلَا بِهِمَا سِرًّا مِنْ حُمَيْدٍ، وَأَخْبَرَهُمَا وَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدَانِ؟ فَأَخْبَرَاهُ بِأَمَانِ يَزِيدَ. فَقَالَ: إِنْ يَزِيدَ قَدْ ظَهَرَ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَقَتَلَ الْقَتْلَى وَحَبَسَ عَدِيًّا، فَارْجِعَا. فَرَجِعَا، وَأَخَذَا حُمَيْدًا مَعَهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا حُمَيْدُ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهُ أَنَّ تُخَالِفَا مَا بُعِثْتُمَا بِهِ، فَإِنَّ ابْنَ الْمُهَلَّبِ

قَابِلٌ مِنْكُمَا، وَإِنَّ هَذَا وَأَهْلَ بَيْتِهِ لَمْ يَزَالُوا لَنَا أَعْدَاءً، فَلَا تَسْمَعَا مَقَالَتَهُ. فَلَمْ يَقْبَلَا قَوْلَهُ وَرَجَعَا بِهِ. وَأَخَذَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِالْكُوفَةِ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَحَمَّالَ بْنَ زَحْرٍ، وَلَمْ يَكُونَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ، فَأَوْثَقَهُمَا وَسَيَّرَهُمَا إِلَى الشَّامِ، فَحَبَسَهُمَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمْ يُفَارِقَا السِّجْنَ حَتَّى هَلَكَا فِيهِ، وَأَرْسَلَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى الْكُوفَةِ شَيْئًا عَلَى أَهْلِهَا وَيُمَنِّيهِمُ الزِّيَادَةَ. وَجَهَّزَ أَخَاهُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَابْنَ أَخِيهِ الْعَبَّاسَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي سَبْعِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ، وَقِيلَ: كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا، فَسَارُوا إِلَى الْعِرَاقِ. وَكَانَ مَسْلَمَةُ يَعِيبُ الْعَبَّاسَ وَيَذُمُّهُ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْعَبَّاسُ: أَلَا نَفْسِي فِدَاكَ أَبَا سَعِيدٍ ... وَتَقْصُرُ عَنْ مُلَاحَاتِي وَعَذْلِي فَلَوْلَا أَنَّ أَصْلَكَ حِينَ يُنْمَى ... وَفَرْعَكَ مُنْتَهَى فَرْعِي وَأَصْلِي وَأَنِّي إِنْ رَمَيْتُكَ هُضْتُ عَظْمِي ... وَنَالَتْنِي إِذَا نَالَتْكَ نَبْلِي لَقَدْ أَنْكَرْتَنِي إِنْكَارَ خَوْفٍ ... يُقَصِّرُ مِنْكَ عَنْ شَتْمِي وَأَكْلِي كَقَوْلِ الْمَرْءِ عَمْرٌو فِي الْقَوَافِي ... أُرِيدُ حَيَاتَهُ وَيُرِيدُ قَتْلِي قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ لِلْعَبَّاسِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا تَمَثَّلَ بِهَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا، وَقَدِمَا الْكُوفَةَ وَنَزَلَا بِالنُّخَيْلَةِ، فَقَالَ مَسْلَمَةُ: لَيْتَ هَذَا الْمَزُونِيَّ، يَعْنِي ابْنَ الْمُهَلَّبِ، لَا كَلَّفَنَا اتِّبَاعَهُ فِي هَذَا الْبَرْدِ. فَقَالَ حَيَّانُ النَّبَطِيُّ مَوْلًى لِشَيْبَانَ: أَنَا أَضْمَنُ لَكَ أَنَّهُ لَا يَبْرَهُ الْأَرْصَةَ، يُرِيدُ أَضْمَنُ أَنَّهُ لَا يَبْرَحُ الْعَرْصَةَ. فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: لَا أُمَّ لَكَ أَنْتَ بِالنَّبَطِيَّةِ أَبْصَرُ مِنْكَ بِهَذَا! فَقَالَ حَيَّانُ: أَنَبَطَ اللَّهُ وَجْهَكَ أَسْقَرَ أَهَمَرَ لَيْسَ أَلَيْهِ طَابَئُ الْخِلَافَةِ، يُرِيدُ: أَشْقَرَ أَحْمَرَ لَيْسَ عَلَيْهِ طَابَعُ

الْخِلَافَةِ. قَالَ مَسْلَمَةُ: يَا أَبَا سُفْيَانَ لَا يَهُولَنَّكَ كَلَامُ الْعَبَّاسِ. فَقَالَ: إِنَّهُ أَهْمَقُ، يُرِيدُ أَحْمَقَ. وَلَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وُصُولَ مَسْلَمَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ رَاعَهُمْ ذَلِكَ، فَبَلَغَ ابْنَ الْمُهَلَّبِ، فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ أَهْلَ الْعَسْكَرِ وَخَوْفَهُمْ، يَقُولُونَ: جَاءَ أَهْلُ الشَّامِ وَمَسْلَمَةُ، وَمَا أَهْلُ الشَّامِ؟ هَلْ هُمْ إِلَّا تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، سَبْعَةٌ مِنْهَا إِلَيَّ وَسَيْفَانِ عَلَيَّ؟ وَمَا مَسْلَمَةُ إِلَّا جَرَادَةٌ صَفْرَاءُ، أَتَاكُمْ فِي بَرَابِرَةٍ، وَجَرَامِقَةٍ، وَجَرَاجِمَةٍ، وَأَنْبَاطٍ، وَأَبْنَاءِ فَلَّاحِينَ وَأَوْبَاشٍ، وَأَخْلَاطٍ، أَوَلَيْسُوا بَشَرًا يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ؟ أَعِيرُونِي سَوَاعِدَكُمْ تُصَفِّقُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ وَقَدْ وَلَّوُا الْأَدْبَارَ. وَاسْتَوْسَقُوا أَهْلُ الْبَصْرَةِ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَبَعَثَ عُمَّالَهُ عَلَى الْأَهْوَازِ وَفَارِسَ وَكَرْمَانَ، وَبَعَثَ إِلَى خُرَاسَانَ مُدْرِكَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَعَلَيْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نُعَيْمٍ، فَقَالَ لِأَهْلِهَا: هَذَا مُدْرِكٌ قَدْ أَتَاكُمْ لِيُلْقِيَ بَيْنَكُمُ الْحَرْبَ وَأَنْتُمْ فِي بِلَادِ عَافِيَةٍ وَطَاعَةٍ، فَسَارَ بَنُو تَمِيمٍ لِيَمْنَعُوهُ، وَبَلَغَ الْأَزْدَ بِخُرَاسَانَ ذَلِكَ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ نَحْوُ أَلْفَيْ فَارِسٍ، فَلَقُوا مُدْرِكًا عَلَى رَأْسِ الْمَفَازَةِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّكَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْنَا، وَقَدْ خَرَجَ أَخُوكَ، فَإِنْ يَظْهَرْ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لَنَا، وَنَحْنُ أَسْرَعُ النَّاسِ إِلَيْكُمْ وَأَحَقُّهُ بِذَلِكَ، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى، فَمَا لَكَ فِي أَنْ تُغَشِّيَنَا الْبَلَاءَ رَاحَةً. فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ، فَلَمَّا اسْتَجْمَعَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ لِيَزِيدَ خَطْبَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ جِهَادَ أَهْلِ الشَّامِ أَعْظَمُ ثَوَابًا مِنْ جِهَادِ التُّرْكِ وَالدَّيْلَمِ. وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَسْمَعُ، فَرَفَعَ صَوْتَهُ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْنَاكَ وَالِيًا وَمُولًى عَلَيْكَ، فَمَا يَنْبَغِي لَكَ ذَلِكَ. وَوَثَبَ أَصْحَابُهُ فَأَخَذُوا بِفَمِهِ وَأَجْلَسُوهُ، ثُمَّ خَرَجُوا مِنَ الْمَسْجِدِ وَعَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ النَّضْرُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَقُولُ: يَا عِبَادَ اللَّهِ مَا تَنْقِمُونَ مِنْ أَنْ تُجِيبُوا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا ذَلِكَ [وَلَا رَأَيْتُمُوهُ] (مُنْذُ وُلِدْتُمْ إِلَّا هَذِهِ الْأَيَّامَ) [مِنْ إِمَارَةِ] عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. فَقَالَ الْحَسَنُ: وَالنَّضْرُ أَيْضًا قَدْ شَهِدَ. وَمَرَّ الْحَسَنُ بِالنَّاسِ وَقَدْ نَصَبُوا الرَّايَاتِ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَ يَزِيدَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: تَدْعُونَا إِلَى سُنَّةِ الْعُمَرَيْنِ. فَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ يَزِيدُ بِالْأَمْسِ يَضْرِبُ أَعْنَاقَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَرَوْنَ، ثُمَّ يُرْسِلُهَا إِلَى بَنِي مَرْوَانَ يُرِيدُ رِضَاهُمْ، فَلَمَّا غَضِبَ نَصَبَ قَصَبًا، ثُمَّ وَضَعَ عَلَيْهَا خِرَقًا، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي قَدْ خَالَفْتُهُمْ فَخَالِفُوهُمْ. قَالَ هَؤُلَاءِ: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي

أَعْدُوهُمْ إِلَى سُنَّةِ الْعُمَرَيْنِ، وَإِنَّ مِنْ سُنَّةِ الْعُمَرَيْنِ أَنْ يُوضَعَ فِي رِجْلِهِ قَيْدٌ، ثُمَّ رُدَّ إِلَى مَحْبِسِهِ. فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: لَكَأَنَّكَ رَاضٍ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ؟ فَقَالَ: أَنَا رَاضٍ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ؟ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَبَرَّحَهُمْ! أَلَيْسَ هُمُ الَّذِينَ أَحَلُّوا حَرَمَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقْتُلُونَ أَهْلَهُ ثَلَاثًا؟ قَدْ أَبَاحُوهَا لِأَنْبَاطِهِمْ وَأَقْبَاطِهِمْ، يَحْمِلُونَ الْحَرَائِرَ ذَوَاتِ الدِّينِ، لَا يَنْتَهُونَ عَنِ انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى مَالِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَهَدَمُوا الْكَعْبَةَ، وَأَوْقَدُوا النِّيرَانَ بَيْنَ أَحْجَارِهَا وَأَسْتَارِهَا، عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَسُوءُ الدَّارِ. ثُمَّ إِنَّ يَزِيدَ سَارَ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَخَاهُ مَرْوَانَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَأَتَى وَاسِطًا، وَكَانَ قَدِ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ حِينَ تَوَجَّهَ نَحْوَ وَاسِطَ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ حَبِيبٌ وَغَيْرُهُ: نَرَى أَنْ نَخْرُجَ وَنَنْزِلَ بِفَارِسَ، فَنَأْخُذَ بِالشِّعَابِ وَالْعِقَابِ، وَنَدْنُو مِنْ خُرَاسَانَ، وَنُطَاوِلُ أَهْلَ الشَّامِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْجِبَالِ يَأْتُونَ إِلَيْكَ، وَفِي يَدِكَ الْقِلَاعُ وَالْحُصُونُ. فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا بِرَأْيٍ، تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُونِي طَائِرًا عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ. فَقَالَ حَبِيبٌ: إِنَّ الرَّأْيَ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ الْأَمْرِ قَدْ فَاتَ، قَدْ أَمَرْتُكَ حَيْثُ ظَهَرْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ أَنْ تُوَجِّهَ خَيْلًا عَلَيْهَا بَعْضُ أَهْلِكَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَإِنَّمَا بِهَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، مَرَرْتَ بِهِ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا فَعَجَزَ عَنْكَ، فَهُوَ عَنْ خَيْلِكَ أَعْجَزُ، فَسَبَقَ إِلَيْهَا أَهْلُ الشَّامِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِهَا يَرَوْنَ رَأْيَكَ، وَلَأَنْ تَلِيَ عَلَيْهِمْ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَلِيَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الشَّامِ، (فَلَمْ تُطِعْنِي، وَأَنَا أُشِيرُ الْآنَ بِرَأْيٍ، سَرِّحْ مَعَ بَعْضِ أَهْلِكَ خَيْلًا كَثِيرَةً مِنْ خَيْلِكَ، فَتَأْتِيَ الْجَزِيرَةَ وَتُبَادِرَ إِلَيْهَا حَتَّى يَنْزِلُوا حِصْنًا مِنْ حُصُونِهِمْ، وَتَسِيرَ فِي أَثَرِهِمْ، فَإِذَا أَقْبَلَ أَهْلُ الشَّامِ) يُرِيدُونَكَ، لَمْ يَدَعُوَا جُنْدَكَ بِالْجَزِيرَةِ يُقْبِلُونَ إِلَيْكَ فَيُقِيمُونَ عَلَيْهِمْ، فَيَحْبِسُونَهُمْ عَنْكَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ، وَيَأْتِيَكَ مَنْ بِالْمَوْصِلِ مِنْ قَوْمِكَ، وَيَنْفَضَّ إِلَيْكَ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَأَهْلُ الثُّغُورِ، وَتَقَاتِلُهُمْ فِي أَرْضٍ رَخِيصَةِ السِّعْرِ، وَقَدْ جَعَلْتَ الْعِرَاقَ كُلَّهُ وَرَاءَ ظَهْرِكَ. قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ أُقَطِّعَ جَيْشِي. فَلَمَّا نَزَلَ وَاسِطًا أَقَامَ بِهَا أَيَّامًا يَسِيرَةً، وَخَرَجَتِ السَّنَةُ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ حَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ عَامِلَ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَعَلَى قَضَائِهَا الشَّعْبِيُّ، وَكَانَتِ الْبَصْرَةُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهَا ابْنُ الْمُهَلَّبِ. وَكَانَ عَلَى خُرَاسَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نُعَيْمٍ. وَفِيهَا عُزِلَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ، وَاسْتُعْمِلَ مَكَانَهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ كَاتِبُ الْحَجَّاجِ، فَبَقِيَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ قُتِلَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَقِيلَ سَبْعٍ وَمِائَةٍ، وَلَهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَمَّارُ بْنُ جَبْرٍ، وَقِيلَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو صَالِحٍ ذَكْوَانُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَامِرُ بْنُ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيُّ. وَأَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ، وَقِيلَ لَهُ الزَّيَّاتُ أَيْضًا لِأَنَّهُ كَانَ يَبِيعُهُمَا. وَأَبُو عَمْرٍو سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَكَانَ عُمُرُهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، وَلَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ. وَفِي خِلَافَةِ عُمَرَ تُوُفِّيَ عُبَيْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ أَبُو الْقَاسِمِ الْعَامِرِيُّ.

ثم دخلت سنة اثنتين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَمِائَةٍ] 102 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَمِائَةٍ ذِكْرُ مَقْتَلِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ ثُمَّ إِنَّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ سَارَ عَنْ وَاسِطَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ وَجَعَلَ عِنْدَهُ بَيْتَ الْمَالِ وَالْأُسَرَاءِ، وَسَارَ عَلَى فَمِ النِّيلِ حَتَّى نَزَلَ الْعَقْرَ، وَقَدَّمَ أَخَاهُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ الْمُهَلَّبِ نَحْوَ الْكُوفَةِ، فَاسْتَقْبَلَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بُسُورًا، فَاقْتَتَلُوا، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَمْلَةً كَشَفُوهُمْ فِيهَا، وَمَعَهُمْ نَاسٌ مِنْ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَنَادَوْا: يَا أَهْلَ الشَّامِ! اللَّهَ اللَّهَ أَنْ تُسْلِمُونَا! وَقَدِ اضْطَرَّهُمْ أَصْحَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى النَّهْرِ. فَقَالَ أَهْلُ الشَّامِ: لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ، إِنَّ لَنَا جَوْلَةً فِي أَوَّلِ الْقِتَالِ، ثُمَّ كَرُّوا عَلَيْهِمْ فَانْكَشَفَ أَصْحَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَانْهَزَمُوا وَعَادُوا إِلَى يَزِيدَ. وَأَقْبَلَ مَسْلَمَةُ يَسِيرُ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ إِلَى الْأَنْبَارِ، وَعَقَدَ عَلَيْهَا الْجِسْرَ، فَعَبَرَ وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى ابْنِ الْمُهَلَّبِ، وَأَتَى إِلَى ابْنِ الْمُهَلَّبِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ كَثِيرٌ، وَمِنَ الثُّغُورِ، فَبَعَثَ عَلَى مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَرُبُعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سُفْيَانَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْمُغَفَّلِ الْأَزْدِيَّ، وَعَلَى رُبُعِ مَذْحِجٍ وَأَسَدٍ النُّعْمَانَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ، وَعَلَى كِنْدَةَ وَرَبِيعَةَ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَعَلَى تَمِيمٍ وَهَمْدَانَ حَنْظَلَةَ بْنَ عَتَّابِ بْنِ وَرْقَاءَ التَّمِيمِيَّ، وَجَمَعَهُمْ جَمِيعًا [مَعَ] الْمُفَضَّلِ بْنِ الْمُهَلَّبِ وَأَحْصَى دِيوَانَ ابْنِ الْمُهَلَّبِ مِائَةَ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، فَقَالَ: لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِهِمْ مَنْ بِخُرَاسَانَ مِنْ قَوْمِي، ثُمَّ قَامَ فِي أَصْحَابِهِ فَحَرَّضَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ. وَكَانَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ عَسْكَرَ بِالنُّخَيْلَةِ، وَشَقَّ الْمِيَاهَ، وَجَعَلَ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ الْأَرْصَادَ لِئَلَّا يَخْرُجُوا إِلَى ابْنِ الْمُهَلَّبِ، وَبَعَثَ بَعْثًا إِلَى مَسْلَمَةَ مَعَ سَبْرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ، وَبَعَثَ مَسْلَمَةُ فَعَزَلَ عَبْدَ الْحَمِيدِ عَنِ الْكُوفَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَهُوَ ذُو الشَّامَةِ. فَجَمَعَ يَزِيدُ رُءُوسَ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَجْمَعَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فَأَبْعَثُهُمْ مَعَ

أَخِي مُحَمَّدِ بْنِ الْمُهَلَّبِ حَتَّى يُبَيِّتُوا مَسْلَمَةَ، وَيَحْمِلُوا مَعَهُمُ الْبَرَاذِعَ وَالْأُكُفَ وَالزُّبْلَ لِدَفْنِ خَنْدَقِهِمْ، فَيُقَاتِلُهُمْ عَلَى خَنْدَقِهِمْ بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِ، وَأُمِدَّهُ بِالرِّجَالِ حَتَّى أُصْبِحَ، فَإِذَا أَصْبَحْتُ نَهَضْتُ إِلَيْهِمْ فِي النَّاسِ فَأُنَاجِزُهُمْ، فَإِنِّي أَرْجُو عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَنْصُرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ السَّمَيْدَعُ: إِنَّا قَدْ دَعَوْنَاهُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَبِلُوا هَذَا مِنَّا، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَمْكُرَ وَلَا نَغْدُرَ حَتَّى يَرُدُّوا عَلَيْنَا [مَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَابِلُوهُ مِنَّا] . وَقَالَ أَبُو رُؤْبَةَ، وَهُوَ رَأْسُ الطَّائِفَةِ الْمُرْجِئَةِ، وَمَعَهُ أَصْحَابٌ لَهُ: صَدَقَ، هَكَذَا يَنْبَغِي. فَقَالَ يَزِيدُ: وَيْحَكُمُ! أَتُصَدِّقُونَ بَنِي أُمَيَّةَ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ ضَيَّعُوا ذَلِكَ مُنْذُ كَانُوا؟ إِنَّهُمْ يُخَادِعُونَكُمْ لِيَمْكُرُوا بِكُمْ فَلَا يَسْبِقُوكُمْ إِلَيْهِ، إِنِّي لَقِيتُ بَنِي مَرْوَانَ، فَمَا لَقِيتُ مِنْهُمْ أَمْكَرَ وَلَا (أَبْعَدَ غَدْرًا) مِنْ هَذِهِ الْجَرَادَةِ الصَّفْرَاءِ، يَعْنِي مَسْلَمَةَ. قَالُوا: لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَرُدُّوا عَلَيْنَا مَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَابِلُوهُ مِنَّا. وَكَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بِالْبَصْرَةِ يَحُثُّ النَّاسَ عَلَى حَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُثَبِّطُهُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مَرْوَانَ، قَامَ فِي النَّاسِ يَأْمُرُهُمْ بِالْجِدِّ وَالِاحْتِشَادِ، ثُمَّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ هَذَا الشَّيْخَ الضَّالَّ الْمُرَائِيَ، وَلَمْ يُسَمِّهِ، يُثَبِّطُ النَّاسَ، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ جَارَهُ نَزَعَ مِنْ خُصِّ دَارِهِ قَصَبَةً لَظَلَّ يَرْعُفُ أَنْفُهُ! وَايْمُ اللَّهِ لَيَكُفَّنَّ عَنْ ذِكْرِنَا وَعَنْ جَمْعِهِ إِلَيْهِ، سُقَّاطَ الْأُبُلَّةِ وَعُلُوجَ فُرَاتِ الْبَصْرَةِ، أَوْ لَأُنْحِيَنَّ عَلَيْهِ مِبْرَدًا خَشِنًا. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْحَسَنَ، قَالَ: وَاللَّهِ [مَا أَكْرَهُ] أَنْ يُكْرِمَنِي اللَّهُ بِهَوَانِهِ. فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: لَوْ أَرَادَكَ ثُمَّ شِئْتَ لَمَنَعْنَاكَ. فَقَالَ لَهُمْ: فَقَدْ خَالَفْتُكُمْ إِذًا إِلَى مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، آمُرُكُمْ أَنْ لَا يَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا مَعَ غَيْرِي، وَآمُرُكُمْ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا دُونِي! فَبَلَغَ ذَلِكَ مَرْوَانَ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ وَطَلَبَهُمْ وَتَفَرَّقُوا، وَكَفَّ عَنِ الْحَسَنِ. وَكَانَ اجْتِمَاعُ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ وَمَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ صَفَرٍ بَعَثَ مَسْلَمَةُ إِلَى الْوَضَّاحِ أَنْ يَخْرُجَ بِالسُّفُنِ حَتَّى يَحْرِقَ الْجِسْرَ، فَفَعَلَ، وَخَرَجَ مَسْلَمَةُ، فَعَبَّأَ جُنُودَ أَهْلِ الشَّامِ، ثُمَّ قَرُبَ مِنَ ابْنِ الْمُهَلَّبِ وَجَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ جَبَلَةَ بْنَ مَخْرَمَةَ الْكِنْدِيَّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ الْهُذَيْلَ بْنَ زُفَرَ بْنَ الْحَارِثِ الْكِلَابِيَّ، وَجَعَلَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى مَيْمَنَتِهِ سَيْفَ بْنَ هَانِئٍ الْهَمْدَانِيَّ، وَعَلَى

مَيْسَرَتِهِ سُوِيدَ بْنَ الْقَعْقَاعِ التَّمِيمِيَّ، وَكَانَ مَسْلَمَةُ عَلَى النَّاسِ. وَخَرَجَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَقَدْ جَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ حَبِيبَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ الْمُفَضَّلَ بْنَ الْمُهَلَّبِ. فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَدَعَا إِلَى الْمُبَارَزَةِ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، فَضَرَبَهُ مُحَمَّدٌ، فَاتَّقَاهُ الرَّجُلُ بِيَدِهِ وَعَلَى كَفِّهِ كَفٌّ مِنْ حَدِيدٍ، فَضَرَبَهُ مُحَمَّدٌ فَقَطَعَ الْكَفَّ الْحَدِيدَ، وَأَسْرَعَ السَّيْفُ فِي كَفِّهِ وَاعْتَنَقَ فَرَسَهُ فَانْهَزَمَ. فَلَمَّا دِنَّا الْوَضَّاحُ مِنَ الْجِسْرِ أَلْهَبَ فِيهِ النَّارَ، فَسَطَعَ دُخَانُهُ، وَقَدْ أَقْبَلَ النَّاسُ، وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ، وَلَمْ يَشْتَدِ الْقِتَالُ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ الدُّخَانَ، وَقِيلَ لَهُمْ أُحْرِقَ الْجِسْرُ، انْهَزَمُوا، فَقِيلَ لِيَزِيدَ: قَدِ انْهَزَمَ النَّاسُ. فَقَالَ: مِمَّ انْهَزَمُوا؟ هَلْ كَانَ قِتَالٌ يُنْهَزَمُ مِنْ مِثْلِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ قَالُوا أُحْرِقَ الْجِسْرُ فَلَمْ يَثْبُتْ أَحَدٌ. فَقَالَ: قَبَّحَهُمُ اللَّهُ! بَقٌّ دُخِّنَ عَلَيْهِ فَطَارَ! ثُمَّ خَرَجَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالَ: اضْرِبُوا وُجُوهَ الْمُنْهَزِمِينَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِمْ حَتَّى كَثُرُوا عَلَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَهُ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، فَقَالَ: دَعَوْهُمْ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَجْمَعَنِي وَإِيَّاهُمْ مَكَانٌ أَبَدًا، دَعُوهُمْ يَرْحَمْهُمُ اللَّهُ، غَنَمٌ عَدَا فِي نَوَاحِيهَا الذِّئْبُ! وَكَانَ يَزِيدُ لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالْفِرَارِ، وَكَانَ قَدْ أَتَاهُ يَزِيدُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَالِدِ مَرْوَانَ نَسَبٌ، وَهُوَ بِوَاسِطَ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ بَنِي مَرْوَانَ قَدْ بَادَ مُلْكُهُمْ، فَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَشْعُرْ بِذَلِكَ فَاشْعُرْ. فَقَالَ: مَا شَعَرْتُ، فَقَالَ ابْنُ الْحَكَمِ: فَعِشْ مَلِكًا أَوْ مُتْ كَرِيمًا فَإِنْ تَمُتْ ... وَسَيْفُكَ مَشْهُورٌ بِكَفِّكِ تُعْذَرُ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَعَسَى. فَلَمَّا رَأَى يَزِيدُ انْهِزَامَ أَصْحَابِهِ، قَالَ: يَا سَمَيْدَعُ أَرَأْيِي أَجْوَدُ أَمْ رَأْيُكَ؟ أَلَمْ أُعْلِمْكَ مَا يُرِيدُ الْقَوْمُ؟ قَالَ: بَلَى، فَنَزَلَ سَمَيْدَعُ وَنَزَلَ يَزِيدُ فِي أَصْحَابِهِمَا. وَقِيلَ: كَانَ عَلَى فَرَسٍ أَشْهَبَ فَأَتَاهُ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ أَخَاكَ حَبِيبًا قَدْ قُتِلَ. فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُ، قَدْ كُنْتُ وَاللَّهِ أَبْغَضُ الْحَيَاةَ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ، وَقَدِ ازْدَدْتُ لَهَا بُغْضًا، امْضُوا قُدُمًا. فَعَلِمُوا أَنَّهُ قَدِ اسْتَقْتَلَ، فَتَسَلَّلَ عَنْهُ مَنْ يَكْرَهُ الْقِتَالَ، وَبَقِيَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ حَسَنَةٌ وَهُوَ يَتَقَدَّمُ، فَكُلَّمَا مَرَّ بِخَيْلٍ كَشَفِهَا، أَوْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَدَلُوا عَنْهُ، وَأَقْبَلَ نَحْوَ مَسْلَمَةَ لَا يُرِيدُ غَيْرَهُ. فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَدْنَى مَسْلَمَةُ فَرَسَهُ لِيَرْكَبَ، فَعَطَفَ عَلَيْهِ خُيُولُ أَهْلِ الشَّامِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، فَقُتِلَ يَزِيدُ وَالسَّمَيْدَعُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ كَلْبٍ يُقَالُ لَهُ: الْقَحْلُ بْنُ عَيَّاشٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى يَزِيدَ، قَالَ: هَذَا وَاللَّهِ

يَزِيدُ! وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّهُ أَوْ لَيَقْتُلَنِّي! فَمَنْ يَحْمِلُ مَعِي يَكْفِينِي أَصْحَابَهُ، حَتَّى أَصِلَ إِلَيْهِ؟ فَحَمَلَ مَعَهُ نَاسٌ، فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً، وَانْفَرَجَ الْفَرِيقَانِ عَنْ يَزِيدَ قَتِيلًا، وَعَنِ الْقَحْلِ بِآخِرِ رَمَقِهِ، فَأَوْمَأَ إِلَى أَصْحَابِهِ يُرِيهِمْ مَكَانَ يَزِيدَ، وَأَنَّهُ هُوَ قَاتِلُهُ وَأَنَّ يَزِيدَ قَتَلَهُ. وَأَتَى بِرَأْسِ يَزِيدَ مَوْلًى لِبَنِي مُرَّةَ، فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ قَتَلْتَهُ؟ قَالَ: لَا، فَلَمَّا أَتَى مَسْلَمَةَ سَيَّرَهُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ. وَقِيلَ: بَلْ قَتَلَهُ الْهُذَيْلُ بْنُ زُفَرَ بْنِ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ، وَلَمْ يَنْزِلْ يَأْخُذُ رَأْسَهُ أَنَفَةً. وَلَمَّا قُتِلَ يَزِيدُ كَانَ الْمُفَضَّلُ بْنُ الْمُهَلَّبِ يُقَاتِلُ أَهْلَ الشَّامِ، وَمَا يَدْرِي بِقَتْلِ يَزِيدَ وَلَا بِهَزِيمَةِ النَّاسِ، وَكَانَ كُلَّمَا حَمَلَ عَلَى النَّاسِ انْكَشَفُوا، ثُمَّ يَحْمِلُ حَتَّى يُخَالِطَهُمْ، وَكَانَ مَعَهُ عَامِرُ بْنُ الْعُمَيْثَلِ الْأَزْدِيُّ يَضْرِبُ بِسَيْفِهِ وَيَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ الْمَوْلُودِ ... أَنِّي بِنَصْلِ السَّيْفِ غَيْرُ رِعْدِيدْ فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً، فَانْهَزَمَتْ رَبِيعَةُ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ الْمُفَضَّلُ يُنَادِيهِمْ: يَا مَعْشَرَ رَبِيعَةَ الْكَرَّةَ الْكَرَّةَ! وَاللَّهِ مَا كُنْتُمْ بِكُشْفٍ وَلَا لِئَامٍ، وَلَا لَكُمْ هَذِهِ بِعَادَةٍ، فَلَا يُؤْتَيَّنَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْ قِبَلِكُمْ، فَدَتْكُمْ نَفْسِي! فَرَجَعُوا إِلَيْهِ يُرِيدُونَ الْحَمْلَةَ، فَأُتِي، وَقِيلَ لَهُ: مَا تَصَنَعُ هَاهُنَا وَقَدْ قُتِلَ يَزِيدُ وَحَبِيبٌ وَمُحَمَّدٌ، وَانْهَزَمَ النَّاسُ مُنْذُ طَوِيلٍ؟ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، وَمَضَى الْمُفَضَّلُ إِلَى وَاسِطَ، فَمَا كَانَ مِنَ الْعَرَبِ أَضْرَبُ بِسَيْفِهِ، وَلَا أَحْسَنُ تَعْبِيَةً لِلْحَرْبِ، وَلَا أَغْشَى لِلنَّاسِ مِنْهُ. وَقِيلَ: بَلْ أَتَاهُ أَخُوهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَكَرِهَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِقَتْلِ يَزِيدَ فَيَسْتَقْتِلَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْأَمِيرَ قَدِ انْحَدَرَ إِلَى وَاسِطَ. فَانْحَدَرَ الْمُفَضَّلُ بِمَنْ بَقِيَ مِنْ وَلِدِ الْمُهَلَّبِ إِلَى وَاسِطَ، فَلَمَّا عَلِمَ بِقَتْلِ يَزِيدَ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ الْمَلِكِ أَبَدًا، فَمَا كَلَّمَهُ حَتَّى قُتِلَ بِقَنْدَابِيلَ. وَكَانَتْ عَيْنُهُ أُصِيبَتْ فِي الْحَرْبِ، فَقَالَ: فَضَحَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ، مَا عُذْرِي إِذَا رَآنِي النَّاسُ، فَقَالُوا شَيْخٌ أَعْوَرُ مَهْزُومٌ! أَلَا صَدَقَنِي فَقُتِلْتُ؟ ثُمَّ قَالَ: وَلَا خَيْرَ فِي طَعْنِ الصَّنَادِيدِ بِالْقَنَا ... وَلَا فِي لِقَاءِ الْحَرْبِ بَعْدَ يَزِيدِ فَلَمَّا فَارَقَ الْمُفَضَّلُ الْمَعْرَكَةَ، جَاءَ عَسْكَرُ الشَّامِ إِلَى عَسْكَرِ يَزِيدَ، فَقَاتَلَهُمْ أَبُو رُؤْبَةَ صَاحِبُ الْمُرْجِئَةِ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، وَأَسَرَ مَسْلَمَةُ نَحْوَ ثَلَاثَمِائَةِ أَسِيرٍ، فَسَرَّحَهُمْ إِلَى الْكُوفَةِ، فَحُبِسُوا بِهَا، فَجَاءَ كِتَابُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ يَأْمُرُهُ بِضَرْبِ

رِقَابِ الْأَسْرَى، فَأَمَرَ الْعُرْيَانَ بْنَ الْهَيْثَمِ، وَكَانَ عَلَى شُرْطَتِهِ، أَنْ يُخْرِجَهُمْ عِشْرِينَ عِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ ثَلَاثِينَ، فَقَامَ نَحْوُ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ تَمِيمٍ فَقَالُوا: نَحْنُ انْهَزَمْنَا بِالنَّاسِ، فَابْدَءُوا بِنَا قَبْلَ النَّاسِ. فَأَخْرَجَهُمُ الْعُرْيَانُ، فَضَرَبَ رِقَابَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: انْهَزَمْنَا بِالنَّاسِ، فَكَانَ هَذَا جَزَاءُنَا. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْهُمْ، جَاءَ رَسُولٌ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ مَسْلَمَةَ يَأْمُرُهُ بِتَرْكِ قَتْلِ الْأَسْرَى. وَأَقْبَلَ مَسْلَمَةُ حَتَّى نَزَلَ الْحِيرَةَ. وَلَمَّا أَتَتْ هَزِيمَةُ يَزِيدَ إِلَى وَاسِطَ أَخْرَجَ ابْنُهُ مُعَاوِيَةُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَسِيرًا كَانُوا عِنْدَهُ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، مِنْهُمْ: عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ، وَمَالِكٌ وَعَبْدُ الْمَلِكِ ابْنَا مِسْمَعٍ، وَغَيْرُهُمَا، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى الْبَصْرَةَ وَمَعَهُ الْمَالُ وَالْخَزَائِنُ، وَجَاءَ الْمُفَضَّلُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْمُهَلَّبِ بِالْبَصْرَةِ فَأَعَدُّوا السُّفُنَ وَتَجَهَّزُوا لِلرُّكُوبِ فِي الْبَحْرِ. وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بَعَثَ وَدَّاعَ بْنَ حُمَيْدٍ الْأَزْدِيَّ عَلَى قَنْدَابِيلَ أَمِيرًا، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي سَائِرٌ إِلَى هَذَا الْعَدُوِّ وَلَوْ قَدْ لَقِيتُهُمْ لَمْ أَبْرَحِ الْعَرْصَةَ حَتَّى يَكُونَ لِي أَوْ لَهُمْ، فَإِنْ ظَفِرْتُ أَكْرَمْتُكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى كُنْتَ بِقَنْدَابِيلَ حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْكَ أَهْلُ بَيْتِي فَيَتَحَصَّنُوا بِهَا حَتَّى يَأْخُذُوا [لِأَنْفُسِهِمْ] أَمَانًا، وَقَدِ اخْتَرْتُكَ لَهُمْ مِنْ بَيْنِ قَوْمِي، فَكُنْ عِنْدَ أَحْسَنِ ظَنِّي. وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعُهُودَ لَيُنَاصِحَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ إِنْ هُمْ لَجَأُوا إِلَيْهِ. فَلَمَّا اجْتَمَعَ آلُ الْمُهَلَّبِ بِالْبَصْرَةِ حَمَلُوا عِيَالَاتِهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي السُّفُنِ الْبَحْرِيَّةِ، ثُمَّ لَجَّجُوا فِي الْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِحِيَالِ كَرْمَانَ خَرَجُوا مِنْ سُفُنِهِمْ، وَحَمَلُوا عِيَالَاتِهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ عَلَى الدَّوَابِّ، وَكَانَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمُ الْمُفَضَّلَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَكَانَ بِكَرْمَانَ فُلُولٌ كَثِيرَةٌ، فَاجْتَمَعُوا إِلَى الْمُفَضَّلِ، وَبَعَثَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مُدْرِكَ بْنَ ضَبٍّ الْكَلْبِيَّ فِي طَلَبِهِمْ وَفِي أَثَرِ الْفَلِّ، فَأَدْرَكَ مُدْرِكٌ الْمُفَضَّلَ، وَمَعَهُ الْفُلُولُ فِي عَقَبَةٍ، فَعَطَفُوا عَلَيْهِ فَقَاتَلُوهُ، وَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ [إِيَّاهُ] ، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُفَضَّلِ النُّعْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَأُخِذَ ابْنُ صُولٍ مَلِكُ قُهِسْتَانَ أَسِيرًا، وَجُرِحَ عُثْمَانُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَهَرَبَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى حُلْوَانَ، فَدُلَّ عَلَيْهِ، فَقُتِلَ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى مَسْلَمَةَ بِالْحِيرَةِ. وَرَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْمُهَلَّبِ، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأُومِنُوا، مِنْهُمْ: مَالِكُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ، وَالْوَرْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ السَّعْدِيُّ التَّمِيمِيُّ. وَمَضَى آلُ الْمُهَلَّبِ وَمَنْ مَعَهُمْ إِلَى قَنْدَابِيلَ، وَبَعَثَ مَسْلَمَةُ إِلَى مُدْرِكِ بْنِ ضَبٍّ

فَرَدَّهُ وَسَيَّرَ فِي أَثَرِهِمْ هِلَالَ بْنَ أَحْوَزَ التَّمِيمِيَّ، فَلَحِقَهُمْ بِقَنْدَابِيلَ، فَأَرَادَ أَهْلُ الْمُهَلَّبِ دُخُولَهَا، فَمَنَعَهُمْ وَدَّاعُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَكَانَ هِلَالُ بْنُ أَحْوَزَ لَمْ يُبَايِنْ آلَ الْمُهَلَّبِ، فَلَمَّا الْتَقَوْا كَانَ وَدَاعٌ عَلَى الْمَيْمَنَةِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِلَالٍ عَلَى الْمَيْسَرَةِ، وَكِلَاهُمَا أَزْدِيٌّ، فَرَفَعَ هِلَالُ بْنُ أَحْوَزَ رَايَةَ أَمَانٍ، فَمَالَ إِلَيْهِ وَدَّاعُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِلَالٍ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ آلِ الْمُهَلَّبِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مَرْوَانُ بْنُ الْمُهَلَّبِ أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى النِّسَاءِ فَيَقْتُلَهُنَّ، لِئَلَّا يَصِرْنَ إِلَى أُولَئِكَ، فَنَهَاهُ الْمُفَضَّلُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّا لَا نَخَافُ عَلَيْهِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ. فَتَرَكَهُنَّ، وَتَقَدَّمُوا بِأَسْيَافِهِمْ، فَقَاتَلُوا حَتَّى قُتِلُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ، وَهُمْ: الْمُفَضَّلُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ، وَزِيَادٌ، وَمَرْوَانُ بَنُو الْمُهَلَّبِ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَالْمِنْهَالُ بْنُ أَبِي عُيَيْنَةَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَعَمْرُو وَالْمُغَيَّرَةُ ابْنَا قَبِيصَةَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَحُمِلَتْ رُءُوسُهُمْ، وَفِي أُذُنِ كُلِّ وَاحِدٍ رُقْعَةٌ فِيهَا اسْمُهُ إِلَّا أَبَا عُيَيْنَةَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَعُمَرَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَعُثْمَانَ بْنَ الْمُفَضَّلِ بْنِ الْمُهَلَّبِ، فَإِنَّهُمْ لَحِقُوا بِرُتْبِيلَ. وَبَعَثَ هِلَالُ بْنُ أَحْوَزَ بِنِسَائِهِمْ وَرُءُوسِهِمْ وَالْأَسْرَى مِنْ آلِ الْمُهَلَّبِ إِلَى مَسْلَمَةَ بِالْحِيرَةِ، فَبَعَثَهُمْ مَسْلَمَةُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَسَيَّرَهُمْ يَزِيدُ إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ وَهُوَ عَلَى حَلَبَ، فَنَصَبَ الرُّءُوسَ، وَأَرَادَ مَسْلَمَةُ أَنْ يَبِيعَ الذُّرِّيَّةَ، فَاشْتَرَاهُمْ مِنْهُ الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ (اللَّهِ الْحَكَمِيُّ بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَسْلَمَةُ مِنَ الْجَرَّاحِ شَيْئًا. وَلَمَّا بَلَغَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ الْخَبَرُ بِقَتْلِ يَزِيدَ سَرَّهُ لِانْتِصَارِهِ، وَلِمَا فِي نَفْسِهِ مِنْهُ قَبْلَ الْخِلَافَةِ) . وَكَانَ سَبَبُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ ابْنَ الْمُهَلَّبِ خَرَجَ مِنَ الْحَمَّامِ أَيَّامَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَقَدْ تَضَمَّخَ بِالْغَالِيَةِ، فَاجْتَازَ بِيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ إِلَى جَانِبِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ الدُّنْيَا، لَوَدِدْتُ أَنَّ مِثْقَالَ غَالِيَةٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَلَا يَنَالُهَا إِلَّا كُلُّ شَرِيفٍ. فَسَمِعَ ابْنُ الْمُهَلَّبِ، فَقَالَ لَهُ: بَلْ وَدِدْتُ أَنَّ الْغَالِيَةَ كَانَتْ فِي جَبْهَةِ الْأَسَدِ، فَلَا يَنَالُهَا إِلَّا مِثْلِي. فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: وَاللَّهِ لَئِنْ وُلِّيتُ يَوْمًا لَأَقْتُلَنَّكَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْمُهَلَّبِ: وَاللَّهِ لَئِنْ وُلِّيتَ هَذَا الْأَمْرَ وَأَنَا حَيٌّ لَأَضْرِبَنَّ وَجْهَكَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَيْفٍ، فَهَذَا

كَانَ سَبَبُ الْبُغْضِ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَأَمَّا الْأَسْرَى فَكَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَلَمَّا قَدِمَ بِهِمْ عَلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَعِنْدَهُ كُثَيِّرُ عَزَّةَ، فَأَنْشَدَ: حَلِيمٌ إِذَا مَا نَالَ عَاقَبَ مُجْمِلًا ... أَشَدَّ الْعِقَابِ أَوْ عَفَا لَمْ يُثَرِّبِ فَعَفْوًا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَحِسْبَةً ... فَمَا تَأْتِهِ مِنْ صَالِحٍ لَكَ يُكْتَبِ أَسَاءُوا فَإِنْ تَصَفَحْ فَإِنَّكَ قَادِرٌ ... وَأَفْضَلُ حِلْمٍ حِسْبَةً حِلْمُ مُغْضَبِ قَالَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: هَيْهَاتَ يَا أَبَا صَخْرٍ! طَفَّ بِكَ الرَّحِمُ لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، أَفَادَنِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمِ الْخَبِيثَةِ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ، فَقُتِلُوا، وَبَقِيَ غُلَامٌ صَغِيرٌ، فَقَالَ: اقْتُلُونِي، فَمَا أَنَا بِصَغِيرٍ. فَقَالَ: انْظُرُوا أَنْبَتَ. فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي، فَقَدِ احْتَلَمْتُ، وَوَطِئْتُ النِّسَاءَ. فَأَمَرَ بِهِ يَزِيدُ فَقُتِلَ. وَأَسْمَاءُ الْأَسْرَى الَّذِينَ قُتِلُوا: الْمُعَارِكُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَالْمُغِيرَةُ، وَالْمُفَضَّلُ، وَمِنْجَابُ أَوْلَادُ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَدُرَيْدٌ، وَالْحَجَّاجٌ، وَغَسَّانٌ، وَشَبِيبٌ، وَالْفَضْلُ أَوْلَادُ الْمُفَضَّلِ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَالْمُفَضَّلُ بْنُ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُهَلَّبِ. وَقَالَ ثَابِتُ قُطْنَةَ يَرْثِي يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ: أَبَى طُولُ هَذَا اللَّيْلِ أَنْ يَتَصَرَّمَا ... وَهَاجَ لَكَ الْهَمُّ الْفُؤَادَ الْمُتَيَّمَا أَرِقْتُ وَلَمْ تَأْرَقْ مَعِي أُمُّ خَالِدٍ ... وَقَدْ أَرِقَتْ عَيْنَايَ حَوْلًا مُجَرَّمَا عَلَى هَالِكٍ هَدَّ الْعَشِيرَةَ فَقْدُهُ ... دَعَتْهُ الْمَنَايَا فَاسْتَجَابَ وَسَلَّمَا

عَلَى مَلِكٍ بِالْعَقْرِ يَا صَاحِ جُبِّنَتْ كَتَائِبُهُ وَاسْتَوْرَدَ الْمَوْتَ مُعْلِمَا ... أُصِيبَ وَلَمْ أَشْهَدْ وَلَوْ كُنْتُ شَاهِدًا لَسَلَّبْتُ إِنْ لَمْ يَجْمَعِ الْحَيُّ مَأْتَمَا ... وَفِي غِيَرِ الْأَيَّامِ يَا هِنْدُ فَاعْلَمِي لِطَالِبِ وِتْرٍ نَظْرَةٌ إِنْ تَلَوَّمَا ... فَعَلِّيَ إِنْ مَالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً عَلَى ابْنِ أَبِي ذِبَّانَ أَنْ يَتَنَدَّمَا ... أَمَسْلَمَ إِنْ تَقْدِرْ عَلَيْكَ رِمَاحُنَا نُذِقْكَ بِهَا قَيْءَ الْأَسَاوِدِ مُسْلَمَا ... وَإِنْ نَلْقَ لِلْعَبَّاسِ فِي الدَّهْرِ عَثْرَةً نُكَافِئُهُ بِالْيَوْمِ الَّذِي كَانَ قَدَّمَا ... قِصَاصًا وَلَمْ نَعْدُ الَّذِي كَانَ قَدْ أَتَى إِلَيْنَا وَإِنْ كَانَ ابْنُ مَرْوَانَ أَظْلَمَا ... سَتَعْلَمُ إِنْ زَلَّتْ بِكَ النَّعْلُ زَلَّةً وَأَظْهَرَ أَقْوَامٌ حَيَاءً مُجَمْجَمَا ... مَنِ الظَّالِمُ الْجَانِي عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ إِذَا أُحْضِرَتْ أَسْبَابُ أَمْرٍ وَأُبْهِمَا ... وَإِنَّا لَعَطَّافُونَ بِالْحِلْمِ بَعْدَمَا نَرَى الْجَهْلَ مِنْ فَرْطِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمَا ... وَإِنَّا لَحَلَّالُونَ بِالثَّغْرِ لَا نَرَى بِهِ سَاكِنًا إِلَّا الْخَمِيسَ الْعَرَمْرَمَا ... نَرَى أَنَّ لِلْجِيرَانِ حَقًّا وَذِمَّةً إِذَا النَّاسُ لَمْ يَرْعَوْا لِذِي الْجَارِ مَحْرَمَا ... وَإِنَّا لَنَقْرِي الضَّيْفَ مِنْ قَمَعِ الذُّرَى إِذَا كَانَ رَفْدُ الرَّافِدِينَ تَجَشُّمَا وَلَهُ فِيهِ مَرْثِيَّاتٌ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا أَبُو عُيَيْنَةَ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَأَرْسَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ الْمُهَلَّبِ إِلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي أَمَانِهِ، فَآمَنَهُ، وَبَقِيَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ حَتَّى وَلِيَ أَسَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ خُرَاسَانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمَا بِأَمَانِهِمَا، فَقَدِمَا خُرَاسَانَ. (قُطْنَةُ: بِالنُّونِ، وَهُوَ ثَابِتُ بْنُ كَعْبِ بْنِ جَابِرٍ الْعَتَكِيُّ الْأَزْدِيُّ، أُصِيبَتْ عَيْنُهُ بِخُرَاسَانَ،

فَجَعَلَ عَلَيْهَا قُطْنَةً فَعُرِفَ بِذَلِكَ، وَهُوَ يَشْتَبِهُ بِثَابِتِ بْنِ قُطْبَةَ، بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ خُزَاعِيٌّ وَذَاكَ عَتَكِيٌّ) . ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ مَسْلَمَةَ عَلَى الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَلَمَّا فَرَغَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ حَرْبِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ جَمَعَ لَهُ أَخُوهُ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وِلَايَةَ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَخُرَاسَانَ، فَأَقَرَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَ قَدْ قَامَ بِأَمْرِ الْبَصْرَةِ بَعْدَ آلِ الْمُهَلَّبِ شَبِيبُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، فَبَعَثَ عَلَيْهَا مَسْلَمَةُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سُلَيْمَانَ الْكَلْبِيَّ، وَعَلَى شُرْطَتِهَا وَأَحْدَاثِهَا عَمْرَو بْنَ يَزِيدَ التَّمِيمِيَّ، فَأَرَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنْ يَسْتَعْرِضَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ فَيَقْتُلَهُمْ، فَنَهَاهُ عَمْرٌو وَاسْتَمْهَلَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَكَتَبَ إِلَى مَسْلَمَةَ بِالْخَبَرِ، فَعَزَلَهُ وَوَلَّى الْبَصْرَةَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأَقَرَّ عَمْرَو بْنَ يَزِيدَ عَلَى الشُّرَطِ وَالْأَحْدَاثِ. ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ سَعِيدِ خُذَيْنَةَ عَلَى خُرَاسَانَ لِمَسْلَمَةَ اسْتَعْمَلَ مَسْلَمَةُ عَلَى خُرَاسَانَ سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ سَعِيدُ خُذَيْنَةَ، وَإِنَّمَا لُقِّبَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا لَيِّنًا مُتَنَعِّمًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَلِكُ أَبْغَرَ وَسَعِيدٌ فِي ثِيَابٍ مُصَبَّغَةٍ، وَحَوْلَهُ مَرَافِقُ مُصَبَّغَةٌ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالُوا: كَيْفَ رَأَيْتَ الْأَمِيرَ؟ قَالَ: خُذَيْنَةَ، فَلُقِّبَ خُذَيْنَةَ، وَخُذَيْنَةُ هِيَ الدِّهْقَانَةُ رَبَّةُ الْبَيْتِ. وَكَانَ سَعِيدٌ تَزَوَّجَ ابْنَةَ مَسْلَمَةَ، فَلِهَذَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى خُرَاسَانَ. فَلَمَّا اسْتَعْمَلَ مَسْلَمَةُ سَعِيدًا عَلَى خُرَاسَانَ، سَارَ إِلَيْهَا، فَاسْتَعْمَلَ شُعْبَةَ بْنَ ظُهَيْرٍ النَّهْشَلِيَّ عَلَى سَمَرْقَنْدَ، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَ الصُّغْدَ، وَكَانَ أَهْلُهَا كَفَرُوا فِي وِلَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُعَيْمٍ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى الصُّلْحِ، فَخَطَبَ شُعْبَةُ أَهْلَ الصُّغْدِ، وَوَبَّخَ سُكَّانَهَا مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ بِالْجُبْنِ، وَقَالَ: مَا أَرَى فِيكُمْ جَرِيحًا، وَلَا أَسْمَعُ أَنَّةً. فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِأَنْ جَبَّنُوا أَمِيرَهُمْ عِلْبَاءَ بْنَ حَبِيبٍ الْعَبْدِيَّ. وَأَخَذَ سَعِيدٌ عُمَّالَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِينَ وُلُّوا أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَحَبَسَهُمْ ثُمَّ أَطْلَقَهُمْ، ثُمَّ رُفِعَ إِلَى سَعِيدٍ أَنَّ جَهْمَ بْنَ زَحْرٍ الْجُعْفِيَّ، وَعَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْحَجَّاجِ الزَّبِيدِيَّ، وَالْمُنْتَجِعَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيَّ، وُلُّوا لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ فِي

ثَمَانِيَةِ نَفَرٍ وَعِنْدَهُمْ أَمْوَالٌ قَدِ اخْتَانُوهَا [مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ] فَحَبَسَهُمْ بِقُهُنْدُزِ مَرْوَ، وَحَمَلَ جَهْمَ بْنَ زَحْرٍ عَلَى حِمَارٍ وَأَطَافَ بِهِ، فَضَرَبَهُ مِائَتَيْ سَوْطٍ، وَأَمَرَ بِهِ وَبِالثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ حُبِسُوا مَعَهُ فَسُلِّمُوا إِلَى وَرْقَاءَ بْنِ نَصْرٍ الْبَاهِلِيِّ فَاسْتَعْفَاهُ، فَأَعْفَاهُ، فَسَلَّمَهُمْ إِلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ دِثَارٍ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ دِثَارٍ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ نَشِيطٍ مَوْلَى بَاهِلَةَ، فَقَتَلُوا فِي الْعَذَابِ جَهْمَ بْنَ زَحْرٍ، وَعَبْدَ الْعَزِيزِ، وَالْمُنْتَجِعَ، وَعَذَّبُوا الْقَعْقَاعَ وَقُومًا حَتَّى أَشْفَوْا عَلَى الْمَوْتِ، فَلَمْ يَزَالُوا فِي السِّجْنِ حَتَّى غَزَاهُمُ التُّرْكُ وَالصُّغْدُ، فَأَمَرَ سَعِيدٌ بِإِخْرَاجِهِمْ، وَكَانَ يَقُولُ: قَبَّحَ اللَّهُ الزُّبَيْرَ، فَإِنَّهُ قَتَلَ جَهْمًا! ذِكْرُ الْبَيْعَةِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ لِهِشَامٍ وَالْوَلِيدِ لَمَّا وَجَّهَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْجُيُوشَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْجَيْشِ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَاهُ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ، قَالَا لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ أَهْلُ غَدْرٍ وَإِرْجَافٍ، وَقَدْ تَوَجَّهْنَا مُحَارِبِينَ وَالْحَوَادِثُ تَحْدُثُ، وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَرْجُفَ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَيَقُولُوا: مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَفُتُّ ذَلِكَ فِي أَعَضَادِنَا، فَلَوْ عَهِدْتَ عَهْدَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْوَلِيدِ لَكَانَ رَأْيًا صَوَابًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَتَى أَخَاهُ يَزِيدَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ أَخُوكَ أَمِ ابْنُ أَخِيكَ؟ فَقَالَ: بَلْ أَخِي. فَقَالَ: فَأَخُوكَ أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ. فَقَالَ يَزِيدُ: إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي وَلَدِي فَأَخِي أَحَقُّ بِهَا مِنِ ابْنِ أَخِي كَمَا ذَكَرْتَ. قَالَ: فَابْنُكَ لَمْ يَبْلُغْ فَبَايِعْ لِهِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ثُمَّ بَعْدَهُ لِابْنِكَ الْوَلِيدِ، وَكَانَ الْوَلِيدُ يَوْمَئِذٍ ابْنُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، فَبَايَعَ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ لِهِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخِيهِ، وَبَعْدَهُ لِابْنِهِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، ثُمَّ عَاشَ يَزِيدُ حَتَّى بَلَغَ ابْنُهُ الْوَلِيدُ، فَكَانَ إِذَا رَآهُ يَقُولُ: اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ جَعَلَ هِشَامًا بَيْنِي وَبَيْنَكَ. ذِكْرُ غَزْوِ التُّرْكِ لَمَّا وَلِيَ سَعِيدٌ خُرَاسَانَ اسْتَضْعَفَهُ النَّاسُ وَسَمَّوْهُ خُذَيْنَةَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَ شُعْبَةَ

عَلَى سَمَرْقَنْدَ ثُمَّ عَزَلَهُ، فَطَمِعَتِ التُّرْكُ، فَجَمَعَهُمْ خَاقَانُ وَوَجَّهَهُمْ إِلَى الصُّغْدِ، وَعَلَى التُّرْكِ كُورْ صُولَ، فَأَقْبَلُوا حَتَّى نَزَلُوا بِقَصْرِ الْبَاهِلِيِّ. وَقِيلَ: أَرَادَ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَاءِ الدَّهَاقِينِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَاهِلَةَ كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْقَصْرِ، فَأَبَتْ، فَاسْتَجَاشَ، وَرَجَوْا أَنْ يَسْبُوا مَنْ فِي الْقَصْرِ، فَأَقْبَلَ كُورْ صُولَ حَتَّى حَصَرَ أَهْلَ الْقَصْرِ، وَفِيهِ مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ بِذَرَارِيهِمْ، وَكَانَ عَلَى سَمَرْقَنْدَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ، قَدِ اسْتَعْمَلَهُ سَعِيدٌ بَعْدَ شُعْبَةَ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِ، وَخَافُوا أَنْ يُبْطِئَ عَنْهُمُ الْمُدَدُ فَصَالَحُوا التُّرْكَ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَأَعْطَوْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا رَهِينَةً. وَنَدَبَ عُثْمَانُ النَّاسَ، فَانْتَدَبَ الْمُسَيَّبَ بْنَ بِشْرٍ الرِّيَاحَيَّ، وَانْتَدَبَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ مِنْ جَمِيعِ الْقَبَائِلِ، وَفِيهِمْ شُعْبَةُ بْنُ ظُهَيْرٍ، وَثَابِتُ قُطْنَةَ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْفُرْسَانِ، فَلَمَّا عَسْكَرُوا، قَالَ لَهُمُ الْمُسَيَّبُ: إِنَّكُمْ تُقْدِمُونَ عَلَى حَلْبَةِ التُّرْكِ عَلَيْهِمْ خَاقَانُ، وَالْعِوَضُ إِنْ صَبَرْتُمُ الْجَنَّةُ، وَالْعِقَابُ إِنْ فَرَرْتُمُ النَّارُ، فَمَنْ أَرَادَ الْغَزْوَ وَالصَّبْرَ فَلْيُقْدِمْ، فَرَجَعَ عَنْهُ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ، فَلَمَّا سَارَ فَرْسَخًا رَجَعَ بِمِثْلِ مَقَالَتِهِ الْأُولَى، فَاعْتَزَلَهُ أَلْفٌ، (ثُمَّ سَارَ فَرْسَخًا آخَرَ فَقَالَ لَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ، فَاعْتَزَلَهُ أَلْفٌ، ثُمَّ سَارَ) فَلَمَّا كَانَ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْهُمْ نَزَلَ، فَأَتَاهُمْ تُرْكُ خَاقَانَ مَلِكُ (قِي) فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ هَاهُنَا دِهْقَانٌ إِلَّا وَقَدْ بَايَعَ التُّرْكَ غَيْرِي، وَأَنَا فِي ثَلَاثِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، فَهُمْ مَعَكَ، وَعِنْدِي الْخَبَرُ قَدْ كَانُوا صَالَحُوهُمْ، وَأَعْطَوْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا يَكُونُونَ رَهِينَةً فِي أَيْدِيهِمْ، حَتَّى يَأْخُذُوا صُلْحَهُمْ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَسِيُرُكُمْ إِلَيْهِمْ قَتَلُوا الرَّهَائِنَ، وَمِيعَادُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا غَدًا وَيَفْتَحُوا لَهُمُ الْقَصْرَ. فَبَعَثَ الْمُسَيَّبُ رَجُلَيْنِ، رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ، وَرَجُلًا مِنَ الْعَجَمِ، لِيَعْلَمَا عِلْمَ الْقَوْمِ، فَأَقْبَلَا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَقَدْ أَخَذَتِ التُّرْكُ الْمَاءَ فِي نَوَاحِي الْقَصْرِ، فَلَيْسَ يَصِلُ إِلَيْهِ أَحَدٌ، وَدَنَوْا مِنَ الْقَصْرِ، فَصَاحَ بِهِمَا الرَّبِيئَةُ، فَقَالَا لَهُ: اسْكُتْ وَادْعُ لَنَا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ دِثَارٍ. فَدَعَاهُ، فَأَعْلَمَاهُ بِقُرْبِ الْمُسَيَّبِ مِنْهُمْ، وَقَالَا: هَلْ عِنْدَكُمُ امْتِنَاعٌ اللَّيْلَةَ وَغَدًا؟ قَالُوا: قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى تَقْدِيمِ نِسَائِنَا لِلْمَوْتِ أَمَامَنَا، حَتَّى نَمُوتَ جَمِيعًا غَدًا. فَرَجِعَا إِلَى الْمُسَيَّبِ فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: إِنِّي سَائِرٌ إِلَى هَذَا الْعَدُوِّ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ فَلْيَذْهَبْ، فَلَمْ يُفَارِقْهُ أَحَدٌ وَبَايَعُوهُ عَلَى الْمَوْتِ. فَأَصْبَحَ وَسَارَ وَقَدِ ازْدَادَ الْقَصْرُ تَحْصِينًا بِالْمَاءِ الَّذِي أَجْرَاهُ التُّرْكُ، فَلَمَّا صَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التُّرْكِ نِصْفُ فَرْسَخٍ نَزَلَ وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَى بَيَاتِهِمْ، فَلَمَّا أَمْسَى أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالصَّبْرِ وَحَثَّهُمْ عَلَيْهِ وَقَالَ: لِيَكُنْ شِعَارُكُمْ يَا مُحَمَّدُ، وَلَا تَتْبَعُوا مُوَلِّيًا، وَعَلَيْكُمْ بِالدَّوَابِّ فَاعْقِرُوهَا، فَإِنَّهَا

إِذَا عُقِرَتْ كَانَتْ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْكُمْ، وَلَيْسَتْ بِكُمْ قِلَّةٌ، فَإِنَّ سَبْعَمِائَةِ سَيْفٍ لَا يُضْرَبُ بِهَا فِي عَسْكَرٍ إِلَّا أَوْهَنُوهُ وَإِنْ كَثُرَ أَهْلُهُ. وَجَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ كَثِيرًا الدَّبُّوسِيَّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ ثَابِتُ قُطْنَةَ، وَهُوَ مِنَ الْأَزْدِ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُمْ، كَبَّرُوا، وَذَلِكَ فِي السَّحَرَ، وَثَارَ التُّرْكُ وَخَالَطَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَعَقَرُوا الدَّوَابَّ، وَتَرَجَّلَ الْمُسَيَّبُ فِي رِجَالٍ مَعَهُ، فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْقَطَعَتْ يَمِينُ الْبَخْتَرِيِّ الْمُرَائِيِّ، فَأَخَذَ السَّيْفَ بِشَمَالِهِ فَقُطِعَتْ، فَجَعَلَ يَذُبُّ بِيَدَيْهِ حَتَّى اسْتُشْهِدَ. وَضَرَبَ ثَابِتُ قُطْنَةَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءِ التُّرْكِ، فَقَتَلَهُ، وَانْهَزَمَتِ التُّرْكُ، وَنَادَى مُنَادِي الْمُسَيَّبِ: لَا تَتْبَعُوهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مِنَ الرُّعْبِ أَتَّبَعْتُمُوهُمْ أَمْ لَا، وَاقْصُدُوا الْقَصْرَ، وَلَا تَحْمِلُوا إِلَّا الْمَاءَ، وَلَا تَحْمِلُوا إِلَّا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ، وَمَنْ حَمَلَ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ ضَعِيفًا; حِسْبَةً، فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَبَى فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْقَصْرِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَهْدِكُمْ فَاحْمِلُوهُ. فَحَمَلُوا مَنْ فِي الْقَصْرِ وَأَتَوْا تُرْكَ خَاقَانَ، فَأَنْزَلَهُمْ قَصْرَهُ وَأَتَاهُمْ بِطَعَامٍ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى سَمَرْقَنْدَ. وَرَجَعَتِ التُّرْكُ مِنَ الْغَدِ، فَلَمْ يَرَوْا فِي الْقَصْرِ أَحَدًا، وَرَأَوْا قَتْلَاهُمْ فَقَالُوا: لَمْ يَكُنِ الَّذِي جَاءَنَا مِنَ الْإِنْسِ، فَقَالَ ثَابِتُ قُطْنَةَ: فَدَتْ نَفْسِي فَوَارِسَ مِنْ تَمِيمٍ ... غَدَاةَ الرَّوْعِ فِي ضَنْكِ الْمَقَامِ فَدَتْ نَفْسِي فَوَارِسَ أَكْنَفُونِي ... عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي رَهَجِ الْقَتَامِ بِقَصْرِ الْبَاهِلِيِّ وَقَدْ رَأَوْنِي ... أُحَامِي حَيْثُ ضَنَّ بِهِ الْمُحَامِي بِسَيْفِي بَعْدَ حَطْمِ الرُّمْحِ قُدْمًا ... أَذَوْدُهُمُ بِذِي شُطَبٍ حُسَامِ أُكِرُّ عَلَيْهِمُ الْيَحْمُومَ كَرًا ... كَكَرِّ الشَّرْبِ آنِيَةَ الْمُدَامِ أَكُرُّ بِهِ لَدَى الْغَمَرَاتِ حَتَّى ... تَجَلَّتْ لَا يَضِيقُ بِهِ مَقَامِي فَلَوْلَا اللَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ ... وَضَرْبِي قَوْنَسَ الْمَلِكِ الْهُمَامِ إِذًا لَسَعَتْ نِسَاءُ بَنِي دِثَارٍ ... أَمَامَ التُّرْكِ بَادِيَةَ الْخِدَامِ فَمَنْ مِثْلُ الْمُسَيَّبِ فِي تَمِيمٍ ... أَبِي بِشْرٍ كَقَادِمَةِ الْحَمَامِ

وَعَوِرَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ الطَّائِيُّ، وَشُلَّتْ يَدُهُ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَ وِلَايَةً قَبْلَ سَعِيدٍ، فَأَخَذَهُ سَعِيدٌ بِشَيْءٍ بَقِيَ عَلَيْهِ، فَدَفَعَهُ إِلَى شَدَّادِ بْنِ خُلَيْدٍ الْبَاهِلِيِّ لِيَسْتَأْدِيَهُ، فَضَيَّقَ عَلَيْهِ شَدَّادٌ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا مَعْشَرَ قَيْسٍ سِرْتُ إِلَى قَصْرِ الْبَاهِلِيِّ وَأَنَا شَدِيدُ الْبَطْشِ حَدِيدُ الْبَصَرِ، فَعَوِرْتُ وَشُلَّتْ يَدِي، وَقَاتَلْتُ حَتَّى اسْتَنْقَذْنَاهُمْ بَعْدَمَا أَشْرَفُوا عَلَى الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالسَّبْيِ، وَهَذَا صَاحِبُكُمْ يَصْنَعُ بِي مَا يَصْنَعُ فَكُفُّوهُ عَنِّي، فَخَلَّاهُ. قَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ بِالْقَصْرِ: لَمَّا الْتَقَوْا ظَنَنَّا أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ لِمَا سَمِعْنَا مِنْ هَمَاهِمِ الْقَوْمِ، وَوَقَعِ الْحَدِيدِ، وَصَهِيلِ الْخَيْلِ. ذِكْرُ غَزْوِ الصُّغْدِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبَرَ سَعِيدُ خُذَيْنَةَ النَّهْرَ وَغَزَا الصُّغْدَ، (وَكَانُوا قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَأَعَانُوا التُّرْكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّاسُ لِسَعِيدٍ: إِنَّكَ قَدْ تَرَكْتَ الْغَزْوَ، وَقَدْ أَغَارَ التُّرْكُ، وَكَفَرَ أَهْلُ الصُّغْدِ. فَقَطَعَ النَّهْرَ، وَقَصَدَ الصُّغْدَ) ، فَلَقِيَهُ التُّرْكُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الصُّغْدِ، فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ سَعِيدٌ: لَا تَتْبَعُوهُمْ، فَإِنَّ الصُّغْدَ بُسْتَانُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ هَزَمْتُمُوهُمْ، أَفَتُرِيدُونَ بَوَارَهُمْ؟ وَقَدْ قَاتَلْتُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ الْخُلَفَاءَ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَهَلْ أَبَادُوكُمْ؟ وَقَالَ سَوْرَةُ بْنُ الْحُرِّ لَحَيَّانَ النَّبَطِيِّ: ارْجِعْ عَنْهُمْ يَا حَيَّانُ. قَالَ: عَقِيرَةُ اللَّهِ لَا أَدَعُهَا. قَالَ: انْصَرِفْ يَا نَبَطِيُّ. قَالَ: أَنَبَطَ اللَّهُ وَجْهَكَ! وَسَارَ الْمُسْلِمُونَ فَانْتَهَوْا إِلَى وَادٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَرْجِ، فَقَطَعَهُ بَعْضُهُمْ وَقَدْ أَكْمَنَ لَهُمُ التُّرْكُ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْمُسْلِمُونَ خَرَجُوا عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْوَادِي، فَصَبَرُوا حَتَّى انْكَشَفُوا لَهُمْ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ الْمُنْهَزِمُونَ مَسْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا شَعَرُوا إِلَّا وَالتُّرْكُ قَدْ خَرَجُوا عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْضَةٍ، وَعَلَى الْخَيْلِ شُعْبَةُ بْنُ ظُهَيْرٍ، فَأَعْجَلَهُمُ التُّرْكُ عَنِ الرُّكُوبِ، فَقَاتَلَهُمْ شُعْبَةُ، فَقُتِلَ، وَقُتِلَ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِينَ رَجُلًا، وَانْهَزَمَ أَهْلُ الْمَسْلَحَةِ، وَأَتَى الْمُسْلِمِينَ الْخَبَرُ، فَرَكِبَ الْخَلِيلُ بْنُ أَوْسٍ الْعَبْشَمِيُّ أَحَدُ بَنِي ظَالِمٍ وَنَادَى: يَا بَنِي تَمِيمٍ إِلَيَّ أَنَا الْخَلِيلُ! فَاجْتَمَعَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَحَمَلَ بِهِمْ عَلَى الْعَدُوِّ، فَكَفُّوهُمْ حَتَّى جَاءَ الْأَمِيرُ وَالنَّاسُ، فَانْهَزَمَ الْعَدُوُّ، فَصَارَ الْخَلِيلُ عَلَى خَيْلِ بَنِي تَمِيمٍ حَتَّى وَلِيَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، ثُمَّ صَارَتْ رِيَاسَتُهُمْ لِأَخِيهِ الْحَكَمِ بْنِ أَوْسٍ. فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ بَعَثَ رِجَالًا مِنْ تَمِيمٍ إِلَى وَزْغِيشَ، فَقَالُوا: لَيْتَنَا نَلْقَى الْعَدُوَّ

فَنُطَارِدُهُمْ. وَكَانَ سَعِيدٌ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً، فَأَصَابُوا أَوْ غَنِمُوا وَسَبَوْا رَدَّ السَّبْيَ وَعَاقَبَ السَّرِيَّةَ، فَقَالَ الْهَجَرِيُّ الشَّاعِرُ: سَرَيْتَ إِلَى الْأَعْدَاءِ تَلْهُو بِلُعْبَةٍ ... وَأَيْرُكَ مَسْلُولٌ وَسَيْفُكَ مُغْمَدُ وَأَنْتَ لِمَنْ عَادَيْتَ عِرْسٌ خَفِيَّةٌ ... وَأَنْتِ عَلَيْنَا كَالْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ فَقَعَدَ سَعِيدٌ عَلَى النَّاسِ وَضَعَّفُوهُ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ: إِسْمَاعِيلُ مُنْقَطِعًا إِلَى مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَذَكَرَ إِسْمَاعِيلُ عِنْدَ خُذَيْنَةَ مَوَدَّتَهُ لِمَرْوَانَ، فَقَالَ خُذَيْنَةُ: وَمَا ذَاكَ الْمِلْطُ؟ فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ: زَعَمَتْ خُذَيْنَةُ أَنَّنِي مِلْطُ ... لِخُذَيْنَةَ الْمِرْآةُ وَالْمُشْطُ وَمَجَامِرٌ وَمَكَاحِلٌ جُعِلَتْ ... وَمَعَازِفٌ وَبِخَدِّهَا نُقْطُ أَفَذَاكَ أَمْ زَغَفٌ مُضَاعَفَةٌ ... وَمُهَنَّدٌ مِنْ شَأْنِهِ الْقَطُّ لِمُقْرَسٍ ذَكَرٍ أَخِي ثِقَةٍ ... لَمْ يَغْذُهُ التَّأْنِيثُ وَاللَّقْطُ فِي أَبْيَاتِ غَيْرِهَا. ذِكْرُ مَوْتِ حَيَّانَ النَّبَطِيِّ وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ حَيَّانَ فِيمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَتْلِ قُتَيْبَةَ، وَأَنَّهُ سَادَ وَتَقَدَّمَ بِخُرَاسَانَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ سَوْرَةُ بْنُ الْحُرِّ: يَا نَبَطِيُّ، وَأَجَابَهُ حَيَّانُ، فَقَالَ: أَنَبَطَ اللَّهُ وَجْهَكَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ آنِفًا، حَقَدَهَا عَلَيْهِ سَوْرَةُ، فَقَالَ لِسَعِيدِ خُذَيْنَةَ: إِنَّ هَذَا الْعَبْدَ أَعْدَى النَّاسِ لِلْعَرَبِ وَالْوَالِي، وَهُوَ أَفْسَدَ خُرَاسَانَ عَلَى قُتَيْبَةَ، وَهُوَ وَاثِبٌ بِكَ، مُفْسِدٌ عَلَيْكَ خُرَاسَانَ، ثُمَّ يَتَحَصَّنُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْقِلَاعِ. فَقَالَ سَعِيدٌ: لَا تُسْمِعَنَّ هَذَا أَحَدًا. ثُمَّ دَعَا فِي مَجْلِسِهِ بِلَبَنٍ وَقَدْ أَمَرَ بِذَهَبٍ، فَسُحِقَ وَأُلْقِيَ فِي اللَّبَنِ الَّذِي فِي إِنَاءِ حَيَّانَ، فَشَرِبَهُ حَيَّانُ، ثُمَّ رَكَضَ سَعِيدٌ

وَالنَّاسُ مَعَهُ أَرْبَعَةَ فَرَاسِخَ ثُمَّ رَجَعَ، فَعَاشَ حَيَّانُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ وَمَاتَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ هَذِهِ السَّنَةَ، وَسَيَرِدُ ذِكْرُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عَزْلِ مَسْلَمَةَ عَنِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَوِلَايَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ وَلِيَ الْعِرَاقَ وَخُرَاسَانَ، فَلَمْ يَرْفَعْ مِنَ الْخَرَاجِ شَيْئًا، وَاسْتَحْيَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ يَعْزِلَهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: اسْتَخْلِفْ عَلَى عَمَلِكَ وَأَقْبِلْ. وَقِيلَ إِنَّ مَسْلَمَةَ شَاوَرَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ حَاتِمِ بْنِ النُّعْمَانِ فِي الشُّخُوصِ إِلَى يَزِيدَ لِيَزُورَهُ. قَالَ: أَمِنْ شَوْقٍ إِلَيْهِ؟ إِنَّ عَهْدَكَ مِنْهُ لَقَرِيبٌ. قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: إِذًا لَا تَخْرُجْ مِنْ عَمَلِكَ حَتَّى تَلْقَى الْوَالِيَ عَلَيْهِ. فَسَارَ مَسْلَمَةُ فَلَقِيَهُ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْفَزَارِيُّ بِالْعِرَاقِ عَلَى دَوَابِّ الْبَرِيدِ، فَسَأَلَهُ عَنْ مَقْدِمِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَجَّهَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي حِيَازَةِ أَمْوَالِ بَنِي الْمُهَلَّبِ. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ أَحْضَرَ مَسْلَمَةُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ حَاتِمٍ، وَأَخْبَرَهُ خَبَرَ ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ: قَدْ قُلْتُ لَكَ. قَالَ مَسْلَمَةُ: فَإِنَّهُ جَاءَ لِحِيَازَةِ أَمْوَالِ آلِ الْمُهَلَّبِ. قَالَ: هَذَا أَعْجَبُ مِنَ الْأَوَّلِ، يَكُونُ ابْنُ هُبَيْرَةَ عَلَى الْجَزِيرَةِ، فَيُعْزَلُ عَنْهَا، وَيُبْعَثُ لِحِيَازَةِ أَمْوَالِ بَنِي الْمُهَلَّبِ، وَلَمْ يُكْتَبْ مَعَهُ إِلَيْكَ كِتَابٌ! فَلَمْ يَلْبَثْ حَتَّى أَتَاهُ عَزْلُ ابْنِ هُبَيْرَةَ عُمَّالَهُ وَالْغِلْظَةُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: رَاحَتْ بِمَسْلَمَةَ الْبِغَالُ عَشِيَّةً ... فَارْعَيْ فَزَارَةُ لَا هَنَاكِ الْمَرْتَعُ عُزِلَ ابْنُ بِشْرٍ وَابْنُ عَمْرٍو قَبْلَهُ ... وَأَخُو هَرَاةَ لِمِثْلِهَا يَتَوَقَّعُ يَعْنِي بِابْنِ بِشْرٍ: عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ، وَبِابْنِ عَمْرٍو: مُحَمَّدًا ذَا الشَّامَةِ، وَبِأَخِي هَرَاةَ: سَعِيدَ خُذَيْنَةَ. (وَأَمَّا ابْتِدَاءُ أَمْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ حَتَّى وَلِيَ الْعِرَاقَ) ، فَإِنَّهُ قَدِمَ مِنَ الْبَادِيَةِ مِنْ بِنِي فَزَارَةَ، فَافْتُرِضَ مَعَ بَعْضِ وُلَاةِ الْحَرْبِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَأَرْجُو أَنْ لَا تَنْقَضِيَ الْأَيَّامُ حَتَّى أَلِيَ الْعِرَاقَ. وَسَارَ مَعَ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ الْعُقَيْلِيِّ إِلَى غَزْوِ الرُّومِ، فَأُتِيَ بِفَرَسٍ رَائِعٍ، إِلَّا أَنَّهُ

لَا يُسْتَطَاعُ رُكُوبُهُ، فَقَالَ: مَنْ رَكِبَهُ فَهُوَ لَهُ، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ وَتَنَحَّى عَنِ الْفَرَسِ، وَأَقْبَلَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِحَيْثُ تَنَالُهُ رِجْلَا الْفَرَسِ إِذَا رَمَحَهُ وَثَبَ فَصَارَ عَلَى سَرْجِهِ، فَأَخَذَ الْفَرَسَ. فَلَمَّا خَلَعَ مُطَرِّفُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ الْحَجَّاجَ سَارَ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ حَارَبُوهُ مِنَ الرَّيِّ، فَلَمَّا الْتَقَى الْعَسْكَرَانِ الْتَحَقَ ابْنُ هُبَيْرَةَ بِمُطَرِّفٍ مُظْهِرًا أَنَّهُ مَعَهُ، فَلَمَّا جَالَ النَّاسُ كَانَ مِمَّنْ قَتَلَهُ وَأَخَذَ رَأْسَهُ، وَقِيلَ قَتَلَهُ غَيْرُهُ وَأَخَذَ هُوَ رَأْسَهُ، وَأَتَى بِهِ عَدِيًّا، فَأَعْطَاهُ مَالًا، وَأَوْفَدَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالرَّأْسِ، فَسَيَّرَهُ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَقْطَعَهُ بِبَرْزَةَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ بِدِمَشْقَ، وَعَادَ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَوَجَّهَهُ إِلَى كَرْدَمِ بْنِ مَرْثَدٍ الْفَزَارِيِّ لِيُخَلِّصَ مِنْهُ مَالًا، فَأَخَذَهُ مِنْهُ وَهَرَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَقَالَ: أَنَا عَائِذٌ بِاللَّهِ وَبِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْحَجَّاجِ، فَإِنَّنِي قَتَلْتُ ابْنَ عَمِّهِ مُطَرِّفَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَأَتَيْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرَادَ قَتْلِي، وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يَنْسِبَنِي إِلَى أَمْرٍ يَكُونُ فِيهِ هَلَاكِي. فَقَالَ: أَنْتَ فِي جِوَارِي. فَأَقَامَ عِنْدَهُ، فَكَتَبَ فِيهِ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَذْكُرُ أَخْذَهُ الْمَالَ وَهَرَبَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَمْسِكْ عَنْهُ. وَتَزَوَّجَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِنْتًا لِلْحَجَّاجِ، فَكَانَ ابْنُ هُبَيْرَةَ يُهْدِي لَهَا، وَيَبَرَّهَا، وَيُيَسِّرُ عَلَيْهَا، فَكَتَبَتْ إِلَى أَبِيهَا تُثْنِي عَلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُنْزِلَ بِهِ حَاجَاتَهُ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ بِالشَّامِ. فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْجَزِيرَةِ، فَلَمَّا وَلِيَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَرَأَى ابْنُ هُبَيْرَةَ تَحَكُّمَ حَبَابَةَ عَلَيْهِ تَابَعَ هَدَايَاهُ إِلَيْهِ وَإِلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَعَمِلَتْ لَهُ فِي وِلَايَةِ الْعِرَاقِ، فَوَلَّاهُ يَزِيدُ. وَكَانَ ابْنُ هُبَيْرَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَعْقَاعِ بْنِ خُلَيْدٍ الْعَبْسِيِّ تَحَاسَدٌ، فَقَالَ الْقَعْقَاعُ: مَنْ يُطِيقُ ابْنَ هُبَيْرَةَ، حَبَابَةُ بِاللَّيْلِ، وَهَدَايَاهُ بِالنَّهَارِ! فَلَمَّا مَاتَتْ حَبَابَةُ، قَالَ الْقَعْقَاعُ: هَلُمَّ فَقَدْ مَاتَتْ حَبَابَةُ سَامِنِي ... بِنَفْسِكَ يُقْدِمْكَ الذُّرَى وَالْكَوَاهِلُ أَغَرَّكَ إِنْ كَانَتْ حَبَابَةُ مَرَّةً تَمِيحُكَ ، فَانْظُرْ كَيْفَ مَا أَنْتَ فَاعِلُ فِي أَبْيَاتٍ. وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَعْقَاعِ يَوْمًا كَلَامٌ، فَقَالَ لَهُ الْقَعْقَاعُ: يَابْنَ اللَّخْنَاءِ مَنْ قَدَّمَكَ؟ فَقَالَ: قَدَّمَكَ أَنْتَ وَأَهْلَكَ أَعْجَازُ الْغَوَانِي، وَقَدَّمَنِي صُدُورُ الْعَوَالِي. فَسَكَتَ الْقَعْقَاعُ. يَعْنِي أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ قَدَّمَهُمْ لَمَّا تَزَوَّجَ إِلَيْهِمْ فَإِنَّ أُمَّ الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ ابْنَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ عَبْسِيَّةٌ.

ذِكْرُ بَعْضِ الدُّعَاةِ لِلدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ مَيْسَرَةُ رُسُلَهُ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى خُرَاسَانَ، فَظَهَرَ أَمْرُ الدُّعَاةِ بِهَا، فَجَاءَ عَمْرُو بْنُ بَحِيرِ بْنِ وَرْقَاءَ السَّعْدِيُّ إِلَى سَعِيدِ خُذَيْنَةَ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ هَاهُنَا قَوْمًا قَدْ ظَهَرَ مِنْهُمْ كَلَامٌ قَبِيحٌ، وَأَعْلَمَهُ حَالَهُمْ، فَبَعَثَ سَعِيدٌ إِلَيْهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَاسٌ مِنَ التُّجَّارِ. قَالَ: فَمَا هَذَا الَّذِي يُحْكَى عَنْكُمْ؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي. قَالَ: جِئْتُمْ دُعَاةً؟ قَالُوا: إِنَّ لَنَا فِي أَنْفُسِنَا وَتِجَارِتِنَا شُغْلًا عَنْ هَذَا. فَقَالَ: مَنْ يَعْرِفُ هَؤُلَاءِ؟ فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنْ رَبِيعَةَ وَالْيَمَنِ فَقَالُوا: نَحْنُ نَعْرِفُهُمْ، وَهُمْ عَلَيْنَا إِنْ أَتَاكَ مِنْهُمْ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ. فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ. ذِكْرُ قَتْلِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ قِيلَ: كَانَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَدِ اسْتَعْمَلَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي مُسْلِمٍ بِإِفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ، وَقِيلَ هَذِهِ السَّنَةَ، وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ عَزَمَ أَنْ يَسِيرَ فِيهِمْ بِسِيرَةِ الْحَجَّاجِ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ سَكَنُوا الْأَمْصَارَ مِمَّنْ كَانَ أَصْلُهُ مِنَ السَّوَادِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَأَسْلَمَ بِالْعِرَاقِ، فَإِنَّهُ رَدَّهُمْ إِلَى قُرَاهُمْ وَوَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى رِقَابِهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَتْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَهُمْ كُفَّارٌ، فَلَمَّا عَزَمَ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ، فَقَتَلُوهُ، وَوَلَّوْا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْوَالِي الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، فَوَلِيَ الْأَمْصَارَ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ، وَكَتَبُوا إِلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ: إِنَّا لَمْ نَخْلَعْ أَيْدِيَنَا مِنْ طَاعَةٍ، وَلَكِنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي مُسْلِمٍ سَامَنَا مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ، فَقَتَلْنَاهُ وَأَعَدْنَا عَامِلَكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: إِنِّي لَمْ أَرْضَ مَا صَنَعَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَأَقَرَّ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ عَلَى عَمَلِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ الرُّومَ مِنْ نَاحِيَةِ أَرْمِينِيَّةَ وَهُوَ عَلَى الْجَزِيرَةِ قَبْلَ أَنْ

يَلِيَ الْعِرَاقَ، فَهَزَمَهُمْ وَأَسَرَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا قِيلَ سَبْعُمِائَةِ أَسِيرٍ. وَفِيهَا غَزَا عَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الرُّومَ فَافْتَتَحَ دَلْسَةَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الضَّحَّاكِ، وَهُوَ عَامِلُ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ: عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ. وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ: مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ذُو الشَّامَةِ، وَعَلَى قَضَائِهَا: الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ إِلَى أَنْ عَزَلَهُ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ: سَعِيدُ خُذَيْنَةَ، وَعَلَى مِصْرَ: أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ.

ثم دخلت سنة ثلاث ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَمِائَةٍ] 103 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ سَعِيدٍ الْحَرَشِيِّ عَلَى خُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ سَعِيدَ خُذَيْنَةَ عَنْ خُرَاسَانَ، وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ أَنَّ الْمُجَشِّرَ بْنَ مُزَاحِمٍ السُّلَمِيَّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيَّ قَدِمَا عَلَى عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ فَشَكَوَاهُ، فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ سَعِيدَ بْنَ عَمْرٍو الْحَرَشِيَّ، (بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، مِنْ بَنِي الْحَرِيشِ بْنِ كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ) . وَكَانَ خُذَيْنَةُ [غَازِيًا] بِبَابِ سَمَرْقَنْدَ، فَبَلَغَهُ عَزْلُهُ، وَخَلَّفَ بِسَمَرْقَنْدَ أَلْفَ رَجُلٍ. وَقِيلَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ هُبَيْرَةَ كَتَبَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِأَسْمَاءِ مَنْ أَبْلَى يَوْمَ الْعَقْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ سَعِيدًا الْحَرَشِيَّ، فَقَالَ يَزِيدُ: لِمَ لَمْ يَذْكُرِ الْحَرَشِيَّ؟ وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ أَنْ وَلِّ الْحَرَشِيَّ خُرَاسَانَ، فَوَلَّاهُ، فَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُجَشِّرَ بْنَ مُزَاحِمٍ السُّلَمِيَّ، فَقَالَ نَهَارُ بْنُ تَوْسِعَةَ: فَهَلْ مِنْ مُبْلِغٍ فِتْيَانَ قَوْمِي ... بِأَنَّ النَّبْلَ رِيشَتْ كُلَّ رَيْشِ وَأَنَّ اللَّهَ أَبْدَلَ مِنْ سَعِيدٍ ... سَعِيدًا لَا الْمُخَنَّثَ مِنْ قُرَيْشِ وَقَدِمَ سَعِيدٌ الْحَرَشِيُّ خُرَاسَانَ، فَلَمْ يَعْرِضْ لِعُمَّالِ خُذَيْنَةَ، وَقَرَأَ رَجُلٌ عَهْدَهُ فَلَحَنَ فِيهِ، فَقَالَ: صَهٍ، مَهْمَا سَمِعْتُمْ فَهُوَ مِنَ الْكَاتِبِ، وَالْأَمِيرُ مِنْهُ بَرِيءٌ. وَلَمَّا قَدِمَ الْحَرَشِيُّ خُرَاسَانَ كَانَ النَّاسُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، وَكَانُوا قَدْ نَكَبُوا، فَخَطَبَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَقَالَ: إِنَّكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ بِكَثْرَةٍ وَلَا بِعُدَّةٍ، وَلَكِنْ بِنْصِرِ اللَّهِ وَعِزِّ الْإِسْلَامِ، فَقُولُوا: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الْعَلِيِّ] الْعَظِيمِ، وَقَالَ: فَلَسْتُ لِعَامِرٍ إِنْ لَمْ تَرَوْنِي ... أَمَامَ الْخَيْلِ أَطْعَنُ بِالْعَوَالِي

وَأَضْرِبُ هَامَةَ الْجَبَّارِ مِنْهُمْ بِعَضْبِ الْحَدِّ حُودِثَ بِالصِّقَالِ ... فَمَا أَنَا فِي الْحُرُوبِ بِمُسْتَكِينٍ وَلَا أَخْشَى مُصَاوَلَةَ الرِّجَالِ ... أَبَى لِي وَالِدِي مِنْ كُلِّ ذَمٍّ وَخَالِي فِي الْحَوَادِثِ خَيْرُ خَالِ فَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ الصُّغْدِ بِقُدُومِ الْحَرَشِيِّ خَافُوا عَلَى نُفُوسِهِمْ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَعَانُوا التُّرْكَ أَيَّامَ خُذَيْنَةَ، فَاجْتَمَعَ عُظَمَاؤُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ مَلِكُهُمْ: لَا تَفْعَلُوا، أَقِيمُوا وَاحْمِلُوا الْخَرَاجَ مَا مَضَى، وَاضْمَنُوا لَهُ خَرَاجَ مَا يَأْتِي وَعِمَارَةَ الْأَرْضِ، وَالْغَزْوَ مَعَهُ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ، وَاعْتَذِرُوا مِمَّا كَانَ مِنْكُمْ وَأَعْطُوهُ رَهَائِنَ. قَالُوا: نَخَافُ أَنْ لَا يَرْضَى وَلَا يَقْبَلَ ذَلِكَ مِنَّا، وَلَكِنَّا نَأْتِي خُجَنْدَةَ فَنَسْتَجِيرُ مَلِكَهَا، وَنُرْسِلُ إِلَى الْأَمِيرِ، فَنَسْأَلُهُ الصَّفْحَ عَمَّا كَانَ مِنَّا، وَنُوَثِّقُ [لَهُ] أَنَّهُ لَا يَرَى [مِنَّا] أَمْرًا يَكْرَهُهُ. فَقَالَ: أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ، وَالَّذِي أَشَرْتُ بِهِ عَلَيْكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ. فَأَبَوْا وَخَرَجُوا إِلَى خُجَنْدَةَ، وَأَرْسَلُوا إِلَى مَلِكِ فَرْغَانَةَ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ وَيُنْزِلَهُمْ مَدِينَتَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ فَقَالَتْ أُمُّهُ: لَا يَدْخُلْ هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينُ مَدِينَتَكَ، وَلَكِنْ فَرِّغْ لَهُمْ رُسْتَاقًا يَكُونُونَ فِيهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: سَمُّوا رُسْتَاقًا تَكُونُونَ فِيهِ حَتَّى أُفَرِّغَهُ لَكُمْ، وَأَجِّلُونِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ عِشْرِينَ يَوْمًا. فَاخْتَارُوا شِعْبَ عِصَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَاهِلِيِّ، وَكَانَ قُتَيْبَةُ قَدْ خَلَّفَهُ فِيهِمْ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَلَيْسَ [لَكُمْ] عَلَيَّ عَقْدٌ وَجِوَارٌ حَتَّى تَدْخُلُوهُ، وَإِنْ أَتَتْكُمْ [الْعَرَبُ] قَبْلَ أَنْ تَدْخُلُوهُ لَمْ أَمْنَعْكُمْ. فَرَضُوا، فَفَرَّغَ لَهُمُ الشِّعْبَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَغَارَتِ التُّرْكُ عَلَى اللَّانِ،

وَفِيهَا غَزَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الرُّومَ، فَفَتَحَ مَدِينَةً يُقَالُ لَهَا دَلْسَةَ. وَفِيهَا جُمِعَتْ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الضَّحَّاكِ. وَفِيهَا وُلِّيَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّضْرِيُّ الطَّائِفَ، وَعُزِلَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ عَنْهُ وَعَنْ مَكَّةَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الضَّحَّاكِ، وَكَانَ عَامِلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى الْعِرَاقِ: عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ: الْحَرَشِيُّ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ: الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى. [الوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الشَّعْبِيُّ، وَقِيلَ خَمْسٌ، وَقِيلَ سَبْعٌ وَمِائَةٌ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَفِيهَا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، وَعُمُرُهُ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ. وَيَزِيدُ بْنُ الْحُصَيْنِ بْنُ نُمَيْرٍ السَّكُونِيُّ،

وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَهُوَ أَخُو سُلَيْمَانَ، (يَسَارٌ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتَ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةُ، وَهِيَ ابْنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُصْعَبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ الْأَسَدِيُّ الْمِنْقَرِيُّ. وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ حَاتِمِ بْنِ النُّعْمَانِ الْبَاهِلِيُّ، وَكَانَ عَامِلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْجَزِيرَةِ.

ثم دخلت سنة أربع ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ] 104 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ ذِكْرُ الْوَقْعَةِ بَيْنَ الْحَرَشِيِّ وَالصُّغْدِ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الْحَرَشِيُّ فَقَطَعَ النَّهْرَ، وَسَارَ، فَنَزَلَ فِي قَصْرِ الرِّيحِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنَ الدَّبُّوسِيَّةِ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ إِلَيْهِ جُنْدُهُ، فَأَمَرَ بِالرَّحِيلِ، (فَقَالَ لَهُ هِلَالُ بْنُ عَلِيمٍ الْحَنْظَلِيُّ: يَا هَنَاهْ، إِنَّكَ وَزِيرًا خَيْرٌ مِنْكَ أَمِيرًا، لَمْ يَجْتَمِعْ إِلَيْكَ جُنْدُكَ وَقَدْ أَمَرْتَ بِالرَّحِيلِ) . فَعَادَ فَأَمَرَ بِالنُّزُولِ، وَأَتَاهُ ابْنُ عَمِّ مَلِكَ فَرْغَانَةَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ الصُّغْدِ بِخُجَنْدَةَ، وَأَخْبَرَهُ بِخَبَرِهِمْ، وَقَالَ: عَاجِلْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى الشِّعْبِ، فَلَيْسَ لَهُمْ جِوَارٌ عَلَيْنَا حَتَّى يَمْضِيَ الْأَجَلُ. فَوَجَّهَ مَعَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْقُشَيْرِيَّ، وَزِيَادَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ نَدِمَ بَعْدَمَا فَصَلُوا، وَقَالَ: جَاءَنِي عِلْجٌ لَا أَعْلَمُ أَصَدَقَ أَمْ كَذِبَ، فَغَرَّرْتُ بِجُنْدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَارْتَحَلَ فِي أَثَرِهِمْ حَتَّى نَزَلَ أَشْرُوسَنَةَ فَصَالَحَهُمْ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ. فَبَيْنَا هُوَ يَتَعَشَّى إِذْ قِيلَ لَهُ هَذَا عَطَاءٌ الدَّبُّوسِيُّ، وَكَانَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَسَقَطَتِ اللُّقْمَةُ مِنْ يَدِهِ، وَدَعَا بِعَطَاءٍ، فَقَالَ: وَيْلَكَ قَاتَلْتُمْ أَحَدًا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لِلَّهِ الْحَمْدُ! وَتَعَشَّى وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَدِمَ لَهُ، فَسَارَ مُسْرِعًا حَتَّى لَحِقَ الْقُشَيْرِيَّ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَسَارَ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى خُجَنْدَةَ، قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى الْمُعَاجَلَةَ. قَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، إِنْ جُرِحَ رَجُلٌ فَإِلَى أَيْنَ يَرْجِعُ، أَوْ قُتِلَ قَتِيلٌ فَإِلَى مَنْ يُحْمَلْ؟ وَلَكِنِّي أَرَى النُّزُولَ وَالتَّأَنِّي وَالِاسْتِعْدَادَ لِلْحَرْبِ. فَنَزَلَ فَأَخَذَ فِي التَّأَهُّبِ، فَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنَ الْعَدُوِّ، فَجَبَّنَ النَّاسُ الْحُرَشِيَّ وَقَالُوا: كَانَ يُذْكَرُ بِشَجَاعَةٍ وَدِيَانَةٍ، فَلَمَّا صَارَ بِخُرَاسَانَ مَاقَ. فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ فَضَرَبَ بَابَ خُجَنْدَةَ بِعَمُودٍ فَفَتَحَ الْبَابَ، وَكَانُوا حَفَرُوا فِي رِبْضِهِمْ وَرَاءَ الْبَابِ الْخَارِجِ خَنْدَقًا وَغَطَّوْهُ بِقَصَبٍ وَتُرَابٍ مَكِيدَةً، وَأَرَادُوا إِذَا الْتَقَوْا إِنِ انْهَزَمُوا كَانُوا قَدْ

عَرَفُوا الطَّرِيقَ، وَيُشْكِلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيَسْقُطُونَ فِي الْخَنْدَقِ، فَلَمَّا خَرَجُوا قَاتَلُوهُمْ فَانْهَزَمُوا، وَأَخْطَأَهُمُ الطَّرِيقُ فَسَقَطُوا فِي الْخَنْدَقِ، وَأَخْرَجَ مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا. وَحَصَرَهُمُ الْحَرَشِيُّ وَنَصَبَ عَلَيْهِمُ الْمَجَانِيقَ. فَأَرْسَلُوا إِلَى مَلِكِ فَرْغَانَةَ: إِنَّكَ غَدَرْتَ بِنَا، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَنْصُرَهُمْ، فَقَالَ: قَدْ أَتَوْكُمْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، وَلَسْتُمْ فِي جِوَارِي. فَطَلَبُوا الصُّلْحَ وَسَأَلُوا الْأَمَانَ وَأَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَى الصُّغْدِ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ نِسَاءِ الْعَرَبِ وَذَرَارِيهِمْ، وَأَنْ يُؤَدُّوا مَا كَسَرُوا مِنَ الْخَرَاجِ، وَلَا يَغْتَالُوا أَحَدًا، وَلَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُمْ بِخُجَنْدَةَ أَحَدٌ، فَإِنْ أَحْدَثُوا حَدَثًا حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْمُلُوكُ وَالتُّجَّارُ مِنَ الصُّغْدِ، وَتَرَكَ أَهْلَ خُجَنْدَةَ عَلَى حَالِهِمْ، وَنَزَلَ عُظَمَاءُ الصُّغْدِ عَلَى الْجُنْدِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُمْ، وَنَزَلَ كَارَزَنْجُ عَلَى أَيُّوبَ بْنِ أَبِي حَسَّانَ. وَبَلَغَ الْحَرَشِيُّ أَنَّهُمْ قَتَلُوا امْرَأَةً مِمَّنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ ثَابِتًا قَتْلَ امْرَأَةً وَدَفَنَهَا، فَجَحَدَ، فَسَأَلَ فَإِذَا الْخَبَرُ صَحِيحٌ، فَدَعَا بِثَابِتٍ إِلَى خَيْمَتِهِ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ كَارَزَنْجُ بِقَتْلِهِ خَافَ أَنْ يُقْتَلَ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ لِيَأْتِيَهُ بِسَرَاوِيلَ، وَكَانَ قَدْ قَالَ لِابْنِ أَخِيهِ: إِذَا طَلَبْتُ سَرَاوِيلَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ الْقَتْلُ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ، وَخَرَجَ، وَاعْتَرَضَ النَّاسَ، فَقَتَلَ نَاسًا، وَتَضَعْضَعَ الْعَسْكَرُ، وَلَقُوا مِنْهُ شَرًّا، وَانْتَهَى إِلَى ثَابِتِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَتَلَهُ ثَابِتٌ. وَقَتَلَ الصُّغْدُ أَسْرَى عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِائَةً وَخَمْسِينَ رَجُلًا، فَأُخْبِرَ الْحَرَشِيُّ بِذَلِكَ، فَسَأَلَ، فَرَأَى الْخَبَرَ صَحِيحًا، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَعَزْلِ التُّجَّارِ عَنْهُمْ، فَقَاتَلَهُمُ الصُّغْدُ بِالْخَشَبِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ سِلَاحٌ، فَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَكَانُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَقِيلَ: سَبْعَةَ آلَافٍ، وَاصْطَفَى أَمْوَالَ الصُّغْدِ وَذَرَارِيهِمْ، وَأَخَذَ مِنْهَا مَا أَعْجَبَهُ، ثُمَّ دَعَا مُسْلِمَ بْنَ بُدَيْلٍ الْعَدَوِيَّ عَدِيٌّ الرَّبَابُ، وَقَالَ: وَلَّيْتُكَ الْمَقْسَمَ. فَقَالَ: بَعْدَمَا عَمِلَ فِيهِ عُمَّالُكَ لَيْلَةً! وَلِّهِ غَيْرِي، فَوَلَّاهُ غَيْرَهُ. وَكَتَبَ الْحَرَشِيُّ إِلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلَمْ يَكْتُبْ إِلَى عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا أَوْغَرَ صَدْرَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ ثَابِتُ قُطْنَةَ يَذْكُرُ مَا أَصَابُوا مِنْ عُظَمَائِهِمْ: أَقَرَّ الْعَيْنَ مَصْرَعُ كَارَزَنْجٍ ... وَكَشْكِيرٍ وَمَا لَاقَى يُبَادُ وَدَيْوَشْتَى وَمَا لَاقَى خَلَنْجٌ ... بِحِصْنِ خُجَنْدَ إِذْ دَمَرُوا فَبَادُوا

يُقَالُ: إِنَّ دَيْوَشْتَى دِهْقَانُ سَمَرْقَنْدَ، وَاسْمُهُ دَيْوَ أَشْنَجِ فَأَعْرَبُوهُ، وَقِيلَ: كَانَ عَلَى أَقْبَاضِ خُجَنْدَةَ عِلْبَاءُ بْنُ أَحْمَرَ الْيَشْكُرِيُّ، فَاشْتَرَى رَجُلٌ مِنْهُمْ جُونَةً بِدِرْهَمَيْنِ، فَوَجَدَ فِيهَا سَبَائِكَ ذَهَبٍ، فَرَجَعَ وَقَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ كَأَنَّهُ رَمِدَ، فَرَدَّ الْجُونَةَ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ، فَطُلِبَ فَلَمْ يُعْرَفْ. وَسَرَّحَ الْحَرَشِيُّ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي السَّرِيِّ إِلَى حِصْنٍ يُطِيفُ بِهِ وَادِي الصُّغْدِ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَمَعَهُ خُوَارَزْمُشَاهْ، وَصَاحِبُ آخْرُونَ، وَشُومَانَ، فَسَيَّرَ سُلَيْمَانُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ الْمُسَيَّبَ بْنَ بِشْرٍ الرِّيَاحِيَّ، فَتَلْقَوْهُ عَلَى فَرْسَخٍ، فَهَزَمَهُمْ حَتَّى رَدَّهُمْ إِلَى حِصْنِهِمْ فَحَصَرَهُمْ، فَطَلَبَ الدَّيْوَشْتَى أَنْ يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ الْحَرَشِيِّ، فَسَيَّرَهُ إِلَيْهِ، فَأَكْرَمَهُ، وَطَلَبَ أَهْلُ الْقَلْعَةِ الصُّلْحَ عَلَى أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ وَيُسَلِّمُونَ الْقَلْعَةَ. فَبَعَثَ سُلَيْمَانُ إِلَى الْحَرَشِيِّ لِيَبْعَثَ الْأُمَنَاءَ لِقَبْضِ مَا فِي الْقَلْعَةِ، فَبَعَثَ مَنْ قَبَضَهُ وَبَاعُوهُ وَقَسَّمُوهُ. وَسَارَ الْحَرَشِيُّ إِلَى كَشَّ، وَصَالَحُوهُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ رَأْسٍ، وَقِيلَ سِتَّةِ آلَافِ رَأْسٍ. وَسَارَ إِلَى زَرَنْجَ، فَوَافَاهُ كِتَابُ ابْنِ هُبَيْرَةَ بِإِطْلَاقِ دَيْوَشْتَى، فَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ، وَوَلَّى نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ قَبْضَ صُلْحِ كَشَّ، وَاسْتَعْمَلَ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي السَّرِيِّ عَلَى كَشَّ وَنَسَفَ حَرْبِهَا وَخَرَاجِهَا. وَكَانَتْ خَزَائِنَ مَنِيعَةً، فَقَالَ الْمُجَشِّرِ لِلْحَرَشِيِّ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَنْ يَفْتَحُهَا لَكَ بِغَيْرِ قِتَالٍ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: الْمُسَرْبَلُ بْنُ الْخِرِّيتِ بْنِ رَاشِدٍ النَّاجِي، فَوَجَّهَهُ إِلَيْهَا، وَكَانَ صَدِيقًا لِمَلِكِهَا، وَاسْمُ الْمَلِكِ سُبُقْرَى، فَأَخْبَرَ الْمَلِكَ بِمَا صَنَعَ الْحَرَشِيُّ بِأَهْلِ خُجَنْدَةَ وَخَوَّفَهُ، قَالَ: فَمَا تَرَى؟ قَالَ: أَنْ تَنْزِلَ بِأَمَانٍ. قَالَ: فَمَا أَصْنَعُ بِمَنْ لَحِقَ بِي؟ قَالَ: تَجْعَلُهُمْ فِي أَمَانِكَ، فَصَالَحَهُمْ فَآمَنُوهُ وَبِلَادَهُ، وَرَجَعَ الْحَرَشِيُّ إِلَى بِلَادِهِ وَمَعَهُ سُبُقْرَى، فَقُتِلَ سُبُقْرَى وَصُلِبَ وَمَعَهُ الْأَمَانُ. ذِكْرُ ظَفَرِ الْخَزَرِ بِالْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ جَيْشٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِلَادَ الْخَزَرِ مِنْ أَرْمِينِيَّةَ وَعَلَيْهِمْ ثُبَيْتٌ النَّهْرَانِيُّ، فَاجْتَمَعَتِ الْخَزَرُ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ وَأَعَانَهُمْ قُفْجَاقٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ التُّرْكِ، فَلَقُوا الْمُسْلِمِينَ فِي مَكَانٍ يُعْرَفُ بِمَرْجِ الْحِجَارَةِ، فَاقْتَتَلُوا هُنَالِكَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَشَرٌ كَثِيرٌ وَاحْتَوَتِ الْخَزَرُ عَلَى عَسْكَرِهِمْ، وَغَنِمُوا جَمِيعَ مَا فِيهِ، وَأَقْبَلَ

الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى الشَّامِ فَقَدِمُوا عَلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَفِيهِمْ ثُبَيْتٌ، فَوَبَّخَهُمْ يَزِيدُ عَلَى الْهَزِيمَةِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا جَبُنْتُ وَلَا نَكَبْتُ عَنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَلَقَدْ لَصَقْتُ الْخَيْلَ بِالْخَيْلِ وَالرَّجُلَ بِالرَّجُلِ، وَلَقَدْ طَاعَنْتُ حَتَّى انْقَصَفَ رُمْحِي، وَضَارَبْتُ حَتَّى انْقَطَعَ سَيْفِي، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ. ذِكْرُ وِلَايَةِ الْجَرَّاحِ أَرْمِينِيَّةَ وَفَتْحِ بَلَنْجَرَ وَغَيْرِهَا لَمَّا تَمَّتِ الْهَزِيمَةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَمِعَ الْخَزَرُ فِي الْبِلَادِ، فَجَمَعُوا وَحَشَدُوا، وَاسْتَعْمَلَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ حِينَئِذٍ عَلَى أَرْمِينِيَّةَ، وَأَمَدَّهُ بِجَيْشٍ كَثِيفٍ، وَأَمْرَهُ بِغَزْوِ الْخَزَرِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَبِقَصْدِ بِلَادِهِ. فَسَارَ الْجَرَّاحُ، وَتَسَامَعَ الْخَزَرِيَّةُ، فَعَادُوا حَتَّى نَزَلُوا بِالْبَابِ وَالْأَبْوَابِ، وَوَصَلَ الْجَرَّاحُ إِلَى بَرْذَعَةَ، فَأَقَامَ حَتَّى اسْتَرَاحَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَسَارَ نَحْوَ الْخَزَرِ، فَعَبَرَ نَهْرَ الْكَرِّ، فَسَمِعَ بِأَنَّ بَعْضَ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْجِبَالِ قَدْ كَاتَبَ مَلِكَ الْخَزَرِ يُخْبِرُهُ بِمُسَيَّرِ الْجَرَّاحِ إِلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ أَمَرَ الْجَرَّاحُ مُنَادِيَهُ فَنَادَى فِي النَّاسِ: إِنَّ الْأَمِيرَ مُقِيمٌ هَاهُنَا عِدَّةَ أَيَّامٍ، فَاسْتَكْثِرُوا مِنَ الْمِيرَةِ ; فَكَتَبَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى مَلِكِ الْخَزَرِ يُخْبِرُهُ أَنَّ الْجَرَّاحَ مُقِيمٌ، وَيُشِيرُ عَلَيْهِ بِتَرْكِ الْحَرَكَةِ لِئَلَّا يَطْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَمَرَ الْجَرَّاحُ بِالرَّحِيلِ، فَسَارَ مُجِدًّا حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَدِينَةِ الْبَابِ وَالْأَبْوَابِ، فَلَمْ يَرَ الْخَزَرَ، فَدَخَلَ الْبَلَدَ فَبَثَّ سَرَايَاهُ فِي النَّهْبِ وَالْغَارَةِ عَلَى مَا يُجَاوِرُهُ، فَغَنِمُوا وَعَادُوا مِنَ الْغَدِ، وَسَارَ الْخَزَرُ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ ابْنُ مَلِكِهِمْ، فَالْتَقَوْا عِنْدَ نَهْرِ الرَّانِ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَحَرَّضَ الْجَرَّاحُ أَصْحَابَهُ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَظَفِرُوا بِالْخَزَرِ وَهَزَمُوهُمْ، وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعَ مَا مَعَهُمْ، وَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حِصْنٍ يُعْرَفُ بِالْحُصَيْنِ، فَنَزَلَ أَهْلُهُ بِالْأَمَانِ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُونَهُ، فَأَجَابَهُمْ وَنَقَلَهُمْ عَنْهَا. ثُمَّ سَارَ إِلَى مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا يَرْغُوَا، فَأَقَامَ عَلَيْهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ مُجِدٌّ فِي قِتَالِهِمْ، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَآمَنَهُمْ وَتَسَلَّمَ حِصْنَهُمْ وَنَقَلَهُمْ مِنْهُ. ثُمَّ سَارَ الْجَرَّاحُ إِلَى بَلَنْجَرَ، وَهُوَ حِصْنٌ مَشْهُورٌ مِنْ حُصُونِهِمْ، فَنَازَلَهُ، وَكَانَ أَهْلُ

الْحِصْنِ قَدْ جَمَعُوا ثَلَاثَمِائَةِ عَجَلَةٍ، فَشَدُّوا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَجَعَلُوهَا بِحَوْلِ حِصْنِهِمْ لِيَحْتَمُوا بِهَا، وَتَمْنَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْحِصْنِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْعَجَلُ أَشَدُّ شَيْءٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قِتَالِهِمْ. فَلَمَّا رَأَوُا الضَّرَرَ الَّذِي عَلَيْهِمْ مِنْهَا انْتَدَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ نَحْوَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَتَعَاهَدُوا عَلَى الْمَوْتِ، وَكَسَرُوا جُفُونَ سُيُوفِهِمْ، وَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَتَقَدَّمُوا نَحْوَ الْعَجَلِ، وَجَدَّ الْكُفَّارُ فِي قِتَالِهِمْ، وَرَمَوْا مِنَ النُّشَّابِ مَا كَانَ يَحْجُبُ الشَّمْسَ، فَلَمْ يَرْجِعْ أُولَئِكَ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى الْعَجَلِ، وَتَعَلَّقُوا بِبَعْضِهَا، وَقَطَعُوا الْحَبْلَ الَّذِي يُمْسِكُهَا، وَجَذَبُوهَا فَانْحَدَرَتْ، وَتَبِعَهَا سَائِرُ الْعَجَلِ، لِأَنَّ بَعْضَهَا كَانَ مَشْدُودًا إِلَى بَعْضٍ، وَانْحَدَرَ الْجَمِيعُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ وَاشْتَدَّ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى الْجَمِيعِ حَتَّى بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ. ثُمَّ إِنَّ الْخَزَرَ انْهَزَمُوا وَاسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْحِصْنِ عَنْوَةً وَغَنِمُوا جَمِيعَ مَا فِيهِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَأَصَابَ الْفَارِسُ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. ثُمَّ إِنَّ الْجَرَّاحَ أَخَذَ أَوْلَادَ صَاحِبِ بَلَنْجَرَ وَأَهْلَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأَحْضَرَهُ، وَرَدَّ إِلَيْهِ أَمْوَالَهُ وَأَهْلَهُ وَحِصْنَهُ، وَجَعَلَهُ عَيْنًا لَهُمْ يُخْبِرُهُمْ بِمَا يَفْعَلُهُ الْكُفَّارُ. ثُمَّ سَارَ عَنْ بَلَنْجَرَ فَنَزَلَ عَلَى حِصْنِ الْوَبَنْدَرِ، وَبِهِ نَحْوُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ بَيْتٍ مِنَ التُّرْكِ، فَصَالَحُوا الْجَرَّاحَ عَلَى مَالٍ يُؤَدُّونَهُ. ثُمَّ إِنْ أَهْلَ تِلْكَ الْبِلَادِ تَجَمَّعُوا وَأَخَذُوا الطُّرُقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَتَبَ صَاحِبُ بَلَنْجَرَ إِلَى الْجَرَّاحِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ. فَعَادَ مُجِدًّا حَتَّى وَصَلَ إِلَى رُسْتَاقِ مَلَّى، وَأَدْرَكَهُمُ الشِّتَاءُ، فَأَقَامَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ، وَكَتَبَ الْجَرَّاحُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يُخْبِرُهُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَبِمَا اجْتَمَعَ مِنَ الْكُفَّارِ وَيَسْأَلُهُ الْمَدَدَ. فَوَعَدَهُ إِنْفَاذَ الْعَسَاكِرِ إِلَيْهِ، فَأَدْرَكَهُ أَجْلُهُ قَبْلَ إِنْفَاذِ الْجَيْشِ، فَأَرْسَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى الْجَرَّاحِ، فَأَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَوَعَدَهُ الْمَدَدَ. ذِكْرُ عَزْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الضَّحَّاكِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَيْهِمَا ثَلَاثَ سِنِينَ، وَوَلَّى عَبْدَ الْوَاحِدِ النَّضْرِيَّ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ خَطَبَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَقَالَتْ: مَا أُرِيدُ النِّكَاحَ وَلَقَدْ قَعَدْتُ عَلَى بَنِيَّ هَؤُلَاءِ. فَأَلَحَّ عَلَيْهَا وَقَالَ: لَئِنْ لَمْ تَفْعَلِي لَأَجْلِدَنَّ أَكْبَرَ بَنِيكِ فِي الْخَمْرِ، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَانَ عَلَى الدِّيوَانِ

بِالْمَدِينَةِ ابْنُ هُرْمُزَ، رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَقَدْ رَفَعَ حِسَابَهُ وَيُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى يَزِيدَ، فَدَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ يُوَدِّعُهَا [فَقَالَ: هَلْ مِنْ حَاجَةٍ؟] فَقَالَتْ: تُخْبِرُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَلْقَى مِنِ ابْنِ الضَّحَّاكِ، وَمَا يَتَعَرَّضُ مِنِّي، وَبَعَثَتْ رَسُولًا بِكِتَابٍ إِلَى يَزِيدَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ. وَقَدِمَ ابْنُ هُرْمُزَ عَلَى يَزِيدَ، فَاسْتَخْبَرَهُ عَنِ الْمَدِينَةِ وَقَالَ: هَلْ مِنْ مَغْرَبَةِ خَبَرٍ؟ فَلَمْ يَذْكُرْ شَأْنَ فَاطِمَةَ. فَقَالَ الْحَاجِبُ لِيَزِيدَ: بِالْبَابِ رَسُولٌ مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ. فَقَالَ ابْنُ هُرْمُزَ: إِنَّهَا حَمَّلَتْنِي رِسَالَةً. وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ. فَنَزَلَ مِنْ فِرَاشِهِ، وَقَالَ: لَا أُمَّ لَكَ! عِنْدَكَ هَذَا وَلَا تُخْبِرُنِيهِ؟ فَاعْتَذَرَ بِالنِّسْيَانِ، وَأَذِنَ لِرَسُولِهَا فَأَدْخَلَهُ، وَأَخَذَ الْكِتَابَ، فَقَرَأَهُ، وَجَعَلَ يَضْرِبُ بِخَيْزُرَانٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: لَقَدِ اجْتَرَأَ ابْنُ الضَّحَّاكِ، هَلْ مِنْ رَجُلٍ يُسْمُعُنِي صَوْتَهُ فِي الْعَذَابِ؟ قِيلَ لَهُ: عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّضْرِيُّ. فَكَتَبَ بِيَدِهِ إِلَى عَبْدِ الْوَاحِدِ: قَدْ وَلَّيْتُكَ الْمَدِينَةَ، فَاهْبِطْ إِلَيْهَا، وَاعْزِلْ عَنْهَا ابْنَ الضَّحَّاكِ، وَأَغْرِمْهُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَذِّبْهُ حَتَّى أَسْمَعَ صَوْتَهُ وَأَنَا عَلَى فِرَاشِي. وَسَارَ الْبَرِيدُ بِالْكِتَابِ، وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى ابْنِ الضَّحَّاكِ، فَأُخْبِرَ ابْنُ الضَّحَّاكِ، فَأَحْضَرَ الْبَرِيدَ، وَأَعْطَاهُ أَلْفَ دِينَارٍ لِيُخْبِرَهُ خَبَرَهُ، فَأَخْبَرَهُ، فَسَارَ ابْنُ الضَّحَّاكِ مُجِدًّا، فَنَزَلَ عَلَى مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَاسْتَجَارَهُ، فَحَضَرَ مَسْلَمَةُ عِنْدَ يَزِيدَ، فَطَلَبَ إِلَيْهِ حَاجَةَ خَالِهِ، فَقَالَ: كُلُّ حَاجَةٍ فَهِيَ لَكَ إِلَّا ابْنَ الضَّحَّاكِ. فَقَالَ: هِيَ وَاللَّهِ ابْنُ الضَّحَّاكِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُعْفِيهِ أَبَدًا. وَرَدَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى عَبْدِ الْوَاحِدِ، فَعَذَّبَهُ وَلَقِيَ شَرًّا، ثُمَّ لَبِسَ جُبَّةَ صُوفٍ يَسْأَلُ النَّاسَ. وَكَانَ قُدُومُ النَّضْرِيِّ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ. وَكَانَ ابْنُ الضَّحَّاكِ قَدْ آذَى الْأَنْصَارَ طُرًّا، فَهَجَاهُ الشُّعَرَاءُ وَذَمَّهُ الصَّالِحُونَ، وَلَمَّا وَلِيَهُمُ النَّضْرِيُّ أَحْسَنَ السِّيرَةَ فَأَحَبُّوهُ، وَكَانَ خَيِّرًا يَسْتَشِيرُ فِيمَا يُرِيدُ فِعْلَهُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. ذِكْرُ وِلَادَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ وَقِيلَ: وَفِيهَا وُلِدَ أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَهُوَ السَّفَّاحُ، وَوَصَلَ إِلَى أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ مِنْ خُرَاسَانَ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِمْ أَبَا الْعَبَّاسِ فِي خِرْقَةٍ، وَلَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ لَهُمْ: هَذَا صَاحِبُكُمُ الَّذِي يَتِمُّ الْأَمْرُ عَلَى يَدِهِ فَقَبَّلُوا أَطْرَافَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تُدْرِكُوا ثَأْرَكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ.

ذِكْرُ عَزْلِ سَعِيدٍ الْحَرَشِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ سَعِيدًا الْحَرَشِيَّ عَنْ خُرَاسَانَ، وَوَلَّاهَا مُسْلِمَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ زُرْعَةَ الْكِلَابِيَّ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ كَتَبَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ إِلَى الْحَرَشِيِّ بِإِطْلَاقِ الدَّيْوَشْتَى، فَقَتَلَهُ، وَكَانَ يَسْتَخِفُّ بِابْنِ هُبَيْرَةَ وَيَذْكُرُهُ بِأَبِي الْمُثَنَّى، [وَلَا يَقُولُ الْأَمِيرُ] فَيَقُولُ: [قَالَ] أَبُو الْمُثَنَّى، (وَفَعَلَ أَبُو الْمُثَنَّى، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنُ هُبَيْرَةَ، فَأَرْسَلَ جَمِيلَ بْنَ عِمْرَانَ ; لِيَعْلَمَ حَالَ الْحَرَشِيِّ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يَنْظُرُ فِي الدَّوَاوِينِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى الْحَرَشِيِّ، قَالَ: كَيْفَ أَبُو الْمُثَنَّى) ؟ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ جَمِيلًا لَمْ يَقْدَمْ إِلَّا لِيَعْلَمَ عِلْمَكَ. فَسَمَّ بَطِّيخَةً وَبَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ، فَأَكَلَهَا، وَمَرِضَ، وَسَقَطَ شَعْرُهُ، وَرَجَعَ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَقَدْ عُولِجَ، فَصَحَّ، فَقَالَ لَهُ: الْأَمْرُ أَعْظَمُ مِمَّا بَلَغَكَ، مَا يَرَى الْحَرَشِيُّ إِلَّا أَنَّكَ عَامِلٌ لَهُ، فَغَضِبَ وَعَزَلَهُ، وَنَفْحَ فِي بَطْنِهِ النَّمْلَ، وَعَذَّبَهُ حَتَّى أَدَّى الْأَمْوَالَ. وَسَمَرَ لَيْلَةً ابْنُ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ: مَنْ سَيِّدُ قَيْسٍ؟ فَقَالُوا: الْأَمِيرُ. قَالَ: دَعُوا هَذَا: سَيِّدُ قَيْسٍ: الْكَوْثَرُ بْنُ زُفَرَ، لَوْ ثَوَّرَ بِلَيْلٍ لَوَافَاهُ عِشْرُونَ أَلْفًا لَا يَقُولُونَ لِمَ دَعَوْتَنَا، وَفَارِسُهَا هَذَا الْحِمَارُ الَّذِي فِي الْحَبْسِ، وَقَدْ أَمَرْتُ بِقَتْلِهِ، يَعْنِي الْحَرَشِيَّ، فَأَمَّا خَيْرُ قَيْسٍ لَهَا فَعَسَى أَنْ أَكُونَهُ. فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ: لَوْ كُنْتَ كَمَا تَقُولُ مَا أَمَرْتَ بِقَتْلِ فَارِسِهَا. فَأَرْسَلَ إِلَى مَعْقِلِ بْنِ عُرْوَةَ أَنْ كُفَّ عَنْ قَتْلِهِ، وَكَانَ قَدْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ، (وَكَانَ ابْنُ هُبَيْرَةَ لَمَّا وَلَّى مُسْلِمَ بْنَ سَعِيدٍ خُرَاسَانَ أَمَرَهُ بِأَخْذِ الْحَرَشِيِّ وَتَقْيِيدِهِ) وَإِنْفَاذِهِ إِلَيْهِ، فَقَدِمَ مُسْلِمٌ دَارَ الْإِمَارَةِ، فَرَأَى الْبَابَ مُغْلَقًا، فَقِيلَ لِلْحَرَشِيِّ: قَدِمَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَقَدِمْتَ أَمِيرًا أَوْ وَزِيرًا أَوْ زَائِرًا؟ فَقَالَ: مِثْلِي لَا يَقْدَمُ زَائِرًا وَلَا وَزِيرًا. فَأَتَاهُ الْحَرَشِيُّ فَشَتَمَهُ وَقَيَّدَهُ وَأَمَّرَ بِحَبْسِهِ، ثُمَّ أَمَرَ صَاحِبَ الْحَبْسِ أَنْ يَزِيدَهُ قَيْدًا، فَأُخْبِرَ الْحَرَشِيُّ بِذَلِكَ، فَقَالَ لِكَاتِبِهِ: اكْتُبْ إِلَيْهِ إِنَّ صَاحِبَ سِجْنِكَ ذَكَرَ أَنَّكَ أَمَرْتَهُ أَنْ يَزِيدَنِي قَيْدًا، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا فَوْقَكَ فَسَمْعًا وَطَاعَةً، وَإِنْ كَانَ رَأْيًا رَأَيْتَهُ فَسَيْرُكَ الْحَقْحَقَةِ! وَهِيَ أَشَدُّ السِّيَرِ، وَتَمَثَّلَ:

فَإِمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي ... وَمَنْ يُثَقَفْ فَلَيْسَ لَهُ خُلُودُ هُمُ الْأَعْدَاءُ إِنْ شَهِدُوا وَغَابُوا ... أُولُوا الْأَحْقَادِ وَالْأَكْبَادُ سُودُ فَلَمَّا هَرَبَ ابْنُ هُبَيْرَةَ عَنِ الْعِرَاقِ أَرْسَلَ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ فِي طَلَبِ الْحَرَشِيِّ، فَأَدْرَكَهُ عَلَى الْفُرَاتِ، فَقَالَ: مَا ظَنُّكَ بِي؟ قَالَ: ظَنِّي بِكَ أَنَّكَ لَا تَدْفَعُ رَجُلًا مِنْ قَوْمِكَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ قَيْسٍ. فَقَالَ: هُوَ ذَاكَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّضْرِيُّ. وَعَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ: عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ. وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ: حُسَيْنُ بْنُ حَسَنٍ الْكِنْدِيُّ. وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى. [الوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو قِلَابَةَ الْجَرْمِيُّ، وَقِيلَ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةٍ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ.

وَفِيهَا مَاتَ عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَعُمَيْرٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. وَخَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي كَرْبٍ الْكُلَاعِيُّ، سَكَنَ الشَّامَ.

ثم دخلت سنة خمس ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَمِائَةٍ] 105 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَمِائَةٍ ذِكْرُ خُرُوجِ عُقْفَانَ فِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ خَرَجَ حَرُورِيٌّ اسْمُهُ عُقْفَانُ فِي ثَمَانِينَ رَجُلًا، فَأَرَادَ يَزِيدُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ جُنْدًا يُقَاتِلُونَهُ: فَقِيلَ لَهُ: إِنْ قُتِلَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ اتَّخَذَهَا الْخَوَارِجُ دَارَ هِجْرَةٍ، وَالرَّأْيُ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ يُكَلِّمُهُ وَيَرُدُّهُ. فَفَعَلَ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ نُؤْخَذَ بِكُمْ. وَأُومِنُوا وَبَقِيَ عُقْفَانُ وَحْدَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ يَزِيدُ أَخَاهُ، فَاسْتَعْطَفَهُ، فَرَدَّهُ، فَلَمَّا وَلِيَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَلَّاهُ أَمْرَ الْعُصَاةِ، فَقَدِمَ ابْنُهُ مِنْ خُرَاسَانَ غَاضِبًا، فَشَدَّهُ وَثَاقًا وَبَعَثَ بِهِ إِلَى هِشَامٍ، فَأَطْلَقَهُ لِأَبِيهِ وَقَالَ: لَوْ خَانَنَا عُقْفَانُ لَكَتَمَ أَمْرَ ابْنِهِ. وَاسْتَعْمَلَ عُقْفَانَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَبَقِيَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ هِشَامٌ. ذِكْرُ خُرُوجِ مَسْعُودٍ الْعَبْدِيِّ وَخَرَجَ مَسْعُودُ بْنُ أَبِي زَيْنَبَ الْعَبْدِيُّ بِالْبَحْرَيْنِ عَلَى الْأَشْعَثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَارُودِ، فَفَارَقَ الْأَشْعَثُ الْبَحْرَيْنِ، وَسَارَ مَسْعُودٌ إِلَى الْيَمَامَةِ، وَعَلَيْهَا سُفْيَانُ بْنُ عَمْرٍو الْعُقَيْلِيُّ، وَلَّاهُ إِيَّاهَا عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ سُفْيَانُ، فَاقْتَتَلُوا بِالْخِضْرِمَةِ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ مَسْعُودٌ، وَقَامَ بِأَمْرِ الْخَوَارِجِ بَعْدَهُ هِلَالُ بْنُ مُدْلِجٍ فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَهُ كُلَّهُ، فَقُتِلَ نَاسٌ مِنَ الْخَوَارِجِ وَقُتِلَتْ زَيْنَبُ أُخْتُ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا أَمْسَى هِلَالٌ تَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَبَقِيَ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَدَخَلَ قَصْرًا فَتَحَصَّنَ بِهِ، فَنَصَبُوا عَلَيْهِ السَّلَالِيمَ، وَصَعِدُوا إِلَيْهِ، فَقَتَلُوهُ وَاسْتَأْمَنَ أَصْحَابُهُ فَآمَنَهُمْ، وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ فِي هَذَا الْيَوْمِ:

لَعَمْرِي لَقَدْ سَلَّتْ حَنِيفَةُ سَلَّةً ... سُيُوفًا أَبَتْ يَوْمَ الْوَغَى أَنْ تُغَيَّرَا تَرَكْنَ لِمَسْعُودٍ وَزَيْنَبَ أُخْتِهِ ... رِدَاءً وَسِرْبَالًا مِنَ الْمَوْتِ أَحْمَرَا أَرَيْنَ الْحَرُورِيَّيْنِ يَوْمَ لِقَائِهِمْ ... بِبُرْقَانَ يَوْمًا يَجْعَلُ الْمَوْتَ أَشْقَرَا وَقِيلَ: إِنَّ مَسْعُودًا غَلَبَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَامَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى قَتَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عَمْرٍو الْعُقَيْلِيُّ. (الْخِضْرِمَةُ: بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ) . ذِكْرُ مُصْعَبِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْوَالِبِيِّ كَانَ مُصْعَبٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْخَوَارِجِ، وَطَلَبَهُ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَطَلَبَ مَعَهُ مَالِكَ بْنَ الصَّعْبِ، وَجَابِرَ بْنَ سَعْدٍ، فَخَرَجُوا وَاجْتَمَعُوا بِالْخَوَرْنَقِ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ مُصْعَبًا، وَمَعَهُ أُخْتُهُ آمِنَةُ، وَسَارُوا عَنْهُ. فَلَمَّا وَلِيَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْعِرَاقِ خَالِدًا الْقَسْرِيَّ سَيَّرَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، وَكَانُوا قَدْ صَارُوا بِحَزَّةَ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ الْخَوَارِجُ، وَقِيلَ: كَانَ قَتْلُهُمْ آخِرَ أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ فِيهِمُ الشُّعَرَاءُ: فِتْيَةٌ تَعْرِفُ التَّخَشُّعَ فِيهِمْ ... كُلُّهُمْ أَحْكَمَ الْقُرَانَ إِمَامًا قَدْ بَرَى لَحْمَهُ التَّهَجُّدُ حَتَّى ... عَادَ جِلْدًا مُصَفَّرًا وَعِظَامَا غَادَرُوهُمْ بِقَاعِ حَزَّةَ صَرْعَى ... فَسَقَى الْغَيْثُ أَرْضَهُمْ يَا إِمَامَا ذِكْرُ مَوْتِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، (وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَشَهْرًا وَأَيَّامًا) ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو خَالِدٍ، وَكَانَ مَرَضُهُ السُّلُّ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّ حَبَابَةَ لَمَّا مَاتَتْ وَجَدَ عَلَيْهَا وَجْدًا شَدِيدًا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَخَرَجَ مُشَيِّعًا لِجِنَازَتِهَا وَمَعَهُ أَخُوهُ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِيُسَلِّيَهُ وَيُعَزِّيَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ بِكَلِمَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّ يَزِيدَ لَمْ يُطِقِ الرُّكُوبَ مِنَ الْجَزَعِ، وَعَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ، فَأَمَرَ

مَسْلَمَةَ فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَقِيلَ: مَنَعَهُ مَسْلَمَةُ عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَرَى النَّاسُ مِنْهُ مَا يَعِيبُونَهُ بِهِ. فَلَمَّا دُفِنَتْ بَقِيَ بَعْدَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَمَاتَ وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِهَا، وَقِيلَ: بَقِيَ بَعْدَهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَمَّا مَاتَ صَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ مَسْلَمَةُ، وَقِيلَ: ابْنُهُ الْوَلِيدُ، وَكَانَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِحِمْصَ. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ كَانَ يَزِيدُ مِنْ فِتْيَانِهِمْ، فَقَالَ يَوْمًا وَقَدْ طَرِبَ وَعِنْدَهُ حَبَابَةُ وَسَلَّامَةُ الْقَسِّ: دَعُونِي أَطِيرُ. قَالَتْ حَبَابَةُ: عَلَى مَنْ تَدَعُ الْأُمَّةَ؟ قَالَ: عَلَيْكِ، قِيلَ وَغَنَّتْهُ يَوْمًا: وَبَيْنَ التَّرَاقِي وَاللَّهَاةِ حَرَارَةٌ ... مَا تَطْمَئِنُّ وَمَا تَسُوغُ فَتَبْرُدَا فَأَهْوَى لِيَطِيرَ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ لَنَا فِيكَ حَاجَةً. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَطِيرَنَّ! فَقَالَتْ: عَلَى مَنْ تُخَلِّفُ الْأُمَّةَ وَالْمُلْكَ؟ قَالَ: عَلَيْكِ وَاللَّهِ! وَقَبَّلَ يَدَهَا، فَخَرَجَ بَعْضُ خَدَمِهِ وَهُوَ يَقُولُ: سَخِنَتْ عَيْنُكَ فَمَا أَسْخَفَكَ! وَخَرَجَتْ مَعَهُ إِلَى نَاحِيَةِ الْأُرْدُنِّ يَتَنَزَّهَانِ، فَرَمَاهَا بِحَبَّةِ عِنَبٍ، فَدَخَلَتْ حَلْقَهَا، فَشَرِقَتْ وَمَرِضَتْ وَمَاتَتْ، فَتَرَكَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَدْفِنْهَا، حَتَّى أَنْتَنَتْ وَهُوَ يَشُمُّهَا وَيُقَبِلُهَا وَيَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَبْكِي، فَكُلِّمَ فِي أَمْرِهَا حَتَّى أَذِنَ فِي دَفْنِهَا، وَعَادَ إِلَى قَصْرِهِ كَئِيبًا حَزِينًا، وَسَمِعَ جَارِيَةً لَهُ تَتَمَثَّلُ بَعْدَهَا: كَفَى حَزَنًا بِالْهَائِمِ الصَّبِّ أَنْ يَرَى ... مَنَازِلَ مَنْ يَهْوَى مُعَطَّلَةً قَفْرَا فَبَكَى، وَبَقِيَ يَزِيدُ بَعْدَ مَوْتِهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ، أَشَارَ عَلَيْهِ مَسْلَمَةُ بِذَلِكَ، وَخَافَ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يُسَفِّهُهُ عِنْدَهُمْ. وَكَانَ يَزِيدُ قَدْ حَجَّ أَيَّامَ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ، فَاشْتَرَى حَبَابَةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَكَانَ

اسْمُهَا الْعَالِيَةَ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَحْجُرَ عَلَى يَزِيدَ، فَرَدَّهَا يَزِيدُ، فَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، فَلَمَّا أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى يَزِيدَ قَالَتِ امْرَأَتُهُ سُعْدَةُ: هَلْ بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ تَتَمَنَّاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، حَبَابَةُ. فَأَرْسَلَتْ فَاشْتَرَتْهَا، ثُمَّ صَيَّغَتْهَا، وَأَتَتْ بِهَا يَزِيدَ، فَأَجْلَسَتْهَا مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ، وَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ بَقِيَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ تَتَمَنَّاهُ؟ قَالَ: قَدْ أَعْلَمْتُكِ. فَرَفَعَتِ السِّتْرَ وَقَالَتْ: هَذِهِ حَبَابَةُ، وَقَامَتْ وَتَرَكَتْهَا عِنْدَهُ، فَحَظِيَتْ سُعْدَةُ عِنْدَهُ وَأَكْرَمَهَا. وَسُعْدَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ. وَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ لَمْ يُعْلَمْ بِمَوْتِهِ حَتَّى نَاحَتْ سَلَّامَةُ فَقَالَتْ: لَا تَلُمْنَا إِنْ خَشَعْنَا أَوْ هَمَمْنَا بِخُشُوعِ ... قَدْ لَعَمْرِي بِتُّ لَيْلِي كَأَخِي الدَّاءِ الْوَجِيعِ ثُمَّ بَاتَ الْهَمُّ مِنِّي دُونَ مَنْ لِي بِضَجِيعِ ... لِلَّذِي حَلَّ بِنَا الْيَوْمَ مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ كُلَّمَا أَبْصَرْتُ رَبْعًا خَالِيًا فَاضَتْ دُمُوعِي ... قَدْ خَلَا مِنْ سَيِّدٍ كَانَ لَنَا غَيْرُ مُضِيعِ ثُمَّ نَادَتْ: وَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَاهْ! فَعَلِمُوا بِمَوْتِهِ. وَالشِّعْرُ لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ. وَأَخْبَارُ يَزِيدَ مَعَ سَلَّامَةَ وَحَبَابَةَ كَثِيرَةٌ، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا. وَإِنَّمَا قِيلَ لِسَلَّامَةَ [سَلَّامَةُ] الْقَسِّ، لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ أَحَدَ بَنِي جُشَمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بُكَيْرٍ كَانَ فَقِيهًا عَابِدًا مُجْتَهِدًا فِي الْعِبَادَةِ، وَكَانَ يُسَمَّى الْقَسَّ لِعِبَادَتِهِ، مَرَّ يَوْمًا بِمَنْزِلِ مَوْلَاهَا، فَسَمِعَ غِنَاءَهَا، فَوَقَفَ يَسْمَعُهُ، فَرَآهُ مَوْلَاهَا، فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ تَنْظُرَ وَتَسْمَعَ؟ فَأَبَى، فَقَالَ: أَنَا أُقْعِدُهَا بِمَكَانٍ لَا تَرَاهَا، وَتَسْمَعُ غِنَاءَهَا، فَدَخَلَ مَعَهُ فَغَنَّتْهُ، فَأَعْجَبَهُ غِنَاؤُهَا، ثُمَّ أَخْرَجَهَا مَوْلَاهَا إِلَيْهِ، فَشُغِفَ بِهَا وَأَحَبَّهَا، وَأَحَبَّتْهُ هِيَ أَيْضًا، وَكَانَ شَابًّا جَمِيلًا. فَقَالَتْ لَهُ يَوْمًا عَلَى خَلْوَةٍ: أَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ! قَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكِ! قَالَتْ:

وَأُحِبُّ أَنْ أُقَبِّلَكَ! قَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ! قَالَتْ: وَأُحِبُّ أَنْ أَضَعَ بَطْنِي عَلَى بَطْنِكَ! قَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ! قَالَتْ: فَمَا يَمْنَعُكَ؟ قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَؤُولَ خُلَّتُنَا إِلَى عَدَاوَةٍ، ثُمَّ قَامَ، وَانْصَرَفَ عَنْهَا، وَعَادَ إِلَى عِبَادَتِهِ، وَلَهُ فِيهَا أَشْعَارٌ، مِنْهَا: أَلَمْ تَرَهَا لَا يُبْعِدُ اللَّهُ دَارَهَا ... إِذَا طَرَّبَتْ فِي صَوْتِهَا كَيْفَ تَصْنَعُ تَمُدُّ نِظَامَ الْقَوْلِ ثُمَّ تَرُدُّهُ ... إِلَى صَلْصَلٍ مِنْ صَوْتِهَا يَتَرَجَّعُ وَلَهُ فِيهَا: أَلَا قُلْ لِهَذَا الْقَلْبِ هَلْ أَنْتَ مُبْصِرُ ... وَهَلْ أَنْتَ عَنْ سَلَّامَةَ الْيَوْمَ مُقْصِرُ أَلَا لَيْتَ أَنِّي حَيْثُ صَارَتْ بِهَا النَّوَى ... جَلِيسٌ لِسَلْمَى كُلَّمَا عَجَّ مِزْهَرُ إِذَا أَخَذَتْ فِي الصَّوْتِ كَادَ جَلِيسُهَا ... يَطِيرُ إِلَيْهَا قَلْبُهُ حِينَ يَنْظُرُ فَقِيلَ لَهَا: سَلَّامَةُ الْقَسِّ لِذَلِكَ. (سَلَّامَةُ: بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَحَبَابَةُ: بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) . ذِكْرُ خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتُخْلِفَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِلَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ اسْتُخْلِفَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَكَانَتْ وِلَادَتُهُ عَامَ قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، فَسَمَّاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ مَنْصُورًا، وَسَمَّتْهُ أُمُّهُ بِاسْمِ أَبِيهَا هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَبْدُ الْمَلِكِ ذَلِكَ. وَكَانَتْ أُمُّهُ عَائِشَةُ بِنْتُ هِشَامٍ حَمْقَاءَ، فَطَلَّقَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ. وَكَانَتْ كُنْيَةُ هِشَامٍ: أَبَا الْوَلِيدِ، وَأَتَتْهُ الْخِلَافَةُ وَهُوَ بِالرُّصَافَةِ، أَتَاهُ الْبَرِيدُ بِالْخَاتَمِ وَالْقَضِيبِ، وَسُلِّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، فَرَكِبَ مِنْهَا حَتَّى أَتَى دِمَشْقَ.

ذِكْرُ وِلَايَةِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ الْعِرَاقَ فِيهَا عَزَلَ هِشَامٌ عُمَرَ بْنَ هُبَيْرَةَ عَنِ الْعِرَاقِ، وَاسْتَعْمَلَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ فِي شَوَّالٍ. قَالَ عُمَرُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عُمَيْرٍ الْأُسَيِّدِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى هِشَامٍ وَخَالِدٌ عِنْدَهُ، وَهُوَ يَذْكُرُ طَاعَةَ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ هَكَذَا خَطَأً وَخَطَلًا، وَاللَّهِ مَا فُتِحَتْ فِتْنَةٌ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا بِأَهْلِ الْيَمَنِ، هُمْ قَتَلُوا عُثْمَانَ، وَهُمْ خَلَعُوا عَبْدَ الْمَلِكِ، وَإِنَّ سُيُوفَنَا لَتَقْطُرُ مِنْ دِمَاءِ أَهْلِ الْمُهَلَّبِ. قَالَ: فَلَمَّا قُمْتُ تَبِعَنِي رَجُلٌ مِنْ آلِ مَرْوَانَ، فَقَالَ: يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ وَرَتْ بِكَ زِنَادِي، قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ وَلَّى خَالِدًا الْعِرَاقَ، وَلَيْسَتْ لَكَ بِدَارٍ! فَسَارَ خَالِدٌ إِلَى الْعِرَاقِ مِنْ يَوْمِهِ. (الْأُسَيِّدِيُّ: بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، هَكَذَا يَقُولُهُ الْمُحَدِّثُونَ، وَأَمَّا النُّحَاةُ فَإِنَّهُمْ يُخَفِّفُونَ الْيَاءَ، وَهِيَ عِنْدُ الْجَمِيعِ نِسْبَةٌ إِلَى أُسَيِّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ) . ذِكْرُ دُعَاةِ بَنِي عَبَّاسٍ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ بُكَيْرُ بْنُ مَاهَانَ مِنَ السِّنْدِ، وَكَانَ بِهَا مَعَ الْجُنَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. فَلَمَّا عُزِلَ الْجُنَيْدُ قَدِمَ بُكَيْرٌ الْكُوفَةَ، وَمَعَهُ أَرْبَعُ لَبِنَاتٍ مِنْ فِضَّةٍ، وَلَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبَ، فَلَقِيَ أَبَا عِكْرِمَةَ الصَّادِقَ وَمَيْسَرَةَ وَمُحَمَّدَ بْنَ خُنَيْسٍ، وَسَالِمًا الْأَعْيَنَ، وَأَبَا يَحْيَى مَوْلَى بَنِي سَلِمَةَ، فَذَكَرُوا لَهُ أَمْرَ دَعْوَةِ بَنِي هَاشِمٍ، فَقَبِل ذَلِكَ وَرَضِيَهُ وَأَنْفَقَ مَا مَعَهُ عَلَيْهِمْ، وَدَخَلَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمَاتَ مَيْسَرَةُ فَأَقَامَهُ مَقَامَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الْجَرَّاحُ الْحَكَمِيُّ اللَّانَ حَتَّى جَازَ ذَلِكَ إِلَى مَدَائِنَ وَحُصُونٍ وَرَاءَ بَلَنْجَرَ، فَفَتَحَ بَعْضَ ذَلِكَ، وَأَصَابَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً.

وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرْضَ الرُّومِ، فَبَعَثَ سَرِيَّةً فِي نَحْوِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ فَأُصِيبُوا جَمِيعًا. وَفِيهَا غَزَا مُسْلِمُ بْنُ سَعِيدٍ الْكِلَابِيُّ أَمِيرُ خُرَاسَانَ التُّرْكَ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَلَمْ يَفْتَحْ شَيْئًا وَقَفَلَ، فَتَبِعَهُ التُّرْكُ، فَلَحِقُوهُ وَالنَّاسُ يَعْبُرُونَ جَيْحُونَ، وَعَلَى السَّاقَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَيَّانَ عَلَى خَيْلِ تَمِيمٍ، فَحَامُوا حَتَّى عَبَرَ النَّاسُ. وَغَزَا مَسْلَمَةُ أَفْشِينَ، فَصَالَحَ أَهْلَهَا عَلَى سِتَّةِ آلَافِ رَأْسٍ، وَدُفِعَ إِلَيْهِ الْقَلْعَةُ، وَذَلِكَ لِتَمَامِ خَمْسٍ وَمِائَةٍ بَعْدَ مَوْتِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِيهَا غَزَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِفَةَ الْيُمْنَى، فَافْتَتَحَ قُونِيَةَ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ وَكُمْخَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ خَالُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَطَاءٍ: مَتَى أَخْطُبُ؟ قَالَ: بَعْدَ الظُّهْرِ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ، فَخَطَبَ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَقَالَ: أَخْبَرَنِي رَسُولِي عَنْ عَطَاءٍ، فَقَالَ عَطَاءٌ: مَا أَمَرْتُهُ إِلَّا بَعْدَ الظُّهْرِ، فَاسْتَحْيَا. وَكَانَ هَذِهِ السَّنَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ عَبْدُ الْوَاحِدِ النَّضْرِيُّ. وَكَانَ عَلَى الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ: عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ. وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ: حُسَيْنُ بْنُ حَسَنٍ الْكِنْدِيُّ. وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ: مُوسَى بْنُ أَنَسٍ.

[الوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ. وَعِكْرِمَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ عِكْرِمَةُ زَوْجَ أُمِّ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَفِيهَا مَاتَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً) ، وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ رَبِيعَةَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أُمُّهُ صَفِيَّةُ أُخْتُ الْمُخْتَارِ، وَأَوْصَى إِلَيْهِ أَبُوهُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَخُوهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَهُوَ أَخُو سَالِمٍ لِأُمِّهِ، أُمُّهُمَا أُمُّ وَلَدٍ. فِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ تُوُفِّيَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَكَانَ قَدْ فُلِجَ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُمَارَةُ بْنُ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَلَهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَفِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ. وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ الْجُنْدَعِيُّ اللَّيْثِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، سَكَنَ الشَّامَ، (الْجُنْدَعِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ، وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَالنُّونِ) . وَعِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ وَالِدُ خَيْثَمَ بْنِ عِرَاكَ. وَمُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ.

ثم دخلت سنة ست ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَمِائَةٍ] 106 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَمِائَةٍ ذَكَّرَ الْوَقْعَةِ بَيْنَ مُضَرَ وَالْيَمَنِ بِخُرَاسَانَ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الْوَقْعَةُ بَيْنَ الْمُضَرِيَّةِ وَالْيَمَانِيَّةِ بِالْبَرُوقَانِ مِنْ أَرْضِ بَلْخٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ زُرْعَةَ غَزَا، فَتَبَطَّأَ النَّاسُ عَنْهُ، وَكَانَ مِمَّنْ تَبَطَّأَ عَنْهُ الْبَخْتَرِيُّ بْنُ دِرْهَمٍ، فَرَدَّ مُسْلِمٌ نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ، وَبَلْعَاءَ بْنَ مُجَاهِدٍ، وَغَيْرَهُمَا إِلَى بَلْخٍ، فَأَمَرَهُمَا أَنْ يُخْرِجُوا النَّاسَ، فَأَحْرَقَ نَصْرُ بَابَ الْبَخْتَرِيِّ، وَزِيَادِ بْنِ طَرِيفٍ الْبَاهِلِيِّ، فَمَنَعَهُمْ عَمْرُو بْنُ مُسْلِمٍ أَخُو قُتَيْبَةَ دُخُولَ بَلْخٍ وَكَانَ عَلَيْهَا، وَقَطَعَ مُسْلِمُ بْنُ سَعِيدٍ النَّهْرَ، وَنَزَلَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ الْبَرُوقَانِ، وَأَتَاهُ أَهْلُ الصَّغَانَيَانِ، وَمَسْلَمَةُ التَّمِيمِيُّ، وَحَسَّانُ بْنُ خَالِدٍ الْأَسَدِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَتَجَمَّعَتْ رَبِيعَةُ وَالْأَزْدُ بِالْبَرُوقَانِ، عَلَى نِصْفِ فَرْسَخٍ مِنْ نَصْرٍ، وَخَرَجَتْ مُضَرُ إِلَى نَصْرٍ، وَخَرَجَتْ رَبِيعَةُ وَالْأَزْدُ إِلَى عَمْرِو بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَرْسَلَتْ تَغْلِبُ إِلَى عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ: إِنَّكَ مِنَّا، وَأَنْشَدُوهُ شِعْرًا قَالَهُ رَجُلٌ عَزَا بَاهِلَةَ إِلَى تَغْلِبَ، وَكَانَ بَنُو قُتَيْبَةَ مِنْ بَاهِلَةَ، فَلَمْ يَقْبَلْ عَمْرُو ذَلِكَ. وَسَفَرَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، وَيَزِيدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ الْحُدَّانِيُّ فِي الصُّلْحِ، وَكَلَّمَا نَصْرًا، فَانْصَرَفَ، فَحَمَلَ أَصْحَابُ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ وَالْبَخْتَرِيِّ عَلَى نَصْرٍ، وَكَرَّ نَصْرُ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ رَجُلٌ مِنْ بَاهِلَةَ مِنْ أَصْحَابِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَانْهَزَمَ عَمْرٌو، وَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ مِنْ نَصْرٍ، فَآمَنُهُ، وَقِيلَ: أَصَابُوا عَمْرًا فِي طَاحُونَةٍ، فَأَتَوْا بِهِ نَصْرًا وَفِي عُنُقِهِ حَبْلٌ، فَآمَنَهُ وَضَرَبَهُ مِائَةً، وَضَرَبَ الْبَخْتَرِيَّ وَزِيَادَ بْنَ طَرِيفٍ مِائَةً مِائَةً، وَحَلَقَ رُءُوسَهُمْ وَلِحَاهُمْ، وَأَلْبَسَهُمُ الْمُسُوحَ. وَقِيلَ إِنَّ الْهَزِيمَةَ كَانَتْ أَوَّلًا عَلَى نَصْرٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ مُضَرَ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ مُسْلِمٍ لِرَجُلٍ مَعَهُ مِنْ تَمِيمٍ: كَيْفَ تَرَى أَسْتَاهُ قَوْمِكَ يَا أَخَا تَمِيمٍ؟ يُعَيِّرُهُ بِذَلِكَ. ثُمَّ كَرَّتْ

تَمِيمٌ فَهَزَمَتْ أَصْحَابَ عَمْرٍو، فَقَالَ التَّمِيمِيُّ لِعَمْرٍو: هَذِهِ أَسْتَاهُ قَوْمِي. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ انْهِزَامِ عَمْرٍو أَنَّ رَبِيعَةَ كَانَتْ مَعَ عَمْرٍو، فَقُتِلَ مِنْهُمْ وَمِنَ الْأَزْدِ جَمَاعَةٌ، فَقَالَتْ رَبِيعَةُ: عَلَامَ نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا وَأَمِيرَنَا، وَقَدْ تَقَرَّبْنَا إِلَى عَمْرٍو فَأَنْكَرَ قَرَابَتَنَا؟ فَاعْتَزَلُوا، فَانْهَزَمَتِ الْأَزْدُ وَعَمْرٌو، ثُمَّ آمَنَهُمْ نَصْرٌ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَلْحَقُوا مُسْلِمَ بْنَ سَعِيدٍ. ذِكْرُ غَزْوِ مُسْلِمٍ التُّرْكَ ثُمَّ قَطَعَ مُسْلِمٌ النَّهْرَ، وَلَحِقَ بِهِ مَنْ لَحِقَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ بُخَارَى أَتَاهُ كِتَابُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِوِلَايَتِهِ الْعِرَاقَ، وَيَأْمُرُهُ بِإِتْمَامِ غَزَاتِهِ. فَسَارَ إِلَى فَرْغَانَةَ، فَلَمَّا وَصَلَهَا بَلَغَهُ أَنَّ خَاقَانَ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ فِي مَوْضِعٍ ذَكَرُوهُ، فَارْتَحَلَ، فَسَارَ ثَلَاثَ مَرَاحِلَ فِي يَوْمٍ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ خَاقَانُ، فَلَقِيَ طَائِفَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَصَابَ دَوَابَّ لِمُسْلِمٍ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقُتِلَ الْمُسَيَّبُ بْنُ بِشْرٍ الرِّيَاحَيُّ، وَالْبَرَاءُ، وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ الْمُهَلَّبِ، وَقُتِلَ أَخُو غَوْزَكَ، وَثَارَ النَّاسُ فِي وُجُوهِهِمْ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَرَحَلَ مُسْلِمٌ بِالنَّاسِ، فَسَارَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ وَهُمْ مُطِيفُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا كَانَتِ التَّاسِعَةُ أَرَادُوا النُّزُولَ، فَشَاوَرُوا النَّاسَ، فَأَشَارَ بِهِ وَقَالُوا: إِذَا أَصْبَحْنَا وَرْدَنَا الْمَاءَ [وَالْمَاءُ] مِنَّا غَيْرُ بَعِيدٍ. فَنَزَلُوا وَلَمْ يَرْفَعُوا بِنَاءً فِي الْعَسْكَرِ، وَأَحْرَقَ النَّاسُ مَا ثَقُلَ مِنَ الْآنِيَةِ وَالْأَمْتِعَةِ، فَحَرَقُوا مَا قِيمَتُهُ أَلْفُ أَلْفٍ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ، فَسَارُوا، فَوَرَدُوا النَّهْرَ، وَأَهْلُ فَرْغَانَةَ وَالشَّاشِ دُونَهُ، فَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ سَعِيدٍ: أَعْزِمُ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ إِلَّا اخْتَرَطَ سَيْفَهُ، فَفَعَلُوا وَصَارَتِ الدُّنْيَا كُلُّهَا سُيُوفًا، فَتَرَكُوا الْمَاءَ وَعَبَرُوا. فَأَقَامَ يَوْمًا، ثُمَّ قَطَعَ مِنْ غَدٍ، وَاتَّبَعَهُمُ ابْنٌ لِخَاقَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ عَلَى السَّاقَةِ: قِفْ لِي فَإِنَّ خَلْفِي مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنَ التُّرْكِ حَتَّى أُقَاتِلَهُمْ، وَهُوَ مُثْقَلٌ جِرَاحَةً، فَوَقَفَ النَّاسُ، وَعَطَفَ عَلَى التُّرْكِ، فَقَاتَلَهُمْ، وَأُسِرَ أَهْلُ الصُّغْدِ وَقَائِدُهُمْ وَقَائِدُ التُّرْكِ فِي سَبْعَةٍ، وَمَضَى الْبَقِيَّةُ، وَرَجَعَ حُمَيْدٌ، فَرُمِيَ بِنُشَّابَةٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَمَاتَ. وَعَطِشَ النَّاسُ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْعَامِرِيُّ حَمَلَ عِشْرِينَ قِرْبَةً عَلَى إِبِلِهِ، فَسَقَاهَا النَّاسَ جُرَعًا جُرَعًا، وَاسْتَسْقَى مُسْلِمُ بْنُ سَعِيدٍ، فَأَتَوْهُ بِإِنَاءٍ، فَأَخَذَهُ جَابِرٌ أَوْ حَارِثَةُ بْنُ

كَثِيرٍ أَخُو سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ مِنْ فِيهِ، فَقَالَ مُسْلِمٌ: دَعُوهُ فَمَا نَازَعَنِي شَرْبَتِي إِلَّا مِنْ حَرٍّ دَخَلَهُ. وَأَتَوْا خُجَنْدَةَ، وَقَدْ أَصَابَهُمْ مَجَاعَةٌ وَجَهْدٌ، فَانْتَشَرَ النَّاسُ، فَإِذَا فَارِسَانِ يَسْأَلَانِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُعَيْمٍ، فَأَتَيَاهُ بِعَهْدِهِ عَلَى خُرَاسَانَ مِنْ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَخِي خَالِدٍ، فَأَقْرَأَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مُسْلِمًا، فَقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً. وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ الْخِيَامَ فِي مَفَازَةِ آمُلَ. قَالَ الْخَزْرَجُ التَّغْلَبِيُّ: قَاتَلْنَا التُّرْكَ، فَأَحَاطُوا بِنَا حَتَّى أَيْقَنَّا بِالْهَلَاكِ، فَحَمَلَ حَوْثَرَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الْحُرِّ بْنِ الْخُنَيْفِ عَلَى التُّرْكِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَقَاتَلَهُمْ سَاعَةً ثُمَّ رَجَعَ، وَأَقْبَلَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ فِي ثَلَاثِينَ فَارِسًا، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى أَزَالَهُمْ عَنْ مَوَاضِعِهِمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ النَّاسُ، فَانْهَزَمَ التُّرْكُ، وَحَوْثَرَةُ وَهُوَ ابْنُ أَخِي رَقَبَةَ بْنِ الْحُرِّ. قِيلَ: وَكَانَ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ قَالَ لِمُسْلِمِ بْنِ سَعِيدٍ حِينَ وَلَّاهُ: لِيَكُنْ حَاجِبُكَ مِنْ صَالِحِ مُوَالِيكَ، فَإِنَّهُ لِسَانُكَ وَالْمُعَبِّرُ عَنْكَ، وَعَلَيْكَ بِعُمَّالِ الْعُذْرِ. قَالَ: وَمَا عُمَّالُ الْعُذْرِ؟ قَالَ: تَأْمُرُ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يَخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا كَانَ لَكَ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا كَانَ لَهُمْ دُونَكَ، وَكُنْتَ مَعْذُورًا. وَكَانَ عَلَى خَاتَمِ مُسْلِمِ بْنِ سَعِيدٍ تَوْبَةُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، فَلَمَّا وَلِيَ أَسَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ خُرَاسَانَ جَعَلَهُ عَلَى خَاتَمِهِ أَيْضًا. ذِكْرُ حَجِّ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَتَبَ لَهُ أَبُو الزِّنَادِ سُنَنَ الْحَجِّ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: لَقِيتُ هِشَامًا، فَإِنِّي لَفِي الْمَوْكِبِ إِذْ لَقِيَهُ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَسَارَ إِلَى جَنْبِهِ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ يُنْعِمُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْصُرُ خَلِيفَتَهُ الْمَظْلُومَ، وَلَمْ يَزَالُوا يَلْعَنُونَ فِي هَذِهِ الْمُوَاطِنِ أَبَا تُرَابٍ! فَإِنَّهَا مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْعَنَهُ فِيهَا.

فَشَقَّ عَلَى هِشَامٍ قَوْلُهُ وَقَالَ: مَا قَدِمْنَا لِشَتْمِ أَحَدٍ وَلَا لِلَعْنِهِ، قَدِمْنَا حُجَّاجًا، ثُمَّ قَطَعَ كَلَامَهُ وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنِ الْحَجِّ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا كَتَبْتُ لَهُ، قَالَ: وَشَقَّ عَلَى سَعِيدٍ أَنِّي سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ، وَكَانَ مُنْكَسِرًا كُلَّمَا رَآنِي. ذِكْرُ وِلَايَةِ أَسَدٍ خُرَاسَانَ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخَاهُ أَسَدًا عَلَى خُرَاسَانَ، فَقَدِمَهَا وَمُسْلِمُ بْنُ سَعِيدٍ [غَازٍ] بِفَرْغَانَةَ، فَلَمَّا أَتَى أَسَدٌ النَّهْرَ لِيَقْطَعَهُ مَنْعَهُ الْأَشْهَبُ بْنُ عُبَيْدٍ التَّمِيمِيُّ، وَكَانَ عَلَى السُّفُنِ بِآمُلَ، وَقَالَ: قَدْ نُهِيتُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَعْطَاهُ وَلَاطَفَهُ، فَأَبَى، قَالَ: فَإِنِّي أَمِيرٌ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ أَسَدٌ: اعْرِفُوا هَذَا حَتَّى نَشْكُرَهُ فِي أَمَانَتِنَا. وَأَتَى الصُّغْدَ فَنَزَلَ بِالْمَرَجِ، وَعَلَى سَمَرْقَنْدَ هَانِئُ بْنُ هَانِئٍ، فَخَرَجَ فِي النَّاسِ يَلْقَى أَسَدًا، فَرَآهُ عَلَى حَجَرٍ، فَتَفَاءَلَ النَّاسُ، وَقَالُوا: مَا عِنْدَ هَذَا خَيْرٌ، أَسَدٌ عَلَى حَجَرٍ. وَدَخَلَ سَمَرْقَنْدَ وَبَعَثَ رَجُلَيْنِ مَعَهُمَا عَهْدُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُعَيْمٍ عَلَى الْجُنْدِ، فَقَدِمَا وَسَأَلَا عَنْهُ وَسَلَّمَا إِلَيْهِ الْعَهْدَ، فَأَتَى بِهِ مُسْلِمًا فَقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً. وَقَفَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِالنَّاسِ وَمَعَهُ مُسْلِمٌ، فَقَدِمُوا عَلَى أَسَدٍ بِسَمَرْقَنْدَ، فَعَزَلَ هَانِئًا عَنْهَا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْعَمَرَّطَةِ الْكِنْدِيَّ. وَقِيلَ لِلْحَسَنِ: إِنَّ الْأَتْرَاكَ قَدْ أَتَوْكَ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ. فَقَالَ: مَا أَتَوْنَا، نَحْنُ أَتَيْنَاهُمْ وَغَلَبْنَاهُمْ عَلَى بِلَادِهِمْ وَاسْتَعْبَدْنَاهُمْ، وَمَعَ هَذَا فَلَأُدْنِيَنَّ بَعْضَكُمْ مِنْ بَعْضٍ وَلَأُقْرِنَنَّ نَوَاصِيَ خَيْلِكُمْ بِخَيْلِهِمْ، ثُمَّ سَبَّهُمْ وَدَعَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ مُتَبَاطِئًا، فَأَغَارُوا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى سَمَرْقَنْدَ ثَابِتَ قُطْنَةَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَأُرْتِجَ عَلَيْهِ وَقَالَ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ، فَسَكَتَ وَلَمْ يَنْطِقْ بِكَلِمَةٍ، وَقَالَ: إِنْ لَمْ أَكُنْ فِيكُمْ خَطِيبًا فَإِنَّنِي بِسَيْفِي إِذَا جَدَّ الْوَغَى لَخَطِيبُ فَقِيلَ لَهُ: لَوْ قُلْتَ هَذَا عَلَى الْمِنْبَرِ لَكُنْتَ أَخْطَبَ النَّاسِ، فَقَالَ حَاجِبُ الْفِيلِ الْيَشْكُرِيُّ يُعَيِّرُهُ حَصْرَهُ:

أَبَا الْعَلَاءِ لَقَدْ لَاقَيْتَ مُعْضِلَةً ... يَوْمَ الْعُرُوبَةِ مِنْ كَرْبٍ وَتَخْنِيقِ تَلْوِي اللِّسَانَ إِذَا رُمْتَ الْكَلَامَ بِهِ ... كَمَا هَوَى زَلَقٌ مِنْ شَاهِقِ النِّيقِ لَمَّا رَمَتْكَ عُيُونُ النَّاسِ صَاحِيَةً ... أَنْشَأَتْ تَجْرَضُ لَمَّا قُمْتَ بِالرِّيقِ أَمَّا الْقُرَانُ فَلَا تُهْدَى لِمُحْكَمَةٍ ... مِنَ الْقُرَانِ وَلَا تُهْدَى لِتَوْفِيقِ ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ الْحُرِّ عَلَى الْمَوْصِلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ هِشَامٌ الْحُرَّ بْنَ يُوسُفَ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ عَلَى الْمَوْصِلِ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْمَنْقُوشَةَ دَارًا يَسْكُنُهَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْمَنْقُوشَةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَنْقُوشَةً بِالسَّاجِ وَالرُّخَامِ وَالْفُصُوصِ الْمُلَوَّنَةِ وَمَا شَاكَلَهَا، وَكَانَتْ عِنْدَ سُوقِ الْقَتَّابِينَ وَالشَّعَّارِينَ وَسُوقِ الْأَرْبِعَاءَ، وَأَمَّا الْآنُ فَهِيَ خَرِبَةٌ تُجَاوِرُ سُوقَ الْأَرْبِعَاءَ. وَهَذَا الْحُرُّ الَّذِي عَمِلَ النَّهْرَ الَّذِي كَانَ بِالْمَوْصِلِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى امْرَأَةً تَحْمِلُ جَرَّةَ مَاءٍ، وَهِيَ تَحْمِلُهَا قَلِيلًا، ثُمَّ تَسْتَرِيحُ قَلِيلًا; لِبُعْدِ الْمَاءِ، فَكَتَبَ إِلَى هِشَامٍ بِذَلِكَ، فَأَمَرَ بِحَفْرِ نَهْرٍ إِلَى الْبَلَدِ، فَحَفَرَهُ، فَكَانَ أَكْثَرُ شُرْبِ أَهْلِ الْبَلَدِ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ كَانَ الشَّارِعُ الْمَعْرُوفُ بِشَارِعِ النَّهْرِ، وَبَقِيَ الْعَمَلُ فِيهِ عِدَّةَ سِنِينَ، وَمَاتَ الْحُرُّ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَلَّمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ لَهُ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَبِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي خَرَجْتَ مُعَظِّمًا لَهُ إِلَّا رَدَدْتَ عَلَيَّ ظُلَامَتِي. قَالَ: أَيُّ ظُلَامَةٍ؟ قَالَ: دَارِي. قَالَ: فَأَيْنَ كُنْتَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ؟ قَالَ: ظَلَمَنِي. قَالَ: فَالْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ؟ قَالَ: ظَلَمَانِي. قَالَ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ، رَدَّهَا عَلَيَّ. قَالَ: فَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ؟ قَالَ: ظَلَمَنِي وَقَبَضَهَا مِنِّي بَعْدَ قَبْضِي لَهَا، وَهِيَ فِي يَدِكَ. فَقَالَ هِشَامٌ: لَوْ كَانَ فِيكَ ضَرْبٌ لَضَرَبْتُكَ. فَقَالَ: فِي وَاللَّهِ ضَرْبٌ بِالسَّيْفِ وَالسَّوْطِ. فَانْصَرَفَ هِشَامٌ [وَالْأَبْرَشُ خَلْفَهُ] فَقَالَ: [أَبَا مُجَاشِعٍ] كَيْفَ سَمِعْتَ هَذَا الْإِنْسَانَ؟ قَالَ: مَا أَجْوَدَهُ! قَالَ: هِيَ قُرَيْشٌ وَأَلْسِنَتُهَا، وَلَا يَزَالُ فِي النَّاسِ بَقَايَا مَا رَأَيْتَ مِثْلَ هَذَا. وَفِيهَا عَزَلَ هِشَامٌ عَبْدَ الْوَاحِدِ النَّضْرِيَّ عَنْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ، وَوَلَّى ذَلِكَ خَالَهُ

إِبْرَاهِيمَ بْنَ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَكَانَتْ وِلَايَةُ النَّضْرِيِّ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ. وَفِيهَا غَزَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الصَّائِفَةَ. وَفِيهَا غَزَا الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اللَّانَ، فَصَالَحَ أَهْلَهَا فَأَدَّوُا الْجِزْيَةَ. وَفِيهَا وُلِدَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي رَجَبٍ. وَفِيهَا اسْتَقْضَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ عَلَى الْمَدِينَةِ مُحَمَّدَ بْنَ صَفْوَانَ الْجُمَحِيَّ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَاسْتَقْضَى الصَّلْتَ الْكِنْدِيَّ. وَكَانَ الْعَامِلُ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَكَانَ عَلَى الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ: خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ الْبَجَلِيُّ، وَكَانَ عَامِلُ (خَالِدٍ عَلَى صَلَاةِ الْبَصْرَةِ: عُقْبَةَ) بْنَ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَعَلَى شُرْطَتِهَا: مَالِكَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ، وَعَلَى قَضَائِهَا: ثُمَامَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ. [الوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ يُوسُفُ بْنُ مَالِكٍ مَوْلَى الْحَضْرَمِيِّينَ، وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ.

ثم دخلت سنة سبع ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَمِائَةٍ] 107 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ الْجُنَيْدِ بَعْضَ بِلَادِ السِّنْدِ وَقَتْلِ صَاحِبِهِ جَيْشَبَهْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ الْجُنَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى السِّنْدِ فَنَزَلَ شَطَّ مِهْرَانَ، فَمَنَعَهُ جَيْشَبَهْ بْنُ ذَاهِرَ الْعُبُورَ، وَقَالَ: إِنَّنَا مُسْلِمُونَ، فَقَدِ اسْتَعْمَلَنِي الرَّجُلُ الصَّالِحُ، يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَلَى بِلَادِي وَلَسْتُ آمَنُكَ، فَأَعْطَاهُ رَهْنًا وَأَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا بِمَا عَلَى بِلَادِهِ مِنَ الْخَرَاجِ، ثُمَّ إِنَّهُمَا تَرَادَّا الرَّهْنَ وَكَفَرَ جَيْشَبَهْ وَحَارَبَهُ، وَقِيلَ: لَمْ يُحَارِبْهُ، وَلَكِنَّ الْجُنَيْدَ تَجَنَّى عَلَيْهِ، فَأَتَى الْهِنْدَ، فَجَمَعَ وَأَخَذَ السُّفُنَ، (وَاسْتَعَدَّ لِلْحَرْبِ، فَسَارَ الْجُنَيْدُ إِلَيْهِ فِي السُّفُنِ) أَيْضًا، فَالْتَقَوْا، فَأُخِذَ جَيْشَبَهْ أَسِيرًا، وَقَدْ جَنَحَتْ سَفِينَتُهُ، فَقَتَلَهُ، وَهَرَبَ أَخُوهُ صَصَّةَ إِلَى الْعِرَاقِ لِيَشْكُوَ غَدْرَ الْجُنَيْدِ، فَخَدَعَهُ الْجُنَيْدُ حَتَّى جَاءَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ. وَغَزَا الْجُنَيْدُ الْكَيْرَجَ، وَكَانُوا قَدْ نَقَضُوا، فَفَتَحَهَا عَنْوَةً، وَفَتَحَ أَرَزِينَ، وَالْمَالِيَّةَ، وَغَيْرَهُمَا مِنْ ذَلِكَ الثَّغْرِ. ذِكْرُ غَزْوَةِ عَنْبَسَةَ الْفِرِنْجَ بِالْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا عَنْبَسَةُ بْنُ سُحَيْمٍ الْكَلْبِيُّ عَامِلُ الْأَنْدَلُسِ بَلَدَ الْفِرِنْجِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَنَازَلَ مَدِينَةَ قَرْقَسُونَةَ وَحَصَرَ أَهْلَهَا، فَصَالَحُوهُ عَلَى نِصْفِ أَعْمَالِهَا، وَعَلَى جَمِيعِ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَأَسْلَابِهِمْ، وَأَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، وَيَلْتَزِمُوا بِأَحْكَامِ الذِّمَّةِ مِنْ مُحَارَبَةِ مَنْ حَارَبَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَمُسَالِمَةِ مَنْ سَالَمُوهُ، فَعَادَ عَنْهُمْ عَنْبَسَةُ، وَتُوُفِّيَ فِي

شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةٍ أَيْضًا، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَلَمَّا مَاتَ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ بِشْرُ بْنُ صَفْوَانَ يَحْيَى بْنَ سَلَمَةَ الْكَلْبِيَّ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ أَيْضًا. ذِكْرُ حَالِ الدُّعَاةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ قِيلَ: وَفِيهَا وَجَّهَ بُكَيْرُ بْنُ مَاهَانَ: أَبَا عِكْرِمَةَ، وَأَبَا مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ، وَمُحَمَّدَ بْنَ خُنَيْسٍ، وَعَمَّارًا الْعَبَّادِيَّ، وَزِيَادًا خَالَ الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِ، فِي عِدَّةٍ مِنْ شِيعَتِهِمْ دُعَاةً إِلَى خُرَاسَانَ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَوَشَى بِهِمْ إِلَيْهِ، فَأُتِيَ بِأَبِي عِكْرِمَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ خُنَيْسٍ، وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ، وَنَجَا عَمَّارٌ، فَقَطَعَ أَسَدٌ أَيْدِي مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ وَصَلَبَهُمْ، وَأَقْبَلَ عَمَّارٌ إِلَى بُكَيْرِ بْنِ مَاهَانَ، فَأَخْبَرَهُ [الْخَبَرَ] ، فَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ بِذَلِكَ، فَأَجَابَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَّقَ دَعْوَتَكُمْ وَمَقَالَتَكُمْ، وَقَدْ بَقِيَتْ مِنْكُمْ قَتْلَى، سَتُقْتَلُ. وَفِيهَا قَدِمَ مُسْلِمُ بْنُ سَعِيدٍ إِلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَكَانَ أَسَدٌ يُكْرِمُهُ بِخُرَاسَانَ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ، فَقَدِمَ مُسْلِمٌ وَابْنُ هُبَيْرَةَ يُرِيدُ الْهَرَبَ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنِ الْقَوْمَ فِينَا أَحْسَنُ رَأْيًا مِنْكُمْ فِيهِمْ. وَفِيهَا غَزَا أَسَدٌ جِبَالَ نَمِرُونَ مَلِكِ غَرْشِسْتَانَ مِمَّا يَلِي جِبَالَ الطَّالْقَانِ، فَصَالَحَهُ نَمِرُونَ وَأَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ، وَهُمُ [الْيَوْمَ] يَتَوَلَّوْنَ الْيَمَنَ.

ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ غَزْوَةِ الْغُورِ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا أَسَدٌ الْغُورَ، وَهِيَ جِبَالُ هَرَاةَ، فَعَمَدَ أَهْلُهَا إِلَى أَثْقَالِهِمْ فَصَيَّرُوهَا فِي كَهْفٍ لَيْسَ إِلَيْهِ طَرِيقٌ، فَأَمَرَ أَسَدٌ بِاتِّخَاذِ تَوَابِيتَ، وَوَضَعَ فِيهَا الرِّجَالَ، وَدَلَّاهَا بِسَلَاسِلَ، فَاسْتَخْرَجُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ هِشَامٌ: الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ عَنْ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَخَاهُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا مَسْلَمَةُ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو الطَّائِيَّ، فَافْتَتَحَ مِنْ بَلَدِ التُّرْكِ رُسْتَاقًا وَقُرًى كَثِيرَةً، وَأَثَّرَ فِيهَا أَثَرًا حَسَنًا. وَفِيهَا نَقَلَ أَسَدٌ مَنْ كَانَ بِالْبَرُوقَانِ إِلَى بَلْخٍ مِنَ الْجُنْدِ، وَأَقْطَعَ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ بِالْبَرُوقَانِ بِقَدْرِ مَسْكَنِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ أَقْطَعَهُ مَسْكَنًا، وَأَرَادَ أَنْ يُنْزِلَهُمْ عَلَى الْأَخْمَاسِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ يَتَعَصَّبُونَ، فَخَلَطَ بَيْنَهُمْ. وَتَوَلَّى بِنَاءَ مَدِينَةِ بَلْخٍ بَرْمَكُ أَبُو خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَرُوقَانِ فَرْسَخَانِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ، وَكَانَ عُمَّالُ الْأَمْصَارِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي السَّنَةِ قَبْلَهَا. [الوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَعُمُرُهُ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً،

وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ، وَلَهُ ثَمَانٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، (وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وَفَاتِهِ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ) . (يَسَارٌ: بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتَ، وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ) .

ثم دخلت سنة ثمان ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَمِائَةٍ] 108 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَمِائَةٍ ذِكْرُ غَزْوَةِ الْخُتَّلِ وَالْغُورِ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَطَعَ أَسَدٌ النَّهْرَ، وَأَتَاهُ خَاقَانُ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا قِتَالٌ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَقِيلَ: عَادَ مَهْزُومًا مِنَ الْخُتَّلِ، وَكَانَ أَسَدٌ قَدْ أَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَشْتُوَ بِسُرْخَ دَرَهْ، فَأَمْرَ النَّاسَ فَارْتَحَلُوا، وَوَجَّهَ رَايَاتِهِ، وَسَارَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ إِلَى سُرْخَ دَرَهْ، فَكَبَّرَ النَّاسُ، فَقَالَ: مَا لَهُمْ؟ فَقَالُوا: هَذِهِ عَلَامَتُهُمْ إِذَا قَفَلُوا. فَقَالَ لِلْمُنَادِي: نَادِ إِنَّ الْأَمِيرَ يُرِيدُ غُورِيِّينَ، فَمَضَى إِلَيْهِمْ، فَقَاتَلُوهُمْ يَوْمًا وَصَبَرُوا لَهُمْ. وَبَرَزَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَقَالَ سَالِمُ بْنُ أَحْوَزَ لِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ: أَنَا حَامِلٌ عَلَى هَذَا الْعِلْجِ، فَلَعَلِّي أَقْتُلُهُ فَيَرْضَى أَسَدٌ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ، وَرَجَعَ سَالِمٌ، فَوَقَفَ ثُمَّ قَالَ لِنَصْرٍ: أَنَا حَامِلٌ حَمْلَةً أُخْرَى، فَحَمَلَ فَقَتَلَ رَجُلًا آخَرَ، وَجُرِحَ سَالِمٌ، فَقَالَ نَصْرٌ لِسَالِمٍ: قِفْ حَتَّى أَحْمِلَ عَلَيْهِمْ، فَحَمَلَ حَتَّى خَالَطَ الْعَدُوَّ، فَصَرَعَ رَجُلَيْنِ، وَرَجَعَ جَرِيحًا، وَقَالَ: أَتَرَى مَا صَنَعْنَا يُرْضِيهِ؟ لَا أَرْضَاهُ اللَّهُ! قَالَ: لَا وَاللَّهِ. قَالَ: وَأَتَاهُمَا رَسُولُ أَسَدٍ فَقَالَ: يَقُولُ لَكُمَا الْأَمِيرُ قَدْ رَأَيْتُ مَوْقِفَكُمَا وَقِلَّةَ غَنَائِكُمَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ، لَعَنَكُمَا اللَّهُ. فَقَالَ: آمِينَ إِنْ عُدْنَا لِمِثْلِ هَذَا! وَتَحَاجَزُوا. ثُمَّ عَادُوا مِنَ الْغَدِ، فَاقْتَتَلُوا، وَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، وَحَوَى الْمُسْلِمُونَ عَسْكَرَهُمْ، وَظَهَرُوا عَلَى الْبِلَادِ، وَأَسَرُوا وَسَبَوْا وَغَنِمُوا. وَقَدْ كَانَ أَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ شَدِيدٌ بِالْخُتَّلِ، فَبَعَثَ أَسَدٌ بِكَبْشَيْنِ مَعَ غُلَامٍ لَهُ وَقَالَ: بِعْهُمَا بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَلَمَّا مَضَى الْغُلَامُ، قَالَ أَسَدٌ: لَا يَشْتَرِيهُمَا إِلَّا ابْنُ الشِّخِّيرِ، وَكَانَ فِي الْمَسَلَحَةِ، فَدَخَلَ حِينَ أَمْسَى فَرَأَى الشَّاتَيْنِ فِي السُّوقِ، فَاشْتَرَاهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ، فَذَبَحَ إِحْدَاهُمَا، وَبَعَثَ بِالْأُخْرَى إِلَى بَعْضِ إِخْوَانِهِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ الْغُلَامُ أَسَدًا بِالْقِصَّةِ بَعَثَ إِلَى ابْنِ الشِّخِّيرِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ أَبُو مُطَرِّفٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الرُّومَ مِمَّا يَلِي الْجَزِيرَةَ فَفَتَحَ قَيْسَارِيَّةَ، وَهِيَ مَدِينَةٌ مَشْهُورَةٌ. وَفِيهَا أَيْضًا غَزَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ فَفَتَحَ حِصْنًا مِنْ حُصُونِ الرُّومِ. وَفِيهَا وَجَّهَ بُكَيْرُ بْنُ مَاهَانَ إِلَى خُرَاسَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ شِيعَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ، مِنْهُمْ عَمَّارٌ الْعَبَّادِيُّ، فَسَعَى بِهِمْ رَجُلٌ إِلَى أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرِ خُرَاسَانَ، فَأَخَذَ عَمَّارًا فَقَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَنَجَا أَصْحَابُهُ فَوَصَلُوا إِلَى بُكَيْرٍ، فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَأَجَابَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَّقَ دَعْوَتَكُمْ وَنَجَّى شِيعَتَكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةٍ ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَفِيهَا: أَنَّ عَمَّارًا نَجَا، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ عَمَّارًا قُطِعَ، فَلِهَذَا أَعَدْنَا ذِكْرَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهَا وَقَعَ الْحَرِيقُ بِدَابِقٍ فَاحْتَرَقَ الْمَرْعَى وَالدَّوَابُّ وَالرِّحَالُ. وَفِيهَا سَارَ ابْنُ خَاقَانَ مَلِكُ التُّرْكِ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، فَحَصَرَ بَعْضَ مُدُنِهَا، فَسَارَ إِلَيْهِ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو الطَّائِيُّ، فَالْتَقَوْا، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ التُّرْكُ، وَتَبِعَهُمُ الْحَارِثُ حَتَّى عَبَرَ نَهْرَ أُرْسٍ، فَعَادَ إِلَيْهِ ابْنُ خَاقَانَ، فَعَاوَدَ الْحَرْبَ أَيْضًا، فَانْهَزَمَ ابْنُ خَاقَانَ، وَقُتِلَ مِنَ التُّرْكِ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَفِيهَا خَرَجَ عِبَادٌ الرُّعَيْنِيُّ بِالْيَمَنِ مُحَكِّمًا، فَقَتَلَهُ أَمِيرُهَا يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ. وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ.

وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَمَعَهُ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، فَقَطَعُوا الْبَحْرَ إِلَى قُبْرُسَ، وَغَزَا فِي الْبَرِّ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. وَفِيهَا كَانَ بِالشَّامِ طَاعُونٌ شَدِيدٌ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ. وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي السَّنَةِ قَبْلَهَا. [الوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرْطِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيهَا مَاتَ مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالِدُ عِيسَى بِبِلَادِ الرُّومِ غَازِيًا، وَكَانَ عُمُرُهُ سَبْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَفِيهَا مَاتَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ عُمُرُهُ سَبْعِينَ سَنَةٍ، وَقِيلَ: اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ قَدْ عَمِيَ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ النَّاجِيُّ.

وَأَبُو الصِّدِّيقِ النَّاجِيُّ أَيْضًا، وَاسْمُهُ بَكْرُ بْنُ قَيْسٍ النَّاجِيُّ، (النَّاجِيُّ: بِالنُّونِ وَالْجِيمِ) . وَأَبُو نَضْرَةَ الْمُنْذِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ قُطْعَةَ النَّضْرِيُّ، (نَضْرَةُ: بِالنُّونِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ) . وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ الْكُوفِيُّ قَاضِيهَا، (دِثَارٌ بِكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ) .

ثم دخلت سنة تسع ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَمِائَةٍ] 109 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَمِائَةٍ ذِكْرُ عَزْلِ خَالِدٍ وَأَخِيهِ أَسَدٍ عَنْ خُرَاسَانَ وَوِلَايَةِ أَشْرَسَ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَخَاهُ عَنْ خُرَاسَانَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَسَدًا تَعَصَّبَ حَتَّى أَفْسَدَ النَّاسَ، وَضَرَبَ نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ وَنَفَرًا مَعَهُ بِالسِّيَاطِ، مِنْهُمْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نُعَيْمٍ، وَسَوْرَةُ بْنُ الْحُرِّ، وَالْبَخْتَرِيُّ بْنُ أَبِي دِرْهَمٍ، وَعَامِرُ بْنُ مَالِكٍ الْحِمَّانِيُّ، وَحَلَقَهُمْ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى أَخِيهِ خَالِدٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّهُمْ أَرَادُوا الْوُثُوبَ بِي. فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى خَالِدٍ لَامَ أَسَدًا، وَعَنَّفَهُ، وَقَالَ: أَلَا بَعَثَ إِلَيَّ بِرُءُوسِهِمْ؟ فَقَالَ نَصْرٌ: بَعَثْتَ بِالْعِتَابِ فِي غَيْرِ ذَنْبٍ ... فِي كِتَابٍ تَلُومُ أُمُّ تَمِيمِ إِنْ أَكُنْ مُوَثَّقًا أَسِيرًا لَدَيْهِمْ ... فِي هُمُومٍ وَكُرْبَةٍ وَسُهُومِ رَهْنَ قَسْرٍ فَمَا وَجَدْتُ بَلَاءً ... كَإِسَارِ الْكِرَامِ عِنْدَ اللَّئِيمِ أَبْلِغِ الْمُدَّعِينَ قَسْرًا وَقَسْرٌ ... أَهْلُ عُودِ الْقَنَاةِ ذَاتِ الْوُصُومِ هَلْ فُطِمْتُمْ عَنِ الْخِيَانَةِ وَالْغَدْ رِ ... أَمْ أَنْتُمْ كَالْحَاكِرِ الْمُسْتَدِيمِ وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: أَخَالِدُ لَوْلَا اللَّهُ لَمْ تُعْطَ طَاعَةً ... وَلَوْلَا بَنُو مَرْوَانَ لَمْ يُوثِقُوا نَصْرَا إِذًا لَلَقِيتُمْ عِنْدَ شَدِّ وَثَاقِهِ ... بَنِي الْحَرْبِ لَا كُشْفَ اللِّقَاءِ وَلَا ضَجْرَا

وَخَطَبَ يَوْمًا أَسَدٌ، فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ هَذِهِ الْوُجُوهَ، وُجُوهَ أَهْلِ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَالشَّغْبِ وَالْفَسَادِ! اللَّهُمَّ فَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، وَأَخْرِجْنِي إِلَى مُهَاجَرِي وَوَطَنِي. فَبَلَغَ فِعْلُهُ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَكَتَبَ إِلَى خَالِدٍ: اعْزِلْ أَخَاكَ، فَعَزَلَهُ، فَرَجَعَ إِلَى الْعِرَاقِ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَمِائَةٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى خُرَاسَانَ الْحَكَمَ بْنَ عَوَانَةَ الْكَلْبِيَّ، فَأَقَامَ الْحَكَمُ صَيْفِيَّةً فَلَمْ يَغْزُ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَ هِشَامٌ أَشْرَسَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيَّ عَلَى خُرَاسَانَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَاتِبَ خَالِدًا. وَكَانَ أَشْرَسُ فَاضِلًا خَيِّرًا، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ الْكَامِلَ لِفَضْلِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ خُرَاسَانَ فَرِحُوا بِهِ، وَاسْتَقْضَى أَبَا الْمُنَازِلِ الْكِنْدِيَّ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَاسْتَقْضَى مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدٍ. ذِكْرُ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ خُرَاسَانَ مِنْ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ زِيَادٌ أَبُو مُحَمَّدٍ مَوْلَى هَمْدَانَ فِي وِلَايَةِ أَسَدٍ، بَعَثَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ لَهُ: انْزِلْ فِي الْيَمَنِ وَأَلْطُفْ مُضَرَ، وَنَهَاهُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ نَيْسَابُورَ، يُقَالُ لَهُ: غَالِبٌ لِأَنَّهُ كَانَ مُفْرِطًا فِي حُبِّ بَنِي فَاطِمَةَ، وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَنْ أَتَى خُرَاسَانَ بِكِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ حَرْبُ بْنُ عُثْمَانَ مَوْلَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ مِنْ أَهْلِ بَلْخٍ، فَلَمَّا قَدِمَ زِيَادٌ دَعَا إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ، وَذَكَرَ سِيرَةَ بَنِي أُمَيَّةَ وَظُلْمَهُمْ، وَأَطْعَمَ النَّاسَ الطَّعَامَ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ غَالِبٌ، وَتَنَاظَرَا فِي تَفْضِيلِ آلِ عَلِيٍّ وَآلِ الْعَبَّاسِ، وَافْتَرَقَا، وَأَقَامَ زِيَادٌ بِمُرْوٍ شَتْوَةً وَ [كَانَ] يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهَا يَحْيَى بْنُ عُقَيْلٍ الْخُزَاعِيُّ، وَغَيْرُهُ. فَأُخْبِرَ بِهِ أَسَدٌ، فَدَعَاهُ، وَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكَ؟ قَالَ: الْبَاطِلُ، إِنَّمَا قَدِمْتُ إِلَى تِجَارَةٍ وَقَدْ فَرَّقْتُ مَالِي عَلَى النَّاسِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ خَرَجْتُ. فَقَالَ لَهُ أَسَدٌ: اخْرُجْ عَنْ بِلَادِي. فَانْصَرَفَ، فَعَادَ إِلَى أَمْرِهِ، فَرُفِعَ أَمَرُهُ إِلَى أَسَدٍ، وَخُوِّفَ مِنْ جَانِبِهِ، فَأَحْضَرَهُ، وَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ مَعَهُ عَشَرَةً مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا غُلَامَانِ اسْتَصْغَرَهُمَا، وَقِيلَ: بَلْ أَمَرَ بِزِيَادٍ أَنْ يُوَسَّطَ بِالسَّيْفِ، فَضَرَبُوهُ بِالسَّيْفِ فَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ، فَكَبَّرَ النَّاسُ، فَقَالَ أَسَدٌ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: نَبَا السَّيْفُ عَنْهُ، ثُمَّ ضُرِبَ أُخْرَى فَنَبَا السَّيْفُ عَنْهُ، ثُمَّ ضَرَبَهُ الثَّالِثَةَ فَقَطَعَهُ

بِاثْنَتَيْنِ، وَعَرَضَ الْبَرَاءَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَمَنْ تَبَرَّأَ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَتَبَرَّأَ اثْنَانِ، فَتُرِكَا، وَأَبَى الْبَرَاءَةُ ثَمَانِيَةٌ، فَقُتِلُوا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَقْبَلَ أَحَدُهُمَا إِلَى أَسَدٍ، فَقَالَ: أَسْأَلُكَ أَنْ تُلْحِقَنِي بِأَصْحَابِي، فَقَتَلَهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْأَضْحَى بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ قَدِمَ بَعْدَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يُسَمَّى كَثِيرًا، فَنَزَلَ عَلَى أَبِي النَّجْمِ، وَكَانَ يَأْتِيهِ الَّذِينَ لَقُوا زِيَادًا، فَكَانَ عَلَى ذَلِكَ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ، وَكَانَ أُمِّيًّا، فَقَدِمَ عَلَيْهِ خِدَاشٌ، وَاسْمُهُ عُمَارَةُ غَلَبَ عَلَيْهِ خِدَاشٌ، فَغَلَّبَ كَثِيرًا عَلَى أَمْرِهِ. وَقِيلَ فِي أَمْرِ الدُّعَاةِ مَا تَقَدَّمَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُقْبَةَ الْفِهْرِيُّ فِي الْبَحْرِ، وَغَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ أَرْضَ الرُّومِ، فَفَتَحَ حِصْنًا يُقَالُ لَهُ طِيبَةُ، فَأُصِيبَ مَعَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ أَنْطَاكِيَّةَ. وَفِيهَا قُتِلَ عُمَرُ بْنُ يَزِيدَ الْأُسَيَّدِيُّ، قَتَلَهُ مَالِكُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ، وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ أَبْلَى فِي قِتَالِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: هَذَا رَجُلُ الْعِرَاقِ. فَغَاظَ ذَلِكَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَمَرَ مَالِكَ بْنَ الْمُنْذِرَ، وَهُوَ عَلَى شُرَطِ الْبَصْرَةِ، أَنْ يُعَظِّمَهُ وَلَا يَعْصِيَ لَهُ أَمْرًا، وَأَقْبَلَ يَطْلُبُ لَهُ عَثْرَةً يَقْتُلُهُ بِهَا، فَذَكَرَ مَالِكُ بْنُ الْمُنْذِرِ عَبْدَ الْأَعْلَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، فَافْتَرَى عَلَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ يَزِيدَ: لَا تَفْتَرِ عَلَى مِثْلِ عَبْدِ الْأَعْلَى. فَأَغْلَظَ لَهُ مَالِكٌ، وَضَرَبَهُ بِالسِّيَاطِ حَتَّى قَتَلَهُ. (الْأُسَيَّدِيُّ: بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ) . وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ التُّرْكَ مِنْ نَاحِيَةِ أَذْرَبِيجَانَ، فَغَنِمَ وَسَبَى وَعَادَ سَالِمًا.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ، فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: اسْأَلُونِي فَإِنَّكُمْ لَا تَسْأَلُونَ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي. فَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ: أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَمَا دَرَى مَا يَقُولُ، فَنَزَلَ، وَكَانَ هُوَ الْعَامِلُ عَلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَكَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الصَّلَاةِ بِالْبَصْرَةِ أَبَانَ بْنَ ضُبَارَةَ الْيَزَبِيَّ، وَعَلَى الشُّرْطَةِ بِهَا بِلَالُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، وَعَلَى قَضَائِهَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، وَعَلَى خُرَاسَانَ أَشْرَسُ. [الوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ أَبُو مِجْلَزٍ لَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ الْبَصْرِيُّ، وَفِيهَا غَزَا بِشْرُ بْنُ صَفْوَانَ عَامِلُ إِفْرِيقِيَّةَ جَزِيرَةَ صِقِلِّيَةَ، فَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا ثُمَّ رَجَعَ مِنْ غَزَاتِهِ إِلَى الْقَيْرَوَانِ وَتُوُفِّيَ بِهَا مِنْ سَنَتِهَا، (فَاسْتَعْمَلَ هِشَامٌ بَعْدَهُ عُبَيْدَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْأَغَرِّ السُّلَمِيَّ، فَعَزَلَ عُبَيْدَةُ يَحْيَى بْنَ سَلَمَةَ الْكَلْبِيَّ عَنِ الْأَنْدَلُسِ، وَاسْتَعْمَلَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْأَحْوَصِ الْأَشْجَعِيَّ، فَقَدِمَ الْأَنْدَلُسَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ، فَبَقِيَ وَالِيًا عَلَيْهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ عُزِلَ، وَوَلِيَهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي نِسْعَةَ الْخَثْعَمِيُّ.

ثم دخلت سنة عشر ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَمِائَةٍ] 110 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَمِائَةٍ ذِكْرُ مَا جَرَى لِأَشْرَسَ مَعَ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ وَغَيْرِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ أَشْرَسُ إِلَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنْ تُوضَعَ عَنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَأَرْسَلَ فِي ذَلِكَ أَبَا الصَّيْدَاءِ (صَالِحَ بْنَ طَرِيفٍ مَوْلَى بَنِي ضَبَّةَ، وَالرَّبِيعَ بْنَ عِمْرَانَ التَّمِيمِيَّ. فَقَالَ أَبُو الصَّيْدَاءِ) : إِنَّمَا أَخْرُجُ عَلَى شَرِيطَةِ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، وَإِنَّمَا خَرَاجُ خُرَاسَانَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ. فَقَالَ أَشْرَسُ: نَعَمْ. فَقَالَ أَبُو الصَّيْدَاءِ لِأَصْحَابِهِ: فَإِنِّي أَخْرُجُ، فَإِنْ لَمْ يَفِ الْعُمَّالُ أَعَنْتُمُونِي عَلَيْهِمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَشَخَصَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ وَعَلَيْهَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْعَمَرَّطَةِ الْكِنْدِيُّ عَلَى حَرْبِهَا وَخَرَاجِهَا، فَدَعَا أَبُو الصَّيْدَاءِ أَهْلَ سَمَرْقَنْدَ وَمَنْ حَوْلَهَا إِلَى الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنْ تُوضَعَ عَنْهُمُ الْجِزْيَةُ، فَسَارَعَ النَّاسُ، فَكَتَبَ غَوْزَكُ إِلَى أَشْرَسَ أَنَّ الْخَرَاجَ قَدِ انْكَسَرَ. فَكَتَبَ أَشْرَسُ إِلَى ابْنِ [أَبِي] الْعَمَرَّطَةَ: إِنَّ فِي الْخَرَاجِ قُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ الصُّغْدِ وَأَشْبَاهِهِمْ لَمْ يُسْلِمُوا رَغْبَةً، إِنَّمَا أَسْلَمُوا تَعَوُّذًا مِنَ الْجِزْيَةِ، فَانْظُرْ مَنِ اخْتَتَنَ، وَأَقَامَ الْفَرَائِضَ، وَقَرَأَ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، فَارْفَعْ خَرَاجَهُ. ثُمَّ عَزَلَ أَشْرَسُ ابْنَ [أَبِي] الْعَمَرَّطَةِ عَنِ الْخَرَاجِ، وَصَيَّرَهُ إِلَى هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ، فَمَنَعَهُمْ أَبُو الصَّيْدَاءِ مِنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِمَّنْ أَسْلَمَ، فَكَتَبَ هَانِئٌ إِلَى أَشْرَسَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا وَبَنَوُا الْمَسَاجِدَ. فَكَتَبَ أَشْرَسُ إِلَيْهِ وَإِلَى الْعُمَّالِ: خُذُوا الْخَرَاجَ مِمَّنْ كُنْتُمْ تَأْخُذُونَهُ مِنْهُ. فَأَعَادُوا الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ. فَامْتَنَعُوا وَاعْتَزَلُوا فِي سَبْعَةِ آلَافٍ، عَلَى عِدَّةِ فَرَاسِخَ مِنْ سَمَرْقَنْدَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَبُو الصَّيْدَاءِ، وَرَبِيعُ بْنُ عِمْرَانَ التَّمِيمِيُّ، وَالْهَيْثَمُ الشَّيْبَانِيُّ، وَأَبُو فَاطِمَةَ الْأَزْدِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَبَحِيرُ الْخُجَنْدِيُّ، وَبَنَانُ الْعَنْبَرِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ

عُقْبَةَ لِيَنْصُرُوهُمْ، فَعَزَلَ أَشْرَسُ بْنُ [أَبِي] الْعَمَرَّطَةِ عَنِ الْحَرْبِ، وَاسْتَعْمَلَ مَكَانَهُ الْمُجَشِّرَ بْنَ مُزَاحِمٍ السُّلَمِيَّ عَلَى الْحَرْبِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ عُمَيْرَةُ بْنُ سَعْدٍ الشَّيْبَانِيُّ. فَلَمَّا قَدِمَ الْمُجَشِّرُ كَتَبَ إِلَى أَبِي الصَّيْدَاءِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَقَدِمَ أَبُو الصَّيْدَاءِ وَثَابَتُ قُطْنَةَ، فَحَبَسَهُمَا، فَقَالَ أَبُو الصَّيْدَاءِ: غَدَرْتُمْ وَرَجَعْتُمْ عَمَّا قُلْتُمْ. فَقَالَ هَانِئٌ: لَيْسَ بِغَدْرٍ مَا كَانَ فِيهِ حَقْنُ الدِّمَاءِ، ثُمَّ سَيَّرُوهُ إِلَى أَشْرَسَ، وَاجْتَمَعَ أَصْحَابُهُ وَوَلَّوْا أَمْرَهُمْ أَبَا فَاطِمَةَ لِيُقَاتِلُوا هَانِئًا، فَقَالَ لَهُمْ: كُفُّوا حَتَّى نَكْتُبَ إِلَى أَشْرَسَ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِ، فَكَتَبَ أَشْرَسُ: ضَعُوا عَلَيْهِمُ الْخَرَاجَ، فَرَجَعَ أَصْحَابُ أَبِي الصَّيْدَاءِ وَضَعُفَ أَمْرُهُمْ، فَتَتَبَّعَ الرُّؤَسَاءَ، فَأُخِذُوا وَحُمِلُوا إِلَى مَرْوَ، وَبَقِيَ ثَابِتٌ مَحْبُوسًا، فَأَلَحَّ هَانِئٌ فِي الْخَرَاجِ، وَاسْتَخَفُّوا بِعُظَمَاءِ الْعَجَمِ وَالدَّهَاقِينِ، وَأُقِيمُوا وَخُرِّقَتْ ثِيَابُهُمْ، وَأَلْقِيَتْ مَنَاطِقُهُمْ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَأَخَذُوا الْجِزْيَةَ مِمَّنْ أَسَلَمَ [مِنَ الضُّعَفَاءِ] ، فَكَفَرَتِ الصُّغْدُ وَبُخَارَى، وَاسْتَجَاشُوا التُّرْكَ. وَلَمْ يَزَلْ ثَابِتُ قُطْنَةَ فِي حَبْسِ الْمُجَشِّرِ حَتَّى قَدِمَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ إِلَى الْمُجَشِّرِ وَالِيًا، فَحَمَلَهُ إِلَى أَشْرَسَ فَحَبَسَهُ، وَكَانَ نَصْرٌ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، فَقَالَ ثَابِتٌ يَمْدَحْهُ [بِأَبْيَاتٍ] يَقُولُ فِيهَا: مَا هَاجَ شَوْقُكَ مِنْ نُؤْيٍ وَأَحْجَارِ ... وَمِنْ رُسُومٍ عَفَاهَا صَوْبُ أَمْطَارِ إِنْ كَانَ ظَنِّي بِنَصْرٍ صَادِقًا أَبَدًا ... فِيمَا أُدَبِّرُ مِنْ نَقْضِي وَإِمْرَارِي لَا يَصْرِفُ الْجُنْدَ حَتَّى يَسْتَفِيءَ بِهِمْ ... نَهْبًا عَظِيمًا وَيَحْوِيَ مُلْكَ جَبَّارِ إِنِّي وَإِنْ كُنْتُ مِنْ جَذْمِ الَّذِي نَضُرَتْ ... مِنْهُ الْفُرُوعُ وَزَنْدِي الثَّاقِبُ الْوَارِي لَذَاكِرٌ مِنْكَ أَمْرًا قَدْ سَبَقْتَ بِهِ ... مَنْ كَانَ قَبْلَكَ يَا نَصْرُ بْنُ سَيَّارِ نَاضَلْتَ عَنِّي نِضَالَ الْحُرِّ إِذْ قَصُرَتْ ... دُونِي الْعَشِيرَةُ وَاسْتَبْطَأْتُ أَنْصَارِي وَصَارَ كُلُّ صِدِّيقٍ كُنْتُ آمُلُهُ ... أَلْبًا عَلَي وَرَثَّ الْحَبْلُ مِنْ جَارِي وَمَا تَلَبَّسْتُ بِالْأَمْرِ الَّذِي وَقَعُوا ... بِهِ عَلَيَّ وَلَا دَنَّسْتُ أَطَمَارِي

وَلَا عَصَيْتُ إِمَامًا كَانَ طَاعَتُهُ حَقًا عَلِيَّ وَلَا قَارَفْتُ مِنْ عَارِ وَخَرَجَ أَشْرَسُ غَازِيًا، فَنَزَلَ آمُلَ، فَأَقَامَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ. وَقَدَّمَ قَطَنَ بْنَ قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، فَعَبَرَ النَّهْرَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَقْبَلَ أَهْلُ الصُّغْدِ وَبُخَارَى مَعَهُمْ خَاقَانُ وَالتُّرْكُ، فَحَصَرُوا قَطَنًا فِي خَنْدَقِهِ، فَأَرْسَلَ خَاقَانُ مَنْ أَغَارَ عَلَى مَسْرَحِ النَّاسِ، فَأَخْرَجَ أَشْرَسُ ثَابِتَ قُطْنَةَ بِكَفَالَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِسْطَامِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو، فَوَجَّهَهُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِسْطَامٍ فِي خَيْلٍ، فَقَاتَلُوا التُّرْكَ بِآمُلَ حَتَّى اسْتَنْقَذُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ، وَرَجَعَ التُّرْكُ. ثُمَّ عَبَرَ أَشْرَسُ بِالنَّاسِ إِلَى قَطَنٍ، وَبَعْثَ أَشْرَسُ سَرِيَّةً مَعَ مَسْعُودٍ أَحَدِ بَنِي حَيَّانَ، فَلَقِيَهُمُ الْعَدُوُّ (فَقَاتَلُوهُمْ، فَقُتِلَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُزِمَ مَسْعُودٌ، فَرَجَعَ أَشْرَسُ) ، وَأَقْبَلَ الْعَدُوُّ، فَلَقِيَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَجَالُوا جَوْلَةً، فَقُتِلَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ رَجَعَ الْمُسْلِمُونَ وَصَبَرُوا فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، وَسَارَ أَشْرَسُ بِالنَّاسِ حَتَّى نَزَلَ بِيكَنْدَ، فَقَطَعَ الْعَدُوُّ عَنْهُمُ الْمَاءَ، وَأَقَامَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَعَطِشُوا، فَرَحَلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي قَطَعَ الْعَدُوُّ [الْمِيَاهَ] مِنْهَا، وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ قَطَنُ بْنُ قُتَيْبَةَ، فَلَقِيَهُمُ الْعَدُوُّ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَجَهِدُوا مِنَ الْعَطَشِ، فَمَاتَ مِنْهُمْ سَبْعُمِائَةٍ، (فَعَجَزَ النَّاسُ عَنِ الْقِتَالِ) ، فَحَرَّضَ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ النَّاسَ، فَقَالَ: الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ أَكْرَمُ فِي الدُّنْيَا وَأَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمَوْتِ عَطَشًا. وَتَقَدَّمَ الْحَارِثُ وَقَطَنٌ فِي فَوَارِسَ مِنْ تَمِيمٍ، فَقَاتَلُوا حَتَّى أَزَالُوا التُّرْكَ عَنِ الْمَاءِ، فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَشَرِبُوا وَاسْتَقَوْا. ثُمَّ مَرَّ ثَابِتُ قُطْنَةَ بِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ دِثَارٍ الْبَاهِلِيِّ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي الْجِهَادِ؟ فَقَالَ: أَمْهِلْنِي حَتَّى أَغْتَسِلَ وَأَتَحَنَّطَ. فَوَقَفَ لَهُ حَتَّى اغْتَسَلَ ثُمَّ مَضَيَا، وَقَالَ ثَابِتٌ لِأَصْحَابِهِ: أَنَا أَعْلَمُ بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ مِنْكُمْ، وَحَرَّضَهُمْ، فَحَمَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَقَالَ ثَابِتُ قُطْنَةَ: اللَّهُمَّ إِنِّي كَنْتُ ضَيْفَ ابْنِ بِسْطَامٍ الْبَارِحَةَ، فَاجْعَلْنِي ضَيْفَكَ اللَّيْلَةَ، وَاللَّهِ لَا يَنْظُرُ إِلَيَّ بَنُو أُمَيَّةَ مَشْدُودًا فِي الْحَدِيدِ. فَحَمَلَ وَحَمَلَ أَصْحَابُهُ، فَرَجَعَ أَصْحَابُهُ وَثَبَتَ هُوَ، فَرُمِيَ بِرْذَوْنُهُ فَشَبَّ، وَضَرَبَهُ فَأَقْدَمَ، وَضُرِبَ ثَابِتٌ، فَارْتُثَّ، فَقَالَ وَهُوَ صَرِيعٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَصْبَحْتُ ضَيْفًا لِابْنِ بِسْطَامٍ وَأَمْسَيْتُ ضَيْفَكَ! فَاجْعَلْ قِرَايَ مِنْكَ الْجَنَّةَ! فَقَتَلُوهُ وَقَتَلُوا مَعَهُ عِدَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِنْهُمْ: صَخْرُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ النُّعْمَانِ الْعَبْدِيُّ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ دِثَارٍ الْبَاهِلِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَجَمَعَ قَطَنٌ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ خَيْلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَبَايَعُوا

عَلَى الْمَوْتِ، فَحَمَلُوا عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَكَشَفُوهُمْ، وَرَكِبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ حَتَّى حَجَزَهُمُ اللَّيْلُ، وَتَفَرَّقَ الْعَدُوُّ، وَأَتَى أَشْرَسُ بُخَارَى فَحَصَرَ أَهْلَهَا. (الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ: بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ) . ذِكْرُ وَقْعَةِ كَمَرْجَهْ ثُمَّ إِنَّ خَاقَانَ حَصَرَ كَمَرْجَهْ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ بُلْدَانِ خُرَاسَانَ، وَبِهَا جَمْعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعَ خَاقَانَ أَهْلُ فَرْغَانَةَ وَأَفْشِينَةَ وَنَسَفَ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ بُخَارَى، فَأَغْلَقَ الْمُسْلِمُونَ الْبَابَ، وَقَطَعُوا الْقَنْطَرَةَ الَّتِي عَلَى الْخَنْدَقِ. فَأَتَاهُمُ ابْنُ خِسْرُو بْنِ يَزْدِجَرْدَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لِمَ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ؟ أَنَا الَّذِي جِئْتُ بِخَاقَانَ لِيَرُدَّ عَلَيَّ مَمْلَكَتِي، وَأَنَا آخِذٌ لَكُمُ الْأَمَانَ. فَشَتَمُوهُ. وَأَتَاهُمْ بَازَغْرَى فِي مِائَتَيْنِ، وَكَانَ دَاهِيَةً، وَكَانَ خَاقَانُ لَا يُخَالِفُهُ، فَدَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَمَانٍ، وَقَالَ: لِيَنْزِلَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ أُكَلِّمُهُ بِمَا أَرْسَلَنِي بِهِ خَاقَانُ. فَأَحْدَرُوا يَزِيدَ بْنَ سَعِيدٍ الْبَاهِلِيَّ، وَكَانَ يَفْهَمُ بِالتُّرْكِيَّةِ يَسِيرًا، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ خَاقَانَ أَرْسَلَنِي، وَهُوَ يَقُولُ إِنِّي أَجْعَلُ مَنْ عَطَاؤُهُ مِنْكُمْ سِتُّمِائَةٍ أَلْفًا، وَمِنْ عَطَاؤُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ سِتَّمِائَةٍ، وَهُوَ يُحْسِنُ إِلَيْكُمْ. فَقَالَ [لَهُ] يَزِيدُ: كَيْفَ تَكُونُ الْعَرَبُ وَهُمْ ذِئَابٌ مَعَ التُّرْكِ وَهُمْ شَاءٌ! لَا يَكُونُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ صُلْحٌ. فَغَضِبَ بَازَغْرَى، وَكَانَ مَعَهُ تُرْكِيَّانِ، فَقَالَا: أَلَا تَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ نَزَلَ بِأَمَانٍ. وَفَهِمَ يَزِيدُ مَا قَالَا، فَخَافَ، فَقَالَ: بَلَى إِنَّمَا تَجْعَلُونَنَا نِصْفَيْنِ، فَيَكُونُ نَصْفُنَا مَعَ أَثْقَالِنَا، وَيَسِيرُ النِّصْفُ مَعَكُمْ، فَإِنْ ظَفِرْتُمْ فَنَحْنُ مَعَكُمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ كُنَّا كَسَائِرِ مَدَائِنِ الصُّغْدِ. فَرَضُوا بِذَلِكَ، وَقَالَ: أَعْرِضُ عَلَى أَصْحَابِي هَذَا. وَصَعِدَ فِي الْحَبْلِ، فَلَمَّا صَارَ عَلَى السُّورِ نَادَى: يَا أَهْلَ كَمْرَجَهْ، اجْتَمِعُوا، فَقَدْ جَاءَكُمْ قَوْمٌ يَدْعُونَكُمْ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَمَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: لَا نُجِيبُ وَلَا نَرْضَى. قَالَ: يَدْعُونَكُمْ إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ. قَالُوا: نَمُوتُ قَبْلَ ذَلِكَ. فَرُدَّ بَازَغْرَى. ثُمَّ أَمَرَ خَاقَانُ بِقَطْعِ الْخَنْدَقِ، فَجَعَلُوا يُلْقُونَ الْحَطَبَ الرَّطْبَ، وَيُلْقِي الْمُسْلِمُونَ الْحَطَبَ الْيَابِسَ، حَتَّى سُوِّيَ الْخَنْدَقُ، فَأَشْعَلُوا فِيهِ النِّيرَانَ، وَهَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ صُنْعًا مِنَ اللَّهِ، فَاحْتَرَقَ الْحَطَبُ، وَكَانُوا جَمَعُوهُ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ، فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. ثُمَّ فَرَّقَ خَاقَانُ عَلَى التُّرْكِ أَغْنَامًا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا لَحْمَهَا، وَيَحْشُوا جُلُودَهَا تُرَابًا، وَيَكْبِسُوا خَنْدَقَهَا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ سَحَابَةً فَمَطَرَتْ مَطَرًا شَدِيدًا، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ مَا فِي الْخَنْدَقِ، وَأَلْقَاهُ فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ. وَرَمَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِالسِّهَامِ، فَأَصَابَتْ بَازَغْرَى

نُشَّابَةٌ فِي سُرَّتِهِ فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ بِمَوْتِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ. فَلَمَّا امْتَدَّ النَّهَارُ جَاءُوا بِالْأَسْرَى الَّتِي عِنْدَهُمْ، وَهُمْ مِائَةٌ، فِيهِمْ أَبُو الْعَوْجَاءِ الْعَتَكِيُّ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ حُمَيْدٍ النَّضْرِيُّ، فَقَتَلُوهُمْ وَرَمَوْا بِرَأْسِ الْحَجَّاجِ، وَكَانَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِائَتَانِ مِنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ رَهَائِنَ، فَقَتَلُوهُمْ وَاسْتَمَاتُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ. وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ كَمَرْجَهْ كَذَلِكَ حَتَّى أَقْبَلَتْ جُنُودُ الْعَرَبِ فَنَزَلَتْ فَرْغَانَةَ، فَعَيَّرَ خَاقَانُ أَهْلَ الصُّغْدِ، وَفَرْغَانَةَ، وَالشَّاشِ، وَالدَّهَاقِينَ، وَقَالَ: زَعَمْتُمْ أَنَّ فِي هَذِهِ خَمْسِينَ حِمَارًا، وَأَنَّا نَفْتَحُهَا فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ، فَصَارَتِ الْخَمْسَةُ شَهْرَيْنِ. وَأَمَرَهُمْ بِالرَّحِيلِ وَشَتَمَهُمْ، فَقَالُوا: مَا نَدَعُ جُهْدًا، فَأَحْضِرْنَا غَدًا، وَانْظُرْ مَا نَصْنَعُ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ وَقَفَ خَاقَانُ، وَتَقَدَّمَ الطَّارْبَنْدُ، فَقَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةً، وَجَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى ثُلْمَةٍ إِلَى جَنْبِ بَيْتٍ فِيهِ مَرِيضٌ مِنْ تَمِيمٍ، فَرَمَاهُ التَّمِيمِيُّ بِكَلُّوبٍ، فَتَعَلَّقَ بِدِرْعِهِ، ثُمَّ نَادَى النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، فَجَذَبُوهُ فَسَقَطَ لِوَجْهِهِ، وَرَمَاهُ رَجُلٌ بِحَجَرٍ، فَأَصَابَ أَصْلَ أُذُنِهِ، فَصُرِعَ، وَطَعَنَهُ آخَرُ، فَقَتَلَهُ، فَاشْتَدَّ قَتْلُهُ عَلَى التُّرْكِ. وَأَرْسَلَ خَاقَانُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ رَأْيِنَا أَنْ نَرْتَحِلَ عَنْ مَدِينَةٍ نُحَاصِرُهَا دُونَ افْتِتَاحِهَا، أَوْ تَرَحُّلِهِمْ عَنْهَا. فَقَالُوا لَهُ: لَيْسَ مِنْ دِينِنَا أَنْ نُعْطِيَ بِأَيْدِينَا حَتَّى نُقْتَلَ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ. فَأَعْطَاهُمُ التُّرْكُ الْأَمَانَ أَنْ يَرْحَلَ خَاقَانُ عَنْهُمْ وَيَرْحَلُوا هُمْ (عَنْهَا إِلَى سَمَرْقَنْدَ أَوِ الدَّبُّوسِيَّةَ، فَرَأَى أَهْلُ كَمَرْجَهْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحِصَارِ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ، فَأَخَذُوا مِنَ التُّرْكِ رَهَائِنَ أَنْ لَا يَعْرِضُوا لَهُمْ، وَطَلَبُوا أَنَّ كُورُصُولَ التُّرْكِيَّ يَكُونُ مَعَهُمْ فِي جَمَاعَةٍ) لِيَمْنَعَهُمْ إِلَى الدَّبُّوسِيَّةِ، فَسَلَّمُوا إِلَيْهِمُ الرَّهَائِنَ وَأَخَذُوا أَيْضًا هُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَهَائِنَ، وَارْتَحَلَ خَاقَانُ عَنْهُمْ، ثُمَّ رَحَلُوا هُمْ بَعْدَهُ، فَقَالَ الْأَتْرَاكُ الَّذِينَ مَعَ كُورُصُولَ: إِنَّ بِالدَّبُّوسِيَّةِ عَشْرَةَ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَخْرُجُوا عَلَيْنَا. فَقَالَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ: إِنْ قَاتَلُوكُمْ قَاتَلْنَاهُمْ مَعَكُمْ. فَسَارُوا، فَلَمَّا صَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الدَّبُّوسِيَّةِ فَرْسَخٌ نَظَرَ أَهْلُهَا إِلَى الْفُرْسَانِ فَظَنُّوا أَنَّ كَمَرْجَهْ فُتِحَتْ، وَأَنَّ خَاقَانَ قَدْ قَصَدَهُمْ، فَتَأَهَّبُوا لِلْحَرْبِ، فَأَرْسَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ يُخْبِرُونَهُمْ خَبَرَهُمْ، فَالْتَقَوْهُمْ وَحَمَلُوا مَنْ كَانَ يَضْعُفُ عَنِ الْمَشْيِ وَمَنْ كَانَ مَجْرُوحًا. فَلَمَّا بَلَغَ الْمُسْلِمُونَ الدَّبُّوسِيَّةَ أَرْسَلُوا إِلَى مَنْ عِنْدَهُ الرَّهَائِنُ يُعْلِمُونَهُ بِوُصُولِهِمْ، وَيَأْمُرُونَهُ بِإِطْلَاقِهِمْ، فَجَعَلَتِ الْعَرَبُ تُطْلِقُ رَجُلًا مِنَ الرَّهْنِ وَالتُّرْكُ رَجُلًا، حَتَّى بَقِيَ سِبَاعُ بْنُ

النُّعْمَانِ مَعَ التُّرْكِ، وَرَجُلٌ مِنَ التُّرْكِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَجَعَلَ كُلُّ فَرِيقٍ يَخَافُ مِنْ صَاحِبِهِ الْغَدْرَ، فَقَالَ سِبَاعٌ: خَلُّوا رَهِينَةَ التُّرْكِ، فَخَلَّوْهُ، وَبَقِيَ سِبَاعٌ مَعَ التُّرْكِ، فَقَالَ لَهُ كُورْصُولُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: وَثِقْتُ بِكَ وَقُلْتُ: تَرْفَعُ نَفْسَكَ عَنِ الْغَدْرِ، فَوَصَلَهُ كُورْصُولُ وَأَعْطَاهُ سِلَاحَهُ وَبِرْذَوْنًا وَأَطْلَقَهُ. وَكَانَتْ مُدَّةُ حِصَارِ كَمَرْجَهْ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَسْقُوا إِبِلَهُمْ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا. ذِكْرُ رِدَّةِ أَهْلِ كَرْدَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ارْتَدَّ أَهْلُ كَرْدَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَشْرَسُ جُنْدًا فَظَفِرُوا بِهِمْ، فَقَالَ عَرْفَجَةُ: وَنَحْنُ كَفَيْنَا أَهْلَ مَرْوٍ وَغَيْرَهُمْ وَنَحْنُ نَفَيْنَا التُّرْكَ عَنْ أَهْلِ كَرْدَرِ فَإِنْ تَجْعَلُوا مَا قَدْ غَنِمْنَا لِغَيْرِنَا فَقَدْ يُظْلَمُ الْمَرْءُ الْكَرِيمُ فَيَصْبِرُ ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ الصَّلَاةَ وَالْأَحْدَاثَ وَالشُّرَطَ وَالْقَضَاءَ بِالْبَصْرَةِ لِبِلَالِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَعَزَلَ ثُمَامَةَ عَنِ الْقَضَاءِ. وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ التُّرْكَ مِنْ بَابِ اللَّانِ، فَلَقِيَ خَاقَانَ فِي جُمُوعِهِ، فَاقْتَتَلُوا قَرِيبًا مَنْ شَهْرٍ وَأَصَابَهُمْ مَطَرٌ شَدِيدٌ، فَانْهَزَمَ خَاقَانُ وَانْصَرَفَ، وَرَجَعَ مَسْلَمَةُ فَسَلَكَ عَلَى مَسْلَكِ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ الرُّومَ فَفَتَحَ صِمْلَةَ.

وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُقْبَةَ الْفِهْرِيُّ، وَكَانَ عَلَى جَيْشِ الْبَحْرِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ، (بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ) . وَحَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ. فَكَانَ الْعُمَّالُ عَلَى الْبِلَادِ هَذِهِ السَّنَةَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَلَهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً. وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَفِيهَا، أَعْنِي سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ، مَاتَ الْفَرَزْدَقُ الشَّاعِرُ وَلَهُ إِحْدَى وَتِسْعُونَ سَنَةً. وَجَرِيرُ بْنُ الْخَطَفَى الشَّاعِرُ.

ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمِائَةٍ] 111 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ عَزْلِ أَشْرَسَ عَنْ خُرَاسَانَ وَاسْتِعْمَالِ الْجُنَيْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ هِشَامٌ أَشْرَسَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خُرَاسَانَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ شَدَّادَ بْنَ خُلَيْدٍ الْبَاهِلِيَّ شَكَاهُ إِلَى هِشَامٍ، فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ الْجُنَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى خُرَاسَانَ، وَهُوَ الْجُنَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ خَارِجَةَ بْنِ سِنَانِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيُّ. وَكَانَ سَبَبُ اسْتِعْمَالِهِ أَنَّهُ أَهْدَى لِأُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ امْرَأَةِ هِشَامٍ قِلَادَةً فِي جَوْهَرٍ، فَأَعْجَبَتْ هِشَامًا، فَأَهْدَى لِهِشَامٍ قِلَادَةً أُخْرَى، فَاسْتَعْمَلَهُ وَحَمَلَهُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ مِنَ الْبَرِيدِ، فَقَدِمَ خُرَاسَانَ فِي خَمْسِمِائَةٍ وَسَارَ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَسَارَ مَعَهُ حَطَّابُ بْنُ مُحْرِزٍ السُّلَمِيُّ خَلِيفَةُ أَشْرَسَ بِخُرَاسَانَ وَقَطَعَا النَّهْرَ. وَأَرْسَلَ الْجُنَيْدُ إِلَى أَشْرَسَ وَهُوَ يُقَاتِلُ أَهْلَ بُخَارَى وَالصُّغْدِ: أَنْ أَمِدَّنِي بَخَيْلٍ، وَخَافَ أَنْ يَقْتَطِعَ دُونَهُ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ أَشْرَسُ عَامِرَ بْنَ مَالِكٍ الْحِمَّانِيَّ، فَلَمَّا كَانَ عَامِرٌ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَرَضَ لَهُ التُّرْكُ وَالصُّغْدُ، فَدَخَلَ حَائِطًا حَصِينًا وَقَاتَلَهُمْ عَلَى الثُّلْمَةِ، وَمَعَهُ وَرْدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَدْهَمَ بْنِ كُلْثُومٍ ابْنِ أَخِي الْأَسْوَدِ بْنِ كُلْثُومٍ وَوَاصِلُ بْنُ عَمْرٍو الْقَيْسِيُّ. فَخَرَجَ وَاصِلٌ وَعَاصِمُ بْنُ عُمَيْرٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ وَمَعَهُمَا غَيْرُهُمَا، فَاسْتَدَارُوا حَتَّى صَارُوا مِنْ وَرَاءِ الْمَاءِ الَّذِي هُنَاكَ. ثُمَّ جَمَعُوا قَصَبًا وَخَشَبًا وَعَبَرُوا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَشْعُرْ خَاقَانُ إِلَّا وَالتَّكْبِيرُ مِنْ خَلْفِهِ، وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى التُّرْكِ، (فَقَاتَلُوهُمْ فَقَتَلُوا عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ) وَانْهَزَمَ التُّرْكُ، وَسَارَ عَامِرٌ إِلَى الْجُنَيْدِ، فَلَقِيَهُ وَأَقْبَلَ مَعَهُ، وَعَلَى مُقَدِّمَةِ الْجُنَيْدِ عُمَارَةُ بْنُ حُرَيْمٍ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ بِيكَنْدَ تَلَقَّتْهُ خَيْلُ التُّرْكِ فَقَاتَلَهُمْ، فَكَادَ الْجُنَيْدُ يَهْلِكُ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ أَظْهَرَهُ اللَّهُ وَسَارَ حَتَّى قَدِمَ الْعَسْكَرَ، فَظَفِرَ الْجُنَيْدُ وَقَتَلَ التُّرْكَ، وَزَحَفَ إِلَيْهِ

خَاقَانُ، فَالْتَقَوْا دُونَ رُزْمَانَ مِنْ بِلَادِ سَمَرْقَنْدَ، وَقَطَنُ بْنُ قُتَيْبَةَ عَلَى سَاقَةِ الْجُنَيْدِ. فَأَسَرَ الْجُنَيْدُ مِنَ التُّرْكِ ابْنَ أَخِي خَاقَانَ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى هِشَامٍ. وَكَانَ الْجُنَيْدُ قَدِ اسْتَخْلَفَ فِي غَزْوَتِهِ هَذِهِ مُجَشِّرَ بْنَ مُزَاحِمٍ السُّلَمِيَّ عَلَى مَرْوَ، وَوَلَّى سَوْرَةَ بْنَ الْحُرِّ التَّمِيمِيَّ بَلْخًا، وَأَوْفَدَ لَمَّا أَصَابَ فِي وَجْهِهِ هَذَا وَفْدًا إِلَى هِشَامٍ، وَرَجَعَ الْجُنَيْدُ إِلَى مَرْوَ وَقَدْ ظَفِرَ، فَقَالَ خَاقَانُ: هَذَا غُلَامٌ مُتْرَفٌ هَزَمَنِيَ الْعَامَ وَأَنَا مُهْلِكُهُ فِي قَابِلٍ. وَاسْتَعْمَلَ الْجُنَيْدُ عُمَّالَهُ وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ إِلَّا مُضَرِيًّا، اسْتَعْمَلَ قَطَنَ بْنَ قُتَيْبَةَ عَلَى بُخَارَى، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْقَعْقَاعِ الْعَبْسِيَّ عَلَى هَرَاةَ، وَحَبِيبَ بْنَ مُرَّةَ الْعَبْسِيَّ عَلَى شُرَطِهِ، وَعَلَى بَلْخٍ مُسْلِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَاهِلِيَّ، وَكَانَ عَلَيْهَا نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، وَكَانَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَاهِلِيِّينَ مُتَبَاعِدًا لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ بِالْبَرُوقَانِ، وَأَرْسَلَ مُسْلِمٌ إِلَى نَصْرٍ فَصَادَفُوهُ نَائِمًا، فَجَاءُوا بِهِ فِي قَمِيصٍ لَيْسَ عَلَيْهِ سَرَاوِيلُ مُلَبَّبًا، فَقَالَ شَيْخٌ مِنْ مُضَرَ: جِئْتُمْ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ! فَعَزَلَ الْجُنَيْدُ مُسْلِمًا عَنْ بَلْخٍ وَاسْتَعْمَلَ يَحْيَى بْنَ ضُبَيْعَةَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى خَرَاجِ سَمَرْقَنْدَ شَدَّادَ بْنَ خُلَيْدٍ الْبَاهِلِيَّ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُسْرَى، وَغَزَا سَعِيدُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُمْنَى حَتَّى أَتَى قَيْسَارِيَّةَ، وَغَزَا فِي الْبَحْرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ. وَاسْتَعْمَلَ هِشَامٌ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ مِنَ الشَّامِ وَمِصْرَ الْحَكَمَ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. وَفِيهَا سَارَتِ التُّرْكُ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ فَلَقِيَهُمُ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو فَهَزَمَهُمْ.

وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ هِشَامٌ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ عَلَى إِرْمِينِيَّةَ، وَعَزَلَ أَخَاهُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَدَخَلَ بِلَادَ الْخَزَرِ مِنْ نَاحِيَةِ تَفْلِيسَ، فَفَتَحَ مَدِينَتَهُمُ الْبَيْضَاءَ وَانْصَرَفَ سَالِمًا، فَجُمِعَتِ الْخَزَرُ وَحُشِدَتْ، وَسَارَتْ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِ الْجَرَّاحِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهَا عَزَلَ عُبَيْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَامِلُ إِفْرِيقِيَّةَ، عُثْمَانَ بْنَ نِسْعَةَ عَنِ الْأَنْدَلُسِ، وَاسْتَعْمَلَ بَعْدَهُ الْهَيْثَمَ بْنَ عُبَيْدٍ الْكِنَانِيَّ، وَقَدِمَهَا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، فَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ إِلَّا خُرَاسَانَ كَانَ بِهَا الْجُنَيْدُ، وَكَانَ بِإِرْمِينِيَّةَ الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَة] 112 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ الْجَرَّاحِ الْحَكَمِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ. وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ دُخُولِهِ بِلَادَ الْخَزَرِ وَانْهِزَامِهِمْ، فَلَمَّا هَزَمَهُمُ اجْتَمَعَ الْخَزَرُ وَالتُّرْكُ مِنْ نَاحِيَةِ اللَّانِ، فَلَقِيَهُمُ الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ، فَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، وَتَكَاثَرَتِ الْخَزَرُ وَالتُّرْكُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتُشْهِدَ الْجَرَّاحُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بِمَرْجِ أَرْدَبِيلَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ أَخَاهُ الْحَجَّاجَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى إِرْمِينِيَّةَ. وَلَمَّا قُتِلَ الْجَرَّاحُ طَمِعَ الْخَزَرُ وَأَوْغَلُوا فِي الْبِلَادِ حَتَّى قَارَبُوا الْمَوْصِلَ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ الْجَرَّاحُ خَيِّرًا فَاضِلًا مِنْ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَرَثَاهُ كَثِيرٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ. وَقِيلَ: كَانَ قَتْلُهُ بِبَلَنْجَرَ. وَلَمَّا بَلَغَ هِشَامًا خَبَرُهُ دَعَا سَعِيدًا الْحَرَشِيَّ فَقَالَ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْجَرَّاحَ قَدِ انْحَازَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: كَلَّا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْجَرَّاحُ أَعْرَفُ بِاللَّهِ مِنْ أَنْ يَنْهَزِمَ، وَلَكِنَّهُ قُتِلَ. قَالَ: فَمَا رَأْيُكَ؟ قَالَ: تَبْعَثُنِي عَلَى أَرْبَعِينَ دَابَّةً مِنْ دَوَابِّ الْبَرِيدِ، ثُمَّ تَبْعَثُ إِلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعِينَ رَجُلًا، ثُمَّ اكْتُبْ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ يُوَافُونِي. فَفَعَلَ ذَلِكَ هِشَامٌ، وَسَارَ الْحَرَشِيُّ، فَكَّانِ لَا يَمُرُّ بِمَدِينَةٍ إِلَّا وَيَسْتَنْهِضُ أَهْلَهَا فَيُجِيبُهُ مَنْ يُرِيدُ الْجِهَادَ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَدِينَةِ أَرْزَنَ، فَلَقِيَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْجَرَّاحِ، وَبَكَوْا وَبَكَى لِبُكَائِهِمْ وَفَرَّقَ فِيهِمْ نَفَقَةً وَرَدَّهُمْ مَعَهُ، وَجَعَلَ لَا يَلْقَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْجَرَّاحِ إِلَّا رَدَّهُ مَعَهُ، وَوَصَلَ إِلَى خِلَاطٍ، وَهِيَ مُمْتَنِعَةٌ عَلَيْهِ، فَحَصَرَهَا أَيْضًا وَفَتَحَهَا وَقَسَّمَ غَنَائِمَهَا فِي أَصْحَابِهِ. ثُمَّ سَارَ عَنْ خِلَاطٍ وَفَتَحَ الْحُصُونَ وَالْقِلَاعَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى بَرْذَعَةَ فَنَزَلَهَا.

وَكَانَ ابْنُ خَاقَانَ يَوْمَئِذٍ بِأَذْرَبِيجَانَ يُغِيرُ وَيَنْهَبُ وَيَسْبِي وَيَقْتُلُ، وَهُوَ مُحَاصِرٌ مَدِينَةَ وَرْثَانَ، فَخَافَ الْحَرَشِيُّ أَنْ يَمْلِكَهَا، فَأَرْسَلَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ إِلَى أَهْلِ وَرْثَانَ سِرًّا يُعَرِّفُهُمْ وُصُولَهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّبْرِ، فَسَارَ الْقَاصِدُ، وَلَقِيَهُ بَعْضُ الْخَزَرِ فَأَخَذُوهُ وَسَأَلُوهُ عَنْ حَالِهِ، فَأَخْبَرَهُمْ وَصَدَقَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ فَعَلْتَ مَا نَأْمُرُكَ بِهِ أَحْسَنَّا إِلَيْكَ وَأَطْلَقْنَاكَ وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ. قَالَ: فَمَا الَّذِي تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: تَقُولُ لَأَهْلِ وَرْثَانَ إِنَّكُمْ لَيْسَ لَكُمْ مَدَدٌ وَلَا مَنْ يَكْشِفُ مَا بِكُمْ، وَتَأْمُرُهُمْ بِتَسْلِيمِ الْبَلَدِ إِلَيْنَا. فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا قَارَبَ الْمَدِينَةَ وَقَفَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ أَهْلُهَا كَلَامَهُ فَقَالَ لَهُمْ: أَتَعْرِفُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ أَنْتَ فُلَانٌ. قَالَ: فَإِنَّ الْحَرَشِيُّ قَدْ وَصَلَ إِلَى مَكَانِ كَذَا فِي عَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ يَأْمُرُكُمْ بِحِفْظِ الْبَلَدِ وَالصَّبْرِ، فَفِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ يَصِلُ إِلَيْكُمْ. فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ. وَقَتَلَتِ الْخَزَرُ ذَلِكَ الرَّجُلَ وَرَحَلُوا عَنْ مَدِينَةِ وَرْثَانَ، فَوَصَلَهَا الْحَرَشِيُّ فِي الْعَسَاكِرِ وَلَيْسَ عِنْدَهَا أَحَدٌ. فَارْتَحَلَ يَطْلُبُ الْخَزَرَ إِلَى أَرْدَبِيلَ، فَسَارَ الْخَزَرُ عَنْهَا وَنَزَلَ الْحَرَشِيُّ بَاجَرْوَانَ، فَأَتَاهُ فَارِسٌ عَلَى فَرَسٍ أَبْيَضَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ فِي الْجِهَادِ وَالْغَنِيمَةِ؟ قَالَ: كَيْفَ لِي بِذَلِكَ؟ قَالَ: هَذَا عَسْكَرُ الْخَزَرِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، وَمَعَهُمْ خَمْسَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُسَارَى أَوْ سَبَايَا، وَقَدْ نَزَلُوا عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ. فَسَارَ الْحَرَشِيُّ لَيْلًا فَوَافَاهُمْ آخِرَ اللَّيْلِ وَهُمْ نِيَامٌ، فَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ فِي أَرْبَعِ جِهَاتٍ فَكَبَسَهُمْ مَعَ الْفَجْرِ، وَوَضَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمُ السَّيْفَ، فَمَا بَزَغَتِ الشَّمْسُ حَتَّى قُتِلُوا أَجْمَعِينَ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأَطْلَقَ الْحَرَشِيُّ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَخَذَهُمْ إِلَى بَاجَرْوَانَ، فَلَمَّا دَخَلَهَا أَتَاهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ صَاحِبُ الْفَرَسِ الْأَبْيَضِ فَسَلَّمَ وَقَالَ: هَذَا جَيْشٌ لِلْخَزَرِ وَمَعَهُمْ أَمْوَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَحُرَمُ الْجَرَّاحِ وَأَوْلَادُهُ بِمَكَانِ كَذَا. فَسَارَ الْحَرَشِيُّ إِلَيْهِمْ، فَمَا شَعَرُوا إِلَّا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُمْ، فَوَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ فَقَتَلُوهُمْ كَيْفَ شَاءُوا، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنَ الْخَزَرِ إِلَّا الشَّرِيدُ، وَاسْتَنْقَذُوا مَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ، وَأَخَذَ أَوْلَادَ الْجَرَّاحِ فَأَكْرَمَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَحَمَلَ الْجَمِيعَ إِلَى بَاجَرْوَانَ. وَبَلَغَ خَبَرُ مَا فَعَلَهُ الْحَرَشِيُّ بِعَسَاكِرِ الْخَزَرِ ابْنَ مَلِكِهِمْ، فَوَبَّخَ عَسَاكِرَهُ وَذَمَّهُمْ وَنَسَبَهُمْ إِلَى الْعَجْزِ وَالْوَهَنِ، فَحَرَّضَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِجَمْعِ أَصْحَابِهِ وَالْعَوْدِ إِلَى قِتَالِ الْحَرَشِيِّ. فَجَمَعَ أَصْحَابَهُ مِنْ نَوَاحِي أَذْرَبِيجَانَ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ عَسَاكِرُ كَثِيرَةٌ،

وَسَارَ الْحَرَشِيُّ إِلَيْهِ فَالْتَقَيَا بِأَرْضِ بَرْزَنْدَ، وَاقْتَتَلَ النَّاسُ أَشَدَّ قِتَالٍ وَأَعْظَمَهُ، فَانْحَازَ الْمُسْلِمُونَ يَسِيرًا، فَحَرَّضَهُمُ الْحَرَشِيُّ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ فَعَادُوا إِلَى الْقِتَالِ وَصَدَقُوهُمُ الْحَمْلَةَ، وَاسْتَغَاثَ مَنْ مَعَ الْخَزَرِ مِنَ الْأُسَارَى وَنَادَوْا بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالدُّعَاءِ، فَعِنْدَهَا حَرَّضَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا وَبَكَى رَحْمَةً لِلْأَسْرَى، وَاشْتَدَّتْ نِكَايَتُهُمْ فِي الْعَدُوِّ، فَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ مُنْهَزِمِينَ، وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى بَلَغُوا بِهِمْ نَهْرَ أُرْسٍ، وَعَادُوا عَنْهُمْ وَحَوَوْا مَا فِي عَسَاكِرِهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْغَنَائِمِ، وَأَطْلَقُوا الْأَسْرَى وَالسَّبَايَا وَحَمَلُوا الْجَمِيعَ إِلَى بَاجَرْوَانَ. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ مَلِكِ الْخَزَرِ جَمَعَ مَنْ لَحِقَ بِهِ مِنْ عَسَاكِرِهِ وَعَادَ بِهِمْ نَحْوَ الْحَرَشِيِّ، فَنَزَلَ عَلَى نَهْرِ الْبَيْلَقَانِ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْحَرَشِيِّ فَسَارَ نَحْوَهُ فِي عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَوَافَاهُمْ وَهُمْ عَلَى نَهْرِ الْبَيْلَقَانِ، فَالْتَقَوْا هُنَاكَ، فَصَاحَ الْحَرَشِيُّ بِالنَّاسِ، فَحَمَلُوا حَمْلَةً صَادِقَةً ضَعْضَعُوا صُفُوفَ الْخَزَرِ، وَتَابَعَ الْحَمَلَاتِ وَصَبَرَ الْخَزَرُ صَبْرًا عَظِيمًا، ثُمَّ كَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَيْهِمْ، فَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ مُنْهَزِمِينَ، وَكَانَ مَنْ غَرِقَ مِنْهُمْ فِي النَّهْرِ أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ. وَجَمَعَ الْحَرَشِيُّ الْغَنَائِمَ وَعَادَ إِلَى بَاجَرْوَانَ فَقَسَّمَهَا، وَأَرْسَلَ الْخُمْسَ إِلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَعَرَّفَهُ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ هِشَامٌ يَشْكُرُهُ. وَأَقَامَ بِبَاجَرْوَانَ، فَأَتَاهُ كِتَابُ هِشَامٍ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ، وَاسْتَعْمَلَ أَخَاهُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، فَوَصَلَ إِلَى الْبِلَادِ وَسَارَ إِلَى التُّرْكِ فِي شِتَاءٍ شَدِيدٍ حَتَّى جَازَ الْبَابَ فِي آثَارِهِمْ. ذِكْرُ وَقْعَةِ الْجُنَيْدِ بِالشِّعْبِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْجُنَيْدُ غَازِيًا يُرِيدُ طَخَارِسْتَانَ، فَوَجَّهَ عُمَارَةَ بْنَ حُرَيْمٍ إِلَى طَخَارِسْتَانَ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَوَجَّهَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ بَسَّامٍ اللَّيْثِيَّ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ إِلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَجَاشَتِ التُّرْكُ فَأَتَوْا سَمَرْقَنْدَ وَعَلَيْهَا سَوْرَةُ بْنُ الْحُرِّ، فَكَتَبَ سَوْرَةُ إِلَى الْجُنَيْدِ: إِنَّ خَاقَانَ جَاشَ التُّرْكَ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ فَلَمْ أُطِقْ [أَنْ] أَمْنَعَ حَائِطَ سَمَرْقَنْدَ، فَالْغَوْثَ الْغَوْثَ! فَأَمَرَ الْجُنَيْدُ النَّاسَ بِعُبُورِ النَّهْرِ، فَقَامَ إِلَيْهِ الْمُجَشِّرُ بْنُ مُزَاحِمٍ السُّلَمِيُّ وَابْنُ بِسْطَامٍ الْأَزْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَقَالُوا: إِنَّ التُّرْكَ لَيْسُوا كَغَيْرِهِمْ لَا يَلْقَوْنَكَ صَفًّا وَلَا زَحْفًا وَقَدْ فَرَّقْتَ جُنْدَكَ، فَمُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِالْبَيْرُوذِ، وَالْبَخْتَرِيُّ بِهَرَاةَ، وَعُمَارَةُ بْنُ حُرَيْمٍ غَائِبٌ بِطَخَارِسْتَانَ، وَصَاحِبُ خُرَاسَانَ لَا يَعْبُرُ النَّهْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا، فَاكْتُبْ إِلَى عُمَارَةَ

فَلْيَأْتِكَ وَأَمْهِلْ وَلَا تَعْجَلْ. قَالَ: فَكَيْفَ بِسَوْرَةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ لَوْ لَمْ أَكُنْ إِلَّا فِي بَنِي مُرَّةَ أَوْ مَنْ طَلَعَ مَعِي مِنَ الشَّامِ لَعَبَرْتُ، وَقَالَ شِعْرًا: أَلَيْسَ أَحَقُّ النَّاسِ أَنْ يَشْهَدَ الْوَغَى ... وَأَنْ يَقْتُلَ الْأَبْطَالَ ضَخْمًا عَلَى ضَخْمِ وَقَالَ: مَا عِلَّتِي مَا عِلَّتِي مَا عِلَّتِي ... إِنْ لَمْ أُقَتِّلْهُمْ فَجُزُّوا لُمَّتِي وَعَبَرَ الْجُنَيْدُ فَنَزَلَ كَشَّ وَتَأَهَّبَ لِلْمَسِيرِ، وَبَلَغَ التُّرْكَ فَعَوَّرُوا الْآبَارَ الَّتِي فِي طَرِيقِ كَشٍّ، فَقَالَ الْجُنَيْدُ: أَيُّ طَرِيقٍ إِلَى سَمَرْقَنْدَ أَصْلَحُ؟ فَقَالُوا: طَرِيقُ الْمُحْتَرِقَةِ. فَقَالَ الْمُجَشِّرُ: الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ أَصْلَحُ مِنَ الْقَتْلِ بِالنَّارِ، طَرِيقُ الْمُحْتَرِقَةِ كَثِيرُ الشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ وَلَمْ يُزْرَعْ مُنْذُ سِنِينَ، فَإِنْ لَقِينَا خَاقَانَ أَحْرَقَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَقَتَلَنَا بِالنَّارِ وَالدُّخَانِ، وَلَكِنْ خُذْ طَرِيقَ الْعَقَبَةِ فَهُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَوَاءٌ. فَأَخَذَ الْجُنَيْدُ طَرِيقَ الْعَقَبَةِ فَارْتَقَى فِي الْجَبَلِ، فَأَخَذَ الْمُجَشِّرُ بِعِنَانِ دَابَّتِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ يُقَالُ إِنَّ رَجُلًا مُتْرَفًا مِنْ قَيْسٍ يَهْلِكُ عَلَى يَدَيْهِ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ خُرَاسَانَ وَقَدْ خِفْنَا أَنْ تَكُونَهُ. قَالَ: لِيُفْرِخْ رَوْعُكَ. قَالَ: أَمَّا مَا كَانَ بَيْنَنَا مِثْلُكَ فَلَا. فَبَاتَ فِي أَصْلِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ سَارَ بِالنَّاسِ حَتَّى صَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَمَرْقَنْدَ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ وَدَخَلَ الشِّعْبَ، فَصَبَّحَهُ خَاقَانُ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ، وَزَحَفَ إِلَيْهِ أَهْلُ الصُّغْدِ وَفَرْغَانَةَ وَالشَّاشِ وَطَائِفَةٌ مِنَ التُّرْكِ، فَحَمَلَ خَاقَانُ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، وَعَلَيْهَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، فَرَجَعُوا إِلَى الْعَسْكَرِ وَالتُّرْكُ تَتْبَعُهُمْ وَجَاءُوهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَجَعَلَ الْجُنَيْدُ تَمِيمًا وَالْأَزْدَ فِي الْمَيْمَنَةِ، وَرَبِيعَةَ فِي الْمَيْسَرَةِ مِمَّا يَلِي الْجَبَلَ، وَعَلَى مُجَفَّفَةِ خَيْلِ بَنِي تَمِيمٍ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زُهَيْرِ بْنِ حَيَّانَ، وَعَلَى الْمُجَرَّدَةِ عَمْرَو بْنَ جِرْقَاشٍ الْمِنْقَرِيَّ، وَعَلَى جَمَاعَةِ بَنِي تَمِيمٍ عَامِرَ بْنَ مَالِكٍ الْحِمَّانِيَّ، وَعَلَى الْأَزْدِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بِسْطَامِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَلَى الْمُجَفَّفَةِ وَالْمُجَرَّدَةِ فُضَيْلَ بْنَ هَنَّادٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَوْذَانَ. فَالْتَقَوْا، وَقَصَدَ الْعَدُوُّ الْمَيْمَنَةَ لِضِيقِ الْمَيْسَرَةِ، فَتَرَجَّلَ حَسَّانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زُهَيْرٍ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ، فَأَمَرَهُ أَبُوهُ بِالرُّكُوبِ، فَرَكِبَ، وَأَحَاطَ الْعَدُوَّ بِالْمَيْمَنَةِ، فَأَمَدَّهُمُ الْجُنَيْدُ بِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، فَشَدَّ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْعَدُوِّ فَكَشَفُوهُمْ، ثُمَّ كَرُّوا عَلَيْهِمْ وَقَتَلُوا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زُهَيْرٍ وَابْنَ جِرْقَاشَ وَالْفُضَيْلَ بْنَ هَنَّادٍ، وَجَالَتِ الْمَيْمَنَةُ وَالْجُنَيْدُ وَاقِفٌ فِي الْقَلْبِ، فَأَقْبَلَ إِلَى الْمَيْمَنَةِ وَوَقَفَ تَحْتَ رَايَةِ الْأَزْدِ، وَكَانَ قَدْ جَفَاهُمْ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ

الرَّايَةِ: مَا هَلَكْنَا لِتُكْرِمَنَا، وَلَكِنَّكَ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يُوصَلُ إِلَيْكَ وَمِنَّا رَجُلٌ حَيٌّ، فَإِنْ ظَفِرْنَا كَانَ لَكَ، وَإِنْ هَلَكْنَا لَمْ تَبْكِ عَلَيْنَا. وَتَقَدَّمَ فَقُتِلَ، وَأَخَذَ الرَّايَةَ ابْنُ مُجَّاعَةَ فَقُتِلَ، وَتَدَاوَلَهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَقُتِلُوا، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْأَزْدِ ثَمَانُونَ رَجُلًا. وَصَبَرَ النَّاسُ يُقَاتِلُونَ حَتَّى أُعْيُوا، فَكَانَتِ السُّيُوفُ لَا تَقْطَعُ شَيْئًا، فَقَطَعَ عَبِيدُهُمُ الْخَشَبَ يُقَاتِلُونَ بِهِ حَتَّى مَلَّ الْفَرِيقَانِ، فَكَانَتِ الْمُعَانَقَةُ ثُمَّ تَحَاجَزُوا. وَقُتِلَ مِنَ الْأَزْدِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِسْطَامٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْذَانَ، وَالْحَسَنُ بْنُ شَيْخٍ، وَالْفُضَيْلُ صَاحِبُ الْخَيْلِ، وَيَزِيدُ بْنُ الْفَضْلِ الْحِدَّانِيُّ، وَكَانَ قَدْ حَجَّ فَأَنْفَقَ فِي حَجَّتِهِ ثَمَانِينَ وَمِائَةَ أَلْفٍ، وَقَالَ لِأُمِّهِ: ادْعِي اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي الشَّهَادَةَ، فَدَعَتْ لَهُ وَغُشِيَ عَلَيْهَا، فَاسْتُشْهِدَ بَعْدَ مَقْدِمِهِ مِنَ الْحَجِّ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقُتِلَ النَّضْرُ بْنُ رَاشِدٍ الْعَبْدِيُّ، وَكَانَ قَدْ دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ فَقَالَ لَهَا: كَيْفَ أَنْتِ إِذَا أُتِيتِ بِأَبِي ضَمْرَةَ فِي لِبْدٍ مُضَرَّجًا بِالدَّمِ؟ فَشَقَّتْ جَيْبَهَا وَدَعَتْ بِالْوَيْلِ، فَقَالَ لَهَا: حَسْبُكِ، لَوْ أَعْوَلَتْ عَلَيَّ كُلُّ أُنْثَى لَعَصَيْتُهَا شَوْقًا إِلَى (الْحُورِ الْعِينِ! فَرَجَعَ وَقَاتَلَ حَتَّى اسْتُشْهِدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. فَبَيْنَا النَّاسُ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ) رَهَجٌ وَطَلَعَتْ فُرْسَانٌ، فَنَادَى مُنَادِي الْجُنَيْدِ: الْأَرْضَ الْأَرْضَ! فَتَرَجَّلَ وَتَرَجَّلَ النَّاسُ، ثُمَّ نَادَى: لِيُخَنْدِقْ كُلُّ قَائِدٍ عَلَى حِيَالِهِ، فَخَنْدَقُوا وَتَحَاجَزُوا، وَقَدْ أُصِيبَ مِنَ الْأَزْدِ مِائَةٌ وَتِسْعُونَ رَجُلًا. وَكَانَ قِتَالُهُمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ قَصَدَهُمْ خَاقَانُ وَقْتَ الظُّهْرِ فَلَمْ يَرَ مَوْضِعًا لِلْقِتَالِ أَسْهَلَ مِنْ مَوْضِعِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَعَلَيْهِمْ زِيَادُ بْنُ الْحَارِثِ، فَقَصَدَهُمْ، فَلَمَّا قَرُبُوا حَمَلَتْ بَكْرٌ عَلَيْهِمْ فَأَفْرَجُوا لَهُمْ، فَسَجَدَ الْجُنَيْدُ وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ. ذِكْرُ مَقْتَلِ سَوْرَةَ بْنِ الْحُرِّ فَلَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَالُ وَرَأَى الْجُنَيْدُ شِدَّةَ الْأَمْرِ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ: اخْتَرْ إِمَّا أَنْ تَهْلِكَ أَنْتَ أَوْ سَوْرَةُ بْنُ الْحُرِّ. قَالَ: هَلَاكُ سَوْرَةَ أَهْوَنُ عَلَيَّ. قَالَ: فَاكْتُبْ (إِلَيْهِ فَلْيَأْتِكَ فِي أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، فَإِنَّهُ إِذَا بَلَغَ التُّرْكَ إِقْبَالُهُ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ فَقَاتَلُوهُ) . فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْجُنَيْدُ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ. وَقَالَ حُلَيْسُ بْنُ غَالِبٍ الشَّيْبَانِيُّ: إِنَّ التُّرْكَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ

الْجُنَيْدِ، فَإِنْ خَرَجْتَ كَرُّوا عَلَيْكَ فَاخْتَطَفُوكَ. فَكَتَبَ إِلَى الْجُنَيْدِ: إِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْجُنَيْدُ: يَابْنَ اللَّخْنَاءِ تَخْرُجُ، وَإِلَّا وَجَّهْتُ إِلَيْكَ شَدَّادَ بْنَ خُلَيْدٍ الْبَاهِلِيَّ، وَكَانَ عَدُوَّهُ، فَاخْرُجِ الْزَمِ الْمَاءَ وَلَا تُفَارِقْهُ، فَأَجْمَعَ عَلَى الْمَسِيرِ وَقَالَ: إِذَا سِرْتُ عَلَى النَّهْرِ لَا أَصِلُ فِي يَوْمَيْنِ وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ لَيْلَةٌ، فَإِذَا سَكَتَ الرَّجُلُ سِرْتُ. فَجَاءَتْ عُيُونُ الْأَتْرَاكِ فَأَخْبَرُوهُمْ بِمَقَالَةِ سَوْرَةَ، وَرَحَلَ سَوْرَةُ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى سَمَرْقَنْدَ مُوسَى بْنَ أَسْوَدَ الْحَنْظَلِيَّ، وَسَارَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَأَصْبَحَ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، فَتَلَقَّاهُ خَاقَانُ حِينَ أَصْبَحَ، وَقَدْ سَارَ ثَلَاثَةَ فَرَاسِخَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُنَيْدِ فَرْسَخٌ فَقَاتَلَهُمْ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَصَبَرُوا. فَقَالَ غُوزَكُ لِخَاقَانَ: الْيَوْمَ حَارٌّ فَلَا نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَحْمَى عَلَيْهِمُ السِّلَاحُ، فَوَافَقَهُمْ وَأَشْعَلَ النَّارَ فِي الْحَشِيشِ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ، فَقَالَ سَوْرَةُ لِعُبَادَةَ: مَا تَرَى يَا أَبَا سُلَيْمٍ؟ فَقَالَ: أَرَى أَنَّ التُّرْكَ يُرِيدُونَ الْغَنِيمَةَ، فَاعْقِرِ الدَّوَابَّ وَأَحْرِقِ الْمَتَاعَ وَجَرِّدِ السَّيْفَ، فَإِنَّهُمْ يُخَلُّونَ لَنَا الطَّرِيقَ، وَإِنْ مَنَعُونَا شَرَعْنَا الرِّمَاحَ وَنَزْحَفُ زَحْفًا، وَإِنَّمَا هُوَ فَرْسَخٌ حَتَّى نَصِلَ إِلَى الْعَسْكَرِ. فَقَالَ: لَا أَقْوَى عَلَى هَذَا وَلَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَعَدَّ رِجَالًا، وَلَكِنْ أَجْمَعُ الْخَيْلَ فَأَصُكُّهُمْ بِهَا سَلِمْتُ أَمْ عَطِبْتُ. . وَجَمَعَ النَّاسَ وَحَمَلُوا، فَانْكَشَفَ التُّرْكُ وَثَارَ الْغُبَارُ فَلَمْ يُبْصِرُوا، وَمِنْ وَرَاءِ التُّرْكِ لَهِيبٌ فَسَقَطُوا فِيهِ، وَسَقَطَ الْعَدُوُّ وَالْمُسْلِمُونَ وَسَقَطَ سَوْرَةُ فَانْدَقَّتْ فَخِذُهُ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، فَقَتَلَهُمُ التُّرْكُ وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ غَيْرَ أَلْفَيْنِ، وَيُقَالُ أَلْفٌ، وَكَانَ مِمَّنْ نَجَا مِنْهُمْ عَاصِمُ بْنُ عُمَيْرٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ، وَاسْتُشْهِدَ حُلَيْسُ بْنُ غَالِبٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَانْحَازَ الْمُهَلَّبُ بْنُ زِيَادٍ الْعِجْلِيُّ فِي سَبْعِمِائَةٍ إِلَى رُسْتَاقَ يُسَمَّى الْمَرْغَابُ فَنَزَلُوا قَصْرًا هُنَاكَ، فَأَتَاهُمُ الْأَشْكَنْدُ صَاحِبُ نَسَفَ فِي خَيْلٍ وَمَعَهُ غَوْزَكُ، فَأَعْطَاهُمْ غَوْزَكُ الْأَمَانَ. فَقَالَ قُرَيْشُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْدِيُّ: لَا تَثِقُوا بِهِمْ، وَلَكِنْ إِذَا جَنَّنَا اللَّيْلُ خَرَجْنَا عَلَيْهِمْ حَتَّى نَأْتِيَ سَمَرْقَنْدَ. فَعَصَوْهُ فَنَزَلُوا بِالْأَمَانِ، فَسَاقَهُمْ إِلَى خَاقَانَ فَقَالَ: لَا أُجِيزُ أَمَانَ غَوْزَكَ، فَقَاتَلَهُمُ الْوَجْفُ بْنُ خَالِدٍ وَالْمُسْلِمُونَ فَأُصِيبُوا غَيْرَ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَقُتِلُوا غَيْرَ ثَلَاثَةٍ. وَقُتِلَ سَوْرَةُ فِي اللَّهَبِ، فَلَمَّا قُتِلَ خَرَجَ الْجُنَيْدُ مِنَ الشِّعْبِ يُرِيدُ سَمَرْقَنْدَ مُبَادِرًا، فَقَالَ لَهُ خَالِدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: سِرْ وَأَسْرِعْ. فَقَالَ لَهُ الْمُجَشِّرُ: انْزِلْ وَخُذْ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ، فَنَزَلَ وَنَزَلَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمْ يَسْتَتِمَّ نُزُولُهُمْ حَتَّى طَلَعَ التُّرْكُ، فَقَالَ الْمُجَشِّرُ لَهُ: لَوْ لَاقَوْنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ أَلَمْ يُهْلِكُونَا؟ فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَنَاهَضُوا فَجَالَ النَّاسُ، فَقَالَ الْجُنَيْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهَا النَّارُ، فَرَجَعُوا، وَنَادَى الْجُنَيْدُ: أَيُّ عَبْدٍ قَاتَلَ فَهُوَ حُرٌّ. فَقَاتَلَ الْعَبِيدُ قِتَالًا عَجِبَ مِنْهُ

النَّاسُ، فَسُرُّوا بِمَا رَأَوْا مِنْ صَبْرِهِمْ، وَصَبَرَ النَّاسُ حَتَّى انْهَزَمَ الْعَدُوُّ وَمَضَوْا، فَقَالَ مُوسَى ابْنُ التَّعْرَاءِ [لِلنَّاسِ] : تَفْرَحُونَ بِمَا رَأَيْتُمْ مِنَ الْعَبِيدِ! إِنَّ لَكُمْ مِنْهُمْ لَيَوْمًا أَرُوزْبَانَ. وَمَضَى الْجُنَيْدُ إِلَى سَمَرْقَنْدَ فَحَمَلَ عِيَالَ مَنْ كَانَ مَعَ سَوْرَةَ إِلَى مَرْوَ، وَأَقَامَ بِالصُّغْدِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وَكَانَ صَاحِبُ رَأْيِ خُرَاسَانَ فِي الْحَرْبِ الْمُجَشِّرُ بْنُ مُزَاحِمٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صُبْحٍ الْخَرَقِيُّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ الْهَجَرِيُّ، وَكَانَ الْمُجَشِّرُ يُنْزِلُ النَّاسَ عَلَى رَايَاتِهِمْ وَيَضَعُ الْمَسَالِحَ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِثْلُ رَأْيِهِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِذَا نَزَلَ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ فِي الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِثْلُ رَأْيِهِ، وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَلَى تَعْبِيَةِ الْقِتَالِ. وَكَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمَوَالِي مِثْلَ هَؤُلَاءِ فِي الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ وَالْعِلْمِ بِالْحَرْبِ، فَمِنْهُمْ: الْفَضْلُ بْنُ بَسَّامٍ، مَوْلَى لَيْثٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، مَوْلَى سُلَيْمٍ، وَالْبَخْتَرِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، مَوْلَى شَيْبَانَ. فَلَمَّا انْصَرَفَ التُّرْكُ بَعَثَ الْجُنَيْدُ نَهَارَ بْنَ تَوْسِعَةَ، أَحَدَ بَنِي تَيْمِ اللَّاتِ، وَزِبْلَ بْنَ سُوَيْدٍ الْمُرِّيَّ إِلَى هِشَامٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ سَوْرَةَ عَصَانِي، أَمَرْتُهُ بِلُزُومِ الْمَاءِ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، فَأَتَتْنِي طَائِفَةٌ [إِلَى كَشٍّ] ، وَطَائِفَةٌ إِلَى نَسَفَ، وَطَائِفَةٌ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، وَأُصِيبَ سَوْرَةُ فِي بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ. فَسَأَلَ هِشَامٌ نَهَارَ بْنَ تَوْسِعَةَ عَنِ الْخَبَرِ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا شَهِدَ، فَكَتَبَ هِشَامٌ إِلَى الْجُنَيْدِ: قَدْ وَجَّهْتُ إِلَيْكَ عَشَرَةَ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَعَشَرَةَ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَمِنَ السِّلَاحِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ رُمْحٍ، وَمِثْلُهَا تِرَسَةٌ، فَافْرِضْ فَلَا غَايَةَ لَكَ فِي الْفَرِيضَةِ لِخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا. فَلَمَّا سَمِعَ هِشَامٌ مُصَابَ سَوْرَةَ (قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مُصَابُ سَوْرَةَ) بِخُرَاسَانَ وَمُصَابُ الْجَرَّاحِ بِالْبَابِ. وَأَبْلَى نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ يَوْمَئِذٍ بَلَاءً حَسَنًا. وَأَرْسَلَ الْجُنَيْدُ لَيْلَةً بِالشِّعْبِ رَجُلًا وَقَالَ [لَهُ] : تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ وَكَيْفَ حَالُهُمْ. فَفَعَلَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: رَأَيْتُهُمْ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ، يَتَنَاشَدُونَ الْأَشْعَارَ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ. فَسَرَّهُ ذَلِكَ. قَالَ عُبَيْدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ النُّعْمَانِ: رَأَيْتُ فَسَاطِيطَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِسْطَامٍ وَأَصْحَابِهِ، فَقُتِلُوا فِي غَدٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَرَرْتُ فِي ذَلِكَ

الْمَوْضِعِ بَعْدَ ذَلِكَ بِحِينٍ، فَشَمَمْتُ رَائِحَةَ الْمِسْكِ. وَأَقَامَ الْجُنَيْدُ بِسَمَرْقَنْدَ، وَتَوَجَّهُ الْخَاقَانُ إِلَى بُخَارَى وَعَلَيْهَا قَطَنُ بْنُ قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، فَخَافَ الْجُنَيْدُ التُّرْكَ عَلَى قَطَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ، فَشَاوَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ قَوْمٌ: نَلْزَمُ سَمَرْقَنْدَ. وَقَالَ قَوْمٌ: نَسِيرُ مِنْهَا فَنَأْتِي رَبِنْجَنَ، ثُمَّ كَشَّ، ثُمَّ إِلَى نَسَفَ، فَنَتَّصِلُ مِنْهَا إِلَى أَرْضِ زُمَّ، وَنَقْطَعُ النَّهْرَ وَنَنْزِلُ آمُلَ فَنَأْخُذُ عَلَيْهِ بِالطَّرِيقِ. فَاسْتَشَارَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى بَنِي سُلَيْمٍ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالُوا، فَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُخَالِفَهُ فِيمَا يُشِيرُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ ارْتِحَالٍ وَنُزُولٍ وَقِتَالٍ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي أَطْلُبُ إِلَيْكَ خِصَالًا. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تَخَنْدَقْ حَيْثُمَا نَزَلْتَ، فَلَا يَفُوتَنَّكَ حَمْلُ الْمَاءِ، وَلَوْ كُنْتَ عَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ، وَأَنْ تُطِيعَنِي فِي نُزُولِكَ وَارْتِحَالِكَ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَمَّا مَا أَشَارُوا عَلَيْكَ فِي مُقَامِكَ بِسَمَرْقَنْدَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْغِيَاثُ، فَالْغِيَاثُ يُبْطِئُ عَنْكَ، وَأَمَّا مَا أَشَارُوا مِنْ طَرِيقِ كَشٍّ وَنَسَفَ، فَإِنَّكَ إِنْ سِرْتَ بِالنَّاسِ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ، فَتَتَّ فِي أَعْضَادِهِمْ، وَانْكَسَرُوا عَنْ عَدُوِّهِمْ، وَاجْتَرَأَ عَلَيْكَ خَاقَانُ، وَهُوَ الْيَوْمَ قَدِ اسْتَفْتَحَ بُخَارَى فَلَمْ يَفْتَحُوا لَهُ، فَإِنْ أَخَذْتَ غَيْرَ الطَّرِيقِ بَلَغَ أَهْلُ بُخَارَى مَا فَعَلْتَ فَيَسْتَسْلِمُوا لِعَدُوِّهِمْ، وَإِنْ أَخَذْتَ الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ هَابَكَ الْعَدُوُّ، وَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ تَأْخُذَ عِيَالَ مَنْ قُتِلَ مَعَ سَوْرَةَ فَتُقَسِّمَهُمْ عَلَى عَشَائِرِهِمْ وَتَحْمِلَهُمْ مَعَكَ، فَإِنِّي أَرْجُو بِذَلِكَ أَنْ يَنْصُرَكَ اللَّهُ عَلَى عَدُوِّكَ، وَتُعْطِيَ كُلَّ رَجُلٍ تَخَلَّفَ بِسَمَرْقَنْدَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَفَرَسًا. فَأَخَذَ بِرَأْيِهِ وَخَلَّفَ بِسَمَرْقَنْدَ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ فِي أَرْبَعِمِائَةِ فَارِسٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ رَاجِلٍ. فَشَتَمَ النَّاسُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ وَقَالُوا: مَا أَرَادَ إِلَّا هَلَاكَنَا. فَخَرَجَ الْجُنَيْدُ وَحَمَلَ الْعِيَالَ مَعَهُ، وَسَرَّحَ الْأَشْحَبَ بْنَ عُبَيْدٍ الْحَنْظَلِيَّ وَمَعَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الطَّلَائِعِ وَقَالَ: كُلَّمَا مَضَتْ مَرْحَلَةٌ تُسَرِّحُ إِلَيَّ رَجُلًا يُعْلِمُنِي الْخَبَرَ. وَسَارَ الْجُنَيْدُ فَأَسْرَعَ السَّيْرَ، فَقَالَ لَهُ عَطَاءٌ الدَّبُّوسِيُّ: انْظُرْ أَضْعَفَ شَيْخٍ فِي الْعَسْكَرِ فَسَلِّحْهُ سِلَاحًا تَامًّا بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ وَتُرْسِهِ وَجَعْبَتِهِ، ثُمَّ سِرْ عَلَى قَدْرِ مَشْيِهِ، فَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى سُرْعَةِ الْمَسِيرِ وَالْقِتَالِ وَنَحْنُ رَجَّالَةٌ. فَفَعَلَ الْجُنَيْدُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِلنَّاسِ عَارِضٌ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الْأَمَاكِنِ الْمُخَوِّفَةِ، وَدَنَا مِنَ الطَّوَاوِيسِ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ خَاقَانُ بِكَرْمِينِيَةَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَاقْتَتَلُوا، فَأَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ الْجُنَيْدُ: لَيْسَ هَذَا يَوْمَ ضَحِكٍ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَلْقَكَ هَؤُلَاءِ فِي جِبَالٍ مُعَطَّشَةٍ وَعَلَى ظُهْرٍ، إِنَّمَا أَتَوْكَ وَأَنْتَ مُخَنْدِقٌ آخِرَ النَّهَارِ كَالِّينِ وَأَنْتَ مَعَكَ الزَّادُ، فَقَاتَلُوا قَلِيلًا ثُمَّ رَجَعُوا. ثُمَّ قَالَ لِلْجُنَيْدِ: ارْتَحِلْ فَإِنَّ خَاقَانَ وَدَّ أَنَّكَ تُقِيمُ فَيَنْطَوِي عَلَيْكَ إِذَا شَاءَ.

فَسَارَ وَعَبْدَ اللَّهِ عَلَى السَّاقَةِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالنُّزُولِ فَنَزَلَ، وَاسْتَقَى النَّاسُ وَبَاتُوا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ارْتَحَلُوا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنِّي أَتَوَقَّعُ أَنَّ خَاقَانَ يَصْدِمُ السَّاقَةَ الْيَوْمَ فَشَدُّوهَا بِالرِّجَالِ، فَقَوَّاهُمُ الْجُنَيْدُ، وَجَاءَتِ التُّرْكُ فَمَالَتْ عَلَى السَّاقَةِ فَاقْتَتَلُوا، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ وَقَتَلَ مُسْلِمُ بْنُ أَحْوَزَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءَ التُّرْكِ، فَتَطَيَّرُوا مِنْ ذَلِكَ وَانْصَرَفُوا مِنَ الطَّوَاوِيسِ. وَسَارَ الْمُسْلِمُونَ فَدَخَلُوا بُخَارَى يَوْمَ الْمِهْرَجَانِ، فَتَلَقَّوْهُمْ بِالدَّرَاهِمِ الْبُخَارِيَّةِ، فَأَعْطَاهُمْ عَشَرَةً عَشَرَةً. قَالَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَالِدٍ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقَالَ: حَدَّثَ النَّاسُ عَنِّي بِرَأْيِي يَوْمَ الشِّعْبِ. وَكَانَ الْجُنَيْدُ يَذْكُرُ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَيَقُولُ: زُبْدَةٌ مِنَ الزُّبْدِ، صُنْبُورٌ مِنْ صُنْبُورٍ، قُلٌّ مَنْ قُلٍّ، هَيْفَةٌ مِنَ الْهِيفِ. وَالْهَيْفَةُ: الضَّبُعُ، وَالْقُلُّ: الْفَرْدُ، وَالصُّنْبُورُ: الَّذِي لَا أَخَ لَهُ، (وَقِيلَ الْمُلْصَقُ) . وَقَدِمَتِ الْجُنُودُ مِنَ الْكُوفَةِ عَلَى الْجُنَيْدِ، فَسَرَّحَ مَعَهُمْ حَوْثَرَةَ بْنَ زَيْدٍ الْعَنْبَرِيَّ فِيمَنِ انْتَدَبَ مَعَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ وَقْعَةَ الشِّعْبِ كَانَتْ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَقَالَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ يَذْكُرُ يَوْمَ الشِّعْبِ: إِنِّي نَشَأْتُ وَحُسَّادِي ذَوُو عَدَدٍ ... يَا ذَا الْمَعَارِجِ لَا تُنْقِصْ لَهُمْ عَدَدًا إِنْ تَحْسُدُونِي عَلَى مِثْلِ الْبَلَاءِ لَكُمْ ... يَوْمًا فَمِثْلُ بَلَائِي جَرَّ لِي الْحَسَدَا يَأْبَى الْإِلَهُ الَّذِي أَعْلَى بِقُدْرَتِهِ كَعْبِي ... عَلَيْكُمْ وَأَعْطَى فَوْقَكُمْ عَدَدًا أَرْمِي الْعُدَاةَ بِأَفْرَاسٍ مُكَلَّمَةٍ ... حَتَّى اتَّخَذْنَ عَلَى حُسَّادِهِنَّ يَدَا مَنْ ذَا الَّذِي مِنْكُمْ فِي الشِّعْبِ إِذْ وَرَدُوا ... لَمْ يَتَّخِذْ حَوْمَةَ الْأَثْقَالِ مُعْتَمَدًا هَلَّا شَهِدْتُمْ دِفَاعِي عَنْ جُنَيْدِكُمُ ... وَقْعَ الْقَنَا وَشِهَابُ الْحَرْبِ قَدْ وُقِدَا وَقَالَ ابْنُ عُرْسٍ يَمْدَحُ نَصْرًا:

يَا نَصْرُ أَنْتَ فَتَى نِزَارٍ كُلِّهَا ... فَلَكَ الْمَآثِرُ وَالْفَعَالُ الْأَرْفَعُ فَرَّجْتَ عَنْ كُلِّ الْقَبَائِلِ كُرْبَةً ... بِالشِّعْبِ حِينَ تَخَاضَعُوا وَتَضَعْضَعُوا يَوْمَ الْجُنَيْدِ إِذِ الْقَنَا مُتَشَاجِرٌ ... وَالنَّحْرُ دَامٍ وَالْخَوَافِقُ تَلْمَعُ مَا زِلْتَ تَرْمِيهِمْ بِنَفْسٍ حُرَّةٍ ... حَتَّى تَفَرَّجَ جَمْعُهُمْ وَتَصَدَّعُوا فَالنَّاسُ كُلٌّ بَعْدَهَا عُتَقَاؤُكُمْ ... وَلَكَ الْمَكَارِمُ وَالْمَعَالِي أَجْمَعُ ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ، فَافْتَتَحَ خَرْشَنَةَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَقِيلَ: سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. (وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ الْهَيْثَمِ أَمِيرَهُمْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأَشْجَعِيَّ، فَبَقِيَ شَهْرَيْنِ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْغَافِقِيُّ) . وَكَانَ عُمَّالُ الْأَمْصَارِ هَذِهِ السَّنَةَ مَنْ ذَكَرْنَاهُمْ فِي السَّنَةِ قَبْلَهَا.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ بِقُسِّينَ، (حَيْوَةُ: بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَكْحُولٌ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيُّ الْفَقِيهُ. وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ الْحَضْرَمِيُّ، وَمَاتَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ حَامِلٌ بِهِ، فَكُلُّ مَا يَرْوُونَهُ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ.

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَة] 113 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ بُخْتٍ، وَكَانَ قَدْ غَزَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَطَّالِ أَرْضَ الرُّومِ، فَانْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ الْبَطَّالِ، فَحَمَلَ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَهُوَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ فَرَسًا أَجْبَنَ مِنْكَ، سَفَكَ اللَّهُ دَمِي إِنْ لَمْ أَسْفِكْ دَمَكَ! (ثُمَّ أَلْقَى بَيْضَتَهُ عَنْ رَأْسِهِ وَصَاحَ: أَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ بُخْتٍ! أَمِنَ الْجَنَّةِ تَفِرُّونَ؟) ثُمَّ تَقَدَّمَ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَمَرَّ بِرَجُلٍ يَقُولُ: وَاعَطَشَاهُ! فَقَالَ: تَقَدَّمْ، الرِّيُّ أَمَامَكَ. فَخَالَطَ الْقَوْمَ فَقُتِلَ وَقُتِلَ فَرَسُهُ. ذِكْرُ غَزْوَةِ مَسْلَمَةَ وَعَوْدِهِ وَفِيهَا فَرَّقَ مَسْلَمَةُ الْجُيُوشَ بِبِلَادِ خَاقَانَ، فَفُتِحَتْ مَدَائِنُ وَحُصُونٌ عَلَى يَدَيْهِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ وَأَسَرَ وَسَبَى وَأَحْرَقَ، وَدَانَ لَهُ مَنْ وَرَاءَ جِبَالِ بَلَنْجَرَ، وَقُتِلَ ابْنُ خَاقَانَ، فَاجْتَمَعَتْ تِلْكَ الْأُمَمُ جَمِيعُهَا، الْخَزَرُ وَغَيْرُهُمْ عَلَيْهِ فِي جَمْعٍ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ جَازَ مَسْلَمَةُ بَلَنْجَرَ فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُهُمْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ، فَأَوْقَدُوا النِّيرَانَ ثُمَّ تَرَكَ خِيَامَهُمْ وَأَثْقَالَهُمْ وَعَادَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ جَرِيدَةَ، وَقَدَّمَ الضُّعَفَاءَ وَأَخَّرَ الشُّجْعَانَ، وَطَوَوُا الْمَرَاحِلَ كُلَّ مَرْحَلَتَيْنِ فِي مَرْحَلَةٍ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْبَابِ وَالْأَبْوَابِ فِي آخِرِ رَمَقٍ. ذِكْرُ قَتْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمِيرِ الْأَنْدَلُسِ وَوِلَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قَطَنٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهِيَ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، غَزَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْغَافِقِيُّ أَمِيرَ الْأَنْدَلُسِ مِنْ قِبَلِ عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَكَانَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَدْ

اسْتَعْمَلَ عُبَيْدَةَ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ (وَالْأَنْدَلُسِ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ إِفْرِيقِيَّةَ رَأَى) الْمُسْتَنِيرَ بْنَ الْحَارِثِ الْحُرَيْثِيَّ غَازِيًا بِصِقِلِّيَّةَ، وَأَقَامَ هُنَاكَ حَتَّى هَجَمَ عَلَيْهِ الشِّتَاءُ ثُمَّ قَفَلَ رَاجِعًا، فَغَرِقَ مَنْ مَعَهُ وَسَلِمَ الْمُسْتَنِيرُ فِي مَرْكَبِهِ، فَحَبَسَهُ عُبَيْدَةُ عُقُوبَةً لَهُ وَجَلَدَهُ وَشَهَّرَهُ بِالْقَيْرَوَانِ. ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَةَ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْأَنْدَلُسِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَغَزَا إِفْرِنْجَةَ وَأَوْغَلَ فِي أَرْضِهِمْ وَغَنِمَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَكَانَ فِيمَا أَصَابَ رِجْلٌ مِنْ ذَهَبٍ مُفَصَّصَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ، فَكَسَرَهَا وَقَسَّمَهَا فِي النَّاسِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عُبَيْدَةُ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَتَهَدَّدُهُ، فَأَجَابَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَوْ كَانَتْ رَتْقًا لَجَعَلَ اللَّهُ لِلْمُتَّقِينَ مِنْهَا مَخْرَجًا. ثُمَّ خَرَجَ غَازِيًا (بِبِلَادِ الْفِرِنْجِ هَذِهِ السَّنَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ) ، فَقُتِلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ شُهَدَاءَ. ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَةَ سَارَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ إِلَى الشَّامِ وَمَعَهُ مِنَ الْهَدَايَا وَالْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَاسْتَعْفَى هِشَامًا، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَعَزَلَهُ، وَكَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْأَنْدَلُسِ بَعْدَ قَتْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ قَطَنٍ. ثُمَّ إِنَّ هِشَامًا اسْتَعْمَلَ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ بَعْدَ عُبَيْدَةَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَبْحَابِ، وَكَانَ عَلَى مِصْرَ، فَسَارَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ فَأَخْرَجَ الْمُسْتَنِيرَ مِنَ الْحَبْسِ وَوَلَّاهُ تُونُسَ. ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ جَهَّزَ جَيْشًا مَعَ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى أَرْضِ السُّودَانِ، فَظَفِرَ بِهِمْ ظَفَرًا لَمْ يَظْفَرْ أَحَدٌ مِثْلَهُ وَأَصَابَ مَا شَاءَ، ثُمَّ غَزَا الْبَحْرَ ثُمَّ انْصَرَفَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ الْمُزَنِيُّ، وَالِدُ إِيَاسٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ الَّذِي يُضْرَبُ بِذَكَائِهِ الْمَثَلُ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَرَامُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ أَبُو سَعِيدٍ، وَعُمْرُهُ سَبْعُونَ سَنَةً، (حَرَامٌ: بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ. وَمُحَيِّصَةَ: بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ، وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ الْإِيَامِيُّ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَيُكَنَّى أَبَا جَعْفَرٍ، وَعُمْرُهُ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ الصَّنْعَانِيُّ، وَكَانَ أَصْغَرَ مِنْ أَخِيهِ هَمَّامٍ، وَكَانُوا خَمْسَةَ إِخْوَةٍ: هَمَّامٌ وَوَهْبٌ وَغَيْلَانُ وَعَقِيلٌ وَمَعْقِلٌ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحُرُّ بْنُ يُوسُفَ أَمِيرُ الْمَوْصِلِ وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَتْ بِإِزَاءِ دَارِهِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْمَنْقُوشَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَاسْتَعْمَلَ هِشَامٌ مَكَانَهُ الْوَلِيدَ بْنَ تَلِيدٍ الْعَبْسِيَّ، وَأَمَرَهُ بِالْجِدِّ فِي إِتْمَامِ حَفْرِ النَّهْرِ فِي الْبَلَدِ، فَشَرَعَ فِيهِ وَاهْتَمَّ بِعَمَلِهِ. وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ أَرْضَ الرُّومِ، فَرَابَطَ مِنْ نَاحِيَةِ مَرْعَشٍ ثُمَّ رَجَعَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ إِلَى خُرَاسَانَ، فَأَخَذَ الْجُنَيْدُ رَجُلًا

مِنْهُمْ فَقَتَلَهُ وَقَالَ: مَنْ أَصَبْتُ مِنْهُمْ فَدَمُهُ هَدَرٌ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقِيلَ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ، وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ.

ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَة] 114 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ وِلَايَةِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ، عَلَى الْجَزِيرَةِ وَأَذْرَبِيجَانَ وَإِرْمِينِيَّةَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي عَسْكَرِ مَسْلَمَةَ بِإِرْمِينِيَّةَ حِينَ غَزَا الْخَزَرُ، فَلَمَّا عَادَ مَسْلَمَةُ سَارَ مَرْوَانُ إِلَى هِشَامٍ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ قُدُومِهِ فَقَالَ: ضِقْتُ ذَرْعًا بِمَا أَذْكُرُهُ، وَلَمْ أَرَ مَنْ يَحْمِلُهُ غَيْرِي! قَالَ: وَمَا هُوَ: قَالَ مَرْوَانُ: قَدْ كَانَ مِنْ دُخُولِ الْخَزَرِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَقَتْلِ الْجَرَّاحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا دَخَلَ بِهِ الْوَهْنُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُوَجِّهَ أَخَاهُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا وَطِئَ مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَّا أَدْنَاهَا، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا رَأَى كَثْرَةَ جَمْعِهِ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى الْخَزَرِ يُؤْذِنُهُمْ بِالْحَرْبِ، وَأَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَاسْتَعَدَّ الْقَوْمُ وَحَشَدُوا، فَلَمَّا دَخَلَ بِلَادَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِمْ نِكَايَةٌ، وَكَانَ قُصَارَاهُ السَّلَامَةُ، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ تَأْذَنَ لِي فِي غَزْوَةٍ أُذْهِبُ بِهَا عَنَّا الْعَارَ، وَأَنْتَقِمُ مِنَ الْعَدُوِّ. قَالَ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ. قَالَ: وَتُمِدُّنِي بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ؟ قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: وَتَكْتُمُ هَذَا الْأَمْرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ؟ قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، وَقَدِ اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَى إِرْمِينِيَّةَ. فَوَدَّعَهُ وَسَارَ إِلَى إِرْمِينِيَّةَ وَالِيًا عَلَيْهَا، وَسَيَّرَ هِشَامٌ الْجُنُودَ مِنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنَ الْجُنُودِ وَالْمُتَطَوِّعَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، فَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ غَزْوَ اللَّانِ وَقَصَدَ بِلَادَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَلِكِ الْخَزَرِ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُهَادَنَةَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ يُقَرِّرُ الصُّلْحَ، فَأَمْسَكَ الرَّسُولَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ فَرَغَ مِنْ جَهَازِهِ وَمَا يُرِيدُ، ثُمَّ أَغْلَظَ لَهُمُ الْقَوْلَ وَآذَنَهُمْ بِالْحَرْبِ، وَسَيَّرَ الرَّسُولَ إِلَى صَاحِبِهِ بِذَلِكَ، وَوَكَّلَ بِهِ مَنْ يُسَيِّرُهُ عَلَى طَرِيقٍ فِيهِ بُعْدٌ، وَسَارَ هُوَ فِي أَقْرَبِ الطُّرُقِ، فَمَا وَصَلَ الرَّسُولُ إِلَى صَاحِبِهِ إِلَّا وَمَرْوَانُ قَدْ وَافَاهُمْ، فَأَعْلَمَ صَاحِبَهُ الْخَبَرَ وَأَخْبَرَهُ بِمَا جَمَعَ لَهُ مَرْوَانُ وَحَشَدَ وَاسْتَعَدَّ. فَاسْتَشَارَ

مَلِكُ الْخَزَرِ أَصْحَابَهُ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا قَدِ اغْتَرَّكَ وَدَخَلَ بِلَادَكَ، فَإِنْ أَقَمْتَ إِلَى أَنْ تَجْمَعَ لَمْ يَجْتَمِعْ عِنْدَكَ إِلَى مُدَّةٍ فَيَبْلُغُ مِنْكَ مَا يُرِيدُ، وَإِنْ أَنْتَ لَقِيتَهُ عَلَى حَالِكَ هَذِهِ هَزَمَكَ وَظَفِرَ بِكَ، وَالرَّأْيُ أَنْ تَتَأَخَّرَ إِلَى أَقْصَى بِلَادِكَ وَتَدَعَهُ وَمَا يُرِيدُ. فَقَبِلَ رَأْيَهُمْ وَسَارَ حَيْثُ أَمَرُوهُ. وَدَخَلَ مَرْوَانُ الْبِلَادَ وَأَوْغَلَ فِيهَا وَأَخْرَبَهَا وَغَنِمَ وَسَبَى وَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا، وَأَقَامَ فِيهَا عِدَّةَ أَيَّامٍ حَتَّى أَذَلَّهُمْ وَانْتَقَمَ مِنْهُمْ، وَدَخَلَ بِلَادَ مَلِكِ السَّرِيرِ فَأَوْقَعَ بِأَهْلِهِ، وَفَتَحَ قِلَاعًا، وَدَانَ لَهُ الْمَلِكُ وَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفِ رَأْسٍ وَخَمْسِمِائَةِ غُلَامٍ وَخَمْسِمِائَةِ جَارِيَةٍ سُودِ الشُّعُورِ وَمِائَةِ أَلْفِ مُدْيٍ تُحْمَلُ إِلَى الْبَابِ، وَصَالَحَ مَرْوَانُ أَهْلَ تُومَانَ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ نِصْفَيْنِ، وَعِشْرِينَ أَلْفَ مُدْيٍ، ثُمَّ دَخَلَ أَرْضَ زِرِيكِرَانَ، فَصَالَحَهُ مَلِكُهَا، ثُمَّ أَتَى إِلَى أَرْضِ حَمْزِينَ، فَأَبَى حَمْزِينُ أَنْ يُصَالِحَهُ، فَحَصَرَهُمْ فَافْتَتَحَ حِصْنَهُمْ، ثُمَّ أَتَى سُغْدَانَ فَافْتَتَحَهَا صُلْحًا، وَوَظَّفَ عَلَى طَيْرِ شَانْشَاهَ عَشَرَةَ آلَافِ مُدْيٍ كُلَّ سَنَةٍ تُحْمَلُ إِلَى الْبَابِ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى قَلْعَةِ صَاحِبِ اللَّكْزِ، وَقَدِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْوَظِيفَةِ، فَخَرَجَ مَلِكُ اللَّكْزِ يُرِيدُ مَلِكُ الْخَزَرِ، فَقَتَلَهُ رَاعٍ بِسَهْمٍ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، فَصَالَحَ أَهْلُ اللَّكْزِ مَرْوَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَامِلًا، وَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ شَرْوَانَ، وَهِيَ عَلَى الْبَحْرِ، فَأَذْعَنَ بِالطَّاعَةِ، وَسَارَ إِلَى الدُّودَانِيَّةِ فَأَوْقَعَ بِهِمْ ثُمَّ عَادَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ (فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُسْرَى، فَأَصَابَ رَبَضَ أَقْرَنَ، وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ الْبَطَّالَ الْتَقَى هُوَ وَقُسْطَنْطِينُ فِي جَمْعٍ، فَهَزَمَهُمُ الْبَطَّالُ وَأَسَرَ قُسْطَنْطِينَ. وَفِيهَا غَزَا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُمْنَى، فَبَلَغَ قَيْسَارِيَّةَ) .

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيَّ عَنِ الْمَدِينَةِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا خَالِدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَكَمِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَتْ إِمْرَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الْمَدِينَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ، وَعَزَلَ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمَا مُحَمَّدَ بْنَ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيَّ، وَقِيلَ: بَلْ وَلَّى مُحَمَّدًا سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَلَمَّا عَزَلَ إِبْرَاهِيمَ أَقَرَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهَا. وَفِيهَا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِوَاسِطٍ. وَفِيهَا أَقْبَلَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بَعْدَمَا هَزَمَ خَاقَانَ، وَأَحْكَمَ مَا هُنَاكَ وَبَنَى الْبَابَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْحَارِثِ، وَقِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ. وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي السَّنَةِ قَبْلَهَا، غَيْرَ أَنَّ الْمَدِينَةَ كَانَ عَامِلُهَا خَالِدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَامِلُ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ مُحَمَّدَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَامِلُ إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَعُمْرُهُ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَقِيلَ مِائَةُ سَنَةٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَاقِرُ، وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَمَانِيًا وَخَمْسِينَ سَنَةً.

وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ بْنِ النَّهَّاسِ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَهُوَ مَوْلَى امْرَأَةٍ مِنْ كِنْدَةَ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسِينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيُّ قَاضِي مَرْوَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ لِثَلَاثِ سِنِينَ مَضَتْ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. (عُتَيْبَةُ: بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ التَّاءِ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ، وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتِهَا، وَآخِرُهُ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ. وَبُرَيْدَةُ: بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ. وَالْحُصَيْبُ: بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَآخِرُهُ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ) .

ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَة] 115 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ أَرْضَ الرُّومِ. وَفِيهَا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِالشَّامِ. وَفِيهَا وَقَعَ بِخُرَاسَانَ قَحْطٌ شَدِيدٌ، فَكَتَبَ الْجُنَيْدُ إِلَى الْكُوَرِ بِحَمْلِ الطَّعَامِ إِلَى مَرْوَ، فَأَعْطَى الْجُنَيْدُ رَجُلًا دِرْهَمًا فَاشْتَرَى بِهِ رَغِيفًا، فَقَالَ لَهُمْ أَتَشْكُونَ الْجُوعَ وَرَغِيفٌ بِدِرْهَمٍ؟ لَقَدْ رَأَيْتُنِي بِالْهِنْدِ وَإِنَّ الْحَبَّةَ مِنَ الْحُبُوبِ لَتُبَاعُ عَدَدًا بِدِرْهَمٍ. قَالَ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ. وَكَانَ الْأَمِيرُ بِخُرَاسَانَ الْجُنَيْدُ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ قَدْ مَاتَ الْجُنَيْدُ وَاسْتَخْلَفَ عُمَارَةَ بْنَ حُرَيْمٍ الْمُرِّيَّ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ مَوْتُ الْجُنَيْدِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ. (وَفِيهَا غَزَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قَطَنٍ عَامِلُ الْأَنْدَلُسِ أَرْضَ الْبَشْكَنْسِ وَعَادَ سَالِمًا) .

ثم دخلت سنة ستة عشرة ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّةَ عَشْرَةَ وَمِائَة] 116 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّةَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرْضَ الرُّومِ الصَّائِفَةَ. وَفِيهَا كَانَ طَاعُونٌ شَدِيدٌ بِالْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَكَانَ أَشَدَّ بِوَاسِطٍ. ذِكْرُ عَزْلِ الْجُنَيْدِ وَوَفَاتِهِ وَوِلَايَةِ عَاصِمٍ خُرَاسَانَ وَفِيهَا عَزَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْجُنَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُرِّيَّ عَنْ خُرَاسَانَ، (وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عَاصِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْهِلَالِيَّ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْجُنَيْدَ تَزَوَّجَ الْفَاضِلَةَ بِنْتَ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، فَغَضِبَ هِشَامٌ فَوَلَّى عَاصِمًا خُرَاسَانَ) ، وَكَانَ الْجُنَيْدُ قَدْ سُقِيَ بَطْنُهُ، فَقَالَ هِشَامٌ لِعَاصِمٍ: إِنْ أَدْرَكْتَهُ وَبِهِ رَمَقٌ فَأَزْهِقْ نَفْسَهُ. فَقَدِمَ عَاصِمٌ وَقَدْ مَاتَ الْجُنَيْدُ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ، فَأَخَذَ عُمَارَةَ بْنَ حُرَيْمٍ، وَكَانَ الْجُنَيْدُ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ، فَعَذَّبَهُ عَاصِمٌ وَعَذَّبَ عُمَّالَ الْجُنَيْدِ. وَعُمَارَةُ هَذَا جَدُّ أَبِي الْهَيْذَامِ صَاحِبِ الْعَصَبِيَّةِ بِالشَّامِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَانَ مَوْتُ الْجُنَيْدِ بِمَرْوَ، وَكَانَ مِنَ الْأَجْوَادِ الْمَمْدُوحِينَ غَيْرَ مَحْمُودٍ فِي حُرُوبِهِ. ذِكْرُ خَلْعِ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ بِخُرَاسَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خُلِعَ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ، وَأَقْبَلَ إِلَى الْفَارِيَابِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَاصِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رُسُلًا فِيهِمْ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ النَّبَطِيُّ وَحَطَّابُ بْنُ مُحْرِزٍ السُّلَمِيُّ فَقَالَا لِمَنْ مَعَهُمَا: لَا نَلْقَى الْحَارِثَ إِلَّا بِأَمَانٍ. فَأَبَى الْقَوْمُ عَلَيْهِمَا، فَأَخَذَهُمُ الْحَارِثُ وَحَبَسَهُمْ

وَوَكَّلَ بِهِمْ رَجُلًا، فَأَوْثَقُوهُ وَخَرَجُوا مِنَ السِّجْنِ فَرَكِبُوا وَعَادُوا إِلَى عَاصِمٍ، فَأَمَرَهُمْ، فَخَطَبُوا وَذَمُّوا الْحَارِثَ وَذَكَرُوا خُبْثَ سِيرَتِهِ (وَغَدْرَهُ. وَكَانَ الْحَارِثُ قَدْ لَبِسَ السَّوَادَ وَدَعَا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَالْبَيْعَةِ لِلرِّضَا، فَسَارَ مِنَ الْفَارِيَابِ) فَأَتَى بَلْخًا وَعَلَيْهَا نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ [وَ] التُّجِيبِيُّ [ابْنُ ضُبَيْعَةَ الْمُرِّيُّ] ، فَلَقِيَا الْحَارِثَ (فِي عَشَرَةِ آلَافٍ وَالْحَارِثُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ فَقَاتَلَهُمَا وَمَنْ مَعَهُمَا، فَانْهَزَمَ أَهْلُ بَلْخٍ وَتَبِعَهُمُ الْحَارِثُ) ، فَدَخَلَ مَدِينَةَ بَلْخٍ، وَخَرَجَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ مِنْهَا، وَأَمَرَ الْحَارِثَ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا مِنْ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، وَسَارَ إِلَى الْجُوزَجَانِ فَغُلِبَ عَلَيْهَا وَعَلَى الطَّالَقَانِ وَمَرْوِ الرُّوذِ. فَلَمَّا كَانَ بِالْجُوزَجَانِ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي أَيِّ بَلَدٍ يَقْصِدُ، فَقِيلَ لَهُ: مَرْوُ بَيْضَةُ خُرَاسَانَ وَفُرْسَانُهُمْ كَثِيرٌ، وَلَوْ لَمْ يَلْقَوْكَ إِلَّا بِعَبِيدِهِمْ لَانْتَصَفُوا مِنْكَ، فَأَقِمْ فَإِنْ أَتَوْكَ قَاتَلْتَهُمْ، وَإِنْ أَقَامُوا قَطَعْتَ الْمَادَّةَ عَنْهُمْ. قَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى مَرْوَ (فَقَالَ لِأَهْلِ الرَّأْيِ مِنْ مَرْوَ: إِنْ أَتَى نَيْسَابُورَ فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَإِنْ أَتَانَا نُكِبَ. وَبَلَغَ عَاصِمًا أَنَّ أَهْلَ مَرْوَ يُكَاتِبُونَ الْحَارِثَ فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَرْوَ قَدْ كَاتَبْتُمُ الْحَارِثَ، لَا يَقْصِدُ الْمَدِينَةَ إِلَّا تَرَكْتُمُوهَا لَهُ، وَإِنِّي لَاحِقٌ بِنَيْسَابُورَ، وَأُكَاتِبُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يُمِدَّنِي بِعَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ. فَقَالَ لَهُ الْمُجَشِّرُ بْنُ مُزَاحِمٍ: إِنْ أَعْطَوْكَ بَيْعَتَهُمْ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى الْقِتَالِ مَعَكَ وَالْمُنَاصَحَةِ لَكَ (فَلَا تُفَارِقْهُمْ) . وَأَقْبَلَ الْحَارِثُ إِلَى مَرْوَ يُقَالُ: فِي سِتِّينَ أَلْفًا وَمَعَهُ فُرْسَانُ الْأَزْدِ وَتَمِيمٍ، وَمِنْهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَحَمَّادُ بْنُ عَامِرٍ الْحِمَّانِيُّ، وَدَاوُدُ الْأَعْسَرُ، وَبِشْرُ بْنُ أُنَيْفٍ الرِّيَاحِيُّ، وَعَطَاءٌ الدَّبُّوسِيُّ، وَمِنَ الدَّهَاقِينِ: دِهْقَانُ الْجُوزَجَانِ وَدِهْقَانُ الْفَارِيَابِ وَمَلِكُ الطَّالَقَانِ وَدِهْقَانُ مَرْوِ الرُّوذِ فِي أَشْبَاهِهِمْ، وَخَرَجَ عَاصِمٌ فِي أَهْلِ مَرْوَ وَغَيْرِهِمْ فَعَسْكَرَ، وَقَطَعَ عَاصِمٌ الْقَنَاطِرَ، وَأَقْبَلَ أَصْحَابُ الْحَارِثِ فَأَصْلَحُوا الْقَنَاطِرَ، فَمَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْفَرَاهِيذِيُّ الْأَزْدِيُّ إِلَى عَاصِمٍ فِي أَلْفَيْنِ فَأَتَى الْأَزْدَ، وَمَالَ حَمَّادُ بْنُ عَامِرٍ الْحِمَّانِيُّ إِلَى عَاصِمٍ فَأَتَى بَنِي تَمِيمٍ، وَالْتَقَى الْحَارِثُ وَعَاصِمٌ، وَعَلَى مَيْمَنَةِ الْحَارِثِ وَابِضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَارَةَ التَّغْلِبِيُّ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْحَارِثِ فَغَرِقَ مِنْهُمْ

بَشَرٌ كَثِيرٌ فِي أَنْهَارِ مَرْوَ وَفِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ، وَمَضَتِ الدَّهَاقِينُ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَغَرِقَ خَازِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، وَكَانَ مَعَ الْحَارِثِ، وَقُتِلَ أَصْحَابُ الْحَارِثِ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَقَطَعَ الْحَارِثُ وَادِي مَرْوَ، فَضَرَبَ رِوَاقًا عِنْدَ مَنَازِلِ الرُّهْبَانِ، وَكَفَّ عَنْهُ عَاصِمٌ، وَاجْتَمَعَ إِلَى الْحَارِثِ زُهَاءَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا عَزَلَ هِشَامٌ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَبْحَابِ الْمَوْصِلِيَّ عَنْ وِلَايَةِ مِصْرَ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ، فَسَارَ إِلَيْهَا. وَفِيهَا سَيَّرَ ابْنُ الْحَبْحَابِ جَيْشًا إِلَى صِقِلِّيَّةَ، فَلَقِيَهُمْ مَرَاكِبُ الرُّومِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَتِ الرُّومُ، وَكَانُوا قَدْ أَسَرُوا جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ، فَبَقِيَ أَسِيرًا إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَفِيهَا سَيَّرَ ابْنُ الْحَبْحَابِ أَيْضًا جَيْشًا إِلَى السُّوسِ وَأَرْضِ السُّودَانِ، فَغَنِمُوا وَظَفِرُوا وَعَادُوا. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَبْحَابِ عَطِيَّةَ بْنَ الْحَجَّاجِ الْقَيْسِيَّ عَلَى الْأَنْدَلُسِ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَوَلِيَهَا فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَعَزَلَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ قَطَنٍ، وَكَانَ لَهُ كُلَّ سَنَةٍ غَزَاةٌ، وَهُوَ [الَّذِي] افْتَتَحَ جِلِّيقِيَّةَ وَالْبَتَّةَ وَغَيْرَهُمَا. وَقِيلَ: بَلْ وَلِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَبْحَابِ إِفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَسَتَرِدُ أَخْبَارُهُ هُنَاكَ، وَهَذَا أَصَحُّ) . وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدٍ. وَكَانَ الْعُمَّالُ عَلَى الْأَمْصَارِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ إِلَّا خُرَاسَانَ، فَكَانَ عَامِلَهَا عَاصِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.

ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَة] 117 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُسْرَى، وَغَزَا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُمْنَى مِنْ نَحْوِ الْجَزِيرَةِ، وَفَرَّقَ سَرَايَاهُ فِي أَرْضِ الرُّومِ. وَفِيهَا بَعَثَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ عَلَى إِرْمِينِيَّةَ، بَعْثَيْنِ، وَافْتَتَحَ أَحَدُهُمَا حُصُونًا ثَلَاثَةً مِنَ اللَّانِ، وَنَزَلَ الْآخَرُ عَلَى تُومَانْشَاهْ، فَنَزَلَ أَهْلُهَا عَلَى الصُّلْحِ. ذِكْرُ عَزْلِ عَاصِمٍ عَنْ خُرَاسَانَ وَوِلَايَةِ أَسَدٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَاصِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خُرَاسَانَ، وَوَلَّاهَا خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ، فَاسْتَخْلَفَ خَالِدٌ عَلَيْهَا أَخَاهُ أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَاصِمًا كَتَبَ إِلَى هِشَامٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الرَّائِدَ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَإِنَّ خُرَاسَانَ لَا تَصِحُّ إِلَّا [أَنْ] تُضَمَّ إِلَى [صَاحِبِ] الْعِرَاقِ، فَتَكُونَ مَوَادُّهَا وَمَعُونَتُهَا مِنْ قَرِيبٍ لِتَبَاعُدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ [عَنْهَا] وَتَبَاطُؤِ غِيَاثِهِ. فَضَمَّ هِشَامٌ خُرَاسَانَ إِلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: ابْعَثْ أَخَاكَ يُصْلِحْ مَا أَفْسَدَ، فَإِنْ كَانَ رَجِيَّةً كَانَتْ بِهِ. فَسَيَّرَ خَالِدٌ إِلَيْهَا أَخَاهُ أَسَدًا. فَلَمَّا بَلَغَ عَاصِمًا إِقْبَالُ أَسَدٍ، وَأَنَّهُ قَدْ سَيَّرَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ مُحَمَّدَ بْنَ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيَّ صَالَحَ الْحَارِثَ بْنَ سُرَيْجٍ، وَكَتَبَا بَيْنَهُمَا كِتَابًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحَارِثُ أَيَّ كُوَرِ خُرَاسَانَ شَاءَ، وَأَنْ يَكْتُبَا جَمِيعًا إِلَى هِشَامٍ يَسْأَلَانِهِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ أَبَى اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، فَخَتَمَ الْكِتَابَ بَعْضُ الرُّؤَسَاءِ، وَأَبَى يَحْيَى بْنُ حُضَيْنِ بْنِ

الْمُنْذِرِ أَنْ يَخْتِمَ وَقَالَ: هَذَا خَلْعٌ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَانْفَسَخَ ذَلِكَ. وَكَانَ عَاصِمٌ بِقَرْيَةٍ بِأَعْلَى مَرْوَ، وَأَتَاهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ الْحَارِثُ وَأُسِرَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَسْرَى كَثِيرَةٌ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمَازِنِيُّ رَأْسُ أَهْلِ مَرْوِ الرُّوذِ، فَقَتَلَ عَاصِمٌ الْأَسْرَى، وَكَانَ فَرَسُ الْحَارِثِ قَدْ رُمِيَ بِسَهْمٍ فَنَزَعَهُ الْحَارِثُ، وَأَلَحَّ عَلَى الْفَرَسِ بِالضَّرْبِ وَالْحُضْرِ لِيَشْغَلَهُ عَنْ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ مَالَ الْحَارِثُ عَنْ فَرَسِهِ ثُمَّ اتَّبَعَ الشَّامِيَّ فَقَالَ لَهُ: أَسْأَلُكَ بِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ فِي دَمِي! فَقَالَ: انْزِلْ عَنْ فَرَسِكَ. فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ، فَرَكِبَهُ الْحَارِثُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فِي ذَلِكَ: تَوَلَّتْ قُرَيْشٌ لَذَّةَ الْعَيْشِ وَاتَّقَتْ ... بِنَا كُلَّ فَجٍّ مِنْ خُرَاسَانَ أَغْبَرَا فَلَيْتَ قُرَيْشًا أَصْبَحُوا ذَاتَ لَيْلَةٍ ... يَعُومُونَ فِي لُجٍّ مِنَ الْبَحْرِ أَخْضَرَا وَعَظَّمَ أَهْلُ الشَّامِ يَحْيَى بْنَ (حُضَيْنٍ لِمَا صَنَعَ فِي نَقْضِ الْكِتَابِ، وَكَتَبُوا كِتَابًا بِمَا كَانَ وَبِهَزِيمَةِ الْحَارِثِ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الْعَنْبَرِيِّ. فَلَقِيَ أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بِالرَّيِّ، وَقِيلَ بِبَيْهَقَ، فَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ) يَنْتَحِلُ أَنَّهُ هَزَمَ الْحَارِثَ وَيُخْبِرُهُ بِأَمْرِ يَحْيَى، فَأَجَازَ خَالِدٌ يَحْيَى بِعَشَرَةِ آلَافِ (دِينَارٍ وَ [كَسَاهُ] مِائَةَ حُلَّةٍ. وَكَانَتْ وِلَايَةُ عَاصِمٍ أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ، فَحَبَسَهُ أَسَدٌ وَحَاسَبَهُ، وَطَلَبَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ) وَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَفُزْ، وَأَطْلَقَ عُمَارَةَ بْنَ حُرَيْمٍ وَعُمَّالَ الْجُنَيْدِ. فَلَمَّا قَدِمَ أَسَدٌ لَمْ يَكُنْ لِعَاصِمٍ إِلَّا مَرْوُ وَنَيْسَابُورُ، وَالْحَارِثُ بِمَرْوِ الرُّوذِ، وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَجَرِيُّ بِآمُلَ مُوَافِقٌ لِلْحَارِثِ، فَخَافَ أَسَدٌ إِنْ قَصَدَ الْحَارِثَ بِمَرْوِ الرُّوذِ أَنْ يَأْتِيَ الْهَجَرِيُّ مِنْ قِبَلِ آمُلَ، وَإِنْ قَصَدَ الْهَجَرِيَّ قَصَدَ الْحَارِثُ مَرْوَ مِنْ قِبَلِ مَرْوِ الرُّوذِ. فَأَجْمَعَ عَلَى تَوْجِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُعَيْمٍ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالشَّامِ إِلَى الْحَارِثِ بِمَرْوِ الرُّوذِ، وَسَارَ أَسَدٌ بِالنَّاسِ إِلَى آمُلَ، فَلَقِيَهُ خَيْلُ آمُلَ عَلَيْهِمْ زِيَادٌ الْقُرَشِيُّ مَوْلَى حَيَّانَ النَّبَطِيِّ وَغَيْرُهُ، فَهُزِمُوا حَتَّى رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَحَصَرَهُمْ أَسَدٌ وَنَصَبَ عَلَيْهِمُ الْمَجَانِيقَ وَعَلَيْهِمُ

الْهَجَرِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الْحَارِثِ، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَسَدٌ: مَا تَطْلُبُونَ؟ قَالُوا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ لَا تَأْخُذَ أَهْلَ الْمُدُنِ بِجِنَايَتِنَا. فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ يَحْيَى بْنَ نُعَيْمِ بْنِ هُبَيْرَةَ الشَّيْبَانِيَّ وَسَارَ يُرِيدُ بَلْخًا، فَأُخْبِرَ أَنَّ أَهْلَهَا قَدْ بَايَعُوا سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، فَسَارَ حَتَّى قَدِمَهَا وَاتَّخَذَ سُفُنًا وَسَارَ مِنْهَا إِلَى تِرْمِذَ، فَوَجَدَ الْحَارِثَ مُحَاصِرًا لَهَا، وَبِهَا سِنَانٌ الْأَعْرَابِيُّ، فَنَزَلَ أَسَدٌ دُونَ النَّهْرِ وَلَمْ يُطِقِ الْعُبُورَ إِلَيْهِمْ وَلَا يُمِدُّهُمْ، وَخَرَجَ أَهْلُ تِرْمِذَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَاتَلُوا الْحَارِثَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَاسْتَطْرَدَ الْحَارِثُ لَهُمْ، وَكَانَ قَدْ وَضَعَ كَمِينًا، فَتَبِعُوهُ، وَنَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ مَعَ أَسَدٍ جَالِسٌ يَنْظُرُ، فَأَظْهَرَ الْكَرَاهِيَةَ، وَعَرَفَ أَنَّ الْحَارِثَ قَدْ كَادَهُمْ، وَظَنَّ أَسَدٌ أَنَّمَا ذَلِكَ شَفَقَةٌ عَلَى الْحَارِثِ حِينَ وَلِيَ، وَأَرَادَ مُعَاتَبَةَ نَصْرٍ، وَإِذَا الْكَمِينُ قَدْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَانْهَزَمُوا. ثُمَّ ارْتَحَلَ أَسَدٌ إِلَى بَلْخٍ، وَخَرَجَ أَهْلُ تِرْمِذَ إِلَى الْحَارِثِ فَهَزَمُوهُ وَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْبَصَائِرِ، مِنْهُمْ: عِكْرِمَةُ وَأَبُو فَاطِمَةَ. ثُمَّ سَارَ أَسَدٌ إِلَى سَمَرْقَنْدَ فِي طَرِيقِ زُمَّ، فَلَمَّا قَدِمَ زُمَّ بَعَثَ إِلَى الْهَيْثَمِ الشَّيْبَانِيِّ، وَهُوَ فِي حِصْنٍ مِنْ حُصُونِهَا، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَارِثِ، فَقَالَ لَهُ أَسَدٌ: إِنَّمَا أَنْكَرْتُمْ [عَلَى قَوْمِكُمْ] مَا كَانَ مِنْ سُوءِ السِّيرَةِ، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ السَّبْيَ وَاسْتِحْلَالَ الْفُرُوجِ وَلَا غَلَبَةَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مِثْلِ سَمَرْقَنْدَ، وَأَنَا أُرِيدُ سَمَرْقَنْدَ، وَلَكَ عَهْدُ اللَّهِ وَذِمَّتُهُ أَنْ لَا يَنَالَكَ مِنِّي شَرٌّ، وَلَكَ الْمُوَاسَاةُ وَالْكَرَامَةُ وَالْأَمَانُ (وَلِمَنْ مَعَكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ مَا دَعَوْتُكَ إِلَيْهِ فَعَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ إِنْ أَنْتَ رُمِيتَ بِسَهْمٍ أَنْ لَا أُؤَمِّنَكَ بَعْدَهُ، وَإِنْ جَعَلْتُ لَكَ أَلْفَ أَمَانٍ لَا أَفِي لَكَ بِهِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَلَى الْأَمَانِ) ، وَسَارَ مَعَهُ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، ثُمَّ ارْتَفَعَ إِلَى وَرَغْسَرَ، وَمَاءِ سَمَرْقَنْدَ مِنْهَا، فَسَكَّرَ الْوَادِيَ وَصَرَفَهُ عَنْ سَمَرْقَنْدَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلْخٍ. وَقِيلَ: إِنَّ أَمْرَ أَسَدٍ وَأَصْحَابِ الْحَارِثِ كَانَ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ. ذِكْرُ حَالِ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخَذَ أَسَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ جَمَاعَةً مِنْ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ بِخُرَاسَانَ، فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ وَمَثَّلَ بِبَعْضِهِمْ وَحَبَسَ بَعْضَهُمْ، وَكَانَ فِيمَنْ أَخَذَ: سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، وَمَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ، وَمُوسَى بْنُ كَعْبٍ، وَلَاهِزُ بْنُ قُرَيْظٍ، وَخَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَطَلْحَةُ بْنُ زُرَيْقٍ، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَالَ [لَهُمْ] : يَا فَسَقَةُ، أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] ؟

فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: نَحْنُ وَاللَّهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَوْ بِغَيْرِ الْمَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ ... كُنْتُ كَالْغَصَّانِ بِالْمَاءِ اعْتِصَارِي صِيدَتْ وَاللَّهِ الْعَقَارِبُ بِيَدَيْكَ! إِنَّا نَاسٌ مِنْ قَوْمِكَ! وَإِنَّ الْمُضَرِيَّةَ رَفَعُوا إِلَيْكَ هَذَا لِأَنَّا كُنَّا أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ فَطَلَبُوا بِثَأْرِهِمْ. فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى الْحَبْسِ، ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُعَيْمٍ: مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ تَمُنَّ بِهِمْ عَلَى عَشَائِرِهِمْ. قَالَ: لَا أَفْعَلُ، فَأَطْلَقَ مَنْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ، وَمَنْ كَانَ مِنْ رَبِيعَةَ أَطْلَقَهُ أَيْضًا لِحِلْفِهِمْ مَعَ الْيَمَنِ، وَأَرَادَ قَتْلَ مَنْ كَانَ مِنْ مُضَرَ، فَدَعَا مُوسَى بْنَ كَعْبٍ، وَأَلْجَمَهُ بِلِجَامِ حِمَارٍ، جَذَبَ اللِّجَامَ فَتَحَطَّمَتْ أَسْنَانُهُ وَدَقَّ وَجْهَهُ وَأَنْفَهُ، وَدَعَا لَاهِزَ بْنَ قُرَيْظٍ فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا بِحَقٍّ، تَصْنَعُ بِنَا هَذَا وَتَتْرُكُ الْيَمَانِيِّينَ وَالرَّبِيعِيِّينَ؟ فَضَرَبَهُ ثَلَاثَمِائَةِ سَوْطٍ، فَشَهِدَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ الْأَزْدِيُّ بِالْبَرَاءَةِ وَلِأَصْحَابِهِ فَتَرَكَهُمْ. ذِكْرُ وِلَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَبْحَابِ إِفْرِيقِيَّةَ وَالْأَنْدَلُسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَالْأَنْدَلُسِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَبْحَابِ وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهَا، وَكَانَ وَالِيًا عَلَى مِصْرَ، فَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا وَلَدَهُ وَسَارَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْأَنْدَلُسِ عُقْبَةَ بْنَ (الْحَجَّاجِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى طَنْجَةَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ، وَبَعَثَ حَبِيبَ بْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ) نَافِعٍ غَازِيًا إِلَى الْمَغْرِبِ، فَبَلَغَ السُّوسَ الْأَقْصَى وَأَرْضَ السُّودَانِ، فَلَمْ يُقَاتِلْهُ أَحَدٌ إِلَّا ظَهَرَ عَلَيْهِ، وَأَصَابَ مِنَ الْغَنَائِمِ وَالسَّبْيِ أَمْرًا عَظِيمًا، فَمُلِئَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ مِنْهُ رُعْبًا، وَأَصَابَ بِالسَّبْيِ جَارِيَتَيْنِ مِنَ الْبَرْبَرِ لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَيْرُ ثَدْيٍ وَاحِدٍ، وَرَجَعَ سَالِمًا. وَسَيَّرَ جَيْشًا فِي الْبَحْرِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ إِلَى جَزِيرَةِ السَّرْدَانِيَّةِ، فَفَتَحُوا مِنْهَا وَنَهَبُوا وَعَادُوا. ثُمَّ سَيَّرَهُ غَازِيًا إِلَى جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَمِائَةٍ وَمَعَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَبِيبٍ، فَلَمَّا نَزَلَ بِأَرْضِهَا وَجَّهَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَلَى الْخَيْلِ، فَلَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ إِلَّا هَزَمَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَظَفِرَ ظَفَرًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، حَتَّى نَزَلَ عَلَى مَدِينَةِ سَرَقُوسَةَ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ مُدُنِ صِقِلِّيَّةَ، فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمَهُمْ وَحَصَرَهُمْ، فَصَالَحُوهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَعَادَ إِلَى أَبِيهِ، وَعَزَمَ حَبِيبٌ عَلَى الْمُقَامِ بِصِقِلِّيَةَ إِلَى أَنْ يَمْلِكَهَا جَمِيعًا، فَأَتَاهُ كِتَابُ ابْنِ الْحَبْحَابِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ.

وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ عَلَى طَنْجَةَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ، وَجَعَلَ مَعَهُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُرَادِيَّ، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ وَتَعَدَّى، وَأَرَادَ أَنْ يُخَمِّسَ مُسْلِمِي الْبَرْبَرِ، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ شَيْءٌ لَمْ يَرْتَكِبْهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ الْبَرْبَرُ بِمَسِيرِ حَبِيبِ بْنِ عُبَيْدَةَ إِلَى صِقِلِّيَّةَ بِالْعَسَاكِرِ طَمِعُوا وَنَقَضُوا الصُّلْحَ عَلَى ابْنِ الْحَبْحَابِ، وَتَدَاعَتْ عَلَيْهِ بِأَسْرِهَا مُسْلِمُهَا وَكَافِرُهَا، وَعَظُمَ الْبَلَاءُ، وَقَدَّمَ مَنْ بِطَنْجَةَ مِنَ الْبَرْبَرِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَيْسَرَةَ السَّقَّاءَ ثُمَّ الْمَدْغُورِيَّ، وَكَانَ خَارِجِيًّا صُفَرِيًّا وَسَقَّاءً، وَقَصَدُوا طَنْجَةَ، فَقَاتَلَهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَقَتَلُوهُ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى طَنْجَةَ، وَبَايَعُوا مَيْسَرَةَ بِالْخِلَافَةِ وَخُوطِبَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ بِنَوَاحِي طَنْجَةَ. وَظَهَرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جَمَاعَةٌ بِإِفْرِيقِيَّةَ، فَأَظْهَرُوا مَقَالَةَ الْخَوَارِجِ، فَأَرْسَلَ ابْنُ الْحَبْحَابِ إِلَى حَبِيبٍ وَهُوَ بِصِقِلِّيَّةَ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ لِقِتَالِ مَيْسَرَةَ السَّقَّاءِ، لِأَنَّ أَمْرَهُ كَانَ قَدْ عَظُمَ، فَعَادَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ. وَكَانَ ابْنُ الْحَبْحَابِ قَدْ سَيَّرَ خَالِدَ بْنَ حَبِيبٍ فِي جَيْشٍ إِلَى مَيْسَرَةَ، فَلَمَّا وَصَلَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ سَيَّرَهُ فِي أَثَرِهِ، وَالْتَقَى خَالِدٌ وَمَيْسَرَةُ بِنَوَاحِي طَنْجَةَ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَعَادَ مَيْسَرَةُ إِلَى طَنْجَةَ، فَأَنْكَرَتِ الْبَرْبَرُ سِيرَتَهُ، وَكَانُوا بَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ، فَقَتَلُوهُ وَوَلَّوْا أَمْرَهُمْ خَالِدَ بْنَ حُمَيْدٍ الزَّنَاتِيَّ، ثُمَّ الْتَقَى خَالِدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمَعَهُ الْبَرْبَرُ بِخَالِدِ بْنِ حَبِيبٍ وَمَعَهُ الْعَرَبُ وَعَسْكَرُ هِشَامٍ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ شَدِيدٌ صَبَرَتْ فِيهِ الْعَرَبُ، وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ كَمِينٌ مِنَ الْبَرْبَرِ فَانْهَزَمُوا، وَكَرِهَ خَالِدُ بْنُ حَبِيبٍ أَنْ يَنْهَزِمَ مِنَ الْبَرْبَرِ فَصَبَرُوا مَعَهُ فَقُتِلُوا جَمِيعُهُمْ. وَقُتِلَ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ حُمَاةُ الْعَرَبِ وَفُرْسَانُهَا، فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ الْأَشْرَافِ، وَانْتَقَضَتِ الْبِلَادُ، وَخَرَجَ أَمْرُ النَّاسِ، وَبَلَغَ أَهْلَ الْأَنْدَلُسِ الْخَبَرُ فَثَارُوا بِأَمِيرِهِمْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ فَعَزَلُوهُ وَوَلَّوْا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ قَطَنٍ، فَاخْتَلَطَتِ الْأُمُورُ عَلَى ابْنِ الْحَبْحَابِ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ: لَأَغْضَبَنَّ لِلْعَرَبِ غَضْبَةً، وَأُسَيِّرُ جَيْشًا يَكُونُ أَوَّلُهُمْ عِنْدَهُمْ وَآخِرُهُمْ عِنْدِي، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الْحَبْحَابِ يَأْمُرُهُ بِالْحُضُورِ، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي جُمَادَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَاسْتَعْمَلَ هِشَامٌ عِوَضَهُ كُلْثُومَ بْنَ عِيَاضٍ الْقُشَيْرِيَّ وَسَيَّرَ مَعَهُ جَيْشًا كَثِيفًا، وَكَتَبَ إِلَى سَائِرِ الْبِلَادِ الَّتِي عَلَى طَرِيقِهِ بِالْمَسِيرِ مَعَهُ، فَوَصَلَ إِفْرِيقِيَّةَ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ بَلْجُ بْنُ بِشْرٍ، فَوَصَلَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ وَلَقِيَ أَهْلَهَا بِالْجَفَاءِ وَالتَّكَبُّرِ عَلَيْهِمْ، وَأَرَادَ أَنْ يُنْزِلَ الْعَسْكَرَ الَّذِي مَعَهُ فِي مَنَازِلِهِمْ، فَكَتَبَ أَهْلُهَا إِلَى حَبِيبِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَهُوَ بِتِلْمِسَانَ

مَوَاقِفِ الْبَرْبَرِ، يَشْكُونَ إِلَيْهِ بَلْجًا وَكُلْثُومًا، فَكَتَبَ حَبِيبٌ إِلَى كُلْثُومٍ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ بَلْجًا فَعَلَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَارْحَلْ عَنِ الْبَلَدِ وَإِلَّا رَدَدْنَا أَعِنَّةَ الْخَيْلِ إِلَيْكَ. فَاعْتَذَرَ كُلْثُومٌ وَسَارَ إِلَى حَبِيبٍ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ بَلْجُ بْنُ بِشْرٍ، فَاسْتَخَفَّ بِحَبِيبٍ وَسَبَّهُ، وَجَرَى بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا وَاجْتَمَعُوا عَلَى قِتَالِ الْبَرْبَرِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمُ الْبَرْبَرُ مِنْ طَنْجَةَ، فَقَالَ لَهُمْ حَبِيبٌ: اجْعَلُوا الرَّجَّالَةَ لِلرَّجَّالَةِ وَالْخَيَّالَةَ لِلْخَيَّالَةِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ كُلْثُومٌ بِالْخَيْلِ، فَقَاتَلَهُ رَجَّالَةُ الْبَرْبَرِ فَهَزَمُوهُ، فَعَادَ إِلَى كُلْثُومٍ مُنْهَزِمًا، وَوَهَّنَ النَّاسَ ذَلِكَ وَنَشِبَ الْقِتَالُ، وَانْكَشَفَتْ خَيَّالَةُ الْبَرْبَرِ وَثَبَتَتْ رَجَّالَتُهَا وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَكَثُرَ الْبَرْبَرُ عَلَيْهِمْ، فَقُتِلَ كُلْثُومُ بْنُ عِيَاضٍ وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَوُجُوهُ الْعَرَبِ، وَانْهَزَمَتِ الْعَرَبُ وَتَفَرَّقُوا. فَمَضَى أَهْلُ الشَّامِ إِلَى الْأَنْدَلُسِ وَمَعَهُمْ بَلْجُ بْنُ بِشْرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَعَادَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْقَيْرَوَانِ. فَلَمَّا ضَعُفَتِ الْعَرَبُ بِهَذِهِ الْوَقْعَةِ ظَهَرَ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ عُكَّاشَةُ (بْنُ أَيُّوبَ الْفَزَارِيُّ بِمَدِينَةِ قَابِسَ، وَهُوَ عَلَى رَأْيِ الْخَوَارِجِ الصُّفْرِيَّةِ، فَسَارَ إِلَيْهِ جَيْشٌ مِنَ الْقَيْرَوَانِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْقَيْرَوَانِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَسْكَرٌ آخَرُ فَانْهَزَمَ عُكَّاشَةُ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَحِقَ عُكَّاشَةُ) بِبِلَادِ الرَّمْلِ. فَلَمَّا بَلَغَ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ قَتْلُ كُلْثُومٍ بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ حَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوَانَ الْكَلْبِيَّ، فَوَصَلَهَا فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَلَمْ يَمْكُثْ بِالْقَيْرَوَانِ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى زَحَفَ إِلَيْهِ عُكَّاشَةُ الْخَارِجِيُّ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَكَانَ حِينَ انْهَزَمَ حَشَدَهُمْ لِيَأْخُذَ بِثَأْرِهِ وَأَعَانَهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ يَزِيدَ الْهَوَّارِيُّ ثُمَّ الْمُدْغَمِيُّ، وَكَانَ صُفْرِيًّا، فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ وَافْتَرَقَا لِيَقْصِدَا الْقَيْرَوَانَ مِنْ جِهَتَيْنِ، فَلَمَّا قَرُبَ عُكَّاشَةُ خَرَجَ إِلَيْهِ حَنْظَلَةُ وَلَقِيَهُ مُنْفَرِدًا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَ عُكَّاشَةُ وَقُتِلَ مِنَ الْبَرْبَرِ مَا لَا يُحْصَى، وَعَادَ حَنْظَلَةُ إِلَى الْقَيْرَوَانِ خَوْفًا عَلَيْهَا مِنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا عُدَّتُهُمْ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، فَسَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَارَبُوهُ لَمْ يَجِدُوا شَعِيرًا يُطْعِمُونَهُ دَوَابَّهُمْ فَأَطْعَمُوهَا حِنْطَةً، ثُمَّ لَقُوهُ مِنَ الْغَدِ فَانْهَزَمُوا مِنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَعَادُوا إِلَى الْقَيْرَوَانِ، وَهَلَكَتْ دَوَابُّهُمْ بِسَبَبِ الْحِنْطَةِ. فَلَمَّا وَصَلُوهَا نَظَرُوا وَإِذَا قَدْ هَلَكَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفَ فَرَسٍ، وَسَارَ عَبْدُ الْوَاحِدِ فَنَزَلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْقَيْرَوَانِ بِمَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِالْأَصْنَامِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَحَشَدَ حَنْظَلَةُ كُلَّ مَنْ بِالْقَيْرَوَانِ وَفَرَّقَ فِيهِمُ السِّلَاحَ وَالْمَالَ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ، فَلَمَّا دَنَا الْخَوَارِجُ مَعَ عَبْدِ الْوَاحِدِ خَرَجَ إِلَيْهِمْ حَنْظَلَةُ مِنَ الْقَيْرَوَانِ وَاصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ، وَقَامَ الْعُلَمَاءُ فِي أَهْلِ الْقَيْرَوَانِ يَحُثُّونَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَقِتَالِ الْخَوَارِجِ وَيُذَكِّرُونَهُمْ مَا يَفْعَلُونَهُ

بِالنِّسَاءِ مِنَ السَّبْيِ وَبِالْأَبْنَاءِ مِنَ الِاسْتِرْقَاقِ وَبِالرِّجَالِ مِنَ الْقَتْلِ، فَكَسَرَ النَّاسُ أَجْفَانَ سُيُوفِهِمْ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ نِسَاؤُهُمْ يُحَرِّضْنَهُمْ، فَحَمِيَ النَّاسُ وَحَمَلُوا عَلَى الْخَوَارِجِ حَمْلَةً وَاحِدَةً وَثَبَتَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَاشْتَدَّ اللِّزَامُ وَكَثُرَ الزِّحَامُ وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَزَمَ الْخَوَارِجَ وَالْبَرْبَرَ وَنَصَرَ الْعَرَبَ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْبَرْبَرِ وَتَبِعُوهُمْ إِلَى جَلُولَاءَ يَقْتُلُونَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ عَبْدَ الْوَاحِدِ قَدْ قُتِلَ حَتَّى حُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى حَنْظَلَةَ، فَخَرَّ النَّاسُ لِلَّهِ سُجَّدًا. فَقِيلَ: لَمْ يُقْتَلْ بِالْمَغْرِبِ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الْقَتْلَةِ، فَإِنَّ حَنْظَلَةَ أَمَرَ بِإِحْصَاءِ الْقَتْلَى، فَعَجَزَ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى عَدُّوهُمْ بِالْقَصَبِ، فَكَانَتْ عِدَّةُ الْقَتْلَى مِائَةَ أَلْفٍ وَثَمَانِينَ أَلْفًا، ثُمَّ أُسِرَ عُكَّاشَةُ مَعَ طَائِفَةٍ أُخْرَى بِمَكَانٍ آخَرَ وَحُمِلَ إِلَى حَنْظَلَةَ فَقَتَلَهُ، وَكَتَبَ حَنْظَلَةُ إِلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْفَتْحِ، وَكَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَقُولُ: مَا غَزْوَةٌ إِلَى الْآنَ أَشَدُّ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ غَزْوَةِ الْعَرَبِ بِالْأَصْنَامِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُسْرَى، وَغَزَا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُمْنَى مِنْ نَحْوِ الْجَزِيرَةِ، وَفَرَّقَ سَرَايَاهُ فِي أَرْضِ الرُّومِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَ الْعَامِلُ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ مُحَمَّدَ بْنَ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيَّ، وَعَلَى إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.

وَسُكَيْنَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ. وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ. وَأَبُو شَاكِرٍ مَسْلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ الْفَقِيهُ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَقِيلَ سَنَةَ عِشْرِينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَقِيلَ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ. وَفِيهَا مَاتَتْ عَائِشَةُ ابْنَةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَسَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ. وَقَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ الْبَصْرِيُّ، وَكَانَ ضَرِيرًا، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتِّينَ.

ثم دخلت سنة ثماني عشرة ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَمِائَة] 118 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُعَاوِيَةُ وَسُلَيْمَانُ ابْنَا هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرْضَ الرُّومِ. ذِكْرُ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ بُكَيْرُ بْنُ مَاهَانَ عَمَّارَ بْنَ يَزِيدَ إِلَى خُرَاسَانَ وَالِيًا عَلَى شِيعَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ، فَنَزَلَ مَرْوَ وَغَيَّرَ اسْمَهُ وَتَسَمَّى بِخِدَاشٍ، وَدَعَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، فَسَارَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَأَطَاعُوهُ، ثُمَّ غَيَّرَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَتَكَذَّبَ وَأَظْهَرَ دِينَ الْخُرَّمِيَّةِ [وَدَعَا إِلَيْهِ] ، وَرَخَّصَ لِبَعْضِهِمْ فِي نِسَاءِ بَعْضٍ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ لَا صَوْمَ وَلَا صَلَاةَ وَلَا حَجَّ، وَإِنَّ تَأْوِيلَ الصَّوْمِ أَنْ يُصَامَ عَنْ ذِكْرِ الْإِمَامِ فَلَا يُبَاحُ بِاسْمِهِ، وَالصَّلَاةُ الدُّعَاءُ لَهُ، وَالْحَجُّ الْقَصْدُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَتَأَوَّلُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93] . وَكَانَ خِدَاشٌ نَصْرَانِيًّا بِالْكُوفَةِ فَأَسْلَمَ وَلَحِقَ بِخُرَاسَانَ. وَكَانَ مِمَّنِ اتَّبَعَهُ عَلَى مَقَالَتِهِ مَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ، وَالْحَرِيشُ بْنُ سُلَيْمٍ الْأَعْجَمِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ أَمَرَ بِذَلِكَ. فَبَلَغَ خَبَرُهُ أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَظَفِرَ بِهِ، فَأَغْلَظَ الْقَوْلَ لِأَسَدٍ، فَقَطَعَ لِسَانَهُ وَسَمَلَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي انْتَقَمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْكَ! وَأَمَرَ يَحْيَى بْنَ نُعَيْمٍ الشَّيْبَانِيَّ فَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ بِآمُلَ، وَأُتِيَ أَسَدٌ بِجَزُورٍ مَوْلَى الْمُهَاجِرِ بْنِ دَارَةَ الضَّبِّيِّ فَضَرَبَ عُنُقَهُ بِشَاطِئِ النَّهْرِ. ذِكْرُ مَا كَانَ مِنَ الْحَارِثِ وَأَصْحَابِهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ نَزَلَ أَسَدٌ بَلْخًا، وَسَرَّحَ جُدَيْعًا الْكَرْمَانِيَّ إِلَى الْقَلْعَةِ الَّتِي فِيهَا أَهْلُ

الْحَارِثِ وَأَصْحَابُهُ، وَاسْمُهَا التُّبُوشْكَانُ مِنْ طَخَارِسْتَانَ الْعُلْيَا، وَفِيهَا بَنُو بَرْزَى التَّغْلِبِيُّونَ أَصْهَارُ الْحَارِثِ، فَحَصَرَهُمُ الْكَرْمَانِيُّ حَتَّى فَتَحَهَا، فَقَتَلَ بَنِي بَرْزَى، وَسَبَى عَامَّةَ أَهْلِهَا مِنَ الْعَرَبِ وَالْمُوَالِي وَالذَّرَارِي، وَبَاعَهُمْ فِيمَنْ يَزِيدُ فِي سُوقِ بَلْخٍ، وَنَقَمَ عَلَى الْحَارِثِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ رَئِيسُهُمْ جَرِيرَ بْنَ مَيْمُونٍ الْقَاضِي، فَقَالَ لَهُمُ الْحَارِثُ إِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ مُفَارِقِيَّ فَاطْلُبُوا الْأَمَانَ وَأَنَا شَاهِدٌ فَإِنَّهُمْ يُجِيبُونَكُمْ، وَإِنِ ارْتَحَلْتُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُعْطُوا الْأَمَانَ. فَقَالُوا: ارْتَحِلْ أَنْتَ وَخَلِّنَا. وَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، فَأُخْبِرَ أَسَدٌ أَنَّ الْقَوْمَ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ وَلَا مَاءٌ، فَسَرَّحَ إِلَيْهِمْ أَسَدٌ جُدَيْعًا الْكَرْمَانِيَّ فِي سِتَّةِ آلَافٍ، فَحَصَرَهُمْ فِي الْقَلْعَةِ وَقَدْ عَطِشَ أَهْلُهَا وَجَاعُوا، فَسَأَلُوا أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى الْحُكْمِ وَيَتْرُكَ لَهُمْ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ أَسَدٍ فَأَرْسَلَ إِلَى الْكَرْمَانِيِّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ وُجُوهِهِمْ فِيهِمُ الْمُهَاجِرُ بْنُ مَيْمُونٍ، فَحُمِلُوا إِلَيْهِ، فَقَتَلَهُمْ وَكَتَبَ إِلَى الْكَرْمَانِيِّ أَنْ يَجْعَلَ الَّذِينَ بَقُوا عِنْدَهُ أَثْلَاثًا، فَثُلُثٌ يَقْتُلُهُمْ، وَثُلُثٌ يَقْطَعُ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَثُلُثٌ يَقْطَعُ أَيْدِيَهُمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ الْكَرْمَانِيُّ وَأَخْرَجَ أَثْقَالَهُمْ فَبَاعَهَا. وَاتَّخَذَ أَسَدٌ مَدِينَةَ بَلْخٍ دَارًا، وَنَقَلَ إِلَيْهَا الدَّوَاوِينَ، ثُمَّ غَزَا طَخَارِسْتَانَ ثُمَّ أَرْضَ جَبْغَوَيْهِ فَغَنِمَ وَسَبَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ هِشَامٌ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَكَمِ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا خَالَهُ مُحَمَّدَ بْنَ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ. وَفِيهَا غَزَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ مِنْ إِرْمِينِيَّةَ، وَدَخَلَ أَرْضَ وَرْتَنِيسَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ، فَهَرَبَ مِنْهُ وَرْتَنِيسُ إِلَى الْخَزَرِ وَنَزَلَ حِصْنَهُ، فَحَصَرَهُ مَرْوَانُ وَنَصَبَ عَلَيْهِ الْمَجَانِيقَ، فَقُتِلَ وَرْتَنِيسُ، قَتَلَهُ بَعْضُ مَنِ اجْتَازَ بِهِ وَأَرْسَلَ رَأْسَهُ إِلَى مَرْوَانَ، فَنَصَبَهُ لِأَهْلِ حِصْنِهِ، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَقَتَلَ الْقَاتِلَةَ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِالْحُمَيْمَةِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: إِنَّهُ وُلِدَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَسَمَّاهُ أَبُوهُ عَلِيًّا، وَقَالَ: سَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَكَنَّاهُ أَبَا الْحَسَنِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَكْرَمَهُ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ وَسَأَلَهُ عَنْ كُنْيَتِهِ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: لَا يَجْتَمِعُ فِي عَسْكَرِي هَذَا الِاسْمُ وَالْكُنْيَةُ لِأَحَدٍ، وَسَأَلَهُ: هَلْ وُلِدَ لَكَ وَلَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَدْ سَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا. قَالَ: فَأَنْتَ أَبُو مُحَمَّدٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَكَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ عَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ كُلِّهِ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ، وَعَامِلُهُ عَلَى خُرَاسَانَ أَخُوهُ أَسَدٌ، وَعَامِلُهُ عَلَى الْبَصْرَةِ بِلَالُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، وَكَانَ عَلَى إِرْمِينِيَّةَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ قَاضِي الْأُرْدُنِّ. وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَبَّاسِ، وَمَاتَ بِالطَّائِفِ. وَأَبُو صَخْرَةَ جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ.

وَأَبُو عُشَّانَةَ الْمَعَافِرَيُّ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ.

ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَة] 119 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ خَاقَانَ لَمَّا دَخَلَ أَسَدٌ الْخُتُّلِ كَتَبَ ابْنُ السَايِجِيِّ إِلَى خَاقَانَ، وَهُوَ بِنَوَاكِثَ، يُعْلِمُهُ دُخُولَ أَسَدٍ الْخُتُّلَ، وَتَفَرُّقَ جُنُودِهِ فِيهَا، وَأَنَّهُ بِحَالٍ مُضَيَّعَةٍ، فَلَمَّا أَتَاهُ كِتَابُهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْجِهَازِ وَسَارَ، فَلَمَّا أَحَسَّ ابْنُ السَايِجِيِّ بِمَجِيءِ خَاقَانَ بَعَثَ إِلَى أَسَدٍ: اخْرُجْ عَنِ الْخُتُّلِ فَإِنَّ خَاقَانَ قَدْ أَظَلَّكَ. فَشَتَمَ الرَّسُولَ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ. فَبَعَثَ ابْنُ السَّايِجِيِّ: إِنِّي لَمْ أُكَذِّبْكَ، وَأَنَا الَّذِي أَعْلَمْتُهُ دُخُولَكَ وَتَفَرُّقَ عَسْكَرِكَ، وَأَنَّهَا فُرْصَةٌ لَهُ، وَسَأَلْتُهُ الْمَدَدَ، فَإِنْ لَقِيَكَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ ظَفِرَ بِكَ، وَعَادَتْنِي الْعَرَبُ أَبَدًا مَا بَقِيتُ، وَاسْتَطَالَ عَلَيَّ خَاقَانُ وَاشْتَدَّتْ مَئُونَتُهُ، وَقَالَ: أَخْرَجْتُ الْعَرَبَ مِنْ بِلَادِكَ، وَرَدَدْتُ عَلَيْكَ مُلْكَكَ. فَعَرَفَ أَسَدٌ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَهُ، فَأَمَرَ بِالْأَثْقَالِ أَنْ تُقَدَّمَ، وَجَعَلَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَاصِمٍ الْعُقَيْلِيَّ وَأَخْرَجَ مَعَهُ الْمَشْيَخَةَ، فَسَارَتِ الْأَثْقَالُ وَمَعَهَا أَهْلُ الصَّغَانِيَانِ وَصَغَانُ خُذَاهْ، وَأَقْبَلَ أَسَدٌ مِنَ الْخُتُّلِ نَحْوَ جَبَلِ الْمِلْحِ يُرِيدُ [أَنْ] يَخُوضَ نَهْرَ بَلْخٍ، وَقَدْ قَطَعَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَاصِمٍ بِالسَّبْيِ وَمَا أَصَابُوا، وَأَشْرَفَ أَسَدٌ عَلَى النَّهْرِ فَأَقَامَ يَوْمَهُ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ عَبَرَ النَّهْرَ فِي مَخَاضَةٍ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَعْبُرُونَ، فَأَدْرَكَهُمْ خَاقَانُ فَقَتَلَ مَنْ لَمْ يَقْطَعِ النَّهْرَ، وَكَانَتِ الْمَسْلَحَةُ عَلَى الْأَزْدِ وَتَمِيمٍ، فَقَاتَلُوا خَاقَانَ وَانْكَشَفُوا. وَأَقْبَلَ خَاقَانُ وَظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يَعْبُرُ إِلَيْهِمُ النَّهْرَ، فَلَمَّا نَظَرَ خَاقَانُ إِلَى النَّهْرِ أَمَرَ التُّرْكَ بِعُبُورِهِ، فَعَبَرُوهُ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ عَسْكَرَهُمْ وَأَخَذَ التُّرْكُ مَا رَأَوْهُ خَارِجًا، وَخَرَجَ الْغِلْمَانُ فَضَارَبُوهُمْ بِالْعُمُدِ فَعَادُوا، وَبَاتَ أَسَدٌ وَالْمُسْلِمُونَ وَعَبَّأَ أَصْحَابَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا

أَصْبَحَ لَمْ يَرَ خَاقَانَ، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ، فَقَالُوا لَهُ: اقْبَلِ الْعَافِيَةَ. قَالَ: مَا هَذِهِ عَافِيَةٌ! هَذِهِ بَلِيَّةٌ! إِنَّ خَاقَانَ أَصَابَ أَمْسِ مِنَ الْجُنْدِ وَالسِّلَاحِ وَمَا مَنَعَهُ الْيَوْمَ مِنَّا إِلَّا أَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَهُ بَعْضُ مَنْ أَخْذَهُ مِنَ الْأَسْرَى بِمَوْضِعِ الْأَثْقَالِ أَمَامَنَا فَسَارَ طَمَعًا فِيهَا. فَارْتَحَلَ وَبَعَثَ الطَّلَائِعَ، فَلَمَّا أَمْسَى اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي النُّزُولِ أَوِ الْمَسِيرِ، فَقَالَ النَّاسُ: اقْبَلِ الْعَافِيَةَ، وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ ذَهَابُ الْأَمْوَالِ بِعَافِيَتِنَا وَعَافِيَةِ أَهْلِ خُرَاسَانَ! وَنَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ مُطْرِقٌ. فَقَالَ لَهُ أَسَدٌ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ؟ قَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ خُلَّتَانِ كِلْتَاهُمَا لَكَ، إِنْ تَسِرْ تُغِثْ مَنْ مَعَ الْأَثْقَالِ وَتُخَلِّصْهُمْ، فَإِنِ انْتَهَيْتَ إِلَيْهِمْ وَقَدْ هَلَكُوا فَقَدْ قَطَعْتَ مَشَقَّةً لَا بُدَّ مِنْ قَطْعِهَا. فَقَبِلَ رَأْيَهُ وَسَارَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَدَعَا أَسَدٌ سَعِيدًا الصَّغِيرَ مَوْلَى بَاهِلَةَ، وَكَانَ فَارِسًا بِأَرْضِ الْخُتُّلِ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى إِبْرَاهِيمَ يَأْمُرُهُ بِالِاسْتِعْدَادِ وَيُخْبِرُهُ بِمَسِيرِ خَاقَانَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: لِتُجِدَّ السَّيْرَ. فَطَلَبَ مِنْهُ فَرَسَهُ الذَّبُوبَ، فَقَالَ أَسَدٌ: لَعَمْرِي لَئِنْ جُدْتَ بِنَفْسِكَ وَبَخِلْتُ عَلَيْكَ بِالْفَرَسِ إِنِّي إِذًا لَلَئِيمٌ. فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ مَعَهُ جَنِيبًا وَسَارَ. فَلَمَّا حَاذَى التُّرْكَ وَقَدْ سَارُوا نَحْوَ الْأَثْقَالِ طَلَبَتْهُ طَلَائِعُهُمْ فَرَكِبَ الذَّبُوبَ فَلَمْ يَلْحَقُوهُ، فَأَتَى إِبْرَاهِيمَ بِالْكِتَابِ. وَسَارَ خَاقَانُ إِلَى الْأَثْقَالِ، وَقَدْ خَنْدَقَ إِبْرَاهِيمُ خَنْدَقًا، فَأَتَاهُمْ وَهُمْ قِيَامٌ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ الصُّغْدَ بِقِتَالِهِمْ فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَصَعِدَ خَاقَانُ تَلًّا فَجَعَلَ يَنْظُرُ لِيَرَى عَوْرَةً يَأْتِي مِنْهَا، وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ، فَلَمَّا صَعِدَ التَّلَّ رَأَى خَلْفَ الْعَسْكَرِ جَزِيرَةً دُونَهَا مَخَاضَةٌ فَدَعَا بَعْضَ قُوَّادِ التُّرْكِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْطَعُوا فَوْقَ الْعَسْكَرِ حَتَّى يَصِيرُوا إِلَى الْجَزِيرَةِ، ثُمَّ يَنْحَدِرُوا حَتَّى يَأْتُوا عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَأَنْ يَبْدَءُوا بِالْأَعَاجِمِ وَأَهْلِ الصَّغَانِيَانِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ رَجَعُوا إِلَيْكُمْ دَخَلْنَا نَحْنُ. فَفَعَلُوا وَدَخَلُوا مِنْ نَاحِيَةِ الْأَعَاجِمِ فَقَتَلُوا صَغَانَ خُذَاهْ وَعَامَّةَ أَصْحَابِهِ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، وَدَخَلُوا عَسْكَرَ إِبْرَاهِيمَ فَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا فِيهِ، وَتَرَكَ الْمُسْلِمُونَ التَّعْبِيَةَ وَاجْتَمَعُوا فِي مَوْضِعٍ وَأَحَسُّوا بِالْهَلَاكِ، وَإِذَا رَهَجٌ قَدِ ارْتَفَعَ، وَإِذَا أَسَدٌ فِي جُنْدِهِ قَدْ أَتَاهُمْ، فَارْتَفَعَتِ التُّرْكُ عَنْهُمْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ خَاقَانُ، وَإِبْرَاهِيمُ يَعْجَبُ مِنْ كَفِّهِمْ وَقَدْ ظَفِرُوا وَقَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا وَهُوَ لَا يَطْمَعُ فِي أَسَدٍ، وَكَانَ أَسَدٌ قَدْ أَغَذَّ الْمَسِيرَ وَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى التَّلِّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ خَاقَانُ، وَتَنَحَّى خَاقَانُ إِلَى نَاحِيَةِ الْجَبَلِ، فَخَرَجَ إِلَى أَسَدٍ مَنْ كَانَ بَقِيَ مَعَ الْأَثْقَالِ وَقَدْ قَتَلَ مِنْهُمْ بَشَرًا كَثِيرًا. وَمَضَى خَاقَانُ بِالْأَسْرَى وَالْجِمَالِ الْمُوَقَرَةِ وَالْجَوَارِي، وَأَمَرَ خَاقَانُ رَجُلًا كَانَ مَعَهُ مِنْ

أَصْحَابِ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ فَنَادَى أَسَدًا: قَدْ كَانَ لَكَ فِيمَا وَرَاءَ النَّهْرِ مَغْزًى، إِنَّكَ لَشَدِيدُ الْحِرْصِ، وَقَدْ كَانَ عَنِ الْخُتُّلِ مَنْدُوحَةٌ وَهِيَ أَرْضُ آبَائِي وَأَجْدَادِي. فَقَالَ أَسَدٌ: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْتَقِمَ مِنْكَ. وَسَارَ أَسَدٌ إِلَى بَلْخٍ فَعَسْكَرَ فِي مَرْجِهَا حَتَّى أَتَى الشِّتَاءُ، ثُمَّ فَرَّقَ النَّاسَ فِي الدُّورِ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ بِنَاحِيَةِ طَخَارِسْتَانَ فَانْضَمَّ إِلَى خَاقَانَ. فَلَمَّا كَانَ وَسَطُ الشِّتَاءِ أَقْبَلَ خَاقَانُ، وَكَانَ لَمَّا فَارَقَ أَسَدٌ أَتَى طَخَارِسْتَانَ فَأَقَامَ عِنْدَ جَبْغَوَيْهِ، فَأَقْبَلَ فَأَتَى الْجُوزَجَانَ وَبَثَّ الْغَارَاتِ. وَسَبَبُ مَجِيئِهِ أَنَّ الْحَارِثَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا نُهُوضَ بِأَسَدٍ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ كَثِيرُ جُنْدٍ وَنَزَلَ جَزَّةَ، فَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى أَسَدٍ بِنُزُولِ خَاقَانَ بِجَزَّةَ، فَأَمَرَ بِالنِّيرَانِ فَرُفِعَتْ بِالْمَدِينَةِ، فَجَاءَ النَّاسُ مِنَ الرَّسَاتِيقِ إِلَيْهَا، فَأَصْبَحَ أَسَدٌ وَصَلَّى صَلَاةَ الْعِيدِ، عِيدِ الْأَضْحَى، وَخَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ: إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ الْحَارِثَ اسْتَجْلَبَ الطَّاغِيَةَ لِيُطْفِئَ نُورَ اللَّهِ وَيُبَدِّلَ دِينَهُ، وَاللَّهُ مُذِلُّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِنَّ عَدُوَّكُمْ قَدْ أَصَابَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ مَنْ أَصَابَ، وَإِنْ يُرِدِ اللَّهُ نَصْرَكُمْ لَمْ يَضُرَّكُمْ قِلَّتُكُمْ وَكَثْرَتُهُمْ، فَاسْتَنْصِرُوا اللَّهَ، وَإِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ إِذَا وَضَعَ جَبْهَتَهُ لَهُ، وَإِنِّي نَازِلٌ وَوَاضِعٌ جَبْهَتِي، فَاسْجُدُوا لَهُ وَادْعُوا مُخْلِصِينَ. فَفَعَلُوا وَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ وَلَا يَشُكُّونَ فِي الْفَتْحِ، ثُمَّ نَزَلَ وَضَحَّى وَشَاوَرَ النَّاسَ فِي الْمَسِيرِ إِلَى خَاقَانَ، قَالَ قَوْمٌ: تَحْفَظُ مَدِينَةَ بَلْخٍ وَتَكْتُبُ إِلَى خَالِدٍ وَالْخَلِيفَةِ تَسْتَمِدُّهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: تَأْخُذُ فِي طَرِيقِ زُمَّ فَتَسْبِقُ خَاقَانَ إِلَى مَرْوَ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ تَخْرُجُ إِلَيْهِمْ. فَوَافَقَ هَذَا رَأْيَ أَسَدٍ، وَكَانَ عَزَمَ عَلَى لِقَائِهِمْ، فَخَرَجَ بِالنَّاسِ وَهُوَ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَالشَّامِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَلْخٍ الْكَرْمَانِيَّ بْنَ عَلِيٍّ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَدَعَ أَحَدًا يَخْرُجُ مِنْ مَدِينَتِهَا وَإِنْ ضَرَبَ التُّرْكُ بَابَهَا. وَنَزَلَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ بَلْخٍ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ طَوَّلَهُمَا، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَنَادَى فِي النَّاسِ: ادْعُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَأَطَالَ الدُّعَاءَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: نُصِرْتُمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى! ثُمَّ سَارَ، فَلَمَّا جَازَ قَنْطَرَةَ عَطَاءٍ نَزَلَ، وَأَرَادَ الْمُقَامَ حَتَّى يَتَلَاحَقَ بِهِ النَّاسُ، ثُمَّ أَمَرَ بِالرَّحِيلِ وَقَالَ: لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى الْمُتَخَلِّفِينَ. ثُمَّ ارْتَحَلَ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ سَالِمُ بْنُ مَنْصُورٍ الْبَجَلِيُّ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، فَلَقِيَ ثَلَاثَمِائَةٍ مِنَ التُّرْكِ طَلِيعَةً لِخَاقَانَ، فَأَسَرَ قَائِدَهُمْ وَسَبْعَةً مَعَهُ، وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ، فَأُتِيَ بِهِ أَسَدٌ فَبَكَى

التُّرْكِيُّ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: لَسْتُ أَبْكِي لِنَفْسِي وَلَكِنِّي أَبْكِي لِهَلَاكِ خَاقَانَ، إِنَّهُ قَدْ فَرَّقَ جُنُودَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَرْوَ. فَسَارَ أَسَدٌ حَتَّى شَارَفَ مَدِينَةَ الْجُوزَجَانِ فَنَزَلَ عَلَيْهَا عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ خَاقَانَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَبَاحَهَا خَاقَانُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَرَاءَى الْعَسْكَرَانِ، فَقَالَ خَاقَانُ لِلْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ: أَلَمْ تَكُنْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّ أَسَدًا لَا حَرَاكَ بِهِ وَهَذِهِ الْعَسَاكِرُ قَدْ أَقْبَلَتْ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَرَايَتُهُ. فَبَعَثَ خَاقَانُ طَلِيعَةً وَقَالَ: انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ عَلَى الْإِبِلِ سَرِيرًا وَكَرَاسِيَّ؟ فَعَادُوا إِلَيْهِ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا، فَقَالَ خَاقَانُ: هَذَا أَسَدٌ. وَسَارَ أَسَدٌ قَدْرَ غَلْوَةٍ، فَلَقِيَهُ سَالِمُ بْنُ جَنَاحٍ فَقَالَ: أَبْشِرْ أَيُّهَا الْأَمِيرُ قَدْ حَزَرْتُمْ وَلَا يَبْلُغُونَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَاقَانُ عَقِيرَةَ اللَّهِ. فَصَفَّ أَسَدٌ أَصْحَابَهُ، وَعَبَّى خَاقَانُ أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا الْتَقَوْا حَمَلَ الْحَارِثُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الصُّغْدِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانُوا مَيْمَنَةَ خَاقَانَ عَلَى مَيْسَرَةِ أَسَدٍ، فَهَزَمَهُمْ فَلَمْ يَرُدَّهُمْ شَيْءٌ دُونَ رِوَاقِ أَسَدٍ، وَحَمَلَتْ مَيْمَنَةُ أَسَدٍ وَهُمُ الْجُوزَجَانُ وَالْأَزْدُ وَتَمِيمٌ عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَ الْحَارِثُ وَمَنْ مَعَهُ وَانْهَزَمَتِ التُّرْكُ جَمِيعُهَا، وَحَمَلَ النَّاسُ جَمِيعًا فَتَفَرَّقَ التُّرْكُ فِي الْأَرْضِ لَا يَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ، فَتَبِعَهُمُ النَّاسُ مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ يَقْتُلُونَ [مَنْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ] حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى أَغْنَامِهِمْ وَأَخَذُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ رَأْسٍ وَدَوَابَّ كَثِيرَةً. وَأَخَذَ خَاقَانُ طَرِيقًا فِي الْجَبَلِ وَالْحَارِثُ يَحْمِيهِ، وَسَارَ مُنْهَزِمًا، فَقَالَ الْجُوزَجَانِيُّ لِعُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: إِنِّي لَأَعْلَمُ بِبِلَادِي وَبِطُرُقِهَا، فَهَلْ تَتْبَعُنِي لَعَلَّنَا نُهْلِكُ خَاقَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَخَذَا طَرِيقًا وَسَارَا وَمَنْ مَعَهُمَا حَتَّى أَشْرَفُوا عَلَى خَاقَانَ فَأَوْقَعُوا بِهِ، فَوَلَّى مُنْهَزِمًا، فَحَوَى الْمُسْلِمُونَ عَسْكَرَ التُّرْكِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَوَجَدُوا فِيهِ مِنْ نِسَاءِ الْعَرَبِ وَالْمُوَلِّيَاتِ مِنْ نِسَاءِ التُّرْكِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. (وَوَحِلَ بِخَاقَانَ بِرْذَوْنُهُ فَحَمَاهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ، وَلَمْ يُعْلِمِ النَّاسَ أَنَّهُ خَاقَانُ) ، (وَأَرَادَ الْخَصِيُّ الَّذِي لِخَاقَانَ أَنْ يَحْمِلَ امْرَأَةَ خَاقَانَ) فَأَعْجَلُوهُ فَقَتَلَهَا، وَاسْتَنْقَذُوا مَنْ كَانَ مَعَ خَاقَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَتَتَبَّعَ أَسَدٌ خَيْلَ التُّرْكِ الَّتِي فَرَّقَهَا فِي الْغَارَةِ إِلَى مَرْوِ الرُّوذِ وَغَيْرِهَا فَقَتَلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ غَيْرُ الْقَلِيلِ، وَرَجَعَ إِلَى بَلْخٍ. وَكَانَ بِشْرٌ الْكَرْمَانِيُّ فِي السَّرَايَا

فَيُصِيبُونَ مِنَ التُّرْكِ الرَّجُلَ وَالرَّجُلَيْنِ وَأَكْثَرَ. وَمَضَى خَاقَانُ إِلَى طَخَارِسْتَانَ وَأَقَامَ عِنْدَ جَبْغَوَيْهِ الْخَزْلَجِيِّ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى بِلَادِهِ، فَلَمَّا وَرَدَ أُشْرُوسَنَةَ تَلَقَّاهُ خَرَابُغْرَهْ أَبُو خَانَاجِزَهْ جَدُّ كَاوُوسَ أَبِي أَفْشِينَ بِكُلِّ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَا بَيْنَهُمَا مُتَبَاعِدًا، إِلَّا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَتَّخِذَ عِنْدَهُ يَدًا. ثُمَّ أَتَى خَاقَانُ بِلَادَهُ وَاسْتَعَدَّ لِلْحَرْبِ وَمُحَاصَرَةِ سَمَرْقَنْدَ، وَحَمَلَ الْحَارِثَ وَأَصْحَابَهُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافِ بِرْذَوْنٍ. فَلَاعَبَ خَاقَانُ يَوْمًا كُورْصُولَ بِالنَّرْدِ عَلَى خَطَرٍ، فَتَنَازَعَا، فَضَرَبَ كُورْصُولُ يَدَ خَاقَانَ وَكَسَرَهَا، وَتَنَحَّى وَجَمَعَ جَمْعًا، وَبَلَغَهُ أَنَّ خَاقَانَ قَدْ حَلَفَ لَيَكْسِرَنَّ يَدَهُ، فَبَيَّتَ خَاقَانَ فَقَتَلَهُ، وَتَفَرَّقَتِ التُّرْكُ وَتَرَكُوهُ مُجَرَّدًا، فَأَتَاهُ نَفَرٌ مِنَ التُّرْكِ فَدَفَنُوهُ. وَاشْتَغَلَتِ التُّرْكُ يُغِيرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَمِعَ أَهْلُ الصُّغْدِ فِي الرَّجْعَةِ إِلَيْهَا. وَأَرْسَلَ أَسَدٌ مُبَشِّرًا إِلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَبِقَتْلِ خَاقَانَ، فَلَمْ يُصَدِّقْهُ وَقَالَ لِلرَّبِيعِ حَاجِبِهِ: لَا أَظُنُّ هَذَا صَادِقًا، اذْهَبْ فَعُدْهُ ثُمَّ سَلْهُ عَمَّا يَقُولُ، فَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ هِشَامًا، ثُمَّ أَرْسَلَ أَسَدٌ مُبَشِّرًا آخَرَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ هِشَامٍ وَكَبَّرَ، فَأَجَابَهُ هِشَامٌ بِالتَّكْبِيرِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ أَخْبَرَهُ بِالْفَتْحِ، فَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَحَسَدَتِ الْقَيْسِيَّةُ أَسَدًا وَقَالُوا لِهِشَامٍ: اكْتُبْ بِطَلَبِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ النَّبَطِيِّ، فَسَيَّرَهُ أَسَدٌ إِلَى هِشَامٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ، فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ: حَاجَتُكَ؟ قَالَ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ أَخَذَ مِنْ أَبِي مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَاسْتَحْلَفَهُ عَلَى ذَلِكَ. فَكَتَبَ إِلَى أَسَدٍ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، وَقَسَّمَهَا مُقَاتِلٌ بَيْنَ وَرَثَةِ حَيَّانَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو الْهِنْدِيِّ يَذْكُرُ هَذِهِ الْوَقْعَةَ : أَبَا مُنْذِرٍ رُمْتَ الْأُمُورَ وَقِسْتَهَا ... وَسَاءَلْتَ عَنْهَا كَالْحَرِيصِ الْمُسَاوِمِ فَمَا كَانَ ذُو رَأْيٍ مِنَ النَّاسِ قِسْتَهُ ... بِرَأْيِكَ إِلَّا مِثْلَ رَأْيِ الْبَهَائِمِ أَبَا مُنْذِرٍ لَوْلَا مَسِيرُكَ لَمْ يَكُنْ ... عِرَاقٌ وَلَا انْقَادَتْ مُلُوكُ الْأَعَاجِمِ وَلَا حَجَّ بَيْتَ اللَّهِ مَنْ حَجَّ رَاكِبًا ... وَلَا عَمَرَ الْبَطْحَاءَ بَعْدَ الْمَوَاسِمِ وَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ بَيْنَ سَانٍ وَجَزَّةٍ ... كَسِيرَ الْأَيَادِي مِنْ مُلُوكٍ قَمَاقِمِ

تَرَكْتَ بِأَرْضِ الْجُوزَجَانِ تَزُورُهُ سِبَاعٌ وَعِقْبَانٌ لَحَزِّ الْغَلَاصِمِ ... وَذِي سُوقَةٍ فِيهِ مِنَ السَّيْفِ خَبْطَةٌ بِهِ رَمَقٌ مُلْقًى لِحَوْمِ الْحَوَائِمِ ... فَمِنْ هَارِبٍ مِنَّا وَمِنْ دَائِنٍ لَنَا أَسِيرٍ يُقَاسِي مُبْهَمَاتِ الْأَدَاهِمِ ... فَدَتْكَ نُفُوسٌ مِنْ تَمِيمٍ وَعَامِرٍ وَمِنْ مُضَرَ الْحَمْرَاءِ عِنْدَ الْمَآزِمِ ... هُمْ أَطْمَعُوا خَاقَانَ فِينَا فَأَصْبَحَتْ حَلَائِبُهُ تَرْجُو خُلُوَّ الْمَغَانِمِ وَكَانَ ابْنُ السَّايِجِيِّ الَّذِي أَخْبَرَ أَسَدًا بِمَجِيءِ خَاقَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ السَّبْلُ عَلَى مَمْلَكَتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَأَوْصَاهُ بِثَلَاثِ خِصَالٍ، قَالَ: لَا تَسْتَطِلْ عَلَى أَهْلِ الْخُتُّلِ اسْتِطَالَتِي عَلَيْهِمْ، فَإِنِّي مَلِكٌ وَأَنْتَ لَسْتَ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَقَالَ لَهُ: اطْلُبِ الْحُنَيْشَ حَتَّى تَرُدَّهُ إِلَى بِلَادِكُمْ، فَإِنَّهُ الْمَلِكُ بَعْدِي، وَكَانَ الْحُنَيْشُ قَدْ هَرَبَ إِلَى الصِّينِ، وَقَالَ لَهُ: لَا تُحَارِبُوا الْعَرَبَ وَادْفَعُوهَا عَنْكُمْ بِكُلِّ حِيلَةٍ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ السَّايِجِيِّ: أَمَّا تَرْكِي الِاسْتِطَالَةَ عَلَيْهِمْ وَرَدِّي الْحُنَيْشَ فَهُوَ الرَّأْيُ، وَأَمَّا قَوْلُكَ لَا تُحَارِبُوا الْعَرَبَ، فَكَيْفَ وَقَدْ كُنْتَ أَكْثَرَ الْمُلُوكِ مُحَارَبَةً لَهُمْ؟ قَالَ السَّبْلُ: قَدْ جَرَّبْتُ قُوَّتَكُمْ بِقُوَّتِي فَمَا رَأَيْتُكُمْ تَقَعُونَ مِنِّي مَوْقِعًا، وَكُنْتُ إِذَا حَارَبْتُهُمْ لَمْ أُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا جَرِيضًا، وَإِنَّكُمْ إِذَا حَارَبْتُمُوهُمْ هَلَكْتُمْ. فَهَذَا الَّذِي كَرَّهَ إِلَى ابْنِ السَّايِجِيِّ مُحَارِبَةَ الْعَرَبِ. ذِكْرُ قَتْلِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سَعِيدٍ وَبَيَانٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَبَيَانٌ فِي سِتَّةِ نَفَرٍ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْوُصَفَاءَ،

وَكَانَ الْمُغِيرَةُ سَاحِرًا، وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُحْيِيَ عَادًا وَثَمُودَ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرَةً لَفَعَلْتُ. وَبَلَغَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ خُرُوجُهُمْ بِظَهْرِ الْكُوفَةِ وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ: أَطْعِمُونِي مَاءً، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ نَوْفَلَ فِي ذَلِكَ: أَخَالِدُ لَا جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا ... وَأَيْرٌ فِي حِرِّ أُمِّكَ مِنْ أَمِيرِ وَكُنْتَ لَدَى الْمُغِيرَةِ عَبْدَ سَوْءٍ ... تَبُولُ مِنَ الْمَخَافَةِ لِلزَّئِيرِ وَقُلْتَ لِمَا أَصَابَكَ أَطْعِمُونِي ... شَرَابًا ثُمَّ بُلْتَ عَلَى السَّرِيرِ لِأَعْلَاجٍ ثَمَانِيَةٍ وَشَيْخٍ ... كَبِيرِ السِّنِّ لَيْسَ بِذِي نَصِيرِ فَأَرْسَلَ خَالِدٌ فَأَخَذَهُمْ، وَأَمَرَ بِسَرِيرِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَأَمَرَ بِالْقَصَبِ وَالنِّفْطِ فَأُحْضِرَا فَأَحْرَقَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَعْيَنَ الْجَرْمِيِّ فَسَأَلَهُ، فَصَدَقَهُ، فَتَرَكَهُ. وَكَانَ رَأْيُ الْمُغِيرَةِ التَّجْسِيمَ، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ عَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ، وَإِنَّ أَعْضَاءَهُ عَلَى عَدَدِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ وَيَقُولُ مَا لَا يَنْطِقُ بِهِ لِسَانٌ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ تَكَلَّمَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَى تَاجِهِ، ثُمَّ كَتَبَ بِإِصْبَعِهِ عَلَى كَفِّهِ أَعْمَالَ عِبَادِهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالطَّاعَاتِ، فَلَمَّا رَأَى الْمَعَاصِيَ ارْفَضَّ عَرَقًا، فَاجْتَمَعَ مِنْ عَرَقِهِ بَحْرَانِ أَحَدُهُمَا مِلْحٌ مُظْلِمٌ وَالْآخَرُ عَذْبٌ نَيِّرٌ، ثُمَّ اطَّلَعَ فِي الْبَحْرِ فَرَأَى ظِلَّهُ فَذَهَبَ لِيَأْخُذَهُ فَطَارَ فَأَدْرَكَهُ، فَقَلَعَ عَيْنَيْ ذَلِكَ الظِّلِّ وَمَحَقَهُ، فَخَلَقَ مِنْ عَيْنَيْهِ الشَّمْسَ وَسَمَاءً أُخْرَى، وَخَلَقَ مِنَ الْبَحْرِ الْمِلْحِ الْكُفَّارَ، وَمِنَ الْبَحْرِ الْعَذْبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ يَقُولُ بِإِلَهِيَّةِ عَلِيٍّ وَتَكْفِيرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ إِلَّا مَنْ ثَبَتَ مَعَ عَلِيٍّ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَكَانَ يَقُولُ بِتَحْرِيمِ مَاءِ الْفُرَاتِ وَكُلِّ نَهْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، وَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْمَقْبَرَةِ فَيَتَكَلَّمُ فَيُرَى أَمْثَالُ الْجَرَادِ عَلَى الْقُبُورِ. وَجَاءَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ فَقَالَ لَهُ: أَقْرِرْ أَنَّكَ تَعْلَمُ الْغَيْبَ حَتَّى أَجْبِيَ لَكَ الْعِرَاقَ. فَنَهَرَهُ وَطَرَدَهُ. وَجَاءَ إِلَى ابْنِهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ! وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُولُ لِلْمُغِيرَةِ: مَا فَعَلَ الْإِمَامُ؟ فَيَقُولُ: أَتَتَهَزَّأُ بِهِ؟ فَيَقُولُ: لَا إِنَّمَا أَتَهَزَّأُ بِكَ. وَأَمَّا بَيَانٌ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِإِلَهِيَّةِ عَلِيٍّ، وَإِنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ إِلَهَانِ، وَمُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ

بَعْدَهُمْ، ثُمَّ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو هَاشِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِنَوْعٍ مِنَ التَّنَاسُخِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْنَى جَمِيعُهُ إِلَّا وَجْهَهُ، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] . تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138] . ذِكْرُ خَبَرِ الْخَوَارِجِ هَذِهِ السَّنَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ بُهْلُولُ بْنُ بِشْرٍ الْمُلَقَّبُ كُثَارَةُ، وَهُوَ مِنَ الْمَوْصِلِ مِنْ شَيْبَانَ. فَقِيلَ: وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ أَنَّهُ خَرَجَ يُرِيدُ الْحَجَّ، فَأَمَرَ غُلَامَهُ يَبْتَاعُ لَهُ خَلًّا بِدِرْهَمٍ، فَأَتَاهُ بِخَمْرٍ، فَأَمَرَهُ بَرَدِّهَا وَأَخَذَ الدِّرْهَمَ، فَلَمْ يُجِبْهُ صَاحِبُ الْخَمْرِ إِلَى ذَلِكَ، فَجَاءَ بُهْلُولٌ إِلَى عَامِلِ الْقَرْيَةِ، وَهِيَ مِنَ السَّوَادِ، فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ الْعَامِلُ: الْخَمْرُ خَيْرٌ مِنْكَ وَمِنْ قَوْلِكَ. فَمَضَى فِي حَجِّهِ وَقَدْ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ، فَلَقِيَ بِمَكَّةَ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ، فَاتَّعَدُوا قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْمَوْصِلِ، فَاجْتَمَعُوا بِهَا، وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ بُهْلُولًا، وَكَتَمُوا أَمْرَهُمْ وَجَعَلُوا لَا يَمُرُّونَ بِعَامِلٍ إِلَّا أَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدِمُوا مِنْ عِنْدِ هِشَامٍ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ، وَأَخَذُوا دَوَابَّ الْبَرِيدِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي ابْتَاعَ الْغُلَامُ بِهَا الْخَمْرَ قَالَ بُهْلُولٌ: نَبْدَأُ بِهَذَا الْعَامِلِ فَنَقْتُلُهُ. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: نَحْنُ نُرِيدُ قَتْلَ خَالِدٍ، فَإِنْ بَدَأْنَا بِهَذَا شُهِرَ أَمْرُنَا وَحَذِرَنَا خَالِدٌ وَغَيْرُهُ، فَنَشَدْنَاكَ اللَّهَ أَنْ نَقْتُلَ هَذَا فَيُفْلِتُ مِنَّا خَالِدٌ الَّذِي يَهْدِمُ الْمَسَاجِدَ، وَيَبْنِي الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسَ، وَيُوَلِّي الْمَجُوسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيُنْكِحُ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْمُسْلِمَاتِ، لَعَلَّنَا نَقْتُلُهُ فَيُرِيحُ اللَّهُ مِنْهُ. قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَدَعُ مَا يَلْزَمُنِي لِمَا بَعْدَهُ، وَأَرْجُو أَنْ أَقْتُلَ هَذَا وَخَالِدًا، فَقَتَلَهُ، فَعَلِمَ بِهِمُ النَّاسُ أَنَّهُمْ خَوَارِجُ، وَهَرَبُوا، وَخَرَجَتِ الْبَرِيدُ إِلَى خَالِدٍ فَأَعْلَمُوهُ بِهِمْ، وَلَا يَدْرُونَ مَنْ رَئِيسُهُمْ. فَخَرَجَ خَالِدٌ مِنْ وَاسِطٍ وَأَتَى الْحِيرَةَ، وَكَانَ بِهَا جُنْدٌ قَدْ قَدِمُوا مِنَ الشَّامِ مَدَدًا لِعَامِلِ الْهِنْدِ، فَأَمَرَهُمْ خَالِدٌ بِقِتَالِهِ وَقَالَ: مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلًا أَعْطَيْتُهُ عَطَاءً سِوَى مَا أَخَذَ فِي الشَّامِ، وَأَعْفَيْتُهُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْهِنْدِ. فَسَارَعُوا إِلَى ذَلِكَ، فَتَوَجَّهَ مُقَدِّمُهُمْ، وَهُوَ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ، وَمَعَهُ سِتُّمِائَةٍ مِنْهُمْ، فَضَمَّ إِلَيْهِ خَالِدٌ مِائَتَيْنِ مِنَ الشُّرَطِ، فَالْتَقَوْا عَلَى الْفُرَاتِ، فَقَالَ الْقَيْنِيُّ لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الشُّرَطِ: لَا تَكُونُوا مَعَنَا لِيَكُونَ الظَّفَرُ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ. وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَحَمَلَ عَلَى الْقَيْنِيِّ فَأَنْفَذَهُ، وَانْهَزَمَ أَهْلُ الشَّامِ وَالشُّرَطِ، وَتَبِعَهُمْ بُهْلُولٌ وَأَصْحَابُهُ يَقْتُلُونَهُمْ حَتَّى بَلَغُوا الْكُوفَةَ.

فَأَمَّا أَهْلُ الشَّامِ فَكَانُوا عَلَى خَيْلٍ جِيَادٍ فَفَاتُوهُ، وَأَمَّا شُرَطُ الْكُوفَةِ فَأَدْرَكَهُمْ، فَقَالُوا: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّا مُكْرَهُونَ مَقْهُورُونَ، فَجَعَلَ يَقْرَعُ رُءُوسَهُمْ بِالرُّمْحِ وَيَقُولُ: النَّجَاءَ النَّجَاءَ. فَوَجَدَ بُهْلُولٌ مَعَ الْقَيْنِيِّ بَدْرَةً فَأَخَذَهَا. وَكَانَ فِي الْكُوفَةِ سِتَّةٌ يَرَوْنَ رَأْيَ بُهْلُولٍ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ فَقُتِلُوا بِصَرِيفِينَ، فَخَرَجَ بُهْلُولٌ وَمَعَهُ الْبَدْرَةُ قَالَ: مَنْ قَتَلَ هَؤُلَاءِ حَتَّى أُعْطِيَهُ هَذِهِ الْبَدْرَةَ؟ فَجَاءَ قَوْمٌ فَقَالُوا: نَحْنُ قَتَلْنَاهُمْ، وَهُمْ يَظُنُّونَهُ مِنْ عِنْدِ خَالِدٍ، فَقَالَ بُهْلُولٌ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ: أَصَدَقَ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَتَلَهُمْ وَتَرَكَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وَبَلَغَتِ الْهَزِيمَةُ خَالِدًا وَمَا فَعَلَ بِصَرِيفِينَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ قَائِدًا مِنْ شَيْبَانَ أَحَدَ بَنِي حَوْشَبِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُوَيْمٍ، فَلَقِيَهُ فِيمَا بَيْنَ الْمَوْصِلِ وَالْكُوفَةِ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فَأَتَوْا خَالِدًا. فَارْتَحَلَ بُهْلُولٌ مِنْ يَوْمِهِ يُرِيدُ الْمَوْصِلَ، فَكَتَبَ عَامِلُ الْمَوْصِلِ إِلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يُخْبِرُهُ بِهِمْ وَيَسْأَلُهُ جُنْدًا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ هِشَامٌ: وَجِّهْ إِلَيْهِ كُثَارَةَ بْنَ بِشْرٍ. وَكَانَ هِشَامٌ لَا يَعْرِفُ بُهْلُولًا إِلَّا بِلَقَبِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْعَامِلُ أَنَّ الْخَارِجَ هُوَ كُثَارَةُ. ثُمَّ قَالَ بُهْلُولٌ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّا وَاللَّهِ مَا نَصْنَعُ بِابْنِ النَّصْرَانِيَّةِ شَيْئًا، يَعْنِي خَالِدًا، فَلِمَ لَا نَطْلُبُ الرَّأْسَ الَّذِي سَلَّطَ خَالِدًا؟ فَسَارَ يُرِيدُ هِشَامًا بِالشَّامِ، فَخَافَ عُمَّالُ هِشَامٍ مِنْ هِشَامٍ إِنْ تَرَكُوهُ يَجُوزُ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَسَيَّرَ خَالِدٌ جُنْدًا مِنَ الْعِرَاقِ، وَسَيَّرَ عَامِلُ الْجَزِيرَةِ جُنْدًا مِنَ الْجَزِيرَةِ، وَوَجَّهَ هِشَامٌ جُنْدًا مِنَ الشَّامِ، وَاجْتَمَعُوا بِدَيْرٍ بَيْنَ الْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ، وَأَقْبَلَ بُهْلُولٌ إِلَيْهِمْ، وَقِيلَ الْتَقَوْا بِكُحَيْلٍ دُونَ الْمَوْصِلِ، فَنَزَلَ بُهْلُولٌ عَلَى بَابِ الدَّيْرِ وَهُوَ فِي سَبْعِينَ وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَفَرًا وَقَاتَلَهُمْ عَامَّةَ نَهَارِهِ، وَكَانُوا عِشْرِينَ أَلْفًا، فَأَكْثَرَ فِيهِمُ الْقَتْلَ وَالْجِرَاحَ، ثُمَّ إِنَّ بُهْلُولًا وَأَصْحَابَهُ عَقَرُوا دَوَابَّهُمْ وَتَرَجَّلُوا فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ بُهْلُولٍ، فَطُعِنَ بُهْلُولٌ فَصُرِعَ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: وَلِّ أَمْرَنَا. فَقَالَ: إِنْ هَلَكْتُ فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ دِعَامَةُ الشَّيْبَانِيُّ، وَإِنْ هَلَكَ فَأَمِّرُوا الْيَشْكُرِيَّ. وَمَاتَ بُهْلُولٌ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا هَرَبَ دِعَامَةُ وَخَلَّاهُمْ. فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ يَرْثِي بُهْلُولًا: بُدِّلْتُ بَعْدَ أَبِي بِشْرٍ وَصُحْبَتِهِ ... قَوْمًا عَلَيَّ مَعَ الْأَحْزَابِ أَعْوَانًا كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ صَحَابَتِنَا ... وَلَمْ يَكُونُوا لَنَا بِالْأَمْسِ خِلَّانَا يَا عَيْنُ أَذْرِي دُمُوعًا مِنْكِ تَهْتَانًا ... وَابْكِي لَنَا صُحْبَةً بَانُوا وَإِخْوَانَا خَلَّوْا لَنَا ظَاهِرَ الدُّنْيَا وَبَاطِنَهَا ... وَأَصْبَحُوا فِي جِنَانِ الْخُلْدِ جِيرَانَا فَلَمَّا قُتِلَ بُهْلُولٌ خَرَجَ عَمْرٌو الْيَشْكُرِيُّ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قُتِلَ.

وَخَرَجَ الْبَخْتَرِيُّ صَاحِبُ الْأَشْهَبِ، وَبِهَذَا كَانَ يُعْرَفُ، عَلَى خَالِدٍ فِي سِتِّينَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ خَالِدٌ السِّمْطَ بْنَ مُسْلِمٍ الْبَجَلِيَّ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَالْتَقَوْا بِنَاحِيَةِ الْفُرَاتِ، فَانْهَزَمَتِ الْخَوَارِجُ، فَتَلَقَّاهُمْ عَبِيدُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَسِفْلَتُهُمْ فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُمْ. ثُمَّ خَرَجَ وَزِيرُ السِّخْتِيَانِيِّ عَلَى خَالِدٍ بِالْحِيرَةِ فِي نَفَرٍ، فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِقَرْيَةٍ إِلَّا أَحْرَقَهَا، وَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ، وَغَلَبَ عَلَى مَا هُنَالِكَ وَعَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ خَالِدٌ جُنْدًا فَقَاتَلُوا عَامَّةَ أَصْحَابِهِ وَأُثْخِنَ بِالْجِرَاحِ، وَأُتِيَ بِهِ خَالِدٌ، وَأَقْبَلَ عَلَى خَالِدٍ فَوَعَظَهُ، فَأَعْجَبَ خَالِدًا مَا سَمِعَ مِنْهُ فَلَمْ يَقْتُلْهُ وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ، وَكَانَ يُؤْتَى بِهِ فِي اللَّيْلِ فَيُحَادِثُهُ. فَسُعِيَ بِخَالِدٍ إِلَى هِشَامٍ وَقِيلَ: أَخَذَ حَرُورِيًّا قَدْ قَتَلَ وَحَرَّقَ وَأَبَاحَ الْأَمْوَالَ فَجَعَلَهُ سَمِيرًا، فَغَضِبَ هِشَامٌ وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِقَتْلِهِ، وَكَانَ خَالِدٌ يَقُولُ: إِنِّي أَنْفَسُ بِهِ عَنِ الْمَوْتِ، فَأَخَّرَ قَتْلَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ هِشَامٌ ثَانِيًا يَذُمُّهُ وَيَأْمُرُهُ بِقَتْلِهِ وَإِحْرَاقِهِ، فَقَتَلَهُ وَأَحْرَقَهُ وَنَفَرًا مَعَهُ، وَلَمْ يَزَلْ يَتْلُو الْقُرْآنَ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ يَقْرَأُ: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] . ذِكْرُ خُرُوجِ الصَّحَارِيِّ بْنِ شَبِيبٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الصَّحَارِيُّ بْنُ شَبِيبِ بْنِ يَزِيدَ بِنَاحِيَةِ حُبَلَ، وَكَانَ قَدْ أَتَى خَالِدًا يَسْأَلُهُ الْفَرِيضَةَ، فَقَالَ خَالِدٌ: وَمَا يَصْنَعُ ابْنُ شَبِيبٍ بِالْفَرِيضَةِ؟ فَمَضَى، وَنَدِمَ خَالِدٌ وَخَافَ أَنْ يَفْتِقَ عَلَيْهِ [فَتْقًا] ، فَطَلَبَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، وَسَارَ حَتَّى أَتَى حُبَلَ، وَبِهَا نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّاتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالُوا: وَمَا تَرْجُو مِنِ ابْنِ النَّصْرَانِيَّةِ؟ كُنْتَ أَوْلَى أَنْ تَسِيرَ إِلَيْهِ بِالسَّيْفِ فَتَضْرِبَهُ بِهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ الْفَرِيضَةَ، وَمَا أَرَدْتُ إِلَّا التَّوَصُّلَ إِلَيْهِ لِئَلَّا يُنْكِرَنِي ثُمَّ أَقْتُلَهُ بِفُلَانٍ، يَعْنِي بِفُلَانٍ رَجُلًا مِنْ قَعَدَةِ الصُّفْرِيَّةِ، وَكَانَ خَالِدٌ قَتَلَهُ صَبْرًا، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَتَبِعَهُ مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ رَجُلًا وَخَرَجَ بِهِمْ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ خَالِدًا وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ خِفْتُهَا مِنْهُ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيْهِ خَالِدٌ جُنْدًا، فَلَقُوهُ بِنَاحِيَةِ الْمَنَاذِرِ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا فَقَتَلُوهُ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ. ذِكْرُ غَزْوَةِ أَسَدٍ الْخُتُّلَ وَفِيهَا غَزَا أَسَدٌ الْخُتُّلَ، فَوَجَّهَ مُصْعَبَ بْنَ عَمْرٍو الْخُزَاعِيَّ إِلَيْهَا، فَسَارَ فَنَزَلَ بِقُرْبِ بَدْرِ طَرْخَانَ فَطَلَبَ الْأَمَانَ لِيَخْرُجَ إِلَى أَسَدٍ، فَآمَنَهُ مُصْعَبٌ، فَسَيَّرَهُ إِلَى أَسَدٍ، فَسَأَلَهُ أَنْ

يَقْبَلَ مِنْهُ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَبَى أَسَدٌ وَقَالَ: إِنَّكَ دَخَلْتَهَا وَأَنْتَ غَرِيبٌ مِنْ أَهْلِ الْبَامْيَانِ، اخْرُجْ مِنَ الْخُتُّلِ كَمَا دَخَلْتَ. قَالَ بَدَرْطَرْخَانِ: فَأَنْتَ دَخَلْتَ إِلَى خُرَاسَانَ عَلَى عَشَرَةٍ مِنَ الدَّوَابِّ وَلَوْ خَرَجْتَ مِنْهَا لَمْ تُحْتَمَلْ عَلَى خَمْسِمِائَةِ بَعِيرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِنِّي دَخَلْتُ الْخُتُّلَ شَابًّا، فَارْدُدْ عَلَيَّ شَبَابِي، وَخُذْ مَا كَسَبْتُ مِنْهَا. فَغَضِبَ أَسَدٌ وَرَدَّهُ إِلَى مُصْعَبٍ لِيُمَكِّنَهُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى حِصْنِهِ، فَوَصَلَ بَدَرْطَرْخَانَ مَعَ مَوْلًى لِأَسَدٍ إِلَى مُصْعَبٍ، فَأَخَذَهُ سَلَمَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَهُوَ مِنَ الْمَوَالِي، وَقَالَ: إِنَّ الْأَمِيرَ يَنْدَمُ عَلَى تَرْكِهِ وَحَبْسِهِ عِنْدَهُ. وَأَقْبَلَ أَسَدٌ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لِمُجَشِّرِ بْنِ مُزَاحِمٍ: كَيْفَ أَنْتَ؟ قَالَ مُجَشِّرٌ: كُنْتُ أَمْسِ أَحْسَنَ حَالًا مِنِّي الْيَوْمَ، كَانَ بَدَرْطَرْخَانُ فِي أَيْدِينَا وَعَرَضَ مَا عَرَضَ، فَلَا الْأَمِيرُ قَبِلَ مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ شَدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَأَمَرَ بِإِدْخَالِهِ حِصْنَهُ. فَنَدِمَ أَسَدٌ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَرْسَلَ إِلَى مُصْعَبٍ يَسْأَلُهُ: هَلْ دَخَلَ بَدَرْطَرْخَانُ حِصْنَهُ أَمْ لَا؟ فَجَاءَ الرَّسُولُ فَوَجَدَهُ عِنْدَ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَحَوَّلَهُ أَسَدٌ إِلَيْهِ وَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، وَقَالَ: مَنْ هَاهُنَا مِنْ أَوْلِيَاءَ أَبِي فُدَيْكٍ - رَجُلٌ مِنَ الْأَزْدِ كَانَ بَدَرْطَرْخَانُ قَدْ قَتَلَهُ؟ - فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَزْدِ فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: اضْرِبْ عُنُقَهُ، فَفَعَلَ. وَغَلَبَ أَسَدٌ عَلَى الْقَلْعَةِ الْعُظْمَى، وَبَقِيَتْ قَلْعَةٌ فَوْقَهَا صَغِيرَةٌ وَفِيهَا وَلَدُهُ وَأَمْوَالُهُ فَلَمْ يُوصَلْ إِلَيْهَا. وَفَرَّقَ أَسَدٌ الْعَسْكَرَ فِي أَوْدِيَةِ الْخُتُّلِ فَمَلَأَ أَيْدِيَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ وَالسَّبْيِ، وَهَرَبَ أَهْلُهُ إِلَى الصِّينِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ (فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الْوَلِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ أَرْضَ الرُّومِ) . وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ أَبُو شَاكِرٍ مَسْلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَحَجَّ مَعَهُ ابْنُ شِهَابٍ [الزُّهْرِيُّ] .

وَكَانَ الْعَامِلَ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَعَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ كُلِّهِ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ، وَعَلَى خُرَاسَانَ أَخُوهُ أَسَدٌ، وَقِيلَ: كَانَ أَسَدٌ قَدْ هَلَكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا جَعْفَرَ بْنَ حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيَّ. وَقِيلَ: إِنَّمَا هَلَكَ أَسَدٌ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهَا غَزَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ إِرْمِينِيَّةَ، فَدَخَلَ بِلَادَ اللَّانِ، وَسَارَ فِيهَا حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ الْخَزَرِ، فَمَرَّ بِبَلَنْجَرَ وَسَمَنْدَرَ وَانْتَهَى إِلَى الْبَيْضَاءِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا خَاقَانُ، فَهَرَبَ خَاقَانُ مِنْهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ الْمَخْزُومِيُّ. وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ الْمَكِّيُّ. وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الْأَشْدَقُ. وَإِيَاسُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ.

ثم دخلت سنة عشرين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ] 120 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ أَسَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِمَدِينَةِ بَلْخٍ. وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ كَانَ بِهِ دُبَيْلَةٌ [فِي جَوْفِهِ] فَأَصَابَهُ مَرَضٌ، ثُمَّ أَفَاقَ مِنْهُ، فَخَرَجَ يَوْمًا فَأُتِيَ بِكُمَّثْرَى أَوَّلَ مَا جَاءَ، فَأَطْعَمَ النَّاسَ مِنْهُ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَأَخَذَ كُمَّثْرَاةً فَرَمَى بِهَا إِلَى خُرَاسَانَ دِهْقَانَ هَرَاةَ فَانْقَطَعَتِ الدُّبَيْلَةُ فَهَلَكَ، وَاسْتَخْلَفَ جَعْفَرَ بْنَ حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيَّ، فَعَمِلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ جَاءَ عَهْدُ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ بِالْعَمَلِ فِي رَجَبٍ. وَكَانَ هَذَا خُرَاسَانَ دِهْقَانِ هَرَاةَ خِصِّيصًا بِأَسَدٍ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ فِي الْمِهْرَجَانِ وَمَعَهُ مِنَ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ مَا لَمْ يَحْمِلْ غَيْرُهُ مِثْلَهُ، وَكَانَتْ قِيمَةُ الْهَدِيَّةِ أَلْفَ أَلْفٍ. وَقَالَ لِأَسَدٍ: إِنَّا مَعْشَرَ الْعَجَمِ أَكَلْنَا الدُّنْيَا أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ بِالْحِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْوَقَارِ، وَكَانَ الرِّجَالُ فِينَا ثَلَاثَةً: مَيْمُونُ النَّقِيبَةِ، أَيْنَمَا تَوَجَّهَ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَلِيهِ رَجُلٌ تَمَّتْ مُرُوَّتُهُ فِي بَيْتٍ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ رَحَّبَ وَحَيَّا، وَرَجُلٌ رَحُبَ صَدْرُهُ وَبَسَطَ يَدَهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قَدَّمَ وَقَوَّدَ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ فِيكَ، فَمَا نَعْلَمُ [أَحَدًا] هُوَ أَتَمُّ كَتْخُدَانِيَّةً مِنْكَ، إِنَّكَ عَزِيزٌ، ضَابِطٌ أَهْلَ بَيْتِكَ وَحَشَمَكَ وَمَوَالِيَكَ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ، ثُمَّ بَنَيْتَ الْإِيوَانَاتِ فِي الْمَفَاوِزِ مِنْ أَحْسَنِ مَا عُمِلَ، وَمِنْ يُمْنِ نَقِيبَتِكَ أَنَّكَ لَقِيتَ خَاقَانَ وَهُوَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ، وَمَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ فَهَزَمْتَهُ وَفَلَلْتَهُ وَقَتَلَتْ أَصْحَابَهُ

وَأَبَحْتَ عَسْكَرَهُ، وَأَمَّا رُحْبُ صَدْرِكَ وَبَسْطُ يَدِكَ فَإِنَّا لَا نَدْرِي أَيُّ الْمَالَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْكَ، أَمَالٌ قَدِمَ عَلَيْكَ أَمْ مَالٌ خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ؟ بَلْ أَنْتَ بِمَا خَرَجَ أَقَرُّ عَيْنًا. فَضَحِكَ أَسَدٌ وَقَالَ: أَنْتَ خَيْرُ دَهَاقِينِنَا، وَفَرَّقَ جَمِيعَ الْهَدِيَّةِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. وَلَمَّا مَاتَ أَسَدٌ رَثَاهُ ابْنُ عُرْسٍ الْعَبْدِيُّ فَقَالَ: نَعَى أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ نَاعِ ... فَرِيعَ الْقَلْبُ لِلْمَلِكِ الْمُطَاعِ بِبَلْخٍ وَافَقَ الْمِقْدَارُ يُسْرِي ... وَمَا لِقَضَاءِ رَبِّكَ مِنْ دِفَاعِ فَجُودِي عَيْنُ بِالْعَبَرَاتِ سَحًّا ... أَلَمْ يُحْزِنْكِ تَفْرِيقُ الْجِمَاعِ فِي أَبْيَاتٍ غَيْرِهَا. وَلَمَّا مَاتَ أَسَدٌ كَتَبَ مَسْلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ أَبُو شَاكِرٍ، إِلَى خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ: أَرَاحَ مِنْ خَالِدٍ فَأَهْلَكَهُ ... رَبٌّ أَرَاحَ الْعِبَادَ مِنْ أَسَدِ أَمَّا أَبُوهُ فَكَانَ مُؤْتَشِبًا ... عَبْدًا لَئِيمًا لِأَعْبُدٍ فَقَدِ يَرَى الزِّنَى وَالصَّلِيبَ وَالْخَمْرَ ... وَالْخِنْزِيرَ حِلًّا وَالْغَيَّ كَالرَّشَدِ وَأُمُّهُ هَمُّهَا وَبُغْيَتُهَا ... هَمُّ الْإِمَاءِ الْعَوَاهِرِ الشُّرَدِ كَافِرَةٌ بِالنَّبِيِّ مُؤْمِنَةٌ ... بِقَسِّهَا وَالصَّلِيبِ وَالْعُمَدِ يَعْنِي الْمَعْمُودِيَّةَ. فَلَمَّا قَرَأَ خَالِدٌ الْكِتَابَ قَالَ: يَا عِبَادَ اللَّهِ مَنْ رَأَى كَهَذِهِ تَعْزِيَةَ رَجُلٍ مِنْ أَخِيهِ؟ وَكَانَ مَا بَيْنَ خَالِدٍ وَأَبِي شَاكِرٍ مُبَاعَدَةٌ، وَسَبَبُهَا أَنَّ هِشَامًا يُرَشِّحُ ابْنَهُ أَبَا شَاكِرٍ لِلْخِلَافَةِ، فَقَالَ الْكُمَيْتُ: إِنَّ الْخِلَافَةَ كَائِنٌ أَوْتَادُهَا ... بَعْدَ الْوَلِيدِ إِلَى ابْنِ أُمِّ حَكِيمِ يَعْنِي أَبَا شَاكِرٍ، وَأُمَّهُ أُمَّ حَكِيمٍ، فَبَلَغَ الشِّعْرُ خَالِدًا فَقَالَ: أَنَا كَافِرٌ بِكُلِّ خَلِيفَةٍ يُكَنَّى أَبَا شَاكِرٍ، فَسَمِعَهَا أَبُو شَاكِرٍ فَحَقَدَهَا عَلَيْهِ. ذِكْرُ شِيعَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ بِخُرَاسَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَتْ شِيعَةُ بَنِي الْعَبَّاسِ بِخُرَاسَانَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ لِيُعْلِمَهُ أَمْرَهُمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدًا تَرَكَ مُكَاتَبَتَهُمْ وَمُرَاسَلَتَهُمْ بِطَاعَتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ لِخِدَاشٍ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقَبُولِهِمْ مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْكَذِبِ. فَلَمَّا أَبْطَأَتْ كُتُبُهُ وَرُسُلُهُ عَلَيْهِمْ أَرْسَلُوا سُلَيْمَانَ لِيَعْلَمَ الْخَبَرَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ فَعَنَّفَهُ مُحَمَّدٌ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ صَرَفَ سُلَيْمَانَ إِلَى خُرَاسَانَ وَمَعَهُ كِتَابٌ مَخْتُومٌ، فَفَضُّوهُ فَلَمْ يَرَ فِيهِ: " إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَعَلِمُوا مُخَالَفَةَ خِدَاشٍ لِأَمْرِهِ، ثُمَّ وَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَيْهِمْ بُكَيْرَ بْنَ مَاهَانَ بَعْدَ عَوْدِ سُلَيْمَانَ مِنْ عِنْدِهِ، وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَيْهِمْ يُعْلِمُهُمْ كَذِبَ خِدَاشٍ، فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ وَاسْتَخَفُّوا بِهِ، فَانْصَرَفَ بُكَيْرٌ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَبَعَثَ مَعَهُ بِعِصِيٍّ مُضَبَّبَةٍ بَعْضُهَا بِحَدِيدٍ وَبَعْضُهَا بِنُحَاسٍ، فَجَمَعَ بُكَيْرٌ النُّقَبَاءَ وَالشِّيعَةَ وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَصًا، فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِسِيرَتِهِ فَتَابُوا وَرَجَعُوا. ذِكْرُ عَزْلِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ وَوِلَايَةِ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ الثَّقَفِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ خَالِدًا عَنْ أَعْمَالِهِ جَمِيعِهَا، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ وَسَبَبِهِ. قِيلَ: إِنَّ فَرُّوخَ أَبَا الْمُثَنَّى كَانَ عَلَى ضِيَاعِ هِشَامٍ بِنَهْرِ الرُّمَّانِ، فَثَقُلَ مَكَانُهُ عَلَى خَالِدٍ، فَقَالَ خَالِدٌ لَحَيَّانَ النَّبَطِيِّ: اخْرُجْ إِلَى هِشَامٍ وَزِدْ عَلَى فَرُّوخٍ، فَفَعَلَ حَيَّانُ ذَلِكَ وَتَوَلَّاهَا، فَصَارَ حَيَّانُ أَثْقَلَ عَلَى خَالِدٍ مِنْ فَرُّوخٍ، فَجَعَلَ يُؤْذِيهِ، فَيَقُولُ حَيَّانُ: لَا تُؤْذِنِي وَأَنَا صَنِيعَتُكَ، فَأَبَى إِلَّا أَذَاهُ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ بَثَقَ الْبُثُوقَ عَلَى الضِّيَاعِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى هِشَامٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ خَالِدًا بَثَقَ الْبُثُوقَ عَلَى ضِيَاعِكَ. فَوَجَّهَ هِشَامٌ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهَا. فَقَالَ حَيَّانُ لِخَادِمٍ مِنْ خَدَمِ هِشَامٍ: إِنْ تَكَلَّمْتَ بِكَلِمَةٍ أَقُولُهَا لَكَ حَيْثُ يَسْمَعُ هِشَامٌ فَلَكَ أَلْفُ دِينَارٍ. قَالَ: فَعَجِّلْهَا [وَأَقُولُ مَا شِئْتَ] ، فَأَعْطَاهُ أَلْفًا وَقَالَ لَهُ: تُبْكِي صَبِيًّا مِنْ صِبْيَانِ هِشَامٍ، فَإِذَا بَكَى فَقُلْ لَهُ: (اسْكُتْ وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ ابْنُ خَالِدٍ) الْقَسْرِيُّ الَّذِي غَلَّتُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفِ أَلْفٍ. فَفَعَلَ الْخَادِمُ، فَسَمِعَهَا هِشَامٌ، فَسَأَلَ حَيَّانَ عَنْ غَلَّةِ خَالِدٍ، فَقَالَ:

ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَوَقَرَتْ فِي نَفْسِ هِشَامٍ. وَقِيلَ: كَانَتْ غَلَّتُهُ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَإِنَّهُ حَفَرَ بِالْعِرَاقِ الْأَنْهَارَ، مِنْهَا نَهْرُ خَالِدٍ، وَبَاجِرَى، وَتَارْمَانَا، وَالْمُبَارَكُ، وَالْجَامِعُ، وَكُورَةُ سَابُورَ، وَالصِّلْحُ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَقُولُ: إِنِّي مَظْلُومٌ، مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ شَيْءٌ إِلَّا هُوَ لِي، يَعْنِي أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ لِبَجِيلَةَ رُبْعَ السَّوَادِ. وَأَشَارَ عَلَيْهِ الْعُرْيَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ وَبِلَالُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ بِعَرْضِ أَمْلَاكِهِ عَلَى هِشَامٍ، لِيَأْخُذَ مِنْهَا مَا أَرَادَ، وَيَضْمَنَانِ لَهُ الرِّضَا، فَإِنَّهُمَا قَدْ بَلَغَهُمَا تَغَيُّرُ هِشَامٍ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَلَمْ يُجِبْهُمَا إِلَى شَيْءٍ. وَقِيلَ لِهِشَامٍ: إِنَّ خَالِدًا قَالَ لِوَلَدِهِ: مَا أَنْتَ بِدُونِ مَسْلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ! وَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ آلِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى خَالِدٍ فِي مَجْلِسِهِ، فَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ، فَكَتَبَ إِلَى هِشَامٍ يَشْكُو خَالِدًا، فَكَتَبَ هِشَامٌ إِلَى خَالِدٍ يَذُمُّهُ وَيَلُومُهُ وَيُوَبِّخُهُ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَمْشِيَ رَاجِلًا إِلَى بَابِهِ وَيَتَرَضَّاهُ، فَقَدْ جَعَلَ عَزْلَهُ وَوِلَايَتَهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَذْكُرُ هِشَامًا فَيَقُولُ: ابْنُ الْحَمْقَاءِ، وَكَانَ خَالِدٌ يَخْطُبُ فَيَقُولُ: زَعَمْتُمْ أَنِّي أُغْلِي أَسْعَارَكُمْ، فَعَلَى مَنْ يُغْلِيهَا لَعْنَةُ اللَّهِ! وَكَانَ هِشَامٌ كَتَبَ إِلَيْهِ أَلَّا تَبِيعَنَّ مِنَ الْغَلَّاتِ شَيْئًا حَتَّى تُبَاعَ غَلَّاتُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَبَلَغَتْ كَيْلَهَا دَرَاهِمَ. وَكَانَ يَقُولُ لِابْنِهِ: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَبَلَغَ هَذَا جَمِيعُهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هِشَامًا فَتَنَكَّرَ لَهُ. وَبَلَغَهُ أَيْضًا أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ وِلَايَةَ الْعِرَاقِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ هِشَامٌ: يَابْنَ أُمِّ خَالِدٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ: مَا وِلَايَةُ الْعِرَاقِ لِي بِشَرَفٍ. يَابْنَ اللَّخْنَاءِ، كَيْفَ لَا تَكُونُ إِمْرَةُ الْعِرَاقِ لَكَ شَرَفًا، وَأَنْتَ مِنْ بَجِيلَةَ الْقَلِيلَةِ الذَّلِيلَةِ؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَأْتِيكَ صَغِيرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَشُدُّ يَدَيْكَ إِلَى عُنُقِكَ. وَلَمْ يَزَلْ يَبْلُغُهُ عَنْهُ مَا يَكْرَهُ، فَعَزَمَ عَلَى عَزْلِهِ، فَكَتَمَ ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ، وَهُوَ بِالْيَمَنِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَقْدَمَ فِي ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْعِرَاقِ فَقَدْ وَلَّاهُ ذَلِكَ، فَسَارَ يُوسُفُ إِلَى الْكُوفَةِ فَعَرَّسَ قَرِيبًا مِنْهَا، وَقَدْ خَتَنَ طَارِقٌ خَلِيفَةُ خَالِدٍ بِالْكُوفَةِ وَلَدَهُ، فَأَهْدَى إِلَيْهِ أَلْفَ وَصِيفٍ وَوَصِيفَةٍ سِوَى الْأَمْوَالِ وَالثِّيَابِ، فَمَرَّ بِيُوسُفَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَسَأَلُوهُ: مَا أَنْتُمْ وَأَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: بَعْضَ الْمَوَاضِعِ. فَأَتَوْا طَارِقًا فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُمْ

وَأَمَرُوهُ بِقَتْلِهِمْ وَقَالُوا: إِنَّهُمْ خَوَارِجُ. فَسَارَ يُوسُفُ إِلَى دُورِ ثَقِيفٍ، فَقِيلَ لَهُمْ: مَا أَنْتُمْ؟ فَكَتَمُوا حَالَهُمْ وَأَمْرَ يُوسُفَ، فَجَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ هُنَاكَ مِنْ مُضَرَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا دَخَلَ الْمَسْجِدَ مَعَ الْفَجْرِ وَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى، وَأَرْسَلَ إِلَى طَارِقٍ وَخَالِدٍ فَأَخَذَهُمَا وَإِنَّ الْقُدُورَ لَتَغْلِي. وَقِيلَ: لَمَّا أَرَادَ هِشَامٌ أَنْ يُوَلِّيَ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ الْعِرَاقَ كَتَمَ ذَلِكَ، فَقَدِمَ جُنْدُبٌ مَوْلَى يُوسُفَ بِكِتَابِ يُوسُفَ إِلَى هِشَامٍ، فَقَرَأَهُ ثُمَّ قَالَ لِسَالِمِ بْنِ عَنْبَسَةَ وَهُوَ عَلَى الدِّيوَانِ: أَنْ أَجِبْهُ عَنْ لِسَانِكَ وَأْتِنِي بِالْكِتَابِ. وَكَتَبَ هِشَامٌ بِخَطِّهِ كِتَابًا صَغِيرًا إِلَى يُوسُفَ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَكَتَبَ سَالِمٌ الْكِتَابَ وَأَتَى بِهِ هِشَامًا، فَجَعَلَ كِتَابَهُ فِي وَسَطِهِ وَخَتَمَهُ، ثُمَّ دَعَا رَسُولَ يُوسُفَ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ وَمُزِّقَتْ ثِيَابَهُ، وَدَفَعَ الْكِتَابَ إِلَيْهِ فَسَارَ. فَارْتَابَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَكَانَ خَلِيفَةَ سَالِمٍ، فَقَالَ: هَذِهِ حِيلَةٌ، وَقَدْ وَلَّى يُوسُفَ الْعِرَاقَ، فَكَتَبَ إِلَى عِيَاضٍ، وَهُوَ نَائِبُ سَالِمٍ بِالْعِرَاقِ: إِنَّ أَهْلَكَ قَدْ بَعَثُوا إِلَيْكَ بِالثَّوْبِ الْيَمَانِيِّ، فَإِذَا أَتَاكَ فَالْبَسْهُ، وَاحَمْدِ اللَّهَ تَعَالَى، (وَأَعْلِمْ ذَلِكَ طَارِقًا) . فَأَعْلَمَ عِيَاضٌ طَارِقَ بْنَ أَبِي زِيَادٍ بِالْكِتَابِ لَهُ. ثُمَّ نَدِمَ بَشِيرٌ عَلَى كِتَابِهِ، فَكَتَبَ إِلَى عِيَاضٍ: (إِنَّ أَهْلَكَ قَدْ بَدَا لَهُمْ فِي إِمْسَاكِ) الثَّوْبِ. فَأَتَى عِيَاضٌ) بِالْكِتَابِ الثَّانِي إِلَى طَارِقٍ، فَقَالَ طَارِقٌ: الْخَبَرُ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّ بَشِيرًا نَدِمَ وَخَافَ أَنْ يَظْهَرَ الْخَبَرُ. وَرَكِبَ طَارِقٌ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى خَالِدٍ وَهُوَ بِوَاسِطٍ، فَرَآهُ دَاوُدُ الْبَرِيدِيُّ، وَكَانَ عَلَى حِجَابَةِ خَالِدٍ وَدِيوَانِهِ، فَأَعْلَمَ خَالِدًا، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: مَا أَقْدَمَكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ؟ قَالَ: أَمْرٌ كُنْتُ أَخْطَأْتُ فِيهِ، كُنْتُ قَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْأَمِيرِ أُعَزِّيهِ بِأَخِيهِ أَسَدٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يَجِبُ أَنْ آتِيَهُ مَاشِيًا. فَرَقَّ خَالِدٌ وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَمَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ لَمَّا غَابَ دَاوُدُ، قَالَ: مَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: تَرْكَبُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَتَعْتَذِرُ إِلَيْهِ مِمَّا بَلَغَهُ عَنْكَ. قَالَ: لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ. قَالَ: فَتُرْسِلُنِي إِلَيْهِ حَتَّى آتِيَكَ بِإِذْنِهِ. قَالَ: وَلَا هَذَا. قَالَ: فَأَذْهَبُ فَأَضْمَنُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعَ مَا انْكَسَرَ فِي هَذِهِ السِّنِينَ وَآتِيكَ بِعَهْدِهِ. قَالَ: وَكَمْ مَبْلَغُهُ؟ قَالَ: مِائَةُ أَلْفِ أَلْفٍ. قَالَ: وَمِنْ أَيْنَ آخُذُهَا؟ وَاللَّهِ مَا أَجِدُ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ! قَالَ: أَتَحَمَّلُ أَنَا وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ. قَالَ: إِنِّي إِذًا لَلَئِيمٌ إِنْ كُنْتُ أَعْطَيْتُهُمْ شَيْئًا وَأَعُودُ فِيهِ. فَقَالَ

طَارِقٌ: إِنَّمَا نَفْدِيكَ وَنَفْدِي أَنْفُسَنَا بِأَمْوَالِنَا وَتُسْتَأْنَفُ الدُّنْيَا، وَتَبْقَى النِّعْمَةُ عَلَيْكَ وَعَلَيْنَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَجِيءَ مَنْ يُطَالِبُنَا بِالْأَمْوَالِ (وَهِيَ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَيَتَرَبَّصُونَ فَنُقْتَلُ وَيَأْكُلُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ) . فَأَبَى خَالِدٌ. فَوَدَّعَهُ طَارِقٌ وَبَكَى وَقَالَ: هَذَا آخِرُ مَا نَلْتَقِي فِي الدُّنْيَا. وَمَضَى إِلَى الْكُوفَةِ وَخَرَجَ خَالِدٌ إِلَى الْجَمَّةِ. وَقَدِمَ رَسُولُ يُوسُفَ عَلَيْهِ الْيَمَنَ فَقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ سَاخِطٌ، وَقَدْ ضَرَبَنِي وَلَمْ يَكْتُبْ جَوَابَ كِتَابِكَ، وَهَذَا كِتَابُ سَالِمٍ صَاحِبِ الدِّيوَانِ. فَقَرَأَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى آخِرِهِ قَرَأَ كِتَابَ هِشَامٍ بِخَطِّهِ وَوِلَايَةِ الْعِرَاقِ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَأْخُذَ ابْنَ النَّصْرَانِيَّةِ، يَعْنِي خَالِدًا، وَعُمَّالَهُ وَيُعَذِّبَهُمْ حَتَّى يَشْتَفِيَ. فَأَخَذَ دَلِيلًا وَسَارَ مِنْ يَوْمِهِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْيَمَنِ ابْنَهُ الصَّلْتَ، فَقَدِمَ الْكُوفَةَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَنَزَلَ النَّجَفَ، وَأَرْسَلَ مَوْلَاهُ كَيْسَانَ وَقَالَ: انْطَلِقْ فَأْتِنِي بِطَارِقٍ، فَإِنْ أَقْبَلَ فَاحْمِلْهُ عَلَى إِكَافٍ، وَإِنْ لَمْ يُقْبِلْ فَأْتِ بِهِ سَحْبًا. فَأَتَى كَيْسَانُ الْحِيرَةَ فَأَخَذَ مَعَهُ عَبْدَ الْمَسِيحِ سَيِّدَ أَهْلِهَا إِلَى طَارِقٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ يُوسُفَ قَدْ قَدِمَ عَلَى الْعِرَاقِ وَهُوَ يَسْتَدْعِيكَ. فَقَالَ طَارِقٌ لَكَيْسَانَ: إِنْ أَرَادَ الْأَمِيرُ الْمَالَ أَعْطَيْتُهُ مَا سَأَلَ. وَأَقْبَلُوا بِهِ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ فَتَوَافَوْا بِالْحِيرَةِ، فَضَرَبَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، يُقَالُ خَمْسُمِائَةِ سَوْطٍ، وَدَخَلَ الْكُوفَةَ، وَأَرْسَلَ عَطَاءَ بْنَ مُقَدِّمٍ إِلَى خَالِدٍ بِالْجَمَّةِ، فَأَتَى الرَّسُولُ حَاجِبَهُ وَقَالَ: اسْتَأْذِنْ [لِي] عَلَى أَبِي الْهَيْثَمِ، فَدَخَلَ عَلَى خَالِدٍ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ، فَقَالَ خَالِدٌ: مَا لَكَ؟ قَالَ: خَيْرٌ. قَالَ: مَا عِنْدَكَ خَيْرٌ! قَالَ: عَطَاءٌ [قَالَ] : اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى أَبِي الْهَيْثَمِ. فَقَالَ: ايذَنْ لَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَيْلُ أُمِّهَا سَخْطَةٌ! ثُمَّ أَخَذَهُ فَحَبَسَهُ، وَصَالَحَهُ عَنْهُ أَبَانُ بْنُ الْوَلِيدِ وَأَصْحَابُهُ عَلَى تِسْعَةِ آلَافِ أَلْفٍ، فَقِيلَ لِيُوسُفَ: لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَأَخَذْتَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ، فَنَدِمَ وَقَالَ: قَدْ رَهَنْتُ لِسَانِي مَعَهُ وَلَا آمَنُ وَلَا أَرْجِعُ. وَأَخْبَرَ أَصْحَابُ خَالِدٍ خَالِدًا فَقَالَ: قَدْ أَخْطَأْتُمْ وَلَا آمَنُ أَنْ يَأْخُذَهَا ثُمَّ يَعُودُ، ارْجِعُوا، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ خَالِدًا لَمْ يَرْضَ، فَقَالَ: قَدْ رَجَعْتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَرْضَى بِمِثْلِهَا وَلَا مِثْلَيْهَا، فَأَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: أَخَذَ مِائَةَ أَلْفٍ. فَأَرْسَلَ يُوسُفَ

إِلَى بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، فَقَبَضَهُ، وَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ بِلَالٌ بِالْكُوفَةِ دَارًا لَمْ يَنْزِلْهَا، فَأَحْضَرَهُ يُوسُفُ مُقَيَّدًا فَأَنْزَلَهُ الدَّارَ، ثُمَّ جُعِلَتْ سِجْنًا. وَكَانَ خَالِدٌ يَصِلُ الْهَاشِمِيِّينَ وَيَبَرُّهُمْ، فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لِيَسْتَحْمِيَهُ فَلَمْ يَرَ مِنْهُ مَا يُحِبُّ، فَقَالَ: أَمَّا الصِّلَةُ فَلِلْهَاشِمِيِّينَ، وَلَيْسَ لَنَا مِنْهُ إِلَّا أَنَّهُ يَلْعَنُ عَلِيًّا، فَبَلَغَتْ خَالِدًا فَقَالَ: إِنْ أَحَبَّ نِلْنَا عُثْمَانَ بِشَيْءٍ. وَكَانَ خَالِدٌ مَعَ هَذَا يُبَالِغُ فِي سَبِّ عَلِيٍّ، فَقِيلَ: كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ، وَتَقَرُّبًا إِلَى الْقَوْمِ. وَكَانَتْ وِلَايَةُ خَالِدٍ الْعِرَاقَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ، وَعُزِلَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَلَمَّا وَلِيَ يُوسُفُ الْعِرَاقَ كَانَ الْإِسْلَامُ ذَلِيلًا وَالْحُكْمُ فِيهِ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ نَوْفَلَ فِيهِ: أَتَانَا وَأَهْلُ الشِّرْكِ أَهْلُ زَكَاتِنَا ... وَحُكَّامُنَا فِيمَا نُسِرُّ وَنَجْهَرُ فَلَمَّا أَتَانَا يُوسُفُ الْخَيْرِ أَشْرَقَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ حَتَّى كُلُّ وَادٍ مُنَوَّرُ وَحَتَّى رَأَيْنَا الْعَدْلَ فِي النَّاسِ ظَاهِرًا ... وَمَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الْعُقَيْلِيِّ يَظْهَرُ فِي أَبْيَاتٍ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: أَرَانَا وَالْخَلِيفَةُ إِذْ رَمَانَا ... مَعَ الْإِخْلَاصِ بِالرَّجُلِ الْجَدِيدِ كَأَهْلِ النَّارِ حِينَ دَعَوْا أُغِيثُوا ... جَمِيعًا بِالْحَمِيمِ وَبِالصَّدِيدِ وَكَانَ فِي يُوسُفَ أَشْيَاءُ مُتَبَايِنَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ، كَانَ طَوِيلَ الصَّلَاةِ، مُلَازِمًا لِلْمَسْجِدِ، ضَابِطًا لِحَشَمِهِ وَأَهْلِهِ عَنِ النَّاسِ، لَيِّنَ الْكَلَامِ، مُتَوَاضِعًا، حَسَنَ الْمَلَكَةِ، كَثِيرَ التَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ، فَكَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ وَلَا يُكَلِّمُ أَحَدًا حَتَّى يُصَلِّيَ الضُّحَى، يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَضَرَّعُ، وَكَانَ بَصِيرًا بِالشِّعْرِ وَالْأَدَبِ، وَكَانَ شَدِيدَ الْعُقُوبَةِ مُسْرِفًا فِي ضَرْبِ الْأَبْشَارِ، فَكَانَ يَأْخُذُ الثَّوْبَ الْجَدِيدَ فَيُمِرُّ ظُفْرَهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ طَاقُهُ ضَرَبَ صَاحِبَهُ وَرُبَّمَا قَطَعَ يَدَهُ. وَكَانَ أَحْمَقَ، أُتِيَ يَوْمًا بِثَوْبٍ فَقَالَ لِكَاتِبِهِ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الثَّوْبِ؟ فَقَالَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بُيُوتُهُ أَصْغَرَ مِمَّا هِيَ. فَقَالَ لِلْحَائِكِ: صَدَقَ يَابْنَ اللَّخْنَاءِ! فَقَالَ الْحَائِكُ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَذَا. فَقَالَ لِكَاتِبِهِ: صَدَقَ يَابْنَ اللَّخْنَاءِ. فَقَالَ الْكَاتِبُ: هَذَا يَعْمَلُ فِي السَّنَةِ ثَوْبًا أَوْ ثَوْبَيْنِ، وَأَنَا يَمُرُّ عَلَى يَدَيَّ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةُ ثَوْبٍ مِثْلَ هَذَا. فَقَالَ لِلْحَائِكِ: صَدَقَ يَابْنَ اللَّخْنَاءِ! فَلَمْ

يَزَلْ يُكَذِّبُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً حَتَّى عَدَّ أَبْيَاتَ الثَّوْبِ فَوَجَدَهَا تَنْقُصُ بَيْتًا مِنْ أَحَدِ جَانِبَيِ الثَّوْبِ، فَضَرَبَ الْحَائِكَ مِائَةَ سَوْطٍ. وَقِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ أَرَادَ السَّفَرَ فَدَعَا جَوَارِيَهُ فَقَالَ لِإِحْدَاهُنَّ: تَخْرُجِينَ مَعِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: يَا خَبِيثَةُ كُلُّ هَذَا مِنْ حُبِّ النِّكَاحِ، يَا خَادِمُ اضْرِبْ رَأْسَهَا. وَقَالَ لِأُخْرَى: مَا تَقُولِينَ؟ فَقَالَتْ: أُقِيمُ عَلَى وَلَدِي. فَقَالَ: يَا خَبِيثَةُ أَكُلُّ هَذَا زَهَادَةٌ فِيَّ؟ اضْرِبْ رَأْسَهَا. وَقَالَ لِثَالِثَةٍ: مَا تَقُولِينَ؟ قَالَتْ: مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ، إِنْ قُلْتُ مَا قَالَتْ إِحْدَاهُمَا لَمْ آمَنْ عُقُوبَتَكَ. فَقَالَ: يَا لَخْنَاءُ أَوَتُنَاقِضِينَ وَتَحْتَجِّينَ؟ اضْرِبْ رَأْسَهَا. فَضَرَبَ الْجَمِيعَ. وَكَانَ قَصِيرًا عَظِيمَ اللِّحْيَةِ، وَكَانَ يُحْضِرُ الثَّوْبَ الطَّوِيلَ لِيُفَصِّلَهُ لِيَلْبَسَهُ، فَإِنْ قَالَ الْخَيَّاطُ إِنَّهُ يُفَصِّلُ مِنْهُ ضَرَبَهُ، فَإِنْ قَالَ لَهُ الْخَيَّاطُ: لَا يَكْفِينَا إِلَّا بَعْدَ التَّصَرُّفِ فِي التَّفْصِيلِ، سَرَّهُ، فَكَانُوا يُفَصِّلُونَ لَهُ ثِيَابًا طِوَالًا وَيَأْخُذُونَ مَا يَنْبَغِي مِنَ الثَّوْبِ يُوهِمُونَهُ أَنَّ الثَّوْبَ لَمْ يَكْفِهِ فَيَرْضَى بِذَلِكَ. وَلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ أَشْيَاءُ نَوَادِرُ، مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا لِكَاتِبٍ لَهُ: مَا حَبَسَكَ؟ قَالَ: اشْتَكَيْتُ ضِرْسِي، فَدَعَا بِحَجَّامٍ يَقْلَعُهُ وَمَعَهُ ضِرْسٌ آخَرُ. ذِكْرُ وِلَايَةِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ الْكِنَانِيِّ خُرَاسَانَ لَمَّا مَاتَ أَسَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اسْتَشَارَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَبْدَ الْكَرِيمِ بْنَ سُلَيْطٍ الْحَنَفِيَّ، وَكَانَ عَالِمًا بِخُرَاسَانَ، فِيمَنْ يُوَلِّيهِ، فَقَالَ عَبْدُ الْكَرِيمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَّا رَجُلُ خُرَاسَانَ حَزْمًا وَنَجْدَةً فَالْكَرْمَانِيُّ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَقَالَ: مَا اسْمُهُ؟ قَالَ جُدَيْعُ بْنُ عَلِيٍّ. قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، وَتَطَيَّرَ، قَالَ: فَالْمُسِنُّ الْمُجَرِّبُ يَحْيَى بْنُ نُعَيْمِ بْنِ هُبَيْرَةَ الشَّيْبَانِيُّ. قَالَ: رَبِيعَةُ لَا تُسَدُّ بِهَا الثُّغُورُ. قَالَ عَبْدُ الْكَرِيمِ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَرِهَ رَبِيعَةَ وَالْيَمَنَ فَأَرْمِيهِ بِمُضَرَ، فَقُلْتُ: عَقِيلُ بْنُ مَعْقِلٍ اللِّيثِيُّ إِنْ غَفَرْتَ هَنَةً. قَالَ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: لَيْسَ بِالْعَفِيفِ. قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. قُلْتُ: مَنْصُورُ بْنُ أَبِي الْخَرْقَاءِ السُّلَمِيُّ إِنْ غَفَرْتَ نُكْرَهُ فَإِنَّهُ مَشْئُومٌ. قَالَ: غَيْرُهُ. قُلْتُ: فَالْمُجَشِّرُ بْنُ مُزَاحِمٍ السُّلَمِيُّ ; عَاقِلٌ شُجَاعٌ لَهُ رَأْيٌ مَعَ كَذِبٍ فِيهِ. قَالَ: لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ. قُلْتُ: يَحْيَى بْنُ الْحُضَيْنِ. قَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنَّ رَبِيعَةَ لَا تُسَدُّ بِهَا الثُّغُورُ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ. قَالَ: هُوَ لَهَا. قُلْتُ: إِنْ غَفَرْتَ وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ عَفِيفٌ مُجَرِّبٌ عَاقِلٌ. قَالَ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: عَشِيرَتُهُ بِهَا قَلِيلَةٌ. قَالَ لَا أَبَا

لَكَ! [أَتُرِيدُ عَشِيرَةً] أَكْثَرَ مِنِّي؟ أَنَا عَشِيرَتُهُ. فَكَتَبَ عَهْدَهُ وَبَعَثَهُ مَعَ عَبْدِ الْكَرِيمِ. وَقَدْ قِيلَ: عُرِضَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ الشِّخِّيرِ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ صَاحِبُ شَرَابٍ، وَقِيلَ لَهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحُضَيْنِ: إِنَّهُ كَثِيرُ التِّيهِ، وَقِيلَ لَهُ عَنْ قَطَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ: إِنَّهُ مَوْتُورٌ، فَلَمْ يُوَلِّهِمْ فَاسْتَعْمَلَ نَصْرًا. وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ حَنْظَلَةَ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ أَسَدٌ عَلَى خُرَاسَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ قَدْ عَرَضَ عَلَى نَصْرٍ أَنْ يُوَلِّيَهُ بُخَارَى، فَاسْتَشَارَ الْبَخْتَرِيَّ بْنَ مُجَاهِدٍ مَوْلَى بَنِي شَيْبَانَ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَقْبَلْهَا لِأَنَّكَ شَيْخُ مُضَرَ بِخُرَاسَانَ، وَكَأَنَّكَ بِعَهْدِكَ قَدْ جَاءَ عَلَى خُرَاسَانَ كُلِّهَا. فَلَمَّا أَتَاهُ عَهْدُهُ بَعَثَ إِلَى الْبَخْتَرِيِّ لِيَأْتِيَهُ، فَقَالَ الْبَخْتَرِيُّ لِأَصْحَابِهِ: قَدْ وَلِيَ نَصْرٌ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا أَتَاهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَيْنَ عَلِمْتَ؟ قَالَ: كُنْتَ تَأْتِينِي، فَلَمَّا بَعَثْتَ إِلَيَّ عَلِمْتُ أَنَّكَ قَدْ وَلِيتَ. وَأَعْطَى نَصْرٌ عَبْدَ الْكَرِيمِ لَمَّا أَتَاهُ بِعَهْدِهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى بَلْخٍ مُسْلِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَرْوِ الرُّوذِ وَسَّاجَ بْنَ بُكَيْرِ بْنِ وَسَّاجٍ، وَعَلَى هَرَاةَ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَشْرَجِ، وَعَلَى نَيْسَابُورَ زِيَادَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُشَيْرِيَّ، وَعَلَى خَوَارِزْمَ أَبَا حَفْصِ بْنَ عَلِيٍّ خَتَنَهُ، وَعَلَى الصُّغْدِ قَطَنَ بْنَ قُتَيْبَةَ. قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَمَانِيَّةِ: مَا رَأَيْتُ عَصَبِيَّةً مِثْلَ هَذَا. قَالَ: بَلَى، الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا، فَلَمْ يَسْتَعْمِلْ أَرْبَعَ سِنِينَ إِلَّا مُضَرِيًّا. وَعُمِرَتْ خُرَاسَانُ عِمَارَةً لَمْ تُعْمَرْ قَبْلَهَا، وَأَحْسَنَ الْوِلَايَةَ وَالْجِبَايَةَ، فَقَالَ سَوَّارُ بْنُ الْأَشْعَرِ: أَضْحَتْ خُرَاسَانُ بَعْدَ الْخَوْفِ آمِنَةً ... مِنْ ظُلْمِ كُلِّ غَشُومِ الْحُكْمِ جَبَّارِ لَمَّا أَتَى يُوسُفًا أَخْبَارُ مَا لَقِيَتْ ... اخْتَارَ نَصْرًا لَهَا نَصْرَ بْنَ سَيَّارِ وَأَتَى نَصْرًا عَهْدَهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الصَّائِفَةَ، وَافْتَتَحَ سَنْدَرَةَ.

وَفِيهَا غَزَا إِسْحَاقُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعُقَيْلِيُّ تُومَانْشَاهْ، وَافْتَتَحَ قِلَاعَهَا وَخَرَّبَ أَرْضَهَا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ، وَقِيلَ: حَجَّ بِهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقِيلَ: أَخُوهُ يَزِيدُ بْنُ هِشَامٍ. وَكَانَ الْعَامِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَعَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، وَقَدْ أَمَرَهُ هِشَامٌ أَنْ يُكَاتِبَ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ، وَقِيلَ: كَانَ عَلَيْهَا جَعْفَرُ بْنُ حَنْظَلَةَ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ، اسْتَعْمَلَهُ يُوسُفُ، وَعَلَى قَضَائِهَا عَامِرُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَعَلَى إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ ابْنُ شُبْرُمَةَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ. (وَفِيهَا مَاتَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ بِالشَّامِ) . وَفِيهَا مَاتَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ.

وَحَمَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْفَقِيهُ، وَوَاقِدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَعَلِيُّ بْنُ مُدْرِكٍ النَّخَعِيُّ الْكُوفِيُّ، وَالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الْكُوفِيُّ.

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً] 121 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً ذِكْرُ ظُهُورِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ الرُّومَ فَافْتَتَحَ بِهَا مَطَامِيرَ. قِيلَ: إِنَّ زَيْدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قُتِلَ هَذِهِ السَّنَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْآنَ سَبَبَ خِلَافِهِ عَلَى هِشَامٍ وَبَيْعَتِهِ، وَنَذْكُرُ قَتْلَهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ. قَدِ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ خِلَافِهِ، فَقِيلَ: إِنَّ زَيْدًا وَدَاوُدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَدِمُوا عَلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ بِالْعِرَاقِ فَأَجَازَهُمْ وَرَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا وَلِيَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى هِشَامٍ بِذَلِكَ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ خَالِدًا ابْتَاعَ مِنْ زَيْدٍ أَرْضًا بِالْمَدِينَةِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، ثُمَّ رَدَّ الْأَرْضَ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ هِشَامٌ إِلَى عَامِلِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ إِلَيْهِ فَفَعَلَ، فَسَأَلَهُمْ هِشَامٌ عَنْ ذَلِكَ فَأَقَرُّوا بِالْجَائِزَةِ، وَأَنْكَرُوا مَا سِوَى ذَلِكَ وَحَلَفُوا، فَصَدَّقَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ لِيُقَابِلُوا خَالِدًا، فَسَارُوا عَلَى كُرْهٍ وَقَابَلُوا خَالِدًا، فَصَدَّقَهُمْ، فَعَادَوْا نَحْوَ الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا نَزَلُوا الْقَادِسِيَّةَ رَاسَلَ أَهْلُ الْكُوفَةِ زَيْدًا فَعَادَ إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: بَلِ ادَّعَى خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ أَنَّهُ أَوْدَعَ زَيْدًا وَدَاوُدَ بْنَ عَلِيٍّ وَنَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ مَالًا، فَكَتَبَ يُوسُفُ بِذَلِكَ إِلَى هِشَامٍ، فَأَحْضَرَهُمْ هِشَامٌ مِنَ الْمَدِينَةِ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى يُوسُفَ لِيَجْمَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَالِدٍ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ يُوسُفُ لِزَيْدٍ: إِنَّ خَالِدًا زَعَمَ أَنَّهُ أَوْدَعَكَ. قَالَ: كَيْفَ يُودِعُنِي وَهُوَ يَشْتُمُ آبَائِي عَلَى مِنْبَرِهِ! فَأَرْسَلَ إِلَى خَالِدٍ فَأَحْضَرَهُ فِي عَبَاءَةٍ، فَقَالَ: هَذَا زَيْدٌ قَدْ أَنْكَرَ أَنَّكَ قَدْ أَوْدَعْتَهُ شَيْئًا. فَنَظَرَ خَالِدٌ إِلَيْهِ وَإِلَى دَاوُدَ وَقَالَ لِيُوسُفَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَجْمَعَ مَعَ إِثْمِكَ فِيَّ إِثْمًا فِي هَذَا؟ كَيْفَ أُودِعُهُ وَأَنَا أَشْتُمُهُ وَأَشْتُمُ آبَاءَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ! فَقَالُوا لِخَالِدٍ: مَا دَعَاكَ إِلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: شَدَّدَ عَلَيَّ الْعَذَابَ فَادَّعَيْتُ ذَلِكَ، وَأَمَلْتُ أَنْ يَأْتِيَ اللَّهُ بِفَرَجٍ قَبْلَ قُدُومِكُمْ. فَرَجَعُوا وَأَقَامَ زَيْدٌ وَدَاوُدُ بِالْكُوفَةِ.

قِيلَ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ خَالِدٍ الْقَسْرِيَّ هُوَ الَّذِي ادَّعَى الْمَالَ وَدِيعَةً عِنْدَ زَيْدٍ. فَلَمَّا أَمَرَهُمْ هِشَامٌ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ إِلَى يُوسُفَ اسْتَقَالُوهُ خَوْفًا مِنْ شَرِّ يُوسُفَ وَظُلْمِهِ، فَقَالَ: أَنَا أَكْتُبُ إِلَيْهِ بِالْكَفِّ عَنْكُمْ، وَأُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ، فَسَارُوا عَلَى كُرْهٍ. وَجَمَعَ يُوسُفُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يَزِيدَ، فَقَالَ يَزِيدُ: [مَا] لِي عِنْدَهُمْ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ. قَالَ يُوسُفُ: أَبِي تَهْزَأُ أَمْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَعَذَّبَهُ يَوْمَئِذٍ عَذَابًا كَادَ يُهْلِكُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْفِرَّاشِينَ فَضُرِبُوا وَتَرَكَ زَيْدًا. ثُمَّ اسْتَحْلَفَهُمْ وَأَطْلَقَهُمْ، فَلَحِقُوا بِالْمَدِينَةِ، وَأَقَامَ زَيْدٌ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ زَيْدٌ قَدْ قَالَ لِهِشَامٍ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى يُوسُفَ: مَا آمَنُ إِنْ بَعَثْتَنِي إِلَيْهِ أَنْ لَا نَجْتَمِعَ أَنَا وَأَنْتَ حَيَّيْنِ أَبَدًا. قَالَ: لَا بُدَّ مِنَ الْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَسَارُوا إِلَيْهِ. وَقِيلَ: كَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ زَيْدًا كَانَ يُخَاصِمُ ابْنَ عَمِّهِ جَعْفَرَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي [وِلَايَةِ] وُقُوفِ عَلِيٍّ، [وَكَانَ] زَيْدٌ يُخَاصِمُ عَنْ بَنِي الْحُسَيْنِ، وَجَعْفَرٌ يُخَاصِمُ عَنْ بَنِي الْحَسَنِ، فَكَانَا يَتَبَالَغَانِ [بَيْنَ يَدَيِ الْوَالِي إِلَى] كُلِّ غَايَةٍ وَيَقُومَانِ فَلَا يُعِيدَانِ مِمَّا كَانَ بَيْنَهُمَا حَرْفًا. فَلَمَّا مَاتَ جَعْفَرٌ نَازَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ، فَتَنَازَعَا يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْحَارِثِ بِالْمَدِينَةِ، فَأَغْلَظَ عَبْدُ اللَّهِ لِزَيْدٍ وَقَالَ: يَابْنَ السِّنْدِيَّةِ! فَضَحِكَ زَيْدٌ وَقَالَ: قَدْ كَانَ إِسْمَاعِيلُ لِأَمَةٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ صَبَرَتْ بَعْدَ وَفَاةِ سَيِّدِهَا إِذْ لَمْ يَصْبِرْ غَيْرُهَا - يَعْنِي فَاطِمَةَ ابْنَةَ الْحُسَيْنِ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ أَبِيهِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ، ثُمَّ نَدِمَ زَيْدٌ وَاسْتَحْيَا مِنْ فَاطِمَةَ، وَهِيَ عَمَّتُهُ، فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا زَمَانًا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: يَابْنَ أَخِي إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ أُمَّكَ عِنْدَكَ كَأُمِّ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَهُ. وَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ: بِئْسَ مَا قُلْتَ لِأُمِّ زَيْدٍ! أَمَا وَاللَّهِ لَنِعْمَ دَخِيلَةُ الْقَوْمِ كَانَتْ! قَالَ: فَذَكَرَ أَنَّ خَالِدًا قَالَ لَهُمَا: اغْدُوَا عَلَيْنَا غَدًا، فَلَسْتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ إِنْ لَمْ أَفْصِلْ بَيْنَكُمَا. فَبَاتَتِ الْمَدِينَةُ تَغْلِي كَالْمِرْجَلِ، يَقُولُ قَائِلٌ قَالَ زَيْدٌ كَذَا، وَيَقُولُ قَائِلٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَذَا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَلَسَ خَالِدٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَمِنْ بَيْنَ شَامِتٍ وَمَهْمُومٍ، فَدَعَا بِهِمَا خَالِدٌ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَتَشَاتَمَا، فَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ زَيْدٌ: لَا تَعْجَلْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَعْتَقَ زَيْدٌ مَا يَمْلِكُ إِنْ خَاصَمَكَ إِلَى خَالِدٍ أَبَدًا. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى خَالِدٍ فَقَالَ: جَمَعْتَ ذُرِّيَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَمْرٍ مَا كَانَ يَجْمَعُهُمْ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ! فَقَالَ

خَالِدٌ: أَمَا لِهَذَا السَّفِيهِ أَحَدٌ؟ فَتَكَلَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ آلِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالَ: يَابْنَ أَبِي تُرَابٍ وَابْنَ حُسَيْنٍ السَّفِيهَ! أَمَا تَرَى لِلْوَالِي عَلَيْكَ حَقًّا وَلَا طَاعَةً؟ فَقَالَ زَيْدٌ: اسْكُتْ أَيُّهَا الْقَحْطَانِيُّ فَإِنَّا لَا نُجِيبُ مِثْلَكَ. قَالَ: وَلِمَ تَرْغَبُ عَنِّي؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَخَيْرٌ مِنْكَ، وَأَبِي خَيْرٌ مِنْ أَبِيكَ، وَأُمِّي خَيْرٌ مِنْ أُمِّكَ. فَتَضَاحَكَ زَيْدٌ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَذَا الدِّينُ قَدْ ذَهَبَ فَذَهَبَتِ الْأَحْسَابُ، فَوَاللَّهِ لَيَذْهَبُ دِينُ الْقَوْمِ وَمَا تَذْهَبُ أَحْسَابُهُمْ. فَتَكَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ أَيُّهَا الْقَحْطَانِيُّ! فَوَاللَّهِ لَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ نَفْسًا وَأُمًّا وَأَبًا وَمَحْتِدًا! وَتَنَاوَلَهُ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ، وَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ وَضَرَبَ بِهَا الْأَرْضَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا لَنَا عَلَى هَذَا مِنْ صَبْرٍ. وَشَخَصَ زَيْدٌ إِلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَجَعَلَ هِشَامٌ لَا يَأْذَنُ لَهُ، فَيَرْفَعُ إِلَيْهِ الْقِصَصَ، فَكُلَّمَا رَفَعَ قِصَّةً يَكْتُبُ هِشَامٌ فِي أَسْفَلِهَا: ارْجِعْ إِلَى أَمِيرِكَ. فَيَقُولُ زَيْدٌ: وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ إِلَى خَالِدٍ أَبَدًا. ثُمَّ أَذِنَ لَهُ يَوْمًا بَعْدَ طُولِ حَبْسٍ، وَرَقِيَ عَلِّيَّةً طَوِيلَةً، وَأَمَرَ خَادِمًا أَنْ يَتْبَعَهُ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ زَيْدٌ وَيَسْمَعَ مَا يَقُولُ، فَصَعِدَ زَيْدٌ، وَكَانَ بَدِينًا، فَوَقَفَ فِي بَعْضِ الدَّرَجَةِ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا يُحِبُّ الدُّنْيَا أَحَدٌ إِلَّا ذَلَّ. ثُمَّ صَعِدَ إِلَى هِشَامٍ فَحَلَفَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ، فَقَالَ: لَا أُصَدِّقُكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْفَعْ أَحَدًا عَنْ أَنْ يَرْضَى بِاللَّهِ، وَلَمْ يَضَعْ أَحَدًا عَنْ أَلَّا يَرْضَى بِذَلِكَ مِنْهُ. فَقَالَ هِشَامٌ: لَقَدْ بَلَغَنِي يَا زَيْدُ أَنَّكَ تَذْكُرُ الْخِلَافَةَ وَتَتَمَنَّاهَا، وَلَسْتَ هُنَالِكَ وَأَنْتَ ابْنُ أَمَةٍ. قَالَ زَيْدٌ: إِنَّ لَكَ جَوَابًا. قَالَ: فَتَكَلَّمْ. قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَوْلَى بِاللَّهِ، وَلَا أَرْفَعَ دَرَجَةً عِنْدَهُ مِنْ نَبِيٍّ ابْتَعَثَهُ، وَقَدْ كَانَ إِسْمَاعِيلُ ابْنَ أَمَةٍ، وَأَخُوهُ ابْنَ صَرِيحَةٍ فَاخْتَارَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَ مِنْهُ خَيْرَ الْبَشَرِ، وَمَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ ذَلِكَ إِذْ كَانَ جَدُّهُ رَسُولَ اللَّهِ، وَأَبُوهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مَا كَانَتْ أُمُّهُ أَمَةً. قَالَ لَهُ هِشَامٌ: اخْرُجْ. قَالَ: أَخْرُجُ ثُمَّ لَا أَكُونُ إِلَّا بِحَيْثُ تَكْرَهُ. فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: يَا أَبَا الْحُسَيْنِ لَا تُظْهِرَنَّ هَذَا مِنْكَ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَسَارَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:

أُذَكِّرُكَ اللَّهَ يَا زَيْدُ لَمَّا لَحِقْتَ بِأَهْلِكَ وَلَا تَأْتِ أَهْلَ الْكُوفَةِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَفُونَ لَكَ، فَلَمْ يَقْبَلْ. فَقَالَ لَهُ: خَرَجَ بِنَا أُسَرَاءُ عَلَى غَيْرِ ذَنْبٍ مِنِ الْحِجَازِ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ إِلَى الْجَزِيرَةِ، ثُمَّ إِلَى الْعِرَاقِ إِلَى قَيْسِ ثَقِيفٍ يَلْعَبُ بِنَا، وَقَالَ: بَكَرَتْ تُخَوِّفُنِي الْحُتُوفَ كَأَنَّنِي ... أَصْبَحْتُ عَنْ عَرَضِ الْحَيَاةِ بِمَعْزِلِ فَأَجَبْتُهَا: إِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْهَلٌ ... لَا بُدَّ أَنْ أُسْقَى بِكَأْسِ الْمَنْهَلِ إِنَّ الْمَنِيَّةَ لَوْ تُمَثَّلُ مُثِّلَتْ ... مِثْلَى إِذَا نَزَلُوا بِضَيْقِ الْمَنْزِلِ فَاقْنَيْ حَيَاءَكِ لَا أَبَا لَكِ وَاعْلَمِي ... أَنِّي امْرُؤٌ سَأَمُوتُ إِنْ لَمْ أُقْتَلِ أَسَتُودِعُكَ اللَّهَ وَإِنِّي أُعْطِي اللَّهَ عَهْدًا إِنْ دَخَلَتْ يَدٌ فِي طَاعَةِ هَؤُلَاءِ مَا عِشْتُ. وَفَارَقَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَأَقَامَ بِهَا مُسْتَخْفِيًا يَتَنَقَّلُ فِي الْمَنَازِلِ، وَأَقْبَلَتِ الشِّيعَةُ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ تُبَايِعُهُ، فَبَايَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، وَنَصْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ الْعَبْسِيُّ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَنَاسٌ مِنْ وُجُوهِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ: إِنَّا نَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجِهَادِ الظَّالِمِينَ، وَالدَّفْعِ عَنِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَإِعْطَاءِ الْمَحْرُومِينَ، وَقَسْمِ هَذَا الْفَيْءِ بَيْنَ أَهْلِهِ بِالسَّوَاءِ، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ، وَنَصْرِ أَهْلِ الْبَيْتِ، أَتُبَايِعُونَ عَلَى ذَلِكَ؟ فَإِذَا قَالُوا: نَعَمْ، وَضَعَ يَدَهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَيَقُولُ: عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ وَذِمَّتُهُ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَتَفِيَنَّ بِبَيْعَتِي، وَلَتُقَاتِلَنَّ عَدُوِّي، وَلَتَنْصَحَنَّ لِي فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، فَإِذَا قَالَ: نَعَمْ، مَسَحَ يَدَهُ عَلَى يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ. فَبَايَعَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ أَلْفًا، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالِاسْتِعْدَادِ، فَأَقْبَلَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَفِيَ لَهُ وَيَخْرُجَ مَعَهُ وَيَسْتَعِدَّ وَيَتَهَيَّأَ، فَشَاعَ أَمْرُهُ فِي النَّاسِ. هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَتَى الْكُوفَةَ مِنَ الشَّامِ، وَاخْتَفَى بِهَا يُبَايِعُ النَّاسَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَتَى إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ لِمُوَافَقَةِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ أَوِ ابْنِهِ

يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ، فَإِنَّ زَيْدًا أَقَامَ بِالْكُوفَةِ ظَاهِرًا وَمَعَهُ دَاوُدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَقْبَلَتِ الشِّيعَةُ تَخْتَلِفُ إِلَى زَيْدٍ وَتَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ وَيَقُولُونَ: إِنَّا لَنَرْجُوَ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ الْمَنْصُورُ، وَإِنَّ هَذَا الزَّمَانَ هُوَ الَّذِي تَهْلِكُ فِيهِ بَنُو أُمَيَّةَ. فَأَقَامَ بِالْكُوفَةِ، وَجَعَلَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ يَسْأَلُ عَنْهُ فَيُقَالُ: هُوَ هَاهُنَا، وَيَبْعَثُ إِلَيْهِ لِيَسِيرَ فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَيَعْتَلُّ بِالْوَجَعِ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يُوسُفُ لِيَسِيرَ، فَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ يَبْتَاعُ أَشْيَاءَ يُرِيدُهَا. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يُوسُفُ بِالْمَسِيرِ عَنِ الْكُوفَةِ، فَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ يُحَاكِمُ بَعْضَ آلِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بِمُلْكٍ بَيْنَهُمَا بِالْمَدِينَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ لِيُوَكِّلَ وَكِيلًا وَيَرْحَلَ عَنْهَا. فَلَمَّا رَأَى جِدَّ يُوسُفَ فِي أَمْرِهِ سَارَ حَتَّى أَتَى الْقَادِسِيَّةَ، وَقِيلَ الثَّعْلَبِيَّةَ، فَتَبِعَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْكَ أَحَدٌ نَضْرِبُ عَنْكَ بِأَسْيَافِنَا، وَلَيْسَ هَاهُنَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ إِلَّا عِدَّةٌ يَسِيرَةٌ، بَعْضُ قَبَائِلِنَا يَكْفِيكَهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَلَفُوا لَهُ بِالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَخْذُلُونِي وَتُسْلِمُونِي كَفِعْلِكُمْ بِأَبِي وَجَدِّي، فَيَحْلِفُونَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَابْنَ عَمِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ يَغُرُّونَكَ مِنْ نَفْسِكَ، أَلَيْسَ قَدْ خَذَلُوا مَنْ كَانَ أَعَزَّ عَلَيْهِمْ مِنْكَ، جَدَّكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حَتَّى قُتِلَ؟ وَالْحَسَنَ مِنْ بَعْدِهِ بَايَعُوهُ، ثُمَّ وَثَبُوا عَلَيْهِ، فَانْتَزَعُوا رِدَاءَهُ وَجَرَحُوهُ؟ أَوَلَيْسَ قَدْ أَخْرَجُوا جَدَّكَ الْحُسَيْنَ، وَحَلَفُوا لَهُ وَخَذَلُوهُ وَأَسْلَمُوهُ، وَلَمْ يَرْضَوْا بِذَلِكَ حَتَّى قَتَلُوهُ؟ فَلَا تَرْجِعْ مَعَهُمْ. فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَا يُرِيدُ أَنْ تَظْهَرَ أَنْتَ، وَيَزْعُمَ أَنَّهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ أَوْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكُمْ. فَقَالَ زَيْدٌ لِدَاوُدَ: إِنَّ عَلِيًّا كَانَ يُقَاتِلُهُ مُعَاوِيَةُ بِدَهَائِهِ وَنَكْرَائِهِ بِأَهْلِ الشَّامِ، وَإِنَّ الْحُسَيْنَ قَاتَلَهُ يَزِيدُ وَالْأَمْرُ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ دَاوُدُ: إِنِّي خَائِفٌ إِنْ رَجَعْتَ مَعَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ أَشَدَّ عَلَيْكَ مِنْهُمْ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ. وَمَضَى دَاوُدُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ زَيْدٌ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ زَيْدٌ أَتَاهُ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، فَذَكَرَ لَهُ قَرَابَتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَقَّهُ، فَأَحْسَنَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: نَنْشُدُكَ اللَّهَ كَمْ بَايَعَكَ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ أَلْفًا. قَالَ: فَكَمْ بَايَعَ جَدَّكَ؟ قَالَ: ثَمَانُونَ أَلْفًا. قَالَ: فَكَمْ حَصَلَ مَعَهُ؟ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةٍ. قَالَ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ جَدُّكَ؟ قَالَ: جَدِّي. قَالَ: فَهَذَا الْقَرْنُ خَيْرٌ أَمْ ذَلِكَ الْقَرْنُ؟ قَالَ: ذَلِكَ الْقَرْنُ. قَالَ: أَفَتَطْمَعُ أَنْ يَفِيَ لَكَ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ غَدَرَ أُولَئِكَ بِجَدِّكَ؟ قَالَ: قَدْ بَايَعُونِي وَوَجَبَتِ الْبَيْعَةُ فِي عُنُقِي وَأَعْنَاقِهِمْ. قَالَ: أَفَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ؟ فَلَا آمَنُ أَنْ يَحْدُثَ حَدَثٌ فَلَا أَمْلِكُ نَفْسِي. فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ إِلَى

الْيَمَامَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مُبَايَعَةِ سَلَمَةَ. وَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ إِلَى زَيْدٍ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ نَفْخُ الْعَلَانِيَةِ، خَوَرُ السَّرِيرَةِ، هَرَجٌ فِي الرَّخَاءِ، جَزَعٌ فِي اللِّقَاءِ، تَقَدَمُهُمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَلَا تُشَايِعُهُمْ قُلُوبُهُمْ، وَلَقَدْ تَوَاتَرَتْ إِلَيَّ كُتُبُهُمْ بِدَعْوَتِهِمْ، فَصَمَمْتُ عَنْ نِدَائِهِمْ، وَأَلْبَسْتُ قَلْبِي غِشَاءً عَنْ ذِكْرِهِمْ يَأْسًا مِنْهُمْ وَاطِّرَاحًا لَهُمْ، وَمَا لَهُمْ مَثَلٌ إِلَّا مَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: " إِنْ أُهْمِلْتُمْ خُضْتُمْ، وَإِنْ حُورِبْتُمْ خِرْتُمْ، وَإِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ طَعَنْتُمْ، وَإِنْ أَجَبْتُمْ إِلَى مَشَاقَّةٍ نَكَصْتُمْ ". فَلَمْ يُصْغِ زَيْدٌ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَأَقَامَ عَلَى حَالِهِ يُبَايِعُ النَّاسَ وَيَتَجَهَّزُ لِلْخُرُوجِ، وَتَزَوَّجَ بِالْكُوفَةِ ابْنَةَ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيِّ، وَتَزَوَّجَ أَيْضًا ابْنَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْعَنْبَسِيِّ الْأَزْدِيِّ. وَكَانَ سَبَبُ تَزَوُّجِهِ إِيَّاهَا أَنَّ أُمَّهَا أُمَّ عَمْرٍو بِنْتَ الصَّلْتِ كَانَتْ تَتَشَيَّعُ، فَأَتَتْ زَيْدًا تُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً حَسْنَاءَ قَدْ دَخَلَتْ فِي السِّنِّ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهَا، فَخَطَبَهَا زَيْدٌ إِلَى نَفْسِهَا، فَاعْتَذَرَتْ بِالسِّنِّ وَقَالَتْ لَهُ: لِيَ ابْنَةٌ هِيَ أَجْمَلُ مِنِّي وَأَبْيَضُ وَأَحْسَنُ دَلًّا وَشَكْلًا. فَضَحِكَ زِيدٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا. وَكَانَ يَتَنَقَّلُ بِالْكُوفَةِ تَارَةً عِنْدَهَا، وَتَارَةً عِنْدَ زَوْجِهِ الْأُخْرَى، وَتَارَةً فِي بَنِي عَبْسٍ، وَتَارَةً فِي بَنِي هِنْدٍ، وَتَارَةً فِي بَنِي تَغْلِبَ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنْ ظَهَرَ. ذِكْرُ غَزَوَاتِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ مَرَّتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا مِنْ نَحْوِ الْبَابِ الْجَدِيدِ، فَسَارَ مِنْ بَلْخٍ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَرْوَ فَخَطَبَ النَّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَدْ أَقَامَ مَنْصُورَ بْنَ عُمَرَ بْنِ أَبِي الْخَرْقَاءِ عَلَى كَشْفِ الْمَظَالِمِ، وَأَنَّهُ قَدْ وَضَعَ الْجِزْيَةَ عَمَّنْ قَدْ أَسْلَمَ، وَجَعَلَهَا عَلَى مَنْ كَانَ يُخَفِّفُ عَنْهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَلَمْ تَمْضِ جُمْعَةٌ حَتَّى أَتَاهُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ مُسْلِمٍ كَانُوا يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ عَنْ رُءُوسِهِمْ، وَثَمَانُونَ أَلْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانَتْ قَدْ أُلْقِيَتْ عَنْهُمْ، فَحَوَّلَ مَا كَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ وَوَضَعَهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ صَنَّفَ

الْخَرَاجَ وَوَضَعَهُ مَوَاضِعَهُ. ثُمَّ غَزَا الثَّانِيَةَ إِلَى وَرَغْسَرَ وَسَمَرْقَنْدَ ثُمَّ رَجَعَ. ثُمَّ غَزَا الثَّالِثَةَ إِلَى الشَّاشِ مِنْ مَرْوَ، فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُبُورِ نَهْرِ الشَّاشِ كُورْصُولُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَكَانَ مَعَهُمُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ، وَعَبَرَ كُورْصُولُ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا، فَبَيَّتَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَمَعَ نَصْرٍ بُخَارَاخُذَاهْ فِي أَهْلِ بُخَارَى، وَمَعَهُ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ وَكَشٍّ وَنَسَفَ، وَهُمْ عِشْرُونَ أَلْفًا، فَنَادَى نَصْرٌ: أَلَّا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ وَاثْبُتُوا عَلَى مَوَاضِعِكُمْ. فَخَرَجَ عَاصِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهُوَ عَلَى جُنْدِ سَمَرْقَنْدَ، فَمَرَّتْ بِهِ خَيْلُ التُّرْكِ، فَحَمَلَ عَلَى رَجُلٍ فِي آخِرِهِمْ فَأَسَرَهُ، فَإِذَا هُوَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِهِمْ صَاحِبُ أَرْبَعَةِ آلَافِ قُبَّةٍ، فَأَتَى بِهِ إِلَى نَصْرٍ، فَقَالَ لَهُ نَصْرٌ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: كُورْصُولُ. فَقَالَ نَصْرٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمْكَنَ مِنْكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ. قَالَ: مَا تَرْجُو مِنْ قَتْلِ شَيْخٍ؟ وَأَنَا أُعْطِيكَ أَرْبَعَةَ آلَافِ بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِ التُّرْكِ وَأَلْفَ بِرْذَوْنٍ تُقَوِّي بِهَا جُنْدَكَ وَتُطْلِقُ سَبِيلِي. فَاسْتَشَارَ نَصْرٌ أَصْحَابَهُ، فَأَشَارُوا بِإِطْلَاقِهِ، فَسَأَلَهُ عَنْ عُمْرِهِ، قَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ: كَمْ غَزَوْتَ؟ قَالَ: اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ غَزْوَةً. قَالَ: أَشْهِدْتَ يَوْمَ الْعَطَشِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَوْ أَعْطَيْتَنِي مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مَا أَفْلَتَّ مِنْ يَدِي بَعْدَ مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَشَاهِدِكَ. وَقَالَ لِعَاصِمِ بْنِ عُمَيْرٍ السَّعْدِيِّ: قُمْ إِلَى سَلَبِهِ فَخُذْهُ. فَقَالَ: مَنْ أَسَرَنِي؟ قَالَ نَصْرٌ، وَهُوَ يَضْحَكُ: أَسَرَكَ يَزِيدُ بْنُ قِرَانٍ الْحَنْظَلِيُّ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ. قَالَ: هَذَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَغْسِلَ اسْتَهُ، أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُتِمَّ لَهُ بَوْلَهُ فَكَيْفَ يَأْسِرُنِي؟ أَخْبِرْنِي مَنْ أَسَرَنِي؟ قَالَ: أَسَرَكَ عَاصِمُ بْنُ عُمَيْرٍ. قَالَ: لَسْتُ أَجِدُ أَلَمَ الْقَتْلِ إِذَا كَانَ أَسَرَنِي فَارِسٌ مِنْ فُرْسَانِ الْعَرَبِ. فَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ. وَعَاصِمُ بْنُ عُمَيْرٍ هُوَ الْهَزَارْمَرْدُ، قُتِلَ بِنَهَاوَنْدَ أَيَّامَ قَحْطَبَةَ. فَلَمَّا قُتِلَ كُورْصُولُ أَحْرَقَتِ التُّرْكُ أَبْنِيَتَهُ وَقَطَعُوا آذَانَهُمْ وَقَصُّوا شُعُورَهُمْ وَأَذْنَابَ خَيْلِهِمْ. فَلَمَّا أَرَادَ نَصْرٌ الرُّجُوعَ أَحْرَقَهُ لِئَلَّا يَحْمِلُوا عِظَامَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ قَتْلِهِ، وَارْتَفَعَ إِلَى فَرْغَانَةَ فَسَبَى بِهَا أَلْفَ رَأْسٍ. وَكَتَبَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ إِلَى نَصْرٍ: سِرْ إِلَى هَذَا الْغَارِزِ ذَنَبَهُ فِي الشَّاشِ، يَعْنِي الْحَارِثَ بْنَ سُرَيْجٍ، فَإِنْ أَظْفَرَكَ اللَّهُ بِهِ وَبِأَهْلِ الشَّاشِ فَخَرِّبْ بِلَادَهُمْ وَاسْبِ ذَرَارِيَهُمْ، إِيَّاكَ وَوَرْطَةَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَرَأَ الْكِتَابَ عَلَى النَّاسِ وَاسْتَشَارَهُمْ، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ

الْحُضَيْنِ: (امْضِ لِأَمْرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْرِ الْأَمِيرِ) . فَقَالَ نَصْرٌ: يَا يَحْيَى تَكَلَّمْتَ بِكَلِمَةٍ أَيَّامَ عَاصِمٍ بَلَغَتِ الْخَلِيفَةَ فَحَظِيتَ بِهَا وَبَلَغْتَ الدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ، فَقُلْتَ أَقُولُ مِثْلَهَا، سِرْ يَا يَحْيَى قَدْ وَلَّيْتُكَ مُقَدِّمَتِي. فَلَامَ النَّاسُ يَحْيَى، فَسَارَ إِلَى الشَّاشِ، فَأَتَاهُمُ الْحَارِثُ فَنَصَبَ عَلَيْهِمْ عَرَّادَتَيْنِ، وَأَغَارَ الْأَخْرَمُ، وَهُوَ فَارِسُ التُّرْكِ، عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوهُ وَأَلْقَوْا رَأْسَهُ إِلَى التُّرْكِ، فَصَاحُوا وَانْهَزَمُوا. وَسَارَ نَصْرٌ إِلَى الشَّاشِ، فَتَلَقَّاهُ مَلِكُهَا بِالصُّلْحِ وَالْهَدِيَّةِ وَالرَّهْنِ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ نَصْرٌ إِخْرَاجَ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ عَنْ بَلَدِهِ، فَأَخْرَجَهُ إِلَى فَارَابَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الشَّاشِ نَيْزَكَ بْنَ صَالِحٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ قُبَا مِنْ أَرْضِ فَرْغَانَةَ، وَكَانُوا أَحَسُّوا بِمَجِيئِهِ فَأَحْرَقُوا الْحَشِيشَ وَقَطَعُوا الْمِيرَةَ، فَوَجَّهَ نَصْرٌ إِلَى وَلِيِّ [عَهْدِ] صَاحِبِ فَرْغَانَةَ فَحَاصَرَهُ فِي حِصْنٍ، وَغَفَلُوا عَنْهُ فَخَرَجَ وَغَنِمَ دَوَابَّ الْمُسْلِمِينَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ نَصْرٌ رِجَالًا مِنْ تَمِيمٍ وَمَعَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ وَدَوَابُّهُمْ كَمَنُوا لَهُمْ، فَخَرَجُوا وَاسْتَاقُوا بَعْضَهَا، وَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا الدِّهْقَانَ، وَأَسَرُوا مِنْهُمْ وَأَسَرُوا ابْنَ الدِّهْقَانِ فَقَتَلَهُ نَصْرٌ، وَأَرْسَلَ نَصْرٌ سُلَيْمَانَ بْنَ صُولٍ بِكِتَابِ الصُّلْحِ إِلَى صَاحِبِ فَرْغَانَةَ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُدْخِلَ الْخَزَائِنَ لِيَرَاهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَ الطَّرِيقَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ؟ قَالَ: سَهْلًا كَثِيرَ الْمَاءِ وَالْمَرَاعِي، (فَكَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ: مَا عِلْمُكَ؟ فَقَالَ سُلَيْمَانُ: قَدْ غَزَوْتُ غَرْشِسْتَانَ وَغُورَ) وَالْخُتُّلَ وَطَبَرِسْتَانَ فَكَيْفَ لَا أَعْلَمُ؟ قَالَ: فَكَيْفَ رَأَيْتَ مَا أَعْدَدْنَا؟ قَالَ: عُدَّةٌ حَسَنَةٌ، وَلَكِنْ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ [صَاحِبَ] الْحِصَارِ لَا يَسْلَمُ مِنْ خِصَالٍ، لَا يَأْمَنُ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ وَأَوْثَقَهُمْ فِي نَفْسِهِ [أَنْ يَثِبَ بِهِ يَطْلُبُ مَرْتَبَتَهُ وَيَتَقَرَّبُ بِذَلِكَ] ، أَوْ يُفْنِيَ مَا [قَدْ] جَمَعَ فَيَسْلَمُ بِرُمَّتِهِ، أَوْ يُصِيبُهُ دَاءٌ فَيَمُوتُ. فَكَرِهَ مَا قَالَ لَهُ وَأَمَرَهُ فَأُحْضِرَ كِتَابُ الصُّلْحِ، فَأَجَابَ إِلَيْهِ وَسَيَّرَ أُمَّهُ مَعَهُ، وَكَانَتْ صَاحِبَةُ أَمْرِهِ، فَقَدِمَتْ عَلَى نَصْرٍ، فَأَذِنَ لَهَا وَجَعَلَ يُكَلِّمُهَا، وَكَانَ مِمَّا قَالَتْ لَهُ: كُلُّ مَلِكٍ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ سِتَّةُ أَشْيَاءَ فَلَيْسَ بِمَلِكٍ، وَزِيرٌ يَبُثُّ إِلَيْهِ مَا فِي نَفْسِهِ وَيُشَاوِرُهُ وَيَثِقُ بِنَصِيحَتِهِ، وَطَبَّاخٌ إِذَا لَمْ يَشْتَهِ الطَّعَامَ اتَّخَذَ لَهُ مَا يَشْتَهِي، وَزَوْجَةٌ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُغْتَمًّا فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهَا زَالَ غَمُّهُ، وَحِصْنٌ إِذَا فَزِعَ أَتَاهُ فَأَنْجَاهُ، تَعْنِي الْبِرْذَوْنَ، وَسَيْفٌ إِذَا قَاتَلَ لَا يَخْشَى خِيَانَتَهُ، وَذَخِيرَةٌ إِذَا حَمَلَهَا عَاشَ بِهَا أَيْنَ كَانَ مِنَ الْأَرْضِ. ثُمَّ دَخَلَ تَمِيمُ بْنُ نَصْرٍ فِي جَمَاعَةٍ فَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا فَتَى خُرَاسَانَ

تَمِيمُ بْنُ نَصْرٍ. قَالَتْ: مَا لَهُ نُبْلُ الْكَبِيرِ وَلَا حَلَاوَةُ الصَّغِيرِ، ثُمَّ دَخَلَ الْحَجَّاجُ بْنُ قُتَيْبَةَ فَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: الْحَجَّاجُ بْنُ قُتَيْبَةَ، فَحَيَّتْهُ وَسَأَلَتْ عَنْهُ وَقَالَتْ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ مَا لَكُمْ وَفَاءٌ وَلَا يُصْلِحُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. قُتَيْبَةُ الَّذِي ذَلَّلَ لَكُمْ مَا أَرَى، وَهَذَا ابْنُهُ تُقْعِدُهُ دُونَكَ فَحَقُّهُ أَنْ تُجْلِسَهُ أَنْتَ هَذَا الْمَجْلِسَ وَتَجْلِسَ أَنْتَ مَجْلِسَهُ. ذِكْرُ غَزْوِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ غَزَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ إِرْمِينِيَّةَ وَهُوَ وَالِيهَا، فَأَتَى قَلْعَةَ بَيْتِ السَّرِيرِ فَقَتَلَ وَسَبَى، ثُمَّ أَتَى قَلْعَةً ثَانِيَةً فَقَتَلَ وَسَبَى، وَدَخَلَ غُومِيكَ وَهُوَ حِصْنٌ فِيهِ بَيْتُ الْمَلِكِ وَسَرِيرُهُ، فَهَرَبَ الْمَلِكُ مِنْهُ حَتَّى أَتَى حِصْنًا يُقَالُ لَهُ خَيْزَجُ فِيهِ السَّرِيرُ الذَّهَبُ، فَسَارَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ وَنَازَلَهُ صَيْفِيَّتَهُ وَشِتْوِيَّتَهُ، فَصَالَحَ الْمَلِكَ عَلَى أَلْفِ رَأْسٍ كُلَّ سَنَةٍ وَمِائَةِ أَلْفِ مُدْيٍ، وَسَارَ مَرْوَانُ فَدَخَلَ أَرْضَ ازْرُوبَطْرَانَ، فَصَالَحَهُ مَلِكُهَا، ثُمَّ سَارَ فِي أَرْضِ تُومَانَ فَصَالَحَهُ، وَسَارَ حَتَّى أَتَى حَمْزِينَ فَأَخْرَبَ بِلَادَهُ وَحَصَرَ حِصْنًا لَهُ شَهْرًا فَصَالَحَهُ، ثُمَّ أَتَى مَرْوَانُ أَرْضَ مَسْدَازَ فَافْتَتَحَهَا عَلَى صُلْحٍ، ثُمَّ نَزَلَ مَرْوَانُ كِيرَانَ فَصَالَحَهُ طَبَرِسْرَانَ وَفِيلَانَ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ مِنْ إِرْمِينِيَّةَ إِلَى طَبَرِسْتَانَ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ الرُّومَ فَافْتَتَحَ بِهَا مَطَامِيرَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ، وَهُوَ كَانَ عَامِلَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ. وَعَلَى الْعِرَاقِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، وَعَلَى إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ عَامِرُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ ابْنُ شُبْرُمَةَ. وَفِيهَا فَرَغَ الْوَلِيدُ بْنُ بُكَيْرٍ عَامِلُ الْمَوْصِلِ مِنْ حَفْرِ النَّهْرِ الَّذِي أَدْخَلَهُ الْبَلَدَ، وَكَانَ مَبْلَغُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةَ أَحْجَارٍ تَطْحَنُ، وَوَقَفَ هِشَامٌ هَذِهِ الْأَرْحَاءَ عَلَى عَمَلِ النَّهْرِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ سَلَمَةُ بْنُ سُهَيْلٍ، وَقِيلَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ. وَفِيهَا مَاتَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقِيلَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ بِالشَّامِ. وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً بِالْمَدِينَةِ، (حَبَّانُ: بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) . وَقُتِلَ يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ شَهِيدًا بِأَرْضِ الرُّومِ.

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةً] 122 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةً ذِكْرُ مَقْتَلِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَدْ ذُكِرَ سَبَبُ مُقَامِهِ بِالْكُوفَةِ وَبَيْعَتُهُ بِهَا. فَلَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْخُرُوجِ، وَأَخَذَ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْوَفَاءَ لَهُ بِالْبَيْعَةِ يَتَجَهَّزُ، انْطَلَقَ سُلَيْمَانُ بْنُ سُرَاقَةَ الْبَارِقِيُّ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَبَعَثَ يُوسُفُ فِي طَلَبِ زَيْدٍ فَلَمْ يُوجَدْ، وَخَافَ زَيْدٌ أَنْ يُؤْخَذَ فَيَتَعَجَّلَ قَبْلَ الْأَجَلِ الَّذِي جَعَلَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ يَوْمَئِذٍ الْحَكَمُ بْنُ الصَّلْتِ، وَعَلَى شُرْطَتِهِ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنَ الْقَارَةِ وَمَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ الْكِنْدِيُّ فِي نَاسٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَيُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بِالْحِيرَةِ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَى أَصْحَابُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُ أَمْرُهُ، وَأَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ أَمْرِهِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِهِمْ وَقَالُوا: رَحِمَكَ اللَّهُ، مَا قَوْلُكَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ قَالَ زَيْدٌ: رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُمَا، مَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَقُولُ فِيهِمَا إِلَّا خَيْرًا، وَإِنَّ أَشَدَّ مَا أَقُولُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ أَنَّا كُنَّا أَحَقَّ بِسُلْطَانِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَدَفَعُونَا عَنْهُ وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِهِمْ كُفْرًا، وَقَدْ وُلُّوا فَعَدَلُوا فِي النَّاسِ وَعَمِلُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالُوا: فَلِمَ يَظْلِمُكَ هَؤُلَاءِ إِذَا كَانَ أُولَئِكَ لَمْ يَظْلِمُوكَ، فَلِمَ تَدْعُو إِلَى قِتَالِهِمْ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا كَأُولَئِكَ، هَؤُلَاءِ ظَالِمُونَ لِي وَلَكُمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا نَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى السُّنَنِ أَنْ تُحْيَا، وَإِلَى الْبِدَعِ أَنْ تُطْفَأَ، فَإِنْ أَجَبْتُمُونَا سَعِدْتُمْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. فَفَارَقُوهُ وَنَكَثُوا بَيْعَتَهُ وَقَالُوا: سَبَقَ الْإِمَامُ، يَعْنُونَ مُحَمَّدًا الْبَاقِرَ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ، وَقَالُوا: جَعْفَرٌ ابْنُهُ إِمَامُنَا الْيَوْمَ بَعْدَ أَبِيهِ، فَسَمَّاهُمْ زَيْدٌ الرَّافِضَةَ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُغِيرَةَ سَمَّاهُمُ الرَّافِضَةَ حَيْثُ فَارَقُوهُ.

وَكَانَتْ طَائِفَةٌ أَتَتْ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ قَبْلَ خُرُوجِ زَيْدٍ، فَأَخْبَرُوهُ بِبَيْعَةَ زَيْدٍ، فَقَالَ: بَايِعُوهُ فَهُوَ وَاللَّهِ أَفْضَلُنَا وَسَيِّدُنَا، فَعَادُوا وَكَتَمُوا ذَلِكَ. وَكَانَ زَيْدٌ وَاعَدَ أَصْحَابَهُ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ صَفَرٍ، وَبَلَغَ ذَلِكَ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ، فَبَعَثَ إِلَى الْحَكَمِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَ الْكُوفَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ يَحْصُرُهُمْ فِيهِ، فَجَمَعَهُمْ فِيهِ، وَطَلَبُوا زَيْدًا فِي دَارِ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيِّ، فَخَرَجَ مِنْهَا لَيْلًا، وَرَفَعُوا الْهَرَادِيَّ فِيهَا النِّيرَانُ وَنَادَوْا: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ أَمِتْ، حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا بَعْثَ زَيْدٌ الْقَاسِمَ التُّبَّعِيَّ ثُمَّ الْحَضْرَمِيَّ وَآخَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ يُنَادِيَانِ بِشِعَارِهِمَا، فَلَمَّا كَانَا بِصَحْرَاءِ عَبْدِ الْقَيْسِ لَقِيَهُمَا جَعْفَرُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْكِنْدِيُّ فَحَمَلَا عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَتَلَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْقَاسِمِ التُّبَّعِيِّ وَارْتُثَّ الْقَاسِمُ وَأُتِيَ بِهِ الْحَكَمُ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ، فَكَانَا أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ زَيْدٍ. وَأَغْلَقَ الْحَكَمُ دُرُوبَ السُّوقِ وَأَبْوَابَ الْمَسْجِدِ عَلَى النَّاسِ. وَبَعَثَ الْحَكَمُ إِلَى يُوسُفَ بِالْحِيرَةِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَأَرْسَلَ جَعْفَرَ بْنَ الْعَبَّاسِ لِيَأْتِيَهُ بِالْخَبَرِ، فَسَارَ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا حَتَّى بَلَغَ جَبَّانَةَ سَالِمٍ فَسَأَلَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى يُوسُفَ فَأَخْبَرَهُ، فَسَارَ يُوسُفُ إِلَى تَلٍّ قَرِيبٍ مِنَ الْحِيرَةِ فَنَزَلَ عَلَيْهِ وَمَعَهُ أَشْرَافُ النَّاسِ، فَبَعَثَ الرَّيَّانَ بْنَ سَلَمَةَ الْأَرَّانِيَّ فِي أَلْفَيْنِ وَمَعَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ مِنَ الْقِيقَانِيَّةِ رَجَّالَةً مَعَهُمُ النَّشَّابُ. وَأَصْبَحَ زَيْدٌ فَكَانَ جَمِيعُ مَنْ وَافَاهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِائَتَيْ رَجُلٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَقَالَ زَيْدٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَيْنَ النَّاسُ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ مَحْصُورُونَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِعُذْرٍ لِمَنْ بَايَعَنَا! وَسَمِعَ نَصْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ الْعَبْسِيُّ النِّدَاءَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَلَقِيَ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبَ شُرْطَةِ الْحَكَمِ فِي خَيْلِهِ مِنْ جُهَيْنَةَ فِي الطَّرِيقِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ نَصْرٌ وَأَصْحَابُهُ، فَقُتِلَ عَمْرٌو وَانْهَزَمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ، وَأَقْبَلَ زَيْدٌ عَلَى جَبَّانَةِ سَالِمٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى جَبَّانَةِ الصَّائِدِينَ وَبِهَا خَمْسُمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ زَيْدٌ فِيمَنْ مَعَهُ وَهَزَمَهُمْ، فَانْتَهَى زَيْدٌ إِلَى دَارِ أَنَسِ بْنِ عَمْرٍو الْأَزْدِيِّ، وَكَانَ فِيمَنْ بَايَعَهُ وَهُوَ فِي الدَّارِ، فَنُودِيَ فَلَمْ يُجِبْهُمْ، وَنَادَاهُ زَيْدٌ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ، فَقَالَ زَيْدٌ: مَا أَخْلَفَكُمْ؟ قَدْ فَعَلْتُمُوهَا، اللَّهُ حَسِيبُكُمْ، ثُمَّ انْتَهَى زَيْدٌ إِلَى الْكُنَاسَةِ فَحَمَلَ عَلَى مَنْ بِهَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَهَزَمَهُمْ، ثُمَّ

سَارَ زَيْدٌ وَيُوسُفُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ، فَلَوْ قَصَدَهُ لَقَتَلَهُ، وَالرَّيَّانُ يَتْبَعُ أَثَرَ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ فِي أَهْلِ الشَّامِ، فَأَخَذَ زَيْدٌ عَلَى مُصَلَّى خَالِدٍ حَتَّى دَخَلَ الْكُوفَةَ، وَسَارَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ نَحْوَ جَبَّانَةِ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ، فَلَقَوْا أَهْلَ الشَّامِ فَقَاتَلُوهُمْ، فَأَسَرَ أَهْلُ الشَّامِ مِنْهُمْ رَجُلًا، فَأَمَرَ بِهِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فَقُتِلَ. فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ خِذْلَانَ النَّاسِ إِيَّاهُ قَالَ: يَا نَصْرُ بْنَ خُزَيْمَةَ أَنَا أَخَافُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ فَعَلُوهَا حُسَيْنِيَّةً. قَالَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَعَكَ حَتَّى أَمُوتَ، وَإِنَّ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ فَامْضِ بِنَا نَحْوَهُمْ. فَلَقِيَهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ الْكِنْدِيُّ عِنْدَ دَارِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ، وَجَاءَ زَيْدٌ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يُدْخِلُونَ رَايَاتِهِمْ مِنْ فَوْقِ الْأَبْوَابِ وَيَقُولُونَ: يَا أَهْلَ الْمَسْجِدِ اخْرُجُوا مِنَ الذُّلِّ إِلَى الْعِزِّ، اخْرُجُوا إِلَى الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَإِنَّكُمْ لَسْتُمْ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا. فَرَمَاهُمْ أَهْلُ الشَّامِ بِالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِ الْمَسْجِدِ. وَانْصَرَفَ الرَّيَّانُ عِنْدَ الْمَسَاءِ إِلَى الْحِيرَةِ، وَانْصَرَفَ زَيْدٌ فِيمَنْ مَعَهُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَنَزَلَ دَارَ الرِّزْقِ، فَأَتَاهُ الرَّيَّانُ بْنُ سَلَمَةَ فَقَاتَلَهُ عِنْدَ دَارِ الرِّزْقِ وَجُرِحَ أَهْلُ الشَّامِ وَمَعَهُمْ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَرَجَعَ أَهْلُ الشَّامِ مَسَاءَ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ أَسْوَأَ شَيْءٍ ظَنًّا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَرْسَلَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ الْعَبَّاسَ بْنَ سَعِيدٍ الْمُزَنِيَّ فِي أَهْلِ الشَّامِ فَانْتَهَى إِلَى زَيْدٍ فِي دَارِ الرِّزْقِ، فَلَقِيَهُ زَيْدٌ وَعَلَى مُجَنَّبَتِهِ نَصْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَحَمَلَ نَابِلُ بْنُ فَرْوَةَ الْعَبْسِيُّ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى نَصْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَ فَخِذَهُ، وَضَرَبَهُ نَصْرٌ فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَلْبَثْ نَصْرٌ أَنْ مَاتَ وَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْعَبَّاسِ وَقُتِلَ مِنْهُمْ نَحْوٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا. فَلَمَّا كَانَ الْعِشَاءُ عَبَّأَهُمْ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ ثُمَّ سَرَّحَهُمْ، فَالْتَقَوْا هُمْ وَأَصْحَابُ زَيْدٍ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ زِيدٌ فِي أَصْحَابِهِ فَكَشَفَهُمْ وَتَبِعَهُمْ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ إِلَى السَّبْخَةِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ بِالسَّبْخَةِ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، وَجَعَلَتْ خَيْلُهُمْ لَا تَثْبُتُ لِخَيْلِهِ، فَبَعَثَ الْعَبَّاسُ إِلَى يُوسُفَ يُعْلِمُهُ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ: ابْعَثْ إِلَيَّ النَّاشِبِيَّةَ، فَبَعَثَهُمْ إِلَيْهِ، فَجَعَلُوا يَرْمُونَ أَصْحَابَ زَيْدٍ، فَقَاتَلَ مُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَنْصَارِيُّ بَيْنَ يَدَيْ زَيْدٍ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ وَثَبَتَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى اللَّيْلِ، فَرُمِيَ زَيْدٌ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ جَانِبَ جَبْهَتِهِ الْيُسْرَى

فَثَبَتَ فِي دِمَاغِهِ، وَرَجَعَ أَصْحَابُهُ وَلَا يَظُنُّ أَهْلُ الشَّامِ أَنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَّا لِلْمَسَاءِ وَاللَّيْلِ، وَنَزَلَ زَيْدٌ فِي دَارٍ مِنْ دُورِ أَرْحَبَ، وَأَحْضَرَ أَصْحَابُهُ طَبِيبًا، فَانْتَزَعَ النَّصْلَ، فَضَجَّ زَيْدٌ، فَلَمَّا نَزَعَ النَّصْلَ مَاتَ زَيْدٌ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: أَيْنَ نَدْفِنُهُ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَطْرَحُهُ فِي الْمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَحْتَزُّ رَأْسَهُ وَنُلْقِيهِ فِي الْقَتْلَى. فَقَالَ ابْنُهُ يَحْيَى: وَاللَّهِ لَا تَأْكُلُ لَحْمَ أَبِي الْكِلَابُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَدْفِنُهُ فِي الْحُفْرَةِ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْهَا الطِّينُ وَنَجْعَلُ عَلَيْهِ الْمَاءَ، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا دَفَنُوهُ أَجْرَوْا عَلَيْهِ الْمَاءَ، وَقِيلَ: دُفِنَ بِنَهْرِ يَعْقُوبَ، سَكَّرَ أَصْحَابُهُ الْمَاءَ وَدَفَنُوهُ وَأَجْرَوُا الْمَاءَ، وَكَانَ مَعَهُمْ مَوْلًى لِزَيْدٍ سِنْدِيٌّ، وَقِيلَ رَآهُمْ فَسَارَ فَدَلَّ عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، وَسَارَ ابْنُهُ يَحْيَى نَحْوَ كَرْبَلَاءَ فَنَزَلَ بِنِينَوَى عَلَى سَابِقٍ مَوْلَى بِشْرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ بِشْرٍ. ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ تَتَبَّعَ الْجَرْحَى فِي الدُّورِ، فَدَلَّهُ السِّنْدِيُّ مَوْلَى زَيْدٍ يَوْمَ الْجُمْعَةِ عَلَى زَيْدٍ، فَاسْتَخْرَجَهُ مِنْ قَبْرِهِ وَقَطَعَ رَأْسَهُ وَسُيِّرَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ، سَيَّرَهُ الْحَكَمُ بْنُ الصَّلْتِ، فَأَمَرَ يُوسُفُ أَنْ يُصْلَبَ زَيْدٌ بِالْكُنَاسَةِ هُوَ وَنَصْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ وَزِيَادٌ النَّهْدِيُّ، وَأَمَرَ بِحِرَاسَتِهِمْ، وَبَعَثَ الرَّأْسَ إِلَى هِشَامٍ، فَصُلِبَ عَلَى بَابِ مَدِينَةِ دِمَشْقَ، ثُمَّ أُرْسِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَقِيَ الْبَدَنُ مَصْلُوبًا إِلَى أَنْ مَاتَ هِشَامٌ وَوَلِيَ الْوَلِيدُ فَأَمَرَ بِإِنْزَالِهِ وَإِحْرَاقِهِ. وَقِيلَ: كَانَ خِرَاشُ بْنُ حَوْشَبِ بْنِ يَزِيدَ الشَّيْبَانِيُّ عَلَى شُرْطَةِ زَيْدٍ، وَهُوَ الَّذِي نَبَشَ زَيْدًا وَصَلَبَهُ، فَقَالَ السَّيِّدُ الْحَمَوِيُّ: بِتُّ لَيْلًا مُسَهَّدًا ... سَاهِرَ الْعَيْنِ مُقْصَدًا وَلَقَدْ قُلْتُ قَوْلَةً ... وَأَطَلْتُ التَّبَلُّدَا لَعَنَ اللَّهُ حَوْشَبًا ... وَخِرَاشًا وَمَزْيَدَا وَيَزِيدًا فَإِنَّهُ ... كَانَ أَعْتَى وَأَعْنَدَا أَلْفُ أَلْفٍ وَأَلْفُ أَلْ ... فٍ مِنَ اللَّعْنِ سَرْمَدَا إِنَّهُمْ حَارَبُوا الْإِلَ ... هَ وَآذَوْا مُحَمَّدَا

شَرِكُوا فِي دَمِ الْمُطَهَّ رِ زَيْدٍ تَعَنُّدَا ... ثُمَّ عَالَوْهُ فَوْقَ جِذْ عٍ صَرِيعًا مُجَرَّدَا ... يَا خِرَاشُ بْنَ حَوْشَبٍ أَنْتَ أَشْقَى الْوَرَى غَدَا وَقِيلَ فِي أَمْرِ يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ زَيْدًا لَمَّا قُتِلَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ: إِنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ لَكُمْ شِيعَةٌ، وَالرَّأْيُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهَا. قَالَ: وَكَيْفَ لِي بِذَلِكَ؟ قَالَ: تَتَوَارَى حَتَّى يَسْكُنَ [عَنْكَ] الطَّلَبُ ثُمَّ تَخْرُجَ. فَوَارَاهُ عِنْدَهُ [لَيْلَةً] ، ثُمَّ خَافَ فَأَتَى بِهِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ قَرَابَةَ زَيْدٍ بِكَ قَرِيبَةٌ وَحَقَّهُ عَلَيْكَ وَاجِبٌ. قَالَ: أَجَلْ وَلَقَدْ كَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ أَقْرَبَ لِلتَّقْوَى. قَالَ: فَقَدْ قُتِلَ وَهَذَا ابْنُهُ غُلَامٌ حَدَثٌ لَا ذَنْبَ لَهُ، فَإِنْ عَلِمَ يُوسُفُ بِهِ قَتَلَهُ، أَفَتُجِيرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَتَاهُ بِهِ فَأَقَامَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا سَكَنَ الطَّلَبُ سَارَ فِي نَفَرٍ مِنَ الزَّيْدِيَّةِ إِلَى خُرَاسَانَ. فَغَضِبَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بَعْدَ قَتْلِ زِيدٍ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، إِنَّ يَحْيَى بْنَ زَيْدٍ يَنْتَقِلُ فِي حِجَالِ نِسَائِكُمْ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ أَبُوهُ، وَاللَّهِ لَوْ بَدَا لِي (لَعَرَقْتُ خِصْيَيْهِ كَمَا عَرَقْتُ خِصْيَيْ أَبِيهِ) ! وَتَهَدَّدَهُمْ وَذَمَّهُمْ وَتُرِكَ. ذَكْرُ قَتْلِ الْبَطَّالِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الْبَطَّالُ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ أَبُو الْحُسَيْنِ الْأَنْطَاكِيُّ، فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِبِلَادِ الرُّومِ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الْغَزَاةِ إِلَى الرُّومِ وَالْإِغَارَةِ عَلَى بِلَادِهِمْ، وَلَهُ عِنْدَهُمْ ذِكْرٌ عَظِيمٌ وَخَوْفٌ شَدِيدٌ. حُكِيَ أَنَّهُ دَخَلَ بِلَادَهُمْ فِي بَعْضِ غَزَاتِهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَدَخَلَ قَرْيَةً لَهُمْ لَيْلًا وَامْرَأَةٌ تَقُولُ لِصَغِيرٍ لَهَا يَبْكِي: تَسْكُتُ وَإِلَّا سَلَّمْتُكَ إِلَى الْبَطَّالِ! ثُمَّ رَفَعَتْهُ بِيَدِهَا وَقَالَتْ: خُذْهُ يَا بَطَّالُ! فَتَنَاوَلَهُ مِنْ يَدِهَا. وَسَيَّرَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ مَعَ ابْنِهِ مَسْلَمَةَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَأَمَّرَهُ عَلَى رُؤَسَاءِ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ، وَأَمَرَ ابْنَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ وَطَلَائِعِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ ثِقَةٌ شُجَاعٌ مِقْدَامٌ، فَجَعَلَهُ

مَسْلَمَةُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّومِ، وَكَانَ الْعَلَّافَةُ وَالسَّابِلَةُ يَسِيرُونَ آمِنِينَ. وَسَارَ مَرَّةً مَعَ عَسْكَرٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا صَارَ بِأَطْرَافِ الرُّومِ سَارَ وَحْدَهُ فَدَخَلَ بِلَادَهُمْ، فَرَأَى مُبْقِلَةً فَنَزَلَ فَأَكَلَ مِنْ ذَلِكَ الْبَقْلِ، فَجَاءَتْ جَوْفُهُ وَكَثُرَ إِسْهَالُهُ، فَخَافَ أَنْ يَضْعُفَ عَنِ الرُّكُوبِ فَرَكِبَ، وَصَارَ تَجِيءُ جَوْفُهُ فِي سَرْجِهِ وَلَا يَجْسُرُ يَنْزِلُ لِئَلَّا يَضْعُفَ عَنِ الرُّكُوبِ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الضَّعْفُ، فَاعْتَنَقَ رَقَبَةَ فَرَسِهِ وَسَارَ عَلَيْهِ وَلَا يَعْلَمُ أَيْنَ هُوَ، فَفَتَحَ عَيْنَهُ فَإِذَا هُوَ فِي دَيْرٍ فِيهِ نِسَاءٌ، فَاجْتَمَعْنَ عَلَيْهِ وَأَنْزَلَتْهُ إِحْدَاهُنَّ عَنْ فَرَسِهِ وَغَسَّلَتْهُ وَسَقَتْهُ دَوَاءً فَانْقَطَعَ عَنْهُ مَا بِهِ، وَأَقَامَ فِي الدَّيْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ إِنَّ بِطْرِيقًا حَضَرَ الدَّيْرَ فَخَطَبَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ وَبَلَغَهُ خَبَرُ الْبَطَّالِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ قَدْ جَعَلَتْهُ فِي بَيْتٍ مُخْتَفِيًا فَمَنَعَتْهُ مِنْهُ، ثُمَّ سَارَ الْبِطْرِيقُ عَنِ الدَّيْرِ، فَرَكِبَ الْبَطَّالُ وَتَبِعَهُ فَقَتَلَهُ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْبِطْرِيقِ، وَعَادَ إِلَى الدَّيْرِ وَأَلْقَى الرَّأْسَ إِلَى النِّسَاءِ وَأَخَذَهُنَّ وَسَاقَهُنَّ إِلَى الْعَسْكَرِ، فَنَقَلَ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ تِلْكَ الْمَرْأَةَ، فَهِيَ أُمُّ أَوْلَادِ الْبَطَّالِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ كُلْثُومُ بْنُ عِيَاضٍ الْقُشَيْرِيُّ الَّذِي كَانَ هِشَامٌ بَعَثَهُ فِي أَهْلِ الشَّامِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ حَيْثُ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِالْبَرْبَرِ. وَفِيهَا وُلِدَ الْفَضْلُ بْنُ صَالِحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَفِيهَا وَجَّهَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ ابْنَ شُبْرُمَةَ عَلَى سِجِسْتَانَ فَاسْتَقْضَى مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَكَانَ عُمَّالُ الْأَمْصَارِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، قِيلَ: وَكَانَ عَلَى الْمَوْصِلِ: أَبُو قُحَافَةَ ابْنُ أَخِي الْوَلِيدِ بْنِ تَلِيدٍ الْعَبْسِيِّ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالذَّكَاءِ، وَزَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ الْيَامِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ التَّيْمِيُّ، تَيْمُ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قِسْطٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ.

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ] 123 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ صُلْحِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ مَعَ الصُّغْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَالَحَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ الصُّغْدَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ خَاقَانَ لَمَّا قُتِلَ فِي وِلَايَةِ أَسَدٍ تَفَرَّقَتِ التُّرْكُ فِي غَارَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَطَمِعَ أَهْلُ الصُّغْدِ فِي الرَّجْعَةِ إِلَيْهَا، وَانْحَازَ قَوْمٌ مِنْهُمْ إِلَى الشَّاشِ، فَلَمَّا وَلِيَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى بِلَادِهِمْ وَأَعْطَاهُمْ مَا أَرَادُوا، وَكَانُوا يَنَالُونَ شُرُوطًا أَنْكَرَهَا أُمَرَاءُ خُرَاسَانَ، مِنْهَا: أَنْ لَا يُعَاقَبَ مَنْ كَانَ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُعَدَّى عَلَيْهِمْ فِي دَيْنٍ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يُؤْخَذُ أُسَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِيهِمْ إِلَّا بِقَضِيَّةِ قَاضٍ وَشَهَادَةِ عُدُولٍ. فَعَابَ النَّاسُ ذَلِكَ عَلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ وَقَالُوا لَهُ فِيهِ، فَقَالَ: لَوْ عَايَنْتُمْ شَوْكَتَهُمْ فِي الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ مَا عَايَنْتُ مَا أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ. وَأَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي ذَلِكَ فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ. ذِكْرُ وَفَاةِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ وَدُخُولِ بَلْجٍ الْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عُقْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ السَّلُولِيُّ أَمِيرُ الْأَنْدَلُسِ، فَقِيلَ: بَلْ ثَارَ بِهِ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ فَخَلَعُوهُ وَوَلَّوْا بَعْدَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ قَطَنٍ، وَهِيَ وِلَايَتُهُ الثَّانِيَةُ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَتِ الْبَرْبَرُ قَدْ فَعَلَتْ بِإِفْرِيقِيَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَقَدْ حَصَرُوا بَلْجَ بْنَ بِشْرٍ الْعَبْسِيَّ حَتَّى ضَاقَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ الْأَمْرُ وَاشْتَدَّ الْحَصْرُ، وَهُمْ صَابِرُونَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قَطَنٍ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ مَرَاكِبَ يَجُوزُ فِيهَا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَذَكَرَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَأَنَّهُمْ أَكَلُوا دَوَابَّهُمْ. فَامْتَنَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ إِدْخَالِهِمُ الْأَنْدَلُسِ وَوَعَدَهُمْ بِإِرْسَالِ الْمَدَدِ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَفْعَلْ.

فَاتَّفَقَ أَنَّ الْبَرْبَرَ قَوِيَتْ بِالْأَنْدَلُسِ، فَاضْطُرَّ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى إِدْخَالِ بَلْجٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي جَوَازِ بَلْجٍ فَخَوَّفُوهُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَخَافُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولَ: أَهْلَكْتَ جُنْدِي، فَأَجَازَهُمْ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقِيمُوا سَنَةً وَيَرْجِعُوا إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَخَذَ رَهَائِنَهُمْ وَأَجَازَهُمْ. فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ رَأَى هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ مَا بِهِمْ مِنْ سُوءِ الْحَالِ وَالْفَقْرِ وَالْعُرْيِ لِشِدَّةِ الْحِصَارِ عَلَيْهِمْ، فَكَسَوْهُمْ وَأَحْسَنُوا إِلَيْهِمْ، وَقَصَدُوا جَمْعًا مِنَ الْبَرْبَرِ بِشَدُونَةَ فَقَاتَلُوهُمْ فَظَفِرُوا بِالْبَرْبَرِ فَأَهْلَكُوهُمْ وَغَنِمُوا مَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ وَسِلَاحَهُمْ، فَصَلُحَتْ أَحْوَالُ أَصْحَابِ بَلْجٍ وَصَارَ لَهُمْ دَوَابٌّ يَرْكَبُونَهَا. وَرَجَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قَطَنٍ إِلَى قُرْطُبَةَ وَقَالَ لِبَلْجٍ وَمَنْ مَعَهُ لِيَخْرُجُوا مِنَ الْأَنْدَلُسِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَطَلَبُوا مِنْهُ مَرَاكِبَ يَسِيرُونَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ الْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ لِئَلَّا يَلْقَوُا الْبَرَابِرَ الَّذِينَ حَصَرُوهُمْ. فَامْتَنَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَالَ: لَيْسَ لِي مَرَاكِبُ إِلَّا فِي الْجَزِيرَةِ. فَقَالُوا: إِنَّا لَا نَرْجِعُ نَتَعَرَّضُ إِلَى الْبَرْبَرِ وَلَا نَقْصِدُ الْجِهَةَ الَّتِي هُمْ فِيهَا لِأَنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونَا فِي بِلَادِهِمْ. فَأَلَحَّ عَلَيْهِمْ فِي الْعَوْدِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ ثَارُوا بِهِ وَقَاتَلُوهُ، فَظَفِرُوا بِهِ وَأَخْرَجُوهُ مِنَ الْقَصْرِ، وَذَلِكَ أَوَائِلَ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فَلَمَّا ظَفِرَ بَلْجٌ بِعَبْدِ الْمَلِكِ أَشَارَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِقَتْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ دَارِهِ وَكَأَنَّهُ فَرْخٌ لِكِبَرِ سِنِّهِ فَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ، وَوَلِيَ الْأَنْدَلُسَ، وَكَانَ عُمْرُ عَبْدِ الْمَلِكِ تِسْعِينَ سَنَةً، وَهَرَبَ ابْنَاهُ قَطَنٌ وَأُمَيَّةُ، فَلَحِقَ أَحَدُهُمَا بِمَارِدَةَ وَالْآخَرُ بِسَرَقُسْطَةَ، وَكَانَ هَرَبُهُمَا قَبْلَ قَتْلِ أَبِيهِمَا، فَلَمَّا قُتِلَ فَعَلَا مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذَهِ السَّنَةِ أَوْفَدَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ الْحَكَمَ بْنَ الصَّلْتِ إِلَى هِشَامٍ يَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ عَلَى خُرَاسَانَ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ خَبِيرٌ بِهَا، وَأَنَّهُ عَمِلَ بِهَا الْأَعْمَالَ الْكَثِيرَةَ، وَيَقَعُ فِي نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، فَوَجَّهَ هِشَامٌ إِلَى دَارِ الضِّيَافَةِ فَأَحْضَرَ مُقَاتِلَ بْنَ عَلِيٍّ السَّعْدِيَّ وَقَدْ قَدِمَ مِنْ خُرَاسَانَ وَمَعَهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ مِنَ التُّرْكِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَكَمِ وَمَا وَلِيَ بِخُرَاسَانَ، فَقَالَ: وَلِيَ قَرْيَةً يُقَالُ لَهَا الْفَارِيَابَ سَبْعُونَ أَلْفًا خَرَاجُهَا، فَأَسَرَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ فَعَرَكَ أُذُنَهُ وَأَطْلَقَهُ وَقَالَ: أَنْتَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ أَقْتُلَكَ. فَلَمْ يَعْزِلْ هِشَامٌ نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ عَنْ خُرَاسَانَ.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ فَرْغَانَةَ غَزْوَتَهُ الثَّانِيَةَ، فَأَوْفَدَ وَفْدًا إِلَى الْعِرَاقِ عَلَيْهِمْ مَعْنُ بْنُ أَحْمَرَ النُّمَيْرِيُّ، ثُمَّ إِلَى هِشَامٍ، فَاجْتَازَ بِيُوسُفَ بْنِ عُمَرَ وَقَالَ لَهُ: يَابْنَ أَحْمَرَ أَيَغْلِبُكُمُ الْأَقْطَعُ عَلَى سُلْطَانِكُمْ يَا مَعْشَرَ قَيْسٍ! قَالَ: قَدْ كَانَ ذَاكَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَعِيبَهُ عِنْدَ هِشَامٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَعِيبُهُ مَعَ بَلَائِهِ وَآثَارِهِ الْجَمِيلَةِ عِنْدِي وَعِنْدَ قَوْمِي؟ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ، قَالَ: فَبِمَ أَعِيبُهُ؟ أَعِيبُ تَجْرِبَتَهُ أَمْ طَاعَتَهُ أَمْ يُمْنَ نَقِيبَتِهِ أَوْ سِيَاسَتِهِ؟ قَالَ: عِبْهُ بِالْكِبَرِ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى هِشَامٍ ذَكَرَ جُنْدَ خُرَاسَانَ وَنَجْدَتَهُمْ وَطَاعَتَهُمْ، فَقَالَ: إِلَّا أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَائِدٌ. قَالَ: وَيْحَكَ! فَمَا فَعَلَ الْكِنَانِيُّ؟ يَعْنِي نَصْرًا. قَالَ: لَهُ بَأْسٌ وَرَأْيٌ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الرَّجُلَ وَلَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ حَتَّى يُدْنَى مِنْهُ، وَمَا يَكَادُ يُفْهَمُ مِنْهُ مِنَ الضَّعْفِ لِأَجْلِ كِبَرِهِ، فَقَالَ شُبَيْلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَازِنِيُّ: كَذِبٌ وَاللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ بِالشَّيْخِ يُخْشَى خَرَفُهُ، وَلَا الشَّابِّ يُخْشَى سَفَهُهُ، [بَلْ هُوَ] الْمُجَرِّبُ وَقَدْ وَلِيَ عَامَّةَ ثُغُورِ خُرَاسَانَ وَحُرُوبِهَا قَبْلَ وِلَايَتِهِ. فَعَلِمَ هِشَامٌ أَنَّ قَوْلَ مَعْنٍ بِوَضْعِ يُوسُفَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ. فَرَجَعَ مَعْنٌ إِلَى يُوسُفَ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُحَوِّلَ ابْنَهُ عَنْ خُرَاسَانَ، فَفَعَلَ، فَأَرْسَلَ فَأَحْضَرَ أَهْلَهُ، وَكَانَ نَصْرٌ لَمَّا قَدِمَ خُرَاسَانَ قَدْ آثَرَ مَعْنًا وَأَعْلَى مَنْزِلَتَهُ، وَشَفَّعَهُ فِي حَوَائِجِهِ، فَلَمَّا فَعَلَ هَذَا أَجْفَى الْقَيْسِيَّةَ فَحَضَرُوا عِنْدَهُ وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ يَزِيدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَ الْعُمَّالُ فِي الْأَمْصَارِ هُمُ الْعُمَّالُ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ الْأَزْدِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَعْفَرُ بْنُ إِيَاسٍ، وَفِيهَا مَاتَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَهُ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً. وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، وَاسْمُ أَبِي سَعِيدٍ كَيْسَانُ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ: سِتٍّ وَعِشْرِينَ. وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ الزَّاهِدُ.

ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَة] 124 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ ابْتِدَاءِ أَمْرِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَبِي مُسْلِمٍ، فَقِيلَ: كَانَ حُرًّا، وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ بَشَّارِ بْنِ سَدُوسِ بْنِ جَوْدَزْدَهْ مِنْ وَلَدِ بُزُرْجُمِهْرَ، وَيُكَنَّى أَبَا إِسْحَاقَ، وُلِدَ بِأَصْبَهَانَ، وَنَشَأَ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ أَبُوهُ أَوْصَى إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى السَّرَّاجِ فَحَمَلَهُ إِلَى الْكُوفَةِ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، فَلَمَّا اتَّصَلَ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ الْإِمَامِ قَالَ لَهُ: غَيِّرِ اسْمَكَ فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ لَنَا الْأَمْرُ إِلَّا بِتَغَيِيرِ اسْمِكَ عَلَى مَا وَجَدْتُهُ فِي الْكُتُبِ، فَسَمَّى نَفْسَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُسْلِمٍ، وَيُكَنَّى أَبَا مُسْلِمٍ، فَمَضَى لِشَأْنِهِ وَلَهُ ذُؤَابَةٌ وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ بِإِكَافٍ وَلَهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَزَوَّجَهُ إِبْرَاهِيمُ الْإِمَامُ ابْنَةَ عِمْرَانَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الطَّائِيِّ الْمَعْرُوفِ بِأَبِي النَّجْمِ، وَهِيَ بِخُرَاسَانَ مَعَ أَبِيهَا، فَبَنَى بِهَا أَبُو مُسْلِمٍ بِخُرَاسَانَ، وَزَوَّجَ أَبُو مُسْلِمٍ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ مِنْ مُحْرِزِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنَتَهُ الْأُخْرَى أَسْمَاءَ مِنْ فَهْمِ بْنِ مُحْرِزٍ، فَأَعْقَبَتْ أَسْمَاءُ وَلَمْ تُعْقِبْ فَاطِمَةُ، وَفَاطِمَةُ هِيَ الَّتِي تَذْكُرُهَا الْخُرَّمِيَّةُ. ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ وَمَالِكَ بْنَ الْهَيْثَمِ وَلَاهِزَ بْنَ قُرَيْظٍ وَقَحْطَبَةَ بْنَ شَبِيبٍ تَوَجَّهُوا مِنْ خُرَاسَانَ يُرِيدُونَ مَكَّةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْكُوفَةَ أَتَوْا عَاصِمَ بْنَ يُونُسَ الْعِجْلِيَّ وَهُوَ فِي الْحَبْسِ، قَدِ اتُّهِمَ بِالدُّعَاءِ إِلَى وَلَدِ الْعَبَّاسِ وَمَعَهُ عِيسَى وَإِدْرِيسُ ابْنَا مَعْقِلٍ الْعِجْلِيَّانِ، وَهَذَا إِدْرِيسُ هُوَ جَدُّ أَبِي دُلَفٍ الْعِجْلِيِّ، وَكَانَ حَبَسَهُمَا يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ مَعَ مَنْ حُبِسَ مِنْ عُمَّالِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ وَمَعَهُمَا أَبُو مُسْلِمٍ يَخْدِمُهُمَا قَدِ اتَّصَلَ بِهِمَا، فَرَأَوْا فِيهِ الْعَلَامَاتِ فَقَالُوا: لِمَنْ هَذَا الْفَتَى؟ فَقَالَا: غُلَامٌ مَعَنَا مِنَ السَّرَّاجِينَ يَخْدِمُنَا، وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ يَسْمَعُ عِيسَى وَإِدْرِيسَ يَتَكَلَّمَانِ فِي هَذَا الرَّأْيِ، فَإِذَا سَمِعَهُمَا بَكَى، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ مِنْهُ دَعَوْهُ إِلَى رَأْيِهِمْ فَأَجَابَ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ ضِيَاعِ بَنِي مَعْقِلٍ الْعِجْلِيَّةِ بِأَصْبَهَانَ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْجَبَلِ، وَكَانَ اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ، وَيُلَقَّبُ حَيْكَانَ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَكَنَّاهُ أَبَا مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ الْإِمَامُ، وَكَانَ مَعَ أَبِي مُوسَى السَّرَّاجِ صَاحِبِهِ يُخَرِّزُ الْأَعِنَّةَ وَيَعْمَلُ السُّرُوجَ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ بِصِنَاعَةِ الْأُدُمِ وَالسُّرُوجِ، فَكَانَ يَحْمِلُهَا إِلَى أَصْبَهَانَ وَالْجِبَالِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ وَنَصِيبِينَ وَآمِدَ وَغَيْرِهَا يَتَّجِرُ فِيهَا. وَكَانَ عَاصِمُ بْنُ يُونُسَ الْعِجْلِيُّ وَإِدْرِيسُ وَعِيسَى ابْنَا مَعْقِلٍ مَحْبُوسِينَ، فَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ يَخْدِمُهُمْ فِي الْحَبْسِ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ، فَقَدِمَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَلَاهِزُ وَقَحْطَبَةُ الْكُوفَةَ فَدَخَلُوا عَلَى عَاصِمٍ، فَرَأَوْا أَبَا مُسْلِمٍ عِنْدَهُ، فَأَعْجَبَهُمْ، فَأَخَذُوهُ، وَكَتَبَ أَبُو مُوسَى السَّرَّاجُ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ، فَلَقُوهُ بِمَكَّةَ، فَأَخَذَ أَبَا مُسْلِمٍ فَكَانَ يَخْدِمُهُ. ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ النُّقَبَاءَ قَدِمُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ مَرَّةً أُخْرَى يَطْلُبُونَ رَجُلًا يَتَوَجَّهُ مَعَهُمْ إِلَى خُرَاسَانَ. فَكَانَ هَذَا نَسَبُ أَبِي مُسْلِمٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ حُرٌّ. فَلَمَّا تَمَكَّنَ وَقَوِيَ أَمْرُهُ ادَّعَى أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ سَلِيطِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ سَلِيطِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ مُوَلَّدَةٌ صَفْرَاءُ تَخْدِمُهُ، فَوَاقَعَهَا مَرَّةً وَلَمْ يَطْلُبْ وَلَدَهَا ثُمَّ تَرَكَهَا دَهْرًا، فَاغْتَنَمَتْ ذَلِكَ فَاسْتَنْكَحَتْ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ الْمَدِينَةِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَحَدَّهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَاسْتَعْبَدَ وَلَدَهَا وَسَمَّاهُ سَلِيطًا، فَنَشَأَ جَلْدًا ظَرِيفًا يَخْدِمُ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَنْزِلَةٌ، فَادَّعَى أَنَّهُ وَلَدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَوَضَعَهُ عَلَى أَمْرِ الْوَلِيدِ لِمَا كَانَ فِي نَفْسِهِ مِنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَمَرَهُ بِمُخَاصَمَةِ عَلِيٍّ، فَخَاصَمَهُ وَاحْتَالَ فِي شُهُودٍ عَلَى إِقْرَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ ابْنُهُ، فَشَهِدُوا بِذَلِكَ عِنْدَ قَاضِي دِمَشْقَ، فَتَحَامَلَ الْقَاضِي اتِّبَاعًا لِرَأْيِ الْوَلِيدِ فَأَثْبَتَ نَسَبَهُ. ثُمَّ إِنَّ سَلِيطًا خَاصَمَ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمِيرَاثِ حَتَّى لَقِيَ مِنْهُ عَلِيٌّ أَذًى شَدِيدًا، وَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْقَطِعًا إِلَيْهِ يُقَالُ لَهُ عُمَرُ الدَّنُّ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ يَوْمًا: لَأَقْتُلَنَّ هَذَا الْكَلْبَ وَأُرِيحَكَ مِنْهُ، فَنَهَاهُ عَلِيٌّ عَنْ ذَلِكَ وَتَهَدَّدَهُ بِالْقَطِيعَةِ وَرَفُقَ عَلَى سَلِيطٍ حَتَّى كَفَّ عَنْهُ. ثُمَّ إِنَّ سَلِيطًا دَخَلَ مَعَ عَلِيٍّ بُسْتَانًا لَهُ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ، فَنَامَ عَلِيٌّ فَجَرَى بَيْنَ عُمَرَ الدَّنِّ

وَسُلَيْطٍ كَلَامٌ، فَقَتَلَهُ عُمَرُ وَدَفَنَهُ فِي الْبُسْتَانِ، وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ مَوْلًى لِعَلِيٍّ وَهَرَبَا، وَكَانَ لِسَلِيطٍ صَاحِبٌ قَدْ عَرَفَ دُخُولَهُ الْبُسْتَانَ فَفَقَدَهُ فَأَتَى أُمَّ سَلِيطٍ فَأَخْبَرَهَا، وَفَقَدَ عَلِيٌّ أَيْضًا عُمَرَ الدَّنَّ وَمَوْلَاهُ، فَسَأَلَ عَنْهُمَا وَعَنْ سَلِيطٍ فَلَمْ يُخْبِرْهُ أَحَدٌ، وَغَدَتْ أُمُّ سَلِيطٍ إِلَى بَابِ الْوَلِيدِ فَاسْتَغَاثَتْ عَلَى عَلِيٍّ، فَأَتَى الْوَلِيدُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَأَحْضَرَ عَلِيًّا وَسَأَلَهُ عَنْ سَلِيطٍ، فَحَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ خَبَرَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِأَمْرٍ، فَأَمَرَهُ بِإِحْضَارِ عُمَرَ الدَّنِّ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ مَوْضِعَهُ، فَأَمَرَ الْوَلِيدُ بِإِرْسَالِ الْمَاءِ فِي أَرْضِ الْبُسْتَانِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَوْضِعِ الْحُفْرَةِ الَّتِي فِيهَا سَلِيطٌ انْخَسَفَتْ وَأُخْرِجَ مِنْهَا سَلِيطٌ، فَأَمَرَ الْوَلِيدُ بِعَلِيٍّ فَضُرِبَ وَأُقِيمَ فِي الشَّمْسِ، وَأُلْبِسَ جُبَّةَ صُوفٍ لِيُخْبِرَهُ خَبَرَ سَلِيطٍ وَيَدُلَّهُ عَلَى عُمَرَ الدَّنِّ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ، ثُمَّ شَفَعَ فِيهِ عَبَّاسُ بْنُ زِيَادٍ فَأُخْرِجَ إِلَى الْحُمَيْمَةِ، وَقِيلَ إِلَى الْحِجْرِ، فَأَقَامَ بِهِ حَتَّى هَلَكَ الْوَلِيدُ وَوَلِيَ سُلَيْمَانُ، فَرَدَّهُ إِلَى دِمَشْقَ. وَكَانَ هَذَا مِمَّا عَدَّهُ الْمَنْصُورُ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ حِينَ قَتَلَهُ، وَقَالَ لَهُ: زَعَمْتَ أَنَّكَ ابْنُ سَلِيطٍ وَلَمْ تَرْضَ حَتَّى نَسَبْتَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ غَيْرَ وَلَدِهِ، لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا. وَكَانَ سَبَبُ مَوْجِدَةِ الْوَلِيدِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أُمَّ ابْنِهَا ابْنَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَتَزَوَّجَهَا عَلِيٌّ، فَتَغَيَّرَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ وَأَطْلَقَ لِسَانَهُ فِيهِ وَقَالَ: إِنَّمَا صِلَاتُهُ رِيَاءٌ، وَسَمِعَ الْوَلِيدُ ذَلِكَ مِنْ أَبِيهِ فَبَقِيَ فِي نَفْسِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ كَانَ عَبْدًا، وَكَانَ سَبَبُ انْتِقَالِهِ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ أَنَّ بُكَيْرَ بْنَ مَاهَانَ كَانَ كَاتِبًا لِبَعْضِ عُمَّالِ السِّنْدِ فَقَدِمَ الْكُوفَةَ، فَاجْتَمَعَ هُوَ وَشِيعَةُ بَنِي الْعَبَّاسِ، فَغَمَزَ بِهِمْ، فَأُخِذُوا، فَحُبِسَ بُكَيْرٌ وَخُلِّيَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَكَانَ فِي الْحَبْسِ يُونُسُ أَبُو عَاصِمٍ وَعِيسَى بْنُ مَعْقِلٍ الْعِجْلِيُّ وَمَعَهُ أَبُو مُسْلِمٍ يَخْدِمُهُ، فَدَعَاهُمْ بُكَيْرٌ إِلَى رَأْيِهِ، فَأَجَابُوهُ، فَقَالَ لِعِيسَى بْنِ مَعْقِلٍ: مَا هَذَا الْغُلَامُ مِنْكَ؟ قَالَ: مَمْلُوكٌ. قَالَ: أَتَبِيعُهُ؟ قَالَ: هُوَ لَكَ. قَالَ: أُحِبُّ أَنْ تَأْخُذَ ثَمَنَهُ. قَالَ: هُوَ لَكَ بِمَا شِئْتَ، فَأَعْطَاهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ خَرَجُوا مِنَ السِّجْنِ، فَبَعَثَ بِهِ بُكَيْرٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ، فَدَفَعَهُ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَبِي مُوسَى السَّرَّاجِ، فَسَمِعَ مِنْهُ وَحَفِظَ ثُمَّ سَارَ مُتَرَدِّدًا إِلَى خُرَاسَانَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لِبَعْضِ أَهْلِ هَرَاةَ أَوْ بُوشَنْجَ، فَقَدِمَ مَوْلَاهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامُ وَأَبُو مُسْلِمٍ مَعَهُ، فَأَعْجَبَهُ عَقْلُهُ فَابْتَاعَهُ مِنْهُ وَأَعْتَقَهُ وَمَكَثَ عِنْدَهُ عِدَّةَ سِنِينَ، وَكَانَ يَتَرَدَّدُ بِكُتُبٍ إِلَى خُرَاسَانَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ، ثُمَّ وَجَّهَهُ أَمِيرًا عَلَى شِيعَتِهِمْ بِخُرَاسَانَ وَكَتَبَ إِلَى مَنْ بِهَا

مِنْهُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ الْخَلَّالِ دَاعِيَتِهِمْ وَوَزِيرِهِمْ بِالْكُوفَةِ يُعْلِمُهُ أَنَّهُ قَدْ أَرْسَلَ أَبَا مُسْلِمٍ وَيَأْمُرُهُ بِإِنْفَاذِهِ إِلَى خُرَاسَانَ. فَسَارَ إِلَيْهَا فَنَزَلَ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ رَأَى رُؤْيَا قَبْلَ ذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مُلْكِ خُرَاسَانَ فَظَهَرَ أَمْرُهَا، فَلَمَّا وَرَدَ نَيْسَابُورَ نَزَلَ بُونَابَاذَ، وَكَانَتْ عَامِرَةً، فَتَحَدَّثَ صَاحِبُ الْخَانِ الَّذِي نَزَلَهُ أَبُو مُسْلِمٍ بِذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَلِي خُرَاسَانَ. فَخَرَجَ أَبُو مُسْلِمٍ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فَعَمَدَ بَعْضُ الْمُجَّانِ فَقَطَعَ ذَنَبَ حِمَارِهِ، فَلَمَّا عَادَ قَالَ لِصَاحِبِ الْخَانِ: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِحِمَارِي؟ قَالَ: لَا أَدْرِي! قَالَ: مَا اسْمُ هَذِهِ الْمَحِلَّةِ؟ قَالَ: بُونَابَاذَ. قَالَ: إِنْ لَمْ أُصَيِّرْهَا كَنَدَابَاذَ فَلَسْتُ بِأَبِي مُسْلِمٍ. فَلَمَّا وَلِيَ خُرَاسَانَ أَخْرَبَهَا. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ بَلْجٍ وَابْنَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَوَفَاةِ بَلْجٍ وَوِلَايَةِ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَلَامَةَ الْأَنْدَلُسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ بِالْأَنْدَلُسِ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ بَلْجٍ وَأُمَيَّةَ وَقَطَنِ ابْنَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قَطَنٍ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّهُمَا لَمَّا هَرَبَا مِنْ قُرْطُبَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا قُتِلَ أَبُوهُمَا اسْتَنْجَدَا بِأَهْلِ الْبِلَادِ وَالْبَرْبَرِ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُمَا جَمْعٌ كَثِيرٌ قِيلَ كَانُوا مِائَةَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَسَمِعَ بِهِمْ بَلْجٌ وَالَّذِينَ مَعَهُ فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَجُرِحَ بَلْجٌ جِرَاحَاتٍ، ثُمَّ ظَفِرَ بِابْنَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْبَرْبَرِ وَمَنْ مَعَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ فَأَكْثَرَ، وَعَادَ إِلَى قُرْطُبَةَ مُظَفَّرًا مَنْصُورًا، فَبَقِيَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَمَاتَ مِنَ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي فِيهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا. فَلَمَّا مَاتَ قَدِمَ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِمْ ثَعْلَبَةُ بْنُ سَلَامَةَ الْعِجْلِيُّ، لِأَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ عَهِدَ إِلَيْهِمْ: إِنْ حَدَثَ بِبَلْجٍ وَكُلْثُومٍ حَدَثٌ فَالْأَمِيرُ ثَعْلَبَةُ، فَقَامَ بِالْأَمْرِ، وَثَارَتْ فِي أَيَّامِهِ الْبَرْبَرُ بِنَاحِيَةِ مَارِدَةَ، فَغَزَاهُمْ فَقَتَلَ فِيهِمْ فَأَكْثَرَ وَأَسَرَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَأَتَى بِهِمْ إِلَى قُرْطُبَةَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا غَزَا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ، فَلَقِيَ أَلْيُونَ مَلِكَ الرُّومِ فَغَنِمَ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَوَصَّى إِلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ بِالْقِيَامِ بِأَمْرِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِمْ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ. وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسِينَ.

ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ] 125 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَفِيهَا مَاتَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالرُّصَافَةِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، كَانَتْ خِلَافَتُهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَوَاحِدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفًا، وَكَانَ مَرَضُهُ الذِّبْحَةَ، وَعُمْرُهُ خَمْسٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَقِيلَ سِتٌّ وَخَمْسُونَ سَنَةً، فَلَمَّا مَاتَ طَلَبُوا قُمْقُمًا مِنْ بَعْضِ الْخُزَّانِ يُسَخِّنُ فِيهِ الْمَاءَ لِغُسْلِهِ، فَمَا أَعْطَاهُمْ عِيَاضٌ كَاتِبُ الْوَلِيدِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، فَاسْتَعَارُوا قُمْقُمًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ مَسْلَمَةُ وَدُفِنَ بِالرُّصَافَةِ. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ قَالَ عَقَّالُ بْنُ شَبَّةَ: دَخَلْتُ عَلَى هِشَامٍ وَعَلَيْهِ قَبَاءُ فَنَكٍ أَخْضَرُ، فَوَجَّهَنِي إِلَى خُرَاسَانَ وَجَعَلَ يُوصِينِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْقَبَاءِ، فَفَطِنَ فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْتُ عَلَيْكَ قَبْلَ أَنْ تَلِيَ الْخِلَافَةَ قَبَاءً مِثْلَ هَذَا فَجَعَلْتُ أَتَأَمَّلُ أَهُوَ هَذَا أَمْ غَيْرُهُ. فَقَالَ: هُوَ وَاللَّهِ ذَاكَ، وَأَمَّا مَا تَرَوْنَ مِنْ جَمْعِيَ الْمَالَ وَصَوْنِهِ فَهُوَ لَكُمْ. قَالَ: وَكَانَ مَحْشُوًّا عَقْلًا. وَقِيلَ: وَضَرَبَ رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ غُلَامًا لِمُحَمَّدِ بْنِ هِشَامٍ فَشَجَّهُ، فَذَهَبَ خَصِيٌّ لِمُحَمَّدٍ فَضَرَبَ النَّصْرَانِيَّ، وَبَلَغَ هِشَامًا الْخَبَرُ وَطَلَبَ الْخَصِيَّ فَعَاذَ بِمُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: أَلَمْ آمُرْكَ؟ فَقَالَ الْخَصِيُّ: بَلَى وَاللَّهِ قَدْ أَمَرْتَنِي. فَضَرَبَ هِشَامٌ الْخَصِيَّ وَشَتَمَ ابْنَهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: جَمَعْتُ دَوَاوِينَ بَنِي أُمَيَّةَ، فَلَمْ أَرَ دِيوَانًا أَصَحَّ

وَلَا أَصْلَحَ لِلْعَامَّةِ وَالسُّلْطَانِ مِنْ دِيوَانِ هِشَامٍ. وَقِيلَ: وَأُتِيَ هِشَامٌ بِرَجُلٍ عِنْدَهُ قِيَانٌ وَخَمْرٌ وَبَرْبَطٌ، فَقَالَ: اكْسِرُوا الطُّنْبُورَ عَلَى رَأْسِهِ. فَبَكَى الشَّيْخُ لَمَّا ضَرَبَهُ. فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ. فَقَالَ: أَتَرَانِي أَبْكِي لِلضَّرْبِ؟ إِنَّمَا أَبْكِي لِاحْتِقَارِهِ الْبَرْبَطَ إِذْ سَمَّاهُ طُنْبُورًا! قَالَ: وَأَغْلَظَ رَجُلٌ لِهِشَامٍ، فَقَالَ لَهُ: لَيْسَ لَكَ أَنْ تُغْلِظَ لِإِمَامِكَ. قِيلَ: وَتَفَقَّدَ هِشَامٌ بَعْضَ وَلَدِهِ فَلَمْ يَحْضُرِ الْجُمْعَةَ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ مِنَ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: نَفَقَتْ دَابَّتِي. قَالَ: أَفَعَجَزْتَ عَنِ الْمَشْيِ؟ فَمَنَعَهُ الدَّابَّةَ سَنَةً. قِيلَ: وَكَتَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ عُمَّالِهِ: قَدْ بَعَثْتُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِسَلَّةِ دُرَّاقِنَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: قَدْ وَصَلَ الدُّرَّاقِنُ فَأَعْجَبَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَزِدْ مِنْهُ وَاسْتَوْثِقْ مِنَ الدُّعَاءِ. وَكَتَبَ إِلَى عَامِلٍ لَهُ قَدْ بَعَثَ بِكَمْأَةٍ: قَدْ وَصَلَتِ الْكَمْأَةُ وَهِيَ أَرْبَعُونَ، وَقَدْ تَغَيَّرَ بَعْضُهَا مِنْ حَشْوِهَا، فَإِذَا بَعَثْتَ شَيْئًا فَأَجِدْ حَشْوَهَا فِي الظَّرْفِ الَّذِي تَجْعَلُهَا فِيهِ بِالرَّمْلِ حَتَّى لَا تَضْطَرِبَ وَلَا يُصِيبَ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقِيلَ لَهُ: أَتَطْمَعُ فِي الْخِلَافَةِ؟ فَأَنْتَ بَخِيلٌ جَبَانٌ! قَالَ: وَلِمَ لَا أَطْمَعُ فِيهَا وَأَنَا حَلِيمٌ عَفِيفٌ؟ قِيلَ: وَكَانَ هِشَامٌ يَنْزِلُ الرُّصَافَةَ وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ قِنَّسْرِينَ، وَكَانَ الْخُلَفَاءُ قَبْلَهُ وَأَبْنَاءُ الْخُلَفَاءِ يَنْتَبِذُونَ هَرَبًا مِنَ الطَّاعُونِ فَيَنْزِلُونَ الْبَرِّيَّةَ، فَلَمَّا أَرَادَ هِشَامٌ أَنْ يَنْزِلَ الرُّصَافَةَ قِيلَ لَهُ: لَا تَخْرُجْ فَإِنَّ الْخُلَفَاءَ لَا يُطْعَنُونَ وَلَمْ يُرَ خَلِيفَةٌ طُعِنَ. قَالَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تُجَرِّبُوا فِيَّ؟ فَنَزَلَهَا، وَهِيَ مَدِينَةٌ رُومِيَّةٌ. قِيلَ: إِنَّ الْجَعْدَ بْنَ دِرْهَمٍ أَظْهَرَ مَقَالَتَهُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ أَيَّامَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَخَذَهُ هِشَامٌ وَأَرْسَلَهُ إِلَى خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ، وَهُوَ أَمِيرُ الْعِرَاقِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَحَبَسَهُ خَالِدٌ وَلَمْ

يَقْتُلْهُ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ هِشَامًا، فَكَتَبَ إِلَى خَالِدٍ يَلُومُهُ وَيَعْزِمُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَأَخْرَجَهُ خَالِدٌ مِنَ الْحَبْسِ فِي وَثَاقِهِ، فَلَمَّا صَلَّى الْعِيدَ يَوْمَ الْأَضْحَى قَالَ فِي آخِرِ خُطْبَتِهِ: انْصَرِفُوا وَضَحُّوا يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْكُمْ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُضَحِّيَ الْيَوْمَ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: مَا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى، وَلَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، تَعَالَى اللَّهِ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ وَذَبَحَهُ. قِيلَ: إِنَّ غَيْلَانَ بْنَ يُونُسَ، وَقِيلَ ابْنَ مُسْلِمٍ، أَبَا مَرْوَانَ أَظْهَرَ الْقَوْلَ بِالْقَدَرِ فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَحْضَرَهُ عُمَرُ وَاسْتَتَابَهُ، فَتَابَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكَلَامِ فِيهِ أَيَّامَ هِشَامٍ، فَأَحْضَرَهُ مِنْ نَاصِرَةَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ. قِيلَ: وَجَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى هِشَامٍ، فَقَالَ: لَيْسَ لَكَ عِنْدِي صِلَةٌ، ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكَ أَنْ يَغُرَّكَ أَحَدٌ فَيَقُولُ لَمْ يَعْرِفْكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي عَرَفْتُكَ، أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ فَلَا تُقِيمَنَّ وَتُنْفِقُ مَا مَعَكَ، فَلَيْسَ لَكَ عِنْدِي صِلَةٌ، الْحَقْ بِأَهْلِكَ. قَالَ مُجَمَّعُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَنْصَارِيُّ: شَتَمَ هِشَامٌ رَجُلًا مِنَ الْأَشْرَافِ، فَوَبَّخَهُ الرَّجُلُ وَقَالَ: أَمَا تَسْتَحِي أَنْ تَشْتُمَنِي وَأَنْتَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ؟ فَاسْتَحْيَا مِنْهُ وَقَالَ: اقْتَصَّ مِنِّي. قَالَ: إِذًا أَنَا سَفِيهٌ مِثْلُكَ. قَالَ: فَخُذْ مِنِّي عِوَضًا مِنَ الْمَالِ. قَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ. قَالَ: فَهَبْهَا لِلَّهِ. قَالَ: هِيَ لِلَّهِ ثُمَّ لَكَ. فَنَكَسَ هِشَامٌ رَأَسَهُ وَاسْتَحْيَا وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِهَا أَبَدًا. ذِكْرُ بَيْعَةِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قِيلَ: وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنَ السَّنَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَقْدُ أَبِيهِ وِلَايَةَ الْعَهْدِ لَهُ بَعْدَ أَخِيهِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ الْوَلِيدُ حِينَ جُعِلَ وَلِيَّ عَهْدٍ بَعْدَ هِشَامٍ (ابْنَ) إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ عَاشَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَبَلَغَ الْوَلِيدُ خَمْسَ عَشْرَةَ (سَنَةً) ، فَكَانَ يَزِيدُ يَقُولُ: اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ جَعَلَ هِشَامًا بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَلَمَّا وَلِيَ هِشَامٌ أَكْرَمَ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ حَتَّى ظَهَرَ مِنَ الْوَلِيدِ مُجُونٌ وَشُرْبُ الشَّرَابِ، وَكَانَ يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ

عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى مُؤَدِّبُهُ، وَاتَّخَذَ لَهُ نُدَمَاءَ، فَأَرَادَ هِشَامٌ أَنْ يَقْطَعَهُمْ عَنْهُ فَوَلَّاهُ الْحَجَّ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، فَحَمَلَ مَعَهُ كِلَابًا فِي صَنَادِيقَ وَعَمِلَ قُبَّةً عَلَى قَدْرِ الْكَعْبَةِ لِيَضَعَهَا عَلَى الْكَعْبَةِ، وَحَمَلَ مَعَهُ الْخَمْرَ، وَأَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ الْقُبَّةَ عَلَى الْكَعْبَةِ وَيَشْرَبَ فِيهَا الْخَمْرَ، فَخَوَّفَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا: لَا نَأْمَنُ النَّاسَ عَلَيْكَ وَعَلَيْنَا مَعَكَ. فَلَمْ يَفْعَلْ. وَظَهَرَ لِلنَّاسِ مِنْهُ تَهَاوُنٌ بِالدِّينِ وَاسْتِخْفَافٌ، فَطَمِعَ هِشَامٌ فِي الْبَيْعَةِ لِابْنِهِ مَسْلَمَةَ وَخَلْعِ الْوَلِيدِ، وَأَرَادَ الْوَلِيدَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَبَى، فَقَالَ لَهُ: اجْعَلْهُ بَعْدَكَ، فَأَبَى، فَتَنَكَّرَ لَهُ هِشَامٌ وَأَضَرَّ بِهِ وَعَمِلَ سِرًّا فِي الْبَيْعَةِ لِابْنِهِ مَسْلَمَةَ، فَأَجَابَهُ قَوْمٌ، وَكَانَ مِمَّنْ أَجَابَهُ خَالَاهُ مُحَمَّدٌ وَإِبْرَاهِيمُ ابْنَا هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَبَنُو الْقَعْقَاعِ بْنِ خُلَيْدٍ الْعَبْسِيِّ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ خَاصَّتِهِ، فَأَفْرَطَ الْوَلِيدُ فِي الشَّرَابِ وَطَلَبِ اللَّذَّاتِ، فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ: وَيْحَكَ يَا وَلِيدُ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَعَلَى الْإِسْلَامِ أَنْتَ أَمْ لَا! مَا تَدَعُ شَيْئًا مِنَ الْمُنْكَرِ إِلَّا أَتَيْتَهُ غَيْرَ مُتَحَاشٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ: يَا أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ دِينِنَا ... نَحْنُ عَلَى دِينِ أَبِي شَاكِرِ نَشْرَبُهَا صِرْفًا وَمَمْزُوجَةً ... بِالسُّخْنِ أَحْيَانًا وَبِالْفَاتِرِ فَغَضِبَ هِشَامٌ عَلَى ابْنِهِ مَسْلَمَةَ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا شَاكِرٍ، وَقَالَ لَهُ: يُعَيِّرُنِي الْوَلِيدُ بِكَ وَأَنَا أُرَشِّحُكَ لِلْخِلَافَةِ! فَأَلْزَمَهُ الْأَدَبَ وَأَحْضَرَهُ الْجَمَاعَةَ وَوَلَّاهُ الْمَوْسِمَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، فَأَظْهَرَ النُّسُكَ وَاللِّينَ، ثُمَّ إِنَّهُ قَسَّمَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ أَمْوَالًا، فَقَالَ مَوْلًى لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ: يَا أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ دِينِنَا ... نَحْنُ عَلَى دِينِ أَبِي شَاكِرِ الْوَاهِبِ الْجُرْدَ بِأَرْسَانِهَا ... لَيْسَ بِزِنْدِيقٍ وَلَا كَافِرِ يُعَرِّضُ بِالْوَلِيدِ. وَكَانَ هِشَامٌ يَعِيبُ الْوَلِيدَ وَيَنْتَقِصُهُ وَيُقَصِّرُ بِهِ، فَخَرَجَ الْوَلِيدُ وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ خَاصَّتِهِ وَمَوَالِيهِ فَنَزَلَ بِالْأَزْرَقِ عَلَى مَاءٍ لَهُ بِالْأُرْدُنِّ، وَخَلَّفَ كَاتِبَهُ عِيَاضَ بْنَ مُسْلِمٍ عِنْدَ هِشَامٍ لِيُكَاتِبَهُ بِمَا عِنْدَهُمْ، وَقَطَعَ هِشَامٌ عَنِ الْوَلِيدِ مَا كَانَ يُجْرَى عَلَيْهِ، وَكَاتَبَهُ الْوَلِيدُ فَلَمْ يُجِبْهُ

إِلَى رَدِّهِ، وَأَمَرَهُ بِإِخْرَاجِ عَبْدِ الصَّمَدِ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَخْرَجَهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِابْنِ سُهَيْلٍ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِ، فَضَرَبَ هِشَامٌ ابْنَ سُهَيْلٍ وَسَيَّرَهُ، وَأَخَذَ عِيَاضَ بْنَ مُسْلِمٍ كَاتِبَ الْوَلِيدِ فَضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: مَنْ يَثِقُ بِالنَّاسِ وَمَنْ يَصْنَعُ الْمَعْرُوفَ! هَذَا الْأَحْوَلُ الْمَشْئُومُ قَدَّمَهُ أَبِي عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَصَيَّرَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ ثُمَّ يَصْنَعُ بِي مَا تَرَوْنَ؟ لَا يَعْلَمُ أَنَّ لِي فِي أَحَدٍ هَوًى إِلَّا عَبِثَ بِهِ! وَكَتَبَ إِلَى هِشَامٍ فِي ذَلِكَ يُعَاتِبُهُ وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ كَاتِبَهُ، فَلَمْ يَرُدَّهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ: رَأَيْتُكَ تَبْنِي دَائِمًا فِي قَطِيعَتِي ... وَلَوْ كُنْتَ ذَا حَزْمٍ لَهَدَّمْتَ مَا تَبْنِي تُثِيرُ عَلَى الْبَاقِينَ مَجْنَى ضَغِينَةٍ ... فَوَيْلٌ لَهُمْ إِنْ مُتُّ مِنْ شَرِّ مَا تَجْنِي كَأَنِّي بِهِمْ وَاللَّيْتَ أَفْضَلُ قَوْلِهِمْ ... أَلَا لَيْتَنَا وَاللَّيْتَ إِذْ ذَاكَ لَا يُغْنِي كَفَرْتَ يَدًا مِنْ مُنْعِمٍ لَوْ شَكَرْتَهَا ... جَزَاكَ بِهَا الرَّحْمَنُ ذُو الْفَضْلِ وَالْمَنِّ فَلَمْ يَزَلِ الْوَلِيدُ مُقِيمًا فِي تِلْكَ الْبَرِّيَّةِ حَتَّى مَاتَ هِشَامٌ، فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةُ الْيَوْمِ الَّذِي جَاءَتْهُ فِيهِ الْخِلَافَةُ قَالَ لِأَبِي الزُّبَيْرِ الْمُنْذِرِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو: مَا أَتَتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ عَقَلْتُ عَقْلِي أَطْوَلُ مِنْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ! عَرَضَتْ لِي هُمُومٌ وَحَدَّثْتُ نَفْسِي فِيهَا بِأُمُورٍ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ، يَعْنِي هِشَامًا، قَدْ أُولِعَ بِي، فَارْكَبْ بِنَا نَتَنَفَّسْ. فَرَكِبَا وَسَارَا مِيلَيْنِ، وَوَقَفَ عَلَى كَثِيبٍ فَنَظَرَ إِلَى رَهْجٍ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ رُسُلُ هِشَامٍ، نَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ خَيْرِهِمْ، إِذْ بَدَا رَجُلَانِ عَلَى الْبَرِيدِ أَحَدُهُمَا مَوْلًى لِأَبِي مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيِّ وَالْآخَرُ جَرْدَبَةُ، فَلَمَّا قَرُبَا نَزَلَا يَعْدُوَانِ حَتَّى دَنَوَا مِنْهُ فَسَلَّمَا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، فَوَجَمَ ثُمَّ قَالَ: أَمَاتَ هِشَامٌ؟ قَالَا: نَعَمْ، وَالْكِتَابُ مَعَنَا

مِنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبِ دِيوَانِ الرَّسَائِلِ. فَقَرَأَهُ وَسَأَلَ مَوْلَى أَبِي مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيِّ عَنْ كَاتِبِهِ عِيَاضٍ، فَقَالَ: لَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا حَتَّى نَزَلَ بِهِشَامٍ الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْخُزَّانِ وَقَالَ: احْتَفِظُوا بِمَا فِي أَيْدِيكُمْ، فَأَفَاقَ هِشَامٌ فَطَلَبَ شَيْئًا فَمَنَعُوهُ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ، كُنَّا خُزَّانًا لِلْوَلِيدِ! وَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَخَرَجَ عِيَاضٌ مِنَ السِّجْنِ، فَخَتَمَ أَبْوَابَ الْخَزَائِنِ وَأَنْزَلَ هِشَامًا عَنْ فَرْشِهِ، وَمَا وَجَدُوا لَهُ قُمْقُمًا يُسَخَّنُ لَهُ فِيهِ الْمَاءُ حَتَّى اسْتَعَارُوهُ، وَلَا وَجَدُوا كَفَنًا مِنَ الْخَزَائِنِ فَكَفَّنَهُ غَالِبٌ مَوْلَاهُ، فَقَالَ: هَلَكَ الْأَحْوَلُ الْمَشُو ... مُ فَقَدْ أُرْسِلَ الْمَطَرْ وَمَلَكْنَا مِنْ بَعْدِ ذَا ... كَ فَقَدْ أَوْرَقَ الشَّجَرْ فَاشْكُرُوا اللَّهَ إِنَّهُ ... زَائِدٌ كُلَّ مَنْ شَكَرْ وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الشِّعْرَ لِغَيْرِ الْوَلِيدِ. فَلَمَّا سَمِعَ الْوَلِيدُ مَوْتَهُ كَتَبَ إِلَى الْعَبَّاسِ (بْنِ الْوَلِيدِ) بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَنْ يَأْتِيَ الرُّصَافَةَ، فَيُحْصِيَ مَا فِيهَا مِنْ أَمْوَالِ هِشَامٍ وَوَلَدِهِ، وَيَأْخُذَ عُمَّالَهُ وَحَشَمَهُ إِلَّا مَسْلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ فَإِنَّهُ كَلَّمَ أَبَاهُ فِي الرِّفْقِ بِالْوَلِيدِ. فَقَدِمَ الْعَبَّاسُ الرُّصَافَةَ فَفَعَلَ مَا كَتَبَ بِهِ الْوَلِيدُ إِلَيْهِ، وَكَتَبَ بِهِ إِلَى الْوَلِيدِ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: لَيْتَ هِشَامًا كَانَ حَيًّا يَرَى ... مِحْلَبَهُ الْأَوْفَرَ قَدْ أُتْرِعَا وَيُرْوَى: لَيْتَ هِشَامًا عَاشَ حَتَّى يَرَى ... مِكْيَالَهُ الْأَوْفَرَ قَدْ طُبِّعَا كِلْنَاهُ بِالصَّاعِ الَّذِي كَالَهُ ... وَمَا ظَلَمْنَاهُ بِهِ إِصْبَعَا

وَمَا أَتَيْنَا ذَاكَ عَنْ بِدْعَةٍ أَحَلَّهُ الْفُرْقَانُ لِي أَجْمَعَا وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِ هِشَامٍ وَأَصْحَابِهِ، فَجَاءَ خَادِمٌ لِهِشَامٍ فَوَقَفَ عِنْدَ قَبْرِهِ وَبَكَى وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ رَأَيْتَ مَا يَصْنَعُ بِنَا الْوَلِيدُ. فَقَالَ بَعْضُ مَنْ هُنَاكَ: لَوْ رَأَيْتَ مَا صَنَعَ بِهِشَامٍ لَعَلِمْتَ أَنَّكَ فِي نِعْمَةٍ لَا تَقُومُ بِشُكْرِهَا! إِنَّ هِشَامًا فِي شُغُلٍ مِمَّا هُوَ فِيهِ عَنْكُمْ. وَاسْتَعْمَلَ الْوَلِيدُ الْعُمَّالَ، وَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ بِأَخْذِ الْبَيْعَةِ، فَجَاءَتْهُ بَيْعَتُهُمْ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ بِبَيْعَتِهِ وَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ. فَلَمَّا وَلِيَ الْوَلِيدُ أَجْرَى عَلَى زَمْنَى أَهْلِ الشَّامِ وَعُمْيِهِمْ وَكَسَاهُمْ، وَأَمَرَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ بِخَادِمٍ، وَأَخْرَجَ لِعِيَالَاتِ النَّاسِ الطِّيبَ وَالْكُسْوَةَ وَزَادَهُمْ، وَزَادَ النَّاسَ فِي الْعَطَاءِ عَشَرَاتٍ، ثُمَّ زَادَ أَهْلَ الشَّامِ بَعْدَ الْعَشَرَاتِ عَشَرَةً عَشَرَةً، وَزَادَ الْوُفُودَ، وَلَمْ يَقُلْ فِي شَيْءٍ يُسْأَلُهُ لَا وَقَالَ: ضَمِنْتُ لَكُمْ إِنْ لَمْ تَعُقْنِي عَوَائِقٌ ... بِأَنَّ سَمَاءَ الضُّرِّ عَنْكُمْ سَتُقْلِعُ سَيُوشِكُ إِلْحَاقٌ مَعًا وَزِيَادَةٌ ... وَأَعْطِيَةٌ مِنِّي عَلَيْكُمْ تَبَرَّعُ مُحَرَّمُكُمْ دِيوَانُكُمْ وَعَطَاؤُكُمْ ... بِهِ تَكْتُبُ الْكُتَّابُ شَهْرًا وَتَطْبَعُ قَالَ حُلْمُ الْوَادِي الْمُغَنِّي: كُنَّا مَعَ الْوَلِيدِ وَأَتَاهُ خَبَرُ مَوْتِ هِشَامٍ وَهُنِّئَ بِوِلَايَةِ الْخِلَافَةِ، وَأَتَاهُ الْقَضِيبُ وَالْخَاتَمُ، ثُمَّ قَالَ: فَأَمْسَكْنَا سَاعَةً وَنَظَرْنَا إِلَيْهِ بِعَيْنِ الْخِلَافَةِ، فَقَالَ: غَنُّونِي:

طَابَ يَوْمِي وَلَذَّ شُرْبُ السُّلَافَهْ ... وَأَتَانَا نَعِيُّ مَنْ بِالرُّصَافَهْ وَأَتَانَا الْبَرِيدُ يَنْعِي هِشَامًا ... وَأَتَانَا بِخَاتَمٍ لِلْخِلَافَهْ فَاصْطَبَحْنَا مِنْ خَمْرِ عَانَةَ صِرْفًا ... وَلَهَوْنَا بِقَيْنَةٍ عَرَّافَهْ وَحَلَفَ أَنْ لَا يَبْرَحَ مِنْ مَوْضِعِهِ حَتَّى يُغَنَّى فِي هَذَا الشِّعْرُ وَيَشْرَبَ عَلَيْهِ فَفَعَلْنَا ذَلِكَ، وَلَمْ نَزَلْ نُغَنِّي إِلَى اللَّيْلِ. ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيدَ هَذِهِ السَّنَةَ عَقَدَ لِابْنَيْهِ الْحَكَمِ وَعُثْمَانَ الْبَيْعَةَ مِنْ بَعْدِهِ وَجَعَلَهُمَا وَلِيَّيْ عَهْدِهِ، أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ، وَجَعَلَ الْحَكَمَ مُقَدَّمًا، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْأَمْصَارِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ. ذِكْرُ وِلَايَةِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ خُرَاسَانَ لِلْوَلِيدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى الوليدُ نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ خُرَاسَانَ كُلَّهَا وَأَفْرَدَهُ بِهَا، ثُمَّ وَفَدَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ عَلَى الْوَلِيدِ فَاشْتَرَى مِنْهُ نَصْرًا وَعُمَّالَهُ، فَرَدَّ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ وِلَايَةَ خُرَاسَانَ، وَكَتَبَ يُوسُفُ إِلَى نَصْرٍ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ، وَيَحْمِلُ مَعَهُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْهَدَايَا وَالْأَمْوَالِ، وَأَنْ يَقْدَمَ مَعَهُ بِعِيَالِهِ أَجْمَعِينَ، وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى نَصْرٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ بَرَابِطَ وَطَنَابِيرَ وَأَبَارِيقَ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَأَنْ يَجْمَعَ لَهُ كُلَّ صَنَّاجَةٍ بِخُرَاسَانَ، وَكُلَّ بَازِيٍّ وَبِرْذَوْنٍ فَارِهٍ، ثُمَّ يَسِيرُ بِكُلِّ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فِي وُجُوهِ أَهْلِ خُرَاسَانَ. وَكَانَ الْمُنَجِّمُونَ قَدْ أَخْبَرُوا نَصْرًا بِفِتْنَةٍ تَكُونُ، وَأَلَحَّ يُوسُفُ عَلَى نَصْرٍ بِالْقُدُومِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا فِي ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَحِثَّهُ أَوْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ أَنَّهُ قَدْ خُلِعَ. فَأَرْضَى

نَصْرٌ الرَّسُولَ وَأَجَازَهُ، فَلَمْ يَمْضِ لِذَلِكَ إِلَّا يَسِيرٌ حَتَّى وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ. فَتَحَوَّلَ إِلَى قَصْرِهِ بِمَاجَانَ وَاسْتَخْلَفَ عِصْمَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيَّ عَلَى خُرَاسَانَ، وَمُوسَى بْنَ وَرْقَاءَ بِالشَّاشِ، وَحَسَّانَ مِنْ أَهْلِ الصَّغَانِيَانِ بِسَمَرْقَنْدَ، وَمُقَاتِلَ بْنَ عَلِيٍّ السُّغْدِيَّ بِآمُلَ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا بَلَغَهُمْ خُرُوجُهُ مِنْ مَرْوَ أَنْ يَسْتَجْلِبُوا التُّرْكَ لِيَعْبُرُوا عَلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِمْ. وَسَارَ إِلَى الْعِرَاقِ. فَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ إِلَى الْعِرَاقِ طَرَقَهُ مَوْلًى لِبَنِي لَيْثٍ وَأَعْلَمَهُ بِقَتْلِ الْوَلِيدِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَذِنَ لِلنَّاسِ، وَأَحْضَرَ رُسُلَ الْوَلِيدِ وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ كَانَ مِنْ مَسِيرِي مَا عَلِمْتُمْ، وَبَعْثِي بِالْهَدَايَا مَا رَأَيْتُمْ، وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ الْهَدَايَا فَبَلَغَتْ بَيْهَقَ، وَطَرَقَنِي فُلَانٌ لَيْلًا فَأَخْبَرَنِي أَنَّ الْوَلِيدَ قَدْ قُتِلَ، وَوَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِالشَّامِ، وَقَدِمَ مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ الْعِرَاقَ، وَهَرَبَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، وَنَحْنُ بِالْبِلَادِ الَّتِي قَدْ عَلِمْتُمْ حَالَهَا وَكَثْرَةَ عَدُوِّنَا. فَقَالَ سَالِمُ بْنُ أَحْوَزَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنَّهُ بَعْضُ مَكَايِدِ قُرَيْشٍ، أَرَادُوا تَهْجِينَ طَاعَتِكَ، فَسِرْ وَلَا تَمْتَحِنَّا. فَقَالَ: يَا سَالِمٌ أَنْتَ رَجُلٌ لَكَ عِلْمٌ بِالْحَرْبِ وَحُسْنُ طَاعَةٍ لِبَنِي أُمَيَّةَ، فَأَمَّا مِثْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ فَرَأْيُكَ فِيهَا رَأْيُ أَمَةٍ هَتْمَاءَ. وَرَجَعَ بِالنَّاسِ. ذِكْرُ قَتْلِ يَحْيَى بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ يَحْيَى بْنُ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِخُرَاسَانَ. وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ سَارَ بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِ إِلَى خُرَاسَانَ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، فَأَتَى بَلْخًا فَأَقَامَ بِهَا عِنْدَ الْحَرِيشِ بْنِ عَمْرِو بْنِ دَاوُدَ حَتَّى هَلَكَ هِشَامٌ وَوَلِيَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ. فَكَتَبَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ إِلَى نَصْرٍ بِمَسِيرِ يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ وَبِمَنْزِلِهِ عِنْدَ الْحَرِيشِ، وَقَالَ لَهُ: خُذْهُ أَشَدَّ الْأَخْذِ، فَأَخَذَ نَصْرٌ الْحَرِيشَ، فَطَالَبَهُ بِيَحْيَى، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهِ. فَأَمَرَ فَجُلِدَ سِتُّمِائَةِ سَوْطٍ. فَقَالَ الْحَرِيشُ: وَاللَّهِ لَوْ أَنَّهُ تَحْتَ قَدَمِي مَا رَفَعْتُهَا عَنْهُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قُرَيْشُ بْنُ الْحَرِيشِ قَالَ مُحَمَّدٌ لَا تَقْتُلْ أَبِي وَأَنَا أَدُلُّكَ عَلَى يَحْيَى، فَدَلَّهُ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ نَصْرٌ وَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ يُخْبِرُهُ، فَكَتَبَ الْوَلِيدُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُؤَمِّنَهُ وَيُخَلِّيَ سَبِيلَهُ وَسَبِيلَ أَصْحَابِهِ. فَأَطْلَقَهُ نَصْرٌ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْوَلِيدِ وَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، فَسَارَ إِلَى سَرْخَسَ فَأَقَامَ بِهَا، فَكَتَبَ نَصْرٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يُسَيِّرَهُ عَنْهَا، فَسَيَّرَهُ عَنْهَا، فَسَارَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى

بَيْهَقَ، وَخَافَ أَنْ يَغْتَالَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فَعَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَبِهَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، وَكَانَ مَعَ يَحْيَى سَبْعُونَ رَجُلًا، فَرَأَى يَحْيَى تُجَّارًا، فَأَخَذَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ دَوَابَّهُمْ وَقَالُوا: عَلَيْنَا أَثْمَانُهَا، فَكَتَبَ عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ إِلَى نَصْرٍ يُخْبِرُهُ، فَكَتَبَ نَصْرٌ يَأْمُرُهُ بِمُحَارَبَتِهِ، فَقَاتَلَهُ عَمْرٌو، وَهُوَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ وَيَحْيَى فِي سَبْعِينَ رَجُلًا، فَهَزَمَهُمْ يَحْيَى وَقَتَلَ عَمْرًا وَأَصَابَ دَوَابَّ كَثِيرَةً وَسَارَ حَتَّى مَرَّ بِهَرَاةَ، فَلَمْ يَعْرِضْ لِمَنْ بِهَا وَسَارَ عَنْهَا. وَسَرَّحَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ سَالِمَ بْنَ أَحْوَزَ فِي طَلَبِ يَحْيَى، فَلَحِقَهُ بِالْجُوزَجَانِ فَقَاتَلَهُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَرُمِيَ يَحْيَى بِسَهْمٍ فَأَصَابَ جَبْهَتَهُ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ عَنَزَةَ يُقَالُ لَهُ عِيسَى، فَقُتِلَ أَصْحَابُ يَحْيَى مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ، وَأَخَذُوا رَأْسَ يَحْيَى وَسَلَبُوهُ قَمِيصَهُ. فَلَمَّا بَلَغَ الْوَلِيدَ قَتْلُ يَحْيَى كَتَبَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ: خُذْ عُجَيْلَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَنْزِلْهُ مِنْ جِذْعِهِ، يَعْنِي زَيْدًا، وَأَحْرِقْهُ بِالنَّارِ ثُمَّ انْسِفْهُ بِالْيَمِّ نَسْفًا، فَأَمَرَ يُوسُفُ بِهِ فَأُحْرِقَ، ثُمَّ رَضَّهُ وَحَمَلَهُ فِي سَفِينَةٍ ثُمَّ ذَرَّاهُ فِي الْفُرَاتِ. وَأَمَّا يَحْيَى فَإِنَّهُ لَمَّا قُتِلَ صُلِبَ بِالْجُوزَجَانِ، فَلَمْ يَزَلْ مَصْلُوبًا حَتَّى ظَهَرَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَسَانِيُّ وَاسْتَوْلَى عَلَى خُرَاسَانَ فَأَنْزَلَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ، وَأَمَرَ بِالنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ فِي خُرَاسَانَ، وَأَخَذَ أَبُو مُسْلِمٍ دِيوَانَ بَنِي أُمَيَّةَ وَعَرَفَ مِنْهُ أَسْمَاءَ مَنْ حَضَرَ قَتْلَ يَحْيَى، فَمَنْ كَانَ حَيًّا قَتَلَهُ وَمَنْ كَانَ مَيِّتًا خَلَّفَهُ فِي أَهْلِهِ بِسُوءٍ، وَكَانَتْ أُمُّ يَحْيَى رَيْطَةَ بِنْتَ أَبِي هَاشِمٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ. (عُبَادُ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُخَفَّفَةِ) . ذِكْرُ وِلَايَةِ حَنْظَلَةَ إِفْرِيقِيَّةَ وَأَبِي الْخَطَّارِ الْأَنْدَلُسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ أَبُو الْخَطَّارِ حُسَامُ بْنُ ضِرَارٍ الْكَلْبِيُّ الْأَنْدَلُسَ أَمِيرًا فِي رَجَبٍ، وَكَانَ أَبُو الْخَطَّارِ لَمَّا تَبَايَعَ وُلَاةُ الْأَنْدَلُسِ مِنْ قَيْسٍ قَدْ قَالَ شِعْرًا وَعَرَّضَ فِيهِ بِيَوْمِ مَرْجِ رَاهِطٍ، وَمَا كَانَ مِنْ بَلَاءِ كَلْبٍ فِيهِ مَعَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَقِيَامِ الْقَيْسِيِّينَ مَعَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ الْفِهْرِيِّ عَلَى مَرْوَانَ، وَمِنَ الشِّعْرِ: أَفَادَتْ بَنُو مَرْوَانَ قَيْسًا دِمَاءَنَا ... وَفِي اللَّهِ إِنْ لَمْ يَعْدِلُوا حَكَمٌ عَدْلُ

كَأَنَّكُمُ لَمْ تَشْهَدُوا مَرْجَ رَاهِطٍ وَلَمْ تَعْلَمُوا مَنْ كَانَ ثَمَّ لَهُ الْفَضْلُ ... وَقَيْنَاكُمْ حَرَّ الْقَنَا بِنُحُورِنَا وَلَيْسَ لَكُمْ خَيْلٌ تُعَدُّ وَلَا رَجْلُ فَلَمَّا بَلَغَ شِعْرُهُ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ سَأَلَ عَنْهُ، فَأُعْلِمَ أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ كَلْبٍ، وَكَانَ هِشَامٌ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ حَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوَانَ الْكَلْبِيَّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ هِشَامٌ أَنْ يُوَلِّيَ أَبَا الْخَطَّارِ الْأَنْدَلُسَ، فَوَلَّاهُ وَسَيَّرَهُ إِلَيْهَا، فَدَخَلَ قُرْطُبَةَ يَوْمَ جُمْعَةٍ فَرَأَى ثَعْلَبَةَ بْنَ سَلَامَةَ أَمِيرَهَا قَدْ أَحْضَرَ الْأُسَارَى الْأَلْفَ مِنَ الْبَرْبَرِ، الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَسْرِهِمْ، لِيَقْتُلَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو الْخَطَّارِ دَفَعَ الْأَسْرَى إِلَيْهِ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَبَبًا لِحَيَاتِهِمْ، وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ الَّذِينَ بِالْأَنْدَلُسِ قَدْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ مَعَ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَلَامَةَ إِلَى الشَّامِ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو الْخَطَّارِ يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَمِيلُهُمْ حَتَّى أَقَامُوا، فَأَنْزَلَ كُلَّ قَوْمٍ عَلَى شِبْهِ مَنَازِلِهِمْ بِالشَّامِ، فَلَمَّا رَأَوْا بَلَدًا يُشْبِهُ بُلْدَانَهُمْ أَقَامُوا. وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ إِنَّمَا فَرَّقَهُمْ فِي الْبِلَادِ لِأَنَّ قُرْطُبَةَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ فَفَرَّقَهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ أَخْبَارِهِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ خَالَهُ يُوسُفَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ وَالِيًا عَلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ مُحَمَّدًا وَإِبْرَاهِيمَ ابْنَيْ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ مُوثَقَيْنِ فِي عَبَاءَتَيْنِ، فَقَدِمَ بِهِمَا الْمَدِينَةَ فِي شَعْبَانَ فَأَقَامَهُمَا لِلنَّاسِ، ثُمَّ حُمِلَا إِلَى الشَّامِ فَأُحْضِرُوا عِنْدَ الْوَلِيدِ، فَأَمَرَ بِجَلْدِهِمْ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَسْأَلُكَ بِالْقَرَابَةِ! قَالَ: وَأَيُّ قُرَابَةٍ بَيْنَنَا؟ قَالَ: فَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِضَرْبٍ بِسَوْطٍ إِلَّا فِي حَدٍّ. قَالَ: فَفِي حَدٍّ أَضْرِبُكَ وَقَوَدٍ، أَنْتَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ بِالْعَرْجِيِّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ أَخَذَهُ وَقَيَّدَهُ، وَأَقَامَهُ لِلنَّاسِ وَجَلَدَهُ وَسَجَنَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ بَعْدَ تِسْعِ سِنِينَ لِهِجَاءِ الْعَرْجِيِّ إِيَّاهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ الْوَلِيدُ فَجُلِدَ هُوَ وَأَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ أَوْثَقَهُمَا حَدِيدًا وَأَمَرَ أَنْ يُبْعَثَ بِهِمَا إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ عَلَى الْعِرَاقِ، فَلَمَّا قَدِمَ بِهِمَا عَذَّبَهُمَا حَتَّى مَاتَا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْوَلِيدُ سَعْدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ عَنْ قَضَاءِ الْمَدِينَةِ وَوَلَّاهُ يَحْيَى بْنَ

سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيَّ. وَفِيهَا خَرَجَتِ الرُّومُ إِلَى زِبَطْرَةَ، وَهُوَ حِصْنٌ قَدِيمٌ كَانَ افْتَتَحَهُ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ، فَأَخْرَبَتْهُ الرُّومُ الْآنَ، فَبَنَى بِنَاءً غَيْرَ مُحْكَمٍ، فَعَادَ الرُّومُ وَأَخْرَبُوهُ أَيَّامَ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحِمَارِ، ثُمَّ بَنَاهُ الرَّشِيدُ وَشَحَنَهُ بِالرِّجَالِ، فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ الْمَأْمُونِ طَرَقَهُ الرُّومُ فَشَعَّثُوهُ، فَأَمَرَ الْمَأْمُونُ بِمَرَمَّتِهِ وَتَحْصِينِهِ، ثُمَّ قَصَدَهُ الرُّومُ أَيَّامَ الْمُعْتَصِمِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنَّمَا سُقْتُ خَبَرَهُ هَاهُنَا لِأَنِّي لَمْ أَعْلَمْ تَوَارِيخَ حَوَادِثِهِ. وَفِيهَا أَغْزَى الْوَلِيدُ أَخَاهُ الْغَمْرَ بْنَ يَزِيدَ، وَأَمَّرَ عَلَى جُيُوشِ الْبَحْرِ الْأَسْوَدَ بْنَ بِلَالٍ الْمُحَارِبِيَّ وَسَيَّرَهُ إِلَى قُبْرُصَ لِيُخَيِّرَ أَهْلَهَا بَيْنَ الْمَسِيرِ إِلَى الشَّامِ أَوْ إِلَى الرُّومِ، فَاخْتَارَتْ طَائِفَةٌ جِوَارَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَّرَهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَاخْتَارَ آخَرُونَ الرُّومَ، فَسَيَّرَهُمْ إِلَيْهِمْ. وَفِيهَا قَدِمَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَمَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ وَلَاهِزُ بْنُ قُرَيْظٍ وَقَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ مَكَّةَ، فَلَقَوْا، فِي قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ السِّيَرِ، مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرُوهُ بِقِصَّةِ أَبِي مُسْلِمٍ وَمَا رَأَوْا مِنْهُ، فَقَالَ: أَحُرٌّ هُوَ أَمْ عَبْدٌ؟ قَالُوا: أَمَّا عِيسَى فَيَزْعُمُ أَنَّهُ عَبْدٌ، وَأَمَّا هُوَ فَيَزْعُمُ أَنَّهُ حُرٌّ. قَالَ: فَاشْتَرَوْهُ وَأَعْتَقُوهُ وَأَعْطَوْا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُسْوَةً بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. فَقَالَ لَهُمْ: مَا أَظُنُّكُمْ تَلْقَوْنِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، فَإِنْ حَدَثَ بِي

حَدَثٌ فَصَاحِبُكُمُ ابْنِي إِبْرَاهِيمُ فَإِنِّي أَثِقُ بِهِ، وَأُوصِيكُمْ بِهِ خَيْرًا. فَرَجَعُوا مِنْ عِنْدِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ بَيْنَ مَوْتِهِ وَمَوْتِ أَبِيهِ سَبْعُ سِنِينَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ. وَفِيهَا غَزَا النُّعْمَانُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الصَّائِفَةَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَفِي آخِرِ أَيَّامِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ تُوُفِّيَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ (وَاسْمُ أَبِي بَزَّةَ يَسَارٌ، وَهُوَ مِنَ الْمَشْهُورِينَ بِالْقِرَاءَةِ) وَأَشْعَثُ بْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ سُلَيْمٌ بْنُ أَسْوَدَ الْمُحَارِبِيُّ. وَزَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ الْجَزَرِيُّ، مَوْلَى بَنِي كِلَابٍ، وَقِيلَ مَوْلَى يَزِيدَ بْنِ الْخَطَّابِ،

وَقِيلَ مَوْلَى غَنِيٍّ، وَكَانَ عُمْرُهُ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ فَقِيهًا عَابِدًا، وَكَانَ لَهُ أَخٌ اسْمُهُ يَحْيَى، كَانَ ضَعِيفًا فِي الْحَدِيثِ. وَفِي أَيَّامِ هِشَامٍ مَاتَ الْعَرْجِيُّ الشَّاعِرُ فِي حَبْسِ مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ، عَامِلِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَكَانَ سَبَبُ حَبْسِهِ أَنَّهُ هَجَاهُ فَتَتَبَّعَهُ حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّهُ أَخَذَ مَوْلًى لَهُ فَضَرَبَهُ وَقَتَلَهُ، وَأَمَرَ عَبِيدَهُ أَنْ يَطَئُوا امْرَأَةَ الْمَوْلَى الْمَقْتُولِ، فَأَخَذَهُ مُحَمَّدٌ فَضَرَبَهُ وَأَقَامَهُ لِلنَّاسِ وَحَبَسَهُ تِسْعَ سِنِينَ فَمَاتَ فِي السِّجْنِ. (الْعَرْجِيُّ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَآخِرُهُ جِيمٌ) . وَكَانَ عُمَّالُ الْأَمْصَارِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ.

ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ] 126 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ عَزْلِهِ عَنِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، وَكَانَ عَمَلُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فِيمَا قِيلَ، وَلَمَّا عَزَلَهُ هِشَامٌ قَدِمَ عَلَيْهِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ وَاسِطًا فَحَبَسَهُ بِهَا، ثُمَّ سَارَ يُوسُفُ إِلَى الْحِيرَةِ وَأَخَذَ خَالِدًا فَحَبَسَهُ بِهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مَعَ أَخِيهِ إِسْمَاعِيلَ وَابْنِهِ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ وَابْنِ أَخِيهِ الْمُنْذِرِ بْنِ أَسَدٍ. اسْتَأْذَنَ يُوسُفُ هِشَامًا فِي تَعْذِيبِهِ فَأَذِنَ لَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَقْسَمَ لَئِنْ هَلَكَ لَيَقْتُلَنَّهُ، فَعَذَّبَهُ يُوسُفُ ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى حَبْسِهِ. وَقِيلَ: بَلْ عَذَّبَهُ عَذَابًا كَثِيرًا، وَكَتَبَ هِشَامٌ إِلَى يُوسُفَ يَأْمُرُهُ بِإِطْلَاقِهِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَأَطْلَقَهُ، فَسَارَ فَأَتَى الْقَرْيَةَ الَّتِي بِإِزَاءِ الرُّصَافَةِ فَأَقَامَ بِهَا إِلَى صَفَرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَخَرَجَ زَيْدٌ فَقُتِلَ، فَكَتَبَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: إِنَّ بَنِي هَاشِمٍ قَدْ كَانُوا هَلَكُوا جُوعًا فَكَانَتْ هِمَّةُ أَحَدِهِمْ قُوتَ عِيَالِهِ، فَلَمَّا وَلِيَ خَالِدٌ الْعِرَاقَ أَعْطَاهُمُ الْأَمْوَالَ، فَتَاقَتْ أَنْفُسُهُمْ إِلَى الْخِلَافَةِ، وَمَا خَرَجَ زَيْدٌ إِلَّا عَنْ رَأْيِ خَالِدٍ. فَقَالَ هِشَامٌ: كَذَبَ يُوسُفُ! وَضَرَبَ رَسُولَهُ وَقَالَ: لَسْنَا نَتَّهِمُ خَالِدًا فِي طَاعَةٍ. وَسَمِعَ خَالِدٌ فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ دِمَشْقَ وَسَارَ إِلَى الصَّائِفَةِ. وَكَانَ عَلَى دِمَشْقَ يَوْمَئِذٍ كُلْثُومُ بْنُ عِيَاضٍ الْقُشَيْرِيُّ، وَكَانَ يُبْغِضُ خَالِدًا، فَظَهَرَ فِي دُورِ دِمَشْقَ حَرِيقٌ كُلَّ لَيْلَةٍ يَفْعَلُهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَمَرَّسِ، فَإِذَا وَقَعَ الْحَرِيقُ يَسْرِقُونَ، وَكَانَ أَوْلَادُ خَالِدٍ وَإِخْوَتُهُ بِالسَّاحِلِ لَحَدَثٍ كَانَ مِنَ الرُّومِ، فَكَتَبَ كُلْثُومٌ إِلَى هِشَامٍ يُخْبِرُهُ أَنَّ مَوَالِيَ خَالِدٍ يُرِيدُونَ الْوُثُوبَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَأَنَّهُمْ يُحْرِقُونَ الْبَلَدَ كُلَّ لَيْلَةٍ لِهَذَا الْفِعْلِ. فَكَتَبَ إِلَى هِشَامٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْبِسَ آلَ خَالِدٍ الصَّغِيرَ مِنْهُمْ وَالْكَبِيرَ وَمَوَالِيَهُمْ، فَأَنْفَذَ وَأَحْضَرَ أَوْلَادَ خَالِدٍ وَإِخْوَتَهُ مِنَ السَّاحِلِ فِي الْجَوَامِعِ وَمَعَهُمْ مَوَالِيهِمْ، وَحَبَسَ بَنَاتِ خَالِدٍ وَالنِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلِيُّ بْنُ الْعَمَرَّسِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ، فَكَتَبَ الْوَلِيدُ بْنُ

عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَامِلُ الْخَرَاجِ إِلَى هِشَامٍ يُخْبِرُهُ بِأَخْذِ ابْنِ الْعَمَرَّسِ وَأَصْحَابِهِ بِأَسْمَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِمْ أَحَدًا مِنْ مَوَالِي خَالِدٍ. فَكَتَبَ هِشَامٌ إِلَى كُلْثُومٍ يَشْتُمُهُ وَيَأْمُرُهُ بِإِطْلَاقِ آلِ خَالِدٍ، فَأَطْلَقَهُمْ وَتَرَكَ الْمَوَالِيَ رَجَاءَ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِمْ خَالِدٌ إِذَا قَدِمَ مِنَ الصَّائِفَةِ. ثُمَّ قَدِمَ خَالِدٌ فَنَزَلَ مَنْزِلَهُ فِي دِمَشْقَ فَأَذِنَ لِلنَّاسِ، فَقَامَ بَنَاتُهُ يَحْتَجِبْنَ، فَقَالَ: لَا تَحْتَجِبْنَ فَإِنَّ هِشَامًا كُلَّ يَوْمٍ يَسُوقُكُنَّ إِلَى الْحَبْسِ، فَدَخَلَ النَّاسُ، فَقَامَ أَوْلَادُهُ يَسْتُرُونَ النِّسَاءَ، فَقَالَ خَالِدٌ: خَرَجْتُ غَازِيًا سَامِعًا مُطِيعًا فَخُلِفْتُ فِي عَقِبِي وَأُخِذَ حُرَمِي وَأَهْلُ بَيْتِي فَحُبِسُوا مَعَ أَهْلِ الْجَرَائِمِ كَمَا يُفْعَلُ بِالْمُشْرِكِينَ، فَمَا مَنَعَ عِصَابَةً مِنْكُمْ أَنْ تَقُولُوا عَلَامَ حُبِسَ حُرَمُ هَذَا السَّامِعِ الْمُطِيعِ؟ أَخِفْتُمْ أَنْ تُقْتَلُوا جَمِيعًا؟ أَخَافَكُمُ اللَّهُ! ثُمَّ قَالَ: مَا لِي وَلِهِشَامٍ؟ لَيَكُفُّنَّ عَنِّي أَوْ لَأَدْعُوَنَّ إِلَى عِرَاقِيِّ الْهَوَى، شَامِيِّ الدَّارِ، حِجَازِيِّ الْأَصْلِ، يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ أَنْ تُبْلِغُوا هِشَامًا، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَالَ: قَدْ خَرِفَ أَبُو الْهَيْثَمِ. وَتَتَابَعَتْ كُتُبُ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ إِلَى هِشَامٍ يَطْلُبُ مِنْهُ يَزِيدَبْنَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَرْسَلَ هِشَامٌ إِلَى كُلْثُومٍ يَأْمُرُهُ بِإِنْفَاذِ يَزِيدَبْنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ، فَطَلَبَهُ، فَهَرَبَ، فَاسْتَدْعَى خَالِدًا فَحَضَرَ عِنْدَهُ، فَحَبَسَهُ، فَسَمِعَ هِشَامٌ فَكَتَبَ إِلَى كُلْثُومٍ يَلُومُهُ وَيَأْمُرُهُ بِتَخْلِيَتِهِ، فَأَطْلَقَهُ. وَكَانَ هِشَامٌ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا أَمَرَ الْأَبْرَشَ الْكَلْبِيَّ فَكَتَبَ بِهِ إِلَى خَالِدٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْأَبْرَشُ: إِنَّهُ بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَكَ يَا خَالِدُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِعَشْرِ خِصَالٍ: إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ وَأَنْتَ كَرِيمٌ، وَاللَّهُ جَوَادٌ وَأَنْتَ جَوَادٌ، وَاللَّهُ رَحِيمٌ وَأَنْتَ رَحِيمٌ، حَتَّى عَدَّ عَشْرًا، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُقْسِمُ بِاللَّهِ لَئِنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَيَقْتُلَنَّكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدٌ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ كَانَ أَكْثَرَ أَهْلًا مِنْ أَنْ يَجُوزَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْفُجُورِ أَنْ يُحَرِّفَ مَا كَانَ فِيهِ، إِنَّمَا قَالَ لِي: يَا خَالِدُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِعَشْرِ خِصَالٍ: إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ كُلَّ كَرِيمٍ، وَاللَّهُ يُحِبُّكَ فَأَنَا أُحِبُّكَ، حَتَّى عَدَّ عَشْرَ خِصَالٍ. وَلَكِنْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ قِيَامُ ابْنِ شَقِيٍّ الْحِمْيَرِيِّ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَوْلُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خَلِيفَتُكَ فِي أَهْلِكَ أَكْرَمُ عَلَيْكَ أَمْ رَسُولُكَ فِي حَاجَتِكَ؟ فَقَالَ: بَلْ خَلِيفَتِي فِي أَهْلِي. فَقَالَ ابْنُ شَقِيٍّ: فَأَنْتَ خَلِيفَةُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ رَسُولُهُ، وَضَلَالُ رَجُلٍ مِنْ بَجِيلَةَ، يَعْنِي نَفْسَهُ، أَهْوَنُ عَلَى الْعَامَّةِ مِنْ ضَلَالِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا قَرَأَ هِشَامٌ كِتَابَهُ قَالَ: خَرِفَ أَبُو الْهَيْثَمِ!

فَأَقَامَ خَالِدٌ بِدِمَشْقَ حَتَّى هَلَكَ هِشَامٌ وَقَامَ الْوَلِيدُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ: مَا حَالُ الْخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ الَّتِي تَعْلَمُ؟ فَاقْدَمْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِبَابِ السُّرَادِقِ فَقَالَ: يَقُولُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَيْنَ ابْنُكَ يَزِيدُ؟ فَقَالَ: كَانَ هَرَبَ مِنْ هِشَامٍ وَكُنَّا نَرَاهُ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى اسْتَخْلَفَهُ اللَّهُ، فَلَمَّا لَمْ نَرَهُ ظَنَنَّاهُ بِبِلَادِ قَوْمِهِ مِنَ السَّرَاةِ. وَرَجَعَ الرَّسُولُ وَقَالَ: لَا وَلَكِنَّكَ خَلَّفْتَهُ طَالِبًا لِلْفِتْنَةِ. فَقَالَ: قَدْ عَلِمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّا أَهْلُ بَيْتِ طَاعَةٍ. فَرَجَعَ الرَّسُولُ فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَتَأْتِيَنَّ بِهِ أَوْ لَأُرْهِقَنَّ نَفْسَكَ. فَرَفَعَ خَالِدٌ صَوْتَهُ وَقَالَ: قُلْ لَهُ: هَذَا أَرَدْتُ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ تَحْتَ قَدَمِي مَا رَفَعْتُهَا عَنْهُ. فَأَمَرَ الْوَلِيدُ بِضَرْبِهِ، فَضُرِبَ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ، فَحَبَسَهُ حَتَّى قَدِمَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ مِنَ الْعِرَاقِ بِالْأَمْوَالِ فَاشْتَرَاهُ مِنَ الْوَلِيدِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَأَرْسَلَ الْوَلِيدُ إِلَى خَالِدٍ: إِنَّ يُوسُفَ يَشْتَرِيكَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَإِنْ كُنْتَ تَضْمَنُهَا وَإِلَّا دَفَعْتُكَ إِلَيْهِ. فَقَالَ خَالِدٌ: مَا عَهِدْتُ الْعَرَبَ تُبَاعُ، وَاللَّهِ لَوْ سَأَلْتَنِي أَنْ أَضْمَنَ عُودًا مَا ضَمِنْتُهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى يُوسُفَ، فَنَزَعَ ثِيَابَهُ وَأَلْبَسَهُ عَبَاءَةً وَحَمَلَهُ فِي مَحْمَلٍ بِغَيْرٍ وَطَاءٍ وَعَذَّبَهُ عَذَابًا شَدِيدًا، وَهُوَ لَا يُكَلِّمُهُ كَلِمَةً، ثُمَّ حَمَلَهُ إِلَى الْكُوفَةِ فَعَذَّبَهُ، ثُمَّ وَضَعَ الْمُضَرَّسَةَ عَلَى صَدْرِهِ فَقَتَلَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَدَفَنَهُ مِنْ وَقْتِهِ بِالْحِيرَةِ فِي عَبَاءَتِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ: بَلْ أَمَرَ يُوسُفُ فَوُضِعَ عَلَى رِجْلَيْهِ عُودٌ وَقَامَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ قَدَمَاهُ وَمَا تَكَلَّمَ وَلَا عَبَسَ. وَكَانَتْ أُمُّ خَالِدٍ نَصْرَانِيَّةً رُومِيَّةً، ابْتَنَى بِهَا أَبُوهُ فِي بَعْضِ أَعْيَادِهِمْ فَأَوْلَدَهَا خَالِدًا وَأَسَدًا وَلَمْ تُسْلِمْ، وَبَنَى لَهَا خَالِدٌ بِيعَةً، فَذَمَّهُ النَّاسُ وَالشُّعَرَاءُ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: أَلَا قَطَعَ الرَّحْمَنُ ظَهْرَ مَطِيَّةٍ ... أَتَتْنَا تَهَادَى مِنْ دِمَشْقَ بِخَالِدِ فَكَيْفَ يَؤُمُّ النَّاسَ مَنْ كَانَتِ امُّهُ ... تَدِينُ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِوَاحِدِ بَنَى بِيعَةً فِيهَا النَّصَارَى لِأُمِّهِ ... وَيَهْدِمُ مِنْ كُفْرٍ مَنَارَ الْمَسَاجِدِ وَكَانَ خَالِدٌ قَدْ أَمَرَ بِهَدْمِ مَنَارِ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ شَاعِرًا قَالَ: لَيْتَنِي فِي الْمُؤَذِّنِينَ حَيَاتِي ... أَنَّهُمْ يُبْصِرُونَ مَنْ فِي السُّطُوحِ فَيُشِيرُونَ أَوْ تُشِيرُ إِلَيْهِمْ ... بِالْهَوَى كُلُّ ذَاتِ دَلٍّ مَلِيحِ

فَلَمَّا سَمِعَ هَذَا الشِّعْرَ أَمَرَ بِهَدْمِهَا، وَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ النَّاسَ يَذُمُّونَهُ لِبِنَائِهِ الْبِيعَةَ لِأُمِّهِ قَامَ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ دِينَهُمْ إِنْ كَانَ شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ خَلِيفَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ أَفْضَلُ مِنْ رَسُولِهِ فِي حَاجَتِهِ، يَعْنِي أَنَّ الْخَلِيفَةَ هِشَامًا أَفْضَلُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ. ذِكْرُ قَتْلِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ النَّاقِصُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ خَلَاعَتِهِ وَمَجَانَتِهِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ لَمْ يَزِدْ مِنَ الَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ اللَّهْوِ وَاللَّذَّةِ وَالرُّكُوبِ لِلصَّيْدِ وَشُرْبِ النَّبِيذِ وَمُنَادَمَةِ الْفُسَّاقِ إِلَّا تَمَادِيًا، فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى رَعِيَّتِهِ وَجُنْدِهِ وَكَرِهُوا أَمْرَهُ، وَكَانَ أَعْظَمُهُ مَا جَنَى عَلَى نَفْسِهِ إِفْسَادَهُ بَنِي عَمَّيْهِ هِشَامٍ وَالْوَلِيدِ، فَإِنَّهُ أَخَذَ سُلَيْمَانَ بْنَ هِشَامٍ، فَضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ، وَغَرَّبَهُ إِلَى عَمَّانَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ فَحَبَسَهُ بِهَا، فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا حَتَّى قُتِلَ الْوَلِيدُ، فَأَخَذَ جَارِيَةً كَانَتْ لِآلِ الْوَلِيدِ، فَكَلَّمَهُ عُثْمَانُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي رَدِّهَا، فَقَالَ: لَا أَرُدُّهَا. فَقَالَ: إِذَنْ تَكْثُرُ الصَّوَاهِلُ حَوْلَ عَسْكَرِكَ! وَحَبَسَ الْأَفْقَمُ يَزِيدَ بْنَ هِشَامٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَ رَوْحِ بْنِ الْوَلِيدِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَحَبَسَ عِدَّةً مِنْ وَلَدِ الْوَلِيدِ، فَرَمَاهُ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْوَلِيدِ بِالْكُفْرِ وَغِشْيَانِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِ أَبِيهِ وَقَالُوا: قَدِ اتَّخَذَ مِائَةً جَامِعَةً لِبَنِي أُمَيَّةَ. وَكَانَ أَشَدُّهُمْ فِيهِ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَكَانَ النَّاسُ إِلَى قَوْلِهِ أَمْيَلَ لِأَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ النُّسُكَ وَيَتَوَاضَعُ، وَكَانَ قَدْ نَهَاهُ سَعِيدُ بْنُ بَيْهَسِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنِ الْبَيْعَةِ لِابْنَيْهِ الْحَكَمِ وَعُثْمَانَ لِصِغَرِهِمَا، فَحَبَسَهُ حَتَّى مَاتَ فِي الْحَبْسِ. وَأَرَادَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ عَلَى الْبَيْعَةِ لِابْنَيْهِ فَأَبَى، فَغَضِبَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: لَا تَخَافُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: كَيْفَ أُبَايِعُ مَنْ لَا أُصَلِّي خَلْفَهُ وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ؟ قَالُوا: فَتَقْبَلُ شَهَادَةَ الْوَلِيدِ مَعَ فِسْقِهِ! قَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ غَائِبٌ عَنِّي وَإِنَّمَا هِيَ أَخْبَارُ النَّاسِ. فَفَسَدَتِ الْيَمَانِيَّةُ عَلَيْهِ وَفَسَدَتْ عَلَيْهِ قُضَاعَةُ، وَهُمْ وَالْيَمَنُ أَكْثَرُ جُنْدِ أَهْلِ الشَّامِ، فَأَتَى حُرَيْثٌ وَشَبِيبُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ الْغَسَّانِيُّ وَمَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ الْكَلْبِيُّ وَابْنُ عَمِّهِ حِبَالُ بْنُ عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَحُمَيْدُ بْنُ مَنْصُورٍ اللَّخْمِيُّ وَالْأَصْبَغُ بْنُ ذُؤَالَةَ

وَالطُّفَيْلُ بْنُ حَارِثَةَ وَالسَّرِيُّ زِيَادٌ إِلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ فَدَفَعُوهُ إِلَى أَمْرِهِمْ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ. وَأَرَادَ الْوَلِيدُ الْحَجَّ فَخَافَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلُوهُ فِي الطَّرِيقِ فَنَهَاهُ عَنِ الْحَجِّ، فَقَالَ: وَلِمَ؟ فَأَخْبَرَهُ فَحَبَسَهُ وَأَمَرَ أَنْ يُطَالِبَ بِأَمْوَالِ الْعِرَاقِ، ثُمَّ اسْتَقْدَمَ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ مِنِ الْعِرَاقِ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُحْضِرَ مَعَهُ الْأَمْوَالَ، وَأَرَادَ عَزْلَهُ وَتَوْلِيَةَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ. فَقَدِمَ يُوسُفُ بِأَمْوَالٍ لَمْ يُحْمَلْ مِنَ الْعِرَاقِ مِثْلُهَا، فَلَقِيَهُ حَسَّانُ النَّبَطِيُّ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْوَلِيدَ يُرِيدُ أَنْ يُوَلِّيَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ الرُّشَى إِلَى وُزَرَائِهِ، فَفَرَّقَ فِيهِمْ خَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ، وَقَالَ لَهُ حَسَّانُ: اكْتُبْ عَلَى لِسَانِ خَلِيفَتِكَ بِالْعِرَاقِ كِتَابًا: إِنِّي كَتَبْتُ إِلَيْكَ وَلَا أَمْلِكُ إِلَّا الْقَصْرَ، وَادْخُلْ عَلَى الْوَلِيدِ وَالْكِتَابُ مَعَكَ مَخْتُومٌ وَاشْتَرِ مِنْهُ خَالِدًا، فَفَعَلَ، فَأَمَرَهُ الْوَلِيدُ بِالْعَوْدِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَاشْتَرَى مِنْهُ خَالِدًا الْقَسْرِيَّ بِخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَعَهُ فِي مَحْمَلٍ بِغَيْرِ وَطَاءٍ إِلَى الْعِرَاقِ. فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْيَمَنِ شِعْرًا عَلَى لِسَانِ الْوَلِيدِ يُحَرِّضُ عَلَيْهِ الْيَمَانِيَّةَ وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلْوَلِيدِ يُوَبِّخُ الْيَمَنَ عَلَى تَرْكِ نَصْرِ خَالِدٍ: أَلَمْ تَهْتَجْ فَتَذَّكِرِ الْوِصَالَا ... وَحَبْلًا كَانَ مُتَّصِلًا فَزَالَا بَلَى فَالدَّمْعُ مِنْكَ إِلَى انْسِجَامٍ ... كَمَاءِ الْمُزْنِ يَنْسَجِلُ انْسِجَالًا فَدَعْ عَنْكَ ادِّكَارَكَ آلَ سُعْدَى ... فَنَحْنُ الْأَكْثَرُونَ حَصًى وَمَالَا وَنَحْنُ الْمَالِكُونَ النَّاسَ قَسْرًا ... نَسُومُهُمُ الْمَذَلَّةَ وَالنَّكَالَا وَطْئِنَا الْأَشْعَرَيْنِ بِعِزِّ قَيْسٍ ... فَيَا لَكِ وَطْأَةً لَنْ تُسْتَقَالَا وَهَذَا خَالِدٌ فِينَا أَسِيرٌ ... أَلَا مَنَعُوهُ إِنْ كَانُوا رِجَالًا عَظِيمُهُمُ وَسَيِّدُهُمْ قَدِيمًا ... جَعَلْنَا الْمُخْزِيَاتِ لَهُ ظِلَالَا فَلَوْ كَانَتْ قَبَائِلَ ذَاتَ عِزٍّ ... لَمَا ذَهَبَتْ صَنَائِعُهُ ضَلَالًا

وَلَا تَرَكُوهُ مَسْلُوبًا أَسِيرًا يُعَالِجُ مِنْ سَلَاسِلِنَا الثِّقَالَا ... وَكِنْدَةُ وَالسَّكُونُ فَمَا اسْتَقَالُوا وَلَا بَرِحَتْ خُيُولُهُمُ الرِّحَالَا ... بِهَا سُمْنَا الْبَرِيَّةَ كُلَّ خَسْفٍ وَهَدَّمْنَا السُّهُولَةَ وَالْجِبَالَا ... وَلَكِنَّ الْوَقَائِعَ ضَعْضَعَتْهُمْ وَجَذَّتْهُمْ وَرَدَّتْهُمْ شِلَالَا ... فَمَا زَالُوا لَنَا أَبَدًا عَبِيدًا نَسُومُهُمُ الْمَذَلَّةَ وَالسَّفَالَا ... فَأَصْبَحْتُ الْغَدَاةَ عَلَيَّ تَاجٌ لِمُلْكِ النَّاسِ مَا يَبْغِي انْتِقَالَا فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَسَعَوْا فِي قَتْلِهِ وَازْدَادُوا حَنَقًا، وَقَالَ حَمْزَةُ بْنُ بِيضٍ فِي الْوَلِيدِ: وَصَلْتَ سَمَاءَ الضُّرِّ بِالضُّرِّ بَعْدَمَا ... زَعَمْتَ سَمَاءَ الضُّرِّ عَنَّا سَتُقْلِعُ فَلَيْتَ هِشَامًا كَانَ حَيًّا يَسُومُنَا ... وَكُنَّا كَمَا كُنَّا نُرَجِّي وَنَطْمَعُ وَقَالَ أَيْضًا: يَا وَلِيدَ الْخَنَا تَرَكْتَ الطَّرِيقَا ... وَاضِحًا وَارْتَكَبْتَ فَجًّا عَمِيقَا وَتَمَادَيْتَ وَاعْتَدَيْتَ وَأَسْرَفْ ... تَ وَأَغْرَيْتَ وَانْبَعَثْتَ فُسُوقَا أَبَدًا هَاتِ ثُمَّ هَاتِ وَهَاتِي ... ثُمَّ هَاتِي حَتَّى تَخِرَّ صَعِيقَا أَنْتَ سَكْرَانُ مَا تُفِيقُ فَمَا تَرْ ... تِقُ فَتْقًا وَقَدْ فَتَقْتَ فُتُوقَا فَأَتَتِ الْيَمَانِيَّةُ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَرَادُوهُ عَلَى الْبَيْعَةِ، فَشَاوَرَ عَمْرَو بْنَ يَزِيدَ الْحَكَمِيَّ، فَقَالَ لَهُ: لَا يُبَايِعُكَ النَّاسُ عَلَى هَذَا، وَشَاوِرْ أَخَاكَ الْعَبَّاسَ فَإِنْ بَايَعَكَ

لَمْ يُخَالِفْكَ أَحَدٌ، وَإِنْ أَبَى كَانَ النَّاسُ لَهُ أَطْوَعَ، فَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا الْمُضِيَّ عَلَى رَأْيِكَ فَأَظْهِرْ أَنَّ أَخَاكَ الْعَبَّاسَ قَدْ بَايَعَكَ. وَكَانَ الشَّامُ وَبِيًّا، فَخَرَجُوا إِلَى الْبَوَادِي، وَكَانَ الْعَبَّاسُ بِالْقَسْطَلِ وَيَزِيدُ بِالْبَادِيَةِ أَيْضًا بَيْنَهُمَا أَمْيَالٌ يَسِيرَةٌ، فَأَتَى يَزِيدُ أَخَاهُ الْعَبَّاسَ فَاسْتَشَارَهُ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَرَجَعَ وَبَايَعَ النَّاسَ سِرًّا وَبَثَّ دُعَاتَهُ، فَدَعَوُا النَّاسَ، ثُمَّ عَاوَدَ أَخَاهُ الْعَبَّاسَ فَاسْتَشَارَهُ وَدَعَاهُ إِلَى نَفْسِهِ، فَزَبَرَهُ وَقَالَ: إِنْ عُدْتَ لِمِثْلِ هَذَا لَأَشُدَّنَّكَ وَثَاقًا وَأَحْمِلَنَّكَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِنِّي لَأَظُنُّهُ أَشْأَمَ مَوْلُودٍ فِي بَنِي مَرْوَانَ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ بِإِرْمِينِيَّةَ، فَكَتَبَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَنْهَى النَّاسَ، وَيَكُفَّهُمْ وَيُحَذِّرَهُمُ الْفِتْنَةَ، وَيُخَوِّفَهُمْ خُرُوجَ الْأَمْرِ عَنْهُمْ، فَأَعْظَمَ سَعِيدٌ ذَلِكَ وَبَعَثَ بِالْكِتَابِ إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَاسْتَدْعَى الْعَبَّاسُ يَزِيدَ وَتَهَدَّدَهُ، فَكَتَمَهُ يَزِيدُ أَمْرَهُ، فَصَدَّقَهُ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ لِأَخِيهِ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ: إِنِّي أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ فِي هَلَاكِكُمْ يَا بَنِي مَرْوَانَ، ثُمَّ تَمَثَّلَ: إِنِّي أُعِيذُكُمْ بِاللَّهِ مِنْ فِتَنٍ ... مِثْلِ الْجِبَالِ تَسَامَى ثُمَّ تَنْدَفِعُ إِنَّ الْبَرِيَّةَ قَدْ مَلَّتْ سِيَاسَتَكُمْ ... فَاسْتَمْسِكُوا بِعَمُودِ الدِّينِ وَارْتَدِعُوا لَا تُلْحِمُنَّ ذِئَابَ النَّاسِ أَنْفُسَكُمْ ... إِنَّ الذِّئَابَ إِذَا مَا أُلْحِمَتْ رَتَعُوا لَا تَبْقَرُنَّ بِأَيْدِيكُمْ بُطُونَكُمُ ... فَثَمَّ لَا حَسْرَةٌ تُغْنِي وَلَا جَزَعُ فَلَمَّا اجْتَمَعَ لِيَزِيدَ أَمْرُهُ وَهُوَ مُتَبَدٍّ أَقْبَلَ إِلَى دِمَشْقَ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ دِمَشْقَ أَرْبَعُ لَيَالٍ، مُتَنَكِّرًا فِي سَبْعَةِ نَفَرٍ عَلَى حَمِيرٍ، فَنَزَلُوا بِجَرُودَ عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنْ دِمَشْقَ، ثُمَّ سَارَ فَدَخَلَ دِمَشْقَ وَقَدْ بَايَعَ لَهُ أَكْثَرُ أَهْلِهَا سِرًّا، وَبَايَعَ أَهْلُ الْمِزَّةِ، وَكَانَ عَلَى دِمَشْقَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، فَخَافَ الْوَبَاءَ فَخَرَجَ مِنْهَا فَنَزَلَ قَطَنَا وَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ عَلَى دِمَشْقَ، وَعَلَى شُرْطَتِهِ أَبُو الْعَاجِ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ، فَأَجْمَعَ يَزِيدُ عَلَى الظُّهُورِ، فَقِيلَ لِلْعَامِلِ: إِنَّ يَزِيدَ خَارِجٌ، فَلَمْ يُصَدِّقْ. وَرَاسَلَ يَزِيدُ أَصْحَابَهُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ، فَكَمَنُوا عِنْدَ بَابِ الْفَرَادِيسِ حَتَّى أُذِّنَ الْعِشَاءُ فَدَخَلُوا فَصَلُّوا، وَلِلْمَسْجِدِ حَرَسٌ قَدْ وُكِّلُوا بِإِخْرَاجِ النَّاسِ مِنْهُ بِاللَّيْلِ، فَلَمَّا صَلَّى النَّاسُ أَخْرَجَهُمُ الْحَرَسُ، وَتَبَاطَأَ أَصْحَابُ يَزِيدَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرُ

الْحَرَسِ وَأَصْحَابِ يَزِيدَ، فَأَخَذُوا الْحَرَسَ، وَمَضَى يَزِيدُ بْنُ عَنْبَسَةَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ فَأَعْلَمَهُ وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ: قُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَبْشِرْ بِنَصْرِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ. فَقَامَ وَأَقْبَلَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ سُوقِ الْحُمُرِ لَقَوْا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِمْ، وَلَقِيَهُمْ زُهَاءُ مِائَتَيْ رَجُلٍ، فَمَضَوْا إِلَى الْمَسْجِدِ فَدَخَلُوا وَأَخَذُوا بَابَ الْمَقْصُورَةِ فَضَرَبُوهُ فَقَالُوا: رُسُلُ الْوَلِيدِ، فَفَتَحَ لَهُمُ الْبَابَ خَادِمٌ، فَأَخَذُوهُ وَدَخَلُوا فَأَخَذُوا أَبَا الْعَاجِ وَهُوَ سَكْرَانُ، وَأَخَذُوا خُزَّانَ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ يَحْذَرُهُ فَأُخِذَ، وَقُبِضَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، وَهُوَ عَلَى بَعْلَبَكَّ، وَأَرْسَلَ بَنِي عُذْرَةَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ فَأَخَذُوهُ. وَكَانَ بِالْمَسْجِدِ سِلَاحٌ كَثِيرٌ فَأَخَذُوهُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَاءَ أَهْلُ الْمِزَّةِ، وَتَتَابَعَ النَّاسُ وَجَاءَتِ السَّكَاسِكُ، وَأَقْبَلَ أَهْلُ دَارَيَّا وَيَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَانِئٍ الْعَبْسِيُّ، وَأَقْبَلَ عِيسَى بْنُ شَبِيبٍ التَّغْلِبِيُّ فِي أَهْلِ دُومَةَ وَحَرَسْتَا، وَأَقْبَلَ حُمَيْدُ بْنُ حَبِيبٍ النَّخَعِيُّ فِي أَهْلِ دَيْرِ مُرَّانَ وَالْأَرْزَةِ وَسَطْرَا، وَأَقْبَلَ أَهْلُ جَرَشٍ وَأَهْلُ الْحَدِيثَةِ وَدَيْرُ زَكَّا، وَأَقْبَلَ رِبْعِيُّ بْنُ هَاشِمٍ الْحَارِثِيُّ فِي الْجَمَاعَةِ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ وَسَلَامَانَ، وَأَقْبَلَتْ جُهَيْنَةُ وَمَنْ وَالَاهُمْ. ثُمَّ وَجَّهَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَصَادٍ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ لِيَأْخُذُوا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ مِنْ قَصْرِهِ، فَأَخَذُوهُ بِأَمَانٍ، وَأَصَابَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ خُرْجَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقِيلَ لَهُ: خُذْ أَحَدَ هَذَيْنِ الْخُرْجَيْنِ. فَقَالَ: لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ عَنِّي أَنِّي أَوَّلُ مَنْ خَانَ فِي هَذَا الْأَمْرِ. ثُمَّ جَهَّزَ يَزِيدُ جَيْشًا وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْحَجَّاجِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَ يَزِيدُ لَمَّا ظَهَرَ بِدِمَشْقَ سَارَ مَوْلًى لِلْوَلِيدِ إِلَيْهِ فَأَعْلَمَهُ الْخَبَرَ وَهُوَ بِالْأَغْدَفِ مِنْ عَمَّانَ، فَضَرَبَهُ الْوَلِيدُ وَحَبَسَهُ وَسَيَّرَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى دِمَشْقَ، فَسَارَ بَعْضَ الطَّرِيقِ فَأَقَامَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَصَادٍ، فَسَأَلَهُ أَبُو

مُحَمَّدٍ ثُمَّ بَايَعَ لِيَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ. وَلَمَّا أَتَى الْخَبَرُ إِلَى الْوَلِيدِ قَالَ لَهُ يَزِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ: سِرْ حَتَّى تَنْزِلَ حِمْصَ فَإِنَّهَا حَصِينَةٌ، وَوَجِّهِ الْخُيُولَ إِلَى يَزِيدَ فَيُقْتَلُ أَوْ يُؤْسَرُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: مَا يَنْبَغِي لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَدَعَ عَسْكَرَهُ وَنِسَاءَهُ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلَ، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْصُرُهُ. فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ: وَمَا نَخَافُ عَلَى حُرَمِهِ، وَإِنَّمَا أَتَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِنَّ. فَأَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ عَنْبَسَةَ وَسَارَ حَتَّى أَتَى الْبَخْرَاءَ قَصْرَ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَسَارَ مَعَهُ مِنْ وَلَدِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَقَالُوا لَهُ: لَيْسَ لَنَا سِلَاحٌ، فَلَوْ أَمَرْتَ لَنَا بِسِلَاحٍ. فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا. وَنَازَلَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَكَتَبَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى الْوَلِيدِ: إِنِّي آتِيكَ. فَقَالَ الْوَلِيدُ: أَخْرِجُوا سَرِيرًا، فَأَخْرَجُوهُ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَانْتَظَرَ الْعَبَّاسَ. فَقَاتَلَهُمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَمَعَهُ مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ زِيَادَ بْنَ حُصَيْنٍ الْكَلْبِيَّ يَدْعُوهُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، فَقَتَلَهُ أَصْحَابُ الْوَلِيدِ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَ الْوَلِيدُ قَدْ أَخْرَجَ لِوَاءَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ الَّذِي كَانَ عَقَدَهُ بِالْجَابِيَةِ. وَبَلَغَ عَبْدَ الْعَزِيزِ مَسِيرُ الْعَبَّاسِ إِلَى الْوَلِيدِ، فَأَرْسَلَ مَنْصُورَ بْنَ جُمْهُورٍ إِلَى طَرِيقِهِ فَأَخَذَهُ قَهْرًا وَأُتِيَ بِهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ فَقَالَ لَهُ: بَايِعْ لِأَخِيكَ يَزِيدَ. فَبَايَعَ وَوَقَفَ، وَنَصَبُوا رَايَةً وَقَالُوا: هَذِهِ رَايَةُ الْعَبَّاسِ قَدْ بَايَعَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِنَّا لِلَّهِ، خُدْعَةٌ مِنْ خُدَعِ الشَّيْطَانِ، هَلَكَ بَنُو مَرْوَانَ. فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنِ الْوَلِيدِ وَأَتَوُا الْعَبَّاسَ وَعَبْدَ الْعَزِيزِ. وَأَرْسَلَ الْوَلِيدُ إِلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ يَبْذُلُ لَهُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَوِلَايَةَ حِمْصَ مَا بَقِيَ وَيُؤَمِّنُهُ مِنْ كُلِّ حَدَثٍ عَلَى أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ قِتَالِهِ. فَأَبَى وَلَمْ يُجِبْهُ. فَظَاهَرَ الْوَلِيدُ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وَأَتَوْهُ بِفَرَسَيْهِ السِّنْدِيِّ الزَّائِدِ فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَنَادَاهُمْ رَجُلٌ: اقْتُلُوا عَدُوَّ اللَّهِ قِتْلَةَ قَوْمِ لُوطٍ! ارْجُمُوهُ بِالْحِجَارَةِ! فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ دَخَلَ الْقَصْرَ وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ الْبَابَ وَقَالَ: دَعُوا لِيَ سُلَيْمَى وَالطِّلَاءَ وَقَيْنَةً ... وَكَأْسًا أَلَا حَسْبِي بِذَلِكَ مَالَا إِذَا مَا صَفَا عَيْشِي بِرَمْلَةِ عَالِجٍ ... وَعَانَقْتُ سَلْمَى مَا أُرِيدُ بِدَالَا

خُذُوا مُلْكَكُمْ لَا ثَبَّتَ اللَّهُ مُلْكَكُمْ ثَبَاتًا يُسَاوِي مَا حَيِيتُ عِقَالَا ... وَخَلُّوا عِنَانِي قَبْلَ عَيْرٍ وَمَا جَرَى وَلَا تَحْسُدُونِي أَنْ أَمُوتَ هُزَالَا فَلَمَّا دَخَلَ الْقَصْرَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ أَحَاطَ بِهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ، فَدَنَا الْوَلِيدُ مِنَ الْبَابِ وَقَالَ: أَمَا فِيكُمْ رَجُلٌ شَرِيفٌ لَهُ حَسَبٌ وَحَيَاءٌ أُكَلِّمُهُ؟ قَالَ يَزِيدُ بْنُ عَنْبَسَةَ السَّكْسَكِيُّ: كَلِّمْنِي. قَالَ: يَا أَخَا السَّكَاسِكِ، أَلَمْ أَزِدْ فِي أَعْطِيَاتِكُمْ؟ أَلَمْ أَرْفَعِ الْمُؤَنَ عَنْكُمْ؟ أَلَمْ أُعْطِ فُقَرَاءَكُمْ؟ أَلَمْ أَخْدِمْ زَمْنَاكُمْ؟ فَقَالَ: إِنَّا مَا نَنْقِمُ عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِنَا، إِنَّمَا نَنْقِمُ عَلَيْكَ فِي انْتِهَاكِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنِكَاحِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِ أَبِيكَ وَاسْتِخْفَافِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ! قَالَ: حَسْبُكَ يَا أَخَا السَّكَاسِكِ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ أَكْثَرْتُ وَأَغْرَقْتُ، وَإِنَّ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ سَعَةً عَمَّا ذَكَرْتَ. وَرَجَعَ إِلَى الدَّارِ وَجَلَسَ وَأَخَذَ مُصْحَفًا فَنَشَرَهُ يَقْرَأُ فِيهِ وَقَالَ: يَوْمٌ كَيَوْمِ عُثْمَانَ. فَصَعِدُوا عَلَى الْحَائِطِ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ عَلَاهُ يَزِيدُ بْنُ عَنْبَسَةَ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ فَأَخْذَ بِيَدِهِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَحْبِسَهُ وَيُؤَامِرَ فِيهِ، فَنَزَلَ مِنَ الْحَائِطِ عَشَرَةٌ، مِنْهُمْ: مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ، وَعَبْدُ السَّلَامِ اللَّخْمِيُّ، فَضَرَبَهُ عَبْدُ السَّلَامِ عَلَى رَأْسِهِ وَضَرَبَهُ السَّرِيُّ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَبِي كَبْشَةَ فِي وَجْهِهِ وَاحْتَزُّوا رَأْسَهُ وَسَيَّرُوهُ إِلَى يَزِيدَ. فَأَتَاهُ الرَّأْسُ وَهُوَ يَتَغَدَّى، فَسَجَدَ، وَحَكَى لَهُ يَزِيدُ بْنُ عَنْبَسَةَ مَا قَالَهُ لِلْوَلِيدِ، قَالَ آخِرَ كَلَامِهِ: اللَّهُ لَا يَرْتِقُ فَتْقَكُمْ وَلَا يَلُمُّ شَعَثَكُمْ وَلَا تَجْتَمِعُ كَلِمَتُكُمْ، فَأَمَرَ يَزِيدُ بِنَصْبِ رَأْسِهِ. فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ بْنُ فَرْوَةَ مَوْلَى بَنِي مُرَّةَ: إِنَّمَا تُنْصَبُ رُءُوسُ الْخَوَارِجِ، وَهَذَا ابْنُ عَمِّكَ وَخَلِيفَةٌ، وَلَا آمَنُ إِنْ نَصَبْتُهُ أَنْ تَرِقَّ لَهُ قُلُوبُ النَّاسِ، وَيَغْضَبَ لَهُ أَهْلُ بَيْتِهِ. فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ وَنَصَبَهُ عَلَى رُمْحٍ فَطَافَ بِهِ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَزِيدَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ قَالَ: بُعْدًا لَهُ! أَشْهَدُ أَنَّهُ كَانَ شَرُوبًا لِلْخَمْرِ مَاجِنًا فَاسِقًا، وَلَقَدْ أَرَادَنِي فِي نَفَسِي الْفَاسِقُ. وَكَانَ

سُلَيْمَانُ مِمَّنْ سَعَى فِي أَمْرِهِ. وَكَانَ مَعَ الْوَلِيدِ مَالِكُ بْنُ أَبِي السَّمْحِ الْمُغَنِّي، وَعَمْرٌو الْوَادِيُّ الْمُغَنِّي أَيْضًا، فَلَمَّا تَفَرَّقَ عَنِ الْوَلِيدِ أَصْحَابُهُ وَحُصِرَ قَالَ مَالِكٌ لِعَمْرٍو: اذْهَبْ بِنَا. فَقَالَ عَمْرٌو: لَيْسَ هَذَا مِنَ الْوَفَاءِ، نَحْنُ لَا يُعْرَضُ لَنَا لِأَنَّا لَسْنَا مِمَّنْ يُقَاتِلُ. فَقَالَ مَالِكٌ: وَاللَّهِ لَئِنْ ظَفِرُوا بِكَ وَبِي لَا يُقْتَلُ أَحَدٌ قَبْلِي وَقَبْلَكَ، فَيُوضَعُ رَأْسُهُ بَيْنَ رَأْسَيْنَا وَيُقَالُ لِلنَّاسِ: انْظُرُوا مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَلَا يَعِيبُونَهُ بِشَيْءٍ أَشَدَّ مِنْ هَذَا. فَهَرَبَا. وَكَانَ قَتْلُهُ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ سَنَةً وَشَهْرَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ عُمْرُهُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: قُتِلَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. ذِكْرُ نَسَبِ الْوَلِيدِ وَبَعْضِ سِيرَتِهِ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْأُمَوِيُّ، يُكَنَّى أَبَا الْعَبَّاسِ، وَأُمُّهُ أُمُّ الْحَجَّاجِ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ، وَهِيَ بِنْتُ أَخِي الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَأُمُّ أَبِيهِ عَاتِكَةُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأُمُّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، وَأُمُّ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ أُمُّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلِذَلِكَ يَقُولُ الْوَلِيدُ: نَبِيُّ الْهُدَى خَالِي وَمَنْ يَكُ خَالُهُ ... نَبِيَّ الْهُدَى يُقْهَرْ بِهِ مَنْ يُفَاخِرُهُ وَكَانَ مِنْ فِتْيَانِ بَنِي أُمَيَّةَ وَظُرَفَائِهِمْ وَشُجْعَانِهِمْ وَأَجْوَادِهِمْ وَأَشِدَّائِهِمْ، مُنْهَمِكًا فِي اللَّهْوِ وَالشُّرْبِ وَسَمَاعِ الْغِنَاءِ فَظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ فَقُتِلَ. وَمِنْ جَيِّدِ شِعْرِهِ مَا قَالَهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ هِشَامًا يُرِيدُ خَلْعَهُ: كَفَرْتَ يَدًا مِنْ مُنْعِمٍ لَوْ شَكَرْتَهَا ... جَزَاكَ بِهَا الرَّحْمَنُ ذُو الْفَضْلِ وَالْمَنِّ

وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَبْيَاتُ الْأَرْبَعَةُ، وَأَشْعَارُهُ حَسَنَةٌ فِي الْغَزَلِ وَالْعِتَابِ وَوَصْفِ الْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخَذَ الشُّعَرَاءُ مَعَانِيَهُ فِي وَصْفِ الْخَمْرِ فَسَرَقُوهَا وَأَدْخَلُوهَا فِي أَشْعَارِهِمْ وَخَاصَّةً أَبُو نُوَاسٍ فَإِنَّهُ أَكْثَرُهُمْ أَخْذًا لَهَا. قَالَ الْوَلِيدُ: الْمَحَبَّةُ لِلْغَنَاءِ تَزِيدُ فِي الشَّهْوَةِ، وَتَهْدِمُ الْمُرُوءَةُ، وَتَنُوبُ عَنِ الْخَمْرِ، وَتَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ السُّكْرُ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَجَنِّبُوهُ النِّسَاءَ، فَإِنَّ الْغِنَاءَ رُقْيَةُ الزِّنَا، وَإِنِّي لَأَقُولَ ذَلِكَ عَلَيَّ وَإِنَّهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ، وَأَشْهَى إِلَى نَفْسِي مِنَ الْمَاءِ إِلَى ذِي الْغُلَّةِ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. قِيلَ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُنَبِّهٍ مَوْلَى ثَقِيفٍ مَدَحَ الْوَلِيدَ وَهَنَّأَهُ بِالْخِلَافَةِ، فَأَمَرَ أَنْ تُعَدَّ الْأَبْيَاتُ وَيُعْطَى بِكُلِّ بَيْتٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَعُدَّتْ فَكَانَتْ خَمْسِينَ بَيْتًا فَأُعْطِيَ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ أَوَّلُ خَلِيفَةٍ عَدَّ الشِّعْرَ وَأَعْطَى بِكُلِّ بَيْتٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَمِمَّا شُهِرَ عَنْهُ أَنَّهُ فَتَحَ الْمُصْحَفَ فَخَرَجَ: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15] ، فَأَلْقَاهُ وَرَمَاهُ بِالسِّهَامِ وَقَالَ: تُهَدِّدُنِي بِجَبَّارٍ عَنِيدٍ ... فَهَا أَنَا ذَاكَ جَبَّارٌ عَنِيدُ إِذَا مَا جِئْتَ رَبَّكَ يَوْمَ حَشْرٍ ... فَقُلْ يَا رَبِّ مَزَّقَنِي الْوَلِيدُ فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قُتِلَ. وَمِنْ حَسَنِ الْكَلَامِ مَا قَالَهُ الْوَلِيدُ لَمَّا مَاتَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَإِنَّ هِشَامًا قَعَدَ

لِلْعَزَاءِ، فَأَتَاهُ الْوَلِيدُ وَهُوَ نَشْوَانُ يَجُرُّ مُطْرَفَ خَزٍّ عَلَيْهِ، فَوَقَفَ عَلَى هِشَامٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ عُقْبَى مَنْ بَقِيَ لُحُوقُ مَنْ مَضَى، وَقَدْ أَقْفَرَ بَعْدَ مَسْلَمَةَ الصَّيْدُ لِمَنْ رَمَى، وَاخْتَلَّ الثَّغْرُ فَهَوَى، وَعَلَى أَثَرِ مَنْ سَلَفَ يَمْضِي مَنْ خَلَفَ، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] . فَأَعْرَضَ هِشَامٌ وَلَمْ يُحِرْ جَوَابًا، وَسَكَتَ الْقَوْمُ فَلَمْ يَنْطِقُوا. وَقَدْ نَزَّهَ قَوْمٌ الْوَلِيدَ مِمَّا قِيلَ فِيهِ، وَأَنْكَرُوهُ وَنَفَوْهُ عَنْهُ وَقَالُوا: إِنَّهُ قِيلَ عَنْهُ وَأُلْصِقَ بِهِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: دَخَلَ ابْنٌ لِلْغَمْرِ بْنِ يَزِيدَ أَخِي الْوَلِيدِ عَلَى الرَّشِيدِ، فَقَالَ لَهُ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ قُرَيْشٍ. قَالَ: مِنْ أَيِّهَا؟ فَأَمْسَكَ، فَقَالَ: قُلْ وَأَنْتَ آمِنٌ وَلَوْ أَنَّكَ مَرْوَانُ. فَقَالَ: أَنَا ابْنُ الْغَمْرِ بْنِ يَزِيدَ. فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ عَمَّكَ الْوَلِيدَ وَلَعَنَ يَزِيدَ النَّاقِصَ، فَإِنَّهُ قَتَلَ خَلِيفَةً مُجْمَعًا عَلَيْهِ! ارْفَعْ حَوَائِجَكَ. فَرَفَعَهَا فَقَضَاهَا. وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ الْمَهْدِيِّ فَذَكَرُوا الْوَلِيدَ، فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: كَانَ زِنْدِيقًا، فَقَامَ أَبُو عُلَاثَةَ الْفَقِيهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُوَلِّيَ خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ وَأَمْرَ الْأُمَّةِ زِنْدِيقًا، لَقَدْ أَخْبَرَنِي مَنْ كَانَ يَشْهَدُهُ فِي مَلَاعِبِهِ وَشُرْبِهِ عَنْهُ بِمُرُوءَةٍ فِي طَهَارَتِهِ وَصَلَاتِهِ، فَكَانَ إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ يَطْرَحُ الثِّيَابَ الَّتِي عَلَيْهِ الْمَطَايِبُ الْمُصْبَغَةِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، وَيُؤْتَى بِثِيَابٍ نِظَافٍ بِيضٍ فَيَلْبَسُهَا وَيُصَلِّي فِيهَا، فَإِذَا فَرَغَ عَادَ إِلَى تِلْكَ الثِّيَابِ فَلَبِسَهَا وَاشْتَغَلَ بِشُرْبِهِ وَلَهْوِهِ، فَهَذَا فَعَالُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ؟ ! فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ يَا أَبَا عُلَاثَةَ! ذِكْرُ بَيْعَةِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ النَّاقِصِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ النَّاقِصُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ النَّاقِصُ لِأَنَّهُ نَقَصَ الزِّيَادَةَ الَّتِي كَانَ الْوَلِيدُ زَادَهَا فِي عَطِيَّاتِ النَّاسِ، وَهِيَ عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ، وَرَدَّ الْعَطَاءَ إِلَى مَا كَانَ أَيَّامَ هِشَامٍ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ سَمَّاهُ بِهَذَا الِاسْمِ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَلَمَّا قُتِلَ الْوَلِيدُ خَطَبَ يَزِيدُ النَّاسَ فَذَمَّهُ وَذَكَرَ إِلْحَادَهُ، وَأَنَّهُ قَتَلَهُ لِفِعْلِهِ الْخَبِيثِ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لَكُمْ عَلَيَّ أَنْ لَا أَضَعَ حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ وَلَا لَبِنَةٍ، وَلَا أَكْتَرِيَ نَهْرًا،

وَلَا أُكْثِرَ مَالًا، وَلَا أُعْطِيَهِ زَوْجَةً وَوَلَدًا، وَلَا أَنْقُلَ مَالًا عَنْ بَلَدٍ حَتَّى أَسُدَّ ثَغْرَهُ وَخَصَاصَةَ أَهْلِهِ بِمَا يُغْنِيهِمْ، فَمَا فَضَلَ نَقَلْتُهُ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي يَلِيهِ، وَلَا أُجَمِّرَكُمْ فِي ثُغُورِكُمْ فَأَفْتِنَكُمْ، وَلَا أُغْلِقَ بَابِي دُونَكُمْ، وَلَا أَحْمِلَ عَلَى أَهْلِ جِزْيَتِكُمْ، وَلَكُمْ أَعْطِيَاتُكُمْ كُلَّ سَنَةٍ وَأَرْزَاقُكُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَتَّى يَكُونَ أَقْصَاكُمْ كَأَدْنَاكُمْ، فَإِنْ وَفَيْتُ لَكُمْ بِمَا قُلْتُ فَعَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَحُسْنُ الْوَزَارَةِ، وَإِنْ لَمْ أَفِ فَلَكُمْ أَنْ تَخْلَعُونِي إِلَّا أَنْ أَتُوبَ، وَإِنْ عَلِمْتُمْ أَحَدًا مِمَّنْ يُعْرَفُ بِالصَّلَاحِ يُعْطِيكُمْ مِنْ نَفْسِهِ مِثْلَ مَا أُعْطِيكُمْ وَأَرَدْتُمْ أَنْ تُبَايِعُوهُ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُبَايِعُهُ. أَيُّهَا النَّاسُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. ذِكْرُ اضْطِرَابِ بَنِي أُمَيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اضْطَرَبَ أَمْرُ بَنِيَ أُمَيَّةَ وَهَاجَتِ الْفِتْنَةُ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ وُثُوبُ سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَعْدَ قَتْلِ الْوَلِيدِ بِعَمَّانَ، وَكَانَ قَدْ حَبَسَهُ الْوَلِيدُ بِهَا، فَخَرَجَ مِنَ الْحَبْسِ وَأَخَذَ مَا كَانَ بِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَأَقْبَلَ إِلَى دِمَشْقَ وَجَعَلَ يَلْعَنُ الْوَلِيدَ وَيَعِيبُهُ بِالْكُفْرِ. ذِكْرُ خِلَافِ أَهْلِ حِمْصَ لَمَّا قُتِلَ الْوَلِيدُ أَغْلَقَ أَهْلُ حِمْصَ أَبْوَابَهَا وَأَقَامُوا النَّوَائِحَ وَالْبَوَاكِيَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَعَانَ عَبْدَ الْعَزِيزِ عَلَى قَتْلِهِ، فَهَدَمُوا دَارَهُ وَأَنْهَبُوهَا وَسَلَبُوا حُرَمَهُ وَطَلَبُوهُ، فَسَارَ إِلَى أَخِيهِ يَزِيدَ، فَكَاتَبُوا الْأَجْنَادَ وَدَعَوْهُمْ إِلَى الطَّلَبِ بِدَمِ الْوَلِيدِ، فَأَجَابُوهُمْ وَاتَّفَقُوا أَنْ لَا يُطِيعُوا يَزِيدَ وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ الْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَوَافَقَهُمْ مَرْوَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى ذَلِكَ. فَرَاسَلَهُمْ يَزِيدُ فَلَمْ يَسْمَعُوا وَجَرَحُوا رُسُلَهُ. فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ أَخَاهُ مَسْرُورًا فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَنَزَلُوا حُوَّارِينَ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى يَزِيدَ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ، فَرَدَّ عَلَيْهِ يَزِيدُ مَا كَانَ الْوَلِيدُ أَخَذَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَسَيَّرَهُ إِلَى أَخِيهِ مَسْرُورٍ وَمَنْ مَعَهُ وَأَمَرَهُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ. وَكَانَ أَهْلُ حِمْصَ يُرِيدُونَ الْمَسِيرَ إِلَى دِمَشْقَ، فَقَالَ لَهُمْ مَرْوَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: أَرَى أَنْ تَسِيرُوا إِلَى هَذَا الْجَيْشِ فَتُقَاتِلُوهُمْ فَإِنْ ظَفِرْتُمْ بِهِمْ كَانَ مَنْ بَعْدَهُمْ أَهْوَنَ عَلَيْكُمْ، وَلَسْتُ أَرَى الْمَسِيرَ إِلَى دِمَشْقَ وَتَرْكَ هَؤُلَاءِ خَلْفَكُمْ. فَقَالَ السِّمْطُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنَّمَا يُرِيدُ

خِلَافَكُمْ وَهُوَ مُمَايِلٌ لِيَزِيدَ وَالْقَدَرِيَّةِ. فَقَتَلُوهُ وَقَتَلُوا ابْنَهُ وَوَلَّوْا أَبَا مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيَّ وَتَرَكُوا عَسْكَرَ سُلَيْمَانَ ذَاتَ الْيَسَارِ وَسَارُوا إِلَى دِمَشْقَ. فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ مُجِدًّا فَلَحِقَهُمْ بِالسُّلَيْمَانِيَّةِ، مَزْرَعَةٌ كَانَتْ لِسُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ خَلْفَ عَذْرَاءَ، وَأَرْسَلَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْحَجَّاجِ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ إِلَى ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ، وَأَرْسَلَ هِشَامَ بْنَ مَصَادٍ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إِلَى عُقْبَةِ السُّلَامِيَّةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُمِدَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَلَحِقَهُمْ سُلَيْمَانُ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى تَعَبٍ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَتْ مَيْمَنَةُ سُلَيْمَانَ وَمَيْسَرَتُهُ وَثَبَتَ هُوَ فِي الْقَلْبِ، ثُمَّ حَمَلَ أَصْحَابُهُ عَلَى أَهْلِ حِمْصَ حَتَّى رَدُّوهُمْ إِلَى مَوْضِعِهِمْ وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِرَارًا. فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحَجَّاجِ مِنْ ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ فَحَمَلَ عَلَى أَهْلِ حِمْصَ حَتَّى دَخَلَ عَسْكَرَهُمْ وَقَتَلَ فِيهِ مَنْ عَرَضَ لَهُ، فَانْهَزَمُوا، وَنَادَى يَزِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ: اللَّهَ اللَّهَ فِي قَوْمِكَ! فَكَفَّ النَّاسُ، وَدَعَاهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ إِلَى بَيْعَةِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأُخِذَ أَبُو مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيُّ أَسِيرًا، وَيَزِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَيْضًا، فَأُتِيَ بِهِمَا سُلَيْمَانُ، فَسَيَّرَهُمَا إِلَى يَزِيدَ فَحَبَسَهُمَا، وَاجْتَمَعَ أَمْرُ أَهْلِ دِمَشْقَ لِيَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ، وَبَايَعَهُ أَهْلُ حِمْصَ، فَأَعْطَاهُمْ يَزِيدُ الْعَطَاءَ وَأَجَازَ الْأَشْرَافَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ الْحُصَيْنِ. ذِكْرُ خِلَافِ أَهْلِ فِلَسْطِينَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ أَهْلُ فِلَسْطِينَ عَلَى عَامِلِهِمْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَطَرَدُوهُ، وَكَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهِمُ الْوَلِيدُ، وَأَحْضَرُوا يَزِيدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَجَعَلُوهُ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ قُتِلَ فَتَوَلَّ أَمْرَنَا. فَوَلِيَهُمْ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى قِتَالِ يَزِيدَ، فَأَجَابُوهُ. وَكَانَ وَلَدُ سُلَيْمَانَ يَنْزِلُونَ فِلَسْطِينَ، وَبَلَغَ أَهْلَ الْأُرْدُنِّ أَمْرُ أَهْلِ فِلَسْطِينَ فَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَاجْتَمَعُوا مَعَهُمْ عَلَى قِتَالِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَ أَمْرُ أَهْلِ فِلَسْطِينَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ رَوْحٍ وَضِبْعَانَ بْنِ رَوْحٍ. وَبَلَغَ خَبَرُهُمْ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ سُلَيْمَانَ بْنَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي أَهْلِ دِمَشْقَ وَأَهْلِ حِمْصَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ السُّفْيَانِيِّ، وَكَانَتْ عِدَّتُهُمْ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا، وَأَرْسَلَ

يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى سَعِيدٍ وَضِبْعَانَ ابْنَيْ رَوْحٍ، فَوَعَدَهُمَا وَبَذَلَ لَهُمَا الْوِلَايَةَ وَالْمَالَ، فَرَحَلَا فِي أَهْلِ فِلَسْطِينَ وَبَقِيَ أَهْلُ الْأُرْدُنِّ، فَأَرْسَلَ سُلَيْمَانُ خَمْسَةَ آلَافٍ فَنَهَبُوا الْقُرَى وَسَارُوا إِلَى طَبَرِيَّةَ، فَقَالَ أَهْلُ طَبَرِيَّةَ: مَا نُقِيمُ وَالْجُنُودُ تَجُوسُ مَنَازِلَنَا وَتَحْكُمُ فِي أَهَالِينَا، فَانْتَهَبُوا يَزِيدَ بْنَ سُلَيْمَانَ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأَخَذُوا دَوَابَّهُمَا وَسِلَاحَهُمَا وَلَحِقُوا بِمَنَازِلِهِمْ. فَلَمَّا تَفَرَّقَ أَهْلُ فِلَسْطِينَ وَالْأُرْدُنِّ سَارَ سُلَيْمَانُ حَتَّى أَتَى الصِّنَّبْرَةَ، وَأَتَاهُ أَهْلُ الْأُرْدُنِّ فَبَايَعُوا يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَارَ إِلَى طَبَرِيَّةَ فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ، وَبَايَعَ مَنْ بِهَا، وَسَارَ إِلَى الرَّمْلَةِ فَأَخَذَ الْبَيْعَةَ عَلَى مَنْ بِهَا، وَاسْتَعْمَلَ ضِبْعَانَ بْنَ رَوْحٍ عَلَى فِلَسْطِينَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى الْأُرْدُنِّ. ذِكْرُ عَزْلِ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ عَنِ الْعِرَاقِ وَلَمَّا قُتِلَ الْوَلِيدُ اسْتَعْمَلَ يَزِيدُ عَلَى الْعِرَاقِ مَنْصُورَ بْنَ جُمْهُورٍ، وَكَانَ قَدْ نَدَبَ قَبْلَهُ إِلَى وِلَايَةِ الْعِرَاقِ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيَّ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ مَعِي جُنْدٌ لَقَبِلْتُ. فَتَرَكَهُ وَاسْتَعْمَلَ مَنْصُورًا، وَلَمْ يَكُنْ مَنْصُورٌ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَعَ يَزِيدَ لِرَأْيِهِ فِي الْغَيْلَانِيَّةِ، وَحَمِيَّةً لِقَتْلِ يُوسُفَ خَالِدًا الْقَسْرِيَّ، فَشَهِدَ لِذَلِكَ قَتْلَ الْوَلِيدِ، وَقَالَ لَهُ لَمَّا وَلَّاهُ الْعِرَاقَ: اتَّقِ اللَّهَ وَاعْلَمْ أَنِّي إِنَّمَا قَتَلْتُ الْوَلِيدَ لِفِسْقِهِ وَلِمَا أَظْهَرَ مِنَ الْجَوْرِ، فَلَا تَرْكَبْ مِثْلَ مَا قَتَلْنَاهُ عَلَيْهِ. وَلَمَّا بَلَغَ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ قَتْلُ الْوَلِيدِ عَمَدَ إِلَى مَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنَ الْيَمَانِيَّةِ فَسَجَنَهُمْ، ثُمَّ جَعَلَ يَخْلُو بِالرَّجُلِ بَعْدَ الرَّجُلِ مِنَ الْمُضَرِيَّةِ فَيَقُولُ: مَا عِنْدَكَ إِنِ اضْطَرَبَ الْحَبْلُ؟ فَيَقُولُ الْمُضَرِيُّ: أَنَا رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ الشَّامِ أُبَايِعُ مَنْ بَايَعُوا وَأَفْعَلُ مَا فَعَلُوا. فَلَمْ يَرَ عِنْدَهُمْ مَا يُحِبُّ فَأَطْلَقَ الْيَمَانِيَّةَ. وَأَقْبَلَ مَنْصُورٌ، فَلَمَّا كَانَ بِعَيْنِ التَّمْرِ كَتَبَ إِلَى مَنْ بِالْحِيرَةِ مِنْ قُوَّادِ أَهْلِ الشَّامِ يُخْبِرُهُمْ بِقَتْلِ الْوَلِيدِ وَتَأْمِيرِهِ عَلَى الْعِرَاقِ وَيَأْمُرُهُمْ بِأَخْذِ يُوسُفَ وَعُمَّالِهِ، وَبَعَثَ الْكُتُبَ كُلَّهَا إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ كَيْسَانَ لِيُفَرِّقَهَا عَلَى الْقُوَّادِ، فَحَبَسَ الْكُتُبَ وَحَمَلَ كِتَابَهُ فَأَقْرَأَهُ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ، فَتَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ وَقَالَ لِسُلَيْمَانَ: مَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: لَيْسَ لَكَ إِمَامٌ تُقَاتِلُ مَعَهُ، وَلَا يُقَاتِلُ أَهْلُ الشَّامِ مَعَكَ، وَلَا آمَنُ عَلَيْكَ مَنْصُورًا، وَمَا الرَّأْيُ إِلَّا أَنْ تَلْحَقَ بِشَامِكَ. قَالَ: فَكَيْفَ الْحِيلَةُ؟ قَالَ: تُظْهِرُ الطَّاعَةَ لِيَزِيدَ وَتَدْعُو لَهُ فِي خُطْبَتِكَ، فَإِذَا قَرُبَ مَنْصُورٌ تَسْتَخْفِي عِنْدِي وَتَدَعُهُ وَالْعَمَلَ. ثُمَّ مَضَى سُلَيْمَانُ إِلَى عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يُئْوِيَ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ عِنْدَهُ، فَفَعَلَ، فَانْتَقَلَ

يُوسُفُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَلَمْ يُرَ رَجُلٌ كَانَ [لَهُ] مِثْلُ عُتُوِّهِ خَافَ خَوْفَهُ. وَقَدِمَ مَنْصُورٌ الْكُوفَةَ فَخَطَبَهُمْ وَذَمَّ الْوَلِيدَ وَيُوسُفَ، وَقَامَتِ الْخُطَبَاءُ فَذَمُّوهُمَا مَعَهُ، فَأَتَى عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَى يُوسُفَ فَأَخْبَرَهُ، فَجَعَلَ لَا يَذْكُرُ رَجُلًا مِمَّنْ ذَكَرَهُ بِسُوءٍ إِلَّا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَضْرِبَهُ كَذَا وَكَذَا سَوْطًا! فَجَعَلَ عَمْرٌو يَتَعَجَّبُ مِنْ طَمَعِهِ فِي الْوِلَايَةِ وَتَهَدَّدَهُ النَّاسُ. وَسَارَ يُوسُفُ مِنَ الْكُوفَةِ سِرًّا إِلَى الشَّامِ فَنَزَلَ الْبَلْقَاءَ، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَجَّهَ إِلَيْهِ خَمْسِينَ فَارِسًا، فَعَرَضَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي نُمَيْرٍ لِيُوسُفَ فَقَالَ: يَابْنَ عُمَرَ وَاللَّهِ مَقْتُولٌ فَأَطِعْنِي وَامْتَنِعْ. قَالَ: لَا. قَالَ: فَدَعْنِي أَقْتُلْكَ أَنَا، وَلَا تَقْتُلْكَ هَذِهِ الْيَمَانِيَّةُ فَتَغِيظَنَا فِي قَتْلِكَ. قَالَ: مَا لِي فِيمَا عَرَضْتَ جَنَانٌ. قَالَ: فَأَنْتَ أَعْلَمُ. فَطَلَبَهُ الْمُسَيَّرُونَ لِأَخْذِهِ فَلَمْ يَرَوْهُ، فَهَدَّدُوا ابْنًا لَهُ، فَقَالَ: إِنِّهُ انْطَلَقَ إِلَى مَزْرَعَةٍ لَهُ، فَسَارُوا فِي طَلَبِهِ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ هَرَبَ وَتَرَكَ نَعْلَيْهِ، فَفَتَّشُوا عَنْهُ فَوَجَدُوهُ بَيْنَ نِسْوَةٍ قَدْ أَلْقَيْنَ عَلَيْهِ قَطِيفَةَ خَزٍّ، وَجَلَسْنَ عَلَى حَوَاشِيهَا حَاسِرَاتٍ، فَجَرُّوا بِرِجْلِهِ وَأَخَذُوهُ وَأَقْبَلُوا بِهِ إِلَى يَزِيدَ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَرَسِ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَنَتَفَ بَعْضَهَا، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ لِحْيَةً وَأَصْغَرِهِمْ قَامَةً، فَلَمَّا أُدْخِلَ عَلَى يَزِيدَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَةِ نَفْسِهِ، وَهِيَ إِلَى سُرَّتِهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَتَفَ وَاللَّهِ لِحْيَتِي فَمَا أَبْقَى فِيهَا شَعْرَةً! فَأَمَرَ بِهِ فَحُبِسَ بِالْخَضْرَاءِ، فَأَتَاهُ إِنْسَانٌ فَقَالَ لَهُ: أَمَا تَخَافُ أَنْ يَطْلَعَ عَلَيْكَ بَعْضُ مَنْ قَدْ وَتَرْتَ فَيُلْقِي عَلَيْكَ حَجَرًا فَيَقْتُلُكَ؟ فَقَالَ: مَا فَطِنْتُ لِهَذَا. فَأَرْسَلَ إِلَى يَزِيدَ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُحَوَّلَ إِلَى حَبْسٍ غَيْرِ الْخَضْرَاءِ وَإِنْ كَانَ أَضْيَقَ مِنْهُ. فَعَجِبَ مِنْ حُمْقِهِ، فَنَقَلَهُ وَحَبَسَهُ مَعَ ابْنَيِ الْوَلِيدِ، فَبَقِيَ فِي الْحَبْسِ وِلَايَةَ يَزِيدَ وَشَهْرَيْنِ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ وِلَايَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا قَرُبَ مَرْوَانُ مِنْ دِمَشْقَ وَلَّى قَتْلَهُمْ يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ الْقَسْرِيُّ مَوْلًى لِأَبِيهِ خَالِدٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْأَسَدِ. وَدَخَلَ مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ لِأَيَّامٍ خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ، فَأَخَذَ بُيُوتَ الْأَمْوَالِ وَأَخْرَجَ الْعَطَاءَ وَالْأَرْزَاقَ وَأَطْلَقَ مَنْ كَانَ فِي السُّجُونِ مِنَ الْعُمَّالِ وَأَهْلِ الْخَرَاجِ، وَبَايَعَ لِيَزِيدَ بِالْعِرَاقِ وَأَقَامَ بَقِيَّةَ رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَرَمَضَانَ، وَانْصَرَفَ لِأَيَّامٍ بَقِينَ مِنْهُ. ذِكْرُ امْتِنَاعِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ عَلَى مَنْصُورٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ امْتَنَعَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ بِخُرَاسَانَ مِنْ تَسْلِيمِ عَمَلِهِ لِعَامِلِ مَنْصُورِ بْنِ جُمْهُورٍ، وَكَانَ يَزِيدُ وَلَّاهَا مَنْصُورًا مَعَ الْعِرَاقِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مَا كَانَ مِنْ كِتَابِ

يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ إِلَى نَصْرٍ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ وَمَسِيرِ نَصْرٍ (وَتَبَاطُئِهِ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْهَدَايَا، فَأَتَاهُ قَتْلُ الْوَلِيدِ، فَرَجَعَ نَصْرٌ) وَرَدَّ تِلْكَ الْهَدَايَا، وَأَعْتَقَ الرَّقِيقَ، وَقَسَّمَ حِسَانَ الْجَوَارِي فِي وَلَدِهِ وَخَاصَّتِهِ، وَقَسَّمَ تِلْكَ الْآنِيَةَ فِي عَوَامِّ النَّاسِ، وَوَجَّهَ الْعُمَّالَ وَأَمَرَهُمْ بِحُسْنِ السِّيرَةِ، وَاسْتَعْمَلَ مَنْصُورٌ أَخَاهُ مَنْظُورًا عَلَى الرَّيِّ وَخُرَاسَانَ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُ نَصْرٌ مِنْ ذَلِكَ، وَحَفِظَ نَفْسَهُ وَالْبِلَادَ مِنْهُ وَمِنْ أَخِيهِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعَامِلِهِمْ لَمَّا قُتِلَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ كَانَ عَلَى الْيَمَامَةِ عَلِيُّ بْنُ الْمُهَاجِرِ، اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهَا يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ الْمُهَيْرُ بْنُ سُلْمَى بْنُ هِلَالٍ، أَحَدُ بَنِي الدُّؤَلِ بْنِ حَنِيفَةَ: اتْرُكْ لَنَا بِلَادَنَا، فَأَبَى، فَجَمَعَ لَهُ الْمُهَيْرُ وَسَارَ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي قَصْرِهِ بِقَاعِ هَجَرَ، فَالْتَقَوْا بِالْقَاعِ، فَانْهَزَمَ عَلِيٌّ حَتَّى دَخَلَ قَصْرَهُ، ثُمَّ هَرَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَتَلَ الْمُهَيْرُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي حَفْصٍ نَهَى ابْنَ الْمُهَاجِرِ عَنِ الْقِتَالِ، فَعَصَاهُ، فَقَالَ: بَذَلْتُ نَصِيحَتِي لِبَنِي كِلَابٍ ... فَلَمْ تَقْبَلْ مُشَاوَرَتِي وَنُصْحِي فِدًا لِبَنِي حَنِيفَةَ مَنْ سِوَاهُمْ ... فَإِنَّهُمُ فَوَارِسُ كُلِّ فَتْحِ وَقَالَ شَقِيقُ بْنُ عَمْرٍو السَّدُوسِيُّ: إِذَا أَنْتَ سَالَمْتَ الْمُهَيْرَ وَرَهْطَهُ ... أَمِنْتَ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَالْخَوْفِ وَالذَّعَرْ فَتًى رَاحَ يَوْمَ الْقَاعِ رَوْحَةَ مَاجِدٍ ... أَرَادَ بِهَا حُسْنَ السَّمَاعِ مَعَ الْأَجَرْ وَهَذَا يَوْمُ الْقَاعِ. وَتَأَمَّرَ الْمُهَيْرُ عَلَى الْيَمَامَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَاتَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْيَمَامَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ النُّعْمَانِ أَحَدَ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الدُّؤَلِ، فَاسْتَعْمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ النُّعْمَانِ الْمُنْدَلِثَ بْنَ إِدْرِيسَ الْحَنَفِيَّ عَلَى الْفَلَجِ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَقِيلَ: هِيَ لَبَنِي تَمِيمٍ، فَجَمَعَ لَهُ بَنُو كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرٍ وَمَعَهُمْ بَنُو عَقِيلٍ وَأَتَوُا الْفَلَجَ الْمُنْدَلِثَ وَقَاتَلَهُمْ، فَقُتِلَ الْمُنْدَلِثُ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ أَصْحَابِهِ بَنِي عَامِرٍ كَثِيرُ أَحَدٍ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ يَزِيدُ ابْنُ الطَّثْرِيَّةِ، وَهِيَ أُمُّهُ نُسِبَتْ إِلَى طَثْرِ بْنِ عَنْزِ بْنِ وَائِلٍ، وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ الْمُنْتَشِرِ،

فَرَثَاهُ أَخُوهُ ثَوْرُ ابْنُ الطَّثْرِيَّةِ: أَرَى الْأَثْلَ مِنْ نَحْوِ الْعَقِيقِ مُجَاوِرِي ... مُقِيمًا وَقَدْ غَالَتْ يَزِيدَ غَوَائِلُهْ وَقَدْ كَانَ يَحْمِي الْمِحْجَرَيْنِ بِسَيْفِهِ ... وَيَبْلُغُ أَقْصَى حَجْرَةِ الْحَيِّ نَائِلُهْ وَهُوَ يَوْمُ الْفَلَجِ الْأَوَّلِ. فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ النُّعْمَانِ قَتْلُ الْمُنْدَلِثِ جَمَعَ أَلْفًا مِنْ حَنِيفَةَ وَغَيْرِهَا وَغَزَا الْفَلَجَ، فَلَمَّا تَصَافَّ النَّاسُ انْهَزَمَ أَبُو لَطِيفَةَ بْنُ مُسْلِمٍ الْعَقِيلِيُّ، فَقَالَ الرَّاجِزُ: فَرَّ أَبُو لَطِيفَةَ الْمُنَافِقْ ... وَالْجَفُونِيَّانِ وَفَرَّ طَارِقْ لَمَّا أَحَاطَتْ بِهِمُ الْبَوَارِقْ طَارِقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُشَيْرِيُّ، وَالْجَفُونِيَّانِ مِنْ بَنِي قُشَيْرٍ. وَتَحَلَّلَتْ بَنُو جَعْدَةَ الْبَرَاذِعَ، وَوَلَّوْا فَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَقُطِعَتْ يَدُ زِيَادِ بْنِ حَيَّانَ الْجَعْدِيِّ فَقَالَ: أَنْشُدُ كَفًّا ذَهَبَتْ وَسَاعِدَا ... أَنْشُدُهَا وَلَا أَرَانِي وَاجِدَا ثُمَّ قُتِلَ. وَقَالَ بَعْضُ الرَّبِيعِيِّينَ: سَمَوْنَا لِكَعْبٍ بِالصَّفَائِحِ وَالْقَنَا ... وَبِالْخَيْلِ شُعْثًا تَنْحَنِي فِي الشَّكَائِمِ فَمَا غَابَ قَرْنُ الشَّمْسِ حَتَّى رَأَيْتَنَا ... نَسُوقُ بَنِي كَعْبٍ كَسَوْقِ الْبَهَائِمِ بِضَرْبٍ يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ سَكَنَاتِهِ ... وَطَعْنٍ كَأَفْوَاهِ الْمَزَادِ الثَّوَاجِمِ

وَهَذَا الْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ الْفَلَجِ الثَّانِي. ثُمَّ إِنَّ بَنِي عَقِيلٍ وَقُشَيْرًا وَجَعْدَةَ وَنُمَيْرًا تَجَمَّعُوا وَعَلَيْهِمْ أَبُو سَهْلَةَ النُّمَيْرِيُّ، فَقَتَلُوا مَنْ لَقُوا مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ بِمَعْدِنِ الصَّحْرَاءِ وَسَلَبُوا نِسَاءَهُمْ، وَكَفَّتْ بَنُو نُمَيْرٍ عَنِ النِّسَاءِ. ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْوَازِعِ الْحَنَفِيَّ لَمَّا رَأَى مَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهُ بْنُ النُّعْمَانِ يَوْمَ الْفَلَجِ الثَّانِي قَالَ: لَسْتُ بِدُونِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يُغِيرُ، وَهَذِهِ فَتْرَةٌ يُؤْمَنُ فِيهَا عُقُوبَةُ السُّلْطَانِ. فَجَمَعَ خَيْلَهُ وَأَتَى الشَّرِيفُ وَبَثَّ خَيْلَهُ، فَأَغَارَتْ وَأَغَارَ هُوَ، فَمُلِئَتْ يَدَاهُ مِنَ الْغَنَائِمِ وَأَقْبَلَ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى أَتَى النَّشَّاشَ، وَأَقْبَلَتْ بَنُو عَامِرٍ وَقَدْ حُشِدَتْ، فَلَمْ يَشْعُرْ عُمَرُ بْنُ الْوَازِعِ إِلَّا بِرُغَاءِ الْإِبِلِ، فَجَمَعَ النِّسَاءَ فِي فُسْطَاطٍ وَجَعَلَ عَلَيْهِنَّ حَرَسًا وَلَقِيَ الْقَوْمَ فَقَاتَلَهُمْ فَانْهَزَمَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَهَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْوَازِعِ فَلَحِقَ بِالْيَمَامَةِ، وَتَسَاقَطَ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي الْقَلْبِ مِنَ الْعَطَشِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ، وَرَجَعَتْ بَنُو عَامِرٍ بِالْأَسْرَى وَالنِّسَاءِ، وَقَالَ الْقُحَيْفُ: وَبِالنَّشَّاشِ يَوْمٌ طَارَ فِيهِ ... لَنَا ذِكْرٌ وَعُدَّ لَنَا فَعَالُ وَقَالَ أَيْضًا: فِدَاءٌ خَالَتِي لِبَنِي عَقِيلٍ ... وَكَعْبٍ حِينَ تَزْدَحِمُ الْجُدُودُ هُمُ تُرِكُوا عَلَى النَّشَّاشِ صَرْعَى ... بِضَرْبٍ ثَمَّ أَهْوَنُهُ شَدِيدُ وَكَفَّتْ قَيْسٌ يَوْمَ النَّشَّاشِ عَنِ السَّلَبِ، فَجَاءَتْ عُكْلٌ فَسَلَبَتْهُمْ، وَهَذَا يَوْمُ النَّشَّاشِ، وَلَمْ يَكُنْ لِحَنِيفَةَ بَعْدَهُ جَمْعٌ، غَيْرَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مُسْلِمٍ الْحَنَفِيَّ جَمَعَ جَمْعًا وَأَغَارَ عَلَى مَاءٍ لِقُشَيْرٍ يُقَالُ لَهُ حَلَبَانُ، فَقَالَ الشَّاعِرُ: لَقَدْ لَاقَتْ قُشَيْرٌ يَوْمَ لَاقَتْ ... عُبَيْدَ اللَّهِ إِحْدَى الْمُنْكَرَاتِ لَقَدْ لَاقَتْ عَلَى حَلَبَانَ لَيْثًا ... هِزَبْرًا لَا يَنَامُ عَلَى التِّرَاتِ وَأَغَارَ عَلَى عُكْلٍ فَقَتَلَ مِنْهُمْ عِشْرِينَ أَلْفًا. ثُمَّ قَدِمَ الْمُثَنَّى بْنُ يَزِيدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ الْفَزَارِيُّ وَالِيًا عَلَى الْيَمَامَةِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ يَزِيدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ حِينَ وَلِيَ الْعِرَاقَ لِمَرْوَانَ الْحِمَارِ، فَوَرَدَهَا وَهُمْ سِلْمٌ، فَلَمْ يَكُنْ حَرْبٌ، وَشَهِدَتْ بَنُو عَامِرٍ عَلَى بَنِي حَنِيفَةَ، فَتَعَصَّبَ لَهُمُ الْمُثَنَّى لِأَنَّهُ قَيْسِيٌّ أَيْضًا فَضَرَبَ

عِدَّةً مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ وَحَلَقَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَإِنْ تَضْرِبُونَا بِالسِّيَاطِ فَإِنَّنَا ... ضَرَبْنَاكُمُ بِالْمُرْهَفَاتِ الصَّوَارِمِ وَإِنْ تَحْلِقُوا مِنَّا الرُّءُوسَ فَإِنَّنَا ... قَطَعْنَا رُءُوسًا مِنْكُمُ بِالْغَلَاصِمِ ثُمَّ سَكَنَتِ الْبِلَادُ وَلَمْ يَزَلْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ الْحَنَفِيُّ مُسْتَخْفِيًا حَتَّى قَدِمَ السَّرِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ وَالِيًا عَلَى الْيَمَامَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ، فَدَلَّ عَلَيْهِ، فَقَتَلَهُ، فَقَالَ نُوحُ بْنُ جَرِيرٍ الْخَطَفَى: فَلَوْلَا السَّرِيُّ الْهَاشِمِيُّ وَسَيْفُهُ ... لَأَعَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ شَرًّا عَلَى عُكْلِ ذِكْرُ عَزْلِ مَنْصُورٍ عَنِ الْعِرَاقِ وَوِلَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَنْصُورَ بْنَ جُمْهُورٍ عَنِ الْعِرَاقِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ بَعْدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَالَ لَهُ لَمَّا وَلَّاهُ: سِرْ إِلَى الْعِرَاقِ فَإِنَّ أَهْلَهُ يَمِيلُونَ إِلَى أَبِيكَ. فَقَدِمَ إِلَى الْعِرَاقِ وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رُسُلًا إِلَى مَنْ بِالْعِرَاقِ مِنْ قُوَّادِ الشَّامِ، وَخَافَ أَنْ لَا يُسَلِّمَ إِلَيْهِ مَنْصُورٌ الْعَمَلَ. فَانْقَادَ لَهُ أَهْلُ الشَّامِ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ مَنْصُورٌ الْعَمَلَ وَانْصَرَفَ إِلَى الشَّامِ، فَفَرَّقَ عَبْدُ اللَّهِ الْعُمَّالَ وَأَعْطَى النَّاسَ أَرْزَاقَهُمْ وَأَعْطِيَاتِهِمْ. فَنَازَعَهُ قُوَّادُ أَهْلُ الشَّامِ وَقَالُوا: تُقَسِّمُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَيْئَنَا وَهُمْ عَدُوُّنَا؟ فَقَالَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَرُدَّ فَيْئَكُمْ عَلَيْكُمْ، وَعَلِمْتُ أَنَّكُمْ أَحَقُّ بِهِ فَنَازَعَنِي هَؤُلَاءِ. فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِالْجَبَّانَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الشَّامِ يَعْتَذِرُونَ، وَثَارَ غَوْغَاءُ النَّاسِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فَأُصِيبَ مِنْهُمْ رَهْطٌ لَمْ يُعْرَفُوا. وَاسْتَعْمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى شُرْطَتِهِ عُمَرَ بْنَ الْغَضْبَانِ الْقَبْعَثْرِيَّ، وَعَلَى خَرَاجِ السَّوَادِ وَالْمُحَاسَبَاتِ أَيْضًا. ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بِخُرَاسَانَ بَيْنَ النِّزَارِيَّةِ وَالْيَمَانِيَّةِ وَأَظْهَرَ الْكَرْمَانِيُّ الْخِلَافَ لِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ نَصْرًا رَأَى الْفِتْنَةَ قَدْ ثَارَتْ فَرَفَعَ حَاصِلَ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَعْطَى النَّاسَ بَعْضَ أَعْطِيَاتِهِمْ وَرِقًا وَذَهَبًا مِنَ الْآنِيَةِ الَّتِي كَانَ اتَّخَذَهَا لِلْوَلِيدِ، فَطَلَبَ

النَّاسُ مِنْهُ الْعَطَاءَ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَقَالَ نَصْرٌ: إِيَّايَ وَالْمَعْصِيَةَ! عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ! فَوَثَبَ أَهْلُ السُّوقِ إِلَى أَسْوَاقِهِمْ، فَغَضِبَ نَصْرٌ وَقَالَ: مَا لَكُمْ عِنْدِي عَطَاءٌ. ثُمَّ قَالَ: كَأَنِّي بِكُمْ وَقَدْ نَبَعَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ شَرٌّ لَا يُطَاقُ، وَكَأَنِّي بِكُمْ مُطَّرِحِينَ فِي الْأَسْوَاقِ كَالْجُزُرِ الْمَنْحُورَةِ، إِنَّهُ لَمْ تَطُلْ وِلَايَةُ رَجُلٍ إِلَّا مَلُّوهَا، وَأَنْتُمْ يَا أَهْلَ خُرَاسَانَ مَسْلَحَةٌ فِي نُحُورِ الْعَدُوِّ، فَإِيَّاكُمْ أَنْ يَخْتَلِفَ فِيكُمْ سَيْفَانِ، إِنَّكُمْ تَرِشُونَ أَمْرًا تُرِيدُونَ بِهِ الْفِتْنَةَ، وَلَا أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ! لَقَدْ نَشَرْتُكُمْ وَطَوَيْتُكُمْ، [وَطَوَيْتُكُمْ وَنَشَرْتُكُمْ] فَمَا عِنْدِي مِنْكُمْ عَشَرَةٌ! وَإِنِّي وَإِيَّاكُمْ كَمَا قِيلَ: اسْتَمْسِكُوا أَصْحَابَنَا نَحْدُو بِكُمْ ... فَقَدْ عَرَفْنَا خَيْرَكُمْ وَشَرَّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ! فَوَاللَّهِ لَئِنِ اخْتَلَفَ فِيكُمْ سَيْفَانِ، لَيَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ يَنْخَلِعُ مِنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ! يَا أَهْلَ خُرَاسَانَ إِنَّكُمْ قَدْ غَمَطْتُمُ الْجَمَاعَةَ، وَرَكَنْتُمْ إِلَى الْفُرْقَةِ! ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ النَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ: فَإِنْ يَغْلِبْ شَقَاؤُكُمُ عَلَيْكُمْ فَإِنِّي فِي صَلَاحِكُمُ سَعَيْتُ وَقَدِمَ عَلَى نَصْرٍ عَهْدُهُ عَلَى خُرَاسَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ لِأَصْحَابِهِ: النَّاسُ فِي فِتْنَةً فَانْظُرُوا لِأُمُورِكُمْ رَجُلًا. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْكَرْمَانِيُّ لِأَنَّهُ وَلَدٌ بِكَرْمَانَ، وَاسْمُهُ جُدَيْعُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَزْدِيُّ الْمَعْنِيُّ، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ لَنَا. وَقَالَتِ الْمُضَرِيَّةُ لِنَصْرٍ: إِنَّ الْكَرْمَانِيَّ يُفْسِدُ عَلَيْكَ الْأُمُورَ فَأَرْسِلْ إِلَيْهِ (فَاقْتُلْهُ أَوِ احْبِسْهُ. قَالَ: لَا وَلَكِنْ لِي أَوْلَادٌ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ فَأُزَوِّجُ بَنِيَّ مِنْ بَنَاتِهِ) وَبَنَاتِي مِنْ بَنِيهِ. قَالُوا: لَا. قَالَ: فَابْعَثْ إِلَيْهِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ بَخِيلٌ، وَلَا يُعْطِي أَصْحَابَهُ شَيْئًا مِنْهَا فَيَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ. قَالُوا: لَا، هَذِهِ قُوَّةٌ لَهُ، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى قَالُوا لَهُ: إِنَّ الْكَرْمَانِيَّ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّلْطَانِ وَالْمُلْكِ إِلَّا بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ لَتَنَصَّرَ وَتَهَوَّدَ.

وَكَانَ نَصْرٌ وَالْكَرْمَانِيُّ مُتَصَافِيَيْنِ، وَكَانَ الْكَرْمَانِيُّ قَدْ أَحْسَنَ إِلَى نَصْرٍ فِي وِلَايَةِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا وَلِيَ نَصْرٌ عَزَلَ الْكَرْمَانِيَّ عَنِ الرِّيَاسَةِ وَوَلَّاهَا غَيْرَهُ، فَتَبَاعَدَ مَا بَيْنَهُمَا. فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى نَصْرٍ فِي أَمْرِ الْكَرْمَانِيِّ عَزَمَ عَلَى حَبْسِهِ، فَأَرْسَلَ صَاحِبَ حَرَسِهِ لِيَأْتِيَهُ بِهِ، فَأَرَادَتِ الْأَزْدُ أَنْ تُخَلِّصَهُ مِنْ يَدِهِ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَسَارَ مَعَ صَاحِبِ الْحَرَسِ إِلَى نَصْرٍ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ نَصْرٌ: يَا كِرْمَانِيُّ أَلَمْ يَأْتِنِي كِتَابُ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ بِقَتْلِكَ فَرَاجَعْتُهُ، وَقُلْتُ: شَيْخُ خُرَاسَانَ وَفَارِسُهَا فَحَقَنْتُ دَمَكَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَلَمْ أَغْرَمْ عَنْكَ مَا كَانَ لَزِمَكَ مِنَ الْغُرْمِ، وَقَسَّمْتُهُ فِي أَعْطِيَاتِ النَّاسِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَلَمْ أُرَئِّسِ ابْنَكَ عَلِيًّا عَلَى كُرْهٍ مِنْ قَوْمِكَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَبَدَّلْتَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا عَلَى الْفِتْنَةِ! قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَمْ يَقُلِ الْأَمِيرُ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَأَنَا لِذَلِكَ شَاكِرٌ، وَقَدْ كَانَ مِنِّي أَيَّامَ أَسَدٍ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَلْيَتَأَنَّ الْأَمِيرُ فَلَسْتُ أُحِبُّ الْفِتْنَةَ. فَقَالَ سَالِمُ بْنُ أَحْوَزَ: اضْرِبْ عُنُقَهُ أَيُّهَا الْأَمِيرُ! فَقَالَ عِصْمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيُّ لِلْكِرْمَانِيِّ: إِنَّكَ تُرِيدُ الْفِتْنَةَ وَمَا لَا تَنَالُهُ. فَقَالَ الْمِقْدَامُ وَقُدَامَةُ ابْنَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُعَيْمٍ الْعَامِرِيِّ: لَجُلَسَاءُ فِرْعَوْنَ خَيْرٌ مِنْكُمْ إِذْ {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف: 111] ، وَاللَّهِ لَا يُقْتَلُ الْكَرْمَانِيُّ بِقَوْلِكُمَا! فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ وَحُبِسَ فِي الْقَهِنْدَزِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. فَتَكَلَّمَتِ الْأَزْدُ، فَقَالَ نَصْرٌ: إِنِّي حَلَفْتُ أَنْ أَحْبِسَهُ وَلَا يَنَالُهُ مِنِّي سُوءٌ، فَإِنْ خَشِيتُمْ عَلَيْهِ فَاخْتَارُوا رَجُلًا يَكُونُ مَعَهُ. فَاخْتَارُوا رَجُلًا يَكُونُ مَعَهُ. فَاخْتَارُوا يَزِيدَ النَّحْوِيَّ، فَكَانَ مَعَهُ. فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَسَفَ فَقَالَ لِآلِ الْكَرْمَانِيِّ: مَا تَجْعَلُونَ لِي إِنْ أَخْرَجْتُهُ؟ قَالُوا: كُلَّ مَا سَأَلْتَ. فَأَتَى مَجْرَى الْمَاءِ فِي الْقَهِنْدَزِ فَوَسَّعَهُ وَقَالَ لِوَلَدِ الْكَرْمَانِيِّ: اكْتُبُوا إِلَى أَبِيكُمْ يَسْتَعِدُّ اللَّيْلَةَ لِلْخُرُوجِ. فَكَتَبُوا إِلَيْهِ، فَأَدْخَلُوا الْكِتَابَ فِي الطَّعَامِ، فَتَعَشَّى الْكَرْمَانِيُّ وَيَزِيدُ النَّحْوِيُّ وَخَضِرُ بْنُ حَكِيمٍ وَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ، وَدَخَلَ الْكَرْمَانِيُّ السَّرَبَ فَانْطَوَتْ عَلَى بَطْنِهِ حَيَّةٌ فَلَمْ تَضُرَّهُ وَخَرَجَ مِنَ السَّرَبِ، وَرَكِبَ فَرَسَهُ الْبَشِيرَ وَالْقَيْدُ فِي رِجْلِهِ فَأَتَوْا بِهِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ حَرْمَلَةَ، فَأَطْلَقَ عَنْهُ. وَقِيلَ: بَلْ خَلَّصَ الْكَرْمَانِيَّ مَوْلًى لَهُ رَأَى خَرْقًا فِي الْقَهِنْدَزِ فَوَسَّعَهُ وَأَخْرَجَهُ، فَلَمْ يَصِلِ الصُّبْحُ حَتَّى اجْتَمَعَ مَعَهُ زُهَاءُ أَلْفٍ، وَلَمْ يَرْتَفِعِ النَّهَارُ حَتَّى بَلَغُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ،

وَكَانَتِ الْأَزْدُ قَدْ بَايَعُوا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ حَرْمَلَةَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ الْكَرْمَانِيُّ قَدَّمَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ. فَلَمَّا هَرَبَ الْكَرْمَانِيُّ عَسْكَرَ نَصْرٌ بِبَابِ مَرْوِ الرُّوذِ وَخَطَبَ النَّاسَ فَنَالَ مِنَ الْكَرْمَانِيِّ، فَقَالَ: وُلِدَ بِكَرْمَانَ فَكَانَ كَرْمَانِيًّا، ثُمَّ سَقَطَ إِلَى هَرَاةَ فَصَارَ هَرَوِيًّا، وَالسَّاقِطُ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ لَا أَصْلٌ ثَابِتٌ وَلَا فَرْعٌ نَابِتٌ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَزْدَ فَقَالَ: إِنْ يَسْتَوْسِقُوا فَهُمْ أَذَلُّ قَوْمٍ، وَإِنْ يَأْبَوْا فَهُمْ كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ: ضَفَادِعُ فِي ظَلْمَاءِ لَيْلٍ تَجَاوَبَتْ ... فَدَلَّ عَلَيْهَا صَوْتُهَا حَيَّةَ الْبَحْرِ ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ فَقَالَ: اذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَا شَرَّ فِيهِ. ثُمَّ اجْتَمَعَ إِلَى نَصْرٍ بَشَرٌ كَثِيرٌ، فَوَجَّهَ سَالِمَ بْنَ أَحْوَزَ فِي الْمُجَفَّفَةِ إِلَى الْكَرْمَانِيِّ، فَسَفَرَ النَّاسُ بَيْنَ نَصْرٍ وَالْكَرْمَانِيِّ وَسَأَلُوا نَصْرًا أَنْ يُؤَمِّنَهُ وَلَا يَحْبِسَهُ، وَجَاءَ الْكَرْمَانِيُّ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِ نَصْرٍ، فَأَمَرَهُ بِلُزُومِ بَيْتِهِ. ثُمَّ بَلَغَ الْكَرْمَانِيَّ عَنْ نَصْرٍ شَيْءٌ فَخَرَجَ إِلَى قَرْيَةٍ لَهُ، فَخَرَجَ نَصْرٌ فَعَسْكَرَ بِبَابِ مَرْوَ، فَكَلَّمُوهُ فِيهِ فَآمَنَهُ، وَكَانَ رَأْيُ نَصْرٍ إِخْرَاجَهُ مِنْ خُرَاسَانَ، فَقَالَ لَهُ سَالِمُ بْنُ أَحْوَزَ: إِنْ أَخْرَجْتَهُ نَوَّهْتَ بِاسْمِهِ، وَقَالَ النَّاسُ: إِنَّمَا أَخْرَجَهُ لِأَنَّهُ هَابَهُ. فَقَالَ نَصْرٌ: إِنَّ الَّذِي أَتَخَوَّفُهُ مِنْهُ إِذَا خَرَجَ أَيْسَرُ مِمَّا أَتَخَوَّفُهُ مِنْهُ وَهُوَ مُقِيمٌ، وَالرَّجُلُ إِذَا نُفِيَ عَنْ بَلَدِهِ صَغُرَ أَمْرُهُ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَآمَنَهُ وَأَعْطَى أَصْحَابَهُ عَشَرَةً عَشَرَةً، وَأَتَى الْكَرْمَانِيُّ نَصْرًا فَآمَنَهُ. فَلَمَّا عُزِلَ ابْنُ جُمْهُورٍ عَنِ الْعِرَاقِ وَوَلِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ خَطَبَ نَصْرٌ وَذَكَرَ ابْنَ جُمْهُورٍ وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عُمَّالِ الْعِرَاقِ وَقَدْ عَزَلَهُ اللَّهُ وَاسْتَعْمَلَ الطَّيِّبَ بْنَ الطَّيِّبِ. فَغَضِبَ الْكَرْمَانِيُّ لِابْنِ جُمْهُورٍ وَعَادَ فِي جَمْعِ الرِّجَالِ وَاتِّخَاذِ السِّلَاحِ، فَكَانَ يَحْضُرُ الْجُمْعَةَ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ فَيُصَلِّي خَارِجَ الْمَقْصُورَةِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ عَلَى نَصْرٍ وَلَا يَجْلِسُ. ثُمَّ تَرَكَ إِتْيَانَ نَصْرٍ وَأَظْهَرَ الْخِلَافَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ نَصْرٌ مَعَ سَالِمِ بْنِ أَحْوَزَ يَقُولُ لَهُ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِحَبْسِكَ

سُوءًا، وَلَكِنْ خِفْتُ فَسَادًا مِنَ النَّاسِ فَأْتِنِي. فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّكَ فِي مَنْزِلِي لَقَتَلْتُكَ، ارْجِعْ إِلَى ابْنِ الْأَقْطَعِ وَأَبْلِغْهُ مَا شِئْتَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. فَرَجَعَ إِلَى نَصْرٍ فَأَخْبَرَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُرْسِلُ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَكَانَ آخِرُ مَا قَالَ لَهُ الْكَرْمَانِيُّ: إِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَحْمِلَكَ قَوْمٌ عَلَى غَيْرِ مَا تُرِيدُ فَتَرَكَبَ مِنَّا مَا لَا بَقِيَّةَ بَعْدَهُ، فَإِنْ شِئْتَ خَرَجْتُ عَنْكَ لَا مِنْ هَيْبَةٍ لَكَ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ أَنْ أَشْأَمَ أَهْلَ هَذِهِ الْبَلْدَةِ وَأَسَفِكَ الدِّمَاءَ فِيهَا. فَتَهَيَّأَ لِلْخُرُوجِ إِلَى جُرْجَانَ. (الْمَعْنِيُّ: بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَبَعْدَهَا نُونٌ: قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَزْدِ) . ذِكْرُ خَبَرِ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَمَانِهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أُومِنَ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ وَهُوَ بِبِلَادِ التُّرْكِ، وَكَانَ مُقَامُهُ عِنْدَهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأُمِرَ بِالْعَوْدِ إِلَى خُرَاسَانَ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِتْنَةَ لَمَّا وَقَعَتْ بِخُرَاسَانَ بَيْنَ نَصْرٍ وَالْكَرْمَانِيِّ خَافَ نَصْرٌ قُدُومَ الْحَارِثِ عَلَيْهِ فِي أَصْحَابِهِ وَالتُّرْكِ فَيَكُونُ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنَ الْكَرْمَانِيِّ وَغَيْرِهِ، وَطَمِعَ أَنْ يُنَاصِحَهُ، فَأَرْسَلَ مُقَاتِلَ بْنَ حَيَّانَ النَّبَطِيَّ وَغَيْرَهُ لِيَرُدُّوهُ عَنْ بِلَادِ التُّرْكِ. وَسَارَ خَالِدُ بْنُ زِيَادٍ التِّرْمِذِيُّ وَخَالِدُ بْنُ عَمْرٍو مَوْلَى بَنِي عَامِرٍ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ فَأَخَذَا لِلْحَارِثِ أَمَانًا، فَكَتَبَ لَهُ أَمَانَهُ، وَأَمَرَ نَصْرٌ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ مَا أُخِذَ لَهُ، وَأَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَامِلَ الْكُوفَةِ بِذَلِكَ أَيْضًا، فَأَخَذَا الْأَمَانَ وَسَارَا إِلَى الْكُوفَةِ ثُمَّ إِلَى خُرَاسَانَ، فَأَرْسَلَ نَصْرٌ إِلَيْهِ، فَلَقِيَهُ الرَّسُولُ وَقَدْ رَجَعَ مَعَ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَأَصْحَابِهِ، فَوَصَلَ إِلَى نَصْرٍ وَقَامَ بِمَرْوِ الرُّوذِ، وَرَدَّ نَصْرٌ عَلَيْهِ مَا أُخِذَ لَهُ. وَكَانَ عَوْدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. ذِكْرُ شِيعَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِمَامُ أَبَا هَاشِمٍ بُكَيْرَ بْنَ مَاهَانَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَبَعَثَ مَعَهُ بِالسِّيرَةِ وَالْوَصِيَّةِ، فَقَدِمَ مَرْوَ وَجَمَعَ النُّقَبَاءَ وَالدُّعَاةَ، فَنَعَى إِلَيْهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ وَدَعَاهُمْ إِلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ وَدَفَعَ إِلَيْهِمْ كِتَابَهُ، فَقَبِلُوهُ وَدَفَعُوا إِلَيْهِ مَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُمْ مِنْ نَفَقَاتِ الشِّيعَةِ، فَقَدِمَ بِهَا بُكَيْرٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ.

ذِكْرُ بَيْعَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْوَلِيدِ بِالْعَهْدِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِالْبَيْعَةِ لِأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْ بَعْدِهِ لِعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ يَزِيدَ مَرِضَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَقِيلَ لَهُ لِيُبَايِعَ لَهُمَا، وَلَمْ تَزَلِ الْقَدَرِيَّةُ بِيَزِيدَ حَتَّى أَمَرَ بِالْبَيْعَةِ لَهُمَا. ذِكْرُ مُخَالَفَةِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَظْهَرَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخِلَافَ لِيَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيدَ لَمَّا قُتِلَ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ مَعَ الْغَمْرِ بْنِ يَزِيدَ أَخِي الْوَلِيدِ بِحَرَّانَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الصَّائِفَةِ، وَكَانَ عَلَى الْجَزِيرَةِ عَبْدَةُ بْنُ الرَّيَّاحِ الْغَسَّانِيُّ عَامِلًا لِلْوَلِيدِ، فَلَمَّا قُتِلَ الْوَلِيدُ سَارَ عَبْدَةُ عَنْهَا إِلَى الشَّامِ، فَوَثَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَى حَرَّانَ وَالْجَزِيرَةِ فَضَبَطَهُمَا، وَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ بِإِرْمِينِيَّةَ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ وَيُشِيرُ عَلَيْهِ بِتَعْجِيلِ السَّيْرِ. فَتَهَيَّأَ مَرْوَانُ لِلْمَسِيرِ وَأَنْفَذَ إِلَى الثُّغُورِ مَنْ يَضْبُطُهَا وَيَحْفَظُهَا، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يَطْلُبُ بِدَمِ الْوَلِيدِ، وَسَارَ وَمَعَهُ الْجُنُودُ وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ نُعَيْمٍ الْجُذَامِيُّ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ. وَسَبَبُ صُحْبَتِهِ لَهُ أَنَّ هِشَامًا كَانَ قَدْ حَبَسَهُ، وَسَبَبُ حَبْسِهِ أَنَّ هِشَامًا أَرْسَلَهُ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ لَمَّا قَتَلُوا عَامِلَهُ كُلْثُومَ بْنَ عِيَاضٍ فَأَفْسَدَ الْجُنْدَ، فَحَبَسَهُ هِشَامٌ، وَقَدِمَ مَرْوَانُ عَلَى هِشَامٍ فِي بَعْضِ وِفَادَاتِهِ فَشَفَعَ فِيهِ فَأَطْلَقَهُ فَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ. فَلَمَّا سَارَ مَرْوَانُ مَسِيرَهُ هَذَا أَمَرَ ثَابِتُ بْنُ نُعَيْمٍ مَنْ مَعَ مَرْوَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ بِالِانْضِمَامِ إِلَيْهِ وَمُفَارَقَةِ مَرْوَانَ لِيَعُودُوا إِلَى الشَّامِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ ضِعْفُ مَنْ مَعَ مَرْوَانَ وَبَاتُوا يَتَحَارَسُونَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ، فَأَمَرَ مَرْوَانُ مُنَادِينَ يُنَادُونَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ: يَا أَهْلَ الشَّامِ مَا دَعَاكُمْ إِلَى هَذَا؟ أَلَمْ أُحْسِنْ فِيكُمُ السِّيرَةَ؟ فَأَجَابُوهُ بِأَنَّا كُنَّا نُطِيعُكَ بِطَاعَةِ الْخَلِيفَةِ، وَقَدْ قُتِلَ وَبَايَعَ أَهْلُ الشَّامِ يَزِيدَ فَرَضِينَا بِوِلَايَةِ ثَابِتٍ لِيَسِيرَ بِنَا إِلَى أَجْنَادِنَا. فَنَادَوْهُمْ: كَذَبْتُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تُرِيدُونَ مَا قُلْتُمْ، وَإِنَّمَا تُرِيدُونَ أَنْ تَغْصِبُوا مَنْ مَرَرْتُمْ بِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَمْوَالَهُمْ! وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِلَّا السَّيْفُ حَتَّى تَنْقَادُوا إِلَيَّ فَأَسِيرَ بِكُمْ إِلَى الْغَزَاةِ، ثُمَّ أَتْرُكَكُمْ تَلْحَقُونَ بِأَجْنَادِكُمْ. فَانْقَادُوا لَهُ، فَأَخَذَ ثَابِتَ بْنَ نُعَيْمٍ وَأَوْلَادَهُ وَحَبَسَهُمْ وَضَبَطَ الْجُنْدَ، حَتَّى بَلَغَ حَرَّانَ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَدَعَا أَهْلَ الْجَزِيرَةِ (إِلَى الْفَرْضِ فَفَرَضَ

لِنَيِّفٍ) وَعِشْرِينَ أَلْفًا وَتَجَهَّزَ لِلْمَسِيرِ إِلَى يَزِيدَ، وَكَاتَبَهُ يَزِيدُ لِيُبَايِعَ لَهُ وَيُوَلِّيَهُ مَا كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَلَّى أَبَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ مِنَ الْجَزِيرَةِ وَإِرْمِينِيَّةَ وَالْمَوْصِلِ وَأَذْرَبِيجَانَ، فَبَايَعَ لَهُ مَرْوَانُ وَأَعْطَاهُ يَزِيدُ وِلَايَةَ مَا ذَكَرَ لَهُ. ذِكْرُ وَفَاةِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَلَيْلَتَيْنِ، وَقِيلَ: كَانَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ: خَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ مَوْتُهُ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ عُمْرُهُ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: سَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ اسْمُهَا شَاهْفِرْنَدُ بِنْتُ فَيْرُوزَ بْنِ يَزْدَجِرْدَ بْنِ شَهْرَيَارَ بْنِ كِسْرَى، وَهُوَ الْقَائِلُ: أَنَا ابْنُ كِسْرَى وَأَبِي مَرْوَانُ ... وَقَيْصَرُ جَدِّي وَجَدِّي خَاقَانُ إِنَّمَا جَعَلَ قَيْصَرَ وَخَاقَانَ جَدَّيْهِ لِأَنَّ أُمَّ فَيْرُوزَ بْنِ يَزْدَجِرْدَ ابْنَةُ كِسْرَى شِيرَوَيْهِ بْنِ كِسْرَى، وَأُمَّهَا ابْنَةُ قَيْصَرَ، وَأُمَّ شِيرَوَيْهِ ابْنَةُ خَاقَانَ مَلِكِ التُّرْكِ. وَكَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ: وَاحَسْرَتَاهُ وَاأَسَفَاهُ! وَنَقْشُ خَاتَمِهِ: الْعَظَمَةُ لِلَّهِ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَرَجَ بِالسِّلَاحِ يَوْمَ الْعِيدِ، خَرَجَ بَيْنَ صَفَّيْنِ عَلَيْهِمُ السِّلَاحُ. قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ قَدَرِيًّا، وَكَانَ أَسْمَرَ طَوِيلًا، صَغِيرَ الرَّأْسِ، جَمِيلًا. ذِكْرُ خِلَافَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ الْأَمْرُ،

فَكَانَ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ تَارَةً بِالْخِلَافَةِ، وَتَارَةً بِالْإِمَارَةِ، وَتَارَةً لَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَمَكَثَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: سَبْعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ سَارَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ فَخَلَعَهُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ حَيًّا حَتَّى أُصِيبَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو إِسْحَاقَ، أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَبِيبٍ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ نَافِعٍ قَدِ انْهَزَمَ لَمَّا قُتِلَ أَبُوهُ وَكُلْثُومُ بْنُ عِيَاضٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَسَارَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا وَلِيَ حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ إِفْرِيقِيَّةَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَجَّهَ أَبَا الْخَطَّارِ إِلَى الْأَنْدَلُسِ أَمِيرًا، فَأَيِسَ حِينَئِذٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِمَّا كَانَ يَرْجُوهُ فَعَادَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَهُوَ خَائِفٌ مِنْ أَبِي الْخَطَّارِ، وَخَرَجَ بِتُونِسَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَقَدْ وَلِيَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْخِلَافَةَ بِالشَّامِ، فَدَعَا النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ، فَأَجَابُوهُ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَأَرَادَ مَنْ بِهَا قِتَالَهُ فَمَنَعَهُمْ حَنْظَلَةُ، وَكَانَ لَا يَرَى الْقِتَالَ إِلَّا لِكَافِرٍ أَوْ خَارِجِيٍّ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ حَنْظَلَةُ رِسَالَةً مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْقَيْرَوَانِ رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ يَدْعُوهُ إِلَى مُرَاجَعَةِ الطَّاعَةِ، فَقَبَضَهُ وَأَخَذَهُمْ مَعَهُ إِلَى الْقَيْرَوَانِ وَقَالَ: إِنْ رَمَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقَيْرَوَانِ بِحَجَرٍ قَتَلْتُ مَنْ عِنْدِي أَجْمَعِينَ، فَلَمْ يُقَاتِلْهُ أَحَدٌ. فَخَرَجَ حَنْظَلَةُ إِلَى الشَّامِ، وَاسْتَوْلَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى الْقَيْرَوَانِ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَسَائِرِ إِفْرِيقِيَّةَ. وَلَمَّا خَرَجَ حَنْظَلَةُ إِلَى الشَّامِ دَعَا عَلَى أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ فِيهِمْ، فَوَقَعَ الْوَبَاءُ وَالطَّاعُونُ سَبْعَ سِنِينَ، لَمْ يُفَارِقْهُمْ إِلَّا فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَثَارَ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ وَالْبَرْبَرِ ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ. فَمِمَّنْ خَرَجَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الْوَلِيدِ الصَّدَفِيُّ وَاسْتَوْلَى عَلَى تُونِسَ، وَقَامَ ابْنُ عَطَّافٍ عِمْرَانُ بْنُ عَطَّافٍ الْأَزْدِيُّ فَنَزَلَ بِطِيفَاسَ، وَثَارَتِ الْبَرْبَرُ بِالْجِبَالِ، وَخَرَجَ عَلَيْهِ ثَابِتٌ الصِّنْهَاجِيُّ بِبَاجَةَ فَأَخَذَهَا. فَأَحْضَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَخَاهُ إِلْيَاسَ وَجَعَلَ مَعَهُ سِتَّمِائَةِ فَارِسٍ وَقَالَ لَهُ: سِرْ حَتَّى تَجْتَازَ بِعَسْكَرِ ابْنِ عَطَّافٍ الْأَزْدِيِّ، فَإِذَا رَآكَ عَسْكَرُهُ فَارِقْهُمْ وَسِرْ عَنْهُمْ كَأَنَّكَ تُرِيدُ تُونِسَ

إِلَى قِتَالِ عُرْوَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بِهَا، فَإِذَا أَتَيْتَ مَوْضِعَ كَذَا فَقِفْ فِيهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ فُلَانٌ بِكِتَابِي فَافْعَلْ بِمَا فِيهِ. فَسَارَ إِلْيَاسُ وَدَعَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِنْسَانًا، وَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي قَالَ لِأَخِيهِ إِلْيَاسَ عَنْهُ، وَأَعْطَاهُ كِتَابًا وَقَالَ لَهُ: امْضِ حَتَّى تَدْخُلَ عَسْكَرَ ابْنِ عَطَّافٍ، فَإِذَا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ إِلْيَاسُ وَرَأَيْتَهُمْ يَدْعُونَ السِّلَاحَ وَالْخَيْلَ، فَإِذَا فَارَقَهُمْ إِلْيَاسُ وَوَضَعُوا السِّلَاحَ عَنْهُمْ وَأَمِنُوا، فَسِرْ إِلَيْهِ وَأَوْصِلْ كِتَابِي إِلَيْهِ. فَمَضَى الرَّجُلُ وَدَخَلَ عَسْكَرَ ابْنِ عَطَّافٍ، وَقَارَبَهُمْ إِلْيَاسُ فَتَحَرَّكُوا لِلرُّكُوبِ، ثُمَّ فَارَقَهُمْ إِلْيَاسُ نَحْوَ تُونِسَ فَسَكَنُوا وَقَالُوا: قَدْ دَخَلَ بَيْنَ فَكَّيْ أَسَدٍ، نَحْنُ مِنْ هَاهُنَا وَأَهْلُ تُونِسَ مِنْ هُنَاكَ، وَأَمِنُوا وَصَمَّمُوا الْعَزْمَ عَلَى الْمَسِيرِ خَلْفَهُ. فَلَمَّا أَمِنُوا سَارَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى إِلْيَاسَ فَأَوْصَلَ إِلَيْهِ كِتَابَ أَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَإِذَا فِيهِ: إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ أَمِنُوكَ فَسِرْ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي غَفْلَتِهِمْ. فَعَادَ إِلْيَاسُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ غَارُّونَ فَلَمْ يَلْحَقُوا يَلْبَسُونَ سِلَاحَهُمْ حَتَّى دَهَمَهُمْ فَقَتَلَهُمْ، وَقَتَلَ ابْنَ عَطَّافٍ أَمِيرَهُمْ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى أَهْلِ تُونِسَ وَيَقُولُ: إِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْكَ ظَنُّوكَ ابْنَ عَطَّافٍ فَأَمِنُوكَ فَظَفِرْتَ بِهِمْ. فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَوَصَلَ إِلَيْهَا وَصَاحِبُهَا عُرْوَةُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي الْحَمَّامِ، فَلَمْ يَلْحَقْ يَلْبَسُ ثِيَابَهُ حَتَّى غَشِيَهُ إِلْيَاسُ فَالْتَحَفَ بِمِنْشَفَةٍ يُنَشِّفُ بِهَا بَدَنَهُ وَرَكِبَ فَرَسَهُ عُرْيَانًا وَهَرَبَ، فَصَاحَ بِهِ إِلْيَاسُ: يَا فَارِسَ الْعَرَبِ! فَعَادَ إِلَيْهِ، فَضَرَبَهُ إِلْيَاسُ وَاحْتَضَنَهُ عُرْوَةُ فَسَقَطَا إِلَى الْأَرْضِ، وَكَادَ عُرْوَةُ يَظْهَرُ عَلَى إِلْيَاسَ فَأَتَاهُ مَوْلًى لِإِلْيَاسَ فَقَتَلَهُ وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَأَقَامَ إِلْيَاسُ بِتُونِسَ، وَخَرَجَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ بِطَرَابُلُسَ اسْمُهُمَا عَبْدُ الْجَبَّارِ وَالْحَارِثُ وَقَتَلَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً، فَسَارَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ وَقَاتَلَهُمَا فَقُتِلَا، وَكَانَا يَدِينَانِ بِمَذْهَبِ الْإِبَاضِيَّةِ مِنَ الْخَوَارِجِ. وَجَنَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي قِتَالِ الْبَرْبَرِ، وَعَمَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سُورَ طَرَابُلُسَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ عَادَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ وَغَزَا تِلْمِسَانَ وَبِهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْبَرْبَرِ فَظَفِرَ بِهِمْ، وَذَلِكَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، وَسَيَّرَ جَيْشًا إِلَى صِقِلِّيَّةَ فَظَفِرُوا وَغَنِمُوا غَنِيمَةً كَثِيرَةً، وَبَعَثَ جَيْشًا آخَرَ إِلَى سَرْدَانِيَةَ فَغَنِمُوا وَقَتَلُوا فِي الرُّومِ، وَدَوَّخَ الْمَغْرِبَ جَمِيعَهُ وَلَمْ يَنْهَزِمْ لَهُ عَسْكَرٌ.

وَقُتِلَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَزَالَتْ دَوْلَةُ بَنِي أُمَيَّةَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بِإِفْرِيقِيَّةَ، فَخَطَبَ لِلْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ وَأَطَاعَ السَّفَّاحَ. ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَتَزَوَّجَ هُوَ وَإِخْوَتُهُ مِنْهُمْ، وَكَانَ فِيمَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ: الْعَاصُ وَعَبْدُ الْمُؤْمِنِ ابْنَا الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَتِ ابْنَةُ عَمِّهَا تَحْتَ إِلْيَاسَ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَبَلَغَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَنْهُمَا السَّعْيُ فِي الْفَسَادِ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُمَا، فَقَالَتِ ابْنَةُ عَمِّهِمَا لِزَوْجِهَا إِلْيَاسَ: إِنَّ أَخَاكَ قَدْ قَتَلَ أَخْتَانَكَ وَلَمْ يُرَاقِبْكَ فِيهِمْ وَتَهَاوَنَ بِكَ، وَأَنْتَ سَيْفُهُ الَّذِي يَضْرِبُ بِهِ، وَكُلَّمَا فَتَحْتَ لَهُ فَتْحًا كَتَبَ إِلَى الْخُلَفَاءِ: إِنَّ ابْنِي حَبِيبًا فَتَحَهُ، وَقَدْ جَعَلَ لَهُ الْعَهْدَ بَعْدَهُ وَعَزَلَكَ عَنْهُ. وَلَمْ تَزَلْ تُغْرِيهِ بِهِ. فَتَحَرَّكَ لِقَوْلِهَا وَأَعْمَلَ الْحِيلَةَ عَلَى أَخِيهِ. ثُمَّ إِنَّ السَّفَّاحَ تُوُفِّيَ وَوَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ الْمَنْصُورُ فَأَقَرَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ خُلْعَةً سَوْدَاءَ أَوَّلَ خِلَافَتِهِ فَلَبِسَهَا، وَهِيَ أَوَّلُ سَوَادٍ دَخَلَ إِفْرِيقِيَّةَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَدِيَّةً وَكَتَبَ يَقُولُ: إِنَّ إِفْرِيقِيَّةَ الْيَوْمَ إِسْلَامِيَّةٌ كُلُّهَا، وَقَدِ انْقَطَعَ السَّبْيُ مِنْهَا وَالْمَالُ، فَلَا تَطْلُبْ مِنِّي مَالًا. فَغَضِبَ الْمَنْصُورُ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَتَهَدَّدُهُ، فَخَلَعَ الْمَنْصُورَ بِإِفْرِيقِيَّةَ وَمَزَّقَ خُلْعَتَهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَكَانَ خَلْعُ الْمَنْصُورِ مِمَّا أَعَانَ أَخَاهُ إِلْيَاسَ عَلَيْهِ. فَاتَّفَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ الْقَيْرَوَانِ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَقْتُلُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَيُوَلُّوهُ وَيُعِيدَ الدُّعَاءَ لِلْمَنْصُورِ. فَبَلَغَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَمَرَ أَخَاهُ إِلْيَاسَ بِالْمَسِيرِ إِلَى تُونِسَ، فَتَجَهَّزَ وَدَخَلَ إِلَيْهِ يُوَدِّعُهُ وَمَعَهُ أَخُوهُ عَبْدُ الْوَارِثِ، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَتَلَاهُ. (وَكَانَ قَتْلُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ عَشْرَ سِنِينَ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ. وَلَمَّا قُتِلَ) ضَبَطَ إِلْيَاسُ أَبْوَابَ الدَّارِ لِيَأْخُذَ ابْنَهُ حَبِيبًا، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ، وَهَرَبَ حَبِيبٌ إِلَى تُونِسَ وَاجْتَمَعَ بِعَمِّهِ عِمْرَانَ بْنِ حَبِيبٍ وَأَخْبَرَهُ بِقَتْلِ أَبِيهِ، وَسَارَ إِلْيَاسُ إِلَيْهِمَا، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا يَسِيرًا، ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِحَبِيبٍ قَفْصَةُ وَقَسْطِيلَةُ وَنِفْزَاوَةُ، وَيَكُونُ لِعِمْرَانَ تُونِسُ (وَصَطْفُورَةُ وَالْجَزِيرَةُ، وَيَكُونُ سَائِرُ إِفْرِيقِيَّةَ لِإِلْيَاسَ، وَكَانَ هَذَا الصُّلْحُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، فَلَمَّا اصْطَلَحُوا سَارَ حَبِيبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى عَمَلِهِ، وَمَضَى إِلْيَاسُ مَعَ أَخِيهِ عِمْرَانَ إِلَى تُونِسَ فَغَدَرَ بِعِمْرَانَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ وَأَخَذَ تُونِسَ) وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ

أَشْرَافِ الْعَرَبِ وَعَادَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِهَا بَعَثَ بِطَاعَتِهِ إِلَى الْمَنْصُورِ مَعَ وَفْدٍ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ قَاضِي إِفْرِيقِيَّةَ. ثُمَّ سَارَ حَبِيبٌ إِلَى تُونِسَ فَمَلَكَهَا، فَسَارَ إِلَيْهِ إِلْيَاسُ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا ضَعِيفًا، فَلَمَّا جَنَّهُمُ اللَّيْلُ تَرَكَ حَبِيبٌ خِيَامَهُ وَسَارَ جَرِيدَةُ إِلَى الْقَيْرَوَانِ فَدَخَلَهَا وَأَخْرَجَ مَنْ فِي السِّجْنِ وَكَثُرَ جَمْعُهُ. وَرَجَعَ إِلْيَاسُ فِي طَلَبِهِ فَفَارَقَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَقَصَدُوا حَبِيبًا، فَعَظُمَ جَيْشُهُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ فَالْتَقَيَا، فَغَدَرَ أَصْحَابُ إِلْيَاسَ، وَبَرَزَ حَبِيبٌ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَقَالَ لَهُ: مَا لَنَا نَقْتُلُ صَنَائِعَنَا وَمَوَالِيَنَا؟ وَلَكِنِ ابْرُزْ أَنْتَ إِلَيَّ فَأَيُّنَا قَتَلَ صَاحِبَهُ اسْتَرَاحَ مِنْهُ. فَتَوَقَّفَ إِلْيَاسُ ثُمَّ بَرَزَ إِلَيْهِ فَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا تَكَسَّرَ فِيهِ رُمْحَاهُمَا ثُمَّ سَيْفَاهُمَا، ثُمَّ إِنَّ حَبِيبًا عَطَفَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ وَدَخَلَ الْقَيْرَوَانَ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ. وَهَرَبَ إِخْوَةُ إِلْيَاسَ إِلَى بَطْنٍ مِنَ الْبَرْبَرِ يُقَالُ لَهُمْ وَرْفَجُومَةَ فَاعْتَصَمُوا بِهِمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ حَبِيبٌ فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمُوهُ، فَسَارَ إِلَى قَابِسَ، وَقَوِيَ أَمْرُ وَرْفَجُومَةَ حِينَئِذٍ، وَأَقْبَلَتِ الْبَرْبَرُ إِلَيْهِمْ وَالْخَوَارِجُ، وَكَانَ مُقَدِّمُ وَرْفَجُومَةَ رَجُلًا اسْمُهُ عَاصِمُ بْنُ جَمِيلٍ، (وَكَانَ قَدِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَالْكَهَانَةَ، فَبَدَّلَ الدِّينَ وَزَادَ فِي الصَّلَاةِ وَأَسْقَطَ ذِكْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَذَانِ، فَجَهَّزَ عَاصِمٌ) مَنْ عِنْدِهِ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى قَصْدِ الْقَيْرَوَانِ، وَأَتَاهُ رُسُلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْقَيْرَوَانِ يَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ، وَأَخَذُوا عَلَيْهِ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ بِالْحِمَايَةِ وَالصِّيَانَةِ وَالدُّعَاءِ لِلْمَنْصُورِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ عَاصِمٌ فِي الْبَرْبَرِ وَالْعَرَبِ، فَلَمَّا قَارَبُوا الْقَيْرَوَانَ خَرَجَ مَنْ بِهَا لِقِتَالِهِمْ فَاقْتَتَلُوا، وَانْهَزَمَ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ، وَدَخَلَ عَاصِمٌ وَمَنْ مَعَهُ الْقَيْرَوَانَ، فَاسْتَحَلَّتْ وَرْفَجُومَةُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَسَبَوُا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، وَرَبَطُوا دَوَابَّهُمْ فِي الْجَامِعِ وَأَفْسَدُوا فِيهِ. ثُمَّ سَارَ عَاصِمٌ يَطْلُبُ حَبِيبًا وَهُوَ بِقَابِسَ فَأَدْرَكَهُ وَاقْتَتَلُوا، وَانْهَزَمَ حَبِيبٌ إِلَى جَبَلِ أُورَاسَ فَاحْتَمَى بِهِ، وَقَامَ بِنُصْرَةِ مَنْ بِهِ، وَلَحِقَ بِهِ عَاصِمٌ فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَاصِمٌ وَقُتِلَ هُوَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَسَارَ حَبِيبٌ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، وَقَدْ قَامَ بِأَمْرِ وَرْفَجُومَةَ بَعْدَ قَتْلِ عَاصِمٍ، فَاقْتَتَلَ هُوَ وَحَبِيبٌ، فَانْهَزَمَ حَبِيبٌ وَقُتِلَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. وَكَانَتْ إِمَارَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَبِيبٍ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ عَشْرَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا، وَإِمَارَةُ أَخِيهِ

إِلْيَاسَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَإِمَارَةُ ابْنِهِ حَبِيبٍ ثَلَاثَ سِنِينَ. ذِكْرُ إِخْرَاجِ وَرْفَجُومَةَ مِنَ الْقَيْرَوَانِ وَلِمَا قُتِلَ حَبِيبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، وَفَعَلَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ عَاصِمٌ مِنَ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ وَقِلَّةِ الدِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَفَارَقَ الْقَيْرَوَانَ أَهْلُهَا. فَاتَّفَقَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْإِبَاضِيَّةِ دَخَلَ الْقَيْرَوَانَ لِحَاجَةٍ لَهُ، فَرَأَى نَاسًا مَنِ الْوَرْفَجُومِيِّينَ قَدْ أَخَذُوا امْرَأَةً قَهْرًا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ فَأَدْخَلُوهَا الْجَامِعَ، فَتَرَكَ الْإِبَاضَيُّ حَاجَتَهُ وَقَصَدَ أَبَا الْخَطَّابِ عَبْدَ الْأَعْلَى بْنَ السَّمْحِ الْمَعَافِرِيَّ فَأَعْلَمَهُ ذَلِكَ، فَخَرَجَ أَبُو الْخَطَّابِ وَهُوَ يَقُولُ: بَيْتَكَ اللَّهُمَّ بَيْتَكَ! فَاجْتَمَعَ (إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَقَصَدُوا طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ، وَاجْتَمَعَ) عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الْإِبَاضِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ الْمَلِكِ، مُقَدِّمُ وَرْفَجُومَةَ، جَيْشًا فَهَزَمُوهُ وَسَارُوا إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِمْ وَرْفَجُومَةُ وَاقْتَتَلُوا وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ الَّذِينَ مَعَ وَرْفَجُومَةَ وَخَذَلُوهُمْ، فَتَبِعَهُمْ وَرْفَجُومَةُ فِي الْهَزِيمَةِ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ وَقُتِلَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْوَرْفَجُومِيُّ، وَتَبِعَهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ يَقْتُلُهُمْ حَتَّى أَسْرَفَ فِيهِمْ، وَعَادَ إِلَى طَرَابُلُسَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْقَيْرَوَانِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ رُسْتُمَ الْفَارِسِيَّ. وَكَانَ قَتْلُ وَرْفَجُومَةَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ. ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنَ الْمُسَوِّدَةِ سَيَّرَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ الْخُزَاعِيُّ، أَمِيرُ مِصْرَ لِلْمَنْصُورِ، إِلَى طَرَابُلُسَ لِقِتَالِ أَبِي الْخَطَّابِ، وَعَلَيْهِمْ أَبُو الْأَحْوَصِ عُمَرُ بْنُ الْأَحْوَصِ الْعِجْلِيُّ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَبُو الْخَطَّابِ وَقَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، فَعَادُوا إِلَى مِصْرَ، وَاسْتَوْلَى أَبُو الْخَطَّابِ عَلَى سَائِرِ إِفْرِيقِيَّةَ. فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ الْخُزَاعِيَّ أَمِيرًا عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ، فَسَارَ مِنْ مِصْرَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي خَمْسِينَ أَلْفًا، وَوَجَّهَ مَعَهُ الْأَغْلَبَ بْنَ سَالِمٍ التَّمِيمِيَّ، وَبَلَغَ أَبَا الْخَطَّابِ مَسِيرُهُ فَجَمَعَ أَصْحَابَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ وَخَافَهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ لِكَثْرَةِ جُمُوعِهِ. فَتَنَازَعَتْ زِنَاتَةُ وَهَوَارَةُ بِسَبَبِ قَتِيلٍ مِنْ زِنَاتَةَ، فَاتَّهَمَتْ زِنَاتَةُ أَبَا الْخَطَّابِ بِالْمَيْلِ إِلَيْهِمْ، فَفَارَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، فَقَوِيَ جَنَانُ ابْنُ الْأَشْعَثِ وَسَارَ سَيْرًا رُوَيْدًا، ثُمَّ أَظْهَرَ أَنَّ الْمَنْصُورَ قَدْ أَمَرَهُ بِالْعَوْدِ، وَعَادَ إِلَى وَرَائِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ سَيْرًا بَطِيئًا، فَوَصَلَتْ عُيُونُ أَبِي الْخَطَّابِ وَأَخْبَرَتْهُ بِعَوْدِهِ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَمِنَ الْبَاقُونَ، فَعَادَ ابْنُ الْأَشْعَثِ

وَشُجْعَانُ عَسْكَرِهِ مُجِدًّا، فَصَبَّحَ أَبَا الْخَطَّابِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَأَهِّبٍ لِلْحَرْبِ، فَوَضَعُوا السُّيُوفَ فِي الْخَوَارِجِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَقُتِلَ أَبُو الْخَطَّابِ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ فِي صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. وَظَنَّ ابْنُ الْأَشْعَثِ أَنَّ مَادَّةَ الْخَوَارِجِ قَدِ انْقَطَعَتْ، وَإِذَا [هُمْ] قَدْ أَطَلَّ عَلَيْهِمْ أَبُو هُرَيْرَةَ الزِّنَاتِيُّ فِي سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَلَقِيَهُمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ وَقَتَلَهُمْ جَمِيعًا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَكَتَبَ إِلَى الْمَنْصُورِ بِظَفَرِهِ، وَرَتَّبَ الْوُلَاةَ فِي الْأَعْمَالِ كُلِّهَا، وَبَنَى سُورَ الْقَيْرَوَانِ فِيهَا، وَتَمَّ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، وَضَبَطَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَأَمْعَنَ فِي طَلَبِ كُلِّ مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْبَرْبَرِ (وَغَيْرِهِمْ، فَسَيَّرَ جَيْشًا إِلَى زَوِيلَةَ وَوَدَّانَ، فَافْتَتَحَ وَدَّانَ وَقَتَلَ مَنْ بِهَا مِنَ الْإِبَاضِيَّةِ، وَافْتَتَحَ زَوِيلَةَ وَقَتَلَ مُقَدِّمَهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سِنَانٍ الْإِبَاضِيَّ وَأَجْلَى الْبَاقِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْبَرْبَرُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَبَثِ وَالْخِلَافِ عَلَى الْأُمَرَاءِ ذَلِكَ) خَافُوهُ خَوْفًا شَدِيدًا وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالطَّاعَةِ. فَثَارَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ جُنْدِهِ يُقَالُ لَهُ هَاشِمُ بْنُ الشَّاحِجِ بِقَمُونِيَةَ، وَتَبِعَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْجُنْدِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ ابْنُ الْأَشْعَثِ قَائِدًا فِي عَسْكَرٍ، فَقَتَلَهُ هَاشِمٌ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَجَعَلَ الْمُضَرِيَّةُ مِنْ قُوَّادِ ابْنِ الْأَشْعَثِ يَأْمُرُونَ أَصْحَابَهُمْ بِاللَّحَاقِ بِهَاشِمٍ كَرَاهِيَةً لِابْنِ الْأَشْعَثِ لِأَنَّهُ تَعَصَّبَ عَلَيْهِمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ الْأَشْعَثِ جَيْشًا آخَرَ، فَاقْتَتَلُوا وَانْهَزَمَ هَاشِمٌ وَلَحِقَ بِتَاهَرْتَ، وَجَمَعَ طَغَامَ الْبَرْبَرِ، فَبَلَغَتْ عِدَّةُ عَسْكَرِهِ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى تَهُوذَةَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ ابْنُ الْأَشْعَثِ جَيْشًا، فَانْهَزَمَ هَاشِمٌ وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ الْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ، فَسَارَ إِلَى نَاحِيَةِ طَرَابُلُسَ. وَقَدِمَ رَسُولٌ مِنَ الْمَنْصُورِ إِلَى هَاشِمٍ يَلُومُهُ عَلَى مُفَارَقَةِ الطَّاعَةِ، فَقَالَ: مَا خَالَفْتُ وَلَكِنِّي دَعَوْتُ لِلْمَهْدِيِّ بَعْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْكَرَ ابْنُ الْأَشْعَثِ ذَلِكَ وَأَرَادَ قَتْلِي. فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ: فَإِنْ كُنْتَ عَلَى الطَّاعَةِ فَمُدَّ عُنُقَكَ. فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ فِي صَفَرٍ، وَبَذَلَ الْأَمَانَ لِأَصْحَابِ هَاشِمٍ جَمِيعِهِمْ فَعَادُوا. وَتَبِعَهُمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُمْ، فَغَضِبَ الْمُضَرِيَّةُ وَاجْتَمَعَتْ عَلَى عَدَاوَتِهِ وَخِلَافِهِ، وَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى إِخْرَاجِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ سَارَ عَنْهُمْ، وَلَقِيَتْهُ رُسُلُ الْمَنْصُورِ بِالْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، وَاسْتَعْمَلَ الْمُضَرِيَّةُ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ بَعْدَهُ عِيسَى بْنَ مُوسَى

الْخُرَاسَانِيَّ. (وَكَانَ [بَعْدَ] مَسِيرِ ابْنِ الْأَشْعَثِ تَأْمِيرُ الْخُرَاسَانِيِّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَاسْتَعْمَلَ الْمَنْصُورُ الْأَغْلَبَ التَّمِيمِيَّ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ) ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذِهِ الْحَوَادِثَ مُتَتَابِعَةً لِتَعَلُّقِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَلَى مَا شَرَطْنَاهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كُلَّ حَادِثَةٍ فِي أَيِّ سَنَةٍ كَانَتْ فَحَصَلَ الْغَرَضَانِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ يُوسُفَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، فَقَدَّمَهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقِيلَ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَ الْعَامِلَ عَلَى الْعِرَاقِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَعَلَى الْبَصْرَةِ الْمُسَوَّرُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبَّادٍ، وَعَلَى قَضَائِهَا عَامِرُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ الْكِنَانِيُّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا كَاتَبَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَمِيرَ الْجَزِيرَةِ الْغَمْرَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يَحُثُّهُ عَلَى الطَّلَبِ بِدَمِ أَخِيهِ الْوَلِيدِ وَيَعِدُهُ الْمُسَاعَدَةَ لَهُ وَإِنْجَادَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَفِيهَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.

وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ. وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ الزَّاهِدُ، وَقِيلَ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ الشَّاعِرُ الْأَسَدِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتِّينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقِيلَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ. وَفِي إِمَارَةِ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ عَلَى الْعِرَاقِ تُوُفِّيَ أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ صَاحِبُ ابْنِ عَبَّاسٍ. (جَمْرَةُ: بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ) .

ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَة] 127 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ مَسِيرِ مَرْوَانَ إِلَى الشَّامِ وَخَلْعِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مَرْوَانُ إِلَى الشَّامِ لِمُحَارَبَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْوَلِيدِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ مَا قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهُ مِنْ مَسِيرِ مَرْوَانَ بَعْدَ مَقْتَلِ الْوَلِيدِ وَإِنْكَارِهِ قَتْلَهُ، وَغَلَبَتِهِ عَلَى الْجَزِيرَةِ، ثُمَّ مُبَايَعَتِهِ لِيَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ بَعْدَمَا وَلَّاهُ يَزِيدُ مِنْ عَمَلِ أَبِيهِ. فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَارَ مَرْوَانُ فِي جُنُودِ الْجَزِيرَةِ، وَخَلَّفَ ابْنَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ بِالرَّقَّةِ، فَلَمَّا انْتَهَى مَرْوَانُ إِلَى قِنَّسْرِينَ لَقِيَ بِهَا بِشْرَ بْنَ الْوَلِيدِ، كَانَ وَلَّاهُ أَخُوهُ يَزِيدُ قِنَّسْرِينَ، وَمَعَهُ أَخُوهُ مَسْرُورُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَتَصَافَوْا، وَدَعَاهُمْ مَرْوَانُ إِلَى بَيْعَتِهِ، فَمَالَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ فِي الْقَيْسِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا بِشْرًا وَأَخَاهُ مَسْرُورًا، فَأَخَذَهُمَا مَرْوَانُ فَحَبَسَهُمَا، وَسَارَ وَمَعَهُ أَهْلُ قِنَّسْرِينَ مُتَوَجِّهًا إِلَى حِمْصَ. وَكَانَ أَهْلُ حِمْصَ قَدِ امْتَنَعُوا [حِينَ مَاتَ يَزِيدُ] مِنْ بَيْعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ عَبْدَ الْعَزِيزِ وَجُنْدَ أَهْلِ دِمَشْقَ فَحَاصَرَهُمْ فِي مَدِينَتِهِمْ، وَأَسْرَعَ مَرْوَانُ السَّيْرَ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ حِمْصَ رَحَلَ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْهَا، وَخَرَجَ أَهْلُهَا إِلَى مَرْوَانَ فَبَايَعُوهُ وَسَارُوا مَعَهُ. وَوَجَّهَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ الْجُنُودَ مِنْ دِمَشْقَ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَ عَيْنَ الْجَرِّ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَنَزَلَهَا مَرْوَانُ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا، فَدَعَاهُمْ مَرْوَانُ إِلَى الْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِ وَإِطْلَاقِ ابْنَيِ الْوَلِيدِ الْحَكَمِ وَعُثْمَانَ مِنَ السِّجْنِ، وَضَمِنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ أَحَدًا مِنْ قَتَلَةِ الْوَلِيدِ. فَلَمْ يُجِيبُوهُ وَجَدُّوا فِي قِتَالِهِ، فَاقْتَتَلُوا مَا بَيْنَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ بَيْنَهُمْ. وَكَانَ مَرْوَانُ ذَا رَأْيٍ وَمَكِيدَةٍ، فَأَرْسَلَ ثَلَاثَةَ آلَافِ فَارِسٍ، فَسَارُوا خَلْفَ عَسْكَرِهِ، وَقَطَعُوا نَهْرًا كَانَ هُنَاكَ، وَقَصَدُوا عَسْكَرَ إِبْرَاهِيمَ لِيُغِيرُوا فِيهِ، فَلَمْ يَشْعُرْ سُلَيْمَانُ وَمَنْ مَعَهُ وَهُمْ مَشْغُولُونَ بِالْقِتَالِ إِلَّا بِالْخَيْلِ وَالْبَارِقَةِ وَالتَّكْبِيرِ فِي عَسْكَرِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا

ذَلِكَ انْهَزَمُوا، وَوَضَعَ أَهْلُ حِمْصَ السِّلَاحَ فِيهِمْ لِحَنَقِهِمْ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَكَفَّ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ وَأَهْلُ قِنَّسْرِينَ عَنْ قَتْلِهِمْ، وَأَتَوْا مَرْوَانَ مِنْ أُسَرَائِهِمْ بِمِثْلِ الْقَتْلَى وَأَكْثَرَ، فَأَخَذَ مَرْوَانُ عَلَيْهِمُ الْبَيْعَةَ لِوَلَدَيِ الْوَلِيدِ، وَخَلَّى عَنْهُمْ وَلَمْ يَقْتُلْ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلَيْنِ، أَحَدُهُمَا يَزِيدُ بْنُ الْعَقَارِ وَالْوَلِيدُ بْنُ مَصَادٍ الْكَلْبِيَّانِ، وَكَانَا مِمَّنْ وَلِيَ قَتْلَ الْوَلِيدِ، فَإِنَّهُ حَبَسَهُمَا فَهَلَكَا فِي حَبْسِهِ. وَهَرَبَ يَزِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ فِيمَنْ هَرَبَ مَعَ سُلَيْمَانَ إِلَى دِمَشْقَ، وَاجْتَمَعُوا مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنْ بَقِيَ وَلَدَا الْوَلِيدِ حَتَّى يُخْرِجَهُمَا مَرْوَانُ وَيُصَيِّرَ الْأَمْرَ إِلَيْهِمَا لَمْ يَسْتَبْقِيَا أَحَدًا مِنْ قَتَلَةِ أَبِيهِمَا وَالرَّأْيُ قَتْلُهُمَا، فَرَأَى ذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ، فَأَمَرَ أَبَا الْأَسَدِ مَوْلَى خَالِدٍ بِقَتْلِهِمَا، وَأَخْرَجَ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ فَضَرَبَ رَقَبَتَهُ، وَأَرَادُوا قَتْلَ أَبِي مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيِّ فَدَخَلَ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِ السِّجْنِ وَأَغْلَقَهُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى فَتْحِهِ، فَأَرَادُوا إِحْرَاقَهُ فَلَمْ يُؤْتَوْا بِنَارٍ، حَتَّى قِيلَ: قَدْ دَخَلَتْ خَيْلُ مَرْوَانَ الْمَدِينَةَ، فَهَرَبُوا وَهَرَبَ إِبْرَاهِيمُ وَاخْتَفَى، وَانْتَهَبَ سُلَيْمَانُ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ فَقَسَّمَهُ فِي أَصْحَابِهِ وَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ. ذِكْرُ بَيْعَةِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ بِدِمَشْقَ لِمَرْوَانَ بِالْخِلَافَةِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دِمَشْقَ وَهَرَبَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانُ، ثَارَ مَنْ بِدِمَشْقَ مِنْ مَوَالِي الْوَلِيدِ إِلَى دَارِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَتَلُوهُ، وَنَبَشُوا قَبْرَ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ فَصَلَبُوهُ عَلَى بَابِ الْجَابِيَةِ، وَأُتِيَ مَرْوَانُ بِالْغُلَامَيْنِ الْحَكَمِ وَعُثْمَانَ ابْنَيِ الْوَلِيدِ مَقْتُولَيْنِ، وَبِيُوسُفَ بْنِ عُمَرَ، فَدَفَنَهُمْ، وَأُتِيَ بِأَبِي مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيِّ فِي قُيُودِهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، وَمَرْوَانُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ بِالْإِمْرَةِ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: مَهْ! فَقَالَ: إِنَّهُمَا جَعَلَاهَا لَكَ بَعْدَهُمَا، وَأَنْشَدَهُ شِعْرًا قَالَهُ الْحَكَمُ فِي السِّجْنِ، وَكَانَا قَدْ بَلَغَا وَوُلِدَ لِأَحَدِهِمَا، وَهُوَ الْحَكَمُ، فَقَالَ الْحَكَمُ: أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ مَرْوَانَ عَنِّي ... وَعَمِّي الْغَمْرُ طَالَ بِهِ حَنِينَا

بِأَنِّي قَدْ ظُلِمْتُ وَصَارَ قَوْمِي عَلَى قَتْلِ الْوَلِيدِ مُشَايِعِينَا ... أَيَذْهَبُ كُلُّهُمْ بِدَمِي وَمَالِي فَلَا غَثًّا أَصَبْتُ وَلَا سَمِينَا ... وَمَرْوَانٌ بِأَرْضِ بَنِي نِزَارٍ كَلَيْثِ الْغَابِ مُفْتَرِسٍ عَرِينَا ... أَتُنْكَثُ بَيْعَتِي مِنْ أَجْلِ أُمِّي فَقَدْ بَايَعْتُمُ قَبْلِي هَجِينَا ... فَإِنْ أَهْلِكْ أَنَا وَوَلِيُّ عَهْدِي فَمَرْوَانٌ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَا ثُمَّ قَالَ: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ. وَسَمِعَهُ مَنْ مَعَ مَرْوَانَ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ بَايَعَهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ وَرُءُوسَ أَهْلِ حِمْصَ وَالنَّاسَ بَعْدَهُ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ لَهُ الْأَمْرُ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ بِحَرَّانَ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْأَمَانَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ، فَآمَنَهُمَا، فَقَدِمَا عَلَيْهِ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ بِتَدْمُرَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ إِخْوَتِهِ وَأَهْلِ أَبِيهِ وَمَوَالِيهِ الذَّكْوَانِيَّةَ فَبَايَعُوا مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ. ذِكْرُ ظُهُورِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالْكُوفَةِ وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَأَكْرَمَهُ وَأَجَازَهُ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ وَعَلَى إِخْوَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى هَلَكَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَبَايَعَ النَّاسُ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْوَلِيدِ وَبَعْدَهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْحَجَّاجِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ بَيْعَتِهِمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بِالْكُوفَةِ بَايَعَ النَّاسُ، وَزَادَ فِي الْعَطَاءِ، وَكَتَبَ بِبَيْعَتِهِمَا إِلَى الْآفَاقِ، فَجَاءَتْهُ الْبَيْعَةُ، ثُمَّ بَلَغَهُ امْتِنَاعُ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ مِنَ الْبَيْعَةِ وَمَسِيرُهُ إِلَيْهِمَا إِلَى الشَّامِ، فَحَبَسَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُعَاوِيَةَ عِنْدَهُ وَزَادَهُ فِيمَا كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ

وَأَعَدَّهُ لِمَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ إِنْ هُوَ ظَفِرَ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْوَلِيدِ لَيُبَايِعُ لَهُ وَيُقَاتِلُ بِهِ مَرْوَانَ، فَمَاجَ النَّاسُ. وَوَرَدَ مَرْوَانُ الشَّامَ وَظَفِرَ بِإِبْرَاهِيمَ، فَانْهَزَمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ إِلَى الْكُوفَةِ مُسْرِعًا، وَافْتَعَلَ كِتَابًا عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ بِإِمْرَةِ الْكُوفَةِ، وَجَمَعَ الْيَمَانِيَّةَ وَأَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ، فَأَجَابُوهُ، وَامْتَنَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَيْهِ وَقَاتَلَهُ. فَلَمَّا رَأَى الْأَمْرَ كَذَلِكَ خَافَ أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُهُ فَيَفْتَضِحَ وَيُقْتَلَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي أَكْرَهُ سَفْكَ الدِّمَاءِ فَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، فَكَفُّوا. وَظَهَرَ أَمْرُ إِبْرَاهِيمَ وَهَرَبُهُ، وَوَقَعَتِ الْعَصَبِيَّةُ بَيْنَ النَّاسِ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ أَعْطَى مُضَرَ وَرَبِيعَةَ عَطَايَا كَثِيرَةً، وَلَمْ يُعْطِ جَعْفَرَ بْنَ نَافِعِ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ شَوْرٍ الذُّهْلِيَّ وَعُثْمَانَ بْنَ الْخَيْبَرِيِّ مِنْ تَيْمِ اللَّاتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ شَيْئًا، وَهُمَا مِنْ رَبِيعَةَ، فَكَانَا مُغْضَبَيْنِ، وَغَضِبَ لَهُمَا ثُمَامَةُ بْنُ حَوْشَبِ بْنِ رُوَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ فَنَادَوْا: يَا آلَ رَبِيعَةَ! فَاجْتَمَعَتْ رَبِيعَةُ وَتَنَمَّرُوا. وَبَلَغَ الْخَبَرُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَأَرْسَلَ أَخَاهُ عَاصِمًا، فَأَتَاهُمْ وَهُمْ بِدَيْرِ هِنْدٍ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ بَيْنَهُمْ وَقَالَ: هَذِهِ يَدِي لَكُمْ فَاحْكُمُوا. فَاسْتَحْيَوْا وَرَجَعُوا وَعَظَّمُوا عَاصِمًا وَشَكَرُوهُ. فَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ أَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْغَضْبَانِ بْنِ الْقَبْعَثْرِيِّ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَسَّمَهَا فِي قَوْمِهِ بَنِي هَمَّامِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ ذُهْلٍ الشَّيْبَانِيِّ، وَإِلَى ثُمَامَةَ بْنِ حَوْشَبٍ بِمِائَةِ أَلْفِ قَسَّمَهَا فِي قَوْمِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ نَافِعٍ بِمَالٍ، وَإِلَى عُثْمَانَ بْنِ الْخَيْبَرِيِّ بِمَالٍ. فَلَمَّا رَأَتِ الشِّيعَةُ ضَعْفَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ طَمِعُوا فِيهِ وَدَعَوْا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَاجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ وَثَارُوا، وَأَتَوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ دَارِهِ وَأَدْخَلُوهُ الْقَصْرَ، وَمَنَعُوا عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ عَنِ الْقَصْرِ، فَلَحِقَ بِأَخِيهِ بِالْحِيرَةِ، وَجَاءَ ابْنَ مُعَاوِيَةَ الْكُوفِيُّونَ فَبَايَعُوهُ، فِيهِمْ: عُمَرُ بْنُ الْغَضْبَانِ، وَمَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ أَخُو خَالِدٍ، وَأَقَامَ أَيَّامًا يُبَايِعُهُ النَّاسُ، وَأَتَتْهُ الْبَيْعَةُ مِنَ الْمَدَائِنِ وَفَمِ النِّيلِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، فَخَرَجَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِالْحِيرَةِ، فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: قَدْ أَقْبَلَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ

فِي الْخَلْقِ، فَأَطْرَقَ مَلِيًّا، وَأَتَاهُ رَئِيسُ خَبَّازِيهِ فَأَعْلَمَهُ بِإِدْرَاكِ الطَّعَامِ، فَأَمَرَهُ بِإِحْضَارِهِ، فَأَحْضَرَهُ، فَأَكَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ وَهُوَ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ، وَالنَّاسُ يَتَوَقَّعُونَ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهِمُ ابْنُ مُعَاوِيَةَ، وَفَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ وَأَخْرَجَ الْمَالَ فَفَرَّقَهُ فِي قُوَّادِهِ، ثُمَّ دَعَا مَوْلًى لَهُ كَانَ يَتَبَرَّكُ بِهِ وَيَتَفَاءَلُ بِاسْمِهِ، كَانَ اسْمُهُ: إِمَّا مَيْمُونًا، وَإِمَّا رَبَاحًا، أَوْ فَتْحًا، أَوِ اسْمًا يُتَبَرَّكُ بِهِ، فَأَعْطَاهُ اللِّوَاءَ وَقَالَ لَهُ: امْضِ بِهِ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا فَارْكُزْهُ وَادْعُ أَصْحَابَكَ وَأَقِمْ حَتَّى آتِيَكَ. فَفَعَلَ. وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَإِذَا الْأَرْضُ بَيْضَاءُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مُعَاوِيَةَ، فَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ خَمْسُمِائَةٍ. فَأُتِيَ بِرُءُوسٍ كَثِيرَةٍ وَهُوَ يُعْطِي مَا ضَمِنَ. وَبَرَزَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ الْعِجْلِيُّ، فَسَأَلَهُ الشَّامِيُّ فَعَرَفَهُ فَقَالَ: قَدْ ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَاللَّهِ مَا أُرِيدُ قِتَالَكَ وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُلْقِيَ إِلَيْكَ حَدِيثًا، أُخْبِرُكَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، لَا إِسْمَاعِيلُ وَلَا مَنْصُورٌ وَلَا غَيْرُهُمَا، إِلَّا وَقَدْ كَاتَبَ ابْنَ عُمَرَ وَكَاتَبَتْهُ مُضَرُ، وَمَا أَرَى لَكُمْ يَا رَبِيعَةُ كِتَابًا وَلَا رَسُولًا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ، فَإِنْ أَرَدْتُمُ الْكِتَابَ أَبْلَغْتُهُ وَنَحْنُ غَدًا بِإِزَائِكُمْ فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ. فَبَلَغَ الْخَبَرُ ابْنَ مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ عُمَرَ بْنَ الْغَضْبَانِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْ إِسْمَاعِيلَ وَمَنْصُورٍ وَغَيْرِهِمَا، فَلَمْ يَفْعَلْ. وَأَصْبَحَ النَّاسُ مِنَ الْغَدِ غَادِينَ عَلَى الْقِتَالِ، فَحَمَلَ عُمَرُ بْنُ الْغَضْبَانِ عَلَى مَيْمَنَةِ ابْنِ عُمَرَ فَانْكَشَفُوا، وَمَضَى إِسْمَاعِيلُ وَمَنْصُورٌ مِنْ فَوْرِهِمَا إِلَى الْحِيرَةِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَابْنُ مُعَاوِيَةَ مَعَهُمْ، فَدَخَلُوا الْقَصْرَ، وَبَقِيَ مَنْ بِالْمَيْسَرَةِ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ وَمَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْغَضْبَانِ: مَا كُنَّا نَأْمَنُ عَلَيْكُمْ مَا صَنَعَ النَّاسُ بِكُمْ، فَانْصَرَفُوا. فَقَالَ ابْنُ الْغَضْبَانِ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أُقْتَلَ. فَأَخَذَ أَصْحَابُهُ بِعِنَانِ دَابَّتِهِ فَأَدْخَلُوهُ الْكُوفَةَ، فَلَمَّا أَمْسَوْا قَالَ لَهُمُ ابْنُ مُعَاوِيَةَ: يَا مَعْشَرَ رَبِيعَةَ، قَدْ رَأَيْتُمْ مَا صَنَعَ النَّاسُ بِنَا، وَقَدْ أَعْلَقْنَا دِمَاءَنَا فِي أَعْنَاقِكُمْ، فَإِنْ قَاتَلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ النَّاسَ يَخْذُلُونَنَا وَإِيَّاكُمْ فَخُذُوا لَنَا وَلَكُمْ أَمَانًا. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْغَضْبَانِ: مَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ وَمَا نَأْخُذُ لَكُمْ أَمَانًا كَمَا نَأْخُذُ لِأَنْفُسِنَا. فَأَقَامُوا فِي الْقَصْرِ وَالزَّيْدِيَّةُ عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ يُقَاتِلُونَ أَصْحَابَ ابْنِ عُمَرَ أَيَّامًا. ثُمَّ إِنَّ رَبِيعَةَ أَخَذَتْ أَمَانًا لِابْنِ مُعَاوِيَةَ وَلِأَنْفُسِهِمْ وَلِلزَّيْدِيَّةِ لِيَذْهَبُوا حَيْثُ شَاءُوا، وَسَارَ

ابْنُ مُعَاوِيَةَ مِنَ الْكُوفَةِ فَنَزَلَ الْمَدَائِنَ، فَأَتَاهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَخَرَجَ بِهِمْ فَغَلَبَ عَلَى حُلْوَانَ وَالْجِبَالِ وَهَمْدَانَ وَأَصْبَهَانَ وَالرَّيِّ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبِيدُ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَكَانَ شَاعِرًا مُجِيدًا، فَمِنْ قَوْلِهِ: وَلَا تَرْكَبَنَّ الصَّنِيعَ الَّذِي ... تَلُومُ أَخَاكَ عَلَى مِثْلِهِ وَلَا يُعْجِبَنَّكَ قَوْلُ امْرِئٍ ... يُخَالِفُ مَا قَالَ فِي فِعْلِهِ ذِكْرُ رُجُوعِ الْحَارِثِ بْنِ السُّرَيْجِ إِلَى مَرْوَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ رَجَعَ الْحَارِثُ إِلَى مَرْوَ، وَكَانَ مُقِيمًا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ مُدَّةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَبَبُ عَوْدِهِ، وَكَانَ قُدُومُهُ مَرْوَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَلَقِيَهُ النَّاسُ بِكُشْمَيْهِنَ، فَلَمَّا لَقِيَهُمْ قَالَ: مَا قَرَّتْ عَيْنِي مُنْذُ خَرَجْتُ إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَمَا قُرَّةُ عَيْنِي إِلَّا أَنْ يُطَاعَ اللَّهُ. وَلَقِيَهُ نَصْرٌ وَأَنْزَلَهُ وَأَجْرَى عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَكَانَ يَقْتَصِرُ عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ، وَأَطْلَقَ نَصْرٌ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ نَصْرٌ أَنْ يُوَلِّيَهُ وَيُعْطِيَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمْ يَقْبَلْ وَأَرْسَلَ إِلَى نَصْرٍ: إِنِّي لَسْتُ مِنَ الدُّنْيَا وَاللَّذَّاتِ فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا أَسْأَلُكَ كِتَابَ اللَّهِ وَالْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ، وَاسْتِعْمَالَ أَهْلِ الْخَيْرِ، فَإِنْ فَعَلْتَ سَاعَدْتُكَ عَلَى عَدُوِّكَ. وَأَرْسَلَ الْحَارِثُ إِلَى الْكَرْمَانِيِّ: إِنْ أَعْطَانِي نَصْرٌ الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ وَمَا سَأَلْتُهُ عَضَّدْتُهُ وَقُمْتُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَعَنْتُكَ إِنْ ضَمِنْتَ لِيَ الْقِيَامَ بِالْعَدْلِ وَالسُّنَّةِ. وَدَعَا بَنِي تَمِيمٍ إِلَى نَفْسِهِ، فَأَجَابَهُ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَقَالَ لِنَصْرٍ: إِنَّمَا خَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ الْبَلْدَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً إِنْكَارًا لِلْجَوْرِ وَأَنْتَ تُرِيدُنِي عَلَيْهِ. ذِكْرُ انْتِقَاضِ أَهْلِ حِمْصَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ انْتَقَضَ أَهْلُ حِمْصَ عَلَى مَرْوَانَ.

وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَرْوَانَ لَمَّا عَادَ إِلَى حَرَّانَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَقَامَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَانْتَقَضَ عَلَيْهِ أَهْلُ حِمْصَ، وَكَانَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ ثَابِتُ بْنُ نُعَيْمٍ وَرَاسَلَهُمْ، وَأَرْسَلَ أَهْلُ حِمْصَ إِلَى مَنْ بِتَدْمُرَ مِنْ كَلْبٍ، فَأَتَاهُمُ الْأَصْبَغُ بْنُ ذُؤَالَةَ الْكَلْبِيُّ وَأَوْلَادُهُ وَمُعَاوِيَةُ السَّكْسَكِيُّ، وَكَانَ فَارِسَ أَهْلِ الشَّامِ، وَغَيْرُهُمَا فِي نَحْوٍ مِنْ أَلْفٍ مِنْ فُرْسَانِهِمْ، فَدَخَلُوا لَيْلَةَ الْفِطْرِ، فَجَدَّ مَرْوَانُ فِي السَّيْرِ إِلَيْهِ وَمَعَهُ إِبْرَاهِيمُ الْمَخْلُوعُ وَسُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ، وَكَانَ قَدْ آمَنَهُمَا، وَكَانَ يُكْرِمُهُمَا، فَبَلَغَهُمَا بَعْدَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ وَقَدْ سَدَّ أَهْلُهَا أَبْوَابَهَا، فَأَحْدَقَ بِالْمَدِينَةِ وَوَقَفَ بِإِزَاءِ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا، فَنَادَى مُنَادِيهِ الَّذِينَ عِنْدَ الْبَابِ: مَا دَعَاكُمْ إِلَى النَّكْثِ؟ قَالُوا: إِنَّا عَلَى طَاعَتِكَ لَمْ نَنْكُثْ. قَالَ: فَافْتَحُوا الْبَابَ، فَفَتَحُوا الْبَابَ، فَدَخَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْوَضَّاحِ فِي الْوَضَّاحِيَّةِ، وَهُمْ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَقَاتَلَهُمْ مَنْ فِي الْبَلَدِ، فَكَثَّرَتْهُمْ خَيْلُ مَرْوَانَ، فَخَرَجَ بِهَا مَنْ بِهَا مِنْ بَابِ تَدْمُرَ، فَقَاتَلَهُمْ مَنْ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِ مَرْوَانَ، فَقَتَلَ عَامَّةَ مَنْ خَرَجَ مِنْهُ، وَأَفْلَتَ الْأَصْبَغُ بْنُ ذُؤَالَةَ وَابْنُهُ فُرَافِصَةُ، وَقَتَلَ مَرْوَانُ جَمَاعَةً مِنْ أُسَرَائِهِمْ، وَصَلَبَ خَمْسَمِائَةٍ مِنَ الْقَتْلَى حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَهَدَمَ مِنْ سُورِهَا نَحْوَ غَلْوَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّ فَتْحَ حِمْصَ وَهَدْمَ سُورِهَا كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ. ذِكْرُ خِلَافِ أَهْلِ الْغُوطَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ أَهْلُ الْغُوطَةِ، وَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ يَزِيدَ بْنَ خَالِدٍ الْقَسْرِيَّ وَحَصَرُوا دِمَشْقَ، وَأَمِيرَهَا زَامِلَ بْنَ عَمْرٍو، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ مَرْوَانُ مِنْ حِمْصَ أَبَا الْوَرْدِ بْنَ الْكَوْثَرِ بْنِ زُفَرَ بْنِ الْحَارِثِ، وَعُمَرَ بْنَ الْوَضَّاحِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ، وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِالْمَدِينَةِ، فَانْهَزَمُوا وَاسْتَبَاحَ أَهْلُ مَرْوَانَ عَسْكَرَهُمْ، وَأَحْرَقُوا الْمِزَّةَ وَقُرًى مِنَ الْيَمَانِيَّةِ، وَأُخِذَ يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ فَقُتِلَ، وَبَعَثَ زَامِلٌ بِرَأْسِهِ إِلَى مَرْوَانَ بِحِمْصَ. وَمِمَّنْ قُتِلَ فِي هَذِهِ الْحَرْبِ عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ الْعَبْسِيِّ مَعَ يَزِيدَ، وَكَانَ عَابِدًا كَثِيرَ الْمُجَاهَدَةِ.

ذِكْرُ خِلَافِ أَهْلِ فِلَسْطِينَ وَفِيهَا خَرَجَ ثَابِتُ بْنُ نُعَيْمٍ بَعْدَ أَهْلِ حِمْصَ وَالْغُوطَةِ، وَكَانَ خُرُوجُهُ فِي أَهْلِ فِلَسْطِينَ، وَانْتَقَضَ عَلَى مَرْوَانَ أَيْضًا، وَأَتَى طَبَرِيَّةَ فَحَاصَرَهَا وَعَلَيْهَا الْوَلِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ ابْنِ أَخِي عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا أَيَّامًا. فَكَتَبَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَى أَبِي الْوَرْدِ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُمْ خَرَجَ أَهْلُ طَبَرِيَّةَ عَلَى ثَابِتٍ فَهَزَمُوهُ وَاسْتَبَاحُوا عَسْكَرَهُ، وَانْصَرَفَ إِلَى فِلَسْطِينَ مُنْهَزِمًا، وَتَبِعَهُ أَبُو الْوَرْدِ فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَهَزَمَهُ أَبُو الْوَرْدِ ثَانِيَةً وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ وَأَسَرَ ثَلَاثَةً مِنْ أَوْلَادِهِ وَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى مَرْوَانَ، وَتَغَيَّبَ ثَابِتٌ وَوَلَدُهُ رِفَاعَةُ. وَاسْتَعْمَلَ مَرْوَانُ عَلَى فِلَسْطِينَ الرُّمَاحِسَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيَّ، فَظَفِرَ بِثَابِتٍ وَبَعَثَهُ إِلَى مَرْوَانَ مُوثَقًا بَعْدَ شَهْرَيْنِ، فَأَمَرَ بِهِ وَبِأَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَحُمِلُوا إِلَى دِمَشْقَ فَأُلْقُوا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ صَلَبَهُمْ عَلَى أَبْوَابِ دِمَشْقَ. وَكَانَ مَرْوَانُ بِدَيْرِ أَيُّوبَ فَبَايَعَ لِابْنَيْهِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَعَبْدِ اللَّهِ وَزَوَّجَهُمَا ابْنَتَيْ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَجَمَعَ كَذَلِكَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَاسْتَقَامَ لَهُ الشَّامُ مَا خَلَا تَدْمُرَ، فَسَارَ إِلَيْهَا فَنَزَلَ الْقَسْطَلَ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ تَدْمُرَ أَيَّامٌ، وَكَانُوا قَدْ عَوَّرُوا الْمِيَاهَ، فَاسْتَعْمَلَ الْمَزَادَ وَالْقِرَبَ وَالْإِبِلَ، وَكَلَّمَهُ الْأَبْرَشُ بْنُ الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ وَغَيْرُهُمَا، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَسَارَ الْأَبْرَشُ وَخَوَّفَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ، فَأَجَابُوا إِلَى الطَّاعَةِ، وَهَرَبَ نَفَرٌ مِنْهُمْ إِلَى الْبَرِّ مِمَّنْ لَمْ يَثِقْ بِمَرْوَانَ، وَرَجَعَ الْأَبْرَشُ إِلَى مَرْوَانَ وَمَعَهُ مَنْ أَطَاعَ بَعْدَ أَنْ هَدَمَ سُورَهَا. وَكَانَ مَرْوَانُ قَدْ سَيَّرَ يَزِيدَ بْنَ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى الْعِرَاقِ لِقِتَالِ الضَّحَّاكِ الْخَارِجِيِّ، وَضَرَبَ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ بَعْثًا وَأَمَرَهُمْ بِاللَّحَاقِ بِيَزِيدَ، وَسَارَ مَرْوَانُ إِلَى الرُّصَافَةِ، فَاسْتَأْذَنَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ لِيُقِيمَ أَيَّامًا لِيَقْوَى مَنْ مَعَهُ وَيَسْتَرِيحَ ظَهْرُهُ. فَأَذِنَ لَهُ، وَتَقَدَّمَ مَرْوَانُ إِلَى قَرْقِيسِيَا وَبِهَا ابْنُ هُبَيْرَةَ لِيُقَدِّمَهُ إِلَى الضَّحَّاكِ، فَرَجَعَ عَشَرَةُ آلَافٍ مِمَّنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ لِقِتَالِ الضَّحَّاكِ، فَأَقَامُوا بِالرُّصَافَةِ وَدَعَوْا سُلَيْمَانَ إِلَى خَلْعِ مَرْوَانَ، فَأَجَابَهُمْ.

ذِكْرُ خَلْعِ سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَحَارَبَهُ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قُدُومِ الْجُنُودِ عَلَيْهِ وَتَحْسِينِهِمْ لَهُ خَلْعَ مَرْوَانَ، وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ أَرْضَى عِنْدَ النَّاسِ مِنْ مَرْوَانَ وَأَوْلَى بِالْخِلَافَةِ. فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَسَارَ بِإِخْوَتِهِ وَمَوَالِيهِ مَعَهُمْ فَعَسْكَرَ بِقِنَّسْرِينَ، وَكَاتِبَ أَهْلَ الشَّامِ، فَأَتَوْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ مَرْوَانَ فَرَجَعَ إِلَيْهِ مِنْ قَرْقِيسِيَا، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ يَأْمُرُهُ بِالْمُقَامِ، وَاجْتَازَ مَرْوَانُ فِي رُجُوعِهِ بِحِصْنِ الْكَامِلِ وَفِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ مَوَالِي سُلَيْمَانَ وَأَوْلَادِ هِشَامٍ فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: إِنِّي أُحَذِّرُكُمْ أَنْ تَعْرِضُوا لِأَحَدٍ مِمَّنْ يَتْبَعُنِي مِنْ جُنْدِي بِأَذًى، فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَلَا أَمَانَ لَكُمْ عِنْدِي. فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ: إِنَّا نَسْتَكِفُّ. وَمَضَى مَرْوَانُ، فَجَعَلُوا يُغِيرُونَ عَلَى مَنْ يَتْبَعُهُ مِنْ أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، وَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِمْ. وَاجْتَمَعَ إِلَى سُلَيْمَانَ نَحْوٌ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالذَّكْوَانِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَسْكَرَ بِقَرْيَةِ خُسَافَ مِنْ أَرْضِ قِنَّسْرِينَ، وَأَتَاهُ مَرْوَانُ فَوَاقَعَهُ عِنْدَ وُصُولِهِ، فَاشْتَدَّ بَيْنَهُمُ الْقِتَالُ، وَانْهَزَمَ سُلَيْمَانُ وَمَنْ مَعَهُ، وَاتَّبَعَتْهُمْ خَيْلُ مَرْوَانَ تَقْتُلُ وَتَأْسِرُ، وَاسْتَبَاحُوا عَسْكَرَهُمْ، وَوَقَفَ مَرْوَانُ مَوْقِفًا وَوَقَفَ ابْنَاهُ مَوْقِفَيْنِ، وَوَقَفَ كَوْثَرٌ صَاحِبُ شُرْطَتِهِ مَوْقِفًا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَأْتُوا بِأَسِيرٍ إِلَّا قَتَلُوهُ إِلَّا عَبْدًا مَمْلُوكًا. فَأُحْصِيَ مِنْ قَتْلَاهُمْ يَوْمَئِذٍ [مَا] نَيَّفَ عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفَ قَتِيلٍ، وَقُتِلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ، وَخَالِدُ بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ خَالُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَادَّعَى كَثِيرٌ مِنَ الْأُسَرَاءِ لِلْجُنْدِ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ، فَكَفَّ عَنْ قَتْلِهِمْ وَأَمَرَ بِبَيْعِهِمْ فِيمَنْ يَزِيدُ مَعَ مَنْ أُصِيبَ مِنْ عَسْكَرِهِمْ. وَمَضَى سُلَيْمَانُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى حِمْصَ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَنْ أَفْلَتَ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، فَعَسْكَرَ بِهَا وَبَنَى مَا كَانَ مَرْوَانُ أَمَرَ بِهَدْمِهِ مِنْ حِيطَانِهَا. وَسَارَ مَرْوَانُ إِلَى حِصْنِ الْكَامِلِ حَنَقًا عَلَى مَنْ فِيهِ فَحَصَرَهُمْ وَأَنْزَلَهُمْ عَلَى حُكْمِهِ، فَمَثَّلَ بِهِمْ وَأَخَذَهُمْ أَهْلُ الرَّقَّةِ فَدَاوَوْا جِرَاحَاتِهِمْ، فَهَلَكَ بَعْضُهُمْ وَبَقِيَ أَكْثَرُهُمْ، وَكَانَتْ عِدَّتُهُمْ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ. ثُمَّ سَارَ إِلَى سُلَيْمَانَ وَمَنْ مَعَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: حَتَّى مَتَى نَنْهَزِمُ مِنْ مَرْوَانَ؟ فَتَبَايَعَ سَبْعُمِائَةٍ مِنْ فُرْسَانِهِمْ عَلَى الْمَوْتِ، وَسَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ مُجْمِعِينَ عَلَى أَنْ يُبَيِّتُوهُ إِنْ أَصَابُوا مِنْهُ غِرَّةً. وَبَلَغَهُ خَبَرُهُمْ فَتَحَرَّزَ مِنْهُمْ وَزَحَفَ إِلَيْهِمْ فِي الْخَنَادِقِ عَلَى احْتِرَاسٍ وَتَعْبِيَةٍ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُبَيِّتُوهُ، فَكَمَنُوا فِي زَيْتُونٍ عَلَى طَرِيقِهِ، فَخَرَجُوا عَلَيْهِ وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى تَعْبِيَةٍ فَوَضَعُوا

السِّلَاحَ فِيمَنْ مَعَهُ، وَانْتَبَذَ لَهُمْ وَنَادَى خُيُولَهُ، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ، فَقَاتَلُوهُ مِنْ لَدُنْ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ إِلَى بَعْدِ الْعَصْرِ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ نَحْوٌ مِنْ سِتَّةِ آلَافٍ. فَلَمَّا بَلَغَ سُلَيْمَانَ هَزِيمَتُهُمْ خَلَّفَ أَخَاهُ سَعِيدًا بِحِمْصَ وَمَضَى هُوَ إِلَى تَدْمُرَ فَأَقَامَ بِهَا، وَنَزَلَ مَرْوَانُ عَلَى حِمْصَ فَحَصَرَ أَهْلَهَا عَشَرَةَ أَشْهُرٍ، وَنَصَبَ عَلَيْهِمْ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ مَنْجَنِيقًا يُرْمَى بِهَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَهُمْ يَخْرُجُونَ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ فَيُقَاتِلُونَهُ، وَرُبَّمَا بَيَّتُوا نَوَاحِيَ عَسْكَرِهِ. فَلَمَّا تَتَابَعَ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ طَلَبُوا الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ وَابْنَيْهِ وَعُثْمَانَ وَمَرْوَانَ وَمِنْ رَجُلٍ كَانَ يُسَمَّى السَّكْسَكِيَّ، كَانَ يُغِيرُ عَلَى عَسْكَرِهِ، وَمِنْ رَجُلٍ حَبَشِيٍّ كَانَ يَشْتُمُ مَرْوَانَ، وَكَانَ يَشُدُّ فِي ذَكَرِهِ ذَكَرَ حِمَارٍ ثُمَّ يَقُولُ: يَا بَنِي سُلَيْمٍ، يَا أَوْلَادَ كَذَا وَكَذَا هَذَا لِوَاؤُكُمْ. فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَاسْتَوْثَقَ مِنْ سَعِيدٍ وَابْنَيْهِ، وَقُتِلَ السَّكْسَكِيُّ وَسُلِّمَ الْحَبَشِيُّ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ فَقَطَعُوا ذَكَرَهُ وَأَنْفَهُ وَمَثَّلُوا بِهِ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حِمْصَ سَارَ نَحْوَ الضَّحَّاكِ الْخَارِجِيِّ. وَقِيلَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ هِشَامٍ لَمَّا انْهَزَمَ بِخُسَافَ أَقْبَلَ هَارِبًا حَتَّى صَارَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالْعِرَاقِ، فَخَرَجَ مَعَهُ إِلَى الضَّحَّاكِ فَبَايَعَهُ وَحَرَّضَ عَلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ بَعْضُ شُعَرَائِهِمْ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ دِينَهُ وَصَلَّتْ قُرَيْشٌ خَلْفَ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ فَلَمَّا رَأَى النَّضْرَ (بْنَ سَعِيدٍ الْحَرَشِيَّ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَ الْعِرَاقَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) ، ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَسَارَ إِلَى مَرْوَانَ، فَلَمَّا كَانَ بِالْقَادِسِيَّةِ خَرَجَ إِلَيْهِ ابْنُ مِلْجَانَ، خَلِيفَةُ الضَّحَّاكِ بِالْكُوفَةِ، فَقَاتَلَهُ، فَقَتَلَهُ النَّضْرُ، وَاسْتَعْمَلَ الضَّحَّاكُ عَلَى الْكُوفَةِ الْمُثَنَّى بْنَ عِمْرَانَ الْعَائِذِيَّ. ثُمَّ سَارَ الضَّحَّاكُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَأَقْبَلَ ابْنُ هُبَيْرَةَ حَتَّى نَزَلَ بِعَيْنِ التَّمْرِ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْمُثَنَّى بْنُ عِمْرَانَ فَاقْتَتَلُوا أَيَّامًا، فَقُتِلَ الْمُثَنَّى وَعِدَّةٌ مِنْ قُوَّادِ الضَّحَّاكِ وَانْهَزَمَتِ الْخَوَارِجُ وَمَعَهُمْ مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ، وَأَتَوُا الْكُوفَةَ فَجَمَعُوا مَنْ بِهَا مِنْهُمْ، وَسَارُوا

نَحْوَ ابْنِ هُبَيْرَةَ فَلَقُوهُ، فَقَاتَلَهُمْ أَيَّامًا وَانْهَزَمَتِ الْخَوَارِجُ، وَأَتَى ابْنُ هُبَيْرَةَ إِلَى الْكُوفَةِ وَسَارَ إِلَى وَاسِطَ، وَلَمَّا بَلَغَ الضَّحَّاكَ مَا لَقِيَ أَصْحَابُهُ أَرْسَلَ عُبَيْدَةَ بْنَ سَوَّارٍ التَّغْلِبِيَّ إِلَيْهِمْ فَنَزَلَ الصَّرَاةَ، فَرَجَعَ ابْنُ هُبَيْرَةَ إِلَيْهِمْ فَالْتَقَوْا بِالصَّرَاةِ، وَسَيَرِدُ خَبَرُ خُرُوجِ الضَّحَّاكِ بَعْدَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (الْحَرَشِيُّ: بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ) . ذِكْرُ خُرُوجِ الضَّحَّاكِ مُحَكِّمًا وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الشَّيْبَانِيُّ مُحَكِّمًا وَدَخَلَ الْكُوفَةَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيدَ حِينَ قُتِلَ خَرَجَ بِالْجَزِيرَةِ حَرُورِيٌّ يُقَالُ لَهُ: سَعِيدُ بْنُ بَهْدَلٍ الشَّيْبَانِيُّ فِي مِائَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ فِيهِمُ الضَّحَّاكُ، فَاغْتَنَمَ قَتْلَ الْوَلِيدِ وَاشْتِغَالَ مَرْوَانَ بِالشَّامِ فَخَرَجَ بِأَرْضِ كَفَرْتُوثَا، وَخَرَجَ بِسْطَامٌ الْبَيْهَسِيُّ، وَهُوَ مُفَارِقٌ لِرَأْيِهِ، فِي مِثْلِ عُدَّتِهِمْ مِنْ رَبِيعَةَ، فَسَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، فَلَمَّا تَقَارَبَا أَرْسَلَ سَعِيدُ بْنُ بَهْدَلٍ الْخَيْبَرِيَّ، وَهُوَ أَحَدُ قُوَّادِهِ، فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَارِسًا، فَأَتَاهُمْ وَهُمْ غَارُّونَ، فَقَتَلُوا فِيهِمْ وَقَتَلُوا بِسْطَامًا وَجَمِيعَ مَنْ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، ثُمَّ مَضَى سَعِيدُ بْنُ بَهْدَلٍ إِلَى الْعِرَاقِ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بِهَا، فَمَاتَ سَعِيدُ بْنُ بَهْدَلٍ فِي الطَّرِيقِ وَاسْتَخْلَفَ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، فَبَايَعَهُ الشُّرَاةُ، فَأَتَى أَرْضَ الْمَوْصِلِ ثُمَّ شَهْرَزُورَ، وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ الصُّفْرِيَّةُ حَتَّى صَارَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ. وَهَلَكَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَامِلُهُ عَلَى الْعِرَاقِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَرْوَانُ بِالْحِيرَةِ، فَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى النَّضْرِ بْنِ سَعِيدٍ الْحَرَشِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ قُوَّادِ ابْنِ عُمَرَ، بِوِلَايَةِ الْعِرَاقِ، فَلَمْ يُسَلِّمِ ابْنُ عُمَرَ إِلَيْهِ الْعَمَلَ، فَشَخَصَ النَّضْرُ إِلَى الْكُوفَةِ وَبَقِيَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحِيرَةِ، فَتَحَارَبَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَأَمَدَّ مَرْوَانُ النَّضْرَ بِابْنِ الْغُزَيِّلِ، وَاجْتَمَعَتِ الْمُضَرِيَّةُ مَعَ النَّضْرِ عَصَبِيَّةً لِمَرْوَانَ حَيْثُ طَلَبَ بِدَمِ الْوَلِيدِ، وَكَانَتْ أُمُّ الْوَلِيدِ قَيْسِيَّةً مِنْ مُضَرَ، وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ مَعَ ابْنِ عُمَرَ عَصَبِيَّةً لَهُ، حَيْثُ كَانُوا مَعَ يَزِيدَ فِي قَتْلِ الْوَلِيدِ حِينَ أَسْلَمَ خَالِدًا الْقَسْرِيَّ إِلَى يُوسُفَ فَقَتَلَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ الضَّحَّاكُ بِاخْتِلَافِهِمْ أَقْبَلَ نَحْوَهُمْ وَقَصَدَ الْعِرَاقَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ،

فَأَرْسَلَ [ابْنُ] عُمَرَ إِلَى النَّضْرِ: " إِنَّ هَذَا لَا يُرِيدُ غَيْرِي وَغَيْرَكَ فَهَلُمَّ نَجْتَمِعُ عَلَيْهِ ". فَتَعَاقَدَا عَلَيْهِ وَاجْتَمَعَا بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ. وَأَقْبَلَ الضَّحَّاكُ فَنَزَلَ بِالنُّخَيْلَةِ فِي رَجَبٍ وَاسْتَرَاحَ، ثُمَّ اسْتَعَدُّوا لِلْقِتَالِ يَوْمَ الْخَمِيسِ مِنْ غَدِ يَوْمِ نُزُولِهِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَشَفُوا ابْنَ عُمَرَ وَقَتَلُوا أَخَاهُ عَاصِمًا وَجَعْفَرَ بْنَ الْعَبَّاسِ الْكِنْدِيَّ أَخَا عُبَيْدِ اللَّهِ، وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ خَنْدَقَهُ، وَبَقِيَ الْخَوَارِجُ عَلَيْهِمْ إِلَى اللَّيْلِ ثُمَّ انْصَرَفُوا ثُمَّ اقْتَتَلُوا يَوْمَ الْجُمْعَةِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ عُمَرَ فَدَخَلُوا خَنَادِقَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا يَوْمَ السَّبْتِ تَسَلَّلَ أَصْحَابُهُ نَحْوَ وَاسِطَ، وَرَأَوْا قَوْمًا لَمْ يَرَوْا أَشَدَّ بَأْسًا مِنْهُمْ. وَكَانَ مِمَّنْ لَحِقَ بِوَاسِطَ: النَّضْرُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَرَشِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ أَخُو خَالِدٍ، وَمَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ، وَالْأَصْبَغُ بْنُ ذُؤَالَةَ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْوُجُوهِ، وَبَقِيَ ابْنُ عُمَرَ فِيمَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ لَمْ يَبْرَحْ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: قَدْ هَرَبَ النَّاسُ فَعَلَامَ تُقِيمُ؟ فَبَقِيَ يَوْمَيْنِ لَا يُرَى إِلَّا هَارِبًا، فَرَحَلَ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى وَاسِطَ، وَاسْتَوْلَى الضَّحَّاكُ عَلَى الْكُوفَةِ وَدَخَلَهَا، وَلَمْ يَأْمَنْهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ الْكِنْدِيُّ عَلَى نَفْسِهِ فَصَارَ مَعَ الضَّحَّاكِ وَبَايَعَهُ وَصَارَ فِي عَسْكَرِهِ، فَقَالَ أَبُو عَطَاءٍ السِّنْدِيُّ لَهُ، شِعْرٌ: فَقُلْ لِعُبَيْدِ اللَّهِ لَوْ كَانَ جَعْفَرٌ ... هُوَ الْحَيُّ لَمْ يَجْنَحْ وَأَنْتَ قَتِيلُ وَلَمْ يَتْبَعِ الْمُرَّاقُ وَالثَّارُ فِيهِمُ ... وَفِي كَفِّهِ عَضْبُ الذُّبَابِ صَقِيلُ إِلَى مَعْشَرٍ أَرْدَوْا أَخَاكَ وَأْكَفَرُوا ... أَبَاكَ فَمَاذَا بَعْدَ ذَاكَ تَقُولُ فَلَمَّا بَلَغَ عُبَيْدَ اللَّهِ هَذَا الْبَيْتُ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَطَاءٍ قَالَ: أَقُولُ أَعَضَّكَ [اللَّهُ] بِبَظْرِ أُمِّكَ: فَلَا وَصَلَتْكَ الرِّحْمُ مِنْ ذِي قَرَابَةٍ ... وَطَالِبُ وَتْرٍ وَالذَّلِيلُ ذَلِيلُ تَرَكْتَ أَخَا شَيْبَانَ يَسْلُبُ بَزَّهُ ... وَنَجَّاكَ خَوَّارُ الْعِنَانِ مَطُولُ وَوَصَلَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى وَاسِطَ فَنَزَلَ بِدَارِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ. وَعَادَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَالنَّضْرِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ قُدُومِ الضَّحَّاكِ إِلَى النَّضْرِ يَطْلُبُ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ ابْنُ

عُمَرَ وِلَايَةَ الْعِرَاقِ بِعَهْدِ مَرْوَانَ لَهُ، وَابْنُ عُمَرَ يَمْتَنِعُ، وَسَارَ الضَّحَّاكُ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى وَاسِطَ وَاسْتَخْلَفَ مِلْجَانَ الشَّيْبَانِيَّ، وَنَزَلَ الضَّحَّاكُ بَابَ الْمِضْمَارِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَالنَّضْرُ تَرَكَا الْحَرْبَ بَيْنَهُمَا وَاتَّفَقَا عَلَى قِتَالِ الضَّحَّاكِ، فَلَمْ يَزَالُوا عَلَى ذَلِكَ شَعْبَانَ وَشَهْرَ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ وَالْقِتَالُ بَيْنَهُمْ مُتَوَاصِلٌ. ثُمَّ إِنَّ مَنْصُورَ بْنَ جُمْهُورٍ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَؤُلَاءِ! فَلِمَ تُحَارِبُهُمْ وَتَشْغَلُهُمْ عَنْ مَرْوَانَ؟ أَعْطِهِمُ الرِّضَا وَاجْعَلْهُمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَرْوَانَ فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنَّا إِلَيْهِ وَيُوسِعُونَهُ شَرًّا، فَإِنْ ظَفِرُوا بِهِ كَانَ مَا أَرَدْتَ وَكُنْتَ عِنْدَهُمْ آمِنًا، وَإِنْ ظَفِرَ بِهِمْ وَأَرَدْتَ خِلَافَهُ وَقِتَالَهُ قَاتَلْتَهُ وَأَنْتَ مُسْتَرِيحٌ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا تَعْجَلْ حَتَّى نَنْظُرَ. فَلَحِقَ بِهِمْ مَنْصُورٌ، وَنَادَاهُمْ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسْلِمَ وَأَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ وَهِيَ حُجَّتُهُمْ، فَدَخَلَ إِلَيْهِمْ وَبَايَعَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي شَوَّالٍ فَصَالَحَهُمْ وَبَايَعَ الضَّحَّاكُ وَمَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. ذِكْرُ خَلْعِ أَبِي الْخَطَّارِ أَمِيرَ الْأَنْدَلُسِ وَإِمَارَةِ ثَوَابَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ أَبَا الْخَطَّارِ الْحُسَامَ بْنَ ضِرَارٍ أَمِيرَهُمْ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الْأَنْدَلُسَ أَمِيرًا أَظْهَرَ الْعَصَبِيَّةَ لِلْيَمَانِيَّةِ عَلَى الْمُضَرِيَّةِ، فَاتَّفَقَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَنَّهُ اخْتَصَمَ رَجُلٌ مِنْ كِنَانَةَ وَرَجُلٌ مِنْ غَسَّانَ، فَاسْتَعَانَ الْكِنَانِيُّ بِالصُّمَيْلِ بْنِ حَاتِمِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ الضَّبَابِيِّ، فَكَلَّمَ فِيهِ أَبَا الْخَطَّارِ، فَاسْتَغْلَظَ لَهُ أَبُو الْخَطَّارِ، فَأَجَابَهُ الصُّمَيْلُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُقِيمَ وَضُرِبَ قَفَاهُ، فَمَالَتْ عِمَامَتُهُ، فَلَمَّا خَرَجَ قِيلَ لَهُ: نَرَى عِمَامَتَكَ مَالَتْ! فَقَالَ: إِنْ كَانَ لِي قَوْمٌ فَسَيُقِيمُونَهَا. وَكَانَ الصُّمَيْلُ مِنْ أَشْرَافِ مُضَرَ، فَلَمَّا دَخَلَ الْأَنْدَلُسَ مَعَ بَلْجٍ شَرُفَ فِيهَا بِنَفْسِهِ وَأَوَّلِيَّتِهِ. فَلَمَّا جَرَى لَهُ مَا ذَكَرْنَاهُ جَمَعَ قَوْمَهُ وَأَعْلَمَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ تَبَعٌ لَكَ. فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ أُخْرِجَ أَبَا الْخَطَّارِ مِنَ الْأَنْدَلُسِ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: افْعَلْ وَاسْتَعِنْ بِمَنْ شِئْتَ وَلَا تَسْتَعِنْ بِأَبِي عَطَاءٍ الْقَيْسِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ قَيْسٍ، وَكَانَ يُنَاظِرُ الصُّمَيْلَ فِي

الرِّيَاسَةِ وَيَحْسُدُهُ. وَقَالَ لَهُ غَيْرُهُ: الرَّأْيُ أَنَّكَ تَأْتِي أَبَا عَطَاءٍ وَتَشُدُّ أَمْرَكَ بِهِ فَإِنَّهُ تُحَرِّكُهُ الْحَمِيَّةُ (وَيَنْصُرُكَ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ مَالَ إِلَى أَبِي الْخَطَّارِ وَأَعَانَهُ عَلَيْكَ) لِيَبْلُغَ فِيكَ مَا يُرِيدُ، وَالرَّأْيُ أَيْضًا أَنْ تَسْتَعِينَ عَلَيْهِ بِأَهْلِ الْيَمَنِ فَضْلًا عَنْ مَعَدٍّ. فَفَعَلَ ذَلِكَ وَسَارَ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى أَبِي عَطَاءٍ، وَكَانَ يَسْكُنُ مَدِينَةَ إِسْتِجَةَ، فَعَظَّمَهُ أَبُو عَطَاءٍ وَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ قُدُومِهِ، فَأَعْلَمَهُ، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ حَتَّى قَامَ فَرَكِبَ فَرَسَهُ وَلَبِسَ سِلَاحَهُ وَقَالَ لَهُ: انْهَضِ الْآنَ حَيْثُ شِئْتَ فَأَنَا مَعَكَ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ بِاتِّبَاعِهِ، (فَسَارُوا إِلَى مَرْوَ، وَبِهَا ثَوَابَةُ بْنُ سَلَامَةَ الْحُدَّانِيُّ، وَكَانَ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ) ، وَكَانَ أَبُو الْخَطَّارِ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى إِشْبِيلِيَّةَ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ عَزَلَهُ فَفَسَدَ عَلَيْهِ، فَدَعَاهُ الصُّمَيْلُ إِلَى نَصْرِهِ وَوَعَدَهُ أَنَّهُ إِذَا أَخْرَجُوا أَبَا الْخَطَّارِ صَارَ أَمِيرًا، فَأَجَابَ إِلَى نَصْرِهِ وَدَعَا قَوْمَهُ فَأَجَابُوهُ فَسَارُوا إِلَى شَدُونَةَ. وَسَارَ إِلَيْهِمْ أَبُو الْخَطَّارِ مِنْ قُرْطُبَةَ وَاسْتَخْلَفَ بِهَا إِنْسَانًا، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ وَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى أَبِي الْخَطَّارِ، وَقُتِلَ أَصْحَابُهُ أَشَدَّ قَتْلٍ وَأُسِرَ أَبُو الْخَطَّارِ. وَكَانَ بِقُرْطُبَةَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قَطَنٍ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا خَلِيفَةَ أَبِي الْخَطَّارِ، وَانْتَهَبَ مَا وَجَدَ لَهُمَا فِيهَا. وَلَمَّا انْهَزَمَ أَبُو الْخَطَّارِ سَارَ ثَوَابَةُ بْنُ سَلَامَةَ وَالصُّمَيْلُ إِلَى قُرْطُبَةَ فَمَلَكَاهَا، وَاسْتَقَرَّ ثَوَابَةُ فِي الْإِمَارَةِ، فَثَارَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ الْكَلْبِيُّ، وَأَخْرَجَ أَبَا الْخَطَّارِ مِنَ السِّجْنِ، فَاسْتَجَاشَ الْيَمَانِيَّةَ، فَاجْتَمَعَ لَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأَقْبَلَ بِهِمْ إِلَى قُرْطُبَةَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ ثَوَابَةُ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْيَمَانِيَّةِ وَالْمُضَرِيَّةِ مَعَ الصُّمَيْلِ. فَلَمَّا تَقَاتَلَ الطَّائِفَتَانِ نَادَى رَجُلٌ مِنْ مُضَرَ: يَا مَعْشَرَ الْيَمَانِيَّةِ! مَا بَالُكُمْ تَتَعَرَّضُونَ لِلْحَرْبِ عَلَى أَبِي الْخَطَّارِ وَقَدْ جَعَلْنَا الْأَمِيرَ مِنْكُمْ؟ يَعْنِي ثَوَابَةَ، فَإِنَّهُ مِنَ الْيَمَنِ، وَلَوْ أَنَّ الْأَمِيرَ مِنَّا لَقَدْ كُنْتُمْ تَعْتَذِرُونَ فِي قِتَالِكُمْ لَنَا، وَمَا نَقُولُ هَذَا إِلَّا تَحَرُّجًا مِنَ الدِّمَاءِ وَرَغْبَةً فِي الْعَافِيَةِ لِلْعَامَّةِ. فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ كَلَامَهُ قَالُوا: صَدَقَ وَاللَّهِ، الْأَمِيرُ مِنَّا فَمَا بَالُنَا نُقَاتِلُ قَوْمَنَا؟ فَتَرَكُوا الْقِتَالَ وَافْتَرَقَ النَّاسُ، فَهَرَبَ أَبُو الْخَطَّارِ فَلَحِقَ بِبَاجَةَ، وَرَجَعَ ثَوَابَةُ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْعَسْكَرُ عَسْكَرَ الْعَافِيَةِ.

ذِكْرُ شِيعَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَوَجَّهَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَلَاهِزُ بْنُ قُرَيْظٍ وَقَحْطَبَةُ إِلَى مَكَّةَ، فَلَقُوا إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْإِمَامَ بِهَا وَأَوْصَلُوا إِلَى مَوْلًى لَهُ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَمِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَمِسْكًا وَمَتَاعًا كَثِيرًا، وَكَانَ مَعَهُمْ أَبُو مُسْلِمٍ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِإِبْرَاهِيمَ: هَذَا مَوْلَاكَ. وَفِيهَا كَتَبَ بُكَيْرُ بْنُ مَاهَانَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ أَنَّهُ فِي الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ قَدِ اسْتَخْلَفَ أَبَا سَلَمَةَ حَفْصَ بْنَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ رِضًى لِلْأَمْرِ، فَكَتَبَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِي سَلَمَةَ يَأْمُرُهُ بِالْقِيَامِ بِأَمْرِ أَصْحَابِهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ خُرَاسَانَ (يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ قَدْ أَسْنَدَ) أَمْرَهُمْ إِلَيْهِ، وَمَضَى أَبُو سَلَمَةَ إِلَى خُرَاسَانَ) ، فَصَدَّقُوهُ وَقَبِلُوا أَمْرَهُ، وَدَفَعُوا إِلَيْهِ مَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُمْ مِنْ نَفَقَاتِ الشِّيعَةِ وَخُمُسِ أَمْوَالِهِمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ عَامِلُ مَرْوَانَ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ، وَكَانَ الْعَامِلُ عَلَى الْعِرَاقِ النَّضْرَ بْنَ الْحَرَشِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ ابْنِ عُمَرَ وَالضَّحَّاكِ الْخَارِجِيِّ مَا ذَكَرْنَا. وَكَانَ بِخُرَاسَانَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، وَبِهَا مَنْ يُنَازِعُهُ فِيهَا: الْكَرْمَانِيُّ وَالْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ، وَقِيلَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ، وَعُمُرُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً،

وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مَالِكٍ الْجَزَرِيُّ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَفِيهَا مَاتَ أَبُو حَصِينٍ عُثْمَانُ بْنُ حَصِينٍ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ، (حَصِينٌ: بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَكَسْرِ الصَّادِ) . وَفِيهَا مَاتَ أَبُو إِسْحَاقَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّبِيعِيُّ الْهَمْدَانِيُّ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، وَعُمُرُهُ مِائَةُ سَنَةٍ، السَّبِيعِيُّ بِفَتْحِ السِّينِ، وَكَسْرِ الْبَاءِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، (وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ) . وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ الْأَزْدِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، وَاسْمُ أَبِي هِنْدٍ دِينَارٌ مَوْلَى بَنِي قُشَيْرٍ أَبُو مُحَمَّدٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَحْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ [أَبِي] إِسْحَاقَ مَوْلَى الْحَضْرَمِيِّ، وَكَانَ إِمَامًا فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، تَعَلَّمَ ذَلِكَ مِنْ يَحْيَى بْنِ النُّعْمَانِ، وَكَانَ يَعِيبُ الْفَرَزْدَقَ فِي شِعْرِهِ وَيَنْسُبُهُ إِلَى اللَّحْنِ، فَهَجَاهُ الْفَرَزْدَقُ يَقُولُ: فَلَوْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ مَوْلًى هَجَوْتُهُ ... وَلَكِنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَوْلًى مُوَالِيَا فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَقَدْ لَحَنْتَ أَيْضًا فِي قَوْلِكَ مُوَالِيَا، يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ: مَوْلًى مُوَالٍ.

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَة] 128 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَغَلَبَةُ الْكَرْمَانِيِّ عَلَى مَرْوَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَمَانِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ لِلْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ وَعَوْدِهِ مِنْ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَصْرٍ مِنَ الِاخْتِلَافِ. فَلَمَّا وَلِيَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْعِرَاقَ كَتَبَ إِلَى نَصْرٍ بِعَهْدِهِ عَلَى خُرَاسَانَ فَبَايَعَ لِمَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ الْحَارِثُ: إِنَّمَا آمَنَنِي يَزِيدُ وَلَمْ يَؤَمِّنِّي مَرْوَانُ، وَلَا يُجِيزُ مَرْوَانُ أَمَانَ يَزِيدَ، فَلَا آمَنُهُ. فَخَالَفَ نَصْرًا. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ نَصْرٌ يَدْعُوهُ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَيَنْهَاهُ عَنِ الْفُرْقَةِ وَإِطْمَاعِ الْعَدُوِّ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى مَا أَرَادَ وَخَرَجَ فَعَسْكَرَ، وَأَرْسَلَ إِلَى نَصْرٍ: اجْعَلِ الْأَمْرَ شُورَى، فَأَبَى نَصْرٌ، وَأَمَرَ الْحَارِثُ جَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ، رَأْسَ الْجَهْمِيَّةِ، وَهُوَ مَوْلَى رَاسِبٍ، أَنْ يَقْرَأَ سِيرَتَهُ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ عَلَى النَّاسِ. فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ كَثُرُوا وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَأَرْسَلَ الْحَارِثُ إِلَى نَصْرٍ لِيَعْزِلَ سَالِمَ بْنَ أَحْوَزَ عَنْ شُرْطَتِهِ، وَيُغَيِّرَ عُمَّالَهُ، وَيُقِرَّ الْأَمْرَ بَيْنَهُمَا أَنْ يَخْتَارُوا رِجَالًا يُسَمُّونَ لَهُمْ قَوْمًا يَعْمَلُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَاخْتَارَ نَصْرٌ مُقَاتِلَ بْنَ سُلَيْمَانَ وَمُقَاتِلَ بْنَ حَيَّانَ، وَاخْتَارَ الْحَارِثُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ الْجَهْضَمِيَّ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلَةَ، وَأَمَرَ نَصْرٌ كَاتِبَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَا يُرْضِي هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ مِنَ السُّنَنِ، وَمَا يَخْتَارُونَهُ مِنَ الْعُمَّالِ، فَيُوَلِّيَهُمْ ثَغْرَ سَمَرْقَنْدَ وَطَخَارِسْتَانَ. وَكَانَ الْحَارِثُ يُظْهِرُ أَنَّهُ صَاحِبُ الرَّايَاتِ السُّودِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ نَصْرٌ: إِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكُمْ تَهْدِمُونَ سُورَ دِمَشْقَ، وَتُزِيلُونَ مُلْكَ بَنِي أُمَيَّةَ فَخُذْ مِنِّي خَمْسَمِائَةِ رَأْسٍ وَمِائَتَيْ بَعِيرٍ وَاحْمِلْ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا شِئْتَ وَآلَةَ الْحَرْبِ وَسِرْ، فَلَعَمْرِي لَئِنْ كُنْتَ صَاحِبَ مَا ذَكَرْتَ إِنِّي لَفِي يَدِكَ، وَإِنْ كُنْتَ لَسْتَ ذَلِكَ فَقَدْ أَهْلَكْتَ عَشِيرَتَكَ. فَقَالَ الْحَارِثُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا حَقٌّ، وَلَكِنْ لَا يُبَايِعُنِي عَلَيْهِ مَنْ صَحِبَنِي. فَقَالَ نَصْرٌ: فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى رَأْيِكَ، فَاذْكُرِ اللَّهَ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا مِنْ رَبِيعَةَ وَالْيَمَنِ يَهْلِكُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ. وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَلِّيَهُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَيُعْطِيَهُ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمْ

يَقْبَلُ، (فَقَالَ لَهُ نَصْرٌ: فَابْدَأْ بِالْكَرْمَانِيِّ فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَأَنَا فِي طَاعَتِكَ. فَلَمْ يَقْبَلْ) . ثُمَّ تَرَاضَيَا بِأَنْ حَكَّمَا جَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ وَمُقَاتِلَ بْنَ حَيَّانَ، فَحَكَمَا بِأَنْ يَعْتَزِلَ نَصْرٌ، وَأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ شُورَى، فَلَمْ يَقْبَلْ نَصْرٌ. فَخَالَفَهُ الْحَارِثُ وَاتَّهَمَ نَصْرٌ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَاتَبُوا الْحَارِثَ فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ فَقَبِلَ عُذْرَهُمْ. وَقَدِمَ عَلَيْهِ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ حِينَ سَمِعُوا بِالْفِتْنَةِ، مِنْهُمْ: عَاصِمُ بْنُ عُمَيْرٍ الصُّرَيْمِيُّ، وَأَبُو الذَّيَّالِ النَّاجِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُمْ، وَأَمَرَ الْحَارِثُ أَنْ تُقْرَأَ سِيرَتُهُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَسَاجِدِ وَعَلَى بَابِ نَصْرٍ، فَقُرِئَتْ، فَأَتَاهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَرَأَهَا رَجُلٌ عَلَى بَابِ نَصْرٍ، فَضَرَبَهُ غِلْمَانُ نَصْرٍ، فَنَابَذَهُمُ الْحَارِثُ وَتَجَهَّزُوا لِلْحَرْبِ، وَدَلَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَرْوَ الْحَارِثَ عَلَى نَقْبٍ فِي سُورِهَا، فَمَضَى الْحَارِثُ إِلَيْهِ فَنَقَبَهُ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ مِنْ نَاحِيَةِ بَابِ بَالِينَ، فَقَاتَلَهُمْ جَهْمُ بْنُ مَسْعُودٍ النَّاجِيُّ فَقُتِلَ جَهْمٌ، (وَانْتَهَبُوا مَنْزِلَ سَالِمِ بْنِ أَحْوَزَ) وَقَتَلُوا مَنْ كَانَ يَحْرُسُ بَابَ بَالِينَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَعَدَلَ الْحَارِثُ فِي سِكَّةِ السُّغْدِ، فَرَأَى أَعْيَنَ مَوْلَى حَيَّانَ، فَقَاتَلَهُ فَقُتِلَ أَعْيَنُ. وَرَكِبَ سَالِمٌ حِينَ أَصْبَحَ وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ. فَلَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ حَتَّى انْهَزَمَ الْحَارِثُ وَقَاتَلَهُمُ اللَّيْلَ كُلَّهُ، وَأَتَى سَالِمٌ عَسْكَرَ الْحَارِثِ فَقَتَلَ كَاتِبَهُ، وَاسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ دَاوُدَ، وَقَتَلَ الرَّجُلَ الَّذِي دَلَّ الْحَارِثَ عَلَى النَّقْبِ. وَأَرْسَلَ نَصْرٌ إِلَى الْكَرْمَانِيِّ، فَأَتَاهُ عَلَى عَهْدٍ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ، فَوَقَعَ بَيْنَ سَالِمِ بْنِ أَحْوَزَ وَمِقْدَامِ بْنِ نُعَيْمٍ كَلَامٌ، فَأَغْلَظَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، فَأَعَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفَرٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ، فَخَافَ الْكَرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ مَكْرًا مِنْ نَصْرٍ فَقَامَ وَتَعَلَّقُوا بِهِ فَلَمْ يَجْلِسْ، وَرَكِبَ فَرَسَهُ وَرَجَعَ وَقَالَ: أَرَادَ نَصْرٌ الْغَدْرَ بِي. وَأُسِرَ يَوْمَئِذٍ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، وَكَانَ مَعَ الْكَرْمَانِيِّ، فَقُتِلَ، وَأَرْسَلَ الْحَارِثُ ابْنَهُ حَاتِمًا إِلَى الْكَرْمَانِيِّ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى: هُمَا عَدُوَّاكَ دَعْهُمَا يَضْطَرِبَانِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَكِبَ الْكَرْمَانِيُّ إِلَى بَابِ مَيْدَانِ يَزِيدَ فَقَاتَلَ أَصْحَابَ نَصْرٍ، وَأَقْبَلَ الْكَرْمَانِيُّ إِلَى بَابِ حَرْبِ بْنِ عَامِرٍ وَوَجَّهَ أَصْحَابَهُ إِلَى نَصْرٍ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَتَرَامَوْا ثُمَّ تَحَاجَزُوا، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ قِتَالٌ، وَالْتَقَوْا يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَانْهَزَمَتِ الْأَزْدُ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى الْكَرْمَانِيِّ،

فَأَخَذَ اللِّوَاءَ بِيَدِهِ فَقَاتَلَ بِهِ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ نَصْرٍ وَأَخَذُوا لَهُمْ ثَمَانِينَ فَرَسًا، وَصُرِعَ تَمِيمُ بْنُ نَصْرٍ وَأَخَذُوا لَهُ بِرْذَوْنَيْنِ، وَسَقَطَ سَالِمُ بْنُ أَحْوَزَ فَحُمِلَ إِلَى عَسْكَرِ نَصْرٍ. فَلَمَّا كَانَ بَعْضُ اللَّيْلِ خَرَجَ نَصْرٌ مِنْ مَرْوَ، وَقُتِلَ عِصْمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيُّ، فَكَانَ يَحْمِي أَصْحَابَ نَصْرٍ، وَاقْتَتَلُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْكَرْمَانِيِّ فِي آخِرِ يَوْمٍ، وَهُمُ الْأَزْدُ وَرَبِيعَةُ، فَنَادَى الْخَلِيلُ بْنُ غَزْوَانَ: يَا مَعْشَرَ رَبِيعَةَ وَالْيَمَنِ قَدْ دَخَلَ الْحَارِثُ السُّوقَ وَقَتَلَ ابْنَ الْأَقْطَعِ! يَعْنِي نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ، فَفَتَّ فِي أَعْضَادِ الْمُضَرِيَّةِ، وَهُمْ أَصْحَابُ نَصْرٍ، فَانْهَزَمُوا، وَتَرَجَّلَ تَمِيمُ بْنُ نَصْرٍ فَقَاتَلَ. فَلَمَّا هَزَمَتِ الْيَمَانِيَّةُ مُضَرًا أَرْسَلَ الْحَارِثُ إِلَى نَصْرٍ: إِنَّ الْيَمَانِيَّةَ يُعَيِّرُونَنِي بِانْهِزَامِكُمْ وَأَنَا كَافٌّ، فَاجْعَلْ حُمَاةَ أَصْحَابِكَ بِإِزَاءِ الْكَرْمَانِيِّ. فَأَخَذَ عَلَيْهِ نَصْرٌ الْعُهُودَ بِذَلِكَ. وَقَدِمَ عَلَى نَصْرٍ عَبْدُ الْحَكِيمِ بْنُ سَعِيدٍ الْعَوْذِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ عِيسَى بْنُ جُرْزٍ مِنْ مَكَّةَ، فَقَالَ نَصْرٌ لِعَبْدِ الْحَكِيمِ الْعَوْذِيِّ، وَهُمْ بَطْنٌ مِنَ الْأَزْدِ: أَمَا تَرَى مَا فَعَلَ سُفَهَاءُ قَوْمِكَ؟ فَقَالَ: بَلْ سُفَهَاءُ قَوْمِكَ طَالَتْ وِلَايَتُهَا بِوِلَايَتِكَ [وَصَيَّرْتَ الْوِلَايَةَ لِقَوْمِكَ] دُونَ رَبِيعَةَ وَالْيَمَنِ فَبَطِرُوا، وَفِي رَبِيعَةَ وَالْيَمَنِ عُلَمَاءُ وَسُفَهَاءُ، فَغَلَبَ السُّفَهَاءُ الْعُلَمَاءَ. فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عِيسَى لِنَصْرٍ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ حَسْبُكَ مِنِ الْوِلَايَةِ وَهَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، سَيَقُومُ رَجُلٌ مَجْهُولُ النَّسَبِ يُظْهِرُ السَّوَادَ، وَيَدْعُو إِلَى دَوْلَةٍ تَكُونُ، فَيَغْلِبُ عَلَى الْأَمْرِ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. فَقَالَ نَصْرٌ: مَا أَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ كَمَا تَقُولُ لِقِلَّةِ الْوَفَاءِ وَسُوءِ ذَاتِ الْبَيْنِ! فَقَالَ: إِنَّ الْحَارِثَ مَقْتُولٌ مَصْلُوبٌ، وَمَا الْكَرْمَانِيُّ مِنْ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ. فَلَمَّا خَرَجَ نَصْرٌ مِنْ مَرْوَ غَلَبَ عَلَيْهَا الْكَرْمَانِيُّ، وَخَطَبَ النَّاسَ فَآمَنَهُمْ، وَهَدَمَ الدُّورَ وَنَهَبَ الْأَمْوَالَ، فَأَنْكَرَ الْحَارِثُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَهَمَّ الْكَرْمَانِيُّ بِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ. وَاعْتَزَلَ بِشْرُ بْنُ جُرْمُوزٍ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ وَقَالَ لِلْحَارِثِ: إِنَّمَا قَاتَلْتُ مَعَكَ طَلَبَ الْعَدْلِ، فَأَمَّا إِذْ كُنْتَ مَعَ الْكَرْمَانِيِّ فَمَا تُقَاتِلُ إِلَّا لِيُقَالَ غَلَبَ الْحَارِثُ، وَهَؤُلَاءِ يُقَاتِلُونَ عَصَبِيَّةً، فَلَسْتُ مُقَاتِلًا مَعَكَ، فَنَحْنُ الْفِئَةُ الْعَادِلَةُ لَا نُقَاتِلُ إِلَّا مَنْ يُقَاتِلُنَا.

وَأَتَى الْحَارِثُ مَسْجِدَ عِيَاضٍ وَأَرْسَلَ إِلَى الْكَرْمَانِيِّ يَدْعُوهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ شُورَى، فَأَبَى الْكَرْمَانِيُّ، فَانْتَقَلَ الْحَارِثُ عَنْهُ وَأَقَامُوا أَيَّامًا. ثُمَّ إِنَّ الْحَارِثَ أَتَى السُّورَ فَثَلَمَ فِيهِ ثُلْمَةً وَدَخَلَ الْبَلَدَ، وَأَتَى الْكَرْمَانِيَّ فَاقْتَتَلُوا فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَانْهَزَمَ الْحَارِثُ وَقَتَلُوا مَا بَيْنَ الثُّلْمَةِ وَعَسْكَرِهِمْ وَالْحَارِثُ عَلَى بَغْلٍ، فَنَزَلَ عَنْهُ وَرَكِبَ فَرَسًا وَبَقِيَ فِي مِائَةٍ، فَقُتِلَ عِنْدَ شَجَرَةِ زَيْتُونٍ أَوْ غُبَيْرَاءَ، وَقُتِلَ أَخُوهُ سَوَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ الْكَرْمَانِيَّ خَرَجَ إِلَى بِشْرِ بْنِ جُرْمُوزٍ، الَّذِي ذَكَرْنَا اعْتِزَالَهُ، وَمَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ، فَأَقَامَ الْكَرْمَانِيُّ أَيَّامًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَسْكَرِ بِشْرٍ فَرْسَخَانِ، ثُمَّ قَرُبَ مِنْهُ لِيُقَاتِلَهُ، فَنَدِمَ الْحَارِثُ عَلَى اتِّبَاعِ الْكَرْمَانِيِّ وَقَالَ: لَا تَعْجَلْ إِلَى قِتَالِهِمْ فَأَنَا أَرُدُّهُمْ عَلَيْكَ. فَخَرَجَ فِي عَشَرَةِ فَوَارِسَ، فَأَتَى عَسْكَرَ بِشْرٍ فَأَقَامَ مَعَهُمْ، وَخَرَجَ الْمُضَرِيَّةُ أَصْحَابُ الْحَارِثِ مِنْ عَسْكَرِ الْكَرْمَانِيِّ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْكَرْمَانِيِّ مُضَرِيٌّ غَيْرُ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَمْ أَرَ الْحَارِثَ إِلَّا غَادِرًا. وَغَيْرُ الْمُهَلَّبِ بْنِ إِيَاسٍ فَإِنَّهُ قَالَ: لَمْ أَرَ الْحَارِثَ قَطُّ إِلَّا فِي خَيْلٍ تُطْرَدُ، فَقَاتَلَهُمُ الْكَرْمَانِيُّ مِرَارًا، يَقْتَتِلُونَ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى خَنَادِقِهِمْ، مَرَّةً لِهَؤُلَاءِ وَمَرَّةً لِهَؤُلَاءِ. ثُمَّ إِنَّ الْحَارِثَ ارْتَحَلَ بَعْدَ أَيَّامٍ فَنَقَبَ سُورَ مَرْوَ وَدَخَلَهَا، وَتَبِعَهُ الْكَرْمَانِيُّ فَدَخَلَهَا أَيْضًا، فَقَالَتِ الْمُضَرِيَّةُ لِلْحَارِثِ: تَرَكْنَا الْخَنَادِقَ فَهُوَ يَوْمُنَا، وَقَدْ فَرَرْتَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَتَرَجَّلْ. فَقَالَ: أَنَا لَكُمْ فَارِسًا خَيْرٌ مِنِّي لَكُمْ رَاجِلًا. فَقَالُوا: لَا نَرْضَى إِلَّا أَنْ تَتَرَجَّلَ، وَتَرَجَّلَ فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالْكَرْمَانِيُّ، فَقُتِلَ الْحَارِثُ وَأَخُوهُ بِشْرُ بْنُ جُرْمُوزَ وَعِدَّةٌ مِنْ فُرْسَانِ تَمِيمٍ وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ وَصَفَتْ مَرْوُ لِلْيَمَنِ، فَهَدَمُوا دُورَ الْمُضَرِيَّةِ، فَقَالَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ لِلْحَارِثِ حِينَ قُتِلَ، شِعْرٌ: يَا مُدْخِلَ الذُّلِّ عَلَى قَوْمِهِ ... بُعْدًا وَسُحْقًا لَكَ مِنْ هَالِكِ شُؤْمُكُ أَرْدَى مُضَرًا كُلَّهَا ... وَحَزَّ مِنْ قَوْمِكَ بِالْحَارِكِ مَا كَانَتِ الْأَزْدُ وَأَشْيَاعُهَا ... تَطْمَعُ فِي عَمْرٍو وَلَا مَالِكِ وَلَا بَنِي سَعْدٍ إِذَا أَلْجَمُوا ... كُلَّ طِمِرٍّ لَوْنُهُ حَالِكِ

عَمْرٌو وَمَالِكٌ وَسَعْدٌ: بُطُونٌ مِنْ تَمِيمٍ. وَقِيلَ: بَلْ قَالَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ نَصْرٌ لِعُثْمَانَ بْنِ صَدَقَةَ، وَقَالَتْ أُمُّ كَثِيرٍ الضَّبِّيَّةُ، شِعْرٌ: لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي أُنْثَى وَعَذَّبَهَا ... تَزَوَّجَتْ مُضَرِيًّا آخِرَ الدَّهْرِ أَبْلِغْ رِجَالَ تَمِيمٍ قَوْلَ مُوجَعَةٍ ... أَحْلَلْتُمُوهَا بِدَارِ الذُّلِّ وَالْفَقْرِ إِنْ أَنْتُمُ لَمْ تَكِرُّوا بَعْدَ جَوْلَتِكُمْ ... حَتَّى تُعِيدُوا رِجَالَ الْأَزْدِ فِي الظُّهْرِ إِنِّي اسْتَحَيْتُ لَكُمْ مِنْ بَعْدِ طَاعَتِكُمْ ... هَذَا الْمَزُونِيَّ يَجْبِيكُمْ عَلَى قَهْرِ ذِكْرُ شِيعَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ إِبْرَاهِيمُ الْإِمَامُ أَبَا مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيَّ، وَاسْمَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُسْلِمٍ، إِلَى خُرَاسَانَ، وَعُمْرُهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَتَبَ إِلَى أَصْحَابِهِ: إِنِّي قَدْ أَمَرْتُهُ بِأَمْرِي فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، فَإِنِّي قَدْ أَمَّرْتُهُ عَلَى خُرَاسَانَ وَمَا غَلَبَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. فَأَتَاهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا قَوْلَهُ وَخَرَجُوا مِنْ قَابِلٍ فَالْتَقَوْا بِمَكَّةَ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ، فَأَعْلَمَهُ أَبُو مُسْلِمٍ أَنَّهُمْ لَمْ يُنْفِذُوا كِتَابَهُ وَأَمْرَهُ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: قَدْ عَرَضْتُ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ وَأَبَوْهُ عَلَيَّ. وَكَانَ قَدْ عَرَضَهُ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ، فَقَالَ: لَا أَلِي عَلَى اثْنَيْنِ أَبَدًا. ثُمَّ عَرَضَهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَلَمَةَ فَأَبَى، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ رَأْيَهُ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ، وَأَمَرَهُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ رَجُلٌ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ، احْفَظْ وَصِيَّتِي، انْظُرْ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْيَمَنِ فَالْزَمْهُمْ وَاسْكُنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُتِمُّ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا بِهِمْ، فَاتَّهِمْ رَبِيعَةَ فِي أَمْرِهُمْ، وَأَمَا مُضَرُ فَإِنَّهُمُ الْعَدُوُّ الْقَرِيبُ الدَّارِ، وَاقْتُلْ مَنْ شَكَكْتَ فِيهِ، وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تَدَعَ بِخُرَاسَانَ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَافْعَلْ، وَأَيُّمَا غُلَامٍ بَلَغَ خَمْسَةَ أَشْبَارٍ تَتَّهِمُهُ فَاقْتُلْهُ، وَلَا تُخَالِفْ هَذَا الشَّيْخَ، يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ، وَلَا تَعْصِهِ، وَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ أَمْرٌ فَاكْتَفِ بِهِ مِنِّي.

وَسَيَرِدُ مِنْ خَبَرِ أَبِي مُسْلِمٍ غَيْرُ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ قَتْلِ الضَّحَّاكِ الْخَارِجِيِّ قَدْ ذَكَرْنَا مُحَاصَرَةَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ الْخَارِجِيِّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِوَاسِطَ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ الْحِصَارُ أُشِيرَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ إِلَى مَرْوَانَ، فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ إِلَيْهِ: إِنَّ مُقَامَكُمْ عَلَيَّ لَيْسَ بِشَيْءٍ، هَذَا مَرْوَانُ فَسِرْ إِلَيْهِ فَإِنْ قَاتَلْتَهُ فَأَنَا مَعَكَ. فَصَالَحَهُ وَخَرَجَ إِلَيْهِ وَصَلَّى خَلْفَهُ، فَانْصَرَفَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَأَقَامَ ابْنُ عُمَرَ بِوَاسِطَ، وَكَاتَبَ أَهْلُ الْمَوْصِلِ الضَّحَّاكَ لِيَقْدَمَ عَلَيْهِمْ لِيُمَكِّنُوهُ مِنْهَا، فَسَارَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ جُنُودِهِ بَعْدَ عِشْرِينَ شَهْرًا حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهَا، وَعَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ لِمَرْوَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ يُقَالُ لَهُ الْقَطِرَانُ بْنُ أَكْمَهَ، فَفَتَحَ أَهْلُ الْمَوْصِلِ الْبَلَدَ، فَدَخَلَهُ الضَّحَّاكُ وَقَاتَلَهُمُ الْقَطِرَانُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَهُمْ عِدَّةٌ يَسِيرَةٌ حَتَّى قُتِلُوا، وَاسْتَوْلَى الضَّحَّاكُ عَلَى الْمَوْصِلِ وَكُوَرِهَا. وَبَلَغَ مَرْوَانَ خَبَرُهُ وَهُوَ مُحَاصِرٌ حِمْصَ مُشْتَغِلٌ بِقِتَالِ أَهْلِهَا، فَكَتَبَ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ خَلِيفَتُهُ بِالْجَزِيرَةِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى نَصِيبِينَ فِيمَنْ مَعَهُ يَمْنَعُ الضَّحَّاكَ عَنْ تَوَسُّطِ الْجَزِيرَةِ، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي سَبْعَةِ آلَافٍ أَوْ ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، وَسَارَ الضَّحَّاكُ إِلَى نَصِيبِينَ فَحَصَرَ عَبْدَ اللَّهِ فِيهَا، وَكَانَ مَعَ الضَّحَّاكِ مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ، وَوَجَّهَ قَائِدَيْنِ مِنْ قُوَّادِهِ إِلَى الرَّقَّةِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ أَوْ خَمْسَةِ آلَافٍ، فَقَاتَلَهُ مَنْ بِهَا، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ مَرْوَانُ مَنْ رَحَّلَهُمْ عَنْهَا. ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ سَارَ إِلَى الضَّحَّاكِ فَالْتَقَوْا بِنَوَاحِي كَفَرْتُوثَا مِنْ أَعْمَالِ مَارْدِينَ فَقَاتَلَهُ يَوْمَهُ أَجْمَعَ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْمَسَاءِ تَرَجَّلَ الضَّحَّاكُ وَمَعَهُ مِنْ ذَوِي الثَّبَاتِ وَأَرْبَابِ الْبَصَائِرِ نَحْوٌ مِنْ سِتَّةِ آلَافٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَكْثَرُ أَهْلِ عَسْكَرِهِ بِمَا كَانَ، فَأَحْدَقَتْ بِهِمْ خُيُولُ مَرْوَانَ وَأَلَحُّوا عَلَيْهِمِ فِي الْقِتَالِ حَتَّى قَتَلُوهُمْ عِنْدَ الْعَتَمَةِ، وَانْصَرَفَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ الضَّحَّاكِ عِنْدَ الْعَتَمَةِ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِقَتْلِ الضَّحَّاكِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ مَرْوَانُ أَيْضًا. وَجَاءَ بَعْضُ مَنْ عَايَنَهُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ، فَبَكَوْا وَنَاحُوا عَلَيْهِ، وَخَرَجَ قَائِدٌ مِنْ قُوَّادِهِ إِلَى مَرْوَانَ فَأَخْبَرَهُ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ النِّيرَانَ وَالشَّمْعَ فَطَافُوا عَلَيْهِ فَوَجَدُوهُ قَتِيلًا وَفِي وَجْهِهِ وَفِي رَأْسِهِ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ ضَرْبَةً، فَكَبَّرُوا، فَعَرَفَ عَسْكَرُ الضَّحَّاكِ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا بِقَتْلِهِ، وَبَعَثَ مَرْوَانُ رَأْسَهُ إِلَى مَدَائِنِ الْجَزِيرَةِ فَطِيفَ بِهِ فِيهَا.

وَقِيلَ: إِنَّ الضَّحَّاكَ وَالْخَيْبَرِيَّ إِنَّمَا قُتِلَا سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ. ذِكْرُ قَتْلِ الْخَيْبَرِيِّ وَوِلَايَةِ شَيْبَانَ وَلَمَّا قُتِلَ الضَّحَّاكُ أَصْبَحَ أَهْلُ عَسْكَرِهِ فَبَايَعُوا الْخَيْبَرِيَّ، وَأَقَامُوا يَوْمَئِذٍ وَغَادَوْهُ الْقِتَالَ مِنْ بَعْدِ الْغَدِ، وَصَافُّوهُ وَصَافَّهُمْ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَعَ الْخَيْبَرِيِّ، وَكَانَ قَبْلَهُ مَعَ الضَّحَّاكِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ قُدُومِهِ. وَقِيلَ: بَلْ قَدِمَ عَلَى الضَّحَّاكِ وَهُوَ بِنَصِيبِينَ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَمَوَالِيهِ، فَتَزَوَّجَ أُخْتَ شَيْبَانَ الْحَرُورِيِّ الَّذِي بُويِعَ بَعْدَ قَتْلِ الْخَيْبَرِيِّ، فَحَمَلَ الْخَيْبَرِيُّ عَلَى مَرْوَانَ فِي نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ فَارِسٍ مِنَ الشُّرَاةِ، فَهَزَمَ مَرْوَانَ، وَهُوَ فِي الْقَلْبِ، وَخَرَجَ مَرْوَانُ مِنَ الْعَسْكَرِ مُنْهَزِمًا، وَدَخَلَ الْخَيْبَرِيُّ وَمَنْ مَعَهُ عَسْكَرَهُ يُنَادُونَ بِشِعَارِهِمْ وَيَقْتُلُونَ مَنْ أَدْرَكُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى خَيْمَةِ مَرْوَانَ نَفْسِهِ فَقَطَعُوا أَطْنَابَهَا، وَجَلَسَ الْخَيْبَرِيُّ عَلَى فَرْشِهِ. وَمَيْمَنَةُ مَرْوَانَ وَعَلَيْهَا ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ ثَابِتَةٌ، وَمَيْسَرَتُهُ ثَابِتَةٌ، وَعَلَيْهَا إِسْحَاقُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعَقِيلِيُّ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْعَسْكَرِ قِلَّةَ مَنْ مَعَ الْخَيْبَرِيِّ ثَارَ إِلَيْهِ عَبِيدُهُمْ بِعُمُدِ الْخِيَمِ فَقَتَلُوا الْخَيْبَرِيَّ وَأَصْحَابَهُ جَمِيعًا فِي خَيْمَةِ مَرْوَانَ وَحَوْلَهَا. وَبَلَغَ مَرْوَانَ الْخَبَرُ وَقَدْ جَازَ الْعَسْكَرُ بِخَمْسَةِ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٍ مُنْهَزِمًا، فَانْصَرَفَ إِلَى عَسْكَرِهِ وَرَدَّ خُيُولَهُ عَنْ مَوَاقِعِهَا وَبَاتَ لَيْلَتَهُ فِي عَسْكَرِهِ، وَانْصَرَفَ أَهْلُ عَسْكَرِ الْخَيْبَرِيِّ فَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ شَيْبَانَ وَبَايَعُوهُ، فَقَاتَلَهُمْ مَرْوَانُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْكَرَادِيسِ، وَأَبْطَلَ الصَّفَّ مُنْذُ يَوْمِئِذٍ. ذِكْرُ خَبَرِ أَبِي حَمْزَةَ الْخَارِجِيِّ مَعَ طَالِبِ الْحَقِّ كَانَ اسْمُ أَبِي حَمْزَةَ الْخَارِجِيِّ الْمُخْتَارَ بْنَ عَوْفٍ الْأَزْدِيَّ السُّلَمِيَّ الْبَصْرِيَّ، وَكَانَ أَوَّلُ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْخَوَارِجِ الْإِبَاضِيَّةِ، يُوَافِي كُلَّ سَنَةٍ مَكَّةَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى خِلَافِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى وَافَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَحْيَى الْمَعْرُوفَ بِطَالِبِ الْحَقِّ فِي آخِرِ سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَجُلُ أَسْمَعُ كَلَامًا حَسَنًا، وَأَرَاكَ تَدْعُو إِلَى حَقٍّ، فَانْطَلِقْ مَعِي فَإِنِّي رَجُلٌ مُطَاعٌ فِي قَوْمِهِ.

فَخَرَجَ حَتَّى وَرَدَ حَضْرَمَوْتَ، فَبَايَعَهُ أَبُو حَمْزَةَ عَلَى الْخِلَافَةِ، دَعَا إِلَى خِلَافِ مَرْوَانَ وَآلِ مَرْوَانَ. وَكَانَ أَبُو حَمْزَةَ اجْتَازَ مَرَّةً بِمَعْدِنِ بَنِي سُلَيْمٍ، وَالْعَامِلُ عَلَيْهِ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَمِعَ كَلَامَ أَبِي حَمْزَةَ فَجَلَدَهُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا، فَلَمَّا مَلَكَ أَبُو حَمْزَةَ الْمَدِينَةَ وَافْتَتَحَهَا تَغَيَّبَ كَثِيرٌ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا كَانَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ مَرْوَانُ يَزِيدَ بْنَ هُبَيْرَةَ إِلَى الْعِرَاقِ لِقِتَالِ مَنْ بِهِ مِنَ الْخَوَارِجِ فِي قَوْلٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ عَامِلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَكَانَ بِالْعِرَاقِ عُمَّالُ الضَّحَّاكِ الْخَارِجِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ: ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، وَبِخُرَاسَانَ: نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، وَالْفِتْنَةُ بِهَا قَائِمَةٌ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ صَاحِبُ الْقِرَاءَاتِ. وَيَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ الثَّقَفِيُّ الْمَدَنِيُّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ، وَكَانَ مِنْ غُلَاةِ الشِّيعَةِ يَقُولُ بِالرَّجْعَةِ. وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ تَدْرُسَ أَبُو الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ.

وَجَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ. وَأَبُو قَبِيلٍ الْمَعَافِرِيُّ، وَاسْمُهُ حُيَيُّ بْنُ هَانِئٍ الْمُضَرِيُّ، (قَبِيلٌ: بِفَتْحِ الْقَافِ، وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) . وَسَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ الثَّوْرِيُّ وَالِدُ سُفْيَانَ، وَكَانَ ثِقَةً فِي الْحَدِيثِ.

ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَة] 129 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ شَيْبَانَ الْحَرُورِيِّ إِلَى أَنْ قُتِلَ وَهُوَ شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبُو الدُّلَفِ الْيَشْكُرِيُّ. وَكَانَ سَبَبُ هَلَاكِهِ أَنَّ الْخَوَارِجَ لَمَّا بَايَعُوهُ بَعْدَ قَتْلِ الْخَيْبَرِيِّ أَقَامَ يُقَاتِلُ مَرْوَانَ، وَتَفَرَّقَ عَنْ شَيْبَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الطَّمَعِ، فَبَقِيَ فِي نَحْوِ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ أَنْ يَنْصَرِفُوا إِلَى الْمَوْصِلِ فَيَجْعَلُوهَا ظَهْرَهُمْ، فَارْتَحَلُوا وَتَبِعَهُمْ مَرْوَانُ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْمَوْصِلِ، فَعَسْكَرُوا شَرْقِيَّ دِجْلَةَ وَعَقَدُوا جُسُورًا عَلَيْهَا مِنْ عَسْكَرِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَتْ مِيرَتُهُمْ وَمَرَافِقُهُمْ مِنْهَا، وَخَنْدَقَ مَرْوَانُ بِإِزَائِهِمْ، وَكَانَ الْخَوَارِجُ قَدْ نَزَلُوا بِالْكَارِ وَمَرْوَانُ بِخُصَّةَ، وَكَانَ أَهْلُ الْمَوْصِلِ يُقَاتِلُونَ مَعَ الْخَوَارِجِ، فَأَقَامَ مَرْوَانُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يُقَاتِلُهُمْ، وَقِيلَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ. وَأُتِيَ مَرْوَانُ بِابْنِ أَخٍ لِسُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ يُقَالُ لَهُ أُمَيَّةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ، وَكَانَ مَعَ عَمِّهِ سُلَيْمَانَ فِي عَسْكَرِ شَيْبَانَ أَسِيرًا، فَقَطَعَ يَدَيْهِ وَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَعَمُّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ. وَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ مِنْ قَرْقِيسِيَا بِجَمِيعِ مَنْ مَعَهُ إِلَى الْعِرَاقِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ الْمُثَنَّى بْنُ عِمْرَانَ الْعَائِذِيُّ، عَائِذَةُ قُرَيْشٍ، وَهُوَ خَلِيفَةٌ لِلْخَوَارِجِ بِالْعِرَاقِ، فَلَقِيَ ابْنَ هُبَيْرَةَ بِعَيْنِ التَّمْرِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْصَرَفَتِ الْخَوَارِجُ (ثُمَّ اجْتَمَعُوا بِالْكُوفَةِ بِالنَّخِيلَةِ، فَهَزَمَهُمُ ابْنُ هُبَيْرَةَ. ثُمَّ اجْتَمَعُوا بِالْبَصْرَةِ، فَأَرْسَلَ شَيْبَانُ إِلَيْهِمْ عُبَيْدَةَ بْنَ سَوَّارٍ فِي خَيْلٍ عَظِيمَةٍ، فَالْتَقَوْا بِالْبَصْرَةِ، فَانْهَزَمَتِ الْخَوَارِجُ) وَقُتِلَ عُبَيْدَةُ،

وَاسْتَبَاحَ ابْنُ هُبَيْرَةَ عَسْكَرَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ هِمَّةٌ بِالْعِرَاقِ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ هُبَيْرَةَ عَلَى الْعِرَاقِ. وَكَانَ مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ مَعَ الْخَوَارِجِ فَانْهَزَمَ وَغَلَبَ عَلَى الْمَاهَيْنِ وَعَلَى الْجَبَلِ أَجْمَعَ، وَسَارَ ابْنُ هُبَيْرَةَ إِلَى وَاسِطَ فَأَخَذَ ابْنَ عُمَرَ فَحَبَسَهُ، وَوَجَّهَ نَبَاتَةَ بْنَ حَنْظَلَةَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ حَبِيبٍ، وَهُوَ عَلَى كُوَرِ الْأَهْوَازِ، فَسَمِعَ سُلَيْمَانُ الْخَبَرَ فَأَرْسَلَ إِلَى نَبَاتَةَ دَاوُدَ بْنَ حَاتِمٍ، فَالْتَقَوْا بِالْمَرَّتَانِ عَلَى شَاطِئِ دُجَيْلٍ، فَانْهَزَمَ النَّاسُ وَقُتِلَ دَاوُدُ بْنُ حَاتِمٍ. وَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى الْعِرَاقِ يَأْمُرُهُ بِإِرْسَالِ عَامِرِ بْنِ ضُبَارَةَ الْمُرِّيِّ إِلَيْهِ، فَسَيَّرَهُ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ أَوْ ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، فَبَلَغَ شَيْبَانَ خَبَرُهُ فَأَرْسَلَ الْجَوْنَ بْنَ كِلَابٍ الْخَارِجِيَّ فِي جَمْعٍ، فَلَقُوا عَامِرًا بِالسِّنِّ فَهَزَمُوهُ وَمَنْ مَعَهُ، فَدَخَلَ السِّنَّ وَتَحَصَّنَ فِيهِ، وَجَعَلَ مَرْوَانُ يُمِدُّهُ بِالْجُنُودِ عَلَى طَرِيقِ الْبَرِّ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى السِّنِّ، فَكَثُرَ جَمْعُ عَامِرٍ. وَكَانَ مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ يُمِدُّ شَيْبَانَ مِنَ الْجَبَلِ بِالْأَمْوَالِ، فَلَمَّا كَثُرَ مَنْ مَعَ عَامِرٍ نَهَضَ إِلَى الْجَوْنِ وَالْخَوَارِجِ فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ، وَقُتِلَ الْجَوْنُ، وَسَارَ ابْنُ ضُبَارَةَ مُصْعِدًا إِلَى الْمَوْصِلِ. فَلَمَّا انْتَهَى خَبَرُ قَتْلِ الْجَوْنِ إِلَى شَيْبَانَ وَمَسِيرِ عَامِرٍ نَحْوَهُ كَرِهَ أَنْ يُقِيمَ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ فَارْتَحَلَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَقَدِمَ عَامِرٌ عَلَى مَرْوَانَ بِالْمَوْصِلِ، فَسَيَّرَهُ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ فِي أَثَرِ شَيْبَانَ، فَإِنْ أَقَامَ أَقَامَ، وَإِنْ سَارَ سَارَ، وَأَنْ لَا يَبْدَأَهُ بِقِتَالٍ، فَإِنْ قَاتَلَهُ شَيْبَانُ قَاتَلَهُ، وَإِنْ أَمْسَكَ أَمْسَكَ عَنْهُ، وَإِنِ ارْتَحَلَ اتَّبَعَهُ. فَكَانَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَرَّ عَلَى الْجَبَلِ، وَخَرَجَ عَلَى بَيْضَاءِ فَارِسَ وَبِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ جَعْفَرٍ فِي جُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، فَلَمْ يَتَهَيَّأِ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ جِيرَفْتَ مِنْ كَرْمَانَ، فَانْهَزَمَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ فَلَحِقَ بِهَرَاةَ، وَسَارَ ابْنُ ضُبَارَةَ بِمَنْ مَعَهُ فَلَقِيَ شَيْبَانَ بِجِيرَفْتَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَانْهَزَمَتِ الْخَوَارِجُ وَاسْتُبِيحَ عَسْكَرُهُمْ، وَمَضَى شَيْبَانُ إِلَى سِجِسْتَانَ فَهَلَكَ بِهَا، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ قِتَالُ مَرْوَانَ وَشَيْبَانَ عَلَى الْمَوْصِلِ مِقْدَارَ شَهْرٍ، ثُمَّ انْهَزَمَ شَيْبَانُ حَتَّى لَحِقَ بِفَارِسَ وَعَامِرُ بْنُ ضُبَارَةَ يَتْبَعُهُ، وَسَارَ شَيْبَانُ إِلَى جَزِيرَةِ ابْنِ كَاوَانَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى

عُمَانَ، فَقَتَلَهُ جُلُنْدَى بْنُ مَسْعُودِ بْنِ جَيْفَرَ بْنِ جُلُنْدَى الْأَزْدِيُّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، (وَنَذْكُرُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) . وَرَكِبَ سُلَيْمَانُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَوَالِيهِ السُّفُنَ إِلَى السِّنْدِ. وَلَمَّا وَلِيَ السَّفَّاحُ الْخِلَافَةَ حَضَرَ عِنْدَهُ سُلَيْمَانُ، فَأَكْرَمَهُ وَأَعْطَاهُ يَدَهُ فَقَبَّلَهَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ سُدَيْفٌ مَوْلَى السَّفَّاحِ أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ: لَا يَغُرَّنَّكَ مَا تَرَى مِنْ رِجَالٍ إِنَّ تَحْتَ الضُّلُوعِ دَاءً دَوِيَّا فَضَعِ السَّيْفَ وَارْفَعِ السَّوْطَ حَتَّى لَا تَرَى فَوْقَ ظَهْرِهَا أُمَوِيَّا فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ، وَقَالَ: قَتَلْتَنِي أَيُّهَا الشَّيْخُ! وَقَامَ السَّفَّاحُ فَدَخَلَ، فَأُخِذَ سُلَيْمَانَ فَقُتِلَ. وَانْصَرَفَ مَرْوَانُ (بَعْدَ مَسِيرِ شَيْبَانَ عَنِ الْمَوْصِلِ) إِلَى مَنْزِلِهِ بِحَرَّانَ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى سَارَ إِلَى الزَّابِ. ذِكْرُ إِظْهَارِ الدَّعْوَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ بِخُرَاسَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ شَخَصَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ، وَكَانَ يَخْتَلِفُ مِنْهُ إِلَى خُرَاسَانَ وَيَعُودُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ كَتَبَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يَسْتَدْعِيهِ لِيَسْأَلَهُ عَنْ أَخْبَارِ النَّاسِ، فَسَارَ نَحْوَهُ فِي النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مَعَ سَبْعِينَ نَفْسًا مِنَ النُّقَبَاءِ، فَلَمَّا صَارُوا بِالدَّنْدَانَقَانِ مِنْ أَرْضِ خُرَاسَانَ عَرَضَ لَهُ كَامِلٌ أَوْ [أَبُو كَامِلٍ] ، فَسَأَلَهُ عَنْ مَقْصِدِهِ، فَقَالَ: الْحَجُّ، ثُمَّ خَلَا بِهِ أَبُو مُسْلِمٍ فَدَعَاهُ فَأَجَابَهُ، ثُمَّ سَارَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى نَسَا، وَعَامِلُهَا سُلَيْمَانُ بْنُ قَيْسٍ السُّلَمِيُّ لِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهَا أَرْسَلَ الْفَضْلَ بْنَ سُلَيْمَانَ الطُّوسِيَّ إِلَى أُسَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيِّ لِيُعْلِمَهُ قُدُومَهُ، فَدَخَلَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى نَسَا

فَلَقِيَ رَجُلًا مِنَ الشِّيعَةِ فَسَأَلَهُ عَنْ أُسَيْدٍ، فَانْتَهَرَهُ وَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ كَانَ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ شَرًّا، سَعَى إِلَى الْعَامِلِ بِرَجُلَيْنِ قِيلَ إِنَّهُمَا دَاعِيَانِ، فَأَخَذَهُمَا وَأَخَذَ الْأَحْجَمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْلَانَ بْنَ فُضَالَةَ وَغَالِبَ بْنَ سَعِيدٍ وَمُهَاجِرَ بْنَ عُثْمَانَ، فَانْصَرَفَ الْفَضْلُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ وَأَخْبَرَهُ، فَتَنَكَّبَ الطَّرِيقَ، وَأَرْسَلَ طَرْخَانَ الْحَمَّالَ يَسْتَدْعِي أُسَيْدًا وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الشِّيعَةِ، فَدَعَا لَهُ أُسَيْدًا، فَأَتَاهُ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْأَخْبَارِ، فَقَالَ: قَدِمَ الْأَزْهَرُ بْنُ شُعَيْبٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سَعْدٍ بِكُتُبِ الْإِمَامِ إِلَيْكَ، فَخَلَّفَا الْكُتُبَ عِنْدِي وَخَرَجَا فَأُخِذَا، فَلَا أَدْرِي مَنْ سَعَى بِهِمَا. قَالَ: فَأَيْنَ الْكُتُبُ؟ فَأَتَاهُ بِهَا. ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى قُومِسَ وَعَلَيْهَا بَيْهَسُ بْنُ بُدَيْلٍ الْعِجْلِيُّ، فَأَتَاهُمْ بَيْهَسُ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: الْحَجَّ، وَأَتَاهُ وَهُوَ بِقُومِسَ كِتَابُ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ إِلَيْهِ وَإِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ يَقُولُ لِأَبِي مُسْلِمٍ فِيهِ: إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِرَايَةِ النَّصْرِ، فَارْجِعْ مِنْ حَيْثُ لَقِيَكَ كِتَابِي، وَوَجِّهْ إِلَيَّ قَحْطَبَةَ بِمَا مَعَكَ يُوَافِنِي بِهِ فِي الْمَوْسِمِ. فَانْصَرَفَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى خُرَاسَانَ، وَوَجَّهَ قَحْطَبَةَ إِلَى الْإِمَامِ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْعُرُوضِ، فَلَمَّا كَانُوا بِنَيْسَابُورَ عَرَضَ لَهُمْ صَاحِبُ الْمَسْلَحَةِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَالِهِمْ، فَقَالُوا: أَرَدْنَا الْحَجَّ فَبَلَغَنَا عَنِ الطَّرِيقِ شَيْءٌ خِفْنَاهُ. فَأَمَرَ الْمُفَضَّلَ بْنَ الشَّرْقِيِّ السُّلَمِيَّ بِإِزْعَاجِهِمْ، فَخَلَا بِهِ أَبُو مُسْلِمٍ وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَمْرَهُمْ فَأَجَابَهُ، وَأَقَامَ عِنْدَهُمْ حَتَّى ارْتَحَلُوا عَلَى مَهَلٍ. فَقَدِمَ أَبُو مُسْلِمٍ مَرْوَ فَدَفَعَ كِتَابَ الْإِمَامِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ يَأْمُرُهُ فِيهِ بِإِظْهَارِ الدَّعْوَةِ، فَنَصَبُوا أَبَا مُسْلِمٍ وَقَالُوا: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَدَعَوْا إِلَى طَاعَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَأَرْسَلُوا إِلَى مَنْ قَرُبَ مِنْهُمْ أَوْ بَعُدَ مِمَّنْ أَجَابَهُمْ، فَأَمَرُوهُ بِإِظْهَارِ أَمْرِهِمْ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِمْ. فَنَزَلَ أَبُو مُسْلِمٍ قَرْيَةً مِنْ قُرَى مَرْوَ يُقَالُ لَهَا فَنِينَ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ عِيسَى بْنِ أَعْيَنَ النَّقِيبِ، وَوَجَّهَ مِنْهَا أَبَا دَاوُدَ النَّقِيبَ وَمَعَهُ عَمْرُو بْنُ أَعْيَنَ إِلَى طَخَارِسْتَانَ فَمَا دُونُ بَلْخٍ، فَأَمَرَهُمَا بِإِظْهَارِ الدَّعْوَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. وَكَانَ نُزُولُهُ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ فِي شَعْبَانَ، وَوَجَّهَ النَّضْرَ بْنَ صُبَيْحٍ التَّمِيمِيَّ وَشَرِيكَ بْنَ غُضَيٍّ التَّمِيمِيَّ إِلَى مَرْوِ الرُّوذِ بِإِظْهَارِ الدَّعْوَةِ فِي رَمَضَانَ، وَوَجَّهَ أَبَا عَاصِمٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سُلَيْمٍ إِلَى الطَّالَقَانِ، وَوَجَّهَ أَبَا الْجَهْمِ بْنَ عَطِيَّةَ إِلَى الْعَلَاءِ بْنِ حُرَيْثٍ بِخَوَارِزْمَ بِإِظْهَارِ الدَّعْوَةِ فِي رَمَضَانَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْهُ، فَإِنْ أَعْجَلَهُمْ عَدُوُّهُمْ دُونَ الْوَقْتِ بِالْأَذَى وَالْمَكْرُوهِ، فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَيُجَرِّدُوا

السُّيُوفَ وَيُجَاهِدُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ، وَمَنْ شَغَلَهُ مِنْهُمْ عَدُوُّهُمْ عَنِ الْوَقْتِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَظْهَرُوا بَعْدَ الْوَقْتِ. ثُمَّ تَحَوَّلَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ عِنْدِ أَبِي الْحَكَمِ، فَنَزَلَ قَرْيَةَ سَفِيذَنْجَ، فَنَزَلَ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ الْخُزَاعِيِّ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَمَضَانَ، وَالْكَرْمَانِيُّ وَشَيْبَانُ يُقَاتِلَانِ نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ، فَبَثَّ أَبُو مُسْلِمٍ دُعَاتَهُ فِي النَّاسِ وَأَظْهَرَ أَمْرَهُ، فَأَتَاهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَهْلُ سِتِّينَ قَرْيَةً، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ عَقَدَ اللِّوَاءَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الْإِمَامُ الَّذِي يُدْعَى الظِّلَّ عَلَى رُمْحٍ طُولُهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، وَعَقَدَ الرَّايَةَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ، وَهِيَ الَّتِي تُدْعَى السَّحَابَ عَلَى رُمْحٍ طُولُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، وَهُوَ يَتْلُو: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] ، وَلَبِسُوا السَّوَادَ هُوَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَإِخْوَةُ سُلَيْمَانَ وَمَوَالِيهِ وَمَنْ كَانَ أَجَابَ الدَّعْوَةَ مِنْ أَهْلِ سَفِيذَنْجَ، وَأَوْقَدُوا النِّيرَانَ لِلَيْلَتِهِمْ لِشِيعَتِهِمْ مِنْ سُكَّانِ رَبْعِ خَرْقَانَ، وَكَانَتْ عَلَامَتُهُمْ، فَتَجَمَّعُوا إِلَيْهِ حِينَ أَصْبَحُوا مُغِدِّينَ، وَتَأَوُّلُ الظِّلِّ وَالسَّحَابِ أَنَّ السَّحَابَ يُطْبِقُ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَنَّ الْأَرْضَ كَمَا لَا تَخْلُو مِنَ الظِّلِّ، كَذَلِكَ لَا تَخْلُو مِنْ خَلِيفَةٍ عَبَّاسِيٍّ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. وَقَدِمَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ الدُّعَاةُ بِمَنْ أَجَابَ الدَّعْوَةَ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ أَهْلَ التَّقَادُمِ مَعَ أَبِي الْوَضَّاحِ فِي تِسْعِمِائَةِ رَاجِلٍ وَأَرْبَعَةِ فُرْسَانَ، وَمِنْ أَهْلِ هُرْمُزْفَرَّه جَمَاعَةٌ وَقَدِمَ أَهْلُ التَّقَادُمِ مَعَ أَبِي الْقَاسِمِ مُحْرِزِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْجُوبَانِيِّ فِي أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةِ رَاجِلٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ فَارِسًا، فِيهِمْ مِنَ الدُّعَاةِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَرْوَزِيُّ. فَجَعَلَ أَهْلُ التَّقَادُمِ يُكَبِّرُونَ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ، وَيُجِيبُهُمْ أَهْلُ التَّقَادُمِ بِالتَّكْبِيرِ، فَدَخَلُوا عَسْكَرَ أَبِي مُسْلِمٍ بِسَفِيذَنْجَ بَعْدَ ظُهُورِهِ بِيَوْمَيْنِ. وَحَصَّنَ أَبُو مُسْلِمٍ حِصْنَ سَفِيذَنْجَ وَرَمَّهُ وَسَدَّ دُرُوبَهَا. فَلَمَّا حَضَرَ عِيدُ الْفِطْرِ أَمَرَ أَبُو مُسْلِمٍ سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ وَبِالشِّيعَةِ، وَنَصَبَ لَهُ مِنْبَرًا بِالْعَسْكَرِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، وَكَانَ بَنُو أُمَيَّةَ يَبْدَءُونَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَبِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَأَمَرَ أَبُو مُسْلِمٍ أَيْضًا سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ بِسِتِّ تَكْبِيرَاتٍ تِبَاعًا، ثُمَّ يَقْرَأُ وَيَرْكَعُ بِالسَّابِعَةِ، وَيُكَبِّرُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ تِبَاعًا، ثُمَّ يَقْرَأُ وَيَرْكَعُ بِالسَّادِسَةِ، وَيَفْتَحُ الْخُطْبَةَ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ يَخْتِمُهَا بِالْقُرْآنِ. وَكَانَ بَنُو أُمَيَّةَ يُكَبِّرُونَ فِي الْأُولَى أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ يَوْمَ الْعِيدِ وَفِي الثَّانِيَةِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ.

فَلَمَّا قَضَى سُلَيْمَانُ الصَّلَاةَ انْصَرَفَ أَبُو مُسْلِمٍ وَالشِّيعَةُ إِلَى طَعَامٍ قَدْ أَعَدَّهُ لَهُمْ، فَأَكَلُوا مُسْتَبْشِرِينَ. وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ فِي الْخَنْدَقِ إِذَا كَتَبَ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ كِتَابًا يَكْتُبُ لِلْأَمِيرِ نَصْرٍ، فَلَمَّا قَوِيَ أَبُو مُسْلِمٍ بِمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَكَتَبَ إِلَى نَصْرٍ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ عَيَّرَ أَقْوَامًا فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا - اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 42 - 43] . فَتَعَاظَمَ نَصْرٌ الْكِتَابَ وَكَسَرَ لَهُ إِحْدَى عَيْنَيْهِ وَقَالَ: هَذَا كِتَابٌ مَا لَهُ جَوَابٌ. وَكَانَ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَأَبُو مُسْلِمٍ بِسَفِيذَنْجَ أَنَّ نَصْرًا وَجَّهَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ لِمُحَارَبَةِ أَبِي مُسْلِمٍ بَعْدَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ ظُهُورِهِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ مَالِكَ بْنَ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيَّ، فَالْتَقَوْا بِقَرْيَةِ أَلْيَنَ، فَدَعَاهُمْ مَالِكٌ إِلَى الرِّضَاءِ مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَكْبَرُوا عَنْ ذَلِكَ، فَقَاتَلَهُمْ مَالِكٌ، وَهُوَ فِي نَحْوِ مِائَتَيْنِ، مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ، وَقَدِمَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ صَالِحُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضَّبِّيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ زَيْدٍ وَزِيَادُ بْنُ عِيسَى، فَسَيَّرَهُمْ إِلَى مَالِكٍ، فَقَوِيَ بِهِمْ، وَكَانَ قُدُومُهُمْ إِلَيْهِ مَعَ الْعَصْرِ، فَقَالَ مَوْلَى نَصْرٍ: إِنْ تَرَكْنَا هَؤُلَاءِ اللَّيْلَةَ أَتَتْهُمْ أَمْدَادُهُمْ، فَاحْمِلُوا عَلَى الْقَوْمِ. فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَحَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ الطَّائِيُّ عَلَى مَوْلَى نَصْرٍ فَأَسَرَهُ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، فَأَرْسَلَ الطَّائِيُّ بِأَسِيرِهِ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ وَمَعَهُ رُءُوسُ الْقَتْلَى، فَنَصَبَ الرُءُوسَ، وَأَحْسَنَ إِلَى يَزِيدَ مَوْلَى نَصْرٍ، وَعَالَجَهُ حَتَّى انْدَمَلَتْ جِرَاحُهُ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تُقِيمَ مَعَنَا فَقَدْ أَرْشَدَكَ اللَّهُ، وَإِنْ كَرِهْتَ فَارْجِعْ إِلَى مَوْلَاكَ سَالِمًا، وَأَعْطِنَا عَهْدَ اللَّهِ أَنَّكَ لَا تُحَارِبُنَا، وَلَا تَكْذِبُ عَلَيْنَا، وَأَنْ تَقُولَ فِينَا مَا رَأَيْتَ. فَرَجَعَ إِلَى مَوْلَاهُ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّ هَذَا سَيَرُدُّ عَنْكُمْ أَهْلَ الْوَرَعِ وَالصَّلَاحِ فَمَا نَحْنُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُمْ يُرْجِفُونَ عَلَيْهِمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَاسْتِحْلَالِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ. فَلَمَّا قَدِمَ يَزِيدُ عَلَى نَصْرٍ قَالَ: لَا مَرْحَبًا! فَوَاللَّهِ مَا اسْتَبَقَاكَ الْقَوْمُ إِلَّا لِيَتَّخِذُوكَ حُجَّةً

عَلَيْنَا. فَقَالَ يَزِيدُ: هُوَ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتَ، وَقَدِ اسْتَحْلَفُونِي أَنْ لَا أَكْذِبَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّهُمْ وَاللَّهِ يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ لِمَوَاقِيتِهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَيَتْلُونَ الْقُرْآنَ، وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا، وَيَدْعُونَ إِلَى وِلَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أَحْسَبُ أَمْرَهُمْ إِلَّا سَيَعْلُو، وَلَوْلَا أَنَّكَ مَوْلَايَ لَمَا رَجَعْتُ إِلَيْكَ وَلَأَقَمْتُ مَعَهُمْ. فَهَذِهِ أَوَّلُ حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَلَبَ خَازِمُ بْنُ خُزَيْمَةَ عَلَى مَرْوِ الرُّوذِ وَقَتَلَ عَامِلَ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ بِمَرْوِ الرُّوذِ، وَهُوَ مِنْ شِيعَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ، مَنَعَهُ بَنُو تَمِيمٍ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ أُرِيدُ أَنْ أَغْلِبَ عَلَى مَرْوَ، فَإِنْ ظَفِرْتُ فَهِيَ لَكُمْ، وَإِنْ قُتِلْتُ فَقَدْ كُفِيتُمْ أَمْرِي. فَكَفُّوا عَنْهُ، فَعَسْكَرَ بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا كُنْجَ رُسْتَاقَ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ أَبِي مُسْلِمٍ النَّضْرُ بْنُ صُبَيْحٍ، فَلَمَّا أَمْسَى خَازِمٌ بَيَّتَ أَهْلَ مَرْوَ فَقَتَلَ بِشْرَ بْنَ جَعْفَرٍ السَّعْدِيَّ عَامِلَ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَبَعَثَ بِالْفَتْحِ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ مَعَ ابْنِهِ خُزَيْمَةَ بْنِ خَازِمٍ. وَقَدْ قِيلَ فِي أَمْرِ أَبِي مُسْلِمٍ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَالَّذِي قِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامَ زَوَّجَ أَبَا مُسْلِمٍ لَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى خُرَاسَانَ ابْنَةَ أَبِي النَّجْمِ وَسَاقَ عَنْهُ صَدَاقَهَا، وَكَتَبَ إِلَى النُّقَبَاءِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ أَهْلِ خُطَرْنِيَّةَ مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ قَهْرَمَانًا لِإِدْرِيسَ بْنِ مَعْقِلٍ الْعِجْلِيِّ، فَصَارَ أَمْرُهُ وَمُنْتَهَى وَلَائِهِ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، ثُمَّ لِابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ لِلْأَئِمَّةِ مِنْ وَلَدِ مُحَمَّدٍ، فَقَدِمَ خُرَاسَانَ وَهُوَ حَدِيثُ السِّنِّ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَخَافَ أَنْ لَا يَقْوَى عَلَى أَمْرِهِمْ فَرَدَّهُ. وَكَانَ أَبُو دَاوُدَ خَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ غَائِبًا خَلْفَ نَهْرِ بَلْخٍ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَرْوَ أَقْرَءُوهُ كِتَابَ الْإِمَامِ إِبْرَاهِيمَ، فَسَأَلَ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ رَدَّهُ، فَجَمَعَ النُّقَبَاءَ وَقَالَ لَهُمْ: أَتَاكُمْ كِتَابُ الْإِمَامِ فِيمَنْ بَعَثَهُ إِلَيْكُمْ فَرَدَدْتُمُوهُ، فَمَا حُجَّتُكُمْ؟ فَقَالَ سُلَيْمَانُ: حَدَاثَةُ سِنِّهِ وَتَخَوُّفًا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ، فَخِفْنَا عَلَى مَنْ دَعَوْنَا وَعَلَى أَنْفُسِنَا. فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاصْطَفَاهُ وَبَعَثَهُ إِلَى جَمِيعِ

خَلْقِهِ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَتَشُكُّونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ فِيهِ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ وَشَرَائِعُهُ وَأَنْبَاؤُهُ، وَأَخْبَرَ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ وَبِمَا يَكُونُ بَعْدَهُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَتَشُكُّونَ أَنَّ اللَّهَ قَبَضَهُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ رِسَالَةِ رَبِّهِ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَتَظُنُّونَ أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِ رُفِعَ مَعَهُ أَوْ خَلَّفَهُ؟ قَالُوا: بَلْ خَلَّفَهُ. قَالَ: أَفَتَظُنُّونَ خَلَّفَهُ عِنْدَ غَيْرِ عِتْرَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَتَشُكُّونَ أَنَّ أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ مَعْدِنُ الْعِلْمِ وَأَصْحَابُ مِيرَاثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا. قَالَ: فَأَرَاكُمْ قَدْ شَكَكْتُمْ فِي أَمْرِكُمْ، وَرَدَدْتُمْ عَلَيْهِمْ عِلْمَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُومَ بِأَمْرِهِمْ لَمْ يَبْعَثُوهُ إِلَيْكُمْ. وَهُوَ لَا يُتَّهَمُ فِي نُصْرَتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِمْ. فَبَعَثُوا إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ فَرَدُّوهُ مِنْ قُومِسَ بِقَوْلِ أَبِي دَاوُدَ وَوَلَّوْهُ أَمْرَهُمْ وَأَطَاعُوهُ، فَلَمْ تَزَلْ فِي نَفْسِ أَبِي مُسْلِمٍ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ، وَلَمْ يَزَلْ يَعْرِفُهَا لِأَبِي دَاوُدَ. وَبَثَّ الدُّعَاةَ فِي أَقْطَارِ خُرَاسَانَ، فَدَخَلَ النَّاسُ أَفْوَاجًا وَكَثُرُوا، وَفَشَتِ الدُّعَاةُ بِخُرَاسَانَ كُلِّهَا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ الْإِمَامُ أَنْ يُوَافِيَهُ فِي مَوْسِمِ سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لِيَأْمُرَهُ بِأَمْرِهِ فِي إِظْهَارِ دَعْوَتِهِ، وَأَنْ يَقْدَمَ مَعَهُ قَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ، وَيَحْمِلَ إِلَيْهِ مَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ وَسَارَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النُّقَبَاءِ وَالشِّيعَةِ، فَلَقِيَهُ كِتَابُ الْإِمَامِ يَأْمُرُهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى خُرَاسَانَ وَإِظْهَارِ الدَّعْوَةِ بِهَا، وَذَكَرَ قَرِيبًا مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ تَسْيِيرِ الْمَالِ مَعَ قَحْطَبَةَ، وَأَنَّ قَحْطَبَةَ سَارَ فَنَزَلَ بِنَوَاحِي جُرْجَانَ، فَاسْتَدْعَى خَالِدَ بْنَ بَرْمَكَ وَأَبَا عَوْنٍ، فَقَدِمَا عَلَيْهِ وَمَعَهُمَا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُمَا مِنْ مَالِ الشِّيعَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُمَا وَسَارَ نَحْوَ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ. ذِكْرُ مَقْتَلِ الْكَرْمَانِيِّ قَدْ ذَكَرْنَا مَقْتَلَ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَنَّ الْكَرْمَانِيَّ قَتَلَهُ، وَلَمَّا قَتَلَهُ خَلُصَتْ لَهُ مَرْوُ، وَتَنَحَّى نَصْرٌ عَنْهَا، فَأَرْسَلَ نَصْرٌ إِلَيْهِ سَالِمَ بْنَ أَحْوَزَ فِي رَابِطَتِهِ وَفُرْسَانِهِ، فَوَجَدَ يَحْيَى بْنَ نُعَيْمٍ الشَّيْبَانِيَّ وَاقِفًا فِي أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ رَبِيعَةَ، وَمُحَمَّدَ بْنَ الْمُثَنَّى فِي سَبْعِمِائَةٍ مِنْ فُرْسَانِ الْأَزْدِ، وَابْنَ الْحَسَنِ بْنِ الشَّيْخِ فِي أَلْفٍ مِنْ فِتْيَانِهِمْ، وَالْجَرْمِيَّ السَّعْدِيَّ فِي أَلْفٍ مِنْ أَبْنَاءِ الْيَمَنِ. فَقَالَ سَالِمٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى: يَا مُحَمَّدُ قُلْ لِهَذَا الْمَلَّاحِ لِيَخْرُجْ إِلَيْنَا، يَعْنِي الْكَرْمَانِيَّ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَا ابْنَ الْفَاعِلَةِ لِأَبِي عَلِيٍّ تَقُولُ هَذَا! وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ سَالِمُ بْنُ أَحْوَزَ وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ زِيَادَةٌ عَلَى مِائَةٍ، وَمِنْ أَصْحَابِ الْكَرْمَانِيِّ زِيَادَةٌ عَلَى عِشْرِينَ. فَلَمَّا قَدِمَ أَصْحَابُ نَصْرٍ عَلَيْهِ مُنْهَزِمِينَ قَالَ لَهُ عِصْمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيُّ: يَا نَصْرُ

شَأَمْتَ الْعَرَبَ! فَأَمَّا إِذْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ فَشَمِّرْ عَنْ سَاقٍ. فَوَجَّهَ عِصْمَةَ فِي جَمْعٍ، فَوَقَفَ مَوْقِفَ سَالِمٍ فَنَادَى: يَا مُحَمَّدُ بْنَ الْمُثَنَّى! لَتَعْلَمَنَّ أَنَّ السَّمَكَ لَا يَأْكُلُ اللُّخْمَ، وَاللُّخْمُ دَابَّةٌ مِنْ دَوَابِّ الْمَاءِ تُشْبِهُ السَّبْعَ يَأْكُلُ السَّمَكَ. فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: يَابْنَ الْفَاعِلَةِ قِفْ لَنَا إِذًا، وَأَمَرَ مُحَمَّدٌ السَّعْدِيَّ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَ عِصْمَةُ حَتَّى أَتَى نَصْرًا وَقَدْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَرْبَعُمِائَةٍ. ثُمَّ أَرْسَلَ نَصْرٌ مَالِكَ بْنَ عَمْرٍو التَّمِيمِيَّ فِي أَصْحَابِهِ، فَنَادَى: يَابْنَ الْمُثَنَّى ابْرُزْ إِلَيَّ! فَبَرَزَ إِلَيْهِ، فَضَرَبَهُ مَالِكٌ عَلَى حَبَلِ عَاتِقِهِ فَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، وَضَرَبَهُ مُحَمَّدٌ بِعَمُودٍ فَشَدَخَ رَأَسَهُ، وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ نَصْرٍ وَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُمِائَةٍ، وَمِنْ أَصْحَابِ الْكَرْمَانِيِّ ثَلَاثُمِائَةٍ، وَلَمْ يَزَلِ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ حَتَّى خَرَجُوا إِلَى الْخَنْدَقَيْنِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا. فَلَمَّا اسْتَيْقَنَ أَبُو مُسْلِمٍ أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ قَدْ أَثْخَنَ صَاحِبَهُ، وَأَنَّهُ لَا مَدَدَ لَهُمْ، جَعَلَ يَكْتُبُ إِلَى شَيْبَانَ ثُمَّ يَقُولُ لِلرَّسُولِ: اجْعَلْ طَرِيقَكَ عَلَى مُضَرَ فَإِنَّهُمْ سَيَأْخُذُونَ كُتُبَكَ، فَكَانُوا يَأْخُذُونَهَا فَيَقْرَءُونَ فِيهَا: إِنِّي رَأَيْتُ [أَهْلَ] الْيَمَنِ لَا وَفَاءَ لَهُمْ وَلَا خَيْرَ فِيهِمْ، فَلَا تَثِقَنَّ بِهِمْ وَلَا تَطْمَئِنَّنَّ إِلَيْهِمْ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُرِيَكَ اللَّهُ فِي الْيَمَانِيَّةِ مَا تُحِبُّ، وَلَئِنْ بَقِيتُ لَا أَدْعُ لَهَا شَعْرًا وَلَا ظُفْرًا. وَيُرْسِلُ رَسُولًا آخَرَ بِكِتَابٍ فِيهِ ذِكْرُ مُضَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَيَأْمُرُ الرَّسُولَ أَنْ يَجْعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى الْيَمَانِيَّةِ، حَتَّى صَارَ هَوَى الْفَرِيقَيْنِ مَعَهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَكْتُبُ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ وَإِلَى الْكَرْمَانِيِّ: إِنَّ الْإِمَامَ أَوْصَانِي بِكُمْ وَلَسْتُ أَعْدُو رَأْيَهُ فِيكُمْ. وَكَتَبَ إِلَى الْكُوَرِ بِإِظْهَارِ الْأَمْرِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ سَوَّدَ أُسَيْدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيَّ بِنَسَا، وَمُقَاتِلَ بْنَ حَكِيمٍ، وَابْنَ غَزْوَانَ، وَنَادَوْا: يَا مُحَمَّدُ! يَا مَنْصُورُ! وَسَوَّدَ أَهْلُ أَبِيوَرْدَ وَأَهْلُ مَرْوِ الرُّوذِ وَقُرَى مَرْوَ. وَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ حَتَّى نَزَلَ بَيْنَ خَنْدَقِ الْكَرْمَانِيِّ وَخَنْدَقِ نَصْرٍ، وَهَابَهُ الْفَرِيقَانِ، وَبَعَثَ إِلَى الْكَرْمَانِيِّ: إِنِّي مَعَكَ. فَقَبِلَ ذَلِكَ الْكَرْمَانِيُّ، فَانْضَمَّ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَيْهِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْكَرْمَانِيِّ: وَيْحَكَ لَا تَغْتَرَّ! فَوَاللَّهِ إِنِّي لَخَائِفٌ عَلَيْكَ وَعَلَى أَصْحَابِكَ مِنْهُ، فَادْخُلْ مَرْوَ وَنَكْتُبُ كِتَابًا بَيْنَنَا بِالصُّلْحِ. وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي

مُسْلِمٍ. فَدَخَلَ الْكَرْمَانِيُّ مَنْزِلَهُ، وَأَقَامَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي الْعَسْكَرِ، وَخَرَجَ الْكَرْمَانِيُّ حَتَّى وَقَفَ فِي الرَّحْبَةِ فِي مِائَةِ فَارِسٍ وَعَلَيْهِ قُرْطَقٌ، وَأَرْسَلَ إِلَى نَصْرٍ: اخْرُجْ لِنَكْتُبَ بَيْنَنَا ذَلِكَ الْكِتَابَ. فَأَبْصَرَ مِنْهُ غِرَّةً، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ ابْنَ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ فِي نَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ فِي الرَّحْبَةِ، فَالْتَقَوْا بِهَا طَوِيلًا، ثُمَّ إِنَّ الْكَرْمَانِيَّ طُعِنَ فِي خَاصِرَتِهِ فَخَرَّ عَنْ دَابَّتِهِ وَحَمَاهُ أَصْحَابُهُ حَتَّى جَاءَهُمْ مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ، فَقَتَلَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ الْكَرْمَانِيَّ وَصَلَبَهُ وَصَلَبَ مَعَهُ سَمَكَةً. وَأَقْبَلَ ابْنُهُ عَلِيٌّ وَقَدْ جَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا، فَصَارَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ فَقَاتَلُوا نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ حَتَّى أَخْرَجُوهُ مِنْ دَارِ الْإِمَارَةِ، فَمَالَ إِلَى بَعْضِ دُورِ مَرْوَ، وَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ حَتَّى دَخَلَ مَرْوَ، وَأَتَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْكَرْمَانِيِّ وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ مَعَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ وَقَالَ لَهُ: مُرْنِي بِأَمْرِكَ فَإِنِّي مُسَاعِدُكَ عَلَى مَا تُرِيدُ. فَقَالَ: أَقِمْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ حَتَّى آمُرَكَ بِأَمْرِي. وَلَمَّا نَزَلَ أَبُو مُسْلِمٍ بَيْنَ خَنْدَقِ الْكَرْمَانِيِّ وَنَصْرٍ، وَرَأَى نَصْرٌ قُوَّتَهُ كَتَبَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ يُعْلِمُهُ حَالَ أَبِي مُسْلِمٍ وَخُرُوجَهُ وَكَثْرَةَ مَنْ مَعَهُ، فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَكَتَبَ بِأَبْيَاتِ شِعْرٍ: أَرَى بَيْنَ الرَّمَادِ وَمِيضَ نَارٍ ... وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِرَامُ فَإِنَّ النَّارَ بِالْعُودَيْنِ تُذْكَى ... وَإِنَّ الْحَرْبَ مَبْدَؤُهَا كَلَامُ فَقُلْتُ مِنَ التَّعَجُّبِ لَيْتَ شِعْرِي ... أَأَيْقَاظٌ أُمَيَّةُ أَمْ نِيَامُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ: إِنَّ الشَّاهِدَ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ، فَاحْسِمِ الثُّؤْلُولَ قِبَلَكَ. فَقَالَ نَصْرٌ: أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ أَعْلَمَكُمْ أَنَّهُ لَا نَصْرَ عِنْدِهِ. فَكَتَبَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ يَسْتَمِدُّهُ، وَكَتَبَ لَهُ بِأَبْيَاتِ شِعْرٍ:

أَبْلِغْ يَزِيدَ وَخَيْرُ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ ... وَقَدْ تَيَقَّنْتُ أَنْ لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ أَنَّ خُرَاسَانَ أَرْضٌ قَدْ رَأَيْتُ بِهَا ... بَيْضًا لَوْ افْرَخَ قَدْ حُدِّثْتَ بِالْعَجَبِ فِرَاخُ عَامَيْنِ إِلَّا أَنَّهَا كَبِرَتْ ... لَمَّا يَطِرْنَ وَقَدْ سُرْبِلْنَ بِالزَّغَبِ أَلَا تَدَارَكْ بِخَيْلِ اللَّهِ مُعْلِمَةً ... أَلْهَبْنَ نِيرَانَ حَرْبٍ أَيَّمَا لَهَبِ فَقَالَ يَزِيدُ: لَا تُكْثِرْ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدِي رَجُلٌ. فَلَمَّا قَرَأَ مَرْوَانُ كِتَابَ نَصْرٍ تَصَادَفَ وُصُولُ كِتَابِهِ وُصُولَ رَسُولٍ لِأَبِي مُسْلِمٍ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ عَادَ مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ وَمَعَهُ جَوَابُ أَبِي مُسْلِمٍ يَلْعَنُهُ إِبْرَاهِيمُ وَيَسُبُّهُ حَيْثُ لَمْ يَنْتَهِزِ الْفُرْصَةَ مِنْ نَصْرٍ وَالْكَرْمَانِيِّ إِذْ أَمْكَنَاهُ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ لَا يَدَعَ بِخُرَاسَانَ مُتَكَلِّمًا بِالْعَرَبِيَّةِ إِلَّا قَتَلَهُ. فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْبَلْقَاءِ لِيَسِيرَ إِلَى الْحُمَيْمَةِ وَلِيَأْخُذَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَيَشُدُّهُ وَثَاقًا وَيَبْعَثُ بِهِ إِلَيْهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَأَخَذَهُ مَرْوَانُ وَحَبَسَهُ. ذِكْرُ تَعَاقُدِ أَهْلِ خُرَاسَانَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَعَاقَدَتْ عَامَّةُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ بِخُرَاسَانَ عَلَى قِتَالِ أَبِي مُسْلِمٍ، وَفِيهَا تَحَوَّلَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ مُعَسْكَرِهِ بِسَفِيذَنْجَ إِلَى الْمَاخُوَانِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ لَمَّا ظَهَرَ أَمْرُهُ سَارَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَجَعَلَ أَهْلُ مَرْوَ يَأْتُونَهُ وَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ نَصْرٌ وَلَا يَمْنَعُهُمْ، وَكَانَ الْكَرْمَانِيُّ وَشَيْبَانُ لَا يَكْرَهَانِ أَمْرَ أَبِي مُسْلِمٍ لِأَنَّهُ دَعَا إِلَى خَلْعِ مَرْوَانَ، وَأَبُو مُسْلِمٍ فِي خِبَاءٍ لَيْسَ لَهُ حَرَسٌ وَلَا حِجَابٌ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ عِنْدَ النَّاسِ وَقَالُوا: ظَهَرَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَهُ حِلْمٌ وَوَقَارٌ وَسَكِينَةٌ. فَانْطَلَقَ فِتْيَةٌ مِنْ أَهْلِ مَرْوَ نُسَّاكٌ يَطْلُبُونَ الْفِقْهَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ فَسَأَلُوهُ عَنْ نَسَبِهِ، فَقَالَ: خَيْرِي خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ نَسَبِي، وَسَأَلُوهُ أَشْيَاءَ مِنَ الْفِقْهِ فَقَالَ: أَمْرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ هَذَا، وَنَحْنُ إِلَى عَوْنِكُمْ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَى مَسْأَلَتِكُمْ فَاعْفُونَا. فَقَالُوا: مَا نَعْرِفُ لَكَ نَسَبًا وَلَا نَظُنُّكَ تَبْقَى إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى تُقْتَلَ، وَمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَتَفَرَغَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَمِيرَيْنِ.

فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: أَنَا أَقْتُلُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَأَتَوْا نَصْرًا فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: جَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا، مِثْلُكُمْ مَنْ يَفْتَقِدُ هَذَا وَيَعْرِفُهُ. وَأَتَوْا شَيْبَانَ فَأَعْلَمُوهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ نَصْرٌ: إِنَّا قَدْ أَشْجَى بَعْضُنَا بَعْضًا، فَاكْفُفْ عَنِّي حَتَّى أُقَاتِلَهُ، وَإِنْ شِئْتَ فَجَامِعْنِي إِلَى حَرْبِهِ حَتَّى أَقْتُلَهُ أَوْ أَنْفِيَهُ ثُمَّ نَعُودُ إِلَى أَمْرِنَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ. فَهَمَّ شَيْبَانُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، فَأَتَى الْخَبَرُ أَبَا مُسْلِمٍ، فَكَتَبَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْكَرْمَانِيِّ: إِنَّكَ مَوْتُورٌ قُتِلَ أَبُوكَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ لَسْتَ عَلَى رَأْيِ شَيْبَانَ، وَإِنَّمَا تُقَاتِلُ لِثَأْرِكَ. فَامْتَنَعَ شَيْبَانُ مِنْ صُلْحِ نَصْرٍ. فَدَخَلَ عَلَى شَيْبَانَ فَثَنَاهُ عَنْ رَأْيِهِ، فَأَرْسَلَ نَصْرٌ إِلَى شَيْبَانَ: إِنَّكَ لَمَغْرُورٌ، وَاللَّهِ لَيَتَفَاقَمَنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسْتَصْغِرَنِي فِي جَنْبِهِ كُلُّ كَبِيرٍ، وَقَالَ شِعْرًا يُخَاطِبُ بِهِ رَبِيعَةَ وَالْيَمَنَ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الِاتِّفَاقِ مَعَهُ عَلَى حَرْبِ أَبِي مُسْلِمٍ: أَبْلِغْ رَبِيعَةَ فِي مَرْوٍ وَفِي يَمَنٍ ... أَنِ اغْضَبُوا قَبْلَ أَنْ لَا يَنْفَعَ الْغَضَبُ مَا بَالُكُمْ تُنْشِبُونَ الْحَرْبَ بَيْنَكُمُ ... كَأَنَّ أَهْلَ الْحِجَى عَنْ رَأْيِكُمْ غُيُبُ وَتَتْرُكُونَ عَدُوًّا قَدْ أَحَاطَ بِكُمْ ... مِمَّنْ تَأَشَّبَ لَا دِينٌ وَلَا حَسَبُ لَا عَرَبَ مِثْلُكُمُ فِي النَّاسِ نَعْرِفُهُمْ ... وَلَا صَرِيحَ مَوَالٍ إِنْ هُمُ نُسِبُوا مَنْ كَانَ يَسْأَلُنِي عَنْ أَصْلِ دِينِهِمُ ... فَإِنَّ دِينَهُمُ أَنْ تَهْلِكَ الْعَرَبُ قَوْمٌ يَقُولُونَ قَوْلًا مَا سَمِعْتُ بِهِ ... عَنِ النَّبِيِّ وَلَا جَاءَتْ بِهِ الْكُتُبُ

فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ أَبُو مُسْلِمٍ النَّضْرَ بْنَ نُعَيْمٍ الضَّبِّيَّ إِلَى هَرَاةَ وَعَلَيْهَا عِيسَى بْنُ عَقِيلِ بْنِ مَعْقِلٍ اللَّيْثِيُّ، فَطَرَدَهُ عَنْهَا، فَقَدِمَ عَلَى نَصْرٍ مُنْهَزِمًا وَغَلَبَ النَّضْرُ عَلَى هَرَاةَ. فَقَالَ يَحْيَى بْنُ نُعَيْمِ بْنِ هُبَيْرَةَ الشَّيْبَانِيُّ لِابْنِ الْكَرْمَانِيِّ وَشَيْبَانَ: اخْتَارُوا إِمَّا أَنَّكُمْ تَهْلِكُونَ أَنْتُمْ قَبْلَ مُضَرَ، أَوْ مُضَرُ قَبْلَكُمْ. قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ إِنَّمَا ظَهَرَ أَمْرُهُ مُنْذُ شَهْرٍ، وَقَدْ صَارَ فِي عَسْكَرِهِ مِثْلَ عَسْكَرِكُمْ. قَالُوا: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: صَالِحُوا نَصْرًا، فَإِنَّكُمْ إِنْ صَالَحْتُمُوهُ قَاتَلُوا نَصْرًا وَتَرَكُوكُمْ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي مُضَرَ، وَإِنْ لَمْ تُصَالِحُوا نَصْرًا صَالَحُوهُ وَقَاتَلُوكُمْ، فَقَدِّمُوا مُضَرَ قَبْلَكُمْ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَتَقَرُّ أَعْيُنُكُمْ بِقَتْلِهِمْ. فَأَرْسَلَ شَيْبَانُ إِلَى نَصْرٍ يَدْعُوهُ إِلَى الْمُوَادَعَةِ، فَأَجَابَهُ وَأَرْسَلَ سَالِمَ بْنَ أَحْوَزَ بِكِتَابِ الْمُوَادَعَةِ، فَأَتَى شَيْبَانَ وَعِنْدَهُ ابْنُ الْكَرْمَانِيِّ وَيَحْيَى بْنُ نُعَيْمٍ، فَقَالَ سَالِمٌ لِابْنِ الْكَرْمَانِيِّ: يَا أَعْوَرُ! مَا أَخْلَقَكَ أَنْ تَكُونَ الْأَعْوَرَ الَّذِي يَكُونُ هَلَاكُ مُضَرَ عَلَى يَدِهِ! ثُمَّ تَوَادَعُوا سَنَةً وَكَتَبُوا كِتَابًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا مُسْلِمٍ فَكَتَبَ إِلَى شَيْبَانَ: إِنَّا نُوَادِعُكَ أَشْهُرًا فَوَادِعْنَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ. فَقَالَ ابْنُ الْكَرْمَانِيِّ: إِنِّي مَا صَالَحْتُ نَصْرًا إِنَّمَا صَالَحَهُ شَيْبَانُ، وَأَنَا لِذَلِكَ كَارِهٌ، وَأَنَا مَوْتُورٌ بِقَتْلِهِ أَبِي وَلَا أَدَعُ قِتَالَهُ. فَعَاوَدَ الْقِتَالَ، وَلَمْ يُعِنْهُ شَيْبَانُ وَقَالَ: لَا يَحِلُّ الْغَدْرُ. فَأَرْسَلَ ابْنُ الْكَرْمَانِيِّ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يَسْتَنْصِرُهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى نَزَلَ الْمَاخُوَانَ، وَكَانَ مُقَامُهُ بِسَفِيذَنْجَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَلَمَّا نَزَلَ الْمَاخُوَانَ حَفَرَ بِهَا خَنْدَقًا وَجَعَلَ لِلْخَنْدَقِ بَابَيْنِ فَعَسْكَرَ بِهِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الشُّرَطِ أَبَا نَصْرٍ مَالِكَ بْنَ الْهَيْثَمِ، وَعَلَى الْحَرَسِ أَبَا إِسْحَاقَ خَالِدَ بْنَ عُثْمَانَ، وَعَلَى دِيوَانِ الْجُنْدِ كَامِلَ بْنَ مُظَفَّرٍ أَبَا صَالِحٍ، وَعَلَى الرَّسَائِلِ أَسْلَمَ بْنَ صُبَيْحٍ، وَعَلَى الْقَضَاءِ الْقَاسِمَ بْنَ مُجَاشِعٍ النَّقِيبَ، وَكَانَ الْقَاسِمُ يُصَلِّي بِأَبِي مُسْلِمٍ فَيَقُصُّ الْقِصَصَ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَيَذْكُرُ فَضْلَ بَنِي هَاشِمٍ وَمَعَايِبَ بَنِي أُمَيَّةَ. وَلَمَّا نَزَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْمَاخُوَانَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ الْكَرْمَانِيِّ: إِنِّي مَعَكَ عَلَى نَصْرٍ. فَقَالَ ابْنُ الْكَرْمَانِيِّ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَلْقَانِي أَبُو مُسْلِمٍ. فَأَتَاهُ أَبُو مُسْلِمٍ فَأَقَامَ عِنْدَهُ يَوْمَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَاخُوَانِ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ. وَكَانَ أَوَّلُ عَامِلٍ اسْتَعْمَلَهُ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعَمَلِ دَاوُدَ بْنَ كَرَارَ، فَرَدَّ أَبُو مُسْلِمٍ الْعَبِيدَ عَنْهُ وَاحْتَفَرَ لَهُمْ خَنْدَقًا فِي قَرْيَةِ شَوَّالٍ، وَوَلَّى الْخَنْدَقَ دَاوُدَ بْنَ كَرَارَ،

فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ لِلْعَبِيدِ جَمَاعَةٌ وَجَّهَهُمْ إِلَى مُوسَى بْنِ كَعْبٍ بِأَبِيوَرْدَ. وَأَمَرَ أَبُو مُسْلِمٍ كَامِلَ بْنَ مُظَفَّرٍ أَنْ يَعْرِضَ الْجُنْدَ وَيَكْتُبَ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ وَنِسْبَتَهُمْ إِلَى الْقُرَى، وَيَجْعَلَ ذَلِكَ فِي دَفْتَرٍ، فَبَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ سَبْعَةَ آلَافِ رَجُلٍ. ثُمَّ إِنَّ الْقَبَائِلَ مِنْ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ وَالْيَمَنِ تَوَادَعُوا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ، وَأَنْ تَجْتَمِعَ كَلِمَتُهُمْ عَلَى [مُحَارَبَةِ] أَبِي مُسْلِمٍ. وَبَلَغَ أَبَا مُسْلِمٍ الْخَبَرُ فَعَظُمَ عَلَيْهِ وَنَاظَرَ، فَإِذَا الْمَاخُوَانُ سَافِلَةُ الْمَاءِ، فَتَخَوَّفَ أَنْ يَقْطَعَ نَصْرٌ عَنْهُ الْمَاءَ فَتَحَوَّلَ إِلَى أَلْيَنَ، وَكَانَ مُقَامُهُ بِالْمَاخُوَانِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَنَزَلَ أَلْيَنَ وَخَنْدَقَ بِهَا. وَعَسْكَرَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ عَلَى نَهْرِ عِيَاضٍ، وَجَعَلَ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو بِبَلَاشْجِرْدَ، وَأَبَا الذَّيَّالِ بِطُوسَانَ، فَأَنْزَلَ أَبُو الذَّيَّالِ جُنْدَهُ عَلَى أَهْلِهَا، وَكَانَ عَامَّةُ أَهْلِهَا مَعَ أَبِي مُسْلِمٍ فِي الْخَنْدَقِ، فَآذَوْا أَهْلَ طُوسَانَ وَعَسَفُوهُمْ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ أَبُو مُسْلِمٍ جُنْدًا، فَلَقُوا أَبَا الذَّيَّالِ فَهَزَمُوهُ وَأَسَرُوا مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، فَكَسَاهُمْ أَبُو مُسْلِمٍ وَدَاوَى جِرَاحَهُمْ وَأَطْلَقَهُمْ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِأَبِي مُسْلِمٍ مُعَسْكَرُهُ بِالْيَنِ أَمَرَ مُحْرِزَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَسِيرَ فِي جَمَاعَةٍ وَيُخَنْدِقَ بِجِيرَنْجَ، وَيَجْتَمِعَ عِنْدَهُ جَمْعٌ مِنَ الشِّيعَةِ لِيَقْطَعَ مَادَّةَ نَصْرٍ مِنْ مَرْوِ الرُّوذِ وَبَلْخٍ وَطَخَارِسْتَانَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ نَحْوٌ مِنْ أَلْفِ رَجُلٍ، فَقَطَعَ الْمَادَّةَ عَنْ نَصْرٍ. ذِكْرُ غَلَبَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَلَى فَارِسَ وَقَتْلِهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَلَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَلَى فَارِسَ وَكُوَرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ظُهُورِهِ بِالْكُوفَةِ وَانْهِزَامِهِ وَخُرُوجِهِ مِنَ الْكُوفَةِ نَحْوَ الْمَدَائِنِ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا أَتَاهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهَا، فَسَارَ إِلَى الْجِبَالِ وَغَلَبَ عَلَيْهَا وَعَلَى حُلْوَانَ وَقُومِسَ وَأَصْبَهَانَ وَالرَّيِّ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبِيدُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَقَامَ بِأَصْبَهَانَ. وَكَانَ مُحَارِبُ بْنُ مُوسَى مَوْلَى بَنِي يَشْكُرَ عَظِيمَ الْقَدْرِ بِفَارِسَ، فَجَاءَ إِلَى دَارِ الْإِمَارَةِ بِإِصْطَخْرَ فَطَرَدَ عَامِلَ ابْنِ عُمَرَ عَنْهَا، وَبَايَعَ النَّاسُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَخَرَجَ مُحَارِبٌ إِلَى كَرْمَانَ فَأَغَارَ عَلَيْهَا، وَانْضَمَّ إِلَى مُحَارِبٍ قُوَّادٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَسَارَ إِلَى مُسْلِمِ بْنِ

الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ عَامِلُ ابْنِ عُمَرَ بِشِيرَازَ، فَقَتَلَهُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ خَرَجَ مُحَارِبٌ إِلَى أَصْبَهَانَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَحَوَّلَهُ إِلَى إِصْطَخْرَ، فَأَقَامَ بِهَا، وَأَتَاهُ النَّاسُ بَنُو هَاشِمٍ وَغَيْرُهُمْ، وَجَبَا الْمَالَ وَبَعَثَ الْعُمَّالَ، وَكَانَ مَعَهُ مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَتَاهُ شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخَارِجِيُّ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَتَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، وَأَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ وَعِيسَى ابْنَا عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. وَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ هُبَيْرَةَ عَلَى الْعِرَاقِ أَرْسَلَ نَبَاتَةَ بْنَ حَنْظَلَةَ الْكِلَابِيَّ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَبَلَغَ سُلَيْمَانَ بْنَ حَبِيبٍ أَنَّ ابْنَ هُبَيْرَةَ اسْتَعْمَلَ نَبَاتَةَ عَلَى الْأَهْوَازِ فَسَرَّحَ دَاوُدَ بْنَ حَاتِمٍ، فَأَقَامَ بِكَرْخِ دِينَارٍ يَمْنَعُ نَبَاتَةَ مِنَ الْأَهْوَازِ، فَقَاتَلَهُ فَقُتِلَ دَاوُدُ وَهَرَبَ سُلَيْمَانُ مِنَ الْأَهْوَازِ إِلَى سَابُورَ، وَفِيهَا الْأَكْرَادُ قَدْ غَلَبُوا عَلَيْهَا، فَقَاتَلَهُمْ سُلَيْمَانُ وَطَرَدَهُمْ عَنْ سَابُورَ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ مُعَاوِيَةَ بِالْبَيْعَةِ. ثُمَّ إِنَّ مُحَارِبَ بْنَ مُوسَى الْيَشْكُرِيَّ نَافَرَ ابْنَ مُعَاوِيَةَ وَفَارَقَهُ، وَجَمَعَ جَمْعًا فَأَتَى سَابُورَ فَقَاتَلَهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ، فَانْهَزَمَ مُحَارِبٌ وَأَتَى كَرْمَانَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى قَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ فَصَارَ مَعَهُ، ثُمَّ نَافَرَهُ فَقَتَلَهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ ابْنًا لَهُ، وَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بِإِصْطَخْرَ حَتَّى أَتَاهُ ابْنُ ضُبَارَةَ مَعَ دَاوُدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَسَيَّرَ ابْنُ هُبَيْرَةَ أَيْضًا مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَقَاتَلَهُمْ مَعْنٌ عِنْدَ مَرْوِ شَاذَانَ، وَمَعْنٌ يَقُولُ: لَيْسَ أَمِيرُ الْقَوْمِ بِالْخَبِّ الْخَدِعْ ... فَرَّ مِنَ الْمَوْتِ وَفِي الْمَوْتِ وَقَعْ وَانْهَزَمَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ فَكَفَّ مَعْنٌ عَنْهُمْ، وَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ رَجُلٌ مِنْ آلِ أَبِي لَهَبٍ، وَكَانَ يُقَالُ: يُقْتَلُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ بِمَرْوِ الشَّاذَانِ، وَأَسَرُوا أَسْرَى كَثِيرَةً، فَقَتَلَ ابْنُ ضُبَارَةَ مِنْهُمْ عِدَّةً كَثِيرَةً، وَهَرَبَ مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ إِلَى السِّنْدِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ إِلَى عُمَانَ، وَعَمْرُو بْنُ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ إِلَى مِصْرَ، وَبَعَثَ بِبَقِيَّةِ الْأَسْرَى إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ فَأَطْلَقَهُمْ، وَمَضَى ابْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى خُرَاسَانَ. فَسَارَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ يَطْلُبُ مَنْصُورَ بْنَ جُمْهُورٍ فَلَمْ يُدْرِكْهُ، فَرَجَعَ. وَكَانَ مَعَ ابْنِ مُعَاوِيَةَ مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأُسِرَ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، فِيهِمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَسَبَّهُ ابْنُ ضَبَارَةَ وَقَالَ لَهُ: مَا جَاءَ بِكَ إِلَى

ابْنِ مُعَاوِيَةَ وَقَدْ عَرَفْتَ خِلَافَهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: كَانَ عَلَيَّ دَيْنٌ فَأَدَّيْتُهُ. فَشَفَعَ فِيهِ حَرْبُ بْنُ قَطَنٍ الْهِلَالِيُّ وَقَالَ: هُوَ ابْنُ أُخْتِنَا، فَوَهَبَهُ لَهُ. فَعَابَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَرَمَى أَصْحَابَهُ بِاللُّوَاطِ، فَسَيَّرَهُ ابْنُ ضُبَارَةَ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ لِيُخْبِرَهُ أَخْبَارَ ابْنِ مُعَاوِيَةَ، وَسَارَ فِي طَلَبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى شِيرَازَ فَحَصَرَهُ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْهَا هَارِبًا وَمَعَهُ أَخَوَاهُ الْحَسَنُ وَيَزِيدُ ابْنَا مُعَاوِيَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَسَلَكَ الْمَفَازَةَ عَلَى كَرْمَانَ، وَقَصَدَ خُرَاسَانَ طَمَعًا فِي أَبِي مُسْلِمٍ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الرِّضَاءِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَى خُرَاسَانَ، فَوَصَلَ إِلَى نَوَاحِي هَرَاةَ وَعَلَيْهَا أَبُو نَصْرٍ مَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيُّ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُهُ عَنْ قُدُومِهِ، فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَدْعُونَ إِلَى الرِّضَاءِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ فَأَتَيْتُكُمْ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَالِكٌ: انْتَسِبْ نَعْرِفْكَ. فَانْتَسَبَ لَهُ، فَقَالَ: أَمَّا عَبْدُ اللَّهِ وَجَعْفَرُ فَمِنْ أَسْمَاءِ آلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَلَا نَعْرِفُهُ فِي أَسْمَائِهِمْ، فَقَالَ: إِنَّ جَدِّي كَانَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ لَمَّا وُلِدَ لَهُ أَبِي، فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُسَمِّيَ ابْنَهُ بِاسْمِهِ فَفَعَلَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَالِكٌ: لَقَدِ اشْتَرَيْتُمْ الِاسْمَ الْخَبِيثَ بِالثَّمَنِ الْيَسِيرِ وَلَا نَرَى لَكَ حَقًّا فِيمَا تَدْعُو إِلَيْهِ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يُعَرِّفُهُ خَبَرَهُ، فَأَمَرَهُ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ وَحَبَسَهُمْ، ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابُ أَبِي مُسْلِمٍ يَأْمُرُهُ بِإِطْلَاقِ الْحَسَنِ وَيَزِيدَ ابْنَيْ مُعَاوِيَةَ وَقَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَأَمَرَ مَنْ وَضَعَ فِرَاشًا عَلَى وَجْهِهِ فَمَاتَ، وَأُخْرِجَ فَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ، وَقَبْرُهُ بِهَرَاةَ مَعْرُوفٌ يُزَارُ، رَحِمَهُ اللَّهُ. ذِكْرُ أَبِي حَمْزَةَ الْخَارِجِيِّ وَطَالِبِ الْحَقِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ أَبُو حَمْزَةَ وَبَلْجُ بْنُ عُقْبَةَ الْأَزْدِيُّ الْخَارِجِيُّ مِنَ الْحَجِّ مِنْ قِبَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى الْحَضْرَمِيِّ طَالِبِ الْحَقِّ، مُحَكِّمًا لِلْخِلَافِ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَبَيْنَمَا النَّاسُ بِعَرَفَةَ مَا شَعَرُوا إِلَّا وَقَدْ طَلَعَتْ عَلَيْهِمْ أَعْلَامٌ وَعَمَائِمُ سُودٌ عَلَى رُءُوسِ الرِّمَاحِ وَهُمْ سَبْعُمِائَةٍ، فَفَزِعَ النَّاسُ حِينَ رَأَوْهُمْ وَسَأَلُوهُمْ عَنْ حَالِهِمْ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِخِلَافِهِمْ مَرْوَانَ وَآلَ مَرْوَانَ. فَرَاسَلَهُمْ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْهُدْنَةَ، فَقَالُوا: نَحْنُ بِحَجِّنَا أَضَنُّ وَعَلَيْهِ أَشَحُّ. فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ جَمِيعًا آمِنُونَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى يَنْفِرَ النَّاسُ النَّفْرَ الْأَخِيرِ، فَوَقَفُوا بِعَرَفَةَ عَلَى حِدَةٍ.

فَدَفَعَ النَّاسُ عَبْدَ الْوَاحِدِ فَنَزَلَ بِمِنًى فِي مَنْزِلِ السُّلْطَانِ، وَنَزَلَ أَبُو حَمْزَةَ بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ. فَأَرْسَلَ عَبْدُ الْوَاحِدِ إِلَى أَبِي حَمْزَةَ الْخَارِجِيِّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَرَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي رِجَالٍ أَمْثَالِهِمْ، فَدَخَلُوا عَلَى أَبِي حَمْزَةَ وَعَلَيْهِ إِزَارُ قُطْنٍ غَلِيظٌ، فَتَقَدَّمَهُمْ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَنَسَبَهُمَا فَانْتَسَبَا لَهُ، فَعَبَسَ فِي وُجُوهِهِمَا وَأَظْهَرَ الْكَرَاهَةَ لَهُمَا ثُمَّ سَأَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَانْتَسَبَا لَهُ، فَهَشَّ إِلَيْهِمَا وَتَبَسَّمَ فِي وُجُوهِهِمَا وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا خَرَجْنَا لِنَسِيرَ بِسِيرَةِ أَبَوَيْكُمَا. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: وَاللَّهِ مَا خَرَجْنَا لِتُفَضِّلَ بَيْنَ آبَائِنَا، وَلَكِنْ بَعَثْنَا إِلَيْكَ الْأَمِيرَ بِرِسَالَةٍ، وَهَذَا رَبِيعَةُ يُخْبِرُكُهَا. فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُ رَبِيعَةُ نَقْضَ الْعَهْدِ قَالَ أَبُو حَمْزَةَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنَّ نَنْقُضَ الْعَهْدَ أَوْ نَخِيسَ بِهِ، لَا وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ وَلَوْ قُطِعَتْ رَقَبَتِي هَذِهِ وَلَكِنْ تَنْقَضِي الْهُدْنَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. فَرَجَعُوا إِلَى عَبْدِ الْوَاحِدِ فَأَبْلَغُوهُ. فَلَمَّا كَانَ النَّفْرُ الْأَوَّلُ نَفَرَ عَبْدُ الْوَاحِدِ فِيهِ وَخَلَّى مَكَّةَ، فَدَخَلَهَا أَبُو حَمْزَةَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي عَبْدِ الْوَاحِدِ: زَارَ الْحَجِيجَ عِصَابَةٌ قَدْ خَالَفُوا ... دِينَ الْإِلَهِ فَفَرَّ عَبْدُ الْوَاحِدِ تَرَكَ الْحَلَائِلَ وَالْإِمَارَةَ هَارِبًا ... وَمَضَى يُخَبِّطُ كَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ ثُمَّ مَضَى عَبْدُ الْوَاحِدِ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَضَرَبَ عَلَى أَهْلِهَا الْبَعْثَ، وَزَادَهَمْ فِي الْعَطَاءِ عَشَرَةً عَشَرَةً، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، فَخَرَجُوا، فَلَمَّا كَانُوا بِالْحَرَّةِ تَلَقَّتْهُمْ جُزُرٌ مَنْحُورَةٌ فَمَضَوْا. ذِكْرُ وِلَايَةِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيِّ بِالْأَنْدَلُسِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ ثَوَابَةُ بْنُ سَلَامَةَ أَمِيرُ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَنَتَيْنِ

وَشُهُورًا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ اخْتَلَفَ النَّاسُ، فَالْمُضَرِيَّةُ أَرَادَتْ أَنْ يَكُونَ الْأَمِيرُ مِنْهُمْ، وَالْيَمَانِيَّةُ أَرَادَتْ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْأَمِيرُ مِنْهُمْ، فَبَقَوْا بِغَيْرِ أَمِيرٍ، فَخَافَ الصُّمَيْلُ الْفِتْنَةَ فَأَشَارَ بِأَنْ يَكُونَ الْوَالِي مِنْ قُرَيْشٍ، فَرَضُوا كُلُّهُمْ بِذَلِكَ، فَاخْتَارَ لَهُمْ يُوسُفَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيَّ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ بِإِلْبِيرَةَ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِ بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ تَأْمِيرِهِ، فَامْتَنَعَ. فَقَالُوا لَهُ: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، وَيَكُونُ إِثْمُ ذَلِكَ عَلَيْكَ. فَأَجَابَ حِينَئِذٍ وَسَارَ إِلَى قُرْطُبَةَ فَدَخَلَهَا وَأَطَاعَهُ النَّاسُ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى أَبِي الْخَطَّارِ مَوْتُ ثَوَابَةَ وَوِلَايَةُ يُوسُفَ قَالَ: إِنَّمَا أَرَادَ الصُّمَيْلُ أَنْ يَصِيرَ الْأَمْرُ إِلَى مُضَرَ، وَسَعَى فِي النَّاسِ حَتَّى ثَارَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْيَمَنِ وَمُضَرَ. فَلَمَّا رَأَى يُوسُفُ ذَلِكَ فَارَقَ قَصْرَ الْإِمَارَةِ بِقُرْطُبَةَ وَعَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَسَارَ أَبُو الْخَطَّارِ إِلَى شَقُنْدَةَ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ الْيَمَانِيَّةُ، وَاجْتَمَعَتِ الْمُضَرِيَّةُ وَتَزَاحَفُوا وَاقْتَتَلُوا أَيَّامًا كَثِيرَةً (قِتَالًا لَمْ يَكُنْ بِالْأَنْدَلُسِ أَعْظَمُ مِنْهُ، ثُمَّ أَجْلَتِ الْحَرْبُ عَنْ هَزِيمَةِ الْيَمَانِيَّةِ) ، وَمَضَى أَبُو الْخَطَّارِ مُنْهَزِمًا فَاسْتَتَرَ فِي رَحًى كَانَتْ لِلصُّمَيْلِ، فَدُلَّ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ الصُّمَيْلُ وَقَتَلَهُ، وَرَجَعَ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى الْقَصْرِ، وَازْدَادَ الصُّمَيْلُ شَرَفًا، وَكَانَ اسْمُ الْإِمَارَةِ لِيُوسُفَ وَالْحُكْمُ إِلَى الصُّمَيْلِ. ثُمَّ خَرَجَ عَلَى يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلْقَمَةَ اللَّخْمِيِّ بِمَدِينَةِ أَرْبُونَةَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى قُتِلَ وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى يُوسُفَ. وَخَرَجَ عَلَيْهِ عُذْرَةُ الْمَعْرُوفُ بِالذِّمِّيِّ، فَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتَعَانَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ يُوسُفُ عَامِرَ بْنَ عَمْرٍو، وَهُوَ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ مَقْبَرَةُ عَامِرٍ مِنْ (أَبْوَابِ قُرْطُبَةَ) ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ وَعَادَ مَفْلُولًا، فَسَارَ إِلَيْهِ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَاتَلَهُ فَقَتَلَهُ وَاسْتَبَاحَ عَسْكَرَهُ. وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَفِيهَا بَعْضُ الْخِلَافِ، وَسَنَذْكُرُهَا سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ عِنْدَ دُخُولِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ الْأَنْدَلُسَ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ الْوَاحِدِ، وَهُوَ كَانَ الْعَامِلَ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ. وَكَانَ عَلَى الْعِرَاقِ يَزِيدُ [بْنُ عُمَرَ] بْنِ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ: الْحَجَّاجُ بْنُ عَاصِمٍ الْمُحَارِبِيُّ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ: عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَكَانَ عَلَى خُرَاسَانَ: نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ وَالْفِتْنَةُ بِهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ. وَفِيهَا مَاتَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ الْعَدَوِيُّ بِخُرَاسَانَ، وَكَانَ قَدْ تَعَلَّمَ النَّحْوَ مِنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، وَكَانَ مِنْ فُصَحَاءِ التَّابِعِينَ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الزِّنَادِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ. وَفِيهَا مَاتَ وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ الْيَمَامِيُّ أَبُو نَصْرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ. وَأَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ.

وَالْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَرَقَبَةُ بْنُ مَصْقَلَةَ الْكُوفِيُّ. وَمَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ الثَّقَفِيِّ، وَشَهِدَ جِنَازَتَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى صَلَاحِهِ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ.

ثم دخلت سنة ثلاثين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ] 130 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ دُخُولِ أَبِي مُسْلِمٍ مَرْوَ وَالْبَيْعَةِ بِهَا وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ مَدِينَةَ مَرْوَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَقِيلَ فِي جُمَادَى الْأُولَى. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ اتِّفَاقَ ابْنِ الْكَرْمَانِيِّ مَعَهُ. إِنَّ ابْنَ الْكَرْمَانِيِّ وَمَنْ مَعَهُ وَسَائِرَ الْقَبَائِلِ بِخُرَاسَانَ لَمَّا عَاقَدُوا نَصْرًا عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ عَظُمَ عَلَيْهِ وَجَمَعَ أَصْحَابَهُ لِحَرْبِهِمْ، فَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ بِإِزَاءِ ابْنِ الْكَرْمَانِيِّ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ يَقُولُ لَكَ: أَمَا تَأْنَفُ مِنْ مُصَالَحَةِ نَصْرٍ وَقَدْ قَتَلَ بِالْأَمْسِ أَبَاكَ وَصَلَبَهُ؟ وَمَا كُنْتُ أَحْسَبُكَ تُجَامِعُ نَصْرًا فِي مَسْجِدٍ تُصَلِّيَانِ فِيهِ! فَأَحْفَظَهُ هَذَا الْكَلَامَ، فَرَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ وَانْتَقَضَ صُلْحُ الْعَرَبِ. فَلَمَّا انْتَقَضَ صُلْحُهُمْ بَعَثَ نَصْرٌ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يَلْتَمِسُ مِنْهُ أَنْ يَدْخُلَ مَعَ مُضَرَ، وَبَعَثَ أَصْحَابُ ابْنِ الْكَرْمَانِيِّ، وَهُمْ رَبِيعَةُ وَالْيَمَنُ، إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَرَاسَلُوهُ بِذَلِكَ أَيَّامًا، فَأَمَرَهُمْ أَبُو مُسْلِمٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ وَفْدُ الْفَرِيقَيْنِ حَتَّى يَخْتَارَ أَحَدَهُمَا، فَفَعَلُوا، وَأَمَرَ أَبُو مُسْلِمٍ الشِّيعَةَ أَنْ تَخْتَارَ رَبِيعَةَ وَالْيَمَنَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ فِي مُضَرَ، وَهُمْ أَصْحَابُ مَرْوَانَ وَعُمَّالُهُ وَقَتَلَةُ يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ. فَقَدِمَ الْوَفْدَانِ، فَجَلَسَ أَبُو مُسْلِمٍ وَأَجْلَسَهُمْ وَجَمَعَ عِنْدَهُ مِنَ الشِّيعَةِ سَبْعِينَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُمْ لِيَخْتَارُوا أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ. فَقَامَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ مِنَ الشِّيعَةِ، فَتَكَلَّمَ وَكَانَ خَطِيبًا مُفَوَّهًا، فَاخْتَارَ ابْنَ الْكَرْمَانِيِّ وَأَصْحَابَهُ، ثُمَّ قَامَ أَبُو مَنْصُورٍ طَلْحَةُ بْنُ زُرَيْقٍ النَّقِيبُ فَاخْتَارَهُمْ أَيْضًا، ثُمَّ قَامَ مَرْثَدُ بْنُ شَقِيقٍ السُّلَمِيُّ فَقَالَ: إِنَّ مُضَرَ قَتَلَةُ آلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْوَانُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَشِيعَةُ مَرْوَانَ الْجَعْدِيِّ وَعُمَّالُهُ، وَدِمَاؤُنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأَمْوَالُنَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَنَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ عَامِلُ مَرْوَانَ يُنَفِّذُ أُمُورَهُ وَيَدْعُو لَهُ عَلَى مِنْبَرِهِ وَيُسَمِّيهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَحْنُ نَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ أَنْ يَكُونَ نَصْرٌ عَلَى هُدًى، وَقَدِ اخْتَرْنَا عَلِيَّ بْنَ

الْكَرْمَانِيِّ وَأَصْحَابَهُ. فَقَالَ السَبْعُونَ: الْقَوْلُ مَا قَالَ مَرْثَدُ بْنُ شَقِيقٍ. فَنَهَضَ وَفْدُ نَصْرٍ عَلَيْهِمُ الْكَآبَةُ وَالذِّلَّةُ، وَرَجَعَ وَفْدُ ابْنِ الْكَرْمَانِيِّ مَنْصُورِينَ. وَرَجَعَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنَ الْيَنِ إِلَى الْمَاخُوَانِ وَأَمَرَ الشِّيعَةَ أَنْ يَبْنُوا الْمَسَاكِنَ فَقَدْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ مِنَ اجْتِمَاعِ كَلِمَةِ الْعَرَبِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى [أَبِي مُسْلِمٍ] عَلِيُّ بْنُ الْكَرْمَانِيِّ لِيَدْخُلَ مَدِينَةَ مَرْوَ مِنْ نَاحِيَتِهِ، وَلِيَدْخُلَ هُوَ وَعَشِيرَتُهُ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنِّي لَسْتُ آمَنُ أَنْ تَجْتَمِعَ يَدُكَ وَيَدُ نَصْرٍ عَلَى مُحَارَبَتِي، وَلَكِنِ ادْخُلْ أَنْتَ فَأَنْشِبِ الْحَرْبَ مَعَ أَصْحَابِ نَصْرٍ. فَدَخَلَ ابْنُ الْكَرْمَانِيِّ فَأَنْشَبَ الْحَرْبَ، وَبَعَثَ أَبُو مُسْلِمٍ شِبْلَ بْنَ طَهْمَانَ النَّقِيبَ فِي خَيْلٍ فَدَخَلُوهَا، وَنَزَلَ شِبْلٌ بِقَصْرِ بُخَارَاخُذَاهْ، وَبَعَثَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ لِيَدْخُلَ إِلَيْهِمْ، فَسَارَ مِنَ الْمَاخُوَانَ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ أُسَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ مَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ الْقَاسِمُ بْنُ مُجَاشِعٍ التَّمِيمِيُّ. فَدَخَلَ مَرْوَ وَالْفَرِيقَانِ يَقْتَتِلَانِ، فَأَمَرَهُمَا بِالْكَفِّ وَهُوَ يَتْلُو مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] الْآيَةَ. وَمَضَى أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ أَنْ كُفُّوا وَلْيَنْصَرِفْ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى عَسْكَرِهِ، فَفَعَلُوا وَصَفَتْ مَرْوُ لِأَبِي مُسْلِمٍ، فَأَمَرَ بِأَخْذِ الْبَيْعَةِ مِنَ الْجُنْدِ، وَكَانَ الَّذِي يَأْخُذُهَا أَبُو مَنْصُورٍ طَلْحَةُ بْنُ رُزَيْقٍ، وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ عَالِمًا بِحُجَجِ الْهَاشِمِيَّةِ وَمَعَايِبِ الْأُمَوِيَّةِ. وَكَانَ النُّقَبَاءُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، اخْتَارَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مِنَ السَبْعِينَ الَّذِينَ كَانُوا اسْتَجَابُوا لَهُ حِينَ بَعَثَ رَسُولَهُ إِلَى خُرَاسَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَمِائَةٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، وَوَصَفَ لَهُ مِنَ الْعَدْلِ صِفَةً، وَكَانَ مِنْهُمْ مِنْ خُزَاعَةَ: سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، وَمَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ، وَزِيَادُ بْنُ صَالِحٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ رُزَيْقٍ، وَعَمْرُو بْنُ أَعْيَنَ، وَمِنْ طَيِّئٍ: قَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، وَمِنْ تَمِيمٍ: مُوسَى بْنُ كَعْبٍ أَبُو عُيَيْنَةَ، وَلَاهِزُ بْنُ قُرَيْظٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُجَاشِعٍ، وَأَسْلَمُ بْنُ سَلَّامٍ، وَمِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ: أَبُو دَاوُدَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّيْبَانِيُّ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْهَرَوِيُّ، وَيُقَالُ شِبْلُ بْنُ طَهْمَانَ مَكَانَ عَمْرِو بْنِ أَعْيَنَ، وَعِيسَى بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو النَّجْمِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِمْرَانَ مَكَانَ أَبِي عَلِيٍّ الْهَرَوِيِّ، وَهُوَ خَتَنُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي النُّقَبَاءِ أَحَدٌ وَالِدُهُ حَيٌّ غَيْرَ أَبِي مَنْصُورٍ طَلْحَةَ بْنِ رُزَيْقِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ أَبُو زَيْنَبَ الْخُزَاعِيُّ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ حَرْبَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَصَحِبَ الْمُهَلَّبَ وَغَزَا مَعَهُ، وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ يُشَاوِرُهُ فِي الْأُمُورِ وَيَسْأَلُهُ عَنْهَا وَعَمَّا شَهِدَ مِنَ الْحُرُوبِ.

وَكَانَتِ الْبَيْعَةُ: أُبَايِعُكُمْ [عَلَى] كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالطَّاعَةِ لِلرِّضَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ، وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَعَلَى أَنْ لَا تَسْأَلُوا رِزْقًا وَلَا طُعْمًا حَتَّى يَبْتَدِئَكُمْ بِهِ وُلَاتُكُمْ. (رُزَيْقٌ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ) . ذِكْرُ هَرَبِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ مِنْ مَرْوَ ثُمَّ أَرْسَلَ أَبُو مُسْلِمٍ لَاهِزَ بْنَ قُرَيْظٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ يَدْعُوهُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالرِّضَاءِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا رَأَى مَا جَاءَهُ مِنَ الْيَمَانِيَّةِ وَالرَّبِيعِيَّةِ وَالْعَجَمِ، وَأَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمْ أَظْهَرَ قَبُولَ مَا أَتَاهُ بِهِ، وَأَنَّهُ يَأْتِيهِ وَيُبَايِعُهُ، وَجَعَلَ يَرْبُثُهُمْ لِمَا هُمْ [بِهِ] مِنَ الْغَدْرِ وَالْهَرَبِ، إِلَى أَنْ أَمْسَوْا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ لَيْلَتِهِمْ إِلَى مَكَانٍ يَأْمَنُونَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ سَالِمُ بْنُ أَحْوَزَ: لَا يَتَهَيَّأُ لَنَا الْخُرُوجُ (اللَّيْلَةَ وَلَكِنَّنَا نَخْرُجُ) الْقَابِلَةَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ عَبَّأَ أَبُو مُسْلِمٍ أَصْحَابَهُ وَكَتَائِبَهُ إِلَى بَعْدِ الظُّهْرِ، وَأَعَادَ إِلَى نَصْرٍ لَاهِزَ بْنَ قُرَيْظٍ وَجَمَاعَةً مَعَهُ، فَدَخَلُوا عَلَى نَصْرٍ. فَقَالَ: مَا أَسْرَعَ مَا عُدْتُمْ! فَقَالَ لَهُ لَاهِزُ بْنُ قُرَيْظٍ: لَا بُدَّ لَكَ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ نَصْرٌ: إِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنِّي أَتَوَضَّأُ وَأَخْرُجُ إِلَيْهِ، وَأُرْسِلُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَإِنْ كَانَ هَذَا رَأْيُهُ وَأَمْرُهُ أَتَيْتُهُ، وَأَتَهَيَّأُ إِلَى أَنْ يَجِيءَ رَسُولِي. فَقَامَ نَصْرٌ، فَلَمَّا قَامَ قَرَأَ لَاهِزُ بْنُ قُرَيْظٍ: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20] . فَدَخَلَ نَصْرٌ مَنْزِلَهُ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ انْصِرَافَ رَسُولِهِ مِنْ عِنْدِ أَبِي مُسْلِمٍ. فَلَمَّا جَنَّهُ اللَّيْلُ خَرَجَ مِنْ خَلْفِ حُجْرَتِهِ وَمَعَهُ تَمِيمٌ ابْنُهُ وَالْحَكَمُ بْنُ نُمَيْلَةَ النُّمَيْرِيُّ وَامْرَأَتُهُ الْمَرْزُبَانَةُ وَانْطَلَقُوا هُرَّابًا، فَلَمَّا اسْتَبْطَأَهُ لَاهِزٌ وَأَصْحَابُهُ دَخَلُوا مَنْزِلَهُ فَوَجَدُوهُ قَدْ هَرَبَ. فَلَمَّا بَلَغَ أَبَا مُسْلِمٍ سَارَ إِلَى مُعَسْكَرِ نَصْرٍ، وَأَخَذَ ثِقَاتِ أَصْحَابِهِ وَصَنَادِيدَهُمْ فَكَتَّفَهُمْ، وَكَانَ فِيهِمْ سَالِمُ بْنُ أَحْوَزَ صَاحِبُ شُرْطَةِ نَصْرٍ، وَالْبَخْتَرِيُّ كَاتِبُهُ، وَابْنَانِ لَهُ، وَيُونُسُ بْنُ عَبْدَوَيْهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ قَطَنٍ، وَمُجَاهِدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حُضَيْنٍ، وَغَيْرُهُمْ، فَاسْتَوْثَقَ مِنْهُمْ بِالْحَدِيدِ، وَكَانُوا فِي الْحَبْسِ عِنْدَهُ، وَسَارَ أَبُو مُسْلِمٍ وَابْنُ الْكَرْمَانِيِّ فِي طَلَبِ نَصْرٍ لَيْلَتَهُمَا، فَأَدْرَكَا امْرَأَتَهُ قَدْ خَلَّفَهَا وَسَارَ، فَرَجَعَ أَبُو مُسْلِمٍ وَابْنُ الْكَرْمَانِيِّ إِلَى مَرْوَ،

وَسَارَ نَصْرٌ إِلَى سَرْخَسَ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ رَجُلٍ، وَلَمَّا رَجَعَ أَبُو مُسْلِمٍ سَأَلَ مَنْ كَانَ أَرْسَلَهُ إِلَى نَصْرٍ: مَا الَّذِي ارْتَابَ بِهِ نَصْرٌ حَتَّى هَرَبَ؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي. قَالَ: فَهَلْ تَكَلَّمَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشَيْءٍ؟ قَالُوا: تَلَا لَاهِزٌ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} [القصص: 20] . قَالَ: هَذَا الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الْهَرَبِ. ثُمَّ قَالَ: يَا لَاهِزُ تُدْغِلُ فِي الدِّينِ! ثُمَّ قَتَلَهُ. وَاسْتَشَارَ أَبُو مُسْلِمٍ أَبَا طَلْحَةَ فِي أَصْحَابِ نَصْرٍ فَقَالَ: اجْعَلْ سَوْطَكَ السَّيْفَ وَسِجْنَكَ الْقَبْرَ. فَقَتَلَهُمْ أَبُو مُسْلِمٍ، وَكَانَ عِدَّتُهُمْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا. وَأَمَّا نَصْرٌ فَإِنَّهُ سَارَ مِنْ سَرْخَسَ إِلَى طُوسٍ فَأَقَامَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَبِسَرْخَسَ يَوْمًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى نَيْسَابُورَ فَأَقَامَ بِهَا، وَدَخَلَ ابْنُ الْكَرْمَانِيِّ مَرْوَ مَعَ أَبِي مُسْلِمٍ، وَتَابَعَهُ عَلَى رَأْيٍ وَعَاقَدَهُ عَلَيْهِ. (يَحْيَى بْنُ حُضَيْنٍ: بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَآخِرُهُ نُونٌ) . ذِكْرُ قَتْلِ شَيْبَانَ الْحَرُورِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ شَيْبَانُ بْنُ سَلَمَةَ الْحَرُورِيُّ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَعَلِيُّ بْنُ الْكَرْمَانِيِّ مُجْتَمِعَيْنِ عَلَى قِتَالِ نَصْرٍ لِمُخَالَفَةِ شَيْبَانَ نَصْرًا لِأَنَّهُ مِنْ عُمَّالِ مَرْوَانَ، وَشَيْبَانُ يَرَى رَأْيَ الْخَوَارِجِ، وَمُخَالَفَةِ ابْنِ الْكَرْمَانِيِّ نَصْرًا لِأَنَّ نَصْرًا قَتَلَ أَبَاهُ الْكَرْمَانِيَّ، وَأَنَّ نَصْرًا مُضَرِيٌّ وَابْنَ الْكَرْمَانِيِّ يَمَانِيٌّ، وَبَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ، فَلَمَّا صَالَحَ ابْنُ الْكَرْمَانِيِّ أَبَا مُسْلِمٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَفَارَقَ شَيْبَانَ تَنَحَّى شَيْبَانُ عَنْ مَرْوَ إِذْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْوَى لِحَرْبِهِمَا، وَقَدْ هَرَبَ نَصْرٌ إِلَى سَرْخَسَ. وَلَمَّا اسْتَقَامَ الْأَمْرُ لِأَبِي مُسْلِمٍ أَرْسَلَ إِلَى شَيْبَانَ يَدْعُوهُ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَقَالَ شَيْبَانُ: أَنَا أَدْعُوكَ إِلَى بَيْعَتِي. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِي أَمْرِنَا فَارْتَحِلْ عَنْ مَنْزِلِكَ الَّذِي أَنْتَ بِهِ. فَأَرْسَلَ شَيْبَانُ إِلَى ابْنِ الْكَرْمَانِيِّ يَسْتَنْصِرُهُ، فَأَبَى، فَسَارَ شَيْبَانُ إِلَى سَرْخَسَ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ تِسْعَةً مِنَ الْأَزْدِ يَدْعُوهُ وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَكُفَّ، فَأَخَذَ الرُّسُلَ فَسَجَنَهُمْ. فَكَتَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى بَسَّامِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ مَوْلَى بَنِي لَيْثٍ بِأَبِيوَرْدَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى شَيْبَانَ فَيُقَاتِلَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ فَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ شَيْبَانُ وَاتَّبَعَهُ بِسَّامٌ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَقَتَلَ شَيْبَانَ وَعِدَّةً مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ. فَقِيلَ لِأَبِي مُسْلِمٍ: إِنَّ بَسَّامًا ارْتَدَّ ثَانِيَةً، وَهُوَ يَقْتُلُ الْبَرِيءَ بِالسَّقِيمِ، فَاسْتَقْدَمَهُ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَسْكَرِهِ

رَجُلًا. فَلَمَّا قُتِلَ شَيْبَانُ مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ بِرُسُلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَقَتَلَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ وَجَّهَ إِلَى شَيْبَانَ عَسْكَرًا مِنْ عِنْدِهِ عَلَيْهِمْ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ وَبَسَّامُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. ذِكْرُ قَتْلِ ابْنَيِ الْكَرْمَانِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ ابْنَيِ الْكَرْمَانِيِّ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ كَانَ وَجَّهَ مُوسَى بْنَ كَعْبٍ إِلَى أَبِيوَرْدَ فَافْتَتَحَهَا وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِذَلِكَ، وَوَجَّهَ أَبَا دَاوُدَ إِلَى بَلْخٍ، وَبِهَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُشَيْرِيُّ، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَصْدُ أَبِي دَاوُدَ بَلْخًا خَرَجَ فِي أَهْلِ بَلْخٍ وَتِرْمِذَ وَغَيْرِهِمَا مَنْ كُوَرِ طَخَارِسْتَانَ إِلَى الْجُوزَجَانِ، فَلَمَّا دَنَا أَبُو دَاوُدَ مِنْهُمُ انْصَرَفُوا مُنْهَزِمِينَ إِلَى تِرْمِذَ، وَدَخَلَ أَبُو دَاوُدَ مَدِينَةَ بَلْخٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَوَجَّهَ مَكَانَهُ يَحْيَى بْنَ نُعَيْمٍ أَبَا الْمَيْلَاءِ عَلَى بَلْخٍ، فَلَمَّا قَدِمَ يَحْيَى مَدِينَةَ بَلْخٍ كَاتَبَهُ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْ يَرْجِعَ وَتَصِيرَ أَيْدِيهِمْ وَاحِدَةً، فَأَجَابَهُ، فَرَجَعَ زِيَادٌ وَمُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيُّ وَعِيسَى بْنُ زُرْعَةَ السُّلَمِيُّ وَأَهْلُ بَلْخٍ وَتِرْمِذَ وَمُلُوكُ طَخَارِسْتَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَدُونَهُ فَنَزَلُوا عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ بَلْخٍ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ يَحْيَى بْنُ نُعَيْمٍ بِمَنْ مَعَهُ، فَصَارَتْ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً مُضَرَ وَرَبِيعَةَ وَالْيَمَنِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْعَجَمِ عَلَى قِتَالِ الْمُسَوِّدَةِ، وَجَعَلُوا الْوِلَايَةَ عَلَيْهِمْ لِمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ النَّبَطِيِّ كَرَاهَةَ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَاحِدٍ مِنَ الْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ. وَأَمَرَ أَبُو مُسْلِمٍ أَبَا دَاوُدَ بِالْعَوْدِ، فَأَقْبَلَ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى اجْتَمَعُوا عَلَى نَهْرِ السَّرَجْنَانِ، وَكَانَ زِيَادٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ وَجَّهُوا أَبَا سَعِيدٍ الْقُرَشِيَّ مَسْلَحَةً لِئَلَّا يَأْتِيَهُمْ أَصْحَابُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَكَانَتْ أَعْلَامُ أَبِي دَاوُدَ سُودًا، فَلَمَّا اقْتَتَلَ أَبُو دَاوُدَ وَزِيَادٌ وَأَصْحَابُهُمَا أَمَرَ أَبُو سَعِيدٍ أَصْحَابَهُ أَنْ يَأْتُوا زِيَادًا وَأَصْحَابَهُ، فَأَتَوْهُمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَلَمَّا رَأَى زِيَادٌ وَمَنْ مَعَهُ أَعْلَامَ أَبِي سَعِيدٍ وَرَايَاتِهِ سُودًا ظَنُّوهُ كَمِينًا لِأَبِي دَاوُدَ فَانْهَزَمُوا، وَتَبِعَهُمْ أَبُو دَاوُدَ، فَوَقَعَ عَامَّةُ أَصْحَابِ زِيَادٍ فِي نَهْرِ السَّرَجَنَانِ وَقُتِلَ عَامَّةُ رِجَالِهِمُ الْمُتَخَلِّفِينَ، وَنَزَلَ أَبُو دَاوُدَ مُعَسْكَرَهُمْ وَحَوَى مَا فِيهِ. وَمَضَى زِيَادٌ وَيَحْيَى وَمَنْ مَعَهُمَا إِلَى تِرْمِذَ، وَاسْتَصْفَى أَبُو دَاوُدَ أَمْوَالَ مَنْ قُتِلَ وَمَنْ هَرَبَ وَاسْتَقَامَتْ لَهُ بَلْخٌ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَوَجَّهَ النَّضْرَ بْنَ صُبَيْحٍ الْمُرِّيَّ عَلَى بَلْخٍ.

وَقَدِمَ دَاوُدُ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُفَرِّقَا بَيْنَ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ ابْنَيِ الْكَرْمَانِيِّ، فَبَعَثَ أَبُو مُسْلِمٍ عُثْمَانَ عَامِلًا عَلَى بَلْخٍ، فَلَمَّا قَدِمَهَا اسْتَخْلَفَ الْفَرَافِصَةَ بْنَ ظُهَيْرٍ الْعَبْسِيَّ عَلَى بَلْخٍ. وَأَقْبَلَتِ الْمُضَرِيَّةُ مِنْ تِرْمِذَ عَلَيْهِمْ مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَاهِلِيُّ، فَالْتَقَوْا هُمْ وَأَصْحَابُ عُثْمَانَ (فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ عُثْمَانَ) ، وَغَلَبَ مُسْلِمٌ عَلَى بَلْخٍ، وَبَلَغَ عُثْمَانَ وَالنَّضْرَ بْنَ صُبَيْحٍ الْخَبَرُ وَهُمَا بِمَرْوِ الرُّوذِ، فَأَقْبَلَا نَحْوَهُمْ، فَهَرَبَ أَصْحَابُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ لَيْلَتِهِمْ، فَلَمْ يُمْعِنِ النَّضْرُ فِي طَلَبِهِمْ رَجَاءَ أَنْ يَفُوتُوا، وَلَقِيَهُمْ أَصْحَابُ عُثْمَانَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَلَمْ يَكُنِ النَّضْرُ مَعَهُمْ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ عُثْمَانَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَرَجَعَ أَبُو دَاوُدَ (مِنْ مَرْوَ إِلَى بَلْخٍ، وَسَارَ أَبُو مُسْلِمٍ وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ الْكَرْمَانِيِّ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَاتَّفَقَ رَأْيُ أَبِي مُسْلِمٍ وَرَأْيُ أَبِي دَاوُدَ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلِيًّا، وَيَقْتُلَ أَبُو دَاوُدَ عُثْمَانَ، فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو دَاوُدَ) بَلْخًا بَعَثَ عُثْمَانَ عَامِلًا عَلَى الْجَبَلِ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ مَرْوَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ بَلْخٍ تَبِعَهُ أَبُو دَاوُدَ فَأَخَذَهُ وَأَصْحَابَهُ فَحَبَسَهُمْ جَمِيعًا، ثُمَّ ضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ صَبْرًا، وَقَتَلَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلِيَّ بْنَ الْكَرْمَانِيِّ، وَقَدْ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ أَمَرَهُ أَنْ يُسَمِّيَ لَهُ خَاصَّتَهُ لِيُوَلِّيَهُمْ وَيَأْمُرَ لَهُمْ بِجَوَائِزَ وَكِسْوَاتٍ، فَسَمَّاهُمْ لَهُ، فَقَتَلَهُمْ جَمِيعًا. ذِكْرُ قُدُومِ قَحْطَبَةَ مِنْ عِنْدِ الْإِمَامِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ قَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ، وَمَعَهُ لِوَاؤُهُ الَّذِي عَقَدَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، فَوَجَّهَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فِي مُقَدِّمَتِهِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ الْجُيُوشَ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ الْعَزْلَ وَالِاسْتِعْمَالَ، وَكَتَبَ إِلَى الْجُنُودِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ. ذِكْرُ مَسِيرِ قَحْطَبَةَ إِلَى نَيْسَابُورَ لَمَّا قُتِلَ شَيْبَانُ الْخَارِجِيُّ وَابْنَا الْكَرْمَانِيِّ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهَرَبَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ مِنْ مَرْوَ، وَغَلَبَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى خُرَاسَانَ، بَعَثَ الْعُمَّالَ عَلَى الْبِلَادِ، فَاسْتَعْمَلَ سِبَاعَ بْنَ النُّعْمَانِ الْأَزْدِيَّ عَلَى سَمَرْقَنْدَ، وَأَبَا دَاوُدَ خَالِدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى طَخَارِسْتَانَ، وَمُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ عَلَى الطَّبَسَيْنِ، وَجَعَلَ مَالِكَ بْنَ الْهَيْثَمِ عَلَى شُرَطِهِ، وَوَجَّهَ قَحْطَبَةَ إِلَى طُوسٍ وَمَعَهُ عِدَّةٌ مِنَ الْقُوَّادِ، مِنْهُمْ: أَبُو عَوْنٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَزِيدَ، وَخَالِدُ بْنُ بَرْمَكَ، وَعُثْمَانُ بْنُ

نَهِيكٍ، وَخَازِمُ بْنُ خُزَيْمَةَ، وَغَيْرُهُمْ، فَلَقِيَ قَحْطَبَةُ مَنْ بِطُوسٍ فَهَزَمَهُمْ، وَكَانَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي الزِّحَامِ أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ، فَبَلَغَ عِدَّةُ الْقَتْلَى بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَوَجَّهَ أَبُو مُسْلِمٍ الْقَاسِمَ بْنَ مُجَاشِعٍ إِلَى نَيْسَابُورَ عَلَى طَرِيقِ الْمَحَجَّةِ، وَكَتَبَ إِلَى قَحْطَبَةَ يَأْمُرُهُ بِقِتَالِ تَمِيمِ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ وَالنَّابِئِ بْنِ سُوَيْدٍ وَمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِمَا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، وَكَانَ أَصْحَابُ شَيْبَانَ بْنِ سَلَمَةَ الْخَارِجِيِّ قَدْ لَحِقُوا بِنَصْرٍ، وَوَجَّهَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلِيَّ بْنَ مَعْقِلٍ فِي عَشَرَةِ آلَافِ رَجُلٍ إِلَى تَمِيمِ بْنِ نَصْرٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ قَحْطَبَةَ، وَسَارَ قَحْطَبَةُ إِلَى السَّوْذَقَانِ، وَهُوَ مُعَسْكَرُ تَمِيمِ بْنِ نَصْرٍ وَالنَّابِئِ، وَقَدْ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ وَزَحَفَ إِلَيْهِمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى الرِّضَاءِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ تَمِيمُ بْنُ نَصْرٍ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ وَاسْتُبِيحَ عَسْكَرُهُمْ، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ مَعَهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَهَرَبَ النَّابِئُ بْنُ سُوَيْدٍ فَتَحَصَّنَ بِالْمَدِينَةِ، فَحَصَرَهُ قَحْطَبَةُ وَنَقَبُوا سُورَهَا وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ، فَقَتَلُوا النَّابِئَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ بِنَيْسَابُورَ بِقَتْلِ ابْنِهِ. وَلَمَّا اسْتَوْلَى قَحْطَبَةُ عَلَى عَسْكَرِهِمْ سَيَّرَ إِلَى خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ مَا قَبَضَ فِيهِ، وَسَارَ هُوَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ فَهَرَبَ مِنْهَا فِيمَنْ مَعَهُ فَنَزَلَ قُومِسَ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، فَسَارَ إِلَى نَبَاتَةَ بْنِ حَنْظَلَةَ بِجُرْجَانَ، وَقَدِمَ قَحْطَبَةُ نَيْسَابُورَ بِجُنُودِهِ فَأَقَامَ بِهَا رَمَضَانَ وَشَوَّالًا. ذِكْرُ قَتْلِ نَبَاتَةَ بْنِ حَنْظَلَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ نَبَاتَةُ بْنُ حَنْظَلَةَ عَامِلُ يَزِيدَ بْنِ هُبَيْرَةَ عَلَى جُرْجَانَ، وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ هُبَيْرَةَ بَعَثَهُ إِلَى نَصْرٍ، فَأَتَى فَارِسَ وَأَصْبَهَانَ ثُمَّ سَارَ إِلَى الرَّيِّ وَمَضَى إِلَى جُرْجَانَ، وَكَانَ نَصْرٌ بِقُومِسَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ قُومِسَ لَا تَحْمِلُنَا، فَسَارَ إِلَى جُرْجَانَ فَنَزَلَهَا مَعَ نَبَاتَةَ وَخَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ. وَأَقْبَلَ قَحْطَبَةُ إِلَى جُرْجَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَقَالَ قَحْطَبَةُ: يَا أَهْلَ خُرَاسَانَ أَتَدْرُونَ إِلَى مَنْ تَسِيرُونَ وَمَنْ تُقَاتِلُونَ؟ إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بَقِيَّةَ قَوْمٍ حَرَّقُوا بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى! وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ عَلَى مُقَدِّمَةِ أَبِيهِ، فَوَجَّهَ جَمْعًا إِلَى مَسْلَحَةِ نَبَاتَةَ وَعَلَيْهَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ذُؤَيْبٌ، فَبَيَّتُوهُمْ فَقَتَلُوا ذُؤَيْبًا وَسَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَرَجَعُوا إِلَى الْحَسَنِ.

وَقَدِمَ قَحْطَبَةُ فَنَزَلَ بِإِزَاءِ نَبَاتَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ فِي عِدَّةٍ لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهَا، فَلَمَّا رَآهُمْ أَهْلُ خُرَاسَانَ هَابُوهُمْ حَتَّى تَكَلَّمُوا بِذَلِكَ وَأَظْهَرُوهُ، فَبَلَغَ قَحْطَبَةَ قَوْلُهُمْ، فَقَامَ فِيهِمْ فَقَالَ: يَا أَهْلَ خُرَاسَانَ هَذِهِ الْبِلَادُ كَانَتْ لِآبَائِكُمْ، وَكَانُوا يُنْصَرُونَ عَلَى عَدُوِّهِمْ لِعَدْلِهِمْ وَحُسْنِ سِيرَتِهِمْ حَتَّى بَدَّلُوا وَظَلَمُوا فَسَخِطَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَيْهِمْ فَانْتَزَعَ سُلْطَانَهُمْ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ أَذَلَّ أُمَّةٍ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ عِنْدَهُمْ، فَغَلَبُوهُمْ عَلَى بِلَادِهِمْ، وَكَانُوا بِذَلِكَ يَحْكُمُونَ بِالْعَدْلِ وَيُوفُونَ بِالْعَهْدِ وَيَنْصُرُونَ الْمَظْلُومَ، ثُمَّ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا وَجَارُوا فِي الْحُكْمِ، وَأَخَافُوا أَهْلَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ عِتْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ; فَسَلَّطَكُمْ عَلَيْهِمْ لِيَنْتَقِمَ مِنْهُمْ بِكُمْ، لِتَكُونُوا أَشَدَّ عُقُوبَةً لِأَنَّكُمْ طَلَبْتُمُوهُمْ بِالثَّأْرِ، وَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ الْإِمَامُ أَنَّكُمْ تَلْقَوْنَهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعُدَّةِ فَيَنْصُرُكُمُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَيْهِمْ فَتَهْزِمُونَهُمْ وَتَقْتُلُونَهُمْ. فَالْتَقَوْا فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثِينَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، فَقَالَ لَهُمْ قَحْطَبَةُ قَبْلَ الْقِتَالِ: إِنَّ الْإِمَامَ أَخْبَرَنَا أَنَّكُمْ تُنْصَرُونَ عَلَى عَدُوِّكُمْ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ، وَكَانَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ ابْنُهُ الْحَسَنُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ نَبَاتَةُ، وَانْهَزَمَ أَهْلُ الشَّامِ فَقُتِلَ مِنْهُمْ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَبَعَثَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِرَأْسِ نَبَاتَةَ. ذِكْرُ وَقْعَةِ أَبِي حَمْزَةَ الْخَارِجِيِّ بِقُدَيْدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ كَانَتِ الْوَقْعَةُ بِقُدَيْدٍ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَبِي حَمْزَةَ الْخَارِجِيِّ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ سُلَيْمَانَ ضَرَبَ الْبَعْثَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَخَرَجُوا، فَلَمَّا كَانُوا بِالْحَرَّةِ لَقِيَتْهُمْ جُزُرٌ مَنْحُورَةٌ فَتَقَدَّمُوا، فَلَمَّا كَانُوا بِالْعَقِيقِ تَعَلَّقَ لِوَاؤُهُمْ بِسَمُرَةٍ فَانْكَسَرَ الرُّمْحُ، فَتَشَاءَمَ النَّاسُ بِالْخُرُوجِ، وَأَتَاهُمْ رُسُلُ أَبِي حَمْزَةَ يَقُولُونَ: إِنَّنَا وَاللَّهِ مَا لَنَا بِقِتَالِكُمْ حَاجَةٌ، دَعُونَا نَمْضِ إِلَى عَدُوِّنَا. فَأَبَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَلَمْ يُجِيبُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا قُدَيْدًا، وَكَانُوا مُتْرَفِينَ لَيْسُوا بِأَصْحَابِ حَرْبٍ، فَلَمْ يَشْعُرُوا إِلَّا وَقَدْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ أَبِي حَمْزَةَ مِنَ الْفُضَاضِ فَقَتَلُوهُمْ، وَكَانَتِ الْمَقْتَلَةُ بِقُرَيْشٍ، وَفِيهِمْ كَانَتِ الشَّوْكَةُ، فَأُصِيبَ مِنْهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَقَدِمَ الْمُنْهَزِمُونَ الْمَدِينَةَ فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُقِيمُ النَّوَائِحَ عَلَى حَمِيمِهَا وَمَعَهَا النِّسَاءُ، فَمَا تَبْرَحُ النِّسَاءُ حَتَّى تَأْتِيَهُنَّ الْأَخْبَارُ عَنْ رِجَالِهِنَّ، فَيَخْرُجْنَ امْرَأَةً امْرَأَةً، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَذْهَبُ لِقَتْلِ رَجُلِهَا، فَلَا تَبْقَى عِنْدَهَا امْرَأَةٌ لِكَثْرَةِ مَنْ قُتِلَ.

وَقِيلَ: إِنَّ خُزَاعَةَ دَلَّتْ أَبَا حَمْزَةَ عَلَى أَصْحَابِ قُدَيْدٍ، وَقِيلَ: كَانَ عِدَّةُ الْقَتْلَى سَبْعَمِائَةٍ. ذِكْرُ دُخُولِ أَبِي حَمْزَةَ الْمَدِينَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ أَبُو حَمْزَةَ الْمَدِينَةَ ثَالِثَ عَشَرَ صَفَرٍ، وَمَضَى عَبْدُ الْوَاحِدِ مِنْهَا إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ أَبُو حَمْزَةَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: مَا لَنَا بِقِتَالِكُمْ حَاجَةٌ، دَعُونَا نَمْضِ إِلَى عَدُوِّنَا. فَأَبَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَلَقِيَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فَرَقِيَ الْمِنْبَرَ وَخَطَبَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ! مَرَرْتُ زَمَانَ الْأَحْوَلِ، يَعْنِي هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَدْ أَصَابَ ثِمَارَكُمْ عَاهَةٌ فَكَتَبْتُمْ إِلَيْهِ تَسْأَلُونَهُ أَنْ يَضَعَ عَنْكُمْ خَرَاجَكُمْ فَفَعَلَ، فَزَادَ الْغَنِيَّ غِنًى وَالْفَقِيرَ فَقْرًا، فَقُلْتُمْ لَهُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَلَا جَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا وَلَا جَزَاهُ خَيْرًا! وَاعْلَمُوا يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَنَّا لَمْ نَخْرُجْ مِنْ دِيَارِنَا أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا عَبَثًا وَلَا لِدَوْلَةِ مُلْكٍ نُرِيدُ أَنْ نَخُوضَ فِيهِ، وَلَا لِثَأْرٍ قَدِيمٍ نِيلَ مِنَّا، وَلَكِنَّا لَمَّا رَأَيْنَا مَصَابِيحَ الْحَقِّ قَدْ عُطِّلَتْ، وَعُنِّفَ الْقَائِلُ بِالْحَقِّ، وَقُتِلَ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ، ضَاقَتْ عَلَيْنَا الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَسَمِعْنَا دَاعِيًا يَدْعُو إِلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَحُكْمِ الْقُرْآنِ، فَأَجَبْنَا دَاعِيَ اللَّهِ، {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} [الأحقاف: 32] ، فَأَقْبَلْنَا مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، وَنَحْنُ قَلِيلُونَ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ، فَآوَانَا وَأَيَّدَنَا بِنَصْرِهِ فَأَصْبَحْنَا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، ثُمَّ لَقِينَا رِجَالَكُمْ [بِقُدَيْدٍ] فَدَعَوْنَاهُمْ إِلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَحُكْمِ الْقُرْآنِ، فَدَعَوْنَا إِلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَحُكْمِ بَنِي مَرْوَانَ، فَشَتَّانَ لَعَمْرُ اللَّهِ مَا بَيْنَ الْغَيِّ وَالرُّشْدِ، ثُمَّ أَقْبَلُوا يُهْرَعُونَ وَقَدْ ضَرَبَ الشَّيْطَانُ فِيهِمْ بِجِرَانِهِ وَغَلَتْ بِدِمَائِهِمْ مَرَاجِلُهُ وَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ ظَنَّهَ، وَأَقْبَلَ أَنْصَارُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَصَائِبَ وَكَتَائِبَ بِكُلِّ مُهَنَّدٍ ذِي رَوْنَقٍ، فَدَارَتْ رَحَانَا وَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ بِضَرْبٍ يَرْتَابُ بِهِ الْمُبْطِلُونَ، وَأَنْتُمْ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ إِنْ تَنْصُرُوا مَرْوَانَ وَآلَ مَرْوَانَ يُسْحِتْكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] . يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَوَّلُكُمْ خَيْرُ أَوَّلٍ، وَآخِرُكُمْ شَرُّ آخِرٍ! يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَخْبِرُونِي عَنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ فَرَضَهَا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابِهِ عَلَى الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، فَجَاءَ تَاسِعٌ لَيْسَ لَهُ فِيهَا سَهْمٌ فَأَخَذَهَا لِنَفْسِهِ مُكَابِرًا مُحَارِبًا رَبَّهُ.

يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَنْتَقِصُونَ أَصْحَابِي! قُلْتُمْ شَبَابٌ أَحْدَاثٌ وَأَعْرَابٌ حُفَاةٌ! وَيْحَكُمْ! وَهَلْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا شَبَابًا أَحْدَاثًا وَأَعْرَابًا حُفَاةً؟ [هُمْ] وَاللَّهِ مُكْتَهِلُونَ فِي شَبَابِهِمْ، غَضِيضَةٌ عَنِ الشَّرِّ أَعْيُنُهُمْ، ثَقِيلَةٌ عَنِ الْبَاطِلِ أَقْدَامُهُمْ. وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ مَعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَاسْتَمَالَ حَتَّى سَمِعُوهُ يَقُولُ: مَنْ زَنَى فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ سَرَقَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِمَا فَهُوَ كَافِرٌ. وَأَقَامَ أَبُو حَمْزَةَ بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ. ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي حَمْزَةَ الْخَارِجِيِّ ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَمْزَةَ وَدَّعَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَقَالَ لَهُمْ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ إِنَّا خَارِجُونَ إِلَى مَرْوَانَ، فَإِنْ نَظْفَرْ نَعْدِلْ فِي إِخْوَانِكُمْ وَنَحْمِلْكُمْ عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّكُمْ، وَإِنْ يَكُنْ مَا تَتَمَنَّوْنَ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] . ثُمَّ سَارَ نَحْوَ الشَّامِ، وَكَانَ مَرْوَانُ قَدِ انْتَخَبَ مِنْ عَسْكَرِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ السَّعْدِيَّ، سَعْدُ هَوَازِنَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُجِدَّ السَّيْرَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ الْخَوَارِجَ، فَإِنْ هُوَ ظَفِرَ بِهِمْ يَسِيرُ حَتَّى يَبْلُغَ الْيَمَنَ وَيُقَاتِلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَحْيَى طَالِبَ الْحَقِّ. فَسَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ فَالْتَقَى أَبَا حَمْزَةَ بِوَادِي الْقُرَى، فَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ لِأَصْحَابِهِ: لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَخْتَبِرُوهُمْ. فَصَاحُوا بِهِمْ: مَا تَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نَضَعُهُ فِي جَوْفِ الْجَوَالِقِ. فَقَالَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ؟ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نَأْكُلُ مَالَهُ وَنَفْجُرُ بِأُمِّهِ، فِي أَشْيَاءَ سَأَلُوهُ عَنْهَا. فَلَمَّا سَمِعُوا كَلَامَهُ قَاتَلُوهُ حَتَّى أَمْسَوْا وَصَاحُوا: وَيْحَكَ يَابْنَ عَطِيَّةَ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا فَاسْكُنْ. فَأَبَى وَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قَتَلَهُمْ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ أَبِي حَمْزَةَ، مَنْ لَمْ يُقْتَلْ، وَأَتَوُا الْمَدِينَةَ، فَلَقِيَهُمْ فَقَتَلَهُمْ، وَسَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ شَهْرًا. وَفِيمَنْ قُتِلَ مَعَ أَبِي حَمْزَةَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْقَارِئُ الْمَدَنِيُّ الْمَعْرُوفُ بِيَشْبِكَسْتَ النَّحْوِيِّ،

وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، يَكْتُمُ مَذْهَبَ الْخَوَارِجِ، فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو حَمْزَةَ الْمَدِينَةَ انْضَمَّ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قُتِلَ الْخَوَارِجُ قُتِلَ مَعَهُمْ. ذِكْرُ قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى وَلَمَّا أَقَامَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ شَهْرًا سَارَ نَحْوَ الْيَمَنِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ الْوَلِيدَ بْنَ عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى مَكَّةَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَقَصَدَ الْيَمَنَ، وَبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَحْيَى طَالِبَ الْحَقِّ مَسِيرُهُ وَهُوَ بِصَنْعَاءَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ بِمَنْ مَعَهُ، فَالْتَقَى هُوَ وَابْنُ عَطِيَّةَ فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ ابْنُ يَحْيَى وَحُمِلَ رَأَسُهُ إِلَى مَرْوَانَ بِالشَّامِ، وَمَضَى ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى صَنْعَاءَ. ذِكْرُ قَتْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَلَمَّا سَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى صَنْعَاءَ دَخَلَهَا وَأَقَامَ بِهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُسْرِعَ إِلَيْهِ السَّيْرَ لِيَحُجَّ بِالنَّاسِ، فَسَارَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا بِعَهْدِ مَرْوَانَ عَلَى الْحَجِّ وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَسَارَ وَخَلَّفَ عَسْكَرَهُ وَخَيْلَهُ بِصَنْعَاءَ، وَنَزَلَ الْجُرْفَ، فَأَتَاهُ ابْنَا جُهَانَةَ الْمُرَادِيَّانِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَقَالُوا لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ: أَنْتُمْ لُصُوصٌ! فَأَخْرَجَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَهْدَهُ عَلَى الْحَجِّ وَقَالَ: هَذَا عَهْدُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحَجِّ، وَأَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالُوا: هَذَا بَاطِلٌ، فَأَنْتُمْ لُصُوصٌ. فَقَاتَلَهُمُ ابْنُ عَطِيَّةَ قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى قُتِلَ. ذِكْرُ إِيقَاعِ قَحْطَبَةَ بِأَهْلِ جُرْجَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ قَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ مِنْ أَهْلِ جُرْجَانَ مَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْهُمْ بَعْدَ قَتْلِ نَبَاتَةَ بْنِ حَنْظَلَةَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ دَخَلَ إِلَيْهِمْ وَاسْتَعْرَضَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرْنَا، وَسَارَ نَصْرٌ، وَكَانَ بِقُومِسَ، حَتَّى نَزَلَ خُوَارَ الرَّيِّ، وَكَاتَبَ ابْنَ هُبَيْرَةَ يَسْتَمِدُّهُ، وَهُوَ بِوَاسِطَ، مَعَ نَاسٍ مِنْ وُجُوهِ أَهْلِ خُرَاسَانَ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ كَذَبْتُ أَهْلَ خُرَاسَانَ حَتَّى مَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُصَدِّقُنِي، فَأَمِدَّنِي بِعَشَرَةِ آلَافٍ قَبْلَ أَنْ تُمِدَّنِي بِمِائَةِ أَلْفٍ لَا تُغْنِي شَيْئًا. فَحَبَسَ ابْنُ هُبَيْرَةَ رُسُلَ نَصْرٍ، فَأَرْسَلَ نَصْرٌ إِلَى مَرْوَانَ: إِنِّي وَجَّهْتُ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ لِيُعْلِمُوهُ أَمْرَ النَّاسِ قَبْلَنَا، وَسَأَلْتُهُ الْمَدَدَ فَاحْتَبَسَ رُسُلِي وَلَمْ يُمِدَّنِي بِأَحَدٍ، وَإِنَّمَا أَنَا بِمَنْزِلَةِ

مَنْ أُخْرِجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى حُجْرَتِهِ، ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْ حُجْرَتِهِ إِلَى دَارِهِ، ثُمَّ مِنْ دَارِهِ إِلَى فِنَاءِ دَارِهِ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ مَنْ يُعِينُهُ فَعَسَى أَنْ يَعُودَ إِلَى دَارِهِ وَتَبْقَى لَهُ، وَإِنْ أُخْرِجَ إِلَى الطَّرِيقِ فَلَا دَارَ لَهُ وَلَا فِنَاءَ. فَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُمِدَّ نَصْرًا، وَكَتَبَ إِلَى نَصْرٍ يُعْلِمُهُ ذَلِكَ، وَجَهَّزَ ابْنُ هُبَيْرَةَ جَيْشًا كَثِيفًا وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ ابْنَ غُطَيْفٍ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى نَصْرٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ غَزَا الصَّائِفَةَ هَذِهِ السَّنَةَ الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ، فَنَزَلَ الْعَمْقَ وَبَنَى حِصْنَ مَرْعَشٍ، وَفِيهَا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِالْبَصْرَةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَكَانَ هُوَ أَمِيرَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ، وَكَانَ بِالْعِرَاقِ يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ: الْحَجَّاجُ بْنُ عَاصِمٍ الْمُحَارِبِيُّ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ: عُبَادَةُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَكَانَ الْأَمِيرُ بِخُرَاسَانَ عَلَى مَا وَصَفْتُ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ هَاهُنَا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ حَجَّ بِالنَّاسِ، وَكَانَ أَمِيرَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَذُكِرَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الْوَلِيدِ كَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَذُكِرَ فِي آخِرِ سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ أَنَّ عُرْوَةَ أَيْضًا كَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَأَنَّهُ حَجَّ بِالنَّاسِ تِلْكَ السَّنَةَ. [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ أَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ الْقَارِئُ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ الْمَخْزُومِيِّ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: سُمَيٌّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِقُدَيْدٍ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَيُّوبُ بْنُ أَبِي تَمِيمَةَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَإِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ، (وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ) ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَيُكَنَّى أَبَا نَجِيحٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَخْرَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَلَهُ سَبْعُونَ سَنَةً، وَأَبُو وَجْزَةَ السَّعْدِيُّ يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَأَبُو الْحُوَيْرِثِ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ. وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ (بِضَمِّ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ) وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَكِّيُّ الْفَقِيهُ، وَكَانَ قَدْ قَارَبَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَكَانَ لَا يَثْبُتُ مَعَهُ امْرَأَةٌ لِكَثْرَةِ نِكَاحِهِ. وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ كَاتِبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبَانَ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِيَزِيدَ الرِّشْكِ، وَكَانَ قَسَّامًا بِالْبَصْرَةِ، وَحَفَصُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانِينَ، يَرْوِي قِرَاءَةَ عَاصِمٍ عَنْهُ.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة] 131 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ مَوْتِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ بِسَاوَةَ قُرْبَ الرَّيِّ. وَكَانَ سَبَبُ مَسِيرِهِ إِلَيْهَا أَنَّ نَصْرًا سَارَ بَعْدَ قَتْلِ نَبَاتَةَ إِلَى خُوَارِ الرَّيِّ، وَأَمِيرُهَا أَبُو بَكْرٍ الْعَقِيلِيُّ، وَوَجَّهَ قَحْطَبَةُ ابْنَهُ الْحَسَنَ إِلَى نَصْرٍ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، ثُمَّ وَجَّهَ أَبَا كَامِلٍ وَأَبَا الْقَاسِمِ مُحْرِزَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ وَأَبَا الْعَبَّاسِ الْمَرْوَزِيَّ إِلَى الْحَسَنِ ابْنِهِ، فَلَمَّا كَانُوا قَرِيبًا مِنَ الْحَسَنِ انْحَازَ أَبُو كَامِلٍ وَتَرَكَ عَسْكَرَهُ، وَأَتَى نَصْرًا فَصَارَ مَعَهُ وَأَعْلَمَهُ مَكَانَ الْجُنْدِ الَّذِينَ فَارَقَهُمْ. فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ نَصْرٌ جُنْدًا، فَهَرَبَ جُنْدُ قَحْطَبَةَ مِنْهُمْ وَخَلَّفُوا شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِمْ، فَأَخَذَهُ أَصْحَابُ نَصْرٍ، فَبَعَثَ نَصْرٌ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَعَرَضَ لَهُ ابْنُ غُطَيْفٍ بِالرَّيِّ، فَأَخَذَ الْكِتَابَ مِنْ رَسُولِ نَصْرٍ وَالْمَتَاعَ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَغَضِبَ نَصْرٌ وَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَدَعَنَّ ابْنَ هُبَيْرَةَ، فَلَيَعْرِفَنَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَا ابْنُهُ. وَكَانَ ابْنُ غُطَيْفٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ قَدْ سَيَّرَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ إِلَى نَصْرٍ، فَأَقَامَ بِالرَّيِّ فَلَمْ يَأْتِ نَصْرًا، وَسَارَ نَصْرٌ حَتَّى نَزَلَ الرَّيَّ وَعَلَيْهَا حَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ النَّهْشَلِيُّ، فَلَمَّا قَدِمَهَا نَصْرٌ سَارَ ابْنُ غُطَيْفٍ مِنْهَا إِلَى هَمَذَانَ، وَفِيهَا مَالِكُ بْنُ أَدْهَمَ بْنِ مُحْرِزٍ الْبَاهِلِيُّ، فَعَدَلَ ابْنُ غُطَيْفٍ عَنْهَا إِلَى أَصْبَهَانَ إِلَى عَامِرِ بْنِ ضُبَارَةَ، فَلَمَّا قَدِمَ نَصْرٌ الرَّيَّ أَقَامَ بِهَا يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَرِضَ، وَكَانَ يُحْمَلُ حَمْلًا، فَلَمَّا بَلَغَ سَاوَةَ مَاتَ، فَلَمَّا مَاتَ بِهَا دَخَلَ أَصْحَابُهُ هَمَذَانَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِمُضِيِّ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ عُمْرُهُ خَمْسًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: إِنَّ نَصْرًا لَمَّا سَارَ مِنْ خُوَارِ الرَّيِّ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الرَّيِّ لَمْ يَدْخُلِ الرَّيَّ، وَلَكِنَّهُ سَلَكَ الْمَفَازَةَ الَّتِي بَيْنَ الرَّيِّ وَهَمَذَانَ فَمَاتَ بِهَا.

ذِكْرُ دُخُولِ قَحْطَبَةَ الرَّيَّ وَلَمَّا مَاتَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ بَعَثَ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ خُزَيْمَةَ بْنَ خَازِمٍ إِلَى سَمْنَانَ، وَأَقْبَلَ قَحْطَبَةُ مِنْ جُرْجَانَ، وَقَدَّمَ أَمَامَهُ زِيَادَ بْنَ زُرَارَةَ الْقُشَيْرِيَّ، وَكَانَ قَدْ نَدِمَ عَلَى اتِّبَاعِ أَبِي مُسْلِمٍ، فَانْخَذَلَ عَنْ قَحْطَبَةَ فَأَخَذَ طَرِيقَ أَصْبَهَانَ يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ عَامِرَ بْنَ ضُبَارَةَ، فَوَجَّهَ قَحْطَبَةُ الْمُسَيَّبَ بْنَ زُهَيْرٍ الضَّبِّيَّ، فَلَحِقَهُ مِنْ غَدٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ زِيَادٌ وَقُتِلَ عَامَّةُ مَنْ مَعَهُ، وَرَجَعَ الْمُسَيَّبُ بْنُ زُهَيْرٍ إِلَى قَحْطَبَةَ. ثُمَّ سَارَ قَحْطَبَةُ إِلَى قُومِسَ، وَبِهَا ابْنُهُ الْحَسَنُ، وَقَدِمَ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ سَمْنَانَ، فَقَدَّمَ قَحْطَبَةُ ابْنَهُ الْحَسَنَ إِلَى الرَّيِّ. وَبَلَغَ حَبِيبَ بْنَ بُدَيْلٍ النَّهْشَلِيَّ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مَسِيرُ الْحَسَنِ، فَخَرَجُوا عَنِ الرَّيِّ، وَدَخَلَ الْحَسَنُ فِي صَفَرٍ فَأَقَامَ حَتَّى قَدِمَ أَبُوهُ، وَلَمَّا قَدِمَ قَحْطَبَةُ الرَّيَّ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ بَنِي الْعَبَّاسِ بِالرَّيِّ هَرَبَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا لِمَيْلِهِمْ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا سُفْيَانِيَّةً، فَأَمَرَ أَبُو مُسْلِمٍ بِأَخْذِ أَمْلَاكِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَلَمَّا عَادُوا مِنَ الْحَجِّ أَقَامُوا بِالْكُوفَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، ثُمَّ كَتَبُوا إِلَى السَّفَّاحِ يَتَظَلَّمُونَ مِنْ أَبِي مُسْلِمٍ، فَأَمَرَ بِرَدِّ أَمْلَاكِهِمْ فَأَعَادَ أَبُو مُسْلِمٍ الْجَوَابَ يُعَرِّفُ حَالَهُمْ وَأَنَّهُمْ أَشَدُّ الْأَعْدَاءِ، فَلَمْ يَسْمَعْ قَوْلَهُ وَعَزَمَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِرَدِّ أَمْلَاكِهِمْ، فَفَعَلَ. وَلَمَّا دَخَلَ قَحْطَبَةُ الرَّيَّ وَأَقَامَ بِهَا أَخَذَ أَمْرَهُ بِالْحَزْمِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالْحِفْظِ وَضَبْطِ الطُّرُقِ، وَكَانَ لَا يَسْلُكُهَا أَحَدٌ إِلَّا بِجَوَازٍ مِنْهُ، فَأَقَامَ بِالرَّيِّ وَبَلَغَهُ أَنَّ بِدَسْتَبَى قَوْمًا مِنَ الْخَوَارِجِ وَصَعَالِيكَ تَجَمَّعُوا بِهَا، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ أَبَا عَوْنٍ فِي عَسْكَرٍ كَثِيفٍ، فَنَازَلَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِلَى الرِّضَاءِ مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى ظَفِرَ بِهِمْ، فَتَحَصَّنَ عِدَّةٌ مِنْهُمْ حَتَّى آمَنَهُمْ أَبُو عَوْنٍ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ، وَأَقَامَ مَعَهُ بَعْضُهُمْ وَتَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ. وَكَتَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى أَصْبَهْبَذْ طَبَرِسْتَانَ يَدْعُوهُ إِلَى الطَّاعَةِ وَأَدَاءِ الْخَرَاجِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى الْمَصْمَغَانِ صَاحِبِ دُنْبَاوَنْدَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ: إِنَّمَا أَنْتَ خَارِجِيٌّ وَإِنَّ أَمْرَكَ سَيَنْقَضِي. فَغَضِبَ أَبُو مُسْلِمٍ وَكَتَبَ إِلَى مُوسَى بْنِ كَعْبٍ، وَهُوَ بِالرَّيِّ، يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ وَقِتَالِهِ إِلَى أَنْ يُذْعِنَ بِالطَّاعَةِ، فَسَارَ إِلَيْهِ وَرَاسَلَهُ، فَامْتَنَعَ مِنَ الطَّاعَةِ وَأَدَاءِ الْخَرَاجِ، فَأَقَامَ مُوسَى

وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْمَصْمَغَانِ لِضِيقِ بِلَادِهِ، وَكَانَ الْمَصْمَغَانُ يُرْسِلُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ عِدَّةً كَثِيرَةً مِنَ الدَّيْلَمِ يُقَاتِلُهُ فِي عَسْكَرِهِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الطُّرُقَ، وَمَنَعَ الْمِيرَةَ، وَكَثُرَتْ فِي أَصْحَابِ مُوسَى الْجِرَاحُ وَالْقَتْلُ. فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ غَرَضًا عَادَ إِلَى الرَّيِّ، وَلَمْ يَزَلِ الْمَصْمَغَانُ مُمْتَنِعًا إِلَى أَيَّامِ الْمَنْصُورِ، فَأَغْزَاهُ جَيْشًا كَثِيفًا عَلَيْهِمْ حَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو، فَفَتَحَ دُنْبَاوَنْدَ عَلَى يَدِهِ. وَلَمَّا وَرَدَ كِتَابُ قَحْطَبَةَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِنُزُولِهِ الرَّيَّ ارْتَحَلَ أَبُو مُسْلِمٍ، فِيمَا ذُكِرَ، عَنْ مَرْوَ فَنَزَلَ نَيْسَابُورَ. وَأَمَّا قَحْطَبَةُ فَإِنَّهُ سَيَّرَ ابْنَهُ الْحَسَنَ بَعْدَ نُزُولِهِ الرَّيَّ بِثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَى هَمَذَانَ، فَلَمَّا تَوَجَّهَ إِلَيْهَا سَارَ عَنْهَا مَالِكُ بْنُ أَدْهَمَ وَمَنْ كَانَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ خُرَاسَانَ إِلَى نَهَاوَنْدَ فَأَقَامَ بِهَا، وَفَارَقَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَدَخَلَ الْحَسَنُ هَمَذَانَ وَسَارَ مِنْهَا إِلَى نَهَاوَنْدَ فَنَزَلَ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَمَدَّهُ قَحْطَبَةُ بِأَبِي الْجَهْمِ بْنِ عَطِيَّةَ مَوْلَى بَاهِلَةَ فِي سَبْعِمِائَةٍ، وَأَطَالَ حَتَّى أَطَافَ بِالْمَدِينَةِ وَحَصَرَهُمْ. ذِكْرُ قَتْلِ عَامِرِ بْنِ ضُبَارَةَ وَدُخُولِ قَحْطَبَةَ أَصْبَهَانَ وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ لَمَّا هَزَمَهُ ابْنُ ضُبَارَةَ مَضَى هَارِبًا نَحْوَ خُرَاسَانَ، وَسَلَكَ إِلَيْهَا طَرِيقَ كَرْمَانَ وَسَارَ عَامِرٌ فِي أَثَرِهِ. وَبَلَغَ ابْنَ هُبَيْرَةَ مَقْتَلُ نَبَاتَةَ بْنِ حَنْظَلَةَ بِجُرْجَانَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِ ضُبَارَةَ وَإِلَى ابْنِهِ دَاوُدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ أَنْ يَسِيرَا إِلَى قَحْطَبَةَ، وَكَانَا بِكَرْمَانَ، فَسَارَا فِي خَمْسِينَ أَلْفًا، فَنَزَلُوا بِأَصْبَهَانَ، وَكَانَ يُقَالُ لِعَسْكَرِ ابْنِ ضُبَارَةَ عَسْكَرُ الْعَسَاكِرِ. فَبَعَثَ قَحْطَبَةُ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةً مِنَ الْقُوَّادِ، وَعَلَيْهِمْ جَمِيعًا مُقَاتِلُ بْنُ حَكِيمٍ الْعَكِّيُّ، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا قُمَّ. وَبَلَغَ ابْنَ ضُبَارَةَ نُزُولُ الْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ بِنَهَاوَنْدَ فَسَارَ لِيُعِينَ مَنْ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ مَرْوَانَ، فَأَرْسَلَ الْعَكِّيُّ مِنْ قُمَّ إِلَى قَحْطَبَةَ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَأَقْبَلَ قَحْطَبَةُ مِنَ الرَّيِّ حَتَّى لَحِقَ مُقَاتِلَ بْنَ حَكِيمٍ الْعَكِّيَّ، ثُمَّ سَارَ فَالْتَقَوْا هُمْ وَابْنُ ضُبَارَةَ وَدَاوُدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَكَانَ عَسْكَرُ قَحْطَبَةَ عِشْرِينَ أَلْفًا، فِيهِمْ خَالِدُ بْنُ بَرْمَكَ! وَكَانَ عَسْكَرُ ابْنُ ضُبَارَةَ مِائَةَ أَلْفٍ، وَقِيلَ: خَمْسِينَ وَمِائَةَ أَلْفٍ، فَأَمَرَ قَحْطَبَةُ بِمُصْحَفٍ فَنُصِبَ عَلَى رُمْحٍ، وَنَادَى: يَا أَهْلَ الشَّامِ! إِنَّا نَدْعُوكُمْ إِلَى مَا فِي هَذَا الْمُصْحَفِ! فَشَتَمُوهُ وَأَفْحَشُوهُ فِي الْقَوْلِ.

فَأَرْسَلَ قَحْطَبَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ يَأْمُرُهُمْ بِالْحَمْلَةِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْعَكِّيُّ، وَتَهَايَجَ النَّاسُ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ كَثِيرُ قِتَالٍ، حَتَّى انْهَزَمَ أَهْلُ الشَّامِ وَقُتِلُوا قَتْلًا ذَرِيعًا، وَانْهَزَمَ ابْنُ ضُبَارَةَ حَتَّى دَخَلَ عَسْكَرَهُ وَتَبِعَهُ قَحْطَبَةُ، فَنَزَلَ ابْنُ ضُبَارَةَ وَنَادَى: إِلَيَّ إِلَيَّ! فَانْهَزَمَ النَّاسُ عَنْهُ وَانْهَزَمَ دَاوُدُ بْنُ هُبَيْرَةَ، فَسَأَلَ عَنِ ابْنِ ضُبَارَةَ فَقِيلَ: انْهَزَمَ. فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ شَرَّنَا مُنْقَلَبًا! وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَأَصَابُوا عَسْكَرَهُ، وَأَخَذُوا مِنْهُ مَا لَا يُعْلَمُ قَدْرُهُ مِنَ السِّلَاحِ وَالْمَتَاعِ وَالرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ، وَمَا رُئِيَ عَسْكَرٌ قَطُّ كَانَ فِيهِ مِنْ أَصْنَافِ الْأَشْيَاءِ مَا فِي هَذَا الْعَسْكَرِ كَأَنَّهُ مَدِينَةٌ. وَكَانَ فِيهِ مِنَ الْبَرَابِطِ وَالطَّنَابِيرِ وَالْمَزَامِيرِ وَالْخَمْرِ مَا لَا يُحْصَى. وَأَرْسَلَ قَحْطَبَةُ بِالظَّفَرِ إِلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ وَهُوَ بِنَهَاوَنْدَ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ بِنَوَاحِي أَصْبَهَانَ فِي رَجَبٍ. ذِكْرُ مُحَارَبَةِ قَحْطَبَةَ أَهْلَ نَهَاوَنْدَ وَدُخُولِهَا وَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ ضُبَارَةَ كَتَبَ قَحْطَبَةُ بِذَلِكَ إِلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ وَهُوَ يُحَاصِرُ نَهَاوَنْدَ، فَلَمَّا أَتَاهُ الْكِتَابُ كَبَّرَ هُوَ وَجُنْدُهُ وَنَادَوْا بِقَتْلِهِ، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَيْرٍ السَّعْدِيُّ: مَا نَادَى هَؤُلَاءِ بِقَتْلِهِ إِلَّا وَهُوَ حَقٌّ! فَاخْرُجُوا إِلَى الْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ فَإِنَّكُمْ لَا تَقُومُونَ لَهُ فَتَذْهَبُونَ حَيْثُ شِئْتُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ أَبُوهُ أَوْ مَدَدٌ مِنْ عِنْدِهِ. فَقَالَتِ الرَّجَّالَةُ: تَخْرُجُونَ وَأَنْتُمْ فُرْسَانٌ عَلَى خُيُولٍ وَتَتْرُكُونَنَا؟ وَقَالَ لَهُ مَالِكُ بْنُ أَدْهَمَ الْبَاهِلِيُّ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى يَقْدَمَ عَلِيَّ قَحْطَبَةُ. وَأَقَامَ قَحْطَبَةُ عَلَى أَصْبَهَانَ عِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ سَارَ فَقَدِمَ عَلَى ابْنِهِ بِنَهَاوَنْدَ فَحَصَرَهُمْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ: شَعْبَانُ وَرَمَضَانُ وَشَوَّالٌ، وَوَضَعَ عَلَيْهِمُ الْمَجَانِيقَ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ بِنَهَاوَنْدَ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ وَأَعْطَاهُمُ الْأَمَانَ، فَأَبَوْا ذَلِكَ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَأَجَابُوهُ وَقَبِلُوا أَمَانَهُ، وَبَعَثُوا إِلَيْهِ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَشْغَلَ عَنْهُمْ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِالْقِتَالِ لِيَفْتَحُوا لَهُ الْبَابَ الَّذِي يَلِيهِمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ قَحْطَبَةُ وَقَاتَلَهُمْ، فَفَتَحَ أَهْلُ الشَّامِ الْبَابَ، فَخَرَجُوا، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ خُرَاسَانَ ذَلِكَ سَأَلُوهُمْ عَنْ خُرُوجِهِمْ، فَقَالُوا: أَخَذْنَا الْأَمَانَ لَنَا وَلَكُمْ. فَخَرَجَ رُؤَسَاءُ أَهْلِ خُرَاسَانَ، فَدَفَعَ قَحْطَبَةُ

كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى قَائِدٍ مِنْ قُوَّادِهِ، ثُمَّ أَمَرَ فَنُودِيَ: مَنْ كَانَ بِيَدِهِ أَسِيرٌ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَيْنَا فَلْيَضْرِبْ عُنُقَهُ وَلْيَأْتِنَا بِرَأْسِهِ! فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ قَدْ هَرَبَ مِنْ أَبِي مُسْلِمٍ إِلَّا قُتِلَ إِلَّا أَهْلَ الشَّامِ، فَإِنَّهُ وَفَّى لَهُمْ وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُمَالِئُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَلَمْ يَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا. وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ: أَبُو كَامِلٍ، وَحَاتِمُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَابْنُ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعَلِيُّ بْنُ عَقِيلٍ، وَبَيْهَسٌ. وَلَمَّا حَاصَرَ قَحْطَبَةُ نَهَاوَنْدَ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْحَسَنَ إِلَى مَرْجِ الْقَلْعَةِ، فَقَدَّمَ الْحَسَنُ خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ إِلَى حُلْوَانَ وَعَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ الْكِنْدِيُّ، فَهَرَبَ مِنْ حُلْوَانَ وَخَلَّاهَا. ذِكْرُ فَتْحِ شَهْرَزُورَ ثُمَّ إِنَّ قَحْطَبَةَ وَجَّهَ أَبَا عَوْنٍ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَزِيدَ الْخُرَاسَانِيَّ وَمَالِكَ بْنَ طَرَافَةَ الْخُرَاسَانِيَّ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ إِلَى شَهْرَزُورَ وَبِهَا عُثْمَانُ بْنُ سُفْيَانَ عَلَى مُقَدِّمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَنَزَلُوا عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ شَهْرَزُورَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَقَاتَلُوا عُثْمَانَ بَعْدَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ نُزُولِهِمْ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ عُثْمَانَ وَقُتِلَ، وَأَقَامَ أَبُو عَوْنٍ فِي بِلَادِ الْمَوْصِلِ. وَقِيلَ: إِنَّ عُثْمَانَ لَمْ يُقْتَلْ وَلَكِنَّهُ هَرَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْوَانَ، وَغَنِمَ أَبُو عَوْنٍ عَسْكَرَهُ وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَسَيَّرَ قَحْطَبَةُ الْعَسَاكِرَ إِلَى أَبِي عَوْنٍ فَاجْتَمَعَ مَعَهُ ثَلَاثُونَ أَلْفًا. وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ أَبِي عَوْنٍ مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ بِحَرَّانَ، سَارَ مِنْهَا وَمَعَهُ جُنُودُ أَهْلِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ، وَحَشَرَ مَعَهُ بَنُو أُمَيَّةَ أَبْنَاءَهُمْ، وَأَقْبَلَ نَحْوَ أَبِي عَوْنٍ حَتَّى نَزَلَ الزَّابَ الْأَكْبَرَ، وَأَقَامَ أَبُو عَوْنٍ بِشَهْرَزُورَ بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَفَرَّضَ بِهَا بِخَمْسَةِ آلَافٍ. ذِكْرُ مَسِيرِ قَحْطَبَةَ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ بِالْعِرَاقِ وَلَمَّا قَدِمَ عَلَى يَزِيدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ أَمِيرِ الْعِرَاقِ ابْنُهُ دَاوُدُ مُنْهَزِمًا مِنْ حُلْوَانَ خَرَجَ

يَزِيدُ نَحْوَ قَحْطَبَةَ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ لَا يُحْصَى وَمَعَهُ حَوْثَرَةُ بْنُ سُهَيْلٍ الْبَاهِلِيُّ، وَكَانَ مَرْوَانُ أَمَدَّ بِهِ ابْنَ هُبَيْرَةَ، وَسَارَ ابْنُ هُبَيْرَةَ حَتَّى نَزَلَ جَلُولَاءَ الْوَقِيعَةِ وَاحْتَفَرَ الْخَنْدَقَ الَّذِي كَانَتِ الْعَجَمُ احْتَفَرَتْهُ أَيَّامَ وَقْعَةِ جَلُولَاءَ، وَأَقَامَ بِهِ، وَأَقْبَلَ قَحْطَبَةُ حَتَّى نَزَلَ قَرْمَاسِينَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حُلْوَانَ، ثُمَّ إِلَى خَانِقِينَ، وَأَتَى عُكْبَرَاءَ وَعَبَرَ دِجْلَةَ وَمَضَى حَتَّى نَزَلَ دِمِمَّا دُونَ الْأَنْبَارِ، وَارْتَحَلَ ابْنُ هُبَيْرَةَ بِمَنْ مَعَهُ مُنْصَرِفًا مُبَادِرًا إِلَى الْكُوفَةِ لِقَحْطَبَةَ، وَقَدِمَ حَوْثَرَةُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا إِلَى الْكُوفَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ حَوْثَرَةَ لَمْ يُفَارِقِ ابْنَ هُبَيْرَةَ. وَأَرْسَلَ قَحْطَبَةُ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْأَنْبَارِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَرَهُمْ بِإِحْدَارِ مَا فِيهَا مِنَ السُّفُنِ إِلَى دِمِمَّا لِيَعْبُرُوا الْفُرَاتَ، فَحَمَلُوا إِلَيْهِ كُلَّ سَفِينَةٍ هُنَاكَ، فَقَطَعَ قَحْطَبَةُ الْفُرَاتَ مِنْ دِمِمَّا حَتَّى صَارَ فِي غَرْبِيِّهِ، ثُمَّ سَارَ يُرِيدُ الْكُوفَةَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ ابْنُ هُبَيْرَةَ، وَخَرَجَتِ السَّنَةُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْوَلِيدُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ السَّعْدِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدٍ الَّذِي قَتَلَ أَبَا حَمْزَةَ، وَكَانَ هُوَ عَلَى الْحِجَازِ. وَلَمَّا بَلَغَ الْوَلِيدَ قَتْلُ عَمِّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَضَى إِلَى الَّذِينَ قَتَلُوهُ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَبَقَرَ بُطُونَ نِسَائِهِمْ، وَقَتَلَ الصِّبْيَانَ، وَحَرَّقَ بِالنَّارِ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ. وَكَانَ عَلَى الْعِرَاقِ يَزِيدُ [بْنُ عُمَرَ] بْنِ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ: الْحَجَّاجُ بْنُ عَاصِمٍ الْمُحَارِبِيُّ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ: عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ النَّاجِيُّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعَدَّرِ السُّلَمِيُّ أَبُو عَتَّابٍ الْكُوفِيُّ.

وَفِيهَا قَتَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ جَبَلَةَ بْنَ أَبِي رَوَادٍ الْعَتَكِيَّ مَوْلَاهُمْ أَخَا عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ دَاوُدَ وَيُكَنَّى أَبَا مَرْوَانَ.

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ] 132 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ هَلَاكِ قَحْطَبَةَ وَهَزِيمَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَلَكَ قَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قَحْطَبَةَ لَمَّا عَبَرَ الْفُرَاتَ وَصَارَ فِي غَرْبِيِّهِ، وَذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ لِثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنْهُ، وَكَانَ ابْنُ هُبَيْرَةَ قَدْ عَسْكَرَ عَلَى فَمِ الْفُرَاتِ مِنْ أَرْضِ الْفَلُّوجَةِ الْعُلْيَا عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ فَرْسَخًا مِنَ الْكُوفَةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ فُلُّ بْنُ ضُبَارَةَ، فَأَمَدَّهُ مَرْوَانُ بِحَوْثَرَةَ الْبَاهِلِيِّ، فَقَالَ حَوْثَرَةُ وَغَيْرُهُ لِابْنِ هُبَيْرَةَ: إِنَّ قَحْطَبَةَ قَدْ مَضَى يُرِيدُ الْكُوفَةَ، فَاقْصِدْ أَنْتَ خُرَاسَانَ وَدَعْهُ وَمَرْوَانَ فَإِنَّكَ تَكْسِرُهُ وَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَتْبَعَكَ، قَالَ: مَا كَانَ لِيَتْبَعَنِي وَيَدَعَ الْكُوفَةَ، وَلَكِنَّ الرَّأْيَ أَنْ أُبَادِرَهُ إِلَى الْكُوفَةِ، فَعَبَرَ دِجْلَةَ مِنَ الْمَدَائِنِ يُرِيدُ الْكُوفَةَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ حَوْثَرَةَ وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْكُوفَةِ، وَالْفَرِيقَانِ يَسِيرَانِ عَلَى جَانِبَيِ الْفُرَاتِ. وَقَالَ قَحْطَبَةُ: إِنَّ الْإِمَامَ أَخْبَرَنِي أَنَّ [لِي] فِي هَذَا الْمَكَانِ وَقْعَةً يَكُونُ النَّصْرُ [فِيهَا] لَنَا. وَنَزَلَ قَحْطَبَةُ الْجِبَارِيَةَ، وَقَدْ دَلُّوهُ عَلَى مَخَاضَةٍ، فَعَبَرَ مِنْهَا وَقَاتَلَ حَوْثَرَةَ وَمُحَمَّدَ بْنَ نَبَاتَةَ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ الشَّامِ وَفَقَدُوا قَحْطَبَةَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ قَحْطَبَةَ فَلْيُخْبِرْنَا بِهِ. فَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ مَالِكٍ الْعَتَكِيُّ: سَمِعْتُ قَحْطَبَةَ يَقُولُ: إِنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ فَالْحَسَنُ ابْنِي أَمِيرُ النَّاسِ. فَبَايَعَ النَّاسُ حُمَيْدَ بْنَ قَحْطَبَةَ لِأَخِيهِ الْحَسَنِ، وَكَانَ قَدْ سَيَّرَهُ أَبُوهُ فِي سَرِيَّةٍ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأَحْضَرُوهُ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ الْأَمْرَ. وَلَمَّا فَقَدُوا قَحْطَبَةَ بَحَثُوا عَنْهُ فَوَجَدُوهُ فِي جَدْوَلٍ وَحَرْبَ بْنَ سَالِمِ بْنِ أَحْوَزَ قَتِيلَيْنِ، فَظَنُّوا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَتَلَ صَاحِبَهُ.

وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ ضَرَبَ قَحْطَبَةَ لَمَّا عَبَرَ الْفُرَاتَ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ فَأَخْرَجُوهُ، فَقَالَ: شُدُّوا يَدَيَّ إِذَا مِتُّ وَأَلْقُونِي فِي الْمَاءِ لِئَلَّا يَعْلَمَ النَّاسُ بِقَتْلِي. وَقَاتَلَ أَهْلُ خُرَاسَانَ فَانْهَزَمَ مُحَمَّدُ بْنُ نَبَاتَةَ وَأَهْلُ الشَّامِ، وَمَاتَ قَحْطَبَةُ، وَقَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ: إِذَا قَدِمْتُمُ الْكُوفَةَ فَوَزِيرُ آلِ مُحَمَّدٍ أَبُو سَلَمَةَ الْخَلَّالُ فَسَلِّمُوا هَذَا الْأَمْرَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: بَلْ غَرِقَ قَحْطَبَةُ. وَلَمَّا انْهَزَمَ ابْنُ نَبَاتَةَ وَحَوْثَرَةُ لَحِقُوا بِابْنِ هُبَيْرَةَ، فَانْهَزَمَ ابْنُ هُبَيْرَةَ بِهَزِيمَتِهِمْ، وَلَحِقُوا بِوَاسِطَ وَتَرَكُوا عَسْكَرَهُمْ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَمَّا قَامَ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ بِالْأَمْرِ أَمَرَ بِإِحْصَاءِ مَا فِي الْعَسْكَرِ. وَقِيلَ: إِنَّ حَوْثَرَةَ كَانَ بِالْكُوفَةِ فَبَلَغَهُ هَزِيمَةُ ابْنِ هُبَيْرَةَ فَسَارَ إِلَيْهِ فِيمَنْ مَعَهُ. ذِكْرُ خُرُوجِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ بِالْكُوفَةِ مُسَوِّدًا وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِالْكُوفَةِ وَسَوَّدَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ وَأَخْرَجَ عَنْهَا عَامَلَ ابْنِ هُبَيْرَةَ ثُمَّ دَخَلَهَا الْحَسَنُ. وَكَانَ مِنْ خَبَرِهِ أَنَّ مُحَمَّدًا خَرَجَ بِالْكُوفَةِ لَيْلَةَ عَاشُورَاءَ مُسَوِّدًا وَعَلَى الْكُوفَةِ زِيَادُ بْنُ صَالِحٍ الْحَارِثِيُّ، وَعَلَى شُرَطِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بَشِيرٍ الْعِجْلِيُّ، وَسَارَ مُحَمَّدٌ إِلَى الْقَصْرِ، فَارْتَحَلَ زِيَادٌ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَدَخَلَ مُحَمَّدٌ الْقَصْرَ، وَسَمِعَ حَوْثَرَةُ الْخَبَرَ فَسَارَ نَحْوَ الْكُوفَةِ، فَتَفَرَّقَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَامَّةُ مَنْ مَعَهُ لَمَّا بَلَغَهُمُ الْخَبَرُ، وَبَقِيَ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَمِنَ الْيَمَانِيِّينَ، مَنْ كَانَ هَرَبَ مِنْ مَرْوَانَ، وَكَانَ مَعَهُ مَوَالِيهِ، وَأَرْسَلَ أَبُو سَلَمَةَ الْخَلَّالُ، وَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ، إِلَى مُحَمَّدٍ يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْقَصْرِ تَخَوُّفًا عَلَيْهِ مِنْ حَوْثَرَةَ وَمَنْ مَعَهُ، وَلَمْ يَبْلُغْ أَحَدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ هَلَاكُ قَحْطَبَةَ، فَأَبَى مُحَمَّدٌ أَنْ يَخْرُجَ، وَبَلَغَ حَوْثَرَةَ تَفَرُّقُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ فَتَهَيَّأَ لِلْمَسِيرِ نَحْوَهُ. فَبَيْنَا مُحَمَّدٌ فِي الْقَصْرِ إِذْ أَتَاهُ بَعْضُ طَلَائِعِهِ فَقَالَ لَهُ: قَدْ جَاءَتْ خَيْلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ عِدَّةً مِنْ مَوَالِيهِ، فَنَادَاهُمُ الشَّامِيُّونَ: نَحْنُ بَجِيلَةُ وَفِينَا مُلَيْحُ بْنُ خَالِدٍ

الْبَجَلِيُّ جِئْنَا لِنَدْخُلَ فِي طَاعَةِ الْأَمِيرِ، فَدَخَلُوا، ثُمَّ جَاءَتْ خَيْلٌ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ فِيهَا جَهْمُ بْنُ الْأَصْفَحِ الْكِنَانِيُّ، ثُمَّ جَاءَتْ خَيْلٌ أَعْظَمُ مِنْهَا مَعَ رَجُلٍ مِنْ آلِ بَحْدَلٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ حَوْثَرَةُ مِنْ صُنْعِ أَصْحَابِهِ ارْتَحَلَ نَحْوَ وَاسِطَ. وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى قَحْطَبَةَ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهَلَاكِهِ، يُعْلِمُ أَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِالْكُوفَةِ. فَقَدِمَ الْقَاصِدُ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ، فَلَمَّا دَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابَ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ ارْتَحَلَ نَحْوَ الْكُوفَةِ، فَأَقَامَ مُحَمَّدٌ بِالْكُوفَةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَيَوْمَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ وَصَبَّحَهُ الْحَسَنُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ قَحْطَبَةَ أَقْبَلَ نَحْوَ الْكُوفَةِ بَعْدَ هَزِيمَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ وَعَلَيْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بَشِيرٍ الْعِجْلِيُّ فَهَرَبَ عَنْهَا، فَسَوَّدَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ وَخَرَجَ فِي أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَبَايَعَ النَّاسُ، وَدَخَلَهَا الْحَسَنُ مِنَ الْغَدِ، فَلَمَّا دَخَلَهَا الْحَسَنُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ أَتَوْا أَبَا سَلَمَةَ، وَهُوَ فِي بَنِي سَلَمَةَ، فَاسْتَخْرَجُوهُ، فَعَسْكَرَ بِالنُّخَيْلَةِ يَوْمَيْنِ ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى حَمَّامِ أَعْيَنَ، وَوَجَّهَ الْحَسَنَ بْنَ قَحْطَبَةَ إِلَى وَاسِطَ لِقِتَالِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَبَايَعَ النَّاسُ أَبَا سَلَمَةَ حَفْصَ بْنَ سُلَيْمَانَ مَوْلَى السُّبَيْعِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ وَزِيرُ آلِ مُحَمَّدٍ، وَاسْتَعْمَلَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ عَبْدَ اللَّهِ عَلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْأَمِيرُ، حَتَّى ظَهَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ. وَوَجَّهَ حُمَيْدَ بْنَ قَحْطَبَةَ إِلَى الْمَدَائِنِ فِي قُوَّادٍ، وَبَعَثَ الْمُسَيَّبَ بْنَ زُهَيْرٍ وَخَالِدَ بْنَ بَرْمَكَ إِلَى دَيْرِ قُنَّى، وَبَعَثَ الْمُهَلَّبِيَّ وَشَرَاحِيلَ إِلَى عَيْنِ التَّمْرِ، وَبَسَّامَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَبِهَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ. فَلَمَّا أَتَى بَسَّامٌ الْأَهْوَازَ خَرَجَ عَنْهَا عَبْدُ الْوَاحِدِ إِلَى الْبَصْرَةِ بَعْدَ أَنْ قَاتَلَهُ وَهَزَمَهُ بَسَّامٌ، وَبَعَثَ إِلَى الْبَصْرَةِ سُفْيَانَ بْنَ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ عَامِلًا عَلَيْهَا، فَقَدِمَهَا وَكَانَ عَلَيْهَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ الْبَاهِلِيُّ عَامِلًا لِابْنِ هُبَيْرَةَ، وَقَدْ لَحِقَ بِهِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ هُبَيْرَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. فَأَرْسَلَ سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى سَلْمٍ يَأْمُرُهُ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ دَارِ الْإِمَارَةِ، وَيُعْلِمُهُ مَا أَتَاهُ مِنْ رَأْيِ أَبِي سَلَمَةَ، وَامْتَنَعَ وَجَمَعَ مَعَهُ قَيْسًا وَمُضَرَ وَمَنْ بِالْبَصْرَةِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَجَمَعَ سُفْيَانُ جَمِيعَ الْيَمَانِيَّةِ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ رَبِيعَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَأَتَاهُمْ قَائِدٌ مِنْ قُوَّادِ ابْنِ هُبَيْرَةَ كَانَ بَعَثَهُ مَدَدًا لِسَلْمٍ فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ مِنْ كَلْبٍ، فَأَتَى سَلْمٌ سُوقَ الْإِبِلِ وَوَجَّهَ الْخُيُولَ فِي سِكَكِ الْبَصْرَةِ وَنَادَى: مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ خَمْسُمِائَةٍ، وَمَنْ جَاءَ بِأَسِيرٍ فَلَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ. وَمَضَى مُعَاوِيَةُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي رَبِيعَةَ وَخَاصَّتِهِ، فَلَقِيَهُ خَيْلُ تَمِيمٍ، فَقُتِلَ

مُعَاوِيَةُ وَأُتِيَ بِرَأْسِهِ إِلَى سَلْمٍ، فَأَعْطَى قَاتِلَهُ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَانْكَسَرَ سُفْيَانُ بِقَتْلِ ابْنِهِ فَانْهَزَمَ، وَقَدِمَ عَلَى سَلْمٍ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ عِنْدِ مَرْوَانَ، فَأَرَادُوا نَهْبَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْأَزْدِ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَثُرَتِ الْقَتْلَى بَيْنَهُمْ، وَانْهَزَمَتِ الْأَزْدُ، وَنُهِبَتْ دُورُهُمْ، وَسُبِيَتْ نِسَاؤُهُمْ، وَهَدَمُوا الْبُيُوتَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَلَمْ يَزَلْ سَلْمٌ بِالْبَصْرَةِ حَتَّى أَتَاهُ قَتْلُ ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَشَخَصَ عَنْهَا، وَاجْتَمَعَ مَنْ بِالْبَصْرَةِ مِنْ وَلَدِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ فَوَلَّوْهُ أَمْرَهُمْ، فَوَلِيَهُمْ أَيَّامًا يَسِيرَةً حَتَّى قَدِمَ الْبَصْرَةَ أَبُو مَالِكٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُسَيْدٍ الْخُزَاعِيُّ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُسْلِمٍ. فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَلَّاهَا سُفْيَانَ بْنَ مُعَاوِيَةَ. وَكَانَ حَرْبُ سُفْيَانَ وَسَلْمٍ بِالْبَصْرَةِ فِي صَفَرٍ. وَفِيهَا عَزَلَ مَرْوَانُ عَنِ الْمَدِينَةِ الْوَلِيدَ بْنَ عُرْوَةَ وَاسْتَعْمَلَ أَخَاهُ يُوسُفَ بْنَ عُرْوَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.

ذِكْرُ ابْتِدَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ وَبَيْعَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بِالْخِلَافَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْهُ، وَقِيلَ: فِي جُمَادَى الْأُولَى. وَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ وَأَوَّلُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّ الْخِلَافَةَ تَؤُولُ إِلَى وَلَدِهِ، فَلَمْ يَزَلْ وَلَدُهُ يَتَوَقَّعُونَ ذَلِكَ، وَيَتَحَدَّثُونَ بِهِ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا هَاشِمِ ابْنَالْحَنَفِيَّةِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَلَقِيَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: [يَا ابْنَ عَمِّ، إِنَّ عِنْدِي عِلْمًا أَنْبِذُهُ إِلَيْكَ، فَلَا تُطْلِعَنَّ عَلَيْهِ أَحَدًا] ، إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي يَرْتَجِيهِ النَّاسُ فِيكُمْ. [قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ] ، فَلَا يَسْمَعَنَّهُ مِنْكُمْ أَحَدٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي خَبَرِ ابْنِ الْأَشْعَثِ قَوْلُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: أَمَّا إِذْ كَانَ الْفَتْقُ مِنْ سِجِسْتَانَ، فَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهُ بَأْسٌ، إِنَّمَا كُنَّا نَتَخَوَّفُ لَوْ كَانَ مِنْ خُرَاسَانَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: لَنَا ثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ: مَوْتُ الطَّاغِيَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَرَأْسُ الْمِائَةِ، وَفَتْقُ إِفْرِيقِيَّةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَدْعُو لَنَا دُعَاةٌ، ثُمَّ تُقْبِلُ أَنْصَارُنَا مِنَ الْمَشْرِقِ حَتَّى تَرِدَ خَيْلُهُمُ [الْمَغْرِبَ] وَيَسْتَخْرِجُوا مَا كَنَزَ الْجَبَّارُونَ. فَلَمَّا قُتِلَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَنَقَضَتِ الْبَرْبَرُ، بَعَثَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى خُرَاسَانَ دَاعِيًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى الرِّضَا، وَلَا يُسَمِّيَ أَحَدًا.

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ خَبَرَ الدُّعَاةِ، وَخَبَرَ أَبِي مُسْلِمٍ، وَقَبْضَ مَرْوَانَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ مَرْوَانُ لَمَّا أَرْسَلَ الْمَقْبُوضَ عَلَيْهِ وَصَفَ لِلرَّسُولِ صِفَةَ أَبِي الْعَبَّاسِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَجِدُ فِي الْكُتُبِ: إِنَّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ يَقْتُلُهُمْ وَيَسْلُبُهُمْ مُلْكَهُمْ! وَقَالَ لَهُ لِيَأْتِيَهُ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ. فَقَدِمَ الرَّسُولُ فَأَخَذَ أَبَا الْعَبَّاسِ بِالصِّفَةِ، فَلَمَّا ظَهَرَ إِبْرَاهِيمُ وَأَمِنَ، قِيلَ لِلرَّسُولِ: إِنَّمَا أُمِرْتَ بِإِبْرَاهِيمَ وَهَذَا عَبْدُ اللَّهِ. فَتَرَكَ أَبَا الْعَبَّاسِ، وَأَخَذَ إِبْرَاهِيمَ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى مَرْوَانَ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: لَيْسَ هَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي وَصَفْتُ لَكَ. فَقَالُوا: قَدْ رَأَيْنَا الصِّفَةَ الَّتِي وَصَفْتَ، وَإِنَّمَا سَمَّيْتَ إِبْرَاهِيمَ فَهَذَا إِبْرَاهِيمُ. فَأَمَرَ بِهِ فَحُبِسَ، وَأَعَادَ الرُّسُلَ فِي طَلَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ فَلَمْ يَرَوْهُ. وَكَانَ سَبَبُ مَسِيرِهِ مِنَ الْحُمَيْمَةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أَخَذَهُ الرَّسُولُ نَعَى نَفْسَهُ إِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْكُوفَةِ مَعَ أَخِيهِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَبِالسَّمْعِ لَهُ وَبِالطَّاعَةِ، وَأَوْصَى إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ. (وَجَعَلَهُ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ، فَسَارَ أَبُو الْعَبَّاسِ) وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، مِنْهُمْ: أَخُوهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وَمُحَمَّدٌ ابْنَا أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَعْمَامُهُ دَاوُدُ، وَعِيسَى، وَصَالِحٌ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ بَنُو عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عَمِّهِ دَاوُدُ، وَابْنُ أَخِيهِ عِيسَى بْنُ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَيَحْيَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ تَمَّامِ بْنِ عَبَّاسٍ، حَتَّى قَدِمُوا الْكُوفَةَ فِي صَفَرٍ، وَشِيعَتُهُمْ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ بِحَمَّامِ أَعْيَنَ، فَأَنْزَلَهُمْ أَبُو سَلَمَةَ الْخَلَّالُ دَارَ الْوَلِيدِ بْنِ سَعْدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ فِي بَنِي أَوْدٍ، وَكَتَمَ أَمْرَهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مِنْ جَمِيعِ الْقُوَّادِ وَالشِّيعَةِ. وَأَرَادَ فِيمَا ذُكِرَ أَنْ يُحَوِّلَ الْأَمْرَ إِلَى آلِ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ عَنْ مَوْتِ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْجَهْمِ: مَا فَعَلَ الْإِمَامُ؟ قَالَ: لَمْ يَقْدَمُ [بَعْدُ] . فَأَلَحَّ عَلَيْهِ. فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا وَقْتَ خُرُوجِهِ، لِأَنَّ وَاسِطًا لَمْ تُفْتَحْ بَعْدُ. وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْإِمَامِ يَقُولُ: لَا تَعْجَلُوا. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ حَتَّى دَخَلَ أَبُو حُمَيْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحِمْيَرِيُّ مِنْ حَمَّامِ أَعْيَنَ يُرِيدُ الْكُنَاسَةَ، فَلَقِيَ خَادِمًا لِإِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ يُقَالُ لَهُ سَابِقٌ الْخَوَارِزْمِيُّ، فَعَرَفَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ إِبْرَاهِيمُ

الْإِمَامُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ قَتَلَهُ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَوْصَى إِلَى أَخِيهِ أَبِي الْعَبَّاسِ وَاسْتَخْلَفَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّهُ قَدِمَ الْكُوفَةَ وَمَعَهُ عَامَّةُ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَسَأَلَهُ أَبُو حُمَيْدٍ أَنْ يَنْطَلِقَ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ سَابِقٌ: الْمَوْعِدُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ غَدًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَرِهَ سَابِقٌ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ. فَرَجَعَ أَبُو حُمَيْدٍ إِلَى أَبِي الْجَهْمِ، فَأَخْبَرَهُ وَهُوَ فِي عَسْكَرِ أَبِي سَلَمَةَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْطُفَ لِلِقَائِهِمْ، فَرَجَعَ أَبُو حُمَيْدٍ مِنَ الْغَدِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَاعَدَ فِيهِ سَابِقًا فَلَقِيَهُ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِمْ سَأَلَ أَبُو حُمَيْدٍ مَنِ الْخَلِيفَةُ مِنْهُمْ. فَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: هَذَا إِمَامُكُمْ وَخَلِيفَتُكُمْ. وَأَشَارَ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ وَقَبَّلَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَقَالَ: مُرْنَا بِأَمْرِكَ. وَعَزَّاهُ بِإِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ. ثُمَّ رَجَعَ وَصَحِبَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَلَمَةَ، رَجُلٌ كَانَ يَخْدِمُ بَنِي الْعَبَّاسِ، إِلَى أَبِي الْجَهْمِ فَأَخْبَرَهُ عَنْ مَنْزِلِهِمْ، وَأَنَّ الْإِمَامَ أَرْسَلَ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ يَسْأَلُهُ مِائَةَ دِينَارٍ يُعْطِيهَا الْجَمَّالَ كِرَاءَ الْجِمَالِ الَّتِي حَمَلَتْهُمْ، فَلَمْ يَبْعَثْ بِهَا إِلَيْهِمْ، فَمَشَى أَبُو الْجَهْمِ وَأَبُو حُمَيْدٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَلَمَةَ إِلَى مُوسَى بْنِ كَعْبٍ، وَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، وَبَعَثُوا إِلَى الْإِمَامِ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ مَعَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَلَمَةَ. وَاتَّفَقَ رَأْيُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْقُوَّادِ عَلَى أَنْ يَلْقَوُا الْإِمَامَ، فَمَضَى مُوسَى بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو الْجَهْمِ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَسَلَمَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَلَمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ الطَّائِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَشَرَاحِيلُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَسَّامٍ، وَأَبُو حُمَيْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُصَيْنِ إِلَى الْإِمَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ. وَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا سَلَمَةَ فَسَأَلَ عَنْهُمْ، فَقِيلَ: إِنَّهُمْ دَخَلُوا الْكُوفَةَ فِي حَاجَةٍ لَهُمْ، وَأَتَى الْقَوْمُ أَبَا الْعَبَّاسِ، فَقَالَ: وَأَيُّكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْحَارِثِيَّةِ؟ فَقَالُوا: هَذَا، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ وَعَزَّوْهُ فِي إِبْرَاهِيمَ، وَرَجَعَ مُوسَى بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو الْجَهْمِ، وَأَمَرَ أَبُو الْجَهْمِ الْبَاقِينَ فَتَخَلَّفُوا عِنْدَ الْإِمَامِ. فَأَرْسَلَ أَبُو سَلَمَةَ إِلَى أَبِي الْجَهْمِ: أَيْنَ كُنْتَ؟ قَالَ: رَكِبْتُ إِلَى إِمَامِي، فَرَكِبَ أَبُو سَلَمَةَ إِلَى الْإِمَامِ، فَأَرْسَلَ أَبُو الْجَهْمِ إِلَى أَبِي حُمَيْدٍ: إِنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَدْ أَتَاكُمْ فَلَا يَدْخُلَنَّ عَلَى الْإِمَامِ إِلَّا وَحْدَهُ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ أَبُو سَلَمَةَ مَنَعُوهُ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ أَحَدٌ، فَدَخَلَ وَحْدَهُ فَسَلَّمَ بِالْخِلَافَةِ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو حُمَيْدٍ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِكَ يَا مَاصَّ بَظْرِ أُمِّهِ! فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ: مَهْ! وَأَمَرَ أَبَا سَلَمَةَ بِالْعَوْدِ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، فَعَادَ.

وَأَصْبَحَ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَلَبِسُوا السِّلَاحَ، وَاصْطَفُّوا لِخُرُوجِ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَأَتَوْا بِالدَّوَابِّ، فَرَكِبَ بِرْذَوْنًا أَبْلَقَ، وَرَكِبَ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَدَخَلُوا دَارَ الْإِمَارَةِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَخَطَبَ وَصَلَّى بِالنَّاسِ. ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ حِينَ بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فَقَامَ فِي أَعْلَاهُ، وَصَعِدَ عَمُّهُ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ فَقَامَ دُونَهُ، فَتَكَلَّمَ أَبُو الْعَبَّاسِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اصْطَفَى الْإِسْلَامَ لِنَفْسِهِ، وَكَرَّمَهُ، وَشَرَّفَهُ، وَعَظَّمَهُ، وَاخْتَارَهُ لَنَا، فَأَيَّدَهُ بِنَا، وَجَعَلَنَا أَهْلَهُ، وَكَهْفَهُ، وَحِصْنَهُ، وَالْقُوَّامَ بِهِ، وَالذَّابِّينَ عَنْهُ، وَالنَّاصِرِينَ لَهُ، فَأَلْزَمَنَا كَلِمَةَ التَّقْوَى، وَجَعَلَنَا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا، وَخَصَّنَا بِرَحِمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَرَابَتِهِ، وَأَنْشَأَنَا مِنْ آبَائِنَا، وَأَنْبَتَنَا مِنْ شَجَرَتِهِ، وَاشْتَقَّنَا مِنْ نَبْعَتِهِ، جَعَلَهُ مِنْ أَنْفُسِنَا عَزِيزًا عَلَيْهِ مَا عَنِتْنَا، حَرِيصًا عَلَيْنَا، بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفًا رَحِيمًا، وَوَضَعَنَا مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِالْمَوْضِعِ الرَّفِيعِ. وَأَنْزَلَ بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ كِتَابًا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ مُحْكَمِ كِتَابِهِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] ، وَقَالَ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، وَقَالَ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] ، وَقَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [الأنفال: 41] . فَأَعْلَمَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فَضْلَنَا، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ حَقَّنَا وَمَوَدَّتَنَا، وَأَجْزَلَ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ نَصِيبَنَا تَكْرِمَةً لَنَا وَفَضْلًا عَلَيْنَا، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. وَزَعَمَتِ السَّبَئِيَّةُ الضُّلَّالُ أَنَّ غَيْرَنَا أَحَقُّ بِالرِّيَاسَةِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْخِلَافَةِ مِنَّا، فَشَاهَتْ وُجُوهُهُمْ! وَلِمَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ ! وَبِنَا هَدَى اللَّهُ النَّاسَ بَعْدَ ضَلَالَتِهِمْ، وَبَصَّرَهُمْ

بَعْدَ جَهَالَتِهِمْ، وَأَنْقَذَهُمْ بَعْدَ هَلَكَتِهِمْ، وَأَظْهَرَ بِنَا الْحَقَّ، وَدَحَضَ الْبَاطِلَ، وَأَصْلَحَ بِنَا مِنْهُمْ مَا كَانَ فَاسِدًا، وَرَفَعَ بِنَا الْخَسِيسَةَ، وَتَمَّمَ بِنَا النَّقِيصَةَ، وَجَمَعَ الْفُرْقَةَ حَتَّى عَادَ النَّاسُ بَعْدَ الْعَدَاوَةِ أَهْلَ التَّعَاطُفِ وَالْبِرِّ وَالْمُوَاسَاةِ فِي دُنْيَاهُمْ، وَإِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ فِي آخِرَتِهِمْ. فَتَحَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنَّةً وَمِنْحَةً لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ قَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَصْحَابُهُ، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، فَحَوَوْا مَوَارِيثَ الْأُمَمِ، فَعَدَلُوا فِيهَا وَوَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا، وَأَعْطَوْهَا أَهْلَهَا، وَخَرَجُوا خِمَاصًا مِنْهَا. ثُمَّ وَثَبَ بَنُو حَرْبٍ وَبَنُو مَرْوَانَ فَابْتَزُّوهَا وَتَدَاوَلُوهَا، فَجَارُوا فِيهَا، وَاسْتَأْثَرُوا بِهَا، وَظَلَمُوا أَهْلَهَا بِمَا أَمْلَى اللَّهُ لَهُمْ حِينًا حَتَّى آسَفُوهُ، فَلَمَّا آسَفُوهُ انْتَقَمَ مِنْهُمْ بِأَيْدِينَا، وَرَدَّ عَلَيْنَا حَقَّنَا، وَتَدَارَكَ بِنَا أُمَّتَنَا، وَوَلِيَ نَصْرَنَا وَالْقِيَامَ بِأَمْرِنَا، لِيَمُنَّ بِنَا عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَخَتَمَ بِنَا كَمَا افْتَتَحَ بِنَا. وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَأْتِيَكُمُ الْجَوْرُ مِنْ حَيْثُ جَاءَكُمُ الْخَيْرُ، وَلَا الْفَسَادُ مِنْ حَيْثُ جَاءَكُمُ الصَّلَاحُ، وَمَا تَوْفِيقُنَا (أَهْلَ الْبَيْتِ) إِلَّا بِاللَّهِ. يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ أَنْتُمْ مَحَلُّ مَحَبَّتِنَا وَمَنْزِلُ مَوَدَّتِنَا، أَنْتُمُ الَّذِينَ لَمْ تَتَغَيَّرُوا عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُثْنِكُمْ عَنْهُ تَحَامُلُ أَهْلِ الْجَوْرِ عَلَيْكُمْ حَتَّى أَدْرَكْتُمْ زَمَانَنَا، وَأَتَاكُمُ اللَّهُ بِدَوْلَتِنَا، فَأَنْتُمْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِنَا، وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْنَا، وَقَدْ زِدْتُكُمْ فِي أُعْطِيَّاتِكُمْ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَاسْتَعِدُّوا فَأَنَا السَّفَّاحُ الْمُبِيحُ، وَالثَّائِرُ الْمُبِيرُ. وَكَانَ مَوْعُوكًا فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْوَعْكُ. فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَامَ عَمُّهُ دَاوُدُ عَلَى مَرَاقِي الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، شُكْرًا لِلَّذِي أَهْلَكَ عَدُوَّنَا، وَأَصَارَ إِلَيْنَا مِيرَاثَنَا مِنْ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

أَيُّهَا النَّاسُ! الْآنَ أَقْشَعَتْ حَنَادِسُ الدُّنْيَا، وَانْكَشَفَ غِطَاؤُهَا، وَأَشْرَقَتْ أَرْضُهَا وَسَمَاؤُهَا، وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَطْلَعِهَا، وَبَزَغَ الْقَمَرُ مِنْ مَبْزَغِهِ، وَأَخَذَ الْقَوْسَ بَارِيهَا، وَعَادَ السَّهْمُ إِلَى مَنْزَعِهِ، وَرَجَعَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ فِي أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ، أَهْلِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بِكُمْ، وَالْعَطْفِ عَلَيْكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّا وَاللَّهِ مَا خَرَجْنَا فِي طَلَبِ هَذَا الْأَمْرِ لِنُكْثِرَ لُجَيْنًا، وَلَا عِقْيَانًا، وَلَا نَحْفِرُ نَهْرًا، وَلَا نَبْنِيَ قَصْرًا، وَإِنَّمَا أَخْرَجَتْنَا الْأَنَفَةُ مِنَ ابْتِزَازِهِمْ حَقَّنَا، وَالْغَضَبُ لِبَنِي عَمِّنَا، وَمَا كَرِهْنَا مِنْ أُمُورِكُمْ، فَلَقَدْ كَانَتْ أُمُورُكُمْ تُرْمِضُنَا وَنَحْنُ عَلَى فُرُشِنَا، وَيَشْتَدُّ عَلَيْنَا سُوءُ سِيرَةِ بَنِي أُمَيَّةَ فِيكُمْ، وَاسْتِنْزَالُهُمْ لَكُمْ، وَاسْتِئْثَارُهُمْ بِفَيْئِكُمْ وَصَدَقَاتِكُمْ وَمَغَانِمِكُمْ عَلَيْكُمْ. لَكُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَذِمَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذِمَّةُ الْعَبَّاسِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَلَيْنَا أَنْ نَحْكُمَ فِيكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَنَعْمَلَ فِيكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَنَسِيرَ فِي الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ بِسِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. تَبًّا تَبًّا لِبَنِي حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ وَبَنِي مَرْوَانَ! آثَرُوا فِي مُدَّتِهِمُ الْعَاجِلَةَ عَلَى الْآجِلَةِ، وَالدَّارَ الْفَانِيَةَ عَلَى الدَّارِ الْبَاقِيَةِ، فَرَكِبُوا الْآثَامَ، وَظَلَمُوا الْأَنَامَ، وَانْتَهَكُوا الْمَحَارِمَ، وَغَشُوا بِالْجَرَائِمِ، وَجَارُوا فِي سِيرَتِهِمْ فِي الْعِبَادِ، وَسُنَّتِهِمْ فِي الْبِلَادِ، وَمَرِحُوا فِي أَعِنَّةِ الْمَعَاصِي، وَرَكَضُوا فِي مَيْدَانِ الْغَيِّ جَهْلًا بِاسْتِدْرَاجِ اللَّهِ، وَأَمْنًا لِمَكْرِ اللَّهِ، فَأَتَاهُمْ بَأْسُ اللَّهِ بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحُوا أَحَادِيثَ، وَمُزِّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ، فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَأَدَالَنَا اللَّهُ مِنْ مَرْوَانَ، وَقَدْ غَرَّهُ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، وَأَرْسَلَ لِعَدُوِّ اللَّهِ فِي عِنَانِهِ حَتَّى عَثَرَ فِي فَضْلِ خِطَامِهِ، أَظَنَّ عَدُوُّ اللَّهِ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى حِزْبَهُ، وَجَمَعَ مَكَايِدَهُ وَرَمَى بِكَتَائِبِهِ، فَوَجَدَ أَمَامَهُ وَوَرَاءَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَبَأْسِهِ وَنِقْمَتِهِ مَا أَمَاتَ بَاطِلَهُ، وَمَحَا

ضَلَالَهُ. وَجَعَلَ دَائِرَةَ السَّوْءِ بِهِ، وَأَحْيَا شَرَفَنَا وَعِزَّنَا وَرَدَّ إِلَيْنَا حَقَّنَا وَإِرْثَنَا. أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَصَرَهُ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا، إِنَّمَا عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ كَارِهٌ أَنْ يَخْلِطَ بِكَلَامِ الْجُمْعَةِ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا قَطَعَهُ عَنِ اسْتِتْمَامِ الْكَلَامِ شِدَّةُ الْوَعْكِ، فَادْعُوا اللَّهَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَافِيَةِ، فَقَدْ بَدَّلَكُمُ اللَّهُ بِمَرْوَانَ عَدُوِّ الرَّحْمَنِ وَخَلِيفَةِ الشَّيْطَانِ، الْمُتَّبِعِ السَّفَلَةَ الَّذِينَ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بِإِبْدَالِ الدِّينِ وَانْتِهَاكِ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ، الشَّابَّ الْمُتَكَهِّلَ الْمُتَمَهِّلَ الْمُقْتَدِيَ بِسَلَفِهِ الْأَبْرَارِ الْأَخْيَارِ الَّذِينَ أَصْلَحُوا الْأَرْضَ بَعْدَ فَسَادِهَا بِمَعَالِمِ الْهُدَى وَمَنَاهِجِ التَّقْوَى. فَعَجَّ النَّاسُ لَهُ بِالدُّعَاءِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ! إِنَّا وَاللَّهِ مَا زِلْنَا مَظْلُومِينَ مَقْهُورِينَ عَلَى حَقِّنَا، حَتَّى أَبَاحَ اللَّهُ شِيعَتَنَا أَهْلَ خُرَاسَانَ، فَأَحْيَا بِهِمْ حَقَّنَا، وَأَبْلَجَ بِهِمْ حُجَّتَنَا، وَأَظْهَرَ بِهِمْ دَوْلَتَنَا، وَأَرَاكُمُ اللَّهُ بِهِمْ مَا لَسْتُمْ تَنْتَظِرُونَ، فَأَظْهَرَ فِيكُمُ الْخَلِيفَةَ مِنْ هَاشِمٍ، وَبَيَّضَ بِهِ وُجُوهَكُمْ، وَأَدَالَكُمْ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، وَنَقَلَ إِلَيْكُمُ السُّلْطَانَ، وَأَعَزَّ الْإِسْلَامَ، وَمَنَّ عَلَيْكُمْ بِإِمَامٍ مَنَحَهُ الْعَدَالَةَ، وَأَعْطَاهُ حُسْنَ الْإِيَالَةِ، فَخُذُوا مَا آتَاكُمُ اللَّهُ بِشُكْرٍ، وَالْزَمُوا طَاعَتَنَا، وَلَا تُخْدَعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّ الْأَمْرَ أَمْرُكُمْ، وَإِنَّ لِكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ مِصْرًا وَإِنَّكُمْ مِصْرُنَا. أَلَا وَإِنَّهُ مَا صَعِدَ مِنْبَرَكُمْ هَذَا خَلِيفَةٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِينَا لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنَّا حَتَّى نُسَلِّمَهُ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَبْلَانَا وَأَوْلَانَا. ثُمَّ نَزَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ أَمَامَهُ حَتَّى دَخَلَ الْقَصْرَ، وَأَجْلَسَ أَخَاهُ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمْ يَزَلْ يَأْخُذُهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى صَلَّى بِهِمُ الْعَصْرَ ثُمَّ الْمَغْرِبَ، وَجَنَّهُمُ اللَّيْلُ، فَدَخَلَ.

وَقِيلَ: إِنَّ دَاوُدَ بْنَ عَلِيٍّ لَمَّا تَكَلَّمَ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلِيفَةٌ إِلَّا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي خَلْفِي. ثُمَّ نَزَلَا، وَخَرَجَ أَبُو الْعَبَّاسِ يُعَسْكِرُ بِحَمَّامِ أَعْيَنَ فِي عَسْكَرِ أَبِي سَلَمَةَ، وَنَزَلَ مَعَهُ فِي حُجْرَتِهِ بَيْنَهُمَا سِتْرٌ، وَحَاجِبُ السَّفَّاحِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَسَّامٍ. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ وَأَرْضِهَا عَمَّهُ دَاوُدَ بْنَ عَلِيٍّ، وَبَعَثَ عَمَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ إِلَى أَبِي عَوْنِ بْنِ يَزِيدَ بِشَهْرَزُورَ، وَبَعَثَ ابْنَ أَخِيهِ عِيسَى بْنَ مُوسَى إِلَى الْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ يُحَاصِرُ ابْنَ هُبَيْرَةَ بِوَاسِطٍ، وَبَعَثَ يَحْيَى بْنَ جَعْفَرِ بْنِ تَمَّامِ بْنِ عَبَّاسٍ إِلَى حُمَيْدِ بْنِ قَحْطَبَةَ بِالْمَدَائِنِ. وَبَعَثَ أَبَا الْيَقْظَانِ عُثْمَانَ بْنَ عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ إِلَى بَسَّامِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ بِالْأَهْوَازِ، وَبَعَثَ سَلَمَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ إِلَى مَالِكِ بْنِ الطَّوَّافِ. وَأَقَامَ السَّفَّاحُ بِالْعَسْكَرِ أَشْهُرًا، ثُمَّ ارْتَحَلَ فَنَزَلَ الْمَدِينَةَ الْهَاشِمِيَّةَ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ، وَكَانَ تَنَكَّرَ لِأَبِي سَلَمَةَ قَبْلَ تَحَوُّلِهِ حَتَّى عَرَفَ ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ دَاوُدَ بْنَ عَلِيٍّ وَابْنَهُ مُوسَى لَمْ يَكُونَا بِالشَّامِ عِنْدَ مَسِيرِ بَنِي الْعَبَّاسِ إِلَى الْعِرَاقِ، إِنَّمَا كَانَا بِالْعِرَاقِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَخَرَجَا يُرِيدَانِ الشَّامَ، فَلَقِيَهُمَا أَبُو الْعَبَّاسِ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ يُرِيدُونَ الْكُوفَةَ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ، فَسَأَلَهُمْ دَاوُدُ عَنْ خَبَرِهِمْ، فَقَصَّ عَلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ قِصَّتَهُمْ، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْكُوفَةَ لِيَظْهَرُوا بِهَا وَيُظْهِرُوا أَمْرَهُمْ. فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ تَأْتِي الْكُوفَةَ وَشَيْخُ بَنِي أُمَيَّةَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ بِحَرَّانَ مُطِلٌّ عَلَى الْعِرَاقِ فِي أَهْلِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ، وَشَيْخُ الْعَرَبِ يَزِيدُ بْنُ هُبَيْرَةَ بِالْعِرَاقِ فِي جُنْدِ الْعَرَبِ! وَقَالَ: يَا عَمِّي مَنْ أَحَبَّ الْحَيَاةَ ذَلَّ، ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى: فَمَا مِيتَةٌ إِنْ مُتُّهَا غَيْرَ عَاجِزٍ ... بِعَارٍ إِذَا مَا غَالَتِ النَّفْسَ غُولُهَا. فَالْتَفَتَ دَاوُدُ إِلَى ابْنِهِ مُوسَى، فَقَالَ: صَدَقَ وَاللَّهِ ابْنُ عَمِّكَ، فَارْجِعْ بِنَا مَعَهُ نَعِشْ أَعِزَّاءَ أَوْ نَمُتْ كُرَمَاءَ. فَرَجَعُوا جَمِيعًا.

فَكَانَ عِيسَى بْنُ مُوسَى يَقُولُ إِذَا ذَكَرَ خُرُوجَهُمْ مِنَ الْحُمَيْمَةِ يُرِيدُونَ الْكُوفَةَ: إِنَّ نَفَرًا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا خَرَجُوا مِنْ دَارِهِمْ وَأَهْلِهِمْ يَطْلُبُونَ مَا طَلَبْنَا لَعَظِيمَةٌ هِمَّتُهُمْ، كَبِيرَةٌ أَنْفُسُهُمْ، شَدِيدَةٌ قُلُوبُهُمْ. ذِكْرُ هَزِيمَةِ مَرْوَانَ بِالزَّابِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنْ قَحْطَبَةَ أَرْسَلَ أَبَا عَوْنٍ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَزِيدَ الْأَزْدِيَّ إِلَى شَهْرَزُورَ، وَأَنَّهُ قَتَلَ عُثْمَانَ بْنَ سُفْيَانَ، وَأَقَامَ بِنَاحِيَةِ الْمَوْصِلِ، وَأَنَّ مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ سَارَ إِلَيْهِ مِنْ حَرَّانَ حَتَّى بَلَغَ الزَّابَ، وَحَفَرَ خَنْدَقًا، وَكَانَ فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، وَسَارَ أَبُو عَوْنٍ إِلَى الزَّابِ، فَوَجَّهَ أَبُو سَلَمَةَ إِلَى أَبِي عَوْنٍ عُيَيْنَةَ بْنَ مُوسَى، وَالْمِنْهَالَ بْنَ فَتَّانٍ، وَإِسْحَاقَ بْنَ طَلْحَةَ، كُلُّ وَاحِدٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ. فَلَمَّا ظَهَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ بَعَثَ سَلَمَةَ بْنَ مُحَمَّدٍ فِي أَلْفَيْنِ، وَعَبْدَ اللَّهِ الطَّائِيَّ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَعَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ رِبْعِيٍّ الطَّائِيَّ فِي أَلْفَيْنِ، وَوِدَاسَ بْنَ نَضْلَةَ فِي خَمْسِمِائَةٍ إِلَى أَبِي عَوْنٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَسِيرُ إِلَى مَرْوَانَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ: أَنَا. فَسَيَّرَهُ إِلَى أَبِي عَوْنٍ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَتَحَوَّلَ أَبُو عَوْنٍ عَنْ سُرَادِقِهِ، وَخَلَّاهُ لَهُ وَمَا فِيهِ. فَلَمَّا كَانَ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ سَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ مَخَاضَةٍ فَدُلَّ عَلَيْهَا بِالزَّابِ، فَأَمَرَ عُيَيْنَةَ بْنَ مُوسَى، فَعَبَرَ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، فَانْتَهَى إِلَى عَسْكَرِ مَرْوَانَ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى أَمْسَوْا، وَرَجَعَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ. وَأَصْبَحَ مَرْوَانُ فَعَقَدَ الْجِسْرَ وَعَبَرَ عَلَيْهِ، فَنَهَاهُ وُزَرَاؤُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَسَيَّرَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ، فَنَزَلَ أَسْفَلَ مِنْ عَسْكَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، فَبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْمُخَارِقَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ نَحْوَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْوَانَ، فَسَرَّحَ إِلَيْهِ ابْنُ مَرْوَانَ الْوَلِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَالْتَقَيَا، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْمُخَارِقِ، وَثَبَتَ هُوَ، فَأُسِرَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى مَرْوَانَ مَعَ رُءُوسِ الْقَتْلَى. فَقَالَ مَرْوَانُ: أَدْخِلُوا عَلَيَّ رَجُلًا مِنَ الْأَسْرَى. فَأَتَوْهُ بِالْمُخَارِقِ، وَكَانَ نَحِيفًا. فَقَالَ: أَنْتَ الْمُخَارِقُ؟ قَالَ: لَا، أَنَا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. قَالَ: فَتَعْرِفُ الْمُخَارِقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَانْظُرْ هَلْ تَرَاهُ فِي هَذِهِ الرُّءُوسِ. فَنَظَرَ إِلَى رَأْسٍ مِنْهَا

فَقَالَ: هُوَ هَذَا. فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مَعَ مَرْوَانَ حِينَ نَظَرَ الْمُخَارِقَ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ: لَعَنَ اللَّهُ أَبَا مُسْلِمٍ حِينَ جَاءَنَا بِهَؤُلَاءِ يُقَاتِلُنَا بِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُخَارِقَ لَمَّا نَظَرَ إِلَى الرُّءُوسِ قَالَ: مَا أَرَى رَأْسَهُ فِيهَا وَلَا أُرَاهُ إِلَّا قَدْ ذَهَبَ. فَخَلَّى سَبِيلَهُ. وَلَمَّا بَلَغَتِ الْهَزِيمَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ أَرْسَلَ إِلَى طَرِيقِ الْمُنْهَزِمِينَ مَنْ يَمْنَعُهُمْ مِنْ دُخُولِ الْعَسْكَرِ لِئَلَّا يُنْكِرَ قَوْمُهُمْ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو عَوْنٍ أَنْ يُبَادِرَ مَرْوَانَ بِالْقِتَالِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُ الْمُخَارِقِ، فَيَفُتَّ ذَلِكَ فِي أَعْضَادِ النَّاسِ، فَنَادَى فِيهِمْ بِلُبْسِ السِّلَاحِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الْحَرْبِ، فَرَكِبُوا، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَسْكَرِهِ مُحَمَّدَ بْنَ صُولٍ، وَسَارَ نَحْوَ مَرْوَانَ، وَجَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ أَبَا عَوْنٍ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ الْوَلِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ عَسْكَرُهُ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَقِيلَ: اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، (وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ) . فَلَمَّا الْتَقَى الْعَسْكَرَانِ قَالَ مَرْوَانُ لِعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِنْ زَالَتِ الْيَوْمَ الشَّمْسُ وَلَمْ يُقَاتِلُونَا كُنَّا الَّذِينَ نَدْفَعُهَا إِلَى الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنْ قَاتَلُونَا فَأَقْبَلَ الزَّوَالُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَأَرْسَلَ مَرْوَانُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُهُ الْمُوَادَعَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَذَبَ ابْنُ زُرَيْقٍ، لَا تَزُولُ الشَّمْسُ حَتَّى أُوَطِّئَهُ الْخَيْلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ مَرْوَانُ لِأَهْلِ الشَّامِ: قِفُوا لَا نَبْدؤُهُمْ بِالْقِتَالِ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الشَّمْسِ، فَحَمَلَ الْوَلِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَهُوَ خَتْنُ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَى ابْنَتِهِ، فَغَضِبَ وَشَتَمَهُ، وَقَاتَلَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ أَبَا عَوْنٍ، فَانْحَازَ أَبُو عَوْنٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، فَقَالَ لِمُوسَى بْنِ كَعْبٍ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مُرِ النَّاسَ فَلْيَنْزِلُوا. فَنُودِيَ: الْأَرْضَ، فَنَزَلَ النَّاسُ وَأَشْرَعُوا الرِّمَاحَ وَجَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ فَقَاتَلُوهُمْ، وَجَعَلَ أَهْلُ الشَّامِ يَتَأَخَّرُونَ كَأَنَّهُمْ يُدْفَعُونَ. وَمَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ قُدُمًا وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَبِّ حَتَّى مَتَى نُقْتَلُ فِيكَ؟ وَنَادَى: يَا أَهْلَ خُرَاسَانَ! يَا لَثَارَاتِ إِبْرَاهِيمَ! يَا مُحَمَّدُ! يَا مَنْصُورُ! وَاشْتَدَّ بَيْنَهُمُ الْقِتَالُ. فَقَالَ مَرْوَانُ لِقُضَاعَةَ: انْزِلُوا. فَقَالُوا: قُلْ لِبَنِي سُلَيْمٍ فَلْيَنْزِلُوا. فَأَرْسَلَ إِلَى السَّكَاسِكِ أَنِ احْمِلُوا، فَقَالُوا: قُلْ لِبَنِي عَامِرٍ فَلْيَحْمِلُوا. فَأَرْسَلَ إِلَى السَّكُونِ أَنِ احْمِلُوا،

فَقَالُوا: قُلْ لِغَطَفَانَ فَلْيَحْمِلُوا. فَقَالَ لِصَاحِبِ شُرْطَتِهِ: انْزِلْ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ لِأَجْعَلَ نَفْسِي عَرَضًا. قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَسُوءَنَّكَ! فَقَالَ: وَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنَّكَ قَدَرْتَ عَلَى ذَلِكَ. وَكَانَ مَرْوَانُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَا يُدَبِّرُ شَيْئًا إِلَّا كَانَ فِيهِ الْخَلَلُ، فَأَمَرَ بِالْأَمْوَالِ فَأُخْرِجَتْ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: اصْبِرُوا وَقَاتِلُوا فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ لَكُمْ. فَجَعَلَ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ يُصِيبُونَ مِنْ ذَلِكَ، (فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ مَالُوا عَلَى هَذَا الْمَالِ وَلَا نَأْمَنُهُمْ أَنْ يَذْهَبُوا بِهِ. فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنْ سِرْ فِي أَصْحَابِكَ إِلَى مُؤَخَّرِ عَسْكَرِكَ فَاقْتُلْ مَنْ أَخَذَ مِنَ) الْمَالِ وَامْنَعْهُمْ. فَمَالَ عَبْدُ اللَّهِ بِرَايَتِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَقَالَ النَّاسُ: الْهَزِيمَةُ الْهَزِيمَةُ! فَانْهَزَمَ مَرْوَانُ وَانْهَزَمُوا، وَقُطِعَ الْجِسْرُ، وَكَانَ مَنْ غَرِقَ يَوْمَئِذٍ أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ. فَكَانَ مِمَّنْ غَرِقَ يَوْمَئِذٍ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْنِ الْمَخْلُوعِ، فَاسْتَخْرَجُوهُ فِي الْغَرْقَى، فَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50] . وَقِيلَ: بَلْ قَتَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ بِالشَّامِ. وَقُتِلَ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ سَعِيدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَقِيلَ: بَلْ قَتَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بِالشَّامِ. وَأَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ فِي عَسْكَرِهِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ يُعَيِّرُ مَرْوَانَ: لَجَّ الْفِرَارُ بِمَرْوَانَ فَقُلْتُ لَهُ عَادَ الظَّلُومُ ظَلِيمًا هَمُّهُ الْهَرَبُ أَيْنَ الْفِرَارُ وَتَرْكُ الْمُلْكِ إِذْ ذَهَبَتْ عَنْكَ الْهُوَيْنَا فَلَا دِينٌ وَلَا حَسَبُ فَرَاشَةُ الْحِلْمِ، فِرْعَوْنُ الْعِقَابِ وَإِنْ تَطْلُبْ نَدَاهُ فَكَلْبٌ دُونَهُ كَلِبُ. وَكَتَبَ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى السَّفَّاحِ بِالْفَتْحِ، وَحَوَى عَسْكَرَ مَرْوَانَ بِمَا فِيهِ، فَوَجَدَ سِلَاحًا كَثِيرًا وَأَمْوَالًا، وَلَمْ يَجِدْ فِيهِ امْرَأَةً إِلَّا جَارِيَةً كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْوَانَ.

فَلَمَّا أَتَى الْكِتَابُ السَّفَّاحَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَأَمَرَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ بِخَمْسِمِائَةِ خَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ، وَرَفَعَ أَرْزَاقَهُمْ إِلَى ثَمَانِينَ. وَكَانَتْ هَزِيمَةُ مَرْوَانَ بِالزَّابِ يَوْمَ السَّبْتِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ فِيمَنْ قُتِلَ مَعَهُ يَحْيَى بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ أَخُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ إِلَى الْقِتَالِ رَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ فَتًى عَلَيْهِ أُبَّهَةُ الشَّرَفِ يُقَاتِلُ مُسْتَقْتِلًا فَنَادَاهُ: يَا فَتًى لَكَ الْأَمَانُ وَلَوْ كَنْتَ مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ! فَقَالَ: إِنْ لَمْ أَكُنْهُ فَلَسْتُ بِدُونِهِ. قَالَ: فَلَكَ الْأَمَانُ، وَلَوْ كُنْتَ مَنْ كُنْتَ. فَأَطْرَقَ ثُمَّ قَالَ: أَذَلُّ الْحَيَاةِ وَكُرْهُ الْمَمَاتِ ... وَكُلًّا أُرَاهُ طَعَامًا وَبِيلًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُ إِحْدَاهُمَا ... فَسَيْرٌ إِلَى الْمَوْتِ سَيْرًا جَمِيلًا ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَإِذَا هُوَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ. ذِكْرُ قَتْلِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْإِمَامِ قَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ حَبْسِهِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَوْتِهِ، فَقِيلَ: إِنَّ مَرْوَانَ حَبَسَهُ بِحَرَّانَ، وَحَبَسَ سَعِيدَ بْنَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَابْنَيْهِ عُثْمَانَ وَمَرْوَانَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَبَا مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيَّ، هَلَكَ مِنْهُمْ فِي وَبَاءٍ وَقَعَ بِحَرَّانَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْإِمَامُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ هَزِيمَةِ مَرْوَانَ مِنَ الزَّابِ بِجُمْعَةٍ خَرَجَ سَعِيدُ بْنُ هِشَامٍ وَابْنُ عَمِّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَحْبُوسِينَ، فَقَتَلُوا صَاحِبَ السِّجْنِ وَخَرَجُوا، فَقَتَلَهُمْ أَهْلُ حَرَّانَ وَمَنْ فِيهَا مِنَ الْغَوْغَاءِ، وَكَانَ فِيمَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ حَرَّانَ شَرَاحِيلُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ بِشْرٍ التَّغْلِبِيُّ، وَبِطْرِيقُ إِرْمِينِيَّةَ الرَّابِعَةِ وَاسْمُهُ كُوشَانُ، وَتَخَلَّفَ أَبُو مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيُّ فِي الْحَبْسِ، فَلَمْ يَخْرُجْ فِيمَنْ خَرَجَ، وَمَعَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَسْتَحِلُّوا الْخُرُوجَ مِنَ الْحَبْسِ، فَقَدِمَ مَرْوَانُ مُنْهَزِمًا مِنَ الزَّابِ، فَجَاءَ فَخَلَّى عَنْهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ مَرْوَانَ هَدَمَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بَيْتًا فَقَتَلَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ شَرَاحِيلَ بْنَ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ كَانَ مَحْبُوسًا مَعَ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَا

يَتَزَاوَرَانِ، فَصَارَ بَيْنَهُمَا مَوَدَّةٌ، فَأَتَى رَسُولٌ مِنْ شَرَاحِيلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ يَوْمًا بِلَبَنٍ فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَخُوكَ إِنِّي شَرِبْتُ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ فَاسْتَطَبْتُهُ فَأَحْبَبْتُ أَنْ تَشْرَبَ مِنْهُ، فَشَرِبَ مِنْهُ فَتَكَسَّرَ جَسَدُهُ مِنْ سَاعَتِهِ. وَكَانَ يَوْمًا يَزُورُ فِيهِ شَرَاحِيلَ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ شَرَاحِيلُ: إِنَّكَ قَدْ أَبْطَأْتَ فَمَا حَبَسَكَ؟ فَأَعَادَ إِبْرَاهِيمُ: إِنِّي لَمَّا شَرِبْتُ اللَّبَنَ الَّذِي أَرْسَلْتَ بِهِ قَدْ أَسْهَلَنِي. فَأَتَاهُ شَرَاحِيلُ فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا شَرِبْتُ الْيَوْمَ لَبَنًا، وَلَا أَرْسَلْتُ بِهِ إِلَيْكَ! فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! احْتِيلَ وَاللَّهِ عَلَيْكَ. فَبَاتَ إِبْرَاهِيمُ لَيْلَتَهُ وَأَصْبَحَ مَيِّتًا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَرِمَةَ يَرْثِيهِ: قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُنِي جَلْدًا فَضَعْضَعَنِي ... قَبْرٌ بِحَرَّانَ فِيهِ عِصْمَةُ الدِّينِ فِيهِ الْإِمَامُ وَخَيْرُ النَّاسِ كُلِّهُمُ ... بَيْنَ الصَّفَائِحِ وَالْأَحْجَارِ وَالطِّينِ فِيهِ الْإِمَامُ الَّذِي عَمَّتْ مُصِيبَتُهُ ... وَعَيَّلَتْ كُلَّ ذِي مَالٍ وَمِسْكِينِ فَلَا عَفَا اللَّهُ عَنْ مَرْوَانَ مَظْلَمَةً ... لَكِنْ عَفَا اللَّهُ عَمَّنْ قَالَ آمِينِ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ خَيِّرًا فَاضِلًا كَرِيمًا، قَدِمَ الْمَدِينَةَ مَرَّةً فَفَرَّقَ فِي أَهْلِهَا مَالًا جَلِيلًا، وَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ، وَبَعَثَ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَبَعَثَ إِلَى جَمَاعَةِ الْعَلَوِيِّينَ بِمَالٍ كَثِيرٍ. فَأَتَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ صَغِيرٌ فَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ. فَبَكَى حَتَّى بَلَّ رِدَاءَهُ وَأَمَرَ وَكِيلَهُ بِإِحْضَارِ مَا بَقِيَ مِنَ الْمَالِ، فَأَحْضَرَ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ عِنْدَنَا شَيْءٌ آخَرُ لَسَلَّمْتُهُ إِلَيْكَ. وَسَيَّرَ مَعَهُ بَعْضَ مَوَالِيهِ إِلَى أُمِّهِ رَيْطَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِالْحَنَفِيَّةِ يَعْتَذِرُ إِلَيْهَا. (وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ بَرْبَرِيَّةٌ اسْمُهَا سَلْمَى) . وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ ذِكْرُ قَتْلِهِ عَلَى هَزِيمَةِ مَرْوَانَ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ لِتَتْبَعَ الْحَادِثَةُ بَعْضُهَا بَعْضًا.

ذِكْرُ قَتْلِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ قَتْلُهُ بِبُوصِيرَ، مِنْ أَعْمَالِ مِصْرَ، لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ. وَكَانَ مَرْوَانُ لَمَّا هَزَمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ بِالزَّابِ أَتَى مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ وَعَلَيْهَا هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو التَّغْلِبِيُّ، وَبِشْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ الْأَسَدِيُّ فَقَطَعَا الْجِسْرَ، فَنَادَاهُمْ أَهْلُ الشَّامِ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَرْوَانُ! فَقَالُوا: كَذَبْتُمْ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَفِرُّ! وَسَبَّهُ أَهْلُ الْمَوْصِلِ، وَقَالُوا: يَا جَعْدِيُّ! يَا مُعَطِّلُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَزَالَ سُلْطَانَكُمْ وَذَهَبَ بِدَوْلَتِكُمْ! الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَتَانَا بِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا! فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ سَارَ إِلَى بَلَدٍ فَعَبَرَ دِجْلَةَ وَأَتَى حَرَّانَ، وَبِهَا ابْنُ أَخِيهِ أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ عَامِلُهُ عَلَيْهَا، فَأَقَامَ بِهَا نَيِّفًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَسَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ حَتَّى أَتَى الْمَوْصِلَ، فَدَخَلَهَا وَعَزَلَ عَنْهَا هِشَامًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا مُحَمَّدُ بْنُ صُولٍ، ثُمَّ سَارَ فِي أَثَرِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ عَبْدُ اللَّهِ حَمَلَ مَرْوَانُ أَهْلَهُ وَعِيَالَهُ وَمَضَى مُنْهَزِمًا، وَخَلَّفَ بِمَدِينَةِ حَرَّانَ ابْنَ أَخِيهِ أَبَانَ بْنَ يَزِيدَ، وَتَحْتَهُ أُمُّ عُثْمَانَ ابْنَةُ مَرْوَانَ. وَقَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ حَرَّانَ، فَلَقِيَهُ أَبَانٌ مُسَوِّدًا مُبَايِعًا لَهُ، فَبَايَعَهُ وَدَخَلَ فِي طَاعَتِهِ، فَآمَنَهُ وَمَنْ كَانَ بِحَرَّانَ وَالْجَزِيرَةِ. وَمَضَى مَرْوَانُ إِلَى حِمْصَ، فَلَقِيَهُ أَهْلُهَا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَأَقَامَ بِهَا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ سَارَ مِنْهَا. فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ مَنْ مَعَهُ طَمِعُوا فِيهِ، وَقَالُوا: مَرْعُوبٌ مُنْهَزِمٌ، فَاتَّبَعُوهُ بَعْدَمَا رَحَلَ عَنْهُمْ فَلَحِقُوهُ عَلَى أَمْيَالٍ. فَلَمَّا رَأَى غَبَرَةَ الْخَيْلِ كَمَّنَ لَهُمْ، فَلَمَّا جَاوَزُوا الْكَمِينَ صَافَّهُمْ مَرْوَانُ فِيمَنْ مَعَهُ وَنَاشَدَهُمْ، فَأَبَوْا إِلَّا قِتَالَهُ، فَقَاتَلَهُمْ وَأَتَاهُمُ الْكَمِينُ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ حِمْصَ وَقُتِلُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى قُرَيْبِ الْمَدِينَةِ. وَأَتَى مَرْوَانُ دِمَشْقَ وَعَلَيْهَا الْوَلِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَرْوَانَ، فَخَلَّفَهُ بِهَا وَقَالَ: قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَجْتَمِعَ أَهْلُ الشَّامِ. وَمَضَى مَرْوَانُ حَتَّى أَتَى فِلَسْطِينَ فَنَزَلَ نَهْرَ أَبِي فُطْرُسٍ، وَقَدْ غَلَبَ عَلَى فِلَسْطِينَ الْحَكَمُ بْنُ ضَبْعَانَ الْجُذَامِيُّ، فَأَرْسَلَ مَرْوَانُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيِّ فَأَجَارَهُ، وَكَانَ بَيْتُ الْمَالِ فِي يَدِ الْحَكَمِ. وَكَانَ السَّفَّاحُ قَدْ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ يَأْمُرُهُ بِاتِّبَاعِ مَرْوَانَ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى الْمَوْصِلَ، فَتَلَقَّاهُ مَنْ بِهَا مُسَوِّدِينَ وَفَتَحُوا لَهُ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حَرَّانَ، فَتَلَّقَاهُ أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ مُسَوِّدًا، كَمَا تَقَدَّمَ، فَآمَنَهُ وَهَدَمَ عَبْدُ اللَّهِ الدَّارَ الَّتِي حُبِسَ فِيهَا إِبْرَاهِيمُ. ثُمَّ سَارَ مِنْ حَرَّانَ إِلَى مَنْبِجَ، وَقَدْ سَوَّدُوا، فَأَقَامَ بِهَا، وَبَعَثَ إِلَيْهِ أَهْلُ قِنَّسْرِينَ بِبَيْعَتِهِمْ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ

أَخُوهُ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ أَرْسَلَهُ السَّفَّاحُ مَدَدًا لَهُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَسَارَ بَعْدَ قُدُومِ عَبْدِ الصَّمَدِ بِيَوْمَيْنِ إِلَى قِنَّسْرِينَ، وَكَانُوا قَدْ سَوَّدُوا، (فَأَقَامَ يَوْمَيْنِ) ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حِمْصَ وَبَايَعَ أَهْلَهَا وَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى بَعْلَبَكَّ، فَأَقَامَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ سَارَ فَنَزَلَ مِزَّةَ دِمَشْقَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْغُوطَةِ. وَقَدِمَ عَلَيْهِ أَخُوهُ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ مَدَدًا، فَنَزَلَ مَرْجَ عَذْرَاءَ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ فَنَزَلَ عَلَى الْبَابِ الشَّرْقِيِّ، وَنَزَلَ صَالِحٌ عَلَى بَابِ الْجَابِيَةِ، وَنَزَلَ أَبُو عَوْنٍ عَلَى بَابِ كَيْسَانَ، وَنَزَلَ بَسَّامُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَلَى بَابِ الصَّغِيرِ، وَنَزَلَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ عَلَى بَابِ تُوَمَا، وَعَبْدُ الصَّمَدِ، وَيَحْيَى بْنُ صَفْوَانَ وَالْعَبَّاسُ بْنُ يَزِيدَ عَلَى بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَفِي دِمَشْقَ الْوَلِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، فَحَصَرُوهُ وَدَخَلُوهَا عَنْوَةً يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ. وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَعِدَ سُورَ الْمَدِينَةِ مِنْ بَابٍ شَرْقِيٍّ عَبْدُ اللَّهِ الطَّائِيُّ، وَمِنْ نَاحِيَةِ بَابِ الصَّغِيرِ بَسَّامُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، فَقَاتَلُوا بِهَا ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، وَقُتِلَ الْوَلِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِيمَنْ قُتِلَ. وَأَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ فِي دِمَشْقَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ سَارَ يُرِيدُ فِلَسْطِينَ، فَلَقِيَهُ أَهْلُ الْأُرْدُنِّ وَقَدْ سَوَّدُوا، وَأَتَى نَهْرَ أَبِي فُطْرُسٍ وَقَدْ ذَهَبَ مَرْوَانُ، فَأَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بِفِلَسْطِينَ، وَنَزَلَ بِالْمَدِينَةِ يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ الْهَاشِمِيُّ، فَأَتَاهُ كِتَابُ السَّفَّاحِ يَأْمُرُهُ بِإِرْسَالِ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ فِي طَلَبِ مَرْوَانَ. فَسَارَ صَالِحٌ مِنْ نَهْرِ أَبِي فُطْرُسٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَمَعَهُ ابْنُ فَتَّانٍ، وَعَامِرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، فَقَدَّمَ صَالِحٌ أَبَا عَوْنٍ، وَعَامِرَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْحَارِثِيَّ، فَسَارُوا حَتَّى بَلَغُوا الْعَرِيشَ. فَأَحْرَقَ مَرْوَانُ مَا كَانَ حَوْلَهُ مِنْ عَلَفٍ وَطَعَامٍ. وَسَارَ صَالِحٌ فَنَزَلَ النِّيلَ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى الصَّعِيدَ، وَبَلَغَهُ أَنَّ خَيْلًا لِمَرْوَانَ يُحْرِقُونَ الْأَعْلَافَ فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ فَأُخِذُوا، وَقَدِمَ بِهِمْ عَلَى صَالِحٍ وَهُوَ بِالْفُسْطَاطِ، وَسَارَ فَنَزَلَ مَوْضِعًا يُقَالُ لَهُ ذَاتُ السَّلَاسِلِ. وَقَدَّمَ أَبُو عَوْنٍ عَامِرَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْحَارِثِيَّ، وَشُعْبَةَ بْنَ كَثِيرٍ الْمَازِنِيَّ فِي خَيْلِ أَهْلِ الْمَوْصِلِ، فَلَقُوا خَيْلًا لِمَرْوَانَ، فَهَزَمُوهُمْ وَأَسَرُوا مِنْهُمْ رِجَالًا، فَقَتَلُوا بَعْضًا وَاسْتَحْيَوْا بَعْضًا، فَسَأَلُوهُمْ عَنْ مَرْوَانَ فَأَخْبَرُوهُمْ بِمَكَانِهِ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنُوهُمْ. وَسَارُوا فَوَجَدُوهُ نَازِلًا فِي كَنِيسَةٍ فِي بُوصِيرَ، فَوَافَوْهُ لَيْلًا، وَكَانَ أَصْحَابُ أَبِي عَوْنٍ قَلِيلِينَ، فَقَالَ لَهُمْ عَامِرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: إِنْ أَصْبَحْنَا وَرَأَوْا قِلَّتَنَا أَهْلَكُونَا وَلَمْ يَنْجُ مِنَّا أَحَدٌ. وَكَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ وَفَعَلَ أَصْحَابُهُ مِثْلَهُ، وَحَمَلُوا عَلَى أَصْحَابِ مَرْوَانَ فَانْهَزَمُوا، وَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى مَرْوَانَ فَطَعَنَهُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، وَصَاحَ صَائِحٌ: صُرِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ! فَابْتَدَرُوهُ فَسَبَقَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ

أَهْلِ الْكُوفَةِ كَانَ يَبِيعُ الرُّمَّانَ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، فَأَخَذَهُ عَامِرٌ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى أَبِي عَوْنٍ، وَبَعَثَهُ أَبُو عَوْنٍ إِلَى صَالِحٍ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ أَمَرَ أَنْ يُقَصَّ لِسَانُهُ، فَانْقَطَعَ لِسَانُهُ، فَأَخَذَهُ هِرٌّ، فَقَالَ صَالِحٌ: مَاذَا تُرِينَا الْأَيَّامُ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْعِبَرِ! هَذَا لِسَانُ مَرْوَانَ قَدْ أَخَذَهُ هِرٌّ. وَقَالَ شَاعِرٌ: قَدْ فَتَحَ اللَّهُ مِصْرًا عَنْوَةً لَكُمْ ... وَأَهْلَكَ الْفَاجِرَ الْجَعْدِيَّ إِذْ ظَلَمَا فَلَاكَ مِقْوَلَهُ هِرٌّ يُجَرِّرُهُ ... وَكَانَ رَبُّكَ مِنْ ذِي الْكُفْرِ مُنْتَقِمًا وَسَيَّرَهُ صَالِحٌ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ. وَكَانَ قَتْلُهُ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَرَجَعَ صَالِحٌ إِلَى الشَّامِ، وَخَلَّفَ أَبَا عَوْنٍ بِمِصْرَ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ السِّلَاحَ وَالْأَمْوَالَ وَالرَّقِيقَ. وَلَمَّا وَصَلَ الرَّأْسُ إِلَى السَّفَّاحِ كَانَ بِالْكُوفَةِ، فَلَمَّا رَآهُ سَجَدَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْهَرَنِي عَلَيْكَ وَأَظْفَرَنِي بِكَ، وَلَمْ يُبْقِ ثَأْرِي قِبَلَكَ، وَقِبَلَ رَهْطِكَ أَعْدَاءِ الدِّينِ! وَتَمَثَّلَ: لَوْ يَشْرَبُونَ دَمِي لَمْ يُرْوَ شَارِبُهُمْ ... وَلَا دِمَاؤُهُمْ لِلْغَيْظِ تَرْوِينِي وَلِمَا قُتِلَ مَرْوَانُ هَرَبَ ابْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَلَقُوا مِنَ الْحَبَشَةِ بَلَاءً، قَاتَلَهُمْ الْحَبَشَةُ فَقُتِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَنَجَا عَبْدُ اللَّهِ فِي عِدَّةٍ مِمَّنْ مَعَهُ، فَبَقِيَ إِلَى خِلَافَةِ الْمَهْدِيِّ، فَأَخَذَهُ نَصْرُ بْنُمُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، عَامِلُ فِلَسْطِينَ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْمَهْدِيِّ. وَلَمَّا قُتِلَ مَرْوَانُ قَصَدَ عَامِرٌ الْكَنِيسَةَ الَّتِي فِيهَا حُرَمُ مَرْوَانَ، وَكَانَ قَدْ وَكَّلَ بِهِنَّ خَادِمًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْتُلَهُنَّ بَعْدَهُ، فَأَخَذَهُ عَامِرٌ وَأَخَذَ نِسَاءَ مَرْوَانَ وَبَنَاتِهِ، فَسَيَّرَهُنَّ إِلَى صَالِحِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. فَلَمَّا دَخَلْنَ عَلَيْهِ تَكَلَّمَتِ ابْنَةُ مَرْوَانَ الْكُبْرَى، فَقَالَتْ: يَا عَمَّ أَمِيرِ

الْمُؤْمِنِينَ! حَفِظَ اللَّهُ لَكَ مِنْ أَمْرِكَ مَا تُحِبُّ حِفْظَهُ، نَحْنُ بَنَاتُكَ وَبَنَاتُ أَخِيكَ، وَابْنِ عَمِّكَ فَلْيَسَعْنَا مِنْ عَفْوِكُمْ مَا وَسِعَكُمْ مِنْ جَوْرِنَا. قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَسْتَبْقِي مِنْكُمْ وَاحِدًا! أَلَمْ يَقْتُلْ أَبُوكِ ابْنَ أَخِي إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامَ؟ أَلَمْ يَقْتُلْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ زَيْدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَصَلَبَهُ فِي الْكُوفَةِ؟ أَلَمْ يَقْتُلِ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ يَحْيَى بْنَ زَيْدٍ، وَصَلَبَهُ بِخُرَاسَانَ؟ أَلَمْ يَقْتُلِ ابْنُ زِيَادٍ الدَّعِيُّ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ؟ أَلَمْ يَقْتُلْ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَأَهْلَ بَيْتِهِ؟ أَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ بِحُرَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَايَا فَوَقَّفَهُنَّ مَوْقِفَ السَّبْيِ؟ أَلَمْ يَحْمِلْ رَأْسَ الْحُسَيْنِ وَقَدْ قَرَعَ دِمَاغَهُ؟ فَمَا الَّذِي يَحْمِلُنِي عَلَى الْإِبْقَاءِ عَلَيْكُنَّ؟ ! قَالَتْ: فَلْيَسَعْنَا عَفْوُكُمْ! فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَنَعَمْ، وَإِنْ أَحْبَبْتِ زَوَّجْتُكِ ابْنِيَ الْفَضْلَ! فَقَالَتْ: وَأَيُّ عِزٍّ خَيْرٌ مِنْ هَذَا! بَلْ تُلْحِقُنَا بِحَرَّانَ. فَحَمَلَهُنَّ إِلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلْنَهَا وَرَأَيْنَ مَنَازِلَ مَرْوَانَ رَفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ بِالْبُكَاءِ. قِيلَ: كَانَ يَوْمًا بُكَيْرُ بْنُ مَاهَانَ مَعَ أَصْحَابِهِ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ مَرْوَانُ يَتَحَدَّثُ، إِذْ مَرَّ بِهِ عَامِرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، فَأَتَى دِجْلَةَ وَاسْتَقَى مِنْ مَائِهَا ثُمَّ رَجَعَ، فَدَعَاهُ بُكَيْرٌ، فَقَالَ: مَا اسْمُكَ يَا فَتَى؟ قَالَ: عَامِرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْحَارِثِ. قَالَ: فَكُنْ [مِنْ] بَنِي مُسْلِيَةَ. قَالَ: فَأَنَا مِنْهُمْ. قَالَ: أَنْتَ وَاللَّهِ تَقْتُلُ مَرْوَانَ! فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي قَوَّى طَمَعَ عَامِرٍ فِي قَتْلِ مَرْوَانَ. وَلَمَّا قُتِلَ مَرْوَانُ كَانَ عُمُرُهُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقِيلَ: تِسْعًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ مِنْ حِينِ بُويِعَ إِلَى أَنْ قُتِلَ خَمْسَ سِنِينَ وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ كُرْدِيَّةً، كَانَتْ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ، أَخَذَهَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ يَوْمَ قَتْلِ إِبْرَاهِيمَ، فَوَلَدَتْ مَرْوَانَ، فَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ الْمَنْتُوفُ لِلسَّفَّاحِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَبْدَلَنَا بِحِمَارِ الْجَزِيرَةِ وَابْنِ أَمَةِ النَّخَعِ ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَكَانَ مَرْوَانُ يُلَقَّبُ بِالْحِمَارِ، وَالْجَعْدِيِّ لِأَنَّهُ تَعَلَّمَ مِنَ الْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ مَذْهَبَهُ فِي

الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَالْقَدَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْجَعْدَ كَانَ زِنْدِيقًا، وَعَظَهُ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ فَقَالَ: لَشَاهُ قُبَاذٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا تَدِينُ بِهِ. فَقَالَ لَهُ: قَتَلَكَ اللَّهُ، وَهُوَ قَاتِلُكَ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ مَيْمُونٌ، وَطَلَبَهُ هِشَامٌ فَظَفِرَ بِهِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ فَقَتَلَهُ، فَكَانَ النَّاسُ يَذُمُّونَ مَرْوَانَ بِنِسْبَتِهِ إِلَيْهِ. وَكَانَ مَرْوَانُ أَبْيَضَ أَشْهَلَ شَدِيدَ الشُّهْلَةِ، ضَخْمَ الْهَامَةِ، كَثَّ اللِّحْيَةِ أَبْيَضَهَا، رَبْعَةً، وَكَانَ شُجَاعًا حَازِمًا، إِلَّا أَنَّ مُدَّتَهُ انْقَضَتْ فَلَمْ يَنْفَعْهُ حَزْمُهُ وَلَا شَجَاعَتُهُ. (عَيَّاشٌ بِالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ) . ذِكْرُ مَنْ قُتِلَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ دَخَلَ سُدَيْفٌ عَلَى السَّفَّاحِ وَعِنْدَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَقَدْ أَكْرَمَهُ، فَقَالَ سُدَيْفٌ: لَا يَغُرَّنَّكَ مَا تَرَى مِنَ الرِّجَالِ ... إِنَّ تَحْتَ الضُّلُوعِ دَاءً دَوِيَّا فَضَعِ السَّيْفَ وَارْفَعِ السَّوْطَ حَتَّى ... لَا تَرَى فَوْقَ ظَهْرِهَا أُمَوِيَّا. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: قَتَلْتَنِي يَا شَيْخُ! وَدَخَلَ السَّفَّاحُ، وَأُخِذَ سُلَيْمَانُ فَقُتِلَ. وَدَخَلَ شِبْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ نَحْوُ تِسْعِينَ رَجُلًا عَلَى الطَّعَامِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ شِبْلٌ، فَقَالَ: أَصْبَحَ الْمُلْكُ ثَابِتَ الْأَسَاسِ ... بِالْبَهَالِيلِ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ طَلَبُوا وِتْرَ هَاشِمٍ فَشَفَوْهَا ... بَعْدَ مَيْلٍ مِنَ الزَّمَانِ وَيَاسِ لَا تُقِيلَنَّ عَبْدَ شَمْسٍ عِثَارًا ... وَاقْطَعَنْ كُلَّ رَقْلَةٍ وَغِرَاسِ

ذُلُّهَا أَظْهَرَ التَّوَدُّدَ مِنْهَا وَبِهَا مِنْكُمْ كَحَرِّ الْمَوَاسِي ... وَلَقَدْ غَاظَنِي وَغَاظَ سَوَائِي قُرْبُهُمْ مِنْ نَمَارِقٍ وَكَرَاسِي ... أَنْزِلُوهَا بِحَيْثُ أَنْزَلَهَا اللَّ هُ بِدَارِ الْهَوَانِ وَالْإِتْعَاسِ ... وَاذْكُرُوا مَصْرَعَ الْحُسَيْنِ وَزَيْدًا وَقَتِيلًا بِجَانِبِ الْمِهْرَاسِ ... وَالْقَتِيلَ الَّذِي بِحَرَّانَ أَضْحَى ثَاوِيًا بَيْنَ غُرْبَةٍ وَتَنَاسِ. فَأَمَرَ بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ فَضُرِبُوا بِالْعُمُدِ حَتَّى قُتِلُوا، وَبَسَطَ عَلَيْهِمُ الْأَنْطَاعَ، فَأَكَلَ الطَّعَامَ عَلَيْهَا وَهُوَ يَسْمَعُ أَنِينَ بَعْضِهِمْ حَتَّى مَاتُوا جَمِيعًا. وَأَمَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ بِنَبْشِ قُبُورِ بَنِي أُمَيَّةَ بِدِمَشْقَ، فَنُبِشَ قَبْرُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ،

فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ إِلَّا خَيْطًا مِثْلَ الْهَبَاءِ، وَنُبِشَ قَبْرُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَوَجَدُوا فِيهِ حُطَامًا كَأَنَّهُ الرَّمَادُ، وَنُبِشَ قَبْرُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَوَجَدُوا جُمْجُمَتَهُ، وَكَانَ لَا يُوجَدُ فِي الْقَبْرِ [إِلَّا] الْعُضْوُ بَعْدَ الْعُضْوِ، غَيْرَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَإِنَّهُ وُجِدَ صَحِيحًا لَمْ يَبْلَ مِنْهُ إِلَّا أَرْنَبَةُ أَنْفِهِ، فَضَرَبَهُ بِالسِّيَاطِ وَصَلَبَهُ وَحَرَقَهُ وَذَرَّاهُ فِي الرِّيحِ. وَتَتَبَّعَ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ أَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ وَغَيْرِهِمْ فَأَخَذَهُمْ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا رَضِيعٌ أَوْ مَنْ هَرَبَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، فَقَتَلَهُمْ بِنَهْرِ أَبِي فُطْرُسٍ، وَكَانَ فِيمَنْ قُتِلَ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَالْغَمْرُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ يَزِيدَ الْمَخْلُوعَ قُتِلَ مَعَهُمْ، وَاسْتَصْفَى كُلَّ شَيْءٍ لَهُمْ مِنْ مَالٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُمْ قَالَ: بَنِي أُمَيَّةَ قَدْ أَفْنَيْتُ جَمْعَكُمُ ... فَكَيْفَ لِي مِنْكُمْ بِالْأَوَّلِ الْمَاضِي يُطَيِّبُ النَّفْسَ أَنَّ النَّارَ تَجْمَعُكُمْ ... عُوِّضْتُمْ [مِنْ] لَظَاهَا شَرَّ مُعْتَاضِ مُنِيتُمُ، لَا أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَكُمْ ... بِلَيْثِ غَابٍ إِلَى الْأَعْدَاءِ نَهَّاضِ إِنْ كَانَ غَيْظِي لِفَوْتٍ مِنْكُمُ ... فَلَقَدْ مُنِيتُ مِنْكُمْ بِمَا رَبِّي بِهِ رَاضِ. وَقِيلَ: إِنَّ سُدَيْفًا أَنْشَدَ هَذَا الشِّعْرَ لِلسَّفَّاحِ، وَمَعَهُ كَانَتِ الْحَادِثَةُ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُمْ. وَقَتَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ أَيْضًا جَمَاعَةً مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، عَلَيْهِمُ الثِّيَابُ الْمُوشِيَةُ الْمُرْتَفِعَةُ، وَأَمَرَ بِهِمْ فَجُرُّوا بِأَرْجُلِهِمْ، فَأُلْقُوا عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَكَلَتْهُمُ الْكِلَابُ. فَلَمَّا رَأَى بَنُو أُمَيَّةَ ذَلِكَ اشْتَدَّ خَوْفُهُمْ، وَتَشَتَّتَ شَمْلُهُمْ، وَاخْتَفَى مَنْ قَدَرَ عَلَى الِاخْتِفَاءِ، وَكَانَ مِمَّنِ اخْتَفَى مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سُفْيَانَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ: وَكُنْتُ لَا آتِي مَكَانًا إِلَّا عُرِفْتُ فِيهِ، فَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ، فَقَدِمْتُ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ

عَلِيٍّ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُنِي، فَقُلْتُ: لَفَظَتْنِي الْبِلَادُ إِلَيْكَ، وَدَلَّنِي فَضْلُكَ عَلَيْكَ، فَإِمَّا قَتَلْتَنِي فَاسْتَرَحْتُ، وَإِمَّا رَدَدْتَنِي سَالِمًا فَأَمِنْتُ. فَقَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ فَعَرَّفْتُهُ نَفْسِي، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ، مَا حَاجَتُكَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ الْحُرَمَ اللَّوَاتِي أَنْتَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِنَّ، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِنَّ، قَدْ خِفْنَ لِخَوْفِنَا، وَمَنْ خَافَ خِيفَ عَلَيْهِ. قَالَ: فَبَكَى كَثِيرًا ثُمَّ قَالَ: يَحْقِنُ اللَّهُ دَمَكَ وَيُوَفِّرُ مَالَكَ وَيَحْفَظُ حُرَمَكَ. ثُمَّ كَتَبَ إِلَى السَّفَّاحِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ قَدْ وَفَدَ وَافِدٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَيْنَا، وَإِنَّا إِنَّمَا قَتَلْنَاهُمْ عَلَى عُقُوقِهِمْ لَا عَلَى أَرْحَامِهِمْ، فَإِنَّنَا يَجْمَعُنَا وَإِيَّاهُمْ عَبْدُ مَنَافٍ، وَالرَّحِمُ تُبَلُّ وَلَا تُقْتَلُ، وَتُرْفَعُ وَلَا تُوضَعُ، فَإِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَهَبَهُمْ لِي فَلْيَفْعَلْ، وَإِنْ فَعَلَ فَلْيَجْعَلْ كِتَابًا عَامًّا إِلَى الْبُلْدَانِ، نَشْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ عِنْدَنَا، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْنَا. فَأَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ، فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ أَمَانِ بَنِي أُمَيَّةَ. ذِكْرُ خَلْعِ حَبِيبِ بْنِ مُرَّةَ الْمُرِّيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَيَّضَ حَبِيبُ بْنُ مُرَّةَ الْمُرِّيُّ، وَخَلَعَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَثَنِيَّةِ وَحَوْرَانَ، وَكَانَ خَلْعُهُمْ قَبْلَ خَلْعِ أَبِي الْوَرْدِ، فَسَارَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ وَقَاتَلَهُ دَفَعَاتٍ، وَكَانَ حَبِيبٌ مِنْ قُوَّادِ مَرْوَانَ وَفُرْسَانِهِ. وَكَانَ سَبَبُ تَبْيِيضِهِ الْخَوْفَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَوْمِهِ، فَبَايَعَتْهُ قَيْسٌ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَلِيهِمْ. فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ خُرُوجُ أَبِي الْوَرْدِ وَتَبْيِيضُهُ، دَعَا حَبِيبًا إِلَى الصُّلْحِ، فَصَالَحَهُ وَآمَنَهُ مَعَهُ، وَسَارَ نَحْوَ أَبِي الْوَرْدِ. ذِكْرُ خَلْعِ أَبِي الْوَرْدِ وَأَهْلِ دِمَشْقَ وَفِيهَا خَلَعَ أَبُو الْوَرْدِ مِجْزَاةُ بْنُ الْكَوْثَرِ بْنِ زُفَرَ بْنِ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مَرْوَانَ وَقُوَّادِهِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَرْوَانَ لَمَّا انْهَزَمَ قَامَ أَبُو الْوَرْدِ بِقِنَّسْرِينَ، فَقَدِمَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، فَبَايَعَهُ أَبُو الْوَرْدِ، وَدَخَلَ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ جُنْدُهُ، وَكَانَ وَلَدُ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مُجَاوِرِينَ لَهُ بِبَالِسَ وَالنَّاعُورَةِ، فَقَدِمَ بَالِسَ قَائِدٌ مِنْ قُوَّادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، فَبَعَثَ بِوَلَدِ مَسْلَمَةَ وَنِسَائِهِمْ، فَشَكَا بَعْضُهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَبِي الْوَرْدِ، فَخَرَجَ مِنْ مَزْرَعَةٍ [لَهُ] يُقَالُ لَهَا

خُسَافٌ، فَقَتَلَ ذَلِكَ الْقَائِدَ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَظْهَرَ التَّبْيِيضَ وَالْخَلْعَ لِعَبْدِ اللَّهِ، وَدَعَا أَهْلَ قِنَّسْرِينَ إِلَى ذَلِكَ، فَبَيَّضُوا أَجْمَعُهُمْ، وَالسَّفَّاحُ يَوْمَئِذٍ بِالْحِيرَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ مُشْتَغِلٌ بِحَرْبِ حَبِيبِ بْنِ مُرَّةَ الْمُرِّيِّ بِأَرْضِ الْبَلْقَاءِ وَحَوْرَانَ وَالْبَثَنِيَّةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ تَبْيِيضُ أَهْلِ قِنَّسْرِينَ وَخَلْعُهُمْ صَالَحَ حَبِيبَ بْنَ مُرَّةَ، وَسَارَ نَحْوَ قِنَّسْرِينَ لِلِقَاءِ أَبِي الْوَرْدِ، فَمَرَّ بِدِمَشْقَ، فَخَلَّفَ بِهَا أَبَا غَانِمٍ عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ رِبْعِيٍّ الطَّائِيَّ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَكَانَ بِدِمَشْقَ أَهْلُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَثَقَلُهُ. فَلَمَّا قَدِمَ حِمْصَ انْتَقَضَ لَهُ أَهْلُ دِمَشْقَ وَبَيَّضُوا، وَقَامُوا مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ سُرَاقَةَ الْأَزْدِيِّ، فَلَقُوا أَبَا غَانِمٍ وَمَنْ مَعَهُ فَهَزَمُوهُ، وَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَانْتَهَبُوا مَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ خَلَّفَ مِنْ ثَقَلِهِ، وَلَمْ يَعْرِضُوا لِأَهْلِهِ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى الْخِلَافِ. وَسَارَ عَبْدُ اللَّهِ. وَكَانَ قَدِ اجْتَمَعَ مَعَ أَبِي الْوَرْدِ جَمَاعَةٌ [مِنْ] أَهْلِ قِنَّسْرِينَ وَكَاتَبُوا مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ وَتَدْمُرَ، فَقَدِمَ مِنْهُمْ أُلُوفٌ عَلَيْهِمْ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَدَعَوْا إِلَيْهِ، وَقَالُوا: هَذَا السُّفْيَانِيُّ الَّذِي كَانَ يُذْكَرُ، وَهُمْ فِي نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَعَسْكَرُوا بِمَرْجِ الْأَخْرَمِ. وَدَنَا مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ أَخَاهُ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، وَكَانَ أَبُو الْوَرْدِ هُوَ الْمُدَبِّرَ لِعَسْكَرِ قِنَّسْرِينَ وَصَاحِبَ الْقِتَالِ، فَنَاهَضَهُمُ الْقِتَالَ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَانْكَشَفَ عَبْدُ الصَّمَدِ وَمَنْ مَعَهُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ أُلُوفٌ وَلَحِقَ بِأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ. فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ مَعَهُ وَجَمَاعَةُ الْقُوَّادِ فَالْتَقَوْا ثَانِيَةً بِمَرْجِ الْأَخْرَمِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَثَبَتَ عَبْدُ اللَّهِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ أَبِي الْوَرْدِ، وَثَبَتَ هُوَ فِي نَحْوٍ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا، وَهَرَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى لَحِقُوا بِتَدْمُرَ، وَآمَنَ عَبْدُ اللَّهِ أَهْلَ قِنَّسْرِينَ، وَسَوَّدُوا وَبَايَعُوا وَدَخَلُوا فِي طَاعَتِهِ. ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى أَهْلِ دِمَشْقَ لِمَا كَانَ مِنْ تَبْيِيضِهِمْ [عَلَيْهِ] ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ هَرَبَ النَّاسُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ قِتَالٌ، وَآمَنَ عَبْدُ اللَّهِ أَهْلَهَا وَبَايَعُوهُ وَلَمْ يَأْخُذْهُمْ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ. وَلَمْ يَزَلْ أَبُو مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيُّ مُتَغَيِّبًا هَارِبًا وَلَحِقَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ (وَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى أَيَّامِ الْمَنْصُورِ) ، فَبَلَغَ زِيَادَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيَّ عَامِلَ الْمَنْصُورِ مَكَانُهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ خَيْلًا فَقَاتَلُوهُ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا ابْنَيْنِ لَهُ أَسِيرَيْنِ، فَبَعَثَ زِيَادٌ بِرَأْسِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّفْيَانِيِّ

وَبِابْنَيْهِ، فَأَطْلَقَهُمَا الْمَنْصُورُ وَآمَنَهُمَا. وَقِيلَ: إِنَّ حَرْبَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي الْوَرْدِ كَانَتْ سَلْخَ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ. ذِكْرُ تَبْيِيضِ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ وَخَلْعِهِمْ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَيَّضَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ وَخَلَعُوا أَبَا الْعَبَّاسِ السَّفَّاحَ، وَسَارُوا إِلَى حَرَّانَ وَبِهَا مُوسَى بْنُ كَعْبٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ جُنْدِ السَّفَّاحِ، فَحَاصَرُوهُ بِهَا، وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْجَزِيرَةِ رَأْسٌ يَجْمَعُهُمْ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ إِسْحَاقُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعُقَيْلِيُّ مِنْ إِرْمِينِيَّةَ، وَكَانَ سَارَ عَنْهَا حِينَ بَلَغَهُ هَزِيمَةُ مَرْوَانَ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ، وَحَاصَرَ مُوسَى بْنَ كَعْبٍ نَحْوًا مِنَ الشَّهْرَيْنِ. وَوَجَّهَ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ أَخَاهُ أَبَا جَعْفَرٍ فِيمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ بِوَاسِطَ مُحَاصِرِينَ ابْنَ هُبَيْرَةَ، فَسَارَ فَاجْتَازَ بِقَرْقِيسِيَّا وَالرَّقَّةِ، وَأَهْلُهُمَا قَدْ تَبَيَّضُوا، وَسَارَ نَحْوَ حَرَّانَ، فَرَحَلَ إِسْحَاقُ بْنُ مُسْلِمٍ إِلَى الرُّهَاءِ، وَذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَخَرَجَ مُوسَى بْنُ كَعْبٍ مِنْ حَرَّانَ فَلَقِيَ أَبَا جَعْفَرٍ. وَوَجَّهَ إِسْحَاقُ بْنُ مُسْلِمٍ أَخَاهُ بَكَّارَ بْنَ مُسْلِمٍ إِلَى رَبِيعَةَ بِدَارَا وَمَارِدِينَ، وَرَئِيسُ رَبِيعَةَ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ يُقَالُ لَهُ بُرَيْكَةُ، فَعَمَدَ إِلَيْهِمْ أَبُو جَعْفَرٍ فَلَقِيَهُمْ، فَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقُتِلَ بُرَيْكَةُ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَانْصَرَفَ بَكَّارٌ إِلَى أَخِيهِ إِسْحَاقَ بِالرُّهَاءِ، فَخَلَّفَهُ إِسْحَاقُ بِهَا وَسَارَ إِلَى سُمَيْسَاطَ فِي عُظْمِ عَسْكَرِهِ، وَأَقْبَلَ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَى الرُّهَاءِ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَكَّارٍ وَقَعَاتٌ. وَكَتَبَ السَّفَّاحُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَسِيرَ فِي جُنُودِهِ إِلَى سُمَيْسَاطَ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بِإِزَاءِ إِسْحَاقَ بِسُمَيْسَاطَ، وَإِسْحَاقُ فِي سِتِّينَ أَلْفًا وَبَيْنَهُمُ الْفُرَاتُ، وَأَقْبَلَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنَ الرُّهَاءِ، وَحَاصَرَ إِسْحَاقَ بِسُمَيْسَاطَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ إِسْحَاقُ يَقُولُ: فِي عُنُقِي بَيْعَةٌ، فَأَنَا لَا أَدَعُهَا حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّ صَاحِبَهَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنَّ مَرْوَانَ قَدْ قُتِلَ. فَقَالَ: حَتَّى أَتَيَقَّنَ. فَلَمَّا تَيَقَّنَ قَتْلَهُ طَلَبَ الصُّلْحَ وَالْأَمَانَ، فَكَتَبُوا إِلَى السَّفَّاحِ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُؤَمِّنُوهُ وَمَنْ مَعَهُ، فَكَتَبُوا بَيْنَهُمْ كِتَابًا

بِذَلِكَ، وَخَرَجَ إِسْحَاقُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ، وَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ آثَرِ صَحَابَتِهِ، وَاسْتَقَامَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ. وَوَلَّى أَبُو الْعَبَّاسِ أَخَاهُ أَبَا جَعْفَرٍ الْجَزِيرَةَ وَإِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى اسْتُخْلِفَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ هُوَ الَّذِي آمَنَ إِسْحَاقَ بْنَ مُسْلِمٍ. ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي سَلَمَةَ الْخَلَّالِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ قَدْ ذَكَرْنَا مَا كَانَ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ فِي أَمْرِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ عِنْدَ قُدُومِهِمُ الْكُوفَةَ، بِحَيْثُ صَارَ عِنْدَهُمْ مُتَّهَمًا، وَتَغَيَّرَ السَّفَّاحُ عَلَيْهِ وَهُوَ بِعَسْكَرِهِ بِحَمَّامِ أَعْيَنَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ عَنْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْهَاشِمِيَّةِ، فَنَزَلَ قَصْرَ الْإِمَارَةِ بِهَا وَهُوَ مُتَنَكِّرٌ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يُعْلِمُهُ رَأْيَهُ فِيهِ وَمَا كَانَ هَمَّ بِهِ مِنَ الْغِشِّ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنْ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ فَلْيَقْتُلْهُ. فَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ لِلسَّفَّاحِ: لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَحْتَجَّ بِهَا أَبُو مُسْلِمٍ عَلَيْكَ، وَأَهْلُ خُرَاسَانَ الَّذِينَ مَعَكَ أَصْحَابُهُ، وَحَالُهُ فِيهِمْ حَالُهُ، وَلَكِنِ اكْتُبْ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ فَلْيَبْعَثْ إِلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُهُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ، فَبَعَثَ أَبُو مُسْلِمٍ مِرَّارَ بْنَ أَنَسٍ الضَّبِّيَّ لِقَتْلِهِ، فَقَدِمَ عَلَى السَّفَّاحِ فَأَعْلَمَهُ بِسَبَبِ قُدُومِهِ، فَأَمَرَ السَّفَّاحُ مُنَادِيًا فَنَادَى: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ رَضِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَدَعَاهُ فَكَسَاهُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْلَةً فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَحْدَهُ، فَعَرَضَ لَهُ مِرَّارُ بْنُ أَنَسٍ، وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَعْوَانِهِ فَقَتَلُوهُ، وَقَالُوا: قَتَلَهُ الْخَوَارِجُ. ثُمَّ أُخْرِجَ مِنَ الْغَدِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَدُفِنَ بِالْمَدِينَةِ الْهَاشِمِيَّةِ عِنْدَ الْكُوفَةِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُهَاجِرِ الْبَجَلِيُّ: إِنَّ الْوَزِيرَ وَزِيرَ آلِ مُحَمَّدٍ ... أَوْدَى فَمَنْ يَشْنَاكَ صَارَ وَزِيرًا وَكَانَ يُقَالُ لِأَبِي سَلَمَةَ: وَزِيرُ آلِ مُحَمَّدٍ، وَلِأَبِي مُسْلِمٍ: أَمِيرُ آلِ مُحَمَّدٍ.

فَلَمَّا قُتِلَ أَبُو سَلَمَةَ وَجَّهَ السَّفَّاحُ أَخَاهُ أَبَا جَعْفَرٍ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ سَايَرَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْأَعْرَجُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ لِعُبَيْدِ اللَّهِ: يَا هَذَا، إِنَّا كُنَّا نَرْجُو أَنْ يَتِمَّ أَمْرُكُمْ، فَإِذَا شِئْتُمْ فَادْعُونَا إِلَى مَا تُرِيدُونَ. فَظَنَّ عُبَيْدُ اللَّهِ أَنَّهُ دَسِيسٌ مِنْ أَبِي مُسْلِمٍ، فَأَتَى أَبَا مُسْلِمٍ فَأَخْبَرَهُ وَخَافَ أَنْ يُعْلِمَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَأَحْضَرَ أَبُو مُسْلِمٍ سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ، وَقَالَ لَهُ: أَتَحْفَظُ قَوْلَ الْإِمَامِ لِي مَنِ اتَّهَمْتَهُ فَاقْتُلْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي قَدْ اتَّهَمْتُكَ. قَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ! قَالَ: لَا تُنَاشِدْنِي، فَأَنْتَ مُنْطَوٍ عَلَى غِشِّ الْإِمَامِ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ. وَرَجَعَ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَى السَّفَّاحِ فَقَالَ: لَسْتَ خَلِيفَةً، وَلَا أَمْرُكَ بِشَيْءٍ إِنْ تَرَكْتَ أَبَا مُسْلِمٍ وَلَمْ تَقْتُلْهُ. قَالَ. وَكَيْفَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَصْنَعُ إِلَّا مَا أَرَادَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فَاكْتُمْهَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ إِنَّمَا سَارَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ أَبُو سَلَمَةَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ السَّفَّاحَ لَمَّا ظَهَرَ تَذَاكَرُوا مَا صَنَعَ أَبُو سَلَمَةَ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ هُنَاكَ: لَعَلَّ مَا صَنَعَ كَانَ مِنْ رَأْيِ أَبِي مُسْلِمٍ. فَقَالَ السَّفَّاحُ: لَئِنْ كَانَ هَذَا عَنْ رَأْيِهِ إِنَّا لَنَعْرِفَنَّ بَلَاءً إِلَّا أَنْ يَدْفَعَهُ اللَّهُ عَنَّا. وَأَرْسَلَ أَخَاهُ أَبَا جَعْفَرٍ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ لِيَعْلَمَ رَأْيَهُ. فَسَارَ إِلَيْهِ وَأَعْلَمَهُ مَا كَانَ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، فَأَرْسَلَ مِرَّارَ بْنَ أَنَسٍ فَقَتَلَهُ. ذِكْرُ مُحَاصَرَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ بِوَاسِطَ قَدْ ذَكَرْنَا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ يَزِيدَ بْنِ هُبَيْرَةَ وَالْجَيْشِ الَّذِينَ لَقُوهُ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ مَعَ قَحْطَبَةَ، ثُمَّ مَعَ ابْنِهِ الْحَسَنِ، وَانْهِزَامَهُ إِلَى وَاسِطَ وَتَحَصُّنَهُ بِهَا، وَكَانَ لَمَّا انْهَزَمَ قَدْ وَكَّلَ بِالْأَثْقَالِ قَوْمًا، فَذَهَبُوا بِهَا، فَقَالَ لَهُ حَوْثَرَةُ: أَيْنَ تَذْهَبُ وَقَدْ قُتِلَ صَاحِبُهُمْ؟ يَعْنِي قَحْطَبَةَ، امْضِ إِلَى الْكُوفَةِ وَمَعَكَ جُنْدٌ كَثِيرٌ، فَقَاتِلْهُمْ حَتَّى تُقْتَلَ أَوْ تَظْفَرَ. قَالَ: بَلْ نَأْتِي وَاسِطَ فَنَنْظُرُ. قَالَ: مَا تَزِيدُ عَلَى أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِكَ وَتُقْتَلَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ حُضَيْنٍ: إِنَّكَ لَوْ تَأْتِي مَرْوَانَ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْجُنُودِ، فَالْزَمِ الْفُرَاتَ حَتَّى تَأْتِيَهُ، وَإِيَّاكَ وَوَاسِطَ فَتَصِيرُ فِي حِصَارٍ، وَلَيْسَ بَعْدَ الْحَصْرِ إِلَّا الْقَتْلُ. فَأَبَى.

وَكَانَ يَخَافُ مَرْوَانَ لِأَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ فَيُخَالِفُهُ، فَخَافَ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَأَتَى وَاسِطَ فَتَحَصَّنَ بِهَا، وَسَيَّرَ أَبُو سَلَمَةَ إِلَيْهِ الْحَسَنَ بْنَ قَحْطَبَةَ فَحَصَرَهُ، وَأَوَّلُ وَقْعَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ. . قَالَ أَهْلُ الشَّامِ لِابْنِ هُبَيْرَةَ: ايذَنْ لَنَا فِي قِتَالِهِمْ. فَأَذِنَ لَهُمْ، فَخَرَجُوا وَخَرَجَ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ ابْنُهُ دَاوُدُ، فَالْتَقَوْا وَعَلَى مَيْمَنَةِ الْحَسَنِ خَازِمُ بْنُ خُزَيْمَةَ، فَحَمَلَ خَازِمٌ عَلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَانْهَزَمَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ وَغَصَّ الْبَابُ بِالنَّاسِ، وَرَمَى أَصْحَابُهُ بِالْعَرَّادَاتِ. وَرَجَعَ أَهْلُ الشَّامِ، فَكَرَّ عَلَيْهِمُ الْحَسَنُ وَاضْطَرَّهُمْ إِلَى دِجْلَةَ، فَغَرِقَ مِنْهُمْ نَاسٌ كَثِيرٌ، فَتَلَقَّوْهُمْ بِالسُّفُنِ وَتَحَاجَزُوا، فَمَكَثُوا سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ خَرَجُوا إِلَيْهِمْ، فَاقْتَتَلُوا، وَانْهَزَمَ أَهْلُ الشَّامِ هَزِيمَةً قَبِيحَةً، فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ، فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ لَا يُقَاتِلُونَ إِلَّا رَمْيًا. وَبَلَغَ ابْنَ هُبَيْرَةَ، وَهُوَ فِي الْحِصَارِ، أَنَّ أَبَا أُمَيَّةَ التَّغْلِبِيَّ قَدْ سَوَّدَ فَأَخَذَهُ وَحَبَسَهُ، فَتَكَلَّمَ نَاسٌ مِنْ رَبِيعَةَ فِي ذَلِكَ وَمَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ الشَّيْبَانِيُّ، وَأَخَذُوا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مِنْ فَزَارَةَ رَهْطِ ابْنِ هُبَيْرَةَ فَحَبَسُوهُمْ. (وَشَتَمُوا ابْنَ هُبَيْرَةَ) وَقَالُوا: لَا نَتْرُكُ مَا فِي أَيْدِينَا حَتَّى يَتْرُكَ ابْنُ هُبَيْرَةَ صَاحِبَنَا. وَأَبَى ابْنُ هُبَيْرَةَ أَنْ يُطْلِقَهُ، فَاعْتَزَلَ مَعْنٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بَشِيرٍ الْعِجْلِيُّ فِيمَنْ مَعَهُمَا. فَقِيلَ لِابْنِ هُبَيْرَةَ: هَؤُلَاءِ فُرْسَانُكَ قَدْ أَفْسَدْتَهُمْ، وَإِنْ تَمَادَيْتَ فِي ذَلِكَ كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْكَ مِمَّنْ حَصَرَكَ. فَدَعَا أَبَا أُمَيَّةَ فَكَسَاهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَاصْطَلَحُوا وَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ. وَقَدِمَ أَبُو نَصْرٍ مَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ مِنْ نَاحِيَةِ سِجِسْتَانَ إِلَى الْحَسَنِ، فَأَوْفَدَ الْحَسَنُ وَفْدًا إِلَى السَّفَّاحِ بِقُدُومِ أَبِي نَصْرٍ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ عَلَى الْوَفْدِ غَيْلَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيَّ، وَكَانَ غَيْلَانُ وَاجِدًا عَلَى الْحَسَنِ لِأَنَّهُ سَرَّحَهُ إِلَى رَوْحِ بْنِ حَاتِمٍ مَدَدًا لَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى السَّفَّاحِ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّكَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَأَنَّكَ إِمَامُ الْمُتَّقِينَ. قَالَ: حَاجَتُكَ يَا غَيْلَانُ؟ قَالَ: أَسْتَغْفِرُكَ. قَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ. قَالَ غَيْلَانُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُنَّ عَلَيْنَا بِرَجُلٍ مِنْ [أَهْلِ] بَيْتِكَ. قَالَ: أَوَلَيْسَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مُنَّ عَلَيْنَا بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ نَنْظُرْ إِلَى وَجْهِهِ، وَتَقَرَّ عَيْنُنَا بِهِ. فَبَعَثَ أَخَاهُ أَبَا جَعْفَرٍ لِقِتَالِ ابْنِ هُبَيْرَةَ عِنْدَ رُجُوعِهِ مِنْ خُرَاسَانَ. وَكَتَبَ إِلَى الْحَسَنِ: إِنَّ الْعَسْكَرَ عَسْكَرُكَ، وَالْقُوَّادَ قُوَّادُكَ، وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ أَخِي حَاضِرًا، فَاسْمَعْ لَهُ وَأَطِعْ وَأَحْسِنْ مُوَازَرَتَهُ. وَكَتَبَ إِلَى مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَكَانَ الْحَسَنُ هُوَ الْمُدَبِّرَ لِأَمْرِ ذَلِكَ الْعَسْكَرِ.

فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ عَلَى الْحَسَنِ تَحَوَّلَ الْحَسَنُ عَنْ خَيْمَتِهِ وَأَنْزَلَهُ فِيهَا، وَجَعَلَ الْحَسَنُ عَلَى حَرَسِ الْمَنْصُورِ عُثْمَانَ بْنَ نَهِيكٍ. وَقَاتَلَهُمْ مَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ يَوْمًا فَانْهَزَمَ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى خَنَادِقِهِمْ وَقَدْ كَمَّنَ لَهُمْ مَعْنٌ وَأَبُو يَحْيَى الْجُذَامِيُّ. فَلَمَّا جَازَهُمْ أَصْحَابُ مَالِكٍ خَرَجُوا عَلَيْهِمْ فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى جَاءَ اللَّيْلُ، وَابْنُ هُبَيْرَةَ عَلَى بُرْجِ الْخَلَّالِينَ، فَاقْتَتَلُوا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ اللَّيْلِ، وَسَرَّحَ ابْنُ هُبَيْرَةَ إِلَى مَعْنٍ يَأْمُرُهُ بِالِانْصِرَافِ، فَانْصَرَفَ، فَمَكَثُوا أَيَّامًا. وَخَرَجَ أَهْلُ وَاسِطَ أَيْضًا مَعَ مَعْنٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ نُبَاتَةَ، فَقَاتَلَهُمْ أَصْحَابُ الْحَسَنِ فَهَزَمُوهُمْ إِلَى دِجْلَةَ حَتَّى تَسَاقَطُوا فِيهَا، وَرَجَعُوا وَقَدْ قُتِلَ وَلَدُ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُوهُ قَتِيلًا قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْحَيَاةَ بَعْدَكَ! ثُمَّ حَمَلُوا عَلَى أَهْلِ وَاسِطَ فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمُ الْمَدِينَةَ. وَكَانَ مَالِكٌ يَمْلَأُ السُّفُنَ حَطَبًا، ثُمَّ يُضْرِمُهَا نَارًا لِتَحْرِقَ مَا مَرَّتْ بِهِ، فَكَانَ ابْنُ هُبَيْرَةَ يَجُرُّ تِلْكَ السُّفُنَ بِكَلَالِيبَ، فَمَكَثُوا كَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا. فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْحِصَارُ طَلَبُوا الصُّلْحَ، وَلَمْ يَطْلُبُوهُ حَتَّى جَاءَهُمْ خَبَرُ قَتْلِ مَرْوَانَ، أَتَاهُمْ بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ وَقَالَ لَهُمْ: عَلَامَ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَقَدْ قُتِلَ مَرْوَانُ؟ وَتَجَنَّى أَصْحَابُ ابْنِ هُبَيْرَةَ عَلَيْهِ. فَقَالَتِ الْيَمَانِيَّةُ: لَا نُعِينُ مَرْوَانَ وَآثَارُهُ فِينَا آثَارُهُ. وَقَالَتِ النِّزَارِيَّةُ: لَا نُقَاتِلُ حَتَّى تُقَاتِلَ مَعَنَا الْيَمَانِيَّةُ، وَكَانَ يُقَاتِلُ مَعَهُ صَعَالِيكُ النَّاسِ وَفِتْيَانُهُمْ. وَهَمَّ ابْنُ هُبَيْرَةَ بِأَنْ يَدْعُوَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ، فَأَبْطَأَ جَوَابَهُ، وَكَاتَبَ السَّفَّاحُ الْيَمَانِيَّةَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ هُبَيْرَةَ وَأَطْمَعَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ زِيَادُ بْنُ صَالِحٍ، وَزِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيَّانِ، وَوَعَدَا ابْنَ هُبَيْرَةَ أَنْ يُصْلِحَا لَهُ نَاحِيَةَ ابْنِ الْعَبَّاسِ، فَلَمْ يَفْعَلَا. وَجَرَتِ السُّفَرَاءُ بَيْنَ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ هُبَيْرَةَ، حَتَّى جَعَلَ لَهُ أَمَانًا، وَكَتَبَ بِهِ كِتَابًا مَكَثَ ابْنُ هُبَيْرَةَ يُشَاوِرُ فِيهِ الْعُلَمَاءَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى رَضِيَهُ، فَأَنْفَذَهُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ، فَأَنْفَذَهُ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَى أَخِيهِ السَّفَّاحِ، فَأَمَرَهُ بِإِمْضَائِهِ. وَكَانَ رَأْيُ أَبِي جَعْفَرٍ الْوَفَاءَ لَهُ بِمَا أَعْطَاهُ، وَكَانَ السَّفَّاحُ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَ أَبِي مُسْلِمٍ، وَكَانَ أَبُو الْجَهْمِ عَيْنًا لِأَبِي مُسْلِمٍ عَلَى السَّفَّاحِ، فَكَتَبَ السَّفَّاحُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يُخْبِرُهُ أَمْرَ ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَكَتَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَيْهِ: إِنَّ الطَّرِيقَ السَّهْلَ إِذَا أَلْقَيْتَ فِيهِ الْحِجَارَةَ فَسَدَ، لَا وَاللَّهِ لَا يَصْلُحُ طَرِيقٌ فِيهِ ابْنُ هُبَيْرَةَ. وَلَمَّا تَمَّ الْكِتَابُ خَرَجَ ابْنُ هُبَيْرَةَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ فِي أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ [مِنَ الْبُخَارِيَّةِ] ،

وَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى دَابَّتِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ الْحَاجِبُ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ، فَقَالَ: مَرْحَبًا [بِكَ] أَبَا خَالِدٍ، انْزِلْ رَاشِدًا! وَقَدْ أَطَافَ بِحُجْرَةِ الْمَنْصُورِ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، فَنَزَلَ، وَدَعَا لَهُ بِوِسَادَةٍ لِيَجْلِسَ عَلَيْهَا، وَأَدْخَلَ الْقُوَّادَ ثُمَّ أَذِنَ لِابْنِ هُبَيْرَةَ وَحْدَهُ، فَدَخَلَ، وَحَادَثَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَ. ثُمَّ مَكَثَ يَأْتِيهِ يَوْمًا وَيَتْرُكُهُ يَوْمًا، فَكَانَ يَأْتِيهِ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ وَثَلَاثِمِائَةِ رَاجِلٍ، فَقِيلَ لِأَبِي جَعْفَرٍ: إِنَّ ابْنَ هُبَيْرَةَ لَيَأْتِي فَيَتَضَعْضَعُ لَهُ الْعَسْكَرُ وَمَا نَقَصَ مِنْ سُلْطَانِهِ شَيْءٌ. فَأَمَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ أَنْ لَا يَأْتِيَ إِلَّا فِي حَاشِيَتِهِ، فَكَانَ يَأْتِي فِي ثَلَاثِينَ، ثُمَّ صَارَ يَأْتِي فِي ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ. وَكَلَّمَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْمَنْصُورَ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ: يَا هَنَاهْ! أَوْ: يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ! ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّ عَهْدِي بِكَلَامِ النَّاسِ بِمِثْلِ مَا خَاطَبْتُكَ بِهِ لَقَرِيبٌ فَسَبَقَنِي لِسَانِي إِلَى مَا لَمْ أُرِدْهُ. فَأَلَحَّ السَّفَّاحُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ يَأْمُرُهُ بِقَتْلِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَهُوَ يُرَاجِعُهُ حَتَّى كَتَبَ إِلَيْهِ: وَاللَّهِ لَتَقْتُلَنَّهُ أَوْ لَأُرْسِلَنَّ إِلَيْهِ مَنْ يُخْرِجُهُ مِنْ حُجْرَتِكَ ثُمَّ يَتَوَلَّى قَتْلَهُ. فَعَزَمَ عَلَى قَتْلِهِ، فَبَعَثَ خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ، وَالْهَيْثَمَ بْنَ ظُهَيْرٍ وَأَمَرَهُمَا بِخَتْمِ بُيُوتِ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى وُجُوهِ مَنْ مَعَ ابْنِ هُبَيْرَةَ مِنَ الْقَيْسِيَّةِ وَالْمُضَرِيَّةِ فَأَحْضَرَهُمْ، فَأَقْبَلَ مُحَمَّدُ بْنُ نُبَاتَةَ، وَحَوْثَرَةُ بْنُ سُهَيْلٍ فِي اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ رَجُلًا، فَخَرَجَ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ، فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ نُبَاتَةَ وَحَوْثَرَةُ؟ فَدَخَلَا وَقَدْ أَجْلَسَ أَبُو جَعْفَرٍ عُثْمَانَ بْنَ نَهِيكٍ وَغَيْرَهُ فِي مِائَةٍ فِي حُجْرَةٍ دُونَ حُجْرَتِهِ، فَنُزِعَتْ سُيُوفُهُمَا وَكُتِّفَا، وَاسْتَدْعَى رَجُلَيْنِ رَجُلَيْنِ يَفْعَلُ بِهِمَا مِثْلَ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَعْطَيْتُمُونَا عَهْدَ اللَّهِ ثُمَّ غَدَرْتُمْ بِنَا! إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يُدْرِكَكُمُ اللَّهُ! وَجَعَلَ ابْنُ نُبَاتَةَ يَضْرِطُ فِي لِحْيَةِ نَفْسِهِ وَقَالَ: كَأَنِّي كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى هَذَا. وَانْطَلَقَ خَازِمٌ وَالْهَيْثَمُ بْنُ شُعْبَةَ فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَةٍ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ فَقَالُوا: نُرِيدُ حَمْلَ الْمَالِ. فَقَالَ لِحَاجِبِهِ: دُلَّهُمْ عَلَى الْخَزَائِنِ. فَأَقَامُوا عِنْدَ كُلِّ بَيْتٍ نَفَرًا، وَأَقْبَلُوا نَحْوَهُ وَعِنْدَهُ ابْنُهُ دَاوُدُ وَعِدَّةٌ مِنْ مَوَالِيهِ وَبُنَيٌّ لَهُ صَغِيرٌ فِي حِجْرِهِ. فَلَمَّا أَقْبَلُوا نَحْوَهُ قَامَ حَاجِبُهُ فِي وُجُوهِهِمْ، فَضَرَبَهُ الْهَيْثَمُ بْنُ شُعْبَةَ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ فَصَرَعَهُ، وَقَاتَلَ ابْنُهُ دَاوُدُ، وَأَقْبَلَ هُوَ إِلَيْهِ وَنَحَّى ابْنَهُ مِنْ حِجْرِهِ، فَقَالَ: دُونَكُمْ هَذَا الصَّبِيَّ، وَخَرَّ سَاجِدًا فَقُتِلَ، وَحُمِلَتْ رُءُوسُهُمْ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ. وَنَادَى بِالْأَمَانِ لِلنَّاسِ إِلَّا الْحَكَمَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ بِشْرٍ، وَخَالِدَ بْنَ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيَّ، وَعُمَرَ بْنَ ذَرٍّ، فَاسْتَأْمَنَ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لِابْنِ ذَرٍّ، فَآمَنَهُ، وَهَرَبَ الْحَكَمُ، وَآمَنَ أَبُو جَعْفَرٍ خَالِدًا فَقَتَلَهُ السَّفَّاحُ، وَلَمْ يُجِزْ أَمَانَ أَبِي جَعْفَرٍ. فَقَالَ أَبُو الْعَطَاءِ السِّنْدِيُّ يَرْثِي ابْنَ هُبَيْرَةَ:

أَلَا إِنَّ عَيْنًا لَمْ تَجُدْ يَوْمَ وَاسِطٍ عَلَيْكَ بِجَارِي دَمْعِهَا لَجَمُودُ عَشِيَّةَ قَامَ النَّائِحَاتُ وَصَفَّقَتْ أَكُفٌّ بِأَيْدِي مَأْتَمٍ وَخُدُودُ فَإِنْ تُمْسِ مَهْجُورَ الْفِنَاءِ فَرُبَّمَا أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الْوُفُودِ وُفُودُ فَإِنَّكَ لَمْ تَبْعُدْ عَلَى مُتَعَهِّدٍ بَلَى كُلُّ مَنْ تَحْتَ التُّرَابِ بَعِيدُ. ذِكْرُ قَتْلِ عُمَّالِ أَبِي سَلَمَةَ بِفَارِسَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ عَلَى فَارِسَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْتُلَ عُمَّالَ أَبِي سَلَمَةَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَوَجَّهَ السَّفَّاحُ عَمَّهُ عِيسَى بْنَ عَلِيٍّ إِلَى فَارِسَ، وَعَلَيْهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ. فَأَرَادَ مُحَمَّدٌ قَتْلَ عِيسَى، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَذَا لَا يَسُوغُ لَكَ. فَقَالَ: بَلَى أَمَرَنِي أَبُو مُسْلِمٍ أَنْ لَا يَقْدَمَ أَحَدٌ عَلَيَّ يَدَّعِي الْوِلَايَةَ مِنْ غَيْرِهِ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، ثُمَّ تَرَكَ عِيسَى خَوْفًا مِنْ عَاقِبَةِ قَتْلِهِ، وَاسْتَحْلَفَ عِيسَى بِالْأَيْمَانِ الْمُحَرِّجَةِ أَنْ لَا يَعْلُوَ مِنْبَرًا، وَلَا يَتَقَلَّدَ سَيْفًا إِلَّا فِي جِهَادٍ، فَلَمْ يَلِ عِيسَى بَعْدَ ذَلِكَ وِلَايَةً، وَلَا تَقَلَّدَ سَيْفًا إِلَّا فِي غَزْوٍ، ثُمَّ وَجَّهَ السَّفَّاحُ بَعْدَ ذَلِكَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَلِيٍّ وَالِيًا عَلَى فَارِسَ. ذِكْرُ وِلَايَةِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَوْصِلَ وَمَا قِيلَ فِيهَا وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ السَّفَّاحُ أَخَاهُ يَحْيَى بْنَ مُحَمَّدٍ عَلَى الْمَوْصِلِ عِوَضَ مُحَمَّدِ بْنِ صُولٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمَوْصِلِ امْتَنَعُوا مِنْ طَاعَةِ مُحَمَّدِ بْنِ صُولٍ، وَقَالُوا: يَلِي عَلَيْنَا مَوْلَى الْخَثْعَمِ، وَأَخْرَجُوهُ عَنْهُمْ. فَكَتَبَ إِلَى السَّفَّاحِ بِذَلِكَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ أَخَاهُ يَحْيَى بْنَ مُحَمَّدٍ وَسَيَّرَهُ إِلَيْهَا فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ. فَنَزَلَ قَصْرَ الْإِمَارَةِ مُجَانِبَ مَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَلَمْ يُظْهِرْ لِأَهْلِ الْمَوْصِلِ شَيْئًا يُنْكِرُونَهُ، وَلَمْ يَعْتَرِضْهُمْ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ، ثُمَّ

دَعَاهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَنَفَرَ أَهْلُ الْبَلَدِ وَحَمَلُوا السِّلَاحَ، فَأَعْطَاهُمُ الْأَمَانَ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ: مَنْ دَخَلَ الْجَامِعَ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَتَاهُ النَّاسُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ، فَأَقَامَ يَحْيَى الرِّجَالَ عَلَى أَبْوَابِ الْجَامِعِ، فَقَتَلُوا النَّاسَ قَتْلًا ذَرِيعًا أَسْرَفُوا فِيهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ قَتَلَ فِيهِ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا مِمَّنْ لَهُ خَاتَمٌ وَمِمَّنْ لَيْسَ لَهُ خَاتَمٌ خَلْقًا كَثِيرًا. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ سَمِعَ يَحْيَى صُرَاخَ النِّسَاءِ اللَّاتِي قُتِلَ رِجَالُهُنَّ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ الصَّوْتِ، فَأُخْبِرَ بِهِ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْغَدُ فَاقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ فِي عَسْكَرِهِ قَائِدٌ مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ زِنْجِيٍّ، فَأَخَذُوا النِّسَاءَ قَهْرًا. فَلَمَّا فَرَغَ يَحْيَى مِنْ قَتْلِ أَهْلِ الْمَوْصِلِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ رَكِبَ الْيَوْمَ الرَّابِعَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْحِرَابُ وَالسُّيُوفُ الْمَسْلُولَةُ، فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ وَأَخَذَتْ بِعِنَانِ دَابَّتِهِ، فَأَرَادَ أَصْحَابُهُ قَتْلَهَا فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ: أَلَسْتَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ؟ أَلَسْتَ ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أَمَا تَأْنَفُ لِلْعَرَبِيَّاتِ الْمُسْلِمَاتِ أَنْ يَنْكِحَهُنَّ الزِّنْجُ؟ فَأَمْسَكَ عَنْ جَوَابِهَا، وَسَيَّرَ مَعَهَا مَنْ يُبْلِغُهَا مَأْمَنَهَا، وَقَدْ عَمِلَ كَلَامُهَا فِيهِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَمَعَ الزِّنْجَ لِلْعَطَاءِ، فَاجْتَمَعُوا، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ. وَقِيلَ: كَانَ السَّبَبُ فِي قَتْلِ أَهْلِ الْمَوْصِلِ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنْ مَحَبَّةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَرَاهَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَأَنَّ امْرَأَةً غَسَلَتْ رَأْسَهَا وَأَلْقَتِ الْخِطْمِيَّ مِنَ السَّطْحِ فَوَقَعَ عَلَى رَأْسِ بَعْضِ الْخُرَاسَانِيَّةِ، فَظَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ تَعَمُّدًا، فَهَاجَمَ الدَّارَ، وَقَتَلَ أَهْلَهَا، فَثَارَ أَهْلُ الْبَلَدِ وَقَتَلُوهُ، وَثَارَتِ الْفِتْنَةُ. وَفِيمَنْ قُتِلَ مَعْرُوفُ بْنُ أَبِي مَعْرُوفٍ، وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا، وَقَدْ أَدْرَكَ كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ وَرَوَى عَنْهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا وَجَّهَ السَّفَّاحُ أَخَاهُ الْمَنْصُورَ وَالِيًا عَلَى الْجَزِيرَةِ وَأَذْرَبِيجَانَ وَإِرْمِينِيَّةَ، وَفِيهَا عَزَلَ عَمَّهُ دَاوُدَ بْنَ عَلِيٍّ عَنِ الْكُوفَةِ وَسَوَادِهَا، وَوَلَّاهُ الْمَدِينَةَ وَمَكَّةَ وَالْيَمَنَ وَالْيَمَامَةَ، وَوَلَّى مَوْضِعَهُ مِنْ عَمَلِ الْكُوفَةِ ابْنَ أَخِيهِ عِيسَى بْنَ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدٍ، فَاسْتَقْضَى عِيسَى عَلَى الْكُوفَةِ ابْنَ أَبِي لَيْلَى.

وَكَانَ الْعَامِلَ عَلَى الْبَصْرَةِ هَذِهِ السَّنَةَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ الْمُهَلَّبِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَعَلَى السِّنْدِ مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ، وَعَلَى فَارِسَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ، وَعَلَى الْجَزِيرَةِ وَإِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَلَى الشَّامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى مِصْرَ أَبُو عَوْنٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَزِيدَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ وَالْجِبَالِ أَبُو مُسْلِمٍ، وَعَلَى دِيوَانِ الْخَرَاجِ خَالِدُ بْنُ بَرْمَكَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ. وَفِيهَا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَعَ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالزَّابِ، وَيَحْيَى أَخُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّاخِلِ إِلَى الْأَنْدَلُسِ. وَفِيهَا قُتِلَ يُونُسُ بْنُ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ بِدِمَشْقَ لَمَّا دَخَلَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ وَكَانَ عُمُرُهُ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، قَتَلَهُ رَجُلَانِ مِنْ خُرَاسَانَ وَلَمْ يَعْرِفَاهُ، فَلَمَّا عَرَفَاهُ بَكَيَا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: بَلْ عَضَّتْهُ دَابَّةٌ مِنْ دَوَابِّهِ فَقَتَلَتْهُ، وَكَانَ ضَرِيرًا. وَفِيهَا مَاتَ صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ مَوْلَى حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ قَاضِيَهَا.

وَفِيهَا مَاتَ هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْفٍ. وَسَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَخُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خُبَيْبِ بْنِ يَسَارٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ خَالُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، (خُبَيْبٌ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) . وَعُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَاسْمُ أَبِي حَفْصَةَ ثَابِتٌ مَوْلَى الْعَتِيكِ بْنِ الَأَزْدِ، وَهُوَ وَالِدُ حَرَمِيٍّ، كُنْيَتُهُ أَبُو رَوْحٍ، (حَرَمِيٌّ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسِ بْنِ كَيْسَانَ الْهَمْدَانِيُّ مِنْ عُبَّادِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَفُقَهَائِهِمْ.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة] 133 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ الرُّومِ مَلَطْيَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَقْبَلَ قُسْطَنْطِينُ، مَلِكُ الرُّومِ، إِلَى مَلَطْيَةَ وَكَمْخَ، فَنَازَلَ كَمْخَ، فَأَرْسَلَ أَهْلُهَا إِلَى أَهْلِ مَلَطْيَةَ يَسْتَنْجِدُونَهُمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ مِنْهَا ثَمَانِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، فَقَاتَلَهُمُ الرُّومُ، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، وَنَازَلَ الرُّومُ مَلَطْيَةَ وَحَصَرُوهَا، وَالْجَزِيرَةُ يَوْمَئِذٍ مَفْتُونَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَامِلُهَا مُوسَى بْنُ كَعْبٍ بِحَرَّانَ. فَأَرْسَلَ قُسْطَنْطِينُ إِلَى أَهْلِ مَلَطْيَةَ: إِنِّي لَمْ أَحْصُرْكُمْ إِلَّا عَلَى عِلْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَاخْتِلَافِهِمْ، فَلَكُمُ الْأَمَانُ وَتَعُودُونَ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَحْتَرِثَ مَلَطْيَةَ. فَلَمْ يُجِيبُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ، فَأَذْعَنُوا وَسَلَّمُوا الْبِلَادَ عَلَى الْأَمَانِ، وَانْتَقَلُوا إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَحَمَلُوا مَا أَمْكَنَهُمْ حَمْلُهُ، وَمَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى حَمْلِهِ أَلْقَوْهُ فِي الْآبَارِ وَالْمَجَارِي. فَلَمَّا سَارُوا عَنْهَا أَخْرَبَهَا الرُّومُ وَرَحَلُوا عَنْهَا عَائِدِينَ، وَتَفَرَّقَ أَهْلُهَا فِي بِلَادِ الْجَزِيرَةِ، وَسَارَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى قَالِيقَلَا، فَنَزَلَ مَرْجَ الْحَصَى، وَأَرْسَلَ كُوشَانَ الْأَرْمَنِيَّ فَحَصَرَهَا، فَنَقَبَ إِخْوَانٌ مِنَ الْأَرْمَنِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ رَدْمًا كَانَ فِي سُورِهَا، فَدَخَلَ كُوشَانُ

وَمَنْ مَعَهُ الْمَدِينَةَ وَغَلَبُوا عَلَيْهَا، وَقَتَلُوا رِجَالَهَا، وَسَبَوُا النِّسَاءَ، وَسَاقَ الْقَائِمَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ السَّفَّاحُ عَمَّهُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَلِيٍّ وَالِيًا عَلَى الْبَصْرَةِ، وَأَعْمَالِهَا وَكُوَرِ دِجْلَةَ وَالْبَحْرَيْنِ وَعُمَانَ وَمِهْرَجَانْقَذَقَ، وَاسْتَعْمَلَ عَمَّهُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى الْأَهْوَازِ وَفِيهَا قَتَلَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُمْ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ: يَا أَخِي إِذَا قَتَلْتَ هَؤُلَاءِ فَمَنْ تُبَاهِي بِمُلْكِهِ؟ أَمَا يَكْفِيكَ أَنْ يَرَوْكَ غَادِيًا وَرَائِحًا فِيمَا يُذِلُّهُمْ وَيَسُوؤُهُمْ؟ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ وَقَتَلَهُمْ. وَفِيهَا مَاتَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالْمَدِينَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَاسْتَخْلَفَ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ابْنَهُ مُوسَى، وَلَمَّا بَلَغَتِ السَّفَّاحَ وَفَاتُهُ اسْتَعْمَلَ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ وَالْيَمَامَةِ خَالَهُ زِيَادَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُدَانِ الْحَارِثِيَّ. وَوَجَّهَ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُدَانِ عَلَى الْيَمَنِ. فَلَمَّا قَدِمَ زِيَادٌ الْمَدِينَةَ وَجَّهَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ حَسَّانَ السُّلَمِيَّ، وَهُوَ أَبُو حَمَّادٍ الْأَبْرَصُ بْنُ الْمُثَنَّى، إِلَى يَزِيدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَهُوَ بِالْيَمَامَةِ، فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ. وَفِيهَا تَوَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ فَقَاتَلَ أَهْلَهَا قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى فَتَحَهَا.

وَفِيهَا خَرَجَ شَرِيكُ بْنُ شَيْخٍ الْمَهْرِيُّ بِبُخَارَى عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ، وَنَقَمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْنَا آلَ مُحَمَّدٍ، أَنْ تُسْفَكَ الدِّمَاءُ وَأَنْ يُعْمَلَ بِغَيْرِ الْحَقِّ! وَتَبِعَهُ عَلَى رَأْيِهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ زِيَادَ بْنَ صَالِحٍ الْخُزَاعِيَّ فَقَاتَلَهُ، وَقَتَلَهُ زِيَادٌ. وَفِيهَا تَوَجَّهَ أَبُو دَاوُدَ خَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى الْخُتَّلِ فَدَخَلَهَا، وَلَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيْهِ حُبَيْشُ بْنُ الشِّبْلِ مَلِكُهَا بَلْ تَحَصَّنَ مِنْهُ هُوَ وَأُنَاسٌ مِنَ الدَّهَّاقِينَ، فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ خَرَجَ مِنَ الْحِصْنِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ دَهَاقِينِهِ وَشَاكِرِيَّتِهِ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى أَرْضِ فَرْغَانَةَ، ثُمَّ دَخَلُوا بَلَدَ التُّرْكِ، وَانْتَهَوْا إِلَى مَلِكِ الصِّينِ، وَأَخَذَ أَبُو دَاوُدَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ، فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، وَفِيهَا قُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ بِالْمَوْصِلِ، قَتَلَهُ سُلَيْمَانُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْأَسْوَدُ بِأَمَانٍ كَتَبَهُ لَهُ. وَفِيهَا وَجَّهَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ لِيَغْزُوَ الصَّائِفَةَ وَرَاءَ الدُّرُوبِ. (وَفِيهَا عُزِلَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَاسْتُعْمِلَ مَكَانَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ. وَإِنَّمَا عُزِلَ يَحْيَى لِقَتْلِهِ أَهْلَ الْمَوْصِلِ) ، وَسُوءِ أَثَرِهِ فِيهِمْ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ زِيَادُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيُّ. وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ ذَكَرْنَا إِلَّا الْحِجَازَ وَالْيَمَنَ وَالْمَوْصِلَ، فَقَدْ ذَكَرْنَا مَنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا.

وَفِيهَا تَخَالَفَ إِخْشِيدُ فَرْغَانَةَ وَمَلِكُ الشَّاشِ، فَاسْتَمَدَّ إِخْشِيدُ مَلِكَ الصِّينِ فَأَمَدَّهُ بِمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَحَصَرُوا مَلِكَ الشَّاشِ، فَنَزَلَ عَلَى حُكْمِ مَلِكِ الصِّينِ، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ بِمَا يَسُوؤُهُمْ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ أَبَا مُسْلِمٍ فَوَجَّهَ إِلَى حَرْبِهِمْ زِيَادَ بْنُ صَالِحٍ، فَالْتَقَوْا عَلَى نَهْرِ طِرَازٍ فَظَفِرَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ زُهَاءَ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَأَسَرُوا نَحْوَ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَهَرَبَ الْبَاقُونَ إِلَى الصِّينِ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ. وَابْنُ الْمُعَلَّى الزُّرَقِيُّ الْأَنْصَارِيُّ. وَعَلِيُّ بْنُ بَذِيمَةَ مَوْلَى جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ السُّوَائِيِّ. (بَذِيمَةَ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ) .

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة] 134 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ [ذِكْرُ خَلْعِ بَسَّامِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ بَسَّامُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ، وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ أَهْلِ خُرَاسَانَ، وَسَارَ مِنْ عَسْكَرِ السَّفَّاحِ هُوَ وَجَمَاعَةٌ عَلَى رَأْيِهِ سِرًّا إِلَى الْمَدَائِنِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ السَّفَّاحُ خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ بَسَّامٌ وَأَصْحَابُهُ، وَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَقُتِلَ كُلُّ مَنْ لَحِقَهُ مُنْهَزِمًا. ثُمَّ انْصَرَفَ فَمَرَّ بِذَاتِ الْمَطَامِيرِ، وَبِهَا أَخْوَالُ السَّفَّاحِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُدَانِ، وَهُمْ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا، وَمِنْ غَيْرِهِمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَمِنْ مَوَالِيهِمْ سَبْعَةَ عَشَرَ، فَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا جَازَهُمْ شَتَمُوهُ. وَكَانَ فِي قَلْبِهِ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ لِمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ مِنْ حَالِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْفَزَعِ وَأَنَّهُ لَجَأَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ بَسَّامٍ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ وَسَأَلَهُمْ عَنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالُوا: مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُجْتَازٌ لَا نَعْرِفُهُ فَأَقَامَ فِي قَرْيَتِنَا لَيْلَةً ثُمَّ خَرَجَ عَنَّا. فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ أَخْوَالُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَأْتِيكُمْ عَدُوُّهُ وَيَأْمَنُ فِي قَرْيَتِكُمْ! فَهَلَّا اجْتَمَعْتُمْ فَأَخَذْتُمُوهُ! فَأَغْلَظُوا لَهُ فِي الْجَوَابِ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ جَمِيعًا، وَهَدَمَ دُورَهُمْ، وَنَهَبَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ انْصَرَفَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَمَانِيَّةَ فَاجْتَمَعُوا، وَدَخَلَ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيُّ مَعَهُمْ عَلَى السَّفَّاحِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ خَازِمًا اجْتَرَأَ عَلَيْكَ وَاسْتَخَفَّ بِحَقِّكَ، وَقَتَلَ أَخْوَالَكَ الَّذِينَ قَطَعُوا الْبِلَادَ وَأَتَوْكَ مُعْتَزِّينَ بِكَ طَالِبِينَ مَعْرُوفَكَ حَتَّى صَارُوا فِي جِوَارِكَ، قَتَلَهُمْ خَازِمٌ وَهَدَمَ دُورَهُمْ، وَنَهَبَ أَمْوَالَهُمْ بِلَا حَدَثٍ أَحْدَثُوهُ. فَهَمَّ بِقَتْلِ خَازِمٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ مُوسَى بْنَ كَعْبٍ، وَأَبَا الْجَهْمِ بْنَ عَطِيَّةَ، فَدَخَلَا عَلَى السَّفَّاحِ وَقَالَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلَغَنَا مَا كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّكَ هَمَمْتَ بِقَتْلِ خَازِمٍ، وَإِنَّا نُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ لَهُ طَاعَةً وَسَابِقَةً، وَهُوَ يُحْتَمَلُ لَهُ مَا صَنَعَ، فَإِنَّ شِيعَتَكُمْ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ قَدْ آثَرُوكُمْ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْأَوْلَادِ وَقَتَلُوا مَنْ خَالَفَكُمْ، وَأَنْتَ أَحَقُّ مَنْ تَغَمَّدَ إِسَاءَةَ مُسِيئِهِمْ. فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ مُجْمِعًا عَلَى قَتْلِهِ فَلَا

تَتَوَلَّ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ وَابْعَثْهُ لِأَمْرٍ إِنْ قُتِلَ فِيهِ كُنْتَ قَدْ بَلَغْتَ الَّذِي تُرِيدُ، وَإِنْ ظَفِرَ كَانَ ظَفَرُهُ لَكَ. وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِتَوْجِيهِهِ إِلَى مَنْ بِعُمَانَ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَإِلَى الْخَوَارِجِ الَّذِينَ بِجَزِيرَةِ ابْنِ كَاوَانَ مَعَ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَيَشْكُرِيِّ، فَأَمَرَ السَّفَّاحُ بِتَوْجِيهِهِ مَعَ سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ، وَكَتَبَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُوَ عَلَى الْبَصْرَةِ، بِحَمْلِهِمْ إِلَى جَزِيرَةِ ابْنِ كَاوَانَ وَعُمَانَ، فَسَارَ خَازِمٌ. ذِكْرُ أَمْرِ الْخَوَارِجِ وَقَتْلِ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمَّا سَارَ خَازِمٌ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي الْجُنْدِ الَّذِينَ مَعَهُ، وَكَانَ قَدِ انْتَخَبَ مِنْ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَمَوَالِيهِ وَمِنْ أَهْلِ مَرْوِ الرُّوذِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْبَصْرَةَ حَمَلَهُمْ سُلَيْمَانُ فِي السُّفُنِ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ بِالْبَصْرَةِ أَيْضًا عِدَّةٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَسَارُوا فِي الْبَحْرِ حَتَّى أَرْسَوْا بِجَزِيرَةِ ابْنِ كَاوَانَ. فَوَجَّهَ خَازِمٌ فَضْلَةَ بْنَ نُعَيْمٍ النَّهْشَلِيَّ فِي خَمْسِمِائَةٍ إِلَى شَيْبَانَ، فَالْتَقَوْا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَرَكِبَ شَيْبَانُ وَأَصْحَابُهُ السُّفُنَ وَسَارُوا إِلَى عُمَانَ، وَهُمْ صُفْرِيَّةٌ. فَلَمَّا صَارُوا إِلَى عُمَانَ قَاتَلَهُمْ الْجُلُنْدَى وَأَصْحَابُهُ، وَهُمْ إِبَاضِيَّةٌ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَقُتِلَ شَيْبَانُ وَمَنْ مَعَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ قَتْلُ شَيْبَانَ عَلَى هَذَا السِّيَاقِ. ثُمَّ سَارَ خَازِمٌ فِي الْبَحْرِ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى أَرْسَوْا إِلَى سَاحِلِ عُمَانَ، فَخَرَجُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ، فَلَقِيَهُمُ الْجُلُنْدَى وَأَصْحَابُهُ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَثُرَ الْقَتْلُ يَوْمَئِذٍ فِي أَصْحَابِ خَازِمٍ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ أَخٌ لَهُ مِنْ أُمِّهِ فِي تِسْعِينَ رَجُلًا، ثُمَّ اقْتَتَلُوا مِنَ الْغَدِ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْخَوَارِجِ تِسْعُمِائَةٍ وَأُحْرِقَ مِنْهُمْ نَحْوٌ مِنْ تِسْعِينَ رَجُلًا. ثُمَّ الْتَقَوْا بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَقْدِمِ خَازِمٍ عَلَى رَأْيٍ أَشَارَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ خَازِمٍ، أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ أَصْحَابَهُ فَيَجْعَلُوا عَلَى أَطْرَافِ أَسِنَّتِهِمُ الْمُشَاقَةَ، وَيَرْوُوهَا بِالنِّفْطِ وَيُشْعِلُوا فِيهَا النِّيرَانَ ثُمَّ يَمْشُوا بِهَا حَتَّى يُضْرِمُوهَا فِي بُيُوتِ أَصْحَابِ الْجُلُنْدَى، وَكَانَتْ مِنْ خَشَبٍ. فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ وَأُضْرِمَتْ بُيُوتُهُمْ بِالنِّيرَانِ اشْتَغَلُوا بِهَا وَبِمَنْ فِيهَا مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ خَازِمٌ وَأَصْحَابُهُ، فَوَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ فَقَتَلُوهُمْ، وَقَتَلُوا الْجُلُنْدَى فِيمَنْ قُتِلَ، وَبَلَغَ

عِدَّةُ الْقَتْلَى عَشَرَةَ آلَافٍ، وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَأَرْسَلَهَا سُلَيْمَانُ إِلَى السَّفَّاحِ، وَأَقَامَ خَازِمٌ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْهُرًا حَتَّى اسْتَقْدَمَهُ السَّفَّاحُ فَقَدِمَ. ذِكْرُ غَزْوَةِ كِسَّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا أَبُو دَاوُدَ خَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَهْلَ كِسَّ، فَقَتَلَ الْإِخْرِيدَ مَلِكَهَا، وَهُوَ سَامِعٌ مُطِيعٌ، وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ وَأَخَذَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَوَانِي الصِّينِيَّةِ الْمَنْقُوشَةِ الْمُذَهَّبَةِ مَا لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَمِنَ السُّرُوجِ وَمَتَاعِ الصِّينِ كُلِّهِ مِنَ الدِّيبَاجِ وَالطُّرَفِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَحَمَلَهُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ بِسَمَرْقَنْدَ، وَقَتَلَ عِدَّةً مِنْ دَهَاقِينِهِمْ، وَاسْتَحْيَا طَارَانَ أَخَا الْإِخْرِيدِ، وَمَلَّكَهُ عَلَى كِسَّ. وَانْصَرَفَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى مَرْوَ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ فِي أَهْلِ الصُّغْدِ وَبُخَارَى، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ سُورِ سَمَرْقَنْدَ، وَاسْتَخْلَفَ زِيَادَ بْنَ صَالِحٍ عَلَيْهَا وَعَلَى بُخَارَى، وَرَجَعَ أَبُو دَاوُدَ إِلَى بَلْخَ. ذِكْرُ حَالِ مَنْصُورِ بْنِ جُمْهُورٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ السَّفَّاحُ مُوسَى بْنَ كَعْبٍ إِلَى السِّنْدِ لِقِتَالِ مَنْصُورِ بْنِ جُمْهُورٍ، فَسَارَ وَاسْتَخْلَفَ مَكَانَهُ عَلَى شُرَطِ السَّفَّاحِ الْمُسَيَّبَ بْنَ زُهَيْرٍ، وَقَدِمَ مُوسَى السِّنْدَ فَلَقِيَ مَنْصُورًا فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَانْهَزَمَ مَنْصُورٌ وَمَنْ مَعَهُ وَمَضَى، فَمَاتَ عَطَشًا فِي الرِّمَالِ، وَقَدْ قِيلَ أَصَابَهُ بَطْنُهُ فَمَاتَ. وَسَمِعَ خَلِيفَتُهُ عَلَى السِّنْدِ بِهَزِيمَتِهِ فَرَحَلَ بِعِيَالِ مَنْصُورٍ وَثَقَلِهِ، فَدَخَلَ بِهِمْ بِلَادَ الْخَزَرِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى الْيَمَنِ، فَاسْتَعْمَلَ السَّفَّاحُ مَكَانَهُ عَلِيَّ بْنَ الرَّبِيعِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ.

وَفِيهَا تَحَوَّلَ السَّفَّاحُ مِنَ الْحِيرَةِ إِلَى الْأَنْبَارِ فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَفِيهَا ضُرِبَ الْمَنَارُ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى مَكَّةَ وَالْأَمْيَالِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عِيسَى بْنُ مُوسَى وَهُوَ عَلَى الْكُوفَةِ. وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ: ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَعَلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَالْيَمَامَةِ: زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى الْيَمَنِ: عَلِيُّ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَارِثِيُّ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ وَأَعْمَالِهَا وَكُوَرِ دِجْلَةَ وَعُمَانَ: سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى قَضَائِهَا: عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَعَلَى السِّنْدِ: مُوسَى بْنُ كَعْبٍ، وَعَلَى خُرَاسَانَ وَالْجِبَالِ: أَبُو مُسْلِمٍ، وَعَلَى فِلَسْطِينَ: صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى مِصْرَ: أَبُو عَوْنٍ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى إِرْمِينِيَّةَ يَزِيدُ بْنُ أُسَيْدٍ، وَعَلَى أَذْرَبِيجَانَ: مُحَمَّدُ بْنُ صُولٍ، وَعَلَى دِيوَانِ الْخَرَاجِ: خَالِدُ بْنُ بَرْمَكَ، وَعَلَى الْجَزِيرَةِ: أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ. وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ وَإِرْمِينِيَّةَ مَنْ ذَكَرْنَا، وَعَلَى الشَّامِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيُّ.

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة] 135 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ خُرُوجِ زِيَادِ بْنِ صَالِحٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ زِيَادُ بْنُ صَالِحٍ وَرَاءَ النَّهْرِ، فَسَارَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ مَرْوَ مُسْتَعِدًّا لِلِقَائِهِ، وَبَعَثَ أَبُو دَاوُدَ خَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ نَصْرَ بْنَ رَاشِدٍ إِلَى تِرْمِذَ مَخَافَةَ أَنْ يَبْعَثَ زِيَادُ بْنُ صَالِحٍ إِلَى الْحِصْنِ وَالسُّفُنِ فَيَأْخُذُهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ نَصْرٌ وَأَقَامَ بِهَا، فَخَرَجَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الطَّالَقَانِ مَعَ رَجُلٍ يُكَنَّى أَبَا إِسْحَاقَ فَقَتَلُوا نَصْرًا. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَبَا دَاوُدَ بَعَثَ عِيسَى بْنَ مَاهَانَ فِي تَتَبُّعِ قَتَلَةِ نَصْرٍ، فَتَبِعَهُمْ فَقَتَلَهُمْ. وَمَضَى أَبُو مُسْلِمٍ مُسْرِعًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى آمُلَ وَمَعَهُ سِبَاعُ بْنُ النُّعْمَانِ الْأَزْدِيُّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ أَرْسَلَهُ السَّفَّاحُ إِلَى زِيَادِ بْنِ صَالِحٍ وَأَمَرَهُ إِنْ رَأَى فُرْصَةً أَنْ يَثِبَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ فَيَقْتُلَهُ. فَأُخْبِرَ أَبُو مُسْلِمٍ بِذَلِكَ، فَحَبَسَ سِبَاعًا بِآمُلَ، وَعَبَرَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى بُخَارَى، فَلَمَّا نَزَلَهَا أَتَاهُ عِدَّةٌ مِنْ قُوَّادِ زِيَادٍ قَدْ خَلَعُوا زِيَادًا فَأَخْبَرُوا أَبَا مُسْلِمٍ أَنَّ سِبَاعَ بْنَ النُّعْمَانِ هُوَ الَّذِي أَفْسَدَ زِيَادًا، فَكَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِآمُلَ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَلَمَّا أَسْلَمَ زِيَادًا قُوَّادُهُ وَلَحِقُوا بِأَبِي مُسْلِمٍ لَجَأَ إِلَى دِهْقَانٍ هُنَاكَ، فَقَتَلَهُ وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ. وَتَأَخَّرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ لِحَالِ أَهْلِ الطَّالَقَانِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ يُخْبِرُهُ بِقَتْلِ زِيَادٍ، فَأَتَى كِسَّ وَأَرْسَلَ عِيسَى بْنَ مَاهَانَ إِلَى بَسَّامٍ وَبَعَثَ جُنْدًا إِلَى شَاغِرَ فَطَلَبُوا الصُّلْحَ، فَأُجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا بَسَّامٌ فَلَمْ يَصِلْ عِيسَى إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَكَتَبَ عِيسَى إِلَى كَامِلِ بْنِ مُظَفَّرٍ صَاحِبِ أَبِي مُسْلِمٍ يَعْتِبُ أَبَا دَاوُدَ وَيَنْسُبُهُ إِلَى الْعَصَبِيَّةِ، فَبَعَثَ أَبُو مُسْلِمٍ بِالْكُتُبِ إِلَى أَبِي دَاوُدَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ هَذِهِ كُتُبُ الْعِلْجِ الَّذِي صَيَّرْتَهُ عِدْلَ نَفْسِكَ، فَشَأْنُكَ بِهِ. فَكَتَبَ أَبُو دَاوُدَ إِلَى عِيسَى يَسْتَدْعِيهِ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ حَبَسَهُ وَضَرَبَهُ ثُمَّ أَخْرَجَهُ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ الْجُنْدُ فَقَتَلُوهُ،

وَرَجَعَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى مَرْوَ. ذِكْرُ غَزْوَةِ جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ جَزِيرَةَ صِقِلِّيَةَ، وَغَنِمَ بِهَا وَسَبَى، وَظَفِرَ بِهَا مَا لَمْ يَظْفَرْهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ، بَعْدَ أَنْ غَزَا تِلْمِسَانَ. وَاشْتَغَلَ وُلَاةُ إِفْرِيقِيَّةَ بِالْفِتْنَةِ مَعَ الْبَرْبَرِ، فَأَمِنَ الصِّقِلِيَّةُ وَعَمَّرَهَا الرُّومُ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَعَمَّرُوا فِيهَا الْحُصُونَ وَالْمَعَاقِلَ، وَصَارُوا يُخْرِجُونَ كُلَّ عَامٍ مَرَاكِبَ تَطُوفُ بِالْجَزِيرَةِ وَتَذُبُّ عَنْهَا، وَرُبَّمَا طَارَقُوا تُجَّارًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَأْخُذُونَهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ حَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ عَلَى الْبَصْرَةِ وَأَعْمَالِهَا، وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو خَازِمٍ الْأَعْرَجُ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَفِيهَا مَاتَ عَطَاءُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، وَقِيلَ: مَوْلَى الْمُهَلَّبِ، وَقِيلَ: هُوَ عَطَاءُ بْنُ مَيْسَرَةَ، وَيُكَنَّى أَبَا عُثْمَانَ الْخُرَاسَانِيَّ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ. وَفِيهَا مَاتَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بِفَارِسَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْصِلِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ الدِّئِلِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً.

وَزِيَادُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ، وَكَانَ مِنَ الْأَبْطَالِ. (عَيَّاشٌ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ، وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ) .

ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة] 136 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ حَجِّ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي مُسْلِمٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى السَّفَّاحِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ وَالْحَجِّ، وَكَانَ مُذْ مَلَكَ خُرَاسَانَ لَمْ يُفَارِقْهَا إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ السَّفَّاحُ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْجُنْدِ، فَكَتَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ وَتَرْتُ النَّاسَ، وَلَسْتُ آمَنُ عَلَى نَفْسِي. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنْ أَقْبِلْ فِي أَلْفٍ، فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي سُلْطَانِ أَهْلِكَ وَدَوْلَتِكَ وَطَرِيقُ مَكَّةَ لَا يَتَحَمَّلُ الْعَسْكَرَ. فَسَارَ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، فَرَّقَهُمْ فِيمَا بَيْنَ نَيْسَابُورَ وَالرَّيِّ، وَقَدِمَ بِالْأَمْوَالِ وَالْخَزَائِنِ فَخَلَّفَهَا بِالرَّيِّ، وَجَمَعَ أَيْضًا أَمْوَالَ الْجَبَلِ، وَقَدِمَ فِي أَلْفٍ، فَأَمَرَ السَّفَّاحُ الْقُوَّادَ وَسَائِرَ النَّاسِ أَنْ يَتَلَقَّوْهُ، فَدَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى السَّفَّاحِ، فَأَكْرَمَهُ وَأَعْظَمَهُ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ السَّفَّاحَ فِي الْحَجِّ، فَأَذِنَ لَهُ وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ، يَعْنِي أَخَاهُ الْمَنْصُورَ، يُرِيدُ الْحَجَّ لَاسْتَعْمَلْتُكَ عَلَى الْمَوْسِمِ، وَأَنْزَلَهُ قَرِيبًا مِنْهُ. وَكَانَ مَا بَيْنَ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي مُسْلِمٍ مُتَبَاعِدًا ; لِأَنَّ السَّفَّاحَ كَانَ بَعَثَ أَبَا جَعْفَرٍ إِلَى خُرَاسَانَ بَعْدَمَا صَفَتِ الْأُمُورُ لَهُ وَمَعَهُ عَهْدُ أَبِي مُسْلِمٍ بِخُرَاسَانَ، وَبِالْبَيْعَةِ لِلسَّفَّاحِ، وَأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَايَعَ لَهُمَا أَبُو مُسْلِمٍ وَأَهْلُ خُرَاسَانَ، وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ قَدِ اسْتَخَفَّ بِأَبِي جَعْفَرٍ. فَلَمَّا رَجَعَ أَخْبَرَ السَّفَّاحَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِي مُسْلِمٍ، فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو مُسْلِمٍ هَذِهِ الْمَرَّةَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ لِلسَّفَّاحِ: أَطِعْنِي وَاقْتُلْ أَبَا مُسْلِمٍ، فَوَاللَّهِ إِنَّ فِي رَأْسِهِ لَغُدْرَةً. فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتَ بَلَاءَهُ وَمَا كَانَ مِنْهُ. فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنَّمَا كَانَ بِدَوْلَتِنَا، وَاللَّهِ لَوْ بَعَثْتَ سِنَّوْرًا لَقَامَ مَقَامَهُ، وَبَلَغَ مَا بَلَغَ. فَقَالَ: كَيْفَ نَقْتُلُهُ؟ قَالَ: [إِذَا] دَخَلَ عَلَيْكَ وَحَادَثْتَهُ ضَرَبْتُهُ أَنَا

مِنْ خَلْفِهِ ضَرْبَةً قَتَلْتُهُ بِهَا. قَالَ: فَكَيْفَ بِأَصْحَابِهِ؟ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَوْ قُتِلَ لَتَفَرَّقُوا وَذَلُّوا. فَأَمَرَهُ بِقَتْلِهِ، وَخَرَجَ أَبُو جَعْفَرٍ. ثُمَّ نَدِمَ السَّفَّاحُ عَلَى ذَلِكَ فَأَمَرَ أَبَا جَعْفَرٍ بِالْكَفِّ عَنْهُ. وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ قَبْلَ ذَلِكَ بِحَرَّانَ وَسَارَ مِنْهَا إِلَى الْأَنْبَارِ وَبِهَا السَّفَّاحُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى حَرَّانَ مُقَاتِلَ بْنَ حَكِيمٍ الْعَكِيَّ. وَحَجَّ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو مُسْلِمٍ، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَى الْمَوْسِمِ. وَفِيهَا مَاتَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. ذِكْرُ مَوْتِ السَّفَّاحِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ السَّفَّاحُ بِالْأَنْبَارِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقِيلَ: لِاثْنَتَيْ عَشْرَةً مَضَتْ مِنْهُ، بِالْجُدَرِيِّ، وَكَانَ لَهُ يَوْمَ مَاتَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: سِتٌّ وَثَلَاثُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ مِنْ لَدُنْ قَتْلِ مَرْوَانَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ أَرْبَعَ سِنِينَ. وَمِنْ لَدُنْ بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ إِلَى أَنْ مَاتَ أَرْبَعَ سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، مِنْهَا ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ يُقَاتِلُ مَرْوَانَ. وَكَانَ جَعْدًا، طَوِيلًا، أَبْيَضَ، أَقْنَى الْأَنْفِ، حَسَنَ الْوَجْهِ وَاللِّحْيَةِ. وَأُمُّهُ رَيْطَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُدَانِ الْحَارِثِيِّ، وَكَانَ وَزِيرُهُ أَبَا الْجَهْمِ بْنَ عَطِيَّةَ. وَصَلَّى عَلَيْهِ عَمُّهُ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ وَدَفَنَهُ بِالْأَنْبَارِ الْعَتِيقَةِ [فِي قَصْرِهِ] . وَخَلَّفَ تِسْعَ جُبَّابٍ، وَأَرْبَعَةَ أَقْمِصَةٍ، وَخَمْسَةَ سَرَاوِيلَاتٍ، وَأَرْبَعَةَ طَيَالِسَةٍ، وَثَلَاثَةَ مَطَارِفِ خَزٍّ.

قَالَ ابْنُ النَّقَاحِ بَيْتَيْنِ مِنَ الشِّعْرِ، وَوَجَّهَ بِرَجُلٍ إِلَى عَسْكَرِ مَرْوَانَ لِيَقْدَمَ عَلَى الْخَيْلِ لَيْلًا، فَصِيحَ فِيهِمَا وَشَمَسَ فِي النَّاسِ، وَلَا يُوجَدُ، وَهُمَا: يَا آلَ مَرْوَانَ إِنَّ اللَّهَ مُهْلِكُكُمْ وَمُبْدِلٌ بِكُمْ خَوْفًا وَتَشْرِيدًا لَا عَمَّرَ اللَّهُ مِنْ إِنْشَائِكُمْ أَحَدًا وَبَثَّكُمْ فِي بِلَادِ الْخَوْفِ تَطْرِيدًا قَالَ: فَعَلْتُ ذَلِكَ فَدَخَلَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَةٌ. قَالَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى: نَظَرَ السَّفَّاحُ يَوْمًا فِي الْمِرْآةِ، وَكَانَ أَجْمَلَ النَّاسِ وَجْهًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَقُولُ كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: أَنَا الْمَلِكُ الشَّابُّ، وَلَكِنِّي [أَقُولُ] : اللَّهُمَّ عَمِّرْنِي طَوِيلًا فِي طَاعَتِكَ مُمَتَّعًا بِالْعَافِيَةِ. فَمَا اسْتَتَمَّ كَلَامَهُ حَتَّى سَمِعَ غُلَامًا يَقُولُ لِغُلَامٍ آخَرَ: الْأَجَلُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ. فَتَطَيَّرَ مِنْ كَلَامِهِ وَقَالَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَبِكَ أَسْتَعِينُ. فَمَا مَضَتِ الْأَيَّامُ حَتَّى أَخَذَتْهُ الْحُمَّى، وَاتَّصَلَ مَرَضُهُ فَمَاتَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمَنْصُورِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَقَدَ السَّفَّاحُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ لِأَخِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالْخِلَافَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَجَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ بَعْدِ أَبِي جَعْفَرٍ وَلَدَ أَخِيهِ عِيسَى بْنَ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَجَعَلَ الْعَهْدَ فِي ثَوْبٍ، وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِهِ وَخَوَاتِيمِ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَدَفَعَهُ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى. فَلَمَّا تُوُفِّيَ السَّفَّاحُ كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ بِمَكَّةَ، فَأَخَذَ الْبَيْعَةَ لِأَبِي جَعْفَرٍ عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يُعْلِمُهُ وَفَاةَ السَّفَّاحِ وَالْبَيْعَةَ لَهُ، فَلَقِيَهُ الرَّسُولُ بِمَنْزِلِ صَفِيَّةَ فَقَالَ: صَفَتْ لَنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يَسْتَدْعِيهِ، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ قَدْ تَقَدَّمَ، فَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَيْهِ. فَلَمَّا جَلَسَ وَأَلْقَى إِلَيْهِ كِتَابَهُ قَرَأَهُ وَبَكَى وَاسْتَرْجَعَ وَنَظَرَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ، وَقَدْ جَزِعَ جَزَعًا شَدِيدًا، فَقَالَ: مَا هَذَا الْجَزَعُ وَقَدْ أَتَتْكَ الْخِلَافَةُ؟ قَالَ: أَتَخَوَّفُ شَرَّ عَمِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ وَشَغَبَهُ عَلَيَّ. قَالَ: لَا تَخَفْهُ فَأَنَا أَكْفِيكَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، إِنَّمَا عَامَّةُ جُنْدِهِ وَمَنْ مَعَهُ أَهْلُ

خُرَاسَانَ وَهُمْ لَا يَعْصُونَنِي. فَسُرِّيَ عَنْهُ. وَبَايَعَ أَبُو مُسْلِمٍ وَالنَّاسُ، وَأَقْبَلَا حَتَّى قَدِمَا الْكُوفَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ هُوَ الَّذِي كَانَ تَقَدَّمَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ، فَعَرَفَ الْخَبَرَ قَبْلَهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: عَافَاكَ اللَّهُ وَمَتَّعَ بِكَ، إِنَّهُ أَتَانِي أَمْرٌ أَفْظَعَنِي وَبَلَغَ مِنِّي مَبْلَغًا لَمْ يَبْلُغْهُ مِنِّي شَيْءٌ قَطُّ، وَفَاةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعَظِّمَ أَجْرَكَ وَيُحْسِنَ الْخِلَافَةَ عَلَيْكَ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أَحَدٌ أَشَدَّ تَعْظِيمًا لِحَقِّكَ وَأَصْفَى نَصِيحَةً [لَكَ] وَحِرْصًا عَلَى مَا يَسُرُّكَ مِنِّي. ثُمَّ مَكَثَ يَوْمَيْنِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ بِبَيْعَتِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَرْهِيبَ أَبِي جَعْفَرٍ. قَالَ: وَرَدَّ أَبُو جَعْفَرٍ زِيَادَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَ عَامِلًا عَلَيْهَا وَعَلَى الْمَدِينَةِ لِلسَّفَّاحِ، وَقِيلَ: كَانَ قَدْ عَزَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ عَنْ مَكَّةَ، وَوَلَّاهَا الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ الْعَبَّاسِ. وَلَمَّا بَايَعَ عِيسَى بْنُ مُوسَى النَّاسَ لِأَبِي جَعْفَرٍ أَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ بِالشَّامِ يُخْبِرُهُ بِوَفَاةِ السَّفَّاحِ، وَبَيْعَةِ الْمَنْصُورِ وَيَأْمُرُهُ بِأَخْذِ الْبَيْعَةِ لِلْمَنْصُورِ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى السَّفَّاحِ فَجَعَلَهُ عَلَى الصَّائِفَةِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ أَهْلَ الشَّامِ وَخُرَاسَانَ، فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ دُلُوكَ، وَلَمْ يُدْرِكْ، فَأَتَاهُ مَوْتُ السَّفَّاحِ، فَعَادَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ، وَقَدْ بَايَعَ لِنَفْسِهِ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِالْأَنْدَلُسِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ فِي الْأَنْدَلُسِ الْحُبَابُ بْنُ رَوَاحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الزُّهْرِيُّ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ مِنَ الْيَمَانِيَّةِ، فَسَارَ إِلَى الصُّمَيْلِ وَهُوَ أَمِيرُ قُرْطُبَةَ، فَحَصَرَهُ بِهَا وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَاسْتَمَدَّ الصُّمَيْلُ يُوسُفَ الْفِهْرِيَّ أَمِيرَ الْأَنْدَلُسِ، فَلَمْ يَفْعَلْ لِتَوَالِي الْغَلَاءِ وَالْجُوعِ عَلَى الْأَنْدَلُسِ، وَلِأَنَّ يُوسُفَ قَدْ كَرِهَ الصُّمَيْلَ، وَاخْتَارَ هَلَاكَهُ لِيَسْتَرِيحَ مِنْهُ. وَثَارَ بِهَا أَيْضًا عَامِرٌ الْعَبْدَرِيُّ وَجَمَعَ جَمْعًا، وَاجْتَمَعَ مَعَ الْحُبَابِ عَلَى الصُّمَيْلِ، وَقَامَا بِدَعْوَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ.

فَلَمَّا اشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَى الصُّمَيْلِ كَتَبَ إِلَى قَوْمِهِ يَسْتَمِدُّهُمْ، فَسَارَعُوا إِلَى نُصْرَتِهِ وَاجْتَمَعُوا وَسَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْحُبَابُ بِقُرْبِهِمْ سَارَ الصُّمَيْلُ عَنْ سَرَقُسْطَةَ وَفَارَقَهَا، فَعَادَ الْحُبَابُ إِلَيْهَا وَمَلَكَهَا، وَاسْتَعْمَلَ يُوسُفُ الْفِهْرِيُّ الصُّمَيْلَ عَلَى طُلَيْطُلَةَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ كَانَ عَلَى الْكُوفَةِ: عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَلَى الشَّامِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى مِصْرَ: صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ: سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ: زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيُّ، وَعَلَى مَكَّةَ: الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ رَبِيعَةُ الرَّأْيِ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ سُوَيْدٍ اللَّخْمِيُّ الْفَرَسِيُّ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْفَرَسِيُّ، بِالْفَاءِ، [نِسْبَةً إِلَى فَرَسٍ لَهُ] . وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ أَبُو زَيْدٍ الثَّقَفِيُّ. وَعُرْوَةُ بْنُ رُوَيْمٍ. (وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ، فَدَخَلَ الْكُوفَةَ، فَصَلَّى بِأَهْلِهَا الْجُمْعَةَ، وَخَطَبَهُمْ وَسَارَ إِلَى الْأَنْبَارِ، فَأَقَامَ بِهَا وَجَمَعَ إِلَيْهِ أَطْرَافَهُ، وَكَانَ عِيسَى بْنُ مُوسَى قَدْ أَحْرَزَ بُيُوتَ الْأَمْوَالِ وَالْخَزَائِنَ وَالدَّوَاوِينَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ، فَسَلَّمَ الْأَمَرَ إِلَيْهِ) .

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة] 137 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ خُرُوجِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ وَهَزِيمَتِهِ قَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى الصَّائِفَةِ فِي الْجُنُودِ، وَمَوْتَ السَّفَّاحِ، وَإِرْسَالَ عِيسَى بْنِ مُوسَى إِلَى عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ يُخْبِرُهُ بِمَوْتِهِ، وَيَأْمُرُهُ بِالْبَيْعَةِ لِأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ السَّفَّاحُ قَدْ أَمَرَ بِذَلِكَ قَبْلَ وَفَاتِهِ. فَلَمَّا قَدِمَ الرَّسُولُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بِذَلِكَ لَحِقَهُ بَدُلُوكَ، وَهِيَ بِأَفْوَاهِ الدُّرُوبِ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: الصَّلَاةَ جَامِعَةً! فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ بِوَفَاةِ السَّفَّاحِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ. وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ السَّفَّاحَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُوَجِّهَ الْجُنُودَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ دَعَا بَنِي أَبِيهِ فَأَرَادَهُمْ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَنِ انْتَدَبَ مِنْكُمْ فَسَارَ إِلَيْهِ فَهُوَ وَلِيُّ عَهْدِي، فَلَمْ يَنْتَدِبْ [لَهُ] غَيْرِي، وَعَلَى هَذَا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَتَلْتُ مَنْ قَتَلْتُ، وَشَهِدَ لَهُ أَبُو غَانِمٍ الطَّائِيُّ، وَخُفَافٌ الْمَرْوَرُوذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْقُوَّادِ، فَبَايَعُوهُ، وَفِيهِمْ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ، إِلَّا أَنَّ حُمَيْدًا فَارَقَهُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ثُمَّ سَارَ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى نَزَلَ حَرَّانَ، وَبِهَا مُقَاتِلٌ الْعَكِّيُّ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ أَبُو جَعْفَرٍ لَمَّا سَارَ إِلَى مَكَّةَ، فَتَحَصَّنَ مِنْهُ مُقَاتِلٌ، فَحَصَرَهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ قَدْ عَادَ مِنَ الْحَجِّ مَعَ الْمَنْصُورِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَقَالَ لِلْمَنْصُورِ: إِنْ شِئْتَ جَمَعْتُ ثِيَابِي فِي مِنْطَقَتِي وَخَدَمْتُكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَتَيْتُ خُرَاسَانَ فَأَمْدَدْتُكَ بِالْجُنُودِ، وَإِنْ شِئْتَ سِرْتُ إِلَى حَرْبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ. فَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ لِحَرْبِ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَارَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي الْجُنُودِ نَحْوَ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ، وَكَانَ قَدْ لَحِقَهُ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ فَسَارَ مَعَهُ، وَجَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ مَالِكَ بْنَ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيَّ.

فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ، وَهُوَ يُحَاصِرُ حَرَّانَ، إِقْبَالُ أَبِي مُسْلِمٍ خَشِيَ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهِ عَطَاءٌ الْعَتَكِيُّ أَمَامًا، فَنَزَلَ إِلَيْهِ فِيمَنْ مَعَهُ، وَأَقَامَ مَعَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ وَجَّهَهُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ سُرَاقَةَ الْأَزْدِيِّ بِالرَّقَّةِ، وَمَعَهُ ابْنَاهُ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا. فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُثْمَانَ دَفَعَ الْعَتَكِيُّ الْكِتَابَ إِلَيْهِ، فَقَتَلَ الْعَتَكِيَّ وَاحْتَبَسَ ابْنَيْهِ، فَلَمَّا هُزِمَ عَبْدُ اللَّهِ قَتَلَهُمَا. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ قَدْ خَشِيَ أَنْ لَا يُنَاصِحَهُ أَهْلُ خُرَاسَانَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَاسْتَعْمَلَ حُمَيْدَ بْنَ قَحْطَبَةَ عَلَى حَلَبَ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى زُفَرَ بْنِ عَاصِمٍ عَامِلِهَا يَأْمُرُهُ بِقَتْلِ حُمَيْدٍ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ، فَسَارَ حُمَيْدٌ وَالْكِتَابُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ: إِنَّ ذَهَابِي بِكِتَابٍ لَا أَعْلَمُ مَا فِيهِ لَغَرَرٌ. فَقَرَأَهُ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِيهِ أَعْلَمَ خَاصَّتَهُ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَقَالَ: مَنْ أَرَادَ الْمَسِيرَ مَعِي مِنْكُمْ فَلْيَسِرْ. فَاتَّبَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَسَارَ عَلَى الرُّصَافَةِ إِلَى الْعِرَاقِ. فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ مُحَمَّدَ بْنَ صُولٍ بِالْمَسِيرِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ لِيَمْكُرَ بِهِ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ يَقُولُ: الْخَلِيفَةُ بَعْدِي عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ: كَذَبْتَ، إِنَّمَا وَضَعَكَ أَبُو جَعْفَرٍ. فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَمُحَمَّدُ بْنُ صُولٍ هُوَ جَدُّ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَبَّاسِ الْكَاتِبِ الصُّولِيِّ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ حَتَّى نَزَلَ نَصِيبِينَ وَخَنْدَقَ عَلَيْهِ، وَقَدِمَ أَبُو مُسْلِمٍ فِيمَنْ مَعَهُ، وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ كَتَبَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ، وَكَانَ خَلِيفَتَهُ بِإِرْمِينِيَّةَ، يَأْمُرُهُ أَنْ يُوَافِيَ أَبَا مُسْلِمٍ، فَقَدِمَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِالْمَوْصِلِ، وَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ فَنَزَلَ نَاحِيَةَ نَصِيبِينَ فَأَخَذَ طَرِيقَ الشَّامِ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِعَبْدِ اللَّهِ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِقِتَالِكَ وَلَكِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّانِيَ الشَّامَ فَأَنَا أُرِيدُهَا. فَقَالَ مَنْ كَانَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ لِعَبْدِ اللَّهِ: كَيْفَ نُقِيمُ مَعَكَ وَهَذَا يَأْتِي بِلَادَنَا فَيَقْتُلُ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ رِجَالِنَا وَيَسْبِي ذَرَارِيَّنَا؟ وَلَكِنْ نَخْرُجُ إِلَى بِلَادِنَا فَنَمْنَعُهُ وَنُقَاتِلُهُ. فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا يُرِيدُ الشَّامَ وَمَا تَوَجَّهَ إِلَّا لِقِتَالِكُمْ، وَإِنْ أَقَمْتُمْ لَيَأْتِيَنَّكُمْ. فَأَبَوْا إِلَّا الْمَسِيرَ إِلَى الشَّامِ، وَأَبُو مُسْلِمٍ قَرِيبٌ مِنْهُمْ، فَارْتَحَلَ عَبْدُ اللَّهِ نَحْوَ الشَّامِ، وَتَحَوَّلَ أَبُو مُسْلِمٍ فَنَزَلَ فِي مُعَسْكَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ فِي مَوْضِعِهِ، وَعَوَّرَ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْمِيَاهِ، وَأَلْقَى فِيهَا الْجِيَفَ. وَبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ ذَلِكَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ؟ وَرَجَعَ فَنَزَلَ فِي مَوْضِعِ عَسْكَرِ

أَبِي مُسْلِمٍ الَّذِي كَانَ بِهِ، فَاقْتَتَلُوا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَأَهْلُ الشَّامِ أَكْثَرُ فُرْسَانًا وَأَكْمَلُ عُدَّةً، وَعَلَى مَيْمَنَةِ عَبْدِ اللَّهِ بَكَّارُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعُقَيْلِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ حَبِيبُ بْنُ سُوَيْدٍ الْأَسَدِيُّ، وَعَلَى الْخَيْلِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى مَيْمَنَةِ أَبِي مُسْلِمٍ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ خَازِمُ بْنُ خُزَيْمَةَ، فَاقْتَتَلُوا شَهْرًا. ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ حَمَلُوا عَلَى عَسْكَرِ أَبِي مُسْلِمٍ فَأَزَالُوهُمْ عَنْ مَوَاضِعِهِمْ وَرَجَعُوا، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ فِي خَيْلٍ مُجَرَّدَةٍ فَقَتَلَ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَرَجَعَ فِي أَصْحَابِهِ، ثُمَّ تَجَمَّعُوا وَحَمَلُوا ثَانِيَةً عَلَى أَصْحَابِ أَبِي مُسْلِمٍ، فَأَزَالُوا صَفَّهُمْ، وَجَالُوا جَوْلَةً. فَقِيلَ لِأَبِي مُسْلِمٍ: لَوْ حَوَّلْتَ دَابَّتَكَ إِلَى هَذَا التَّلِّ لِيَرَاكَ النَّاسُ فَيَرْجِعُوا فَإِنَّهُمْ قَدِ انْهَزَمُوا. فَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْحِجَى لَا يَعْطِفُونَ دَوَابَّهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: يَا أَهْلَ خُرَاسَانَ ارْجِعُوا فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِمَنِ اتَّقَى. فَتَرَاجَعَ النَّاسُ. وَارْتَجَزَ أَبُو مُسْلِمٍ يَوْمَئِذٍ فَقَالَ: مَنْ كَانَ يَنْوِي أَهْلَهُ فَلَا رَجَعْ ... فَرَّ مِنَ الْمَوْتِ وَفِي الْمَوْتِ وَقَعْ. وَكَانَ قَدْ عُمِلَ لِأَبِي مُسْلِمٍ عَرِيشٌ، فَكَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ إِذَا الْتَقَى النَّاسُ فَيَنْظُرُ إِلَى الْقِتَالِ، فَإِنْ رَأَى خَلَلًا فِي الْجَيْشِ سَدَّهُ وَأَمَرَ مُقَدَّمَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ بِالِاحْتِيَاطِ وَبِمَا يَفْعَلُ، فَلَا تَزَالُ رُسُلُهُ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَنْصَرِفَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ الْتَقَوْا فَاقْتَتَلُوا، فَمَكَرَ بِهِمْ أَبُو مُسْلِمٍ، وَأَمَرَ الْحَسَنَ بْنَ قَحْطَبَةَ أَنْ يُعَرِّيَ الْمَيْمَنَةَ، [وَيَضُمَّ] أَكْثَرَهَا إِلَى الْمَيْسَرَةِ وَلْيَتْرُكْ، فِي الْمَيْمَنَةِ جَمَاعَةَ أَصْحَابِهِ وَأَشِدَّاءَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الشَّامِ أَعْرَوْا مَيْسَرَتَهُمْ، وَانْضَمُّوا إِلَى مَيْمَنَتِهِمْ بِإِزَاءِ مَيْسَرَةِ أَبِي مُسْلِمٍ. وَأَمَرَ أَبُو مُسْلِمٍ أَهْلَ الْقَلْبِ أَنْ يَحْمِلُوا مَعَ مَنْ بَقِيَ فِي مَيْمَنَتِهِ عَلَى مَيْسَرَةِ أَهْلِ الشَّامِ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَحَطَّمُوهُمْ، وَجَالَ الْقَلْبُ وَالْمَيْمَنَةُ، وَرَكِبَهُمْ أَصْحَابُ أَبِي مُسْلِمٍ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ لِابْنِ سُرَاقَةَ الْأَزْدِيِّ: يَا ابْنَ سُرَاقَةَ مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ تَصْبِرَ وَتُقَاتِلَ حَتَّى تَمُوتَ، فَإِنَّ الْفِرَارَ قَبِيحٌ بِمِثْلِكَ، وَقَدْ عِبْتَهُ عَلَى مَرْوَانَ. قَالَ: فَإِنِّي

آتِي الْعِرَاقَ. قَالَ: فَأَنَا مَعَكَ. فَانْهَزَمُوا وَتَرَكُوا عَسْكَرَهُمْ، فَحَوَاهُ أَبُو مُسْلِمٍ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَأَرْسَلَ أَبَا الْخَصِيبِ مَوْلَاهُ يُحْصِي مَا أَصَابُوا مِنَ الْعَسْكَرِ، فَغَضِبَ أَبُو مُسْلِمٍ. وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الصَّمَدِ ابْنَا عَلِيٍّ، فَأَمَّا عَبْدُ الصَّمَدِ فَقَدِمَ الْكُوفَةَ فَاسْتَأْمَنَ لَهُ عِيسَى بْنُ مُوسَى فَآمَنَهُ الْمَنْصُورُ، وَقِيلَ: بَلْ أَقَامَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ بِالرُّصَافَةِ حَتَّى قَدِمَهُ جُمْهُورُ بْنُ مِرَّارٍ الْعِجْلِيُّ فِي خُيُولٍ أَرْسَلَهَا الْمَنْصُورُ، فَأَخَذَهُ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْمَنْصُورِ مُوَثَّقًا مَعَ أَبِي الْخَصِيبِ فَأَطْلَقَهُ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ فَأَتَى أَخَاهُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَلِيٍّ بِالْبَصْرَةِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ زَمَانًا مُتَوَارِيًا. ثُمَّ إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ آمَنَ النَّاسَ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ، وَأَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ. ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، قَتَلَهُ الْمَنْصُورُ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ كَتَبَ إِلَى السَّفَّاحِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْحَجِّ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَكَتَبَ السَّفَّاحُ إِلَى الْمَنْصُورِ وَهُوَ عَلَى الْجَزِيرَةِ وَإِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ كَتَبَ إِلَيَّ يَسْتَأْذِنُنِي فِي الْحَجِّ، وَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَنِي أَنْ أُوَلِّيَهُ الْمَوْسِمَ، فَاكْتُبْ إِلَيَّ تَسْتَأْذِنُنِي فِي الْحَجِّ فَآذَنُ لَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ بِمَكَّةَ لَمْ يَطْمَعْ أَنْ يَتَقَدَّمَكَ. فَكَتَبَ الْمَنْصُورُ إِلَى أَخِيهِ السَّفَّاحِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْحَجِّ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَدِمَ الْأَنْبَارَ، فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: أَمَا وَجَدَ أَبُو جَعْفَرٍ عَامًا يَحُجُّ فِيهِ غَيْرَ هَذَا؟ وَحَقَدَهَا عَلَيْهِ، وَحَجَّا مَعًا، فَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ يَكْسُو الْأَعْرَابَ، وَيُصْلِحُ الْآبَارَ وَالطَّرِيقَ، وَكَانَ الذِّكْرُ لَهُ، وَكَانَ الْأَعْرَابُ يَقُولُونَ: هَذَا الْمَكْذُوبُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ وَرَأَى أَهْلَ الْيَمَنِ قَالَ: أَيُّ جُنْدٍ هَؤُلَاءِ لَوْ لَقِيَهُمْ رَجُلٌ ظَرِيفُ اللِّسَانِ غَزِيرُ الدَّمْعَةِ! . فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ عَنِ الْمَوْسِمِ تَقَدَّمَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي الطَّرِيقِ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ، فَأَتَاهُ خَبَرُ وَفَاةِ السَّفَّاحِ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ يُعَزِّيهِ عَنْ أَخِيهِ، وَلَمْ يُهَنِّئْهُ بِالْخِلَافَةِ، وَلَمْ يَقُمْ حَتَّى يَلْحَقَهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ. فَغَضِبَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا غَلِيظًا، فَلَمَّا أَتَاهُ الْكِتَابُ كَتَبَ إِلَيْهِ يُهَنِّئُهُ بِالْخِلَافَةِ. وَتَقَدَّمَ أَبُو مُسْلِمٍ، فَأَتَى الْأَنْبَارَ، فَدَعَا عِيسَى بْنَ مُوسَى إِلَى أَنْ يُبَايِعَ لَهُ، فَأَتَى عِيسَى، وَقَدِمَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ. فَسَيَّرَ الْمَنْصُورُ أَبَا مُسْلِمٍ إِلَى قِتَالِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ مَكَانًا، مَعَ الْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ، فَأَرْسَلَ الْحَسَنُ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ وَزِيرِ الْمَنْصُورِ:

إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ بِأَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ يَأْتِيهِ كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَقْرَؤُهُ، ثُمَّ يُلْقِي الْكِتَابَ مِنْ يَدِهِ إِلَى مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ، فَيَقْرَؤُهُ وَيَضْحَكَانِ اسْتِهْزَاءً، فَلَمَّا أُلْقِيَتِ الرِّسَالَةُ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ ضَحِكَ وَقَالَ: نَحْنُ لِأَبِي مُسْلِمٍ أَشَدُّ تُهْمَةً مِنَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، إِلَّا أَنَّا نَرْجُو وَاحِدَةً، نَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ لَا يُحِبُّونَ عَبْدَ اللَّهِ، وَقَدْ قَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ. وَكَانَ قَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا. فَلَمَّا انْهَزَمَ عَبْدُ اللَّهِ، وَجَمَعَ أَبُو مُسْلِمٍ مَا غَنِمَ مِنْ عَسْكَرِهِ بَعَثَ أَبُو جَعْفَرٍ أَبَا الْخَصِيبِ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ لِيَكْتُبَ لَهُ مَا أَصَابَ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَأَرَادَ أَبُو جَعْفَرٍ قَتْلَهُ، فَتَكَلَّمَ فِيهِ فَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَقَالَ: أَنَا أَمِينٌ عَلَى الدِّمَاءِ، خَائِنٌ فِي الْأَمْوَالِ. وَشَتَمَ الْمَنْصُورَ. فَرَجَعَ أَبُو الْخَصِيبِ إِلَى الْمَنْصُورِ فَأَخْبَرَهُ، فَخَافَ أَنْ يَمْضِيَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى خُرَاسَانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ مِصْرَ وَالشَّامَ فَهِيَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ خُرَاسَانَ، فَوَجِّهْ إِلَى مِصْرَ مَنْ أَحْبَبْتَ، وَأَقِمْ بِالشَّامِ فَتَكُونَ بِقُرْبِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ أَحَبَّ لِقَاءَكَ أَتَيْتَهُ مِنْ قَرِيبٍ. فَلَمَّا أَتَاهُ الْكِتَابُ غَضِبَ وَقَالَ: يُوَلِّينِي الشَّامَ وَمِصْرَ، وَخُرَاسَانُ لِي! فَكَتَبَ الرَّسُولُ إِلَى الْمَنْصُورِ بِذَلِكَ. وَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنَ الْجَزِيرَةِ مُجْمِعًا عَلَى الْخِلَافِ، وَخَرَجَ عَنْ وَجْهِهِ يُرِيدُ خُرَاسَانَ. فَسَارَ الْمَنْصُورُ مِنَ الْأَنْبَارِ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ فِي الْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ بِالزَّابِ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَكْرَمَهُ اللَّهُ، عَدُوٌّ إِلَّا أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَقَدْ كُنَّا نَرْوِي عَنْ مُلُوكِ آلِ سَاسَانَ أَنَّ أَخْوَفَ مَا يَكُونُ الْوُزَرَاءُ إِذَا سَكَنَتِ الدَّهْمَاءُ، فَنَحْنُ نَافِرُونَ عَنْ قُرْبِكَ، حَرِيصُونَ عَلَى الْوَفَاءِ لَكَ مَا وَفَّيْتَ، حَرِيُّونَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ غَيْرَ أَنَّهَا مِنْ بَعِيدٍ حَيْثُ يُقَارِنُهَا السَّلَامَةُ، فَإِنْ أَرْضَاكَ ذَلِكَ فَإِنَّا كَأَحْسَنِ عَبِيدِكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُعْطِيَ نَفْسَكَ إِرَادَتَهَا نَقَضْتُ مَا أَبْرَمْتُ مِنْ عَهْدِكَ ضَنًّا بِنَفْسِي. فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى الْمَنْصُورِ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ: قَدْ فَهِمْتُ كِتَابَكُ، وَلَيْسَتْ صِفَتُكَ صِفَةَ أُولَئِكَ الْوُزَرَاءِ الْغَشَشَةِ مُلُوكَهُمْ الَّذِينَ يَتَمَنَّوْنَ اضْطِرَابَ حَبْلِ الدَّوْلَةِ لِكَثْرَةِ جَرَائِمِهِمْ، فَإِنَّمَا رَاحَتُهُمْ فِي انْتِشَارِ نِظَامِ الْجَمَاعَةِ، فَلِمَ سَوَّيْتَ نَفْسَكَ بِهِمْ؟ فَأَنْتَ فِي طَاعَتِكَ وَمُنَاصَحَتِكَ وَاضْطِلَاعِكَ بِمَا حَمَلْتَ مِنْ أَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى مَا أَنْتَ بِهِ، وَلَيْسَ مَعَ الشَّرِيطَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ مِنْكَ سَمْعًا وَلَا طَاعَةً، وَحَمَّلَ إِلَيْكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عِيسَى بْنَ مُوسَى رِسَالَةً لِتَسْكُنَ إِلَيْهَا إِنْ أَصْغَيْتَ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَنَزَغَاتِهِ وَبَيْنَكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجِدْ بَابًا يُفْسِدُ بِهِ نِيَّتَكَ أَوْكَدَ عِنْدَهُ وَأَقْرَبَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي فَتَحَهُ عَلَيْكَ.

وَقِيلَ: بَلْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي اتَّخَذْتُ رَجُلًا إِمَامًا وَدَلِيلًا عَلَى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَكَانَ فِي مَحِلَّةِ الْعِلْمِ نَازِلًا، وَفِي قَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرِيبًا، فَاسْتَجْهَلَنِي بِالْقُرْآنِ، فَحَرَّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ طَمَعًا فِي قَلِيلٍ قَدْ نَعَاهُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ، فَكَانَ كَالَّذِي دَلَّى بِغُرُورٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُجَرِّدَ السَّيْفَ، وَأَرْفَعَ الرَّحْمَةَ، وَلَا أَقْبَلَ الْمَعْذِرَةَ، وَلَا أُقِيلَ الْعَثْرَةَ، فَفَعَلْتُ تَوْطِيدًا لِسُلْطَانِكُمْ حَتَّى عَرَّفَكُمُ اللَّهُ مَنْ كَانَ جَهِلَكُمْ، ثُمَّ اسْتَنْقَذَنِيَ اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ يَعْفُ عَنِّي فَقِدْمًا عُرِفَ بِهِ وَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَإِنْ يُعَاقِبْنِي فَبِمَا قَدَّمَتْ يَدَايَ، وَمَا اللَّهُ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. وَخَرَجَ أَبُو مُسْلِمٍ مُرَاغَمًا مُشَاقًّا، وَسَارَ الْمَنْصُورُ مِنَ الْأَنْبَارِ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَأَخَذَ أَبُو مُسْلِمٍ طَرِيقَ حُلْوَانَ، فَقَالَ الْمَنْصُورُ لِعَمِّهِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ: اكْتُبُوا إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ. فَكَتَبُوا إِلَيْهِ يُعَظِّمُونَ أَمْرَهُ وَيَشْكُرُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ أَنْ يُتِمَّ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَعَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَيُحَذِّرُونَهُ عَاقِبَةَ الْبَغْيِ، وَيَأْمُرُونَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَنْصُورِ. وَبَعَثَ الْمَنْصُورُ الْكِتَابَ مَعَ أَبِي حُمَيْدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ وَقَالَ لَهُ: كَلِّمْ أَبَا مُسْلِمٍ بِأَلْيَنِ مَا تُكَلِّمُ بِهِ أَحَدًا، مَنِّهِ، وَأَعْلِمْهُ أَنِّي رَافِعُهُ، وَصَانِعٌ بِهِ مَا لَمْ يَصْنَعْهُ بِهِ أَحَدٌ إِنْ هُوَ صَلُحَ وَرَاجَعَ مَا أُحِبُّ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَرْجِعَ فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: لَسْتُ مِنَ الْعَبَّاسِ وَإِنِّي بَرِيءٌ مِنْ مُحَمَّدٍ، إِنْ مَضَيْتَ مُشَاقًّا وَلَمْ تَأْتِنِي إِنْ وَكَّلْتَ أَمْرَكَ إِلَى أَحَدٍ سِوَايَ، وَإِنْ لَمْ أَلِ طَلَبَكَ وَقِتَالَكَ بِنَفْسِي، وَلَوْ خُضْتَ الْبَحْرَ لَخُضْتُهُ، وَلَوِ اقْتَحَمْتَ النَّارَ لَاقْتَحَمْتُهَا حَتَّى أَقْتُلَكَ أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا تَقُولَنَّ [لَهُ] هَذَا الْكَلَامَ حَتَّى تَيْأَسَ مِنْ رُجُوعِهِ، وَلَا تَطْمَعَ مِنْهُ فِي خَيْرٍ. فَسَارَ أَبُو حُمَيْدٍ فَقَدِمَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِحُلْوَانَ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ يُبَلِّغُونَكَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَخِلَافَ مَا عَلَيْهِ رَأْيُهُ مِنْكَ حَسَدًا وَبَغْيًا، يُرِيدُونَ إِزَالَةَ النِّعْمَةِ وَتَغْيِيرَهَا، فَلَا تُفْسِدْ مَا كَانَ مِنْكَ. وَكَلَّمَهُ وَقَالَ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ إِنَّكَ لَمْ تَزَلْ أَمِيرَ آلِ مُحَمَّدٍ يَعْرِفُكَ بِذَلِكَ النَّاسُ، وَمَا ذَخَرَ اللَّهُ لَكَ مِنَ الْأَجْرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنْ دُنْيَاكَ، فَلَا تُحْبِطْ أَجْرَكَ، وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ لَهُ أَبُو مُسْلِمٍ: مَتَى كُنْتَ تُكَلِّمُنِي بِهَذَا الْكَلَامِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ دَعَوْتَنَا إِلَى هَذَا الْأَمْرِ، وَإِلَى طَاعَةِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنِي الْعَبَّاسِ، وَأَمَرْتَنَا بِقِتَالِ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ، فَدَعَوْتَنَا مِنْ أَرَضِينَ مُتَفَرِّقَةٍ وَأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَجَمَعَنَا اللَّهُ عَلَى طَاعَتِهِمْ، وَأَلَّفَ مَا بَيْنَ قُلُوبِنَا

[بِمَحَبَّتِهِمْ] ، وَأَعَزَّنَا بِنَصْرِنَا لَهُمْ، وَلَمْ نَلْقَ مِنْهُمْ رَجُلًا إِلَّا بِمَا قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِنَا، حَتَّى أَتَيْنَاهُمْ فِي بِلَادِهِمْ بِبَصَائِرَ نَافِذَةٍ، وَطَاعَةٍ خَالِصَةٍ، أَفَتُرِيدُ حِينَ بَلَغْنَا غَايَةَ مُنَانَا، وَمُنْتَهَى أَمَلِنَا أَنْ تُفْسِدَ أَمْرَنَا، وَتُفَرِّقَ كَلِمَتَنَا؟ ! وَقَدْ قَلْتَ لَنَا مَنْ خَالَفَكُمْ فَاقْتُلُوهُ، وَإِنْ خَالَفْتُكُمْ فَاقْتُلُونِي! . فَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى أَبِي نَصْرٍ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ، فَقَالَ: أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ لِي هَذَا؟ مَا كَانَ بِكَلَامِهِ يَا مَالِكُ! قَالَ: لَا تَسْمَعْ قَوْلَهُ، وَلَا يَهُولَنَّكَ هَذَا مِنْهُ، فَلَعَمْرِي مَا هَذَا كَلَامَهُ، وَلَمَا بَعْدَ هَذَا أَشَدُّ مِنْهُ، فَامْضِ لِأَمْرِكَ وَلَا تَرْجِعْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ أَتَيْتَهُ لَيَقْتُلَنَّكَ، وَلَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْكَ شَيْءٌ لَا يَأْمَنُكَ أَبَدًا. فَقَالَ: قُومُوا، فَنَهَضُوا، فَأَرْسَلَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى نَيْزَكٍ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْكُتُبَ وَمَا قَالُوا، فَقَالَ: مَا أَرَى أَنْ تَأْتِيَهُ، وَأَرَى أَنْ تَأْتِيَ الرَّيَّ فَتُقِيمَ بِهَا، [فَيَصِيرَ] مَا بَيْنَ خُرَاسَانَ وَالرَّيِّ لَكَ، وَهُمْ جُنْدُكَ لَا يُخَالِفُكَ أَحَدٌ، فَإِنِ اسْتَقَامَ لَكَ اسْتَقَمْتَ لَهُ، وَإِنْ أَبَى كُنْتَ فِي جُنْدِكَ وَكَانَتْ خُرَاسَانُ وَرَاءَكَ، وَرَأَيْتَ رَأْيَكَ. فَدَعَا أَبَا حُمَيْدٍ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى صَاحِبِكَ، فَلَيْسَ مِنْ رَأْيِي أَنْ آتِيَهُ. قَالَ: قَدْ عَزَمْتَ عَلَى خِلَافِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَا تَفْعَلْ! قَالَ: لَا أَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا. فَلَمَّا يَئِسَ مِنْ رُجُوعِهِ مَعَهُ قَالَ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَبُو جَعْفَرٍ، فَوَجَمَ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: قُمْ. فَكَسَّرَهُ ذَلِكَ الْقَوْلُ وَرَعَّبَهُ. وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ قَدْ كَتَبَ إِلَى أَبِي دَاوُدَ خَلِيفَةِ أَبِي مُسْلِمٍ بِخُرَاسَانَ حِينَ اتَّهَمَ أَبَا مُسْلِمٍ: إِنَّ لَكَ إِمْرَةَ خُرَاسَانَ مَا بَقِيتَ. فَكَتَبَ أَبُو دَاوُدَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ: إِنَّا لَمْ نَخْرُجْ لِمَعْصِيَةِ خُلَفَاءِ اللَّهِ وَأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا تُخَالِفَنَّ إِمَامَكَ، وَلَا تَرْجِعَنَّ إِلَّا بِإِذْنِهِ. فَوَافَاهُ كِتَابُهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَزَادَهُ رُعْبًا وَهَمًّا، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي حُمَيْدٍ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي كُنْتُ عَازِمًا عَلَى الْمُضِيِّ إِلَى خُرَاسَانَ ثُمَّ رَأَيْتُ أَنْ أُوَجِّهَ أَبَا إِسْحَاقَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَأْتِيَنِي بِرَأْيِهِ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ أَثِقُ بِهِ. فَوَجَّهَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ تَلَقَّاهُ بَنُو هَاشِمٍ بِكُلِّ مَا يُحِبُّ، وَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: اصْرِفْهُ عَنْ وَجْهِهِ وَلَكَ وِلَايَةُ خُرَاسَانَ، وَأَجَازَهُ. فَرَجَعَ أَبُو إِسْحَاقَ وَقَالَ لِأَبِي مُسْلِمٍ: مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا، رَأَيْتُهُمْ مُعَظِّمِينَ لِحَقِّكَ يَرَوْنَ لَكَ مَا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ. وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَعْتَذِرَ إِلَيْهِ مِمَّا كَانَ مِنْهُ، فَأَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ نَيْزَكٌ: قَدْ أَجْمَعْتَ عَلَى الرُّجُوعِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَتَمَثَّلَ:

مَا لِلرِّجَالِ مَعَ الْقَضَاءِ مَحَالَةٌ ... ذَهَبَ الْقَضَاءُ بِحِيلَةِ الْأَقْوَامِ قَالَ: إِذَا عَزَمْتَ عَلَى هَذَا فَخَارَ اللَّهُ لَكَ. احْفَظْ عَنِّي وَاحِدَةً، إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِ فَاقْتُلْهُ ثُمَّ بَايِعْ مَنْ شِئْتَ، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُخَالِفُونَكَ. وَكَتَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى الْمَنْصُورِ يُخْبِرُهُ أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إِلَيْهِ، فَسَارَ نَحْوَهُ، وَاسْتَخْلَفَ أَبَا نَصْرٍ عَلَى عَسْكَرِهِ، وَقَالَ لَهُ: أَقِمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ كِتَابِي، فَإِنْ أَتَاكَ مَخْتُومًا بِنِصْفِ خَاتَمٍ فَأَنَا كَتَبْتُهُ، وَإِنْ أَتَاكَ بِالْخَاتَمِ كُلِّهِ فَلَمْ أَخْتِمْهُ. وَقَدِمَ الْمَدَائِنَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَخَلَّفَ النَّاسَ بِحُلْوَانَ. وَلَمَّا وَرَدَ كِتَابُ أَبِي مُسْلِمٍ عَلَى الْمَنْصُورِ قَرَأَهُ وَأَلْقَاهُ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ وَزِيرِهِ، فَقَرَأَهُ وَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: وَاللَّهِ لَئِنْ مَلَأْتُ عَيْنِي مِنْهُ لَأَقْتُلَنَّهُ. فَخَافَ أَبُو أَيُّوبَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي مُسْلِمٍ أَنْ يَقْتُلُوا الْمَنْصُورَ وَيَقْتُلُوهُ مَعَهُ، فَدَعَا سَلَمَةَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ جَابِرٍ، وَقَالَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكَ شُكْرٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إِنْ وَلَّيْتُكَ وِلَايَةً تُصِيبُ مِنْهَا مِثْلَ مَا يُصِيبُ صَاحِبُ الْعِرَاقِ، تُدْخِلْ مَعَكَ أَخِي حَاتِمًا - وَأَرَادَ بِإِدْخَالِ أَخِيهِ مَعَهُ أَنْ يَطْمَعَ وَلَا يُنْكِرَ - وَتَجْعَلْ لَهُ النِّصْفَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ لَهُ: إِنَّ كَسْكَرَ كَالَتْ عَامَ أَوَّلَ كَذَا وَكَذَا، وَمِنْهَا الْعَامَ أَضْعَافُ ذَلِكَ، فَإِنْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ بِمَا كَالَتْ أَوْ بِالْأَمَانَةِ أَصَبْتَ مَا تَضِيقُ بِهِ ذَرْعًا. قَالَ: كَيْفَ لِي بِهَذَا الْمَالِ؟ قَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ: تَأْتِي أَبَا مُسْلِمٍ فَتَلْقَاهُ وَتُكَلِّمُهُ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا فِيمَا يُرْفَعُ مِنْ حَوَائِجِهِ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ أَنْ يُوَلِّيَهُ إِذَا قَدِمَ مَا وَرَاءَ بَابِهِ وَيُرِيحَ نَفْسَهُ، قَالَ: فَكَيْفَ لِي أَنْ يَأْذَنَ لِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي لِقَائِهِ؟ فَاسْتَأْذَنَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ فِي ذَلِكَ، فَأَذِنَ لَهُ الْمَنْصُورُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُبْلِغَ سَلَامَهُ وَشَوْقَهُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَلَقِيَهُ سَلَمَةُ بِالطَّرِيقِ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ كَئِيبًا حَزِينًا، وَلَمْ يَزَلْ مَسْرُورًا حَتَّى قَدِمَ. فَلَمَّا دَنَا أَبُو مُسْلِمٍ مِنَ الْمَنْصُورِ أَمَرَ النَّاسَ بِتَلَقِّيهِ، فَتَلَقَّاهُ بَنُو هَاشِمٍ وَالنَّاسُ، ثُمَّ قَدِمَ فَدَخَلَ عَلَى الْمَنْصُورِ فَقَبَّلَ يَدَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ وَيُرَوِّحَ نَفْسَهُ لِثَلَاثَةٍ وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ، فَانْصَرَفَ.

فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَعَا الْمَنْصُورُ عُثْمَانَ بْنَ نَهِيكٍ وَأَرْبَعَةً مِنَ الْحَرَسِ، مِنْهُمْ: شَبِيبُ بْنُ وَاجٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ حَرْبُ بْنُ قَيْسٍ، فَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ إِذَا صَفَّقَ بِيَدَيْهِ، وَتَرَكَهُمْ خَلْفَ الرِّوَاقِ. وَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يَسْتَدْعِيهِ، وَكَانَ عِنْدَهُ عِيسَى بْنُ مُوسَى يَتَغَدَّى، فَدَخَلَ عَلَى الْمَنْصُورِ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: أَخْبِرْنِي عَنْ نَصْلَيْنِ أَصَبْتَهُمَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ. قَالَ: هَذَا أَحَدُهُمَا. قَالَ: أَرِنِيهِ. فَانْتَضَاهُ وَنَاوَلَهُ إِيَّاهُ، فَوَضَعَهُ الْمَنْصُورُ تَحْتَ فِرَاشِهِ. وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ يُعَاتِبُهُ وَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ كِتَابِكَ إِلَى السَّفَّاحِ تَنْهَاهُ عَنِ الْمَوَاتِ، أَرَدْتَ أَنْ تُعَلِّمَنَا الدِّينَ؟ قَالَ: ظَنَنْتُ أَخْذَهُ لَا يَحِلُّ، فَلَمَّا أَتَانِي كِتَابُهُ عَلِمْتُ أَنَّهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ مَعْدِنُ الْعِلْمِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ تَقَدُّمِكَ إِيَّايَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ. قَالَ: كَرِهْتُ اجْتِمَاعَنَا عَلَى الْمَاءِ فَيَضُرَّ ذَلِكَ بِالنَّاسِ فَتَقَدَّمْتُكَ لِلرِّفْقِ. قَالَ: فَقَوْلُكَ لِمَنْ أَشَارَ عَلَيْكَ بِالِانْصِرَافِ إِلَيَّ بِطَرِيقِ مَكَّةَ حِينَ أَتَاكَ مَوْتُ أَبِي الْعَبَّاسِ إِلَى أَنْ تَقْدَمَ فَنَرَى رَأْيَنَا، وَمَضَيْتَ فَلَا أَنْتَ أَقَمْتَ حَتَّى أَلْحَقَكَ وَلَا أَنْتَ رَجَعْتَ إِلَيَّ! قَالَ: مَنَعَنِي مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْبَرْتُكَ مِنْ طَلَبِ الرِّفْقِ بِالنَّاسِ، وَقُلْتُ: تَقْدَمُ الْكُوفَةَ وَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ خِلَافٍ. قَالَ: فَجَارِيَةُ عَبْدِ اللَّهِ أَرَدْتَ أَنْ تَتَّخِذَهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي خِفْتُ أَنْ تَضِيعَ فَحَمَلْتُهَا فِي قُبَّةٍ وَوَكَّلْتُ بِهَا مَنْ يَحْفَظُهَا. قَالَ: فَمُرَاغَمَتُكَ وَخُرُوجُكَ إِلَى خُرَاسَانَ؟ قَالَ: خِفْتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَكَ مِنِّي شَيْءٌ فَقُلْتُ آتِي خُرَاسَانَ، فَأَكْتُبُ إِلَيْكَ بِعُذْرِي، فَأُذْهِبُ مَا فِي نَفْسِكَ. قَالَ: فَالْمَالُ الَّذِي جَمَعْتَهُ بِخُرَاسَانَ؟ قَالَ: أَنْفَقْتُهُ بِالْجُنْدِ تَقْوِيَةً لَهُمْ وَاسْتِصْلَاحًا. قَالَ: أَلَسْتَ الْكَاتِبَ إِلَيَّ تَبْدَأُ بِنَفْسِكَ، وَتَخْطُبُ عَمَّتِي آمِنَةَ ابْنَةَ عَلِيٍّ، وَتَزْعُمُ أَنَّكَ ابْنُ سَلِيطِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ؟ لَقَدِ ارْتَقَيْتَ، لَا أُمَّ لَكَ، مُرْتَقًى صَعْبًا. ثُمَّ قَالَ: وَمَا الَّذِي دَعَاكَ إِلَى قَتْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ مَعَ أَثَرِهِ فِي دَعْوَتِنَا، وَهُوَ أَحَدُ نُقَبَائِنَا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ: أَرَادَ الْخِلَافَ وَعَصَانِي فَقَتَلْتُهُ. فَلَمَّا طَالَ عِتَابُ الْمَنْصُورِ قَالَ: لَا يُقَالُ هَذَا لِي بَعْدَ بَلَائِي وَمَا كَانَ مِنِّي. قَالَ: يَابْنَ الْخَبِيثَةِ! وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ أَمَةٌ مَكَانَكَ لَأَجْزَأَتْ، إِنَّمَا عَمِلْتَ فِي دَوْلَتِنَا وَبِرِيحِنَا، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ إِلَيْكَ مَا قَطَعْتَ فَتِيلًا.

فَأَخَذَ أَبُو مُسْلِمٍ بِيَدِهِ يُقَبِّلُهَا وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ! وَاللَّهِ مَا زِدْتَنِي إِلَّا غَضَبًا! قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: دَعْ هَذَا فَقَدَ أَصْبَحْتُ مَا أَخَافُ [إِلَّا] اللَّهَ تَعَالَى. فَغَضِبَ الْمَنْصُورُ وَشَتَمَهُ، وَصَفَّقَ بِيَدِهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْحَرَسُ، فَضَرَبَهُ عُثْمَانُ بْنُ نَهِيكٍ فَقَطَعَ حَمَائِلَ سَيْفِهِ، فَقَالَ: اسْتَبْقِنِي لِعَدُوِّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ: لَا أَبْقَانِيَ اللَّهُ إِذًا، أَعَدُوٌّ أَعْدَى لِي مِنْكَ؟ ! وَأَخَذَهُ الْحَرَسُ بِسُيُوفِهِمْ حَتَّى قَتَلُوهُ وَهُوَ يَصِيحُ الْعَفْوَ، فَقَالَ الْمَنْصُورُ: يَابْنَ اللَّخْنَاءِ الْعَفْوُ وَالسُّيُوفُ قَدِ اعْتَوَرَتْكَ! فَقَتَلُوهُ فِي شَعْبَانَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْهُ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: زَعَمْتَ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُقْتَضَى ... فَاسْتَوْفِ بِالْكَيْلِ أَبَا مُجْرِمِ سُقِيتَ كَأْسًا كُنْتَ تَسْقِي ... بِهَا أَمَرَّ فِي الْحَلْقِ مِنَ الْعَلْقَمِ وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ قَدْ قَتَلَ فِي دَوْلَتِهِ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ صَبْرًا. فَلَمَّا قُتِلَ أَبُو مُسْلِمٍ دَخَلَ أَبُو الْجَهْمِ عَلَى الْمَنْصُورِ فَرَأَى أَبَا مُسْلِمٍ قَتِيلًا، فَقَالَ: أَلَا أَرُدُّ النَّاسَ؟ قَالَ: بَلَى، فَمُرْ بِمَتَاعٍ يُحْمَلُ إِلَى رِوَاقٍ آخَرَ. وَخَرَجَ أَبُو الْجَهْمِ، فَقَالَ: انْصَرِفُوا فَإِنَّ الْأَمِيرَ يُرِيدُ الْقَائِلَةَ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَرَأَوُا الْمَتَاعَ يُنْقَلُ فَظَنُّوهُ صَادِقًا فَانْصَرَفُوا، وَأَمَرَ لَهُمُ الْمَنْصُورُ بِالْجَوَائِزِ، فَأَعْطَى أَبَا إِسْحَاقَ مِائَةَ أَلْفٍ. وَدَخَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى عَلَى الْمَنْصُورِ بَعْدَ قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْنَ أَبُو مُسْلِمٍ؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ هَاهُنَا [آنِفًا] . فَقَالَ عِيسَى: قَدْ عَرَفْتَ نَصِيحَتَهُ وَطَاعَتَهُ وَرَأْيَ الْإِمَامِ إِبْرَاهِيمَ كَانَ فِيهِ. فَقَالَ: يَا أَحْمَقُ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ عَدُوًّا أَعْدَى لَكَ مِنْهُ! هَا هُوَ ذَا فِي الْبِسَاطِ. فَقَالَ عِيسَى: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَكَانَ لِعِيسَى فِيهِ رَأْيٌ.

فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: خَلَعَ اللَّهُ قَلْبَكَ! وَهَلْ كَانَ لَكُمْ مُلْكٌ أَوْ سُلْطَانٌ أَوْ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ مَعَ أَبِي مُسْلِمٍ؟ ثُمَّ دَعَا الْمَنْصُورُ بِجَعْفَرِ بْنِ حَنْظَلَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي أَمْرِ أَبِي مُسْلِمٍ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كُنْتَ أَخَذْتَ مِنْ رَأْسِهِ شَعْرَةً فَاقْتُلْ ثُمَّ اقْتُلْ. فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: وَفَّقَكَ اللَّهُ! فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ مَقْتُولًا قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عُدَّ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ لِخِلَافَتِكَ. ثُمَّ دَعَا الْمَنْصُورُ بِأَبِي إِسْحَاقَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: أَنْتَ الْمُتَابِعُ عَدُوَّ اللَّهِ عَلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ! وَقَدْ كَانَ بَلَغَهُ أَنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ بِإِتْيَانِ خُرَاسَانَ، قَالَ: فَكَفَّ أَبُو إِسْحَاقَ وَجَعَلَ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا خَوْفًا مِنْ أَبِي مُسْلِمٍ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: تَكَلَّمْ بِمَا أَرَدْتَ فَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ الْفَاسِقَ، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ. فَلَمَّا رَآهُ أَبُو إِسْحَاقَ خَرَّ سَاجِدًا لِلَّهِ فَأَطَالَ، وَرَفَعَ رَأَسَهُ وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي آمَنَنِي بِكَ الْيَوْمَ! وَاللَّهِ مَا أَمِنْتُهُ يَوْمًا [وَاحِدًا] ، وَمَا خِفْتُهُ يَوْمًا وَاحِدًا، وَمَا جِئْتُهُ يَوْمًا قَطُّ إِلَّا وَقَدْ أَوْصَيْتُ وَتَكَفَّنْتُ وَتَحَنَّطْتُ. ثُمَّ رَفَعَ ثِيَابَهُ الظَّاهِرَةَ فَإِذَا تَحْتَهَا ثِيَابُ كَتَّانٍ جُدُدٌ، وَقَدْ تَحَنَّطَ. فَلَمَّا رَأَى أَبُو جَعْفَرٍ حَالَهُ رَحِمَهُ، وَقَالَ لَهُ: اسْتَقْبِلْ طَاعَةَ خَلِيفَتِكَ وَاحَمَدِ اللَّهَ الَّذِي أَرَاحَكَ مِنَ الْفَاسِقِ هَذَا. ثُمَّ قَالَ لَهُ: فَرِّقْ عَنِّي هَذِهِ الْجَمَاعَةَ. ثُمَّ كَتَبَ الْمَنْصُورُ بَعْدَ قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ إِلَى أَبِي نَصْرٍ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ عَنْ لِسَانِ أَبِي مُسْلِمٍ يَأْمُرُهُ بِحَمْلِ ثَقَلِهِ وَمَا خَلَّفَ عِنْدَهُ، وَأَنْ يَقْدَمَ، وَخَتَمَ الْكِتَابَ بِخَاتَمِ أَبِي مُسْلِمٍ، فَلَمَّا رَأَى الْخَاتَمَ تَامًّا عَلِمَ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ لَمْ يَكْتُبْ، فَقَالَ: فَعَلْتُمُوهَا! وَانْحَدَرَ إِلَى هَمَذَانَ، وَهُوَ يُرِيدُ خُرَاسَانَ. فَكَتَبَ الْمَنْصُورُ لِأَبِي نَصْرٍ عَهْدَهُ عَلَى شَهْرَزُورَ، وَكَتَبَ إِلَى زُهَيْرِ بْنِ التُّرْكِيِّ، وَهُوَ عَلَى هَمَذَانَ: إِنْ مَرَّ بِكَ أَبُو نَصْرٍ فَاحْبِسْهُ. فَسَبَقَ الْكِتَابُ إِلَى زُهَيْرٍ وَأَبُو نَصْرٍ بِهَمَذَانَ، فَقَالَ لَهُ زُهَيْرٌ: قَدْ صَنَعْتُ لَكَ طَعَامًا فَلَوْ أَكْرَمْتَنِي بِدُخُولِ مَنْزِلِي. فَحَضَرَ عِنْدَهُ، فَأَخَذَهُ زُهَيْرٌ فَحَبَسَهُ. وَكَتَبَ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَى زُهَيْرٍ كِتَابًا يَأْمُرُهُ بِقَتْلِ أَبِي نَصْرٍ، وَقَدِمَ صَاحِبُ الْعَهْدِ عَلَى أَبِي نَصْرٍ بِعَهْدِهِ عَلَى شَهْرَزُورَ، فَخَلَّى زُهَيْرٌ سَبِيلَهُ لِهَوَاهُ فِيهِ، فَخَرَجَ ثُمَّ وَصَلَ بَعْدَ يَوْمٍ الْكِتَابُ إِلَى زُهَيْرٍ بِقَتْلِ أَبِي نَصْرٍ، فَقَالَ: جَاءَنِي كِتَابٌ بِعَهْدِهِ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ.

وَقَدِمَ أَبُو نَصْرٍ عَلَى الْمَنْصُورِ فَقَالَ لَهُ: أَشَرْتَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِالْمُضِيِّ إِلَى خُرَاسَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَانَتْ لَهُ عِنْدِي أَيَادٍ فَنَصَحْتُ لَهُ، وَإِنِ اصْطَنَعَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ نَصَحْتُ لَهُ وَشَكَرْتُ. فَعَفَا عَنْهُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الرَّاوِنْدِيَّةِ قَامَ أَبُو نَصْرٍ عَلَى بَابِ الْقَصْرِ، وَقَالَ: أَنَا الْبَوَّابُ الْيَوْمَ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ وَأَنَا حَيٌّ. فَسَأَلَ عَنْهُ الْمَنْصُورُ فَأُخْبِرَ بِهِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ قَدْ نَصَحَ لَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ زُهَيْرًا سَيَّرَ أَبَا نَصْرٍ إِلَى الْمَنْصُورِ مُقَيَّدًا، فَمَنَّ عَلَيْهِ وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَوْصِلِ. [خُطْبَةُ الْمَنْصُورِ] وَلَمَّا قَتَلَ الْمَنْصُورُ أَبَا مُسْلِمٍ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَخْرُجُوا مِنْ أُنْسِ الطَّاعَةِ إِلَى وَحْشَةِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا تَمْشُوا فِي ظُلْمَةِ الْبَاطِلِ بَعْدَ سَعْيِكُمْ فِي ضِيَاءِ الْحَقِّ، إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ أَحْسَنَ مُبْتَدِئًا وَأَسَاءَ مُعَقِّبًا، وَأَخَذَ مِنَ النَّاسِ بِنَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَانَا، وَرَجَحَ قَبِيحُ بَاطِنِهِ عَلَى حُسْنِ ظَاهِرِهِ، وَعَلِمْنَا مَنْ خُبْثِ سَرِيرَتِهِ، وَفَسَادِ نِيَّتِهِ مَا لَوْ عَلِمَهُ اللَّائِمُ لَنَا فِيهِ لَعَذَرَنَا فِي قَتْلِهِ، وَعَنَّفَنَا فِي إِمْهَالِنَا، وَمَا زَالَ يَنْقُضُ بَيْعَتَهُ، وَيَخْفِرُ ذِمَّتَهُ، حَتَّى أَحَلَّ لَنَا عُقُوبَتَهُ، وَأَبَاحَنَا دَمَهُ، فَحَكَمْنَا فِيهِ حُكْمَهُ لَنَا فِي غَيْرِهِ [مِمَّنْ شَقَّ الْعَصَا] ، وَلَمْ يَمْنَعْنَا الْحَقُّ لَهُ مِنْ إِمْضَاءِ الْحَقِّ فِيهِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ لِلنُّعْمَانِ: فَمَنْ أَطَاعَكَ فَانْفَعْهُ بِطَاعَتِهِ ... كَمَا أَطَاعَكَ وَادْلُلْهُ عَلَى الرَّشَدِ وَمَنْ عَصَاكَ فَعَاقِبْهُ مُعَاقَبَةً ... تَنْهَى الظَّلُومَ وَلَا تَقْعُدْ عَلَى ضَمَدِ ثُمَّ نَزَلَ.

وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ قَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ عِكْرِمَةَ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، وَثَابِتِ الْبُنَانِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَرَوَى عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْمُونٍ الصَّائِغُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَغَيْرُهُمَا. خَطَبَ يَوْمًا فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا هَذَا السَّوَادُ الَّذِي أَرَى عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» ، وَهَذِهِ ثِيَابُ الْهَيْبَةِ وَثِيَابُ الدَّوْلَةِ، يَا غُلَامُ اضْرِبْ عُنُقَهُ. قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: أَبُو مُسْلِمٍ كَانَ خَيْرًا أَوِ الْحَجَّاجُ؟ قَالَ: لَا أَقُولُ إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ كَانَ خَيْرًا مِنْ أَحَدٍ، وَلَكِنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ شَرًّا مِنْهُ. وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ نَازِكًا شُجَاعًا ذَا رَأْيٍ وَعَقْلٍ وَتَدْبِيرٍ، وَحَزْمٍ وَمُرُوءَةٍ، وَقِيلَ لَهُ: بِمَ نِلْتَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْقَهْرِ لِلْأَعْدَاءِ؟ فَقَالَ: ارْتَدَيْتُ الصَّبْرَ، وَآثَرْتُ الْكِتْمَانَ، وَحَالَفْتُ الْأَحْزَانَ وَالْأَشْجَانَ، وَشَامَخْتُ الْمَقَادِيرَ وَالْأَحْكَامَ، حَتَّى بَلَغْتُ غَايَةَ هِمَّتِي، وَأَدْرَكْتُ نِهَايَةَ بُغْيَتِي. ثُمَّ قَالَ: قَدْ نِلْتُ بِالْحَزْمِ وَالْكِتْمَانِ مَا عَجَزَتْ عَنْهُ مُلُوكُ بَنِي سَاسَانَ إِذْ حَشَدُوا مَا زِلْتُ أَضْرِبُهُمْ بِالسَّيْفِ فَانْتَبَهُوا مِنْ رَقْدَةٍ لَمْ يَنَمْهَا قَبْلَهُمْ أَحَدُ طَفِقْتُ أَسْعَى عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمُ وَالْقَوْمُ فِي مُلْكِهِمْ بِالشَّامِ [قَدْ] رَقَدُوا وَمَنْ رَعَى غَنَمًا فِي أَرْضِ مَسْبَعَةٍ وَنَامَ عَنْهَا تَوَلَّى رَعْيَهَا الْأَسَدُ وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ وَرَدَ نَيْسَابُورَ عَلَى حِمَارٍ بِإِكَافٍ وَلَيْسَ مَعَهُ آدَمِيٌّ فَقَصَدَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي دَارًا لِفَاذُوسْيَانَ، فَدَقَّ عَلَيْهِ الْبَابَ، فَفَزِعَ أَصْحَابُهُ وَخَرَجُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ:

قُولُوا لِلدِّهْقَانِ إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ بِالْبَابِ يَطْلُبُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدَابَّةً. فَقَالُوا لِلدِّهْقَانِ ذَلِكَ، فَقَالَ الدِّهْقَانُ: فِي أَيِّ زِيٍّ هُوَ وَأَيِّ عُدَّةٍ؟ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ وَحْدَهُ فِي أَدْوَنِ زِيٍّ. فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ دَعَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَدَابَّةٍ مِنْ خَوَاصِّ دَوَابِّهِ وَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ، قَدْ أَسْعَفْنَاكَ بِمَا طَلَبْتَ، وَإِنْ عَرَضَتْ حَاجَةٌ أُخْرَى فَنَحْنُ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ: مَا نُضَيِّعُ لَكَ مَا فَعَلْتَهُ. فَلَمَّا مَلَكَ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَقَارِبِهِ: إِنْ فَتَحْتَ نَيْسَابُورَ أَخَذْتَ كُلَّ مَا تُرِيدُهُ مِنْ مَالِ الْفَاذُوسْيَانَ دِهْقَانِهَا الْمَجُوسِيِّ. فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَهُ عِنْدَنَا يَدٌ. فَلَمَّا مَلَكَ نَيْسَابُورَ أَتَتْهُ هَدَايَا الْفَاذُوسْيَانَ، فَقِيلَ لَهُ: لَا تَقْبَلْهَا وَاطْلُبْ مِنْهُ الْأَمْوَالَ. فَقَالَ: لَهُ عِنْدِي يَدٌ. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَمْوَالِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ هِمَّةٍ وَكَمَالِ مُرُوءَةٍ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ الْمَنْصُورُ أَبَا دَاوُدَ عَلَى خُرَاسَانَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِعَهْدِهِ. ذِكْرُ خُرُوجِ سُنْبَاذَ بِخُرَاسَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ سُنْبَاذُ بِخُرَاسَانَ يَطْلُبُ بِدَمِ أَبِي مُسْلِمٍ، وَكَانَ مَجُوسِيًّا مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ يُقَالُ لَهَا أَهْرَوَانَهْ، كَانَ ظُهُورُهُ غَضَبًا لِقَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ صَنَائِعِهِ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، وَكَانَ عَامَّتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجِبَالِ، وَغَلَبَ عَلَى نَيْسَابُورَ وَقُومِسَ وَالرَّيِّ، وَتُسَمَّى فَيْرُوزَ أَصْبَهْبَذَ. فَلَمَّا صَارَ بِالرَّيِّ أَخَذَ خَزَائِنَ أَبِي مُسْلِمٍ، وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ خَلَّفَهَا بِالرَّيِّ حِينَ شَخَصَ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ، وَسَبَى الْحُرَمَ، وَنَهَبَ الْأَمْوَالَ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِلتُّجَّارِ، وَكَانَ يُظْهِرُ أَنَّهُ يَقْصِدُ الْكَعْبَةَ وَيَهْدِمُهَا. فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ جُمْهُورَ بْنَ مِرَّارٍ الْعِجْلِيَّ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَالْتَقَوْا بَيْنَ هَمَذَانَ وَالرَّيِّ عَلَى طَرَفِ الْمَفَازَةِ، وَعَزَمَ جُمْهُورٌ عَلَى مُطَاوَلَتِهِ، فَلَمَّا الْتَقَوْا قَدَّمَ سُنْبَاذُ السَّبَايَا مِنَ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى الْجِمَالِ، فَلَمَّا رَأَيْنَ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ قُمْنَ فِي الْمَحَامِلِ وَنَادَيْنَ: وَامُحَمَّدَاهُ! ذَهَبَ الْإِسْلَامُ! وَوَقَعَتِ الرِّيحُ فِي أَثْوَابِهِنَّ، فَنَفَرَتِ الْإِبِلُ وَعَادَتْ عَلَى عَسْكَرِ سُنْبَاذَ، فَتَفَرَّقَ الْعَسْكَرُ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْهَزِيمَةِ. وَتَبِعَ الْمُسْلِمُونَ الْإِبِلَ وَوَضَعُوا السُّيُوفَ فِي الْمَجُوسِ وَمَنْ مَعَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ كَيْفَ شَاءُوا، وَكَانَ عَدَدُ الْقَتْلَى نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ أَلْفًا، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، ثُمَّ قُتِلَ سُنْبَاذُ بَيْنَ طَبَرِسْتَانَ وَقُومِسَ.

وَكَانَ بَيْنَ مَخْرِجِ سُنْبَاذَ وَقَتْلِهِ سَبْعَوْنَ لَيْلَةً، وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ قَصَدَ طَبَرِسْتَانَ مُلْتَجِئًا إِلَى صَاحِبِهَا، فَأَرْسَلَ إِلَى طَرِيقِهِ عَامِلًا لَهُ اسْمُهُ طَوْسُ، فَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ سُنْبَاذُ، فَضَرَبَ طَوْسُ عُنُقَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْمَنْصُورِ بِقَتْلِهِ وَأَخَذَ مَا مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَكَتَبَ الْمَنْصُورُ إِلَى صَاحِبِ طَبَرِسْتَانَ يَطْلُبُ مِنْهُ الْأَمْوَالَ، فَأَنْكَرَهَا، فَسَيَّرَ الْجُنُودَ إِلَيْهِ، فَهَرَبَ إِلَى الدَّيْلَمِ. ذِكْرُ خُرُوجِ مُلَبَّدِ بْنِ حَرْمَلَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ مُلَبَّدُ بْنُ حَرْمَلَةَ الشَّيْبَانِيُّ، فَحَكَمَ بِنَاحِيَةِ الْجَزِيرَةِ، فَسَارَتْ إِلَيْهِ رَوَابِطُ الْجَزِيرَةِ، وَهُوَ فِي نَحْوِ أَلْفِ فَارِسٍ، فَقَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ. ثُمَّ سَارَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ الْمُهَلَّبِيُّ، فَهَزَمَهُ مُلَبَّدٌ وَأَخَذَ جَارِيَةً لَهُ كَانَ يَطَؤُهَا، فَوَجَّهَ الْمَنْصُورُ مَوْلَاهُ مُهَلْهَلَ بْنَ صَفْوَانَ فِي أَلْفَيْنِ مِنْ نُخْبَةِ الْجُنْدِ، فَهَزَمَهُمْ مُلَبَّدٌ، وَاسْتَبَاحَ عَسْكَرَهُمْ. ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيْهِ نِزَارًا قَائِدًا مِنْ قُوَّادِ خُرَاسَانَ، فَقَتَلَهُ مُلَبَّدٌ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ. ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيْهِ زِيَادَ بْنَ مُشْكَانَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَلَقِيَهُمْ مُلَبَّدٌ فَهَزَمَهُمْ. ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيْهِ صَالِحَ بْنَ صُبَيْحٍ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، وَخَيْلٍ كَثِيرَةٍ وَعُدَّةٍ، فَهَزَمَهُمْ مُلَبَّدٌ. ثُمَّ سَارَ إِلَيْهِ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ وَهُوَ عَلَى الْجَزِيرَةِ يَوْمَئِذٍ، فَلَقِيَهُ مُلَبَّدٌ فَهَزَمَهُ، وَتَحَصَّنَ مِنْهُ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ وَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّ خُرُوجَ مُلَبَّدٍ كَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ صَائِفَةٌ لِشَغْلِ السُّلْطَانِ بِحَرْبِ سُنْبَاذَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ عَلَى الْمَوْصِلِ. وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ: زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى مَكَّةَ: الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ. وَمَاتَ الْعَبَّاسُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمَوْسِمِ، فَضَمَّ إِسْمَاعِيلُ عَمَلَهُ إِلَى زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَقَرَّهُ الْمَنْصُورُ عَلَيْهِ. وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ: عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَلَى الْبَصْرَةِ وَأَعْمَالِهَا: سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى قَضَائِهَا: عُمَرُ بْنُ عَامِرٍ السُّلَمِيُّ. وَعَلَى خُرَاسَانَ: أَبُو دَاوُدَ خَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى مِصْرَ: صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى الْجَزِيرَةِ: حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِعَبْدِ اللَّهِ، وَهِيَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الِاجْتِدَالِ.

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة] 138 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ خَلْعِ جُمْهُورِ بْنِ مِرَّارٍ الْعِجْلِيِّ وَفِيهَا خَلَعَ جُمْهُورُ بْنُ مِرَّارٍ الْمَنْصُورَ بِالرَّيِّ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ جُمْهُورًا لَمَّا هَزَمَ سُنْبَاذَ حَوَى مَا فِي عَسْكَرِهِ، وَكَانَ فِيهِ خَزَائِنُ أَبِي مُسْلِمٍ، فَلَمْ يُوَجِّهْهَا إِلَى الْمَنْصُورِ، فَخَافَ فَخَلَعَ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ نَحْوَ الرَّيِّ، فَفَارَقَهَا جُمْهُورٌ نَحْوَ أَصْبَهَانَ، (وَدَخَلَ مُحَمَّدٌ الرَّيَّ، وَمَلَكَ جُمْهُورٌ أَصْبَهَانَ) ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ عَسْكَرًا (وَبَقِيَ فِي الرَّيِّ، فَأَشَارَ عَلَى جُمْهُورٍ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنْ يَسِيرَ فِي نُخْبَةِ عَسْكَرِهِ) نَحْوَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ فِي قِلَّةٍ، فَإِنْ ظَفِرَ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُ بَقِيَّةٌ، فَسَارَ إِلَيْهِ مُجِدًّا. وَبَلَغَ خَبَرُهُ مُحَمَّدًا، فَحَذِرَ وَاحْتَاطَ، وَأَتَاهُ عَسْكَرٌ مِنْ خُرَاسَانَ فَقَوِيَ بِهِمْ، فَالْتَقَوْا بِقَصْرِ الْفِيرُوزَانِ بَيْنَ الرَّيِّ وَأَصْبَهَانَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا، وَمَعَ جُمْهُورٍ نُخْبَةُ فُرْسَانِ الْعَجَمِ، فَهُزِمَ جُمْهُورُ وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَهَرَبَ جُمْهُورٌ فَلَحِقَ بِأَذْرَبِيجَانَ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ بِإِسْبَاذُرْوَا، قَتَلَهُ أَصْحَابُهُ، وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى الْمَنْصُورِ. ذِكْرُ قَتْلِ مُلَبَّدٍ الْخَارِجِيِّ قَدْ ذَكَرْنَا خُرُوجَهُ فِي السَّنَةِ قَبْلَهَا، وَتَحَصُّنَ حُمَيْدٍ مِنْهُ، وَلَمَّا بَلَغَ الْمَنْصُورَ ظَفَرُ

مُلَبَّدٍ، وَتَحَصُّنُ حُمَيْدٍ مِنْهُ، وَجَّهَ إِلَيْهِ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخَا عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَضَمَّ زِيَادَ بْنَ مُشْكَانَ، فَأَكْمَنَ لَهُ مُلَبَّدٌ مِائَةَ فَارِسٍ، فَلَمَّا لَقِيَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ خَرَجَ عَلَيْهِ الْكَمِينُ فَهَزَمُوهُ وَقَتَلُوا عَامَّةَ أَصْحَابِهِ. فَوَجَّهَ [الْمَنْصُورُ] إِلَيْهِ خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ فِي نَحْوِ ثَمَانِيَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَرْوَرُوذِيَّةِ، فَسَارَ خَازِمٌ حَتَّى نَزَلَ الْمَوْصِلَ، وَبَعَثَ إِلَى مُلَبَّدٍ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، وَعَبَرَ مُلَبَّدٌ دِجْلَةَ مِنْ بَلَدٍ وَسَارَ نَحْوَ خَازِمٍ. وَسَارَ إِلَيْهِ خَازِمٌ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ وَطَلَائِعِهِ نَضَلَةُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ خَازِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّهْشَلِيُّ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَامِرِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ أَبُو حَمَّادٍ الْأَبْرَصُ، وَخَازِمٌ فِي الْقَلْبِ. فَلَمْ يَزَلْ يُسَايِرُ مُلَبَّدًا وَأَصْحَابَهُ إِلَى اللَّيْلِ وَتَوَاقَفُوا لَيْلَتَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ سَارَ مُلَبَّدٌ نَحْوَ كُورَةِ حَزَّةَ، وَخَازِمٌ وَأَصْحَابُهُ يُسَايِرُونَهُمْ حَتَّى غَشِيَهُمُ اللَّيْلُ، وَأَصْبَحُوا مِنَ الْغَدِ فَسَارَ مُلَبَّدٌ كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْهَرَبَ، فَخَرَجَ خَازِمٌ فِي أَثَرِهِ وَتَرَكُوا خَنْدَقَهُمْ، وَكَانَ خَازِمٌ قَدْ خَنْدَقَ عَلَى أَصْحَابِهِ بِالْحَسَكِ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْهُ حَمَلَ عَلَيْهِمْ مُلَبَّدٌ وَأَصْحَابُهُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خَازِمٌ أَلْقَى الْحَسَكَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَدَيْ أَصْحَابِهِ، فَحَمَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ خَازِمٍ فَطَوَوْهَا، ثُمَّ حَمَلُوا عَلَى الْمَيْسَرَةِ وَطَوَوْهَا، ثُمَّ انْتَهَوْا إِلَى الْقَلْبِ وَفِيهِ خَازِمٌ، فَنَادَى خَازِمٌ فِي أَصْحَابِهِ: الْأَرْضَ الْأَرْضَ! فَنَزَلُوا، وَنَزَلَ مُلَبَّدٌ وَأَصْحَابُهُ وَعَقَرُوا عَامَّةَ دَوَابِّهِمْ، ثُمَّ اضْطَرَبُوا بِالسُّيُوفِ حَتَّى تَقَطَّعَتْ. وَأَمَرَ خَازِمٌ نَضَلَةَ بْنَ نُعَيْمٍ أَنْ إِذَا سَطَعَ الْغُبَارُ وَلَمْ يُبْصِرْ بَعْضَنَا بَعْضًا فَارْجِعْ إِلَى خَيْلِكَ وَخَيْلِ أَصْحَابِكَ فَارْكَبُوهَا ثُمَّ ارْمُوهُمْ بِنُشَّابٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَتَرَاجَعَ أَصْحَابُ خَازِمٍ مِنَ الْمَيْمَنَةِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ، ثُمَّ رَشَقُوا مُلَبَّدًا، وَأَصْحَابَهُ بِالنُّشَّابِ، فَقُتِلَ مُلَبَّدٌ فِي ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ مِمَّنْ تَرَجَّلَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَرَجَّلُوا زُهَاءُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَهَرَبَ الْبَاقُونَ، وَتَبِعَهُمْ نَضَلَةُ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مِائَةً وَخَمْسِينَ رَجُلًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ قُسْطَنْطِينُ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى بَلَدِ الْإِسْلَامِ، فَدَخَلَ مَلَطْيَةَ عَنْوَةً

وَقَهْرًا وَغَلَبَ أَهْلَهَا وَهَدَمَ سُورَهَا، وَعَفَا عَمَّنْ فِيهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ وَفِيهَا غَزَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ الصَّائِفَةَ مَعَ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعِيسَى بْنِ عَلِيٍّ، وَقِيلَ: كَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَبَنَى صَالِحٌ مَا كَانَ مَلِكُ الرُّومِ أَخْرَبَهُ مِنْ سُورِ مَلَطْيَةَ. وَفِيهَا بَايَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ لِلْمَنْصُورِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِالْبَصْرَةِ مَعَ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ. وَفِيهَا وَسَّعَ الْمَنْصُورُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْفَضْلُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ. وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ: زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيُّ، وَعَلَى الْكُوفَةِ وَسَوَادِهَا: عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَلَى الْبَصْرَةِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى قَضَائِهَا: سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى خُرَاسَانَ: أَبُو دَاوُدَ، وَعَلَى مِصْرَ: صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمِسْوَرُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيُّ.

وَسَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ أَبُو حَفْصٍ الْأَسْلَمِيُّ، يَرْوِي عَنْ سَفِينَةَ حَدِيثَ " «الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ» ". وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ.

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة] 139 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ غَزْوِ الرُّومِ وَالْفِدَاءِ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَرَغَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ عِمَارَةِ مَا أَخْرَبَهُ الرُّومُ مِنْ مَلَطْيَةَ، ثُمَّ غَزَوُا الصَّائِفَةَ مِنْ دَرْبِ الْحَدَثِ فَوَغَلَا فِي أَرْضِ الرُّومِ، وَغَزَا مَعَ صَالِحٍ أُخْتَاهُ أُمُّ عِيسَى وَلُبَابَةُ بَنْتَا عَلِيٍّ، وَكَانَتَا نَذَرَتَا إِنْ زَالَ مُلْكُ بَنِي أُمَيَّةَ أَنْ تُجَاهِدَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَغَزَا مِنْ دَرْبِ مَلَطْيَةَ جَعْفَرُ بْنُ حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيُّ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمَنْصُورِ، وَمَلِكِ الرُّومِ، فَاسْتَفْدَى الْمَنْصُورُ أَسْرَى قَالِيقَلَا وَغَيْرَهُمْ مِنَ الرُّومِ، وَبَنَاهَا وَعَمَّرَهَا وَرَدَّ إِلَيْهَا أَهْلِيهَا، وَنَدَبَ إِلَيْهَا جُنْدًا مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَأَقَامُوا بِهَا وَحَمَوْهَا. وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ صَائِفَةٌ فِيمَا قِيلَ إِلَّا سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، لِاشْتِغَالِ الْمَنْصُورِ بِابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ قَحْطَبَةَ غَزَا الصَّائِفَةَ مَعَ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ، وَأَقْبَلَ قُسْطَنْطِينُ مَلِكُ الرُّومِ فِي مِائَةِ أَلْفٍ فَبَلَغَ جَيْحَانَ، فَسَمِعَ كَثْرَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَحْجَمَ عَنْهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ بَعْدَهَا صَائِفَةٌ إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ.

ذِكْرُ دُخُولِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ قَدْ ذَكَرْنَا فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ فَتْحَ الْأَنْدَلُسِ، وَعَزْلَ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ عَنْهَا. فَلَمَّا عُزِلَ عَنْهَا وَسَارَ إِلَى الشَّامِ اسْتُخْلِفَ عَلَيْهَا ابْنُهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ، وَضَبَطَهَا وَحَمَى ثُغُورَهَا، وَافْتَتَحَ فِي وِلَايَتِهِ مَدَائِنَ كَثِيرَةً، وَكَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا، وَبَقِيَ أَمِيرًا إِلَى سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ، فَقُتِلَ بِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ سَبَبُ قَتْلِهِ. فَلَمَّا قُتِلَ بَقِيَ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ لَا يَجْمَعُهُمْ وَالٍ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَيُّوبَ بْنِ حَبِيبٍ اللَّخْمِيِّ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ، فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ لِصَلَاحِهِ، وَتَحَوَّلَ إِلَى قُرْطُبَةَ، وَجَعَلَهَا دَارَ إِمَارَةٍ فِي أَوَّلِ سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ. ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ اسْتَعْمَلَ بَعْدَهُ الْحُرَّ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الثَّقَفِيَّ، فَقَدِمَهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ، فَأَقَامَ وَالِيًا عَلَيْهَا سَنَتَيْنِ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ. فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخِلَافَةَ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْأَنْدَلُسِ السَّمْحَ بْنَ مَالِكٍ الْخَوْلَانِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُمَيِّزَ أَرْضَهَا، وَيُخْرِجَ مِنْهَا مَا كَانَ عَنْوَةً وَيَأْخُذَ مِنْهُ الْخُمْسَ وَيَكْتُبَ إِلَيْهِ بِصِفَةِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ رَأْيُهُ إِقْفَالَ أَهْلِهَا مِنْهَا لِانْقِطَاعِهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. فَقَدِمَهَا السَّمْحُ سَنَةَ مِائَةٍ فِي رَمَضَانَ، وَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ عُمَرُ، وَقُتِلَ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَمِائَةٍ، وَكَانَ قَدْ بَدَا لِعُمَرَ فِي نَقْلِ أَهْلِهَا عَنْهَا وَتَرْكِهِمْ، وَدَعَا لِأَهْلِهَا. ثُمَّ وَلِيَهَا بَعْدَ السَّمْحِ عَنْبَسَةُ بْنُ سُحَيْمٍ الْكَلْبِيُّ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةٍ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ غَزْوَةِ الْإِفْرِنْجِ. ثُمَّ وَلِيَهَا بَعْدَهُ يَحْيَى بْنُ سَلْمَى الْكَلْبِيُّ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، فَبَقِيَ عَلَيْهَا وَالِيًا سَنَتَيْنِ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ دَخَلَ الْأَنْدَلُسَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْأَبْرَصِ الْأَشْجَعِيُّ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ فَبَقِيَ وَالِيًا عَلَيْهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ عُزِلَ. ثُمَّ وَلِيَهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي نِسْعَةَ الْخَثْعَمِيُّ، فَقَدِمَهَا سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ، (وَعُزِلَ آخِرَ سَنَةِ عَشْرٍ وَمِائَةٍ أَيْضًا، كَانَتْ وِلَايَتُهُ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ.

ثُمَّ وَلِيَهَا الْهَيْثَمُ بْنُ عُبَيْدٍ الْكِنَانِيُّ، فَقَدِمَهَا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمِائَةٍ) ، فَأَقَامَ وَالِيًا عَلَيْهَا عَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا ثُمَّ تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَقَدَّمَ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَشْجَعِيَّ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ شَهْرَيْنِ. وَوَلِيَ بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْغَافِقِيُّ فِي صَفَرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَاسْتُشْهِدَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ. ثُمَّ وَلِيَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قَطَنٍ الْفِهْرِيُّ، فَأَقَامَ عَلَيْهَا سَنَتَيْنِ وَعُزِلَ. ثُمَّ وَلِيَهَا بَعْدَهُ عُقْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ السَّلُولِيُّ، دَخَلَهَا سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، فَوَلِيَهَا خَمْسَ سِنِينَ، وَثَارَ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ بِهِ فَخَلَعُوهُ فَوَلَّوْا بَعْدَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ قَطَنٍ، وَهِيَ وِلَايَتُهُ الثَّانِيَةُ، (وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مُؤَرِّخِي الْأَنْدَلُسِ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فَوَلَّى أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ عَبْدَ الْمَلِكِ) . ثُمَّ وَلِيَهَا بَلْجُ بْنُ بِشْرٍ الْقُشَيْرِيُّ، بَايَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَهَرَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَلَحِقَ بِدَارِهِ، وَهَرَبَ ابْنَاهُ قَطَنٌ وَأُمَيَّةُ فَلَحِقَ أَحَدُهُمَا بِمَارِدَةَ وَالْآخَرُ بِسَرَقُسْطَةَ، ثُمَّ ثَارَتِ الْيَمَنُ عَلَى بَلْجٍ وَسَأَلُوهُ قَتْلَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قَطَنٍ، فَلَمَّا خَشِيَ فَسَادَهُمْ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ وَصُلِبَ، وَكَانَ عُمُرُهُ تِسْعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا بَلَغَ ابْنَيْهِ قَتْلُهُ حَشَدَا مِنْ مَارِدَةَ إِلَى أَرْبُونَةَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمَا مِائَةُ أَلْفٍ، وَزَحَفُوا إِلَى بَلْجٍ وَمَنْ مَعَهُ بِقُرْطُبَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ بَلْجٌ فَلَقِيَهُمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ بِقُرْبِ قُرْطُبَةَ فَهَزَمَهُمَا، وَرَجَعَ إِلَى قُرْطُبَةَ فَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ. وَكَانَ سَبَبُ قُدُومِ بَلْجٍ الْأَنْدَلُسَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَمِّهِ كُلْثُومِ بْنِ عِيَاضٍ فِي وَقْعَةِ الْبَرْبَرِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، فَلَمَّا قُتِلَ عَمُّهُ سَارَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، فَأَجَازَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قَطَنٍ إِلَيْهَا، وَكَانَ سَبَبَ قَتْلِهِ. ثُمَّ وَلَّى أَهْلُ الشَّامِ عَلَى الْأَنْدَلُسِ مَكَانَهُ ثَعْلَبَةَ بْنَ سَلَامَةَ الْعَامِلِيَّ فَأَقَامَ إِلَى أَنْ قَدِمَ أَبُو الْخَطَّارِ وَالِيًا عَلَى الْأَنْدَلُسِ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَدَانَ لَهُ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ ثَعْلَبَةُ، وَابْنُ أَبِي نِسْعَةَ، وَابْنَا عَبْدِ الْمَلِكِ، فَآمَنَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَاسْتَقَامَ أَمْرُهُ، وَكَانَ شُجَاعًا ذَا رَأْيٍ وَكَرَمٍ. وَكَثُرَ أَهْلُ الشَّامِ عِنْدَهُ، فَلَمْ تَحْمِلْهُمْ قُرْطُبَةَ، فَفَرَّقَهُمْ فِي الْبِلَادِ، فَأَنْزَلَ أَهْلَ دِمَشْقَ إِلْبِيرَةَ لِشَبَهِهَا بِهَا وَسَمَّاهَا دِمَشْقَ، وَأَنْزَلَ أَهْلَ حِمْصَ إِشْبِيلِيَّةَ، وَسَمَّاهَا حِمْصَ، وَأَنْزَلَ أَهْلَ قِنَّسْرِينَ بَجَيَّانَ، وَسَمَّاهَا قِنَّسْرِينَ، وَأَنْزَلَ أَهْلَ الْأُرْدُنِّ بِرَيَّةَ

وَسَمَّاهَا الْأُرْدُنَّ، وَأَنْزَلَ أَهْلَ فِلَسْطِينَ بِشَذُونَةَ وَسَمَّاهَا فِلَسْطِينَ. وَأَنْزَلَ أَهْلَ مِصْرَ بِتُدْمِيرَ وَسَمَّاهَا مِصْرَ لِشَبَهِهَا بِهَا، ثُمَّ تَعَصَّبَ الْيَمَانِيَّةُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لَتَأَلُّبِ الصُّمَيْلِ بْنِ حَاتِمٍ عَلَيْهِ مَعَ مُضَرَ وَحَرْبِهِ وَخَلْعِهِ. وَقَامَتْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَكَانَ الصُّمَيْلُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ شَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ قَدْ قَدِمَ الْأَنْدَلُسَ فِي أَمْدَادِ الشَّامِ، فَرَأَسَ بِهَا، فَأَرَادَ أَبُو الْخَطَّارِ أَنْ يَضَعَ مِنْهُ فَأَمَرَ بِهِ يَوْمًا وَعِنْدَهُ الْجُنْدُ فَشُتِمَ وَأُهِينَ، فَخَرَجَ وَعِمَامَتُهُ مَائِلَةٌ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحُجَّابِ: مَا بَالُ عِمَامَتِكَ مَائِلَةً؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ لِي قَوْمٌ فَسَيُقِيمُونَهَا، وَبَعَثَ إِلَى قَوْمِهِ فَشَكَا إِلَيْهِمْ مَا لَقِيَ. فَقَالُوا: نَحْنُ لَكَ تَبَعٌ، وَكَتَبُوا إِلَى ثَوَابَةَ بْنِ سَلَامَةَ الْجُذَامِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ، فَوَفَدَ عَلَيْهِمْ وَأَجَابَهُمْ وَتَبِعَهُمْ لَخْمٌ وَجُذَامٌ. فَبَلَغَ ذَلِكَ إِلَى أَبِي الْخَطَّارِ فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَقَاتَلُوهُ فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَأُسِرَ أَبُو الْخَطَّارِ، وَدَخَلَ ثَوَابَةُ قَصْرَ قُرْطُبَةَ وَأَبُو الْخَطَّارِ فِي قُيُودِهِ، فَوَلِيَ ثَوَابَةُ الْأَنْدَلُسَ سَنَتَيْنِ ثُمَّ تُوُفِّيَ، فَأَرَادَ أَهْلُ الْيَمَنِ إِعَادَةَ أَبِي الْخَطَّارِ، وَامْتَنَعَتْ مُضَرُ، وَرَأَسَهُمُ الصُّمَيْلُ، فَافْتَرَقَتِ الْكَلِمَةُ، فَأَقَامَتِ الْأَنْدَلُسُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِغَيْرِ أَمِيرٍ. (وَقَدْ تَقَدَّمَ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. فَلَمَّا بَقُوا بِغَيْرِ أَمِيرٍ) قَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ كَثِيرٍ اللَّخْمِيَّ لِلْأَحْكَامِ. فَلَمَّا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ اتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ الْفِهْرِيِّ، فَوَلِيَهَا يُوسُفُ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ أَنْ يَلِيَ سَنَةً ثُمَّ يَرُدَّ الْأَمْرَ إِلَى الْيَمَنِ فَيُوَلُّوا مَنْ أَحَبُّوا مِنْ قَوْمِهِمْ. فَلَمَّا انْقَضَتِ السَّنَةُ أَقْبَلَ أَهْلُ الْيَمَنِ بِأَسْرِهِمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُوَلُّوا رَجُلًا مِنْهُمْ، فَبَيَّتَهُمْ الصُّمَيْلُ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، فَهِيَ وَقْعَةُ شَقُنْدَةَ الْمَشْهُورَةُ، وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو الْخَطَّارِ وَاقْتَتَلُوا بِالرِّمَاحِ حَتَّى تَقَطَّعَتْ وَبِالسُّيُوفِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ، ثُمَّ تَجَاذَبُوا بِالشُّعُورِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى يُوسُفَ وَلَمْ يَعْتَرِضْهُ أَحَدٌ. (وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ) . ثُمَّ تَوَالَى الْقَحْطُ عَلَى الْأَنْدَلُسِ، وَجَلَا أَهْلُهَا عَنْهَا وَتَضَعْضَعَتْ إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَفِيهَا اجْتَمَعَ تَمِيمُ بْنُ مَعْبَدٍ الْفِهْرِيُّ، وَعَامِرٌ الْعَبْدَرِيُّ بِمَدِينَةِ سَرَقُسْطَةَ، وَحَارَبَهُمَا الصُّمَيْلُ، ثُمَّ سَارَ إِلَيْهِمَا يُوسُفُ الْفِهْرِيُّ فَحَارَبَهُمَا فَقَتَلَهُمَا، وَبَقِيَ يُوسُفُ عَلَى الْأَنْدَلُسِ

إِلَى أَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ. هَذَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُلَاةِ الْأَنْدَلُسِ عَلَى الِاخْتِصَارِ، (وَقَدْ تَقَدَّمَ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا مُتَفَرِّقًا، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ هَاهُنَا مُتَتَابِعًا لِيَتَّصِلَ بَعْضُ أَخْبَارِ الْأَنْدَلُسِ بِبَعْضٍ لِأَنَّهَا وَرَدَتْ مُتَفَرِّقَةً) . وَنَرْجِعُ إِلَى ذِكْرِ عُبُورِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ إِلَيْهَا. وَأَمَّا سَبَبُ مَسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى الْغَرْبِ، فَإِنَّهُ يُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتِ الدَّوْلَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ، وَقُتِلَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ مَنْ قُتِلَ وَمِنْ شِيعَتِهِمْ، فَرَّ مِنْهُمْ مَنْ نَجَا فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بِذَاتِ الزَّيْتُونِ، فَفَرَّ مِنْهَا إِلَى فِلَسْطِينَ، وَأَقَامَ هُوَ وَمَوْلَاهُ بَدْرٌ يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ. فَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا أُعْطِينَا الْأَمَانَ ثُمَّ نُكِثَ بِنَا بِنَهْرِ أَبِي فُطْرُسٍ، وَأُبِيحَتْ دِمَاؤُنَا أَتَانَا الْخَبَرُ، وَكُنْتُ مُنْتَبَذًا مِنَ النَّاسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي آيِسًا، وَنَظَرْتُ فِيمَا يُصْلِحُنِي وَأَهْلِي، وَخَرَجْتُ خَائِفًا حَتَّى صِرْتُ إِلَى قَرْيَةٍ عَلَى الْفُرَاتِ ذَاتِ شَجَرٍ وَغِيَاضٍ، فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ بِهَا وَوَلَدِي سُلَيْمَانُ يَلْعَبُ بَيْنَ يَدَيَّ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ، خَرَجَ عَنِّي ثُمَّ دَخَلَ الصَّبِيُّ مِنْ بَابِ الْبَيْتِ بَاكِيًا فَزِعًا فَتَعَلَّقَ بِي، وَجَعَلْتُ أَدْفَعُهُ وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِي، فَخَرَجْتُ لِأَنْظُرَ وَإِذَا بِالْخَوْفِ قَدْ نَزَلَ بِالْقَرْيَةِ، وَإِذَا بِالرَّايَاتِ السُّودِ مُنْحَطَّةٌ عَلَيْهَا، وَأَخٌ لِي حَدِيثُ السِّنِّ يَقُولُ لِي: النَّجَاءَ النَّجَاءَ! فَهَذِهِ رَايَاتُ الْمُسَوِّدَةِ! . فَأَخَذْتُ دَنَانِيرَ مَعِي وَنَجَوْتُ بِنَفْسِي وَأَخِي، وَأَعْلَمْتُ أَخَوَاتِي بِمُتَوَجَّهِي، فَأَمَرْتُهُنَّ أَنْ يُلْحِقْنَنِي مَوْلَايَ بَدْرًا، وَأَحَاطَتِ الْخَيْلُ بِالْقَرْيَةِ، فَلَمْ يَجِدُوا لِي أَثَرًا، فَأَتَيْتُ رَجُلًا مِنْ مَعَارِفِي وَأَمَرْتُهُ فَاشْتَرَى لِي دَوَابَّ وَمَا يُصْلِحُنِي، فَدَلَّ عَلَيَّ عَبْدٌ لَهُ الْعَامِلَ، فَأَقْبَلَ فِي خَيْلِهِ يَطْلُبُنِي، فَخَرَجْنَا عَلَى أَرْجُلِنَا هُرَّابًا وَالْخَيْلُ تُبْصِرُنَا، فَدَخَلْنَا فِي بَسَاتِينَ عَلَى الْفُرَاتِ، فَسَبَقْنَا الْخَيْلَ إِلَى الْفُرَاتِ فَسَبَحْنَا. فَأَمَّا أَنَا فَنَجَوْتُ، وَالْخَيْلُ يُنَادُونَنَا بِالْأَمَانِ وَلَا أَرْجِعُ. وَأَمَّا أَخِي فَإِنَّهُ عَجَزَ عَنِ السِّبَاحَةِ فِي نِصْفِ الْفُرَاتِ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ بِالْأَمَانِ وَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَاحْتَمَلْتُ فِيهِ ثَكَلًا، وَمَضَيْتُ لِوَجْهِي، فَتَوَارَيْتُ فِي غَيْضَةٍ أَشِبَةٍ، حَتَّى انْقَطَعَ الطَّلَبُ عَنِّي، وَخَرَجْتُ فَقَصَدْتُ الْمَغْرِبَ فَبَلَغْتُ إِفْرِيقِيَّةَ. ثُمَّ إِنَّ أُخْتَهُ أُمَّ الْأَصْبَغِ أَلْحَقَتْهُ بَدْرًا مَوْلَاهُ، وَمَعَهُ نَفَقَةٌ لَهُ وَجَوْهَرٌ، فَلَمَّا بَلَغَ إِفْرِيقِيَّةَ لَجَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ الْفِهْرِيُّ، قِيلَ هُوَ وَالِدُ يُوسُفَ أَمِيرِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَامِلُ إِفْرِيقِيَّةَ فِي طَلَبِهِ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَهَرَبَ مِنْهُ فَأَتَى مِكْنَاسَةَ، وَهُمْ قَبِيلٌ مِنَ الْبَرْبَرِ، فَلَقِيَ عِنْدَهُمْ شِدَّةً يَطُولُ ذِكْرُهَا، ثُمَّ هَرَبَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَأَتَى نِفْزَاوَةَ، وَهُمْ أَخْوَالُهُ، وَبَدْرٌ مَعَهُ.

وَقِيلَ: أَتَى قَوْمًا مِنَ الزَّنَاتِيِّينَ، فَأَحْسَنُوا قَبُولَهُ وَاطْمَأَنَّ فِيهِمْ، وَأَخَذَ فِي تَدْبِيرِ الْمُكَاتَبَةِ إِلَى الْأُمَوِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ يُعْلِمُهُمْ بِقُدُومِهِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِهِ، وَوَجَّهَ بَدْرًا مَوْلَاهُ إِلَيْهِمْ، وَأَمِيرُ الْأَنْدَلُسِ حِينَئِذٍ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيُّ. فَسَارَ بَدْرٌ إِلَيْهِمْ وَأَعْلَمَهُمْ حَالَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ وَوَجَّهُوا لَهُ مَرْكَبًا فِيهِ ثُمَامَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، وَوَهْبُ بْنُ الْأَصْفَرِ، وَشَاكِرُ بْنُ أَبِي الْأَشْمَطِ، فَوَصَلُوا إِلَيْهِ وَأَبْلَغُوهُ طَاعَتَهُمْ لَهُ، وَأَخَذُوهُ وَرَجَعُوا إِلَى الْأَنْدَلُسِ، فَأَرْسَى فِي الْمُنَكَّبِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، فَأَتَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ إِشْبِيلِيَّةَ، وَكَانَتْ أَيْضًا نُفُوسُ أَهْلِ الْيَمَنِ حَنِقَةً عَلَى الصُّمَيْلِ وَيُوسُفَ الْفِهْرِيِّ، فَأَتَوْهُ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى كُورَةِ رَيَّةَ فَبَايَعَهُ عَامِلُهَا عِيسَى بْنُ مُسَاوِرٍ. ثُمَّ أَتَى شَذُونَةَ فَبَايَعَهُ غِيَاثُ بْنُ عَلْقَمَةَ اللَّخْمِيُّ. ثُمَّ أَتَى مُوَرْوِرَ فَبَايَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَجَرَةَ عَامِلُهَا. ثُمَّ أَتَى إِشْبِيلِيَّةَ فَبَايَعَهُ أَبُو الصُّبَاحِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَنَهَدَ إِلَى قُرْطُبَةَ. فَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى يُوسُفَ وَكَانَ غَائِبًا عَنْ قُرْطُبَةَ بِنَوَاحِي طُلَيْطُلَةَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَسَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ نَحْوَ قُرْطُبَةَ. فَلَمَّا أَتَى قُرْطُبَةَ تَرَاسَلَ هُوَ وَيُوسُفُ فِي الصُّلْحِ، فَخَادَعَهُ نَحْوَ يَوْمَيْنِ، أَحَدُهُمَا يَوْمُ عَرَفَةَ، وَلَمْ يَشُكَّ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ يُوسُفَ أَنَّ الصُّلْحَ قَدْ أُبْرِمَ، وَأَقْبَلَ عَلَى إِعْدَادِ الطَّعَامِ لِيَأْكُلَهُ النَّاسُ عَلَى السِّمَاطِ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُرَتِّبٌ خَيْلَهُ وَرَجِلَهُ، وَعَبَرَ النَّهْرَ فِي أَصْحَابِهِ لَيْلًا، وَنَشِبَ الْقِتَالُ لَيْلَةَ الْأَضْحَى، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ إِلَى أَنِ ارْتَفَعَ النَّهَارُ، وَرَكِبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى بَغْلٍ لِئَلَّا يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَهْرُبُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ كَذَلِكَ سَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ، وَأَسْرَعَ الْقَتْلُ فِي أَصْحَابِ يُوسُفَ وَانْهَزَمَ، وَبَقِيَ الصُّمَيْلُ يُقَاتِلُ مَعَ عِصَابَةٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ، ثُمَّ انْهَزَمُوا، فَظَفِرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَلَمَّا انْهَزَمَ يُوسُفُ (أَتَى مَارِدَةَ، وَأَتَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ قُرْطُبَةَ فَأَخْرَجَ حَشَمَ يُوسُفَ) مِنَ الْقَصْرِ عَلَى عَوْدَةٍ وَدَخَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ سَارَ فِي طَلَبِ يُوسُفَ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِ يُوسُفُ خَالَفَهُ إِلَى قُرْطُبَةَ فَدَخَلَهَا وَمَلَكَ قَصْرَهَا، فَأَخَذَ جَمِيعَ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَلَحِقَ بِمَدِينَةِ إِلْبِيرَةَ، وَكَانَ الصُّمَيْلُ لَحِقَ بِمَدِينَةِ شَوْذَرَ. وَوَرَدَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْخَبَرُ فَرَجَعَ إِلَى قُرْطُبَةَ طَمَعًا فِي لَحَاقِهِ بِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْهُ عَزَمَ عَلَى النُّهُوضِ إِلَيْهِ، (فَسَارَ إِلَى إِلْبِيرَةَ، وَكَانَ الصُّمَيْلُ قَدْ لَحِقَ بِيُوسُفَ وَتَجَمَّعَ لَهُمَا هُنَاكَ جَمْعٌ) ، فَتَرَاسَلُوا فِي الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ يُوسُفُ بِأَمَانٍ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَنْ

يَسْكُنَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِقُرْطُبَةَ، وَرَهَنَهُ يُوسُفُ ابْنَيْهِ: أَبَا الْأَسْوَدِ مُحَمَّدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ. وَسَارَ يُوسُفُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا دَخَلَ قُرْطُبَةَ تَمَثَّلَ: فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ. وَاسْتَقَرَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِقُرْطُبَةَ، وَبَنَى الْقَصْرَ وَالْمَسْجِدَ الْجَامِعَ، وَأَنْفَقَ فِيهِ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَاتَ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَبَنَى مَسَاجِدَ الْجَمَاعَاتِ، وَوَافَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَكَانَ يَدْعُو لِلْمَنْصُورِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّ دُخُولَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي ذِكْرِ دُخُولِهِ الْأَنْدَلُسَ لِئَلَّا نَخْرُجَ عَنِ الَّذِي قَصَدْنَا لَهُ مِنْ الِاخْتِصَارِ. ذِكْرُ حَبْسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ وَلَمَّا عُزِلَ سُلَيْمَانُ عَنِ الْبَصْرَةِ اخْتَفَى أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ خَوْفًا مِنَ الْمَنْصُورِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَنْصُورَ فَأَرْسَلَ إِلَى سُلَيْمَانَ وَعِيسَى ابْنَيْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي إِشْخَاصِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَعْطَاهُمَا الْأَمَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ وَعَزَمَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَفْعَلَا. فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ وَعِيسَى بِعَبْدِ اللَّهِ وَقُوَّادِهِ وَمَوَالِيهِ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى الْمَنْصُورِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ أَذِنَ لِسُلَيْمَانَ وَعِيسَى فَدَخَلَا عَلَيْهِ، وَأَعْلَمَاهُ حُضُورَ عَبْدِ اللَّهِ وَسَأَلَاهُ الْإِذْنَ لَهُ، فَأَجَابَهُمَا إِلَى ذَلِكَ وَشَغَلَهُمَا بِالْحَدِيثِ، وَكَانَ قَدْ هَيَّأَ لِعَبْدِ اللَّهِ مَكَانًا فِي قَصْرِهِ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُصْرَفَ إِلَيْهِ بَعْدَ دُخُولِ سُلَيْمَانَ وَعِيسَى، فَفُعِلَ بِهِ ذَلِكَ. ثُمَّ نَهَضَ الْمَنْصُورُ، وَقَالَ لِسُلَيْمَانَ وَعِيسَى: خُذَا عَبْدَ اللَّهِ مَعَكُمَا. فَلَمَّا خَرَجَا لَمْ يَجِدَا عَبْدَ اللَّهِ، فَعَلِمَا أَنَّهُ قَدْ حُبِسَ، فَرَجَعَا إِلَى الْمَنْصُورِ فَمُنِعَا عَنْهُ وَأُخِذَتْ عِنْدَ ذَلِكَ سُيُوفُ مَنْ حَضَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَحُبِسُوا. وَقَدْ كَانَ خُفَافُ بْنُ مَنْصُورٍ حَذَّرَهُمْ ذَلِكَ، وَنَدِمَ عَلَى مَجِيئِهِ مَعَهُمْ، وَقَالَ: إِنْ أَطَعْتُمُونِي شَدَدْنَا شَدَّةً وَاحِدَةً عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ، فَوَاللَّهِ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَنَا حَائِلٌ حَتَّى نَأْتِيَ عَلَيْهِ! وَلَا يَعْرِضُ لَنَا أَحَدٌ إِلَّا قَتَلْنَاهُ وَنَنْجُو بِأَنْفُسِنَا! فَعَصَوْهُ. فَلَمَّا أُخِذَتْ سُيُوفُهُمْ وَحُبِسُوا جَعَلَ خُفَافُ يَضْرِطُ فِي لِحْيَةِ نَفْسِهِ، وَيَتْفُلُ فِي وُجُوهِ

أَصْحَابِهِ، ثُمَّ أَمَرَ الْمَنْصُورُ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ بِحَضْرَتِهِ، وَبَعَثَ الْبَاقِينَ إِلَى أَبِي دَاوُدَ خَالِدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِخُرَاسَانَ فَقَتَلَهُمْ بِهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ عُزِلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ إِمَارَةِ الْبَصْرَةِ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِي رَمَضَانَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ: زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيُّ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَلَى الْبَصْرَةِ سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَعَلَى قَضَائِهَا: سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى خُرَاسَانَ: أَبُو دَاوُدَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْسِ الْأَنْصَارِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ. وَفِيهَا مَاتَ الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى الْحُرَقَةِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيُّ،

وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثِيُّ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ.

ثم دخلت سنة أربعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَمِائَة] 140 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ هَلَاكِ أَبِي دَاوُدَ عَامِلِ خُرَاسَانَ وَوِلَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَلَكَ أَبُو دَاوُدَ خَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الذُّهْلِيُّ عَامِلُ خُرَاسَانَ. وَكَانَ سَبَبُ هَلَاكِهِ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْجُنْدِ ثَارُوا بِهِ وَهُوَ بِكُشْمَاهَنَ، وَوَصَلُوا إِلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَائِطِ لَيْلًا، فَوَطِئَ حَرْفَ آجُرَّةٍ خَارِجَةٍ، وَجَعَلَ يُنَادِي أَصْحَابَهُ لِيَعْرِفُوا صَوْتَهُ، فَانْكَسَرَتِ الْآجُرَّةُ تَحْتَهُ عِنْدَ الصُّبْحِ، فَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ، فَانْكَسَرَ ظَهْرُهُ، فَمَاتَ عِنْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ. فَقَامَ عِصَامٌ صَاحِبُ شُرْطَتِهِ بَعْدَهُ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيُّ عَامِلًا عَلَى خُرَاسَانَ، فَلَمَّا قَدِمَهَا أَخَذَ جَمَاعَةً مِنَ الْقُوَّادِ اتَّهَمَهُمْ بِالدُّعَاءِ إِلَى وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، مِنْهُمْ: مُجَاشِعُ بْنُ حُرَيْثٍ الْأَنْصَارِيُّ عَامِلُ بُخَارَى، وَأَبُو الْمُغِيرَةِ خَالِدُ بْنُ كَثِيرٍ مَوْلَى بَنِي تَمِيمٍ عَامِلُ قُوهِسْتَانَ، وَالْحَرِيشُ بْنُ مُحَمَّدٍ الذُّهْلِيُّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ أَبِي دَاوُدَ، فَقَتَلَهُمْ وَحَبَسَ جَمَاعَةً غَيْرَهُمْ، وَأَلَحَّ عَلَى عُمَّالِ أَبِي دَاوُدَ فِي اسْتِخْرَاجِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ. ذِكْرُ قَتْلِ يُوسُفَ الْفِهْرِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نَكَثَ يُوسُفُ الْفِهْرِيُّ، الَّذِي كَانَ أَمِيرَ الْأَنْدَلُسِ، عَهْدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ كَانَ يَضَعُ عَلَيْهِ مَنْ يُهِينُهُ، وَيُنَازِعُهُ فِي أَمْلَاكِهِ، فَإِذَا أَظْهَرَ حُجَّةَ الشَّرِيعَةِ لَا يَعْمَلُ بِهَا، فَفَطِنَ لِمَا يُرَادُ مِنْهُ، فَقَصَدَ مَارِدَةَ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ عِشْرُونَ أَلْفًا، فَسَارَ نَحْوَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ قُرْطُبَةَ نَحْوَهُ إِلَى حِصْنِ الْمُدَوَّرِ.

ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ رَأَى أَنْ يَسِيرَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَرْوَانَ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَى إِشْبِيلِيَّةَ، وَإِلَى ابْنِهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ عَلَى الْمُدَوَّرِ، فَسَارَ نَحْوَهَا، وَخَرَجَا إِلَيْهِ فَلَقِيَاهُ، فَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا، فَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ يُوسُفَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَهَرَبَ يُوسُفُ وَبَقِيَ مُتَرَدِّدًا فِي الْبِلَادِ. فَقَتَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ بِنَوَاحِي طُلَيْطُلَةَ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَنَصَبَهُ بِقُرْطُبَةَ، وَقَتَلَ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يُوسُفَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ رَهِينَةً، وَنَصَبَ رَأَسَهُ مَعَ رَأْسِ أَبِيهِ، وَبَقِيَ أَبُو الْأَسْوَدِ بْنُ يُوسُفَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ رَهِينَةً، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ. وَأَمَّا الصُّمَيْلُ فَإِنَّهُ لَمَّا فَرَّ يُوسُفُ مِنْ قُرْطُبَةَ لَمْ يَهْرُبْ مَعَهُ، فَدَعَاهُ الْأَمِيرُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَسَأَلَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: لَمْ يُعْلِمْنِي بِأَمْرِهِ وَلَا أَعْرِفُ خَبَرَهُ، فَقَالَ: لَا بُدَّ أَنْ تُخْبِرَ. فَقَالَ: لَوْ كَانَ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَا رَفَعْتُهُمَا عَنْهُ، فَسَجَنَهُ مَعَ ابْنَيْ يُوسُفَ. فَلَمَّا هَرَبَا مِنَ السِّجْنِ أَنِفَ مِنَ الْهَرَبِ وَالْفِرَارِ، فَبَقِيَ فِي السِّجْنِ، ثُمَّ أُدْخِلَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَشْيَخَةُ مُضَرَ، فَوَجَدُوهُ مَيِّتًا وَعِنْدَهُ كَأْسٌ وَنُقْلٌ، فَقَالُوا: يَا أَبَا جَوْشَنٍ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ مَا شَرِبْتَ وَلَكِنْ سُقِيتَ! وَدُفِعَ إِلَى أَهْلِهِ فَدَفَنُوهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَلَكَ أَذْفَنْشُ مَلِكُ جِلِّيقِيَّةَ وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ تَدْوِيلِيَّةُ، وَكَانَ أَشْجَعَ مِنْ أَبِيهِ، وَأَحْسَنَ سِيَاسَةً لِلْمُلْكِ وَضَبْطًا لَهُ، وَكَانَ مُلْكُ أَبِيهِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَلَمَّا مَلَكَ ابْنُهُ قَوِيَ أَمْرُهُ، وَعَظُمَ سُلْطَانُهُ، وَأَخْرَجَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ثُغُورِ الْبِلَادِ، وَمَلَكَ مَدِينَةَ لُكَّ، وَبُرْطُقَالَ، وَشَلَمَنْقَةَ، وَشَمُورَةَ، وَأَيَلَةَ، وَشَقُوبِيَّةَ وَقَشْتَالَةَ، وَكُلُّ هَذِهِ مِنَ الْأَنْدَلُسِ. وَفِيهَا سَيَّرَ الْمَنْصُورُ عَبْدَ الْوَهَّابِ ابْنَ أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ، وَالْحَسَنَ بْنَ قَحْطَبَةَ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ إِلَى مَلَطْيَةَ، فَنَزَلُوا عَلَيْهَا وَعَمَّرُوا مَا كَانَ خَرَّبَهُ الرُّومُ مِنْهَا، فَفَرَغُوا مِنَ الْعِمَارَةِ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ لِلْحَسَنِ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ عَظِيمٌ، وَأَسْكَنَهَا الْمَنْصُورُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ مِنَ الْجُنْدِ، وَأَكْثَرَ فِيهَا مِنَ السِّلَاحِ وَالذَّخَائِرِ، وَبَنَى حِصْنَ قَلَوْذِيَةَ. وَلَمَّا سَمِعَ مَلِكُ الرُّومِ بِمَسِيرِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَالْحَسَنِ إِلَى مَلَطْيَةَ، سَارَ إِلَيْهِمْ فِي مِائَةِ

أَلْفِ مُقَاتِلٍ فَنَزَلَ جَيْحَانَ، فَبَلَغَهُ كَثْرَةُ الْمُسْلِمِينَ فَعَادَ عَنْهُمْ. وَلَمَّا عُمِّرَتْ مَلَطْيَةُ عَادَ إِلَيْهَا مَنْ كَانَ بَاقِيًا مِنْ أَهْلِهَا. وَفِيهَا حَجَّ الْمَنْصُورُ، فَأَحْرَمَ مِنَ الْحِيرَةِ، فَلَمَّا قَضَى حَجَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَسَارَ مِنْهُ إِلَى الرَّقَّةِ، فَقَتَلَ بِهَا مَنْصُورَ بْنَ جَعْوَنَةَ الْعَامِرِيَّ وَعَادَ إِلَى هَاشِمِيَّةِ الْكُوفَةِ. وَفِيهَا أَمَرَ الْمَنْصُورُ بِعِمَارَةِ مَدِينَةِ الْمِصِّيصَةِ عَلَى يَدِ جَبْرَائِيلَ بْنِ يَحْيَى، وَكَانَ سُورُهَا قَدْ تَشَعَّثَ مِنَ الزَّلَازِلِ وَأَهْلُهَا قَلِيلٌ، فَبَنَى السُّورَ وَسَمَّاهَا الْمَعْمُورَةَ، وَبَنَى بِهَا مَسْجِدًا جَامِعًا، وَفَرَضَ فِيهَا لِأَلْفِ رَجُلٍ، وَأَسْكَنَهَا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ: سَعْدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ. وَعَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي حَسَنٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَعُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً.

وَأَبُو الْعَلَاءِ أَيُّوبُ الْقَصَّابُ. وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْإِسْكَافِيُّ، وَهُوَ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَئِمَّتِهِمْ، وَلَهُ طَائِفَةٌ تُنْسَبُ إِلَيْهِ. وَأَسْمَاءُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مُخَارِقٍ، وَالِدُ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءٍ.

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَة] 141 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ خُرُوجِ الرَّاوِنْدِيَّةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ خُرُوجُ الرَّاوِنْدِيَّةِ عَلَى الْمَنْصُورِ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ عَلَى رَأْيِ أَبِي مُسْلِمٍ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ، يَقُولُونَ بِتَنَاسُخِ الْأَرْوَاحِ، يَزْعُمُونَ أَنَّ رُوحَ آدَمَ فِي عُثْمَانَ بْنِ نَهِيكٍ، وَأَنَّ رَبَّهُمُ الَّذِي يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ هُوَ الْمَنْصُورُ، وَأَنَّ جَبْرَائِيلَ هُوَ الْهَيْثَمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ. فَلَمَّا ظَهَرُوا أَتَوْا قَصْرَ الْمَنْصُورِ فَقَالُوا: هَذَا قَصْرُ رَبِّنَا. فَأَخَذَ الْمَنْصُورُ رُؤَسَاءَهُمْ، فَحَبَسَ مِنْهُمْ مِائَتَيْنِ، فَغَضِبَ أَصْحَابُهُمْ، وَأَخَذُوا نَعْشًا، وَحَمَلُوا السَّرِيرَ، وَلَيْسَ فِي النَّعْشِ أَحَدٌ، وَمَرُّوا بِهِ حَتَّى صَارُوا عَلَى بَابِ السِّجْنِ فَرَمَوْا بِالنَّعْشِ، وَحَمَلُوا عَلَى النَّاسِ وَدَخَلُوا السِّجْنَ وَأَخْرَجُوا أَصْحَابَهُمْ. وَقَصَدُوا نَحْوَ الْمَنْصُورِ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ سِتُّمِائَةِ رَجُلٍ، فَتَنَادَى النَّاسُ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ، فَخَرَجَ الْمَنْصُورُ مِنَ الْقَصْرِ مَاشِيًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَصْرِ دَابَّةٌ، فَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ [الْيَوْمِ] يَرْتَبِطُ دَابَّةً مَعَهُ فِي الْقَصْرِ. فَلَمَّا خَرَجَ الْمَنْصُورُ أُتِيَ بِدَابَّةٍ فَرَكِبَهَا وَهُوَ يُرِيدُهُمْ، (وَتَكَاثَرُوا عَلَيْهِ حَتَّى كَادُوا يَقْتُلُونَهُ) ، وَجَاءَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ (الشَّيْبَانِيُّ، وَكَانَ مُسْتَتِرًا مِنَ الْمَنْصُورِ بِقِتَالِهِ مَعَ ابْنِ هُبَيْرَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْمَنْصُورُ شَدِيدُ الطَّلَبِ لَهُ وَقَدْ بَذَلَ فِيهِ مَالًا كَثِيرًا، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ حَضَرَ عِنْدَ الْمَنْصُورِ مُتَلَثِّمًا، وَتَرَجَّلَ وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا، وَكَانَ الْمَنْصُورُ رَاكِبًا عَلَى بَغْلَةٍ وَلِجَامُهَا بِيَدِ الرَّبِيعِ حَاجِبِهِ. فَأَتَى مَعْنٌ وَقَالَ: تَنَحَّ فَأَنَا أَحَقُّ بِهَذَا اللِّجَامِ مِنْكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَأَعْظَمُ غَنَاءً. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: صَدَقَ فَادْفَعْهُ إِلَيْهِ. فَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُ حَتَّى تَكَشَّفَتِ الْحَالُ وَظَفِرَ بِالرَّاوِنْدِيَّةِ. فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: طِلْبَتُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ. فَقَالَ: آمَنَكَ اللَّهُ عَلَى نَفْسِكَ وَمَالِكَ وَأَهْلِكَ، مِثْلُكَ يُصْطَنَعُ) .

وَجَاءَ أَبُو نَصْرٍ مَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَنْصُورِ وَقَالَ: أَنَا الْيَوْمَ بَوَّابٌ. وَنُودِيَ فِي أَهْلِ السُّوقِ فَرَمَوْهُمْ وَقَاتَلُوهُمْ، وَفُتِحَ بَابُ الْمَدِينَةِ فَدَخَلَ النَّاسُ، فَجَاءَ خَازِمُ بْنُ خُزَيْمَةَ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إِلَى الْحَائِطِ، ثُمَّ حَمَلُوا عَلَيْهِ فَكَشَفُوهُ مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ خَازِمٌ لِلْهَيْثَمِ بْنِ شُعْبَةَ: إِذَا كَرُّوا عَلَيْنَا فَاسْتَبِقْهُمْ إِلَى الْحَائِطِ، فَإِذَا رَجَعُوا فَاقْتُلْهُمْ. فَحَمَلُوا عَلَى خَازِمٍ، فَاطَّرَدَ لَهُمْ وَصَارَ الْهَيْثَمُ مِنْ وَرَائِهِمْ فَقُتِلُوا جَمِيعًا. وَجَاءَهُمْ يَوْمَئِذٍ عُثْمَانُ بْنُ نَهِيكٍ فَكَلَّمَهُمْ، فَرَمَوْهُ بِسَهْمٍ عِنْدَ رُجُوعِهِ فَوَقَعَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَمَرِضَ أَيَّامًا وَمَاتَ مِنْهَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ الْمَنْصُورُ، وَجَعَلَ عَلَى حَرَسِهِ بَعْدَهُ عِيسَى بْنَ نَهِيكٍ، فَكَانَ عَلَى الْحَرَسِ حَتَّى مَاتَ، فَجُعِلَ عَلَى الْحَرَسِ أَبُو الْعَبَّاسِ الطُّوسِيُّ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْمَدِينَةِ الْهَاشِمِيَّةِ [بِالْكُوفَةِ] . فَلَمَّا صَلَّى الْمَنْصُورُ الظُّهْرَ دَعَا بِالْعَشَاءِ، وَأَحْضَرَ مَعْنًا وَرَفَعَ مَنْزِلَتَهُ، وَقَالَ لِعَمِّهِ عِيسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، أَسَمِعْتَ بِأَشَدِّ رَجُلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَوْ رَأَيْتَ الْيَوْمَ مَعْنًا لَعَلِمْتَ أَنَّهُ مِنْهُمْ. فَقَالَ مَعْنٌ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ أَتَيْتُكَ وَإِنِّي لَوَجِلُ الْقَلْبِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا عِنْدَكَ مِنْ الِاسْتِهَانَةِ بِهِمْ، وَشِدَّةِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِمْ رَأَيْتُ مَا لَمْ أَرَهُ مِنْ خُلُقٍ فِي حَرْبٍ، فَشَدَّ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِي وَحَمَلَنِي عَلَى مَا رَأَيْتَ مِنِّي. وَقِيلَ: كَانَ مَعْنٌ مُتَخَفِّيًا مِنَ الْمَنْصُورِ لِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ قِتَالِهِ مَعَ ابْنِ هُبَيْرَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَانَ اخْتِفَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي الْخَصِيبِ حَاجِبِ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ عَلَى أَنْ يَطْلُبَ [لَهُ] الْأَمَانَ، فَلَمَّا خَرَجَتِ الرَّاوِنْدِيَّةُ جَاءَ مَعْنٌ فَوَقَفَ بِالْبَابِ، فَسَأَلَ الْمَنْصُورُ أَبَا الْخَصِيبِ: مَنْ بِالْبَابِ؟ فَقَالَ: مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ، شَدِيدُ النَّفْسِ، عَالِمٌ بِالْحَرْبِ، كَرِيمُ الْحَسَبِ، أَدْخِلْهُ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: إِيهٍ يَا مَعْنُ! مَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: الرَّأْيُ أَنْ تُنَادِيَ فِي النَّاسِ فَتَأْمُرَ لَهُمْ بِالْأَمْوَالِ. فَقَالَ: وَأَيْنَ النَّاسُ وَالْأَمْوَالُ؟ وَمَنْ تَقَدَّمَ عَلَى أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ لِهَؤُلَاءِ الْعُلُوجِ! لَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا يَا مَعْنُ! الرَّأْيُ أَنْ أَخْرُجَ فَأَقِفَ لِلنَّاسِ، فَإِذَا رَأَوْنِي قَاتَلُوا وَتَرَاجَعُوا إِلَيَّ، وَإِنْ أَقَمْتُ تَهَاوَنُوا وَتَخَاذَلُوا. فَأَخَذَ مَعْنٌ بِيَدِهِ وَقَالَ: لَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذًا، وَاللَّهِ تُقْتَلُ السَّاعَةَ، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ! فَقَالَ لَهُ أَبُو الْخَصِيبِ مِثْلَهَا، فَجَذَبَ ثَوْبَهُ مِنْهُمَا وَرَكِبَ دَابَّتَهُ، وَخَرَجَ وَمَعْنٌ آخِذٌ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ، وَأَبُو الْخَصِيبِ مَعَ رِكَابِهِ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَتَلَهُ مَعْنٌ حَتَّى قَتَلَ أَرْبَعَةً فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا سَاعَةً حَتَّى أَفْنَوْهُمْ.

ثُمَّ تَغَيَّبَ مَعْنٌ، فَسَأَلَ الْمَنْصُورُ عَنْهُ أَبَا الْخَصِيبِ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ مَكَانَهُ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: أَيَظُنُّ مَعْنٌ أَنْ لَا أَغْفِرَ ذَنْبَهُ بَعْدَ بَلَائِهِ؟ أَعْطِهِ الْأَمَانَ وَأَدْخِلْهُ عَلَيَّ، فَأَدْخَلَهُ إِلَيْهِ، فَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ وَلَّاهُ الْيَمَنَ. ذِكْرُ خَلْعِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بِخُرَاسَانَ وَمَسِيرِ الْمَهْدِيِّ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَامِلُ خُرَاسَانَ لِلْمَنْصُورِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الْجَبَّارِ لَمَّا اسْتَعْمَلَهُ الْمَنْصُورُ عَلَى خُرَاسَانَ عَمَدَ إِلَى الْقُوَّادِ فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ وَحَبَسَ بَعْضَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَنْصُورَ وَأَتَاهُ مِنْ بَعْضِهِمْ كِتَابٌ: قَدْ نَغِلَ الْأَدِيمُ. فَقَالَ لِأَبِي أَيُّوبَ: إِنَّ عَبْدَ الْجَبَّارِ قَدْ أَفْنَى شِيعَتَنَا، وَمَا فَعَلَ ذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَخْلَعَ. فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ إِلَيْهِ أَنَّكَ تُرِيدُ غَزْوَ الرُّومِ فَلْيُوَجِّهْ إِلَيْكَ الْجُنُودَ مِنْ خُرَاسَانَ وَعَلَيْهِمْ فُرْسَانُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْهَا فَابْعَثْ إِلَيْهِ مَنْ شِئْتَ فَلَا تُمْنَعُ. فَكَتَبَ الْمَنْصُورُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَأَجَابَهُ: إِنَّ التُّرْكَ قَدْ جَاشَتْ، وَإِنْ فَرَّقْتُ الْجُنُودَ ذَهَبَتْ خُرَاسَانَ. فَأَلْقَى الْكِتَابَ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ وَقَالَ لَهُ: مَا تَرَى؟ قَالَ: قَدْ أَمْكَنَكَ مِنْ قِيَادِهِ اكْتُبْ إِلَيْهِ: إِنَّ خُرَاسَانَ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ غَيْرِهَا وَأَنَا مُوَجِّهٌ إِلَيْكَ الْجُنُودَ، ثُمَّ وَجِّهْ إِلَيْهِ الْجُنُودَ لِيَكُونُوا بِخُرَاسَانَ، فَإِنْ هَمَّ بِخَلْعٍ أَخَذُوا بِعُنُقِهِ. فَلَمَّا وَرَدَ الْكِتَابُ بِهَذَا عَلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ أَجَابَهُ: إِنَّ خُرَاسَانَ لَمْ تَكُنْ قَطُّ أَسْوَأَ حَالًا مِنْهَا [فِي هَذَا] الْعَامِ، وَإِنْ دَخَلَهَا الْجُنُودُ هَلَكُوا لِضِيقِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْغَلَاءِ. فَلَمَّا أَتَاهُ الْكِتَابُ أَلْقَاهُ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ: قَدْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ، وَقَدْ خَلَعَ فَلَا تُنَاظِرْهُ. وَوَجَّهَ الْمَنْصُورُ ابْنَهُ الْمَهْدِيَّ، وَأَمَرَهُ بِنُزُولِ الرَّيِّ، فَسَارَ إِلَيْهَا الْمَهْدِيُّ، وَوَجَّهَ خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِحَرْبِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَسَارَ الْمَهْدِيُّ فَنَزَلَ نَيْسَابُورَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ مَرْوِ الرُّوذِ سَارُوا إِلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَحَارَبُوهُ وَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ مِنْهُمْ وَلَجَأَ إِلَى مَقْطَنَةٍ فَتَوَارَى فِيهَا، فَعَبَرَ إِلَيْهِ الْمُجَشَّرُ بْنُ مُزَاحِمٍ، مِنْ أَهْلِ مَرْوِ الرُّوذِ، فَأَخَذَهُ أَسِيرًا، فَلَمَّا قَدِمَ خَازِمٌ أَتَاهُ بِهِ، فَأَلْبَسَهُ جُبَّةَ صُوفٍ، وَحَمَلَهُ عَلَى بَعِيرٍ، وَجَعَلَ وَجْهَهُ مِمَّا

يَلِي عَجُزَ الْبَعِيرِ وَحَمَلَهُ إِلَى الْمَنْصُورِ، وَمَعَهُ وَلَدُهُ وَأَصْحَابُهُ، فَبَسَطَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ حَتَّى اسْتَخْرَجَ مِنْهُمُ الْأَمْوَالَ، ثُمَّ أَمَرَ فَقُطِعَتْ يَدَا عَبْدِ الْجَبَّارِ وَرِجْلَاهُ، وَضُرِبَ عُنُقُهُ، وَأَمَرَ بِتَسْيِيرِ وَلَدِهِ إِلَى دَهْلَكَ، وَهِيَ جَزِيرَةٌ بِالْيَمَنِ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهَا حَتَّى أَغَارَ عَلَيْهِمُ الْهِنْدُ فَسَبَوْهُمْ فِيمَنْ سَبَوْا، ثُمَّ فُودُوا بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَانَ مِمَّنْ نَجَا مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، صَحِبَ الْخُلَفَاءَ، وَمَاتَ أَيَّامَ الرَّشِيدِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ. قِيلَ: وَكَانَ أَمْرُ عَبْدِ الْجَبَّارِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعِينَ. ذِكْرُ فَتْحِ طَبَرِسْتَانَ وَلَمَّا ظَفِرَ الْمَهْدِيُّ بِعَبْدِ الْجَبَّارِ بِغَيْرِ تَعَبٍ وَلَا مُبَاشَرَةِ قِتَالٍ كَرِهَ الْمَنْصُورُ أَنْ تَبْطُلَ تِلْكَ النَّفَقَاتُ الَّتِي أَنْفَقَ عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَغْزُوَ طَبَرِسْتَانَ، وَيَنْزِلَ الرَّيَّ، وَيُوَجِّهَ أَبَا الْخَصِيبِ، وَخَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ، وَالْجُنُودَ إِلَى الْأَصْبَهْبَذِ، وَكَانَ الْأَصْبَهْبَذُ يَوْمَئِذٍ مُحَارِبًا لِلْمُصْمُغَانِ، مَلِكِ دُنَبَاوَنْدَ، مُعَسْكِرًا بِإِزَائِهِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ دُخُولُ الْجُنُودِ بِلَادَهُ وَدُخُولُ أَبِي الْخَصِيبِ سَارِيَةَ قَالَ الْمُصْمُغَانُ لِلْأَصْبَهْبَذِ: مَتَى قَهَرُوكَ صَارُوا إِلَيَّ، فَاجْتَمَعَا عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ. فَانْصَرَفَ الْأَصْبَهْبَذُ إِلَى بِلَادِهِ فَحَارَبَ الْمُسْلِمِينَ، فَطَالَتْ تِلْكَ الْحُرُوبُ، فَوَجَّهَ الْمَنْصُورُ عُمَرَ بْنَ الْعَلَاءِ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ بَشَّارٌ: إِذَا أَيْقَظَتْكَ حُرُوبُ الْعِدَى ... فَنَبِّهْ لَهَا عُمَرًا ثُمَّ نَمْ. وَكَانَ عَالِمًا بِبِلَادِ طَبَرِسْتَانَ، فَأَخَذَ الْجُنُودَ وَقَصَدَ الرُّويَانَ وَفَتَحَهَا، وَأَخَذَ قَلْعَةَ الطَّاقِ وَمَا فِيهَا، وَطَالَتِ الْحَرْبُ، فَأَلَحَّ خَازِمٌ عَلَى الْقِتَالِ فَفَتَحَ طَبَرِسْتَانَ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ فَأَكْثَرَ، وَسَارَ الْأَصْبَهْبَذُ إِلَى قَلْعَتِهِ فَطَلَبَ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْقَلْعَةَ بِمَا فِيهَا مِنَ الذَّخَائِرِ. وَكَتَبَ الْمَهْدِيُّ بِذَلِكَ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَوَجَّهَ الْمَنْصُورَ صَالِحًا صَاحِبَ الْمُصَلَّى، فَأَحْصَوْا مَا فِي الْحِصْنِ وَانْصَرَفُوا، وَدَخَلَ الْأَصْبَهْبَذُ بِلَادَ جِيلَانَ مِنَ الدَّيْلَمِ، فَمَاتَ بِهَا،

وَأَخَذَتِ ابْنَتُهُ، وَهِيَ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَقَصَدَتِ الْجُنُودُ بَلَدَ الْمُصْمُغَانِ فَظَفِرُوا بِهِ وَبِالْبُحْتُرِيَّةِ، أُمِّ مَنْصُورِ بْنِ الْمَهْدِيِّ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ زِيَادُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيُّ عَنْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ: مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ فِي رَجَبٍ، وَعَلَى الطَّائِفِ وَمَكَّةَ: الْهَيْثَمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْعَتَكِيُّ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُوسَى بْنُ كَعْبٍ وَهُوَ عَلَى شُرَطِ الْمَنْصُورِ وَعَلَى مِصْرَ وَالْهِنْدِ، وَخَلِيفَتُهُ عَلَى الْهِنْدِ عُيَيْنَةُ ابْنُهُ، وَكَانَ قَدْ عُزِلَ مُوسَى عَنْ مِصْرَ، وَوَلِيَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ، ثُمَّ عُزِلَ، وَوَلِيَهَا نَوْفَلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ صَالِحُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ عَلَى الشَّامِ. وَعَلَى الْكُوفَةِ: عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَلَى الْبَصْرَةِ: سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ الْمَهْدِيُّ، وَخَلِيفَتُهُ بِهَا السَّرِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ أَخُو يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ.

وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ الْقَارِئُ.

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَة] 142 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ خَلْعِ عُيَيْنَةَ بْنِ مُوسَى بْنِ كَعْبٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ عُيَيْنَةُ بْنُ مُوسَى بِالسِّنْدِ، وَكَانَ عَامِلًا عَلَيْهَا. وَسَبَبُ خَلْعِهِ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ اسْتَخْلَفَ الْمُسَيَّبَ بْنَ زُهَيْرٍ عَلَى الشُّرَطِ، فَلَمَّا مَاتَ مُوسَى أَقَامَ الْمُسَيَّبُ عَلَى مَا كَانَ يَلِي مِنَ الشُّرَطِ، وَخَافَ أَنْ يُحْضِرَ الْمَنْصُورُ عُيَيْنَةَ فَيُوَلِّيَهُ مَا كَانَ إِلَى أَبِيهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِبَيْتِ شِعْرٍ، وَلَمْ يَنْسُبِ الْكِتَابَ إِلَى نَفْسِهِ: فَأَرْضَكَ أَرْضَكَ إِنْ تَأْتِنَا تَنَمْ نَوْمَةً لَيْسَ فِيهَا حُلُمْ فَخَلَعَ الطَّاعَةَ. فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْمَنْصُورِ سَارَ بِعَسْكَرِهِ حَتَّى نَزَلَ عَلَى جِسْرِ الْبَصْرَةِ، وَوَجَّهَ عُمَرَ بْنَ حَفْصِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ الْعَتَكِيَّ عَامِلًا عَلَى السِّنْدِ وَالْهِنْدِ، فَحَارَبَهُ عُيَيْنَةُ، فَسَارَ حَتَّى وَرَدَ السِّنْدَ فَغَلَبَ عَلَيْهَا. ذِكْرُ نَكْثِ الْأَصْبَهْبَذِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نَكَثَ الْأَصْبَهْبَذُ بِطَبَرِسْتَانَ الْعَهْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ مَنْ كَانَ بِبِلَادِهِ مِنْهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى الْمَنْصُورِ سَيَّرَ مَوْلَاهُ أَبَا الْخَصِيبِ، وَخَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ، وَرَوْحَ بْنَ حَاتِمٍ، فَأَقَامُوا عَلَى الْحِصْنِ يُحَاصِرُونَهُ وَهُوَ فِيهِ. فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْمُقَامُ احْتَالَ أَبُو الْخَصِيبِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: اضْرِبُونِي وَاحْلِقُوا رَأْسِي وَلِحْيَتِي. فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ. وَلَحِقَ بِالْأَصْبَهْبَذِ فَقَالَ لَهُ: فُعِلَ بِي هَذَا تُهْمَةً مِنْهُمْ لِي أَنْ يَكُونَ هَوَايَ مَعَكَ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ مَعَهُ، وَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى عَوْرَةِ عَسْكَرِهِمْ. فَقَبِلَ ذَلِكَ الْأَصْبَهْبَذُ، وَجَعَلَهُ فِي خَاصَّتِهِ وَأَلْطَفَهُ.

وَكَانَ بَابُ حِصْنِهِمْ مِنْ حَجَرٍ يُلْقَى إِلْقَاءً، تَرْفَعُهُ الرِّجَالُ وَتَضَعُهُ عِنْدَ فَتْحِهِ وَإِغْلَاقِهِ، وَكَانَ الْأَصْبَهْبَذُ يُوَكِّلُ بِهِ ثِقَاتِ أَصْحَابِهِ نُوَّابًا بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا وَثِقَ الْأَصْبَهْبَذُ بِأَبِي الْخَصِيبِ وَكَّلَهُ بِالْبَابِ، فَتَوَلَّى فَتْحَهُ وَإِغْلَاقَهُ حَتَّى أَنِسَ بِهِ. ثُمَّ كَتَبَ أَبُو الْخَصِيبِ إِلَى رَوْحٍ وَخَازِمٍ، وَأَلْقَى الْكِتَابَ فِي سَهْمٍ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِالْحِيلَةِ، وَوَاعَدَهُمْ لَيْلَةً فِي فَتْحِ الْبَابِ، فَلَمَّا كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةُ فَتَحَ لَهُمْ، فَقَتَلُوا مَنْ فِي الْحِصْنِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَسَبَوُا الذُّرِّيَّةَ، وَأَخَذُوا شَكْلَةَ، أُمَّ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ. وَكَانَ مَعَ الْأَصْبَهْبَذِ سُمٌّ فَشَرِبَهُ فَمَاتَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا مَاتَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ عَلَى الْبَصْرَةِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَعُمُرُهُ تِسْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ عَبْدُ الصَّمَدِ وَفِيهَا عُزِلَ نَوْفَلُ بْنُ الْفُرَاتِ عَنْ مِصْرَ وَوَلِيَهَا حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. وَوَلَّى الْمَنْصُورُ الْجَزِيرَةَ وَالثُّغُورَ وَالْعَوَاصِمَ أَخَاهُ الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَعَزَلَ الْمَنْصُورُ عَمَّهُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَلِيٍّ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا مَالِكَ بْنَ

الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيَّ جَدَّ أَحْمَدَ بْنِ نُصَيْرٍ الَّذِي قَتَلَهُ الْوَاثِقُ، وَكَانَ خَيْرَ أَمِيرٍ. [الْوَفَيَاتُ] فِيهَا مَاتَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ أَبُو سَعِيدٍ قَاضِي الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَفِيهَا مَاتَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَيْضًا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلُ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ. وَفِيهَا مَاتَ حُمَيْدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ طُرْخَانَ، وَقِيلَ مِهْرَانُ، مَوْلَى طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيِّ، وَهُوَ حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، يَرْوِي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَعُمُرُهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَة] 143 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَ الدَّيْلَمُ بِالْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَنْصُورَ، فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى قِتَالِ الدَّيْلَمِ وَجِهَادِهِمْ. وَفِيهَا عُزِلَ الْهَيْثَمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَوَلِيَ ذَلِكَ السَّرِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَكَانَ عَلَى الْيَمَامَةِ، فَسَارَ إِلَى مَكَّةَ، وَاسْتَعْمَلَ الْمَنْصُورُ عَلَى الْيَمَامَةِ قُثَمَ بْنَ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَفِيهَا عُزِلَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ عَنْ مِصْرَ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا نَوْفَلُ بْنُ الْفُرَاتِ، ثُمَّ عُزِلَ نَوْفَلٌ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عِيسَى بْنُ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ إِلَيْهِ وِلَايَةُ الْكُوفَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا ثَارَ بِالْأَنْدَلُسِ رِزْقُ بْنُ النُّعْمَانِ الْغَسَّانِيُّ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ رِزْقٌ عَلَى الْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَلْقٌ عَظِيمٌ، فَسَارَ إِلَى شَذُونَةَ فَمَلَكَهَا، وَدَخَلَ مَدِينَةَ

إِشْبِيلِيَّةَ، وَعَاجَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَحَصَرَهُ فِيهَا، وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهَا، فَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِتَسْلِيمِ رِزْقٍ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ، فَآمَنَهُمْ وَرَجَعَ عَنْهُمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَطِيَّةَ صَاحِبُ الشَّارِعَةِ، وَهِيَ نَخْلٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ طُرْخَانَ التَّيْمِيُّ، وَأَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ، وَمُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ.

ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَة] 144 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّاسَ مِنَ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ إِلَى غَزْوِ الدَّيْلَمِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحَ. وَفِيهَا رَجَعَ الْمَهْدِيُّ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَبَنَى بِرَيْطَةَ ابْنَةِ عَمِّهِ السَّفَّاحِ. وَفِيهَا حَجَّ الْمَنْصُورُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى عَسْكَرِهِ وَالْمِيرَةِ خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ. ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ رِيَاحِ بْنِ عُثْمَانَ الْمُرِّيِّ عَلَى الْمَدِينَةِ وَأَمْرِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الْمَنْصُورُ عَلَى الْمَدِينَةِ رِيَاحَ بْنَ عُثْمَانَ الْمُرِّيَّ، وَعَزَلَ مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ عَنْهَا. وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ وَعَزْلِ زِيَادٍ قَبْلَهُ أَنَّ الْمَنْصُورَ أَهَمَّهُ أَمْرُ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَتَخَلُّفُهُمَا عَنِ الْحُضُورِ عِنْدَهُ مَعَ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ عَامَ حَجَّ أَيَّامَ السَّفَّاحِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَذَكَرَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَنْصُورَ مِمَّنْ بَايَعَهُ لَيْلَةَ تَشَاوَرَ بَنُو هَاشِمٍ بِمَكَّةَ فِيمَنْ يَعْقِدُونَ لَهُ الْخِلَافَةَ حِينَ اضْطَرَبَ أَمْرُ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا حَجَّ الْمَنْصُورُ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ سَأَلَ عَنْهُمَا، فَقَالَ لَهُ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيُّ: مَا يُهِمُّكَ مِنْ أَمْرِهِمَا، أَنَا آتِيكَ بِهِمَا. وَكَانَ مَعَهُ بِمَكَّةَ، فَرَدَّهُ الْمَنْصُورُ إِلَى الْمَدِينَةِ.

فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ الْمَنْصُورُ لَمْ يَكُنْ هَمُّهُ إِلَّا أَمْرَ مُحَمَّدٍ وَالْمَسْأَلَةَ عَنْهُ وَمَا يُرِيدُ، فَدَعَا بَنِي هَاشِمٍ رَجُلًا رَجُلًا يَسْأَلُهُ سِرًّا عَنْهُ، فَكُلُّهُمْ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَ أَنَّكَ عَرَفْتَهُ يَطْلُبُ هَذَا الْأَمْرَ، فَهُوَ يَخَافُكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ لَكَ خِلَافًا، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا الْكَلَامَ، إِلَّا الْحَسَنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَهُ خَبَرَهُ وَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ مَا آمَنُ وُثُوبَهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّهُ لَا يَنَامُ عَنْكَ، فَأَيْقَظَ بِكَلَامِهِ مَنْ لَا يَنَامُ، فَكَانَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: اللَّهُمَّ اطْلُبْ حَسَنَ بْنَ زَيْدٍ بِدِمَائِنَا. ثُمَّ أَلَحَّ الْمَنْصُورُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ فِي إِحْضَارِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ سَنَةَ حَجَّ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِسُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: يَا أَخِي بَيْنَنَا مِنَ الصِّهْرِ وَالرَّحِمِ مَا تَعْلَمُ، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ سُلَيْمَانُ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّنِي أَنْظُرُ إِلَى أَخِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ السِّتْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَنَا وَهُوَ يُشِيرُ إِلَيْنَا: هَذَا الَّذِي فَعَلْتُمْ بِي، فَلَوْ كَانَ عَافِيًا عَفَا عَنْ عَمِّهِ. فَقَبِلَ عَبْدُ اللَّهِ رَأْيَ سُلَيْمَانَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَهُ وَلَمْ يُظْهِرِ ابْنَهُ. ثُمَّ إِنَّ الْمَنْصُورَ اشْتَرَى رَقِيقًا مِنْ رَقِيقِ الْأَعْرَابِ، وَأَعْطَى الرَّجُلَ مِنْهُمُ الْبَعِيرَ، وَالرَّجُلَ الْبَعِيرَيْنِ، وَالرَّجُلَ الذَّوْدَ، وَفَرَّقَهُمْ فِي طَلَبِ مُحَمَّدٍ فِي ظَهْرِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَرِدُ الْمَاءَ كَالْمَارِّ، وَكَالضَّالِّ يَسْأَلُونَ عَنْهُ، وَبَعَثَ الْمَنْصُورُ عَيْنًا آخَرَ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا عَلَى أَلْسُنِ الشِّيعَةِ إِلَى مُحَمَّدٍ يَذْكُرُونَ طَاعَتَهُمْ وَمُسَارَعَتَهُمْ، وَبَعَثَ مَعَهُ بِمَالٍ وَأَلْطَافٍ، وَقَدِمَ الرَّجُلُ الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ فَسَأَلَهُ عَنِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ، فَذَكَرَ لَهُ، فَكَتَمَ لَهُ خَبَرَهُ، فَتَرَدَّدَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ، وَأَلَحَّ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ فِي جَبَلِ جُهَيْنَةَ، فَقَالَ لَهُ: امْرُرْ بِعَلِيٍّ ابْنِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُدْعَى الْأَغَرَّ، وَهُوَ بِذِي الْإِبَرِ، فَهُوَ يُرْشِدُكَ، فَأَتَاهُ فَأَرْشَدَهُ. وَكَانَ لِلْمَنْصُورِ كَاتِبٌ عَلَى سِرِّهِ يَتَشَيَّعُ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ الْعَيْنِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْكِتَابُ ارْتَاعُوا لَهُ وَبَعَثُوا أَبَا هَبَّارٍ إِلَى مُحَمَّدٍ وَإِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ يُحَذِّرُهُمَا الرَّجُلَ، فَخَرَجَ أَبُو هَبَّارٍ فَنَزَلَ بِعَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ وَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي هُوَ بِهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي كَهْفٍ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَذَلِكَ الْعَيْنُ مَعَهُمْ أَعْلَاهُمْ صَوْتًا، وَأَشَدُّهُمُ انْبِسَاطًا. فَلَمَّا رَأَى أَبَا هَبَّارٍ خَافَهُ، فَقَالَ أَبُو هَبَّارٍ لِمُحَمَّدٍ: لِي حَاجَةٌ. فَقَامَ مَعَهُ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، قَالَ: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: أَرَى إِحْدَى ثَلَاثٍ. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تَدَعُنِي أَقْتُلُ هَذَا الرَّجُلَ. قَالَ: مَا أَنَا مُقَارِفٌ دَمًا إِلَّا كَرْهًا. قَالَ: أَثْقِلْهُ حَدِيدًا وَتَنْقُلُهُ مَعَكَ حَيْثُ تَنْقَلِبُ. قَالَ: وَهَلْ لَنَا فِرَارٌ مَعَ الْخَوْفِ وَالْإِعْجَالِ؟ قَالَ: نَشُدُّهُ وَنُودِعُهُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِكَ مِنْ جُهَيْنَةَ. قَالَ: هَذِهِ إِذًا.

فَرَجَعَا فَلَمْ يَرَيَا الرَّجُلَ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَيْنَ الرَّجُلُ؟ قَالُوا: [قَامَ] بِرَكْوَةِ مَاءٍ وَتَوَارَى بِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَوَضَّأُ، فَطَلَبُوهُ وَلَمْ يَجِدُوهُ فَكَأَنَّ الْأَرْضَ الْتَأَمَتْ عَلَيْهِ، وَسَعَى عَلَى قَدَمَيْهِ حَتَّى اتَّصَلَ بِالطَّرِيقِ، فَمَرَّ بِهِ الْأَعْرَابُ مَعَهُمْ حُمُولَةٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لِبَعْضِهِمْ: فَرِّغْ هَذِهِ الْغِرَارَةَ وَأَدْخِلْنِيهَا أَكُنْ عِدْلًا لِصَاحِبَتِهَا وَلَكَ كَذَا وَكَذَا. فَفَعَلَ وَحَمَلَهُ حَتَّى أَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ. ثُمَّ قَدِمَ عَلَى الْمَنْصُورِ، وَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ كُلَّهُ، وَنَسِيَ اسْمَ أَبِي هَبَّارٍ وَكُنْيَتَهُ وَقَالَ: وَبَّارٌ. فَكَتَبَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي طَلَبِ 9 وَبَّارٍ الْمُرِّيِّ، فَحُمِلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ اسْمُهُ وَبَرٌ فَسَأَلَهُ عَنْ قِصَّةِ مُحَمَّدٍ فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأَمَرَ بِهِ وَضُرِبَ سَبْعَمِائَةِ سَوْطٍ وَحُبِسَ حَتَّى مَاتَ الْمَنْصُورُ. ثُمَّ إِنَّهُ أَحْضَرَ عُقْبَةَ بْنَ سَلَمٍ الْأَزْدِيَّ فَقَالَ: أُرِيدُكَ لِأَمْرٍ أَنَا بِهِ مَعْنِيٌّ، لَمْ أَزَلْ أَرْتَادُ لَهُ رَجُلًا عَسَى أَنْ تَكُونَهُ، وَإِنْ كَفَيْتَنِيهِ رَفَعْتُكَ. فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ أَصْدُقَ ظَنَّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِيَّ. [قَالَ] : فَأَخْفِ شَخْصَكَ، وَاسْتُرْ أَمْرَكَ، وَأْتِنِي يَوْمَ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا. فَأَتَاهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ. فَقَالَ لَهُ: إِنَّ بَنِي عَمِّنَا هَؤُلَاءِ قَدْ أَبَوْا إِلَّا كَيْدًا لِمُلْكِنَا وَاغْتِيَالًا لَهُ، وَلَهُمْ شِيعَةٌ بِخُرَاسَانَ بِقَرْيَةِ كَذَا يُكَاتِبُونَهُمْ، وَيُرْسِلُونَ إِلَيْهِمْ بِصَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ، وَأَلْطَافٍ مِنْ أَلْطَافِ بِلَادِهِمْ، فَاخْرُجْ بِكُسًا وَأَلْطَافٍ وَعَيْنٍ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ مُتَنَكِّرًا بِكِتَابٍ تَكْتُبُهُ عَنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ ثُمَّ تَعْلَمُ حَالَهُمْ، فَإِنْ كَانُوا نَزَعُوا عَنْ رَأْيِهِمْ فَأَحْبِبْ وَاللَّهِ بِهِمْ وَأَقْرِبْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى رَأْيِهِمْ عَمِلْتُ ذَلِكَ وَكُنْتُ عَلَى حَذَرٍ، فَاشْخَصْ حَتَّى تَلْقَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ مُتَخَشِّعًا وَمُتَقَشِّفًا، فَإِنْ جَبَهَكَ، وَهُوَ فَاعِلٌ، فَاصْبِرْ وَعَاوِدْهُ حَتَّى يَأْنَسَ بِكَ وَيُلِينَ لَكَ نَاحِيَتَهُ، فَإِذَا أَظْهَرَ لَكَ مَا قِبَلَهُ فَاعْجَلْ عَلَيَّ. فَشَخَصَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَلَقِيَهُ بِالْكِتَابِ، فَأَنْكَرَهُ وَنَهَرَهُ وَقَالَ: مَا أَعْرِفُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ. فَلَمْ يَزَلْ يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ حَتَّى قَبِلَ كِتَابَهُ وَأَلْطَافَهُ وَأَنِسَ بِهِ، فَسَأَلَهُ عُقْبَةُ الْجَوَابَ. فَقَالَ: أَمَّا الْكِتَابُ، فَإِنِّي لَا أَكْتُبُ إِلَى أَحَدٍ، وَلَكِنْ أَنْتَ كِتَابِي إِلَيْهِمْ، فَأَقْرِئْهُمُ السَّلَامَ، وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّنِي خَارِجٌ لِوَقْتِ كَذَا وَكَذَا. وَرَجَعَ عُقْبَةُ إِلَى الْمَنْصُورِ فَأَعْلَمَهُ الْخَبَرَ، فَأَنْشَأَ الْمَنْصُورُ الْحَجَّ، وَقَالَ لِعَقَبَةَ: إِذَا لَقِيَنِي بَنُو الْحَسَنِ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ فَأَنَا مُكْرِمُهُ، وَرَافِعٌ مَجْلِسَهُ، وَدَاعٍ بِالْغَدَاءِ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنْ طَعَامِنَا فَلَحَظْتُكَ فَامْثُلْ بَيْنَ يَدَيْهِ قَائِمًا، فَإِنَّهُ سَيَصْرِفُ عَنْكَ بَصَرَهُ، فَاسْتَدِرْ

حَتَّى تَغْمِزَ ظَهْرَهُ بِإِبْهَامِ رِجْلِكَ حَتَّى يَمْلَأَ عَيْنَهُ مِنْكَ، ثُمَّ حَسْبُكَ، وَإِيَّاكَ أَنْ يَرَاكَ مَا دَامَ يَأْكُلُ. فَخَرَجَ إِلَى الْحَجِّ، فَلَمَّا لَقِيَهُ بَنُو الْحَسَنِ أَجْلَسَ عَبْدَ اللَّهِ إِلَى جَانِبِهِ ثُمَّ دَعَا بِالْغَدَاءِ فَأَصَابُوا مِنْهُ، ثُمَّ رُفِعَ فَأَقْبَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ فَقَالَ لَهُ: قَدْ عَلِمْتَ مَا أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ أَلَّا تَبْغِيَنِي بِسُوءٍ وَلَا تَكِيدَ لِي سُلْطَانًا؟ قَالَ: فَأَنَا عَلَى ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَحَظَ الْمَنْصُورُ عُقْبَةَ بْنَ سَلَمٍ فَاسْتَدَارَ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ اللَّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَاسْتَدَارَ حَتَّى قَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَغَمَزَهُ بِإِصْبَعِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَمَلَأَ عَيْنَهُ مِنْهُ، فَوَثَبَ حَتَّى قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَنْصُورِ، فَقَالَ: (أَقِلْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَقَالَكَ اللَّهُ! قَالَ: لَا أَقَالَنِي اللَّهُ إِنْ أَقَلْتُكَ) ! ثُمَّ أَمَرَ بِحَبْسِهِ. وَكَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قَدِمَ قَبْلَ ذَلِكَ الْبَصْرَةَ، فَنَزَلَهَا فِي بَنِي رَاسِبٍ يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ، وَقِيلَ: نَزَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَيْبَانَ أَحَدِ بَنِي مُرَّةَ بْنِ عُبَيْدٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا، فَبَلَغَ الْمَنْصُورَ مَقْدِمُهُ الْبَصْرَةَ، فَسَارَ إِلَيْهَا مُغِذًّا، فَنَزَلَ عِنْدَ الْحُرِّ الْأَكْبَرِ، فَلَقِيَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عُثْمَانَ هَلْ بِالْبَصْرَةِ أَحَدٌ تَخَافُهُ عَلَى أَمْرِنَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَاقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِكَ وَانْصَرِفْ. قَالَ: نَعَمْ. وَكَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ سَارَ عَنْهَا قَبْلَ مَقْدِمِ الْمَنْصُورِ، فَرَجَعَ الْمَنْصُورُ، وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا عَدَنَ، ثُمَّ سَارَا إِلَى السِّنْدِ ثُمَّ إِلَى الْكُوفَةِ ثُمَّ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ حَجَّ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، فَقَسَّمَ أَمْوَالًا عَظِيمَةً فِي آلِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمْ يَظْهَرْ مُحَمَّدٌ وَإِبْرَاهِيمُ، فَسَأَلَ أَبَاهُمَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْهُمَا، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهِمَا، فَتَغَالَظَا، فَأَمَصَّهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ حَتَّى قَالَ لَهُ: امْصُصْ كَذَا وَكَذَا مِنْ أُمِّكَ! فَقَالَ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، بِأَيِّ أُمَّهَاتِي تُمِصُّنِي؟ ! أَبِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أَمْ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ؟ أَمْ بِأُمِّ إِسْحَاقَ بِنْتِ طَلْحَةَ؟ أَمْ بِخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ؟ [قَالَ] : لَا بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَلَكِنْ بِالْحِرْبَاءِ بِنْتِ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ! وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ طَيِّئٍ، فَقَالَ الْمُسَيَّبُ بْنُ زُهَيْرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ ابْنِ الْفَاعِلَةِ! فَقَامَ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَلْقَى عَلَيْهِ رِدَاءَهُ وَقَالَ: هَبْهُ لِي [يَا] أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَسْتَخْرِجْ لَكَ ابْنَيْهِ، فَتَخَلَّصَهُ [مِنْهُ] .

وَكَانَ مُحَمَّدٌ وَإِبْرَاهِيمُ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ تَغَيَّبَا حِينَ حَجَّ الْمَنْصُورُ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَحَجَّ أَيْضًا فَاجْتَمَعُوا بِمَكَّةَ وَأَرَادُوا اغْتِيَالَ الْمَنْصُورِ، فَقَالَ لَهُمُ الْأَشْتَرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَنَا أَكْفِيكُمُوهُ! فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُهُ أَبَدًا غِيلَةً حَتَّى أَدْعُوَهُ. فَنَقَضَ مَا كَانُوا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ قَائِدٌ مِنْ قُوَّادِ الْمَنْصُورِ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ اسْمُهُ خَالِدُ بْنُ حَسَّانٍ يُدْعَى أَبَا الْعَسَاكِرِ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ، فَنَمَّى الْخَبَرَ إِلَى الْمَنْصُورِ فَطُلِبَ، فَلَمْ يُظْفَرْ بِهِ، فَظَفِرَ بِأَصْحَابِهِ فَقَتَلَهُمْ، وَأَمَّا الْقَائِدُ فَإِنَّهُ لَحِقَ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ. ثُمَّ إِنَّ الْمَنْصُورَ حَثَّ زِيَادَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى طَلَبِ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ، فَضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ وَوَعَدَهُ بِهِ، فَقَدِمَ مُحَمَّدٌ الْمَدِينَةَ قَدْمَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ زِيَادًا، فَتَلَطَّفَ لَهُ، وَأَعْطَاهُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يُظْهِرَ وَجْهَهُ لِلنَّاسِ، فَوَعَدَهُ مُحَمَّدٌ ذَلِكَ، فَرَكِبَ زِيَادٌ مَعَ الْمَسَاءِ وَوَاعَدَ مُحَمَّدًا سُوقَ الظُّهْرِ، وَرَكِبَ مُحَمَّدٌ، فَتَصَايَحَ النَّاسُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، الْمَهْدِيُّ الْمَهْدِيُّ! فَوَقَفَ هُوَ وَزِيَادٌ، فَقَالَ زِيَادٌ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: الْحَقْ بِأَيِّ بِلَادِ اللَّهِ شِئْتَ. فَتَوَارَى مُحَمَّدٌ. وَسَمِعَ الْمَنْصُورُ الْخَبَرَ فَأَرْسَلَ أَبَا الْأَزْهَرِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْمُطَّلِبِ، وَأَنْ يَقْبِضَ عَلَى زِيَادٍ وَأَصْحَابِهِ، وَيَسِيرَ بِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَدِمَ أَبُو الْأَزْهَرِ الْمَدِينَةَ، فَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ، وَأَخَذَ زِيَادًا وَأَصْحَابَهُ، وَسَارَ نَحْوَ الْمَنْصُورِ، وَخَلَّفَ زِيَادٌ فِي بَيْتِ مَالِ الْمَدِينَةِ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَجَنَهُمْ الْمَنْصُورُ، ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاسْتَعْمَلَ الْمَنْصُورُ عَلَى الْمَدِينَةِ مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ، وَأَمَرَهُ بِطَلَبِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَبَسَطَ يَدَهُ فِي النَّفَقَةِ فِي طَلَبِهِ. فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، فَأَخَذَ الْمَالَ وَرَفَعَ فِي مُحَاسَبَتِهِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً أَنْفَقَهَا فِي طَلَبِ مُحَمَّدٍ، فَاسْتَبْطَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَاتَّهَمَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِكَشْفِ الْمَدِينَةِ وَأَعْرَاضِهَا، فَطَافَ بِبُيُوتِ النَّاسِ فَلَمْ يَجِدْ مُحَمَّدًا. فَلَمَّا رَأَى الْمَنْصُورُ مَا قَدْ أَخْرَجَ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَظْفَرْ بِمُحَمَّدٍ اسْتَشَارَ أَبَا الْعَلَاءِ - رَجُلًا مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ - فِي أَمْرِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَخِيهِ، فَقَالَ: أَرَى أَنْ تَسْتَعْمِلَ رَجُلًا مِنْ وَلَدِ الزُّبَيْرِ أَوْ طَلْحَةَ، فَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَهُمَا بِذَحْلٍ، وَيُخْرِجُونَهُمَا إِلَيْكَ. فَقَالَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ مَا أَجْوَدَ مَا رَأَيْتَ! وَاللَّهِ مَا خَفِيَ عَلَيَّ هَذَا، وَلَكِنَّنِي أُعَاهِدُ اللَّهَ لَا أَنْتَقِمُ مِنْ بَنِي عَمِّي وَأَهْلِ

بَيْتِي بِعَدُوِّي وَعَدُوِّهِمْ، وَلَكِنِّي أَبْعَثُ عَلَيْهِمْ صُعْلُوكًا مِنَ الْعَرَبِ يَفْعَلُ بِهِمْ مَا قُلْتَ. فَاسْتَشَارَ يَزِيدَ بْنَ يَزِيدَ السُّلَمِيَّ وَقَالَ لَهُ: دُلَّنِي عَلَى فَتًى مُقِلٍّ مِنْ قَيْسٍ أُغْنِيهِ وَأُشَرِّفُهُ وَأُمَكِّنُهُ مِنْ سَيِّدِ الْيَمَنِ، يَعْنِي ابْنَ الْقَسْرِيِّ، [قَالَ] : هُوَ رِيَاحُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَيَّانَ الْمُرِّيُّ، فَسَيَّرَهُ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ رِيَاحًا ضَمِنَ لِلْمَنْصُورِ أَنْ يُخْرِجَ مُحَمَّدًا وَإِبْرَاهِيمَ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ إِنِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهَا، فَسَارَ حَتَّى دَخَلَهَا، فَلَمَّا دَخَلَ دَارَ مَرْوَانَ، وَهِيَ الَّتِي كَانَ يَنْزِلُهَا الْأُمَرَاءُ، قَالَ لِحَاجِبٍ كَانَ لَهُ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: هَذِهِ دَارُ مَرْوَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا إِنَّهَا مِحْلَالٌ مِظْعَانٌ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَظْعَنُ مِنْهَا. فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ قَالَ لِحَاجِبِهِ: يَا أَبَا الْبَخْتَرِيِّ، خُذْ بِيَدِي نَدْخُلْ عَلَى هَذَا الشَّيْخِ، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ، فَدَخَلَا عَلَيْهِ، وَقَالَ رِيَاحٌ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَاللَّهِ مَا اسْتَعْمَلَنِي لِرَحِمٍ قَرِيبَةٍ، وَلَا لِيَدٍ سَلَفَتْ إِلَيْهِ، وَاللَّهِ لَا لَعِبْتَ فِيَّ كَمَا لَعِبْتَ بِزِيَادٍ وَابْنِ الْقَسْرِيِّ، وَاللَّهِ لَأُزْهِقَنَّ نَفْسَكَ، أَوْ لَتَأْتِيَنِّي بِابْنَيْكَ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ! فَرَفَعَ رَأَسَهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: نَعَمْ، أَمَا وَاللَّهِ إِنَّكَ لَأُزَيْرِقُ قَيْسٍ الْمَذْبُوحُ فِيهَا كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ! . قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: فَانْصَرَفَ وَاللَّهِ رِيَاحٌ آخِذًا بِيَدِي، أَجِدُ بَرْدَ يَدِهِ، وَإِنَّ رِجْلَيْهِ لَتَخُطَّانِ الْأَرْضَ مِمَّا كَلَّمَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ هَذَا مَا اطَّلَعَ عَلَى الْغَيْبِ. قَالَ: إِيهًا، وَيْلَكَ! فَوَاللَّهِ مَا قَالَ إِلَّا مَا سَمِعَ. فَذُبِحَ كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ. ثُمَّ إِنَّهُ دَعَا بِالْقَسْرِيِّ وَسَأَلَهُ عَنِ الْأَمْوَالِ، فَضَرَبَهُ وَسَجَنَهُ، وَأَخَذَ كَاتِبَهُ رِزَامًا وَعَاقَبَهُ فَأَكْثَرَ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ مَا أَخَذَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَهُوَ لَا يُجِيبُهُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ الْعَذَابُ أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ رِيَاحٌ: أَحْضِرِ الرَّفِيعَةَ وَقْتَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ أَحْضَرَهُ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الْأَمِيرَ أَمَرَنِي أَنْ أَرْفَعَ عَلَى ابْنِ خَالِدٍ، وَقَدْ كَتَبْتُ كِتَابًا لِأَنْجُوَ بِهِ، وَإِنَّا لَنُشْهِدُكُمْ أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ بَاطِلٌ. فَأَمَرَ رِيَاحٌ فَضُرِبَ مِائَةَ سَوْطٍ، وَرُدَّ إِلَى السِّجْنِ. وَجَدَّ رِيَاحٌ فِي طَلَبِ مُحَمَّدٍ، فَأُخْبِرَ أَنَّهُ فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ رَضْوَى، جَبَلِ جُهَيْنَةَ، وَهُوَ فِي عَمَلِ يَنْبُعَ، فَأَمَرَ عَامِلَهُ فِي طَلَبِ مُحَمَّدٍ، فَهَرَبَ مِنْهُ رَاجِلًا، فَأَفْلَتَ وَلَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ

وُلِدَ فِي خَوْفِهِ وَهُوَ مَعَ جَارِيَةٍ لَهُ فَسَقَطَ مِنَ الْجَبَلِ فَتَقَطَّعَ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: مُنْخَرِقُ السِّرْبَالِ يَشْكُو الْوَجَى ... تَنْكُبُهُ أَطْرَافُ مَرْوِ حِدَادْ شَرَّدَهُ الْخَوْفُ فَأَزْرَى بِهِ ... كَذَاكَ مَنْ يَكْرَهُ حَرَّ الْجِلَادْ قَدْ كَانَ فِي الْمَوْتِ لَهُ رَاحَةٌ ... وَالْمَوْتُ حَتْمٌ فِي رِقَابِ الْعِبَادْ. وَبَيْنَا رِيَاحٌ يَسِيرُ فِي الْحَرَّةِ إِذْ لَقِيَ مُحَمَّدًا، فَعَدَلَ مُحَمَّدٌ إِلَى بِئْرٍ هُنَاكَ فَجَعَلَ يَسْتَقِي، فَقَالَ رِيَاحٌ: قَاتَلَهُ اللَّهُ أَعْرَابِيًّا مَا أَحْسَنَ ذِرَاعَهُ! . ذِكْرُ حَبْسِ أَوْلَادِ الْحَسَنِ قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ الْمَنْصُورَ حَبَسَهُمْ، وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا إِنَّ رِيَاحًا هُوَ الَّذِي حَبَسَهُمْ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ: حَضَرْنَا بَابَ رِيَاحٍ فِي الْمَقْصُورَةِ، فَقَالَ الْآذِنُ: مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ بَنِي الْحُسَيْنِ فَلْيَدْخُلْ. فَدَخَلُوا مِنْ بَابِ الْمَقْصُورَةِ، وَخَرَجُوا مِنْ بَابِ مَرْوَانَ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ هَاهُنَا مِنْ بَنِي الْحَسَنِ فَلْيَدْخُلْ. فَدَخَلُوا مِنْ بَابِ الْمَقْصُورَةِ، وَدَخَلَ الْحَدَّادُونَ مِنْ بَنِي مَرْوَانَ، فَدَعَا بِالْقُيُودِ فَقَيَّدَهُمْ وَحَبَسَهُمْ. وَكَانُوا: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنَ وَإِبْرَاهِيمَ ابْنَيِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ، وَجَعْفَرَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ، وَسُلَيْمَانَ وَعَبْدَ اللَّهِ ابْنَيْ دَاوُدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدًا وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ بَنِي إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ، وَعَبَّاسَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمُوسَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ. فَلَمَّا حَبَسَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْعَابِدُ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ بَعْدَ الصُّبْحِ إِذْ قَدْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مُتَلَفِّفٌ، فَقَالَ لَهُ رِيَاحٌ: مَرْحَبًا بِكَ، مَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: جِئْتُكَ لِتَحْبِسَنِي مَعَ قَوْمِي، فَإِذَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ، فَحَبَسَهُ مَعَهُمْ. وَكَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ عَلِيًّا إِلَى مِصْرَ يَدْعُو إِلَيْهِ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ عَامِلَ مِصْرَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى الْوُثُوبِ بِكَ وَالْقِيَامِ عَلَيْكَ بِمَنْ شَايَعَهُ، فَقَبَضَهُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَاعْتَرَفَ لَهُ وَسَمَّى أَصْحَابَ أَبِيهِ، وَكَانَ فِيمَنْ سَمَّى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي، وَأَبُو حُبَيْرٍ،

فَضَرَبَهُمَا الْمَنْصُورُ وَحَبَسَهُمَا وَحَبَسَ عَلِيًّا، فَبَقِيَ مَحْبُوسًا إِلَى أَنْ مَاتَ. وَكَتَبَ الْمَنْصُورُ إِلَى رِيَاحٍ أَنْ يَحْبِسَ مَعَهُمْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْمَعْرُوفَ بِالدِّيبَاجِ، وَكَانَ أَخَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ، لِأَنَّ أُمَّهُمَا جَمِيعًا فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَأَخَذَهُ مَعَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَنْصُورَ حَبَسَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَحْدَهُ، وَتَرَكَ بَاقِيَ أَوْلَادِ الْحَسَنِ، فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا، فَبَقِيَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ قَدْ نَصَلَ خِضَابُهُ حُزْنًا عَلَى أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ الْمَنْصُورُ يَقُولُ: مَا فَعَلَتِ الْحَادَّةُ؟ وَمَرَّ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ وَهُوَ يَعْلِفُ إِبِلًا لَهُ فَقَالَ: أَتَعْلِفُ إِبِلَكَ وَعَبْدُ اللَّهِ مَحْبُوسٌ! يَا غُلَامُ، أَطْلِقْ عُقُلَهَا! فَأَطْلَقَهَا ثُمَّ صَاحَ فِي أَدْبَارِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا بِعِيرٌ. . فَلَمَّا طَالَ حَبْسُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سَعِيدٍ لِلْمَنْصُورِ: أَتَطْمَعُ فِي خُرُوجِ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَبَنُو الْحَسَنِ مُخَلَّوْنَ؟ وَاللَّهِ لَلْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَهْيَبُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْأَسَدِ! فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ حَبْسِ الْبَاقِينَ. ذِكْرُ حَمْلِهِمْ إِلَى الْعِرَاقِ وَلَمَّا حَجَّ الْمَنْصُورُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ أَرْسَلَ مُحَمَّدَ بْنَ عِمْرَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، وَمَالِكَ بْنَ أَنَسٍ إِلَى بَنِي الْحَسَنِ، وَهُمْ فِي الْحَبْسِ، يَسْأَلُهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا إِلَيْهِ مُحَمَّدًا، وَإِبْرَاهِيمَ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ، فَدَخَلَا عَلَيْهِمْ وَعَبْدُ اللَّهِ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَأَبْلَغَاهُمُ الرِّسَالَةَ، فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا عَمَلُ ابْنَيِ الْمَشُومَةِ! أَمَا وَاللَّهِ مَا هَذَا عَنْ رَأْيِنَا وَلَا عَنْ مَلَإٍ مِنَّا وَلَنَا فِيهِ حُكْمٌ. فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ: عَلَامَ تُؤْذِي أَخَاكَ فِي ابْنَيْهِ وَتُؤْذِي ابْنَ أَخِيكَ فِي أُمِّهِ؟ ثُمَّ فَرَغَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ صَلَاتِهِ فَأَبْلَغَاهُ الرِّسَالَةَ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ (لَا أَرُدُّ عَلَيْكُمَا حَرْفًا، إِنْ أَحَبَّ) أَنْ يَأْذَنَ لِي فَأَلْقَاهُ فَلْيَفْعَلْ. فَانْطَلَقَ الرَّسُولَانِ فَأَبْلَغَا الْمَنْصُورَ، فَقَالَ: أَرَادَ أَنْ يَسْحَرَنِي، لَا وَاللَّهِ لَا تَرَى عَيْنُهُ عَيْنِي حَتَّى يَأْتِيَنِي بِابْنَيْهِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يُحَدِّثُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا فَتَلَهُ عَنْ رَأْيِهِ.

ثُمَّ سَارَ الْمَنْصُورُ لِوَجْهِهِ، فَلَمَّا حَجَّ وَرَجَعَ لَمْ يَدْخُلِ الْمَدِينَةَ وَمَضَى إِلَى الرَّبْذَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رِيَاحٌ إِلَى الرَّبْذَةِ، فَرَدَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَمَرَهُ بِإِشْخَاصِ بَنِي الْحَسَنِ إِلَيْهِ وَمَعَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَخُو بَنِي الْحَسَنِ لِأُمِّهِمْ، فَرَجَعَ رِيَاحٌ فَأَخَذَهُمْ، وَسَارَ بِهِمْ إِلَى الرَّبْذَةِ، وَجُعِلَتِ الْقُيُودُ وَالسَّلَاسِلُ فِي أَرْجُلِهِمْ وَأَعْنَاقِهِمْ، وَجَعَلَهُمْ فِي مَحَامِلَ بِغَيْرِ وِطَاءٍ. وَلَمَّا خَرَجَ بِهِمْ رِيَاحٌ مِنَ الْمَدِينَةِ وَقَفَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ يَرَاهُمْ وَيَرَوْنَهُ وَهُوَ يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى لِحْيَتِهِ وَهُوَ يَدْعُو اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَحْفَظُ اللَّهُ حَرَمَيْهِ بَعْدَ هَؤُلَاءِ. وَلَمَّا سَارُوا كَانَ مُحَمَّدٌ وَإِبْرَاهِيمُ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ يَأْتِيَانِ كَهَيْئَةِ الْأَعْرَابِ فَيُسَايِرَانِ أَبَاهُمَا وَيَسْتَأْذِنَانِهِ بِالْخُرُوجِ، وَيَقُولُ: لَا تَعْجَلَا حَتَّى يُمْكِنَكُمَا ذَلِكَ. وَقَالَ لَهُمَا: إِنْ مَنَعَكُمَا أَبُو جَعْفَرٍ، يَعْنِي الْمَنْصُورَ، أَنْ تَعِيشَا كَرِيمَيْنِ فَلَا يَمْنَعْكُمَا أَنْ تَمُوتَا كَرِيمَيْنِ. فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الرَّبْذَةِ أُدْخِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعُثْمَانِيُّ عَلَى الْمَنْصُورِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ وَإِزَارٌ رَقِيقٌ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: إِيهًا يَا دَيُّوثُ! قَالَ مُحَمَّدٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ! لَقَدْ عَرَفْتَنِي بِغَيْرِ ذَلِكَ صَغِيرًا وَكَبِيرًا! قَالَ: فَمِمَّنْ حَمَلَتِ ابْنَتُكَ رُقَيَّةُ؟ وَكَانَتْ تَحْتَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَقَدْ أَعْطَيْتَنِي الْأَيْمَانَ أَنْ لَا تَغُشَّنِي وَلَا تُمَالِئَ عَلَيَّ عَدُوًّا، ثُمَّ أَنْتَ تَرَى ابْنَتَكَ حَامِلًا وَزَوْجُهَا غَائِبٌ، وَأَنْتَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ حَانِثًا أَوْ دَيُّوثًا! وَايْمُ اللَّهِ إِنِّي لَأَهُمُّ بِرَجْمِهَا! قَالَ مُحَمَّدٌ: أَمَّا أَيْمَانِي فَهِيَ عَلَيَّ إِنْ كُنْتُ دَخَلْتُ لَكَ فِي أَمْرِ غِشٍّ عَلِمْتَهُ، وَأَمَّا مَا رَمَيْتَ بِهِ هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهَا بِوِلَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهَا، وَلَكِنِّي ظَنَنْتُ حِينَ ظَهَرَ حَمْلُهَا أَنَّ زَوْجَهَا أَلَمَّ بِهَا عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ. فَاغْتَاظَ الْمَنْصُورُ مِنْ كَلَامِهِ، وَأَمَرَ بِشَقِّ ثِيَابِهِ عَنْ (إِزَارِهِ فَحُكِيَ أَنَّ عَوْرَتَهُ قَدْ كُشِفَتْ) ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ خَمْسِينَ وَمِائَةَ سَوْطٍ، فَبَلَغَتْ مِنْهُ كُلَّ مَبْلَغٍ وَالْمَنْصُورُ يَفْتَرِي عَلَيْهِ لَا يَنِي، فَأَصَابَ سَوْطٌ مِنْهَا وَجْهَهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ اكْفُفْ عَنْ وَجْهِي! فَإِنَّ لَهُ حُرْمَةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَغْرَى الْمَنْصُورُ فَقَالَ لِلْجَلَّادِ: الرَّأْسَ الرَّأْسَ! فَضَرَبَ عَلَى رَأْسِهِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ سَوْطًا،

وَأَصَابَ إِحْدَى عَيْنَيْهِ سَوْطٌ فَسَالَتْ، ثُمَّ أُخْرِجَ وَكَأَنَّهُ زِنْجِيٌّ مِنَ الضَّرْبِ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، وَكَانَ يُسَمَّى الدِّيبَاجَ لِحُسْنِهِ. فَلَمَّا أُخْرِجَ وَثَبَ إِلَيْهِ مَوْلًى لَهُ فَقَالَ: أَلَا أَطْرَحُ رِدَائِي عَلَيْكَ؟ قَالَ: بَلَى جُزِيتَ خَيْرًا! وَاللَّهِ إِنَّ لَشُفُوفَ إِزَارِي أَشُدُّ عَلَيَّ مِنَ الضَّرْبِ. وَكَانَ سَبَبُ أَخْذِهِ أَنَّ رِيَاحًا قَالَ لِلْمَنْصُورِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَّا أَهْلُ خُرَاسَانَ فَشِيعَتُكَ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِرَاقِ فَشِيعَةُ آلِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّامِ فَوَاللَّهِ مَا عَلِيٌّ عِنْدَهُمْ إِلَّا كَافِرٌ، وَلَكِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْعُثْمَانِيَّ لَوْ دَعَا أَهْلَ الشَّامِ مَا تَخَلَّفَ عَنْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَوَقَعَتْ فِي نَفْسِ الْمَنْصُورِ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخِذَ مَعَهُمْ، وَكَانَ حَسَنَ الرَّأْيِ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا عَوْنٍ كَتَبَ إِلَى الْمَنْصُورِ: إِنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ قَدْ تَعَاشَوْا عَنِّي وَطَالَ عَلَيْهِمْ أَمْرُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُثْمَانِيِّ فَقُتِلَ، وَأَرْسَلَ رَأْسَهُ إِلَى خُرَاسَانَ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ مَنْ يَحْلِفُ أَنَّهُ رَأْسُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَّ أُمَّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا قُتِلَ قَالَ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! إِنْ كُنَّا لَنَأْمَنُ بِهِ فِي سُلْطَانِهِمْ ثُمَّ قَدْ قُتِلَ مِنَّا فِي سُلْطَانِنَا! ثُمَّ إِنَّ الْمَنْصُورَ أَخَذَهُمْ وَسَارَ بِهِمْ مِنَ الرَّبْذَةِ فَمَرَّ بِهِمْ عَلَى بَغْلَةٍ شَقْرَاءَ، فَنَادَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ مَا هَكَذَا فَعَلْنَا بِأُسَرَائِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ! فَأَخْسَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَثَقُلَ عَلَيْهِ وَمَضَى. فَلَمَّا قَدِمُوا إِلَى الْكُوفَةِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِمَنْ مَعَهُ: أَمَا تَرَوْنَ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ مَنْ يَمْنَعُنَا مِنْ هَذَا الطَّاغِيَةِ؟ قَالَ: فَلَقِيَهُ الْحَسَنُ وَعَلِيٌّ ابْنَا أَخِيهِ مُشْتَمِلَيْنِ عَلَى سَيْفَيْنِ فَقَالَا لَهُ: قَدْ جِئْنَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ فَمُرْنَا بِالَّذِي تُرِيدُ. قَالَ: قَدْ قَضَيْتُمَا مَا عَلَيْكُمَا وَلَنْ تُغْنِيَا فِي هَؤُلَاءِ شَيْئًا، فَانْصَرَفَا. ثُمَّ إِنَّ الْمَنْصُورَ أَوْدَعَهُمْ بِقَصْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ شَرْقِيِّ الْكُوفَةِ، وَأَحْضَرَ الْمَنْصُورُ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ، وَكَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ صُورَةً، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الدِّيبَاجُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ قِتْلَةً لَمْ أَقْتُلْهَا أَحَدًا! ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَبُنِيَ عَلَيْهِ أُسْطُوَانَةٌ وَهُوَ حَيٌّ فَمَاتَ فِيهَا. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ أَوَّلَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ، ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ فَدُفِنَ قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ مَاتَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي الْقَبْرِ الَّذِي يَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّهُ قَبْرُهُ وَإِلَّا فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ. ثُمَّ مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَنْصُورَ أَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا، وَقِيلَ: بَلْ أَمَرَ بِهِمْ فَسُقُوا السُّمَّ، وَقِيلَ: وَضَعَ الْمَنْصُورُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ مَنْ قَالَ لَهُ إِنَّ ابْنَهُ مُحَمَّدًا قَدْ خَرَجَ فَقُتِلَ فَانْصَدَعَ قَلْبُهُ فَمَاتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا سُلَيْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا دَاوُدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَإِسْحَاقُ وَإِسْمَاعِيلُ ابْنَا إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ، وَجَعْفَرُ بْنُ الْحَسَنِ، وَانْقَضَى أَمْرُهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ كَانَ عَلَى مَكَّةَ هَذِهِ السَّنَةَ السَّرِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ رِيَاحُ بْنُ عُثْمَانَ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَلَى الْبَصْرَةِ سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَعَلَى مِصْرَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ بْنِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ يَزِيدُ بْنُ ثَابِتٍ يَمْدَحُهُ وَيَهْجُو يَزِيدَ بْنَ أُسَيْدٍ السُّلَمِيَّ: لَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْيَزِيدَيْنِ فِي النَّدَى يَزِيدَ سُلَيْمٍ وَالْأَغَرِّ بْنِ حَاتِمِ

فِي أَبْيَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَكَانَ مُمَدَّحًا جَوَادًا. وَفِيهَا ثَارَ هِشَامُ بْنُ عُذْرَةَ الْفِهْرِيُّ (وَهُوَ مِنْ بَنِي عَمْرٍو، وَيُوسُفُ بْنُعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيُّ) بِطُلَيْطُلَةَ عَلَى الْأَمِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ، فَاتَّبَعَهُ مَنْ فِيهَا، فَسَارَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَحَاصَرَهُ وَشَدَّدَ عَلَيْهِ الْحِصَارَ، فَمَالَ إِلَى الصُّلْحِ وَأَعْطَاهُ ابْنَهُ أَفْلَحَ رَهِينَةً، فَأَخَذَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَرَجَعَ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَرَجَعَ هِشَامٌ وَخَلَعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَعَادَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَحَاصَرَهُ وَنَصَبَ عَلَيْهِ الْمَجَانِيقَ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا لِحَصَانَتِهَا، فَقَتَلَ أَفْلَحَ ابْنَهُ، وَرَمَى رَأْسَهُ فِي الْمَنْجَنِيقِ، وَرَحَلَ إِلَى قُرْطُبَةَ، وَلَمْ يَظْفَرْ بِهِشَامٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبْرُمَةَ. وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ الْمُعْتَزِلِيُّ، وَكَانَ زَاهِدًا. وَبُرَيْدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ مَوْلَى سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ. وَعُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ الْأَيَلِيُّ صَاحِبُ الزُّهْرِيِّ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِمِصْرَ فَجْأَةً. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيُّ أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَنِيُّ. وَهَاشِمُ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الْمَدَنِيُّ. (بُرَيْدٌ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ. وَعُقَيْلٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْقَافِ) .

ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ] 145 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ ظُهُورِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ ظُهُورُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِبْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالْمَدِينَةِ، لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: رَابِعَ عَشَرَ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَخْبَارَهُ وَتَبِعَتَهُ وَحَمْلَ الْمَنْصُورِ أَهْلَهُ إِلَى الْعِرَاقِ. فَلَمَّا حَمَلَهُمْ وَسَارَ بِهِمْ رَدَّ رِيَاحًا إِلَى الْمَدِينَةِ أَمِيرًا عَلَيْهَا، فَأَلَحَّ فِي طَلَبِ مُحَمَّدٍ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَطَلَبَهُ حَتَّى سَقَطَ ابْنُهُ فَمَاتَ، وَأَرْهَقَهُ الطَّلَبُ يَوْمًا، فَتَدَلَّى فِي بِئْرٍ بِالْمَدِينَةِ يُنَاوِلُ أَصْحَابَهُ الْمَاءَ، وَانْغَمَسَ فِي الْمَاءِ إِلَى حَلْقِهِ، وَكَانَ بَدَنُهُ لَا يَخْفَى لِعِظَمِهِ، وَبَلَغَ رِيَاحًا خَبَرُ مُحَمَّدٍ وَأَنَّهُ بِالْمَذَارِ، فَرَكِبَ نَحْوَهُ فِي جُنْدِهِ، فَتَنَحَّى مُحَمَّدٌ عَنْ طَرِيقِهِ وَاخْتَفَى فِي دَارِ الْجُهَنِيَّةِ، فَحَيْثُ لَمْ يَرَهُ رِيَاحٌ رَجَعَ إِلَى دَارِ مَرْوَانَ. وَكَانَ الَّذِي أَعْلَمَ رِيَاحًا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ. فَلَمَّا اشْتَدَّ الطَّلَبُ بِمُحَمَّدٍ خَرَجَ قَبْلَ وَقْتِهِ الَّذِي وَاعَدَ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الْخُرُوجِ فِيهِ. وَقِيلَ: بَلْ خَرَجَ مُحَمَّدٌ لِمِيعَادِهِ مَعَ أَخِيهِ، وَإِنَّمَا أَخُوهُ تَأَخَّرَ لِجُدَرِيٍّ لَحِقَهُ، وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ يَقُولَانِ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا تَنْتَظِرُ بِالْخُرُوجِ! فَوَاللَّهِ مَا عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَشْأَمُ مِنْكَ. اخْرُجْ وَلَوْ وَحْدَكَ. فَتَحَرَّكَ بِذَلِكَ أَيْضًا. وَأَتَى رِيَاحًا الْخَبَرُ أَنَّ مُحَمَّدًا خَارِجٌ اللَّيْلَةَ، فَأَحْضَرَ مُحَمَّدَ بْنَ عِمْرَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ

مُحَمَّدٍ قَاضِيَ الْمَدِينَةِ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَغَيْرَهُمَا عِنْدَهُ، فَصَمَتَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَطْلُبُ مُحَمَّدًا فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَئِنْ خَرَجَ لَأَقْتُلَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ! . وَقَالَ لِمُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانِ: أَنْتَ قَاضِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَادْعُ عَشِيرَتَكَ، وَأَرْسِلْ لِتَجْمَعَ بَنِي زُهْرَةَ، فَأَرْسَلَ فَجَاءُوا فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ فَأَجْلَسَهُمْ بِالْبَابِ، فَأَرْسَلَ فَأَخَذَ نَفَرًا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، فِيهِمْ: جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَابْنُهُ خَالِدٌ. فَبَيْنَمَا هُمْ عِنْدَهُ إِذْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ، فَسَمِعُوا التَّكْبِيرَ، فَقَالَ ابْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ الْمُرِّيُّ: أَطِعْنِي فِي هَؤُلَاءِ وَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ: وَاللَّهِ مَا ذَاكَ إِلَيْكَ، إِنَّا لَعَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. وَأَقْبَلَ مُحَمَّدٌ مِنَ الْمَذَارِ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، فَأَتَى فِي بَنِي سَلِمَةَ بِهَؤُلَاءِ تَفَاؤُلًا بِالسَّلَامَةِ، وَقَصَدَ السِّجْنَ فَكَسَرَ بَابَهُ وَأَخْرَجَ مَنْ فِيهِ، وَكَانَ فِيهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، وَابْنُ أَخِي النُّذَيْرِ بْنِ يَزِيدَ وَرِزَامٌ، فَأَخْرَجَهُمْ وَجَعَلَ عَلَى الرَّجَّالَةِ خَوَّاتَ بْنَ بُكَيْرِ بْنِ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَتَى دَارَ الْإِمَارَةِ وَهُوَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: لَا تَقْتُلُوا إِلَّا يَقْتُلُوا. فَامْتَنَعَ مِنْهُمْ رِيَاحٌ، فَدَخَلُوا مِنْ بَابِ الْمَقْصُورَةِ، وَأَخَذُوا رِيَاحًا أَسِيرًا وَأَخَاهُ عَبَّاسًا، وَابْنَ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ الْمُرِّيَّ فَحَبَسَهُمْ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ هَذَا الطَّاغِيَةِ عَدُوِّ اللَّهِ أَبِي جَعْفَرٍ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكُمْ مِنْ بِنَائِهِ الْقُبَّةَ الْخَضْرَاءَ الَّتِي بَنَاهَا مُعَانَدَةً لِلَّهِ فِي مُلْكِهِ، وَتَصْغِيرًا لِلْكَعْبَةِ الْحَرَامِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] ، وَإِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْقِيَامِ فِي هَذَا الدِّينِ أَبْنَاءُ

الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الْمُوَاسِينَ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ قَدْ أَحَلُّوا حَرَامَكَ وَحَرَّمُوا حَلَالَكَ، وَآمَنُوا مَنْ أَخَفْتَ وَأَخَافُوا مَنْ آمَنْتَ! اللَّهُمَّ فَأَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا، وَلَا تُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا! أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ [مِنْ] بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ وَأَنْتُمْ عِنْدِي أَهْلُ قُوَّةٍ وَلَا شِدَّةٍ، وَلَكِنِّي اخْتَرْتُكُمْ لِنَفْسِي! وَاللَّهِ مَا جِئْتُ هَذِهِ وَفِي الْأَرْضِ مِصْرٌ يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ إِلَّا وَقَدْ أُخِذَ لِي فِيهِ الْبَيْعَةُ! وَكَانَ الْمَنْصُورُ يَكْتُبُ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَى أَلْسُنِ قُوَّادِهِ يَدْعُونَهُ إِلَى الظُّهُورِ وَيُخْبِرُونَهُ أَنَّهُمْ مَعَهُ، فَكَانَ مُحَمَّدٌ يَقُولُ: لَوِ الْتَقَيْنَا مَالَ إِلَيَّ الْقُوَّادُ كُلُّهُمْ. وَاسْتَوْلَى مُحَمَّدٌ عَلَى الْمَدِينَةِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَلَى قَضَائِهَا: عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيَّ، وَعَلَى بَيْتِ السِّلَاحِ: عَبْدَ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيَّ، وَعَلَى الشُّرَطِ: أَبَا الْقَلَمَّسِ عُثْمَانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلَى دِيوَانِ الْعَطَاءِ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَقِيلَ: كَانَ عَلَى شُرَطِهِ: عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ فَعَزَلَهُ. وَأَرْسَلَ مُحَمَّدٌ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِنِّي كُنْتُ لَأَظُنُّكَ سَتَنْصُرُنَا وَتَقُومُ مَعَنَا. فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ: أَفْعَلُ، ثُمَّ انْسَلَّ مِنْهُ وَأَتَى مَكَّةَ. وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ مُحَمَّدٍ أَحَدٌ مِنْ وُجُوهِ النَّاسِ إِلَّا نَفَرٌ، مِنْهُمْ: الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ حِزَامٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَخُبَيْبُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَدِ اسْتَفْتَوْا مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فِي الْخُرُوجِ مَعَ مُحَمَّدٍ وَقَالُوا: إِنَّ فِي أَعْنَاقِنَا بَيْعَةً لِأَبِي جَعْفَرٍ، فَقَالَ: إِنَّمَا بَايَعْتُمْ مُكْرَهِينَ، وَلَيْسَ عَلَى مُكْرَهٍ يَمِينٌ. فَأَسْرَعَ النَّاسُ إِلَى مُحَمَّدٍ وَلَزِمَ مَالِكٌ بَيْتَهُ. فَأَرْسَلَ مُحَمَّدٌ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا،

فَدَعَاهُ إِلَى بَيْعَتِهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَنْتَ وَاللَّهِ مَقْتُولٌ فَكَيْفَ أُبَايِعُكَ؟ فَارْتَدَعَ النَّاسُ عَنْهُ قَلِيلًا. وَكَانَ بَنُو مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَدْ أَسْرَعُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَأَتَتْ حَمَّادَةُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَتْ لَهُ: يَا عَمِّ إِنَّ إِخْوَتِي قَدْ أَسْرَعُوا إِلَى ابْنِ خَالِهِمْ، وَإِنَّكَ إِنْ قُلْتَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ ثَبَّطْتَ النَّاسَ عَنْهُ، فَيُقْتَلُ ابْنُ خَالِي وَإِخْوَتِي. فَأَبَى إِسْمَاعِيلُ إِلَّا النَّهْيَ عَنْهُ. فَيُقَالُ: إِنَّ حَمَّادَةَ عَدَتْ عَلَيْهِ فَقَتَلَتْهُ، فَأَرَادَ مُحَمَّدٌ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ فَمَنَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَقَالَ: أَتَأْمُرُ بِقَتْلِ أَبِي وَتُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَنَحَّاهُ الْحَرَسُ وَصَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ. وَلَمَّا ظَهَرَ مُحَمَّدٌ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الْقَسْرِيُّ بِالْمَدِينَةِ فِي حَبْسِ رِيَاحٍ فَأَطْلَقَهُ. وَقَالَ ابْنُ خَالِدٍ: فَلَمَّا سَمِعْتُ دَعْوَتَهُ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا عَلَى الْمِنْبَرِ قُلْتُ: هَذِهِ دَعْوَةُ حَقٍّ، وَاللَّهِ لَأُبْلِيَنَّ لِلَّهِ فِيهَا بَلَاءً حَسَنًا. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ قَدْ خَرَجْتَ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَاللَّهِ لَوْ وَقَفَ عَلَى نَقْبٍ مِنْ أَنْقَابِهِ أَحَدٌ لَمَاتَ أَهْلُهُ جُوعًا وَعَطَشًا، فَانْهَضْ مَعِي فَإِنَّمَا هِيَ عَشْرٌ حَتَّى أَضْرِبَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ سَيْفٍ. فَأَبَى عَلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ قَالَ: مَا وَجَدْنَا مِنْ خَيْرِ الْمَتَاعِ شَيْئًا أَجْوَدَ مِنْ شَيْءٍ وَجَدْنَاهُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي فَرْوَةَ خَتَنِ أَبِي الْخَصِيبِ، وَكَانَ انْتَبَهَ، قَالَ: فَقُلْتُ: أَلَا أَرَاكَ قَدْ أَبْصَرْتَ خَيْرَ الْمَتَاعِ! فَكَتَبْتُ إِلَى الْمَنْصُورِ فَأَخْبَرْتُهُ بِقِلَّةِ مَنْ مَعَهُ، فَأَخَذَنِي مُحَمَّدٌ فَحَبَسَنِي حَتَّى أَطْلَقَنِي عِيسَى بْنُ مُوسَى بَعْدَ قَتْلِهِ بِأَيَّامٍ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ آلِ أُوَيْسِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيِّ، عَامِرُ بْنُ لُؤَيٍّ، اسْمُهُ الْحُسَيْنُ بْنُ صَخْرٍ بِالْمَدِينَةِ لَمَّا ظَهَرَ مُحَمَّدٌ، فَسَارَ مِنْ سَاعَتِهِ إِلَى الْمَنْصُورِ فَبَلَغَهُ فِي تِسْعَةِ أَيَّامٍ، فَقَدِمَ لَيْلًا، فَقَامَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ فَصَاحَ حَتَّى عَلِمُوا بِهِ وَأَدْخَلُوهُ، فَقَالَ الرَّبِيعُ: مَا حَاجَتُكَ هَذِهِ السَّاعَةَ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ نَائِمٌ؟ قَالَ: لَا بُدَّ لِي مِنْهُ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِالْمَدِينَةِ! قَالَ: قَتَلْتَهُ وَاللَّهِ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، أَخْبِرْنِي مَنْ مَعَهُ. فَسَمَّى لَهُ مَنْ مَعَهُ مِنْ وُجُوهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ. قَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ وَعَايَنْتَهُ؟ قَالَ: أَنَا رَأَيْتُهُ وَعَايَنْتُهُ وَكَلَّمْتُهُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا، فَأَدْخَلَهُ أَبُو

جَعْفَرٍ بَيْتًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ رَسُولٌ لِسَعِيدِ بْنِ دِينَارٍ غُلَامِ عِيسَى بْنِ مُوسَى يَلِي أَمْوَالَهُ بِالْمَدِينَةِ فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِ مُحَمَّدٍ، وَتَوَاتَرَتْ عَلَيْهِ أَخْبَارُهُ، فَأَخْرَجَ الْأُوَيْسِيَّ، فَقَالَ: لَأُوَطِّئِنَّ الرِّجَالَ عَقِبَيْكَ وَلَأُغْنِيَنَّكَ! فَأَمَرَ لَهُ بِتِسْعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ لِكُلِّ لَيْلَةٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ. وَأَشْفَقَ مِنْ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ الْحَارِثِيُّ الْمُنَجِّمُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا يُجْزِعُكَ مِنْهُ؟ وَاللَّهِ لَوْ مَلَكَ الْأَرْضَ مَا لَبِثَ إِلَّا تِسْعِينَ يَوْمًا. فَأَرْسَلَ الْمَنْصُورُ إِلَى عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُوَ مَحْبُوسٌ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ خَرَجَ فَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ رَأْيٌ فَأَشِرْ بِهِ عَلَيْنَا، وَكَانَ ذَا رَأْيٍ عِنْدَهُمْ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَحْبُوسَ مَحْبُوسُ الرَّأْيِ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ: لَوْ جَاءَنِي حَتَّى يَضْرِبَ بَابِي مَا أَخْرَجْتُكَ، وَأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ، وَهُوَ مَلِكُ أَهْلِ بَيْتِكَ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ: ارْتَحِلِ السَّاعَةَ حَتَّى تَأْتِيَ الْكُوفَةَ فَاجْثُمْ عَلَى أَكْبَادِهِمْ، فَإِنَّهُمْ شِيعَةُ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ وَأَنْصَارُهُمْ، ثُمَّ احْفُفْهَا بِالْمَسَالِحِ، فَمَنْ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ أَوْ أَتَاهَا مِنْ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، وَابْعَثْ إِلَى سَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ يَنْحَدِرُ إِلَيْكَ، وَكَانَ بِالرَّيِّ، وَاكْتُبْ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ فَمُرْهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا إِلَيْكَ مِنْ أَهْلِ الْبَأْسِ وَالنَّجْدَةِ مَا حَمَلَ الْبَرِيدُ فَأَحْسِنْ جَوَائِزَهُمْ وَوَجِّهْهُمْ مَعَ سَلْمٍ. فَفَعَلَ. وَقِيلَ: أَرْسَلَ الْمَنْصُورُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ مَعَ إِخْوَتِهِ يَسْتَشِيرُونَهُ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ، وَقَالَ لَهُمْ: لَا يَعْلَمُ عَبْدُ اللَّهِ أَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ: لِأَمْرٍ مَا جِئْتُمْ، مَا جَاءَ بِكُمْ جَمِيعًا وَقَدْ هَجَرْتُمُونِي مُذْ دَهْرٍ؟ قَالُوا: إِنَّا اسْتَأْذَنَّا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَذِنَ لَنَا. قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، فَمَا الْخَبَرُ؟ قَالُوا: خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: فَمَا تَرَوْنَ ابْنَ سَلَّامَةَ صَانِعًا؟ يَعْنِي الْمَنْصُورَ. قَالُوا: لَا نَدْرِي وَاللَّهِ. قَالَ: إِنَّ الْبُخْلَ قَدْ قَتَلَهُ، فَمُرُوهُ فَلْيُخْرِجِ الْأَمْوَالَ وَلْيُعْطِ الْأَجْنَادَ، فَإِنْ غَلَبَ فَمَا أَسْرَعَ مَا يَعُودُ إِلَيْهِ مَالُهُ، وَإِنْ غُلِبَ لَمْ يَقْدَمْ صَاحِبُهُ عَلَى دِينَارٍ وَلَا دِرْهَمٍ. وَلَمَّا وَرَدَ الْخَبَرُ عَلَى الْمَنْصُورِ بِخُرُوجِ مُحَمَّدٍ كَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ خَطَّ مَدِينَةَ بَغْدَادَ بِالْقَصَبِ، فَسَارَ إِلَى الْكُوفَةِ وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْمِدَادِ،، فَقَالَ لَهُ

الْمَنْصُورُ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ خَرَجَ بِالْمَدِينَةِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَلَكَ وَأَهْلَكَ، خَرَجَ فِي غَيْرِ عُدَدٍ وَلَا رِجَالٍ. حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَعْدَةَ الْمَخْزُومِيُّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ مَرْوَانَ يَوْمَ الزَّابِ وَاقِفًا، فَقَالَ لِي مَرْوَانُ: مَنْ هَذَا الَّذِي يُقَاتِلُنِي؟ قُلْتُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: وَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يُقَاتِلُنِي مَكَانَهُ، إِنَّ عَلِيًّا وَوَلَدَهُ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَهَلْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ مَعَهُ رِيحُ الشَّامِ وَنَصْرُ الشَّامِ؟ يَا ابْنَ جَعْدَةَ أَتَدْرِي مَا حَمَلَنِي أَنْ عَقَدْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بَعْدِي وَتَرَكْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ؟ قَالَ ابْنُ جَعْدَةَ: لَا. قَالَ: وَجَدْتُ الَّذِي يَلِي هَذَا الْأَمْرَ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ، وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَقْرَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَعَقَدْتُ لَهُ، فَاسْتَخْلَفَهُ الْمَنْصُورُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، فَحَلَفَ لَهُ، فَسُرِّيَ عَنْهُ. وَلَمَّا بَلَغَ الْمَنْصُورَ خَبَرُ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ قَالَ لِأَبِي أَيُّوبَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ: هَلْ مِنْ رَجُلٍ تَعْرِفَانِهِ بِالرَّأْيِ يَجْمَعُ رَأْيَهُ إِلَى رَأْيِنَا؟ قَالَا: بِالْكُوفَةِ بُدَيْلُ بْنُ يَحْيَى، وَكَانَ السَّفَّاحُ يُشَاوِرُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ ظَهَرَ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: فَاشْحَنِ الْأَهْوَازَ بِالْجُنُودِ. قَالَ: إِنَّهُ ظَهَرَ بِالْمَدِينَةِ! قَالَ: قَدْ فَهِمْتُ وَإِنَّمَا الْأَهْوَازُ الْبَابُ الَّذِي تُؤْتَوْنَ مِنْهُ. فَلَمَّا ظَهَرَ إِبْرَاهِيمُ بِالْبَصْرَةِ قَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ ذَلِكَ، قَالَ: فَعَاجِلْهُ بِالْجُنُودِ وَاشْغَلِ الْأَهْوَازَ عَلَيْهِ. وَشَاوَرَ الْمَنْصُورُ أَيْضًا جَعْفَرَ بْنَ حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيَّ عِنْدَ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: وَجِّهِ الْجُنُودَ إِلَى الْبَصْرَةِ. قَالَ: انْصَرِفْ حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكَ. فَلَمَّا صَارَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْبَصْرَةِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي خِفْتُ بَادِرَةَ الْجُنُودِ. قَالَ: وَكَيْفَ خِفْتَ الْبَصْرَةَ؟ قَالَ: لِأَنَّ مُحَمَّدًا ظَهَرَ بِالْمَدِينَةِ وَلَيْسُوا أَهْلَ الْحَرْبِ، بِحَسْبِهِمْ أَنْ يُقِيمُوا شَأْنَ أَنْفُسِهِمْ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ تَحْتَ قَدَمِكَ، وَأَهْلُ الشَّامِ أَعْدَاءُ آلِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْبَصْرَةُ. ثُمَّ إِنَّ الْمَنْصُورَ كَتَبَ إِلَى مُحَمَّدٍ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] الْآيَتَيْنِ، وَلَكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ، وَذِمَّةُ رَسُولِهِ أَنْ أُؤَمِّنَكَ، وَجَمِيعَ وَلَدِكِ، وَإِخْوَتَكَ، وَأَهْلَ بَيْتِكِ وَمَنِ اتَّبَعَكُمْ عَلَى دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَأُسَوِّغُكَ

مَا أَصَبْتَ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ، وَأُعْطِيكَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَا سَأَلْتَ مِنَ الْحَوَائِجِ، وَأُنْزِلُكَ مِنَ الْبِلَادِ حَيْثُ شِئْتَ، وَأَنْ أُطْلِقَ مَنْ فِي حَبْسِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ. وَأَنْ أُؤَمِّنَ كُلَّ مَنْ جَاءَكَ وَبَايَعَكَ وَاتَّبَعَكَ أَوْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ ثُمَّ لَا أَتَّبِعُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِشَيْءٍ كَانَ مِنْهُ أَبَدًا، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَتَوَثَّقَ لِنَفْسِكَ فَوَجِّهْ إِلَيَّ مَنْ أَحْبَبْتَ يَأْخُذُ لَكَ مِنَ الْأَمَانِ وَالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ مَا تَتَوَثَّقُ بِهِ، وَالسَّلَامُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ: {طسم - تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ - نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 1 - 3] إِلَى: {يَحْذَرُونَ} [القصص: 6] وَأَنَا أَعْرِضُ عَلَيْكَ مِنَ الْأَمَانِ مِثْلَ مَا عَرَضْتَ عَلَيَّ، فَإِنَّ الْحَقَّ حَقُّنَا وَإِنَّمَا ادَّعَيْتُمْ هَذَا الْأَمْرَ بِنَا وَخَرَجْتُمْ لَهُ بِشِيعَتِنَا وَحَظِيتُمْ بِفَضْلِهِ، فَإِنَّ أَبَانَا عَلِيًّا كَانَ الْوَصِيَّ وَكَانَ الْإِمَامَ، فَكَيْفَ وَرِثْتُمْ وِلَايَتَهُ، وَوَلَدُهُ أَحْيَاءٌ؟ ثُمَّ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَطْلُبِ الْأَمْرَ أَحَدٌ لَهُ مِثْلُ نَسَبِنَا وَشَرَفِنَا وَحَالِنَا وَشَرَفِ آبَائِنَا، لَسْنَا مِنْ أَبْنَاءِ اللُّعَنَاءِ وَلَا الطُّرَدَاءِ وَلَا الطُّلَقَاءِ، وَلَيْسَ يَمُتُّ أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ بِمِثْلِ الَّذِي نَمُتُّ بِهِ مِنَ الْقُرَابَةِ وَالسَّابِقَةِ وَالْفَضْلِ، وَإِنَّا بَنُو أُمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاطِمَةَ بِنْتِ عَمْرٍو فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَبَنُو بِنْتِهِ فَاطِمَةَ فِي الْإِسْلَامِ دُونَكُمْ. إِنَّ اللَّهِ اخْتَارَنَا وَاخْتَارَ لَنَا، فَوَالِدُنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٌ أَفْضَلُهُمْ، وَمِنَ السَّلَفِ أَوَّلُهُمْ إِسْلَامًا عَلِيٌّ، وَمِنَ الْأَزْوَاجِ أَفْضَلُهُنَّ خَدِيجَةُ الطَّاهِرَةُ وَأَوَّلُ مَنْ صَلَّى [إِلَى] الْقِبْلَةِ، وَمِنَ الْبَنَاتِ خَيْرُهُنَّ فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمِنَ الْمَوْلُودِينَ فِي الْإِسْلَامِ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ هَاشِمًا وَلَدَ عَلِيًّا مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ وَلَدَ حَسَنًا مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَدَنِي مَرَّتَيْنِ مِنْ قِبَلِ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ. وَإِنِّي أَوْسَطُ بَنِي هَاشِمٍ نَسَبًا وَأَصْرَحُهُمْ أَبًا، لَمْ تُعَرِّقْ فِيَّ الْعَجَمُ، وَلَمْ تُنَازِعْ فِيَّ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ، فَمَا زَالَ اللَّهُ يَخْتَارُ لِي الْآبَاءَ،

وَالْأُمَّهَاتِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ حَتَّى اخْتَارَ لِي فِي الْأَشْرَارِ، (فَأَنَا ابْنُ أَرْفَعِ النَّاسِ دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ، وَأَهْوَنِهِمْ عَذَابًا فِي النَّارِ) ، وَلَكَ اللَّهُ عَلَيَّ إِنْ دَخَلْتَ فِي طَاعَتِي وَأَجَبْتَ دَعْوَتِي أَنْ أُؤَمِّنَكَ عَلَى نَفْسِكَ وَمَالِكَ وَعَلَى كُلِّ أَمْرٍ أَحْدَثْتَهُ إِلَّا حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ أَوْ حَقًّا لِمُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهِدٍ، فَقَدْ عَلِمْتَ مَا يَلْزَمُنِي مِنْ ذَلِكَ. وَأَنَا أَوْلَى بِالْأَمْرِ مِنْكَ وَأَوْفَى بِالْعَهْدِ، لِأَنَّكَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْأَمَانِ وَالْعَهْدِ مَا أَعْطَيْتَهُ رِجَالًا قَبْلِي، فَأَيُّ الْأَمَانَاتِ تُعْطِينِي؟ أَمَانُ ابْنِ هُبَيْرَةَ، أَمْ أَمَانُ عَمِّكَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، أَمْ أَمَانُ أَبِي مُسْلِمٍ؟ فَلَمَّا وَرَدَ كِتَابُهُ عَلَى الْمَنْصُورِ قَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ الْمُورِيَانِيُّ: دَعْنِي أُجِبْهُ عَلَيْهِ. قَالَ: لَا إِذَا تَقَارَعْنَا عَلَى الْأَحْسَابِ، فَدَعْنِي وَإِيَّاهُ. ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي كَلَامُكَ وَقَرَأْتُ كِتَابَكَ، فَإِذَا جُلُّ فَخْرِكَ بِقَرَابَةِ النِّسَاءِ لِتُضِلَّ بِهِ الْجُفَاةَ وَالْغَوْغَاءَ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ النِّسَاءَ كَالْعُمُومَةِ وَالْآبَاءِ، وَلَا كَالْعَصَبَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْعَمَّ أَبًا، وَبَدَأَ بِهِ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْوَالِدَةِ الدُّنْيَا، وَلَوْ كَانَ اخْتِيَارُ اللَّهِ لَهُنَّ عَلَى قَدْرِ قَرَابَتِهِنَّ كَانَتْ آمِنَةُ أَقْرَبَهُنَّ رَحِمًا، وَأَعْظَمَهُنَّ حَقًّا، وَأَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، [غَدًا] وَلَكِنَّ اخْتِيَارَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ عَلَى عِلْمِهِ فِيمَا مَضَى مِنْهُمْ وَاصْطِفَائِهِ لَهُمْ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ فَاطِمَةَ أُمِّ أَبِي طَالِبٍ وَوِلَادَتِهَا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْزُقْ أَحَدًا مِنْ وَلَدِهَا الْإِسْلَامَ لَا بِنْتًا وَلَا ابْنًا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا رُزِقَ الْإِسْلَامَ بِالْقَرَابَةِ رُزِقَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَلَكَانَ أَوْلَاهُمْ بِكُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ لِلَّهِ يَخْتَارُ لِدِينِهِ مَنْ يَشَاءُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] . وَلَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُ عُمُومَةٌ أَرْبَعَةٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] فَأَنْذَرَهُمْ وَدَعَاهُمْ، فَأَجَابَ اثْنَانِ، أَحَدُهُمَا أَبِي، وَأَبَى اثْنَانِ، أَحَدُهُمَا أَبُوكَ، فَقَطَعَ اللَّهُ وِلَايَتَهُمَا مِنْهُ وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَلَا مِيرَاثًا. وَزَعَمْتَ أَنَّكَ ابْنُ أَخَفِّ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا وَابْنُ خَيْرِ الْأَشْرَارِ، وَلَيْسَ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ صَغِيرٌ، وَلَا فِي عَذَابِ اللَّهِ خَفِيفٌ وَلَا يَسِيرٌ، وَلَيْسَ فِي الشَّرِّ خِيَارٌ، وَلَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أَنْ يَفْخَرَ بِالنَّارِ، وَسَتَرِدُ فَتَعْلَمُ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الشعراء: 227] الْآيَةَ. وَأَمَّا أَمْرُ حَسَنٍ وَأَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ وَلَدَهُ مَرَّتَيْنِ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَدَكَ مَرَّتَيْنِ، فَخَيْرُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَلِدْهُ هَاشِمٌ إِلَّا مَرَّةً، وَلَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَّا مَرَّةً. وَزَعَمْتَ أَنَّكَ أَوْسَطُ بَنِي هَاشِمٍ وَأَصْرَحُهُمْ أُمًّا وَأَبًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَلِدْكَ الْعَجَمُ وَلَمْ تُعَرِّقْ فِيكَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ، فَقَدْ رَأَيْتُكَ فَخَرْتَ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ طُرًّا، فَانْظُرْ، وَيْحَكَ، أَيْنَ أَنْتَ مِنَ اللَّهِ غَدًا! فَإِنَّكَ قَدْ تَعَدَّيْتَ طَوْرَكَ وَفَخَرْتَ عَلَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ نَفْسًا وَأَبًا وَأَوْلَادًا وَأَخًا إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَا خِيَارُ بَنِي أَبِيكَ خَاصَّةً وَأَهْلُ الْفَضْلِ مِنْهُمْ إِلَّا بَنُو أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، مَا وُلِدَ فِيكُمْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَهُوَ لِأُمِّ وَلَدٍ، وَلَهُوَ خَيْرٌ مِنْ جَدِّكَ حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ، وَمَا كَانَ فِيكُمْ بَعْدَهُ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَجَدَّتُهُ أُمُّ وَلَدٍ، وَلَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَبِيكَ، وَلَا مِثْلُ ابْنِهِ جَعْفَرٍ وَجَدَّتُهُ أُمُّ وَلَدٍ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ.

وَأَمَّا قَوْلُكَ إِنَّكُمْ بَنُو رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] وَلَكِنَّكُمْ بَنُو بِنْتِهِ، وَإِنَّهَا لَقَرَابَةٌ قَرِيبَةٌ، وَلَكِنَّهَا لَا يَجُوزُ لَهَا الْمِيرَاثُ، وَلَا تَرِثُ الْوِلَايَةَ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا الْإِمَامَةُ، فَكَيْفَ تُورَثُ بِهَا؟ وَلَقَدْ طَلَبَهَا أَبُوكَ بِكُلِّ وَجْهٍ فَأَخْرَجَ فَاطِمَةَ نَهَارًا، وَمَرَّضَهَا سِرًّا، وَدَفَنَهَا لَيْلًا، فَأَبَى النَّاسُ إِلَّا الشَّيْخَيْنِ، وَلَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْجَدَّ أَبَا الْأُمِّ وَالْخَالَ وَالْخَالَةَ لَا يُورَثُونَ. وَأَمَّا مَا فَخَرْتَ بِهِ مِنْ عَلِيٍّ وَسَابِقَتِهِ، فَقَدْ حَضَرَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَفَاةُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ أَخَذَ النَّاسُ رَجُلًا بَعْدَ رَجُلٍ فَلَمْ يَأْخُذُوهُ، وَكَانَ فِي السِّتَّةِ فَتَرَكُوهُ كُلُّهُمْ دَفْعًا لَهُ عَنْهَا، وَلَمْ يَرَوْا لَهُ حَقًّا فِيهَا. وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَدَّمَ عَلَيْهِ عُثْمَانَ وَهُوَ لَهُ مُتَّهِمٌ، وَقَاتَلَهُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، وَأَبَى سَعْدٌ بَيْعَتَهُ فَأَغْلَقَ بَابَهُ دُونَهُ، ثُمَّ بَايَعَ مُعَاوِيَةَ بَعْدَهُ، ثُمَّ طَلَبَهَا بِكُلِّ وَجْهٍ وَقَاتَلَ عَلَيْهَا وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَشَكَّ فِيهِ شِيعَتُهُ قَبْلَ الْحُكُومَةِ، ثُمَّ حَكَّمَ حَكَمَيْنِ رَضِيَ بِهِمَا، وَأَعْطَاهُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ، فَاجْتَمَعَا عَلَى خَلْعِهِ، ثُمَّ كَانَ حَسَنٌ فَبَاعَهَا مِنْ مُعَاوِيَةَ بِخِرَقٍ وَدَرَاهِمَ، وَلَحِقَ بِالْحِجَازِ، وَأَسْلَمَ شِيعَتَهُ بِيَدِ مُعَاوِيَةَ، وَدَفَعَ الْأَمْرَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَأَخَذَ مَالًا مِنْ غَيْرِ وَلَائِهِ وَلَا حِلِّهِ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فِيهَا شَيْءٌ فَقَدْ بِعْتُمُوهُ وَأَخَذْتُمْ ثَمَنَهُ. ثُمَّ خَرَجَ عَمُّكَ حُسَيْنٌ عَلَى ابْنِ مَرْجَانَةَ، فَكَانَ النَّاسُ مَعَهُ عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَتَوْا بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجْتُمْ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ فَقَتَلُوكُمْ وَصَلَبُوكُمْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَأَحْرَقُوكُمْ بِالنِّيرَانِ، وَنَفَوْكُمْ مِنَ الْبُلْدَانِ، حَتَّى قُتِلَ يَحْيَى بْنُ زَيْدٍ بِخُرَاسَانَ، وَقَتَلُوا رِجَالَكُمْ، وَأَسَرُوا الصِّبْيَةَ وَالنِّسَاءَ

وَحَمَلُوهُمْ بِلَا وِطَاءٍ فِي الْمَحَامِلِ كَالسَّبْيِ الْمَجْلُوبِ إِلَى الشَّامِ. حَتَّى خَرَجْنَا عَلَيْهِمْ فَطَلَبْنَا بِثَأْرِكُمْ، وَأَدْرَكْنَا بِدِمَائِكُمْ، وَأَوْرَثْنَاكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَسَنَّيْنَا سَلَفَكُمْ وَفَضَّلْنَاهُ، فَاتَّخَذْتَ ذَلِكَ عَلَيْنَا حُجَّةً، وَظَنَنْتَ أَنَّا إِنَّمَا ذَكَرْنَا أَبَاكَ لِلتَّقْدِمَةِ مِنَّا لَهُ عَلَى حَمْزَةَ وَالْعَبَّاسِ وَجَعْفَرٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا ظَنَنْتَ، وَلَكِنْ خَرَجَ هَؤُلَاءِ مِنَ الدُّنْيَا سَالِمِينَ مُتَسَلَّمًا مِنْهُمْ، مُجْتَمَعًا عَلَيْهِمْ بِالْفَضْلِ، وَابْتُلِيَ أَبُوكَ بِالْقِتَالِ وَالْحَرْبِ، وَكَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ تَلْعَنُهُ كَمَا تَلْعَنُ الْكَفَرَةَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، فَاحْتَجَجْنَا [لَهُ] وَذَكَّرْنَاهُمْ فَضْلَهُ وَعَنَّفْنَاهُمْ وَظَلَمْنَاهُمْ بِمَا نَالُوا مِنْهُ. فَلَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَكْرُمَتَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِقَايَةُ الْحَاجِّ الْأَعْظَمِ، وَوِلَايَةُ زَمْزَمَ، فَصَارَتْ لِلْعَبَّاسِ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِ، فَنَازَعَنَا فِيهَا أَبُوكَ فَقَضَى لَنَا عَلَيْهِ عُمَرُ، فَلَمْ نَزَلْ نَلِيهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَلَقَدْ قَحَطَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَتَوَسَّلْ عُمَرُ إِلَى رَبِّهِ وَلَمْ يَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ إِلَّا بِأَبِينَا حَتَّى نَعَشَهُمُ اللَّهُ، وَسَقَاهُمُ الْغَيْثَ وَأَبُوكَ حَاضِرٌ لَمْ يُتَوَسَّلْ بِهِ، وَلَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُهُ فَكَانَتْ وِرَاثَةٌ مِنْ عُمُومَتِهِ، ثُمَّ طَلَبَ هَذَا الْأَمْرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلَمْ يَنَلْهُ إِلَّا وَلَدُهُ، فَالسِّقَايَةُ سِقَايَتُهُ، وَمِيرَاثُ النَّبِيِّ لَهُ، وَالْخِلَافَةُ فِي وَلَدِهِ، فَلَمْ يَبْقَ شَرَفٌ وَلَا فَضْلٌ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا وَالْعَبَّاسُ وَارِثُهُ مُوَرِّثُهُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ بَدْرٍ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ جَاءَ وَالْعَبَّاسُ يُمَوِّنُ أَبَا طَالِبٍ وَعِيَالَهُ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ لِلْأَزْمَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُ، وَلَوْلَا أَنَّ الْعَبَّاسَ أُخْرِجَ إِلَى بَدْرٍ كَارِهًا لَمَاتَ طَالِبٌ وَعَقِيلٌ جُوعًا، وَلَلَحَسَا جِفَانَ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُطْعِمِينَ فَأَذْهَبَ عَنْكُمُ الْعَارَ وَالسُّبَّةَ وَكَفَاكُمُ النَّفَقَةَ وَالْمَئُونَةَ، ثُمَّ فَدَى عَقِيلًا يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَيْفَ تَفْخَرُ عَلَيْنَا وَقَدْ عُلْنَاكُمْ فِي الْكُفْرِ وَفَدَيْنَاكُمْ [مِنَ الْأَسْرِ] وَحُزْنَا عَلَيْكُمْ مَكَارِمَ الْآبَاءِ، وَوَرِثْنَا دُونَكُمْ

خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، وَطَلَبْنَا بِثَأْرِكُمْ فَأَدْرَكْنَا مِنْهُ مَا عَجَزْتُمْ عَنْهُ، وَلَمْ تُدْرِكُوا لِأَنْفُسِكُمْ! وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. فَكَانَ مُحَمَّدٌ قَدِ اسْتَعْمَلَ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى مَكَّةَ، وَالْقَاسِمَ بْنَ إِسْحَاقَ عَلَى الْيَمَنِ، وَمُوسَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الشَّامِ، فَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالْقَاسِمُ فَسَارَا إِلَى مَكَّةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا السَّرِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَامِلُ الْمَنْصُورِ عَلَى مَكَّةَ فَلَقِيَهُمَا بِبَطْنِ أَذَاخِرَ فَهَزَمَاهُ. وَدَخَلَ مُحَمَّدٌ مَكَّةَ وَأَقَامَ بِهَا يَسِيرًا، فَأَتَاهُ كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ فِيمَنْ مَعَهُ وَيُخْبِرُهُ بِمَسِيرِ عِيسَى بْنِ مُوسَى إِلَيْهِ لِيُحَارِبَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ هُوَ وَالْقَاسِمُ، فَبَلَغَهُ بِنَوَاحِي قُدَيْدٍ قَتْلُ مُحَمَّدٍ، فَهَرَبَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَتَفَرَّقُوا. فَلَحِقَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِإِبْرَاهِيمَ فَأَقَامَ عِنْدَهُ حَتَّى قُتِلَ إِبْرَاهِيمُ، وَاخْتَفَى الْقَاسِمُ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى أَخَذَتْ لَهُ ابْنَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ - امْرَأَةُ عِيسَى - الْأَمَانَ لَهُ وَلِإِخْوَتِهِ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَسَارَ نَحْوَ الشَّامِ وَمَعَهُ رِزَامٌ مَوْلَى مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ، فَانْسَلَّ مِنْهُ رِزَامٌ وَسَارَ إِلَى الْمَنْصُورِ بِرِسَالَةٍ مِنْ مَوْلَاهُ مُحَمَّدٍ الْقَسْرِيِّ، فَظَهَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، فَحَبَسَ مُحَمَّدًا الْقَسْرِيَّ، وَوَصَلَ مُوسَى إِلَى الشَّامِ فَرَأَى مِنْهُمْ سُوءَ رَدٍّ عَلَيْهِ وَغِلْظَةً، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَقِيتُ الشَّامَ وَأَهْلَهُ، فَكَانَ أَحْسَنَهُمْ قَوْلًا الَّذِي قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ مَلِلْنَا الْبَلَاءَ وَضِقْنَا حَتَّى مَا فِينَا لِهَذَا الْأَمْرِ مَوْضِعٌ وَلَا بِنَا بِهِ حَاجَةٌ، وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ تَحْلِفُ لَئِنْ أَصْبَحْنَا مِنْ لَيْلَتِنَا وَأَمْسَيْنَا مِنْ غَدٍ لَيُرْفَعَنَّ أَمْرُنَا، فَكَتَبْتُ إِلَيْكَ وَقَدْ غَيَّبْتُ وَجْهِي، وَخِفْتُ عَلَى نَفْسِي. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: أَتَى الْبَصْرَةَ وَأَرْسَلَ صَاحِبًا لَهُ يَشْتَرِي لَهُ طَعَامًا، فَاشْتَرَاهُ وَجَاءَ بِهِ عَلَى حَمَّالٍ أَسْوَدَ فَأَدْخَلَهُ الدَّارَ الَّتِي سَكَنَهَا وَخَرَجَ، فَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ كُبِسَتِ الدَّارُ وَأُخِذَ مُوسَى وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَغُلَامُهُ، فَأُخِذُوا وَحُمِلُوا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. فَلَمَّا رَأَى مُوسَى قَالَ: لَا قَرَّبَ اللَّهُ قَرَابَتَكُمْ، وَلَا حَيَّا وُجُوهَكُمْ! تَرَكْتَ الْبِلَادَ كُلَّهَا إِلَّا بَلَدًا أَنَا فِيهِ، فَإِنْ وَصَلْتُ أَرْحَامَكُمْ أَغْضَبْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ أَطَعْتُهُ قَطَعْتُ

أَرْحَامَكُمْ. ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَأَمَرَ فَضُرِبَ مُوسَى وَابْنُهُ كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ، فَلَمْ يَتَأَوَّهُوا. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: أَعْذَرْتُ أَهْلَ الْبَاطِلِ فِي صَبْرِهِمْ، فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ مُوسَى: أَهْلُ الْحَقِّ أَوْلَى بِالصَّبْرِ. ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ وَأَمَرَ بِهِمْ فَسُجِنُوا. (خُبَيْبُ بْنُ ثَابِتٍ: بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَضْمُومَةِ، وَبِبَائَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ وَبَيْنَهُمَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتِهَا) . ذِكْرُ مَسِيرِ عِيسَى بْنِ مُوسَى إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَقَتْلِهِ ثُمَّ إِنَّ الْمَنْصُورَ أَحْضَرَ ابْنَ أَخِيهِ عِيسَى بْنَ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِقِتَالِ مُحَمَّدٍ. فَقَالَ: شَاوِرْ عُمُومَتَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ قَالَ: فَأَيْنَ قَوْلُ ابْنِ هَرْمَةَ: تَرَوْنَ أَمْرَأً لَا يُمْحِضُ الْقَوْمَ سِرَّهُ ... وَلَا يَنْتَجِي الْأُذْنَيْنِ عَمَّا يُحَاوِلُ إِذَا مَا أَتَى شَيْئًا مَضَى كَالَّذِي أَتَى ... وَإِنْ قَالَ إِنِّي فَاعِلٌ فَهْوَ فَاعِلُ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: امْضِ أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَوَاللَّهِ مَا يُرَادُ غَيْرِي وَغَيْرُكَ، وَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ تَشْخَصَ أَنْتَ أَوْ أَشْخَصَ أَنَا. فَسَارَ وَسَيَّرَ مَعَهُ الْجُنُودَ. وَقَالَ الْمَنْصُورُ لَمَّا سَارَ عِيسَى: لَا أُبَالِي أَيُّهُمَا قَتَلَ صَاحِبَهُ. وَبَعَثَ مَعَهُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ، وَكَثِيرَ بْنَ حُصَيْنٍ الْعَبْدِيَّ، وَابْنَ قَحْطَبَةَ، وَهَزَارَ مَرَدَ وَغَيْرَهُمْ، وَقَالَ لَهُ حِينَ وَدَّعَهُ: يَا عِيسَى إِنِّي أَبْعَثُكَ إِلَى مَا بَيْنَ هَذَيْنِ، وَأَشَارَ إِلَى جَنْبَيْهِ، فَإِنْ ظَفِرْتَ بِالرَّجُلِ فَأَغْمِدْ سَيْفَكَ، وَابْذُلِ الْأَمَانَ، وَإِنْ تَغَيَّبَ فَضَمِّنْهُمْ إِيَّاهُ فَإِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَذَاهِبَهُ، وَمَنْ لَقِيَكَ مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ فَاكْتُبْ إِلَيَّ بِاسْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَلْقَكَ فَاقْبِضْ مَالَهُ. وَكَانَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ تَغَيَّبَ عَنْهُ فَقَبَضَ مَالَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَنْصُورُ الْمَدِينَةَ قَالَ لَهُ جَعْفَرٌ فِي مَعْنَى مَالِهِ، فَقَالَ: قَبَضَهُ مَهْدِيُّكُمْ. فَلَمَّا وَصَلَ عِيسَى إِلَى فَيْدَ كَتَبَ إِلَى النَّاسِ فِي خِرَقِ حَرِيرٍ، مِنْهُمْ: عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ

الْمُطَّلِبِ الْمَخْزُومِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَفْوَانَ الْجُمَحِيُّ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ فِيمَنْ أَطَاعَهُ، فَخَرَجَ هُوَ، وَعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبُو عَقِيلٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، وَأَبُو عِيسَى. وَلَمَّا بَلَغَ مُحَمَّدًا قُرْبُ عِيسَى مِنَ الْمَدِينَةِ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ أَوِ الْمُقَامِ بِهَا، فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا، وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِالْمُقَامِ بِهَا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «رَأَيْتُنِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ» "، فَأَقَامَ. ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فِي حَفْرِ خَنْدَقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ جَابِرُ بْنُ أَنَسٍ، رَئِيسُ سُلَيْمٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَحْنُ أَخْوَالُكَ وَجِيرَانُكَ، وَفِينَا السِّلَاحُ وَالْكُرَاعُ، فَلَا تُخَنْدِقِ الْخَنْدَقَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَنْدَقَ خَنْدَقَهُ لِمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَإِنْ خَنْدَقْتَهُ لَمْ يَحْسُنِ الْقِتَالُ رَجَّالَةً، وَلَمْ تُوَجَّهْ لَنَا الْخَيْلُ بَيْنَ الْأَزِقَّةِ، وَإِنَّ الَّذِينَ تُخَنْدِقُ دُونَهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَحُولُ الْخَنْدَقُ دُونَهُمْ. فَقَالَ أَحَدُ بَنِي شُجَاعٍ: خَنْدِقْ، خَنْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاقْتَدِ بِهِ، وَتُرِيدُ أَنْتَ أَنْ تَدَعَ أَثَرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَأْيِكَ! قَالَ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا ابْنَ شُجَاعٍ مَا شَيْءٌ أَثْقَلَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَصْحَابِكَ مِنْ لِقَائِهِمْ، وَمَا شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ مُنَاجَزَتِهِمْ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّمَا اتَّبَعْنَا فِي الْخَنْدَقِ أَثَرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَرُدَّنِي أَحَدٌ عَنْهُ فَلَسْتُ بِتَارِكِهِ. وَأَمَرَ بِهِ فَحُفِرَ، وَبَدَأَ هُوَ فَحَفَرَ بِنَفْسِهِ الْخَنْدَقَ الَّذِي حَفَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَحْزَابِ. وَسَارَ عِيسَى حَتَّى نَزَلَ الْأَعْوَصَ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ جَمَعَ النَّاسَ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ، وَحَصَرَهُمْ فَلَا يَخْرُجُونَ. وَخَطَبَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ قَدْ نَزَلَ الْأَعْوَصَ، وَإِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْقِيَامِ بِهَذَا الْأَمْرِ لَأَبْنَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، أَلَا وَإِنَّا قَدْ جَمَعْنَاكُمْ وَأَخَذْنَا عَلَيْكُمُ الْمِيثَاقَ، وَعَدُوُّكُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ وَالنَّصْرُ مِنَ اللَّهِ وَالْأَمْرُ بِيَدِهِ، وَإِنَّهُ قَدْ بَدَا لِي أَنْ آذَنَ لَكُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُقِيمَ أَقَامَ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَظْعَنَ ظَعَنَ. فَخَرَجَ عَالَمٌ كَثِيرٌ، وَخَرَجَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِذَرَارِيِّهِمْ وَأَهْلِيهِمْ إِلَى الْأَعْرَاضِ

وَالْجِبَالِ، وَبَقِيَ مُحَمَّدٌ فِي شِرْذِمَةٍ يَسِيرَةٍ، فَأَمَرَ أَبَا الْقَلَمَّسِ بِرَدِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَأَعْجَزَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَتَرَكَهُمْ. وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَ الْأَصَمِّ مَعَ عِيسَى يُنْزِلُهُ الْمَنَازِلَ، فَلَمَّا قَدِمُوا نَزَلُوا عَلَى مِيلٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ ابْنُ الْأَصَمِّ: إِنَّ الْخَيْلَ لَا عَمَلَ لَهَا مَعَ الرَّجَّالَةِ، وَإِنِّي أَخَافُ إِنْ كَشَفُوكُمْ كَشْفَةً أَنْ يَدْخُلُوا عَسْكَرَكُمْ. فَتَأَخَّرُوا إِلَى سِقَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْجُرْفِ، وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ: لَا يُهَرْوِلُ الرَّاجِلُ أَكْثَرَ مِنْ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ حَتَّى تَأْخُذَهُ الْخَيْلُ. وَأَرْسَلَ عِيسَى خَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ إِلَى بَطْحَاءِ أَزْهَرَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَقَامُوا بِهَا، وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يَنْهَزِمَ مُحَمَّدٌ فَيَأْتِيَ مَكَّةَ فَيَرُدَّهُ هَؤُلَاءِ، فَأَقَامُوا بِهَا حَتَّى قُتِلَ. وَأَرْسَلَ عِيسَى إِلَى مُحَمَّدٍ يُخْبِرُهُ أَنَّ الْمَنْصُورَ قَدْ آمَنَهُ وَأَهْلَهُ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ: يَا هَذَا إِنَّ لَكَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَابَةً قَرِيبَةً، وَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَأُحَذِّرُكَ نِقْمَتَهُ وَعَذَابَهُ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَنَا مُنْصَرِفٌ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ عَلَيْهِ، وَإِيَّاكَ أَنْ يَقْتُلَكَ مَنْ يَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ فَتَكُونَ شَرَّ قَتِيلٍ، أَوْ تَقْتُلَهُ فَيَكُونَ أَعْظَمَ لِوِزْرِكَ. فَلَمَّا بَلَغَتْهُ الرِّسَالَةُ قَالَ عِيسَى: لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ إِلَّا الْقِتَالُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لِلرَّسُولِ: عَلَامَ تَقْتُلُونَنِي وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ فَرَّ مِنْ أَنْ يُقْتَلَ؟ قَالَ: الْقَوْمُ يَدْعُونَكَ إِلَى الْأَمَانِ، فَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا قِتَالَهُمْ قَاتَلُوكَ عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ خَيْرُ آبَائِكَ [عَلِيٌّ] طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ عَلَى نَكْثِ بَيْعَتِهِمْ وَكَيْدِ مُلْكِهِمْ. فَلَمَّا سَمِعَ الْمَنْصُورُ قَوْلَهُ قَالَ: مَا سَرَّنِي أَنَّهُ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَنَزَلَ عِيسَى بِالْجُرْفِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ يَوْمَ السَّبْتِ، فَأَقَامَ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَغَدَا يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ فَوَقَفَ عَلَى سَلْعٍ فَنَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَنْ فِيهَا فَنَادَى: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دِمَاءَ بَعْضِنَا عَلَى بَعْضٍ، فَهَلُمُّوا إِلَى الْأَمَانِ! فَمَنْ قَامَ تَحْتَ رَايَتِنَا فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ خَرَجَ

مِنَ الْمَدِينَةِ فَهُوَ آمِنٌ، خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ صَاحِبِنَا، فَإِمَّا لَنَا وَإِمَّا لَهُ! فَشَتَمُوهُ. وَانْصَرَفَ مِنْ يَوْمِهِ وَعَادَ مِنَ الْغَدِ وَقَدْ فَرَّقَ الْقُوَّادَ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِ الْمَدِينَةِ، وَأَخْلَى نَاحِيَةَ مَسْجِدِ أَبِي الْجَرَّاحِ، وَهُوَ عَلَى بُطْحَانَ، فَإِنَّهُ أَخْلَى تِلْكَ النَّاحِيَةَ لِخُرُوجِ مَنْ يَنْهَزِمُ. وَبَرَزَ مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ، وَكَانَتْ رَايَتُهُ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ شِعَارُهُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. فَبَرَزَ أَبُو الْقَلَمَّسِ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ أَخُو أَسَدٍ وَاقْتَتَلُوا طَوِيلًا، فَقَتَلَهُ أَبُو الْقَلَمَّسِ، وَبَرَزَ إِلَيْهِ آخَرُ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ حِينَ ضَرَبَهُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْفَارُوقِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى: قَتَلْتَ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ فَارُوقٍ. وَقَاتَلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ قِتَالًا عَظِيمًا، فَقَتَلَ بِيَدِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَأَمَرَ عِيسَى حُمَيْدَ بْنَ قَحْطَبَةَ، فَتَقَدَّمَ فِي مِائَةٍ كُلُّهُمْ رَاجِلٌ سِوَاهُ، فَزَحَفُوا حَتَّى بَلَغُوا جِدَارًا دُونَ الْخَنْدَقِ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَهَدَمَ حُمَيْدٌ الْحَائِطَ وَانْتَهَى إِلَى الْخَنْدَقِ وَنَصَبَ عَلَيْهِ أَبْوَابًا وَعَبَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَيْهَا فَجَازُوا الْخَنْدَقَ وَقَاتَلُوا مِنْ وَرَائِهِ أَشَدَّ قِتَالٍ مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى الْعَصْرِ. وَأَمَرَ عِيسَى أَصْحَابَهُ فَأَلْقَوُا الْحَقَائِبَ وَغَيْرَهَا فِي الْخَنْدَقِ وَجَعَلَ الْأَبْوَابَ عَلَيْهَا وَجَازَتِ الْخَيْلُ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْصَرَفَ مُحَمَّدٌ قَبْلَ الظُّهْرِ فَاغْتَسَلَ وَتَحَنَّطَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! وَاللَّهِ مَا لَكَ بِمَا تَرَى طَاقَةٌ! فَلَوْ أَتَيْتَ الْحَسَنَ بْنَ مُعَاوِيَةَ بِمَكَّةَ فَإِنَّ مَعَهُ جُلَّ أَصْحَابِكَ. فَقَالَ: لَوْ خَرَجْتُ لَقُتِلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ حَتَّى أَقْتُلَ أَوْ أُقْتَلَ، وَأَنْتَ مِنِّي فِي سَعَةٍ فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ. فَمَشَى مَعَهُ قَلِيلًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ جُلُّ أَصْحَابِهِ حَتَّى بَقِيَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ يَزِيدُونَ قَلِيلًا، فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: نَحْنُ الْيَوْمَ بِعِدَّةِ أَهْلِ بَدْرٍ. وَصَلَّى مُحَمَّدٌ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَكَانَ مَعَهُ عِيسَى بْنُ خُضَيْرٍ وَهُوَ يُنَاشِدُهُ إِلَّا ذَهَبْتَ إِلَى الْبَصْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا تُبْتَلَوْنَ بِي مَرَّتَيْنِ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ حَيْثُ شِئْتَ. فَقَالَ ابْنُ خُضَيْرٍ: وَأَيْنَ الْمَذْهَبُ عَنْكَ؟ ثُمَّ مَضَى فَأَحْرَقَ الدِّيوَانَ الَّذِي فِيهِ أَسْمَاءُ مَنْ بَايَعَهُ، وَقَتَلَ رِيَاحَ بْنَ عُثْمَانَ، وَأَخَاهُ عَبَّاسَ بْنَ عُثْمَانَ، وَقَتَلَ ابْنَ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ الْمُرِّيَّ، وَمَضَى إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْقَسْرِيِّ وَهُوَ مَحْبُوسٌ لِيَقْتُلَهُ، فَعَلِمَ بِهِ فَرَدَمَ الْأَبْوَابَ دُونَهُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَرَجَعَ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقَاتَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ [حَتَّى قُتِلَ] .

وَتَقَدَّمَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ وَتَقَدَّمَ مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا صَارَ يَنْظُرُ مَسِيلَ سَلْعٍ عَرْقَبَ فَرَسُهُ، وَعَرْقَبَ بَنُو شُجَاعٍ الْخَمِيسِيُّونَ دَوَابَّهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، فَقَالَ لَهُمْ مُحَمَّدٌ: قَدْ بَايَعْتُمُونِي وَلَسْتُ بَارِحًا حَتَّى أُقْتَلَ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْصَرِفَ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ. وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَهَزَمُوا أَصْحَابَ عِيسَى مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ جَعْفَرٍ: وَيْلُ أُمِّهِ فَتْحًا لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ! فَصَعِدَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ وَانْحَدَرُوا مِنْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَمَرَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ حَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بِخِمَارٍ أَسْوَدَ، فَرُفِعَ عَلَى مَنَارَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ: دُخِلَتِ الْمَدِينَةُ، فَهَرَبُوا، فَقَالَ يَزِيدُ: لِكُلِّ قَوْمٍ جَبَلٌ يَعْصِمُهُمْ، وَلَنَا جَبَلٌ لَا نُؤْتَى إِلَّا مِنْهُ، يَعْنِي سَلْعًا. وَفَتَحَ بَنُو أَبِي عَمْرٍو الْغِفَارِيُّونَ طَرِيقًا فِي بَنِي غِفَارٍ لِأَصْحَابِ عِيسَى وَدَخَلُوا مِنْهُ أَيْضًا، وَجَاءُوا مِنْ وَرَاءِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، وَنَادَى مُحَمَّدٌ حُمَيْدَ بْنَ قَحْطَبَةَ: ابْرُزْ إِلَيَّ فَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ حُمَيْدٌ: قَدْ عَرَفْتُكَ وَأَنْتَ الشَّرِيفُ ابْنُ الشَّرِيفِ الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ، لَا وَاللَّهِ لَا أَبْرُزُ إِلَيْكَ وَبَيْنَ يَدَيَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَغْمَارِ أَحَدٌ، فَإِذَا فَرَغْتُ مِنْهُمْ فَسَأَبْرُزُ إِلَيْكَ. وَجَعَلَ حُمَيْدٌ يَدْعُو ابْنَ خُضَيْرٍ إِلَى الْأَمَانِ وَيَشِحُّ بِهِ عَلَى الْمَوْتِ، وَابْنُ خُضَيْرٍ يَحْمِلُ عَلَى النَّاسِ رَاجِلًا لَا يُصْغِي إِلَى أَمَانِهِ، وَهُوَ يَأْخُذُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى عَلَى أَلْيَتِهِ فَحَلَّهَا، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَشَدَّهَا بِثَوْبٍ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقِتَالِ، فَضَرَبَهُ إِنْسَانٌ عَلَى عَيْنِهِ فَغَاصَ السَّيْفُ وَسَقَطَ، فَابْتَدَرُوهُ فَقَتَلُوهُ وَاحْتَزُّوا رَأْسَهُ، وَكَأَنَّهُ بِاذِنْجَانَةٌ مُفَلَّقَةٌ مِنْ كَثْرَةِ الْجِرَاحِ فِيهِ. فَلَمَّا قُتِلَ تَقَدَّمَ مُحَمَّدٌ فَقَاتَلَ عَلَى جِيفَتِهِ، فَجَعَلَ يَهُذُّ النَّاسَ هَذًّا، وَكَانَ أَشْبَهَ النَّاسِ بِقِتَالِ حَمْزَةَ. وَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُ حَتَّى ضَرَبَهُ رَجُلٌ دُونَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ الْيُمْنَى فَبَرَكَ لِرُكْبَتِهِ وَجَعَلَ يَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ وَيَقُولُ: وَيْحَكُمُ ابْنُ نَبِيِّكُمْ مُجَرَّحٌ مَظْلُومٌ! فَطَعَنَهُ ابْنُ قَحْطَبَةَ فِي صَدْرِهِ فَصَرَعَهُ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَيْهِ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ وَأَتَى

بِهِ عِيسَى، وَهُوَ لَا يُعْرَفُ مِنْ كَثْرَةِ الدِّمَاءِ. وَقِيلَ: إِنَّ عِيسَى اتَّهَمَ ابْنَ قَحْطَبَةَ، وَكَانَ فِي الْخَيْلِ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَرَاكَ تُبَالِغُ. فَقَالَ لَهُ: أَتَتَّهِمُنِي؟ فَوَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ مُحَمَّدًا حِينَ أَرَاهُ بِالسَّيْفِ أَوْ أُقْتَلُ دُونَهُ. قَالَ: فَمَرَّ بِهِ وَهُوَ مَقْتُولٌ فَضَرَبَهُ وَهُوَ مَقْتُولٌ لِيُبِرَّ يَمِينَهُ. وَقِيلَ: بَلْ رُمِيَ بِسَهْمٍ وَهُوَ يُقَاتِلُ فَوَقَفَ إِلَى جِدَارٍ فَتَحَامَاهُ النَّاسُ، فَلَمَّا وَجَدَ الْمَوْتَ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَكَسَرَهُ، وَهُوَ ذُو الْفَقَارِ سَيْفُ عَلِيٍّ. وَقِيلَ: بَلْ أَعْطَاهُ رَجُلًا مِنَ التُّجَّارِ كَانَ مَعَهُ وَلَهُ عَلَيْهِ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ وَقَالَ: خُذْهُ فَإِنَّكَ لَا تَلْقَى أَحَدًا مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ إِلَّا أَخَذَهُ، وَأَعْطَاكَ حَقَّكَ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى وَلِيَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَدِينَةَ فَأُخْبِرَ بِهِ، فَأَخَذَ السَّيْفَ مِنْهُ وَأَعْطَاهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ حَتَّى أَخَذَهُ مِنْهُ الْمَهْدِيُّ، ثُمَّ صَارَ إِلَى الْهَادِي، فَجَرَّبَهُ عَلَى كَلْبٍ فَانْقَطَعَ السَّيْفُ. وَقِيلَ: بَلْ بَقِيَ إِلَى أَيَّامِ الرَّشِيدِ، وَكَانَ يَتَقَلَّدُهُ وَكَانَ بِهِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ فَقَّارَةً. وَلَمَّا أُتِيَ عِيسَى بِرَأْسِ مُحَمَّدٍ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَقُولُونَ فِيهِ؟ فَوَقَعُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَذَبْتُمْ، مَا لِهَذَا قَاتَلْنَاهُ، وَلَكِنَّهُ خَالَفَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَشَقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ لَصَوَّامًا قَوَّامًا! فَسَكَتُوا. فَأَرْسَلَ عِيسَى الرَّأْسَ إِلَى الْمَنْصُورِ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْكِرَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَبِالْبِشَارَةِ مَعَ الْقَاسِمِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رُءُوسَ بَنِي شُجَاعٍ. فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ فَطِيفَ بِرَأْسِ مُحَمَّدٍ فِي الْكُوفَةِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى الْآفَاقِ، وَلَمَّا رَأَى الْمَنْصُورُ رُءُوسَ بَنِي شُجَاعٍ قَالَ: هَكَذَا فَلْيَكُنِ النَّاسُ، طَلَبْتُ مُحَمَّدًا فَاشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ ثُمَّ نَقَلُوهُ وَانْتَقَلُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَاتَلُوا مَعَهُ حَتَّى قُتِلُوا.

وَكَانَ قَتْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى قَدْ هُزِمَ، فَقَالَ: كَلَّا، أَيْنَ لَعِبُ أَصْحَابِنَا وَصِبْيَانِنَا بِهَا عَلَى الْمَنَابِرِ، وَمَشُورَةُ النِّسَاءِ؟ مَا أَنَى لِذَلِكَ بَعْدُ! ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ مُحَمَّدًا هَرَبَ فَقَالَ: كَلَّا، إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَفِرُّ. فَجَاءَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الرُّءُوسُ. وَلَمَّا وَصَلَ رَأْسُ مُحَمَّدٍ إِلَى الْمَنْصُورِ كَانَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عِنْدَهُ، فَلَمَّا رَأَى الرَّأْسَ عَظُمَ عَلَيْهِ فَتَجَلَّدَ خَوْفًا مِنَ الْمَنْصُورِ، (وَقَالَ لِنَقِيبِ الْمَنْصُورِ: أَهُوَ؟ قَالَ: هُوَ فِلْذُهُمْ، وَقَالَ: لَوَدِدْتُ أَنَا الرَّكَانَةَ إِلَى طَاعَتِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَعَلَ وَلَا قَالَ، وَإِلَّا فَأُمُّ مُوسَى طَالِقٌ) ، وَكَانَتْ غَايَةَ أَيْمَانِهِ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَهُ، وَكَانَتْ نَفْسُهُ أَكْرَمَ عَلَيْنَا مِنْ نَفْسِهِ، فَبَصَقَ بَعْضُ الْغِلْمَانِ فِي وَجْهِهِ، فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ بِأَنْفِهِ فَكُسِرَ عُقُوبَةً لَهُ. وَلَمَّا وَرَدَ الْخَبَرُ بِقَتْلِ مُحَمَّدٍ عَلَى أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ بِالْبَصْرَةِ كَانَ يَوْمُ الْعِيدِ، فَخَرَجَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ وَنَعَاهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَظْهَرَ الْجَزَعَ عَلَيْهِ، وَتَمَثَّلَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَابَا الْمَنَازِلِ يَا خَيْرَ الْفَوَارِسِ مَنْ ... يُفْجَعْ بِمِثْلِكَ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ فُجِعَا اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَوْ خَشِيتُهُمُ ... وَأَوْجَسَ الْقَلْبُ مِنْ خَوْفٍ لَهُمْ فَزَعَا لَمْ يَقْتُلُوهُ وَلَمْ أُسْلِمْ أَخِي أَبَدًا ... حَتَّى نَمُوتَ جَمِيعًا أَوْ نَعِيشَ مَعَا. وَلَمَّا قُتِلَ مُحَمَّدٌ أَرْسَلَ عِيسَى أَلْوِيَةً فَنُصِبَتْ فِي مَوَاضِعَ بِالْمَدِينَةِ وَنَادَى مُنَادِيهِ: مَنْ دَخَلَ تَحْتَ لِوَاءٍ مِنْهَا فَهُوَ آمِنٌ.

وَأَخَذَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَصَلَبَهُمْ مَا بَيْنَ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى دَارِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ صَفَّيْنِ، وَوَكَّلَ بِخَشَبَةِ ابْنِ خُضَيْرٍ مَنْ يَحْفَظُهَا، فَاحْتَمَلَهُ قَوْمٌ مِنَ اللَّيْلِ فَوَارَوْهُ سِرًّا وَبَقِيَ الْآخَرُونَ ثَلَاثًا، فَأَمَرَ بِهِمْ عِيسَى، فَأُلْقُوا عَلَى مَقَابِرِ الْيَهُودِ، ثُمَّ أُلْقُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي خَنْدَقٍ فِي أَصْلِ ذِبَابٍ، فَأَرْسَلَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ أُخْتُ مُحَمَّدٍ وَابْنَةُ فَاطِمَةَ إِلَى عِيسَى: إِنَّكُمْ قَدْ قَتَلْتُمُوهُ وَقَضَيْتُمْ حَاجَتَكُمْ مِنْهُ، فَلَوْ أَذِنْتُمْ لَنَا فِي دَفْنِهِ؟ فَأَذِنَ لَهَا، فَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ. وَقَطَعَ الْمَنْصُورُ الْمِيرَةَ فِي الْبَحْرِ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَذِنَ فِيهَا الْمَهْدِيُّ. ذِكْرُ بَعْضِ الْمَشْهُورِينَ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ وَكَانَ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَخُوهُ مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَحُسَيْنٌ وَعَلِيٌّ ابْنَا زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ. وَلَمَّا بَلَغَ الْمَنْصُورُ أَنَّ ابْنَيْ زَيْدٍ أَعَانَا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ قَالَ: عَجَبًا لَهُمَا قَدْ خَرَجَا عَلَيَّ وَقَدْ قَتَلْنَا قَاتِلَ أَبِيهِمَا كَمَا قَتَلَهُ، وَصَلَبْنَاهُ كَمَا صَلَبَهُ، وَأَحْرَقْنَاهُ كَمَا أَحْرَقَهُ! . وَكَانَ مَعَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ ابْنَا الْحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ أَبُوهُمَا مَعَ الْمَنْصُورِ، وَالْحَسَنُ وَيَزِيدُ وَصَالِحٌ بَنُو مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَالْمُرَجَّى عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَكَانَ أَبُوهُ مَعَ الْمَنْصُورِ. وَمِنْ غَيْرِهِمْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، أُخِذَ أَسِيرًا فَأُتِيَ بِهِ الْمَنْصُورُ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الْخَارِجُ عَلَيَّ؟ قَالَ: لَمْ أَجِدْ إِلَّا ذَلِكَ أَوِ الْكُفْرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. وَكَانَ مَعَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ [أَبِي] سَبْرَةَ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ مَوْلَى الْأَزْدِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَطَاءِ بْنِ يَعْقُوبَ مَوْلَى بَنِي سِبَاعٍ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَإِسْحَاقُ، وَرَبِيعَةُ. وَجَعْفَرٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعَطَاءٌ، وَيَعْقُوبُ، وَعُثْمَانُ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، وَعِيسَى بْنُ خُضَيْرٍ، (وَعُثْمَانُ بْنُ خُضَيْرٍ) ، وَعُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ

خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ، هَرَبَ بَعْدَ قَتْلِ مُحَمَّدٍ فَأَتَى الْبَصْرَةَ، فَأُخِذَ مِنْهَا وَأُتِيَ بِهِ الْمَنْصُورُ. فَقَالَ لَهُ: هِيهِ يَا عُثْمَانُ! أَنْتَ الْخَارِجُ عَلَيَّ مَعَ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: بَايَعْتُهُ أَنَا وَأَنْتَ بِمَكَّةَ فَوَفَّيْتُ بِبَيْعَتِي، وَغَدَرْتَ بَيْعَتَكَ! قَالَ: يَا ابْنَ اللَّخْنَاءِ! قَالَ: ذَاكَ مَنْ قَامَتْ عَنْهُ الْإِمَاءُ! يَعْنِي الْمَنْصُورَ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. وَكَانَ مَعَ مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأُخِذَ أَسِيرًا، فَأَطْلَقَهُ الْمَنْصُورُ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُنْطُبَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهِشَامُ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. ذِكْرُ صِفَةِ مُحَمَّدٍ وَالْأَخْبَارِ بِقَتْلِهِ كَانَ مُحَمَّدٌ أَسْمَرَ شَدِيدَ السُّمْرَةِ، وَكَانَ مَنْصُورٌ يُسَمِّيهِ مُحَمَّمًا، وَكَانَ سَمِينًا شُجَاعًا كَثِيرَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، شَدِيدَ الْقُوَّةِ، وَكَانَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَاعْتَرَضَ فِي حَلْقِهِ بَلْغَمٌ، فَتَنَحْنَحَ فَذَهَبَ، ثُمَّ عَادَ فَتَنَحْنَحَ فَذَهَبَ، ثُمَّ عَادَ فَتَنَحْنَحَ فَنَظَرَ، فَلَمْ يَرَ مَوْضِعًا يَبْصُقُ فِيهِ، فَرَمَى بِنُخَامَتِهِ فِي سَقْفِ الْمَسْجِدِ فَأَلْصَقَهَا فِيهِ. وَسُئِلَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ عَنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: فِتْنَةٌ يُقْتَلُ فِيهَا مُحَمَّدٌ، وَيُقْتَلُ أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ بِالْعِرَاقِ، وَحَوَافِرُ فَرَسِهِ فِي مَاءٍ. فَلَمَّا قُتِلَ مُحَمَّدٌ قَبَضَ عِيسَى أَمْوَالَ بَنِي الْحَسَنِ كُلَّهَا وَأَمْوَالَ جَعْفَرٍ، فَلَقِيَ جَعْفَرٌ الْمَنْصُورَ فَقَالَ لَهُ: رُدَّ عَلَيَّ قَطِيعَتِي مِنْ أَبِي زِيَادٍ. قَالَ: إِيَّايَ تُكَلِّمُ بِهَذَا؟ وَاللَّهِ لَأُزْهِقَنَّ نَفْسَكَ! قَالَ: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيَّ، قَدْ بَلَغْتُ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً وَفِيهَا مَاتَ أَبِي وَجَدِّي وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَلَيَّ كَذَا وَكَذَا إِنْ رِبْتُكَ بِشَيْءٍ، وَإِنْ بَقِيتُ بَعْدَكَ إِنْ رِبْتُ الَّذِي يَقُومُ بَعْدَكَ. فَرَقَّ لَهُ الْمَنْصُورُ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ قَطِيعَتَهُ، فَرَدَّهَا الْمَهْدِيُّ عَلَى وَلَدِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيِّ: تَغْشَانَا سَحَابَةٌ فَإِنْ أَمْطَرَتْنَا ظَفِرْنَا، وَإِنْ تَجَاوَزَتْنَا إِلَيْهِمْ فَانْظُرْ إِلَى دَمِي عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ. قَالَ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَظَلَّتْنَا سَحَابَةٌ فَلَمْ

تُمْطِرْنَا، وَتُجَاوِزْنَا إِلَى عِيسَى وَأَصْحَابِهِ فَظَفِرُوا وَقَتَلُوا مُحَمَّدًا، وَرَأَيْتُ دَمَهُ عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ. (وَكَانَ قَتْلُهُ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ) . وَكَانَ يُلَقَّبُ الْمَهْدِيَّ وَالنَّفْسَ الزَّكِيَّةَ. وَمِمَّا رُثِيَ بِهِ هُوَ وَأَخُوهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ: يَا صَاحِبَيَّ دَعَا الْمَلَامَةَ وَاعْلَمَا ... أَنْ لَسْتُ فِي هَذَا بِأَلْوَمَ مِنْكُمَا وَقِفَا بِقَبْرٍ لِلنَّبِيِّ فَسَلِّمَا ... لَا بَأْسَ أَنْ تَقِفَا بِهِ وَتُسَلِّمَا قَبْرٌ تَضَمَّنَ خَيْرَ أَهْلِ زَمَانِهِ ... حَسَبًا وَطِيبَ سَجِيَّةٍ وَتَكَرُّمَا رَجُلٌ نَفَى بِالْعَدْلِ جَوْرَ بِلَادِنَا ... وَعَفَا عَظِيمَاتِ الْأُمُورِ وَأَنْعَمَا لَمْ يَجْتَنِبْ قَصْدَ السَّبِيلِ وَلَمْ يَجُرْ ... عَنْهُ وَلَمْ يَفْتَحْ بِفَاحِشَةٍ فَمَا لَوْ أَعْظَمَ الْحَدَثَانِ شَيْئًا قَبْلَهُ ... (بَعْدَ النَّبِيِّ بِهِ لَكُنْتَ الْمُعَظَّمَا أَوْ كَانَ أَمْتَعَ بِالسَّلَامَةِ قَبْلَهُ ... ) أَحَدًا لَكَانَ قِصَارُهُ أَنْ يَسْلَمَا ضَحَّوْا بِإِبْرَاهِيمَ خَيْرَ ضَحِيَّةٍ ... فَتَصَرَّمَتْ أَيَّامُهُ فَتَصَرَّمَا بَطَلًا يَخُوضُ بِنَفْسِهِ غَمَرَاتِهِ ... لَا طَائِشًا رَعِشًا وَلَا مُسْتَسْلِمَا حَتَّى مَضَتْ فِيهِ السُّيُوفُ وَرُبَّمَا ... كَانَتْ حُتُوفُهُمُ السُّيُوفَ وَرُبَّمَا أَضْحَى بَنُو حَسَنٍ أُبِيحُ حَرِيمُهُمْ ... فِينَا وَأَصْبَحَ نَهْبُهُمْ مُتَقَسَّمَا وَنِسَاؤُهُمْ فِي دُورِهِنَّ نَوَائِحُ ... سَجْعَ الْحَمَامِ إِذَا الْحَمَامُ تَرَنَّمَا يَتَوَصَّلُونَ بِقَتْلِهِ وَيَرَوْنَهُ ... شَرَفًا لَهُمْ عِنْدَ الْإِمَامِ وَمَغْنَمَا وَاللَّهِ لَوْ شَهِدَ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ ... صَلَّى الْإِلَهُ عَلَى النَّبِيِّ وَسَلَّمَا

إِشْرَاعَ أُمَّتِهِ الْأَسِنَّةَ لِابْنِهِ حَتَّى تَقَطَّرَ مِنْ ظُبَاتِهِمُ دَمَا ... حَتَّى لَأَيْقَنَ أَنَّهُمْ قَدْ ضَيَّعُوا تِلْكَ الْقَرَابَةَ وَاسْتَحَلُّوا الْمُحَرَّمَا. وَلَمَّا قُتِلَ مُحَمَّدٌ قَامَ عِيسَى بِالْمَدِينَةِ أَيَّامًا ثُمَّ سَارَ عَنْهَا صُبْحَ تِسْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ يُرِيدُ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ كَثِيرَ بْنَ حُصَيْنٍ، فَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا ثُمَّ اسْتَعْمَلَ الْمَنْصُورُ عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الرَّبِيعِ الْحَارِثِيَّ. ذِكْرُ وُثُوبِ السُّودَانِ بِالْمَدِينَةِ وَفِيهَا ثَارَ السُّودَانُ عَلَى عَامِلِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الرَّبِيعِ الْحَارِثِيِّ فَهَرَبَ مِنْهُمْ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَنْصُورَ اسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الرَّبِيعِ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدِمَهَا لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ، فَنَازَعَ جُنْدُهُ التُّجَّارَ فِي بَعْضِ مَا يَشْتَرُونَهُ مِنْهُمْ، فَشَكَا ذَلِكَ التُّجَّارُ إِلَى ابْنِ الرَّبِيعِ، فَانْتَهَرَهُمْ وَشَتَمَهُمْ، فَتَزَايَدَ طَمَعُ الْجُنْدِ فِيهِمْ، فَعَدَوْا عَلَى رَجُلٍ صَيْرَفِيٍّ فَنَازَعُوهُ كِيسَهُ، فَاسْتَعَانَ بِالنَّاسِ فَخَلَّصَ مَالَهُ مِنْهُمْ، وَشَكَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ ابْنُ الرَّبِيعِ. ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْجُنْدِ فَاشْتَرَى مِنْ جَزَّارٍ لَحْمًا يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَلَمْ يُعْطِهِ ثَمَنَهُ، وَشَهَرَ عَلَيْهِ السَّيْفَ، فَضَرَبَهُ الْجَزَّارُ بِشَفْرَةٍ فِي خَاصِرَتِهِ فَقَتَلَهُ، وَاجْتَمَعَ الْجَزَّارُونَ، وَتَنَادَى السُّودَانُ عَلَى الْجُنْدِ، وَهُمْ يَرُوحُونَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَقَتَلُوهُمْ بِالْعُمُدِ، وَنَفَخُوا فِي بُوقٍ لَهُمْ، فَسَمِعَهُ السُّودَانُ مِنَ الْعَالِيَةِ وَالسَّافِلَةِ فَأَقْبَلُوا وَاجْتَمَعُوا، وَكَانَ رُؤَسَاؤُهُمْ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ: وَثِيقٌ، وَيَعْقِلُ، وَزَمْعَةُ، وَلَمْ يَزَالُوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَتْلِ الْجُنْدِ حَتَّى أَمْسَوْا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَصَدُوا ابْنَ الرَّبِيعِ فَهَرَبَ مِنْهُمْ وَأَتَى بَطْنَ نَخْلٍ عَلَى لَيْلَتَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ فَنَزَلَ بِهِ، فَانْتَهَبُوا طَعَامًا لِلْمَنْصُورِ وَزَيْتًا وَقَسْبًا فَبَاعُوا حِمْلَ الدَّقِيقِ بِدِرْهَمَيْنِ، وَرَاوِيَةَ الزَّيْتِ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ. وَسَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُلَيْحٍ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى الْمَنْصُورِ فَأَخْبَرَهُ. وَكَانَ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ فِي الْحَبْسِ قَدْ أُخِذَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَضُرِبَ

وَحُبِسَ مُقَيَّدًا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ السُّودَانِ مَا كَانَ خَرَجَ فِي حَدِيدِهِ مِنَ الْحَبْسِ فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَأَرْسَلَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِمَا، فَأَحْضَرَهُمْ عِنْدَهُ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ وَهَذِهِ الْبَلِيَّةُ الَّتِي وَقَعَتْ! فَوَاللَّهِ إِنْ ثَبَتَتْ عَلَيْنَا عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْفَعْلَةِ الْأُولَى، إِنَّهُ لَهَلَاكُ الْبَلَدِ وَأَهْلِهِ وَالْعَبِيدِ فِي السُّوقِ بِأَجْمَعِهِمْ، فَاذْهَبُوا إِلَيْهِمْ فَكَلِّمُوهُمْ. فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِمَوَالِينَا، وَاللَّهِ مَا قُمْنَا إِلَّا أَنَفَةً مِمَّا عُمِلَ بِكُمْ، فَأَمْرُنَا إِلَيْكُمْ، فَأَقْبَلُوا بِهِمْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَخَطَبَهُمُ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ وَحَثَّهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ، فَتَرَاجَعُوا. وَلَمْ يُصَلِّ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ جُمُعَةً، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ لَمْ يُجِبِ الْمُؤَذِّنَ أَحَدٌ إِلَى الصَّلَاةِ بِهِمْ، فَقَدِمَ الْأَصْبَغُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ، فَلَمَّا وَقَفَ لِلصَّلَاةِ وَاسْتَوَتِ الصُّفُوفُ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ وَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أُصَلِّي بِالنَّاسِ عَلَى طَاعَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، يَقُولُ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا. ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ لَهُمُ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: إِنَّكُمْ قَدْ كَانَ مِنْكُمْ بِالْأَمْسِ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ وَنَهَبْتُمْ طَعَامَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَبْقَيَنَّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا رَدَّهُ، فَرَدُّوهُ، وَرَجَعَ ابْنُ الرَّبِيعِ مِنْ بَطْنِ نَخْلٍ فَقَطَعَ يَدَ وَثِيقٍ وَيَعْقِلَ وَغَيْرِهِمَا. ذِكْرُ بِنَاءِ مَدِينَةِ بَغْدَاذَ فِيهَا ابْتَدَأَ الْمَنْصُورُ فِي بِنَاءِ مَدِينَةِ بَغْدَاذَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدِ ابْتَنَى الْهَاشِمِيَّةَ بِنَوَاحِي الْكُوفَةِ، فَلَمَّا ثَارَتِ الرَّاوِنْدِيَّةُ فِيهَا كَرِهَ سُكَّانَهَا لِذَلِكَ وَلِجِوَارِ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْمَنُ أَهْلَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَكَانُوا قَدْ أَفْسَدُوا جُنْدَهُ. فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ يَرْتَادُ لَهُ مَوْضِعًا يَسْكُنُهُ هُوَ وَجُنْدُهُ، فَانْحَدَرَ إِلَى جَرْجَرَايَا، ثُمَّ أَصْعَدَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَسَارَ نَحْوَ الْجَبَلِ فِي طَلَبِ مَنْزِلٍ يُبْنَى بِهِ. وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ بَعْضُ جُنْدِهِ بِالْمَدَائِنِ لِرَمَدٍ لَحِقَهُ، فَسَأَلَهُ الطَّبِيبُ الَّذِي يُعَالِجُهُ عَنْ سَبَبِ حَرَكَةِ الْمَنْصُورِ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِي كِتَابٍ عِنْدَنَا أَنَّ رَجُلًا يُدْعَى مِقْلَاصًا يَبْنِي مَدِينَةً بَيْنَ دِجْلَةَ وَالصَّرَاةِ تُدْعَى الزَّوْرَاءَ، فَإِذَا أَسَّسَهَا وَبَنَى بَعْضَهَا أَتَاهُ فَتْقٌ مِنَ الْحِجَازِ، فَقَطَعَ بِنَاءَهَا وَأَصْلَحَ ذَلِكَ الْفَتْقَ، ثُمَّ أَتَاهُ فَتْقٌ مِنَ الْبَصْرَةِ أَعْظَمُ مِنْهُ فَلَا يَلْبَثُ الْفَتْقَانِ أَنْ يَلْتَئِمَا، ثُمَّ يَعُودَ إِلَى بِنَائِهَا فَيُتِمَّهُ، ثُمَّ يُعَمَّرُ عُمُرًا طَوِيلًا، وَيَبْقَى الْمُلْكُ فِي عَقِبِهِ. فَقَدِمَ ذَلِكَ الْجُنْدِيُّ إِلَى عَسْكَرِ الْمَنْصُورِ وَهُوَ بِنَوَاحِي الْجَبَلِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَرَجَعَ

وَقَالَ: إِنِّي أَنَا وَاللَّهِ كُنْتُ أُدْعَى مِقْلَاصًا وَأَنَا صَبِيٌّ ثُمَّ زَالَ عَنِّي، وَصَارَ حَتَّى نَزَلَ الدَّيْرَ الَّذِي حِذَاءَ قَصْرِهِ الْمَعْرُوفِ بِالْخُلْدِ، وَدَعَا بِصَاحِبِ الدَّيْرِ وَبِالْبِطْرِيقِ صَاحِبِ رَحَا الْبِطْرِيقِ، وَصَاحِبِ بَغْدَاذَ، وَصَاحِبِ الْمُخَرِّمِ، وَصَاحِبِ بُسْتَانِ النَّفْسِ، وَصَاحِبِ الْعَتِيقَةِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ مَوَاضِعِهِمْ، وَكَيْفَ هِيَ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْأَمْطَارِ وَالْوُحُولِ وَالْبَقِّ وَالْهَوَامِّ، فَأَخْبَرَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَا عِنْدَهُ، وَوَقَعَ اخْتِيَارُهُمْ عَلَى صَاحِبِ بَغْدَاذَ، فَأَحْضَرَهُ وَشَاوَرَهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَأَلْتَنِي عَنْ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ وَمَا تَخْتَارُ مِنْهَا، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تُنْزِلَ أَرْبَعَةَ طَسَاسِيجَ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ طَسُّوجَيْنِ، وَهُمَا بِقُطْرُبُّلَ وَبَادُورَيَا، وَفِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ طَسُّوجَيْنِ وَهُمَا نَهْرُ بُوقٍ وَكَلْوَاذَى، فَيَكُونَ بَيْنَ نَخْلٍ وَقُرْبَ الْمَاءِ، وَإِنْ أَجْدَبَ طَسُّوجٌ وَتَأَخَّرَتْ عِمَارَتُهُ كَانَ فِي الطَّسُّوجِ الْآخَرِ الْعِمَارَاتُ. وَأَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الصَّرَاةِ، (تَجِيئُكَ الْمِيرَةُ فِي السُّفُنِ مِنَ الشَّامِ وَالرَّقَّةِ، وَالْغَرْبِ فِي طَوَائِفِ مِصْرَ، وَتَجِيئُكَ الْمِيرَةُ مِنَ الصِّينِ، وَالْهِنْدِ، وَالْبَصْرَةِ، وَوَاسِطَ، وَدِيَارِ بَكْرٍ، وَالرُّومِ، وَالْمَوْصِلِ، وَغَيْرِهَا فِي دِجْلَةَ، وَتَجِيئُكَ الْمِيرَةُ مِنْ إِرْمِينِيَّةَ وَمَا اتَّصَلَ بِهَا فِي تَامَرَّا حَتَّى يَتَّصِلَ بِالزَّابِ، فَأَنْتَ بَيْنَ أَنْهَارٍ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ عَدُوُّكَ إِلَّا عَلَى جِسْرٍ أَوْ قَنْطَرَةٍ، فَإِذَا قَطَعْتَ الْجِسْرَ، وَأَخْرَبْتَ الْقَنْطَرَةَ لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ، وَدِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ وَالصَّرَاةُ خَنَادِقُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ، وَأَنْتَ مُتَوَسِّطٌ لِلْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَوَاسِطَ وَالْمَوْصِلِ وَالسَّوَادِ، وَأَنْتَ قَرِيبٌ مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالْجَبَلِ. فَازْدَادَ الْمَنْصُورُ عَزْمًا عَلَى النُّزُولِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَنْصُورَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ مَدِينَةَ بَغْدَاذَ رَأَى رَاهِبًا فَنَادَاهُ، فَأَجَابَهُ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ فِي كُتُبِكُمْ أَنَّهُ يُبْنَى هَاهُنَا مَدِينَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ يَبْنِيهَا مِقْلَاصٌ. قَالَ: فَأَنَا كُنْتُ أُدْعَى مِقْلَاصًا فِي حَدَاثَتِي. قَالَ: فَإِذًا أَنْتَ صَاحِبُهَا. فَابْتَدَأَ الْمَنْصُورُ بِعَمَلِهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، وَكَتَبَ إِلَى الشَّامِ، وَالْجَبَلِ، وَالْكُوفَةِ، وَوَاسِطَ، وَالْبَصْرَةِ، فِي مَعْنَى إِنْفَاذِ الصُّنَّاعِ وَالْفَعَلَةِ، وَأَمَرَ بِاخْتِيَارِ قَوْمٍ مِنْ ذَوِي الْفَضْلِ وَالْعَدَالَةِ وَالْفِقْهِ، وَأَمَرَ بِاخْتِيَارِ قَوْمٍ مِنَ ذَوِي الْأَمَانَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْهَنْدَسَةِ. فَكَانَ مِمَّنْ أُحْضِرَ لِذَلِكَ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَمَرَ فَخُطَّتِ الْمَدِينَةُ، وَحُفِرَ الْأَسَاسُ، وَضُرِبَ

اللَّبِنُ، وَطُبِخَ الْآجُرُّ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ مِنْهَا أَنَّهُ أَمَرَ بِخَطِّهَا بِالرَّمَادِ، فَدَخَلَهَا مِنْ أَبْوَابِهَا وَفُصْلَانِهَا وَطَاقَاتِهَا وَرِحَابِهَا وَهِيَ مَخْطُوطَةٌ بِالرَّمَادِ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الرَّمَادِ حَبُّ الْقُطْنِ وَيُشْعَلَ بِالنَّارِ، فَفَعَلُوا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَهِيَ تَشْتَعِلُ، فَفَهِمَهَا وَعَرَفَ رَسْمَهَا، وَأَمَرَ أَنْ يُحْفَرَ الْأَسَاسُ عَلَى ذَلِكَ الرَّسْمِ. وَوَكَّلَ بِهَا أَرْبَعَةً مِنَ الْقُوَّادِ، كُلُّ قَائِدٍ بِرُبْعٍ، وَوَكَّلَ أَبَا حَنِيفَةَ بِعَدَدِ الْآجُرِّ وَاللَّبِنِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ أَرَادَ أَبَا حَنِيفَةَ أَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ وَالْمَظَالِمَ، فَلَمْ يُجِبْ، فَحَلَفَ الْمَنْصُورُ أَنَّهُ لَا يُقْلِعُ عَنْهُ أَوْ يَعْمَلُ لَهُ. فَأَجَابَهُ إِلَى أَنْ يَنْظُرَ فِي عِمَارَةِ بَغْدَاذَ وَيَعُدَّ اللَّبِنَ وَالْآجُرَّ بِالْقَصَبِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَجَعَلَ الْمَنْصُورُ عَرْضَ أَسَاسِ السُّورِ مِنْ أَسْفَلِهِ خَمْسِينَ ذِرَاعًا، وَمِنْ أَعْلَاهُ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، وَجَعَلَ فِي الْبِنَاءِ الْقَصَبَ وَالْخَشَبَ، وَوَضَعَ بِيَدِهِ أَوَّلَ لَبِنَةٍ، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَالْأَرْضُ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. ثُمَّ قَالَ: ابْنُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فَلَمَّا بَلَغَ السُّورُ مِقْدَارَ قَامَّةٍ جَاءَ الْخَبَرُ بِظُهُورِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَطَعَ الْبِنَاءَ ثُمَّ أَقَامَ بِالْكُوفَةِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ حَرْبِ مُحَمَّدٍ وَأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَتَمَّ بِنَاءَهَا، وَأَقْطَعَ فِيهَا الْقَطَائِعَ لِأَصْحَابِهِ. وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ أَعَدَّ جَمِيعَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ بِنَاءِ الْمَدِينَةِ مِنْ خَشَبٍ وَسَاجٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاسْتَخْلَفَ حِينَ يَشْخَصُ إِلَى الْكُوفَةِ عَلَى إِصْلَاحِ مَا أَعَدَّ أَسْلَمَ مَوْلَاهُ، فَبَلَغَهُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَدْ هَزَمَ عَسْكَرَ الْمَنْصُورِ، فَأَحْرَقَ مَا كَانَ خَلَّفَهُ عَلَيْهِ الْمَنْصُورُ، فَبَلَغَ الْمَنْصُورَ ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَلُومُهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَسْلَمُ يُخْبِرُهُ أَنَّهُ خَافَ أَنْ يَظْفَرَ بِهِمْ إِبْرَاهِيمُ فَيَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا. وَسَنَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ بِنَائِهَا فِي سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ذِكْرُ ظُهُورِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ أَخِي مُحَمَّدٍ فِيهَا كَانَ ظُهُورُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ أَخُو مُحَمَّدٍ، الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ، وَكَانَ قَبْلَ ظُهُورِهِ قَدْ طُلِبَ أَشَدَّ الطَّلَبِ، فَحَكَتْ جَارِيَةٌ لَهُ أَنَّهُ لَمْ تُقِرَّهُمْ أَرْضٌ خَمْسَ سِنِينَ، مَرَّةً بِفَارِسَ، وَمَرَّةً بِكَرْمَانَ، وَمَرَّةً بِالْجَبَلِ، وَمَرَّةً بِالْحِجَازِ، وَمَرَّةً بِالْيَمَنِ، وَمَرَّةً بِالشَّامِ. ثُمَّ إِنَّهُ قَدِمَ الْمَوْصِلَ، وَقَدِمَهَا الْمَنْصُورُ فِي طَلَبِهِ، فَحَكَى إِبْرَاهِيمُ قَالَ: اضْطَرَّنِي الطَّلَبُ بِالْمَوْصِلِ حَتَّى جَلَسْتُ عَلَى مَائِدَةِ الْمَنْصُورِ ثُمَّ خَرَجْتُ وَقَدْ كَفَّ الطَّلَبُ، وَكَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ يَتَشَيَّعُونَ فَكَتَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ يَسْأَلُونَهُ الْقُدُومَ إِلَيْهِمْ لِيَثِبُوا بِالْمَنْصُورِ، فَقَدِمَ عَسْكَرُ أَبِي جَعْفَرٍ وَهُوَ بِبَغْدَاذَ وَقَدْ خَطَّهَا. وَكَانَتْ لَهُ مِرْآةٌ يَنْظُرُ فِيهَا فَيَرَى عَدُوَّهُ مِنْ صَدِيقِهِ، فَنَظَرَ فِيهَا فَقَالَ: يَا مُسَيَّبُ قَدْ رَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ فِي عَسْكَرِي وَمَا فِي الْأَرْضِ أَعْدَى لِي مِنْهُ، فَانْظُرْ أَيَّ رَجُلٍ يَكُونُ. ثُمَّ إِنَّ الْمَنْصُورَ أَمَرَ بِبِنَاءِ قَنْطَرَةِ الصَّرَاةِ الْعَتِيقَةِ، فَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا مَعَ النَّاسِ، فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ عَيْنُ الْمَنْصُورِ، فَخَنَسَ إِبْرَاهِيمُ، وَذَهَبَ فِي النَّاسِ، فَأَتَى فَامِيًا فَلَجَأَ إِلَيْهِ، فَأَصْعَدَهُ غُرْفَةً لَهُ، وَجَدَّ الْمَنْصُورُ فِي طَلَبِهِ، وَوَضَعَ الرَّصَدَةَ بِكُلِّ مَكَانٍ، فَنَشِبَ إِبْرَاهِيمُ مَكَانَهُ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ سُفْيَانُ بْنُ حَيَّانَ الْقُمِّيُّ: قَدْ نَزَلَ بِنَا مَا تَرَى وَلَا بُدَّ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ. قَالَ: فَأَنْتَ وَذَاكَ. فَأَقْبَلَ سُفْيَانُ إِلَى الرَّبِيعِ، فَسَأَلَهُ الْإِذْنَ عَلَى الْمَنْصُورِ، فَأَدْخَلَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ شَتَمَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا أَهْلٌ لِمَا تَقُولُ، غَيْرَ أَنِّي أَتَيْتُكَ تَائِبًا وَلَكَ عِنْدِي كُلُّ مَا تُحِبُّ، وَأَنَا آتِيكَ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ بَلَوْتُهُمْ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِمْ خَيْرًا، فَاكْتُبْ لِي جَوَازًا وَلِغُلَامٍ مَعِي يَحْمِلُنِي عَلَى الْبَرِيدِ وَوَجِّهْ مَعِي جُنْدًا. فَكَتَبَ لَهُ جَوَازًا وَدَفَعَ إِلَيْهِ جُنْدًا وَقَالَ: هَذِهِ أَلْفُ دِينَارٍ فَاسْتَعِنْ بِهَا. قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، وَأَخَذَ مِنْهَا ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ، وَأَقْبَلَ وَالْجُنْدُ مَعَهُ فَدَخَلَ الْبَيْتَ، وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ جُبَّةُ صُوفٍ وَقَبَاءٌ كَأَقْبِيَةِ الْغِلْمَانِ، فَصَاحَ بِهِ، فَوَثَبَ وَجَعَلَ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ، وَسَارَ عَلَى الْبَرِيدِ. وَقِيلَ: لَمْ يَرْكَبِ الْبَرِيدَ. وَسَارَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدَائِنَ، فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الْقَنْطَرَةِ بِهَا، فَدَفَعَ جَوَازَهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَازَهَا

قَالَ لَهُ الْمُوَكَّلُ بِالْقَنْطَرَةِ: مَا هَذَا غُلَامٌ، وَإِنَّهُ لَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، اذْهَبْ رَاشِدًا، فَأَطْلَقَهُمَا، فَرَكِبَا سَفِينَةً حَتَّى قَدِمَا الْبَصْرَةَ، فَجَعَلَ يَأْتِي بِالْجُنْدِ الدَّارَ لَهَا بَابَانِ فَيُقْعِدُ الْبَعْضَ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدِ الْبَابَيْنِ وَيَقُولُ: لَا تَبْرَحُوا حَتَّى آتِيَكُمْ، فَيَخْرُجَ مِنَ الْبَابِ الْآخَرِ وَيَتْرُكَهُمْ، حَتَّى فَرَّقَ الْجُنْدَ عَنْ نَفْسِهِ وَبَقِيَ وَحْدَهُ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ سُفْيَانَ بْنَ مُعَاوِيَةَ أَمِيرَ الْبَصْرَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَجَمَعَهُمْ، وَطَلَبَ الْقُمِّيَّ فَأَعْجَزَهُ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ قَدِمَ الْأَهْوَازَ قَبْلَ ذَلِكَ وَاخْتَفَى عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ خُبَيْبٍ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُصَيْنِ يَطْلُبُهُ، فَقَالَ يَوْمًا: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَتَبَ إِلَيَّ يُخْبِرُنِي أَنَّ الْمُنَجِّمِينَ أَخْبَرُوهُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ نَازِلٌ بِالْأَهْوَازِ فِي جَزِيرَةٍ بَيْنَ نَهْرَيْنِ، وَقَدْ طَلَبْتُهُ فِي الْجَزِيرَةِ وَلَيْسَ هُنَاكَ، وَقَدْ عَزَمْتُ أَنْ أَطْلُبَهُ غَدًا بِالْمَدِينَةِ، لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي بِقَوْلِهِ بَيْنَ نَهْرَيْنِ بَيْنَ دُجَيْلٍ وَالْمَسْرُقَانِ. فَرَجَعَ الْحَسَنُ بْنُ خُبَيْبٍ إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَأَخْبَرَهُ وَأَخْرَجَهُ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَلَمْ يَطْلُبْهُ مُحَمَّدٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ. فَلَمَّا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ خَرَجَ الْحَسَنُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَأَدْخَلَهُ الْبَلَدَ، وَهُمَا عَلَى حِمَارَيْنِ، وَقْتَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَلَقِيَهُ أَوَائِلُ خَيْلِ ابْنِ الْحُصَيْنِ، فَنَزَلَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ حِمَارِهِ كَأَنَّهُ يَبُولُ، فَسَأَلَ ابْنُ الْحُصَيْنِ الْحَسَنَ بْنَ خُبَيْبٍ عَنْ مَجِيئِهِ، فَقَالَ: مِنْ عِنْدِ بَعْضِ أَهْلِي. فَمَضَى وَتَرَكَهُ. وَرَجَعَ الْحَسَنُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَأَرْكَبَهُ وَأَدْخَلَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: وَاللَّهِ لَقَدْ بُلْتُ دَمًا. قَالَ: فَأَتَيْتُ الْمَوْضِعَ فَرَأَيْتُهُ قَدْ بَالَ دَمًا. ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ قَدِمَ الْبَصْرَةَ، فَقِيلَ: قَدِمَهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ بَعْدَ ظُهُورِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: قَدِمَهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ الَّذِي أَقْدَمَهُ وَتَوَلَّى كَرَاهُ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، يَحْيَى بْنُ زِيَادِ بْنِ حَيَّانَ النَّبَطِيُّ، وَأَنْزَلَهُ فِي دَارِهِ فِي بَنِي لَيْثٍ. وَقِيلَ: نَزَلَ فِي دَارِ أَبِي فَرْوَةَ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى بَيْعَةِ أَخِيهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ نُمَيْلَةُ بْنُ مُرَّةَ الْعَبْشَمِيُّ، وَعَفْوُ اللَّهِ بْنُ سُفْيَانَ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، وَعَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ الْهُجَيْمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ حُصَيْنٍ الرَّقَاشِيُّ، وَنَدَبُوا النَّاسَ، فَأَجَابَهُمُ الْمُغِيرَةُ بْنُ الْفَزَعِ وَأَشْبَاهٌ لَهُ. وَأَجَابَهُ أَيْضًا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَمُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، وَعَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ،

وَإِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ هُشَيْمِ بْنِ بَشِيرٍ، وَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، حَتَّى أَحْصَى دِيوَانُهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ. وَشُهِرَ أَمْرُهُ، فَقَالُوا لَهُ: لَوْ تَحَوَّلْتَ إِلَى وَسَطِ الْبَصْرَةِ أَتَاكَ النَّاسُ وَهُمْ مُسْتَرِيحُونَ. فَتَحَوَّلَ فَنَزَلَ دَارَ أَبِي مَرْوَانَ مَوْلَى بَنِي سُلَيْمٍ فِي مَقْبَرَةِ بَنِي يَشْكُرَ، وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَدْ مَالَأَ عَلَى أَمْرِهِ. وَلَمَّا ظَهَرَ أَخُوهُ مُحَمَّدٌ كَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالظُّهُورِ، فَوَجَمَ لِذَلِكَ وَاغْتَمَّ، فَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يُسَهِّلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ: قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ أَمْرُكَ فَتَخْرُجُ إِلَى السِّجْنِ فَتَكْسِرُهُ مِنَ اللَّيْلِ فَتُصْبِحُ وَقَدِ اجْتَمَعَ لَكَ عَالَمٌ مِنَ النَّاسِ. وَطَابَتْ نَفْسُهُ. وَكَانَ الْمَنْصُورُ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَقَدْ أَرْسَلَ ثَلَاثَةً مِنَ الْقُوَّادِ إِلَى سُفْيَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِالْبَصْرَةِ مَدَدًا لَهُ لِيَكُونُوا عَوْنًا لَهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِنْ ظَهَرَ. فَلَمَّا أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ الظُّهُورَ أَرْسَلَ إِلَى سُفْيَانَ فَأَعْلَمَهُ، فَجَمَعَ الْقُوَّادَ عِنْدَهُ. وَظَهَرَ إِبْرَاهِيمُ أَوَّلَ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، فَغَنِمَ دَوَابَّ أُولَئِكَ الْجُنْدِ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ فِي الْجَامِعِ، وَقَصَدَ دَارَ الْإِمَارَةِ وَبِهَا سُفْيَانُ مُتَحَصِّنًا فِي جَمَاعَةٍ فَحَصَرَهُ، وَطَلَبَ سُفْيَانُ مِنْهُ الْأَمَانَ، فَآمَنَهُ إِبْرَاهِيمُ. وَدَخَلَ الدَّارَ فَفَرَشُوا لَهُ حَصِيرًا، فَهَبَّتِ الرِّيحُ فَقَلَبَتْهُ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ، فَتَطَيَّرَ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّا لَا نَتَطَيَّرُ. وَجَلَسَ عَلَيْهِ مَقْلُوبًا وَحَبَسَ الْقُوَّادَ وَحَبَسَ أَيْضًا سُفْيَانَ بْنَ مُعَاوِيَةَ فِي الْقَصْرِ وَقَيَّدَهُ بِقَيْدٍ خَفِيفٍ لِيَعْلَمَ الْمَنْصُورُ أَنَّهُ مَحْبُوسٌ. وَبَلَغَ جَعْفَرًا وَمُحَمَّدًا ابْنَيْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ ظُهُورُ إِبْرَاهِيمَ، فَأَتَيَا فِي سِتِّمِائَةِ رَجُلٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا إِبْرَاهِيمُ الْمَضَاءَ بْنَ الْقَاسِمِ الْجَزَرِيَّ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا، فَهَزَمَهُمَا، وَنَادَى مُنَادِي إِبْرَاهِيمَ: لَا يُتْبَعُ مَهْزُومٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ. وَمَضَى إِبْرَاهِيمُ بِنَفْسِهِ إِلَى بَابِ زَيْنَبَ بِنْتِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَإِلَيْهَا يُنْسَبُ الزَّيْنَبِيُّونَ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ، فَنَادَى بِالْأَمَانِ وَأَنْ لَا يَعْرِضَ لَهُمْ أَحَدٌ، فَصَفَتْ لَهُ الْبَصْرَةُ، وَوَجَدَ فِي بَيْتِ مَالِهَا أَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَوِيَ بِذَلِكَ وَفَرَضَ لِأَصْحَابِهِ لِكُلِّ رَجُلٍ خَمْسِينَ خَمْسِينَ. فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ لَهُ الْبَصْرَةُ أَرْسَلَ الْمُغِيرَةَ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَبَلَغَهَا فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ، وَكَانَ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَامِلًا لِلْمَنْصُورِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ فَالْتَقَوْا، فَانْهَزَمَ ابْنُ الْحُصَيْنِ وَدَخَلَ الْمُغِيرَةُ الْأَهْوَازَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا وَجَّهَ الْمُغِيرَةَ بَعْدَ مَسِيرِهِ إِلَى بَاخَمْرَى، وَسَيَّرَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى فَارِسَ عَمْرَو بْنَ

شَدَّادٍ، فَقَدِمَهَا وَبِهَا إِسْمَاعِيلُ وَعَبْدُ الصَّمَدِ ابْنَا عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَبَلَغَهُمَا دُنُوُّ عَمْرٍو وَهُمَا بِإِصْطَخْرَ، فَقَصَدَا دَارَابَجَرْدَ فَتَحَصَّنَا بِهَا، فَصَارَتْ فَارِسُ فِي يَدِ عَمْرٍو، وَأَرْسَلَ إِبْرَاهِيمُ مَرْوَانَ بْنَ سَعِيدٍ الْعِجْلِيَّ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا إِلَى وَاسِطَ، وَبِهَا هَارُونُ بْنُ حُمَيْدٍ الْإِيَادِيُّ مِنْ قِبَلِ الْمَنْصُورِ، فَمَلَكَهَا الْعِجْلِيُّ. وَأَرْسَلَ الْمَنْصُورُ لِحَرْبِهِ عَامِرَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْمُسْلِيَّ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، وَقِيلَ: فِي عِشْرِينَ أَلْفًا، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ وَقَعَاتٌ ثُمَّ تَهَادَنُوا عَلَى تَرْكِ الْحَرْبِ حَتَّى يَنْظُرُوا مَا يَكُونُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَالْمَنْصُورِ. فَلَمَّا قُتِلَ إِبْرَاهِيمُ هَرَبَ مَرْوَانُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْهُمَا فَاخْتَفَى حَتَّى مَاتَ. فَلَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ بِالْبَصْرَةِ يُفَرِّقُ الْعُمَّالَ وَالْجُيُوشَ حَتَّى أَتَاهُ نَعْيُ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ قَبْلَ عِيدِ الْفِطْرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَخَرَجَ بِالنَّاسِ يَوْمَ الْعِيدِ وَفِيهِ الِانْكِسَارُ فَصَلَّى بِهِمْ وَأَخْبَرَهُمْ بِقَتْلِ مُحَمَّدٍ، فَازْدَادُوا فِي قِتَالِ الْمَنْصُورِ بَصِيرَةً، وَأَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ فَعَسْكَرَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَصْرَةِ نُمَيْلَةَ وَخَلَّفَ ابْنَهُ حَسَنًا مَعَهُ. ذِكْرُ مَسِيرِ إِبْرَاهِيمَ وَقَتْلِهِ ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ، فَأَشَارَ أَصْحَابُهُ الْبَصْرِيُّونَ أَنْ " تُقِيمَ وَتُرْسِلَ الْجُنُودَ، فَيَكُونَ إِذَا انْهَزَمَ لَكَ جُنْدٌ أَمْدَدْتَهُمْ بِغَيْرِهِمْ، فَخِيفَ مَكَانُكَ، وَاتَّقَاكَ عَدُوُّكَ، وَجَبَيْتَ الْأَمْوَالَ، وَثَبَّتَّ وَطْأَتَكَ ". فَقَالَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: إِنَّ بِالْكُوفَةِ أَقْوَامًا لَوْ رَأَوْكَ مَاتُوا دُونَكَ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْكَ قَعَدَتْ بِهِمْ أَسْبَابٌ شَتَّى. فَسَارَ عَنِ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ. وَكَانَ الْمَنْصُورُ لَمَّا بَلَغَهُ ظُهُورُ إِبْرَاهِيمَ فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ! مَا فِي عَسْكَرِي إِلَّا أَلْفَا رَجُلٍ، فَرَّقْتُ جُنْدِي: مَعَ الْمَهْدِيِّ بِالرَّيِّ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَمَعَ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بِإِفْرِيقِيَّةَ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَالْبَاقُونَ مَعَ عِيسَى بْنِ مُوسَى، وَاللَّهِ لَئِنْ سَلِمْتُ مِنْ هَذِهِ لَا يُفَارِقُ عَسْكَرِي ثَلَاثُونَ أَلْفًا. ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى يَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ مُسْرِعًا، فَأَتَاهُ الْكِتَابُ وَقَدْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، فَتَرَكَهَا وَعَادَ. وَكَتَبَ إِلَى سَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ فَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّيِّ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: اعْمِدْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَلَا يَرُوعَنَّكَ جَمْعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُمَا جَمَلَا بَنِي هَاشِمٍ الْمَقْتُولَانِ! فَثِقْ بِمَا أَقُولُ. وَضَمَّ

إِلَيْهِ غَيْرَهُ مِنَ الْقُوَّادِ. وَكَتَبَ إِلَى الْمَهْدِيِّ يَأْمُرُهُ بِإِنْفَاذِ خُزَيْمَةَ بْنِ خَازِمٍ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَسَيَّرَهُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَوَصَلَهَا وَقَاتَلَ الْمُغِيرَةَ، فَرَجَعَ الْمُغِيرَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَاسْتَبَاحَ خُزَيْمَةُ الْأَهْوَازَ ثَلَاثًا. وَتَوَالَتْ عَلَى الْمَنْصُورِ الْفُتُوقُ مِنَ الْبَصْرَةِ وَالْأَهْوَازِ وَفَارِسَ وَوَاسِطَ وَالْمَدَائِنِ وَالسَّوَادِ، وَإِلَى جَانِبِهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ يَنْتَظِرُونَ بِهِ صَيْحَةً، فَلَمَّا تَوَالَتِ الْأَخْبَارُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَنْشَدَ: وَجَعَلْتُ نَفْسِي لِلرِّمَاحِ دَرِيئَةً ... إِنَّ الرَّئِيسَ لِمِثْلِ ذَاكَ فَعُولُ ثُمَّ إِنَّهُ رَمَى كُلَّ نَاحِيَةٍ بِحَجَرِهَا، وَبَقِيَ الْمَنْصُورُ عَلَى مُصَلَّاهُ خَمْسِينَ يَوْمًا يَنَامُ عَلَيْهِ، وَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مُلَوَّنَةٌ قَدْ اتَّسَخَ جَيْبُهَا، لَا غَيَّرَهَا وَلَا هَجَرَ الْمُصَلَّى، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ إِذَا ظَهَرَ لِلنَّاسِ لَبِسَ السَّوَادَ فَإِذَا فَارَقَهُمْ رَجَعَ إِلَى هَيْئَتِهِ. وَأُهْدِيَتْ إِلَيْهِ امْرَأَتَانِ مِنَ الْمَدِينَةِ، إِحْدَاهُمَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَالْأُخْرَى أُمُّ الْكَرِيمِ ابْنَةُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ وَلَدِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ، فَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِمَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمَا قَدْ سَاءَتْ ظُنُونُهُمَا. فَقَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ أَيَّامُ نِسَاءٍ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِمَا حَتَّى أَنْظُرَ رَأْسَ إِبْرَاهِيمَ لِي، أَوْ رَأْسِي لَهُ. قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ قُتَيْبَةَ: لَمَّا تَتَابَعَتِ الْفُتُوقُ عَلَى الْمَنْصُورِ دَخَلْتُ مُسَلِّمًا عَلَيْهِ وَقَدْ أَتَاهُ خَبَرُ الْبَصْرَةِ، وَالْأَهْوَازِ، وَفَارِسَ، وَعَسَاكِرُ إِبْرَاهِيمَ قَدْ عَظُمَتْ، وَبِالْكُوفَةِ مِائَةُ أَلْفِ سَيْفٍ بِإِزَاءِ عَسْكَرِهِ يَنْتَظِرُ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَيَثِبُونَ بِهِ، فَرَأَيْتُهُ أَحْوَذِيًّا مُشَمِّرًا قَدْ قَامَ إِلَى مَا نَزَلَ بِهِ مِنَ النَّوَائِبِ يَعْرُكُهَا (فَقَامَ بِهَا) ، وَلَمْ تَقْعُدْ بِهِ نَفْسُهُ. وَإِنَّهُ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ: نَفْسُ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَامَا ... وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ وَالْإِقْدَامَا وَصَيَّرَتْهُ مَلِكًا هُمَامَا. ثُمَّ وَجَّهَ الْمَنْصُورُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عِيسَى بْنَ مُوسَى فِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَقَالَ لَهُ لَمَّا وَدَّعَهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْخُبَثَاءَ، يَعْنِي الْمُنَجِّمِينَ،

يَزْعُمُونَ أَنَّكَ إِذَا لَاقَيْتَ إِبْرَاهِيمَ يَجُولُ أَصْحَابُكَ جَوْلَةً حَتَّى تَلْقَاهُ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَيْكَ وَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لَكَ. وَلَمَّا سَارَ إِبْرَاهِيمُ عَنِ الْبَصْرَةِ مَشَى لَيْلَتَهُ فِي عَسْكَرِهِ سِرًّا فَسَمِعَ أَصْوَاتَ الطَّنَابِيرِ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى فَسَمِعَهَا أَيْضًا، فَقَالَ: مَا أَطْمَعُ فِي نَصْرِ عَسْكَرٍ فِيهِ مِثْلُ هَذَا! وَسُمِعَ يُنْشِدُ فِي طَرِيقِهِ أَبْيَاتَ الْقَطَامِيِّ: أُمُورٌ لَوْ يُدَبِّرُهَا حَلِيمٌ ... إِذًا لَنَهَى وَهَيَّبَ مَا اسْتَطَاعَا وَمَعْصِيَةُ الشَّقِيقِ عَلَيْكَ مِمَّا ... يَزِيدُكَ مَرَّةً مِنْهُ اسْتِمَاعَا وَخَيْرُ الْأَمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ ... وَلَيْسَ بِأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعَا وَلَكِنَّ الْأَدِيمَ إِذَا تَفَرَّى ... بِلًى وَتَعَيُّبًا غَلَبَ الصُّنَّاعَا . فَعَلِمُوا أَنَّهُ نَادِمٌ عَلَى مَسِيرِهِ. وَكَانَ دِيوَانُهُ قَدْ أَحْصَى مِائَةَ أَلْفٍ، وَقِيلَ: كَانَ مَعَهُ فِي طَرِيقِهِ عَشَرَةُ آلَافٍ. وَقِيلَ لَهُ فِي طَرِيقِهِ لِيَأْخُذَ غَيْرَ الْوَجْهِ الَّذِي فِيهِ عِيسَى، وَيَقْصِدَ الْكُوفَةَ فَإِنَّ الْمَنْصُورَ لَا يَقُومُ لَهُ وَيَنْضَافُ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَيْهِ، وَلَا يَبْقَى لِلْمَنْصُورِ مَرْجِعٌ دُونَ حُلْوَانَ، فَلَمْ يَفْعَلْ. فَقِيلَ لَهُ لِيُبَيِّتَ عِيسَى. فَقَالَ: أَكْرَهُ الْبَيَاتَ إِلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِيَأْمُرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهَا لِيَدْعُوَ إِلَيْهِ النَّاسَ، وَقَالَ: أَدْعُوهُمْ سِرًّا ثُمَّ أَجْهَرُ، فَإِذَا سَمِعَ الْمَنْصُورُ الْهَيْعَةَ بِأَرْجَاءِ الْكُوفَةِ لَمْ يَرُدَّ وَجْهَهُ شَيْءٌ دُونَ حُلْوَانَ. فَاسْتَشَارَ بَشِيرًا الرَّحَّالَ، فَقَالَ: لَوْ وَثِقْنَا بِالَّذِي تَقُولُ لَكَانَ رَأْيًا، وَلَكِنَّا لَا نَأْمَنُ أَنْ تَجِيئَكَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ فَيُرْسِلَ إِلَيْهِمُ الْمَنْصُورُ الْخَيْلَ، فَيَأْخُذَ الْبَرِيءَ وَالصَّغِيرَ وَالْمَرْأَةَ، فَيَكُونَ ذَلِكَ تَعَرُّضًا لِلْمَأْثَمِ. فَقَالَ الْكُوفِيُّ: كَأَنَّكُمْ خَرَجْتُمْ لِقِتَالِ الْمَنْصُورِ وَأَنْتُمْ تَتَوَقَّوْنَ قَتْلَ الضَّعِيفِ وَالْمَرْأَةِ وَالصَّغِيرِ! أَوَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ سَرَايَاهُ لِيُقَاتِلَ وَيَكُونَ نَحْوُ هَذَا؟ قَالَ بَشِيرٌ: أُولَئِكَ كُفَّارٌ وَهَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ.

وَاتَّبَعَ إِبْرَاهِيمُ رَأْيَهُ وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بَاخَمْرَى، وَهِيَ مِنَ الْكُوفَةِ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، (مُقَابِلَ عِيسَى بْنِ مُوسَى) ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّكَ قَدْ أَصْحَرْتَ وَمِثْلُكَ أَنْفِسُ بِهِ عَنِ الْمَوْتِ، فَخَنْدِقْ عَلَى نَفْسِكَ حَتَّى لَا تُؤْتَى إِلَّا مِنْ مَأْتًى وَاحِدٍ، فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَقَدْ أَغْرَى أَبُو جَعْفَرٍ عَسْكَرَهُ، فَتَخَفَّفْ فِي طَائِفَةٍ حَتَّى تَأْتِيَهُ فَتَأْخُذَ بِقَفَاهُ. فَدَعَا إِبْرَاهِيمُ أَصْحَابَهُ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: نُخَنْدِقُ عَلَى أَنْفُسِنَا وَنَحْنُ الظَّاهِرُونَ عَلَيْهِمْ! لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ. قَالَ: فَنَأْتِي أَبَا جَعْفَرٍ. قَالُوا: وَلِمَ وَهُوَ فِي أَيْدِينَا مَتَى أَرَدْنَا؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلرَّسُولِ: أَتَسْمَعُ؟ فَارْجِعْ رَاشِدًا. ثُمَّ إِنَّهُمْ تَصَافُّوا، فَصَفَّ إِبْرَاهِيمُ أَصْحَابَهُ صَفًّا وَاحِدًا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِأَنْ يَجْعَلَهُمْ كَرَادِيسَ، فَإِذَا انْهَزَمَ كُرْدُوسٌ ثَبَتَ كُرْدُوسٌ، فَإِنَّ الصَّفَّ إِذَا انْهَزَمَ بَعْضُهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ. فَقَالَ الْبَاقُونَ: لَا نَصُفُّ إِلَّا صَفَّ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، يَعْنِي قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] الْآيَةَ. فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَانْهَزَمَ النَّاسُ مَعَهُ، فَعَرَضَ لَهُمْ عِيسَى يُنَاشِدُهُمُ اللَّهَ وَالطَّاعَةَ فَلَا يَلْوُونَ عَلَيْهِ. فَأَقْبَلَ حُمَيْدٌ مُنْهَزِمًا، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: اللَّهَ اللَّهَ وَالطَّاعَةَ! فَقَالَ: لَا طَاعَةَ فِي الْهَزِيمَةِ! وَمَرَّ النَّاسُ فَلَمْ يَبْقَ مَعَ عِيسَى إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ. فَقِيلَ لَهُ: لَوْ تَنَحَّيْتَ عَنْ مَكَانِكَ حَتَّى تَئُوبَ إِلَيْكَ النَّاسُ فَتَكُرَّ بِهِمْ. فَقَالَ: لَا أَزُولُ عَنْ مَكَانِي هَذَا أَبَدًا حَتَّى أُقْتَلَ أَوْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيَّ، وَاللَّهِ لَا يَنْظُرُ أَهْلُ بَيْتِي إِلَى وَجْهِي أَبَدًا وَقَدِ انْهَزَمْتُ عَنْ عَدُوِّهِمْ! وَجَعَلَ يَقُولُ لِمَنْ يَمُرُّ بِهِ: أَقْرِئْ أَهْلَ بَيْتِي السَّلَامَ وَقُلْ لَهُمْ لَمْ أَجِدْ فِدًى أَفْدِيكُمْ بِهِ أَعَزَّ مِنْ نَفْسِي، وَقَدْ بَذَلْتُهَا دُونَكُمْ! فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ إِذْ أَتَى جَعْفَرٌ، وَمُحَمَّدٌ ابْنَا سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ ظُهُورِ أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَا يَشْعُرُ بَاقِي أَصْحَابِهِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْمُنْهَزِمِينَ حَتَّى نَظَرَ بَعْضُهُمْ فَرَأَى الْقِتَالَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَعَطَفُوا نَحْوَهُ، وَرَجَعَ أَصْحَابُ الْمَنْصُورِ يَتْبَعُونَهُمْ، فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَوْلَا جَعْفَرٌ وَمُحَمَّدٌ لَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ. وَكَانَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ لِلْمَنْصُورِ أَنَّ أَصْحَابَهُ لَقِيَهُمْ نَهْرٌ فِي طَرِيقِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْوُثُوبِ وَلَمْ يَجِدُوا

مَخَاضَةً، فَعَادُوا بِأَجْمَعِهِمْ، وَكَانَ أَصْحَابُ إِبْرَاهِيمَ قَدْ مَخَرُوا الْمَاءَ لِيَكُونَ قِتَالُهُمْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا انْهَزَمُوا مَنَعَهُمُ الْمَاءُ مِنَ الْفِرَارِ، وَثَبَتَ إِبْرَاهِيمُ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَبْلُغُونَ سِتَّمِائَةٍ، وَقِيلَ أَرْبَعَمِائَةٍ، وَقَاتَلَهُمْ حُمَيْدٌ وَجَعَلَ يُرْسِلُ بِالرُّءُوسِ إِلَى عِيسَى، وَجَاءَ إِبْرَاهِيمَ سَهْمٌ عَائِرٌ فَوَقَعَ فِي حَلْقِهِ فَنَحَرَهُ، فَتَنَحَّى عَنْ مَوْقِفِهِ وَقَالَ: أَنْزِلُونِي، فَأَنْزَلُوهُ عَنْ مَرْكَبِهِ وَهُوَ يَقُولُ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] ، أَرَدْنَا أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ غَيْرَهُ. وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَخَاصَّتُهُ يَحْمُونَهُ وَيُقَاتِلُونَ دُونَهُ، فَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ لِأَصْحَابِهِ: شُدُّوا عَلَى تِلْكَ الْجَمَاعَةِ حَتَّى تُزِيلُوهُمْ عَنْ مَوْضِعِهِمْ، وَتَعْلَمُوا مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، فَشَدُّوا عَلَيْهِمْ، فَقَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ قِتَالٍ حَتَّى أَفْرَجُوهُمْ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَخَلَصُوا إِلَيْهِ، وَحَزُّوا رَأْسَهُ فَأَتَوْا بِهِ عِيسَى، فَأَرَاهُ ابْنَ أَبِي الْكِرَامِ الْجَعْفَرِيَّ فَقَالَ: نَعَمْ هَذَا رَأَسُهُ. فَنَزَلَ عِيسَى إِلَى الْأَرْضِ، فَسَجَدَ وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمَنْصُورِ. وَكَانَ قَتْلُهُ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ عُمُرُهُ ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمَكَثَ مُنْذُ خَرَجَ إِلَى أَنْ قُتِلَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ إِلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ انْهِزَامِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا هَزَمُوا أَصْحَابَ الْمَنْصُورِ وَتَبِعُوهُمْ نَادَى مُنَادِي إِبْرَاهِيمَ: أَلَا لَا تَتْبَعُوا مُدْبِرًا! فَرَجَعُوا، فَلَمَّا رَآهُمْ أَصْحَابُ الْمَنْصُورِ رَاجِعِينَ ظَنُّوهُمْ مُنْهَزِمِينَ فَعَطَفُوا فِي آثَارِهِمْ، وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ. وَبَلَغَ الْمَنْصُورَ الْخَبَرُ بِهَزِيمَةِ أَصْحَابِهِ أَوَّلًا، فَعَزَمَ عَلَى إِتْيَانِ الرَّيِّ، فَأَتَاهُ نَوْبَخْتُ الْمُنَجِّمُ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الظُّفْرُ لَكَ، وَسَيُقْتَلُ إِبْرَاهِيمُ! فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِقَتْلِ إِبْرَاهِيمَ، فَتَمَثَّلَ: فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ. فَأَقْطَعَ الْمَنْصُورُ نَوْبَخْتَ أَلْفَيْ جَرِيبٍ بِنَهْرِ جَوْبَرَ. وَحُمِلَ رَأْسُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى الْمَنْصُورِ فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ بَكَى حَتَّى خَرَجَتْ

دُمُوعُهُ عَلَى خَدِّ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي كُنْتُ لِهَذَا كَارِهًا! وَلَكِنَّكَ ابْتُلِيتَ بِي وَابْتُلِيتُ بِكَ! . ثُمَّ جَلَسَ مَجْلِسًا عَامًّا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ. فَكَانَ الدَّاخِلُ يَدْخُلُ فَيَتَنَاوَلُ إِبْرَاهِيمَ وَيُسِيءُ الْقَوْلَ فِيهِ، وَيَذْكُرُ فِيهِ الْقَبِيحَ الْتِمَاسًا لِرِضَاءِ الْمَنْصُورِ، وَالْمَنْصُورُ مُمْسِكٌ مُتَغَيِّرٌ لَوْنُهُ. حَتَّى دَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ حَنْظَلَةَ الدَّارِمِيُّ فَوَقَفَ فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي ابْنِ عَمِّكَ، وَغَفَرَ لَهُ مَا فَرَّطَ فِيهِ فِي حَقِّكَ! فَأَسْفَرَ لَوْنُ الْمَنْصُورِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ: يَا أَبَا خَالِدٍ مَرْحَبًا [وَأَهْلًا] هَاهُنَا! فَعَلِمَ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ يُرْضِيهِ، فَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِ. وَقِيلَ: لَمَّا وُضِعَ الرَّأْسُ بَصَقَ فِي وَجْهِهِ رَجُلٌ مِنَ الْحَرَسِ، فَأَمَرَ بِهِ الْمَنْصُورُ فَضُرِبَ بِالْعُمُدِ فَهُشِّمَتْ أَنْفُهُ وَوَجْهُهُ، وَضُرِبَ حَتَّى خَمَدَ، وَأَمَرَ بِهِ فَجَرُّوا رِجْلَهُ فَأَلْقَوْهُ خَارِجَ الْبَابِ. وَقِيلَ: وَنَظَرَ الْمَنْصُورُ إِلَى سُفْيَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ مُدَّةٍ رَاكِبًا فَقَالَ: لِلَّهِ الْعَجَبُ كَيْفَ يُفْلِتُنِي ابْنُ الْفَاعِلَةِ! انْقَضَى أَمْرُ إِبْرَاهِيمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا خَرَجَتِ التُّرْكُ وَالْخَزَرُ بِبَابِ الْأَبْوَابِ، فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِإِرْمِينِيَّةَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ السَّرِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ، وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ: عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَلَى الْبَصْرَةِ: سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا: عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَلَى مِصْرَ: يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ.

وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ مَالِكَ بْنَ الْهَيْثَمِ عَنِ الْمَوْصِلِ بِابْنِهِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ حَرْبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ قُوَّادِهِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْحَرْبِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَبَنَى بِأَسْفَلِ الْمَوْصِلِ قَصْرًا وَسَكَنَهُ، فَهُوَ يُعْرَفُ إِلَى الْيَوْمِ بِقَصْرِ حَرْبٍ، وَفِيهِ وُلِدَتْ زُبَيْدَةُ بِنْتُ جَعْفَرٍ زَوْجَةُ الرَّشِيدِ. وَعِنْدَهُ يَوْمَنَا هَذَا قَرْيَةٌ كَانَتْ مِلْكًا لَنَا، فَبَنَيْنَا فِيهَا رِبَاطًا لِلصُّوفِيَّةِ وَقَفْنَا الْقَرْيَةَ عَلَيْهِ، قَدْ جَمَعْتُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ فِي دَارٍ لَنَا بِهَا، وَهِيَ مِنْ أَنْزَهِ الْمَوَاضِعِ وَأَحْسَنِهَا، وَأَثَرُ الْقَصْرِ بَاقٍ بِهَا إِلَى الْآنَ. سُبْحَانَ مَنْ لَا يَزُولُ وَلَا تُغَيِّرُهُ الدُّهُورُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ. وَالْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي حَبْسِ الْمَنْصُورِ، لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ عَمُّ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ الذِّمَّارِيُّ، وَلَهُ سَبْعُونَ سَنَةً. وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ الْبَجَلِيُّ، وَحَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ مَوْلَى الْأَزْدِ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو شَهِيدٍ.

ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ] 146 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ انْتِقَالِ الْمَنْصُورِ إِلَى بَغْدَاذَ وَكَيْفِيَّةِ بِنَائِهَا وَفِيهَا فِي صَفَرٍ، تَحَوَّلَ الْمَنْصُورُ مِنْ مَدِينَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ إِلَى بَغْدَاذَ وَبَنَى مَدِينَتَهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ السَّبَبَ الْبَاعِثَ لِلْمَنْصُورِ عَلَى بِنَاءِ مَدِينَةِ بَغْدَاذَ، وَنَذْكُرُ الْآنَ بِنَاءَهَا. وَلَمَّا عَزَمَ الْمَنْصُورُ عَلَى بِنَاءِ بَغْدَاذَ شَاوَرَ أَصْحَابَهُ، وَكَانَ فِيهِمْ خَالِدُ بْنُ بَرْمَكَ، فَأَشَارَ أَيْضًا بِذَلِكَ، وَهُوَ خَطَّهَا، فَاسْتَشَارَهُ فِي نَقْضِ الْمَدَائِنِ وَإِيوَانِ كِسْرَى وَنَقْلِ نَقْضِهَا إِلَى بَغْدَاذَ، فَقَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ يَسْتَدِلُّ بِهِ النَّاظِرُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُزَالَ مِثْلُ أَصْحَابِهِ عَنْهُ بِأَمْرِ دُنْيَا، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى أَمْرِ دِينٍ، وَمَعَ هَذَا فَفِيهِ مُصَلَّى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ الْمَنْصُورُ: لَا، أَبَيْتَ يَا خَالِدُ إِلَّا الْمَيْلَ إِلَى أَصْحَابِكَ الْعَجَمِ! وَأَمَرَ بِنَقْضِ الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ، فَنُقِضَتْ نَاحِيَةٌ مِنْهُ وَحُمِلَ نَقْضُهُ، فَنَظَرَ، فَكَانَ مِقْدَارُ مَا يَلْزَمُهُمْ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْحَدِيدِ. فَدَعَا خَالِدَ بْنَ بَرْمَكَ فَأَعْلَمَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كُنْتُ أَرَى أَنْ لَا تَفْعَلَ، فَأَمَّا إِذْ فَعَلْتَ فَإِنِّي أَرَى أَنْ تَهْدِمَ لِئَلَّا يُقَالَ إِنَّكَ عَجَزْتَ عَنْ هَدْمِ مَا بَنَاهُ غَيْرُكَ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَتَرَكَ هَدْمَهُ. وَنَقَلَ أَبْوَابَ مَدِينَةِ وَاسِطَ فَجَعَلَهَا عَلَى بَغْدَاذَ، وَبَابًا جِيءَ بِهِ مِنَ الشَّامِ، وَبَابًا آخَرَ جِيءَ بِهِ مِنَ الْكُوفَةِ عَمِلَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، وَجَعَلَ الْمَدِينَةَ مُدَوَّرَةً لِئَلَّا يَكُونَ بَعْضُ النَّاسِ أَقْرَبَ إِلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَعْضٍ، وَعَمِلَ لَهَا سُورَيْنِ، السُّورُ الدَّاخِلُ أَعْلَى مِنَ الْخَارِجِ، وَبَنَى قَصْرَهُ فِي وَسَطِهَا، وَالْمَسْجِدَ الْجَامِعَ بِجَانِبِ الْقَصْرِ. وَكَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ هُوَ الَّذِي خَطَّ الْمَسْجِدَ، وَقِبْلَتُهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ يَحْتَاجُ الْمُصَلِّي أَنْ يَنْحَرِفَ إِلَى بَابِ

الْبَصْرَةِ لِأَنَّهُ وُضِعَ بَعْدَ الْقَصْرِ. وَكَانَ الْقَصْرُ غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ عَلَى الْقِبْلَةِ. وَكَانَ اللَّبِنُ الَّذِي يُبْنَى بِهِ ذِرَاعًا فِي ذِرَاعٍ، وَوُزِنَ بَعْضُهَا لَمَّا نُقِضَ، وَكَانَ وَزْنُ لَبِنَةٍ مِنْهُ مِائَةَ رَطْلٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا، وَكَانَتْ مَقَاصِيرُ جَمَاعَةٍ مِنْ قُوَّادِ الْمَنْصُورِ وَكُتَّابِهِ تَشْرَعُ أَبْوَابُهَا إِلَى رَحْبَةِ الْجَامِعِ، فَطَلَبَ إِلَيْهِ عَمُّهُ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الرُّكُوبِ مِنْ بَابِ الرَّحْبَةِ إِلَى الْقَصْرِ لِضَعْفِهِ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، قَالَ: فَاحْسُبْنِي رَاوِيَةً، فَأَمَرَ النَّاسَ بِإِخْرَاجِ أَبْوَابِهِمْ مِنَ الرَّحْبَةِ إِلَى فُصْلَانِ الطَّاقَاتِ. وَكَانَتِ الْأَسْوَاقُ فِي الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ رَسُولٌ لِمَلِكِ الرُّومِ، فَأَمَرَ الرَّبِيعَ فَطَافَ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ بِنَاءً حَسَنًا إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ أَعْدَاءَكَ مَعَكَ وَهُمُ السُّوقَةُ. فَلَمَّا عَادَ الرَّسُولُ عَنْهُ أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ إِلَى نَاحِيَةِ الْكَرْخِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَخْرَجَهُمْ لِأَنَّ الْغُرَبَاءَ يَطْرُقُونَهَا وَيَبِيتُونَ فِيهَا، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمُ الْجَاسُوسُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَنْصُورَ كَانَ يَتْبَعُ مَنْ خَرَجَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، مُحْتَسِبُ بَغْدَاذَ، لَهُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ مَيْلٌ، فَجَمَعَ جَمَاعَةً مِنَ السَّفَلَةِ فَشَغَبُوا عَلَى الْمَنْصُورِ، فَسَكَّنَهُمْ وَأَخَذَ أَبَا زَكَرِيَّاءَ فَقَتَلَهُ، وَأَخْرَجَ الْأَسْوَاقَ، فَكُلِّمَ فِي بَقَّالٍ، فَأَمَرَ أَنْ يُجْعَلَ فِي كُلِّ رُبْعٍ بَقَّالٌ يَبِيعُ الْبَقْلَ وَالْخَلَّ حَسْبُ. وَجُعِلَ الطَّرِيقُ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا. وَكَانَ مِقْدَارُ النَّفَقَةِ عَلَى بِنَائِهَا وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَالْقَصْرِ وَالْأَسْوَاقِ وَالْفُصْلَانِ وَالْخَنَادِقِ وَأَبْوَابِهَا أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا. وَكَانَ الْأُسْتَاذُ مِنَ الْبَنَّائِينَ يَعْمَلُ يَوْمَهُ بِقِيرَاطِ فِضَّةٍ، وَالرُّوزْكَارِيُّ بِحَبَّتَيْنِ، وَحَاسَبَ الْقُوَّادَ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَأَلْزَمَ كُلًّا مِنْهُمْ بِمَا بَقِيَ عِنْدَهُ فَأَخَذَهُ، حَتَّى إِنَّ خَالِدَ بْنَ الصَّلْتِ بَقِيَ عَلَيْهِ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَحَبَسَهُ وَأَخَذَهَا مِنْهُ.

ذِكْرُ خُرُوجِ الْعَلَاءِ بِالْأَنْدَلُسِ وَفِيهَا سَارَ الْعَلَاءُ بْنُ مُغِيثٍ الْيَحْصُبِيُّ (مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ إِلَى مَدِينَةٍ) بِنَاحِيَةٍ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، وَلَبِسَ السَّوَادَ، وَقَامَ بِالدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ وَخَطَبَ لِلْمَنْصُورِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ، فَالْتَقَيَا بِنَوَاحِي إِشْبِيلِيَّةَ، ثُمَّ تَحَارَبَا أَيَّامًا، فَانْهَزَمَ الْعَلَاءُ وَأَصْحَابُهُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ سَبْعَةُ آلَافٍ، وَقُتِلَ الْعَلَاءُ. وَأَمَرَ بَعْضَ التُّجَّارِ بِحَمْلِ رَأْسِهِ وَرُءُوسِ جَمَاعَةٍ مِنْ مَشَاهِيرِ أَصْحَابِهِ إِلَى الْقَيْرَوَانِ وَإِلْقَائِهَا بِالسُّوقِ سِرًّا، فَفُعِلَ ذَلِكَ، ثُمَّ حُمِلَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَى مَكَّةَ، فَوَصَلَتْ وَكَانَ بِهَا الْمَنْصُورُ، وَكَانَ مَعَ الرُّءُوسِ لِوَاءٌ أَسْوَدُ وَكِتَابٌ كَتَبَهُ الْمَنْصُورُ لِلْعَلَاءِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ عَنِ الْبَصْرَةِ. وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ أَنَّ الْمَنْصُورَ كَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِهَدْمِ دُورِ مَنْ خَرَجَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَبِعَقْرِ نَخْلِهِمْ، فَكَتَبَ سَلْمٌ: بِأَيِّ ذَلِكَ أَبْدَأُ، بِالدُّورِ أَمْ بِالنَّخْلِ؟ فَأَنْكَرَ الْمَنْصُورُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَزَلَهُ. وَاسْتَعْمَلَ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ، فَعَاثَ بِالْبَصْرَةِ وَهَدَمَ دَارَ أَبِي مَرْوَانَ، وَدَارَ عَوْنِ بْنِ مَالِكٍ، وَدَارَ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَغَزَا الصَّائِفَةَ هَذِهِ السَّنَةَ جَعْفَرُ بْنُ حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيُّ. وَفِيهَا عُزِلَ عَنِ الْمَدِينَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَارِثِيُّ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، فَقَدِمَهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَفِيهَا عُزِلَ عَنْ مَكَّةَ السَّرِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَوَلِيَهَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ. [الْوَفَيَاتُ] [وَفِيهَا] مَاتَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقِيلَ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ فِي شَعْبَانَ. وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ. وَطَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ الْكُوفِيُّ. وَفِيهَا غَزَا مَالِكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيُّ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ مَالِكُ الصَّوَائِفِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ، بِلَادَ الرُّومِ فَغَنِمَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً ثُمَّ قَفَلَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ دَرْبِ الْحَدَثِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلًا بِمَوْضِعٍ يُدْعَى الرَّهْوَةَ نَزَلَ بِهَا ثَلَاثًا وَبَاعَ الْغَنَائِمَ وَقَسَّمَ سِهَامَ الْغَنِيمَةِ، فَسُمِّيَتْ تِلْكَ الرَّهْوَةُ رَهْوَةَ مَالِكٍ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ ابْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ النَّسَّابَةُ) .

ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ] 147 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ حَرْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِيهَا أَغَارَ أَسْتَرْخَانُ الْخَوَارِزْمِيُّ فِي جَمْعٍ مِنَ التُّرْكِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِنَاحِيَةِ إِرْمِينِيَّةَ وَسَبَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ خَلْقًا وَدَخَلُوا تَفْلِيسَ، وَكَانَ حَرْبٌ مُقِيمًا بِالْمَوْصِلِ فِي أَلْفَيْنِ مِنَ الْجُنْدِ لِمَكَانِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ بِالْجَزِيرَةِ، وَسَيَّرَ الْمَنْصُورُ إِلَى مُحَارَبَةِ التُّرْكِ جَبْرَائِيلَ بْنَ يَحْيَى وَحَرْبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَهُزِمَ جَبْرَائِيلُ وَقُتِلَ حَرْبٌ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ جَبْرَائِيلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ. ذِكْرُ الْبَيْعَةِ لِلْمَهْدِيِّ وَخَلْعِ عِيسَى بْنِ مُوسَى وَفِيهَا خَلَعَ عِيسَى بْنُ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ وَبُويِعَ لِلْمَهْدِيِّ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَنْصُورِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي السَّبَبِ الَّذِي خَلَعَ لِأَجْلِهِ نَفْسَهُ، فَقِيلَ: إِنَّ عِيسَى لَمْ يَزَلْ عَلَى وِلَايَةِ الْعَهْدِ وَإِمَارَةِ الْكُوفَةِ مِنْ أَيَّامِ السَّفَّاحِ إِلَى الْآنَ، فَلَمَّا كَبِرَ الْمَهْدِيُّ وَعَزَمَ الْمَنْصُورُ عَلَى الْبَيْعَةِ لَهُ كَلَّمَ عِيسَى بْنَ مُوسَى فِي ذَلِكَ، وَكَانَ يُكْرِمُهُ وَيُجْلِسُهُ عَنْ يَمِينِهِ وَيُجْلِسُ الْمَهْدِيَّ عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ فِي مَعْنَى خَلْعِ نَفْسِهِ وَتَقْدِيمِ الْمَهْدِيِّ عَلَيْهِ أَبَى وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ بِالْأَيْمَانِ عَلَيَّ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ لَيْسَ إِلَى الْخَلْعِ سَبِيلٌ! . فَتَغَيَّرَ الْمَنْصُورُ عَلَيْهِ وَبَاعَدَهُ بَعْضَ الْمُبَاعَدَةِ، وَصَارَ يَأْذَنُ لِلْمَهْدِيِّ قَبْلَهُ، وَكَانَ يَجْلِسُ عَنْ يَمِينِهِ فِي مَجْلِسِ عِيسَى ثُمَّ يُؤْذَنُ لِعِيسَى فَيَدْخُلُ فَيَجْلِسُ إِلَى جَانِبِ الْمَهْدِيِّ، وَلَمْ يَجْلِسْ عَنْ يَسَارِ الْمَنْصُورِ، فَاغْتَاظَ مِنْهُ ثُمَّ صَارَ يَأْذَنُ لِلْمَهْدِيِّ وَلِعَمِّهِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ، ثُمَّ لِعَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَلِيٍّ، ثُمَّ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى، وَرُبَّمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ، إِلَّا أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْإِذْنِ لِلْمَهْدِيِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَتَوَهَّمَ عِيسَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ إِذْنَهُمْ لِحَاجَةٍ لَهُ إِلَيْهِمْ، وَعِيسَى صَامِتٌ لَا يَشْكُو، ثُمَّ صَارَ

حَالُ عِيسَى إِلَى أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ يَكُونُ فِي الْمَجْلِسِ مَعَهُ بَعْضُ وَلَدِهِ فَيَسْمَعُ الْحَفْرَ فِي أَصْلِ الْحَائِطِ، وَيُنْثَرُ عَلَيْهِ التُّرَابُ، وَيَنْظُرُ إِلَى الْخَشَبَةِ مِنَ السَّقْفِ قَدْ حُفِرَ عَنْ أَحَدِ طَرَفَيْهَا لِتُقْلَعَ فَيَسْقُطَ التُّرَابُ عَلَى قَلَنْسُوَتِهِ وَثِيَابِهِ فَيَأَمُرُ مَنْ مَعَهُ مِنْ وَلَدِهِ بِالتَّحَوُّلِ وَيَقُومُ هُوَ يُصَلِّي ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُ فَيَدْخُلُ بِهَيْئَتِهِ وَالتُّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ وَثِيَابِهِ لَا يَنْفُضُهُ، فَيَقُولُ لَهُ الْمَنْصُورُ: يَا عِيسَى مَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَحَدٌ بِمِثْلِ هَيْئَتِكَ مِنْ كَثْرَةِ الْغُبَارِ وَالتُّرَابِ! أَفَكُلُّ هَذَا مِنَ الشَّارِعِ؟ فَيَقُولُ: أَحْسَبُ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَشْكُو شَيْئًا. وَكَانَ الْمَنْصُورُ يُرْسِلُ إِلَيْهِ عَمَّهُ عِيسَى بْنَ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ عِيسَى بْنُ مُوسَى لَا يُؤْثِرُهُ وَيَتَّهِمُهُ. فَقِيلَ: إِنَّ الْمَنْصُورَ أَمَرَ أَنْ يُسْقَى عِيسَى بْنُ مُوسَى بَعْضَ مَا يُتْلِفُهُ فَوَجَدَ الْمَاءَ فِي بَطْنِهِ فَاسْتَأْذَنَ فِي الْعَوْدِ إِلَى بَيْتِهِ بِالْكُوفَةِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَمَرِضَ مِنْ ذَلِكَ وَاشْتَدَّ مَرَضُهُ ثُمَّ عُوفِيَ بَعْدَ أَنْ أَشْفَى. وَقَالَ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ لِلْمَنْصُورِ: إِنَّ ابْنَ مُوسَى إِنَّمَا يَتَرَبَّصُ بِالْخِلَافَةِ لِابْنِهِ مُوسَى فَابْنُهُ الَّذِي يَمْنَعُهُ، فَقَالَ لَهُ: خَوِّفْهُ وَتَهَدَّدْهُ، فَكَلَّمَهُ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ وَخَوَّفَهُ، فَخَافَ مُوسَى بْنُ عِيسَى. وَأَتَى الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: يَا عَمِّ إِنِّي أَرَى مَا يُسَامُ أَبِي مَنْ إِخْرَاجِ هَذَا الْأَمْرِ مِنْ عُنُقِهِ، وَهُوَ يُؤْذَى بِصُنُوفِ الْأَذَى وَالْمَكْرُوهِ، فَهُوَ يُهَدَّدُ مَرَّةً، وَيُؤَخَّرُ إِذْنُهُ مَرَّةً، وَيُهْدَمُ عَلَيْهِ الْحِيطَانُ مَرَّةً، وَتُدَسُّ إِلَيْهِ الْحُتُوفُ مَرَّةً، وَأَبِي لَا يُعْطِي عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا. وَلَكِنَّ هَاهُنَا طَرِيقٌ لَعَلَّهُ يُعْطِي عَلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: يُقْبِلُ عَلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا شَاهِدٌ فَيَقُولُ لَهُ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تَبْخَلُ بِهَذَا الْأَمْرِ عَنِ الْمَهْدِيِّ لِنَفْسِكَ لِكِبَرِ سِنِّكَ، وَأَنَّهُ لَا تَطُولُ مُدَّتُكَ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَبْخَلُ بِهِ لِابْنِكَ، أَفَتُرَانِي أَدَعُ ابْنَكَ يَبْقَى بَعْدَكَ حَتَّى يَلِيَ عَلَى ابْنِي؟ كَلَّا وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا، وَلَأَثِبَنَّ عَلَى ابْنِكَ وَأَنْتَ تَنْظُرُ حَتَّى تَيْأَسَ مِنْهُ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَعَلَّهُ أَنْ يُجِيبَ إِلَى مَا يُرَادُ مِنْهُ. فَجَاءَ الْعَبَّاسُ إِلَى الْمَنْصُورِ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ قَالَ ذَلِكَ، وَكَانَ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ حَاضِرًا، فَقَامَ لِيَبُولَ، فَأَمَرَ عِيسَى بْنُ مُوسَى ابْنَهُ مُوسَى لِيَقُومَ مَعَهُ يَجْمَعُ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، فَقَامَ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ: بِأَبِي أَنْتَ وَبِأَبِي أَبٌ وَلَدَكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَعْدَكُمَا، وَأَنَّكُمَا لَأَحَقُّ بِهِ، وَلَكِنَّ الْمَرْءَ مُغْرًى بِمَا تَعَجَّلَ. فَقَالَ مُوسَى [فِي نَفْسِهِ] : امْكَنَنِي هَذَا وَاللَّهِ مِنْ مَقَاتِلِهِ وَهُوَ الَّذِي يُغْرِي بِأَبِي، وَاللَّهِ

لَأَقْتُلَنَّهُ! فَلَمَّا رَجَعَا قَالَ مُوسَى لِأَبِيهِ ذَلِكَ سِرًّا، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي أَنْ يَقُولَ لِلْمَنْصُورِ مَا سَمِعَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: أُفٍّ لِهَذَا رَأْيًا وَمَذْهَبًا! ائْتَمَنَكَ عَمُّكَ عَلَى مَقَالَةٍ أَرَادَ أَنْ يُسِرَّكَ بِهَا فَجَعَلْتَهَا سَبَبًا لِمَكْرُوهِهِ، وَلَا يَسْمَعَنَّ هَذَا أَحَدٌ، ارْجِعْ إِلَى مَكَانِكَ. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ أَمَرَ الْمَنْصُورُ الرَّبِيعَ فَقَامَ إِلَى مُوسَى فَخَنَقَهُ بِحَمَائِلِهِ، وَمُوسَى يَصِيحُ: اللَّهَ اللَّهَ فِي دَمِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! وَمَا يُبَالِي عِيسَى أَنْ تَقْتُلَنِي وَلَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا، وَالْمَنْصُورُ يَقُولُ: يَا رَبِيعُ أَزْهِقْ نَفْسَهُ، وَالرَّبِيعُ يُوهِمُ أَنَّهُ يُرِيدُ تَلَفَهُ وَهُوَ يَرْفُقُ بِهِ وَمُوسَى يَصِيحُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُوهُ قَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْأَمْرَ يَبْلُغُ مِنْكَ هَذَا كُلَّهُ! فَاكْفُفْ عَنْهُ، فَهَأَنَذَا أُشْهِدُكَ أَنَّ نِسَائِي طَوَالِقُ وَمَمَالِيكِي [أَحْرَارٌ] وَمَا أَمْلِكُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَصْرِفُ ذَلِكَ فِي مَنْ رَأَيْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! وَهَذِهِ يَدِي بِالْبَيْعَةِ لِلْمَهْدِيِّ. فَبَايَعَهُ لِلْمَهْدِيِّ. ثُمَّ جَعَلَ عِيسَى بْنَ مُوسَى بَعْدَ الْمَهْدِيِّ. فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ: هَذَا الَّذِي كَانَ غَدًا فَصَارَ بَعْدَ غَدٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَنْصُورَ وَضَعَ الْجُنْدَ وَكَانُوا يُسْمِعُونَ عِيسَى بْنَ مُوسَى مَا يَكْرَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ، فَنَهَاهُمُ الْمَنْصُورُ عَنْهُ، وَكَانُوا يَكُفُّونَ ثُمَّ يَعُودُونَ. ثُمَّ إِنَّهُمَا تَكَاتَبَا مُكَاتَبَاتٍ أَغْضَبَتِ الْمَنْصُورَ، وَعَادَ الْجُنْدُ مَعَهُ لِأَشَدَّ مَا كَانُوا، مِنْهُمْ: أَسَدُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ، وَعُقْبَةُ بْنُ سَلْمٍ، وَنَصْرُ بْنُ حَرْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَغَيْرُهُمْ، فَكَانُوا يَمْنَعُونَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ وَيُسْمِعُونَهُ، فَشَكَاهُمْ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي أَنَا وَاللَّهِ أَخَافُهُمْ عَلَيْكَ وَعَلَى نَفْسِي، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ هَذَا الْفَتَى، فَلَوْ قَدَّمْتَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ لَكَفُّوا. فَأَجَابَ عِيسَى إِلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ إِنَّ الْمَنْصُورَ اسْتَشَارَ خَالِدَ بْنَ بَرْمَكَ فِي ذَلِكَ وَبَعَثَهُ إِلَى عِيسَى، فَأَخَذَ مَعَهُ ثَلَاثِينَ مِنْ كِبَارِ شِيعَةِ الْمَنْصُورِ مِمَّنْ يَخْتَارُهُمْ، وَقَالَ لِعِيسَى فِي أَمْرِ الْبَيْعَةِ، فَامْتَنَعَ، فَرَجَعُوا إِلَى الْمَنْصُورِ وَشَهِدُوا عَلَى عِيسَى أَنَّهُ خَلَعَ نَفْسَهُ فَبَايَعَ لِلْمَهْدِيِّ، وَجَاءَ عِيسَى فَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ، وَشَكَرَ لِخَالِدٍ صَنِيعَهُ. وَقِيلَ: بَلِ اشْتَرَى الْمَنْصُورُ مِنْهُ ذَلِكَ بِمَالٍ قَدْرُهُ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ لَهُ وَلِأَوْلَادِهِ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْخَلْعِ. وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَةِ عِيسَى بْنِ مُوسَى الْكُوفَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَعَزَلَهُ الْمَنْصُورُ

وَاسْتَعْمَلَ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهَا لِيُؤْذِيَ عِيسَى وَيَسْتَخِفَّ بِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَلَمْ يَزَلْ مُعَظِّمًا لَهُ مُبَجِّلًا. ذِكْرُ مَوْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ أَحْضَرَ عِيسَى بْنَ مُوسَى بَعْدَ أَنْ خَلَعَ نَفْسَهُ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ عَمَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ وَأَمَرَهُ بِقَتْلِهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْخِلَافَةَ صَائِرَةٌ إِلَيْكَ بَعْدَ الْمَهْدِيِّ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَضْعُفَ فَتَنْقُضَ عَلَيَّ أَمْرِي الَّذِي دَبَّرْتُهُ. ثُمَّ مَضَى إِلَى مَكَّةَ وَكَتَبَ إِلَى عِيسَى مِنَ الطَّرِيقِ يَسْتَعْلِمُ مِنْهُ مَا فَعَلَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي أَمَرَهُ، فَكَتَبَ عِيسَى فِي الْجَوَابِ: قَدْ أَنْفَذْتُ مَا أَمَرْتَ بِهِ، فَلَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ قَتَلَهُ. وَكَانَ عِيسَى حِينَ أَخَذَ عَبْدَ اللَّهِ مِنْ عِنْدِ الْمَنْصُورِ دَعَا كَاتِبَهُ يُونُسَ بْنَ فَرْوَةَ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: أَرَادَ أَنْ تَقْتُلَهُ ثُمَّ يَقْتُلَكَ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ سِرًّا ثُمَّ يَدَّعِيهِ عَلَيْكَ عَلَانِيَةً، فَلَا تَقْتُلْهُ وَلَا تَدْفَعْهُ إِلَيْهِ سِرًّا أَبَدًا وَاكْتُمْ أَمْرَهُ. فَفَعَلَ ذَلِكَ عِيسَى. فَلَمَّا قَدِمَ الْمَنْصُورُ وَضَعَ عَلَى أَعْمَامِهِ مَنْ يُحَرِّكُهُمْ عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي أَخِيهِمْ عَبْدِ اللَّهِ، فَفَعَلُوا وَشَفَعُوا، فَشَفَّعَهُمْ وَقَالَ لِعِيسَى: إِنِّي كُنْتُ دَفَعْتُ إِلَيْكَ عَمِّي وَعَمَّكَ عَبْدَ اللَّهِ لِيَكُونَ فِي مَنْزِلِكَ، وَقَدْ كَلَّمَنِي عُمُومَتُكَ فِيهِ، وَقَدْ صَفَحْتُ عَنْهُ فَأْتِنَا بِهِ. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَمْ تَأَمُرْنِي بِقَتْلِهِ؟ فَقَتَلْتُهُ! قَالَ: مَا أَمَرْتُكَ! قَالَ: بَلَى أَمَرْتَنِي. قَالَ: مَا أَمَرْتُكَ إِلَّا بِحَبْسِهِ وَقَدْ كَذَبْتَ! ثُمَّ قَالَ الْمَنْصُورُ لِعُمُومَتِهِ: إِنَّ هَذَا قَدْ (أَقَرَّ لَكُمْ) بِقَتْلِ أَخِيكُمْ قَالُوا: فَادْفَعْهُ إِلَيْنَا نُقِيدُهُ بِهِ. فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ، وَخَرَجُوا بِهِ إِلَى الرَّحْبَةِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ وَشُهِرَ الْأَمْرُ، وَقَامَ أَحَدُهُمْ لِيَقْتُلَهُ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: أَفَاعِلٌ أَنْتَ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ! قَالَ: رُدُّونِي إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَرَدُّوهُ إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا أَرَدْتَ بِقَتْلِهِ أَنْ تَقْتُلَنِي. هَذَا عَمُّكَ حَيٌّ سَوِيٌّ. قَالَ: ائْتِنَا بِهِ. فَأَتَاهُ بِهِ. قَالَ: يَدْخُلُ حَتَّى أَرَى رَأْيِي، ثُمَّ انْصَرَفُوا، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَجُعِلَ فِي بَيْتٍ أَسَاسُهُ مِلْحٌ وَأَجْرَى الْمَاءَ فِي أَسَاسِهِ فَسَقَطَ عَلَيْهِ، فَمَاتَ فَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ بَابِ الشَّامِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دُفِنَ فِيهَا، وَكَانَ عُمُرُهُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً. قِيلَ: رَكِبَ الْمَنْصُورُ يَوْمًا وَمَعَهُ ابْنُ عَيَّاشٍ الْمَنْتُوفُ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: تَعْرِفُ ثَلَاثَةَ خُلَفَاءَ أَسْمَاؤُهُمْ عَلَى الْعَيْنِ قَتَلَتْ ثَلَاثَةَ خَوَارِجَ مَبْدَأُ أَسْمَائِهِمْ عَلَى الْعَيْنِ؟ قَالَ: لَا أَعْرِفُ إِلَّا مَا يَقُولُ الْعَامَّةُ: إِنَّ عَلِيًّا قَتَلَ عُثْمَانَ، وَكَذَبُوا، وَعَبْدَ الْمَلِكِ قَتَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ

الْأَشْعَثِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَتَلَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ سَقَطَ عَلَيْهِ الْبَيْتُ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: إِذَا سَقَطَ عَلَيْهِ فَمَا ذَنْبِي أَنَا؟ قَالَ: مَا قُلْتُ إِنَّ لَكَ ذَنْبًا. قَوْلُهُ: ابْنُ الزُّبَيْرِ قَتَلَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إِنَّمَا قَتَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ. (عَيَّاشٌ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتَ، وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ) . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى الْمَنْصُورُ مُحَمَّدًا ابْنَ أَخِيهِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ الْبَصْرَةَ، فَاسْتَعْفَى مِنْهَا، فَأَعْفَاهُ، فَانْصَرَفَ إِلَى بَغْدَاذَ وَاسْتَخْلَفَ بِهَا نُخْبَةَ بْنَ سَالِمٍ، فَأَقَرَّهُ الْمَنْصُورُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى بَغْدَاذَ مَاتَ بِهَا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْمَنْصُورُ، وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ: عَمُّهُ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ: جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَلَى مِصْرَ: يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ الْمُهَلَّبِيُّ. وَفِيهَا أَغْزَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ مَوْلَاهُ بَدْرًا، وَتَمَّامَ بْنَ عَلْقَمَةَ طُلَيْطُلَةَ، وَبِهَا هَاشِمُ بْنُ عُذْرَةَ، وَضَيَّقَا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَسَرَاهُ هُوَ وَحَيَاةُ بْنُ الْوَلِيدِ الْيَحْصُبِيُّ، وَعُثْمَانُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَتَيَا بِهِمْ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي جِبَابِ صُوفٍ وَقَدْ حُلِقَتْ رُءُوسُهُمْ وَلِحَاهُمْ وَقَدْ أُرْكِبُوا الْحَمِيرَ وَهُمْ فِي السَّلَاسِلِ، ثُمَّ صُلِبُوا بِقُرْطُبَةَ. وَفِيهَا قَدِمَ رَسُولُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَى الشَّامِ فِي إِحْضَارِ وَلَدِهِ الْأَكْبَرِ سُلَيْمَانَ، فَحَضَرَ وَسُلَيْمَانُ مَعَهُ، وَكَانَ قَدْ وُلِدَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بِالْأَنْدَلُسِ وَلَدُهُ هِشَامٌ، فَقَدَّمَهُ

الْأَمِيرُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى سُلَيْمَانَ، فَحَصَلَ بَيْنَهُمَا حِقْدٌ وَغِلٌّ أَوْجَبَا مَا نَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ. وَفِيهَا تَنَاثَرَتِ النُّجُومُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الَحُدَّانِيُّ الْبَصْرِيُّ. وَهُشَامُ بْنُ حَسَّانٍ مَوْلًى لِعَتِيكٍ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زُبَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ الْيَامِيُّ أَبُو الْأَشْعَثِ الْكُوفِيُّ.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَة] 148 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ خُرُوجِ حَسَّانِ بْنِ مُجَالِدٍ وَفِيهَا خَرَجَ حَسَّانُ بْنُ مُجَالِدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَجْدَعِ الْهَمْدَانِيُّ. وَمَالِكٌ هَذَا هُوَ أَخُو مَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ. وَكَانَ خُرُوجُهُ بِنَوَاحِي الْمَوْصِلِ بِقَرْيَةٍ تُسَمَّى بَافَخَّارَى قَرِيبٍ مِنَ الْمَوْصِلِ عَلَى دِجْلَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَسْكَرُ الْمَوْصِلِ، وَعَلَيْهَا الصَّقْرُ بْنُ نَجْدَةَ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَهَا بَعْدَ حَرْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا وَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْمَوْصِلِ إِلَى الْجِسْرِ. وَأَحْرَقَ الْخَوَارِجُ أَصْحَابُ حَسَّانٍ السُّوقَ هُنَاكَ وَنَهَبُوهُ. ثُمَّ إِنَّ حَسَّانًا سَارَ إِلَى الرَّقَّةِ وَمِنْهَا إِلَى الْبَحْرِ وَدَخَلَ إِلَى بَلَدِ السِّنْدِ، وَكَانَتِ الْخَوَارِجُ مِنْ أَهْلِ عُمَانَ يُدْخِلُونَهُمْ وَيَدَعُونَهُمْ، فَاسْتَأْذَنَهُمْ فِي الْمَصِيرِ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الصَّقْرُ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَسَّانٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَبِلَالٌ الْقَيْسِيُّ، فَالْتَقَوْا فَانْهَزَمَ الصَّقْرُ، وَأُسِرَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَبِلَالٌ، فَقَتَلَ حَسَّانٌ بِلَالًا، وَاسْتَبْقَى الْحَسَنَ لِأَنَّهُ مِنْ هَمْدَانَ، فَفَارَقَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لِهَذَا. وَكَانَ حَسَّانٌ قَدْ أَخَذَ رَأْيَ الْخَوَارِجِ عَنْ خَالِهِ حَفْصِ بْنِ أَشْيَمَ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ الْخَوَارِجِ وَفُقَهَائِهِمْ. وَلَمَّا بَلَغَ الْمَنْصُورَ خُرُوجُ حَسَّانٍ قَالَ: خَارِجِيٌّ مِنْ هَمْدَانَ؟ قَالُوا: إِنَّهُ ابْنُ أُخْتِ حَفْصِ بْنِ أَشْيَمَ. فَقَالَ: فَمَنْ هُنَاكَ؟ وَإِنَّمَا أَنْكَرَ الْمَنْصُورُ ذَلِكَ لِأَنَّ عَامَّةَ هَمْدَانَ شِيعَةٌ لَعَلِيٍّ، وَعَزَمَ الْمَنْصُورُ عَلَى إِنْفَاذِ الْجُيُوشِ إِلَى الْمَوْصِلِ وَالْفَتْكِ بِأَهْلِهَا. فَأَحْضَرَ أَبَا حَنِيفَةَ، وَابْنَ أَبِي لَيْلَى، وَابْنَ شُبْرُمَةَ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَهْلَ الْمَوْصِلِ شَرَطُوا إِلَيَّ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَلَيَّ، فَإِنْ فَعَلُوا حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَقَدْ خَرَجُوا. فَسَكَتَ أَبُو حَنِيفَةَ وَتَكَلَّمَ الرَّجُلَانِ وَقَالَا: رَعِيَّتُكَ، فَإِنْ عَفَوْتَ فَأَهْلُ ذَلِكَ أَنْتَ، وَإِنْ عَاقَبْتَ فَبِمَا يَسْتَحِقُّونَ. فَقَالَ لِأَبِي

حَنِيفَةَ: أَرَاكَ سَكَتَّ يَا شَيْخُ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَبَاحُوكَ مَا لَا يَمْلِكُونَ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَبَاحَتْ فَرْجَهَا بِغَيْرِ عَقْدِ نِكَاحٍ وَمِلْكِ يَمِينٍ، أَكَانَ يَجُوزُ أَنْ تُوطَأَ؟ قَالَ: لَا! وَكَفَّ عَنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ وَأَمَرَ أَبَا حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ بِالْعَوْدِ إِلَى الْكُوفَةِ. ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الْمَنْصُورُ عَلَى الْمَوْصِلِ خَالِدَ بْنَ بَرْمَكَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ انْتِشَارُ الْأَكْرَادِ بِوِلَايَتِهَا وَإِفْسَادُهُمْ، فَقَالَ: مَنْ لَهَا؟ فَقَالُوا: الْمُسَيَّبُ بْنُ زُهَيْرٍ، فَأَشَارَ عُمَارَةُ بْنُ غَمْرَةَ بِخَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، فَوَلَّاهُ وَسَيَّرَهُ إِلَيْهَا، وَأَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ، وَقَهَرَ الْمُفْسِدِينَ وَكَفَّهُمْ، وَهَابَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ هَيْبَةً شَدِيدَةً مَعَ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ. [وِلَادَةُ الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى] وَفِيهَا وُلِدَ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ الرَّشِيدُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، فَأَرْضَعَتْهُ الْخَيْزُرَانُ أُمُّ الرَّشِيدِ بِلَبَنِ ابْنِهَا، فَكَانَ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى أَخَا الرَّشِيدِ مِنَ الرَّضَاعَةِ. وَلِذَلِكَ يَقُولُ سَلْمٌ الْخَاسِرُ: أَصْبَحَ الْفَضْلُ وَالْخَلِيفَةُ هَارُو ... نُ رَضِيعَيْ لِبَانِ خَيْرِ النِّسَاءِ. وَقَالَ أَبُو الْجَنُوبِ: كَفَى لَكَ فَضْلًا أَنَّ أَفْضَلَ حُرَّةٍ ... غَذَّتْكَ بِثَدْيٍ وَالْخَلِيفَةَ وَاحِدِ. ذِكْرُ وِلَايَةِ الْأَغْلَبِ بْنِ سَالِمٍ إِفْرِيقِيَّةَ لَمَّا بَلَغَ الْمَنْصُورَ خُرُوجُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ بَعَثَ إِلَى الْأَغْلَبِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عِقَالِ بْنِ خَفَاجَةَ التَّمِيمِيِّ عَهْدًا بِوِلَايَةِ إِفْرِيقِيَّةَ. وَكَانَ هَذَا الْأَغْلَبُ مِمَّنْ قَامَ مَعَ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَقَدِمَ إِفْرِيقِيَّةَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَلَمَّا أَتَاهُ الْعَهْدُ قَدِمَ الْقَيْرَوَانَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ وَأَخْرَجَ جَمَاعَةً مِنْ قُوَّادِ الْمُضَرِيَّةِ، وَسَكَنَ النَّاسُ. وَخَرَجَ عَلَيْهِ أَبُو قُرَّةَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْبَرْبَرِ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْأَغْلَبُ، فَهَرَبَ أَبُو قُرَّةَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَسَارَ الْأَغْلَبُ يُرِيدُ طَنْجَةَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْجُنْدِ وَكَرِهُوا الْمَسِيرَ وَتَسَلَّلُوا عَنْهُ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ.

وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ حَرْبٍ الْكِنْدِيُّ بِمَدِينَةِ تُونُسَ، وَكَاتَبَ الْجُنْدَ وَدَعَاهُمْ إِلَى نَفْسِهِ، فَأَجَابُوهُ، فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ الْقَيْرَوَانَ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ. وَبَلَغَ الْأَغْلَبَ الْخَبَرُ فَعَادَ مُجِدًّا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: لَيْسَ مِنَ الرَّأْيِ (أَنْ تَعْدِلَ [إِلَى] لِقَاءِ الْعَدُوِّ فِي هَذِهِ الْعُدَّةِ الْقَلِيلَةِ، وَلَكِنَّ الرَّأْيَ أَنْ تَعَدِلَ إِلَى قَابِسَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ مَعَهُ يَجِيءُ إِلَيْكَ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا كَرِهُوا الْمَسِيرَ إِلَى طَنْجَةَ لَا غَيْرُ وَتَقْوَى بِهِمْ وَتُقَاتِلُ عَدُوَّكَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ وَكَثُرَ جَمْعُهُ وَسَارَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ حَرْبٍ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ الْحَسَنُ وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَمَضَى الْحَسَنُ إِلَى تُونُسَ (فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ) ، وَدَخَلَ الْأَغْلَبُ الْقَيْرَوَانَ. وَحَشَدَ الْحَسَنُ وَجَمَعَ فَصَارَ فِي عُدَّةٍ عَظِيمَةٍ، فَقَصَدَ الْأَغْلَبَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْأَغْلَبُ مِنَ الْقَيْرَوَانِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَأَصَابَ الْأَغْلَبَ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ، وَثَبَتَ أَصْحَابُهُ، (فَتَقَدَّمَ عَلَيْهِمُ الْمُخَارِقُ بْنُ غِفَارٍ، فَحَمَلَ الْمُخَارِقُ عَلَى الْحَسَنِ، وَكَانَ فِي مَيْمَنَةِ الْأَغْلَبِ، فَهَزَمَهُ، فَمَضَى مُنْهَزِمًا إِلَى تُونُسَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ. وَوَلِيَ الْمُخَارِقُ إِفْرِيقِيَّةَ فِي رَمَضَانَ، وَوَجَّهَ الْخَيْلَ فِي طَلَبِ الْحَسَنِ، فَهَرَبَ الْحَسَنُ مِنْ تُونُسَ إِلَى كِنَايَهْ فَأَقَامَ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى تُونُسَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ مَنْ بِهَا مِنَ الْجُنْدِ فَقَتَلُوهُ. (وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْحَسَنَ قُتِلَ بَعْدَ قَتْلِ الْأَغْلَبِ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الْأَغْلَبِ ثَبَتُوا بَعْدَ قَتْلِهِ) فِي الْمَعْرَكَةِ، فَقُتِلَ الْحَسَنُ بْنُ حَرْبٍ أَيْضًا، وَوَلَّى أَصْحَابُهُ مُنْهَزِمِينَ وَصُلِبَ الْحَسَنُ، وَدُفِنَ الْأَغْلَبُ وَسُمِّيَ الشَّهِيدَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ. ذِكْرُ الْفِتَنِ بِالْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ سَعِيدٌ الْيَحْصُبِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْمَطَرِيِّ بِالْأَنْدَلُسِ بِمَدِينَةِ لِبْلَةَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ سَكِرَ يَوْمًا، فَتَذَكَّرَ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ الْيَمَانِيَّةِ مَعَ الْعَلَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، فَعَقَدَ لِوَاءً، فَلَمَّا صَحَا رَآهُ مَعْقُودًا فَسَأَلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ بِهِ، فَأَرَادَ حَلَّهُ ثُمَّ قَالَ: مَا كُنْتُ لَأَعْقِدَ لِوَاءً ثُمَّ أَحُلَّهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ! وَشَرَعَ فِي الْخِلَافِ، فَاجْتَمَعَتِ الْيَمَانِيَّةُ إِلَيْهِ وَقَصَدَ إِشْبِيلِيَّةَ وَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا وَكَثُرَ جَمْعُهُ. فَبَادَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ فِي جُمُوعِهِ، فَامْتَنَعَ

الْمَطَرِيُّ فِي قَلْعَةِ زَعْوَاقَ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَحَصَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِيهَا، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ أَهْلَ الْخِلَافِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ وَافَقَهُ عَلَى الْخِلَافِ غِيَاثُ بْنُ عَلْقَمَةَ اللَّخْمِيُّ، وَكَانَ بِمَدِينَةِ شَذُونَةَ، وَقَدِ انْضَافَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ يُرِيدُونَ إِمْدَادَ الْمَطَرِيِّ، وَهُمْ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ. فَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ذَلِكَ سَيَّرَ إِلَيْهِمْ بَدْرًا مَوْلَاهُ فِي جَيْشٍ، فَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَطَرِيِّ، فَطَالَ الْحِصَارُ عَلَيْهِ وَقَلَّتْ رِجَالُهُ بِالْقَتْلِ، فَفَارَقَهُ بَعْضُهُمْ، فَخَرَجَ يَوْمًا مِنَ الْقَلْعَةِ وَقَاتَلَ وَقُتِلَ وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ. فَقَدَّمَ أَهْلُ الْقَلْعَةِ عَلَيْهِمْ خَلِيفَةَ بْنَ مَرْوَانَ، فَدَامَ الْحِصَارُ عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ أَهْلُهَا يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ خَلِيفَةَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَآمَنَهُمْ، فَسَلَّمُوا إِلَيْهِ الْحِصْنَ وَخَلِيفَةَ، فَخَرَّبَ الْحِصْنَ وَقَتَلَ خَلِيفَةَ وَمَنْ مَعَهُ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى غِيَاثٍ، وَكَانَ مُوَافِقًا لِلْمَطَرِيِّ عَلَى الْخِلَافِ، فَحَصَرَهُمْ وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ فَآمَنَهُمْ إِلَّا نَفَرًا كَانَ يَعْرِفُ كَرَاهَتَهُمْ لِدَوْلَتِهِ، فَإِنَّهُ قَبَضَ عَلَيْهِمْ، وَعَادَ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَلَمَّا عَادَ إِلَيْهَا خَرَجَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خُرَاشَةَ الْأَسَدِيُّ بِكُورَةِ جَيَّانَ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ جُمُوعٌ، فَأَغَارَ عَلَى قُرْطُبَةَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ جَيْشًا، فَتَفَرَّقَ جَمْعُهُ، فَطَلَبَ الْأَمَانَ، فَبَذَلَهُ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَوَفَّى لَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا عَسْكَرَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ بِدَابِقٍ وَلَمْ يَغْزُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، وَكَانَ وُلَاةُ الْأَمْصَارِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ الْأَعْمَشُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتِّينَ. وَفِيهَا مَاتَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ، وَقَبْرُهُ بِالْمَدِينَةِ يُزَارُ، وَهُوَ وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ فِي قَبْرٍ

وَاحِدٍ مَعَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَفِيهَا مَاتَ زَكَرِيَّاءُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ. وَأَبُو أُمَيَّةَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ يَعْقُوبَ مَوْلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعِينَ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ، وَيُقَالُ مَوْلَى تَمِيمٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الْقَاضِي. وَمُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ الْمَدَنِيُّ. وَعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُوَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ الْوَاسِطِيُّ. وَيَحْيَى بْنُ أَبِي عَمْرٍو السَّيْبَانِيُّ، مِنْ أَهْلِ الرَّمَلَةِ. (سَيْبَانُ: بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، ثُمَّ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتَ، ثُمَّ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ: بَطْنٌ مِنْ حِمْيَرَ) .

ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ] 149 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ وَفِيهَا غَزَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِفَةَ أَرْضَ الرُّومِ وَمَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ، فَمَاتَ مُحَمَّدٌ فِي الطَّرِيقِ. وَفِيهَا اسْتَتَمَّ الْمَنْصُورُ بِنَاءَ سُورِ بَغْدَاذَ وَخَنْدَقِهَا، وَفَرَغَ مِنْ جَمِيعِ أُمُورِهَا، وَسَارَ إِلَى حَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ ثُمَّ عَادَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. وَفِيهَا عُزِلَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ مَكَّةَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَاسْتُعْمِلَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. وَكَانَ عُمَّالُ الْأَمْصَارِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ سِوَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا أَغْزَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ بَدْرًا مَوْلَاهُ إِلَى بِلَادِ الْعَدُوِّ فَجَاوَزَ إِلَيْهِ وَأَخَذَ جِزْيَتَهَا. وَكَانَ أَبُو الصَّبَّاحِ حُيَىُّ بْنُ يَحْيَى عَلَى إِشْبِيلِيَّةَ فَعَزَلَهُ فَدَعَا إِلَى الْخِلَافِ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَخَدَعَهُ حَتَّى حَضَرَ عِنْدَهُ فَقَتَلَهُ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ الْبَاهِلِيُّ بِالرَّيِّ. وَكَانَ مَشْهُورًا عَظِيمَ الْقَدْرِ. وَكَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ الْبَصْرِيُّ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ النَّحْوِيُّ الْمَشْهُورُ، وَعَنْهُ أَخَذَ الْخَلِيلُ النَّحْوَ، وَلَهُ فِيهِ تَصْنِيفٌ) .

ثم دخلت سنة خمسين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ] 150 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ خُرُوجِ أُسْتَاذْ سِيسْ. وَفِيهَا خَرَجَ أُسْتَاذْ سِيسْ فِي أَهْلِ هَرَاةَ وَبَاذَغِيسَ وَسِجِسْتَانَ وَغَيْرِهَا مِنْ خُرَاسَانَ، وَكَانَ فِيمَا قِيلَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَغَلَبُوا عَلَى عَامَّةِ خُرَاسَانَ، وَسَارُوا حَتَّى الْتَقَوْا هُمْ وَأَهْلُ مَرْوِ الرُّوذِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْأَجْثَمُ الْمَرْوَرُّوذِيُّ فِي أَهْلِ مَرْوِ الرُّوذِ، فَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ الْأَجْثَمُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي أَصْحَابِهِ، وَهُزِمَ عِدَّةٌ مِنَ الْقُوَّادِ، مِنْهُمْ: مُعَاذُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَجِبْرَائِيلُ بْنُ يَحْيَى، وَحَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو النَّجْمِ السِّجِسْتَانِيُّ، وَدَاوُدُ بْنُ كَرَّارٍ. وَوَجَّهَ الْمَنْصُورُ، وَهُوَ بِالرَّاذَانِ، خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَوَلَّاهُ الْمَهْدِيُّ مُحَارَبَةَ أُسْتَاذْ سِيسْ وَضَمَّ إِلَيْهِ الْقُوَّادَ. فَسَارَ خَازِمٌ وَأَخَذَ مَعَهُ مَنِ انْهَزَمَ، وَجَعَلَهُمْ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ يُكَثِّرُ بِهِمْ مَنْ مَعَهُ، وَكَانَ مَعَهُ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. ثُمَّ انْتَخَبَ مِنْهُمْ سِتَّةَ آلَافِ رَجُلٍ وَضَمَّهُمْ إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا كَانُوا مَعَهُ مِنَ الْمُنْتَخَبِينَ، وَكَانَ بَكَّارُ بْنُ سَلْمٍ فِيمَنِ انْتُخِبَ، وَتَعَبَّأَ لِلْقِتَالِ، فَجَعَلَ الْهَيْثَمَ بْنَ شُعْبَةَ بْنِ ظُهَيْرٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِ، وَنَهَارَ بْنَ حُصَيْنٍ السَّعْدِيَّ عَلَى مَيْسَرَتِهِ، وَبَكَّارَ بْنَ سَلْمٍ الْعُقَيْلِيَّ فِي مُقَدِّمَتِهِ، وَكَانَ لِوَاؤُهُ مَعَ الزِّبْرِقَانِ. فَمَكَرَ بِهِمْ وَرَاوَغَهُمْ (فِي أَنْ يَنْقُلَهُمْ) مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ وَخَنْدَقٍ إِلَى خَنْدَقٍ حَتَّى قَطَعَهُمْ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ رَجَّالَةً، ثُمَّ سَارَ خَازِمٌ إِلَى مَوْضِعٍ فَنَزَلَهُ وَخَنْدَقَ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ، وَجَعَلَ لَهُ أَرْبَعَةَ أَبْوَابٍ، وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ بَابٍ أَلْفًا مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ انْتَخَبَ. وَأَتَى أَصْحَابُ أُسْتَاذْ سِيسْ وَمَعَهُمُ الْفُئُوسُ وَالْمُرُورُ وَالزُّبُلُ لِيَطُمُّوا الْخَنْدَقَ، فَأَتَوُا

الْخَنْدَقَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي عَلَيْهِ بَكَّارُ بْنُ سَلْمٍ، فَحَمَلُوا عَلَى أَصْحَابِ بَكَّارٍ حَمْلَةً هَزَمُوهُمْ بِهَا، فَرَمَى بَكَّارٌ بِنَفْسِهِ، فَتَرَجَّلَ عَلَى بَابِ الْخَنْدَقِ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا يُؤْتَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ نَاحِيَتِنَا. تَرَجَّلَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِينَ رُجَلًا وَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى رَدُّوهُمْ مِنْ بَابِهِمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْبَابِ الَّذِي عَلَيْهِ خَازِمٌ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ أُسْتَاذْ سِيسْ مِنْ أَهْلِ سِجِسْتَانَ اسْمُهُ الْحَرِيشُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُدَبِّرُ أَمْرَهُ، فَلَمَّا رَآهُ خَازِمٌ مُقْبِلًا بَعَثَ إِلَى الْهَيْثَمِ بْنِ شُعْبَةَ، وَكَانَ فِي الْمَيْمَنَةِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي عَلَيْهِ بَكَّارٌ، فَإِنَّ مَنْ بِإِزَائِهِ قَدْ شُغِلُوا عَنْهُمْ، وَيَسِيرُ حَتَّى يَغِيبَ عَنْ أَبْصَارِهِمْ، ثُمَّ يَرْجِعُ مِنْ خَلْفِ الْعَدُوِّ، وَقَدْ كَانُوا يَتَوَقَّعُونَ قُدُومَ أَبِي عَوْنٍ، وَعَمْرِو بْنِ سَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ مِنْ طَخَارِسْتَانَ. وَبَعَثَ خَازِمٌ إِلَى بَكَّارٍ: إِذَا رَأَيْتَ رَايَاتِ الْهَيْثَمِ قَدْ جَاءَتْ كَبِّرُوا وَقُولُوا: قَدْ جَاءَ أَهْلُ طَخَارِسْتَانَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ الْهَيْثَمُ، وَخَرَجَ خَازِمٌ فِي الْقَلْبِ عَلَى الْحَرِيشِ وَشَغَلَهُمْ بِالْقِتَالِ، وَصَبَرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ نَظَرُوا إِلَى أَعْلَامِ الْهَيْثَمِ فَتَنَادَوْا بَيْنَهُمْ: جَاءَ أَهْلُ طَخَارِسْتَانَ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهَا حَمَلَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ خَازِمٍ فَكَشَفُوهُمْ، وَلَقِيَهُمْ أَصْحَابُ الْهَيْثَمِ فَطَعَنُوهُمْ بِالرِّمَاحِ وَرَمَوْهُمْ بِالنُّشَّابِ. وَخَرَجَ [عَلَيْهِمْ] نَهَارُ بْنُ حُصَيْنٍ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَيْسَرَةِ، وَبَكَّارُ بْنُ سَلْمٍ وَأَصْحَابُهُ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ، فَهَزَمُوهُمْ وَوَضَعُوا فِيهِمُ السُّيُوفَ، فَقَتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَأَكْثَرُوا، وَكَانَ عَدَدُ مَنْ قُتِلَ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَأَسَرُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَنَجَا أُسْتَاذْ سِيسْ إِلَى جَبَلٍ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَحَصَرَهُمْ خَازِمٌ، وَقَتَلَ الْأَسْرَى. وَوَافَاهُ أَبُو عَوْنٍ وَعَمْرُو بْنُ سَلْمٍ وَمَنْ مَعَهُمَا، فَنَزَلَ أُسْتَاذْ سِيسْ عَلَى حُكْمِ أَبِي عَوْنٍ، فَحَكَمَ أَنْ يُوثَقَ أُسْتَاذْ سِيسْ وَبَنُوهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ بِالْحَدِيدِ، وَأَنْ يُعْتَقَ الْبَاقُونَ وَهُمْ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، فَأَمْضَى خَازِمٌ حُكْمَهُ وَكَسَا كُلَّ رَجُلٍ ثَوْبَيْنِ، وَكَتَبَ إِلَى الْمَهْدِيِّ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ الْمَهْدِيُّ إِلَى الْمَنْصُورِ. وَقِيلَ: إِنَّ خُرُوجَ أُسْتَاذْ سِيسْ كَانَ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَكَانَتْ هَزِيمَتُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أُسْتَاذْ سِيسْ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَأَظْهَرَ أَصْحَابُهُ الْفِسْقَ وَقَطْعَ السَّبِيلِ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ جَدُّ الْمَأْمُونِ أَبُو أُمِّهِ مَرَاجِلُ، وَابْنُهُ غَالِبٌ خَالُ الْمَأْمُونِ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ ذَا الرِّيَاسَتَيْنِ الْفَضْلَ بْنَ سَهْلٍ لِمُوَاطَأَةٍ مِنَ الْمَأْمُونِ، وَسَيَرِدُ ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْمَنْصُورُ جَعْفَرَ بْنَ سُلَيْمَانَ عَنِ الْمَدِينَةِ وَوَلَّاهَا الْحَسَنَ بْنَ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ. وَفِيهَا خَرَجَ بِالْأَنْدَلُسِ غِيَاثُ بْنُ الْمُسَيَّرِ الْأَسَدِيُّ بِنَائِحَةَ، فَجَمَعَ الْعُمَّالُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ جَمْعًا كَثِيرًا، وَسَارَ إِلَى غِيَاثٍ، فَوَاقَعَهُ، فَانْهَزَمَ غِيَاثٌ وَمَنْ مَعَهُ وَقُتِلَ غِيَاثٌ وَبُعِثَ بِرَأْسِهِ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِقُرْطُبَةَ) . وَفِيهَا مَاتَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُوهُ، وَدُفِنَ لَيْلًا فِي مَقَابِرِ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ [فِي هَذِهِ السَّنَةِ] صَائِفَةٌ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ، وَكَانَ هُوَ الْعَامِلَ عَلَى مَكَّةَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَ الْعَامِلُ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ. وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عُقْبَةُ بْنُ سَلْمٍ، وَعَلَى قَضَائِهَا سَوَّارٌ، وَعَلَى مِصْرَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ. وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ.

وَعُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، وَقِيلَ: مَاتَ عُمَرُ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ، يَقُولُ بِالْإِرْجَاءِ. وَفِي سَنَةِ خَمْسِينَ مَاتَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ. وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ صَاحِبُ الْمَغَازِي، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَفِيهَا مَاتَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَلْخِيُّ الْمُفَسِّرُ، وَكَانَ ضَعِيفًا فِي الْحَدِيثِ، وَأَبُو جَنَابٍ الْكَلْبِيُّ، وَعُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَاسْمُ أَبِي عَرُوبَةَ مِهْرَانُ مَوْلَى بَنِي يَشْكُرَ، كُنْيَتُهُ أَبُو النَّضْرِ. (يَسَارٌ بِالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ) .

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَة] 151 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ فِيهَا أَغَارَتِ الْكُرْكُ عَلَى جُدَّةَ. ذِكْرُ عَزْلِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ عَنِ السِّنْدِ وَوِلَايَةِ هِشَامِ بْنِ عَمْرٍو وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ عُمَرَ بْنَ حَفْصِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ قَبِيصَةَ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ الْمَعْرُوفَ بِهَزَارْمَرْدَ، يَعْنِي أَلْفَ رَجُلٍ، عَنِ السِّنْدِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو التَّغْلِبِيَّ، وَاسْتَعْمَلَ عُمَرَ بْنَ حَفْصٍ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ. وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ عَنِ السِّنْدِ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا لَمَّا ظَهَرَ مُحَمَّدُ وَإِبْرَاهِيمُ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، فَوَجَّهَ مُحَمَّدُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ الْمَعْرُوفَ بِالْأَشْتَرِ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَاشْتَرَى مِنْهَا خَيْلًا عِتَاقًا لِيَكُونَ سَبَبَ وُصُولِهِمْ إِلَى عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، لِأَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ بَايَعَهُ مِنْ قُوَّادِ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ يَتَشَيَّعُ. وَسَارُوا فِي الْبَحْرِ إِلَى السِّنْدِ، فَأَمَرَهُمْ عُمَرُ أَنْ يُحْضِرُوا خَيْلَهُمْ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّا جِئْنَاكَ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْخَيْلِ وَبِمَا لَكَ فِيهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَأَعْطِنَا الْأَمَانَ إِمَّا قَبِلْتَ مِنَّا وَإِمَّا سَتَرْتَ وَأَمْسَكْتَ عَنْ إِيذَائِنَا حَتَّى نَخْرُجَ عَنْ بِلَادِكَ رَاجِعِينَ. فَآمَنُهُ. فَذَكَرَ لَهُ حَالَهُمْ وَحَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَرْسَلَهُ أَبُوهُ إِلَيْهِ، فَرَحَّبَ بِهِمْ وَبَايَعَهُمْ وَأَنْزَلَ الْأَشْتَرَ عِنْدَهُ مُخْتَفِيًا، وَدَعَا كُبَرَاءَ أَهْلِ الْبَلَدِ وَقُوَّادَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَأَجَابُوهُ، فَقَطَعَ أَلْوِيَتَهُمُ الْبِيضَ، وَهَيَّأَ لُبْسَهُ مِنَ الْبَيَاضِ لِيَخْطُبَ فِيهِ وَتَهَيَّأَ لِذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ. فَوَصَلَهُ مَرْكَبٌ لَطِيفٌ فِيهِ رَسُولٌ مِنِ امْرَأَةِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ تُخْبِرُهُ بِقَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَدَخَلَ عَلَى الْأَشْتَرِ فَأَخْبَرَهُ وَعَزَّاهُ، فَقَالَ لَهُ الْأَشْتَرُ: إِنَّ أَمْرِي قَدْ ظَهَرَ وَدَمِي فِي عُنُقِكَ. قَالَ عُمَرُ: قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا، هَاهُنَا مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ السِّنْدِ عَظِيمُ الشَّأْنِ كَثِيرُ الْمَمْلَكَةِ، وَهُوَ عَلَى شَوْكَةٍ، أَشَدُّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ وَفِيٌّ، أَرْسِلْ إِلَيْهِ فَاعْقِدْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَقْدًا، فَأُوَجِّهُكَ إِلَيْهِ فَلَسْتَ تُرَامُ مَعَهُ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَيْهِ الْأَشْتَرُ،

فَأَكْرَمَهُ وَأَظْهَرَ بِرَّهُ، وَتَسَلَّلَتْ إِلَيْهِ الزَّيْدِيَّةُ حَتَّى اجْتَمَعَ مَعَهُ أَرْبَعُمِائَةِ إِنْسَانٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصَائِرِ، فَكَانَ يَرْكَبُ فِيهِمْ وَيَتَصَيَّدُ فِي هَيْئَةِ الْمُلُوكِ وَآلَاتِهِمْ. فَلَمَّا انْتَهَى [ذَلِكَ] إِلَى الْمَنْصُورِ بَلَغَ مِنْهُ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ يُخْبِرُهُ مَا بَلَغَهُ، فَقَرَأَ الْكِتَابَ عَلَى أَهْلِهِ وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ أَقْرَرْتُ بِالْقِصَّةِ عَزَلَنِي، وَإِنْ صِرْتُ إِلَيْهِ قَتَلَنِي، وَإِنِ امْتَنَعْتُ حَارَبَنِي. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَلْقِ الذَّنْبَ عَلَيَّ وَخُذْنِي وَقَيِّدْنِي، فَإِنَّهُ سَيَكْتُبُ فِي حَمْلِي إِلَيْهِ، فَاحْمِلْنِي فَإِنَّهُ لَا يَقْدَمُ عَلَيَّ لِمَكَانِكَ فِي السِّنْدِ وَحَالِ أَهْلِ بَيْتِكَ بِالْبَصْرَةِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَخَافُ عَلَيْكَ خِلَافَ مَا تَظُنُّ. قَالَ: إِنْ قُتِلْتُ فَنَفْسِي فِدًا لِنَفْسِكَ. فَقَيَّدَهُ وَحَبَسَهُ وَكَتَبَ إِلَى الْمَنْصُورِ بِأَمْرِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ يَأْمُرُهُ بِحَمْلِهِ، فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهِ ضَرَبَ عُنُقَهُ. ثُمَّ اسْتَعْمَلَ عَلَى السِّنْدِ هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو التَّغْلِبِيَّ، وَكَانَ سَبَبُ اسْتِعْمَالِهِ أَنَّ الْمَنْصُورَ كَانَ تَفَكَّرَ فِيمَنْ يُوَلِّيهِ السِّنْدَ، فَبَيْنَا هُوَ رَاكِبٌ وَالْمَنْصُورُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذْ غَابَ يَسِيرًا ثُمَّ عَادَ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى الْمَنْصُورِ، فَأَدْخَلَهُ، فَقَالَ: إِنِّي لَمَّا انْصَرَفْتُ مِنَ الْمَوْكِبِ لَقِيَتْنِي أُخْتِي فُلَانَةُ، فَرَأَيْتُ مِنْ جِمَالِهَا وَعَقْلِهَا وَدِينِهَا مَا رَضِيتُهَا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَطْرَقَ ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ يَأْتِكَ أَمْرِي. فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ الْمَنْصُورُ لِحَاجِبِهِ الرَّبِيعِ: لَوْلَا قَوْلُ جَرِيرٍ: لَا تَطْلُبَنَّ خَئُولَةً فِي تَغْلِبٍ ... فَالزِّنْجُ أَكْرَمُ مِنْهُمْ أَخْوَالَا لَتَزَوَّجْتُ إِلَيْهِ، قُلْ لَهُ: لَوْ كَانَ لَنَا حَاجَةٌ فِي النِّكَاحِ لَقَبِلْتُ، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَقَدْ وَلَّيْتُكَ السِّنْدَ. فَتَجَهَّزَ إِلَيْهَا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَاتِبَ ذَلِكَ الْمَلِكَ بِتَسْلِيمِ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنْ سَلَّمَهُ وَإِلَّا حَارِبْهُ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ بِوِلَايَتِهِ إِفْرِيقِيَّةَ. فَسَارَ هِشَامٌ إِلَى السِّنْدِ فَمَلَكَهَا، وَسَارَ عُمَرُ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ فَوَلِيَهَا. فَلَمَّا صَارَ هِشَامٌ بِالسِّنْدِ كَرِهَ أَخْذَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَشْتَرِ، وَأَقْبَلَ يُرِي النَّاسَ أَنَّهُ يُكَاتِبُ ذَلِكَ الْمَلِكَ، وَاتَّصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِالْمَنْصُورِ بِذَلِكَ، فَجَعَلَ يَكْتُبُ إِلَيْهِ يَسْتَحِثُّهُ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَتْ خَارِجَةٌ بِبِلَادِ السِّنْدِ، فَوَجَّهَ هِشَامٌ أَخَاهُ سَفَنَّجًا، فَخَرَجَ فِي جَيْشِهِ وَطَرِيقُهُ بِجَنَبَاتِ ذَلِكَ الْمَلِكِ. فَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ إِذَا غُبْرَةٌ قَدِ ارْتَفَعَتْ، فَظَنَّ أَنَّهُمْ مُقَدِّمَةُ الْعَدُوِّ الَّذِي يَقْصِدُهُ، فَوَجَّهَ طَلَائِعَهُ، فَزَحَفَتْ إِلَيْهِ، فَقَالُوا: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَلَوِيُّ يَتَنَزَّهُ عَلَى شَاطِئِ مِهْرَانَ. فَمَضَى يُرِيدُهُ، فَقَالَ نُصَحَاؤُهُ: هَذَا ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ تَرَكَهُ أَخُوكَ

مُتَعَمِّدًا مَخَافَةَ أَنْ يَبُوءَ بِدَمِهِ، فَلَمْ يَقْصِدْهُ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَ أَخْذَهُ، وَلَا أَدَعُ أَحَدًا يَحْظَى بِأَخْذِهِ أَوْ قَتْلِهِ عِنْدَ الْمَنْصُورِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ فِي عَشَرَةٍ، فَقَصَدَهُ فَقَاتَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَقَاتَلَ أَصْحَابُهُ حَتَّى قُتِلَ وَقُتِلُوا جَمِيعًا، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، وَسَقَطَ عَبْدُ اللَّهِ بَيْنَ الْقَتْلَى فَلَمْ يُشْعَرْ بِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَصْحَابَهُ قَذَفُوهُ فِي مِهْرَانَ حَتَّى لَا يُحْمَلَ رَأْسُهُ، فَكَتَبَ هِشَامٌ بِذَلِكَ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ يَشْكُرُهُ وَيَأْمُرُهُ بِمُحَارَبَةِ ذَلِكَ الْمَلِكِ، فَحَارَبَهُ حَتَّى ظَفِرَ بِهِ وَقَتَلَهُ وَغَلَبَ عَلَى مَمْلَكَتِهِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ قَدِ اتَّخَذَ سَرَارِيَّ فَأَوْلَدَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ وَلَدًا، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْأَشْتَرِ، فَأَخَذَ هِشَامٌ السَّرَارِيَّ وَالْوَلَدَ مَعَهُنَّ فَسَيَّرَهَنُ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَسَيَّرَ الْمَنْصُورُ الْوَلَدَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَتَبَ مَعَهُ بِصِحَّةِ نَسَبِهِ وَتَسْلِيمِهِ إِلَى أَهْلِهِ. ذِكْرُ وِلَايَةِ أَبِي جَعْفَرٍ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ إِفْرِيقِيَّةَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ الْمَنْصُورُ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ أَبَا جَعْفَرٍ عُمَرَ بْنَ حَفْصٍ مِنْ وَلَدِ قَبِيصَةَ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ أَخِي الْمُهَلَّبِ، وَإِنَّمَا نُسِبَ [إِلَى] بَيْتِ الْمُهَلَّبِ لِشُهْرَتِهِ. وَكَانَ سَبَبُ مَسِيرِهِ إِلَيْهَا أَنَّ الْمَنْصُورَ لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ الْأَغْلَبِ بْنِ سَالِمٍ خَافَ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهَا عُمَرَ وَالِيًا، فَقَدِمَ الْقَيْرَوَانَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ، فَاجْتَمَعَ وُجُوهُ الْبَلَدِ فَوَصَلَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَأَقَامَ وَالْأُمُورُ مُسْتَقِيمَةٌ ثَلَاثَ سِنِينَ. فَسَارَ إِلَى الزَّابِ لِبِنَاءِ مَدِينَةِ طُبْنَةَ بِأَمْرِ الْمَنْصُورِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْقَيْرَوَانِ حَبِيبَ بْنَ حَبِيبٍ الْمُهَلَّبِيَّ، فَخَلَتْ إِفْرِيقِيَّةُ مِنَ الْجُنْدِ، فَثَارَ بِهَا الْبَرْبَرُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ حَبِيبٌ فَقُتِلَ، وَاجْتَمَعَ الْبَرْبَرُ بِطَرَابُلُسَ وَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ أَبَا حَاتِمٍ الْإِبَاضِيَّ، وَاسْمُهُ يَعْقُوبُ بْنُ حَبِيبٍ مَوْلَى كِنْدَةَ. وَكَانَ عَامِلُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ عَلَى طَرَابُلُسَ الْجُنَيْدَ بْنَ بَشَّارٍ الْأَسَادِيَّ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ يَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَدَّهُ بِعَسْكَرٍ، فَالْتَقَوْا وَقَاتَلُوا أَبَا حَاتِمٍ الْإِبَاضِيَّ، فَهَزَمَهُمْ فَسَارُوا إِلَى قَابِسٍ، وَحَصَرَهُمْ أَبُو حَاتِمٍ وَعُمَرُ مُقِيمٌ بِالزَّابِ عَلَى عِمَارَةِ طُبْنَةَ، وَانْتَقَضَتْ إِفْرِيقِيَّةُ مِنْ كُلِّ

نَاحِيَةٍ. وَمَضَوْا إِلَى طُبْنَةَ فَأَحَاطُوا بِهَا فِي اثْنَيْ عَشَرَ عَسْكَرًا، مِنْهُمْ: أَبُو قُرَّةَ الصُّفْرِيُّ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا، (وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رُسْتُمٍ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا) وَأَبُو حَاتِمٍ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ السَّدِرَاتِيُّ الْإِبَاضِيُّ فِي سِتَّةِ آلَافٍ، وَالْمَسْعُودُ الزَّنَاتِيُّ الْإِبَاضِيُّ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَغَيْرُ مَنْ ذَكَرْنَا. فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ إِحَاطَتَهُمْ بِهِ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى قِتَالِهِمْ، فَمَنَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا: إِنْ أُصِبْتَ تَلِفَ الْعَرَبُ. فَعَدَلَ إِلَى إِعْمَالِ الْحِيلَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي قُرَّةَ مُقَدَّمِ الصُّفْرِيَّةِ يَبْذُلُ لَهُ سِتِّينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِيَرْجِعَ عَنْهُ، فَقَالَ: بَعْدَ أَنْ سَلَّمَ عَلَيَّ بِالْخِلَافَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَبِيعُ حَرْبَكُمْ بِعَرَضٍ قَلِيلٍ مِنَ الدُّنْيَا؟ فَلَمْ يُجِبْهُمْ [إِلَى] ذَلِكَ. فَأَرْسَلَ إِلَى أَخِي أَبِي قُرَّةَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَثِيَابًا عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِي صَرْفِ أَخِيهِ وَالصُّفْرِيَّةِ، فَأَجَابَهُمْ وَارْتَحَلَ مِنْ لَيْلَتِهِ وَتَبِعَهُ الْعَسْكَرُ مُنْصَرِفِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَاضْطَرَّ أَبُو قُرَّةَ إِلَى اتِّبَاعِهِمْ. فَلَمَّا سَارَتِ الصُّفْرِيَّةُ سَيَّرَ عُمَرُ جَيْشًا إِلَى ابْنِ رُسْتُمٍ وَهُوَ فِي تَهُوذَا، (قَبِيلَةٍ مِنَ الْبَرْبَرِ) ، فَقَاتَلُوهُ، فَانْهَزَمَ ابْنُ رُسْتُمٍ إِلَى تَاهَرْتَ، فَضَعُفَ أَمْرُ الْإِبَاضِيَّةِ عَنْ مُقَاوَمَةِ عُمَرَ، فَسَارُوا عَنْ طُبْنَةَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَحَصَرَهَا أَبُو حَاتِمٍ، وَعُمَرُ بِطُبْنَةَ يُصْلِحُ أُمُورَهَا وَيَحْفَظُهَا مِمَّنْ يُجَاوِرُهُ مِنَ الْخَوَارِجِ، فَلَمَّا عَلِمَ ضِيقَ الْحَالِ بِالْقَيْرَوَانِ سَارَ إِلَيْهَا. وَلَمَّا سَارَ عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ إِلَى الْقَيْرَوَانِ اسْتَخْلَفَ عَلَى طُبْنَةَ عَسْكَرًا. فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو قُرَّةَ بِمَسِيرِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ سَارَ هُوَ إِلَى طُبْنَةَ فَحَصَرَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ مَنْ بِهَا مِنَ الْعَسَاكِرِ وَقَاتَلُوهُ، فَانْهَزَمَ مِنْهُمْ وَقُتِلَ مِنْ عَسْكَرِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَأَمَّا أَبُو حَاتِمٍ فَإِنَّهُ لَمَّا حَصَرَ الْقَيْرَوَانَ كَثُرَ جَمْعُهُ وَلَازَمَ حِصَارَهَا وَلَيْسَ فِي بَيْتِ مَالِهَا دِينَارٌ وَلَا فِي أَهْرَائِهَا شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ، فَدَامَ الْحِصَارُ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ الْجُنْدُ يَخْرُجُونَ فَيُقَاتِلُونَ الْخَوَارِجَ طَرَفَيِ النَّهَارِ حَتَّى جَهَدَهُمُ الْجُوعُ وَأَكَلُوا دَوَابَّهُمْ وَكِلَابَهُمْ. وَلَحِقَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا بِالْبَرْبَرِ، وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ دُخُولِ الْخَوَارِجِ إِلَيْهَا، فَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِوُصُولِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ مِنْ طُبْنَةَ، فَنَزَلَ الْهَرِيشَ، وَهُوَ فِي سَبْعِمِائَةِ فَارِسٍ، فَزَحَفَ الْخَوَارِجُ إِلَيْهِ بِأَجْمَعِهِمْ وَتَرَكُوا الْقَيْرَوَانَ، فَلَمَّا فَارَقُوهَا سَارَ عُمَرُ إِلَى تُونِسَ، فَتَبِعَهُ الْبَرْبَرُ، فَعَادَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ مُجِدًّا وَأَدْخَلَ إِلَيْهَا مَا يَحْتَاجُ مِنْ طَعَامٍ وَدَوَابَّ وَحَطَبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَوَصَلَ أَبُو حَاتِمٍ وَالْبَرْبَرُ إِلَيْهِ فَحَصَرُوهُ، فَطَالَ الْحِصَارُ حَتَّى أَكَلُوا دَوَابَّهُمْ، وَفِي

كُلِّ يَوْمٍ يَكُونُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَحَرْبٌ. فَلَمَّا ضَاقَ الْأَمْرُ بِعُمَرَ وَبِمَنْ مَعَهُ قَالَ لَهُمْ: الرَّأْيُ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْحِصَارِ، وَأُغِيرَ عَلَى بِلَادِ الْبَرْبَرِ، وَأَحْمِلَ إِلَيْكُمُ الْمِيرَةَ. قَالُوا: إِنَّا نَخَافُ بَعْدَكَ، قَالَ: فَأُرْسِلُ فُلَانًا وَفُلَانًا يَفْعَلَانِ ذَلِكَ، فَأَجَابُوهُ، فَلَمَّا قَالَ لِلرَّجُلَيْنِ قَالَا: لَا نَتْرُكُكَ فِي الْحِصَارِ وَنَسِيرُ عَنْكَ. فَعَزَمَ عَلَى إِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَى الْمَوْتِ، فَأَتَى الْخَبَرُ أَنَّ الْمَنْصُورَ قَدْ سَيَّرَ إِلَيْهِ يَزِيدَ بْنَ حَاتِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ بْنِ الْمُهَلَّبِ فِي سِتِّينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ مَنْ عِنْدَهُ بِالتَّوَقُّفِ عَنِ الْقِتَالِ إِلَى أَنْ يَصِلَ الْعَسْكَرُ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَخَرَجَ وَقَاتَلَ، فَقُتِلَ مُنْتَصَفَ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. وَقَامَ بِأَمْرِ النَّاسِ حُمَيْدُ بْنُ صَخْرٍ، وَهُوَ أَخُو عُمَرَ لِأُمِّهِ، فَوَادَعَ أَبَا حَاتِمٍ وَصَالَحَهُ عَلَى أَنَّ حُمَيْدًا وَمَنْ مَعَهُ لَا يَخْلَعُونَ الْمَنْصُورَ وَلَا يُنَازِعُهُمْ أَبُو حَاتِمٍ فِي سَوَادِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ، وَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَفُتِحَتْ لَهُ الْقَيْرَوَانُ، وَخَرَجَ أَكْثَرُ الْجُنْدِ إِلَى طُبْنَةَ، وَأَحْرَقَ أَبُو حَاتِمٍ أَبْوَابَ الْقَيْرَوَانِ وَثَلَمَ سُورَهَا. وَبَلَغَهُ وُصُولُ يَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ، فَسَارَ إِلَى طَرَابُلُسَ، وَأَمَرَ صَاحِبَهُ بِالْقَيْرَوَانِ بِأَخْذِ سِلَاحِ الْجُنْدِ، وَأَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَخَالَفَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَقَالُوا: لَا نَغْدِرُ بِهِمْ، وَكَانَ الْمُقَدَّمَ عَلَى الْمُخَالِفِينَ عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْفِهْرِيُّ، وَقَامَ فِي الْقَيْرَوَانِ وَقَتَلَ أَصْحَابَ أَبِي حَاتِمٍ، فَعَادَ أَبُو حَاتِمٍ، فَهَرَبَ عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ إِلَى تُونِسَ، وَعَادَ أَبُو حَاتِمٍ إِلَى طَرَابُلُسَ لِقِتَالِ يَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ. فَقِيلَ: كَانَ بَيْنَ الْخَوَارِجِ وَالْجُنُودِ مِنْ لَدُنْ قَاتَلُوا عُمَرَ بْنَ حَفْصٍ إِلَى انْقِضَاءِ أَمْرِهِمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسٌ وَسَبْعُونَ وَقْعَةً. ذِكْرُ وِلَايَةِ يَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ إِفْرِيقِيَّةَ وَقِتَالِ الْخَوَارِجِ لَمَّا بَلَغَ الْمَنْصُورَ مَا حَلَّ بِعُمَرَ بْنِ حَفْصٍ مِنَ الْخَوَارِجِ جَهَّزَ يَزِيدَ بْنَ حَاتِمِ بْنِ قَبِيصَةَ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ فِي سِتِّينَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَسَيَّرَهُ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، فَوَصَلَهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. فَلَمَّا قَارَبَهَا سَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ جُنْدِهَا وَاجْتَمَعُوا بِهِ وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى

طَرَابُلُسَ، فَسَارَ أَبُو حَاتِمٍ الْخَارِجِيُّ إِلَى جِبَالِ نَفُوسَةَ، وَسَيَّرَ يَزِيدُ طَائِفَةً مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى قَابِسَ، فَلَقِيَهُمْ أَبُو حَاتِمٍ فَهَزَمَهُمْ، فَعَادُوا إِلَى يَزِيدَ، وَنَزَلَ أَبُو حَاتِمٍ فِي مَكَانٍ وَعْرٍ وَخَنْدَقَ عَلَى عَسْكَرِهِ. وَعَبَّأَ يَزِيدُ أَصْحَابَهُ وَسَارَ إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، فَانْهَزَمَتِ الْبَرْبَرُ، وَقُتِلَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَهْلُ نَجْدَتِهِ، وَطَلَبَهُمْ يَزِيدُ فِي كُلِّ سَهْلٍ وَجَبَلٍ فَقَتَلَهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَجَعَلَ آلُ الْمُهَلَّبِ يَقْتُلُونَ الْخَوَارِجَ وَيَقُولُونَ: يَالَثَارَاتِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ! وَأَقَامَ شَهْرًا يَقْتُلُ الْخَوَارِجَ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ. فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيُّ مَعَ أَبِي حَاتِمٍ، فَهَرَبَ إِلَى كُتَامَةَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ جَيْشًا فَحَصَرُوا الْبَرْبَرَ وَظَفِرُوا بِهِمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَهَرَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقُتِلَ جَمِيعُ مَنْ كَانَ مَعَهُ وَصَفَتْ إِفْرِيقِيَّةُ. وَأَحْسَنَ يَزِيدُ السِّيرَةَ وَآمَنَ النَّاسَ إِلَى أَنِ انْتَقَضَتْ وَرْفَجُومَةُ (سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ بِأَرْضِ الزَّابِ) وَعَلَيْهَا أَيُّوبُ الْهَوَّارِيُّ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا كَثِيرًا (وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ يَزِيدَ بْنَ مَجْزَاءَ الْمُهَلَّبِيَّ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ يَزِيدُ وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقُتِلَ الْمُخَارِقُ بْنُ غِفَارٍ صَاحِبُ الزَّابِ. فَوَلِيَ مَكَانَهُ الْمُهَلَّبُ بْنُ يَزِيدَ الْمُهَلَّبِيُّ، وَأَمَدَّهُمْ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ بِجَمْعٍ كَثِيرٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمُ الْعَلَاءَ بْنَ سَعِيدٍ الْمُهَلَّبِيَّ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِمُ الْمُنْهَزِمُونَ وَلَقُوا وَرْفَجُومَةَ) وَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَانْهَزَمَتِ الْبَرْبَرُ وَأَيُّوبُ، وَقُتِلُوا بِكُلِّ مَكَانٍ حَتَّى أُتِيَ عَلَى آخِرِهِمْ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْجُنْدِ أَحَدٌ. ثُمَّ مَاتَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ دَاوُدَ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ. ذِكْرُ بِنَاءِ الرُّصَافَةِ لِلْمَهْدِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ الْمَهْدِيُّ مِنْ خُرَاسَانَ فِي شَوَّالٍ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ أَهْلُ بَيْتِهِ مِنَ الشَّامِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا، فَهَنَّأُوهُ بِمَقْدَمِهِ، فَأَجَازَهُمْ وَحَمَلَهُمْ وَكَسَاهُمْ، وَفَعَلَ بِهِمُ الْمَنْصُورُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَبَنَى لَهُ الرُّصَافَةَ. وَكَانَ سَبَبُ بِنَائِهَا أَنَّ بَعْضَ الْجُنْدِ شَغَبُوا عَلَى الْمَنْصُورِ وَحَارَبُوهُ عَلَى بَابِ الذَّهَبِ،

فَدَخَلَ عَلَيْهِ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ شَيْخُهُمْ، وَلَهُ الْحُرْمَةُ وَالتَّقَدُّمُ عِنْدَهُمْ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: أَمَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنِ الْتِيَاثِ الْجُنْدِ عَلَيْنَا؟ وَقَدْ خِفْتُ أَنْ تُجْمَعَ كَلِمَتُهُمْ فَيَخْرُجَ هَذَا الْأَمْرُ مِنْ أَيْدِينَا، فَمَا تَرَى؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عِنْدِي رَأْيٌ إِنْ أَظْهَرْتُهُ لَكَ فَسَدَ، وَإِنْ تَرَكْتَنِي أُمْضِيهِ صَلُحَتْ [لَكَ] خِلَافَتُكَ وَهَابَكَ جُنْدُكَ. قَالَ لَهُ: أَفَتُمْضِي فِي خِلَافَتِي شَيْئًا لَا أَعْلَمُهُ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتُ عِنْدَكَ مُتَّهَمًا فَلَا تُشَاوِرْنِي، وَإِنْ كُنْتُ مَأْمُونًا عَلَيْهَا فَدَعْنِي أَفْعَلْ رَأْيِي. قَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: فَأَمْضِهِ. فَانْصَرَفَ قُثَمُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَدَعَا غُلَامًا لَهُ فَقَالَ [لَهُ] : إِذَا كَانَ غَدًا فَتَقَدَّمْنِي وَاجْلِسْ فِي دَارِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا رَأَيْتَنِي قَدْ دَخَلْتُ وَتَوَسَّطْتُ أَصْحَابَ الْمَرَاتِبِ فَخُذْ بِعِنَانِ بَغْلَتِي فَاسْتَحْلِفْنِي بِحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (وَبِحَقِّ الْعَبَّاسِ) ، وَبِحَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا مَا وَقَفْتُ لَكَ، وَسَمِعْتُ مَسْأَلَتَكَ، وَأَجَبْتُكَ عَنْهَا، فَإِنِّي سَأَنْتَهِرُكَ وَأُغْلِظُ لَكَ [الْقَوْلَ] فَلَا تَخَفْ وَعَاوِدَ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنِّي سَأَضْرِبُكَ فَعَاوِدْ وَقُلْ لِي: أَيُّ الْحَيَّيْنِ أَشْرَفُ، الْيَمَنُ أَمْ مُضَرُ؟ فَإِذَا أَجَبْتُكَ فَاتْرُكِ الْبَغْلَةَ وَأَنْتَ حُرٌّ. فَفَعَلَ الْغُلَامُ مَا أَمَرَهُ، وَفَعَلَ قُثَمُ بِهِ مَا قَالَهُ، ثُمَّ قَالَ: مُضَرُ أَشْرَفُ لِأَنَّ مِنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهَا كِتَابُ اللَّهِ، وَفِيهَا بَيْتُ اللَّهِ، وَمِنْهَا خَلِيفَةُ اللَّهِ. فَامْتَعَضَتْ لِذَلِكَ الْيَمَنُ إِذْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ شَيْئًا [مِنْ شَرَفِهِمْ] ، وَقَالَ بَعْضُ قُوَّادِهِمْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ مُطْلَقًا بِغَيْرِ فَضِيلَةٍ لِلْيَمَنِ، ثُمَّ قَالَ لِغُلَامٍ لَهُ: قُمْ إِلَى بَغْلَةِ الشَّيْخِ فَاكْبَحْهَا. فَفَعَلَ حَتَّى كَادَ يُقْعِيهَا، فَامْتَعَضَتْ مُضَرُ وَقَالُوا: أَيُفْعَلُ هَذَا بِشَيْخِنَا! فَأَمَرَ بَعْضُهُمْ غُلَامَهُ فَضَرَبَ يَدَ ذَلِكَ الْغُلَامِ فَقَطَعَهَا، فَنَفَرَ الْحَيَّانِ. وَدَخَلَ قُثَمُ عَلَى الْمَنْصُورِ فَافْتَرَقَ الْجُنْدُ، فَصَارَتْ مُضَرُ فِرْقَةً، وَرَبِيعَةُ فِرْقَةً، وَالْخُرَاسَانِيَّةُ فِرْقَةً. فَقَالَ قُثَمُ لِلْمَنْصُورِ: قَدْ فَرَّقْتُ بَيْنَ جُنْدِكَ وَجَعَلْتُهُمْ أَحْزَابًا كُلُّ حِزْبٍ مِنْهُمْ يَخَافُ أَنْ يُحْدِثَ [عَلَيْكَ] حَدَثًا فَتَضْرِبَهُ بِالْحِزْبِ الْآخَرِ. وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْكَ فِي التَّدْبِيرِ بَقِيَّةٌ، وَهِيَ أَنْ تَعْبُرَ بِابْنِكَ فَتُنْزِلَهُ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَتُحَوِّلَ مَعَهُ قِطْعَةً مِنْ جَيْشِكَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ بَلَدًا وَهَذَا بَلَدًا، فَإِنْ فَسَدَ عَلَيْكَ أُولَئِكَ ضَرَبْتَهُمْ بِهَؤُلَاءِ، وَإِنْ فَسَدَ عَلَيْكَ هَؤُلَاءِ ضَرَبْتَهُمْ بِأُولَئِكَ، وَإِنْ فَسَدَ عَلَيْكَ بَعْضُ الْقَبَائِلِ ضَرَبْتَهُمْ بِالْقَبِيلَةِ الْأُخْرَى. فَقَبِلَ رَأْيَهُ

وَاسْتَقَامَ مُلْكُهُ وَبَنَى الرُّصَافَةَ، وَتَوَلَّى صَالِحٌ صَاحِبُ الْمُصَلَّى ذَلِكَ. ذِكْرُ قَتْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الْعَبْدِيِّ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ عُقْبَةُ بْنُ سَلْمٍ مِنَ الْبَصْرَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا نَافِعَ بْنَ عُقْبَةَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ فَقَتَلَ سُلَيْمَانَ بْنَ حَكِيمٍ وَسَبَى أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ، وَأَنْفَذَ بَعْضَ السَّبْيِ وَالْأُسَارَى إِلَى الْمَنْصُورِ، فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ وَوَهَبَ الْبَاقِينَ لِلْمَهْدِيِّ، فَأَطْلَقَهُمْ وَكَسَاهُمْ، ثُمَّ عَزَلَ عُقْبَةَ عَنِ الْبَصْرَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْصِ عَلَى أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ. (وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمَنْصُورَ اسْتَعْمَلَ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ الشَّيْبَانِيَّ عَلَى سِجِسْتَانَ هَذِهِ السَّنَةَ) . وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ، وَكَانَ هُوَ الْعَامِلَ بِمَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ الْحَسَنُ بْنُ يَزِيدَ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ جَابِرُ بْنُ تَوْبَةَ الْكِلَابِيُّ، وَعَلَى الْكُوفَةِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَلَى مِصْرَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ أَمْرِ شَقْنَا وَخُرُوجِهِ بِالْأَنْدَلُسِ وَفِيهَا ثَارَ فِي الشَّرْقِ مِنَ الْأَنْدَلُسِ رَجُلٌ مِنْ بَرْبَرِ مِكْنَاسَةَ كَانَ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ، وَكَانَ اسْمُهُ شَقْنَا بْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ تُسَمَّى فَاطِمَةَ، وَادَّعَى أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ، (ثُمَّ مِنْ وَلَدِ الْحُسَيْنِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ) . وَتَسَمَّى بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسَكَنَ شَنْتَ بَرِيَّةَ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ، وَسَارَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ فَلَمْ يَقِفْ لَهُ وَرَاغَ فِي الْجِبَالِ، فَكَانَ إِذَا أَمِنَ انْبَسَطَ، وَإِذَا خَافَ صَعِدَ الْجِبَالَ بِحَيْثُ يَصْعُبُ طَلَبُهُ.

فَاسْتَعْمَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى طُلَيْطِلَةَ حَبِيبَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَاسْتَعْمَلَ حَبِيبٌ عَلَى شَنْتَ بَرِيَّةَ سُلَيْمَانَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَأَمَرَهُ بِطَلَبِ شَقْنَا. فَنَزَلَ شَقْنَا إِلَى شَنْتَ بَرِيَّةَ وَأَخَذَ سُلَيْمَانَ فَقَتَلَهُ، وَاشْتَدَّ أَمْرُهُ، وَطَارَ ذِكْرُهُ، وَغَلَبَ عَلَى نَاحِيَةِ قُورِيَّةَ، وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ. فَعَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ فَغَزَاهُ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ فَأَعْيَاهُ أَمْرُهُ، فَعَادَ عَنْهُ وَسَيَّرَ إِلَيْهِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ بَدْرًا مَوْلَاهُ، فَهَرَبَ شَقْنَا وَأَخْلَى حِصْنَهُ شَطْرَانَ، ثُمَّ غَزَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ بِنَفْسِهِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ شَقْنَا. ثُمَّ سَيَّرَ إِلَيْهِ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ أَبَا عُثْمَانَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُثْمَانَ، فَخَدَعَهُ شَقْنَا، وَأَفْسَدَ عَلَيْهِ جُنْدَهُ، فَهَرَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَغَنِمَ شَقْنَا عَسْكَرَهُ (وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا فِي الْعَسْكَرِ) . وَفِي سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ أَيْضًا سَارَ شَقْنَا بَعْدَ أَنْ غَنِمَ عَسْكَرَ عُبَيْدِ اللَّهِ إِلَى حِصْنِ الْهَوَارِيِّينَ الْمَعْرُوفِ بِمَدَائِنَ، وَبِهِ عَامِلٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَمَكَرَ بِهِ شَقْنَا حَتَّى خَرَجَ إِلَيْهِ، فَقَتَلَهُ شَقْنَا وَأَخَذَ خَيْلَهُ وَسِلَاحَهُ وَجَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهُ) . ذِكْرُ قَتْلِ مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ الشَّيْبَانِيُّ بِسِجِسْتَانَ، وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا وَصَلَهَا أَرْسَلَ إِلَى رُتْبِيلَ يَأْمُرُهُ بِحَمْلِ الْقَرَارِ الَّذِي عَلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُرُوضًا، وَزَادَ فِي ثَمَنِهَا، فَغَضِبَ مَعْنٌ وَسَارَ إِلَى الرُّخَّجِ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ ابْنُ أَخِيهِ مَزِيدُ بْنُ زَائِدَةَ، فَوَجَدَ رُتْبِيلَ قَدْ خَرَجَ عَنْهَا إِلَى زَابُلِسْتَانَ لِيُصَيِّفَ بِهَا، فَفَتَحَهَا وَأَصَابَ سَبْيًا كَثِيرًا، وَكَانَ فِي السَّبْيِ فَرَجٌ الرُّخَّجِيُّ، وَهُوَ صَبِيُّ، وَأَبُوهُ زِيَادٌ. فَرَأَى مَعْنٌ غُبَارًا سَاطِعًا أَثَارَتْهُ حُمُرُ الْوَحْشِ، فَظَنَّ أَنَّهُ جَيْشٌ أَقْبَلَ نَحْوَهُ لِيُخَلِّصَ السَّبْيَ وَالْأَسْرَى، فَأَمَرَ بِوَضْعِ السَّيْفِ فِيهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ عِدَّةً كَثِيرَةً، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَمْرُ الْغُبَارِ فَأَمْسَكَ. فَخَافَ مَعْنٌ الشِّتَاءَ وَهُجُومَهُ فَانْصَرَفَ إِلَى بُسْتَ، وَأَنْكَرَ قَوْمٌ مِنَ الْخَوَارِجِ سِيرَتَهُ فَانْدَسُّوا مَعَ فَعَلَةٍ كَانُوا يَبْنُونَ فِي مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا بَلَغُوا التَّسْقِيفَ أَخْفَوْا سُيُوفَهُمْ فِي الْقَصَبِ ثُمَّ دَخَلُوا عَلَيْهِ بَيْتَهُ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فَفَتَكُوا بِهِ، وَشَقَّ بَعْضُهُمْ بَطْنَهُ بِخِنْجَرٍ كَانَ مَعَهُ، وَقَالَ أَحَدُهُمْ لَمَّا ضَرَبَهُ: أَنَا الْغُلَامُ الطَّاقِيُّ! وَالطَّاقُ رُسْتَاقٌ بِقُرْبِ زَرَنْجَ، فَقَتَلَهُمْ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ، فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ.

ثُمَّ إِنَّ يَزِيدَ قَامَ بِأَمْرِ سِجِسْتَانَ، وَاشْتَدَّتْ عَلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ مِنْ أَهْلِهَا وَطْأَتُهُ، فَاحْتَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ فَكَتَبَ عَلَى لِسَانِهِ إِلَى الْمَنْصُورِ كِتَابًا يُخْبِرُهُ فِيهِ أَنَّ كُتُبَ الْمَهْدِيِّ إِلَيْهِ قَدْ حَيَّرَتْهُ وَأَدْهَشَتْهُ، وَيَسْأَلُ أَنْ يُعْفِيَهُ مِنْ مُعَامَلَتِهِ، فَأَغْضَبَ ذَلِكَ الْمَنْصُورَ وَشَتَمَهُ وَأَقَرَّ الْمَهْدِيُّ كِتَابَهُ، فَعَزَلَهُ وَأَمَرَ بِحَبْسِهِ، وَبَيْعِ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ كُلِّمَ فِيهِ فَأُشْخِصَ إِلَى مَدِينَةِ السَّلَامِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا مَجْفُوًّا حَتَّى لَقِيَهُ الْخَوَارِجُ عَلَى الْجِسْرِ فَقَاتَلَهُمْ، فَتَحَرَّكَ أَمْرُهُ قَلِيلًا، ثُمَّ وُجِّهَ إِلَى يُوسُفَ الْبَرْمِ بِخُرَاسَانَ فَلَمْ يَزَلْ فِي ارْتِفَاعٍ إِلَى أَنْ مَاتَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الْمَنْصُورُ عَلَى الْمَوْصِلِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ. وَفِيهَا مَاتَ أُسَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ أَمِيرُ خُرَاسَانَ. وَحَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيُّ. وَعَلِيُّ بْنُ صَالِحِ بْنِ حُبِيٍّ أَخُو الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَكَانَا تَقِيَّيْنِ، فِيهِمَا تَشَيُّعٌ.

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ] 152 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ وَفِيهَا غَزَا حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ كَابِلَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْمَنْصُورُ عَلَى خُرَاسَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَغَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ، وَلَمْ يُدْرِبْ. وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ جَابِرَ بْنَ تَوْبَةَ عَنِ الْبَصْرَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا يَزِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ. وَفِيهَا قَتَلَ الْمَنْصُورُ هَاشِمَ بْنَ الْأَسَاجِيجِ، وَ [كَانَ] قَدْ خَالَفَ وَعَصَى بِإِفْرِيقِيَّةَ، فَحُمِلَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْمَنْصُورُ. وَفِيهَا عَزَلَ يَزِيدَ بْنَ حَاتِمٍ عَنْ مِصْرَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا مُحَمَّدَ بْنَ سَعِيدٍ، وَكَانَ عُمَّالُ الْأَمْصَارِ سِوَى مَا ذَكَرْنَا الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، رَوَى عَنْهُ عَمُّهُ. وَفِيهَا مَاتَ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ، رَوَى عَنِ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا. وَفِيهَا مَاتَ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْحَضْرَمِيُّ. وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَاسْمُ أَبِي عَبْلَةَ شَمِرُ بْنُ يَقْظَانَ بْنِ عَامِرٍ الْعُقَيْلِيُّ. (الْأَيْلِيُّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَبِالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ. وَالْعُقَيْلِيُّ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَفَتْحِ الْقَافِ) .

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ] 153 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ فِيهَا عَادَ الْمَنْصُورُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَجَهَّزَ جَيْشًا فِي الْبَحْرِ إِلَى الْكُرْكِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُ إِغَارَتِهِمْ عَلَى جُدَّةَ. وَفِيهَا قَبَضَ الْمَنْصُورُ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ الْمُورِيَانِيِّ، وَعَلَى أَخِيهِ وَبَنِي أَخِيهِ، وَكَانَتْ مَنَازِلَهُمُ الْمَنَاذِرُ، وَكَانَ قَدْ سَعَى بِهِ كَاتِبُهُ أَبَانُ بْنُ صَدَقَةَ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ قَبْضِهِ أَنَّ الْمَنْصُورَ فِي دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ وَرَدَ عَلَى الْمَوْصِلِ وَأَقَامَ بِهَا مُسْتَتِرًا وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الْأَزْدِ،، فَحَمَلَتْ مِنْهُ، ثُمَّ فَارَقَ الْمَوْصِلَ وَأَعْطَاهَا تَذْكِرَةً وَقَالَ لَهَا: إِذَا سَمِعْتِ بِدَوْلَةٍ لِبَنِي هَاشِمٍ فَأَرْسِلِي هَذِهِ التَّذْكِرَةَ إِلَى صَاحِبِ الْأَمْرِ فَهُوَ يَعْرِفُهَا، فَوَضَعَتِ الْمَرْأَةُ وَلَدًا سَمَّتْهُ جَعْفَرًا، فَنَشَأَ وَتَعَلَّمَ الْكِتَابَةَ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْكَاتِبُ. وَوَلِيَ الْمَنْصُورُ الْخِلَافَةَ، فَقَدِمَ جَعْفَرٌ إِلَى بَغْدَاذَ، وَاتَّصَلَ بِأَبِي أَيُّوبَ فَجَعَلَهُ كَاتِبًا بِالدِّيوَانِ، فَطَلَبَ الْمَنْصُورُ يَوْمًا مِنْ أَبِي أَيُّوبَ كَاتِبًا يَكْتُبُ لَهُ شَيْئًا، فَأَرْسَلَ جَعْفَرًا إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ الْمَنْصُورُ مَالَ إِلَيْهِ وَأَحَبَّهُ، فَلَمَّا أَمَرَهُ بِالْكِتَابَةِ رَآهُ حَاذِقًا مَاهِرًا، فَسَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَمَنْ أَبُوهُ، فَذَكَرَ لَهُ الْحَالَ وَأَرَاهُ التَّذْكِرَةَ، وَكَانَتْ مَعَهُ، فَعَرَفَهُ الْمَنْصُورُ وَصَارَ يَطْلُبُهُ كُلَّ وَقْتٍ بِحُجَّةِ الْكِتَابَةِ، فَخَافَهُ أَبُو أَيُّوبَ. ثُمَّ إِنَّ الْمَنْصُورَ أَحْضَرَهُ يَوْمًا وَأَعْطَاهُ مَالًا، وَأَمَرَ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَيُحْضِرَ وَالِدَتَهُ، فَسَارَ مِنْ بَغْدَاذَ، وَكَانَ أَبُو أَيُّوبَ قَدْ وَضَعَ عَلَيْهِ الْعُيُونَ يَأْتُونَهُ بِأَخْبَارِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ مَسِيرَهُ سَيَّرَ وَرَاءَهُ مَنِ اغْتَالَهُ فِي الطَّرِيقِ فَقَتَلَهُ. فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَى الْمَنْصُورِ أَرْسَلَ إِلَى [أُمِّهِ] بِالْمَوْصِلِ مَنْ يَسْأَلُهَا عَنْهُ، فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّهَا لَا عِلْمَ لَهَا بِهِ إِلَّا أَنَّهُ بِبَغْدَاذَ يَكْتُبُ فِي دِيوَانِ

الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا عَلِمَ الْمَنْصُورُ ذَلِكَ أَرْسَلَ مَنْ يَقُصُّ أَثَرَهُ، فَانْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ، فَعَلِمَ أَنَّهُ قُتِلَ هُنَاكَ، وَكَشَفَ الْخَبَرَ فَرَأَى أَنَّ قَتْلَهُ مِنْ يَدِ أَبِي أَيُّوبَ، فَنَكَبَهُ وَفَعَلَ بِهِ مَا فَعَلَ. وَقَبَضَ الْمَنْصُورُ أَيْضًا عَلَى عَبَّادٍ مَوْلَاهُ، وَعَلَى هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ بِخُرَاسَانَ، وَأُحْضِرَا مُقَيَّدَيْنِ لِتَعَصُّبِهِمَا لِعِيسَى بْنِ مُوسَى. وَفِيهَا أَخَذَ الْمَنْصُورُ النَّاسَ بِتَلْبِيسِ الْقَلَانِسِ الطِّوَالِ الْمُفْرِطَةِ الطُّولِ، فَقَالَ أَبُو دُلَامَةَ: وَكُنَّا نُرَجِّي مِنْ إِمَامٍ زِيَادَةً ... فَزَادَ الْإِمَامُ الْمُصْطَفَى فِي الْقَلَانِسِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُبَيْدُ ابْنُ بِنْتِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَاضِي الْكُوفَةِ، فَاسْتُقْضِيَ [مَكَانَهُ] شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيُّ. وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مَعْيُوفُ بْنُ يَحْيَى الْحَجُورِيُّ فَوَصَلَ إِلَى حِصْنٍ مِنْ حُصُونِ الرُّومِ لَيْلًا وَأَهْلُهُ نِيَامٌ، فَسَبَى وَأَسَرَ مَنْ كَانَ فِيهِ، ثُمَّ قَصَدَ اللَّاذِقِيَّةَ الْخَرَابَ، فَسَبَى مِنْهَا سِتَّةَ آلَافِ رَأْسٍ سِوَى الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْمَهْدِيُّ، وَكَانَ أَمِيرَ مَكَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمِيرَ الْمَدِينَةِ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَمِيرَ مِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَلَى الْيَمَنِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ هِشَامُ بْنُ الْغَازِ بْنِ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيُّ، (وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: تِسْعٍ وَخَمْسِينَ) . وَالْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ. وَثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ. وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ.

وَالضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ حِزَامٍ مِنْ وَلَدِ أَخِي حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ. وَفِطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكُوفِيُّ. فِطْرٌ: بِالْفَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ. (وَالْجُرَشِيُّ: بِضَمِّ الْجِيمِ، وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ) .

ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ] 154 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْمَنْصُورُ إِلَى الشَّامِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَسَيَّرَ يَزِيدَ بْنَ حَاتِمِ بْنِ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا لِحَرْبِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ قَتَلُوا عُمَرَ بْنَ حَفْصٍ، وَأَرَادَ الْمَنْصُورُ بِنَاءَ الرَّافِقَةِ فَمَنَعَهُ أَهْلُ الرَّقَّةِ، فَهَمَّ لِمُحَارَبَتِهِمْ. وَسَقَطَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الصَّاعِقَةُ فَقَتَلَتْ بِالْمَسْجِدِ خَمْسَةَ نَفَرٍ. وَفِيهَا هَلَكَ أَبُو أَيُّوبَ الْمُورِيَانِيُّ، وَأَخُوهُ خَالِدٌ، وَأَمَرَ الْمَنْصُورُ بِقَطْعِ أَيْدِي بَنِي أَخِيهِ وَأَرْجُلِهِمْ [وَضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ] . وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ عَلَى الْبَصْرَةِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ ظَبْيَانَ النُّمَيْرِيَّ، وَغَزَا الصَّائِفَةَ زُفَرُ بْنُ عَاصِمٍ الْهِلَالِيُّ فَبَلَغَ الْفُرَاتَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ عَلَى مَكَّةَ،

وَكَانَ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، وَكَانَ عُمُرُهُ سِتًّا وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشُّعَيْثِيُّ النَّضْرِيُّ (بِالنُّونِ) . وَفِيهَا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ، وَجَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ الْجَزَرِيُّ، وَأَشْعَبُ الطَّامِعُ، وَعَلِيُّ بْنُ صَالِحِ بْنِ حُيَيٍّ، وَعُمَرُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. وَوُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ الْمَكِّيُّ الزَّاهِدُ، وَقُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو خَالِدٍ السَّدُوسِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَهِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ، وَهُوَ هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ. (الشُّعَيْثِيُّ بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي آخِرِهِ ثَاءٌ مُثَلَّثَةٌ) .

ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ] 155 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ فِيهَا دَخَلَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ إِفْرِيقِيَّةَ، وَقَتَلَ أَبَا حَاتِمٍ، وَمَلَكَ الْقَيْرَوَانَ وَسَائِرَ الْغَرْبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَسِيرِهِ وَحُرُوبِهِ مُسْتَقْصًى. وَفِيهَا سَيَّرَ الْمَهْدِيَّ لِبِنَاءِ الرَّافِقَةِ، فَسَارَ إِلَيْهَا فَبَنَاهَا عَلَى بِنَاءِ مَدِينَةِ بَغْدَاذَ، وَعَمِلَ لِلْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ سُورًا وَخَنْدَقًا، وَجَعَلَ مَا أَنْفَقَ فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ عَلَى أَهْلِهَا. وَلَمَّا أَرَادَ الْمَنْصُورُ مَعْرِفَةَ عَدَدِهِمْ أَمَرَ أَنْ يُقَسَّمَ فِيهِمْ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَلَمَّا عَلِمَ عَدَدَهُمْ، أَمَرَ بِجِبَايَتِهِمْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا لِكُلِّ وَاحِدٍ، فَقَالَ الشَّاعِرُ: يَا لَقَوْمِي مَا لَقِينَا مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَا ... قَسَمَ الْخَمْسَةَ فِينَا وَجَبَانَا الْأَرْبَعِينَا. وَفِيهَا طَلَبَ مَلِكُ الرُّومِ الصُّلْحَ إِلَى الْمَنْصُورِ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ [إِلَيْهِ] الْجِزْيَةَ. وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ يَزِيدُ بْنُ أُسَيْدٍ السُّلَمِيُّ. وَعُزِلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ ظَبْيَانَ عَنِ الْبَصْرَةِ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا الْهَيْثَمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْعَتَكِيُّ.

ذِكْرُ عَزْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْجَزِيرَةِ، وَاسْتِعْمَالِ مُوسَى بْنِ كَعْبٍ وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ أَخَاهُ الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ الْجَزِيرَةِ،، وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَغَرَّمَهُ مَالًا، فَلَمْ يَزَلْ سَاخِطًا عَلَيْهِ، حَتَّى غَضِبَ عَلَى عَمِّهِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَلِيٍّ، فَشَفَعَ فِيهِ عُمُومَةُ الْمَنْصُورِ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ، حَتَّى رَضِيَ عَنْهُ. فَقَالَ عِيسَى بْنُ مُوسَى لِلْمَنْصُورِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرَى آلَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَتْ نِعَمُكَ عَلَيْهِمْ سَابِغَةً، فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْحَسَدِ لَنَا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّكَ غَضِبْتَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَلِيٍّ، مُنْذُ أَيَّامٍ، فَضَيَّقُوا عَلَيْكَ حَتَّى رَضِيتَ عَنْهُ، وَأَنْتَ غَضْبَانُ عَلَى أَخِيكَ الْعَبَّاسِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، فَمَا كَلَّمَكَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَرَضِيَ عَنْهُ. وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدِ اسْتَعْمَلَ الْعَبَّاسَ عَلَى الْجَزِيرَةِ بَعْدَ يَزِيدَ بْنِ أُسَيْدٍ، فَشَكَا يَزِيدُ مِنْهُ وَقَالَ: إِنَّهُ أَسَاءَ عَزْلِي، وَشَتَمَ عِرْضِي. فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: اجْمَعْ بَيْنَ إِحْسَانِي وَإِسَاءَتِهِ يَعْتَدِلَا. فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ بْنُ أُسَيْدٍ: إِذَا كَانَ إِحْسَانُكُمْ جَزَاءً لِإِسَاءَتِكُمْ كَانَتْ طَاعَتُنَا تَفَضُّلًا مِنَّا عَلَيْكَمْ. وَلَمَّا عَزَلَ الْمَنْصُورُ أَخَاهُ عَنِ الْجَزِيرَةِ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا مُوسَى بْنَ كَعْبٍ. ذِكْرُ عَزْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنِ الْكُوفَةِ، وَاسْتِعْمَالِ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ وَفِيهَا عَزَلَ [الْمَنْصُورُ] مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الْكُوفَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عَمْرَو بْنَ زُهَيْرٍ الضَّبِّيَّ أَخَا الْمُسَيَّبِ بْنِ زُهَيْرٍ. وَقِيلَ: إِنَّمَا عُزِلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، وَكَانَ عَزْلُهُ لِأَسْبَابٍ بَلَغَتْهُ عَنْهُ، مِنْهَا أَنَّهُ قَتَلَ عَبْدَ الْكَرِيمِ بْنَ أَبِي الْعَوْجَاءِ وَكَانَ قَدْ حَبَسَهُ عَلَى الزَّنْدَقَةِ وَهُوَ خَالُ مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ الشَّيْبَانِيِّ، فَكَثُرَ شُفَعَاؤُهُ عِنْدَ الْمَنْصُورِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ إِلَّا ظَنِينٌ مِنْهُمْ، فَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بِالْكَفِّ عَنْهُ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ رَأْيُهُ. وَكَانَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ يَسْأَلُهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيُعْطِيَهُ مِائَةَ أَلْفٍ، فَلَمَّا ذُكِرَ لِمُحَمَّدٍ أَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَلَمَّا أَيْقَنَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ

وَضَعْتُ أَرْبَعَةَ آلَافِ حَدِيثٍ حَلَّلْتُ فِيهَا الْحَرَامَ، وَحَرَّمْتُ فِيهَا الْحَلَالَ، وَاللَّهِ لَقَدْ فَطَّرْتُكُمْ يَوْمَ صَوْمِكُمْ، وَصَوَّمْتُكُمْ يَوْمَ فِطْرِكُمْ، فَقُتِلَ. وَوَرَدَ كِتَابُ الْمَنْصُورِ إِلَى مُحَمَّدٍ يَأْمُرُهُ بِالْكَفِّ عَنْهُ، فَوَصَلَ وَقَدْ قَتَلَهُ فَلَمَّا بَلَغَ قَتْلُهُ غَضِبَ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُقِيدَهُ بِهِ! ثُمَّ أَحْضَرَ عَمَّهُ عِيسَى بْنَ عَلِيٍّ وَقَالَ لَهُ: هَذَا عَمَلُكَ، أَنْتَ أَشَرْتَ بِتَوْلِيَةِ هَذَا الْغُلَامِ الْغِرِّ، قَتَلَ فُلَانًا بِغَيْرِ أَمْرِي، وَقَدْ كَتَبْتُ بِعَزْلِهِ، وَتَهَدَّدَهُ. فَقَالَ لَهُ عِيسَى: إِنَّ مُحَمَّدًا إِنَّمَا قَتَلَهُ عَلَى الزَّنْدَقَةِ، فَإِنْ كَانَ أَصَابَ فَهُوَ لَكَ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ، وَلَئِنْ عَزَلْتَهُ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ لَيَذْهَبَنَّ بِالثَّنَاءِ وَالذِّكْرِ، وَلَتَرْجِعَنَّ بِالْمَقَالَةِ مِنَ الْعَامَّةِ عَلَيْكَ، فَمَزَّقَ الْكِتَابَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنْكَرَتِ الْخَوَارِجُ الصُّفْرِيَّةُ الْمُجْتَمِعَةُ بِمَدِينَةِ سِجِلْمَاسَةَ عَلَى أَمِيرِهِمْ عِيسَى بْنِ جَرِيرٍ أَشْيَاءَ، فَشَدُّوهُ وَثَاقًا، وَجَعَلُوهُ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، وَقَدَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَبَا الْقَاسِمِ سِمْكُو بْنَ وَاسُولَ الْمِكْنَاسِيَّ جَدَّ مِدْرَارٍ. (وَفِيهَا وُلِدَ أَبُو سِنَانٍ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ بِمَدِينَةِ الْقَيْرَوَانِ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ) ، وَفِيهَا عُزِلَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنِ الْمَدِينَةِ وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا عَمُّهُ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ. وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، (وَعَلَى الْكُوفَةِ عَمْرُو بْنُ زُهَيْرٍ) ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ الْهَيْثَمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَعَلَى مِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلَى إِفْرِيقِيَّةَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ خَالِدُ بْنُ بَرْمَكٍ، وَقِيلَ: مُوسَى بْنُ كَعْبِ بْنِ سُفْيَانَ الْخَثْعَمِيُّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ الْكُوفِيُّ الْهِلَالِيُّ.

ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَة] 156 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ عِصْيَانِ أَهْلِ إِشْبِيلِيَّةَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، إِلَى حَرْبِ شَقْنَا، وَقَصْدِ حِصْنِ شَيْطَرَانَ، فَحَصَرَهُ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ (فَهَرَبَ إِلَى الْمَفَازَةِ كَعَادَتِهِ) ، وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى قُرْطُبَةَ ابْنَهُ سُلَيْمَانَ، فَأَتَاهُ كِتَابُهُ يُخْبِرُهُ بِخُرُوجِ أَهْلِ إِشْبِيلِيَّةَ مَعَ عَبْدِ الْغَفَّارِ، وَحَيْوَةَ بْنِ مُلَابِسٍ عَنْ طَاعَتِهِ، وَعِصْيَانِهِمْ عَلَيْهِ، وَاتَّفَقَ مَنْ بِهَا مِنَ الْيَمَانِيَّةِ مَعَهُمَا، فَرَجَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَلَمْ يَدْخُلْ قُرْطُبَةَ، وَهَالَهُ مَا سَمِعَ مِنِ اجْتِمَاعِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ، فَقَدَّمَ ابْنَ عَمِّهِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عُمَرَ، وَكَانَ شِهَابَ آلِ مَرْوَانَ، وَبَقِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ خَلْفَهُ كَالْمَدَدِ لَهُ. فَلَمَّا قَارَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَهْلَ إِشْبِيلِيَّةَ قَدَّمَ ابْنَهُ أُمَيَّةَ لِيَعْرِفَ حَالَهُمْ، فَرَآهُمْ مُسْتَيْقِظِينَ فَرَجَعَ إِلَى أَبِيهِ، فَلَامَهُ أَبُوهُ عَلَى إِظْهَارِ الْوَهَنِ، وَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَجَمَعَ أَهْلَ بَيْتِهِ وَخَاصَّتَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: طُرِدْنَا مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى أَقْصَى هَذَا الصُّقْعِ، وَنُحْسَدُ عَلَى لُقْمَةٍ تُبْقِي الرَّمَقَ، اكْسِرُوا جُفُونَ السُّيُوفِ، فَالْمَوْتُ أَوْلَى أَوِ الظَّفَرُ. فَفَعَلُوا وَحَمَلَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَهَزَمَ الْيَمَانِيَّةَ وَأَهْلَ إِشْبِيلِيَّةَ، فَلَمْ تَقُمْ بَعْدَهَا لِلْيَمَانِيَّةِ قَائِمَةٌ، وَجُرِحَ عَبْدُ الْمَلِكِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَأَتَاهُ وَجُرْحُهُ يَجْرِي دَمًا، وَسَيْفُهُ يَقْطُرُ دَمًا، وَقَدْ لَصِقَتْ يَدُهُ بِقَائِمِ سَيْفِهِ، فَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَجَزَاهُ خَيْرًا، وَقَالَ: يَا ابْنَ عَمٍّ قَدْ أَنْكَحْتُ ابْنِي وَوَلِيَّ عَهْدِي هِشَامًا ابْنَتَكَ فُلَانَةَ، وَأَعْطَيْتُهَا كَذَا وَكَذَا، وَأَعْطَيْتُكَ كَذَا وَأَوْلَادَكَ كَذَا، وَأَقْطَعْتُكَ وَإِيَّاهُمْ، وَوَلَّيْتُكُمُ الْوِزَارَةَ.

وَهَذَا عَبْدُ الْمَلِكِ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بِقَطْعِ خُطْبَةِ الْمَنْصُورِ وَقَالَ لَهُ: تَقْطَعُهَا وَإِلَّا قَتَلْتُ نَفْسِي! وَكَانَ قَدْ خَطَبَ لَهُ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ، فَقَطَعَهَا. وَكَانَ عَبْدُ الْغَفَّارِ وَحَيْوَةُ بْنُ مُلَابِسٍ قَدْ سَلِمَا مِنَ الْقَتْلِ. فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ سَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ فَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِمَّنْ كَانَ مَعَ عَبْدِ الْغَفَّارِ وَحَيْوَةَ وَرَجَعَ. وَبِسَبَبِ هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَغِشِّ الْعَرَبِ، مَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى اقْتِنَاءِ الْعَبِيدِ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِإِفْرِيقِيَّةَ مَعَ الْخَوَارِجِ قَدْ ذَكَرْنَا هَرَبَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَبِيبٍ، الَّذِي كَانَ أَبُوهُ أَمِيرَ إِفْرِيقِيَّةَ، مَعَ الْخَوَارِجِ، وَاتِّصَالَهُ بِكُتَامَةَ فَسَيَّرَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ أَمِيرُ إِفْرِيقِيَّةَ الْعَسْكَرَ فِي أَثَرِهِ، وَقَاتَلُوا كُتَامَةَ. فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ سَيَّرَ يَزِيدُ عَسْكَرًا آخَرَ مَدَدًا لِلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَاشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَمَضَى هَارِبًا، وَفَارَقَ مَكَانَهُ، فَعَادَتِ الْعَسَاكِرُ عَنْهُ. ثُمَّ ثَارَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى يَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ أَبُو يَحْيَى بْنُ فَانُوسٍ الْهَوَّارِيُّ بِنَاحِيَةِ طَرَابُلُسَ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَكَانَ بِهَا عَسْكَرٌ لِيَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ مَعَ عَامِلِ الْبَلَدِ، فَخَرَجَ الْعَامِلُ وَالْجَيْشُ مَعَهُ، فَالْتَقَوْا عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ مِنْ أَرْضِ هَوَّارَةَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ أَبُو يَحْيَى بْنُ فَانُوسٍ، وَقُتِلَ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ، وَسَكَنَ النَّاسُ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَصَفَتْ لِيَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَفِرَ الْهَيْثَمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَامِلُ الْبَصْرَةِ، بِعَمْرِو بْنِ شَدَّادٍ الَّذِي كَانَ عَامِلَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى فَارِسَ، وَسَبَبُ ظَفَرِهِ بِهِ أَنَّهُ ضَرَبَ غُلَامًا لَهُ، فَأَتَى الْهَيْثَمَ، فَدَلَّهُ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ، فَقَتَلَهُ، وَصَلَبَهُ بِالْمِرْبَدِ. وَفِيهَا عُزِلَ الْهَيْثَمُ عَنِ الْبَصْرَةِ، وَاسْتُعْمِلَ سَوَّارٌ الْقَاضِي عَلَى الصَّلَاةِ مَعَ الْقَضَاءِ، وَاسْتُعْمِلَ سَعِيدُ بْنُ دَعْلَجٍ عَلَى شُرَطِ الْبَصْرَةِ وَأَحْدَاثِهَا، وَلَمَّا وَصَلَ الْهَيْثَمُ إِلَى بَغْدَاذَ مَاتَ بِهَا، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْمَنْصُورُ.

وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ زُفَرُ بْنُ عَاصِمٍ الْهِلَالِيُّ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ: مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ: عَمْرُو بْنُ زُهَيْرٍ، وَعَلَى الْأَحْدَاثِ وَالْجَوَالِي وَالشُّرَطِ بِالْبَصْرَةِ: سَعِيدُ بْنُ دَعْلَجٍ وَعَلَى الصَّلَاةِ وَالْقَضَاءِ: سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى كُوَرِ دِجْلَةَ وَالْأَهْوَازِ وَفَارِسَ: عُمَارَةُ بْنُ حَمْزَةَ، وَعَلَى كَرْمَانَ وَالسِّنْدِ: هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى إِفْرِيقِيَّةَ: يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَلَى مِصْرَ: مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ. وَفِيهَا سَخِطَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ عَلَى مَوْلَاهُ بَدْرٍ لِفَرْطِ إِدْلَالِهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرْعَ حَقَّ خِدْمَتِهِ وَطُولَ صُحْبَتِهِ، وَصِدْقَ مُنَاصَحَتِهِ، فَأَخَذَ مَالَهُ، وَسَلَبَهُ نِعْمَتَهُ، وَنَفَاهُ إِلَى الثَّغْرِ، فَبَقِيَ بِهِ إِلَى أَنْ هَلَكَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ، قَاضِي إِفْرِيقِيَّةَ، (وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي حَدِيثِهِ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَمْزَةُ بْنُ حَبِيبٍ الزَّيَّاتُ الْمُقْرِئُ، أَحَدُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ.

ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ] 157 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَنَى الْمَنْصُورُ قَصْرَهُ الَّذِي يُدْعَى الْخُلْدَ. وَفِيهَا حَوَّلَ الْمَنْصُورُ الْأَسْوَاقَ إِلَى الْكَرْخِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَبَبُ ذَلِكَ، وَاسْتَعْمَلَ سَعِيدَ بْنَ دَعْلَجٍ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهَا ابْنَهُ تَمِيمًا، وَعَرَضَ الْمَنْصُورُ جُنْدَهُ فِي السِّلَاحِ وَجَلَسَ لِذَلِكَ، وَخَرَجَ هُوَ لَابِسًا دِرْعًا وَبَيْضَةً. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عَامِرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمُسْلِيُّ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْمَنْصُورُ. وَتُوُفِّيَ سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَاسْتُعْمِلَ مَكَانَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحُصَيْنِ الْعَنْبَرِيُّ. [بَقِيَّةُ الْحَوَادِثِ] وَعُزِلَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْكَاتِبُ عَنْ مِصْرَ، وَاسْتُعْمِلَ مَوْلَاهُ مَطَرٌ، وَاسْتُعْمِلَ مَعْبَدُ بْنُ الْخَلِيلِ عَلَى السِّنْدِ، وَعُزِلَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو. وَغَزَا الصَّائِفَةَ يَزِيدُ بْنُ أُسَيْدٍ السُّلَمِيُّ فَوَجَّهَ سِنَانًا مَوْلَى الْبَطَّالِ إِلَى حِصْنٍ، فَسَبَى وَغَنِمَ.

وَقِيلَ: إِنَّمَا غَزَا الصَّائِفَةَ زُفَرُ بْنُ عَاصِمٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ، وَقِيلَ كَانَ عَلَيْهَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى الْأَمْصَارِ مَنْ ذَكَرْنَا. وَفِيهَا قَتَلَ الْمَنْصُورُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ الْمُحْتَسِبَ، وَكَانَ يَطْعَنُ عَلَى الْمَنْصُورِ وَيَجْمَعُ الْجَمَاعَاتِ فِيمَا قِيلَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ: وَفِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ مَاتَ الْأَوْزَاعِيُّ الْفَقِيهُ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو، وَلَهُ سَبْعُونَ سَنَةً، وَمُصْعَبُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ جَدُّ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ. وَفِيهَا أَخْرَجَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَقْظَانَ الْكَلْبِيُّ قَارْلَهْ مَلِكَ الْإِفْرِنْجِ. (إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، وَلَقِيَهُ بِالطَّرِيقِ، وَسَارَ مَعَهُ إِلَى سَرَقُسْطَةَ، فَسَبَقَهُ إِلَيْهَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ مِنْ وَلَدِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَامْتَنَعَ بِهَا فَاتَّهَمَ قَارْلَهْ مَلِكُ الْإِفْرِنْجِ) سُلَيْمَانَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى بِلَادِهِ فَلَمَّا أَبْعَدَ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَاطْمَأَنَّ هَجَمَ عَلَيْهِ مَطْرُوحٌ وَعَيْشُونُ ابْنَا سُلَيْمَانَ فِي أَصْحَابِهِمَا، فَاسْتَنْقَذَا أَبَاهُمَا، وَرَجَعَا بِهِ إِلَى سَرَقُسْطَةَ، وَدَخَلُوا مَعَ الْحُسَيْنِ، وَوَافَقُوا عَلَى خِلَافِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ] 158 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ عَزْلِ مُوسَى عَنِ الْمَوْصِلِ وَوِلَايَةِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْمَنْصُورُ مُوسَى بْنَ كَعْبٍ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ عَنْهُ مَا أَسْخَطَهُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ ابْنَهُ الْمَهْدِيَّ أَنْ يَسِيرَ إِلَى الرَّقَّةِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى الْمَوْصِلِ، فَإِذَا صَارَ بِالْبَلَدِ أَخَذَ مُوسَى وَقَيَّدَهُ وَاسْتَعْمَلَ خَالِدَ بْنَ بَرْمَكٍ. وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ أَلْزَمَ خَالِدَ بْنَ بَرْمَكٍ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَجَّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَحْضَرَ الْمَالَ وَإِلَّا قَتَلَهُ، فَقَالَ لِابْنِهِ يَحْيَى: يَا بُنَيَّ الْقَ إِخْوَانَنَا عُمَارَةَ بْنَ حَمْزَةَ، وَمُبَارَكًا التُّرْكِيَّ، وَصَالِحًا صَاحِبَ الْمُصَلَّى (وَغَيْرَهُمْ) وَأَعْلِمْهُمْ حَالَنَا. قَالَ يَحْيَى: فَأَتَيْتُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَنِي الدُّخُولَ عَلَيْهِ وَوَجَّهَ الْمَالَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَجَهَّمَنِي بِالرَّدِّ وَوَجَّهَ الْمَالَ [سِرًّا إِلَيَّ] . قَالَ: فَأَتَيْتُ عُمَارَةَ بْنَ حَمْزَةَ وَوَجْهُهُ إِلَى الْحَائِطِ، فَمَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَيَّ، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّ رَدًّا ضَعِيفًا. وَقَالَ: كَيْفَ أَبُوكَ؟ فَعَرَّفْتُهُ الْحَالَ، وَطَلَبْتُ قَرْضَ مِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ: إِنْ أَمْكَنَنِي شَيْءٌ فَسَيَأْتِيكَ، فَانْصَرَفْتُ وَأَنَا أَلْعَنُهُ مِنْ تِيهِهِ، وَحَدَّثْتُ أَبِي بِحَدِيثِهِ، وَإِذْ قَدْ أَنْفَذَ الْمَالَ، قَالَ: فَجَمَعْنَا فِي يَوْمَيْنِ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَسَبْعَمِائَةِ أَلْفٍ، وَبَقِيَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ تُبْطِلُ الْجَمِيعَ بِتَعَذُّرِهَا. قَالَ: فَعَبَرْتُ عَلَى الْجِسْرِ وَأَنَا مَهْمُومٌ، فَوَثَبَ إِلَيَّ زَاجِرٌ فَقَالَ: فَرْخُ الطَّائِرِ أَخْبَرَكَ، فَطَوَيْتُهُ فَلَحِقَنِي، وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِي، وَقَالَ لِي: أَنْتَ مَهْمُومٌ، وَوَاللَّهِ لَتَفْرَحَنَّ وَلَتَمُرَّنَ غَدًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالدَّوَاءُ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَعَجِبْتُ مِنْ قَوْلِهِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ فَلِي عَلَيْكَ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. فَقُلْتُ: نَعَمْ! وَأَنَا أَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ.

وَوَرَدَ عَلَى الْمَنْصُورِ انْتِقَاضُ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ، وَانْتِشَارُ الْأَكْرَادِ بِهَا، فَقَالَ: مَنْ لَهَا؟ فَقَالَ الْمُسَيَّبُ بْنُ زُهَيْرٍ: عِنْدِي رَأْيٌ أَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تَقْبَلُهُ مِنِّي، وَأَعْلَمُ أَنَّكَ تَرُدُّهُ عَلَيَّ، وَلَكِنِّي لَا أَدَعُ نُصْحَكَ. قَالَ: قُلْ! قُلْتُ: مَا لَهَا مِثْلُ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكٍ. قَالَ: فَكَيْفَ يَصْلُحُ لَنَا بَعْدَ مَا فَعَلْنَا؟ قَالَ: إِنَّمَا قَوَّمْتَهُ بِذَلِكَ، وَأَنَا الضَّامِنُ لَهُ. قَالَ: فَلْيَحْضُرْنِي غَدًا، فَأَحْضَرَهُ، فَصَفَحَ لَهُ عَنِ الثَّلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ الْبَاقِيَةِ، وَعَقَدَ لَهُ، وَعَقَدَ لِابْنِهِ يَحْيَى عَلَى أَذْرَبِيجَانَ. فَاجْتَازَ يَحْيَى بِالزَّاجِرِ، فَأَخَذَهُ مَعَهُ، وَأَعْطَاهُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَنْفَذَ خَالِدٌ إِلَى عُمَارَةَ بِالْمِائَةِ أَلْفٍ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْهُ مَعَ ابْنِهِ يَحْيَى، فَقَالَ لَهُ: صَيْرَفِيًّا كُنْتَ لِأَبِيكَ؟ قُمْ عَنِّي، لَا قُمْتَ! فَعَادَ بِالْمَالِ، وَسَارَ مَعَ الْمَهْدِيِّ، فَعَزَلَ مُوسَى بْنَ كَعْبٍ وَوَلَّاهُمَا. فَلَمْ يَزَلْ خَالِدٌ عَلَى الْمَوْصِلِ، وَابْنُهُ يَحْيَى عَلَى أَذْرَبِيجَانَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ الْمَنْصُورُ، فَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ قَالَ: مَا هِبْنَا أَمِيرًا قَطُّ هَيْبَتَنَا خَالِدًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَدَّ عَلَيْنَا، وَلَكِنْ هَيْبَةً كَانَتْ لَهُ فِي صُدُورِنَا. ذِكْرُ مَوْتِ الْمَنْصُورِ وَوَصِيَّتِهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمَنْصُورُ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بِبِئْرِ مَيْمُونٍ، وَكَانَ عَلَى مَا قِيلَ قَدْ هَتَفَ بِهِ هَاتِفٌ مِنْ قَصْرِهِ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ: أَمَا وَرَبِّ السُّكُونِ وَالْحَرَكِ ... إِنَّ الْمَنَايَا كَثِيرَةُ الشَّرَكِ عَلَيْكِ، يَا نَفْسُ إِنْ أَسَأْتِ، وَإِنْ ... أَحْسَنْتِ بِالْقَصْدِ، كُلُّ ذَاكَ لَكِ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا ... دَارَتْ نُجُومُ السَّمَاءِ فِي الْفَلَكِ إِلَّا تَنَقَّلَ السُّلْطَانُ عَنْ مَلِكٍ ... إِذَا انْتَهَى مُلْكُهُ إِلَى مَلِكِ حَتَّى يَصِيرَا بِهِ إِلَى مَلِكٍ ... مَا عِزُّ سُلْطَانِهِ بِمُشْتَرَكِ

ذَاكَ بَدِيعُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْ ... مُرْسِي الْجِبَالِ الْمُسَخِّرِ الْفَلَكِ فَقَالَ الْمَنْصُورُ: هَذَا أَوَانُ أَجَلِي. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَقَدْ حَكَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمَنْصُورِ يَوْمًا أُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ بَاهِتٌ لَا يُحِيرُ جَوَابًا، فَوَثَبْتُ لِمَا أَرَى مِنْهُ لِأَنْصَرِفَ، فَقَالَ [لِي] بَعْدَ سَاعَةٍ إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رُجَلًا يُنْشِدُنِي هَذِهِ [الْأَبْيَاتَ] : أَأُخَيَّ خَفِّضْ مِنْ مُنَاكَا ... فَكَأَنَّ يَوْمَكَ قَدْ أَتَاكَا وَلَقَدْ أَرَاكَ الدَّهْرَ مِنْ ... تَصَرُّفَيْهِ مَا قَدْ أَرَاكَا فَإِذَا أَرَدْتَ النَّاقِصَ الْ ... عَبْدَ الذَّلِيلَ، فَأَنْتَ ذَاكَا مُلِّكْتَ مَا مُلِّكْتَهُ ... وَالْأَمُرُ فِيهِ إِلَى سِوَاكَا. هَذَا الَّذِي تَرَى مِنْ قَلَقِي وَغَمِّي لِمَا سَمِعْتُ وَرَأَيْتُ، فَقُلْتُ: خَيْرًا رَأَيْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ. فَلَمَّا سَارَ مِنْ بَغْدَاذَ لِيَحُجَّ نَزَلَ قَصْرَ عَبْدَوَيْهِ، فَانْقَضَّ فِي مَقَامِهِ هُنَالِكَ كَوْكَبٌ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ، بَعْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، فَبَقِيَ أَثَرُهُ بَيِّنًا إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَأَحْضَرَ الْمَهْدِيَّ، وَكَانَ قَدْ صَحِبَهُ لِيُوَدِّعَهُ، فَوَصَّاهُ بِالْمَالِ وَالسُّلْطَانِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ مُقَامِهِ، بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي ارْتَحَلَ فِيهِ قَالَ لَهُ: إِنِّي لَمْ أَدَعْ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ فِيهِ، وَسَأُوصِيكَ بِخِصَالٍ مَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ وَاحِدَةً مِنْهَا. (وَكَانَ لَهُ سَفَطٌ فِيهِ دَفَاتِرُ عِلْمِهِ) ، وَعَلَيْهِ قُفْلٌ لَا يَفْتَحُهُ غَيْرُهُ، فَقَالَ لِلْمَهْدِيِّ: انْظُرْ إِلَى هَذَا السَّفَطِ فَاحْتَفِظْ بِهِ، فَإِنَّ فِيهِ عِلْمَ آبَائِكَ، (مَا كَانَ) وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنْ أَحْزَنَكَ أَمْرٌ فَانْظُرْ فِي الدَّفْتَرِ الْكَبِيرِ، فَإِنْ أَصَبْتَ فِيهِ مَا تُرِيدُ، وَإِلَّا فَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ، حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةً، فَإِنْ ثَقُلَ عَلَيْكَ، فَالْكُرَّاسَةُ الصَّغِيرَةُ، فَإِنَّكَ وَاجِدٌ فِيهَا مَا تُرِيدُ، وَمَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ.

وَانْظُرْ هَذِهِ الْمَدِينَةَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَبْدِلَ بِهَا غَيْرَهَا، وَقَدْ جَمَعْتُ لَكَ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا إِنْ كُسِرَ عَلَيْكَ الْخَرَاجُ عَشْرَ سِنِينَ كَفَاكَ لِأَرْزَاقِ الْجُنْدِ وَالنَّفَقَاتِ، وَالذُّرِّيَّةِ، وَمَصْلَحَةِ الْبُعُوثِ، فَاحْتَفِظْ بِهَا، فَإِنَّكَ لَا تَزَالُ عَزِيزًا مَا دَامَ بَيْتُ مَالِكَ عَامِرًا، وَمَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ. وَأُوصِيكَ بِأَهْلِ بَيْتِكَ أَنْ تُظْهِرَ كَرَامَتَهُمْ، وَتُحْسِنَ إِلَيْهِمْ، وَتُقَدِّمَهُمْ، وَتُوطِئَ النَّاسَ أَعْقَابُهُمْ، وَتُوَلِّيَهُمُ الْمَنَابِرَ، فَإِنَّ عِزَّكَ عِزَّهُمْ، وَذِكْرَهُمْ لَكَ، وَمَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ. وَانْظُرْ مَوَالِيَكَ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ، وَقَرِّبْهُمْ، وَاسْتَكْثِرْ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ مَادَّتُكَ لِشِدَّةٍ إِنْ نَزَلَتْ بِكَ، وَمَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ. وَأُوصِيكَ بِأَهْلِ خُرَاسَانَ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ أَنْصَارُكَ وَشِيعَتُكَ الَّذِينَ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ فِي دَوْلَتِكَ، وَمَنْ لَا تَخْرُجُ مَحَبَّتُكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، أَنْ تُحْسِنَ إِلَيْهِمْ، وَتَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَتُكَافِئَهُمْ عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ، وَتَخْلُفَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَمَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ. وَإِيَّاكَ أَنْ تَبْنِيَ مَدِينَةَ الشَّرْقِيَّةِ، فَإِنَّكَ لَا تُتِمُّ بِنَاءَهَا، وَأَظُنُّكَ سَتَفْعَلُ. وَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَعِينَ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَأَظُنُّكَ سَتَفْعَلُ. وَإِيَّاكَ أَنْ تُدْخِلَ النِّسَاءَ فِي أَمْرِكَ، وَأَظُنُّكَ سَتَفْعَلُ. وَقِيلَ: قَالَ لَهُ: إِنِّي وُلِدْتُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَوُلِّيتُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَقَدْ هَجَسَ فِي نَفْسِي أَنِّي أَمُوتُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَإِنَّمَا حَدَانِي عَلَى الْحَجِّ ذَلِكَ، فَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا أَعْهَدُ إِلَيْكَ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدِي، يَجْعَلْ لَكَ فِيمَا كَرَبَكَ وَحَزَنَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَيَرْزُقْكَ السَّلَامَةَ وَحُسْنَ الْعَاقِبَةِ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ. يَا بُنَيَّ احْفَظْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمَّتِهِ، يَحْفَظْكَ اللَّهُ (وَيَحْفَظْ) عَلَيْكَ أُمُورَكَ، وَإِيَّاكَ وَالدَّمَ وَالْحَرَامَ، فَإِنَّهُ حُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَعَارٌ فِي الدُّنْيَا لَازِمٌ مُقِيمٌ، وَالْزَمِ الْحُدُودَ، فَإِنَّ فِيهَا خَلَاصَكَ فِي الْآجِلِ وَصَلَاحَكَ فِي الْعَاجِلِ، وَلَا تَعْتَدِ فِيهَا فَتَبُورَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ عَلِمَ أَنْ شَيْئًا أَصْلَحُ مِنْهَا لِدِينِهِ وَأَزْجَرُ عَنْ مَعَاصِيهِ لَأَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ شِدَّةِ غَضَبِ اللَّهِ لِسُلْطَانِهِ [أَنَّهُ] أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِتَضْعِيفِ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى مَنْ سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا مَعَ مَا ذَكَرَ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ فَقَالَ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] الْآيَةَ. فَالسُّلْطَانُ، يَا بُنَيَّ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَعُرْوَتُهُ الْوُثْقَى، وَدِينُهُ الْقَيِّمُ، فَاحْفَظْهُ، وَحَصِّنْهُ، وَذُبَّ عَنْهُ، وَأَوْقِعْ بِالْمُلْحِدِينَ فِيهِ، وَاقْمَعِ الْمَارِقِينَ مِنْهُ، وَاقْتُلِ الْخَارِجِينَ عَنْهُ بِالْعِقَابِ، وَلَا تُجَاوِزْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ، وَاحْكُمْ بِالْعَدْلِ، وَلَا تُشْطِطْ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْطَعُ لِلشَّغَبِ، وَأَحْسَمُ لِلْعَدُوِّ، وَأَنْجَعُ فِي الدَّوَاءِ. وَعُفَّ عَنِ الْفَيْءِ، فَلَيْسَ بِكَ إِلَيْهِ حَاجَةٌ مَعَ مَا خَلَفَهُ اللَّهُ لَكَ، وَافْتَتِحْ [عَمَلَكَ] بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَبِرِّ الْقَرَابَةِ، وَإِيَّاكَ وَالْأَثَرَةَ وَالتَّبْذِيرَ لِأَمْوَالِ الرَّعِيَّةِ، وَاشْحَنِ الثُّغُورَ، وَاضْبُطِ الْأَطْرَافَ، وَأَمِّنِ السُّبُلَ، وَسَكِّنِ الْعَامَّةَ، وَأَدْخِلِ الْمَرَافِقَ عَلَيْهِمْ، وَادْفَعِ الْمَكَارِهَ عَنْهُمْ. وَأَعِدَّ الْأَمْوَالَ، وَاخْزُنْهَا، وَإِيَّاكَ وَالتَّبْذِيرَ، فَإِنَّ النَّوَائِبَ غَيْرُ مَأْمُونَةٍ، وَهِيَ مِنْ شِيَمِ الزَّمَانِ. وَأَعِدَّ الْكُرَاعَ وَالرِّجَالَ وَالْجُنْدَ مَا اسْتَطَعْتَ، وَإِيَّاكَ وَتَأْخِيرَ عَمَلِ الْيَوْمِ إِلَى الْغَدِ، فَتَتَدَارَكُ عَلَيْكَ الْأُمُورَ وَتَضِيعُ، جِدَّ فِي إِحْكَامِ الْأُمُورِ النَّازِلَاتِ لِأَوْقَاتِهَا أَوَّلًا [فَأَوَّلًا] ، وَاجْتَهِدْ وَشَمِّرْ فِيهَا. وَأَعِدَّ رِجَالًا بِاللَّيْلِ لِمَعْرِفَةِ مَا يَكُونُ بِالنَّهَارِ، وَرِجَالًا بِالنَّهَارِ لِمَعْرِفَةِ مَا يَكُونُ بِاللَّيْلِ، وَبَاشِرِ الْأُمُورَ بِنَفْسِكَ، وَلَا تَضْجَرْ، وَلَا تُكْسِلْ، وَاسْتَعْمِلْ حُسْنَ الظَّنِّ [بِرَبِّكَ] ، وَأَسِئَ الظَّنَّ بِعُمَّالِكَ وَكُتَّابِكَ. وَخُذْ نَفْسَكَ بِالتَّيَقُّظِ، وَتَفَقَّدْ مَنْ تَثَبَّتَ عَلَى بَابِكَ، وَسَهِّلْ إِذْنَكَ لِلنَّاسِ، وَانْظُرْ فِي أَمْرِ النُّزَّاعِ إِلَيْكَ، وَوَكِّلْ بِهِمْ عَيْنًا غَيْرَ نَائِمَةٍ، وَنَفْسًا غَيْرَ لَاهِيَةٍ، وَلَا تَنَمْ، وَإِيَّاكَ، فَإِنَّ أَبَاكَ لَمْ يَنَمْ مُنْذُ وَلِيَ الْخِلَافَةَ، وَلَا دَخَلَ عَيْنَهُ الْغَمْضُ إِلَّا وَقَلْبُهُ مُسْتَيْقِظٌ. هَذِهِ وَصِيَّتِي إِلَيْكَ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَيْكَ. ثُمَّ وَدَّعَهُ وَبَكَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَسَاقَ الْهَدْيَ، وَأَشْعَرَهُ، وَقَلَّدَهُ لِأَيَّامٍ خَلَتْ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ.

فَلَمَّا سَارَ مَنَازِلَ مِنَ الْكُوفَةِ عَرَضَ لَهُ وَجَعُهُ الَّذِي مَاتَ بِهِ وَهُوَ الْقِيَامُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ جَعَلَ يَقُولُ لِلرَّبِيعِ: بَادِرْنِي حَرَمَ رَبِّي هَارِبًا مِنْ ذُنُوبِي، وَكَانَ الرَّبِيعُ عَدِيلَهُ، وَوَصَّاهُ بِمَا أَرَادَ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بِئْرِ مَيْمُونٍ مَاتَ بِهَا مَعَ السَّحَرِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَلَمْ يَحْضُرْهُ عِنْدَ وَفَاتِهِ إِلَّا خَدَمُهُ، وَالرَّبِيعُ مَوْلَاهُ، فَكَتَمَ الرَّبِيعُ مَوْتَهُ، وَمَنَعَ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ، فَحَضَرَ أَهْلُ بَيْتِهِ كَمَا كَانُوا يَحْضُرُونَ. وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ دَعَا عَمَّهُ عِيسَى بْنَ عَلِيٍّ، فَمَكَثَ سَاعَةً، ثُمَّ أَذِنَ (لِابْنِ أَخِيهِ عِيسَى) بْنِ مُوسَى وَكَانَ فِيمَا خَلَا يُقَدَّمُ عَلَى عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ، ثُمَّ أَذِنَ لِلْأَكَابِرِ وَذَوِي الْأَسْنَانِ مِنْهُمْ، ثُمَّ لِعَامَّتِهِمْ، فَبَايَعَهُمُ الرَّبِيعُ لِلْمَهْدِيِّ، وَلِعِيسَى بْنِ مُوسَى بَعْدَهُ عَلَى يَدَيْ مُوسَى الْهَادِي بْنِ الْمَهْدِيِّ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيْعَةِ بَنِي هَاشِمٍ بَايَعَ الْقُوَّادَ، وَبَايَعَ عَامَّةَ النَّاسِ، وَسَارَ الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ إِلَى مَكَّةَ لِيُبَايِعَا النَّاسَ، فَبَايَعُوا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ. وَاشْتَغَلُوا بِتَجْهِيزِ الْمَنْصُورِ، فَفَرَغُوا مِنْهُ الْعَصْرَ، وَكُفِّنَ وَغُطِّيَ وَجْهُهُ وَبَدَنُهُ، وَجُعِلَ رَأْسُهُ مَكْشُوفًا لِأَجْلِ إِحْرَامِهِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَقِيلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ الْمَعْلَاةِ، وَحَفَرُوا لَهُ مِائَةَ قَبْرٍ لِيُغَمُّوا عَلَى النَّاسِ، وَدُفِنَ فِي غَيْرِهَا، وَنَزَلَ فِي قَبْرِهِ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ، وَعِيسَى بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالرَّبِيعُ وَالرَّيَّانُ مَوْلَيَاهُ، وَيَقْطِينُ. وَكَانَ عُمُرُهُ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقِيلَ أَرْبَعًا وَسِتِّينَ، وَقِيلَ ثَمَانِيًا وَسِتِّينَ سَنَةً، فَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً إِلَّا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ إِلَّا يَوْمَيْنِ. وَقِيلَ فِي مَوْتِهِ: إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ آخِرَ مَنْزِلٍ بِطَرِيقِ مَكَّةَ نَظَرَ فِي صَدْرِ الْبَيْتِ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَبَا جَعْفَرٍ حَانَتْ وَفَاتُكَ وَانْقَضَتْ ... سُنُوكُ، وَأَمْرُ اللَّهِ لَابُدَّ وَاقِعُ

أَبَا جَعْفَرٍ هَلْ كَاهِنٌ أَوْ مُنَجِّمٌ ... لَكَ الْيَوْمَ مِنْ حَرِّ الْمَنِيَّةِ مَانِعُ. فَأَحْضَرَ مُتَوَلِّيَ الْمَنَازِلِ، وَقَالَ لَهُ: أَلَمْ آمُرْكَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْمَنَازِلَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا دَخَلَهَا أَحَدٌ مُنْذُ فُرِغَ [مِنْهَا] . فَقَالَ: اقْرَأْ مَا فِي صَدْرِ الْبَيْتِ! فَقَالَ: مَا أَرَى شَيْئًا، فَأَحْضَرَ غَيْرَهُ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَأَمْلَى الْبَيْتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لِحَاجِبِهِ: اقْرَأْ آيَةً، فَقَرَأَ: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] . فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ، وَرَحَلَ مِنَ الْمَنْزِلِ تَطَيُّرًا، فَسَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ، فَانْدَقَّ ظَهْرُهُ وَمَاتَ، فَدُفِنَ بِبِئْرِ مَيْمُونٍ. وَالصَّحِيحُ مَا تَقَدَّمَ. ذِكْرُ صِفَةِ الْمَنْصُورِ وَأَوْلَادِهِ كَانَ أَسْمَرَ نَحِيفًا، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ، وُلِدَ بِالْحُمَيْمَةِ مِنْ أَرْضِ الشَّرَاةِ، وَأَمَّا أَوْلَادُهُ فَالْمَهْدِيُّ مُحَمَّدٌ، وَجَعْفَرٌ الْأَكْبَرُ، وَأُمُّهُمَا أَرْوَى بِنْتُ مَنْصُورٍ أُخْتُ يَزِيدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْحِمْيَرِيِّ، وَكَانَتْ تُكَنَّى أُمَّ مُوسَى، وَمَاتَ جَعْفَرٌ قَبْلَ الْمَنْصُورِ. وَمِنْهُمْ سُلَيْمَانُ، وَعِيسَى، وَيَعْقُوبُ، أُمُّهُمْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ مِنْ وَلَدِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَجَعْفَرٌ الْأَصْغَرُ، أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ، كُرْدِيَّةٌ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْكُرْدِيَّةِ، وَصَالِحٌ الْمِسْكِينُ، أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ رُومِيَّةٌ، وَالْقَاسِمُ، مَاتَ قَبْلَ الْمَنْصُورِ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ، أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ تُعْرَفُ بِأُمِّ الْقَاسِمِ، وَلَهَا بِبَابِ الشَّامِ بُسْتَانٌ يُعْرَفُ بِبُسْتَانِ أُمِّ الْقَاسِمِ، وَالْعَالِيَةُ، أُمُّهَا امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَةِ الْمَنْصُورِ قَالَ سَلَّامٌ الْأَبْرَشُ: كُنْتُ أَخْدُمُ الْمَنْصُورَ دَاخِلًا [فِي مَنْزِلِهِ] ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ

خُلُقًا، مَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى النَّاسِ، وَأَشَدَّ احْتِمَالًا لِمَا يَكُونُ مِنْ عَبَثِ الصِّبْيَانِ، فَإِذَا لَبِسَ ثَوْبَهُ ارْبَدَّ لَوْنُهُ، وَاحْمَرَّتْ عَيْنَاهُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا يَكُونُ. وَقَالَ لِي يَوْمًا: يَا بُنَيَّ! إِذَا رَأَيْتَنِي قَدْ لَبِسْتُ ثِيَابِي، أَوْ رَجَعْتُ مِنْ مَجْلِسِي فَلَا يَدْنُوَنَّ مِنِّي مِنْكُمْ أَحَدٌ مَخَافَةَ أَنْ أَغُرَّهُ بِشَيْءٍ. قَالَ: وَلَمْ يُرَ فِي دَارِ الْمَنْصُورِ لَهْوٌ، وَلَا شَيْءٌ يُشْبِهُ اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ وَالْعَبَثَ، إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، رُئِيَ بَعْضُ أَوْلَادِهِ وَقَدْ رَكِبَ رَاحِلَةً، وَهُوَ صَبِيٌّ، وَتَنَكَّبَ قَوْسًا فِي هَيْئَةِ الْغُلَامِ الْأَعْرَابِيِّ، بَيْنَ جُوَالِقَيْنِ فِيهِمَا مُقْلٍ وَمَسَاوِيكَ وَمَا يُهْدِيهِ الْأَعْرَابُ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْكَرُوهُ، فَعَبَرَ إِلَى الْمَهْدِيِّ بِالرُّصَافَةِ فَأَهْدَاهُ لَهُ، فَقَبِلَهُ وَمَلَأَ الْجُوَالِقَيْنِ دَرَاهِمَ، فَعَادَ بَيْنَهُمَا، فَعَلِمَ أَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ عَبَثِ الْمُلُوكِ. قَالَ حَمَّادٌ التُّرْكِيُّ: كُنْتُ وَاقِفًا عَلَى رَأْسِ الْمَنْصُورِ، فَسَمِعَ جَلَبَةً، فَقَالَ: انْظُرْ مَا هَذَا! فَذَهَبْتُ فَإِذَا خَادِمٌ لَهُ قَدْ جَلَسَ حَوْلَهُ الْجَوَارِي، وَهُوَ يَضْرِبُ لَهُنَّ بِالطُّنْبُورِ، وَهُنَّ يَضْحَكْنَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ الطُّنْبُورُ؟ ، فَوَصَفْتُهُ لَهُ، فَقَالَ: مَا يُدْرِيكَ أَنْتَ مَا الطُّنْبُورُ؟ قُلْتُ: رَأَيْتُهُ بِخُرَاسَانَ. فَقَامَ وَمَشَى إِلَيْهِنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ تَفَرَّقْنَ، فَأَمَرَ بِالْخَادِمِ فَضُرِبَ رَأْسُهُ بِالطُّنْبُورِ، حَتَّى تَكَسَّرَ الطُّنْبُورُ، وَأَخْرَجَ الْخَادِمَ فَبَاعَهُ. قَالَ: وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدِ اسْتَعْمَلَ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ عَلَى الْيَمَنِ، لِمَا بَلَغَهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ هُنَاكَ، فَسَارَ إِلَيْهِ وَأَصْلَحَهُ، وَقَصَدَهُ النَّاسُ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ لِاشْتِهَارِ جُودِهِ، فَفَرَّقَ فِيهِمُ الْأَمْوَالَ، فَسَخِطَ عَلَيْهِ الْمَنْصُورُ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ وَفْدًا مِنْ قَوْمِهِ، فِيهِمْ مُجَّاعَةُ بْنُ الْأَزْهَرِ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الْمَنْصُورِ لِيُزِيلُوا غَيْظَهُ وَغَضَبَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمَنْصُورِ ابْتَدَأَ مُجَّاعَةُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَذِكْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَطْنَبَ فِي ذَلِكَ حَتَّى عَجِبَ الْقَوْمُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَنْصُورَ وَمَا شَرَّفَهُ اللَّهُ بِهِ، وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ صَاحِبَهُ. فَلَمَّا انْقَضَى كَلَامُهُ قَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ حَمْدِ اللَّهِ، فَاللَّهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ تَبْلُغَهُ الصِّفَاتُ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ فَضَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَكْثَرَ مِمَّا قُلْتَ، وَأَمَّا مَا

وَصَفْتَ بِهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ فَضَّلَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَهُوَ مُعِينُهُ عَلَى طَاعَتِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صَاحِبِكَ، فَكَذَبْتَ وَلَؤُمْتَ، اخْرُجْ، فَلَا يُقْبَلُ مَا ذَكَرْتَهُ. فَلَمَّا صَارُوا بِآخِرِ الْأَبْوَابِ أَمَرَ بِرَدِّهِ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: مَا قُلْتَ؟ فَأَعَادَهُ عَلَيْهِ، فَأُخْرِجُوا، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ، فَأُوقِفُوا، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى مَنْ حَضَرَ مِنْ مُضَرَ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ فِيكُمْ مِثْلَ هَذَا؟ وَاللَّهِ لَقَدْ تَكَلَّمَ حَتَّى حَسَدْتُهُ، وَمَا مَنَعَنِي أَنْ أُتِمَّ عَلَى رَدِّهِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ حَسَدَهُ لِأَنَّهُ مِنْ رَبِيعَةَ، وَمَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ رُجَلًا أَرْبَطَ جَأْشًا، وَلَا أَظْهَرَ بَيَانًا، رُدَّهُ يَا غُلَامُ. فَلَمَّا صَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: اقْصِدْ لِحَاجَتِكَ! قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ عَبْدُكَ، وَسَيْفُكَ، وَسَهْمُكَ، رَمَيْتَ بِهِ عَدُوَّكَ، فَضَرَبَ، وَطَعَنَ، وَرَمَى حَتَّى سَهَّلَ مَا حَزُنَ، وَذَلَّ مَا صَعُبَ، وَاسْتَوَى مَا كَانَ مُعْوَجًّا مِنَ الْيَمَنِ، فَأَصْبَحُوا مِنْ خَوَلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَنَةٌ مِنْ سَاعٍ، أَوْ وَاشٍ، فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالْفَضْلِ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَنْ أَفْنَى عُمُرَهُ فِي طَاعَتِهِ. فَقَبِلَ عُذْرَهُ وَأَمَرَ بِصَرْفِهِمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَرَأَ مَعْنٌ الْكِتَابَ بِالرِّضَا، قَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَشَكَرَ أَصْحَابَهُ، وَأَجَازَهُمْ عَلَى أَقْدَارِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالرَّحِيلِ إِلَى الْمَنْصُورِ. فَقَالَ مُجَّاعَةُ: آلَيْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ وَائِلٍ قَسَمًا ... أَلَّا أَبِيعَكَ يَا مَعْنُ بِأَطْمَاعِ يَا مَعْنُ! إِنَّكَ قَدْ أَوْلَيْتَنِي نِعَمًا ... عَمَّتْ لُحَيْمًا وَخَصَّتْ آلَ مُجَّاعِ فَلَا أَزَالُ إِلَيْكَ الدَّهْرَ مُنْقَطِعًا ... حَتَّى يُشَيِّدَ بِهُلْكِي هَتْفُهُ النَّاعِي. وَكَانَ [مِنْ] نِعَمِ مَعْنٍ عَلَى مُجَّاعَةَ أَنَّهُ قَضَى لَهُ ثَلَاثَ حَوَائِجَ مِنْهَا: أَنَّهُ كَانَ يَتَعَشَّقُ جَارِيَةً مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مَعْنٍ، اسْمُهَا زَهْرَاءُ، فَطَلَبَهَا، فَلَمْ يُجِبْهُ لِفَقْرِهِ، فَطَلَبَهَا مِنْ مَعْنٍ، فَأَحْضَرَ أَبَاهَا، فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأَمْهَرَهَا مِنْ عِنْدِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ حَائِطًا بِعَيْنِهِ، فَاشْتَرَاهُ لَهُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ اسْتَوْهَبَ مِنْهُ شَيْئًا، فَوَهَبَ لَهُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ تَمَامَ مِائَةِ أَلْفٍ. قِيلَ: وَكَانَ الْمَنْصُورُ يَقُولُ: مَا أَحْوَجَنِي أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِي أَرْبَعَةُ نَفَرٍ لَا يَكُونُ عَلَى بَابِي أَعَفَّ مِنْهُمْ، هُمْ أَرْكَانُ الدَّوْلَةِ وَلَا يَصْلُحُ الْمُلْكُ إِلَّا بِهِمْ، أَمَّا أَحَدُهُمْ فَقَاضٍ

لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَالْآخَرُ صَاحِبُ شُرْطَةٍ يُنْصِفُ الضَّعِيفَ مِنَ الْقَوِيِّ، وَالثَّالِثُ صَاحِبُ خَرَاجٍ يَسْتَقْصِي وَلَا يَظْلِمُ الرَّعِيَّةَ. ثُمَّ عَضَّ عَلَى إِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: آهٍ آهٍ. قِيلَ: مَا هُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: صَاحِبُ بَرِيدٍ يَكْتُبُ خَبَرَ هَؤُلَاءِ عَلَى الصِّحَّةِ. وَقِيلَ: دَعَا الْمَنْصُورُ بِعَامِلٍ قَدْ كَسَرَ خَرَاجَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَدِّ مَا عَلَيْكَ! فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ شَيْئًا. وَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ! فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَبْ مَا عَلَيَّ لِلَّهِ وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَخَلَّى سَبِيلَهُ. وَقِيلَ: وَأُتِيَ بِعَامِلٍ، فَحَبَسَهُ وَطَالَبَهُ، فَقَالَ الْعَامِلُ: عَبْدُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: بِئْسَ الْعَبْدُ أَنْتَ! فَقَالَ: لَكِنَّكَ نِعْمَ الْمَوْلَى. قَالَ: أَمَّا لَكَ فَلَا. قِيلَ: وَأُتِيَ بِخَارِجِيٍّ قَدْ هَزَمَ لَهُ جُيُوشًا، فَأَرَادَ ضَرْبَ رَقَبَتِهِ، ثُمَّ ازْدَرَاهُ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْفَاعِلَةِ! مِثْلُكَ يَهْزِمُ الْجُيُوشَ؟ ! فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ وَسَوْأَةً لَكَ أَمْسِ، بَيْنِي وَبَيْنَكَ السَّيْفُ، وَالْيَوْمَ الْقَذْفُ وَالسَّبُّ، وَمَا كَانَ يُؤَمِّنُكَ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ وَقَدْ يَئِسْتُ مِنَ الْحَيَاةِ فَلَا تَسْتَقِيلُهَا أَبَدًا؟ فَاسْتَحْيَا مِنْهُ الْمَنْصُورُ وَأَطْلَقَهُ. قِيلَ: وَكَانَ شَغْلُ الْمَنْصُورِ، فِي صَدْرِ نَهَارِهِ، بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوِلَايَاتِ، وَالْعَزْلِ، وَشَحْنِ الثُّغُورِ وَالْأَطْرَافِ، وَأَمْنِ السُّبُلِ، وَالنَّظَرِ فِي الْخَرَاجِ وَالنَّفَقَاتِ، وَمَصْلَحَةِ مَعَاشِ الرَّعِيَّةِ، وَالتَّلَطُّفِ بِسُكُونِهِمْ وَهَدْيِهِمْ، فَإِذَا صَلَّى الْعَصْرَ جَلَسَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ. فَإِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ جَلَسَ يَنْظُرُ فِيمَا وَرَدَ مِنْ كُتُبِ الثُّغُورِ وَالْأَطْرَافِ وَالْآفَاقِ، وَشَاوَرَ سُمَّارَهُ، فَإِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ (قَامَ إِلَى فِرَاشِهِ، وَانْصَرَفَ سُمَّارُهُ، وَإِذَا مَضَى الثُّلُثُ الثَّانِي قَامَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيَجْلِسُ فِي إِيوَانِهِ.

قِيلَ: وَقَالَ لِلْمَهْدِيِّ: لَا تُبْرِمْ أَمْرًا حَتَّى تُفَكِّرَ فِيهِ، فَإِنَّ فِكْرَ الْعَاقِلِ مِرْآتُهُ تُرِيهِ حَسَنَهُ وَسَيِّئَهُ. يَا بُنَيَّ! لَا يَصْلُحُ السُّلْطَانُ إِلَّا بِالتَّقْوَى، وَلَا تَصْلُحُ رَعِيَّتُهُ إِلَّا بِالطَّاعَةِ، وَلَا تَعْمُرُ الْبِلَادُ بِمِثْلِ الْعَدْلِ، وَأَقْدَرُ النَّاسِ عَلَى الْعَفْوِ أَقْدَرُهُمْ عَلَى الْعُقُوبَةِ، وَأَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ ظَلَمَ مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَاعْتَبِرْ عَمَلَ صَاحِبِكَ وَعِلْمَهُ بِاخْتِبَارِهِ. يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! لَا تَجْلِسْ مَجْلِسًا إِلَّا وَمَعَكَ مِنْ [أَهْلِ] الْعِلْمِ مَنْ يُحَدِّثُكَ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ أَحْسَنَ السِّيرَةَ، وَمَنْ أَبْغَضَ الْحَمْدَ أَسَاءَهَا، وَمَا أَبْغَضَ الْحَمْدَ أَحَدٌ إِلَّا اسْتُذِمَّ، وَمَا اسْتُذِمَّ إِلَّا كُرِهَ. يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! لَيْسَ الْعَاقِلُ الَّذِي يَحْتَالُ لِلْأَمْرِ الَّذِي غَشِيَهُ، بَلِ الْعَاقِلُ الَّذِي يَحْتَالُ لِلْأَمْرِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِيهِ. وَقَالَ لِلْمَهْدِيِّ يَوْمًا: كَمْ رَايَةً عِنْدَكَ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ: (هَذَا وَاللَّهِ التَّضْيِيعُ، وَأَنْتَ) لِأَمْرِ الْخِلَافَةِ أَشَدُّ تَضْيِيعًا، وَلَكِنْ قَدْ جَمَعْتُ لَكَ مَا لَا يَضُرُّكَ مَعَهُ مَا ضَيَّعْتَ، فَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا خَوَّلَكَ. قِيلَ: وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ يَتَكَلَّمُ فَيَبْلُغُ حَاجَتَهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ، غَيْرُ الْمَنْصُورِ، وَأَخِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَمِّهِمَا دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ. قِيلَ: وَخَطَبَ الْمَنْصُورُ يَوْمًا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، وَأُؤْمِنُ بِهِ، وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. فَاعْتَرَضَهُ إِنْسَانٌ فَقَالَ: أَيُّهَا الْإِنْسَانُ أُذَكِّرُكَ مَنْ ذَكَّرْتَ بِهِ! فَقَطَعَ الْخُطْبَةَ، ثُمَّ قَالَ: سَمْعًا، سَمْعًا لِمَنْ حَفِظَ عَنِ اللَّهِ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ جَبَّارًا عَنِيدًا، أَوْ تَأْخُذُنِي الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ. وَأَنْتَ أَيُّهَا الْقَائِلُ، فَوَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ بِهَذَا الْقَوْلِ اللَّهَ، وَلَكِنَّكَ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ قَامَ، فَقَالَ، فَعُوقِبَ، فَصَبَرَ، وَأَهْوَنَ بِهَا، وَيْلَكَ، لَقَدْ هَمَمْتُ، وَاغْتَنِمْهَا إِذْ عَفَوْتُ، وَإِيَّاكَ، وَإِيَّاكُمْ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ أُخْتَهَا، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ عَلَيْنَا نُزِّلَتْ، وَمِنْ عِنْدِنَا فُصِّلَتْ، فَرُدُّوا الْأَمْرَ إِلَى أَهْلِهِ، تُورِدُوهُ مَوَارِدَهُ، وَتُصْدِرُوهُ مَصَادِرَهُ.

ثُمَّ عَادَ إِلَى خُطْبَتِهِ، كَأَنَّمَا يَقْرَأُهَا، فَقَالَ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَاعِدٍ: خَطَبَ الْمَنْصُورُ بِمَكَّةَ، بَعْدَ بِنَاءِ بَغْدَاذَ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] . أَمْرٌ مُبْرَمٌ، وَقَوْلٌ عَدْلٌ، وَقَضَاءٌ فَصْلٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَفْلَجَ حُجَّتَهُ، وَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْكَعْبَةَ غَضًّا، وَالْفَيْءَ إِرْثًا وَ {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91] ، لَقَدْ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، فَكَمْ مِنْ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ، وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَهْمَلَهُمُ اللَّهُ حِينَ بَدَّلُوا السُّنَّةَ، وَاضْطَهَدُوا الْعِتْرَةَ، وَعَنَدُوا، وَاعْتَدَوْا، وَاسْتَكْبَرُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] . قَالَ: وَكَتَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يَشْكُو بَعْضَ عُمَّالِهِ، فَوَقَّعَ إِلَى الْعَامِلِ فِي الرُّقْعَةِ: إِنْ آثَرْتَ الْعَدْلَ صَحِبَتْكَ السَّلَامَةُ، وَإِنْ آثَرْتَ الْجَوْرَ فَمَا أَقْرَبَكَ مِنَ النَّدَامَةِ، فَأَنْصِفْ هَذَا الْمُتَظَلِّمَ مِنَ الظُّلَامَةِ. قِيلَ: وَكَتَبَ إِلَى [الْمَنْصُورِ] صَاحِبُ أَرْمِينِيَّةَ يُخْبِرُهُ أَنَّ الْجُنْدَ قَدْ شَغَبُوا عَلَيْهِ، وَنَهَبُوا مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَوَقَّعَ فِي كِتَابِهِ: اعْتَزِلْ عَمَلَنَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، فَلَوْ عَقَلْتَ لَمْ يَشْغَبُوا، وَلَوْ قَوِيتَ لَمْ يَنْهَبُوا. وَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِهِ وَوَصَايَاهُ يَدُلُّ عَلَى فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ أَيْضًا مِنَ الْكُتُبِ وَغَيْرِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ وَاحِدَ زَمَانِهِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَبْخَلُ. وَمِمَّا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ: اسْتَزَارَنِي الْمَنْصُورُ، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خُلَّةٌ قَبْلَ الْخِلَافَةِ، فَخَلَوْنَا يَوْمًا، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! مَا لَكَ؟ قُلْتُ: الْخَبَرُ الَّذِي تَعْرِفُهُ. قَالَ: وَمَا عِيَالُكَ؟ قُلْتُ: ثَلَاثُ بَنَاتٍ، وَالْمَرْأَةُ، وَخَادِمٌ لَهُنَّ. فَقَالَ: أَرْبَعٌ فِي بَيْتِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ!

فَرَدَّدَهَا، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُعِينُنِي، ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ أَيْسَرُ الْعَرَبِ، أَرْبَعَةُ مَغَازِلَ يَدُرْنَ فِي بَيْتِكَ. قِيلَ: رُفِعَ غُلَامٌ لِأَبِي عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّ لَهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ وَقَالَ: هَذَا مَالِي. قَالَ: مِنْ أَيْنَ يَكُونُ مَالُكَ، وَوَاللَّهِ مَا وَلَّيْتُكَ عَمَلًا قَطُّ، وَلَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ رَحِمٌ وَلَا قَرَابَةٌ! قَالَ: بَلَى! [كُنْتَ] تَزَوَّجْتَ امْرَأَةً لِعُيَيْنَةَ بْنِ مُوسَى بْنِ كَعْبٍ، فَوَرَّثَتْكَ مَالًا، وَكَانَ قَدْ عَصَى بِالسِّنْدِ، [وَهُوَ وَالٍ عَلَى السِّنْدِ] ، وَأَخَذَ مَالِي فَهَذَا الْمَالُ مِنْ ذَاكَ. وَقِيلَ لِجَعْفَرٍ الصَّادِقِ: إِنَّ الْمَنْصُورَ يُكْثِرُ مِنْ لُبْسِ جُبَّةٍ هَرَوِيَّةٍ، وَإِنَّهُ يُرَقِّعُ قَمِيصَهُ. فَقَالَ جَعْفَرٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَطَفَ بِهِ، حَتَّى ابْتَلَاهُ بِفَقْرِ نَفْسِهِ فِي مُلْكِهِ. قِيلَ: وَكَانَ الْمَنْصُورُ إِذَا عَزَلَ عَامِلًا أَخَذَ مَالَهُ وَتَرَكَهُ فِي بَيْتِ مَالٍ مُفْرَدٍ سَمَّاهُ بَيْتَ مَالِ الْمَظَالِمِ، وَكَتَبَ عَلَيْهِ اسْمَ صَاحِبِهِ، وَقَالَ لِلْمَهْدِيِّ: قَدْ هَيَّأْتُ لَكَ شَيْئًا فَإِذَا أَنَا مِتُّ فَادْعُ مَنْ أَخَذْتَ مَالَهُ، فَارْدُدْهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّكَ تُسْتَحْمَدُ بِذَلِكَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى الْعَامَّةِ، فَفَعَلَ الْمَهْدِيُّ ذَلِكَ. وَلَهُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ. قِيلَ: وَذَكَرَ زَيْدٌ مَوْلَى عِيسَى بْنِ نَهِيكٍ قَالَ: دَعَانِي الْمَنْصُورُ، بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَايَ، فَسَأَلَنِي: كَمْ خَلَّفَ مِنْ مَالٍ؟ قُلْتُ: أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَنْفَقَتْهُ امْرَأَتُهُ فِي مَأْتَمِهِ. قَالَ: كَمْ خَلَّفَ مِنَ الْبَنَاتِ؟ قُلْتُ: سِتًّا، فَأَطْرَقَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: اغْدُ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ، فَأَعْطَانِي مِائَةَ أَلْفٍ وَثَمَانِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. ثُمَّ دَعَانِي الْمَنْصُورُ فَقَالَ: عُدَّ عَلَيَّ بِأَكْفَائِهِنَّ حَتَّى أُزَوِّجَهُنَّ، فَفَعَلْتُ، فَزَوَّجَهُنَّ، وَأَمَرَ أَنْ تُحْمَلَ إِلَيْهِنَّ صَدُقَاتِهِنَّ مِنْ مَالِهِ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ بِمَالِهِنَّ ضِيَاعًا لَهُنَّ يَكُونُ مَعَاشُهُنَّ مِنْهَا. قِيلَ: وَفَرَّقَ الْمَنْصُورُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَمَرَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَعْمَامِهِ مِنْهُمْ: سُلَيْمَانُ، وَعِيسَى، وَصَالِحٌ، وَإِسْمَاعِيلُ، لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِأَلْفِ أَلْفٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ وَصَلَ بِهَا.

وَلَهُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ، قَالَ يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ: مَا رَأَيْتُ رُجَلًا قَطُّ فِي حَرْبٍ، وَلَا سَمِعْتُ بِهِ فِي سِلْمٍ أَنْكَرَ، وَلَا أَمْكَرَ، وَلَا أَشَدَّ تَيَقُظًّا مِنَ الْمَنْصُورِ. لَقَدْ حَصَرَنِي تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَمَعِي فُرْسَانُ الْعَرَبِ، فَجَهَدْنَا بِكُلِّ الْجُهْدِ أَنْ نَنَالَ مِنْ عَسْكَرِهِ شَيْئًا، فَمَا تَهَيَّأَ، وَلَقَدْ حَصَرَنِي وَمَا فِي رَأْسِي شَعْرَةٌ بَيْضَاءُ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ وَمَا فِي رَأْسِي شَعْرَةٌ سَوْدَاءُ. قِيلَ: وَأَرْسَلَ ابْنُ هُبَيْرَةَ إِلَى الْمَنْصُورِ، وَهُوَ مُحَاصِرُهُ، يَدْعُو إِلَى الْمُبَارَزَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّكَ مُتَعَدٍّ طَوْرَكَ، جَارٍ فِي عِنَانِ غَيِّكَ، يَعِدُكَ اللَّهُ مَا هُوَ مُصَدِّقُهُ، وَيُمَنِّيكَ الشَّيْطَانُ مَا هُوَ مُكَذِّبُهُ، وَيُقَرِّبُ مَا اللَّهُ مُبَاعِدُهُ، فَرُوَيْدًا يُتِمُّ الْكِتَابَ أَجَلَهُ.، وَقَدْ ضَرَبْتُ مَثَلِي وَمَثَلَكَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَسَدًا لَقِيَ خِنْزِيرًا، فَقَالَ لَهُ الْخِنْزِيرُ: قَاتِلْنِي! فَقَالَ الْأَسَدُ: إِنَّمَا أَنْتَ خِنْزِيرٌ، وَلَسْتَ بِكُفْؤٍ لِي وَلَا نَظِيرٍ، وَمَتَى قَاتَلْتُكَ فَقَتَلْتُكَ قِيلَ لِي: قَتَلَ خِنْزِيرًا، فَلَا أَعْتَقِدُ فَخْرًا، وَلَا ذِكْرًا، وَإِنْ نَالَنِي مِنْكَ شَيْءٌ كَانَ سُبَّةً عَلَيَّ. فَقَالَ الْخِنْزِيرُ: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ أَعْلَمْتُ السِّبَاعَ أَنَّكَ نَكَلْتَ عَنِّي، فَقَالَ الْأَسَدُ: احْتِمَالُ عَارِ كَذِبِكَ عَلَيَّ أَيْسَرُ مِنْ لَطْخِ شَرَابِي بِدَمِكَ. قِيلَ: وَكَانَ الْمَنْصُورُ أَوَّلَ مَنْ عَمِلَ الْخَيْشَ، فَإِنَّ الْأَكَاسِرَةَ كَانُوا يُطَيِّنُونَ كُلَّ يَوْمٍ بَيْتًا يَسْكُنُونَ فِي الصَّيْفِ، وَكَذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ. قِيلَ: وَأُتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ: إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ أَشْيَاءَ، فَاصْدُقْنِي وَلَكَ الْأَمَانُ. قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: مِنْ أَيْنَ أُتِيَ بَنُو أُمَيَّةَ؟ قَالَ: مِنْ تَضْيِيعِ الْأَخْبَارِ. قَالَ: فَأَيُّ الْأَمْوَالِ وَجَدُوهَا أَنْفَعَ؟ قَالَ: الْجَوْهَرُ. قَالَ: فَعِنْدَ مَنْ وَجَدُوا الْوَفَاءَ؟ قَالَ: عِنْدَ مَوَالِيهِمْ، فَأَرَادَ الْمَنْصُورُ أَنْ يَسْتَعِينَ فِي الْأَخْبَارِ بِأَهْلِ بَيْتِهِ، فَقَالَ: اضَعُ مِنْهُمْ، فَاسْتَعَانَ بِمَوَالِيهِ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمَهْدِيِّ وَالْبَيْعَةِ لَهُ ذِكْرُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّوْفَلِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ حَاجًّا، فَاجْتَمَعْتُ بِالْمَنْصُورِ بِذَاتِ عِرْقٍ، فَكُنْتُ أُسَلِّمُ عَلَيْهِ كُلَّمَا رَكِبَ، وَقَدْ أَشَفَى عَلَى الْمَوْتِ، فَلَمَّا صَارَ

بِبِئْرِ مَيْمُونٍ وَنَزَلَ بِهِ، وَدَخَلْنَا مَكَّةَ، فَقَضَيْتُ عُمْرَتِي، وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، وَلَمْ نَعْلَمْ، صَلَّيْتُ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ، وَرَكِبْتُ أَنَا وَمُحَمَّدُ بْنُ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانَ مِنْ مَشَايِخِ بَنِي هَاشِمٍ وَسَادَتِهِمْ، فَلَمَّا صِرْنَا بِالْأَبْطَحِ لَقِينَا الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ فِي خَيْلٍ إِلَى مَكَّةَ، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِمَا وَمَضَيْنَا، فَقُلْتُ لِمُحَمَّدٍ: أَحْسَبُ الرَّجُلَ قَدْ مَاتَ، فَكَانَ كَذَلِكَ. ثُمَّ أَتَيْنَا الْعَسْكَرَ، فَإِذَا مُوسَى بْنُ الْمَهْدِيِّ قَدْ صَدَرَ عِنْدَ عَمُودِ السُّرَادِقِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ الْمَنْصُورِ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ السُّرَادِقِ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَسِيرُ بَيْنَ الْمَنْصُورِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ، وَرَفَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ الْقِصَصَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَلِمْتُ أَنَّ الْمَنْصُورَ قَدْ مَاتَ. وَأَقْبَلَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ الْعُلْوِيُّ، وَجَاءَ النَّاسُ حَتَّى مَلَئُوا السُّرَادِقَ، وَسَمِعَنَا هَمْسًا مِنْ بُكَاءٍ، وَخَرَجَ أَبُو الْعَنْبَرِ، خَادِمُ الْمَنْصُورِ، مُشَقَّقَ الْأَقْبِيَةِ، وَعَلَى رَأْسِهِ التُّرَابُ، وَصَاحَ: وَاأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَاهُ! فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ، ثُمَّ تَقَدَّمُوا لِيَدْخُلُوا عَلَيْهِ، فَمَنَعَهُمُ الْخَدَمُ. وَقَالَ ابْنُ عَيَّاشٍ الْمَنْتُوفُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَمَا شَهِدْتُمْ مَوْتَ خَلِيفَةٍ قَطُّ؟ اجْلِسُوا، فَجَلَسُوا، وَقَامَ الْقَاسِمُ فَشَقَّ ثِيَابَهُ، وَوَضَعَ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، وَمُوسَى عَلَى حَالِهِ. ثُمَّ خَرَجَ الرَّبِيعُ وَفِي يَدِهِ قِرْطَاسٌ، فَفَتَحَهُ، فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنْصُورِ، أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى مَنْ خَلَّفَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَشِيعَتِهِ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، وَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ بَكَى، وَبَكَى النَّاسُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَمْكَنَكُمُ الْبُكَاءُ، فَأَنْصِتُوا، رَحِمَكُمُ اللَّهُ. ثُمَّ قَرَأَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي كَتَبْتُ كِتَابِي هَذَا، وَأَنَا حَيٌّ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، أَقْرَأُ عَلَيْكَمُ السَّلَامَ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَفْتِنَكُمْ بَعْدِي وَلَا يُلْبِسَكُمْ شِيَعًا، وَلَا يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ. ثُمَّ أَخَذَ فِي وَصِيَّتِهِمْ بِالْمَهْدِيِّ، وَإِذْكَارِهِمُ الْبَيْعَةَ لَهُ، وَحَثِّهِمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ، ثُمَّ تَنَاوَلَ يَدَ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ وَقَالَ: قُمْ فَبَايِعْ! فَقَامَ إِلَى مُوسَى فَبَايَعَهُ، ثُمَّ بَايَعَهُ النَّاسُ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، ثُمَّ أَدْخَلَ بَنُو هَاشِمٍ عَلَى الْمَنْصُورِ وَهُوَ فِي أَكْفَانِهِ، مَكْشُوفَ الرَّأْسِ، فَحَمَلْنَاهُ، حَتَّى أَتَيْنَا بِهِ مَكَّةَ ثَلَاثَ أَمْيَالٍ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَالرِّيحُ تُحَرِّكُ شَعْرَ صُدْغَيْهِ،

وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ وَفَّرَ شَعَرَهُ لِلْحَلْقِ، وَقَدْ نَصَلَ خِضَابُهُ، حَتَّى أَتَيْنَا بِهِ حُفْرَتَهُ. وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ ارْتَفَعَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ أَنَّ عِيسَى بْنَ مُوسَى أَبَى الْبَيْعَةَ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ: وَاللَّهِ لَتُبَايِعَنَّ أَوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ! فَبَايَعَ. ثُمَّ وَجَّهَ مُوسَى بْنَ الْمَهْدِيِّ وَالرَّبِيعَ إِلَى الْمَهْدِيِّ بِخَبَرِ وَفَاةِ الْمَنْصُورِ، وَبِالْبَيْعَةِ لَهُ مَعَ مَنَارَةَ مَوْلَى الْمَنْصُورِ، وَبَعَثَا أَيْضًا بِالْقَضِيبِ، وَبُرْدَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِخَاتَمِ الْخِلَافَةِ، وَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ، فَقَدِمَ الْخَبَرُ عَلَى الْمَهْدِيِّ مَعَ مَنَارَةَ، مُنْتَصَفَ ذِي الْحِجَّةِ، فَبَايَعَهُ أَهْلُ بَغْدَاذَ. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّبِيعَ كَتَمَ مَوْتَ الْمَنْصُورِ، وَأَلْبَسَهُ، وَسَنَّدَهُ، وَجَعَلَ عَلَى وَجْهِهِ كَلَّةً خَفِيفَةً يُرَى شَخْصُهُ مِنْهَا، وَلَا يُفْهَمُ أَمْرُهُ، وَأَدْنَى أَهْلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ قَرَّبَ مِنْهُ الرَّبِيعَ كَأَنَّهُ يُخَاطِبُهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُمْ عَنْهُ بِتَجْدِيدِ الْبَيْعَةِ لِلْمَهْدِيِّ، فَبَايَعُوا، ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ بَاكِيًا مُشَقَّقَ الْجَيْبِ، لَاطِمًا رَأْسَهُ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَهْدِيَّ أَنْكَرَهُ عَلَى الرَّبِيعِ، وَقَالَ: أَمَا مَنَعَتْكَ جَلَالَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ فَعَلْتَ بِهِ مَا فَعَلْتَ؟ وَقِيلَ ضَرَبَهُ، وَلَمْ يُضْحِ ضَرْبَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْمَنْصُورُ الْمُسَيَّبَ بْنَ زُهَيْرٍ عَنْ شُرْطَتِهِ، وَحَبَسَهُ مُقَيَّدًا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ ضَرَبَ أَبَانَ بْنَ بَشِيرٍ الْكَاتِبَ بِالسِّيَاطِ، حَتَّى قَتَلَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ شَرِيكَ أَخِيهِ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ فِي وِلَايَةِ الْكُوفَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى شُرْطَتِهِ الْحَكَمَ بْنَ يُوسُفَ، صَاحِبَ الْحِرَابِ، ثُمَّ كَلَّمَ الْمَهْدِيُّ أَبَاهُ فِي الْمُسَيَّبِ، فَرَضِيَ عَنْهُ، وَأَعَادَهُ إِلَى شُرْطَتِهِ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الْمَنْصُورُ نَصْرَ بْنَ حَرْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى فَارِسَ. وَفِيهَا عَادَ الْمَهْدِيُّ مِنَ الرَّقَّةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.

وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مَعْيُوفُ بْنُ يَحْيَى مِنْ دَرْبِ الْحَدَثِ، فَلَقِيَ الْعَدُوَّ، فَاقْتَتَلُوا، ثُمَّ تَحَاجَزُوا. وَفِيهَا حَبَسَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ، وَهُوَ أَمِيرُ مَكَّةَ، جَمَاعَةً أَمَرَ الْمَنْصُورُ بِحَبْسِهِمْ، وَهُمْ رَجُلٌ مِنْ آلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَانَ بِمَكَّةَ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَعَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، ثُمَّ أَطْلَقَهُمْ مِنَ الْحَبْسِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَنْصُورِ، فَغَضِبَ. وَكَانَ سَبَبُ إِطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ أَنْكَرَ، وَقَالَ: عَمَدْتَ إِلَى ذِي رَحِمٍ فَحَبَسْتَهُ، يَعْنِي بَعْضَ وَلَدِ عَلِيٍّ، وَإِلَى نَفَرٍ مِنْ أَعْلَامِ الْمُسْلِمِينَ فَحَبَسْتَهُمْ، وَتَقْدُمُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَعَلَّهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِهِمْ، فَيَشُدُّ سُلْطَانَهُ، وَأَهْلَكَ فَأَطْلِقْهُمْ، وَتَحَلَّلْ مِنْهُمْ، فَلَمَّا قَارَبَ الْمَنْصُورُ مَكَّةَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بِهَدَايَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِ. (وَفِيهَا شَخَصَ الْمَنْصُورُ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى مَكَّةَ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهَا) . وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، مَدِينَةَ قُورِيَّةَ، وَقَصَدَ الْبَرْبَرَ الَّذِينَ كَانُوا أَسْلَمُوا عَامِلَهُ إِلَى شَقْنَا فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا مِنْ أَعْيَانِهِمْ، وَاتَّبَعَ شَقْنَا، حَتَّى جَاوَزَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ وَالدَّرْبَ، فَفَاتَهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أُورَالِي مَلِكُ جِلِّيقِيَّةَ، وَكَانَ مُلْكُهُ سِتَّ سِنِينَ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ شِيَالُونَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، الْفَقِيهُ الْبَجَلِيُّ بِالْكُوفَةِ، وَحَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحِ بْنِ مُسْلِمٍ الْحَضْرَمِيُّ (الْمِصْرِيُّ) . وَكَانَ الْعَامِلَ عَلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،

وَعَلَى الْمَدِينَةِ: عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى الْكُوفَةِ: عَمْرُو بْنُ زُهَيْرٍ الضَّبِّيُّ، وَقِيلَ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الثَّقَفِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا: شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيُّ، وَعَلَى خَرَاجِهَا ثَابِتُ بْنُ مُوسَى. وَعَلَى خُرَاسَانَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَعَلَى قَضَاءِ بَغْدَاذَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَفْوَانَ، وَعَلَى الشُّرْطَةِ بِهَا: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخُو عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقِيلَ مُوسَى بْنُ كَعْبٍ، وَعَلَى خَرَاجِ الْبَصْرَةِ وَأَرْضِهَا عُمَارَةُ بْنُ حَمْزَةَ، وَعَلَى قَضَائِهَا وَالصَّلَاةِ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ. وَأَصَابَ النَّاسَ هَذِهِ السَّنَةَ وَبَاءٌ عَظِيمٌ.

ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَة] 159 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَوَّلَ الْمَهْدِيُّ الْحَسَنَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ مَحْبِسِهِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَحْبُوسًا مَعَ يَعْقُوبَ بْنِ دَاوُدَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا أُطْلِقَ يَعْقُوبُ وَبَقِيَ هُوَ سَاءَ ظَنُّهُ، فَالْتَمَسَ مَخْرَجًا، فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، فَحَفَرَ سِرْبًا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ يَعْقُوبَ، فَأَتَى ابْنَ عُلَاثَةَ الْقَاضِي، وَكَانَ قَدِ اتَّصَلَ بِهِ، فَقَالَ: عِنْدِي نَصِيحَةٌ لِلْمَهْدِيِّ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ إِيصَالَهُ إِلَى أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ وَزِيرِهِ، لِيَرْفَعَهَا إِلَيْهِ، فَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ، فَلَمَّا سَأَلَهُ عَنْ نَصِيحَتِهِ، سَأَلَهُ عَنْ إِيصَالِهِ إِلَى الْمَهْدِيِّ لِيُعْلِمَهُ بِهَا، فَأَوْصَلَهُ إِلَيْهِ، فَاسْتَخْلَاهُ، فَأَعْلَمَهُ الْمَهْدِيُّ ثِقَتَهُ بِوَزِيرِهِ وَابْنِ عُلَاثَةَ، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، حَتَّى قَامَا، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ الْحَسَنِ، فَأَنْفَذَ مَنْ يَثِقُ بِهِ، فَأَتَاهُ بِتَحْقِيقِ الْحَالِ، فَأَمَرَ بِتَحْوِيلِ الْحَسَنِ، فَحُوِّلَ. ثُمَّ احْتِيلَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ، فَهَرَبَ وَطُلِبَ، فَلَمْ يُظْفَرْ بِهِ، فَأَحْضَرَ الْمَهْدِيُّ يَعْقُوبَ وَسَأَلَهُ عَنْهُ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَكَانَهُ، وَأَنَّهُ إِنْ أَعْطَاهُ الْأَمَانَ أَتَاهُ بِهِ فَآمَنَهُ وَضَمِنَ لَهُ الْإِحْسَانَ، فَقَالَ لَهُ: اتْرُكْ طَلَبَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُوحِشُهُ، فَتَرَكَ طَلَبَهُ. ثُمَّ إِنَّ يَعْقُوبَ تَقَدَّمَ عِنْدَ الْمَهْدِيِّ، فَأُحْضِرَ الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَهُ. ذِكْرُ تَقَدُّمِ يَعْقُوبَ عِنْدَ الْمَهْدِيِّ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وُصُولِهِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَحْضَرَهُ الْمَهْدِيُّ عِنْدَهُ فِي أَمْرِ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّكَ قَدْ بَسَطْتَ عَدْلَكَ لِرَعِيَّتِكَ، وَأَنْصَفْتَهُمْ، وَأَحْسَنْتَ إِلَيْهِمْ، فَعَظُمَ رَجَاؤُهُمْ، وَقَدْ بَقِيَتْ أَشْيَاءُ لَوْ ذَكَرْتُهَا لَكَ لَمْ تَدَعِ النَّظَرَ فِيهَا، وَأَشْيَاءُ خَلْفَ بَابِكَ تَعْمَلُ فِيهَا وَلَا تَعْلَمُ بِهَا، فَإِنْ جَعَلْتَ إِلَيَّ السَّبِيلَ إِلَيْكَ وَرَفَعْتُهَا.

فَأَمَرَ بِذَلِكَ، فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ كُلَّمَا أَرَادَ، وَيَرْفَعُ إِلَيْهِ النَّصَائِحَ فِي الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ الْجَمِيلَةِ، مِنْ أَمْرِ الثُّغُورِ، وَبِنَاءِ الْحُصُونِ، وَتَقْوِيَةِ الْغُزَاةِ وَتَزْوِيجِ الْعُزَّابِ، وَفِكَاكِ الْأَسْرَى وَالْمَحْبُوسِينَ، وَالْقَضَاءِ عَنِ الْغَارِمِينَ، وَالصَّدَقَةِ عَلَى الْمُتَعَفِّفِينَ، فَحَظِيَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ، وَعَلَتْ مَنْزِلَتُهُ، حَتَّى سَقَطَتْ مَنْزِلَةُ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ، وَحُبِسَ، وَكَتَبَ الْمَهْدِيُّ تَوْقِيعًا قَدِ اتَّخَذَهُ أَخًا فِي اللَّهِ، وَوَصَلَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ. ذِكْرُ ظُهُورِ الْمُقَنَّعِ بِخُرَاسَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبْلَ مَوْتِ حُمَيْدِ بْنِ قَحْطَبَةَ، ظَهَرَ الْمُقَنَّعُ بِخُرَاسَانَ، وَكَانَ رُجَلًا أَعْوَرَ، قَصِيرًا، مِنْ أَهْلِ مَرْوٍ، وَيُسَمَّى حَكِيمًا، وَكَانَ اتَّخَذَ وَجْهًا مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَهُ عَلَى وَجْهِهِ لِئَلَّا يُرَى، فَسُمِّيَ الْمُقَنَّعَ وَادَّعَى الْأُلُوهِيَّةَ، وَلَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ إِلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ، فَتَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ، ثُمَّ فِي صُورَةِ نُوحٍ، وَهَكَذَا هَلُمَّ جَرًّا إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى هَاشِمٍ، وَهَاشِمٌ فِي دَعْوَاهُ، هُوَ الْمُقَنَّعُ، وَيَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ، وَتَابَعَهُ خَلْقٌ مِنْ ضُلَّالِ النَّاسِ، وَكَانُوا يَسْجُدُونَ لَهُ مِنْ أَيِّ النَّوَاحِي كَانُوا، وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي الْحَرْبِ: يَا هَاشِمُ أَعِنَّا. وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَتَحَصَّنُوا فِي قَلْعَةِ بَسْنَامَ، وَسَنْجَرْدَةَ، وَهِيَ مِنْ رَسَاتِيقِ كِشَّ، وَظَهَرَتِ الْمُبَيِّضَةُ بِبُخَارَى وَالصُّغْدِ مُعَاوِنِينَ لَهُ، وَأَعَانَهُ كُفَّارُ الْأَتْرَاكِ، وَأَغَارُوا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ يُنْكِرُ قَتْلَ يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ، وَادَّعَى أَنَّهُ يَقْتُلُ قَاتِلِيهِ. وَاجْتَمَعُوا بَكِشَّ، وَغَلَبُوا عَلَى بَعْضِ قُصُورِهَا، وَعَلَى قَلْعَةِ نُواكِثَ، وَحَارَبَهُمْ أَبُو النُّعْمَانِ، وَالْجُنَيْدُ، وَلَيْثُ بْنُ نَصْرٍ، مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَقَتَلُوا حَسَّانَ بْنَ تَمِيمِ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ نَصْرٍ وَغَيْرَهُمَا. وَأَنْفَذَ إِلَيْهِمْ جِبْرَائِيلَ بْنَ يَحْيَى وَأَخَاهُ يَزِيدَ، فَاشْتَغَلُوا بِالْمُبَيِّضَةِ الَّذِينَ كَانُوا بِبُخَارَى، فَقَاتَلُوهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فِي مَدِينَةِ بُومِجَكْثَ، وَنَقَبَهَا عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعَمِائَةٍ، وَقَتَلَ

الْحَكَمَ، وَلَحِقَ مُنْهَزِمُوهُمْ بِالْمُقَنَّعِ، وَتَبِعَهُمْ جِبْرَائِيلُ، وَحَارَبَهُمْ. ثُمَّ سَيَّرَ الْمَهْدِيُّ أَبَا عَوْنٍ لِمُحَارَبَةِ الْمُقَنَّعِ، فَلَمْ يُبَالِغْ فِي قِتَالِهِ، وَاسْتَعْمَلَ مُعَاذَ بْنَ مُسْلِمٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْمَهْدِيُّ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْكُوفَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا إِسْحَاقَ بْنَ الصَّبَّاحِ الْكِنْدِيَّ ثُمَّ الْأَشْعَثِيَّ، وَقِيلَ عِيسَى بْنُ لُقْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ الْجُمَحِيَّ. وَفِيهَا عَزَلَ سَعِيدَ بْنَ دَعْلَجٍ عَنْ أَحْدَاثِ الْبَصْرَةِ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَاسْتَعْمَلَ مَكَانَهُمَا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ أَيُّوبَ بْنِ ظَبْيَانَ النُّمَيْرِيَّ، وَأَمَرَهُ بِإِنْصَافِ مَنْ تَظَلَّمَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ دَعْلَجٍ، ثُمَّ صُرِفَتِ الْأَحْدَاثُ فِيهَا إِلَى عُمَارَةَ بْنِ حَمْزَةَ فَوَلَّاهَا الْمِسْوَرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَاهِلِيَّ. وَفِيهَا عَزَلَ قُثَمَ بْنَ الْعَبَّاسِ عَنِ الْيَمَامَةِ، فَوَصَلَ كِتَابُ عَزْلِهِ وَقَدْ مَاتَ، وَاسْتَعْمَلَ مَكَانَهُ بِشْرَ بْنَ الْمُنْذِرِ الْبَجَلِيَّ. وَفِيهَا عَزَلَ الْهَيْثَمَ بْنَ سَعِيدٍ عَنِ الْجَزِيرَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا الْفَضْلَ بْنَ صَالِحٍ. وَفِيهَا أَعْتَقَ الْمَهْدِيُّ الْخَيْزُرَانَ أُمَّ وَلَدِهِ، وَتَزَوَّجَهَا وَتَزَوَّجَ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتَ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ أُخْتَ الْفَضْلِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ.

وَفِيهَا احْتَرَقَتِ السُّفُنُ عِنْدَ قَصْرِ عِيسَى بِبَغْدَاذَ بِمَا فِيهَا، وَاحْتَرَقَ نَاسٌ كَثِيرٌ. وَفِيهَا عُزِلَ مَطَرٌ مَوْلَى الْمَنْصُورِ عَنْ مِصْرَ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا أَبُو ضَمْرَةَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ. وَفِيهَا غَزَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِفَةَ الرُّومِيَّةَ، وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْحَسَنُ الْوَصِيفُ، فَبَلَغُوا أَنْقَرَةَ، وَفَتَحُوا مَدِينَةً لِلرُّومِ، وَمَطْمُورَةَ، وَلَمْ يُصَبْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ، وَرَجَعُوا سَالِمِينَ. وَفِيهَا وَلِيَ حَمْزَةُ بْنُ يَحْيَى سِجِسْتَانَ، وَجِبْرَائِيلُ بْنُ يَحْيَى سَمَرْقَنْدَ، فَبَنَى سُورَهَا، وَحَفَرَ خَنْدَقَهَا. وَفِيهَا عَزَلَ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْكَثِيرِيَّ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ مَكَانَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ الْجُمَحِيَّ. وَفِيهَا بَنَى الْمَهْدِيُّ سُورَ الرُّصَافَةِ وَمَسْجِدَهَا، وَحَفَرَ خَنْدَقَهَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَعْبَدُ بْنُ الْخَلِيلِ بِالسِّنْدِ، وَهُوَ عَامِلُ الْمَهْدِيِّ عَلَيْهَا، وَاسْتَعْمَلَ مَكَانَهُ رَوْحَ بْنَ حَاتِمٍ، أَشَارَ بِهِ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ وَزِيرُ الْمَهْدِيِّ. وَفِيهَا أَطْلَقَ الْمَهْدِيُّ مَنْ كَانَ فِي حُبُوسِ الْمَنْصُورِ، إِلَّا مَنْ كَانَ عِنْدَهُ تَبِعَةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ

مَالٍ، أَوْ مَنْ يَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَكَانَ فِيمَنْ أَطْلَقَ يَعْقُوبَ بْنَ دَاوُدَ، مَوْلَى بَنِي سُلَيْمٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ وَهُوَ عَلَى خُرَاسَانَ، وَاسْتَعْمَلَ الْمَهْدِيُّ بَعْدَهُ عَلَيْهَا أَبَا عَوْنٍ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَزِيدَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ يَزِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ خَالُ الْمَهْدِيِّ، عِنْدَ قُدُومِهِ مِنَ الْيَمَنِ، وَكَانَ الْمَهْدِيُّ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ وَتَوْلِيَتِهِ الْمَوْسِمَ. وَكَانَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ الْجُمَحِيَّ، وَعَلَى أَحْدَاثِ الْكُوفَةِ: إِسْحَاقُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْكِنْدِيُّ، وَعَلَى خَرَاجِهَا: ثَابِتُ بْنُ مُوسَى، وَعَلَى قَضَائِهَا: شَرِيكٌ، وَعَلَى صَلَاةِ الْبَصْرَةِ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَيُّوبَ، وَعَلَى أَحْدَاثِهَا: عُمَارَةُ بْنُ حَمْزَةَ، وَعَلَى قَضَائِهَا: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَعَلَى كُوَرِ دِجْلَةَ وَكُوَرِ الْأَهْوَازِ وَكُوَرِ فَارِسَ: (عُمَارَةُ بْنُ حَمْزَةَ) . وَعَلَى السِّنْدِ بِسْطَامُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى الْيَمَنِ رَجَاءُ بْنُ رَوْحٍ، وَعَلَى الْيَمَامَةِ بِشْرُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَلَى خُرَاسَانَ أَبُو عَوْنٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَزِيدَ، وَكَانَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ قَدْ مَاتَ فِيهَا، فَوَلَّى الْمَهْدِيُّ أَبَا عَوْنٍ. وَكَانَ عَلَى الْجَزِيرَةِ الْفَضْلُ بْنُ صَالِحٍ، وَعَلَى إِفْرِيقِيَّةَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَلَى مِصْرَ أَبُو ضَمْرَةَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ. (وَفِيهَا كَانَ شَقْنَا قَدِ انْتَشَرَ فِي نَوَاحِي شَنْتَ بَرِيَّةَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، جَيْشًا، فَفَارَقَ مَكَانَهُ، وَصَعِدَ الْجِبَالَ كَعَادَتِهِ فَعَادَ الْجَيْشُ عَنْهُ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ، الْفَقِيهُ بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ،

وَعُمُرُهُ تِسْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَيُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ الْهَمْدَانِيُّ، وَمَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ الْمِصْرِيُّ، وَحَسَنُ بْنُ وَاقِدٍ مَوْلَى ابْنِ عَامِرٍ، وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ مَرْوٍ، وَكَانَ يَشْتَرِي الشَّيْءَ مِنَ السُّوقِ فَيَحْمِلُهُ إِلَى عِيَالِهِ.

ثم دخلت سنة ستين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَمِائَةٍ] 160 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ خُرُوجِ يُوسُفَ الْبَرْمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ يُوسُفُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، الْمَعْرُوفُ بِالْبَرْمِ، بِخُرَاسَانَ، مُنْكِرًا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْمَهْدِيِّ سِيرَتَهُ الَّتِي يَسِيرُ بِهَا، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ بَشَرٌ كَثِيرٌ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ، فَلَقِيَهُ فَاقْتَتَلَا، حَتَّى صَارَا إِلَى الْمُعَانَقَةِ، فَأَسَرَهُ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْمَهْدِيِّ، وَبَعَثَ مَعَهُ وُجُوهَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا بَلَغُوا النَّهْرَوَانِ حُمِلَ يُوسُفُ عَلَى بَعِيرٍ، قَدْ حُوِّلَ وَجْهُهُ إِلَى ذَنَبِهِ، وَأَصْحَابُهُ مِثْلُهُ، فَأَدْخَلُوهُمُ الرُّصَافَةَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَقُطِعَتْ يَدَا يُوسُفَ وَرِجْلَاهُ، وَقُتِلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَصُلِبُوا عَلَى الْجِسْرِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ حَرُورِيًّا، وَتَغَلَّبَ عَلَى بُوشَنْجَ وَعَلَيْهَا مُصْعَبُ بْنُ زُرَيْقٍ، جَدُّ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَهَرَبَ مِنْهُ، وَتَغَلَّبَ أَيْضًا عَلَى مَرْوِ الرُّوذِ، وَالطَّالَقَانَ، وَالْجُوزَجَانِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَصْحَابِهِ أَبُو مُعَاذٍ الْفِرْيَابِيُّ، فَقُبِضَ مَعَهُ. ذِكْرُ خَلْعِ عِيسَى بْنِ مُوسَى وَبَيْعَةِ مُوسَى الْهَادِي كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَشِيعَةِ الْمَهْدِيِّ قَدْ خَاضُوا فِي خَلْعِ عِيسَى بْنِ مُوسَى مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَالْبَيْعَةِ لِمُوسَى الْهَادِي بْنِ الْمَهْدِيِّ، فَلَمَّا عَلِمَ الْمَهْدِيُّ بِذَلِكَ سَرَّهُ، وَكَتَبَ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِقَرْيَةِ الرُّحْبَةِ، مِنْ أَعْمَالِ الْكُوفَةِ. فَأَحَسَّ عِيسَى بِالَّذِي يُرَادُ مِنْهُ، فَامْتَنَعَ مِنَ الْقُدُومِ، فَاسْتَعْمَلَ الْمَهْدِيُّ عَلَى الْكُوفَةِ رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ، لِلْإِضْرَارِ بِهِ، فَلَمْ يَجِدْ رَوْحٌ إِلَى الْإِضْرَارِ بِهِ سَبِيلًا، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَقْرَبُ الْبَلَدَ إِلَّا كُلَّ جُمُعَةٍ أَوْ يَوْمَ عِيدٍ.

وَأَلَحَّ الْمَهْدِيُّ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنْ لَمْ تُجِبْنِي إِلَى أَنْ تَنْخَلِعَ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ لِمُوسَى اسْتَحْلَلْتُ مِنْكَ بِمَعْصِيَتِكَ مَا يُسْتَحَلُّ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي، وَإِنْ أَجَبْتَنِي عَوَّضْتُكَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمَهْدِيُّ عَمَّهُ الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ بِرِسَالَةٍ وَكِتَابٍ يَسْتَدْعِيهِ، فَلَمْ يَحْضُرْ مَعَهُ. فَلَمَّا عَادَ الْعَبَّاسُ، وَجَّهَ الْمَهْدِيُّ إِلَيْهِ أَبَا هُرَيْرَةَ مُحَمَّدَ بْنَ فَرُّوخَ الْقَائِدَ فِي أَلْفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ذَوِي الْبَصَائِرِ فِي التَّشَيُّعِ لِلْمَهْدِيِّ، وَجَعَلَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَبْلًا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوا طُبُولَهُمْ جَمِيعًا عِنْدَ قُدُومِهِمْ إِلَيْهِ، فَوَصَلُوا سَحَرًا، وَضَرَبُوا طُبُولَهُمْ، فَارْتَاعَ عِيسَى رَوْعًا شَدِيدًا، وَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَمَرَهُ بِالشُّخُوصِ مَعَهُ. (فَاعْتَلَّ بِالشَّكْوَى، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ وَأَخَذَهُ مَعَهُ) . فَلَمَّا قَدِمَ عِيسَى بْنُ مُوسَى نَزَلَ دَارَ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ فِي عَسْكَرِ الْمَهْدِيِّ فَأَقَامَ أَيَّامًا يَخْتَلِفُ إِلَى الْمَهْدِيِّ وَلَا يُكَلِّمُ بِشَيْءٍ، وَلَا يَرَى مَكْرُوهًا، فَحَضَرَ الدَّارَ يَوْمًا قَبْلَ جُلُوسِ الْمَهْدِيِّ فَجَلَسَ فِي مَقْصُورَةٍ لِلرَّبِيعِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ شِيعَةُ رُؤَسَاءِ الْمَهْدِيِّ عَلَى خَلْعِهِ، فَثَارُوا بِهِ وَهُوَ فِي الْمَقْصُورَةِ، فَأَغْلَقَ الْبَابَ دُونَهُمْ، فَضَرَبُوا الْبَابَ بِالْعَمَدِ حَتَّى هَشَّمُوهُ (وَشَتَمُوا عِيسَى أَقْبَحَ الشَّتْمِ) وَأَظْهَرَ الْمَهْدِيُّ إِنْكَارًا لِمَا فَعَلُوهُ، فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَبَقُوا فِي ذَلِكَ أَيَّامًا إِلَى أَنْ كَاشَفَهُ أَكَابِرُ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَكَانَ أَشَدَّهُمْ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ. وَأَلَحَّ عَلَيْهِ الْمَهْدِيُّ، فَأَبَى، وَذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِ أَيْمَانًا فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَأَحْضَرَ لَهُ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ عِدَّةً، مِنْهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلَاثَةَ، وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ، فَأَفْتَوْهُ بِمَا رَأَوْا، فَأَجَابَ إِلَى خَلْعِ نَفْسِهِ، فَأَعْطَاهُ الْمَهْدِيُّ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَضِيَاعًا بِالزَّابِ وَكَسْكَرَ، وَخَلَعَ نَفْسَهُ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَبَايَعَ لِلْمَهْدِيِّ وَلِابْنِهِ مُوسَى الْهَادِي. ثُمَّ جَلَسَ الْمَهْدِيُّ مِنَ الْغَدِ، وَأَحْضَرَ أَهْلَ بَيْتِهِ، وَأَخَذَ بَيْعَتَهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْجَامِعِ، وَعِيسَى مَعَهُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَأَعْلَمَهُمْ بِخَلْعِ عِيسَى وَالْبَيْعَةِ لِلْهَادِي، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَسَارَعَ النَّاسُ إِلَيْهَا، وَأَشْهَدَ عَلَى عِيسَى بِالْخَلْعِ. فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: كَرِهَ الْمَوْتَ أَبُو مُوسَى وَقَدْ ... كَانَ فِي الْمَوْتِ نَجَاةٌ وَكَرَمُ خَلَعَ الْمُلْكَ وَأَضْحَى مُلْبَسًا ... ثَوْبَ لُؤْمٍ مَا تُرَى مِنْهُ الْقَدَمُ.

(الرُّحْبَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ قَرْيَةٌ عِنْدَ الْكُوفَةِ، وَصُبِحَ: بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) . ذِكْرُ فَتْحِ مَدِينَةِ بَارْبَدَ كَانَ الْمَهْدِيُّ قَدْ سَيَّرَ، سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، جَيْشًا فِي الْبَحْرِ، وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شِهَابٍ الْمِسْمَعِيُّ إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْجُنْدِ وَالْمُتَطَوِّعَةِ، وَفِيهِمُ الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى بَارْبَدَ، فَلَمَّا نَازَلُوهَا حَصَرُوهَا مِنْ نَوَاحِيهَا. وَحَرَّضَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا عَلَى الْجِهَادِ، وَضَايَقُوا أَهْلَهَا، فَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ السَّنَةَ عَنْوَةً وَاحْتَمَى أَهْلُهَا بِالْبُدِّ الَّذِي لَهُمْ، فَأَحْرَقَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، فَاحْتَرَقَ بَعْضُهُمْ، وَقُتِلَ الْبَاقُونَ، وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ رُجَلًا، وَأَفَاءَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَهَاجَ عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ، فَأَقَامُوا إِلَى أَنْ يَطِيبَ، فَأَصَابَهُمْ مَرَضٌ فِي أَفْوَاهِهِمْ، فَمَاتَ مِنْهُمْ نَحْوٌ مِنْ أَلْفِ رَجُلٍ فِيهِمُ الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، ثُمَّ رَجَعُوا. فَلَمَّا بَلَغُوا سَاحِلًا مِنْ فَارِسَ يُقَالُ لَهُ بَحْرَ حُمْرَانَ عَصَفَتْ بِهِمُ الرِّيحُ لَيْلًا، فَانْكَسَرَ عَامَّةُ مَرَاكِبِهِمْ، فَغَرِقَ الْبَعْضُ، وَنَجَا الْبَعْضُ. قِيلَ: وَفِيهَا جُعِلَ أَبَانُ بْنُ صَدَقَةَ كَاتِبًا لِهَارُونَ الرَّشِيدِ وَوَزِيرًا لَهُ. وَفِيهَا عُزِلَ أَبُو عَوْنٍ عَنْ خُرَاسَانَ عَنْ سَخْطَةٍ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا مُعَاذُ بْنُ مُسْلِمٍ. وَفِيهَا غَزَا ثُمَامَةُ بْنُ [الْوَلِيدِ] الْعَبْسِيُّ الصَّائِفَةَ، وَغَزَا الْغَمْرُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْخَثْعَمِيُّ بَحْرَ الشَّامِ. ذِكْرُ رَدِّ نَسَبِ آلِ أَبِي بَكْرَةَ وَآلِ زِيَادٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِرَدِّ نَسَبِ آلِ أَبِي بَكْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ إِلَى وَلَاءِ

رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنْ رُجَلًا مِنْهُمْ رَفَعَ ظُلَامَتَهُ إِلَى الْمَهْدِيِّ، وَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ [فِيهَا] بِوَلَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ: إِنَّ هَذَا نَسَبٌ مَا يُقِرُّونَ بِهِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالِاضْطِرَارِ إِلَى التَّقَرُّبِ إِلَيْنَا. فَقَالَ لَهُ: مَنْ جَحَدَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّا سَنُقِرُّ، وَأَنَا أَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّنِي وَمَعْشَرَ آلِ أَبِي بَكْرَةَ إِلَى نَسَبِنَا مِنْ وَلَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَأْمُرَ بِآلِ زِيَادٍ فَيَخْرُجُوا مِنْ نَسَبِهِمُ الَّذِي أُلْحِقُوا بِهِ، وَرَغِبُوا عَنْ قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَيَرُدُّوا إِلَى عُبَيْدٍ فِي مَوَالِي ثَقِيفٍ ". فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِرَدِّ آلِ أَبِي بَكْرَةَ إِلَى وَلَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَتَبَ فِيهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بِذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ أَقَرَّ مِنْهُمْ بِذَلِكَ تَرَكَ مَالَهُ بِيَدِهِ، وَمَنْ أَبَاهُ اصْطَفَى مَالَهُ. فَعَرَضَهُمْ، فَأَجَابُوا جَمِيعًا إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا أَمَرَ بِرَدِّ نَسَبِ آلِ زِيَادٍ إِلَى عُبَيْدٍ. (وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ) . فَكَانَ الَّذِي حَمَلَ الْمَهْدِيَّ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، أَنَّ رُجَلًا مِنْ آلِ زِيَادٍ قَدِمَ عَلَيْهِ يُقَالُ لَهُ الصُّغْدِيُّ بْنُ سَلْمِ بْنِ حَرْبِ بْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: ابْنُ عَمِّكَ. فَقَالَ: أَيُّ بَنِي عَمِّي أَنْتَ؟ فَذَكَرَ نَسَبَهُ، فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: يَا ابْنَ سُمَيَّةَ الزَّانِيَةِ! مَتَّى كُنْتَ ابْنَ عَمِّي؟ وَغَضِبَ وَأَمَرَ بِهِ، فَوُجِئَ فِي عُنُقِهِ وَأُخْرِجَ. وَسَأَلَ عَنِ اسْتِلْحَاقِ زِيَادٍ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى الْعَامِلِ بِالْبَصْرَةِ بِإِخْرَاجِ آلِ زِيَادٍ مِنْ دِيوَانِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ، وَرَدَّهُمْ إِلَى ثَقِيفٍ، وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ كِتَابًا بَالِغًا، يَذْكُرُ فِيهِ اسْتِلْحَاقَ زِيَادٍ، وَمُخَالَفَةَ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ فَأُسْقِطُوا مِنْ دِيوَانِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ رَشُّوا الْعُمَّالَ، حَتَّى رَدَّهُمْ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ خَالِدٌ النَّجَّارُ: إِنَّ زِيَادًا وَنَافِعًا وَأَبَا بَكْرَةَ ... عِنْدِي مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ ذَا قُرَشِيٍّ كَمَا يَقُولُ وَذَا ... مَوْلًى وَهَذَا بِزَعْمِهِ عَرَبِي. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ الْجُمَحِيُّ، أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا مَكَانَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكَثِيرِيُّ، ثُمَّ عُزِلَ وَاسْتُعْمِلَ مَكَانَهُ زُفَرُ بْنُ عَاصِمٍ الْهِلَالِيُّ،

وَجُعِلَ عَلَى الْقَضَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الطَّلْحِيُّ. وَفِيهَا خَرَجَ عَبْدُ السَّلَامِ الْخَارِجِيُّ بِنَوَاحِي الْمَوْصِلِ. وَفِيهَا عُزِلَ بِسْطَامُ بْنُ عَمْرٍو عَنِ السِّنْدِ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْمَهْدِيُّ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَاذَ ابْنَهُ مُوسَى وَخَالَهُ يَزِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَابْنَهُ هَارُونَ الرَّشِيدَ، وَكَانَ مَعَهُ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ، فَأَتَاهُ بِمَكَّةَ بِالْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ الَّذِي كَانَ اسْتَأْمَنَ لَهُ، فَوَصَلَهُ الْمَهْدِيُّ وَأَقْطَعَهُ. وَفِيهَا نَزَعَ الْمَهْدِيُّ كُسْوَةَ الْكَعْبَةِ وَكَسَاهَا (كُسْوَةً جَدِيدَةً، وَكَانَ سَبَبُ نَزْعِهَا أَنَّ حَجَبَةَ الْكَعْبَةِ) ذَكَرُوا لَهُ أَنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَى الْكَعْبَةِ أَنْ تَتَهَدَّمَ لِكَثْرَةِ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْكُسْوَةِ، فَنَزَعَهَا. وَكَانَتْ كُسْوَةُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنَ الدِّيبَاجِ الثَّخِينِ، وَمَا قَبْلَهَا مِنْ عَمَلِ الْيَمَنِ، وَقَسَمَ مَالًا عَظِيمًا، وَكَانَ مَعَهُ مِنَ الْعِرَاقِ ثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ مِصْرَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الْيَمَنِ مِائَتَا أَلْفِ دِينَارٍ، فَفَرَّقَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَفَرَّقَ مِائَةَ أَلْفِ ثَوْبٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ ثَوْبٍ، وَوَسَّعَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَخَذَ خَمْسَمِائَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يَكُونُونَ حَرَسًا لَهُ بِالْعِرَاقِ، وَأَقْطَعَهُمْ بِالْعِرَاقِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ.

وَحَمَلَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الثَّلْجَ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَ أَوَّلَ خَلِيفَةٍ حُمِلَ إِلَيْهِ الثَّلْجُ إِلَى مَكَّةَ، وَرَدَّ الْمَهْدِيُّ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَغَيْرِهِمْ وَظَائِفَهُمُ الَّتِي كَانَتْ مَقْبُوضَةً عَنْهُمْ. وَكَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَكُوَرِ دِجْلَةَ، وَالْبَحْرَيْنِ، وَعُمَانَ، وَكُوَرِ الْأَهْوَازِ، وَفَارِسَ، مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ مُعَاذُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَبَاقِي الْأَمْصَارِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَفِيهَا أَرْسَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ بِالْأَنْدَلُسِ أَبَا عُثْمَانَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُثْمَانَ، وَتَمَّامَ بْنَ عَلْقَمَةَ، إِلَى شَقْنَا، فَحَاصَرَاهُ شُهُورًا بِحِصْنِ شَبَطْرَانَ، وَأَعْيَاهُمَا أَمْرُهُ، فَقَفَلَا عَنْهُ. ثُمَّ إِنَّ شَقْنَا، بَعْدَ عَوْدِهِمَا عَنْهُ، خَرَجَ مِنْ شَبْطَرَانَ إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى شَنْتَ بَرِيَّةَ رَاكِبًا عَلَى بَغْلَتِهِ الَّتِي تُسَمَّى الْخُلَاصَةَ، فَاغْتَالَهُ أَبُو مَعْنٍ وَأَبُو خُزَيْمٍ، وَهُمَا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَتَلَاهُ، وَلَحِقَا بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَعَهُمَا رَأْسُهُ، فَاسْتَرَاحَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ دَاوُدُ بْنُ نُصَيْرٍ الطَّائِيُّ الزَّاهِدُ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الْمَسْعُودِيُّ أَيْضًا، وَشُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَبُو بِسْطَامٍ، وَكَانَ عُمُرُهُ سَبْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَإِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَقِيلَ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الرَّبِيعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، عَمُّ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ الْفَقِيهِ، كُنْيَتُهُ أَبُو مَالِكٍ، وَكَانُوا أَرْبَعَةَ إِخْوَةٍ، أَكْبَرُهُمْ أَنَسٌ وَالِدُ مَالِكٍ، ثُمَّ أُوَيْسٌ جَدُّ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُوَيْسٍ، ثُمَّ نَافِعٌ، ثُمَّ الرَّبِيعُ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ الْعُصْفُرِيُّ اللَّيْثِيُّ، وَهُوَ جَدُّ خَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ. (خَيَّاطٌ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَبِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ) وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَصْرِيُّ الْفُرْهُودِيُّ النَّحْوِيُّ، الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ فِي النَّحْوِ، أُسْتَاذُ سِيبَوَيْهِ.

ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ] 161 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ هَلَاكِ الْمُقَنَّعِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مُعَاذُ بْنُ مُسْلِمٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ وَالْعَسَاكِرِ إِلَى الْمُقَنَّعِ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ سَعِيدٌ الْحَرَشِيُّ، وَأَتَاهُ عُقْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ مِنْ زَمٍّ، فَاجْتَمَعَ بِهِ بِالطَّوَاوِيسِ، وَأَوْقَعُوا بِأَصْحَابِ الْمُقَنَّعِ، فَهَزَمُوهُمْ، فَقَصَدَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى الْمُقَنَّعِ بِسَنَامَ فَعَمِلَ خَنْدَقَهَا وَحَصَّنَهَا، وَأَتَاهُمْ مُعَاذٌ فَحَارَبَهُمْ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَشِيِّ نَفْرَةٌ. فَكَتَبَ الْحَرَشِيُّ إِلَى الْمَهْدِيِّ يَقَعُ فِي مُعَاذٍ، وَيَضْمَنُ لَهُ الْكِفَايَةَ إِنْ أَفْرَدَهُ بِحَرْبِ الْمُقَنَّعِ، فَأَجَابَهُ الْمَهْدِيُّ إِلَى ذَلِكَ، فَانْفَرَدَ الْحَرَشِيُّ بِحَرْبِهِ، وَأَمَدَّهُ مُعَاذٌ بِابْنِهِ رَجَاءٍ فِي جَيْشٍ، وَبِكُلِّ مَا الْتَمَسَهُ مِنْهُ. وَطَالَ الْحِصَارُ عَلَى الْمُقَنَّعِ، فَطَلَبَ أَصْحَابُهُ الْأَمَانَ سِرًّا مِنْهُ، فَأَجَابَهُمُ الْحَرَشِيُّ إِلَى ذَلِكَ، فَخَرَجَ نَحْوُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَبَقِيَ مَعَهُ زُهَاءَ أَلْفَيْنِ مِنْ أَرْبَابِ الْبَصَائِرِ. وَتَحَوَّلَ رَجَاءُ بْنُ مُعَاذٍ وَغَيْرُهُ فَنَزَلُوا خَنْدَقَ الْمُقَنَّعِ فِي أَصْلِ الْقَلْعَةِ، وَضَايَقُوهُ. فَلَمَّا أَيْقَنَ بِالْهَلَاكِ جَمَعَ نِسَاءَهُ وَأَهْلَهُ، وَسَقَاهُمُ السُّمَّ، فَأَتَى عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ أَنْ يُحْرَقَ هُوَ بِالنَّارِ لِئَلَّا يُقْدَرَ عَلَى جُثَّتِهِ. وَقِيلَ: بَلْ أَحْرَقَ كُلَّ مَا فِي قَلْعَتِهِ مِنْ دَابَّةٍ وَثَوْبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْتَفِعَ مَعِي إِلَى السَّمَاءِ فَلْيُلْقِ نَفْسَهُ مَعِي فِي هَذِهِ النَّارِ! وَأَلْقَى بِنَفْسِهِ مَعَ أَهْلِهِ، وَنِسَائِهِ، وَخَوَاصِّهِ، فَاحْتَرَقُوا، وَدَخَلَ الْعَسْكَرُ الْقَلْعَةَ، فَوَجَدُوهَا خَالِيَةً خَاوِيَةً.

وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا زَادَ فِي افْتِتَانِ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَالَّذِينَ يُسَمَّوْنَ الْمُبَيِّضَةَ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ مِنْ أَصْحَابِهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يُسِرُّونَ (اعْتِقَادَهُمْ) ، وَقِيلَ: بَلْ شَرِبَ هُوَ أَيْضًا مِنَ السُّمِّ، فَمَاتَ، فَأَنْفَذَ الْحَرَشِيُّ رَأْسَهُ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِحَلَبَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ (فِي غَزَوَاتِهِ) . ذِكْرُ تَغَيُّرِ حَالِ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَغَيَّرَتْ حَالُ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ وَزِيرِ الْمَهْدِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ سَبَبَ اتِّصَالِهِ بِهِ أَيَّامَ الْمَنْصُورِ، وَمَسِيرَهُ مَعَهُ إِلَى خُرَاسَانَ، فَحَكَى الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ أَنَّ الْمَوَالِيَ كَانُوا يَقَعُونَ فِي أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ الْمَهْدِيِّ وَيُحَرِّضُونَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ كُتُبُ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ تَرِدُ عَلَى الْمَنْصُورِ بِمَا يَفْعَلُ، وَيَعْرِضُهَا عَلَى الرَّبِيعِ، وَيَكْتُبُ الْكُتُبَ إِلَى الْمَهْدِيِّ بِالْوَصَاةِ بِهِ، وَتَرْكِ الْقَوْلِ فِيهِ. ثُمَّ إِنَّ الرَّبِيعَ حَجَّ مَعَ الْمَنْصُورِ حِينَ مَاتَ، وَفَعَلَ فِي بَيْعَةِ الْمَهْدِيِّ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا قَدِمَ جَاءَ إِلَى بَابِ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ، قَبْلَ الْمَهْدِيِّ، وَقَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الْفَضْلُ: تَتْرُكُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْزِلَكَ وَتَأْتِيهِ! قَالَ: هُوَ صَاحِبُ الرَّجُلِ، وَيَنْبَغِي أَنْ نُعَامِلَهُ غَيْرَ مَا كُنَّا نُعَامِلُهُ بِهِ، وَنَتْرُكَ ذِكْرَ نُصْرَتِنَا لَهُ. فَوَقَفَ عَلَى بَابِهِ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى أَنْ صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَلَمْ يَقُمْ لَهُ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَلَمْ يَجْلِسْ، وَلَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَأَرَادَ الرَّبِيعُ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْهُ فِي أَمْرِ الْبَيْعَةِ، فَقَالَ: قَدْ بَلَغَنَا أَمْرُكُمْ، فَأَوْغَرَ صَدْرَ الرَّبِيعِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ. (قَالَ لَهُ ابْنُهُ الْفَضْلُ: لَقَدْ بَلَغَ فِعْلُ هَذَا بِكَ مَا فَعَلَ، وَكَانَ الرَّأْيُ أَنْ لَا تَأْتِيَهُ، وَحَيْثُ أَتَيْتَهُ وَحَجَبَكَ أَنْ تَعُودَ، وَحَيْثُ دَخَلْتَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقُمْ لَكَ أَنْ تَعُودَ) . فَقَالَ لِابْنِهِ: أَنْتَ أَحْمَقُ حَيْثُ تَقُولُ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِيءَ، وَحَيْثُ جِئْتَ وَحُجِبْتَ أَنْ تَعُودَ، وَلَمَّا دَخَلْتَ فَلَمْ يَقُمْ لَكَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعُودَ، وَلَمْ يَكُنِ الصَّوَابُ إِلَّا

مَا عَمِلْتُهُ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ، وَأَكَّدَ الْيَمِينَ، لَأَخْلَعَنَّ جَاهِي، وَلَأُنْفِقَنَّ مَالِي حَتَّى أَبْلُغَ مَكْرُوهَهُ. وَسَعَى فِي أَمْرِهِ، فَلَمْ يَجِدْ عَلَيْهِ طَرِيقًا لِاحْتِيَاطِهِ فِي أَمْرِ دِينِهِ وَأَعْمَالِهِ، فَأَتَاهُ مِنْ قِبَلِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَحْتَالُ وَيَدُسُّ إِلَى الْمَهْدِيِّ، وَيَتَّهِمُهُ بِبَعْضِ حُرَمِهِ، وَبِأَنَّهُ زِنْدِيقٌ، حَتَّى اسْتَحْكَمَتِ التُّهْمَةُ عِنْدَ الْمَهْدِيِّ بِابْنِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُحْضِرَ، وَأُخْرِجَ أَبُوهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ! اقْرَأْ، فَلَمْ يُحْسِنْ يَقْرَأُ شَيْئًا، فَقَالَ لِأَبِيهِ: أَلَمْ تُعْلِمْنِي أَنَّ ابْنَكَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنَّهُ فَارَقَنِي مُنْذُ سِنِينَ، وَقَدْ نَسِيَ. قَالَ: فَقُمْ فَتَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ بِدَمِهِ، فَقَامَ لِيَقْتُلَ وَلَدَهُ فَعَثَرَ فَوَقَعَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ يُعْفِيَ الشَّيْخَ، فَافْعَلْ، فَأَمَرَ بِابْنِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَقَالَ لَهُ الرَّبِيعُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! تَقْتُلُ ابْنَهُ وَتَثِقُ إِلَيْهِ! لَا يَنْبَغِي ذَلِكَ. فَاسْتَوْحَشَ مِنْهُ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ عُبُورِ الصَّقْلَبِيِّ إِلَى الْأَنْدَلُسِ وَقَتْلِهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ سَنَةَ سِتِّينَ، عَبَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَبِيبٍ الْفِهْرِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالصَّقْلَبِيِّ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِطُولِهِ وَزُرْقَتِهِ وَشُقْرَتِهِ، مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ مُحَارِبًا لَهُمْ، لِيَدْخُلُوا فِي الطَّاعَةِ لِلدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَكَانَ عُبُورُهُ فِي سَاحِلِ تُدْمِيرَ، وَكَاتَبَ سُلَيْمَانَ بْنَ يَقْظَانَ بِالدُّخُولِ فِي أَمْرِهِ، وَمُحَارَبَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ، وَالدُّعَاءِ إِلَى طَاعَةِ الْمَهْدِيِّ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ بِبَرْشَلُونَةَ، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَاغْتَاظَ عَلَيْهِ، وَقَصَدَ بَلَدَهُ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْبَرْبَرِ، فَهَزَمَهُ سُلَيْمَانُ، فَعَادَ الصَّقْلَبِيُّ إِلَى تُدْمِيرَ، وَسَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ نَحْوَهُ فِي الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، وَأَحْرَقَ السُّفُنَ تَضْيِيقًا عَلَى الصَّقْلَبِيِّ فِي الْهَرَبِ، فَقَصَدَ الصَّقْلَبِيُّ جَبَلًا مَنِيعًا بِنَاحِيَةِ بَلَنْسِيَةَ. فَبَذَلَ الْأُمَوِيُّ أَلْفَ دِينَارٍ لِمَنْ أَتَاهُ بِرَأْسِهِ، فَاغْتَالَهُ رَجُلٌ مِنَ الْبَرْبَرِ، فَقَتَلَهُ، وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَأَعْطَاهُ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ قَتْلُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا ظَفِرَ نَصْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْوَانَ بِالشَّامِ، فَأَخَذَهُ، وَقَدِمَ بِهِ

عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَحَبَسَهُ فِي الْمُطْبِقِ، وَجَاءَ عَمْرُو بْنُ سَهْلَةَ الْأَشْعَرِيُّ، فَادَّعَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَتَلَ أَبَاهُ، وَحَاكَمَهُ عِنْدَ عَافِيَةَ الْقَاضِي، فَتَوَجَّهَ الْحُكْمُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ. فَجَاءَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ الْعُقَيْلِيُّ إِلَى الْقَاضِي فَقَالَ: زَعَمَ عَمْرُو بْنُ سَهْلَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَتَلَ أَبَاهُ، وَكَذَبَ وَاللَّهِ، مَا قَتَلَ أَبَاهُ غَيْرِي، أَنَا قَتَلْتُهُ بِأَمْرِ مَرْوَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بَرِيءٌ مِنْ دَمِهِ، فَتُرِكَ عَبْدُ اللَّهِ، وَلَمْ يَعْرِضِ الْمَهْدِيُّ لِعَبْدِ الْعَزِيزِ، لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِأَمْرِ مَرْوَانَ. وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ ثُمَامَةُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَنَزَلَ بِدَابِقَ. وَجَاشَتِ الرُّومُ مَعَ مِيخَائِيلَ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا، فَأَتَى عُمْقَ مَرْعَشَ، فَقَتَلَ، وَسَبَى، وَغَنِمَ، وَأَتَى مَرْعَشَ فَحَاصَرَهَا، فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عِدَّةً كَثِيرَةً. وَكَانَ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ مُرَابِطًا بِحِصْنِ مَرْعَشَ فَانْصَرَفَ الرُّومُ إِلَى جَيْحَانَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ الْمَهْدِيَّ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَتَجَهَّزَ لِغَزْوِ الرُّومِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ صَائِفَةٌ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ. وَفِيهَا أَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِبِنَاءِ الْقُصُورِ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، أَوْسَعَ مِنَ الْقُصُورِ الَّتِي بَنَاهَا السَّفَّاحُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى زُبَالَةَ، وَأَمَرَ بِاتِّخَاذِ الْمَصَانِعِ فِي كُلِّ مَنْهَلٍ مِنْهَا، وَبِتَجْدِيدِ الْأَمْيَالِ وَالْبِرَكِ، وَبِحَفْرِ الرَّكَايَا، وَوَلِيَ ذَلِكَ يَقْطِينُ بْنُ مُوسَى، وَأَمَرَ بِالزِّيَادَةِ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، وَتَقْصِيرِ الْمَنَابِرِ فِي الْبِلَادِ، وَجَعْلِهَا بِمِقْدَارِ مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَوْمِ. وَفِيهَا أَمَرَ الْمَهْدِيُّ يَعْقُوبَ بْنَ دَاوُدَ بِتَوْجِيهِ الْأُمَنَاءِ فِي جَمِيعِ الْآفَاقِ، فَفَعَلَ فَكَانَ لَا يُنْفِذُ الْمَهْدِيُّ كِتَابًا إِلَى عَامِلٍ فَيَجُوزُ حَتَّى يَكْتُبَ يَعْقُوبُ إِلَى أَمِينِهِ بِإِنْفَاذِ ذَلِكَ.

وَفِيهَا غَزَا الْغَمْرُ بْنُ الْعَبَّاسِ فِي الْبَحْرِ. وَفِيهَا وَلِيَ نَصْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ السِّنْدَ، ثُمَّ عُزِلَ بِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ شِهَابٍ، فَبَقِيَ عَبْدُ الْمَلِكِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ عُزِلَ وَأُعِيدَ نَصْرٌ مِنَ الطَّرِيقِ. وَفِيهَا اسْتَقْضَى الْمَهْدِيُّ عَافِيَةَ الْقَاضِي مَعَ ابْنِ عُلَاثَةَ بِالرُّصَافَةِ. وَفِيهَا عَزَلَ الْفَضْلَ بْنَ صَالِحٍ عَنِ الْجَزِيرَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ، وَاسْتَعْمَلَ عِيسَى بْنَ لُقْمَانَ عَلَى مِصْرَ، وَيَزِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ عَلَى سَوَادِ الْكُوفَةِ، وَحَسَّانَ الشَّرَوِيَّ عَلَى الْمَوْصِلِ، وَبِسْطَامَ بْنَ عَمْرٍو التَّغْلِبِيَّ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ نَصْرُ بْنُ مَالِكٍ مِنْ فَالِجٍ أَصَابَهُ، وَوَلَّى الْمَهْدِيُّ بَعْدَهُ شُرْطَتَهُ حَمْزَةَ بْنَ مَالِكٍ، وَصَرَفَ أَبَانَ بْنَ صَدَقَةَ عَنْ هَارُونَ الرَّشِيدِ، وَجَعَلَ مَعَ مُوسَى الْهَادِي، وَجَعَلَ مَعَ هَارُونَ يَحْيَى بْنَ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكٍ. وَفِيهَا عُزِلَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو ضَمْرَةَ عَنْ مِصْرَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَوَلِيَهَا سَلَمَةُ بْنُ رَجَاءٍ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُوسَى الْهَادِي وَهُوَ وَلِيُّ عَهْدٍ. (وَكَانَ عَامِلُ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَالْيَمَامَةِ: جَعْفَرَ بْنَ سُلَيْمَانَ، وَعَامِلُ الْيَمَنِ: عَلِيَّ بْنَ

سُلَيْمَانَ) ، وَكَانَ عَلَى سَوَادِ الْكُوفَةِ: يَزِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَلَى أَحْدَاثِهَا: إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، وَزَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ أَبُو الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ الْكُوفِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ بْنِ مَنْصُورٍ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّاهِدُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِبَلْخٍ، وَانْتَقَلَ إِلَى الشَّامِ فَأَقَامَ بِهِ مُرَابِطًا، وَهُوَ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ.

ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ] 162 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ عَبْدِ السَّلَامِ الْخَارِجِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ هَاشِمٍ الْيَشْكُرِيُّ بِقِنَّسْرِينَ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ بِالْجَزِيرَةِ، فَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، فَلَقِيَهُ عِدَّةٌ مِنْ قُوَّادِ الْمَهْدِيِّ فِيهِمْ: عِيسَى بْنُ مُوسَى، الْقَائِدُ، فَقَتَلَهُ فِي عِدَّةٍ مِمَّنْ مَعَهُ. وَهَزَمَ جَمَاعَةً مِنَ الْقُوَّادِ فِيهِمْ شَبِيبُ بْنُ وَاجٍ الْمَرْوَرُّوذِيُّ، فَنَدَبَ الْمَهْدِيُّ إِلَى شَبِيبٍ أَلْفَ فَارِسٍ، وَأَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَلْفَ دِرْهَمٍ مَعُونَةً، فَوَافَوْا شَبِيبًا فَخَرَجَ بِهِمْ فِي طَلَبِ عَبْدِ السَّلَامِ، فَهَرَبَ مِنْهُ، فَأَدْرَكَهُ بِقِنَّسْرِينَ، فَقَاتَلَهُ، فَقُتِلَ بِهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَضَعَ الْمَهْدِيُّ دَوَاوِينَ الْأَزِمَّةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا عَمْرَو بْنَ مُرَبَّعٍ مَوْلَاهُ، وَأَجْرَى الْمَهْدِيُّ عَلَى الْمُجَذَّمِينَ وَأَهْلِ السُّجُونِ [الْأَرْزَاقَ] فِي جَمِيعِ الْآفَاقِ. وَفِيهَا خَرَجَتِ الرُّومُ إِلَى الْحَدَثِ، فَهَدَمُوا سُورَهَا، وَغَزَا الصَّائِفَةَ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ فِي ثَمَانِينَ أَلْفَ مُرْتَزِقٍ سِوَى الْمُتَطَوِّعَةِ، فَبَلَغَ حَمَّةَ

أَذْرُولِيَّةَ، وَأَكْثَرَ التَّحْرِيقَ وَالتَّخْرِيبَ فِي بِلَادِ الرُّومِ، وَلَمْ يَفْتَحْ حِصْنًا، وَلَا لَقِيَ جَمْعًا، وَسَمَّتْهُ الرُّومُ التِّنِّينَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا أَتَى الْحَمَّةَ لِيَغْتَسِلَ مِنْ مَائِهَا لِلْوَضَحِ الَّذِي بِهِ، وَرَجَعَ النَّاسُ سَالِمِينَ. وَفِيهَا غَزَا يَزِيدُ بْنُ أُسَيْدٍ السُّلَمِيُّ مِنْ نَاحِيَةِ قَالِيقَلَا، فَغَنِمَ، وَافْتَتَحَ ثَلَاثَةَ حُصُونٍ، وَسَبَى. وَفِيهَا عُزِلَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ الْيَمَنِ، وَاسْتُعْمِلَ مَكَانَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ (سُلَيْمَانَ، وَعُزِلَ سَلَمَةُ بْنُ رَجَاءٍ عَنْ مِصْرَ، وَوَلِيَهَا عِيسَى بْنُ لُقْمَانَ فِي الْمُحَرَّمِ، وَعُزِلَ) عَنْهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَوَلِيَهَا وَاضِحٌ مَوْلَى الْمَهْدِيِّ، ثُمَّ عُزِلَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَوَلِيَهَا يَحْيَى الْحَرَشِيُّ. وَفِيهَا خَرَجَتِ الْمُحَمِّرَةُ بِجُرْجَانَ، عَلَيْهِمْ رَجُلٌ اسْمُهُ عَبْدُ الْقَهَّارِ، فَغَلَبَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ بَشَرًا كَثِيرًا، فَغَزَاهُ عُمَرُ بْنُ الْعَلَاءِ مِنْ طَبَرِسْتَانَ، فَقَتَلَهُ عُمَرُ وَأَصْحَابُهُ. وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، فَكَانَتِ الْجَزِيرَةُ مَعَ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَطَبَرِسْتَانُ وَالرُّويَانُ مَعَ سَعِيدِ بْنِ دَعْلَجٍ، وَجُرْجَانَ مَعَ مُهَلْهِلِ بْنِ صَفْوَانَ. وَفِيهَا أَرْسَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، شَهِيدَ بْنَ عِيسَى إِلَى دِحْيَةَ

الْغَسَّانِيِّ، وَكَانَ عَاصِيًا فِي بَعْضِ حُصُونِ إِلْبِيرَةَ، فَقَتَلَهُ، وَسَيَّرَ بَدْرًا مَوْلَاهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَجَرَةَ الْبُرُلُّسِيِّ، وَكَانَ قَدْ عَصَى، فَقَتَلَهُ، وَسَيَّرَ أَيْضًا ثُمَامَةَ بْنَ عَلْقَمَةَ إِلَى الْعَبَّاسِ الْبَرْبَرِيِّ، وَهُوَ فِي جَمْعٍ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَقَدْ أَظْهَرَ الْعِصْيَانَ فَقَتَلَهُ أَيْضًا وَفَرَّقَ جُمُوعَهُ. (وَفِيهَا سَيَّرَ جَيْشًا مَعَ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْقُرَشِيِّ إِلَى الْقَائِدِ السُّلَمِيِّ، وَكَانَ حَسَنَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمِيرِ الْأَنْدَلُسِ، فَشَرِبَ لَيْلَةً، وَقَصَدَ بَابَ الْقَنْطَرَةِ لِيَفْتَحَهُ عَلَى سُكْرٍ مِنْهُ، فَمَنَعَهُ الْحَرَسُ، فَعَادَ، فَلَمَّا صَحَا خَافَ، فَهَرَبَ إِلَى طُلَيْطِلَةَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُرِيدُ الْخِلَافَ وَالشَّرَّ، فَعَاجَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِإِنْفَاذِ الْجُيُوشِ إِلَيْهِ، فَنَازَلَهُ فِي مَوْضِعٍ قَدْ تَحَصَّنَ فِيهِ، وَحَصَرَهُ، ثُمَّ إِنَّ السُّلَمِيَّ طَلَبَ الْبِرَازَ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ مَمْلُوكٌ أَسْوَدُ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَوَقَعَا صَرِيعَيْنِ، ثُمَّ مَاتَا جَمِيعًا) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ، قَاضِي إِفْرِيقِيَّةَ، وَقَدْ جَاوَزَ تِسْعِينَ سَنَةً، وَسَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ أَكَلَ عِنْدَ يَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ سَمَكًا، ثُمَّ شَرِبَ لَبَنًا، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مَاسَوَيْهِ الطَّبِيبُ حَاضِرًا، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الطِّبُّ صَحِيحًا، مَاتَ الشَّيْخُ اللَّيْلَةَ، فَتُوُفِّيَ مِنْ لَيْلَتِهِ تِلْكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ] 163 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ غَزْوِ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَجَهَّزَ الْمَهْدِيُّ لِغَزْوِ الرُّومِ، فَخَرَجَ وَعَسْكَرَ بِالْبَرَدَانِ، وَجَمَعَ الْأَجْنَادَ مِنْ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا، وَسَارَ عَنْهَا، وَكَانَ قَدْ تُوُفِّيَ عِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَسَارَ الْمَهْدِيُّ مِنَ الْغَدِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَاذَ ابْنَهُ مُوسَى الْهَادِي، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ ابْنَهُ هَارُونَ الرَّشِيدَ، وَسَارَ عَلَى الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ، وَعَزَلَ عَنْهَا عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ. وَلَمَّا حَاذَى قَصْرَ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ لِلْمَهْدِيِّ: إِنَّ لِمَسْلَمَةَ فِي أَعْنَاقِنَا مِنَّةً، كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَرَّ بِهِ، فَأَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَقَالَ لَهُ: إِذَا نَفِدَتْ فَلَا تَحْتَشِمْنَا، فَأَحْضَرَ الْمَهْدِيُّ وَلَدَ مَسْلَمَةَ وَمَوَالِيَهُ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِعِشْرِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ، وَعَبَرَ الْفُرَاتَ إِلَى حَلَبَ، وَأَرْسَلَ، وَهُوَ بِحَلَبَ، فَجَمَعَ مَنْ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ مِنَ الزَّنَادِقَةِ، فَجُمِعُوا، فَقَتَلَهُمْ، وَقَطَعَ كُتُبَهُمْ بِالسَّكَاكِينِ. وَسَارَ عَنْهَا مُشَيِّعًا لِابْنِهِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، حَتَّى جَازَ الدَّرْبَ وَبَلَغَ جَيْحَانَ، فَسَارَ هَارُونُ، وَمَعَهُ عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ، وَالرَّبِيعُ، وَالْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَالْحَسَنُ وَسُلَيْمَانُ ابْنَا بَرْمَكٍ، وَيَحْيَى بْنُ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكٍ، وَكَانَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْعَسْكَرِ، وَالنَّفَقَاتِ، وَالْكِتَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَسَارُوا فَنَزَلُوا عَلَى حِصْنِ سَمَالُوا، فَحَصَرَهُ هَارُونُ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَنَصَبَ عَلَيْهِ الْمَجَانِيقَ، فَفَتَحَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْأَمَانِ، وَوَفَّى لَهُمْ، وَفَتَحُوا فُتُوحًا كَثِيرَةً. وَلَمَّا عَادَ الْمَهْدِيُّ مِنَ الْغَزَاةِ زَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَمَعَهُ يَزِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالْفَضْلُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، وَقَفَلَ الْمُسْلِمُونَ سَالِمِينَ، إِلَّا مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ.

وَعَزَلَ الْمَهْدِيُّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ صَالِحٍ عَنْ فَلَسْطِينَ، ثُمَّ رَدَّهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى الْمَهْدِيُّ ابْنَهُ هَارُونَ الْمَغْرِبَ كُلَّهُ، وَأَذْرَبِيجَانَ، وَأَرْمِينِيَّةَ، وَجَعَلَ كَاتِبَهُ عَلَى الْخَرَاجِ ثَابِتَ بْنَ مُوسَى، وَعَلَى رَسَائِلِهِ يَحْيَى بْنَ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكٍ. وَفِيهَا عُزِلَ زُفَرُ بْنُ عَاصِمٍ عَنِ الْجَزِيرَةِ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ. وَفِيهَا عَزَلَ الْمَهْدِيُّ مُعَاذَ بْنَ مُسْلِمٍ عَنْ خُرَاسَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا الْمُسَيَّبَ بْنَ زُهَيْرٍ الضَّبِّيَّ، وَعَزَلَ يَحْيَى الْحَرَشِيَّ عَنْ أَصْبَهَانَ، وَوَلَّى مَكَانَهُ الْحَكَمَ بْنَ سَعِيدٍ، وَعَزَلَ سَعِيدَ بْنَ دَعْلَجٍ عَنْ طَبَرِسْتَانَ وَالرُّويَانِ، وَوَلَّاهُمَا عُمَرَ بْنَ الْعَلَاءِ، وَعَزَلَ مُهَلِّلَ بْنَ صَفْوَانَ عَنْ جُرْجَانَ، وَوَلَّاهَا هِشَامَ بْنَ سَعِيدٍ. (وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ وَالْيَمَامَةِ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) ، وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ: إِسْحَاقُ بْنُ الصَّبَّاحِ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ وَفَارِسَ وَالْبَحْرَيْنِ وَالْأَهْوَازِ: مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَلَى السِّنْدِ: نَصْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ: مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَلِيُّ بْنُ الْمَهْدِيِّ. وَفِيهَا أَظْهَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، التَّجَهُّزَ لِلْخُرُوجِ إِلَى الشَّامِ بِزَعْمِهِ لِمَحْوِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَأَخْذِ ثَأْرِهِ مِنْهُمْ، فَعَصَى عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ بْنُ يَقْظَانَ،

وَالْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى (بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُثْمَانَ الْأَنْصَارِيُّ) بِسَرَقُسْطَةَ، وَاشْتَدَّ أَمْرُهُمَا، فَتَرَكَ مَا كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مُوسَى بْنُ عُلَيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيُّ بِضَمِّ الْعَيْنِ مُصَغَّرًا (وَرَبَاحٌ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) . وَفِيهَا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، وَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا، وَكَانَ مُرْجِئًا مِنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ، وَمَاتَ بِمَكَّةَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْأَشْهَبِ جَعْفَرُ بْنُ حَيَّانَ بِالْبَصْرَةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ بَكَّارُ بْنُ شُرَيْحٍ، قَاضِي الْمَوْصِلِ بِهَا، وَكَانَ فَاضِلًا، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِهَا أَبُو مِكْرَزٍ الْفِهْرِيُّ، وَاسْمُهُ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كُرْزٍ.

ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ] 164 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا عَبْدُ الْكَبِيرِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ دَرْبِ الْحَدَثِ، فَأَتَاهُ مِيخَائِيلُ الْبِطْرِيقُ، وَطَارَاذُ الْأَرْمَنِيُّ الْبِطْرِيقُ فِي تِسْعِينَ أَلْفًا، فَخَافَ عَبْدُ الْكَبِيرِ، وَمَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْقِتَالِ، وَرَجَعَ بِهِمْ، فَأَرَادَ الْمَهْدِيُّ قَتْلَهُ، فَشُفِّعَ فِيهِ فَحَبَسَهُ. وَفِيهَا عَزَلَ الْمَهْدِيُّ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ عَنِ الْبَصْرَةِ، وَسَائِرِ أَعْمَالِهِ، وَاسْتَعْمَلَ صَالِحَ بْنَ دَاوُدَ مَكَانَهُ. وَفِيهَا سَارَ الْمَهْدِيُّ لِيَحُجَّ، فَلَمَّا بَلَغَ الْعَقَبَةَ، وَرَأَى قِلَّةَ الْمَاءِ خَافَ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَحْمِلُ النَّاسَ، وَأَخَذَتْهُ أَيْضًا حُمَّى، فَرَجَعَ، وَسَيَّرَ أَخَاهُ صَالِحًا لِيَحُجَّ بِالنَّاسِ، وَلَحِقَ النَّاسَ عَطَشٌ شَدِيدٌ حَتَّى كَادُوا يَهْلِكُونَ، وَغَضِبَ الْمَهْدِيُّ عَلَى يَقْطِينَ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْمَصَانِعِ. وَفِيهَا عَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ الْيَمَنِ عَنْ سَخْطَةٍ، وَوَجَّهَ مَنْ يَسْتَقْبِلُهُ، وَيُفَتِّشُ مَتَاعَهُ، [وَيُحْصِي مَا مَعَهُ] ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْيَمَنِ مَنْصُورَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مَنْصُورٍ، وَعَلَى إِفْرِيقِيَّةَ يَزِيدَ بْنَ حَاتِمٍ، وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ. وَفِيهَا سَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ إِلَى سَرَقُسْطَةَ، بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ سَيَّرَ إِلَيْهَا ثَعْلَبَةَ بْنَ

عُبَيْدٍ فِي عَسْكَرٍ كَثِيفٍ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَقْظَانَ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى قَدِ اجْتَمَعَا عَلَى خَلْعِ طَاعَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَهَمَّا بِهَا، فَقَاتَلَهُمَا ثَعْلَبَةُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ عَادَ إِلَى مُخَيَّمِهِ، فَاغْتَنَمَ سُلَيْمَانُ غِرَّتَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَهُ، وَتَفَرَّقَ عَسْكَرُهُ. وَاسْتَدْعَى سُلَيْمَانُ قَارْلَهْ مَلِكَ الْإِفْرِنْجِ، وَوَعَدَهُ بِتَسْلِيمِ الْبَلَدِ وَثَعْلَبَةَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ لَمْ يُصْبِحْ بِيَدِهِ غَيْرُ ثَعْلَبَةَ، فَأَخَذَهُ وَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِهِ عَظِيمَ الْفِدَاءِ، فَأَهْمَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مُدَّةً، ثُمَّ وَضَعَ مَنْ طَلَبَهُ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَأَطْلَقُوهُ. فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ سَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى سَرَقُسْطَةَ، وَفَرَّقَ أَوْلَادَهُ فِي الْجِهَاتِ لِيَدْفَعُوا كُلَّ مُخَالِفٍ، ثُمَّ يَجْتَمِعُونَ بِسَرَقُسْطَةَ، فَسَبَقَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَيْهَا، وَكَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى قَدْ قَتَلَ سُلَيْمَانَ بْنَ يَقْظَانَ، وَانْفَرَدَ بِسَرَقُسْطَةَ، فَوَافَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ، فَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا تَضْيِيقًا شَدِيدًا. وَأَتَاهُ أَوْلَادُهُ مِنَ النَّوَاحِي، وَمَعَهُمْ كُلُّ مَنْ خَالَفَهُمْ، وَأَخْبَرُوهُ عَنْ طَاعَةِ غَيْرِهِمْ، فَرَغِبَ الْحُسَيْنُ فِي الصُّلْحِ، وَأَذْعَنَ لِلطَّاعَةِ، فَأَجَابَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَصَالَحَهُ، وَأَخَذَ ابْنَهُ سَعِيدًا رَهِينَةً، وَرَجَعَ عَنْهُ. وَغَزَا بِلَادَ الْفِرِنْجِ، فَدَوَّخَهَا، وَنَهَبَ وَسَبَى وَبَلَغَ قَلَهُرَّةَ، وَفَتَحَ مَدِينَةَ فَكِيرَةَ، وَهَدَمَ قِلَاعَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَسَارَ إِلَى بِلَادِ الْبَشْكَنْسِ، وَنَزَلَ عَلَى حِصْنِ مَثْمَيْنَ الْأَقْرَعِ، فَافْتَتَحَهُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى مَلْدُوثُونَ بْنِ أَطْلَالٍ، وَحَصَرَ قَلْعَتَهُ، وَقَصَدَ النَّاسُ جَبَلَهَا، وَقَاتَلُوهُمْ فِيهَا، فَمَلَكُوهَا عَنْوَةً وَخَرَّبَهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قُرْطُبَةَ. وَفِيهَا ثَارَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ بَرْبَرِ بَلَنْسِيَةَ وَبَرْبَرِ شَنْتَ بَرِيَّةَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَكَانَتْ وَقَائِعُهُمْ مَشْهُورَةً. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو مُعَاوِيَةَ التَّمِيمِيُّ النَّحْوِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ.

وَعِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَمُّ الْمَنْصُورِ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ عُمُرُهُ ثَمَانِيًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، (وَقِيلَ ثَمَانِينَ سَنَةً) . وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدِّمَشْقِيُّ، وَسَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ النَّمِرِيُّ الْأَزْدِيُّ، أَبُو رَوْحٍ، وَالْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ الْقُرَشِيُّ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.

ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ] 165 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ غَزْوَةِ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ الْمَهْدِيُّ ابْنَهُ الرَّشِيدَ لِغَزْوِ الرُّومِ صَائِفَةً، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، فِي خَمْسَةٍ وَتِسْعِينَ أَلْفًا وَتِسْعِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَتِسْعِينَ رُجَلًا، وَمَعَهُ الرَّبِيعُ، فَوَغَلَ هَارُونُ فِي بِلَادِ الرُّومِ، وَلَقِيَهُ عَسْكَرُ نَقِيظَا قَوْمَسِ الْقَوَامِسَةِ فَبَارَزَهُ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ الشَّيْبَانِيُّ، فَأَثْخَنَهُ يَزِيدُ وَانْهَزَمَتِ الرُّومُ، وَغَلَبَ يَزِيدُ عَلَى عَسْكَرِهِمْ. وَسَارُوا إِلَى الدُّمُسْتُقِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْمَسَالِحِ، فَحَمَلَ لَهُمْ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَثَلَاثَةً وَتِسْعِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِينَارًا. وَمِنَ الْوَرِقِ أَحَدًا وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ [وَأَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ] وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَسَارَ الرَّشِيدُ حَتَّى بَلَغَ خَلِيجَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَصَاحِبُ الرُّومِ يَوْمَئِذٍ عَطْسَةُ امْرَأَةُ أَلْيُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَهَا كَانَ صَغِيرًا قَدْ هَلَكَ أَبُوهُ وَهُوَ فِي حِجْرِهَا فَجَرَى الصُّلْحُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّشِيدِ عَلَى الْفِدْيَةِ، وَأَنْ تُقِيمَ لَهُ الْأَدِلَّاءَ وَالْأَسْوَاقَ فِي الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ مَدْخَلًا ضَيِّقًا مَخوُفًا، فَأَجَابَتْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَمِقْدَارُ الْفِدْيَةِ سَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ كُلَّ سَنَةٍ، وَرَجَعَ عَنْهَا. وَكَانَتِ الْهُدْنَةُ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَكَانَ مِقْدَارُ مَا غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى أَنِ اصْطَلَحُوا خَمْسَةَ آلَافِ رَأْسِ سَبْيٍ وَسِتَّمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ رَأْسًا، وَمِنَ الدَّوَابِّ الذُّلُلِ بِأَدَوَاتِهَا عِشْرِينَ أَلْفَ رَأْسٍ، وَذُبِحَ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مِائَةُ أَلْفِ رَأْسٍ، وَقُتِلَ مِنَ الرُّومِ، فِي الْوَقَائِعِ، أَرْبَعَةٌ

وَخَمْسُونَ أَلْفًا، وَقُتِلَ مِنَ الْأُسَارَى صَبْرًا أَلْفَانِ وَتِسْعُونَ أَسِيرًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ خَلَفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الرَّيِّ، وَوَلِيَهَا عِيسَى مَوْلَى جَعْفَرٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ صَالِحُ بْنُ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، غَيْرَ أَنَّ الْبَصْرَةَ كَانَ عَلَى أَحْدَاثِهَا وَالصَّلَاةِ بِهَا رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ، وَكَانَ عَلَى كُوَرِ دِجْلَةَ وَالْبَحْرَيْنِ، وَعُمَانَ وَكَسْكَرَ، وَالْأَهْوَازِ، وَفَارِسَ، وَكَرْمَانَ: الْمُعَلَّى مَوْلَى الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ عَلَى الْمَوْصِلِ: أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. وَفِيهَا غَدَرَ الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى بِسَرَقُسْطَةَ، فَنَكَثَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ غَالِبَ بْنَ ثُمَامَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ فِي جُنْدٍ كَثِيفٍ، فَاقْتَتَلُوا، فَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ فِيهِمُ ابْنُهُ يَحْيَى، فَسَيَّرَهُمْ إِلَى الْأَمِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَتَلَهُمْ، وَأَقَامَ ثُمَامَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَلَى الْحُسَيْنِ يَحْصُرُهُ. ثُمَّ إِنَّ الْأَمِيرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ سَارَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ إِلَى سَرَقُسْطَةَ بِنَفْسِهِ، فَحَصَرَهَا، وَضَايَقَهَا، وَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ مَنْجَنِيقًا، فَمَلَكَهَا عَنْوَةً، وَقَتَلَ الْحُسَيْنَ أَقْبَحَ قِتْلَةٍ، وَنَفَى أَهْلَ سَرَقُسْطَةَ مِنْهَا لِيَمِينٍ تَقَدَّمَتْ مِنْهُ، ثُمَّ رَدَّهُمْ إِلَيْهَا.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ شَهْرِ بْنِ مَثُوبٍ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ شَهْرٍ ذِي الْجَنَاحِ الْحِمْيَرِيِّ، خَالِ الْمَهْدِيِّ، وَقَدْ كَانَ وَلِيَ الْيَمَنَ وَالْبَصْرَةَ وَالْحَجَّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ فَتْحُ بْنُ الْوَشَّاحِ الْمَوْصِلِيُّ الزَّاهِدُ.

ثم دخلت سنة ست وستين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ] 166 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخَذَ الْمَهْدِيُّ الْبَيْعَةَ لِوَلَدِهِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، بَعْدَ أَخِيهِ مُوسَى الْهَادِي، وَلَقَّبَهُ الرَّشِيدَ. وَفِيهَا عُزِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ عَنْ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ، وَاسْتُقْضِيَ خَالِدُ بْنُ طُلَيْقِبْنِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، فَاسْتَعْفَى أَهْلُ الْبَصْرَةِ مِنْهُ. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى يَعْقُوبَ بْنِ دَاوُدَ وَفِي هَذِهِ سَخِطَ الْمَهْدِيُّ عَلَى وَزِيرِهِ يَعْقُوبَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ طَهْمَانَ، (وَكَانَ أَوَّلُ أَمْرِهِمْ أَنَّ دَاوُدَ بْنَ طَهْمَانَ) ، وَهُوَ أَبُو يَعْقُوبَ، كَانَ يَكْتُبُ لِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، هُوَ وَإِخْوَتُهُ، فَلَمَّا كَانَ أَيَّامُ يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ كَانَ دَاوُدُ يُعْلِمُهُ مَا يَسْمَعُهُ مِنْ نَصْرٍ، فَلَمَّا طَلَبَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ بِدَمِ يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ أَتَاهُ دَاوُدُ، لِمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَحْيَى، فَآمَنَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فِي نَفْسِهِ، وَأَخَذَ مَالَهُ الَّذِي اسْتَفَادَ أَيَّامَ نَصْرٍ. فَلَمَّا مَاتَ دَاوُدُ خَرَجَ أَوْلَادُهُ أَهْلَ أَدَبٍ وَعِلْمٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِنْدَ بَنِي الْعَبَّاسِ مَنْزِلَةٌ، فَلَمْ يَطْمَعُوا فِي خِدْمَتِهِمْ لِحَالِ أَبِيهِمْ مِنْ كِتَابَةِ نَصْرٍ، وَأَظْهَرُوا مَقَالَةَ الزَّيْدِيَّةِ وَدَنَوْا مِنْ آلِ الْحُسَيْنِ، وَطَمِعُوا أَنْ تَكُونَ لَهُمْ دَوْلَةٌ، فَكَانَ دَاوُدُ يَصْحَبُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ أَحْيَانًا. وَخَرَجَ مَعَهُ هُوَ وَعِدَّةٌ مِنْ إِخْوَتِهِ، فَلَمَّا قُتِلَ إِبْرَاهِيمُ طَلَبَهُمُ الْمَنْصُورُ، فَأَخَذَ يَعْقُوبَ وَعَلِيًّا وَحَبَسَهُمَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمَنْصُورُ أَطْلَقَهُمَا الْمَهْدِيُّ مَعَ مَنْ أَطْلَقَهُ، وَكَانَ مَعَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، فَاتَّصَلَ إِلَى الْمَهْدِيِّ بِسَبَبِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَقِيلَ: اتَّصَلَ بِهِ بِالسِّعَايَةِ بِآلِ عَلِيٍّ، وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُ يَرْتَفِعُ، حَتَّى اسْتَوْزَرَهُ. وَكَانَ الْمَهْدِيُّ يَقُولُ: وُصِفَ لِي يَعْقُوبُ فِي مَنَامِي، فَقِيلَ لِي: اسْتَوْزِرْهُ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ

رَأَيْتُ الْخِلْقَةَ الَّتِي وُصِفَتْ لِي، فَاتَّخَذْتُهُ وَزِيرًا، فَلَمَّا وَلِيَ الْوِزَارَةَ أَرْسَلَ إِلَى الزَّيْدِيَّةِ، فَجَمَعَهُمْ وَوَلَّاهُمْ أُمُورَ الْخِلَافَةِ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ: بَنِي أُمَيَّةَ هُبُّوا طَالَ نَوْمُكُمُ ... إِنَّ الْخَلِيفَةَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ ضَاعَتْ خِلَافَتُكُمْ يَا قَوْمِ فَالْتَمِسُوا ... خَلِيفَةَ اللَّهِ بَيْنَ النَّايِ وَالْعُودِ. فَحَسَدَهُ مَوَالِي الْمَهْدِيِّ، وَسَعَوْا بِهِ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الشَّرْقَ وَالْغَرْبَ فِي يَدِ يَعْقُوبَ وَأَصْحَابِهِ، وَإِنَّمَا يَكْفِيهِ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِمْ فَيَثُورُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَيَأْخُذُوا الدُّنْيَا [لِإِسْحَاقَ بْنِ الْفَضْلِ] ، فَمَلَأَ ذَلِكَ قَلْبَ الْمَهْدِيِّ. وَلَمَّا بَنَى الْمَهْدِيُّ عِيسَابَاذَ أَتَاهُ خَادِمٌ مِنْ خَدَمِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ لِي: أَبَنَى مُتَنَزَّهًا أَنْفَقَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ أَلْفِ أَلْفٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؟ فَحَفِظَهَا الْمَهْدِيُّ، وَنَسِيَ أَحْمَدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، وَظَنَّ أَنَّ يَعْقُوبَ قَالَهَا، فَبَيْنَمَا يَعْقُوبُ بَيْنَ يَدَيْهِ إِذْ لَبَّبَهُ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ، وَقَالَ: أَلَسْتَ الْقَائِلَ كَيْتَ وَكَيْتَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا قَلْتُهُ وَلَا سَمِعْتُهُ! قَالَ: وَكَانَ السُّعَاةُ يَسْعَوْنَ لَيْلًا، وَيَتَفَرَّقُونَ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَقْبِضُهُ بُكْرَةً فَإِذَا أَصْبَحَ غَدَا عَلَيْهِ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ تَبَسَّمَ وَسَأَلَهُ عَنْ مَبِيتِهِ. وَكَانَ الْمَهْدِيُّ مُسْتَهْتِرًا بِالنِّسَاءِ، فَيَخُوضُ يَعْقُوبُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَفْتَرِقَانِ عَنْ رِضًى ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِيَعْقُوبَ بِرْذَوْنٌ كَانَ يَرْكَبُهُ، فَخَرَجَ يَوْمًا مِنْ عِنْدِ الْمَهْدِيِّ وَعَلَيْهِ طَيْلَسَانٌ يَتَقَعْقَعُ مِنْ كَثْرَةِ دَقِّهِ، وَالْبِرْذَوْنُ مَعَ الْغُلَامِ وَقَدْ نَامَ الْغُلَامُ، فَرَكِبَ يَعْقُوبُ، وَأَرَادَ تَسْوِيَةَ الطَّيْلَسَانِ، فَنَفَرَ مِنْ قَعْقَعَتِهِ فَسَقَطَ، فَدَنَا مِنْ دَابَّتِهِ، فَرَفَسَهُ، فَانْكَسَرَ سَاقُهُ، فَانْقَطَعَ عَنِ الرُّكُوبِ. فَعَادَهُ الْمَهْدِيُّ مِنَ الْغَدِ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْهُ، فَتَمَكَّنَ السُّعَاةُ مِنْهُ، فَأَظْهَرَ الْمَهْدِيُّ السُّخْطَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُجِنَ فِي سِجْنِ نَصْرٍ، وَأُخِذَ عُمَّالُهُ وَأَصْحَابُهُ فَحُبِسُوا. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ: بَعَثَ إِلَيَّ الْمَهْدِيُّ يَوْمًا، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ مَفْرُوشٍ بِفَرْشٍ مُوَرَّدٍ عَلَى بُسْتَانٍ فِيهِ شَجَرٌ، وَرُءُوسُ الشَّجَرِ مَعَ صَحْنِ الْمَجْلِسِ، وَقَدِ اكْتَسَى ذَلِكَ الشَّجَرُ بِالْأَزْهَارِ، فَمَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ، وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا نَحْوُ ذَلِكَ الْفَرْشِ مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مِنْهَا. فَقَالَ لِي: يَا يَعْقُوبُ! كَيْفَ تَرَى مَجْلِسَنَا هَذَا؟ قُلْتُ: عَلَى

غَايَةِ الْحُسْنِ، فَمَتَّعَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ قَالَ: هُوَ لَكَ بِمَا فِيهِ وَهَذِهِ الْجَارِيَةُ لِيَتِمَّ سُرُورُكَ بِهِ، قَالَ: فَدَعَوْتُ لَهُ. ثُمَّ قَالَ لِي: يَا يَعْقُوبُ، وَلِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ أُحِبُّ أَنْ تَضْمَنَ لِي قَضَاءَهَا، قُلْتُ: الْأَمْرُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَيَّ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، فَاسْتَحْلَفَنِي بِاللَّهِ وَبِرَأْسِهِ، فَحَلَفْتُ لَأَعْمَلَنَّ بِمَا قَالَ، فَقَالَ: هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُحِبُّ أَنْ تَكْفِيَنِي مَئُونَتَهُ وَتُرِيحَنِي مِنْهُ وَتُعَجِّلَ ذَلِكَ، قُلْتُ: أَفْعَلُ. فَأَخَذْتُهُ وَأَخَذْتُ الْجَارِيَةَ وَجَمِيعَ مَا فِي الْمَجْلِسِ، وَأَمَرَ لِي بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلِشِدَّةِ سُرُورِي بِالْجَارِيَةِ صَيَّرْتُهَا فِي مَجْلِسٍ بَيْنِي وَبَيْنَهَا سِتْرٌ، وَأَدْخَلْتُ الْعَلَوِيَّ إِلَيَّ وَسَأَلْتُهُ عَنْ حَالِهِ، فَأَخْبَرَنِي وَإِذَا هُوَ أَعْقَلُ النَّاسِ، وَأَحْسَنُهُمْ إِبَانَةً عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ يَا يَعْقُوبُ، تَلْقَى اللَّهَ بِدَمِي، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، فَهَلْ فِيكَ أَنْتَ خَيْرٌ؟ قَالَ: إِنْ فَعَلْتَ خَيْرًا شَكَرْتُ، وَلَكَ عِنْدِي دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ. فَقُلْتُ: أَيُّ الطُّرُقِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَأَرْسَلْتُ إِلَى مَنْ يَثِقُ إِلَيْهِ الْعَلَوِيُّ، فَأَخَذَهُ وَأَعْطَيْتُهُ مَالًا، وَأَرْسَلَتِ الْجَارِيَةُ إِلَى الْمَهْدِيِّ تُعْلِمُهُ الْحَالَ فَأَرْسَلَ إِلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَذَ الْعَلَوِيَّ وَصَاحِبَهُ وَالْمَالَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ اسْتَحْضَرَنِي الْمَهْدِيُّ وَسَأَلَنِي عَنِ الْعَلَوِيِّ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي قَتَلْتُهُ، فَاسْتَحْلَفَنِي بِاللَّهِ وَبِرَأْسِهِ، فَحَلَفْتُ لَهُ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ أَخْرِجْ إِلَيْنَا مَا فِي هَذَا الْبَيْتِ، فَأَخْرَجَ الْعَلَوِيَّ وَصَاحِبَهُ وَالْمَالَ، فَبَقِيتُ مُتَحَيِّرًا، وَامْتَنَعَ مِنِّي الْكَلَامُ فَمَا أَدْرِي مَا أَقُولُ، فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: قَدْ حَلَّ لِي دَمُكَ، وَلَكِنِ احْبِسُوهُ فِي الْمُطْبِقِ وَلَا أُذَكَّرُ بِهِ. فَحُبِسْتُ فِي الْمُطْبِقِ، وَاتُّخِذَ لِي فِيهِ بِئْرٌ، فَدُلِّيتُ فِيهَا، فَبَقِيتُ مُدَّةً لَا أَعْرِفُ عَدَدَهَا، وَأُصِبْتُ بِبَصَرِي. قَالَ: فَإِنِّي لَكَذَلِكَ إِذْ دُعِيَ بِي، وَقِيلَ لِي: سَلِّمْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ! فَسَلَّمْتُ، قَالَ: أَيُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا؟ قُلْتُ: الْمَهْدِيُّ، قَالَ رَحِمَ اللَّهُ الْمَهْدِيَّ قُلْتُ: فَالْهَادِي، قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْهَادِي. قُلْتُ: فَالرَّشِيدُ، قَالَ: نَعَمْ! سَلْ حَاجَتَكَ. قُلْتُ: الْمُقَامُ بِمَكَّةَ، فَمَا بَقِيَ فِيَّ مُسْتَمْتَعٌ لِشَيْءٍ وَلَا بَلَاغٌ، فَأَذِنَ لِي، فَسِرْتُ إِلَى مَكَّةَ، قَالَ: فَلَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ بِهَا حَتَّى مَاتَ. وَكَانَ يَعْقُوبُ قَدْ ضَجِرَ بِمَوْضِعِهِ قَبْلَ حَبْسِهِ، وَكَانَ أَصْحَابُ الْمَهْدِيِّ يَشْرَبُونَ عِنْدَهُ، فَكَانَ يَعْقُوبُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَيَعِظُهُ، وَيَقُولُ: لَيْسَ عَلَى هَذَا اسْتَوْزَرْتَنِي، وَلَا عَلَيْهِ

صَحِبْتُكَ، أَبَعْدَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ يُشْرَبُ عِنْدَكَ النَّبِيذُ؟ فَضَيَّقَ عَلَى الْمَهْدِيِّ حَتَّى قِيلَ: فَدَعْ عَنْكَ يَعْقُوبَ بْنَ دَاوُدَ جَانِبًا وَأَقْبِلْ عَلَى صَهْبَاءَ طَيِّبَةِ النَّشْرِ وَقَالَ يَعْقُوبُ يَوْمًا لِلْمَهْدِيِّ فِي أَمْرٍ أَرَادَهُ: هَذَا وَاللَّهِ السَّرَفُ! فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: وَيْحَكَ يَا يَعْقُوبُ، إِنَّمَا يَحْسُنُ السَّرَفُ بِأَهْلِ الشَّرَفِ. وَلَوْلَا السَّرَفُ لَمْ يُعْرَفِ الْمُكْثِرُونَ مِنَ الْمُقِلِّينَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْمَهْدِيُّ إِلَى جُرْجَانَ، وَجَعَلَ عَلَى قَضَائِهِ أَبَا يُوسُفَ [يَعْقُوبَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ] . وَفِيهَا أَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِإِقَامَةِ الْبَرِيدِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ، بِبِغَالٍ وَإِبِلٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ بَرِيدٌ قَبْلَ ذَلِكَ. وَفِيهَا اضْطَرَبَتْ خُرَاسَانُ عَلَى الْمُسَيَّبِ بْنِ زُهَيْرٍ، فَوَلَّاهَا الْفَضْلَ بْنَ سُلَيْمَانَ الطُّوسِيَّ أَبَا الْعَبَّاسِ. وَأَضَافَ إِلَيْهِ سِجِسْتَانَ، فَاسْتَخْلَفَ عَلَى سِجِسْتَانَ تَمِيمَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ دَعْلَجٍ. وَفِيهَا أَخَذَ الْمَهْدِيُّ دَاوُدَ بْنَ رَوْحِ بْنِ حَاتِمٍ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنَ مُجَالِدٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ أَبِي أَيُّوبَ الْمَكِّيَّ، وَمُحَمَّدَ بْنَ طَيْفُورَ فِي الزَّنْدَقَةِ، فَاسْتَتَابَهُمْ وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَبَعَثَ دَاوُدَ إِلَى أَبِيهِ، وَهُوَ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَأَمَرَهُ بِتَأْدِيبِهِ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قُثَمَ.

وَفِيهَا عُزِلَ مَنْصُورُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مَنْصُورٍ عَنِ الْيَمَنِ، وَاسْتُعْمِلَ [مَكَانَهُ] عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّبْعِيُّ. وَفِيهَا أَطْلَقَ الْمَهْدِيُّ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ مِنْ حَبْسِهِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى. وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ: هَاشِمُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ: رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَلَى قَضَائِهَا: خَالِدُ بْنُ طُلَيْقٍ، وَعَلَى كُوَرِ دِجْلَةَ، وَكَسْكَرَ، وَأَعْمَالِ الْبَصْرَةِ وَالْبَحْرَيْنِ، وَالْأَهْوَازِ، وَفَارِسَ، وَكَرْمَانَ: الْمُعَلَّى مَوْلَى الْمَهْدِيِّ. وَعَلَى مِصْرَ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ صَالِحٍ، وَعَلَى إِفْرِيقِيَّةَ: يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَلَى طَبَرِسْتَانَ، وَالرُّويَانِ، وَجُرْجَانَ: يَحْيَى الْحَرَشِيُّ، وَعَلَى دُنْبَاوَنْدَ وَقُومِسَ: فَرَاشَةُ مَوْلَى الْمَهْدِيِّ، وَعَلَى الرَّيِّ: سَعْدٌ مَوْلَاهُ. وَعَلَى الْمَوْصِلِ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْهَاشِمِيُّ، وَقِيلَ: مُوسَى بْنُ كَعْبٍ الْخَثْعَمِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا: عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرِ بْنِ عُمَيْرٍ. وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَائِفَةٌ، لِلْهُدْنَةِ [الَّتِي كَانَتْ فِيهَا] . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا قُتِلَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ الشَّاعِرُ الْأَعْمَى عَلَى الزَّنْدَقَةِ، وَكَانَ خُلِقَ مَمْسُوحَ الْعَيْنَيْنِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْجَرَّاحُ بْنُ مُلَيْحٍ الرُّؤَاسِيُّ، وَهُوَ وَالِدُ وَكِيعٍ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ (الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ) ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ الْبَصْرِيُّ. وَفِيهَا قَتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ ابْنَ أَخِيهِ الْمُغِيرَةَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ، وَهُذَيْلَ بْنَ الصُّمَيْلِ، وَسَمُرَةَ بْنَ جَبَلَةَ، لِأَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى خَلْعِهِ مَعَ الْعَلَاءِ بْنِ حُمَيْدٍ الْقُشَيْرِيُّ، فَتَقَرَّبَ بِهِمْ.

ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ] 167 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ [ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مُوسَى الْهَادِي إِلَى جُرْجَانَ فِي جَمْعٍ كَثِيفٍ وَجَهَازٍ لَمْ يَتَجَهَّزْ أَحَدٌ بِمِثْلِهِ لِمُحَارَبَةِ وَنْدَادَ هُرْمُزَ، وَشَرْوِينَ، صَاحِبَيْ طَبَرِسْتَانَ، وَجَعَلَ الْمَهْدِيُّ عَلَى رَسَائِلِ مُوسَى أَبَانَ بْنَ صَدَقَةَ، وَمُحَمَّدَ بْنَ جُمَيْلٍ عَلَى جُنْدِهِ، وَنُفَيْعًا مَوْلَى الْمَنْصُورِ عَلَى حِجَابَتِهِ، وَعَلِيَّ بْنَ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ، عَلَى حَرَسِهِ، فَسَيَّرَ الْهَادِي الْجُنُودَ إِلَيْهِمَا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ يَزِيدَ بْنَ مَزْيَدٍ، فَحَاصَرَهُمَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عِيسَى بْنُ مُوسَى بِالْكُوفَةِ، فَأَشْهَدَ رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ عَلَى وَفَاتِهِ الْقَاضِي وَجَمَاعَةً مِنَ الْوُجُوهِ، وَدُفِنَ، وَكَانَ عُمُرُهُ خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ وِلَايَتِهِ الْعَهْدَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وِلَايَتِهِ الْعَهْدَ وَعَزْلِهِ عَنْهُ. وَفِيهَا جَدَّ الْمَهْدِيُّ فِي طَلَبِ الزَّنَادِقَةِ، فَأَخَذَ يَزِيدَ بْنَ الْفَيْضِ، فَأَقَرَّ، فَحُبِسَ، فَهَرَبَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. وَكَانَ الْمُتَوَلِّي لِأَمْرِ الزَّنَادِقَةِ [عُمَرَ] الْكَلْوَذَانِيَّ. وَفِيهَا عَزَلَ الْمَهْدِيُّ أَبَا عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ دِيوَانِ الرَّسَائِلِ وَوَلَّاهُ الرَّبِيعَ. وَفِيهَا كَانَ الْوَبَاءُ بِبَغْدَاذَ وَالْبَصْرَةِ، وَفَشَا فِي النَّاسِ سُعَالٌ شَدِيدٌ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبَانُ بْنُ صَدَقَةَ، كَاتِبُ الْهَادِي، فَوَجَّهَ الْمَهْدِيُّ مَكَانَهُ أَبَا خَالِدٍ الْأَحْوَلَ. وَفِيهَا أَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِالزِّيَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَتْ فِيهِ دُورٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ الْمُتَوَلِّي لِبِنَائِهِ يَقْطِينَ بْنَ مُوسَى، فَبَقِيَ الْبِنَاءُ فِيهِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ الْمَهْدِيُّ. وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِالزِّيَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِالْمَوْصِلِ، وَرَأَيْتُ لَوْحًا فِيهِ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي حَائِطِ الْجَامِعِ، سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ (وَهُوَ بَاقٍ) . وَفِيهَا عُزِلَ يَحْيَى الْحَرَشِيُّ عَنْ طَبَرِسْتَانَ وَالرُّويَانِ، وَمَا كَانَ إِلَيْهِ، وَوَلِيَهُ عُمَرُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَوَلِيَ جُرْجَانَ فَرَاشَةُ مَوْلَى الْمَهْدِيِّ. وَفِيهَا أَظْلَمَتِ الدُّنْيَا لِثَلَاثٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، حَتَّى تَعَالَى النَّهَارُ. وَلَمْ يَكُنْ صَائِفَةً لِلْهُدْنَةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْحَجِّ بِأَيَّامٍ، وَتَوَلَّى مَكَانَهُ إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ.

وَفِيهَا طُعِنَ عُقْبَةُ بْنُ سَلْمٍ الْهُنَائِيُّ، اغْتَالَهُ رَجُلٌ بِخِنْجَرٍ، فَمَاتَ بِبَغْدَاذَ. وَكَانَ عَلَى الْيَمَنِ: سُلَيْمَانُ بْنُ يَزِيدَ الْحَارِثِيُّ، وَعَلَى الْيَمَامَةِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيُّ، وَكَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ: مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَلَى قَضَائِهَا: عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ التَّيْمِيُّ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ: أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْهَاشِمِيُّ، وَقِيلَ مُوسَى بْنُ كَعْبٍ، وَبَاقِي الْأَمْصَارِ كَمَا تَقَدَّمَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ جَعْفَرٌ الْأَحْمَرُ أَبُو شَيْبَةَ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ وَكَانَ شِيعِيًّا عَابِدًا، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ التَّنُوخِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ. وَفِيهَا أَفْسَدَ الْعَرَبُ فِي بَادِيَةِ الْبَصْرَةِ بَيْنَ الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ، وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ، وَانْتَهَكُوا الْمَحَارِمَ، وَتَرَكُوا الصَّلَاةَ، فَأَرْسَلَ الْمَهْدِيُّ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، فَقَاتَلَهُمْ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَصَبَرَ الْعَرَبُ، فَظَفِرُوا، وَقَتَلُوا عَامَّةَ الْعَسْكَرِ الْمُنْفَذِ إِلَيْهِمْ فَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ وَزَادَ شَرُّهُمْ.

ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ] 168 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَمَضَانَ، نَقَضَ الرُّومُ الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى أَنْ نَقَضُوهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ شَهْرًا، فَوَجَّهَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ عَلَى الْجَزِيرَةِ وَقِنَّسْرِينَ، يَزِيدَ بْنَ الْبَدْرِ بْنِ الْبَطَّالِ فِي خَيْلٍ فَغَنِمُوا وَظَفِرُوا. ذِكْرُ الْخَوَارِجِ بِالْمَوْصِلِ وَفِيهَا خَرَجَ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ خَارِجِيٌّ اسْمُهُ يَاسِينُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَسْكَرُ الْمَوْصِلِ، فَهَزَمَهُمْ، وَغَلَبَ عَلَى أَكْثَرِ دِيَارِ رَبِيعَةَ وَالْجَزِيرَةِ، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى مَقَالَةِ صَالِحِ بْنِ مُسَرَّحٍ الْخَارِجِيِّ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمَهْدِيُّ أَبَا هُرَيْرَةَ بْنَ فُرُّوخَ الْقَائِدَ، وَهَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ مَوْلَى بَنِي ضَبَّةَ، فَحَارَبَاهُ، فَصَبَرَ لَهُمَا، حَتَّى قُتِلَ وَعِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ. ذِكْرُ مُخَالِفَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ بِالْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَ أَبُو الْأَسْوَدِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيُّ بِالْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِ: أَنَّهُ كَانَ فِي سِجْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِقُرْطُبَةَ مِنْ حِينِ هَرَبَ أَبُوهُ، وَقُتِلَ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَحُبِسَ أَبُو الْأَسْوَدِ، وَتَعَامَى فِي الْحَبْسِ، فَصَارَ يُحَاكِي الْعُمْيَانَ، وَلَا يَطْرِفُ عَيْنَهُ لِشَيْءٍ، وَبَقِيَ دَهْرًا طَوِيلًا، حَتَّى صَحَّ عِنْدَ الْأَمِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ ذَلِكَ. وَكَانَ فِي أَقْصَى السِّجْنِ سِرْدَابٌ يُفْضِي إِلَى النَّهْرِ الْأَعْظَمِ يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَسْجُونُونَ فَيَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ مِنْ غُسْلٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ الْمُوَكَّلُونَ يُهْمِلُونَ أَبَا الْأَسْوَدِ لِعَمَاهُ، فَإِذَا رَجَعَ مِنَ النَّهْرِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ الْأَعْمَى عَلَى مَوْضِعِهِ؟ وَكَانَ مَوْلًى لَهُ يُحَادِثُهُ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ، وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، فَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِخَيْلٍ

يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، فَخَرَجَ يَوْمًا وَمَوْلَاهُ يَنْتَظِرُهُ، فَعَبَرَ النَّهْرَ سِبَاحَةً، وَرَكِبَ الْخَيْلَ، وَلَحِقَ بِطُلَيْطِلَةَ، فَاجْتَمَعَ لَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَرَجَعَ بِهِمْ إِلَى قِتَالِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ، فَالْتَقَيَا عَلَى الْوَادِي الْأَحْمَرِ بِقَسْطَلُونَةَ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، ثُمَّ انْهَزَمَ أَبُو الْأَسْوَدِ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ سِوَى مَنْ تَرَدَّى فِي النَّهْرِ، وَاتَّبَعَهُ الْأُمَوِيُّ يَقْتُلُ مَنْ لَحِقَ، حَتَّى جَاوَزَ قَلْعَةَ الرَّبَاحِ. ثُمَّ جَمَعَ، وَعَادَ إِلَى قِتَالِ الْأُمَوِيِّ، فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِمُقَدِّمَةِ الْأُمَوِيِّ انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَهُوَ مَعَهُمْ، فَأَخَذَ عِيَالَهُ، وَقُتِلَ أَكْثَرُ رِجَالِهِ، وَبَقِيَ إِلَى سَنَةِ سَبْعِينَ، فَهَلَكَ بِقَرْيَةٍ (مِنْ أَعْمَالِ طُلَيْطِلَةَ) . وَقَامَ بَعْدَهُ أَخُوهُ قَاسِمٌ، وَجَمَعَ جَمْعًا، فَغَزَاهُ الْأَمِيرُ، فَجَاءَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَقَتَلَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا هَلَكَ شِيلُونَ مَلِكُ جِلِّيقِيَّةَ، فَوَلَّوْا مَكَانَهُ أَذْفُونَشَ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ مُورْقَاطُ، فَقَتَلَهُ، فَاخْتَلَّ أَمْرُهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ نَائِبُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِطُلَيْطِلَةَ فِي عَسَاكِرِهِ، فَقَتَلَ، وَغَنِمَ، وَسَبَى ثُمَّ عَادَ سَالِمًا. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ وَاسُولَ مُقَدَّمُ الْخَوَارِجِ الصُّفْرِيَّةِ بِسِجِلْمَاسَةَ فُجَاءَةً فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرًا، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ إِلْيَاسُ) . وَفِيهَا سَيَّرَ الْمَهْدِيُّ سَعِيدًا الْحَرَشِيَّ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا إِلَى طَبَرِسْتَانَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عُمَرُ الْكَلْوَذَانِيُّ، صَاحِبُ الزَّنَادِقَةِ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ حَمْدَوَيْهِ، فَقَتَلَ مِنَ الزَّنَادِقَةِ خَلْقًا كَثِيرًا.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَلِيُّ بْنُ الْمَهْدِيِّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ رَيْطَةَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَحْيَى بْنُ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَمِنْدَلُ بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلَاثَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ الْقَاضِي. وَالْحَسَنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْمَنْصُورُ عَلَى الْمَدِينَةِ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ عَزَلَهُ، وَحَبَسَهُ بِبَغْدَاذَ، وَأَخَذَ مَالَهُ. فَلَمَّا وَلِيَ الْمَهْدِيُّ أَخْرَجَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ مَالَهُ، وَكَانَ جَوَادًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مُنْحَرِفًا عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، مَائِلًا إِلَى الْمَنْصُورِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَعَبْثَرُ بْنُ الْقَاسِمِ. (عَبْثَرُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ) .

ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ] 169 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ مَوْتِ الْمَهْدِيِّ فِي هَذِهِ [السَّنَةِ] مَاتَ الْمَهْدِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنْصُورِ بِمَاسَبَذَانَ، وَسَبَبُ خُرُوجِهِ إِلَيْهَا أَنَّهُ قَدْ عَزَمَ عَلَى خَلْعِ ابْنِهِ مُوسَى الْهَادِي وَالْبَيْعَةِ لِلرَّشِيدِ. (بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الْهَادِي) ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، وَهُوَ بِجُرْجَانَ، فِي الْمَعْنَى، فَلَمْ يَفْعَلْ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَضَرَبَ الرَّسُولَ، وَامْتَنَعَ مِنَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَسَارَ الْمَهْدِيُّ يُرِيدُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ مَاسَبَذَانَ أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ قَالَ إِنِّي دَاخِلٌ إِلَى الْبَهْوِ أَنَامُ، فَلَا تُوقِظُونِي، حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّذِي أَنْتَبِهُ، فَدَخَلَهُ، فَنَامَ وَنَامَ أَصْحَابُهُ، فَاسْتَيْقَظُوا بِبُكَائِهِ، فَأَتَوْهُ مُسْرِعِينَ، فَقَالَ: وَقَفَ عَلَى الْبَابِ رَجُلٌ فَقَالَ: كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ أَهْلُهُ وَأَوْحَشَ مِنْهُ رَبْعُهُ وَمَنَازِلُهُ وَصَارَ عَمِيدُ الْقَوْمِ مِنْ بَعْدِ بَهْجَةٍ وَمُلْكٍ إِلَى قَبْرٍ عَلَيْهِ جَنَادِلُهُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا ذِكْرُهُ وَحَدِيثُهُ تُنَادِي عَلَيْهِ مُعْوِلَاتٍ حَلَائِلُهْ فَبَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَمَاتَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ مَوْتِهِ فَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَتَصَيَّدُ، فَطَرَدَتِ الْكِلَابُ ظَبْيًا، وَتَبِعَتْهُ، فَدَخَلَ بَابَ خَرِبَةً، وَدَخَلَتِ الْكِلَابُ خَلْفَهُ، ثُمَّ تَبِعَهَا فَرَسُ الْمَهْدِيِّ، فَدَخَلَهَا فَدَقَّ الْبَابُ

ظَهْرَهُ، فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَقِيلَ: بَلْ بَعَثَتْ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِيهِ إِلَى ضَرَّةٍ لَهَا بِلِبَإٍ فِيهِ سُمٌّ، فَدَعَا بِهِ الْمَهْدِيُّ فَأَكَلَ مِنْهُ، فَخَافَتِ الْجَارِيَةُ أَنْ تَقُولَ إِنَّهُ مَسْمُومٌ، فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَقِيلَ: بَلْ عَمَدَتْ حَسَنَةُ - جَارِيَةٌ لَهُ - إِلَى كُمَّثْرَى، (فَأَهْدَتْهُ إِلَى جَارِيَةٍ أُخْرَى كَانَ الْمَهْدِيُّ يَتَحَظَّاهَا، وَسَمَّتْ مِنْهُ كُمَّثْرَاةً) هِيَ أَحْسَنُ الْكُمَّثْرَى، فَاجْتَازَ بِالْمَهْدِيِّ، فَدَعَا بِهِ وَكَانَ يُحِبُّ الْكُمَّثْرَى، فَأَخَذَ تِلْكَ الْكُمَّثْرَاةَ الْمَسْمُومَةَ فَأَكَلَهَا، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى جَوْفِهِ صَاحَ: جَوْفِي جَوْفِي! فَسَمِعَتْ صَوْتَهُ فَجَاءَتْ تَلْطِمُ وَجْهَهَا وَتَبْكِي وَتَقُولُ: أَرَدْتُ أَنْ أَنْفَرِدَ بِكَ، فَقَتَلْتُكَ! فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، وَرَجَعَتْ حَسَنَةُ وَعَلَى قُبَّتِهَا الْمُسُوحُ، فَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فِي ذَلِكَ: رُحْنَ فِي الْوَشْيِ وَأَقْبَلْنَ ... عَلَيْهِنَّ الْمُسُوحُ كُلُّ نَطَّاحٍ مِنَ الدُّنْ يَا لَهُ يَوْمٌ نَطُوحُ ... لَسْتَ بِالْبَاقِي وَلَوْ عَمَّرْتَ مَا عَمَّرَ نُوحُ فَعَلَى نَفْسِكَ نُحْ إِنْ كُنْتَ لَابُدَّ تَنُوحُ وَكَانَ مَوْتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْهُ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَشَهْرًا، وَقِيلَ: عَشْرَ سِنِينَ وَتِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ تَحْتَ جَوْزَةٍ كَانَ يَجْلِسُ تَحْتَهَا، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الرَّشِيدُ، وَكَانَ أَبْيَضَ طَوِيلًا، وَقِيلَ أَسْمَرَ بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ نُكْتَةُ بَيَاضٍ. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ كَانَ الْمَهْدِيُّ، إِذَا جَلَسَ لِلْمَظَالِمِ، قَالَ: أَدْخِلُوا عَلَيَّ الْقُضَاةَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ رَدِّي الْمَظَالِمَ إِلَّا لِلْحَيَاءِ مِنْهُمْ [لَكَفَى] .

وَعَتَبَ الْمَهْدِيُّ عَلَى بَعْضِ الْقُوَّادِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَقَالَ لَهُ فِي آخِرِ ذَلِكَ: إِلَى مَتَى تُذْنِبُ [إِلَيَّ وَأَعْفُو] ؟ قَالَ: إِلَى أَبَدٍ نُسِيءُ، وَيُبْقِيكَ اللَّهُ فَتَعْفُوَ عَنَّا، فَاسْتَحْيَا مِنْهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَقَالَ مِسْوَرُ بْنُ مُسَاوِرٍ: ظَلَمَنِي وَكِيلُ الْمَهْدِيِّ، وَغَصَبَنِي ضَيْعَةً لِي، فَكَتَبْتُ إِلَى الْمَهْدِيِّ أَتَظَلَّمُ، فَوَصَلْتُ الرُّقْعَةَ وَعِنْدَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُلَاثَةَ، وَعَافِيَةُ الْقَاضِي، فَاسْتَدْنَانِي الْمَهْدِيُّ، وَسَأَلَنِي عَنْ حَالِي، فَذَكَرْتُهُ، فَقَالَ: أَتَرْضَى بِأَحَدِ هَذَيْنِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ! فَاسْتَدْنَانِي حَتَّى الْتَزَقْتُ بِالْفِرَاشِ، وَحَاكَمَنِي، فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: أَطْلِقْهَا لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ: وَاللَّهِ لَهَذَا الْمَجْلِسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَخَرَجَ الْمَهْدِيُّ مُتَنَزِّهًا، وَمَعَهُ عُمَرُ بْنُ رَبِيعٍ مَوْلَاهُ، فَانْقَطَعَا فِي الصَّيْدِ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَأَصَابَ الْمَهْدِيَّ جُوعٌ، فَقَالَ: هَلْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقِيلَ لَهُ: نَرَى كُوخًا، فَقَصَدُوهُ، فَإِذَا فِيهِ نَبَطِيٌّ، وَعِنْدَهُ مَبْقَلَةٌ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ، فَقَالُوا: هَلْ مِنْ طَعَامٍ؟ فَقَالَ: عِنْدِي رُبَيْثَاءُ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الصَّحْنَاةِ، وَعِنْدِي خُبْزُ شَعِيرٍ، فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: (إِنْ كَانَ عِنْدَكَ زَيْتٌ، فَقَدْ أَكْمَلْتَ. قَالَ: نَعَمْ، وَكُرَّاثٌ، فَأَتَاهُمَا بِذَلِكَ، فَأَكَلَا حَتَّى شَبِعَا. فَقَالَ الْمَهْدِيُّ) لِعُمَرَ بْنِ رَبِيعٍ: قُلْ فِي هَذَا شِعْرًا، فَقَالَ: إِنَّ مَنْ يُطْعِمُ الرُّبَيْثَاءَ بِالزَّيْتِ ... وَخُبْزِ الشَّعِيرِ بِالْكُرَّاثِ لَحَقِيقٌ بِصَفْعَةٍ أَوْ بِثِنْتَيْنِ ... لِسُوءِ الصَّنِيعِ أَوْ بِثَلَاثِ فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: بِئْسَ مَا قُلْتَ! إِنَّمَا هُوَ: لَحَقِيقٌ بِبَدْرَةٍ أَوْ بِثِنْتَيْنِ ... لِحُسْنِ الصَّنِيعِ أَوْ بِثَلَاثِ قَالَ: وَوَافَاهُمُ الْعَسْكَرُ، وَالْخَزَائِنُ، وَالْخَدَمُ، فَأَمَرَ لِلنَّبَطِيِّ بِثَلَاثِ بِدَرٍ وَانْصَرَفَ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْوَصِيفُ: أَصَابَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ أَيَّامَ الْمَهْدِيِّ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَسُوقُنَا إِلَى

الْمَحْشَرِ، فَخَرَجْتُ أَطْلُبُ الْمَهْدِيَّ، فَوَجَدْتُهُ وَاضِعًا خَدَّهُ عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ احْفَظْ مُحَمَّدًا فِي أُمَّتِهِ! اللَّهُمَّ لَا تُشْمِتْ بِنَا أَعْدَاءَنَا مِنَ الْأُمَمِ! اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَخَذْتَ هَذَا الْعَالَمَ بِذَنْبِي، فَهَذِهِ نَاصِيَتِي بَيْنَ يَدَيْكَ. قَالَ: فَمَا لَبِثْنَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى انْكَشَفَتِ الرِّيحُ. (وَزَالَ عَنَّا) مَا كُنَّا فِيهِ. وَلَمَّا حَضَرَتِ الْقَاسِمَ بْنَ مُجَاشِعٍ التَّمِيمِيَّ الْمَرْوَزِيَّ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى الْمَهْدِيِّ فَكَتَبَ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] الْآيَةَ، ثُمَّ كَتَبَ: وَالْقَاسِمُ يَشْهَدُ بِذَلِكَ، وَيَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَصِيُّ رَسُولِ اللَّهِ، وَوَارِثُ الْإِمَامَةِ مِنْ بَعْدِهِ، فَعُرِضَتِ الْوَصِيَّةُ عَلَى الْمَهْدِيِّ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ رَمَى بِهَا، وَلَمْ يَنْظُرْ فِيهَا. وَقَالَ الرَّبِيعُ: رَأَيْتُ الْمَهْدِيَّ يُصَلِّي فِي بَهْوٍ لَهُ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَمَا أَدْرِي أَهُوَ أَحْسَنُ أَمِ الْبَهْوُ أَمِ الْقَمَرُ أَمْ ثِيَابُهُ، فَقَرَأَ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] . قَالَ: فَتَمَّمَ صَلَاتَهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ وَقَالَ: يَا رَبِيعُ! قُلْتُ: لَبَّيْكَ! قَالَ: [عَلَيَّ] بِمُوسَى، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَنْ مُوسَى؟ ابْنُهُ أَمْ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، وَكَانَ مَحْبُوسًا عِنْدِي؟ فَجَعَلْتُ أُفَكِّرُ، فَقُلْتُ: مَا هُوَ إِلَّا مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، فَأَحْضَرْتُهُ، فَقَطَعَ صَلَاتَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُوسَى! إِنِّي قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَخِفْتُ أَنْ أَكُونَ قَدْ قَطَعْتُ رَحِمَكَ، فَوَثِّقْ لِي أَنَّكَ لَا تَخْرُجُ [عَلَيَّ] . قَالَ: نَعَمْ، فَوَثَّقَ لَهُ فَخَلَّاهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، فِي آخِرِ سُلْطَانِ بَنِي أُمَيَّةَ، كَأَنِّي دَخَلْتُ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَنَظَرْتُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي فِي الْمَسْجِدِ بِالْفُسَيْفِسَاءِ، فَإِذَا فِيهِ: مِمَّا أَمَرَ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَإِذَا قَائِلٌ يَقُولُ: يَمْحُو هَذَا الْكِتَابَ وَيَكْتُبُ اسْمَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ

يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ، قُلْتُ: فَأَنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَاسْمِي مُحَمَّدٌ فَابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: قُلْتُ: فَأَنَا ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ مُحَمَّدٍ. قُلْتُ: فَأَنَا ابْنُ مُحَمَّدٍ، فَابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ عَلِيٍّ، قُلْتُ: فَأَنَا ابْنُ عَلِيٍّ، فَابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قُلْتُ: فَأَنَا ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، فَلَوْ لَمْ يَبْلُغِ الْعَبَّاسَ مَا شَكَكْتُ أَنِّي صَاحِبُ الْأَمْرِ. قَالَ: فَتَحَدَّثْتُ بِهَا ذَلِكَ الزَّمَانَ، وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ الْمَهْدِيَّ، حَتَّى وَلِيَ الْمَهْدِيُّ، فَدَخَلَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَرَأَى اسْمَ الْوَلِيدِ، فَقَالَ: أَرَى اسْمَ الْوَلِيدِ إِلَى الْيَوْمِ، فَدَعَا بِكُرْسِيٍّ، فَأُلْقِيَ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: مَا أَنَا بِبَارِحٍ حَتَّى يُمْحَى وَيُكْتَبَ اسْمِي مَكَانَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَهُوَ جَالِسٌ. وَخَرَجَ الْمَهْدِيُّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ لَيْلًا، فَسَمِعَ أَعْرَابِيَّةً تَقُولُ: قَوْمِي مُقْتِرُونَ، نَبَتْ عَنْهُمُ الْعُيُونُ، وَفَدَحَتْهُمُ الدُّيُونُ، وَعَضَّتْهُمُ السُّنُونُ، بَادَتْ رِجَالُهُمْ، وَذَهَبَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَكَثُرَتْ عِيَالُهُمْ، أَبْنَاءُ سَبِيلٍ، وَأَنْضَاءُ طَرِيقٍ، وَصِيَّةُ اللَّهِ، وَوَصِيَّةُ الرَّسُولِ، فَهَلْ مِنْ آمِرٍ لِي بِخَيْرٍ، كَلَأَهُ اللَّهُ فِي سَفَرِهِ، وَخَلَّفَهُ فِي أَهْلِهِ! قَالَ: فَأَمَرَ لَهَا بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ الْمَهْدِيُّ: مَا تَوَسَّلَ أَحَدٌ إِلَيَّ بِوَسِيلَةٍ هِيَ أَقْرَبُ مِنْ تَذْكِيرِي يَدًا سَلَفَتْ مِنِّي إِلَيْهِ أُتْبِعُهَا أُخْتَهَا، وَأُحْسِنُ رَبَّهَا، فَإِنَّ مَنْعَ الْأَوَاخِرِ يَقْطَعُ شُكْرَ الْأَوَائِلِ. وَكَانَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ قَدْ هَجَا صَالِحَ بْنَ دَاوُدَ، أَخَا يَعْقُوبَ، حِينَ وَلِيَ، فَقَالَ: هُمْ حَمَلُوا فَوْقَ الْمَنَابِرِ صَالِحًا ... أَخَاكَ فَضَجَّتْ مِنْ أَخِيكَ الْمَنَابِرُ فَبَلَغَ يَعْقُوبَ هِجَاؤُهُ، فَدَخَلَ عَلَى الْمَهْدِيِّ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الْأَعْمَى الْمُشْرِكَ قَدْ هَجَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: يُعْفِينِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِنْشَادِهِ. فَأَبَى أَنْ يُعْفِيَهُ، فَأَنْشَدَهُ: خَلِيفَةٌ يَزْنِي بِعَمَّاتِهِ ... يَلْعَبُ بِالدَّبُّوقِ وَالصَّوْلَجَانِ أَبْدَلَنَا اللَّهُ بِهِ غَيْرَهُ ... وَدَسَّ مُوسَى فِي حِرِّ الْخَيْزُرَانِ. فَوَجَّهَ فِي حَمْلِهِ، فَخَافَ يَعْقُوبُ أَنْ يَقْدَمَ عَلَى الْمَهْدِيِّ فَيَمْدَحَهُ فَيَعْفُوَ عَنْهُ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ مَنْ يُلْقِيهِ فِي الْبَطِيحَةِ فِي الْخَرَّارَةِ. وَمَاتَتِ الْيَاقُوتَةُ بِنْتُ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ مُعْجَبًا بِهَا لَا يُطِيقُ الصَّبْرَ عَنْهَا، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ

يُلْبِسُهَا لُبْسَةَ الْغِلْمَانِ، وَيُرْكِبُهَا مَعَهُ، فَلَمَّا مَاتَتْ وَجَدَ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ أَنْ لَا يُحْجَبَ عَنْهُ أَحَدٌ، فَدَخَلَ النَّاسُ يُعَزُّونَهُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا تَعْزِيَةً أَبْلَغَ وَلَا أَوْجَزَ مِنْ تَعْزِيَةِ شَبِيبِ بْنِ شَيْبَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لَهَا مِنْكَ، وَثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْهَا، وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يُحْزِنَكَ، وَلَا يَفْتِنَكَ، وَأَنْ يُعْطِيَكَ عَلَى مَا رُزِئْتَ أَجْرًا، وَيُعْقِبَكَ صَبْرًا، وَلَا يَجْهَدُ لَكَ بَلَاءٌ، وَلَا يَنْزِعُ مِنْكَ نِعْمَةً، وَأَحَقُّ مَا صُبِرَ عَلَيْهِ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى رَدِّهِ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الْهَادِي وَبُويِعَ لِابْنِهِ مُوسَى الْهَادِي فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْمَهْدِيُّ، وَهُوَ مُقِيمٌ بِجُرْجَانَ، يُحَارِبُ أَهْلَ طَبَرِسْتَانَ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمَهْدِيُّ كَانَ الرَّشِيدُ مَعَهُ بِمَاسَبَذَانَ، فَأَتَاهُ الْمَوَالِي وَالْقُوَّادُ، وَقَالُوا لَهُ: إِنْ عَلِمَ الْجُنْدُ بِوَفَاةِ الْمَهْدِيِّ لَمْ تَأْمَنِ الشَّغَبَ، وَالرَّأْيُ أَنْ تُنَادِيَ فِيهِمْ بِالرُّجُوعِ، حَتَّى تُوَارِيَهُ بِبَغْدَاذَ. فَقَالَ هَارُونُ: ادْعُو إِلَيَّ أَبِي يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ، وَكَانَ يَحْيَى يَتَوَلَّى مَا كَانَ إِلَى الرَّشِيدِ مِنْ أَعْمَالِ الْمَغْرِبِ، مِنَ الْأَنْبَارِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، فَاسْتُدْعِيَ يَحْيَى إِلَى الرَّشِيدِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِيمَا رَأَى هَؤُلَاءِ؟ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ. قَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَخْفَى، وَلَا آمَنُ إِذَا عَلِمَ الْجُنْدُ، أَنْ يَتَعَلَّقُوا بِمَحْمَلِهِ، وَيَقُولُوا: لَا نُخَلِّي حَتَّى نُعْطَى لِثَلَاثِ سِنِينَ وَأَكْثَرَ، وَيَتَحَكَّمُوا وَيَشْتَطُّوا وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ يُوَارَى، رَحِمَهُ اللَّهُ، هَاهُنَا وَتُوَجِّهَ نُصَيْرًا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْهَادِي بِالْخَاتَمِ وَالْقَضِيبِ، وَالتَّعْزِيَةِ، وَالتَّهْنِئَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُنْكِرُونَ خُرُوجَهُ، إِذْ هُوَ عَلَى بَرِيدِ النَّاحِيَةِ، وَأَنْ تَأْمُرَ لِمَنْ تَبِعَكَ مِنَ الْجُنْدِ بِجَوَائِزَ مِائَتَيْنِ، وَتُنَادِيَ فِيهِمْ بِالرُّجُوعِ فَلَا تَكُونُ لَهُمْ هِمَّةٌ سِوَى أَهْلِهِمْ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَبَضَ الْجُنْدُ الدَّرَاهِمَ تَنَادَوْا: بَغْدَاذَ بَغْدَاذَ! وَأَسْرَعُوا إِلَيْهَا، فَلَمَّا بَلَغُوهَا وَعَلِمُوا خَبَرَ الْمَهْدِيِّ أَتَوْا بَابَ الرَّبِيعِ، وَأَحْرَقُوهُ، وَأَخْرَجُوا مَنْ كَانَ فِي الْحُبُوسِ، وَطَالَبُوا بِالْأَرْزَاقِ. فَلَمَّا قَدِمَ الرَّشِيدُ بَغْدَاذَ أَرْسَلَتِ الْخَيْزُرَانُ إِلَى رَبِيعٍ وَإِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ تَسْتَدْعِيهِمَا لِتُشَاوِرَهُمَا فِي ذَلِكَ، فَأَمَّا الرَّبِيعُ فَدَخَلَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا يَحْيَى فَامْتَنَعَ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ غَيْرَةِ

الْهَادِي، وَجَمَعَ الْأَمْوَالَ حَتَّى أَعْطَى الْجُنْدَ لِسَنَتَيْنِ فَسَكَتُوا. وَكَتَبَ الْهَادِي إِلَى الرَّبِيعِ كِتَابًا يَتَهَدَّدُهُ بِالْقَتْلِ، وَكَتَبَ إِلَى يَحْيَى يَشْكُرُهُ، وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يَقُومَ بِأَمْرِ الرَّشِيدِ. وَكَانَ الرَّبِيعُ يَوَدُّ يَحْيَى وَيَثِقُ بِهِ. فَاسْتَشَارَهُ فِيمَا يَفْعَلُ خَوْفًا مِنَ الْهَادِي فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يُرْسِلَ وَلَدَهُ الْفَضْلَ إِلَى طَرِيقِ الْهَادِي بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ، وَيَعْتَذِرَ، فَفَعَلَ، وَرَضِيَ الْهَادِي عَنْهُ. وَكَانَ الرَّبِيعُ قَدْ أَوْصَى إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ. وَأُخِذَتِ الْبَيْعَةُ لِلْهَادِي بِبَغْدَاذَ وَكَتَبَ الرَّشِيدُ إِلَى الْآفَاقِ بِوَفَاةِ الْمَهْدِيِّ، وَأَخْذِ الْبَيْعَةِ لِلْهَادِي، وَسَارَ نُصَيْرٌ الْوَصِيفُ إِلَى الْهَادِي بِجُرْجَانَ، فَعَلِمَ بِوَفَاةِ الْمَهْدِيِّ وَالْبَيْعَةِ لَهُ، فَنَادَى بِالرَّحِيلِ وَرَكِبَ عَلَى الْبَرِيدِ مُجِدًّا، فَبَلَغَ فِي عِشْرِينَ يَوْمًا، وَلَمَّا قَدِمَهَا اسْتَوْزَرَ الرَّبِيعَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا هَلَكَ الرَّبِيعُ. وَفِيهَا اشْتَدَّ طَلَبُ الْمَهْدِيِّ لِلزَّنَادِقَةِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةَ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينَ، وَقَتَلَ أَيْضًا يَعْقُوبَ بْنَ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ أُتِيَ بِهِ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَأَقَرَّ بِالزَّنْدَقَةِ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا لَكُنْتَ حَقِيقًا أَنْ تَتَعَصَّبَ لِمُحَمَّدٍ، وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ [مَنْ] كُنْتَ! أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي جَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أَقْتُلَ هَاشِمِيًّا لَقَتَلْتُكَ. ثُمَّ قَالَ لِلْهَادِي: أَقْسَمْتُ إِنْ وَلِيتَ هَذَا الْأَمْرَ لَتَقْتُلَنَّهُ! ثُمَّ حَبَسَهُ، فَلَمَّا مَاتَ الْمَهْدِيُّ قَتَلَهُ الْهَادِي، وَكَذَلِكَ أَيْضًا كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِ بِقَتْلِ وَلَدٍ لِدَاوُدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ كَانَ زِنْدِيقًا، فَمَاتَ فِي الْحَبْسِ قَبْلَ الْمَهْدِيِّ. وَلَمَّا قُتِلَ يَعْقُوبُ أُدْخِلَ أَوْلَادُهُ عَلَى الْهَادِي، فَأَقَرَّتِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ أَنَّهَا حُبْلَى مِنْ أَبِيهَا،

فَخُوِّفَتْ، فَمَاتَتْ مِنَ الْفَزَعِ. ذِكْرُ ظُهُورِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ الْمَقْتُولُ بِفَخٍّ عِنْدَ مَكَّةَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْهَادِيَ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا وَلِيَهَا أَخَذَ أَبَا الزِّفْتِ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَمُسْلِمَ بْنَ جُنْدُبٍ، الشَّاعِرَ الْهُذَلِيَّ، وَعُمَرَ بْنَ سَلَّامٍ، مَوْلَى آلِ عُمَرَ، عَلَى شَرَابٍ لَهُمْ فَأَمَرَ بِهِمْ، فَضُرِبُوا جَمِيعًا، وَجُعِلَ فِي أَعْنَاقِهِمْ حِبَالٌ، وَطِيفَ بِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ. فَجَاءَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى الْعُمَرِيِّ وَقَالَ لَهُ: قَدْ ضَرَبْتَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَكَ أَنْ تَضْرِبَهُمْ لِأَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا، فَلِمَ تُطَوِّفُ بِهِمْ؟ فَأَمَرَ بِهِمْ فَرُدُّوا، وَحَبَسَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَيَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، كَفَلَا الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ، فَأَخْرَجَهُ الْعُمَرِيُّ مِنَ الْحَبْسِ، وَكَانَ قَدْ ضَمِنَ بَعْضُ آلِ أَبِي طَالِبٍ بَعْضًا، وَكَانُوا يُعْرَضُونَ، فَغَابَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الْعَرْضِ يَوْمَيْنِ، فَأَحْضَرَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَيَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَأَلَهُمَا عَنْهُ، وَأَغْلَظَ لَهُمَا، فَحَلَفَ لَهُ يَحْيَى أَنَّهُ لَا يَنَامُ حَتَّى يَأْتِيَهُ بِهِ، أَوْ يَدُقَّ عَلَيْهِ بَابَ دَارِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ جَاءَهُ بِهِ. فَلَمَّا خَرَجَا قَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا دَعَاكَ إِلَى هَذَا؟ وَمِنْ أَيْنَ تَجِدُ حَسَنًا؟ حَلَفْتَ لَهُ بِشَيْءٍ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا نِمْتُ حَتَّى أَضْرِبَ عَلَيْهِ بَابَ دَارِهِ بِالسَّيْفِ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: إِنَّ هَذَا يَنْقُضُ مَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَصْحَابِنَا مِنَ الْمِيعَادِ. وَكَانُوا قَدْ تَوَاعَدُوا عَلَى أَنْ يَظْهَرُوا بِمِنًى وَبِمَكَّةَ فِي الْمَوْسِمِ، فَقَالَ يَحْيَى: قَدْ كَانَ ذَلِكَ، فَانْطَلَقَا وَعَمِلَا فِي ذَلِكَ مِنْ لَيْلَتِهِمْ، وَخَرَجُوا آخِرَ اللَّيْلِ، وَجَاءَ يَحْيَى حَتَّى ضَرَبَ عَلَى الْعُمَرِيِّ بَابَ دَارِهِ، فَلَمْ يَجِدْهُ، وَجَاءُوا فَاقْتَحَمُوا الْمَسْجِدَ وَقْتَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى الْحُسَيْنُ الصُّبْحَ أَتَاهُ النَّاسُ، فَبَايَعُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ لِلْمُرْتَضَى مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَجَاءَ خَالِدٌ الْبَرِيدِيُّ فِي مِائَتَيْنِ مِنَ الْجُنْدِ، وَجَاءَ الْعُمَرِيُّ، وَوَزِيرُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاقِدٍ الشَّرَوِيُّ، وَمَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ، فَدَنَا خَالِدٌ مِنْهُمْ، فَقَامَ إِلَيْهِ يَحْيَى

وَإِدْرِيسُ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، فَضَرَبَهُ يَحْيَى عَلَى أَنْفِهِ فَقَطَعَهُ، وَدَارَ لَهُ إِدْرِيسُ مِنْ خَلْفِهِ، فَضَرَبَهُ فَصَرَعَهُ، ثُمَّ قَتَلَاهُ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَدَخَلَ الْعُمَرِيُّ فِي الْمُسَوِّدَةِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ، فَهَزَمُوهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَانْتَهَبُوا بَيْتَ الْمَالِ، وَكَانَ فِيهِ بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقِيلَ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَأَغْلَقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَبْوَابَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ شِيعَةُ بَنِي الْعَبَّاسِ فَقَاتَلُوهُمْ، وَفَشَتِ الْجِرَاحَاتُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَاقْتَتَلُوا إِلَى الظُّهْرِ، ثُمَّ افْتَرَقُوا، ثُمَّ إِنَّ مُبَارَكًا التُّرْكِيَّ أَتَى شِيعَةَ بَنِي الْعَبَّاسِ مِنَ الْغَدِ، وَكَانَ قَدِمَ حَاجًّا، فَقَاتَلَ مَعَهُمْ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ إِلَى مُنْتَصَفِ النَّهَارِ. ثُمَّ تَفَرَّقُوا، وَرَجَعَ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَوَاعَدَ مُبَارَكٌ النَّاسَ الرَّوَاحَ إِلَى الْقِتَالِ، فَلَمَّا غَفَلُوا عَنْهُ رَكِبَ رَوَاحِلَهُ وَانْطَلَقَ، وَرَاحَ النَّاسُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَاتَلُوا شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ إِلَى الْمَغْرِبِ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا. وَقِيلَ إِنَّ مُبَارَكًا أَرْسَلَ إِلَى الْحُسَيْنِ يَقُولُ لَهُ: وَاللَّهِ لَأَنْ أَسْقُطَ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُنِي الطَّيْرُ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ تَشُوكَكَ شَوْكَةٌ، أَوْ أَقْطَعَ مِنْ رَأْسِكَ شَعْرَةً، وَكَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْإِعْذَارِ، فَتَبَيَّتْنِي، فَإِنِّي مُنْهَزِمٌ عَنْكَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْحَسَنَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ فِي نَفَرٍ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ عَسْكَرِهِ صَاحُوا وَكَبَّرُوا، فَانْهَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. وَأَقَامَ الْحُسَيْنُ وَأَصْحَابُهُ أَيَّامًا يَتَجَهَّزُونَ، فَكَانَ مُقَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجُوا لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَلَمَّا خَرَجُوا عَادَ النَّاسُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَوَجَدُوا فِيهِ الْعِظَامَ الَّتِي كَانُوا يَأْكُلُونَ، (وَآثَارَهُمْ فَدَعَوْا) عَلَيْهِمْ. وَلَمَّا فَارَقَ الْمَدِينَةَ قَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ! لَا خَلَفَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِخَيْرٍ. فَقَالُوا: بَلْ أَنْتَ لَا خَلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَلَا رَدَّكَ عَلَيْنَا! وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُحْدِثُونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَغَسَلَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ. وَلَمَّا أَتَى الْحُسَيْنُ مَكَّةَ أَمَرَ فَنُودِيَ: أَيُّمَا عَبْدٍ أَتَانَا فَهُوَ حُرٌّ. فَأَتَاهُ الْعَبِيدُ. فَانْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى الْهَادِي، وَكَانَ قَدْ حَجَّ تِلْكَ السَّنَةَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، مِنْهُمْ: سُلَيْمَانُ بْنُ الْمَنْصُورِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمُوسَى وَإِسْمَاعِيلُ ابْنَا عِيسَى بْنِ مُوسَى، فَكَتَبَ الْهَادِي إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بِتَوْلِيَتِهِ عَلَى الْحَرْبِ، وَكَانَ قَدْ

سَارَ بِجَمَاعَةٍ وَسِلَاحٍ مِنَ الْبَصْرَةِ لِخَوْفِ الطَّرِيقِ، فَاجْتَمَعُوا بِذِي طُوًى، وَكَانُوا قَدْ أَحْرَمُوا بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ طَافُوا وَسَعَوْا، وَحَلُّوا مِنَ الْعُمْرَةِ، وَعَسْكَرُوا بِذِي طُوًى، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَنْ حَجَّ مِنْ شِيعَتِهِمْ وَمَوَالِيهِمْ وَقُوَّادِهِمْ. ثُمَّ إِنَّهُمُ اقْتَتَلُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ، وَجُرِحَ، وَانْصَرَفَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى مَكَّةَ، وَلَا يَعْلَمُونَ مَا حَالُ الْحُسَيْنِ، فَلَمَّا بَلَغُوا ذَا طُوًى لَحِقَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ يَقُولُ: الْبُشْرَى، الْبُشْرَى، هَذَا رَأْسُ الْحُسَيْنِ فَأَخْرَجَهُ، وَبِجَبْهَتِهِ ضَرْبَةٌ طُولَى، وَعَلَى قَفَاهُ ضَرْبَةٌ أُخْرَى، وَكَانُوا قَدْ نَادَوُا الْأَمَانَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو الزِّفْتِ، فَوَقَفَ خَلْفَ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَالْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَأَخَذَهُ مُوسَى بْنُ عِيسَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَتَلَاهُ. فَغَضِبَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَأَخَذَ رُءُوسَ الْقَتْلَى، فَكَانَتْ مِائَةَ رَأْسٍ وَنَيِّفًا، وَفِيهَا رَأْسُ [الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ] بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ. وَأُخِذَتْ أُخْتُ الْحُسَيْنِ، فَتُرِكَتْ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ سُلَيْمَانَ، وَاخْتَلَطَ الْمُنْهَزِمُونَ بِالْحَاجِّ، وَأُتِيَ الْهَادِي (بِسِتَّةِ أَسْرَى) ، فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ، وَاسْتَبْقَى بَعْضَهُمْ، وَغَضِبَ عَلَى مُوسَى بْنِ عِيسَى كَيْفَ قَتَلَ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَقَبَضَ أَمْوَالَهُ، فَلَمْ تَزَلْ بِيَدِهِ حَتَّى مَاتَ، وَغَضِبَ عَلَى مُبَارَكٍ التُّرْكِيِّ، وَأَخَذَ مَالَهُ، وَجَعَلَهُ سَائِسَ الدَّوَابِّ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ الْهَادِي. [بَدْءُ الْأُسْرَةِ الْإِدْرِيسِيَّةِ بِالْمَغْرِبِ] وَأَفْلَتَ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ إِدْرِيسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَأَتَى مِصْرَ وَعَلَى بَرِيدِهَا وَاضِحٌ مَوْلَى صَالِحِ بْنِ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ شِيعِيًّا لَعَلِيٍّ، فَحَمَلَهُ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى أَرْضِ الْمَغْرِبِ، فَوَقَعَ بِأَرْضِ طَنْجَةَ، بِمَدِينَةِ وَلَيْلَةَ، فَاسْتَجَابَ لَهُ مَنْ بِهَا مِنَ الْبَرْبَرِ. فَضَرَبَ الْهَادِي عُنُقَ وَاضِحٍ وَصَلَبَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّشِيدَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ. وَإِنَّ الرَّشِيدَ دَسَّ عَلَى إِدْرِيسَ الشَّمَّاخَ الْيَمَامِيَّ،

مَوْلَى الْمَهْدِيِّ، فَأَتَاهُ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ مِنْ شِيعَتِهِمْ، وَعَظَّمَهُ، وَآثَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَمَالَ إِلَيْهِ إِدْرِيسُ، وَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ. ثُمَّ إِنْ إِدْرِيسَ شَكَا إِلَيْهِ مَرَضًا فِي أَسْنَانِهِ، فَوَصَفَ لَهُ دَوَاءً، وَجَعَلَ فِيهِ سُمًّا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَنَّ بِهِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ، وَهَرَبَ الشَّمَّاخُ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَ إِدْرِيسُ الدَّوَاءَ، فَمَاتَ مِنْهُ، فَوَلَّى الرَّشِيدُ الشَّمَّاخَ بَرِيدَ مِصْرَ. وَلَمَّا مَاتَ إِدْرِيسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ خَلَفَ مَكَانَهُ ابْنُهُ إِدْرِيسُ بْنُ إِدْرِيسَ وَأَعْقَبَ بِهَا، وَمَلَكُوهَا، وَنَازَعُوا بَنِي أُمَيَّةَ فِي إِمَارَةِ الْأَنْدَلُسِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَحُمِلَتِ الرُّءُوسَ إِلَى الْهَادِي، فَلَمَّا وُضِعَ رَأْسُ الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدَيِ الْهَادِي قَالَ: كَأَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ بِرَأْسِ طَاغُوتٍ مِنَ الطَّوَاغِيتِ! إِنَّ أَقَلَّ مَا أَجْزِيكُمْ بِهِ أَنْ أَحْرِمَكُمْ جَوَائِزَكُمْ، فَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا. وَكَانَ الْحُسَيْنُ شُجَاعًا، كَرِيمًا، قَدِمَ عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَفَرَّقَهَا فِي النَّاسِ بِبَغْدَاذَ وَالْكُوفَةِ، وَخَرَجَ مِنَ الْكُوفَةِ لَا يَمْلِكُ مَا يَلْبَسُهُ إِلَّا فَرْوًا لَيْسَ تَحْتَهُ قَمِيصٌ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَغَزَا الصَّائِفَةَ هَذِهِ السَّنَةَ مَعْيُوفُ بْنُ يَحْيَى مِنْ دَرْبِ الرَّاهِبِ، وَقَدْ كَانَتِ الرُّومُ قَبْلَ ذَلِكَ جَاءُوا مَعَ بِطْرِيقِهِمْ إِلَى الْحَدَثِ، فَهَرَبَ الْوَالِي وَأَهْلُ السُّوقِ، فَدَخَلَهَا الرُّومُ، فَقَصَدَهُمْ مَعْيُوفٌ فَبَلَغَ مَدِينَةَ أُشْنَةَ، فَغَنِمَ وَسَبَى. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ سُلَيْمَانُ بْنُ مَنْصُورٍ.

وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيُّ، وَعَلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قُثَمَ، وَعَلَى الْيَمَنِ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ، وَعَلَى الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ: سُوَيْدُ بْنُ أَبِي سُوَيْدٍ الْقَائِدُ الْخُرَاسَانِيُّ، وَعَلَى عُمَانَ: الْحَسَنُ بْنُ نَسِيمٍ الْحَوَارِيُّ، وَعَلَى الْكُوفَةِ مُوسَى بْنُ عِيسَى. وَعَلَى الْبَصْرَةِ: مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَلَى جُرْجَانَ: الْحَجَّاجُ مَوْلَى الْهَادِي، وَعَلَى قُومِسَ: زِيَادُ بْنُ حَسَّانَ، وَعَلَى طَبَرِسْتَانَ وَالرُّويَانِ: صَالِحُ بْنُ شَيْخِ بْنِ عُمَيْرَةَ الْأَسَدِيُّ، (وَعَلَى أَصْبَهَانَ طَيْفُورٌ مَوْلَى الْهَادِي) ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ: هَاشِمُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا، فَعَزَلَهُ الْهَادِي وَوَلَّاهَا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ صَالِحٍ الْهَاشِمِيَّ. وَفِيهَا خَرَجَ بِالْجَزِيرَةِ حَمْزَةُ بْنُ مَالِكٍ الْخُزَاعِيُّ، وَعَلَى خَرَاجِهَا الْمَنْصُورُ بْنُ زِيَادٍ، فَسَيَّرَ جَيْشًا إِلَى الْخَارِجِيِّ، فَالْتَقَوْا بِبَاعَرْبَايَا، مِنْ بَلَدِ الْمَوْصِلِ، فَهَزَمَهُمُ الْخَارِجِيُّ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، فَأَتَى رَجُلَانِ، وَصَحِبَاهُ، ثُمَّ اغْتَالَاهُ فَقَتَلَاهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مُطِيعُ بْنُ إِيَاسٍ اللَّيْثِيُّ الْكِنَانِيُّ الشَّاعِرُ، وَأَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ مُعَاوِيَةُ (بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) بْنِ بَشَّارٍ الْأَشْعَرِيُّ، مَوْلَاهُمْ، وَكَانَ وَزِيرَ الْمَهْدِيِّ، وَقِيلَ مَاتَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ الْمُقْرِئُ صَاحِبُ الْقِرَاءَةِ، أَحَدُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ يُونُسَ، حَاجِبُ الْمَنْصُورِ، مَوْلَاهُ.

ثم دخلت سنة سبعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ] 170 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ مَا جَرَى لِلْهَادِي فِي خَلْعِ الرَّشِيدِ كَانَ الْهَادِي قَدْ جَدَّ فِي خَلْعِ الرَّشِيدِ وَالْبَيْعَةِ لِابْنِهِ جَعْفَرٍ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْهَادِيَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى خَلْعِهِ ذَكَرَهُ لِقُوَّادِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ، وَعَلِيُّ بْنُ عِيسَى وَغَيْرُهُمْ. فَخَلَعُوا هَارُونَ، وَبَايَعُوا لِجَعْفَرٍ، وَوَضَعُوا الشِّيعَةَ، فَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ، وَتَنَقَّصُوا بِالرَّشِيدِ فِي مَجْلِسِ الْجَمَاعَةِ، وَقَالُوا لَا نَرْضَى بِهِ، وَصَعُبَ أَمْرُهُمْ، وَأَمَرَ الْهَادِي أَنْ لَا يُسَارَ بَيْنَ يَدَيْ هَارُونَ بِالْحَرْبَةِ، فَاجْتَنَبَهُ النَّاسُ، وَتَرَكُوا السَّلَامَ عَلَيْهِ. وَكَانَ يَحْيَى بْنُ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكٍ يَتَوَلَّى أُمُورَ الرَّشِيدِ بِأَمْرِ الْهَادِي، فَقِيلَ لِلْهَادِي: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ أَخِيكَ خِلَافٌ إِنَّمَا يَحْيَى يُفْسِدُهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، وَتَهَدَّدَهُ، وَرَمَاهُ بِالْكُفْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَدْعَاهُ لَيْلَةً، فَخَافَ، وَأَوْصَى، وَتَحَنَّطَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا يَحْيَى! مَا لِي وَلَكَ؟ قَالَ: مَا يَكُونُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَى مَوْلَاهُ إِلَّا طَاعَتُهُ؟ ! . قَالَ: لِمَ تَدْخُلُ بَيْنِي وَبَيْنَ أَخِي وَتُفْسِدُهُ عَلَيَّ؟ قَالَ: مَنْ أَنَا حَتَّى أَدْخُلَ بَيْنَكُمَا؟ إِنَّمَا صَيَّرَنِي الْمَهْدِيُّ مَعَهُ، ثُمَّ أَمَرْتَنِي أَنْتَ بِالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى أَمْرِكَ. فَسَكَنَ غَضَبُهُ. وَقَدْ كَانَ هَارُونُ طَابَ نَفْسًا بِالْخَلْعِ، فَمَنَعَهُ يَحْيَى عَنْهُ. فَلَمَّا أَحْضَرَهُ الْهَادِي، وَقَالَ لَهُ فِي ذَلِكَ، قَالَ يَحْيَى: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ إِنْ حَمَلْتَ النَّاسَ عَلَى نَكْثِ الْأَيْمَانِ هَانَتْ عَلَيْهِمْ أَيْمَانُهُمْ، وَإِنْ تَرَكْتَهُمْ عَلَى بَيْعَةِ أَخِيكَ ثُمَّ بَايَعْتَ لِجَعْفَرٍ بَعْدَهُ، كَانَ ذَلِكَ أَوْكَدَ لِلْبَيْعَةِ، قَالَ: صَدَقْتَ، وَسَكَتَ عَنْهُ. فَعَادَ أُولَئِكَ الَّذِينَ بَايَعُوهُ مِنَ الْقُوَّادِ وَالشِّيعَةِ، فَحَمَلُوهُ عَلَى مُعَاوَدَةِ الرَّشِيدِ بِالْخَلْعِ، فَأَحْضَرَ يَحْيَى وَحَبَسَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ عِنْدِي نَصِيحَةً، فَأَحْضَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ

الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ لَا تَبْلُغُهُ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُقْدِمَنَا قَبْلَهُ، يَعْنِي مَوْتَ الْهَادِي، أَتَظُنُّ النَّاسَ يُسَلِّمُونَ الْخِلَافَةَ لِجَعْفَرٍ، وَهُوَ لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ، أَوْ يَرْضَوْنَ بِهِ لِصَلَاتِهِمْ، وَحَجِّهِمْ، وَغَزْوِهِمْ؟ ! قَالَ: مَا أَظُنُّ ذَلِكَ. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَنَأْمَنُ أَنْ يَسْمُوَ إِلَيْهَا أَكَابِرُ أَهْلِكَ، مِثْلُ فُلَانٍ، وَيَطْمَعَ فِيهَا غَيْرُهُمْ، فَتَخْرُجَ مِنْ وَلَدِ أَبِيكَ؟ وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَعْقِدْهُ الْمَهْدِيُّ لِأَخِيكَ، لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْقِدَهُ أَنْتَ لَهُ، فَكَيْفَ بِأَنْ تَحُلَّهُ عَنْهُ وَقَدْ عَقَدَهُ الْمَهْدِيُّ لَهُ وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُقِرَّ الْأَمْرَ عَلَى حَالِهِ، فَإِذَا بَلَغَ جَعْفَرٌ أَتَيْتَهُ بِالرَّشِيدِ، فَخَلَعَ نَفْسَهُ لَهُ وَبَايَعَهُ. فَقَبِلَ قَوْلَهُ، وَقَالَ: نَبَّهْتَنِي عَلَى أَمْرٍ لَمْ أَتَنَبَّهْ لَهُ. وَأَطْلَقَهُ. ثُمَّ إِنَّ أُولَئِكَ الْقُوَّادَ عَاوَدُوا الْقَوْلَ فِيهِ، فَأَرْسَلَ الْهَادِي إِلَى الرَّشِيدِ فِي ذَلِكَ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: اسْتَأْذِنْهُ فِي الصَّيْدِ، فَإِذَا خَرَجْتَ فَأَبْعِدْ، وَدَافِعِ الْأَيَّامَ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَأَذِنَ لَهُ، فَمَضَى إِلَى قَصْرِ بَنِي مُقَاتِلٍ، فَأَقَامَ [بِهِ] أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَأَنْكَرَ الْهَادِي أَمْرَهُ، وَخَافَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِالْعَوْدِ، فَتَعَلَّلَ عَلَيْهِ، فَأَظْهَرَ الْهَادِي شَتْمَهُ، وَبَسَطَ مَوَالِيهِ وَقُوَّادُهُ فِيهِ أَلْسِنَتَهُمْ، فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ عَادَ الرَّشِيدُ. وَقَدْ كَانَ الْهَادِي فِي أَوَّلِ خِلَافَتِهِ جَلَسَ، وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنْ قُوَّادِهِ، وَعِنْدَهُ الرَّشِيدُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا هَارُونُ كَأَنِّي بِكَ وَأَنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ بِتَمَامِ الرُّؤْيَا، وَدُونَ ذَلِكَ خَرْطُ الْقَتَادِ. فَقَالَ لَهُ هَارُونُ: يَا مُوسَى إِنَّكَ إِنْ تَجَبَّرْتَ وُضِعْتَ، وَإِنْ تَوَاضَعْتَ رُفِعْتَ، وَإِنْ ظَلَمْتَ قُتِلْتَ، وَإِنْ أَنْصَفْتَ سَلِمْتَ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُفْضِيَ الْأَمْرُ إِلَيَّ، فَأُنْصِفَ مَنْ ظَلَمْتَ، وَأَصِلَ مَنْ قَطَعْتَ، وَأَجْعَلَ أَوْلَادَكَ أَعْلَى مِنْ أَوْلَادِي، وَأُزَوِّجَهُمْ بَنَاتِي، وَأَبْلُغَ مَا يَجِبُ مِنْ حَقِّ الْإِمَامِ الْمَهْدِيِّ. فَقَالَ لَهُ الْهَادِي: ذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا جَعْفَرٍ، ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ، وَقَبَّلَ يَدَهُ، ثُمَّ أَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى مَكَانِهِ، فَقَالَ: لَا وَالشَّيْخِ الْجَلِيلِ، وَالْمَلِكِ النَّبِيلِ، أَعْنِي الْمَنْصُورَ، لَا جَلَسْتَ إِلَّا مَعِي، فَأَجْلَسَهُ فِي صَدْرِ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُحْمَلَ إِلَيْهِ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنْ يُحْمَلَ إِلَيْهِ نِصْفُ الْخَرَاجِ. وَقَالَ لِإِبْرَاهِيمَ الْحَرَّانِيِّ: اعْرِضْ عَلَيْهِ مَا فِي الْخَزَائِنِ مِنْ مَالِنَا،

وَمَا أُخِذَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ اللَّعْنَةِ، يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ، فَلْيَأْخُذْ مِنْهُ مَا أَرَادَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ. فَقَامَ عَنْهُ. وَسُئِلَ الرَّشِيدُ عَنِ الرُّؤْيَا، فَقَالَ: قَالَ الْمَهْدِيُّ: رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنِّي دَفَعْتُ إِلَى مُوسَى وَإِلَى هَارُونَ قَضِيبًا، فَأَوْرَقَ مِنْ قَضِيبِ مُوسَى أَعْلَاهُ، وَأَوْرَقَ قَضِيبُ هَارُونَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَعَبَّرْتُ لَهُمَا أَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ مَعًا، فَأَمَّا مُوسَى فَتَقِلُّ أَيَّامُهُ، وَأَمَّا هَارُونُ فَيَبْلُغُ آخِرَ مَا عَاشَ خَلِيفَةً، وَتَكُونُ أَيَّامُهُ أَحْسَنَ أَيَّامٍ، وَدَهْرُهُ أَحْسَنَ دَهْرٍ، فَكَانَ كَذَلِكَ. وَذُكِرَ أَنَّ الْهَادِيَ خَرَجَ إِلَى حَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ، فَمَرِضَ بِهَا، وَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، وَانْصَرَفَ، وَكَتَبَ إِلَى جَمِيعِ عُمَّالِهِ شَرْقًا وَغَرْبًا بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا ثَقُلَ أَجْمَعَ الْقُوَّادُ الَّذِينَ كَانُوا بَايَعُوا جَعْفَرًا، وَتَوَامَرُوا فِي قَتْلِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، وَقَالُوا: إِنْ صَارَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ قُتِلْنَا، وَعَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالُوا: لَعَلَّ الْهَادِيَ يُفِيقُ، فَمَا عُذْرُنَا عِنْدَهُ؟ فَأَمْسَكُوا. وَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُ الْهَادِي أَرْسَلَتِ الْخَيْزُرَانُ إِلَى يَحْيَى تَأْمُرُهُ بِالِاسْتِعْدَادِ، فَأَحْضَرَ يَحْيَى كُتَّابًا فَكَتَبُوا الْكُتُبَ مِنَ الرَّشِيدِ إِلَى الْعُمَّالِ بِوَفَاةِ الْهَادِي، وَأَنَّهُ قَدْ وَلَّاهُمْ مَا كَانَ وَيَكُونُ فَلَمَّا مَاتَ الْهَادِي سُيِّرَتِ الْكُتُبُ. وَقِيلَ إِنَّ يَحْيَى كَانَ مَحْبُوسًا. وَكَانَ الْهَادِي قَدْ عَزَمَ عَلَى قَتْلِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَإِنَّ هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ هُوَ [الَّذِي] أَقْعَدَ الرَّشِيدَ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَلَمَّا مَاتَ الْهَادِي قَالَتِ الْخَيْزُرَانُ: قَدْ كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ يَمُوتُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ خَلِيفَةٌ، وَيُمَلَّكُ خَلِيفَةٌ، وَيُولَدُ خَلِيفَةٌ، فَمَاتَ الْهَادِي، وَوَلِيَ الرَّشِيدُ، وَوُلِدَ الْمَأْمُونُ. وَكَانَتِ الْخَيْزُرَانُ قَدْ أَخَذَتِ الْعِلْمَ مِنَ الْأَوْزَاعِيِّ، وَكَانَ مَوْتُ الْهَادِي بِعِيسَابَاذَ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْهَادِي وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْهَادِي (مُوسَى ابْنُ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْمَنْصُورِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ وَفَاتِهِ، فَقِيلَ كَانَ سَبَبُهَا قُرْحَةً كَانَتْ فِي جَوْفِهِ، وَقِيلَ مَرَضٌ بِحَدِيثِةِ الْمَوْصِلِ، وَعَادَ مَرِيضًا فَتُوُفِّيَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ إِنَّ وَفَاتَهُ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ جَوَارٍ لِأُمِّهِ الْخَيْزُرَانَ كَانَتْ أَمَرَتْهُنَّ بِقَتْلِهِ، وَكَانَ سَبَبُ أَمْرِهَا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَتْ تَسْتَبِدُّ بِالْأُمُورِ دُونَهُ، وَتَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الْمَهْدِيِّ، حَتَّى مَضَى أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. فَانْثَالَ النَّاسُ إِلَى بَابِهَا، وَكَانَتِ الْمَوَاكِبُ تَغْدُو وَتَرُوحُ إِلَى بَابِهَا، فَكَلَّمَتْهُ يَوْمًا فِي أَمْرٍ لَمْ يَجِدْ إِلَى إِجَابَتِهَا سَبِيلًا، فَقَالَتْ: لَابُدَّ مِنْ إِجَابَتِي إِلَيْهِ، فَإِنَّنِي قَدْ ضَمِنْتُ هَذِهِ الْحَاجَةَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ. فَغَضِبَ الْهَادِي، وَقَالَ: وَيْلِي عَلَى ابْنِ الْفَاعِلَةِ! قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ صَاحِبُهَا، وَاللَّهِ لَا قَضَيْتُهَا لَكِ. قَالَتْ: إِذًا وَاللَّهِ لَا أَسْأَلُكَ حَاجَةً أَبَدًا، قَالَ: لَا أُبَالِي وَاللَّهِ، وَغَضِبَتْ فَقَامَتْ مُغْضَبَةً، فَقَالَ مَكَانَكِ وَاللَّهِ، وَإِلَّا أَنَا نَفِيٌّ مِنْ قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّهُ وَقَفَ بِبَابِكِ أَحَدٌ مِنْ قُوَّادِي، وَخَاصَّتِي لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ، وَلَأَقْبِضَنَّ مَالَهُ. مَا هَذِهِ الْمَوَاكِبُ الَّتِي تَغْدُو وَتَرُوحُ إِلَى بَابِكِ؟ أَمَا لَكِ مِغْزَلٌ يَشْغَلُكِ، أَوْ مُصْحَفٌ يُذَكِّرُكِ، أَوْ بَيْتٌ يَصُونُكِ؟ إِيَّاكِ! وَإِيَّاكِ! لَا تَفْتَحِي بَابَكِ لِمُسْلِمٍ وَلَا ذِمِّيٍّ. فَانْصَرَفَتْ وَهِيَ لَا تَعْقِلُ، فَلَمْ تَنْطِقْ عِنْدَهُ بَعْدَهَا. ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَيُّمَا خَيْرٍ أَنَا أَمْ أَنْتُمْ، وَأُمِّي أَمْ أُمَّهَاتُكُمْ؟ قَالُوا: بَلْ أَنْتَ وَأُمُّكَ خَيْرٌ. قَالَ: فَأَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَتَحَدَّثَ الرِّجَالُ بِخَبَرِ أُمِّهِ، فَيُقَالُ: فَعَلَتْ أُمُّ فُلَانٍ، وَصَنَعَتْ؟ قَالُوا: لَا نُحِبُّ ذَلِكَ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ تَأْتُونَ أُمِّي، فَتَتَحَدَّثُونَ بِحَدِيثِهَا؟ فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ انْقَطَعُوا عَنْهَا. ثُمَّ بَعَثَ بِأُرْزٍ، وَقَالَ: قَدِ اسْتَطَبْتُهَا، فَكُلِي مِنْهَا. فَقِيلَ لَهَا: أَمْسِكِي حَتَّى تَنْظُرِي! فَجَاءُوا بِكَلْبٍ، فَأَطْعَمُوهُ، فَسَقَطَ لَحْمُهُ لِوَقْتِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا كَيْفَ رَأَيْتِ الْأُرْزَ؟ قَالَتْ: طَيِّبًا. قَالَ: مَا أَكَلْتِ مِنْهَا، وَلَوْ أَكَلْتِ مِنْهَا، لَاسْتَرَحْتُ مِنْكِ، مَتَى أَفْلَحَ خَلِيفَةٌ لَهُ أُمٌّ! وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ أَمْرِهَا بِذَلِكَ أَنَّ الْهَادِيَ لَمَّا جَدَّ فِي خَلْعِ الرَّشِيدِ وَالْبَيْعَةِ لِابْنِهِ جَعْفَرٍ خَافَتِ الْخَيْزُرَانُ عَلَى الرَّشِيدِ، فَوَضَعَتْ جَوَارِيَهَا عَلَيْهِ لَمَّا مَرِضَ، فَقَتَلْنَهُ بِالْغَمِّ وَالْجُلُوسِ عَلَى وَجْهِهِ، فَمَاتَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ تُعْلِمُهُ بِمَوْتِهِ.

ذِكْرُ وَفَاتِهِ وَمَبْلَغِ سِنِّهِ وَصِفَتِهِ وَأَوْلَادِهِ. كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِلنِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ لِسِتَّ عَشْرَةَ مِنْهُ، وَقِيلَ كَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ كَانَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، عُمُرُهُ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ الرَّشِيدُ. وَكَانَتْ كُنْيَتُهُ أَبَا مُحَمَّدٍ، وَأُمُّهُ الْخَيْزُرَانُ، أُمُّ وَلَدٍ، وَدُفِنَ بِعِيسَابَاذَ الْكُبْرَى فِي بُسْتَانِهِ. وَكَانَ طَوِيلًا، جَسِيمًا، أَبْيَضَ، مُشْرَبًا حُمْرَةً، وَكَانَ بِشَفَتِهِ الْعُلْيَا نَقْصٌ وَتَقَلُّصٌ. وَكَانَ الْمَهْدِيُّ قَدْ وَكَّلَ بِهِ خَادِمًا يَقُولُ لَهُ: مُوسَى أَطْبِقْ، فَيَضُمَّ شَفَتَهُ، فَلُقِّبَ: مُوسَى أَطْبِقْ. وَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ تِسْعَةٌ: سَبْعَةُ ذُكُورٍ، وَابْنَتَانِ، فَمِنَ الذُّكُورِ جَعْفَرٌ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُرِيدُ الْبَيْعَةَ لَهُ، وَالْعَبَّاسُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَإِسْحَاقُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَسُلَيْمَانُ، وَمُوسَى بْنُ مُوسَى الْأَعْمَى، كُلُّهُمْ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ وَالِابْنَتَانِ أُمُّ عِيسَى كَانَتْ عِنْدَ الْمَأْمُونِ، (وَأُمُّ الْعَبَّاسِ) وَكَانَتْ تُلَقَّبُ نُونَةَ. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ تَأَخَّرَ الْهَادِي عَنِ الْمَظَالِمِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَالَ لَهُ الْحَرَّانِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّ الْعَامَّةَ لَا تَحْتَمِلُ هَذَا. فَقَالَ لِعَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ: إِيذَنْ لِلنَّاسِ عَلَيَّ بِالْجَفَلَى، لَا بِالنَّقَرَى. فَخَرَجَ مَنْ عِنْدَهُ وَلَمْ يَفْهَمْ قَوْلَهُ، وَلَمْ يَجْسُرْ عَلَى مُرَاجَعَتِهِ، فَأَحْضَرَ أَعْرَابِيًّا، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: الْجَفَلَى أَنْ تَأْذَنَ لِعَامَّةِ النَّاسِ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلَ النَّاسُ عَنْ آخِرِهِمْ، وَنَظَرَ فِي

أُمُورِهِمْ إِلَى اللَّيْلِ، فَلَمَّا تَقَوَّضَ الْمَجْلِسُ قَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ مَا جَرَى لَهُ، وَسَأَلَهُ مُجَازَاةَ الْأَعْرَابِيِّ، فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّهُ أَعْرَابِيٌّ، وَيُغْنِيهِ عَشَرَةُ آلَافٍ. فَقَالَ: يَا عَلِيُّ أَجُودُ أَنَا، وَتَبْخَلُ أَنْتَ! . وَقِيلَ: خَرَجَ يَوْمًا إِلَى عِيَادَةِ أُمِّهِ الْخَيْزُرَانِ، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الرَّبِيعِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَكَ مِنْ هَذَا؟ تَنْظُرُ فِي الْمَظَالِمِ. فَرَجَعَ إِلَى دَارِ الْمَظَالِمِ، وَأَذِنَ لِلنَّاسِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ يَتَعَرَّفُ أَخْبَارَهَا. وَقِيلَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ يَتَوَلَّى شُرْطَةَ الْمَهْدِيِّ، قَالَ: فَكَانَ الْمَهْدِيُّ يَأْمُرُنِي بِضَرْبِ نُدَمَاءِ الْهَادِي وَمُغَنِّيهِ، وَحَبْسِهِمْ صِيَانَةً لَهُ عَنْهُمْ، فَكُنْتُ أَفْعَلُ وَكَانَ الْهَادِي يُرْسِلُ إِلَيَّ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ، وَلَا أَفْعَلُ، فَلَمَّا وَلِيَ الْهَادِي أَيْقَنْتُ بِالتَّلَفِ، اسْتَحْضَرَنِي يَوْمًا، فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ مُتَحَنِّطًا مُتَكَفِّنًا وَهُوَ عَلَى كُرْسِيٍّ، وَالسَّيْفُ وَالنَّطْعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَسَلَّمْتُ، فَقَالَ: لَا سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ! أَتَذْكُرُ يَوْمَ بَعَثْتُ إِلَيْكَ فِي أَمْرِ الْحَرَّانِيِّ وَضَرْبِهِ، فَلَمْ تُجِبْنِي، وَفِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَعَدَّدَ نُدَمَاءَهُ، فَلَمْ تَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِي. قُلْتُ: نَعَمْ! أَفَتَأْذَنُ فِي ذِكْرِ الْحُجَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَيَسُرُّكَ أَنَّكَ وَلَّيْتَنِي مَا وَلَّانِي الْمَهْدِيُّ، وَأَمَرْتَنِي بِمَا أَمَرَ، فَبَعَثَ إِلَيَّ بَعْضُ بَنِيكَ بِمَا يُخَالِفُ أَمْرَكَ، فَاتَّبَعْتُ أَمْرَهُ وَخَالَفْتُ أَمْرَكَ؟ قَالَ: لَا! قُلْتُ: فَكَذَلِكَ أَنَا لَكَ، وَكَذَا كُنْتُ لِأَبِيكَ. فَاسْتَدْنَانِي، فَقَبَّلْتُ يَدَهُ، ثُمَّ أَمَرَ لِي بِالْخُلَعِ، وَقَالَ: وَلَّيْتُكَ مَا كُنْتَ تَتَوَلَّاهُ، فَامْضِ رَاشِدًا! فَصِرْتُ إِلَى مَنْزِلِي مُفَكِّرًا فِي أَمْرِي وَأَمْرِهِ، وَقُلْتُ: حَدَثٌ يَشْرَبُ، وَالْقَوْمُ الَّذِي عَصَيْتُهُ فِي أَمْرِهِمْ نُدَمَاؤُهُ، وَوُزَرَاؤُهُ، وَكُتَّابُهُ. فَكَأَنِّي بِهِمْ حِينَ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الشَّرَابُ قَدْ أَزَالُوهُ عَنْ رَأْيِهِ. قَالَ: فَإِنِّي لَجَالِسٌ، وَعِنْدِي بَيِّنَةٌ لِي، وَالْكَانُونُ بَيْنَ يَدَيَّ، وَرُقَاقٌ أَشْطُرُهُ بِكَامَخٍ، وَأُسَخِّنُهُ، وَأُطْعِمُ الصِّبْيَةَ، وَآكُلُ، وَإِذَا بِوَقْعِ الْحَوَافِرِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ الدُّنْيَا قَدْ زُلْزِلَتْ لِوَقْعِهَا، وَلِكَثْرَةِ الضَّوْضَاءِ، فَقُلْتُ: هَذَا مَا كُنْتُ أَخَافُهُ. وَإِذَا الْبَابُ قَدْ فُتِحَ، وَإِذَا الْخَدَمُ قَدْ دَخَلُوا، وَإِذَا الْهَادِي فِي وَسَطِهِمْ عَلَى دَابَّتِهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ وَثَبْتُ، فَقَبَّلْتُ يَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَحَافِرَ دَابَّتِهِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! إِنِّي فَكَّرْتُ فِي أَمْرِكَ، فَقُلْتُ يَسْبِقُ إِلَى وَهْمِكَ أَنَّنِي إِذَا شَرِبْتُ وَحَوْلِي أَعْدَاؤُكَ، أَزَالُوا حُسْنَ رَأْيِي فِيكَ، فَيُقْلِقُكَ ذَلِكَ، فَصِرْتُ إِلَى مَنْزِلِكَ لِأُونِسَكَ. وَأُعْلِمُكَ أَنَّ مَا كَانَ عِنْدِي لَكَ مِنْ

الْحِقْدِ قَدْ زَالَ، فَهَاتِ وَأَطْعِمْنِي مِمَّا كُنْتَ تَأْكُلُ لِتَعْلَمَ أَنِّي قَدْ تَحَرَّمْتُ بِطَعَامِكَ، فَيَزُولَ خَوْفُكَ. فَأَدْنَيْتُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الرُّقَاقِ وَالْكَامَخِ، فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ: هَاتُوا الزُّلَّةَ الَّتِي أَزْلَلْتُهَا لِعَبْدِ اللَّهِ مِنْ مَجْلِسِي، فَأُدْخِلَتْ إِلَيَّ أَرْبَعُمِائَةِ بَغْلٍ مُوَقَّرَةٍ دَرَاهِمَ وَغَيْرَهَا، فَقَالَ: هَذِهِ لَكَ، فَاسْتَعِنْ بِهَا عَلَى أَمْرِكَ، وَاحْفَظْ هَذِهِ الْبِغَالَ عِنْدَكَ لَعَلِّي أَحْتَاجُ إِلَيْهَا لِبَعْضِ أَسْفَارِي، ثُمَّ انْصَرَفَ. قِيلَ: وَكَانَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ يَقُولُ: مَا لِعَرَبِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عِنْدَكَ مَا لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ، فَإِنَّهُ دَخَلَ إِلَيَّ الْحَبْسَ، وَقَالَ لِي: أَمَرَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْهَادِي أَنْ أَضْرِبَكَ مِائَةَ سَوْطٍ، فَأَقْبَلَ يَضَعُ السَّوْطَ عَلَى يَدَيَّ وَمَنْكِبِي يَمَسُّنِي بِهِ مَسًّا إِلَى أَنْ عَدَّ مِائَةَ سَوْطٍ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ لَهُ الْهَادِي: مَا صَنَعْتَ بِهِ؟ قَالَ: صَنَعْتُ الَّذِي أَمَرْتَنِي بِهِ، وَقَدْ مَاتَ الرَّجُلُ. فَقَالَ الْهَادِي: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَضَحْتَنِي، وَاللَّهِ عِنْدَ النَّاسِ، يَقُولُونَ: قُتِلَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ، فَلَمَّا رَأَى شِدَّةَ جَزَعِهِ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ حَيٌّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ مِنَ الْهَادِي بِمَنْزِلَةٍ عَظِيمَةٍ، فَمَاتَ لَهُ وَلَدٌ، فَأَتَاهُ الْهَادِي يُعَزِّيهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ! سَرَّكَ وَهُوَ عَدُوُّ وَفِتْنَةٌ، وَحَزَنَكَ وَهُوَ صَلَاةٌ وَرَحْمَةٌ؟ . فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! مَا بَقِيَ مِنِّي جُزْءٌ فِيهِ حُزْنٌ، إِلَّا وَقَدِ امْتَلَأَ عَزَاءً. فَلَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ صَارَتْ مَنْزِلَتُهُ لِسَعِيدِ بْنِ سَلْمٍ. قِيلَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي يُلَقَّبُ الْجَزَرِيَّ، قَدْ تَزَوَّجَ رُقَيَّةَ بِنْتَ عَمْرٍو الْعُثْمَانِيَّةَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ تَحْتَ الْمَهْدِيِّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْهَادِي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَعْيَاكَ النِّسَاءُ إِلَّا امْرَأَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ إِلَّا نِسَاءَ جَدِّي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا غَيْرُهُنَّ فَلَا، وَلَا كَرَامَةَ، فَشَجَّهُ بِمِخْصَرَةٍ كَانَتْ فِي يَدِهِ، وَجَلَدَهُ خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ، وَأَرَادَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَكَانَ قَدْ غُشِيَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرْبِ. وَكَانَ فِي يَدِهِ خَاتَمٌ نَفِيسٌ، فَأَهْوَى بَعْضُ الْخَدَمِ عَلَى الْخَاتَمِ لِيَأْخُذَهُ، فَقَبَضَ عَلَى يَدِهِ فَدَقَّهَا، فَصَاحَ، فَأَتَى الْهَادِي، فَأَرَاهُ يَدَهُ، فَغَضِبَ، وَقَالَ: تَفْعَلُ هَذَا بِخَادِمِي عَلَى اسْتِخْفَافِكَ بِأَبِي وَقَوْلِكَ لِي مَا قُلْتَ؟ قَالَ: سَلْهُ، وَاسْتَحْلِفْهُ أَنْ يَصْدُقَكَ، فَفَعَلَ. فَأَخْبَرَهُ الْخَادِمُ وَصَدَقَهُ، فَقَالَ: أَحْسَنَ وَاللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّهُ ابْنُ عَمِّي، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ

ذَلِكَ لَانْتَفَيْتُ مِنْهُ، وَأَمَرَ بِإِطْلَاقِهِ. قِيلَ: وَكَانَ الْمَهْدِيُّ قَدْ قَالَ لِلْهَادِي يَوْمًا، وَقَدْ قَدِمَ إِلَيْهِ زِنْدِيقٌ، فَقَتَلَهُ وَأَمَرَ بِصَلْبِهِ: يَا بُنَيَّ، إِذَا صَارَ الْأَمْرُ إِلَيْكَ فَتَجَرَّدْ لِهَذِهِ الْعِصَابَةِ، يَعْنِي أَصْحَابَ مَانِي، فَإِنَّهَا تَدْعُو النَّاسَ إِلَى ظَاهِرٍ حَسَنٍ كَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِشِ، وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ. ثُمَّ تُخْرِجُهَا مِنْ هَذَا إِلَى تَحْرِيمِ اللُّحُومِ، وَمَسِّ الْمَاءِ الطَّهُورِ، وَتَرْكِ قَتْلِ الْهَوَامِّ تَحَرُّجًا، ثُمَّ تُخْرِجُهَا إِلَى عِبَادَةِ اثْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا النُّورُ، وَالْآخَرُ الظُّلْمَةُ، ثُمَّ تُبِيحُ بَعْدَ هَذَا نِكَاحَ الْأَخَوَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَالِاغْتِسَالَ بِالْبَوْلِ، وَسَرِقَةَ الْأَطْفَالِ مِنَ الطُّرُقِ، لِتُنْقِذَهُمْ مِنْ ضَلَالِ الظُّلْمَةِ إِلَى هِدَايَةِ النُّورِ. فَارْفَعْ فِيهَا الْخَشَبَ، (وَجَرِّدِ السَّيْفَ فِيهَا، وَتَقَرَّبْ بِأَمْرِهَا إِلَى اللَّهِ، فَإِنِّي رَأَيْتُ جَدِّيَ الْعَبَّاسَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ، فِي الْمَنَامِ قَلَّدَنِي سَيْفَيْنِ لِقَتْلِ أَصْحَابِ الِاثْنَيْنِ. فَلَمَّا وَلِيَ الْهَادِي قَالَ: لَأَقْتُلَنَّ هَذِهِ الْفِرْقَةَ. وَأَمَرَ أَنْ يُهَيَّأَ لَهُ أَلْفُ جِذْعٍ فَمَاتَ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ بِشَهْرَيْنِ. قِيلَ: وَكَانَ عِيسَى بْنُ دَأْبٍ مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحِجَازِ أَدَبًا، وَأَعْذَبِهِمْ أَلْفًاظًا، وَكَانَ قَدْ حَظِيَ عِنْدَ الْهَادِي حَظْوَةً لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَكَانَ يَدْعُو لَهُ بِمَا يَتَّكِئُ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِهِ، وَمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ. وَكَانَ يَقُولُ لَهُ: مَا اسْتَطَلْتُ بِكَ يَوْمًا وَلَا لَيْلًا، وَلَا غِبْتَ عَنْ عَيْنِي إِلَّا تَمَنَّيْتُ أَنْ لَا أَرَى غَيْرَكَ، وَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ابْنُ دَأْبٍ أَرْسَلَ قَهْرَمَانَةً إِلَى الْحَاجِبِ فِي قَبْضِهَا، فَقَالَ الْحَاجِبُ: هَذَا لَيْسَ إِلَيَّ، فَانْطَلِقْ إِلَى صَاحِبِ التَّوْقِيعِ، وَإِلَى الدِّيوَانِ، فَعَادَ إِلَى ابْنِ دَأْبٍ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: اتْرُكْهَا. فَبَيْنَمَا الْهَادِي فِي مُسْتَشْرَفٍ لَهُ بِبَغْدَاذَ رَأَى ابْنَ دَأْبٍ وَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا غُلَامٌ وَاحِدٌ، فَقَالَ لِلْحَرَّانِيِّ: أَلَا تَرَى ابْنَ دَأْبٍ مَا غَيَّرَ حَالَهُ، وَقَدْ وَصَلْنَاهُ لِيُرَى أَثَرُنَا عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: إِنْ أَمَرْتَنِي عَرَّضْتُ لَهُ بِالْحَالِ. فَقَالَ: لَا، هُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهِ. وَدَخَلَ ابْنُ دَأْبٍ، وَأَخَذَ فِي حَدِيثِهِ، فَعَرَضَ الْهَادِي بِشَيْءٍ وَقَالَ: أَرَى ثَوْبَكَ غَسِيلًا، وَهَذَا شِتَاءٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْجَدِيدِ. فَقَالَ: بَاعِي قَصِيرٌ فَقَالَ: وَكَيْفَ، وَقَدْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ مَا فِيهِ صَلَاحُ شَأْنِكَ؟ فَقَالَ: مَا وَصَلَ إِلَيَّ شَيْءٌ فَدَعَا صَاحِبَ بَيْتِ مَالِ الْخَاصَّةِ فَقَالَ: عَجِّلِ السَّاعَةَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ

فَأُحْضِرَتْ وَحُمِلَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الرَّشِيدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ لِلرَّشِيدِ هَارُونَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بِالْخِلَافَةِ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا الْهَادِي، وَكَانَ عُمُرُهُ، حِينَ وَلِيَ، اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَأُمُّهُ الْخَيْزُرَانُ أُمُّ وَلَدٍ، يَمَانِيَّةٌ، جُرَشِيَّةٌ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِالرَّيِّ فِي آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: وُلِدَ مُسْتَهَلَّ مُحَرَّمٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَكَانَ مَوْلِدُ الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى الْبَرْمَكِيِّ قَبْلَهُ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَأَرْضَعَتْ أُمُّ ابْنِ يَحْيَى الرَّشِيدَ، وَأَرْضَعَتِ الْخَيْزُرَانُ الْفَضْلَ بِلِبَانِ الرَّشِيدِ. وَلَمَّا مَاتَ الْهَادِي كَانَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ الْبَرْمَكِيُّ مَحْبُوسًا، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَكَانَ الْهَادِي عَازِمًا عَلَى قَتْلِهِ، فَجَاءَ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ إِلَى الرَّشِيدِ فَأَخْرَجَهُ وَأَجْلَسَهُ لِلْخِلَافَةِ، فَأَرْسَلَ الرَّشِيدُ إِلَى يَحْيَى، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَبْسِ، وَاسْتَوْزَرَهُ وَأَمَرَ بِإِنْشَاءِ الْكُتُبِ إِلَى الْأَطْرَافِ بِجُلُوسِهِ لِلْخِلَافَةِ وَمَوْتِ الْهَادِي. وَقِيلَ: لَمَّا مَاتَ الْهَادِي جَاءَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ إِلَى الرَّشِيدِ، وَهُوَ نَائِمٌ فِي فِرَاشِهِ فَقَالَ لَهُ: قُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: كَمْ تُرَوِّعُنِي إِعْجَابًا مِنْكَ بِخِلَافَتِي، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالِي مَعَ الْهَادِي إِنْ بَلَغَهُ هَذَا؟ فَأَعْلَمَهُ بِمَوْتِهِ، وَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ أَتَاهُ رَسُولٌ آخَرُ يُبَشِّرُهُ بِمَوْلُودٍ فَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَهُوَ الْمَأْمُونُ، وَلَبِسَ ثِيَابَهُ وَخَرَجَ، فَصَلَّى عَلَى الْهَادِي بِعِيسَابَاذَ، وَقَتَلَ أَبَا عِصْمَةَ وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِ أَبِي عِصْمَةَ أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ سَائِرًا هُوَ وَجَعْفَرُ بْنُ الْهَادِي، فَبَلَغَا قَنْطَرَةً مِنْ قَنَاطِرِ عِيسَابَاذَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عِصْمَةَ: مَكَانَكَ حَتَّى يَجُوزَ وَلِيُّ الْعَهْدِ فَقَالَ الرَّشِيدُ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِلْأَمِيرِ وَوَقَفَ حَتَّى جَازَ جَعْفَرٌ، فَكَانَ هَذَا سَبَبَ قَتْلِهِ. وَلَمَّا وَصَلَ الرَّشِيدُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَبَلَغَ الْجِسْرَ، وَدَعَا الْغَوَّاصِينَ، وَقَالَ كَانَ الْمَهْدِيُّ قَدْ وَهَبَ لِي خَاتَمًا مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، يُسَمَّى الْجَبَلَ، فَأَتَانِي رَسُولُ الْهَادِي يَطْلُبُ

الْخَاتَمَ وَأَنَا هَاهُنَا، فَأَلْقَيْتُهُ فِي الْمَاءِ، فَغَاصُوا عَلَيْهِ وَأَخْرَجُوهُ، فَسُّرَ بِهِ. وَلَمَّا مَاتَ الْهَادِي هَجَمَ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ الْهَادِي فَأَخَذَهُ مِنْ فِرَاشِهِ، وَقَالَ لَهُ: لَتَخْلَعَنَّهَا أَوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ، فَأَجَابَ إِلَى الْخَلْعِ، وَرَكِبَ مِنَ الْغَدِ خُزَيْمَةُ،، وَأَظْهَرَ جَعْفَرًا لِلنَّاسِ فَأَشْهَدَهُمْ بِالْخَلْعِ، وَأَحَلَّ النَّاسَ مِنْ بَيْعَتِهِمْ، فَحَظِيَ بِهَا خُزَيْمَةُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا وُلِدَ الْأَمِينُ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ، فِي شَوَّالٍ، فَكَانَ الْمَأْمُونُ أَكْبَرَ مِنْهُ وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ الرَّشِيدُ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ، وَقَالَ لَهُ: قَدْ قَلَّدْتُكَ أَمْرَ الرَّعِيَّةِ، فَاحْكُمْ فِيهَا بِمَا تَرَى، وَاعْزِلْ مَنْ رَأَيْتَ، وَاسْتَعْمِلْ مَنْ رَأَيْتَ. وَدَفَعَ إِلَيْهِ خَاتَمَهُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ فِي ذَلِكَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ سَقِيمَةً ... فَلَمَّا وَلِيَ هَارُونُ أَشْرَقَ نُورُهَا بِيُمْنِ أَمِينِ اللَّهِ هَارُونَ ذِي النِّدَى ... فَهَارُونُ وَالِيهَا وَيَحْيَى وَزِيرُهَا وَكَانَ يَحْيَى يَصُدُّ عَنْ رَأْيِ الْخَيْزُرَانِ أُمِّ الرَّشِيدِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ الْمُهَلَّبِيُّ، وَالِي إِفْرِيقِيَّةَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا ابْنَهُ دَاوُدَ، وَانْتَقَضَتْ جِبَالُ بَاجَةَ، وَخَرَجَ فِيهَا الْإِبَاضِيَّةُ فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ دَاوُدُ جَيْشًا، فَظَفِرَ بِهِمِ الْإِبَاضِيَّةُ، وَهَزَمُوهُمْ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا آخَرَ، فَهُزِمَتِ الْإِبَاضِيَّةُ، فَتَبِعَهُمُ الْجَيْشُ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ، فَأَكْثَرُوا. وَبَقِيَ دَاوُدُ أَمِيرًا إِلَى أَنِ اسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ عَمَّهُ رَوْحَ بْنَ حَاتِمٍ الْمُهَلَّبِيَّ أَمِيرًا عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَتْ إِمَارَةُ دَاوُدَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ.

وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيَّ عَنِ الْمَدِينَةِ، عَلَى سَاكِنِهَا السَّلَامُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا إِسْحَاقَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. وَفِيهَا ظَهَرَ مَنْ كَانَ مُسْتَخْفِيًا، مِنْهُمْ طَبَاطَبَا الْعَلَوِيُّ، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، (وَعَلِيُّ) بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَبَقِيَ نَفَرٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ لَمْ يَظْهَرُوا، مِنْهُمْ: يُونُسُ بْنُ فَرْوَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ الْفَيْضِ. وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ الثُّغُورَ كُلَّهَا عَنِ الْجَزِيرَةِ وَقِنَّسْرِينَ وَجَعَلَهَا حَيِّزًا وَاحِدًا، وَسُمِّيَتِ الْعَوَاصِمَ، وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ طَرَسُوسَ عَلَى يَدَيْ فَرْجٍ الْخَادِمِ التُّرْكِيِّ وَنَزَلَهَا النَّاسُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الرَّشِيدُ، وَقَسَمَ بِالْحَرَمَيْنِ عَطَاءً كَثِيرًا، وَقِيلَ إِنَّهُ غَزَا الصَّائِفَةَ بِنَفْسِهِ، وَغَزَا الصَّائِفَةَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبُكَائِيُّ. وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُثَمَ، وَعَلَى الْكُوفَةِ: مُوسَى بْنُ عِيسَى وَعَلَى الْبَصْرَةِ وَالْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَامَةِ وَعُمَّانَ وَالْأَهْوَازِ وَفَارِسَ: مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَانَ عَلَى خُرَاسَانَ: الْفَضْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ الطُّوسِيُّ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ: عَبْدُ الْمَلِكِ.

وَفِيهَا أَوْقَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ بِبَرَابِرِ نَفْزَةَ، فَأَذَلَّهُمْ، وَقَتَلَ فِيهِمْ. وَفِيهَا أَمَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِبِنَاءِ جَامِعِ قُرْطُبَةَ، وَكَانَ مَوْضِعَهُ كَنِيسَةٌ وَأَخْرَجَ عَلَيْهِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ.

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ] 171 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَقِيلَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ (وَمِائَةٍ، وَهُوَ أَصَحُّ) . وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِأَرْضِ دِمَشْقَ، وَقِيلَ بِالْعَلْيَاءِ مِنْ نَاحِيَةِ تَدْمُرَ، سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِقُرْطُبَةَ. وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ عَهِدَ إِلَى ابْنِهِ هِشَامٍ، وَكَانَ هِشَامٌ بِمَدِينَةِ مَارِدَةَ وَالِيًا عَلَيْهَا، وَكَانَ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ الْأَكْبَرُ، بِطُلَيْطِلَةَ وَالِيًا عَلَيْهَا، فَلَمْ يَحْضُرَا مَوْتَ أَبِيهِمَا، وَحَضَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِالْبَلَنْسِيِّ، وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ لِأَخِيهِ هِشَامٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِنَعْيِ أَبِيهِ وَبِالْإِمَارَةِ، فَسَارَ إِلَى قُرْطُبَةَ. وَكَانَتْ دَوْلَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَكَانَتْ كُنْيَتُهُ أَبَا الْمُطَرِّفِ، وَقِيلَ: أَبَا سُلَيْمَانَ، وَقِيلَ: أَبَا زَيْدٍ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ: أَحَدَ عَشَرَ ذَكَرًا، وَتِسْعَ بَنَاتٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ بَرْبَرِيَّةً مِنْ سَبْيِ إِفْرِيقِيَّةَ. وَكَانَ أَصْهَبَ، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ، طَوِيلَ الْقَامَةِ، نَحِيفَ الْجِسْمِ، أَعْوَرَ لَهُ ضَفِيرَتَانِ. وَكَانَ فَصِيحًا لَسِنًا، شَاعِرًا، حَلِيمًا، عَالِمًا حَازِمًا، سَرِيعَ النَّهْضَةِ فِي طَلَبِ الْخَارِجِينَ عَلَيْهِ، لَا يَخْلُدُ إِلَى رَاحَةٍ، (وَلَا يَسْكُنُ إِلَى دَعَةٍ، وَلَا يَكِلُ الْأُمُورَ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا

يَنْفَرِدُ فِي الْأُمُورِ بِرَأْيِهِ، شُجَاعًا مِقْدَامًا بَعِيدَ الْغَوْرِ) ، شَدِيدَ الْحَذَرِ، سَخِيًّا، جَوَادًا، يُكْثِرُ لُبْسَ الْبَيَاضِ، وَكَانَ يُقَاسُ بِالْمَنْصُورِ فِي حَزْمِهِ وَشِدَّتِهِ، وَضَبْطِ الْمَمْلَكَةِ. (وَبَنَى الرُّصَافَةَ بِقُرْطُبَةَ تَشَبُّهًا بِجَدِّهِ هِشَامٍ حَيْثُ بَنَى الرُّصَافَةَ بِالشَّامِ، وَلَمَّا سَكَنَهَا رَأَى فِيهَا نَخْلَةً مُنْفَرِدَةً، فَقَالَ: تَبَدَّتْ لَنَا وَسْطَ الرُّصَافَةِ نَخْلَةٌ ... تَنَاءَتْ بِأَرْضِ الْغَرْبِ عَنْ بَلَدِ النَّخْلِ فَقُلْتُ: شَبِيهِي فِي التَّغَرُّبِ وَالنَّوَى ... وَطُولِ التَّنَائِي عَنْ بَنِيَّ وَعَنْ أَهْلِي نَشَأْتِ بِأَرْضٍ أَنْتِ فِيهَا غَرِيبَةٌ ... فَمِثْلُكِ فِي الْإِقْصَاءِ وَالْمُنْتَأَى مِثْلِي سَقَتْكِ غَوَادِي الْمُزْنِ مِنْ صَوْبِهَا الَّذِي ... يَسِحُّ وَيَسْتَمْرِي السِّمَاكَيْنِ بِالْوَبْلِ وَقَصَدَهُ بَنُو أُمَيَّةَ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَمِنَ الْمَشْهُورِينَ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَرْوَانَ، وَهُوَ قُعْدُدُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ قَطْعِ الدَّعْوَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ بِالْأَنْدَلُسِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ مَعَهُ أَحَدَ عَشَرَ وَلَدًا لَهُ) . ذِكْرُ إِمَارَةِ ابْنِهِ هِشَامٍ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَدْ عَهِدَ إِلَى ابْنِهِ هِشَامٍ، وَلَمْ يَكُنْ أَكْبَرَ وَلَدِهِ، فَإِنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ أَكْبَرَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَتَوَسَّمُ فِيهِ الشَّهَامَةَ، وَالِاضْطِلَاعَ بِهَذَا الْأَمْرِ، فَلِهَذَا عَهِدَ إِلَيْهِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ كَانَ هُوَ بِمَارِدَةَ مُتَوَلِّيًا لَهَا، وَنَاظِرًا فِي أَمْرِهَا، وَكَانَ أَخُوهُ سُلَيْمَانُ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، بِمَدِينَةِ طُلَيْطِلَةَ، وَكَانَ يَرُومُ الْأَمْرَ لِنَفْسِهِ، وَيَحْسُدُ أَخَاهُ هِشَامًا عَلَى تَقْدِيمِ وَالِدِهِ لَهُ عَلَيْهِ، وَأَضْمَرَ لَهُ الْغِشَّ وَالْعِصْيَانَ، وَكَانَ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِالْبَلَنْسِيِّ حَاضِرًا بِقُرْطُبَةَ عِنْدَ وَالِدِهِ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ جَدَّدَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَيْعَةَ لِأَخِيهِ هِشَامٍ، بَعْدَ أَنْ صَلَّى عَلَى

وَالِدِهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ هِشَامً يُعَرِّفُهُ مَوْتَ وَالِدِهِ، وَالْبَيْعَةَ لَهُ، فَسَارَ مِنْ سَاعَتِهِ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَدَخَلَهَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْمُلْكِ، وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى دَارِهِ، مُظْهِرًا لِطَاعَتِهِ، وَفِي نَفْسِهِ غَيْرُ هَذَا، وَسَنَذْكُرُ مَا كَانَ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ الصَّحْصَحِ الْخَارِجِيِّ وَفِيهَا خَرَجَ الصَّحْصَحُ الْخَارِجِيُّ بِالْجَزِيرَةِ، وَكَانَ عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَوَجَّهَ عَسْكَرًا إِلَى الصَّحْصَحِ، فَلَقُوهُ، فَهَزَمَهُمْ، وَسَارَ الصَّحْصَحُ إِلَى الْمَوْصِلِ فَلَقِيَهُ عَسْكَرُهَا بِبَاجَرْمَى، فَقَتَلَ مِنْهُمْ كَثِيرًا، وَرَجَعَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، فَغَلَبَ عَلَى دِيَارِ رَبِيعَةَ، فَسَيَّرَ الرَّشِيدُ إِلَيْهِ جَيْشًا بِدُورَيْنِ، فَقَتَلُوهُ، وَعَزَلَ الرَّشِيدُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ الْجَزِيرَةِ. ذِكْرُ قَتْلِ رَوْحِ بْنِ صَالِحٍ وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ رَوْحَ بْنَ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيَّ، وَهُوَ مِنْ قُوَّادِ الْمَوْصِلِ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَغْلِبَ خِلَافٌ، فَجَمَعَ جَمْعًا، وَقَصَدَهُمْ، فَبَلَغَهُمُ الْخَبَرُ، فَاجْتَمَعُوا، وَسَارُوا إِلَى رَوْحٍ فَبَيَّتُوهُ، فَقُتِلَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَسَمِعَ حَاتِمُ بْنُ صَالِحٍ، وَهُوَ بِالسُّكَيْرِ، فَجَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا، وَسَارَ إِلَى تَغْلِبَ، فَبَيَّتَهُمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ مِثْلَهُمْ. وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ صَالِحٍ الْهَاشِمِيَّ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا إِسْحَاقَ بْنَ مُحَمَّدٍ. ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ رَوْحِ بْنِ حَاتِمٍ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ رَوْحَ بْنَ حَاتِمِ بْنِ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ، لَمَّا بَلَغَهُ وَفَاةُ أَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ بِهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَقَدِمَهَا فِي رَجَبٍ، وَكَانَ دَاوُدُ بْنُ يَزِيدَ أَخِيهِ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ، فَلَمَّا وَصَلَ عَمُّهُ رَوْحٌ سَارَ دَاوُدُ إِلَى الرَّشِيدِ، فَاسْتَعْمَلَهُ. قَالَ رَوْحٌ: كُنْتُ عَامِلًا عَلَى فَلَسْطِينَ، فَأَحْضَرَنِي الرَّشِيدُ، فَوَصَلْتُ وَقَدْ بَلَغَهُ مَوْتُ أَخِي يَزِيدَ، فَقَالَ: أَحْسَنَ اللَّهُ عَزَاءَكَ فِي أَخِيكَ، وَقَدْ وَلَّيْتُكَ مَكَانَهُ لِتَحْفَظَ صَنَائِعَهُ وَمَوَالِيَهُ.

فَسَارَ إِلَيْهَا، وَلَمْ تَزَلِ الْبِلَادُ مَعَهُ آمِنَةً، سَاكِنَةً مِنْ فِتْنَةٍ، لِأَنَّ أَخَاهُ يَزِيدَ كَانَ قَدْ أَكْثَرَ الْقَتْلَ فِي الْخَوَارِجِ بِإِفْرِيقِيَّةَ فَذَلُّوا. ثُمَّ تُوُفِّيَ رَوْحٌ بِالْقَيْرَوَانِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ قَبْرِ أَخِيهِ يَزِيدَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ. وَلَمَّا اسْتَعْمَلَ الْمَنْصُورُ يَزِيدَ بْنَ حَاتِمٍ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ، اسْتَعْمَلَ أَخَاهُ رَوْحًا عَلَى السِّنْدِ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ بَاعَدْتَ مَا بَيْنَ قَبْرَيْهِمَا، فَتُوُفِّيَ يَزِيدُ بِالْقَيْرَوَانِ، ثُمَّ وَلِيَهَا رَوْحٌ، فَتُوُفِّيَ بِهَا وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ أَخِيهِ يَزِيدَ. وَكَانَ رَوْحٌ أَشْهَرَ بِالشَّرْقِ مِنْ يَزِيدَ، وَيَزِيدُ أَشْهَرَ بِالْغَرْبِ مِنْ رَوْحٍ لِطُولِ مُدَّةِ وِلَايَتِهِ، وَكَثْرَةِ خُرُوجِهِ فِيهَا وَالْخَارِجِينَ عَلَيْهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا قَدِمَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ الطُّوسِيُّ مِنْ خُرَاسَانَ، وَاسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ عَلَيْهَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَلَمَّا قَدِمَ خُرَاسَانَ سَيَّرَ ابْنَهُ الْعَبَّاسَ إِلَى كَابُلٍ، فَقَاتَلَ أَهْلَهَا حَتَّى افْتَتَحَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ سَانَهَارَ، وَغَنِمَ مَا كَانَ بِهَا. وَفِيهَا قَتَلَ الرَّشِيدُ أَبَا هُرَيْرَةَ مُحَمَّدَ بْنَ فَرُّوخَ، وَكَانَ عَلَى الْجَزِيرَةِ فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ أَبَا حَنِيفَةَ حَرْبَ بْنَ قَيْسٍ، فَأَحْضَرَهُ إِلَى بَغْدَاذَ وَقَتَلَهُ. وَفِيهَا أَمَرَ الرَّشِيدُ بِإِخْرَاجِ الطَّالِبِيِّينَ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلَا الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ [عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ] . وَفِيهَا خَرَجَ الْفَضْلُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَرُورِيُّ فَقَتَلَهُ أَبُو خَالِدٍ الْمَرْوَرُّوذِيُّ.

وَفِيهَا قَدِمَ رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ إِفْرِيقِيَّةَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ] 172 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ خُرُوجِ سُلَيْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى أَخِيهِمَا هِشَامٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، خَرَجَ سُلَيْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ، أَمِيرِ الْأَنْدَلُسِ، عَنْ طَاعَةِ أَخِيهِمَا هِشَامٍ بِالْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ هِشَامٌ قَدْ مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ لَهُ الْمُلْكُ كَانَ مَعَهُ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِالْبَلَنْسِيِّ، وَكَانَ هِشَامٌ يُؤْثِرُهُ وَيَبَرُّهُ وَيُقَدِّمُهُ، فَلَمْ يَرْضَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَّا بِالْمُشَارَكَةِ فِي أَمْرِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ خَافَ مِنْ أَخِيهِ هِشَامٍ، فَمَضَى هَارِبًا إِلَى أَخِيهِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ بِطُلَيْطِلَةَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ قُرْطُبَةَ أَرْسَلَ هِشَامٌ جَمْعًا فِي أَثَرِهِ لِيَرُدُّوهُ فَلَمْ يَلْحَقُوهُ، فَجَمَعَ هِشَامٌ عَسَاكِرَهُ، وَسَارَ إِلَى طُلَيْطِلَةَ، فَحَصَرَ أَخَوَيْهِ بِهَا، وَكَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ جَمَعَ وَحَشَدَ خَلْقًا كَثِيرًا، فَلَمَّا حَصَرَهُمَا هِشَامٌ سَارَ سُلَيْمَانُ مِنْ طُلَيْطِلَةَ وَتَرَكَ ابْنَهُ وَأَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ يَحْفَظَانِ الْبَلَدَ، وَسَارَ هُوَ إِلَى قُرْطُبَةَ لِيَمْلِكَهَا، فَعَلِمَ هِشَامٌ الْحَالَ، فَلَمْ يَتَحَرَّكْ، وَلَا فَارَقَ طُلَيْطِلَةَ بَلْ أَقَامَ يَحْصُرُهَا. وَسَارَ سُلَيْمَانُ، فَوَصَلَ إِلَى شَقُنْدَةَ، فَدَخَلَهَا، وَخَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُ قُرْطُبَةَ مُقَاتِلِينَ وَدَافِعِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ هِشَامًا سَيَّرَ فِي أَثَرِهِ ابْنَهُ عَمِيدَ الْمُلْكِ، فِي قِطْعَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، فَلَمَّا قَارَبَهُ مَضَى سُلَيْمَانُ هَارِبًا، فَقَصَدَ مَدِينَةَ مَارِدَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْوَالِي بِهَا لِهِشَامٍ، فَحَارَبَهُ، فَانْهَزَمَ سُلَيْمَانُ، وَبَقِيَ هِشَامٌ عَلَى طُلَيْطِلَةَ شَهْرَيْنِ وَأَيَّامًا مُحَاصِرًا لَهَا ثُمَّ عَادَ عَنْهَا، وَقَدْ قَطَعَ أَشْجَارَهَا، وَسَارَ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَأَتَاهُ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ. فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ سَيَّرَ هِشَامٌ ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى تُدْمِيرَ،

وَبِهَا سُلَيْمَانُ، فَحَارَبَهُ، وَخَرَّبُوا أَعْمَالَ تُدْمِيرَ، وَدَوَّخُوا أَهْلَهَا وَمَنْ بِهَا، وَبَلَغُوا الْبَحْرَ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ مِنْ تُدْمِيرَ هَارِبًا، فَلَجَأَ إِلَى الْبَرَابِرِ بِنَاحِيَةِ بَلَنْسِيَةَ، فَاعْتَصَمَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ الْوَعْرَةِ الْمَسْلَكِ، فَعَادَ مُعَاوِيَةُ إِلَى قُرْطُبَةَ. ثُمَّ إِنَّ الْحَالَ اسْتَقَرَّ بَيْنَ هِشَامٍ وَسُلَيْمَانَ أَنْ يَأْخُذَ سُلَيْمَانُ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ وَأَمْوَالَهُ وَيُفَارِقَ الْأَنْدَلُسَ، وَأَعْطَاهُ هِشَامٌ سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ مُصَالَحَةً عَنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَسَارَ إِلَى بَلَدِ الْبَرَابِرِ فَأَقَامَ بِهِ. ذِكْرُ خُرُوجِ جَمَاعَةٍ عَلَى هِشَامٍ أَيْضًا وَفِيهَا خَرَجَ بِالْأَنْدَلُسِ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ يَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ بِشَاغَنْتَ، مِنْ أَقَالِيمِ طَرْطُوشَةَ، فِي شَرْقِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ قَدِ الْتَجَأَ إِلَيْهَا حِينَ قُتِلَ أَبُوهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَدَعَا إِلَى الْيَمَانِيَّةِ، وَتَعَصَّبَ لَهُمْ، فَاجْتَمَعَ لَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَمَلَكَ مَدِينَةَ طَرْطُوشَةَ، وَأَخْرَجَ عَامِلَهُ يُوسُفَ الْقَيْسِيَّ، فَعَارَضَهُ مُوسَى بْنُ فَرْتُونَ، وَقَامَ بِدَعْوَةِ هِشَامٍ، وَوَافَقَتْهُ مُضَرُ، (فَاقْتَتَلَا، فَانْهَزَمَ سَعِيدٌ وَقُتِلَ وَسَارَ مُوسَى إِلَى سَرَقُسْطَةَ فَمَلَكَهَا، فَخَرَجَ عَلَيْهِ مَوْلًى لِلْحُسَيْنِ بْنِ يَحْيَى اسْمُهُ جَحْدَرُ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ فَقَاتَلَهُ وَقُتِلَ مُوسَى) . وَخَرَجَ أَيْضًا مَطْرُوحُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَقْظَانَ بِمَدِينَةِ بَرْشَلُونَةَ، وَخَرَجَ مَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَمَلَكَ مَدِينَةَ سَرَقُسْطَةَ وَمَدِينَةَ وَشْقَةَ، وَتَغَلَّبَ عَلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَكَانَ هِشَامٌ مَشْغُولًا بِمُحَارَبَةِ أَخَوَيْهِ سُلَيْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ إِسْحَاقَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَاسْتَعْمَلَ سَعِيدَ بْنَ سَلْمٍ الْبَاهِلِيَّ، وَعَزَلَ الرَّشِيدُ يَزِيدَ بْنَ مَزْيَدِ بْنِ زَائِدَةَ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ، عَنْ أَرْمِينِيَّةَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَخَاهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْمَهْدِيِّ.

وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ. وَفِيهَا وَضَعَ الرَّشِيدُ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ الْعُشْرَ الَّذِي كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بَعْدَ النِّصْفِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ يَعْقُوبُ بْنُ الْمَنْصُورِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ الْفَضْلُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَخُو عَبْدِ الْمَلِكِ، وَتُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ مَوْلَى ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ. (وَتُوُفِّيَ أَبُو يَزِيدَ رِيَاحُ بْنُ يَزِيدَ اللَّخْمِيُّ الزَّاهِدُ، بِمَدِينَةِ الْقَيْرَوَانِ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ) .

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ] 173 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ فِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ بِالْبَصْرَةِ، فَأَرْسَلَ الرَّشِيدُ مَنْ قَبَضَ تَرِكَتَهُ، وَكَانَتْ عَظِيمَةً مِنَ الْمَالِ، وَالْمَتَاعِ، وَالدَّوَابِّ، فَحَمَلُوا مِنْهُ مَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ، وَتَرَكُوا مَا لَا يَصْلُحُ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَخَذُوا سِتُّونَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَلَمَّا قَدِمُوا بِذَلِكَ عَلَيْهِ أَطْلَقَ مِنْهُ لِلنُّدَمَاءِ وَالْمُغَنِّينَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَرَفَعَ الْبَاقِي إِلَى خِزَانَتِهِ. وَكَانَ سَبَبُ أَخْذِ الرَّشِيدِ تَرِكَتَهُ أَنَّ أَخَاهُ جَعْفَرَ بْنَ سُلَيْمَانَ كَانَ يَسْعَى بِهِ إِلَى الرَّشِيدِ حَسَدًا لَهُ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، وَلَا ضَيْعَةَ إِلَّا وَقَدْ أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى مَا تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسُهُ، يَعْنِي الْخِلَافَةَ. وَإِنَّ أَمْوَالَهُ حِلٌّ طِلْقٌ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ الرَّشِيدُ يَأْمُرُ بِالِاحْتِفَاظِ بِكُتُبِهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ (أُخْرِجَتْ كُتُبُهُ إِلَى جَعْفَرٍ) أَخِيهِ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَخٌ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ غَيْرَ جَعْفَرٍ، فَأَقَرَّ بِهَا، فَلِهَذَا قُبِضَتْ أَمْوَالُهُ. [وَفَاةُ الْخَيْزُرَانِ] وَفِيهَا مَاتَتِ الْخَيْزُرَانُ أُمُّ الرَّشِيدِ، فَحَمَلَ الرَّشِيدُ جَنَازَتَهَا، وَدَفَنَهَا فِي مَقَابِرِ قُرَيْشٍ، وَلَمَّا فَرَغَ أَعْطَى الْخَاتَمَ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ، وَأَخَذَهُ مِنْ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ.

وَفِيهَا اسْتَقْدَمَ الرَّشِيدُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ مِنْ خُرَاسَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا ابْنَهُ الْعَبَّاسَ بْنَ جَعْفَرٍ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ الرَّشِيدُ، أَحْرَمَ مِنْ بَغْدَاذَ. [الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا مَاتَ مُورْقَاطُ مَلِكُ جِلِّيقِيَّةَ، مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ بُرْمُنْدُ بْنُ قُلُورِيَةَ الْقِسُّ ثُمَّ تَبَرَّأَ مِنَ الْمُلْكِ، وَتَرَهَّبَ، وَجَعَلَ ابْنَ أَخِيهِ فِي الْمُلْكِ، وَكَانَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيهِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ (بِتَشْدِيدِ اللَّامِ) ، وَجُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءِ بْنِ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ، وَمَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسْمَاءٍ الْفَزَارِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِمَكَّةَ فُجَاءَةً.

ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ] 174 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ فِيهَا اسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ إِسْحَاقَ بْنَ سُلَيْمَانَ عَلَى السِّنْدِ وَمُكْرَانَ. وَفِيهَا اسْتَقْضَى الرَّشِيدُ يُوسُفَ بْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَأَبُوهُ حَيٌّ. وَفِيهَا هَلَكَ رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ، وَسَارَ الرَّشِيدُ آلَ الْجُودِيِّ، وَنَزَلَ بِقَرْدَى وَبَازَبْدَى مِنْ أَعْمَالِ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، فَابْتَنَى بِهَا قَصْرًا. وَغَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الرَّشِيدُ، فَقَسَمَ فِي النَّاسِ مَالًا كَثِيرًا. وَفِيهَا عُزِلَ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ قَضَاءِ الْمَوْصِلِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِهَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زِيَادٍ الدُّولَابِيُّ.

ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ] 175 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَقَدَ الرَّشِيدُ لِابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ زُبَيْدَةَ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَلَقَّبَهُ الْأَمِينَ، وَأَخَذَ لَهُ الْبَيْعَةَ وَعُمُرُهُ خَمْسُ سِنِينَ. وَكَانَ سَبَبُ الْبَيْعَةِ أَنَّ خَالَهُ عِيسَى بْنَ جَعْفَرِ بْنِ الْمَنْصُورِ جَاءَ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فَسَأَلَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ وَلَدُكَ، وَخِلَافَتُهُ لَكَ. فَوَعَدَهُ بِذَلِكَ، وَسَعَى فِيهَا، حَتَّى بَايَعَ النَّاسُ لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ. وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ عَنْ خُرَاسَانَ الْعَبَّاسَ بْنَ جَعْفَرٍ، وَوَلَّاهَا خَالِدًا الْغِطْرِيفَ بْنَ عَطَاءٍ. وَغَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ فَبَلَغَ أَقْرِيطِيَةَ. وَقِيلَ غَزَاهَا عَبْدُ الْمَلِكِ نَفْسُهُ، فَأَصَابَهُمْ بَرْدٌ شَدِيدٌ سَقَطَ مِنْهُ كَثِيرٌ [مِنْ] أَيْدِي الْجُنْدِ وَأَرْجُلِهِمْ. وَفِيهَا سَارَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى الدَّيْلَمِ، فَتَحَرَّكَ هُنَاكَ.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ هَارُونُ الرَّشِيدُ. ذِكْرُ ظَفَرِ هِشَامٍ بِأَخَوَيْهِ وَمَطْرُوحٍ وَفِيهَا فَرَغَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، مِنْ أَخَوَيْهِ سُلَيْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ، وَأَجْلَاهُمَا عَنِ الْأَنْدَلُسِ، فَلَمَّا خَلَا سِرُّهُ مِنْهُمَا انْتَدَبَ لِمَطْرُوحِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَقْظَانَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُثْمَانَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُثْمَانَ. فَسَارُوا إِلَى مَطْرُوحٍ، وَهُوَ بِسَرَقُسْطَةَ، فَحَصَرُوهُ بِهَا، فَلَمْ يَظْفَرُوا بِهِ، فَرَجَعَ أَبُو عُثْمَانَ عَنْهُ، وَنَزَلَ بِحِصْنِ طَرَسُونَةَ، بِالْقُرْبِ مِنْ سَرَقُسْطَةَ، وَبَثَّ سَرَايَاهُ عَلَى أَهْلِ سَرَقُسْطَةَ يُغِيرُونَ وَيَمْنَعُونَ عَنْهُمُ الْمِيرَةَ. ثُمَّ إِنَّ مَطْرُوحًا خَرَجَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، آخِرَ النَّهَارِ، يَتَصَيَّدُ، فَأَرْسَلَ الْبَازِي عَلَى طَائِرٍ، فَاقْتَنَصَهُ، فَنَزَلَ مَطْرُوحٌ لِيَذْبَحَهُ بِيَدِهِ، وَمَعَهُ صَاحِبَانِ لَهُ قَدِ انْفَرَدَ بِهِمَا عَنْ أَصْحَابِهِ، فَقَتَلَاهُ وَاحْتَزَّا رَأْسَهُ وَأَتَيَا بِهِ أَبَا عُثْمَانَ، فَسَارَ إِلَى سَرَقُسْطَةَ، فَكَاتَبَهُ أَهْلُهَا بِالطَّاعَةِ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ، وَسَارَ إِلَيْهَا فَنَزَلَهَا، وَأَرْسَلَ رَأْسَ مَطْرُوحٍ إِلَى هِشَامٍ. ذِكْرُ غَزَاةِ هِشَامٍ بِالْأَنْدَلُسِ ثُمَّ إِنَّ أَبَا عُثْمَانَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ مَطْرُوحٍ أَخَذَ الْجَيْشَ، وَسَارَ بِهِمْ إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ، فَقَصَدَ أَلَبَةَ، وَالْقِلَاعَ، فَلَقِيَهُ الْعَدُوُّ، فَظَفِرَ بِهِمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَفِيهَا سَيَّرَ هِشَامٌ أَيْضًا يُوسُفَ بْنَ بُخْتٍ فِي جَيْشٍ إِلَى جِلِّيقِيَّةَ، فَلَقِيَ مَلِكَهُمْ وَهُوَ بُرْمُنْدُ الْكَبِيرُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَتِ الْجَلَالِقَةُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ عَالَمٌ كَثِيرٌ. وَفِيهَا انْقَادَ أَهْلُ طُلَيْطِلَةَ إِلَى طَاعَةِ الْأَمِيرِ هِشَامٍ فَآمَنَهُمْ. وَفِيهَا سَجَنَ هِشَامٌ أَيْضًا ابْنَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ لِشَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهُ، فَبَقِيَ مَسْجُونًا حَيَاةَ أَبِيهِ وَبَعْضَ وِلَايَةِ أَخِيهِ، فَتُوُفِّيَ مَحْبُوسًا سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا خَرَجَ بِخُرَاسَانَ حُصَيْنٌ الْخَارِجِيُّ، وَهُوَ مِنْ مَوَالِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، مِنْ أَهْلِ أُوقَ، وَكَانَ عَلَى سِجِسْتَانَ عُثْمَانُ بْنُ عُمَارَةَ، فَأَرْسَلَ جَيْشًا، فَلَقِيَهُمْ حُصَيْنٌ، فَهَزَمَهُمْ، ثُمَّ أَتَى خُرَاسَانَ وَقَصَدَ بَاذَغِيسَ، وَبُوشَنْجَ، وَهَرَاةَ، وَكَتَبَ الرَّشِيدُ إِلَى الْغِطْرِيفِ فِي طَلَبِهِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْغِطْرِيفُ دَاوُدَ بْنَ يَزِيدَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَلَقِيَهُمْ حُصَيْنٌ فِي سِتِّمِائَةٍ، فَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا. ثُمَّ سَارَ فِي خُرَاسَانَ إِلَى أَنْ قُتِلَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ الْفَقِيهُ بِمِصْرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو الْعَنْبَسِ الشَّاعِرُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمُسَيَّبُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مُسْلِمٍ الضَّبِّيُّ، وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ، وَكَانَ عَلَى شُرَطِ الْمَنْصُورِ وَالْمَهْدِيِّ، وَوَلَّاهُ الْمَهْدِيُّ خُرَاسَانَ. وَفِيهَا وُلِدَ إِدْرِيسُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.

ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ] 176 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ ظُهُورِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِالدَّيْلَمِ (فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بِالدَّيْلَمِ) وَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُ، وَكَثُرَ جُمُوعُهُ، وَأَتَاهُ النَّاسُ مِنَ الْأَمْصَارِ، فَاغْتَمَّ الرَّشِيدُ لِذَلِكَ، فَنَدَبَ إِلَيْهِ الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى فِي خَمْسِينَ أَلْفًا، وَوَلَّاهُ جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ وَالرَّيَّ وَغَيْرَهَا، وَحَمَلَ مَعَهُ الْأَمْوَالَ، فَكَاتَبَ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَطُفَ بِهِ، وَحَذَّرَهُ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ، وَبَسَطَ أَمَلَهُ. وَنَزَلَ الْفَضْلُ (الطَّالَقَانَ) ، بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ أَشَبُّ، وَوَالَى كُتُبَهُ إِلَى يَحْيَى، وَكَاتَبَ صَاحِبَ الدَّيْلَمِ، وَبَذَلَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُسَهِّلَ لَهُ خُرُوجَ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. فَأَجَابَ يَحْيَى إِلَى الصُّلْحِ، عَلَى أَنْ يَكْتُبَ لَهُ الرَّشِيدُ أَمَانًا بِخَطِّهِ يُشْهِدُ عَلَيْهِ فِيهِ الْقُضَاةَ، وَالْفُقَهَاءَ، وَجِلَّةَ بَنِي هَاشِمٍ، وَمَشَايِخَهُمْ، مِنْهُمْ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ، فَأَجَابَهُ الرَّشِيدُ إِلَى ذَلِكَ، وَسُرَّ بِهِ، وَعَظُمَتْ مَنْزِلَةُ الْفَضْلِ عِنْدَهُ وَسَيَّرَ الْأَمَانَ مَعَ هَدَايَا وَتُحَفٍ، فَقَدِمَ يَحْيَى مَعَ الْفَضْلِ بَغْدَاذَ، فَلَقِيَهُ الرَّشِيدُ بِكُلِّ مَا أَحَبَّ، وَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ كَثِيرٍ. ثُمَّ إِنَّ الرَّشِيدَ حَبَسَهُ، فَمَاتَ فِي الْحَبْسِ، وَكَانَ الرَّشِيدُ قَدْ عَرَضَ كِتَابَ أَمَانِ يَحْيَى عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْفَقِيهِ، وَعَلَى أَبِي الْبَخْتَرِيِّ الْقَاضِي، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْأَمَانُ صَحِيحٌ، فَحَاجَّهُ الرَّشِيدُ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَا يَصْنَعُ بِالْأَمَانِ لَوْ كَانَ مُحَارِبًا، ثُمَّ وَلِيَ وَكَانَ آمِنًا؟ وَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: هَذَا أَمَانٌ مُنْتَقَضٌ مِنْ وَجْهِ كَذَا، فَمَزَّقَهُ الرَّشِيدُ.

ذِكْرُ وِلَايَةِ عُمَرَ بْنِ مِهْرَانَ مِصْرَ. وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ مُوسَى بْنَ عِيسَى عَنْ مِصْرَ، وَرَدَّ أَمْرَهَا إِلَى جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا جَعْفَرٌ عُمَرَ بْنَ مِهْرَانَ. وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ أَنَّ الرَّشِيدَ بَلَغَهُ أَنَّ مُوسَى عَازِمٌ عَلَى الْخَلْعِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَعْزِلُهُ إِلَّا بِأَخَسَّ مَنْ عَلَى بَابِي! فَأَمَرَ جَعْفَرًا، فَأَحْضَرَ عُمَرَ بْنَ مِهْرَانَ، وَكَانَ أَحْوَلَ، مُشَوَّهَ الْخَلْقِ، وَكَانَ لِبَاسُهُ خَسِيسًا، وَكَانَ يُرْدِفُ غُلَامَهُ خَلْفَهُ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: أَتَسِيرُ إِلَى مِصْرَ أَمِيرًا؟ قَالَ: أَتَوَلَّاهَا عَلَى شَرَائِطَ، إِحْدَاهَا أَنْ يَكُونَ إِذْنِي إِلَى نَفْسِي، إِذَا أَصْلَحْتُ الْبِلَادَ انْصَرَفْتُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ. فَسَارَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا أَتَى دَارَ مُوسَى فَجَلَسَ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَلَمَّا تَفَرَّقُوا قَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ! ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ الْكُتُبَ، فَلَمَّا قَرَأَهَا قَالَ: هَلْ يَقْدَمُ أَبُو حَفْصٍ، أَبْقَاهُ اللَّهُ؟ قَالَ: أَنَا أَبُو حَفْصٍ، قَالَ مُوسَى: لَعَنَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ حَيْثُ قَالَ: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51] ، ثُمَّ سَلَّمَ لَهُ الْعَمَلَ. فَتَقَدَّمَ عُمَرُ إِلَى كَاتِبِهِ أَنْ لَا يَقْبَلَ هَدِيَّةً إِلَّا مَا يَدْخُلُ فِي الْكِيسِ، فَبَعَثَ النَّاسُ بِهَدَايَاهُمْ، فَلَمْ يَقْبَلْ دَابَّةً، وَلَا جَارِيَةً، وَلَمْ يَقْبَلْ إِلَّا الْمَالَ وَالثِّيَابَ، فَأَخَذَهَا، وَكَتَبَ عَلَيْهَا أَسْمَاءَ أَصْحَابِهَا، وَتَرَكَهَا. وَكَانَ أَهْلُ مِصْرَ قَدِ اعْتَادُوا الْمَطْلَ بِالْخَرَاجِ، وَكَسْرَهُ، فَبَدَأَ عُمَرُ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ فَطَالَبَهُ بِالْخَرَاجِ، فَلَوَاهُ، فَأَقْسَمَ أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ إِلَّا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، فَبَذَلَ الْخَرَاجَ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُ، وَحَمَلَهُ إِلَى بَغْدَاذَ فَأَدَّى الْخَرَاجَ بِهَا، فَلَمْ يَمْطُلْهُ أَحَدٌ، فَأَخَذَ النَّجْمَ الْأَوَّلَ، وَالنَّجْمَ الثَّانِيَ، فَلَمَّا كَانَ النَّجْمُ الثَّالِثُ وَقَعَتِ الْمُطَاوَلَةُ وَالْمَطْلُ وَشَكَوُا الضِّيقَ، فَأَحْضَرَ تِلْكَ الْهَدَايَا وَحَسَبَهَا لِأَرْبَابِهَا، وَأَمَرَهُمْ بِتَعْجِيلِ الْبَاقِي، فَأَسْرَعُوا فِي ذَلِكَ، فَاسْتَوْفَى خَرَاجَ مِصْرَ عَنْ آخِرِهِ، وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ غَيْرُهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَغْدَاذَ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِدِمَشْقَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَاجَتِ الْفِتْنَةُ بِدِمَشْقَ بَيْنَ الْمُضَرِيَّةِ وَالْيَمَانِيَّةِ، وَكَانَ رَأْسَ الْمُضَرِيَّةِ أَبُو الْهَيْذَامِ، وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمٍ النَّاعِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ خَارِجَةَ بْنِ

سِنَانِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ نُشْبَةَ بْنِ غَيْظِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ الْمُرِّيُّ، أَحَدُ فُرْسَانِ الْعَرَبِ الْمَشْهُورِينَ. وَكَانَ سَبَبُ الْفِتْنَةِ أَنَّ عَامِلًا لِلرَّشِيدِ بِسِجِسْتَانَ قَتَلَ أَخًا لِأَبِي الْهَيْذَامِ، فَخَرَجَ أَبُو الْهَيْذَامِ بِالشَّامِ، وَجَمَعَ جَمْعًا عَظِيمًا، وَقَالَ يَرْثِي أَخَاهُ: سَأَبْكِيكَ بِالْبِيضِ الرِّقَاقِ وَبِالْقَنَا ... فَإِنَّ بِهَا مَا يُدْرِكُ الطَّالِبُ الْوِتَرَا وَلَسْنَا كَمَنْ يَنْعَى أَخَاهُ بِغَيْرِهِ ... يُعَصِّرُهَا مِنْ مَاءِ مُقْلَتِهِ عَصْرَا وَإِنَّا أُنَاسٌ مَا تَفِيضُ دُمُوعُنَا ... عَلَى هَالِكٍ مِنَّا وَإِنْ قَصَمَ الظَّهْرَا وَلَكِنَّنِي أَشْفِي الْفُؤَادَ بِغَارَةٍ ... أُلَهِّبُ فِي قَطَرَيْ كَتَائِبِهَا جَمْرَا وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ لِغَيْرِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَهُ. ثُمَّ إِنَّ الرَّشِيدَ احْتَالَ عَلَيْهِ بِأَخٍ لَهُ كَتَبَ إِلَيْهِ فَأَرْغَبَهُ، ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ فَكَتَفَهُ، وَأَتَى بِهِ الرَّشِيدَ، فَمَنَّ عَلَيْهِ وَأَطْلَقَهُ. وَقِيلَ: كَانَ أَوَّلُ مَا هَاجَتِ الْفِتْنَةُ فِي الشَّامِ أَنْ رُجَلًا مِنْ [بَنِي] الْقَيْنِ خَرَجَ بِطَعَامٍ لَهُ يَطْحَنُهُ فِي الرَّحَا بِالْبَلْقَاءِ، فَمَرَّ بِحَائِطِ رَجُلٍ مِنْ لَخْمٍ أَوْ جُذَامٍ، وَفِيهِ بِطِّيخٌ وَقِثَّاءٌ، فَتَنَاوَلَ مِنْهُ، فَشَتَمَهُ صَاحِبُهُ، وَتَضَارَبَا، وَسَارَ الْقَيْنِيُّ، فَجَمَعَ صَاحِبُ الْبِطِّيخِ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ لِيَضْرِبُوهُ إِذَا عَادَ، فَلَمَّا عَادَ ضَرَبُوهُ وَأَعَانَهُ قَوْمٌ آخَرُونَ، فَقُتِلَ رَجُلٌ مِنَ الْيَمَانِيَّةِ، وَطَلَبُوا بِدَمِهِ، فَاجْتَمَعُوا لِذَلِكَ. وَكَانَ عَلَى دِمَشْقَ حِينَئِذٍ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ، فَلَمَّا خَافَ النَّاسُ أَنْ يَتَفَاقَمَ ذَلِكَ اجْتَمَعَ أَهْلُ الْفَضْلِ وَالرُّؤَسَاءِ لِيُصْلِحُوا بَيْنَهُمْ، فَأَتَوْا بَنِي الْقَيْنِ فَكَلَّمُوهُمْ، فَأَجَابُوهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا، فَأَتَوُا الْيَمَانِيَّةَ فَكَلَّمُوهُمْ، فَقَالُوا: انْصَرِفُوا عَنَّا حَتَّى نَنْظُرَ، ثُمَّ سَارُوا، فَبَيَّتُوا [بَنِي]

الْقَيْنِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ سِتَّمِائَةٍ، وَقِيلَ ثَلَاثَمِائَةٍ، فَاسْتَنْجَدَتِ الْقَيْنُ قُضَاعَةَ وَسَلِيحًا، فَلَمْ يُنْجِدُوهُمْ، فَاسْتَنْجَدَتْ قَيْسًا فَأَجَابُوهُمْ، وَسَارُوا مَعَهُمْ إِلَى الصَّوَالِيكِ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، فَقَتَلُوا مِنَ الْيَمَانِيَّةِ ثَمَانِمِائَةٍ، وَكَثُرَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ فَالْتَقَوْا مَرَّاتٍ. وَعُزِلَ عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ دِمَشْقَ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ، فَدَامَ ذَلِكَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ نَحْوَ سَنَتَيْنِ، وَالْتَقَوْا بِالْبَثْنِيَّةِ، فَقُتِلَ مِنَ الْيَمَانِيَّةِ نَحْوُ ثَمَانِمِائَةٍ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا بَعْدَ شَرٍّ طَوِيلٍ. وَوَفَدَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ صَالِحٍ عَلَى الرَّشِيدِ، وَكَانَ مَيْلُهُ مَعَ الْيَمَانِيَّةِ، فَوَقَعَ فِي قَيْسٍ عِنْدَ الرَّشِيدِ، فَاعْتَذَرَ عَنْهُمْ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ بِشْرٍ النَّصْرِيُّ مِنْ بَنِي نَصْرٍ، فَقَبِلَ عُذْرَهُمْ، وَرَجَعُوا. وَاسْتَخْلَفَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ صَالِحٍ عَلَى دِمَشْقَ ابْنَهُ إِسْحَاقَ، وَكَانَ مَيْلُهُ أَيْضًا مَعَ الْيَمَانِيَّةِ، فَأَخَذَ جَمَاعَةً مِنْ قَيْسٍ، فَحَبَسَهُمْ، وَضَرَبَهُمْ وَحَلَقَ لِحَاهُمْ، فَنَفَرَ النَّاسُ، وَوَثَبَ غَسَّانُ بِرَجُلٍ مِنْ وَلَدِ قَيْسِ بْنِ الْعَبْسِيِّ فَقَتَلُوهُ، فَجَاءَ أَخُوهُ إِلَى نَاسٍ مِنَ الزَّوَاقِيلِ بِحَوْرَانَ، فَاسْتَنْجَدَهُمْ فَأَنْجَدُوهُ وَقَتَلُوا مِنَ الْيَمَانِيَّةِ نَفَرًا. ثُمَّ ثَارَتِ الْيَمَانِيَّةُ بِكُلَيْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجُنَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعِنْدَهُ ضَيْفٌ لَهُ، فَقَتَلُوهُ، فَجَاءَتْ أُمُّ الْغُلَامِ بِثِيَابِهِ إِلَى أَبِي الْهَيْذَامِ، فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: انْصَرِفِي حَتَّى نَنْظُرَ، فَإِنِّي لَا أَخْبِطَ خَبْطَ الْعَشْوَاءِ، حَتَّى يَأْتِيَ الْأَمِيرُ وَنَرْفَعَ إِلَيْهِ دِمَاءَنَا، فَإِنْ نَظَرَ فِيهَا وَإِلَّا فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُ فِيهَا. ثُمَّ أَرْسَلَ إِسْحَاقُ فَأَحْضَرَ أَبَا الْهَيْذَامِ، فَحَضَرَ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، ثُمَّ إِنَّ نَاسًا مِنَ الزَّوَاقِيلِ قَتَلُوا رُجَلًا مِنَ الْيَمَانِيَّةِ، وَقَتَلَتِ الْيَمَانِيَّةُ رُجَلًا مِنْ سُلَيْمٍ، وَنَهَبَتْ أَهْلَ تَلْفِياثَا، وَهُمْ جِيرَانُ مُحَارِبٍ، فَجَاءَتْ مُحَارِبٌ إِلَى أَبِي الْهَيْذَامِ، فَرَكِبَ مَعَهُمْ إِلَى إِسْحَاقَ فِي ذَلِكَ، فَوَعَدَهُمُ الْجَمِيلَ فَرَضِيَ. فَلَمَّا انْصَرَفَ أَرْسَلَ إِسْحَاقُ إِلَى الْيَمَانِيَّةِ يُغْرِيهِمْ بِأَبِي الْهَيْذَامِ، فَاجْتَمَعُوا، وَأَتَوْا أَبَا الْهَيْذَامِ مِنْ بَابِ الْجَابِيَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَهَزَمَهُمْ، وَاسْتَوْلَى عَلَى دِمَشْقَ، وَأَخْرَجَ أَهْلَ السُّجُونِ عَامَّةً. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْيَمَانِيَّةِ اسْتَجْمَعَتْ، وَاسْتَنْجَدَتْ كَلْبًا وَغَيْرَهُمْ فَأَمَدُّوهُمْ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ أَبَا الْهَيْذَامِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمُضْرِيَّةِ، فَأَتَتْهُ الْأَمْدَادُ وَهُوَ يُقَاتِلُ الْيَمَانِيَّةَ عِنْدَ بَابِ تُومَا، فَانْهَزَمَتِ الْيَمَانِيَّةُ.

(ثُمَّ إِنَّ الْيَمَانِيَّةَ أَتَتْ قَرْيَةً لِقَيْسٍ عِنْدَ دِمَشْقَ، فَأَرْسَلَ أَبُو الْهَيْذَامِ إِلَيْهِمُ الزَّوَاقِيلَ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَتِ الْيَمَانِيَّةُ) أَيْضًا، ثُمَّ لَقِيَهُمْ جَمْعٌ آخَرُ فَانْهَزَمُوا أَيْضًا، ثُمَّ أَتَاهُمُ الصَّرِيخُ: أَدْرِكُوا بَابَ تُومَا، فَأَتَوْهُ فَقَاتَلُوا الْيَمَانِيَّةَ فَانْهَزَمَتْ أَيْضًا، فَهَزَمُوهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى أَبِي الْهَيْذَامِ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِسْحَاقُ إِلَى أَبِي الْهَيْذَامِ يَأْمُرُهُ بِالْكَفِّ، فَفَعَلَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْيَمَانِيَّةِ: قَدْ كَفَفْتُهُ عَنْكُمْ، فَدُونَكُمُ الرَّجُلُ فَهُوَ غَارٌّ، فَأَتَوْهُ مِنْ بَابِ شَرْقِيٍّ مُتَسَلِّلِينَ، فَأَتَى الصَّرِيخُ أَبَا الْهَيْذَامِ، فَرَكِبَ فِي فَوَارِسَ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَاتَلَهُمْ، فَهَزَمَهُمْ. ثُمَّ بَلَغَهُ خَبَرُ جَمْعٍ آخَرَ لَهُمْ عَلَى بَابِ تُومَا، فَأَتَاهُمْ، فَهَزَمَهُمْ أَيْضًا، ثُمَّ جَمَعَتِ الْيَمَانِيَّةُ أَهْلَ الْأُرْدُنِّ وَالْخَوْلَانَ وَكَلْبًا وَغَيْرَهُمْ، وَأَتَى الْخَبَرُ أَبَا الْهَيْذَامِ، فَأَرْسَلَ مَنْ يَأْتِيهِ بِخَبَرِهِمْ، فَلَمْ يَقِفْ لَهُمْ عَلَى خَبَرٍ فِي ذَلِكَ، وَجَاءُوا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى كَانَ آمِنًا مِنْهَا لِبِنَاءٍ فِيهَا. فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ وَلَمْ يَرَ شَيْئًا فَرَّقَ أَصْحَابَهُ، فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ، وَدَخَلَهَا مَعَهُمْ، وَخَلَّفَ طَلِيعَةً، فَلَمَّا رَآهُ إِسْحَاقُ قَدْ دَخَلَ أَرْسَلَ إِلَى ذَلِكَ الْبِنَاءِ فَهَدَمَهُ، وَأَمَرَ الْيَمَانِيَّةَ بِالْعُبُورِ، فَفَعَلُوا، فَجَاءَتِ الطَّلِيعَةُ إِلَى أَبِي الْهَيْذَامِ، فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، وَهُوَ عِنْدَ بَابِ الصَّغِيرِ. وَدَخَلَتِ الْيَمَانِيَّةُ الْمَدِينَةَ وَحَمَلُوا عَلَى أَبِي الْهَيْذَامِ، فَلَمْ يَبْرَحْ، وَأَمَرَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَنْ يَأْتِيَ الْيَمَانِيَّةَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا رَأَتْهُمُ الْيَمَانِيَّةُ تَنَادَوْا: الْكَمِينَ الْكَمِينَ، وَانْهَزَمُوا، وَأَخَذَ مِنْهُمْ سِلَاحًا وَخَيْلًا. فَلَمَّا كَانَ مُسْتَهَلُّ صَفَرٍ جَمَعَ إِسْحَاقُ الْجُنُودَ، فَعَسْكَرُوا عِنْدَ قَصْرِ الْحَجَّاجِ، وَأَعْلَمَ أَبُو الْهَيْذَامِ أَصْحَابَهُ، فَجَاءَتْهُ الْقَيْنُ وَغَيْرُهُمْ، وَاجْتَمَعَتِ الْيَمَنُ إِلَى إِسْحَاقَ، فَالْتَقَى بَعْضُ الْعَسْكَرِ فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَتِ الْيَمَانِيَّةُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ وَنَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي الْهَيْذَامِ بَعْضَ دَارِيَّا، وَأَحْرَقُوا فِيهَا وَرَجَعُوا، وَأَغَارَ هَؤُلَاءِ، فَنَهَبُوا وَأَحْرَقُوا، وَاقْتَتَلُوا غَيْرَ مَرَّةٍ، فَانْهَزَمَتِ الْيَمَانِيَّةُ أَيْضًا. فَأَرْسَلَتِ ابْنَةُ الضَّحَّاكِ بْنِ رَمْلٍ السَّكْسَكِيِّ، وَهِيَ يَمَانِيَّةٌ، إِلَى أَبِي الْهَيْذَامِ تَطْلُبُ مِنْهُ الْأَمَانَ، فَأَجَابَهَا، وَكَتَبَ لَهَا، وَنَهَبَ الْقُرَى الَّتِي لِلْيَمَانِيَّةِ بِنَوَاحِي دِمَشْقَ وَأَحْرَقَهَا، فَلَمَّا رَأَتِ الْيَمَانِيَّةُ ذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ خَارِجَةَ الْحَرَشِيُّ، وَابْنُ عَزَّةَ الْخُشَنِيُّ، وَأَتَاهُ الْأَوْزَاعُ وَالْأَوْصَابُ، وَمُقْرَا، وَأَهْلُ كَفْرِ سُوسِيَّةَ، وَالْحِمْيَرِيُّونَ، وَغَيْرُهُمْ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ،

فَآمَنُهُمْ، فَسَكَنَ النَّاسُ وَأَمِنُوا. وَفَرَّقَ أَبُو الْهَيْذَامِ أَصْحَابَهُ، وَبَقِيَ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ، فَطَمِعَ فِيهِ إِسْحَاقُ، فَبَذَلَ الْأَمْوَالَ لِلْجُنُودِ لِيُوَاقِعَ أَبَا الْهَيْذَامِ، فَأَرْسَلَ الْعُذَافِرَ السَّكْسَكِيَّ فِي جَمْعٍ إِلَى أَبِي الْهَيْذَامِ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَ الْعُذَافِرُ. وَدَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ أَبِي الْهَيْذَامِ وَبَيْنَ الْجُنُودِ مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْمَسَاءِ، وَحَمَلَتْ خَيْلُ أَبِي الْهَيْذَامِ عَلَى الْجُنْدِ، فَجَالُوا ثُمَّ تَرَاجَعُوا وَانْصَرَفُوا، وَقَدْ جُرِحَ مِنْهُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَذَلِكَ نِصْفَ صَفَرٍ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ لَمْ يَقْتَتِلُوا إِلَى الْمَسَاءِ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ تَقَدَّمَ إِسْحَاقُ فِي الْجُنْدِ، فَقَاتَلَهُمْ عَامَّةَ اللَّيْلِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، وَاسْتَمَدَّ أَبُو الْهَيْذَامِ أَصْحَابَهُ، وَأَصْبَحُوا مِنَ الْغَدِ فَاقْتَتَلُوا وَالْجُنْدُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَجَاءَتْهُمُ الْيَمَانِيَّةُ، وَخَرَجَ أَبُو الْهَيْذَامِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ، وَهُمْ قَلِيلُونَ: انْزِلُوا، فَنَزَلُوا، وَقَاتَلُوهُمْ عَلَى بَابِ الْجَابِيَةِ، حَتَّى أَزَالُوهُمْ عَنْهُ. ثُمَّ إِنَّ جَمْعًا مِنْ أَهْلِ حِمْصَ أَغَارُوا عَلَى قَرْيَةٍ لِأَبِي الْهَيْذَامِ، فَأَرْسَلَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَيْهِمْ، فَقَاتَلُوهُمْ فَانْهَزَمَ أَهْلُ حِمْصَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَأَحْرَقُوا قُرًى فِي الْغُوطَةِ لِلْيَمَانِيَّةِ، وَأَحْرَقُوا دَارِيَّا، ثُمَّ بَقُوا نَيِّفًا وَسَبْعِينَ يَوْمًا لَمْ تَكُنْ حَرْبٌ. فَقَدِمَ السِّنْدِيُّ، مُسْتَهَلَّ رَبِيعٍ الْآخِرِ، فِي الْجُنُودِ مِنْ عِنْدِ الرَّشِيدِ فَأَتَتْهُ الْيَمَانِيَّةُ تُغْرِيهِ بِأَبِي الْهَيْذَامِ، وَأَرْسَلَ أَبُو الْهَيْذَامِ إِلَيْهِ يُخْبِرُهُ أَنَّهُ عَلَى الطَّاعَةِ، فَأَقْبَلَ حَتَّى دَخَلَ دِمَشْقَ، وَإِسْحَاقُ بِدَارِ الْحَجَّاجِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَرْسَلَ السِّنْدِيُّ قَائِدًا فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَأَخْرَجَ إِلَيْهِمْ أَبُو الْهَيْذَامِ أَلْفًا، فَلَمَّا رَآهُمُ الْقَائِدُ رَجَعَ إِلَى السِّنْدِيِّ، فَقَالَ: أَعْطِ هَؤُلَاءِ مَا أَرَادُوا، فَقَدْ رَأَيْتُ قَوْمًا الْمَوْتُ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْحَيَاةِ، فَصَالَحَ أَبُو الْهَيْذَامِ، وَأَمِنَ أَهْلُ دِمَشْقَ وَالنَّاسُ. وَسَارَ أَبُو الْهَيْذَامِ إِلَى حَوْرَانَ، وَأَقَامَ السِّنْدِيُّ بِدِمَشْقَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَدِمَ مُوسَى بْنُ عِيسَى وَالِيًا عَلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَهَا أَقَامَ بِهَا عِشْرِينَ يَوْمًا، وَاغْتَنَمَ غِرَّةَ أَبِي الْهَيْذَامِ فَأَرْسَلَ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ، فَكَبَسُوا دَارَهُ، فَخَرَجَ هُوَ وَابْنُهُ خُرَيْمٌ وَعَبْدٌ لَهُ، فَقَاتَلُوهُمْ، وَنَجَا مِنْهُمْ وَانْهَزَمَ الْجُنْدُ.

وَسَمِعَتْ خَيْلُ أَبِي الْهَيْذَامِ، فَجَاءَتْهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَقَصَدَ بُصْرَى، وَقَاتَلَ جُنُودَ مُوسَى بِطَرَفِ اللَّجَاةِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ، وَانْهَزَمُوا، وَمَضَى أَبُو الْهَيْذَامِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَاهُ خَمْسُ فَوَارِسَ فَكَلَّمُوهُ، فَأَوْصَى أَصْحَابَهُ بِمَا أَرَادَ، وَتَرَكَهُمْ وَمَضَى، وَذَلِكَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ. (وَكَانَ أُولَئِكَ النَّفَرُ قَدْ أَتَوْهُ مِنْ عِنْدِ أَخِيهِ يَأْمُرُهُ بِالْكَفِّ، فَفَعَلَ، وَمَضَى مَعَهُمْ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّفَرُّقِ، وَكَانَ آخِرَ الْفِتْنَةِ، وَمَاتَ أَبُو الْهَيْذَامِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ) . هَذَا مَا أَرَدْنَا ذِكْرَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ. (خُرَيْمٌ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ. وَحَارِثَةُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ. وَنُشْبَةُ بِضَمِّ النُّونِ، وَسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ، وَبَغِيضٌ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَآخِرُهُ ضَادٌ مُعْجَمَةٌ. وَرَيْثٌ بِالرَّاءِ، وَالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ ثَاءٌ مُثَلَّثَةٌ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بِجَيْشِ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ بِلَادَ الْفِرِنْجِ، فَبَلَغَ أَلَبَةَ، وَالْقِلَاعَ، فَغَنِمَ، وَسَلِمَ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ هِشَامٌ ابْنَهُ الْحَكَمَ عَلَى طُلَيْطِلَةَ، وَسَيَّرَهُ إِلَيْهَا، فَضَبَطَهَا، وَأَقَامَ بِهَا، وَوُلِدَ لَهُ بِهَا ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ، وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ الْأَنْدَلُسَ بَعْدَ أَبِيهِ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ عَلَى الْمَوْصِلِ الْحَاكِمَ بْنَ سُلَيْمَانَ. وَفِيهَا خَرَجَ الْفَضْلُ الْخَارِجِيُّ بِنَوَاحِي نَصِيبِينَ، فَأَخَذَ مِنْ أَهْلِهَا مَالًا، وَسَارَ إِلَى دَارَا

وَآمِدَ وَأَرْزَنَ، فَأَخَذَ مِنْهُمْ مَالًا، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِخِلَاطَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى نَصِيبِينَ، وَأَتَى الْمَوْصِلَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَسْكَرُهَا، فَهَزَمَهُمْ عَلَى الزَّابِ، ثُمَّ عَادُوا لِقِتَالِهِ، فَقُتِلَ الْفَضْلُ وَأَصْحَابُهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، وَصَالِحُ بْنُ بَشِيرٍ الْمُرِّيُّ الْقَارِئُ، وَكَانَ ضَعِيفًا فِي الْحَدِيثِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَبُو طَاهِرٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ قَاضِيًا بِبَغْدَاذَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ النَّحْوِيُّ الْكُوفِيُّ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَاسْمُهُ الْوَضَّاحُ مَوْلَى يَزِيدَ بْنِ عَطَاءٍ اللَّيْثِيِّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ.

ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ] 177 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ غَزْوِ الْفِرِنْجِ بِالْأَنْدَلُسِ وَفِيهَا سَيَّرَ هِشَامٌ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، جَيْشًا كَثِيفًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُغِيثٍ، فَدَخَلُوا بِلَادَ الْعَدُوِّ، فَبَلَغُوا أَرْبُونَةَ، وَجَرَنْدَةَ، فَبَدَأَ بِجَرَنْدَةَ، وَكَانَ بِهَا حَامِيَةُ الْفِرِنْجِ، فَقَتَلَ رِجَالِهَا، وَهَدَمَ أَسْوَارَهَا وَأَبْرَاجَهَا، وَأَشْرَفَ عَلَى فَتْحِهَا. فَرَحَلَ عَنْهَا إِلَى أَرْبُونَةَ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَوْغَلَ فِي بِلَادِهِمْ، وَوَطِئَ أَرْضَ شُرْطَانِيَةَ، فَاسْتَبَاحَ حَرِيمَهَا، وَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهَا، وَجَاسَ الْبِلَادَ شُهُورًا يُخَرِّبُ الْحُصُونَ، وَيُحَرِّقُ وَيَغْنَمُ، قَدْ أَجَفَلَ الْعَدُوُّ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ هَارِبًا، وَأَوْغَلَ فِي بِلَادِهِمْ، وَرَجَعَ سَالِمًا مَعَهُ مِنَ الْغَنَائِمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَهِيَ مِنْ أَشْهَرِ مَغَازِي الْمُسْلِمِينَ بِالْأَنْدَلُسِ. ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ الْفَضْلِ بْنِ رَوْحِ بْنِ حَاتِمٍ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهِيَ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ، اسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ الْفَضْلَ بْنَ رَوْحِ بْنِ حَاتِمٍ، وَكَانَ الرَّشِيدُ لَمَّا تُوُفِّيَ رَوْحٌ اسْتَعْمَلَ بَعْدَهُ حَبِيبَ بْنَ نَصْرٍ الْمُهَلَّبِيَّ، فَسَارَ الْفَضْلُ إِلَى بَابِ الرَّشِيدِ، وَخَطَبَ وِلَايَةَ إِفْرِيقِيَّةَ، فَوَلَّاهُ، فَعَادَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَدِينَةِ تُونِسَ ابْنَ أَخِيهِ الْمُغِيرَةَ بْنَ بِشْرِ بْنِ رَوْحٍ، وَكَانَ غَارًّا، فَاسْتَخَفَّ بِالْجُنْدِ. وَكَانَ الْفَضْلُ أَيْضًا قَدْ أَوْحَشَهُمْ، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ مَعَهُمْ، بِسَبَبِ مَيْلِهِمْ إِلَى نَصْرِ بْنِ حَبِيبٍ الْوَالِي قَبْلَهُ، فَاجْتَمَعَ مَنْ بِتُونِسَ، وَكَتَبُوا إِلَى الْفَضْلِ يَسْتَعْفُونَ مِنِ ابْنِ أَخِيهِ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ عَنْ كِتَابِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ طَاعَتِهِ. فَقَالَ لَهُمْ قَائِدٌ مِنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَارِسِيِّ: كُلُّ جَمَاعَةٍ لَا رَئِيسَ لَهَا فَهِيَ إِلَى الْهَلَاكِ أَقْرَبُ، فَانْظُرُوا رُجَلًا يُدَبِّرُ أَمْرَكُمْ. قَالُوا: صَدَقْتَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى تَقْدِيمِ قَائِدٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَارُودِ، يُعْرَفُ

بِعَبْدَوَيْهِ الْأَنْبَارِيِّ، فَقَدَّمُوهُ عَلَيْهِمْ، وَبَايَعُوهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَأَخْرَجُوا الْمُغِيرَةَ عَنْهُمْ، وَكَتَبُوا إِلَى الْفَضْلِ يَقُولُونَ: إِنَّا لَمْ نُخْرِجْ يَدًا عَنْ طَاعَةٍ، وَلَكِنَّهُ أَسَاءَ السِّيرَةَ، فَأَخْرَجْنَاهُ، فَوَلِّ عَلَيْنَا مَنْ نَرْضَاهُ. فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمُ ابْنَ عَمِّهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ وَسَيَّرَهُ إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا كَانَ عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنْ تُونِسَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ الْجَارُودِ جَمَاعَةً لِيَنْظُرُوا فِي أَيِّ شَيْءٍ قَدِمَ وَلَا يُحْدِثُوا حَدَثًا إِلَّا بِأَمْرِهِ، فَسَارُوا إِلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ الْفَضْلَ يَخْدَعُكُمْ بِوِلَايَةِ هَذَا، ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنْكُمْ بِإِخْرَاجِكُمْ أَخَاهُ. فَعَدَوْا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا مَنْ مَعَهُ مِنَ الْقُوَّادِ أُسَارَى، فَاضْطَرَّ حِينَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَارُودِ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْقِيَامِ وَالْجِدِّ فِي إِزَالَةِ الْفَضْلِ. فَتَوَلَّى ابْنُ الْفَارِسِيِّ الْأَمْرَ، وَصَارَ يَكْتُبُ إِلَى كُلِّ قَائِدٍ بِإِفْرِيقِيَّةَ وَمُتَوَلِّي مَدِينَةٍ يَقُولُ لَهُ: إِنَّا نَظَرْنَا فِي صَنِيعِ الْفَضْلِ فِي بِلَادِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَسُوءِ سِيرَتِهِ، فَلَمْ يَسَعْنَا إِلَّا الْخُرُوجُ عَلَيْهِ لِنُخْرِجَهُ عَنَّا، ثُمَّ نَظَرْنَا فَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا أَوْلَى بِنَصِيحَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِبُعْدِ صَوْتِهِ وَعَطْفِهِ عَلَى جُنْدِهِ مِنْكَ، فَرَأَيْنَا أَنْ تُجْعَلَ نُفُوسُنَا دُونَكَ، فَإِنْ ظَفِرْنَا جَعَلْنَاكَ أَمِيرَنَا، وَكَتَبْنَا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ نَسْأَلُهُ وِلَايَتَكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى فَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ أَنَّنَا أَرَدْنَاكَ، وَالسَّلَامُ. فَأَفْسَدَ بِهَذَا كَافَّةَ الْجُنْدِ عَلَى الْفَضْلِ، وَكَثُرَ الْجَمْعُ عِنْدَهُمْ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمُ الْفَضْلُ عَسْكَرًا كَثِيرًا، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ، فَقَاتَلُوهُ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُهُ وَعَادَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ مُنْهَزِمًا، وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ ابْنِ الْجَارُودِ، فَحَاصَرُوا الْقَيْرَوَانَ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ فَتَحَ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ الْأَبْوَابَ. وَدَخَلَ ابْنُ الْجَارُودِ وَعَسْكَرُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَأَخْرَجَ الْفَضْلَ مِنَ الْقَيْرَوَانِ، وَوَكَّلَ بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يُوصِلَهُمْ إِلَى قَابِسَ، فَسَارُوا يَوْمَهُمْ، ثُمَّ رَدَّهُمُ ابْنُ الْجَارُودِ، وَقَتَلَ الْفَضْلَ بْنَ رَوْحِ بْنِ حَاتِمٍ. فَلَمَّا قُتِلَ الْفَضْلُ غَضِبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجُنْدِ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى قِتَالِ ابْنِ الْجَارُودِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا فَانْهَزَمَ عَسْكَرُهُ، وَعَادَ إِلَيْهِ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ وَاسْتَوْلَى أُولَئِكَ الْجُنْدُ عَلَى الْقَيْرَوَانِ، وَكَانَ ابْنُ الْجَارُودِ بِمَدِينَةِ تُونِسَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَقَدْ تَفَرَّقُوا بَعْدَ دُخُولِ الْقَيْرَوَانِ. فَوَصَلَ إِلَيْهِمُ ابْنُ الْجَارُودِ، فَلَقَوْهُ وَاقْتَتَلُوا، فَهَزَمَهُمُ ابْنُ الْجَارُودِ وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِهِمْ، فَانْهَزَمُوا، فَلَحِقُوا بِالْأَرْبَسِ، وَقَدَّمُوا عَلَيْهِمُ الْعَلَاءَ بْنَ سَعِيدٍ وَالِي بَلَدِ الزَّابِ وَسَارُوا إِلَى الْقَيْرَوَانِ.

ذِكْرُ وِلَايَةِ هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ. اتَّفَقَ وُصُولُ يَحْيَى بْنِ مُوسَى مِنْ عِنْدِ الرَّشِيدِ لَمَّا قَصَدَ الْعَلَاءُ وَمَنْ مَعَهُ الْقَيْرَوَانَ، وَكَانَ سَبَبُ وُصُولِهِ أَنَّ الرَّشِيدَ بَلَغَهُ مَا صَنَعَ ابْنُ الْجَارُودِ، وَإِفْسَادُهُ إِفْرِيقِيَّةَ، فَوَجَّهَ هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ وَمَعَهُ يَحْيَى بْنُ مُوسَى، لِمَحَلِّهِ عِنْدَ أَهْلِ خُرَاسَانَ، وَأَمَرَ أَنْ يَتَقَدَّمَ يَحْيَى، وَيَلْطُفَ بِابْنِ الْجَارُودِ، وَيَسْتَمِيلَهُ لِيُعَاوِدَ الطَّاعَةَ قَبْلَ وُصُولِ هَرْثَمَةَ. فَقَدِمَ يَحْيَى الْقَيْرَوَانَ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الْجَارُودِ كَلَامٌ كَثِيرٌ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابَ الرَّشِيدِ، فَقَالَ: أَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَقَدْ قَرُبَ مِنِّي الْعَلَاءُ بْنُ سَعِيدٍ وَمَعَهُ الْبَرْبَرُ، فَإِنْ تَرَكْتُ الْقَيْرَوَانَ وَثَبَ الْبَرْبَرُ فَمَلَكُوهَا، فَأَكُونُ قَدْ ضَيَّعْتُ بِلَادَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنِّي أَخْرُجُ إِلَى الْعَلَاءِ فَإِنْ ظَفِرَ بِي فَشَأْنُكُمْ وَالثُّغُورَ، وَإِنْ ظَفِرْتُ بِهِ انْتَظَرْتُ قُدُومَ هَرْثَمَةَ فَأُسَلِّمَ الْبِلَادَ إِلَيْهِ، وَأَسِيرُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَانَ قَصْدُهُ الْمُغَالَطَةَ، فَإِنْ ظَفِرَ بِالْعَلَاءِ مَنَعَ هَرْثَمَةَ عَنِ الْبِلَادِ، فَعَلِمَ يَحْيَى ذَلِكَ، وَخَلَا بِابْنِ الْفَارِسِيِّ، وَعَاتَبَهُ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ، فَاعْتَذَرَ، وَحَلَفَ أَنَّهُ عَلَيْهَا، وَبَذَلَ مِنْ نَفْسِهِ الْمُسَاعَدَةَ عَلَى ابْنِ الْجَارُودِ، فَسَعَى ابْنُ الْفَارِسِيِّ فِي إِفْسَادِ حَالِهِ، وَاسْتَمَالَ جَمَاعَةً مِنْ أَجْنَادِهِ، فَأَجَابُوهُ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَخَرَجَ إِلَى قِتَالِ ابْنِ الْجَارُودِ. فَقَالَ ابْنُ الْجَارُودِ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ اسْمُهُ طَالِبٌ: إِذَا تَوَاقَفْنَا فَإِنَّنِي سَأَدْعُو ابْنَ الْفَارِسِيِّ لِأُعَاتِبَهُ فَاقْصِدْهُ أَنْتَ وَهُوَ غَافِلٌ فَاقْتُلْهُ! فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَتَوَاقَفَ الْعَسْكَرَانِ، وَدَعَا ابْنُ الْجَارُودِ مُحَمَّدَ بْنَ الْفَارِسِيِّ وَكَلَّمَهُ، وَحَمَلَ طَالِبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ غَافِلٌ فَقَتَلَهُ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَتَوَجَّهَ يَحْيَى بْنُ مُوسَى إِلَى هَرْثَمَةَ بِطَرَابُلُسَ. وَأَمَّا الْعَلَاءُ بْنُ سَعِيدٍ فَإِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ النَّاسُ بِقُرْبِ هَرْثَمَةَ مِنْهُمْ كَثُرَ جَمْعُهُ، وَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَسَارُوا إِلَى ابْنِ الْجَارُودِ، فَعَلِمَ ابْنُ الْجَارُودِ أَنَّهُ لَا قُوَّةَ لَهُ بِهِ، فَكَتَبَ إِلَى يَحْيَى بْنِ مُوسَى يَسْتَدْعِيهِ لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِ الْقَيْرَوَانَ، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي جُنْدِ طَرَابُلُسَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، فَلَمَّا وَصَلَ قَابِسَ تَلَقَّاهُ عَامَّةُ الْجُنْدِ، وَخَرَجَ ابْنُ الْجَارُودِ مِنَ الْقَيْرَوَانِ مُسْتَهَلَّ صَفَرٍ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ. وَأَقْبَلَ الْعَلَاءُ بْنُ سَعِيدٍ وَيَحْيَى بْنُ مُوسَى يَسْتَبِقَانِ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، (كُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ لَهُ) ، فَسَبَقَهُ الْعَلَاءُ وَدَخَلَهَا، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ

أَصْحَابِ ابْنِ الْجَارُودِ، وَسَارَ إِلَى هَرْثَمَةَ وَسَارَ ابْنُ الْجَارُودِ أَيْضًا إِلَى هَرْثَمَةَ، فَسَيَّرَهُ هَرْثَمَةُ إِلَى الرَّشِيدِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يُعْلِمُهُ أَنَّ الْعَلَاءَ كَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ، فَكَتَبَ الرَّشِيدُ يَأْمُرُهُ بِإِرْسَالِ الْعَلَاءِ إِلَيْهِ، فَسَيَّرَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ لَقِيَهُ صِلَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الرَّشِيدِ وَخُلَعٌ، فَلَمْ يَلْبَثْ بِمِصْرَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى تُوُفِّيَ. وَأَمَّا ابْنُ الْجَارُودِ فَإِنَّهُ اعْتُقِلَ بِبَغْدَاذَ، وَسَارَ هَرْثَمَةُ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَقَدِمَهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، فَآمَنَ النَّاسَ وَسَكَّنَهُمْ، وَبَنَى الْقَصْرَ الْكَبِيرَ بِالْمُنَسْتِيرِ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَبَنَى سُورَ مَدِينَةِ طَرَابُلُسَ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَغْلَبِ بِوِلَايَةِ الزَّابِ، فَأَكْثَرَ الْهَدِيَّةَ إِلَى هَرْثَمَةَ وَلَاطَفَهُ، فَوَلَّاهُ هَرْثَمَةُ نَاحِيَةً مِنَ الزَّابِ فَحَسُنَ أَثَرُهُ (فِيهَا. ثُمَّ إِنَّ عِيَاضَ بْنَ وَهْبٍ الْهَوَّارِيَّ وَكُلَيْبَ بْنَ جُمَيْعٍ الْكَلْبِيَّ جَمَعَا جُمُوعًا، وَأَرَادَا قِتَالَ هَرْثَمَةَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ، فَفَرَّقَ جُمُوعَهُمَا، وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِمَا، وَعَادَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ) . وَلَمَّا رَأَى هَرْثَمَةُ مَا بِإِفْرِيقِيَّةَ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَاصَلَ كُتُبَهُ إِلَى الرَّشِيدِ يَسْتَعْفِي، فَأُمِرَ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ إِلَى الْعِرَاقِ (فَسَارَ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ) ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَنَتَيْنِ وَنِصْفًا. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِالْمَوْصِلِ. وَفِيهَا خَالَفَ الْعَطَّافُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَزْدِيُّ عَلَى الرَّشِيدِ، وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ أَهْلِ الْمَوْصِلِ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ آلَافِ رَجُلٍ، وَجَبَى الْخَرَاجَ، وَكَانَ عَامِلُ الرَّشِيدِ عَلَى الْمَوْصِلِ مُحَمَّدَ بْنَ الْعَبَّاسِ الْهَاشِمِيَّ، وَقِيلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ، وَالْعَطَّافُ غَالِبٌ عَلَى الْأَمْرِ كُلِّهِ، وَهُوَ يَجْبِي الْخَرَاجَ، وَأَقَامَ عَلَى هَذَا سَنَتَيْنِ، حَتَّى خَرَجَ الرَّشِيدُ إِلَى الْمَوْصِلِ فَهَدَمَ سُورَهَا بِسَبَبِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرَ بْنَ يَحْيَى عَنْ مِصْرَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا إِسْحَاقَ بْنَ سُلَيْمَانَ، وَعَزَلَ حَمْزَةَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ خُرَاسَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى الْبَرْمَكِيَّ

مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَهِيَ الرَّيُّ وَسِجِسْتَانُ وَغَيْرُهُمَا. وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ التَّغْلِبِيُّ. وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَظُلْمَةٌ، ثُمَّ عَادَتْ مَرَّةً ثَانِيَةً فِي صَفَرٍ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ الرَّشِيدُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيُّ، (وَجَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) .

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ] 178 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِمِصْرَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَتِ الْحُوفِيَّةُ بِمِصْرَ عَلَى عَامِلِهِمْ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَقَاتَلُوهُ، وَأَمَدَّهُ الرَّشِيدُ بِهَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ، وَكَانَ عَامِلَ فَلَسْطِينَ، فَقَاتَلُوا الْحُوفِيَّةَ، وَهُمْ مِنْ قَيْسٍ وَقُضَاعَةَ، فَأَذْعَنُوا بِالطَّاعَةِ، وَأَدَّوْا مَا عَلَيْهِمْ لِلسُّلْطَانِ، فَعَزَلَ الرَّشِيدُ إِسْحَاقَ عَنْ مِصْرَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا هَرْثَمَةَ مِقْدَارَ شَهْرٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ صَالِحٍ. ذِكْرُ خُرُوجِ الْوَلِيدِ بْنِ طَرِيفٍ الْخَارِجِيِّ وَفِيهَا خَرَجَ الْوَلِيدُ بْنُ طَرِيفٍ التَّغْلِبِيُّ بِالْجَزِيرَةِ، فَفَتَكَ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ خَازِمِ بْنِ خُزَيْمَةَ بِنَصِيبِينَ، ثُمَّ قَوِيَتْ شَوْكَةُ الْوَلِيدِ، فَدَخَلَ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ، وَحَصَرَ خِلَاطَ عِشْرِينَ يَوْمًا، فَافْتَدَوْا مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا. ثُمَّ سَارَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، ثُمَّ إِلَى حُلْوَانَ وَأَرْضِ السَّوَادِ، ثُمَّ عَبَرَ إِلَى غَرْبِ دِجْلَةَ، وَقَصَدَ مَدِينَةَ بَلَدَ، فَافْتَدَوْا مِنْهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَعَاثَ فِي أَرْضِ الْجَزِيرَةِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ يَزِيدَ بْنَ مَزْيَدِ بْنِ زَائِدَةَ الشَّيْبَانِيَّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ. فَقَالَ الْوَلِيدُ: سَتَعْلَمُ يَا يَزِيدُ إِذَا الْتَقَيْنَا ... بِشَطِّ الزَّابِ أَيُّ فَتًى يَكُونُ.

فَجَعَلَ يَزِيدُ يَخْتَالُهُ وَيُمَاكِرُهُ، وَكَانَتِ الْبَرَامِكَةُ مُنْحَرِفَةً عَنْ يَزِيدَ فَقَالُوا لِلرَّشِيدِ: إِنَّمَا يَتَجَافَى يَزِيدُ عَنِ الْوَلِيدِ لِلرَّحِمِ، لِأَنَّهُمَا كِلَاهُمَا مِنْ وَائِلٍ، وَهَوَّنُوا أَمْرَ الْوَلِيدِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ كِتَابَ مُغْضَبٍ، وَقَالَ لَهُ: لَوْ وَجَّهْتَ أَحَدَ الْخَدَمِ لَقَامَ بِأَكْثَرَ مِمَّا تَقُومُ بِهِ، وَلَكِنَّكَ مُدَاهِنٌ، مُتَعَصِّبٌ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنْ أَخَّرْتَ مُنَاجَزَتَهُ لَأُوَجِّهَنَّ إِلَيْكَ مَنْ يَحْمِلُ رَأْسَكَ. فَلَقِيَ الْوَلِيدَ عَشِيَّةَ خَمِيسٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ، فَيُقَالُ: جَهِدَ عَطَشًا حَتَّى رَمَى بِخَاتَمِهِ فِي فِيهِ، وَجَعَلَ يَلُوكُهُ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّهَا شِدَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَاسْتُرْهَا! وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: فِدَاكُمْ أَبِي وَأُمِّي إِنَّمَا هِيَ الْخَوَارِجُ، وَلَهُمْ حَمْلَةٌ، فَاثْبُتُوا، فَإِذَا انْقَضَتْ حَمْلَتُهُ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ إِذَا انْهَزَمُوا لَمْ يَرْجِعُوا. فَكَانَ كَمَا قَالَ، حَمَلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةً، فَثَبَتَ يَزِيدُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ عَشِيرَتِهِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ فَانْكَشَفُوا، فَيُقَالُ: إِنَّ أَسَدَ بْنَ يَزِيدَ كَانَ شَبِيهًا بِأَبِيهِ جِدًّا لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا إِلَّا ضَرْبَةٌ فِي وَجْهِ يَزِيدَ تَأْخُذُ مِنْ قَصَاصِ شَعْرِهِ، مُنْحَرِفَةً عَلَى جَبْهَتِهِ، فَكَانَ أَسَدُ يَتَمَنَّى مِثْلَهَا، فَهَوَتْ إِلَيْهِ ضَرْبَةٌ، فَأَخْرَجَ وَجْهَهُ مِنَ التُّرْسِ، فَأَصَابَتْهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَيُقَالُ لَوْ خُطَّتْ عَلَى ضَرْبَةِ أَبِيهِ مَا عَدَا. وَاتَّبَعَ يَزِيدُ الْوَلِيدَ بْنَ طَرِيفٍ، فَلَحِقَهُ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَائِلٌ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا ... لَا يَفُلُّ الْحَدِيدَ إِلَّا الْحَدِيدُ. فَلَمَّا قُتِلَ الْوَلِيدُ صَبَّحَتْهُمْ أُخْتُهُ لَيْلَى بِنْتُ الطَّرِيفِ، مُسْتَعِدَّةً، عَلَيْهَا الدِّرْعُ، فَجَعَلَتْ تَحْمِلُ عَلَى النَّاسِ، فَعُرِفَتْ، فَقَالَ يَزِيدُ: دَعُوهَا! ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهَا فَضَرَبَ بِالرُّمْحِ قَطَاةَ فَرَسِهَا، ثُمَّ قَالَ: اعْزُبِي عَزَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ، فَقَدْ فَضَحَتِ الْعَشِيرَةَ. فَاسْتَحْيَتْ وَانْصَرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ تَرْثِي الْوَلِيدَ: بِتَلِّ تَبَاثَا رَسْمُ قَبْرٍ كَأَنَّهُ ... عَلَى عَلَمٍ فَوْقَ الْجِبَالِ مُنِيفِ تَضَمَّنَ جُودًا حَاتِمِيًّا وَنَائِلًا ... وَسَوْرَةَ مِقْدَامٍ وَقَلْبَ حَصِيفِ أَلَا قَاتَلَ اللَّهُ الْجُثَى كَيْفَ أَضْمَرَتْ ... فَتًى كَانَ بِالْمَعْرُوفِ غَيْرَ عَفِيفِ فَإِنْ يَكُ أَرْدَاهُ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ ... فَيَا رُبَّ خَيْلٍ فَضَّهَا وَصُفُوفِ أَلَا يَا لَقَوْمِي لِلنَّوَائِبِ وَالرَّدَى ... وَدَهْرٍ مُلِحٍّ بِالْكِرَامِ عَنِيفِ

وَلَلْبَدْرِ مِنْ بَيْنِ الْكَوَاكِبِ قَدْ هَوَى وَلَلشَّمْسِ هَمَّتْ بَعْدَهُ بِكُسُوفِ ... فَيَا شَجَرَ الْخَابُورِ مَا لَكَ مُورِقًا كَأَنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ عَلَى ابْنِ طَرِيفِ ... فَتًى لَا يُحِبُّ الزَّادَ إِلَّا مِنَ التُّقَى وَلَا الْمَالَ إِلَّا مِنْ قَنَا وَسُيُوفِ ... وَلَا الْخَيْلَ إِلَّا كُلَّ جَرْدَاءَ شَطَبَةٍ وَكُلَّ حِصَانٍ بِالْيَدَيْنِ عَرُوفِ ... فَلَا تَجْزَعَا يَا ابْنَيْ طَرِيفٍ فَإِنَّنِي أَرَى الْمَوْتَ نَزَّالًا بِكُلِّ شَرِيفِ ... فَقَدْنَاكَ فُقْدَانَ الرَّبِيعِ فَلَيْتَنَا فَدَيْنَاكَ مِنْ دَهْمَائِنَا بِأُلُوفِ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي قَتْلِ الْوَلِيدِ وَرِفْقِ يَزِيدَ فِي قِتَالِهِ مِنْ قَصِيدَةِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: يَفْتَرُّ عِنْدَ افْتِرَارِ الْحَرْبِ ... مُبْتَسِمًا إِذَا تَغَيَّرَ وَجْهُ الْفَارِسِ الْبَطَلِ مُوفٍ عَلَى مُهَجٍ فِي يَوْمِ ذِي رَهَجٍ ... كَأَنَّهُ أَجَلٌ يَسْعَى إِلَى أَمَلِ يَنَالُ بِالرِّفْقِ مَا يَعْيَا الرِّجَالُ بِهِ ... كَالْمَوْتِ مُسْتَعْجِلًا يَأْتِي عَلَى مَهَلِ (وَهِيَ حَسَنَةٌ جِدًّا) . ذِكْرُ غَزْوِ الْفِرِنْجِ وَالْجَلَالِقَةِ بِالْأَنْدَلُسِ فِيهَا سَيَّرَ هِشَامٌ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ عَسْكَرًا مَعَ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُغِيثٍ إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ، فَغَزَا أَلَبَةَ، وَالْقِلَاعَ، فَغَنِمَ وَسَلِمَ.

وَسَيَّرَ أَيْضًا جَيْشًا آخَرَ مَعَ أَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ إِلَى بِلَادِ الْجَلَالِقَةِ فَخَرَّبَ دَارَ مَلِكِهِمْ أَذَّفَنْشَ وَكَنَائِسَهُ، وَغَنِمَ. فَلَمَّا قَفَلَ الْمُسْلِمُونَ ضَلَّ الدَّلِيلُ بِهِمْ، فَنَالَهُمْ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ وَمَاتَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَنَفَقَتْ دَوَابُّهُمْ، وَتَلِفَتْ آلَاتُهُمْ، ثُمَّ سَلِمُوا وَعَادُوا. ذِكْرُ فِتْنَةِ تَاكُرُنَّا وَفِيهَا هَاجَتْ فِتْنَةُ تَاكُرُنَّا بِالْأَنْدَلُسِ، وَخَلَعَ بَرْبَرُهَا الطَّاعَةَ، وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ، وَأَغَارُوا عَلَى الْبِلَادِ، وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ، فَسَيَّرَ هِشَامٌ إِلَيْهِمْ جُنْدًا كَثِيفًا عَلَيْهِمْ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ أَبَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، مَوْلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَصَدُوهَا وَتَابَعُوا قِتَالَ مَنْ فِيهَا إِلَى أَنْ أَبَادُوهُمْ قَتْلًا وَسَبْيًا، وَفَرَّ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فَدَخَلَ فِي سَائِرِ الْقَبَائِلِ، وَبَقِيَتْ كُورَةُ تَاكُرُنَّا وَجِبَالُهَا خَالِيَةً مِنَ النَّاسِ سَبْعَ سِنِينَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مُعَاوِيَةُ بْنُ زُفَرَ بْنِ عَاصِمٍ، وَغَزَا الشَّاتِيَةَ سُلَيْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ، وَمَعَهُ الْبَنْدُ بِطَرِيقِ صِقِلِّيَةَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَفِيهَا وَصَلَ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى إِلَى خُرَاسَانَ، وَغَزَا مَا وَرَاءَ النَّهْرِ مِنْ بُخَارَى، فَحَضَرَ عِنْدَهُ صَاحِبُ أُشْرُوسَنَةَ، وَكَانَ مُمْتَنِعًا، وَبَنَى الْفَضْلُ بِخُرَاسَانَ الْمَسَاجِدَ وَالرِّبَاطَاتِ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، وَالْمُفَضَّلُ بْنُ يُونُسَ، وَجَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ.

ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ] 179 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ غَزْوِ الْفِرِنْجِ بِالْأَنْدَلُسِ وَفِيهَا سَيَّرَ هِشَامٌ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ جَيْشًا كَثِيفًا عَلَيْهِمْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُغِيثٍ، إِلَى جِلِّيقِيَّةَ، فَسَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى إِسْتَرْقَةَ، وَكَانَ أُذْفُونَشُ، مَلِكُ الْجَلَالِقَةِ، قَدْ جَمَعَ وَحَشَدَ، وَأَمَدَّهُ مَلِكُ الْبَشْكَنْسِ، وَهُمْ جِيرَانُهُ، وَمَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْمَجُوسِ، وَأَهْلِ تِلْكَ النَّوَاحِي، فَصَارَ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ، فَأَقْدَمَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَرَجَعَ أُذْفُونَشَ هَيْبَةً لَهُ، وَتَبِعَهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ يَقْفُو أَثَرَهُمْ، وَيُهْلِكُ كُلَّ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ، فَدَوَّخَ بِلَادَهُمْ، وَأَوْغَلَ فِيهَا، وَأَقَامَ فِيهَا يَغْنَمُ، وَيَقْتُلُ، وَيُخَرِّبُ، وَهَتَكَ حَرِيمَ أُذْفُونَشَ، وَرَجَعَ سَالِمًا. وَكَانَ قَدْ سَيَّرَ هِشَامٌ جَيْشًا آخَرَ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَدَخَلُوا أَيْضًا عَلَى مِيعَادٍ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَخْرَبُوا، وَنَهَبُوا وَغَنِمُوا، فَلَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنْ بِلَادِ الْعَدُوِّ اعْتَرَضَهُمْ عَسْكَرٌ لِلْفِرْنِجِ فَنَالَ مِنْهُمْ، وَقَتَلَ نَفَرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ تَخَلَّصُوا، وَسَلِمُوا، وَعَادُوا سَالِمِينَ سِوَى مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا عَادَ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى مِنْ خُرَاسَانَ، فَاسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ مَنْصُورَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْحِمْيَرِيَّ، خَالَ الْمَهْدِيِّ. وَاعْتَمَرَ الرَّشِيدُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى قَتْلِ الْوَلِيدِ بْنِ طَرِيفٍ، وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِهَا إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ، وَمَشَى مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى [ثُمَّ] إِلَى عَرَفَاتٍ، وَشَهِدَ الْمَشَاعِرَ كُلَّهَا مَاشِيًا، وَرَجَعَ عَلَى طَرِيقِ الْبَصْرَةِ

وَفِيهَا خَرَجَ بِخُرَاسَانَ حَمْزَةُ بْنُ أَتُرْكَ السِّجِسْتَانِيُّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ بْنِ دِرْهَمٍ الْأَزْدِيُّ، مَوْلَاهُمْ أَبُو إِسْمَاعِيلَ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ الْأَصْبَحِيُّ، الْإِمَامُ أُسْتَاذُ الشَّافِعِيِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَقِيهُ الْمَكِّيُّ، وَصَحِبَهُ الشَّافِعِيُّ قَبْلَ مَالِكٍ، وَأَخَذَ عَنْهُ الْفِقْهَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الزِّنْجِيُّ لِأَنَّهُ كَانَ أَبْيَضَ مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ. وَعَبَّادُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ الْمُهَلَّبِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْحَنَفِيُّ (سَلَّامٌ بِتَشْدِيدِ [اللَّامِ] ) .

ثم دخلت سنة ثمانين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ] 180 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ هِشَامٍ وَفِيهَا مَاتَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، فِي صَفَرٍ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ سَبْعَ سِنِينَ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ عُمُرُهُ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْوَلِيدِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ. كَانَ أَبْيَضَ أَشْهَلَ، مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ، بِعَيْنَيْهِ حَوَلٌ، وَخَلَّفَ خَمْسَةَ بَنِينَ، وَكَانَ عَامِلًا حَازِمًا، ذَا رَأْيٍ وَشَجَاعَةٍ وَعَدْلٍ، خَيِّرًا، مُحِبًّا لِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، شَدِيدًا عَلَى الْأَعْدَاءِ، رَاغِبًا فِي الْجِهَادِ. وَمِنْ أَحْسَنِ عَمَلِهِ أَنَّهُ أَخْرَجَ مُصَدِّقًا يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ أَيَّامَ وِلَايَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي تَمَّمَ بِنَاءَ الْجَامِعِ بِمَدِينَةِ قُرْطُبَةَ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْهُ، وَبَنَى مَسَاجِدَ مَعَهُ، وَبَلَغَ مِنْ عِزِّ الْإِسْلَامِ فِي أَيَّامِهِ وَذُلِّ الْكُفْرِ أَنَّ رُجَلًا مَاتَ فِي أَيَّامِهِ، فَأَوْصَى أَنْ يُفَكَّ أَسِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَرِكَتِهِ، فَطُلِبَ ذَلِكَ، فَلَمْ يُوجَدْ فِي دَارِ الْكُفَّارِ أَسِيرٌ يُشْتَرَى وَيُفَكُّ لِضَعْفِ الْعَدُوِّ وَقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ. (وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ قَدْ ذَكَرَهَا أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ كَثِيرًا، وَبَالَغُوا حَتَّى قَالُوا كَانَ يُشْبِهُ فِي سِيرَتِهِ بِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، رَحِمَهُ اللَّهُ) . ذِكْرُ وِلَايَةِ ابْنِهِ الْحَكَمِ وَلَقَبِهِ الْمُنْتَصِرِ وَلَمَّا مَاتَ اسْتَخْلَفَ بَعْدَهُ ابْنَهُ الْحَكَمَ، وَكَانَ الْحَكَمُ صَارِمًا، حَازِمًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنَ الْمَمَالِيكِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَارْتَبَطَ الْخَيْلَ بِبَابِهِ، وَتَشَبَّهَ بِالْجَبَابِرَةِ.

وَكَانَ يُبَاشِرُ الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ فَصِيحًا، شَاعِرًا، وَلَمَّا وَلِيَ خَرَجَ عَلَيْهِ عَمَّاهُ سُلَيْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَا فِي بَرِّ الْعُدْوَةِ الْغَرْبِيَّةِ، فَعَبَرَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَلَنْسِيُّ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، فَتَوَلَّى بَلَنْسِيَةَ، وَتَبِعَهُ أَخُوهُ سُلَيْمَانُ، وَكَانَ بِطَنْجَةَ، وَأَقْبَلَا يُؤَلِّبَانِ النَّاسَ عَلَى الْحَكَمِ، وَيُثِيرَانِ الْفِتْنَةَ، فَتَحَارَبُوا مُدَّةً وَالظَّفَرُ لِلْحَكَمِ. ثُمَّ إِنَّ الْحَكَمَ ظَفِرَ بِعَمِّهِ سُلَيْمَانَ، فَقَتَلَهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. [وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ] فَأَقَامَ بِبَلَنْسِيَةَ، وَقَدْ كَفَّ عَنِ الْفِتْنَةِ، وَخَافَ فَرَاسَلَ الْحَكَمَ فِي الصُّلْحِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَوَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَزَوَّجَ أَوْلَادَ عَبْدِ اللَّهِ بِأَخَوَاتِهِ، وَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ. وَلَمَّا اشْتَغَلَ الْحَكَمُ بِالْفِتْنَةِ مَعَ عَمَّيْهِ اغْتَنَمَ الْفِرِنْجُ الْفُرْصَةَ، فَقَصَدُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ، وَأَخَذُوا مَدِينَةَ بَرْشَلُونَةَ وَاتَّخَذُوهَا دَارًا، وَنَقَلُوا أَصْحَابَهُمْ إِلَيْهَا، وَتَأَخَّرَتْ عَسَاكِرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا، وَكَانَ أَخْذُهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. ذِكْرُ غَزْوِ الْفِرِنْجِ بِالْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ الْحَكَمُ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ جَيْشًا مَعَ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مُغِيثٍ إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ، فَدَخَلَ الْبِلَادَ، وَبَثَّ السَّرَايَا يَنْهَبُونَ، وَيُقَتِّلُونَ، وَيُحَرِّقُونَ الْبِلَادَ، وَسَيَّرَ سَرِيَّةً، فَجَازُوا خَلِيجًا مِنَ الْبَحْرِ كَانَ الْمَاءُ قَدْ جَزَرَ عَنْهُ، وَكَانَ الْفِرِنْجُ قَدْ جَعَلُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وَرَاءَ الْخَلِيجِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْبُرَ إِلَيْهِمْ، فَجَاءَهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ، فَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعَ مَالِهِمْ، وَأَسَرُوا الرِّجَالَ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ فَأَكْثَرُوا، وَسَبَوُا الْحَرِيمَ، وَعَادُوا سَالِمِينَ إِلَى عَبْدِ الْكَرِيمِ. وَسَيَّرَ طَائِفَةً أُخْرَى، فَخَرَّبُوا كَثِيرًا مِنْ بِلَادِ فَرَنْسِيَّةَ، وَغَنِمَ أَمْوَالَ أَهْلِهَا، وَأَسَرُوا الرِّجَالَ، فَأَخْبَرَهُ بَعْضُ الْأَسْرَى أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ قَدْ سَبَقُوا الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَادٍ وَعْرِ الْمَسْلَكِ عَلَى طَرِيقِهِمْ، فَجَمَعَ عَبْدُ الْكَرِيمِ عَسَاكِرَهُ، وَسَارَ عَلَى تَعْبِئَةٍ، وَجَدَّ السَّيْرَ، فَلَمْ يَشْعُرِ الْكُفَّارُ إِلَّا وَقَدْ خَالَطَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، فَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيهِمْ، فَانْهَزَمُوا، وَغَنِمَ مَا مَعَهُمْ، وَعَادَ سَالِمًا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ.

ذِكْرُ وِلَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى خُرَاسَانَ. وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ مَنْصُورَ بْنَ يَزِيدَ عَنْ خُرَاسَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ، فَوَلِيَهَا عَشْرَ سِنِينَ، وَفِي وِلَايَتِهِ خَرَجَ حَمْزَةُ بْنُ أَتُرْكَ الْخَارِجِيُّ أَيْضًا، فَجَاءَ إِلَى بُوشَنْجَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَمْرُوَيْهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَزْدِيُّ، وَكَانَ عَلَى هَرَاةَ، فِي سِتَّةِ آلَافٍ، فَقَاتَلَهُ، فَهَزَمَهُ حَمْزَةُ، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً. وَمَاتَ عَمْرُوَيْهِ فِي الزِّحَامِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى ابْنَهُ الْحُسَيْنَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، فَلَمْ يُحَارِبْ حَمْزَةَ، فَعَزَلَهَ، وَسَيَّرَ عِوَضَهُ ابْنَهُ عِيسَى بْنَ عَلِيٍّ فَقَاتَلَ حَمْزَةَ، فَهَزَمَهُ حَمْزَةُ، فَرَدَّهُ أَبُوهُ إِلَيْهِ أَيْضًا، فَقَاتَلَهُ بِبَاخَرْزَ، وَكَانَ حَمْزَةُ بِنَيْسَابُورَ، فَانْهَزَمَ حَمْزَةُ، وَقُتِلَ أَصْحَابُهُ، وَبَقِيَ فِي أَرْبَعِينَ رُجَلًا، فَقَصَدَ قُهُسْتَانَ. وَأَرْسَلَ عِيسَى أَصْحَابَهُ إِلَى أُوقَ وَجُوَيْنَ، فَقَتَلُوا مَنْ بِهَا مِنَ الْخَوَارِجِ، وَقَصَدَ الْقُرَى الَّتِي كَانَ أَهْلُهَا يُعِينُونَ حَمْزَةَ، فَأَحْرَقَهَا، وَقَتَلَ مَنْ فِيهَا، حَتَّى [وَصَلَ] إِلَى زَرَنْجَ، فَقَتَلَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَرَجَعَ، وَخَلَّفَ بِزَرَنْجَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْعَبَّاسِ النَّسَفِيَّ، فَجَبَى الْأَمْوَالَ وَسَارَ بِهَا، فَلَقِيَهُ حَمْزَةُ بِأَسْفِزَارَ، فَقَاتَلَهُ، فَصَبَرَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الصُّغْدِ. فَانْهَزَمَ حَمْزَةُ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَجُرِحَ فِي وَجْهِهِ، وَاخْتَفَى هُوَ وَمَنْ سَلِمَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْكُرُومِ، ثُمَّ خَرَجَ وَسَارَ فِي الْقُرَى يَقْتُلُ، وَلَا يُبْقِي عَلَى أَحَدٍ. وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى قَدِ اسْتَعْمَلَ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ عَلَى بُوشَنْجَ، فَسَارَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ، وَانْتَهَى إِلَى مَكْتَبٍ فِيهِ ثَلَاثُونَ غُلَامًا، فَقَتَلَهُمْ، وَقَتَلَ مُعَلِّمَهُمْ، وَبَلَغَ طَاهِرًا الْخَبَرُ، فَأَتَى قَرْيَةً فِيهَا قَعَدُ الْخَوَارِجِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يُقَاتِلُونَ، وَلَا دِيوَانَ لَهُمْ، فَقَتَلَهُمْ طَاهِرٌ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ. وَكَانَ يَشُدُّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ فِي شَجَرَتَيْنِ، ثُمَّ يَجْمَعُهُمَا، ثُمَّ يُرْسِلُهُمَا، فَتَأْخُذُ كُلُّ شَجَرَةٍ نِصْفَهُ، فَكَتَبَ الْقَعَدُ إِلَى حَمْزَةَ بِالْكَفِّ، فَكَفَّ وَوَاعَدَهُمْ، وَأَمِنَ النَّاسُ مُدَّةً، وَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا سَارَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ إِلَى الشَّامِ لِلْعَصَبِيَّةِ الَّتِي بِهَا، وَمَعَهُ الْقُوَّادُ وَالْعَسَاكِرُ وَالسِّلَاحُ وَالْأَمْوَالُ، فَسَكَّنَ الْفِتْنَةَ، وَأَطْفَأَ النَّائِرَةَ، وَعَادَ النَّاسُ إِلَى الْأَمْنِ وَالسُّكُونِ.

وَفِيهَا أَخَذَ الرَّشِيدُ الْخَاتَمَ مِنْ جَعْفَرِ بْنِ عِيسَى، فَدَفَعَهُ إِلَى أَبِيهِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ. وَفِيهَا وَلَّى جَعْفَرًا خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا بَعْدَ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عِيسَى بْنَ جَعْفَرٍ، وَوَلَّى جَعْفَرَ بْنَ يَحْيَى الْحَرَسَ. وَفِيهَا هَدَمَ الرَّشِيدُ سُورَ الْمَوْصِلِ بِسَبَبِ الْعَطَّافِ بْنِ سُفْيَانَ الْأَزْدِيِّ، سَارَ إِلَيْهَا بِنَفْسِهِ، وَهَدَمَ سُورَهَا، وَأَقْسَمَ لَيَقْتُلَنَّ مَنْ لَقِيَ مِنْ أَهْلِهَا، فَأَفْتَاهُ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ، وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ الْعَطَّافُ قَدْ سَارَ عَنْهَا نَحْوَ أَرْمِينِيَّةَ فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ الرَّشِيدُ، وَمَضَى إِلَى الرَّقَّةِ فَاتَّخَذَهَا وَطَنًا. وَفِيهَا عُزِلَ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ، وَاسْتَقْدَمَهُ إِلَى بَغْدَاذَ وَاسْتَخْلَفَهُ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى عَلَى الْحَرَسِ. وَفِيهَا كَانَتْ بِمِصْرَ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ سَقَطَ مِنْهَا رَأْسُ مَنَارَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. (وَفِيهَا خَرَجَ حُرَّاشَةُ الشَّيْبَانِيُّ بِالْجَزِيرَةِ، فَقَتَلَهُ مُسْلِمُ بْنُ بَكَّارٍ الْعُقَيْلِيُّ) . وَفِيهَا خَرَجَتِ الْمُحَمِّرَةُ بِجُرْجَانَ. وَفِيهَا عُزِلَ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى عَنْ طَبَرِسْتَانَ، وَالرُّويَانِ، وَوَلِيَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ،

وَوَلِيَ سَعِيدُ بْنُ سَلْمٍ الْجَزِيرَةَ، وَغَزَا الصَّائِفَةَ مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ زُفَرَ بْنِ عَاصِمٍ. وَفِيهَا سَارَ الرَّشِيدُ إِلَى الْحَيْرَةِ، وَابْتَنَى بِهَا الْمَنَازِلَ، فَأَقْطَعَ أَصْحَابَهُ الْقَطَائِعَ فَثَارَ بِهِمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَأَسَاءُوا مُجَاوَرَتَهُ، فَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ عَلَى الْمَوْصِلِ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْحَرَشِيَّ، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا، وَظَلَمَهُمْ، وَطَالَبَهُمْ بِخَرَاجِ سِنِينَ مَضَتْ، فَجَلَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْبَلَدِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمُبَارَكُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ أَخُو سُفْيَانَ، وَسَلَمَةُ الْأَحْمَرُ، وَسَعِيدُ بْنُ خُثَيْمٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ،

وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَأَبُو ضَمْرَةَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ اللَّيْثِيُّ الْمَدَنِيُّ. وَفِيهَا أَمَرَ الرَّشِيدُ بِبِنَاءِ مَدِينَةِ عَيْنِ زَرْبَى وَحِصْنِهَا، وَسَيَّرَ إِلَيْهَا جُنْدًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمْ، فَأَقْطَعَهُمْ بِهَا الْمَنَازِلَ.

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ] 181 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ وِلَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ إِفْرِيقِيَّةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ مُحَمَّدَ بْنَ مُقَاتِلِ بْنِ حَكِيمٍ الْعَكِّيَّ، لَمَّا اسْتَعْفَى مِنْهَا هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ هَذَا رَضِيعَ الرَّشِيدِ، فَقَدِمَ الْقَيْرَوَانَ أَوَّلَ رَمَضَانَ، فَتَسَلَّمَهَا، وَعَادَ هَرْثَمَةُ إِلَى الرَّشِيدِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِيهَا لَمْ يَكُنْ بِالْمَحْمُودِ السِّيرَةِ، فَاخْتَلَفَ الْجُنْدُ عَلَيْهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى تَقْدِيمِ مَخْلَدِ بْنِ مُرَّةَ الْأَزْدِيِّ، (وَاجْتَمَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْجُنْدِ وَالْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ جَيْشًا، فَقَاتَلُوهُ، فَانْهَزَمَ مَخْلَدٌ وَاخْتَفَى فِي مَسْجِدٍ، فَأُخِذَ وَذُبِحَ) . وَخَرَجَ عَلَيْهِ بِتُونِسَ تَمَّامُ بْنُ تَمِيمٍ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَسَارُوا إِلَى الْقَيْرَوَانِ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الْعَكِّيُّ فِي الَّذِينَ مَعَهُ، (فَاقْتَتَلُوا بِمُنْيَةِ الْخَيْلِ) ، فَانْهَزَمَ ابْنُ الْعَكِّيِّ إِلَى الْقَيْرَوَانِ وَسَارَ تَمَّامٌ فَدَخَلَ الْقَيْرَوَانَ وَأَمَّنَ ابْنَ الْعَكِّيِّ، عَلَى أَنْ يَخْرُجَ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ، فَسَارَ فِي رَمَضَانَ إِلَى طَرَابُلُسَ. فَجَمَعَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَغْلَبِ التَّمِيمِيُّ جَمْعًا كَثِيرًا، وَسَارَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ مُنْكِرًا لِمَا فَعَلَهُ تَمَّامٌ، فَلَمَّا قَارَبَهَا سَارَ عَنْهَا إِلَى تُونِسَ [فِي ذِي الْقَعْدَةِ] ، وَدَخَلَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، وَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ يُعْلِمُهُ الْخَبَرَ، وَيَسْتَدْعِيهِ إِلَى عَمَلِهِ، فَعَادَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَثَقُلَ

ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى تَمَّامٍ، فَجَمَعَ جَمْعًا وَسَارَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ النَّاسَ يَكْرَهُونَ مُحَمَّدًا وَيُسَاعِدُونَهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا وَصَلَ قَالَ ابْنُ الْأَغْلَبِ لِمُحَمَّدٍ: إِنَّ تَمَّامًا انْهَزَمَ مِنِّي وَأَنَا فِي قِلَّةٍ، فَلَمَّا وَصَلْتَ إِلَى الْبِلَادِ تَجَدَّدَ لَهُ طَمَعٌ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْجُنْدَ يَخْذُلُونَكَ، وَالرَّأْيُ أَنْ أَسِيرَ أَنَا وَمَنْ مَعِي مِنْ أَصْحَابِي فَنُقَاتِلَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَيْهِ فَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ تَمَّامٌ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَحِقَ بِمَدِينَةِ تُونِسَ، فَسَارَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَغْلَبِ إِلَيْهِ لِيَحْصُرَهُ، فَطَلَبَ مِنْهُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ. ذِكْرُ وِلَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ إِفْرِيقِيَّةَ لَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِمُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَأَطَاعَهُ تَمَّامٌ، كَرِهَ أَهْلُ الْبِلَادِ ذَلِكَ، وَحَمَلُوا إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَغْلَبِ عَلَى أَنْ كَتَبَ إِلَى الرَّشِيدِ يَطْلُبُ مِنْهُ وِلَايَةَ إِفْرِيقِيَّةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ذَلِكَ. وَكَانَ عَلَى دِيَارِ مِصْرَ كُلَّ سَنَةٍ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ تُحْمَلُ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ مَعُونَةً، فَنَزَلَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ ذَلِكَ، وَبَذَلَ أَنْ يَحْمِلَ كُلَّ سَنَةٍ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَأَحْضَرَ الرَّشِيدُ ثِقَاتِهِ وَاسْتَشَارَهُمْ (فِيمَنْ يُوَلِّيهِ) إِفْرِيقِيَّةَ، وَذَكَرَ لَهُمْ كَرَاهَةَ أَهْلِهَا وِلَايَةَ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ. فَأَشَارَ هَرْثَمَةُ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ، وَذَكَرَ لَهُ مَا رَآهُ مِنْ عَقْلِهِ وَدِينِهِ وَكِفَايَتِهِ، وَأَنَّهُ قَامَ بِحِفْظِ إِفْرِيقِيَّةَ عَنِ ابْنِ مُقَاتِلٍ، فَوَلَّاهُ الرَّشِيدُ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، فَانْقَمَعَ الشَّرُّ، وَضَبَطَ الْأَمْرَ، وَسَيَّرَ تَمَّامًا، وَكُلَّ مَنْ يَتَوَثَّبُ عَلَى الْوُلَاةِ، إِلَى الرَّشِيدِ، فَسَكَنَتِ الْبِلَادُ، وَابْتَنَى مَدِينَةً سَمَّاهَا الْعَبَّاسِيَّةَ بِقُرْبِ الْقَيْرَوَانِ، وَانْتَقَلَ إِلَيْهَا بِأَهْلِهِ وَعَبِيدِهِ. وَخَرَجَ عَلَيْهِ، سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، رَجُلٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْعَرَبِ بِمَدِينَةِ تُونِسَ، اسْمُهُ حَمْدِيسُ، فَنَزَعَ السَّوَادَ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ الْأَغْلَبِ عِمْرَانَ بْنَ مَخْلَدٍ فِي عَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُبْقِيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إِنْ ظَفِرَ بِهِمْ. فَسَارَ عِمْرَانُ، وَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، وَصَارَ أَصْحَابُ حَمْدِيسَ يَقُولُونَ: بَغْدَاذَ! بَغْدَاذَ! وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، فَانْهَزَمَ

حَمْدِيسُ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ عَشَرَةُ آلَافِ رَجُلٍ، وَدَخَلَ عِمْرَانُ تُونِسَ. ثُمَّ بَلَغَ ابْنَ الْأَغْلَبِ أَنَّ إِدْرِيسَ بْنَ إِدْرِيسَ الْعَلَوِيَّ قَدْ كَثُرَ جَمْعُهُ بِأَقَاصِي الْمَغْرِبِ، فَأَرَادَ قَصْدَهُ، فَنَهَاهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا: اتْرُكْهُ مَا تَرَكَكَ، فَأَعْمِلِ الْحِيلَةَ، وَكَاتِبِ الْقَيِّمَ بِأَمْرِهِ مِنَ الْمَغَارِبَةِ، وَاسْمُهُ بَهْلُولُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَأَهْدِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى فَارَقَ إِدْرِيسَ وَأَطَاعَ إِبْرَاهِيمَ، وَتَفَرَّقَ جَمْعُ إِدْرِيسَ، فَكَتَبَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ يَسْتَعْطِفُهُ، وَيَسْأَلُهُ الْكَفَّ عَنْ نَاحِيَتِهِ، وَيَذْكُرُ لَهُ قَرَابَتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَفَّ عَنْهُ. ثُمَّ إِنَّ عِمْرَانَ بْنَ مَخْلَدٍ، الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَانَ مِنْ بِطَانَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ، وَيَنْزِلُ مَعَهُ فِي قَصْرِهِ، رَكِبَ يَوْمًا مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ، فَلَمْ يَفْهَمْ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا لِاشْتِغَالِ قَلْبِهِ بِمُهِمٍّ كَانَ لَهُ، فَاسْتَعَادَ الْحَدِيثَ مِنْ عِمْرَانَ فَغَضِبَ وَفَارَقَ إِبْرَاهِيمَ، وَجَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا، وَثَارَ عَلَيْهِ، فَنَزَلَ بَيْنَ الْقَيْرَوَانِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ، وَصَارَتِ الْقَيْرَوَانُ وَأَكْثَرُ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ مَعَهُ. فَخَنْدَقَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْعَبَّاسِيَّةِ، وَامْتَنَعَ فِيهَا، وَدَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمَا سَنَةً كَامِلَةً، فَسَمِعَ الرَّشِيدُ الْخَبَرَ، فَأَنْفَذَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ خِزَانَةَ مَالٍ، فَلَمَّا صَارَتْ إِلَيْهِ الْأَمْوَالُ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: مَنْ كَانَ مِنْ جُنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلْيَحْضُرْ لِأَخْذِ الْعَطَاءِ. فَفَارَقَ عِمْرَانَ أَصْحَابُهُ وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ، فَوَثَبَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ إِبْرَاهِيمَ فَانْهَزَمُوا، فَنَادَى إِبْرَاهِيمُ بِالْأَمَانِ وَالْحُضُورِ لِقَبْضِ الْعَطَاءِ، فَحَضَرُوا فَأَعْطَاهُمْ وَقَلَعَ أَبْوَابَ الْقَيْرَوَانِ وَهَدَمَ فِي سُورِهَا. وَأَمَّا عِمْرَانُ، فَسَارَ حَتَّى لَحِقَ بِالزَّابِ، فَأَقَامَ بِهِ حَتَّى مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَوَلَّى بَعْدَهُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ فَأَمَّنَ عِمْرَانَ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَأَسْكَنَهُ مَعَهُ، فَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ هَذَا ثَأْرٌ بِأَبِيكَ، وَلَا نَأْمَنُهُ عَلَيْكَ، فَقَتَلَهُ. وَلَمَّا انْهَزَمَ عِمْرَانُ سَكَنَ الشَّرُّ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَأَمِنَ النَّاسُ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ وَعُمُرُهُ سِتٌّ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَإِمَارَتُهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ.

(ذِكْرُ وِلَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ إِفْرِيقِيَّةَ) وَلَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَغْلَبِ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ غَائِبًا بِطَرَابُلُسَ قَدْ حَصَرَهُ الْبَرْبَرُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، فَعَهِدَ إِلَيْهِ أَبُوهُ بِالْإِمَارَةِ، وَأَمَرَ ابْنَهُ زِيَادَةَ اللَّهِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يُبَايِعَ لِأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بِالْإِمَارَةِ، فَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ بِمَوْتِ أَبِيهِ، وَبِالْإِمَارَةِ، فَفَارَقَ طَرَابُلُسَ، وَوَصَلَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَاسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي أَيَّامِهِ شَرٌّ، وَلَا حَرْبٌ، وَسَكَنَ النَّاسُ فَعُمِّرَتِ الْبِلَادُ، وَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ. ذِكْرُ مَنْ خَالَفَ بِالْأَنْدَلُسِ عَلَى صَاحِبِهَا وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ بَهْلُولُ بْنُ مَرْزُوقٍ، الْمَعْرُوفُ بِأَبِي الْحَجَّاجِ، فِي نَاحِيَةِ الثَّغْرِ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَدَخَلَ سَرَقُسْطَةَ وَمَلَكَهَا، فَقَدِمَ عَلَى بَهْلُولٍ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَمُّ صَاحِبِهَا الْحَكَمِ، وَيُعْرَفُ بِالْبَلَنْسِيِّ، وَكَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْفِرِنْجِ. وَخَالَفَ فِيهَا عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ بِطُلَيْطِلَةَ، وَأَمَرَ الْحَكَمُ الْقَائِدَ عَمْرُوسَ بْنَ يُوسُفَ، وَهُوَ بِمَدِينَةِ طَلَبِيرَةَ، أَنْ يُحَارِبَ أَهْلَ طُلَيْطِلَةَ فَكَانَ يُكْثِرُ قِتَالَهُمْ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّ عَمْرُوسَ بْنَ يُوسُفَ كَاتَبَ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ طُلَيْطِلَةَ يُعْرَفُونَ بِبَنِي مَخْشِيٍّ، وَاسْتَمَالَهُمْ. فَوَثَبُوا عَلَى عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ وَقَتَلُوهُ، وَحَمَلُوهُ رَأْسَهُ إِلَى عَمْرُوسَ، فَسَيَّرَ الرَّأْسَ إِلَى الْحَكَمِ، وَأَنْزَلَ بَنِي مَخْشِيٍّ عِنْدَهُ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَرْبَرِ الَّذِينَ بِمَدِينَةِ طَلَبِيرَةَ ذُحُولٌ، فَتَسَوَّرَ الْبَرْبَرُ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُ، فَسَيَّرَ عَمْرُوسُ رُءُوسَهُمْ مَعَ رَأْسِ عُبَيْدَةَ إِلَى الْحَكَمِ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ. [ثُمَّ إِنَّ عَمْرُوسَ أَعْمَلَ جَهْدَهُ فِي اسْتِجْلَابِ أَهْلِ طُلَيْطِلَةَ بِمُكَاتَبَتِهِمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُ الْمَدِينَةَ. فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهَا بَنَى الْقَصْرَ عَلَى بَابِ جِسْرِهَا فَأَحْكَمَهُ، وَأَتْقَنَ أَمْرَهُ، ثُمَّ سَعَى فِي قَتْلِ رِجَالِ طُلَيْطِلَةَ، وَقَطْعِ شَرِّهِمْ، وَحَسْمِ دَائِهِمْ، تَوْطِيدًا لِلْمَمْلَكَةِ، فَأَعَدَّ لِلْكَيْدِ صَنِيعًا، أَظْهَرَ أَنَّهُ يَذْبَحُ فِيهِ الْبَقَرَ وَأَمَرَ أَنْ يَكُونَ دُخُولُ النَّاسِ عَلَى بَابٍ وَخُرُوجُهُمْ] مِنْ بَابٍ

آخَرَ، فَمَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ عُدِلَ بِهِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَقَتَلُوهُ، حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُمِائَةِ رَجُلٍ، فَاسْتَقَامَتْ تِلْكَ النَّاحِيَةُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا غَزَا الرَّشِيدُ أَرْضَ الرُّومِ، فَافْتَتَحَ حِصْنَ الصَّفْصَافِ. وَفِيهَا غَزَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ أَرْضَ الرُّومِ، فَبَلَغَ أَنْقِرَةَ، وَافْتَتَحَ مَطْمُورَةَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَمْزَةُ بْنُ مَالِكٍ. (وَفِيهَا غَلَبَتِ الْمُحَمِّرَةُ عَلَى خُرَاسَانَ) . وَفِيهَا أَحْدَثَ الرَّشِيدُ فِي صَدْرِ كُتُبِهِ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الرَّشِيدُ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الرُّومِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ أَوَّلُ فِدَاءٍ كَانَ أَيَّامَ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَكَانَ الْقَاسِمُ بْنُ الرَّشِيدِ هُوَ الْمُتَوَلِّي لَهُ، (وَكَانَ الْمَلِكُ نِقْفُورَ) ، (فَفَرِحَ بِذَلِكَ

النَّاسُ) ، فَفُودِيَ بِكُلِّ أَسِيرٍ فِي بِلَادِ الرُّومِ، وَكَانَ الْفِدَاءُ بِاللَّامِسِ، عَلَى جَانِبِ الْبَحْرِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَرَسُوسَ اثْنَا عَشَرَ فَرْسَخًا، وَحَضَرَ ثَلَاثُونَ أَلْفًا مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ مَعَ أَبِي سُلَيْمَانَ، فَخَرَجَ الْخَادِمُ، مُتَوَلِّي طَرَسُوسَ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الثُّغُورِ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَعْيَانِ، وَكَانَ عِدَّةُ الْأَسْرَى ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَسَبْعَمِائَةٍ، وَقِيلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَهُوَ مِنْ قُوَّادِ الْمَنْصُورِ، هُوَ وَأَبُوهُ، وَكَانَ عُمْرُهُ أَرْبَعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ الْمَرْوَزِيُّ، تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ بِهَيْتَ وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً.

وَعَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَسَدِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالْكِسَائِيِّ، الْمُقْرِئُ، النَّحْوِيُّ، بِالرَّيِّ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَرْوَانُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي حَفْصَةَ الشَّاعِرُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي، وَاسْمُهُ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ (يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ طَهْمَانَ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ السُّلَمِيُّ، وَكَانَ) يَعْقُوبُ وَزِيرَ الْمَهْدِيِّ. وَهَاشِمُ بْنُ الْبَرِيدِ. وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ. وَحَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ الصَّنْعَانِيُّ مِنْ صَنْعَاءِ دِمَشْقَ.

(الْبَرِيدُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَبِالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ) .

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة] 182 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَايَعَ الرَّشِيدُ لِعَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ بَعْدَ الْأَمِينِ، وَوَلَّاهُ خُرَاسَانَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا إِلَى هَمَذَانَ، وَلَقَّبَهُ الْمَأْمُونَ، وَسَلَّمَهُ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى. (وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ، فَإِنَّ الرَّشِيدَ قَدْ رَأَى مَا صَنَعَ أَبُوهُ وَجَدُّهُ الْمَنْصُورُ بِعِيسَى بْنِ مُوسَى، حَتَّى خَلَعَ نَفْسَهُ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَمَا صَنَعَ أَخُوهُ الْهَادِي لِيَخْلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْعَهْدِ، فَلَوْ لَمْ يُعَاجِلْهُ الْمَوْتُ لَخَلَعَهُ، ثُمَّ هُوَ يُبَايِعُ لِلْمَأْمُونِ بَعْدَ الْأَمِينِ، وَحُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ) . وَفِيهَا حُمِلَتِ ابْنَةُ خَاقَانَ مَلِكِ الْخَزَرِ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى، فَمَاتَتْ بِبَرْذَعَةَ، فَرَجَعَ مَنْ مَعَهَا إِلَى أَبِيهَا فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهَا قُتِلَتْ غِيلَةً، فَتَجَهَّزَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ. وَغَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ، فَبَلَغَ أُفْسُوسَ، مَدِينَةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ.

وَفِيهَا سَمَلَتِ الرُّومُ عَيْنَيْ مَلِكِهِمْ قُسْطَنْطِينَ بْنِ أَلْيُونَ، وَأَقَرُّوا أُمَّهُ رِينِي وَتُلَقَّبُ: عَطْسَةَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى. وَكَانَ عَلَى الْمَوْصِلِ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ. (وَفِيهَا جَازَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، إِلَى بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ مِنَ الشَّرْقِ، وَتَعَرَّضَ لِحَرْبِ ابْنِ أَخِيهِ الْحَكَمِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، صَاحِبِ الْبِلَادِ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْحَكَمُ فِي جُيُوشٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَى سُلَيْمَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الشِّقَاقِ وَمَنْ يُرِيدُ الْفِتْنَةَ، فَالْتَقَيَا وَاقْتَتَلَا، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، فَانْهَزَمَ سُلَيْمَانُ وَاتَّبَعَهُ عَسْكَرُ الْحَكَمِ، وَعَادَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ ثَانِيَةً فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَانْهَزَمَ فِيهَا سُلَيْمَانُ، وَاعْتَصَمَ بِالْوَعْرِ وَالْجِبَالِ، فَعَادَ الْحَكَمُ. ثُمَّ عَادَ سُلَيْمَانُ فَجَمَعَ بَرَابِرَ، وَأَقْبَلَ إِلَى جَانِبِ إِسْتِجَةَ، فَسَارَ إِلَيْهِمُ الْحَكَمُ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَانْهَزَمَ سُلَيْمَانُ، وَاحْتَمَى بِقَرْيَةٍ، فَحَصَرَهُ الْحَكَمُ، وَعَادَ سُلَيْمَانُ (مُنْهَزِمًا) إِلَى نَاحِيَةِ فِرِّيشَ) .

(وَفِيهَا كَانَ بِقُرْطُبَةَ سَيْلٌ عَظِيمٌ، فَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْ رَبَضِهَا الْقِبْلِيِّ، وَخَرِبَ كَثِيرٌ مِنْهُ، وَبَلَغَ السَّيْلُ شَقُنْدَةَ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الطَّيَالِسِيُّ الْمُحَدِّثُ. وَعَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ ابْنُ أُخْتِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، مَوْلَى جُهَيْنَةَ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ دَارَابَجِرْدَ، فَاسْتَثْقَلُوا نِسْبَتَهُ إِلَيْهَا فَقَالُوا دَرَاوَرْدِيُّ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ دَرَّاجُ أَبُو السَّمْحِ، (وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّمْحِ، وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ السَّمْحِ بْنِ) أُسَامَةَ التُّجِيبِيُّ، الْمِصْرِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَعَفِيفُ بْنُ سَالِمٍ الْمَوْصِلِيُّ.

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ] 183 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. ذِكْرُ غَزْوِ الْخَزَرِ بِلَادَ الْإِسْلَامِ وَفِيهَا خَرَجَ الْخَزَرُ بِسَبَبِ ابْنَةِ خَاقَانَ مِنْ بَابِ الْأَبْوَابِ، فَأَوْقَعُوا بِالْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَسَبَوْا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ رَأْسٍ، وَانْتَهَكُوا أَمْرًا عَظِيمًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ فِي الْأَرْضِ، فَوَلَّى الرَّشِيدُ أَرْمِينِيَّةَ يَزِيدَ بْنَ مَزْيَدٍ مُضَافًا إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَوَجَّهَهُ إِلَيْهِمْ، وَأَنْزَلَ خُزَيْمَةَ بْنَ خَازِمٍ نَصِيبِينَ رِدْءًا لِأَهْلِ أَرْمِينِيَّةَ. وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ خُرُوجِهِمْ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ سَلْمٍ قَتَلَ الْمُنَجِّمَ السُّلَمِيَّ، فَدَخَلَ ابْنُهُ بِلَادَ الْخَزَرِ، وَاسْتَجَاشَهُمْ عَلَى سَعِيدٍ، فَخَرَجُوا وَدَخَلُوا أَرْمِينِيَّةَ مِنَ الثُّلْمَةِ، فَانْهَزَمَ سَعِيدٌ، وَأَقَامُوا نَحْوَ سَبْعِينَ يَوْمًا، فَوَجَّهَ الرَّشِيدُ خُزَيْمَةَ بْنَ خَازِمٍ، وَيَزِيدَ بْنَ مَزْيَدٍ، فَأَصْلَحَا مَا أَفْسَدَ سَعِيدٌ، وَأَخْرَجَا الْخَزَرَ، وَسَدَّا الثُّلْمَةَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا اسْتَقْدَمَ الرَّشِيدُ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى مِنْ خُرَاسَانَ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ ابْنِهِ الْمَأْمُونِ، وَأَمَرَهُ بِحَرْبِ أَبِي الْخَصِيبِ. وَفِيهَا خَرَجَ بِنَسَا مِنْ خُرَاسَانَ أَبُو الْخَصِيبِ وُهَيْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّسَائِيُّ.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْهَادِي. وَفِيهَا مَاتَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِبَغْدَاذَ فِي حَبْسِ الرَّشِيدِ. وَكَانَ سَبَبُ حَبْسِهِ أَنَّ الرَّشِيدَ اعْتَمَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ - عَلَى سَاكِنِهَا السَّلَامُ - دَخَلَ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَزُورُهُ، وَمَعَهُ النَّاسُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْقَبْرِ وَقَفَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَابْنَ عَمِّ، افْتِخَارًا عَلَى مَنْ حَوْلِهِ، فَدَنَا مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَهْ. فَتَغَيَّرَ وَجْهُ الرَّشِيدِ وَقَالَ: هَذَا الْفَخْرُ يَا أَبَا الْحَسَنِ جَدًّا. ثُمَّ أَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَحَبَسَهُ عِنْدَ السِّنْدِيِّ بْنِ شَاهَكَ، (وَتَوَلَّتْ حَبْسَهُ أُخْتُ السِّنْدِيِّ بْنِ شَاهَكَ) ، وَكَانَتْ تَتَدَيَّنُ، فَحَكَتْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى الْعَتَمَةَ حَمِدَ اللَّهَ وَمَجَّدَهُ وَدَعَاهُ إِلَى أَنْ يَزُولَ اللَّيْلُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي، حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ، ثُمَّ يَذْكُرُ اللَّهَ - تَعَالَى - حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ يَقْعُدُ إِلَى ارْتِفَاعِ الضُّحَى، ثُمَّ يَرْقُدُ، وَيَسْتَيْقِظُ قَبْلَ الزَّوَالِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي، حَتَّى يُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَتَمَةِ، فَكَانَ هَذَا دَأْبَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ. وَكَانَتْ إِذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَابَ قَوْمٌ تَعَرَّضُوا لِهَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ! وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالْكَاظِمِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُحْسِنُ إِلَى مَنْ يُسِيءُ إِلَيْهِ، كَانَ هَذَا عَادَتَهُ أَبَدًا، وَلَمَّا كَانَ مَحْبُوسًا بَعَثَ إِلَى الرَّشِيدِ بِرِسَالَةٍ أَنَّهُ لَنْ يَنْقَضِيَ عَنِّي يَوْمٌ مِنَ الْبَلَاءِ إِلَّا يَنْقَضِي عَنْكَ مَعَهُ يَوْمٌ مِنَ الرَّخَاءِ، حَتَّى يَنْقَضِيَا جَمِيعًا إِلَى يَوْمٍ لَيْسَ لَهُ انْقِضَاءٌ يَخْسَرُ فِيهِ الْمُبْطِلُونَ. (وَفِيهَا كَانَتْ بِالْأَنْدَلُسِ فِتْنَةٌ وَحَرْبٌ بَيْنَ قَائِدٍ كَبِيرٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو عِمْرَانَ، وَبَيْنَ بَهْلُولِ بْنِ مَرْزُوقٍ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَلَنْسِيُّ مَعَ أَبِي عِمْرَانَ، فَانْهَزَمَ

أَصْحَابُ بَهْلُولٍ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ النَّحْوِيُّ الْمَشْهُورُ، أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ عُمْرُهُ قَدْ زَادَ عَلَى مِائَةِ سَنَةٍ) . وَفِيهَا مَاتَ مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. وَمُحَمَّدُ بْنُ صَبِيحٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُذَكِّرُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ. وَهُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ الْوَاسِطِيُّ، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ، وَكَانَ ثِقَةً إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُصَحِّفُ.

وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَاضِي الْمَدَائِنِ بِهَا، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً. وَيُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ. (صَبِيحٌ بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَبَشِيرٌ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ) .

ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَة] 184 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَفِيهَا وَلَّى الرَّشِيدُ حَمَّادًا الْبَرْبَرِيَّ الْيَمَنَ وَمَكَّةَ، وَوَلَّى دَاوُدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ الْمُهَلَّبِيَّ السِّنْدَ، وَيَحْيَى الْحَرَشِيَّ الْجَبَلَ، وَمَهْرَوَيْهِ الرَّازِيَّ طَبَرِسْتَانَ، وَقَامَ بِأَمْرِ إِفْرِيقِيَّةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَغْلَبِ، فَوَلَّاهُ إِيَّاهَا الرَّشِيدُ. وَفِيهَا خَرَجَ أَبُو عُمَرَ الشَّارِيُّ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ زُهَيْرًا الْقَصَّابَ فَقَتَلَهُ بِشَهْرَزُورَ. وَفِيهَا طَلَبَ أَبُو الْخَصِيبِ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَكَانَ عَلَى الْمَوْصِلِ وَأَعْمَالِهَا يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدِ بْنِ زَائِدَةَ الشَّيْبَانِيُّ. (وَفِيهَا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَلَنْسِيُّ إِلَى مَدِينَةِ أَشِقَةَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، فَنَزَلَ بِهَا مَعَ أَبِي عِمْرَانَ، وَمَعَ الْعَرَبِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ بَهْلُولُ بْنُ مَرْزُوقٍ، وَحَاصَرَهُمْ فِيهَا، فَتَفَرَّقَ

الْعَرَبُ عَنْهُمْ، وَدَخَلَ بَهْلُولٌ مَدِينَةَ أَشِقَةَ، وَسَارَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى مَدِينَةِ بَلَنْسِيَةَ فَأَقَامَ بِهَا) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ الْمَوْصِلِيُّ الْأَزْدِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْعَابِدُ. وَعَبْدُ السَّلَامِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ الْأَزْدِيُّ. وَعَبْدُ الْأَعْلَى [بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى] بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّامِيُّ الْبَصْرِيُّ مِنْ بَنِي شَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ.

وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ.

ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَة] 185 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ أَهْلُ طَبَرِسْتَانَ مَهْرَوَيْهِ الرَّازِيَّ، وَهُوَ وَالِيهَا، فَوَلَّى الرَّشِيدُ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ الْحَرَشِيَّ. وَفِيهَا قَتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَبْنَاوِيُّ أَبَانَ بْنَ قَحْطَبَةَ الْخَارِجِيَّ بِمَرْجِ الْقَلْعَةِ. وَفِيهَا عَاثَ حَمْزَةُ الْخَارِجِيُّ بِبَاذَغِيسَ، فَقَتَلَ عِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى مِنْ أَصْحَابِهِ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَبَلَغَ عِيسَى كَابُلَ وَزَابُلُسْتَانَ. (وَفِيهَا غَدَرَ أَبُو الْخَصِيبِ ثَانِيَةً) ، وَغَلَبَ عَلَى أَبِيوَرْدَ، وَطُوسَ، وَنَيْسَابُورَ، وَحَصَرَ مَرْوَ، ثُمَّ انْهَزَمَ عَنْهَا وَعَادَ إِلَى سَرَخْسَ، وَعَادَ أَمْرُهُ قَوِيًّا. وَفِيهَا اسْتَأْذَنَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى فِي الْحَجِّ وَالْمُجَاوَرَةِ، فَأُذِنَ لَهُ، فَخَرَجَ فِي شَعْبَانَ وَاعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ، وَأَقَامَ بِجُدَّةَ مُرَابِطًا إِلَى أَنْ حَجَّ.

(وَفِيهَا جَمَعَ الْحَكَمُ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ عَسَاكِرَهُ، وَسَارَ إِلَى عَمِّهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ بِنَاحِيَةِ فِرِّيشَ، فَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ سُلَيْمَانُ، وَقَصَدَ مَارِدَةَ، فَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ عَسْكَرِ الْحَكَمِ فَأَسَرُوهُ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَ الْحَكَمِ قَتَلَهُ، وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَى قُرْطُبَةَ، وَكَتَبَ إِلَى أَوْلَادِ سُلَيْمَانَ وَهُمْ بِسَرَقُسْطَةَ كِتَابَ أَمَانٍ، وَاسْتَدْعَاهُمْ، فَحَضَرُوا عِنْدَهُ بِقُرْطُبَةَ) . وَفِيهَا وَقَعَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ صَاعِقَةٌ قَتَلَتْ رَجُلَيْنِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ [بْنِ مُحَمَّدِ] بْنِ عَلِيٍّ. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَكُنْ سَقَطَ لَهُ سِنٌّ، وَقِيلَ كَانَتْ أَسْنَانُهُ قِطْعَةً وَاحِدَةً مِنْ أَسْفَلَ وَقِطْعَةً وَاحِدَةً مِنْ فَوْقٍ، وَهُوَ قُعْدُدُ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْقُرْبِ إِلَى عَبْدِ مَنَافٍ بِمَنْزِلَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَبَيْنَ مَوْتِهِمَا مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.

وَفِيهَا مَلَكَ الْفِرِنْجُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - مَدِينَةَ بَرْشَلُونَةَ بِالْأَنْدَلُسِ، وَأَخَذُوهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَقَلُوا حُمَاةَ ثُغُورِهِمْ إِلَيْهَا، وَتَأَخَّرَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى وَرَائِهِمْ. وَكَانَ سَبَبَ مُلْكِهِمْ إِيَّاهَا اشْتِغَالُ الْحَكَمِ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ بِمُحَارَبَةِ عَمَّيْهِ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَفِيهَا سَارَ الرَّشِيدُ مِنَ الرَّقَّةِ إِلَى بَغْدَادَ عَلَى طَرِيقِ الْمَوْصِلِ. وَفِيهَا مَاتَ يَقْطِينُ بْنُ مُوسَى بِبَغْدَاذَ. وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ يَزِيدُ بْنُ مَزَيْدِ بْنِ زَائِدَةَ الشَّيْبَانِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ، بِمَدِينَةِ بَرْذَعَةَ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ أَسَدُ بْنُ يَزِيدَ. وَكَانَ يَزِيدُ مُمَدَّحًا، جَوَدًا، كَرِيمًا، وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مَرَاثِيَهُ. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الْمَرَاثِي مَا قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ رِثَاءً لَهُ، فَأَثْبَتُّهُ لِجَوْدَتِهِ: أَحَقًّا أَنَّهُ أَوْدَى يَزِيدُ؟ ... تَبَيَّنْ أَيُّهَا النَّاعِي الْمُشِيدُ أَتَدْرِي مَنْ نَعَيْتَ وَكَيْفَ فَاهَتْ ... بِهِ شَفَتَاكَ؟ كَانَ بِهَا الصَّعِيدُ أَحَامِي الْمَجْدِ وَالْإِسْلَامِ أَوْدَى؟ ... فَمَا لِلْأَرْضِ وَيْحَكَ لَا تَمِيدُ؟ تَأَمَّلْ، هَلْ تَرَى الْإِسْلَامَ مَالَتْ ... دَعَائِمُهُ؟ وَهَلْ شَابَ الْوَلِيدُ؟

وَهَلْ مَالَتْ سُيُوفُ بَنِي نِزَارٍ وَهَلْ وُضِعَتْ عَنِ الْخَيْلِ اللُّبُودُ؟ ... وَهَلْ تَسْقِي الْبِلَادَ عِشَارُ مُزْنٍ بِدَرَّتِهَا؟ وَهَلْ يَخْضَرُّ عُودُ؟ ... أَمَا هُدَّتْ لِمَصْرَعِهِ نِزَارٌ؟ بَلَى! وَتَقَوَّضَ الْمَجْدُ الْمَشِيدُ [وَحَلَّ ضَرِيحَهُ إِذْ حَلَّ فِيهِ ... طَرِيفُ الْمَجْدِ وَالْحَسَبُ التَّلِيدُ ] أَمَا وَاللَّهِ مَا تَنْفَكُّ عَيْنِي عَلَيْكَ بِدَمْعِهَا أَبَدًا تَجُودُ ... فَإِنْ تَجْمُدْ دُمُوعُ لَئِيمِ قَوْمٍ فَلَيْسَ لِدَمْعِ ذِي حَسَبٍ جُمُودُ ... أَبَعْدَ يَزِيدَ تَخْتَزِنُ الْبَوَاكِي دُمُوعًا، أَوْ يُصَانُ لَهَا خُدُودُ؟ ... لِتَبْكِكَ قُبَّةُ الْإِسْلَامِ لَمَّا وَهَتْ أَطْنَابُهَا وَوَهَى الْعَمُودُ ... وَيَبْكِكَ شَاعِرٌ لَمْ يُبْقِ دَهْرٌ لَهُ نَسَبًا وَقَدْ كَسَدَ الْقَصِيدُ ... فَمَنْ يَدْعُو الْإِمَامَ لِكُلِّ خَطْبٍ يَنُوبُ وَكُلِّ مُعْضِلَةٍ تَئُودُ ... وَمَنْ يَحْمِي الْخَمِيسَ إِذَا تَعَايَا بِحِيلَةِ نَفْسِهِ الْبَطَلُ النَّجِيدُ ... فَإِنْ يَهْلِكْ يَزِيدُ فَكُلُّ حَيٍّ فَرِيسٌ لِلْمَنِيَّةِ أَوْ طَرِيدُ ... أَلَمْ تَعْجَبْ لَهُ؟ ! إِنَّ الْمَنَايَا فَتَكْنَ بِهِ وَهُنَّ لَهُ جُنُودُ ... قَصَدْنَ لَهُ وَكُنَّ يَحِدْنَ عَنْهُ إِذَا مَا الْحَرْبُ شَبَّ لَهَا وَقُودُ ... لَقَدْ عَزَّى رَبِيعَةَ أَنَّ يَوْمًا عَلَيْهَا مِثْلَ يَوْمِكَ لَا يَعُودُ وَكَانَ الرَّشِيدُ إِذَا سَمِعَ هَذِهِ الْمَرْثِيَّةَ بَكَى، وَكَانَ يَسْتَجِيدُهَا وَيَسْتَحْسِنُهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بِبَغْدَاذَ،

وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَالْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَيَّاشٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَيَعْرَفُ بِالْحِزَامِيِّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَحَجَّاجٌ الصَّوَّافُ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي عُثْمَانَ مَيْسَرَةَ. (عَيَّاشٌ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ. الْحِزَامِيُّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالزَّايِ) .

ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ] 186 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ اتِّفَاقِ الْحَكَمِ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ وَعَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اتَّفَقَ الْحَكَمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمِيرُ الْأَنْدَلُسِ، وَعَمُّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَلَنْسِيُّ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَمَّا سَمِعَ بِقَتْلِ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ عَظُمَ عَلَيْهِ، وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَزِمَ بَلَنْسِيَةَ وَلَمْ يُفَارِقْهَا، وَلَمْ يَتَحَرَّكْ لِإِثَارَةِ فِتْنَةٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْحَكَمِ يَطْلُبُ الْمُسَالَمَةَ، وَالدُّخُولَ فِي طَاعَتِهِ. وَقِيلَ: بَلِ الْحَكَمُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلًا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْمُسَالَمَةَ، وَيُؤَمِّنُهُ، وَبَذَلَ لَهُ الْأَرْزَاقَ الْوَاسِعَةَ، وَلِأَوْلَادِهِ، فَأَجَابَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى الِاتِّفَاقِ، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى يَدِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، صَاحِبِ مَالِكٍ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَزَوَّجَ الْحَكَمُ أَخَوَاتِهِ مِنْ أَوْلَادِ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَارَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ، فَأَكْرَمَهُ الْحَكَمُ، وَعَظَّمَ مَحَلَّهُ، وَأَجْرَى لَهُ وَلِأَوْلَادِهِ الْأَرْزَاقَ الْوَاسِعَةَ وَالصِّلَاتِ السَّنِيَّةَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَاسَلَةَ فِي الصُّلْحِ كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةَ، وَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. ذِكْرُ حَجِّ الرَّشِيدِ وَأَمْرِ كِتَابِ وِلَايَةِ الْعَهْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ (بِالنَّاسِ هَارُونُ) الرَّشِيدُ، سَارَ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الْأَنْبَارِ، فَبَدَأَ بِالْمَدِينَةِ، فَأَعْطَى فِيهَا ثَلَاثَةَ أَعْطِيَةٍ، أَعْطَى هُوَ عَطَاءً، وَمُحَمَّدٌ الْأَمِينُ عَطَاءً، وَعَبْدُ اللَّهِ

الْمَأْمُونُ عَطَاءً، وَسَارَ إِلَى مَكَّةَ فَأَعْطَى أَهْلَهَا، فَبَلَغَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَكَانَ الرَّشِيدُ قَدْ وَلَّى الْأَمِينَ الْعِرَاقَ وَالشَّامَ، وَوَلَّى آخَرَ الْمَغْرِبَ، وَضَمَّ إِلَى الْمَأْمُونِ مِنْ هَمَذَانَ إِلَى آخِرِ الْمَشْرِقِ، ثُمَّ بَايَعَ لِابْنِهِ الْقَاسِمِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ بَعْدَ الْمَأْمُونِ، وَلَقَّبَهُ الْمُؤْتَمَنَ، وَضَمَّ إِلَيْهِ الْجَزِيرَةَ وَالثُّغُورَ وَالْعَوَاصِمَ، وَكَانَ فِي حِجْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ، وَجَعَلَ خَلْعَهُ وَإِثْبَاتَهُ إِلَى الْمَأْمُونِ. وَلَمَّا وَصَلَ الرَّشِيدُ إِلَى مَكَّةَ وَمَعَهُ أَوْلَادُهُ، وَالْفُقَهَاءُ وَالْقُضَاةُ وَالْقُوَّادُ، كَتَبَ كِتَابًا أَشْهَدَ فِيهِ عَلَى مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ، وَأَشْهَدَ فِيهِ مَنْ حَضَرَ بِالْوَفَاءِ لِلْمَأْمُونِ، وَكَتَبَ كِتَابًا لِلْمَأْمُونِ أَشْهَدَهُمْ عَلَيْهِ فِيهِ بِالْوَفَاءِ لِلْأَمِينِ، وَعَلَّقَ الْكِتَابَيْنِ فِي الْكَعْبَةِ، وَجَدَّدَ الْعُهُودَ عَلَيْهِمَا فِي الْكَعْبَةِ، وَلَمَّا فَعَلَ الرَّشِيدُ ذَلِكَ قَالَ النَّاسُ: قَدْ أَلْقَى بَيْنَهُمْ شَرًّا وَحَرْبًا. وَخَافُوا عَاقِبَةَ ذَلِكَ، فَكَانَ مَا خَافُوهُ. ثُمَّ إِنَّ الرَّشِيدَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ شَخَصَ إِلَى قَرْمَاسِينَ وَمَعَهُ الْمَأْمُونُ، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي عَسْكَرِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْخَزَائِنِ وَالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِلْمَأْمُونِ، وَجَدَّدَ لَهُ الْبَيْعَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَغْدَاذَ فَجَدَّدَ لَهُ الْبَيْعَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ مِنْ مَرْوَ إِلَى نَسَا لِحَرْبِ أَبِي

الْخَصِيبِ، فَحَارَبَهُ، فَقَتَلَهُ وَسَبَى نِسَاءَهُ وَذَرَارِيَهُ، وَاسْتَقَامَتْ خُرَاسَانُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ. وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ.

وَأَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيُّ. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بِسَلَمِيَّةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي رَجَبٍ، وَعُمْرُهُ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُمَرُ بْنُ يُونُسَ مُنْصَرَفَهُ مِنَ الْحَجِّ بِالْيَمَامَةِ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ الْفَقِيهُ بِبَغْدَاذَ. (وَتُوُفِّيَ شُقْرَانُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّاهِدُ بِالْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ فَقِيهًا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ رَاشِدُ مَوْلَى عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ قَدْ دَخَلَ الْمَغْرِبَ مَعَ إِدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَقَامَ بَعْدَهُ بِأَمْرِ الْبَرْبَرِ أَبُو خَالِدٍ يَزِيدُ بْنُ إِلْيَاسَ) .

ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ] 187 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ إِيقَاعِ الرَّشِيدِ بِالْبَرَامِكَةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْقَعَ الرَّشِيدُ بِالْبَرَامِكَةِ، وَقَتَلَ جَعْفَرَ بْنَ يَحْيَى. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ لَا يَصْبِرُ عَنْ جَعْفَرٍ وَعَنْ أُخْتِهِ عَبَّاسَةَ بِنْتِ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ يُحْضِرُهُمَا إِذَا جَلَسَ لِلشُّرْبِ، فَقَالَ لِجَعْفَرٍ: أُزَوِّجُكَهَا لِيَحِلَّ لَكَ النَّظَرُ إِلَيْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا، فَإِنِّي لَا أُطِيقُ الصَّبْرَ عَنْهَا. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَزَوَّجَهَا مِنْهُ، وَكَانَا يَحْضُرَانِ مَعَهُ، ثُمَّ يَقُومُ عَنْهُمَا، وَهُمَا شَابَّانِ، فَجَامَعَهَا جَعْفَرٌ، فَحَمَلَتْ مِنْهُ، فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا، فَخَافَتِ الرَّشِيدَ، فَسَيَّرَتْهُ مَعَ حَوَاضِنَ لَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَأَعْطَتْهُ الْجَوَاهِرَ وَالنَّفَقَاتِ. ثُمَّ إِنَّ عَبَّاسَةَ وَقَعَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ بَعْضِ جَوَارِيهَا شَرٌّ، فَأَنْهَتْ أَمْرَهَا وَأَمْرَ الصَّبِيِّ إِلَى الرَّشِيدِ، فَحَجَّ هَارُونُ هَذِهِ السَّنَةَ، وَبَحَثَ عَنِ الْأَمْرِ فَعَلِمَهُ. وَكَانَ جَعْفَرٌ (يَصْنَعُ لِلرَّشِيدِ طَعَامًا بِعُسْفَانَ إِذَا حَجَّ، فَصَنَعَ ذَلِكَ، وَدَعَاهُ فَلَمْ

يَحْضُرْ) عِنْدَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ تَغَيُّرِ أَمْرِهِمْ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الرَّشِيدَ دَفَعَ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فَحَبَسَهُ، ثُمَّ دَعَا بِهِ لَيْلَةً، وَسَأَلَهُ عَنْ بَعْضِ أَمْرِهِ، فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ فِي أَمْرِي، وَلَا تَتَعَرَّضْ أَنْ يَكُونَ غَدًا خَصْمَكَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَاللَّهِ مَا أَحْدَثْتُ حَدَثًا، وَلَا آوَيْتُ مُحْدِثًا. فَرَقَّ لَهُ وَقَالَ: اذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ مِنْ بِلَادِ اللَّهِ. قَالَ: فَكَيْفَ أَذْهَبُ وَلَا آمَنُ أَنْ أُوخَذَ؟ فَوَجَّهَ مَعَهُ مَنْ أَدَّاهُ إِلَى مَأْمَنِهِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ مِنْ عَيْنٍ كَانَتْ لَهُ مِنْ خَوَاصِّ جَعْفَرٍ، فَرَفَعَهُ إِلَى الرَّشِيدِ، فَقَالَ: مَا أَنْتَ هَذَا؟ فَعَلَهُ عَنْ أَمْرِي. ثُمَّ أَحْضَرَ جَعْفَرًا لِلطَّعَامِ، فَجَعَلَ يُلْقِمُهُ وَيُحَادِثُهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ يَحْيَى، فَقَالَ: هُوَ بِحَالِهِ فِي الْحَبْسِ. فَقَالَ: بِحَيَاتِي؟ فَفَطِنَ جَعْفَرٌ، فَقَالَ: لَا وَحَيَاتِكَ! وَقَصَّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَقَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهُ لَا مَكْرُوهَ عِنْدَهُ. فَقَالَ: نِعْمَ مَا فَعَلْتَ! مَا عَدَوْتَ مَا فِي نَفْسِي. فَلَمَّا قَامَ عَنْهُ قَالَ: قَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْتُلْكَ! فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ. وَقِيلَ: كَانَ مِنَ الْأَسْبَابِ أَنَّ جَعْفَرًا ابْتَنَى دَارًا غَرِمَ عَلَيْهَا عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى الرَّشِيدِ، وَقِيلَ: هَذِهِ غَرَامَتُهُ عَلَى دَارِهِ، فَمَا ظَنُّكَ بِنَفَقَاتِهِ وَصِلَاتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ فَاسْتَعْظَمَهُ. وَكَانَ مِنَ الْأَسْبَابِ أَيْضًا مَا لَا تَعُدُّهُ الْعَامَّةُ سَبَبًا، وَهُوَ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، مَا سُمِعَ مِنْ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ وَهُوَ يَقُولُ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فِي حَجَّتِهِ هَذِهِ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ رِضَاكَ أَنْ تَسْلُبَنِي نِعَمَكَ عِنْدِي فَاسْلُبْنِي! اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ رِضَاكَ أَنْ تَسْلُبَنِي مَالِي وَأَهْلِي وَوَلَدِي فَاسْلُبْنِي، إِلَّا الْفَضْلَ. ثُمَّ وَلَّى، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ رَجَعَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ سَمِجٌ بِمِثْلِي أَنْ يَسْتَثْنِيَ عَلَيْكَ، اللَّهُمَّ وَالْفَضْلَ.

وَسُمِعَ أَيْضًا يَقُولُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ: اللَّهُمَّ إِنَّ ذُنُوبِي جَمَّةٌ عَظِيمَةٌ لَا يُحْصِيهَا غَيْرُكَ. اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تُعَاقِبُنِي فَاجْعَلْ عُقُوبَتِي بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ أَحَاطَ (ذَلِكَ بِسَمْعِي) وَبَصَرِي وَوَلَدِي وَمَالِي، حَتَّى يَبْلُغَ رِضَاكَ، وَلَا تَجْعَلْ عُقُوبَتِي فِي الْآخِرَةِ. فَاسْتُجِيبَ لَهُ. فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنَ الْحَجِّ وَنَزَلُوا الْأَنْبَارَ، وَنَزَلَ الرَّشِيدُ الْعُمْرَ نَكَبَهُمْ. وَكَانَ أَوَّلَ مَا ظَهَرَ مِنْ فَسَادِ حَالِهِمْ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ سَعَى بِمُوسَى بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، وَاتَّهَمَهُ فِي أَمْرِ خُرَاسَانَ، وَأَعْلَمَ الرَّشِيدَ أَنَّهُ يُكَاتِبُهُمْ لِيَسِيرَ إِلَيْهِمْ، وَيُخْرِجَهُمْ عَنِ الطَّاعَةِ، فَحَبَسَهُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ. وَكَانَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ يَدْخُلُ عَلَى الرَّشِيدِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَعِنْدَهُ جِبْرَائِيلُ بْنُ بَخْتِيَشُوعَ الطَّبِيبُ، فَسَلَّمَ، فَرَدَّ الرَّشِيدُ رَدًّا ضَعِيفًا، ثُمَّ أَقْبَلَ الرَّشِيدُ عَلَى جِبْرَائِيلَ، فَقَالَ: أَيَدْخُلُ عَلَيْكَ مَنْزِلَكَ أَحَدٌ بِغَيْرِ إِذْنٍ؟ قَالَ: لَا! قَالَ: فَمَا بَالُنَا يُدْخَلُ عَلَيْنَا بِغَيْرِ إِذْنٍ؟ فَقَالَ يَحْيَى: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا ابْتَدَأْتُ ذَلِكَ السَّاعَةَ، وَلَكِنَّ أَمِيرَ (الْمُؤْمِنِينَ خَصَّنِي بِهِ، حَتَّى إِنْ كُنْتُ لَأَدْخُلُ وَهُوَ فِي فِرَاشِهِ مُجَرَّدًا، وَمَا عَلِمْتُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَرِهَ مَا كَانَ يُحِبُّ، فَإِذَا قَدْ عَلِمْتُ فَإِنِّي سَأَكُونُ [عِنْدَهُ] فِي الطَّبَقَةِ الَّتِي تَجْعَلُنِي فِيهَا. فَاسْتَحْيَا هَارُونُ وَقَالَ: مَا أَرَدْتُ مَا تَكْرَهُ. وَكَانَ يَحْيَى إِذَا دَخَلَ عَلَى الرَّشِيدِ قَامَ لَهُ الْغِلْمَانُ، فَقَالَ الرَّشِيدُ لِمَسْرُورٍ: مُرِ الْغِلْمَانَ لَا يَقُومُونَ لِيَحْيَى إِذَا دَخَلَ الدَّارَ. فَدَخَلَهَا فَلَمْ يَقُومُوا، فَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ،

وَكَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا رَأَوْهُ أَعْرَضُوا عَنْهُ. بفَلَمَّا رَجَعَ الرَّشِيدُ مِنَ الْحَجِّ نَزَلَ الْعُمْرَ الَّذِي عِنْدَ الْأَنْبَارِ، سَلْخَ الْمُحَرَّمِ، وَأَرْسَلَ مَسْرُورًا الْخَادِمَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجُنْدِ إِلَى جَعْفَرٍ لَيْلًا، وَعِنْدَهُ ابْنُ بَخْتِيَشُوعَ الْمُتَطَبِّبُ، وَأَبُو زَكَّارٍ الْمُغَنِّي، وَهُوَ فِي لَهْوِهِ وَأَبُو زَكَّارٍ يُغَنِّي: فَلَا تَبْعَدْ، فَكُلُّ فَتًى سَيَأْتِي ... عَلَيْهِ الْمَوْتُ يَطْرُقُ أَوْ يُغَادِي وَكُلُّ ذَخِيرَةٍ لَا بُدَّ يَوْمًا ... وَإِنْ كَرُمَتْ تَصِيرُ إِلَى نَفَادِ قَالَ مَسْرُورٌ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، الَّذِي جِئْتُ لَهُ هُوَ وَاللَّهِ ذَاكَ، قَدْ طَرَقَكَ، أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَوَقَعَ عَلَى رِجْلِيَّ يُقَبِّلُهَا، وَقَالَ: حَتَّى أَدْخُلَ فَأُوصِيَ، فَقُلْتُ: أَمَّا الدُّخُولُ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ. فَأَوْصَى بِمَا أَرَادَ، وَأَعْتَقَ مَمَالِيكَهُ. وَأَتَتْنِي رُسُلُ الرَّشِيدِ تَسْتَحِثُّنِي، فَمَضَيْتُ بِهِ إِلَيْهِ، فَأَعْلَمْتُهُ وَهُوَ فِي فِرَاشِهِ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِرَأْسِهِ. فَأَتَيْتُ جَعْفَرًا فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهَ اللَّهَ! وَاللَّهِ مَا أَمَرَكَ [بِمَا أَمَرَكَ بِهِ] إِلَّا وَهُوَ سَكْرَانُ، فَدَافِعْ حَتَّى أُصْبِحَ، أَوْ رَاجِعْهُ فِيَّ ثَانِيَةً. فَعُدْتُ لِأُرَاجِعَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ حِسِّي قَالَ: يَا مَاصَّ بَظْرِ أُمِّهِ، ائْتِنِي بِرَأْسِهِ! فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ (فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: آمِرْهُ. فَرَجَعْتُ) ،

فَحَذَفَنِي بِعَمُودٍ كَانَ فِي يَدِهِ، وَقَالَ: نُفِيتُ مِنَ الْمَهْدِيِّ، إِنْ لَمْ تَأْتِنِي بِرَأْسِهِ لَأَقْتُلَنَّكَ! قَالَ: فَخَرَجْتُ فَقَتَلْتُهُ وَحَمَلْتُ رَأْسَهُ إِلَيْهِ. وَأَمَرَ بِتَوْجِيهِ مَنْ أَحَاطَ بِيَحْيَى وَوَلَدِهِ وَجَمِيعِ أَسْبَابِهِ، وَحَوَّلَ الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى لَيْلًا، فَحُبِسَ فِي بَعْضِ مَنَازِلِ الرَّشِيدِ، وَحُبِسَ يَحْيَى فِي مَنْزِلِهِ، وَأَخَذَ مَا وَجَدَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ وَضِيَاعٍ وَمَتَاعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى سَائِرِ الْبِلَادِ فِي قَبْضِ أَمْوَالِهِمْ، وَوُكَلَائِهِمْ، وَرَقِيقِهِمْ، وَأَسْبَابِهِمْ، وَكُلِّ مَا لَهُمْ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَرْسَلَ جِيفَةَ جَعْفَرٍ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَمَرَ أَنْ يُنْصَبَ رَأْسُهُ عَلَى جِسْرٍ، وَيُقْطَعَ بَدَنُهُ قِطْعَتَيْنِ، تُنْصَبَ كُلُّ قِطْعَةٍ عَلَى جِسْرٍ. وَلَمْ يَعْرِضِ الرَّشِيدُ لِمُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ وَوَلَدِهِ وَأَسْبَابِهِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ بَرَاءَتَهُ مِمَّا دَخَلَ فِيهِ أَهْلُهُ. وَقِيلَ: كَانَ يَسْعَى بِهِمْ. ثُمَّ حَبَسَ يَحْيَى وَبَنِيهِ الْفَضْلَ وَمُحَمَّدًا وَمُوسَى مَحْبَسًا سَهْلًا، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عِدَّةٍ مِنْ خَدَمِهِمْ، وَلَا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ جَارِيَةٍ وَغَيْرِهَا. وَلَمْ تَزَلْ حَالُهُمْ سَهْلَةً حَتَّى قَبَضَ الرَّشِيدُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ، فَعَمَّهُمْ

بِسُخْطِهِ، وَجُدِّدَ لَهُ وَلَهُمُ التُّهْمَةُ عِنْدَ الرَّشِيدِ، فَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ. وَلَمَّا قُتِلَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى قِيلَ لِأَبِيهِ: قَتَلَ الرَّشِيدُ ابْنَكَ! قَالَ: كَذَلِكَ يُقْتَلُ ابْنُهُ. قِيلَ: وَقَدْ أَخْرَبَ دِيَارَكَ. قَالَ: كَذَلِكَ تُخَرَّبُ دِيَارُهُ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الرَّشِيدَ قَالَ: قَدْ خِفْتُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ ; لِأَنَّهُ مَا قَالَ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ تَأْوِيلَهُ. قَالَ سَلَامُ الْأَبْرَشُ: دَخَلْتُ عَلَى يَحْيَى وَقْتَ قَبْضِهِ، وَقَدْ هُتِكَتِ السُّتُورُ، وَجُمِعَ الْمَتَاعُ، فَقَالَ: هَكَذَا تَقُومُ الْقِيَامَةُ. قَالَ: فَحَدَّثْتُ الرَّشِيدَ فَأَطْرَقَ مُفَكِّرًا. وَكَانَ قَتْلُ جَعْفَرٍ لَيْلَةَ السَّبْتِ مُسْتَهَلَّ صَفَرٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَتِ الْوِزَارَةُ إِلَيْهِمْ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَمَّا نُكِبُوا قَالَ الرَّقَاشِيُّ - وَقِيلَ: أَبُو نُوَاسٍ -: الْآنَ اسْتَرَحْنَا وَاسْتَرَاحَتْ رِكَابُنَا ... وَأَمْسَكَ مَنْ يَحْدُو وَمَنْ كَانَ يَحْتَدِي فَقُلْ لِلْمَطَايَا: قَدْ أَمِنْتِ مِنَ السُّرَى ... وَطَيِّ الْفَيَافِي فَدْفَدًا بَعْدَ فَدْفَدِ وَقُلْ لِلْمَنَايَا: قَدْ ظَفِرْتِ بِجَعْفَرٍ ... وَلَنْ تَظْفَرِي مِنْ بَعْدِهِ بِمُسَوَّدِ وَقُلْ لِلْعَطَايَا بَعْدَ فَضْلٍ: تَعَطَّلِي ... وَقُلْ لِلرَّزَايَا كُلَّ يَوْمٍ: تَجَدَّدِي وَدُونَكَ سَيْفًا بَرْمَكِيًّا مُهَنَّدًا ... أُصِيبَ بِسَيْفٍ هَاشِمِيٍّ مُهَنَّدِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ لَمَّا نُكِبَ: الدُّنْيَا دُوَلٌ، وَالْمَالُ عَارِيَةٌ، وَلَنَا بِمَنْ قَبْلَنَا أُسْوَةٌ، وَفِينَا لِمَنْ بَعْدَنَا عِبْرَةٌ. وَوَقَّعَ يَحْيَى عَلَى قَصَّةِ مَحْبُوسٍ: الْعُدْوَانُ أَوْبَقَهُ، وَالتَّوْبَةُ تُطْلِقُهُ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى: الْحَظُّ سِمْطُ الْحِكْمَةِ، بِهِ تُفَصَّلُ شُذُورُهَا وَيُنَظَمُ مَنْثُورُهَا.

قَالَ ثُمَامَةُ: قُلْتُ لِجَعْفَرٍ: مَا الْبَيَانُ؟ قَالَ: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مُحِيطًا بِمَعْنَاكَ، مُخْبِرًا عَنْ مَغْزَاكَ، مُخْرِجًا مِنَ الشَّرِكَةِ، غَيْرَ مُسْتَعَانٍ عَلَيْهِ بِالْفِكْرَةِ. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَضِبَ الرَّشِيدُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ وَلَدٌ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَكَانَ مِنْ رُحَّالِ النَّاسِ، فَسَعَى بِأَبِيهِ هُوَ وَقُمَامَةُ كَاتِبُ أَبِيهِ، وَقَالَا لِلرَّشِيدِ: إِنَّهُ يَطْلُبُ الْخِلَافَةَ، وَيَطْمَعُ فِيهَا. فَأَخَذَهُ وَحَبَسَهُ عِنْدَ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَأَحْضَرَهُ يَوْمًا حِينَ سَخِطَ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَكُفْرًا بِالنِّعْمَةِ، وَجُحُودًا لِجَلِيلِ الْمِنَّةِ وَالتَّكْرِمَةِ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ بُؤْتُ إِذًا بِالنَّدَمِ، وَتَعَرَّضْتُ لِاسْتِحْلَالِ النِّقَمِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بَغْيُ حَاسِدِنَا، فَنَسِيَ فِيكَ مَوَدَّةَ الْقَرَابَةِ وَتَقْدِيمَ الْوِلَايَةِ، إِنَّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُمَّتِهِ، وَأَمِينُهُ عَلَى عِتْرَتِهِ، لَكَ عَلَيْهَا فَرْضُ الطَّاعَةِ، وَأَدَاءُ النَّصِيحَةِ، وَلَهَا عَلَيْكَ الْعَدْلُ فِي حُكْمِهَا، وَالْغُفْرَانُ لِذُنُوبِهَا، وَالتَّثَبُّتُ فِي حَادِثِهَا. فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: أَتَضَعُ [لِي] مِنْ لِسَانِكَ، وَتَرْفَعُ [لِي] مِنْ جَنَانِكَ؟ هَذَا كَاتِبُكَ قُمَامَةُ يُخْبِرُ بِغِلِّكَ وَفَسَادِ نِيَّتِكَ، فَاسْمَعْ كَلَامَهُ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَعْطَاكَ مَا لَيْسَ فِي عِقْدِهِ، وَلَعَلَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْضَهَنِي أَوْ يَبْهَتَنِي بِمَا لَمْ يَعْرِفْهُ مِنِّي. فَأُحْضِرَ قُمَامَةُ فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: تَكَلَّمْ غَيْرَ هَائِبٍ وَلَا خَائِفٍ! فَقَالَ: أَقُولُ: إِنَّهُ عَازِمٌ عَلَى الْغَدْرِ بِكَ وَالْخِلَافِ عَلَيْكَ.

فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: كَيْفَ لَا يَكْذِبُ عَلَيَّ مِنْ خَلْفِي [وَهُوَ] يَبْهَتُنِي فِي وَجْهِي؟ فَقَالَ الرَّشِيدُ: فَهَذَا ابْنُكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يُخْبِرُنِي بِعُتُوِّكَ، وَفَسَادِ نِيَّتِكَ، وَلَوْ أَرَدْتُ أَنْ أَحْتَجَّ عَلَيْكَ لَمْ أَجِدْ أَعْدَلَ مِنْ هَذَيْنِ الِاثْنَيْنِ لَكَ، فَلِمَ تَدْفَعُهُمَا عَنْكَ؟ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: هُوَ مَأْمُورٌ، أَوْ عَاقٌّ مَجْبُورٌ، فَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا فَمَعْذُورٌ، وَإِنْ كَانَ عَاقًّا فَفَاجِرٌ كَفُورٌ، أَخْبَرَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِعَدَاوَتِهِ، وَحَذَّرَ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14] فَنَهَضَ الرَّشِيدُ وَهُوَ يَقُولُ: مَا أَمْرُكَ إِلَّا قَدْ وَضَحَ، وَلَكِنِّي لَا أَعْجَلُ، حَتَّى أَعْلَمَ الَّذِي يُرْضِي اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - فِيكَ، فَإِنَّهُ الْحَكَمُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: رَضِيتُ بِاللَّهِ حَكَمًا، وَبِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَاكِمًا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُؤْثِرَ هَوَاهُ عَلَى رِضَى رَبِّهِ. وَأَحْضَرَهُ الرَّشِيدُ يَوْمًا آخَرَ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ لَهُ: أُرِيدُ حَيَاتَهُ وَيُرِيدُ قَتْلِي عَذِيرَكَ مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرَادِ ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى شُؤْبُوبِهَا قَدْ هَمَعَ، وَعَارَضِهَا قَدْ لَمَعَ، وَكَأَنِّي بِالْوَعِيدِ قَدْ أَوْرَى زِنَادًا يَسْطَعُ، فَأَقْلَعَ عَنْ بَرَاجِمَ بِلَا مَعَاصِمَ، وَرُءُوسٍ بِلَا غَلَاصِمَ، فَمَهْلًا مَهْلًا بَنِي هَاشِمٍ، فَبِي وَاللَّهِ سُهِّلَ لَكُمُ الْوَعِرُ، وَصَفَا لَكُمُ الْكَدِرُ، وَأَلْقَتْ إِلَيْكُمُ الْأُمُورُ أَزِمَّتَهَا، فَنَذَارِ لَكُمْ نَذَارِ قَبْلَ حُلُولِ دَاهِيَةٍ، خَبُوطٍ بِالْيَدِ، لَبُوطٍ بِالرِّجْلِ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: اتَّقِ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا وَلَّاكَ مِنْ رَعِيَّتِهِ الَّتِي اسْتَرْعَاكَ،

وَلَا تَجْعَلِ الْكُفْرَ مَكَانَ الشُّكْرِ، وَلَا الْعِقَابَ مَوْضِعَ الثَّوَابِ، فَقَدْ نَخَلْتُ لَكَ النَّصِيحَةَ، وَمَحَضْتُ لَكَ الطَّاعَةَ، وَشَدَدْتُ أَوَاخِيَ مُلْكِكَ بِأَثْقَلَ مِنْ رُكْنَيْ يَلَمْلَمَ، وَتَرَكْتُ عَدُوَّكَ مُشْتَغِلًا، فَاللَّهَ اللَّهَ (فِي ذِي رَحِمِكَ أَنْ تَقْطَعَهُ بَعْدَ أَنْ وَصَلْتَهُ، بِظَنٍّ أَفْصَحَ الْكِتَابُ [لِي] بِعِضَهِهِ، أَوْ بِبَغْيِ بَاغٍ يَنْهَسُ اللَّحْمَ، وَيَلِغُ الدَّمَ، فَقَدْ وَاللَّهِ سَهَّلْتُ لَكَ الْوُعُورَ، وَذَلَّلْتُ لَكَ الْأُمُورَ، وَجَمَعْتُ عَلَى طَاعَتِكَ الْقُلُوبَ فِي الصُّدُورِ، فَكَمْ [مِنْ] لَيْلِ تَمَامٍ فِيكَ كَابَدْتُهُ، وَمَقَامٍ ضَيِّقٍ [لَكَ] قُمْتُهُ، كُنْتُ [فِيهِ] كَمَا قَالَ أَخُو بَنِي جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ - يَعْنِي لَبِيدًا -: وَمَقَامٍ ضَيِّقٍ فَرَّجْتُهُ بِبَيَانٍ وَلِسَانٍ وَجَدَلْ لَوْ يَقُومُ الْفِيلُ أَوْ فَيَّالُهُ زَلَّ عَنْ مِثْلِ مَقَامِي وَزَحَلْ فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: وَاللَّهِ لَوْلَا إِبْقَائِي عَلَى بَنِي هَاشِمٍ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ. ثُمَّ أَعَادَهُ إِلَى مَحْبِسِهِ. فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ عَلَى الرَّشِيدِ، وَكَانَ عَلَى شُرْطَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ الْعَظِيمِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا عَلِمْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ إِلَّا نَاصِحًا، فَعَلَامَ حَبَسْتَهُ؟ فَقَالَ: بَلَغَنِي عَنْهُ مَا أَوْحَشَنِي، وَلَمْ آمَنْهُ أَنْ يَضْرِبَ بَيْنَ ابْنَيَّ هَذَيْنِ - يَعْنِي الْأَمِينَ وَالْمَأْمُونَ - فَإِنْ كُنْتَ تَرَى أَنْ نُطْلِقَهُ مِنَ الْحَبْسِ أَطْلَقْنَاهُ. فَقَالَ: أَمَا إِذْ حَبَسْتَهُ، فَلَسْتُ أَرَى فِي قُرْبِ الْمُدَّةِ أَنْ تُطْلِقَهُ، وَلَكِنْ تَحْبِسُهُ مَحْبَسًا كَرِيمًا. قَالَ: فَإِنِّي أَفْعَلُ. فَأَمَرَ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ أَنْ يَمْضِيَ إِلَيْهِ،

وَيَنْظُرَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيُوَظِّفَهُ لَهُ، فَفَعَلَ. وَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمَلِكِ مَحْبُوسًا حَتَّى مَاتَ الرَّشِيدُ، فَأَخْرَجَهُ الْأَمِينُ وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الشَّامِ، فَأَقَامَ بِالرَّقَّةِ، وَجَعَلَ لِمُحَمَّدٍ الْأَمِينِ عَهْدَ اللَّهِ لَئِنْ قُتِلَ وَهُوَ حَيٌّ لَا يُعْطِي الْمَأْمُونَ طَاعَةً أَبَدًا، فَمَاتَ قَبْلَ الْأَمِينِ، وَكَانَ مَا قَالَ لِلْأَمِينِ: إِنْ خِفْتَ فَالْجَأْ إِلَيَّ فَوَاللَّهِ لَأَصُونَنَّكَ. وَقَالَ الرَّشِيدُ يَوْمًا لِعَبْدِ الْمَلِكِ: مَا أَنْتَ لِصَالِحٍ! قَالَ: فَلِمَنْ أَنَا؟ قَالَ: لِمَرْوَانَ الْجَعْدِيِّ. قَالَ: مَا أُبَالِي أَيُّ الْفَحْلَيْنِ غَلَبَ عَلَيَّ. وَأَرْسَلَ الرَّشِيدُ يَوْمًا إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ أَرَادَ الْخُرُوجَ عَلَيَّ وَمُنَازَعَتِي فِي الْمُلْكِ، وَعَلِمْتُ ذَلِكَ، فَأَعْلِمْنِي مَا عِنْدَكَ فِيهِ، فَإِنَّكَ إِنْ صَدَقْتَنِي أَعَدْتُكَ إِلَى حَالِكِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا اطَّلَعْتُ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَلَوِ اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ لَكُنْتُ صَاحِبَهُ دُونَكَ، لِأَنَّ مُلْكَكَ كَانَ مُلْكِي، وَسُلْطَانَكَ كَانَ سُلْطَانِي، وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ كَانَ فِيهِ عَلَيَّ وَلِيَّ، وَكَيْفَ يَطْمَعُ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي ذَلِكَ مِنِّي، وَهَلْ كَانَ إِذَا فَعَلْتُ بِهِ ذَلِكَ، يَفْعَلُ مَعِي أَكْثَرَ مِنْ فِعْلِكَ؟ وَأُعِيذُكَ بِاللَّهِ أَنْ تَظُنَّ بِي هَذَا الظَّنَّ، وَلَكِنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُحْتَمَلًا يَسُرُّنِي أَنْ يَكُونَ فِي أَهْلِكَ مِثْلُهُ، فَوَلَّيْتَهُ لَمَّا حَمِدْتَ أَثَرَهُ وَمَذْهَبَهُ، وَمِلْتَ إِلَيْهِ لِأَدَبِهِ وَاحْتِمَالِهِ. فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ بِهَذَا أَعَادَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إِنْ أَنْتَ لَمْ تُقِرَّ عَلَيْهِ قَتَلْتُ الْفَضْلَ ابْنَكَ. فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مُسَلَّطٌ عَلَيْنَا، فَافْعَلْ مَا أَرَدْتَ. فَأَخَذَ الرَّسُولُ الْفَضْلَ فَأَقَامَهُ، فَوَدَّعَ أَبَاهُ وَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ رَاضِيًا عَنِّي؟ قَالَ: بَلَى، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ. فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمَا فِي ذَلِكَ شَيْئًا جَمَعَهُمَا. ذِكْرُ غَزْوِ الرُّومِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ الْقَاسِمُ بْنُ الرَّشِيدِ أَرْضَ الرُّومِ فِي شَعْبَانَ، فَأَنَاخَ عَلَى قُرَّةَ،

وَحَصَرَهَا، وَوَجَّهَ الْعَبَّاسَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَحَصَرَ حِصْنَ سِنَانٍ، حَتَّى جَهِدَ أَهْلُهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الرُّومُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَسِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَرْحَلَ عَنْهُمْ، فَأَجَابَهُمْ وَرَحَلَ عَنْهُمْ صُلْحًا. وَمَاتَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ بِأَرْضِ الرُّومِ. وَكَانَ يَمْلِكُ الرُّومَ حِينَئِذٍ امْرَأَةٌ اسْمُهَا رِينِي، فَخَلَعَتْهَا الرُّومُ وَمَلَّكَتْ نِقْفُورَ، وَتَزْعُمُ الرُّومُ أَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِ جَفْنَةَ بْنِ غَسَّانَ، وَكَانَ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَ يَلِي دِيوَانَ الْخَرَاجِ، وَمَاتَتْ رِينِي بَعْدَ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ مِنْ خَلْعِهَا. فَلَمَّا اسْتَوْثَقَتِ الرُّومُ لِنِقْفُورَ كَتَبَ إِلَى الرَّشِيدِ: مِنْ نِقْفُورَ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى هَارُونَ مَلِكِ الْعَرَبِ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْمَلِكَةَ الَّتِي كَانَتْ قَبْلِي أَقَامَتْكَ مَقَامَ الرُّخِّ، وَأَقَامَتْ نَفْسَهَا مَقَامَ الْبَيْدَقِ، فَحَمَلَتْ إِلَيْكَ مِنْ أَمْوَالِهَا مَا كُنْتَ حَقِيقًا بِحَمْلِ أَضْعَافِهَا إِلَيْهَا، لَكِنَّ ذَلِكَ ضَعْفُ النِّسَاءِ وَحُمْقُهُنَّ، فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا فَارْدُدْ مَا حَصَلَ لَكَ مِنْ أَمْوَالِهَا، وَافْتَدِ نَفْسَكَ بِمَا تَقَعُ بِهِ الْمُصَادَرَةُ لَكَ، وَإِلَّا فَالسَّيْفُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ.

فَلَمَّا قَرَأَ الرَّشِيدُ الْكِتَابَ اسْتَفَزَّهُ الْغَضَبُ، حَتَّى لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ دُونَ أَنْ يُخَاطِبَهُ، وَتَفَرَّقَ جُلَسَاؤُهُ، فَدَعَا بِدَوَاةٍ وَكَتَبَ عَلَى ظَهْرِ الْكِتَابِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ هَارُونَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نِقْفُورَ كَلْبِ الرُّومِ، قَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ يَابْنَ الْكَافِرَةِ، وَالْجَوَابُ مَا تَرَاهُ دُونَ مَا تَسْمَعُهُ، وَالسَّلَامُ. ثُمَّ سَارَ مِنْ يَوْمِهِ حَتَّى نَزَلَ عَلَى هِرَقْلَةَ فَفَتَحَ وَغَنِمَ وَأَحْرَقَ وَخَرَّبَ، فَسَأَلَهُ نِقْفُورُ الْمُصَالَحَةَ عَلَى خَرَاجٍ يَحْمِلُهُ كُلَّ سَنَةٍ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَتِهِ وَصَارَ بِالرَّقَّةِ نَقَضَ نِقْفُورُ الْعَهْدَ، وَكَانَ الْبَرْدُ شَدِيدًا، فَأَمِنَ رَجْعَةَ الرَّشِيدِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ بِنَقْضِهِ مَا جَسَرَ أَحَدٌ عَلَى إِخْبَارِ الرَّشِيدِ، خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْعَوْدِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْبَرْدِ، وَإِشْفَاقًا مِنَ الرَّشِيدِ، فَاحْتِيلَ لَهُ بِشَاعِرٍ مِنْ أَهْلِ جُنْدِهِ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، وَقِيلَ هُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ التَّمِيمِيُّ، فَقَالَ أَبْيَاتًا، مِنْهَا: نَقَضَ الَّذِي أَعْطَيْتَهُ نِقْفُورُ ... فَعَلَيْهِ دَائِرَةُ الْبَوَارِ تَدُورُ أَبْشِرْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ ... فَتْحٌ أَتَاكَ بِهِ الْإِلَهُ كَبِيرُ فَتْحٌ يَزِيدُ عَلَى الْفُتُوحِ ... يَؤُمُّنَا بِالنَّصْرِ فِيهِ لِوَاؤُكَ الْمَنْصُورُ فِي أَبْيَاتٍ غَيْرِهَا. فَلَمَّا سَمِعَ الرَّشِيدُ ذَلِكَ قَالَ: أَوَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ نِقْفُورُ؟ وَعَلِمَ أَنَّ الْوُزَرَاءَ قَدِ احْتَالُوا لَهُ فِي ذَلِكَ، فَرَجَعَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فِي (أَشَدِّ زَمَانٍ وَأَعْظَمِ كُلْفَةٍ، حَتَّى بَلَغَ بِلَادَهُمْ) ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى شَفَى وَاشْتَفَى وَبَلَغَ مَا أَرَادَ.

وَقِيلَ: كَانَ فِعْلُ نِقْفُورَ وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ سَبَبًا لِسَيْرِ الرَّشِيدِ وَفَتْحِ هِرَقْلَةَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، سَنَةَ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. ذِكْرُ قَتْلِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ نَهِيكٍ وَفِيهَا قَتَلَ الرَّشِيدُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عُثْمَانَ بْنَ نَهِيكٍ، وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ جَعْفَرَ بْنَ يَحْيَى وَالْبَرَامِكَةَ، وَيَبْكِي عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ خَرَجَ مِنَ الْبُكَاءِ إِلَى حَدِّ طَالِبِي الثَّأْرِ، فَكَانَ إِذَا شَرِبَ النَّبِيذَ مَعَ جَوَارِيهِ أَخَذَ سَيْفَهُ، وَيَقُولُ: وَاجَعْفَرَاهُ! وَاسَيِّدَاهُ! وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ قَاتِلَكَ وَلَأَثْأَرَنَّ بِدَمِكَ. فَلَمَّا كَثُرَ هَذَا مِنْهُ جَاءَ ابْنُهُ فَأَعْلَمَ الرَّشِيدَ هُوَ وَخَصِيٌّ كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ، فَأَحْضَرَ إِبْرَاهِيمَ وَسَقَاهُ نَبِيذًا، فَلَمَّا أُخِذَ مِنْهُ النَّبِيذُ قَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ نَدِمْتُ عَلَى قَتْلِ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى، وَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ مُلْكِي، وَأَنَّهُ كَانَ بَقِيَ لِي، فَمَا وَجَدْتُ طَعْمَ النَّوْمِ مُذْ فَارَقْتُهُ. فَلَمَّا سَمِعَهَا إِبْرَاهِيمُ أَسْبَلَ دُمُوعَهُ وَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا الْفَضْلِ! وَاللَّهِ يَا سَيِّدِي لَقَدْ أَخْطَأْتَ فِي قَتْلِهِ، وَأُوطِئْتَ الْعُشْوَةَ فِي أَمْرِهِ، وَأَيْنَ يُوجَدُ فِي الدُّنْيَا مِثْلُهُ؟ فَقَالَ الرَّشِيدُ: قُمْ! عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ يَابْنَ اللَّخْنَاءِ. فَقَامَ وَمَا يَعْقِلُ [مَا يَطَأُ] ، فَمَا كَانَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُهُ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ إِلَّا لَيَالٍ قَلَائِلُ. ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ مَدِينَةَ تُطِيلَةَ بِالْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ تُطِيلَةَ بِالْأَنْدَلُسِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَكَمَ صَاحِبَ الْأَنْدَلُسِ اسْتَعْمَلَ (عَلَى ثُغُورِ الْأَنْدَلُسِ قَائِدًا كَبِيرًا مِنْ أَجْنَادِهِ، اسْمُهُ عَمْرُوسُ بْنُ يُوسُفَ، فَاسْتَعْمَلَ ابْنَهُ يُوسُفَ) عَلَى تُطِيلَةَ، وَكَانَ قَدِ انْهَزَمَ مِنَ الْحَكَمِ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَ الْأَنْدَلُسِ أُولُو قُوَّةٍ وَبَأْسٍ، لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ طَاعَتِهِ، فَالْتَحَقُوا بِالْمُشْرِكِينَ، فَقَوِيَ أَمْرُهُمْ، وَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُمْ، وَتَقَدَّمُوا إِلَى مَدِينَةِ تُطِيلَةَ فَحَصَرُوهَا، وَمَلَكُوهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَسَرُوا أَمِيرَهَا يُوسُفَ بْنَ عَمْرُوسٍ، وَسَجَنُوهُ بِصَخْرَةِ قَيْسٍ.

وَاسْتَقَرَّ عَمْرُوسُ بْنُ يُوسُفَ بِمَدِينَةِ سَرَقُسْطَةَ لِيَحْفَظَهَا مِنَ الْكُفَّارِ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَيَّرَهَا مَعَ ابْنِ عَمٍّ لَهُ، فَلَقِيَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَاتَلَهُمْ، فَفَضَّ جَمْعَهُمْ وَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَنَجَا الْبَاقُونَ مَنْكُوبِينَ، وَسَارَ الْجَيْشُ إِلَى صَخْرَةِ قَيْسٍ، فَحَصَرُوهَا وَافْتَتَحُوهَا، وَلَمْ يَقْدِرِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَنْعِهَا مِنْهُمْ، لِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْوَهْنِ بِالْهَزِيمَةِ، وَلَمَّا فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ خَلَّصُوا يُوسُفَ بْنَ عَمْرُوسٍ أَمِيرَ الثَّغْرِ، وَسَيَّرُوهُ إِلَى أَبِيهِ، وَعَظُمَ أَمْرُ عَمْرُوسٍ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ، وَبَعُدَ صَوْتُهُ فِيهِمْ، وَأَقَامَ فِي الثَّغْرِ أَمِيرًا عَلَيْهِ. ذِكْرُ إِيقَاعِ الْحَكَمِ بِأَهْلِ قُرْطُبَةَ كَانَ الْحَكَمُ فِي صَدْرِ وِلَايَتِهِ تَظَاهَرَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَالِانْهِمَاكِ فِي اللَّذَّاتِ، وَكَانَتْ قُرْطُبَةُ دَارَ عِلْمٍ، وَبِهَا فُضَلَاءُ فِي الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ، مِنْهُمْ: يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ، رَاوِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْهُ، وَغَيْرُهُ، فَثَارَ أَهْلُ قُرْطُبَةَ، وَأَنْكَرُوا فِعْلَهُ، وَرَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَامْتَنَعَ مِنْهُمْ بِمَنْ حَضَرَ مِنَ الْجُنْدِ، وَسَكَنَ الْحَالُ. ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ اجْتَمَعَ وُجُوهُ أَهْلِ قُرْطُبَةَ وَفُقَهَاؤُهَا، وَحَضَرُوا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ الْقُرَشِيِّ الْمَرْوَانِيِّ، عَمِّ هِشَامِ بْنِ حَمْزَةَ، وَأَخَذُوا لَهُ الْبَيْعَةَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَعَرَّفُوهُ أَنَّ النَّاسَ قَدِ ارْتَضَوْهُ كَافَّةً، فَاسْتَنْظَرَ لَيْلَةً لِيَرَى رَأْيَهُ، وَيَسْتَخِيرَ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَانْصَرَفُوا، فَحَضَرَ عِنْدَ الْحَكَمِ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى الْحَالِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ عَلَى بَيْعَتِهِ، فَطَلَبَ الْحَكَمُ تَصْحِيحَ الْحَالِ عِنْدَهُ، فَأَخَذَ مَعَهُ بَعْضَ ثِقَاتِ الْحَكَمِ، وَأَجْلَسَهُ فِي قُبَّةٍ فِي دَارِهِ، وَأَخْفَى أَمْرَهُ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقَوْمُ يَسْتَعْلِمُونَ مِنْهُ هَلْ تَقَلَّدَ أَمْرَهُمْ أَمْ لَا، فَأَرَاهُمُ الْمَخَافَةَ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَظَّمَ الْخَطْبَ عَلَيْهِمْ، وَسَأَلَهُمْ تِعْدَادَ أَسْمَائِهِمْ وَمَنْ مَعَهُمْ، فَذَكَرُوا لَهُ جَمِيعَ مَنْ مَعَهُمْ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ، وَصَاحِبُ الْحَكَمِ يَكْتُبُ أَسْمَاءَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ: يَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ. وَمَشَى إِلَى الْحَكَمِ مَعَ صَاحِبِهِ، فَأَعْلَمَاهُ جَلِيَّةَ الْحَالِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَمَا أَتَى عَلَيْهِ اللَّيْلُ حَتَّى حَبَسَ الْجَمَاعَةَ الْمَذْكُورِينَ عَنْ آخِرِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ بَعْدَ أَيَّامٍ، فَصُلِبُوا عِنْدَ قَصْرِهِ، وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ رَجُلًا، مِنْهُمْ: أَخُو يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَابْنُ أَبِي كَعْبٍ، وَكَانَ يَوْمُهُمْ يَوْمًا شَنِيعًا، فَتَمَكَّنَتْ عَدَاوَةُ النَّاسِ لِلْحَكَمِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَاجَتِ الْعَصَبِيَّةُ بِالشَّامِ بَيْنَ الْمُضَرِيَّةِ وَالْيَمَانِيَّةِ، فَأَرْسَلَ الرَّشِيدُ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ. وَفِيهَا زُلْزِلَتِ الْمَصِّيصَةُ، فَانْهَدَمَ سُورُهَا، وَنَضَبَ مَاؤُهَا سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ. وَفِيهَا خَرَجَ عَبْدُ السَّلَامِ بِآمِدَ، فَحَكَّمَ، فَقَتَلَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْعُقَيْلِيُّ. وَفِيهَا أَغْزَى الرَّشِيدُ ابْنَهُ الْقَاسِمَ الصَّائِفَةَ، فَوَهَبَهُ لِلَّهِ، وَجَعَلَهُ قُرْبَانًا لَهُ، وَوَلَّاهُ الْعَوَاصِمَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ الزَّاهِدُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِسَمَرْقَنْدَ، وَانْتَقَلَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ وَمِائَةٍ. وَعُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ الْكُوفِيُّ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُسْلِمٍ مُعَاذُ الْهَرَّاءُ النَّحْوِيُّ، وَقِيلَ: كُنْيَتُهُ أَبُو عَلِيٍّ. وَعَنْهُ أَخَذَ الْكِسَائِيُّ النَّحْوَ، (وَوُلِدَ أَيَّامَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ) .

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَة] 188 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ جِبْرَائِيلَ الصَّائِفَةَ، فَدَخَلَ أَرْضَ الرُّومِ مِنْ دَرْبِ الصَّفْصَافِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ نِقْفُورُ مَلِكُ الرُّومِ، فَأَتَاهُ مِنْ وَرَائِهِ أَمْرٌ صَرَفَهُ عَنْهُ، وَلَقِيَ جَمْعًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَجُرِحَ ثَلَاثَ جِرَاحَاتٍ، وَقُتِلَ مِنَ الرُّومِ - فِيمَا قِيلَ - أَرْبَعُونَ أَلْفًا وَسَبْعُمِائَةٍ. وَفِيهَا رَابَطَ الْقَاسِمُ بْنُ الرَّشِيدِ بِدَابِقَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الرَّشِيدُ، فَقَسَّمَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَهِيَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الضَّبِّيُّ الرَّازِيُّ وَلَهُ ثَمَانٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ الشَّاعِرُ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ. وَمَاتَ أَبُوهُ الْأَحْنَفُ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ شُهَيْدُ) بْنُ عِيسَى بِالْأَنْدَلُسِ، وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَكَانَ دُخُولُهُ الْأَنْدَلُسَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ. (شُهَيْدُ بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ الْهَاءِ) .

ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ] 189 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ مَسِيرِ هَارُونَ الرَّشِيدِ إِلَى الرَّيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الرَّشِيدُ إِلَى الرَّيِّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّشِيدَ لَمَّا اسْتَعْمَلَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ عَلَى خُرَاسَانَ ظَلَمَ أَهْلَهَا، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِيهِمْ، فَكَتَبَ كُبَرَاءُ أَهْلِهَا وَأَشْرَافُهَا إِلَى الرَّشِيدِ يَشْكُونَ سُوءَ سِيرَتِهِ وَظُلْمَهُ، وَاسْتِخْفَافَهُ بِهِمْ، وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ. وَقِيلَ لِلرَّشِيدِ: إِنَّ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى قَدْ أَجْمَعَ عَلَى الْخِلَافِ. فَسَارَ إِلَى الرَّيِّ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَمَعَهُ ابْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمَأْمُونُ، وَالْقَاسِمُ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدٍ بَعْدَ الْمَأْمُونِ، وَجَعَلَ أَمْرَهُ إِلَى الْمَأْمُونِ إِنْ شَاءَ أَقَرَّهُ، وَإِنْ شَاءَ خَلَعَهُ، وَأَحْضَرَ الْقُضَاةَ وَالشُّهُودَ وَأَشْهَدَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ [مَا] فِي عَسْكَرِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْخَزَائِنِ وَالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِلْمَأْمُونِ، وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ. وَأَقَامَ الرَّشِيدُ بِالرَّيِّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى أَتَاهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى مِنْ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَهْدَى لَهُ الْهَدَايَا الْكَثِيرَةَ، وَالْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ، وَأَهْدَى لِجَمِيعِ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَوَلَدِهِ، وَكُتَّابِهِ، وَقُوَّادِهِ، مِنَ الطُّرَفِ وَالْجَوَاهِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَرَأَى الرَّشِيدُ خِلَافَ مَا كَانَ يَظُنُّ، فَرَدَّهُ إِلَى خُرَاسَانَ. وَلَمَّا أَقَامَ الرَّشِيدُ بِالرَّيِّ سَيَّرَ حُسَيْنًا الْخَادِمَ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، وَكَتَبَ مَعَهُ أَمَانًا لِشَرْوِينَ بْنِ أَبِي قَارَنَ، وَأَمَانًا لِوَنْدَا هُرْمُزَ، جَدِّ مَازْيَارَ، وَأَمَانًا لِمَرْزُبَانَ بْنِ جُسْتَانَ، (صَاحِبِ

الدَّيْلَمِ، فَقَدِمَ جُسْتَانُ) وَوَنْدَا هُرْمُزَ فَأَكْرَمَهُمَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمَا، وَضَمِنَ وَنْدَا هُرْمُزَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ، وَأَدَاءَ الْخَرَاجِ عَنْ شَرْوِينَ. وَرَجَعَ الرَّشِيدُ إِلَى الْعِرَاقِ، وَدَخَلَ بَغْدَاذَ فِي آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ. فَلَمَّا مَرَّ بِالْجِسْرِ أَمَرَ بِإِحْرَاقِ جُثَّةِ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى، وَلَمْ يَنْزِلْ بَغْدَاذَ، وَمَضَى مِنْ فَوْرِهِ إِلَى الرَّقَّةِ. وَلَمَّا جَازَ بَغْدَاذَ قَالَ:: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَطْوِي مَدِينَةً مَا وُضِعَ بِشَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ مَدِينَةٌ أَيْمَنُ وَلَا أَيْسَرُ مِنْهَا، وَإِنَّهَا لَدَارُ مَمْلَكَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ مَا بَقُوا، وَحَافَظُوا عَلَيْهَا، وَلَا رَأَى أَحَدٌ مِنْ آبَائِي سُوءًا وَلَا نَكْبَةً مِنْهَا، وَلَنِعْمَ الدَّارُ هِيَ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ الْمُنَاخَ عَلَى نَاحِيَةِ أَهْلِ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَالْبُغْضِ لِأَئِمَّةِ الْهُدَى، وَالْحُبِّ لِشَجَرَةِ اللَّعْنَةِ بَنِي أُمَيَّةَ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَارِقَةِ، وَالْمُتَلَصِّصَةِ، وَمُخِيفِي السَّبِيلِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا فَارَقْتُ بَغْدَاذَ [مَا حَيِيتُ] . فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ فِي طَيِّ الرَّشِيدِ بَغْدَاذَ: مَا أَنَخْنَا حَتَّى ارْتَحَلْنَا فَمَا نَفْرِقُ بَيْنَ الْمُنَاخِ وَالِارْتِحَالِ سَاءَلُونَا عَنْ حَالِنَا إِذْ قَدِمْنَا فَقَرَنَّا وَدَاعَهُمْ بِالسُّؤَالِ ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِطَرَابُلُسِ الْغَرْبِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَ شَغَبُ أَهْلِ طَرَابُلُسِ الْغَرْبِ عَلَى وُلَاتِهِمْ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَغْلَبِ، أَمِيرُ إِفْرِيقِيَّةَ، قَدِ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عِدَّةَ وُلَاةٍ، فَكَانُوا يَشْكُونَ مِنْ وُلَاتِهِمْ، فَيَعْزِلُهُمْ، وَيُوَلِّي غَيْرَهُمْ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ السَّنَةَ سُفْيَانَ بْنَ الْمَضَاءِ، وَهِيَ وِلَايَتُهُ الرَّابِعَةُ، فَاتَّفَقَ أَهْلُ الْبَلَدِ عَلَى إِخْرَاجِهِ عَنْهُمْ، وَإِعَادَتِهِ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَزَحَفُوا إِلَيْهِ، فَأَخَذَ سِلَاحَهُ وَقَاتَلَهُمْ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِمَّنْ مَعَهُ، فَأَخْرَجُوهُ مِنْ دَارِهِ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ، فَقَاتَلَهُمْ فِيهِ، فَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ ثُمَّ أَمَّنُوهُ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَاسْتَعْمَلَ الْجُنْدُ الَّذِينَ بِطَرَابُلُسَ عَلَى الْبَلَدِ وَأَهْلِهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سُفْيَانَ التَّمِيمِيَّ.

ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَ الْأَبْنَاءِ بِطَرَابُلُسَ أَيْضًا وَبَيْنَ قَوْمٍ يُعْرَفُونَ بِبَنِي أَبِي كِنَانَةَ وَبَنِي يُوسُفَ - حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَقِتَالٌ، حَتَّى فَسَدَتْ طَرَابُلُسُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَغْلَبِ، فَأَرْسَلَ جَمْعًا مِنَ الْجُنْدِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُحْضِرُوا الْأَبْنَاءَ وَبَنِي أَبِي كِنَانَةَ، وَبَنِي يُوسُفَ، فَأَحْضَرُوهُمْ عِنْدَهُ بِالْقَيْرَوَانِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ سَأَلُوهُ الْعَفْوَ عَنْهُمْ فِي الَّذِي فَعَلُوهُ، فَعَفَا عَنْهُمْ، فَعَادُوا إِلَى بَلَدِهِمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا كَانَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ، فَلَمْ يَبْقَ بِأَرْضِ الرُّومِ مُسْلِمٌ إِلَّا فُودِيَ بِهِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. وَفِيهَا وَلَّى الرَّشِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَالِكٍ طَبَرِسْتَانَ، وَالرَّيَّ، [وَالرُّويَانَ] ، وَدُنْبَاوَنْدَ، وَقُومِسَ وَهَمَذَانَ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الرَّيِّ، فَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فِي مَسِيرِهِ إِلَيْهَا، وَكَانَ الرَّشِيدُ وُلِدَ بِهَا: إِنَّ أَمِينَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ حَنَّ بِهِ الْبِرُّ إِلَى مَوْلِدِهْ لِيُصْلِحَ الرَّيَّ وَأَقْطَارَهَا وَيُمْطِرَ الْخَيْرَ بِهَا مِنْ يَدِهْ [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ الْفَقِيهُ، صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ الرُّؤَاسِيُّ، أَبُو عَوْفٍ. وَسَابِقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَوْصِلِيُّ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْبَكَّائِينَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -.

ثم دخلت سنة تسعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ] 190 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ خَلْعِ رَافِعِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ رَافِعُ بْنُ اللَّيْثِ بْنِ نَصْرٍ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ مُخَالِفًا لِلرَّشِيدِ بِسَمَرْقَنْدَ. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ الْأَشْعَثِ (بْنِ يَحْيَى الطَّائِيَّ) تَزَوَّجَ ابْنَةً لِعَمِّهِ أَبِي النُّعْمَانِ، وَكَانَتْ ذَاتَ يَسَارٍ وَلِسَانٍ، ثُمَّ تَرَكَهَا بِسَمَرْقَنْدَ، وَأَقَامَ بِبَغْدَاذَ، وَاتَّخَذَ السَّرَارِيَّ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، أَرَادَتِ التَّخَلُّصَ مِنْهُ، وَبَلَغَ رَافِعًا خَبَرُهَا، فَطَمِعَ فِيهَا وَفِي مَالِهَا، فَدَسَّ إِلَيْهَا مَنْ قَالَ لَهَا: إِنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْ زَوْجِهَا إِلَّا أَنْ تُشْهِدَ عَلَيْهَا قَوْمًا أَنَّهَا أَشْرَكَتْ بِاللَّهِ ثُمَّ تَتُوبَ، فَيَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا، وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، وَتَزَوَّجَهَا رَافِعٌ. فَبَلَغَ الْخَبَرُ يَحْيَى بْنَ الْأَشْعَثِ، فَشَكَا إِلَى الرَّشِيدِ، فَكَتَبَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَنْ يُعَاقِبَ رَافِعًا، وَيَجْلِدَهُ الْحَدَّ، وَيُقَيِّدَهُ وَيَطُوفَ بِهِ فِي سَمَرْقَنْدَ عَلَى حِمَارٍ لِيَكُونَ عِظَةً لِغَيْرِهِ، فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَحُدَّهُ، وَطَلَّقَهَا رَافِعٌ وَحُبِسَ بِسَمَرْقَنْدَ، فَهَرَبَ مِنَ الْحَبْسِ، فَلَحِقَ بِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى بِبَلْخَ، فَأَرَادَ ضَرْبَ عُنُقِهِ، فَشَفَعَ فِيهِ عِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، وَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، فَرَجَعَ إِلَيْهَا، وَوَثَبَ بِعَامِلِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى عَلَيْهَا فَقَتَلَهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا فَوَجَّهَ إِلَيْهِ ابْنَهُ، فَلَقِيَهُ، فَهَزَمَهُ رَافِعٌ، فَأَخَذَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى فِي جَمْعِ الرِّجَالِ وَالتَّأَهُّبِ لِمُحَارَبَتِهِ، وَانْقَضَتِ السَّنَةُ. ذِكْرُ فَتْحِ هِرَقْلَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ الرَّشِيدُ هِرَقْلَةَ، (وَأَخْرَبَهَا) ، وَكَانَ سَبَبَ مَسِيرِهِ إِلَيْهَا مَا ذَكَرْنَاهُ

سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، مِنْ غَدْرِ نِقْفُورَ، وَكَانَ فَتْحُهَا فِي شَوَّالٍ، وَكَانَ حَصَرَهَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَسَبَى أَهْلَهَا، وَكَانَ قَدْ دَخَلَ الْبِلَادَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ، سِوَى الْأَتْبَاعِ وَالْمُتَطَوِّعَةِ، وَمَنْ لَا دِيوَانَ لَهُ. وَأَنَاخَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ عَلَى ذِي الْكَلَاعِ. وَوَجَّهَ دَاوُدَ بْنَ عِيسَى بْنِ مُوسَى سَائِرًا فِي أَرْضِ الرُّومِ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا يُخَرِّبُ وَيَنْهَبُ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَفَتَحَ شَرَاحِيلُ بْنُ مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ حِصْنَ الصَّقَالِبَةِ وَدُبْسَةَ. وَافْتَتَحَ يَزِيدُ بْنُ مَخْلَدٍ الصَّفْصَافَ وَمَلَقُونِيَةَ. وَاسْتُعْمِلَ حُمَيْدُ بْنُ مَعْيُوفٍ عَلَى سَوَاحِلِ الشَّامِ وَمِصْرَ، فَبَلَغَ قُبْرُسَ، فَهَدَمَ وَأَحْرَقَ وَسَبَى مِنْ أَهْلِهَا سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا فَأَقْدَمَهُمُ الرَّافِقَةَ، فَبِيعُوا بِهَا، وَبَلَغَ فِدَاءُ

أُسْقُفِّ قُبْرُسَ أَلْفَيْ دِينَارٍ. ثُمَّ سَارَ الرَّشِيدُ إِلَى طُوَانَةَ، فَنَزَلَ بِهَا، ثُمَّ رَحَلَ عَنْهَا، وَخَلَّفَ عَلَيْهَا عُقْبَةَ بْنَ جَعْفَرٍ. وَبَعَثَ نِقْفُورُ بِالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ عَنْ رَأْسِهِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَعَنْ رَأْسِ وَلَدِهِ دِينَارَيْنِ، وَعَنْ بَطَارِقَتِهِ كَذَلِكَ. وَكَتَبَ نِقْفُورُ إِلَى الرَّشِيدِ فِي جَارِيَةٍ مِنْ سَبْيِ هِرَقْلَةَ كَانَ خَطَبَهَا لِوَلَدِهِ، فَأَرْسَلَهَا إِلَيْهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَخَرَجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَارِجِيٌّ مِنْ نَاحِيَةِ عَبْدِ الْقَيْسِ، يُقَالُ لَهُ سَيْفُ بْنُ بُكَيْرٍ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مَزَيْدٍ، فَقَتَلَهُ بِعَيْنِ النَّوْرَةِ.

وَفِيهَا نَقَضَ أَهْلُ قُبْرُسَ الْعَهْدَ، فَغَزَاهُمْ مَعْيُوفُ بْنُ يَحْيَى، فَسَبَى أَهْلَهَا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عِيسَى بْنُ مُوسَى الْهَادِي. وَفِيهَا أَسْلَمَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ عَلَى يَدِ الْمَأْمُونِ، وَقِيلَ بَلْ أَسْلَمَ أَبُوهُ سَهْلٌ عَلَى يَدِ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ مَحْبُوسًا، وَقِيلَ أَسْلَمَ الْفَضْلُ وَأَخُوهُ الْحَسَنُ عَلَى يَدِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فَاخْتَارَهُ يَحْيَى لِخِدْمَةِ الْمَأْمُونِ، فَلِهَذَا كَانَ الْفَضْلُ يَرْعَى الْبَرَامِكَةَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ، وَلُقِّبَ بِذِي الرِّئَاسَتَيْنِ لِأَنَّهُ تَقَلَّدَ الْوِزَارَةَ وَالسَّيْفَ، وَكَانَ يَتَشَيَّعُ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى الْمَأْمُونِ بِالْعَهْدِ لِعَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَكَانَ عَلَى الْمَوْصِلِ هَذِهِ السَّنَةَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ حَاتِمِ بْنِ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَلَمَّا دَخَلَ الْمَوْصِلَ انْكَسَرَ لِوَاؤُهُ فِي (بَابِ الْمَدِينَةِ) ، فَتَطَيَّرَ مِنْهُ، وَكَانَ مَعَهُ أَبُو الشِّيصِ الشَّاعِرُ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ: مَا كَانَ مُنْكَسِرَ اللِّوَاءِ لِطِيرَةٍ تُخْشَى وَلَا أَمْرٍ يَكُونُ مُوَيِّلَا لَكِنَّ هَذَا الرُّمْحَ أَضْعَفَ رُكْنَهُ صِغَرُ الْوِلَايَةِ فَاسْتَقَلَّ الْمَوْصِلَا فَسُرِّيَ عَنْ خَالِدٍ. وَفِيهَا غَزَا الرَّشِيدُ الصَّائِفَةَ، وَاسْتَخْلَفَ الْمَأْمُونَ بِالرَّقَّةِ، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ الْأُمُورَ، وَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ بِذَلِكَ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ خَاتَمَ الْمَنْصُورِ تَيَمُّنًا بِهِ، وَنَقْشُهُ: اللَّهُ ثِقَتِي آمَنْتُ بِهِ. وَفِيهَا خَرَجَتِ الرُّومُ إِلَى عَيْنِ زَرْبَى وَالْكَنِيسَةِ السَّوْدَاءِ، وَأَغَارُوا، فَاسْتَنْقَذَ أَهْلُ

الْمَصِّيصَةِ مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَسَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ أَبُو الْمُنْذِرِ الْبَجَلِيُّ الْكُوفِيُّ، صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَحْيَى بْنُ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ مَحْبُوسًا بِالرَّافِقَةِ فِي الْمُحَرَّمِ، وَعُمْرُهُ سَبْعُونَ سَنَةً. وَعُمَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَطَاءِ بْنِ مُقَدَّمٍ الْمُقَدَّمِيُّ الْبَصْرِيُّ.

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ] 191 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ الْفِتْنَةِ مِنْ أَهْلِ طُلَيْطِلَةَ وَهُوَ وَقْعَةُ الْحُفْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْقَعَ الْأَمِيرُ الْحَكَمُ بْنُ هِشَامٍ الْأُمَوِيُّ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، بِأَهْلِ طُلَيْطِلَةَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافِ رَجُلٍ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ طُلَيْطِلَةَ كَانُوا قَدْ طَمِعُوا فِي الْأُمَرَاءِ، وَخَلَعُوهُمْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ بِحَصَانَةِ بَلَدِهِمْ وَكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ، فَلَمْ يَكُونُوا يُطِيعُونَ أُمَرَاءَهُمْ طَاعَةً مُرْضِيَةً، فَلَمَّا أَعْيَا الْحَكَمَ شَأْنُهُمْ أَعْمَلَ الْحِيلَةَ فِي الظَّفَرِ بِهِمْ، فَاسْتَعَانَ فِي ذَلِكَ بِعَمْرُوسَ بْنِ يُوسُفَ الْمَعْرُوفِ بِالْمُوَلِّدِ، وَكَانَ قَدْ ظَهَرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِالثَّغْرِ الْأَعْلَى، فَأَظْهَرَ طَاعَةَ الْحَكَمِ، وَدَعَا إِلَيْهِ، فَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ بِهَذَا السَّبَبِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ وَشْقَةَ، فَاسْتَحْضَرَهُ فَحَضَرَ عِنْدَهُ، فَأَكْرَمَهُ الْحَكَمُ، وَبَالَغَ فِي إِكْرَامِهِ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى عَزْمِهِ فِي أَهْلِ طُلَيْطِلَةَ، وَوَاطَأَهُ عَلَى التَّدْبِيرِ عَلَيْهِمْ، فَوَلَّاهُ طُلَيْطِلَةَ، وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِهَا يَقُولُ: إِنِّي قَدِ اخْتَرْتُ لَكُمْ فُلَانًا، وَهُوَ مِنْكُمْ، لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ إِلَيْهِ، وَأَعْفَيْتُكُمْ مِمَّنْ تَكْرَهُونَ مِنْ عُمَّالِنَا وَمَوَالِينَا، وَلِتَعْرِفُوا جَمِيلَ رَأَيْنَا فِيكُمْ. فَمَضَى عَمْرُوسٌ إِلَيْهِمْ، وَدَخَلَ طُلَيْطِلَةَ، فَأَنِسَ بِهِ أَهْلُهَا، وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ، وَأَحْسَنَ عِشْرَتَهُمْ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا عَمِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحِيلَةِ أَنْ أَظْهَرَ لَهُمْ مُوَافَقَتَهُمْ عَلَى بُغْضِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَخَلْعِ طَاعَتِهِمْ، فَمَالُوا إِلَيْهِ، وَوَثِقُوا بِمَا يَفْعَلُهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ سَبَبَ الشَّرِّ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَصْحَابِ الْأَمِيرِ إِنَّمَا هُوَ اخْتِلَاطُهُمْ بِكُمْ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَبْنِيَ بِنَاءً أَعْتَزِلُ فِيهِ أَنَا وَأَصْحَابُ السُّلْطَانِ رِفْقًا بِكُمْ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَبَنَى فِي وَسَطِ الْبَلَدِ مَا أَرَادَ. فَلَمَّا مَضَى لِذَلِكَ مُدَّةٌ كَتَبَ الْأَمِيرُ الْحَكَمُ إِلَى عَامِلٍ لَهُ عَلَى الثَّغْرِ الْأَعْلَى سِرًّا، يَأْمُرُهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ يَسْتَغِيثُ مِنْ جُيُوشِ الْكَفَرَةِ، وَطَلَبَ النَّجْدَةَ وَالْعَسَاكِرَ، فَفَعَلَ الْعَامِلُ ذَلِكَ، فَحَشَدَ الْحَكَمُ الْجُيُوشَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمُ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَحَشَدَ مَعَهُ

قُوَّادَهُ وَوُزَرَاءَهُ، فَسَارَ الْجَيْشُ وَاجْتَازَ بِمَدِينَةِ طُلَيْطِلَةَ، وَلَمْ يَعْرِضْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِدُخُولِهَا، فَأَتَاهُ وَهُوَ عِنْدَهَا الْخَبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِلِ أَنَّ عَسَاكِرَ الْكَفَرَةِ قَدْ تَفَرَّقَتْ، وَكَفَى اللَّهُ شَرَّهَا، فَتَفَرَّقَ الْعَسْكَرُ، وَعَزَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَقَالَ عَمْرُوسٌ عِنْدَ ذَلِكَ لِأَهْلِ طُلَيْطِلَةَ: قَدْ تَرَوْنَ نُزُولَ وَلَدِ الْحَكَمِ إِلَى جَانِبِي، وَإِنَّهُ يَلْزَمُنِي الْخُرُوجُ إِلَيْهِ وَقَضَاءُ حَقِّهِ، فَإِنْ نَشِطْتُمْ لِذَلِكَ وَإِلَّا سِرْتُ إِلَيْهِ وَحْدِي. فَخَرَجَ مَعَهُ وُجُوهُ أَهْلِ طُلَيْطِلَةَ، فَأَكْرَمَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ. وَكَانَ الْحَكَمُ قَدْ أَرْسَلَ مَعَ وَلَدِهِ خَادِمًا لَهُ، وَمَعَهُ كِتَابٌ لَطِيفٌ إِلَى عَمْرُوسٍ، فَأَتَاهُ الْخَادِمُ وَصَافَحَهُ، وَسَلَّمَ الْكِتَابَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَادِثَهُ، فَلَمَّا قَرَأَ عَمْرُوسٌ الْكِتَابَ رَأَى فِيهِ كَيْفَ تَكُونُ الْحِيلَةُ عَلَى أَهْلِ طُلَيْطِلَةَ، فَأَشَارَ إِلَى أَعْيَانِ أَهْلِهَا بِأَنْ يَسْأَلُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ الدُّخُولَ إِلَيْهِمْ لِيَرَى هُوَ وَأَهْلُ عَسْكَرِهِ كَثْرَتَهُمْ، وَمَنَعَتَهُمْ، وَقُوَّتَهُمْ، فَظَنَّوْهُ يَنْصَحُهُمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَأَدْخَلُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْبَلَدَ، وَنَزَلَ مَعَ عَمْرُوسٍ فِي دَارِهِ، وَأَتَاهُ أَهْلُ طُلَيْطِلَةَ أَرْسَالًا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ. وَأَشَاعَ عَمْرُوسٌ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يُرِيدُ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُمْ وَلِيمَةً عَظِيمَةً، وَشَرَعَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ، وَوَاعَدَهُمْ يَوْمًا ذَكَرَهُ، وَقَرَّرَ مَعَهُمْ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مِنْ بَابٍ، وَيَخْرُجُونَ مِنْ آخَرَ لِيَقِلَّ الزِّحَامُ،، فَفَعَلُوا ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الْمَذْكُورُ أَتَاهُ النَّاسُ أَفْوَاجًا، فَكَانَ كُلَّمَا دَخَلَ فَوْجٌ أُخِذُوا وَحُمِلُوا إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْجُنْدِ عَلَى حُفْرَةٍ كَبِيرَةٍ فِي ذَلِكَ الْقَصْرِ، فَضُرِبَتْ رِقَابُهُمْ عَلَيْهَا، فَلَمَّا تَعَالَى النَّهَارُ أَتَى بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا، فَقَالَ: أَيْنَ النَّاسُ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَيَخْرُجُونَ مِنَ الْبَابِ الْآخَرِ، فَقَالَ: مَا لَقِيَنِي مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَعَلِمَ الْحَالَ، وَصَاحَ، وَأَعْلَمَ النَّاسَ هَلَاكَ أَصْحَابِهِمْ، فَكَانَ سَبَبَ نَجَاةِ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، فَذَلَّتْ رِقَابُهُمْ بَعْدَهَا، وَحَسُنَتْ طَاعَتُهُمْ بَقِيَّةَ أَيَّامِ الْحَكَمِ وَأَيَّامِ وَلَدِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ انْجَبَرَتْ مُصِيبَتُهُمْ، وَكَثُرُوا، فَلَمَّا هَلَكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَوَلِيَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ عَاجَلُوهُ بِالْخَلْعِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ عِصْيَانِ أَهْلِ مَارِدَةَ عَلَى الْحَكَمِ وَمَا فَعَلَهُ بِأَهْلِ قُرْطُبَةَ وَفِيهَا عَصَى أَصْبَغُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَوَافَقَهُ أَهْلُ مَدِينَةِ مَارِدَةَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، عَلَى الْحَكَمِ، وَأَخْرَجُوا عَامِلَهُ، وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالْحَكَمِ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَحَاصَرَهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ مُجِدٌّ فِي الْحِصَارِ

أَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ أَهْلِ قُرْطُبَةَ أَنَّهُمْ أَعْلَنُوا الْعِصْيَانَ لَهُ، فَرَجَعَ مُبَادِرًا، فَوَصَلَ إِلَى قُرْطُبَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَكَشَفَ عَنِ الَّذِينَ أَثَارُوا الْفِتْنَةَ، فَصَلَبَهُمْ مُنَكَّسِينَ، وَضَرَبَ أَعْنَاقَ جَمَاعَةٍ، فَارْتَدَعَ الْبَاقُونَ بِذَلِكَ، وَاشْتَدَّتْ كَرَاهِيَّتُهُمْ لَهُ. وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ مَارِدَةَ تَارَةً يُطِيعُونَ وَمَرَّةً يَعْصُونَ إِلَى سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ، فَضَعُفَ أَمْرُ أَصْبَغَ ; لِأَنَّ الْحَكَمَ تَابَعَ إِرْسَالَ الْجُيُوشِ إِلَيْهِ، وَاسْتَمَالَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِ مَارِدَةَ وَثِقَاتِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَمَالُوا إِلَيْهِ، وَفَارَقُوا أَصْبَغَ، حَتَّى أَخُوهُ، فَتَحَيَّرَ أَصْبَغُ، وَضَعُفَتْ نَفْسُهُ، فَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ الْحَكَمُ، فَفَارَقَ مَارِدَةَ، وَحَضَرَ عِنْدَ الْحَكَمِ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ بِقُرْطُبَةَ. ذِكْرُ غَزْوِ الْفِرِنْجِ بِالْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَجَهَّزَ لُذَرِيقُ مَلِكُ الْفِرِنْجِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَجَمَعَ جُمُوعَهُ لِيَسِيرَ إِلَى مَدِينَةِ طَرْطُوشَةَ لِيَحْصُرَهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَكَمَ، فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَيَّرَهَا مَعَ وَلَدِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَاجْتَمَعُوا فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ، وَتَبِعَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ، فَسَارُوا، فَلَقُوا الْفِرِنْجَ فِي أَطْرَافِ بِلَادِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَنَالُوا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا، فَاقْتَتَلُوا، وَبَذَلَ كُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ جُهْدَهُ، وَاسْتَنْفَدَ وُسْعَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَانْهَزَمَ الْكُفَّارُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ وَالْأَسْرُ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَثْقَالُهُمْ، وَعَادَ الْمُسْلِمُونَ ظَافِرِينَ غَانِمِينَ. ذِكْرُ عِصْيَانِ حَزْمٍ عَلَى الْحَكَمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ حَزْمُ بْنُ وَهْبٍ بِنَاحِيَةِ بَاجَةَ، وَوَافَقَهُ غَيْرُهُ، وَقَصَدُوا لَشْبُونَةَ، وَكَانَ الْحَكَمُ يُسَمِّي حَزْمًا فِي كُتُبِهِ - النَّبَطِيَّ، فَلَمَّا سَمِعَ الْحَكَمُ خَبَرَهُ سَيَّرَ إِلَيْهِ ابْنَهُ هِشَامًا فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَأَذَلَّهُ وَمَنْ مَعَهُ، وَقَطَعَ الْأَشْجَارَ وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى أَذْعَنُوا لِطَلَبِ الْأَمَانِ، فَأَمَّنَهُ. ذِكْرُ عَزْلِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ عَنْ خُرَاسَانَ وَوِلَايَةِ هَرْثَمَةَ وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ عَنْ خُرَاسَانَ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَتْلِ ابْنِهِ عِيسَى، فَلَمَّا قُتِلَ جَزِعَ عَلَيْهِ أَبُوهُ، فَخَرَجَ عَنْ بَلْخَ إِلَى مَرْوَ مَخَافَةً عَلَيْهَا أَنْ

يَسِيرَ إِلَيْهَا رَافِعُ بْنُ اللَّيْثِ لِيَأْخُذَهَا، وَكَانَ ابْنُهُ عِيسَى قَدْ دَفَنَ فِي بُسْتَانٍ فِي دَارِهِ بِبَلْخَ - أَمْوَالًا عَظِيمَةً، قِيلَ: كَانَتْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَبُوهُ، وَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهَا إِلَّا جَارِيَةً لَهُ، فَلَمَّا سَارَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى إِلَى مَرْوَ أَطْلَعَتِ الْجَارِيَةُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضَ الْخَدَمِ، وَتَحَدَّثَ بِهِ النَّاسُ وَاجْتَمَعُوا، وَدَخَلُوا الْبُسْتَانَ، وَنَهَبُوا الْمَالَ، وَبَلَغَ الرَّشِيدَ الْخَبَرُ، فَقَالَ: خَرَجَ عَنْ بَلْخَ عَنْ غَيْرِ أَمْرِي، وَخَلَّفَ مِثْلَ هَذَا الْمَالِ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ بَاعَ حُلِىَّ نِسَائِهِ فِيمَا أَنْفَقَ عَلَى مُحَارَبَةِ رَافِعٍ! فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ. وَكَانَ قَدْ نَقَمَ الرَّشِيدُ عَلَيْهِ مَا كَانَ يَبْلُغُهُ مِنْ سُوءِ سِيرَتِهِ وَإِهَانَتِهِ أَعْيَانَ النَّاسِ وَاسْتِخْفَافِهِ بِهِمْ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا الْحُسَيْنُ بْنُ مُصْعَبٍ وَالِدُ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَهِشَامُ بْنُ فَرَّخِسْرَوَ، فَسَلَّمَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لِلْحُسَيْنِ: لَا سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ يَا مُلْحِدُ يَا بْنَ الْمُلْحِدِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ، وَالطَّعْنِ فِي الدِّينِ، وَلَمْ أَنْتَظِرْ بِقَتْلِكَ إِلَّا أَمْرَ الْخَلِيفَةِ، أَلَسْتَ الْمُرْجِفَ بِي فِي مَنْزِلِي هَذَا بَعْدَ أَنْ ثَمِلْتَ مِنَ الْخَمْرِ، وَزَعَمْتَ أَنَّكَ جَاءَتْكَ كُتُبٌ مِنْ بَغْدَاذَ بِعَزْلِي؟ اخْرُجْ إِلَى سَخَطِ اللَّهِ، لَعَنَكَ اللَّهُ، فَعَنْ قَرِيبٍ مَا يَكُونُ مِنْهَا. فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ فَأُخْرِجَ. وَقَالَ لِهِشَامِ بْنِ فَرَّخُسْرَوَ: صَارَتْ دَارُكَ دَارَ النَّدْوَةِ، يَجْتَمِعُ إِلَيْكَ السُّفَهَاءُ تَطْعَنُ عَلَى الْوُلَاةِ، سَفَكَ اللَّهُ دَمِي إِنْ لَمْ أَسْفِكْ دَمَكَ! فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَعْذِرْهُ، فَأَخْرَجَهُ. فَأَمَّا الْحُسَيْنُ فَسَارَ إِلَى الرَّشِيدِ فَاسْتَجَارَ بِهِ وَشَكَا إِلَيْهِ، فَأَجَارَهُ، وَأَمَّا هِشَامٌ فَإِنَّهُ قَالَ لِبِنْتٍ لَهُ: إِنِّي أَخَافُ الْأَمِيرَ عَلَى دَمِي، وَأَنَا مُفْضٍ إِلَيْكِ بِأَمْرٍ إِنْ أَنْتِ أَظْهَرْتِهِ قُتِلْتُ، وَإِنْ أَنْتِ كَتَمْتِهِ سَلِمْتُ. قَالَتْ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: قَدْ عَزَمْتُ عَلَى أَنْ أُظْهِرَ أَنَّ الْفَالِجَ قَدْ أَصَابَنِي، فَإِذَا كَانَ فِي السَّحَرِ، فَاجْمَعِي جَوَارِيَكِ، وَاقْصُدِي فِرَاشِي وَحَرِّكِينِي، فَإِذَا رَأَيْتِ حَرَكَتِي ثَقُلَتْ فَصِيحِي أَنْتِ وَجَوَارِيكِ، وَاجْمَعِي إِخْوَتَكِ فَأَعْلِمِيهِمْ عِلَّتِي. فَفَعَلَتْ مَا أَمَرَهَا، وَكَانَتْ عَاقِلَةً، فَأَقَامَ مَطْرُوحًا عَلَى فِرَاشِهِ حِينًا لَا يَتَحَرَّكُ إِلَى أَنْ جَاءَ هَرْثَمَةُ وَالِيًا، فَرَكِبَ إِلَى لِقَائِهِ، فَرَآهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ، فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ: أَتَلَقَّى الْأَمِيرَ أَبَا حَاتِمٍ. قَالَ: أَلَمْ تَكُنْ عَلِيلًا؟ فَقَالَ: وَهَبَ اللَّهُ الْعَافِيَةَ، وَعَزَلَ الطَّاغِيَةَ، فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ وِلَايَةُ هَرْثَمَةَ ظَاهِرَةً. وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ سِرًّا، لَمْ يُطْلِعِ الرَّشِيدُ عَلَيْهَا أَحَدًا، فَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ عَزْلَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى اسْتَدْعَى هَرْثَمَةَ، وَأَسَرَّ إِلَيْهِ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى قَدْ كَتَبَ

يَسْتَمِدُّنِي بِالْعَسَاكِرِ وَالْأَمْوَالِ، فَأَظْهِرْ لِلنَّاسِ أَنَّكَ تَسِيرُ إِلَيْهِ نَجْدَةً لَهُ. وَكَتَبَ لَهُ الرَّشِيدُ كِتَابًا بِوِلَايَتِهِ بِخَطِّ يَدِهِ، وَأَمَرَ كُتَّابَهُ أَنْ يَكْتُبُوا لَهُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بِأَنَّهُ قَدْ سَيَّرَ هَرْثَمَةَ نَجْدَةً لَهُ. فَسَارَ هَرْثَمَةُ وَلَا يَعْلَمُ بِأَمْرِهِ أَحَدٌ، حَتَّى وَرَدَ نَيْسَابُورَ، فَلَمَّا وَرَدَهَا اسْتَعْمَلَ أَصْحَابَهُ عَلَى كُوَرِهَا، وَسَارَ مُجِدًّا يَسْبِقُ الْخَبَرَ، فَأَتَى مَرْوَ وَالْتَقَاهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى، فَاحْتَرَمَهُ هَرْثَمَةُ وَعَظَّمَهُ حَتَّى دَخَلَ الْبَلَدَ، ثُمَّ قَبَضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُ فَبَلَغَتْ ثَمَانِينَ أَلْفَ (أَلْفٍ) ، (وَكَانَتْ خَزَائِنُهُ وَأَثَاثُهُ عَلَى) أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ بَعِيرٍ، فَأَخَذَ الرَّشِيدُ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَكَانَ وُصُولُ هَرْثَمَةَ إِلَى خُرَاسَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ، فَلَمَّا فَرَغَ هَرْثَمَةُ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ أَقَامَهُمْ لِمُطَالَبَةِ النَّاسِ، وَكَتَبَ إِلَى الرَّشِيدِ بِذَلِكَ، وَسَيَّرَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى إِلَيْهِ عَلَى بَعِيرٍ بِغَيْرِ وِطَاءٍ وَلَا غِطَاءٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا خَرَجَ خَارِجِيٌّ يُقَالُ لَهُ ثَرْوَانُ بْنُ سَيْفٍ بِنَاحِيَةِ حَوْلَايَا، وَتَنَقَّلَ فِي السَّوَادِ، فَوُجِّهَ إِلَيْهِ طَوْقُ بْنُ مَالِكٍ، فَهَزَمَهُ طَوْقٌ، وَجَرَحَهُ وَقَتَلَ عَامَّةَ أَصْحَابِهِ. وَفِيهَا خَرَجَ أَبُو النِّدَاءِ بِالشَّامِ، فَسَيَّرَ الرَّشِيدُ فِي طَلَبِهِ يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ، وَعَقَدَ لَهُ عَلَى الشَّامِ. وَفِيهَا ظَفِرَ حَمَّادٌ الْبَرْبَرِيُّ بِهَيْصَمٍ الْيَمَانِيِّ.

(وَفِيهَا أَرْسَلَ أَهْلُ نَسَفَ إِلَى رَافِعِ بْنِ اللَّيْثِ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُوَجِّهَ إِلَيْهِمْ مَنْ يُعِينُهُمْ عَلَى قَتْلِ عِيسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، وَعَلِيِّ بْنِ عِيسَى، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ جَمْعًا، فَقَتَلُوا عِيسَى وَحْدَهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ) . وَفِيهَا غَزَا يَزِيدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْهُبَيْرِيُّ أَرْضَ الرُّومِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَخَذَتِ الرُّومُ عَلَيْهِ الْمَضِيقَ، فَقَتَلُوهُ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، وَسَلِمَ الْبَاقُونَ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ طَرَسُوسَ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ عَلَى الصَّائِفَةِ هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ (قَبْلَ أَنْ يُوَلِّيَهُ خُرَاسَانَ) ، وَضَمَّ إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ. وَرَتَّبَ الرَّشِيدُ بِدَرْبِ الْحَدَثِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَالِكٍ، وَبِمَرْعَشَ سَعِيدَ بْنَ سَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ، فَأَغَارَتِ الرُّومُ عَلَيْهَا، فَأَصَابُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَانْصَرَفُوا، وَلَمْ يَتَحَرَّكْ سَعِيدٌ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَبَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مَزَيْدٍ إِلَى طَرَسُوسَ. وَأَقَامَ الرَّشِيدُ بِدَرْبِ الْحَدَثِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَعَادَ إِلَى الرَّقَّةِ، وَأَمَرَ الرَّشِيدُ بِهَدْمِ الْكَنَائِسِ بِالثُّغُورِ. وَأَخَذَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِمُخَالَفَةِ هَيْئَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ، وَرُكُوبِهِمْ. وَأَمَرَ هَرْثَمَةَ بِبِنَاءِ طَرَسُوسَ وَتَمْصِيرِهَا، فَفَعَلَ، وَتَوَلَّى ذَلِكَ فَرَجٌ الْخَادِمُ بِأَمْرِ

الرَّشِيدِ، وَسَيَّرَ إِلَيْهَا جُنْدًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ أَشْخَصَ إِلَيْهِمْ أَلْفًا مِنْ أَهْلِ الْمَصِّيصَةِ، وَأَلْفًا مِنْ أَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ، وَتَمَّ بِنَاؤُهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَبَنَى مَسْجِدَهَا.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى مَكَّةَ. وَكَانَ عَلَى الْمَوْصِلِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى السِّينَانِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيُّ، مَوْلَى بَنِي قَطِيعَةَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ. (السِّينَانِيُّ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ، وَبِالنُّونِ قَبْلَ الْأَلِفِ، ثُمَّ بِنُونٍ بَعْدَهُ، مَنْسُوبٌ إِلَى سِينَانَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى مَرْوَ) .

ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ] 192 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ مَسِيرِ الرَّشِيدِ إِلَى خُرَاسَانَ فِيهَا سَارَ الرَّشِيدُ مِنَ الرَّقَّةِ إِلَى بَغْدَاذَ يُرِيدُ خُرَاسَانَ لِحَرْبِ رَافِعِ بْنِ اللَّيْثِ، وَكَانَ مَرِيضًا، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الرَّقَّةِ ابْنَهُ الْقَاسِمَ، وَضَمَّ إِلَيْهِ خُزَيْمَةَ بْنَ خَازِمٍ، وَسَارَ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى النَّهْرَوَانِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَاذَ ابْنَهُ الْأَمِينَ، وَأَمَرَ الْمَأْمُونَ بِالْمُقَامِ بِبَغْدَاذَ. فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ لِلْمَأْمُونِ حِينَ أَرَادَ الرَّشِيدُ الْمَسِيرَ إِلَى خُرَاسَانَ: لَسْتَ تَدْرِي مَا يَحْدُثُ بِالرَّشِيدِ، وَخُرَاسَانُ وِلَايَتُكَ، وَمُحَمَّدٌ الْأَمِينُ الْمُقَدَّمُ عَلَيْكَ، وَإِنَّ أَحْسَنَ مَا يَصْنَعُ بِكَ أَنْ يَخْلَعَكَ، وَهُوَ ابْنُ زُبَيْدَةَ [وَأَخْوَالُهُ بَنُو هَاشِمٍ، وَزُبَيْدَةُ] وَأَمْوَالُهَا [رِدْءٌ لَهُ] ، فَاطْلُبْ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَسِيرَ مَعَهُ، فَطَلَبَ إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ بَعْدَ امْتِنَاعٍ. فَلَمَّا سَارَ الرَّشِيدُ سَايَرَهُ الصَّبَّاحُ الطَّبَرِيُّ، فَقَالَ لَهُ: يَا صَبَّاحُ، لَا أَظُنُّكَ تَرَانِي أَبَدًا. فَدَعَا، فَقَالَ: مَا أَظُنُّكَ تَدْرِي مَا أَجِدُ. قَالَ الصَّبَّاحُ: لَا وَاللَّهِ. فَعَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ، وَاسْتَظَلَّ بِشَجَرَةٍ، وَأَمَرَ خَوَاصَّهُ بِالْبُعْدِ، فَكَشَفَ عَنْ بَطْنِهِ، فَإِذَا عَلَيْهِ عِصَابَةٌ حَرِيرٌ، فَقَالَ: هَذِهِ عِلَّةٌ أَكْتُمُهَا النَّاسَ كُلَّهُمْ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ وَلَدَيَّ عَلَيَّ رَقِيبٌ، فَمَسْرُورٌ رَقِيبُ الْمَأْمُونِ، وَجِبْرَائِيلُ بْنُ بَخْتِيَشُوعَ رَقِيبُ الْأَمِينِ، وَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يُحْصِي أَنْفَاسِي، وَيَسْتَطِيلُ دَهْرِي، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ ذَلِكَ، فَالسَّاعَةَ أَدْعُو بِدَابَّةٍ، فَيَأْتُونِي بِدَابَّةٍ أَعْجَفَ قَطُوفٍ لِتَزِيدَ بِي عِلَّتِي، فَاكْتُمْ عَلَيَّ ذَلِكَ. فَدَعَا لَهُ بِالْبَقَاءِ، ثُمَّ طَلَبَ الرَّشِيدُ دَابَّةً، فَجَاءُوا بِهَا عَلَى مَا وَصَفَ، فَنَظَرَ إِلَى الصَّبَّاحِ وَرَكِبَهَا.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا تَحَرَّكَتِ الْخُرَمِيَّةُ بِنَاحِيَةِ أَذْرَبِيجَانَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ الرَّشِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَالِكٍ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، فَقَتَلَ وَسَبَى وَأَسَرَ، وَوَافَاهُ بِقَرْمَاسِينَ، فَأَمَرَهُ بِقَتْلِ الْأَسْرَى، وَبَيْعِ السَّبْيِ. وَفِيهَا قَدِمَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ عَلَى الرَّشِيدِ بِأَبِي النِّدَاءِ، فَقَتَلَهُ. وَفِيهَا فَارَقَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ رَافِعَ بْنَ اللَّيْثِ، وَصَارُوا إِلَى هَرْثَمَةَ، مِنْهُمْ عُجَيْفُ بْنُ عَنْبَسَةَ وَغَيْرُهُ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ عَلَى الثُّغُورِ ثَابِتَ بْنَ نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ، فَافْتَتَحَ مَطْمُورَةَ. وَفِيهَا كَانَ الْفِدَاءُ بِالْبَذَنْدُونِ. وَفِيهَا خَرَجَ ثَرْوَانُ الْحَرُورِيُّ بِطَفِّ الْبَصْرَةِ، فَقَاتَلَ عَامِلَ السُّلْطَانِ بِهَا. وَفِيهَا مَاتَ عِيسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْمَنْصُورِ بِالدَّسْكَرَةِ، وَهُوَ يُرِيدُ اللِّحَاقَ بِالرَّشِيدِ. وَفِيهَا قَتَلَ الرَّشِيدُ الْهَيْصَمَ الْيَمَانِيَّ.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْمَنْصُورِ. وَفِيهَا كَانَ وُصُولُ هَرْثَمَةَ إِلَى خُرَاسَانَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَحَصَرَ هَرْثَمَةُ رَافِعَ بْنَ اللَّيْثِ بِسَمَرْقَنْدَ، وَضَايَقَهُ، وَاسْتَقْدَمَ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَخَلَتْ خُرَاسَانُ لِحَمْزَةَ الْخَارِجِيِّ، حَتَّى دَخَلَهَا، وَصَارَ يَقْتُلُ وَيَجْمَعُ الْأَمْوَالَ، وَيَحْمِلُهَا إِلَيْهِ عُمَّالُ هَرَاةَ وَسِجِسْتَانَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ النَّيْسَابُورِيُّ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَحْوُ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَسَارَ إِلَى حَمْزَةَ (فَقَاتَلَهُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِ حَمْزَةَ) خَلْقًا، وَسَارَ خَلْفَهُ حَتَّى بَلَغَ هَرَاةَ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ، فَرَدَّهُ وَأَدَامَ هَرْثَمَةُ عَلَى حِصَارِ سَمَرْقَنْدَ حَتَّى فَتَحَهَا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. (وَقَتَلَ رَافِعَ بْنَ اللَّيْثِ وَجَمَاعَةً مِنْ أَقْرِبَائِهِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ ابْنَ يَحْيَى، فَعَادَ، وَكَانَ قَتْلُهُ رَافِعًا سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ يَزِيدَ الْأَوْدِيُّ الْكُوفِيُّ. وَيُوسُفُ بْنُ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي. وَفِيهَا كَانَ الْفِدَاءُ الثَّانِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ، وَكَانَ الْقَيِّمُ بِهِ ثَابِتَ بْنَ نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ الْخُزَاعِيَّ، وَكَانَ عِدَّةُ الْأَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ أَسِيرٍ.

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ] 193 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ مَوْتِ الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ فِي الْحَبْسِ بِالرَّقَّةِ، وَكَانَتْ عِلَّتُهُ أَنَّهُ أَصَابَهُ ثِقَلٌ فِي لِسَانِهِ وَشِقِّهِ، فَعُولِجَ أَشْهُرًا، فَبَرَأَ، وَكَانَ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنْ يَمُوتَ الرَّشِيدُ ; لِأَنَّ أَمْرِي قَرِيبٌ مِنْ أَمْرِهِ. فَلَمَّا صَحَّ مِنْ عِلَّتِهِ وَتَحَدَّثَ، عَادَتْهُ الْعِلَّةُ، وَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِ، وَانْعَقَدَ لِسَانُهُ وَطَرْفُهُ، فَمَاتَ فِي الْمُحَرَّمِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ إِخْوَانُهُ فِي الْقَصْرِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، ثُمَّ أُخْرِجَ فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّاسُ، وَجَزِعَ النَّاسُ عَلَيْهِ. وَكَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ الرَّشِيدِ بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الدُّنْيَا لَمْ يُرَ فِي الْعَالَمِ مِثْلُهُ، وَلِاشْتِهَارِ أَخْبَارِهِ، وَأَخْبَارِ أَهْلِهِ، وَحُسْنِ سِيرَتِهِمْ - لَمْ نَذْكُرْهَا. وَفِيهَا مَاتَ سَعِيدٌ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْجَوْهَرِيُّ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ هَرْثَمَةَ وَأَصْحَابِ رَافِعٍ، كَانَ الظَّفَرُ [فِيهَا] لِهَرْثَمَةَ، وَافْتَتَحَ

بُخَارَى، وَأَسَرَ بَشِيرًا أَخَا رَافِعٍ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى الرَّشِيدِ. ذِكْرُ مَوْتِ الرَّشِيدِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الرَّشِيدُ أَوَّلَ جُمَادَى الْآخِرَةِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْهُ، وَكَانَتْ قَدِ اشْتَدَّتْ عِلَّتُهُ بِالطَّرِيقِ بِجُرْجَانَ، فَسَارَ إِلَى طُوسَ فَمَاتَ بِهَا. قَالَ جِبْرَائِيلُ بْنُ بَخْتِيَشُوعَ: كُنْتُ مَعَ الرَّشِيدِ بِالرَّقَّةِ، وَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ غَدَاةٍ، أَتَعَرَّفُ حَالَهُ فِي لَيْلَتِهِ، ثُمَّ يُحَدِّثُنِي وَيَنْبَسِطُ إِلَيَّ، وَيَسْأَلُنِي عَنْ أَخْبَارِ الْعَامَّةِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ طَرْفَهُ، وَرَأَيْتُهُ عَابِسًا مُفَكِّرًا مَهْمُومًا، فَوَقَفْتُ مَلِيًّا مِنَ النَّهَارِ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ أَقْدَمْتُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ حَالِهِ، وَمَا سَبَبُهُ، فَقَالَ: إِنَّ فِكْرِي وَهَمِّي لِرُؤْيَا رَأَيْتُهَا فِي لَيْلَتِي هَذِهِ قَدْ أَفْزَعَتْنِي، وَمَلَأَتْ صَدْرِي. فَقُلْتُ: فَرَّجْتَ عَنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ قَبَّلْتُ يَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَقُلْتُ: الرُّؤْيَا إِنَّمَا تَكُونُ لِخَاطِرٍ أَوْ بُخَارَاتٍ رَدِيَّةٍ، وَتَهَاوِيلِ السَّوْدَاءِ، وَهِيَ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ. قَالَ: فَإِنِّي أَقُصُّهَا عَلَيْكَ، رَأَيْتُ كَأَنِّي جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِي هَذَا، إِذْ بَدَتْ مِنْ تَحْتِي ذِرَاعٌ أَعْرِفُهَا، وَكَفٌّ أَعْرِفُهَا، لَا أَفْهَمُ اسْمَ صَاحِبِهَا، وَفِي الْكَفِّ تُرْبَةٌ حَمْرَاءُ. فَقَالَ لِي قَائِلٌ أَسْمَعُهُ وَلَا أَرَى شَخْصَهُ: هَذِهِ التُّرْبَةُ الَّتِي تُدْفَنُ فِيهَا، فَقُلْتُ: وَأَيْنَ هَذِهِ التُّرْبَةُ؟ قَالَ: طُوسَ، وَغَابَتِ الْيَدُ، وَانْقَطَعَ الْكَلَامُ. فَقُلْتُ: أَحْسَبُكَ لَمَّا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَكَّرْتَ فِي خُرَاسَانَ، وَمَا وَرَدَ عَلَيْكَ مِنْهَا، وَانْتِفَاضَ بَعْضِهَا، فَذَلِكَ الْفِكْرُ أَوْجَبَ هَذِهِ الرُّؤْيَا. فَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ. فَأَمَرْتُهُ بِاللَّهْوِ وَالِانْبِسَاطِ، فَفَعَلَ، وَنَسِينَا الرُّؤْيَا، وَطَالَتِ الْأَيَّامُ.

ثُمَّ سَارَ إِلَى خُرَاسَانَ لِحَرْبِ رَافِعٍ، فَلَمَّا صَارَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ ابْتَدَأَتْ بِهِ الْعِلَّةُ، فَلَمْ تَزَلْ تَزِيدُ، حَتَّى دَخَلْنَا طُوسَ، فَبَيْنَا هُوَ يُمَرَّضُ فِي بُسْتَانٍ فِي ذَلِكَ الْقَصْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، إِذْ ذَكَرَ تِلْكَ الرُّؤْيَا، فَوَثَبَ مُتَحَامِلًا يَقُومُ وَيَسْقُطُ، فَاجْتَمَعْنَا [إِلَيْهِ] نَسْأَلُهُ، فَقَالَ: أَتَذْكُرُ رُؤْيَايَ بِالرَّقَّةِ فِي طُوسَ؟ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى مَسْرُورٍ فَقَالَ: جِئْنِي مِنْ تُرْبَةِ هَذَا الْبُسْتَانِ! فَأَتَاهُ بِهَا فِي كَفِّهِ حَاسِرًا عَنْ ذِرَاعِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ الذِّرَاعُ الَّتِي رَأَيْتُهَا فِي مَنَامِي، وَهَذِهِ الْكَفُّ بِعَيْنِهَا، وَهَذِهِ التُّرْبَةُ الْحَمْرَاءُ مَا خَرَمَتْ شَيْئًا. وَأَقْبَلَ عَلَى الْبُكَاءِ وَالنَّحِيبِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَمَّا سَارَ الرَّشِيدُ عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى خُرَاسَانَ (بَلَغَ جُرْجَانَ) فِي صَفَرٍ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ عِلَّتُهُ، فَسَيَّرَ ابْنَهُ الْمَأْمُونَ إِلَى مَرْوَ، وَسَيَّرَ مَعَهُ مِنَ الْقُوَّادِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَالِكٍ، وَيَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ، وَأَسَدَ بْنَ يَزِيدَ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَالسِّنْدِيَّ الْحَرَشِيَّ، وَنُعَيْمَ بْنَ حَازِمٍ، وَسَارَ الرَّشِيدُ إِلَى طُوسَ وَاشْتَدَّ بِهِ الْوَجَعُ، حَتَّى ضَعُفَ عَنِ الْحَرَكَةِ، فَلَمَّا أُثْقِلَ أَرْجَفَ بِهِ النَّاسُ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِمَرْكُوبٍ لِيَرْكَبَهُ لِيَرَاهُ النَّاسُ، فَأُتِيَ بِفَرَسٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ، فَأُتِيَ بِبِرْذَوْنٍ فَلَمْ يُطِقِ النُّهُوضَ، فَأُتِيَ بِحِمَارٍ فَلَمْ يَنْهَضْ، فَقَالَ: رُدُّونِي! رُدُّونِي! صَدَقَ وَاللَّهِ النَّاسُ. وَوَصَلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ بِطُوسَ، بَشِيرُ بْنُ اللَّيْثِ أَخُو رَافِعٍ أَسِيرًا، فَقَالَ الرَّشِيدُ: وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجَلِي إِلَّا أَنْ أُحَرِّكَ شَفَتَيَّ بِكَلِمَةٍ لَقُلْتُ: اقْتُلُوهُ. ثُمَّ دَعَا بِقَصَّابٍ، فَأَمَرَ بِهِ، فَفَصَلَ أَعْضَاءَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ. فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ نَفْسِهِ أَمَرَ بِقَبْرِهِ فَحُفِرَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الدَّارِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ قَوْمًا، فَقَرَءُوا فِيهِ الْقُرْآنَ حَتَّى خَتَمُوا، وَهُوَ فِي مَحَفَّةٍ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، يَقُولُ: ابْنُ آدَمَ تَصِيرُ إِلَى هَذَا. وَكَانَ يَقُولُ فِي تِلْكَ الْحَالِ: وَاسَوْأَتَاهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: لَمَّا حَضَرَتِ الرَّشِيدَ الْوَفَاةُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ مِنْهَا فَرَأَى الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: يَا فَضْلُ 000

أَحِينَ دَنَا مَا كُنْتُ أَرْجُو دُنُوَّهُ ... رَمَتْنِي عُيُونُ النَّاسِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ فَأَصْبَحْتُ مَرْحُومًا وَكُنْتُ مُحَسَّدًا ... فَصَبْرًا عَلَى مَكْرُوهِ تِلْكَ الْعَوَاقِبِ سَأَبْكِي عَلَى الْوَصْلِ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا ... وَأَنْدُبُ أَيَّامَ السُّرُورِ الذَّوَاهِبِ قَالَ سَهْلُ بْنُ صَاعِدٍ: كُنْتُ عِنْدَ الرَّشِيدِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَدَعَا بِمِلْحَفَةٍ غَلِيظَةٍ، فَاحْتَبَى بِهَا، وَجَعَلَ يُقَاسِي مَا يُقَاسِي، فَنَهَضْتُ، فَقَالَ: اقْعُدْ. فَقَعَدْتُ طَوِيلًا لَا يُكَلِّمُنِي وَلَا أُكَلِّمُهُ، فَنَهَضْتُ، فَقَالَ: أَيْنَ يَا سَهْلُ؟ فَقُلْتُ: (مَا يَسَعُ قَلْبِي [أَنْ أَرَى] أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُعَانِي مِنَ الْمَرَضِ مَا يُعَانِي) ، فَلَوِ اضْطَجَعْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ [كَانَ أَرْوَحَ] . فَضَحِكَ ضِحْكَ صَحِيحٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا سَهْلُ، اذْكُرْ فِي هَذِهِ الْحَالِ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَإِنِّي مِنْ قَوْمٍ كِرَامٍ يَزِيدُهُمْ ... شِمَاسًا وَصَبْرًا شِدَّةُ الْحَدَثَانِ ثُمَّ مَاتَ. وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ صَالِحٌ، وَحَضَرَ وَفَاتَهُ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ صُبَيْحٍ، وَمِنْ خَدَمِهِ مَسْرُورٌ وَحُسَيْنٌ وَرَشِيدٌ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَشَهْرَيْنِ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ: مَلَكَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَشَهْرًا وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ عُمْرُهُ سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ. وَكَانَ جَمِيلًا، وَسِيمًا، أَبْيَضَ، جَعْدًا قَدْ وَخَطَهُ الشَّيْبُ. قَالَ: وَكَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ لَمَّا تُوُفِّيَ تِسْعُمِائَةِ أَلْفِ أَلْفٍ وَنَيِّفٌ. ذِكْرُ وُلَاةِ الْأَمْصَارِ أَيَّامَ الرَّشِيدِ وُلَاةُ الْمَدِينَةِ: إِسْحَاقُ [بْنُ عِيسَى] بْنِ عَلِيٍّ، عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ،

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، (مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى) ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى، (مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ، (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبٍ، بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ) ، (مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ) ، أَبُو الْبَخْتَرِيِّ وَهْبُ بْنُ وَهْبٍ. وُلَاةُ مَكَّةَ: الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سُلَيْمَانُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، (مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى) ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُثَمَ بْنِ الْعَبَّاسِ، (عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قُثَمٍ) ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ، (عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى، (عَلِيُّ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى) ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعُثْمَانِيُّ) ، حَمَّادٌ الْبَرْبَرِيُّ، سُلَيْمَانُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، (الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ) ، (أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَلِيٍّ) . وُلَاةُ الْكُوفَةِ: مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى، (مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ، (عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) ، يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى، الْعَبَّاسُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى، إِسْحَاقُ بْنُ (الصَّبَّاحِ) الْكِنْدِيُّ، (مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى، الْعَبَّاسُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى) ، (مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى، جَعْفَرُ بْنُ أَبِي

جَعْفَرٍ. وُلَاةُ الْبَصْرَةِ: مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عِيسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ، عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ، جَرِيرُ بْنُ يَزِيدَ، جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، جَعْفَرُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، (عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ) ، مَالِكُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُزَاعِيُّ، إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ، الْحَسَنُ بْنُ جَمِيلٍ مَوْلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، (عِيسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، جَرِيرُ بْنُ يَزِيدَ، عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ) ، إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ. وُلَاةُ خُرَاسَانَ: أَبُو الْعَبَّاسِ الطُّوسِيُّ، جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، الْعَبَّاسُ بْنُ جَعْفَرٍ، الْغِطْرِيفُ بْنُ عَطَّاءٍ، سُلَيْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ عَلَى الْخَرَاجِ، (حَمْزَةُ بْنُ مَالِكٍ) ، الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، مَنْصُورُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مَنْصُورٍ، جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى، وَخَلِيفَتُهُ بِهَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ، هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ، الْعَبَّاسُ بْنُ جَعْفَرٍ لِلْمَأْمُونِ بِهَا، عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ. ذِكْرُ نِسَائِهِ وَأَوْلَادِهِ قِيلَ: تَزَوَّجَ زُبَيْدَةَ، وَهِيَ أُمُّ جَعْفَرٍ بِنْتُ جَعْفَرِ بْنِ الْمَنْصُورِ، وَأَعْرَسَ بِهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، فَوَلَدَتْ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ، وَمَاتَتْ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَتَزَوَّجَ أَمَةَ الْعَزِيزِ أُمَّ وَلَدِ الْهَادِي، فَوَلَدَتْ لَهُ عَلِيَّ بْنَ الرَّشِيدِ.

وَتَزَوَّجَ أُمَّ مُحَمَّدٍ بِنْتَ صَالِحٍ الْمِسْكِينِ. (وَتَزَوَّجَ الْعَبَّاسَةَ بِنْتَ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمَنْصُورِ. وَتَزَوَّجَ عَزِيزَةَ ابْنَةَ خَالِهِ الْغِطْرِيفِ) . وَتَزَوَّجَ الْعُثْمَانِيَّةَ، وَهِيَ ابْنَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَجَدَّةُ أَبِيهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ. وَمَاتَ الرَّشِيدُ عَنْ أَرْبَعِ مَهَائِرَ: زُبَيْدَةَ، وَأُمِّ مُحَمَّدٍ بِنْتِ صَالِحٍ، وَعَبَّاسَةَ، وَالْعُثْمَانِيَّةِ. وَكَانَ قَدْ وُلِدَ لَهُ مِنَ الذُّكُورِ: مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ مِنْ زُبَيْدَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَأْمُونُ لِأُمِّ وَلَدٍ اسْمُهَا مَرَاجِلُ، وَالْقَاسِمُ الْمُؤْتَمَنُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ مُحَمَّدٌ الْمُعْتَصِمُ، وَصَالِحٌ، وَأَبُو عِيسَى مُحَمَّدٌ، وَأَبُو يَعْقُوبَ مُحَمَّدٌ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدٌ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ مُحَمَّدٌ، وَأَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدٌ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ، وَهُوَ اسْمُهُ، وَأَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدٌ، كُلُّهُمْ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ. وَلَهُ مِنَ الْبَنَاتِ: سُكَيْنَةُ، وَأُمُّ حَبِيبٍ، وَأَرْوَى، وَأُمُّ الْحَسَنِ، وَأُمُّ مُحَمَّدٍ، وَهِيَ حَمْدُونَةَ، وَفَاطِمَةُ، وَأُمُّ أَبِيهَا، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَخَدِيجَةُ، وَأُمُّ الْقَاسِمِ، وَرَمْلَةُ، وَأُمُّ جَعْفَرٍ، وَأُمُّ عَلِيٍّ، وَالْعَالِيَةُ، وَرَيْطَةُ، كُلُّهُنَّ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ قِيلَ: كَانَ الرَّشِيدُ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ رَكْعَةٍ إِلَى أَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا، إِلَّا مِنْ مَرَضٍ، وَكَانَ يَتَصَدَّقُ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ كُلَّ يَوْمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بَعْدَ زَكَاتِهِ. وَكَانَ إِذَا حَجَّ حَجَّ مَعَهُ مِائَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَبْنَائِهِمْ، فَإِذَا لَمْ يَحُجَّ أَحَجَّ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ بِالنَّفَقَةِ السَّابِغَةِ، وَالْكُسْوَةِ الْظَاهِرَةِ. وَكَانَ يَطْلُبُ الْعَمَلَ بِآثَارِ الْمَنْصُورِ، إِلَّا فِي بَذْلِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرَ خَلِيفَةً قَبْلَهُ كَانَ

أَعْطَى مِنْهُ لِلْمَالِ، وَكَانَ لَا يَضِيعُ عِنْدَهُ إِحْسَانُ مُحْسِنٍ، وَلَا يُؤَخِّرُ ذَلِكَ. وَكَانَ يُحِبُّ الشِّعْرَ وَالشُّعَرَاءَ، وَيَمِيلُ إِلَى أَهْلِ الْأَدَبِ وَالْفِقْهِ، وَيَكْرَهُ الْمِرَاءَ فِي الدِّينِ، وَكَانَ يُحِبُّ الْمَدِيحَ، لَا سِيَّمَا مِنْ شَاعِرٍ فَصِيحٍ، وَيُجْزِلُ الْعَطَاءَ عَلَيْهِ. وَلَمَّا مَدَحَهُ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي مِنْهَا: وَسُدَّتْ بِهَارُونَ الثُّغُورُ فَأُحْكِمَتْ ... بِهِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ الْمَرَائِرُ أَعْطَاهُ خَمْسَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَخُلْعَةً، وَعَشَرَةً مِنَ الرَّقِيقِ الرُّومِيِّ، وَحَمَلَهُ عَلَى بِرْذَوْنٍ مِنْ خَاصِّ مَرْكَبِهِ. وَقِيلَ: كَانَ مَعَ الرَّشِيدِ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْمَدِينِيُّ، وَكَانَ مِضْحَاكًا فَكِهًا، يَعْرِفُ أَخْبَارَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَأَلْقَابَ الْأَشْرَافِ، وَمَكَايِدَ الْمُجَّانِ، فَكَانَ الرَّشِيدُ لَا يَصْبِرُ عَنْهُ، وَأَسْكَنَهُ فِي قَصْرِهِ، فَجَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَامَ الرَّشِيدُ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَكَشَفَ اللِّحَافَ عَنْهُ وَقَالَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَقَالَ: مَا أَصْبَحْتُ بَعْدُ، اذْهَبْ إِلَى عَمَلِكَ. قَالَ: قُمْ إِلَى الصَّلَاةِ! قَالَ: هَذَا وَقْتُ صَلَاةِ أَبِي الْجَارُودِ، وَأَنَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي يُوسُفَ. فَمَضَى الرَّشِيدُ يُصَلِّي، وَقَامَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَأَتَى الرَّشِيدَ، فَرَآهُ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22] فَقَالَ: مَا أَدْرِي وَاللَّهِ! فَمَا تَمَالَكَ الرَّشِيدُ أَنْ ضَحِكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ: فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا؟ ! [قَالَ: يَا هَذَا وَ] مَا صَنَعْتُ؟ قَالَ: قَطَعْتَ عَلَيَّ صَلَاتِي. قَالَ: وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ، إِنَّمَا سَمِعْتُ مِنْكَ كَلَامًا غَمَّنِي حِينَ قُلْتَ: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22] فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي! فَعَادَ الرَّشِيدُ فَضَحِكَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِيَّاكَ وَالْقُرْآنَ وَالدِّينَ، وَلَكَ مَا شِئْتَ بَعْدَهُمَا. وَقِيلَ: اسْتَعْمَلَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ رَجُلًا عَلَى بَعْضِ أَعْمَالِ الْخَرَاجِ، فَدَخَلَ عَلَى الرَّشِيدِ يُوَدِّعُهُ وَعِنْدَهُ يَحْيَى وَجَعْفَرٌ، فَقَالَ لَهُمَا الرَّشِيدُ: أَوْصِيَاهُ! فَقَالَ يَحْيَى: وَفِّرْ،

وَاعْمُرْ. وَقَالَ جَعْفَرٌ: أَنْصِفْ وَانْتَصِفْ! فَقَالَ الرَّشِيدُ: اعْدِلْ وَأَحْسِنْ. وَقِيلَ: حَجَّ الرَّشِيدُ مَرَّةً فَدَخَلَ الْكَعْبَةَ، فَرَآهُ بَعْضُ الْحَجَبَةِ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى أَصَابِعِهِ يَقُولُ: يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ، وَيَعْلَمُ ضَمِيرَ الصَّامِتِينَ، فَإِنَّ لِكُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْكَ رَدًّا حَاضِرًا، وَجَوَابًا عَنِيدًا، وَلِكُلِّ صَامِتٍ مِنْكَ عِلْمٌ مُحِيطٌ، نَاطِقٌ بِمَوَاعِيدِكَ الصَّادِقَةِ، وَأَيَادِيكَ الْفَاضِلَةِ، وَرَحْمَتِكَ الْوَاسِعَةِ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا يَا مَنْ لَا تَضُرُّهُ الذُّنُوبُ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ الْغُيُوبُ، وَلَا تَنْقُصُهُ مَغْفِرَةُ الْخَطَايَا، يَا مَنْ كَبَسَ الْأَرْضَ عَلَى الْمَاءِ، وَسَدَّ الْهَوَاءَ بِالسَّمَاءِ، وَاخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَحْسَنَ الْأَسْمَاءِ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَخِرْ لِي فِي جَمِيعِ أُمُورِي، يَا مَنْ خَشَعَتْ لَهُ الْأَصْوَاتُ، بِأَنْوَاعِ اللُّغَاتِ، يَسْأَلُونَهُ الْحَاجَاتِ، إِنَّ مِنْ حَاجَتِي إِلَيْكَ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِذَا تَوَفَّيْتَنِي وَصُيِّرْتُ فِي لَحْدِي، وَتَفَرَّقَ عَنِّي أَهْلِي وَوَلَدِي، اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا يَفْضُلُ كُلَّ حَمْدٍ كَفَضْلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، صَلَاةً تَكُونُ لَهُ رِضًى، وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلَاةً تَكُونُ لَهُ ذُخْرًا، وَاجْزِهِ عَنَّا الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، اللَّهُمَّ أَحْيِنَا سُعَدَاءَ، وَتَوَفَّنَا شُهَدَاءَ، وَاجْعَلْنَا سُعَدَاءَ مَرْزُوقِينَ، وَلَا تَجْعَلْنَا أَشْقِيَاءَ مَحْرُومِينَ. وَقِيلَ: دَخَلَ ابْنُ السَّمَّاكِ عَلَى الرَّشِيدِ، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَهُ إِذْ طَلَبَ مَاءً، فَلَمَّا أَرَادَ شُرْبَهُ قَالَ لَهُ ابْنُ السَّمَّاكِ: مَهْلًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِقَرَابَتِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ مُنِعْتَ هَذِهِ الشَّرْبَةَ، بِكَمْ كُنْتَ تَشْتَرِيهَا؟ قَالَ: بِنِصْفِ مُلْكِي. قَالَ: اشْرَبْ. فَلَمَّا شَرِبَ قَالَ: أَسْأَلُكَ بِقَرَابَتِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ مُنِعْتَ خُرُوجَهَا مِنْ بَدَنِكَ، بِمَاذَا كُنْتَ تَشْتَرِيهَا؟ قَالَ: بِجَمِيعِ مُلْكِي. قَالَ: إِنَّ مُلْكًا لَا يُسَاوِي شَرْبَةَ مَاءٍ، (وَخُرُوجَ بَوْلَةٍ - لَجَدِيرٌ) أَنْ لَا يُنَافَسَ فِيهِ! فَبَكَى الرَّشِيدُ. وَقِيلَ: كَانَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ يَقُولُ: مَا مِنْ نَفْسٍ أَشَدَّ عَلِيَّ مَوْتًا مِنْ هَارُونَ الرَّشِيدِ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ زَادَ مِنْ عُمْرِي فِي عُمْرِهِ. فَعَظُمَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا مَاتَ وَظَهَرَتِ الْفِتَنُ، وَكَانَ مِنَ الْمَأْمُونِ مَا حَمَلَ النَّاسَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ - قَالُوا:

الشَّيْخُ أَعْلَمُ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَنْصُورِ الْبَغْدَادِيُّ: لَمَّا حَبَسَ الرَّشِيدُ أَبَا الْعَتَاهِيَةِ جَعَلَ عَلَيْهِ عَيْنًا يَأْتِيهِ بِمَا يَقُولُ، فَرَآهُ يَوْمًا قَدْ كَتَبَ عَلَى الْحَائِطِ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ الظُّلْمَ لُومُ ... وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي ... وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ الرَّشِيدُ، فَبَكَى، وَأَحْضَرَهُ وَاسْتَحَلَّهُ، وَأَعْطَاهُ أَلْفَ دِينَارٍ. (وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: صَنَعَ الرَّشِيدُ يَوْمًا طَعَامًا كَثِيرًا، وَزَخْرَفَ مَجَالِسَهُ، وَأَحْضَرَ أَبَا الْعَتَاهِيَةِ، فَقَالَ لَهُ: صِفْ لَنَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ نَعِيمِ هَذِهِ الدُّنْيَا) ، فَقَالَ: عِشْ مَا بَدَا لَكَ سَالِمًا ... فِي ظِلِّ شَاهِقَةِ الْقُصُورِ فَقَالَ: أَحْسَنْتَ! ثُمَّ قَالَ: مَاذَا؟ فَقَالَ: يُسْعَى عَلَيْكَ بِمَا اشْتَهَيْتَ ... لَدَى الرَّوَاحِ وَفِي الْبُكُورِ فَقَالَ: أَحْسَنْتَ! ثُمَّ مَاذَا؟ فَقَالَ: فَإِذَا النُّفُوسُ تَقَعْقَعَتْ ... فِي ظِلِّ حَشْرَجَةِ الصُّدُورِ فَهُنَاكَ تَعْلَمُ مُوقِنًا ... مَا كُنْتَ إِلَّا فِي غُرُورِ فَبَكَى الرَّشِيدُ. وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى: بَعَثَ إِلَيْكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لِتَسُرَّهُ، فَحَزَنْتَهُ. فَقَالَ: دَعْهُ، فَإِنَّهُ رَآنَا فِي عَمًى، فَكَرِهَ أَنْ يَزِيدَنَا. خِلَافَةُ الْأَمِينِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ الْأَمِينُ بِالْخِلَافَةِ فِي عَسْكَرِ الرَّشِيدِ، صَبِيحَةَ اللَّيْلَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا، وَكَانَ الْمَأْمُونُ حِينَئِذٍ بِمَرْوَ، فَكَتَبَ حَمَوَيْهِ مَوْلَى الْمَهْدِيِّ، صَاحِبُ الْبَرِيدِ، إِلَى نَائِبِهِ بِبَغْدَاذَ، وَهُوَ سَلَّامٌ أَبُو مُسْلِمٍ، يُعْلِمُهُ بِوَفَاةِ الرَّشِيدِ، فَدَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى الْأَمِينِ فَعَزَّاهُ، وَهَنَّأَهُ بِالْخِلَافَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ النَّاسِ فَعَلَ ذَلِكَ. وَكَتَبَ صَالِحُ بْنُ الرَّشِيدِ إِلَى أَخِيهِ الْأَمِينِ يُخْبِرُهُ بِوَفَاةِ الرَّشِيدِ، مَعَ رَجَاءٍ الْخَادِمِ،

وَأَرْسَلَ مَعَهُ الْخَاتَمَ، وَالْقَضِيبَ، وَالْبُرْدَةَ، فَلَمَّا وَصَلَ رَجَاءٌ انْتَقَلَ الْأَمِينُ مِنْ قَصْرِهِ بِالْخُلْدِ إِلَى قَصْرِ الْخِلَافَةِ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَنَعَى الرَّشِيدَ وَعَزَّى نَفْسَهُ وَالنَّاسَ، وَوَعَدَهُمُ الْخَيْرَ، وَأَمَّنَ الْأَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ، وَفَرَّقَ فِي الْجُنْدِ الَّذِينَ بِبَغْدَاذَ رِزْقَ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَدَعَا إِلَى الْبَيْعَةِ، فَبَايَعَهُ جِلَّةُ أَهْلِ بَيْتِهِ، (وَوَكَّلَ عَمَّ أَبِيهِ سُلَيْمَانَ بْنَ الْمَنْصُورِ بِأَخْذِ الْبَيْعَةِ) عَلَى الْقُوَّادِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَمَرَ السِّنْدِيَّ أَيْضًا بِمُبَايَعَةِ مَنْ عَدَاهُمْ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ابْتَدَأَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ ابْنَيِ الرَّشِيدِ. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الرَّشِيدَ لَمَّا سَارَ نَحْوَ خُرَاسَانَ، وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ لِلْمَأْمُونِ عَلَى جَمِيعِ مَنْ فِي عَسْكَرِهِ مِنَ الْقُوَّادِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَقَرَّ لَهُ بِجَمِيعِ مَا مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا، عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ - عَظُمَ عَلَى الْأَمِينِ ذَلِكَ، ثُمَّ بَلَغَهُ شِدَّةُ مَرَضِ الرَّشِيدِ، فَأَرْسَلَ بَكْرَ بْنَ الْمُعْتَمِرِ، وَكَتَبَ مَعَهُ كُتُبًا، وَجَعَلَهَا فِي قَوَائِمِ صَنَادِيقِ الْمَطْبَخِ، وَكَانَتْ مَنْقُورَةً، وَأَلْبَسَهَا جُلُودَ الْبَقَرِ، وَقَالَ: لَا تُظْهِرَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا غَيْرَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ قُتِلْتَ، فَإِذَا مَاتَ فَادْفَعْ إِلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَا مَعَكَ. فَلَمَّا قَدِمَ بَكْرُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ طُوسَ بَلَغَ هَارُونَ قُدُومُهُ، فَدَعَا بِهِ، وَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ قُدُومِهِ، فَقَالَ: بَعَثَنِي الْأَمِينُ لِآتِيَهُ بِخَبَرِكَ. قَالَ: فَهَلْ مَعَكَ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا. فَأَمَرَ بِمَا مَعَهُ فَفُتِّشَ، فَلَمْ يُصِيبُوا شَيْئًا، فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ، فَلَمْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ، فَحَبَسَهُ وَقَيَّدَهُ، ثُمَّ أَمَرَ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ بِتَقْرِيرِهِ، فَإِنْ أَقَرَّ وَإِلَّا ضَرَبَ عُنُقَهُ، فَقَرَّرَهُ فَلَمْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ، ثُمَّ غُشِيَ عَلَى الرَّشِيدِ، فَصَاحَ النِّسَاءُ، فَأَمْسَكَ الْفَضْلُ عَنْ قَتْلِهِ، وَحَضَرَ عِنْدَ الرَّشِيدِ، فَأَفَاقَ وَهُوَ ضَعِيفٌ قَدْ شُغِلَ عَنْ بَكْرٍ وَغَيْرِهِ ثُمَّ مَاتَ. وَكَانَ بَكْرٌ قَدْ كَتَبَ إِلَى الْفَضْلِ يَسْأَلُهُ أَنْ لَا يُعَجِّلَ فِي أَمْرِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ عِنْدَهُ أَشْيَاءَ يَحْتَاجُ إِلَى عَمَلِهَا، فَأَحْضَرَهُ الْفَضْلُ، وَأَعْلَمَهُ بِمَوْتِ الرَّشِيدِ، وَسَأَلَهُ عَمَّا عِنْدَهُ، فَخَافَ أَنْ

يَكُونُ الرَّشِيدُ حَيًّا، فَلَمَّا تَيَقَّنَ مَوْتَهُ أَخْرَجَ الْكُتُبَ الَّتِي مَعَهُ، وَهِيَ كِتَابٌ إِلَى أَخِيهِ الْمَأْمُونِ يَأْمُرُهُ بِتَرْكِ الْجَزَعِ، وَأَخْذِ الْبَيْعَةِ عَلَى النَّاسِ لَهُمَا وَلِأَخِيهِمَا الْمُؤْتَمَنِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمَأْمُونُ حَاضِرًا، كَانَ بِمَرْوَ، وَكِتَابٌ إِلَى أَخِيهِ صَالِحٍ يَأْمُرُهُ بِتَسْيِيرِ الْعَسْكَرِ وَاسْتِصْحَابِ مَا فِيهِ، وَأَنْ يَتَصَرَّفَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ بِرَأْيِ الْفَضْلِ، وَكِتَابٌ إِلَى الْفَضْلِ يَأْمُرُهُ بِالْحِفْظِ وَالِاحْتِيَاطِ عَلَى مَا مَعَهُ مِنَ الْحُرَمِ وَالْأَمْوَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَقَرَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ عَلَى عَمَلِهِ، كَصَاحِبِ الشُّرْطَةِ وَالْحَرَسِ وَالْحِجَابَةِ. فَلَمَّا قَرَءُوا الْكُتُبَ تَشَاوَرُوا هُمْ وَالْقُوَّادُ فِي اللِّحَاقِ بِالْأَمِينِ، فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ: لَا أَدَعُ مُلْكًا حَاضِرًا لِآخَرَ مَا أَدْرِي مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ. وَأَمَرَ النَّاسَ بِالرَّحِيلِ، فَرَحَلُوا مَحَبَّةً مِنْهُمْ لِأَهْلِهِمْ وَوَطَنِهِمْ، وَتَرَكُوا الْعُهُودَ الَّتِي كَانَتْ أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ لِلْمَأْمُونِ. فَلَمَّا بَلَغَ الْمَأْمُونَ ذَلِكَ جَمَعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ قُوَّادِ أَبِيهِ، وَهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ، وَيَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ، وَشَبِيبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ قَحْطَبَةَ، وَالْعَلَاءُ مَوْلَى هَارُونَ، وَهُوَ عَلَى حِجَابَتِهِ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْمُسَيَّبِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَهُوَ عَلَى شُرْطَتِهِ، وَأَيُّوبُ بْنُ أَبِي سَمِيرٍ، وَهُوَ عَلَى كِتَابَتِهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ، وَذُو الرِّيَاسَتَيْنِ، وَهُوَ أَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ قَدْرًا، وَأَخَصُّهُمْ بِهِ، وَاسْتَشَارَهُمْ، فَأَشَارُوا أَنْ يَلْحَقَهُمْ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ جَرِيدَةً، فَيَرُدَّهُمْ، فَخَلَا بِهِ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ وَقَالَ: إِنْ فَعَلْتَ مَا أَشَارَ بِهِ هَؤُلَاءِ جَعَلُوكَ هَدِيَّةً إِلَى أَخِيكَ، وَلَكِنَّ الرَّأْيَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا وَتُوَجِّهَ رَسُولًا يُذَكِّرُهُمُ الْبَيْعَةَ، وَيَسْأَلُهُمُ الْوَفَاءَ، وَيُحَذِّرُهُمُ الْحِنْثَ وَمَا فِيهِ دُنْيَا وَآخِرَةٌ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهَ سَهْلَ بْنَ صَاعِدٍ، وَنَوْفَلًا الْخَادِمَ، وَمَعَهُمَا كِتَابٌ، فَلَحِقَا الْجُنْدَ وَالْفَضْلَ بِنَيْسَابُورَ، فَأَوْصَلَا إِلَى الْفَضْلِ كِتَابَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا وَاحِدٌ مِنَ الْجُنْدِ. وَشَدَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبَلَةَ الْأَنْبَارِيُّ عَلَى سَهْلٍ بِالرُّمْحِ لِيَطْعَنَهُ، فَأَمَرَّهُ عَلَى جَنْبِهِ، وَقَالَ لَهُ: قُلْ لِصَاحِبِكَ: لَوْ كُنْتَ حَاضِرًا لَوَضَعْتُهُ فِي فِيكَ. وَسَبَّ الْمَأْمُونَ. فَرَجَعَا إِلَيْهِ بِالْخَبَرِ، فَقَالَ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ: أَعْدَاءٌ اسْتَرَحْتَ مِنْهُمْ، وَلَكِنِ افْهَمْ عَنِّي؛ إِنَّ هَذِهِ الدَّوْلَةَ لَمْ تَكُنْ قَطُّ أَعَزَّ مِنْهَا أَيَّامَ الْمَنْصُورِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْمُقَنَّعُ وَهُوَ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ، وَقِيلَ طَلَبَ بِدَمِ أَبِي مُسْلِمٍ، فَضَعْضَعَ الْعَسْكَرَ بِخُرُوجِهِ بِخُرَاسَانَ، وَخَرَجَ بَعْدَهُ يُوسُفُ

الْبَرْمِ، وَهُوَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَافِرٌ، فَتَضَعْضَعُوا أَيْضًا لَهُ، فَأَخْبِرْنِي أَنْتَ، أَيُّهَا الْأَمِيرُ، كَيْفَ رَأَيْتَ النَّاسَ عِنْدَمَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ خَبَرُ رَافِعٍ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُمُ اضْطَرَبُوا اضْطِرَابًا شَدِيدًا. قَالَ: فَكَيْفَ بِكَ وَأَنْتَ نَازِلٌ فِي أَخْوَالِكَ وَبَيْعَتُكَ فِي أَعْنَاقِهِمْ، كَيْفَ يَكُونُ اضْطِرَابُ أَهْلِ بَغْدَاذَ؟ اصْبِرْ، وَأَنَا أَضْمَنُ لَكَ الْخِلَافَةَ. قَالَ الْمَأْمُونُ: قَدْ فَعَلْتُ، وَجَعَلْتُ الْأَمْرَ إِلَيْكَ، فَقُمْ بِهِ. قَالَ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ: وَاللَّهِ لَأَصْدُقَنَّكَ، إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَالِكٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْقُوَّادِ إِنْ قَامُوا لَكَ بِالْأَمْرِ كَانُوا أَنْفَعَ لَكَ مِنِّي بِرِيَاسَتِهِمُ الْمَشْهُورَةِ، وَبِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى الْحَرْبِ، فَمَنْ قَامَ بِالْأَمْرِ كُنْتُ خَادِمًا لَهُ، حَتَّى تَبْلُغَ أَمَلَكَ وَتَرَى رَأْيَكَ. وَقَامَ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ وَأَتَاهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَذَكَّرَهُمْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَفَاءِ، قَالَ: فَكَأَنِّي جِئْتُهُمْ بِجِيفَةٍ عَلَى طَبَقٍ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا لَا يَحِلُّ، اخْرُجْ! وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنِ الَّذِي يَدْخُلُ بَيْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَخِيهِ؟ فَجِئْتُ وَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: قُمْ بِالْأَمْرِ! قَالَ: قُلْتُ لَهُ: قَرَأْتَ الْقُرْآنَ، وَسَمِعْتَ الْأَحَادِيثَ، وَتَفَقَّهْتَ فِي الدِّينِ، فَأَرَى أَنْ تَبْعَثَ إِلَى مَنْ بِحَضْرَتِكَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فَتَدْعُوهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِهِ وَإِحْيَاءِ السُّنَّةِ، وَتَقْعُدَ عَلَى الصُّوفِ، وَتَرُدَّ الْمَظَالِمَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ، وَأَكْرَمَهُ الْقُوَّادُ وَالْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ، وَكَانَ يَقُولُ لِلتَّمِيمِيِّ: نُقِيمُكَ مَقَامَ مُوسَى بْنِ كَعْبٍ، وَلِلرِّبْعِيِّ: نُقِيمُكَ مَقَامَ أَبِي دَاوُدَ، وَخَالِدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَلِلِيمَانِيِّ: نُقِيمُكَ مَقَامَ قَحْطَبَةَ، وَمَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ. وَكُلُّ هَؤُلَاءِ نُقَبَاءُ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَوَضَعَ عَنْ خُرَاسَانَ رُبْعَ الْخَرَاجِ، فَحَسُنَ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِهَا، وَقَالُوا: ابْنُ أُخْتِنَا، وَابْنُ عَمِّ نَبِيِّنَا. وَأَمَّا الْأَمِينُ، فَلَمَّا سَكَنَ النَّاسُ بِبَغْدَاذَ أَمَرَ بِبِنَاءِ مَيْدَانٍ حَوْلَ قَصْرِ الْمَنْصُورِ بَعْدَ بَيْعَتِهِ بِيَوْمٍ، [لِلصَّوَالِجَةِ وَاللَّعِبِ] ، فَقَالَ شَاعِرُهُمْ: بَنَى أَمِينُ اللَّهِ مَيْدَانَا ... وَصَيَّرَ السَّاحَةَ بُسْتَانَا وَكَانَتِ الْغِزْلَانُ فِيهِ بَانَا ... يُهْدَى إِلَيْهِ فِيهِ غِزْلَانَا

وَأَقَامَ الْمَأْمُونُ يَتَوَلَّى مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ خُرَاسَانَ وَالرَّيِّ، وَأَهْدَى إِلَى الْأَمِينِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ وَعَظَّمَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ حَائِطَ سَمَرْقَنْدَ، فَأَرْسَلَ رَافِعَ بْنَ اللَّيْثِ إِلَى التُّرْكِ، فَأَتَوْهُ، وَصَارَ هَرْثَمَةُ بَيْنَ رَافِعٍ وَالتُّرْكِ، ثُمَّ إِنَّ التُّرْكَ انْصَرَفُوا، فَضَعُفَ رَافِعٌ. وَفِيهَا قَدِمَتْ زُبَيْدَةُ امْرَأَةُ الرَّشِيدِ مِنَ الرَّقَّةِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَقِيَهَا ابْنُهَا الْأَمِينُ بِالْأَنْبَارِ، وَمَعَهُ جَمْعٌ مِنْ بَغْدَاذَ مِنَ الْوُجُوهِ، وَكَانَ مَعَهُ أَخُوهُ ابْنُ الرَّشِيدِ. وَفِيهَا قُتِلَ نِقْفُورُ مَلِكُ الرُّومِ فِي حَرْبِ بُرْجَانَ، وَكَانَ مَلَكَ سَبْعَ سِنِينَ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ اسْتَبْرَاقُ، وَكَانَ مَجْرُوحًا، فَبَقِيَ شَهْرَيْنِ وَمَاتَ، فَمَلَكَ بَعْدَهُ مِيخَائِيلُ بْنُ جُورْجِسَ، خَتَنُهُ عَلَى أُخْتِهِ. وَفِيهَا عَزَلَ الْأَمِينُ أَخَاهُ الْقَاسِمَ الْمُؤْتَمَنَ عَنِ الْجَزِيرَةِ، وَأَقَرَّهُ عَلَى قِنَّسْرِينَ وَالْعَوَاصِمِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْجَزِيرَةِ خُزَيْمَةَ بْنَ خَازِمٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَمِيرُ مَكَّةَ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ صِقْلَابُ بْنُ زِيَادٍ الْأَنْدَلُسِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَكَانَ فَقِيهًا زَاهِدًا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَّارِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ [وَمِائَةٍ] فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ. وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، وَلَهُ سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً. (عَيَّاشٌ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ، وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ) .

ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ] 194 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ خِلَافِ أَهْلِ حِمْصٍ عَلَى الْأَمِينِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ أَهْلُ حِمْصٍ عَلَى الْأَمِينِ، وَعَلَى عَامِلِهِمْ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، فَانْتَقَلَ عَنْهُمْ إِلَى سَلَمْيَةَ، فَعَزَلَهُ الْأَمِينُ وَاسْتَعْمَلَ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ الْحَرَشِيَّ، فَقَتَلَ عِدَّةً مِنْ وُجُوهِهِمْ، وَحَبَسَ عِدَّةً، وَأَلْقَى النَّارَ فِي نَوَاحِيهَا، فَسَأَلُوا الْأَمَانَ فَأَجَابَهُمْ، ثُمَّ هَاجُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَ عِدَّةً مِنْهُمْ. ذِكْرُ ظُهُورِ الْخِلَافِ بَيْنَ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْأَمِينُ بِالدُّعَاءِ عَلَى الْمَنَابِرِ لِابْنِهِ مُوسَى. وَكَانَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ لَمَّا قَدِمَ الْعِرَاقَ مِنْ طُوسَ، وَنَكَثَ عَهْدَ الْمَأْمُونِ، أَفْكَرَ فِي أَمْرِهِ، وَعَلِمَ أَنَّ الْمَأْمُونَ إِنْ أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ وَهُوَ حَيٌّ - لَمْ يُبْقِ عَلَيْهِ، فَسَعَى فِي إِغْرَاءِ الْأَمِينِ، وَحَثِّهِ عَلَى خَلْعِ الْمَأْمُونِ وَالْبَيْعَةِ لِابْنِهِ مُوسَى بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي عَزْمِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ، فَلَمْ يَزَلِ الْفَضْلُ يُصَغِّرُ عِنْدَهُ أَمْرَ الْمَأْمُونِ، وَيُزَيِّنُ لَهُ خَلْعَهُ، وَقَالَ لَهُ: مَا تَنْتَظِرُ بِعَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمِ، فَإِنَّ الْبَيْعَةَ كَانَتْ لَكَ قَبْلَهُمَا، وَإِنَّمَا أُدْخِلَا فِيهَا بَعْدَكَ. وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ، وَالسِّنْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا، فَرَجَعَ الْأَمِينُ إِلَى قَوْلِهِمْ. ثُمَّ إِنَّهُ أَحْضَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَازِمٍ، فَلَمْ يَزَلْ فِي مُنَاظَرَتِهِ حَتَّى انْقَضَى اللَّيْلُ، وَكَانَ مِمَّا

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أُنْشِدُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ تَكُونَ أَوَّلَ الْخُلَفَاءِ نَكَثَ عَلَى عَهْدِهِ، وَنَقَضَ مِيثَاقَهُ، وَرَدَّ رَأْيَ الْخَلِيفَةِ قَبْلَهُ، (فَقَالَ) [الْأَمِينُ] : اسْكُتْ! فَعَبْدُ الْمَلِكِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْكَ رَأْيًا، وَأَكْمَلَ نَظَرًا، يَقُولُ: لَا يَجْتَمِعُ فَحْلَانِ فِي أَجَمَةٍ. ثُمَّ جَمَعَ الْقُوَّادَ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ خَلْعَ الْمَأْمُونِ، فَأَبَوْا ذَلِكَ، وَرُبَّمَا سَاعَدَهُ قَوْمٌ حَتَّى بَلَغَ إِلَى خُزَيْمَةَ بْنِ خَازِمٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَمْ يَنْصَحْكَ مَنْ كَذَبَكَ، وَلَمْ يَغُشَّكَ مَنْ صَدَقَكَ، لَا تُجَرِّئِ الْقُوَّادَ عَلَى الْخَلْعِ فَيَخْلَعُوكَ، وَلَا تَحْمِلْهُمْ عَلَى نَكْثِ الْعَهْدِ فَيَنْكُثُوا عَهْدَكَ وَبَيْعَتَكَ، فَإِنَّ الْغَادِرَ مَخْذُولٌ، وَالنَّاكِثَ مَغْلُولٌ. فَأَقْبَلَ الْأَمِينُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: لَكِنَّ شَيْخَ الدَّعْوَةِ، وَنَائِبَ هَذِهِ الدَّوْلَةِ، لَا يُخَالِفُ عَلَى إِمَامِهِ، وَلَا يُوهِنُ طَاعَتَهُ. ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَى مَوْضِعٍ لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَيْهِ قَبْلَهَا، لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ وَالْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ يُعِينَانِهِ عَلَى الْخَلْعِ. وَلَجَّ الْأَمِينُ فِي خَلْعِ الْمَأْمُونِ، حَتَّى إِنَّهُ قَالَ يَوْمًا لِلْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ: يَا فَضْلُ! أَحَيَاةٌ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ؟ لَا بُدَّ مِنْ خَلْعِهِ. وَالْفَضْلُ يَعِدُهُ وَهُوَ يَقُولُ: فَمَتَى ذَلِكَ؟ إِذَا غَلَبَ عَلَى خُرَاسَانَ وَمَا فِيهَا؟ ! فَأَوَّلُ مَا فَعَلَهُ أَنْ كَتَبَ إِلَى جَمِيعِ الْعُمَّالِ بِالدُّعَاءِ لِابْنِهِ مُوسَى بِالْإِمْرَةِ، بَعْدَ الدُّعَاءِ لِلْمَأْمُونِ وَلِلْمُؤْتَمَنِ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَأْمُونَ، مَعَ عَزْلِ الْمُؤْتَمَنِ عَمَّا كَانَ بِيَدِهِ، أَسْقَطَ اسْمَ الْأَمِينِ مِنَ الطُّرُزِ، وَقَطَعَ الْبَرِيدَ عَنْهُ. وَكَانَ رَافِعُ بْنُ اللَّيْثِ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، لَمَّا بَلَغَهُ حُسْنُ سِيرَةِ الْمَأْمُونِ طَلَبَ الْأَمَانَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَحَضَرَ عِنْدَ الْمَأْمُونِ، وَأَقَامَ هَرْثَمَةَ بِسَمَرْقَنْدَ وَمَعَهُ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ قَدِمَ هَرْثَمَةُ عَلَى الْمَأْمُونِ، فَأَكْرَمَهُ وَوَلَّاهُ الْحَرَسَ. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْأَمِينُ، فَكَانَ مِمَّا وَتَرَ عَلَيْهِ أَنْ كَتَبَ إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

مَالِكٍ، وَهُوَ عَامِلُ الْمَأْمُونِ عَلَى الرَّيِّ، يَأْمُرُهُ أَنْ يُنْفِذَ بِغَرَائِبِ غُرُوسِ الرَّيِّ، يُرِيدُ امْتِحَانَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِمَا أَمَرَهُ، وَكَتَمَ ذَلِكَ عَنِ الْمَأْمُونِ وَذِي الرِّيَاسَتَيْنِ، فَبَلَغَ الْمَأْمُونَ، (فَعَزَلَهُ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَأْمُونِيِّ. ثُمَّ وَجَّهَ الْأَمِينُ إِلَى الْمَأْمُونِ أَرْبَعَةَ) أَنْفُسٍ، وَهُمُ: الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعِيسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْمَنْصُورِ، وَصَالِحٌ صَاحِبُ الْمُصَلَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ نَهِيكٍ، وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ ابْنَهُ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ (وَيَحْضُرَ عِنْدَهُ، فَقَدِ اسْتَوْحَشَ لِبُعْدِهِ) ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ الْمَأْمُونَ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ بِالرَّيِّ وَنَيْسَابُورَ وَغَيْرِهِمَا، يَأْمُرُهُمْ بِإِظْهَارِ الْعُدَّةِ وَالْقُوَّةِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَقَدِمَ الرُّسُلُ عَلَى الْمَأْمُونِ، وَأَبْلَغُوهُ الرِّسَالَةَ، وَكَانَ ابْنُ مَاهَانَ أَشَارَ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَ الْأَمِينَ أَنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ مَعَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ الْمَأْمُونُ هَذِهِ الرِّسَالَةَ اسْتَشَارَ الْفَضْلَ بْنَ سَهْلٍ فَقَالَ لَهُ: أَحْضِرْ هِشَامًا وَالِدَ عَلِيٍّ وَأَحْمَدَ ابْنَيْ هِشَامٍ، وَاسْتَشِرْهُ. فَأَحْضَرَهُ، وَاسْتَشَارَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا أَخَذْتَ الْبَيْعَةَ عَلَيْنَا عَلَى أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ خُرَاسَانَ، فَمَتَى فَعَلَ مُحَمَّدٌ ذَلِكَ فَلَا بَيْعَةَ لَهُ فِي أَعْنَاقِنَا، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَمَتَى هَمَمْتَ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ تَعَلَّقْتُ بِكَ بِيَمِينِي، فَإِذَا قُطِعَتْ تَعَلَّقْتُ بِيَسَارِي، فَإِنْ قُطِعَتْ تَعَلَّقْتُ بِلِسَانِي، فَإِذَا ضُرِبَتْ عُنُقِي كُنْتُ أَدَّيْتُ مَا عَلَيَّ. فَقَوِيَ عَزْمُ الْمَأْمُونِ عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَأَحْضَرَ الْعَبَّاسَ وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا يَحْضُرُ، (وَأَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ) ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى: مَا عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا جَدِّي عِيسَى بْنُ مُوسَى قَدْ خُلِعَ فَمَا ضَرَّهُ. فَصَاحَ بِهِ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ: اسْكُتْ! إِنَّ جَدَّكَ كَانَ أَسِيرًا فِي أَيْدِيهِمْ، وَهَذَا بَيْنَ أَخْوَالِهِ وَشِيعَتِهِ. ثُمَّ قَامُوا، فَخَلَا ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ بِالْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى وَاسْتَمَالَهُ، وَوَعَدَهُ إِمْرَةَ الْمَوْسِمِ، وَمَوَاضِعَ مِنْ مِصْرَ، فَأَجَابَ إِلَى بَيْعَةِ الْمَأْمُونِ، وَسُمِّيَ الْمَأْمُونُ ذَلِكَ الْوَقْتَ بِالْإِمَامِ، فَكَانَ الْعَبَّاسُ يَكْتُبُ إِلَيْهِمْ بِالْأَخْبَارِ مِنْ بَغْدَادَ.

وَرَجَعَ الرُّسُلُ إِلَى الْأَمِينِ، فَأَخْبَرُوهُ بِامْتِنَاعِ الْمَأْمُونِ، وَأَلَحَّ الْفَضْلُ وَعَلِيُّ بْنُ عِيسَى عَلَى الْأَمِينِ فِي خَلْعِ الْمَأْمُونِ وَالْبَيْعَةِ لِابْنِهِ مُوسَى بْنِ الْأَمِينِ. وَكَانَ الْأَمِينُ قَدْ كَتَبَ إِلَى الْمَأْمُونِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَنْزِلَ عَنْ بَعْضِ كُوَرِ خُرَاسَانَ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ عِنْدَهُ صَاحِبُ الْبَرِيدِ يُكَاتِبُهُ بِالْأَخْبَارِ، فَاسْتَشَارَ الْمَأْمُونُ خَوَاصَّهُ وَقُوَّادَهُ، فَأَشَارُوا بِاحْتِمَالِ هَذَا الشَّرِّ وَالْإِجَابَةِ إِلَيْهِ، خَوْفًا مِنْ شَرٍّ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ. فَقَالَ لَهُمُ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَمِينَ طَلَبَ مَا لَيْسَ لَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ! وَيُحْتَمَلُ ذَلِكَ لِضَرَرِ مَنْعِهِ. قَالَ: فَهَلْ تَثِقُونَ بِكَفِّهِ بَعْدَ إِجَابَتِهِ، فَلَا يَطْلُبُ غَيْرَهَا؟ قَالُوا: لَا! قَالَ: فَإِنْ طَلَبَ غَيْرَهَا، فَمَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: نَمْنَعُهُ، فَهَذَا خِلَافُ مَا سَمِعْنَاهُ مِنْ قَوْلِ الْحُكَمَاءِ. قَالَ: اسْتَصْلِحْ عَاقِبَةَ أَمْرِكَ بِاحْتِمَالِ مَا عَرَضَ مِنْ مَكْرُوهِهِ فِي يَوْمِكَ، وَلَا تَلْتَمِسْ هُدْنَةَ يَوْمِكَ بِإِخْطَارٍ أَدْخَلْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ فِي غَدِكَ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ لِذِي الرِّيَاسَتَيْنِ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَسْعَدَكَ اللَّهُ، هَلْ تُؤْمِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَمِينُ طَالَبَكَ بِفَضْلِ قُوَّتِكَ لِيَسْتَظْهِرَ بِهَا عَلَيْكَ؟ بَلْ إِنَّمَا أَشَارَ الْحُكَمَاءُ بِحَمْلِ ثِقْلٍ تَرْجُونَ بِهِ صَلَاحَ الْعَاقِبَةِ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: بِإِيثَارِ دَعَةِ الْعَاجِلِ صَارَ إِلَى فَسَادِ الْعَاقِبَةِ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ. فَامْتَنَعَ الْمَأْمُونُ مِنْ إِجَابَتِهِ إِلَى مَا طَلَبَ. وَأَنْفَذَ الْمَأْمُونُ ثِقَتَهُ إِلَى الْحَدِّ، فَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنَ الْعُبُورِ إِلَى بِلَادِهِ إِلَّا مَعَ ثِقَةٍ مِنْ نَاحِيَتِهِ، فَحَظَّرَ أَهْلَ خُرَاسَانَ أَنْ يُسْتَمَالُوا بِرَغْبَةٍ أَوْ رَهْبَةٍ، وَضَبَطَ الطُّرُقَ بِثِقَاتِ أَصْحَابِهِ، فَلَمْ يُمَكِّنُوا مِنْ دُخُولِ خُرَاسَانَ إِلَّا مَنْ عَرَفُوهُ، وَأَتَى بِجَوَازٍ، أَوْ [كَانَ] تَاجِرًا مَعْرُوفًا، وَفُتِّشَتِ الْكُتُبُ. وَقِيلَ: لَمَّا أَرَادَ الْأَمِينُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْمَأْمُونِ يَطْلُبُ بَعْضَ كُوَرِ خُرَاسَانَ قَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ صُبَيْحٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا مِمَّا يُقَوِّي التُّهْمَةَ، وَيُنَبِّهُ عَلَى الْحَذَرِ،

وَلَكِنِ اكْتُبْ إِلَيْهِ فَأَعْلِمْهُ حَاجَتَكَ، وَمَا تُحِبُّ مِنْ قُرْبِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى مَا وَلَّاكَ اللَّهُ، وَتَسْأَلُهُ الْقُدُومَ عَلَيْكَ، لِتَرْجِعَ إِلَى رَأْيِهِ فِيمَا تَفْعَلُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَسَيَّرَ الْكِتَابَ مَعَ نَفَرٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَبْلُغُوا الْجَهْدَ فِي إِحْضَارِهِ، وَسَيَّرَ مَعَهُمُ الْهَدَايَا الْكَثِيرَةَ، فَلَمَّا حَضَرَ الرُّسُلُ عِنْدَهُ، وَقَرَأَ الْكِتَابَ وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِإِجَابَةِ الْأَمِينِ، وَأَعْلَمُوهُ مَا فِي إِجَابَتِهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، فَأَحْضَرَ ذَا الرِّيَاسَتَيْنِ، وَأَقْرَأَهُ الْكِتَابَ وَاسْتَشَارَهُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمُلَازَمَةِ خُرَاسَانَ، وَخَوَّفَهُ مِنَ الْقُرْبِ مِنَ الْأَمِينِ، فَقَالَ: لَا يُمْكِنُنِي مُخَالَفَتُهُ، وَأَكْثَرُ الْقُوَّادِ وَالْأَمْوَالِ مَعَهُ، وَالنَّاسُ مَائِلُونَ إِلَى الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ، لَا يَرْغَبُونَ فِي حِفْظِ عَهْدٍ وَلَا أَمَانَةٍ، وَلَسْتُ فِي قُوَّةٍ حَتَّى أَمْتَنِعَ، وَقَدْ فَارَقَ جَيْغَوَيْهِ الطَّاعَةَ، وَالْتَوَى خَاقَانُ مَلِكُ التُّبَّتِ، وَمَلِكُ الْكَابُلِ قَدِ اسْتَعَدَّ لِلْغَارَةِ عَلَى مَا يَلِيهِ، وَمَلِكُ أَتْرَادِبَنْدَهْ قَدْ مَنَعَ الضَّرِيبَةَ، وَمَالِي بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ بُدٌّ، وَلَا أَرَى إِلَّا تَخْلِيَةَ مَا أَنَا فِيهِ، وَاللِّحَاقَ بِخَاقَانَ مَلِكِ التُّرْكِ، وَالِاسْتِجَارَةَ بِهِ؛ لَعَلِّي آمَنُ عَلَى نَفْسِي. فَقَالَ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ: إِنَّ عَاقِبَةَ الْغَدْرِ شَدِيدَةٌ، وَتَبِعَةَ الْبَغْيِ غَيْرُ مَأْمُونَةٍ، وَرُبَّ مَقْهُورٍ قَدْ عَادَ قَاهِرًا، وَلَيْسَ النَّصْرُ بِالْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، وَالْمَوْتُ أَيْسَرُ مِنَ الذُّلِّ وَالضَّيْمِ، وَمَا أَرَى أَنْ تَصِيرَ إِلَى أَخِيكَ مُتَجَرِّدًا مِنْ قُوَّادِكَ وَجُنْدِكَ، كَالرَّأْسِ الَّذِي فَارَقَ بَدَنَهُ، فَتَكُونَ عِنْدَهُ كَبَعْضِ رَعِيَّتِهِ، يَجْرِي عَلَيْكَ حُكْمُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُبْلِيَ عُذْرًا فِي قِتَالٍ، وَاكْتُبْ إِلَى جَيْغَوَيْهِ وَخَاقَانَ، فَوَلِّهِمَا بِلَادَهُمَا، وَابْعَثْ إِلَى مَلِكِ كَابُلَ بِبَعْضِ هَدَايَا خُرَاسَانَ، وَوَادِعْهُ، وَاتْرُكْ لِمَلِكِ أَتْرَادِبَنْدَهْ ضَرِيبَتَهُ، ثُمَّ اجْمَعْ أَطْرَافَكَ، وَضُمَّ جُنْدَكَ، وَاضْرِبِ الْخَيْلَ بِالْخَيْلِ، وَالرِّجَالَ بِالرِّجَالِ، فَإِنْ ظَفِرْتَ وَإِلَّا لَحِقْتَ بِخَاقَانَ. فَعَرَفَ الْمَأْمُونُ صِدْقَهُ، فَفَعَلَ مَا أَشَارَ بِهِ، فَرَضَى أُولَئِكَ الْمُلُوكَ الْعُصَاةَ، وَضَمَّ جُنْدَهُ، وَجَمَعَهُمْ عِنْدَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْأَمِينِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ وَصَلَ [إِلَيَّ] كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا أَنَا عَامِلٌ مِنْ عُمَّالِهِ، وَعَوْنٌ مِنْ أَعْوَانِهِ، أَمَرَنِي الرَّشِيدُ بِلُزُومِ [هَذَا] الثَّغْرِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ مُقَامِي بِهِ أَرَدُّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَعْظَمُ غَنَاءً عَنِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشُّخُوصِ

إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ كُنْتُ مُغْتَبِطًا بِقُرْبِهِ، مَسْرُورًا بِمُشَاهَدَةِ نِعْمَةِ اللَّهِ عِنْدَهُ، فَإِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقِرَّنِي عَلَى عَمَلِي وَيُعْفِيَنِي مِنَ الشُّخُوصِ [إِلَيْهِ] فَعَلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمَّا قَرَأَ الْأَمِينُ كِتَابَ الْمَأْمُونِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُتَابِعُهُ عَلَى مَا يُرِيدُهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَنْزِلَ عَنْ بَعْضِ كُوَرِ خُرَاسَانَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَلَمَّا امْتَنَعَ الْمَأْمُونُ أَيْضًا مِنْ إِجَابَتِهِ إِلَى مَا طَلَبَ، أَرْسَلَ جَمَاعَةً لِيُنَاظِرُوهُ فِي مَنْعِ مَا طَلَبَ مِنْهُ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الرَّيِّ مُنِعُوا، وَوَجَدُوا تَدْبِيرَهُ مُحْكَمًا، وَحُفِظُوا فِي حَالِ سَفَرِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ مِنْ أَنْ يُخْبِرُوا وَيُسْتَخْبَرُوا، وَكَانُوا مُعَدِّينَ لِوَضْعِ الْأَخْبَارِ فِي الْعَامَّةِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعُوا أَخْبَرُوا الْأَمِينَ بِمَا رَأَوْا. وَقِيلَ إِنَّ الْأَمِينَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى خَلْعِ الْمَأْمُونِ، وَزَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلُ وَابْنُ مَاهَانَ، دَعَا يَحْيَى بْنَ سُلَيْمٍ، وَشَاوَرَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ تَفْعَلُ ذَلِكَ مَعَ مَا قَدْ أَكَّدَ الرَّشِيدُ مِنْ بَيْعَتِهِ، وَأَخَذَ الشَّرَائِطَ وَالْأَيْمَانَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ؟ فَقَالَ الْأَمِينُ: إِنَّ رَأْيَ الرَّشِيدِ كَانَ فَلْتَةً شَبَّهَهَا عَلَيْهِ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى، فَلَا يَنْفَعُنَا مَا نَحْنُ فِيهِ إِلَّا بِخَلْعِهِ وَقَلْعِهِ وَاحْتِشَاشِهِ. فَقَالَ يَحْيَى: إِذَا كَانَ رَأْيُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ خَلْعَهُ، فَلَا تُجَاهِرْهُ فَيَسْتَنْكِرَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ تَسْتَدْعِي الْجُنْدَ بَعْدَ الْجُنْدِ، وَالْقَائِدَ بَعْدَ الْقَائِدِ، وَتُؤْنِسُهَا بِالْأَلْطَافِ وَالْهَدَايَا، وَتُفَرِّقُ ثِقَاتَهُ وَمَنْ مَعَهُ، وَتُرَغِّبُهُمْ بِالْأَمْوَالِ، فَإِذَا وَهَّنْتَ قُوَّتَهُ، وَاسْتَفْرَغْتَ رِجَالَهُ، أَمْرْتَهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْكَ، فَإِنْ قَدِمَ صَارَ إِلَى الَّذِي تُرِيدُ مِنْهُ، وَإِنْ أَبَى كُنْتَ قَدْ تَنَاوَلْتَهُ وَقَدْ كَلَّ حَدُّهُ وَانْقَطَعَ عِزُّهُ. فَقَالَ الْأَمِينُ: أَنْتَ مِهْذَارٌ خَطِيبٌ، وَلَسْتَ بِذِي رَأْيٍ مُصِيبٍ، قُمْ فَالْحَقْ بِمِدَادِكَ وَأَقْلَامِكَ. وَكَانَ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ قَدِ اتَّخَذَ قَوْمًا يَثِقُ بِهِمْ بِبَغْدَاذَ يُكَاتِبُونَهُ بِالْأَخْبَارِ، وَكَانَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ قَدْ حَفِظَ الطُّرُقَ، وَكَانَ أَحَدُ أُولَئِكَ النَّفَرِ إِذَا كَاتَبَ ذَا الرِّيَاسَتَيْنِ بِمَا تَجَدَّدَ بِبَغْدَاذَ، سَيَّرَ الْكِتَابَ مَعَ امْرَأَةٍ، وَجَعَلَهُ فِي عُودِ أَكْفَافٍ، وَتَسِيرُ

كَالْمُجْتَازَةِ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ، فَلَمَّا أَلَحَّ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ فِي خَلْعِ الْمَأْمُونِ أَجَابَهُ الْأَمِينُ إِلَى ذَلِكَ وَبَايَعَ لِوَلَدِهِ مُوسَى فِي صَفَرٍ، وَقِيلَ: فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَسَمَّاهُ النَّاطِقَ بِالْحَقِّ، وَنَهَى عَنْ ذِكْرِ الْمَأْمُونِ وَالْمُؤْتَمَنِ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْكَعْبَةِ بَعْضَ الْحَجَبَةِ، فَأَتَاهُ بِالْكِتَابَيْنِ اللَّذَيْنِ وَضَعَهُمَا الرَّشِيدُ فِي الْكَعْبَةِ بِبَيْعَةِ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ، فَأَحْضَرَهُمَا عِنْدَهُ فَمَزَّقَهُمَا الْفَضْلُ. فَلَمَّا أَتَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى الْمَأْمُونِ بِذَلِكَ قَالَ لِذِي الرِّيَاسَتَيْنِ: هَذِهِ أُمُورٌ أَخْبَرَ الرَّأْيُ عَنْهَا، وَكَفَانَا أَنْ نَكُونَ مَعَ الْحَقِّ. فَكَانَ أَوَّلَ مَا دَبَّرَهُ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ حِينَ بَلَغَهُ الدُّعَاءُ لِلْمَأْمُونِ وَصَحَّ عِنْدَهُ - أَنْ جَمَعَ الْأَجْنَادَ الَّذِينَ كَانَ اتَّخَذَهُمْ بِجَنَبَاتِ الرَّيِّ مَعَ الْأَجْنَادِ الَّذِينَ كَانُوا بِهَا، وَمَدَّهُمْ بِالْأَقْوَاتِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَتِ الْبِلَادُ عِنْدَهُمْ قَدْ أَجْدَبَتْ، فَأَكْثَرَ عِنْدَهُمْ مَا يُرِيدُونَهُ، حَتَّى صَارُوا فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ، وَأَقَامُوا بِالْحَدِّ لَا يَتَجَاوَزُونَهُ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ (طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ أَسْعَدَ أَبَا الْعَبَّاسِ الْخُزَاعِيَّ أَمِيرًا فِيمَنْ ضُمَّ إِلَيْهِ) مِنْ قُوَّادِهِ وَأَجْنَادِهِ، فَسَارَ مُجِدًّا حَتَّى وَرَدَ الرَّيَّ فَنَزَلَهَا، فَوَضَعَ الْمَسَالِحَ وَالْمَوَاصِلَ، فَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ خُرَاسَانَ: رَمَى أَهْلَ الْعِرَاقِ وَمَنْ عَلَيْهَا ... إِمَامُ الْعَدْلِ وَالْمَلِكُ الرَّشِيدُ بِأَحْزَمِ مَنْ نَشَا رَأْيًا وَحَزْمًا ... وَكَيْدًا نَافِذًا مِمَّا يَكِيدُ بِدَاهِيَةٍ تَأَدَّى خَنْفَقِيقٍ ... يَشِيبُ لِهَوْلِ صَوْلَتِهَا الْوَلِيدُ فَأَمَّا الْأَمِينُ فَإِنَّهُ وَجَّهَ عِصْمَةَ بْنَ حَمَّادِ بْنِ سَالِمٍ إِلَى هَمَذَانَ فِي أَلْفِ رَجُلٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُوَجِّهَ مُقَدِّمَتَهُ إِلَى سَاوَةَ، وَيُقِيمَ بِهَمَذَانَ، وَجَعَلَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَعَلِيُّ بْنُ عِيسَى يَبْعَثَانِ الْأَمِينَ وَيُغْرِيَانِهِ بِحَرْبِ الْمَأْمُونِ. وَلَمَّا بَايَعَ الْأَمِينُ لِوَلَدِهِ مُوسَى جَعَلَهُ فِي حُجْرِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، وَجَعَلَ عَلَى شُرَطِهِ

مُحَمَّدَ بْنَ عِيسَى بْنِ نَهِيكٍ، وَعَلَى حَرَسِهِ عُثْمَانَ بْنَ عِيسَى بْنِ نَهِيكٍ، وَعَلَى رَسَائِلِهِ عَلِيَّ بْنَ صَالِحٍ الْمُصَلَّى. ذِكْرُ خِلَافِ أَهْلِ تُونِسَ عَلَى ابْنِ الْأَغْلَبِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى عِمْرَانُ بْنُ مُجَالِدٍ الرَّبِيعِيُّ، وَقُرَيْشُ بْنُ التُّونِسِيِّ بِتُونِسَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ أَمِيرِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَاجْتَمَعَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَحُصِرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَغْلَبِ بِالْقَصْرِ، وَجَمَعَ مَنْ أَطَاعَهُ، وَخَالَفَ عَلَيْهِ أَيْضًا أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ وَقْعَةٌ وَحَرْبٌ قُتِلَ فِيهَا جَمَاعَةٌ (مِنْ رِجَالِ ابْنِ الْأَغْلَبِ) . وَقَدِمَ عِمْرَانُ بْنُ مُجَالِدٍ فِيمَنْ مَعَهُ، فَدَخَلَ الْقَيْرَوَانَ عَاشِرَ رَجَبٍ، وَقَدِمَ قُرَيْشٌ مِنْ تُونِسَ إِلَيْهِ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ابْنِ الْأَغْلَبِ وَقْعَةٌ فِي رَجَبٍ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ الْأَغْلَبِ، ثُمَّ الْتَقَوْا فِي الْعِشْرِينَ مِنْهُ، فَانْهَزَمُوا ثَانِيَةً أَيْضًا، (ثُمَّ الْتَقَوْا ثَالِثَةً فِيهِ أَيْضًا، فَكَانَ الظَّفَرُ لِابْنِ الْأَغْلَبِ، وَأَرْسَلَ عِمْرَانُ بْنُ مُجَالِدٍ إِلَى أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ الْفَقِيهِ لِيَخْرُجَ مَعَهُمْ، فَامْتَنَعَ، فَأَعَادَ الرَّسُولَ يَقُولُ لَهُ: تَخْرُجُ مَعَنَا، وَإِلَّا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ مَنْ يَجُرُّ بِرِجْلِكَ، فَقَالَ أَسَدٌ لِلرَّسُولِ: قُلْ لَهُ: وَاللَّهِ إِنْ خَرَجْتُ لَأَقُولَنَّ لِلنَّاسِ: إِنَّ الْقَاتِلَ وَالْمَقْتُولَ فِي النَّارِ. فَتَرَكَهُ) . ذِكْرُ عِصْيَانِ أَهْلِ مَارِدَةَ وَغَزْوِ الْحَكَمِ بِلَادَ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَاوَدَ أَهْلُ مَارِدَةَ الْخِلَافَ عَلَى الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ، أَمِيرِ الْأَنْدَلُسِ، وَعَصَوْا عَلَيْهِ، فَسَارَ بِنَفْسِهِ إِلَيْهِمْ، وَقَاتَلَهُمْ، وَلَمْ تَزَلْ سَرَايَاهُ وَجُيُوشُهُ تَتَرَدَّدُ وَتُقَاتِلُهُمْ هَذِهِ السَّنَةَ، وَسَنَةَ خَمْسٍ، وَسَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ. وَطَمِعَ الْفِرِنْجُ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَصَدُوهَا بِالْغَارَةِ وَالْقَتْلِ، وَالنَّهْبِ وَالسَّبْيِ، وَكَانَ الْحَكَمُ مَشْغُولًا بِأَهْلِ مَارِدَةَ، فَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِلْفِرِنْجِ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِشِدَّةِ الْأَمْرِ عَلَى أَهْلِ الثَّغْرِ، وَمَا بَلَغَ الْعَدُوُّ مِنْهُمْ، وَسَمِعَ أَنَّ امْرَأَةً مُسْلِمَةً أُخِذَتْ سَبِيَّةً، فَنَادَتْ: وَاغَوْثَاهُ يَا

حَكَمُ! فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَجَمَعَ عَسْكَرَهُ وَاسْتَعَدَّ وَحَشَدَ وَسَارَ إِلَى بَلَدِ الْفِرِنْجِ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَأَثْخَنَ فِي بِلَادِهِمْ، وَافْتَتَحَ عِدَّةَ حُصُونٍ، وَخَرَّبَ الْبِلَادَ، وَنَهَبَهَا، وَقَتَلَ الرِّجَالَ، وَسَبَى الْحَرِيمَ، وَنَهَبَ الْأَمْوَالَ، وَقَصَدَ النَّاحِيَةَ الَّتِي كَانَتْ بِهَا تِلْكَ الْمَرْأَةُ، فَأَمَرَ لَهُمْ مِنَ الْأَسْرَى بِمَا يُفَادُونَ بِهِ أَسْرَاهُمْ، وَبَالَغَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي تَخْلِيصِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَتَخَلَّصَتْ مِنَ الْأَسْرِ، وَقَتَلَ بَاقِي الْأَسْرَى، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غَزَاتِهِ قَالَ لِأَهْلِ الثُّغُورِ: هَلْ أَغَاثَكُمُ الْحَكَمُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. وَدَعَوْا لَهُ، وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا، وَعَادَ إِلَى قُرْطُبَةَ مُظَفَّرًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا وَثَبَتَ الرُّومُ عَلَى مَلِكِهِمْ مِيخَائِيلَ، فَهَرَبَ وَتَرَهَّبَ، وَكَانَ مَلَكَ نَحْوَ سَنَتَيْنِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ أَلْيُونُ الْقَائِدُ. وَكَانَ فِي الْمَوْصِلِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَبَّاسِ اسْتَعْمَلَهُ الْأَمِينُ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ شَقِيقٌ الْبَلْخِيُّ الزَّاهِدُ فِي غَزَاةِ كُولَانَ (مِنْ بِلَادِ التُّرْكِ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ صَاحِبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ [وَمِائَةٍ] ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ. وَفِيهَا مَاتَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ النَّخَعِيُّ، قَاضِي الْكُوفَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ.

(غِيَاثٌ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ قَدِ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَكَانَ حَدِيثُهُ صَحِيحًا إِلَى أَنِ اخْتَلَطَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ سِيبَوَيْهِ النَّحْوِيُّ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قَنْبَرٍ (أَبُو بَشِيرٍ) . وَقِيلَ: كَانَ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: كَانَ عُمْرُهُ قَدْ زَادَ عَلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: كَانَ عُمْرُهُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبَانِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَعُمْرُهُ أَرْبَعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً.

ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ] 195 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ قَطْعِ خُطْبَةِ الْمَأْمُونِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْأَمِينُ بِإِسْقَاطِ مَا كَانَ ضُرِبَ لِأَخِيهِ الْمَأْمُونِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِخُرَاسَانَ، فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، لِأَنَّهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا اسْمُ الْأَمِينِ، وَأَمَرَ فَدُعِيَ لِمُوسَى بْنِ الْأَمِينِ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَلَقَّبَهُ النَّاطِقَ بِالْحَقِّ، وَقَطَعَ ذِكْرَ الْمَأْمُونِ لِقَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَكَانَ مُوسَى طِفْلًا صَغِيرًا، وَلِابْنِهِ الْآخَرِ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَقَّبَهُ الْقَائِمَ بِالْحَقِّ. ذِكْرُ مُحَارِبَةِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى وَطَاهِرٍ ثُمَّ إِنَّ الْأَمِينَ أَمَرَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ بِالْمَسِيرِ لِحَرْبِ الْمَأْمُونِ. وَكَانَ سَبَبَ مَسِيرِهِ، دُونَ غَيْرِهِ، أَنَّ ذَا الرِّيَاسَتَيْنِ كَانَ لَهُ عَيْنٌ عِنْدَ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ وَرَأْيِهِ، فَكَتَبَ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُشِيرَ بِإِنْفَاذِ ابْنِ مَاهَانَ لِحَرْبِهِمْ، وَكَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّ ابْنَ مَاهَانَ لَمَّا وَلِيَ خُرَاسَانَ أَيَّامَ الرَّشِيدِ، أَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا فَظَلَمَهُمْ، فَعَزَلَهُ الرَّشِيدُ لِذَلِكَ، وَنَفَرَ أَهْلُ خُرَاسَانَ عَنْهُ، وَأَبْغَضُوهُ، فَأَرَادَ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ أَنْ يَزْدَادَ أَهْلُ خُرَاسَانَ جِدًّا فِي مُحَارَبَةِ الْأَمِينِ وَأَصْحَابِهِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مَا أَمَرَ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ، فَأَمَرَ الْأَمِينُ ابْنَ مَاهَانَ بِالْمَسِيرِ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبَهُ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِلْأَمِينِ: إِنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ كَتَبُوا إِلَيْهِ يَذْكُرُونَ أَنَّهُ إِنْ قَصَدَهُمْ هُوَ أَطَاعُوهُ، وَانْقَادُوا لَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَلَا! فَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ، وَأَقْطَعَهُ كُوَرَ الْجَبَلِ كُلَّهَا: نَهَاوَنْدَ، وَهَمَذَانَ، وَقُمَّ، وَأَصْبَهَانَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَوَلَّاهُ حَرْبَهَا وَخَرَاجَهَا، وَأَعْطَاهُ الْأَمْوَالَ، وَحَكَّمَهُ فِي الْخَزَائِنِ، وَجَهَّزَ مَعَهُ خَمْسِينَ أَلْفَ فَارِسٍ.

وَكَتَبَ إِلَى أَبِي دُلَفَ الْقَاسِمِ بْنِ (إِدْرِيسَ بْنِ عِيسَى) الْعِجْلِيِّ، وَهِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ بِالِانْضِمَامِ إِلَيْهِ، وَأَمَدَّهُ بِالْأَمْوَالِ وَالرِّجَالِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ مِنْ بَغْدَاذَ رَكِبَ إِلَى بَابِ زُبَيْدَةَ أُمِّ الْأَمِينِ لِيُوَدِّعَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: يَا عَلِيُّ! إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ [وَ] إِنْ كَانَ وَلَدِي وَإِلَيْهِ انْتَهَتْ شَفَقَتِي، فَإِنِّي عَلَى عَبْدِ اللَّهِ مُنْعَطِفَةٌ مُشْفِقَةٌ، لِمَا يَحْدُثُ عَلَيْهِ مِنْ مَكْرُوهٍ وَأَذًى، وَإِنَّمَا ابْنِي مَلِكٌ نَافَسَ أَخَاهُ فِي سُلْطَانِهِ [وَغَارَهُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ] ، وَالْكَرِيمُ يَأْكُلُ لَحْمَهُ وَيُمِيقُهُ غَيْرَهُ، فَاعْرِفْ لِعَبْدِ اللَّهِ حَقَّ وِلَادَتِهِ وَأُخُوَّتِهِ، وَلَاتَجْبَهْهُ بِالْكَلَامِ، فَإِنَّكَ لَسْتَ [لَهُ] بِنَظِيرٍ، وَلَا تَقْتَسِرْهُ اقْتِسَارَ الْعَبِيدِ، وَلَا تُوَهِّنْهُ بِقَيْدٍ وَلَا غُلٍّ، وَلَا تَمْنَعْ عَنْهُ جَارِيَةً وَلَا خَادِمًا، وَلَا تَعْنُفْ عَلَيْهِ فِي السَّيْرِ، وَلَا تُسَاوِهِ فِي الْمَسِيرِ، وَلَا تَرْكَبْ قَبْلَهُ، وَخُذْ بِرِكَابِهِ [إِذَا رَكِبَ] ، وَإِنْ شَتَمَكَ فَاحْتَمِلْ مِنْهُ. ثُمَّ دَفَعَتْ إِلَيْهِ قَيْدًا مِنْ فِضَّةٍ، وَقَالَتْ: إِنْ صَارَ إِلَيْكَ فَقَيِّدْهُ بِهَذَا الْقَيْدِ! فَقَالَ لَهَا: سَأَفْعَلُ (مِثْلَ) مَا أَمَرْتِ. ثُمَّ خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى فِي شَعْبَانَ، وَرَكِبَ الْأَمِينُ يُشَيِّعُهُ، وَمَعَهُ الْقُوَّادُ وَالْجُنُودُ، وَذَكَرَ مَشَايِخُ بَغْدَاذَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا عَسْكَرًا أَكْثَرَ رِجَالًا، وَأَفْرَهَ كُرَاعًا، وَأَتَمَّ عُدَّةً وَسِلَاحًا - مِنْ عَسْكَرِهِ. وَوَصَّاهُ الْأَمِينُ، وَأَمَرَهُ إِنْ قَاتَلَهُ الْمَأْمُونُ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى أَسْرِهِ. ثُمَّ سَارَ فَلَقِيَهُ الْقَوَافِلُ عِنْدَ جَلُولَاءَ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ طَاهِرًا مُقِيمٌ بِالرَّيِّ يَعْرِضُ أَصْحَابَهُ، وَيَرُمُّ آلَتَهُ، وَالْأَمْدَادُ تَأْتِيهِ مِنْ خُرَاسَانَ، وَهُوَ يَسْتَعِدُّ لِلْقِتَالِ، فَيَقُولُ: إِنَّمَا طَاهِرٌ شَوْكَةٌ مِنْ أَغْصَانِي، وَمَا مِثْلُ طَاهِرٍ يَتَوَلَّى الْجُيُوشَ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَنْقَصِفَ انْقِصَافَ الشَّجَرِ مِنَ الرِّيحِ، وَالرِّيحِ الْعَاصِفِ - إِلَّا أَنْ يَبْلُغَهُ عُبُورُنَا عَقَبَةَ هَمَذَانَ، فَإِنَّ السِّخَالَ لَا تَقْوَى عَلَى النِّطَاحِ، وَالْبِغَالَ لَا صَبْرَ لَهَا عَلَى لِقَاءِ الْأَسَدِ، وَإِنْ

أَقَامَ تَعَرَّضَ لِحَدِّ السَّيْفِ وَأَسِنَّةِ الرِّمَاحِ، وَإِذَا (قَارَبْنَا الرَّيَّ وَدَنَوْنَا مِنْهُمْ) فَتَّ ذَلِكَ فِي أَعْضَادِهِمْ. ثُمَّ أَنْفَذَ الْكُتُبَ إِلَى مُلُوكِ الدَّيْلَمِ وَطَبَرِسْتَانَ، وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْمُلُوكِ، يَعِدُهُمُ الصِّلَاتِ، وَأَهْدَى لَهُمُ التِّيجَانَ وَالْأَسْوِرَةَ وَغَيْرَهَا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْطَعُوا طَرِيقَ خُرَاسَانَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَسَارَ حَتَّى أَتَى أَوَّلَ أَعْمَالِ الرَّيِّ، وَهُوَ قَلِيلُ الِاحْتِيَالِ، فَقَالَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: لَوْ أَرْكَبْتَ الْعُيُونَ، وَعَمِلْتَ خَنْدَقًا لِأَصْحَابِكَ، وَبَعَثْتَ الطَّلَائِعَ لَأَمِنْتَ الْبَيَاتَ، وَفَعَلْتَ الرَّأْيَ، فَقَالَ: مِثْلُ طَاهِرٍ لَا يُسْتَعَدُّ لَهُ، وَإِنَّ حَالَهُ يَئُولُ إِلَى أَمْرَيْنِ: إِمَّا [أَنْ] يَتَحَصَّنَ بِالرَّيِّ فَيُبَيِّتَهُ أَهْلُهَا، فَيَكْفُونَا أَمْرَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ وَيَتْرُكَهَا، إِذَا قَرُبَتْ خَيْلُنَا مِنْهُ، فَقَالُوا لَهُ: لَوْ كَانَ عَزْمُهُ تَرْكَهَا وَالرُّجُوعَ لَفَعَلَ، فَإِنَّنَا قَدْ قَرُبْنَا مِنْهُ فَلَمْ يَفْعَلْ. وَلَمَّا صَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّيِّ عَشَرَةُ فَرَاسِخَ اسْتَشَارَ طَاهِرٌ أَصْحَابَهُ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ بِالرَّيِّ، وَيُدَافِعَ الْقِتَالَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ مِنْ خُرَاسَانَ الْمَدَدُ، وَقَائِدٌ يَتَوَلَّى الْأُمُورَ دُونَهُ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ مُقَامَكَ [بِمَدِينَةِ الرَّيِّ] أَرْفَقُ بِأَصْحَابِكَ [وَبِكَ] ، وَأَقْدَرُ لَهُمْ عَلَى الْمِيرَةِ، وَأَكَنُّ مِنَ الْبَرْدِ، وَتَعْتَصِمُ بِالْبُيُوتِ، وَتَقْدِرُ عَلَى الْمُمَاطَلَةِ، فَقَالَ طَاهِرٌ: إِنَّ الرَّأْيَ لَيْسَ مَا رَأَيْتُمْ، إِنَّ أَهْلَ الرَّيِّ لِعَلِيٍّ هَائِبُونَ، وَمِنْ سَطْوَتِهِ مُشْفِقُونَ، وَمَعَهُ مِنْ أَعْرَابِ الْبَوَادِي وَصَعَالِيكِ الْجِبَالِ وَالْقَرَايَا كَثِيرٌ، وَلَسْتُ آمَنُ إِنْ أَقَمْتُ بِالرَّيِّ، أَنْ يَثِبَ أَهْلُهَا بِنَا خَوْفًا مِنْ عَلِيٍّ، وَمَا الرَّأْيُ إِلَّا أَنْ نَسِيرَ إِلَيْهِ، فَإِنْ ظَفِرْنَا، وَإِلَّا عَوَّلْنَا عَلَيْهَا، فَقَاتَلْنَاهُ فِيهَا إِلَى أَنْ يَأْتِيَنَا مَدَدٌ. فَنَادَى طَاهِرٌ فِي أَصْحَابِهِ فَخَرَجَ مِنَ الرَّيِّ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَعَسْكَرَ عَلَى خَمْسَةِ فَرَاسِخَ، فَأَتَاهُ أَحْمَدُ بْنُ هِشَامٍ، وَكَانَ عَلَى شُرْطَةِ طَاهِرٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ أَتَانَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى فَقَالَ: أَنَا عَامِلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَقْرَرْنَا لَهُ بِذَلِكَ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُحَارِبَهُ، فَقَالَ طَاهِرٌ: لَمْ يَأْتِنِي فِي ذَلِكَ شَيْءٌ. فَقَالَ: دَعْنِي وَمَا أُرِيدُ، فَقَالَ: افْعَلْ! فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَلَعَ مُحَمَّدًا، وَدَعَا لِلْمَأْمُونِ بِالْخِلَافَةِ، وَسَارُوا عَنْهَا، وَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّ جُنْدَكَ

قَدْ هَابُوا هَذَا الْجَيْشَ، فَلَوْ أَخَّرْتَ الْقِتَالَ إِلَى أَنْ يَشَامَّهُمْ أَصْحَابُكَ، وَيَأْنَسُوا بِهِمْ، وَيَعْرِفُوا وَجْهَ الْمَأْخَذِ فِي قِتَالِهِمْ، قَالَ: إِنِّي لَا أُوتَى مِنْ قِلَّةِ تَجْرِبَةٍ وَحَزْمٍ، إِنَّ أَصْحَابِي قَلِيلٌ، وَالْقَوْمُ عَظِيمٌ سَوَادُهُمْ، كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، فَإِنْ أَخَّرْتُ الْقِتَالَ اطَّلَعُوا عَلَى قِلَّتِنَا، وَاسْتَمَالُوا مَنْ مَعِي بِرَهْبَةٍ أَوْ رَغْبَةٍ، فَيَخْذُلُنِي أَهْلُ الصَّبْرِ وَالْحِفَاظِ، وَلَكِنْ أَلُفُّ الرِّجَالَ بِالرِّجَالِ، وَأُقْحِمُ الْخَيْلَ عَلَى الْخَيْلِ، وَأَعْتَمِدُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْوَفَاءِ، وَأَصْبِرُ صَبْرَ مُحْتَسِبٍ لِلْخَيْرِ، حَرِيصٍ عَلَى الْفَوْزِ بِالشَّهَادَةِ، فَإِنْ نَصَرَنَا اللَّهُ فَذَلِكَ الَّذِي نُرِيدُهُ وَنَرْجُوهُ، وَإِنْ يَكُنِ الْأُخْرَى فَلَسْتُ بِأَوَّلِ مَنْ قَاتَلَ (وَقُتِلَ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ أَجْزَلُ وَأَفْضَلُ. وَقَالَ عَلِيٌّ لِأَصْحَابِهِ: بَادِرُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَلِيلُونَ) ، وَلَوْ وَجَدُوا حَرَارَةَ السُّيُوفِ وَطَعْنَ الرِّمَاحِ لَمْ يَصْبِرُوا عَلَيْهَا. وَعَبَّى جُنْدَهُ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَقَلْبًا، وَعَبَّى عَشْرَ رَايَاتٍ، مَعَ كُلِّ رَايَةٍ مِائَةُ رَجُلٍ، وَقَدَّمَهَا رَايَةً رَايَةً، وَجَعَلَ بَيْنَ كُلِّ رَايَتَيْنِ غَلْوَةِ سَهْمٍ، وَأَمَرَ أُمَرَاءَهَا إِذَا قَاتَلَتِ الرَّايَةُ الْأُولَى وَطَالَ قِتَالُهُمْ أَنْ تَتَقَدَّمَ الَّتِي تَلِيهَا، وَتَتَأَخَّرَ هِيَ حَتَّى تَسْتَرِيحَ، وَجَعَلَ أَصْحَابَ الْجَوَاشِنِ أَمَامَ الرَّايَاتِ، وَوَقَفَ فِي شُجْعَانِ أَصْحَابِهِ. وَعَبَّى طَاهِرٌ أَصْحَابَهُ كَرَادِيسَ، وَسَارَ بِهِمْ يُحَرِّضُهُمْ، وَيُوصِيهِمْ، وَيُرَجِّيهِمْ. وَهَرَبَ مِنْ أَصْحَابِ طَاهِرٍ نَفَرٌ إِلَى عَلِيٍّ، فَجَلَدَ بَعْضَهُمْ، وَأَهَانَ الْبَاقِينَ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا أَلَّبَ الْبَاقِينَ عَلَى قِتَالِهِ، وَزَحَفَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ هِشَامٍ لِطَاهِرٍ: أَلَا تُذَكِّرُ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى الْبَيْعَةَ الَّتِي أَخَذَهَا هُوَ عَلَيْنَا لِلْمَأْمُونِ خَاصَّةً مَعَاشِرَ أَهْلِ خُرَاسَانَ؟ قَالَ: أَفْعَلُ. فَأَخَذَ الْبَيْعَةَ فَعَلَّقَهَا عَلَى رُمْحٍ، وَقَامَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَطَلَبَ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى، فَقَالَ لَهُ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَلَيْسَ هَذِهِ نُسْخَةَ الْبَيْعَةِ الَّتِي

أَخَذْتَهَا أَنْتَ خَاصَّةً؟ اتَّقِ اللَّهَ، فَقَدْ بَلَغْتَ بَابَ قَبْرِكَ! فَقَالَ عَلِيٌّ: مَنْ أَتَانِي بِهِ فَلَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَشَتَمَهُ أَصْحَابُ أَحْمَدَ، وَخَرَجَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ طَاهِرٌ، وَأَخَذَ السَّيْفَ بِيَدَيْهِ وَضَرَبَهُ، فَصَرَعَهُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ طَاهِرٌ ذَا الْيَمِينَيْنِ. وَوَثَبَ أَهْلُ الرَّيِّ فَأَغْلَقُوا بَابَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ طَاهِرٌ لِأَصْحَابِهِ: اشْتَغِلُوا بِمَنْ أَمَامَكُمْ عَمَّنْ خَلْفَكُمْ، فَإِنَّهُ لَا يُنَجِّيكُمْ إِلَّا الْجِدُّ وَالصِّدْقُ. ثُمَّ اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَحَمَلَتْ مَيْمَنَةُ عَلِيٍّ عَلَى مَيْسَرَةِ طَاهِرٍ، فَانْهَزَمَتْ هَزِيمَةً مُنْكَرَةً، وَمَيْسَرَتُهُ عَلَى مَيْمَنَةِ طَاهِرٍ، فَأَزَالَتْهَا عَنْ مَوْضِعِهَا، فَقَالَ طَاهِرٌ: اجْعَلُوا جِدَّكُمْ وَبَأْسَكُمْ عَلَى الْقَلْبِ، وَاحْمِلُوا حَمْلَةً خَارِجِيَّةً، فَإِنَّكُمْ مَتَى فَضَضْتُمْ مِنْهَا رَايَةً وَاحِدَةً رَجَعَتْ أَوَائِلُهَا عَلَى أَوَاخِرِهَا. فَصَبَرَ أَصْحَابُهُ صَبْرًا صَادِقًا، وَحَمَلُوا عَلَى أَوَّلِ رَايَاتِ الْقَلْبِ، فَهَزَمُوهُمْ، وَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الْقَتْلَ، وَرَجَعَتِ الرَّايَاتُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَانْتَفَضَتْ مَيْمَنَةُ عَلِيٍّ. وَرَأَى مَيْمَنَةُ طَاهِرٍ وَمَيْسَرَتُهُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُهُمْ، فَرَجَعُوا عَلَى مَنْ بِإِزَائِهِمْ، فَهَزَمُوهُمْ، وَانْتَهَتِ الْهَزِيمَةُ إِلَى عَلِيٍّ، فَجَعَلَ يُنَادِي أَصْحَابَهُ: أَيْنَ أَصْحَابُ الْخَوَاصِّ، وَالْجَوَائِزِ، وَالْأَسْوِرَةِ، وَالْأَكَالِيلِ، إِلَى الْكَرَّةِ بَعْدَ الْفَرَّةِ! فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ طَاهِرٍ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، قِيلَ كَانَ دَاوُدَ سِيَاهَ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى طَاهِرٍ، وَشُدَّتْ يَدَاهُ إِلَى رِجْلَيْهِ، وَحُمِلَ عَلَى خَشَبَةٍ إِلَى طَاهِرٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُلْقِيَ فِي بِئْرٍ، فَأَعْتَقَ طَاهِرٌ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ غِلْمَانِهِ شُكْرًا لِلَّهِ - تَعَالَى - وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ، وَوَضَعَ أَصْحَابُ طَاهِرٍ فِيهِمُ السُّيُوفَ، وَتَبِعُوهُمْ فَرْسَخَيْنِ وَاقَعُوهُمْ فِيهَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً، فِي كُلِّ ذَلِكَ يَنْهَزِمُ عَسْكَرُ الْأَمِينِ، وَأَصْحَابُ طَاهِرٍ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ حَتَّى حَالَ اللَّيْلُ بَيْنَهُمْ، وَغَنِمُوا غَنِيمَةً عَظِيمَةً. وَنَادَى طَاهِرٌ: مَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ. وَطَرَحُوا أَسْلِحَتَهُمْ وَنَزَلُوا عَنْ دَوَابِّهِمْ، وَرَجَعَ طَاهِرٌ إِلَى الرَّيِّ، وَكَتَبَ إِلَى الْمَأْمُونِ وَذِي الرِّيَاسَتَيْنِ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابِي إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَأْسُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بَيْنَ يَدَيَّ، وَخَاتَمُهُ فِي إِصْبَعِي، وَجُنْدُهُ مُصَرَّفُونَ تَحْتَ أَمْرِي، وَالسَّلَامُ ".

فَوَرَدَ الْكِتَابُ مَعَ الْبَرِيدِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَبَيْنَهُمَا نَحْوٌ مِنْ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْ فَرْسَخٍ، فَدَخَلَ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ عَلَى الْمَأْمُونِ، فَهَنَّأَهُ بِالْفَتْحِ، وَأَمَرَ النَّاسَ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، ثُمَّ وَصَلَ رَأْسُ عَلِيٍّ بَعْدَ الْكِتَابِ بِيَوْمَيْنِ، فَطِيفَ بِهِ فِي خُرَاسَانَ. وَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ بِالْفَتْحِ كَانَ الْمَأْمُونُ قَدْ جَهَّزَ هَرْثَمَةَ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ لِيُسَيِّرَهُ نَجْدَةً لِطَاهِرٍ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِالْفَتْحِ. وَأَمَّا الْأَمِينُ فَإِنَّهُ أَتَاهُ نَعْيُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى وَهُوَ يَصْطَادُ السَّمَكَ، فَقَالَ لِلَّذِي أَخْبَرَهُ: وَيْلَكَ دَعْنِي، فَإِنَّ كَوْثَرًا قَدِ اصْطَادَ سَمَكَتَيْنِ، وَأَنَا مَا صِدْتُ شَيْئًا بَعْدُ. ثُمَّ بَعَثَ الْفَضْلُ إِلَى نَوْفَلٍ الْخَادِمِ، وَهُوَ وَكِيلُ الْمَأْمُونِ عَلَى مَكَّةَ بِالسَّوَادِ، وَالنَّاظِرُ فِي أَمْرِ أَوْلَادِهِ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ لِلْمَأْمُونِ مَعَهُ أَلْفُ أَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ قَدْ وَصَلَهُ بِهَا الرَّشِيدُ، فَأَخَذَ جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ، وَقَبَضَ ضِيَاعَهُ وَغَلَّاتِهِ، فَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ بَغْدَاذَ فِي ذَلِكَ: أَضَاعَ الْخِلَافَةَ غِشُّ الْوَزِيرِ ... وَفِسْقُ الْأَمِيرِ وَجَهْلُ الْمُشِيرِ فَفَضْلٌ وَزِيرٌ، وَبَكْرٌ مُشِيرٌ ... يُرِيدَانِ مَا فِيهِ حَتْفُ الْأَمِيرِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا طَرِيقُ غُرُورٍ ... وَشَرُّ الْمَسَالِكِ طُرُقُ الْغُرُورِ فِي عِدَّةِ أَبْيَاتٍ تَرَكْتُهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْقَذْفِ الْفَاحِشِ، وَلَقَدْ عَجِبْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ حَيْثُ ذَكَرَهَا مَعَ وَرَعِهِ. وَنَدِمَ الْأَمِينُ عَلَى نَكْثِهِ وَغَدْرِهِ، وَمَشَى الْقُوَّادُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فِي النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ، فَاتَّفَقُوا عَلَى طَلَبِ الْأَرْزَاقِ وَالشَّغْبِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَفَرَّقَ فِيهِمْ مَالًا كَثِيرًا بَعْدَ أَنْ قَاتَلَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ، فَمَنَعَهُ الْأَمِينُ. ذِكْرُ تَوْجِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَبَلَةَ لَمَّا اتَّصَلَ بِالْأَمِينِ قَتْلُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، وَهَزِيمَةُ عَسْكَرِهِ - وَجَّهَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جَبَلَةَ الْأَنْبَارِيَّ فِي عِشْرِينَ أَلْفَ رَجُلٍ نَحْوَ هَمَذَانَ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهَا، وَعَلَى كُلِّ مَا يَفْتَحُهُ مِنْ

أَرْضِ خُرَاسَانَ، وَأَمَرَهُ بِالْجِدِّ، وَأَمَدَّهُ بِالْأَمْوَالِ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ هَمَذَانَ، وَحَصَّنَهَا وَرَمَّ سُورَهَا. وَأَتَاهُ طَاهِرٌ إِلَى هَمَذَانَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى تَعْبِئَةٍ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ وَالْجِرَاحُ فِيهِمْ، ثُمَّ انْهَزَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَدَخَلَ هَمَذَانَ، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، حَتَّى قَوِيَ أَصْحَابُهُ، وَانْدَمَلَ جِرَاحُهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى طَاهِرٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يُرِيدُ أَنْ يَتَرَاءَى لَكُمْ، فَإِذَا قَرُبْتُمْ مِنْهُ قَاتَلَكُمْ، فَإِنْ هَزَمْتُمُوهُ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ قَاتَلَكُمْ عَلَى خَنْدَقِهَا، وَإِنْ هَزَمَكُمُ اتَّسَعَ لَهُ الْمَجَالُ، وَلَكِنْ قِفُوا قَرِيبًا مِنْ عَسْكَرِنَا وَخَنْدَقِنَا، فَإِنْ قَرُبَ مِنَّا قَاتَلْنَاهُ. فَوَقَفُوا فَظَنَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنَّ الْهَيْبَةَ مَنَعَتْهُمْ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي أَصْحَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَجَعَلَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ، وَيُحَرِّضُهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّبْرِ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ طَاهِرٍ حَمَلَ عَلَى صَاحِبِ عَلَمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَتَلَهُ، وَزَحَمَهُمْ أَصْحَابُ طَاهِرٍ، فَانْهَزَمُوا، وَوَضَعَ فِيهِمْ أَصْحَابُ طَاهِرٍ السُّيُوفَ يُقَتِّلُونَهُمْ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَقَامَ طَاهِرٌ عَلَى بَابِهَا مُحَاصِرًا لَهَا، فَاشْتَدَّ بِهِمُ الْحِصَارُ، وَضَجِرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَخَافَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنْ يَثِبَ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مَعَ مَا فِيهِ أَصْحَابُهُ مِنَ الْجَهْدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى طَاهِرٍ يَطْلُبُ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ مَعَهُ، فَأَمَّنَهُ، فَخَرَجَ عَنْ هَمَذَانَ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ طَاهِرٍ عَلَى أَعْمَالِ الْجَبَلِ لَمَّا نَزَلَ طَاهِرٌ بِبَابِ هَمَذَانَ، وَحَصَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بِهَا، تَخَوَّفَ أَنْ يَأْتِيَهُ كَثِيرُ بْنُ قَادِرَةَ مِنْ وَرَائِهِ، وَكَانَ بِقَزْوِينَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْقِيَامِ، وَسَارَ فِي أَلْفِ فَارِسٍ نَحْوَ قَزْوِينَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ كَثِيرُ بْنُ قَادِرَةَ، وَكَانَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، هَرَبَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَأَخْلَى قَزْوِينَ،

وَجَعَلَ طَاهِرٌ فِيهَا جُنْدًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ أَرَادَ دُخُولَهَا، وَاسْتَوْلَى عَلَى سَائِرِ أَعْمَالِ الْجَبَلِ مَعَهَا. ذِكْرُ قَتْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَبَلَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبَلَةَ الْأَنْبَارِيُّ، وَكَانَ سَبَبَ قَتْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ فِي أَمَانِ طَاهِرٍ أَقَامَ يُرِي طَاهِرًا وَأَصْحَابَهُ أَنَّهُ مُسَالِمٌ لَهُمْ، رَاضٍ بِأَمَانِهِمْ، ثُمَّ اغْتَرَّهُمْ وَهُمْ آمِنُونَ، فَرَكِبَ فِي أَصْحَابِهِ، وَهَجَمَ عَلَى طَاهِرٍ وَأَصْحَابِهِ وَلَمْ يَشْعُرُوا، فَثَبَتَ لَهُ رَجَّالَةُ طَاهِرٍ، وَقَاتَلُوهُ حَتَّى أَخَذَتِ الْفُرْسَانُ أُهْبَتَهَا، وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ، حَتَّى تَقَطَّعَتِ السُّيُوفُ، وَتَكَسَّرَتِ الرِّمَاحُ، وَانْهَزَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَبَقِيَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَاتَلَ، وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ لَهُ: قَدْ أَمْكَنَكَ الْهَرَبُ، فَاهْرُبْ، فَقَالَ: لَا يَرَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَجْهِي مُنْهَزِمًا أَبَدًا. وَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُ حَتَّى قُتِلَ. وَانْتَهَى مَنِ انْهَزَمَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَحْمَدَ ابْنَيِ الْحَرَشِيِّ، وَكَانَا فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ بِقَصْرِ اللُّصُوصِ، قَدْ سَيَّرَهُ الْأَمِينُ مَعُونَةً لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَيْهِمَا انْهَزَمَا أَيْضًا فِي جُنْدِهِمَا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، حَتَّى دَخَلُوا بَغْدَاذَ، وَخَلَتِ الْبِلَادُ لِطَاهِرٍ، فَأَقْبَلَ يَحُوزُهَا بَلْدَةً بَلْدَةً، وَكُورَةً كُورَةً، حَتَّى انْتَهَى إِلَى شَلَاشَانَ مِنْ قُرَى حُلْوَانَ، فَخَنْدَقَ بِهَا، وَحَصَّنَ عَسْكَرَهُ، وَجَمَعَ أَصْحَابَهُ. ذِكْرُ خُرُوجِ السُّفْيَانِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ السُّفْيَانِيُّ، وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَأُمُّهُ نَفِيسَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا مِنْ شَيْخَيْ صِفِّينَ - يَعْنِي عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ - وَكَانَ يُلَقَّبُ بِأَبِي الْعُمَيْطِرِ ; لِأَنَّهُ قَالَ يَوْمًا لِجُلَسَائِهِ: أَيُّ شَيْءٍ كُنْيَةُ الْحِرْذَوْنِ؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي. قَالَ: هُوَ أَبُو الْعُمَيْطِرِ. فَلَقَّبُوهُ بِهِ.

وَلَمَّا خَرَجَ دَعَا لِنَفْسِهِ بِالْخِلَافَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَقَوِيَ عَلَى سُلَيْمَاَنَ بْنِ الْمَنْصُورِ، عَامِلِ دِمَشْقَ، فَأَخْرَجَهُ عَنْهَا، وَأَعَانَهُ الْخَطَّابُ بْنُ وَجْهِ الْفُلْسِ، مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى صَيْدَا. وَلَمَّا خَرَجَ سَيَّرَ إِلَيْهِ الْأَمِينُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ، فَبَلَغَ الرَّقَّةَ، وَلَمْ يَسِرْ إِلَى دِمَشْقَ. وَكَانَ عُمْرُ أَبِي الْعُمَيْطِرِ، حِينَ خَرَجَ، تِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ النَّاسُ قَدْ أَخَذُوا عَنْهُ عِلْمًا كَثِيرًا، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، فَلَمَّا خَرَجَ ظَلَمَ وَأَسَاءَ السِّيرَةَ، فَتَرَكُوا مَا نَقَلُوا عَنْهُ. وَكَانَ أَكْبَرُ أَصْحَابِهِ مِنْ كَلْبٍ، وَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحِ بْنِ بَيْهَسٍ الْكِلَابِيِّ يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَتَهَدَّدُهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ السُّفْيَانِيُّ عَلَى قَصْدِ الْقَيْسِيَّةِ، فَكَتَبُوا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ مِنَ الضَّبَابِ وَمَوَالِيهِ، وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالسُّفْيَانِيِّ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ يَزِيدَ بْنَ هِشَامٍ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَالْتَقَوْا، فَانْهَزَمَ يَزِيدُ وَمَنْ مَعَهُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ إِلَى أَنْ دَخَلُوا أَبْوَابَ دِمَشْقَ زِيَادَةٌ عَلَى أَلْفَيْ رَجُلٍ، وَأُسِرَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَأَطْلَقَهُمُ ابْنُ بَيْهَسٍ، وَحَلَقَ رُءُوسَهُمْ وَلِحَاهُمْ. وَضَعُفَ السُّفْيَانِيُّ، وَحُصِرَ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ جَمَعَ جَمْعًا، وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ ابْنَهُ الْقَاسِمَ، وَخَرَجُوا إِلَى ابْنِ بَيْهَسٍ، فَالْتَقَوْا، فَقُتِلَ الْقَاسِمُ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ السُّفْيَانِيِّ، وَبُعِثَ رَأْسُهُ إِلَى الْأَمِينِ، ثُمَّ جَمَعَ جَمْعًا آخَرَ، وَسَيَّرَهُمْ مَعَ مَوْلَاهُ الْمُعْتَمِرِ، فَلَقِيَهُمُ ابْنُ بَيْهَسٍ، فَقُتِلَ الْمُعْتَمِرُ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، فَوَهَنَ أَمْرُ أَبِي الْعُمَيْطِرِ، وَطَمِعَ فِيهِ قَيْسٌ. ثُمَّ مَرِضَ ابْنُ بَيْهَسٍ، فَجَمَعَ رُؤَسَاءَ بَنِي نُمَيْرٍ، فَقَالَ لَهُمْ: تَرَوْنَ مَا أَصَابَنِي مِنْ عِلَّتِي هَذِهِ، فَارْفُقُوا بِبَنِي مَرْوَانَ، وَعَلَيْكُمْ بِمَسْلَمَةَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَإِنَّهُ رَكِيكٌ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِكُمْ، وَأَعْلِمُوهُ أَنَّكُمْ لَا تَتْبَعُونَ بَنِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبَايِعُوهُ بِالْخِلَافَةِ، وَكَيِّدُوا بِهِ السُّفْيَانِيَّ. وَعَادَ ابْنُ بَيْهَسٍ إِلَى حَوْرَانَ، وَاجْتَمَعَتْ نُمَيْرٌ عَلَى مَسْلَمَةَ، وَبَذَلُوا لَهُ الْبَيْعَةَ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ، وَجَمَعَ مَوَالِيَهُ، وَدَخَلَ عَلَى السُّفْيَانِيِّ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَقَيَّدَهُ، وَقَبَضَ عَلَى رُؤَسَاءِ بَنِي

أُمَيَّةَ فَبَايَعُوهُ، وَأَدْنَى قَيْسًا، وَجَعَلَهُمْ خَاصَّتَهُ، فَلَمَّا عُوفِيَ ابْنُ بَيْهَسٍ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ فَحَصَرَهَا، فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ الْقَيْسِيَّةُ وَهَرَبَ مَسْلَمَةُ وَالسُّفْيَانِيُّ فِي ثِيَابِ النِّسَاءِ إِلَى الْمِزَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَدَخَلَ ابْنُ بَيْهَسٍ دِمَشْقَ، وَغَلَبَ عَلَيْهَا، وَبَقِيَ بِهَا إِلَى أَنْ قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ دِمَشْقَ، وَدَخَلَ إِلَى مِصْرَ، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَخَذَ ابْنَ بَيْهَسٍ مَعَهُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَمَاتَ بِهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَكَانَ الْعَامِلُ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِمُحَمَّدٍ الْأَمِينِ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى، وَهُوَ الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ أَيْضًا. وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْهَادِي لِلْأَمِينِ. وَعَلَى الْبَصْرَةِ لَهُ أَيْضًا مَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، وَكَانَ يَتَشَيَّعُ، وَهُوَ ثِقَةٌ فِي الْحَدِيثِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو نُوَاسٍ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، وَكَانَ عُمْرُهُ تِسْعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالشُّونِيزِيِّ بِبَغْدَاذَ. وَمُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ بْنِ جَرِيرٍ الضَّبِّيُّ مَوْلَاهُمْ. وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ أَبُو يَعْقُوبَ.

ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ] 196 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ تَوْجِيهِ الْأَمِينِ الْجُيُوشَ إِلَى طَاهِرٍ وُعَوْدِهِمْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ الْأَمِينُ أَسَدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مَزْيَدٍ، وَسَيَّرَ عَمَّهُ أَحْمَدَ بْنَ مَزْيَدٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُمَيْدِ بْنِ قَحْطَبَةَ، إِلَى حُلْوَانَ لِحَرْبِ طَاهِرٍ. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَسَدٌ قَالَ: إِنَّهُ لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَرْسَلَ إِلَيَّ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ يَسْتَدْعِينِي، فَجِئْتُهُ، وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَاعِدٌ بِيَدِهِ رُقْعَةٌ قَدْ قَرَأَهَا، وَقَدِ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَنَامُ نَوْمَ الظَّرِبَانِ، وَيَنْتَبِهُ انْتِبَاهَ الذِّئْبِ، هَمُّهُ بَطْنُهُ، يُخَاتِلُ الرُّعَاةَ وَالْكِلَابُ تَرْصُدُهُ، لَا يُفَكِّرُ فِي زَوَالِ نِعْمَةٍ، وَلَا يُرَوِّي فِي إِمْضَاءِ رَأْيٍ، قَدْ أَلْهَاهُ كَأْسُهُ، وَشَغَلَهُ قَدَحُهُ، فَهُوَ يَجْرِي فِي لَهْوِهِ، وَالْأَيَّامُ تُوضَعُ فِي هَلَاكِهِ، قَدْ شَمَّرَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ سَاقٍ، وَفَوَّقَ لَهُ أَصْوَبَ أَسْهُمِهِ، يَرْمِيهِ عَلَى بُعْدِ الدَّارِ بِالْحَتْفِ النَّافِذِ، وَالْمَوْتِ الْقَاصِدِ، وَقَدْ عَبَّى لَهُ الْمَنَايَا عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ، وَنَاطَ لَهُ الْبَلَاءَ فِي أَسِنَّةِ الرِّمَاحِ وَشِفَارِ السُّيُوفِ. ثُمَّ اسْتَرْجَعَ وَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ الْبَعِيثِ: وَمَجْدُولَةٍ جَدْلَ الْعِنَانِ خَرِيدَةٍ ... لَهَا شَعَرٌ جَعْدٌ وَوَجْهٌ مُقَسَّمُ وَثَغْرٌ نَقِيُّ اللَّوْنِ عَذْبٌ مَذَاقُهُ ... يُضِيءُ لَهُ الظَّلْمَاءُ سَاعَةَ تَبْسِمُ

وَثَدْيَانِ كَالْحُقَّيْنِ، وَالْبَطْنُ ضَامِرٌ خَمِيصٌ، وَجَهْمٌ نَارُهُ تَتَضَرَّمُ ... لَهَوْتُ بِهَا لَيْلَ التَّمَامِ ابْنَ خَالِدٍ وَأَنْتَ بِمَرْوِ الرُّوذِ غَيْظًا تَجَرَّمُ ... أَظَلُّ أُنَاغِيهَا وَتَحْتَ ابْنِ خَالِدٍ أُمَيَّةَ نَهْدُ الْمَرْكَلَيْنِ عَثَمْثَمُ ... طَوَاهُ طِرَادُ الْخَيْلِ فِي كُلِّ غَارَةٍ لَهَا عَارِضٌ فِيهِ الْأَسِنَّةُ تُرْزِمُ ... يُقَارِعُ أَتْرَاكَ ابْنِ خَاقَانَ لَيْلَهُ إِلَى أَنْ يَرَى الْإِصْبَاحَ مَا يَتَلَغَّمُ ... فَيُصْبِحُ مِنْ طُولِ الطِّرَادِ وَجِسْمُهُ نَحِيلٌ وَأُضْحِي فِي النَّعِيمِ أُصَمِّمُ ... أُبَاكِرُهَا صَهْبَاءَ كَالْمِسْكِ رِيحُهَا لَهَا أَرَجٌ فِي دَنِّهَا حِينَ يَرْسُمُ ... فَشَتَّانَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ خَالِدٍ أُمَيَّةَ فِي الرِّزْقِ الَّذِي اللَّهُ يَقْسِمُ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: أَبَا الْحَرْثِ! أَنَا وَإِيَّاكَ نَجْرِي إِلَى غَايَةٍ، إِنْ قَصَّرْنَا عَنْهَا ذُمِمْنَا، وَإِنِ اجْتَهَدْنَا فِي بُلُوغِهَا انْقَطَعْنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ شِعْبٌ مِنْ أَصْلٍ، إِنْ قَوِيَ قَوِينَا، وَإِنْ ضَعُفَ ضَعُفْنَا، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلْقَاءَ الْأَمَةِ الْوَكْعَاءِ، يُشَاوِرُ النِّسَاءَ، وَيَعْتَزِمُ عَلَى الرِّيَاءِ، وَقَدْ أَمْكَنَ مَسَامِعَهُ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ وَالْجَسَارَةِ، فَهُمْ يَعِدُونَهُ الظَّفَرَ، وَيُمَنُّونَهُ عَقِبَ الْأَيَّامِ، وَالْهَلَاكُ أَسْرَعُ إِلَيْهِ مِنَ السَّيْلِ إِلَى قِيعَانِ الرَّمْلِ، وَقَدْ خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ نَهْلَكَ بِهَلَاكِهِ، وَنَعْطَبَ بِعَطَبِهِ، وَأَنْتَ فَارِسُ الْعَرَبِ وَابْنُ فَارِسِهَا، وَقَدْ فَزِعَ إِلَيْكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَلِقَاءِ هَذَا الرَّجُلِ، وَأَطْمَعَهُ فِيمَا قِبَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا صِدْقُ الطَّاعَةِ وَفَضْلُ النَّصِيحَةِ، وَالثَّانِي يُمْنُ نَقِيبَتِكَ وَشَدَّةُ بَأْسِكَ، وَقَدْ أَمَرَنِي بِإِزَاحَةِ عِلَلِ (مَا عَلَيْكَ) ، وَبَسْطِ يَدِكَ فِيمَا أَحْبَبْتَ، غَيْرَ أَنَّ الِاقْتِصَادَ رَأْسُ النَّصِيحَةِ، وَمِفْتَاحُ الْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ، فَأَنْجِزْ حَوَائِجَكَ، وَعَجِّلِ الْمُبَادَرَةَ إِلَى عَدُوِّكَ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنَّ يُوَلِّيَكَ اللَّهُ هَذَا الْفَتْحَ، وَيَلُمَّ بِكَ شَعْثَ هَذِهِ الْخِلَافَةِ وَالدَّوْلَةِ.

فَقُلْتُ: أَنَا لِطَاعَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَطَاعَتِكَ مُقْدِمٌ، وَلِكُلِّ مَا دَخَلَ فِيهِ الْوَهْنُ عَلَى عَدُوِّهِ وَعَدُوِّكَ حَرِيصٌ، غَيْرَ أَنَّ الْمُحَارِبَ لَا يَعْمَلُ بِالْغَدْرِ، وَلَا يَفْتَحُ أَمْرَهُ بِالتَّقْصِيرِ وَالْخَلَلِ، وَإِنَّمَا مِلَاكُ الْمُحَارِبِ الْجُنُودُ، وَمِلَاكُ الْجُنُودِ الْمَالُ، وَالَّذِي أَسْأَلُ أَنْ يُؤْمَرَ لِأَصْحَابِي بِرِزْقِ سَنَةٍ، وَتُحْمَلَ مَعَهُمْ أَرْزَاقُ سَنَةٍ، وَيُخَصَّ أَهْلُ الْغَنَاءِ وَالْبِلَاءِ، وَأُبَدِّلَ مَنْ فِيهِمْ مِنَ الضَّعْفَى، وَأَحْمِلَ أَلْفَ رَجُلٍ مِمَّنْ مَعِي عَلَى الْخَيْلِ، وَلَا أُسْأَلَ عَنْ مُحَاسَبَةِ مَا افْتَتَحْتُ مِنَ الْمُدُنِ وَالْكُوَرِ. فَقَالَ: قَدِ اشْتَطَطْتَ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُنَاظَرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ رَكِبَ وَرَكِبْتُ مَعَهُ، فَدَخَلَ قَبْلِي عَلَى الْأَمِينِ، وَأُذِنَ لِي فَدَخَلْتُ، فَمَا كَانَ إِلَّا كَلِمَتَانِ حَتَّى غَضِبَ وَأَمَرَ بِحَبْسِي. وَقِيلَ: إِنَّهُ طَلَبَ أَنْ يَدْفَعَ وَلَدَيِ الْمَأْمُونِ، فَإِنْ أَطَاعَهُ وَإِلَّا قَتَلَهُمَا، فَقَالَ الْأَمِينُ: أَنْتَ أَعْرَابِيٌّ مَجْنُونٌ، أَدْعُوكَ إِلَى وِلَايَةِ أَعِنَّةِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَأُطْعِمُكَ خَرَاجَ كُوَرِ الْجِبَالِ إِلَى خُرَاسَانَ، وَأَرْفَعُ مَنْزِلَتَكَ عَلَى نُظَرَائِكَ مِنْ أَبْنَاءِ الْقُوَّادِ وَالْمُلُوكِ، وَتَدْعُونِي إِلَى قَتْلِ وَلَدَيَّ، وَسَفْكِ دِمَاءِ أَهْلِ بَيْتِي! إِنَّ هَذَا لَلْخُرْقُ وَالتَّخْلِيطُ. وَكَانَ بِبَغْدَاذَ ابْنَانِ لِلْمَأْمُونِ مَعَ أُمِّهِمَا أُمِّ عِيسَى ابْنَةِ الْهَادِي، وَقَدْ طَلَبَهُمَا الْمَأْمُونُ مِنْ أَخِيهِ فِي حَالِ السَّلَامِ، فَمَنَعَهُمَا مِنَ الْمَالِ الَّذِي كَانَ لَهُ، فَلَمَّا حَبَسَ أَسَدًا قَالَ: هَلْ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُفْسِدَهُمْ مَعَ نَبَاهَتِهِمْ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ طَاعَتِهِمْ وَنَصِيحَتِهِمْ. قَالُوا: نَعَمْ، عَمُّهُ أَحْمَدُ بْنُ مَزَيْدٍ، وَهُوَ أَحْسَنُهُمْ طَرِيقَةً، لَهُ بَأْسٌ وَنَجْدَةٌ، وَبَصَرٌ بِسِيَاسَةِ الْحَرْبِ. فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ أَحْضَرَهُ، فَأَتَى الْفَضْلَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ قَحْطَبَةَ، وَهُوَ يُرِيدُهُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى طَاهِرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ يَشِطُّ. قَالَ أَحْمَدُ: فَلَمَّا رَآنِي الْفَضْلُ رَحَّبَ بِي، وَرَفَعَنِي إِلَى صَدْرِ الْمَجْلِسِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ يُدَاعِبُهُ، ثُمَّ قَالَ:

إِنَّا وَجَدْنَا لَكُمْ إِذْ رَثَّ حَبْلُكُمْ ... مِنْ آلِ شَيْبَانَ أُمًّا دُونَكُمْ وَأَبَا الْأَكْثَرُونَ إِذَا عُدَّ الْحَصَى عَدَدًا ... وَالْأَقْرَبُونَ إِلَيْنَا مِنْكُمُ نَسَبَا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أُقْسِمُ لَكَذَلِكَ، وَفِيهِمْ سَدُّ الْخَلَلِ، وَنَكْءُ الْعَدُوِّ، وَدَفْعُ مَعَرَّةِ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ عَنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ. فَقَالَ لَهُ الْفَضْلُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرَى ذِكْرَكَ، فَوَصَفْتُكَ لَهُ، فَأَحَبَّ اصْطِنَاعَكَ وَالتَّنْوِيهَ بِاسْمِكَ، وَأَنْ يَرْفَعَكَ إِلَى مَنْزِلَةٍ لَمْ يَبْلُغْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ. ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْتُ مَعَهُ إِلَى الْأَمِينِ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لِي فِي حَبْسِ أَسَدٍ، وَاعْتَذَرَ إِلَيَّ، وَأَمَرَنِي بِالْمَسِيرِ إِلَى حَرْبِ طَاهِرٍ، فَقُلْتُ: سَأَبْذُلُ فِي طَاعَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُهْجَتِي، وَأَبْلُغُ فِي جِهَادِ عَدُوِّهُ أَفْضَلَ مَا أَمَّلَهُ عِنْدِي وَرَجَاهُ مِنْ غَنَائِي وَكِفَايَتِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. فَأَمَرَ الْفَضْلَ بِأَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ يَأْخُذُ مِنْهُمْ مَنْ أَرَادَ، وَأَمَرَهُ بِالْجِدِّ فِي الْمَسِيرِ وَالتَّجَهُّزِ، فَأَخَذَ مِنَ الْعَسْكَرِ عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَسَارَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ قَحْطَبَةَ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا، وَسَارَ بِهِمْ إِلَى حُلْوَانَ، وَشَفَعَ فِي أَسَدٍ ابْنِ أَخِيهِ، فَأَطْلَقَهُ. وَأَقَامَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ اللَّهِ بِخَانِقِينَ، وَأَقَامَ طَاهِرٌ بِمَوْضِعِهِ، وَدَسَّ الْجَوَاسِيسَ وَالْعُيُونَ، وَكَانُوا يُرْجِفُونَ فِي عَسْكَرِ أَحْمَدَ وَعَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْأَمِينَ قَدْ وَضَعَ الْعَطَاءَ لِأَصْحَابِهِ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِالْأَرْزَاقِ الْوَافِرَةِ، وَلَمْ يَزَلْ يَحْتَالُ فِي وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ، حَتَّى اخْتَلَفُوا، وَانْتَقَضَ أَمْرُهُمْ، وَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَرَجَعُوا عَنْ خَانِقِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْقَوْا طَاهِرًا.

وَتَقَدَّمَ طَاهِرٌ فَنَزَلَ حُلْوَانَ، فَلَمَّا نَزَلَهَا لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى أَتَاهُ هَرْثَمَةُ فِي جَيْشٍ مِنْ عِنْدِ الْمَأْمُونِ، وَمَعَهُ كِتَابٌ إِلَى طَاهِرٍ، يَأْمُرُهُ بِتَسْلِيمِ مَا حَوَى مِنَ الْمُدُنِ وَالْكُوَرِ إِلَى هَرْثَمَةَ، وَيَتَوَجَّهُ هُوَ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَقَامَ هَرْثَمَةُ بِحُلْوَانَ وَحَصَّنَهَا، وَسَارَ طَاهِرٌ إِلَى الْأَهْوَازِ. ذِكْرُ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خُطِبَ لِلْمَأْمُونِ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَفْعِ مَنْزِلَةِ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ خَبَرُ قَتْلِ ابْنِ مَاهَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَبَلَةَ، وَصَحَّ عِنْدَهُ الْخَبَرُ بِذَلِكَ، أَمَرَ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ، وَيُخَاطَبَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَدَعَا الْفَضْلَ بْنَ سَهْلٍ وَعَقَدَ لَهُ عَلَى الْمَشْرِقِ مِنْ جَبَلِ هَمَذَانَ إِلَى التُّبَّتِ طُولًا، وَمِنْ بَحْرِ فَارِسَ إِلَى بَحْرِ الدَّيْلَمِ وَجُرْجَانَ عَرْضًا، وَجَعَلَ لَهُ عِمَالَةً ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً عَلَى سِنَانٍ ذِي شُعْبَتَيْنِ، وَلَقَّبَهُ ذَا الرِّيَاسَتَيْنِ، رِيَاسَةِ الْحَرْبِ، وَالْقَلَمِ، وَحَمَلَ اللِّوَاءَ عَلِيُّ بْنُ هِشَامٍ، وَحَمَلَ الْقَلَمَ نُعَيْمُ بْنُ حَازِمٍ، وَوَلَّى الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ دِيوَانَ الْخَرَاجِ. ذِكْرُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ وَمَوْتِهِ قَدْ ذَكَرْنَا قَبْضَ الرَّشِيدِ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ، وَحَبْسَهُ إِيَّاهُ، فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا حَتَّى مَاتَ الرَّشِيدُ، فَأَخْرَجَهُ الْأَمِينُ مِنَ الْحَبْسِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ [وَمِائَةٍ] ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، فَشَكَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ ذَلِكَ لَهُ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ طَاهِرٍ مَا كَانَ دَخَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى الْأَمِينِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرَى النَّاسَ قَدْ طَمِعُوا فِيكَ، وَجُنْدُكَ قَدْ أَعْيَتْهُمُ الْهَوَامُّ، وَأَضْعَفَتْهُمُ الْحُرُوبُ، وَامْتَلَأَتْ قُلُوبُهُمْ هَيْبَةً لِعَدُوِّهِمْ، فَإِنْ سَيَّرْتَهُمْ إِلَى طَاهِرٍ غَلَبَ بِقَلِيلِ مَنْ مَعَهُ كَثِيرَهُمْ، وَهَزَمَ بِقُوَّةِ نِيَّتِهِ ضَعْفَ نَصَائِحِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ، وَأَهْلُ الشَّامِ قَوْمٌ قَدْ ضَرَسَتْهُمُ الْحَرْبُ، وَأَدَّبَتْهُمُ الشَّدَائِدُ، وَكُلُّهُمْ مُنْقَادٌ (إِلَيَّ مُتَنَازِعٌ إِلَى طَاعَتِي) ، وَإِنْ وَجَّهَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ اتَّخَذْتُ لَهُ مِنْهُمْ

جُنْدًا يَعْظُمُ نِكَايَتُهُمْ فِي عَدُوِّهِ. فَوَلَّاهُ الْأَمِينُ الشَّامَ وَالْجَزِيرَةَ، وَقَوَّاهُ بِمَالٍ وَرِجَالٍ، وَسَيَّرَهُ سَيْرًا حَثِيثًا. فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ الرَّقَّةَ، وَكَاتَبَ رُؤَسَاءَ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَهْلِ الْقُوَّةِ وَالْجَلَدِ وَالْبَأْسِ، فَأَتَوْهُ رَئِيسًا بَعْدَ رَئِيسٍ، وَجَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ، فَأَكْرَمَهُمْ وَمَنَّاهُمْ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، فَمَرِضَ وَاشْتَدَّ مَرَضُهُ. ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ جُنُودِ خُرَاسَانَ الْمُقِيمِينَ فِي عَسْكَرِ الشَّامِ رَأَى دَابَّةً كَانَتْ أُخِذَتْ مِنْهُ فِي وَقْعَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ تَحْتَ بَعْضِ الزَّوَاقِيلِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَيْضًا، فَتَعَلَّقَ بِهَا، وَاجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الزَّوَاقِيلِ وَالْجُنْدِ، فَتَضَارَبُوا، وَاجْتَمَعَتِ الْأَبْنَاءُ وَتَأَلَّبُوا، وَأَتَوُا الزَّوَاقِيلَ وَهُمْ غَارُّونَ، فَوَضَعُوا فِيهِمُ السُّيُوفَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَتَنَادَى الزَّوَاقِيلُ، فَرَكِبُوا خُيُولَهُمْ، وَنَشَبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ. وَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمَلِكِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ يَأْمُرُهُمْ بِالْكَفِّ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَاقْتَتَلُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَأَكْثَرَتِ الْأَبْنَاءُ الْقَتْلَ فِي الزَّوَاقِيلِ، فَأُخْبِرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِذَلِكَ، وَكَانَ مَرِيضًا مُدْنَفًا، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى يَدِهِ، وَقَالَ: وَاذُلَّاهُ! تُسْتَضَامُ الْعَرَبُ فِي دُورِهَا وَبِلَادِهَا! فَغَضِبَ مَنْ كَانَ أَمْسَكَ عَنِ الشَّرِّ مِنَ الْأَبْنَاءِ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَقَامَ بِأَمْرِ الْأَبْنَاءِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ، وَأَصْبَحَ الزَّوَاقِيلُ فَاجْتَمَعُوا بِالرَّقَّةِ، وَاجْتَمَعَ الْأَبْنَاءُ وَأَهْلُ خُرَاسَانَ بِالرَّافِقَةِ. وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ فَقَالَ: يَا أَهْلَ حِمْصَ! الْهَرَبُ أَهْوَنُ مِنَ الْعَطَبِ، وَالْمَوْتُ أَهْوَنُ مِنَ الذُّلِّ، إِنَّكُمْ قَدْ بَعِدْتُمْ عَنْ بِلَادِكُمْ، تَرْجُونَ الْكَثْرَةَ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَالْعِزَّةَ بَعْدَ الذِّلَّةِ، أَلَا وَفِي الشَّرِّ وَقَعْتُمْ، وَفِي حَوْمَةِ الْمَوْتِ أَنَخْتُمْ، إِنَّ الْمَنَايَا فِي شَوَارِبِ الْمُسَوِّدَةِ وَقَلَانِسِهِمْ، النَّفِيرَ النَّفِيرَ، قَبْلَ أَنْ يَنْقَطِعَ السَّبِيلُ، وَيَنْزِلَ الْأَمْرُ الْجَلِيلُ، وَيَفُوتَ الْمَطْلَبُ، وَيَعْسَرَ الْمَهْرَبُ. وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ كَلْبٍ فِي غَرْزِ نَاقَتِهِ، فَقَالَ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا وَإِنِّي سَائِرٌ، فَمَنْ أَرَادَ الِانْصِرَافَ فَلْيَنْصَرِفْ مَعِي! ثُمَّ سَارَ فَسَارَ مَعَهُ عَامَّةُ أَهْلِ الشَّامِ.

وَأَحْرَقَتِ الزَّوَاقِيلُ مَا كَانَ التُّجَّارُ قَدْ جَمَعُوهُ مِنَ الْأَعْلَافِ، وَأَقْبَلَ نَصْرُ بْنُ شَبَثٍ الْعُقَيْلِيُّ، ثُمَّ حَمَلَ وَأَصْحَابُهُ، فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَصَبَرَ الْجُنْدُ لَهُمْ، وَكَانَ أَكْثَرُ الْقَتْلِ فِي الزَّوَاقِيلِ لِكَثِيرِ بْنِ قَادِرَةَ، وَأَبِي الْفِيلِ، وَدَاوُدَ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى الْخُرَاسَانِيِّ، وَانْهَزَمَتِ الزَّوَاقِيلُ، وَكَانَ عَلَى حَامِيَتِهِمْ يَوْمَئِذٍ نَصْرُ بْنُ شَبَثٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ السُّلَمِيُّ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ زُفَرَ الْكِلَابِيُّ. ثُمَّ تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ بِالرَّقَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. ذِكْرُ خَلْعِ الْأَمِينِ وَالْمُبَايِعَةِ لِلْمَأْمُونِ وُعَوْدِ الْأَمِينِ إِلَى الْخِلَافَةِ فَلَمَّا مَاتَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ نَادَى الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ فِي الْجُنْدِ، فَجَعَلَ الرَّجَّالَةَ فِي السُّفُنِ، وَسَارَ الْفُرْسَانُ عَلَى الظَّهْرِ فِي رَجَبٍ، فَلَمَّا قَدِمَ بَغْدَاذَ لَقِيَهُ الْقُوَّادُ وَأَهْلُ بَغْدَاذَ، وَعُمِلَتْ لَهُ الْقِبَابُ، وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ. فَلَمَّا كَانَ جَوْفُ اللَّيْلِ بَعَثَ إِلَيْهِ الْأَمِينُ يَأْمُرُهُ بِالرُّكُوبِ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: مَا أَنَا بِمُغَنٍّ، وَلَا مُسَامِرٍ، وَلَا مُضْحِكٍ، وَلَا وَلِيتُ لَهُ عَمَلًا وَلَا مَالًا، فَلِأَيِّ شَيْءٍ يُرِيدُنِي هَذِهِ السَّاعَةَ؟ انْصَرِفْ، فَإِذَا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَيْهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَصْبَحَ الْحُسَيْنُ، فَوَافَى بَابَ الْجِسْرِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَبْنَاءِ، إِنَّ خِلَافَةَ اللَّهِ لَا تُجَاوَرُ بِالْبَطَرِ، وَنِعْمَتَهُ لَا تُسْتَصْحَبُ بِالتَّجَبُّرِ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُ أَنْ يُوقِعَ أَدْيَانَكُمْ، وَيَنْقُلَ عِزَّكُمْ إِلَى غَيْرِكُمْ، وَهُوَ صَاحِبُ الزَّوَاقِيلِ، وَبِاللَّهِ إِنْ طَالَتْ بِهِ مُدَّةٌ لَيَرْجِعَنَّ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ، فَاقْطَعُوا أَثَرَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْطَعَ آثَارَكُمْ، وَضَعُوا عِزَّهُ قَبْلَ أَنْ يَضَعَ عِزَّكُمْ، فَوَاللَّهِ لَا يَنْصُرُهُ نَاصِرٌ مِنْكُمْ إِلَّا خُذِلَ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِأَحَدٍ هَوَادَةٌ، وَلَا يُرَاقَبُ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِعُهُودِهِ، وَالْحِنْثِ بِأَيْمَانِهِ. ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ بِعُبُورِ الْجِسْرِ فَعَبَرُوا، وَصَارُوا إِلَى سِكَّةِ بَابِ خُرَاسَانَ، وَتَسَرَّعَتْ

خُيُولُ الْأَمِينِ إِلَى الْحُسَيْنِ، فَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْأَمِينِ وَتَفَرَّقُوا، فَخَلَعَ الْحُسَيْنُ الْأَمِينَ يَوْمَ الْأَحَدِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ، وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ لِلْمَأْمُونِ مِنَ الْغَدِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ وَثَبَ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى بِالْأَمِينِ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ قَصْرِ الْخُلْدِ، وَحَبَسَهُ بِقَصْرِ الْمَنْصُورِ، وَأَخْرَجَ أُمَّهُ زُبَيْدَةَ أَيْضًا، فَجَعَلَهَا مَعَ ابْنِهَا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ طَالَبَ النَّاسُ الْحُسَيْنَ بِالْأَرْزَاقِ، وَمَاجُوا بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ بِبَابِ الشَّامِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! وَاللَّهِ مَا أَدْرِي بِأَيِّ سَبَبٍ تَأَمَّرَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْنَا، وَيَتَوَلَّى هَذَا الْأَمْرَ دُونَنَا؟ مَا هُوَ بِأَكْبَرِنَا سِنًّا، وَمَا هُوَ بِأَكْبَرِنَا حَسَبًا، وَلَا بِأَعْظَمِنَا مَنْزِلَةً وَغِنًى، وَإِنِّي أَوَّلُكُمْ أَنْقُضُ عَهْدَهُ، وَأُظْهِرُ الْإِنْكَارَ لِفِعْلِهِ، فَمَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِي فَلْيَعْتَزِلْ مَعِي. وَقَالَ أَسَدٌ الْحَرْبِيُّ: يَا مَعْشَرَ الْحَرْبِيَّةِ! هَذَا يَوْمٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ، إِنَّكُمْ قَدْ نِمْتُمْ فَطَالَ نَوْمُكُمْ، وَتَأَخَّرْتُمْ فَتَقَدَّمَ عَلَيْكُمْ غَيْرُكُمْ، وَقَدْ ذَهَبَ أَقْوَامٌ بِخَلْعِ الْأَمِينِ، فَاذْهَبُوا أَنْتُمْ بِذِكْرِ فَكِّهِ وَإِطْلَاقِهِ. وَأَقْبَلَ شَيْخٌ عَلَى فَرَسٍ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، هَلْ تَعْتَدُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ بِقَطْعِ أَرْزَاقِهِمْ؟ قَالُوا: لَا! قَالَ: فَهَلْ قَصَّرَ بِأَحَدٍ مِنْ رُؤَسَائِكُمْ، وَعَزَلَ أَحَدًا مِنْ قُوَّادِكُمْ؟ قَالُوا: لَا! قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ خَذَلْتُمُوهُ، وَأَعَنْتُمْ عَدُوَّهُ عَلَى أَسْرِهِ؟ وَايْمُ اللَّهِ مَا قَتَلَ قَوْمٌ خَلِيفَتَهُمْ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السَّيْفَ، انْهَضُوا إِلَى خَلِيفَتِكُمْ فَقَاتِلُوا عَنْهُ مَنْ أَرَادَ خَلْعَهُ. فَنَهَضُوا وَتَبِعَهُمْ أَهْلُ الْأَرْبَاضِ، فَقَاتَلُوا الْحُسَيْنَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَأُسِرَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَدَخَلَ أَسَدٌ الْحَرْبِيُّ عَلَى الْأَمِينِ، فَكَسَرَ قُيُودَهُ، وَأَقْعَدَهُ فِي مَجْلِسِ الْخِلَافَةِ.

وَرَأَى الْأَمِينُ أَقْوَامًا لَيْسَ عَلَيْهِمْ لِبَاسُ الْجُنْدِ، وَأَمَرَهُمْ بِأَخْذِ السِّلَاحِ، فَانْتَهَبَتْهُ الْغَوْغَاءُ، وَنَهَبُوا غَيْرَهُ. وَحُمِلَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ أَسِيرًا، فَلَامَهُ، فَاعْتَذَرَ لَهُ الْحُسَيْنُ، فَأَطْلَقَهُ، وَأَمَرَهُ بِجَمْعِ الْجُنْدِ، وَمُحَارَبَةِ أَصْحَابِ الْمَأْمُونِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَوَلَّاهُ مَا وَرَاءَ بَابِهِ، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى حُلْوَانَ، فَوَقَفَ الْحُسَيْنُ بِبَابِ الْجِسْرِ وَالنَّاسُ يُهَنِّئُونَهُ، فَلَمَّا خَفَّ عَنْهُ النَّاسُ قَطَعَ الْجِسْرَ وَهَرَبَ، فَنَادَى الْأَمِينُ فِي الْجُنْدِ يَطْلُبُهُ، فَرَكِبُوا كُلُّهُمْ، فَأَدْرَكُوهُ بِمَسْجِدِ كَوْثَرٍ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ بَغْدَاذَ، فَقَاتَلَهُمْ فَعَثَرَ بِهِ فَرَسُهُ، فَسَقَطَ عَنْهُ، فَقُتِلَ وَأَخَذُوا رَأْسَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَمِينَ كَانَ اسْتَوْزَرَهُ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ خَاتَمَهُ. وَجَدَّدَ الْجُنْدُ الْبَيْعَةَ لِلْأَمِينِ بَعْدَ قَتْلِ الْحُسَيْنِ بِيَوْمٍ، وَكَانَ قَتْلُهُ خَامِسَ عَشَرَ رَجَبٍ، فَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ هَرَبَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ وَاخْتَفَى. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ طَاهِرٌ بِالْأَهْوَازَ لَمَّا نَزَلَ طَاهِرٌ بِشَلَاشَانَ وَجَّهَ الْحُسَيْنَ بْنَ عُمَرَ الرُّسْتَمِيَّ إِلَى الْأَهْوَازِ وَأَمَرَهُ بِالْحَذَرِ، فَلَمَّا تَوَجَّهَ أَتَتْ طَاهِرًا عُيُونُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ الْمُهَلَّبِيُّ، وَكَانَ عَامِلًا لِلْأَمِينِ عَلَى الْأَهْوَازِ، قَدْ تَوَجَّهَ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ يُرِيدُ جُنْدَيْسَابُورَ لِيَحْمِيَ الْأَهْوَازَ مِنْ أَصْحَابِ طَاهِرٍ، فَدَعَا طَاهِرٌ عِدَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ طَالُوتَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ بُخَارَاخُذَاهَ وَغَيْرُهُمْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجِدُّوا السَّيْرَ، حَتَّى يَتَّصِلَ أَوَّلُهُمْ بِآخِرِ أَصْحَابِ الرُّسْتَمِيِّ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى مَدَدٍ أَمَدُّوهُ. فَسَارُوا حَتَّى شَارَفُوا الْأَهْوَازَ وَلَمْ يَلْقَوْا أَحَدًا، وَبَلَغَ خَبَرُهُمْ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ عَسْكَرَ مُكْرَمٍ، وَصَيَّرَ الْعُمْرَانَ وَالْمَاءَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَتَخَوَّفَ طَاهِرٌ أَنْ يَعْجَلَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَأَمَدَّهُمْ بِقُرَيْشِ بْنِ شِبْلٍ، وَتَوَجَّهَ هُوَ بِنَفْسِهِ حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْهُمْ، وَسَيَّرَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ الْمَأْمُونِيَّ إِلَى قُرَيْشٍ وَالرُّسْتَمِيِّ، فَسَارَتْ تِلْكَ الْعَسَاكِرُ حَتَّى أَشْرَفُوا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بِعَسْكَرِ مُكْرَمٍ، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي الْمُطَاوَلَةِ وَالْمُنَاجَزَةِ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ

بِالرُّجُوعِ إِلَى الْأَهْوَازِ وَالتَّحَصُّنِ بِهَا، وَأَنْ يَسْتَدْعِيَ الْجُنْدَ مِنَ الْبَصْرَةِ وَقَوْمَهُ الْأَزْدَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَسَيَّرَ طَاهِرٌ وَرَاءَهُ قُرَيْشَ بْنَ شِبْلٍ، وَأَمَرَهُ بِمُبَادَرَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَحَصَّنَ بِالْأَهْوَازِ، فَسَبَقَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، وَوَصَلَ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ قُرَيْشٌ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَالْتَفَتَ مُحَمَّدٌ إِلَى مَنْ مَعَهُ مِنْ مَوَالِيهِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ قَدْ رَجَعُوا عَنْهُ، فَقَالَ لِمَوَالِيهِ: مَا رَأْيُكُمْ؟ إِنِّي أَرَى مَنْ مَعِي قَدِ انْهَزَمَ، وَلَسْتُ آمَنُ خِذْلَانَهُمْ، وَلَا أَرْجُو رَجْعَتَهُمْ، وَقَدْ عَزَمْتُ عَلَى النُّزُولِ وَالْقِتَالِ بِنَفْسِي حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بِمَا أَحَبَّ، فَمَنْ أَرَادَ الِانْصِرَافَ فَلْيَنْصَرِفْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ تَبْقَوْا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَمُوتُوا. فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَنْصَفْنَاكَ إِذًا أَنْ تَكُونَ قَدْ أَعْتَقْتَنَا مِنَ الرِّقِّ، وَرَفَعْتَنَا مِنَ الضَّعَةِ، وَأَغْنَيْتَنَا بَعْدَ الْقِلَّةِ، ثُمَّ نَخْذُلُكَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَلَعَنَ اللَّهُ الدُّنْيَا وَالْعَيْشَ بَعْدَكَ! ثُمَّ نَزَلُوا فَعَرْقَبُوا دَوَابَّهُمْ، وَحَمَلُوا عَلَى أَصْحَابِ قُرَيْشٍ حَمْلَةً مُنْكَرَةً، فَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الْقَتْلَ، وَقُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُهَلَّبِيُّ. وَاسْتَوْلَى طَاهِرٌ عَلَى الْأَهْوَازِ وَأَعْمَالِهَا، وَاسْتَعْمَلَ الْعُمَّالَ عَلَى الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرِينِ وَعُمَانَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَهَالِبَةِ، وَجُرِحَ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ عِدَّةُ جِرَاحَاتٍ، وَقُطِعَتْ يَدُهُ: فَمَا لُمْتُ نَفْسِي غَيْرَ أَنِّي لَمْ أُطِقْ ... حَرَاكًا، وَأَنِّي كُنْتُ بِالضَّرْبِ مُثْخَنَا وَلَوْ سَلِمَتْ كَفَّايَ قَاتَلْتُ دُونَهُ ... وَضَارَبْتُ عَنْهُ الطَّاهِرِيَّ الْمُلَعَّنَا فَتًى لَا يَرَى أَنْ يَخْذُلَ السَّيْفَ فِي الْوَغَى ... إِذَا ادَّرَعَ الْهَيْجَاءَ فِي النَّقْعِ وَاكْتَنَى وَلَمَّا دَخَلَ ابْنُ أَبِي عُيَيْنَةَ الْمُهَلَّبِيُّ عَلَى طَاهِرٍ وَمَدَحَهُ، فَحِينَ انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: مَا سَاءَ ظَنِّي إِلَّا بِوَاحِدَةٍ ... فِي الصَّدْرِ مَحْصُورَةٍ عَنِ الْكَلِمِ تَبَسَّمَ طَاهِرٌ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ سَاءَنِي مِنْ ذَلِكَ مَا سَاءَكَ، وَآلَمَنِي مَا آلَمَكَ، وَلَقَدْ كُنْتُ كَارِهًا لِمَا كَانَ، غَيْرَ أَنَّ الْحَتْفَ وَاقِعٌ، وَالْمَنَايَا نَازِلَةٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَطْعِ الْأَوَاصِرِ وَالشُّكْرِ لِلْأَقَارِبِ فِي تَأْكِيدِ الْخِلَافَةِ، وَالْقِيَامِ بِحَقِّ الطَّاعَةِ. فَظَنَّ مَنْ حَضَرَ أَنَّهُ أَرَادَ

مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ طَاهِرٍ عَلَى وَاسِطٍ وَغَيْرِهَا ثُمَّ سَارَ طَاهِرٌ مِنَ الْأَهْوَازِ إِلَى وَاسِطٍ، وَبِهَا السِّنْدِيُّ بْنُ يَحْيَى الْحَرَشِيُّ، وَالْهَيْثَمُ بْنُ شُعْبَةَ، خَلِيفَةُ خُزَيْمَةَ بْنِ خَازِمٍ، فَجَعَلَ طَاهِرٌ كُلَّمَا تَقَدَّمَ نَحْوَهُمْ تَقَوَّضَتِ الْمَسَالِحُ وَالْعُمَّالُ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى أَتَى وَاسِطًا، فَهَرَبَ السِّنْدِيُّ وَالْهَيْثَمُ بْنُ شُعْبَةَ عَنْهَا، وَاسْتَوْلَى طَاهِرٌ عَلَى وَاسِطٍ، وَوَجَّهَ قَائِدًا مِنْ قُوَّادِهِ إِلَى الْكُوفَةِ عَلَيْهَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى الْهَادِي، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ خَلَعَ الْأَمِينَ، وَبَايَعَ لِلْمَأْمُونِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى طَاهِرٍ. وَنَزَلَتْ خَيْلُ طَاهِرٍ فَمَ النِّيلِ، وَغَلَبَ عَلَى مَا بَيْنَ وَاسِطٍ وَالْكُوفَةِ، وَكَتَبَ الْمَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ عَامِلًا لِلْأَمِينِ عَلَى الْبَصْرَةِ، إِلَى طَاهِرٍ بِبَيْعَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَأَتَتْهُ بَيْعَةُ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ بِالْمَوْصِلِ لِلْمَأْمُونِ، وَخَلْعُ الْأَمِينِ، وَكَانَ هَذَا جَمِيعُهُ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَقَرَّهُمْ طَاهِرٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَوَلَّى دَاوُدَ بْنَ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيَّ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَاسْتَعْمَلَ يَزِيدَ بْنَ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ الْبَجَلِيَّ عَلَى الْيَمَنِ، وَوَجَّهَ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ وَدَاوُدَ بْنَ مُوسَى إِلَى قَصْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، (وَأَقَامَ طَاهِرٌ بِجَرْجَرَايَا) . فَلَمَّا بَلَغَ الْأَمِينَ خَبَرُ عَامِلِهِ بِالْكُوفَةِ وَخَلْعِهِ وَالْبَيْعَةِ لِلْمَأْمُونِ - وَجَّهَ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ الْقَائِدَ، وَمُحَمَّدَ بْنَ حَمَّادٍ الْبَرْبَرِيَّ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُبَيِّتَا الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ وَدَاوُدَ بِالْقَصْرِ، فَبَلَغَ الْحَارِثَ الْخَبَرُ، فَرَكِبَ هُوَ وَدَاوُدُ فَعَبَرَا فِي مَخَاضَةٍ فِي سُورَاءَ إِلَيْهِمْ، فَأَوْقَعَا بِهِمْ وَقْعَةً شَدِيدَةً، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَ أَهْلُ بَغْدَادَ. وَوَجَّهَ الْأَمِينُ أَيْضًا الْفَضْلَ بْنَ مُوسَى بْنِ عِيسَى الْهَاشِمِيَّ عَامِلًا عَلَى الْكُوفَةِ فِي

خَيْلٍ، فَبَلَغَ طَاهِرًا الْخَبَرُ، فَوَجَّهَ مُحَمَّدَ بْنَ الْعَلَاءِ فِي جَيْشٍ إِلَى طَرِيقِهِ، فَلَقِيَ الْفَضْلَ بِقَرْيَةِ الْأَعْرَابِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْفَضْلُ: إِنِّي سَامِعٌ مُطِيعٌ، وَإِنَّمَا كَانَ مَخْرَجِي كَيْدًا مِنِّي لِمُحَمَّدٍ الْأَمِينِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْعَلَاءِ: لَسْتُ أَعْرِفُ مَا تَقُولُ، فَإِنْ أَرَدْتَ طَاهِرًا فَارْجِعْ وَرَاءَكَ، فَهُوَ أَسْهَلُ الطَّرِيقِ. فَرَجَعَ الْفَضْلُ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ: كُونُوا عَلَى حَذَرٍ، فَلَا آمَنُ مَكْرَهُ. ثُمَّ إِنَّ الْفَضْلَ رَجَعَ إِلَى ابْنِ الْعَلَاءِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ أُهْبَةٍ، فَرَآهُ مُتَيَقِّظًا حَذِرًا، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا كَأَشَدِّ مَا يَكُونُ مِنَ الْقِتَالِ، فَانْهَزَمَ الْفَضْلُ وَأَصْحَابُهُ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ طَاهِرٍ عَلَى الْمَدَائِنِ وَنُزُولِهِ بِصَرْصَرٍ ثُمَّ إِنَّ طَاهِرًا سَارَ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَبِهَا جَيْشٌ كَثِيرٌ لِلْأَمِينِ، عَلَيْهِمُ الْبَرْمَكِيُّ قَدْ تَحَصَّنَ بِهَا، وَالْمَدَدُ يَأْتِيهِ كُلَّ يَوْمٍ، وَالْخِلَعُ وَالصِّلَاتُ، فَلَمَّا قَرُبَ طَاهِرٌ مِنْهُ وَجَّهَ قُرَيْشَ بْنَ شِبْلٍ وَالْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ الْمَأْمُونِيَّ فِي مُقَدِّمَتِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُ الْبَرْمَكِيِّ طُبُولَ طَاهِرٍ أَسْرَجُوا وَرَكِبُوا، وَأَخَذَ الْبَرْمَكِيُّ فِي التَّعْبِيَةِ، فَكَانَ كُلَّمَا سَوَّى صَفًّا انْتَقَضَ وَاضْطَرَبَ، وَانْضَمَّ أَوَّلُهُمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِذْلَانِ! ثُمَّ قَالَ لِصَاحِبِ سَاقَتِهِ: خَلِّ سَبِيلَ النَّاسِ، فَلَا خَيْرَ عِنْدَهُمْ. فَرَكِبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا نَحْوَ بَغْدَاذَ، فَنَزَلَ طَاهِرٌ الْمَدَائِنَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى تِلْكَ النَّوَاحِي، ثُمَّ سَارَ إِلَى صَرْصَرٍ، فَعَقَدَ بِهَا جِسْرًا وَنَزَلَهَا. ذِكْرُ الْبَيْعَةِ لِلْمَأْمُونِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ - الْأَمِينَ، وَهُوَ عَامِلُهُ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَبَايَعَ لِلْمَأْمُونِ. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ مَا كَانَ مِنَ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ وَمَا فَعَلَ طَاهِرٌ، وَكَانَ الْأَمِينُ قَدْ كَتَبَ إِلَى دَاوُدَ بْنِ عِيسَى يَأْمُرُهُ بِخَلْعِ الْمَأْمُونِ، وَبَعَثَ أَخَذَ الْكِتَابَيْنِ مِنَ الْكَعْبَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ - فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَمَعَ دَاوُدُ وُجُوهَ النَّاسِ وَمَنْ كَانَ شَهِدَ فِي الْكِتَابَيْنِ، وَكَانَ دَاوُدُ أَحَدَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ عَلِمْتُمْ مَا أَخَذَ الرَّشِيدُ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ عِنْدَ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، لِابْنَيْهِ، لَنَكُونَنَّ مَعَ الْمَظْلُومِ مِنْهُمَا عَلَى الظَّالِمِ، وَمَعَ الْمَغْدُورِ بِهِ عَلَى الْغَادِرِ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَيْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ بَدَأَ بِالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْغَدْرِ وَالنَّكْثِ عَلَى أَخَوَيْهِ

الْمَأْمُونِ وَالْمُؤْتَمَنِ، وَخَلَعَهُمَا عَاصِيًا لِلَّهِ، وَبَايَعَ لِابْنِهِ، طِفْلٍ صَغِيرٍ، رَضِيعٍ لَمْ يُفْطَمْ، وَأَخَذَ الْكِتَابَيْنِ مِنَ الْكَعْبَةِ، فَحَرَقَهُمَا ظَالِمًا، فَقَدْ رَأَيْتُ خَلْعَهُ، وَالْبَيْعَةَ لِلْمَأْمُونِ، إِذْ كَانَ مَظْلُومًا مَبْغِيًّا عَلَيْهِ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَنَادَى فِي شِعَابِ مَكَّةَ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَخَطَبَهُمْ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَخَلَعَ مُحَمَّدًا وَبَايَعَ لِلْمَأْمُونِ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِهِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ عَامِلُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ، فَخَلَعَ سُلَيْمَانُ الْأَمِينَ، وَبَايَعَ لِلْمَأْمُونِ. فَلَمَّا أَتَاهُ الْخَبَرُ بِذَلِكَ سَارَ مِنْ مَكَّةَ عَلَى طَرِيقِ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ إِلَى فَارِسَ، ثُمَّ إِلَى كَرْمَانَ، حَتَّى صَارَ إِلَى الْمَأْمُونِ بِمَرْوَ، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَسُرَّ الْمَأْمُونُ بِذَلِكَ سُرُورًا شَدِيدًا، وَتَيَمَّنَ بِبَرَكَةِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. (وَكَانَتِ الْبَيْعَةُ بِهِمَا فِي رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَاسْتَعْمَلَ دَاوُدَ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ) ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ وِلَايَةَ عَكَّ، وَأَعْطَاهُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ مَعُونَةً، وَسَيَّرَ مَعَهُ ابْنَ أَخِيهِ الْعَبَّاسَ بْنَ مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى، وَجَعَلَهُ عَلَى الْمَوْسِمِ، فَسَارَا حَتَّى أَتَيَا طَاهِرًا بِبَغْدَاذَ، فَأَكْرَمَهُمَا وَقَرَّبَهُمَا، وَوَجَّهَ مَعَهُمَا يَزِيدَ بْنَ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ الْبَجَلِيَّ عَامِلًا عَلَى الْيَمَنِ، وَبَعَثَ مَعَهُ خَيْلًا كَثِيفَةً، فَلَمَّا قَدِمَ الْيَمَنَ دَعَا أَهْلَهَا إِلَى خَلْعِ الْأَمِينِ وَالْبَيْعَةِ لِلْمَأْمُونِ، وَوَعَدَهُمُ الْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ، وَأَخْبَرَهُمْ بِسِيرَةِ الْمَأْمُونِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى مَا طَلَبَ، وَخَلَعُوا مُحَمَّدًا وَبَايَعُوا لِلْمَأْمُونِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى طَاهِرٍ وَإِلَى الْمَأْمُونِ، وَسَارَ فِيهِمْ أَحْسَنَ سِيرَةٍ، وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ الْأَمِينُ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَقَدَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ، فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ، نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ لِوَاءٍ لِقُوَّادٍ شَتَّى، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ نَهِيكٍ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ، فَسَارُوا إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا بِنَوَاحِي النَّهْرَوَانِ فِي رَمَضَانَ فَانْهَزَمُوا، وَأُسِرَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى فَسَيَّرَهُ هَرْثَمَةُ إِلَى الْمَأْمُونِ، وَرَحَلَ هَرْثَمَةُ فَنَزَلَ النَّهْرَوَانَ.

ذِكْرُ وُثُوبِ الْجُنْدِ بِطَاهِرٍ وَالْأَمِينِ وَنُزُولِهِ بِبَغْدَاذَ وَأَقَامَ طَاهِرٌ بِصَرْصَرٍ مُشَمِّرًا فِي مُحَارَبَةِ الْأَمِينِ، وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ جَيْشٌ إِلَّا هَزَمَهُ. وَبَذَلَ الْأَمِينُ الْأَمْوَالَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ طَاهِرٍ، فَسَارَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلَافٍ، فَسُرَّ بِهِمُ الْأَمِينُ، وَوَعَدَهُمْ وَمَنَّاهُمْ، وَفَرَّقَ فِيهِمْ مَالًا عَظِيمًا، وَغَلَّفَ لِحَاهُمْ بِالْغَالِيَةِ، فَسُمُّوا قُوَّادَ الْغَالِيَةِ، وَقَوَّدَ جَمَاعَةً مِنَ الْحَرْبِيَّةِ، وَوَجَّهَهُمْ إِلَى دَسْكَرَةِ الْمَلِكِ وَالنَّهْرَوَانِ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ كَثِيرٌ، وَنَدَبَ جَمَاعَةً مِنْ قُوَّادِ بَغْدَاذَ، وَوَجَّهَهُمْ إِلَى الْيَاسِرِيَّةِ، وَالْكَوْثَرِيَّةِ، وَفَرَّقَ الْجَوَاسِيسَ فِي أَصْحَابِ طَاهِرٍ، وَدَسَّ إِلَى رُؤَسَاءِ الْجُنْدِ، فَأَطْمَعَهُمْ وَرَغَّبَهُمْ، فَشَغَّبُوا عَلَى طَاهِرٍ، وَاسْتَأْمَنَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الْأَمِينِ، فَانْضَمُّوا إِلَى عَسْكَرِهِ، وَسَارُوا حَتَّى أَتَوْا صَرْصَرًا، فَعَبَّأَ طَاهِرٌ أَصْحَابَهُ كَرَادِيسَ، وَسَارَ فِيهِمْ يُمَنِّيهِمْ وَيُحَرِّضُهُمْ، وَيَعِدُهُمُ النَّصْرَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاقْتَتَلُوا مَلِيًّا مِنَ النَّهَارِ، ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ الْأَمِينِ، وَغَنِمَ عَسْكَرُ طَاهِرٍ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ السِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَبَلَغَ ذَلِكَ الْأَمِينَ فَأَخْرَجَ الْأَمْوَالَ وَفَرَّقَهَا، وَجَمَعَ أَهْلَ الْأَرْبَاضِ، وَقَوَّدَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَفَرَّقَ فِيهِمُ الْأَمْوَالَ، وَأَعْطَى كُلَّ قَائِدٍ مِنْهُمْ قَارُورَةَ غَالِيَةٍ، وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي أَجْنَادِ الْقُوَّادِ وَأَصْحَابِهِمْ شَيْئًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ طَاهِرًا فَرَاسَلَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ وَاسْتَمَالَهُمْ، وَأَغْرَى أَصَاغِرَهُمْ بِأَكَابِرِهِمْ، فَشَغَبُوا عَلَى الْأَمِينِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَصَعُبَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِاسْتِمَالَتِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْتَأْمِنَةِ وَالْمُحْدَثِينَ، فَقَاتَلُوهُمْ، وَرَاسَلَهُمْ طَاهِرٌ وَرَاسَلُوهُ، وَأَخَذَ رَهَائِنَهُمْ عَلَى بَذْلِ الطَّاعَةِ، وَأَعْطَاهُمُ الْأَمْوَالَ. ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَصَارَ إِلَى مَوْضِعِ الْبُسْتَانِ الَّذِي عَلَى بَابِ الْأَنْبَارِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَنَزَلَ بِقُوَّادِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَنَزَلَ مَنِ اسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ مِنْ جُنْدِ الْأَمِينِ فِي الْبُسْتَانِ وَالْأَرْبَاضِ، وَأَضْعَفَ لِلْقُوَّادِ وَأَبْنَائِهِمْ وَالْخَوَاصِّ - الْعَطَاءَ، وَنَقَّبَ أَهْلُ السُّجُونِ السُّجُونَ، وَخَرَجُوا مِنْهَا، وَفُتِنَ النَّاسُ وَسَاءَتْ حَالُهُمْ، وَوَثَبَ الشُّطَّارُ عَلَى أَهْلِ الصَّلَاحِ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِعَسْكَرِ طَاهِرٍ

حَالٌ لِتَفَقُّدِهِ حَالَهُمْ، وَأَخْذِهِ عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ، وَغَادَى الْقِتَالَ وَرَاوَحَهُ، حَتَّى تَوَاكَلَ الْفَرِيقَانِ وَخَرِبَتِ الدِّيَارُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى، وَدَعَا لِلْمَأْمُونِ بِالْخِلَافَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَوْسِمٍ دُعِيَ لَهُ فِيهِ بِالْخِلَافَةِ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِإِفْرِيقِيَّةَ مَعَ أَهْلِ طَرَابُلُسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَ أَبُو عِصَامٍ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ أَمِيرِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَحَارَبَهُمْ إِبْرَاهِيمُ فَظَفِرَ بِهِمْ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ ابْنُ الْأَغْلَبِ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ عَلَى طَرَابُلُسِ الْغَرْبِ، فَلَمَّا قَدِمَ إِلَيْهَا ثَارَ عَلَيْهِ الْجُنْدُ فَحَصَرُوهُ فِي دَارِهِ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُمْ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَبْعُدْ عَنِ الْبَلَدِ حَتَّى اجْتَمَعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَوَضَعَ الْعَطَاءَ، فَأَتَاهُ الْبَرْبَرُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَكَانَ يُعْطِي الْفَارِسَ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَيُعْطِي الرَّاجِلَ فِي الْيَوْمِ دِرْهَمَيْنِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ، فَزَحَفَ بِهِمْ إِلَى طَرَابُلُسَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْجُنْدُ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ جُنْدُ طَرَابُلُسَ، وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَدِينَةَ وَأَمَّنَ النَّاسَ، وَأَقَامَ بِهَا. ثُمَّ عَزَلَهُ أَبُوهُ، وَاسْتَعْمَلَ بَعْدَهُ سُفْيَانَ بْنَ الْمَضَاءِ، فَثَارَتْ هَوَّارَةُ بِطَرَابُلُسَ، فَخَرَجَ الْجُنْدُ إِلَيْهِمْ، وَالْتَقَوْا فَاقْتَتَلُوا، فَهُزِمَ الْجُنْدُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَتَبِعَهُمْ هَوَّارَةُ، فَخَرَجَ الْجُنْدُ هَارِبِينَ إِلَى الْأَمِيرِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ فَهَدَمُوا أَسْوَارَهَا. وَبَلَغَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَغْلَبِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ عَبْدَ اللَّهِ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ

أَلْفَ فَارِسٍ، فَاقْتَتَلَ هُوَ وَالْبَرْبَرُ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَدَخَلَ طَرَابُلُسَ وَبَنَى سُورَهَا. وَبَلَغَ خَبَرُ هَزِيمَةِ الْبَرْبَرِ إِلَى عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رُسْتَمَ، وَجَمَعَ الْبَرْبَرَ وَحَرَّضَهُمْ، وَأَقْبَلَ بِهِمْ إِلَى طَرَابُلُسَ، وَهُمْ جَمْعٌ عَظِيمٌ، غَضَبًا لِلْبَرْبَرِ وَنُصْرَةً لَهُمْ، فَنَزَلُوا عَلَى طَرَابُلُسَ وَحَصَرُوهَا، فَسَدَّ أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بَابَ زَنَاتَةَ، وَكَانَ يُقَاتِلُ مِنْ بَابِ هَوَّارَةَ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ أَبُوهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَغْلَبِ، وَعَهِدَ بِالْإِمَارَةِ لِوَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَخَذَ أَخُوهُ زِيَادَةُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ لَهُ الْعُهُودَ عَلَى الْجُنْدِ، وَسَيَّرَ الْكِتَابَ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، يُخْبِرُهُ بِمَوْتِ أَبِيهِ، وَبِالْإِمَارَةِ لَهُ، فَأَخَذَ الْبَرْبَرُ الرَّسُولَ وَالْكِتَابَ، وَدَفَعُوهُ إِلَى عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رُسْتَمَ، فَأَمَرَ بِأَنْ يُنَادَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بِمَوْتِ أَبِيهِ، [فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ] وَالْبَحْرُ لِعَبْدِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ خَارِجًا عَنْ ذَلِكَ يَكُونُ لِعَبْدِ الْوَهَّابِ، وَسَارَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَلَقِيَهُ النَّاسُ وَتَسَلَّمَ الْأَمْرَ، وَكَانَتْ أَيَّامُهُ أَيَّامَ سُكُونٍ وَدَعَةٍ.

ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ] 197 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ حِصَارِ بَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَاصَرَ طَاهِرٌ، وَهَرْثَمَةُ، وَزُهَيْرُ بْنُ الْمُسَيَّبِ - الْأَمِينَ مُحَمَّدًا بِبَغْدَاذَ، فَنَزَلَ زُهَيْرُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الضَّبِّيُّ بُرْقَةَ كَلْوَاذَى، وَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ وَالْعَرَّادَاتِ، وَحَفَرَ الْخَنَادِقَ، وَكَانَ يَخْرُجُ فِي الْأَيَّامِ عِنْدَ اشْتِغَالِ الْجُنْدِ بِحَرْبِ طَاهِرٍ، فَيَرْمِي بِالْعَرَّادَاتِ، وَيُعَشِّرُ أَمْوَالَ التُّجَّارِ، فَشَكَا النَّاسُ مِنْهُ إِلَى طَاهِرٍ، فَنَزَلَ هَرْثَمَةُ نَهْرَبَيْنَ، وَعَمِلَ عَلَيْهِ خَنْدَقًا وَسُورًا، وَنَزَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَضَّاحِ بِالشَّمَّاسِيَّةِ، وَنَزَلَ طَاهِرٌ الْبُسْتَانَ الَّذِي بِبَابِ الْأَنْبَارِ. فَلَمَّا نَزَلَهُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْأَمِينِ، وَتَفَرَّقَ مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَأَمَرَ بِبَيْعِ مَا فِي الْخَزَائِنِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ، وَضَرَبَ آنِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِيُفَرِّقَهَا فِي أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَ بِإِحْرَاقِ الْحَرْبِيَّةِ، فَرُمِيَتْ بِالنِّفْطِ وَالنِّيرَانِ وَقُتِلَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَاسْتَأْمَنَ إِلَى طَاهِرٍ سَعِيدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ قَادِمٍ، فَوَلَّاهُ الْأَسْوَاقَ وَشَاطِئَ دِجْلَةَ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ، وَأَمَرَهُ بِحَفْرِ الْخَنَادِقِ، وَبِنَاءِ الْحِيطَانِ فِي كُلِّ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّرُوبِ، وَأَمَدَّهُ بِالْأَمْوَالِ وَالرِّجَالِ، فَكَثُرَ الْخَرَابُ بِبَغْدَاذَ وَالْهَدْمُ، فَدَرَسَتِ الْمَنَازِلُ. وَوَكَّلَ الْأَمِينُ عَلِيًّا افْرَاهَمَرْدَ بِقَصْرِصَالِحٍ، وَقَصْرِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمَنْصُورِ إِلَى دِجْلَةَ، فَأَلَحَّ فِي إِحْرَاقِ الدُّورِ وَالدُّرُوبِ، وَالرَّمْيِ بِالْمَجَانِيقِ، وَفَعَلَ طَاهِرٌ مِثْلَ ذَلِكَ،

فَأَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْبَاضِ مِنْ طَرِيقِ الْأَنْبَارِ وَبَابِ الْكُوفَةِ وَمَا يَلِيهَا، فَكُلَّمَا أَجَابَهُ أَهْلُ نَاحِيَةٍ خَنْدَقَ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أَبَى إِجَابَتَهُ قَاتَلَهُ، وَأَحْرَقَ مَنْزِلَهُ، وَوَحِشَتْ بَغْدَاذُ وَخَرِبَتْ، فَقَالَ حُسَيْنٌ الْخَلِيعُ: أَتُسْرِعُ الرِّحْلَةَ إِغْذَاذًا ... عَنْ جَانِبَيْ بَغْدَاذَ أَمْ مَاذَا ؟ أَمَا تَرَى الْفِتْنَةَ قَدْ أُلِّفَتْ إِلَى أُولِي الْفِتْنَةِ شُذَّاذَا ... وَانْتَفَضَتْ بَغْدَاذُ عُمْرَانُهَا عَنْ رَأْيِ لَا ذَاكَ وَلَا هَذَا ... هَدْمًا وَحَرْقًا قَدْ أَبَادَ أَهْ لَهَا عُقُوبَةٌ لَاذَتْ بِمَنْ لَاذَا ... مَا أَحْسَنَ الْحَالَاتِ إِنْ لَمْ تَعُدْ بَغْدَاذُ فِي الْقِلَّةِ بَغْدَاذَا وَسَمَّى طَاهِرٌ الْأَرْبَاضَ الَّتِي خَالَفَهُ أَهْلُهَا، وَمَدِينَةَ الْمَنْصُورِ، وَأَسْوَاقَ الْكَرْخِ وَالْخُلْدِ - دَارَ النَّكْثِ، وَقَبَضَ ضِيَاعَ مَنْ لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ مَنْ بَنِي هَاشِمٍ وَالْقُوَّادِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، فَذُلُّوا وَانْكَسَرُوا، وَذُلَّ الْأَجْنَادُ، وَضَعُفُوا عَنِ الْقِتَالِ، إِلَّا بَاعَةَ الطَّرِيقِ، وَالْعُرَاةَ، وَأَهْلَ السُّجُونِ، وَالْأَوْبَاشَ، وَالطَّرَّارِينَ، وَأَهْلَ السُّوقِ، فَكَانُوا يَنْهَبُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ. وَكَانَ طَاهِرٌ لَا يَفْتُرُ فِي قِتَالِهِمْ، فَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ افْرَاهَمَرَدْ، الْمُوَكَّلُ بِقَصْرِ صَالِحٍ، فَأَمَّنَهُ وَسَيَّرَ إِلَيْهِ جُنْدًا كَثِيفًا، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، صَاحِبُ شُرْطَةِ الْأَمِينِ، وَكَانَ مُجِدًّا فِي نُصْرَةِ الْأَمِينِ، فَلَمَّا اسْتَأْمَنَ هَذَانِ إِلَى طَاهِرٍ أَشْفَى الْأَمِينُ عَلَى الْهَلَاكِ، وَأَقْبَلَتِ الْغُوَاةُ مِنَ الْعَيَّارِينَ وَبَاعَةِ الطَّرِيقِ، وَالْأَجْنَادِ، فَاقْتَتَلُوا دَاخِلَ قَصْرِ صَالِحٍ قِتَالًا عَظِيمًا، قُتِلَ فِيهِ مِنْ أَصْحَابِ طَاهِرٍ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ قُوَّادِهِ جَمَاعَةٌ، وَلَمْ تَكُنْ وَقْعَةٌ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا أَشَدُّ عَلَى طَاهِرٍ مِنْهَا.

ثُمَّ إِنَّ طَاهِرًا كَاتَبَ الْقُوَّادَ الْهَاشِمِيِّينَ وَغَيْرَهُمْ، بَعْدَ أَنْ أَخَذَ ضِيَاعَهُمْ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْأَمَانِ وَالْبَيْعَةِ لِلْمَأْمُونِ، فَأَجَابَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ قَحْطَبَةَ وَإِخْوَتُهُ، وَوَلَدُ الْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ، وَيَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَاهَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ الطَّائِيُّ. وَكَاتَبَهُ غَيْرُهُمْ وَصَارَتْ قُلُوبُهُمْ مَعَهُ. وَأَقْبَلَ الْأَمِينُ بَعْدَ وَقْعَةِ قَصْرِ صَالِحٍ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَوَكَّلَ الْأَمْرَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ نَهِيكٍ، وَإِلَى الْهَرْشِ، فَكَانَ مَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْغَوْغَاءِ وَالْفُسَّاقِ يَسْلُبُونَ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَا لَمْ يَبْلُغْنَا مِثْلُهُ. فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ بِالنَّاسِ خَرَجَ عَنْ بَغْدَاذَ مَنْ كَانَتْ بِهِ قُوَّةٌ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا خَرَجَ أَمِنَ عَلَى مَالِهِ وَنَفْسِهِ، وَكَانَ مَثَلُهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] . وَخَرَجَ عَنْهَا قَوْمٌ بِعِلَّةِ الْحَجِّ، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ شَاعِرُهُمْ: أَظْهَرُوا الْحَجَّ وَمَا يَنْوُونَهُ ... بَلْ مِنَ الْهَرْشِ يُرِيدُونَ الْهَرَبْ كَمْ أُنَاسٍ أَصْبَحُوا فِي غِبْطَةٍ ... وُكِّلَ الْهَرْشُ عَلَيْهِمْ بِالْعَطَبْ وَقَالَ بَعْضُ فِتْيَانِ بَغْدَاذَ: بَكَيْتُ دَمًا عَلَى بَغْدَاذَ لَمَّا ... فَقَدْتُ غَضَارَةَ الْعَيْشِ الْأَنِيقِ تَبَدَّلْنَا هُمُومًا مِنْ سُرُورٍ ... وَمِنْ سَعَةٍ تَبَدَّلْنَا بِضِيقِ أَصَابَتْنَا مِنَ الْحُسَّادِ عَيْنٌ ... فَأَفْنَتْ أَهْلَهَا بِالْمَنْجَنِيقِ

فَقَوْمٌ أُحْرِقُوا بِالنَّارِ قَسْرًا وَنَائِحَةٌ تَنُوحُ عَلَى غَرِيقِ ... وَصَائِحَةٌ تُنَادِي: وَاصَبَاحَا وَبَاكِيَةٌ لِفِقْدَانِ الشَّقِيقِ ... وَحَوْرَاءُ الْمَدَامِعِ ذَاتُ دَلٍّ مُضَمَّخَةُ الْمَجَاسِدِ بِالْخَلُوقِ ... تَفِرُّ مِنَ الْحَرِيقِ إِلَى انْتِهَابٍ وَوَالِدُهَا يَفِرُّ إِلَى الْحَرِيقِ ... وَسَالِبَةُ الْغَزَالَةِ مُقْلَتَيْهَا مَضَاحِكُهَا كَلَأْلَاءِ الْبُرُوقِ ... حَيَارَى هَكَذَا وَمُفَكِّرَاتٍ عَلَيْهِنَّ الْقَلَائِدُ فِي الْحُلُوقِ ... يُنَادِينَ الشَّفِيقَ وَلَا شَفِيقٌ وَقَدْ فُقِدَ الشَّقِيقُ مِنَ الشَّقِيقِ ... وَمُغْتَرِبٌ قَرِيبُ الدَّارِ مُلْقًى بِلَا رَأْسٍ بِقَارِعَةِ الطَّرِيقِ ... تَوَسَّطَ مِنْ قِتَالِهِمُ جَمِيعًا فَمَا يَدْرُونَ مِنْ أَيِّ الْفَرِيقِ ... فَمَا وَلَدٌ يُقِيمُ عَلَى أَبِيهِ وَقَدْ فَرَّ الصَّدِيقُ عَنِ الصَّدِيقِ ... وَمَهْمَا أَنْسَ مِنْ شَيْءٍ تَوَلَّى فَإِنِّي ذَاكِرٌ دَارَ الرَّقِيقِ وَقَالَ الْخَرِيمِيُّ قَصِيدَةً طَوِيلَةً نَحْوَ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ بَيْتًا، أَتَى فِيهَا عَلَى جَمِيعِ

الْحَوَادِثِ بِبَغْدَاذَ، فِي هَذِهِ الْحَرْبِ، تَرَكْتُهَا لِطُولِهَا. وَذُكِرَ أَنَّ قَائِدًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، مِنْ أَصْحَابِ طَاهِرٍ، مِنْ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالْبَأْسِ، خَرَجَ يَوْمًا إِلَى الْقِتَالِ، فَنَظَرَ إِلَى قَوْمٍ عُرَاةٍ لَا سِلَاحَ مَعَهُمْ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا يُقَاتِلُنَا إِلَّا مَنْ نَرَى اسْتِهَانَةً بِأَمْرِهِمْ، وَاحْتِقَارًا لَهُمْ. فَقِيلَ لَهُ: نَعَمْ! هَؤُلَاءِ هُمُ الْآفَةُ. فَقَالَ لَهُمْ: أُفٍّ لَكُمْ حِينَ تَنْهَزِمُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَأَنْتُمْ فِي السِّلَاحِ وَالْعُدَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَفِيكُمُ الشَّجَاعَةُ، وَمَا عَسَى يَبْلُغُ كَيَدُ هَؤُلَاءِ وَلَا سِلَاحَ مَعَهُمْ، وَلَا جُنَّةَ تَقِيهِمْ! وَتَقَدَّمَ إِلَى بَعْضِهِمْ، وَفِي يَدَيْهِ بَارِيِّةٌ مُقَيَّرَةٌ، وَتَحْتَ إِبِطِهِ مِخْلَاةٌ فِيهَا حِجَارَةٌ، فَجَعَلَ الْخُرَاسَانِيُّ كُلَّمَا رَمَى بِسَهْمٍ اسْتَتَرَ مِنْهُ الْعَيَّارُ فَوَقَعَ فِي بَارِيَّتِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، فَيَأْخُذُهُ وَيَتْرُكُهُ مَعَهُ، وَصَاحَ: دَانِقٌ، أَيْ ثَمَنُ النُّشَّابَةِ دَانِقٌ قَدْ أَحْرَزَهُ، فَلَمْ يَزَالَا كَذَلِكَ حَتَّى فَنِيَتْ سِهَامُ الْخُرَاسَانِيِّ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ الْعَيَّارُ، وَرَمَى بِحَجَرٍ مِنْ مِخْلَاتِهِ فِي مِقْلَاعٍ، فَمَا أَخْطَأَ عَيْنَهُ، ثُمَّ آخَرَ، فَكَادَ يَصْرَعُهُ، فَانْهَزَمَ وَهُوَ يَقُولُ: لَيْسَ هَؤُلَاءِ بِنَاسٍ. فَلَمَّا سَمِعَ طَاهِرٌ خَبَرَهُ ضَحِكَ مِنْهُ. فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى طَاهِرٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي قَصْرِ صَالِحٍ مَنْ قُتِلَ، أَمَرَ بِالْهَدْمِ وَالْإِحْرَاقِ، فَهَدَمَ دُورَ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ بَيْنِ دِجْلَةَ وَدَارِ الرَّقِيقِ، وَبَابِ الشَّامِ، وَبَابِ الْكُوفَةِ، إِلَى الصَّرَاةِ وَرَبَضِ حُمَيْدٍ، وَنَهَرِ كَرْخَايَا، فَكَانَ أَصْحَابُهُ إِذَا هَدَمُوا دَارًا أَخَذَ أَصْحَابُ الْأَمِينِ أَبْوَابَهَا وَسُقُوفَهَا، فَيَكُونُونَ أَشَدَّ عَلَى أَهْلِهَا، فَقَالَ شَاعِرٌ مِنْهُمْ: لَنَا كُلَّ يَوْمٍ ثُلْمَةٌ لَا نَسُدُّهَا ... يَزِيدُونَ فِيمَا يَطْلُبُونَ وَنَنْقُصُ إِذَا هَدَمُوا دَارًا أَخَذْنَا سُقُوفَهَا ... وَنَحْنُ لِأُخْرَى غَيْرِهَا نَتَرَبَّصُ فَإِنْ حَرَصُوا يَوْمًا عَلَى الشَّرِّ جَهْدَهُمْ ... فَغَوْغَاؤُنَا مِنْهُمْ عَلَى الشَّرِّ أَحْرَصُ

فَقَدْ ضَيَّقُوا مِنْ أَرْضِنَا كُلَّ وَاسِعٍ ... وَصَارَ لَهُمْ أَهْلٌ بِهَا وَتَعَرُّصُ يُثِيرُونَ بِالطَّبْلِ الْقَنِيصَ، فَإِنْ بَدَا ... لَهُمْ وَجْهُ صَيْدٍ مِنْ قَرِيبٍ تَقَنَّصُوا لَقَدْ أَفْسَدُوا شَرْقَ الْبِلَادِ وَغَرْبَهَا ... عَلَيْنَا فَمَا نَدْرِي إِلَى أَيْنَ نَشْخَصُ إِذَا حَضَرُوا قَالُوا بِمَا يَعْرِفُونَهُ ... وَإِنْ لَمْ يَرَوْا شَيْئًا قَبِيحًا تَخَرَّصُوا وَمَا قَتَلَ الْأَبْطَالَ مِثْلُ مُجَرَّبٍ ... رَسُولِ الْمَنَايَا لَيْلَهُ يَتَلَصَّصُ فِي أَبْيَاتٍ غَيْرِهَا. فَلَمَّا رَأَى طَاهِرٌ أَنَّ جَمِيعَهُ لَا يَحْفَلُونَ بِهِ، أَمَرَ بِمَنْعِ التُّجَّارِ عَنْهُمْ، وَمَنْعِ مَنْ حَمَلَ الْأَقْوَاتَ وَغَيْرَهَا، وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ، وَصَرَفَ السُّفُنَ الَّتِي يُحْمَلُ فِيهَا إِلَى الْفُرَاتِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ، وَصَارُوا فِي أَشَدِّ حِصَارٍ، فَأَمَرَ الْأَمِينُ بِبَيْعِ الْأَمْوَالِ وَأَخْذِهَا، وَوَكَّلَ بِهَا بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَكَانَ يَهْجُمُ عَلَى النَّاسِ فِي مَنَازِلِهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، وَأُخِذُوا بِالتُّهْمَةِ وَالظِّنَّةِ. ثُمَّ كَانَ بَيْنَهُمْ وَقْعَةٌ بِدَرْبِ الْحِجَارَةِ، قُتِلَ فِيهَا مِنْ أَصْحَابِ طَاهِرٍ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَوَقْعَةٌ بِالشَّمَّاسِيَّةِ خَرَجَ فِيهَا حَاتِمُ بْنُ الصَّقْرِ فِي الْعَيَّارِينَ وَغَيْرِهِمْ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَضَّاحِ، فَأَوْقَعُوا بِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَانْهَزَمَ عَنْهُمْ، وَغَلَبُوهُ عَلَى الشَّمَّاسِيَّةِ، فَأَتَاهُ هَرْثَمَةُ يُعِينُهُ، فَأَسَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْأَمِينِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، فَقَاتَلَ عَلَيْهِ بَعْضَ أَصْحَابِهِ حَتَّى خَلَّصَهُ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ هَرْثَمَةَ فَلَمْ يَرْجِعُوا يَوْمَيْنِ. فَلَمَّا بَلَغَ طَاهِرًا مَا صَنَعُوا عَقَدَ جِسْرًا فَوْقَ الشَّمَّاسِيَّةِ، وَعَبَرَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهِمْ، فَقَاتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، حَتَّى رَدُّوا أَصْحَابَ الْأَمِينِ، وَأَعَادَ أَصْحَابَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَضَّاحِ إِلَى مَرَاكِزِهِمْ، وَأَحْرَقَ مَنَازِلَ الْأَمِينِ بِالْخَيْزُرَانِيَّةِ، وَكَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهَا بَلَغَتْ عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقُتِلَ مِنَ الْعَيَّارِينَ كَثِيرٌ، فَضَعُفَ أَمْرُ الْأَمِينِ، فَأَيْقَنَ بِالْهَلَاكِ.

وَهَرَبَ مِنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمِ بْنِ خُزَيْمَةَ إِلَى الْمَدَائِنِ، خَوْفًا مِنَ الْأَمِينِ، لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ، وَتَحَامَلَ عَلَيْهِ السَّفِلَةُ وَالْغَوْغَاءُ، فَأَقَامَ بِهَا، وَقِيلَ: بَلْ كَاتَبَهُ طَاهِرٌ، وَحَذَّرَهُ قَبْضَ ضِيَاعِهِ وَأَمْوَالِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْهَرْشَ خَرَجَ وَمَعَهُ لَفِيفَةٌ وَجَمَاعَةٌ إِلَى جَزِيرَةِ الْعَبَّاسِ، وَكَانَتْ نَاحِيَةً لَمْ يُقَاتَلْ فِيهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِ طَاهِرٍ، فَقَاتَلُوهُ، فَقَوِيَ عَلَيْهِمْ، فَأَمَدَّهُمْ طَاهِرٌ بِجُنْدٍ آخَرَ، فَأَوْقَعُوا بِالْهَرْشِ وَأَصْحَابِهِ وَقْعَةً شَدِيدَةً، فَغَرِقَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ. وَضَجِرَ الْأَمِينُ وَخَافَ حَتَّى قَالَ يَوْمًا: وَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ قَتَلَ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا فَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْهُمْ، فَمَا مِنْهُمْ إِلَّا عَدُوٌّ لِي، أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيُرِيدُونَ مَالِي، وَأَمَّا أُولَئِكَ فَيُرِيدُونَ نَفْسِي. وَضَعُفَ أَمْرُهُ، وَانْتَشَرَ جُنْدُهُ، وَأَيْقَنَ بِظَفَرِ طَاهِرٍ بِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى، بِتَوْجِيهِ طَاهِرٍ إِيَّاهُ عَلَى الْمَوْسِمِ بِأَمْرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَأْمُونِ. وَفِيهَا سَارَ الْمُؤْتَمَنُ بْنُ الرَّشِيدِ، وَمَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ إِلَى الْمَأْمُونِ بِخُرَاسَانَ، فَوَجَّهَ الْمَأْمُونُ أَخَاهُ الْمُؤْتَمَنَ إِلَى جُرْجَانَ. (وَفِيهَا كَانَ بِالْأَنْدَلُسِ غَلَاءٌ شَدِيدٌ، وَكَانَ النَّاسُ يَطْوُونَ الْأَيَّامَ، وَيَتَعَلَّلُونَ بِمَا يَضْبُطُ النَّفْسَ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ الرُّؤَاسِيُّ بِفَيْدَ، وَقَدْ عَادَ مِنَ الْحَجِّ. وَبَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ الْحِمْصِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ. وَمُحَمَّدُ بْنُ مَلِيحِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَسْلَمِيُّ. وَمُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ أَبُو الْمُثَنَّى الْعَنْبَرِيُّ، وَلَهُ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً.

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ] 198 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ طَاهِرٍ عَلَى بَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَحِقَ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ بِطَاهِرٍ، وَفَارَقَ الْأَمِينَ، وَدَخَلَ هَرْثَمَةُ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ طَاهِرًا أَرْسَلَ إِلَى خُزَيْمَةَ أَنِ انْفَصَلَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ [أَثَرٌ] فِي نُصْرَتِي، أَلَا أَقْصِرْ فِي أَمْرِكَ! فَأَجَابَهُ بِالطَّاعَةِ وَقَالَ لَهُ: لَوْ كُنْتَ أَنْتَ النَّازِلَ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ فِي مَكَانِ هَرْثَمَةَ لَحَمَلَ نَفْسَهُ إِلَيْهِ. وَأَخْبَرَهُ قِلَّةَ ثِقَتِهِ بِهَرْثَمَةَ، إِلَّا أَنْ يَضْمَنَ لَهُ الْقِيَامَ دُونَهُ لِخَوْفِهِ مِنَ الْعَامَّةِ. فَكَتَبَ طَاهِرٌ إِلَى هَرْثَمَةَ يُعَجِّزُهُ وَيَلُومُهُ، وَيَقُولُ: جَمَعْتَ الْأَجْنَادَ، وَأَتْلَفْتَ الْأَمْوَالَ، وَقَدْ وَقَفْتَ وُقُوفَ الْمُحْجِمِ عَمَّنْ بِإِزَائِكَ، فَاسْتَعِدَّ لِلدُّخُولِ إِلَيْهِمْ، فَقَدْ أَحْكَمْتُ الْأَمْرَ عَلَى دَفْعِ الْعَسْكَرِ، وَقَطْعِ الْجُسُورِ، وَأَرْجُو أَنْ لَا يَخْتَلِفَ عَلَيْكَ اثْنَانِ. فَأَجَابَهُ هَرْثَمَةُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَكَتَبَ طَاهِرٌ إِلَى خُزَيْمَةَ بِذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَثَبَ خُزَيْمَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى عَلَى جِسْرِ دِجْلَةَ فَقَطَعَاهُ، وَخَلَعَا مُحَمَّدًا الْأَمِينَ، وَسَكَنَ أَهْلُ عَسْكَرِ الْمَهْدِيِّ، وَلَمْ يَدْخُلْ هَرْثَمَةُ حَتَّى مَضَى إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الْقُوَّادِ وَحَلَفُوا لَهُ أَنَّهُ لَا يَرَى مِنْهُمْ مَكْرُوهًا، فَدَخَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ الْخَلِيعُ فِي ذَلِكَ: عَلَيْنَا جَمِيعًا مِنْ خُزَيْمَةَ مِنَّةٌ ... بِهَا أَخْمَدَ الرَّحْمَنُ نَائِرَةَ الْحَرْبِ تَوَلَّى أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ ... فَذَبَّ وَحَامَى عَنْهُمُ أَشْرَفَ الذَّبِّ وَلَوْلَا أَبُو الْعَبَّاسِ مَا انْفَكَّ دَهْرُنَا ... يَبِيتُ عَلَى عَتْبٍ وَيَغْدُو عَلَى عَتْبِ

خُزَيْمَةُ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ مِثْلُ هَذِهِ إِذِ اضْطَرَبَتْ شَرْقُ الْبِلَادِ مَعَ الْغَرْبِ ... أَنَاخَ بِجِسْرَيْ دِجْلَةَ الْقَطْعَ وَالْقَنَا شَوَارِعُ وَالْأَرْوَاحُ فِي رَاحَةِ الْعَضْبِ وَهِيَ عِدَّةُ أَبْيَاتٍ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ تَقَدَّمَ طَاهِرٌ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْكَرْخِ، فَقَاتَلَ هُنَاكَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَهَزَمَ النَّاسَ حَتَّى أَلْحَقَهُمْ بِالْكَرْخِ، وَقَاتَلَهُمْ فِيهِ فَهَزَمَهُمْ، فَمَرُّوا لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، فَدَخَلَهَا طَاهِرٌ بِالسَّيْفِ، وَأَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى: مَنْ لَزِمَ بَيْتَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَوَضَعَ بِسُوقِ الْكَرْخِ وَقَصْرِ الْوَضَّاحِ جُنْدًا عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ، وَقَصَدَ إِلَى مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ وَأَحَاطَ بِهَا، وَبِقَصْرِ زُبَيْدَةَ، وَقَصْرِ الْخُلْدِ مِنْ بَابِ الْجِسْرِ إِلَى بَابِ خُرَاسَانَ، وَبَابِ الشَّامِ، وَبَابِ الْكُوفَةِ، وَبَابِ الْبَصْرَةِ، وَشَاطِئِ الصَّرَاةِ إِلَى مَصَبِّهَا فِي دِجْلَةَ. وَثَبَتَ عَلَى قِتَالِ طَاهِرٍ حَاتِمُ بْنُ الصَّقْرِ وَالْهَرْشُ، وَالْأَفَارِقَةُ، فَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ بِإِزَاءِ قَصْرِ زُبَيْدَةَ، وَقَصْرِ الْخُلْدِ، وَأَخَذَ الْأَمِينُ أُمَّهُ وَأَوْلَادَهُ إِلَى مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ عَامَّةُ جُنْدِهِ وَخِصْيَانِهِ وَجَوَارِيهِ فِي الطَّرِيقِ، لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَتَفَرَّقَ السِّفْلَةُ وَالْغَوْغَاءُ، وَتَحَصَّنَ مُحَمَّدٌ بِمَدِينَةِ الْمَنْصُورِ، وَحَصَرَهُ طَاهِرٌ وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ. وَبَلَغَ خَبَرُ هَذِهِ الْوَقْعَةِ عُمَرَ الْوَرَّاقَ، فَقَالَ لِمُخْبِرِهِ: نَاوِلْنِي قَدَحًا. ثُمَّ تَمَثَّلَ: خُذْهَا فَلِلْخَمْرَةِ أَسْمَاءٌ لَهَا دَوَاءٌ ... وَلَهَا دَاءُ يُصْلِحُهَا الْمَاءُ إِذَا أُصْفِقَتْ يَوْمًا وَقَدْ يُفْسِدُهَا الْمَاءُ ... وَقَائِلٍ كَانَتْ لَهُمْ وَقْعَةٌ فِي يَوْمِنَا هَذَا وَأَشْيَاءُ قَلْتُ لَهُ: أَنْتَ امْرُؤٌ جَاهِلٌ ... فِيكَ عَنِ الْخَيْرَاتِ إِبْطَاءُ اشْرَبْ وَدَعْنَا مِنْ أَحَادِيثِهِمْ ... يَصْطَلِحُ النَّاسُ إِذَا شَاءُوا

وَحَكَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ أَنَّهُ كَانَ مَعَ الْأَمِينِ لَمَّا حَصَرَهُ طَاهِرٌ، قَالَ: فَخَرَجَ الْأَمِينُ ذَاتَ لَيْلَةٍ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَرَّجَ مِنَ الضِّيقِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَصَارَ إِلَى قَصْرٍ لَهُ بِنَاحِيَةِ الْخُلْدِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَحَضَرْتُ عِنْدَهُ، فَقَالَ: تَرَى طِيبَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَحُسْنَ الْقَمَرِ فِي السَّمَاءِ، وَضَوْءَهُ فِي الْمَاءِ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، فَهَلْ لَكَ فِي الشُّرْبِ؟ فَقُلْتُ: شَأْنَكَ. فَشَرِبَ رِطْلًا، وَسَقَانِي آخَرَ، ثُمَّ غَنَّيْتُهُ مَا كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ، فَقَالَ لِي: مَا تَقُولُ فِيمَنْ يَضْرِبُ عَلَيْكَ؟ فَقُلْتُ: مَا أَحْوَجَنِي إِلَيْهِ! فَدَعَا بِجَارِيَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ عِنْدَهُ، اسْمُهَا ضَعْفُ، فَتَطَيَّرْتُ مِنِ اسْمِهَا وَنَحْنُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَقَالَ لَهَا: غَنِّي. فَغَنَّتْ بِشِعْرِ الْجَعْدِيِّ: كُلَيْبٌ لَعَمْرِي كَانَ أَكْثَرَ نَاصِرًا ... وَأَيْسَرَ جُرْمًا مِنْكَ ضُرِّجَ بِالدَّمِ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَتَطَيَّرَ مِنْهُ، وَقَالَ: غَنِّي غَيْرَ ذَلِكَ. فَغَنَّتْ: أَبْكَى فِرَاقُهُمْ عَيْنِي فَأَرَّقَهَا ... إِنَّ التَّفَرُّقَ لِلْأَحْبَابِ بَكَّاءُ مَا زَالَ يَعْدُو عَلَيْهِمْ رَيْبُ دَهْرِهِمُ ... حَتَّى تَفَانَوْا وَرَيْبُ الدَّهْرِ عَدَّاءُ فَقَالَ لَهَا: لَعَنَكِ اللَّهُ! أَمَا تَعْرِفِينَ مِنَ الْغِنَاءِ غَيْرَ هَذَا؟ فَقَالَتْ: مَا تَغَنَّيْتُ إِلَّا بِمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُحِبُّهُ! ثُمَّ غَنَّتْ آخَرَ: أَمَا وَرَبِّ السُّكُونِ وَالْحَرَكِ ... إِنَّ الْمَنَايَا كَثِيرَةُ الشَّرَكِ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا ... دَارَتْ نُجُومُ السَّمَاءِ فِي الْفَلَكِ إِلَّا لِنَقْلِ النَّعِيمِ مِنْ مَلِكٍ ... قَدْ زَالَ سُلْطَانُهُ إِلَى مَلِكِ

وَمُلْكُ ذِي الْعَرْشِ دَائِمٌ أَبَدًا لَيْسَ بِفَانٍ وَلَا بِمُشْتَرِكِ فَقَالَ لَهَا: قُومِي، غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَلَعَنَكِ! [قَالَ] : فَقَامَتْ، وَكَانَ لَهُ قَدَحٌ مِنْ بَلُّورٍ، حَسَنُ الصَّنْعَةِ، كَانَ يُسَمِّيهِ " زَبَّ رُيَاحَ "، وَكَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَثَرَتِ الْجَارِيَةُ بِهِ فَكَسَرَتْهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا إِبْرَاهِيمُ! مَا تَرَى مَا جَاءَتْ بِهِ هَذِهِ الْجَارِيَةُ، ثُمَّ مَا كَانَ مِنْ كَسْرِ الْقَدَحِ؟ وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ أَمْرِي إِلَّا وَقَدْ قَرُبَ! فَقُلْتُ: يُدِيمُ اللَّهُ مُلْكَكَ، وَيُعِزُّ سُلْطَانَكَ، وَيَكْبِتُ عَدُوَّكَ! فَمَا اسْتَتَمَّ الْكَلَامَ حَتَّى سَمِعْنَا صَوْتًا: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] . فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ! أَمَا سَمِعْتَ مَا سَمِعْتُ؟ قُلْتُ: مَا سَمِعْتُ شَيْئًا - وَكُنْتُ قَدْ سَمِعْتُ -. قَالَ: تَسْمَعُ حِسًّا. فَدَنَوْتُ مِنَ الشَّطِّ، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، ثُمَّ عَاوَدْنَا الْحَدِيثَ، فَعَادَ الصَّوْتُ بِمِثْلِهِ، فَقَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ مُغْتَمًّا إِلَى مَجْلِسِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَمَا مَضَى إِلَّا لَيْلَةٌ أَوْ لَيْلَتَانِ حَتَّى قُتِلَ. ذِكْرُ قَتْلِ الْأَمِينِ لَمَّا دَخَلَ مُحَمَّدٌ إِلَى مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ، وَاسْتَوْلَى طَاهِرٌ عَلَى أَسْوَاقِ الْكَرْخِ وَغَيْرِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَرَّ بِالْمَدِينَةِ - عَلِمَ قُوَّادُهُ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا عُدَّةُ الْحَصْرِ، وَخَافُوا أَنْ يَظْفَرَ بِهِمْ طَاهِرٌ، فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ الصَّقْرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ الْإِفْرِيقِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، فَقَالُوا: قَدْ آلَتْ حَالُنَا إِلَى مَا تَرَى، وَقَدْ رَأَيْنَا رَأْيًا نَعْرِضُهُ عَلَيْكَ، فَانْظُرْ فِيهِ وَاعْتَزِمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّا نَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ الْخَيْرَةَ.

قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالُوا: قَدْ تَفَرَّقَ عَنْكَ النَّاسُ، وَأَحَاطَ بِكَ عَدُوُّكَ، وَقَدْ بَقِيَ مَعَكَ مِنْ خَيْلِكَ سَبْعَةُ آلَافِ فَرَسٍ مِنْ خِيَارِهَا، فَنَرَى أَنْ تَخْتَارَ مِمَّنْ عَرَفْنَاهُ بِمَحَبَّتِكَ مِنَ الْأَبْنَاءِ سَبْعَةَ آلَافٍ، فَتَحْمِلَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْخَيْلِ، وَتَخْرُجَ لَيْلًا عَلَى بَابٍ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ لِأَهْلِهِ، وَلَنْ يَثْبُتَ لَنَا أَحَدٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - فَنَخْرُجُ حَتَّى نَلْحَقَ بِالْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ، فَنَفْرِضُ الْفُرُوضَ، وَنَجْبِي الْخَرَاجَ، وَنَصِيرُ فِي مَمْلَكَةٍ وَاسِعَةٍ وَمُلْكٍ جَدِيدٍ، فَيُسَارِعُ إِلَيْكَ النَّاسُ، وَيَنْقَطِعُ عَنْ طَلَبِكَ الْجُنْدُ، وَيُحْدِثُ اللَّهُ أُمُورًا. فَقَالَ لَهُمْ: نِعْمَ مَا رَأَيْتُمْ! وَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى طَاهِرٍ، فَكَتَبَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ الْمَنْصُورِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ نَهِيكٍ، وَالسِّنْدِيِّ بْنِ شَاهَكَ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَرُدُّوهُ عَنْ هَذَا الرَّأْيِ لَا تَرَكْتُ لَكُمْ ضَيْعَةً إِلَّا قَبْضْتُهَا، وَلَا يَكُونُ لِي هِمَّةٌ إِلَّا أَنْفُسَكُمْ. فَدَخَلُوا عَلَى الْأَمِينِ فَقَالُوا لَهُ: قَدْ بَلَغَنَا الَّذِي عَزَمْتَ عَلَيْهِ، فَنَحْنُ نُذَكِّرُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، إِنَّ هَؤُلَاءِ صَعَالِيكُ، وَقَدْ بَلَغَ بِهِمُ الْحِصَارُ إِلَى مَا تَرَى، فَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ لَا أَمَانَ لَهُمْ عِنْدَ أَخِيكَ، وَعِنْدَ طَاهِرٍ، لِجِدِّهِمْ فِي الْحَرْبِ، وَلَسْنَا نَأْمَنُ إِذَا خَرَجْتَ مَعَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوكَ أَسِيرًا، أَوْ يَأْخُذُوا رَأْسَكَ، فَيَتَقَرَّبُوا بِكَ وَيَجْعَلُوكَ سَبَبَ أَمَانِهِمْ. وَضَرَبُوا فِيهِ الْأَمْثَالَ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ، وَأَجَابَ إِلَى طَلَبِ الْأَمَانِ وَالْخُرُوجِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّمَا غَايَتُكَ السَّلَامَةُ، وَاللَّهْوُ، وَأَخُوكَ يَتْرُكُكَ حَيْثُ أَحْبَبْتَ، [وَيُفْرِدُكَ فِي مَوْضِعٍ] وَيَجْعَلُ لَكَ فِيهِ كُلَّ مَا يُصْلِحُكَ، وَكُلَّ مَا تُحِبُّ وَتَهْوَى، وَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهُ بَأْسٌ وَلَا مَكْرُوهٌ. فَرَكَنَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَجَابَ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ أَشَارُوا بِقَصْدِ الشَّامِ، وَقَالُوا: إِذَا لَمْ تَقْبَلْ مَا أَشَرْنَا بِهِ عَلَيْكَ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَقَبِلْتَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُدَاهِنِينَ، فَالْخُرُوجُ إِلَى طَاهِرٍ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى هَرْثَمَةَ، فَقَالَ: أَنَا أَكْرَهُ طَاهِرًا، لِأَنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنِّي قَائِمٌ عَلَى حَائِطٍ مِنْ آجُرٍّ شَاهِقٍ فِي السَّمَاءِ، عَرِيضِ الْأَسَاسِ، لَمْ أَرَ مِثْلَهُ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَعَلَيَّ سَوَادِي، وَمِنْطَقِي، وَسَيْفِي، وَكَانَ طَاهِرٌ فِي أَصْلِ ذَلِكَ الْحَائِطِ، فَمَا زَالَ يَضْرِبُهُ حَتَّى سَقَطَ، وَسَقَطْتُ، وَطَارَتْ قَلَنْسُوَتِي عَنْ رَأْسِي، فَأَنَا أَتَطَيَّرُ مِنْهُ وَأَكْرَهُهُ، وَهَرْثَمَةُ مَوْلَانَا،

وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ، وَأَنَا أَشَدُّ أُنْسًا بِهِ وَثِقَةً إِلَيْهِ. فَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَأَجَابَهُ هَرْثَمَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَحَلَفَ لَهُ أَنَّهُ يُقَاتِلُ دُونَهُ إِنْ هَمَّ الْمَأْمُونُ بِقَتْلِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ طَاهِرٌ اشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَأَبَى أَنْ يَدَعَهُ يَخْرُجُ إِلَى هَرْثَمَةَ وَقَالَ: هُوَ فِي جُنْدِي وَالْجَانِبِ الَّذِي أَنَا فِيهِ، وَأَنَا أَحْرَجْتُهُ بِالْحِصَارِ حَتَّى طَلَبَ الْأَمَانَ،، فَلَا أَرْضَى أَنْ يَخْرُجَ إِلَى هَرْثَمَةَ، فَيَكُونَ لَهُ الْفَتْحُ دُونِي. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ هَرْثَمَةَ وَالْقُوَّادَ اجْتَمَعُوا فِي مَنْزِلِ خُزَيْمَةَ بْنِ خَازِمٍ، وَحَضَرَ طَاهِرٌ وَقُوَّادُهُ، وَحَضَرَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمَنْصُورِ، وَالسِّنْدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ نَهِيكٍ، وَأَدَارُوا الرَّأْيَ بَيْنَهُمْ، وَأَخْبَرُوا طَاهِرًا أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إِلَيْهِ أَبَدًا، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُجَبْ إِلَى مَا سَأَلَ لَمْ يُؤْمَنْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مِثْلَهُ أَيَّامَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ. وَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ إِنْ يَخْرُجْ إِلَى هَرْثَمَةَ بِبَدَنِهِ، وَيَدْفَعْ إِلَيْكَ الْخَاتَمَ وَالْقَضِيبَ وَالْبُرْدَةَ، (وَذَلِكَ هُوَ الْخِلَافَةُ، فَاغْتَنِمْ هَذَا الْأَمْرَ وَلَا تُفْسِدْهُ! فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ وَرَضِيَ بِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْهَرْشَ لَمَّا عَلِمَ بِالْخَبَرِ أَرَادَ التَّقَرُّبَ إِلَى طَاهِرٍ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمْ مَكْرٌ، وَأَنَّ الْخَاتَمَ وَالْقَضِيبَ وَالْبُرْدَةَ تُحْمَلُ مَعَ الْأَمِينِ إِلَى هَرْثَمَةَ، فَاغْتَاظَ مِنْهُ، وَجَعَلَ حَوْلَ قَصْرِ أُمِّ الْأَمِينِ وَقُصُورِ الْخُلْدِ قَوْمًا مَعَهُمُ الْعَتَلُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ أَحَدٌ، فَلَمَّا تَهَيَّأَ الْأَمِينُ لِلْخُرُوجِ إِلَى هَرْثَمَةَ، عَطِشَ قَبْلَ خُرُوجِهِ عَطَشًا شَدِيدًا، فَطُلِبَ لَهُ فِي خِزَانَةِ الشَّرَابِ مَاءً، فَلَمْ يُوجَدْ، فَلَمَّا أَمْسَى لَيْلَةَ الْأَحَدِ، لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ مُحَرَّمٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، خَرَجَ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ، وَطَيْلَسَانٌ أَسْوَدُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ هَرْثَمَةُ: وَافَيْتُ لِلْمِيعَادِ) لِأَحْمِلَكَ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ لَا تَخْرُجَ اللَّيْلَةَ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ عَلَى الشَّطِّ أَمْرًا قَدْ رَابَنِي، وَأَخَافُ أَنْ أُغْلَبَ وَتُؤْخَذَ مِنْ يَدِي، وَتَذْهَبَ نَفْسُكَ وَنَفْسِي، فَأَقِمِ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَسْتَعِدَّ وَآتِيَكَ اللَّيْلَةَ الْقَابِلَةَ، فَإِنْ حُورِبْتَ حَارَبْتُ دُونَكَ. فَقَالَ الْأَمِينُ لِلرَّسُولِ: ارْجِعْ إِلَيْهِ، وَقُلْ لَهُ لَا يَبْرَحُ، فَإِنِّي خَارِجٌ إِلَيْهِ السَّاعَةَ لَا مَحَالَةَ، وَلَسْتُ أُقِيمُ إِلَى غَدٍ. وَقَلِقَ وَقَالَ: قَدْ تَفَرَّقَ عَنِّي النَّاسُ مِنَ الْمَوَالِي وَالْحَرَسِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا آمَنُ إِنِ انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى طَاهِرٍ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ فَيَأْخُذَنِي، ثُمَّ دَعَا بِابْنَيْهِ، فَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ وَقَبَّلَهُمَا، وَبَكَى وَقَالَ: أَسْتَوْدِعُكُمَا اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَمَسَحَ دُمُوعَهُ بِكُمِّهِ، ثُمَّ جَاءَ

رَاكِبًا إِلَى الشَّطِّ، فَإِذَا حَرَّاقَةُ هَرْثَمَةَ، فَصَعِدَ إِلَيْهَا. فَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ سَلَّامٍ صَاحِبُ الْمَظَالِمِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ هَرْثَمَةَ فِي الْحَرَّاقَةِ، فَلَمَّا دَخَلَهَا الْأَمِينُ قُمْنَا لَهُ، وَجَثَا هَرْثَمَةُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ مِنْ نِقْرِسٍ بِهِ، ثُمَّ احْتَضَنَهُ وَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَهُ فِي حِجْرِهِ، وَجَعَلَ يُقَبِّلُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَعَيْنَيْهِ، وَأَمَرَ هَرْثَمَةُ بِالْحَرَّاقَةِ أَنْ تُدْفَعَ، إِذْ شَدَّ عَلَيْنَا أَصْحَابُ طَاهِرٍ فِي الزَّوَارِيقِ، وَعَطْعَطُوا وَنَقَّبُوا الْحَرَّاقَةَ، وَرَمَوْهُمْ بِالْآجُرِّ وَالنُّشَّابِ، فَدَخَلَ الْمَاءُ إِلَى الْحَرَّاقَةِ، فَغَرِقَتْ، وَسَقَطَ هَرْثَمَةُ إِلَى الْمَاءِ وَسَقَطْنَا، فَتَعَلَّقَ الْمَلَّاحُ بِشَعْرِ هَرْثَمَةَ فَأَخْرَجَهُ، وَأَمَّا الْأَمِينُ فَإِنَّهُ لَمَّا سَقَطَ إِلَى الْمَاءِ شَقَّ ثِيَابَهُ وَخَرَجَ إِلَى الشَّطِّ، فَأَخَذَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ طَاهِرٍ، وَأَتَى بِي رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ طَاهِرٍ، وَأَعْلَمَهُ أَنِّي مِنَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْحَرَّاقَةِ، فَسَأَلَنِي مَنْ أَنَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَلَّامٍ، صَاحِبُ الْمَظَالِمِ، مَوْلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: كَذَبْتَ، فَاصْدُقْنِي! قُلْتُ: قَدْ صَدَقْتُكَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْمَخْلُوعُ؟ قُلْتُ: رَأَيْتُهُ وَقَدْ شَقَّ ثِيَابَهُ. فَرَكِبَ، وَأَخَذَنِي مَعَهُ أَعْدُو وَفِي عُنُقِي حَبْلٌ، فَعَجَزْتُ عَنِ الْعَدْوِ، فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِي، فَاشْتَرَيْتُ نَفْسِي مِنْهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَتَرَكَنِي فِي بَيْتٍ، حَتَّى يَقْبِضَ الْمَالَ، وَفِي الْبَيْتِ بَوَارِيُّ وَحُصُرٌ مُدَرَّجَةٌ وَوِسَادَتَانِ. فَلَمَّا ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةٌ، وَإِذْ قَدْ فَتَحُوا الْبَابَ، وَأَدْخَلُوا الْأَمِينَ وَهُوَ عُرْيَانُ، وَعَلَيْهِ سَرَاوِيلُ وَعِمَامَةٌ، وَعَلَى كَتِفِهِ خِرْقَةٌ خَلِقَةٌ، فَتَرَكُوهُ مَعِي، فَاسْتَرْجَعْتُ وَبَكَيْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي، فَسَأَلَنِي عَنِ اسْمِي فَعَرَّفْتُهُ، فَقَالَ: ضُمَّنِي إِلَيْكَ، فَإِنِّي أَجِدُ وَحْشَةً شَدِيدَةً. قَالَ: فَضَمَمْتُهُ إِلَيَّ، وَإِذَا قَلْبُهُ يَخْفِقُ خَفْقًا شَدِيدًا، فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ! مَا فَعَلَ أَخِي؟ قُلْتُ: حَيٌّ هُوَ. قَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ بَرِيدَهُمْ، كَانَ يَقُولُ: قَدْ مَاتَ شِبْهُ الْمُعْتَذِرِ مِنْ مُحَارَبَتِهِ. فَقُلْتُ: بَلْ قَبَّحَ اللَّهُ وُزَرَاءَكَ. فَقَالَ: مَا تَرَاهُمْ يَصْنَعُونَ بِي، أَيَقْتُلُونَنِي أَمْ يَفُونَ لِي بِأَمَانِهِمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ يَفُونَ لَكَ. وَجَعَلَ يَضُمُّ الْخِرْقَةَ عَلَى كَتِفِهِ، فَنَزَعْتُ مُبَطَّنَةً كَانَتْ عَلَيَّ، وَقُلْتُ: أَلْقِ هَذِهِ عَلَيْكَ! فَقَالَ: دَعْنِي، فَهَذَا مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ خَيْرٌ كَثِيرٌ. فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ، إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ، فَنَظَرَ فِي وُجُوهِنَا، فَاسْتَثْبَتَهَا، فَلَمَّا عَرَفْتُهُ انْصَرَفَ، وَإِذَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الطَّاهِرِيُّ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَلِمْتُ أَنَّ الْأَمِينَ مَقْتُولٌ، فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ فُتِحَ الْبَابُ، وَدَخَلَ الدَّارَ قَوْمٌ مِنَ الْعَجَمِ مَعَهُمُ السُّيُوفُ مَسْلُولَةٌ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَامَ قَائِمًا، وَجَعَلَ يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ذَهَبَتْ - وَاللَّهِ - نَفْسِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَمَا مِنْ مُغِيثٍ، أَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَبْنَاءِ؟

وَجَاءُوا حَتَّى وَقَفُوا عَلَى بَابِ الْبَيْتِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ لِبَعْضٍ: تَقَدَّمْ، وَيَدْفَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَخَذَ الْأَمِينُ بِيَدِهِ وِسَادَةٌ، وَجَعَلَ يَقُولُ: وَيْحَكُمْ! أَنَا ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، أَنَا ابْنُ هَارُونَ، أَنَا أَخُو الْمَأْمُونِ، اللَّهَ اللَّهَ فِي دَمِي. فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ ضَرْبَةً وَقَعَتْ فِي مُقَدَّمِ رَأْسِهِ، وَضَرَبَهُ الْأَمِينُ بِالْوِسَادَةِ عَلَى وَجْهِهِ، وَأَرَادَ [أَنْ] يَأْخُذَ السَّيْفَ مِنْهُ فَصَاحَ: قَتَلَنِي! قَتَلَنِي! فَدَخَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، فَنَخَسَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ فِي خَاصِرَتِهِ، فَرَكِبُوهُ، فَذَبَحُوهُ ذَبْحًا مِنْ قَفَاهُ، وَأَخَذُوا رَأْسَهُ، وَمَضَوْا بِهِ إِلَى طَاهِرٍ، وَتَرَكُوا جُثَّتَهُ. فَلَمَّا كَانَ السَّحَرُ أَخَذُوا جُثَّتَهُ، فَأَدْرَجُوهَا فِي جُلٍّ وَحَمَلُوهَا، فَنَصَبَ طَاهِرٌ الرَّأْسَ عَلَى بُرْجٍ، وَخَرَجَ أَهْلُ بَغْدَاذَ لِلنَّظَرِ، وَطَاهِرٌ يَقُولُ: هَذَا رَأْسُ الْمَخْلُوعِ مُحَمَّدٍ. فَلَمَّا قُتِلَ نَدِمَ جُنْدُ بَغْدَاذَ وَجُنْدُ طَاهِرٍ عَلَى قَتْلِهِ، لِمَا كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَبَعَثَ طَاهِرٌ بِرَأْسِ مُحَمَّدٍ إِلَى أَخِيهِ الْمَأْمُونِ مَعَ ابْنِ عَمِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ، وَكَتَبَ مَعَهُ بِالْفَتْحِ، فَلَمَّا وَصَلَ أَخَذَ الرَّأْسَ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى تُرْسٍ، فَلَمَّا رَآهُ الْمَأْمُونُ سَجَدَ، وَبَعَثَ مَعَهُ طَاهِرٌ بِالْبُرْدَةِ وَالْقَضِيبِ وَالْخَاتَمِ. وَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَنَّ طَاهِرًا أَمَرَ مَوْلَاهُ قُرَيْشًا فَقَتَلَهُ، قَالَ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: سُبْحَانَ اللَّهِ! كُنَّا نَرْوِي أَنَّهُ يَقْتُلُهُ قُرَيْشٌ، فَذَهَبْنَا إِلَى الْقَبِيلَةِ فَوَافَقَ الِاسْمُ [الِاسْمَ] . وَلَمَّا قُتِلَ الْأَمِينُ نُودِيَ فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ، فَأَمِنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَدَخَلَ طَاهِرٌ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَخَطَبَ لِلْمَأْمُونِ، وَذَمَّ الْأَمِينَ، وَكَتَبَ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، وَقِيلَ إِلَى ابْنِ الْمَهْدِيِّ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَكْتُبَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْخِلَافَةِ بِغَيْرِ التَّأْمِيرِ، وَلَكِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَمِيلُ بِالرَّأْيِ، وَتُصْغِي بِالْهَوَى إِلَى النَّاكِثِ الْمَخْلُوعِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَكَثِيرٌ مَا كَتَبْتُ إِلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَالسَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.

وَلَمَّا قُتِلَ الْأَمِينُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ يَرْثِيهِ: عُوجَا بِمَغْنَى الطَّلَلِ الدَّاثِرِ ... بِالْخُلْدِ ذَاتِ الصَّخْرِ وَالْآجُرِ وَالْمَرْمَرِ الْمَنْسُوبِ يُطْلَى بِهِ ... وَالْبَابِ بَابِ الذَّهَبِ النَّاضِرِ عُوجَا بِهَا فَاسْتَيْقِنَا عِنْدَهَا ... عَلَى يَقِينِ قُدْرَةِ الْقَادِرِ وَأَبْلِغَا عَنِّي مَقَالًا إِلَى الْ ... مَوْلَى عَلَى الْمَأْمُورِ وَالْآمِرِ قُولَا لَهُ يَابْنَ أَبِي النَّاصِرِ ... طَهِّرْ بِلَادَ اللَّهِ مِنْ طَاهِرِ لَمْ يَكْفِهِ أَنْ حَزَّ أَوْدَاجَهُ ... ذَبْحَ الْهَدَايَا بِمُدَى الْجَازِرِ حَتَّى أَتَى يَسْحَبُ أَوْدَاجَهُ ... فِي شَطَنٍ (هَذَا مَدَى) السَّائِرِ قَدْ بَرَّدَ الْمَوْتُ عَلَى جَنْبِهِ ... فَطَرْفُهُ مُنْكَسِرُ النَّاظِرِ (فَلَمَّا بَلَغَ الْمَأْمُونَ قَوْلُهُ اشْتَدَّ عَلَيْهِ) . ذِكْرُ صِفَةِ الْأَمِينِ وَعُمْرِهِ وَوِلَايَتِهِ قِيلَ: إِنَّ مُحَمَّدًا وَلِيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَقُتِلَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو مُوسَى، وَقِيلَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ. (وَهُوَ ابْنُ الرَّشِيدِ هَارُونَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيِّ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَأُمُّهُ زُبَيْدَةُ ابْنَةُ جَعْفَرٍ الْأَكْبَرِ ابْنِ الْمَنْصُورِ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: كَانَتْ وِلَايَتُهُ النِّصْفَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً.

وَكَانَ سَبْطًا، أَنْزَعَ، صَغِيرَ الْعَيْنَيْنِ، أَقْنَى، جَمِيلًا، طَوِيلًا، عَظِيمَ الْكَرَادِيسِ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِالرُّصَافَةِ. وَلَمَّا وَصَلَ خَبَرُ قَتْلِهِ إِلَى الْمَأْمُونِ أَذِنَ لِلْقُوَّادِ، وَقَرَأَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ، فَهَنَّئُوهُ بِالظَّفَرِ وَدَعَوْا لَهُ. وَكَتَبَ إِلَى طَاهِرٍ وَهَرْثَمَةَ بِخَلْعِ الْقَاسِمِ الْمُؤْتَمَنِ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، فَخَلَعَاهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ فِي مَرَاثِي الْأَمِينِ وَهِجَائِهِ، تَرَكْنَا أَكْثَرَهُ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ التَّارِيخِ، فَمِمَّا قِيلَ فِي مَرَاثِيهِ قَوْلُ الْحُسَيْنِ بْنِ الضَّحَّاكِ، وَكَانَ مِنْ نُدَمَائِهِ، وَكَانَ لَا يُصَدِّقُ بِقَتْلِهِ، وَيَطْمَعُ فِي رُجُوعِهِ: يَا خَيْرَ أُسْرَتِهِ وَإِنْ زَعَمُوا ... إِنِّي عَلَيْكَ لَمُثْبَتٌ أَسِفُ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ لِي كَبِدًا ... حَرَّى عَلَيْكَ وَمُقْلَةً تَكِفُ وَلَئِنْ شَجِيتُ بِمَا رُزِئْتُ بِهِ ... إِنِّي لَأُضْمِرُ فَوْقَ مَا أَصِفُ هَلَّا بَقِيتَ لِسَدِّ فَاقَتِنَا أَبَدًا ... وَكَانَ لِغَيْرِكَ التَّلَفُ قَدْ كَانَ فِيكَ لِمَنْ مَضَى خَلَفٌ ... وَلَسَوْفَ يُعْوِزُ بَعْدَكَ الْخَلَفُ لَا بَاتَ رَهْطُكَ بَعْدَ هَفْوَتِهِمْ ... إِنِّي لِرَهْطِكَ بَعْدَهَا شَنِفُ هَتَكُوا بِحُرْمَتِكَ الَّتِي هُتِكَتْ ... حُرَمَ الرَّسُولِ وَدُونَهَا السُّجُفُ وَثَبَتْ أَقَارِبُكَ الَّتِي خُذِلَتْ ... وَجَمِيعُهَا بِالذُّلِّ مُعْتَرِفُ تَرَكُوا حَرِيمَ أَبِيهِمْ نَفَلًا ... وَالْمُحْصَنَاتُ صَوَارِخٌ هُتُفُ أَبْدَتْ مُخَلْخَلَهَا عَلَى دَهَشٍ أَبْكَارُهُنَّ ... وَرَنَّتِ النَّصَفُ سُلِبَتْ مَعَاجِرُهُنَّ وَاجْتُلِيَتْ ذَاتُ النِّقَابِ وَنُوزِعَ الشَّنَفُ ... فَكَأَنَّهُنَّ خِلَالَ مُنْتَهَبٍ دُرٌّ تَكَشَّفَ دُونَهُ الصَّدَفُ ... مَلِكٌ تَخَوَّنَ مُلْكَهُ قَدَرٌ فَوَهَى وَصَرْفُ الدَّهْرِ مُخْتَلِفُ

هَيْهَاتَ بَعْدَكَ أَنْ يَدُومَ لَنَا عِزٌّ ... وَأَنْ يَبْقَى لَنَا شَرَفُ أَفَبَعْدَ عَهْدِ اللَّهِ تَقْتُلُهُ ... وَالْقَتْلُ بَعْدَ أَمَانِهِ سَرَفُ فَسَتَعْرِفُونَ غَدًا بِعَاقِبَةٍ ... عِزَّ الْإِلَهِ فَأَوْرِدُوا وَقِفُوا يَا مَنْ تَخَوَّنَ نَوْمَهُ أَرَقٌ ... هَدَتِ الشُّجُونُ وَقَلْبُهُ لَهِفُ قَدْ كُنْتَ لِي أَمَلًا غَنِيتُ بِهِ ... فَمَضَى وَحَلَّ مَحَلَّهُ الْأَسَفُ مُرِجَ النِّظَامُ وَعَادَ مُنْكَرُنَا عُرْفًا ... وَأُنْكِرَ بَعْدَكَ الْعُرُفُ وَالشَّمْلُ مُنْتَشِرٌ لِفَقْدِكَ وَالدُّنْيَا سُدًى وَالْبَالُ مُنْكَسِفُ وَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ الْحَسَنِ يَرْثِيهِ عَلَى لِسَانِ أُمِّهِ زُبَيْدَةَ، وَتُخَاطِبُ الْمَأْمُونَ، وَكُنْيَةُ زُبَيْدَةَ أُمُّ جَعْفَرٍ: لِخَيْرِ إِمَامٍ قَامَ مِنْ خَيْرِ عُنْصُرِ ... وَأَفْضَلِ سَامٍ فَوْقَ أَعْوَادِ مِنْبَرِ لِوَارِثِ عِلْمِ الْأَوَّلِينَ وَفَهْمِهِمْ ... وَلِلْمَلِكِ الْمَأْمُونِ مِنْ أُمِّ جَعْفَرِ كَتَبْتُ وَعَيْنِي مُسْتَهِلٌّ دُمُوعُهَا ... إِلَيْكَ ابْنَ عَمِّي مِنْ جُفُونِي وَمَحْجَرِي وَقَدْ مَسَّنِي ضُرٌّ وَذُلُّ كَآبَةٍ ... وَأَرَّقَ عَيْنِي يَابْنَ عَمِّي تَفَكُّرِي وَهِمْتُ لِمَا لَاقَيْتُ بَعْدَ مُصَابِهِ ... فَأَمْرِي عَظِيمٌ مُنْكَرٌ جِدُّ مُنْكَرُ سَأَشْكُو الَّذِي لَاقَيْتُهُ بَعْدَ فَقْدِهِ ... إِلَيْكَ شَكَاةَ الْمُسْتَضِيمِ الْمُقَهَّرِ وَأَرْجُو لِمَا قَدْ مَرَّ بِي مُذْ فَقَدْتُهُ ... فَأَنْتَ لِبَثِّي خَيْرُ رَبٍّ مُغَيِّرِ أَتَى طَاهِرٌ لَا طَهَّرَ اللَّهُ طَاهِرًا ... فَمَا طَاهِرٌ فِيمَا أَتَى بِمُطَهَّرِ فَأَخْرَجَنِي مَكْشُوفَةَ الْوَجْهِ حَاسِرًا ... وَأَنْهَبَ أَمْوَالِي وَأَخْرَبَ أَدْوُرِي

يَعِزُّ عَلَى هَارُونَ مَا قَدْ لَقِيتُهُ وَمَا مَرَّ بِي نَاقِصُ الْخَلْقِ أَعْوَرِ ... فَإِنْ كَانَ مَا أَبْدَى بِأَمْرٍ أَمَرْتَهُ صَبَرْتُ لِأَمْرٍ مِنْ قَدِيرٍ مُقَدِّرِ ... تَذَكَّرْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَرَابَتِي فَدَيْتُكَ مِنْ ذِي حُرْمَةٍ مُتَذَكِّرِ فَلَمَّا قَرَأَهَا الْمَأْمُونُ بَكَى، وَقَالَ: أَنَا - وَاللَّهِ - الطَّالِبُ بِثَأْرِ أَخِي، قَتَلَ اللَّهُ قَتَلَتَهُ. وَلَقَدْ أَسْرَفَ الْحُسَيْنُ بْنُ الضَّحَّاكِ فِي مَرَاثِي الْأَمِينِ، وَذَمِّ الْمَأْمُونِ، فَلِهَذَا حَجَبَهُ الْمَأْمُونُ عَنْهُ وَلَمْ يَسْمَعْ مَدِيحَهُ مُدَّةً، ثُمَّ أَحْضَرَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي! هَلْ رَأَيْتَ يَوْمَ قُتِلَ أَخِي هَاشِمِيَّةً قُتِلَتْ وَهُتِكَتْ؟ قَالَ: لَا! قَالَ: فَمَا قَوْلُكَ: وَمِمَّا شَجَا قَلْبِي وَكَفْكَفَ عَبْرَتِي ... مَحَارِمُ مِنْ آلِ النَّبِيِّ اسْتُحِلَّتِ وَمَهْتُوكَةٌ بِالْخُلْدِ عَنْهَا سُجُوفُهَا كَعَابٌ ... كَقَرْنِ الشَّمْسِ حِينَ تَبَدَّتِ إِذَا خَفَرَتْهَا رَوْعَةٌ مِنْ مُنَازِعٍ لَهَا الْمِرْطَ عَاذَتْ بِالْخُشُوعِ وَرَنَّتِ ... وَسِرْبُ ظِبَاءٍ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ هَتَفْنَ بِدَعْوَى خَيْرِ حَيٍّ وَمَيِّتِ ... أَرُدُّ يَدًا مِنِّي إِذَا مَا ذَكَرْتُهُ عَلَى كَبِدٍ حَرَّى وَقَلْبٍ مُفَتَّتِ فَلَا بَاتَ لَيْلُ الشَّامِتِينَ بِغِبْطَةٍ ... وَلَا بَلَغَتْ آمَالَهَا مَا تَمَنَّتِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَوْعَةٌ غَلَبَتْنِي، وَرَوْعَةٌ فَاجَأَتْنِي، وَنِعْمَةٌ سُلِبْتُهَا بَعْدَ أَنْ غَمَرَتْنِي، وَإِحْسَانٌ شَكَرْتُهُ فَأَنْطَقَنِي، وَسَيِّدٌ فَقَدْتُهُ فَأَقْلَقَنِي، فَإِنْ عَاقَبْتَ فَبِحَقِّكَ، وَإِنْ عَفَوْتَ فَبِفَضْلِكَ. فَدَمَعَتْ عَيْنُ الْمَأْمُونِ وَقَالَ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ، وَأَمَرْتُ بِإِدْرَارِ أَرْزَاقِكَ عَلَيْكَ، وَعَطَائِكَ مَا فَاتَكَ مُتَمَّمًا، وَجَعَلْتُ عُقُوبَةَ ذَنْبِكَ امْتِنَاعِي مِنِ اسْتِخْدَامِكَ.

ثُمَّ إِنَّ الْمَأْمُونَ رَضِيَ عَنْهُ وَسَمِعَ مَدِيحَهُ. وَمِمَّا قِيلَ فِي هِجَائِهِ: لِمْ نُبَكِّيكَ، لِمَاذَا؟ لِلطَّرَبِ يَا أَبَا مُوسَى ... وَتَرْوِيجِ اللَّعَبْ وَلِتَرْكِ الْخَمْسِ فِي أَوْقَاتِهَا حِرْصًا مِنْكَ عَلَى مَاءِ الْعِنَبْ وَشَنِيفٍ ... أَنَا لَا أَبْكِي لَهُ وَعَلَى كَوْثَرٍ لَا أَخْشَى الْعَطَبْ لَمْ تَكُنْ ... تَعْرِفُ مَا حَدُّ الرِّضَى لَا وَلَا تَعْرِفُ مَا حَدُّ الْغَضَبْ ... لَمْ تَكُنْ تَصْلُحُ لِلْمُلْكِ وَلَمْ تُعْطِكَ الطَّاعَةَ بِالْمُلْكِ الْعَرَبْ ... لِمْ نُبَكِّيكَ؟ لِمَا عَرَّضْتَنَا لِلْمَجَانِيقِ وَطَوْرًا لِلسَّلَبْ ... فِي عَذَابٍ وَحِصَارٍ مُجْهِدٍ سَدَّدَ الطُّرْقَ، فَلَا وَجْهَ الطَّلَبْ ... زَعَمُوا أَنَّكَ حَيٌّ حَاشِرٌ كُلُّ مَنْ قَدْ قَالَ هَذَا فَكَذَبْ لَيْتَهُ قَدْ قَالَهُ فِي وَجْدَةٍ مِنْ ... جَمِيعٍ ذَاهِبٍ حَيْثُ ذَهَبْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا قَتْلَهُ ... وَإِذَا مَا أَوْجَبَ الْأَمْرَ وَجَبْ كَانَ وَاللَّهِ عَلَيْنَا فِتْنَةً ... غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَكَتَبْ وَقِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ، تَرَكْنَا ذِكْرَهُ خَوْفَ الْإِطَالَةِ. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَةِ الْأَمِينِ لَمَّا مَلَكَ الْأَمِينُ وَكَاتَبَهُ الْمَأْمُونُ، وَأَعْطَاهُ بَيْعَتَهُ - طَلَبَ الْخِصْيَانَ وَأَتْبَاعَهُمْ وَغَالَى فِيهِمْ، فَصَيَّرَهُمْ لِخَلْوَتِهِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَقِوَامِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَفَرَضَ لَهُمْ فَرْضًا سَمَّاهُمُ الْجَرَادِيَّةَ، وَفَرْضًا مِنَ الْحُبْشَانِ سَمَّاهُمُ الْغُرَابِيَّةَ، وَرَفَضَ النِّسَاءَ الْحَرَائِرَ وَالْإِمَاءَ، حَتَّى رُمِيَ بِهِنَّ، وَقِيلَ فِيهِ الْأَشْعَارُ،

فَمِمَّا قِيلَ فِيهِ: أَلَا يَا أَيُّهَا الثَّاوِي بِطُوسِ ... عَزِيبًا مَا يُفَادَى بِالنُّفُوسِ لَقَدْ أَبْقَيْتَ لِلْخِصْيَانِ هِقْلًا ... تَحْمِلُ مِنْهُمُ شُؤْمَ الْبَسُوسِ فَأَمَّا نَوْفَلٌ فَالشَّأْنُ فِيهِ ... وَفِي بَدْرٍ، فَيَالَكَ مِنْ جَلِيسِ وَمَا لِلْمَعْصِمِيِّ شَيْءٌ لَدَيْهِ إِذَا ... ذُكِرُوا بِذِي سَهْمٍ خَسِيسِ وَمَا حَسَنُ الصَّغِيرُ أَخَسُّ حَا ... لًا لَدَيْهِ عِنْدَ مُخْتَرَقِ الْكُئُوسِ لَهُمْ مِنْ عُمْرِهِ شَطْرٌ وَشَطْ ... رٌ يُعَاقِرُ فِيهِ شُرْبَ الْخَنْدَرِيسِ وَمَا لِلْغَانِيَاتِ لَدَيْهِ حَظٌّ ... سِوَى التَّقْطِيبِ بِالْوَجْهِ الْعَبُوسِ إِذَا كَانَ الرَّئِيسُ كَذَا سَقِيمًا ... فَكَيْفَ صَلَاحُنَا بَعْدَ الرَّئِيسِ فَلَوْ عَلِمَ الْمُقِيمُ بِدَارِ طُوسٍ ... لَعَزَّ عَلَى الْمُقِيمِ بِدَارِ طُوسِ ثُمَّ وَجَّهَ إِلَى جَمِيعِ الْبُلْدَانِ فِي طَلَبِ الْمُلْهِينَ، وَضَمَّهُمْ إِلَيْهِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ، وَاحْتَجَبَ عَنْ أَخَوَيْهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَاسْتَخَفَّ بِهِمْ وَبِقُوَّادِهِ، وَقَسَّمَ مَا فِي بُيُوتِ الْأَمْوَالِ وَمَا بِحَضْرَتِهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ فِي خِصْيَانِهِ وَجُلَسَائِهِ وَمُحَدِّثِيهِ، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ مَجَالِسَ لِمُتَنَزَّهَاتِهِ، وَمَوَاضِعِ خَلَوَاتِهِ وَلَهْوِهِ وَلَعِبِهِ، وَعَمِلَ خَمْسَ حَرَّاقَاتٍ فِي دِجْلَةَ عَلَى صُورَةِ الْأَسَدِ، وَالْفِيلِ، وَالْعُقَابِ، وَالْحَيَّةِ، وَالْفَرَسِ، وَأَنْفَقَ فِي عَمَلِهَا مَالًا عَظِيمًا، فَقَالَ أَبُو نُوَاسٍ فِي ذَلِكَ: سَخَّرَ اللَّهُ لِلْأَمِينِ مَطَايَا ... لَمْ تُسَخَّرْ لِصَاحِبِ الْمِحْرَابِ فَإِذَا مَا رِكَابُهُ سِرْنَ بَرًّا سَارَ فِي ... الْمَاءِ رَاكِبًا لَيْثَ غَابِ

عَجِبَ النَّاسُ إِذْ رَأَوْكَ عَلَى صُورَةِ لَيْثٍ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ... سَبَّحُوا إِذْ رَأَوْكَ سِرْتَ عَلَيْهِ كَيْفَ لَوْ أَبْصَرُوكَ فَوْقَ الْعُقَابِ ... ذَاتِ زَوْرٍ وَمِنْسَرٍ وَجَنَاحَيْ نِ تَشُقُّ الْعُبَابَ بَعْدَ الْعُبَابِ ... تَسْبِقُ الطَّيْرَ فِي السَّمَاءِ إِذَا مَا اسْتَعْجَلُوهَا بِجِيئَةٍ وَذَهَابِ قَالَ الْكَوْثَرُ: أَمَرَ الْأَمِينُ أَنْ يُفْرَشَ لَهُ عَلَى دُكَّانٍ فِي الْخُلْدِ يَوْمًا، فَفُرِشَ عَلَيْهَا بِسَاطٌ زَرْعِيٌّ، وَنَمَارِقُ، وَفُرُشٌ مِثْلُهُ، وَهُيِّئَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْجَوَاهِرِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَأَمَرَ قَيِّمَةَ جَوَارِيهِ أَنْ تُهَيِّئَ لَهُ مِائَةَ جَارِيَةٍ صَانِعَةٍ، فَتُصْعِدَ إِلَيْهِ عَشْرًا عَشْرًا بِأَيْدِيهِنَّ الْعِيدَانُ، يُغَنِّينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، فَأَصْعَدَتْ إِلَيْهِ عَشْرًا، فَانْدَفَعْنَ يُغَنِّينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ: هُمْ قَتَلُوهُ كَيْ يَكُونُوا مَكَانَهُ ... كَمَا غَدَرَتْ يَوْمًا بِكِسْرَى مَرَازِبُهْ فَسَبَّهُنَّ وَطَرَدَهُنَّ، ثُمَّ أَمَرَهَا فَأَصْعَدَتْ عَشْرًا غَيْرَهُنَّ فَغَنَّيْنَهُ: مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ فَفَعَلَ مَا فَعَلَهُ، وَأَطْرَقَ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: أَصْعِدِي عَشْرًا. فَأَصْعَدَتْهُنَّ فَغَنَّيْنَ: كُلَيْبٌ لَعَمْرِي كَانَ أَكْثَرَ نَاصِرًا ... وَأَيْسَرَ جُرْمًا مِنْكَ ضُرِّجَ بِالدَّمِ فَقَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَأَمَرَ بِهَدْمِ الدُّكَّانِ، تَطَيُّرًا مِمَّا كَانَ. قِيلَ: وَذُكِرَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ عِنْدَ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ بِخُرَاسَانَ، فَقَالَ: كَيْفَ لَا يُسْتَحَلُّ قَتْلُ مُحَمَّدٍ وَشَاعِرُهُ يَقُولُ فِي مَجْلِسِهِ: أَلَا فَاسْقِنِي خَمْرًا وَقُلْ لِي هِيَ الْخَمْرُ ... وَلَا تَسْقِنِي سِرًّا إِذَا أَمْكَنَ الْجَهْرُ فَبَلَغَتِ الْقِصَّةُ الْأَمِينَ، فَحَبَسَ أَبَا نُوَاسٍ.

وَلَمْ نَجِدْ فِي سِيرَتِهِ مَا يُسْتَحْسَنُ ذِكْرُهُ مِنْ حِلْمٍ، أَوْ مَعْدَلَةٍ، أَوْ تَجْرِبَةٍ، حَتَّى نَذْكُرَهَا، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ. ذِكْرُ وُثُوبِ الْجُنْدِ بِطَاهِرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ الْجُنْدُ بِطَاهِرٍ بَعْدَ مَقْتَلِ الْأَمِينِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ طَلَبُو مِنْهُ مَالًا، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ، فَثَارُوا بِهِ، فَضَاقَ بِهِمُ الْأَمْرُ، وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُوَاطَأَةٍ مِنَ الْجُنْدِ وَأَهْلِ الْأَرْبَاضِ، وَأَنَّهُمْ مَعَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ تَحَرَّكَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْبَاضِ أَحَدٌ، فَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ، فَهَرَبَ، وَنَهَبُوا بَعْضَ مَتَاعِهِ، وَمَضَى إِلَى عَقْرَقُوفَ. وَكَانَ لَمَّا قُتِلَ الْأَمِينُ أَمَرَ بِحِفْظِ الْأَبْوَابِ، وَحَوَّلَ زُبَيْدَةَ أُمَّ الْأَمِينِ وَوَلَدَيْهِ مُوسَى وَعَبْدَ اللَّهِ مَعَهَا، وَحَمَلَهُمْ فِي حَرَّاقَةٍ إِلَى هُمَيْنِيَا عَلَى الزَّابِ الْأَعْلَى، ثُمَّ أَمَرَ بِحَمْلِ مُوسَى وَعَبْدِ اللَّهِ إِلَى عَمِّهِمَا الْمَأْمُونِ بِخُرَاسَانَ. فَلَمَّا ثَارَ بِهِ الْجُنْدُ نَادَوْا " مُوسَى يَا مَنْصُورُ "، وَبَقَوْا ذَلِكَ يَوْمَهُمْ وَمِنَ الْغَدِ، فَصَوَّبَ النَّاسُ إِخْرَاجَ طَاهِرٍ وَلَدَيِ الْأَمِينِ. وَلَمَّا هَرَبَ طَاهِرٌ إِلَى عَقْرَقُوفَ خَرَجَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ، وَتَعَبَّأَ لِقِتَالِ الْجُنْدِ وَأَهْلِ الْأَرْبَاضِ بِبَغْدَاذَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْقَوَّادَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْهُ وَالْأَعْيَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ خَرَجُوا وَاعْتَذَرُوا، وَأَحَالُوا عَلَى السُّفَهَاءِ وَالْأَحْدَاثِ، وَسَأَلُوهُ الصَّفْحَ عَنْهُمْ وَقَبُولَ عُذْرِهِمْ. فَقَالَ طَاهِرٌ: مَا خَرَجْتُ عَنْكُمْ إِلَّا لِوَضْعِ السَّيْفِ فِيكُمْ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ - عَزَّ وَجَلَّ - لَئِنْ عُدْتُمْ لِمِثْلِهَا لَأَعُودَنَّ إِلَى رَأْيِي فِيكُمْ، وَلَأَخْرُجَنَّ إِلَى مَكْرُوهِكُمْ! فَكَسَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِرِزْقِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ مَشْيَخَةِ أَهْلِ بَغْدَاذَ، وَعَمِيرَةُ أَبُو شَيْخِ بْنُ عَمِيرَةَ الْأَسَدِيُّ، فَحَلَفُوا لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَرَّكْ مِنْ أَهْلِ بَغْدَاذَ وَلَا مِنَ الْأَبْنَاءِ أَحَدٌ، وَضَمِنُوا مِنْهُ مَنْ وَرَاءَهُمْ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ، وَعَفَا عَنْهُمْ، وَوَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَاسْتَوْسَقَ النَّاسُ فِي الْمَشْرِقِ

وَالْمَغْرِبِ عَلَى طَاعَةِ الْمَأْمُونِ، وَالِانْقِيَادِ لِخِلَافَتِهِ. (عَمِيرَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْمِيمِ) . ذِكْرُ خِلَافِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ الْعُقَيْلِيُّ عَلَى الْمَأْمُونِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَظْهَرَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارِ بْنِ شَبَثٍ الْعُقَيْلِيُّ الْخِلَافَ عَلَى الْمَأْمُونِ، وَكَانَ نَصْرٌ مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ يَسْكُنُ (كَيْسُومَ، نَاحِيَةَ) شَمَالَيْ حَلَبَ، وَكَانَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِلْأَمِينِ، وَلَهُ فِيهِ هَوًى، فَلَمَّا قُتِلَ الْأَمِينُ أَظْهَرَ نَصْرٌ الْغَضَبَ لِذَلِكَ، وَتَغَلَّبَ عَلَى مَا جَاوَرَهُ مِنَ الْبِلَادِ، وَمَلَكَ سُمَيْسَاطَ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْرَابِ وَأَهْلِ الطَّمَعِ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ، وَعَبَرَ الْفُرَاتَ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَحَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِالتَّغَلُّبِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ كَثُرَتْ جُمُوعُهُ، وَزَادَتْ عَمَّا كَانَتْ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. (شَبَثٌ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ) . ذِكْرُ وِلَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ الْعِرَاقَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْبِلَادِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ الْمَأْمُونُ الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ، أَخَا الْفَضْلِ، عَلَى كُلِّ مَا كَانَ افْتَتَحَهُ طَاهِرٌ مِنْ كُوَرِ الْجِبَالِ، وَالْعِرَاقِ، وَفَارِسَ، وَالْأَهْوَازِ، وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ، بَعْدَ أَنْ قُتِلَ الْأَمِينُ. وَكَتَبَ إِلَى طَاهِرٍ بِتَسْلِيمِ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَقَدَّمَ الْحَسَنُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَاهِرٍ سَعِيدٍ، فَدَافَعَهُ طَاهِرٌ بِتَسْلِيمِ الْخَرَاجِ إِلَيْهِ، حَتَّى وَفَّى الْجُنْدَ أَرْزَاقَهُمْ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْعَمَلَ. وَقَدِمَ الْحَسَنُ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ [وَمِائَةٍ] ، وَفَرَّقَ الْعُمَّالَ. وَأَمَرَ طَاهِرًا أَنْ يَسِيرَ إِلَى الرَّقَّةِ لِمُحَارَبَةِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ الْعُقَيْلِيِّ، وَوَلَّاهُ الْمَوْصِلَ وَالْجَزِيرَةَ وَالشَّامَ وَالْمَغْرِبَ، فَسَارَ طَاهِرٌ إِلَى قِتَالِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَدْعُوهُ إِلَى الطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْخِلَافِ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، (فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ طَاهِرٌ، وَالْتَقَوْا بِنَوَاحِي كَيْسُومَ،

وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، أَبْلَى فِيهِ نَصْرٌ بَلَاءً عَظِيمًا، وَكَانَ الظَّفَرُ لَهُ، وَعَادَ طَاهِرٌ شِبْهَ الْمَهْزُومِ إِلَى الرَّقَّةِ) . وَكَانَ قُصَارَى أَمْرِ طَاهِرٍ حِفْظَ تِلْكَ النَّوَاحِي. وَكَتَبَ الْمَأْمُونُ إِلَى هَرْثَمَةَ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى خُرَاسَانَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدٍ. ذِكْرُ وَقْعَةِ الرَّبَضِ بِقُرْطُبَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ بِقُرْطُبَةَ الْوَقْعَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالرَّبَضِ، وَسَبَبُهَا أَنَّ الْحَكَمَ بْنَ هِشَامٍ الْأُمَوِيَّ، صَاحِبَهَا، كَانَ كَثِيرَ التَّشَاغُلِ بِاللَّهْوِ وَالصَّيْدِ وَالشُّرْبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُجَانِسُهُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ قُرْطُبَةَ، فَكَرِهَهُ أَهْلُهَا، وَصَارُوا يَتَعَرَّضُونَ لِجُنْدِهِ بِالْأَذَى وَالسَّبِّ، إِلَى أَنْ بَلَغَ الْأَمْرُ بِالْغَوْغَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنَادُونَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْأَذَانِ: " الصَّلَاةَ يَا مَخْمُورُ الصَّلَاةَ "، وَشَافَهَهُ بَعْضُهُمْ بِالْقَوْلِ، وَصَفَّقُوا عَلَيْهِ بِالْأَكُفِّ، فَشَرَعَ فِي تَحْصِينِ قُرْطُبَةَ وَعِمَارَةِ أَسْوَارِهَا، وَحَفْرِ خَنَادِقِهَا، وَارْتَبَطَ الْخَيْلَ عَلَى بَابِهِ، وَاسْتَكْثَرَ الْمَمَالِيكَ، وَرَتَّبَ جَمْعًا لَا يُفَارِقُونَ بَابَ قَصْرِهِ بِالسِّلَاحِ، فَزَادَ ذَلِكَ فِي حِقْدِ أَهْلِ قُرْطُبَةَ، وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ. ثُمَّ وَضَعَ عَلَيْهِمْ عُشْرَ الْأَطْعِمَةِ كُلَّ سَنَةٍ، مِنْ غَيْرِ حِرْصٍ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى عَشَرَةٍ مِنْ رُؤَسَاءِ سُفَهَائِهِمْ، فَقَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ، فَهَاجَ لِذَلِكَ أَهْلُ الرَّبَضِ، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ مَمْلُوكًا لَهُ سَلَّمَ سَيْفًا إِلَى صَيْقَلٍ لِيَصْقُلَهُ، فَمَطَلَهُ، فَأَخَذَ الْمَمْلُوكُ السَّيْفَ، فَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُ الصَّيْقَلَ بِهِ إِلَى أَنْ قَتَلَهُ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ شَهَرَ السِّلَاحَ أَهْلُ الرَّبَضِ، وَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْأَرْبَاضِ جَمِيعَهُمْ بِالسِّلَاحِ، وَاجْتَمَعَ الْجُنْدُ وَالْأُمَوِيُّونَ وَالْعَبِيدُ بِالْقَصْرِ، وَفَرَّقَ الْحَكَمُ الْخَيْلَ وَالْأَسْلِحَةَ، وَجَعَلَ

أَصْحَابَهُ كَتَائِبَ، وَوَقَعَ الْقِتَالُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فَغَلَبَهُمْ أَهْلُ الرَّبَضِ، وَأَحَاطُوا بِقَصْرِهِ، فَنَزَلَ الْحَكَمُ مِنْ أَعْلَى الْقَصْرِ، وَلَبِسَ سِلَاحَهُ، وَرَكِبَ وَحَرَّضَ النَّاسَ، فَقَاتَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ قِتَالًا شَدِيدًا. ثُمَّ أَمَرَ ابْنَ عَمِّهِ عُبَيْدَ اللَّهِ، فَثَلَمَ فِي السُّورِ ثُلْمَةً، وَخَرَجَ مِنْهَا وَمَعَهُ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ، وَأَتَى أَهْلَ الرَّبَضِ مِنْ وَرَاءِ ظُهُورِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِمْ، فَأَضْرَمُوا النَّارَ فِي الرَّبَضِ، وَانْهَزَمَ أَهْلُهُ، وَقُتِّلُوا مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَأَخْرَجُوا مَنْ وَجَدُوا فِي الْمَنَازِلِ وَالدُّورِ، فَأَسَرُوهُمْ، فَانْتَقَى مِنَ الْأَسْرَى ثَلَاثَمِائَةٍ مِنْ وُجُوهِهِمْ، فَقَتَلَهُمْ، وَصَلَبَهُمْ مُنَكَّسِينَ، وَأَقَامَ النَّهْبَ وَالْقَتْلَ وَالْحَرِيقَ وَالْخَرَابَ فِي أَرْبَاضِ قُرْطُبَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. ثُمَّ اسْتَشَارَ الْحَكَمُ عَبْدَ الْكَرِيمِ بْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَبْدِ الْمُغِيثِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يُوَازِيهِ فِي قُرْبِهِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ وَالْعَفْوِ، وَأَشَارَ غَيْرُهُ بِالْقَتْلِ، فَقَبِلَ قَوْلَهُ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ بِالْأَمَانِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الرَّبَضِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَتَلْنَاهُ وَصَلَبْنَاهُ، فَخَرَجَ مَنْ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مُسْتَخْفِيًا، وَتَحَمَّلُوا عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ خَارِجِينَ مِنْ حَضْرَةِ قُرْطُبَةَ بِنِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَمَا خَفَّ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَقَعَدَ لَهُمُ الْجُنْدُ وَالْفَسَقَةُ بِالْمَرَاصِدِ يَنْهَبُونَ، وَمَنِ امْتَنَعَ عَلَيْهِمْ قَتَلُوهُ. فَلَمَّا انْقَضَتِ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ أَمَرَ الْحَكَمُ بِكَفِّ الْأَيْدِي عَنْ حُرُمِ النَّاسِ، وَجَمَعَهُنَّ إِلَى مَكَانٍ، وَأَمَرَ بِهَدْمِ الرَّبَضِ الْقِبْلِيِّ. وَكَانَ بَزِيعٌ مَوْلَى أُمَيَّةَ ابْنِ الْأَمِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ مَحْبُوسًا فِي حَبْسِ الدَّمِ بِقُرْطُبَةَ، فِي رِجْلَيْهِ قَيْدٌ ثَقِيلٌ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلَ قُرْطُبَةَ قَدْ غَلَبُوا الْجُنْدَ، سَأَلَ الْحَرَسَ أَنْ يُفْرِجُوا لَهُ، فَأَخَذُوا عَلَيْهِ الْعُهُودَ إِنْ سَلِمَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِمْ، وَأَطْلَقُوهُ، فَخَرَجَ فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يَكُنْ فِي الْجَيْشِ مِثْلُهُ، فَلَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ الرَّبَضِ عَادَ إِلَى السِّجْنِ، فَانْتَهَى خَبَرُهُ إِلَى الْحَكَمِ، فَأَطْلَقَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، (وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْوَقْعَةَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ) . ذِكْرُ الْوَقْعَةِ بِالْمَوْصِلِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْمَيْدَانِ وَفِيهَا كَانَتِ الْوَقْعَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْمَيْدَانِ بِالْمَوْصِلِ بَيْنَ الْيَمَانِيَّةِ وَالنِّزَارِيَّةِ، وَكَانَ سَبَبَهَا أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ نُعَيْمٍ الْبُرْجُمِيَّ صَارَ إِلَى دِيَارِ مُضَرَ، فَشَكَا الْأَزْدَ وَالْيَمَنَ، وَقَالَ: إِنَّهُمْ يَتَهَضَّمُونَنَا، وَيَغْلِبُونَنَا عَلَى حُقُوقِنَا، وَاسْتَنْصَرَهُمْ، فَسَارَ مَعَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ مَا يُقَارِبُ عِشْرِينَ

أَلْفًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْهَمْدَانِيُّ، وَهُوَ حِينَئِذٍ تَغَلَّبَ عَلَى الْمَوْصِلِ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَالِهِمْ فَأَخْبَرُوهُ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا يُرِيدُونَ، فَلَمْ يَقْبَلْ عُثْمَانُ ذَلِكَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ مِنَ الْبَلَدِ فِي نَحْوِ أَرْبَعَةِ آلَافِ رَجُلٍ، فَالْتَقَوْا، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، عِدَّةَ وَقَائِعَ، فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى النِّزَارِيَّةِ، وَظَفِرَ بِهِمْ عَلِيٌّ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَعَادَ إِلَى الْبَلَدِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْحَسَنُ الْهَرْشُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ سَفِلَةِ النَّاسِ، مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَدَعَا إِلَى الرِّضَى مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَأَتَى النِّيلَ، فَجَبَى الْأَمْوَالَ وَنَهَبَ الْقُرَى. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ الْهِلَالِيُّ بِمَكَّةَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَمِائَةٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمَهْدِيِّ وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ فِي صَفَرٍ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ.

ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ] 199 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ ذِكْرُ ظُهُورِ ابْنِ طَبَاطَبَا الْعَلَوِيِّ وَفِيهَا ظَهَرَ (أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، بِالْكُوفَةِ، يَدْعُو إِلَى الرِّضَى مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِابْنِ طَبَاطَبَا، وَكَانَ الْقَيِّمَ بِأَمْرِهِ فِي الْحَرْبِ أَبُو السَّرَايَا السَّرِيُّ بْنُ مَنْصُورٍ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ بْنِ هَانِئِ بْنِ مَسْعُودٍ الشَّيْبَانِيِّ. وَكَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ أَنَّ الْمَأْمُونَ لَمَّا صَرَفَ طَاهِرًا عَمَّا كَانَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي افْتَتَحَهَا، وَوَجَّهَ الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ إِلَيْهَا - تَحَدَّثَ النَّاسُ بِالْعِرَاقِ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ سَهْلٍ قَدْ غَلَبَ عَلَى الْمَأْمُونِ، وَأَنَّهُ أَنْزَلَهُ قَصْرًا حَجَبَهُ فِيهِ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَقُوَّادِهِ، وَأَنَّهُ يَسْتَبِدُّ بِالْأَمْرِ دُونَهُ، فَغَضِبَ لِذَلِكَ بَنُو هَاشِمٍ وَوُجُوهُ النَّاسِ، وَاجْتَرَءُوا عَلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، وَهَاجَتِ الْفِتَنُ فِي الْأَمْصَارِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ ظَهَرَ ابْنُ طَبَاطَبَا بِالْكُوفَةِ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبَ اجْتِمَاعِ ابْنِ طَبَاطَبَا بِأَبِي السَّرَايَا أَنَّ أَبَا السَّرَايَا كَانَ يَكْرِي الْحَمِيرَ، ثُمَّ قَوِيَ حَالُهُ، فَجَمَعَ نَفَرًا، فَقَتَلَ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ بِالْجَزِيرَةِ، وَأَخَذَ مَا مَعَهُ، فَطُلِبَ، فَاخْتَفَى، وَعَبَرَ الْفُرَاتَ إِلَى الْجَانِبِ الشَّامِيِّ، فَكَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، ثُمَّ لَحِقَ بِيَزِيدَ بْنِ مَزْيَدٍ الشَّيْبَانِيِّ بِ أَرْمِينِيَّةَ، وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ فَارِسًا، فَقَوَّدَهُ، فَجَعَلَ يُقَاتِلُ مَعَهُ الْخَرَّمِيَّةَ، وَأَثَّرَ فِيهِمْ وَفَتَكَ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ غُلَامَهُ أَبَا الشَّوْكِ. فَلَمَّا عُزِلَ أَسَدٌ عَنْ أَرْمِينِيَّةَ صَارَ أَبُو السَّرَايَا إِلَى أَحْمَدَ بْنِ مَزْيَدٍ، فَوَجَّهَهُ أَحْمَدُ طَلِيعَةً إِلَى عَسْكَرِ هَرْثَمَةَ فِي فِتْنَةِ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ، وَكَانَتْ شَجَاعَتُهُ قَدِ اشْتَهَرَتْ، فَرَاسَلَهُ هَرْثَمَةُ

(يَسْتَمِيلُهُ، فَمَالَ إِلَيْهِ، فَانْتَقَلَ إِلَى عَسْكَرِهِ، وَقَصَدَهُ الْعَرَبُ) مِنَ الْجَزِيرَةِ، وَاسْتَخْرَجَ لَهُمُ الْأَرْزَاقَ مِنْ هَرْثَمَةَ، فَصَارَ مَعَهُ نَحْوُ أَلْفَيْ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَصَارَ يُخَاطَبُ بِالْأَمِيرِ. فَلَمَّا قُتِلَ الْأَمِينُ نَقَصَهُ هَرْثَمَةُ مِنْ أَرْزَاقِهِ وَأَرْزَاقِ أَصْحَابِهِ، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْحَجِّ، فَأَذِنَ لَهُ وَأَعْطَاهُ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَفَرَّقَهَا فِي أَصْحَابِهِ وَمَضَى، وَقَالَ لَهُمْ: اتَّبِعُونِي مُتَفَرِّقِينَ. فَفَعَلُوا، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ مِنْهُمْ نَحْوٌ مِنْ مِائَتَيْ فَارِسٍ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى عَيْنِ التَّمْرِ وَحَصَرَ عَامِلَهَا، وَأَخَذَ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَالِ وَفَرَّقَهُ فِي أَصْحَابِهِ. وَسَارَ، فَلَقِيَ عَامِلًا آخَرَ وَمَعَهُ مَالٌ عَلَى ثَلَاثَةِ بِغَالٍ، فَأَخَذُوهَا وَسَارَ، فَلَحِقَهُ عَسْكَرٌ كَانَ قَدْ سَيَّرَهُ هَرْثَمَةُ خَلْفَهُ، فَعَادَ إِلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ، فَهَزَمَهُمْ، وَدَخَلَ الْبَرِّيَّةَ، وَقَسَّمَ الْمَالَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَانْتَشَرَ جُنْدُهُ، فَلَحِقَ بِهِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ، فَسَارَ نَحْوَ دَقُوقَاءَ، وَعَلَيْهَا أَبُو ضِرْغَامَةَ الْعِجْلِيُّ، فِي سَبْعِمِائَةِ فَارِسٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَلَقِيَهُ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ أَبُو ضِرْغَامَةَ وَدَخَلَ قَصْرَ دَقُوقَاءَ، فَحَصَرَهُ أَبُو السَّرَايَا، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْقَصْرِ بِالْأَمَانِ، وَأَخَذَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَسَارَ إِلَى الْأَنْبَارِ وَعَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ الشَّرَوِيُّ، مَوْلَى الْمَنْصُورِ، فَقَتَلَهُ أَبُو السَّرَايَا، وَأَخَذَ مَا فِيهَا وَسَارَ عَنْهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا بَعْدَ إِدْرَاكِ الْغِلَالِ، فَاحْتَوَى عَلَيْهَا، ثُمَّ ضَجِرَ مِنْ طُولِ السُّرَى فِي الْبِلَادِ، فَقَصَدَ الرَّقَّةَ، فَمَرَّ بِطَوْقِ بْنِ مَالِكٍ التَّغْلِبِيِّ وَهُوَ يُحَارِبُ الْقَيْسِيَّةَ، فَأَعَانَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَقَامَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يُقَاتِلُ عَلَى غَيْرِ طَمَعٍ إِلَّا لِلْعَصَبِيَّةِ لِلرَّبَعِيَّةِ عَلَى الْمُضَرِيَّةِ، فَظَفِرَ طَوْقٌ وَانْقَادَتْ لَهُ قَيْسٌ. وَسَارَ عَنْهُ أَبُو السَّرَايَا إِلَى الرَّقَّةِ، فَلَمَّا وَصَلَهَا لَقِيَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ طَبَاطَبَا، فَبَايَعَهُ، وَقَالَ لَهُ: انْحَدِرْ أَنْتَ فِي الْمَاءِ، وَأَسِيرُ أَنَا عَلَى الْبَرِّ، حَتَّى نُوَافِيَ الْكُوفَةَ. فَدَخَلَاهَا، وَابْتَدَأَ أَبُو السَّرَايَا بِقَصْرِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى فَأَخَذَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ، وَكَانَ عَظِيمًا لَا يُحْصَى، وَبَايَعَهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ أَنَّ أَبَا السَّرَايَا كَانَ مِنْ رِجَالِ هَرْثَمَةَ، فَمَطَلَهُ بِأَرْزَاقِهِ فَغَضِبَ، وَمَضَى إِلَى الْكُوفَةِ، (فَبَايَعَ ابْنَ طَبَاطَبَا، وَأَخَذَ الْكُوفَةَ) ، وَاسْتَوْسَقَ لَهُ أَهْلُهَا،

وَأَتَاهُ النَّاسُ مِنْ نَوَاحِي الْكُوفَةِ وَالْأَعْرَابُ، فَبَايَعُوهُ، وَكَانَ الْعَامِلَ عَلَيْهَا لِلْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمَنْصُورِ، فَلَامَهُ الْحَسَنُ، وَوَجَّهَ زُهَيْرَ بْنَ الْمُسَيَّبِ الضَّبِّيَّ إِلَى الْكُوفَةِ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ ابْنُ طَبَاطَبَا وَأَبُو السَّرَايَا، فَوَاقَعُوهُ فِي قَرْيَةِ شَاهِي فَهَزَمُوهُ، وَاسْتَبَاحُوا عَسْكَرَهُ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ سَلْخَ جُمَادَى الْآخِرَةِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، مُسْتَهَلَّ رَجَبٍ، مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَبَاطَبَا فَجْأَةً، سَمَّهُ أَبُو السَّرَايَا، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا غَنِمَ مَا فِي عَسْكَرِ زُهَيْرٍ مَنَعَ عَنْهُ أَبَا السَّرَايَا، وَكَانَ النَّاسُ لَهُ مُطِيعِينَ، فَعَلِمَ أَبُو السَّرَايَا أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ مَعَهُ، فَسَمَّهُ فَمَاتَ، وَأَخَذَ غُلَامًا أَمْرَدَ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَكَانَ الْحُكْمُ إِلَى أَبِي السَّرَايَا. وَرَجَعَ زُهَيْرٌ إِلَى قَصْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَأَقَامَ بِهِ، وَوَجَّهَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ عَبْدُوسَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ الْمَرْوَرُوذِيَّ، فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو السَّرَايَا، فَلَقِيَهُ بِالْجَامِعِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ، فَقَتَلَ عَبْدُوسًا، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدٌ، كَانُوا بَيْنَ قَتِيلٍ وَأَسِيرٍ. وَانْتَشَرَ الطَّالِبِيُّونَ فِي الْبِلَادِ، وَضَرَبَ أَبُو السَّرَايَا الدَّرَاهِمَ بِالْكُوفَةِ، وَسَيَّرَ جُيُوشَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَوَاسِطٍ وَنَوَاحِيهِمَا. فَوَلَّى الْبَصْرَةَ الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْجَعْفَرِيَّ. وَوَلَّى مَكَّةَ الْحُسَيْنَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْأَفْطَسُ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ الْمَوْسِمَ. وَوَلَّى الْيَمَنَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ. (وَوَلَّى فَارِسَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ. وَوَلَّى الْأَهْوَازَ زَيْدَ بْنَ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ) ، فَسَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَغَلَبَ عَلَيْهَا، وَأَخْرَجَ

عَنْهَا الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْجَعْفَرِيَّ، وَوَلِيَهَا مَعَ الْأَهْوَازِ. وَوَجَّهَ أَبُو السَّرَايَا مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ الْحَسَنِ (بْنِ الْحَسَنِ) بْنِ عَلِيٍّ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ بَغْدَاذَ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَأَتَى الْمَدَائِنَ وَأَقَامَ بِهَا، وَسَيَّرَ عَسْكَرَهُ إِلَى دَيَالَى. وَكَانَ بِوَاسِطٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْحَرَشِيُّ وَالِيًا عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، فَانْهَزَمَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي السَّرَايَا إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَمَّا رَأَى الْحَسَنُ أَنَّ أَصْحَابَهُ لَا يَلْبَثُونَ لِأَصْحَابِ أَبِي السَّرَايَا - أَرْسَلَ إِلَى هَرْثَمَةَ يَسْتَدْعِيهِ لِمُحَارَبَةِ أَبِي السَّرَايَا، وَكَانَ قَدْ سَارَ إِلَى خُرَاسَانَ مُغَاضِبًا لِلْحَسَنِ، فَحَضَرَ بَعْدَ امْتِنَاعٍ، وَسَارَ إِلَى الْكُوفَةِ فِي شَعْبَانَ، وَسَيَّرَ الْحَسَنُ إِلَى الْمَدَائِنِ وَوَاسِطٍ عَلِيَّ بْنَ سَعِيدٍ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ أَبَا السَّرَايَا وَهُوَ بِقَصْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَوَجَّهَ جَيْشًا إِلَى الْمَدَائِنِ، فَدَخَلَهَا أَصْحَابُهُ فِي رَمَضَانَ، وَتَقَدَّمَ حَتَّى نَزَلَ بِنَهْرِ صَرْصَرٍ، وَجَاءَ هَرْثَمَةُ فَعَسْكَرَ بِإِزَائِهِ، بَيْنَهُمَا النَّهْرُ، وَسَارَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ فِي شَوَّالٍ إِلَى الْمَدَائِنِ، فَقَاتَلَ بِهَا أَصْحَابَ أَبِي السَّرَايَا، فَهَزَمَهُمْ وَاسْتَوْلَى عَلَى الْمَدَائِنِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ أَبَا السَّرَايَا، فَرَجَعَ مِنْ نَهْرِ صَرْصَرٍ إِلَى قَصْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَنَزَلَ بِهِ، وَسَارَ هَرْثَمَةُ فِي طَلَبِهِ فَوَجَدَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَتَلَهُمْ، وَوَجَّهَ رُءُوسَهُمْ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، وَنَازَلَ هَرْثَمَةُ أَبَا السَّرَايَا، فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا وَقْعَةٌ قُتِلَ فِيهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي السَّرَايَا، فَانْحَازَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَوَثَبَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الطَّالِبِيِّينَ عَلَى دُورِ بَنِي الْعَبَّاسِ وَمَوَالِيهِمْ (وَأَتْبَاعِهِمْ، فَهَدَمُوهَا) ، وَانْتَهَبُوهَا، وَخَرَّبُوا ضِيَاعَهُمْ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْكُوفَةِ، وَعَمِلُوا أَعْمَالًا قَبِيحَةً، وَاسْتَخْرَجُوا الْوَدَائِعَ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ عِنْدَ النَّاسِ. وَكَانَ هَرْثَمَةُ يُخْبِرُ النَّاسَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْحَجَّ، وَحَبَسَ مَنْ قَدِمَ لِلْحَجِّ مِنْ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا لِيَكُونَ هُوَ أَمِيرُ الْمَوْسِمِ، وَوَجَّهَ إِلَى مَكَّةَ دَاوُدَ بْنَ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَكَانَ الَّذِي وَجَّهَهُ أَبُو السَّرَايَا إِلَى مَكَّةَ حُسَيْنَ بْنَ حَسَنٍ الْأَفْطَسَ ابْنِ عَلِيِّ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَوَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَدَخَلَهَا، وَلَمْ يُقَاتِلْهُ بِهَا أَحَدٌ.

وَلَمَّا بَلَغَ دَاوُدَ بْنُ عِيسَى تَوْجِيهُ أَبِي السَّرَايَا حُسَيْنَ بْنَ حَسَنٍ إِلَى مَكَّةَ لِإِقَامَةِ الْمَوْسِمِ - جَمَعَ أَصْحَابَ بَنِي الْعَبَّاسِ وَمَوَالِيَهُمْ، وَكَانَ مَسْرُورٌ الْكَبِيرٌ قَدْ حَجَّ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، فَتَعَبَّأَ لِلْحَرْبِ، وَقَالَ لِدَاوُدَ: أَقِمْ إِلَيَّ شَخْصَكَ، أَوْ بَعْضَ وَلَدِكَ، وَأَنَا أَكْفِيكَ، فَقَالَ: لَا أَسْتَحِلُّ الْقِتَالَ فِي الْمُحَرَّمِ، وَاللَّهِ لَئِنْ دَخَلُوهَا مِنْ هَذَا الْفَجِّ لَأَخْرُجَنَّ مِنْ غَيْرِهِ. وَانْحَازَ دَاوُدُ إِلَى نَاحِيَةِ الْمُشَاشِ، وَافْتَرَقَ الْجَمْعُ الَّذِي كَانَ جَمَعَهُمْ، وَخَافَ مَسْرُورٌ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ، فَخَرَجَ فِي أَثَرِ دَاوُدَ رَاجِعًا إِلَى الْعِرَاقِ، وَبَقِيَ النَّاسُ بِعَرَفَةَ، فَصَلَّى بِهِمْ رَجُلٌ مِنْ عُرْضِ النَّاسِ بِغَيْرِ خُطْبَةٍ، وَدَفَعُوا مِنْ عَرَفَةَ بِغَيْرِ إِمَامٍ. وَكَانَ حُسَيْنُ بْنُ حَسَنٍ بِسَرَفَ يَخَافُ دُخُولَ مَكَّةَ، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْهِ قَوْمٌ أَخْبَرُوهُ أَنَّ مَكَّةَ قَدْ خَلَتْ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ، فَدَخَلَهَا فِي عَشْرَةِ أَنْفُسٍ، فَطَافُوا بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَمَضَوْا إِلَى عَرَفَةَ، فَوَقَفُوا لَيْلًا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ، وَأَقَامَ بِمِنًى أَيَّامَ الْحَجِّ، وَبَقِيَ بِمَكَّةَ إِلَى أَنِ انْقَضَتِ السَّنَةُ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا أَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بِالْمَدِينَةِ، حَتَّى انْقَضَتِ السَّنَةُ. وَأَمَّا هَرْثَمَةُ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِقَرْيَةِ شَاهِي، وَرَدَّ الْحَاجَّ، وَاسْتَدْعَى مَنْصُورَ بْنَ الْمَهْدِيِّ إِلَيْهِ، وَكَاتَبَ رُؤَسَاءَ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ فَإِنَّهُ تَوَجَّهَ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى وَاسِطٍ، فَأَخَذَهَا، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَخْذِهَا هَذِهِ السَّنَةَ. ذِكْرُ قُوَّةِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ الْعُقَيْلِيِّ وَفِيهَا قَوِيَ أَمْرُ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ الْعُقَيْلِيِّ بِالْجَزِيرَةِ وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَحَصَرَ حَرَّانَ، وَأَتَاهُ نَفَرٌ مِنْ شِيعَةِ الطَّالِبِيِّينَ فَقَالُوا لَهُ: قَدْ وَتَرْتَ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَقَتَلْتَ رِجَالَهُمْ، وَأَعْلَقْتَ عَنْهُمُ الْعَرَبَ، فَلَوْ بَايَعْتَ لِخَلِيفَةٍ كَانَ أَقْوَى لِأَمْرِكَ. فَقَالَ: مِنْ أَيِّ النَّاسِ؟ فَقَالُوا: نُبَايِعُ آلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: أُبَايِعُ

[بَعْضَ] أَوْلَادِ السَّوْدَاوَاتِ، فَيَقُولُ إِنَّهُ هُوَ خَلَقَنِي وَرَزَقَنِي؟ قَالُوا: فَنُبَايِعُ لِبَعْضِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ: أُولَئِكَ قَدْ أَدْبَرَ أَمْرُهُمْ، وَالْمُدْبِرُ لَا يُقْبِلُ أَبَدًا، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَيَّ رَجُلٌ مُدْبِرٌ لَأَعْدَانِي إِدْبَارُهُ، وَإِنَّمَا هَوَايَ فِي بَنِي الْعَبَّاسِ، وَإِنَّمَا حَارَبْتُهُمْ مُحَامَاةً عَلَى الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ عَلَيْهِمُ الْعَجَمَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْحُسَيْنُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ زُرَيْقٍ أَبُو طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ بِخُرَاسَانَ، وَكَانَ طَاهِرٌ بِالرَّقَّةِ، وَحَضَرَ الْمَأْمُونُ جِنَازَتَهُ، وَنَزَلَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ قَبْرَهُ، وَوَجَّهَ الْمَأْمُونُ إِلَى طَاهِرٍ يُعَزِّيهِ بِأَبِيهِ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَوْنٍ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّمَادِحِيُّ، مَوْلَى آلِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الْفَقِيهُ الْمَغْرِبِيُّ الزَّاهِدُ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَهْلُ بْنُ شَاذَوَيَهْ أَبُو هَارُونَ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو هَاشِمٍ، وَهُوَ وَالِدُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.

ثم دخلت سنة مائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ مِائَتَيْنِ] 200 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ مِائَتَيْنِ ذِكْرُ هَرَبِ أَبِي السَّرَايَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَرَبَ أَبُو السَّرَايَا مِنَ الْكُوفَةِ، وَكَانَ قَدْ حَصَرَهُ فِيهَا (وَمَنْ مَعَهُ) هَرْثَمَةُ، وَجَعَلَ يُلَازِمُ قِتَالَهُمْ، حَتَّى ضَجِرُوا، وَتَرَكُوا الْقِتَالَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو السَّرَايَا، تَهَيَّأَ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْكُوفَةِ، فَخَرَجَ فِي ثَمَانِمِائَةِ فَارِسٍ، وَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، وَدَخَلَهَا هَرْثَمَةُ فَأَمَّنَ أَهْلَهَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ هَرَبُهُ سَادِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَأَتَى الْقَادِسِيَّةَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى السُّوسِ بِخُوزِسْتَانَ فَلَقِيَ مَالًا قَدْ حُمِلَ مِنَ الْأَهْوَازِ فَأَخَذَهُ وَقَسَّمَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. وَأَتَاهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَأْمُونِيُّ، فَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ عَمَلِهِ، وَكَرِهَ قِتَالَهُ، فَأَبَى أَبُو السَّرَايَا إِلَّا قِتَالَهُ، فَقَاتَلَهُ، فَهَزَمَهُ الْمَأْمُونِيُّ وَجَرَحَهُ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، وَسَارَ هُوَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَبُو الشَّوْكِ نَحْوَ مَنْزِلِ أَبِي السَّرَايَا بِرَأْسِ عَيْنٍ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى جَلُولَاءَ ظَفِرَ بِهِمْ حَمَّادٌ الْكُنْدُغُوشُ، فَأَخَذَهُمْ، وَأَتَى بِهِمُ الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ وَهُوَ بِالنَّهْرَوَانِ، فَقَتَلَ أَبَا السَّرَايَا، وَبَعَثَ رَأَسَهُ إِلَى الْمَأْمُونِ، وَنُصِبَتْ جُثَّتُهُ عَلَى جِسْرِ بَغْدَاذَ، وَسَيَّرَ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدٍ إِلَى الْمَأْمُونِ.

وَأَمَّا هَرْثَمَةُ فَإِنَّهُ أَقَامَ بِالْكُوفَةِ يَوْمًا وَاحِدًا (وَعَادَ) ، وَاسْتَخْلَفَ بِهَا غَسَّانَ بْنَ أَبِي الْفَرَجِ أَبَا إِبْرَاهِيمَ بْنِ غَسَّانَ، صَاحِبِ (حَرَسٍ) وَالِي خُرَاسَانَ. وَسَارَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَأَخَذَهَا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ. وَكَانَ زَيْدُ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى زَيْدَ النَّارِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهَا لِكَثْرَةِ مَا أَحْرَقَ بِالْبَصْرَةِ مِنْ دُورِ الْعَبَّاسِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَكَانَ إِذَا أَتَى رَجُلٌ مِنَ الْمُسَوِّدَةِ أَحْرَقَهُ، وَأَخَذَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً مِنْ أَمْوَالِ التُّجَّارِ سِوَى أَمْوَالِ بَنِي الْعَبَّاسِ، فَلَمَّا وَصَلَ عَلِيٌّ إِلَى الْبَصْرَةِ اسْتَأْمَنَهُ زَيْدٌ فَأَمَّنَهُ، وَأَخَذَهُ، وَبَعَثَ إِلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ جَيْشًا، فَأَمَرَهُمْ بِمُحَارَبَةِ مَنْ بِهَا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ. وَكَانَ بَيْنَ خُرُوجِ أَبِي السَّرَايَا وَقَتْلِهِ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ. ذِكْرُ ظُهُورِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ أَبِي السَّرَايَا وَمَا كَانَ مِنْهُ - سَارَ إِلَى الْيَمَنِ وَبِهَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَامِلًا لِلْمَأْمُونِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ قُرْبُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ صَنْعَاءَ، سَارَ مِنْهَا نَحْوَ مَكَّةَ، فَأَتَى الْمُشَاشَ فَعَسْكَرَ بِهَا، وَاجْتَمَعَ بِهَا إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَرَبُوا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ، وَاسْتَوْلَى إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْيَمَنِ، وَكَانَ يُسَمَّى الْجَزَّارَ لِكَثْرَةِ مَنْ قَتَلَ بِالْيَمَنِ وَسَبَى وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ.

ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْأَفْطَسُ بِمَكَّةَ وَالْبَيْعَةِ لِمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، نَزَعَ الْحُسَيْنُ كُسْوَةَ الْكَعْبَةِ، وَكَسَاهَا كُسْوَةً أُخْرَى، أَنْفَذَهَا أَبُو السَّرَايَا مِنَ الْكُوفَةِ، مِنَ الْقَزِّ، وَتَتَبَّعَ وَدَائِعَ بَنِي الْعَبَّاسِ وَأَتْبَاعَهُمْ وَأَخَذَهَا، وَأَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِحُجَّةِ الْوَدَائِعِ، فَهَرَبَ النَّاسُ مِنْهُ، وَتَطَرَّقَ أَصْحَابُهُ إِلَى قَلْعِ شَبَابِيكِ الْحَرَمِ، وَأَخْذِ مَا عَلَى الْأَسَاطِينِ مِنَ الذَّهَبِ، وَهُوَ نَزْرٌ حَقِيرٌ، وَأَخْذِ مَا فِي خِزَانَةِ الْكَعْبَةِ، فَقَسَّمَهُ مَعَ كُسْوَتِهَا عَلَى أَصْحَابِهِ. فَلَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ أَبِي السَّرَايَا، وَرَأَى تَغَيُّرَ النَّاسِ لِسُوءِ سِيرَتِهِ وَسِيرَةِ أَصْحَابِهِ، أَتَى هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَانَ شَيْخًا مُحَبَّبًا لِلنَّاسِ، مُفَارِقًا لِمَا عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ قُبْحِ السِّيرَةِ، وَكَانَ يَرْوِي الْعِلْمَ عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ النَّاسُ يَكْتُبُونَ عَنْهُ، وَكَانَ يُظْهِرُ زُهْدًا، فَلَمَّا أَتَوْهُ قَالُوا لَهُ: تَعْلَمُ مَنْزِلَتَكَ مِنَ النَّاسِ، فَهَلُمَّ نُبَايِعْ لَكَ بِالْخِلَافَةِ، فَإِنْ فَعَلْتَ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ رَجُلَانِ. فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ ابْنُهُ عَلِيٌّ وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْأَفْطَسُ حَتَّى غَلَبَاهُ عَلَى رَأْيِهِ، وَأَجَابَهُمْ، وَأَقَامُوهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ، وَجَمَعُوا لَهُ النَّاسَ، فَبَايَعُوهُ طَوْعًا وَكَرْهًا، وَسَمَّوْهُ " أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ "، فَبَقِيَ شُهُورًا وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَابْنُهُ عَلِيٌّ وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ وَجَمَاعَتُهُمْ أَسْوَأُ مَا كَانُوا سِيرَةً وَأَقْبَحُ فِعْلًا، فَوَثَبَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي فِهْرٍ كَانْتْ جَمِيلَةً، وَأَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ، فَأَخَافَ زَوْجَهَا، وَهُوَ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، حَتَّى تَوَارَى عَنْهُ، ثُمَّ كَسَرَ بَابَ دَارِهَا، وَأَخَذَهَا إِلَيْهِ مُدَّةً ثُمَّ هَرَبَتْ مِنْهُ. وَوَثَبَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَلَى غُلَامٍ أَمَرَدَ، وَهُوَ ابْنُ قَاضِي مَكَّةَ، يُقَالُ لَهُ إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ جَمِيلًا، فَأَخَذَهُ قَهْرًا. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ بِهَا مِنَ الْمُجَاوِرِينَ اجْتَمَعُوا بِالْحَرَمِ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَأَتَوْ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ، فَقَالُوا لَهُ: لَنَخْلَعَنَّكَ، أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَرُدَنَّ إِلَيْنَا هَذَا الْغُلَامَ! فَأَغْلَقَ بَابَهُ وَكَلَّمَهُمْ مِنْ شُبَّاكٍ، وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْأَمَانَ لِيَرْكَبَ إِلَى ابْنِهِ وَيَأْخُذَ الْغُلَامَ، وَحَلَفَ لَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، فَأَمَّنُوهُ،

فَرَكِبَ (إِلَى ابْنِهِ) وَأَخَذَ الْغُلَامَ مِنْهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى أَهْلِهِ. وَلَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَدِمَ إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْعَبَّاسِيُّ مِنَ الْيَمَنِ فَنَزَلَ الْمُشَاشَ، وَاجْتَمَعَ الطَّالِبِيُّونَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَأَعْلَمُوهُ، وَحَفَرُوا خَنْدَقًا، وَجَمَعُوا النَّاسَ مِنَ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَاتَلَهُمْ إِسْحَاقُ، ثُمَّ كَرِهَ الْقِتَالَ، فَسَارَ نَحْوَ الْعِرَاقِ، فَلَقِيَهُ الْجُنْدُ الَّذِينَ أَنْفَذَهُمْ هَرْثَمَةُ إِلَى مَكَّةَ، وَمَعَهُمُ الْجَلُودِيُّ وَرَجَاءُ بْنُ جَمِيلٍ، فَقَالُوا لِإِسْحَاقَ: ارْجِعْ مَعَنَا، وَنَحْنُ نَكْفِيكَ الْقِتَالَ. فَرَجَعَ مَعَهُمْ، فَقَاتَلُوا الطَّالِبِيِّينَ فَهَزَمُوهُمْ، فَأَرْسَلَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنُوهُ، وَدَخَلَ الْعَبَّاسِيُّونَ مَكَّةَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ وَتَفَرَّقَ الطَّالِبِيُّونَ مِنْ مَكَّةَ. وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ فَسَارَ نَحْوَ الْجُحْفَةِ، فَأَدْرَكَهُ بَعْضُ مَوَالِي بَنِي الْعَبَّاسِ، فَأَخَذَ جَمِيعَ مَا مَعَهُ، وَأَعْطَاهُ دُرَيْهَمَاتٍ يَتَوَصَّلُ بِهَا، فَسَارَ نَحْوَ بِلَادِ جُهَيْنَةَ، فَجَمَعَ بِهَا، وَقَاتَلَ هَارُونَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَالِيَ الْمَدِينَةِ، عِنْدَ الشَّجَرَةِ وَغَيْرِهَا، عِدَّةَ دَفَعَاتٍ، فَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ، وَفُقِئَتْ عَيْنُهُ بِنُشَّابَةٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَرَجَعَ إِلَى مَوْضِعِهِ. فَلَمَّا انْقَضَى الْمَوْسِمُ طَلَبَ الْأَمَانَ مِنَ الْجُلُودِيِّ، وَمِنْ رَجَاءِ بْنِ جَمِيلٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ، فَأَمَّنَهُ، وَضَمِنَ لَهُ رَجَاءٌ عَنِ الْمَأْمُونِ وَعَنِ الْفَضْلِ الْوَفَاءَ بِالْأَمَانِ، فَقَبِلَ ذَلِكَ، فَأَتَى مَكَّةَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ: إِنَّنِي بَلَغَنِي أَنَّ الْمَأْمُونَ مَاتَ، وَكَانَتْ لَهُ فِي عُنُقِي بَيْعَةٌ، وَكَانَتْ فِتْنَةٌ عَمَّتِ الْأَرْضَ، فَبَايَعَنِي النَّاسُ، ثُمَّ إِنَّهُ صَحَّ عِنْدِي أَنَّ الْمَأْمُونَ حَيٌّ صَحِيحٌ، وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنَ الْبَيْعَةِ، وَقَدْ خَلَعْتُ نَفْسِي مِنَ الْبَيْعَةِ الَّتِي بَايَعْتُمُونِي عَلَيْهَا، كَمَا خَلَعْتُ خَاتَمِي هَذَا مِنْ إِصْبَعِي، فَلَا بَيْعَةَ لِي فِي رِقَابِكُمْ.

ثُمَّ نَزَلَ وَسَارَ سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَسَيَّرَهُ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ إِلَى الْمَأْمُونِ بِمَرْوَ، فَلَمَّا سَارَ الْمَأْمُونُ إِلَى الْعِرَاقِ صَحِبَهُ، فَمَاتَ بِجُرْجَانَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ مِنَ الْيَمَنِ رَجُلًا مِنْ وَلَدِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (فِي جُنْدٍ) لِيَحُجَّ بِالنَّاسِ، فَسَارَ الْعَقِيلِيُّ حَتَّى أَتَى بُسْتَانَ ابْنِ عَامِرٍ، فَبَلَغَهُ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمَ قَدْ حَجَّ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْقُوَّادِ، فِيهِمْ حَمْدَوَيْهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ عَلَى الْيَمَنِ، فَعَلِمَ الْعَقِيلِيُّ أَنَّهُ لَا يَقْوَى بِهِمْ، فَأَقَامَ بِبُسْتَانِ ابْنِ عَامِرٍ، فَاجْتَازَ قَافِلَةً مِنَ الْحَاجِّ، وَمَعَهُمْ كُسْوَةُ الْكَعْبَةِ وَطِيبُهَا، فَأَخَذَ أَمْوَالَ التُّجَّارِ وَكُسْوَةَ الْكَعْبَةِ وَطِيبَهَا، وَقَدِمَ الْحَجَّاجُ مَكَّةَ عُرَاةً مَنْهُوبِينَ. فَاسْتَشَارَ الْمُعْتَصِمُ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ الْجُلُودِيُّ: أَنَا أَكْفِيكَ ذَلِكَ. فَانْتَخَبَ مِائَةَ رَجُلٍ، وَسَارَ بِهِمْ إِلَى الْعَقِيلِيِّ، فَصَحِبَهُمْ، فَقَاتَلَهُمْ فَانْهَزَمُوا، وَأَسَرَ أَكْثَرَهُمْ، وَأَخَذَ كُسْوَةَ الْكَعْبَةِ وَأَمْوَالَ التُّجَّارِ، إِلَّا مَا كَانَ مَعَ مَنْ هَرَبَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَرَدَّهُ وَأَخَذَ الْأَسْرَى، فَضَرَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشْرَةَ أَسْوَاطٍ وَأَطْلَقَهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى الْيَمَنِ يَسْتَطْعِمُونَ النَّاسَ، فَهَلَكَ أَكْثَرُهُمْ فِي الطَّرِيقِ. ذِكْرُ مَسِيرَةِ هَرْثَمَةَ إِلَى الْمَأْمُونِ وَقَتْلِهِ لَمَّا فَرَغَ هَرْثَمَةُ مِنْ أَبِي السَّرَايَا رَجَعَ فَلَمْ يَأْتِ الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ، وَكَانَ بِالْمَدَائِنِ، بَلْ سَارَ عَلَى عَقْرَقُوفَ حَتَّى أَتَى الْبَرَدَانَ، وَالنَّهْرَوَانَ، وَأَتَى خُرَاسَانَ، فَأَتَتْهُ كُتُبُ الْمَأْمُونِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنْ يَأْتِيَ إِلَى الْشَّامِ وَالْحِجَازِ، فَأَبَى وَقَالَ: لَا أَرْجِعُ حَتَّى أَلْقَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. إِدْلَالًا مِنْهُ عَلَيْهِ، وَلِمَا يَعْرِفُ مِنْ نَصِيحَتِهِ لَهُ وَلِآبَائِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَ الْمَأْمُونَ مَا يُدَبِّرُ عَلَيْهِ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، وَمَا يَكْتُمُ عَنْهُ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَأَنَّهُ لَا يَدَعُهُ حَتَّى يَرُدَّهُ إِلَى بَغْدَاذَ لِيَتَوَسَّطَ سُلْطَانَهُ.

فَعَلِمَ الْفَضْلُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لِلْمَأْمُونِ: إِنَّ هَرْثَمَةَ قَدْ أَثْقَلَ عَلَيْكَ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، وَدَسَّ أَبَا السَّرَايَا، وَهُوَ مِنْ جُنْدِهِ، وَلَوْ أَرَادَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَقَدْ كُتِبَ إِلَيْهِ عِدَّةُ كُتُبٍ لِيَرْجِعَ إِلَى الشَّامِ وَالْحِجَازِ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَدْ جَاءَ مُشَاقًّا يُظْهِرُ الْقَوْلَ الشَّدِيدَ، فَإِنْ أُطْلِقَ (هَذَا كَانَ مَفْسَدَةً) لِغَيْرِهِ. فَتَغَيَّرَ قَلْبُ الْمَأْمُونِ، وَأَبْطَأَ هَرْثَمَةُ إِلَى ذِي الْقِعْدَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ مَرْوَ خَشِيَ أَنْ يَكْتُمَ قُدُومَهُ عَنِ الْمَأْمُونِ، فَأَمَرَ بِالطُّبُولِ فَضُرِبَتْ لِكَيْ يَسْمَعَهَا الْمَأْمُونُ، فَسَمِعَهُ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَرْثَمَةُ قَدْ أَقْبَلَ يُرْعِدُ وَيُبْرِقُ. فَظَنَّ هَرْثَمَةُ أَنَّ قَوْلَهُ الْمَقْبُولُ، فَأَمَرَ الْمَأْمُونُ بِإِدْخَالِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: مَالَأْتَ أَهْلَ الْكُوفَةِ الْعَلَوِيِّينَ، وَوَضَعْتَ أَبَا السَّرَايَا، وَلَوْ شِئْتَ أَنْ تَأْخُذَهُمْ جَمِيعًا لَفَعَلْتَ. فَذَهَبَ هَرْثَمَةُ يَتَكَلَّمُ وَيَعْتَذِرُ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَدِيسَ بَطْنُهُ، وَضُرِبَ أَنْفُهُ، وَسُحِبَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَقَدْ أَمَرَ الْفَضْلُ الْأَعْوَانَ بِالتَّشْدِيدِ عَلَيْهِ، فَحُبِسَ، فَمَكَثَ فِي الْحَبْسِ أَيَّامًا، ثُمَّ دَسَّ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ، وَقَالُوا: مَاتَ. ذِكْرُ وَثَوْبِ الْحَرْبِيَّةِ بِبَغْدَاذَ وَفِيهَا كَانَ مِنَ الشَّغَبِ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ الْحَرْبِيَّةِ وَالْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ كَانَ بِالْمَدَائِنِ حِينَ شَخَصَ هَرْثَمَةُ إِلَى الْمَأْمُونِ، فَلَمَّا اتَّصَلَ بِبَغْدَاذَ، وَسَمِعَ مَا صَنَعَهُ الْمَأْمُونُ بِهَرْثَمَةَ، بَعَثَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ إِلَى عَلِيِّ بْنِ هِشَامٍ، وَهُوَ وَالِي بَغْدَاذَ مِنْ قِبَلِهِ، أَنْ مَاطِلِ الْجُنْدَ مِنَ الْحَرْبِيَّةِ أَرْزَاقَهُمْ وَلَا تُعْطِهِمْ. وَكَانَ الْحَرْبِيَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ حِينَ خَرَجَ هَرْثَمَةُ إِلَى خُرَاسَانَ قَدْ وَثَبُوا، وَقَالُوا: لَا نَرْضَى حَتَّى نَطْرُدَ الْحَسَنَ وَعُمَّالَهُ عَنْ بَغْدَاذَ. فَطَرَدُوهُمْ، وَصَيَّرُوا إِسْحَاقَ بْنَ مُوسَى الْهَادِيَ خَلِيفَةَ الْمَأْمُونِ بِبَغْدَاذَ، وَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى ذَلِكَ وَرَضُوا بِهِ. فَدَسَّ الْحَسَنُ إِلَيْهِمْ، وَكَاتَبَ قُوَّادَهُمْ حَتَّى يَبْعَثُوا مِنْ جَانِبِ عَسْكَرِ الْمَهْدِيِّ، فَحَوَّلَ

الْحَرْبِيَّةُ إِسْحَاقَ إِلَيْهِمْ، وَأَنْزَلُوهُ عَلَى دُجَيْلٍ، وَجَاءَ زُهَيْرُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، فَنَزَلَ فِي عَسْكَرِ الْمَهْدِيِّ، وَبَعَثَ الْحَسَنُ عَلِيَّ بْنَ هِشَامٍ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ هُوَ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَدَخَلُوا بَغْدَاذَ لَيْلًا فِي شَعْبَانَ، وَقَاتَلَ الْحَرْبِيَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى قَنْطَرَةِ الصَّرَاةِ، ثُمَّ وَعَدَهُمْ رِزْقَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِذَا أُدْرِكَتِ الْغَلَّةُ، فَسَأَلُوهُ تَعْجِيلَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يُنْفِقُونَهَا فِي رَمَضَانَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ. وَجَعَلَ يُعْطِيهِمْ، فَلَمْ يَتِمَّ الْعَطَاءُ حَتَّى أَتَاهُمْ خَبَرُ زَيْدِ بْنِ مُوسَى مِنَ الْبَصْرَةِ، الْمَعْرُوفِ بِزَيْدِ النَّارِ، وَكَانَ هَرَبَ مِنَ الْحَبْسِ، وَكَانَ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ، فَخَرَجَ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَنْبَارِ هُوَ وَأَخُو أَبِي السَّرَايَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ مِائَتَيْنِ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ هِشَامٍ، وَهَرَبَ عَلِيُّ بْنُ هِشَامٍ بَعْدَ جُمُعَةٍ مِنَ الْحَرْبِيَّةِ، وَنَزَلَ بِصَرْصَرٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَفِ لَهُمْ بِإِعْطَاءِ الْخَمْسِينَ إِلَى أَنْ جَاءَ الْأَضْحَى، وَبَلَغَهُمْ خَبَرُ هَرْثَمَةَ وَأَخْرَجُوهُ. وَكَانَ الْقَيِّمَ بِأَمْرِ هَرْثَمَةَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ ; لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ هِشَامٍ كَانَ يَسْتَخِفُّ بِهِ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَتَحَوَّلَ إِلَى الْحَرْبِيَّةِ، فَلَمْ يَقْرَبْهُمْ عَلِيٌّ، فَهَرَبَ إِلَى صَرْصَرٍ، ثُمَّ هَزَمُوهُ مِنْ صَرْصَرٍ. وَقِيلَ: كَانَ السَّبَبَ فِي شَغَبِ الْأَبْنَاءِ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ جَلَدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مَاهَانَ الْحَدَّ، فَغَضِبَ الْأَبْنَاءُ، وَخَرَجُوا. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِالْمَوْصِلِ وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِالْمَوْصِلِ بَيْنَ بَنِي سَامَةَ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ، فَاسْتَجَارَتْ ثَعْلَبَةُ بِمُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْهَمْدَانِيِّ، وَهُوَ أَخُو عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَمِيرِ الْبَلَدِ، فَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَفَعَلُوا، فَتَبِعَهُمْ بَنُو سَامَةَ فِي أَلْفِ رَجُلٍ إِلَى الْعَوْجَاءِ، وَحَصَرُوهُمْ فِيهَا، فَبَلَغَ الْخَبَرُ عَلِيًّا وَمُحَمَّدًا ابْنَيِ الْحُسَيْنِ، فَأَرْسَلَا الرِّجَالَ إِلَيْهِمْ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ مِنْ بَنِي سَامَةَ جَمَاعَةٌ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، وَمَنْ بَنِي تَغْلِبَ، وَكَانُوا مَعَهُمْ، فَحُبِسُوا فِي الْبَلَدِ. ثُمَّ إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيَّ التَّغْلِبِيَّ أَتَى مُحَمَّدًا، وَطَلَبَ إِلَيْهِ الْمُسَالَمَةَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَصَلُحَ الْأَمْرُ، وَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ.

ذِكْرُ الْغَزَاةِ إِلَى الْفِرِنْجِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ الْحَكَمُ أَمِيرُ الْأَنْدَلُسِ جَيْشًا مَعَ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مُغِيثٍ إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ بِالْأَنْدَلُسِ، فَسَارَ بِالْعَسَاكِرِ حَتَّى دَخَلَ بِأَرْضِهِمْ، وَتَوَسَّطَ بِلَادَهُمْ، فَخَرَّبَهَا وَنَهَبَهَا وَهَدَمَ عِدَّةً مِنْ حُصُونِهَا، [وَكَانَ] كُلَّمَا أَهْلَكَ مَوْضِعًا وَصَلَ إِلَى غَيْرِهِ، فَاسْتَنْفَدَ خَزَائِنَ مُلُوكِهِمْ. فَلَمَّا رَأَى مَلِكُهُمْ فِعْلَ الْمُسْلِمِينَ بِبِلَادِهِمْ كَاتَبَ مُلُوكَ جَمِيعِ النَّوَاحِي مُسْتَنْصِرًا بِهِمْ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةُ مِنْ كُلِّ أَوْبٍ، فَأَقْبَلَ فِي جُمُوعٍ عَظِيمَةٍ بِإِزَاءِ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، بَيْنَهُمْ نَهْرٌ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا عِدَّةَ أَيَّامٍ، الْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ يَعْبُرُونَ النَّهْرَ، وَهُمْ يَمْنَعُونَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ تَأَخَّرُوا عَنِ النَّهْرِ، فَعَبَرَ الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهِمْ، فَاقْتَتَلُوا أَعْظَمَ قِتَالٍ، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى النَّهْرِ، فَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ وَالْأَسْرُ، فَمَنْ عَبَرَ النَّهْرَ سَلِمَ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ كُنُودِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ وَقَمَامِصَتِهِمْ، وَعَادَ الْفِرِنْجُ يَلْزَمُونَ جَانِبَ النَّهْرِ، يَمْنَعُونَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَوَازِهِ، فَبَقُوا كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، يَقْتَتِلُونَ كُلَّ يَوْمٍ، فَجَاءَتِ الْأَمْطَارُ، وَزَادَ النَّهْرُ وَتَعَذَّرَ جَوَازُهُ، فَقَفَلَ عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْهُمْ سَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ. ذِكْرُ خُرُوجِ الْبَرْبَرِ بِنَاحِيَةِ مَوْرُورَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ خَارِجِيٌّ مِنَ الْبَرْبَرِ بِنَاحِيَةِ مَوْرُورَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَوَصَلَ كِتَابُ الْعَامِلِ إِلَى الْحَكَمِ بِخَبَرِهِ، فَأَخْفَى الْحَكَمُ خَبَرَهُ، وَاسْتَدْعَى مِنْ سَاعَتِهِ قَائِدًا مِنْ قُوَّادِهِ، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ سِرًّا، وَقَالَ لَهُ: سِرْ مِنْ سَاعَتِكَ إِلَى هَذَا الْخَارِجِيِّ فَأْتِنِي بِرَأْسِهِ، وَإِلَّا فَرَأْسُكَ عِوَضُهُ، وَأَنَا قَاعِدٌ مَكَانِي هَذَا إِلَى أَنْ تَعُودَ. فَسَارَ الْقَائِدُ إِلَى الْخَارِجِيِّ، فَلَمَّا قَارَبَهُ سَأَلَ عَنْهُ، فَأُخْبِرَ عَنْهُ بِاحْتِيَاطٍ كَثِيرٍ، وَاحْتِرَازٍ شَدِيدٍ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْحَكَمِ: إِنْ قَتَلْتَهُ، وَإِلَّا فَرَأْسُكَ عِوَضُهُ، فَحَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى سُلُوكِ سَبِيلِ الْمُخَاطَرَةِ، فَأَعْمَلَ الْحِيلَةَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ، وَأَحْضَرَ [رَأْسَهُ] عِنْدَ

الْحَكَمِ، فَرَآهُ بِمَكَانِهِ ذَلِكَ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ. فَلَمَّا رَأَى رَأْسَهُ أَحْسَنَ إِلَى ذَلِكَ الْقَائِدِ، وَوَصَلَهُ وَأَعْلَى مَحَلَّهُ. (مَوْرُورُ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَضَمِّ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الْوَاوِ الثَّانِيَةِ، وَآخِرُهُ رَاءٌ ثَانِيَةٌ] . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ الْمَأْمُونُ رَجَاءَ بْنَ أَبِي الضَّحَّاكِ لِإِحْضَارِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ) . وَأُحْصِيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَدُ الْعَبَّاسِ فَبَلَغُوا ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا مَا بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَتِ الرُّومُ مَلِكَهَا أَلْيُونَ، وَكَانَ مُلْكُهُ سَبْعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ مِيخَائِيلَ بْنَ جُورْجِيشَ ثَانِيَةً. وَفِيهَا خَالَفَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، فَبَعَثَ الْمَأْمُونُ إِلَيْهِ بِسَرَّاجٍ الْخَادِمِ وَقَالَ لَهُ: إِنْ وَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ أَوْ شَخَصَ إِلَيَّ بِمَرْوَ، وَإِلَّا فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ سَرَّاجٌ فَأَطَاعَ، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْمَأْمُونِ بِمَرْوَ مَعَ هَرْثَمَةَ. وَفِيهَا قَتَلَ الْمَأْمُونُ يَحْيَى بْنَ عَامِرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ ; لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْكَافِرِينَ.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْمُعْتَصِمُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْبَخْتَرِيِّ وَهْبُ بْنُ وَهْبٍ. وَمَعْرُوفٌ الْكَرْخِيُّ الزَّاهِدُ. وَصَفْوَانُ بْنُ عِيسَى الْفَقِيهُ. وَالْمُعَافَى بْنُ دَاوُدَ الْمَوْصِلِيُّ، وَكَانَ فَاضِلًا عَابِدًا.

ثم دخلت سنة إحدى ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ] 201 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ وِلَايَةِ مَنْصُورِ بْنِ الْمَهْدِيِّ بِبَغْدَاذَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرَادَ أَهْلُ بَغْدَاذَ أَنْ يُبَايِعُوا الْمَنْصُورَ بْنَ الْمَهْدِيِّ بِالْخِلَافَةِ، فَامْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَرَادُوهُ عَلَى الْإِمْرَةِ عَلَيْهِمْ، عَلَى أَنْ يَدْعُوَ لِلْمَأْمُونِ (بِالْخِلَافَةِ) ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ إِخْرَاجِ أَهْلِ بَغْدَاذَ عَلِيَّ بْنَ هِشَامٍ مِنْ بَغْدَاذَ. فَلَمَّا اتَّصَلَ إِخْرَاجُهُ مِنْ بَغْدَاذَ بِالْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ سَارَ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى وَاسِطٍ، وَذَلِكَ أَوَّلَ سَنَةِ إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ، فَلَمَّا هَرَبَ إِلَى وَاسِطٍ تَبِعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي خَالِدِ بْنِ الْهِنْدَوَانِ، مُخَالِفًا لَهُ، وَقَدْ تَوَلَّى الْقِيَامَ بِأَمْرِ النَّاسِ، وَوَلَّى سَعِيدَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ الْجَانِبَ الْغَرْبِيَّ، وَنَصْرَ بْنَ حَمْزَةَ بْنِ مَالِكٍ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ. وَكَانَ بِبَغْدَاذَ مَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ، وَالْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَخُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ. وَقَدِمَ عِيسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ مِنَ الرَّقَّةِ مِنْ عِنْدِ طَاهِرٍ، فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَوَافَقَ أَبَاهُ عَلَى قِتَالِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، فَمَضَيَا وَمَنْ مَعَهُمَا إِلَى قَرْيَةِ (أَبِي فَرْسَنَ قُرَيْبَ وَاسِطٍ، وَلَقِيَهُمَا فِي طَرِيقِهِمَا عَسَاكِرُ الْحَسَنِ، فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَهَزَمَاهُمْ. وَلَمَّا انْتَهَى مُحَمَّدٌ إِلَى دَيْرِ الْعَاقُولِ أَقَامَ بِهِ ثَلَاثًا، وَزُهَيْرُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مُقِيمٌ بِإِسْكَافِ بَنِي الْجُنَيْدِ، عَامِلًا لِلْحَسَنِ عَلَى جُوخَى، وَهُوَ يُكَاتِبُ قُوَّادَ بَغْدَاذَ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ، وَأَخَذَهُ أَسِيرًا، وَأَخَذَ كُلَّ مَالِهِ، وَسَيَّرَهُ أَسِيرًا إِلَى بَغْدَاذَ، وَحَبَسَهُ عِنْدَ أَبِيهِ جَعْفَرٍ. ثُمَّ تَقَدَّمَ مُحَمَّدٌ إِلَى وَاسِطٍ، وَوَجَّهَ مُحَمَّدٌ ابْنَهُ هَارُونَ مِنْ دَيْرِ الْعَاقُولِ إِلَى النِّيلِ، وَبِهَا نَائِبٌ لِلْحَسَنِ، فَهَزَمَهُ هَارُونُ، وَتَبِعَهُ إِلَى الْكُوفَةِ.

ثُمَّ سَارَ الْمُنْهَزِمُونَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْحَسَنِ بِوَاسِطٍ، وَرَجَعَ هَارُونُ إِلَى أَبِيهِ وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَى النِّيلِ، وَسَارَ مُحَمَّدٌ وَهَارُونُ نَحْوَ وَاسِطٍ، فَسَارَ الْحَسَنُ عَنْهَا، وَنَزَلَ خَلْفَهَا. وَكَانَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ مُخْتَفِيًا كَمَا تَقَدَّمَ إِلَى الْآنِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ بَلَغَ وَاسِطًا طَلَبَ مِنْهُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُ، وَظَهَرَ، وَسَارَ مُحَمَّدٌ إِلَى الْحَسَنِ عَلَى تَعْبِئَةٍ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ قُوَّادَهُ وَجُنْدَهُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَثَبَتَ مُحَمَّدٌ حَتَّى جُرِحَ جِرَاحَاتٍ شَدِيدَةٍ، وَانْهَزَمُوا هَزِيمَةً قَبِيحَةً، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَغَنِمُوا مَالَهُمْ، وَذَلِكَ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَنَزَلَ مُحَمَّدٌ بِفَمِ الصِّلْحِ، وَأَتَاهُمُ الْحَسَنُ، فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا جَنَّهُمُ اللَّيْلُ (رَحَلَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ فَنَزَلُوا الْمَنَازِلَ، فَأَتَاهُمُ الْحَسَنُ فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا جَنَّهُمُ اللَّيْلُ) ارْتَحَلُوا، حَتَّى أَتَوْا جَبُّلَ، فَأَقَامُوا بِهَا، وَوَجَّهَ مُحَمَّدٌ ابْنَهُ عِيسَى إِلَى عُرْنَايَا، فَأَقَامَ بِهَا، وَأَقَامَ مُحَمَّدٌ بِجَرْجَرَايَا، فَاشْتَدَّتْ جِرَاحَاتُ مُحَمَّدٍ، فَحَمَلَهُ ابْنُهُ أَبُو زِنْبِيلٍ إِلَى بَغْدَاذَ، وَخَلَّفَ عَسْكَرَهُ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِر، وَمَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، فَدُفِنَ فِي دَارِهِ سِرًّا. وَأَتَى أَبُو زِنْبِيلٍ خُزَيْمَةَ بْنَ خَازِمٍ، فَأَعْلَمَهُ حَالَ أَبِيهِ، وَأَعْلَمَ خُزَيْمَةُ ذَلِكَ النَّاسَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدٍ إِلَيْهِ، يَبْذُلُ فِيهِ الْقِيَامَ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مَقَامَ أَبِيهِ، فَرَضُوا بِهِ، وَصَارَ مَكَانَ أَبِيهِ، وَقَتَلَ أَبُو زِنْبِيلٍ زُهَيْرَ بْنَ الْمُسَيَّبِ مِنْ لَيْلَتِهِ، ذَبَحَهُ ذَبْحًا وَعَلَّقَ رَأْسَهُ فِي عَسْكَرِ أَبِيهِ. وَبَلَغَ الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ مَوْتُ مُحَمَّدٍ، فَسَارَ إِلَى الْمُبَارَكِ فَأَقَامَ بِهِ، وَبَعَثَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ جَيْشًا لَهُ، فَالْتَقَوْا بِأَبِي زِنْبِيلٍ بِفَمِ الصَّرَاةِ، فَهَزَمُوهُ، وَانْحَازَ إِلَى أَخِيهِ هَارُونَ بِالنِّيلِ، فَتَقَدَّمَ جَيْشُ الْحَسَنِ إِلَيْهِمْ، فَلَقُوهُمْ فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً، وَانْهَزَمَ هَارُونُ وَأَصْحَابُهُ، فَأَتَوُا الْمَدَائِنَ، وَنَهَبَ أَصْحَابُ الْحَسَنِ النِّيلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى. وَكَانَ بَنُو هَاشِمٍ وَالْقُوَّادُ حِينَ مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، قَالُوا: نُصَيِّرُ بَعْضَنَا خَلِيفَةً، وَنَخْلَعُ الْمَأْمُونَ. فَأَتَاهُمْ خَبَرُ هَارُونَ وَهَزِيمَتِهِ، فَجَدُّوا فِي ذَلِكَ، وَأَرْدَوْا مَنْصُورَ بْنَ الْمَهْدِيِّ عَلَى الْخِلَافَةِ فَأَبَى، فَجَعَلُوهُ خَلِيفَةً لِلْمَأْمُونِ بِبَغْدَاذَ وَالْعِرَاقِ، وَقَالُوا: لَا نَرْضَى

بِالْمَجُوسِيِّ ابْنِ الْمَجُوسِيِّ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ. وَقِيلَ: إِنَّ عِيسَى لَمَّا سَاعَدَهُ أَهْلُ بَغْدَاذَ عَلَى حَرْبِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ عَلِمَ الْحَسَنُ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، وَبَذَلَ الْمُصَاهَرَةَ وَمِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَالْأَمَانَ لَهُ وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ، وَلِأَهْلِ بَغْدَاذَ، وَوِلَايَةَ أَيِّ النَّوَاحِي أَحَبَّ، فَطَلَبَ كِتَابَ الْمَأْمُونِ بِخَطِّهِ، وَكَتَبَ عِيسَى إِلَى أَهْلِ بَغْدَاذَ: إِنِّي مَشْغُولٌ بِالْحَرْبِ عَنْ جِبَايَةِ الْخَرَاجِ، فَوَلُّوا رَجُلًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ. فَوَلَّوْا مَنْصُورَ بْنَ الْمَهْدِيِّ، وَقَالَ: أَنَا خَلِيفَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَأْمُونِ حَتَّى يَقْدَمَ، أَوْ يُوَلِّيَ مَنْ أَحَبَّ. فَرَضِيَ بِهِ النَّاسُ. وَعَسْكَرَ مَنْصُورٌ بِكَلْوَاذَى، وَبَعَثَ غَسَّانَ بْنَ (عَبَّادِ بْنِ أَبِي) الْفَرَجِ إِلَى نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ، فَنَزَلَ بِقَصْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَلَمْ يَشْعُرْ غَسَّانٌ إِلَّا وَقَدْ أَحَاطَ بِهِ حُمَيْدٌ الطُّوسِيُّ، فَأَخَذَهُ أَسِيرًا، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَذَلِكَ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ رَجَبٍ. وَسَيَّرَ مَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدَ بْنَ يَقْطِينٍ فِي عَسْكَرٍ إِلَى حُمَيْدٍ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى كُوثَى، فَلَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءٍ حَتَّى هَجَمَ عَلَيْهِ حُمَيْدٌ، وَكَانَ بِالنِّيلِ، فَقَاتَلَهُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَ ابْنُ يَقْطِينٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأُسِرَ، وَغَرِقَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَنَهَبَ حُمَيْدٌ مَا حَوْلَ كُوثَى مِنَ الْقُرَى، وَرَجَعَ حُمَيْدٌ إِلَى النِّيلِ، وَابْنُ يَقْطِينٍ أَقَامَ بِنَهْرِ صَرْصَرٍ. وَأَحْصَى عِيسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ مَنْ فِي عَسْكَرِهِ، وَكَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا بَيْنَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَالرَّاجِلَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا. ذِكْرُ أَمْرِ الْمُتَطَوِّعَةِ بِالْمَعْرُوفِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَجَرَّدَتِ الْمُتَطَوِّعَةُ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ فُسَّاقَ بَغْدَاذَ وَالشُّطَّارَ آذَوُا النَّاسَ أَذًى شَدِيدًا، وَأَظْهَرُوا الْفِسْقَ، وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ، وَأَخَذُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ عَلَانِيَةً، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ وَلَدَ الرَّجُلِ وَأَهْلَهُ، فَلَا

يَقْدِرُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُمْ، وَكَانُوا يَطْلُبُونَ مِنَ الرَّجُلِ أَنْ يُقْرِضَهُمْ أَوْ يَصِلَهُمْ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَكَانُوا يَنْهَبُونَ الْقُرَى لَا سُلْطَانَ يَمْنَعُهُمْ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ كَانَ يُغْرِيهِمْ، وَهُمْ بِطَانَتُهُ، وَكَانُوا يُمْسِكُونَ الْمُجْتَازِينَ فِي الطَّرِيقِ، وَلَا يُعْدِي عَلَيْهِمْ أَحَدٌ، وَكَانَ النَّاسُ مَعَهُمْ فِي بَلَاءٍ عَظِيمٍ. وَآخِرُ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ خَرَجُوا إِلَى قُطْرَبُّلَ، وَانْتَهَبُوهَا عَلَانِيَةً، وَأَخَذُوا الْعَيْنَ وَالْمَتَاعَ وَالدَّوَابَّ، فَبَاعُوهَا بِبَغْدَاذَ ظَاهِرًا، وَاسْتَعْدَى أَهْلُهَا السُّلْطَانَ، فَلَمْ يُعْدِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَعْبَانَ. فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ قَامَ صُلَحَاءُ كُلِّ رَبَضٍ وَدَرْبٍ، وَمَشَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَالُوا: إِنَّمَا فِي الدَّرْبِ الْفَاسِقُ وَالْفَاسِقَانِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَأَنْتُمْ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، فَلَوِ اجْتَمَعْتُمْ لَقَمَعْتُمْ هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقَ، وَلَعَجَزُوا عَنِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ، فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ خَالِدٌ الدَّرْيُوشُ، فَدَعَا جِيرَانَهُ وَأَهْلَ مَحَلَّتِهِ، عَلَى أَنْ يُعَاوِنُوهُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَشَدَّ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْفُسَّاقِ وَالشُّطَّارِ فَمَنَعَهُمْ، وَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ، وَأَرَادُوا قِتَالَهُ فَقَاتَلَهُمْ، فَهَزَمَهُمْ وَضَرَبَ مَنْ أَخَذَهُ مِنَ الْفُسَّاقِ، وَحَبَسَهُمْ، وَرَفَعَهُمْ إِلَى السُّلْطَانِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى أَنْ يُغَيِّرَ عَلَى السُّلْطَانِ شَيْئًا. ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ رَجُلٌ مِنَ الْحَرْبِيَّةِ يُقَالُ لَهُ سَهْلُ بْنُ سَلَامَةَ الْأَنْصَارِيُّ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، وَيُكَنَّى أَبَا حَاتِمٍ، فَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَلَّقَ مُصْحَفًا فِي عُنُقِهِ، وَأَمَرَ أَهْلَ مَحَلَّتِهِ وَنَهَاهُمْ، فَقَبِلُوا مِنْهُ، وَدَعَا النَّاسَ جَمِيعًا، الشَّرِيفَ وَالْوَضِيعَ، مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ، فَأَتَاهُ خَلْقٌ عَظِيمٌ فَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى الْقِتَالِ مَعَهُ لِمَنْ خَالَفَهُ، وَطَافَ بِبَغْدَاذَ وَأَسْوَاقِهَا. وَكَانَ قِيَامُ سَهْلٍ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيَامُ الدَّرْيُوشِ قَبْلَهُ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ. وَبَلَغَ خَبَرُ قِيَامِهِمَا إِلَى مَنْصُورِ بْنِ الْمَهْدِيِّ وَعِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، فَكَسَرَهُمَا ذَلِكَ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِهِمَا كَانَ الشُّطَّارَ وَمَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَدَخَلَ مَنْصُورٌ بَغْدَاذَ، وَكَانَ عِيسَى يُكَاتِبُ الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ فِي الْأَمَانِ، فَأَجَابَهُ الْحَسَنُ إِلَى الْأَمَانِ لَهُ وَلِأَهْلِ بَغْدَاذَ، وَأَنْ يُعْطِيَ جُنْدَهُ وَأَهْلَ بَغْدَاذَ رِزْقَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إِذَا أُدْرِكَتِ الْغَلَّةُ، وَرَحَلَ عِيسَى فَدَخَلَ بَغْدَاذَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ، وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ، فَرَضِيَ أَهْلُ بَغْدَاذَ بِمَا

صَالَحَ عَلَيْهِ، وَبَقِيَ سَهْلٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. ذِكْرُ الْبَيْعَةِ لِعَلِيِّ بْنِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَعَلَ الْمَأْمُونُ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلِيَّ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ وَالْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَقَّبَهُ الرِّضَى مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَ جُنْدَهُ بِطَرْحِ السَّوَادِ وَلِبْسِ الثِّيَابِ الْخُضْرِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْآفَاقِ، وَكَتَبَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ إِلَى عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بَعْدَ عَوْدِهِ إِلَى بَغْدَاذَ يُعْلِمُهُ أَنَّ الْمَأْمُونَ قَدْ جَعَلَ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ نَظَرَ فِي بَنِي الْعَبَّاسِ وَبَنِي عَلِيٍّ، فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا أَفْضَلَ وَلَا أَوْرَعَ وَلَا أَعْلَمَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ سَمَّاهُ الرِّضَى مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَهُ بِطَرْحِ السَّوَادِ وَلِبْسِ الْخُضْرَةِ، وَذَلِكَ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ، وَأَمَرَ مُحَمَّدًا أَنْ يَأْمُرَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَالْجُنْدِ وَالْقُوَّادِ وَبَنِي هَاشِمٍ بِالْبَيْعَةِ لَهُ، وَلِبْسِ الْخُضْرَةِ، وَيَأْخُذَ أَهْلَ بَغْدَاذَ جَمِيعًا بِذَلِكَ، فَدَعَاهُمْ مُحَمَّدٌ إِلَى ذَلِكَ، فَأَجَابَ بَعْضُهُمْ، وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: تَخْرُجُ الْخِلَافَةُ مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ. فَمَكَثُوا كَذَلِكَ أَيَّامًا، وَتَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ وَقَالُوا: نُوَلِّي بَعْضَنَا وَنَخْلَعُ الْمَأْمُونَ. فَكَانَ أَشَدَّهُمْ فِيهِ مَنْصُورٌ وَإِبْرَاهِيمُ ابْنَا الْمَهْدِيِّ. ذِكْرُ الْبَاعِثِ عَلَى الْبَيْعَةِ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ خَاضَ النَّاسُ فِي الْبَيْعَةِ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ بِالْخِلَافَةِ وَخَلْعِ الْمَأْمُونِ بِبَغْدَاذَ. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِنْكَارِ النَّاسِ لِوِلَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ وَالْبَيْعَةِ لِعَلِيِّ بْنِ مُوسَى، فَأَظْهَرَ الْعَبَّاسِيُّونَ (بِبَغْدَاذَ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا بَايَعُوا لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ) ، لِخَمْسٍ

بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَوَضَعُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَدْعُوَ لِلْمَأْمُونِ، وَمِنْ بَعْدِهِ لِإِبْرَاهِيمَ، وَوَضَعُوا مَنْ يُجِيبُهُ بِأَنَّنَا لَا نَرْضَى إِلَّا أَنْ تُبَايِعُوا لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ بِالْخِلَافَةِ، وَمِنْ بَعْدِهِ لِإِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى الْهَادِي، وَتَخْلَعُوا الْمَأْمُونَ، فَفَعَلُوا مَا أَمَرُوهُمْ بِهِ، فَلَمْ يُصَلِّ النَّاسُ جُمُعَةً، وَتَفَرَّقُوا، وَكَانَ ذَلِكَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ. ذِكْرُ فَتْحِ جِبَالِ طَبَرِسْتَانَ وَالدَّيْلَمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ افْتَتَحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خُرْدَاذْبَهَ وَالِي طَبَرِسْتَانَ الْبَلَاذُرِ، وَالَشَّيْزَرِ، مِنْ بِلَادِ الدَّيْلَمِ، وَافْتَتَحَ جِبَالَ طَبَرِسْتَانَ، فَأَنْزَلَ شَهْرَيَارَ بْنَ شَرْوِينَ عَنْهَا، وَأَشْخَصَ مَازِيَارَ بْنَ قَارَنَ إِلَى الْمَأْمُونِ، وَأَسَرَ أَبَا لَيْلَى مَلِكَ الدَّيْلَمِ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ أَمْرِ بَابَكَ الْخُرَّمِيِّ وَفِيهَا تَحَرَّكَ بَابَكُ الْخُرَّمِيُّ فِي الْجَاوِيدَانِيَّةِ، أَصْحَابِ جَاوِيدَانَ بْنِ سَهْلٍ، صَاحِبِ الْبَذِّ، وَادَّعَى أَنَّ رُوحَ جَاوِيدَانَ دَخَلَتْ فِيهِ، وَأَخَذَ فِي الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ. وَتَفْسِيرُ جَاوِيدَانَ: الدَّائِمُ الْبَاقِي، وَمَعْنَى خُرَّمَ: فَرْجٌ، وَهِيَ مَقَالَاتُ الْمَجُوسِ، وَالرَّجُلُ مِنْهُمْ يَنْكِحُ أُمَّهُ، وَأُخْتَهُ، وَابْنَتَهُ، وَلِهَذَا يُسَمُّونَهُ دِينَ الْفَرْجِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَذْهَبَ التَّنَاسُخِ، وَأَنَّ الْأَرْوَاحَ تَنْتَقِلُ مِنْ حَيَوَانٍ إِلَى غَيْرِهِ. ذِكْرُ وِلَايَةِ زِيَادَةِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ إِفْرِيقِيَّةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَادِسَ ذِي الْحِجَّةِ تُوُفِّيَ أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ، أَمِيرُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ خَمْسَ سِنِينَ وَنَحْوَ شَهْرَيْنِ. وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ حَدَّدَ عَلَى كُلِّ فَدَّانٍ فِي عَمَلِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِينَارًا كُلَّ سَنَةٍ،

فَضَاقَ النَّاسُ لِذَلِكَ وَشَكَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الصَّالِحِينَ، اسْمُهُ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْجَزَرِيُّ، مَعَ رِجَالٍ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَنَهَوْهُ عَنْ ذَلِكَ وَوَعَظُوهُ، وَخَوَّفُوهُ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَسُوءَ الذِّكْرِ فِي الدُّنْيَا، وَزَوَالَ النِّعْمَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى اسْمُهُ وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ - {لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11] . فَلَمْ يُجِبْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ أَمِيرُ إِفْرِيقِيَّةَ الْمَذْكُورُ إِلَى مَا طَلَبُوا، فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَقَالَ لَهُمْ حَفْصٌ: لَوْ أَنَّنَا نَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ وَنُصْلِي، وَنَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يُخَفِّفَ عَنِ النَّاسِ؟ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَمَا لَبِثَ إِلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ حَتَّى خَرَجَتْ قُرْحَةٌ تَحْتَ أُذُنِهِ، فَلَمْ يَنْشَبْ أَنْ مَاتَ مِنْهَا، وَكَانَ أَجْمَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَلَمَّا مَاتَ وَلِيَ بَعْدَهُ أَخُوهُ زِيَادَةُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَبَقِيَ أَمِيرًا رَخِيَّ الْبَالِ (وَادِعًا، وَالدُّنْيَا) عِنْدَهُ آمِنَةٌ. ثُمَّ جَهَّزَ جَيْشًا فِي أُسْطُولِ الْبَحْرِ، وَكَانَ مَرَاكِبَ كَثِيرَةً، إِلَى مَدِينَةِ سَرْدَانِيَةَ، وَهِيَ لِلرُّومِ، (فَعَطِبَ بَعْضُهَا) بَعْدَ أَنْ غَنِمُوا مِنَ الرُّومِ وَقَتَلُوا كَثِيرًا، فَلَمَّا عَادَ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ زِيَادَةُ اللَّهِ وَوَصَلَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ خَرَجَ عَلَيْهِ زِيَادُ بْنُ سَهْلٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصَّقْلِبِيَّةِ، وَجَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا، وَحَصَرَ مَدِينَةَ بَاجَةَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ زِيَادَةُ اللَّهِ الْعَسَاكِرَ، فَأَزَالُوهُ عَنْهَا، وَقَتَلُوا مَنْ وَافَقَهُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ. وَفِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَمِائَتَيْنِ نُقِلَ إِلَى زِيَادَةِ اللَّهِ أَنَّ مَنْصُورَ بْنَ نُصَيْرٍ الطُّنْبُذِيَّ يُرِيدُ الْمُخَالَفَةَ عَلَيْهِ بِتُونُسَ، وَهُوَ يَسْعَى فِي ذَلِكَ، وَيُكَاتِبُ الْجُنْدَ، فَلَمَّا تَحَقَّقَهُ سَيَّرَ إِلَيْهِ قَائِدًا اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْفِيَ خَبَرَهُ، وَيَجِدَّ السَّيْرَ إِلَى تُونُسَ، فَلَا يَشْعُرُ بِهِ مَنْصُورٌ حَتَّى يَأْخُذَهُ فَيَحْمِلَهُ إِلَيْهِ. فَسَارَ مُحَمَّدٌ وَدَخَلَ تُونُسَ، فَلَمْ يَجِدْ مَنْصُورًا بِهَا، كَانَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى قَصْرِهِ

بِطُنْبُذَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ قَاضِيَ تُونُسَ، وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ شَيْخًا، يُقَبِّحُونَ لَهُ الْخِلَافَ، وَيَنْهَوْنَهُ عَنْهُ، وَيَأْمُرُونَهُ بِالطَّاعَةِ، فَسَارُوا إِلَيْهِ وَاجْتَمَعُوا بِهِ وَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ مَنْصُورٌ: مَا خَالَفْتُ طَاعَةَ الْأَمِيرِ، وَأَنَا سَائِرٌ مَعَكُمْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْأَمِيرِ، وَلَكِنْ أَقِيمُوا مَعِي يَوْمَنَا هَذَا، حَتَّى نَعْمَلَ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ ضِيَافَةً. فَأَقَامُوا عِنْدَهُ، وَسَيَّرَ مَنْصُورٌ لِمُحَمَّدٍ وَلِمَنْ مَعَهُ الْإِقَامَةَ الْحَسَنَةَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يُؤْكَلُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَقُولُ: إِنَّنِي صَائِرٌ إِلَيْكَ مَعَ الْقَاضِي وَالْجَمَاعَةِ. فَرَكَنَ مُحَمَّدٌ إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِالْغَنَمِ فَذُبِحَتْ، وَأَكَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَشَرِبُوا الْخَمْرَ. فَلَمَّا أَمْسَى مَنْصُورٌ سَجَنَ الْقَاضِي وَمَنْ مَعَهُ، وَسَارَ مُجِدًّا فِيمَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ سِرًّا إِلَى تُونُسَ، فَدَخَلُوا دَارَ الصِّنَاعَةِ وَفِيهَا مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ، فَأَمَرَ بِالطُّبُولِ فَضُرِبَتْ، وَكَبَّرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَوَثَبَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى سِلَاحِهِمْ وَقَدْ عَمِلَ فِيهِمُ الشَّرَابُ، وَأَحَاطَ بِهِمْ مَنْصُورٌ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَقْبَلَتِ الْعَامَّةُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَرَجَمُوهُمْ بِالْحِجَارَةِ، وَاقْتَتَلُوا عَامَّةَ اللَّيْلِ، فَقُتِلَ مَنْ كَانَ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ نَجَا إِلَى الْبَحْرِ، فَسَبَحَ حَتَّى تَخَلَّصَ، وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ. وَأَصْبَحَ مَنْصُورٌ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُنْدُ وَقَالُوا: نَحْنُ لَا نَثِقُ بِكَ، وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَخْلُبَكَ زِيَادَةُ اللَّهِ، وَيَسْتَمِيلَكَ بِدُنْيَاهُ فَتَمِيلَ إِلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ نَكُونَ مَعَكَ فَاقْتُلْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ مِمَّنْ عِنْدَكَ! فَأَحْضَرَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ سُفْيَانَ بْنِ سَالِمِ بْنِ عِقَالٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ زِيَادَةِ اللَّهِ، فَكَانَ هُوَ الْعَامِلُ عَلَى تُونُسَ، فَلَمَّا حَضَرَ أَمَرَ بِقَتْلِهِ. فَلَمَّا سَمِعَ زِيَادَةُ اللَّهِ الْخَبَرَ سَيَّرَ جَيْشًا كَثِيفًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ غَلْبُونَ، وَاسْمُهُ الْأَغْلَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَغْلَبِ، وَهُوَ وَزِيرُ زِيَادَةِ اللَّهِ، إِلَى مَنْصُورٍ الطُّنْبُذِيِّ، فَلَمَّا وَدَّعَهُمْ زِيَادَةُ اللَّهِ تَهَدَّدَهُمْ بِالْقَتْلِ إِنِ انْهَزَمُوا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى تُونُسَ خَرَجَ إِلَيْهِمْ مَنْصُورٌ، فَقَاتَلَهُمْ، فَانْهَزَمَ جَيْشُ زِيَادَةِ اللَّهِ عَاشِرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَقَالَ الْقُوَّادُ الَّذِينَ فِيهِ لِغَلْبُونَ: لَا نَأْمَنُ زِيَادَةَ اللَّهِ عَلَى أَنْفُسِنَا، فَإِنْ أَخَذْتَ لَنَا أَمَانًا حَضَرْنَا عِنْدَهُ. وَفَارَقُوهُ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى عِدَّةِ مُدُنٍ فَأَخَذُوهَا، مِنْهَا: بَاجَةُ، وَالْجَزِيرَةُ، وَصَطْفُورَةُ، وَمِسْرُ، وَالْأُرْبُسُ، وَغَيْرُهَا، فَاضْطَرَبَتْ

إِفْرِيقِيَّةُ، وَاجْتَمَعَ الْجُنْدُ كُلُّهُمْ إِلَى مَنْصُورٍ، أَطَاعُوهُ لِسُوءِ سِيرَةِ زِيَادَةِ اللَّهِ مَعَهُمْ. فَلَمَّا كَثُرَ جَمْعُ مَنْصُورٍ سَارَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ فَحَصَرَهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَخَنْدَقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زِيَادَةِ اللَّهِ وَقَائِعُ كَثِيرَةٌ، وَعَمَّرَ مَنْصُورٌ سُورَ الْقَيْرَوَانِ [فَوَالَاهُ] أَهْلُهَا، فَبَقِيَ الْحِصَارُ عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. ثُمَّ إِنَّ زِيَادَةَ اللَّهِ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ وَجَمَعَهُمْ، وَسَارَ مَعَهُمُ الْفَارِسُ وَالرَّاجِلُ، فَكَانُوا خَلْقًا كَثِيرًا، فَلَمَّا رَآهُمْ مَنْصُورٌ رَاعَهُ مَا رَأَى وَهَالَهُ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ اللَّهِ، لِمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْوَهْنِ، فَزَحَفَ مَنْصُورٌ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ أَيْضًا، فَالْتَقَوْا، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَ مَنْصُورٌ وَمَنْ مَعَهُ، وَمَضَوْا هَارِبِينَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَذَلِكَ مُنْتَصَفَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَأَمَرَ زِيَادَةُ اللَّهِ أَنْ يُنْتَقَمَ مِنْ أَهْلِ الْقَيْرَوَانِ بِمَا جَنَوْهُ مِنْ مُسَاعَدَةِ مَنْصُورٍ وَالْقِتَالِ مَعَهُ، بِمَا تَقَدَّمَ أَوْلًا مِنْ مُسَاعَدَةِ عِمْرَانَ بْنِ مُجَالِدٍ لَمَّا قَاتَلَ أَبَاهُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَغْلَبِ، فَمَنَعَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، فَكَفَّ عَنْهُمْ، وَخَرَّبَ سُورَ الْقَيْرَوَانِ. وَلَمَّا انْهَزَمَ مَنْصُورٌ فَارَقَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ صَارُوا مَعَهُ، مِنْهُمْ: عَامِرُ بْنُ نَافِعٍ، وَعَبْدُ السَّلَامِ بْنُ الْمُفَرِّجِ، إِلَى الْبِلَادِ الَّتِي تَغَلَّبُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنَّ زِيَادَةَ اللَّهِ سَيَّرَ جَيْشًا، سَنَةَ تِسْعٍ وَمِائَتَيْنِ، إِلَى مَدِينَةِ سَبِيبَةَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَغْلَبِ، وَكَانَ بِهَا جَمْعٌ مِنَ الْجُنْدِ الَّذِينَ صَارُوا مَعَ مَنْصُورٍ، عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ، فَالْتَقَوْا فِي الْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ ابْنُ الْأَغْلَبِ، وَعَادَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى زِيَادَةِ اللَّهِ، وَجَمْعِ الرِّجَالِ وَبَذْلِ الْأَمْوَالِ. وَكَانَ عِيَالُ الْجُنْدِ الَّذِينَ مَعَ مَنْصُورٍ بِالْقَيْرَوَانِ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ زِيَادَةُ اللَّهِ، فَقَالَ الْجُنْدُ لِمَنْصُورٍ: الرَّأْيُ أَنْ تَحْتَالَ فِي نَقْلِ [الْعِيَالِ] مِنَ الْقَيْرَوَانِ لِنَأْمَنَ عَلَيْهِمْ. فَسَارَ بِهِمْ مَنْصُورٌ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، وَحَصَرَ زِيَادَةَ اللَّهِ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ قِتَالٌ، وَأَخْرَجَ الْجُنْدُ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ مِنَ الْقَيْرَوَانِ، وَانْصَرَفَ مَنْصُورٌ إِلَى تُونُسَ، وَلَمْ يَبْقَ بِيَدِ زِيَادَةِ اللَّهِ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ كُلِّهَا إِلَّا قَابِسُ، وَالسَّاحِلُ، وَنِفْزَاوَةُ، وَطَرَابُلُسُ، فَإِنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِطَاعَتِهِ. وَأَرْسَلَ الْجُنْدُ إِلَى زِيَادَةِ اللَّهِ: أَنِ ارْحَلْ عَنَّا، وَخَلِّ إِفْرِيقِيَّةَ، وَلَكَ الْأَمَانُ عَلَى نَفْسِكَ وَمَالِكَ، وَمَنْ ضَمَّهُ قَصْرُكَ. فَضَاقَ بِهِ وَغَمَّهُ الْأَمْرُ، فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ بْنُ سَوَادَةَ: مَكِّنِي مِنْ عَسْكَرِكَ لِأَخْتَارَ مِنْهُمْ مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَأَسِيرَ بِهِمْ إِلَى نِفْزَاوَةَ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عَامِرَ بْنَ نَافِعٍ يُرِيدُ قَصْدَهُمْ، فَإِنْ ظَفِرْتُ كَانَ الَّذِي تُحِبُّ، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى عَمِلْتَ بِرَأْيِكَ. فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ،

فَأَخَذَ مِائَتَيْ فَارِسٍ وَسَارَ إِلَى نِفْزَاوَةَ، فَدَعَا بَرَابِرَهَا إِلَى نُصْرَتِهِ، فَأَجَابُوهُ وَسَارَعُوا إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَامِرُ بْنُ نَافِعٍ فِي الْعَسْكَرِ إِلَيْهِمْ، فَالْتَقَوْا، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَامِرٌ وَمَنْ مَعَهُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَرَجَعَ عَامِرٌ إِلَى قَسْطِيلِيَةَ، فَجَبَى أَمْوَالَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَسَارُوا عَنْهَا، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا مَنْ يَضْبُطُهَا، فَهَرَبَ مِنْهَا أَيْضًا خَوْفًا مِنْ أَهْلِهَا، فَأَرْسَلَ أَهْلُ قَسْطِيلِيَةَ إِلَى ابْنِ سَوَادَةَ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَجِيءَ إِلَيْهِمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَمَلَكَ قَسْطِيلِيَةَ وَضَبَطَهَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ الْمَذْكُورَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعٍ وَمِائَتَيْنِ إِنَّمَا كَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وَعَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ. (طُنْبُذَةُ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَآخِرُهُ هَاءٌ. وَصَطْفُورَةُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَآخِرُهُ هَاءٌ. وَسَبِيبَةُ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الثَّانِيَةِ الْمُوَحَّدَةِ وَآخِرُهُ هَاءٌ. وَنِفْزَاوَةُ بِالنُّونِ وَالْفَاءِ السَّاكِنَةِ وَفَتْحِ الزَّايِ وَبَعْدَ الْأَلْفِ وَاوٌ ثُمَّ هَاءٌ) . ذِكْرُ مَافَتَحَهُ زِيَادَةُ اللَّهِ بْنُ الْأَغْلَبِ مِنْ جَزِيرَةِ صِقِلِّيَّةَ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْحُرُوبِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ جَهَّزَ زِيَادَةُ اللَّهِ جَيْشًا فِي الْبَحْرِ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى جَزِيرَةِ صِقِلِّيَّةَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ أَسَدَ بْنَ الْفُرَاتِ، قَاضِي الْقَيْرَوَانِ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهُوَ مُصَنِّفُ الْأَسَدِيَّةِ (فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ) ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا مَلَكُوا كَثِيرًا مِنْهَا. وَكَانَ سَبَبَ إِنْفَاذِ الْجَيْشِ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ اسْتَعْمَلَ عَلَى جَزِيرَةِ صِقِلِّيَّةَ بِطْرِيقًا اسْمُهُ قُسْطَنْطِينُ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا اسْتَعْمَلَ عَلَى جَيْشِ الْأُسْطُولِ إِنْسَانًا رُومِيًّا اسْمُهُ فِيمِي، كَانَ حَازِمًا شُجَاعًا، فَغَزَا إِفْرِيقِيَّةَ، وَأَخَذَ مِنْ سَوَاحِلِهَا تُجَّارًا، وَنَهَبَ، وَبَقِيَ هُنَاكَ مُدَيْدَةً. ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ الرُّومِ كَتَبَ إِلَى قُسْطَنْطِينَ (يَأْمُرُهُ بِالْقَبْضِ) عَلَى فِيمِي، مُقَدِّمِ الْأُسْطُولِ، وَتَعْذِيبِهِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى فِيمِي، فَأَعْلَمَ أَصْحَابَهُ فَغَضِبُوا لَهُ، وَأَعَانُوهُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، فَسَارَ فِي مَرَاكِبِهِ إِلَى صِقِلِّيَّةَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى مَدِينَةِ سَرَقُوسَةَ، فَسَارَ إِلَيْهِ قُسْطَنْطِينُ (فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ قُسْطَنْطِينُ) إِلَى مَدِينَةِ قَطَانِيَةَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ فِيمِي

جَيْشًا، فَهَرَبَ مِنْهُمْ، فَأَخَذَ وَقَتَلَ، وَخُوطِبَ فِيمِي بِالْمَلِكِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْجَزِيرَةِ رَجُلًا اسْمُهُ بَلَاطَهْ، فَخَالَفَ عَلَى فِيمِي، وَعَصَى، وَاتَّفَقَ هُوَ وَابْنُ عَمٍّ لَهُ اسْمُهُ مِيخَائِيلُ، وَهُوَ وَالِي مَدِينَةِ بَلَرْمَ، وَجَمَعَا عَسْكَرًا كَثِيرًا، فَقَاتَلَا فِيمِي، وَانْهَزَمَ، فَاسْتَوْلَى بَلَاطَهْ عَلَى مَدِينَةِ سَرَقُوسَةَ. وَرَكِبَ فِيمِي وَمَنْ مَعَهُ فِي مَرَاكِبِهِمْ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْأَمِيرِ زِيَادَةِ اللَّهِ يَسْتَنْجِدُهُ، وَيَعِدُهُ بِمُلْكِ جَزِيرَةِ صِقِلِّيَّةَ، فَسَيَّرَ مَعَهُ جَيْشًا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، فَوَصَلُوا إِلَى مَدِينَةِ مَازَرَ مِنْ صِقِلِّيَّةَ، فَسَارُوا إِلَى بَلَاطَهْ، الَّذِي قَاتَلَ فِيمِي، فَلَقِيَهُمْ جَمْعٌ لِلرُّومِ، فَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَمَرُوا فِيمِي وَمَنْ مَعَهُ أَنْ يَعْتَزِلُوهُمْ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ، فَانْهَزَمَتِ الرُّومُ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ أَمْوَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ، وَهَرَبَ بَلَاطَهْ إِلَى قِلُّورِيَةَ، فَقُتِلَ بِهَا. وَاسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِدَّةِ حُصُونٍ مِنَ الْجَزِيرَةِ، وَوَصَلُوا إِلَى قَلْعَةٍ تُعْرَفُ بِقَلْعَةِ الْكُرَّاثِ وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَخَدَعُوا الْقَاضِيَ أَسَدَ بْنَ الْفُرَاتِ أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلُّوا لَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ فِيمِي مَالَ إِلَيْهِمْ، وَرَاسَلَهُمْ أَنْ يَثْبُتُوا، وَيَحْفَظُوا بَلَدَهُمْ، فَبَذَلُوا لِأَسَدٍ الْجِزْيَةَ، وَسَأَلُوهُ أَنْ لَا يَقْرَبَ مِنْهُمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَتَأَخَّرَ عَنْهُمْ (أَيَّامًا، فَاسْتَعَدُّوا لِلْحِصَارِ، وَدَفَعُوا إِلَيْهِمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ) ، وَنَاصَبَهُمُ الْحَرْبَ، وَبَثَّ السَّرَايَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا، وَافْتَتَحُوا عُمْرَانًا كَثِيرًا حَوْلَ سَرَقُوسَةَ، (وَحَاصَرُوا سَرَقُوسَةَ) بَرًّا وَبَحْرًا، وَلَحِقَتْهُ الْأَمْدَادُ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَالِي بَلَرْمَ فِي عَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ، فَخَنْدَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَحَفَرُوا خَارِجَ الْخَنْدَقِ حُفَرًا كَثِيرَةً، فَحَمَلَ الرُّومُ عَلَيْهِمْ، فَسَقَطَ فِي تِلْكَ الْحُفَرِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَقُتِلُوا. وَضَيَّقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى سَرَقُوسَةَ، فَوَصَلَ أُسْطُولٌ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِيهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ،

وَكَانَ قَدْ حَلَّ بِالْمُسْلِمِينَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ، (سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ) ، هَلَكَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَهَلَكَ فِيهِ أَمِيرُهُمْ أَسَدُ بْنُ الْفُرَاتِ، وَوَلِيَ الْأَمْرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْجَوَارِي، فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ شِدَّةَ الْوَبَاءِ وَوُصُولَ الرُّومِ، تَحَمَّلُوا فِي مَرَاكِبِهِمْ لِيَسِيرُوا، فَوَقَفَ الرُّومُ فِي مَرَاكِبِهِمْ عَلَى بَابِ الْمَرْسَى، فَمَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْخُرُوجِ. فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ أَحْرَقُوا مَرَاكِبَهُمْ وَعَادُوا، وَرَحَلُوا إِلَى مَدِينَةِ مِينَاوَ، (فَحَصَرُوهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) ، وَتَسَلَّمُوا الْحِصْنَ، فَسَارَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى حِصْنِ جَرْجَنْتَ، فَقَاتَلُوا أَهْلَهُ وَمَلَكُوهُ، وَسَكَنُوا فِيهِ، وَاشْتَدَّتْ نُفُوسُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْفَتْحِ وَفَرِحُوا. ثُمَّ سَارُوا إِلَى مَدِينَةِ قَصْرِيَانَّةَ وَمَعَهُمْ فِيمِي، فَخَرَجَ أَهْلُهَا إِلَيْهِ، فَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَجَابُوا إِلَى أَنْ يُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ، وَخَدَعُوهُ، ثُمَّ قَتَلُوهُ. وَوَصَلَ جَيْشٌ كَثِيرٌ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مَدَدًا لِمَنْ فِي الْجَزِيرَةِ، فَتَصَافُّوا هُمْ وَالْمُسْلِمُونَ، فَانْهَزَمَ الرُّومُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَدَخَلَ مَنْ سَلِمَ قَصْرِيَانَّةَ. وَتُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْجَوَارِي أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ زُهَيْرُ بْنُ غَوْثٍ. ثُمَّ إِنَّ سَرِيَّةَ الْمُسْلِمِينَ سَارَتْ لِلْغَنِيمَةِ، فَخَرَجَ عَلَيْهَا طَائِفَةٌ مِنَ الرُّومِ فَاقْتَتَلُوا، وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، وَعَادُوا مِنَ الْغَدِ، وَمَعَهُمْ جَمْعُ الْعَسْكَرِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرُّومُ، وَقَدِ اجْتَمَعُوا وَحَشَدُوا، وَتَصَافُّوا مَرَّةً ثَانِيَةً، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا، وَقُتِلَ مِنْهُمْ نَحْوُ أَلْفِ قَتِيلٍ، وَعَادُوا إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ، وَخَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ، فَحَصَرَهُمُ الرُّومُ، وَدَامَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَضَاقَتِ الْأَقْوَاتُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَعَزَمُوا عَلَى بَيَاتِ الرُّومِ، فَعَلِمُوا بِهِمْ، فَفَارَقُوا الْخِيَمَ، وَكَانُوا بِالْقُرْبِ مِنْهَا، فَلَمَّا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَرَوْا أَحَدًا. وَأَقْبَلَ الرُّومُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، فَدَخَلُوا

مِينَاوَ، وَدَامَ الْحِصَارُ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَكَلُوا الدَّوَابَّ وَالْكِلَابَ. فَلَمَّا سَمِعَ مَنْ فِي مَدِينَةِ جِرْجِنْتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا هُمْ عَلَيْهِ هَدَمُوا الْمَدِينَةَ، وَسَارُوا إِلَى مَازَرَ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى نُصْرَةِ إِخْوَانِهِمْ، وَدَامَ الْحَالُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، وَقَدْ أَشْرَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْهَلَاكِ، وَإِذْ قَدْ أَقْبَلَ أُسْطُولٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، خَرَجُوا غُزَاةً، وَوَصَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَرَاكِبُ كَثِيرَةٌ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ مَدَدًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَبَلَغَتْ عِدَّةُ الْجَمِيعِ ثَلَاثَمِائَةِ مَرْكَبٍ، فَنَزَلُوا إِلَى الْجَزِيرَةِ، فَانْهَزَمَ الرُّومُ عَنْ حِصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَسَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَدِينَةِ بَلَرْمَ، فَحَصَرُوهَا، وَضَيَّقُوا عَلَى مَنْ بِهَا، فَطَلَبَ صَاحِبُهَا الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ وَلِأَهْلِهِ وَلِمَالِهِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَسَارَ فِي الْبَحْرِ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ. وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْبَلَدَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، فَلَمْ يَرَوْا فِيهِ إِلَّا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ إِنْسَانٍ، وَكَانَ فِيهِ لَمَّا حَصَرُوهُ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَمَاتُوا كُلُّهُمْ. وَجَرَى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ: أَهْلُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَأَهْلُ الْأَنْدَلُسِ - خُلْفٌ وَنِزَاعٌ، ثُمَّ اتَّفَقُوا، وَبَقِيَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَسَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَدِينَةِ قَصْرِيَانَّةَ، فَخَرَجَ مَنْ فِيهَا مِنَ الرُّومِ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، (وَانْهَزَمَ الرُّومُ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ) ، ثُمَّ رَجَعُوا فِي الرَّبِيعِ فَقَاتَلُوهُمْ، فَنُصِرَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا. ثُمَّ سَارُوا سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، (وَأَمِيرُهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى قَصْرِيَانَّةَ، فَقَاتَلَهُمُ الرُّومُ، فَانْهَزَمُوا، وَأُسِرَتِ امْرَأَةٌ لِبِطْرِيقِهِمْ وَابْنُهُ، وَغَنِمُوا مَا كَانَ فِي عَسْكَرِهِمْ وَعَادُوا إِلَى بَلَرْمَ. ثُمَّ سَيَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَسْكَرًا إِلَى نَاحِيَةِ طَبَرْمِينَ) ، عَلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمٍ، فَغَنِمَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، ثُمَّ عَدَا عَلَيْهِ بَعْضُ عَسْكَرِهِ فَقَتَلُوهُ، وَلَحِقُوا بِالرُّومِ، فَأَرْسَلَ زِيَادَةُ اللَّهِ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ الْفَضْلَ بْنَ يَعْقُوبَ عِوَضًا مِنْهُ، فَسَارَ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى نَاحِيَةِ سَرَقُوسَةَ، فَأَصَابُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً وَعَادُوا، ثُمَّ سَارَتْ سَرِيَّةٌ كَبِيرَةٌ، فَغَنِمَتْ وَعَادَتْ، فَعَرَضَ لَهُمُ الْبَطْرِيقُ مَلِكُ الرُّومِ بِصِقِلِّيَّةَ، وَجَمْعٌ كَثِيرٌ، فَتَحَصَّنُوا مِنَ الرُّومِ فِي أَرْضٍ وَعْرٍ، وَشَجَرٍ كَثِيفٍ، فَلَمْ

يَتَمَكَّنْ مِنْ قِتَالِهِمْ، وَوَاقَفَهُمْ إِلَى الْعَصْرِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَادَ عَنْهُمْ، فَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ وَتَرَكُوا التَّعْبِئَةَ. فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَانْهَزَمَ الرُّومُ وَطُعِنَ الْبَطْرِيقُ، وَجُرِحَ عِدَّةُ جِرَاحَاتٍ، وَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَأَتَاهُ حُمَاةُ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَنْقَذُوهُ جَرِيحًا، وَحَمَلُوهُ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مَا مَعَهُمْ مِنْ سِلَاحٍ وَمَتَاعٍ وَدَوَابَّ، فَكَانَتْ وَقْعَةً عَظِيمَةً. وَسَيَّرَ زِيَادَةُ اللَّهِ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ إِلَى صِقِلِّيَّةَ أَبَا الْأَغْلَبِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرًا عَلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهَا، فَوَصَلَ إِلَيْهَا مُنْتَصَفَ رَمَضَانَ، فَبَعَثَ أُسْطُولًا، فَلَقُوا جَمْعًا لِلرُّومِ فِي أُسْطُولٍ، فَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ [مَا فِيهِ] ، فَضَرَبَ أَبُو الْأَغْلَبِ رِقَابَ كُلِّ مَنْ فِيهِ. وَبَعَثَ أُسْطُولًا آخَرَ إِلَى قُوصَرَةَ، فَظَفِرَ بِحَرَّاقَةٍ فِيهَا رِجَالٌ مِنَ الرُّومِ، وَرَجُلٌ مُتَنَصِّرٌ مِنْ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَأَتَى بِهِمْ فَضَرَبَ رِقَابَهُمْ. وَسَارَتْ سَرِيَّةٌ أُخْرَى إِلَى جَبَلِ النَّارِ وَالْحُصُونِ الَّتِي فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَأَحْرَقُوا الزَّرْعَ، وَغَنِمُوا (وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ. ثُمَّ سَيَّرَ أَبُو الْأَغْلَبِ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ سَرِيَّةً إِلَى جَبَلِ النَّارِ أَيْضًا، فَغَنِمُوا غَنَائِمَ عَظِيمَةً، حَتَّى بِيعَ الرَّقِيقُ بِأَبْخَسِ الْأَثْمَانِ، وَعَادُوا سَالِمِينَ. وَفِيهَا سَيَّرَ أَبُو الْأَغْلَبِ أَيْضًا سِرِّيَّةً إِلَى قُسْطَلْيَاسَةَ، فَغَنِمُوا وَسَبَوْا، وَلَقِيَهُمُ الْعَدُوُّ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ اسْتَظْهَرَ فِيهَا الرُّومُ. وَسَيَّرَ سَرِيَّةً إِلَى مَدِينَةِ قَصْرِيَانَّةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْعَدُوُّ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَأُصِيبَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ. ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةٌ أُخْرَى بَيْنَ الرُّومِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَانْهَزَمَ الرُّومُ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ تِسْعَةَ مَرَاكِبَ كِبَارٍ بِرِجَالِهَا وَشَلَنْدَسَ. فَلَمَّا جَاءَ الشِّتَاءُ وَأَظْلَمَ اللَّيْلُ رَأَى رَجُلٌ مِنَ

الْمُسْلِمِينَ غِرَّةً مِنْ أَهْلِ قَصْرِيَانَّةَ، فَقَرُبَ مِنْهُ، وَرَأَى طَرِيقًا، فَدَخَلَ مِنْهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْعَسْكَرِ، فَأَخْبَرَهُمْ فَجَاءُوا مَعَهُ، فَدَخَلُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَكَبَّرُوا، وَمَلَكُوا رَبَضَهُ، وَتَحَصَّنَ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ بِحِصْنِهِ، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَمَّنُوهُمْ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَعَادُوا إِلَى بَلَرْمَ. وَفِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ وَصَلَ كَثِيرٌ مِنَ الرُّومِ فِي الْبَحْرِ إِلَى صِقِلِّيَّةَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحَاصِرُونَ جُفْلُوذَى، وَقَدْ طَالَ حِصَارُهَا، فَلَمَّا وَصَلَ الرُّومُ رَحَلَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهَا، وَجَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّومِ الْوَاصِلِينَ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ. ثُمَّ وَصَلَ الْخَبَرُ بِوَفَاةِ زِيَادَةِ اللَّهِ (بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ) ، أَمِيرِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَوَهَنَ الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ تَشَجَّعُوا وَضَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ. (سَرَقُوسَةُ بِسِينٍ مَفْتُوحَةٍ وَقَافٍ وَوَاوٍ وَسِينٍ ثَانِيَةٍ. وَبَلَرْمُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَاللَّامِ وَتَسْكِينِ الرَّاءِ وَبَعْدَهَا مِيمٌ. وَمِينَاوُ بِمِيمٍ وَيَاءٍ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ وَنُونٌ وَبَعْدَ الْأَلْفِ وَاوٌ. وَجُرْجَنْتُ بِجِيمٍ وَرَاءٍ وَجِيمٍ ثَانِيَةٍ مَفْتُوحَةٍ [وَنُونٍ] وَتَاءٍ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ، وَقَصْرِيَانَّةُ بِالْقَافِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ وَالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ وَبَعْدَ الْأَلْفِ نُونٌ مُشَدَّدَةٌ وَهَاءٌ) . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ صَاحِبُ أَبِي السَّرَايَا. وَفِيهَا أَصَابَ أَهْلُ خُرَاسَانَ وَأَصْبَهَانَ وَالرَّيِّ مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَثُرَ الْمَوْتُ فِيهِمْ.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.

ثم دخلت سنة اثنتين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ] 202 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ بَيْعَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَايَعَ أَهْلُ بَغْدَاذَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ بِالْخِلَافَةِ، وَلَقَّبُوهُ الْمُبَارَكَ، وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَقِيلَ خَامِسَهُ، وَخَلَعُوا الْمَأْمُونَ، وَبَايَعَهُ سَائِرُ بَنِي هَاشِمٍ، فَكَانَ الْمُتَوَلِّي لِأَخْذِ الْبَيْعَةِ الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ، فَكَانَ الَّذِي فِي هَذَا الْأَمْرِ السِّنْدِيُّ، وَصَالِحٌ صَاحِبُ الْمُصَلَّى، وَنُصَيْرٌ الْوَصِيفُ، وَغَيْرُهُمْ، غَضَبًا عَلَى الْمَأْمُونِ حِينَ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْخِلَافَةِ مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ، وَلِتَرْكِهِ لِبَاسَ آبَائِهِ مِنَ السَّوَادِ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْبَيْعَةِ وَعَدَ الْجُنْدَ رِزْقَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَدَافَعَهُمْ بِهَا، فَشَغَّبُوا عَلَيْهِ، فَأَعْطَاهُمْ لِكُلِّ رَجُلٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَكَتَبَ لِبَعْضِهِمْ إِلَى السَّوَادِ بِقِيمَةِ [بَقِيَّةِ] مَا لَهُمْ حِنْطَةً وَشَعِيرًا، فَخَرَجُوا فِي قَبْضِهَا، فَانْتَهَبُوا الْجَمِيعَ، وَأَخَذُوا نَصِيبَ السُّلْطَانِ وَأَهِلِ السَّوَادِ، وَاسْتَوْلَى إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْكُوفَةِ وَالسَّوَادِ جَمِيعِهِ، وَعَسْكَرَ بِالْمَدَائِنِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَاذَ الْعَبَّاسَ بْنَ مُوسَى الْهَادِيَ، وَعَلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْهَا إِسْحَاقَ بْنَ مُوسَى الْهَادِيَ. وَخَرَجَ عَلَيْهِ مَهْدِيُّ بْنُ عُلْوَانَ الْحَرُورِيُّ، وَغَلَبَ عَلَى طَسَاسِيجِ نَهْرِ بُوقَ وَالرَّاذَانِينَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ أَبَا إِسْحَاقَ بْنَ الرَّشِيدِ، وَهُوَ الْمُعْتَصِمُ، فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْقُوَّادِ، فَلَقُوهُ فَاقْتَتَلُوا، فَطَعَنَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ابْنَ الرَّشِيدِ، فَحَامَى عَنْهُ غُلَامٌ تُرْكِيٌّ يُقَالُ لَهُ: أَشْنَاسُ، وَهُزِمَ مَهْدِيٌّ إِلَى حَوْلَايَا. وَقِيلَ: كَانَ خُرُوجُ مَهْدِيٍّ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَمِائَتَيْنِ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَصْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ وَكَانَ بِقَصْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَامِلًا لِلْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، وَمَعَهُ مِنَ الْقُوَّادِ سَعِيدُ بْنُ السَّاجُورِ، وَأَبُو الْبَطِّ، وَغَسَّانُ بْنُ أَبِي الْفَرَجِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِفْرِيقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، فَكَاتَبُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا لَهُ قَصْرَ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَكَانُوا قَدْ تَحَرَّفُوا عَنْ حُمَيْدٍ، وَكَتَبُوا إِلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ يُخْبِرُونَهُ أَنَّ حُمَيْدًا يُكَاتِبُ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ حُمَيْدٌ يَكْتُبُ فِيهِمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَكَتَبَ الْحَسَنُ إِلَى حُمَيْدٍ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، خَافَ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِ، فَيَأْخُذَ هَؤُلَاءِ الْقُوَّادُ مَالَهُ وَعَسْكَرَهُ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا أَلَحَّ الْحَسَنُ عَلَيْهِ بِالْكُتُبِ سَارَ إِلَيْهِ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَكَتَبَ أُولَئِكَ الْقُوَّادُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ لِيُنْفِذَ إِلَيْهِمْ عِيسَى بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، فَوَجَّهَهُ إِلَيْهِمْ، فَانْتَهَبُوا مَا فِي عَسْكَرِ حُمَيْدٍ، فَكَانَ مِمَّا أَخَذُوا لَهُ مِائَةُ بَدْرَةٍ، وَأَخَذَ ابْنُ حُمَيْدٍ جَوَارِيَ أَبِيهِ، وَسَارَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِعَسْكَرِ الْحَسَنِ، وَدَخَلَ عِيسَى الْقَصْرَ، وَتَسَلَّمَهُ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَقَالَ حُمَيْدٌ لِلْحَسَنِ: أَلَمْ أُعْلِمْكَ؟ لَكِنَّكَ خُدِعْتَ. وَعَادَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَأَخَذَ أَمْوَالَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا الْعَبَّاسَ بْنَ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ لِأَخِيهِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بَعْدَ الْمَأْمُونِ، وَأَعَانَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ لَهُ: قَاتِلْ عَنْ أَخِيكَ، فَإِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ يُجِيبُونَكَ إِلَى ذَلِكَ وَأَنَا مَعَكَ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ خَرَجَ حُمَيْدٌ إِلَى الْحَسَنِ، وَكَانَ الْحَسَنُ قَدْ وَجَّهَ حَكِيمًا الْحَارِثِيَّ إِلَى النِّيلِ، فَسَارَ إِلَيْهِ عِيسَى بْنُ مُحَمَّدٍ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ حَكِيمٌ، فَدَخَلَ عِيسَى النِّيلَ، وَوَجَّهَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْكُوفَةِ سَعِيدًا وَأَبَا الْبَطِّ، لِقِتَالِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى، وَكَانَ الْعَبَّاسُ قَدْ دَعَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، فَأَجَابَهُ بَعْضُهُمْ. وَأَمَّا الْغُلَاةُ مِنَ الشِّيعَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كُنْتَ تَدْعُونَا لِأَخِيكَ وَحْدَهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَأَمَّا الْمَأْمُونُ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَدْعُو لِلْمَأْمُونِ، وَبَعْدَهُ لِأَخِي. فَقَعَدُوا عَنْهُ. فَلَمَّا أَتَاهُ سَعِيدٌ وَأَبُو الْبَطِّ وَنَزَلُوا قَرْيَةَ شَاهِي بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْعَبَّاسُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَهُوَ ابْنُ الَّذِي بُويِعَ لَهُ بِمَكَّةَ، وَبَعَثَ مَعَهُ جَمَاعَةً، مِنْهُمْ أَخُو أَبِي السَّرَايَا، فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً، فَانْهَزَمَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَلَوِيُّ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، وَنَزَلَ سَعِيدٌ وَأَصْحَابُهُ الْحِيرَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ ثَانِي جُمَادَى الْأُولَى، ثُمَّ تَقَدَّمُوا فَقَاتَلُوا أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَخَرَجَ إِلَى شِيعَةِ بَنِي

الْعَبَّاسِ وَمَوَالِيهِمْ، فَاقْتَتَلُوا إِلَى اللَّيْلِ، وَكَانَ شِعَارُهُمْ: يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ، يَا مَنْصُورُ، لَا طَاعَةَ لِلْمَأْمُونِ. وَعَلَيْهِمُ السَّوَادُ، وَعَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ الْخُضْرَةُ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ اقْتَتَلُوا، وَكَانَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ إِذَا غَلَبَ عَلَى شَيْءٍ أَحْرَقَهُ وَنَهَبَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رُؤَسَاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ خَرَجُوا إِلَى سَعِيدٍ، فَسَأَلُوهُ الْأَمَانَ لِلْعَبَّاسِ وَأَصْحَابِهِ، فَأَمَّنَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْكُوفَةِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَوُا الْعَبَّاسَ فَأَعْلَمُوهُ ذَلِكَ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ، وَتَحَوَّلَ عَنْ دَارِهِ، فَشَغَّبَ أَصْحَابُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ سَعِيدٍ، وَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ سَعِيدٍ إِلَى الْخَنْدَقِ، وَنَهَبَ أَصْحَابُ الْعَبَّاسِ دُورَ عِيسَى بْنِ مُوسَى، وَأَحْرَقُوا، وَقَتَلُوا مَنْ ظَفِرُوا بِهِ. فَأَرْسَلَ الْعَبَّاسِيُّونَ إِلَى سَعِيدٍ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ، يُخْبِرُونَهُ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ مُوسَى قَدْ رَجَعَ عَنِ الْأَمَانِ، فَرَكِبَ سَعِيدٌ وَأَصْحَابُهُ، وَأَتَوُا الْكُوفَةَ عَتَمَةً، فَقَتَلُوا مَنْ ظَفِرُوا بِهِ مِمَّنِ انْتَهَبَ، وَأَحْرَقُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ النَّهْبِ، فَمَكَثُوا عَامَّةَ اللَّيْلِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رُؤَسَاءُ الْكُوفَةِ، فَأَعْلَمُوهُمْ أَنَّ هَذَا فِعْلُ الْغَوْغَاءِ، وَأَنَّ الْعَبَّاسَ لَمْ يَرْجِعْ عَنِ الْأَمَانِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُمْ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَخَلَهَا سَعِيدٌ وَأَبُو الْبَطِّ، وَنَادَوْا بِالْأَمَانِ، وَلَمْ يَعْرِضُوا إِلَى أَحَدٍ، وَوَلُّوا عَلَى الْكُوفَةِ الْفَضْلَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ الْكِنْدِيَّ، ثُمَّ عَزَلُوهُ لِمَيْلِهِ إِلَى أَهْلِ بَلَدِهِ، وَاسْتَعْمَلُوا مَكَانَهُ غَسَّانَ بْنَ أَبِي الْفَرَجِ، ثُمَّ عَزَلُوهُ بَعْدَمَا قَتَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَخَا أَبِي السَّرَايَا، وَاسْتَعْمَلُوا الْهَوْلَ ابْنَ أَخِي سَعِيدٍ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى قَدِمَهَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، فَهَرَبَ الْهَوْلُ. وَأَمَرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ عِيسَى بْنَ مُحَمَّدٍ أَنْ يَسِيرَ إِلَى نَاحِيَةِ وَاسِطٍ عَلَى طَرِيقِ النِّيلِ، وَأَمَرَ ابْنَ عَائِشَةَ الْهَاشِمِيَّ وَنُعَيْمَ بْنَ حَازِمٍ أَنْ يَسِيرَا جَمِيعًا، وَلَحِقَ بِهِمَا سَعِيدٌ، وَأَبُو الْبَطِّ، وَالْإِفْرِيقِيُّ، وَعَسْكَرُوا جَمِيعًا بِالصَّيَّادَةِ، قُرْبَ وَاسِطٍ، عَلَيْهِمْ جَمِيعًا عِيسَى بْنُ مُحَمَّدٍ، فَكَانُوا يَرْكَبُونَ وَيَأْتُونَ عَسْكَرَ الْحَسَنِ بِوَاسِطٍ، فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَهُمْ مُتَحَصِّنُونَ بِالْمَدِينَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْحَسَنَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِمْ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى الظُّهْرِ، وَانْهَزَمَ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى بَلَغُوا طِرْنَايَا وَالنِّيلَ،

وَغَنِمُوا عَسْكَرَ عِيسَى وَمَا فِيهِ. ذِكْرُ الظَّفَرِ بِسَهْلِ بْنِ سَلَامَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَفِرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بِسَهْلِ بْنِ سَلَامَةَ الْمُطَوَّعِ، فَحَبَسَهُ وَعَاقَبَهُ. وَكَانَ سَبَبَ ظَفَرِهِ بِهِ أَنَّ سَهْلًا كَانَ مُقِيمًا بِبَغْدَاذَ يَدْعُو إِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ بَغْدَاذَ، فَلَمَّا انْهَزَمَ عِيسَى أَقْبَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ نَحْوَ سَهْلِ بْنِ سَلَامَةَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُهُمْ بِأَقْبَحِ أَعْمَالِهِمْ، وَيُسَمِّيهِمُ الْفُسَّاقَ، فَقَاتَلُوهُ أَيَّامًا، حَتَّى صَارُوا إِلَى الدُّرُوبِ، وَأَعْطَوْا أَصْحَابَهُ الدَّرَاهِمَ الْكَثِيرَةَ، حَتَّى تَنَحَّوْا عَنِ الدُّرُوبِ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ، قَصَدُوهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَخَذَلَهُ أَهْلُ الدُّرُوبِ لِأَجْلِ الدَّرَاهِمُ الَّتِي أَخَذُوهَا، حَتَّى وَصَلَ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى مَنْزِلِ سَهْلٍ، فَاخْتَفَى مِنْهُ، وَاخْتَلَطَ بِالنَّظَّارَةِ، فَلَمْ يَرَوْهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَجَعَلُوا عَلَيْهِ الْعُيُونَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَخَذُوهُ، وَأَتَوْا بِهِ إِسْحَاقَ بْنَ الْهَادِي، فَكَلَّمَهُ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ دَعْوَتِي عَبَّاسِيَّةً، وَإِنَّمَا كُنْتُ أَدْعُو إِلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَا عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ السَّاعَةَ، فَقَالُوا لَهُ: اخْرُجْ إِلَى النَّاسِ فَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ مَا كُنْتُ عَلَيْهِ أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ بَاطِلٌ. فَخَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! قَدْ عَلِمْتُمْ مَا كُنْتُ أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ (مِنَ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ) السَّاعَةَ. فَضَرَبُوهُ، وَقَيَّدُوهُ، وَشَتَمُوهُ، وَسَيَّرُوهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ بِالْمَدَائِنِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ كَلَّمَهُ بِمَا كَلَّمَ بِهِ إِسْحَاقَ بْنَ الْهَادِي، فَضَرَبَهُ، وَحَبَسَهُ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ قُتِلَ خَوْفًا مِنَ النَّاسِ، لِئَلَّا يَعْلَمُوا مَكَانَهُ فَيُخْرِجُوهُ، وَكَانَ مَا بَيْنَ خُرُوجِهِ وَقَبْضِهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا. ذِكْرُ مَسِيرِ الْمَأْمُونِ إِلَى الْعِرَاقِ وَقَتْلِ ذِي الرِّيَاسَتَيْنِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْمَأْمُونُ مِنْ مَرْوَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى خُرَاسَانَ غَسَّانَ بْنَ عُبَادَةَ.

وَكَانَ سَبَبَ مَسِيرِهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَى أَخْبَرَ الْمَأْمُونَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْقِتَالِ، مُذْ قُتِلَ الْأَمِينُ، وَبِمَا كَانَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ يَسْتُرُ عَنْهُ مِنْ أَخْبَارٍ، وَأَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ وَالنَّاسَ قَدْ نَقَمُوا عَلَيْهِ أَشْيَاءَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَسْحُورٌ، مَجْنُونٌ، وَأَنَّهُمْ قَدْ بَايَعُوا إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ بِالْخِلَافَةِ. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: لَمْ يُبَايِعُوهُ بِالْخِلَافَةِ، وَإِنَّمَا صَيَّرُوهُ أَمِيرًا يَقُومُ بِأَمْرِهِمْ، عَلَى مَا أَخْبَرَهُ بِهِ الْفَضْلُ. فَأَعْلَمَهُ أَنَّ الْفَضْلَ قَدْ كَذِبَهُ، وَأَنَّ الْحَرْبَ قَائِمَةٌ بَيْنَ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَالنَّاسُ يَنْقِمُونَ عَلَيْكَ مَكَانَهُ، وَمَكَانَ أَخِيهِ الْفَضْلِ، وَمَكَانِي، وَمَكَانَ بَيْعَتِكَ لِي مِنْ بَعْدِكَ. فَقَالَ: وَمَنْ يَعْلَمُ هَذَا؟ قَالَ: يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ وُجُوهِ الْعَسْكَرِ. فَأَمَرَ بِإِدْخَالِهِمْ، فَدَخَلُوا، فَسَأَلَهُمْ عَمَّا أَخْبَرَهُ بِهِ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى، وَلَمْ يُخْبِرُوهُ حَتَّى يَجْعَلَ لَهُمُ الْأَمَانَ مِنَ الْفَضْلِ أَنْ لَا يَعْرِضَ إِلَيْهِمْ. فَضَمِنَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَكَتَبَ لَهُمْ خَطَّهُ بِهِ، فَأَخْبَرُوهُ بِالْبَيْعَةِ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ، وَأَنَّ أَهْلَ بَغْدَاذَ قَدْ سَمَّوْهُ الْخَلِيفَةَ السُّنِّيَّ، وَأَنَّهُمْ يَتَّهِمُونَ الْمَأْمُونَ بِالرَّفْضِ؛ لِمَكَانِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى مِنْهُ، وَأَعْلَمُوهُ بِمَا فِيهِ النَّاسُ، وَبِمَا مَوَّهَ عَلَيْهِ الْفَضْلُ مِنْ أَمْرِ هَرْثَمَةَ، وَأَنَّ هَرْثَمَةَ إِنَّمَا جَاءَهُ لِيَنْصَحَهُ، فَقَتَلَهُ الْفَضْلُ، وَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكْ أَمْرَهُ خَرَجَتِ الْخِلَافَةُ مِنْ يَدِهِ، وَأَنَّ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ قَدْ أَبْلَى فِي طَاعَتِهِ مَا يَعْلَمُهُ، فَأُخْرِجَ مِنَ الْأَمْرِ كُلِّهِ، وَجُعِلَ فِي زَاوِيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ بِالرَّقَّةِ، لَا يُسْتَعَانُ بِهِ فِي شَيْءٍ، حَتَّى ضَعُفَ أَمْرُهُ، وَشَغَبَ عَلَيْهِ جُنْدُهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِبَغْدَاذَ لَضَبَطَ الْمُلْكَ، وَأَنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَفَتَّقَتْ مِنْ أَقْطَارِهَا، وَسَأَلُوا الْمَأْمُونَ الْخُرُوجَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَإِنَّ أَهْلَهَا لَوْ رَأَوْكَ لَأَطَاعُوكَ. فَلَمَّا تَحَقَّقَ ذَلِكَ أَمَرَ بِالرَّحِيلِ، فَعَلِمَ الْفَضْلُ بِالْحَالِ، فَبَغَتَهُمْ حَتَّى ضَرَبَ بَعْضَهُمْ، وَحَبَسَ بَعْضَهُمْ، وَنَتَفَ لِحَى بَعْضِهِمْ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى لِلْمَأْمُونِ فِي أَمْرِهِمْ، فَقَالَ: أَنَا أَدْرِي. ثُمَّ ارْتَحَلَ، فَلَمَّا أَتَى سَرْخَسَ وَثَبَ قَوْمٌ بِالْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ، فَقَتَلُوهُ فِي الْحَمَّامِ، وَكَانَ قَتْلُهُ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَعْبَانَ، وَكَانَ الَّذِينَ قَتَلُوهُ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ، أَحَدُهُمْ غَالِبٌ الْمَسْعُودِيُّ الْأَسْوَدُ، وَقُسْطَنْطِينُ الرُّومِيُّ، وَفَرَجٌ الدَّيْلَمِيُّ، وَمُوَفَّقٌ الصَّقْلَبِيُّ، وَكَانَ عُمْرُهُ

سِتِّينَ سَنَةً، وَهَرَبُوا، فَجَعَلَ الْمَأْمُونُ لِمَنْ جَاءَ بِهِمْ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَجَاءَ بِهِمُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْهَيْثَمِ الدِّينَوَرِيُّ، فَقَالُوا لِلْمَأْمُونِ: أَنْتَ أَمَرْتَنَا بِقَتْلِهِ. فَأَمَرَ بِهِمْ فَضُرِبَتْ رِقَابُهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَأْمُونَ لَمَّا سَأَلَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي سَعِيدٍ ابْنَ أُخْتِ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ وَضَعَهُمْ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، فَقَتَلَهُمْ، ثُمَّ أَحْضَرَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عِمْرَانَ، وَعَلِيًّا (وَمُوسَى) ، وَخَلْقًا، فَسَأَلَهُمْ، فَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونُوا عَلِمُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، وَقَتَلَهُمْ، وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، وَأَعْلَمَهُ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُصِيبَةِ بِقَتْلِ الْفَضْلِ، وَأَنَّهُ قَدْ صَيَّرَهُ مَكَانَهُ، فَوَصَلَهُ الْخَبَرُ فِي رَمَضَانَ. وَرَحَلَ الْمَأْمُونُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ، وَعِيسَى، وَغَيْرُهُمَا بِالْمَدَائِنِ، وَكَانَ أَبُو الْبَطِّ وَسَعِيدٌ بِالنِّيلِ يُرَاوِحُونَ الْقِتَالَ وَيُغَادُونَهُ، وَكَانَ الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ قَدْ عَادَ مِنَ الْمَدَائِنِ، فَاعْتَلَّ بِأَنَّهُ مَرِيضٌ، فَأَتَى بَغْدَاذَ وَجَعَلَ يَدْعُو فِي السِّرِّ إِلَى الْمَأْمُونِ، عَلَى أَنَّ مَنْصُورَ بْنَ الْمَهْدِيِّ (خَلِيفَةُ الْمَأْمُونِ، وَيَخْلَعُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَأَجَابَهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ) ، وَخُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْقُوَّادِ، وَكَتَبَ الْمُطَّلِبُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ هِشَامٍ وَحُمَيْدٍ أَنْ يَتَقَدَّمَا، فَيَنْزِلَ حُمَيْدٌ نَهْرَ صَرْصَرٍ، وَيَنْزِلَ عَلِيٌّ النَّهْرَوَانَ. فَلَمَّا عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بِذَلِكَ عَادَ عَنِ الْمَدَائِنِ نَحْوَ بَغْدَاذَ، فَنَزَلَ زَنْدَوَرْدَ مُنْتَصَفَ صَفَرٍ، وَبَعَثَ إِلَى الْمُطَّلِبِ وَمَنْصُورٍ وَخُزَيْمَةَ يَدْعُوهُمْ، فَاعْتَلُّوْا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ بَعَثَ عِيسَى إِلَيْهِمْ، فَأَمَّا مَنْصُورٌ وَخُزَيْمَةُ فَأَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمَا، وَأَمَّا الْمُطَّلِبُ فَمَنَعَهُ مَوَالِيهِ وَأَصْحَابُهُ، فَنَادَى مُنَادِي إِبْرَاهِيمَ: مَنْ أَرَادَ النَّهْبَ فَلْيَأْتِ دَارَ الْمُطَّلِبِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَصَلُوا إِلَى دَارِهِ فَنَهَبُوهَا، وَنَهَبُوا دُورَ أَهْلِهِ، وَلَمْ يَظْفَرُوا بِهِ، وَذَلِكَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ صَفَرٍ، فَلَمَّا بَلَغَ حُمَيْدًا وَعَلِيَّ بْنَ هِشَامٍ الْخَبَرُ أَخَذَ حُمَيْدٌ الْمَدَائِنَ وَنَزَلَهَا، وَقَطَعَ الْجِسْرَ، وَأَقَامُوا بِهَا، وَنَدِمَ إِبْرَاهِيمُ حَيْثُ صَنَعَ بِالْمُطَّلِبِ مَا صَنَعَ، ثُمَّ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ. ذِكْرُ قَتْلِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْهَمْدَانِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْهَمْدَانِيُّ وَأَخُوهُ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ،

وَكَانَ مُتَغَلِّبًا عَلَى الْمَوْصِلِ. وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ خَرَجَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنَ الْأَزْدِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى رُسْتَاقِ نِينَوَى وَالْمَرْجِ قَالَ: نِعْمَ الْبِلَادُ لِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ! فَقَالَ بَعْضُ الْأَزْدِ: فَمَا نَصْنَعُ نَحْنُ؟ قَالَ: تَلْحَقُونَ بِعُمَانَ. فَانْتَشَرَ الْخَبَرُ. ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا أَخَذَ رَجُلًا مِنَ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ عَوْنُ بْنُ جَبَلَةَ، فَبَنَى عَلَيْهِ حَائِطًا، فَمَاتَ فِيهِ، وَظَهَرَ خَبَرُهُ، فَرَكِبَتِ الْأَزْدُ وَعَلَيْهِمُ السَّيِّدُ بْنُ أَنَسٍ، فَاقْتَتَلُوا، وَاسْتَنْصَرَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بِخَارِجِيٍّ يُقَالُ لَهُ مَهْدِيُّ بْنُ عُلْوَانَ، فَأَتَاهُ، فَدَخَلَ الْبَلَدَ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَدَعَا لِنَفْسِهِ، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، وَكَانَتْ أَخِيرًا عَلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ، فَخَرَجُوا عَنِ الْبَلَدِ إِلَى الْحَدِيثَةِ، فَتَبِعَهُمُ الْأَزْدُ إِلَيْهَا، فَقَتَلُوا عَلِيًّا وَأَخَاهُ أَحْمَدَ وَجَمَاعَةً مِنْ أَهْلِهِمَا، وَسَارَ أَخُوهُمَا مُحَمَّدٌ إِلَى بَغْدَاذَ فَنَجَا، وَعَادَتِ الْأَزْدُ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَغَلَبَ السَّيِّدُ عَلَيْهَا، وَخَطَبَ لِلْمَأْمُونِ وَأَطَاعَهُ. (الْهَمْدَانِيُّ هَاهُنَا نِسْبَةً إِلَى هَمْدَانَ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ قَبِيلَةٌ مِنَ الْيَمَنِ) . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا تَزَوَّجَ الْمَأْمُونُ بُورَانَ بِنْتَ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ. وَفِيهَا أَيْضًا زَوَّجَ الْمَأْمُونُ ابْنَتَهُ أُمَّ حَبِيبٍ مِنْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَى، وَزَوَّجَ ابْنَتَهُ أُمَّ الْفَضْلِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَى بْنِ مُوسَى. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ وَدَعَا (لِأَخِيهِ بَعْدَ الْمَأْمُونِ

بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَمَضَى إِلَى الْيَمَنِ، وَكَانَ حَمْدَوَيْهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى) بْنِ مَاهَانَ قَدْ غَلَبَ عَلَى الْيَمَنِ. وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ ظَهَرَتْ حُمْرَةٌ فِي السَّمَاءِ لَيْلَةَ السَّبْتِ رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَبَقِيَتْ إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ، وَذَهَبَتِ الْحُمْرَةُ، وَبَقِيَ عَمُودَانِ أَحْمَرَانِ إِلَى الصُّبْحِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ الْمُبَارَكِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْعَدَوِيُّ الْيَزِيدِيُّ الْمُقْرِئُ صَاحِبُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، (وَإِنَّمَا قِيلَ الْيَزِيدِيُّ لِأَنَّهُ صَحِبَ يَزِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ خَالَ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ يُعَلِّمُ وَلَدَهُ) . (وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَهْلٌ وَالِدُ ذِي الرِّيَاسَتَيْنِ، بَعْدَ قَتْلِ ابْنِهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَعَاشَتْ أُمُّهُ حَتَّى أَدْرَكَتْ عُرْسَ بُورَانَ ابْنَةِ ابْنِهَا) .

ثم دخلت سنة ثلاث ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَمِائَتَيْنِ] 203 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ مَوْتِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ أَكَلَ عِنَبًا فَأَكْثَرَ مِنْهُ، فَمَاتَ فَجْأَةً، وَذَلِكَ فِي آخِرِ صَفَرٍ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِمَدِينَةِ طُوسَ، فَصَلَّى الْمَأْمُونُ عَلَيْهِ، وَدَفَنَهُ عِنْدَ قَبْرِ أَبِيهِ الرَّشِيدِ. وَكَانَ الْمَأْمُونُ لَمَّا قَدِمَهَا قَدْ أَقَامَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَأْمُونَ سَمَّهُ فِي عِنَبٍ، وَكَانَ عَلِيٌّ يُحِبُّ الْعِنَبَ، وَهَذَا عِنْدِي بَعِيدٌ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ كَتَبَ الْمَأْمُونُ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ يُعْلِمُهُ مَوْتَ عَلِيٍّ، وَمَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُصِيبَةِ بِمَوْتِهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ بَغْدَاذَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ وَالْمَوَالِي يُعْلِمُهُمْ مَوْتَهُ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا نَقَمُوا بِبَيْعَتِهِ، (وَقَدْ مَاتَ) ، وَيَسْأَلُهُمُ الدُّخُولَ فِي طَاعَتِهِ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِ أَغْلَظَ جَوَابٍ. (وَكَانَ مَوْلِدُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ) . ذِكْرُ قَبْضِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ عَلَى عِيسَى بْنِ مُحَمَّدٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي آخِرِ شَوَّالٍ، حَبَسَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ عِيسَى بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عِيسَى كَانَ يُكَاتِبُ حُمَيْدًا وَالْحُسْنَ بْنَ سَهْلٍ، وَكَانَ يُظْهِرُ لِإِبْرَاهِيمَ الطَّاعَةَ، وَكَانَ كُلَّمَا قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ لِيَخْرُجَ إِلَى قِتَالِ أَحْمَدَ يَعْتَذِرُ بِأَنَّ الْجُنْدَ يُرِيدُونَ أَرْزَاقَهُمْ، وَمَرَّةً يَقُولُ: حَتَّى تُدْرَكَ الْغَلَّةُ. فَلَمَّا تَوَثَّقَ عِيسَى بِمَا يُرِيدُ، فَارَقَهُمْ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ

إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ يَوْمَ الْجُمْعَةِ سَلْخَ شَوَّالٍ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِبْرَاهِيمَ، أَبْلَغَهُ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخُو عِيسَى، وَجَاءَ عِيسَى إِلَى بَابِ الْجِسْرِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: إِنِّي قَدْ سَأَلْتُ حُمَيْدًا أَلَّا يَدْخُلَ عَمَلِي، (وَلَا أَدْخُلَ عَمَلَهُ) ، ثُمَّ أَمَرَ بِحَفْرِ خَنْدَقٍ بِبَابِ الْجِسْرِ وَبَابِ الشَّامِ. وَبَلَغَ إِبْرَاهِيمَ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ، وَكَانَ عِيسَى قَدْ سَأَلَهُ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ عِيسَى بِمَا تَكَلَّمَ حَذِرَ إِبْرَاهِيمُ، وَأَرْسَلَ إِلَى عِيسَى يَسْتَدْعِيهِ، فَاعْتَلَّ عَلَيْهِ، فَتَابَعَ الرُّسُلَ بِذَلِكَ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ بِالرُّصَافَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عَاتَبَهُ سَاعَةً، وَعِيسَى يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ وَيُنْكِرُ بَعْضَهُ، فَأَمَرَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ فَضُرِبَ وَحُبِسَ، وَأَخَذَ عِدَّةً مِنْ قُوَّادِهِ وَأَهْلِهِ، فَحَبَسَهُمْ وَنَجَا بَعْضُهُمْ، وَفِيمَنْ نَجَا خَلِيفَتُهُ الْعَبَّاسُ. وَمَشَى بَعْضُ أَهْلِهِ إِلَى بَعْضٍ، وَحَرَّضُوا النَّاسَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ أَشَدَّهُمُ الْعَبَّاسُ خَلِيفَةُ عِيسَى، وَكَانَ هُوَ رَأْسُهُمْ، فَاجْتَمَعُوا وَطَرَدُوا عَامِلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الْجِسْرِ وَالْكَرْخِ وَغَيْرِهِ، وَظَهَرَ الْفُسَّاقُ وَالشُّطَّارُ، وَكَتَبَ الْعَبَّاسُ إِلَى حُمَيْدٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِ بَغْدَاذَ. ذِكْرُ خَلْعِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ أَهْلُ بَغْدَاذَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْضِهِ عَلَى عِيسَى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَلَمَّا كَاتَبَ أَصْحَابُهُ وَمِنْهُمُ الْعَبَّاسُ - حُمَيْدًا بِالْقُدُومِ عَلَيْهِمْ، سَارَ حَتَّى أَتَى نَهْرَ صَرْصَرٍ فَنَزَلَ عِنْدَهُ. وَخَرَجَ إِلَيْهِ الْعَبَّاسُ وَقُوَّادُ أَهْلِ بَغْدَاذَ، فَلَقُوهُ، وَكَانُوا قَدْ شَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ جُنْدِيٍّ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَصْنَعَ لَهُمُ الْعَطَاءَ يَوْمَ السَّبْتِ (فِي الْيَاسِرِيَّةِ) عَلَى أَنْ يَدْعُوَ لِلْمَأْمُونِ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ الْجُمْعَةَ، وَيَخْلَعُوا إِبْرَاهِيمَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ.

وَلَمَّا بَلَغَ إِبْرَاهِيمَ الْخَبَرُ أَخْرَجَ عِيسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنْ إِخْوَتِهِ مِنَ الْحَبْسِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَيَكْفِيَهُ أَمْرَ هَذَا الْجَانِبِ، فَأَبَى عَلَيْهِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَحْضَرَ الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي رَجَاءٍ الْفَقِيهَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، وَدَعَا لِلْمَأْمُونِ بِالْخِلَافَةِ، وَجَاءَ حُمَيْدٌ إِلَى الْيَاسِرِيَّةِ، فَعَرَضَ جُنْدَ بَغْدَاذَ، وَأَعْطَاهُمُ الْخَمْسِينَ الَّتِي وَعَدَهُمْ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُنْقِصَهُمْ عَشَرَةً عَشَرَةً لِمَا تَشَاءَمُوا بِهِ مِنْ عَلِيِّ بْنِ هِشَامٍ حِينَ أَعْطَاهُمُ الْخَمْسِينَ وَقَطَعَ الْعَطَاءَ عَنْهُمْ، فَقَالَ حُمَيْدٌ: بَلْ أَزِيدُكُمْ عَشَرَةً، وَأُعْطِيكُمْ سِتِّينَ دِرْهَمًا لِكُلِّ رَجُلٍ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمَ دَعَا عِيسَى وَسَأَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَ حُمَيْدًا، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَأَخَذَ مِنْهُ كُفَلَاءَ، وَكَلَّمَ عِيسَى الْجُنْدَ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِثْلَ مَا أَعْطَاهُمْ حُمَيْدٌ، فَأَبَوْا ذَلِكَ، فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ عِيسَى وَقُوَّادُ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَوَعَدَ أُولَئِكَ الْجُنْدَ أَنْ يَزِيدَهُمْ عَلَى السِتِّينَ، فَشَتَمُوهُ وَأَصْحَابَهُ، وَقَالُوا: لَا نُرِيدُ إِبْرَاهِيمَ. فَقَاتَلَهُمْ سَاعَةً، ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي وَسَطِهِمْ، حَتَّى أَخَذُوهُ شِبْهَ الْأَسِيرِ، فَأَخَذَهُ بَعْضُ قُوَّادِهِ، فَأَتَى بِهِ مَنْزِلَهُ، وَرَجَعَ الْبَاقُونَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ. وَكَانَ الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ قَدِ اخْتَفَى مِنْ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا قَدِمَ حُمَيْدٌ أَرَادَ الْعُبُورَ إِلَيْهِ، فَعَلِمُوا بِهِ فَأَخَذُوهُ، وَأَحْضَرُوهُ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ، فَحَبَسَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ لِلَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. ذِكْرُ اخْتِفَاءِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اخْتَفَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ حُمَيْدًا تَحَوَّلَ فَنَزَلَ عِنْدَ أَرْحَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ، فَلَمَّا رَأَى أَصْحَابُ إِبْرَاهِيمَ وَقُوَّادُهُ ذَلِكَ تَسَلَّلُوا إِلَيْهِ، فَصَارَ عَامَّتُهُمْ عِنْدَهُ، وَأَخَذُوا لَهُ الْمَدَائِنَ. فَلَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ فِعْلَهُمْ أَخْرَجَ جَمِيعَ مَنْ بَقِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُقَاتِلُوا، فَالْتَقَوْا عَلَى جِسْرِ نَهْرِ دَيَالَى، فَاقْتَتَلُوا، فَهَزَمَهُمْ حُمَيْدٌ، وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُهُ، حَتَّى دَخَلُوا بَغْدَاذَ، وَذَلِكَ سَلْخَ ذِي الْقِعْدَةِ. فَلَمَّا كَانَ الْأَضْحَى اخْتَفَى الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى حُمَيْدٍ، وَجَعَلَ

الْهَاشِمِيُّونَ وَالْقَوَّادُ يَأْتُونَ حُمَيْدًا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ سُقِطَ فِي يَدَيْهِ، وَشَقَّ عَلَيْهِ، وَكَاتَبَ الْمُطَّلِبُ حُمَيْدًا لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْجَانِبَ، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ السَّاجُورِ، وَأَبُو الْبَطِّ وَغَيْرُهُمَا، يُكَاتِبُونَ عَلِيَّ بْنَ هِشَامٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا لَهُ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ بِأَمْرِهِمْ، وَمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ كُلُّ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، جَعَلَ يُدَارِيهِمْ، فَلَمَّا جَنَّهُ اللَّيْلُ اخْتَفَى لَيْلَةَ الْأَرْبَعَاءِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَبَعَثَ الْمُطَّلِبُ إِلَى حُمَيْدٍ يُعْلِمُهُ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَقَ بِدَارِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَتَبَ ابْنُ السَّاجُورِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ هِشَامٍ، فَرَكِبَ حُمَيْدٌ مِنْ سَاعَتِهِ مِنْ أَرْحَاءِ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَتَى بَابَ الْجِسْرِ، وَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ هِشَامٍ حَتَّى نَزَلَ نَهْرَ بَيْنَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى مَسْجِدِ كَوْثَرٍ، وَأَقْبَلَ حُمَيْدٌ إِلَى دَارِ إِبْرَاهِيمَ، فَطَلَبُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ فِيهَا، فَلَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ مُتَوَارِيًا حَتَّى جَاءَ الْمَأْمُونُ، وَبَعْدَ مَا قَدِمَ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ. وَكَانَتْ أَيَّامُ إِبْرَاهِيمَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ بَعْدَهُ عَلِيُّ بْنُ هِشَامٍ عَلَى شَرْقِيِّ بَغْدَاذَ، وَحُمَيْدٌ عَلَى غَرْبِيِّهَا. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ أَطْلَقَ سَهْلَ بْنَ سَلَامَةَ مِنَ الْحَبْسِ، وَكَانَ النَّاسُ يَظُنُّونَهُ قَدْ قُتِلَ، فَكَانَ يَدْعُو فِي مَسْجِدِ الرُّصَافَةِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ يُرَدُّ إِلَى حَبْسِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَطْلَقَهُ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ لِلَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَذَهَبَ، فَاخْتَفَى، ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَ هَرَبِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَرَّبَهُ حُمَيْدٌ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَرَدَّهُ إِلَى أَهْلِهِ، فَلَمَّا جَاءَ الْمَأْمُونُ أَجَازَهُ وَوَصَلَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، حَتَّى ذَهَبَ ضَوْءُهَا، غَابَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلْثَيْهَا. وَوَصَلَ الْمَأْمُونُ إِلَى هَمَذَانَ فِي آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ. وَكَانَتْ بِخُرَاسَانَ زَلَازِلُ عَظِيمَةٌ، وَدَامَتْ مِقْدَارَ سَبْعِينَ يَوْمًا، وَكَانَ مُعْظَمُهَا بِبَلْخَ، وَالْجُوزْجَانِ، وَالْفَارِيَابِ، وَالطَّالِقَانِ، وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَخَرِبَتِ الْبِلَادُ، وَتَهَدَّمَتِ الدُّورُ، وَهَلَكَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَفِيهَا غَلَبَتِ السَّوْدَاءُ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، فَتَغَيَّرَ عَقْلُهُ حَتَّى شُدَّ فِي الْحَدِيدِ وَحُبِسَ، وَكَتَبَ الْقُوَّادُ إِلَى الْمَأْمُونِ بِذَلِكَ، فَجَعَلَ عَلَى عَسْكَرِهِ دِينَارَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يُعَرِّفُهُمْ أَنَّهُ وَاصِلٌ. (وَفِيهَا ظَهَرَ بِالْأَنْدَلُسِ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِالْوَلَدِ، وَخَالَفَ عَلَى صَاحِبِهَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَحَصَرُوهُ بِمَدِينَةِ بَاجَةَ، وَكَانَ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا، فَضَيَّقُوا عَلَيْهِ، فَمَلَكُوهَا وَقُيِّدَ. وَفِيهَا وَلِيَ أَسَدُ بْنُ الْفُرَاتِ الْفَقِيهُ الْقَضَاءَ بِالْقَيْرَوَانِ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الصَّادِقُ بِجُرْجَانَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْمَأْمُونُ، وَهُوَ الَّذِي بَايَعَهُ النَّاسُ بِالْخِلَافَةِ بِالْحِجَازِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ التَّمِيمِيُّ فِي شَعْبَانَ، وَهُوَ مِنَ الْقُوَّادِ الْمَشْهُورِينَ، وَقَدْ

تَقَدَّمَ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا يُعْرَفُ بِهِ مَحَلُّهُ. وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ. وَأَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ الْعَبْدِيُّ الْفَقِيهُ بِالْكُوفَةِ. وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ اللُّغَوِيُّ الْمُحَدِّثُ وَكَانَ ثِقَةً.

ثم دخلت سنة أربع ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ] 204 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ قُدُومِ الْمَأْمُونِ بَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ الْمَأْمُونُ بَغْدَاذَ، وَانْقَطَعَتِ الْفِتَنُ، وَكَانَ قَدْ أَقَامَ بِجُرْجَانَ شَهْرًا، وَجَعَلَ يُقِيمُ بِالْمَنْزِلِ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، وَأَقَامَ بِالنَّهْرَوَانِ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُ بَيْتِهِ وَالْقُوَّادُ، وَوُجُوهُ النَّاسِ، وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَى طَاهِرٍ وَهُوَ بِالرَّقَّةِ لِيُوَافِيَهُ بِالنَّهْرَوَانِ، فَأَتَاهُ بِهَا، وَدَخَلَ بَغْدَاذَ مُنْتَصَفَ صَفَرٍ، وَلِبَاسُهُ وَلِبَاسُ أَصْحَابِهِ الْخُضْرَةُ، فَلَمَّا قَدِمَ بَغْدَاذَ نَزَلَ الرُّصَافَةَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ وَنَزَلَ قَصْرَهُ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، وَأَمَرَ الْقُوَّادَ أَنْ يُقِيمُوا فِي مُعَسْكَرِهِمْ. وَكَانَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ فِي الثِّيَابِ الْخُضْرِ، وَكَانُوا يُخَرِّقُونَ كُلَّ مَلْبُوسٍ يَرَوْنَهُ مِنَ السَّوَادِ عَلَى إِنْسَانٍ، فَمَكَثُوا بِذَلِكَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، فَتَكَلَّمَ بَنُو الْعَبَّاسِ وَقُوَّادُ أَهْلِ خُرَاسَانَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ أَنْ يَسْأَلَهُ حَوَائِجَهُ، فَكَانَ أَوَّلَ حَاجَةٍ سَأَلَهُ أَنْ يَلْبَسَ السَّوَادَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَجَلَسَ لِلنَّاسِ، وَأَحْضَرَ سَوَادًا فَلَبِسَهُ، وَدَعَا بِخُلْعَةٍ سَوْدَاءَ فَأَلْبَسَهَا طَاهِرًا، وَخَلَعَ عَلَى قُوَّادِهِ بِالسَّوَادِ، فَعَادَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ. وَلَمَّا كَانَ سَائِرًا قَالَ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْوَلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَّرْتَ فِي هُجُومِنَا عَلَى أَهْلِ بَغْدَاذَ وَلَيْسَ مَعَنَا إِلَّا خَمْسُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، مَعَ فِتْنَةٍ غَلَبَتْ قُلُوبَ النَّاسِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُنَا إِذَا هَاجَ هَائِجٌ، أَوْ تَحَرَّكَ مُتَحَرِّكٌ؟ فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ صَدَقْتَ،

وَلَكِنْ أُخْبِرُكَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى طَبَقَاتٍ ثَلَاثٍ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ: ظَالِمٌ، وَمَظْلُومٌ، (وَلَا ظَالِمٌ وَلَا مَظْلُومٌ، فَأَمَّا الظَّالِمُ) فَلَا يَتَوَقَّعُ (إِلَّا عَفْوَنَا، وَأَمَّا الْمَظْلُومُ فَلَا يَتَوَقَّعُ إِلَّا) أَنْ يَنْتَصِفَ بِنَا، وَأَمَّا الَّذِي لَيْسَ بِظَالِمٍ وَلَا مَظْلُومٍ فَبَيْتُهُ يَسَعُهُ، وَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا أَمَرَ الْمَأْمُونُ بِمُقَاسَمَةِ أَهْلِ السَّوَادِ عَلَى الْخَمْسِينَ، وَكَانُوا يُقَاسِمُونَ عَلَى النِّصْفِ، وَاتَّخَذَ الْقَفِيزَ الْمُلْحَمَ - وَهُوَ عَشَرَةُ مَكَاكِيكَ بِالْمَكُّوكِ الْهَارُونِيِّ - كَيْلًا مُرْسَلًا. وَفِيهَا وَاقَعَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ بَابَكَ، فَلَمْ يَظْفَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ. وَوَلَّى الْمَأْمُونُ أَبَا عِيسَى أَخَاهُ الْكُوفَةَ، وَصَالِحًا أَخَاهُ الْبَصْرَةَ، وَاسْتَعْمَلَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ (بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ [عَلَى] الْحَرَمَيْنِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عُبَيْدُ اللَّهِ) [بْنُ الْحَسَنِ] . وَفِيهَا انْحَدَرَ السَّيِّدُ بْنُ أَنَسٍ الْأَزْدِيُّ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَى الْمَأْمُونِ، فَتَظَلَّمَ مِنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَتَلَ إِخْوَتَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، فَأَحْضَرَهُ الْمَأْمُونُ، فَلَمَّا

حَضَرَ قَالَ: أَنْتَ السَّيِّدُ؟ قَالَ: أَنْتَ السَّيِّدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَا ابْنُ أَنَسٍ. فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَنْتَ قَتَلْتَ إِخْوَةَ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُمْ لَقَتَلْتُهُ لِأَنَّهُمْ أَدْخَلُوا الْخَارِجِيَّ بَلَدَكَ، وَأَعْلَوْهُ عَلَى مِنْبَرِكَ، وَأَبْطَلُوا دَعْوَتَكَ. فَعَفَا عَنْهُ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَوْصِلِ، وَكَانَ عَلَى الْقَضَاءِ بِهَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ أَدَرِيسَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ. وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ الْفَقِيهُ، أَحَدُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ "، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ. وَهِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّائِبُ الْكَلْبِيُّ النَّسَّابَةُ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، الْمَعْرُوفُ بِالطَّنَافِسِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَتَيْنِ.

ثم دخلت سنة خمس ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَمِائَتَيْنِ] 205 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ وِلَايَةِ طَاهِرٍ خُرَاسَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ الْمَأْمُونُ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ عَلَى الْمَشْرِقِ، مِنْ مَدِينَةِ السَّلَامِ إِلَى أَقْصَى عَمَلِ الْمَشْرِقِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَتَوَلَّى الشُّرَطَ بِجَانِبَيْ بَغْدَاذَ وَمَعَاوِنِ السَّوَادِ. وَكَانَ سَبَبَ وِلَايَتِهِ خُرَاسَانَ أَنَّ طَاهِرًا دَخَلَ عَلَى الْمَأْمُونِ وَهُوَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ، وَحُسَيْنٌ الْخَادِمُ يَسْقِيهِ، فَلَمَّا دَخَلَ طَاهِرٌ سَقَاهُ رِطْلَيْنِ، وَأَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ، فَقَالَ: لَيْسَ لِصَاحِبِ الشُّرْطَةِ أَنْ يَجْلِسَ عِنْدَ سَيِّدِهِ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْعَامَّةِ، وَأَمَّا فِي مَجْلِسِ الْخَاصَّةِ فَلَهُ ذَلِكَ. فَبَكَى الْمَأْمُونُ وَتَغَرْغَرَتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ، فَقَالَ طَاهِرٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لِمَ تَبْكِي - لَا أَبْكَى اللَّهُ عَيْنَكَ -؟ وَاللَّهِ لَقَدْ دَانَتْ لَكَ الْبِلَادُ، وَأَذْعَنَ لَكَ الْعِبَادُ، وَصِرْتَ إِلَى الْمَحَبَّةِ فِي كُلِّ أَمْرِكَ! قَالَ: أَبْكِي لِأَمْرٍ ذِكْرُهُ ذُلٌّ، وَسَتْرُهُ حُزْنٌ، وَلَنْ يَخْلُوَ أَحَدٌ مِنْ شَجَنٍ. وَانْصَرَفَ طَاهِرٌ، فَدَعَا هَارُونَ بْنَ جَيْعُونَةَ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ يَتَعَصَّبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَخُذْ مَعَكَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطِ حُسَيْنًا الْخَادِمَ مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَكَاتِبَهُ مُحَمَّدَ بْنَ هَارُونَ مِائَةَ أَلْفٍ، وَسَلْهُ أَنْ يَسْأَلَ الْمَأْمُونَ لِمَ بَكَى؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا تَغَدَّى الْمَأْمُونُ قَالَ: اسْقِنِي يَا حُسَيْنُ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، حَتَّى تَقُولَ لِي لِمَ بَكَيْتَ حِينَ دَخَلَ عَلَيْكَ طَاهِرٌ. قَالَ: وَكَيْفَ عُنِيتَ بِهَذَا الْأَمْرِ، حَتَّى سَأَلْتَنِي عَنْهُ؟

قَالَ: لَغِّمِي لِذَلِكَ. قَالَ: هُوَ أَمْرٌ إِنْ خَرَجَ مِنْ رَأْسِكَ قَتَلْتُكَ. قَالَ: يَا سَيِّدِي وَمَتَى أَخْرَجْتُ لَكَ سِرًّا؟ قَالَ: إِنِّي ذَكَرْتُ مُحَمَّدًا أَخِي، وَمَا نَالَهُ مِنَ الذُّلِّ، فَخَنَقَتْنِي الْعَبْرَةُ، فَاسْتَرَحْتُ إِلَى الْإِفَاضَةِ، وَلَنْ يَفُوتَ طَاهِرًا مِنِّي مَا يَكْرَهُ. فَأَخْبَرَ حُسَيْنٌ طَاهِرًا بِذَلِكَ، فَرَكِبَ طَاهِرٌ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الثَّنَاءَ مِنِّي لَيْسَ بِرَخِيصٍ، وَإِنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدِي لَيْسَ بِضَائِعٍ، فَغَيِّبْنِي عَنْ عَيْنِهِ! فَقَالَ لَهُ: سَأَفْعَلُ ذَلِكَ. وَرَكِبَ أَحْمَدُ إِلَى الْمَأْمُونِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: مَا نِمْتُ الْبَارِحَةَ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ وَلَّيْتَ غَسَّانَ خُرَاسَانَ، وَهُوَ وَمَنْ مَعَهُ أَكْلَةُ رَأْسٍ، وَأَخَافُ أَنْ تَخْرُجَ عَلَيْهِ خَارِجَةٌ مِنَ التُّرْكِ فَتُهْلِكَهُ. فَقَالَ: لَقَدْ فَكَّرْتُ فِيمَا فَكَّرْتَ فِيهِ، فَمَنْ تَرَى؟ قَالَ: طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ. قَالَ: وَيْلَكَ! هُوَ وَاللَّهِ خَالِعٌ. قَالَ: أَنَا الضَّامِنُ لَهُ. قَالَ: فَوَلِّهِ. فَدَعَا طَاهِرًا مِنْ سَاعَتِهِ، فَعَقَدَ لَهُ، فَشَخَصَ فِي يَوْمِهِ، فَنَزَلَ ظَاهِرَ الْبَلَدِ، فَأَقَامَ شَهْرًا، فَحُمِلَ إِلَيْهِ عَشَرَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ الَّتِي تُحْمَلُ لِصَاحِبِ خُرَاسَانَ، وَسَارَ عَنْ بَغْدَاذَ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ. وَقِيلَ كَانَ سَبَبَ وِلَايَتِهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْمَطَّوِّعِيَّ جَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً بِنَيْسَابُورَ لِيُقَاتِلَ بِهِمُ الْحَرُورِيَّةَ بِغَيْرِ أَمْرِ وَالِي خُرَاسَانَ، فَتَخَوَّفُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَصْلٍ عَمِلَ عَلَيْهِ، وَكَانَ غَسَّانُ بْنُ عَبَّادٍ يَتَوَلَّى خُرَاسَانَ مِنْ قِبَلِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ، فَلَمَّا اسْتُعْمِلَ طَاهِرٌ عَلَى خُرَاسَانَ كَانَ صَارِمًا لِلْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَسَنَ نَدَبَهُ

لِمُحَارَبَةِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ. قَالَ: حَارَبْتُ خَلِيفَةً، وَسُقْتُ الْخِلَافَةَ إِلَى خَلِيفَةٍ، وَأُومَرُ بِمِثْلِ هَذَا؟ إِنَّمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ قَائِدٌ مِنْ قُوَّادِي. وَصَارِمٌ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ بَغْدَاذَ مِنَ الرَّقَّةِ، وَكَانَ أَبُوهُ اسْتَخْلَفَهُ بِهَا، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ، فَلَمَّا قَدِمَ إِلَى بَغْدَاذَ جَعَلَهُ الْمَأْمُونُ عَلَى الشُّرْطَةِ بَعْدَ مَسِيرِ أَبِيهِ، وَوَلَّى الْمَأْمُونُ يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ الْجَزِيرَةَ، وَوَلَّى عِيسَى بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ وَمُحَارَبَةَ بَابَكَ. وَفِيهَا مَاتَ السَّرِيُّ بْنُ الْحَكَمِ بِمِصْرَ، وَكَانَ وَالِيَهَا. وَفِيهَا مَاتَ دَاوُدُ بْنُ يَزِيدَ عَامِلُ السِّنْدِ، فَوَلَّاهَا الْمَأْمُونُ بَشِيرَ بْنَ دَاوُدَ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلَّ سَنَةٍ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَفِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ عِيسَى بْنَ يَزِيدَ الْجُلُودِيَّ مُحَارَبَةَ الزُّطِّ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ أَمِيرُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَفِيهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً، فَتَهَدَّمَتِ الْمَنَازِلُ بِبَغْدَاذَ، وَكَثُرَ الْخَرَابُ بِهَا.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ الْوَاسِطِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ. وَالْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرُ الْفَقِيهُ. وَشَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ الْفَزَارِيُّ الْفَقِيهُ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ الصَّائِغِيُّ. وَمُحَاضِرُ بْنُ الْمُوَرِّعِ. وَأَبُو يَحْيَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الزَّيَّاتُ الْمَوْصِلِيُّ، سَمِعَ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ وَغَيْرَهُ.

ثم دخلت سنة ست ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ] 206 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ وِلَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ الرَّقَّةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى الْمَأْمُونُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ مِنَ الرَّقَّةِ إِلَى مِصْرَ، وَأَمَرَهُ بِحَرْبِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ الَّذِي كَانَ الْمَأْمُونُ وَلَّاهُ الْجَزِيرَةَ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ أَحْمَدَ، فَاسْتَعْمَلَ الْمَأْمُونُ عَبْدَ اللَّهِ مَكَانَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ تَوْلِيَتَهُ أَحْضَرَهُ وَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَسْتَخِيرُ اللَّهَ - تَعَالَى - مُنْذُ شَهْرٍ وَأَكْثَرَ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ خَارَ لِي، وَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَصِفُ ابْنَهُ [لِيُطْرِيَهُ] لِرَأْيِهِ فِيهِ، وَرَأَيْتُكَ فَوْقَ مَا قَالَ أَبُوكَ فِيكَ، وَقَدْ مَاتَ يَحْيَى، وَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَدْ رَأَيْتُ تَوْلِيَتَكَ مِصْرَ، وَمُحَارَبَةَ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ. فَقَالَ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، وَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْخَيْرَةَ وَلِلْمُسْلِمِينَ. فَعَقَدَ لَهُ. وَقِيلَ: كَانَتْ وِلَايَتُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَتَيْنِ، (وَقِيلَ: سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ) . وَلَمَّا سَارَ اسْتَخْلَفَ عَلَى الشُّرْطَةِ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ. وَلَمَّا اسْتَعْمَلَهُ الْمَأْمُونُ كَتَبَ إِلَيْهِ أَبُوهُ طَاهِرٌ كِتَابًا جَمَعَ فِيهِ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَرَاءُ مِنَ الْآدَابِ وَالسِّيَاسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ أَثْبَتُّ مِنْهُ أَحْسَنَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْآدَابِ وَالْحَثِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ مَلِكٍ وَسُوقَةٍ، وَهُوَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ، فَعَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَخَشْيَتِهِ، وَمُرَاقَبَتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -

وَمُزَايَلَةِ سُخْطِهِ، وَحِفْظِ رَعِيَّتِكَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْزَمْ مَا أَلْبَسَكَ مِنَ الْعَافِيَةِ بِالذِّكْرِ لِمَعَادِكَ، وَمَا أَنْتَ صَائِرٌ إِلَيْهِ، وَمَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَمَسْئُولٌ عَنْهُ، وَالْعَمَلِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا يَعْصِمُكَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيُنَجِّيكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِقَابِهِ، وَأَلِيمِ عَذَابِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ، وَأَوْجَبَ عَلَيْكَ الرَّأْفَةَ بِمَنِ اسْتَرْعَاكَ أَمْرَهُمْ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَلْزَمَكَ الْعَدْلَ عَلَيْهِمْ، وَالْقِيَامَ بِحَقِّهِ وَحُدُودِهِ فِيهِمْ، وَالذَّبَّ عَنْهُمْ، وَالدَّفْعَ عَنْ حَرِيمِهِمْ وَبَيْضَتِهِمْ، وَالْحَقْنَ لِدِمَائِهِمْ، وَالْأَمْنَ لِسَبِيلِهِمْ، وَإِدْخَالَ الرَّاحَةِ عَلَيْهِمْ، وَمُؤَاخِذُكَ بِمَا فَرَضَ عَلَيْكَ، وَمُوقِفُكَ عَلَيْهِ، وَمَسَائِلُكَ عَنْهُ، وَمُثِيبُكَ عَلَيْهِ بِمَا قَدَّمْتَ وَأَخَّرْتَ، فَفَرِّغْ لِذَلِكَ فَهْمَكَ، وَعَقْلَكَ، وَنَظَرَكَ، وَلَا يَشْغَلْكَ عَنْهُ شَاغِلٌ، وَإِنَّهُ رَأْسُ أَمْرِكَ، وَمِلَاكُ شَأْنِكَ، وَأَوَّلُ مَا يُوَفِّقُكَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِهِ لَرُشْدُكَ. وَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تُلْزِمُ نَفْسَكَ، وَتَنْسِبُ إِلَيْهِ أَفْعَالَكَ - الْمُوَاظَبَةُ عَلَى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَيْكَ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَالْجَمَاعَةُ عَلَيْهَا بِالنَّاسِ، فَأْتِ بِهَا فِي مَوَاقِيتِهَا عَلَى سُنَنِهَا، وَفِي إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ لَهَا، وَافْتِتَاحِ ذِكْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -[فِيهَا] ، وَتَرَتَّلْ فِي قِرَاءَتِكَ، وَتَمَكَّنْ فِي رُكُوعِكَ وَسُجُودِكَ وَتَشَهُّدِكَ، وَلْيَصْدُقْ فِيهِ رَأْيُكَ وَنِيَّتُكَ، وَاحْضُضْ عَلَيْهَا جَمَاعَةَ مَنْ مَعَكَ، وَتَحْتَ يَدِكَ، وَادْأَبْ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] . ثُمَّ أَتْبِعْ ذَلِكَ بِالْأَخْذِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُثَابَرَةِ عَلَى خِلَافَتِهِ، وَاقْتِفَاءِ آثَارِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ أَمْرٌ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِاسْتِخَارَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَتَقْوَاهُ، وَلُزُومِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابِهِ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَإِتْمَامِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قُمْ فِيهِ بِمَا يَحِقُّ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -

عَلَيْكَ، وَلَا تَمَلَّ مِنَ الْعَدْلِ فِيمَا أَحْبَبْتَ أَوْ كَرِهْتَ لِقَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ بِعِيدٍ. وَآثِرِ الْفِقْهَ وَأَهْلَهُ وَالدِّينَ وَحَمَلَتَهُ، وَكِتَابَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالْعَامِلِينَ بِهِ، فَإِنَّ أَفْضَلَ مَا تَزَيَّنَ بِهِ الْمَرْءُ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ، وَالطَّلَبُ لَهُ، وَالْحَثُّ عَلَيْهِ، وَالْمَعْرِفَةُ بِمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَإِنَّهُ الدَّلِيلُ عَلَى الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَالْقَائِدُ لَهُ، وَالْآمِرُ بِهِ، وَالنَّاهِي عَنِ الْمَعَاصِي وَالْمُوبِقَاتِ كُلِّهَا، وَمَعَ تَوْفِيقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - يَزْدَادُ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَإِجْلَالًا لَهُ، ذِكْرًا لِلدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الْمَعَادِ مَعَ مَا فِي ظُهُورِهِ لِلنَّاسِ مِنَ التَّوْقِيرِ لِأَمْرِكَ، وَالْهَيْبَةِ لِسُلْطَانِكَ، وَالْأَنَسَةِ بِكَ، وَالثِّقَةِ بِعَدْلِكَ. وَعَلَيْكَ بِالِاقْتِصَادِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَبْيَنَ نَفْعًا، وَلَا أَخَصَّ أَمْنًا، وَلَا أَجْمَعَ فَضْلًا مِنْهُ، وَالْقَصْدُ دَاعِيَةٌ إِلَى الرُّشْدِ، وَالرُّشْدُ دَلِيلٌ عَلَى التَّوْفِيقِ، وَالتَّوْفِيقُ قَائِدٌ إِلَى السَّعَادَةِ، وَقِوَامُ الدِّينِ وَالسُّنَنِ الْهَادِيَةُ بِالِاقْتِصَادِ، وَآثِرْهُ فِي دُنْيَاكَ كُلِّهَا، وَلَا تُقَصِّرْ فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ، وَالْأَجْرِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالسُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ، وَمَعَالِمِ الرُّشْدِ، وَلَا غَايَةَ لِلِاسْتِكْثَارِ فِي الْبِرِّ وَالسَّعْيِ لَهُ إِذَا كَانَ يُطْلَبُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَمَرْضَاتُهُ وَمُرَافَقَةُ أَوْلِيَائِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَصْدَ فِي شَأْنِ الدُّنْيَا يُورِثُ الْعِزَّ، وَيُحَصِّنُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَأَنَّهُ لَنْ تَحُوطَ لِنَفْسِكَ وَمَنْ يَلِيكَ وَلَا تَسْتَصْلِحُ أُمُورَكَ بِأَفْضَلَ مِنْهُ، فَأْتِهِ وَاهْتَدِ بِهِ تَتِمَّ أُمُورُكَ، وَتَزِدْ مَقْدِرَتُكَ، وَتَصْلُحْ خَاصَّتُكَ وَعَامَّتُكَ. وَأَحْسِنِ الظَّنَّ بِاللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - تَسْتَقِمْ لَكَ رَعِيَّتُكَ، وَالْتَمِسِ الْوَسِيلَةَ إِلَيْهِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا تَسْتَدِمْ بِهِ النِّعْمَةَ عَلَيْكَ. وَلَا تَتَّهِمَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فِيمَا تُوَلِّيهِ مِنْ عَمَلِكَ، قَبْلَ أَنْ تَكْشِفَ أَمْرَهُ، فَإِنَّ إِيقَاعَ التُّهَمِ بِالْبِرَاءِ وَالظُّنُونَ السَّيِّئَةَ بِهِمْ مَأْثَمٌ، فَاجْعَلْ مِنْ شَأْنِكَ حُسْنَ الظَّنِّ بِأَصْحَابِكَ، وَاطْرُدْ

عَنْكَ سُوءَ الظَّنِّ بِهِمْ، وَارْفُضْهُ فِيهِمْ يُعِنْكَ ذَلِكَ عَلَى اصْطِنَاعِهِمْ وَرِيَاضَتِهِمْ، وَلَا يَجِدَنَّ عَدُوُّ اللَّهِ الشَّيْطَانُ فِي أَمْرِكَ مَغْمَزًا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَكْتَفِي بِالْقَلِيلِ مِنْ وَهَنِكَ، وَيُدْخِلُ عَلَيْكَ مِنَ الْغَمِّ فِي سُوءِ الظَّنِّ مَا يُنَغِّصُكَ لَذَاذَةَ عَيْشِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّكَ تَجِدُ بِحُسْنِ الظَّنِّ قُوَّةً وَرَاحَةً، وَتَكْتَفِي بِهِ مَا أَحْبَبْتَ كِفَايَتَهُ مِنْ أُمُورِكَ، وَتَدْعُو بِهِ النَّاسَ إِلَى مَحَبَّتِكَ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا لَكَ، وَلَايَمْنَعَنَّكَ حُسْنُ الظَّنِّ بِأَصْحَابِكَ، وَالرَّأْفَةُ بِرَعِيَّتِكَ، أَنْ تَسْتَعْمِلَ الْمَسْأَلَةَ وَالْبَحْثَ عَنْ أُمُورِكَ، وَلْتَكُنِ الْمُبَاشَرَةُ لِأُمُورِ الْأَوْلِيَاءِ، وَالْحِيَاطَةُ لِلرَّعِيَّةِ، وَالنَّظَرُ فِيمَا يُقِيمُهَا وَيُصْلِحُهَا، وَالنَّظَرُ فِي حَوَائِجِهِمْ، وَحَمْلُ مَئُونَاتِهِمْ - آثَرُ عِنْدَكَ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَقْوَمُ لِلدِّينِ، وَأَحْيَا لِلسُّنَّةِ. وَأَخْلِصْ نِيَّتَكَ فِي جَمِيعِ هَذَا، وَتَفَرَّدْ بِتَقْوِيمِ نَفْسِكَ تَفَرُّدَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَسْئُولٌ عَمَّا صَنَعَ، وَمَجْزِيٌّ بِمَا أَحْسَنَ، وَمَأْخُوذٌ بِمَا أَسَاءَ، فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - جَعَلَ الدِّينَ حِرْزًا وَعِزًّا، وَرَفَعَ مَنِ اتَّبَعَهُ وَعَزَّزَهُ، فَاسْلُكْ بِمَنْ تَسُوسُهُ وَتَرْعَاهُ نَهْجَ الدِّينِ، وَطَرِيقَةَ الْهُدَى. وَأَقِمْ حُدُودَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي أَصْحَابِ الْجَرَائِمِ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ، وَمَا اسْتَحَقُّوهُ، وَلَا تُعَطِّلْ ذَلِكَ، وَلَا تَهَاوَنْ بِهِ، وَلَا تُؤَخِّرْ عُقُوبَةَ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ، فَإِنَّ فِي تَفْرِيطِكَ فِي ذَلِكَ مَا يُفْسِدُ عَلَيْكَ حُسْنَ ظَنِّكِ، وَاعْتَزِمْ عَلَى أَمْرِكَ فِي ذَلِكَ بِالسُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ، وَجَانِبِ الْبِدَعَ وَالشُّبَهَاتِ يَسْلَمْ لَكَ دِينُكَ، وَتَقُمْ لَكَ مُرُوءَتُكَ. وَإِذَا عَاهَدْتَ عَهْدًا فَفِ بِهِ، وَإِذَا وَعَدْتَ خَيْرًا فَأَنْجِزْهُ، وَاقْبَلِ الْحَسَنَةَ وَادْفَعْ بِهَا، وَأَغْمِضْ عَنْ عَيْبِ كُلِّ ذِي عَيْبٍ مِنْ رَعِيَّتِكَ، وَاشْدُدْ لِسَانَكَ عَنْ قَوْلِ الْكَذِبِ وَالزُّورِ، وَأَبْغِضْ أَهْلَهُ، وَأَقْصِ أَهْلَ النَّمِيمَةِ، فَإِنَّ أَوَّلَ فَسَادِ أُمُورِكَ، فِي عَاجِلِهَا وَآجِلِهَا - تَقْرِيبُ الْكَذُوبِ، وَالْجُرْأَةُ عَلَى الْكَذِبِ ; لِأَنَّ الْكَذِبَ رَأْسُ الْمَآثِمِ، وَالزُّورَ وَالنَّمِيمَةَ خَاتِمَتُهَا ; لِأَنَّ النَّمِيمَةَ لَا يَسْلَمُ صَاحِبُهَا وَقَائِلُهَا، وَلَا يَسْلَمُ لَهُ صَاحِبٌ، وَلَا يَسْتَتِمُّ لِمُعْطِيهَا أَمْرٌ. وَأَحِبَّ أَهْلَ الصَّلَاحِ وَالصِّدْقِ، وَأَعِنِ الْأَشْرَافَ بِالْحَقِّ، وَآسِ الضُّعَفَاءَ، وَصِلِ

الرَّحِمَ، وَابْتَغِ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِعْزَازِ أَمْرِهِ، وَالْتَمِسْ فِيهِ ثَوَابَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَاجْتَنِبْ سُوءَ الْأَهْوَاءِ وَالْجَوْرَ، وَاصْرِفْ عَنْهُمَا رَأْيَكَ، وَأَظْهِرْ بَرَاءَتَكَ مِنْ ذَلِكَ لِرَعِيَّتِكَ، وَأَنْعِمْ بِالْعَدْلِ سِيَاسَتَهُمْ، وَقُمْ بِالْحَقِّ فِيهِمْ وَبِالْمَعْرِفَةِ الَّتِي تَنْتَهِي بِكَ إِلَى سَبِيلِ الْهُدَى. وَامْلِكْ نَفْسَكَ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَآثِرِ الْوَقَارَ وَالْحِلْمَ، وَإِيَّاكَ وَالْحِدَّةَ وَالطِّيَرَةَ وَالْغُرُورَ فِيمَا أَنْتَ بِسَبِيلِهِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ: أَنَا مُسَلَّطٌ أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَرِيعٌ [فِيكَ] إِلَى نَقْصِ الرَّأْيِ وَقِلَّةِ الْيَقِينِ بِاللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. وَأَخْلِصْ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ - النِّيَّةَ فِيهِ، وَالْيَقِينَ بِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَلَنْ تَجِدَ تَغَيُّرَ النِّعْمَةِ وَحُلُولَ النِّقْمَةِ إِلَى أَحَدٍ أَسْرَعَ مِنْهُ إِلَى حَمَلَةِ النِّعْمَةِ مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ وَالْمَبْسُوطِ لَهُمْ فِي الدَّوْلَةِ، إِذَا كَفَرُوا نِعَمَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَإِحْسَانَهُ، وَاسْتَطَالُوا بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ فَضْلِهِ. وَدَعْ عَنْكَ نَفْسَكَ، وَلْتَكُنْ ذَخَائِرُكَ وَكُنُوزُكَ الَّتِي تُدَّخَرُ وَتُكْنَزُ - الْبِرَّ، وَالتَّقْوَى، وَالْمَعْدَلَةَ، وَاسْتِصْلَاحَ الرَّعِيَّةِ، وَعِمَارَةَ بِلَادِهِمْ، وَالتَّفَقُّدَ لِأُمُورِهِمْ، وَالْحِفْظَ لِدِمَائِهِمْ، وَالْإِغَاثَةَ لِمَلْهُوفِهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ إِذَا كُنِزَتْ وَذُخِرَتْ فِي الْخَزَائِنِ - لَا تَنْمُو، وَإِذَا كَانَتْ فِي صَلَاحِ الرَّعِيَّةِ، وَإِعْطَاءِ حُقُوقِهِمْ، وَكَفِّ مَئُونَةٍ عَنْهُمْ - سَمَتْ، وَزَكَتْ، وَنَمَتْ، وَصَلُحَتْ بِهِ الْعَامَّةُ، وَتَزَيَّنَتْ بِهِ الْوِلَايَةُ، وَطَابَ بِهِ الزَّمَانُ، وَاعْتُقِدَ فِيهِ الْعِزُّ وَالْمَنَعَةُ، فَلْيَكُنْ كَنْزُ خَزَائِنِكَ تَفْرِيقَ الْأَمْوَالِ فِي عِمَارَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَوَفِّرْ مِنْهُ عَلَى أَوْلِيَاءِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَتِلْكَ حُقُوقُهُمْ، وَأَوْفِ رَعِيَّتَكَ مِنْ ذَلِكَ حِصَصَهُمْ، وَتَعَهَّدْ مَا يُصْلِحُ أُمُورَهُمْ وَمَعَاشَهُمْ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَرَّتِ النِّعْمَةُ عَلَيْكَ، وَاسْتَوْجَبْتَ الْمَزِيدَ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَكُنْتَ بِذَلِكَ عَلَى جِبَايَةِ خَرَاجِكَ، وَجَمْعِ أَمْوَالِ رَعِيَّتِكَ، وَعَمَلِكَ - أَقْدَرَ، وَكَانَ الْجَمِيعُ لِمَا شَمَلَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ وَإِحْسَانِكَ أَسْلَسَ لِطَاعَتِكَ، وَأَطْيَبَ نَفْسًا بِكُلِّ مَا أَرَدْتَ، وَاجْهِدْ نَفْسَكَ فِيمَا حَدَّدْتُ لَكَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلْتَعْظُمْ حَسَنَتُكَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَبْقَى مِنَ الْمَالِ مَا أُنْفِقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاعْرِفْ لِلشَّاكِرِينَ شُكْرَهُمْ، وَأَثِبْهُمْ عَلَيْهِ. وَإِيَّاكَ أَنْ تُنْسِيَكَ الدُّنْيَا وَغُرُورُهَا هَوْلَ الْآخِرَةِ، فَتَتَهَاوَنُ بِمَا يَحِقُّ عَلَيْكَ، فَإِنَّ

التَّهَاوُنَ يُورِثُ التَّفْرِيطَ، وَالتَّفْرِيطُ يُورِثُ الْبَوَارَ، وَلْيَكُنْ عَمَلُكَ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَارْجُ الثَّوَابَ فِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَدْ أَسْبَغَ عَلَيْكَ نِعْمَتَهُ، وَأَسْبَغَ لَدَيْكَ فَضْلَهُ، وَاعْتَصِمْ بِالشُّكْرِ، وَعَلَيْهِ فَاعْتَمِدْ، يَزِدْكَ اللَّهُ خَيْرًا وَإِحْسَانًا، فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يُثَبِّتُ شُكْرَ الشَّاكِرِينَ وَسِيرَةَ الْمُحْسِنِينَ. وَلَا تَحْقِرَنَّ دَيْنًا، وَلَا تُمَالِئَنَّ حَاسِدًا، وَلَا تَرْحَمَنَّ فَاجِرًا، وَلَا تَصِلَنَّ كَفُورًا، وَلَا تُدَاهِنَنَّ عَدُوًّا، وَلَا تُصَدِّقَنَّ نَمَّامًا، وَلَا تَأْمَنَنَّ غَدَّارًا، وَلَا تُوَالِيَنَّ فَاسِقًا، وَلَا تَتْبَعَنَّ غَاوِيًا، وَلَا تَحْمَدَنَّ مُرَائِيًا، وَلَا تَحْقِرَنَّ إِنْسَانًا، وَلَا تَرُدَّنَّ سَائِلًا فَقِيرًا، وَلَا تُجِيبَنَّ بَاطِلًا، وَلَا تُلَاحِظَنَّ مُضْحِكًا، وَلَا تُخْلِفَنَّ وَعْدًا، وَلَا تَرْهَبَنَّ فَجْرًا، وَلَا تَرْكَبَنَّ سَفَهًا، وَلَا تُظْهِرَنَّ غَضَبًا، وَلَا تَمْشِيَنَّ مَرَحًا، وَلَا تُفَرِّطَنَّ فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَدْفَعِ الْأَيَّامَ عِتَابًا، وَلَا تُغْمِضَنَّ عَنْ ظَالِمٍ رَهْبَةً مِنْهُ، أَوْ مُحَابَاةً، وَلَا تَطْلُبَنَّ ثَوَابَ الْآخِرَةِ فِي الدُّنْيَا. وَأَكْثِرْ مُشَاوَرَةَ الْفُقَهَاءِ، وَاسْتَعْمِلْ نَفْسَكَ بِالْحِلْمِ، وَخُذْ عَنْ أَهْلِ التَّجَارُبِ وَذَوِي الْعَقْلِ، وَالرَّأْيِ، وَالْحِكْمَةِ، وَلَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ أَهْلَ الذِّمَّةِ وَالنِّحَلِ، وَلَا تَسْمَعَنَّ لَهُمْ قَوْلًا، فَإِنَّ ضَرَرَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِمْ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَسْرَعُ فَسَادًا لِمَا اسْتَقْبَلْتَ فِيهِ أَمْرَ رَعِيَّتِكَ مِنَ الشُّحِّ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا كُنْتَ حَرِيصًا كُنْتَ كَثِيرَ الْأَخْذِ، قَلِيلَ الْعَطِيَّةِ، وَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ لَمْ يَسْتَقِمْ لَكَ أَمْرُكَ إِلَّا قَلِيلًا، فَإِنَّ رَعِيَّتَكَ إِنَّمَا تَعْقِدُ عَلَى مَحَبَّتِكَ بِالْكَفِّ عَنْ أَمْوَالِهِمْ، وَتَرْكِ الْجَوْرِ عَلَيْهِمْ، وَيَدُومُ صَفَاءُ أَوْلِيَائِكَ بِالْإِفْضَالِ عَلَيْهِمْ، وَحُسْنِ الْعَطِيَّةِ لَهُمْ، وَاجْتَنِبِ الشُّحَّ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا عَصَى الْإِنْسَانُ بِهِ رَبَّهُ، وَأَنَّ الْعَاصِيَ بِمَنْزِلَةِ خِزْيٍ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] . وَاجْعَلْ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهُمْ مِنْ نِيَّتِكَ حَظًّا وَنِصِيبًا، وَأَيْقِنْ أَنَّ الْجُودَ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، فَاعْدُدْ لِنَفْسِكَ خُلُقًا، وَسَهِّلْ طَرِيقَ الْجُودِ بِالْحَقِّ، وَارْضَ بِهِ عَمَلًا وَمَذْهَبًا، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ الْجُنْدِ فِي دَوَاوِينِهِمْ، وَمَكَاتِبِهِمْ، وَادْرُرْ عَلَيْهِمْ أَرْزَاقَهُمْ، وَوَسِّعْ عَلَيْهِمْ فِي مَعَايِشِهِمْ -

يُذْهِبِ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِذَلِكَ فَاقَتَهُمْ، فَيَقْوَى لَكَ أَمْرُهُمْ، وَتَزِيدُ بِهِ قُلُوبُهُمْ فِي طَاعَتِكَ فِي أَمْرِكَ خُلُوصًا وَانْشِرَاحًا. وَحَسْبُ ذِي السُّلْطَانِ مِنَ السَّعَادَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى جُنْدِهِ وَرَعِيَّتِهِ رَحْمَةً فِي عَدْلِهِ، وَحِيطَتِهِ وَإِنْصَافِهِ، وَعِنَايَتِهِ وَشَفَقَتِهِ، وَبِرِّهِ وَتَوْسِيعِهِ، فَزَايِلْ مَكْرُوهَ إِحْدَى الْبَلِيَّتَيْنِ بِاسْتِشْعَارِ فَضِيلَةِ الْبَابِ الْآخَرِ، وَلُزُومِ الْعَمَلِ بِهِ - تَلْقَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - نَجَاحًا وَصَلَاحًا وَفَلَاحًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَضَاءَ [بِالْعَدْلِ] مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - بِالْمَكَانِ الَّذِي لَيْسَ [يُعْدَلُ] بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْأُمُورِ ; لِأَنَّهُ مِيزَانُ اللَّهِ الَّذِي يُعْدَلُ عَلَيْهِ أَحْوَالُ النَّاسِ فِي الْأَرْضِ، وَبِإِقَامَةِ الْعَدْلِ فِي الْقَضَاءِ، وَالْعَمَلِ - تَصْلُحُ أَحْوَالُ الرَّعِيَّةِ، وَتَأْمَنُ السُّبُلُ، وَيَنْتَصِفُ الْمَظْلُومُ، وَيَأْخُذُ النَّاسُ حُقُوقَهُمْ، وَتَحْسُنُ الْمَعِيشَةُ، وَيُؤَدَّى حَقُّ الطَّاعَةِ، وَيَرْزُقُ اللَّهُ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ، وَيَقُومُ الدِّينُ، وَتَجْرِي السُّنَنُ وَالشَّرَائِعُ عَلَى مَجَارِيهَا. وَاشْتَدَّ فِي أَمْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَتَوَرَّعْ عَنِ النُّطَفِ، وَامْضِ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَأَقْلِلِ الْعَجَلَةَ، وَابْعُدْ عَنِ الضَّجَرِ وَالْقَلَقِ، وَاقْنَعْ بِالْقَسْمِ، وَانْتَفِعْ بِتَجْرِبَتِكَ، وَانْتَبِهْ فِي صَمْتِكَ، وَاسْدُدْ فِي مَنْطِقِكَ، وَأَنْصِفِ الْخَصْمَ، وَقِفْ عِنْدَ الشُّبْهَةِ، وَأَبْلِغْ فِي الْحُجَّةِ، وَلَا يَأْخُذْكَ فِي أَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِكَ مُحَابَاةٌ وَلَا مُحَامَاةٌ، وَلَا لَوْمُ لَائِمٍ، وَتَثَبَّتْ، وَتَأَنَّ، وَرَاقِبْ، وَانْظُرِ (الْحَقَّ عَلَى نَفْسِكَ) ، فَتَدَبَّرْ، وَتَفَكَّرْ، وَاعْتَبِرْ، وَتَوَاضَعْ لِرَبِّكَ، وَارْؤُفْ بِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ، وَسَلِّطِ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِكَ. وَلَا تُسْرِعَنَّ إِلَى سَفْكِ دَمٍ، فَإِنَّ الدِّمَاءَ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِمَكَانٍ عَظِيمٍ، انْتِهَاكًا لَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَانْظُرْ هَذَا الْخَرَاجَ الَّذِي اسْتَقَامَتْ عَلَيْهِ الرَّعِيَّةُ، وَجَعَلَهُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ عِزًّا وَرِفْعَةً، وَلِأَهْلِهِ تَوْسِعَةً وَمَنْعَةً، وَلِعَدُوِّهِ وَعَدُوِّهِمْ كَبْتًا وَغَيْظًا، وَلِأَهْلِ الْكُفْرِ مِنْ مُعَانِدِيهِمْ ذُلًّا وَصَغَارًا - فَوَزِّعْهُ بَيْنَ أَصْحَابِكَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالتَّسْوِيَةِ وَالْعُمُومِ فِيهِ، وَلَا تَرْفَعَنَّ مِنْهُ

شَيْئًا عَنْ شَرِيفٍ لِشَرَفِهِ، وَلَا عَنْ غَنِيٍّ لِغِنَاهُ، وَلَا عَنْ كَاتِبٍ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَاصَّتِكَ وَحَاشِيَتِكَ، وَلَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُ فَوْقَ الِاحْتِمَالِ لَهُ، وَلَا تُكَلِّفْ أَمْرًا فِيهِ شَطَطٌ، وَاحْمِلِ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى مُرِّ الْحَقِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ لِأُلْفَتِهِمْ، وَأَلْزَمُ لِرِضَاءِ الْعَامَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّكَ جُعِلْتَ بِوِلَايَتِكَ خَازِنًا، وَحَافِظًا، وَرَاعِيًا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ أَهْلُ عَمَلِكَ رَعِيَّتَكَ لِأَنَّكَ رَاعِيهِمْ وَقَيِّمُهُمْ، تَأْخُذُ مِنْهُمْ مَا أَعْطَوْكَ مِنْ عَفْوِهِمْ وَمَقْدِرَتِهِمْ، وَتُنْفِقُهُ فِي قِوَامِ أَمْرِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ، وَتَقْوِيمِ أَوَدِهِمْ، فَاسْتَعْمِلْ عَلَيْهِمْ ذَوِي الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالتَّجْرِبَةِ وَالْخِبْرَةِ بِالْعَمَلِ، وَالْعِلْمِ بِالسِّيَاسَةِ وَالْعَفَافِ، وَوَسِّعْ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ لَكَ فِيمَا تَقَلَّدْتَ وَأُسْنِدَ إِلَيْكَ، وَلَا يَشْغَلْكَ عَنْهُ شَاغِلٌ، وَلَا يَصْرِفْكَ عَنْهُ صَارِفٌ، فَإِنَّكَ مَتَى آثَرْتَهُ وَقُمْتَ فِيهِ بِالْوَاجِبِ، اسْتَدْعَيْتَ بِهِ زِيَادَةَ النِّعْمَةِ مِنْ رَبِّكَ، وَحُسْنَ الْأُحْدُوثَةِ فِي عَمَلِكَ، وَاحْتَرَزْتَ بِهِ الْمَحَبَّةَ مِنْ رَعِيَّتِكَ، وَأَعَنْتَ عَلَى الصَّلَاحِ، وَقُدِّرَتِ الْخَيْرَاتُ فِي بَلَدِكَ، وَفَشَتِ الْعِمَارَةُ بِنَاحِيَتِكَ، وَظَهَرَ الْخِصْبُ فِي كُوَرِكَ، وَكَثُرَ خَرَاجُكَ، وَتَوَفَّرَتْ أَكْوَارُكَ، وَقَوِيتَ بِذَلِكَ عَلَى ارْتِبَاطِ جُنْدِكَ، وَإِرْضَاءِ الْعَامَّةِ، بِإِفَاضَةِ الْعَطَاءِ فِيهِمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَكُنْتَ مَحْمُودَ السِّيَاسَةِ، مَرْضِيَّ الْعَدْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ عَدُوِّكَ، وَكُنْتَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا ذَا عَدْلٍ، وَآلَةٍ، وَقُوَّةٍ، وَعُدَّةٍ، فَنَافِسْ فِي ذَلِكَ وَلَا تُقَدِّمْ عَلَيْهِ شَيْئًا تُحْمَدْ مَغَبَّةُ أَمْرِكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَاجْعَلْ فِي كُلِّ كُورَةٍ مِنْ عَمَلِكَ أَمِينًا يُخْبِرُكَ أَخْبَارَ عُمَّالِكَ، وَيَكْتُبُ إِلَيْكَ بِسِيرَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، حَتَّى كَأَنَّكَ مَعَ كُلِّ عَامِلٍ فِي عَمَلِهِ مُعَايِنٌ لِأُمُورِهِ كُلِّهَا، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَأْمُرَهُمْ بِأَمْرٍ فَانْظُرْ فِي عَوَاقِبِ مَا أَرَدْتَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ رَأَيْتَ السَّلَامَةَ فِيهِ وَالْعَافِيَةَ، وَرَجَوْتَ فِيهِ حُسْنَ الدِّفَاعِ وَالصُّنْعِ - فَأَمْضِهِ، وَإِلَّا فَتَوَقَّفْ عَنْهُ، وَرَاجِعْ أَهْلَ الْبَصَرِ وَالْعِلْمِ بِهِ، ثُمَّ خُذْ فِيهِ عُدَّتَهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا نَظَرَ الرَّجُلُ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِ قَدْ وَاتَاهُ عَلَى مَا يَهْوَى، فَأَغْوَاهُ ذَلِكَ وَأَعْجَبَهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي عَوَاقِبِهِ أَهْلَكَهُ، وَنَقَضَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، فَاسْتَعْمِلِ الْحَزْمَ فِي كُلِّ مَا أَرَدْتَ، وَبَاشِرْهُ بَعْدَ عَوْنِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِالْقُوَّةِ، وَأَكْثِرِ اسْتِخَارَةَ رَبِّكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ، وَافْرُغْ مِنْ عَمَلِ يَوْمِكَ، وَلَا تُؤَخِّرْهُ لِغَدِكَ، وَأَكْثِرْ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِكَ، فَإِنَّ لِغَدٍ أُمُورًا وَحَوَادِثَ تُلْهِيكَ عَنْ عَمَلِ يَوْمِكَ الَّذِي أَخَّرْتَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَوْمَ إِذَا مَضَى ذَهَبَ بِمَا فِيهِ، وَإِذَا أَخَّرْتَ عَمَلَهُ اجْتَمَعَ عَلَيْكَ أُمُورُ

يَوْمَيْنِ فَيَشْغَلُكَ ذَلِكَ، حَتَّى تُعْرِضَ عَنْهُ، وَإِذَا أَمْضَيْتَ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ، أَرَحْتَ نَفْسَكَ وَبَدَنَكَ، وَأَحْكَمْتَ أُمُورَ سُلْطَانِكَ. وَانْظُرْ أَحْرَارَ النَّاسِ وَذَوِي السِّنِّ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَسْتَيْقِنُ صَفَاءَ طَوِيَّتَهُمْ، وَشَهِدْتَ مَوَدَّتَهُمْ لَكَ، وَمُظَاهَرَتَهُمْ بِالنُّصْحِ وَالْمُخَالَصَةِ عَلَى أَمْرِكَ - فَاسْتَخْلِصْهُمْ وَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ. وَتَعَاهَدْ أَهْلَ الْبُيُوتَاتِ مِمَّنْ قَدْ دَخَلَتْ عَلَيْهِمُ الْحَاجَةُ، فَاحْتَمِلْ مَئُونَتَهُمْ، وَأَصْلِحْ حَالَهُمْ حَتَّى لَا يَجِدُوا لِخَلَّتِهِمْ مَسًّا، وَأَفْرِدْ نَفْسَكَ بِالنَّظَرِ فِي أُمُورِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَفْعِ مَظْلَمَةٍ إِلَيْكَ، وَالْمُحْتَقِرِ الَّذِي لَا عِلْمَ لَهُ بِطَلَبِ حَقِّهِ، فَسَلْ عَنْهُ أَحْفَى مَسْأَلَةٍ، وَوَكِّلْ بِأَمْثَالِهِ أَهْلَ الصَّلَاحِ مِنْ رَعِيَّتِكَ، وَمُرْهُمْ بِرَفْعِ حَوَائِجِهِمْ وَحَالَاتِهِمْ إِلَيْكَ لِتَنْظُرَ فِيهَا بِمَا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ أَمْرَهُمْ. وَتَعَاهَدْ ذَوِي الْبَأْسَاءِ وَأَيْتَامَهُمْ، وَأَرَامِلَهُمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ أَرْزَاقًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ اقْتِدَاءً بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - أَعَزَّهُ اللَّهُ - فِي الْعَطْفِ عَلَيْهِمْ، وَالصِّلَةِ لَهُمْ، لِيُصْلِحَ اللَّهُ بِذَلِكَ عَيْشَهُمْ، وَيَرْزُقَكَ بِهِ بَرَكَةً وَزِيَادَةً، وَأَجْرِ لِلْأَضْرَابِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَقَدِّمْ حَمَلَةَ الْقُرْآنِ مِنْهُمْ، وَالْحَافِظِينَ لِأَكْثَرِهِ فِي الْجَرَائِدِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَانْصِبْ لِمَرْضَى الْمُسْلِمِينَ دُورًا تُؤْوِيهِمْ، وَقُوَّامًا يَرْفُقُونَ بِهِمْ، وَأَطِبَّاءَ يُعَالِجُونَ أَسْقَامَهُمْ، وَأَسْعِفْهُمْ بِشَهَوَاتِهِمْ مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى سَرَفٍ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ إِذَا أُعْطُوا حُقُوقَهُمْ وَأَفْضَلَ أَمَانِيهِمْ - لَمْ يُرْضِهِمْ ذَلِكَ، وَلَمْ تَطِبْ أَنْفُسُهُمْ دُونَ رَفْعِ حَوَائِجِهِمْ إِلَى وُلَاتِهِمْ، طَمَعًا فِي نَيْلِ الزِّيَادَةِ، وَفَضْلِ الرِّفْقِ مِنْهُمْ، وَرُبَّمَا تَبَرَّمَ الْمُتَصَفِّحُ لِأُمُورِ النَّاسِ لِكَثْرَةِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ، وَيَشْغَلُ فِكْرَهُ وَذِهْنَهُ مِنْهَا مَا يَنَالُهُ بِهِ مِنْ مَئُونَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَلَيْسَ مَنْ يَرْغَبُ فِي الْعَدْلِ، وَيَعْرِفُ مَحَاسِنَ أُمُورِهِ فِي الْعَاجِلِ وَفَضْلِ ثَوَابِ الْآجِلِ - كَالَّذِي يَسْتَثْقِلُ بِمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَيَلْتَمِسُ رَحْمَتَهُ. وَأَكْثِرِ الْإِذْنَ لِلنَّاسِ عَلَيْكَ، وَأَبْرِزْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَسَكِّنْ لَهُمْ حَوَاسَّكَ، وَاخْفِضْ

لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَأَظْهِرْ لَهُمْ بِشْرَكَ، وَلِنْ لَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالْمَنْطِقِ، وَاعْطِفْ عَلَيْهِمْ بِجُودِكَ وَفَضْلِكَ. وَإِذَا أَعْطَيْتَ فَأَعْطِ بِسَمَاحَةٍ وَطِيبِ نَفْسٍ، وَالْتِمَاسٍ لِلصَّنِيعَةِ وَالْأَجْرِ مِنْ غَيْرِ تَكْدِيرٍ وَلَا امْتِنَانٍ، فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى ذَلِكَ تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَاعْتَبِرْ بِمَا تَرَى مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَمَنْ مَضَى مِنْ أَهْلِ السُّلْطَانِ وَالرِّئَاسَةِ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، وَالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ، ثُمَّ اعْتَصِمْ فِي أَحْوَالِكَ كُلِّهَا بِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ مَحَبَّتِهِ، وَالْعَمَلِ بِشَرِيعَتِهِ وَسُنَّتِهِ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ، وَكِتَابِهِ، وَاجْتَنِبْ مَا فَارَقَ ذَلِكَ، وَخَالِفْ مَا دَعَا إِلَى سُخْطِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. وَاعْرِفْ مَا يَجْمَعُ عُمَّالُكَ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَيُنْفِقُونَ مِنْهَا، وَلَا تَجْمَعْ حَرَامًا، وَلَا تُنْفِقْ إِسْرَافًا. وَأَكْثِرْ مُجَالَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَمُشَاوَرَتَهُمْ، وَمُخَالَطَتَهُمْ، وَلْيَكُنْ (هَوَاكَ اتِّبَاعَ السُّنَنِ وَإِقَامَتَهَا، وَإِيثَارَ مَكَارِمِ الْأُمُورِ وَمَعَالِيهَا، وَلْيَكُنْ) أَكْرَمُ دُخَلَائِكَ وَخَاصَّتِكَ عَلَيْكَ مَنْ إِذَا رَأَى عَيْبًا فِيكَ لَمْ تَمْنَعْهُ هَيْبَتُكَ مِنْ إِنْهَاءِ ذَلِكَ إِلَيْكَ فِي سِرِّكَ، وَإِعْلَامِكَ مَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ أَنْصَحُ أَوْلِيَائِكَ وَمُظَاهِرِيكَ، وَانْظُرْ عُمَّالَكَ الَّذِينَ بِحَضْرَتِكَ، وَكُتَّابَكَ، فَوَقِّتْ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَقْتًا يَدْخُلُ فِيهِ عَلَيْكَ بِكُتُبِهِ وَمُؤَامَرَتِهِ، وَمَا عِنْدَهُ مِنْ حَوَائِجِ عُمَّالِكَ، وَأُمُورِ كُوَرِكَ وَرَعِيَّتِكَ، ثُمَّ فَرِّغْ لِمَا يُورِدُهُ عَلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ سَمْعَكَ، وَبَصَرَكَ، وَفَهْمَكَ، وَعَقْلَكَ، وَكَرِّرِ النَّظَرَ فِيهِ وَالتَّدَبُّرَ لَهُ، فَمَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْحَقِّ وَالْحَزْمِ فَأَمْضِهِ، وَاسْتَخِرِ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - فِيهِ، وَمَا كَانَ مُخَالِفًا لِذَلِكَ فَاصْرِفْهُ إِلَى التَّثَبُّتِ فِيهِ وَالْمَسْأَلَةِ عَنْهُ. وَلَا تَمْتَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ وَلَا غَيْرِهِمْ بِمَعْرُوفٍ تَأْتِيهِ إِلَيْهِمْ، وَلَا تَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا الْوَفَاءَ وَالِاسْتِقَامَةَ، وَالْعَوْنَ فِي أُمُورِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا تَضَعَنَّ الْمَعْرُوفَ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ، وَتَفَهَّمْ كِتَابِي إِلَيْكَ، وَأَكْثِرِ النَّظَرَ فِيهِ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَى جَمِيعِ أُمُورِكَ، وَاسْتَخِرْ، فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - مَعَ الصَّلَاحِ وَأَهْلِهِ، وَلْيَكُنْ أَعْظَمَ سِيرَتِكَ، وَأَفْضَلَ عَيْشِكَ مَا كَانَ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - رِضًى، وَلِدِينِهِ نِظَامًا، وَلِأَهْلِهِ عِزًّا وَتَمْكِينًا، وَلِلذِّمَّةِ

وَلِلْمِلَّةِ عَدْلًا وَصَلَاحًا، وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُحْسِنَ عَوْنَكَ، وَتَوْفِيقَكَ، وَرُشْدَكَ، وَكَلَاءَتَكَ. وَالسَّلَامُ. فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ هَذَا الْكِتَابَ تَنَازَعُوهُ، وَكَتَبُوهُ، وَشَاعَ أَمْرُهُ، وَبَلَغَ الْمَأْمُونَ خَبَرُهُ، فَدَعَا بِهِ فَقُرِئَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا بَقَّى أَبُو الطَّيِّبِ - يَعْنِي طَاهِرًا - شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، (وَالتَّدْبِيرِ، وَالرَّأْيِ) ، وَالسِّيَاسَةِ، وَإِصْلَاحِ الْمُلْكِ وَالرَّعِيَّةِ، وَحِفْظِ السُّلْطَانِ وَطَاعَةِ الْخُلَفَاءِ، وَتَقْوِيمِ الْخِلَافَةِ - إِلَّا وَقَدْ أَحْكَمَهُ، وَأَوْصَى بِهِ. وَأَمَرَ الْمَأْمُونُ فَكُتِبَ بِهِ إِلَى جَمِيعِ الْعُمَّالِ فِي النَّوَاحِي، فَسَارَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى عَمَلِهِ، فَاتَّبَعَ مَا أُمِرَ بِهِ وَعُهِدَ إِلَيْهِ، وَسَارَ بِسِيرَتِهِ. ذِكْرُ مَوْتِ الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْحَكَمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْعَاصِ، وَهُوَ لِأُمِّ وَلَدٍ، وَكَانَ طَوِيلًا أَسْمَرَ، نَحِيفًا، وَكَانَ لَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَنَّدَ بِالْأَنْدَلُسِ الْأَجْنَادَ الْمُرْتَزَقِينَ، وَجَمَعَ الْأَسْلِحَةَ وَالْعُدَدَ، وَاسْتَكْثَرَ مِنَ الْحَشَمِ وَالْحَوَاشِي، وَارْتَبَطَ الْخُيُولَ عَلَى بَابِهِ، وَتَشَبَّهَ بِالْجَبَابِرَةِ فِي أَحْوَالِهِ، وَاتَّخَذَ الْمَمَالِيكَ، وَجَعَلَهُمْ فِي الْمُرْتَزِقَةِ، فَبَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ خَمْسَةَ آلَافِ مَمْلُوكٍ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْخُرْسَ لِعُجْمَةِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَكَانُوا يَوْمًا عَلَى بَابِ قَصْرِهِ. وَكَانَ يَطَّلِعُ عَلَى الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ، وَمَا قَرُبَ مِنْهَا وَبَعُدَ، وَكَانَ لَهُ نَفَرٌ مِنْ ثِقَاتِ أَصْحَابِهِ يُطَالِعُونَهُ بِأَحْوَالِ النَّاسِ، فَيَرُدُّ عَنْهُمُ الْمَظَالِمَ، وَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ، وَكَانَ شُجَاعًا، مِقْدَامًا، مَهِيبًا، وَهُوَ الَّذِي وَطَّأَ لِعَقِبِهِ الْمُلْكَ بِالْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ يُقَرِّبُ الْفُقَهَاءَ وَأَهْلَ الْعِلْمِ. ذِكْرُ وِلَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَمَّا مَاتَ الْحَكَمُ بْنُ هِشَامٍ قَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَيُكَنَّى أَبَا

الْمُطَرِّفِ، وَاسْمُ أُمِّهِ حَلَاوَةُ، وَكَانَ بِكِنِّ وَالِدِهِ، وُلِدَ بِطُلَيْطِلَةَ، أَيَّامَ كَانَ أَبُوهُ الْحَكَمُ يَتَوَلَّاهَا لِأَبِيهِ هِشَامٍ، وُلِدَ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ، وُجِدَ ذَلِكَ بِخَطِّ أَبِيهِ. وَكَانَ جَسِيمًا، وَسِيمًا، حَسَنَ الْوَجْهِ، فَلَمَّا وَلِيَ خَرَجَ عَلَيْهِ عَمُّ أَبِيهِ عَبْدُ اللَّهِ، (الْبَلَنْسِيُّ، وَطَمِعَ بِمَوْتِ الْحَكَمِ، وَخَرَجَ مِنْ بَلَنْسِيَةَ يُرِيدُ قُرْطُبَةَ) ، فَتَجَهَّزَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ خَافَ، وَضَعُفَتْ نَفْسُهُ، فَرَجَعَ إِلَى بَلَنْسِيَةَ، ثُمَّ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ سَرِيعًا، وَوَقَى اللَّهُ ذَلِكَ الطَّرَفَ شَرَّهُ. فَلَمَّا مَاتَ نَقَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَوْلَادَهُ وَأَهْلَهُ إِلَيْهِ بِقُرْطُبَةَ، وَخَلَصَتِ الْإِمَارَةُ بِالْأَنْدَلُسِ لِوَلَدِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا عُزِلَ الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ عَنْ قَضَاءِ الْمَوْصِلِ، فَانْحَدَرَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْمَوْصِلِيُّ. وَفِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ دَاوُدَ بْنَ مَاسِحُورَ مُحَارَبَةَ الزُّطِّ، وَأَعْمَالَ الْبَصْرَةِ، وَكُوَرَ دِجْلَةَ وَالْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ. وَفِيهَا كَانَ الْمَدُّ عَظِيمًا غَرِقَ فِيهِ السَّوَادُ، وَكَسْكَرُ، وَقَطِيعَةُ أُمِّ جَعْفَرٍ، وَهَلَكَ فِيهِ مِنَ الْغَلَّاتِ كَثِيرٌ. وَفِيهَا نَكَبَ بَابَكُ الْخُرَّمِيُّ عِيسَى بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَلَوِيُّ، وَهُوَ أَمِيرُ الْحَرَمَيْنِ.

(وَفِيهَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ جَزِيرَةَ سَرْدَانِيَةَ فَغَنِمُوا، وَأَصَابُوا مِنَ الْكُفَّارِ وَأُصِيبَ مِنْهُمْ، ثُمَّ عَادُوا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ الطَّائِيُّ الْإِخْبَارِيُّ، وَكَانَ عَابِدًا، ضَعِيفًا فِي الْحَدِيثِ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَوْصِلِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسْتَنِيرِ، الْمَعْرُوفُ بِقُطْرُبٍ، النَّحْوِيُّ، أَخَذَ النَّحْوَ مِنْ سِيبَوَيْهَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَمْرٍو إِسْحَاقُ بْنُ مِرَارٍ الشَّيْبَانِيُّ اللُّغَوِيُّ. (مِرَارٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِرَاءَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ) .

ثم دخلت سنة سبع ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ] 207 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ خُرُوجِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بِالْيَمَنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِبِلَادِ عَكَّ فِي الْيَمَنِ، يَدْعُو إِلَى الرِّضَى مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ أَنَّ الْعُمَّالَ بِالْيَمَنِ أَسَاءُوا السِّيرَةَ فِيهِمْ، فَبَايَعُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ هَذَا، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَأْمُونَ ذَلِكَ وَجَّهَ إِلَيْهِ دِينَارَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي عَسْكَرٍ كَثِيفٍ، وَكَتَبَ مَعَهُ بِأَمَانِهِ، فَحَضَرَ دِينَارٌ الْمَوْسِمَ، وَحَجَّ. ثُمَّ سَارَ إِلَى الْيَمَنِ، فَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِأَمَانِهِ، فَقَبِلَهُ، وَدَخَلَ فِي طَاعَةِ الْمَأْمُونِ، وَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِ دِينَارٍ، فَخَرَجَ بِهِ إِلَى الْمَأْمُونِ، فَمَنَعَ الْمَأْمُونُ عِنْدَ ذَلِكَ الطَّالِبِيِّينَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ بِلِبْسِ السَّوَادِ، وَذَلِكَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ. ذِكْرُ وَفَاةِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، مَاتَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ مِنْ حُمَّى أَصَابَتْهُ، وَإِنَّهُ وُجِدَ فِي فِرَاشِهِ مَيِّتًا. وَقَالَ كُلْثُومُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ: كُنْتُ عَلَى بَرِيدِ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا كَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ حَضَرَتِ الْجُمُعَةُ، فَصَعِدَ طَاهِرٌ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ، فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى ذِكْرِ الْخَلِيفَةِ أَمْسَكَ عَنِ الدُّعَاءِ لَهُ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ بِمَا أَصْلَحْتَ بِهِ أَوْلِيَاءَكَ، وَاكْفِنَا مَئُونَةَ

مَنْ بَغَى عَلَيْنَا، وَحَشَدَ فِيهَا، بِلَمِّ الشَّعْثِ، وَحَقْنِ الدِّمَاءِ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَنَا أَوَّلُ مَقْتُولٍ لِأَنِّي لَا أَكْتُمُ الْخَبَرَ. قَالَ: فَانْصَرَفْتُ، فَاغْتَسَلْتُ غُسْلَ الْمَوْتَى، وَتَكَفَّنْتُ، وَكَتَبْتُ إِلَى الْمَأْمُونِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَصْرَ دَعَانِي، وَحَدَثَ بِهِ حَادِثٌ فِي جَفْنِ عَيْنِهِ، وَسَقَطَ مَيِّتًا، فَخَرَجَ إِلَيَّ ابْنُهُ طَلْحَةُ، قَالَ: هَلْ كَتَبْتَ بِمَا كَانَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ: فَاكْتُبْ بِوَفَاتِهِ! فَكَتَبْتُ بِوَفَاتِهِ، وَبِقِيَامِ طَلْحَةَ بِأَمْرِ الْجَيْشِ، فَوَرَدَتِ الْخَرِيطَةُ عَلَى الْمَأْمُونِ بِخَلْعِهِ، فَدَعَا أَحْمَدَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ، فَقَالَ: سِرْ فَأْتِ بِطَاهِرٍ كَمَا زَعَمْتَ وَضَمِنْتَ فَقَالَ: أَبِيتُ اللَّيْلَةَ؟ فَقَالَ: لَا. فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى أَذِنَ لَهُ فِي الْمَبِيتِ. (وَوَافَتِ الْخَرِيطَةُ الْأُخْرَى لَيْلًا بِمَوْتِهِ) ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ: قَدْ مَاتَ طَاهِرٌ، فَمَنْ تَرَى؟ قَالَ: ابْنُهُ طَلْحَةُ. قَالَ: اكْتُبْ بِتَوْلِيَتِهِ! فَكَتَبَ بِذَلِكَ، فَأَقَامَ طَلْحَةُ وَالِيًا عَلَى خُرَاسَانَ فِي أَيَّامِ الْمَأْمُونِ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ، وَوَلَّى عَبْدَ اللَّهِ خُرَاسَانَ. وَلَمَّا وَرَدَ مَوْتُ طَاهِرٍ عَلَى الْمَأْمُونِ قَالَ: لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَدَّمَهُ وَأَخَّرَنَا! وَكَانَ طَاهِرٌ أَعْوَرَ وَفِيهِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: يَا ذَا الْيَمِينَيْنِ وَعَيْنٍ وَاحِدَهْ ... نُقْصَانُ عَيْنٍ وَيَمِينٌ زَائِدَهْ يَعْنِي أَنَّ لَقَبَهُ كَانَ ذَا الْيَمِينَيْنِ، وَكَانَتْ كُنْيَتُهُ أَبَا الطَّيِّبِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ طَاهِرًا لَمَّا مَاتَ انْتَهَبَ الْجُنْدُ بَعْضَ خَزَائِنِهِ، فَقَامَ بِأَمْرِهِمْ سَلَّامُ الْأَبْرَشُ الْخَصِيُّ، وَأَعْطَاهُمْ رِزْقَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ اسْتَعْمَلَ الْمَأْمُونُ عَلَى عَمَلِهِ جَمِيعِهِ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ، فَسَيَّرَ إِلَى خُرَاسَانَ أَخَاهُ طَلْحَةَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بِالرَّقَّةِ عَلَى حَرْبِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ، فَلَمَّا تَوَجَّهَ طَلْحَةُ إِلَى خُرَاسَانَ سَيَّرَ الْمَأْمُونُ إِلَيْهِ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ لِيَقُومَ بِأَمْرِهِ، فَعَبَرَ أَحْمَدُ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَافْتَتَحَ أُشْرُوسَنَةَ، وَأَسَرَ كَاوِسَ بْنَ صَارَخْرَهْ، وَابْنَهُ الْفَضْلَ، وَبَعَثَ بِهِمَا إِلَى الْمَأْمُونِ، وَوَهَبَ طَلْحَةُ لِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَعُرُوضًا بِأَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَوَهَبَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَبَّاسِ كَاتِبَ أَحْمَدَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. ذِكْرُ مَا كَانَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، بِجُنْدِ الْبَصْرَةِ

وَأَهْلِهَا، وَهِيَ الْوَقْعَةُ [الْمَعْرُوفَةُ] بِوَقْعَةِ بَالِسَ (!) . وَكَانَ سَبَبَهَا أَنَّ الْحَكَمَ كَانَ قَدْ بَلَغَهُ عَنْ عَامِلٍ اسْمُهُ رَبِيعٌ أَنَّهُ ظَلَمَ الْأَبْنَاءَ أَهْلَ الذِّمَّةِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَصَلَبَهُ، قَبْلَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَوَلِيَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَمِعَ النَّاسُ بِصَلْبِ الرَّبِيعِ، فَأَقْبَلُوا إِلَى قُرْطُبَةَ مِنَ النَّوَاحِي يَطْلُبُونَ الْأَمْوَالَ الَّتِي كَانَ ظَلَمَهُمْ بِهَا، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ أَهْلُ إِلْبِيرَةَ أَكْثَرَهُمْ طَلَبًا وَإِلْحَاحًا فِيهِ، وَتَأَلَّبُوا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَنْ يُفَرِّقُهُمْ وَيُسْكِتُهُمْ، فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَدَفَعُوا مَنْ أَتَاهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ جَمْعٌ مِنَ الْجُنْدِ وَأَصْحَابُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَ جُنْدُ إِلْبِيرَةَ وَمَنْ مَعَهُمْ، وَقُتِلُوا قَتْلًا ذَرِيعًا، وَنَجَا الْبَاقُونَ مُنْهَزِمِينَ، ثُمَّ طُلِبُوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنْهُمْ. وَفِيهَا ثَارَتْ بِمَدِينَةِ تُدْمِيرَ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْمُضَرِيَّةِ وَالْيَمَانِيَّةِ، فَاقْتَتَلُوا بِلُورَقَةَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَقْعَةٌ تُعْرَفُ بِيَوْمِ الْمَضَارَّةِ، قُتِلَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ رَجُلٍ، وَدَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ سَبْعَ سِنِينَ، فَوَكَّلَ بِكَفِّهِمْ وَمَنْعِهِمْ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، وَسَيَّرَهُ فِي جَمِيعِ الْجَيْشِ، فَكَانُوا إِذَا أَحَسُّوا بِقُرْبِ يَحْيَى تَفَرَّقُوا وَتَرَكُوا الْقِتَالَ، وَإِذَا عَادَ عَنْهُمْ رَجَعُوا إِلَى الْفِتْنَةِ وَالْقِتَالِ حَتَّى عَيِيَ أَمْرَهُمْ. وَفِيهَا كَانَ بِالْأَنْدَلُسِ مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ ذَهَبَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَبَلَغَ الْمُدُّ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ ثَلَاثِينَ دِينَارًا. (تُدْمِيرُ بِالتَّاءِ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ ثُمَّ رَاءٌ) . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا غَلَا السِّعْرُ بِالْعِرَاقِ، حَتَّى بَلَغَ الْقَفِيزُ مِنَ الْحِنْطَةِ بِالْهَارُونِيِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا إِلَى الْخَمْسِينَ.

وَفِيهَا وَلِيَ مُحَمَّدُ بْنُ حَفْصٍ طَبَرِسْتَانَ، وَالرُّويَانَ، وَدُنْبَاوَنْدَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو عِيسَى بْنُ الرَّشِيدِ. وَفِيهَا أَمَرَ الْمَأْمُونُ السَّيِّدَ بْنَ أَنَسٍ، وَالِيَ الْمَوْصِلِ، بِقَصْدِ بَنِي شَيْبَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، لِإِفْسَادِهِمْ فِي الْبِلَادِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَكَبَسَهُمْ بِالدَّسْكَرَةِ، فَقَتَلَهُمْ وَنَهَبَ أَمْوَالَهُمْ وَعَادَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ الْفَقِيهُ، وَعُمَرُ بْنُ حَبِيبٍ الْعَلَوِيُّ الْقَاضِي، وَعَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبَانَ الْقُرَشِيُّ، قَاضِي وَاسِطٍ، وَجَعْفَرُ بْنُ عَوْنِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ الْفَقِيهُ، وَبِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيُّ الْفَقِيهُ،

وَكَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ، وَأَزْهَرُ بْنُ سَعِيدٍ السَّمَّانِ، وَأَبُو النَّضْرِ هِشَامُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكِنَانِيُّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ وَاقَدٍ الْوَاقِدِيُّ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِيًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ عَالِمًا بِالْمَغَازِي وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ الْقَاضِي، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى الْمَعْرُوفُ بِابْنِ كُنَاسَةَ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ وَالشِّعْرِ وَأَيَّامِ النَّاسِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ، وَأَبُو زَكَرِيَّا الْفَرَّاءُ النَّحْوِيُّ الْكُوفِيُّ، وَأَبُو غَانِمٍ الْمَوْصِلِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي خِدَاشٍ الْمَوْصِلِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُعَافَى، كَثِيرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ.

ثم دخلت سنة ثمان ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَمِائَتَيْنِ] 208 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَمِائَتَيْنِ [ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى كِرْمَانَ، فَعَصَى بِهَا، فَسَارَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، فَأَخَذَهُ، وَأَتَى بِهِ الْمَأْمُونَ فَعَفَا عَنْهُ. وَفِيهَا اسْتُقْضِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِيهَا عُزِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ عَنْ قَضَاءِ عَسْكَرِ الْمَهْدِيِّ، وَوَلِيَهُ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُوَحِّدُ رَبَّهُ ... قَاضِيكَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ حِمَارُ يَنْفِي شَهَادَةَ مَنْ يَدِينُ بِمَا بِهِ ... نَطَقَ الْكِتَابُ وَجَاءَتِ الْآثَارُ وَيَعُدُّ عَدْلًا مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ ... شَيْخٌ يُحِيطُ بِجِسْمِهِ الْأَقْطَارُ [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مُوسَى بْنُ الْأَمِينِ. وَالْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ صَالِحُ بْنُ الرَّشِيدِ. (وَفِيهَا هَلَكَ أَلْيَسَعُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، صَاحِبُ سِجِلْمَاسَةَ، فَوَلَّى أَهْلُهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَخَاهُ الْمُنْتَصِرَ بْنَ أَبِي الْقَاسِمِ وَاسُولَ، الْمَعْرُوفَ بِمِدْرَارٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. وَفِيهَا سَيَّرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ جَيْشًا إِلَى بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ عَبْدَ الْكَرِيمِ بْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُغِيثٍ، فَسَارُوا [إِلَى] أَلْبَةَ وَالْقِلَاعِ، فَنَهَبُوا بِلَادَ أَلْبَةَ وَأَحْرَقُوهَا، وَحَصَرُوا عِدَّةً مِنَ الْحُصُونِ، فَفَتَحُوا بَعْضَهَا، وَصَالَحَهُ بَعْضُهَا عَلَى مَالٍ وَإِطْلَاقِ الْأَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَغَنِمَ أَمْوَالًا جَلِيلَةَ الْقَدْرِ، وَاسْتَنْقَذُوا مِنْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِهِمْ كَثِيرًا، فَكَانَ ذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَعَادُوا سَالِمِينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْبَلَنْسِيِّ صَاحِبُ بَلَنْسِيَةَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ أَخْبَارِهِ مَعَ أَخْبَارِ هِشَامٍ ابْنِ أَخِيهِ الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ - كَثِيرٌ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرِ بْنِ حَبِيبٍ السَّهْمِيُّ الْبَاهِلِيُّ. وَيُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدَّبُ، وَالْقَاسِمُ بْنُ الرَّشِيدِ، وَسَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ بِالْبَصْرَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ،

وَالْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ، وَقَدْ كَانَ سَارَ لِيَتَوَلَّى قَضَاءَ طَبَرِسْتَانَ، فَمَاتَ بِالرَّيِّ. (وَتُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ الْأَحْمَرُ النَّحْوِيُّ، صَاحِبُ الْكِسَائِيِّ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ [وَمِائَةٍ] ) .

ثم دخلت سنة تسع ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَمِائَتَيْنِ] 209 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ الظَّفَرِ بِنَصْرِ بْنِ شَبَثٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ نَصْرَ بْنَ شَبَثٍ بِكَيْسُومَ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، حَتَّى طَلَبَ الْأَمَانَ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْعَامِرِيُّ: قَالَ الْمَأْمُونُ لِثُمَامَةَ بْنِ أَشْرَسَ: أَلَا تَدُلُّنِي عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ لَهُ عَقْلٌ وَبَيَانٌ يُؤَدِّي (عَنِّي مَا أُوجِبُهُ إِلَى نَصْرٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْعَامِرِيُّ. فَأَمَرَ بِإِحْضَارِي فَحَضَرْتُ، فَكَلَّمَنِي بِكَلَامٍ أَمَرَنِي أَنَّ أُبَلِّغَهُ نَصْرًا، وَهُوَ بِكَفَرِ عَزُونَ، بِسَرُوجَ، فَأَبْلَغْتُهُ نَصْرًا، فَأَذْعَنَ وَشَرِطَ شُرُوطًا، مِنْهَا أَنْ لَا يَطَأَ بِسَاطَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ الْمَأْمُونُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: مَا بَالُهُ يَنْفِرُ مِنِّي؟ قُلْتُ: لِجُرْمِهِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. قَالَ: أَفَتَرَاهُ أَعْظَمَ جُرْمًا مِنَ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَمِنْ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ؟ أَمَّا الْفَضْلُ فَأَخَذَ قُوَّادِي، وَأَمْوَالِي، وَسِلَاحِي، وَجَمِيعَ مَا أَوْصَى بِهِ الرَّشِيدُ لِي، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ أَخِي، وَتَرَكَنِي بِمَرْوَ فَرِيدًا وَحِيدًا، وَسَلَّمَنِي، وَأَفْسَدَ عَلَيَّ أَخِي حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، فَكَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَأَمَّا عِيسَى بْنُ أَبِي خَالِدٍ فَإِنَّهُ طَرَدَ خَلِيفَتِي مِنْ مَدِينَتِي وَمَدِينَةِ آبَائِي، وَذَهَبَ بِخَرَاجِي وَفَيْئِي، وَأَخْرَبَ دَارِي، وَأَقْعَدَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيفَةً دُونِي. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَتَأْذَنُ لِي فِي الْكَلَامِ؟

قَالَ: تَكَلَّمْ. قَالَ: قُلْتُ: أَمَّا الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ فَإِنَّهُ صَنِيعُكُمْ وَمَوْلَاكُمْ، وَحَالُ سَلَفِهِ حَالُهُمْ، فَتَرْجِعُ إِلَيْهِ بِضُرُوبٍ كُلُّهَا تَرُدُّكَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا عِيسَى فَرَجُلٌ مِنْ دَوْلَتِكَ وَسَابِقَتُهُ وَسَابِقَةُ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِهِ (مَعْرُوفَةٌ، يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ) . وَأَمَّا نَصْرٌ فَرَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ يَدٌ قَطُّ، فَيَحْتَمِلُ كَهَؤُلَاءِ لِمَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِهِ) وَإِنَّمَا كَانُوا مِنْ جُنْدِ بَنِي أُمَيَّةَ. قَالَ: إِنَّهُ كَمَا تَقُولُ، وَلَسْتُ أُقْلِعُ عَنْهُ حَتَّى يَطَأَ بِسَاطِي. قَالَ: فَأَبْلَغْتُ نَصْرًا ذَلِكَ، فَصَاحَ بِالْخَيْلِ، فَجَالَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَيْلِي عَلَيْهِ، هُوَ لَمْ يَقْوَ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ ضُفْدَعٍ تَحْتَ جَنَاحِهِ - يَعْنِي الزُّطَّ - يَقْوَى عَلَيَّ بِحَلْبَةِ الْعَرَبِ؟ فَجَادَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ الْقِتَالَ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَطَلَبَ الْأَمَانَ، فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ، وَتَحَوَّلَ مِنْ مُعَسْكَرِهِ إِلَى الرَّقَّةِ، [وَصَارَ] إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ حِصَارِهِ وَمُحَارَبَتِهِ خَمْسَ سِنِينَ، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِ أَخْرَبَ عَبْدُ اللَّهِ حِصْنَ كَيْسُومَ، وَسَيَّرَ نَصْرًا إِلَى الْمَأْمُونِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ فِي صَفَرٍ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ عَلِيَّ بْنَ صَدَقَةَ، الْمَعْرُوفَ بِزُرَيْقٍ، عَلَى أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، وَأَمَرَهُ بِمُحَارَبَةِ بَابَكَ، وَأَقَامَ بِأَمْرِهِ أَحْمَدَ بْنَ الْجُنَيْدِ الْإِسْكَافِيَّ، فَأَسَرَهُ بَابَكُ، فَوَلَّى إِبْرَاهِيمَ بْنَ اللَّيْثِ بْنِ الْفَضْلِ أَذْرَبِيجَانَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ صَالِحُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مِيخَائِيلُ بْنُ جُورْجِيسَ مَلِكُ الرُّومِ، وَكَانَ مُلْكُهُ تِسْعَ سِنِينَ، وَمَلَكَ ابْنُهُ تُوفِيلُ. وَفِيهَا خَرَجَ مَنْصُورُ بْنُ نُصَيْرٍ بِإِفْرِيقِيَّةَ عَنْ طَاعَةِ الْأَمِيرِ زِيَادَةِ اللَّهِ، وَكَانَ مِنْهُ مَاذَكَرْنَاهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى اللُّغَوِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ عَشْرٍ، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى مَقَالَةِ الْخَوَارِجِ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ (وَعُمْرُهُ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ سَنَةً) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ أَبُو يُوسُفَ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْمَوْصِلِيُّ الْمُحَدِّثُ.

ثم دخلت سنة عشر ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ] 210 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ ظَفَرِ الْمَأْمُونِ بِابْنِ عَائِشَةَ وَفِيهَا ظَفِرَ الْمَأْمُونُ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، الْإِمَامِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ عَائِشَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْإِفْرِيقِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ شَاهِي، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِمَّنْ كَانَ يَسْعَى فِي الْبَيْعَةِ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ. وَكَانَ الَّذِي أَطْلَعَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى صَنِيعِهِمْ عِمْرَانُ الْقُطْرَبُّلِيُّ، وَكَانُوا (اتَّعَدُوا أَنْ) يَقْطَعُوا الْجِسْرَ إِذَا خَرَجَ الْجُنْدُ يَتَلَقَّوْنَ نَصْرَ بْنَ شَبَثٍ، (فَنَمَّ عَلَيْهِمْ عِمْرَانُ، فَأُخِذُوا فِي صَفَرٍ، وَدَخَلَ نَصْرُ بْنُ شَبَثٍ) بَغْدَاذَ، وَلَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ مِنَ الْجُنْدِ، فَأُخِذَ ابْنُ عَائِشَةَ، فَأُقِيمَ عَلَى بَابِ الْمَأْمُونِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الشَّمْسِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِالسِّيَاطِ وَحَبَسَهُ، وَضَرَبَ مَالِكَ بْنَ شَاهِي وَأَصْحَابَهُ، فَكَتَبُوا لِلْمَأْمُونِ بِأَسْمَاءِ مَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمُ الْمَأْمُونُ، وَقَالَ: لَا آمَنُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ قَذَفُوا قَوْمًا بِرَاءً. ثُمَّ إِنَّهُ قَتَلَ ابْنَ عَائِشَةَ وَابْنَ شَاهِي وَرَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِمَا، وَكَانَ سَبَبَ قَتْلِهِمْ أَنَّ الْمَأْمُونَ بَلَغَهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَنْقُبُوا السِّجْنَ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ قَدْ سَدُّوا بَابَ السِّجْنِ، فَلَمْ يَدَعُوا أَحَدًا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَأْمُونَ خَبَرُهُمْ رَكِبَ إِلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ، فَأَخَذَهُمْ، فَقَتَلَهُمْ صَبْرًا، وَصَلَبَ ابْنَ عَائِشَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ عَبَّاسِيٍّ صُلِبَ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أُنْزِلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ قُرَيْشٍ.

ذِكْرُ الظَّفَرِ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، أُخِذَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ، وَهُوَ مُتَنَقِّبٌ مَعَ امْرَأَتَيْنِ، وَهُوَ فِي زِيِّ امْرَأَةٍ، أَخَذَهُ حَارِسٌ أَسْوَدُ لَيْلًا، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتُنَّ، وَأَيْنَ تُرِدْنَ هَذَا الْوَقْتَ؟ فَأَعْطَاهُ إِبْرَاهِيمُ خَاتَمَ يَاقُوتٍ كَانَ فِي يَدِهِ لَهُ قَدْرٌ عَظِيمٌ لِيُخَلِّيَهُنَّ وَلَا يَسْأَلَهُنَّ، فَلَمَّا نَظَرَ الْحَارِسُ إِلَى الْخَاتَمِ اسْتَرَابَهُنَّ، وَقَالَ: خَاتَمُ رَجُلٍ لَهُ شَأْنٌ، وَرَفَعَهُنَّ إِلَى صَاحِبِ الْمَسْلَحَةِ، فَأَمَرَهُنَّ أَنْ يُسْفِرْنَ، فَامْتَنَعَ إِبْرَاهِيمُ، فَجَذَبَهُ، فَبَدَتْ لِحْيَتُهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى صَاحِبِ الْجِسْرِ، فَعَرَفَهُ، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى بَابِ الْمَأْمُونِ وَأَعْلَمَهُ بِهِ، فَأَمَرَ بِالِاحْتِفَاظِ بِهِ إِلَى بُكْرَةٍ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أُقْعِدُ إِبْرَاهِيمُ فِي دَارِ الْمَأْمُونِ وَالْمَقْنَعَةُ الَّتِي تَقَنَّعَ بِهَا فِي عُنُقِهِ، وَالْمِلْحَفَةُ عَلَى صَدْرِهِ لِيَرَاهُ بَنُو هَاشِمٍ وَالنَّاسُ، وَيَعْلَمُوا كَيْفَ أُخِذَ، ثُمَّ حَوَّلَهُ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مَعَهُ، لَمَّا سَارَ إِلَى فَمِ الصُّلْحِ، إِلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، فَشَفَعَ فِيهِ الْحَسَنُ، وَقِيلَ: ابْنَتُهُ بُورَانُ. وَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُخِذَ حُمِلَ إِلَى دَارِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمِ، وَكَانَ الْمُعْتَصِمُ عِنْدَ الْمَأْمُونِ، فَحُمِلَ رَدِيفًا لِفَرَحٍ التُّرْكِيِّ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمَأْمُونِ قَالَ: هِيهِ يَا إِبْرَاهِيمُ! فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيُّ الثَّأْرُ مُحَكَّمٌ فِي الْقِصَاصِ، وَالْعَفْوُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَمَنْ تَنَاوَلَهُ الِاغْتِرَارُ بِمَا مُدَّ لَهُ مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ، أَمْكَنَ عَادِيَةَ الدَّهْرِ مِنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ فَوْقَ كُلِّ ذِي ذَنْبٍ، كَمَا جُعِلَ كُلُّ ذِي ذَنْبٍ دُونَكَ، فَإِنْ تُعَاقِبْ فَبِحَقِّكَ، وَإِنْ تَعْفُ فَبِفَضْلِكَ. قَالَ: بَلْ أَعْفُو يَا إِبْرَاهِيمُ. فَكَبَّرَ وَسَجَدَ. وَقِيلَ: بَلْ كَتَبَ إِبْرَاهِيمُ هَذَا الْكَلَامَ إِلَى الْمَأْمُونِ وَهُوَ مُتَخَفٍّ، فَوَقَّعَ الْمَأْمُونُ فِي رُقْعَتِهِ: الْقُدْرَةُ تُذْهِبُ الْحَفِيظَةَ، وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ، وَبَيْنَهُمَا عَفْوُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَهُوَ أَكْبَرُ مَا يُسْأَلُهُ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ يَمْدَحُ الْمَأْمُونَ: يَا خَيْرَ مَنْ ذَمَلَتْ يَمَانِيَةٌ بِهِ ... بَعْدَ النَّبِيِّ لِآيِسٍ أَوْ طَامِعِ

وَأَبَرَّ مَنْ عَبَدَ الْإِلَهَ عَلَى التُّقَى غَيْبًا وَأَقْوَلَهُ بِحَقٍّ صَادِعِ ... عَسَلُ الْفَوَارِعِ مَا أُطِعْتَ فَإِنْ تُهَجْ فَالصَّابُّ يُمْزَجُ بِالسِّمَامِ النَّاقِعِ ... مُتَيَقِّظًا حَذِرًا وَمَا تَخْشَى الْعِدَى نَبْهَانَ مِنْ وَسَنَاتِ لَيْلِ الْهَاجِعِ ... مُلِئَتْ قُلُوبُ النَّاسِ مِنْكَ مَخَافَةً وَتَبِيتُ تَكْلَؤُهُمْ بِقَلْبٍ خَاشِعِ ... بِأَبِي وَأُمِّي فِدْيَةً وَأَبِيهِمَا مِنْ كُلِّ مُعْضِلَةٍ وَذَنْبٍ وَاقِعِ ... مَا أَلْيَنَ الْكَنَفَ الَّذِي بَوَّأْتَنِي وَطَنًا وَأَمْرَعَ رَبْعَهُ لِلرَّاتِعِ ... لِلصَّالِحَاتِ أَخًا جُعِلْتَ وَلِلتُّقَى وَأَبًا رَءُوفًا لِلْفَقِيرِ الْقَانِعِ ... نَفْسِي فِدَاؤُكَ إِذْ تَضِلُّ مَعَاذِرِي وَأَلُوذُ مِنْكَ بِفَضْلِ حِلْمٍ وَاسِعِ ... أَمَلًا لِفَضْلِكَ، وَالْفَوَاضِلُ شِيمَةٌ رَفَعَتْ بِنَاءَكَ لِلْمَحَلِّ الْيَافِعِ ... فَبَذَلْتَ أَفْضَلَ مَا يَضِيقُ بِبَذْلِهِ وُسْعُ النُّفُوسِ مِنَ الْفِعَالِ الْبَارِعِ ... وَعَفَوْتَ عَمَّنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ مِثْلِهِ عَفْوٌ وَلَمْ يَشْفَعْ إِلَيْكَ بِشَافِعِ ... إِلَّا الْعُلُوَّ عَنِ الْعُقُوبَةِ بَعْدَمَا ظَفِرَتْ يَدَاكَ بِمُسْتَكِينٍ خَاضِعِ ... فَرَحِمْتَ أَطْفَالًا كَأَفْرَاخِ الْقَطَا وَعَوِيلَ عَانِسَةٍ كَقَوْسِ النَّازِعِ ... وَعَطَفْتَ آصِرَةً عَلَيَّ كَمَا وَهَى بَعْدَ انْهِيَاضِ الْوَثْيِ عَظْمُ الظَّالِعِ

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا أَقُولُ كَأَنَّهَا ... جَهْدُ الْأَلِيَّةِ مِنْ حَنِيفٍ رَاكِعِ مَا إِنْ عَصَيْتُكَ وَالْغُوَاةُ تَقُودُنِي ... أَسْبَابُهَا إِلَّا بِنِيَّةِ طَائِعِ حَتَّى إِذَا عَلِقَتْ حَبَائِلُ شِقْوَتِي ... بِرَدِّي إِلَى حُفَرِ الْمَهَالِكِ هَائِعِ لَمْ أَدْرِ أَنَّ لِمِثْلِ جُرْمِي غَافِرًا ... فَوَقَفْتُ أَنْظُرُ أَيُّ حَتْفٍ صَارِعِي رَدَّ الْحَيَاةَ عَلَيَّ بَعْدَ ذَهَابِهَا ... وَرَعُ الْإِمَامِ الْقَادِرِ الْمُتَوَاضِعِ أَحْيَاكَ مَنْ وَلَّاكَ أَفْضَلَ مُدَّةٍ ... وَرَمَى عَدُوَّكَ فِي الْوَتِينِ بِقَاطِعِ كَمْ مِنْ يَدٍ لَكَ لَمْ تُحَدِّثْنِي بِهَا ... نَفْسِي إِذَا آلَتْ إِلَيَّ مَطَامِعِي أَسْدَيْتَهَا عَفْوًا إِلَيَّ هَنِيئَةً ... وَشَكَرْتُ مُصْطَنَعًا لِأَكْرَمِ صَانِعِ إِلَّا يَسِيرًا عِنْدَمَا أَوْلَيْتَنِي ... وَهُوَ الْكَبِيرُ لَدَيَّ غَيْرُ الضَّائِعِ إِنْ أَنْتَ جُدْتَ بِهَا عَلَيَّ تَكُنْ لَهَا ... أَهْلًا وَإِنْ تَمْنَعْ فَأَكْرَمُ مَانِعِ إِنَّ الَّذِي قَسَمَ الْخِلَافَةَ حَازَهَا ... مِنْ صُلْبِ آدَمَ لِلْإِمَامِ السَّابِعِ جَمَعَ الْقُلُوبَ عَلَيْكَ جَامِعُ أَمْرِهَا ... وَحَوَى رِدَاؤُكَ كُلَّ خَيْرٍ جَامِعِ فَذُكِرَ أَنَّ الْمَأْمُونَ قَالَ حِينَ أَنْشَدَهُ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ: أَقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ:

{لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] . ذِكْرُ بِنَاءِ الْمَأْمُونِ بِبُورَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَنَى الْمَأْمُونُ بِبُورَانَ ابْنَةِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ فِي رَمَضَانَ، وَكَانَ الْمَأْمُونُ سَارَ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى فَمِ الصُّلْحِ إِلَى مُعَسْكَرِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، فَنَزَلَهُ، وَزُفَّتْ إِلَيْهِ بُورَانُ، فَلَمَّا دَخَلَ إِلَيْهَا الْمَأْمُونُ كَانَ عِنْدَهَا حَمْدُونَةُ بِنْتُ الرَّشِيدِ، وَأُمُّ جَعْفَرٍ زُبَيْدَةُ أُمُّ الْأَمِينِ، وَجَدَّتُهَا أُمُّ الْفَضْلِ، وَالْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ. فَلَمَّا دَخَلَ نَثَرَتْ عَلَيْهِ جَدَّتُهَا أَلْفَ لُؤْلُؤَةٍ مِنْ أَنْفَسِ مَا يَكُونُ، فَأَمَرَ الْمَأْمُونُ بِجَمْعِهِ فَجُمِعَ، فَأَعْطَاهُ بُورَانَ وَقَالَ: سَلِي حَوَائِجَكِ. فَأَمْسَكَتْ، فَقَالَتْ جَدَّتُهَا: سَلِي سَيِّدَكِ فَقَدْ أَمَرَكِ. فَسَأَلَتْهُ الرِّضَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. وَسَأَلَتْهُ الْإِذْنَ لِأُمِّ جَعْفَرٍ فِي الْحَجِّ، فَأَذِنَ لَهَا، وَأَلْبَسَتْهَا أُمُّ جَعْفَرٍ الْبَدْلَةَ اللُّؤْلُئِيَّةَ الْأُمَوِيَّةَ، وَابْتَنَى بِهَا فِي لَيْلَتِهِ، وَأُوقِدَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ شَمْعَةُ عَنْبَرٍ فِيهَا أَرْبَعُونَ مَنًا. وَأَقَامَ الْمَأْمُونُ عِنْدَ الْحَسَنِ سَبْعَةَ (عَشَرَ يَوْمًا) ، يُعِدُّ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَلِجَمِيعِ مَنْ مَعَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَخَلَعَ الْحَسَنُ عَلَى الْقُوَّادِ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ، وَحَمَلَهُمْ، وَوَصَلَهُمْ، وَكَانَ مَبْلَغُ مَا لَزِمَهُ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَتَبَ الْحَسَنُ أَسْمَاءَ ضِيَاعِهِ فِي رِقَاعٍ، وَنَثَرَهَا عَلَى الْقُوَّادِ، فَمَنْ وَقَعَتْ بِيَدِهِ رُقْعَةٌ مِنْهَا فِيهَا اسْمُ ضَيْعَةٍ بُعِثَ فَتَسَلَّمَهَا. ذِكْرُ مَسِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ إِلَى مِصْرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ (إِلَى مِصْرَ، وَافْتَتَحَهَا) ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ السَّرِيِّ. وَكَانَ سَبَبَ مَسِيرِهِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ قَدْ كَانَ تَغَلَّبَ عَلَى مِصْرَ، وَخَلَعَ الطَّاعَةَ، وَخَرَجَ جَمْعٌ مِنَ الْأَنْدَلُسِ فَتَغَلَّبُوا عَلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَاشْتَغَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ عَنْهُمْ بِمُحَارَبَةِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ سَارَ نَحْوَ مِصْرَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهَا عَلَى مَرْحَلَةٍ قَدَّمَ قَائِدًا مِنْ قُوَّادِهِ

إِلَيْهَا لِيَنْظُرَ مَوْضِعًا يُعَسْكِرُ فِيهِ. وَكَانَ ابْنُ السَّرِيِّ قَدْ خَنْدَقَ عَلَى مِصْرَ خَنْدَقًا، فَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِهِ مِنْ وُصُولِ الْقَائِدِ إِلَى مَا قَرُبَ مِنْهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فِي أَصْحَابِهِ، فَالْتَقَى هُوَ وَالْقَائِدُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَ الْقَائِدُ فِي قِلَّةٍ، فَجَالَ أَصْحَابُهُ، وَسَيَّرَ بَرِيدًا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ بِخَبَرِهِ، فَحَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ الرِّجَالَ عَلَى الْبِغَالِ، وَجَنَّبُوا الْخَيْلَ، وَأَسْرَعُوا السَّيْرَ، فَلَحِقُوا بِالْقَائِدِ وَهُوَ يُقَاتِلُ ابْنَ السَّرِيِّ، فَلَمَّا رَأَى ابْنُ السَّرِيِّ ذَلِكَ لَمْ يَصْبِرْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَانْهَزَمَ عَنْهُمْ، وَتَسَاقَطَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ فِي الْخَنْدَقِ، فَمَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ بِسُقُوطِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّنْ قَتَلَهُ الْجُنْدُ بِالسَّيْفِ. وَدَخَلَ ابْنُ السَّرِيِّ مِصْرَ، وَأَغْلَقَ الْبَابَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، وَحَاصَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ، فَلَمْ يَعُدِ ابْنُ السَّرِيِّ يَخْرُجُ إِلَيْهِ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ أَلْفَ وَصَيْفٍ وَوَصِيفَةٍ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَلْفُ دِينَارٍ، فَسَيَّرَهُمْ لَيْلًا، فَرَدَّهُمُ ابْنُ طَاهِرٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: لَوْ قَبِلْتُ هَدِيَّتَكَ نَهَارًا لَقَبِلْتُهَا لَيْلًا {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ - ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 36 - 37] . قَالَ: فَحِينَئِذٍ طَلَبَ الْأَمَانَ. وَقِيلَ: كَانَ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ. وَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ عَنْ أَبِي السَّمْرَاءِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ إِلَى مِصْرَ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بَيْنَ الرَّمْلَةِ وَدِمَشْقَ إِذْ نَحْنُ بِأَعْرَابِيٍّ قَدِ اعْتَرَضَ، فَإِذَا شَيْخٌ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ السَّلَامَ، قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الرَّافِقِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ أَبِي رِبْعِيٍّ، وَنَحْنُ نُسَايِرُ الْأَمِيرَ، وَكُنَّا أَفْرَهَ مِنْهُ دَابَّةً، وَأَجُودَ كُسْوَةً، قَالَ: فَجَعَلَ الْأَعْرَابِيُّ يَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِنَا، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا شَيْخُ، قَدْ أَلْحَحْتَ فِي النَّظَرِ، أَعَرَفْتَ شَيْئًا أَنْكَرْتَهُ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، مَا عَرَفْتُكُمْ قَبْلَ يَوْمِي هَذَا، وَلَكِنِّي رَجُلٌ حَسَنُ الْفِرَاسَةِ فِي النَّاسِ. قَالَ: فَأَشَرْتُ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي رِبْعِيٍّ، وَقُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: أَرَى كَاتِبًا دَاهِي الْكِتَابَةِ بَيِّنٌ ... عَلَيْهِ، وَتَأْدِيبُ الْعِرَاقِ مُنِيرُ لَهُ حَرَكَاتٌ قَدْ يُشَاهِدْنَ أَنَّهُ ... عَلِيمٌ بِتَقْسِيطِ الْخَرَاجِ بَصِيرُ وَنَظَرَ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّافِقِيِّ فَقَالَ:

وَمُظْهِرُ نُسْكٍ مَا عَلَيْهِ ضَمِيرُهُ ... يُحِبُّ الْهَدَايَا، بِالرِّجَالِ مَكُورُ إِخَالُ بِهِ جُبْنًا وَبُخْلًا ... وَشِيمَةً تُخْبِرُ عَنْهُ إِنَّهُ لَوَزِيرُ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ وَقَالَ: وَهَذَا نَدِيمٌ لِلْأَمِيرِ وَمُؤْنِسٌ ... يَكُونُ لَهُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ سُرُورُ وَأَحْسَبُهُ لِلشِّعْرِ وَالْعِلْمِ رَاوِيًا ... فَبَعْضُ نَدِيمٍ مَرَّةً وَسَمِيرُ ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْأَمِيرِ وَقَالَ: وَهَذَا الْأَمِيرُ الْمُرْتَجَى سَيْبُ كَفِّهِ ... فَمَا إِنْ لَهُ فِي الْعَالَمِينَ نَظِيرُ عَلَيْهِ رِدَاءٌ مِنْ جَمَالٍ وَهَيْبَةٍ ... وَوَجْهٌ بِإِدْرَاكِ النَّجَاحِ بَشِيرُ لَقَدْ عَظُمَ الْإِسْلَامُ مِنْهُ بِذِي يَدٍ ... فَقَدْ عَاشَ مَعْرُوفٌ وَمَاتَ نَكِيرُ أَلَا إِنَّمَا عَبْدُ الْإِلَهِ ابْنُ طَاهِرٍ ... لَنَا وَالِدٌ بَرٌّ بِنَا، وَأَمِيرُ قَالَ: فَوَقَعَ ذَلِكَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَحْسَنَ مَوْقِعٍ، وَأَعْجَبَهُ، وَأَمَرَ لِلشَّيْخِ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصْحَبَهُ. ذِكْرُ فَتْحِ عَبْدِ اللَّهِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ مَنْ كَانَ تَغَلَّبَ عَلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ (مِنْ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ) بِأَمَانٍ، وَكَانُوا قَدْ أَقْبَلُوا فِي مَرَاكِبَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ فِي جَمْعٍ، وَالنَّاسُ فِي فِتْنَةِ ابْنِ السَّرِيِّ وَغَيْرِهِ، فَرَسَوْا بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَرَئِيسُهِمْ يُدْعَى أَبَا حَفْصٍ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهَا حَتَّى قَدِمَ ابْنُ طَاهِرٍ، فَأَرْسَلَ يُؤْذِنُهُمْ بِالْحَرْبِ إِنْ هُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الطَّاعَةِ، فَأَجَابُوهُ، وَسَأَلُوهُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يَرْتَحِلُوا عَنْهَا إِلَى بَعْضِ أَطْرَافِ الرُّومِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَأَعْطَاهُمُ الْأَمَانَ عَلَى ذَلِكَ، فَرَحَلُوا، وَنَزَلُوا بِجَزِيرَةِ إِقْرِيطِشَ، وَاسْتَوْطَنُوهَا، وَأَقَامُوا بِهَا، فَأَعْقَبُوا وَتَنَاسَلُوا. قَالَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى: أَقْبَلَ إِلَيْنَا فَتًى حَدَثٌ مِنَ الْمَشْرِقِ - يَعْنِي ابْنَ طَاهِرٍ -

وَالدُّنْيَا عِنْدَنَا مَفْتُونَةٌ، قَدْ غَلَبَ عَلَى كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنْ بِلَادِنَا غَالِبٌ، وَالنَّاسُ فِي بَلَاءٍ، فَأَصْلَحَ الدُّنْيَا، وَأَمَّنَ الْبَرِيءَ، وَأَخَافَ السَّقِيمَ، وَاسْتَوْسَقَتْ لَهُ الرَّعِيَّةُ بِالطَّاعَةِ. ذِكْرُ خَلْعِ أَهْلِ قُمَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ أَهَلُ قُمَّ الْمَأْمُونَ، وَمَنَعُوا الْخَرَاجَ، فَكَانَ سَبَبَهُ أَنَّ الْمَأْمُونَ لَمَّا سَارَ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الْعِرَاقِ أَقَامَ بِالرَّيِّ (عِدَّةَ أَيَّامٍ) وَأَسْقَطَ عَنْهُمْ شَيْئًا مِنْ خَرَاجِهِمْ، فَطَمِعَ أَهْلُ قُمَّ أَنْ يَصْنَعَ بِهِمْ كَذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِ يَسْأَلُونَهُ الْحَطِيطَةَ، وَكَانَ خَرَاجُهُمْ أَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يُجِبْهُمُ الْمَأْمُونُ إِلَى مَا سَأَلُوا، فَامْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهِ، فَوَجَّهَ الْمَأْمُونُ إِلَيْهِمْ عَلِيَّ بْنَ هِشَامٍ، وَعُجَيْفَ بْنَ عَنْبَسَةَ، فَحَارَبَهُمْ، (فَظَفَرَا بِهِمْ) وَقُتِلَ يَحْيَى بْنُ عِمْرَانَ، وَهُدِمَ سُورُ الْمَدِينَةِ، وَجَبَاهَا عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانُوا يَتَظَلَّمُونَ مِنْ أَلْفَيْ أَلْفٍ. ذِكْرُ مَا كَانَ بِالْأَنْدَلُسِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ سَرِيَّةً كَبِيرَةً إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عُبَيْدَ اللَّهِ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْبَلَنْسِيِّ، فَسَارَ وَدَخَلَ بِلَادَ الْعَدُوِّ، وَتَرَدَّدَ فِيهَا بِالْغَارَاتِ، وَالسَّبْيِ، وَالْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ، وَلَقِيَ الْجُيُوشُ الْأَعْدَاءَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَكَانَ فَتْحًا عَظِيمًا. وَفِيهَا افْتَتَحَ عَسْكَرٌ - سَيَّرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَيْضًا - حِصْنَ الْقَلْعَةِ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَتَرَدَّدَ فِيهَا بِالْغَارَاتِ مُنْتَصَفَ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَفِيهَا أَمَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِجَيَّانَ. وَفِيهَا أَخَذَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ رَهَائِنَ أَبِي الشَّمَّاخِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ مُقَدِّمِ الْيَمَانِيَّةَ

بِتُدْمِيرَ، لِيُسَكِّنَ الْفِتْنَةَ بَيْنَ الْمُضَرِيَّةِ وَالْيَمَانِيَّةِ، فَلَمْ يَنْزَجِرُوا، وَدَامَتِ الْفِتْنَةُ، فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ ذَلِكَ أَمَرَ الْعَامِلَ بِتُدْمِيرَ أَنْ يُنْقَلَ مِنْهَا، وَيَجْعَلَ مُرْسِيَةَ مَنْزِلًا يَنْزِلُهُ الْعُمَّالُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَصَارَتْ مُرْسِيَةُ هِيَ قَاعِدَةُ تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَدَامَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَهُمْ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، فَسَيَّرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، فَأَذْعَنَ أَبُو الشَّمَّاخِ وَأَطَاعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ،، وَسَارَ إِلَيْهِ، وَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ قُوَّادِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَانْقَطَعَتِ الْفِتْنَةُ مِنْ نَاحِيَةِ تُدْمِيرَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ شَهْرَيَارُ بْنُ شَرَوِينَ، (صَاحِبُ جِبَالِ طَبَرِسْتَانَ) ، وَصَارَ فِي مَوْضِعِهِ ابْنُهُ سَابُورُ، فَقَاتَلَهُ مَازْيَارُ بْنُ قَارَنَ، فَأَسَرَهُ وَقَتَلَهُ، وَصَارَتِ الْجِبَالُ فِي يَدِ مَازْيَارَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَالِحُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ وَالِي مَكَّةَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ عَلِيَّةُ بِنْتُ الْمَهْدِيِّ، مَوْلِدُهَا سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ زَوْجَهَا مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ (بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) ، فَوَلَدَتْ مِنْهُ.

ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ] 211 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أُدْخِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ السَّرِيِّ بَغْدَاذَ، وَأُنْزِلَ مَدِينَةَ الْمَنْصُورِ، وَأَقَامَ ابْنُ طَاهِرٍ بِمِصْرَ وَالِيًا عَلَيْهَا وَعَلَى الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ، وَقَالَ لِلْمَأْمُونِ بَعْضُ إِخْوَتِهِ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ يَمِيلُ إِلَى وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَذَا كَانَ أَبُوهُ قَبْلَهُ. فَأَنْكَرَ الْمَأْمُونُ ذَلِكَ، فَعَاوَدَهُ أَخُوهُ، فَوَضَعَ الْمَأْمُونُ رَجُلًا قَالَ لَهُ: امْشِ فِي هَيْئَةِ الْقُرَّاءِ وَالنُّسَّاكِ إِلَى مِصْرَ، فَادْعُ جَمَاعَةً مِنْ كُبَرَائِهَا إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَبَاطَبَا، ثُمَّ صِرْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَادْعُهُ إِلَيْهِ، وَاذْكُرْ لَهُ مَنَاقِبَهُ، وَرَغِّبْهُ فِيهِ، وَابْحَثْ عَنْ بَاطِنِهِ، وَأْتِنِي بِمَا تَسْمَعُ. فَفَعَلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ، فَاسْتَجَابَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِهِ، فَقَعَدَ بِبَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فَلَمَّا رَكِبَ قَامَ إِلَيْهِ فَأَعْطَاهُ رُقْعَةً، فَلَمَّا عَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ أَحْضَرَهُ قَالَ: قَدْ فَهِمْتُ مَا فِي رُقْعَتِكَ، فَهَاتِ مَا عِنْدَكَ! فَقَالَ: وَلِي أَمَانُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ! فَدَعَاهُ إِلَى الْقَاسِمِ، وَذَكَرَ فَضْلَهُ وَزُهْدَهُ وَعِلْمَهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَتُنْصِفُنِي؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: هَلْ يَجِبُ شُكْرُ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَتَجِيءُ إِلَيَّ وَأَنَا فِي هَذِهِ الْحَالِ لِي خَاتَمٌ فِي الْمَشْرِقِ جَائِزٌ، وَخَاتَمٌ فِي الْمَغْرِبِ جَائِزٌ، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا أَمْرِي مُطَاعٌ، ثُمَّ مَا أَلْتَفِتُ عَنْ يَمِينِي وَلَا شِمَالِي، وَوَرَائِي وَأَمَامِي إِلَّا رَأَيْتُ نِعْمَةً لِرَجُلٍ أَنْعَمَهَا عَلَيَّ، وَمِنَّةً خَتَمَ بِهَا رَقَبَتِي، وَيَدًا لَائِحَةً بَيْضَاءَ ابْتَدَأَنِي بِهَا تَفَضُّلًا وَكَرَمًا، تَدْعُونِي إِلَى أَنْ أَكْفُرَ بِهَذِهِ النِّعَمِ وَهَذَا الْإِحْسَانِ، وَتَقُولُ: اغْدِرْ بِمَنْ كَانَ أَوْلَى لِهَذَا وَأَحْرَى، وَاسْعَ (فِي إِزَالَةِ خَيْطِ عُنُقِهِ) ، وَسَفْكِ دَمِهِ، تَرَاكَ لَوْ دَعَوْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ عِيَانًا أَكَانَ اللَّهُ يُحِبُّ أَنْ أَغْدِرَ بِهِ، وَأَكْفُرَ إِحْسَانَهُ، وَأَنْكُثَ بَيْعَتَهُ؟ فَسَكَتَ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: مَا أَخَافُ عَلَيْكَ إِلَّا نَفْسَكَ، فَارْحَلْ عَنْ هَذَا الْبَلَدِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ الْأَعْظَمَ إِنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ كُنْتَ الْجَانِيَ عَلَى نَفْسِكَ وَنَفْسِ غَيْرِكَ.

فَلَمَّا أَيِسَ مِنْهُ جَاءَ إِلَى الْمَأْمُونِ فَأَخْبَرَهُ، فَاسْتَبْشَرَ وَقَالَ: ذَلِكَ غَرْسُ يَدِي، وَإِلْفُ أَدَبِي، وَتِرْبُ تَلْقِيحِي. وَلَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ، وَلَا عَلِمَهُ ابْنُ طَاهِرٍ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمَأْمُونِ، وَكَانَ هَذَا الْقَائِلُ لِلْمَأْمُونِ الْمُعْتَصِمَ، فَإِنَّهُ كَانَ مُنْحَرِفًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ. ذِكْرُ قَتْلِ السَّيِّدِ بْنِ أَنَسٍ وَفِيهَا قُتِلَ السَّيِّدُ بْنُ أَنَسٍ الْأَزْدِيُّ أَمِيرُ الْمَوْصِلِ، وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ زُرَيْقَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ صَدَقَةَ الْأَزْدِيَّ الْمَوْصِلِيَّ كَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى الْجِبَالِ مَا بَيْنَ الْمَوْصِلِ وَأَذْرَبِيجَانَ، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّيِّدِ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ جَمَعَ زُرَيْقٌ جَمْعًا كَثِيرًا، قِيلَ: كَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الْمَوْصِلِ لِحَرْبِ السَّيِّدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَالْتَقَوْا بِسُوقِ الْأَحَدِ، فَحِينَ رَآهُمُ السَّيِّدُ حَمَلَ عَلَيْهِمْ وَحْدَهُ، وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَحْمِلَ وَحْدَهُ بِنَفْسِهِ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ زُرَيْقٍ، فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، لَمْ يُقْتَلْ غَيْرُهُمَا. وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ إِنْ رَأَى السَّيِّدَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ فَيَقْتُلَهُ أَوْ يُقْتَلَ دُونَهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى زُرَيْقٍ كُلَّ سَنَةٍ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقِيلَ لَهُ: بِأَيِّ سَبَبٍ تَأْخُذُ هَذَا الْمَالَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّنِي مَتَى رَأَيْتُ السَّيِّدَ قَتَلْتُهُ، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ فَوَفَّى بِهِ. فَلَمَّا بَلَغَ الْمَأْمُونَ قَتْلُهُ غَضِبَ لِذَلِكَ، وَوَلَّى مُحَمَّدَ بْنَ حُمَيْدٍ الطُّوسِيَّ حَرْبَ زُرَيْقٍ وَبَابَكَ الْخُرَّمِيِّ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَوْصِلِ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ عَامِرٍ وَمَنْصُورٍ وَقَتْلِ مَنْصُورٍ بِإِفْرِيقِيَّةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ عَامِرِ بْنِ نَافِعٍ وَبَيْنَ مَنْصُورِ بْنِ نَصْرٍ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْصُورًا كَانَ كَثِيرَ الْحَسَدِ. . . وَسَارَ بِهِمْ مِنْ تُونُسَ إِلَى [مَنْصُورٍ] وَهُوَ بِقَصْرِهِ بِطُنْبُذَةَ، فَحَصَرَهُ، حَتَّى فَنِيَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْمَاءِ، فَرَاسَلَهُ مَنْصُورٌ وَطَلَبَ مِنْهُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يَرْكَبَ سَفِينَةً وَيَتَوَجَّهَ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَخَرَجَ مَنْصُورٌ أَوَّلَ

اللَّيْلِ مُخْتَفِيًا يُرِيدُ الْأُرْبُسَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ عَامِرٌ وَلَمْ يَرَ لِمَنْصُورٍ أَثَرًا طَلَبَهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ، فَاقْتَتَلُوا وَانْهَزَمَ مَنْصُورٌ، وَدَخَلَ الْأُرْبُسَ فَتَحَصَّنَ بِهَا، وَحَصَرَهُ عَامِرٌ، وَنَصَبَ عَلَيْهِ مَنْجَنِيقًا. فَلَمَّا اشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَى أَهْلِ الْأُرْبُسِ قَالُوا لِمَنْصُورٍ: إِمَّا أَنْ تَخْرُجَ عَنَّا، وَإِلَّا سَلَّمْنَاكَ إِلَى عَامِرٍ، فَقَدْ أَضَرَّ بِنَا الْحِصَارُ. فَاسْتَمْهَلَهُمْ حَتَّى يُصْلِحَ أَمْرَهُ، فَأَمْهَلُوهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ الْمُفَرِّجِ، وَهُوَ مِنْ قُوَّادِ الْجَيْشِ، يَسْأَلُهُ الِاجْتِمَاعَ بِهِ، فَأَتَاهُ، فَكَلَّمَهُ مَنْصُورٌ مِنْ فَوْقِ السُّورِ وَاعْتَذَرَ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ أَمَانًا مِنْ عَامِرٍ حَتَّى يَسِيرَ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَأَجَابَهُ عَبْدُ السَّلَامِ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَعْطَفَ لَهُ عَامِرًا، فَأَمَّنَهُ عَلَى أَنْ يَسِيرَ إِلَى تُونُسَ، وَيَأْخُذَ أَهْلَهُ وَحَاشِيَتَهُ وَيَسِيرَ بِهِمْ إِلَى الشَّرْقِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَسَيَّرَهُ مَعَ خَيْلٍ إِلَى تُونُسَ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ سِرًّا أَنْ يَسِيرَ بِهِ إِلَى مَدِينَةِ جَرْبَةَ، وَيَسْجُنَهُ بِهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَجَنَ مَعَهُ أَخَاهُ حَمْدُونَ. فَلَمَّا عَلِمَ عَبْدُ السَّلَامِ ذَلِكَ عَظُمَ عَلَيْهِ، وَكَتَبَ عَامِرٌ إِلَى أَخِيهِ، وَهُوَ عَامِلُهُ عَلَى جَرْبَةَ، يَأْمُرُهُ بِقَتْلِ مَنْصُورٍ وَأَخِيهِ حَمْدُونَ، وَلَا يُرَاجَعُ فِيهِمَا، فَحَضَرَ عِنْدَهُمَا، وَأَقْرَأَهُمَا الْكِتَابَ، فَطَلَبَ مَنْصُورٌ مِنْهُ دَوَاةً وَقِرْطَاسًا لِيَكْتُبَ وَصِيَّتَهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَقْدِرْ [أَنْ] يَكْتُبَ، وَقَالَ: فَازَ الْمَقْتُولُ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ قَتَلَهُمَا، وَبَعَثَ بِرَأْسَيْهِمَا إِلَى أَخِيهِ، وَاسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ لِعَامِرِ بْنِ نَافِعٍ، وَرَجَعَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ الْمُفَرِّجِ إِلَى مَدِينَةِ بَاجَةَ، وَبَقِيَ عَامِرُ بْنُ نَافِعٍ بِمَدِينَةِ تُونُسَ، وَتُوُفِّيَ سَلْخَ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، فَلَمَّا وَصَلَ خَبَرُهُ إِلَى زِيَادَةِ اللَّهِ قَالَ: الْآنَ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. وَأَرْسَلَ بَنُوهُ إِلَى زِيَادَةِ اللَّهِ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ مَدِينَةَ السَّلَامِ، فَتَلَقَّاهُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمَأْمُونِ وَالْمُعْتَصِمُ، وَسَائِرُ النَّاسِ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مُوسَى بْنُ حَفْصٍ، فَوَلِيَ ابْنُهُ طَبَرِسْتَانَ، وَوَلِيَ حَاجِبُ بْنُ صَالِحٍ السِّنْدَ، فَهَزَمَهُ بِشْرُ بْنُ دَاوُدَ، فَانْحَازَ إِلَى كَرْمَانَ. وَفِيهَا أَمَرَ الْمَأْمُونُ مُنَادِيًا، فَنَادَى: بَرِئَتِ الذِّمَّةُ مِمَّنْ ذَكَرَ مُعَاوِيَةَ بِخَيْرٍ، أَوْ فَضَّلَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ الشَّاعِرُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ صَالِحُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَهُوَ وَالِي مَكَّةَ. (وَفِيهَا خَرَجَ بِأَعْمَالِ تَاكُرُنَّا مِنَ الْأَنْدَلُسِ [طَوْرِيلُ] ، فَقَصَدَ جَمَاعَةً مِنَ الْجُنْدِ قَدْ نَزَلُوا بِبَعْضِ قُرَى تَاكُرُنَّا مُمْتَارِينَ، فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ دَوَابَّهُمْ وَسِلَاحَهُمْ وَمَا مَعَهُمْ، فَسَارَ إِلَيْهِ عَامِلُهَا. [وَفِيهَا مَاتَ] الْأَخْفَشُ النَّحْوِيُّ الْبَصْرِيُّ) . وَفِيهَا مَاتَ طَلْقُ بْنُ غَنَّامِ النَّخَعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ، وَعَبْدُ (الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ) الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ الْمُحَدِّثُ، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَكَانَ يُشَيِّعُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَكَانَ يَسْكُنُ الْخُرَيْبَةَ بِالْبَصْرَةِ، فَنُسِبَ إِلَيْهَا.

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ] 212 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَلَى الْمَوْصِلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ الْمَأْمُونُ مُحَمَّدَ بْنَ حُمَيْدٍ الطُّوسِيَّ إِلَى بَابَكَ الْخُرَّمِيِّ لِمُحَارَبَتِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى الْمَوْصِلِ لِيُصْلِحَ أَمْرَهَا، وَيُحَارِبَ زُرَيْقَ بْنَ عَلِيٍّ، فَسَارَ مُحَمَّدٌ إِلَى الْمَوْصِلِ وَمَعَهُ جَيْشُهُ، وَجَمَعَ مَا فِيهَا مِنَ الرِّجَالِ مِنَ الْيَمَنِ وَرَبِيعَةَ، وَسَارَ لِحَرْبِ زُرَيْقٍ، وَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ السَّيِّدِ بْنِ أَنَسٍ الْأَزْدِيُّ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى زُرَيْقٍ، فَسَارَ نَحْوَهُمْ، فَالْتَقَوْا عَلَى الزَّابِّ، فَرَاسَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ يَدْعُوهُ إِلَى الطَّاعَةِ، فَامْتَنَعَ، فَنَاجَزَهُ مُحَمَّدٌ، وَاقْتَتَلُوا وَاشْتَدَّ قِتَالُ الْأَزْدِيِّ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ السَّيِّدِ طَلَبًا بِثَأْرِ السَّيِّدِ، فَانْهَزَمَ زُرَيْقٌ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُ مُحَمَّدٌ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ، فَسَيَّرَهُ إِلَى الْمَأْمُونِ. وَكَتَبَ الْمَأْمُونُ (إِلَى مُحَمَّدٍ يَأْمُرُهُ بِأَخْذِ جَمِيعِ مَالِ زُرَيْقٍ مِنْ قُرًى وَرُسْتَاقٍ، وَمَالٍ، وَغَيْرِهِ، فَأَخَذَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، فَجَمَعَ مُحَمَّدٌ أَوْلَادَ زُرَيْقٍ وَإِخْوَتَهُ، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمَأْمُونُ) فَأَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَمَرَنِي بِهِ، وَقَدْ قَبِلْتُ مَا حَبَانِي مِنْهُ وَرَدَدْتُهُ عَلَيْكُمْ. فَشَكَرُوهُ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ سَارَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَوْصِلِ مُحَمَّدَ بْنَ السَّيِّدِ، وَقَصَدَ الْمُخَالِفِينَ الْمُتَغَلِّبِينَ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ فَأَخَذَهُمْ، مِنْهُمْ يَعْلَى بْنُ مُرَّةَ وَنُظَرَاؤُهُ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الْمَأْمُونِ، وَسَارَ نَحْوَ بَابَكَ الْخُرَّمِيِّ لِمُحَارَبَتِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيَّ - وَالْمَعْرُوفُ بِالْأَحْمَرِ الْعَيْنِ - الْمَأْمُونُ

بِالْيَمَنِ، فَاسْتَعْمَلَ الْمَأْمُونُ عَلَى الْيَمَنِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْمَعْرُوفَ بِأَبِي الرَّازِيِّ، وَسَيَّرَهُ إِلَيْهَا. وَفِيهَا أَظْهَرَ الْمَأْمُونُ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَتَفْضِيلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: هُوَ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَفِيهَا كَانَتْ بِالْيَمَنِ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ، فَكَانَ أَشَدُّهَا بِعَدَنَ، فَتَهَدَّمَتِ الْمَنَازِلُ، وَخَرِبَتِ الْقُرَى، وَهَلَكَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. (وَفِيهَا سَيَّرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ جَيْشًا إِلَى بَلَدِ الْمُشْرِكِينَ، فَوَصَلُوا إِلَى بَرْشَلُونَةَ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى جَرِنْدَةَ) ، وَقَاتَلَ أَهْلَهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَأَقَامَ الْجَيْشُ شَهْرَيْنِ يَنْهَبُونَ وَيُخَرِّبُونَ. وَفِيهَا كَانَتْ سُيُولٌ عَظِيمَةٌ وَأَمْطَارٌ مُتَتَابِعَةٌ بِالْأَنْدَلُسِ، فَخَرِبَتْ أَكْثَرُ الْأَسْوَارِ بِمَدَائِنِ ثَغْرِ الْأَنْدَلُسِ، وَخَرِبَتْ قَنْطَرَةُ سَرَقُسْطَةَ، ثُمَّ جُدِّدَتْ عِمَارَتُهَا وَأُحْكِمَتْ. (بَرْشَلُونَةُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ وَالْوَاوِ وَالنُّونِ وَالْهَاءِ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ وَاقَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالْفِرْيَابِيِّ، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ.

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ] 213 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ وَفِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ ابْنَهُ الْعَبَّاسَ الْجَزِيرَةَ، وَالثُّغُورَ، وَالْعَوَاصِمَ، وَوَلَّى أَخَاهُ أَبَا إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمَ الشَّامَ وَمِصْرَ، وَأَمَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقِيلَ: لَمْ يُفَرِّقْ فِي يَوْمٍ مِنَ الْمَالِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ عَبْدُ السَّلَامِ وَابْنُ جَلِيسٍ الْمَأْمُونَ بِمِصْرَ فِي الْقَيْسِيَّةِ وَالْيَمَانِيَّةِ، وَظَهَرَا بِهَا، ثُمَّ وَثَبَا بِعَامِلِ الْمُعْتَصِمِ، وَهُوَ ابْنُ عُمَيْرَةَ بْنُ الْوَلِيدِ الْبَاذَغِيسِيُّ، فَقَتَلَاهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، فَسَارَ الْمُعْتَصِمُ إِلَى مِصْرَ، وَقَاتَلَهُمَا، فَقَتَلَهُمَا وَافْتَتَحَ مِصْرَ، فَاسْتَقَامَتْ أُمُورُهَا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عُمَّالَهُ. وَفِيهَا مَاتَ طَلْحَةُ بْنُ طَاهِرٍ بِخُرَاسَانَ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الْمَأْمُونُ غَسَّانَ بْنَ عَبَّادٍ عَلَى السِّنْدِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بِشْرَ بْنَ دَاوُدَ خَالَفَ الْمَأْمُونَ، وَجَبَى الْخَرَاجَ فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُ شَيْئًا، فَعَزَمَ عَلَى تَوْلِيَةِ غَسَّانَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَخْبَرُونِي عَنْ غَسَّانَ، فَإِنِّي أُرِيدُهُ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ. فَأَطْنَبُوا فِي مَدْحِهِ، فَنَظَرَ الْمَأْمُونُ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَحْمَدُ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ذَلِكَ رَجُلٌ مَحَاسِنُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَسَاوِئِهِ، لَا يُصْرَفُ بِهِ إِلَى طَبَقَةٍ إِلَّا انْتَصَفَ مِنْهُمْ، فَمَهْمَا تَخَوَّفْتَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَأْتِيَ أَمْرًا يَعْتَذِرُ مِنْهُ. فَأَطْنَبَ فِيهِ، فَقَالَ: لَقَدْ مَدَحْتَهُ عَلَى سُوءِ رَأْيِكَ فِيهِ. قَالَ: لِأَنِّي كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

كَفَى شُكْرًا لِمَا أَسْدَيْتَ أَنِّي ... صَدَقْتُكَ فِي الصِّدِيقِ وَفِي عُدَاتِي قَالَ: فَأُعْجِبَ الْمَأْمُونُ مِنْ كَلَامِهِ وَأَدَبِهِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَفِيهَا قَتَلَ أَهْلُ مَارِدَةَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ عَامِلَهُمْ، فَثَارَتِ الْفِتْنَةُ عِنْدَهُمْ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ جَيْشًا، فَحَصَرَهُمْ، وَأَفْسَدَ زَرْعَهُمْ وَأَشْجَارَهُمْ، فَعَاوَدُوا الطَّاعَةَ، وَأُخِذَتْ رَهَائِنُهُمْ، وَعَادَ الْجَيْشُ بَعْدَ أَنْ خَرَّبُوا سُورَ الْمَدِينَةِ. ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَيْهِمْ بِنَقْلِ حِجَارَةِ السُّورِ إِلَى النَّهْرِ ; لِئَلَّا يَطْمَعَ أَهْلُهَا فِي عِمَارَتِهِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ عَادُوا إِلَى الْعِصْيَانِ، وَأَسَرُوا الْعَامِلَ عَلَيْهِمْ، وَجَدَّدُوا بِنَاءَ السُّورِ وَأَتْقَنُوهُ. فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، فِي جُيُوشِهِ إِلَى مَارِدَةَ، وَمَعَهُ رَهَائِنُ أَهْلِهَا، فَلَمَّا بَارَزَهَا رَاسَلَهُ أَهْلُهَا، وَافْتَكُّوا رَهَائِنَهُمْ بِالْعَامِلِ الَّذِي أَسَرُوهُ وَغَيْرِهِ، وَحَصَرَهُمْ، وَأَفْسَدَ بَلَدَهُمْ وَرَحَلَ عَنْهُمْ. ثُمَّ سَيَّرَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، فَحَصَرُوهَا، وَضَيَّقُوا عَلَيْهَا، وَدَامَ الْحِصَارُ، ثُمَّ رَحَلُوا عَنْهُمْ. فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَيَّرَ إِلَيْهَا جَيْشًا، فَفَتَحَهَا، وَفَارَقَهَا أَهْلُ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ. وَكَانَ مِنْ أَهْلِهَا إِنْسَانٌ اسْمُهُ مَحْمُودُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْمَارِدِيُّ، فَحَصَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْجُنْدِ، وَصَدَقُوهُ الْقِتَالَ، فَهَزَمُوهُ وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنْ رِجَالِهِ، وَتَبِعَتْهُمُ الْخَيْلُ، فَأَفْنَوْهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا وَتَشْرِيدًا. وَمَضَى مَحْمُودُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْمَارِدِيُّ فِيمَنْ سَلِمَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى مُنْتِ سَالُوطَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ جَيْشًا سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَمَضَوْا هَارِبِينَ عَنْهُ إِلَى حَلْقَبَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا، فَأَرْسَلَ سَرِيَّةً فِي طَلَبِهِمْ، فَقَاتَلَهُمْ مَحْمُودٌ، فَهَزَمَهُمْ، وَغَنِمَ مَا مَعَهُمْ،

وَمَضَوْا لِوِجْهَتِهِمْ، فَلَقِيَهُمْ جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُصَادَفَةً، فَقَاتَلُوهُمْ ثُمَّ كَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَسَارُوا، فَلَقِيَهُمْ سَرِيَّةٌ أُخْرَى، فَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَتِ السَّرِيَّةُ، وَغَنِمَ مَحْمُودٌ مَا فِيهَا. وَسَارَ حَتَّى أَتَى مَدِينَةَ مِينَةَ، فَهَجَمَ عَلَيْهَا وَمَلَكَهَا، وَأَخَذَ مَا فِيهَا مِنْ دَوَابَّ وَطَعَامٍ، وَفَارَقُوهَا، فَوَصَلُوا إِلَى بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَاسْتَوْلَوْا عَلَى قَلْعَةٍ لَهُمْ، فَأَقَامُوا بِهَا خَمْسَةَ أَعْوَامٍ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَحَصَرَهُمْ أَذْفُونْسُ مَلِكُ الْفِرِنْجِ، فَمَلَكَ الْحِصْنَ، وَقَتَلَ مَحْمُودًا وَمَنْ مَعَهُ، وَذَلِكَ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي رَجَبٍ، وَانْصَرَفَ مَنْ فِيهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ الْمُغَنِّي، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَاهَانَ، وَالِدُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ كُوفِيًّا، وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَلَمَّا عَادَ قِيلَ لَهُ الْمَوْصِلِيُّ، فَلَزِمَهُ. وَعَلِيُّ بْنُ جَبَلَةَ بْنِ مُسْلِمٍ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاعِرُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ قَدْ أُضِرَّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ بْنِ الْبِرِنْدِ. وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ الْمُحَدِّثُ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ الْفَقِيهُ، وَكَانَ شِيعِيًّا، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ. (الْبِرِنْدُ بِكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْرَّاءِ وَتَسْكِينِ النُّونِ وَآخِرُهُ دَالٌ مُهْمَلَةٌ) .

ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ] 214 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ قَتْلِ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيِّ فِيهَا قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الطُّوسِيُّ، قَتَلَهُ بَابَكُ الْخُرَّمِيُّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ الْمُتَغَلِّبِينَ عَلَى طَرِيقِهِ إِلَى بَابَكَ سَارَ نَحْوَهُ وَقَدْ جَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَالْآلَاتِ وَالْمِيرَةَ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ عَالَمٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ مِنْ سَائِرِ الْأَمْصَارِ، فَسَلَكَ الْمَضَايِقَ إِلَى بَابَكَ، وَكَانَ كُلَّمَا جَاوَزَ مَضِيقًا أَوْ عَقَبَةً تَرَكَ عَلَيْهِ مَنْ يَحْفَظُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنْ نَزَلَ بِهَشْتَادْسَرَ، وَحَفَرَ خَنْدَقًا، وَشَاوَرَ فِي دُخُولِ بَلَدِ بَابَكَ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِدُخُولِهِ مِنْ وَجْهٍ ذَكَرُوهُ لَهُ، فَقَبِلَ رَأْيَهُمْ، وَعَبَّى أَصْحَابَهُ، وَجَعَلَ عَلَى الْقَلْبِ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّائِيَّ، الْمَعْرُوفَ بِأَبِي سَعِيدٍ، وَعَلَى الْمَيْمَنَةِ السَّعْدِيَّ بْنَ أَصْرَمَ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْيَقْطِينِيَّ، وَوَقَفَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ خَلْفَهُمْ فِي جَمَاعَةٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِسَدِّ خَلَلٍ إِنْ رَآهُ، فَكَانَ بَابَكُ يُشْرِفُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجَبَلِ، وَقَدْ كَمَّنَ لَهُمْ مِنَ الرِّجَالِ تَحْتَ كُلِّ صَخْرَةٍ. فَلَمَّا تَقَدَّمَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، وَصَعِدُوا فِي الْجَبَلِ مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ، خَرَجَ عَلَيْهِمُ الْكُمَنَاءُ، وَانْحَدَرَ بَابَكُ إِلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ، وَانْهَزَمَ النَّاسُ، فَأَمَرَهُمْ أَبُو سَعِيدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِالصَّبْرِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَمَرُّوا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَالْقَتْلُ يَأْخُذُهُمْ، وَصَبَرَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ مَكَانَهُ، وَفَرَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَسَارَا يَطْلُبَانِ الْخَلَاصَ، فَرَأَى جَمَاعَةً وَقِتَالًا، فَقَصَدَهُمْ، فَرَأَى (الْخُرَّمِيَّةَ يُقَاتِلُونَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَحِينَ رَآهُ الْخُرَّمِيَّةُ قَصَدُوهُ لِمَا رَأَوْا مِنْ حُسْنِ) هَيْئَتِهِ، فَقَاتَلَهُمْ وَقَاتَلُوهُ، وَضَرَبُوا فَرَسَهُ بِمِزْرَاقٍ، فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ،

وَأَكَبُّوا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ فَقَتَلُوهُ. وَكَانَ مُحَمَّدٌ مُمَدَّحًا جَوَّادًا، فَرَثَاهُ الشُّعَرَاءُ وَأَكْثَرُوا، مِنْهُمُ الطَّائِيُّ، فَلَمَّا وَصَلَ خَبَرُ قَتْلِهِ إِلَى الْمَأْمُونِ عَظُمَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ عَلَى قِتَالِ بَابَكَ، فَسَارَ نَحْوَهُ. ذِكْرُ حَالِ أَبِي دُلَفَ مَعَ الْمَأْمُونِ كَانَ أَبُو دُلَفَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ، وَسَارَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ إِلَى حَرْبِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَلَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ عَادَ أَبُو دُلَفَ إِلَى هَمَذَانَ، فَرَاسَلَهُ طَاهِرٌ يَسْتَمِيلُهُ، وَيَدْعُوهُ إِلَى بَيْعَةِ الْمَأْمُونِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: إِنَّ فِي عُنُقِي بَيْعَةً لَا أَجِدُ إِلَى فَسْخِهَا سَبِيلًا، وَلَكِنِّي سَأُقِيمُ مَكَانِي لَا أَكُونُ مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ إِنْ كَفَفْتَ عَنِّي. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَقَامَ بِكَرْجَ. فَلَمَّا خَرَجَ الْمَأْمُونُ إِلَى الرَّيِّ رَاسَلَ أَبَا دُلَفَ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ، فَسَارَ نَحْوَهُ مُجِدًّا وَهُوَ خَائِفٌ شَدِيدُ الْوَجَلِ، فَقَالَ لَهُ أَهْلُهُ وَقَوْمُهُ وَأَصْحَابُهُ: أَنْتَ سَيِّدُ الْعَرَبِ، وَكُلُّهَا تُطِيعُكَ، فَإِنْ كُنْتَ خَائِفًا فَأَقِمْ، وَنَحْنُ نَمْنَعُكَ. فَلَمْ يَفْعَلْ، وَسَارَ وَهُوَ يَقُولُ: أَجُودُ بِنَفْسِي دُونَ قَوْمِيَ دَافِعًا ... لِمَا نَابَهُمْ قِدَمًا وَأَغْشَى الدَّوَاهِيَا وَأَقْتَحِمُ الْأَمْرَ الْمَخُوفَ اقْتِحَامُهُ ... لُأُدْرِكَ مَجْدًا أَوْ أُعَاوِدَ ثَاوِيَا وَهِيَ أَبْيَاتٌ حَسَنَةٌ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَأْمُونِ أَكْرَمَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَمَّنَهُ، وَأَعْلَى مَنْزِلَتَهُ. ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ عَلَى خُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ الْمَأْمُونُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ عَلَى خُرَاسَانَ، فَسَارَ إِلَيْهَا. وَكَانَ سَبَبَ مَسِيرِهِ إِلَيْهَا أَنَّ أَخَاهُ طَلْحَةَ لَمَّا مَاتَ وَلِيَ خُرَاسَانَ عَلِيُّ بْنُ طَاهِرٍ خَلِيفَةً

لِأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بِالدِّينَوَرِ يُجَهِّزُ الْعَسَاكِرَ إِلَى بَابَكَ، وَأَوْقَعَ الْخَوَارِجُ بِخُرَاسَانَ بِأَهْلِ قَرْيَةِ الْحَمْرَاءِ مِنْ نَيْسَابُورَ، فَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الْقَتْلَ، وَاتَّصَلَ ذَلِكَ بِالْمَأْمُونِ، فَأَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ بِالْمَسِيرِ إِلَى خُرَاسَانَ، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا قَدِمَ نَيْسَابُورَ كَانَ أَهْلُهَا قَدْ قَحَطُوا فَمُطِرُوا قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهَا بِيَوْمٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا دَخَلَهَا قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ بَزَّازٌ فَقَالَ: قَدْ قُحِطَ النَّاسُ فِي زَمَانِهِمْ ... حَتَّى إِذَا جِئْتَ جِئْتَ بِالدُّرَرِ غَيْثَانِ فِي سَاعَةٍ لَنَا قَدِمًا ... فَمَرْحَبًا بِالْأَمِيرِ وَالْمَطَرِ فَأَحْضَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَقَالَ لَهُ: أَشَاعِرٌ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهَا بِالرَّقَّةِ فَحَفِظْتُهَا. فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ أَنْ لَا يُشْتَرَى لَهُ شَيْءٌ مِنَ الثِّيَابِ إِلَّا بِأَمْرِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ بِلَالٌ (الْغَسَّانِيُّ الشَّارِيُّ) ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ ابْنَهُ الْعَبَّاسَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْقُوَّادِ، فَقُتِلَ بِلَالٌ. وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو الرَّازِيِّ بِالْيَمَنِ. وَفِيهَا تَحَرَّكَ جَعْفَرُ بْنُ دَاوُدَ الْقُمِّيُّ، فَظَفِرَ بِهِ عَزِيزٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَكَانَ هَرَبَ مِنْ مِصْرَ فَرُدَّ إِلَيْهَا. وَفِيهَا وَلِيَ عَلِيُّ بْنُ هِشَامٍ الْجَبَلَ، وَقُمَّ، وَأَصْبَهَانَ، وَأَذْرَبِيجَانَ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِدْرِيسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْمَغْرِبِ، وَقَامَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ بِأَمْرِ مَدِينَةِ فَاسَ، فَوَلَّى أَخَاهُ الْقَاسِمَ الْبَصْرَةَ وَطَنْجَةَ وَمَا يَلِيهِمَا، وَاسْتَعْمَلَ بَاقِي إِخْوَتِهِ عَلَى مُدُنِ الْبَرْبَرَةِ. وَفِيهَا سَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ إِلَى مَدِينَةِ بَاجَةَ، وَكَانَتْ عَاصِيَةً عَلَيْهِ مِنْ حِينِ فِتْنَةِ مَنْصُورٍ إِلَى الْآنِ، فَمَلَكَهَا عَنْوَةً.

وَفِيهَا خَالَفَ هَاشِمٌ الضَّرَّابُ بِمَدِينَةِ طُلَيْطِلَةَ، مِنَ الْأَنْدَلُسِ، عَلَى صَاحِبِهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ هَاشِمٌ مِمَّنْ خَرَجَ مِنْ طُلَيْطِلَةَ [لَمَّا] أَوْقَعَ الْحَكَمُ بِأَهْلِهَا، فَسَارَ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ سَارَ إِلَى طُلَيْطِلَةَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَهْلُ الشَّرِّ وَغَيْرُهُمْ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى وَادِي نَحْوِيَيْهِ، وَأَغَارَ عَلَى الْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ، فَطَارَ اسْمُهُ، وَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُ، وَاجْتَمَعَ لَهُ جَمْعٌ عَظِيمٌ، وَأَوْقَعَ بِأَهْلِ شَنْتَ بَرِيَّةَ. وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَرْبَرِ وَقَعَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذِهِ السَّنَةَ جَيْشًا، فَقَاتَلُوهُ، فَلَمْ تَسْتَظْهِرْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَبَقِيَ هِشَامٌ كَذَلِكَ، وَغَلَبَ عَلَى عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَجَاوَزَ بِرْكَةَ الْعَجُوزِ، وَأَخَذَتْ غَارَةٌ خَيْلَهُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ جَيْشًا كَثِيفًا سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، فَلَقِيَهُمْ هَاشِمٌ بِالْقُرْبِ مِنْ حِصْنِ سُمُسْطَا بِمُجَاوَرَةِ رُورِيَةَ، فَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَدَامَتْ عِدَّةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ انْهَزَمَ هَاشِمٌ، وَقُتِلَ هُوَ وَكَثِيرٌ مِمَّنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الطَّمَعِ وَالشَّرِّ وَطَالِبِي الْفِتَنِ، وَكَفَى اللَّهُ النَّاسَ شَرَّهُمْ) . وَحَجَّ بِالنَّاسِ إِسْحَاقُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عاصمٍ النَّبِيلُ، وَاسْمُهُ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَهُوَ إِمَامٌ فِي الْحَدِيثِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو أَحْمَدَ حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَاذِيُّ.

ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ] 215 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ غَزْوَةِ الْمَأْمُونِ إِلَى الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ (الْمَأْمُونُ إِلَى الرُّومِ) فِي الْمُحَرَّمِ، فَلَمَّا سَارَ اسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَاذَ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، وَوَلَّاهُ مَعَ ذَلِكَ السَّوَادَ، وَحُلْوَانَ، وَكُوَرَ دِجْلَةَ، فَلَمَّا صَارَ الْمَأْمُونُ بِتَكْرِيتَ قَدِمَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَقِيَهُ بِهَا، فَأَجَارَهُ، وَأَمَرَهُ بِالدُّخُولِ بِابْنَتِهِ أُمِّ الْفَضْلِ، وَكَانَ زَوَّجَهَا مِنْهُ، فَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ أَيَّامَ الْحَجِّ سَارَ بِأَهْلِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِهَا. وَسَارَ الْمَأْمُونُ عَلَى طَرِيقِ الْمَوْصِلِ حَتَّى صَارَ إِلَى مَنْبِجَ، ثُمَّ إِلَى دَابِقَ، ثُمَّ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، ثُمَّ إِلَى الْمَصِّيصَةِ وَطَرَسُوسَ، وَدَخَلَ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَدَخَلَ ابْنُهُ الْعَبَّاسُ مِنْ مَلْطِيَةَ، فَأَقَامَ الْمَأْمُونُ عَلَى حِصْنِ قُرَّةَ حَتَّى افْتَتَحَهُ عَنْوَةً، وَهَدَمَهُ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى. وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَهُ طَلَبُوا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمُ الْمَأْمُونُ، وَفَتَحَ قَبْلَهُ حِصْنَ مَاجِدَةَ بِالْأَمَانِ، وَوَجَّهَ أَشْنَاسَ إِلَى حِصْنِ سُنْدُسَ، فَأَتَاهُ بِرَئِيسِهِ، (وَوَجَّهَ عُجَيْفًا وَجَعْفَرًا الْخَيَّاطَ إِلَى صَاحِبِ حِصْنِ سِنَاذَ، فَسَمِعَ وَأَطَاعَ. وَفِيهَا عَادَ) الْمُعْتَصِمُ مِنْ مِصْرَ، فَلَقِيَ الْمَأْمُونَ قَبْلَ دُخُولِهِ الْمَوْصِلَ، وَلَقِيَهُ

مَنْوِيلُ، وَعَبَّاسُ بْنُ الْمَأْمُونِ بِرَأْسِ عَيْنٍ. وَفِيهَا تَوَجَّهَ الْمَأْمُونُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ إِلَى دِمَشْقَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ السُّوَائِيُّ، وَأَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ الطَّبَّاعِ الْفَقِيهُ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شُقَيْقٍ صَاحِبُ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيُّ الْعَابِدُ الْمُحَدِّثُ، وَهَوْذَةُ بْنُ خَلِيفَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ أَبُو الْأَشْهَبِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ الْمَوْصِلِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ الزَّاهِدُ، تُوُفِّيَ بِدَارَيَّا،

وَمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيُّ الْبَلْخِيُّ بِبَلْخَ، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ قَارَبَ مِائَةَ سَنَةٍ. وَأَبُو زَيْدٍ سَعِيدُ بْنُ أَوْسِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ اللُّغَوِيُّ النَّحْوِيُّ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قَرِيبِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَبُو سَعِيدٍ الْأَصْمَعِيُّ اللُّغَوِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ.

ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ] 216 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ فَتْحِ هِرَقْلَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ الْمَأْمُونُ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ قَتَلَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ طَرَسُوسَ وَالْمَصِّيصَةَ، فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ أَرْضَ الرُّومِ فِي جُمَادَى الْأُولَى، فَأَقَامَ إِلَى مُنْتَصَفِ شَعْبَانَ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبَ دُخُولِهِ إِلَيْهَا أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ كَتَبَ إِلَيْهِ وَبَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَقْرَأْ كِتَابَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَ الرُّومِ أَنَاخَ عَلَى أَنْطِيغُوَا، فَخَرَجُوا عَلَى صُلْحٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى هِرَقْلَةَ، فَخَرَجَ أَهْلُهَا عَلَى صُلْحٍ. وَوَجَّهَ أَخَاهُ أَبَا إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمَ، فَافْتَتَحَ ثَلَاثِينَ حِصْنًا، وَمَطْمُورَةَ. وَوَجَّهَ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ مِنْ طُوَانَةَ، فَأَغَارَ وَقَتَلَ وَأَحْرَقَ، فَأَصَابَ سَبْيًا وَرَجَعَ. ثُمَّ سَارَ الْمَأْمُونُ إِلَى كَيْسُومَ، فَأَقَامَ بِهَا يَوْمَيْنِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى دِمَشْقَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا ظَهَرَ عَبْدُوسٌ الْفِهْرِيُّ بِمِصْرَ، فَوَثَبَ عَلَى عُمَّالِ الْمُعْتَصِمِ، فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ فِي

شَعْبَانَ، فَسَارَ الْمَأْمُونُ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى مِصْرَ مُنْتَصَفَ ذِي الْحِجَّةِ. وَفِيهَا قَدِمَ الْأَفْشِينُ مِنْ بَرْقَةَ، فَأَقَامَ بِمِصْرَ. وَفِيهَا كَتَبَ الْمَأْمُونُ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ يَأْمُرُهُ بِأَخْذِ الْجُنْدِ بِالتَّكْبِيرِ إِذَا صَلُّوا، فَبَدَأَ بِذَلِكَ مُنْتَصَفَ رَمَضَانَ، فَقَامُوا قِيَامًا، وَكَبَّرُوا ثَلَاثًا، ثُمَّ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ. وَفِيهَا غَضِبَ الْمَأْمُونُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ، (وَوَجَّهَ عُجَيْفًا وَأَحْمَدَ بْنَ هَاشِمٍ) ، وَأَمَرَ بِقَبْضِ أَمْوَالِهِ وَسِلَاحِهِ. وَفِيهَا مَاتَتْ أُمُّ جَعْفَرٍ زُبَيْدَةُ أُمُّ الْأَمِينِ بِبَغْدَاذَ. وَفِيهَا تَقَدَّمَ غَسَّانُ بْنُ عَبَّادٍ مِنَ السِّنْدِ، وَمَعَهُ بِشْرُ بْنُ دَاوُدَ، مُسْتَأْمِنًا، وَأَصْلَحَ السِّنْدَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عِمْرَانَ بْنَ مُوسَى الْعَتَكِيَّ. وَفِيهَا هَرَبَ جَعْفَرُ بْنُ دَاوُدَ الْقُمِّيُّ إِلَى قُمَّ، وَخَلَعَ الطَّاعَةَ بِهَا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ (بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) ، وَقِيلَ: حَجَّ بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَكَانَ الْمَأْمُونُ وَلَّاهُ الْيَمَنَ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ وِلَايَةَ كُلِّ بَلَدٍ يَدْخُلُهُ، فَسَارَ مِنْ دِمَشْقَ، فَقَدِمَ بَغْدَاذَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَسَارَ عَنْهَا، فَحَجَّ بِالنَّاسِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُسْهِرٍ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ مُسْهِرٍ الْغَسَّانِيُّ بِبَغْدَاذَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الْمُهَلَّبِ الْمُهَلَّبِيُّ، أَمِيرُ الْبَصْرَةِ بِهَا، وَيَحْيَى بْنُ يَعْلَى الْمُحَارِبِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ.

ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ] 217 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَفِرَ الْأَفْشِينُ بِالْفَرَمَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَنَزَلَ أَهْلُهَا بِأَمَانٍ عَلَى حُكْمِ الْمَأْمُونِ. وَوَصَلَ الْمَأْمُونُ إِلَى مِصْرَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأُتِيَ بِعَبْدُوسٍ الْفِهْرِيِّ فَضُرِبَ عُنُقُهُ، وَعَادَ إِلَى الشَّامِ. وَفِيهَا قَتَلَ الْمَأْمُونُ عَلِيَّ بْنَ هِشَامٍ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُونَ كَانَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ وَغَيْرِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَبَلَغَهُ ظُلْمُهُ، وَأَخْذُهُ الْأَمْوَالَ، وَقَتْلُهُ الرِّجَالَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ عُجَيْفَ بْنَ عَنْبَسَةَ، فَثَارَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ هِشَامٍ وَأَرَادَ قَتْلَهُ وَاللِّحَاقَ بِبَابَكَ، وَظَفِرَ بِهِ عُجَيْفٌ، وَقَدِمَ بِهِ عَلَى الْمَأْمُونِ فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ أَخَاهُ حَبِيبًا فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَطِيفَ بِرَأْسِ عَلِيٍّ فِي الْعِرَاقِ، وَخُرَاسَانَ، وَالشَّامِ، وَمِصْرَ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي الْبَحْرِ. [عَوْدَةُ الْمَأْمُونِ إِلَى غَزْوِ الرُّومِ] وَفِيهَا عَادَ الْمَأْمُونُ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَأَنَاخَ عَلَى لُؤْلُؤَةَ مِائَةَ يَوْمٍ، ثُمَّ رَحَلَ عَنْهَا، وَتَرَكَ عَلَيْهَا عُجَيْفًا، فَخَدَعَهُ أَهْلُهَا، فَبَقِيَ عِنْدَهُمْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَأَخْرَجُوهُ، وَجَاءَ تَوْفِيلُ مَلِكُ الرُّومِ، فَأَحَاطَ بِعُجَيْفٍ فِيهِ، فَبَعَثَ الْمَأْمُونُ إِلَيْهِ الْجُنُودَ، فَارْتَحَلَ تَوْفِيلُ قَبْلَ مُوَافَاتِهِمْ،

وَخَرَجَ أَهْلُ لُؤْلُؤَةَ إِلَى عُجَيْفٍ بِأَمَانٍ، وَأَرْسَلَ مَلِكُ الرُّومِ يَطْلُبُ الْمُهَادَنَةَ، فَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ. وَفِيهَا سَارَ الْمَأْمُونُ إِلَى سَلَغُوسَ. وَفِيهَا بُعِثَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْقُمِّيُّ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ دَاوُدَ الْقُمِّيِّ، فَقُتِلَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ بِالْبَصْرَةِ، وَسُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ. (سُرَيْجٌ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ) . وَسَعْدَانُ بْنُ بِشْرٍ الْمَوْصِلِيُّ يَرْوِي عَنِ الثَّوْرِيِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْخَلِيلُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ الْمُزَنِيُّ الْمَوْصِلِيُّ، وَكَانَ عَالِمًا عَابِدًا، وَأَبَوْهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ الْمَوْصِلِيُّ، وَكَانَ فَاضِلًا.

ثم دخلت سنة ثماني عشرة ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ] ذِكْرُ الْمِحْنَةِ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ الْمَأْمُونُ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِبَغْدَاذَ فِي امْتِحَانِ الْقُضَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْمُحَدِّثِينَ بِالْقُرْآنِ، فَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَمَنْ أَبَى أَعْلَمَهُ بِهِ لِيَأْمُرَهُ فِيهِ بِرَأْيِهِ، وَطَوَّلَ كِتَابَهُ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ، وَتَرْكِ الِاسْتِعَانَةِ بِمَنِ امْتَنَعَ عَنِ الْقَوْلِ بِذَلِكَ، وَكَانَ الْكِتَابُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَأَمَرَهُ بِإِنْفَاذِ سَبْعَةِ نَفَرٍ، مِنْهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ، وَأَبُو مُسْلِمٍ مُسْتَمْلِي يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ دَاوُدَ، (وَإِسْمَاعِيلُ) بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ الدَّوْرَقِيُّ، فَأُشْخِصُوا إِلَيْهِ، فَسَأَلَهُمْ وَامْتَحَنَهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ، فَأَجَابُوا جَمِيعًا: إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ. فَأَعَادَهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَحْضَرَهُمْ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ دَارَهُ، وَشَهَرَ قَوْلَهُمْ بِحَضْرَةِ الْمَشَايِخِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ. وَوَرَدَ كِتَابُ الْمَأْمُونِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِامْتِحَانِ الْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ، فَأَحْضَرَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبَا حَسَّانَ الزِّيَادِيَّ، وَبِشْرَ بْنَ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيَّ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي مُقَاتِلٍ، وَالْفَضْلَ بْنَ غَانِمٍ، وَالذَّيَّالَ بْنَ الْهَيْثَمِ، وَسَجَّادَةَ، وَالْقَوَارِيرِيَّ، وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَقُتَيْبَةَ، وَسَعْدَوَيْهِ الْوَاسِطِيَّ، وَعَلِيَّ بْنَ جَعْدٍ، وَإِسْحَاقَ بْنَ أَبِي إِسْرَائِيلَ، وَابْنَ الْهَرْشِ، وَابْنَ عُلَيَّةَ الْأَكْبَرَ، وَيَحْيَى بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُمَرِيَّ، وَشَيْخًا آخَرَ مِنْ وَلَدِ

عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَانَ قَاضِيَ الرَّقَّةِ، وَأَبَا نَصْرٍ التَّمَّارَ، وَأَبَا مَعْمَرٍ الْقَطِيعِيَّ، وَمُحَمَّدَ بْنَ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ نُوحٍ الْمَضْرُوبَ، وَابْنَ الْفَرُّخَانِ، (وَجَمَاعَةً، مِنْهُمُ: النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَابْنُ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ، وَأَبُو الْعَوَّامِ الْبَزَّازُ، وَابْنُ شُجَاعٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ) ، فَأُدْخِلُوا جَمِيعًا عَلَى إِسْحَاقَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ الْمَأْمُونِ مَرَّتَيْنِ حَتَّى فَهِمُوهُ، ثُمَّ قَالَ لِبِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: قَدْ عَرَّفْتُ مَقَالَتِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ مَرَّةٍ. قَالَ: فَقَدْ تَجَدَّدَ مِنْ كِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَرَى. فَقَالَ: أَقُولُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ: لَمْ أَسْأَلْكَ عَنْ هَذَا، أَمَخْلُوقٌ هُوَ؟ قَالَ: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. (قَالَ: فَالْقُرْآنُ شَيْءٌ) ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَخْلُوقٌ هُوَ؟ قَالَ: لَيْسَ بِخَالِقٍ. قَالَ: (لَيْسَ [أَسْأَلُكَ] عَنْ هَذَا) أَمَخْلُوقٌ هُوَ؟ قَالَ: مَا أُحْسِنُ غَيْرَ مَا قُلْتُ لَكَ، (وَقَدِ اسْتَعْهَدْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا أَتَكَلَّمَ فِيهِ، وَلَيْسَ عِنْدِي غَيْرُ مَا قُلْتُ لَكَ) . فَأَخَذَ إِسْحَاقُ رُقْعَةً، فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ وَوَقَفَهُ عَلَيْهَا، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَحَدًا فَرْدًا، لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ [وَلَا بَعْدَهُ شَيْءٌ] ، وَلَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، وَوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ لِلْكَاتِبِ: اكْتُبْ مَا قَالَ. ثُمَّ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي مُقَاتِلٍ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قَدْ سَمِعْتَ كَلَامِي لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ، وَمَا عِنْدِي غَيْرُهُ. فَامْتَحَنَهُ بِالرُّقْعَةِ، فَأَقَرَّ بِمَا فِيهَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؟ قَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ: لَمْ أَسْأَلْكَ عَنْ هَذَا. قَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ، فَإِنْ

أَمَرَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِشَيْءٍ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. فَقَالَ لِلْكَاتِبِ: اكْتُبْ مَقَالَتَهُ. ثُمَّ قَالَ لِلذَّيَّالِ نَحْوًا مِنْ مَقَالَتِهِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي مُقَاتِلٍ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ لِأَبِي حَسَّانَ الزِّيَادِيِّ: مَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ الرُّقْعَةَ فَأَقَرَّ بِمَا فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَقُلْ هَذَا الْقَوْلَ فَهُوَ كَافِرٌ. فَقَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ هُوَ؟ قَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ، وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِمَامُنَا وَبِهِ سَمِعْنَا عَامَّةَ الْعِلْمِ، وَقَدْ سَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ، وَعَلِمَ مَا لَمْ نَعْلَمْ، وَقَدْ قَلَّدَهُ اللَّهُ أَمْرَنَا، فَصَارَ يُقِيمُ حَجَّنَا وَصَلَاتَنَا، وَنُؤَدِّي إِلَيْهِ زَكَاةَ أَمْوَالِنَا، وَنُجَاهِدُ مَعَهُ، وَنَرَى إِمَامَتَهُ، فَإِنْ أَمَرَنَا ائْتَمَرْنَا، وَإِنْ نَهَانَا انْتَهَيْنَا. قَالَ: فَالْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؟ فَأَعَادَ مَقَالَتَهُ. قَالَ إِسْحَاقُ: فَإِنَّ هَذِهِ مَقَالَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: قَدْ تَكُونُ مَقَالَتَهُ وَلَا يَأْمُرُ بِهَا النَّاسَ، وَإِنْ خَبَّرْتَنِي أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَكَ أَنْ أَقُولَ قَلْتُ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ، فَإِنَّكَ الثِّقَةُ فِيمَا أَبْلَغْتَنِي عَنْهُ. قَالَ: مَا أَمَرَنِي أَنْ أُبَلِّغَكَ شَيْئًا. قَالَ أَبُو حَسَّانَ: وَمَا عِنْدِي إِلَّا السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، فَأْمُرْنِي أَأْتَمِرْ. قَالَ: مَا أَمَرَنِي أَنْ آمُرَكُمْ، وَإِنَّمَا أَمَرَنِي أَنْ أَمْتَحِنَكُمْ. ثُمَّ قَالَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ: أَمَخْلُوقٌ هُوَ؟ قَالَ: كَلَامُ اللَّهِ مَا أَزِيدُ عَلَيْهَا.

فَامْتَحَنَهُ بِمَا فِي الرُّقْعَةِ، فَلَمَّا أَتَى إِلَى " {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] " [قَرَأَ] : {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، وَأَمْسَكَ عَنْ: وَلَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي وَلَا وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ ابْنُ الْبَكَّاءِ الْأَصْغَرُ فَقَالَ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! إِنَّهُ يَقُولُ: سَمِيعٌ مِنْ أُذُنٍ، وَبَصِيرٌ مِنْ عَيْنٍ. فَقَالَ إِسْحَاقُ لِأَحْمَدَ: مَا مَعْنَى قَوْلِكَ: سَمِيعٌ بَصِيرٌ؟ قَالَ: هُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ. (قَالَ: فَمَا مَعْنَاهُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي أَهْوَ هُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ) . ثُمَّ دَعَا بِهِمْ رَجُلًا رَجُلًا كُلُّهُمْ يَقُولُ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ، إِلَّا قُتَيْبَةَ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَابْنَ عُلَيَّةَ الْأَكْبَرَ، وَابْنَ الْبَكَّاءِ، وَعَبْدَ الْمُنْعِمِ بْنَ إِدْرِيسَ (ابْنَ بِنْتِ، وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَالْمُظَفَّرَ بْنَ مُرَجَّى، وَرَجُلًا مِنْ وَلَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَاضِي الرَّقَّةِ، وَابْنَ الْأَحْمَرِ، فَأَمَّا ابْنُ الْبَكَّاءِ الْأَكْبَرُ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْقُرْآنُ مَجْعُولٌ ; لِقَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] وَالْقُرْآنُ مُحْدَثٌ ; لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] . قَالَ إِسْحَاقُ: فَالْمَجْعُولُ مَخْلُوقٌ. (قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَالْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؟ قَالَ: لَا أَقُولُ: مَخْلُوقٌ، وَلَكِنَّهُ مَجْعُولٌ. فَكَتَبَ مَقَالَتَهُ وَمَقَالَاتِ الْقَوْمِ رَجُلًا رَجُلًا، وَوُجِّهَتْ إِلَى الْمَأْمُونِ، فَأَجَابَ الْمَأْمُونُ يَذُمُّهُمْ وَيَذْكُرُ كُلًّا مِنْهُمْ، وَيَعِيبُهُ وَيَقَعُ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُحْضِرَ بِشْرَ بْنَ الْوَلِيدِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ، وَيَمْتَحِنَهُمَا، فَإِنْ أَجَابَا، وَإِلَّا فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمَا، وَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمَا، فَإِنْ أَجَابَ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَإِلَّا حَمَلَهُمْ مُوَثَّقِينَ بِالْحَدِيدِ إِلَى عَسْكَرِهِ مَعَ نَفَرٍ يَحْفَظُونَهُمْ.

فَأَحْضَرَهُمْ إِسْحَاقُ، وَأَعْلَمَهُمْ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمَأْمُونُ، فَأَجَابَ الْقَوْمُ أَجْمَعُونَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ، وَهُمْ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَسَجَّادَةُ، وَالْقَوَارِيرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ الْمَضْرُوبُ، فَأَمَرَ بِهِمْ إِسْحَاقُ فَشُدُّوا فِي الْحَدِيدِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَعَاهُمْ فِي الْحَدِيدِ، فَأَعَادَ عَلَيْهِمُ الْمِحْنَةَ، فَأَجَابَهُ سَجَّادَةُ وَالْقَوَارِيرِيُّ، فَأَطْلَقَهُمَا، وَأَصَرَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ عَلَى قَوْلِهِمَا، فَشُدَّا فِي الْحَدِيدِ، وَوُجِّهَا إِلَى طَرَسُوسَ، وَكَتَبَ إِلَى الْمَأْمُونِ بِتَأْوِيلِ الْقَوْمِ فِيمَا أَجَابُوا إِلَيْهِ، فَأَجَابَهُ الْمَأْمُونُ: إِنَّنِي بَلَغَنِي عَنْ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] ، وَقَدْ أَخْطَأَ التَّأْوِيلَ، إِنَّمَا عَنَى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِلْإِيمَانِ، مُظْهِرًا لِلشِّرْكِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِلشِّرْكِ، مُظْهِرًا لِلْإِيمَانِ، فَلَيْسَ هَذَا لَهُ. فَأَشْخَصَهُمْ جَمِيعًا إِلَى طَرَسُوسَ لِيُقِيمُوا بِهَا إِلَى أَنْ يَخْرُجَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، فَأَحْضَرَهُمْ إِسْحَاقُ، وَسَيَّرَهُمْ جَمِيعًا إِلَى الْعَسْكَرِ، وَهُمْ: أَبُو حَسَّانَ الزِّيَادِيُّ، وَبِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْفَضْلُ بْنُ غَانِمٍ، وَعَلِيُّ بْنُ مُقَاتِلٍ، وَالذَّيَّالُ بْنُ الْهَيْثَمِ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُمَرِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، وَأَبُو الْعَوَّامِ، وَسَجَّادَةُ، وَالْقَوَارِيرِيُّ، (وَابْنُ الْحَسَنِ بْنِ) عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَأَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، وَسَعْدَوَيْهِ الْوَاسِطِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، وَأَبُو مَعْمَرِ بْنُ الْهَرْشِ، وَابْنُ الْفَرُّخَانِ، وَأَحْمَدُ بْنُ شُجَاعٍ، وَأَبُو هَارُونَ بْنُ الْبَكَّاءِ، فَلَمَّا صَارُوا إِلَى الرَّقَّةِ بَلَغَهُمْ مَوْتُ الْمَأْمُونِ فَرَجَعُوا (إِلَى بَغْدَاذَ) . ذِكْرُ مَرَضِ الْمَأْمُونِ وَوَصِيَّتِهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرِضَ الْمَأْمُونُ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَكَانَ سَبَبَ مَرَضِهِ مَا ذَكَرَهُ سَعْدُ بْنُ الْعَلَّافِ الْقَارِئُ قَالَ: دَعَانِي الْمَأْمُونُ

يَوْمًا، فَوَجَدْتُهُ جَالِسًا عَلَى جَانِبِ الْبَذَنْدُونِ، وَالْمُعْتَصِمُ عَنْ يَمِينِهِ، وَهُمَا قَدْ دَلَّيَا أَرْجُلَهُمَا فِي الْمَاءِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ رِجْلِي فِي الْمَاءِ، وَقَالَ: ذُقْهُ! فَهَلْ رَأَيْتَ أَعْذَبَ مِنْهُ، أَوْ أَصْفَى صَفَاءً، أَوْ أَشَدَّ بَرْدًا؟ فَفَعَلْتُ، وَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ قَطُّ. فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ يَطِيبُ أَنْ يُؤْكَلَ وَيُشْرَبَ عَلَيْهِ هَذَا الْمَاءُ؟ فَقُلْتُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ. فَقَالَ: الرُّطَبُ الْآزَاذُ. فَبَيْنَمَا هُوَ يَقُولُ [هَذَا] إِذْ سَمِعَ وَقْعَ لُجُمِ الْبَرِيدِ، فَالْتَفَتَ، فَإِذَا بِغَالُ الْبَرِيدِ عَلَيْهَا الْحَقَائِبُ فِيهَا الْأَلْطَافُ، فَقَالَ لِخَادِمٍ [لَهُ] : انْظُرْ إِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الْأَلْطَافِ رُطَبُ آزَاذٍ، فَأْتِ بِهِ! فَمَضَى وَعَادَ وَمَعَهُ سَلَّتَانِ فِيهِمَا آزَاذٌ كَأَنَّمَا جُنِيَ تِلْكَ السَّاعَةَ، فَأَظْهَرَ شُكْرًا لِلَّهِ - تَعَالَى - وَتَعَجَّبْنَا جَمِيعًا، وَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَمَا قَامَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ مَحْمُومٌ، وَكَانَتْ مَنِيَّةُ الْمَأْمُونِ مِنْ تِلْكَ الْعِلَّةِ، وَلَمْ يَزَلِ الْمُعْتَصِمُ مَرِيضًا حَتَّى دَخَلَ الْعِرَاقَ، وَبَقِيتُ أَنَا مَرِيضًا مُدَّةً. فَلَمَّا مَرِضَ الْمَأْمُونُ أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ إِلَى الْبِلَادِ الْكُتُبُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخِيهِ الْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، وَأَوْصَى إِلَى الْمُعْتَصِمِ بِحَضْرَةِ ابْنِهِ الْعَبَّاسِ، وَبِحَضْرَةِ الْفُقَهَاءِ، وَالْقُضَاةِ، وَالْقُوَّادِ، وَكَانَتْ وَصِيَّتُهُ، بَعْدَ الشَّهَادَةِ، وَالْإِقْرَارِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْبَعْثِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَنْبِيَاءِ -: إِنِّي مُقِرٌّ مُذْنِبٌ، أَرْجُو وَأَخَافُ، إِلَّا أَنِّي إِذَا ذَكَرْتُ عَفْوَ اللَّهِ رَجَوْتُ، وَإِذَا مُتُّ فَوَجِّهُونِي، وَغَمِّضُونِي، وَأَسْبِغُوا وَضُوئِي وَطَهُورِي، وَأَجِيدُوا كَفَنِي، ثُمَّ أَكْثِرُوا حَمْدَ اللَّهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَعْرِفَةِ حَقِّهِ عَلَيْكُمْ فِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَعَلَنَا مِنْ أُمَّتِهِ الْمَرْحُومَةِ، ثُمَّ أَضْجِعُونِي عَلَى سَرِيرِي، ثُمَّ عَجِّلُوا بِي، وَلْيُصَلِّ عَلَيَّ أَقْرَبُكُمْ نَسَبًا وَأَكْبَرُكُمْ سِنًّا، وَلْيُكَبِّرْ خَمْسًا، ثُمَّ احْمِلُونِي وَابْلُغُوا بِي حُفْرَتِي، وَلْيَنْزِلْ بِي أَقْرَبُكُمْ قَرَابَةً، وَأَوَدُّكُمْ مَحَبَّةً. وَأَكْثِرُوا مِنْ حَمْدِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ، ثُمَّ ضَعُونِي عَلَى شِقِّيَ الْأَيْمَنِ، وَاسْتَقْبِلُوا بِي الْقِبْلَةَ، ثُمَّ حُلُّوا كَفَنِي عَنْ رَأْسِي وَرِجْلِي، ثُمَّ سُدُّوا اللَّحْدَ وَاخْرُجُوا عَنِّي، وَخَلُّونِي وَعَمَلِي، وَكُلُّكُمْ لَا يُغْنِي عَنِّي شَيْئًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنِّي مَكْرُوهًا، ثُمَّ قِفُوا بِأَجْمَعِكُمْ، فَقُولُوا خَيْرًا إِنْ عَلِمْتُمْ، وَأَمْسِكُوا عَنْ ذِكْرِ شَرٍّ إِنْ كُنْتُمْ عَرَفْتُمْ، فَإِنِّي مَأْخُوذٌ مِنْ بَيْنِكُمْ بِمَا تَقُولُونَ، وَلَا تَدَعُوا بَاكِيَةً عِنْدِي، فَإِنَّ الْمُعْوَلَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ، رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا اتَّعَظَ وَفَكَّرَ فِيمَا حَتَّمَ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ

مِنَ الْفَنَاءِ، وَقَضَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي تَوَحَّدَ بِالْبَقَاءِ، وَقَضَى عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ الْفَنَاءَ. [ثُمَّ] لْيُنْظَرْ مَا كُنْتُ فِيهِ مِنْ عِزِّ الْخِلَافَةِ، هَلْ أَغْنَى عَنِّي ذَلِكَ شَيْئًا إِذْ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ؟ لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنْ أُضْعِفَ عَلَيَّ بِهِ الْحِسَابُ، فَيَالَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هَارُونَ لَمْ يَكُنْ بَشَرًا، بَلْ لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ خَلْقًا. يَا أَبَا إِسْحَاقَ، ادْنُ مِنِّي، وَاتَّعِظْ بِمَا تَرَى، وَخُذْ بِسِيرَةِ أَخِيكَ فِي الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ، وَاعْمَلْ فِي الْخِلَافَةِ إِذَا طَوَّقَكَهَا اللَّهُ عَمَلَ الْمُرِيدِ لِلَّهِ، الْخَائِفِ مِنْ عِقَابِهِ وَعَذَابِهِ، وَلَا تَغْتَرَّ بِاللَّهِ وَمُهْلَتِهِ، فَكَأَنَّ قَدْ نَزَلَ بِكَ الْمَوْتُ، وَلَا تَغْفَلْ أَمْرَ الرَّعِيَّةِ وَالْعَوَامِّ، فَإِنَّ الْمُلْكَ بِهِمْ وَبِتَعَهُّدِكَ لَهُمْ، اللَّهَ اللَّهَ فِيهِمْ، وَفِي غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَنْتَهِيَنَّ إِلَيْكَ أَمْرٌ فِيهِ صَلَاحٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَمَنْفَعَةٌ إِلَّا قَدَّمْتَهُ، وَآثَرْتَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ هَوَاكَ. وَخُذْ مِنْ أَقْوِيَائِهِمْ لِضُعَفَائِهِمْ، وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ، وَأَنْصِفْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالْحَقِّ بَيْنَهُمْ، وَقَرِّبْهُمْ، وَتَأَنَّ بِهِمْ، وَعَجِّلِ الرِّحْلَةَ عَنِّي، وَالْقُدُومَ إِلَى دَارِ مُلْكِكَ بِالْعِرَاقِ، وَانْظُرْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَنْتَ بِسَاحَتِهِمْ، فَلَا تَغْفَلْ عَنْهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالْخُرَّمِيَّةُ فَأَغْزِهِمْ ذَا حَزَامَةٍ وَصَرَامَةٍ وَجَلَدٍ، وَاكْنُفْهُ بِالْأَمْوَالِ وَالْجُنُودِ، فَإِنْ طَالَتْ مُدَّتُهُمْ فَتَجَرَّدْ لَهُمْ بِمَنْ مَعَكَ [مِنْ] أَنْصَارِكَ وَأَوْلِيَائِكَ، وَاعْمَلْ فِي ذَلِكَ عَمَلَ مُقَدِّمِ النِّيَّةِ فِيهِ، رَاجِيًا ثَوَابَ اللَّهِ عَلَيْهِ. ثُمَّ دَعَا الْمُعْتَصِمَ، بَعْدَ سَاعَةٍ، حِينَ اشْتَدَّ الْوَجَعُ، وَأَحَسَّ بِمَجِيءِ أَمْرِ اللَّهِ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ! عَلَيْهِ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ، وَذِمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَتَقُومَنَّ بِحَقِّ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ، وَلَتُؤْثِرَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ إِذْ أَنَا نَقَلْتُهَا مِنْ غَيْرِكَ إِلَيْكَ. قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ! قَالَ: هَؤُلَاءِ بَنُو عَمِّكَ مِنْ وَلَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمْ، وَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَاقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَلَا تَغْفَلْ صِلَاتِهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ عِنْدَ مَحَلِّهَا، فَإِنَّ حُقُوقَهُمْ تَجِبُ مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى، اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْمَلُوا لَهُ، وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي أُمُورِكُمْ كُلِّهَا، أَسْتَوْدِعُكُمُ اللَّهَ وَنَفْسِي،

وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مَا سَلَفَ مِنِّي إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، فَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ كَيْفَ نَدَمِي عَلَى ذُنُوبِي، فَعَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ مِنْ عَظِيمِهَا، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الْهُدَى وَالرَّحْمَةِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَأْمُونِ وَعُمْرِهِ وَصِفَتِهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمَأْمُونُ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ، فَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَحَضَرَهُ الْمَوْتُ، كَانَ عِنْدَهُ مَنْ يُلَقِّنُهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الشَّهَادَةَ وَعِنْدَهُ ابْنُ مَاسَوْيَهِ الطَّبِيبُ، فَقَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: دَعْهُ، فَإِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ فِي هَذِهِ الْحَالِ بَيْنَ رَبِّهِ وَمَانِي. فَفَتَحَ الْمَأْمُونُ عَيْنَيْهِ، وَأَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ، فَعَجَزَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَرَادَ الْكَلَامَ فَعَجَزَ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَكَلَّمَ فَقَالَ: يَا مَنْ لَا يَمُوتُ ارْحَمْ مَنْ يَمُوتُ. ثُمَّ تُوُفِّيَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ حَمَلَهُ ابْنُهُ الْعَبَّاسُ، وَأَخُوهُ الْمُعْتَصِمُ إِلَى طَرَسُوسَ، فَدَفَنَاهُ بِدَارِ خَاقَانَ خَادِمِ الرَّشِيدِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ، وَوَكَّلُوا بِهِ حَرَسًا مِنْ أَبْنَاءِ أَهْلِ طَرَسُوسَ وَغَيْرِهِمْ، مِائَةَ رَجُلٍ، وَأُجْرِيَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تِسْعُونَ دِرْهَمًا. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، سِوَى سِنِينَ كَانَ دُعِيَ لَهُ فِيهَا بِمَكَّةَ، وَأَخُوهُ الْأَمِينُ مَحْصُورٌ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ مُوْلِدُهُ لِلنِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَتْ كُنْيَتُهُ أَبَا الْعَبَّاسِ، وَكَانَ رَبْعَةً، أَبْيَضَ، جَمِيلًا، طَوِيلَ اللِّحْيَةِ رَقِيقَهَا، قَدْ وَخَطَهَا الشَّيْبُ. وَقِيلَ: كَانَ أَسْمَرَ، تَعْلُوهُ صُفْرَةٌ، أَجْنَى، أَعْيَنَ، ضَيِّقَ الْبَلْجَةِ، بِخَدِّهِ خَالٌ أَسْوَدُ. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ وَأَخْبَارِهِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ السَّرَخْسِيُّ: تَعَرَّضَ رَجُلٌ لِلْمَأْمُونِ بِالشَّامِ مِرَارًا، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، انْظُرْ لِعَرَبِ الشَّامِ كَمَا نَظَرْتَ لِعَجَمِ خُرَاسَانَ! فَقَالَ لَهُ: أَكْثَرْتَ عَلَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَنْزَلْتُ قَيْسًا مِنْ ظُهُورِ خُيُولِهَا إِلَّا وَأَنَا أَرَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي بَيْتِ مَالِي دِرْهَمٌ وَاحِدٌ - يَعْنِي فِتْنَةَ ابْنِ شَبَثٍ الْعَامِرِيِّ - وَأَمَّا الْيَمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَحْبَبْتُهَا، وَلَا أَحَبَّتْنِي قَطُّ، وَأَمَّا قُضَاعَةُ

فَسَادَاتُهَا تَنْتَظِرُ السُّفْيَانِيَّ، حَتَّى تَكُونَ مِنْ أَشْيَاعِهِ، وَأَمَّا رَبِيعَةُ فَسَاخِطَةٌ عَلَى رَبِّهَا مُذْ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنْ مُضَرَ، وَلَمْ يَخْرُجِ اثْنَانِ إِلَّا وَخَرَجَ أَحَدُهُمَا شَارِيًا، اعْزُبْ، فَعَلَ اللَّهُ بِكَ. وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ زِيَادٍ (أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمَأْمُونِ بِدِمَشْقَ قَالَ لَهُ: أَرِنِي الْكِتَابَ) الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَأَرَيْتُهُ. قَالَ: فَقَالَ: إِنِّي لَأَشْتَهِي أَنْ أَدْرِيَ إِيشْ هَذَا الْغِشَاءُ عَلَى هَذَا الْخَاتَمِ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْمُعْتَصِمُ: حِلَّ الْعَقْدَ حَتَّى تَدْرِي مَا هُوَ! قَالَ: مَا أَشُكُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقَدَ هَذَا الْعَقْدَ، وَمَا كُنْتُ لِأَحِلَّ عُقْدَةً عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ لِلْوَاثِقِ: خُذْهُ وَضَعْهُ عَلَى عَيْنَيْكَ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَكَ! وَجَعَلَ الْمَأْمُونُ يَضَعُهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَيَبْكِي. وَقَالَ الْعَيْشِيُّ صَاحِبُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: كُنْتُ مَعَ الْمَأْمُونِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ قَدْ قَلَّ الْمَالُ عِنْدَهُ، حَتَّى أَضَاقَ، وَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَأَنَّكَ بِالْمَالِ وَقَدْ وَافَاكَ بَعْدَ جُمُعَةٍ. وَكَانَ قَدْ حُمِلَ إِلَيْهِ ثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ خَرَاجِ مَا يَتَوَلَّاهُ لَهُ، فَلَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ الْمَالُ قَالَ الْمَأْمُونُ لِيَحْيَى بْنِ أَكْتَمَ: اخْرُجْ بِنَا نَنْظُرْ هَذَا الْمَالَ، فَخَرَجَا يَنْظُرَانِهِ، وَكَانَ قَدْ هُيِّئَ بِأَحْسَنِ هَيْئَةٍ، وَحُلِّيَتْ أَبَاعِرُهُ، فَنَظَرَ الْمَأْمُونُ إِلَى شَيْءٍ حَسَنٍ، وَاسْتَكْثَرَ ذَلِكَ وَاسْتَبْشَرَ بِهِ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ وَيَعْجَبُونَ، فَقَالَ الْمَأْمُونُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، نَنْصَرِفُ بِالْمَالِ وَأَصْحَابُنَا يَرْجِعُونَ خَائِبِينَ، إِنَّ هَذَا لَلُؤْمٌ! ثُمَّ دَعَا مُحَمَّدَ بْنَ يَزْدَادَ، فَقَالَ لَهُ: وَقِّعْ لِآلِ فُلَانٍ بِأَلْفِ أَلْفٍ، وَلِآلِ فُلَانٍ بِمِثْلِهَا، وَلِآلِ فُلَانٍ بِمِثْلِهَا، فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى فَرَّقَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَرِجْلُهُ فِي الرِّكَابِ، ثُمَّ قَالَ: ادْفَعِ الْبَاقِيَ إِلَى الْمُعَلَّى يُعْطِيهِ جُنْدَنَا. قَالَ الْعَيْشِيُّ: فَقُمْتُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ أَنْظُرُ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآنِي كَذَلِكَ قَالَ: وَقِّعْ لِهَذَا بِخَمْسِينَ أَلْفًا. فَقَبَضْتُهَا. وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ كَانَ بِالْبَصْرَةِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمِ بْنِ سَعْدٍ، وَكَانَ شَاعِرًا ظَرِيفًا خَبِيثًا مُنْكَرًا، وَكُنْتُ آنَسُ بِهِ، وَأَسْتَحْلِيهِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ شَاعِرٌ وَأَنْتَ ظَرِيفٌ، وَالْمَأْمُونُ أَجْوَدُ مِنَ السَّحَابِ الْحَافِلِ، فَمَا يَمْنَعُكَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: مَا عِنْدِي مَا

يَحْمِلُنِي. فَقُلْتُ: أَنَا أُعْطِيكَ رَاحِلَةً وَنَفَقَةً. فَأَعْطَيْتُهُ رَاحِلَةً نَجِيبَةً، وَثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَعَمِلَ أُرْجُوزَةً لَيْسَتْ بِالطَّوِيلَةِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْمَأْمُونِ. قَالَ: فَجِئْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ بِسَلَغُوسَ. قَالَ: فَلَبِسْتُ ثِيَابِي، وَأَنَا أَرُومُ بِالْعَسْكَرِ، وَإِذَا بِكَهْلٍ عَلَى بَغْلٍ فَارِهٍ، فَتَلَقَّانِي مُوَاجَهَةً وَأَنَا أُرَدِّدُ نَشِيدَ أُرْجُوزَتِي فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ. فَقُلْتُ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. قَالَ: قِفْ إِنْ شِئْتَ! فَوَقَفْتُ فَتَضَوَّعَتْ مِنْهُ رَائِحَةُ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ. فَقَالَ: مَا أَوَّلُكَ؟ قُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ مُضَرَ. قَالَ: وَنَحْنُ مِنْ مُضَرَ. ثُمَّ قَالَ: مَاذَا؟ قُلْتُ: مِنْ بَنِي تَمِيمٍ. قَالَ: وَمَا بَعْدَ تَمِيمٍ؟ قُلْتُ: مِنْ بَنِي سَعْدٍ. قَالَ: وَمَا أَقْدَمَكَ؟ قُلْتُ: قَصَدْتُ هَذَا الْمَلِكَ الَّذِي مَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ أَنْدَى رَائِحَةً، وَلَا أَوْسَعَ رَاحَةً. قَالَ: فَمَا الَّذِي قَصَدْتَهُ بِهِ؟ قُلْتُ: شِعْرٌ طَيِّبٌ يَلَذُّ عَلَى الْأَفْوَاهِ، وَيَحْلُو فِي آذَانِ السَّامِعِينَ. قَالَ: فَأَنْشِدْنِيهِ! فَغَضِبْتُ وَقُلْتُ: يَا رَكِيكُ، أَخْبَرْتُكَ أَنِّي قَصَدْتُ الْخَلِيفَةَ بِمَدِيحٍ تَقُولُ: أَنْشِدْنِيهِ؟ فَتَغَافَلَ عَنْهَا وَأَلْغَى عَنْ جَوَابِهَا. فَقَالَ: فَمَا الَّذِي تَأْمُلُ مِنْهُ؟ قُلْتُ: إِنْ كَانَ عَلَى مَا ذُكِرَ لِي، فَأَلْفُ دِينَارٍ. (قَالَ: أَنَا أُعْطِيكَ أَلْفَ دِينَارٍ) ، إِنْ رَأَيْتُ الشِّعْرَ جَيْدًا، وَالْكَلَامَ عَذْبًا، وَأَضَعُ عَنْكَ الْعَنَاءَ، وَطُولَ التِّرْدَادِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَشَرَةُ آلَافِ رَامِحٍ وَنَابِلٍ.

قُلْتُ: فَلِي عَلَيْكَ اللَّهُ أَنْ تَفْعَلَ! قَالَ: نَعَمْ، لَكَ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ. فَأَنْشَدْتُهُ: مَأْمُونُ يَا ذَا الْمِنَنِ الشَّرِيفَهْ وَصَاحِبَ الْمَرْتَبَةِ الْمُنِيفَهْ وَقَائِدَ الْكَتِيبَةِ الْكَثِيفَهْ هَلْ لَكَ فِي أُرْجُوزَةٍ ظَرِيفَهْ أَظْرَفَ مِنْ فِقْهِ أَبِي حَنِيفَةْ لَا وَالَّذِي أَنْتَ لَهُ خَلِيفَهْ مَا ظُلِمَتْ فِي أَرْضِنَا ضَعِيفَهْ أَمِيرُنَا مُؤْنَتُهُ خَفِيفَهْ وَمَا اقْتَنَى شَيْئًا سِوَى الْوَظِيفَهْ فَالذِّئْبُ وَالنَّعْجَةُ فِي سَقِيفَهْ وَاللِّصُّ وَالتَّاجِرُ فِي قَطِيفَهْ قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا عَدَا أَنْ بَلَغْتُ هَاهُنَا، فَإِذَا زُهَاءَ عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، قَدْ سَدُّوا الْأُفُقَ يَقُولُونَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. قَالَ: فَأَخَذَتْنِي رِعْدَةٌ، فَنَظَرَ إِلَيَّ بِتِلْكَ الْحَالِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ أَيْ أَخِي. قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاكَ، مَنْ جَعَلَ الْكَافَ مَكَانَ الْقَافِ مِنَ الْعَرَبِ؟ قَالَ: حِمْيَرُ. قُلْتُ: لَعَنَ اللَّهُ حِمْيَرَ، وَلَعَنَ مَنِ اسْتَعْمَلَ هَذِهِ اللُّغَةَ بَعْدَ الْيَوْمِ. وَضَحِكَ الْمَأْمُونُ، وَقَالَ لِخَادِمٍ مَعَهُ: أَعْطِهِ مَا مَعَكَ، فَأَخْرَجَ كِيسًا فِيهِ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَأَخَذْتُهَا وَمَضَيْتُ. وَمَعْنَى سُؤَالِهِ عَنْ وَضْعِ الْكَافِ مَوْضِعَ الْقَافِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: يَا رَقِيقُ، فَقَالَ: يَا رَكِيكُ.

وَقَالَ عُمَارَةُ بْنُ عَقِيلٍ: أَنْشَدْتُ الْمَأْمُونَ قَصِيدَةً مِائَةَ بَيْتٍ، فَأَبْتَدِئُ بِصَدْرِ الْبَيْتِ، فَيُبَادِرُنِي إِلَى قَافِيَتِهِ كَمَا قَفَّيْتُهُ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا سَمِعَهَا مِنِّي أَحَدٌ قَطُّ. فَقَالَ: هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ قَالَ لِي: أَمَا بَلَغَكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ أَنْشَدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا: تَشُطُّ غَدًا دَارُ جِيرَانِنَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَلدَّارُ بَعْدَ غَدٍ أَبْعَدُ. . . . حَتَّى أَنْشَدَهُ الْقَصِيدَةَ يُقَفِّيهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا ابْنُ ذَاكَ. وَذُكِرَ أَنَّ الْمَأْمُونَ قَالَ: بَعَثْتُكَ مُرْتَادًا فَفُزْتَ بِنَظْرَةٍ ... وَأَغْفَلْتَنِي حَتَّى أَسَأْتُ بِكَ الظَّنَّا فَنَاجَيْتَ مَنْ أَهْوَى وَكُنْتُ مُبَاعَدًا ... فَيَا لَيْتَ شِعْرِي عَنْ دُنُوِّكَ مَا أَغْنَى أَرَى أَثَرًا مِنْهُ بِعَيْنَيْكَ بَيِّنًا ... لَقَدْ أَخَذَتْ عَيْنَاكَ مِنْ عَيْنِهِ حُسْنَا قِيلَ: وَإِنَّمَا أَخَذَ الْمَأْمُونُ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْعَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: إِنْ تَشْقَ عَيْنِي بِهَا فَقَدْ سَعِدَتْ عَيْنُ رَسُولِي وَفُزْتُ بِالْخَبَرِ وَكُلَّمَا جَاءَنِي الرَّسُولُ لَهَا رَدَّدْتُ عَمْدًا فِي عَيْنِهِ نَظَرِي خُذْ مُقْلَتِي يَا رَسُولُ عَارِيَةً فَانْظُرْ بِهَا وَاحْتَكِمْ عَلَى بَصَرِي قِيلَ: وَشَكَا الْيَزِيدِيُّ يَوْمًا إِلَى الْمَأْمُونِ دَيْنًا لَحِقَهُ، فَقَالَ: مَا عِنْدِي فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَا إِنْ أَعْطَيْنَاكَ بَلَغْتَ بِهِ مَا تُرِيدُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ غُرَمَائِي قَدْ أَرْهَقُونِي. قَالَ: انْظُرْ لِنَفْسِكَ أَمْرًا تَنَالُ بِهِ نَفْعًا. قَالَ: إِنَّ لَكَ نُدَمَاءَ، فِيهِمْ مَنْ إِنْ حَرَّكْتَهُ نِلْتُ بِهِ نَفْعًا.

قَالَ: أَفْعَلُ. قَالَ: إِذَا حَضَرُوا عِنْدَكَ فَمُرْ فُلَانًا الْخَادِمَ يُوصِلُ رُقْعَتِي إِلَيْكَ، فَإِذَا قَرَأْتَهَا فَأَرْسِلْ إِلَيَّ: دُخُولُكَ (فِي هَذَا الْوَقْتِ) مُتَعَذَّرٌ، وَلَكِنِ اخْتَرْ لِنَفْسِكَ مَنْ أَحْبَبْتَ. قَالَ: أَفْعَلُ. فَلَمَّا عَلِمَ الْيَزِيدِيُّ جُلُوسَ الْمَأْمُونِ مَعَ نُدَمَائِهِ، وَتَيَقَّنَ أَنَّهُمْ قَدْ أَخَذَ الشَّرَابُ مِنْهُمْ، أَتَى الْبَابَ، فَدَخَلَ، فَدَفَعَ إِلَى الْخَادِمِ رُقْعَتَهُ، فَإِذَا فِيهَا: يَا خَيْرَ إِخْوَانِي وَأَصْحَابِي! هَذَا الطُّفَيْلِيُّ عَلَى الْبَابِ خُبِّرَ أَنَّ الْقَوْمَ فِي لَذَّةٍ يَصْبُو إِلَيْهَا كُلُّ أَوَّابِ فَصَيِّرُونِي وَاحِدًا مِنْكُمْ أَوْ أَخْرِجُوا لِي بَعْضَ أَتْرَابِي فَقَرَأَهَا الْمَأْمُونُ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: مَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْنَا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ: دُخُولُكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ مُتَعَذَّرٌ، فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ مَنْ أَحْبَبْتَ! فَقَالَ: مَا أُرِيدُ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: قَدِ اخْتَارَكَ فَصِرْ إِلَيْهِ! قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَكُونُ شَرِيكَ الطُّفَيْلِيِّ؟ فَقَالَ: مَا يُمْكِنُ رَدُّ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ أَمْرَيْنِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَافْتَدِ نَفْسَكَ مِنْهُ! فَقَالَ: عَلَيَّ عَشَرَةُ آلَافٍ. قَالَ: لَا يُقْنِعُهُ. فَمَا زَالَ يَزِيدُ عَشَرَةً عَشَرَةً وَالْمَأْمُونُ يَقُولُ: لَا يُقْنِعُهُ، حَتَّى بَلَغَ مِائَةَ أَلْفٍ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: فَعَجِّلْهَا. فَكَتَبَ بِهَا إِلَى وَكِيلِهِ، وَوَجَّهَ مَعَهُ رَسُولًا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ: قَبْضُ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ أَصْلَحُ مِنْ مُنَادَمَتِهِ، وَأَنْفَعُ لَكَ. وَقَالَ عُمَارَةُ بْنُ عَقِيلٍ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السِّمْطِ: أَعَلِمْتَ أَنَّ الْمَأْمُونَ لَا يُبْصِرُ الشِّعْرَ؟ قُلْتُ: وَمَنْ يَكُونُ أَعْلَمَ مِنْهُ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنُنْشِدُهُ أَوَّلَ الْبَيْتِ فَيَسْبِقُنَا إِلَى آخِرِهِ. قَالَ: إِنِّي أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا أَجَدْتُ فِيهِ، فَلَمْ يَتَحَرَّكْ لَهُ. قُلْتُ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: أَضْحَى إِمَامُ الْهُدَى الْمَأْمُونُ مُشْتَغِلًا ... بِالدِّينِ وَالنَّاسُ بِالدُّنْيَا مَشَاغِيلُ قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، وَهَلْ زِدْتَ عَلَى أَنْ جَعَلْتَهُ عَجُوزًا فِي مِحْرَابِهَا، فَمَنِ الَّذِي يَقُومُ بِأَمْرِ الدُّنْيَا إِذَا تَشَاغَلَ عَنْهَا، وَهُوَ الْمُطَوَّقُ بِهَا؟ هَلَّا قُلْتَ كَمَا قَالَ (جَدِّي جَرِيرٌ فِي عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْوَلِيدِ: فَلَا هُوَ فِي الدُّنْيَا يُضِيعُ نَصِيبَهُ ... وَلَا عَرَضُ الدُّنْيَا عَنِ الدِّينِ شَاغِلُهْ فَقَالَ: الْآنَ عَلِمْتُ أَنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ.

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ: كَانَ الْمَأْمُونُ شَدِيدَ الْمَيْلِ إِلَى الْعَلَوِيِّينَ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَخَبَرُهُ مَشْهُورٌ مَعَهُمْ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ طَبْعًا لَا تَكَلُّفًا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي أَيَّامِهِ يَحْيَى بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْعَلَوِيُّ، فَحَضَرَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَرَأَى النَّاسَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ مَا تَعَجَّبُوا مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ وَلَدًا لِزَيْنَبَ بِنْتِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّ الْمَنْصُورِ، تُوُفِّيَ بَعْدَهُ، فَأَرْسَلَ لَهُ الْمَأْمُونُ كَفَنًا، وَسَيَّرَ أَخَاهُ صَالِحًا لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَيُعَزِّيَ أُمَّهُ، فَإِنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ الْعَبَّاسِيِّينَ بِمَنْزِلَةٍ عَظِيمَةٍ، فَأَتَاهَا، وَعَزَّاهَا عَنْهُ، وَاعْتَذَرَ عَنْ تَخَلُّفِهِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَظَهَرَ غَضَبُهَا، وَقَالَتْ لِابْنِ ابْنِهَا: تَقَدَّمْ فَصَلِّ عَلَى أَبِيكَ، وَتَمَثَّلَتْ: سَبَكْنَاهُ وَنَحْسَبُهُ لُجَيْنًا ... فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ ثُمَّ قَالَتْ لِصَالِحٍ: قُلْ لَهُ، يَابْنَ مَرَاجِلَ: أَمَّا لَوْ كَانَ يَحْيَى بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ لَوَضَعْتَ ذَيْلَكَ عَلَى فِيكَ وَعَدَوْتَ خَلْفَ جِنَازَتِهِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [بَقِيَّةُ سَنَةِ 218 هـ] ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُعْتَصِمِ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ، بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَأْمُونِ، وَلَمَّا بُويِعَ لَهُ شَغَبَ الْجُنْدُ، وَنَادَوْا بِاسِمِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْمَأْمُونِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ فَأَحْضَرَهُ، فَبَايَعَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْجُنْدِ، فَقَالَ: مَا هَذَا الْحُبُّ الْبَارِدُ؟ قَدْ بَايَعْتُ عَمِّي، فَسَكَتُوا، وَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بِخَرَابِ مَا كَانَ الْمَأْمُونُ أَمَرَ بِبِنَائِهِ مِنْ طُوَانَةَ، (مِمَّا نَذْكُرُهُ فِي عِدَّةِ حَوَادِثَ) ، وَحَمَلَ مَا أَطَاقَ مِنَ السِّلَاحِ وَالْآلَةِ الَّتِي بِهَا، وَأَحْرَقَ الْبَاقِيَ، وَأَعَادَ النَّاسَ الَّذِينَ بِهَا إِلَى الْبِلَادِ الَّتِي لَهُمْ، وَانْصَرَفَ إِلَى بَغْدَادَ، وَمَعَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمَأْمُونِ، فَقَدِمَهَا مُسْتَهَلَّ شَهْرِ رَمَضَانَ. ذِكْرُ خِلَافِ فَضْلٍ عَلَى زِيَادَةِ اللَّهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ زِيَادَةُ اللَّهِ بْنُ الْأَغْلَبِ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، جَيْشًا لِمُحَارَبَةِ فَضْلِ بْنِ أَبِي الْعَنْبَرِ بِالْجَزِيرَةِ، وَكَانَ مُخَالِفًا لِزِيَادَةِ اللَّهِ، فَاسْتَمَدَّ فَضْلٌ بِعَبْدِ السَّلَامِ بْنِ الْمُفَرِّجِ الرَّبْعِيِّ، وَكَانَ أَيْضًا مُخَالِفًا مِنْ عَهْدِ فِتْنَةِ مَنْصُورٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا مَعَ عَسْكَرِ زِيَادَةِ اللَّهِ، وَجَرَى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ قِتَالٌ شَدِيدٌ عِنْدَ مَدِينَةِ الْيَهُودِ بِالْجَزِيرَةِ، فَقُتِلَ عَبْدُ السَّلَامِ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى زِيَادَةِ اللَّهِ. وَسَارَ فَضْلُ بْنُ أَبِي الْعَنْبَرِ إِلَى مَدِينَةِ تُونِسَ، فَدَخَلَهَا، وَامْتَنَعَ بِهَا، فَسَيَّرَ زِيَادَةُ اللَّهِ إِلَيْهِ جَيْشًا فَحَصَرُوا فَضْلًا بِهَا، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ حَتَّى فَتَحُوهَا مِنْهُ، وَقُتِلَ وَقْتَ دُخُولِ الْعَسْكَرِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا، مِنْهُمْ: عَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الْفَقِيهُ، وَكَانَ دَخَلَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يُقَاتِلْ، فَدَخَلَ

عَلَيْهِ بَعْضُ الْجُنْدِ، فَأَخَذَ سَيْفَهُ، وَخَرَجَ وَهُوَ يَصِيحُ: الْجِهَادَ، فَقُتِلَ، وَبَقِيَ مُلْقًى فِي خَرِبَةٍ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَقْرَبْهُ ذُو نَابٍ وَلَا مِخْلَبٍ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَهَرَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ تُونِسَ لَمَّا مُلِكَتْ، ثُمَّ أَمَّنَهُمْ زِيَادَةُ اللَّهِ فَعَادُوا إِلَيْهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ الْمَأْمُونُ إِلَى سَلَغُوسَ، وَوَجَّهَ ابْنَهُ الْعَبَّاسَ إِلَى طُوَانَةَ وَأَمَرَهُ بِبِنَائِهَا، وَكَانَ قَدْ وَجَّهَ الْفَعَلَةَ، فَابْتَدَؤُوا فِي بِنَائِهَا مِيلًا فِي مِيلٍ، وَجَعَلَ سُورَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ، وَجَعَلَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَبْوَابٍ وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ بَابٍ حِصْنًا، وَكَتَبَ إِلَى الْبُلْدَانِ لِيَفْرِضُوا عَلَى كُلِّ بَلَدٍ جَمَاعَةً يَنْتَقِلُونَ إِلَى طُوَانَةَ، وَأَجْرَى لَهُمْ لِكُلِّ فَارِسٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَلِكُلِّ رَاجِلٍ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيُّ، وَكَانَ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَالْإِرْجَاءِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْبِدَعِ. وَفِيهَا دَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْجِبَالِ، وَهَمَذَانَ، وَأَصْبَهَانَ، وَمَاسَبَذَانَ، وَغَيْرِهَا، فِي دِينِ الْخُرَّمِيَّةِ، وَتَجَمَّعُوا، فَعَسْكَرُوا فِي عَمَلِ هَمَذَانَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْمُعْتَصِمُ الْعَسَاكِرَ، وَكَانَ فِيهِمْ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، وَعُقِدَ لَهُ عَلَى الْجِبَالِ فِي شَوَّالَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ فِي أَعْمَالِ هَمَذَانَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ سِتِّينَ أَلْفًا، وَهَرَبَ الْبَاقُونَ إِلَى بَلَدِ الرُّومِ، وَقُرِئَ كِتَابُهُ بِالْفَتْحِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ صَالِحُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ.

ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشَرَةَ وَمِائَتَيْنِ] 219 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشَرَةَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ خِلَافِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ الْعَلَوِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِالطَّالَقَانِ مِنْ خُرَاسَانَ، يَدْعُو إِلَى الرِّضَى مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ مُلَازِمًا مَسْجِدَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَسَنَ السِّيرَةِ، فَأَتَاهُ إِنْسَانٌ مِنْ خُرَاسَانَ اسْمُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ كَانَ مُجَاوِرًا، فَلَمَّا رَآهُ أَعْجَبَهُ طَرِيقُهُ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَحَسَّنَ لَهُ ذَلِكَ، وَبَايَعَهُ، وَصَارَ الْخُرَاسَانِيُّ يَأْتِيهِ بِالنَّفَرِ مِنْ حُجَّاجِ خُرَاسَانَ يُبَايِعُونَهُ، فَعَلَ ذَلِكَ مُدَّةً. فَلَمَّا رَأَى كَثْرَةَ مَنْ بَايَعَهُ مِنْ خُرَاسَانَ سَارُوا جَمِيعًا إِلَى الْجُوزَجَانِ، وَاخْتَفَى هُنَالِكَ، وَجَعَلَ أَبُو مُحَمَّدٍ يَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهِ، فَعَظُمَ أَصْحَابُهُ، وَحَمَلَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلَى إِظْهَارِ أَمْرِهِ، فَأَظْهَرَهُ بِالطَّالَقَانِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ بِهَا نَاسٌ كَثِيرٌ وَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُوَّادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَقَعَاتٌ بِنَاحِيَةِ الطَّالَقَانِ وَجِبَالِهَا، فَانْهَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَخَرَجَ هَارِبًا يُرِيدُ بَعْضَ كُوَرِ خُرَاسَانَ، وَكَانَ أَهْلُهَا كَاتَبُوهُ. فَلَمَّا صَارَ بِنَسَا، وَبِهَا وَالِدُ بَعْضِ مَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا بَصُرَ بِهِ سَأَلَهُ عَنِ الْخَبَرِ فَأَخْبَرَهُ، فَمَضَى الْأَبُ إِلَى عَامِلِ نَسَا، فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ، فَأَعْطَاهُ الْعَامِلُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ عَلَى دِلَالَتِهِ، وَجَاءَ الْعَامِلُ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَأَخَذَهُ وَاسْتَوْثَقَ مِنْهُ، وَبَعَثَهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فَسَيَّرَهُ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، فَوَرَدَ إِلَيْهِ مُنْتَصَفَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَحُبِسَ عِنْدَ مَسْرُورٍ

الْخَادِمِ الْكَبِيرِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ الطَّعَامَ، وَوَكَّلَ بِهِ قَوْمًا يَحْفَظُونَهُ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ اشْتَغَلَ النَّاسُ بِالْعِيدِ، فَهَرَبَ مِنَ الْحَبْسِ؛ دُلِّيَ إِلَيْهِ حَبْلٌ مِنْ كُوَّةٍ كَانَتْ [فِي أَعْلَى الْبَيْتِ] يَدْخُلُ [عَلَيْهِ] مِنْهَا الضَّوْءُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَتَوْهُ بِالطَّعَامِ، فَلَمْ يَرَوْهُ، فَجَعَلُوا لِمَنْ دَلَّ عَلَيْهِ مِائَةَ أَلْفٍ، فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ خَبَرٌ. ذِكْرُ مُحَارِبَةِ الزُّطِّ وَفِيهَا وَجَّهَ الْمُعْتَصِمُ عُجَيْفَ بْنَ عَنْبَسَةَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ لِحَرْبِ الزُّطِّ الَّذِينَ كَانُوا غَلَبُوا عَلَى طَرِيقِ الْبَصْرَةِ، وَعَاثُوا، وَأَخَذُوا الْغَلَّاتِ مِنَ الْبَيَادِرَ بِكَسْكَرَ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْبَصْرَةِ، وَأَخَافُوا السَّبِيلَ، وَرَتَّبَ عُجَيْفٌ الْخَيْلَ فِي كُلِّ سِكَّةٍ مِنْ سِكَكِ الْبَرِيدِ، تَرْكُضُ بِالْأَخْبَارِ، فَكَانَ يَأْتِي بِالْأَخْبَارِ مِنْ عُجَيْفٍ فِي يَوْمٍ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ تَحْتَ وَاسِطَ، وَأَقَامَ عَلَى نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: بَرْدُودَا (حَتَّى سَدَّهُ وَأَنْهَارًا أُخَرَ كَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَيَدْخُلُونَ) وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الطُّرُقَ، ثُمَّ حَارَبَهُمْ، فَأَسَرَ مِنْهُمْ فِي مَعْرَكَةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ، وَقَتَلَ فِي الْمَعْرَكَةِ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَ الْأَسْرَى، وَبَعَثَ الرُّؤُوسَ إِلَى بَابِ الْمُعْتَصِمِ. ثُمَّ أَقَامَ عُجَيْفٌ بِإِزَاءِ الزُّطِّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَظَفِرَ مِنْهُمْ فِيهَا بِخَلْقٍ كَثِيرٍ. وَكَانَ رَئِيسُ الزُّطِّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: (مُحَمَّدُ) بْنُ عُثْمَانَ، وَكَانَ صَاحِبُ أَمْرِهِ إِنْسَانًا يُقَالُ لَهُ سُمَاقٌ. ثُمَّ اسْتَوْطَنَ عُجَيْفٌ، وَأَقَامَ بِإِزَائِهِمْ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ. ذِكْرُ مُحَاصَرَةِ طُلَيْطِلَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ الْأُمَوِيُّ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، جَيْشًا

مَعَ (أُمَيَّةَ بْنِ الْحَكَمِ) إِلَى مَدِينَةِ طُلَيْطِلَةَ فَحَصَرَهَا، وَكَانُوا قَدْ خَالَفُوا الْحُكْمَ، وَخَرَجُوا عَنِ الطَّاعَةِ، وَاشْتَدَّ فِي حَصْرِهِمْ، وَقَطَّعَ أَشْجَارَهُمْ، وَأَهْلَكَ زُرُوعَهُمْ، فَلَمْ يُذْعِنُوا إِلَى الطَّاعَةِ، فَرَحَلَ عَنْهُمْ، وَأَنْزَلَ بِقَلْعَةِ رَبَاحٍ جَيْشًا عَلَيْهِمْ مَيْسَرَةُ، الْمَعْرُوفُ بِفَتَى أَبِي أَيُّوبَ، فَلَمَّا أُبْعِدُوا مِنْهُ خَرَجَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ طُلَيْطِلَةَ، لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ فُرْصَةً وَغَفْلَةً مِنْ مَيْسَرَةَ، فَيَنَالُوا مِنْهُ وَمِنْ أَصْحَابِهِ غَرَضًا، وَكَانَ مَيْسَرَةُ قَدْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَجَعَلَ الْكَمِينَ فِي مَوَاضِعَ، فَلَمَّا وَصَلَ أَهْلُ طُلَيْطِلَةَ إِلَى قَلْعَةِ رَبَاحٍ لِلْغَارَةِ، خَرَجَ الْكَمِينُ عَلَيْهِمْ مِنْ جَوَانِبِهِمْ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيهِمْ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ، وَعَادَ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ إِلَى طُلَيْطِلَةَ، وَجُمِّعَتْ رُؤُوسُ الْقَتْلَى، وَحُمِلَتْ إِلَى مَيْسَرَةَ، فَلَمَّا رَأَى كَثْرَتَهَا عَظُمَتْ عَلَيْهِ، وَارْتَاعَ لِذَلِكَ، وَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ غَمًّا شَدِيدًا، فَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ. وَفِيهَا أَيْضًا كَانَ بِطُلَيْطِلَةَ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ، تُعْرَفُ بِمَلْحَمَةِ الْعَرَاسِ، قُتِلَ مِنْ أَهْلِهَا كَثِيرٌ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [مِحْنَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ] وَفِيهَا أَحْضَرَ الْمُعْتَصِمُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَامْتَحَنَهُ بِالْقُرْآنِ، فَلَمْ يُجِبْ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ جَلْدًا عَظِيمًا حَتَّى غَابَ عَقْلُهُ، وَتَقَطَّعَ جِلْدُهُ، وَحُبِسَ مُقَيَّدًا. وَفِيهَا قَدِمَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى بَغْدَادَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَمَعَهُ مِنْ أَسْرَى الْخُرَّمِيَّةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقِيلَ إِنَّهُ قَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوَ مِائَةِ أَلْفٍ سِوَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ الْمُلَائِيُّ، مَوْلَى طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ، فِي شَعْبَانَ، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، كَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ شِيعِيًّا، (وَلَهُ طَائِفَةٌ تُنْسَبُ إِلَيْهِ يُقَالُ لَهَا الدُّكَيْنِيَّةُ) .

ثم دخلت سنة عشرين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ] 220 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ ظَفَرِ عُجَيْفٍ بِالزُّطِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ عُجَيْفٌ بِالزُّطِّ بَغْدَاذَ، بَعْدَ أَنْ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، وَقَاتَلَهُمْ، وَطَلَبُوا مِنْهُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعَ عَشَرَةَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَتْ عِدَّتُهُمْ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَالْمُقَاتِلَةُ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَيْهِ جَعَلَهُمْ فِي السُّفُنِ، وَعَبَّأَهُمْ فِي سُفُنِهِمْ عَلَى هَيْئَتِهِمْ فِي الْحَرْبِ مَعَهُمُ الْبُوقَاتُ، حَتَّى دَخَلَ بِهِمْ بَغْدَادَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَخَرَجَ الْمُعْتَصِمُ إِلَى الشَّمَّاسِيَّةِ فِي سَفِينَةٍ يُقَالُ لَهَا الزَّوُّ، حَتَّى يَمُرَّ بِهِ الزُّطُّ عَلَى تَعْبِئَتِهِمْ وَهُمْ يَنْفُخُونَ فِي الْبُوقَاتِ، وَأَعْطَى عُجَيْفٌ أَصْحَابَهُ كُلَّ رَجُلٍ دِينَارَيْنِ دِينَارَيْنِ، وَأَقَامَ الزُّطُّ فِي سُفُنِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ نُقِلُوا إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَسُلِّمُوا إِلَى بِشْرِ بْنِ السَّمَيْدَعِ، فَذَهَبَ بِهِمْ إِلَى خَانِقِينَ، ثُمَّ نَقَلُوا إِلَى الثَّغْرِ، إِلَى عَيْنِ زَرْبَةَ، فَأَغَارَتِ الرُّومُ عَلَيْهِمْ، فَاجْتَاحُوهُمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. ذِكْرُ مَسِيرِ الْأَفْشِينِ لِحَرْبِ بَابَكَ الْخُرَّمِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَقَدَ الْمُعْتَصِمُ لِلْأَفْشِينِ حَيْدَرَ بْنَ كَاوُسَ عَلَى الْجِبَالِ، وَوَجَّهَهُ لِحَرْبِ بَابَكَ فَسَارَ إِلَيْهِ. وَكَانَ ابْتِدَاءُ خُرُوجِ بَابَكَ سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ، فَكَانَتْ مَدِينَتُهُ الْبَذَّ، وَهُزِمَ مِنْ جُيُوشِ السُّلْطَانِ عِدَّةٌ، وَقُتِلَ مِنْ قُوَّادِهِ جَمَاعَةٌ، فَلَمَّا أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، وَجَّهَ أَبَا سَعِيدٍ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ إِلَى أَرْدَبِيلَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْنِيَ الْحُصُونَ الَّتِي خَرَّبَهَا بَابَكُ فِيمَا بَيْنَ زَنْجَانَ

وَأَرْدَبِيلَ، وَيَجْعَلُ فِيهَا الرِّجَالَ تَحْفَظُ الطُّرُقَ لِمَنْ يَجْلِبُ الْمِيرَةَ إِلَى أَرْدَبِيلَ؛ فَتَوَجَّهَ أَبُو سَعِيدٍ لِذَلِكَ، وَبَنَى الْحُصُونَ. وَوَجَّهَ بَابَكُ سَرِيَّةً فِي بَعْضِ غُزَاتِهِ، فَأَغَارَتْ عَلَى بَعْضِ النَّوَاحِي وَرَجَعَتْ مُنْصَرِفَةً، وَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا سَعِيدٍ؛ فَجَمَعَ النَّاسَ، وَخَرَجَ فِي طَلَبِ السَّرِيَّةِ، فَاعْتَرَضَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَتَلَ أَبُو سَعِيدٍ مِنْ أَصْحَابِ بَابَكَ جَمَاعَةً، وَأَسَرَ جَمَاعَةً، وَاسْتَنْقَذَ مَا كَانُوا أَخَذُوهُ، وَسَيَّرَ الرُّؤُوسَ وَالْأَسْرَى إِلَى الْمُعْتَصِمِ، فَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ هَزِيمَةٍ عَلَى أَصْحَابِ بَابَكَ. ثُمَّ كَانَتِ الْأُخْرَى لِمُحَمَّدِ بْنِ الْبُعَيْثِ، وَذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ فِي قَلْعَةٍ لَهُ حَصِينَةٍ تُسَمَّى الشَّاهِيَ، كَانَ ابْنُ الْبُعَيْثِ قَدْ أَخَذَهَا مِنِ ابْنِ الرُّوَّادِ، وَهِيَ مِنْ كُورَةِ أَذْرَبِيجَانَ، وَلَهُ حِصْنٌ آخَرُ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ يُسَمَّى تَبْرِيزَ، وَكَانَ مُصَالِحًا لِبَابَكَ، تَنْزِلُ سَرَايَاهُ عِنْدَهُ، فَيُضَيِّفُهُمْ حَتَّى أَنِسُوا بِهِ. ثُمَّ إِنَّ بَابَكَ وَجَّهَ قَائِدًا اسْمُهُ عِصْمَةُ مِنْ أَصْبَهْبَذِيَّتِهِ فِي سَرِيَّةٍ، فَنَزَلَ بِابْنِ الْبُعَيْثِ، فَأَنْزَلَ لَهُ الضِّيَافَةَ عَلَى عَادَتِهَا، وَاسْتَدْعَاهُ لَهُ فِي خَاصَّتِهِ وَوُجُوهِ أَصْحَابِهِ، فَصَعِدَ فَغَذَّاهُمْ، وَسَقَاهُمُ الْخَمْرَ حَتَّى سَكِرُوا، ثُمَّ وَثَبَ عَلَى عِصْمَةَ، فَاسْتَوْثَقَ مِنْهُ، وَقَتَلَ مَنْ كَانَ مَعَهُمِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُسَمِّيَ رَجُلًا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ؛ فَكَانَ يَدْعُو الرَّجُلَ بِاسْمِهِ، فَيَصْعَدُ، فَيُضْرَبُ عُنُقُهُ، حَتَّى عَلِمُوا بِذَلِكَ فَهَرَبُوا. وَسَيَّرَ عِصْمَةَ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، فَسَأَلَ الْمُعْتَصِمُ عِصْمَةَ عَنْ بِلَادِ بَابَكَ، فَأَعْلَمَهُ طُرُقَهُ وَوُجُوهَ الْقِتَالِ فِيهَا، ثُمَّ تَرَكَ عِصْمَةَ مَحْبُوسًا، فَبَقِيَ إِلَى أَيَّامِ الْوَاثِقِ. ثُمَّ إِنَّ الْأَفْشِينَ سَارَ إِلَى بِلَادِ بَابَكَ، فَنَزَلَ بَرْزَنْدَ، وَعَسْكَرَ بِهَا، وَضَبَطَ الطُّرُقَ وَالْحُصُونَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَرْدَبِيلَ، وَأَنْزَلَ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ خُشَّ، فَحَفَرَ خَنْدَقًا، وَأَنْزَلَ الْهَيْثَمَ الْغَنَوِيَّ بِرُسْتَاقَ أَرْشَقَ، فَأَصْلَحَ حِصْنَهُ، وَحَفَرَ خَنْدَقَهُ، وَأَنْزَلَ

عُلُّوَيْهِ الْأَعْوَرَ، مِنْ قُوَّادِ الْأَبْنَاءِ، فِي حِصْنِ النَّهْرِ مِمَّا يَلِي أَرْدَبِيلَ، فَكَانَتِ السَّابِلَةُ وَالْقَوَافِلُ تَخْرُجُ مِنْ أَرْدَبِيلَ وَمَعَهَا مَنْ يَحْمِيهَا، حَتَّى تَنْزِلَ بِحِصْنِ النَّهْرِ، ثُمَّ يُسَيِّرُهَا صَاحِبُ حِصْنِ النَّهْرِ إِلَى الْهَيْثَمِ الْغَنَوِيِّ، فَيَلْقَاهُ الْهَيْثَمُ بِمَنْ جَاءَ إِلَيْهِ مِنْ نَاحِيَةٍ فِي مَوْضِعٍ مَعْرُوفٍ لَا يَتَعَدَّاهُ أَحَدُهُمْ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ، فَإِذَا لَقِيَهُ أَخَذَ مَا (مَعَهُ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ مَا مَعَهُ، ثُمَّ يَسِيرُ الْهَيْثَمُ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى أَصْحَابِ أَبِي سَعِيدٍ، فَيَلْقَوْنَهُ بِمُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ، وَمَعَهُمْ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَيَتَسَلَّمُونَ مَا مَعَ الْهَيْثَمِ وَيُسَلِّمُونَ إِلَيْهِ مَا مَعَهُمْ، وَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمْ إِلَى الْمُنْتَصَفِ لَا يَتَعَدَّاهُ، وَيَسِيرُ أَبُو سَعِيدٍ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى عَسْكَرِ الْأَفْشِينِ (فَيَلْقَاهُ صَاحِبُ سَيَّارَةِ الْأَفْشِينِ، فَيَتَسَلَّمُهُمْ مِنْهُ، وَيُسَلِّمُ إِلَيْهِ مَنْ صَحِبَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا. وَكَانُوا إِذَا ظَفِرُوا بِأَحَدٍ مِنَ الْجَوَاسِيسِ حَمَلُوهُ إِلَى الْأَفْشِينِ، فَكَانَ يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، وَيَهَبُ لَهُمْ، وَيَسْأَلُهُمْ عَنِ الَّذِي يُعْطِيهِمْ بَابَكُ، فَيُضَعِّفُهُ لَهُمْ، وَيَقُولُ لَهُمْ: كُونُوا جَوَاسِيسَ لَنَا، فَكَانَ يَنْتَفِعُ بِهِمْ. ذِكْرُ وَقْعَةِ الْأَفْشِينِ مَعَ بَابَكَ وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الْأَفْشِينِ مَعَ بَابَكَ، قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ بَابَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ الْمُعْتَصِمَ وَجَّهَ بُغَا الْكَبِيرَ إِلَى الْأَفْشِينِ، وَمَعَهُ مَالٌ لِلْجُنْدِ، وَالنَّفَقَاتِ، فَوَصَلَ أَرْدَبِيلَ، فَبَلَغَ بَابَكَ الْخَبَرُ، فَتَهَيَّأَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لِيَقْطَعُوا عَلَيْهِ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْأَفْشِينِ، فَجَاءَ جَاسُوسٌ إِلَى الْأَفْشِينِ، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا صَحَّ الْخَبَرُ عِنْدَ الْأَفْشِينِ كَتَبَ إِلَى بُغَا أَنْ يُظْهِرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الرَّحِيلَ، وَيَحْمِلَ الْمَالَ عَلَى الْإِبِلِ، وَيَسِيرَ نَحْوَهُ، حَتَّى يَبْلُغَ حِصْنَ النَّهْرِ، فَيَحْبِسَ الَّذِي مَعَهُ، حَتَّى يَجُوزَ مَنْ صَحِبَهُ مِنَ الْقَافِلَةِ، فَإِذَا جَازُوا رَجَعَ بِالْمَالِ إِلَى أَرْدَبِيلَ. فَفَعَلَ بُغَا ذَلِكَ، وَسَارَتِ الْقَافِلَةُ، وَجَاءَتْ جَوَاسِيسُ بَابَكَ إِلَيْهِ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْمَالَ قَدْ سَارَ فَبَلَغَ النَّهْرَ، وَرَكِبَ الْأَفْشِينُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَاعَدَ فِيهِ بُغَا، عِنْدَ الْعَصْرِ، مِنْ بَرْزَنْدَ فَوَافَى خُشَّ مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَنَزَلَ خَارِجَ خَنْدَقِ أَبِي سَعِيدٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَكِبَ سِرًّا،

وَلَمْ يَضْرِبْ طَبْلًا، وَلَمْ يَنْشُرْ عَلَمًا، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالسُّكُوتِ وَجَدَّ فِي السَّيْرِ، وَرَحَلَتِ الْقَافِلَةُ الَّتِي كَانَتْ تَوَجَّهَتْ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنَ النَّهْرِ إِلَى نَاحِيَةِ الْهَيْثَمِ، وَتَعَبَّأَ بَابَكُ فِي أَصْحَابِهِ، وَسَارَ عَلَى طَرِيقِ النَّهْرِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْمَالَ يُصَادِفُهُ، فَخَرَجَتْ خَيْلُ بَابَكَ عَلَى الْقَافِلَةِ، وَمَعَهَا صَاحِبُ النَّهْرِ، فَقَاتَلَهُمْ صَاحِبُ النَّهْرِ، فَقَتَلُوهُ، وَقَتَلُوا مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْجُنْدِ، وَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهُمْ، وَعَلِمُوا أَنَّ الْمَالَ قَدْ فَاتَهُمْ، وَأَخَذُوا عَلَمَهُ وَلِبَاسَ أَصْحَابِهِ، فَلَبِسُوهَا وَتَنَكَّرُوا لِيَأْخُذُوا الْهَيْثَمَ الْغَنَوِيَّ وَمَنْ مَعَهُ أَيْضًا، وَلَا يَعْلَمُونَ بِخُرُوجِ الْأَفْشِينِ، وَجَاؤُوا كَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّهْرِ، فَلَمْ يَعْرِفُوا الْمَوْضِعَ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ عَلَمُ صَاحِبِ النَّهْرِ، فَوَقَفُوا فِي غَيْرِهِ. وَجَاءَ الْهَيْثَمُ فَوَقَفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَنْكَرَ مَا رَأَى، فَوَجَّهَ ابْنَ عَمٍّ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى هَذَا الْبَغِيضِ، فَقُلْ لَهُ: لِأَيِّ شَيْءٍ وُقُوفُكَ، فَجَاءَ إِلَيْهِمْ، فَأَنْكَرَهُمْ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْفَذَ جَمَاعَةً غَيْرَهُ، فَأَنْكَرُوهُمْ أَيْضًا، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّ بَابَكَ قَدْ قَتَلَ عُلُّوَيْهِ صَاحِبَ النَّهْرِ، وَأَصْحَابَهُ، وَأَخَذَ أَعْلَامَهُمْ وَلِبَاسَهُمْ، فَرَحَلَ الْهَيْثَمُ رَاجِعًا، وَنَجَّى الْقَافِلَةَ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ، وَبَقِيَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي أَعْقَابِهِمْ حَامِيَةً لَهُمْ حَتَّى وَصَلَتِ الْقَافِلَةُ إِلَى الْحِصْنِ، وَهُوَ أَرْشَقُ، وَسَيَّرَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْأَفْشِينِ وَإِلَى أَبِي سَعِيدٍ يُعَرِّفُهُمَا الْخَبَرَ، فَخَرَجَا يَرْكُضَانِ، وَدَخَلَ الْهَيْثَمُ الْحِصْنَ، (وَنَزَلَ بَابَكَ عَلَيْهِ، وَوَضَعَ لَهُ كُرْسِيًّا بِحِيَالِ الْحِصْنِ) ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْهَيْثَمِ أَنْ خَلِّ الْحِصْنَ وَانْصَرِفْ، فَأَبَى الْهَيْثَمُ ذَلِكَ، فَحَارَبَهُ بَابَكُ وَهُوَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ عَلَى عَادَتِهِ وَالْحَرْبُ مُشْتَبِكَةٌ. وَسَارَ الْفَارِسَانِ، فَلَقِيَا الْأَفْشِينَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ فَرْسَخٍ، فَقَالَ لِصَاحِبِ مُقَدِّمَتِهِ: أَرَى فَارِسَيْنِ يَرْكُضَانِ رَكْضًا شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ: اضْرِبُوا الطَّبْلَ، وَانْشُرُوا الْأَعْلَامَ، وَارْكُضُوا نَحْوَهُمَا، وَصِيحُوا: لَبَّيْكُمَا لَبَّيْكُمَا! فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَأَجْرَى النَّاسُ خَيْلَهُمْ طَلْقًا وَاحِدًا، حَتَّى لَحِقُوا بَابَكَ وَهُوَ جَالِسٌ، فَلَمْ يُطِقْ أَنْ يَرْكَبَ، حَتَّى وَافَتْهُ الْخَيْلُ، فَاشْتَبَكَتِ الْحَرْبُ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْ رَجَّالَةِ بَابَكَ أَحَدٌ، وَأَفْلَتَ هُوَ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ خَيَّالَتِهِ، وَدَخَلَ مُوقَانَ وَقَدْ تَقَطَّعَ

عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَرَجَعَ عَنْهُ الْأَفْشِينُ إِلَى بَرْزَنْدَ. وَأَقَامَ بَابَكَ بِمُوقَانَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْبَذِّ، فَجَاءَهُ عَسْكَرٌ، فَرَحَلَ بِهِمْ مِنْ مُوقَانَ، حَتَّى دَخَلَ الْبَذَّ، وَلَمْ يَزَلِ الْأَفْشِينُ مُعَسْكِرًا بِبَرْزَنْدَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ مَرَّتْ قَافِلَةٌ، فَخَرَجَ عَلَيْهَا أَصْبَهْبَذَ بَابَكَ، فَأَخَذَهَا وَقَتَلَ مَنْ فِيهَا، فَقَحَطَ عَسْكَرُ الْأَفْشِينِ لِذَلِكَ، فَكَتَبَ الْأَفْشِينُ إِلَى صَاحِبِ مَرَاغَةَ بِحَمْلِ الْمِيرَةِ وَتَعْجِيلِهَا، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ قَافِلَةً عَظِيمَةً، فِيهَا قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ ثَوْرٍ، سِوَى غَيْرِهَا مِنَ الدَّوَابِّ، تَحْمِلُ الْمِيرَةَ، وَمَعَهَا جُنْدٌ يَسِيرُونَ بِهَا، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ سَرِيَّةٌ لِبَابَكَ، فَأَخَذُوهَا عَنْ آخِرِهَا، وَأَصَابَ الْعَسْكَرَ ضِيقٌ شَدِيدٌ، فَكَتَبَ الْأَفْشِينُ إِلَى صَاحِبِ شِيرَوَانَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِ طَعَامًا، فَحَمَلَ إِلَيْهِ طَعَامًا كَثِيرًا، وَأَغَاثَ النَّاسَ. وَقَدِمَ بُغَا عَلَى الْأَفْشِينِ بِمَا مَعَهُ. ذِكْرُ بِنَاءِ سَامَرَّا وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْمُعْتَصِمُ إِلَى سَامَرَّا لِبِنَائِهَا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي أَتَخَوَّفُ هَؤُلَاءِ الْحَرْبِيَّةَ أَنْ يَصِيحُوا صَيْحَةً فَيَقْتُلُوا غِلْمَانِي، فَأُرِيدُ أَنْ أَكُونَ فَوْقَهُمْ، فَإِنْ رَابَنِي مِنْهُمْ شَيْءٌ أَتَيْتُهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْمَاءِ، حَتَّى آتِيَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهَا، فَأَعْجَبَهُ مَكَانُهَا. وَقِيلَ كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَصِمَ كَانَ قَدْ أَكْثَرَ مِنِ الْغِلْمَانِ الْأَتْرَاكِ، فَكَانُوا لَا يَزَالُونَ يَرَوْنَ الْوَاحِدَ بَعْدَ الْوَاحِدِ قَتِيلًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا جُفَاةً، يَرْكَبُونَ الدَّوَابَّ، فَيُرْكِضُونَهَا إِلَى الشَّوَارِعِ، فَيَصْدِمُونَ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ وَالصَّبِيَّ، فَيَأْخُذُهُمُ الْأَبْنَاءُ عَنْ دَوَابِّهِمْ، وَيَضْرِبُونَهُمْ، وَرُبَّمَا هَلَكَ أَحَدُهُمْ فَتَأَذَّى بِهِمُ النَّاسُ. ثُمَّ إِنَّ الْمُعْتَصِمَ رَكِبَ يَوْمَ عِيدٍ، فَقَامَ إِلَيْهِ شَيْخٌ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ! فَأَرَادَ الْجُنْدُ ضَرْبَهُ، فَمَنَعَهُمْ، وَقَالَ: يَا شَيْخُ (مَا لَكَ، مَا لَكَ؟) قَالَ: لَا جَزَاكَ اللَّهُ عَنِ الْجِوَارِ خَيْرًا، جَاوَرْتَنَا وَجِئْتَ بِهَؤُلَاءِ الْعُلُوجِ مِنْ غِلْمَانِكَ الْأَتْرَاكِ، فَأَسْكَنْتَهُمْ بَيْنَنَا، فَأَيْتَمْتَ صِبْيَانَنَا، وَأَرْمَلْتَ بِهِمْ نِسْوَانَنَا، وَقَتَلْتَ رِجَالَنَا، وَالْمُعْتَصِمُ يَسْمَعُ ذَلِكَ، فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، وَلَمْ يَرَ رَاكِبًا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَخَرَجَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْعِيدَ، وَلَمْ يَدْخُلْ بَغْدَادَ، بَلْ سَارَ إِلَى نَاحِيَةِ الْقَاطُولِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى بَغْدَادَ.

قَالَ مَسْرُورٌ الْكَبِيرُ: سَأَلَنِي الْمُعْتَصِمُ أَيْنَ كَانَ الرَّشِيدُ يَتَنَزَّهُ إِذَا ضَجِرَ بِبَغْدَاذَ قُلْتُ: بِالْقَاطُولِ، وَكَانَ قَدْ بَنَى هُنَاكَ مَدِينَةً آثَارُهَا وَسُورُهَا قَائِمٌ، وَكَانَ قَدْ خَافَ مِنَ الْجُنْدِ مَا خَافَ الْمُعْتَصِمُ، فَلَمَّا وَثَبَ أَهْلُ الشَّامِ بِالشَّامِ وَعَصَوْا خَرَجَ إِلَى الرِّقَّةِ فَأَقَامَ بِهَا، وَبَقِيَتْ مَدِينَةُ الْقَاطُولِ لَمْ تُسْتَمَّ. وَلَمَّا خَرَجَ الْمُعْتَصِمُ إِلَى الْقَاطُولِ اسْتَخْلَفَ بِبَغْدَاذَ ابْنَهُ الْوَاثِقَ. وَكَانَ الْمُعْتَصِمُ قَدِ اصْطَنَعَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَوْفِ بِمِصْرَ، وَاسْتَخْدَمَهُمْ، وَسَمَّاهُمُ الْمَغَارِبَةَ، وَجَمَعَ خَلْقًا مِنْ سَمَرْقَنْدَ، وَأُشْرُوسَنَّةَ، وَفَرْغَانَةَ، وَسَمَّاهُمُ الْفَرَاغِنَةَ، فَكَانُوا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَبَقُوا بَعْدَهُ. وَكَانَ ابْتِدَاءُ الْعِمَارَةِ بِسَامَرَّا سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ. ذِكْرُ قَبْضِ الْفَضْلِ بْنِ مَرْوَانَ وَكَانَ الْفَضْلُ بْنُ مَرْوَانَ مِنَ الْبَرَدَانِ، وَكَانَ حَسِنَ الْخَطِّ، فَاتَّصَلَ بِيَحْيَى الْجُرْمُقَانِيِّ كَاتِبِ الْمُعْتَصِمِ، قَبْلَ خِلَافَتِهِ، فَكَانَ يَكْتُبُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا هَلَكَ الْجُرْمُقَانِيُّ صَارَ مَوْضِعَهُ، وَسَارَ مَعَ الْمُعْتَصِمِ إِلَى الشَّامِ، وَمِصْرَ، فَأَخَذَ مِنَ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَ، فَلَمَّا صَارَ الْمُعْتَصِمُ خَلِيفَةً كَانَ اسْمُهَا لَهُ، وَكَانَ مَعْنَاهَا لِلْفَضْلِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الدَّوَاوِينِ كُلِّهَا، وَكَنْزِ الْأَمْوَالِ. وَكَانَ الْمُعْتَصِمُ يَأْمُرُهُ بِإِعْطَاءِ الْمُغَنِّي وَالنَّدِيمِ، فَلَا يُنَفِّذُ الْفَضْلُ ذَلِكَ، فَثَقُلَ عَلَى الْمُعْتَصِمِ، وَكَانَ لَهُ مُضْحِكٌ اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ، يُعْرَفُ بِالْهَفْتِيِّ، فَأَمَرَ لَهُ الْمُعْتَصِمُ بِمَالٍ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْفَضْلِ بِإِعْطَائِهِ، فَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، فَبَيْنَا الْهَفْتِيُّ يَوْمًا عِنْدَ الْمُعْتَصِمِ، يَمْشِي مَعَهُ فِي بُسْتَانٍ لَهُ، وَكَانَ الْهَفْتِيُّ يَصْحَبُهُ قَبْلَ الْخِلَافَةِ، وَيَقُولُ لَهُ فِيمَا يُدَاعِبُهُ: وَاللَّهِ لَا تُفْلِحُ أَبَدًا، وَكَانَ مَرْبُوعًا بَدِينًا، وَكَانَ الْمُعْتَصِمُ خَفِيفَ اللَّحْمِ؛ فَكَانَ يَسْبِقُهُ، وَيَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: مَا لَكَ لَا تُسْرِعُ الْمَشْيَ؟ فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ الْهَفْتِيُّ مُدَاعِبًا لَهُ: كُنْتُ

أَرَانِي أُمَاشِي خَلِيفَةً، وَلَمْ [أَكُنْ] أَرَانِي أُمَاشِي فَيْجًا، وَاللَّهِ لَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا! فَضْحِكَ الْمُعْتَصِمُ وَقَالَ: وَهَلْ بَقِيَ مِنَ الْفَلَاحِ شَيْءٌ لَمْ أُدْرِكْهُ بَعْدَ الْخِلَافَةِ؟ فَقَالَ: أَتَظُنُّ أَنَّكَ أَفْلَحْتَ؟ لَا وَاللَّهِ، مَا لَكَ مِنِ الْخِلَافَةِ إِلَّا اسْمُهَا، مَا يَتَجَاوَزُ أَمْرُكَ أُذُنَيْكَ، إِنَّمَا الْخَلِيفَةُ الْفَضْلُ، فَقَالَ: وَأَيُّ أَمْرٍ لِي لَمْ يُنَفَّذْ؟ فَقَالَ الْهَفْتِيُّ: أَمَرْتَ لِي بِكَذَا وَكَذَا مُنْذُ شَهْرَيْنِ، فَمَا أُعْطِيتُ حَبَّةً، فَحَقَدَهَا عَلَى الْفَضْلِ. فَقِيلَ: أَوَّلُ مَا أَحْدَثَهُ فِي أَمْرِهِ جَعَلَ زِمَامًا فِي نَفَقَاتِ الْخَاصَّةِ، وَفِي الْخَرَاجِ، وَجَمِيعِ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ نَكَّبَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ فِي صَفَرَ، وَأَمَرَهُمْ بِعَمَلِ حِسَابِهِمْ، وَصَيَّرَ مَكَانَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ الزَّيَّاتَ، فَنَفَى الْفَضْلَ إِلَى قَرْيَةٍ فِي طَرِيقِ الْمَوْصِلِ تُعْرَفُ بِالسِّنِّ، وَصَارَ مُحَمَّدٌ وَزِيرًا كَاتِبًا. وَكَانَ الْفَضْلُ شَرِسَ الْأَخْلَاقِ، ضَيِّقَ الْعَطَنِ، كَرِيهَ اللِّقَاءِ، بَخِيلًا، مُسْتَطِيلًا، فَلَمَّا نُكِبَ شَمِتَ بِهِ النَّاسُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ: لِيَبْكِ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ مَرْوَانَ نَفْسُهُ ... فَلَيْسَ لَهُ بَاكٍ مِنَ النَّاسِ يُعْرَفُ لَقَدْ صَحِبَ الدُّنْيَا مَنُوعًا لِخَيْرِهَا ... وَفَارَقَهَا وَهُوَ الظَّلُومُ الْمُعَنَّفُ إِلَى النَّارِ فَلْيَذْهَبْ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُ ... عَلَى أَيِّ شَيْءٍ فَاتَنَا مِنْهُ نَأْسَفُ؟ ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ (فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَلِكُ الْأَنْدَلُسِ جَيْشًا إِلَى طُلَيْطِلَةَ، فَقَاتَلُوهَا، فَلَمْ يَظْفَرُوا بِهَا) . وَحَجَّ بِالنَّاسِ صَالِحُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ أَيُّوبَ الْهَاشِمِيُّ، وَعَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو عُثْمَانَ الصَّفَّارُ الْبَصْرِيُّ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِبَغْدَاذَ وَلَهُ خَمْسٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ، وَتُوُفِّيَ فَتْحٌ الْمَوْصِلِيُّ الزَّاهِدُ، وَكَانَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَجْوَادِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، تُوُفِّيَ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ قَدِمَهَا وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ الْفَضْلِ ابْنَةُ الْمَأْمُونِ، فَدُفِنَ بِهَا عِنْدَ جَدِّهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ عِنْدَ الْإِمَامِيَّةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْوَاثِقُ، وَكَانَ عُمْرُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَقِيلَ فِي سَبَبِ مَوْتِهِ غَيْرُ ذَلِكَ.

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ] 221 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ مُحَارِبَةِ بَابَكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَاقَعَ بَابَكُ بُغَا الْكَبِيرَ، فَهَزَمَهُ، وَوَاقَعَهُ الْأَفْشِينُ، فَهَزَمَ بَابَكَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بُغَا الْكَبِيرَ كَانَ قَدْ قَدِمَ بِالْمَالِ الَّذِي كَانَ مَعَهُ إِلَى الْأَفْشِينِ، فَفَرَّقَهُ فِي أَصْحَابِهِ، وَتَجَهَّزَ بَعْدَ النَّيْرُوزِ، وَوُجِّهَ إِلَى بُغَا فِي عَسْكَرٍ لِيَدُورَ حَوْلَ هَشْتَادِسِرَ، وَيَنْزِلَ فِي خَنْدَقِ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَيَحْفُرَهُ، وَيَحْكُمَهُ، فَسَارَ بُغَا إِلَى الْخَنْدَقِ، وَرَحَلَ الْأَفْشِينُ مِنْ بَرْزَنْدَ، وَرَحَلَ أَبُو سَعِيدٍ مِنْ خُشَّ يُرِيدَانِ بَابَكَ، فَتَوَافَوْا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: دَرْوَذَ، فَحَفَرَ الْأَفْشِينُ خَنْدَقًا، وَبَنَى عَلَيْهِ سُورًا، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَذِّ سِتَّةَ أَمْيَالٍ. ثُمَّ إِنَّ بُغَا تَجَهَّزَ (بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَفْشِينِ) ، وَحَمَلَ مَعَهُ الزَّادَ، وَدَارَ حَوْلَ هَشْتَادِسَرَ، حَتَّى دَخَلَ قَرْيَةَ الْبَذَّ، فَنَزَلَهَا فَأَقَامَ بِهَا، ثُمَّ وَجَّهَ أَلْفَ رَجُلٍ فِي عَلَّافَةٍ لَهُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ عَسَاكِرِ بَابَكَ، فَأَخَذَ الْعَلَّافَةَ، وَقَتَلَ كُلَّ مَنْ كَانَ قَاتَلَهُ، وَأَسَرَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ بَعْضَهُمْ، فَأَرْسَلَ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ إِلَى الْأَفْشِينِ يُعْلِمَانِهِ مَا نَزَلْ بِهِمْ. وَرَجَعَ بُغَا إِلَى خَنْدَقِ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ تَشْبِيهًا بِالْمُنْهَزِمِ، وَكَتَبَ إِلَى الْأَفْشِينِ يُعْلِمُهُ ذَلِكَ، وَيَسْأَلُهُ الْمَدَدَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْأَفْشِينُ أَخَاهُ الْفَضْلَ، وَأَحْمَدَ بْنَ الْخَلِيلِ بْنِ هِشَامٍ، وَابْنَ جَوْشَنٍ، وَجَنَاحًا الْأَعْوَرَ، صَاحِبَ شُرْطَةِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، وَأَحَدَ الْأَخَوَيْنِ قَرَابَةَ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ، فَأَتَوْا بُغَا، وَكَتَبَ الْأَفْشِينُ إِلَى بُغَا يُعْلِمُهُ أَنْ يَغْزُوَ بَابَكَ فِي يَوْمٍ عَيَّنَهُ لَهُ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَغْزُوَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ، فَيُحَارِبُهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، فَخَرَجَ الْأَفْشِينُ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ دَرْوَذَ يُرِيدُ بَابَكَ، وَخَرَجَ بُغَا مِنْ خَنْدَقِهِ، فَخَرَجَ إِلَى هَشْتَادْسِرَ، فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ صَبْرٌ

لِشِدَّةِ الْبَرْدِ وَالرِّيحِ، فَانْصَرَفَ إِلَى عَسْكَرِهِ، فَعَسْكَرَ عَلَى دَعْوَةٍ، وَهَاجَتْ رِيحٌ بَارِدَةٌ وَمَطَرٌ شَدِيدٌ، فَرَجَعَ بُغَا إِلَى عَسْكَرِهِ، وَوَاقَعَهُمُ الْأَفْشِينُ مِنَ الْغَدِ، بَعْدَ رُجُوعِ بُغَا، فَهَزَمَ أَصْحَابَ بَابَكَ، وَأَخَذَ عَسْكَرَهُ وَخَيْمَتَهُ وَامْرَأَةً كَانَتْ مَعَهُ، وَنَزَلَ الْأَفْشِينُ فِي مُعَسْكَرِ (بَابَكَ. ثُمَّ تَجَهَّزَ بُغَا مِنَ الْغَدِ، وَصَعِدَ إِلَى هَشْتَادْسِرَ، فَأَصَابَ الْعَسْكَرَ) [الَّذِي] كَانَ بِإِزَائِهِ قَدِ انْصَرَفَ إِلَى بَابَكَ، فَأَصَابَ مِنْ أَثَاثِهِمْ وَرَحْلِهِمْ شَيْئًا، وَانْحَدَرَ مِنْ هَشْتَادْسِرَ يُرِيدُ الْبَذَّ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ دَاوُدُ سِيَاهْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بُغَا: إِنَّ الْمَسَاءَ قَدْ أَدْرَكَنَا، وَقَدْ تَعِبَ الرَّجَّالَةُ، وَتَوَسَّطْنَا الْمَكَانَ الَّذِي قَدْ نَعْرِفُهُ، فَانْظُرْ جَبَلًا حَصِينًا حَتَّى نُعَسْكِرَ فِيهِ لَيْلَتَنَا هَذِهِ، فَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ أَشْرَفُوا مِنْهُ عَلَى عَسْكَرِ الْأَفْشِينِ، فَقَالُوا: نَبِيتُ هَا هُنَا إِلَى غُدْوَةٍ، وَنَنْحَدِرُ إِلَى الْكَافِرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَجَاءَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ سَحَابٌ وَبَرْدٌ، وَثَلْجٌ كَثِيرٌ، فَأَصْبَحُوا وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ [أَنْ] يَنْزِلَ فَيَأْخُذَ مَاءً، وَلَا يَسْقِي دَابَّتَهُ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الثَّلْجُ وَالضَّبَابُ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّاسُ لَبُغَا: قَدْ فَنِيَ مَا مَعَنَا مِنَ الزَّادِ، (وَقَدْ أَضَرَّ بِنَا الْبَرْدُ) ، فَانْزِلْ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ كَانَتْ، إِمَّا رَاجِعِينَ، وَإِمَّا إِلَى الْكَافِرِ. وَكَانَ بَابَكُ فِي أَيَّامِ الضَّبَابِ وَالثَّلْجِ قَدْ بَيَّتَ الْأَفْشِينَ وَبَعْضَ عَسْكَرِهِ، وَانْصَرَفَ الْأَفْشِينُ إِلَى عَسْكَرِهِ، فَضَرَبَ بُغَا الطَّبْلَ وَانْحَدَرَ يُرِيدُ الْبَذَّ، وَلَا يَعْلَمُ بِمَا تَمَّ لِلْأَفْشِينِ بَلْ يَظُنُّهُ فِي مَوْضِعِ عَسْكَرِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ إِلَى بَطْنِ الْوَادِي رَأَى السَّمَاءَ مُنْجَلِيَةً، (وَالدُّنْيَا طَيِّبَةً، غَيْرَ رَأْسِ الْجَبَلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، فَعَبَّأَ أَصْحَابَهُ) ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْبَذِّ، حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ يَلْزَقُ جَبَلَ الْبَذِّ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُشْرِفَ عَلَى أَبْيَاتِ الْبَذِّ إِلَّا صُعُودُ نِصْفِ مِيلٍ. وَكَانَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ غُلَامٌ لِابْنِ الْبُعَيْثِ، لَهُ قَرَابَةٌ بِالْبَذِّ، فَلَقِيَهُمْ طَلَائِعُ بَابَكَ، فَعَرَفَ بَعْضَهُمُ الْغُلَامُ، فَسَأَلَهُ (عَمٌّ لَهُ) عَمَّنْ مَعَهُ مَنْ أَهْلِهِ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ وَقُلْ لِمَنْ تُعْنَى بِهِ يَنْتَحِي، فَإِنَّا قَدْ هَزَمْنَا الْأَفْشِينَ، وَمَضَى إِلَى خَنْدَقِهِ، وَتَهَيَّأْنَا لَكُمْ عَسْكَرَيْنِ، فَعَجِّلِ الِانْصِرَافَ لَعَلَّكَ تُفْلِتُ.

فَرَجَعَ الْغُلَامُ فَأَخْبَرَ ابْنَ الْبُعَيْثِ، فَأَخْبَرَ بُغَا بِذَلِكَ، فَشَاوَرَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا بَاطِلٌ، هَذِهِ خُدْعَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا رَأْسُ جَبَلٍ يَنْظُرُ إِلَى عَسْكَرِ الْأَفْشِينِ، فَصَعِدَ بُغَا، وَمَعَهُ نَفَرٌ، إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ، فَلَمْ يَرَوْا عَسْكَرَ الْأَفْشِينِ، فَتَيَقَّنَ أَنَّهُ مَضَى، وَتَشَاوَرُوا، فَرَأَوْا أَنْ يَنْصَرِفَ النَّاسُ قَبْلَ أَنْ يَجِيئَهُمُ اللَّيْلُ، فَانْصَرَفُوا، وَجَدُّوا فِي السَّيْرِ، وَلَمْ يَقْصِدِ الطَّرِيقَ الَّذِي دَخَلَ مِنْهُ لِكَثْرَةِ مَضَايِقِهِ، بَلْ أَخَذَ طَرِيقًا يَدُورُ حَوْلَ هَشْتَادْسِرَ لَيْسَ فِيهِ غَيْرَ مَضِيقٍ وَاحِدٍ، فَطَرَحَ الرَّجَّالَةُ سِلَاحَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَخَافُوا، وَصَارَ بُغَا وَجَمَاعَةُ الْقُوَّادِ فِي السَّاقَةِ، وَطَلَائِعُ بَابَكَ تَتْبَعُهُمْ، وَهُمْ قَدْرَ عَشَرَةِ فُرْسَانٍ، فَشَاوَرَ بُغَا أَصْحَابَهُ، وَقَالَ: لَا آمَنُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ مَشْغَلَةً لَنَا عَنِ الْمَسِيرِ، وَتَقَدَّمَ أَصْحَابُهُمْ لِيَأْخُذُوا الْمَضِيقَ عَلَيْنَا، فَقَالَ لَهُ الْفَضْلُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ اللَّيْلِ، فَأَسْرِعِ السَّيْرَ، وَلَا تَنْزِلْ حَتَّى تُجَاوِزَ الْمَضِيقَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ الْعَسْكَرَ قَدْ تَقَطَّعَ وَقَدْ رَمَوْا سِلَاحَهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ الْمَالُ وَالسِّلَاحُ عَلَى الْبِغَالِ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يُؤْخَذَ، وَيُؤْخَذَ الْأَسِيرُ الَّذِي مَعَهُمْ. وَكَانَ ابْنُ جُوَيْدَانَ مَعَهُمْ أَسِيرًا يُرِيدُونَ أَنْ يُفَادُوا بِهِ، فَعَسْكَرَ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ حَصِينٍ، وَنَزَلَ النَّاسُ وَقَدْ كَلُّوا وَتَعِبُوا، وَفَنِيَتْ أَزْوَادُهُمْ، فَبَاتُوا يَتَحَارَسُونَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمِصْعَدِ، فَأَتَاهُمْ بَابَكُ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، فَكَبَسُوا بُغَا وَالْعَسْكَرَ، وَخَرَجَ بُغَا رَاجِلًا، فَرَأَى دَابَّةً فَرَكِبَهَا، وَجُرِحَ الْفَضْلُ بْنُ كَاوِسَ، وَقُتِلَ جَنَاحٌ السُّكَّرِيُّ وَابْنُ جَوْشَنٍ، وَأُخِذَ [أَحَدُ] الْأَخَوَيْنِ قَرَابَةُ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ، وَنَجَا بُغَا وَالنَّاسُ وَلَمْ تَتْبَعْهُمُ الْخُرَّمِيَّةُ، وَأَخَذُوا الْمَالَ وَالسِّلَاحَ وَالْأَسِيرَ، فَوَصَلَ النَّاسُ مُعَسْكَرَهُمْ مُنْقَطِعِينَ إِلَى خَنْدَقِهِمْ، فَأَقَامَ بُغَا بِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الْأَفْشِينُ يَأْمُرُهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى مَرَاغَةَ، وَأَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ الْمَدَدَ، فَمَضَى بُغَا إِلَى مَرَاغَةَ، وَفَرَّقَ الْأَفْشِينُ النَّاسَ فِي مَشَاتِيهِمْ تِلْكَ السَّنَةَ، حَتَّى جَاءَ الرَّبِيعُ. وَفِيهَا قُتِلَ طَرْخَانُ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ قُوَّادِ بَابَكَ، وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْ بَابَكَ إِذْنًا حَتَّى يُشَتِّيَ فِي قَرْيَتِهِ، وَهِيَ بِنَاحِيَةِ مَرَاغَةَ، وَكَانَ الْأَفْشِينُ يَرْصُدُهُ، فَلَمَّا عَلِمَ خَبَرَهُ أَرْسَلَ إِلَى تُرْكِ مَوْلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ بِمَرَاغَةَ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَسْرِيَ إِلَيْهِ فِي قَرْيَتِهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، أَوْ يَأْخُذَهُ أَسِيرًا، فَفَعَلَ تُرْكُ ذَلِكَ وَأَسْرَى إِلَيْهِ وَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ رَأْسَهُ فَبَعَثَهُ إِلَى الْأَفْشِينِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ صُولُ أَرْتَكِينَ وَأَهْلُ بِلَادِهِ فِي الْقُيُودِ، فَنُزِعَتْ قُيُودُهُمْ، وَحُمِلَ عَلَى الدَّوَابِّ (نَحْوَ مِائَتَيْنِ) . وَفِيهَا غَضِبَ الْأَفْشِينُ عَلَى رَجَاءٍ الْحِضَارِيِّ، وَبَعَثَ بِهِ مُقَيَّدًا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ (بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) ، وَهُوَ وَالِي مَكَّةَ. (الْحِضَارِيُّ: بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ رَاءٌ وَيَاءٌ) . [الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ مُحْرِزٍ، قَاضِي الْقَيْرَوَانِ، وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ آدَمُ بْنُ أَبِي إِلْيَاسَ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، وَعِيسَى (بْنُ أَبَانِ) بْنِ صَدَقَةَ أَبُو مُوسَى، قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، وصَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قُعْنُبٍ الْحَارِثِيُّ صَاحِبُ مَالِكٍ،

وَعَبْدُ الْكَبِيرِ بْنُ الْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ الْمَوْصِلِيُّ، (وَكَانَ فَاضِلًا) ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ سُلَيْمِ بْنِ جَمِيلٍ الْأَزْدِيُّ الْمَوْصِلِيُّ.

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ] 222 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ مُحَارِبَةِ بَابَكَ أَيْضًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ الْمُعْتَصِمُ إِلَى الْأَفْشِينِ جَعْفَرًا الْخَيَّاطَ مَدَدًا لَهُ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِ إِيتَاخَ وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِلْجُنْدِ وَلِلنَّفَقَاتِ، فَأَوْصَلَ ذَلِكَ إِلَى الْأَفْشِينِ وَعَادَ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ أَصْحَابِ الْأَفْشِينِ وَقَائِدٍ لِبَابَكَ اسْمُهُ آذِينَ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ الشِّتَاءَ لَمَّا انْقَضَى سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَجَاءَ الرَّبِيعُ، وَدَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، رَحَلَ الْأَفْشِينُ عِنْدَ إِمْكَانِ الزَّمَانِ، فَصَارَ إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ كَلَانُ رُوذَ، وَتَفْسِيرُهُ نَهْرٌ كَبِيرٌ، فَاحْتَفَرَ عِنْدَهُ خَنْدَقًا، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ لِيَرْحَلَ مِنْ بَرْزَنْدَ إِلَى طَرَفِ رُسْتَاقَ كَلَانَ رُوذَ، وَبَيْنَهُمَا قَدْرُ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، فَأَقَامَ الْأَفْشِينُ بِكَلَانَ رُوذَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، فَأَتَاهُ مَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ قَائِدًا لِبَابَكَ اسْمُهُ آذِينُ قَدْ عَسْكَرَ بِإِزَائِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ صَيَّرَ عِيَالَهُ فِي خَيْلٍ، (فَقَالَ لَهُ) بَابَكُ: لِيَجْعَلَهُمْ فِي الْحِصْنِ، فَقَالَ: لَا أَتَحَصَّنُ مِنَ الْيَهُودِ، يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ، وَاللَّهِ لَا أُدْخِلَنَّهُمْ حِصْنًا أَبَدًا. فَوَجَّهَ الْأَفْشِينُ ظُفَرَ بْنَ الْعَلَاءِ السَّعْدِيَّ فِي جَمَاعَةِ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ، فَسَارُوا لَيْلَتَهُمْ فَوَصَلُوا إِلَى مَضِيقٍ لَا يَسْلُكُهُ إِلَّا الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ قَادُوا دَوَابَّهُمْ، وَتَسَلَّقُوا فِي الْجَبَلِ، وَأَخَذُوا عِيَالَ آذِينَ وَبَعْضَ وَلَدِهِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ آذِينَ، وَكَانَ الْأَفْشِينُ قَدْ خَافَ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَيْهِمُ الطَّرِيقُ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا عَلَى رَأْسِ كُلِّ جَبَلٍ رِجَالًا مَعَهُمُ الْأَعْلَامُ السُّودُ، فَإِنْ رَأَوْا شَيْئًا يَخَافُونَهُ حَرَّكُوا الْأَعْلَامَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا أَخَذُوا عِيَالَ آذِينَ وَرَجَعُوا إِلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ قَبْلَ الْمَضِيقِ، أَتَاهُمْ آذِينُ فِي أَصْحَابِهِ، فَحَارَبُوهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ قَتْلَى، وَاسْتَنْقَذُوا بَعْضَ النِّسَاءِ، فَنَظَرَ الرِّجَالُ الْمُرَتَّبُونَ بِرُؤُوسِ الْجِبَالِ، فَحَرَّكُوا الْأَعْلَامَ، وَكَانَ آذِينُ قَدْ أَنْفَذَ مَنْ يُمْسِكُ

عَلَيْهِمُ الْمَضِيقَ، فَلَمَّا رَأَى الْأَفْشِينُ تَحْرِيكَ الْعَلَمِ الَّذِي بِإِزَائِهِ سَيَّرَ جَمَاعَةً مِنَ الْجُنْدِ مَعَ مُظَفَّرِ بْنِ كَيْذَرٍ، فَأَسْرَعَ نَحْوَهُمْ، وَوَجَّهَ أَبَا سَعِيدٍ بَعْدَهُمْ وَبُخَارَاخَذَاهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمْ رَجَّالَةُ آذِينَ الَّذِينَ عَلَى الْمَضِيقِ تَرَكُوهُ، وَقَصَدُوا أَصْحَابَهُمْ، فَنَجَا ظُفَرُ بْنُ الْعَلَاءِ وَمَنْ مَعَهُ، وَمَعَهُمْ بَعْضُ عِيَالِ آذِينَ. ذِكْرُ فَتْحِ الْبَذِّ وَأَسْرِ بَابَكَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتِ الْبَذُّ، مَدِينَةُ بَابَكَ، وَدَخَلَهَا الْمُسْلِمُونَ وَخَرَّبُوهَا، وَاسْتَبَاحُوهَا، (وَذَلِكَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ) . وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَفْشِينَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى الدُّنُوِّ مِنَ الْبَذِّ، وَالرَّحِيلِ مِنْ كَلَانَ رُوذَ، جَعَلَ يَتَقَدَّمُ قَلِيلًا قَلِيلًا خِلَافَ مَا تَقَدَّمَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ نَوَائِبَ، يَقِفُونَ عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ نِوَبًا فِي اللَّيْلِ، مَخَافَةَ الْبَيَاتِ، فَضَجَّ النَّاسُ مِنَ التَّعَبِ، وَقَالُوا: بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْعَدُوِّ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، وَنَحْنُ نَفْعَلُ أَفْعَالًا كَأَنَّ الْعَدُوَّ بِإِزَائِنَا، قَدِ اسْتَحْيَيْنَا مِنَ النَّاسِ، أَقْدِمْ بِنَا، فَإِمَّا لَنَا وَإِمَّا عَلَيْنَا. فَقَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَكُمْ حَقٌّ، وَلَكِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَنِي بِهَذَا، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَهُ كِتَابُ الْمُعْتَصِمِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ انْحَدَرَ حَتَّى نَزَلَ رُوذَ الرُّوذِ، وَتَقَدَّمَ حَتَّى شَارَفَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَتْ بِهِ الْوَقْعَةُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، فَوَجَدَ عَلَيْهِ كُرْدُوسًا مِنَ الْخُرَّمِيَّةِ، فَلَمْ يُحَارِبْهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ إِلَى الظُّهْرِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ فَمَكَثَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ عَادَ فِي أَكْثَرِ مِنَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُمْ، وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ، وَأَقَامَ الْأَفْشِينُ بِرُوذِ الرُّوذِ، وَأَمَرَ الْكَوْهَبَانِيَّةَ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَخْبَارِ، أَنْ يَنْظُرُوا لَهُ فِي رُؤُوسِ الْجِبَالِ مَوَاضِعَ يَتَحَصَّنُ فِيهَا الرَّجَّالَةُ. فَاخْتَارُوا لَهُ ثَلَاثَةَ أَجْبُلٍ كَانَ عَلَيْهَا حُصُونٌ فَخُرِّبَتْ، فَأَخَذَ مَعَهُ الْفَعَلَةَ، وَسَارَ نَحْوَ هَذِهِ الْجِبَالِ، وَأَخَذَ مَعَهُ الْكَعْكَ وَالسَّوِيقَ، وَأَمَرَ الْفَعَلَةَ بِنَقْلِ الْحِجَارَةِ، وَسَدِّ الطَّرِيقِ إِلَى

تِلْكَ الْجِبَالِ، حَتَّى صَارَتْ كَالْحُصُونِ، وَأَمَرَ بِحَفْرِ [خَنْدَقٍ] عَلَى كُلِّ طَرِيقٍ وَرَاءَ تِلْكَ الْحِجَارَةِ، وَلَمْ يَتْرُكْ مَسْلَكًا إِلَى الْجِبَالِ مِنْهَا إِلَّا مَسْلَكًا وَاحِدًا، فَفَرَغَ مِنَ الَّذِي أَرَادَ مِنْ حَفْرِ الْخَنَادِقِ فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ وَالنَّاسُ يَحْرُسُونَ الْفَعَلَةَ وَالرَّجَّالَةَ لَيْلًا وَنَهَارًا. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا أَدْخَلَ الرَّجَّالَةَ إِلَيْهَا، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ بَابَكُ رَسُولًا وَمَعَهُ قِثَّاءُ، وَبِطِّيخٌ، وَخِيَارٌ، وَيُعْلِمُهُ أَنَّهُ قَدْ تَعِبَ وَشَقِيَ مِنْ أَكْلِ الْكَعْكِ، وَأَنَّنَا فِي عَيْشٍ رَغْدٍ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ مَا أَرَادَ أَخِي، وَأَصْعَدَ الرَّسُولَ، فَأَرَاهُ مَا عَمِلَ، وَأَطَافَ بِهِ خَنَادِقَهُ كُلَّهَا، وَقَالَ: اذْهَبْ فَعَرِّفْهُ مَا رَأَيْتَ. وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْخُرَّمِيَّةِ يَأْتُونَ إِلَى قُرْبِ خَنْدَقِ الْأَفْشِينِ، فَيَصِيحُونَ، فَلَمْ يَتْرُكِ الْأَفْشِينُ أَحَدًا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، فَعَلُوا ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ إِنَّ الْأَفْشِينَ كَمَّنَ لَهُمْ كَمِينًا، فَلَمَّا جَاؤُوا ثَارُوا عَلَيْهِمْ، فَهَرَبُوا وَلَمْ يَعُودُوا. وَعَبَّأَ الْأَفْشِينُ أَصْحَابَهُ، وَأَمَرَ كُلًّا مِنْهُمْ بِلُزُومِ مَوْضِعِهِ، وَكَانَ يَرْكَبُ، وَالنَّاسُ فِي مَوَاقِفِهِمْ، فَكَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ بِغَلَسٍ، ثُمَّ يَضْرِبُ الطُّبُولَ (وَيَسِيرُ زَحْفًا، وَكَانَتْ عَلَامَتُهُ فِي الْمَسِيرِ وَالْوُقُوفِ ضَرْبَ الطُّبُولِ) : لِكَثْرَةِ النَّاسِ، وَمَسِيرِهِمْ فِي الْجِبَالِ وَالْأَوْدِيَةِ عَلَى مَصَافِّهِمْ، فَإِذَا سَارَ ضَرَبَهَا، وَإِذَا وَقَفَ أَمْسَكَ عَنْ ضَرْبِهَا، فَيَقِفُ النَّاسُ جَمِيعًا، وَيَسِيرُونَ جَمِيعًا. وَكَانَ يَسِيرُ قَلِيلًا قَلِيلًا كُلَّمَا جَاءَهُ كَوْهَبَانِيٌّ بِخَبَرٍ سَارَ، أَوْ وَقَفَ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَتْ بِهِ الْوَقْعَةُ عَامَ أَوَّلَ، خَلَّفَ بُخَارَاخَذَاهُ عَلَى رَأْسِ الْعَقَبَةِ فِي أَلْفِ فَارِسٍ، وَسِتِّمِائَةِ رَاجِلٍ، يَحْفَظُونَ الطَّرِيقَ لِئَلَّا يَأْخُذَهُ الْخُرَّمِيَّةُ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ بَابَكُ إِذَا أَحَسَّ بِمَجِيئِهِمْ وَجَّهَ جَمْعًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَيَكْمُنُونَ فِي وَادٍ (تَحْتَ تِلْكَ الْعَقَبَةِ) ، تَحْتَ بُخَارَاخَذَاهُ، وَاجْتَهَدَ الْأَفْشِينُ أَنْ يَعْرِفَ مَكَانَ كَمِينِ بَابَكَ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ، وَكَانَ يَأْمُرُ أَبَا سَعِيدٍ (أَنْ يَعْبُرَ الْوَادِيَ فِي كُرْدُوسٍ، وَيَأْمُرُ جَعْفَرًا الْخَيَّاطَ أَنْ يَعْبُرَ فِي كُرْدُوسٍ) ، وَيَأْمُرُ أَحْمَدَ بْنَ الْخَلِيلِ بْنِ هِشَامٍ أَنْ يَعْبُرَ فِي كُرْدُوسٍ آخَرَ، فَيَصِيرُ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ ثَلَاثَةُ كَرَادِيسَ فِي طَرَفِ أَبْيَاتِهِمْ، وَكَانَ بَابَكُ يُخْرِجُ عَسْكَرَهُ فَيَقِفُ بِإِزَاءِ هَذِهِ الْكَرَادِيسِ، لِئَلَّا يَتَقَدَّمَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَى بَابِ الْبَذِّ، وَكَانَ يُفَرِّقُ عَسَاكِرَهُ كَمِينًا، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ.

وَكَانَ الْأَفْشِينُ يَجْلِسُ عَلَى تَلٍّ مُشْرِفٍ يَنْظُرُ إِلَى قَصْرِ بَابَكَ، وَالنَّاسُ كَرَادِيسَ، فَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ مِنَ الْوَادِي نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ مَعَ أَبِي سَعِيدٍ وَجَعْفَرٍ وَأَحْمَدَ بْنِ الْخَلِيلِ لَمْ يَنْزِلْ لِقُرْبِهِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَكَانَ بَابَكُ وَأَصْحَابُهُ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَضْرِبُونَ بِالسُّرْنائِيِّ، فَإِذَا صَلَّى الْأَفْشِينُ الظُّهْرَ رَجَعَ إِلَى خَنْدَقِهِ بِرُوذِ الرُّوذِ، فَكَانَ يَرْجِعُ أَوَّلًا أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْعَدُّوِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَكَانَ آخِرُ مَنْ يَرْجِعُ بُخَارَاخَذَاهُ لِأَنَّهُ كَانَ أَبْعَدَهُمْ عَنِ الْعَدُوِّ، فَإِذَا رَجَعُوا صَاحَ بِهِمُ الْخُرَّمِيَّةُ. فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ ضَجِرَتِ الْخُرَّمِيَّةُ مِنَ الْمُطَاوَلَةِ، وَانْصَرَفَ الْأَفْشِينُ كَعَادَتِهِ، وَعَادَتِ الْكَرَادِيسُ الَّتِي بِذَلِكَ الْجَانِبِ مِنَ الْوَادِي، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا جَعْفَرُ الْخَيَّاطُ، فَفَتَحَ الْخُرَّمِيَّةُ بَابَ الْبَذِّ، وَخَرَجَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ عَلَى أَصْحَابِ جَعْفَرٍ، وَارْتَفَعَتِ الصَّيْحَةُ فِي الْعَسْكَرِ، فَتَقَدَّمَ جَعْفَرٌ بِنَفْسِهِ، فَرَدَّ أُولَئِكَ الْخُرَّمِيَّةَ إِلَى بَابِ الْبَذِّ، وَوَقَعَتِ الصَّيْحَةُ فِي الْعَسْكَرِ، فَرَجَعَ الْأَفْشِينُ فَرَأَى جَعْفَرًا وَأَصْحَابَهُ يُقَاتِلُونَ، وَخَرَجَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ، وَجَلَسَ الْأَفْشِينُ فِي مَكَانِهِ، وَهُوَ يَتَلَظَّى عَلَى جَعْفَرٍ، وَيَقُولُ: أَفْسَدَ عَلَيَّ تَعْبِيَتِي. وَارْتَفَعَتِ الصَّيْحَةُ، فَكَانَ مَعَ أَبِي دُلَفٍ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ، فَعَبَرُوا إِلَى جَعْفَرٍ بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَفْشِينِ، وَتَعَلَّقُوا بِالْبَذِّ، وَأَثَّرُوا فِيهِ أَثَرًا، وَكَادُوا يَصْعَدُونَهُ، فَيَدْخُلُونَ الْبَذَّ، وَوَجَّهَ جَعْفَرٌ إِلَى الْأَفْشِينِ أَنْ أَمِدَّنِي بِخَمْسِ مِائَةِ رَاجِلٍ مِنَ النَّاشِبَةِ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَدْخُلَ الْبَذَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْأَفْشِينُ: إِنَّكَ أَفْسَدْتَ عَلَيَّ أَمْرِي، فَتَخَلَّصْ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَخَلِّصْ أَصْحَابَكَ وَانْصَرِفْ، وَارْتَفَعَتِ الصَّيْحَةُ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ، حَتَّى تَعَلَّقُوا بِالْبَذِّ، وَظَنَّ الْكُمَنَاءُ الَّذِينَ لِبَابَكَ أَنَّ الْحَرْبَ قَدِ اشْتَبَكَتْ، فَوَثَبَ بَعْضُهُمْ مِنْ تَحْتِ بُخَارَاخَذَاهُ وَوَثَبَ بَعْضُهُمْ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَتَحَرَّكَتِ الْكُمَنَاءُ مِنَ الْخُرَّمِيَّةِ، وَالنَّاسُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، فَلَمْ يَزُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَقَالَ الْأَفْشِينُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَيَّنَ مَوَاضِعَ هَؤُلَاءِ. وَرَجَعَ جَعْفَرٌ وَأَصْحَابُهُ وَالْمُتَطَوِّعَةُ، فَجَاءَ جَعْفَرٌ إِلَى الْأَفْشِينِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَمُدَّهُ، وَجَرَى بَيْنَهُمَا نَفْرَةٌ شَدِيدَةٌ، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ، وَمَعَهُ صَخْرَةٌ، فَقَالَ لِلْأَفْشِينِ: أَتَرُدَّنَا وَهَذَا الْحَجَرُ أَخَذْتَهُ مِنَ السُّورِ؟ فَقَالَ: إِذَا انْصَرَفْتَ عَرَفْتَ مَنْ عَلَى

طَرِيقِكَ، يَعْنِي الْكَمِينَ الَّذِي عِنْدَ بُخَارَاخَذَاهُ. وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: لَوْ ثَارَ هَذَا الْكَمِينُ الَّذِي تَحْتَكَ كَيْفَ كُنْتَ تَرَى هَؤُلَاءِ الْمُتَطَوِّعَةَ؟ ! ثُمَّ رَجَعَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى عَادَتِهِمْ، فَلَمَّا رَأَى هَؤُلَاءِ الْكَمِينَ الَّذِي عِنْدَ بُخَارَاخَذَاهُ عَلِمُوا مَا كَانَ وَرَاءَهُمْ، فَإِنَّ بُخَارَاخَذَاهُ لَوْ تَحَرَّكَ نَحْوَ الْقِتَالِ، لَمَلَكُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَهَلَكَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ آخِرِهِمْ، فَأَقَامَ الْأَفْشِينُ بِخَنْدَقِهِ أَيَّامًا، فَشَكَا الْمُتَطَوِّعَةُ إِلَيْهِ ضِيقَ الْعَلُوفَةِ، وَالزَّادِ، وَالنَّفَقَةِ، فَقَالَ: مَنْ صَبَرَ فَلْيَصْبِرْ، وَمَنْ لَمْ [يَصْبِرْ] فَالطَّرِيقُ وَاسِعٌ فَلْيَنْصَرِفْ، وَفِي جُنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ كِفَايَةٌ، فَانْصَرَفَ الْمُتَطَوِّعَةُ يَقُولُونَ: لَوْ تَرَكَ الْأَفْشِينُ جَعْفَرًا وَتَرَكَنَا لَأَخَذْنَا الْبَذَّ، لَكِنَّهُ يَشْتَهِي الْمُطَاوَلَةَ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ وَمَا تَتَنَاوَلُهُ الْمُتَطَوِّعَةُ بِأَلْسِنَتِهِمْ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، قَالَ لِي: قُلْ لِلْأَفْشِينِ (إِنْ أَنْتَ حَارَبْتَ هَذَا وَجَدَّدْتَ فِي أَمْرِهِ، وَإِلَّا أَمَرْتُ الْجِبَالَ أَنْ تَرْجُمَكَ بِالْحِجَارَةِ، فَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَبَلَغَ الْأَفْشِينَ) ، فَأَحْضَرَهُ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْمَنَامِ، فَقَصَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ نِيَّتِي وَمَا أُرِيدُ بِهَذَا الْخَلْقِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَوْ أَمَرَ الْجِبَالَ بِرَجْمِ أَحَدٍ لَرَجَمَ هَذَا الْكَافِرَ فَكَفَانَا مَؤُونَتَهُ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ لَا تَحْرِمْنَا شَهَادَةً إِنْ كَانَتْ حَضَرَتْ، وَإِنَّمَا قَصَدْنَا ثَوَابَ اللَّهِ وَوَجْهَهُ، فَدَعْنَا وَحْدَنَا حَتَّى نَتَقَدَّمَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِكِ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَيْنَا. فَقَالَ الْأَفْشِينُ: إِنِّي أَرَى نِيَّاتِكُمْ حَاضِرَةً، وَأَحْسَبُ هَذَا الْأَمْرَ يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ خَيْرٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَدْ نَشَطْتُمْ وَنَشَطَ النَّاسُ، وَمَا كَانَ هَذَا رَأْيِي وَقَدْ حَدَّثَ السَّاعَةَ لِمَا سَمِعْتُ مِنْ كَلَامِكُمْ، اعْزِمُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ أَيَّ يَوْمٍ أَرَدْتُمْ حَتَّى نُنَاهِضَهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. فَخَرَجُوا مُسْتَبْشِرِينَ، فَتَأَخَّرَ مَنْ أَرَادَ الِانْصِرَافَ، وَوَعَدَ الْأَفْشِينُ النَّاسَ لِيَوْمٍ ذَكَرَهُ لَهُمْ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالتَّجَهُّزِ وَحَمْلِ الْمَالِ وَالزَّادِ وَالْمَاءِ، وَجَعَلَ الْمَحَامِلَ عَلَى الْبِغَالِ تَحْمِلُ الْجَرْحَى، وَزَحَفَ بِالنَّاسِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَجَعَلَ بُخَارَاخَذَاهُ بِمَكَانِهِ عَلَى الْعَقَبَةِ، وَجَلَسَ الْأَفْشِينُ بِالْمَكَانِ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ فِيهِ، وَقَالَ لِأَبِي دُلَفٍ: قُلْ لِلْمُتَطَوِّعَةِ أَيُّ نَاحِيَةٍ أَسْهَلُ عَلَيْكُمْ فَاقْتَصِرُوا عَلَيْهَا. فَقَالَ لِجَعْفَرٍ: الْعَسْكَرُ كُلُّهُ بَيْنَ يَدَيْكَ وَالنَّشَّابَةُ وَالنَّفَّاطُونَ، فَإِنْ أَرَدْتَ فَخُذْ مِنْهُمْ مَا تُرِيدُ وَاعَزِمْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمْ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ تُرِيدُ.

فَسَارَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ بِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَقَالَ لِأَبِي سَعِيدٍ: قِفْ عِنْدِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: قِفْ أَنْتَ هَاهُنَا، لِمَكَانٍ عَيَّنَهُ لَهُ، فَإِنْ أَرَادَ جَعْفَرٌ رِجَالًا أَوْ فُرْسَانًا أَمْدَدْنَاهُ. وَتَقَدَّمَ جَعْفَرٌ وَالْمُتَطَوِّعَةُ، فَقَاتَلُوا وَتَعَلَّقُوا بِسُورِ الْبَذِّ، وَضَرَبَ جَعْفَرٌ بَابَ الْبَذِّ وَوَقَفَ عِنْدَهُ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ، وَوَجَّهَ الْأَفْشِينُ إِلَيْهِ وَإِلَى الْمُتَطَوِّعَةِ بِالْأَمْوَالِ لِتُفَرَّقَ فِيهِمْ وَيُعْطَى مَنْ تَقَدَّمَ، وَأَمَدَّهُمْ بِالْفَعَلَةِ مَعَهُمُ الْفُؤُوسُ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِالْمِيَاهِ لِئَلَّا يَعْطَشُوا وَبِالْكَعْكِ وَالسَّوِيقِ، فَاشْتَبَكَتِ الْحَرْبُ عَلَى الْبَابِ طَوِيلًا، فَفَتَحَتِ الْخُرَّمِيَّةُ الْبَابَ، وَخَرَجُوا عَلَى أَصْحَابِ جَعْفَرٍ، فَنَحُّوهُمْ عَنِ الْبَابِ، وَشَدُّوا عَلَى الْمُتَطَوِّعَةِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، فَطَرَحُوهُمْ عَنِ السُّورِ، وَرَمَوْهُمْ بِالصَّخْرِ، وَأَثَّرُوا فِيهِمْ، وَضَعُفُوا عَنِ الْحَرْبِ، وَأَخَذَ جَعْفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوَ مِائَةِ رَجُلٍ، فَوَقَفُوا خَلْفَ تُرُسِهِمْ مُتَحَاجِزِينَ لَا يُقْدِمُ أَحَدٌ عَلَى الْآخَرِ، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى صُلِّيَتِ الظُّهْرُ فَتَحَاجَزُوا. وَبَعَثَ الْأَفْشِينُ الرَّجَّالَةَ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدَهُ نَحْوَ الْمُتَطَوِّعَةِ، وَبَعَثَ إِلَى جَعْفَرٍ بَعْضَهُمْ، خَوْفًا أَنْ يَطْمَعَ الْعَدُوُّ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: لَسْتُ أُوتَى مِنْ قِلَّةٍ، وَلَكِنِّي لَا أَرَى لِلْحَرْبِ مَوْضِعًا يَتَقَدَّمُونَ فِيهِ، فَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ فَانْصَرَفَ. وَحَمَلَ الْأَفْشِينُ الْجَرْحَى وَمَنْ بِهِ وَهَنٌ مِنَ الْحِجَارَةِ، فَحُمِلُوا فِي الْمَحَامِلِ عَلَى الْبِغَالِ وَانْصَرَفُوا عَنْهُمْ، وَأَيِسَ النَّاسُ مِنَ الْفَتْحِ تِلْكَ السَّنَةَ، وَانْصَرَفَ أَكْثَرُ الْمُطَّوِّعَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْأَفْشِينَ تَجَهَّزَ بَعْدَ جُمْعَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ جَوْفُ اللَّيْلِ بَعَثَ الرَّجَّالَةَ النَّاشِبَةَ، وَهُمْ أَلْفُ رَجُلٍ، وَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَكْوَةً وَكَعْكًا، وَأَعْطَاهُمْ أَعْلَامًا غَيْرَ مُرَكَّبَةٍ وَبَعَثَ مَعَهُمْ أَدِلَّاءَ، فَسَارُوا فِي جِبَالٍ مُنْكَرَةٍ صَعْبَةٍ فِي غَيْرِ طَرِيقٍ، حَتَّى صَارُوا خَلْفَ التَّلِّ الَّذِي يَقِفُ آذِينُ عَلَيْهِ، وَهُوَ جَبَلٌ شَاهِقٌ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَعْلَمَ بِهِمْ أَحَدٌ، حَتَّى إِذَا رَأَوْا أَعْلَامَ الْأَفْشِينِ وَصَلُوا الْغَدَاةَ وَرَأَوُا الْوَقْعَةَ رَكَّبُوا تِلْكَ الْأَعْلَامَ فِي الرِّمَاحِ وَضَرَبُوا الطُّبُولَ وَانْحَدَرُوا مِنْ فَوْقِ الْجَبَلِ، وَرَمَوْا بِالنِّشَابِ وَالصَّخْرِ عَلَى الْخُرَّمِيَّةِ، وَإِنْ هُمْ لَمْ يَرَوُا الْأَعْلَامَ لَمْ يَتَحَرَّكُوا حَتَّى يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَوَصَلُوا إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ عِنْدَ السَّحَرِ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ وَجَّهَ الْأَفْشِينُ إِلَى الْجُنْدِ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّجَهُّزِ لِلْحَرْبِ. فَلَمَّا كَانَ بَعْضُ اللَّيْلِ وَجَّهَ بَشِيرًا التُّرْكِيَّ وَقُوَّادًا مِنَ الْفَرَاغِنَةِ كَانُوا مَعَهُ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا حَتَّى يَصِيرُوا تَحْتَ التَّلِّ الَّذِي عَلَيْهِ آذِينُ، وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ بَابَكَ يَكْمُنُ تَحْتَ

ذَلِكَ الْجَبَلِ، فَسَارُوا لَيْلًا، وَلَا يَعْلَمُ بِهِمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعَسْكَرِ، ثُمَّ رَكِبَ هُوَ وَالْعَسْكَرُ مَعَ السَّحَرِ، فَصَلَّى الْغَدَاةَ، وَضَرَبَ الطَّبْلَ، وَرَكِبَ فَأَتَى الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ يَقِفُ فِيهِ، فَقَعَدَ عَلَى عَادَتِهِ، وَأَمَرَ بُخَارَاخَذَاهُ أَنْ يَقِفَ مَعَ جَعْفَرٍ الْخَيَّاطِ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَحْمَدَ بْنِ الْخَلِيلِ بْنِ هِشَامٍ، وَنَزَلَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ يَقِفُ فِيهِ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْرُبُوا مِنَ التَّلِّ الَّذِي عَلَيْهِ آذِينُ فَيُحْدِقُوا بِهِ، وَكَانَ قَبْلُ يَنْهَاهُمْ عَنْهُ. وَمَضَى النَّاسُ مَعَ هَؤُلَاءِ الْقُوَّادِ الْأَرْبَعَةِ، (فَكَانَ جَعْفَرٌ مِمَّا يَلِي الْبَابَ، وَإِلَى جَانِبِهِ أَبُو سَعِيدٍ، وَإِلَى جَانِبِ أَبِي سَعِيدٍ بُخَارَاخَذَاهُ، وَكَانَ أَحْمَدُ مِمَّا يَلِي بُخَارَاخَذَاهُ، فَصَارُوا جَمِيعًا حَوْلَ التَّلِّ وَارْتَفَعَتِ الضَّجَّةُ) مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي، فَوَثَبَ كَمِينُ بَابَكَ بِبَشِيرٍ التُّرْكِيِّ وَالْفَرَاغِنَةِ، فَحَارَبُوهُمْ وَسَمِعَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ صَيْحَتَهُمْ، فَأَرَادُوا الْحَرَكَةَ، فَأَمَرَ الْأَفْشِينُ مُنَادِيًا يُنَادِي فِيهِمْ أَنَّ بَشِيرًا قَدْ أَثَارَ كَمِينًا، فَلَا يَتَحَرَّكَنَّ أَحَدٌ، فَسَكَنُوا، وَلَمَّا سَمِعَ الرِّجَالُ الَّذِينَ كَانَ سَيَّرَهُمْ حَتَّى صَارُوا فِي أَعْلَى الْجَبَلِ ضَجَّةَ الْعَسْكَرِ رَكَّبُوا الْأَعْلَامَ عَلَى الرِّمَاحِ، فَنَظَرَ النَّاسُ إِلَى الْأَعْلَامِ تَنْحَدِرُ مِنَ الْجَبَلِ عَلَى خَيْلِ آذِينَ، فَوَجَّهَ آذِينُ إِلَيْهِمْ بَعْضَ أَصْحَابِهِ. (وَحَمَلَ جَعْفَرٌ وَأَصْحَابُهُ) عَلَى آذِينَ وَأَصْحَابِهِ، حَتَّى صَعِدُوا إِلَيْهِ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِ حَمْلَةً مُنْكَرَةً، فَانْحَدَرَ إِلَى الْوَادِي، وَحَمَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي سَعِيدٍ، فَإِذَا تَحْتَ دَوَابِّهِمْ آبَارٌ مَحْفُورَةٌ، فَتَسَاقَطَتِ الْفُرْسَانُ فِيهَا، فَوَجَّهَ الْأَفْشِينُ الْفَعَلَةَ يَطُمُّونَ تِلْكَ الْآبَارِ، فَفَعَلُوا، وَحَمَلَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ حَمْلَةً شَدِيدَةً. وَكَانَ آذِينُ قَدْ جَعَلَ فَوْقَ الْجَبَلِ عَجَلًا عَلَيْهَا صَخْرٌ، فَلَمَّا حَمَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ دَفَعَ تِلْكَ الْعَجَلَ عَلَيْهِمْ، فَأَفْرَجَ النَّاسُ مِنْهَا حَتَّى تَدَحْرَجَتْ، ثُمَّ حَمَلَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَمَّا نَظَرَ بَابَكُ إِلَى أَصْحَابِهِ قَدْ أَحْدَقَ بِهِمْ خَرَجَ مِنْ طَرَفِ الْبَذِّ، مِمَّا يَلِي الْأَفْشِينَ، فَأَقْبَلَ نَحْوَهُ، فَقِيلَ لِلْأَفْشِينِ: إِنَّ هَذَا بَابَكُ يُرِيدُكَ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ، حَتَّى سَمِعَ كَلَامَهُ، وَكَلَامَ أَصْحَابِهِ، وَالْحَرْبُ مُشْتَبِكَةٌ فِي نَاحِيَةِ آذِينَ، فَقَالَ: أُرِيدُ الْأَمَانَ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ الْأَفْشِينُ: قَدْ عَرَضْتُ هَذَا عَلَيْكَ، وَهُوَ لَكَ مَبْذُولٌ مَتَى شِئْتَ، فَقَالَ: قَدْ شِئْتُ الْآنَ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرَنِي حَتَّى أَحْمِلَ عِيَالِي وَأَتَجَهَّزَ، فَقَالَ لَهُ الْأَفْشِينُ: أَنَا أَنْصَحُكَ، خُرُوجُكَ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْ غَدٍ، قَالَ: قَدْ قَبِلْتُ هَذَا، قَالَ الْأَفْشِينُ: فَابْعَثْ بِالرَّهَائِنِ! فَقَالَ: نَعَمْ، أَمَّا فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَهُمْ عَلَى ذَلِكَ التَّلِّ، فَمُرْ أَصْحَابَكَ بِالتَّوَقُّفِ.

فَجَاءَ رَسُولُ الْأَفْشِينِ لِيَرُدَّ النَّاسَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَعْلَامَ الْفَرَاغِنَةَ قَدْ دَخَلَتِ الْبَذَّ، وَصَعِدُوا بِهَا الْقُصُورَ، فَرَكِبَ وَصَاحَ بِالنَّاسِ، فَدَخَلَ، وَدَخَلُوا، وَصَعِدَ النَّاسُ بِالْأَعْلَامِ فَوْقَ قُصُورِ بَابَكَ، وَكَانَ قَدْ كَمَّنَ فِي قُصُورِهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَسِتِّمِائَةِ رَجُلٍ، فَخَرَجُوا عَلَى النَّاسِ، فَقَاتَلُوهُمْ، وَمَرَّ بَابَكُ، حَتَّى دَخَلَ الْوَادِي الَّذِي يَلِي هَشْتَادْسِرَ، وَاشْتَغَلَ الْأَفْشِينُ وَمِنْ مَعَهُ بِالْحَرْبِ عَلَى أَبْوَابِ الْقُصُورِ، فَأَحْضَرَ النَّفَّاطِينَ فَأَحْرَقُوهَا، وَهَدَمَ النَّاسُ الْقُصُورَ، فَقَتَلُوا الْخُرَّمِيَّةَ عَنْ آخِرِهِمْ، وَأَخَذَ الْأَفْشِينُ أَوْلَادَ بَابَكَ وَعِيَالِهِ، وَبَقِيَ هُنَاكَ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْمَسَاءُ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالِانْصِرَافِ، فَرَجَعُوا إِلَى الْخَنْدَقِ بِرَوْذِ الرَّوْذِ. وَأَمَّا بَابَكُ فَإِنَّهُ سَارَ فِيمَنْ مَعَهُ، وَكَانُوا قَدْ عَادُوا إِلَى الْبَذِّ، بَعْدَ رُجُوعِ الْأَفْشِينِ، فَأَخَذُوا مَا أَمْكَنَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ وَالْأَمْوَالِ، وَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعَ الْأَفْشِينُ إِلَى الْبَذِّ، وَأَمَرَ بِهَدْمِ الْقُصُورِ وَإِحْرَاقِهَا، فَفَعَلُوا، فَلَمْ يَدَعْ مِنْهَا بَيْتًا، وَكَتَبَ إِلَى مُلُوكِ أَرْمِينِيَّةَ وَبَطَارِقَتِهِمْ، يُعْلِمُهُمْ أَنَّ بَابَكَ قَدْ هَرَبَ وَعِدَّةٌ مَعَهُ، وَهُوَ مَارٌّ بِكُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِحِفْظِ نَوَاحِيهِمْ، وَلَا يَمُرُّ بِهِمْ أَحَدٌ إِلَّا أَخَذُوهُ، حَتَّى يَعْرِفُوهُ. وَجَاءَتْ جَوَاسِيسُ الْأَفْشِينِ إِلَيْهِ فَأَعْلَمُوهُ بِمَوْضِعِ بَابَكَ، وَكَانَ فِي وَادٍ كَثِيرِ الشَّجَرِ وَالْعُشْبِ، طَرَفُهُ بِأَذْرَبِيجَانَ، وَطَرَفُهُ الْآخَرُ بِأَرْمِينِيَّةَ، وَلَمْ يُمْكِنْ لِلْخَيْلِ نُزُولُهُ، وَلَا يُرَى مَنْ يَسْتَخْفِي فِيهِ لِكَثْرَةِ شَجَرِهِ وَمِيَاهِهِ، وَيُسَمَّى هَذَا الْوَادِي غَيْضَةً، فَوَجَّهَ الْأَفْشِينُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ فِيهِ طَرِيقٌ إِلَى الْوَادِي جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ يَحْفَظُونَهُ، وَكَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ جَمَاعَةً. وَوَرَدَ كِتَابُ الْمُعْتَصِمِ، فِيهِ أَمَانُ بَابَكَ، فَدَعَا الْأَفْشِينُ مَنْ كَانَ اسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ بِالْكِتَابِ، وَفِيهِمُ ابْنُهُ، فَلَمْ يَجْسُرْ [عَلَى ذَلِكَ] أَحَدٌ مِنْهُمْ خَوْفًا مِنْهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ يَفْرَحُ بِهَذَا الْأَمَانِ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَعْرَفُ بِهِ مِنْكَ، فَقَامَ رَجُلَانِ فَقَالَا: اضْمَنْ لَنَا أَنَّكَ تُجْرِي عَلَى عِيَالِنَا، فَضِمْنَ لَهُمَا، فَسَارَا بِالْكِتَابِ، فَلَمَّا رَأَيَاهُ أَعْلَمَاهُ مَا قَدِمَا لَهُ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا وَأَمَرَ الْآخَرَ أَنْ يَعُودَ بِالْكِتَابِ إِلَى الْأَفْشِينِ. وَكَانَ ابْنُهُ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ مَعَهُمَا كِتَابًا، فَقَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: قُلْ لِابْنِ الْفَاعِلَةِ: لَوْ كُنْتَ ابْنِي لَلَحِقْتَ بِي، وَلَكِنَّكَ لَسْتَ ابْنِي، وَلَأَنْ تَعِيشَ يَوْمًا وَاحِدًا وَأَنْتَ رَئِيسٌ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَعِيشَ أَرْبَعِينَ سَنَةً عَبْدًا ذَلِيلًا! وَقَعَدَ فِي مَوْضِعِهِ فَلَمْ يَزَلْ فِي تِلْكَ الْغَيْضَةِ حَتَّى فَنِيَ زَادُهُ، وَخَرَجَ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الطُّرُقِ، وَكَانَ مَنْ عَلَيْهِ مِنَ الْجُنْدِ، قَدْ تَنَحَّوْا قَرِيبًا مِنْهُ، وَتَرَكُوا

عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ يَحْرُسُونَهُ. فَبَيْنَمَا هُمْ ذَاتَ يَوْمٍ، نِصْفَ النَّهَارِ، إِذْ خَرَجَ بَابَكُ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَرَ الْعَسْكَرَ، وَلَا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَحْرُسُونَ الْمَكَانَ، فَظَنَّ أَنْ لَيْسَ هُنَاكَ أَحَدٌ، فَخَرَجَ هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ أَخُوهُ، وَمُعَاوِيَةُ، وَأُمُّهُ، وَامْرَأَةٌ أُخْرَى، وَسَارُوا يُرِيدُونَ أَرْمِينِيَّةَ، فَرَآهُمُ الْحُرَّاسُ، فَأَرْسَلُوا إِلَى أَصْحَابِهِمْ: إِنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا فُرْسَانًا لَا نَدْرِي مَنْ هُمْ، وَكَانَ أَبُو السَّاجِ هُوَ الْمُقَدَّمَ عَلَيْهِمْ، فَرَكِبَ النَّاسُ وَسَارُوا نَحْوَهُمْ، فَرَأَوْا بَابَكَ وَأَصْحَابَهُ قَدْ نَزَلُوا عَلَى مَاءٍ يَتَغَدَّوْنَ، فَلَمَّا رَأَى الْعَسَاكِرَ رَكِبَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، فَنَجَا هُوَ، وَأَخَذَ مُعَاوِيَةَ، وَأُمَّ بَابَكَ، وَالْمَرْأَةَ الْأُخْرَى، فَأَرْسَلَهُمْ أَبُو السَّاجِ إِلَى الْأَفْشِينِ. وَسَارَ بَابَكُ فِي جِبَالِ أَرْمِينِيَّةَ مُسْتَخْفِيًا، فَاحْتَاجَ إِلَى طَعَامٍ، وَكَانَ بِطَارِقَةُ أَرْمِينِيَّةَ قَدْ تَحَفَّظُوا بِنَوَاحِيهِمْ، وَأَوْصَوْا أَنْ لَا يَجْتَازَ بِهِمْ أَحَدٌ إِلَّا أَخَذُوهُ حَتَّى يَعْرِفُوهُ، وَأَصَابَ بَابَكَ الْجُوعُ، فَرَأَى حَرَّاثًا فِي بَعْضِ الْأَوْدِيَةِ، فَقَالَ لِغُلَامِهِ: انْزِلْ إِلَى هَذَا الْحَرَّاثِ، وَخُذْ مَعَكَ دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ خُبْزٌ فَاشْتَرِ مِنْهُ. وَكَانَ لِلْحَرَّاثِ شَرِيكٌ قَدْ ذَهَبَ لِحَاجَةٍ، فَنَزَلَ الْغُلَامُ إِلَى الْحَرَّاثِ لِيَأْخُذَ مِنْهُ الطَّعَامَ، فَرَآهُ رَفِيقُ الْحَرَّاثِ، فَظَنَّ أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا مَعَهُ غَصْبًا، فَعَدَا إِلَى الْمُسَلَّحَةِ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ رَجُلًا عَلَيْهِ سَيْفٌ وَسِلَاحٌ قَدْ أَخَذَ خُبْزَ شَرِيكِهِ، فَرَكِبَ صَاحِبُ الْمُسَلَّحَةِ، وَكَانَ فِي جِبَالِ ابْنِ سَنْبَاطَ، فَوَجَّهَ إِلَى سَهْلِ بْنِ سُنْبَاطَ بِالْخَبَرِ، فَرَكِبَ فِي جَمَاعَةٍ فَوَافَى الْحَرَّاثَ وَالْغُلَامُ عِنْدَهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُ الْحَرَّاثُ خَبَرَهُ، فَأَخْبَرَ الْغُلَامُ عَنْ مَوْلَاهُ، وَدَلَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى وَجْهَ بَابَكَ عَرَفَهُ (فَتَرَجَّلَ لَهُ) ، وَأَخَذَ يَدَهُ فَقَبَّلَهَا، وَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: بِلَادَ الرُّومِ، قَالَ: لَا تَجِدُ أَحَدًا أَعْرَفُ بِحَقِّكَ مِنِّي، وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ السُّلْطَانِ عَمَلٌ، وَكُلُّ مَنْ هَاهُنَا مِنَ الْبَطَارِقَةِ إِنَّمَا هُمْ أَهْلُ بَيْتِكَ، قَدْ صَارَ لَكَ مِنْهُمْ أَوْلَادٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ بَابَكَ كَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مِنَ النِّسَاءِ امْرَأَةً جَمِيلَةً طَلَبَهَا، فَإِنْ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ، وَإِلَّا أَسْرَى إِلَيْهِ، فَأَخَذَهَا، وَنَهَبَ مَالَهُ وَعَادَ، فَخَدَعَهُ ابْنُ سُنْبَاطَ، حَتَّى صَارَ إِلَى حِصْنِهِ. وَأَرْسَلَ بَابَكُ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ إِلَى حِصْنِ اصْطِفَانُوسَ، فَأَرْسَلَ ابْنَ سَنْبَاطَ إِلَى

الْأَفْشِينِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْأَفْشِينُ يَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِ أَبَا سَعِيدٍ وبورمارهَ، وَأَمَرَهُمَا بِطَاعَتِهِ، وَأَمَرَهُمَا ابْنُ سُنْبَاطَ بِالْمَقَامِ فِي مَكَانٍ سَمَّاهُ، وَقَالَ: لَا تَبْرَحَا حَتَّى يَأْتِيَكُمَا رَسُولِي، فَيَكُونُ الْعَمَلُ بِمَا يَقُولُ لَكُمَا. ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ لِبَابَكَ: قَدْ ضَجِرْتَ مِنْ هَذَا الْحِصْنِ، فَلَوْ نَزَلْتَ إِلَى الصَّيْدِ، فَفَعَلَ، فَلَمَّا نَزَلَ مِنِ الْحِصْنِ أَرْسَلَ ابْنُ سُنْبَاطَ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ وبورماره، فَأَمَرَهُمَا أَنْ يُوَافِيَاهُ: أَحَدُهُمَا مِنْ جَانِبِ وَادٍ هُنَاكَ، وَالثَّانِي مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَفَعَلَا، فَلَمْ يُحِبَّ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِمَا. فَبَيْنَمَا بَابَكُ وَابْنُ سُنْبَاطَ يَتَصَيَّدَانِ إِذْ خَرَجَ عَلَيْهِمَا أَبُو سَعِيدٍ وبورمارهُ فِي أَصْحَابِهِمَا، وَعَلَى بَابَكَ دُرَّاعَةٌ بَيْضَاءُ، فَأَخَذَهُمَا، وَأَمَرُوا بَابَكَ بِالنُّزُولِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالَ: أَنَا أَبُو سَعِيدٍ، وَهَذَا فُلَانٌ، فَنَزَلَ ثُمَّ قَالَ لِابْنِ سُنْبَاطَ مِنَ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ، وَشَتَمَهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا بِعْتَنِي لِلْيَهُودِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ، لَوْ أَرَدْتَ الْمَالَ لَأَعْطَيْتُكَ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطِيكَ هَؤُلَاءِ، فَأَرْكَبَهُ أَبُو سَعِيدٍ، وَسَارُوا بِهِ إِلَى الْأَفْشِينِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ الْعَسْكَرِ صَعِدَ الْأَفْشِينُ، وَجَلَسَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَصَفَّ عَسْكَرَهُ صَفَّيْنِ، وَأَمَرَ بِإِنْزَالِ بَابَكَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَمَشَى بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَأَدْخَلَهُ الْأَفْشِينُ بَيْتًا، وَوَكَّلَ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ، وَسَيَّرَ مَعَهُ سَهْلَ بْنَ سُنْبَاطَ وَابْنَهُ مُعَاوِيَةَ، فَأَمَرَ لَهُ الْأَفْشِينُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَمَرَ لِسَهْلٍ بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمِنْطَقَةٍ مُغْرَقَةٍ بِالْجَوَاهِرِ وَتَاجِ الْبَطْرَقَةِ. وَأَرْسَلَ الْأَفْشِينُ إِلَى عِيسَى بْنِ يُونُسَ بْنِ اصْطِفَانُوسَ يَطْلُبُ مِنْهُ عَبْدَ اللَّهِ أَخَا بَابَكَ فَأَنْفَذَهُ إِلَيْهِ، فَحَبَسَهُ مَعَ أَخِيهِ، وَكَتَبَ إِلَى الْمُعْتَصِمِ بِذَلِكَ، فَأَمَرَهُ بِالْقُدُومِ بِهِمَا عَلَيْهِ. وَكَانَ وُصُولُ بَابَكَ إِلَى الْأَفْشِينِ بِبَرْزَنْدَ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالَ. وَكَانَ الْأَفْشِينُ قَدْ أَخَذَ نِسَاءً كَثِيرَةً وَصِبْيَانًا كَثِيرًا، ذَكَرُوا أَنَّ بَابَكَ أَسَرَهُمْ، وَأَنَّهُمْ أَحْرَارٌ مِنَ الْعَرَبِ وَالدَّهَّاقِينَ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَجُعِلُوا فِي حَظِيرَةٍ كَبِيرَةٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَ يَعْرِفُ امْرَأَةً، أَوْ صَبِيًّا، أَوْ جَارِيَةً، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ أَخَذَهُ، فَأَخَذَ النَّاسُ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَبَقِيَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى طُلَيْطِلَةَ قَدْ ذَكَرْنَا عِصْيَانَ أَهْلِ طُلَيْطِلَةَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ الْأُمَوِيِّ، صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ، وَإِنْفَاذَ الْجُيُوشِ إِلَى مُحَاصَرَتِهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَلَمَّا كَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ خَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهَا إِلَى قَلْعَةِ رَبَاحٍ، وَبِهَا عَسْكَرٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى حَصْرِ طُلَيْطِلَةَ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهَا، وَعَلَى أَهْلِهَا، وَقَطَعُوا عَنْهُمْ بَاقِيَ مَرَافِقِهَا، وَاشْتَدُّوا فِي مُحَاصَرَتِهِمْ، فَبَقُوا كَذَلِكَ إِلَى أَنْ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ. فَسَيَّرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَخَاهُ الْوَلِيدَ بْنَ الْحَكَمِ إِلَيْهَا أَيْضًا، فَرَأَى أَهْلَهَا وَقَدْ بَلَغَ بِهِمُ الْجَهْدُ كُلَّ مَبْلَغٍ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ طُولُ الْحِصَارِ، وَضَعُفُوا عَنِ الْقِتَالِ وَالدَّفْعِ، فَاقْتَحَمَهَا قَهْرًا وَعَنْوَةً يَوْمَ السَّبْتِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ رَجَبٍ، وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ الْقَصْرِ الَّذِي عَلَى بَابِ الْحِصْنِ الَّذِي كَانَ هُدِمَ أَيَّامَ الْحَكَمِ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى آخِرِ شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، حَتَّى اسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ أَهْلِهَا وَسَكَنُوا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ. وَفِيهَا ظَهَرَ عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ كَوْكَبٌ، فَبَقِيَ يُرَى نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَلَهُ شِبْهُ الذَّنَبِ، وَكَانَ أَوَّلُ مَا طَلَعَ نَحْوَ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَكَانَ طَوِيلًا جِدًّا، فَهَالَ النَّاسَ ذَلِكَ، وَعَظُمَ عَلَيْهِمْ. ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي تَارِيخِهِ، وَهُوَ مِنَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ أَبُو زَكَرِيَّاءِ الْوُحَاظِيُّ، وَهُوَ دِمَشْقِيٌّ وَقِيلَ حِمْصِيٌّ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو هَاشِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي خِدَاشٍ الْمَوْصِلِيُّ، وَكَانَ كَثِيرَ الرِّوَايَةِ مِنَ الْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ.

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ] 223 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ قُدُومِ الْأَفْشِينِ بِبَابَكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ الْأَفْشِينُ إِلَى سَامَرَّا، وَمَعَهُ بَابَكُ الْخُرَّمِيُّ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ، فِي صَفَرَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ الْمُعْتَصِمُ يُوَجِّهُ إِلَى الْأَفْشِينِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، مِنْ حِينِ سَارَ مِنْ بَرْزَنْدَ إِلَى أَنْ وَافَى سَامَرَّا، خِلْعَةً وَفَرَسًا فَلَمَّا صَارَ الْأَفْشِينُ بِقَنَاطِرِ حُذَيْفَةَ تَلَقَّاهُ هَارُونُ الْوَاثِقُ بْنُ الْمُعْتَصِمِ، وَأَهْلُ بَيْتِ الْمُعْتَصِمِ، وَأَنْزَلَ الْأَفْشِينُ بَابَكَ عِنْدَهُ فِي قَصْرِهِ بِالْمَطِيرَةِ، فَأَتَاهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادَ مُتَنَكِّرًا، فَنَظَرَ إِلَى بَابَكَ وَكَلَّمَهُ، وَرَجَعَ إِلَى الْمُعْتَصِمِ فَوَصَفَهُ لَهُ، فَأَتَاهُ الْمُعْتَصِمُ أَيْضًا مُتَنَكِّرًا فَرَآهُ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَعَدَ الْمُعْتَصِمُ، وَاصْطَفَّ النَّاسُ مِنْ بَابِ الْعَامَّةِ إِلَى الْمَطِيرَةِ، فَشَهَّرَهُ الْمُعْتَصِمُ، وَأَمَرَ أَنْ يَرْكَبَ عَلَى الْفِيلِ، فَرَكِبَ عَلَيْهِ، وَاسْتَشْرَفَهُ النَّاسُ إِلَى بَابِ الْعَامَّةِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الزَّيَّاتِ: قَدْ خُضِّبَ الْفِيلُ كَعَادَتِهِ يَحْمِلُ شَيْطَانَ خُرَاسَانَ وَالْفِيلُ لَا تُخْصَبُ أَعْضَاؤُهُ إِلَّا لِذِي شَأْنٍ مِنَ الشَّانِ ثُمَّ أُدْخِلَ دَارَ الْمُعْتَصِمِ، فَأُمِرَ بِإِحْضَارِ سَيَّافِ بَابَكَ، فَحَضَرَ، فَأَمَرَهُ الْمُعْتَصِمُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَقَطَعَهَا، فَسَقَطَ، فَأَمَرَهُ بِذَبْحِهِ، فَفَعَلَ، (وَشَقَّ بَطْنَهُ) ، وَأَنْفَذَ رَأْسَهُ إِلَى خُرَاسَانَ، وَصُلِبَ بَدَنُهُ بِسَامَرَّا، وَأَمَرَ بِحَمْلِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ

بِبَغْدَاذَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا فَعَلَ بِأَخِيهِ بَابَكَ، فَعَمِلَ بِهِ ذَلِكَ، وَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَصَلَبَهُ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ بَيْنَ الْجِسْرَيْنِ. قِيلَ: فَكَانَ الَّذِي أَخْرَجَ الْأَفْشِينُ مِنَ الْمَالِ مُدَّةَ مُقَامِهِ بِإِزَاءِ بَابَكَ، سِوَى الْأَرْزَاقِ وَالْأَنْزَالِ وَالْمَعَارِفِ، فِي كُلِّ يَوْمٍ يَرْكَبُ فِيهِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَفِي [كُلِّ] يَوْمٍ لَا يَرْكَبُ فِيهِ خَمْسَةُ آلَافٍ، فَكَانَ جَمِيعُ مَنْ قَتَلَ بَابَكُ فِي عِشْرِينَ سَنَةٍ مِائَتَيْ أَلْفٍ وَخَمْسَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَخَمْسَ مِائَةِ إِنْسَانٍ، وَغَلَبَ مِنَ الْقُوَّادِ يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ، وَعِيسَى بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، وَأَحْمَدَ بْنَ الْجُنَيْدِ فَأَسَرَهُ، وَزُرَيْقَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ صَدَقَةَ، وَمُحَمَّدَ بْنَ حُمَيْدٍ الطُّوسِيَّ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ اللَّيْثِ. وَكَانَ الَّذِينَ أُسِرُوا مَعَ بَابَكَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ وَتِسْعَةَ أَنَاسِيٍّ، وَاسْتَنْقَذَ مِمَّنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ وَأَوْلَادِهِنَّ سَبْعَةَ آلَافٍ وَسِتَّمِائَةِ إِنْسَانٍ، وَصَارَ فِي يَدِ الْأَفْشِينِ مِنْ بَنِي بَابَكَ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَمِنَ الْبَنَاتِ وَالنِّسَاءِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ امْرَأَةً. وَلَمَّا وَصَلَ الْأَفْشِينُ تَوَّجَهَ الْمُعْتَصِمُ وَأَلْبَسَهُ بِالْجَوْهَرِ، وَوَصَلَهُ بِعِشْرِينَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةِ آلَافٍ يُفَرِّقُهَا فِي عَسْكَرِهِ، وَعَقَدَ لَهُ عَلَى السِّنْدِ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ الشُّعَرَاءَ يَمْدَحُونَهُ. ذِكْرُ خُرُوجِ الرُّومِ إِلَى زِبَطْرَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ تَوْفِيلُ بْنُ مِيخَائِيلَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَأَوْقَعَ بِأَهْلِ زِبَطْرَةَ وَغَيْرِهَا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَابَكَ لَمَّا ضَيَّقَ الْأَفْشِينُ عَلَيْهِ، وَأَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ، كَتَبَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ تَوْفِيلَ يُعْلِمُهُ أَنَّ الْمُعْتَصِمَ قَدْ وَجَّهَ عَسَاكِرَهُ وَمُقَاتِلَتَهُ إِلَيْهِ، حَتَّى وَجَّهَ خَيَّاطَهُ، يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ دِينَارٍ الْخَيَّاطَ، وَطَبَّاخَهُ، يَعْنِي إِيتَاخَ، وَلَمْ يُبْقِ عَلَى بَابِهِ أَحَدًا! فَإِنْ أَرَدْتَ الْخُرُوجَ إِلَيْهِ فَلَيْسَ فِي وَجْهِكَ أَحَدٌ يَمْنَعُكَ.

وَظَنَّ بَابَكُ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ إِنْ تَحَرَّكَ سَيَكْشِفُ عَنْهُ بَعْضَ مَا هُوَ فِيهِ بِإِنْفَاذِ الْعَسَاكِرِ إِلَى مُقَاتَلَةِ الرُّومِ، فَخَرَجَ تَوْفِيلُ فِي مِائَةِ أَلْفٍ، وَقِيلَ: أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْجُنْدِ نَيِّفٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَبَقِيَّتُهُمْ أَتْبَاعٌ، (وَمَعَهُمْ مِنَ الْمُحَمِّرَةِ) الَّذِينَ كَانُوا خَرَجُوا بِالْجِبَالِ فَلَحِقُوا بِالرُّومِ حِينَ قَاتَلَهُمْ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ جَمَاعَةً، فَبَلَغَ زِبَطْرَةَ، فَقَتَلَ مَنْ بِهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ، وَأَغَارَ عَلَى أَهْلِ مَلَطْيَةَ وَغَيْرِهَا مِنْ حُصُونِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَبَى الْمُسْلِمَاتِ، وَمَثَّلَ بِمَنْ صَارَ فِي يَدِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَسَمَّلَ أَعْيُنَهُمْ، وَقَطَّعَ أُنُوفَهُمْ وَآذَانَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الثُّغُورِ مِنَ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ، إِلَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَابَّةٌ وَلَا سِلَاحٌ. ذِكْرُ فَتْحِ عَمُّورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَ مَلِكُ الرُّومِ، وَفَعَلَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مَا فَعَلَ، بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ اسْتَعْظَمَهُ، وَكَبُرَ لَدَيْهِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ امْرَأَةً هَاشِمِيَّةً صَاحَتْ، وَهِيَ أَسِيرَةٌ فِي أَيْدِي الرُّومِ: وَامُعْتَصِمَاهُ! فَأَجَابَهَا وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِهِ: لَبَّيْكِ لَبَّيْكِ! وَنَهَضَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَصَاحَ فِي قَصْرِهِ: النَّفِيرَ النَّفِيرَ، ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ، وَسَمَّطَ خَلْفَهُ شِكَالًا، وَسِكَّةَ حَدِيدٍ، وَحَقِيبَةً فِيهَا زَادُهُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْمَسِيرُ إِلَّا بَعْدَ التَّعْبِئَةِ وَجَمْعِ الْعَسَاكِرِ، فَجَلَسَ فِي دَارِ الْعَامَّةِ، وَأَحْضَرَ قَاضِيَ بَغْدَادَ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، وَشُعْبَةُ بْنُ سَهْلٍ، وَمَعَهُمَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ، فَأَشْهَدَهُمْ عَلَى مَا وَقَفَ مِنَ الضِّيَاعِ، فَجَعَلَ ثُلُثًا لِوَلَدِهِ، وَثُلُثًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَثُلُثًا لِمَوَالِيهِ. ثُمَّ سَارَ فَعَسْكَرَ بِغَرْبِيِّ دِجْلَةَ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَوَجَّهَ عُجَيْفَ بْنَ عَنْبَسَةَ، وَعُمَرَ الْفَرْغَانِيَّ، وَمُحَمَّدَ كُوتَاهْ، وَجَمَاعَةً مِنَ الْقُوَّادِ إِلَى زِبَطْرَةَ مَعُونَةً لِأَهْلِهَا، فَوَجَدُوا مَلِكَ الرُّومِ قَدِ انْصَرَفَ عَنْهَا إِلَى بِلَادِهِ، بَعْدَمَا فَعَلَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَوَقَفُوا حَتَّى تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى قُرَاهُمْ (وَاطْمَأَنُّوا. فَلَمَّا ظَفِرَ الْمُعْتَصِمُ بِبَابَكَ قَالَ: أَيُّ بِلَادِ الرُّومِ أَمْنَعُ وَأَحْصَنُ؟ فَقِيلَ: عَمُّورِيَّةَ لَمْ

يَعْرِضْ لَهَا أَحَدٌ مُنْذُ كَانَ الْإِسْلَامُ، وَهِيَ عَيْنُ النَّصْرَانِيَّةِ، وَهِيَ أَشْرَفُ عِنْدَهُمْ) مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. فَسَارَ الْمُعْتَصِمُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى. وَقِيلَ كَانَ مَسِيرُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. وَتَجَهَّزَ جِهَازًا لَمْ يَتَجَهَّزْهُ خَلِيفَةٌ قَبْلَهُ قَطُّ مِنَ السِّلَاحِ، وَالْعَدَدِ، وَالْآلَةِ، وَحِيَاضِ الْأَدَمِ، وَالرَّوَايَا، وَالْقِرَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَعَلَ عَلَى مُقَدَّمَتِهِ أَشْنَاسَ، وَيَتْلُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ إِيتَاخَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ جَعْفَرَ بْنَ دِينَارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَيَّاطَ، وَعَلَى الْقَلْبِ عُجَيْفَ بْنَ عَنْبَسَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ نَزَلَ عَلَى نَهْرِ السِّنِّ، وَهُوَ عَلَى سَلُوقِيَّةَ، قَرِيبًا مِنَ الْبَحْرِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَرَسُوسَ مَسِيرَةُ يَوْمٍ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْفِدَاءُ. وَأَمْضَى الْمُعْتَصِمُ الْأَفْشِينَ إِلَى سَرُوجَ، وَأَمَرَهُ بِالدُّخُولِ مِنْ دَرْبِ الْحَدَثِ، وَسَمَّى لَهُ يَوْمًا يَكُونُ دُخُولُهُ فِيهِ، وَيَوْمًا يَكُونُ اجْتِمَاعُهُمْ فِيهِ، وَسَيَّرَ أَشْنَاسَ مِنْ دَرْبِ طَرَسُوسَ، وَأَمَرَهُ بِانْتِظَارِهِ بِالصَّفْصَافِ، فَكَانَ مَسِيرُ أَشْنَاسَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَقَدَّمَ الْمُعْتَصِمُ وَصِيفًا فِي أَثَرِ أَشْنَاسَ، (وَرَحَلَ الْمُعْتَصِمُ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ. فَلَمَّا صَارَ " أَشْنَاسُ ") بِمَرْجِ أَسْقُفَّ، وَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابُ الْمُعْتَصِمِ، (مِنَ الْمَطَامِيرِ يُعْلِمُهُ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ [أَنْ] يَكْسِبَهُمْ، وَيَأْمُرُ بِالْمَقَامِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ، فَأَقَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَوَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابُ الْمُعْتَصِمِ) يَأْمُرُهُ أَنْ يُوَجِّهَ قَائِدًا مِنْ قُوَّادِهِ [فِي] سَرِيَّةٍ يَلْتَمِسُونَ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ يَسْأَلُونَهُ عَنْ خَبَرِ الْمَلِكِ، فَوَجَّهَ أَشْنَاسُ عُمَرَ الْفَرْغَانِيَّ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، فَدَخَلَ حَتَّى بَلَغَ أَنْقَرَةَ، وَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ فِي طَلَبِ رَجُلٍ رُومِيٍّ، فَأَتَوْهُ بِجَمَاعَةٍ بَعْضُهُمْ مِنْ (عَسْكَرِ الْمَلِكِ، وَبَعْضُهُمْ مِنَ) السَّوَادِ، فَأَحْضَرَهُمْ عِنْدَ أَشْنَاسَ، فَسَأَلَهُمْ عَنِ الْخَبَرِ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْمَلِكَ مُقِيمٌ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا يَنْتَظِرُ مُقَدَّمَةَ الْمُعْتَصِمِ لِيُوَاقِعَهُمْ

فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِأَنَّ عَسْكَرًا عَظِيمًا قَدْ دَخَلَ بِلَادَهُمْ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَرْمَنْيَاقِ، يَعْنِي عَسْكَرَ الْأَفْشِينِ، قَالُوا: فَلَمَّا أُخْبِرَ اسْتَخْلَفَ ابْنَ خَالِهِ عَلَى عَسْكَرِهِ، وَسَارَ يُرِيدُ نَاحِيَةَ الْأَفْشِينِ، فَوَجَّهَ أَشْنَاسُ بِهِمْ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَكَتَبَ الْمُعْتَصِمُ كِتَابًا إِلَى الْأَفْشِينِ يُعْلِمُهُ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يُقِيمَ مَكَانَهُ، خَوْفًا عَلَيْهِ مِنَ الرُّومِ، إِلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ كِتَابَهُ، وَضَمِنَ لِمَنْ يُوصِّلُ كِتَابَهُ إِلَى الْأَفْشِينِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ. فَسَارَتِ الرُّسُلُ بِالْكِتَابِ إِلَى الْأَفْشِينِ، فَلَمْ يَرَوْهُ لِأَنَّهُ أَوْغَلَ فِي بِلَادِ الرُّومِ وَكَتَبَ الْمُعْتَصِمُ إِلَى أَشْنَاسَ يَأْمُرُهُ بِالتَّقَدُّمِ، فَتَقَدَّمَ وَالْمُعْتَصِمُ مِنْ وَرَائِهِ، فَلَمَّا رَحَلَ أَشْنَاسُ نَزَلَ الْمُعْتَصِمُ مَكَانَهُ، حَتَّى صَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْقَرَةَ ثَلَاثُ مَرَاحِلَ، فَضَاقَ عَسْكَرُ الْمُعْتَصِمِ ضِيقًا شَدِيدًا مِنَ الْمَاءِ وَالْعَلَفِ. وَكَانَ أَشْنَاسُ قَدْ أَسَرَ فِي طَرِيقِهِ عِدَّةَ أَسْرَى، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا تَنْتَفِعُ بِقَتْلِي، وَأَنْتَ وَعَسْكَرُكَ فِي ضِيقٍ، وَهَاهُنَا قَوْمٌ قَدْ هَرَبُوا مِنْ أَنْقَرَةَ خَوْفًا مِنْكُمْ، وَهُمْ بِالْقُرْبِ مِنَّا، مَعَهُمُ الطَّعَامُ وَالشَّعِيرُ وَغَيْرُهُمَا، فَوَجِّهْ مَعِي قَوْمًا لِأُسَلِّمَهُمْ إِلَيْهِمْ، وَخَلِّ سَبِيلِي! فَسَيَّرَ مَعَهُ خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ، وَدَفَعَ الشَّيْخَ إِلَى مَالِكِ بْنِ كَيْدَرَ، وَقَالَ لَهُ: مَتَى أَرَاكَ هَذَا الشَّيْخُ سَبْيًا كَثِيرًا، أَوْ غَنِيمَةً كَبِيرَةً، فَخَلِّ سَبِيلَهُ. فَسَارَ بِهِمُ الشَّيْخُ، فَأَوْرَدَهُمْ عَلَى وَادٍ وَحَشِيشٍ، فَأَمْرَجُوا دَوَابَّهُمْ، وَشَرِبُوا وَأَكَلُوا، وَسَارُوا حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الْغَيْضَةِ، وَسَارَ بِهِمُ الشَّيْخُ حَتَّى أَتَى جَبَلًا، فَنَزَلَهُ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ الشَّيْخُ: وَجِّهُوا رَجُلَيْنِ يَصْعَدَانِ هَذَا الْجَبَلَ، فَيَنْظُرَا مَا فَوْقَ، فَيَأْخُذَانِ مَنْ أَدْرَكَا! فَصَعِدَ أَرْبَعَةٌ، فَأَخَذُوا رَجُلًا وَامْرَأَةً، فَسَأَلَهُمَا الشَّيْخُ عَنْ أَهْلِ أَنْقَرَةَ، فَدَلَّاهُ عَلَيْهِمْ، فَسَارَ بِالنَّاسِ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى أَهْلِ أَنْقَرَةَ، وَهُمْ فِي طَرَفِ مَلَّاحَةٍ، فَلَمَّا رَأَوُا الْعَسْكَرَ أَدْخَلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ الْمَلَّاحَةَ، وَقَاتَلُوهُمْ عَلَى طَرَفِهَا، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ وَأَخَذُوا مِنَ الرُّومِ عِدَّةَ أَسْرَى، وَفِيهِمْ مَنْ فِيهِ جِرَاحَاتٌ عُتْقٌ (مُتَقَدِّمَةٌ) فَسَأَلُوهُمْ عَنْ تِلْكَ الْجِرَاحَاتِ، فَقَالُوا: كُنَّا فِي وَقْعَةِ الْمَلِكِ مَعَ الْأَفْشِينِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ لَمَّا كَانَ

مُعَسْكِرًا أَتَاهُ الْخَبَرُ بِوُصُولِ الْأَفْشِينِ فِي عَسْكَرٍ ضَخْمٍ نَاحِيَةَ الْأَرْمِنْيَاقِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَسْكَرِهِ بَعْضَ أَقْرِبَائِهِ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَوَاقَعْنَاهُمْ صَلَاةَ الْغَدَاةِ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَقَتَلْنَا رَجَّالَتَهُمْ كُلَّهُمْ، وَتَقَطَّعَتْ عَسَاكِرُنَا فِي طَلَبِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ الظُّهْرُ رَجَعَ فُرْسَانُهُمْ، فَقَاتَلُونَا قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى خَرَقُوا عَسْكَرَنَا، وَاخْتَلَطُوا بِنَا، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْمَلِكُ، وَانْهَزَمْنَا مِنْهُمْ، وَرَجَعْنَا إِلَى مُعَسْكَرِ الْمَلِكِ الَّذِي خَلْفَهُ، فَوَجَدْنَا الْعَسْكَرَ قَدِ انْتَقَضَ، وَانْصَرَفُوا عَنْ قَرَابَةِ الْمَلِكِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَاءَ الْمَلِكُ فِي جَمَاعَةٍ يَسِيرَةٍ، فَرَأَى عَسْكَرَهُ قَدِ اخْتَلَّ، وَأَخَذَ الَّذِي كَانَ اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهِمْ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْمُدُنِ وَالْحُصُونِ أَنْ لَا يَأْخُذُوا أَحَدًا انْصَرَفَ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَّا ضَرَبُوهُ بِالسِّيَاطِ، وَرَدُّوهُ إِلَى مَكَانٍ سَمَّاهُ لَهُمُ الْمَلِكُ، لِيَجْتَمِعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَيَلْقَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الْمَلِكَ وَجَّهَ خَصِيًّا لَهُ إِلَى أَنْقَرَةَ ; لِيَحْفَظَ أَهْلَهَا، فَرَآهُمْ قَدْ أُجْلُوا عَنْهَا، فَكَتَبَ إِلَى الْمَلِكِ بِذَلِكَ، فَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى عَمُّورِيَّةَ، فَرَجَعَ مَالِكُ بْنُ كَيْدَرَ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْأَسْرَى إِلَى عَسْكَرِ أَشْنَاسَ، وَغَنِمُوا فِي طَرِيقِهِمْ، بَقَرًا، وَغَنَمًا كَثِيرًا، فَلَمَّا بَلَغَ مَالِكُ بْنُ كَيْدَرَ عَسْكَرَ أَشْنَاسَ أَخْبَرَهُ بِمَا سَمِعَ، فَأَعْلَمَ الْمُعْتَصِمَ بِذَلِكَ، فَسُرَّ بِهِ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ جَاءَ الْبَشِيرُ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَفْشِينِ بِخَبَرِ السَّلَامَةِ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَدِمَ الْأَفْشِينُ عَلَى الْمُعْتَصِمِ وَهُوَ بِأَنْقَرَةَ، فَأَقَامُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. ثُمَّ جَعَلَ الْمُعْتَصِمُ الْعَسْكَرَ ثَلَاثَةَ عَسَاكِرَ: عَسْكَرٌ فِيهِ أَشْنَاسُ فِي الْمَيْسَرَةِ، وَالْمُعْتَصِمُ فِي الْقَلْبِ، وَعَسْكَرُ الْأَفْشِينِ فِي الْمَيْمَنَةِ، وَبَيْنَ كُلِّ عَسْكَرٍ وَعَسْكَرٍ فَرْسَخَانِ، وَأَمَرَ كُلَّ عَسْكَرٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَيْمَنَةٌ وَمَيْسَرَةٌ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْرِقُوا الْقُرَى، وَيُخَرِّبُوهَا، وَيَأْخُذُوا مَنْ لَحِقُوا فِيهَا، ثُمَّ تَرْجِعُ كُلُّ طَائِفَةٍ إِلَى صَاحِبِهَا، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي مَا بَيْنَ أَنْقَرَةَ وَعَمُّورِيَّةَ، وَبَيْنَهُمَا سَبْعُ مَرَاحِلَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ حَتَّى وَافَوْا عَمُّورِيَّةَ. وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ وَرَدَهَا أَشْنَاسُ، ثُمَّ الْمُعْتَصِمُ، ثُمَّ الْأَفْشِينُ، فَدَارُوا حَوْلَهَا، وَقَسَمَهَا بَيْنَ الْقُوَّادِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبْرَاجًا مِنْهَا عَلَى قَدْرِ أَصْحَابِهِ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَسَرَهُ الرُّومُ بِعَمُّورِيَّةَ، فَتَنَصَّرَ، فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمِينَ خَرَجَ

إِلَيْهِمْ، فَأَخْبَرَ الْمُعْتَصِمَ أَنَّ مَوْضِعًا مِنَ الْمَدِينَةِ وَقَعَ سُورُهُ مِنْ سَيْلٍ أَتَاهُ، فَكَتَبَ الْمَلِكُ إِلَى عَامِلِ عَمُّورِيَّةَ لِيُعَمِّرَهُ، فَتَوَانَى، فَلَمَّا خَرَجَ الْمَلِكُ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خَافَ الْعَامِلُ أَنْ يَرَى السُّورَ خَرَابًا، فَبَنَى وَجْهَهُ حَجَرًا حَجَرًا، وَعَمِلَ الشُّرَفَ عَلَى (جِسْرٍ) خَشَبٍ، فَرَأَى الْمُعْتَصِمُ ذَلِكَ الْمَكَانَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِ خَيْمَتِهِ هُنَاكَ، وَنَصْبِ الْمَجَانِيقِ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَانْفَرَجَ السُّورُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. فَلَمَّا رَأَى الرُّومُ ذَلِكَ جَعَلُوا عَلَيْهِ خَشَبًا كِبَارًا كُلُّ عُودٍ يَلْزَقُ الْآخَرَ، وَكَانَ الْمَنْجَنِيقُ يَكْسِرُ الْخَشَبَ، فَجَعَلُوا عَلَيْهِ بَرَاذِعَ، فَلَمَّا أَلَحَّتِ الْمَجَانِيقُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ تَصَدَّعَ السُّورُ، وَكَتَبَ الْخَصِيُّ، وَبِطْرِيقُ عَمُّورِيَّةَ - وَاسْمُهُ نَاطِسُ - كِتَابًا إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يُعْلِمُهُ أَمْرَ السُّورِ، وَسَيَّرَهُ مَعَ رَجُلَيْنِ، فَأَخَذَهُمَا الْمُسْلِمُونَ، وَسَأَلَهُمَا الْمُعْتَصِمُ، وَفَتَّشَهُمَا، فَرَأَى الْكِتَابَ، وَفِيهِ أَنَّ الْعَسْكَرَ قَدْ أَحَاطَ بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ كَانَ دُخُولُهُ إِلَيْهَا خَطَأً، وَأَنَّ نَاطِسَ عَازِمٌ عَلَى أَنْ يَرْكَبَ فِي خَاصَّتِهِ لَيْلًا، وَيَحْمِلَ عَلَى الْعَسْكَرِ كَائِنًا مَا كَانَ، حَتَّى يَخْلُصَ وَيَسِيرَ إِلَى الْمَلِكِ، فَلَمَّا قَرَأَ الْمُعْتَصِمُ الْكِتَابَ أَمَرَ لَهُمَا بِبَدْرَةٍ، وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَخِلَعٍ، فَأَسْلَمَا، فَأَمَرَ بِهِمَا، فَطَافَا حَوْلَ عَمُّورِيَّةَ، وَأَنْ يَقِفَا مُقَابِلَ الْبُرْجِ الَّذِي فِيهِ نَاطِسُ، (فَوَقَفَا وَعَلَيْهِمَا الْخِلَعُ، وَالْأَمْوَالُ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، فَعَرَفَهُمَا نَاطِسُ) وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الرُّومِ، فَشَتَمُوهُمَا. وَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْحِرَاسَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى انْهَدَمَ السُّورُ مَا بَيْنَ بُرْجَيْنِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَكَانَ الْمُعْتَصِمُ أَمَرَ أَنْ يُطَمَّ خَنْدَقُ عَمُّورِيَّةَ بِجُلُودِ الْغَنَمِ الْمَمْلُوءَةِ تُرَابًا، فَطَمُّوهُ، وَعَمِلَ دَبَّابَاتٍ كِبَارًا تَسَعُ كُلُّ دَبَّابَةٍ عَشَرَةَ رِجَالٍ لِيُدَحْرِجُوهَا عَلَى الْجُلُودِ إِلَى السُّورِ، فَدَحْرَجُوا وَاحِدَةً مِنْهَا، فَلَمَّا صَارَتْ فِي نِصْفِ الْخَنْدَقِ تَعَلَّقَتْ بِتِلْكَ الْجُلُودِ، فَمَا تَخَلَّصَ مَنْ فِيهَا إِلَّا بَعْدَ شِدَّةٍ وَجَهْدٍ، وَعَمِلَ سَلَالِيمَ وَمَنْجَنِيقَاتٍ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ انْهَدَمَ السُّورُ قَاتَلَهُمْ عَلَى الثُّلْمَةِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْحَرْبِ أَشْنَاسَ وَأَصْحَابَهُ، وَكَانَ الْمَوْضِعُ ضَيِّقًا، فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْحَرْبُ فِيهِ، فَأَمَدَّهُمُ الْمُعْتَصِمُ

بِالْمَنْجَنِيقَاتِ الَّتِي حَوْلَ السُّورِ، فَجَمَعَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ حَوْلَ الثُّلْمَةِ وَأَمَرَ أَنْ يُرْمَى ذَلِكَ الْمَوْضِعُ. وَكَانَتِ الْحَرْبُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِيَ عَشَرَ عَلَى الْأَفْشِينِ وَأَصْحَابِهِ، وَأَجَادُوا الْحَرْبَ، وَتَقَدَّمُوا، وَالْمُعْتَصِمُ عَلَى دَابَّتِهِ بِإِزَاءِ الثُّلْمَةِ، وَأَشْنَاسُ وَالْأَفْشِينُ وَخَوَاصُّ الْقُوَّادِ مَعَهُ، فَقَالَ الْمُعْتَصِمُ: مَا أَحْسَنَ مَا كَانَ الْحَرْبُ الْيَوْمَ! وَقَالَ عُمَرُ الْفَرْغَانِيُّ: الْحَرْبُ الْيَوْمَ أَجْوَدُ مِنْهَا الْأَمْسَ، فَأَمْسَكَ أَشْنَاسُ. فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ، وَانْصَرَفَ الْمُعْتَصِمُ وَالنَّاسُ، وَقَرُبَ أَشْنَاسُ مِنْ مِضْرَبِهِ، تَرَجَّلَ لَهُ الْقُوَّادُ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَفِيهِمُ الْفَرْغَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْخَلِيلِ بْنِ هِشَامٍ، فَقَالَ لَهُمْ أَشْنَاسُ: يَا أَوْلَادَ الزِّنَا! إِيشِ تَمْشُونَ بَيْنَ يَدَيَّ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُقَاتِلُوا أَمْسِ؛ حَيْثُ تَقِفُونَ بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَقُولُونَ الْحَرْبُ الْيَوْمَ أَجْوَدُ مِنْهَا أَمْسِ، كَانَ يُقَاتِلُ أَمْسِ غَيْرُكُمْ، انْصَرِفُوا إِلَى مَضَارِبِكُمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ الْفَرْغَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْخَلِيلِ، قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الْعَبْدِ ابْنِ الْفَاعِلَةِ، يَعْنِي أَشْنَاسَ، مَا صَنَعَ الْيَوْمَ؟ أَلَيْسَ الدُّخُولُ إِلَى الرُّومِ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ الْفَرْغَانِيُّ لِأَحْمَدَ، وَكَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْعَبَّاسِ بْنِ الْمَأْمُونِ: سَيَكْفِيكَ اللَّهُ أَمْرَهُ عَنْ قَرِيبٍ، فَأَلَحَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْعَبَّاسَ فَيَكُونَ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: هَذَا أَمْرٌ أَظُنُّهُ لَا يَتِمُّ، قَالَ الْفَرْغَانِيُّ: قَدْ تَمَّ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى الْحَارِثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ فَأَتَاهُ، فَرَفَعَ الْحَارِثُ خَبَرَهُ إِلَى الْعَبَّاسِ، فَكَرِهَ الْعَبَّاسُ أَنْ يَعْلَمَ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ، فَأَمْسَكُوا عَنْهُ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ كَانَتِ الْحَرْبُ عَلَى أَصْحَابِ الْمُعْتَصِمِ، وَمَعَهُمُ الْمَغَارِبَةُ وَالْأَتْرَاكُ، وَكَانَ الْقَيِّمُ بِذَلِكَ إِيتَاخَ، فَقَاتَلُوا، وَأَحْسَنُوا، وَاتَّسَعَ لَهُمْ هَدْمُ السُّورِ، فَلَمْ تَزَلِ الْحَرْبُ كَذَلِكَ حَتَّى كَثُرَتِ الْجِرَاحَاتُ فِي الرُّومِ. وَكَانَ بَطَارِقَةُ الرُّومِ قَدِ اقْتَسَمُوا أَبْرَاجَ السُّورِ، وَكَانَ الْبِطْرِيقُ الْمُوَكَّلُ بِهَذِهِ النَّاحِيَةِ " وَنْدُوا " وَتَفْسِيرُهُ: ثَوْرٌ، فَقَاتَلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَفِي الْأَيَّامِ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَمُدُّهُ نَاطِسُ، وَلَا غَيْرُهُ بِأَحَدٍ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ مَشَى " وَنْدُوا " إِلَى الرُّومِ فَقَالَ: إِنَّ الْحَرْبَ عَلَيَّ وَعَلَى أَصْحَابِي، وَلَمْ يَبْقَ مَعِي أَحَدٌ إِلَّا جُرِحَ، فَصَيِّرُوا أَصْحَابَكُمْ عَلَى الثُّلْمَةِ يَرْمُونَ

قَلِيلًا، وَإِلَّا ذَهَبَتِ الْمَدِينَةُ، فَلَمْ يَمُدُّوهُ بِأَحَدٍ، وَقَالُوا: لَا نَمُدُّكَ وَلَا تَمُدُّنَا، فَعَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمُعْتَصِمِ يَسْأَلُونَهُ الْأَمَانَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، وَيُسَلِّمُونَ إِلَيْهِ الْحِصْنَ بِمَا فِيهِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ وَكَّلَ أَصْحَابَهُ بِجَانِبَيِ الثُّلْمَةِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُحَارِبُوا، وَقَالَ: أُرِيدُ الْخُرُوجَ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَصَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالنَّاسُ يَتَقَدَّمُونَ إِلَى الثُّلْمَةِ، وَقَدْ أَمْسَكَ الرُّومُ عَنِ الْقِتَالِ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى السُّورِ، وَالرُّومُ يَقُولُونَ: لَا تَخْشَوْا، وَهُمْ يَتَقَدَّمُونَ، وَ " وَنْدُوا " جَالِسٌ عِنْدَ الْمُعْتَصِمِ، فَأَرْكَبَهُ فَرَسًا، وَتَقَدَّمَ النَّاسُ حَتَّى صَارُوا فِي الثُّلْمَةِ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَلِيٍّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعْتَصِمِ يُومِئُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِالدُّخُولِ، فَدَخَلَ النَّاسُ الْمَدِينَةَ، فَالْتَفَتَ " وَنْدُوا " وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ لَهُ الْمُعْتَصِمُ: مَا لَكَ؟ قَالَ: جِئْتُ أَسْمَعُ كَلَامَكَ، فَغَدَرْتَ بِي، قَالَ الْمُعْتَصِمُ: كُلُّ شَيْءٍ تُرِيدُهُ فَهُوَ لَكَ، وَلَسْتُ أُخَالِفُكَ، قَالَ: إِيشِ تُخَالِفُنِي، وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ الْمَدِينَةَ. وَصَارَ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الرُّومِ إِلَى كَنِيسَةٍ كَبِيرَةٍ لَهُمْ، فَأَحْرَقَهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، فَهَلَكُوا كُلُّهُمْ، وَكَانَ نَاطِسُ فِي بُرْجِهِ، حَوْلَهُ أَصْحَابُهُ، فَرَكِبَ الْمُعْتَصِمُ، وَوَقَفَ مُقَابِلَ نَاطِسَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا نَاطِسُ! هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَظَهَرَ مِنَ الْبُرْجِ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ، فَنَحَّاهُ عَنْهُ، وَنَزَلَ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَضَرَبَهُ سَوْطًا، وَسَارَ الْمُعْتَصِمُ إِلَى مَضْرِبِهِ، وَقَالَ: هَاتُوه! فَمَشَى قَلِيلًا، فَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بِحَمْلِهِ، وَأَخَذَ السَّيْفَ الرُّومُ، وَأَقْبَلَ النَّاسُ بِالْأَسْرَى وَالسَّبْيِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ أَنْ يُعْزَلَ مِنْهُمْ أَهْلُ الشَّرَفِ، وَنَقَلَ مَنْ سِوَاهُمْ، وَأَمَرَ بِبَيْعِ الْمَغَانِمِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، فَبِيعَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَأَمَرَ بِالْبَاقِي فَأُحْرِقَ. وَكَانَ لَا يُنَادِي عَلَى شَيْءٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَصْوَاتٍ، ثُمَّ يُوجِبُ بَيْعَهُ، طَلَبًا لِلسُّرْعَةِ، وَكَانَ يُنَادِي عَلَى الرَّقِيقِ خَمْسَةً خَمْسَةً [وَ] عَشَرَةً عَشَرَةً، طَلَبًا لِلسُّرْعَةِ. وَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ بَيْعُ الْمَغَانِمِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ عُجَيْفٌ وَعَدَ النَّاسَ أَنْ يَثُورَ فِيهِ بِالْمُعْتَصِمِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَثَبَ النَّاسُ عَلَى الْمَغَانِمِ، فَرَكِبَ الْمُعْتَصِمُ، وَالسَّيْفُ فِي يَدِهِ، وَسَارَ رَكْضًا نَحْوَهُمْ، فَتَنَحَّوْا عَنْهَا، وَكَفُّوا عَنِ النَّهْبِ، فَرَجَعَ إِلَى مَضْرِبِهِ، وَأَمَرَ بِعَمُّورِيَّةَ فَهُدِمَتْ وَأُحْرِقَتْ، وَكَانَ نُزُولُهُ عَلَيْهَا لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا خَمْسَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، وَفَرَّقَ الْأَسْرَى عَلَى الْقُوَّادِ، وَسَارَ نَحْوَ طَرَسُوسَ.

ذِكْرُ حَبْسِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْمَأْمُونِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَبَسَ الْمُعْتَصِمُ الْعَبَّاسَ بْنَ الْمَأْمُونِ، وَأَمَرَ بِلَعْنِهِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عُجَيْفَ بْنَ عَنْبَسَةَ لَمَّا وَجَّهَهُ الْمُعْتَصِمُ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ لَمَّا كَانَ مَلِكُ الرُّومِ بِزِبَطْرَةَ، مَعَ عُمَرَ الْفَرْغَانِيِّ وَمُحَمَّدْ كُوتَاهْ، لَمْ يُطْلِقْ يَدَ عُجَيْفٍ فِي النَّفَقَاتِ، كَمَا أُطْلِقَتْ يَدُ الْأَفْشِينِ، وَاسْتَقْصَرَ الْمُعْتَصِمُ أَمْرَ عُجَيْفٍ وَأَفْعَالَهُ، وَظَهَرَ ذَلِكَ لِعُجَيْفٍ، فَوَبَّخَ الْعَبَّاسَ بْنَ الْمَأْمُونِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِ عِنْدَ وَفَاةِ الْمَأْمُونِ، حَتَّى بَايَعَ الْمُعْتَصِمَ، وَشَجَّعَهُ عَلَى أَنْ يَتَلَافَى مَا كَانَ مِنْهُ. فَقَبِلَ الْعَبَّاسُ قَوْلَهُ، وَدَسَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ الْحَارِثُ السَّمَرْقَنْدِيُّ، قُرَابَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَضَّاحِ، (وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَأْنَسُ بِهِ) ، وَكَانَ الْحَارِثُ أَدِيبًا لَهُ عَقْلٌ وَمُدَارَاةٌ، فَجَعَلَهُ الْعَبَّاسُ رَسُولَهُ، وَسَفِيرَهُ إِلَى الْقُوَّادِ، وَكَانَ يَدُورُ فِي الْعَسْكَرِ، حَتَّى اسْتَمَالَ لَهُ جَمَاعَةً مِنَ الْقُوَّادِ، وَبَايَعُوهُ وَجَمَاعَةً مِنْ خَوَاصِّ الْمُعْتَصِمِ، وَقَالَ لِكُلِّ مَنْ بَايَعَهُ: إِذَا أَظْهَرْنَا أَمْرَنَا فَلْيَثِبْ كُلٌّ مِنْكُمْ بِالْقَائِدِ الَّذِي هُوَ مَعَهُ، فَوَكَّلَ مَنْ بَايَعَهُ مِنْ خَوَاصِّ الْمُعْتَصِمِ بِقَتْلِهِ، وَمَنْ بَايَعَهُ مِنْ خَاصَّةِ الْأَفْشِينِ بِقَتْلِهِ، وَمَنْ بَايَعَهُ مِنْ خَاصَّةِ أَشْنَاسَ بِقَتْلِهِ، وَكَذَلِكَ غَيَرُهُمْ فَضَمِنُوا لَهُ ذَلِكَ. فَلَمَّا دَخَلَ الدَّرْبَ، وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْقَرَةَ وعَمُّورِيَّةَ، دَخَلَ الْأَفْشِينُ مِنْ نَاحِيَةِ مَلَطْيَةَ، فَأَشَارَ عُجَيْفٌ عَلَى الْعَبَّاسِ أَنْ يَثِبَ بِالْمُعْتَصِمِ فِي الدَّرْبِ، وَهُوَ فِي قِلَّةٍ مِنَ النَّاسِ، فَيَقْتُلَهُ وَيَرْجِعَ إِلَى بَغْدَاذَ، (فَإِنَّ النَّاسَ يَفْرَحُونَ بِانْصِرَافِهِمْ إِلَى بَغْدَاذَ) مِنَ الْغَزْوِ، فَأَبَى الْعَبَّاسُ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا أُفْسِدُ هَذِهِ الْغَزْوَةَ، حَتَّى دَخَلُوا بِلَادَ الرُّومِ، وَافْتَتَحُوا عَمُّورِيَّةَ، فَقَالَ عُجَيْفٌ لِلْعَبَّاسِ: يَا نَائِمُ! قَدْ فُتِحَتْ عَمُّورِيَّةُ، وَالرَّجُلُ مُمَكَّنٌ، تَضَعُ قَوْمًا يَنْهَبُونَ بَعْضَ الْغَنَائِمِ، فَإِذَا بَلَغَهُ ذَلِكَ رَكِبَ فِي سُرْعَةٍ، فَتَأْمُرُ بِقَتْلِهِ هُنَاكَ، فَأَبَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: انْتَظِرْ حَتَّى يَصِيرَ إِلَى الدُّرُوبِ، وَيَخْلُوَ كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ أَمْكَنُ مِنْهُ هَاهُنَا. وَكَانَ عُجَيْفٌ قَدْ أَمَرَ مَنْ يَنْهَبُ الْمَتَاعَ، فَفَعَلُوا، وَرَكِبَ الْمُعْتَصِمُ، وَجَاءَ رَكْضًا،

وَسَكَنَ النَّاسُ، وَلَمْ يُطْلِقِ الْعَبَّاسُ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ وَاعَدَهُمْ وَكَرِهُوا قَتْلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْعَبَّاسِ. وَكَانَ الْفَرْغَانِيُّ قَدْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلَهُ قَرَابَةُ غُلَامٍ أَمَرَدَ فِي خَاصَّةِ الْمُعْتَصِمَ، فَجَاءَ الْغُلَامُ إِلَى وَلَدِ عُمَرَ الْفَرْغَانِيِّ، وَشَرِبَ عِنْدَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَ رُكُوبِ الْمُعْتَصِمِ، وَأَنَّهُ كَانَ مَعَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسُلَّ سَيْفَهُ وَيَضْرِبَ كُلَّ مَنْ لَقِيَهُ، فَسَمِعَ عُمَرُ ذَلِكَ مِنَ الْغُلَامِ، فَأَشْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يُصَابَ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ! أَقْلِلْ مِنَ الْمُقَامِ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْزَمْ خَيْمَتَكَ، وَإِنْ سَمِعْتَ صَيْحَةً وَشَغَبًا فَلَا تَبْرَحْ، فَإِنَّكَ غُلَامٌ غَرٌّ، وَلَا تَعْرِفُ الْعَسَاكِرَ، فَعَرِفَ مَقَالَةَ عُمَرَ. وَارْتَحَلَ الْمُعْتَصِمُ إِلَى الثُّغُورِ، وَوَجَّهَ الْأَفْشِينُ ابْنَ الْأَقْطَعِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَى بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَيُوَافِيَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَمَضَى وَأَغَارَ، وَعَادَ إِلَى الْعَسْكَرِ فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ وَمَعَهُ الْغَنَائِمُ، فَنَزَلَ بِعَسْكَرِ الْأَفْشِينِ، وَكَانَ كُلُّ عَسْكَرٍ عَلَى حِدَةٍ، فَتَوَجَّهَ عُمَرُ الْفَرْغَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْخَلِيلِ مِنْ عَسْكَرِ أَشْنَاسَ إِلَى عَسْكَرِ الْأَفْشِينِ لِيَشْتَرِيَا مِنَ السَّبْيِ شَيْئًا، فَلَقِيَهُمَا الْأَفْشِينُ فَتَرَجَّلَا، وَسَلَّمَا عَلَيْهِ، وَتَوَجَّهَا إِلَى الْغَنِيمَةِ، فَرَآهُمَا صَاحِبُ أَشْنَاسَ، فَأَعْلَمَهُ بِهِمَا، فَأَرْسَلَ أَشْنَاسُ إِلَيْهِمَا بَعْضَ أَصْحَابِهِ; لِيَنْظُرَ مَا يَصْنَعَانِ، فَجَاءَ فَرَآهُمَا وَهُمَا يَنْتَظِرَانِ بَيْعَ السَّبْيِ، فَرَجَعَ، فَأَخْبَرَ أَشْنَاسَ الْخَبَرَ، فَقَالَ أَشْنَاسُ لِحَاجِبِهِ: قُلْ لَهُمَا يَلْزَمَا الْعَسْكَرَ، وَهُوَ خَيْرٌ لَهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا، فَاغْتَمَّا لِذَلِكَ، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَذْهَبَا إِلَى صَاحِبِ خَبَرِ الْعَسْكَرِ، فَيَسْتَعْفِيَاهُ مِنْ أَشْنَاسَ، فَأَتَيَاهُ وَقَالَا: نَحْنُ عَبِيدُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَضُمَّنَا إِلَى مَنْ تَشَاءُ، فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَسْتَخِفُّ بِنَا، قَدْ شَتَمَنَا، وَتَوَعَّدَنَا، وَنَحْنُ نَخَافُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْنَا، فَلْيَضُمَّنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَنْ أَرَادَ. فَأَنْهَى ذَلِكَ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، وَاتَّفَقَ عَلَى الرَّحِيل ِ، وَسَارَ أَشْنَاسُ وَالْأَفْشِينُ مَعَ الْمُعْتَصِمِ، فَقَالَ لِأَشْنَاسَ: أَحْسِنْ أَدَبَ عُمَرَ وَأَحْمَدَ، فَإِنَّهُمَا قَدْ حَمَّقَا أَنْفُسَهُمَا! فَجَاءَ أَشْنَاسُ إِلَى عَسْكَرِهِ، فَأَخَذَهُمَا، وَحَبَسَهُمَا، وَحَمَلَهُمَا عَلَى بَغْلٍ، حَتَّى صَارَ بِالصَّفْصَافِ، فَجَاءَ ذَلِكَ الْغُلَامُ، وَحَكَى لِلْمُعْتَصِمِ مَا سَمِعَ مِنْ عُمَرَ الْفَرَغَانِيِّ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَأَنْفَذَ الْمُعْتَصِمُ بُغَا، وَأَخَذَ عُمَرَ مِنْ عِنْدِ أَشْنَاسَ، وَسَأَلَهُ عَنِ الَّذِي قَالَهُ لِلْغُلَامِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ سَكْرَانَ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَا قُلْتُ، فَدَفَعَهُ إِلَى إِيتَاخَ، وَسَارَ الْمُعْتَصِمُ، فَأَنْفَذَ أَحْمَدَ بْنَ الْخَلِيلِ إِلَى أَشْنَاسَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ عِنْدِي نَصِيحَةً لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: لَا أُخْبِرُ بِهَا إِلَّا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَحَلَفَ أَشْنَاسُ: إِنْ هُوَ لَمْ يُخْبِرْنِي بِهَذِهِ النَّصِيحَةِ لَأَضْرِبَنَّهُ بِالسِّيَاطِ حَتَّى يَمُوتَ.

فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ أَحْمَدُ حَضَرَ عِنْدَ أَشْنَاسَ، وَأَخْبَرَهُ خَبَرَ الْعَبَّاسِ بْنِ الْمَأْمُونِ، وَالْقُوَّادِ، وَالْحَارِثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، فَأَنْفَذَ أَشْنَاسَ، وَأَخَذَ الْحَارِثَ وَقَيَّدَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمُعْتَصِمِ أَخْبَرَهُ بِالْحَالِ جَمِيعِهِ، وَبِجَمِيعِ مَنْ بَايَعَهُمْ مِنَ الْقُوَّادِ وَغَيْرِهِمْ، فَأَطْلَقَهُ الْمُعْتَصِمُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُصَدِّقْ عَلَى أُولَئِكَ الْقُوَّادِ لِكَثْرَتِهِمْ. وَأَحْضَرَ الْمُعْتَصِمُ الْعَبَّاسَ بْنَ الْمَأْمُونِ وَسَقَاهُ حَتَّى سَكِرَ، وَحَلَّفَهُ أَنْ لَا يَكْتُمَهُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا، فَشَرَحَ لَهُ أَمْرَهُ كُلَّهُ مِثْلَ مَا شَرَحَ الْحَارِثُ، فَأَخَذَهُ وَقَيَّدَهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْأَفْشِينِ، فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ. وَتَتَبَّعَ الْمُعْتَصِمُ أُولَئِكَ الْقُوَّادَ، وَكَانُوا يُحْمَلُونَ فِي الطَّرِيقِ عَلَى بِغَالٍ بِأَكُفٍّ بِلَا وِطَاءٍ، وَأَخَذَ أَيْضًا الشَّاهَ بْنَ سَهْلٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، فَقَالَ لَهُ الْمُعْتَصِمُ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ! أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ فَلَمْ تَشْكُرْ، فَقَالَ: ابْنُ الزَّانِيَةِ هَذَا، وَأَوْمَأَ إِلَى الْعَبَّاسِ، وَكَانَ حَاضِرًا، لَوْ تَرَكَنِي مَا كُنْتُ السَّاعَةَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْلِسَ هَذَا الْمَجْلِسَ، وَتَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ! فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَدُفِعَ الْعَبَّاسُ إِلَى الْأَفْشِينِ. فَلَمَّا نَزَلَ مَنْبِجَ طَلَبَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمَأْمُونِ الطَّعَامَ، فَقُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ كَثِيرٌ، فَأَكَلَ، وَمُنِعَ الْمَاءَ، وَأُدْرِجَ فِي مَسْحٍ، فَمَاتَ بِمَنْبِجَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ بَعْضُ إِخْوَتِهِ. وَأَمَّا عُمَرُ الْفَرْغَانِيُّ فَلَمَّا وَصَلَ الْمُعْتَصِمُ إِلَى نَصِيبِينَ حَفَرَ لَهُ بِئْرًا، وَأَلْقَاهُ فِيهَا وَطَمَّهَا عَلَيْهِ. وَأَمَا عُجَيْفٌ فَمَاتَ بِبَاعَيْنَاثَا مِنْ بَلَدِ الْمَوْصِلِ، وَقِيلَ بَلْ أُطْعِمَ طَعَامًا كَثِيرًا، وَمُنِعَ الْمَاءَ، حَتَّى مَاتَ بِبَاعَيْنَاثَا. وَتَتَبَّعَ جَمِيعَهُمْ، فَلَمْ يَمْضِ عَلَيْهِمْ إِلَّا أَيَّامٌ قَلَائِلُ حَتَّى مَاتُوا جَمِيعًا. وَوَصَلَ الْمُعْتَصِمُ إِلَى سَامَرَّا سَالِمًا، فَسَمَّى الْعَبَّاسَ يَوْمئِذٍ اللَّعِينَ، وَأَخَذَ أَوْلَادَ الْمَأْمُونِ مِنْ سُنْدُسٍ، فَحَبَسَهُمْ فِي دَارِهِ حَتَّى مَاتُوا بَعْدُ.

وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُذْكَرُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْإِسْكَافِيَّ كَانَ يَتَوَلَّى إِقْطَاعَ عُجَيْفٍ، فَرَفَعَ أَهْلَهُ عَلَيْهِ إِلَى عُجَيْفٍ، فَأَخَذَهُ، وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَبَالَ فِي ثِيَابِهِ خَوْفًا مِنْ عُجَيْفٍ، ثُمَّ شُفِّعَ فِيهِ، فَقَيَّدَهُ وَحَبَسَهُ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الرُّومِ، وَأَخَذَهُ الْمُعْتَصِمُ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَطْلَقَ مَنْ كَانَ فِي حَبْسِهِ، (وَكَانُوا جَمَاعَةً) مِنْهُمُ الْإِسْكَافِيُّ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ عَلَى نَوَاحٍ بِالْجَزِيرَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا بَاعِينَاثَا، قَالَ: فَخَرَجْتُ يَوْمًا إِلَى تَلِّ بَاعِينَاثَا، فَاحْتَجْتُ إِلَى الْوُضُوءِ، فَجِئْتُ إِلَى تَلٍّ فَبُلْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَوَضَّأْتُ وَنَزَلْتُ، وَشَيْخُ بَاعِينَاثَا يَنْتَظِرُنِي، فَقَالَ لِي: فِي هَذَا التَّلِّ قَبْرُ عُجَيْفٍ، وَأَرَانِيهِ، فَإِذَا [أَنَا] قَدْ بُلْتُ عَلَيْهِ، وَكَانَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ سَنَةً لَا تَزِيدُ يَوْمًا وَلَا تَنْقُصُ يَوْمًا. ذِكْرُ وَفَاةِ زِيَادَةِ اللَّهِ بْنِ الْأَغْلَبِ وَابْتِدَاءِ وِلَايَةِ أَخِيهِ الْأَغْلَبِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ تُوُفِّيَ زِيَادَةُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ، أَمِيرُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَ عُمْرُهُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ سَنَةً وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ أَخُوهُ أَبُو عَفَّانَ الْأَغْلَبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ، فَأَحْسَنَ إِلَى الْجُنْدِ، وَأَزَالَ مَظَالِمَ كَثِيرَةً، وَزَادَ الْعُمَّالَ فِي أَرْزَاقِهِمْ، وَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنِ الرَّعِيَّةِ، وَقَطَعَ النَّبِيذَ وَالْخَمْرَ عَنِ الْقَيْرَوَانِ،

وَسَيَّرَ سَرِيَّةً سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى صِقِلِّيَّةَ فَغَنِمَتْ وَسَلِمَتْ. وَفِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ اسْتَأْمَنَ عِدَّةَ حُصُونٍ مِنْ جَزِيرَةِ صِقِلِّيَّةَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، مِنْهَا: حِصْنُ الْبَلُّوطِ، وَابْلَاطْنُو، وَقَرَلُونَ، وَمَرْيَا. وَسَارَ أُسْطُولُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قِلَّوْرِيَّةَ، فَفَتَحَهَا، وَلَقُوا أُسْطُولَ صَاحِبِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَهَزَمُوهُ بَعْدَ قِتَالٍ، فَعَادَ الْأُسْطُولُ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مَهْزُومًا، فَكَانَ فَتْحًا عَظِيمًا. وَفِي سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ سَارَتْ سَرِيَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِصِقِلِّيَّةَ إِلَى قَصْرُيَانَةَ، فَغَنِمَتْ، وَأَحْرَقَتْ، وَسَبَتْ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهَا أَحَدٌ، فَسَارَتْ إِلَى حِصْنِ الْغِيرَانِ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ غَارًا، فَغُنِمَتْ جَمِيعُهَا. وَتُوُفِّيَ الْأَمِيرُ أَبُو عَفَّانَ فِيهَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ (وَجُرِحَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالَ، إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَرَحَهُ خَادِمٌ لَهُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ. (فِي هَذِهِ السَّنَةِ [سَيَّرَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ جَيْشًا إِلَى أَلْبَةَ،

وَالْقِلَاعِ، فَنَزَلُوا حِصْنَ الْغُرَاتِ، وَحَصَرُوهُ، وَغَنِمُوا مَا فِيهِ، وَقَتَلُوا أَهْلَهُ، وَسَبَوُا النِّسَاءَ وَالذُّرِّيَّةَ وَعَادُوا) .

ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ] 224 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ مُخَالَفَةِ مَازِيَارَ بِطَبَرِسْتَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَظْهَرَ مَازِيَارُ بْنُ قَارُونَ بْنِ وِنْدَادِ هُرْمُزَ، الْخِلَافَ عَلَى الْمُعْتَصِمِ بِطَبَرِسْتَانَ، وَعَصَى وَقَاتَلَ عَسَاكِرَهُ. وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ مَازِيَارَ كَانَ مُنَافِرًا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ وَلَا يَحْمِلُ إِلَيْهِ خَرَاجَهُ، وَكَانَ الْمُعْتَصِمُ يَأْمُرُهُ بِحَمْلِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَيَقُولُ: لَا أَحْمِلُهُ إِلَّا إِلَيْكَ، وَكَانَ الْمُعْتَصِمُ يُنْفِذُ مَا يَقْبِضُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَازِيَارَ بِهَمَذَانَ، وَيُسَلِّمُهُ إِلَى وَكِيلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ يَرُدُّهُ إِلَى خُرَاسَانَ. وَعَظُمَ الشَّرُّ بَيْنَ مَازِيَارَ وَعَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَكْتُبُ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، حَتَّى اسْتَوْحَشَ مِنْ مَازِيَارَ، فَلَمَّا ظَفِرَ الْأَفْشِينُ بِبَابَكَ، وَعَظُمَ مَحِلُّهُ عِنْدَ الْمُعْتَصِمِ، طَمِعَ فِي وِلَايَةِ خُرَاسَانَ، فَكَتَبَ إِلَى مَازِيَارَ يَسْتَمِيلُهُ، وَيُظْهِرُ لَهُ الْمَوَدَّةَ، وَيُعْلِمُهُ أَنَّ الْمُعْتَصِمَ قَدْ وَعَدَهُ وِلَايَةَ خُرَاسَانَ، وَرَجَا أَنَّهُ إِذَا خَالَفَ مَازِيَارَ سَيَّرَهُ الْمُعْتَصِمُ إِلَى حَرْبِهِ، وَوَلَّاهُ خُرَاسَانَ، فَحَمَلَ ذَلِكَ مَازِيَارَ عَلَى الْخِلَافِ، وَتَرَكَ الطَّاعَةَ، وَمَنَعَ جِبَالَ طَبَرِسْتَانَ، فَكَتَبَ الْمُعْتَصِمُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ يَأْمُرُهُ بِمُحَارَبَتِهِ، وَكَتَبَ الْأَفْشِينُ إِلَى مَازِيَارَ يَأْمُرُهُ بِمُحَارَبَةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ عِنْدَ الْمُعْتَصِمِ كَمَا يُحِبُّ، وَلَا يَشُكُّ الْأَفْشِينُ أَنَّ مَازِيَارَ يَقُومُ فِي مُقَابَلَةِ ابْنِ طَاهِرٍ، وَأَنَّ الْمُعْتَصِمَ يَحْتَاجُ إِلَى إِنْفَاذِهِ وَإِنْفَاذِ عَسَاكِرِ غَيْرِهِ. فَلَمَّا خَالَفَ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَبَايَعُوهُ كُرْهًا، وَأَخَذَ الرَّهَائِنَ فَحَبَسَهُمْ، وَأَمَرَ أَكَرَةَ الضِّيَاعِ بِانْتِهَابِ أَرْبَابِهَا. وَكَانَ مَازِيَارُ أَيْضًا يُكَاتِبُ بَابَكَ، وَاهْتَمَّ مَازِيَارُ بِجَمْعِ الْأَمْوَالِ مِنْ تَعْجِيلِ الْخَرَاجِ وَغَيْرِهِ، فَجَبَى فِي شَهْرَيْنِ مَا كَانَ يُؤْخَذُ فِي سَنَةٍ، ثُمَّ أَمَرَ قَائِدًا لَهُ يُقَالُ لَهُ سَرْخَاسَتَانَ،

فَأَخَذَ أَهْلَ آمُلَ، وَأَهْلَ سَارِيَةَ جَمِيعَهُمْ، فَنَقَلَهُمْ إِلَى جَبَلٍ عَلَى النِّصْفِ مَا بَيْنَ سَارِيَةَ وَآمُلَ، يُقَالُ لَهُ هُرْمُزَابَاذْ، فَحَبَسَهُمْ فِيهِ، وَكَانَتْ عِدَّتُهُمْ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ تَمَكَّنَ مِنْ أَمْرِهِ، وَأَمَرَ بِتَخْرِيبِ سُورِ آمُلَ، وَسُورِ سَارِيَةَ، وَسُورِ طُمَيْسٍ، فَخُرِّبَتِ الْأَسْوَارُ. وَبَنَى سَرْخَاسَتَانُ سُورًا مِنْ طُمَيْسٍ إِلَى الْبَحْرِ، مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ بَنَتْهُ لِتَمْنَعَ التُّرْكَ مِنَ الْغَارَةِ عَلَى طَبَرِسْتَانَ، وَجَعَلَ لَهُ خَنْدَقًا فَفَزِعَ أَهْلُ جُرْجَانَ، وَخَافُوا، فَهَرَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَأَنْفَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ عَمَّهُ الْحَسَنَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ لِحِفْظِ جُرْجَانَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى الْخَنْدَقِ الَّذِي عَمِلَهُ سَرْخَاسَتَانُ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَهُ، وَصَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَرْخَاسَتَانَ صَاحِبِ الْخَنْدَقِ، وَوَجَّهَ أَيْضًا ابْنَ طَاهِرٍ حَيَّانَ بْنَ جَبَلَةَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ إِلَى قُومِسَ، فَعَسْكَرَ عَلَى حَدِّ جِبَالِ شَرْوِينَ، وَوَجَّهَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ عِنْدِهِ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ أَخَا إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ قَارَنَ الطَّبَرِيُّ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الطَّبَرِيَّةِ، وَوَجَّهَ الْمَنْصُورَ بْنَ الْحَسَنِ صَاحِبَ دُنْبَاوَنْدَ إِلَى الرَّيِّ لِيَدْخُلَ طَبَرِسْتَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الرَّيِّ، وَوَجَّهَ أَبَا السَّاجِ إِلَى اللَّارِزِ وَدُنْبَاوَنْدَ. فَلَمَّا أَحْدَقَتِ الْخَيْلُ بِمَازِيَارَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، كَانَ أَصْحَابُ سَرْخَاسَتَانَ يَتَحَدَّثُونَ مَعَ أَصْحَابِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ، (حَتَّى اسْتَأْنَسَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَتَآمَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَسَنِ فِي دُخُولِ السُّورِ، فَدَخَلُوهُ إِلَى أَصْحَابِ سَرْخَاسَتَانَ) عَلَى غَفْلَةٍ مِنَ الْحَسَنِ، وَنَظَرَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَثَارُوا، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْحَسَنِ، فَجَعَلَ يَصِيحُ بِالْقَوْمِ، وَيَمْنَعُهُمْ خَوْفًا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَقِفُوا، وَنَصَبُوا عَلَمَهُ عَلَى مُعَسْكَرِ سَرْخَاسَتَانَ، (وَانْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى سَرْخَاسَتَانَ) ، وَهُوَ فِي الْحَمَّامِ، فَهَرَبَ فِي غُلَالَةٍ، وَحَيْثُ رَأَى الْحَسَنُ أَنَّ أَصْحَابَهُ قَدْ دَخَلُوا السُّورَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَأَطَاعُوكَ، فَانْصُرْهُمْ. وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُهُ حَتَّى دَخَلُوا إِلَى الدَّرْبِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى عَسْكَرِ سَرْخَاسَتَانَ، وَأُسِرَ أَخُوهُ شَهْرَيَارُ، وَرَجَعَ النَّاسُ عَنِ الطَّلَبِ لَمَّا أَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ، فَقَتَلَ الْحَسَنُ شَهْرَيَارَ، وَسَارَ سَرْخَاسَتَانُ حَافِيًا فَجَهَدَهُ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَشَدَّهَا، فَبَصُرَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَغُلَامٌ اسْمُهُ جَعْفَرٌ، وَقَالَ سَرْخَاسَتَانُ: يَا جَعْفَرُ! اسْقِنِي مَاءً، فَقَدْ هَلَكْتُ عَطَشًا، فَقَالَ: لَيْسَ عِنْدِي مَا أَسْقِيكَ فِيهِ. قَالَ جَعْفَرٌ: وَاجْتَمَعَ إِلَيَّ عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِي، فَقُلْتُ لَهُمْ: هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَهْلَكَنَا،

فَلِمَ لَا نَتَقَرَّبُ إِلَى السُّلْطَانِ بِهِ، وَنَأْخُذُ لِأَنْفُسِنَا الْأَمَانَ؟ فَثَاوَرْنَاهُ، وَكَتَّفْنَاهُ، فَقَالَ لَهُمْ: خُذُوا مِنِّي مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَاتْرُكُونِي، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تُعْطِيكُمْ شَيْئًا، فَقَالُوا: أَحْضِرْهَا! فَقَالَ: سِيرُوا مَعِي إِلَى الْمَنْزِلِ لِتَقْبِضُوهَا، وَأُعْطِيكُمُ الْمَوَاثِيقَ عَلَى الْوَفَاءِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَسَارُوا بِهِ نَحْوَ عَسْكَرِ الْمُعْتَصِمِ، وَلَقِيَتْهُمْ خَيْلُ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَضَرَبُوهُمْ، وَأَخَذُوهُ مِنْهُمْ، وَأَتَوْا بِهِ الْحَسَنَ، فَأُمِرَ بِهِ فَقُتِلَ. وَكَانَ عِنْدَ سَرْخَاسَتَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شَاسَ يَقُولُ الشِّعْرَ، وَهُوَ مُلَازِمٌ لَهُ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ أَخْلَاقَ الْعَرَبِ، فَلَمَّا هَجَمَ عَسْكَرُ الْعَرَبِ عَلَى سَرْخَاسَتَانَ انْتَهَبُوا جَمِيعَ مَا لِأَبِي شَاسَ، وَخَرَجَ، وَأَخَذَ جَرَّةً فِيهَا مَاءٌ، وَأَخَذَ قَدَحًا، وَصَاحَ: الْمَاءُ لِلسَّبِيلِ، وَهَرَبَ، فَمَرَّ بِمَضْرِبِ كَاتِبِ الْحَسَنِ، فَعَرَفَهُ أَصْحَابُهُ، فَأَدْخَلُوهُ إِلَيْهِ، فَأَكْرَمَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: قُلْ شِعْرًا تَمْدَحُ بِهِ الْأَمِيرَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا بَقِيَ فِي صَدْرِي شَيْءٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْخَوْفِ، فَكَيْفَ أُحْسِنُ الشِّعْرَ؟ وَوَجَّهَ الْحَسَنُ بِرَأْسِ سَرْخَاسَتَانَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَكَانَ حَيَّانُ بْنُ جَبَلَةَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ قَدْ أَقْبَلَ مَعَ الْحَسَنِ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ بِنَاحِيَةِ طُمَيْسٍ، وَكَاتَبَ قَارَنَ بْنَ شَهْرَيَارَ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي مَازِيَارَ، وَرَغَّبَهُ فِي الْمَمْلَكَةِ، وَضَمِنَ لَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَلَى جِبَالِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ. وَكَانَ قَارَنُ مِنْ قُوَّادِ مَازِيَارَ، وَقَدْ أَنْفَذَهُ مَازِيَارُ مَعَ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَارَنَ، وَمَعَهُ عِدَّةٌ مِنْ قُوَّادِهِ، فَلَمَّا اسْتَمَالَهُ حَيَّانُ ضَمِنَ لَهُ قَارَنُ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ الْجِبَالَ وَمَدِينَةَ سَارِيَةَ إِلَى حُدُودِ جُرْجَانَ، عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ حَيَّانُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فَأَجَابَهُ إِلَى كُلِّ مَا سَأَلَ، وَأَمَرَ حَيَّانَ أَنْ لَا يُوغِلَ حَتَّى يَسْتَدِلَّ عَلَى صِدْقِ قَارَنَ، لِئَلَّا يَكُونَ مِنْهُ مَكْرٌ، وَكَتَبَ حَيَّانُ إِلَى قَارَنَ بِإِجَابَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فَدَعَا قَارَنُ بِعَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَارَنَ، وَهُوَ أَخُو مَازِيَارَ، وَدَعَا جَمِيعَ قُوَّادِهِ إِلَى طَعَامِهِ، فَلَمَّا وَضَعُوا سِلَاحَهُمْ وَاطْمَأَنُّوا أَحْدَقَ بِهِمْ أَصْحَابُهُ فِي السِّلَاحِ، وَكَتَّفَهُمْ، وَوَجَّهَ بِهِمْ إِلَى حَيَّانَ، فَلَمَّا صَارُوا إِلَيْهِ اسْتَوْثَقَ مِنْهُمْ، وَرَكِبَ فِي أَصْحَابِهِ حَتَّى دَخَلَ جِبَالَ قَارَنَ.

وَبَلَغَ الْخَبَرُ مَازْيَارَ، فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ، قَالَ لَهُ الْقُوهِيَارُ: فِي حَبْسِكَ عِشْرُونَ أَلْفًا مِنْ بَيْنِ حَائِكٍ، وَإِسْكَافٍ، وَحَدَّادٍ، وَقَدْ شَغَلْتَ نَفْسَكَ بِهِمْ، وَإِنَّمَا (أُتِيتَ مِنْ مَأْمَنِكَ) وَأَهْلِ بَيْتِكَ، فَمَا تَصْنَعُ بِهَؤُلَاءِ الْمُحْبَسِينَ عِنْدَكَ؟ قَالَ: فَأَطْلَقَ مَازِيَارُ جَمِيعُ مَنْ حَبَسَهُ، وَدَعَا جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ بُيُوتَكُمْ فِي السَّهْلِ، وَأَخَافُ أَنْ يُؤْخَذَ حُرَمُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ، فَانْطَلِقُوا وَخُذُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَمَانًا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ. وَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ سَارِيَةَ أَخْذُ سَرْخَاسَتَانَ وَدُخُولُ حَيَّانَ جَبَلَ شُرْوِينَ وَثَبُوا عَلَى عَامِلِ مَازِيَارَ بِسَارِيَةَ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ، وَفَتَحَ النَّاسُ السِّجْنَ، وَأَخْرَجُوا مَنْ فِيهِ، وَأَتَى حَيَّانُ إِلَى مَدِينَةِ سَارِيَةَ، وَبَلَغَ قُوهِيَارَ أَخَا مَازِيَارَ الْخَبَرُ، فَأَرْسَلَ إِلَى حَيَّانَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ حَفْصٍ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، وَأَنْ يُمَلَّكَ عَلَى جِبَالِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِ مَازِيَارَ، فَحَضَرَ عِنْدَ حَيَّانَ وَمَعَهُ أَحْمَدُ بْنُ الصَّقْرِ، وَأَبْلَغَاهُ الرِّسَالَةَ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا رَجَعَا رَأَى حَيَّانُ تَحْتَ أَحْمَدَ فَرَسًا حَسَنًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَأَخَذَهُ مِنْهُ، فَغَضِبَ أَحْمَدُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذَا الْحَائِكُ الْعَبْدُ يَفْعَلُ بِشَيْخٍ مِثْلِي مَا فَعَلَ! ثُمَّ كَتَبَ إِلَى قُوهِيَارَ: وَيْحَكَ! لِمَ تَغْلَطُ فِي أَمْرِكَ وَتَتْرُكُ مِثْلَ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَمِّ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَتَدْخُلُ فِي أَمَانِ هَذَا الْعَبْدِ الْحَائِكِ، وَتَدْفَعُ إِلَيْهِ أَخَاكَ، وَتَضَعُ قَدْرَكَ، وَتُحْقِدُ عَلَيْكَ الْحَسَنَ بِتَرْكِكَ إِيَّاهُ، وَبِمَيْلِكَ إِلَى عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ قُوهِيَارُ: أَرَانِي قَدْ غَلَطْتُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَوَعَدْتُ الرَّجُلَ أَنْ أَصِيرَ إِلَيْهِ بَعْدَ غَدٍ، وَلَا آمَنُ إِنْ خَالَفْتُهُ أَنْ يُنَاهِضَنِي وَيَسْتَبِيحَ دَمِي وَمَنْزِلِي وَأَمْوَالِي، وَإِنْ قَاتَلْتُهُ فَقَتَلْتُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَجَرَتِ الدِّمَاءُ فَسَدَ كُلُّ مَا عَمِلْنَاهُ، وَوَقَعْتِ الشَّحْنَاءُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْمِيعَادِ فَابْعَثْ إِلَيْهِ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِكَ، وَاكْتُبْ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ عَرَضَتْ عِلَّةٌ مَنَعَتْنِي عَنِ الْحَرَكَةِ، وَأَنَّكَ تَتَعَالَجُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ عُوفِيتَ، وَإِلَّا سِرْتُ إِلَيْكَ فِي مَحْمَلٍ، وَسَنَحْمِلُهُ نَحْنُ عَلَى قَبُولِ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ، وَكَتَبَ أَحْمَدُ بْنُ الصَّقْرِ،

وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ حَفْصٍ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَهُوَ بِطُمَيسٍ: أَنْ أَقْدِمْ عَلَيْنَا لِنَدْفَعَ إِلَيْكَ مَازِيَارَ وَالْخَيْلَ، وَإِلَّا فَاتَكَ، وَوَجَّهَا الْكِتَابَ إِلَيْهِ مَعَ مَنْ يَسْتَحِثُّهُ. فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ رَكِبَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَسَارَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي لَيْلَةٍ، وَانْتَهَى إِلَى سَارِيَةَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ تَقَدَّمَ إِلَى خُرَّمَابَاذَ، وَهُوَ الْمَوْعِدُ بَيْنَ قُوهِيَارَ وَحَيَّانَ، وَسَمِعَ حَيَّانُ (وَقْعَ) طُبُولِ الْحَسَنِ، فَتَلَقَّاهُ عَلَى فَرْسَخٍ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: مَا تَصْنَعُ هَاهُنَا؟ وَلِمَ تُوَجِّهُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ؟ وَقَدْ فَتَحْتَ جِبَالَ شُرْوِينَ وَتَرَكْتَهَا، فَمَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ يَغْدِرَ أَهْلُهَا، فَيَنْتَقِضُ جَمِيعُ مَا عَمِلْنَا؟ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ حَتَّى لَا يُمْكِنَهُمُ الْغَدْرُ إِنْ هَمُّوا بِهِ. فَقَالَ حَيَّانُ: أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ أَثْقَالِي، وَآخُذَ أَصْحَابِي، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: سِرْ أَنْتَ، فَأَنَا بَاعِثٌ بِأَثْقَالِكَ وَأَصْحَابِكَ. فَخَرَجَ حَيَّانُ مِنْ فَوْرِهِ، كَمَا أَمَرَهُ، وَأَتَاهُ كِتَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَنْ يُعَسْكِرَ بِكُورَ، وَهِيَ مِنْ جِبَالِ وَنْدَادَ هُرْمُزَ، وَهِيَ أَحْصَنُهَا، وَكَانَتْ أَمْوَالُ مَازِيَارَ بِهَا، فَأَمَرَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ لَا يَمْنَعَ قَارَنَ مِمَّا يُرِيدُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجِبَالِ، فَاحْتَمَلَ قَارَنَ مِمَّا كَانَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا مِنْ أَمْوَالِ مَازِيَارَ وَسَرْخَسْتَانَ، وَانْتَقَضَ عَلَى حَيَّانَ مَا كَانَ عَمِلَهُ بِسَبَبِ شَرَهِهِ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَسِ، وَتُوُفِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ حَيَّانُ، فَوَجَّهَ عَبْدُ اللَّهِ مَكَانَهُ عَمَّهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ، وَسَارَ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ إِلَى خُرَّمَابَاذَ، فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ حَفْصٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ الصَّقْرِ، فَشَكَرَهُمَا وَكَتَبَ إِلَى قُوهِيَارَ، فَأَتَاهُ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ، وَأَكْرَمَهُ، وَأَجَابَهُ إِلَى جَمِيعِ مَا طَلَبَ (إِلَيْهِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ) وَتَوَاعَدُوا يَوْمًا (يَحْضُرُ مَازِيَارُ عِنْدَهُ) . وَرَجَعَ قُوهِيَارُ إِلَى مَازِيَارَ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ لَهُ الْأَمَانَ، وَاسْتَوْثَقَ لَهُ. وَرَكِبَ الْحَسَنُ يَوْمَ الْمِيعَادِ (وَقْتَ الظُّهْرِ) ، وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ غِلْمَانٍ أَتْرَاكٍ، وَأَخَذَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مِهْرَانَ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى أُرَمَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا خَافَ إِبْرَاهِيمُ، وَقَالَ: هَذَا مَوْضِعٌ لَا يَسْلُكُهُ إِلَّا أَلْفُ فَارِسٍ، فَصَاحَى بِهِ: امْضِ! قَالَ: فَمَضَيْتُ وَأَنَا طَائِشُ الْعَقْلِ، حَتَّى وَافَيْنَا أُرَمَ، فَقَالَ: أَيْنَ طَرِيقُ هُرْمُزَابَاذَ؟ قُلْتُ: عَلَى هَذَا الْجَبَلِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ، فَقَالَ: سِرْ إِلَيْهَا! فَقُلْتُ: اللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ وَفِينَا، وَفِي هَذَا الْخَلْقِ الَّذِينَ مَعَكَ، فَصَاحَ: امْضِ يَا ابْنَ اللَّخْنَاءِ! فَقُلْتُ: اضْرِبْ عُنُقِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَقْبَلَنِي مَازِيَارُ، وَيُلْزِمُنِيَ الْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ الذَّنْبَ، فَانْتَهَرَنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبْطِشُ بِي، فَسِرْتُ وَأَنَا خَائِفٌ فَأَتَيْنَا هُرْمُزَابَاذَ

مَعَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، فَنَزَلَ فَجَلَسَ وَنَحْنُ صِيَامٌ. وَكَانَتِ الْخَيْلُ قَدْ تَقَطَّعَتْ لِأَنَّهُ رَكِبَ بِغَيْرِ عِلْمِ النَّاسِ، فَعَلِمُوا بَعْدَ مَسِيرِهِ. قَالَ: وَصَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ، وَأَقْبَلَ اللَّيْلُ، وَإِذَا بِفُرْسَانٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمُ الشَّمْعُ مُشْتَعِلًا، مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ لَبُورَةَ، فَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْنَ طَرِيقُ لَبُورَةَ؟ فَقُلْتُ: أَرَى عَلَيْهِ فُرْسَانًا وَنِيرَانًا، وَأَنَا دَاهِشٌ لَا أَقِفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، حَتَّى قَرُبَتِ (النِّيرَانُ فَنَظَرْتُ) ، فَإِذَا الْمَازِيَارُ مَعَ الْقُوهِيَارَ، فَنَزَلَا، وَتَقَدَّمَ مَازِيَارُ فَسَلَّمَ عَلَى الْحَسَنِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ لِرَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ: خُذَاهُ إِلَيْكُمَا، فَأَخَذَاهُ، فَلَمَّا كَانَ السَّحَرُ وَجَّهَ الْحَسَنُ مَازِيَارَ مَعَهُمَا إِلَى سَارِيَةَ، وَسَارَ الْحَسَنُ إِلَى هُرْمُزَابَاذَ، فَأَحْرَقَ قَصْرَ مَازْيَارَ، وَنَهَبَ مَالَهُ، وَسَارَ إِلَى خُرَّمَابَاذَ، وَأَخَذَ إِخْوَةَ مَازْيَارَ فَحُبِسُوا هُنَالِكَ، وَوُكِّلُوا بِهِمْ، وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ سَارِيَةَ، فَأَقَامَ بِهَا، وَحُبِسَ مَازِيَارُ. وَوَصَلَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَسَارَ بِهِ لِيُنَاظِرَهُ فِي مَعْنَى الْمَالِ الَّذِي لِمَازِيَارَ وَأَهْلِهِ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فَأَمَرَ الْحَسَنُ بِتَسْلِيمِ مَازِيَارَ وَأَهْلِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ لِيَسِيرَ بِهِمْ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَقْصِيَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَيُحْرِزَهَا، فَأَحْضَرَ مَازِيَارَ وَسَأَلَهُ عَنْ أَمْوَالِهِ، فَذَكَرَ أَنَّهَا عِنْدَ خَزَّانِهِ، وَضَمِنَ قُوهِيَارُ ذَلِكَ، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ مَازِيَارُ: اشْهَدُوا عَلَيَّ أَنَّ جَمِيعَ مَا أَخَذْتُ مِنْ أَمْوَالِي سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَسَبْعَ عَشْرَةَ قِطْعَةَ زُمُرُّدٍ، وَسِتَّ عَشْرَةَ قِطْعَةَ يَاقُوتٍ، وَثَمَانِيَةَ أَحْمَالٍ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ، وَتَاجٌ، وَسَيْفٌ مُذَهَّبٌ مُجَوْهَرٌ، وَخِنْجَرٌ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلٌ بِالْجَوْهَرِ، وَحُقٌّ كَبِيرٌ مَمْلُوءٌ جَوْهَرًا، قِيمَتُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَدْ سَلَّمْتُ ذَلِكَ إِلَى خَازِنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَصَاحِبِ خَبَرِهِ عَلَى الْعَسْكَرِ. وَكَانَ مَازِيَارُ قَدِ اسْتَخْلَفَ هَذَا لِيُوَصِّلَهُ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ لِيُظْهِرَ لِلنَّاسِ وَالْمُعْتَصِمِ أَنَّهُ آمَنَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَالِهِ، وَوَلَدِهِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ جِبَالَ أَبِيهِ، فَامْتَنَعَ الْحَسَنُ مِنْ قَبُولِهِ، وَكَانَ أَعَفَّ النَّاسِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَنْفَذَ الْحَسَنُ مَازِيَارَ إِلَى الْمُعْتَصِمِ مَعَ يَعْقُوبَ بْنِ الْمَنْصُورِ، ثُمَّ أَمَرَ الْحَسَنُ قُوهِيَارَ أَنْ يَأْخُذَ بِغَالَهُ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مَالَ مَازِيَارَ، فَأَخَذَهَا، وَأَرَادَ الْحَسَنُ أَنْ يُنْفِذَ مَعَهُ جَيْشًا، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِمْ.

وَسَارَ هُوَ وَغِلْمَانُهُ، فَلَمَّا فَتَحَ الْخَزَائِنَ، وَأَخْرَجَ الْأَمْوَالَ وَعَبَّأَهَا لِيَحْمِلَهَا، وَثَبَ عَلَيْهِ مَمَالِيكُ الْمَرْزُبَانِ، وَكَانُوا دَيَالِمَةً، وَقَالُوا: غَدَرْتَ بِصَاحِبِنَا، وَأَسْلَمْتَهُ إِلَى الْعَرَبِ، وَجِئْتَ لِتَحْمِلَ أَمْوَالَهُ! وَكَانُوا أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ، فَأَخَذُوهُ، وَقَيَّدُوهُ، فَلَمَّا جَنَّهُمُ اللَّيْلُ قَتَلُوهُ، وَانْتَهَبُوا الْأَمْوَالَ وَالْبِغَالَ، فَانْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَوَجَّهَ جَيْشًا، وَوَجَّهَ قَارَنُ (جَيْشًا، فَأَخَذَ أَصْحَابُ قَارَنَ) مِنْهُمْ عِدَّةً مِنْهُمُ ابْنُ عَمِّ مَازِيَارَ يُقَالُ لَهُ: شَهْرَيَارُ بْنُ الْمَضْمَغَانِ، وَكَانَ هُوَ يُحَرِّضُهُمْ، فَوَجَّهَهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَمَاتَ بِقُومَسَ. وَعَلِمَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ خَبَرَهُمْ، فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِهِمْ، فَأُخِذُوا، وَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى مَدِينَةِ سَارِيَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ السَّبَبَ فِي أَخْذِ مَازِيَارَ كَانَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ اسْمُهُ قُوهِيَارُ كَانَ لَهُ جِبَالُ طَبَرِسْتَانَ (وَكَانَ لِمَازِيَارَ السَّهْلُ، وَجِبَالُ طَبَرِسْتَانَ) ثَلَاثَةُ أَجْبُلٍ: جَبَلُ وِنْدَادَهُرْمُزَ، (وَجَبَلُ أَخِيهِ) (وَنْدَاسَنْجَانَ) ، وَالثَّالِثُ جَبَلُ شُرْوِينَ بْنِ سُرْخَابَ، فَقَوِيَ مَازْيَارُ، وَبَعَثَ [إِلَى] ابْنِ عَمِّهِ قُوهِيَارَ، وَقِيلَ هُوَ أَخُوهُ، فَأَلْزَمَهُ بَابَهُ، وَوَلَّى الْجَبَلَ وَالِيًا مِنْ قِبَلِهِ يُقَالُ لَهُ دُرِّيُّ، فَلَمَّا خَالَفَ مَازْيَارُ وَاحْتَاجَ إِلَى الرِّجَالِ دَعَا قُوهِيَارَ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أَعْرَفُ بِجَبَلِكَ مِنْ غَيْرِكَ، وَأَظْهَرَهُ عَلَى أَمْرِ الْأَفْشِينِ، وَمُكَاتَبَتِهِ، وَأَمَرَهُ بِالْعَوْدِ إِلَى جَبَلِهِ، وَحِفْظِهِ، وَأَمَرَ الدُّرِّيِّ بِالْمَجيِيءِ إِلَيْهِ، فَأَتَاهُ فَضَمَّ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرَ، وَوَجَّهَهُ إِلَى مُحَارَبَةِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَمِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ. وَظَنَّ مَازْيَارُ أَنَّهُ قَدِ اسْتَوْثَقَ مِنَ الْجَبَلِ بِقُوهِيَارَ، وَتَوَثَّقَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمُخَوِّفَةِ بِدُرِّيِّ وَعَسَاكِرِهِ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ عَلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقَرُبَتْ مِنْهُ. وَكَانَ مَازِيَارُ، فِي مَدِينَتِهِ، فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَدَعَا قُوهِيَارَ الْحِقْدُ الَّذِي فِي قَلْبِهِ عَلَى مَازِيَارَ وَمَا صَنَعَ بِهِ إِلَى أَنْ كَاتَبَ الْحَسَنَ بْنَ الْحُسَيْنِ، وَأَعْلَمَهُ جَمِيعَ مَا فِي عَسْكَرِهِ وَمُكَاتَبَةَ الْأَفْشِينِ، فَأَنْفَذَ الْحَسَنُ كِتَابَ قُوهِيَارَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فَأَنْفَذَهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، وَكَاتَبَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْحَسَنُ قُوهِيَارَ، وَضَمِنَا لَهُ جَمِيعَ مَا يُرِيدُ، وَأَنْ يُعِيدَ إِلَيْهِ جَبَلَهُ، وَمَا كَانَ بِيَدِهِ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ، فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَوَاعَدَهُمْ يَوْمًا يُسَلِّمُ فِيهِ الْجَبَلَ. فَلَمَّا جَاءَ الْمِيعَادُ تَقَدَّمَ الْحَسَنُ فَحَارَبَ دُرِّيٌّ، وَأَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ جَيْشًا كَثِيفًا،

فَوَافَوْا قُوهِيَارَ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِمُ الْجَبَلَ، (فَدَخَلُوهُ) ، وَدُرِّيُّ يُحَارِبُ الْحَسَنَ وَمَازِيَارُ فِي قَصْرِهِ، فَلَمْ يَشْعُرْ مَازِيَارُ إِلَّا وَالْخَيْلُ عَلَى بَابِ قَصْرِهِ، فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا. وَقِيلَ إِنَّ مَازِيَارَ كَانَ يَتَصَيَّدُ، فَأَخَذُوهُ وَقَصَدُوا بِهِ نَحْو دُرِّيَّ وَهُوَ يُقَاتِلُ، فَلَمْ يَشْعُرْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا وَعَسْكَرُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَمَعَهُمْ مَازِيَارُ، فَانْدَفَعَ دُرِّيُّ وَعَسْكَرُهُ، وَاتَّبَعُوهُ، وَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا رَأْسَهُ، وَحَمَلُوهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَحَمَلُوا إِلَيْهِ مَازِيَارَ، فَوَعَدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ إِنْ هُوَ أَظْهَرَهُ عَلَى كُتُبِ الْأَفْشِينِ أَنْ يَسْأَلَ فِيهِ الْمُعْتَصِمَ لِيَصْفَحَ عَنْهُ، فَأَقَرَّ مَازِيَارُ بِذَلِكَ، وَأَظْهَرَ الْكُتُبَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فَسَيَّرَهَا إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَسَيَّرَ مَازِيَارَ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُسَلِّمَهَا إِلَّا مِنْ يَدِهِ إِلَى يَدِ الْمُعْتَصِمِ، فَفَعَلَ إِسْحَاقُ ذَلِكَ، فَسَأَلَ الْمُعْتَصِمُ مَازِيَارَ عَنِ الْكُتُبِ، فَأَنْكَرَهَا، فَضَرَبَهُ حَتَّى مَاتَ، وَصَلَبَهُ إِلَى جَانِبِ بَابَكَ. وَقِيلَ إِنَّ مُخَالَفَةَ مَازِيَارَ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ قَتْلَهُ كَانَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ إِنَّهُ اعْتَرَفَ بِالْكُتُبِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِصْيَانِ مَنْكَجُورَ قَرَابَةِ الْأَفْشِينِ لَمَّا فَرَغَ الْأَفْشِينُ مِنْ بَابَكَ وَعَادَ إِلَى سَامَرَّا، اسْتَعْمَلَ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَكَانَ عَامِلُهُ مَنْكَجُورَ، وَهُوَ مِنْ أَقَارِبِهِ، فَوَجَدَ فِي بَعْضِ قُرَى بَابَكَ مَالًا عَظِيمًا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُعْتَصِمُ، وَلَا الْأَفْشِينُ، فَكَتَبَ صَاحِبُ الْبَرِيدِ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، وَكَتَبَ مَنْكَجُورُ يُكَذِّبُهُ، فَتَنَاظَرَا، فَهَمَّ مَنْكَجُورُ لِيَقْتُلَهُ، فَمَنَعَهُ أَهْلُ أَرْدَبِيلَ، فَقَاتَلَهُمْ مَنْكَجُورُ. وَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُعْتَصِمَ، فَأَمَرَ الْأَفْشِينَ بِعَزْلِ مَنْكَجُورَ، فَوَجَّهَ قَائِدًا فِي عَسْكَرٍ ضَخْمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَنْكَجُورَ الْخَبَرُ خَلَعَ الطَّاعَةَ، وَجَمَّعَ الصَّعَالِيكَ، وَخَرَجَ مِنْ أَرْدَبِيلَ، فَوَاقَعَهُ الْقَائِدُ، فَهَزَمَهُ، وَسَارَ إِلَى حِصْنٍ مِنْ حُصُونِ أَذْرَبِيجَانَ الَّتِي كَانَ بَابَكُ خَرَّبَهَا، فَبَنَاهُ، وَأَصْلَحَهُ، وَتَحَصَّنَ فِيهِ، فَبَقِيَ بِهِ شَهْرًا. ثُمَّ وَثَبَ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَأَسْلَمُوهُ إِلَى ذَلِكَ الْقَائِدِ، فَقَدِمَ بِهِ إِلَى سَامَرَّا، فَحَبَسَهُ الْمُعْتَصِمُ، وَاتَّهَمَ الْأَفْشِينَ فِي أَمْرِهِ، وَكَانَ قُدُومُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ،

وَقِيلَ إِنَّ ذَلِكَ الْقَائِدَ (الَّذِي أُنْفِذَ إِلَى مَنْكَجُورَ) كَانَ بُغَا الْكَبِيرُ، وَإِنَّ مَنْكَجُورَ خَرَجَ إِلَيْهِ بِأَمَانٍ. ذِكْرُ وِلَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَوْصِلَ وَقَتْلِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى بِأَعْمَالِ الْمَوْصِلِ إِنْسَانٌ مِنْ مُقَدَّمِي الْأَكْرَادِ اسْمُهُ جَعْفَرُ بْنُ فَهْرَجْسَ، وَتَبِعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَكْرَادِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُرِيدُ الْفَسَادَ، فَاسْتَعْمَلَ الْمُعْتَصِمُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ السَّيِّدِ بْنِ أَنَسٍ الْأَزْدِيَّ عَلَى الْمَوْصِلِ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ جَعْفَرٍ، فَسَارَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَكَانَ جَعْفَرُ بِمَانِعِيسَ قَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا، فَتَوَجَّهَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَقَاتَلَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ مَانِعِيسَ. فَقَصَدَ جَبَلَ دَاسِنَ، وَامْتَنَعَ بِمَوْضِعٍ عَالٍ فِيهِ لَا يُرَامُ، وَالطَّرِيقُ إِلَيْهِ ضَيِّقٌ، فَقَصَدَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى هُنَاكَ، وَتَوَغَّلَ فِي تِلْكَ الْمَضَايِقِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهِ وَقَاتَلَهُ، فَاسْتَظْهَرَ جَعْفَرٌ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَكْرَادِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ، وَقُوَّتِهِمْ عَلَى الْقِتَالِ بِهَا رَجَّالَةً، فَانْهَزَمَ عَبْدُ اللَّهِ وَقُتِلَ أَكْثَرُ مَنْ مَعَهُ. وَمِمَّنْ أُظْهِرَ مِنْهُمْ إِنْسَانٌ اسْمُهُ رَبَاحٌ حَمَلَ عَلَى الْأَكْرَادِ، فَخَرَقَ صَفَّهُمْ، وَطَعَنَ فِيهِمْ، وَقَتَلَ، وَصَارَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَشَغَلَهُمْ عَنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى نَجَا مِنْهُمْ مَنْ أَمْكَنَهُ النَّجَاةُ، فَتَكَاثَرَ الْأَكْرَادُ عَلَيْهِ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ رَأَسِ الْجَبَلِ عَلَى فَرَسِهِ، وَكَانَ تَحْتَهُ نَهْرٌ، فَسَقَطَ الْفَرَسُ فِي الْمَاءِ وَنَجَا رَبَاحٌ. وَكَانَ فِيمَنْ أَسَرَهُ جَعْفَرٌ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا اسْمُهُ إِسْمَاعِيلُ، وَالْآخَرُ إِسْحَاقُ بْنُ أَنَسٍ، وَهُوَ عَمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّيِّدِ، وَكَانَ إِسْحَاقُ صِهْرَ جَعْفَرٍ، فَقَدَّمَهُمَا جَعْفَرٌ إِلَيْهِ، فَظَنَّ إِسْمَاعِيلُ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ، وَلَا يَقْتُلُ إِسْحَاقَ لِلصِّهْرِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: يَا إِسْحَاقُ أُوصِيكَ بِأَوْلَادِي، فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ: أَتَظُنُّ أَنَّكَ تُقْتَلُ وَأَبْقَى بَعْدَكَ؟ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى جَعْفَرٍ، فَقَالَ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَقْتُلَنِي قَبْلَهُ لِتَطِيبَ نَفْسُهُ، فَبَدَأَ بِهِ فَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ إِسْمَاعِيلَ بَعْدَهُ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُعْتَصِمُ أَمَرَ إِيتَاخَ بِالْمَسِيرِ إِلَى جَعْفَرٍ وَقِتَالِهِ، فَتَجَهَّزَ، وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَقَصَدَ جَبَلَ دَاسِنَ، وَجَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى سُوقِ الْأَحَدِ،

فَالتَقَى هُوَ وَجَعْفَرٌ، فَقَاتَلَهُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ جَعْفَرٌ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، فَانْكَشَفَ شَرُّهُ وَأَذَاهُ عَنِ النَّاسِ. وَقِيلَ إِنَّ جَعْفَرًا شَرِبَ سُمًّا كَانَ مَعَهُ فَمَاتَ، وَأَوْقَعَ إِيتَاخُ بِالْأَكْرَادِ، فَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَاسْتَبَاحَ أَمْوَالَهُمْ، وَحَشَرَ الْأَسْرَى وَالنِّسَاءَ وَالْأَمْوَالَ إِلَى تِكْرِيتَ. وَقِيلَ: إِنَّ إِيقَاعَ إِيتَاخَ بِجَعْفَرٍ كَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ غَزَاةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَنْدَلُسِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَبْدَ اللَّهِ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْبَلَنْسِيِّ إِلَى بِلَادِ الْعَدُوِّ، فَوَصَلُوا إِلَى أُلْبَةَ، وَالْقِلَاعِ، فَخَرَجَ الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهِ فِي جَمْعِهِمْ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ، وَقِتَالٌ عَظِيمٌ، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَا لَا يُحْصَى، وَجُمِعَتِ الرُّؤُوسُ أَكْدَاسًا، حَتَّى كَانَ الْفَارِسُ لَا يَرَى مَنْ يُقَابِلُهُ. وَفِيهَا خَرَجَ لِذُرَيقٍ فِي عَسْكَرِهِ، وَأَرَادَ الْغَارَةَ عَلَى مَدِينَةِ سَالِمٍ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، فَسَارَ إِلَيْهِ فُرْتُونُ بْنُ مُوسَى فِي عَسْكَرٍ جَرَّارٍ، فَلَقِيَهُ، وَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ لِذُرَيقٍ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي عَسْكَرِهِ، وَسَارَ فَرْتُونُ إِلَى الْحِصْنِ الَّذِي كَانَ بَنَاهُ أَهْلُ أَلْبَةَ بِإِزَاءِ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَحَصَرَهُ، وَافْتَتَحَهُ وَهَدَمَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَوَلَّى جَعْفَرُ بْنُ دِينَارٍ الْيَمَنَ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْأَفْشِينِ أُتْرَاجَةَ ابْنَةَ أَشْنَاسَ، وَدَخَلَ بِهَا فِي قَصْرِ الْمُعْتَصِمِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةَ، وَأَحْضَرَ عُرْسَهَا عَامَّةَ أَهْلِ سَامَرَّا، وَكَانُوا يُغَلِّفُونَ الْعَامَّةَ بِالْغَالِيَةِ، وَهِيَ فِي تِيغَارَ مِنْ فِضَّةٍ.

وَفِيهَا امْتَنَعَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَرَثَانِيُّ بِوَرَثَانَ، ثُمَّ عَاوَدَ الطَّاعَةَ، وَقَدِمَ عَلَى الْمُعْتَصِمِ بِأَمَانٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ نَاطِسٌ الرُّومِيُّ وَصُلِبَ بِسَامَرَّا. وَفِيهَا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ فِي رَمَضَانَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ. [بَقِيَّةُ الْحَوَادِثِ] وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ. (وَفِيهَا وَقَعَ بِإِفْرِيقِيَّةَ فِتْنَةٌ كَانَ فِيهَا حَرْبٌ بَيْنَ عِيسَى بْنِ رَيَعَانَ الْأَزْدِيِّ وَبَيْنَ لُوَاتَةَ وَزُوَاغَةَ وَمِكْنَاسَةَ، فَكَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ قَفْصَةَ وَقَسْطِيلِيَةَ، فَقَتَلَهُمْ عِيسَى عَنْ آخِرِهِمْ. وَفِيهَا اجْتَمَعَ أَهْلُ سِجِلْمَاسَةَ مَعَ مِدْرَارَ بْنِ الْيَسَعِ عَلَى تَقْدِيمِ مَيْمُونِ بْنِ مِدْرَارَ فِي الْإِمَارَةِ عَلَى سِجِلْمَاسَةَ، وَإِخْرَاجِ أَخِيهِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ تَقِيَّةَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِمَيْمُونٍ أَخْرَجَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ إِلَى بَعْضِ قُرَى سِجِلْمَاسَةَ) . وَفِيهَا فَتَحَ نُوحُ بْنُ أَسَدٍ كَاسَانَ وَأُورِشْتَ، بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَكَانَتَا قَدْ نَقَضَتَا الصُّلْحَ، وَافْتَتَحَ أَيْضًا اسْبِيجَابَ، وَبَنَى حَوْلَهُ سُورًا يُحِيطُ بِكُرُومِ أَهْلِهِ وَمَزَارِعِهِمْ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ الْإِمَامُ اللُّغَوِيُّ، وَكَانَ عُمْرُهُ سَبْعًا وَسِتِّينَ سَنَةً، (كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ) . (سَلَّامٌ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ) .

ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ] 225 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ وَصُولِ مَازِيَارَ إِلَى سَامَرَّا فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ وَصُولُ مَازِيَارَ إِلَى سَامَرَّا، فَخَرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، فَأَخَذَهُ مِنَ الدَّسْكَرَةِ، وَأَدْخَلَهُ سَامَرَّا عَلَى بَغْلٍ بِأُكَافٍ، لِأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ رُكُوبِ الْفِيلِ، فَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنُهُ وَبَيْنَ الْأَفْشِينِ. وَكَانَ الْأَفْشِينُ قَدْ حُبِسَ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ، فَأَقَرَّ مَازِيَارُ أَنَّ الْأَفْشِينَ كَانَ يُكَاتِبُهُ، وَيُحْسِنُ لَهُ الْخِلَافَ وَالْمَعْصِيَةَ، (فَأَمَرَ بِرَدِّ الْأَفْشِينِ إِلَى مَحْبَسِهِ) وَضَرَبَ مَازِيَارَ أَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَوْطًا، وَطَلَبَ مَاءً لِلشُّرْبِ، فَسُقِيَ، فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَقِيلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ اعْتِرَافِ مَازِيَارَ بِكُتُبِ الْأَفْشِينِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مَا يُخَالِفُ هَذَا، وَسَبَبُهُ اخْتِلَافُ النَّاقِلِينَ. ذِكْرُ غَضَبِ الْمُعْتَصِمِ عَلَى الْأَفْشِينِ وَحَبْسِهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَضِبَ الْمُعْتَصِمُ عَلَى الْأَفْشِينِ وَحَبَسَهُ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَفْشِينَ كَانَ أَيَّامَ مُحَارَبَةِ بَابَكَ لَا تَأْتِيهِ هَدِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ إِلَّا وَجَّهَ بِهَا إِلَى أُشْرُوسَنَّةَ، فَيَجْتَازُ ذَلِكَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فَيَكْتُبُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى الْمُعْتَصِمِ يُعَرِّفُهُ الْخَبَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ يَأْمُرُهُ بِإِعْلَامِهِ بِجَمِيعِ مَا يُوَجِّهُ بِهِ الْأَفْشِينُ، فَفَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ ذَلِكَ، فَكَانَ الْأَفْشِينُ كُلَّمَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مَالٌ يَجْعَلُهُ عَلَى أَوْسَاطِ أَصْحَابِهِ فِي الْهَمَايِينَ (وَيُسَيِّرُهُ إِلَى أُشْرُوسَنَةَ) .

فَأَنْفَذَ مَرَّةً مَالًا كَثِيرًا، فَبَلَغَ أَصْحَابَهُ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَوَجَّهَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ، فَفَتَّشَهُمْ، فَوَجَدَ الْمَالَ فِي أَوْسَاطِهِمْ، فَقَالَ: مَنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا الْمَالُ؟ فَقَالُوا: لِلْأَفْشَيْنَ، فَقَالَ: كَذَبْتُمْ، لَوْ أَرَادَ أَخِي الْأَفْشِينُ أَنْ يُرْسِلَ مِثْلَ هَذِهِ الْهَدَايَا وَالْأَمْوَالِ لَكَتَبَ يُعْلِمُنِي ذَلِكَ الْأَمْرَ (بِتَسْيِيرِهِ) ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ لُصُوصٌ. وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَالَ فَأَعْطَاهُ الْجُنْدَ، وَكَتَبَ إِلَى الْأَفْشِينِ يَذْكُرُ لَهُ مَا قَالَ الْقَوْمُ، وَقَالَ: أَنَا أُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ وُجِّهْتَ بِمِثْلِ هَذَا الْمَالِ وَلَمْ تُعْلِمْنِي، وَقَدْ أَعْطَيْتُهُ الْجُنْدَ عِوَضَ الْمَالِ الَّذِي يُوَجِّهُهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ لَكَ كَمَا زَعَمُوا، فَإِذَا جَاءَ الْمَالُ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رَدَدْتُهُ عَلَيْكَ، وَإِنْ يَكُنْ غَيْرَ هَذَا، فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَالِ، وَإِنَّمَا دَفَعْتُهُ إِلَى الْجُنْدِ لِأَنِّي أُرِيدُ [أَنْ] أُوَجِّهَهُمْ إِلَى بِلَادِ التُّرْكِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْأَفْشِينُ: إِنَّ مَالِيَ وَمَالَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدٌ، وَسَأَلَهُ إِطْلَاقَ الْقَوْمِ، فَأَطْلَقَهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُمَا. وَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ يَتَتَبَّعُهُ، وَكَانَ الْأَفْشِينُ يَسْمَعُ مِنَ الْمُعْتَصِمِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ عَزْلَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خُرَاسَانَ، فَطَمِعَ فِي وِلَايَتِهَا، فَكَاتَبَ مَازِيَارَ يُحَسِّنُ لَهُ الْخِلَافَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا خَالَفَ عَزَلَ الْمُعْتَصِمُ عَبْدَ اللَّهِ عَنْ خُرَاسَانَ وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهَا، وَأَمَرَهُ بِمُحَارَبَةِ مَازِيَارَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ مَازِيَارَ، مَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ مِنْ عِصْيَانِ مَنْكَجُورَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا، فَتَحَقَّقَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ أَمْرِ الْأَفْشِينِ، فَتَغَيَّرَ عَلَيْهِ. وَأَحَسَّ الْأَفْشِينُ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَصْنَعُ، فَعَزَمَ عَلَى أَنْ يُهَيِّئَ أَطْوَافًا فِي قَصْرِهِ، وَيَحْتَالَ فِي يَوْمِ شُغْلِ الْمُعْتَصِمِ وَقُوَّادِهِ أَنْ يَأْخُذَ طَرِيقَ الْمَوْصِلِ، وَيَعْبُرَ الزَّابَ عَلَى تِلْكَ الْأَطْوَافِ، وَيَصِيرَ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ، وَكَانَتْ وِلَايَةُ أَرْمِينِيَّةَ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى بِلَادِ الْخَزَرِ، ثُمَّ يَدُورُ فِي بِلَادِ التُّرْكِ، وَيَرْجِعُ إِلَى أُشْرُوسَنَةَ، أَوْ يَسْتَمِيلُ الْخَزَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، فَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ طَعَامًا كَثِيرًا، وَيَدْعُوَ الْمُعْتَصِمَ وَالْقَوَّادَ، وَيَعْمَلَ فِيهِ سُمًّا، فَإِنْ لَمْ يَجِئِ الْمُعْتَصِمُ عَمِلَ ذَلِكَ بِالْقُوَّادِ مِثْلَ أَشْنَاسَ وَإِيتَاخَ وَغَيْرِهِمَا، يَوْمَ تَشَاغُلِ الْمُعْتَصِمِ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ سَارَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَكَانَ قُوَّادُهُ يَنُوبُونَ فِي دَارِ الْمُعْتَصِمِ، كَمَا يَفْعَلُ الْقُوَّادُ، فَكَانَ أَوَاجِنُ الْأُشْرُوسَنِيُّ

قَدْ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَمْرِ الْأَفْشِينِ حَدِيثٌ، فَقَالَ أَوَاجِنُ: لَا يَتِمُّ هَذَا الْأَمْرُ، فَذَهَبَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى الْأَفْشِينِ فَأَعْلَمَهُ، فَتَهَدَّدَ أَوَاجِنُ، فَسَمِعَهُ بَعْضُ مَنْ يَمِيلُ إِلَى أَوَاجِنَ مِنْ خَدَمِ الْأَفْشِينِ، فَأَتَاهُ ذَلِكَ الْخَادِمُ فَأَعْلَمَهُ الْحَالَ بَعْدَ عَوْدِهِ مِنَ النَّوْبَةِ، فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَخَرَجَ إِلَى دَارِ الْمُعْتَصِمِ، فَقَالَ لِإِيتَاخَ: إِنَّ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدِي نَصِيحَةً، قَالَ: قَدْ نَامَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ أَوَاجِنُ: لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَصْبِرَ إِلَى غَدٍ، فَدَقَّ إِيتَاخُ الْبَابَ عَلَى بَعْضِ مَنْ يُخْبِرُ الْمُعْتَصِمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ الْمُعْتَصِمُ: قُلْ لَهُ يَنْصَرِفُ اللَّيْلَةَ إِلَى غَدٍ! فَقَالَ: إِنِ انْصَرَفْتُ ذَهَبَتْ نَفْسِي، فَأَرْسَلَ الْمُعْتَصِمُ إِلَى إِيتَاخَ: بَيِّتْهُ عِنْدَكَ اللَّيْلَةَ. فَبَيَّتَهُ عِنْدَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ بَكَّرَ بِهِ عَلَى بَابِ الْمُعْتَصِمِ، فَأَخْبَرَهُ بِجَمِيعِ مَا كَانَ عِنْدَهُ، فَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بِإِحْضَارِ الْأَفْشِينِ، فَجَاءَ فِي سَوَادِهِ، فَأَمَرَ بِأَخْذِ سَوَادِهِ وَحَبْسِهِ فِي الْجَوْسَقِ، وَكَتَبَ الْمُعْتَصِمُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فِي الِاحْتِيَالِ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ الْأَفْشِينِ، وَكَانَ الْحُسَيْنُ قَدْ كَثُرَتْ كُتُبُهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَشَكَا مِنْ نُوحِ بْنِ الْأَسَدِ الْأَمِيرِ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَتَحَامُلَهُ عَلَى ضِيَاعِهِ، وَنَاحِيَتِهِ، فَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى نُوحٍ يُعْلِمُهُ مَا كَتَبَ بِهِ الْمُعْتَصِمُ فِي أَمْرِ الْحُسَيْنِ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَجْمَعَ أَصْحَابَهُ وَيَتَأَهَّبَ، فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ الْحُسَيْنُ بِكِتَابِ وِلَايَتِهِ فَخُذْهُ، وَاسْتَوْثِقْ مِنْهُ، وَاحْمِلْهُ إِلَيَّ. وَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى الْحُسَيْنِ يُعْلِمُهُ أَنَّهُ قَدْ عَزَلَ نُوحًا، وَأَنَّهُ قَدْ وَلَّاهُ نَاحِيَتَهُ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِ بِكِتَابِ عَزْلِ نُوحٍ وَوِلَايَتِهِ، فَخَرَجَ ابْنُ الْأَفْشِينِ فِي قِلَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَسِلَاحِهِ، حَتَّى وَرَدَ عَلَى نُوحٍ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ وَالِي النَّاحِيَةِ، فَأَخَذَهُ نُوحٌ وَقَيَّدَهُ، وَوَجَّهَهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فَوَجَّهَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، فَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بِإِحْضَارِ الْأَفْشِينِ لِيُقَابَلَ عَلَى مَا قِيلَ عَنْهُ، فَأُحْضِرَ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الزَّيَّاتِ، وَزِيرِ الْمُعْتَصِمِ، وَعِنْدَهُ ابْنُ أَبِي دُؤَادَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَعْيَانِ، وَكَانَ الْمُنَاظِرُ لَهُ ابْنَ الزَّيَّاتِ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ مَازِيَارَ، وَالْمُوبَذَ، وَالْمَرْزُبَانِ بْنِ بَرْكَشٍ، وَهُوَ أَحَدُ مُلُوكِ السُّغْدِ، وَرَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ السُّغْدِ، فَدَعَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالرَّجُلَيْنِ، وَعَلَيْهِمَا ثِيَابٌ رَثَّةٌ، فَقَالَ لَهُمَا: مَا شَأْنُكُمَا؟ فَكَشَفَا عَنْ ظُهُورِهِمَا، وَهِيَ عَارِيَةٌ مِنَ اللَّحْمِ، فَقَالَ لِلْأَفْشِينِ: أَتَعْرِفُ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ، هَذَا مُؤَذِّنٌ، وَهَذَا إِمَامٌ بَنَيَا مَسْجِدًا بِأُشْرُوسَنَةَ، فَضَرَبْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ سَوْطٍ، وَذَلِكَ أَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ مَلِكِ السُّغْدِ عَهْدًا وَشَرْطًا أَنْ أَتْرُكَ كُلَّ قَوْمٍ عَلَى دِينِهِمْ، فَوَثَبَ هَذَانِ عَلَى

بَيْتٍ كَانَ فِيهِ أَصْنَامُ أَهْلِ أُشْرُوسَنَةَ، فَأَخْرَجَا الْأَصْنَامَ وَجَعَلَاهُ مَسْجِدًا، فَضَرَبْتُهُمَا عَلَى هَذَا. قَالَ ابْنُ الزَّيَّاتِ: مَا كِتَابٌ عِنْدَكَ قَدْ حَلَّيْتَهُ بِالذَّهَبِ وَالْجَوْهَرِ فِيهِ الْكُفْرُ بِاللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: كِتَابٌ وَرِثْتُهُ عَنْ أَبِي فِيهِ مِنْ آدَابِ الْعَجَمِ وَكُفْرِهِمْ، فَكُنْتُ آخُذُ الْآدَابَ وَأَتْرُكُ الْكُفْرَ، وَوَجَدْتُهُ مُحَلًّى، فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَى أَخْذِ الْحِلْيَةِ مِنْهُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّ هَذَا يُخْرِجُ مِنَ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ تَقَدَّمَ الْمُوبَذُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَأْكُلُ لَحْمَ الْمَخْنُوقَةِ، وَيَحْمِلُنِي عَلَى أَكْلِهَا، وَيَزْعُمُ أَنَّهَا أَرْطَبُ مِنَ الْمَذْبُوحَةِ. وَقَالَ لِي يَوْمًا: قَدْ دَخَلْتُ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَكْرَهُهُ، حَتَّى أَكَلْتُ الزَّيْتَ، وَرَكِبْتُ الْجَمَلَ، وَالْبَغْلَ، غَيْرَ أَنِّي إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ لَمْ تَسْقُطْ عَنِّي شَعْرَةٌ، يَعْنِي أَخَذَ شَعْرَ الْعَانَةِ، وَلَمْ أَخْتَتِنْ. فَقَالَ الْأَفْشِينُ: أَخْبِرُونِي عَنْ هَذَا أَثِقَةٌ هُوَ فِي دِينِهِ؟ وَكَانَ مَجُوسِيًّا، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ أَيَّامَ الْمُتَوَكِّلِ، فَقَالُوا: لَا! فَقَالَ: فَمَا مَعْنَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ؟ ثُمَّ قَالَ لِلْمُوبَذِ: أَلَيْسَ كُنْتُ أُدْخِلُكَ عَلَيَّ وَأُطْلِعُكَ عَلَى سِرِّي؟ قَالَ: بَلَى! قَالَ: لَسْتَ بِالثِّقَةِ فِي دِينِكَ، وَلَا بِالْكَرِيمِ فِي عَهْدِكَ، إِذْ أَفْشَيْتَ سِرًّا أَسْرَرْتُهُ إِلَيْكَ. ثُمَّ تَقَدَّمَ الْمَرْزُبَانُ فَقَالَ: كَيْفَ يَكْتُبُ إِلَيْكَ أَهْلُ بَلَدِكَ؟ قَالَ: لَا أَقُولُ! قَالَ: أَلَيْسَ يَكْتُبُونَ بِكَذَا بِالْأَشْرُوسَنِّيَّةِ؟ قَالَ: بَلَى! قَالَ: أَلَيْسَ تَفْسِيرُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ: إِلَى إِلَهِ الْآلِهَةِ مَنْ عَبَدَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ؟ قَالَ: بَلَى! قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الزَّيَّاتُ: الْمُسْلِمُونَ لَا يَحْتَمِلُونَ هَذَا، فَمَا أَبْقَيْتَ لِفِرْعَوْنَ؟ (قَالَ: هَذِهِ كَانَتْ) عَادَتَهُمْ لِأَبِي وَجَدِّي وَلِي قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَضَعَ نَفْسِي دُونَهُمْ فَتُفْسِدَ عَلَيَّ طَاعَتَهُمْ. ثُمَّ تَقَدَّمَ مَازِيَارُ فَقَالُوا لِلْأَفْشِينِ: هَلْ كَاتَبْتَ هَذَا؟ قَالَ: لَا! قَالُوا لِمَازِيَارَ: هَلْ كَتَبَ إِلَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَتَبَ أَخُوهُ إِلَى أَخِي قُوهِيَارَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَنْصُرُ هَذَا الدِّينَ (الْأَبْيَضَ) غَيْرِي وَغَيْرُكَ، فَأَمَّا بَابَكَ فَإِنَّهُ لِحُمْقِهِ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَلَقَدْ جَهِدْتُ أَنْ أَصْرِفَ عَنْهُ الْمَوْتَ، فَأَبَى

لِحُمْقِهِ إِلَّا أَنْ أُوقِعَهُ، فَإِنْ خَالَفْتَ لَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ مَنْ يَرْمُونَكَ بِهِ غَيْرِي، وَمَعِيَ الْفُرْسَانُ، وَأَهْلُ النَّجْدَةِ، فَإِنْ وُجِّهْتُ إِلَيْكَ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يُحَارِبُنَا إِلَّا ثَلَاثَةٌ: الْعَرَبُ، وَالْمَغَارِبَةُ، وَالْأَتْرَاكُ، وَالْعَرَبِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ اطْرَحْ لَهُ كِسْرَةً وَاضْرِبْ رَأْسَهُ، وَالْمَغَارِبَةُ أَكَلَةُ رَأَسٍ، وَالْأَتْرَاكُ، فَإِنَّمَا هِيَ سَاعَةٌ حَتَّى تَنْفَدَ سِهَامُهُمْ، ثُمَّ تَجُولُ الْخَيْلُ عَلَيْهِمْ جَوْلَةً فَتَأْتِي عَلَى آخِرِهِمْ، وَيَعُودُ الدِّينُ إِلَى مَا لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَيَّامَ الْعَجَمِ. فَقَالَ الْأَفْشِينُ: هَذَا يَدَّعِي أَنَّ أَخِي كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ: لَا يَجِبُ عَلَيَّ، وَلَوْ كَتَبْتُ هَذَا الْكِتَابَ إِلَيْهِ لِأَسْتَمِيلَهُ إِلَيَّ وَيَثِقَ بِي، ثُمَّ آخُذُهُ بِقَفَاهُ، وَأَحْظَى بِهِ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ، كَمَا حَظِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ، فَزَجَرَهُ ابْنُ أَبِي دُؤَادَ، فَقَالَ الْأَفْشِينُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنْتَ تَرْفَعُ طَيْلَسَانَكَ فَلَا تَضَعُهُ حَتَّى تَقْتُلَ جَمَاعَةً. فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي دُؤَادَ: أَمُطَهَّرٌ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا! قَالَ: فَمَا مَنَعَكَ مِنْ ذَلِكَ وَبِهِ تَمَامُ الْإِسْلَامِ، وَالطَّهُورُ مِنَ النَّجَاسَةِ؟ فَقَالَ: أَوَلَيِسَ فِي الْإِسْلَامِ اسْتِعْمَالُ التَّقِيَّةِ؟ قَالَ: بَلَى! قَالَ: خِفْتُ أَنْ أَقْطَعَ ذَلِكَ الْعُضْوَ مِنْ جَسَدِي فَأَمُوتَ، فَقَالَ: أَنْتَ تَطْعَنُ بِالرُّمْحِ، وَتَضْرِبُ بِالسَّيْفِ، فَلَا يَمْنَعُكَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْحَرْبِ، وَتَجْزَعُ مِنْ قَطْعِ قَلَفَةٍ؟ قَالَ: تِلْكَ ضَرُورَةٌ تُصِيبُنِي فَأَصْبِرُ عَلَيْهَا، وَهَذَا شَيْءٌ أَسْتَجْلِبُهُ. فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادَ: قَدْ بَانَ لَكُمْ أَمْرُهُ، فَقَالَ لِبُغَا الْكَبِيرُ: عَلَيْكَ بِهِ! فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مِنْطَقَتِهِ، فَجَذَبَهَا، وَأَخَذَ بِمَجَامِعِ الْقَبَاءِ عِنْدَ عُنُقِهِ، وَرَدَّهُ إِلَى مَحْبَسِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَضِبَ الْمُعْتَصِمُ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ دِينَارٍ لِأَجْلِ وُثُوبِهِ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأَصْحَابِ، وَحَبَسَهُ عِنْدَ أَشْنَاسَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ رَضِيَ عَنْهُ، وَعَزَلَهُ عَنِ الْيَمَنِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا إِيتَاخَ. وَفِيهَا عَزَلَ الْأَفْشِينَ عَنِ الْحَرَسِ، وَوَلَّاهُ إِسْحَاقَ بْنَ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ.

وَفِيهَا سَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ إِلَى بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ فِي شَعْبَانَ، فَدَخَلَ بِلَادَ جِلِّيقِيَّةَ، فَافْتَتَحَ مِنْهَا عِدَّةَ حُصُونٍ، وَجَالَ فِي أَرْضِهِمْ يُخَرِّبُ، وَيَغْنَمُ، وَيَقْتُلُ، وَيَسْبِي، وَأَطَالَ الْمُقَامَ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى قُرْطُبَةَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دُؤَادَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو دُلَفٍ الْعِجْلِيُّ، وَاسْمُهُ الْقَاسِمُ بْنُ عِيسَى، وَأَبُو عُمَرَ الْجَرْمِيُّ النَّحْوِيُّ، وَاسْمُهُ صَالِحُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَائِنِيُّ، وَلَهُ ثَلَاثٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَلَهُ كُتُبٌ فِي الْمَغَازِي وَأَيَّامِ الْعَرَبِ، وَكَانَ بَصْرِيًّا، فَأَقَامَ بِالْمَدَائِنِ فَنُسِبَ إِلَيْهَا.

ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ] 226 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ فِيهَا وَثَبَ عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانَ عَلَى الْمَعُونَةِ بِدِمَشْقَ مِنْ قِبَلِ صُولِ أَرْتَكِينَ عَلِيِّ بْنِ رَجَاءٍ، وَكَانَ عَلَى الْخَرَاجِ، فَقَتَلَهُ وَأَظْهَرَ الْوَسْوَاسَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فِيهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادَ، فَأُطْلِقَ مِنْ مَحْبَسِهِ. وَفِيهَا مَاتَ (مُحَمَّدُ بْنُ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ. ذِكْرُ مَوْتِ الْأَفْشِينِ وَفِيهَا مَاتَ الْأَفْشِينُ، وَكَانَ قَدْ أَنْفَذَ إِلَى الْمُعْتَصِمِ يَطْلُبُ أَنْ يُنْفِذَ إِلَيْهِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ حَمْدُونَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، فَأَخَذَ يَعْتَذِرُ عَمَّا قِيلَ فِيهِ، وَقَالَ: قُلْ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكَ كَرَجُلٍ رَبَّى عِجْلًا حَتَّى أَسْمَنَهُ، وَكَبُرَ، وَكَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَشْتَهُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ لَحْمِهِ، فَعَرَّضُوا بِذَبْحِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ، فَاتَّفَقُوا جَمِيعًا عَلَى أَنْ قَالُوا: لِمَ تُرَبِّي هَذَا الْأَسَدَ، فَإِنَّهُ إِذَا كَبُرَ رَجَعَ إِلَى جِنْسِهِ؟ ! فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا هُوَ عِجْلٌ، فَقَالُوا: هَذَا أَسَدٌ، فَسَلْ مَنْ شِئْتَ. وَتَقَدَّمُوا إِلَى جَمِيعِ مَنْ يَعْرِفُونَهُ، وَقَالُوا لَهُمْ: إِنْ سَأَلَكُمْ عَنِ الْعَجَلِ، فَقُولُوا لَهُ: إِنَّهُ أَسَدٌ، وَكُلَّمَا سَأَلَ إِنْسَانًا قَالَ: هُوَ سَبُعٌ، فَأَمَرَ بِالْعَجَلِ، فَذُبِحَ، وَلَكِنِّي أَنَا ذَلِكَ الْعِجْلُ كَيْفَ أَقْدِرُ أَنْ أَكُونَ أَسَدًا؟ اللَّهَ اللَّهَ فِي أَمْرِي. قَالَ حَمْدُونُ: فَقُمْتُ عَنْهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ طَبَقٌ فِيهِ فَاكِهَةٌ قَدْ أَرْسَلَهُ الْمُعْتَصِمُ مَعَ ابْنِهِ

الْوَاثِقِ، وَهُوَ عَلَى حَالِهِ، فَلَمْ أَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ يَمُوتُ، أَوْ قَدْ مَاتَ، فَحُمِلَ إِلَى دَارِ إِيتَاخَ، فَمَاتَ بِهَا، وَأَخْرَجُوهُ، وَصَلَبُوهُ عَلَى بَابِ الْعَامَّةِ لِيَرَاهُ النَّاسُ، ثُمَّ أُلْقِيَ وَأُحْرِقَ بِالنَّارِ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي شَعْبَانَ. قَالَ حَمْدُونَ: وَسَأَلْتُهُ هَلْ هُوَ مُطَّهَّرٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: (إِلَى مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ) إِنَّمَا قَالَ لِي هَذَا، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ، لِيَفْضَحَنِي إِنْ قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ: تَكَشَّفْ، وَالْمَوْتُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَشَّفَ بَيْنَ يَدَيِ النَّاسِ، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ أَتَكَشَّفُ بَيْنَ يَدَيْكَ حَتَّى تَرَانِي، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ صَادِقٌ، فَلَمَّا انْصَرَفَ حَمْدُونُ وَبَلَّغَ الْمُعْتَصِمَ رِسَالَتَهُ أَمَرَ بِقَطْعِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَنْهُ، إِلَّا الْقَلِيلَ، حَتَّى مَاتَ. قَالَ: وَلَمَّا أَخَذَ مَالَهُ رَأَى فِي دَارِهِ بَيْتَ تِمْثَالٍ لِإِنْسَانٍ مِنْ خَشَبٍ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ كَثِيرَةٌ وَجَوْهَرٌ، وَفِي أُذُنَيْهِ حَجَرَانِ مُشْتَبِكَانِ، عَلَيْهِمَا ذَهَبٌ، فَأَخَذَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَ سُلَيْمَانَ أَحَدَ الْحَجَرَيْنِ وَظَنَّهُ جَوْهَرًا، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ نَزَعَ عَنْهُ الذَّهَبَ، وَوَجَدَهُ شَيْئًا شَبِيهًا بِالصَّدَفِ يُسَمَّى الْحَبْرُونَ، وَوَجَدُوا أَصْنَامًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَالْأَطْوَافَ الْخَشَبَ الَّتِي أَعَدَّهَا، وَوَجَدُوا لَهُ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ الْمَجُوسِ، وَكُتُبًا غَيْرَهُ فِيهَا دِيَانَتُهُ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْأَغْلَبِ وَوِلَايَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَغْلَبِ إِفْرِيقِيَّةَ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، (تُوُفِّيَ الْأَغْلَبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَنَتَيْنِ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ) وَلِيَ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَغْلَبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ بَعْدَ وَفَاةِ وَالِدِهِ، وَدَانَتْ لَهُ إِفْرِيقِيَّةُ، وَابْتَنَى مَدِينَةً بِقُرْبِ تَاهَرْتَ سَمَّاهَا الْعَبَّاسِيَّةَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَأَحْرَقَهَا أَفْلَحُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْإِبَاضِيُّ، وَكَتَبَ إِلَى الْأُمَوِيِّ،

صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ، يُعْلِمُهُ ذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْأُمَوِيُّ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ جَزَاءً لَهُ عَلَى فِعْلِهِ. وَتُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَغْلَبِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ غُرَّةَ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ. ذِكْرُ وِلَايَةِ ابْنِهِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ أَحْمَدَ لَمَّا (تُوُفِّيَ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَغْلَبِ) وَلِيَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ أَحْمَدُ، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ مَعَ الرَّعِيَّةِ، وَأَكْثَرَ الْعَطَاءَ لِلْجُنْدِ، وَبَنَى بِأَرْضِ إِفْرِيقِيَّةَ عَشْرَةَ آلَافِ حِصْنٍ بِالْحِجَارَةِ وَالْكِلْسِ، وَأَبْوَابِ الْحَدِيدِ، وَاشْتَرَى الْعَبِيدَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي أَيَّامِهِ ثَائِرٌ يُزْعِجُهُ، ثُمَّ تُوُفِّيَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَبْعَ سِنِينَ وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ (وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِيةً وَعِشْرِينَ سَنَةً) . ذِكْرُ وِلَايَةِ أَخِيهِ أَبِي مُحَمَّدٍ زِيَادَةِ اللَّهِ وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ وَلِيَ أَخُوهُ زِيَادَةُ اللَّهِ وَجَرَى عَلَى سُنَنِ سَلَفِهِ، وَلَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ، فَتُوُفِّيَ يَوْمَ السَّبْتِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَنَةً وَاحِدَةً وَسِتَّةَ أَيَّامٍ. ذِكْرُ وِلَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَغْلَبِ وَلَمَّا تُوُفِّيَ زِيَادَةُ اللَّهِ وَلِيَ بَعْدَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَغْلَبُ، وَجَرَى عَلَى سَنَنِ أَسْلَافِهِ، وَكَانَ أَدِيبًا، عَاقِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، غَيْرَ أَنَّ جَزِيرَةَ صِقِلِّيَّةَ تَغَلَّبَ الرُّومُ عَلَى مَوَاضِعَ مِنْهَا، وَبَنَى أَيْضًا حُصُونًا وَمَحَارِسَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ. وَبِالْمَغْرِبِ أَرْضٌ تُعْرَفُ بِالْأَرْضِ الْكَبِيرَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَرْقَةَ مَسِيرَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا،

وَبِهَا مَدِينَةٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ تُدْعَى بَارَّةَ، وَكَانَ أَهْلُهَا نَصَارَى لَيْسُوا بُرُومٍ، فَغَزَاهَا حَيَاةُ مَوْلَى الْأَغْلَبِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، ثُمَّ غَزَاهَا خُلْفُونُ الْبَرْبَرِيُّ، وَيُقَالُ إِنَّهُ مَوْلًى لِرَبِيعَةَ، فَفَتَحَهَا فِي خِلَافَةِ الْمُتَوَكِّلِ، وَقَامَ بَعْدَهُ رَجُلٌ يُسَمَّى الْمُفَرِّجُ بْنُ سَالِمٍ، فَفَتَحَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ حِصْنًا، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، فَكَتَبَ إِلَى وَالِي مِصْرَ يُعْلِمُهُ خَبَرُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ صَلَاةً إِلَّا بِأَنْ يَعْقِدَ لَهُ الْإِمَامُ عَلَى نَاحِيَتِهِ، وَيُوَلِّيهِ إِيَّاهَا، لِيَخْرُجَ مِنْ حَدِّ الْمُتَغَلِّبِينَ، وَبَنَى مَسْجِدًا جَامِعًا. ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَهُ شَغَبُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَتَلُوهُ. ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ، سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. إِنَّمَا ذَكَرْنَا وِلَايَةَ هَؤُلَاءِ مُتَتَابِعَةً لِقِلَّةِ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ زُلْزِلَتِ الْأَهْوَازُ زَلْزَلَةً شَدِيدَةً، خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ مَعَ الزَّلْزَلَةِ رِيحٌ شَدِيدَةً، فَخَرَجَ النَّاسُ عَنْ مَنَازِلِهِمْ، وَخَرِبَ كَثِيرٌ مِنْهَا. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ، أَمَرَهُ أَشْنَاسُ بِذَلِكَ، وَكَانَ أَشْنَاسُ حَاجًّا، وَقَدْ جَعَلَ إِلَيْهِ وِلَايَةَ كُلِّ بَلَدٍ يَدْخُلُهُ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنِ الْبِلَادِ الَّتِي اجْتَازَ بِهَا بِالْإِمْرَةِ إِلَى أَنْ عَادَ إِلَى سَامَرَّا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْهُذَيلِ (مُحَمَّدُ بْنُ الْهُذَيْلِ بْنِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَّافِ الْبَصْرِيُّ،

شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي زَمَانِهِ، وَزَادَ عُمْرُهُ عَلَى مِائَةِ سَنَةٍ، وَلَهُ مَسَائِلُ فِي الْأُصُولِ قَبِيحَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا. وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّمِيمِيُّ الْحَنْظَلِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ أَبُو زَكَرِيَّاءَ، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ بِنَيْسَابُورَ. وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ الْوَاشِجِيُّ الْقَاضِي. (وَأَبُو هَيْثَمَ الرَّازِيُّ النَّحْوِيُّ، وَكَانَ عَالِمًا بِنَحْوِ الْكُوفِيِّينَ) .

ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ] 227 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ خُرُوجِ الْمُبَرْقَعِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ أَبُو حَرْبٍ الْمُبَرْقَعُ الْيَمَانِيُّ بِفِلَسْطِينَ، وَخَالَفَ عَلَى الْمُعْتَصِمِ. وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ أَنَّ بَعْضَ الْجُنْدِ أَرَادَ النُّزُولَ فِي دَارِهِ وَهُوَ غَائِبٌ، فَمَنَعَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ، فَضَرَبَهَا الْجُنْدِيُّ بِسَوْطٍ، فَأَصَابَ ذِرَاعَهَا، فَأَثَّرَ فِيهَا، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ شَكَتْ إِلَيْهِ مَا فَعَلَ بِهَا الْجُنْدِيُّ، فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَسَارَ نَحْوَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ هَرَبَ، وَأَلْبَسَ وَجْهَهُ بُرْقُعًا، وَقَصَدَ بَعْضَ جِبَالِ الْأُرْدُنِّ، فَأَقَامَ بِهِ، وَكَانَ يَظْهَرُ بِالنَّهَارِ مُتَبَرْقِعًا، فَإِذَا جَاءَهُ أَحَدٌ ذَكَّرَهُ، وَأَمَرَهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَذْكُرُ الْخَلِيفَةَ وَمَا يَأْتِي، وَيَعِيبُهُ، فَاسْتَجَابَ لَهُ قَوْمٌ مِنْ فَلَّاحِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ. وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُمَوِيٌّ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: هَذَا السُّفْيَانِيُّ، فَلَمَّا كَثُرَ أَتْبَاعُهُ مِنْ هَذِهِ الضِّفَّةِ دَعَا أَهْلَ الْبُيُوتَاتِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْيَمَانِيَّةِ، مِنْهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ابْنُ بَيْهَسٍ كَانَ مُطَاعًا فِي أَهْلِ الْيَمَنِ، (وَرَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ) . وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالْمُعْتَصِمِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ رَجَاءَ بْنَ أَيُّوبَ الْحَضَارِيَّ فِي زُهَاءِ أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ الْجُنْدِ، فَرَآهُ فِي عَالَمٍ كَثِيرٍ يَبْلُغُونَ مِائَةَ أَلْفٍ، فَكَرِهَ رَجَاءُ مُوَاقَعَتَهُ، وَعَسْكَرَ فِي مُقَابَلَتِهِ، حَتَّى كَانَ أَوَانُ الزِّرَاعَةِ وَعَمِلَ الْأَرْضَ، فَانْصَرَفَ مَنْ كَانَ مَعَ الْمُبَرْقَعِ إِلَى عَمَلِهِمْ، وَبَقِيَ فِي زُهَاءِ أَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ. (وَتُوُفِّيَ الْمُعْتَصِمُ وَوَلِيَ الْوَاثِقُ، وَثَارَتِ الْفِتْنَةُ بِدِمَشْقَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، فَأَمَرَ الْوَاثِقُ رَجَاءَ بِقِتَالِ مَنْ أَرَادَ الْفِتْنَةَ وَالْعَوْدَةِ إِلَى الْمُبَرْقَعِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَعَادَ إِلَى الْمُبَرْقَعِ) ، فَنَاجَزَهُ

رَجَاءُ، فَالتَقَى الْعَسْكَرَانِ، فَقَالَ رَجَاءُ لِأَصْحَابِهِ: مَا أَرَى فِي عَسْكَرِهِ رَجُلًا لَهُ شَجَاعَةٌ غَيْرَهُ، وَإِنَّهُ سَيُظْهِرُ لِأَصْحَابِهِ مَا عِنْدَهُ، فَإِذَا حَمَلَ عَلَيْكُمْ فَأَفْرِجُوا لَهُ، فَمَا لَبِثَ أَنْ حَمَلَ الْمُبَرْقَعُ، فَأَفْرَجَ لَهُ أَصْحَابُ رَجَاءٍ، حَتَّى جَاوَزَهُمْ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَفْرَجُوا لَهُ، حَتَّى أَتَى أَصْحَابَهُ، ثُمَّ حَمَلَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا أَرَادَ الرُّجُوعَ أَحَاطُوا بِهِ، وَأَخَذُوهُ أَسِيرًا. وَقِيلَ: كَانَ خُرُوجُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَإِنَّهُ خَرَجَ بِنُوَاحِي الرَّمْلَةَ، وَصَارَ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ رَجَاءَ الْحَضَارِيَّ، فَقَاتَلَهُ، وَأَخَذَ ابْنَ بَيْهَسٍ أَسِيرًا، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُبَرْقَعِ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَأَسَرَ الْمُبَرْقَعَ، وَحَمَلَهُ إِلَى سَامَرَّا. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُعْتَصِمِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمُعْتَصِمُ أَبُو إِسْحَاقَ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيُّ (بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ) ، يَوْمَ الْخَمِيسِ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ بَدْءُ عِلَّتِهِ أَنَّهُ احْتَجَمَ أَوَّلَ يَوْمٍ فِي الْمُحَرَّمِ، وَاعْتَلَّ عِنْدَهَا. قَالَ زَنَامُ الزَّامِرُ: أَفَاقَ الْمُعْتَصِمُ فِي عِلَّتِهِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، فَرَكِبَ فِي الزُّلَالِ فِي دِجْلَةَ، وَأَنَا مَعَهُ، فَمَرَّ بِإِزَاءِ مَنَازِلِهِ، فَقَالَ: يَا زَنَامُ إِزْمُرْ لِي: يَا مَنْزِلًا لَمْ تَبْلَ أَطْلَالُهُ ... حَاشَا لِأَطْلَالِكَ أَنْ تَبْلَى لَمْ أَبْكِ أَطْلَالَكَ لَكِنَّنِي ... بَكَيْتُ عَيْشِي فِيكَ إِذْ وَلَّى وَالْعَيْشُ أَوْلَى مَا بَكَاهُ الْفَتَى ... لَا بُدَّ لِلْمَحْزُونِ أَنْ يَسْلَى

قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَزْمُرُ لَهُ هَذَا الصَّوْتَ، وَأُكَرِّرُهُ، وَقَدْ تَنَاوَلَ مِنْدِيلًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا زَالَ يَبْكِي فِيهِ، وَيَنْتَحِبُ، حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ. وَلَمَّا احْتَضَرَ الْمُعْتَصِمُ جَعَلَ يَقُولُ: ذَهَبَتِ الْحِيَلُ، لَيْسَتْ حِيلَةٌ، حَتَّى صَمَتَ، ثُمَّ مَاتَ وَدُفِنَ بِسَامَرَّا. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَيَوْمَيْنِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ، وَهُوَ مِنْ ثَامِنِ الْخُلَفَاءِ وَالثَّامِنِ مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ، وَمَاتَ عَنْ ثَمَانِيَةِ بَنِينَ وَثَمَانِي بَنَاتٍ، وَمَلَكَ ثَمَانِي سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ عُمْرُهُ سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَشَهْرَيْنِ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ عُمْرُهُ سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ. وَكَانَ أَبْيَضَ، أَصْهَبَ اللِّحْيَةِ، طَوِيلَهَا، مَرْبُوعًا، مُشْرَبَ اللَّوْنِ حُمْرَةً، حَسَنَ الْعَيْنَيْنِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِالْخَلْدَقَارِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الزَّيَّاتُ يَرْثِيهِ: قَدْ قُلْتُ إِذْ غَيَّبُوكَ وَاصْطَفَقَتْ ... عَلَيْكَ أَيْدٍ بِالتُّرْبِ وَالطِّينِ اذْهَبْ فَنِعْمَ الْحَفِيظُ كُنْتَ عَلَى ... الدُّنْيَا وَنَعِمَ الْمُعِينُ لِلدِّينِ لَا يَجْبُرُ اللَّهُ أُمَّةً فَقَدَتْ ... مِثْلَكَ إِلَّا بِمِثْلِ هَارُونِ وَكَانَتْ أُمُّهُ مَارِدَةً مِنْ مُوَلَّدَاتِ الْكُوفَةِ، وَكَانَتْ أُمُّهَا صُغَدِيَّةَ، وَكَانَ أَبُوهَا نَشَأَ بِالْبَنَدَنَيجِينَ.

ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمُعْتَصِمَ فَأَسْهَبَ فِي ذِكْرِهِ، وَأَكْثَرَ فِي وَصْفِهِ، وَذَكَرَ مِنْ طِيبِ أَعْرَاقِهِ، وَسِعَةِ أَخْلَاقِهِ، وَكَرِيمِ عِشْرَتِهِ، قَالَ: وَقَالَ يَوْمًا، وَنَحْنُ بِعَمُّورِيَّةَ: مَا تَقُولُ فِي الْبُسْرِ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَحْنُ بِبِلَادِ الرُّومِ، وَالْبُسْرُ بِالْعِرَاقِ، فَقَالَ: قَدْ جَاؤُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ مِنْ بَغْدَادَ، وَعَلِمْتُ أَنَّكَ تَشْتَهِيهِ، ثُمَّ أَحْضَرَهُ، فَمَدَّ يَدَهُ، فَأَخَذَ الْعِذْقَ فَارِغًا، قَالَ: وَكُنْتُ أُزَامِلُهُ كَثِيرًا فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ. ذِكْرُ بَاقِيَ الْخَبَرِ قَالَ: وَأَخَذْتُ لِأَهْلِ الشَّاشِ مِنْهُ أَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ; لِعَمَلِ نَهْرٍ كَانَ لَهُمُ انْدَفَنَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، فَأَضَرَّ بِهِمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ كَانَ لَا يُبَالِي إِذَا غَضِبَ مَنْ قَتَلَ، وَمَا فَعَلَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ لَذَّةٌ فِي تَزْيِينِ الْبِنَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ بِالنَّفَقَةِ أَسْمَحَ مِنْهُ بِهَا فِي الْحَرْبِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْخٍ: قَدِمَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ الْعِرَاقَ هَارِبًا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَنَالُ مِنْهُمْ، فَتَهَدَّدُوهُ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ، وَقَدِمَ عَلَى عَمِّهِ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَشَكَا إِلَيْهِ حَالَهُ، وَخَوَّفَهُ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ، وَسَأَلَهُ إِنْهَاءَ حَالِهِ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ مَا أَرَادَ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ حَالَهُ وَلَامَهُ. قَالَ أَحْمَدُ: فَشَكَا ذَلِكَ إِلَيَّ وَسَأَلَنِي مُخَاطَبَةَ عَمِّهِ فِي أَمْرِهِ، فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ وَأَنْكَرْتُ عَلَيْهِ إِعْرَاضَهُ عَنْهُ، فَقَالَ لِي: إِنَّ الزُّبَيْرَ فِيهِ جَهْلٌ وَتَسَرُّعٌ، فَأَشِرْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْطِفَ الْعَلَوِيِّينَ، وَيُزِيلَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْهُ، أَمَا رَأَيْتَ الْمَأْمُونَ وَرِفْقَهُ بِهِمْ، وَعَفْوَهُ عَنْهُمْ، وَمَيْلَهُ إِلَيْهِمْ؟ قُلْتُ: بَلَى، فَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ، عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، أَوْ فَوْقَهُ، وَلَا أَقْدِرُ أَذْكُرُهُمْ عِنْدَهُ بِقَبِيحٍ، فَقُلْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَرْجِعَ عَنِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ مِنْ ذَمِّهِمْ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُصْعَبِيُّ: دَعَانِي الْمُعْتَصِمُ يَوْمًا، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ أَضْرِبَ مَعَكَ بِالصَّوَالِجَةِ، فَلَعِبْنَا بِهَا سَاعَةً، ثُمَّ نَزَلَ وَأَخَذَ بِيَدِي نَمْشِي إِلَى أَنْ صَارَ إِلَى حُجْرَةِ الْحَمَّامِ، فَقَالَ: خُذْ ثِيَابِي، فَأَخَذْتُهَا، ثُمَّ أَمَرَنِي بِنَزْعِ ثِيَابِي، فَفَعَلْتُ، وَدَخَلْتُ، وَلَيْسَ مَعَنَا غُلَامٌ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَخَدَمْتُهُ، وَدَلَّكْتُهُ، وَتَوَلَّى الْمُعْتَصِمُ مِنِّي ذَلِكَ، فَاسْتَعْفَيْتُهُ، فَأَبَى عَلَيَّ، ثُمَّ خَرَجْنَا، وَمَشَى وَأَنَا مَعَهُ، حَتَّى صَارَ إِلَى مَجْلِسِهِ، فَنَامَ،

وَأَمَرَنِي فَنِمْتُ حِذَاءَهُ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا إِسْحَاقُ إِنَّ فِي قَلْبِي أَمْرًا أَنَا مُفَكِّرٌ فِيهِ مُنْذُ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَإِنَّمَا بَسَطْتُكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِأُفْشِيَهُ إِلَيْكَ، فَقُلْتُ: قُلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ. قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَخِي الْمَأْمُونِ وَقَدِ اصْطَنَعَ أَرْبَعَةً، فَلَمْ يُفْلِحْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، قُلْتُ: وَمَنِ الَّذِينَ اصْطَنَعَهُمُ الْمَأْمُونُ؟ قَالَ: طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ، فَقَدْ رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ، فَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، وَأَنْتَ فَأَنْتَ وَاللَّهِ الرَّجُلُ الَّذِي لَا يَعْتَاضُ السُّلْطَانُ عَنْكَ أَبَدًا، وَأَخُوكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَيْنَ مِثْلُ مُحَمَّدٍ؟ وَأَنَا فَاصْطَنَعْتُ الْأَفْشِينَ، فَقَدْ رَأَيْتَ إِلَى مَا صَارَ أَمْرُهُ، وَأَشْنَاسَ فَفَشِلَ، وَإِيتَاخَ فَلَا شَيْءَ، وَوَصِيفًا فَلَا مَعْنَى فِيهِ. فَقُلْتُ: أُجِيبُ عَلَى أَمَانٍ مِنْ غَضَبِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَظَرَ أَخُوكَ إِلَى الْأُصُولِ فَاسْتَعْمَلَهَا، فَأَنْجَبْتَ، وَاسْتَعْمَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فُرُوعًا، فَلَمْ تُنْجِبْ إِذْ لَا أُصُولَ لَهَا! فَقَالَ: يَا إِسْحَاقُ، لَمُقَاسَاةُ مَا مَرَّ بِي طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادَ: تَصَدَّقَ الْمُعْتَصِمُ، وَوَهَبَ عَلَى يَدَيَّ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمِ. وَحُكِيَ أَنَّ الْمُعْتَصِمَ قَدِ انْقَطَعَ عَنْ أَصْحَابِهِ فِي يَوْمِ مَطَرٍ، فَبَيْنَا هُوَ يُسَيِّرُ رَحْلَهُ إِذْ رَأَى شَيْخًا مَعَهُ حِمَارٌ عَلَيْهِ حِمْلُ شَوْكٍ، وَقَدْ زَلِقَ الْحِمَارُ، وَسَقَطَ، وَالشَّيْخُ قَائِمٌ يَنْتَظِرُ مَنْ يَمُرُّ بِهِ فَيُعِينُهُ عَلَى حَمْلِهِ، فَسَأَلَهُ الْمُعْتَصِمُ عَنْ حَالِهِ، فَأَخْبَرَهُ، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ; لِيُخَلِّصَ الْحِمَارَ عَنِ الْوَحْلِ، وَيَرْفَعَ عَلَيْهِ حِمْلَهُ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لَا تُبَلِّلْ ثِيَابَكَ وَطِيبَكَ! فَقَالَ: لَا عَلَيْكَ، ثُمَّ إِنَّهُ خَلَّصَ الْحِمَارَ، وَجَعَلَ الشَّوْكَ عَلَيْهِ، وَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ رَكِبَ، فَقَالَ الشَّيْخُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا شَابُّ! ثُمَّ لَحِقَهُ أَصْحَابُهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَوَكَّلَ بِهِ مَنْ يَسِيرُ مَعَهُ إِلَى بَيْتِهِ.

ذِكْرُ خِلَافَةِ الْوَاثِقِ بِاللَّهِ وَفِيهَا بُويِعَ الْوَاثِقُ بِاللَّهِ بْنُ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ أَبُوهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا جَعْفَرٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ رُومِيَّةٌ، تُسَمَّى قَرَاطِيسَ. وَفِيهَا هَلَكَ تَوْفِيلُ مَلِكُ الرُّومِ، وَكَانَ مُلْكُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَلَكَتْ بَعْدَهُ امْرَأَتُهُ تُدُورَةُ، وَابْنُهَا مِيخَائِيلُ بْنُ تَوْفِيلَ صَبِيٌّ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ جَعْفَرُ بْنُ الْمُعْتَصِمِ، وَحَجَّتْ مَعَهُ أَمُّ الْوَاثِقِ، فَمَاتَتْ بِالْحِيرَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَدُفِنَتْ بِالْكُوفَةِ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِدِمَشْقَ لَمَّا مَاتَ الْمُعْتَصِمُ ثَارَتِ الْقَيْسِيَّةُ بِدِمَشْقَ، وَعَاثُوا، وَأَفْسَدُوا، وَحَصَرُوا أَمِيرَهُمْ، فَبَعَثَ الْوَاثِقُ إِلَيْهِمْ رَجَاءَ بْنَ أَيُّوبَ الْحَضَارِيَّ، وَكَانُوا مُعَسْكِرِينَ بِمَرْجِ رَاهِطٍ، فَنَزَلَ رَجَاءُ بِدَيْرِ مِرَّانَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَوَاعَدَهُمُ الْحَرْبَ بِدَوْمَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ، وَقَدْ تَفَرَّقَتْ، سَارَ رَجَاءُ إِلَيْهِمْ، فَوَافَاهُمْ وَقَدْ سَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى دَوْمَةَ، وَبَعْضُهُمْ فِي حَوَائِجِهِ، فَقَاتَلَهُمْ، فَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوَ أَلْفٍ وَخَمْسمِائَةٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوَ ثَلَاثُمِائَةٍ، وَهَرَبَ مُقَدَّمَهُمُ ابْنُ بَيْهَسٍ، وَصَلُحَ أَمْرُ دِمَشْقَ. وَسَارَ رَجَاءُ إِلَى فِلَسْطِينَ إِلَى قِتَالِ أَبِي حَرْبٍ الْمُبَرْقَعِ الْخَارِجِ بِهَا، فَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ

الْمُبَرْقَعُ وَأُخِذَ أَسِيرًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا تُوُفِّيَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الزَّاهِدُ الْمَعْرُوفُ بِالْحَافِي فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ التَّيْمِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عَائِشَةَ الْبَصْرِيِّ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: ابْنُ عَائِشَةَ; لِأَنَّهُ وَلَدُ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، وَتُوُفِّيَ أَبُوهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بَعْدَهُ لِسَنَةٍ. وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، وَأَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، وَالْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ) . [بَقِيَّةُ الْحَوَادِثِ] وَفِيهَا سَيَّرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ جَيْشًا إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا كَانُوا بَيْنَ أُرْبُونَةَ وَشَرْطَانِيَةَ تَجَمَّعَتِ الرُّومُ عَلَيْهِمْ، وَأَحَاطُوا بِالْعَسْكَرِ، وَقَاتَلُوهُمُ اللَّيْلَ كُلَّهُ، فَلَمَّا

أَصْبَحُوا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَزَمَ عَدُوَّهُمْ. وَأَبْلَى مُوسَى بْنُ مُوسَى فِي هَذِهِ الْعُدْوَةِ بَلَاءً عَظِيمًا، وَكَانَ عَلَى مُقَدِّمَةِ الْعَسْكَرِ، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَرِيرِ بْنِ مُوَفَّقٍ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الدَّوْلَةِ أَيْضًا، شَرٌّ، فَكَانَ سَبَبًا لِخُرُوجِ مُوسَى عَنْ طَاعَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. [بَقِيَّةُ الْوَفَيَاتِ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَذْفُونْسُ مَلِكُ الرُّومِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَّانَ الْيَحْصُبِيُّ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ. (شَرْطَانِيَةُ: بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَبَعْدَهَا نُونٌ، ثُمَّ يَاءٌ تَحْتَانِيَّةٌ، ثُمَّ هَاءٌ) .

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ] 228 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ غَزَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَزِيرَةِ صِقِلِّيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْفَضْلُ بْنُ جَعْفَرٍ الْهَمْدَانِيُّ فِي الْبَحْرِ، فَنَزَلَ مَرْسَى مَسِينِي، وَبَثَّ السَّرَايَا، فَغَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيهِ أَهْلُ نَابُلَ، وَصَارُوا مَعَهُ، وَقَاتَلَ الْفَضْلُ مُدَّةَ سَنَتَيْنِ وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَخْذِهَا، فَمَضَى طَائِفَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَاسْتَدَارُوا خَلْفَ جَبَلٍ مُطِلٍّ عَلَى الْمَدِينَةِ، (فَصَعِدُوا إِلَيْهِ، وَنَزَلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ) وَأَهْلُ الْبَلَدِ مَشْغُولُونَ بِقِتَالِ جَعْفَرٍ وَمَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْبَلَدِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، انْهَزَمُوا، وَفَتَحَ الْبَلَدَ. وَفِيهَا فُتِحَتْ مَدِينَةُ مُسْكَانَ. وَفِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ خَرَجَ أَبُو الْأَغْلَبِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ فِي سَرِيَّةٍ، فَبَلَغَ شِرَّةَ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا (قِتَالًا شَدِيدًا) ، فَانْهَزَمَتِ الرُّومُ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، وَلَمْ يَكُنْ بِصِقِلِّيَّةَ قَبْلَهَا مِثْلُهَا. (وَفِي سَنَةِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ) وَمِائَتَيْنِ حَصَرَ الْفَضْلُ بْنُ جَعْفَرٍ مَدِينَةَ لَنْتِينِي فَأَخْبَرَ

الْفَضْلُ أَنَّ أَهْلَ لَنْتِينِي كَاتَبُوا الْبِطْرِيقَ الَّذِي بِصِقِلِّيَّةَ ; لِيَنْصُرَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْعَلَّامَةَ عِنْدَ وُصُولِي أَنْ تُوقَدَ النَّارُ ثَلَاثَ لَيَالٍ عَلَى الْجَبَلِ الْفُلَانِيِّ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَفِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَصِلُ إِلَيْكُمْ، فَنَجْتَمِعُ أَنَا وَأَنْتُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَغْتَةً. فَأَرْسَلَ الْفَضْلُ مَنْ أَوْقَدَ النَّارَ عَلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ لَنْتِينِي النَّارَ أَخَذُوا فِي أَمْرِهِمْ، وَأَعَدَّ الْفَضْلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعِدَّ بِهِ وَكَمَنَ الْكُمَنَاءُ، وَأَمَرَ الَّذِينَ يُحَاصِرُونَ الْمَدِينَةَ أَنْ يَنْهَزِمُوا إِلَى جِهَةِ الْكَمِينِ، فَإِذَا خَرَجَ أَهْلُهَا عَلَيْهِمْ قَاتَلُوهُمْ، فَإِذَا جَاوَزُوا الْكَمِينَ عَطَفُوا عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ خَرَجَ أَهْلُ لَنْتِينِي، وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ وُصُولَ الْبِطْرِيقِ، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، وَاسْتَجَرُّوا الرُّومَ حَتَّى جَاوَزُوا الْكَمِينَ، وَلَمْ يَبْقَ بِالْبَلَدِ أَحَدٌ إِلَّا خَرَجَ، فَلَمَّا جَاوَزُوا الْكَمِينَ عَادَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَخَرَجَ الْكَمِينُ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَوَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ، فَلَمْ يَنْجُ (مِنْهُمْ) إِلَّا الْقَلِيلُ، فَسَأَلُوا الْأَمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِيُسَلِّمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَجَابَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى ذَلِكَ وَأَمَّنُوهُمْ، فَسَلَّمُوا الْمَدِينَةَ. وَفِيهَا أَقَامَ الْمُسْلِمُونَ بِمَدِينَةِ طَارَنْتَ مِنْ أَرْضِ أَنْكَبَرْدَةَ وَسَكَنُوهَا. وَفِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَصَلَ عَشْرُ شَلَنْدِيَّاتٍ مِنَ الرُّومِ، فَأَرْسَوْا بِمَرْسَى الطِّينِ، وَخَرَجُوا لِيُغِيرُوا، فَضَلُّوا الطَّرِيقَ، فَرَجَعُوا خَائِبِينَ، وَرَكِبُوا الْبَحْرَ رَاجِعِينَ، فَغَرِقَ مِنْهَا سَبْعُ قِطَعٍ. وَفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ صَالَحَ أَهْلُ رَغُوسَ، وَسَلَّمُوا الْمَدِينَةَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَا فِيهَا، فَهَدَمَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ. وَفِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَارَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَدِينَةِ قَصْرُيَانَه، فَغَنِمُوا

وَسَلَبُوا وَأَحْرَقُوا وَقَتَّلُوا فِي أَهْلِهَا. وَكَانَ الْأَمِيرُ عَلَى صِقِلِّيَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَغْلَبِ، فَتُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَكَانَ مُقِيمًا بِمَدِينَةِ بَلَرْمَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ يُخْرِجُ الْجُيُوشَ وَالسَّرَايَا فَتَفْتَحُ، فَتَغْنَمُ، فَكَانَتْ إِمَارَتُهُ عَلَيْهَا تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ مُوسَى بْنِ مُوسَى وَالْحَارِثِ بْنِ يَزِيغَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حَرْبٌ بَيْنَ مُوسَى عَامِلِ تُطِيلَةَ وَبَيْنَ عَسْكَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمِيرِ الْأَنْدَلُسِ، وَالْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمُ الْحَارِثُ بْنُ يَزِيغَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُوسَى بْنَ مُوسَى كَانَ مِنْ أَعْيَانِ قُوَّادِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ الْعَامِلُ عَلَى مَدِينَةِ تُطِيلَةَ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُوَّادِ تَحَاسُدٌ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، فَعَصَى مُوسَى بْنُ مُوسَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمُ الْحَارِثَ بْنَ يَزِيغَ وَالْقُوَّادَ، فَاقْتَتَلُوا عِنْدَ بَرْجَةَ، فَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مُوسَى، وَقُتِلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ، وَعَادَ الْحَارِثُ إِلَى سَرَقُسْطَةَ، فَسَيَّرَ مُوسَى ابْنَهُ أَلْبَ بْنَ مُوسَى إِلَى بَرْجَةَ، فَعَادَ الْحَارِثُ إِلَيْهَا، وَحَصَرَهَا، فَمَلَكَهَا، وَقَتَلَ ابْنَ مُوسَى، وَتَقَدَّمَ إِلَى أَبِيهِ، فَطَلَبَهُ، فَحَضَرَ، فَصَالَحَهُ مُوسَى عَلَى أَنْ يَخْرُجَ عَنْهَا، فَانْتَقَلَ مُوسَى إِلَى أَرْنِيطَ. وَبَقِيَ الْحَارِثُ يَتَطَلَّبُهُ أَيَّامًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى أَرْنِيطَ، فَحَصَرَ مُوسَى بِهَا، فَأَرْسَلَ مُوسَى إِلَى غرسية، وَهُوَ مِنْ مُلُوكِ الْأَنْدَلُسِيِّينَ الْمُشْرِكِينَ، وَاتَّفَقَا عَلَى الْحَارِثِ، وَاجْتَمَعَا، وَجَعَلَا لَهُ كَمَايِنَ فِي طَرِيقِهِ، وَاتَّخَذَ لَهُ الْخَيْلَ وَالرِّجَالَ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: بِلَمْسَةُ عَلَى نَهْرٍ هُنَاكَ، فَلَمَّا جَاءَ الْحَارِثُ النَّهْرَ خَرَجَ الْكُمَنَاءُ عَلَيْهِ، وَأَحْدَقُوا بِهِ، وَجَرَى مَعَهُ قِتَالٌ شَدِيدٌ، وَكَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأَصَابَتْهُ ضَرْبَةٌ فِي وَجْهِهِ، فَلَقَتْ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ أُسِرَ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ.

فَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ خَبَرَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ عَظُمَ عَلَيْهِ، فَجَهَّزَ عَسْكَرًا كَبِيرًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ ابْنَهُ مُحَمَّدًا، وَسَيَّرَهُ إِلَى مُوسَى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتَقَدَّمَ مُحَمَّدٌ إِلَى بَنْبَلُونَةَ، فَأَوْقَعَ عِنْدَهَا بِجَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقُتِلَ فِيهَا غرسية وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. ثُمَّ عَادَ مُوسَى إِلَى الْخِلَافِ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَجَهَّزَ جَيْشًا كَبِيرًا وَسَيَّرَهُمْ إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ طَلَبَ الْمُسَالَمَةَ، فَأُجِيبَ إِلَيْهَا، وَأَعْطَى ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ رَهِينَةً، وَوَلَّاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَدِينَةَ تُطِيلَةَ، فَسَارَ مُوسَى إِلَيْهَا فَوَصَلَهَا، وَأَخْرَجَ كُلَّ مَنْ يَخَافُهُ، وَاسْتَقَرَّ فِيهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعْطَى الْوَاثِقُ أَشْنَاسَ تَاجًا وَوِشَاحَيْنِ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو تَمَّامٍ حَبِيبُ بْنُ أَوْسٍ الطَّائِيُّ الشَّاعِرُ. وَفِيهَا غَلَا السِّعْرُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَبَلَغَ الْخُبْزُ كُلَّ رِطْلٍ بِدِرْهَمٍ، وَرَاوِيَةُ الْمَاءِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَأَصَابَ النَّاسَ فِي الْمَوْقِفِ حَرٌّ شَدِيدٌ، ثُمَّ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فِيهِ بَرْدٌ، وَاشْتَدَّ الْبَرْدُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ ذَلِكَ (الْحَرِّ) وَسَقَطَتْ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَبَلِ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَقَتَلَتْ عِدَّةً مِنَ الْحُجَّاجِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ، [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ الزَّاهِدُ، وَكَانَ عُمْرُهُ إِحْدَى

وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ قَدْ أُضِرَّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْعُتْبِيُّ الْأُمَوِيُّ الْبَصْرِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَخْبَارِ وَالْآدَابِ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ دَاوُدُ الْأَشْقَرُ السِّمْسَارُ الْمُحَدِّثُ.

ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ] 229 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَبَسَ الْوَاثِقُ الْكُتَّابَ، وَأَلْزَمَهُمْ أَمْوَالًا عَظِيمَةً، وَأَخَذَ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْرَائِيلَ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ بَعْدَ أَنْ ضَرَبَهُ، وَمِنْ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ كَاتِبِ إِيتَاخَ أَرْبَعَ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ رَبَاحٍ وَكُتَّابِهِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنْ أَحْمَدَ بْنِ الْخَصِيبِ وَكُتَّابِهِ أَلْفَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمِنْ نَجَاحٍ سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمِنْ أَبِي الْوَزِيرِ مِائَةَ أَلْفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ; أَنَّهُ جَلَسَ لَيْلَةً مَعَ أَصْحَابِهِ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ نَكْبَةِ الْبَرَامِكَةِ، فَحَكَى لَهُ عُرُودُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ جَارِيَةً لِعَدُولٍ الْخَيَّاطِ أَرَادَ الرَّشِيدُ شِرَاءَهَا، (فَاشْتَرَاهَا) بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ أَنْ يُعْطِيَهُ (ذَلِكَ، فَقَالَ يَحْيَى: هَذَا مِفْتَاحُ سُوءٍ، إِذَا أَخَذَ ثَمَنَ جَارِيَةٍ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يَطْلُبَ الْمَالَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ) ، فَأَرْسَلَ يَحْيَى إِلَيْهِ: إِنَّنِي لَا أَقْدِرُ عَلَى هَذَا الْمَالِ، فَغَضِبَ الرَّشِيدُ، وَأَعَادَ: لَا بُدَّ مِنْهَا، فَأَرْسَلَ يَحْيَى قِيمَتَهَا دَرَاهِمَ، فَأَمَرَ أَنْ تُجْعَلَ عَلَى طَرِيقِ الرَّشِيدِ لِيَسْتَكْثِرَهَا،

فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَاجْتَازَ الرَّشِيدُ بِهَا، فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقِيلَ: هَذَا ثَمَنُ الْجَارِيَةِ، فَاسْتَكْثَرَهَا، فَأَمَرَ بِرَدِّ الْجَارِيَةِ، وَقَالَ لِخَادِمٍ لَهُ: اضْمُمْ إِلَيْكَ هَذَا الْمَالَ، وَاجْعَلْ لِي بَيْتَ مَالٍ لِأُضَمَّ إِلَيْهِ مَا أُرِيدُ، وَسَمَّاهُ " بَيْتُ مَالِ الْعَرُوسِ "، وَأَخَذَ فِي التَّفْتِيشِ عَنِ الْأَمْوَالِ، فَوَجَدَ الْبَرَامِكَةَ قَدْ فَرَّطُوا فِيهَا. وَكَانَ يَحْضُرُ عِنْدَهُ مَعَ سُمَّارِهِ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِأَبِي الْعَوْدِ لَهُ أَدَبٌ، فَأَمَرَ لَيْلَةً لَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَمَطَلَهُ بِهَا يَحْيَى، فَاحْتَالَ أَبُو الْعَوْدِ فِي تَحْرِيضِ الرَّشِيدِ عَلَى الْبَرَامِكَةِ، وَكَانَ قَدْ شَاعَ تَغَيُّرُ الرَّشِيدِ عَلَيْهِمْ، فَبَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً عِنْدَ الرَّشِيدِ يُحَدِّثُهُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ أَنْشَدَهُ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: وَعَدَتْ هِنْدٌ وَمَا كَانَتْ تَعِدْ لَيْتَ ... هِنْدًا أَنْجَزَتْنَا مَا تَعِدْ وَاسْتَبَدَّتْ مَرَّةً وَاحِدَةً ... إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ فَقَالَ الرَّشِيدُ: أَجَلْ إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدُّ. وَكَانَ يَحْيَى قَدِ اتَّخَذَ مِنْ خُدَّامِ الرَّشِيدِ خَادِمًا يَأْتِيهِ بِأَخْبَارِهِ، فَعَرَّفَهُ ذَلِكَ، فَأَحْضَرَ أَبَا الْعَوْدِ، وَأَعْطَاهُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَمِنْ عِنْدِهِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنَيْهِ الْفَضْلِ وَجَعْفَرٍ، فَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِشْرِينَ أَلْفًا، وَجَدَّ الرَّشِيدُ فِي أَمْرِهِمْ حَتَّى أَخَذَهُمْ، فَقَالَ الْوَاثِقُ: صَدَقَ وَاللَّهِ جِدِّي، إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدُّ، وَأَخَذَ فِي ذِكْرِ الْخِيَانَةِ وَمَا يَسْتَحِقُّ أَهْلُهَا، فَلَمْ يَمْضِ غَيْرُ أُسْبُوعٍ حَتَّى نَكَبَهُمْ. وَفِيهَا وَلِيَ شِيرُ بَاسْبَانَ لِإِيتَاخَ الْيَمَنَ، وَسَارَ إِلَيْهَا. وَفِيهَا تَوَلَّى مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْمَدِينَةَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزَّارُ الْمُقْرِئُ فِي جُمَادَى الْأُولَى. الْبَزَّارُ: بِالزَّاي الْمُعْجَمَةِ، وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ.

ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ] 230 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ مَسِيرِ بُغَا إِلَى الْأَعْرَابِ بِالْمَدِينَةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ الْوَاثِقُ بُغَا الْكَبِيرَ إِلَى الْأَعْرَابِ الَّذِينَ أَغَارُوا بِنَوَاحِي الْمَدِينَةِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَنِي سُلَيْمٍ كَانَتْ تُفْسِدُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ بِالشَّرِّ، وَيَأْخُذُونَ مَهْمَا أَرَادُوا مِنَ الْأَسْوَاقِ بِالْحِجَازِ بِأَيِّ سِعْرٍ أَرَادُوا، وَزَادَ الْأَمْرُ بِهِمْ إِلَى أَنْ وَقَعُوا بِنَاسٍ مَنْ بَنِي كِنَانَةَ وَبَاهِلَةَ، فَأَصَابُوهُمْ، وَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ فِي جُمَادَى الْآخِرَةَ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَوَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ عَامِلَ الْمَدِينَةِ إِلَيْهِمْ حَمَّادَ بْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ، وَكَانَ مَسْلَحَةً لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَأَضَافَ إِلَيْهِمْ جُنْدًا غَيْرَهُمْ، وَتَبِعَهُمْ مُتَطَوِّعَةٌ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ حَمَّادٌ، فَلَقِيَهُمْ بِالرُّوَيْثَةِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَتْ سُودَانُ الْمَدِينَةِ بِالنَّاسِ، وَثَبَتَ حَمَّادٌ وَأَصْحَابُهُ، وَقُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ، وَأَخَذَ بَنُو سُلَيْمٍ الْكُرَاعَ، وَالسِّلَاحَ، وَالثِّيَابَ، فَطَمِعُوا، وَنَهَبُوا الْقُرَى وَالْمَنَاهِلَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَانْقَطَعَ الطَّرِيقُ. فَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْوَاثِقُ بُغَا الْكَبِيرَ أَبَا مُوسَى فِي جَمْعٍ مِنَ الْجُنْدِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي شَعْبَانَ، فَلَقِيَهُمْ بِبَعْضِ مِيَاهِ الْحَرَّةِ مِنْ وَرَاءِ السَّوَارِقِيَّةِ قَرْيَتِهِمُ الَّتِي يَأْوُونَ إِلَيْهَا، وَبِهَا حُصُونٌ، فَقَتَلَ بُغَا مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ رَجُلًا، وَأَسَرَ مِثْلَهُمْ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، أَقَامَ بُغَا بِالسَّوَارِقِيَّةِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْأَمَانِ عَلَى حُكْمِ الْوَاثِقِ، فَأَتَوْهُ مُتَفَرِّقِينَ، فَجَمَّعَهُمْ، وَتَرَكَ مَنْ يُعْرَفُ بِالْفَسَادِ، وَهُمْ زُهَاءَ أَلْفِ رَجُلٍ، وَخَلَّى سَبِيلَ الْبَاقِينَ، وَعَادَ بِالْأَسْرَى إِلَى الْمَدِينَةِ فِي

ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثِينَ، فَحَبَسَهُمْ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ. فَلَمَّا قَضَى حَجَّهُ سَارَ إِلَى ذَاتِ عِرْقٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمَوْسِمِ، عَرَضَ عَلَى بَنِي هِلَالٍ مِثْلَ الَّذِي عَرَضَ عَلَى بَنِي سُلَيْمٍ، فَأَقْبَلُوا، وَأَخَذَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ نَحَوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَطْلَقَ الْبَاقِينَ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَحَبَسَهُمْ. ذِكْرُ وَفَاةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ بِنَيْسَابُورَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَمِيرُ خُرَاسَانَ، وَكَانَ إِلَيْهِ الْحَرْبُ، وَالشُّرْطَةُ، وَالسَّوَادُ، وَالرَّيُّ، وَطَبَرِسْتَانُ، وَكَرْمَانُ، وَخُرَاسَانُ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، وَكَانَ خَرَاجُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، يَوْمَ مَاتَ، ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَذَلِكَ عُمْرُ وَالِدِهِ طَاهِرٍ. وَاسْتَعْمَلَ الْوَاثِقُ عَلَى أَعْمَالِهِ كُلِّهَا ابْنَهُ طَاهِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ. ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ سِيرَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ لَمَّا وَلِيَ عَبْدُ اللَّهِ خُرَاسَانَ اسْتَنَابَ بِنَيْسَابُورَ مُحَمَّدَ بْنَ حُمَيْدٍ الطَّاهِرِيَّ، فَبَنَى دَارًا، وَخَرَجَ بِحَائِطِهَا فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا قَدِمَهَا عَبْدُ اللَّهِ جَمَعَ النَّاسَ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ سِيرَةِ مُحَمَّدٍ، فَسَكَتُوا، فَقَالَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: سُكُوتُهُمْ يَدُلُّ عَلَى سُوءِ سِيرَتِهِ، فَعَزَلَهُ عَنْهُمْ، وَأَمَرَهُ بِهَدْمِ مَا بَنَى فِي الطَّرِيقِ. وَكَانَ يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُبْذَلَ الْعِلْمُ لِأَهْلِهِ وَغَيْرِ أَهْلِهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ أَمْنَعُ لِنَفْسِهِ مِنْ أَنْ يَصِيرَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ. وَكَانَ يَقُولُ: سِمَنُ الْكَيِّسِ، وَنُبْلُ الذِّكْرِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا.

وَكَانَ لَهُ جُلَسَاءُ مِنْهُمُ الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، فَاسْتَحْضَرَهُمْ يَوْمًا، فَحَضَرُوا، وَتَأَخَّرَ الْفَضْلُ، ثُمَّ حَضَرَ، فَقَالَ لَهُ: أَبْطَأْتَ عَنِّي، فَقَالَ: كَانَ عِنْدِي أَصْحَابُ حَوَائِجَ، وَأَرَدْتُ دُخُولَ الْحَمَّامِ، (فَأَمَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بِدُخُولِ حَمَّامِهِ) ، وَأَحْضَرَ عَبْدُ اللَّهِ الرِّقَاعَ الَّتِي فِي حَقِّهِ، فَوَقَّعَ فِيهَا كُلِّهَا بِالْإِجَابَةِ، وَأَعَادَهَا، وَلَمْ يَعْلَمِ الْفَضْلُ. وَخَرَجَ مِنَ الْحَمَّامِ، وَاشْتَغَلُوا يَوْمَهُمْ، وَبَكَّرَ أَصْحَابُ الرِّقَاعِ إِلَيْهِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُرِيدُ رُقْعَتِي، فَأَخْرَجَهَا وَنَظَرَ فِيهَا، فَرَأَى خَطَّ عَبْدِ اللَّهِ فِيهَا، فَنَظَرَ فِي الْجَمِيعِ، فَرَأَى خَطَّهُ فِيهَا، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: خُذُوا رِقَاعَكُمْ، فَقَدْ قُضِيَتْ حَاجَاتُكُمْ، وَاشْكُرُوا الْأَمِيرَ دُونِي، فَمَا كَانَ لِي فِيهَا سَبَبٌ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَدِيبًا شَاعِرًا، فَمِنْ شِعْرِهِ: اسْمُ مَنْ أَهْوَاهُ اسْمٌ حَسَنٌ ... فَإِذَا صَحَّفْتَهُ فَهُوَ حَسَنْ فَإِذَا أَسْقَطْتَ مِنْهُ فَاءَهُ ، كَانَ نَعْتًا لِهَوَاهُ الْمُخْتَزَنْ ... فَإِذَا أَسْقَطْتَ مِنْهُ يَاءَهُ ، صَارَ فِيهِ بَعْضُ أَسْبَابِ الْفِتَنْ فَإِذَا أَسْقَطْتَ مِنْهُ رَاءَهُ ، صَارَ شَيْئًا يَعْتَرِي عِنْدَ الْوَسَنْ ... فَإِذَا أَسْقَطْتَ مِنْهُ طَاءَهُ ، صَارَ مِنْهُ عَيْشُ سُكَّانِ الْمُدُنْ فَسِّرُوا هَذَا فَلَنْ يَعْرِفَهُ ، غَيْرُ مَنْ يَسْبَحُ فِي بَحْرِ الْفِطَنْ ... وَهَذَا الِاسْمُ هُوَ اسْمُ طَرِيفٍ غُلَامِهِ. وَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ بَذْلًا لِلْمَالِ مَعَ عِلْمٍ، وَمَعْرِفَةٍ، وَتَجْرِبَةٍ. وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ فِي مَرَاثِيهِ، فَمِنْ أَحْسَنْ مَا قِيلَ فِيهِ، وَفِي وِلَايَةِ، أَبِيهِ طَاهِرٍ، قَوْلُ أَبِي الْغَمْرِ الطَّبَرَيِّ:

فَأَيَّامُكَ الْأَعْيَادُ صَارَتْ مَآتِمًا ... وَسَاعَاتُكَ الصَّعِبَاتُ صَارَتْ خَوَاشِعَا عَلَى أَنَّنَا لَمْ نَعْتَقِدْكَ بِطَاهِرٍ ... وَإِنْ كَانَ خَطْبًا يُقْلِقُ الْقَلْبَ رَاتِعَا وَمَا كُنْتَ إِلَّا الشَّمْسَ غَابَتْ وَأَطْلَعَتْ ... عَلَى إِثْرِهَا بَدْرًا عَلَى النَّاسِ طَالِعًا (وَمَا كُنْتَ إِلَّا الطَّوْدَ زَالَ مَكَانُهُ ... وَأَثْبَتَ فِي مَثْوَاهُ رُكْنًا مُدَافِعًا فَلَوْلَا التُّقَى قُلْنَا تَنَاسَخْتُمَا مَعًا ... بَدِيعَيْ مَعَانٍ يَفْضُلَانِ الْبَدَائِعَا وَهِيَ طَوِيلَةٌ) . ذِكْرُ خُرُوجِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْمَجُوسُ مِنْ أَقَاصِي بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ فِي الْبَحْرِ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ظُهُورُهُمْ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، عِنْدَ أَشْبُونَةَ، فَأَقَامُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا وَقَائِعُ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى قَادِسَ، ثُمَّ إِلَى شَدُونَةَ، فَكَانَ بَيْنَهُمُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا وَقَائِعُ. ثُمَّ سَارُوا إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ ثَامِنَ الْمُحَرَّمِ، فَنَزَلُوا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ فَرْسَخًا مِنْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالْتَقَوْا، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ ثَانِيَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. ثُمَّ نَزَلُوا عَلَى مِيلَيْنِ مِنْ إِشْبِيلِيَّةَ، فَخَرَجَ أَهْلُهَا إِلَيْهِمْ، وَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ رَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ فِيهِمْ، وَلَمْ تَرْفَعِ الْمَجُوسُ السَّيْفَ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا عَنْ دَابَّةٍ، وَدَخَلُوا حَاجِزَ إِشْبِيلِيَّةَ وَأَقَامُوا بِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةَ، وَعَادُوا إِلَى مَرَاكِبِهِمْ. وَأَقَامَ عَسْكَرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، صَاحِبِ الْبِلَادِ، مَعَ عِدَّةٍ مِنَ الْقُوَّادِ، فَتَبَادَرَ إِلَيْهِمُ الْمَجُوسُ، فَثَبَتَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَاتَلُوهُمْ، فَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ سَبْعُونَ رَجُلًا وَانْهَزَمُوا، حَتَّى

دَخَلُوا مَرَاكِبَهُمْ، وَأَحْجَمَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ، فَسَمِعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَسَيَّرَ جَيْشًا آخَرَ غَيْرَهُمْ، فَقَاتَلُوا الْمَجُوسَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَرَجَعَ الْمَجُوسُ عَنْهُمْ، فَتَبِعَهُمُ الْعَسْكَرُ ثَانِيَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقَاتَلُوهُمْ، وَأَتَاهُمُ الْمَدَدُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَنَهَضُوا لِقِتَالِ الْمَجُوسِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْمَجُوسُ وَقَاتَلُوهُمْ، فَكَادَ الْمُسْلِمُونَ يَنْهَزِمُونَ، ثُمَّ ثَبَتُوا، فَتَرَجَّلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَانْهَزَمَ الْمَجُوسُ، وَقُتِلَ نَحْوُ خَمْسِ مِائَةِ رَجُلٍ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ مَرَاكِبَ، فَأَخَذُوا مَا فِيهَا، وَأَحْرَقُوهَا، وَبَقُوا أَيَّامًا لَا يَصِلُونَ إِلَى الْمَجُوسِ، لِأَنَّهُمْ فِي مَرَاكِبِهِمْ. ثُمَّ خَرَجَ الْمَجُوسُ إِلَى لَبْلَةَ، فَأَصَابُوا سَبْيًا، ثُمَّ نَزَلَ الْمَجُوسُ إِلَى جَزِيرَةٍ قُرَيبَ قُورِيسَ، فَنَزَلُوهَا، وَقَسَّمُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَحَمِيَ الْمُسْلِمُونَ، وَدَخَلُوا إِلَيْهِمْ فِي النَّهْرِ، فَقَتَلُوا مِنَ الْمَجُوسِ رَجُلَيْنِ، ثُمَّ رَحَلَ الْمَجُوسُ فَطَرَقُوا شَدُونَةَ فَغَنِمُوا طُعْمَةً وَسَبْيًا، وَأَقَامُوا يَوْمَيْنِ. ثُمَّ وَصَلَتْ مَرَاكِبُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ، إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهَا الْمَجُوسُ لَحِقُوا بِلَبْلَةَ، فَأَغَارُوا، وَسَبَوْا، ثُمَّ لَحِقُوا بِأُكْشُونِيَّةَ، ثُمَّ مَضَوْا إِلَى بَاجَةَ، ثُمَّ انْتَقَلُوا إِلَى مَدِينَةِ أَشْبُونَةَ، ثُمَّ سَارُوا، فَانْقَطَعَ خَبَرُهُمْ عَنِ الْبِلَادِ، فَسَكَنَ النَّاسُ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مُؤَرِّخِي الْعَرَبِ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ خُرُوجَ الْمَجُوسِ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ أَيْضًا، وَهِيَ شَبِيهَةٌ بِهَذِهِ، ثُمَّ فَلَا أَعْلَمُهُ أَهْيَ هَذِهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِهَا، أَمْ هِيَ غَيْرُهَا، وَمَا أَقْرَبَ أَنْ تَكُونَ هِيَ إِيَّاهَا، وَقَدْ ذَكَرْتُهَا هُنَاكَ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَيْئًا فِي الْأُخْرَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مَنِيعٍ (أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) ، كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ، صَاحِبِ " الطَّبَقَاتِ ".

وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزْدَادَ بْنِ سُوِيدٍ الْمَرْوَزِيُّ، كَاتِبُ الْمَأْمُونِ، وَعَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَبُو الْحَسَنِ الْجَوْهَرِيُّ، وَكَانَ عُمْرُهُ سِتًّا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ، وَكَانَ يَتَشَيَّعُ. وَفِيهَا مَاتَ أَشْنَاسُ التُّرْكِيُّ، بَعْدَ مَوْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ بِتِسْعَةِ أَيَّامٍ. [مِنَ الْحَوَادِثِ] وَحَجَّ هَذِهِ السَّنَةَ إِسْحَاقُ بْنُ مُصْعَبٍ، وَإِلَيْهِ أَحْدَاثُ الْمَوَاسِمِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ] 231 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ بُغَا بِالْأَعْرَابِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مَنْ كَانَ فِي حَبْسِ بُغَا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَبَنِي هِلَالٍ. (وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بُغَا لَمَّا حَبَسَ مَنْ أَخَذَهُ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَبَنِي هِلَالٍ) بِالْمَدِينَةِ، وَهُمْ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ، وَكَانَ سَارَ عَنِ الْمَدِينَةِ إِلَى بَنِي مُرَّةَ، فَنَقَبَتِ الْأَسْرَى الْحَبْسَ لِيَخْرُجُوا، فَرَأَتِ امْرَأَةٌ النَّقْبَ، فَصَرَخَتْ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَجَاؤُوا، فَوَجَدُوهُمْ قَدْ قَتَلُوا الْمُتَوَكِّلِينَ، وَأَخَذُوا سِلَاحَهُمْ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ (وَمَنَعُوهُمُ الْخُرُوجَ، وَبَاتُوا حَوْلَ الدَّارِ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَتَلَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) ، وَقَتَلَ سُودَانُ الْمَدِينَةِ كُلَّ مَنْ لَقُوهُ بِهَا مِنَ الْأَعْرَابِ مِمَّنْ يُرِيدُ الْمِيرَةَ، فَلَمَّا قَدِمَ بُغَا وَعَلِمَ بِقَتْلِهِمْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ إِنَّ السَّجَّانَ كَانَ قَدِ ارْتَشَى مِنْهُمْ لِيَفْتَحَ لَهُمُ الْبَابَ، فَعَجَّلُوا قَبْلَ مِيعَادِهِ، وَكَانُوا يَرْتَجِزُونَ: الْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْفَتَى مِنَ الْعَارْ ... قَدْ أَخَذَ الْبَوَّابُ أَلْفَ دِينَارْ وَكَانَ سَبَبُ غَيْبَةِ بُغَا عَنْهُمْ أَنَّ فَزَارَةَ وَمُرَّةَ تَغَلَّبُوا عَلَى فَدَكَ، فَلَمَّا قَارَبَهُمْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ قُوَّادِهِ يَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الْأَمَانَ، وَيَأْتِيهِ بِأَخْبَارِهِمْ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ الْفَزَارِيُّ حَذَّرَهُمْ سَطْوَتَهُ، فَهَرَبُوا، وَخَلُّوا فَدَكَ، وَقَصَدُوا الشَّامَ. (وَأَقَامَ بُغَا بِجَنَفَا، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ حَدِّ عَمَلِ الشَّامِ) مِمَّا يَلِي الْحِجَازَ، نَحْوًا

مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِمَنْ ظَفِرَ [بِهِ] مِنْ بَنِي مُرَّةَ وَفَزَارَةَ. وَفِيهَا سَارَ إِلَى بُغَا مِنْ بُطُونِ غَطَفَانَ، وَفَزَارَةَ، وَأَشْجَعَ، وَثَعْلَبَةَ، جَمَاعَةٌ، وَكَانَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَتَوْهُ اسْتَحْلَفَهُمُ الْأَيْمَانَ الْمُؤَكَّدَةَ أَنْ لَا يَتَخَلَّفُوا عَنْهُ مَتَى دَعَاهُمْ، فَحَلَفُوا، ثُمَّ سَارَ إِلَى ضَرِيَّةَ لِطَلَبِ بَنِي كِلَابٍ، فَأَتَاهُ مِنْهُمْ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ رَجُلٍ، فَحَبَسَ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ نَحْوًا مِنْ أَلْفِ رَجُلٍ، وَخَلَّى سَائِرَهُمْ، ثُمَّ قَدِمَ بِهِمُ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَحَبَسَهُمْ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ، فَحَجَّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. ذِكْرُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ الْخُزَاعِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَحَرَّكَ بِبَغْدَاذَ قَوْمٌ مَعَ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيِّ، وَجَدُّهُ مَالِكٌ أَحَدُ نُقَبَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ الْحَرَكَةِ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ كَانَ يَغْشَاهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ كَابْنِ مَعِينٍ، وَابْنِ الدَّوْرَقِيِّ، وَأَبِي زُهَيْرٍ، وَكَانَ يُخَالِفُ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، وَيُطْلِقُ لِسَانَهُ فِيهِ، مَعَ غِلْظَةٍ بِالْوَاثِقِ، وَكَانَ يَقُولُ، إِذَا ذَكَرَ الْوَاثِقُ: فَعَلَ هَذَا الْخِنْزِيرُ، وَقَالَ هَذَا الْكَافِرُ، وَفَشَا ذَلِكَ، فَكَانَ يَغْشَاهُ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِأَبِي هَارُونَ الشَّدَّاخِ، وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ: طَالِبٌ، وَغَيْرُهُمَا، وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَيْهِ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفَرَّقَ أَبُو هَارُونَ وَطَالِبٌ فِي النَّاسِ مَالًا فَأَعْطَيَا كُلَّ رَجُلٍ دِينَارًا، وَاتَّعَدُوا لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ خَلَتْ مِنْ شَعْبَانَ لِيَضْرِبُوا بِالطَّبْلِ فِيهَا، وَيَثُورُوا عَلَى السُّلْطَانِ. وَكَانَ أَحَدُهُمَا فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ وَالْآخَرُ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَاتَّفَقَ أَنَّ مِمَّنْ بَايَعَهُمْ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي الْأَشْرَسِ شَرِبَا نَبِيذًا لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ، قَبْلَ الْمَوْعِدِ بِلَيْلَةٍ، فَلَمَّا أُخِذَ مِنْهُمْ ضَرَبُوا الطَّبْلَ فَلَمْ يُجِبْهُمْ أَحَدٌ. وَكَانَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ غَائِبًا عَنْ بَغْدَادَ، وَخَلِيفَتَهُ أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ

إِبْرَاهِيمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ يَسْأَلُهُمْ عَنْ قِصَّتِهِمْ، فَلَمْ يَظْهَرْ أَحَدٌ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ يَكُونُ فِي الْحَمَّامِ مُصَابِ الْعَيْنِ، يُعْرَفُ بِعِيسَى الْأَعْوَرِ، فَأَحْضَرَهُ وَقَرَّرَهُ، فَأَقَرَّ عَلَى بَنِي الْأَشْرَسِ، وَعَلَى أَحْمَدِ بْنِ نَصْرٍ، وَغَيْرِهِمَا؛ فَأَخَذَ بَعْضَ مَنْ سُمِّيَ، وَفِيهِمْ طَالِبٌ، وَأَبُو هَارُونَ، وَرَأَى فِي مَنْزِلِ بَنِي الْأَشْرَسِ عَلَمَيْنِ أَخْضَرَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ خَادِمًا لِأَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ، فَقَرَّرَهُ، فَأَقَرَّ بِمِثْلِ مَا قَالَ عِيسَى، فَأَرْسَلَ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ، فَأَخَذَهُ وَهُوَ فِي الْحَمَّامِ، وَحُمِلَ إِلَيْهِ، وَفَتَّشَ بَيْتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ سِلَاحًا، وَلَا شَيْءَ مِنَ الْآلَاتِ، فَسَيَّرَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى الْوَاثِقِ مُقَيَّدِينَ عَلَى أَكُفِّ بِغَالٍ لَيْسَ تَحْتَهُمْ وِطَاءٌ إِلَى سَامَرَّا. فَلَمَّا عَلِمَ الْوَاثِقُ بِوُصُولِهِمْ جَلَسَ لَهُمْ مَجْلِسًا عَامًّا فِيهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادَ، وَكَانَ كَارِهًا لِقَتْلِ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ، فَلَمَّا حَضَرَ أَحْمَدُ عِنْدَ الْوَاثِقِ، لَمْ يَذْكُرْ لَهُ شَيْئًا مِنْ فِعْلِهِ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ لَهُ: مَا تَقَولُ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: كَلَامُ اللَّهِ، وَكَانَ أَحْمَدُ قَدِ اسْتَقْتَلَ، فَتَطَيَّبَ، وَتَنَوَّرَ، وَقَالَ الْوَاثِقُ: أَمَخْلُوقٌ هُوَ؟ قَالَ: كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ: فَمَا تَقَولُ فِي رَبِّكَ أَتَرَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَدْ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ، قَالَ: لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ» ، فَنَحْنُ عَلَى الْخَبَرِ، وَحَدَّثَنِي سُفْيَانُ بِحَدِيثٍ رَفَعَهُ: «أَنَّ قَلْبَ ابْنِ آدَمَ (الْمُؤْمِنِ) بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَانِ، يُقَلِّبُهُ» . وَكَانَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَدْعُو: " «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكِ» ". قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: انْظُرْ مَا يَقُولُ. قَالَ: أَنْتَ أَمَرْتَنِي بِذَلِكَ، فَخَافَ إِسْحَاقُ،

وَقَالَ أَنَا أَمَرْتُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَرَتَنِي أَنْ أَنْصَحَ لَهُ، وَنَصِيحَتِي لَهُ أَنْ لَا يُخَالِفَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الْوَاثِقُ لِمَنْ حَوْلُهُ: مَا تَقُولُونَ فِيهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، وَكَانَ قَاضِيًا عَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ: وَعِزِّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ حَلَالُ الدَّمِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ ابْنِ أَبِي دُؤَادَ: (اسْقِنِي دَمَهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادَ) : هُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ لَعَلَّ بِهِ عَاهَةً وَنَقْصَ عَقْلٍ، كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُقْتَلَ بِسَبَبِهِ، فَقَالَ الْوَاثِقُ: إِذَا رَأَيْتُمُونِي قَدْ قُمْتُ إِلَيْهِ فَلَا يَقُومَنَّ أَحَدٌ، فَإِنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ إِلَيْهِ، وَدَعَا بِالصَّمْصَامَةِ سَيْفِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الزُّبَيْدِيِّ، وَمَشَى إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي وَسَطِ الدَّارِ عَلَى نِطْعٍ، فَضَرَبَهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ أُخْرَى عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ سِيمَا الدِّمَشْقِيُّ رَقَبَتَهُ، وَحَزَّ رَأْسَهُ، وَطَعَنَهُ الْوَاثِقُ بِطَرَفِ الصَّمْصَامَةِ فِي بَطْنِهِ، وَحُمِلَ حَتَّى صُلِبَ عِنْدَ بَابَكَ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى بَغْدَادَ، فَنُصِبَ بِهَا، وَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَرَسُ، وَكُتِبَ فِي أُذُنِهِ رُقْعَةٌ: هَذَا رَأْسُ الْكَافِرِ، الْمُشْرِكِ، الضَّالِّ، أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ. وَتَتَبَّعَ أَصْحَابَهُ، فَجُعِلُوا فِي الْحُبُوسِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرَادَ الْوَاثِقُ الْحَجَّ، فَوَجَّهَ عُمَرَ بْنَ فَرَجٍ لِإِصْلَاحِ الطَّرِيقِ، فَرَجَعَ وَأَخْبَرَهُ بِقِلَّةِ الْمَاءِ، فَبَدَا لَهُ. وَفِيهَا وَلِيَ جَعْفَرُ بْنُ دِينَارٍ الْيَمَنَ، فَسَارَ فِي شَعْبَانَ، وَحَجَّ فِي طَرِيقِهِ، وَكَانَ مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ فَارِسٍ وَأَلْفُ رَاجِلٍ. وَفِيهَا نَقَبَ اللُّصُوصُ بَيْتَ الْمَالِ الَّذِي فِي دَارِ الْعَامَّةِ، وَأَخَذُوا اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ

دِرْهَمٍ وَشَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الدَّنَانِيرِ، ثُمَّ تُتُبِّعُوا وَأُخِذُوا بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِيهَا خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَارِجِيُّ الثَّعْلَبِيُّ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا فِي دِيَارِ رَبِيعَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ غَانِمُ بْنُ أَبِي مُسْلِمِ بْنِ حُمَيْدٍ الطُّوسِيُّ، وَكَانَ عَلَى حَرْبِ الْمَوْصِلِ، فِي مِثْلِ عُدَّتِهِ، فَقَتَلَ مِنَ الْخَوَارِجِ أَرْبَعَةً، وَأَخَذَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَسِيرًا، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى سَامَرَّا فَحُبِسَ. وَفِيهَا قَدِمَ وَصِيفٌ التُّرْكِيُّ مِنْ نَاحِيَةِ أَصْبَهَانَ، وَالْجِبَالِ، وَفَارِسَ، وَكَانَ قَدْ سَارَ فِي طَلَبِ الْأَكْرَادِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَفْسَدُوا بِهَذِهِ النَّوَاحِي، وَقَدِمَ مَعَهُ بِنَحْوٍ مِنْ خَمْسِ مِائَةِ نَفْسٍ فِيهِمْ غِلْمَانٌ صِغَارٌ، فَحُبِسُوا، وَأُجِيزَ وَصَيْفٌ بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَقُلِّدَ سَيْفًا. (وَفِيهَا سَارَ جَيْشٌ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَصَدُوا جِلِّيقِيَّةَ، وَقَتَلُوا، وَأَسَرُوا، وَسَبَوْا، وَغَنِمُوا، وَوَصَلُوا إِلَى مَدِينَةِ لِيُونَ، فَحَصَرُوهَا، وَرَمَوْهَا بِالْمَجَانِيقِ، فَخَافَ أَهْلُهَا، فَتَرَكُوهَا بِمَا فِيهَا، وَخَرَجُوا هَارِبِينَ، فَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مَا أَرَادُوا، وَخَرَّبُوا الْبَاقِي، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى هَدْمِ سُورِهَا، فَتَرَكُوهَا وَمَضَوْا، لِأَنَّ عَرْضَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، وَقَدْ ثَلِمُوا فِيهِ ثُلَمًا كَثِيرَةً) . وَفِيهَا كَانَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ، وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيهَا عَلَى نَهْرِ اللَّامِسِ، عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ مِنْ طَرَسُوسَ، وَاشْتَرَى الْوَاثِقُ مَنْ بِبَغْدَاذَ وَغَيْرِهَا مِنَ الرُّومِ. وَعَقَدَ الْوَاثِقُ لِأَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الْبَاهِلِيِّ عَلَى الثُّغُورِ وَالْعَوَاصِمِ، وَأَمَرَهُ بِحُضُورِ الْفِدَاءِ هُوَ وَخَاقَانُ الْخَادِمُ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَمْتَحِنَا أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ

قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ، فُودِيَ بِهِ، وَأُعْطِيَ دِينَارًا، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ تُرِكَ فِي أَيْدِي الرُّومِ. فَلَمَّا كَانَ فِي عَاشُورَاءَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأَسْرَى عَلَى النَّهْرِ، وَأَتَتِ الرُّومُ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأَسْرَى، وَكَانَ النَّهْرُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُطْلِقُونَ الْأَسِيرَ، فَيُطْلِقُ الرُّومُ الْأَسِيرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَلْتَقِيَانِ فِي وَسَطِ النَّهْرِ، وَيَأْتِي هَذَا أَصْحَابَهُ، فَإِذَا وَصَلَ الْأَسِيرُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ كَبَّرُوا، وَإِذَا وَصَلَ الْأَسِيرُ إِلَى الرُّومِ صَاحُوا، حَتَّى فَرَغُوا. وَكَانَ عِدَّةُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَأَرْبَعَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ نَفْسًا، وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ثَمَانِيَ مِائَةٍ، وَأَهْلِ ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِائَةَ نَفْسٍ. وَكَانَ النَّهْرُ مَخَاضَةً تَعْبُرُهُ الْأَسْرَى، وَقِيلَ بَلْ كَانَ عَلَيْهِ جِسْرٌ. وَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الْفِدَاءِ غَزَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ سَلْمٍ الْبَاهِلِيُّ شَاتِيًا، فَأَصَابَ النَّاسَ ثَلْجٌ وَمَطَرٌ، فَمَاتَ مِنْهُمْ مِائَتَا نَفْسٍ، وَأُسِرَ نَحْوُهُمْ، وَغَرِقَ بالبدندونِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَوَجَدَ الْوَاثِقُ عَلَى أَحْمَدَ، وَكَانَ قَدْ جَاءَ إِلَى أَحْمَدَ بِطَرِيقٌ مِنَ الرُّومِ، فَقَالَ وُجُوهُ النَّاسِ لِأَحْمَدَ: إِنَّ عَسْكَرًا فِيهِ سَبْعَةُ آلَافٍ لَا تَتَخَوَّفُ عَلَيْهِ، فَإِنْ (كُنْتَ كَذَلِكَ فَوَاجِهِ الْقَوْمَ وَاطْرُقْ بِلَادَهُمْ، فَفَعَلَ، وَغَنِمَ نَحْوًا مِنْ أَلْفِ بَقَرَةٍ وَعَشَرَةِ آلَافِ شَاةٍ وَخَرَجَ، فَعَزَلَهُ الْوَاثِقُ، وَاسْتَعْمَلَ مَكَانَهُ نَصْرَ بْنَ حَمْزَةَ الْخُزَاعِيَّ فِي جُمَادَى الْأُولَى. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بِطَبَرِسْتَانَ.

[بَقِيَّةُ الْحَوَادِثِ] وَفِيهَا كَانَ بِإِفْرِيقِيَّةَ حَرْبٌ بَيْنَ أَحْمَدَ بْنِ الْأَغْلَبِ وَأَخِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَغْلَبِ، وَكَانَ مَعَ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ، فَهَجَمُوا عَلَى مُحَمَّدٍ فِي قَصْرِهِ، وَأَغْلَقَ أَصْحَابُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَغْلَبِ [الْبَابَ] ، وَاقْتَتَلُوا، ثُمَّ كَفُّوا عَنِ الْقِتَالِ، وَاصْطَلَحُوا، وَعَظُمَ أَمْرُ أَحْمَدَ، وَنَقَلَ الدَّوَاوِينَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِمُحَمَّدٍ مِنِ الْإِمَارَةِ إِلَّا اسْمُهَا، وَمَعْنَاهَا لِأَحْمَدَ أَخِيهِ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَاتَّفَقَ مَعَ مُحَمَّدٍ مِنْ بَنِي عَمِّهِ وَمَوَالِيهِ جَمَاعَةٌ، وَقَاتَلَ أَخَاهُ أَحْمَدَ، فَظَفِرَ بِهِ، وَنَفَاهُ إِلَى الشَّرْقِ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُ مُحَمَّدٍ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَمَاتَ أَخُوهُ أَحْمَدُ بِالْعِرَاقِ) . [بَقِيَّةُ الْوَفَيَاتِ] (وَفِيهَا مَاتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ الرَّاوِيَةِ فِي شَعْبَانَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً) . وَفِيهَا مَاتَتْ أُمُّ أَبِيهَا بِنْتُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، أُخْتُ عَلِيِّ بْنِ الرِّضَا، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِيهَا مَاتَ مُخَارِقٌ الْمُغَنِّي، وَأَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ حَاتِمٍ رَاوِيَةُ الْأَصْمَعِيِّ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدَانَ النَّحْوِيُّ الضَّرِيرُ، تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرْعَرَةَ، وَعَاصِمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ (عَاصِمِ) بْنِ صُهَيْبٍ الْوَاسِطِيُّ،

وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْجُمَحِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَخْبَارِ وَأَيَّامِ النَّاسِ. سَلَّامُ: بِالتَّشْدِيدِ. وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُقَدَّمٍ أَبُو بِشْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، وَأَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ يَحْيَى الْبُوَيْطِيُّ الْفَقِيهُ، صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ قَدْ حُبِسَ فِي مِحْنَةِ النَّاسِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَلَمْ يُجِبْ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَهَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ الْبَغْدَادِيُّ، وَكَانَ حَافِظًا لِلْحَدِيثِ.

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ] 232 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ الْحَرْبِ مَعَ بَنِي نُمَيْرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ بُغَا الْكَبِيرُ إِلَى بَنِي نُمَيْرٍ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عِمَارَةَ بْنَ عَقِيلِ بْنِ بِلَالِ بْنِ جَرِيرٍ الْخَطَفَى امْتَدَحَ الْوَاثِقَ بِقَصِيدَةٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، وَأَنْشَدَهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَأَخْبَرَ الْوَاثِقَ بِإِفْسَادِ بَنِي نُمَيْرٍ فِي الْأَرْضِ، وَإِغَارَتِهِمْ عَلَى الْيَمَامَةِ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا، وَكَتَبَ الْوَاثِقُ إِلَى بُغَا يَأْمُرُهُ بِحَرْبِهِمْ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ، فَسَارَ نَحْوَ الْيَمَامَةِ، فَلَقِيَ مِنْ بَنِي نُمَيْرٍ جَمَاعَةً بِالرِّيفِ فَحَارَبَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ رَجُلًا، (وَأَسَرَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا) . ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ مَرْأَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْتَنَعُوا، وَسَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَحْوِ جِبَالِ السَّوْدِ، وَهِيَ خَلْفَ الْيَمَامَةِ، وَبَثَّ بُغَا سَرَايَاهُ فِيهِمْ، فَأَصَابَتْ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَارَ بِجَمَاعَةٍ مِمَنْ مَعَهُ، وَهُمْ نَحْوَ أَلْفِ رَجُلٍ، سِوَى مَنْ تَخَلَّفَ فِي الْعَسْكَرِ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَالْأَتْبَاعِ، فَلَقِيَهُمْ وَقَدْ جَمَعُوا لَهُمْ وَهُمْ نَحْوَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: رَوْضَةُ الْأَمَانِ، عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنْ أُضَاخَ، فَهَزَمُوا مُقَدِّمَتَهُ، وَكَشَفُوا مَيْسَرَتَهُ، وَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوَ مِائَةِ رَجُلٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا، وَعَقَرُوا مِنْ إِبِلِ عَسْكَرِهِ نَحْوَ سَبْعِ مِائَةِ بَعِيرٍ، وَمِائَةِ دَابَّةٍ، وَانْتَهَبُوا الْأَثْقَالَ، وَبَعْضَ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ، وَجَعَلَ بُغَا يَدْعُوهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ.

فَلَمَّا طَلَعَ الصُّبْحُ وَرَأَوْا قِلَّةَ مَنْ مَعَ بُغَا عَبَّأُوا، وَجَعَلُوا رَجَّالَتَهُمْ أَمَامَهُمْ، وَنَعَمَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ وَرَاءَهُمْ، وَحَمَلُوا عَلَى بُغَا، فَهَزَمُوهُ، حَتَّى بَلَغَ مُعَسْكَرَهُ، وَأَيْقَنَ مَنْ مَعَهُ بِالْهَلَكَةِ. وَكَانَ بُغَا قَدْ أَرْسَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مِائَتَيْ فَارِسٍ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَبَيْنَا هُوَ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْعَطَبِ، إِذْ وَصَلَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهِ مُنْصَرِفِينَ مِنْ وُجُوهِهِمْ، فَلَمَّا نَظَرَ بَنُو نُمَيْرٍ وَرَأَوْهُمْ قَدْ أَقْبَلُوا مِنْ خَلْفِهِمْ وَلَّوْا هَارِبِينَ، وَأَسْلَمُوا رَجَّالَتَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنَ الرَّجَّالَةِ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَأَمَّا الْفُرْسَانُ فَنَجَوْا عَلَى خَيْلِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْهَزِيمَةَ كَانَتْ عَلَى بُغَا مُذْ غَدْوَةٍ إِلَى انْتِصَافِ النَّهَارِ، ثُمَّ تَشَاغَلُوا بِالنَّهْبِ، فَرَجَعَ إِلَى بُغَا مَنْ كَانَ انْهَزَمَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَرَجَعَ بِهِمْ، فَهَزَمَ بَنِي نُمَيْرٍ، وَقَتَلَ فِيهِمْ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ زُهَاءَ أَلْفٍ وَخَمْسِ مِائَةِ رَاجِلٍ، وَأَقَامَ بِمَوْضِعِ الْوَاقِعَةِ، فَأَرْسَلَ أُمَرَاءُ الْعَرَبِ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ، فَأَتَوْهُ، فَقَيَّدَهُمْ، وَأَخَذَهُمْ مَعَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَكَانَتِ الْوَاقِعَةُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. ثُمَّ قَدِمَ وَاجِنُ الْأُشْرُوسَنِيُّ عَلَى بُغَا فِي سَبْعِ مِائَةِ مُقَاتِلٍ، مَدَدًا لَهُ، فَسَيَّرَهُ بُغَا فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى بَلَغَ تَبَالَةَ مِنْ أَعْمَالِ الْيَمَنِ، وَرَجَعَ. وَكَانَ بُغَا قَدْ كَتَبَ إِلَى صَالِحٍ أَمِيرِ الْمَدِينَةِ لِيُوَافِيَهُ بِبَغْدَاذَ (بِمَنْ عِنْدَهُ مِنْ فَزَارَةَ، وَمُرَّةَ، وَثَعْلَبَةَ، وَكِلَابَ، فَفَعَلَ، فَلَقِيَهُ بِبَغْدَاذَ) ، فَسَارَا جَمِيعًا، وَقَدِمَ بُغَا سَامَرَّا بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْهُمْ، سِوَى مَنْ هَرَبَ وَمَاتَ وَقُتِلَ فِي الْحُرُوبِ، فَكَانُوا يَزِيدُونَ عَلَى أَلْفَيْ رَجُلٍ مِنْ نُمَيْرٍ، وَكِلَابَ، وَمُرَّةَ، وَفَزَارَةَ، وَثَعْلَبَةَ، وَطَيِّءٍ. ذِكْرُ مَوْتِ أَبِي جَعْفَرِ الْوَاثِقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْوَاثِقُ بِاللَّهِ أَبُو جَعْفَرٍ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمُ فِي ذِي الْحِجَّةِ

لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْهُ، وَكَانَتْ عِلَّتُهُ الِاسْتِسْقَاءَ، وَعُولِجَ بِالْإِقْعَادِ فِي تَنُّورٍ مُسَخَّنٍ، فَوَجَدَ لِذَلِكَ خِفَّةً، فَأَمَرَهُمْ مِنَ الْغَدِ بِالزِّيَادَةِ فِي إِسْخَانِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَقَعَدَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، فَحَمِيَ عَلَيْهِ، فَأُخْرِجَ مِنْهُ فِي مِحَفَّةٍ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الزَّيَّاتُ، وَعُمَرُ بْنُ فَرَجٍ، فَمَاتَ فِيهَا، فَلَمْ يَشْعُرُوا بِمَوْتِهِ، حَتَّى ضَرَبَ بِوَجْهِهِ الْمِحَفَّةَ، فَعَلِمُوا. وَقِيلَ: إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادَ حَضَرَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَغَمَّضَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، جَعَلَ يُرَدِّدُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ: الْمَوْتُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ مُشْتَرِكُ ... لَا سُوقَةٌ مِنْهُمْ تَبْقَى وَلَا مَلِكٌ مَا ضَرَّ أَهْلَ قَلِيلٍ فِي تَفَاقُرِهِمْ ... وَلَيْسَ يُغْنِي عَنِ الْأَمْلَاكِ مَا مَلَكُوا وَأَمَرَ بِالْبُسُطِ فَطُوِيَتْ، وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالْأَرْضِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا مَنْ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ، ارْحَمْ مَنْ زَالَ مُلْكُهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْواثِقِيُّ: كُنْتُ فِيمَنْ يُمَرِّضُ الْوَاثِقَ، فَلِحِقَهُ غَشْيَةٌ، وَأَنَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ قِيَامٌ، فَقُلْنَا: لَوْ عَرَفْنَا خَبَرَهُ، فَتَقَدَّمْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا صِرْتُ عِنْدَ رَأْسِهِ فَتَحَ عَيْنَيْهِ، فَكِدْتُ أَمُوتُ مِنَ الْخَوْفِ، فَرَجَعْتُ إِلَى الْخَلْفِ، وَتَعَلَّقَتْ قُنْبَعَةُ سَيْفِي فِي عَتَبَةِ الْمَجْلِسِ، فَانْدَقَّتْ، وَسَلِمْتُ مِنْ جِرَاحِهِ، وَوَقَفْتُ فِي مَوْقِفِي. ثُمَّ إِنَّ الْوَاثِقَ مَاتَ، وَسَجَّيْنَاهُ، وَجَاءَ الْفَرَّاشُونَ وَأَخَذُوا مَا تَحْتَهُ فِي الْمَجْلِسِ،

وَرَفَعُوهُ; لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمْ، وَاشْتَغَلُوا بِأَخْذِ الْبَيْعَةِ، وَجَلَسْتُ عَلَى بَابِ الْمَجْلِسِ; لِحِفْظِ الْمَيِّتِ وَرَدَدْتُ الْبَابَ، فَسَمِعْتُ حِسًّا، فَفَتَحْتُ الْبَابَ، وَإِذَا جُرَذٌ قَدْ دَخَلَ مِنْ بُسْتَانٍ هُنَاكَ، فَأَكَلَ إِحْدَى عَيْنَيِ الْوَاثِقِ، فَقُلْتُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، هَذِهِ الْعَيْنُ الَّتِي فَتَحَتْهَا مِنْ سَاعَةً، فَانْدَقَّ سَيْفِي هَيْبَةً لَهَا صَارَتْ طُعْمَةً لِدَابَّةٍ ضَعِيفَةٍ. وَجَاؤُوا فَغَسَّلُوهُ، فَسَأَلَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادَ عَنْ عَيْنِهِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالْقِصَّةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فَعَجِبَ مِنْهَا. وَلَمَّا مَاتَ صَلَّى عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَأَنْزَلَهُ فِي قَبْرِهِ، وَقِيلَ صَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ الْمُتَوَكِّلُ، وَدُفِنَ بِالْهَارُونِيِّ بِطَرِيقِ مَكَّةَ. (وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ) ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا قَرَاطِيسُ. وَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ أَحْضَرَ الْمُنَجِّمِينَ مِنْهُمُ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ، فَنَظَرُوا فِي مَوْلِدِهِ، فَقَدَّرُوا لَهُ أَنْ يَعِيشَ خَمْسِينَ سَنَةً، مُسْتَأْنَفَةً مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَلَمْ يَعِشْ بَعْدَ قَوْلِهِمْ إِلَّا عَشْرَةَ أَيَّامٍ وَمَاتَ. وَكَانَ أَبْيَضَ، مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ، جَمِيلًا، رَبْعَةً، حَسَنَ الْجِسْمِ، قَائِمَ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، فِيهَا نُكْتَةُ بَيَاضٍ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ خَمْسَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، (وَقِيلَ: سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً) . ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَةِ الْوَاثِقِ بِاللَّهِ لَمَّا تُوُفِّيَ الْمُعْتَصِمُ، وَجَلَسَ الْوَاثِقُ فِي الْخِلَافَةِ أَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ، وَاشْتَمَلَ عَلَى الْعَلَوِيِّينَ، وَبَالَغَ فِي إِكْرَامِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَالتَّعَهُّدِ لَهُمْ بِالْأَمْوَالِ، وَفَرَّقَ فِي أَهْلِ

الْحَرَمَيْنِ أَمْوَالًا لَا تُحْصَى، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي أَيَّامِهِ بِالْحَرَمَيْنِ سَائِلٌ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ الْوَاثِقُ كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ تَخْرُجُ مِنْ نِسَائِهِمْ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَبْكِينَ عَلَيْهِ، وَيَنْدُبْنَهُ، فَفَعَلُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ مُنَاوَبَةً; حُزْنًا عَلَيْهِ، لِمَا كَانَ يُكْثِرُ مِنِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَأَطْلَقَ فِي خِلَافَتِهِ أَعْشَارَ سُفُنِ الْبَحْرِ، وَكَانَ مَالًا عَظِيمًا. قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الضَّحَّاكِ: شَهِدْتُ الْوَاثِقَ بَعْدَ أَنْ مَاتَ الْمُعْتَصِمُ بِأَيَّامٍ، أَوَّلَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ، فَغَنَّتْهُ جَارِيَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ. مَا دَرَى الْحَامِلُونَ، يَوْمَ اسْتَقَلُّوا ... نَعْشَهُ، لِلثَّوَاءِ أَمْ لِلْبَقَاءِ فَلْيَقُلْ فِيكَ بَاكِيَاتُكَ مَا شِئْنَ ، صَبَاحًا، وَعِنْدَ كُلِّ مَسَاءِ فَبَكَى، وَبَكَيْنَا مَعَهُ حَتَّى شَغَلَنَا الْبُكَاءُ عَنْ جَمِيعِ مَا كُنَّا فِيهِ، قَالَ: ثُمَّ تَغَنَّى بَعْضُهُمْ فَقَالَ: وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ ، وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعًا أَيُّهَا الرَّجُلُ فَازْدَادَ الْوَاثِقُ بُكَاءً، وَقَالَ: مَا سَمِعْتُ كَالْيَوْمِ تَعْزِيَةً بِأَبٍ نَعِيَ نَفْسٍ، ثُمَّ تَفَرَّقَ أَهْلُ الْمَجْلِسِ. قَالَ: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْوَاثِقِ: أَبَتْ دَارُ الْأَحِبَّةِ أَنْ تُبِينَا ... أَجَدَّكَ مَا رَأَيْتَ لَهَا مُعِينَا تَقَطَّعُ حَسْرَةً مِنْ حُبِّ لَيْلَى ... نُفُوسٌ مَا أُثِبْنَ وَلَا جُزِينَا فَصَنَعَتْ فِيهِ عَلَمُ جَارِيَةُ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، فَغَنَّاهُ زَرْزَرُ الْكَبِيرُ لِلْوَاثِقِ، فَسَأَلَهُ:

لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: لِعَلَمَ، فَأَحْضَرَ صَالِحًا وَطَلَبَ مِنْهُ شِرَاءَهَا، فَأَهْدَاهَا لَهُ، فَعَوَّضَهُ خَمْسَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَمَطَلَهُ بِهَا ابْنُ الزَّيَّاتِ، فَأَعَادَتِ الصَّوْتَ، فَقَالَ الْوَاثِقُ: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكِ، وَعَلَى مَنْ رَبَّاكِ! فَقَالَتْ: وَمَا يَنْفَعُ مَنْ رَبَّانِي؟ أَمَرْتَ لَهُ بِشَيْءٍ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ! فَكَتَبَ إِلَى ابْنِ الزَّيَّاتِ يَأْمُرُهُ بِإِيصَالِ الْمَالِ إِلَيْهِ، وَأَضْعَفَهُ لَهُ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَتَرَكَ صَالِحٌ عَمَلَ السُّلْطَانِ، وَاتَّجَرَ فِي الْمَالِ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ النَّحْوِيُّ: اسْتَحْضَرَنِي الْوَاثِقُ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَلَمَّا حَضَرْتُ عِنْدَهُ قَالَ: مَنْ خَلَّفْتَ بِالْبَصْرَةِ؟ قُلْتُ: أُخْتًا لِي صَغِيرَةً. قَالَ: فَمَا قَالَتِ الْمِسْكِينَةُ؟ قُلْتُ: مَا قَالَتِ ابْنَةُ الْأَعْشَى: تَقُولُ ابْنَتِي، حِينَ جَدَّ الرَّحِيلُ : أَرَانَا سَوَاءً وَمَنْ قَدْ يَتِمْ ... فَيَا أَبَتَا لَا تَزَلْ عِنْدَنَا فَإِنَّا نَخَافُ بِأَنْ تُخْتَرَمْ ... أَرَانَا إِذَا أَضَمْرَتْكَ الْبِلَادُ نُجْفَى وَتُقْطَعُ مِنَّا الرَّحِمْ قَالَ: فَمَا رَدَدْتَ عَلَيْهَا؟ قُلْتُ: مَا قَالَ جَرِيرٌ لِابْنَتِهِ: ثِقِي بِاللَّهِ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ ... وَمِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ بِالنَّجَاحِ فَضَحِكَ، وَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُتَوَكِّلِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ جَعْفَرُ بْنُ الْمُعْتَصِمِ، بَعْدَ مَوْتِ الْوَاثِقِ. (وَسَبَبُ خِلَافَتِهِ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْوَاثِقُ حَضَرَ الدَّارَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادَ، وَإِيتَاخُ، وَوَصِيفٌ، وَعُمَرُ بْنُ فَرَجٍ، وَابْنُ الزَّيَّاتِ، وَأَبُو الْوَزِيرِ أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، وَعَزَمُوا عَلَى الْبَيْعَةِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْوَاثِقِ) ، وَهُوَ غُلَامٌ أَمرَدُ، قَصِيرٌ، فَأَلْبَسُوهُ دُرَّاعَةً سَوْدَاءَ وَقَلَنْسُوَةَ، فَإِذَا هُوَ قَصِيرٌ، فَقَالَ وَصِيفٌ: أَمَا تَتَّقُونَ اللَّهَ؟ تُوَلُّونَ هَذَا الْخِلَافَةَ! فَتَنَاظَرُوا فِيمَنْ تُوَلُّونَهُ. فَذَكَرُوا عِدَّةً ثُمَّ أُحْضِرَ الْمُتَوَكِّلُ، فَلَمَّا حَضَرَ أَلْبَسَهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادَ الطَّوِيلَةَ، وَعَمَّمَهُ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ،

وَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ! ثُمَّ غُسِّلَ الْوَاثِقُ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ. وَكَانَ عُمْرُ الْمُتَوَكِّلِ، يَوْمَ بُويِعَ، سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَوَضَعَ الْعَطَاءَ لِلْجُنْدِ لِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، وَأَرَادَ ابْنُ الزَّيَّاتِ [أَنْ] يُلَقِّبَهُ الْمُنْتَصِرُ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادَ: قَدْ رَأَيْتُ لَقَبًا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا، وَهُوَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ، فَأَمَرَ بِإِمْضَائِهِ، فَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ. وَقِيلَ: بَلْ رَأَى الْمُتَوَكِّلُ فِي مَنَامِهِ، قَبْلَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ، كَأَنَّ سُكَّرًا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ، فَقَصَّهَا [عَلَى] أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا: هِيَ وَاللَّهِ الْخِلَافَةُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْوَاثِقَ، فَحَبَسَهُ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَصَابَ الْحُجَّاجَ فِي الْعَوْدِ عَطَشٌ عَظِيمٌ، فَبَلَغَتِ الشَّرْبَةُ عِدَّةَ دَنَانِيرَ، وَمَاتَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (وَفِيهَا غَدَرَ مُوسَى بِالْأَنْدَلُسِ، وَخَالَفَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ أَمِيرِ الْأَنْدَلُسِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ وَافَقَهُ، وَأَطَاعَهُ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ جَيْشًا مَعَ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ. وَفِيهَا كَانَ بِالْأَنْدَلُسِ مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ، وَقَحْطٌ عَظِيمٌ، وَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، فَهَلَكَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَالدَّوَابِّ، وَيَبِسَتِ الْأَشْجَارُ، وَلَمْ يَزْرَعِ النَّاسُ شَيْئًا، فَخَرَجَ النَّاسُ هَذِهِ السَّنَةَ يَسْتَسْقُونَ، فَسُقُوا، وَزَرَعُوا، وَزَالَ عَنِ النَّاسِ الْقَحْطُ) . وَفِيهَا وَلِيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ بِلَادَ فَارِسٍ.

(وَفِيهَا غَرِقَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَوْصِلِ [وَهَلَكَ] فِيهَا خَلْقٌ، قِيلَ: كَانُوا نَحْوَ مِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَطَرَ جَاءَ بِهَا عَظِيمًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، بِحَيْثُ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِهَا جَعَلَ سَطْلًا عُمْقُهُ ذِرَاعٌ فِي سِعَةِ ذِرَاعٍ، فَامْتَلَأَ ثَلَاثَ دُفُعَاتٍ فِي نَحْوِ سَاعَةٍ، وَزَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً، فَرَكِبَ الْمَاءَ الرَّبَضَ الْأَسْفَلَ، وَشَاطِئَ نَهْرِ سُوقِ الْأَرْبِعَاءَ، فَدَخَلَ كَثِيرًا مِنَ الْأَسْوَاقِ، فَقِيلَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمَوْصِلِ، وَهُوَ غَانِمُ بْنُ حُمَيْدٍ الطُّوسِيُّ، كَفَّنَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَبَقِيَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَمْ يَحْمِلُوا سِوَى مَنْ حَمَلَهُ الْمَاءُ) . (وَفِيهَا أَمَرَ الْوَاثِقُ بِتَرْكِ أَعْشَارِ سُفُنِ الْبَحْرِ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ الدِّمَشْقِيُّ، مُصَنِّفُ الصَّوَايِفَ وَغَيْرِهَا، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْأَثْرَمُ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ، أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَالْأَصْمَعِيِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَمْرُو النَّاقُّ.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ] 233 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الزَّيَّاتِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الزَّيَّاتِ، وَحَبَسَهُ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ صَفَرَ. وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ الْوَاثِقَ اسْتَوْزَرَ (مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَفَوَّضَ الْأُمُورَ كُلَّهَا إِلَيْهِ) وَكَانَ الْوَاثِقُ قَدْ غَضِبَ عَلَى أَخِيهِ جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ، وَوَكَّلَ عَلَيْهِ مَنْ يَحْفَظُهُ وَيَأْتِيهِ بِأَخْبَارِهِ، فَأَتَى الْمُتَوَكِّلُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يَسْأَلُهُ أَنْ يُكَلِّمَ الْوَاثِقَ لِيَرْضَى عَنْهُ، فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ لَا يُكَلِّمُهُ، ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْقُعُودِ فَقَعَدَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ الْتَفَتَ إِلَيْهِ كَالْمُتَهَدِّدِ، وَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ أَسْأَلُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الرِّضَى عَنِّي، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: انْظُرُوا، يُغْضِبُ أَخَاهُ ثُمَّ يَسْأَلُنِي أَنْ أَسْتَرْضِيَهُ لَهُ! اذْهَبْ، فَإِذَا صَلَحْتَ; رَضِيَ عَنْكَ. فَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ حَزِينًا، فَأَتَى أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادَ، فَقَامَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ، وَاسْتَقْبَلَهُ عَلَى بَابِ الْبَيْتِ (وَقَبَّلَهُ) ، وَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟ جُعِلْتُ فِدَاكَ! قَالَ: جِئْتُ لِتَسْتَرْضِيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِي، قَالَ: أَفْعَلُ، وَنِعْمَةُ عَيْنٍ وَكَرَامَةٍ! فَكَلَّمَ أَحْمَدُ الْوَاثِقَ بِهِ، فَوَعَدَهُ وَلَمْ يَرْضَ عَنْهُ، (ثُمَّ كَلَّمَهُ فِيهِ ثَانِيَةً فَرْضِي عَنْهُ) وَكَسَاهُ. وَلَمَّا خَرَجَ الْمُتَوَكِّلُ مِنْ عِنْدِ ابْنِ الزَّيَّاتِ كَتَبَ إِلَى الْوَاثِقِ: إِنَّ جَعْفَرًا أَتَانِي فِي زِيِّ

الْمُخَنَّثِينَ، لَهُ شَعْرُ قَفَا، يَسْأَلُنِي أَنْ أَسْأَلَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الرِّضَى عَنْهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَاثِقُ: ابْعَثْ إِلَيْهِ، فَأَحْضِرْهُ، وَمُرْ مَنْ يَجُزُّ شَعْرَ قَفَاهُ، فَيَضْرِبُ بِهِ وَجْهَهُ. قَالَ الْمُتَوَكِّلُ: لَمَّا أَتَانِي رَسُولُهُ لَبِسْتُ سَوَادًا جَدِيدًا، وَأَتَيْتُهُ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَاهُ الرِّضَى عَنِّي، فَاسْتَدْعَى حَجَّامًا، فَأَخَذَ شَعْرِي عَلَى السَّوَادِ الْجَدِيدِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ وَجْهِي، فَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ الْمُتَوَكِّلُ أُمْهِلَ حَتَّى كَانَ صَفَرُ، فَأَمَرَ إِيتَاخَ بِأَخْذِ ابْنِ الزَّيَّاتِ وَتَعْذِيبِهِ، فَاسْتُحْضِرَ، فَرَكِبَ يَظُنُّ أَنَّ الْخَلِيفَةَ يَسْتَدْعِيهِ، فَلَمَّا حَاذَى مَنْزِلَ إِيتَاخَ عَدَلَ بِهِ إِلَيْهِ، فَخَافَ، فَأَدْخَلَهُ حُجْرَةً، وَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَنَازِلِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ هَجَمَ عَلَيْهَا، وَأَخَذَ كُلَّ مَا فِيهَا، وَاسْتَصْفَى أَمْوَالَهُ وَأَمْلَاكَهُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ. وَكَانَ شَدِيدَ الْجَزَعِ، كَثِيرَ الْبُكَاءِ وَالْفِكْرِ، ثُمَّ سُوهِرَ، (وَكَانَ يُنْخَسُ بِمِسَلَّةٍ لِئَلَّا يَنَامَ، ثُمَّ تُرِكَ فَنَامَ يَوْمًا وَلَيْلَةً) ، ثُمَّ جُعِلَ فِي تَنُّورٍ عَمِلَهُ هُوَ، وَعَذَّبَ بِهِ ابْنَ أَسْبَاطٍ الْمِصْرِيِّ، وَأَخَذَ مَالَهُ، فَكَانَ مِنْ خَشَبٍ فِيهِ مَسَامِيرُ مِنْ حَدِيدٍ أَطْرَافُهَا إِلَى دَاخِلِ التَّنُّورِ، وَتَمْنَعُ مَنْ يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْحَرَكَةِ، وَكَانَ ضَيِّقًا بِحَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ كَانَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى فَوْقِ رَأْسِهِ; لِيَقْدِرَ عَلَى دُخُولِهِ لِضِيقِهِ، وَلَا يَقْدِرُ مَنْ يَكُونُ فِيهِ يَجْلِسُ، فَبَقِيَ أَيَّامًا، فَمَاتَ. (وَكَانَ حَبْسُهُ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ صَفَرَ، وَمَوْتُهُ) إِحْدَى عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ مَوْتِهِ، فَقِيلَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقِيلَ: بَلْ ضُرِبَ فَمَاتَ وَهُوَ يُضْرَبُ، وَقِيلَ مَاتَ بِغَيْرِ ضَرْبٍ، وَهُوَ أَصَحُّ. فَلَمَّا مَاتَ حَضَرَهُ ابْنَاهُ سُلَيْمَانُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَكَانَا مَحْبُوسَيْنِ، وَطُرِحَ عَلَى الْبَابِ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي حُبِسَ فِيهِ، فَقَالَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرَاحَ مِنْ هَذَا الْفَاسِقِ! وَغَسَّلَاهُ عَلَى الْبَابِ، وَدَفَنَاهُ، فَقِيلَ إِنَّ الْكِلَابَ نَبَشَتْهُ وَأَكَلَتْ لَحْمَهُ.

قَالَ: وَسُمِعَ قَبْلَ مَوْتِهِ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: يَا مُحَمَّدُ لَمْ تُقْنِعْكَ النِّعْمَةُ، وَالدَّوَابُّ، وَالدَّارُ النَّظِيفَةُ، وَالْكُسْوَةُ الْفَاخِرَةُ، وَأَنْتَ فِي عَافِيَةٍ، حَتَّى طَلَبْتَ الْوِزَارَةَ، ذُقْ مَا عَمِلْتَ بِنَفْسِكَ، ثُمَّ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى التَّشَهُّدِ، وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَانَ ابْنُ الزَّيَّاتِ صَدِيقًا لِإِبْرَاهِيمَ الصُّولِيِّ، فَلَمَّا وَلِيَ الْوِزَارَةَ، صَادَرَهُ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسِ مِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ الصُّولِيُّ: وَكُنْتَ أَخِي بِرَخَاءِ الزَّمَانِ ... فَلَمَّا نَبَا صِرْتَ حَرْبًا عَوَانَا وَكُنْتُ أَذُمُّ إِلَيْكَ الزَّمَانَ ... فَأَصْبَحْتُ مِنْكَ أَذُمُّ الزَّمَانَا وَكُنْتُ أُعِدُّكَ لِلنَّائِبَاتِ ... فَهَا أَنَا أَطْلُبُ مِنْكَ الْأَمَانَا وَقَالَ أَيْضًا: أَصْبَحْتُ مِنْ رَأْيِ أَبِي جَعْفَرٍ ... فِي هَيْئَةٍ تُنْذِرُ بِالصَّيْلَمِ مِنْ غَيْرِ مَا ذَنْبٍ، وَلَكِنَّهَا ... عَدَاوَةُ الزِّنْدِيقِ لِلْمُسْلِمِ ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حُبِسَ عُمَرُ بْنُ الْفَرَجِ الرُّخَّجِيُّ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ أَتَاهُ لَمَّا كَانَ أَخُوهُ الْوَاثِقُ سَاخِطًا عَلَيْهِ، وَمَعَهُ صَكٌّ لِيَخْتِمَهُ عُمَرُ لَهُ لِيَقْبِضَ أَرْزَاقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَلَقِيَهُ عُمَرُ بِالْخَيْبَةِ، وَأَخَذَ صَكَّهُ، فَرَمَى بِهِ إِلَى صَحْنِ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ حَبْسُهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأُخِذَ مَالُهُ، وَأَثَاثُ بَيْتِهِ، وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ صُولِحَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفٍ، عَلَى أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ مَا حِيزَ مِنْ ضِيَاعِ الْأَهْوَازِ (حَسْبُ) ، فَكَانَ قَدْ أُلْبِسَ فِي حَبْسِهِ جُبَّةَ صُوفٍ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ يَهْجُوهُ: جَمَعْتَ أَمْرَيْنِ ضَاعَ الْحَزْمُ بَيْنَهُمَا : تِيهَ الْمُلُوكِ وَأَفْعَالَ الصَّعَالِيكِ ... أَرَدْتَ شُكْرًا بِلَا بِرٍّ وَمَرْزِئَةٍ لَقَدْ سَلَكْتَ سَبِيلًا غَيْرَ مَسْلُوكِ

وَفِيهَا غَضِبَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْجُنَيْدِ النَّصْرَانِيِّ كَاتِبِ سَمَّانَه، وَضَرَبَهُ، وَأَخَذَ مَالَهُ. وَغَضِبَ أَيْضًا عَلَى أَبِي الْوَزِيرِ، وَأَخَذَ مَالَهُ وَمَالَ أَخِيهِ وَكَاتِبِهِ. وَفِيهَا أَيْضًا عُزِلَ الْفَضْلُ بْنُ مَرْوَانَ عَنْ دِيوَانِ الْخَرَاجِ، وَوَلَّاهُ يَحْيَى بْنُ خَاقَانَ الْخُرَاسَانِيُّ مَوْلَى الْأَزْدِ. وَوَلَّى إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْعَبَّاسَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صُولٍ دِيوَانَ زِمَامِ النَّفَقَاتِ. وَفِيهَا وَلَّى الْمُتَوَكِّلُ ابْنَهُ الْمُنْتَصِرَ الْحَرَمَيْنِ وَالْيَمَنَ وَالطَّائِفَ فِي رَمَضَانَ. وَفِيهَا فُلِجَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَفِيهَا وَثَبَ مِيخَائِيلُ بْنُ تَوْفِيلَ بِأُمِّهِ تَدُورَةَ، فَأَلْزَمَهَا الدَّيْرَ، وَقَتَلَ اللَّقْطَ لِأَنَّهُ كَانَ اتَّهَمَهَا بِهِ. فَكَانَ مَلَكَهَا سِتَّ سِنِينَ. (وَفِيهَا عَزَلَ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَغْلَبِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ أَمِيرُ إِفْرِيقِيَّةَ عَامِلُهُ عَلَى الزَّابِّ، وَاسْمُهُ سَالِمُ بْنُ غَلْبُونَ، فَأَقْبَلَ يُرِيدُ الْقَيْرَوَانَ، فَلَمَّا صَارَ بِقَلْعَةِ يلْبسيرَ أَضْمَرَ الْخِلَافَ وَسَارَ إِلَى الْأُرْبُسِ، فَمَنَعَهُ أَهْلُهَا مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهَا، فَسَارَ إِلَى بَاجَةَ، فَدَخَلَهَا، وَاحْتَمَى بِهَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ ابْنُ الْأَغْلَبِ جَيْشًا عَلَيْهِمْ خَفَاجَةُ بْنُ سُفْيَانَ، فَنَزَلَ

عَلَيْهِ وَقَاتَلَهُ، فَهَرَبَ سَالِمٌ لَيْلًا، فَاتَّبَعَهُ خَفَاجَةُ، فَلَحِقَهُ، وَقَتَلَهُ، وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى ابْنِ الْأَغْلَبِ، وَكَانَ ابْنُ سَالِمٍ عِنْدَ ابْنِ الْأَغْلَبَ مَحْبُوسًا فَقَتَلَهُ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ الْبَغْدَاديُّ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَهُوَ صَاحِبُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ سَمَّاعَةَ الْقَاضِي، صَاحِبُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَقَدْ بَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ وَهُوَ صَحِيحُ الْحَوَاسِّ.

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ] 234 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ هَرَبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْبُعَيْثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَرَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْبُعَيْثِ بْنِ الْجُلَيْسِ، وَكَانَ سَبَبُ هَرَبِهِ أَنَّهُ جِيءَ بِهِ أَسِيرًا مِنْ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى سَامَرَّا، وَكَانَ رَجُلٌ يَخْدِمُهُ يُسَمَّى خَلِيفَةَ، وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ مَرِيضًا، فَأَخْبَرَ خَلِيفَةُ ابْنَ الْبُعَيْثِ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ مَاتَ، وَلَمْ يَكُنْ مَاتَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِطْمَاعَ ابْنِ الْبُعَيْثِ فِي الْهَرَبِ، فَوَافَقَهُ عَلَى الْهَرَبِ، وَأَعَدَّ لَهُ دَوَابَّ، فَهَرَبَا إِلَى مَوْضِعِهِ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ، وَهُوَ مَرَنْدَ. وَقِيلَ: كَانَ لَهُ قَلْعَةُ شَاهِي، وَقَلْعَةُ يَكْدُرَ. وَقِيلَ: إِنَّ ابْنَ الْبُعَيْثِ كَانَ فِي حَبْسِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، فَتَكَلَّمَ فِيهِ بُغَا الشَّرَابِيُّ، فَأُخِذَ مِنْهُ الْكُفَلَاءُ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ كَفِيلًا: مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مَزِيدٍ الشَّيْبَانِيُّ، فَكَانَ يَتَرَدَّدُ بِسَامَرَّا، فَهَرَبَ إِلَى مَرَنْدَ، وَجَمَعَ بِهَا الطَّعَامَ، وَهِيَ مَدِينَةٌ حَصِينَةٌ، وَفِيهَا عُيُونُ مَاءٍ، وَلَهَا بَسَاتِينُ كَثِيرَةٌ دَاخِلَ الْبَلَدِ. وَأَتَاهُ مَنْ أَرَادَ الْفِتْنَةَ مِنْ رَبِيعَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَصَارَ فِي نَحْوٍ مِنْ أَلْفَيْنِ وَمِائَتَيْ رَجُلٍ، وَكَانَ الْوَالِي بِأَذْرَبِيجَانَ مُحَمَّدَ بْنَ حَاتِمِ بْنِ هَرْثَمَةَ، فَقَصَّرَ فِي طَلَبِهِ، فَوَلَّى الْمُتَوَكِّلُ حَمْدَوَيْهِ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْفَضْلِ السَّعْدِيَّ أَذْرَبِيجَانَ، وَسَيَّرَهُ عَلَى الْبَرِيدِ، وَجَمَعَ النَّاسَ، وَسَارَ إِلَى ابْنِ الْبُعَيْثِ، فَحَصَرَهُ فِي مَرَنْدَ، فَلَمَّا طَالَتْ مُدَّةُ الْحِصَارِ بَعَثَ الْمُتَوَكِّلُ زَيْرَكَ التُّرْكِيَّ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمُتَوَكِّلُ عُمَرَ بْنَ سَيْسِيلَ بْنِ

كَالَ فِي تِسْعِ مِائَةِ فَارِسٍ، فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا فَوَجَّهَ بُغَا الشَّرَابِيَّ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ. وَكَانَ حَمْدَوَيْهِ، وَابْنُ سَيْسِيلَ، وَزَيْرَكُ قَدْ قَطَعُوا مِنَ الشَّجَرِ الَّذِي حَوْلَ مَرَنْدَ نَحْوَ مِائَةِ أَلْفِ شَجَرَةٍ، وَنَصَبُوا عَلَيْهَا عِشْرِينَ مَنْجَنِيقًا، وَنَصَبَ ابْنُ الْبُعَيْثِ عَلَيْهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الدُّنُوِّ مِنْ سُورِ الْمَدِينَةِ، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُتَوَكِّلِ فِي حَرْبِهِ، فِي ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ نَحْوُ مِائَةِ رَجُلٍ، وَجُرِحَ نَحْوُ أَرْبَعِ مِائَةٍ، وَأَصَابَ أَصْحَابُهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَكَانَ حَمْدَوَيْهِ، وَعُمْرُ وَزَيْرَكُ، يُغَادُونَهُ الْقِتَالَ وَيُرَاوِحِونَهُ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَتَدَلَّوْنَ بِالْحِبَالِ مِنَ السُّورِ مَعَهُمُ الرِّمَاحُ، فَيُقَاتِلُونَ، فَإِذَا حَمَلَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ الْخَلِيفَةِ تَجَارُوا إِلَى السُّورِ، وَحَمَوْا نُفُوسَهُمْ، فَكَانُوا يَفْتَحُونَ الْبَابَ، فَيَخْرُجُونَ، فَيُقَاتِلُونَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ. وَلَمَّا قَرُبَ بُغَا الشَّرَابِيُّ مِنْ مَرَنْدَ بَعَثَ عِيسَى بْنَ الشَّيْخِ بْنِ السَّلِيلِ، وَمَعَهُ أَمَانٌ لِوُجُوهِ ابْنِ الْبُعَيْثِ (أَنْ يَنْزِلُوا، وَأَمَانٌ لِابْنِ الْبُعَيْثِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ الْمُتَوَكِّلِ، فَنَزَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِالْأَمَانِ، ثُمَّ فَتَحُوا بَابَ الْمَدِينَةِ، فَدَخَلَ أَصْحَابُ الْمُتَوَكِّلِ، وَخَرَجَ ابْنُ الْبُعَيْثِ) هَارِبًا، فَلَحِقَهُ قَوْمٌ مِنَ الْجُنْدِ، فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا، وَانْتَهَبَ الْجُنْدُ مَنْزِلَهُ وَمَنَازِلَ أَصْحَابِهِ، وَبَعْضَ مَنَازِلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ نُودِيَ بِالْأَمَانِ، وَأَخَذُوا لِابْنِ الْبُعَيْثِ أُخْتَيْنِ، وَثَلَاثَ بَنَاتٍ، وَعِدَّةً مِنَ السَّرَارِي، ثُمَّ وَافَاهُمْ بُغَا الشَّرَابِيُّ مِنْ غَدٍ، فَأُمِّرَ فَنُودِيَ بِالْمَنْعِ مِنَ النَّهْبِ، وَكَتَبَ بِالْفَتْحِ لِنَفْسِهِ، وَأُخِذَ ابْنُ الْبُعَيْثِ إِلَيْهِ. ذِكْرُ إِيتَاخَ وَمَا صَارَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ كَانَ إِيتَاخُ غُلَامًا خَزَرِيًّا، طَبَّاخًا لِسَلَّامٍ الْأَبْرَشِ، فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ الْمُعْتَصِمُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ فِيهِ شَجَاعَةٌ، فَرَفَعَهُ الْمُعْتَصِمُ وَالْوَاثِقُ، وَضَمَّ إِلَيْهِ أَعْمَالًا كَثِيرَةً، مِنْهَا الْمَعُونَةُ بِسَامَرَّا مَعَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ.

وَكَانَ الْمُعْتَصِمُ، إِذَا أَرَادَ قَتْلَ أَحَدٍ، فَعِنْدَ إِيتَاخَ يُقْتَلُ، وَبِيَدِهِ، فَحَبَسَ مِنْهُمْ أَوَّلًا الْمَأْمُونَ بْنَ سُنْدُسٍ، وَابْنَ الزَّيَّاتِ، وَصَالِحَ بْنَ عُجَيْفٍ، وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ مَعَ الْمُتَوَكِّلِ فِي مَرْتَبَتِهِ، وَإِلَيْهِ الْجَيْشُ، وَالْمَغَارِبَةُ، وَالْأَتْرَاكُ، وَالْأَمْوَالُ، وَالْبَرِيدُ، وَالْحِجَابَةُ، وَدَارُ الْخِلَافَةِ فَلَمَّا تَمَكَّنَ الْمُتَوَكِّلُ مِنِ الْخِلَافَةِ شَرِبَ فَعَرْبَدَ عَلَى إِيتَاخَ، فَهَمَّ إِيتَاخُ بِقَتْلِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الْمُتَوَكِّلُ قِيلَ لَهُ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، أَنْتَ أَبِي، وَأَنْتَ رَبَّيْتَنِي، ثُمَّ وَضَعَ عَلَيْهِ مَنْ يُحَسِّنُ لَهُ الْحَجَّ، فَاسْتَأْذَنَ (فِيهِ الْمُتَوَكِّلَ، فَأَذِنَ) لَهُ، وَصَيَّرَهُ أَمِيرَ كُلِّ بَلَدٍ يَدْخُلُهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَسَارَ الْعَسْكَرُ جَمِيعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا فَارَقَ جُعِلَتِ الْحِجَابَةُ إِلَى وَصَيْفٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ. وَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. ذِكْرُ الْخُلْفِ بِإِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ التُّجِيبِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْقُوَيْعِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْأَغْلَبِ أَمِيرِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَحَصَرَهُ بِمَدِينَةِ تُونِسَ هَذِهِ السَّنَةَ، فَلَمْ يَبْلُغُوا مِنْهُ غَرَضًا، فَعَادُوا عَنْهُ. فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَيَّرَ إِلَيْهِ ابْنُ الْأَغْلَبِ جَيْشًا، فَالْتَقَوْا بِالْقُرْبِ مِنْ تُونِسَ، فَفَارَقَ جَيْشَ ابْنِ الْأَغْلَبِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَقَصَدُوا الْقُوَيْعَ فَصَارُوا مَعَهُ، فَانْهَزَمَ جَيْشُ ابْنِ الْأَغْلَبِ وَقَوِيَ الْقُوَيْعُ، فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ سَيَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَغْلَبِ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الْقُوَيْعُ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأَدْرَكَ الْقُوَيْعَ إِنْسَانٌ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَدَخَلَ جَيْشُ ابْنِ الْأَغْلَبِ مَدِينَةَ تُونِسَ بِالسَّيْفِ فِي جُمَادَى الْأُولَى.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ حَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ (بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَعْفَرُ بْنُ مُبَشِّرِ بْنِ أَحْمَدَ الثَّقَفِيُّ الْمُتَكَلِّمُ، أَحَدُ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ، وَلَهُ مَقَالَةٌ يَتَفَرَّدُ بِهَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو خُثَيْمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ فِي شَعْبَانَ، وَكَانَ حَافِظًا لِلْحَدِيثِ، وَأَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ بِشْرٍ الْمِنْقَرِيُّ الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ (بِالشَّاذَكُونِيِّ بِأَصْبَهَانَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمَدِينِيِّ الْحَافِظِ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، وَهُوَ إِمَامٌ ثِقَةٌ، وَكَانَ وَالِدُهُ ضَعِيفًا فِي الْحَدِيثِ. وَإِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الطَّالَقَانِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْمَقَابِرِيُّ،

وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ.

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ] 235 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ قَتْلِ إِيتَاخَ قَدْ ذَكَرْنَا مَا كَانَ مِنْهُ مَعَ الْمُتَوَكِّلِ وَسَبَبَ حَجِّهِ، فَلَمَّا عَادَ مِنْ مَكَّةَ كَتَبَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِبَغْدَاذَ يَأْمُرُهُ بِحَبْسِهِ، وَأَنْفَذَ الْمُتَوَكِّلُ كُسْوَةً وَهَدَايَا إِلَى طَرِيقِ إِيتَاخَ، فَلَمَّا قَرُبَ إِيتَاخُ مِنْ بَغْدَادَ خَرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى لِقَائِهِ، وَكَانَ إِيتَاخُ أَرَادَ الْمَسِيرَ عَلَى الْأَنْبَارِ إِلَى سَامَرَّا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِسْحَاقُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَمَرَ أَنْ تَدْخُلَ بَغْدَادَ، وَأَنْ يَلْقَاكَ بَنُو هَاشِمٍ، وَوُجُوهُ النَّاسِ، وَأَنْ تَقْعُدَ لَهُمْ فِي دَارِ خُزَيْمَةَ بْنِ خَازِمٍ، وَتَأْمُرَ لَهُمْ بِالْجَوَائِزِ. فَجَاءَ إِلَى بَغْدَادَ، فَلَقِيَهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا رَآهُ إِسْحَاقُ أَرَادَ النُّزُولَ لَهُ، فَحَلَفَ عَلَيْهِ إِيتَاخُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَكَانَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ غِلْمَانِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا صَارَ بِبَابِ دَارِ خُزَيْمَةَ وَقَفَ إِسْحَاقُ، وَقَالَ لَهُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، لِيَدْخُلْ! فَدَخَلَ إِيتَاخُ، وَوَقَفَ إِسْحَاقُ عَلَى الْبَابِ، فَمَنَعَ أَصْحَابَهُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَوَكَّلَ بِالْأَبْوَابِ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا الْحَرَسَ، فَحِينَ رَأَى إِيتَاخُ ذَلِكَ، قَالَ: قَدْ فَعَلُوهَا، وَلَوْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِبَغْدَاذَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا مَعَهُ وَلَدَيْهِ مَنْصُورًا وَمُظَفَّرًا، وَكَاتِبَيْهِ سُلَيْمَانَ بْنَ وَهْبٍ، وَقُدَامَةَ بْنَ زِيَادٍ، فَحُبِسُوا بِبَغْدَاذَ أَيْضًا. وَأَرْسَلَ إِيتَاخُ إِلَى إِسْحَاقَ: قَدْ عَلِمْتَ مَا أَمَرَنِي بِهِ الْمُعْتَصِمُ وَالْوَاثِقُ فِي أَمْرِكَ، وَكُنْتُ أُدَافِعُ عَنْكَ، فَلْيُشَفِّعْنِي ذَلِكَ عِنْدَكَ فِي وَلَدَيَّ، فَأَمَّا أَنَا فَقَدَ مَرَّ بِي شِدَّةٌ وَرَخَاءٌ، فَمَا أُبَالِي مَا أَكَلْتُ وَمَا شَرِبْتُ، وَأَمَّا هَذَانِ الْغُلَامَانِ (فَلَمْ يَعْرِفَا الْبُؤْسَ) ،

فَاجْعَلْ لَهُمَا طَعَامًا يُصْلِحُهُمَا. فَفَعَلَ إِسْحَاقُ ذَلِكَ، وَقَيَّدَ إِيتَاخَ، وَجَعَلَ فِي عُنُقِهِ ثَمَانِينَ رِطْلًا، فَمَاتَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَشْهَدَ إِسْحَاقُ جَمَاعَةً مِنَ الْأَعْيَانِ أَنَّهُ لَا ضَرْبَ بِهِ وَلَا أَثَرَ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُمْ أَطْعَمُوهُ، وَمَنَعُوهُ الْمَاءَ حَتَّى مَاتَ عَطَشًا. وَأَمَّا وَلَدَاهُ فَإِنَّهُمَا بَقِيَا مَحْبُوسَيْنِ حَيَاةَ الْمُتَوَكِّلِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْمُنْتَصِرُ أَخْرَجَهُمَا، فَأَمَّا مُظَفَّرٌ فَبَقَى بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنَ السِّجْنِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَمَاتَ، وَأَمَّا مَنْصُورٌ فَعَاشَ بَعْدَهُ. ذِكْرُ أَسْرِ ابْنِ الْبُعَيْثِ وَمَوْتِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ بُغَا الشَّرَابِيُّ بِابْنِ الْبُعَيْثِ فِي شَوَّالَ، وَبِخَلِيفَتِهِ أَبِي الْأَغَرِّ، وَبِأَخَوَيْهِ صَقْرٍ وَخَالِدٍ، وَكَاتَبَهُ الْعَلَاءُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا قَرَبُوا مِنْ سَامَرَّا حُمِلُوا عَلَى الْجِمَالِ لِيَرَاهُمُ النَّاسُ، فَلَمَّا أُحْضِرَ ابْنُ الْبُعَيْثِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُتَوَكِّلِ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَجَاءَ السَّيَّافُ، وَسَبَّهُ الْمُتَوَكِّلُ، وَقَالَ: مَا دَعَاكَ إِلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: الشِّقْوَةُ، وَأَنْتَ الْحَبْلُ الْمَمْدُودُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَإِنَّ لِي فِيكَ لَظَنَّيْنِ أَسْبَقُهُمَا إِلَى قَلْبِي أَوْلَاهُمَا بِكَ، وَهُوَ الْعَفْوُ، ثُمَّ قَالَ بِلَا فَصْلٍ: أَبَى النَّاسُ إِلَّا أَنَّكَ الْيَوْمَ قَاتِلِي ... إِمَامَ الْهُدَى وَالصَّفْحُ بِالْمَرْءِ أَجْمَلُ وَهَلْ أَنَا إِلَّا جُبْلَةٌ مِنْ خَطِيئَةٍ ... وَعَفْوُكَ مِنْ نُورِ النُّبُوَّةِ يُجْبَلُ فَإِنَّكَ خَيْرُ السَّابِقِينَ إِلَى الْعُلَى ... وَلَا شَكَّ أَنَّ خَيْرَ الْفَعَالِينَ تَفْعَلُ فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: إِنَّ عِنْدَهُ لَأَدَبًا، فَقَالَ: بَلْ يَفْعَلُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَمُنُّ

عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِرَدِّهِ، فَحُبِسَ مُقَيَّدًا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُعْتَزَّ شَفَعَ فِيهِ إِلَى أَبِيهِ فَأَطْلَقَهُ، وَكَانَ الْبُعَيْثُ قَدْ قَالَ حِينَ هَرَبَ: كَمْ قَدْ قَضَيْتُ أُمُورًا كَانَ أَهْمَلَهَا ... غَيْرِي وَقَدْ أَخَذَ الْإِفْلَاسُ بِالْكَظَمِ لَا تَعْذُلِينِي فَمَالِي لَيْسَ يَنْفَعُنِي ... إِلَيْكِ عَنِّي جَرَى الْمِقْدَارُ بِالْقَلَمِ سَأُتْلِفُ الْمَالَ فِي عُسْرٍ وَفِي يُسْرٍ ... إِنَّ الْجَوَادَ الَّذِي يُعْطِي عَلَى الْعُدُمِ وَمَاتَ ابْنُ الْبُعَيْثِ بَعْدَ دُخُولِهِ سَامَرَّا بِشَهْرٍ، قِيلَ: كَانَ قَدْ جُعِلَ فِي عُنُقِهِ مِائَةُ رِطْلٍ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى مَاتَ، وَجُعِلَ بَنُوهُ: (جُلَيْسٌ وَصَقْرٌ) ، وَالْبُعَيْثُ، فِي عِدَادِ الشَّاكِرِيَّةِ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ. ذِكْرُ الْبَيْعَةِ لِأَوْلَادِ الْمُتَوَكِّلِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ فِي هَذَا السَّنَةِ عَقَدَ الْمُتَوَكِّلُ الْبَيْعَةَ لِبَنِيهِ الثَّلَاثَةِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ وَهُمْ: مُحَمَّدٌ، وَلَقَبُهُ: الْمُنْتَصِرُ بِاللَّهِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ، (وَقِيلَ: طَلْحَةُ) ، وَقِيلَ: الزُّبَيْرُ، وَلَقَبُهُ: الْمُعْتَزُّ بِاللَّهِ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَلَقَبُهُ: الْمُؤَيَّدُ بِاللَّهِ، وَعَقَدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِوَاءَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَسْوَدُ وَهُوَ لِوَاءُ الْعَهْدِ، وَالْآخَرُ أَبْيَضُ وَهُوَ لِوَاءُ الْعَمَلِ، فَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا نَذْكُرُهُ. فَأَمَّا الْمُنْتَصِرُ فَأَقْطَعَهُ إِفْرِيقِيَّةَ وَالْمَغْرِبَ كُلَّهُ، وَالْعَوَاصِمَ، وَقِنَّسْرِينَ، وَالثُّغُورَ جَمِيعَهَا، الشَّامِيَّةَ وَالْجَزْرِيَّةَ، وَدِيَارَ مُضَرَ، وَدِيَارَ رَبِيعَةَ، وَالْمَوْصِلَ، وَهِيتَ، وَعَانَةَ،

وَالْأَنْبَارَ، وَالْخَابُورَ، وَكُورَ بَاجَرْمَى، وَكُورَ دِجْلَةَ، وَطَسَاسِيجَ السُّوَّادِ جَمِيعَهَا، وَالْحَرَمَيْنِ، وَالْيَمَنَ وَحَضْرَمَوْتَ، وَالْيَمَامَةَ، وَالْبَحْرِينِ، وَالسِّنْدَ، وَمَكْرَانَ، وَقَنْدَابِيلَ، وَفُرْجَ بَيْتِ الذَّهَبِ، وَكُورَ الْأَهْوَازِ، وَالْمُسْتَغَلَّاتِ بِسَامَرَّا، وَمَاهَ الْكُوفَةِ، وَمَاهَ الْبَصْرَةِ (وَمَاسْبَذَانَ، وَمِهْرِجَانِ قَذْقَ، وَشَهْزُورَ، وَالصَّامَغَانِ، وَأَصْبَهَانَ، وَقُمَّ) ، وَقَاشَانَ، وَالْجَبَلَ جَمِيعَهُ، وَصَدَقَاتِ الْعَرَبِ بِالْبُسْرَةِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزُّ فَأَقْطَعَهُ، خُرَاسَانَ وَمَا يُضَافُ إِلَيْهَا، وَطَبَرِسْتَانَ، وَالرَّيَّ، وَأَرْمِينِيَّةَ، وَأَذْرَبِيجَانَ، وَكُورَ فَارِسٍ، ثُمَّ أَضَافَ إِلَيْهِ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ [وَمِائَتَيْنِ] خِزَنَ الْأَمْوَالِ فِي جَمِيعِ الْآفَاقِ، وَدُورَ الضَّرْبِ، وَأَمَرَ أَنْ يُضْرَبَ اسْمُهُ عَلَى الدَّرَاهِمِ. وَأَمَّا الْمُؤَيَّدُ فَأَقْطَعُهُ جُنْدَ دِمَشْقَ، وَجُنْدَ فِلَسْطِينَ. ذِكْرُ ظُهُورِ رَجُلٍ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَفِيهَا ظَهَرَ بِسَامَرَّا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَحْمُودُ بْنُ الْفَرَجِ النَّيْسَابُورِيُّ، فَزَعَمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَّهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ، وَتَبِعَهُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، وَخَرَجَ مِنْ أَصْحَابِهِ بِبَغْدَاذَ رَجُلَانِ بِبَابِ الْعَامَّةِ، وَآخَرَانِ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَأُتِيَ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ الْمُتَوَكِّلَ، فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ (ضَرْبًا شَدِيدًا، وَحُمِلَ إِلَى بَابِ الْعَامَّةِ، فَكَذَّبَ نَفْسَهُ، وَأَمَرَ أَصْحَابُهُ أَنْ يَضْرِبُوهُ) كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَشْرَ صَفَعَاتٍ، فَفَعَلُوا، وَأَخَذُوا لَهُ مُصْحَفًا فِيهِ كَلَامٌ قَدْ جَمَعَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قُرْآنٌ، وَأَنَّ جِبْرَائِيلَ نَزَلَ بِهِ، ثُمَّ مَاتَ مِنَ الضَّرْبِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَحُبِسَ أَصْحَابُهُ، وَكَانَ فِيهِمْ شَيْخٌ

يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيهِ. ذِكْرُ مَا كَانَ بِالْأَنْدَلُسِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ عَبَّاسُ بْنُ وَلِيدٍ الْمَعْرُوفُ بِالطَّبْلِيِّ، بِنَوَاحِي تُدْمِيرَ، لِمُحَارَبَةِ جَمْعٍ اجْتَمَعُوا، وَقَدَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ رَجُلًا اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَابِقٍ، فَوَطِئَ عَبَّاسٌ بَلَدَهُمْ، وَأَوْقَعَ بِهِمْ، وَأَصْلَحَهُمْ وَعَادَ. وَفِيهَا ثَارَ أَهْلُ تَاكُرُنَا وَمَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْبَرْبَرِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ جَيْشُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ، فَقَاتَلَهُمْ، وَأَوْقَعَ بِهِمْ، وَأَعْظَمَ النِّكَايَةِ فِيهِمْ. وَفِيهَا سَيَّرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنَهُ الْمُنْذِرَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ لِغَزْوِ الرُّومِ، فَبَلَغُوا أُلْبَةَ. وَفِيهَا كَانَ سَيْلٌ عَظِيمٌ فِي رَجَبٍ، فِي بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، فَخَرِبَ جِسْرُ إِسْتِجَةَ، وَخَرَّبَ الْأَرْحَاءَ، وَغَرَّقَ نَهْرُ إِشْبِيلِيَّةَ سِتَّ عَشْرَةَ قَرْيَةً، وَخَرَّبَ نَهْرُ تَاجَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ قَرْيَةً، وَصَارَ عَرْضُهُ ثَلَاثِينَ مِيلًا، وَكَانَ هَذَا حَدَثًا عَظِيمًا وَقَعَ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ. وَفِيهَا هَلَكَ رُدْمِيرُ بْنُ أَذْفُونْسَ فِي رَجَبٍ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ثَمَانِيَةَ أَعْوَامٍ. وَفِيهَا هَلَكَ أَبُو السَّولِ الشَّاعِرُ سَعِيدُ بْنُ يَعْمُرَ بْنِ عَلِيٍّ بِسَرَقُسْطَةَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِلَبْسِ الطَّيَالِسَةِ الْعَسَلِيَّةِ، وَشَدِّ الزَّنَانِيرِ، وَرُكُوبِ السُّرُوجِ بِالرَّكْبِ الْخَشَبِ، وَعَمَلِ كُرَتَيْنِ فِي مُؤَخِّرِ السُّرُوجِ، وَعَمَلِ رُقْعَتَيْنِ عَلَى لِبَاسِ مَمَالِيكِهِمْ مُخَالِفَتَيْنِ لَوْنَ الثَّوْبِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا قَدْرُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ، وَلَوْنُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا غَيْرُ لَوْنِ الْأُخْرَى، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَلْبَسُ إِزَارًا عَسَلِيًّا، وَمَنَعَهُمْ مِنْ لِبَاسِ الْمَنَاطِقِ، وَأَمَرَ بِهَدْمِ بِيَعِهِمُ الْمُحْدَثَةِ، وَبِأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ، وَأَنْ يُجْعَلَ عَلَى

أَبْوَابِ دُورِهِمْ صُوَرُ شَيَاطِينَ مِنْ خَشَبٍ، وَنَهَى أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِمْ فِي أَعْمَالِ السُّلْطَانِ، وَلَا يُعَلِّمُهُمْ مُسْلِمٌ، وَأَنْ يُظْهِرُوا فِي شَعَانِينِهِمْ صَلِيبًا، وَأَنْ يَسْتَعْمِلُوهُ فِي الطَّرِيقِ، وَأَمَرَ بِتَسْوِيَةِ قُبُورِهِمْ مَعَ الْأَرْضِ، وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْآفَاقِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ) الْمُصْعَبِيُّ، (وَهُوَ ابْنُ أَخِي طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ) ، وَكَانَ صَاحِبَ الشُّرْطَةِ (بِبَغْدَاذَ أَيَّامَ الْمَأْمُونِ، وَالْمُعْتَصِمِ، وَالْوَاثِقِ، وَالْمُتَوَكِّلِ) ، وَلَمَّا مَرِضَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُتَوَكِّلُ ابْنَهُ الْمُعْتَزَّ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْقُوَّادِ يَعُودُونَهُ، وَجَزِعَ الْمُتَوَكِّلُ لِمَوْتِهِ. وَفِيهَا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ، كَانَ شَرِبَ دَوَاءً، فَأَفْرَطَ عَلَيْهِ، فَحُبِسَ الطَّبْعُ، فَمَاتَ، وَكَانَ مَوْتُهُ وَمَوْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ فِي ذِي الْحِجَّةِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: مَاتَ الْحَسَنُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. [بَقِيَّةُ الْحَوَادِثِ] وَفِيهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ تَغَيَّرَ مَاءُ دِجْلَةَ إِلَى الصُّفْرَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَفَزِعَ النَّاسُ، ثُمَّ صَارَ فِي لَوْنِ مَاءِ الْمُدَوِّدِ. وَفِيهَا أَتَى الْمُتَوَكِّلُ يَحْيَى بْنَ عُمَرَ بْنِ يَحْيَى بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ (بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ) . (وَكَانَ قَدْ جَمَعَ جَمْعًا بِبَعْضِ النَّوَاحِي، فَأُخِذَ) ، وَحُبِسَ، وَضُرِبَ.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ. [بَقِيَّةُ الْوَفَيَاتِ] وَفِيهَا مَاتَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْصِلِيُّ، صَاحِبُ الْأَلْحَانِ وَالْغِنَاءِ، وَكَانَ فِيهِ عِلْمٌ وَأَدَبٌ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ. وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ الْجُشَمِيُّ الْقَوَارِيرِيُّ فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيَّةَ، وَمَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، وَسُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ أَبُو الْحَارِثِ. (سُرَيْجٌ: بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ) .

ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ] 236 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ مَقْتَلِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ أَخُو إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ إِسْحَاقَ أَرْسَلَ وَلَدَهُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى بَابِ الْخَلِيفَةِ; لِيَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ بِبَابِهِ، فَلَمَّا مَاتَ إِسْحَاقُ عَقَدَ الْمُعْتَزُّ لِابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَلَى فَارِسٍ، وَعَقَدَ لَهُ الْمُنْتَصِرُ عَلَى الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ (وَطَرِيقِ مَكَّةَ) فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ الْمُتَوَكِّلُ أَعْمَالَ أَبِيهِ كُلَّهَا، وَحَمَلَ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ وَأَوْلَادِهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ الَّتِي كَانَتْ لِأَبِيهِ، وَالْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ كَثِيرًا. وَكَانَ عَمُّهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَلَى فَارِسٍ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَا صَنَعَ الْمُتَوَكِّلُ وَأَوْلَادُهُ بِابْنِ أَخِيهِ سَاءَهُ ذَلِكَ، وَتَنَكَّرَ لِلْخَلِيفَةِ وَلِابْنِ أَخِيهِ، فَشَكَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ذَلِكَ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ، فَأَطْلَقَهُ فِي عَمِّهِ لِيَفْعَلَ بِهِ مَا يَشَاءُ، فَعَزَلَهُ عَنْ فَارِسٍ، وَاسْتَعْمَلَ مَكَانَهُ ابْنَ عَمِّهِ الْحُسَيْنَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، وَأَمَرَهُ بِقَتْلِ عَمِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. فَلَمَّا سَارَ الْحُسَيْنُ إِلَى فَارِسٍ أَهْدَى إِلَى عَمِّهِ يَوْمَ النَّيْرُوزِ هَدَايَا، وَفِيهَا حَلْوَى فَأَكَلَ مُحَمَّدٌ مِنْهَا، وَأَدْخَلَهُ الْحُسَيْنُ بَيْتًا، وَوَكَّلَ عَلَيْهِ، فَطَلَبَ الْمَاءَ لِيَشْرَبَ، فَمُنِعَ مِنْهُ، فَمَاتَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ.

ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ الْمُتَوَكِّلُ بِمَشْهَدِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ بِهَدْمِ قَبْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَدْمِ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْمَنَازِلِ وَالدُّورِ، وَأَنْ يُبْذَرَ وَيُسْقَى قَبْرُهُ، وَأَنْ يُمْنَعَ النَّاسُ مِنْ إِتْيَانِهِ، فَنَادَى [عَامِلُ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ] بِالنَّاسِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ: مَنْ وَجَدْنَاهُ عِنْدَ قَبْرِهِ، بَعْدَ ثَلَاثَةٍ، حَبَسْنَاهُ فِي الْمُطْبِقِ! فَهَرَبَ النَّاسُ، وَتَرَكُوا زِيَارَتَهُ، وَحُرِثَ، وَزُرِعَ. وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ شَدِيدَ الْبُغْضِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ، وَكَانَ يَقْصِدُ مَنْ يَبْلُغُهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَتَوَلَّى عَلِيًّا وَأَهْلَهُ بِأَخْذِ الْمَالِ وَالدَّمِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ نُدَمَائِهِ عُبَادَةُ الْمُخَنَّثُ، وَكَانَ يَشُدُّ عَلَى بَطْنِهِ، تَحْتَ ثِيَابِهِ، مِخَدَّةً، وَيَكْشِفُ رَأْسَهُ، وَهُوَ أَصْلَعُ، وَيَرْقُصُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُتَوَكِّلِ، وَالْمُغْنُونَ يُغَنُّونَ: قَدْ أَقْبَلَ الْأَصْلَعُ الْبَطِينُ، خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ، يَحْكِي بِذَلِكَ عَلِيًّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمُتَوَكِّلُ يَشْرَبُ، وَيَضْحَكُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ يَوْمًا، وَالْمُنْتَصِرُ حَاضِرٌ، فَأَوْمَأَ إِلَى عُبَادَةَ يَتَهَدَّدُهُ، فَسَكَتَ خَوْفًا مِنْهُ، فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ: مَا حَالُكَ؟ فَقَامَ، وَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ الْمُنْتَصِرُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الَّذِي يَحْكِيهِ هَذَا الْكَاتِبُ، وَيَضْحَكُ مِنْهُ النَّاسُ، هُوَ ابْنُ عَمِّكَ، وَشَيْخُ أَهْلِ بَيْتِكَ، وَبِهِ فَخْرُكَ، فَكُلْ أَنْتَ لَحْمَهُ، إِذَا شِئْتَ، وَلَا تُطْعِمْ هَذَا الْكَلْبَ وَأَمْثَالَهُ مِنْهُ! فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ لِلْمُغَنِّينَ: غَنُّوا جَمِيعًا: غَارَ الْفَتَى لِابْنِ عَمِّهْ رَأْسُ الْفَتَى فِي حِرِ أُمِّهِ فَكَانَ هَذَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي اسْتَحَلَّ بِهَا الْمُنْتَصِرُ قَتْلَ الْمُتَوَكِّلِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُتَوَكِّلَ كَانَ يُبْغِضُ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ: الْمَأْمُونُ، وَالْمُعْتَصِمُ، وَالْوَاثِقُ فِي مَحَبَّةِ عَلَيٍّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُنَادِمُهُ وَيُجَالِسُهُ جَمَاعَةٌ قَدِ اشْتَهَرُوا بِالنَّصْبِ، وَالْبُغْضِ لِعَلِيٍّ، مِنْهُمْ: عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ، الشَّاعِرُ الشَّامِيُّ، وَمِنْ بَنِي شَامَةَ ابْنُ لُؤَيٍّ، وَعُمَرُ بْنُ فَرَجٍ الرُّخَّجِيُّ، وَأَبُو السِّمْطِ مِنْ وَلَدِ مَرْوَانَ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، مِنْ مَوَالِي بَنِي أُمَيَّةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَتْرُجَّةَ.

وَكَانُوا يُخَوِّفُونَهُ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ، وَيُشِيرُونَ عَلَيْهِ بِإِبْعَادِهِمْ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَالْإِسَاءَةِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ حَسَّنُوا لَهُ الْوَقِيعَةَ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُ النَّاسُ عُلُوَّ مَنْزِلَتِهِمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يَبْرَحُوا بِهِ حَتَّى ظَهَرَ مِنْهُ مَا كَانَ، فَغَطَّتْ هَذِهِ السَّيِّئَةُ جَمِيعَ حَسَنَاتِهِ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ سِيرَةً، وَمَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَحَاسِنِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَكْتَبَ الْمُتَوَكِّلُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ. وَفِيهَا حَجَّ الْمُنْتَصِرُ بِاللَّهِ، وَحَجَّتْ مَعَهُ جَدَّتُهُ أُمُّ الْمُتَوَكِّلِ. وَفِيهَا هَلَكَ أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْمَرْوَزِيُّ فَجْأَةً، وَكَانَ عُقِدَ لَهُ عَلَى أَرْمِينِيَّةَ، وَأَذْرَبِيجَانَ، فَلَبِسَ أَحَدَ خُفَّيْهِ، وَمَدَّ الْآخَرَ لِيَلْبَسَهُ، فَمَاتَ، فَوَلَّى الْمُتَوَكِّلُ ابْنَهُ يُوسُفَ مَا كَانَ إِلَى أَبِيهِ (مِنَ الْحَرْبِ) وَوَلَّاهُ خَرَاجَ النَّاحِيَةِ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَضَبَطَهَا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْمُنْتَصِرُ. وَفِيهَا خَرَجَ حَبِيبٌ الْبَرْبَرِيُّ بِالْأَنْدَلُسِ بِجِبَالِ الْجَزِيرَةِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَأَغَارُوا، وَاسْتَطَالُوا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنَ، فَقَاتَلَهُمْ، فَهَزَمَهُمْ، فَتَفَرَّقُوا. (وَفِيهَا غَزَا جَيْشٌ بِالْأَنْدَلُسِ بِلَادَ بَرْشِلُونَةَ، فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا، فَأَكْثَرُوا، وَأَسَرُوا جَمًّا غَفِيرًا، وَغَنِمُوا، وَعَادُوا سَالِمِينَ) .

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، وَشَيْبَانُ الْأُبُلِّيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيُّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ابْنِ الْعَوَّامِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَهُوَ عَمُّ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، وَكَانَ عَالِمًا فَقِيهًا، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مُنْحَرِفًا عَنْ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ مَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَخْزُومِيُّ الْمُسَيَّبِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً. وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ الْهَمَذَانِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ، وَعُمْرُهُ تِسْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَأَخَذَ الْكَلَامَ عَنِ ابْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ الْبَصْرِيِّ.

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ] 237 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ وُثُوبِ أَهْلِ أَرْمِينِيَّةَ بِعَامِلِهِمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ أَهْلُ أَرْمِينِيَّةَ بِعَامِلِهَا يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدٍ فَقَتَلُوهُ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ يُوسُفَ لَمَّا سَارَ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ خَرَجَ إِلَيْهِ بِطْرِيقٌ يُقَالُ لَهُ بِقْرَاطُ بْنُ أَشُوطَ، وَيُقَالُ لَهُ بِطْرِيقُ الْبَطَارِقَةِ، يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَأَخَذَهُ يُوسُفُ وَابْنَهُ نِعْمَةً، فَسَيَّرَهُمَا إِلَى بَابِ الْخَلِيفَةِ، فَاجْتَمَعَ بِطَارِقَةُ أَرْمِينِيَّةَ مَعَ ابْنِ أَخِي ابْنِ بِقْرَاطَ بْنِ أَشُوطَ، وَتَحَالَفُوا عَلَى قَتْلِ يُوسُفَ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُوسَى بْنُ زُرَارَةَ، وَهُوَ صِهْرُ بِقْرَاطَ عَلَى ابْنَتِهِ، فَأَتَى الْخَبَرُ يُوسُفَ، وَنَهَاهُ أَصْحَابُهُ عَنِ الْمُقَامِ بِمَكَانِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، فَلَمَّا جَاءَ الشِّتَاءُ، وَنَزَلَ الثَّلْجُ، مَكَثُوا حَتَّى سَكَنَ الثَّلْجُ، ثُمَّ أَتَوْهُ وَهُوَ بِمَدِينَةِ طَرُونَ، فَحَصَرُوهُ بِهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلُوهُ وَكُلُّ مَنْ قَاتَلَ مَعَهُ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مَعَهُ فَقَالُوا لَهُ: انْزِعْ ثِيَابَكَ، وَانْجُ بِنَفْسِكَ عُرْيَانًا، فَفَعَلُوا، وَمَشَوْا حُفَاةً عُرَاةً، فَهَلَكَ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْبَرْدِ، وَسَقَطَتْ أَصَابِعُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَنَجَوْا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ. وَكَانَ يُوسُفُ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ فَرَّقَ أَصْحَابَهُ فِي رَسَاتِيقِ عَمَلِهِ، فَوَجَّهَ إِلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةً مِنَ الْبَطَارِقَةِ، فَقَتَلُوهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. فَلَمَّا بَلَغَ الْمُتَوَكِّلَ خَبَرُهُ وَجَّهَ بُغَا الْكَبِيرَ إِلَيْهِمْ، طَالِبًا لِدَمِ يُوسُفَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ عَلَى الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ، فَبَدَأَ بِأَرْزَنَ، وَبِهَا مُوسَى بْنُ زَرَارَةَ، وَلَهُ إِخْوَةٌ: إِسْمَاعِيلُ، وَسُلَيْمَانُ، وَأَحْمَدُ، وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ، وَهَارُونُ، فَحَمَلَ بُغَا مُوسَى بْنَ زُرَارَةَ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ، وَأَبَاحَ قَتَلَةُ يُوسُفَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ زُهَاءَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَسَبَى مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، فَبَاعَهُمْ وَسَارَ إِلَى بِلَادِ

الْبَاقِ، فَأَسَرَ أَشُوطَ بْنَ حَمْزَةَ أَبَا الْعَبَّاسِ، صَاحِبَ الْبَاقِ، وَالْبَاقُ مِنْ كُورَةِ الْبُسْفُرُّجَانِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَدِينَةِ دَبِيلَ مِنْ أَرْمِينِيَّةَ فَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى تَفْلِيسَ فَحَصَرَهَا. ذِكْرُ غَضَبِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى ابْنِ أَبِي دُؤَادَ وَوِلَايَةِ ابْنِ أَكْثَمَ الْقَضَاءَ وَفِيهَا غَضِبَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادَ، وَقَبَضَ ضِيَاعَهُ وَأَمْلَاكَهُ، وَحَبَسَ ابْنَهُ أَبَا الْوَلِيدِ، وَسَائِرَ أَوْلَادِهِ، فَحَمَلَ أَبُو الْوَلِيدِ مِائَةَ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَجَوَاهِرَ قِيمَتُهَا عِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ صُولِحَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا بِبَيْعِ أَمْلَاكِهِمْ. وَكَانَ أَبُوهُمْ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادَ قَدْ فُلِجَ، وَأَحْضَرَ الْمُتَوَكِّلُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى سَامَرَّا، وَرَضِيَ عَنْهُ، وَوَلَّاهُ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، ثُمَّ وَلَّاهُ الْمَظَالِمَ، فَوَلَّى يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ قَضَاءَ الشَّرْقِيَّةَ حَيَّانَ بْنَ بِشْرٍ، وَوَلَّى سَوَّارَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيَّ قَضَاءَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَكِلَاهُمَا أَعْوَرُ، فَقَالَ الْجَمَّازُ: رَأَيْتُ مِنَ الْكَبَائِرِ قَاضِيَيْنِ ... هَمَا أُحْدُوثَةٌ فِي الْخَافِقَيْنِ هُمَا اقْتَسَمَا الْعَمَى نِصْفَيْنِ قَدًّا ... كَمَا اقْتَسَمَا قَضَاءَ الْجَانِبَيْنِ وَتَحْسِبُ مِنْهُمَا مَنْ هَزَّ رَأْسًا ... لِيَنْظُرَ فِي مَوَارِيثَ وَدَيْنِ كَأَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ عَلَيْهِ دَنًّا ... وَفَتَحْتَ بُزَالَهُ مِنْ فَرْدِ عَيْنِ

هُمَا فَأْلُ الزَّمَانِ بِهُلْكِ يَحْيَى إِذِ افْتَتَحَ الْقَضَاءَ بِأَعْوَرَيْنِ ذِكْرُ وِلَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ صِقِلِّيَّةَ وَمَا فَتَحَ فِيهَا قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، أَمِيرَ صِقِلِّيَّةَ، (تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ) ، فَلَمَّا مَاتَ اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا عَلَى وِلَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ يَعْقُوبَ، فَوَلَّوْهُ أَمْرَهُمْ، فَكَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْأَغْلَبِ أَمِيرِ إِفْرِيقِيَّةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَهْدًا (بِوِلَايَتِهِ، فَكَانَ الْعَبَّاسُ إِلَى أَنْ وَصَلَ عَهْدَهُ يُغِيرُ، وَيُرْسِلُ السَّرَايَا، وَتَأْتِيهِ الْغَنَائِمُ. فَلَمَّا قَدِمَ إِلَيْهِ عَهْدَهُ بِوِلَايَتِهِ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ عَمُّهُ رَبَاحٌ، فَأُرْسِلَ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى قَلْعَةِ أَبِي ثَوْرٍ، فَغَنِمَ، وَأُسِرَ، وَعَادَ، فَقَتَلَ الْأَسْرَى، وَتَوَجَّهَ إِلَى مَدِينَةِ قَصْرُيَانَه، فَنَهَبَ، وَأَحْرَقَ، وَخَرَّبَ; لِيَخْرُجَ إِلَيْهِ الْبِطْرِيقُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَعَادَ الْعَبَّاسُ. وَفِي ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ خَرَجَ حَتَّى بَلَغَ قَصْرُيَانَه وَمَعَهُ جَمْعٌ عَظِيمٌ، فَغَنِمَ، وَخَرَّبَ وَأَتَى قَطَّانَةَ، وَسَرْقُوسَةَ، وَنُوطُسَ، وَرَغُوسَ، فَغَنِمَ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَخَرَّبَ وَأَحْرَقَ، وَنَزَلَ عَلَى بُثَيْرَةَ، وَحَصَرَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى خَمْسَةِ آلَافِ رَأْسٍ. وَفِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَارَ الْعَبَّاسُ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَفَتَحَ حُصُونًا خَمْسَةً. وَفِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَارَ إِلَى قَصْرُيَانَه، فَخَرَجَ أَهْلُهَا، فَلَقُوهُ، فَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ

فِيهِمْ، فَأَكْثَرَ، وَقَصَدَ سَرْقُوسَةَ وَطَبْرَمِينَ وَغَيْرَهُمَا، فَنَهَبَ، وَخَرَّبَ، وَأَحْرَقَ، وَنَزَلَ عَلَى الْقَصْرِ الْجَدِيدِ وَحَصَرَهُ، وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهِ مِنَ الرُّومِ، فَبَذَلُوا لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، وَأَطَالَ الْحَصْرَ، فَسَلَّمُوا إِلَيْهِ الْحِصْنَ عَلَى شَرْطِ أَنْ يُطْلِقَ مِائَتَيْ نَفْسٍ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَمَلَكَهُ، وَبَاعَ كُلَّ مَنْ فِيهِ سِوَى مِائَتَيْ نَفْسٍ، وَهَدَمَ الْحِصْنَ. ذِكْرُ فَتْحِ قَصْرُيَانَه فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ مَدِينَةَ قَصْرُيَانَه، وَهِيَ الْمَدِينَةُ الَّتِي بِهَا دَارُ الْمَلِكِ بِصِقِلِّيَّةَ، وَكَانَ الْمَلِكُ قَبْلَهَا يَسْكُنُ سَرْقُوسَةَ، فَلَمَّا مَلَكَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضَ الْجَزِيرَةِ تَمَّ نَقْلُ دَارِ الْمَلِكِ إِلَى قَصْرُيَانَه ; لِحَصَانَتِهَا. وَسَبَبُ فَتْحِهَا أَنَّ الْعَبَّاسَ سَارَ فِي جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَدِينَةِ قَصْرُيَانَه، وَسَرْقُوسَةَ، وَسَيَّرَ جَيْشًا فِي الْبَحْرِ، فَلَقِيَهُمْ أَرْبَعُونَ شَلَنْدِيًّا لِلرُّومِ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، فَانْهَزَمَ الرُّومُ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَشْرَ شَلَنْدِيَّاتٍ بِرِجَالِهَا، وَعَادَ الْعَبَّاسُ إِلَى مَدِينَتِهِ. فَلَمَّا كَانَ الشِّتَاءُ سَيَّرَ سَرِيَّةً، فَبَلَغَتْ قَصْرُيَانَه، فَنَهَبُوا، وَخَرَّبُوا، وَعَادُوا وَمَعَهُمْ رَجُلٌ كَانَ لَهُ عِنْدَ الرُّومِ قَدَرٌ وَمَنْزِلَةٌ، فَأَمَرَ الْعَبَّاسُ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ: اسْتَبْقِنِي، وَلَكَ عِنْدِي نَصِيحَةٌ! قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أُمَلِّكُكَ قَصْرُيَانَه، وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ فِي هَذَا الشِّتَاءِ وَهَذِهِ الثُّلُوجِ آمِنُونَ مِنْ قَصْدِكُمْ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ غَيْرُ مُحْتَرِسِينَ، تُرْسِلُ مَعِي طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِكُمْ حَتَّى أُدْخِلَكُمُ الْمَدِينَةَ. فَانْتَخَبَ الْعَبَّاسُ أَلْفَيْ فَارِسٍ أَنْجَادٍ، أَبْطَالٍ، وَسَارَ إِلَى أَنْ قَارَبَهَا، وَكَمَنَ هُنَاكَ مُسْتَتِرًا، وَسَيَّرَ عَمَّهُ رَبَاحًا فِي شُجْعَانِهِمْ، فَسَارُوا مُسْتَخْفِينَ فِي اللَّيْلِ، وَالرُّومِيُّ مَعَهُمْ مُقَيَّدٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبَاحٍ، فَأَرَاهُمُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَ مِنْهُ، فَنَصَبُوا السَّلَالِيمَ، وَصَعِدُوا الْجَبَلَ، ثُمَّ وَصَلُوا إِلَى سُورِ الْمَدِينَةِ، قَرِيبًا مِنَ الصُّبْحِ، وَالْحَرَسُ نِيَامٌ،

فَدَخَلُوا مِنْ نَحْوِ بَابٍ صَغِيرٍ فِيهِ، يَدْخُلُ مِنْهُ الْمَاءُ وَتُلْقَى فِيهِ الْأَقْذَارُ، فَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ، فَوَضَعُوا السَّيْفَ فِي الرُّومِ، وَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ. وَجَاءَ الْعَبَّاسُ فِي بَاقِي الْعَسْكَرِ، فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ وَصَلَّوُا الصُّبْحَ يَوْمَ الْخَمِيسِ مُنْتَصَفَ شَوَّالَ، وَبَنَى فِيهَا فِي الْحَالِ مَسْجِدًا، وَنَصَبَ فِيهِ مِنْبَرًا، وَخَطَبَ فِيهِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَقَتَلَ مَنْ وَجَدَ فِيهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَأَخَذُوا مَا فِيهَا مِنْ بَنَاتِ الْبَطَارِقَةِ بِحُلِيِّهِنَّ، وَأَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، وَأَصَابُوا فِيهَا مَا يَعْجِزُ الْوَصْفُ عَنْهُ، وَذَلَّ الشِّرْكُ يَوْمَئِذٍ بِصِقِلِّيَّةَ ذُلًّا عَظِيمًا. وَلَمَّا سَمِعَ الرُّومُ بِذَلِكَ أَرْسَلَ مَلِكُهُمْ بِطْرِيقًا مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي ثَلَاثمِائَةِ شَلَنْدِيٍّ وَعَسْكَرٍ كَثِيرٍ، فَوَصَلُوا إِلَى سَرْقُوسَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْعَبَّاسُ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَلَقِيَ الرُّومَ وَقَاتَلَهُمْ، فَهَزَمَهُمْ، فَرَكِبُوا فِي مَرَاكِبِهِمْ هَارِبِينَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مِائَةَ شَلَنْدِيٍّ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَلَمْ يُصَبْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ الْيَوْمَ غَيْرُ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ بِالنَّشَّابِ. وَفِي سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ نَكَثَ كَثِيرٌ مِنْ قِلَاعِ صِقِلِّيَّةَ وَهِيَ: سَطْرُ، وَابِلًا، وابلاطنوا، وَقَلْعَةُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَقَلْعَةُ الْبَلُّوطِ، وَقَلْعَةُ أَبِي ثَوْرٍ، وَغَيْرُهَا مِنِ الْقِلَاعِ، فَخَرَجَ الْعَبَّاسُ إِلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُمْ عَسَاكِرُ الرُّومِ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الرُّومُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ. وَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَقَلْعَةِ ابلاطنوا، فَحَصَرَهَا، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ (بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ عَسَاكِرِ الرُّومِ قَدْ وَصَلَتْ) ، فَرَحَلَ إِلَيْهِمْ، فَالْتَقَوْا بجفلودي، وَجَرَى بَيْنَهُمْ قِتَالٌ شَدِيدٌ، فَانْهَزَمَتِ الرُّومُ، وَعَادُوا إِلَى سَرْقُوسَةَ، وَعَادَ الْعَبَّاسُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَعَمَّرَ قَصْرُيَانَه، وَحَصَّنَهَا، وَشَحَنَهَا بِالْعَسَاكِرِ.

وَفِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ سَارَ الْعَبَّاسُ إِلَى سَرْقُوسَةَ، فَغَنِمَ وَسَارَ إِلَى غَيْرَانَ قَرْقَنَةَ، فَاعْتَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَمَاتَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثَالِثَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَدُفِنَ هُنَاكَ، فَنَبَشَهُ الرُّومُ، وَأَحْرَقُوهُ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَدَامَ الْجِهَادَ شِتَاءً وَصَيْفًا، وَغَزَا أَرْضَ قِلْورَيَةَ، وانكبرده وَأَسْكَنَهَا الْمُسْلِمِينَ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ أَمْرِ يَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ وَفِيهَا تَغَلَّبَ إِنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ بُسْتَ، اسْمُهُ صَالِحُ بْنُ النَّضِرِ الْكِنَانِيُّ، عَلَى سَجِسْتَانَ، وَمَعَهُ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ، فَعَادَ طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَمِيرُ خُرَاسَانَ وَاسْتَنْقَذَهَا مِنْ يَدِهِ. ثُمَّ ظَهَرَ بِهَا إِنْسَانٌ اسْمُهُ دِرْهَمُ بْنُ الْحُسَيْنِ، مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ، فَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا، وَكَانَ غَيْرَ ضَابِطٍ لِعَسْكَرِهِ، وَكَانَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ هُوَ قَائِدَ عَسْكَرِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَصْحَابُ دِرْهَمَ ضَعْفَهُ، وَعَجْزَهُ، اجْتَمَعُوا عَلَى يَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ، وَمَلَّكُوهُ أَمْرَهُمْ، لِمَا رَأَوْا مِنْ تَدْبِيرِهِ، وَحُسْنِ سِيَاسَتِهِ، وَقِيَامِهِ بِأُمُورِهِمْ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ ذَلِكَ لِدِرْهَمٍ لَمْ يُنَازِعْهُ فِي الْأَمْرِ، وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ، وَاعْتَزَلَ عَنْهُ، فَاسْتَبَدَّ يَعْقُوبُ بِالْأَمْرِ، وَضَبَطَ الْبِلَادَ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ وَقَصَدَتْهُ الْعَسَاكِرُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بَغْدَادَ وَمَعَاوِنَ السَّوَادِ. وَفِيهَا قَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ مِنْ خُرَاسَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَوَلِيَ الْجِزْيَةَ، وَالشُّرْطَةَ، وَخِلَافَةَ الْمُتَوَكِّلِ بِبَغْدَاذَ، وَأَعْمَالَ السَّوَادِ وَأَقَامَ بِهَا. وَفِيهَا عَزَلَ أَبُو الْوَلِيدِ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادَ عَنِ الْمَظَالِمِ، وَوَلَّاهَا مُحَمَّدَ بْنَ

يَعْقُوبَ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الرَّبِيعِ. وَفِيهَا أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ بِإِنْزَالِ جُثَّةِ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ الْخُزَاعِيِّ، وَدَفَعَهُ إِلَى أَوْلِيَائِهِ، فَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ، وَضُمَّ رَأَسُهُ إِلَى بَدَنِهِ، وَغُسِّلَ، وَكُفِّنَ، وَدُفِنَ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَامَّةِ مَا لَا يُحْصَى يَتَمَسَّحُونَ بِهِ. وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ لَمَّا وُلِّيَ نَهَى عَنِ الْجِدَالِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ بِذَلِكَ. وَغَزَا الصَّائِفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْأَرْمَنِيُّ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْمَنْصُورِ وَكَانَ وَالِيَ مَكَّةَ. وَفِيهَا قَامَ رَجُلٌ بِالْأَنْدَلُسِ بِنَاحِيَةِ الثُّغُورِ وَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَتَأَوَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، فَتَبِعَهُ قَوْمٌ مِنَ الْغَوْغَاءِ، فَكَانَ مِنْ شَرَائِعِهِ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ قَصِّ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَامِلُ ذَلِكَ الْبَلَدِ، فَأُتِيَ بِهِ، وَكَانَ أَوَّلُ مَا خَاطَبَهُ بِهِ أَنْ دَعَاهُ إِلَى اتِّبَاعِهِ، فَأَمَرَهُ الْعَامِلُ بِالتَّوْبَةِ، فَامْتَنَعَ، فَصَلَبَهُ. وَفِيهَا سَارَتْ جُيُوشُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ كَانَ الظَّفَرُ فِيهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ الْوَقْعَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِوَقْعَةِ الْبَيْضَاءِ، وَمَشْهُورَةٌ بِالْأَنْدَلُسِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمَدِينِيُّ بِالْبَصْرَةِ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ النَّرْسِيُّ،

وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ. (النَّرْسِيُّ: بِالنُّونِ وَالرَّاءِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ) .

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ] 238 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ بُغَا بِتَفْلِيسَ قَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَ بُغَا إِلَى تَفْلِيسَ، وَمُحَاصَرَتَهَا، وَكَانَ بُغَا لَمَّا سَارَ إِلَيْهَا وَجَّهَ زِيرِكَ التُّرْكِيَّ، فَجَازَ نَهْرَ الْكَرِّ، وَهُوَ نَهْرٌ كَبِيرٌ، وَمَدِينَةُ تَفْلِيسَ عَلَى حَافَّتِهِ، وَصغدبيلُ عَلَى جَانِبِهِ الشَّرْقِيِّ، فَلَمَّا عَبَرَ النَّهْرَ نَزَلَ بِمَيْدَانِ تَفْلِيسَ، وَوَجَّهَ بُغَا أَيْضًا أَبَا الْعَبَّاسِ الْوَارِثِيَّ النَّصْرَانِيَّ إِلَى أَهْلِ أَرْمِينِيَّةَ عَرَبِهَا وَعَجَمِهَا، فَأَتَى تَفْلِيسَ مِمَّا يَلِي بَابَ الْمُرَصَّفِ، فَخَرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ تَفْلِيسَ إِلَى زِيرِكَ، فَقَابَلَهُ عِنْدَ الْمَيْدَانِ، وَوَقَفَ بُغَا عَلَى تَلٍّ مُشْرِفٍ يَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ زِيرِكُ وَأَبُو الْعَبَّاسِ، فَدَعَا بُغَا النَّفَّاطِينَ، فَضَرَبُوا الْمَدِينَةَ بِالنَّارِ، فَأَحْرَقُوهَا وَهِيَ مِنْ خَشَبِ الصَّنَوْبَرِ. وَأَقْبَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَرَأَى النَّارَ قَدْ أَحْرَقَتْ قَصْرَهُ وَجَوَارِيَهُ وَأَحَاطَتْ بِهِ، فَأَتَاهُ الْأَتْرَاكُ، وَالْمَغَارِبَةُ، فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا، وَأَخَذُوا ابْنَهُ عَمْرًا، فَأَتَوْا بِهِمَا بُغَا، فَأَمَرَ بِإِسْحَاقَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَصُلِبَتْ جُثَّتُهُ عَلَى نَهْرِ الْكَرِّ، وَكَانَ شَيْخًا مَحْدُورًا، ضَخْمَ الرَّأْسِ، أَحْوَلَ، وَاحْتَرَقَ بِالْمَدِينَةِ نَحْوُ خَمْسِينَ أَلْفَ إِنْسَانٍ، وَأَسَرُوا مَنْ سَلِمَ مِنَ النَّارِ، وَسَلَبُوا الْمَوْتَى. وَأَخَذَ أَهْلُ إِسْحَاقَ مَا سَلِمَ مِنْ مَالِهِ بصغدبيلَ وَهِيَ مَدِينَةٌ حَصِينَةٌ حِذَاءَ تَفْلِيسَ

بَنَاهَا كِسْرَى أَنُوشُروَانَ، وَحَصَّنَهَا إِسْحَاقُ، وَجَعَلَ أَمْوَالَهُ فِيهَا مَعَ امْرَأَتِهِ ابْنَةِ صَاحِبِ السَّرِيرِ. ثُمَّ إِنَّ بُغَا وَجَّهَ زِيرِكَ إِلَى قَلْعَةِ الحرزمان، وَهِيَ بَيْنَ بَرْذَعَةَ وَتَفْلِيسَ، فِي جَمَاعَةٍ مِنْ جُنْدِهِ، فَفَتَحَهَا، وَأَخَذَ بِطَرِيقِهَا أَسِيرًا، ثُمَّ سَارَ بُغَا إِلَى عِيسَى بْنِ يُوسُفَ، وَهُوَ فِي قَلْعَةِ كُبَيْشٍ، فِي كُورَةِ الْبَلْقَانَ، فَفَتَحَهَا وَأَخَذَهُ فَحَمَلَهُ، وَحَمَلَ مَعَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْوَارِثِيَّ، وَاسْمُهُ سِنْبَاطُ بْنُ أَشُوطَ، (وَحَمَلَ) مُعَاوِيَةَ بْنَ سَهْلِ بْنِ سَنْبَاطَ بِطَرِيقِ أَرَانَ. ذِكْرُ مَسِيرِ الرُّومِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَاءَ ثَلَاثُمِائَةِ مَرْكَبٍ لِلرُّومِ مَعَ ثَلَاثَةِ رُؤَسَاءَ، فَأَنَاخَ أَحَدُهُمْ فِي مِائَةِ مَرْكَبٍ بِدِمْيَاطَ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الشَّطِّ شَبِيهُ الْبُحَيْرَةِ، يَكُونُ مَاؤُهَا إِلَى صَدْرِ الرَّجُلِ، فَمَنْ جَازَهَا إِلَى الْأَرْضِ أَمِنَ مِنْ مَرَاكِبِ الْبَحْرِ، فَجَازَهُ قَوْمٌ فَسَلِمُوا، وَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْ نِسَاءٍ وَصِبْيَانٍ، وَمَنْ كَانَ بِهِ قُوَّةٌ سَارَ إِلَى مِصْرَ. وَكَانَ عَلَى مَعُونَةِ مِصْرَ عَنْبَسَةُ بْنُ إِسْحَاقَ الضَّبِّيُّ، فَلَمَّا حَضَرَ الْعِيدُ أَمَرَ الْجُنْدَ الَّذِينَ بِدِمْيَاطَ أَنْ يَحْضُرُوا مِصْرَ، فَسَارُوا مِنْهَا، فَاتَّفَقَ وَصُولُ الرُّومِ وَهِيَ فَارِغَةٌ مِنَ الْجُنْدِ فَنَهَبُوا، وَأَحْرَقُوا، (وَسَبَوْا، وَأَحْرَقُوا جَامِعَهَا، وَأَخَذُوا مَا بِهَا مِنْ سِلَاحٍ وَمَتَاعٍ، وَقَنْدٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ) ، وَسَبَوْا مِنَ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ وَالذِّمِّيَّاتِ نَحْوَ سِتَّمِائَةِ امْرَأَةٍ، وَأَوْقَرُوا سُفُنَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ عَنْبَسَةُ قَدْ حَبَسَ بُسْرَ بْنَ الْأَكْشَفِ بِدِمْيَاطَ، فَكَسَرَ قَيْدَهُ، وَخَرَجَ يُقَاتِلُهُمْ، وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ، (وَقَتَلَ مِنَ الرُّومِ جَمَاعَةً) .

وَسَارَتِ الرُّومُ إِلَى أُشْتُومَ تِنِّيسِ، وَكَانَ عَلَيْهِ سُورٌ وَبَابَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ عَمِلَهُ الْمُعْتَصِمُ، فَنَهَبُوا مَا فِيهِ مِنْ سِلَاحٍ، وَأَخَذُوا الْبَابَيْنِ، وَرَجَعُوا وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ أَحَدٌ. ذِكْرُ وَفَاةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ الْأُمَوِيُّ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَوِلَايَتُهُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ. وَكَانَ أَسْمَرَ طَوِيلًا، أَقْنَى، أَعْيَنَ، عَظِيمَ اللِّحْيَةِ، مُخَضَّبًا بِالْحِنَّاءِ، وَخَلَّفَ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ وَلَدًا ذُكُورًا. وَكَانَ أَدِيبًا، شَاعِرًا، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي جُمْلَةِ مَنْ عَشِقَ جَوَارِيَهُ، وَكَانَ يَعْشَقُ جَارِيَةً لَهُ اسْمُهَا طَرُوبٌ، وَشُهِرَ بِهَا، وَكَانَ عَالِمًا بِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ عُلُومِ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَتْ أَيَّامُهُ أَيَّامَ عَافِيَةٍ وَسُكُونٍ، وَكَثُرَتِ الْأَمْوَالُ عِنْدَهُ، وَكَانَ بَعِيدَ الْهِمَّةِ، وَاخْتَرَعَ قُصُورًا، وَمُتَنَزَّهَاتٍ كَثِيرَةً، وَبَنَى الطُّرُقَ، وَزَادَ فِي الْجَامِعِ بِقُرْطُبَةَ رِوَاقَيْنِ، وَتُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَتِمَّ زَخْرَفَتَهُ، وَأَتَمَّهُ ابْنُهُ، وَبَنَى جَوَامِعَ كَثِيرَةً بِالْأَنْدَلُسِ. وَلَمَّا مَاتَ مَلَكَ ابْنَهُ مُحَمَّدٌ، فَجَرَى عَلَى سِيرَةِ وَالِدِهِ فِي الْعَدْلِ، وَأَتَمَّ بِنَاءَ الْجَامِعِ بِقُرْطُبَةَ، (وَأَمُّهُ تُسَمَّى بُهْتُرَ) ، وَوُلِدَ لَهُ مِائَةُ وَلَدٍ كُلُّهُمْ ذُكُورٌ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَقَامَ أُبَّهَةَ الْمُلْكِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَرَتَّبَ رُسُومَ الْمَمْلَكَةِ، وَعَلَا عَنِ التَّبَذُّلِ لِلْعَامَّةِ، فَكَانَ يُشَبَّهُ بِالْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي أُبَّهَةِ الْمُلْكِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَلَبَ الْمَاءَ الْعَذْبَ إِلَى قُرْطُبَةَ، وَأَدْخَلَهُ

إِلَيْهِ، وَجَعَلَ لِفَضْلِ الْمَاءِ مَصْنَعًا كَبِيرًا يَرِدُهُ النَّاسُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْمُتَوَكِّلُ نَحْوَ الْمَدَائِنِ، فَدَخَلَ بَغْدَادَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى الْمَدَائِنِ. وَغَزَا الصَّائِفَةَ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْأَرْمَنِيُّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَاهَوَيْهِ، وَكَانَ إِمَامًا عَالِمًا، وَجَرَى لَهُ مَعَ الشَّافِعِيِّ مُنَاظَرَةٌ فِي بُيُوتِ مَكَّةَ، وَكَانَ عُمْرُهُ سَبْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَمُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ الْمُحَدِّثُ.

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ] 239 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ بِأَخْذِ أَهِلِ الذَّمَّةِ بِلَبْسِ دُرَّاعَتَيْنِ عَسَلِيَّتَيْنِ عَلَى الْأَقْبِيَةِ وَالدَّرَارِيعِ، وَبِالِاقْتِصَارِ فِي مَرَاكِبِهِمْ عَلَى رُكُوبِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ دُونَ الْخَيْلِ وَالْبَرَاذِينِ. وَفِيهَا نَفَى الْمُتَوَكِّلُ عَلِيَّ بْنَ الْجَهْمِ إِلَى خُرَاسَانَ. (وَفِيهَا أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ بِهَدْمِ الْبِيَعِ الْمُحْدَثَةِ فِي الْإِسْلَامِ) . (وَفِيهَا سَيَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ جَيْشًا مَعَ أَخِيهِ الْحَكَمِ إِلَى قَلْعَةِ رَبَاحٍ، وَكَانَ أَهْلُ طُلَيْطِلَةَ قَدْ خَرَّبُوا سُورَهَا، وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، وَأَصْلَحَ الْحَكَمُ سُورَهَا، وَأَعَادَ مَنْ فَارَقَهَا مِنْ أَهْلِهَا إِلَيْهَا، وَأَصْلَحَ حَالَهَا، وَتَقَدَّمَ إِلَى طُلَيْطِلَةَ، فَأَفْسَدَ فِي نَوَاحِيهَا وَشَعَّثَهَا، وَسَيَّرَ مُحَمَّدٌ أَيْضًا جَيْشًا آخَرَ إِلَى طُلَيْطِلَةَ، فَلَمَّا قَارَبُوهَا خَرَجَتْ عَلَيْهِمُ الْجُنُودُ مِنَ الْمَكَامِنِ، فَانْهَزَمَ الْعَسْكَرُ، وَأُصِيبَ أَكْثَرُ مَنْ فِيهِ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْوَلِيدِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادَ الْقَاضِي بِبَغْدَاذَ فِي ذِي الْحِجَّةِ.

[ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ] وَغَزَا الصَّائِفَةَ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْأَرْمَنِيُّ. وَفِيهَا حَجَّ جَعْفَرُ بْنُ دِينَارٍ عَلَى الْأَحْدَاثِ بِطَرِيقِ مَكَّةَ وَالْمَوْسِمِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى، وَكَانَ وَالِيَ مَكَّةَ. وَفِيهَا اتَّفَقَ الشَّعَانِينُ لِلنَّصَارَى وَيَوْمَ النَّيرُوزِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ لِعِشْرِينَ لَيْلَةً خِلَتْ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، فَزَعَمَتِ النَّصَارَى أَنَّهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْإِسْلَامِ قَطُّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَحْمُودُ بْنُ غِيلَانَ الْمَرْوَزِيُّ أَبُو أَحْمَدَ، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ.

ثم دخلت سنة أربعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 240 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ وُثُوبِ أَهْلِ حِمْصَ بِعَامِلِهِمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ أَهْلُ حِمْصَ بِعَامِلِهِمْ أَبِي الْمُغِيثِ مُوسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّافِعِيِّ، وَكَانَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، فَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَخْرَجُوهُ، وَأَخْرَجُوا عَامِلَ الْخَرَاجِ، فَبَعَثَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَيْهِمْ عَتَّابَ بْنَ عَتَّابٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدَوَيْهِ الْأَنْبَارِيَّ، وَقَالَ لِعَتَّابٍ: قُلْ لَهُمْ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ بَدَّلَكُمْ بِعَامِلِكُمْ، فَإِنْ أَطَاعُوا فَوَلِّ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدَوَيْهِ، فَإِنْ أَبَوْ فَأَقِمْ وَأَعْلِمْنِي، حَتَّى أَمُدَّكَ بِرِجَالٍ وَفُرْسَانٍ. فَسَارُوا إِلَيْهِمْ، فَوَصَلُوا فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَرَضُوا بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدَوَيْهِ، فَعَمِلَ فِيهِمُ الْأَعَاجِيبَ، حَتَّى أَحْوَجَهُمْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجِ بِالْأَنْدَلُسِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجَ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ بِالْأَنْدَلُسِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ طُلَيْطِلَةَ كَانُوا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخِلَافِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ، وَعَلَى أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ سَارَ مُحَمَّدٌ فِي جُيُوشِهِ

إِلَى طُلَيْطِلَةَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُهَا بِذَلِكَ أَرْسَلُوا إِلَى مَلِكِ جِلِّيقِيَّةَ يَسْتَمِدُّونَهُ وَإِلَى مَلِكِ بَشْكَنْسَ فَأَمَدَّاهُمْ بِالْعَسَاكِرِ الْكَثِيرَةِ. فَلَمَّا سَمِعَ مُحَمَّدٌ بِذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ قَارَبَ طُلَيْطِلَةَ، عَبَّأَ أَصْحَابَهُ، وَقَدْ كَمَنَ لَهُمُ الْكُمَنَاءُ بِنَاحِيَةِ وَادِي سَلِيطٍ، وَتَقَدَّمَ هُوَ إِلَيْهِمْ فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ طُلَيْطِلَةَ ذَلِكَ أَعْلَمُوا الْفِرِنْجَ بِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، فَسَارَعُوا إِلَى قِتَالِهِمْ، وَطَمِعُوا فِيهِمْ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ، وَانْتَشَبَ الْقِتَالُ، خَرَجَتِ الْكُمَنَاءُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ طُلَيْطِلَةَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ مَا لَا يُحْصَى، وَجُمِعَ مِنَ الرُّؤُوسِ ثَمَانِيَةُ آلَافِ رَأْسٍ فُرِّقَتْ فِي الْبِلَادِ، فَذَكَرَ أَهْلُ طُلَيْطِلَةَ أَنَّ عِدَّةَ الْقَتْلَى مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ عِشْرُونَ أَلْفَ قَتِيلٍ، وَبَقِيَتْ جُثَثُ الْقَتْلَى عَلَى وَادِي سَلِيطٍ دَهْرًا طَوِيلًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ عَنِ الْقَضَاءِ، وَقُبِضَ مِنْهُ مَا مَبْلَغُهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَرْبَعَةُ آلَافِ جَرِيبٍ بِالْبَصْرَةِ. وَفِيهَا وَلِيَ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ قَضَاءَ الْقُضَاةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ. وَكَانَ عَلَى أَحْدَاثِ الْمَوَاسِمِ جَعْفَرُ بْنُ دِينَارٍ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادَ فِي الْمُحَرَّمِ بَعْدَ ابْنِهِ أَبِي الْوَلِيدِ بِعِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ دَاعِيَةً إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَخَذَ ذَلِكَ عَنْ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ، وَأَخَذَهُ بِشْرٌ مِنَ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ، وَأَخَذَهُ جَهْمٌ مِنَ الْجَعْدِ بْنِ أَدْهَمَ، وَأَخَذَهُ الْجَعْدُ مِنْ أَبَانِ بْنِ سَمْعَانَ، وَأَخَذَهُ أَبَانٌ مِنْ طَالُوتَ ابْنِ أُخْتِ لَبِيدٍ الْأَعْصَمِ وَخَتَنَهُ، وَأَخَذَهُ طَالُوتُ مِنْ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ لَبِيدٌ يَقُولُ بِخَلْقِ التَّوْرَاةِ، وَأَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ طَالُوتُ، وَكَانَ زِنْدِيقًا، فَأَفْشَى الزَّنْدَقَةَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حُمَيْدٍ أَبُو رَجَاءٍ الثَّقَفِيُّ، وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً، وَهُوَ خُرَاسَانِيٌّ مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، (وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَتُوُفِّيَ) أَبُو ثَوْرٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ الْبَغْدَاديُّ الْكَلْبِيُّ الْفَقِيهُ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبُو عُثْمَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ قَاضِيَ الْجَزِيرَةِ جَمِيعِهَا، وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَعَنِ ابْنِ عَنْبَسَةَ. وَقِيلَ: مَاتَ بَعْدَ سَنَةِ أَرْبَعِينَ [وَمِائَتَيْنِ] . وَكَانَ لِلشَّافِعِيِّ وَلَدٌ آخَرُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ مَاتَ بِمِصْرَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 241 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ وُثُوبِ أَهْلِ حِمْصَ بِعَامِلِهِمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ أَهْلُ حِمْصَ بِعَامِلِهِمْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدَوَيْهِ، وَأَعَانَهُمْ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ نَصَارَى حِمْصَ، فَكَتَبَ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِمُنَاهَضَتِهِمْ، وَأَمَدَّهُ بِجُنْدٍ مِنْ دِمَشْقَ وَالرَّمْلَةِ، (فَظَفَرَ بِهِمْ) ، فَضَرَبَ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ حَتَّى مَاتَا وَصَلَبَهُمَا عَلَى بَابِ حِمْصَ، وَسَيَّرَ ثَمَانِيَةَ رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ، وَظَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَشَرَةِ رِجَالٍ مِنْ أَعْيَانِهِمْ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَأَمَرَهُ الْمُتَوَكِّلُ بِإِخْرَاجِ النَّصَارَى مِنْهَا، وَهَدْمِ كَنَائِسِهِمْ، وَبِإِدْخَالِ الْبَيْعَةِ الَّتِي إِلَى جَانِبِ الْجَامِعِ إِلَى الْجَامِعِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. ذِكْرُ الْفِدَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ وَفِيهَا كَانَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ، بَعْدَ أَنْ قَتَلَتْ تَدُورَةُ مَلِكَةُ الرُّومِ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَإِنَّهَا عَرَضَتِ النَّصْرَانِيَّةَ عَلَى الْأَسْرَى، فَمَنْ تَنَصَّرَ جَعَلَتْهُ أُسْوَةَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْمُتَنَصِّرَةِ، وَمَنْ أَبَى قَتَلَتْهُ، وَأَرْسَلَتْ تَطْلُبُ الْمُفَادَاةَ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، فَأَرْسَلَ الْمُتَوَكِّلُ شُنَيْفًا الْخَادِمَ عَلَى الْفِدَاءِ، وَطَلَبَ قَاضِي الْقُضَاةِ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ أَنْ يَحْضُرَ الْفِدَاءَ، وَيَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَأَذِنَ لَهُ فَحَضَرَهُ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْقَضَاءِ ابْنَ أَبِي الشَّوَارِبِ، وَهُوَ شَابٌّ، وَوَقَعَ الْفِدَاءُ عَلَى نَهْرِ اللَّامِسِ، فَكَانَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الرِّجَالِ سَبْعَ مِائَةٍ وَخَمْسَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، وَمِنَ النِّسَاءِ مِائَةً وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ امْرَأَةً.

وَفِيهَا جَعَلَ الْمُتَوَكِّلُ كُلَّ كُورَةٍ شِمْشَاطَ عُشْرِيَّةً، وَكَانَتْ خَرَاجِيَّةً. ذِكْرُ غَارَاتِ الْبُجَاةِ بِمِصْرَ وَفِيهَا أَغَارَتِ الْبُجَاةُ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لَا تَغْزُو بِلَادَ الْإِسْلَامِ لِهُدْنَةٍ قَدِيمَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا مَضَى، وَفِي بِلَادِهِمْ مَعَادِنُ يُقَاسِمُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا، وَيُؤَدُّونَ إِلَى عُمَّالِ مِصْرَ نَحْوَ الْخُمْسِ. فَلَمَّا كَانَتْ أَيَّامُ الْمُتَوَكِّلِ امْتَنَعَتْ عَنْ أَدَاءِ ذَلِكَ، فَكَتَبَ صَاحِبُ الْبَرِيدِ بِمِصْرَ بِخَبَرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ قَتَلُوا عِدَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يَعْمَلُ فِي الْمَعَادِنِ، فَهَرَبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَأَنْكَرَ الْمُتَوَكِّلُ ذَلِكَ، فَشَاوَرَ فِي أَمْرِهِمْ، فَذُكِرَ لَهُ أَنَّهُمْ أَهْلُ بَادِيَةٍ، أَصْحَابُ إِبِلٍ وَمَاشِيَةٍ، وَأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى بِلَادِهِمْ صَعْبٌ لِأَنَّهَا مَفَاوِزُ، وَبَيْنَ أَرْضِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَهَا مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي أَرْضٍ قَفْرٍ وَجِبَالٍ وَعِرَةٍ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ يَدْخُلُهَا مِنَ الْجُيُوشِ يَحْتَاجُ أَنْ يَتَزَوَّدَ لِمُدَّةٍ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يُقِيمُهَا إِلَى أَنْ يَخْرُجَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ جَاوَزَ تِلْكَ الْمُدَّةَ هَلَكَ، وَأَخَذَتْهُمُ الْبُجَاةُ بِالْيَدِ، وَأَنَّ أَرْضَهُمْ لَا تَرُدُّ عَلَى سُلْطَانٍ شَيْئًا. فَأَمْسَكَ الْمُتَوَكِّلُ عَنْهُمْ، فَطَمِعُوا وَزَادَ شَرُّهُمْ حَتَّى خَافَ أَهْلُ الصَّعِيدِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ، فَوَلَّى الْمُتَوَكِّلُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقُمِّيَّ مُحَارَبَتَهُمْ، وَوَلَّاهُ مَعُونَةَ تِلْكَ الْكُورِ، وَهِيَ قُفْطُ، وَالْأَقْصُرُ، وَأَسْنَا وَأَرْمَنْتُ، وَأَسْوَانُ، وَأَمَرَهُ بِمُحَارَبَةِ الْبُجَاةِ، وَكَتَبَ إِلَى عَنْبَسَةَ بْنِ إِسْحَاقَ الضَّبِّيِّ عَامِلِ حَرْبِ مِصْرَ بِإِزَاحَةِ عِلَّتِهِ، وَإِعْطَائِهِ مِنَ الْجُنْدِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. وَسَارَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَرْضِ الْبُجَاةِ وَتَبِعَهُ مِمَّنْ يَعْمَلُ فِي الْمَعَادِنِ وَالْمُتَطَوِّعَةُ عَالَمٌ كَثِيرٌ، فَبَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا بَيْنَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، وَوَجَّهَ إِلَى الْقُلْزُمِ، فَحَمَّلَ فِي الْبَحْرِ سَبْعَةَ مَرَاكِبَ مَوْقُورَةً بِالدَّقِيقِ، وَالزَّيْتِ، وَالتَّمْرِ، وَالشَّعِيرِ، وَالسَّوِيقِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُوَافُوهُ بِهَا فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ مِمَّا يَلِي بِلَادَ الْبُجَاةِ، وَسَارَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَعَادِنَ الَّتِي يُعْمَلُ فِيهَا الذَّهَبُ، وَسَارَ إِلَى حُصُونِهِمْ وَقِلَاعِهِمْ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ مَلِكُهُمْ، وَاسْمُهُ عَلِيُّ بَابَا، فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ أَضْعَافِ مَنْ مَعَ الْقُمِّيِّ، فَكَانَتِ الْبُجَاةُ عَلَى الْإِبِلِ، وَهِيَ إِبِلٌ فُرَّةٌ تُشْبِهُ الْمَهَارِي، فَتَحَارَبُوا أَيَّامًا وَلَمْ يَصْدُقْهُمْ عَلِيُّ بَابَا الْقِتَالَ لِتَطُولَ الْأَيَّامُ، وَتَفْنَى أَزْوَادُ الْمُسْلِمِينَ وَعَلُوفَاتُهُمْ، فَيَأْخُذَهُمْ بِغَيْرِ حَرْبٍ، فَأَقْبَلَتْ تِلْكَ الْمَرَاكِبُ الَّتِي فِيهَا الْأَقْوَاتُ فِي الْبَحْرِ،

فَفَرَّقَ الْقُمِّيُّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ أَصْحَابِهِ (فَامْتَنَعُوا فِيهَا) . فَلَمَّا رَأَى عَلِيُّ بَابَا ذَلِكَ صَدَقَهُمُ الْقِتَالَ، وَجَمَعَ لَهُمْ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَتْ إِبِلُهُمْ ذَعِرَةً تَنْفِرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا رَأَى الْقُمِّيُّ ذَلِكَ جَمَعَ كَلَّ جَرَسٍ فِي عَسْكَرِهِ وَجَعَلَهَا فِي أَعْنَاقِ خَيْلِهِ، ثُمَّ حَمَلُوا عَلَى الْبُجَاةِ، فَنَفَرَتْ إِبِلُهُمْ لِأَصْوَاتِ الْأَجْرَاسِ، فَحَمَلَتْهُمْ عَلَى الْجِبَالِ وَالْأَوْدِيَةِ، وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ قَتْلًا وَأَسْرًا، حَتَّى أَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ، وَذَلِكَ أَوَّلَ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِحْصَاءِ الْقَتْلَى لِكَثْرَتِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ مَلِكَهُمْ عَلِيَّ بَابَا طَلَبَ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ مَمْلَكَتَهُ وَبِلَادَهُ، فَأَدَّى إِلَيْهِمُ الْخَرَاجَ لِلْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ مَنَعَهَا، وَهِيَ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَسَارَ مَعَ الْقُمِّيِّ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ، وَاسْتَخْلَفَ (عَلَى مَمْلَكَتِهِ) ابْنَهُ بَغْشَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ خَلَعَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، وَكَسَا جَمَلَهُ رَحْلًا مَلِيحًا وَجِلَالَ دِيبَاجٍ. وَوَلَّى الْمُتَوَكِّلُ الْبُجَاةَ طَرِيقَ مِصْرَ، مَا بَيْنَ مِصْرَ وَمَكَّةَ، سَعْدًا الْخَادِمَ الْإِيتَاخِيَّ، فَوَلَّى الْإِيتَاخِيُّ مُحَمَّدًا الْقُمِّيَّ، فَرَجَعَ إِلَيْهَا وَمَعَهُ عَلِي بَابَا وَهُوَ عَلَى دِينِهِ، وَكَانَ مَعَهُ صَنَمٌ مِنْ حِجَارَةٍ كَهَيْئَةِ الصَّبِيِّ يَسْجُدُ لَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا مُطِرَ النَّاسُ بِسَامَرَّا مَطَرًا شَدِيدًا فِي آبَ. وَقِيلَ فِيهَا: إِنَّهُ أُنْهِيَ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ أَنَّ عِيسَى بْنَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَاصِمٍ، صَاحِبَ خَانِ عَاصِمٍ بِبَغْدَاذَ، يَشْتُمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، فَكَتَبَ إِلَى

مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَنْ يَضْرِبَهُ بِالسِّيَاطِ، فَإِذَا مَاتَ رَمَى بِهِ فِي دِجْلَةَ، (فَفَعَلَ ذَلِكَ وَأُلْقِيَ فِي دِجْلَةَ) . وَفِيهَا وَقَعَ الصِّدَامُ فَنَفَقَتِ الدَّوَابُّ وَالْبَقَرُ. وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى عَيْنِ زِرْبَةَ، فَأَخَذَتْ مَنْ كَانَ بِهَا أَسِيرًا مِنَ الزُّطِّ مَعَ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ وَدَوَابِّهِمْ. (وَفِيهَا أَكْثَرَ مُحَمَّدٌ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، مِنَ الرِّجَالِ بِقَلْعَةِ رَبَاحٍ وَتِلْكَ النَّوَاحِي، لِيَقِفُوا عَلَى أَهْلِ طُلَيْطِلَةَ، وَسَيَّرَ الْجُيُوشَ إِلَى غَزْوِ الْفِرِنْجِ مَعَ مُوسَى، فَدَخَلُوا بِلَادَهُمْ، وَوَصَلُوا إِلَى أُلْبَةَ وَالْقِلَاعِ، وَافْتَتَحُوا بَعْضَ حُصُونِهَا وَعَادُوا) . [الْوَفَيَاتُ] وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، الْمَعْرُوفُ بِقَوْصَرَةَ، صَاحِبُ بَرِيدِ مِصْرَ وَالْغَرْبِ. [بَقِيَّةُ الْحَوَادِثِ] وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ. وَحَجَّ جَعْفَرُ بْنُ دِينَارٍ، وَهُوَ وَالِي الطَّرِيقِ وَأَحْدَاثِ الْمَوْسِمِ. وَفِيهَا كَثُرَ انْقِضَاضُ النُّجُومِ، فَكَانَتْ كَثِيرَةً لَا تُحْصَى، فَبَقِيَتْ لَيْلَةً مِنَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَى الصُّبْحِ.

وَفِيهَا كَانَتْ بِالرَّيِّ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ هَدَمَتِ الْمَسَاكِنَ، وَمَاتَ تَحْتَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ، وَبَقِيَتْ تَتَرَدَّدُ فِيهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَفِيهَا خَرَجَتْ رِيحٌ مِنْ بِلَادِ التُّرْكِ، فَقَتَلَتْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ يُصِيبُهُمْ بَرْدُهَا (فَيُزْكَمُونَ) ، فَبَلَغَتْ سَرْخَسَ، وَنَيْسَابُورَ، وَهَمَذَانَ، وَالرَّيَّ، فَانْتَهَتْ إِلَى حُلْوَانَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الشَّيْبَانِيُّ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 242 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ زَلَازِلُ هَائِلَةٌ بِقُومَسَ وَرَسَاتِيقِهَا فِي شَعْبَانَ، فَتَهَدَّمَتِ الدُّورُ، وَهَلَكَ تَحْتَ الْهَدْمِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، قِيلَ كَانَتْ عِدَّتُهُمْ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا وَسِتَّةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، وَكَانَ أَكْثَرُ ذَلِكَ بِالدَّامَغَانِ. وَكَانَ بِالشَّامِ وَفَارِسَ وَخُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ زَلَازِلُ، وَأَصْوَاتٌ مُنْكَرَةٌ، وَكَانَ بِالْيَمَنِ مِثْلُ ذَلِكَ مَعَ خَسْفٍ. وَفِيهَا خَرَجَتِ الرُّومُ مِنْ نَاحِيَةِ شِمْشَاطَ بَعْدَ خُرُوجِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الْأَرْمَنِيِّ مِنَ الصَّائِفَةِ، حَتَّى قَارَبُوا آمُدَ، وَخَرَجُوا مِنَ الثُّغُورِ وَالْجَزْرِيَّةِ فَانْتَهَبُوا، وَأَسَرُوا نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ

آلَافٍ، وَكَانَ دُخُولُهُمْ مِنْ نَاحِيَةِ إِبْرِيقِ قَرْيَةِ قَرِيبَاسَ ثُمَّ رَجَعُوا، فَخَرَجَ قَرِيبَاسُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَقْطَعُ، وَقَوْمٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمْ يَلْحَقُوهُمْ، فَكَتَبَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الْأَرْمَنِيِّ أَنْ يَسِيرَ إِلَى بِلَادِهِمْ شَاتِيًا. وَفِيهَا قَتَلَ الْمُتَوَكِّلُ رَجُلًا عَطَّارًا، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، فَمَكَثَ مُسْلِمًا سِنِينَ كَثِيرَةً، ثُمَّ ارْتَدَّ، وَاسْتُتِبَ فَأَبَى الرُّجُوعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقُتِلَ وَأُحْرِقَ. وَفِيهَا سَيَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِالْأَنْدَلُسِ جَيْشًا إِلَى بَلَدِ الْمُشْرِكِينَ، فَدَخَلُوا إِلَى بَرْشِلُونَةَ، وَحَارَبَ قِلَاعَهَا وَجَازَهَا إِلَى مَا وَرَاءَ أَعْمَالِهَا، فَغَنِمُوا كَثِيرًا، وَافْتَتَحُوا حِصْنًا مِنْ أَعْمَالِ بَرْشِلُونَةَ يُسَمَّى طِرَاجَةَ، وَهُوَ مِنْ آخِرِ حُصُونِ بَرْشِلُونَةَ) . [الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَغْلَبِ أَمِيرُ إِفْرِيقِيَّةَ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ، كَانَ عُمْرُهُ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَغْلَبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ) . وَفِيهَا مَاتَ أَبُو حَسَّانَ الزِّيَادِيُّ قَاضِي الشَّرْقِيَّةِ.

وَمَاتَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، قَاضِي مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ. [بَقِيَّةُ الْحَوَادِثِ] وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامُ، وَهُوَ عَلَى مَكَّةَ، وَحَجَّ جَعْفَرُ بْنُ دِينَارٍ عَلَى الطَّرِيقِ وَأَحْدَاثِ الْمَوْسِمِ. [بَقِيَّةُ الْوَفَيَاتِ] وَتُوفِيَ الْقَاضِي يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ التَّمِيمِيُّ بِالرَّبْذَةِ عَائِدًا مِنَ الْحَجِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيُّ، وَأَبُو حُصَيْنِ [بْنُ] يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ الْمُحَدِّثُ.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 243 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى دِمَشْقَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمَوْصِلِ، فَضَحَّى بِبَلَدٍ، فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ: أَظُنُّ الشَّامَ تَشْمَتُ بِالْعِرَاقِ ... إِذَا عَزَمَ الْإِمَامُ عَلَى انْطِلَاقِ فَإِنْ يَدَعِ الْعِرَاقَ وَسَاكِنِيهِ ... فَقَدْ تَبْلَى الْمَلِيحَةُ بِالطَّلَاقِ وَفِيهَا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صُولٍ الصُّولِيُّ، وَكَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا، فَوَلِيَ دِيوَانَ الضِّيَاعِ الْحَسَنُ بْنُ مُخَلَّدِ بْنِ الْجَرَّاحِ، خَلِيفَةُ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ عَاصِمُ بْنُ مَنْجُورٍ. [بَقِيَّةُ الْحَوَادِثِ] وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُوسَى. وَحَجَّ جَعْفَرُ بْنُ دِينَارٍ وَهُوَ وَالِي الطَّرِيقِ وَأَحْدَاثِ الْمَوْسِمِ.

وَفِيهَا خَرَجَ أَهْلُ طُلَيْطِلَةَ بِجَمْعِهِمْ إِلَى طَلَبِيرَةَ وَعَلَيْهَا مَسْعُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَرِيفُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَيَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ، فَلَقِيَهُمْ، فَقَاتَلَهُمْ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ طُلَيْطِلَةَ، وَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَحُمِلَ إِلَى قُرْطُبَةَ سَبْعَ مِائَةِ رَأْسٍ. [بَقِيَّةُ الْوَفَيَاتِ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ سُهَيْدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سُهَيْدٍ الْأَنْدَلُسِيُّ، وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السِّكِّيتِ، النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَقِيلَ: خَمْسٍ، وَقِيلَ: سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ. وَالْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسَبِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزَّاهِدُ، وَكَانَ قَدْ هَجَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِأَجْلِ الْكَلَامِ، فَاخْتَفَى لِتَعَصُّبِ الْعَامَّةِ لِأَحْمَدَ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ إِلَّا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ.

ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 244 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ الْمُتَوَكِّلُ مَدِينَةَ دِمَشْقَ فِي صَفَرَ، وَعَزَمَ عَلَى الْمَقَامِ بِهَا، وَنَقَلَ دَوَاوِينَ الْمُلْكِ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ بِالْبِنَاءِ بِهَا، ثُمَّ اسْتَوْبَأَ الْبَلَدَ، وَذَلِكَ بِأَنَّ هَوَاءَهُ بَارِدٌ نَدِيٌّ، وَالْمَاءُ ثَقِيلٌ، وَالرِّيحُ تَهُبُّ فِيهَا مَعَ الْعَصْرِ فَلَا تَزَالُ تَشْتَدُّ حَتَّى يَمْضِيَ عَامَّةُ اللَّيْلِ، وَهِيَ كَثِيرَةُ الْبَرَاغِيثِ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ، وَحَالَ الثَّلْجُ بَيْنَ السَّابِلَةِ وَالْمِيرَةِ، فَرَجَعَ إِلَى سَامَرَّا. وَكَانَ مُقَامُهُ بِدِمَشْقَ شَهْرَيْنِ وَأَيَّامًا، فَلَمَّا كَانَ بِهَا وَجَّهَ بُغَا الْكَبِيرَ لِغَزْوِ الرُّومِ، فَغَزَا الصَّائِفَةَ فَافْتَتَحَ صِمْلَةَ. وَفِيهَا عَقَدَ الْمُتَوَكِّلُ لِأَبِي السَّاجِ عَلَى طَرِيقِ مَكَّةَ مَكَانَ جَعْفَرِ بْنِ دِينَارٍ. وَقِيلَ: عَقَدَ لَهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَفِيهَا أُتِيَ الْمُتَوَكِّلُ بِحَرْبَةٍ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تُسَمَّى الْعَنَزَةَ، فَكَانَتْ لِلنَّجَاشِيِّ، فَأَهْدَاهَا لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَأَهْدَاهَا الزُّبَيْرُ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُرَكَّزُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْعِيدَيْنِ، فَكَانَ يَحْمِلُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ. وَفِيهَا غَضِبَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى بَخْتِيشُوعَ الطَّبِيبِ، وَقَبَضَ مَالَهُ، وَنَفَاهُ إِلَى الْبَحْرِينِ.

وَفِيهَا اتَّفَقَ عِيدُ الْأَضْحَى وَالشَّعَانِينُ لِلنَّصَارَى، وَعِيدُ الْفِطْرِ لِلْيَهُودِ، فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُوسَى. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ الْمَرْوَزِيُّ، وَهُمَا إِمَامَانِ فِي الْحَدِيثِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ الْقَاضِي فِي جُمَادَى الْأُولَى. (أَسِيدُ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ) .

ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 245 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ بِبِنَاءِ الْمَاخُوزَةِ، وَسَمَّاهَا الْجَعْفَرِيَّةَ، وَأَقْطَعَ الْقُوَّادَ وَأَصْحَابَهُ فِيهَا، وَجَدَّ فِي بِنَائِهَا، وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا فِيمَا قِيلَ: أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَجَمَعَ فِيهَا الْقُرَّاءَ، فَقَرَؤُوا، وَحَضَرَهَا أَصْحَابُ الْمَلَاهِي، فَوَهَبَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ يُسَمِّيهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْمُتَوَكِّلِيَّةَ، وَبَنَى فِيهَا قَصْرًا سَمَّاهُ لُؤْلُؤَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ فِي عُلُوِّهِ، وَحَفَرَ لَهَا نَهْرًا يَسْقِي مَا حَوْلَهَا، فَقُتِلَ الْمُتَوَكِّلُ، فَبَطَلَ حَفَرُ النَّهْرِ، وَأُخْرِبَتِ الْجَعْفَرِيَّةُ. وَفِيهَا زُلْزِلَتْ بِلَادُ الْمَغْرِبِ، فَخَرِبَتِ الْحُصُونُ، وَالْمَنَازِلُ، وَالْقَنَاطِرُ، فَفَرَّقَ الْمُتَوَكِّلُ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فِيمَنْ أُصِيبَ بِمَنْزِلِهِ. وَزُلْزِلَ عَسْكَرُ الْمَهْدِيِّ، وَالْمَدَائِنُ، وَزُلْزِلَتْ أَنْطَاكِيَةُ، فَقُتِلَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَسَقَطَ مِنْهَا أَلْفٌ وَخَمْسُ مِائَةِ دَارٍ، وَسَقَطَ مِنْ سُورِهَا نَيِّفٌ وَتِسْعُونَ بُرْجًا، وَسَمِعُوا أَصْوَاتًا هَائِلَةً لَا يُحْسِنُونَ وَصْفَهَا، وَتَقَطَّعَ جَبَلُهَا الْأَقْرَعُ وَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ.

وَهَاجَ الْبَحْرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَارْتَفَعَ مِنْهُ دُخَّانٌ أَسْوَدُ مُظْلِمٌ مُنْتِنٌ، وَغَارَ مِنْهَا نَهْرٌ عَلَى فَرْسَخٍ لَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ، وَسَمِعَ أَهْلُ سِيسَ، فِيمَا قِيلَ: صَيْحَةً دَائِمَةً هَائِلَةً، فَمَاتَ مِنْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَتَزَلْزَلَتْ دِيَارُ الْجَزِيرَةِ، وَالثُّغُورِ، وَطَرَسُوسَ، وَأَدَنَةَ، وَزُلْزِلَتِ الشَّامُ، فَلَمْ يَسْلَمْ مِنَ اللَّاذِقِيَّةِ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَهَلَكَ أَهْلُ جَبَلَةَ. وَفِيهَا غَارَتْ مُشَاشُ عَيْنِ مَكَّةَ، فَبَلَغَ ثَمَنُ الْقِرْبَةِ دِرْهَمًا، فَبَعَثَ الْمُتَوَكِّلُ مَالًا، وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا. وَفِيهَا مَاتَ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، وَهِلَالُ الرَّأْيِ. وَفِيهَا هَلَكَ نَجَاحُ بْنُ سَلَمَةَ، وَكَانَ سَبَبُ هَلَاكِهِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِيوَانِ التَّوْقِيعِ، وَتَتَبُّعِ الْعُمَّالِ، وَكَانَ عَلَى الضِّيَاعِ، فَكَانَ جَمِيعُ الْعُمَّالِ يَتَوَقَّوْنَهُ، وَيَقْضُونَ حَوَائِجَهُ، وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ رُبَّمَا نَادَمَهُ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ مُخَلَّدٍ، وَمُوسَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَدِ انْقَطَعَا إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ، وَزِيرِ الْمُتَوَكِّلِ، وَكَانَ الْحَسَنُ عَلَى دِيوَانِ الضَّيَاعِ، وَمُوسَى

عَلَى دِيوَانِ الْخَرَاجِ، فَكَتَبَ نَجَاحُ بْنُ سَلَمَةَ فِيهِمَا رُقْعَةً إِلَى الْمُتَوَكِّلِ: أَنَّهُمَا خَانَا وَقَصَّرَا، وَأَنَّهُ يَسْتَخْرِجُ مِنْهُمَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَقَالَ لَهُ الْمُتَوَكِّلُ: بَكِّرْ غَدًا حَتَّى أَدْفَعَهُمَا إِلَيْكَ. فَغَدَا وَقَدْ رَتَّبَ أَصْحَابُهُ لِأَخْذِهِمَا، فَلَقِيَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى الْوَزِيرُ، فَقَالَ لَهُ: أَنَا أُشِيرُ عَلَيْكَ بِمُصَالَحَتِهِمَا، وَتَكْتُبُ رُقْعَةً أَنَّكَ كُنْتَ شَارِبًا، وَتَكَلَّمْتَ نَاسِيًا، وَأَنَا أُصْلِحُ بَيْنِكُمَا، وَأُصْلِحُ الْحَالَ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَلَمْ يَزَلْ يَخْدَعُهُ حَتَّى كَتَبَ خُطَّةً بِذَلِكَ. فَلَمَّا كَتَبَ خَطَّهُ صَرَفَهُ، وَأَحْضَرَ الْحَسَنَ وَمُوسَى، وَعَرَّفَهُمَا الْحَالَ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَكْتُبَا فِي نَجَاحٍ وَأَصْحَابِهِ بِأَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، فَفَعَلَا، وَأَخَذَ الرُّقْعَتَيْنِ وَأَدْخَلَهُمَا عَلَى الْمُتَوَكِّلِ، وَقَالَ: قَدْ رَجَعَ نَجَاحٌ عَمَّا قَالَ، وَهَذِهِ رُقْعَةُ مُوسَى وَالْحَسَنِ يَتَقَبَّلَانِ بِمَا كَتَبَا، فَتَأْخُذُ مَا ضَمَّنَا عَلَيْهِ، ثُمَّ تَعْطِفُ عَلَيْهِمَا، فَتَأْخُذُ مِنْهُمَا قَرِيبًا مِنْهُ. فَسُرَّ الْمُتَوَكِّلُ بِذَلِكَ، وَأَمَرَ بِدَفْعِهِ إِلَيْهِمَا، فَأَخَذَاهُ وَأَوْلَادَهُ، فَأَقَرُّوا بِنَحْوِ مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ سِوَى الْغَلَّاتِ، وَالْغَرْسِ، وَالضِّيَاعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَبَضَ ذَلِكَ أَجْمَعَ، وَضُرِبَ، ثُمَّ عُصِرَتْ خِصْيَتَاهُ حَتَّى مَاتَ، وَأَقَرَّ أَوْلَادُهُ بَعْدَ الضَّرْبِ بِسَبْعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، سِوَى مَا لَهُمَا مِنْ مِلْكٍ وَغَيْرِهِ، فَأَخَذَ الْجَمِيعَ وَأَخَذَ مِنْ وُكَلَائِهِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ مَالًا جَزِيلًا. وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى سُمَيْسَاطَ، فَقَتَلُوا، وَسَبَوْا، (وَأَسَرُوا خَلْقًا كَثِيرًا) ، وَغَزَا عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْأَرْمَنِيُّ الصَّائِفَةَ. وَمَنَعَ أَهْلُ لُؤْلُؤَةَ رَئِيسَهُمْ مِنَ الصُّعُودِ إِلَيْهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلِكُ الرُّومِ بِطْرِيقًا، يَضْمَنُ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَلْفَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِ لُؤْلُؤَةً، فَأَصْعَدُوا الْبِطْرِيقِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أُعْطُوا

أَرْزَاقَهُمُ الْفَائِتَةَ وَمَا أَرَادُوا، فَسَلَّمُوا لُؤْلُؤَةَ وَالْبِطْرِيقَ إِلَى بِلْكَاجُورَ، فَسَيَّرَهُ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ، فَبَذَلَ مَلِكُ الرُّومِ فِي فِدَائِهِ أَلْفَ مُسْلِمٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامُ يُعْرَفُ بِالزَّيْنَبِيِّ، وَهُوَ وَالِي مَكَّةَ. وَكَانَ نَيْرُوزُ الْمُتَوَكِّلِ الَّذِي أَرْفَقَ أَهْلُ الْخَرَاجِ بِتَأْخِيرِهِ إِيَّاهُ عَنْهُمْ لِإِحْدَى عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلِسَبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ حُزَيْرَانَ، وَلِثَمَانٍ وَعِشْرِينَ مِنْ أردبيهشت، فَقَالَ الْبُحْتُرِيُّ: إِنَّ يَوْمَ النَّيْرُوزِ عَادَ إِلَى ... الْعَهْدِ الَّذِي سَنَّهُ أَرْدَشِيرُ. ذِكْرُ خُرُوجِ الْكُفَّارِ بِالْأَنْدَلُسِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ. فِي هَذهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْمَجُوسُ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، فِي مَرَاكِبَ، إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، صَاحِبُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، بِإِخْرَاجِ الْعَسَاكِرِ إِلَى قِتَالِهِمْ، فَوَصَلَتْ مَرَاكِبُ الْمَجُوسِ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ، فَحَلَّتْ بِالْجَزِيرَةِ، وَدَخَلَتِ الْحَاضِرَ إِلَى قِتَالِهِمْ، وَأَحْرَقَتِ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ، ثُمَّ جَازَتْ إِلَى الْعُدْوَةِ، فَحَلَّتْ بِنَاكُورَ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ تُدْمِيرَ، وَدَخَلُوا حِصْنَ أَرْيُوالَةَ. ثُمَّ تَقَدَّمُوا إِلَى حَائِطِ إِفْرِنْجَةَ، وَأَغَارُوا، وَأَصَابُوا مِنَ النَّهْبِ وَالسَّبْيِ كَثِيرًا، ثُمَّ

انْصَرَفُوا، فَلَقِيَتْهُمْ مَرَاكِبُ مُحَمَّدٍ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَأَحْرَقُوا مَرْكِبَيْنِ مِنْ مَرَاكِبِ الْكُفَّارِ، وَأَخَذُوا مَرْكِبَيْنِ آخَرَيْنِ، فَغَنِمُوا مَا فِيهِمَا، فَحَمِيَ الْكَفَرَةُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَجَدُّوا فِي الْقِتَالِ، فَاسْتَشْهَدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَضَتْ مَرَاكِبُ الْمَجُوسِ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى مَدِينَةِ بَنْبَلُونَةَ، فَأَصَابُوا صَاحِبَهَا غَرْسِيةَ الْفِرِنْجِيَّ، فَافْتَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِتِسْعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ. وَفِيهَا غَزَا عَامِلُ طَرَسُونَةَ إِلَى بَنْبَلُونَةَ، فَافْتَتَحَ حِصْنَ بَيْلَسَانَ وَسَبَى أَهْلَهُ، ثُمَّ كَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَقْعَةٌ اسْتُشْهِدَ فِيهَا جَمَاعَةٌ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْبَرْبَرِ وَابْنِ الْأَغْلَبِ بِإِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ بَيْنَ الْبَرْبَرِ وَعَسْكَرِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَغْلَبِ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَسَبَبُهَا أَنَّ بَرْبَرَ لَهَانَ امْتَنَعُوا عَلَى عَامِلِ طَرَابُلُسَ مِنْ أَدَاءِ عُشُورِهِمْ وَصَدَقَاتِهِمْ، وَحَارَبُوهُ، فَهَزَمُوهُ، فَقَصَدَ لُبْدَةَ، فَحَصَّنَهَا، وَسَارَ إِلَى طَرَابُلُسَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَمِيرُ جَيْشًا مَعَ أَخِيهِ زِيَادَةِ اللَّهِ، فَانْهَزَمَ الْبَرْبَرُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَسَيَّرَ زِيَادَةُ اللَّهِ الْخَيْلَ فِي آثَارِهِمْ، فَقَتَلَ مَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمْ، وَأَسَرَ جَمَاعَةً، فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ، وَأُحْرِقَ مَا كَانَ فِي عَسْكَرِهِمْ، فَأَذْعَنَ الْبَرْبَرُ بَعْدَهَا، وَأَعْطُوا الرَّهْنَ، وَأَدُّوا طَاعَتَهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ (فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ النَّحْوِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السِّكِّيتِ، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ اتَّصَلَ بِالْمُتَوَكِّلِ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ الْمُعْتَزُّ وَالْمُؤَيَّدُ، أَوِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ؟ فَتَنَقَّصَ ابْنَيْهِ، وَذَكَرَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، بِمَا هُمَا أَهْلٌ لَهُ، فَأَمَرَ الْأَتْرَاكَ فَدَاسُوا بَطْنَهُ، فَحُمِلَ إِلَى دَارِهِ، فَمَاتَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ فِي ذِي الْقِعْدَةِ،

وَأَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ الصُّوفِيُّ، نَهَشَتْهُ السِّبَاعُ فَمَاتَ بِالْبَادِيَةِ. وَأَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، الْمَعْرُوفُ بِالْكَرَابِيسِيُّ، صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي الْعَنْبَرِيُّ، وَكَانَ قَدْ عَمِيَ.

ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 246 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَفِيهَا غَزَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَقْطَعُ الصَّائِفَةَ، فَأَخْرَجَ سَبْعَةَ (عَشَرَ) أَلْفَ رَأْسٍ. وَغَزَا قَرْيَبَاسَ، وَأَخْرَجَ خَمْسَةَ آلَافِ رَأْسٍ. وَغَزَا الْفَضْلُ بْنُ قَارَنَ بَحْرًا فِي عِشْرِينَ مَرْكِبًا، فَافْتَتَحَ حِصْنَ أَنْطَاكِيَةَ. وَعَزَا بِلْكَاجُورَ، فَغَنِمَ، وَسَبَى. وَغَزَا عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْأَرْمَنِيُّ، فَأَخْرَجَ خَمْسَةَ آلَافِ رَأْسٍ، وَمِنَ الدَّوَابِّ، وَالرَّمَكِ، وَالْحَمِيرِ، نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ رَأْسٍ. (وَفِيهَا تَحَوَّلَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى الْجَعْفَرِيَّةِ) . وَفِيهَا كَانَ الْفِدَاءُ عَلَى يَدِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الْأَرْمَنِيِّ، فَفُودِيَ بِأَلْفَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَسَبْعَةٍ وَسِتِّينَ نَفْسًا.

وَفِيهَا مُطِرَ أَهْلُ بَغْدَادَ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ فَوْقَ الْأَجَاجِيرِ، وَصَلَّى الْمُتَوَكِّلُ صَلَاةَ الْفِطْرِ بِالْجَعْفَرِيَّةِ. وَوَرَدَ الْخَبَرُ أَنَّ سِكَّةً بِنَاحِيَةِ بَلْخٍ تُعْرَفُ بِسِكَّةِ الدَّهَّاقِينِ مُطِرَتْ دَمًا عَبِيطًا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الزَّيْنَبِيُّ. وَضَحَّى أَهْلُ سَامَرَّا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَلَى الرُّؤْيَةِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ. (وَفِيهَا سَارَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، فِي جُيُوشٍ عَظِيمَةٍ، وَأُهْبَةٍ كَثِيرَةٍ، إِلَى بَلَدِ بَنبَلُونَةَ، فَوَطِئَ بِلَادَهَا، وَدَوَّخَهَا، وَخَرَّبَهَا، وَنَهَبَهَا وَقَتَلَ فِيهَا، فَأَكْثَرَ، وَافْتَتَحَ حِصْنَ فَيْرُوسَ، وَحِصْنَ فَالْحُسْنَ (؟) ، وَحِصْنَ الْقَشْتَلِ، وَأَصَابَ فِيهِ فُرْتُونُ بْنُ غَرْسِيَه، فَحَبَسَهُ بِقُرْطُبَةَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ عُمْرُهُ لَمَّا مَاتَ سِتًّا وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَكَانَ مُقَامُ مُحَمَّدٍ بِأَرْضِ بَنْبَلُونَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ دِعْبَلُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُزَاعِيُّ الشَّاعِرُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ يَتَشَيَّعُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ السَّرِّيُّ بْنُ مُعَاذٍ الشَّيْبَانِيُّ بِالرَّيِّ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، حَسَنَ السِّيرَةِ، مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ.

وَتُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ [بِبَغْدَاذَ] ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَسَدِيُّ (الْمُلَقَّبُ) بِلُوَيْنَ.

ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 247 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ مَقْتَلِ الْمُتَوَكِّلِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الْمُتَوَكِّلُ، وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِنْشَاءِ الْكُتُبِ بِقَبْضِ ضِيَاعِ وَصَيْفٍ بِأَصْبَهَانَ وَالْجَبَلِ، وَإِقْطَاعَهَا الْفَتْحَ بْنَ خَاقَانَ، فَكُتِبَتْ، وَصَارَتْ إِلَى الْخَاتَمِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ وَصَيْفًا، وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ أَوَّلَ جُمْعَةٍ فِي رَمَضَانَ، وَشَاعَ فِي النَّاسِ، وَاجْتَمَعُوا لِذَلِكَ، وَخَرَجَ بَنُو هَاشِمٍ مِنْ بَغْدَادَ لِرَفْعِ الْقَصَصِ وَكَلَامِهِ إِذَا رَكِبَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ، وَأَرَادَ الرُّكُوبَ لِلصَّلَاةِ، قَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى، وَالْفَتْحُ بْنُ خَاقَانَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ كَثَرُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، فَبَعْضٌ مُتَظَلِّمٌ، وَبَعْضٌ طَالِبُ حَاجَةٍ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَشْكُو ضِيقَ الصَّدْرِ، وَعِلَّةً بِهِ، فَإِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَأْمُرَ بَعْضَ وُلَاةِ الْعُهُودِ بِالصَّلَاةِ، وَنَكُونَ مَعَهُ، فَلْيَفْعَلْ. فَأَمَرَ الْمُنْتَصِرَ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا نَهَضَ لِلرُّكُوبِ قَالَا لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْمُرَ الْمُعْتَزَّ بِالصَّلَاةِ، فَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ لِتُشَرِّفَهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ بَلَغَ اللَّهُ بِهِ، وَكَانَ قَدْ وُلِدَ لِلْمُعْتَزِّ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَدٌ، فَأَمَرَ الْمُعْتَزَ، فَرَكِبَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَأَقَامَ الْمُنْتَصِرُ فِي دَارِهِ بِالْجَعْفَرِيَّةِ، فَزَادَ ذَلِكَ فِي إِغْرَائِهِ. فَلَمَّا فَرَغَ الْمُعْتَزُّ مِنْ خُطْبَتِهِ قَامَ إِلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ بْنُ خَاقَانَ، فَقَبَّلَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ انْصَرَفَ وَمَعَهُ النَّاسُ فِي مَوْكِبِ الْخِلَافَةِ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ عِنْدَهُ، فَسَّرَهُ ذَلِكَ.

فَلَمَّا كَانَ عِيدُ الْفِطْرِ قَالَ: مُرُوا الْمُنْتَصِرَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ! فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ: قَدْ كَانَ النَّاسُ يَتَطَلَّعُونَ إِلَى رُؤْيَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاحْتَشَدُوا لِذَلِكَ، فَلَمْ يَرْكَبْ، وَلَا يَأْمَنُ إِنْ هُوَ لَمْ يَرْكَبِ الْيَوْمَ، أَنْ يَرْجُفَ النَّاسُ بِعِلَّتِهِ، فَإِذَا رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسُرَّ الْأَوْلِيَاءَ، وَيَكْبِتَ الْأَعْدَاءَ بِرُكُوبِهِ فَلْيَفْعَلْ. فَرَكِبَ وَقَدْ صُفَّ لَهُ النَّاسُ نَحْوَ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ، وَتَرَجَّلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَصَلَّى، وَرَجَعَ، فَأَخَذَ حِفْنَةً مِنَ التُّرَابِ، فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ كَثْرَةَ هَذَا الْجَمْعِ، وَرَأَيْتُهُمْ تَحْتَ يَدِي، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَوَاضَعَ لِلَّهِ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ افْتَصَدَ، وَاشْتَهَى لَحْمَ جَزُورٍ، فَأَكَلَهُ، وَكَانَ قَدْ حَضَرَ عِنْدَهُ ابْنُ الْحَفْصِيِّ وَغَيْرُهُ، فَأَكَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ يَوْمٌ أَسَرَّ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَدَعَا النُّدَمَاءَ وَالْمُغَنِّينَ، فَحَضَرُوا. وَأَهْدَتْ لَهُ أُمُّ الْمُعْتَزِّ مُطْرَفَ خَزٍّ أَخْضَرَ، لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَأَطَالَ، وَأَكْثَرَ تَعَجُّبَهُ مِنْهُ، وَأَمَرَ فَقُطِعَ نِصْفَيْنِ وَرَدَّهُ عَلَيْهَا، وَقَالَ لِرَسُولِهَا: وَاللَّهِ إِنَّ نَفْسِي لِتُحَدِّثُنِي أَنِّي لَا أَلْبَسُهُ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَلْبَسَهُ أَحَدٌ بَعْدِي; وَلِهَذَا أَمَرْتُ بِشَقِّهِ. قَالَ: فَقُلْنَا: نُعِيذُكَ بِاللَّهِ أَنْ تَقُولَ مِثْلَ هَذَا، قَالَ: وَأَخَذَ فِي الشَّرَابِ وَاللَّهْوِ، وَلَجَّ بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا وَاللَّهِ مُفَارِقُكُمْ عَنْ قَلِيلٍ! وَلَمْ يَزَلْ فِي لَهْوِهِ وَسُرُورِهِ إِلَى اللَّيْلِ. وَكَانَ قَدْ عَزَمَ هُوَ وَالْفَتْحُ أَنْ يَفْتِكَا بُكْرَةَ غَدٍ بِالْمُنْتَصِرِ وَوَصِيفٍ وَبُغَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ قُوَّادِ الْأَتْرَاكِ، وَقَدْ كَانَ الْمُنْتَصِرُ وَاعَدَ الْأَتْرَاكَ وَوَصِيفًا وَغَيْرَهُ عَلَى قَتْلِ الْمُتَوَكِّلِ. وَكَثُرَ عَبَثُ الْمُتَوَكِّلِ، قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ، بِابْنِهِ الْمُنْتَصِرِ، مَرَّةً يَشْتُمُهُ، وَمَرَّةً يَسْقِيهِ فَوْقَ طَاقَتِهِ، وَمَرَّةً يَأْمُرُ بِصَفْعِهِ، وَمَرَّةً يَتَهَدَّدُهُ بِالْقَتْلِ، ثُمَّ قَالَ لِلْفَتْحِ: بَرِئْتُ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنْ لَمْ تَلْطِمْهُ، يَعْنِي الْمُنْتَصِرَ، فَقَامَ إِلَيْهِ فَلَطَمَهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَّ يَدَهُ عَلَى قَفَاهُ، ثُمَّ قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ: اشْهَدُوا عَلَيَّ جَمِيعًا أَنِّي قَدْ خَلَعْتُ الْمُسْتَعْجَلَ، يَعْنِي الْمُنْتَصِرَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: سَمَّيْتُكَ الْمُنْتَصِرَ، فَسَمَّاكَ النَّاسُ، لِحُمْقِكَ، الْمُنْتَظَرَ، ثُمَّ صِرْتَ الْآنَ الْمُسْتَعْجَلَ.

فَقَالَ الْمُنْتَصِرُ: لَوْ أَمَرْتَ بِضَرْبِ عُنُقِي كَانَ أَسْهَلَ عَلَيَّ مِمَّا تَفْعَلُهُ بِي، فَقَالَ: اسْقُوهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْعَشَاءِ فَأُحْضِرَ، وَذَلِكَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَخَرَجَ الْمُنْتَصِرُ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَمَرَ بَنَانًا غُلَامَ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى أَنْ يَلْحَقَهُ، وَأَخَذَ بِيَدِ زَرَافَةَ (الْحَاجِبِ) ، وَقَالَ لَهُ: امْضِ مَعِي! فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَنَمْ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ النَّبِيذَ، وَالسَّاعَةَ يَخْرُجُ بُغَا وَالنُّدَمَاءُ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ تَجْعَلَ أَمْرَ وَلَدِكَ إِلَيَّ، فَإِنَّ أُوتَامَشَ سَأَلَنِي أَنْ أُزَوِّجَ وَلَدَهُ مِنَ ابْنَتِكَ، وَابْنَكَ مِنِ ابْنَتِهِ، فَقَالَ: نَحْنُ عَبِيدُكَ فَمُرْ بِأَمْرِكَ! فَسَارَ مَعَهُ إِلَى حُجْرَةٍ هُنَاكَ، وَأَكَلَا طَعَامًا، فَسَمِعَا الضَّجَّةَ وَالصُّرَاخَ، فَقَامَا، وَإِذَا بُغَا قَدْ لَقِيَ الْمُنْتَصِرَ، فَقَالَ الْمُنْتَصِرُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: خَيْرٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: مَا تَقَوُلُ وَيْلَكَ؟ قَالَ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجَرَكَ (فِي سَيِّدِنَا) أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ عَبْدُ اللَّهِ دَعَاهُ فَأَجَابَهُ. فَجَلَسَ الْمُنْتَصِرُ، وَأَمَرَ بِبَابِ الْبَيْتِ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْمُتَوَكِّلُ، فَأُغْلِقَ، وَأُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ كُلُّهَا، وَبَعَثَ إِلَى وَصِيفٍ يَأْمُرُهُ بِإِحْضَارِ الْمُعْتَزِّ وَالْمُؤَيَّدِ عَنْ رِسَالَةِ الْمُتَوَكِّلِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ قَتْلِ الْمُتَوَكِّلِ، فَإِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ الْمُنْتَصِرُ دَعَا الْمُتَوَكِّلُ بِالْمَائِدَةِ، وَكَانَ بُغَا الصَّغِيرُ الْمَعْرُوفُ بِالشَّرَابِيِّ قَائِمًا عِنْدَ السِّتْرِ، وَذَلِكَ الْيَوْمُ كَانَ نَوْبَةَ بُغَا الْكَبِيرِ، وَكَانَ خَلِيفَتَهُ فِي الدَّارِ ابْنُهُ مُوسَى، وَمُوسَى هُوَ ابْنُ خَالَةِ الْمُتَوَكِّلِ، وَكَانَ أَبُوهُ يَوْمَئِذٍ بِسُمَيْسَاطَ، فَدَخَلَ بُغَا الصَّغِيرُ إِلَى الْمَجْلِسِ، فَأَمَرَ النُّدَمَاءَ بِالِانْصِرَافِ إِلَى حُجَرِهِمْ، فَقَالَ لَهُ الْفَتْحُ: لَيْسَ هَذَا وَقْتَ انْصِرَافِهِمْ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَرْتَفِعْ، فَقَالَ بُغَا: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَنِي أَنَّهُ إِذَا جَاوَزَ السَّبْعَةَ لَا أَتْرُكُ أَحَدًا، وَقَدْ شَرِبَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَطْلًا، وَحَرَمُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ خَلْفَ السِّتَارَةِ، وَأَخْرَجَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْفَتْحُ وَعَثْعَثُ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْ خَدَمِ الْخَاصَّةِ، وَأَبُو أَحْمَدَ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ، وَهُوَ أَخُو الْمُؤَيَّدِ لِأُمِّهِ. وَكَانَ بُغَا الشَّرَابِيُّ أَغْلَقَ الْأَبْوَابَ كُلَّهَا، إِلَّا بَابَ الشَّطِّ، وَمِنْهُ دَخَلَ الْقَوْمُ الَّذِينَ قَتَلُوهُ، فَبَصُرَ بِهِمْ أَبُو أَحْمَدَ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا سُفَلُ! وَإِذَا سُيُوفٌ مُسَلَّلَةٌ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُتَوَكِّلُ صَوْتَ أَبِي أَحْمَدَ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَرَآهُمْ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا بُغَا؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ رِجَالُ النُّوبَةِ، فَرَجَعُوا إِلَى وَرَائِهِمْ عِنْدَ كَلَامِهِ، وَلَمْ يَكُنْ وَاجِنُ وَأَصْحَابُهُ وَوَلَدُ وَصِيفٍ حَضَرُوا مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ بُغَا: يَا سُفَلُ! أَنْتُمْ مَقْتُولُونَ لَا مَحَالَةَ، فَمُوتُوا كِرَامًا! فَرَجَعُوا، فَابْتَدَرَهُ بَغْلُونُ، فَضَرَبَهُ عَلَى كَتِفِهِ وَأُذُنِهِ فَقَدَّهُ، فَقَالَ: مَهْلًا! قَطَعَ اللَّهُ يَدَكَ، وَأَرَادَ الْوُثُوبَ بِهِ،

وَاسْتَقْبَلَهُ بِيَدِهِ، فَضَرَبَهَا، فَأَبَانَهَا، وَشَارَكَهُ بَاغِرُ، فَقَالَ الْفَتْحُ: وَيْلَكُمُ! أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. . . وَرَمَى بِنَفْسِهِ عَلَى الْمُتَوَكِّلِ، فَبَعَجُوهُ بِسُيُوفِهِمْ، فَصَاحَ: الْمَوْتُ! وَتَنَحَّى، فَقَتَلُوهُ. وَكَانُوا قَالُوا لِوَصِيفٍ لِيَحْضُرَ مَعَهُمْ، وَقَالُوا: إِنَّا نَخَافُ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: أَرْسِلْ مَعَنَا بَعْضَ وَلَدِكَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُمْ خَمْسَةً مِنْ وَلَدِهِ: صَالِحًا، وَأَحْمَدَ، وَعَبْدَ اللَّهِ، وَنَصْرًا، وَعُبَيْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا دَخَلُوا نَظَرَ إِلَيْهِمْ عَثْعَثُ، فَقَالَ لِلْمُتَوَكِّلِ: قَدْ فَرَغْنَا مِنَ الْأَسَدِ، وَالْحَيَّاتِ، وَالْعَقَارِبِ، وَصِرْنَا إِلَى السُّيُوفِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُبَّمَا أَسْلَى الْحَيَّةَ، وَالْعَقْرَبَ، وَالْأَسَدَ، فَلَمَّا ذَكَرَ عَثْعَثُ السُّيُوفَ قَالَ: يَا وَيْلَكَ! أَيُّ سُيُوفٍ؟ فَمَا اسْتَتَمَّ كَلَامَهُ حَتَّى دَخَلُوا عَلَيْهِ وَقَتَلُوهُ، وَقَتَلُوا الْفَتْحَ، وَخَرَجُوا إِلَى الْمُنْتَصِرِ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، وَقَالُوا: مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَامُوا عَلَى رَأْسِ زَرَافَةَ بِالسُّيُوفِ، وَقَالُوا: بَايِعْ، فَبَايَعَ. وَأَرْسَلَ الْمُنْتَصِرُ إِلَى وَصِيفٍ: إِنَّ الْفَتْحَ قَدْ قَتَلَ أَبِي فَقَتَلْتُهُ، فَاحْضُرْ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِكَ! فَحَضَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَبَايَعُوا. وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى فِي حُجْرَتِهِ يُنَفِّذُ الْأُمُورَ وَلَا يَعْلَمُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ جَعْفَرُ بْنُ حَامِدٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْخَدَمِ، فَقَالَ: مَا يَحْبِسُكَ وَالدَّارُ سَيْفٌ وَاحِدٌ؟ فَأَمَرَ جَعْفَرًا بِالنَّظَرِ، فَخَرَجَ، وَعَادَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ وَالْفَتْحَ قُتِلَا، فَخَرَجَ فَيَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ خَدَمِهِ وَخَاصَّتِهِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَبْوَابَ مُغْلَقَةٌ، وَأَخَذَ نَحْوَ الشَّطِّ، فَإِذَا أَبْوَابُهُ مُغْلَقَةٌ، فَأَمَرَ بِكَسْرِ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ، وَخَرَجَ إِلَى الشَّطِّ، وَرَكِبَ فِي زَوْرَقٍ، فَأَتَى مَنْزِلَ الْمُعْتَزِّ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَلَمْ يُصَادِفْهُ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، قَتَلَ نَفْسَهُ وَقَتَلَنِي. وَاجْتَمَعَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ أَصْحَابُهُ غَدَاةَ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، مِنَ الْأَبْنَاءِ، وَالْعَجَمِ، وَالْأَمْنِ وَالزَّوَاقِيلِ، وَغَيْرِهِمْ، فَكَانُوا زُهَاءَ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَقِيلَ: كَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ خَمْسَةِ آلَافٍ إِلَى عَشَرَةِ آلَافٍ، فَقَالُوا: مَا اصْطَنَعْتَنَا إِلَّا لِهَذَا الْيَوْمِ، فَمُرْنَا بِأَمْرِكَ، وَائِذَنْ لَنَا أَنْ نُمِلَّ عَلَى الْقَوْمِ، وَنَقْتُلَ الْمُنْتَصِرَ وَمَنْ مَعَهُ! فَأَبَى ذَلِكَ، وَقَالَ: الْمُعْتَزُّ فِي أَيْدِيهِمْ. وَذُكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الْمُنَجِّمِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى الْمُتَوَكِّلِ، قَبْلَ قَتْلِهِ بِأَيَّامٍ، كِتَابًا مِنْ كُتُبِ الْمَلَاحِمِ، فَوَقَفْتُ عَلَى مَوْضِعٍ فِيهِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْعَاشِرَ يُقْتَلُ فِي مَجْلِسِهِ، فَتَوَقَّفْتُ عَنْ قِرَاءَتِهِ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: خَيْرًا! قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَقْرَأَهُ، فَقَرَأْتُهُ، وَحَدَّثَ عَنْ ذِكْرِ الْخُلَفَاءِ، فَقَالَ: لَيْتَ شِعْرِي مَنْ هَذَا الشَّقِيُّ الْمَقْتُولُ؟ فَقَالَ أَبُو الْوَارِثِ، قَاضِي نَصِيبِينَ: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ آتِيًا وَهُوَ يَقُولُ:

يَا نَائِمَ الْعَيْنِ فِي جُثْمَانِ يَقْظَانِ ... مَا بَالُ عَيْنِكَ لَا تَبْكِي بِتَهْتَانِ أَمَا رَأَيْتَ صُرُوفَ الدَّهْرِ مَا فَعَلَتْ ... بِالْهَاشِمِيِّ وَبِالْفَتْحِ بْنِ خَاقَانِ؟ فَأَتَى الْبَرِيدُ بَعْدَ أَيَّامٍ بِقَتْلِهِمَا. وَكَانَ قَتْلُهُ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالَ، وَقِيلَ: لَيْلَةَ الْخَمِيسِ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِفَمِ الصُّلْحِ فِي شَوَّالَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ عُمْرُهُ نَحْوَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَكَانَ أَسْمَرَ، حَسَنَ الْعَيْنَيْنِ، نَحِيفًا، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ. وَرَثَاهُ الشُّعَرَاءُ فَأَكْثَرُوا، وَمِمَّا قِيلَ فِيهِ، قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ الْجَهْمِ: عَبِيدُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَتَلْنَهُ ... وَأَعْظَمُ آفَاتِ الْمُلُوكِ عَبِيدُهَا بَنِي هَاشِمٍ صَبْرًا، فَكُلُّ مُصِيبَةٍ ... سَيَبْلَى عَلَى وَجْهِ الزَّمَانِ جَدِيدُهَا ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ ذُكِرَ أَنَّ أَبَا السِّمْطِ مَرْوَانَ بْنَ أَبِي الْجَنُوبِ قَالَ: أَنْشَدْتُ الْمُتَوَكِّلَ شِعْرًا ذَكَرْتُ فِيهِ الرَّافِضَةَ، فَعَقَدَ لِي عَلَى الْبَحْرِينِ وَالْيَمَامَةِ، وَخَلَعَ عَلَيَّ أَرْبَعَ خِلَعٍ، وَخَلَعَ عَلَيَّ الْمُنْتَصِرُ، وَأَمَرَ لِي الْمُتَوَكِّلُ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَنُثِرَتْ عَلَيَّ، وَأَمَرَ ابْنَهُ الْمُنْتَصِرَ وَسَعْدًا الْإِيتَاخِيَّ أَنْ يَلْقُطَاهَا لِي، فَفَعَلَا، وَالشِّعْرُ الَّذِي قُلْتُهُ: مُلْكُ الْخَلِيفَةِ جَعْفَرٍ ... لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا سَلَامَهْ لَكُمْ تُرَاثُ مُحَمَّدٍ ... وَبِعَدْلِكُمْ تُنْفَى الظُّلَامَهْ يَرْجُو التُّرَاثَ بَنُو الْبَنَاتِ ... وَمَا لَهُمْ فِيهَا قُلَامَهْ

وَالصِّهْرُ لَيْسَ بِوَارِثٍ وَالْبِنْتُ لَا تَرِثُ الْإِمَامَهْ ... مَا لِلَّذِينَ تَنَحَّلُوا مِيرَاثُكُمْ إِلَّا النَّدَامَهْ ... أَخَذَ الْوِرَاثَةَ أَهْلُهَا فَعَلَامَ لَوْمُكُمُ عَلَامَهْ ... لَوْ كَانَ حَقُّكُمُ لَمَا قَامَتْ عَلَى النَّاسِ الْقِيَامَهْ ... لَيْسَ التُّرَاثُ لِغَيْرِكُمْ لَا وَالْإِلَهِ، وَلَا كَرَامَهْ ... أَصْبَحْتُ بَيْنَ مُحِبِّكُمْ وَالْمُبْغِضِينَ لَكُمْ عَلَامَهْ ثُمَّ نَثَرَ عَلَيَّ، بَعْدَ ذَلِكَ، لِشِعْرٍ قُلْتُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ: حَضَرْتُ الْمُتَوَكِّلَ، فَجَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهُ ذِكْرُ الْمَأْمُونِ، فَقُلْتُ بِتَفْضِيلِهِ، وَتَقْرِيظِهِ، وَوَصْفِ مَحَاسِنِهِ وَعِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ قَوْلًا كَثِيرًا، لَمْ يَقَعْ لِمُوَافَقَةِ مَنْ حَضَرَ، فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ: كَيْفَ كَانَ يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقُلْتُ كَانَ يَقُولُ: مَا مَعَ الْقُرْآنِ حَاجَةٌ إِلَى عِلْمٍ فَرْضٍ، وَلَا مَعَ السُّنَّةِ وَحْشَةٌ إِلَى فِعْلِ أَحَدٍ، وَلَا مَعَ الْبَيَانِ وَالْإِفْهَامِ حُجَّةٌ لِتَعَلُّمٍ، وَلَا بَعْدَ الْجُحُودِ لِلْبُرْهَانِ وَالْحَقِّ إِلَّا السَّيْفُ، لِظُهُورِ الْحُجَّةِ. فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ: لَمْ أُرِدْ مِنْكَ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ يَحْيَى: الْقَوْلُ بِالْمَحَاسِنِ فِي الْمُغَيَّبِ فَرِيضَةٌ عَلَى ذِي نِعْمَةٍ. قَالَ: فَمَا كَانَ يَقُولُ خِلَالَ حَدِيثِهِ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَصِمَ بِاللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، كَانَ يَقُولُهُ وَقَدْ أُنْسِيتُهُ، قَالَ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَحْمَدُكَ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا غَيْرُكَ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا عَفْوُكَ. قَالَ: فَمَا كَانَ يَقُولُ إِذَا اسْتَحْسَنَ شَيْئًا، أَوْ بُشِّرَ بِشَيْءٍ؟ فَقَدْ نَسِينَاهُ، قَالَ يَحْيَى: كَانَ يَقُولُ إِنَّ ذِكْرَ آلَاءِ اللَّهِ وَكَثْرَتَهَا، وَتَعْدَادَ نِعَمِهِ، وَالْحَدِيثَ بِهَا فَرْضٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى أَهْلِهَا، وَطَاعَةٌ لِأَمْرِهِ فِيهَا، وَشُكْرٌ لَهُ عَلَيْهَا، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَظِيمِ الْآلَاءِ السَّابِغِ النَّعْمَاءِ بِمَا هُوَ

أَهْلُهُ وَمُسْتَوْجِبُهُ مِنْ مَحَامِدِهِ الْقَاضِيَةِ حَقَّهُ، الْبَالِغَةِ شُكْرَهُ، الْمَانِعَةِ غَيْرَهُ، الْمُوجِبَةِ مَزِيدَهُ، عَلَى مَا لَا يُحْصِيهِ تَعْدَادُنَا، وَلَا يُحِيطُ بِهِ ذِكْرُنَا مِنْ تَرَادُفِ مِنَّتِهِ، وَتَتَابُعِ فَضْلِهِ، وَدَوَامِ طَوْلِهِ، حَمْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ: صَدَقْتَ، [هَذَا] هُوَ الْكَلَامُ بِعَيْنِهِ. وَقَدِمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ مِنْ مَكَّةَ فِي صَفَرَ، فَشَكَا مَا نَالَهُ مِنَ الْغَمِّ بِمَا وَقَعَ مِنِ الْخِلَافِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، فَأَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ بِإِنْفَاذِ خَرِيطَةٍ مِنَ الْبَابِ إِلَى أَهْلِ الْمَوْسِمِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَمَرَ أَنْ يُقَامَ عَلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَسَائِرِ الْمَشَاعِرِ، الشَّمْعُ مَكَانَ الزَّيْتِ وَالنِّفْطِ. وَفِيهَا مَاتَتْ أُمُّ الْمُتَوَكِّلِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَصَلَّى عَلَيْهَا الْمُنْتَصِرُ، وَدُفِنَتْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَكَانَ مَوْتُهَا قَبْلَ الْمُتَوَكِّلِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. ذِكْرُ بَيْعَةِ الْمُنْتَصِرِ قَدْ ذَكَرْنَا قَتْلَ الْمُتَوَكِّلِ، وَمَنْ بَايَعَ الْمُنْتَصِرَ (أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلَ) تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ حَضَرَ النَّاسُ الْجَعْفَرِيَّةُ مِنَ الْقُوَّادِ، وَالْكُتَّابِ، وَالْوُجُوهِ، وَالشَّاكِرِيَّةِ، وَالْجُنْدِ، وَغَيْرِهِمْ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ أَحْمَدُ بْنُ الْخَصِيبِ كِتَابًا يُخْبِرُ فِيهِ عَنِ الْمُنْتَصِرِ أَنَّ الْفَتْحَ بْنَ خَاقَانَ قَتَلَ الْمُتَوَكِّلَ، فَقَتَلَهُ بِهِ، فَبَايَعَ النَّاسُ، وَحَضَرَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ، فَبَايَعَ وَانْصَرَفَ. قِيلَ: وَذُكِرَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ سَعِيدٍ الصَّغِيرِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا الْمُتَوَكِّلُ، كُنَّا فِي الدَّارِ مَعَ الْمُنْتَصِرِ، فَكَانَ كُلَّمَا خَرَجَ الْفَتْحُ خَرَجَ مَعَهُ، وَإِذَا رَجَعَ قَامَ

لِقِيَامِهِ، وَإِذَا رَكِبَ أَخَذَ بِرِكَابِهِ، وَسَوَّى عَلَيْهِ ثِيَابَهُ فِي سَرْجِهِ. وَكَانَ اتَّصَلَ بِنَا الْخَبَرُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ يَحْيَى قَدْ أَعَدَّ قَوْمًا فِي طَرِيقِ الْمُنْتَصِرِ، لِيَغْتَالُوهُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ، وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ قَدْ أَسْمَعَهُ، وَأَحْفَظَهُ، وَوَثَبَ عَلَيْهِ، وَانْصَرَفَ غَضْبَانَ، وَانْصَرَفْنَا مَعَهُ إِلَى دَارِهِ، وَكَانَ وَاعَدَ الْأَتْرَاكَ عَلَى قَتْلِ الْمُتَوَكِّلِ إِذَا ثَمِلَ مِنَ النَّبِيذِ، قَالَ: فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ جَاءَنِي رَسُولُهُ أَنِ احْضُرْ، فَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْأَمِيرِ لِيَرْكَبَ. قَالَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مَا كُنَّا سَمِعْنَا مِنِ اغْتِيَالِ الْمُنْتَصِرِ، فَرَكِبْتُ فِي سِلَاحٍ وَعِدَّةٍ، وَجِئْتُ بَابَ الْمُنْتَصِرِ، فَإِذَا هُمْ يَمُوجُونَ، وَإِذَا وَاجِنٌ قَدْ جَاءَهُ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ قَدْ فَرَغُوا مِنَ الْمُتَوَكِّلِ، فَرَكِبَ، فَلَحِقْتُهُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ وَأَنَا مَرْعُوبٌ، فَرَأَى مَا بِي، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ بَأْسٌ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ شَرِقَ بِقَدَحٍ شَرِبَهُ فَمَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. فَشَقَّ عَلَيَّ، وَمَضَيْنَا وَمَعَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْخَصِيبِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ حَتَّى دَخَلْنَا الْقَصْرَ، وَوَكَّلَ بِالْأَبْوَابِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَا يَنْبَغِي أَنْ تُفَارِقَكَ مَوَالِيكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ، قَالَ: أَجَلْ، وَكُنْ أَنْتَ خَلْفَ ظَهْرِي، فَأَحَطْنَا بِهِ، وَبَايَعَهُ مَنْ حَضَرَ، وَكُلُّ مَنْ جَاءَ يُوقَفُ، (حَتَّى جَاءَ سَعِيدٌ الْكَبِيرُ، فَأَرْسَلَهُ خَلْفَ الْمُؤَيَّدِ، وَقَالَ لِي: امْضِ أَنْتَ إِلَى الْمُعْتَزِّ) حَتَّى يَحْضُرَ، فَأَرْسَلَنِي، فَمَضَيْتُ وَأَنَا آيِسٌ مِنْ نَفْسِي، وَمَعِي غُلَامَانِ لِي، فَلَمَّا صِرْتُ إِلَى بَابِ الْمُعْتَزِّ لَمْ أَجِدْ بِهِ أَحَدًا مِنَ الْحَرَسِ وَالْبَوَّابِينَ، فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ الْكَبِيرِ، فَدَقَقْتُهُ دَقًّا عَنِيفًا، فَأُجِبْتُ بَعْدَ مُدَّةٍ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: رَسُولُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (الْمُنْتَصِرِ) ، فَمَضَى الرَّسُولُ، وَأَبْطَأَ، وَخِفْتُ، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ، ثُمَّ فُتِحَ الْبَابُ، وَخَرَجَ (بَيْدُونُ) الْخَادِمُ، وَأَغْلَقَ الْبَابَ، ثُمَّ سَأَلَنِي عَنِ الْخَبَرِ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ شَرِقَ بِكَأْسٍ شَرِبَهُ، فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَأَنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا، وَبَايَعُوا الْمُنْتَصِرَ، وَقَدْ أَرْسَلَنِي لِأُحْضِرَ الْأَمِيرَ الْمُعْتَزَّ لِيُبَايِعَ. فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَأَدْخَلَنِي عَلَى الْمُعْتَزِّ، فَقَالَ لِي: وَيْلَكَ مَا الْخَبَرُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، وَعَزَّيْتُهُ، وَبَكَيْتُ، وَقُلْتُ: تَحْضُرُ، وَتَكُونُ فِي أَوَّلِ مَنْ يُبَايِعُ، وَتَأْخُذُ بِقَلْبِ أَخِيكَ، فَقَالَ:

حَتَّى يُصْبِحَ، فَمَا زِلْتُ بِهِ أَنَا وَبَيْدُونُ حَتَّى رَكِبَ، وَسِرْنَا وَأَنَا أُحَدِّثُهُ، فَسَأَلَنِي عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى، فَقُلْتُ: هُوَ يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ عَلَى النَّاسِ، وَالْفَتْحُ قَدْ بَايَعَ، فَأَيِسَ، وَأَتَيْنَا بَابَ الْخَيْرِ، فَفُتِحَ لَنَا، وَصِرْنَا إِلَى الْمُنْتَصِرِ، فَلَمَّا رَآهُ قَرَّبَهُ، وَعَانَقَهُ، وَعَزَّاهُ، وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ عَلَيْهِ. ثُمَّ وَافَى سَعِيدٌ الْكَبِيرُ بِالْمُؤَيَّدِ، فَفَعَلَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ، وَأَمَرَ الْمُنْتَصِرُ بِدَفْنِ الْمُتَوَكِّلِ وَالْفَتْحِ. وَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ شَاعَ الْخَبَرُ فِي الْمَاخُوزَةِ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ الَّتِي كَانَ بَنَاهَا الْمُتَوَكِّلُ، وَفِي أَهْلِ سَامَرَّا، بِقَتْلِ الْمُتَوَكِّلِ، فَتَوَافَى الْجُنْدُ وَالشَّاكِرِيَّةُ بِبَابِ الْعَامَّةِ وَبِالْجَعْفَرِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْغَوْغَاءِ وَالْعَامَّةِ، وَكَثُرَ النَّاسُ، وَتَسَامَعُوا، وَرَكِبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ الْبَيْعَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَتَّابُ بْنُ عَتَّابٍ، وَقِيلَ: زَرَافَةُ، فَوَعَدَهُمْ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْتَصِرِ، فَاسْمَعُوهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَأَعْلَمَهُ، فَخَرَجَ الْمُنْتَصِرُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَغَارِبَةِ، فَصَاحَ بِهِمْ، وَقَالَ: خُذُوهُمْ! فَدَفَعُوهُمْ إِلَى الْأَبْوَابِ، فَازْدَحَمَ النَّاسُ وَرَكِبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَتَفَرَّقُوا وَقَدْ مَاتَ مِنْهُمْ سِتَّةُ أَنْفُسٍ. ذِكْرُ وِلَايَةِ خَفَاجَةَ بْنِ سُفْيَانَ صِقِلِّيَّةَ وَابْنِهِ مُحَمَّدٍ وَغَزَوَاتِهِمَا قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ أَنَّ أَمِيرَ صِقِلِّيَّةَ الْعَبَّاسَ تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلَّى النَّاسُ عَلَيْهِمُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَكَتَبُوا إِلَى الْأَمِيرِ بِإِفْرِيقِيَّةَ بِذَلِكَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ السَّرَايَا، فَفَتَحَ قِلَاعًا (مُتَعَدِّدَةً) مِنْهَا: جَبَلُ أَبِي مَالِكٍ وَقَلْعَةُ الْأَرْمَنِيِّينَ وَقَلْعَةُ الْمَشَارِعَةِ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ. وَوَصَلَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ خَفَاجَةُ بْنُ سُفْيَانَ أَمِيرًا عَلَى صِقِلِّيَّةَ، فَوَصَلَ فِي جُمَادَى الْأُولَى

سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَأَوَّلُ سَرِيَّةٍ أَخْرَجَهَا سَرِيَّةٌ فِيهَا وَلَدُهُ مَحْمُودٌ، فَقَصَدَ سَرْقُوسَةَ فَغَنِمَ، وَخَرَّبَ وَأَحْرَقَ، وَخَرَجُوا إِلَيْهِ فَقَاتَلَهُمْ فَظَفِرَ، وَعَادَ، فَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ أَهْلُ رَغُوسَ. (وَقَدْ جَاءَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ أَنَّ أَهْلَ رَغُوسَ اسْتَأْمَنُوا فِيهَا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَلَا نَعْلَمُ أَهَذَا اخْتِلَافٌ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ، أَمْ هُمَا غَزَاتَانِ، وَيَكُونُ أَهْلُهَا قَدْ غَدَرُوا بَعْدَ هَذِهِ الدُّفْعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ) . وَفِي سَنَةِ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ فُتِحَتْ مَدِينَةُ نُوطَسَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِهَا أَخْبَرَ الْمُسْلِمِينَ بِمَوْضِعٍ دَخَلُوا مِنْهُ إِلَى الْبَلَدِ فِي الْمُحَرَّمِ، فَغَنِمُوا مِنْهَا أَمْوَالًا جَلِيلَةً، ثُمَّ فَتَحُوا شَكْلَةَ بَعْدَ حِصَارٍ. وَفِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ سَارَ خَفَاجَةُ إِلَى سَرْقُوسَةَ، ثُمَّ إِلَى جَبَلِ النَّارِ، فَأَتَاهُ (رُسُلُ) أَهْلِ طَبَرْمِينَ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ امْرَأَتَهُ وَوَلَدَهُ فِي ذَلِكَ، (فَتَمَّ الْأَمْرُ) ، ثُمَّ غَدَرُوا، فَأَرْسَلَ خَفَاجَةُ مُحَمَّدًا فِي جَيْشٍ إِلَيْهَا، فَفَتَحَهَا وَسَبَى أَهْلَهَا. (وَفِيهَا أَيْضًا سَارَ خَفَاجَةُ إِلَى رَغُوسَ، فَطَلَبَ أَهْلُهَا الْأَمَانَ لِيُطْلِقَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِهَا بِأَمْوَالِهِمْ، وَدَوَابِّهِمْ، وَيَغْنَمَ الْبَاقِيَ، فَفَعَلَ وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا فِي الْحِصْنِ مِنْ مَالٍ، وَرَقِيقٍ، وَدَوَابَّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَادَنَهُ أَهْلُ الْغَيْرَانِ وَغَيْرُهُمْ، وَافْتَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً، ثُمَّ مَرِضَ، فَعَادَ إِلَى بَلَرْمَ. وَفِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ سَارَ خَفَاجَةُ مِنْ بَلَرْمَ إِلَى مَدِينَةِ سَرْقُوسَةَ وَقَطَانِيَّةَ، وَخَرَّبَ بِلَادَهَا، وَأَهْلَكَ زُرُوعَهَا، وَعَادَ وَسَارَتْ سَرَايَاهُ إِلَى أَرْضِ صِقِلِّيَّةَ، فَغَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً.

وَفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ سَارَ خَفَاجَةُ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَسَيَّرَ ابْنَهُ مُحَمَّدًا عَلَى الْحَرَّاقَاتِ، وَسَيَّرَ سَرِيَّةً إِلَى سَرْقُوسَةَ فَغَنِمُوا، وَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ أَنَّ بِطْرِيقًا قَدْ سَارَ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَوَصَلَ إِلَى صِقِلِّيَّةَ، فَلَقِيَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَانْهَزَمَ الرُّومُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَرَحَلَ خَفَاجَةُ إِلَى سَرْقُوسَةَ، فَأَفْسَدَ زَرْعَهَا، وَغَنِمَ مِنْهَا، وَعَادَ إِلَى بَلَرْمَ، وَسَيَّرَ ابْنَهُ مُحَمَّدًا فِي الْبَحْرِ، مُسْتَهَلَّ رَجَبٍ، إِلَى مَدِينَةِ غَيْطَةٍ، فَحَصَرَهَا، وَبَثَّ الْعَسَاكِرَ فِي نَوَاحِيهَا، فَغَنِمَ وَشَحَنَ مَرَاكِبَهُ بِالْغَنَائِمِ، وَانْصَرَفَ إِلَى بَلَرْمَ فِي شَوَّالَ. وَفِي سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ سَيَّرَ خَفَاجَةُ ابْنَهُ مُحَمَّدًا إِلَى مَدِينَةِ طَبْرَمِينَ، وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ مُدُنِ صِقِلِّيَّةَ، فَسَارَ فِي صَفَرَ إِلَيْهَا، وَكَانَ قَدْ أَتَاهُمْ مَنْ وَعَدَهُمْ أَنْ يُدْخِلَهُمْ إِلَيْهَا مِنْ طَرِيقٍ يَعْرِفُهُ، فَسَيَّرَهُ مَعَ وَلَدِهِ، فَلَمَّا قَرُبُوا مِنْهَا تَأَخَّرَ مُحَمَّدٌ، وَتَقَدَّمَ بَعْضُ عَسْكَرِهِ رَجَّالَةً مَعَ الدَّلِيلِ، فَأَدْخَلَهُمُ الْمَدِينَةَ، وَمَلَكُوا بَابَهَا وَسُورَهَا، وَشَرَعُوا فِي السَّبْيِ وَالْغَنَائِمِ، وَتَأَخَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ خَفَاجَةَ فِيمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْعَسْكَرِ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي وَعَدَهُمْ أَنَّهُ يَأْتِيهِمْ فِيهِ، فَلَمَّا تَأَخَّرَ عَنْهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ أَوْقَعَ بِهِمْ فَمَنَعَهُمْ مِنَ السَّبْيِ، فَخَرَجُوا عَنْهَا مُنْهَزِمِينَ، وَوَصَلَ مُحَمَّدٌ إِلَى بَابِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَرَأَى الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَرَجُوا مِنْهَا، فَعَادَ رَاجِعًا. وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ خَرَجَ خَفَاجَةُ وَسَارَ إِلَى مَرَسَةَ، وَسَيَّرَ ابْنَهُ فِي جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ إِلَى سَرْقُوسَةَ، فَلَقِيَهُ الْعَدُوُّ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَاقْتَتَلُوا، فَوَهَنَ الْمُسْلِمُونَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ، وَرَجَعُوا (إِلَى خَفَاجَةَ) ، فَسَارَ إِلَى سَرْقُوسَةَ، فَحَصَرَهَا، (وَأَقَامَ عَلَيْهَا، وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَفْسَدَ بِلَادَهَا، وَأَهْلَكَ زَرْعَهُمْ، وَعَادَ عَنْهَا يُرِيدُ بَلَرْمَ، فَنَزَلَ بِوَادِي الطِّينِ وَسَارَ مِنْهُ لَيْلًا، فَاغْتَالَهُ رَجُلٌ مِنْ عَسْكَرِهِ، فَطَعَنَهُ طَعْنَةً فَقَتَلَهُ، وَذَلِكَ مُسْتَهَلَّ رَجَبٍ) ، وَهَرَبَ الَّذِي قَتَلَهُ

إِلَى سَرْقُوسَةَ، وَحُمِلَ خَفَاجَةُ إِلَى بَلَرْمَ، فَدُفِنَ بِهَا. وَوَلَّى النَّاسُ عَلَيْهِمُ ابْنَهُ مُحَمَّدًا وَكَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى الْأَمِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، أَمِيرِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَأَقَرَّهُ عَلَى الْوِلَايَةِ، وَسَيَّرَ لَهُ الْعَهْدَ وَالْخِلَعَ. ذِكْرُ وِلَايَةِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ لَمَّا قُتِلَ خَفَاجَةُ اسْتَعْمَلَ النَّاسُ ابْنَهُ مُحَمَّدًا، وَأَقَرَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ (بْنِ الْأَغْلَبِ) ، صَاحِبُ الْقَيْرَوَانِ، عَلَى وِلَايَتِهِ، فَسَيَّرَ جَيْشًا فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى مَالِطَةَ، وَكَانَ الرُّومُ يُحَاصِرُونَهَا، فَلَمَّا سَمِعَ الرُّومُ بِمَسِيرِهِمْ رَحَلُوا عَنْهَا. (وَفِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ) فِي رَجَبٍ قُتِلَ الْأَمِيرُ مُحَمَّدٌ، قَتَلَهُ خَدَمُهُ الْخِصْيَانُ، وَهَرَبُوا، فَطَلَبَهُمُ النَّاسُ، فَأَدْرَكُوهُمْ، فَقَتَلُوهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا وَلَّى الْمُنْتَصِرُ أَبَا عُمْرَةَ أَحْمَدَ بْنَ سَعِيدٍ، مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، بَعْدَ الْبَيْعَةِ لَهُ بِيَوْمٍ، الْمَظَالِمَ، فَقَالَ الشَّاعِرُ: يَا ضَيْعَةَ الْإِسْلَامِ لَمَّا ... وَلِيَ مَظَالِمَ النَّاسِ أَبُو عُمْرَهْ صُيِّرَ مَأْمُونًا عَلَى أُمَّةٍ ... وَلَيْسَ مَأْمُونًا عَلَى بَعْرَهْ وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الزَّيْنَبِيُّ. وَاسْتُعْمِلَ عَلَى دِمَشْقَ عِيسَى بْنُ مُحَمَّدٍ النَّوْشَرِيُّ.

(وَفِيهَا سَارَ جَيْشٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْأَنْدَلُسِ إِلَى مَدِينَةِ بَرْشِلُونَةَ، وَهِيَ لِلْفِرِنْجِ، فَأَوْقَعُوا بِأَهْلِهَا، فَرَاسَلَ صَاحِبُهَا مَلِكَ الْفِرِنْجِ يَسْتَمِدُّهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا، وَأَرْسَلَ الْمُسْلِمُونَ يَسْتَمِدُّونَ، فَأَتَاهُمُ الْمَدَدُ، فَنَازَلُوا بَرْشِلُونَةَ، وَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَمَلَكُوا أَرْبَاضَهَا، وَبُرْجَيْنِ مِنْ أَبْرَاجِ الْمَدِينَةِ، فَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَسَلِمَ الْمُسْلِمُونَ، وَعَادُوا وَقَدْ غَنِمُوا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عُثْمَانَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَازِنِيُّ النَّحْوِيُّ، الْإِمَامُ فِي الْعَرَبِيَّةِ) .

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 248 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ غَزَاةِ وَصِيفٍ الرُّومَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَغْزَى الْمُنْتَصِرُ وَصِيفًا التُّرْكِيَّ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ ; وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحْمَدَ بْنِ الْخَصِيبِ شَحْنَاءُ وَتَبَاغُضٌ، فَحَرَّضَ أَحْمَدُ بْنُ الْخَصِيبِ الْمُنْتَصِرَ عَلَى وَصِيفٍ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ عَسْكَرِهِ لِلْغَزَاةِ، فَأَمَرَ الْمُنْتَصِرُ بِإِحْضَارِ وَصِيفٍ، فَلَمَّا حَضَرَ قَالَ لَهُ: قَدْ أَتَانَا عَنْ طَاغِيَةِ الرُّومِ أَنَّهُ أَقْبَلَ يُرِيدُ الثَّغْرَ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ، وَلَسْتُ آمَنُهُ أَنْ يُهْلِكَ كُلَّ مَا مَرَّ بِهِ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَيَقْتُلَ وَيَسْبِيَ، فَإِمَّا شَخَّصْتَ أَنْتَ، وَإِمَّا شَخَّصْتُ أَنَا. فَقَالَ: بَلْ أُشَخِّصُ أَنَا، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لِأَحْمَدَ بْنِ الْخَصِيبِ: انْظُرْ (إِلَى) مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَصِيفٌ، فَأَتِمَّهُ لَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ: مَا نَعَمْ؟ قُمِ السَّاعَةَ! وَقَالَ لِوَصِيفٍ: مُرْ كَاتِبَكَ أَنْ يُوَافِقَهُ إِلَى مَا يَحْتَاجُ وَيَلْزَمَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ. فَقَامَا. وَلَمْ يَزَلْ أَحْمَدُ بْنُ الْخَصِيبِ فِي جِهَازِهِ، حَتَّى خَرَجَ، وَانْتَخَبَ لَهُ الرِّجَالَ، فَكَانَ مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ، وَكَانَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ مُزَاحِمُ بْنُ خَاقَانَ، أَخُو الْفَتْحِ، وَكَتَبَ الْمُنْتَصِرُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ بِبَغْدَاذَ يُعْلِمُهُ ذَلِكَ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَنْتَدِبَ النَّاسَ إِلَى الْغُزَاةِ، وَيُرَغِّبَهُمْ فِيهَا، وَأَمَرَ وَصِيفًا أَنْ يُوَافِيَ ثَغْرَ مَلَطْيَةَ، وَجَعَلَ عَلَى نَفَقَاتِ الْعَسْكَرِ، وَالْمَغَانِمِ، وَالْمَقَاسِمِ أَبَا الْوَلِيدِ الْحَرِيرِيَّ الْبَجَلِّيِّ. وَلَمَّا سَارَ وَصِيفٌ كَتَبَ إِلَيْهِ الْمُنْتَصِرُ يَأْمُرُهُ بِالْمُقَامِ بِالثَّغْرِ أَرْبَعَ سِنِينَ يَغْزُو فِي أَوْقَاتِ الْغَزْوِ مِنْهَا، إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ رَأْيُهُ.

ذِكْرُ خَلْعِ الْمُعْتَزِّ وَالْمُؤَيَّدِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خُلِعَ الْمُعْتَزُّ وَالْمُؤَيَّدُ ابْنَا الْمُتَوَكِّلِ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَكَانَ سَبَبُ خَلْعِهِمَا أَنَّ الْمُنْتَصِرَ لَمَّا اسْتَقَامَتْ لَهُ الْأُمُورُ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْخَطِيبِ لِوَصِيفٍ وَبُغَا: إِنَّا لَا نَأْمَنُ الْحِدْثَانَ، وَأَنْ يَمُوتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَلِيَ الْمُعْتَزُّ الْخِلَافَةَ، فَيُبِيدَ خَضْرَاءَنَا، وَلَا يُبْقِي مِنَّا بَاقِيَةً، وَالْآنَ الرَّأْيُ أَنْ نَعْمَلَ فِي خَلْعِ الْمُعْتَزِّ وَالْمُؤَيَّدِ. فَجَدَّ الْأَتْرَاكُ فِي ذَلِكَ، وَأَلَحُّوا عَلَى الْمُنْتَصِرِ، وَقَالُوا: نَخْلَعُهُمَا مِنَ الْخِلَافَةِ، وَنُبَايِعُ لِابْنِكَ عَبْدِ الْوَهَّابِ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَجَابَهُمْ، وَأَحْضَرَ الْمُعْتَزَّ وَالْمُؤَيَّدَ، بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنْ خِلَافَتِهِ، وَجُعِلَا فِي دَارٍ، فَقَالَ الْمُعْتَزُّ لِلْمُؤَيَّدِ: يَا أَخِي، (قَدْ أُحْضِرْنَا لِلْخَلْعِ) ، فَقَالَ: لَا أَظُنُّ يَفْعَلُ ذَلِكَ. فَبَيْنَمَا هَمَا كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتِ الرُّسُلُ بِالْخَلْعِ، فَقَالَ الْمُؤَيَّدُ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، فَقَالَ الْمُعْتَزُّ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ، فَإِنْ أَرَدْتُمُ الْقَتْلَ فَشَأْنُكُمْ، فَأَعْلَمُوا الْمُنْتَصِرَ، ثُمَّ عَادُوا بِغِلْظَةٍ وَشِدَّةٍ، وَأَخَذُوا الْمُعْتَزَّ بِعُنْفٍ، وَأَدْخَلُوهُ بَيْتًا، وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِ الْبَابَ، فَلَمَّا رَأَى الْمُؤَيَّدُ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ بِجُرْأَةٍ وَاستِطَالَةٍ: مَا هَذَا يَا كِلَابُ؟ قَدْ ضَرَيْتُمْ عَلَى دِمَائِنَا، تَثِبُونَ عَلَى مَوْلَاكُمْ هَذَا الْوُثُوبَ، دَعُونِي وَإِيَّاهُ حَتَّى أُكَلِّمَهُ! فَسَكَتُوا عَنْهُ، وَأَذِنُوا لَهُ فِي الِاجْتِمَاعِ بِهِ بَعْدَ إِذْنٍ مِنَ الْمُنْتَصِرِ بِذَلِكَ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْمُؤَيَّدُ، وَقَالَ: يَا جَاهِلُ تَرَاهُمْ نَالُوا مِنْ أَبِيكَ - وَهُوَ هُوَ - مَا نَالُوا، ثُمَّ تَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ؟ اخْلَعْ وَيْلَكَ، لَا تُرَاجِعْهُمْ! فَقَالَ: وَكَيْفَ أَخْلَعُ وَقَدْ جَرَى فِي الْآفَاقِ؟ فَقَالَ: هَذَا الْأَمْرُ قَتَلَ أَبَاكَ، وَهُوَ يَقْتُلُكَ، وَإِنْ كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ أَنْ تَلِيَ لَتَلِيَنَّ. فَقَالَ: أَفْعَلُ. فَخَرَجَ الْمُؤَيَّدُ وَقَالَ: قَدْ أَجَابَ إِلَى الْخَلْعِ، فَمَضَوْا، وَأَعْلَمُوا الْمُنْتَصِرَ، وَعَادُوا فَشَكَرُوهُ، وَمَعَهُمْ كَاتِبٌ، فَجَلَسَ، فَقَالَ لِلْمُعْتَزِّ: اكْتُبْ بِخَطِّكَ خَلْعَكَ! فَامْتَنَعَ، فَقَالَ الْمُؤَيَّدُ لِلْكَاتِبِ: هَاتِ قِرْطَاسَكَ! أَمْلِلْ عَلَيَّ مَا شِئْتَ، فَأَمْلَى عَلَيْهِ كِتَابًا إِلَى الْمُنْتَصِرِ يُعْلِمُهُ فِيهِ ضَعْفَهُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَأَنْ لَا يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَقَلَّدَهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَأْثَمَ الْمُتَوَكِّلُ بِسَبَبِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لَهُ، وَيَسْأَلُهُ الْخَلْعَ، وَيُعْلِمُهُ أَنَّهُ قَدْ خَلَعَ نَفْسَهَ، وَأَحَلَّ النَّاسَ مِنْ بَيْعَتِهِ،

فَكَتَبَ ذَلِكَ، وَقَالَ لِلْمُعْتَزِّ: اكْتُبْ! فَأَبَى، فَقَالَ: اكْتُبْ وَيْلَكَ! [فَكَتَبَ] وَخَرَجَ الْكَاتِبُ عَنْهُمَا، ثُمَّ دَعَاهُمَا، فَدَخَلَا عَلَى الْمُنْتَصِرِ، فَأَجْلَسَهُمَا وَقَالَ: هَذَا كِتَابُكُمَا؟ فَقَالَا: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ لَهُمَا، وَالْأَتْرَاكُ وُقُوفٌ: أَتُرَانِي خَلَعْتُكُمَا طَمَعًا فِي أَنْ أَعِيشَ حَتَّى يَكْبُرَ وَلَدِي وَأُبَايِعَ لَهُ؟ وَاللَّهِ مَا طَمِعْتُ فِي ذَلِكَ (سَاعَةً) قَطُّ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ [لِي] فِي ذَلِكَ طَمَعٌ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَلِيَهَا بَنُو أَبِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَلِيَهَا بَنُو عَمِّي، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ، وَأَوْمَأَ إِلَى سَائِرِ الْمَوَالِي مِمَّنْ هُوَ قَائِمٌ عِنْدَهُ وَقَاعِدٌ، أَلَحُّوا عَلَيَّ فِي خَلْعِكُمَا، فَخِفْتُ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ أَنْ يَعْتَرِضَكُمَا بَعْضُهُمْ بِحَدِيدَةٍ فَيَأْتِيَ عَلَيْكُمَا، فَمَا تَرَيَانِي صَانِعًا [إِذَنْ] ؟ أَقْتُلُهُ! فَوَاللَّهِ مَا تَفِي دِمَاؤُهُمْ كُلُّهُمْ بِدَمِ بَعْضِكُمْ، فَكَانَتْ إِجَابَتُهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا أَسْهَلَ عَلَيَّ. فَقَبَّلَا يَدَهُ وَضَمَّهُمَا، ثُمَّ إِنَّهُمَا أَشْهَدَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الْقُضَاةَ، وَبَنِي هَاشِمٍ، وَالْقُوَّادَ، وَوُجُوهَ النَّاسِ، وَغَيْرَهُمْ، بِالْخَلْعِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ الْمُنْتَصِرُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَإِلَى غَيْرِهِ. ذِكْرُ مَوْتِ الْمُنْتَصِرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمُنْتَصِرُ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَقِيلَ: يَوْمَ السَّبْتَ، (وَكُنْيَتُهُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ، وَقِيلَ: كُنْيَتُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَقِيلَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) . وَكَانَتْ عِلَّتُهُ الذَّبْحَةُ فِي حَلْقِهِ أَخَذَتْهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، (لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ) . وَقِيلَ: كَانَتْ عِلَّتُهُ مِنْ وَرَمٍ فِي مَعِدَتِهِ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى فُؤَادِهِ فَمَاتَ، وَكَانَتْ عِلَّتُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ وَجَدَ حَرَارَةً، فَدَعَا بَعْضَ أَطِبَّائِهِ، فَفَصَدَهُ بِمِبْضَعٍ مَسْمُومٍ، فَمَاتَ مِنْهُ،

وَانْصَرَفَ الطَّبِيبُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَقَدْ وَجَدَ حَرَارَةً، فَدَعَا تِلْمِيذًا لِيَفْصِدَهُ، وَوَضَعَ مَبَاضِعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَسْتَخِيرَ أَجْوَدَهَا، فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْمِبْضَعَ الْمَسْمُومَ، وَقَدْ نَسِيَهُ الطَّبِيبُ، فَفَصَدَهُ بِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ إِلَيْهِ نَظَرَ إِلَيْهِ فَعَرَفَهُ، فَأَيْقَنَ بِالْهَلَاكِ، وَوَصَّى مِنْ سَاعَتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ قَدْ وَجَدَ فِي رَأْسِهِ عِلَّةً، فَقَطَرَ ابْنُ الطَّيْفُورِيِّ فِي أُذُنِهِ دُهْنًا، فَوَرِمَ رَأْسُهُ، فَمَاتَ. وَقِيلَ: بَلْ سَمَّهُ ابْنُ الطَّيْفُورِيِّ فِي مَحَاجِمهِ فَمَاتَ. وَقِيلَ: كَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ حِينَ أَفَضْتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ إِلَى أَنْ مَاتَ يَقُولُونَ: إِنَّمَا مُدَّةُ حَيَّاتِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، مُدَّةَ شِيرَوَيْهِ بْنِ كِسْرَى، قَاتِلِ أَبِيهِ، يَقُولُهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُنْتَصِرَ كَانَ نَائِمًا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، فَانْتَبَهَ وَهُوَ يَبْكِي وَيَنْتَحِبُ، فَسَمِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْبَازِيَارُ، فَأَتَاهُ، فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ بُكَائِهِ، فَقَالَ: كُنْتُ نَائِمًا، فَرَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ الْمُتَوَكِّلَ قَدْ جَاءَنِي، فَقَالَ: وَيَحَكَ يَا مُحَمَّدُ! قَتَلْتَنِي وَظَلَمْتَنِي، وَغَبَنْتَنِي خِلَافَتِي، وَاللَّهِ لَا مُتِّعْتَ بِهَا بَعْدِي إِلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً، ثُمَّ مَصِيرُكَ إِلَى النَّارِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ رُؤْيَا، وَهِيَ تَصْدُقُ وَتَكْذِبُ، بَلْ يُعَمِّرُكَ اللَّهُ، وَيَسُرُّكَ، ادْعُ بِالنَّبِيذِ وَخُذْ فِي اللَّهْوِ لَا تَعْبَأْ بِهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَزَلْ مُنْكَسِرًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَذَكَرَ أَنَّ الْمُنْتَصِرَ كَانَ شَاوَرَ فِي قَتْلِ أَبِيهِ جَمَاعَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِمَذَاهِبِهِ، وَحَكَى عَنْهُ أُمُورًا قَبِيحَةً كَرِهْتُ ذِكْرَهَا، فَأَشَارُوا بِقَتْلِهِ، فَكَانَ كَمَا ذَكَرْنَا بَعْضَهُ. وَكَانَ عُمْرُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَيَوْمَيْنِ، وَقِيلَ: كَانَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ سَوَاءً. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِسَامَرَّا، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَنْشَدَ: وَمَا فَرِحَتْ نَفْسِي بِدُنْيَا أَخَذْتُهَا ... وَلَكِنْ إِلَى الرَّبِّ الْكَرِيمِ أَصِيرُ

وَصَلَّى عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بِسَامَرَّا، وَبِهَا كَانَ مَوْلِدُهُ. وَكَانَ أَعْيَنَ، أَقْنَى، قَصِيرًا، مَهِيبًا. وَهُوَ أَوَّلُ خَلِيفَةٍ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ عُرِفَ قَبَرُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّهُ طَلَبَتْ إِظْهَارَ قَبْرِهِ. وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ رُومِيَّةً. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ كَانَ الْمُنْتَصِرُ عَظِيمَ الْحِلْمِ، رَاجِحَ الْعَقْلِ، غَزِيرَ الْمَعْرُوفِ، رَاغِبًا فِي الْخَيْرِ، جَوَادًا، كَثِيرَ الْإِنْصَافِ، حَسَنَ الْعِشْرَةِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِزِيَارَةِ قَبْرِ عَلِيٍّ وَالْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَأَمَّنَ الْعَلَوِيِّينَ، وَكَانُوا خَائِفِينَ أَيَّامَ أَبِيهِ، وَأَطْلَقَ وُقُوفَهُمْ، وَأَمَرَ بِرَدِّ فَدَكَ إِلَى وَلَدِ الْحُسَيْنِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَذَكَرَ أَنَّ الْمُنْتَصِرَ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَ أَوَّلَ مَا أَحْدَثَ أَنْ عَزَلَ صَالِحَ بْنَ عَلِيٍّ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ. قَالَ عَلَيٌّ: فَلَمَّا دَخَلْتُ أُوَدِّعُهُ، قَالَ لِي: يَا عَلِيٌّ! إِنِّي أُوَجِّهُكَ إِلَى لَحْمِي وَدَمِي، وَمَدَّ سَاعِدَهُ، وَقَالَ: إِلَى هَذَا أُوَجِّهُ بِكَ، فَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ لِلْقَوْمِ، وَكَيْفَ تُعَامِلُهُمْ، يَعْنِي إِلَى آلِ أَبِي طَالِبٍ. فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ أَمْتَثِلَ أَمْرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ: إِذَنْ تَسْعَدُ عِنْدِي. (وَمِنْ كَلَامِهِ: وَاللَّهِ مَا عَزَّ ذُو بَاطِلٍ وَلَوْ طَلَعَ الْقَمَرُ مِنْ جَبِينِهِ، وَلَا ذَلَّ ذُو حَقٍّ وَلَوْ أُصْفِقَ الْعَالَمُ عَلَيْهِ) .

ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُسْتَعِينِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بِالْخِلَافَةِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُنْتَصِرَ لَمَّا تُوُفِّيَ اجْتَمَعَ الْمُوَالِي عَلَى الْهَارُونِيَّةِ مِنَ الْغَدِ، وَفِيهَا بُغَا الْكَبِيرُ، وَبُغَا الصَّغِيرُ، وَأَتَامِشُ، وَغَيْرُهُمْ، فَاسْتَحْلَفُوا قُوَّادَ الْأَتْرَاكِ، وَالْمَغَارِبَةِ، وَالْأَشْرُوسَنِّيَّةِ عَلَى أَنْ يَرْضَوْا بِمَنْ رَضِيَ بِهِ بُغَا الْكَبِيرُ، وَبُغَا الصَّغِيرُ، وَأُتَامِشُ، وَذَلِكَ بِتَدْبِيرِ أَحْمَدَ بْنِ الْخَصِيبِ، فَحَلَفُوا، وَتَشَاوَرُوا، وَكَرِهُوا أَنْ يَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ الْمُتَوَكِّلِ لِئَلَّا يَغْتَالَهُمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ، وَقَالُوا: لَا تَخْرُجُ الْخِلَافَةُ مِنْ وَلَدِ مَوْلَانَا الْمُعْتَصِمِ، فَبَايَعُوهُ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَيُكَنَّى أَبَا الْعَبَّاسِ، فَاسْتَكْتَبَ أَحْمَدَ بْنَ الْخَصِيبِ، وَاسْتَوْزَرَ أُوتَامُشَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ سَارَ الْمُسْتَعِينُ إِلَى دَارِ الْعَامَّةِ فِي زِيِّ الْخِلَافَةِ، وَحَمَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحَرْبَةَ، وَصَفَّ وَاجِنُ الْأَشْرُوسَنِيُّ أَصْحَابَهُ صَفَّيْنِ، وَقَامَ هُوَ وَعِدَّةٌ مِنْ وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، وَحَضَرَ الدَّارَ أَصْحَابُ الْمَرَاتِبِ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ وَالطَّالِبِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتْ صَيْحَةٌ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّارِعِ وَالسُّوقِ، وَإِذَا نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ فَارِسًا ذَكَرُوا أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَمَعَهُمْ غَيْرُهُمْ مِنْ أَخْلَاطَ النَّاسِ وَالْغَوْغَاءِ وَالسُّوقَةِ، فَشَهَرُوا السِّلَاحَ، وَصَاحُوا: نَفِيرَ، يَا مَنْصُورُ! وَشَدُّوا عَلَى أَصْحَابِ الْأُشْرُوسَنِيِّ فَتَضَعْضَعُوا، وَانْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَتَحَرَّكَ مَنْ عَلَى بَابِ الْعَامَّةِ مِنَ الْمُبَيِّضَةِ وَالشَّاكِرِيَّةِ، وَكَثُرُوا، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْمَغَارِبَةُ، وَبَعْضُ الْأُشْروسَنِّيَّةِ، فَهَزَمُوهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ دَرْبَ زَرَافَةَ، ثُمَّ نَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، فَقُتِلَ جَمَاعَةٌ، وَانْصَرَفَ

الْأَتْرَاكُ بَعْدَ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ، وَقَدْ بَايَعُوا الْمُسْتَعِينَ هُمْ وَمَنْ حَضَرَ مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. وَدَخَلَ الْغَوْغَاءُ وَالْمُنْتَهِبَةُ دَارَ الْعَامَّةِ، فَانْتَهَبُوا الْخِزَانَةَ الَّتِي فِيهَا السِّلَاحُ، وَالدُّرُوعُ، وَالْجَوَاشِنُ، وَالسُّيُوفُ، وَالتُّرُسُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ الَّذِينَ نَهَبُوا ذَلِكَ الْغَوْغَاءُ، وَأَصْحَابُ الْحَمَّامَاتِ، وَغِلْمَانُ أَصْحَابِ الْبَاقِلِّيِّ، وَأَصْحَابُ الْفُقَّاعِ، فَأَتَاهُمْ بُغَا الْكَبِيرُ، فِي جَمَاعَةٍ، فَأَجْلُوهُمْ عَنِ الْخِزَانَةِ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ عِدَّةً، وَكَثُرَ الْقَتْلُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَحَرَّكَ أَهْلُ السِّجْنِ بِسَامَرَّا، وَهَرَبَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، ثُمَّ وَضَعَ الْعَطَاءَ عَلَى الْبَيْعَةِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِ الْبَيْعَةِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فَبَايَعَ لَهُ هُوَ وَالنَّاسُ بِبَغْدَاذَ. ذِكْرُ ابْنِ مِسْكَوَيْهِ فِي كِتَابِ " تَجَارِبِ الْأُمَمِ " أَنَّ الْمُسْتَعِينَ أَخُو الْمُتَوَكِّلِ لِأَبِيهِ، وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ وَلَدُ أَخِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا وَرَدَ عَلَى الْمُسْتَعِينِ وَفَاةُ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ بِخُرَاسَانَ فِي رَجَبٍ، فَعَقَدَ الْمُسْتَعِينُ لِابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ عَلَى خُرَاسَانَ، وَلِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ عَلَى الْعِرَاقِ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ الْحَرَمَيْنِ، وَالشُّرْطَةَ، وَمَعَاوِنَ السَّوَادِ، وَأَفْرَدَهُ بِهِ. وَفِيهَا مَاتَ بُغَا الْكَبِيرُ، فَعَقَدَ لِابْنِهِ مُوسَى عَلَى أَعْمَالِ أَبِيهِ كُلِّهَا، وَوَلِيَ دِيوَانَ الْبَرِيدِ. وَفِيهَا وَجَّهَ أَنُوجُورَ التُّرْكِيَّ إِلَى أَبِي الْعَمُودِ الثَّعْلَبِيِّ، فَقَتَلَهُ بِكَفَرتُوثَى لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ.

وَفِيهَا خَرَجَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ إِلَى الْحَجِّ، فَوَجَّهَ خَلْفَهُ رَسُولٌ يَنْفِيهِ إِلَى بَرْقَةَ، وَيَمْنَعُهُ مِنَ الْحَجِّ. وَفِيهَا ابْتَاعَ الْمُسْتَعِينُ مِنَ الْمُعْتَزِّ وَالْمُؤَيَّدِ جَمِيعَ مَالِهِمَا وَأَشْهَدَا عَلَيْهِمَا الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ، وَكَانَ الشِّرَاءُ بَاسِمِ الْحَسَنِ بْنِ الْمُخَلِّدِ لِلْمُسْتَعِينِ، وَتَرَكَ لِلْمُعْتَزِّ مَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ فِي السَّنَةِ عِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَلِلْمُؤَيَّدِ مَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ فِي السَّنَةِ خَمْسَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَجُعِلَا فِي حُجْرَةٍ فِي الْجَوْسَقِ، وَوَكَّلَ بِهِمَا، وَكَانَ الْأَتْرَاكُ حِينَ شَغَبَ الْغَوْغَاءُ أَرَادُوا قَتْلَهُمَا، فَمَنَعَهُمْ أَحْمَدُ بْنُ الْخَصِيبِ وَقَالَ: لَا ذَنْبَ لَهُمَا، وَلَكِنِ احْبِسُوهُمَا، فَحَبَسُوهُمَا. وَفِيهَا غَضِبَ الْمَوَالِي عَلَى أَحْمَدَ بْنِ الْخَصِيبِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَاسْتُصْفِيَ مَالُهُ وَمَالُ وَلَدِهِ، وَنُفِيَ إِلَى أَقْرِيطِشَ. وَفِيهَا صَرَفَ عَلِيَّ بْنَ يَحْيَى الْأَرْمَنِيَّ عَنِ الثُّغُورِ الشَّامِيَّةِ، وَعَقَدَ لَهُ عَلَى أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. وَفِيهَا شَغَبَ أَهْلُ حِمْصَ عَلَى كَيْدَرَ عَامِلِهِمْ فَأَخْرَجُوهُ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْمُسْتَعِينُ الْفَضْلَ بْنَ قَارَنَ، فَأَخَذَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَحَمَلَ مِنْهُمْ مِائَةً مِنْ أَعْيَانِهِمْ إِلَى سَامَرَّا. وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ وَصِيفٌ، وَكَانَ مُقِيمًا بِالثَّغْرِ الشَّامِيِّ، فَدَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ، فَافْتَتَحَ حِصْنَ فرورية. وَفِيهَا عَقَدَ الْمُسْتَعِينُ لِأُوتَامِشَ عَلَى مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، وَاتَّخَذَهُ وَزِيرًا. وَفِيهَا عَقَدَ لِبُغَا الشَّرَابِيِّ عَلَى حُلْوَانَ، وَمَاسَبَذَانَ، وَمِهْرَجَانَ قَذَفَ، وَجَعَلَ الْمُسْتَعِينُ

شَاهَكَ الْخَادِمَ عَلَى دَرِاهِ وَكُرَاعِهِ، وَحَرَمِهِ، وَحُرَّاسِهِ، وَخَاصِّ أُمُورِهِ، وَقَدَّمَهُ وَأُتَامِشَ (عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ) . وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الزَّيْنَبِيُّ. (وَفِيهَا حَكَمَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو (أَيَّامَ الْمُنْتَصِرِ) . وَخَرَجَ بِنَاحِيَةِ الْمَوْصِلِ (خَارِجِيٌّ) ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمُنْتَصِرُ إِسْحَاقَ بْنَ ثَابِتٍ الْفَرَغَانِيَّ، فَأَسَرَهُ مَعَ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقُتِلُوا وَصُلِبُوا. وَفِيهَا تَحَرَّكَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ الصَّفَّارِ مِنْ سِجِسْتَانَ نَحْوَ هَرَاةَ. [الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ أَبُو مُحَمَّدٍ الرَّافِعِيُّ الزَّاهِدُ، وَكَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ. [بَقِيَّةُ الْحَوَادِثِ] وَفِيهَا سَارَتْ سَرِيَّةٌ فِي الْأَنْدَلُسِ إِلَى ذِي تَرُوجَةَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ تَطَاوَلُوا إِلَى ذَلِكَ الْجَانِبِ، فَلَقِيَتْهُمُ السَّرِيَّةُ، فَأَصَابُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنْهُمْ. وَفِيهَا كَانَ بِصِقِلِّيَّةَ سَرَايَا لِلْمُسْلِمِينَ، فَغَنِمَتْ وَعَادَتْ، وَلَمْ يَكُنْ حَرْبٌ بَيْنَهُمْ تُذْكَرُ) . [بَقِيَّةُ الْوَفِيَاتِ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمَذَانِيُّ الْكُوفِيُّ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ الْمُحَدِّثُ.

ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 249 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ غَزْوِ الرُّومِ وَقَتْلِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الْأَرْمَنِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا جَعْفَرُ بْنُ دِينَارَ الصَّائِفَةَ، فَافْتَتَحَ حِصْنًا، وَمَطَامِيرَ، وَاسْتَأْذَنَهُ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْأَقْطَعُ فِي الْمَسِيرِ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَسَارَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ مَلَطْيَةَ، فَلَقِيَهُ الْمَلِكُ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنْ أَهْلِ الرُّومِ بِمَرْجِ الْأَسْقُفِّ، فَحَارَبَهُ مُحَارَبَةً شَدِيدَةً قُتِلَ فِيهَا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ. ثُمَّ أَحَاطَتْ بِهِ الرُّومُ، وَهُمْ خَمْسُونَ أَلْفًا، وَقُتِلَ عُمَرُ وَمِمَّنْ مَعَهُ أَلْفَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي مُنْتَصَفِ رَجَبٍ. فَلَمَّا قُتِلَ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ خَرَجَ الرُّومُ إِلَى الثُّغُورِ الْجَزَرِيَّةِ، وَكَلَبُوا عَلَيْهَا وَعَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَحَرَمِهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ يَحْيَى، وَهُوَ قَافِلٌ مِنْ أَرْمِينِيَّةَ إِلَى مَيَّارفَارِقِينَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِهَا، وَمِنْ أَهْلِ السِّلْسِلَةِ، فَنَفَرَ إِلَيْهِمْ، فَقُتِلَ فِي نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِ مِائَةِ رَجُلٍ وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبَغْدَاذَ وَفِيهَا شَغَبَ الْجُنْدُ وَالشَّاكِرِيَّةُ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَبَرَ لَمَّا اتَّصَلَ بِهِمْ وَبِسَامَرَّا وَمَا قَرُبَ مِنْهَا بِقَتْلِ عُمَرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَعَلِيِّ بْنِ يَحْيَى، وَكَانَا مِنْ شُجْعَانِ الْإِسْلَامِ، شَدِيدًا بَأْسُهُمَا، عَظِيمًا غَنَاؤُهُمَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي الثُّغُورِ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مَعَ قُرْبِ مَقْتَلِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ، وَمَا لَحِقَهُمْ مِنَ اسْتِعْظَامِهِمْ قَتْلَ الْأَتْرَاكِ لِلْمُتَوَكِّلِ،

وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، (يَقْتُلُونَ مَنْ يُرِيدُونَ مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَيَسْتَخْلِفُونَ مَنْ أَحَبُّوا مِنْ غَيْرِ دِيَانَةٍ، وَلَا نَظَرٍ لِلْمُسْلِمِينَ) . فَاجْتَمَعَتِ الْعَامَّةُ بِبَغْدَاذَ بِالصُّرَاخِ، وَالنِّدَاءِ بِالنَّفِيرِ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِمُ الْأَبْنَاءُ، وَالشَّاكِرِيَّةُ تُظْهِرُ أَنَّهَا تَطْلُبُ الْأَرْزَاقَ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ صَفَرَ، فَفَتَحُوا السُّجُونَ، وَأَخْرَجُوا مَنْ فِيهَا، وَأَحْرَقُوا أَحَدَ الْجِسْرَيْنِ وَقَطَعُوا الْآخَرَ، وَانْتَهَبُوا دَارَ بِشْرِ، وَإِبْرَاهِيمَ ابْنَيْ هَارُونَ، كَاتِبَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ أَخْرَجَ أَهْلُ الْيَسَارِ مِنْ بَغْدَادَ وَسَامَرَّا أَمْوَالًا كَثِيرَةً، فَفَرَّقُوهَا فِيمَنْ نَهَضَ إِلَى الثُّغُورِ، وَأَقْبَلَتِ الْعَامَّةُ مِنْ نَوَاحِي الْجِبَالِ، وَفَارِسٍ، وَالْأَهْوَازِ، وَغَيْرِهَا لِغَزْوِ الرُّومِ، فَلَمْ يَأْمُرِ الْخَلِيفَةُ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُوَجِّهْ عَسْكَرَهُ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِسَامَرَّا وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَثَبَ نَفَرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يُدْرَى مَنْ هُمْ بِسَامَرَّا، فَفَتَحُوا السِّجْنَ، وَأَخْرَجُوا مَنْ فِيهِ، فَبَعَثَ فِي طَلَبِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَوَالِي، فَوَثَبَ الْعَامَّةُ بِهِمْ فَهَزَمُوهُمْ، فَرَكِبَ بُغَا، وَأُتَامَشُ، وَوَصِيفٌ، وَعَامَّةُ الْأَتْرَاكِ، فَقَتَلُوا مِنَ الْعَامَّةِ جَمَاعَةً، فَرُمِيَ وَصِيفٌ بِحَجَرٍ، فَأَمَرَ بِإِحْرَاقِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَانْتَهَبَ الْمَغَارِبَةَ، ثُمَّ سَكَنَ ذَلِكَ آخِرَ النَّهَارِ. ذِكْرُ قَتْلِ أُتَامِشَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ أُتَامِشُ وَكَاتِبُهُ شُجَاعٌ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَعِينَ أَطْلَقَ يَدَ وَالِدَتِهِ، وَيَدَ أُتَامِشَ، وَشَاهَكَ الْخَادِمِ فِي بُيُوتِ الْأَمْوَالِ، وَأَبَاحَهُمْ (فِعْلَ) مَا أَرَادُوا، فَكَانَتِ الْأَمْوَالُ الَّتِي تَرِدُ مِنَ الْآفَاقِ يَصِيرُ مُعْظَمُهَا إِلَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، فَأَخَذَ أُتَامِشُ أَكْثَرَ

مَا فِي بُيُوتِ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ فِي حِجْرِهِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمُسْتَعِينِ، وَكَانَ مَا فَضَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ (الثَّلَاثَةِ) أَخَذَهُ أُتَامِشُ لِلْعَبَّاسِ فَصَرَفَهُ فِي نَفَقَاتِهِ، وَكَانَتِ الْمَوَالِي تَنْظُرُ إِلَى الْأَمْوَالِ تُؤْخَذُ وَهُمْ فِي ضِيقَةٍ، وَوَصِيفٌ وَبُغَا بِمَعْزِلٍ مِنْ ذَلِكَ، فَأَغْرَيَا الْمُوَالِيَ بأُتَامِشَ، وَأَحْكَمَا أَمْرَهُ، فَاجْتَمَعَتِ الْأَتْرَاكُ وَالْفَرَاغِنَةُ عَلَيْهِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ أَهْلُ الدُّورِ وَالْكَرْخِ، فَعَسْكَرُوا فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَزَحَفُوا إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الْجَوْسَقِ مَعَ الْمُسْتَعِينِ، وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَأَرَادَ الْهَرَبَ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ، وَاسْتَجَارَ بِالْمُسْتَعِينِ، فَلَمْ يُجِرْهُ، فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ دَخَلُوا الْجَوْسَقَ، وَأَخَذُوا أُتَامِشَ، فَقَتَلُوهُ، وَقَتَلُوا كَاتِبَهُ شُجَاعًا، وَنُهِبَتْ دُورُ أُتَامِشَ، فَأَخَذُوا مِنْهُ أَمْوَالًا جَمَّةً وَغَيْرَ ذَلِكَ. فَلَمَّا قُتِلَ استَوْزَرَ الْمُسْتَعِينُ أَبَا صَالِحٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَزْدَادَ، وَعَزَلَ الْفَضْلَ بْنَ مَرْوَانَ عَنْ دِيُونِ الْخَرَاجِ، وَوَلَّاهُ عِيسَى بْنُ فَرَّخَانشَاه، وَوَلِيَ وَصِيفٌ الْأَهْوَازَ، وَبُغَا الصَّغِيرُ فِلَسْطِينَ. ثُمَّ غَضِبَ بُغَا الصَّغِيرُ عَلَى أَبِي صَالِحٍ، فَهَرَبَ إِلَى بَغْدَادَ، فَاسْتَوْزَرَ الْمُسْتَعِينُ مُحَمَّدَ بْنَ الْفَضْلِ الْجَرْجَرَائِيَّ، وَجَعَلَ عَلَى دِيوَانِ الرَّسَائِلِ سَعِيدَ بْنَ حُمَيْدٍ، فَقَالَ الْحَمْدُونِيُّ: لَبِسَ السَّيْفَ سَعِيدٌ بَعْدَمَا ... كَانَ ذَا طِمْرَيْنِ لَا تَوْبَةَ لَهْ إِنَّ لِلَّهِ لِآيَاتٍ ، وَذَا آيَةٌ لِلَّهِ فِينَا مُنْزَلَهْ

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا قُتِلَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ بْنِ بَدْرٍ الشَّاعِرُ بِقُرْبِ حَلَبَ، كَانَ تَوَجَّهَ إِلَى الثَّغْرِ، فَلَقِيَهُ خَيْلٌ لِكَلْبَ، فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا مَا مَعَهُ، فَقَالَ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ: أَزِيدَ فِي اللَّيْلِ لَيلٌ أَمْ سَالَ ... فِي الصُّبْحِ سَيْلْ ذَكَرْتُ أَهْلَ دُجَيْلٍ وَأَيْنَ مِنِّي دُجَيْلْ ... وَكَانَ مَنْزِلُهُ بِشَارِعِ دُجَيْلٍ. وَفِيهَا عُزِلَ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنِ الْقَضَاءِ، وَوَلِيَهُ جَعْفَرُ بْنُ (مُحَمَّدِ) بْنِ عَمَّارٍ الْبُرْجُمِيُّ الْكُوفِيُّ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيهَا أَصَابَ أَهْلَ الرَّيِّ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ وَرَجْفَةٌ تَهَدَّمَتْ [مِنْهَا] الدُّورُ، وَمَاتَ خَلْقٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَهَرَبَ الْبَاقُونَ فَنَزَلُوا ظَاهِرَ الْمَدِينَةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامُ، وَهُوَ وَالِي مَكَّةَ. (وَفِيهَا سَيَّرَ مُحَمَّدٌ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، جَيْشًا مَعَ ابْنِهِ إِلَى مَدِينَةِ أُلْبَةَ، وَالْقِلَاعِ مِنْ بَلَدِ الْفِرِنْجِ، فَجَالَتِ الْخَيْلُ فِي ذَلِكَ الثَّغْرِ، وَغَنِمَتْ، وَافْتَتَحَتْ بِهَا حُصُونًا مَنِيعَةً. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَغْلَبِ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، ثَالِثَ عَشَرَ

ذِي الْقِعْدَةِ، فَلَمَّا مَاتَ وَلِيَ أَخُوهُ زِيَادَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَغْلَبِ، فَلَمَّا وَلِيَ زِيَادَةُ اللَّهِ أَرْسَلَ إِلَى خَفَاجَةَ بْنِ سُفْيَانَ، أَمِيرِ صِقِلِّيَّةَ، يُعَرِّفُهُ مَوْتَ أَخِيهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى وِلَايَتِهِ) .

ثم دخلت سنة خمسين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ] 250 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ ظُهُورِ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ الطَّالِبِيِّ وَمَقْتَلِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمُكَنَّى بِأَبِي الْحُسَيْنِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِالْكُوفَةِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ نَالَتْهُ ضِيقَةٌ، وَلَزِمَهُ دَيْنٌ ضَاقَ بِهِ ذَرْعًا، فَلَقِيَ عُمَرَ بْنَ فَرَجٍ، وَهُوَ يَتَوَلَّى أَمْرَ الطَّالِبِيِّينَ، عِنْدَ مَقْدِمِهِ مِنْ خُرَاسَانَ، أَيَّامَ الْمُتَوَكِّلِ، فَكَلَّمَهُ فِي صِلَتِهِ، فَأَغْلَظَ لَهُ عُمَرُ الْقَوْلَ، وَحَبَسَهُ، فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا حَتَّى كَفَلَهُ أَهْلُهُ، فَأُطْلِقَ، فَسَارَ إِلَى بَغْدَادَ، فَأَقَامَ بِهَا بِحَالٍ سَيِّئَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى سَامَرَّا، فَلَقِيَ وَصِيفًا فِي رِزْقٍ يُجْرَى لَهُ، فَأَغْلَظَ لَهُ وَصِيفٌ، وَقَالَ: لِأَيِّ شَيْءٍ يُجْرَى عَلَى مِثْلِكَ؟ فَانْصَرَفَ عَنْهُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَبِهَا أَيُّوبُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ (الْهَاشِمِيُّ) ، عَامِلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فَجَمَعَ أَبُو الْحُسَيْنِ جَمْعًا كَثِيرًا مِنَ الْأَعْرَابِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَتَى الْفَلُّوجَةَ، فَكَتَبَ صَاحِبُ الْبَرِيدِ بِخَبَرِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فَكَتَبَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَيُّوبَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَحْمُودٍ السَّرَخْسِيِّ، عَامِلَهُ عَلَى مَعَاوِنِ السَّوَادِ، يَأْمُرُهُمَا بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى مُحَارَبَةِ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ، فَمَضَى يَحْيَى بْنُ عُمَرَ إِلَى بَيْتِ مَالِ الْكُوفَةِ يَأْخُذُ الَّذِي فِيهِ، وَكَانَ فِيمَا قِيلَ: أَلْفَيْ دِينَارٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَظْهَرَ أَمْرَهُ بِالْكُوفَةِ، وَفَتَحَ السُّجُونَ وَأَخْرَجَ مَنْ فِيهَا، وَأَخْرَجَ الْعُمَّالَ عَنْهَا، فَلَقِيَهُ عَبْدُ بْنُ مَحْمُودٍ

السَّرَخْسِيُّ فِيمَنْ مَعَهُ، فَضَرَبَهُ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ ضَرْبَةً عَلَى وَجْهِهِ أَثْخَنَهُ بِهَا، فَانْهَزَمَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَخَذَ أَصْحَابُ يَحْيَى (مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْمَالِ. وَخَرَجَ يَحْيَى) إِلَى سَوَادِ الْكُوفَةِ، وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الزَّيْدِيَّةِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّوَاحِي إِلَى ظَهْرِ وَاسِطَ، وَأَقَامَ بِالْبُسْتَانِ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ، فَوَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى مُحَارَبَتِهِ الْحُسَيْنَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ فِي جَمْعٍ مِنْ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالْقُوَّةِ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَ فِي وَجْهِهِ لَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ، فَسَارَ يَحْيَى وَالْحُسَيْنُ فِي أَثَرِهِ، حَتَّى نَزَلَ الْكُوفَةَ وَلَقِيَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْخَطَّابِ الْمَعْرُوفُ بِوَجْهِ الْفُلْسِ، قَبْلَ دُخُولِهَا، فَقَاتَلَهُ، وَانْهَزَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى نَاحِيَةِ شَاهِيَّ، وَوَافَاهُ الْحُسَيْنُ، فَنَزَلَا بِشَاهِيَّ. وَاجْتَمَعَتِ الزَّيْدِيَّةُ إِلَى يَحْيَى بْنِ عُمَرَ، وَدَعَا بِالْكُوفَةِ إِلَى الرِّضَى مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَأَحَبُّوهُ، وَتَوَلَّاهُ الْعَامَّةُ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُوَلُّونَ أَحَدًا مِنْ بَيْتِهِ سِوَاهُ، وَبَايَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفَةِ مِمَّنْ لَهُ تَدْبِيرٌ وَبَصِيرَةٌ فِي تَشَيُّعِهِمْ، وَدَخَلَ فِيهِمْ أَخْلَاطٌ لَا دِيَانَةَ لَهُمْ. وَأَقَامَ الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بِشَاهِيَّ، وَاسْتَرَاحَ، وَاتَّصَلَتْ بِهِمُ الْأَمْدَادُ، وَأَقَامَ يَحْيَى بِالْكُوفَةِ يُعِدُّ الْعُدَدَ، وَيُصْلِحُ السِّلَاحَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الزَّيْدِيَّةِ، مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ، بِمُعَاجَلَةِ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَأَلَحُّوا عَلَيْهِ، فَزَحَفَتْ إِلَيْهِ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ، وَمَعَهُ الْهَيْصَمُ الْعِجْلِيُّ وَغَيْرُهُ، وَرِجَالُهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ وَلَا شَجَاعَةٌ، وَأَسْرَوْا لَيْلَتَهُمْ، وَصَبَّحُوا الْحُسَيْنَ وَهُوَ مُسْتَرِيحٌ، فَثَارُوا بِهِمْ فِي الْغَلَسِ، وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ فَانْهَزَمُوا، وَوَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ، وَكَانَ أَوَّلُ أَسِيرٍ الْهَيْصَمَ الْعِجْلِيَّ، وَانْهَزَمَ رِجَالُهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَأَكْثَرَهُمْ بِغَيْرِ سِلَاحٍ، فَدَاسَتْهُمُ الْخَيْلُ. وَانْكَشَفَ الْعَسْكَرُ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ، وَعَلَيْهِ جَوْشَنُ، قَدْ تَقَطَّرَ بِهِ فَرَسُهُ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ ابْنٌ لِخَالِدِ بْنِ عِمْرَانَ، فَقَالَ لَهُ: خَيْرًا، فَلَمْ يَعْرِفْهُ، وَظَنَّهُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ لَمَّا رَأَى

عَلَيْهِ الْجَوْشَنُ، فَأَمَرَ رَجُلًا، فَنَزَلَ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ رَأْسَهُ، وَعَرَفَهُ رَجُلٌ كَانَ مَعَهُ، وَسَيَّرَ الرَّأْسَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَادَّعَى قَتْلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، فَسَيَّرَ مُحَمَّدٌ الرَّأْسَ إِلَى الْمُسْتَعِينِ، فَنُصِبَ بِسَامَرَّا لَحْظَةً، ثُمَّ حَطَّهُ، وَرَدَّهُ إِلَى بَغْدَادَ ; لِيُنْصَبَ بِهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ مُحَمَّدٌ عَلَى ذَلِكَ; لِكَثْرَةِ مَنِ اجْتَمَعَ مِنَ النَّاسِ، فَخَافَ أَنْ يَأْخُذُوهُ، فَلَمْ يَنْصِبْهُ، وَجَعَلَهُ فِي صُنْدُوقٍ فِي بَيْتِ السِّلَاحِ. وَوَجَّهَ الْحُسَيْنَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ بِرُؤُوسِ مَنْ قَتَلَ، وَبِالْأَسْرَى، فَحُبِسُوا بِبَغْدَاذَ، وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ الْعَفْوَ عَنْهُمْ، فَأَمَرَ بِتَخْلِيَتِهِمْ، وَأَنْ تُدْفَنَ الرُّؤُوسُ وَلَا تُنْصَبَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. وَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ بِقَتْلِ يَحْيَى جَلَسَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَهْنَأُ بِذَلِكَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ دَاوُدُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيُّ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ! إِنَّكَ لَتَهْنَأُ بِقَتْلِ رَجُلٍ لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيًّا لَعُزِّيَ بِهِ، فَمَا رَدَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ شَيْئًا، فَخَرَجَ دَاوُدُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا بَنِي طَاهِرٍ كُلُوهُ وَبِيئًا ... إِنَّ لَحْمَ النَّبِيِّ غَيْرُ مَرِيِّ إِنَّ وِتْرًا يَكُونُ طَالِبَهُ اللَّهُ ... لَوِتْرٌ نَجَاحُهُ بِالْحَرِيِّ وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مَرَاثِيَ يَحْيَى لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ السِّيرَةِ وَالدِّيَانَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: بَكَتِ الْخَيْلُ شَجْوَهَا بَعْدَ يَحْيَى ... وَبَكَاهُ الْمُهَنَّدُ الْمَصْقُولُ وَبَكَتْهُ الْعِرَاقُ شَرْقًا وَغَرْبًا ... وَبَكَاهُ الْكِتَابُ وَالتَّنْزِيلُ وَالْمُصَلَّى وَالْبَيْتُ وَالرُّكْنُ وَالْحِجْرُ ... جَمِيعًا لَهُ عَلَيْهِ عَوِيلُ كَيْفَ لَمْ تَسْقُطِ السَّمَاءُ عَلَيْنَا يَوْمَ قَالُوا: أَبُو الْحُسَيْنِ قَتِيلُ ... وَبَنَاتُ النَّبِيِّ يُبْدِينَ شَجْوًا مُوجَعَاتٍ دُمُوعُهُنَّ هُمُولُ قَطَعَتْ وَجْهَهُ سُيُوفُ الْأَعَادِي ... بِأَبِي وَجْهُهُ الْوَسِيمُ، الْجَمِيلُ

إِنَّ يَحْيَى أَبْقَى بِقَلْبِي غَلِيلًا سَوْفَ يُودِي بِالْجِسْمِ ذَاكَ الْغَلِيلُ ... قَتْلُهُ مُذَكِّرٌ لِقَتْلِ عَلِيٍّ وَحُسَيْنَ ، وَيَوْمَ أُوذِيَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ الْإِلَهِ وَقَفًا عَلَيْهِمْ ... مَا بَكَى مُوجَعٌ وَحَنَّتْ ثَكُولُ ذِكْرُ ظُهُورِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيِّ وَفِيهَا ظَهَرَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِطَبَرِسْتَانَ. وَكَانَ سَبَبُ ظُهُورِهِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ لَمَّا ظَفِرَ بِيَحْيَى بْنِ عُمَرَ أَقْطَعَهُ الْمُسْتَعِينُ مِنْ ضَوَاحِي السُّلْطَانِ بِطَبَرِسْتَانَ قَطَائِعَ مِنْهَا قَطِيعَةٌ (قُرْبَ ثَغْرِ الدَّيْلَمِ، وَهَمَا: كُلَارُ وَشَالُوسُ، وَكَانَ بِحِذَائِهِمَا أَرْضٌ يَحْتَطِبُ مِنْهَا أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَتَرْعَى فِيهَا مَوَاشِيهِمْ، لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا مِلْكٌ، إِنَّمَا هِيَ مَوَاتٌ، وَهِيَ ذَاتَ غِيَاضٍ، وَأَشْجَارٍ، وَكَلَأٍ، فَوَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نَائِبَهُ لِحِيَازَةِ مَا أَقْطَعَ، وَاسْمُهُ جَابِرُ بْنُ هَارُونَ النَّصْرَانِيُّ، وَعَامِلُ طَبَرِسْتَانَ يَوْمئِذٍ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ خَلِيفَةُ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ، وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِ سُلَيْمَانَ مُحَمَّدَ بْنَ أَوْسٍ الْبَلْخِيَّ، وَقَدْ فَرَّقَ مُحَمَّدٌ هَذَا أَوْلَادَهُ فِي مُدُنِ طَبَرِسْتَانَ، وَهُمْ أَحْدَاثٌ، سُفَهَاءُ، فَتَأَذَّى بِهِمُ الرَّعِيَّةُ وَشَكَوْا مِنْهُمْ، وَمِنْ أَبِيهِمْ، وَمِنْ سُلَيْمَانَ سُوءَ السِّيرَةِ. ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَوْسٍ دَخَلَ بِلَادَ الدَّيْلَمِ، وَهُمْ مُسَالِمُونَ لِأَهْلِ طَبَرِسْتَانَ، (فَسَبَى

مِنْهُمْ وَقَتَلَ، فَسَاءَ ذَلِكَ أَهْلَ طَبَرِسْتَانَ) ، فَلَمَّا قَدِمَ جَابِرُ بْنُ هَارُونَ لِحِيَازَةِ مَا أَقْطَعُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَمَدَ فَحَازَ فِيهِ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ أَرْضٍ مَوَاتٍ يَرْتَفِقُ بِهَا النَّاسُ، وَفِيهَا حَازَ كُلَارَ وَشَالُوسَ. وَكَانَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ يَوْمَئِذٍ أَخَوَانِ لَهُمَا بَأْسٌ وَنَجْدَةٌ يَضْبِطَانِهَا مِمَّنْ رَامَهَا مِنَ الدَّيْلَمِ، مَذْكُورَانِ بِإِطْعَامِ الطَّعَامِ وَبِالْإِفْضَالِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا مُحَمَّدٌ، وَلِلْآخَرِ جَعْفَرٌ، وَهُمَا ابْنَا رُسْتُمَ، فَأَنْكَرَا مَا فَعَلَ جَابِرٌ مِنْ حِيَازَةِ الْمَوَاتِ، وَكَانَا مُطَاعَيْنِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَاسْتَنْهَضَا مَنْ أَطَاعَهُمَا لِمَنْعِ جَابِرٍ مِنْ حِيَازَةِ ذَلِكَ الْمَوَاتِ، فَخَافَهُمَا جَابِرٌ، فَهَرَبَ مِنْهُمَا، فَلَحِقَ بِسُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَخَافَ مُحَمَّدٌ وَجَعْفَرٌ وَمَنْ مَعَهُمَا مِنْ عَامِلِ طَبَرِسْتَانَ، فَرَاسَلُوا جِيرَانَهُمْ مِنَ الدَّيْلَمِ يُذَكِّرُونَهُمُ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَيَعْتَذِرُونَ فِيمَا فَعَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَوْسٍ بِهِمْ مِنَ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى الْمُعَاوَنَةِ وَالْمُسَاعَدَةِ عَلَى حَرْبِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ أَرْسَلَ ابْنَا رُسْتُمَ [وَمَنْ وَافَقَهُمَا] إِلَى رَجُلٍ مِنَ الطَّالِبِيينَ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كَانَ بِطَبَرِسْتَانَ، يَدْعُونَهُ إِلَى الْبَيْعَةِ لَهُ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: لَكِنِّي أَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنَّا هُوَ أَقْوَمُ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنِّي، فَدَلَّهُمْ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ بِالرَّيِّ، فَوَجَّهُوا إِلَيْهِ، عَنْ رِسَالَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، يَدْعُونَهُ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، فَشَخَّصَ إِلَيْهَا، فَأَتَاهُمْ وَقَدْ صَارَتْ كَلِمَةُ الدَّيْلَمِ وَأَهْلِ كُلَارَ، وَشَالُوسَ، وَالرَّوِيَّانِ عَلَى بَيْعَتِهِ، فَبَايَعُوهُ كُلُّهُمْ، وَطَرَدُوا عُمَّالَ ابْنِ أَوْسٍ عَنْهُمْ، فَلَحِقُوا بِسُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَانْضَمَّ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ أَيْضًا جِبَالُ طَبَرِسْتَانَ كَأَصْمَغَانَ، وَقَادُوسِيَانَ، وَلَيْثُ بْنُ قَتَادَ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ السَّفْحِ. ثُمَّ تَقَدَّمَ الْحَسَنُ وَمَنْ مَعَهُ نَحْوَ مَدِينَةِ آمُلَ، وَهِيَ أَقْرَبُ الْمُدُنِ إِلَيْهِمْ، وَأَقْبَلَ ابْنُ أَوْسٍ مِنْ سَارِيَةَ لِيَدْفَعَهُ عَنْهَا، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَخَالَفَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلَى آمُلَ فَدَخَلَهَا. فَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ أَوْسٍ الْخَبَرَ، وَهُوَ مَشْغُولٌ بِحَرْبِ مَنْ يُقَاتِلُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا النَّجَاءُ بِنَفْسِهِ، فَهَرَبَ، وَلَحِقَ بِسُلَيْمَانَ إِلَى سَارِيَةَ، فَلَمَّا اسْتَوْلَى الْحَسَنُ عَلَى آمُلَ كَثُرَ جَمْعُهُ، وَأَتَاهُ كُلُّ طَالِبِ نَهْبٍ وَفِتْنَةٍ، وَأَقَامَ بِآمُلَ أَيَّامًا، ثُمَّ سَارَ نَحْوَ

سَارِيَةَ لِحَرْبِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ، فَالْتَقَوْا خَارِجَ مَدِينَةِ سَارِيَةَ، وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، فَسَارَ بَعْضُ قُوَّادِ الْحَسَنِ نَحْوَ سَارِيَةَ فَدَخَلَهَا، فَلَمَّا سَمِعَ سُلَيْمَانُ الْخَبَرَ انْهَزَمَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَعِيَالَهُ وَثِقْلَهُ وَكُلَّ مَا لَهُ بِسَارِيَةَ، وَاسْتَوْلَى الْحَسَنُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعِهِ، فَأَمَّا الْحَرِيمُ وَالْأَوْلَادُ فَجَعَلَهُمُ الْحَسَنُ فِي مَرْكِبٍ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى سُلَيْمَانَ بِجُرْجَانَ، وَأَمَّا الْمَالُ فَكَانَ قَدْ نُهِبَ وَتَفَرَّقَ. وَقِيلَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ انْهَزَمَ اخْتِيَارًا لِأَنَّ الطَّاهِرِيَّةَ كُلَّهَا كَانَتْ تَتَشَيَّعُ، فَلَمَّا أَقْبَلَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ إِلَى طَبَرِسْتَانَ تَأَثَّمَ سُلَيْمَانُ مِنْ قِتَالِهِ لِشِدَّتِهِ فِي التَّشَيُّعِ، وَقَالَ. نُبِّئْتُ خَيْلَ ابْنِ زَيْدٍ أَقْبَلَتْ ... خَبَبًا تُرِيدُنَا لِتُحَسِّينَا الْأَمَرِّينَا يَا قَوْمُ إِنْ كَانَتِ الْأَنْبَاءُ صَادِقَةً ... فَالْوَيْلُ لِي وَلِجَمِيعِ الطَّاهِرِينَا أَمَّا أَنَا فَإِذَا اصْطَفَّتْ كَتَائِبُنَا ... أَكُونُ مِنْ بَيْنِهِمْ رَأْسَ الْمُوَالِينَا فَالْعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مُنْبَسِطٌ ... إِذَا احْتُسِبَتْ دِمَاءُ الْفَاطِمِيِّينَا فَلَمَّا الْتَقَوُا انْهَزَمَ سُلَيْمَانُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ طَبَرِسْتَانُ لِلْحَسَنِ وَجَّهَ إِلَى الرَّيِّ جُنْدًا مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِهِ، يُقَالُ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ أَيْضًا، فَمَلَكَهَا، وَطَرَدَ عَنْهَا عَامِلَ الطَّاهِرِيَّةِ، فَاسْتَخْلَفَ بِهَا رَجُلًا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَانْصَرَفَ عَنْهَا. وَوَرَدَ الْخَبَرُ عَلَى الْمُسْتَعِينِ، وَمُدَبِّرِ أَمْرِهِ وَصِيفٍ، وَكَاتِبِهِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحِ بْنِ شِيرَزَادَ، فَوَجَّهَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ فَرَاشَةَ فِي جُنْدٍ إِلَى هَمَذَانَ، وَأَمَرَهُ بِالْمُقَامِ بِهَا لِيَمْنَعَ خَيْلَ الْحَسَنِ عَنْهَا، وَأَمَّا مَا عَدَاهَا فَإِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَعَلَيْهِ الذَّبُّ عَنْهُ. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الطَّالِبِيُّ بِالرَّيِّ ظَهَرَتْ مِنْهُ أُمُورٌ كَرِهَهَا أَهْلُ الرَّيِّ، وَوَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ قَائِدًا مِنْ عِنْدِهِ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ مِيكَالَ (فِي جَمْعٍ مِنَ الْجُنْدِ إِلَى الرَّيِّ، وَهُوَ أَخُو الشَّاهِ بْنِ مِيكَالَ) ، فَالْتَقَى هُوَ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الطَّالِبِيُّ خَارِجَ الرَّيِّ، فَأُسِرَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَانْهَزَمَ جَيْشُهُ، وَدَخَلَ ابْنُ مِيكَالَ الرَّيَّ، فَأَقَامَ بِهَا، فَوَجَّهَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ عَسْكَرًا عَلَيْهِ قَائِدٌ يُقَالُ لَهُ وَاجِنُ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى الرَّيِّ خَرَجَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ مِيكَالَ، فَالْتَقَوْا، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ ابْنُ مِيكَالَ، وَالْتَجَأَ إِلَى الرَّيِّ مُعْتَصِمًا بِهَا،

فَاتَّبَعَهُ وَاجِنُ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَصَارَتِ الرَّيُّ إِلَى أَصْحَابِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ. فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ ظَهَرَ بِالرَّيِّ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ حُسَيْنٍ الصَّغِيرِ ابْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (وَإِدْرِيسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) ، فَصَلَّى أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بِأَهْلِ الرَّيِّ صَلَاةَ الْعِيدِ، وَدَعَا لِلرِّضَى مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، فَحَارَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ طَاهِرٍ، فَانْهَزَمَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَسَارَ إِلَى قَزْوِينَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا غَضِبَ الْمُسْتَعِينُ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ [كَانَ] بَعَثَ إِلَى الشَّاكِرِيَّةِ، فَزَعَمَ وَصِيفٌ أَنَّهُ أَفْسَدَهُمْ، فَنُفِيَ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَفِيهَا أُسْقِطَتْ مَرْتَبَةُ مَنْ كَانَتْ لَهُ مَرْتَبَةٌ فِي دَارِ الْعَامَّةِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةِ كَأَبِي الشَّوَارِبِ، وَالْعُثْمَانِيِّينَ. وَأَخْرَجَ الْحَسَنَ بْنَ الْأَفْشِينِ مِنَ الْحَبْسِ. وَفِيهَا عَقَدَ لِجَعْفَرِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى الْمَعْرُوفِ بِبَشَّاشَاتِ عَلَى مَكَّةَ. وَفِيهَا وَثَبَ أَهْلُ حِمْصَ، وَقَوْمٌ مِنْ كَلْبَ، بِعَامِلِهِمْ، وَهُوَ الْفَضْلُ بْنُ قَارَنَ أَخُو مَازِيَارَ بْنِ قَارَنَ، فَقَتَلُوهُ، فَوَجَّهَ الْمُسْتَعِينُ إِلَى حِمْصَ مُوسَى بْنَ بُغَا فِي رَمَضَانَ، فَلَقِيَهُ أَهْلُهَا فِيمَا بَيْنَ حِمْصَ وَالرَّسْتَنَ، وَحَارَبُوهُ، فَهَزَمَهُمْ، وَافْتَتَحَ حِمْصَ، وَقَتَلَ أَهْلَهَا مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَأَحْرَقَهَا، وَأَسَرَ جَمَاعَةً مِنْ (أَهْلِهَا الْأَعْيَانِ) .

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بِنِ عَمَّارٍ الْقَاضِي، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْحَوْرَانِيُّ التَّيْمِيُّ، قَاضِي الْبَصْرَةَ. [بَقِيَّةُ الْحَوَادِثِ] وَفِيهَا وَلِيَ أَحْمَدُ بْنُ الْوَزِيرِ قَضَاءَ سَامَرَّا. وَفِيهَا وَثَبَ الشَّاكِرِيَّةُ وَالْجُنْدُ بِفَارِسَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، فَانْتَهَبُوا مَنْزِلَهُ، وَقَتَلُوا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ قَارَنَ، وَهَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ. وَفِيهَا وَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ [مِنْ خُرَاسَانَ] بِفِيلَيْنِ وَأَصْنَامٍ أَتَى بِهَا مِنْ كَابُلَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ جَعْفَرُ بْنُ الْفَضْلِ بِشَاشَاتَ، وَهُوَ وَالِي مَكَّةَ. [بَقِيَّةُ الْوَفَيَاتِ] (وَفِيهَا تُوُفِّيَ زِيَادَةُ اللَّهِ بْنُ الْأَغْلَبِ، أَمِيرُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَنَةً وَاحِدَةً وَسِتَّةَ أَيَّامٍ، وَلَمَّا مَاتَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُ أَخِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَغْلَبِ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْجَرَاجِرئِيُّ، وَزِيرُ الْمُتَوَكِّلِ

وَالْفَضْلُ بْنُ مَرْوَانَ، وَزِيرُ الْمُعْتَصِمِ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى. وَالْخَلِيعُ الشَّاعِرُ الْحُسَيْنُ بْنُ الضَّحَّاكِ، كَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِالْأَخْبَارِ وَالْأَشْعَارِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَارِثُ بْنُ مُسْكِينَ قَاضِي مِصْرَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، (وَهُوَ مِنْ وَلَدِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ) . وَنَصْرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ الْحَافِظُ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو حَاتِمٍ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّجِسْتَانِيُّ اللُّغَوِيُّ، رَوَى عَنْ أَبِي زَيْدٍ، وَالْأَصْمَعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ. وَقِيلَ: تُوُفِّيَ قَبْلَ سَنَةِ خَمْسِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، وَاللَّهُ تَعَالَى بِالْغَيْبِ أَعْلَمُ) .

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ] 251 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ قَتْلِ بَاغِرَ التُّرْكِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ بَاغِرُ التُّرْكِيُّ، قَتَلَهُ وَصِيفٌ وَبُغَا. وَكَانَ السَّبَبُ أَنَّ بَاغِرَ كَانَ أَحَدَ قَتَلَةِ الْمُتَوَكِّلِ، فَزِيدَ فِي أَرْزَاقِهِ، فَأُقْطِعَ قَطَائِعَ، فَكَانَ مِمَّا أُقْطِعَ قُرًى بِسَوَادِ الْكُوفَةِ، فَتَضَمَّنَهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَارُوسْمَا بِأَلْفَيْ دِينَارٍ، فَوَثَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ مَارَمَةَ، بِوَكِيلٍ لِبَاغِرَ، وَتَنَاوَلَهُ، فَحَبَسَ ابْنَ مَارَمَةَ، وَقُيِّدَ، ثُمَّ تَخَلَّصَ، وَسَارَ إِلَى سَامَرَّا، فَلَقِيَ دَلِيلَ بْنَ يَعْقُوبٍ النَّصْرَانِيَّ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ صَاحِبُ أَمْرِ بُغَا الشَّرَابِيِّ وَالْحَاكِمِ فِي الدَّوْلَةِ، وَكَانَ ابْنُ مَارَمَةَ صَدِيقًا لَهُ، وَكَانَ بَاغِرُ أَحَدَ قُوَّادِ بُغَا، فَمَنَعَهُ دَلِيلٌ مِنْ ظُلْمِ أَحْمَدَ بْنَ مَارَمَةَ، فَانْتَصَفَ لَهُ مِنْهُ، فَغَضِبَ بَاغِرُ وَبَايَنَ دَلِيلًا. وَكَانَ بَاغِرُ شُجَاعًا يَتَّقِيهِ بُغَا وَغَيْرُهُ، فَحَضَرَ عِنْدَ بُغَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسِينَ [وَمِائَتَيْنِ] وَهُوَ سَكْرَانُ، وَبُغَا فِي الْحَمَّامِ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ وَقَالَ: مَنْ قَتَلَ دَلِيلًا (يُقْتَلُ بِهِ) ، فَقَالَ لَهُ بُغَا: لَوْ أَرَدْتَ وَلَدَيَّ مَا مَنَعْتُكَ مِنْهُ، وَلَكِنِ اصْبِرْ، فَإِنَّ أُمُورَ الْخِلَافَةِ بِيَدِ دَلِيلٍ، وَأُقِيمُ غَيْرَهُ، (ثُمَّ افْعَلْ بِهِ مَا تُرِيدُ.

وَأَرْسَلَ بُغَا إِلَى دَلِيلٍ يَأْمُرُهُ أَلَّا يَرْكَبَ، وَعَرَّفَهُ الْخَبَرَ، وَأَقَامَ فِي كِتَابَتِهِ غَيْرَهُ) ، وَتَوَهَّمَ بَاغِرُ أَنَّهُ قَدْ عَزَلَهُ، فَسَكَنَ بَاغِرُ، ثُمَّ أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا بُغَا، وَبَاغِرُ يَتَهَدَّدُهُ، وَلَزِمَ بَاغِرُ خِدْمَةَ الْمُسْتَعِينِ، (فَقِيلَ ذَلِكَ لِلْمُسْتَعِينِ) . فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ نَوْبَةِ بُغَا فِي مَنْزِلِهِ قَالَ الْمُسْتَعِينُ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ إِلَى إِيتَاخَ مِنَ الْخِدْمَةِ؟ فَأَخْبَرَهُ وَصِيفٌ، فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الْأَعْمَالُ إِلَى بَاغِرَ، وَسَمِعَ دَلِيلٌ ذَلِكَ، فَرَكِبَ إِلَى بُغَا، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ فِي بَيْتِكَ، وَهُمْ فِي تَدْبِيرِ عَزْلِكَ، فَإِذَا عُزِلْتَ قُتِلْتَ. فَرَكِبَ بُغَا إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ فِي يَوْمِهِ، وَقَالَ لِوَصِيفٍ: أَرَدْتَ أَنْ تَعْزِلَنِي؟ فَحَلَفَ أَنَّهُ مَا عَلِمَ مَا أَرَادَ الْخَلِيفَةُ، فَتَعَاقَدَا عَلَى تَنْحِيَةِ بَاغِرَ مِنَ الدَّارِ وَالْحِيلَةِ عَلَيْهِ، فَأَرْجَفَا لَهُ أَنَّهُ يُؤَمَّرُ، وَيُخْلَعُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ مَوْضِعَ بُغَا وَوَصِيفٍ، فَأَحَسَّ بَاغِرُ وَمَنْ مَعَهُ بِالشَّرِّ، فَجَمَعَ إِلَيْهِ الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ كَانُوا بَايِعُوهُ عَلَى قَتْلِ الْمُتَوَكِّلِ، وَمَعَهُمْ غَيْرُهُمْ، فَجَدَّدَ الْعَهْدَ عَلَيْهِمْ فِي قَتْلِ الْمُسْتَعِينِ، وَبُغَا، وَوَصِيفٍ، وَقَالَ: نُبَايِعُ عَلَى ابْنِ الْمُعْتَصِمِ، أَوِ ابْنِ الْوَاثِقِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ لَنَا كَمَا هُوَ لِهَذَيْنِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ. وَانْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى الْمُسْتَعِينِ، فَبَعَثَ إِلَى بُغَا وَوَصِيفٍ، وَقَالَ لَهُمَا: أَنْتُمَا جَعَلْتُمَانِي خَلِيفَةً، ثُمَّ تُرِيدَانِ قَتْلِي؟ فَحَلَفَا أَنَّهُمَا مَا عَلِمَا بِذَلِكَ، فَأَعْلَمَهُمَا الْخَبَرَ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَخْذِ بَاغِرَ وَرَجُلَيْنِ مِنَ الْأَتْرَاكِ مَعَهُ، وَحَبْسِهِمْ، فَأَحْضَرُوا بَاغِرَ، فَأَقْبَلَ فِي عِدَّةٍ، فَعُدِلَ بِهِ إِلَى حَمَّامٍ وَحُبِسَ فِيهِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ الْأَتْرَاكَ، فَوَثَبُوا عَلَى إِصْطَبْلِ الْخَلِيفَةِ، فَانْتَهَبُوهُ وَرَكِبُوا مَا فِيهِ، وَحَصَرُوا الْجَوْسَقَ بِالسِّلَاحِ، فَأَمَرَ بُغَا وَوَصِيفٌ بِقَتْلِ بَاغِرَ فَقُتِلَ.

ذِكْرُ مَسِيرِ الْمُسْتَعِينِ إِلَى بَغْدَادَ فَلَمَّا قُتِلَ بَاغِرُ وَانْتَهَى خَبَرُ قَتْلِهِ إِلَى الْأَتْرَاكِ الْمِشْغَبِينَ أَقَامُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَانْحَدَرَ الْمُسْتَعِينُ، وَبُغَا، وَوَصِيفٌ، وَشَاهَكُ الْخَادِمُ، وَأَحْمَدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ شِيرَزَادَ، وَدَلِيلٌ إِلَى بَغْدَادَ فِي حَرَّاقَةَ، فَرَكِبَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِ الْأَتْرَاكِ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمِشْغَبِينَ فَسَأَلُوهُمُ الِانْصِرَافَ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَلَمَّا عَلِمُوا بِانْحِدَارِ الْمُسْتَعِينِ وَبُغَا وَوَصِيفٍ نَدِمُوا، ثُمَّ قَصَدُوا دَارَ دَلِيلٍ، وَدُورَ أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ، فَنَهَبُوهَا، حَتَّى صَارُوا إِلَى أَخْذِ الْخَشَبِ وَعَلِيقِ الدَّوَابِّ، فَلَمَّا قَدِمُوا بَغْدَادَ مَرِضَ ابْنُ مَارَمَةَ، فَعَادَهُ دَلِيلٌ، وَقَالَ لَهُ: مَا سَبَبُ عِلَّتِكَ؟ قَالَ: انْتَقَضَ عُقْرُ الْقَيْدِ، فَقَالَ دَلِيلٌ: لَئِنْ عَقَرَكَ الْقَيْدُ لَقَدْ نَقَضْتَ الْخِلَافَةَ، وَبَغَيْتَ الْفِتْنَةَ، وَمَاتَ ابْنُ مَارَمَةَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ: لَعَمْرِي لَئِنْ قَتَلُوا بَاغِرًا ... لَقَدْ هَاجَ بَاغِرُ حَرْبًا طَحُونَا وَفَرَّ الْخَلِيفَةُ وَالْقَائِدَانِ ... بِاللَّيْلِ يَلْتَمِسُونَ السَّفِينَا وَصَاحُوا بِمِنْشَارِ مَلَّاحِهِمْ ، فَجَاءَهُمُ يَسْبِقُ النَّاظِرِينَا ... فَأَلْزَمَهُمْ بَطْنَ حَرَّاقَةٍ وَصَوْتَ مَجَاذِيفِهِمْ سَائِرِينَا ... وَمَا كَانَ قَدَرُ ابْنِ مَارَمَّةِ فَنَكْسِبُ فِيهِ الْحُرُوبَ الزَّبُونَا ... وَلَكِنْ دَلِيلٌ سَعَى سَعْيَةً فَأَخْزَى الْإِلَهُ بِهَا الْعَالَمِينَا ... فَحَلَّ بِبَغْدَاذَ قَبْلَ الشُّرُوقِ فَخَلَّ بِهَا مِنْهُ مَا يَكْرَهُونَا

فَلَيْتَ السَّفِينَةَ لَمْ تَأْتِنَا ... وَغَرَّقَهَا اللَّهُ وَالرَّاكِبِينَا وَأَقْبَلَتِ التُّرْكُ وَالْمُغْرِبُونَ ... وَجَاءَ الْفَرَاغِنَةُ الدَّارِعُونَا تَسِيرُ كَرَادِيسُهُمْ فِي السِّلَاحِ ... يَرْجُونَ خَيْلًا وَرَجْلًا بَنِينَا فَقَامَ بِحَرْبِهِمِ عَالِمٌ بِأَمْرِ ... الْحُرُوبِ تَوَلَّاهُ حِينَا فَجَدَّدَ سُورًا عَلَى الْجَانِبَيْنِ ... حَتَّى أَحَاطَهُمُ أَجْمَعِينَا وَأَحْكَمَ أَبْوَابَهَا الْمُصْمَتَاتِ ... عَلَى السُّورِ يَحْمِي بِهَا الْمُسْتَعِينَا وَهَيَّا مَجَانِيقَ خَطَّارَةً تُفِيتُ النُّفُوسَ، وَتَحْمِي الْعَرِينَا وَمَنَعَ الْأَتْرَاكُ النَّاسَ مِنَ الِانْحِدَارِ إِلَى بَغْدَادَ، وَأَخَذُوا مَلَّاحًا قَدْ أَكْرَى سَفِينَتَهُ، فَضَرَبُوهُ، وَصَلَبُوهُ عَلَى دَقْلِهَا، فَامْتَنَعَ أَصْحَابُ السُّفُنِ مِنَ الِانْحِدَارِ إِلَّا سِرًّا. وَكَانَ وُصُولُ الْمُسْتَعِينِ إِلَى بَغْدَادَ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَنَزَلَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فِي دَارِهِ، ثُمَّ وَافَى بَغْدَادَ الْقُوَّادُ، سِوَى جَعْفَرٍ الْخَيَّاطِ، وَسُلَيْمَانِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ، وَقَدِمَهَا جُلَّةُ الْكُتَّابِ وَالْعُمَّالِ وَبَنِي هَاشِمٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ بُغَا وَوَصِيفٍ. ذِكْرُ الْبَيْعَةِ لِلْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ الْمُعْتَزُّ بِاللَّهِ، وَكَانَ سَبَبُ الْبَيْعَةِ لَهُ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُسْتَعِينُ بِبَغْدَاذَ أَتَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِ الْأَتْرَاكِ الْمِشْغَبِينَ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَجَعَلُوا مَنَاطِقَهُمْ فِي أَعْنَاقِهِمْ تَذَلُّلًا وَخُضُوعًا، وَسَأَلُوهُ الصَّفْحَ عَنْهُمْ وَالرِّضَا. قَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ أَهْلُ بَغِيٍ وَفَسَادٍ، وَاسْتِقْلَالٍ لِلنِّعَمِ، أَلَمْ تَرْفَعُوا إِلَيَّ فِي أَوْلَادِكُمْ فَأُلْحِقَهُمْ بِكُمْ، وَهُمْ نَحْوًا مِنْ أَلْفَيْ غُلَامٍ، وَفِي بَنَاتِكُمْ، فَأَمَرْتُ بِتَصْيِيرِهِنَّ فِي عِدَادِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، وَهُنَّ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَغَيْرَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَجَبْتُكُمْ إِلَيْهِ، وَأَدْرَرْتُ عَلَيْكُمْ

الْأَرْزَاقَ، فَعَمِلْتُمْ آنِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَنَعْتُ نَفْسِي لَذَّتَهَا وَشَهْوَتَهَا إِرَادَةً لِصَلَاحِكُمْ وَرِضَاكُمْ، وَأَنْتُمْ تَزْدَادُونَ بَغْيًا وَفَسَادًا، فَعَادُوا وَتَضَرَّعُوا، وَسَأَلُوهُ الْعَفْوَ، فَقَالَ الْمُسْتَعِينُ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْكُمْ وَرَضِيتُ. فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمْ، وَاسْمُهُ بَابِي بِكَّ: فَإِنْ كُنْتَ قَدْ رَضِيتَ فَقُمْ فَارْكَبْ مَعَنَا إِلَى سَامَرَّا، فَإِنَّ الْأَتْرَاكَ يَنْتَظِرُونَكَ، فَأَمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَقَامَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هَكَذَا يُقَالُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قُمْ فَارْكَبْ مَعَنَا! فَضَحِكَ الْمُسْتَعِينُ وَقَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ عُجْمٌ لَا يَعْرِفُونَ حُدُودَ الْكَلَامِ. وَقَالَ لَهُمُ الْمُسْتَعِينُ: تَرْجِعُونَ إِلَى سَامَرَّا، فَإِنَّ أَرْزَاقَكُمْ دَارَّةٌ عَلَيْكُمْ، وَأَنْظُرْ أَنَا فِي أَمْرِي، فَانْصَرَفُوا آيِسِينَ مِنْهُ، وَأَغْضَبَهُمْ مَا كَانَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى بَابِي بِكَّ، وَأَخْبَرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ خَبَرَهُمْ، وَزَادُوا، وَحَرَّفُوا تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى خَلْعِهِ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى إِخْرَاجِ الْمُعْتَزِّ، (وَكَانَ هُوَ وَالْمُؤَيَّدُ فِي حَبْسِ الْجَوْسَقِ، وَعَلَيْهِمَا مَنْ يَحْفَظُهُمَا، فَأَخْرَجُوا الْمُعْتَزَّ) مِنَ الْحَبْسِ، وَأَخَذُوا مِنْ شَعْرِهِ، وَكَانَ قَدْ كَثُرَ، وَبَايَعُوا لَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَأَمَرَ لِلنَّاسِ بِرِزْقِ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ لِلْبَيْعَةِ، فَلَمْ يَتِمَّ الْمَالُ، فَأُعْطُوا شَهْرَيْنِ لِقِلَّةِ الْمَالِ عِنْدَهُمْ. وَكَانَ الْمُسْتَعِينُ خَلَّفَ بَيْتِ الْمَالِ بِسَامَرَّا فِيهِ نَحْوَ خَمْسِ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفِي بَيْتِ مَالِ أُمِّ الْمُسْتَعِينِ قِيمَةَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفِي بَيْتِ مَالِ الْعَبَّاسِ قِيمَةَ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَ فِيمَنْ أُحْضِرَ لِلْبَيْعَةِ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ الرَّشِيدِ وَبِهِ نِقْرِسٌ، فِي مِحَفَّةٍ مَحْمُولًا، فَأُمِرَ بِالْبَيْعَةِ فَامْتَنَعَ، وَقَالَ لِلْمُعْتَزِّ: خَرَجْتَ إِلَيْنَا طَائِعًا، فَخَلَعْتَهَا وَزَعَمْتَ أَنَّكَ لَا تَقُومُ بِهَا، فَقَالَ الْمُعْتَزُّ: أُكْرِهْتُ عَلَى ذَلِكَ، وَخِفْتُ السَّيْفَ. فَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ: مَا عَلِمْنَا أَنَّكَ أُكْرِهْتَ، وَقَدْ

بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ، فَنُرِيدُ أَنْ تُطْلِقَ نِسَاءَنَا، وَتَخْرُجَ عَنْ أَمْوَالِنَا، وَلَا نَدْرِي مَا يَكُونُ إِنْ تَرَكْتَنِي عَلَى أَمْرِي حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ، وَإِلَّا فَهَذَا السَّيْفُ. فَتَرَكَهُ الْمُعْتَزُّ. وَكَانَ مِمَّنْ بَايَعَ إِبْرَاهِيمُ الدَّيْرَجُ، وَعَتَّابُ بْنُ عَتَّابٍ، فَأَمَّا عَتَّابٌ فَهَرَبَ إِلَى بَغْدَادَ، وَأَمَّا الدَّيْرَجُ فَأَقَرَّ عَلَى الشُّرْطِ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَى الدَّوَاوِينِ، وَبَيْتِ الْمَالِ، وَالْكِتَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَمَّا اتَّصَلَ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خَبَرُ بَيْعَةِ الْمُعْتَزِّ وَتَوْجِيهُ الْعُمَّالِ أَمَرَ بِقَطْعِ الْمِيرَةِ عَنْ أَهْلِ سَامَرَّا، وَكَتَبَ إِلَى مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ فِي الْمَسِيرِ إِلَى بَغْدَادَ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَجُنْدُهُ، وَكَتَبَ إِلَى نَجُوبَةَ بْنِ قَيْسٍ وَهُوَ عَلَى الْأَنْبَارِ فِي الِاحْتِشَادِ وَالْجَمْعِ، وَإِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عِمْرَانَ الْمَوْصِلِيِّ فِي مَنْعِ السُّفُنِ وَالْمِيرَةِ عَنْ سَامَرَّا، فَأُخِذَتْ سَفِينَةٌ بِبَغْدَاذَ فِيهَا أُرْزٌ وَغَيْرُهُ، فَهَرَبَ الْمَلَّاحُ، وَبَقِيَتِ السَّفِينَةُ حَتَّى غَرِقَتْ. وَأَمَرَ الْمُسْتَعِينُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بِتَحْصِينِ بَغْدَادَ، فَتَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ، فَأُدِيرَ عَلَيْهَا السُّورُ مِنْ دِجْلَةَ مِنْ بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ إِلَى سُوقِ الثُّلَاثَاءِ، حَتَّى أَوْرَدَهُ دِجْلَةَ وَأَمَرَ بِحَفْرِ الْخَنَادِقِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا، وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ بَابٍ قَائِدًا، فَبَلَغَتِ النَّفَقَةُ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعِهِ ثَلَاثَمِائَةَ أَلْفٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَنَصَبَ عَلَى الْأَبْوَابِ الْمَنْجَنِيقَاتِ وَالْعَرَّادَاتِ، وَشَحَنَ الْأَسْوَارَ، وَفَرَضَ فَرْضًا لِلْعَيَّارِينِ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ عَرِيفًا اسْمُهُ يَبْنَوَيْهِ، وَعَمِلَ لَهُمْ تَرَاسًا مِنَ الْبَوَارِي الْمُقَيَّرَةِ، وَأَعْطَاهُمُ الْمَخَالِيَ لِيَجْعَلُوا فِيهَا الْحِجَارَةَ لِلرَّمْيِ، وَفَرَضَ أَيْضًا لِقَوْمٍ مِنْ خُرَاسَانَ قَدِمُوا حُجَّاجًا، فَسُئِلُوا الْمَعُونَةَ، فَأَعَانُوا. وَكَتَبَ الْمُسْتَعِينُ إِلَى عُمَّالِ الْخَرَاجِ بِكُلِّ بَلْدَةٍ أَنْ يَكُونَ حَمْلُهُمُ الْخَرَاجَ وَالْأَمْوَالَ إِلَى بَغْدَادَ، لَا يُحْمَلُ مِنْهَا إِلَى سَامَرَّا شَيْءٌ، وَكَتَبَ إِلَى الْأَتْرَاكِ، وَالْجُنْدِ الَّذِينَ بِسَامَرَّا،

يَأْمُرُهُمْ بِنَقْضِ بَيْعَةِ الْمُعْتَزِّ، وَمُرَاجَعَةِ الْوَفَاءِ لَهُ، وَيُذَكِّرُهُمْ أَيَادِيَهُ عِنْدَهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالنَّكْثِ. ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَ الْمُعْتَزِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مُكَاتَبَاتٌ وَمُرَاسَلَاتٌ يَدْعُو الْمُعْتَزَّ (مُحَمَّدًا إِلَى الْمُبَايَعَةِ، وَيُذَكِّرُهُ مَا كَانَ الْمُتَوَكِّلُ أَخَذَ لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْبَيْعَةِ بَعْدَ الْمُنْتَصِرِ، وَمُحَمَّدٌ يَدْعُو الْمُعْتَزَّ) إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى طَاعَةِ الْمُسْتَعِينِ، وَاحْتَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ. وَأَمَرَ مُحَمَّدٌ بِكَسْرِ الْقَنَاطِرِ، وَشَقِّ الْمِيَاهِ بِسُطُوحِ (الْأَنْبَارِ وَبَادُورِيَا لِيَقْطَعَ الْأَتْرَاكَ عَنِ الْأَنْبَارِ. وَكَتَبَ الْمُسْتَعِينُ وَالْمُعْتَزُّ إِلَى مُوسَى بْنِ بُغَا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْعُوهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَكَانَ بِأَطْرَافِ الشَّامِ، كَانَ خَرَجَ لِقِتَالِ أَهْلِ حِمْصَ، فَانْصَرَفَ إِلَى الْمُعْتَزِّ، وَصَارَ مَعَهُ. وَقَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُغَا الصَّغِيرُ مِنْ سَامَرَّا إِلَى الْمُسْتَعِينِ، وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ بَعْدَ أَبِيهِ، فَاعْتَذَرَ، وَقَالَ لِأَبِيهِ: إِنَّمَا قَدِمْتُ لِأَمُوتَ تَحْتَ رِكَابِكَ، فَأَقَامَ بِبَغْدَاذَ أَيَّامًا، ثُمَّ هَرَبَ إِلَى سَامَرَّا، فَاعْتَذَرَ إِلَى الْمُعْتَزِّ، وَقَالَ: إِنَّمَا سِرْتُ إِلَى بَغْدَادَ لِأَعْلَمَ أَخْبَارَهُمْ وَآتِيَكَ بِهَا. فَقَبِلَهُ الْمُعْتَزُّ، وَرَدَّهُ إِلَى خِدْمَتِهِ. وَوَرَدَ الْحَسَنُ بْنُ الْأَفْشِينِ بَغْدَادَ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ الْمُسْتَعِينُ، وَضَمَّ إِلَيْهِ جَمْعًا مِنَ الْأَشْرُوسَنِّيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. ذِكْرُ حِصَارِ الْمُسْتَعِينِ بِبَغْدَاذَ ثُمَّ إِنَّ الْمُعْتَزَّ عَقَدَ لِأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ، وَهُوَ الْمُوَفَّقُ، لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، عَلَى حَرْبِ الْمُسْتَعِينِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَوَلَّاهُ ذَلِكَ، وَضَمَّ إِلَيْهِ الْجَيْشَ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا، وَجَعَلَ التَّدْبِيرَ إِلَى كَلْبَاتِكِينَ التُّرْكِيِّ، فَسَارَ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا مِنَ

الْأَتْرَاكِ وَالْفَرَاغِنَةِ، وَأَلْفَيْنِ مِنَ الْمَغَارِبَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ عُكْبَرَا صَلَّى بِهَا، وَخُطِبَ لِلْمُعْتَزِّ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْمُعْتَزِّ، فَذَكَرَ أَهْلُ عُكْبَرَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى خَوْفٍ شَدِيدٍ مِنْ مَسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، وَمُحَارَبَتِهِمْ، فَانْتَهَبُوا الْقُرَى مَا بَيْنَ عُكْبَرَا وبَغْدَادَ، فَخَرِبَتِ الضِّيَاعُ، وَأَخَذَ النَّاسُ فِي الطَّرِيقِ. وَلَمَّا وَصَلَ أَبُو أَحْمَدَ إِلَى عُكْبَرَا هَرَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ بُغَا الصَّغِيرِ، وَوَصَلَ أَبُو أَحْمَدَ وَعَسْكَرُهُ بَابَ الشَّمَّاسِيَّةِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ صَفَرَ، فَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ، يُعْرَفُ بِبَاذِنْجَانَةَ: يَا بَنِي طَاهِرٍ أَتَتْكُمْ جُنُودُ اللَّهِ وَالْمَوْتُ بَيْنَهَا مَشْهُورُ ... وَجُيُوشُ إِمَامِهِمْ أَبُو أَحْمَدَ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنَعِمَ النَّصِيرُ وَلَمَّا نَزَلَ أَبُو أَحْمَدَ بِبَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ وَلَّى الْمُسْتَعِينُ بَابَ الشَّمَّاسِيَّةِ الْحُسَيْنَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، وَجَعَلَ مَنْ هُنَاكَ مِنَ الْقُوَّادِ تَحْتَ يَدِهِ، فَلَمْ يَزَلْ هُنَاكَ مُدَّةَ الْحَرْبِ إِلَى أَنْ سَارُوا إِلَى الْأَنْبَارِ، فَلَمَّا كَانَ عَاشِرُ صَفَرَ وَافَتْ طَلَائِعُ الْأَتْرَاكِ إِلَى بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ، فَوَقَفُوا بِالْقُرْبِ مِنْهُ، فَوَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، وَالشَّاهَ بْنَ مِيكَالَ، وَبُنْدَارَ الطَّبَرِيَّ، فِيمَنْ مَعَهُمْ، وَعَزَمَ عَلَى الرُّكُوبِ لِقِتَالِهِمْ، فَأَتَاهُ الشَّاهُ فَأَعْلَمَهُ أَنَّ الْأَتْرَاكَ لَمَّا عَايَنُوا الْأَعْلَامَ وَالرَّايَاتِ قَدْ أَقْبَلَتْ نَحْوَهُمْ رَجَعُوا إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ، فَتَرَكَ مُحَمَّدٌ الرُّكُوبَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ عَزَمَ مُحَمَّدٌ عَلَى تَوْجِيهِ الْجُيُوشِ إِلَى الْقَفَصِ لِيَعْرِضَهُمْ هُنَاكَ، وَلِيُرْهِبَ الْأَتْرَاكَ، وَرَكِبَ وَمَعَهُ وَصِيفٌ وَبُغَا فِي الدُّرُوعِ، وَمَضَى مَعَهُ الْفُقَهَاءُ وَالْقُضَاةُ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالْعِصْيَانِ، وَيَبْذُلُ لَهُمُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَزُّ وَلِيَّ الْعَهْدِ بَعْدَ الْمُسْتَعِينِ، فَلَمْ يُجِيبُوا، وَمَضَى نَحْوَ بَابِ قُطْرَبُّلَ، فَنَزَلَ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ هُوَ وَوَصِيفٌ وَبُغَا، وَلَمْ يُمْكِنْهُ التَّقَدُّمُ لِكَثْرَةِ النَّاسِ فَانْصَرَفَ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَاهُ رُسُلُ وَجْهِ الْفُلْسِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْقُوَّادِ، يُعْلِمُونَهُ أَنَّ التُّرْكَ قَدْ

دَنَوْا، وَضَرَبُوا مَضَارِبَهُمْ بِرِقَّةِ الشَّمَّاسِيَّةِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: لَا تَبْدَأُوهُمْ بِقِتَالٍ، وَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ، وَادْفَعُوا الْيَوْمَ، فَوَافَى بَابَ الشَّمَّاسِيَّةِ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ فَارِسًا فَرَمَوْا بِالسِّهَامِ، وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ أَحَدٌ، فَلَمَّا طَالَ مُقَامُهُمْ رَمَاهُمُ الْمَنْجَنِيقِيُّ بِحَجَرٍ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلًا، فَأَخَذُوهُ، وَرَجَعُوا. وَقَدِمَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ خَلِيفَةُ وَصِيفٍ التُّرْكِيِّ مِنْ مَكَّةَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَوَافَى الْأَتْرَاكُ فِي هَذَا الْيَوْمِ بَابَ الشَّمَّاسِيَّةِ، فَخَرَجَ الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْقُوَّادِ لِمُحَارَبَتِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَجُرِحَ، وَكَانُوا فِي الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى عَلَى السَّوَاءِ، وَانْهَزَمَ أَهْلُ بَغْدَادَ، وَثَبَتَ أَصْحَابُ الْبَوَارِي ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَأَحْضَرَ الْأَتْرَاكُ مَنْجَنِيقًا، فَغَلَبَهُمْ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ، فَأَخَذُوهُ. ثُمَّ سَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ إِلَى نَاحِيَةِ النَّهْرَوَانِ، فَوَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَائِدَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي جَمَاعَةٍ، وَأَمَرَهُمَا بِالْمُقَامِ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَحِفْظِهَا مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ إِلَى بَغْدَادَ، وَأُخِذَتْ دَوَابُّهُمْ، فَدَخَلُوا بَغْدَادَ مُنْهَزِمِينَ، وَوَجَّهَ الْأَتْرَاكُ بِرُؤُوسِ الْقَتْلَى إِلَى سَامَرَّا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ، وَانْقَطَعَ الطَّرِيقُ عَنْ بَغْدَادَ. وَوَجَّهَ الْمُعْتَزُّ عَسْكَرًا فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ فَسَارُوا إِلَى بَغْدَادَ، وَجَاوَزُوا قُطْرَبُّلَ، فَضَرَبُوا عَسْكَرَهُمْ هُنَاكَ، وَذَلِكَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ صَفَرَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ وَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَسْكَرًا إِلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُمُ الشَّاهُ بْنُ مِيكَالَ، فَتَحَارَبُوا، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْمُعْتَزِّ، وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ كَمِينٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَانْهَزَمُوا وَوَضَعَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ فِيهِمُ السَّيْفَ، فَقَتَلُوهُمْ أَكْثَرَ قَتْلٍ، وَلَمْ يَفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَنَهَبَ عَسْكَرَهُمْ جَمِيعَهُ، وَمَنْ سَلِمَ مِنَ الْقَتْلِ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي دِجْلَةَ لِيَعْبُرَ إِلَى عَسْكَرِ أَبِي أَحْمَدَ، فَأَخَذَهُ أَصْحَابُ السُّفُنِ، وَحَمَلُوا الْأَسْرَى وَالرُّؤُوسَ فِي الزَّوَارِيقِ، فَنَصَبَ بَعْضَهَا بِبَغْدَاذَ. وَأَمَرَ مُحَمَّدٌ لِمَنْ أَبْلَى فِي هَذَا الْيَوْمِ بِالْأَسْوِرَةِ، وَالْخِلَعِ، وَالْأَمْوَالِ، وَطُلِبَتِ الْمُنْهَزِمَةُ، فَبَلَغَ بَعْضُهُمْ أَوَانًا، وَبَعْضُهُمْ بَلَغَ سَامَرَّا، وَكَانَ عَسْكَرُ الْمُعْتَزِّ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فَقُتِلَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ، وَغَرِقَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ، فَخَلَعَ مُحَمَّدٌ عَلَى جَمِيعِ الْقُوَّادِ،

عَلَى كُلِّ قَائِدٍ أَرْبَعَ خِلَعٍ، وَطَوْقًا وَسُوَارًا، مِنْ ذَهَبٍ. وَكَانَ عَوْدُ أَهْلِ بَغْدَادَ عَنْهُمْ مَعَ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ أَكْثَرُ الْعَمَلِ فِي هَذَا الْيَوْمِ لِلْعَيَّارِينَ. وَرَكِبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ صَفَرَ إِلَى الشَّمَّاسِيَّةِ، فَأَمَرَ بِهَدْمِ مَا وَرَاءِ سُورِهَا مِنَ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ، وَالْبَسَاتِينِ، مِنْ بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ، لِيَتَّسِعَ عَلَى مَنْ يُحَارِبُ. وَقَدِمَ مَالٌ مِنْ فَارِسٍ وَالْأَهْوَازِ مَعَ منكجورَ الْأَشْرُوسَنِيِّ، فَوَجَّهَ أَبُو أَحْمَدَ الْأَتْرَاكَ لِأَخْذِهِ، فَوَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ جَمَاعَةً لِحِفْظِ الْمَالِ، فَعَدَلُوا بِهِ عَنِ الْأَتْرَاكِ، فَقَدِمُوا بِهِ بَغْدَادَ، فَلَمَّا عَلِمَ الْأَتْرَاكُ بِذَلِكَ عَدَلُوا نَحْوَ النَّهْرَوَانِ، فَقَتَلُوا وَأَحْرَقُوا سُفُنَ الْجِسْرِ، وَهِيَ عِشْرُونَ سَفِينَةً، وَرَجَعُوا إِلَى سَامَرَّا. وَقَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مَزِيدٍ، وَكَانَ الْمُسْتَعِينُ قَلَّدَهُ إِمْرَةَ الثُّغُورِ الْجَزَرِيَّةِ، كَانَ بِمَدِينَةِ بَلَدَ يَنْتَظِرُ الْجُنُودَ وَالْمَالَ لِيَسِيرَ إِلَى الثُّغُورِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْتَعِينِ وَالْأَتْرَاكِ مَا ذَكَرْنَا، سَارَ مِنْ بَلَدَ إِلَى بَغْدَادَ عَلَى طَرِيقِ الرِّقَّةِ فِي أَصْحَابِهِ وَخَاصَّتِهِ، وَهُمْ زُهَاءَ أَرْبَعِ مِائَةٍ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ خَمْسَ خِلَعٍ، ثُمَّ وَجَّهَهُ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ لِمُحَارَبَةِ أَيُّوبَ بْنِ أَحْمَدَ، فَأُخِذَ عَلَى طَرِيقِ الْفُرَاتِ، فَحَارَبَهُ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَهَزَمَ مُحَمَّدٌ وَصَارَ إِلَى ضَيْعَتِهِ بِالسَّوَادِ، فَلَمَّا سَمِعَ مُحَمَّدٌ بِهَزِيمَتِهِ قَالَ: لَا يُفْلِحُ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ نَبِيٌّ يَنْصُرُهُ اللَّهُ بِهِ. وَكَانَتْ لِلْأَتْرَاكِ وَقْعَةٌ بِبَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ، فَقَاتَلُوا عَلَيْهِ قِتَالًا شَدِيدًا، حَتَّى كَشَفُوا مَنْ عَلَيْهِ وَرَمَوْا (بِهِ) الْمَنْجَنِيقَ بِالنَّارِ وَالنِّفْطِ، فَلَمْ يَحْرِقْهُ، ثُمَّ كَثُرَ الْجُنْدُ عَلَى الْبَابِ، فَأَزَالَهُمْ عَنْ مَوْقِفِهِمْ بَعْدَ قَتْلَى وَجَرْحَى، وَوَجَّهَ مُحَمَّدٌ الْعَرَّادَاتِ فِي السُّفُنِ فَرَمَوْهُمْ بِهَا رَمْيًا شَدِيدًا، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ نَحْوَ مِائَةٍ، وَكَانَ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ قَدْ صَارَ إِلَى السُّورِ، فَرَمَى بِكَلَّابٍ، فَتَعَلَّقَ بِهِ، فَأَخَذَهُ الْمُوَكَّلُونَ بِالسُّورِ وَرَفَعُوهُ فَقَتَلُوهُ، وَأَلْقَوْا رَأْسَهُ إِلَى الْأَتْرَاكِ، فَرَجَعُوا إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ. وَأَرَادَ بَعْضُ الْمُوَكَّلِينَ بِالسُّورِ أَنْ يَصِيحَ: يَا مُسْتَعِينُ، يَا مَنْصُورُ، فَصَاحَ: يَا مُعْتَزُّ، يَا

مَنْصُورُ، فَظَنُّوهُ مِنَ الْمَغَارِبَةِ، فَقَتَلُوهُ. وَتَقَدَّمَ الْأَتْرَاكُ، فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، إِلَى بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ، فَرُمِيَ الدَّرْغَمَانُ، مُقَدِّمُ الْمَغَارِبَةِ، بِحَجَرِ مَنْجَنِيقٍ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ شُجَاعًا، وَكَانَ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ يَجِيءُ فَيَكْشِفُ إِسْتَهُ، وَيَصِيحُ، وَيَضْرِطُ، ثُمَّ يَرْجِعُ، فَرَمَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ بِسَهْمٍ فِي دُبُرِهِ، فَجُرِحَ مِنْ خَلْفِهِ، فَخَرَّ مَيِّتًا. وَاجْتَمَعَتِ الْعَامَّةُ بِسَامَرَّا وَنَهَبُوا سُوقَيِ الْجَوْهَرِيِّينَ وَالصَّيَارِفَةِ وَغَيْرَهُمَا، فَشَكَا التُّجَّارُ ذَلِكَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ الْمُؤَيَّدِ، فَقَالَ لَهُمْ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَوِّلُوا مَتَاعَكُمْ إِلَى مَنَازِلِكُمْ، وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، وَلَا أُنْكِرُ ذَلِكَ. وَقَدِمَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الثُّغُورِ يَشْكُونَ بَلْكَاجُورَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ بَيْعَةَ الْمُعْتَزِّ وَرَدَتْ عَلَيْهِ، فَدَعَا النَّاسَ إِلَى بَيْعَتِهِ، وَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَمَنِ امْتَنَعَ ضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ، وَأَنَّهُمُ امْتَنَعُوا وَهَرَبُوا، فَقَالَ وَصِيفٌ: مَا أَظُنُّهُ إِلَّا ظَنَّ أَنَّ الْمُسْتَعِينَ مَاتَ، وَقَامَ الْمُعْتَزُّ، فَقَالُوا: مَا فَعَلَهُ إِلَّا عَنْ عَمْدٍ، فَوَرَدَ كِتَابُ بَلْكَاجُورَ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرَ، يَذْكُرُ أَنَّهُ كَانَ بَايَعَ الْمُعْتَزَّ، فَلَمَّا وَرَدَ كِتَابُ الْمُسْتَعِينِ بِصِحَّةِ الْأَمْرِ جَدَّدَ لَهُ الْبَيْعَةَ، وَأَنَّهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَأَرَادَ مُوسَى بْنُ بُغَا أَنْ يَسِيرَ إِلَى الْمُسْتَعِينِ، فَامْتَنَعَ أَصْحَابُهُ الْأَتْرَاكُ مِنْ مُوَافَقَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَحَارَبُوهُ، فَقَتَلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى. وَقَدِمَ مِنَ الْبَصْرَةِ عَشْرُ سَفَائِنَ بَحَرِيَّةٍ، فِي كُلِّ سَفِينَةٍ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا مَا بَيْنَ نَفَّاطٍ وَغَيْرِهِ، فَمَرَّتْ إِلَى نَاحِيَةِ الشَّمَّاسِيَّةِ، فَرَمَى مَنْ فِيهَا بِالنِّيرَانِ إِلَى عَسْكَرِ أَبِي أَحْمَدَ، فَانْتَقَلُوا إِلَى مَوْضِعٍ لَا يَنَالُهُمْ شَيْءٌ مِنَ النَّارِ. وَلِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ صَفَرَ تَقَدَّمَ الْأَتْرَاكُ إِلَى أَبْوَابِ بَغْدَادَ، فَقَاتَلُوا عَلَيْهَا، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَدَامَ الْقِتَالُ إِلَى الْعَصْرِ.

وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عَمِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَافَرَكُونَاتٍ وَفَرَّقَهَا عَلَى الْعَيَّارِينَ، فَخَرَجُوا بِهَا إِلَى أَبْوَابِ بَغْدَادَ، وَقَتَلُوا مِنَ الْأَتْرَاكِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ رَجُلًا. وَلِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَدِمَ مُزَاحِمُ بْنُ خَاقَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الرَّقَّةِ، فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ وَمَعَهُ زُهَاءَ أَلْفِ رَجُلٍ، فَلَمَّا وَصَلَ خَلَعَ عَلَيْهِ سَبْعَ خِلَعٍ، وَقَلَّدَهُ سَيْفًا. وَوَجَّهَ الْمُعْتَزُّ عَسْكَرًا يَبْلُغُونَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، فَعَسْكَرُوا بِإِزَاءِ عَسْكَرِ أَبِي أَحْمَدَ بِبَابِ قُطْرَبُّلَ، وَرَكِبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي عَسْكَرِهِ، وَخَرَجَ مِنَ النَّظَّارَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَحَاذَى عَسْكَرَ أَبِي أَحْمَدَ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الْمَاءِ جَوْلَةٌ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي أَحْمَدَ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِينَ رَجُلًا، وَمَضَى النَّظَّارَةُ فَجَازُوا الْعَسْكَرَ بِنِصْفِ فَرْسَخٍ، فَعَبَرَتْ إِلَيْهِمْ سُفُنٌ لِأَبِي أَحْمَدَ، فَنَالَتْ مِنْهُمْ، وَرَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَمَرَ ابْنَ أَبِي عَوْنٍ بِرَدِّ النَّاسِ، فَأَمَرَهُمْ بِالْعَوْدِ، فَأَغْلَظُوا لَهُ، فَشَتَمَهُمْ وَشَتَمُوهُ، وَضَرَبَ رَجُلًا مِنْهُمْ فَقَتَلَهُ، فَحَمَلَتْ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ، فَانْكَشَفَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، فَأَخَذَ أَصْحَابُ أَبِي أَحْمَدَ أَرْبَعَ سَفَائِنَ، وَأَحْرَقُوا سَفِينَةً فِيهَا عَرَّادَةٌ لِأَهْلِ بَغْدَادَ. وَسَارَ الْعَامَّةُ إِلَى دَارِ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ لِيَنْهَبُوهَا، وَقَالُوا مَايَلَ الْأَتْرَاكَ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَكَلَّمُوا مُحَمَّدًا فِي صَرْفِهِ، فَصَرَفَهُ، وَمَنَعَهُمْ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ. وَلِإِحْدَى عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَصَلَ عَسْكَرُ الْمُعْتَزِّ الَّذِي سَيَّرَهُ إِلَى مُقَابِلِ عَسْكَرِ أَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ عِنْدَ عُكْبَرَا، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِمُ ابْنُ طَاهِرٍ عَسْكَرًا، فَمَضَوْا حَتَّى بَلَغُوا قُطْرَبُّلَ وَبِهَا كَمِينُ الْأَتْرَاكِ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ، وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَانْدَفَعَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ قَلِيلًا إِلَى بَابِ قُطْرَبُّلَ، وَالْأَتْرَاكُ مَعَهُمْ، فَخَرَجَ النَّاسُ إِلَيْهِمْ، فَدَفَعُوا الْأَتْرَاكَ حَتَّى نَحُّوهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى أَهْلِ بَغْدَادَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَقُتِلَ مِنَ الْأَتْرَاكِ أَيْضًا خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ تَقَدَّمَ الْأَتْرَاكُ إِلَى بَابِ الْقَطِيعَةِ، فَنَقَبُوا السُّورَ، فَقَتَلَ أَهْلُ بَغْدَادَ (أَوَّلَ خَارِجٍ مِنْهُ) ، وَكَانَ الْقَتْلُ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَكْثَرُهُ فِي الْأَتْرَاكِ، وَالْجِرَاحُ بِالسِّهَامِ فِي أَهْلِ بَغْدَادَ. وَنَدَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ النَّاسَ، فَخَرَجُوا مَعَهُ، وَأَمَرَ الْمُوَكَّلَ بِبَابِ قُطْرَبُّلَ

أَلَّا يَدَعَ مُنْهَزِمًا يَدْخُلُهُ، وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ، وَثَبَتَ أَسَدُ بْنُ دَاوُدَ حَتَّى قُتِلَ، وَكَانَ إِغْلَاقُ الْبَابِ عَلَى الْمُنْهَزِمِينَ أَشَدَّ مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَأَخَذُوا مِنْهُمُ الْأَسْرَى، وَقَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَحَمَلُوا الْأَسْرَى وَالرُّؤُوسَ إِلَى سَامَرَّا، فَلَمَّا قَارَبُوا مِنْهَا غَطَّوْا رُؤُوسَ الْأَسْرَى، فَلَمَّا رَآهُمْ أَهْلُ سَامَرَّا بَكَوْا وَضَجُّوا، وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ، وَأَصْوَاتُ نِسَائِهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُعْتَزَّ فَكَرِهَ أَنْ تَغْلُظَ قُلُوبُ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ لِكُلِّ أَسِيرٍ بِدِينَارٍ، وَأَمَرَ بِالرُؤُوسِ فَدُفِنَتْ. وَقَدِمَ أَبُو السَّاجِ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ. وَفِي سَلْخِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ جَاءَ نَفَرٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ إِلَى بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ، وَمَعَهُمْ كِتَابٌ مِنَ الْمُعْتَزِّ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَاسْتَأْذَنَهُ أَصْحَابُهُ فِي أَخْذِهِ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَإِذَا فِيهِ (تَذْكِيرُ مُحَمَّدٍ بِمَا) يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ (وَأَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ) أَوَّلَ مَنْ يَسْعَى فِي أَمْرِهِ وَيُؤَكِّدَ خِلَافَتَهُ. (فَمَا رَدَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ جَوَابَ الْكِتَابِ) ، وَكَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَهُمْ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرَ، قُتِلَ مِنَ الْأَتْرَاكِ سَبْعُ مِائَةٍ وَمِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ثَلَاثُمِائَةٍ. وَفِي مُنْتَصَفِ رَبِيعٍ الْآخِرِ أُمِرَ أَبُو السَّاجِ، وَعَلِيُّ بْنُ فَرَاشَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، بِالْمَسِيرِ إِلَى الْمَدَائِنِ، فَقَالَ أَبُو السَّاجِ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْجِدَّ مَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَلَا تُفَرِّقْ قُوَّادَكَ، وَاجْمَعْهُمْ، حَتَّى تَهْزِمَ هَذَا الْعَسْكَرَ الْمُقِيمَ بِإِزَائِكَ، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْهُمْ فَمَا أَقْدَرَكَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ! فَقَالَ: إِنَّ لِي تَدْبِيرًا، وَيَكْفِي اللَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ أَبُو السَّاجِ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ! وَسَارَ إِلَى الْمَدَائِنِ وَحَفَرَ خَنْدَقَهَا، وَأَمَدَّهُ مُحَمَّدٌ بِثَلَاثَةِ آلَافِ فَارِسٍ وَأَلْفَيْ رَاجِلٍ.

وَكَتَبَ الْمُعْتَزُّ إِلَى أَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ يَلُومُهُ لِلتَّقْصِيرِ فِي قِتَالِ أَهْلِ بَغْدَادَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ فِي الْجَوَابِ: لِأَمْرِ الْمَنَايَا عَلَيْنَا طَرِيقُ ... وَلِلدَّهْرِ فِينَا اتِّسَاعٌ وَضِيقُ وَأَيَّامُنَا عِبْرَةٌ لِلْأَنَامِ فَمِنْهَا الْبُكُورُ وَمِنْهَا الطُّرُوقُ ... وَمِنْهَا هَنَاتٌ تُشِيبُ الْوَلِيدَ وَيَخْذُلُ فِيهَا الصَّدِيقَ الصَّدُوقُ وَفِتْنَةُ دِينٍ لَهَا ذُرْوَةٌ تَفُوقُ الْعُيُونَ ، وَبَحْرٌ عَمِيقُ قَتَّالٌ مَتِينٌ ، وَسَيْفٌ عَتِيدٌ وَخَوْفٌ شَدِيدٌ ، وَحِصْنٌ وَثِيقُ وَطُولُ صِيَاحٍ ... لِدَاعِي الصَّبَاحِ السِّلَاحَ السِّلَاحَ فَمَا يَسْتَفِيقُ فَهَذَا طَرِيحٌ وَهَذَا جَرِيحٌ ... وَهَذَا حَرِيقٌ وَهَذَا غَرِيقُ وَهَذَا قَتِيلٌ وَهَذَا تَلِيلٌ وَآخَرُ يَشْدَخُهُ الْمَنْجَنِيقُ ... هُنَاكَ اغْتِصَابٌ وَثُمَّ انْتِهَابٌ وَدُورٌ خَرَابٌ وَكَانَتْ تَرُوقُ إِذَا مَا شَرَعْنَا إِلَى مَسْلَكٍ وَجَدْنَاهُ ... قَدْ سُدَّ عَنَّا الطَّرِيقُ فَبِاللَّهِ نَبْلُغُ مَا نَرْتَجِي وَبِاللَّهِ نَدْفَعُ مَا لَا نُطِيقُ وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِعَلِيِّ بْنِ أُمَيَّةَ فِي فِتْنَةِ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ. ذِكْرُ حَالِ الْأَنْبَارِ وَسَيَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى الْأَنْبَارِ نَجُوبَةَ بْنَ قَيْسٍ، فَأَقَامَ بِهَا، وَجَمَعَ بِهَا نَحْوًا مِنْ أَلْفَيْ رَجُلٍ، وَأَمَدَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِ مِائَةٍ، وَشَقَّ الْمَاءَ مِنَ الْفُرَاتِ إِلَى

خَنْدَقِهَا، فَفَاضَ عَلَى الصَّحَارِي، فَصَارَ بَطِيحَةً وَاحِدَةً، وَقَطَعَ الْقَنَاطِرِ. وَسَيَّرَ الْمُعْتَزُّ جُنْدًا مَعَ عَلِيٍّ الْإِسْحَاقِيِّ نَحْوَ الْأَنْبَارِ، فَوَصَلُوا سَاعَةَ وُصُولِ مَدَدِ مُحَمَّدٍ وَقَدْ نَزَلُوا ظَاهِرَهَا، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، فَانْهَزَمَ مَدَدُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَرَجَعُوا فِي الطَّرِيقِ الَّذِي جَاؤُوا فِيهِ إِلَى بَغْدَادَ. وَكَانَ نَجُوبَةُ بِالْأَنْبَارِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ هَزِيمَةُ مَدَدِهِ، وَمَسِيرُ الْأَتْرَاكِ إِلَيْهِ، عَبَرَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَقَطَعَ الْجِسْرَ وَسَارَ نَحْوَ بَغْدَادَ، فَاخْتَارَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (إِنْفَاذَ) الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى الْأَنْبَارِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْقُوَّادِ وَالْجُنْدِ، فَجَهَّزَهُمْ، وَأَخْرَجَ لَهُمْ رِزْقَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَخَرَجَ الْجُنْدُ وَعَرَضَهُمُ الْحُسَيْنُ، وَسَارَ عَنْ بَغْدَادَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَتَبِعَهُ النَّاسُ، وَالْقُوَّادُ، وَبَنُو هَاشِمٍ إِلَى الْيَاسِرِيَّةِ. وَكَانَ أَهْلُ الْأَنْبَارِ لَمَّا دَخَلَهَا الْأَتْرَاكُ قَدْ أَمِنُوهُمْ، فَفَتَحُوا دَكَاكِينَهُمْ، وَأَسْوَاقَهُمْ، وَوَافَاهُمْ سُفُنٌ مِنَ الرِّقَّةِ تَحْمِلُ الدَّقِيقَ وَالزَّيْتَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَانْتَهَبَهَا الْأَتْرَاكُ وَحَمَلُوهَا إِلَى مَنَازِلِهِمْ بِسَامَرَّا، وَوَجَّهُوا بِالْأَسْرَى وَبِالرُّؤُوسِ مَعَهَا. وَسَارَ الْحُسَيْنُ حَتَّى نَزَلَ دِمِمَّا، وَوَافَتْهُ طَلَائِعُ الْأَتْرَاكِ فَوْقَ دِمِمَّا، فَصَفَّ أَصْحَابَهُ مُقَابِلَ الْأَتْرَاكِ، بَيْنَهُمَا نَهْرٌ، وَكَانَ عَسْكَرُهُ عَشَرَةَ آلَافِ رَجُلٍ، (وَكَانَ الْأَتْرَاكُ فَوْقَ دِمِمَّا، فَصَفَّ أَصْحَابَهُ) ، وَكَانَ الْأَتْرَاكُ زُهَاءَ أَلْفِ رَجُلٍ، فَتَرَامَوْا بِالسِّهَامِ، فَجُرِحَ بَيْنَهُمْ عَدَدٌ، وَعَادَ الْأَتْرَاكُ إِلَى الْأَنْبَارِ، وَتَقَدَّمَ الْحُسَيْنُ فَنَزَلَ بِمَكَانٍ يُعْرَفُ بِالْقَطِيعَةِ، وَاسِعٍ يَحْمِلُ الْعَسْكَرَ، فَأَقَامَ فِيهِ يَوْمَهُ،

ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ إِلَى قُرْبِ الْأَنْبَارِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْقُوَّادُ أَنْ يُنْزِلَ عَسْكَرَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ بِالْقَطِيعَةِ لِسِعَتِهِ وَحَصَانَتِهِ، وَيَسِيرَ هُوَ وَجُنْدُهُ جَرِيدَةً، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ لَهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى نَقْلِ عَسْكَرِهِ، (وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ رَجَعَ إِلَى عَسْكَرِهِ) وَعَاوَدَ عَدُّوَهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ وَسَارَ مِنْ مَكَانِهِ. فَلَمَّا بَلَغَ الْمَكَانَ الَّذِي يُرِيدُ النُّزُولَ بِهِ أَمَرَ النَّاسَ بِالنُّزُولِ، فَأَتَتِ الْأَتْرَاكُ جَوَاسِيسَهُمْ، وَأَعْلَمُوهُمْ بِمَسِيرِهِ وَضِيقِ مَكَانِهِ، فَأَتَاهُمُ الْأَتْرَاكُ وَالنَّاسُ يَحُطُّونَ أَثْقَالَهُمْ، فَثَارَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ وَقَاتَلُوهُمْ فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَحَمَلَ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمْ فَكَشَفُوهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَغَرِقَ مِنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَكَانَ الْأَتْرَاكُ قَدْ كَمَّنُوا لَهُمْ كَمِينًا، فَخَرَجَ الْكَمِينُ عَلَى بَقِيَّةِ الْعَسْكَرِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَلْجَأٌ إِلَّا الْفُرَاتُ، وَغَرِقَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ. وَأَمَّا الْفُرْسَانُ فَهَرَبُوا لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَالْقُوَّادُ يُنَادُونَهُمْ: الرَّجْعَةَ، فَلَمْ يَرْجِعْ أَحَدٌ، فَخَافُوا عَلَى نُفُوسِهِمْ، فَرَجَعُوا يَحْمُونَ أَصْحَابَهُمْ، وَأَخَذَ الْأَتْرَاكُ عَسْكَرَ الْحُسَيْنِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْخِلَعِ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ، وَسَلَّمَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ سِلَاحٍ فِي السُّفُنِ، لِأَنَّ الْمَلَّاحِينَ حَذَرُوا السُّفُنَ، فَسَلَّمَ مَا مَعَهُمْ مِنْ سِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَوَصَلَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى الْيَاسِرِيَّةِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَلَقِيَ الْحُسَيْنَ رَجُلٌ مِنَ التُّجَّارِ مِمَّنْ ذَهَبَتْ أَمْوَالُهُمْ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَيَّضَ وَجْهَكَ، أُصْعِدْتَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَانْصَرَفْتَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ! فَتَغَافَلَ عَنْهُ. وَلَمَّا اتَّصَلَ خَبَرُ الْهَزِيمَةِ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ مَنَعَ الْمُنْهَزِمِينَ مِنْ دُخُولِ بَغْدَادَ، وَنَادَى: مَنْ وَجَدْنَاهُ بِبَغْدَاذَ مِنْ عَسْكَرِ الْحُسَيْنِ، بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ضُرِبَ ثَلَاثَمِائَةَ سَوْطٍ، وَأُسْقِطَ مِنَ الدِّيوَانِ، فَخَرَجَ النَّاسُ إِلَى الْحُسَيْنِ بِالْيَاسِرِيَّةِ، وَأَخْرَجَ إِلَيْهِمْ [ابْنُ] عَبْدِ اللَّهِ جُنْدًا آخَرَ، وَأَعْطَاهُمُ الْأَرْزَاقَ، وَأَمَرَ بَعْضَ النَّاسِ لِيَعْلَمَ مَنْ قُتِلَ، وَمَنْ غَرِقَ، وَمَنْ سَلِمَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ.

وَأَتَاهُمْ كِتَابُ بَعْضِ عُيُونِهِمْ مِنَ الْأَنْبَارِ يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الْقَتْلَى كَانَتْ مِنَ التُّرْكِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْنِ، وَالْجَرْحَى نَحْوَ أَرْبَعِ مِائَةٍ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَنْ أَسَرَهُ الْأَتْرَاكُ مِائَتَانِ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، وَأَنَّهُ عَدَّ رُؤُوسَ الْقَتْلَى فَكَانَتْ سَبْعِينَ رَأْسًا، وَكَانُوا أَخَذُوا جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ فَأَطْلَقُوهُمْ، فَرَحَلَ الْحُسَيْنُ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَسَارَ حَتَّى عَبَرَ نَهَرَ أَرْبَقَ، فَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ رَجَبٍ أَتَاهُ إِنْسَانٌ فَأَعْلَمَهُ أَنَّ الْأَتْرَاكَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ إِلَيْهِ فِي عِدَّةِ مَخَاضَاتٍ، فَضَرَبَهُ، وَوَكَّلَ بِمَوَاضِعِ الْمَخَاضِ رَجُلًا مِنْ قُوَّادِهِ يُقَالُ لَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الْأَرْمَنِيُّ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ، فَأَتَى الْأَتْرَاكُ الْمَخَاضَةَ، فَرَأَوُا الْمُوكَلَ بِهَا، فَتَرَكُوهَا إِلَى مَخَاضَةٍ أُخْرَى، فَقَاتَلُوهُمْ، وَصَبَرَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَبَعَثَ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَنَّ الْأَتْرَاكَ قَدْ وَافَوُا الْمَخَاضَةَ، فَقِيلَ لِلرَّسُولِ: الْأَمِيرُ نَائِمٌ، فَأَرْسَلَ آخَرَ، فَقِيلَ لَهُ: الْأَمِيرُ فِي الْمَخْرَجِ، فَأَرْسَلَ آخَرَ، فَقِيلَ [لَهُ] : الْأَمِيرُ قَدْ عَادَ فَنَامَ، فَعَبَرَ الْأَتْرَاكُ، فَقَعَدَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي زَوْرَقٍ وَانْحَدَرَ، وَهَرَبَ أَصْحَابُهُ مُنْهَزِمِينَ، وَقَتَلَ الْأَتْرَاكُ مِنْهُمْ وَأَسَرُوا نَحْوَ مِائَتَيْنِ، وَانْحَدَرَتْ عَامَّةُ السُّفُنِ فَسُلِّمَتْ، وَوَضَعَ الْأَتْرَاكُ السَّيْفَ، وَغَرِقَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَوَصَلَ الْمُنْهَزِمُونَ بَغْدَادَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَوَافَى بَقِيَّتُهُمْ فِي النَّهَارِ، وَاسْتَوْلَى الْأَتْرَاكُ عَلَى أَثْقَالِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَقُتِلَ عِدَّةٌ مِنْ قُوَّادِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ فِي الْحُسَيْنِ: يَا أَحْزَمَ النَّاسِ رَأَيًا فِي تَخَلُّفِهِ ... عَنِ الْقِتَالِ خَلَطْتَ الصَّفْوَ بِالْكَدَرِ لَمَّا رَأَيْتَ سُيُوفَ التُّرْكِ مُصْلَتَةً ... عَلِمْتَ مَا فِي سُيُوفِ التُّرْكِ مِنْ قَدَرِ فَصِرْتَ مُضَجِّرًا ذُلًّا وَمَنْقَصَةً ... وَالنُّجْحُ يَذْهَبُ بَيْنَ الْعَجْزِ وَالضَّجَرِ وَلَحِقَ فِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْكُتَّابِ وَبَنِي هَاشِمٍ بِالْمُعْتَزِّ، فَمِنْ بَنِي هَاشِمٍ عَلِيُّ وَمُحَمَّدٌ ابْنَا الْوَاثِقِ وَغَيْرُهُمَا. ثُمَّ كَانَتْ بَيْنَهُمْ عِدَّةُ وَقَعَاتٍ، وَقُتِلَ فِيهَا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ، وَدَخَلَ الْأَتْرَاكُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْحُرُوبِ إِلَى بَغْدَادَ، ثُمَّ تَكَاثَرَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنْهَا.

وَجَرَى بَيْنَ أَبِي السَّاجِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ (وَقْعَةٌ، فَهَزَمَهُمْ أَبُو السَّاجِ، ثُمَّ وَاقَعُوهُ أُخْرَى، فَتَخَلَّى عَنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَانْهَزَمَ، وَدَخَلَ الْأَتْرَاكُ الْمَدَائِنَ، وَخَرَجَتِ الْأَتْرَاكُ) الَّذِينَ بِالْأَنْبَارِ فِي سَوَادِ بَغْدَادَ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، حَتَّى بَلَغُوا صَرْصَرَ وَقَصْرَ ابْنِ هُبَيْرَةَ. وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ، خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فِي جَمِيعِ الْقُوَّادِ وَالْعَسْكَرِ، وَنُصِبَ لَهُ قُبَّةٌ وَجَلَسَ فِيهَا، وَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَتِ الْأَتْرَاكُ وَدَخَلَ أَهْلُ بَغْدَادَ عَسْكَرَهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَهَرَبُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، فَكُلَّمَا جِيءَ بِرَأْسٍ يَقُولُ بُغَا: ذَهَبَتِ الْمَوَالِي، وَسَاءَ ذَلِكَ مَنْ مَعَ بُغَا وَوَصِيفٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ. وَوَقَفَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ يَرُدُّ الْأَتْرَاكَ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَرْجِعُوا لَمْ يُبْقِ لَهُمْ بَقِيَّةً، وَتَبِعَهُمْ أَهْلُ بَغْدَادَ إِلَى سَامَرَّا، فَتَرَاجَعُوا إِلَيْهِ، وَإِنَّ بَعْضَ أَهْلِ بَغْدَادَ رَجَعُوا عَنِ الْمُنْهَزِمِينَ، فَرَأَى أَصْحَابُهُمْ أَعْلَامَهُمْ، فَظَنُّوهَا أَعْلَامَ الْأَتْرَاكِ قَدْ عَادَتْ، فَانْهَزَمُوا نَحْوَ بَغْدَادَ مُزْدَحِمِينَ، وَتَرَاجَعَ الْأَتْرَاكُ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهَزِيمَةِ أَهْلِ بَغْدَادَ، فَتَحَمَّلُوا عَلَيْهِمْ. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ وَجَّهَ أَبُو أَحْمَدَ خَمْسَ سَفَائِنَ مَمْلُوءَةٍ طَعَامًا وَدَقِيقًا إِلَى ابْنِ طَاهِرٍ. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ عَلِمَ النَّاسُ بِمَا عَلَيْهِ ابْنُ طَاهِرٍ مِنْ خَلْعِ الْمُسْتَعِينِ وَالْبَيْعَةِ لِلْمُعْتَزِّ، وَوَجَّهَ قُوَّادَهُ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ، فَبَايَعُوهُ لِلْمُعْتَزِّ، وَكَانَتِ الْعَامَّةُ تَظُنُّ أَنَّ الصُّلْحَ جَرَى عَلَى أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَعِينُ وَالْمُعْتَزَّ وَلِيُّ عَهْدِهِ. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ أَيْضًا خَرَجَ رَشِيدُ بْنُ كَاوُسَ أَخُو الْأَفْشِينِ، وَكَانَ مُوكَلًا بِبَابِ السَّلَامَةِ، إِلَى الْأَتْرَاكِ، وَسَارَ مَعَهُمْ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى أَبْوَابِ بَغْدَادَ يَقُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَزَّ، وَأَبَا أَحْمَدَ يَقْرَآنِ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ، وَيَقُولَانِ: مَنْ أَطَاعَنَا وَصَلْنَاهُ، وَمَنْ أَبَى فَهُوَ أَعْلَمُ.

فَشَتَمَهُ النَّاسُ، وَعَلِمُوا بِمَا عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فَعَبَرَتِ الْعَامَّةُ إِلَى الْجَزِيرَةِ الَّتِي حِذَاءَ دَارِهِ، فَشَتَمُوهُ أَقْبَحَ شَتْمٍ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى بَابِ دَارِهِ فَفَعَلُوا بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَاتَلُوا مَنْ عَلَى بَابِهِ حَتَّى كَشَفُوهُمْ، وَدَخَلُوا دِهْلِيزَ دَارِهِ، وَأَرَادُوا إِحْرَاقَ دَارِهِ فَلَمْ يَجِدُوا نَارًا، وَبَاتَ مِنْهُمْ بِالْجَزِيرَةِ جَمَاعَةٌ يَشْتُمُونَهُ وَهُوَ يَسْمَعُ، فَلَمَّا ذَكَرُوا اسْمَ أُمِّهِ ضَحِكَ، وَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيْفَ عَرَفُوهُ، وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ جَوَارِي أَبِي لَا يَعْرِفُونَ اسْمَهَا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَارَ مُحَمَّدٌ إِلَى الْمُسْتَعِينِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَطْلُعَ إِلَيْهِمْ وَيُسْكِتَهُمْ، فَفَعَلَ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُخْلَعْ، وَلَمْ أَتَّهِمْهُ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمُ الْجُمْعَةَ، فَانْصَرَفُوا. ثُمَّ تَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَبَيْنَ أَبِي أَحْمَدَ مَعَ حَمَّادِ بْنِ إِسْحَاقَ (بْنِ حَمَّادِ) بْنِ يَزِيدَ، وَثَارَ قَوْمٌ مِنْ رَجَّالَةِ الْجُنْدِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ، فَطَلَبَ الْجُنْدُ أَرْزَاقَهُمْ، وَشَكَتِ الْعَامَّةُ سُوءَ الْحَالِ، وَغَلَاءَ السِّعْرِ، وَقَالُوا: إِمَّا خَرَجْتَ، فَقَابَلْتَ، وَإِمَّا تَرَكْتَنَا، فَوَعَدَهُمُ الْخُرُوجَ، أَوْ فَتْحَ بَابِ الصُّلْحِ، ثُمَّ جَعَلَ عَلَى الْجُسُورِ وَبِالْجَزِيرَةِ وَبِبَابِ دَارِهِ الرِّجَالَ وَالْخَيْلَ، فَحَضَرَ الْجَزِيرَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، فَطَرَدُوا مَنْ كَانَ بِهَا، وَقَاتَلُوا النَّاسَ. وَأَرْسَلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى الْجُنْدِ يَعِدُهُمْ رِزْقَ شَهْرَيْنِ، وَأَمَرَهُمْ بِالنُّزُولِ، فَأَبَوْا وَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْلَمَ نَحْنُ وَالْعَامَّةُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ نَحْنُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الْعَامَّةَ قَدِ اتَّهَمُوكَ بِخَلْعِ الْمُسْتَعِينِ، وَالْبَيْعَةِ لِلْمُعْتَزِّ، وَتَوْجِيهِكِ الْقُوَّادَ بَعْدَ الْقُوَّادِ، وَيَخَافُونَ دُخُولَ الْأَتْرَاكِ وَالْمَغَارِبَةِ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ يَفْعَلُوا بِهِمْ كَمَا عَمِلُوا فِي الْمَدَائِنِ وَالْأَنْبَارِ، فَهُمْ يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَسَأَلُوا إِخْرَاجَ الْخَلِيفَةِ إِلَيْهِمْ لِيَرَوْهُ وَيُكَذِّبُوا مَا بَلَغَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مُحَمَّدٌ ذَلِكَ سَأَلَ الْمُسْتَعِينَ الْخُرُوجَ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ إِلَى دَارِ الْعَامَّةِ، وَدَخَلَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، وَخَرَجُوا، فَأَعْلَمُوا النَّاسَ الْخَبَرَ، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ، فَأَمَرَ الْمُسْتَعِينُ بِإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ، وَصَعِدَ سَطْحَ دَارِ الْعَامَّةِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَعَهُ، فَرَآهُ النَّاسُ وَعَلَيْهِ الْبُرْدَةُ وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، فَكَلَّمَ النَّاسَ، وَأَقْسَمَ عَلَيْهِمْ بِحَقِّ صَاحِبِ الْبُرْدَةِ إِلَّا انْصَرَفُوا (فَإِنَّهُ آمِنٌ) لَا بَأْسَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ، فَسَأَلُوهُ الرُّكُوبَ مَعَهُمْ وَالْخُرُوجَ مِنْ دَارِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَهُ عَلَيْهِ، فَوَعَدَهُمْ ذَلِكَ.

فَلَمَّا رَأَى ابْنُ طَاهِرٍ فِعْلَهُمْ عَزَمَ عَلَى النَّقْلَةِ عَنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَدَائِنِ، فَأَتَاهُ وُجُوهُ النَّاسِ، وَسَأَلُوهُ الصَّفْحَ، وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الْغَوْغَاءِ وَالسُّفَهَاءِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ رَدًّا جَمِيلًا. وَانْتَقَلَ الْمُسْتَعِينُ عَنْ دَارِهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَأَقَامَ بِدَارِ رِزْقٍ الْخَادِمِ بِالرُّصَافَةِ، وَسَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (بِالْحَرْبَةِ) ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ بِالرُّصَافَةِ، فَأَمَرُوا الْقُوَّادَ وَبَنِي هَاشِمٍ بِالْمَسِيرِ إِلَى دَارِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْعَوْدِ مَعَهُ إِذَا رَكِبَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَرَكِبَ مُحَمَّدٌ فِي جَمْعٍ وَتَعْبِئَةٍ، وَوَقَفَ لِلنَّاسِ وَعَاتَبَهُمْ، وَحَلَفَ أَنَّهُ مَا يُرِيدُ لِلْمُسْتَعِينِ، وَلَا لِوَلِيٍّ لَهُ، وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ سُوءًا، وَأَنَّهُ مَا يُرِيدُ إِلَّا إِصْلَاحَ أَحْوَالِهِمْ، حَتَّى بَكَى (النَّاسُ) وَدَعَوْا لَهُ، (وَسَارَ إِلَى الْمُسْتَعِينِ) . وَكَانَ ابْنُ طَاهِرٍ مُجِدًّا فِي أَمْرِ الْمُسْتَعِينِ، حَتَّى غَيَّرَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَنْصُرُهُ، وَتَجِدُّ فِي أَمْرِهِ، مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ نِفَاقًا، وَأَخْبَثِهِمْ دِينًا، وَاللَّهِ لَقَدْ أَمَرَ وَصِيفًا وَبُغَا بِقَتْلِكَ، فَاسْتَعْظَمَا ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلَاهُ، وَإِنْ كُنْتَ شَاكًّا فِي قَوْلِي فَسَلْ تُخْبَرْهُ، وَإِنَّ مِنْ ظَاهِرِ نِفَاقِهِ أَنَّهُ كَانَ بِسَامَرَّا لَا يَجْهَرُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا صَارَ إِلَيْكَ جَهَرَ بِهَا مُرَاءَاةً لَكَ، وَتَرَكَ نُصْرَةَ وَلِيِّكَ، وَصِهْرِكَ، وَتَرْبِيَتِكَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامٍ كَلَّمَهُ بِهِ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْزَى اللَّهُ هَذَا، مَا يَصْلُحُ لِدِينٍ وَلَا لِدُنْيَا! ثُمَّ ظَاهَرَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بِأَحْمَدَ بْنِ إِسْرَائِيلَ، وَالْحَسَنِ بْنِ مَخْلَدٍ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَضْحَى صَلَّى الْمُسْتَعِينُ بِالنَّاسِ، ثُمَّ حَضَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ الْمُسْتَعِينِ وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُضَاةِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ كُنْتَ فَارَقْتَنِي عَلَى أَنْ تُنَفِّذَ أَمْرِي فِي كُلِّ مَا أَعْزِمُ عَلَيْهِ، وَخَطُّكَ عِنْدِي بِذَلِكَ، فَقَالَ الْمُسْتَعِينُ: أَحْضِرِ الرُّقْعَةَ، فَأَحْضَرَهَا، فَإِذَا فِيهَا

ذِكْرُ الصُّلْحِ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْخَلْعِ، فَقَالَ: نَعَمْ أُمْضِ الصُّلْحَ، فَخَرَجَ مُحَمَّدٌ إِلَى ظَاهِرِ بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ، فَضُرِبَ لَهُ مَضْرِبٌ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَجَاءَ أَبُو أَحْمَدَ فِي سَمِيرِيَّةَ، فَصَعِدَ إِلَيْهِ، فَتَنَاظَرَا طَوِيلًا، ثُمَّ خَرَجَا، فَجَاءَ ابْنُ طَاهِرٍ إِلَى الْمُسْتَعِينِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَذَلَ لَهُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَيَقْطَعُ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ مُقَامَهُ بِالْمَدِينَةِ، يَتَرَدَّدُ مِنْهَا إِلَى مَكَّةَ، وَيَخْلَعُ نَفْسَهُ مِنِ الْخِلَافَةِ، وَأَنْ يُعْطَى بُغَا وِلَايَةَ الْحِجَازِ جَمِيعِهِ، وَيُوَلَّى وَصِيفٌ الْجَبَلَ وَمَا وَالَاهُ، وَيَكُونُ ثُلْثُ مَا يُجْبَى مِنَ الْمَالِ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَجُنْدِ بَغْدَادَ، وَالثُّلْثَانِ لِلْمَوَالِي وَالْأَتْرَاكِ، فَامْتَنَعَ الْمُسْتَعِينُ مِنِ الْإِجَابَةِ إِلَى الْخَلْعِ، وَظَنَّ أَنَّ وَصِيفًا وَبُغَا مَعَهُ يُكَاشِفَانِ، فَقَالَ: النَّطْعُ وَالسَّيْفُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ طَاهِرٍ: أَمَّا أَنَا فَأَقْعُدُ، وَلَا بُدَّ لَكَ مِنْ خَلْعِهَا طَائِعًا أَوْ مُكْرَهًا! فَأَجَابَ إِلَى الْخَلْعِ. وَكَانَ سَبَبُ إِجَابَتِهِ إِلَى الْخَلْعِ أَنَّ مُحَمَّدًا وَبُغًا وَوَصِيفًا لَمَّا نَاظَرُوهُ فِي الْخَلْعِ أَغْلَظَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ وَصِيفٌ: أَنْتَ أَمَرْتَنَا بِقَتْلِ بَاغَرَ، فَصِرْنَا إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، وَأَنْتَ أَمَرْتَنَا بِقَتْلِ أُتَامِشَ، وَقُلْتَ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ بِنَاصِحٍ، وَمَا زَالُوا يُفْزِعُونَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَدْ قُلْتَ لِي إِنَّ أَمْرَنَا لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِاسْتِرَاحَتِنَا مِنْ هَذَيْنِ الِاثْنَيْنِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَذْعَنَ بِالْخَلْعِ، وَكَتَبَ بِمَا أَرَادَ لِنَفْسِهِ مِنَ الشُّرُوطِ، وَذَلِكَ لِإِحْدَى عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَجَمَعَ مُحَمَّدٌ الْفُقَهَاءَ وَالْقُضَاةَ، وَأَدْخَلَهُمْ عَلَى الْمُسْتَعِينِ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ صَيَّرَ أَمْرَهُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ أُخِذَ مِنْهُ جَوْهَرُ الْخِلَافَةِ. وَبَعَثَ ابْنُ طَاهِرٍ إِلَى قُوَّادِهِ لِيُوَافُوهُ، وَمَعَ كُلِّ قَائِدٍ عَشَرَةُ نَفَرٍ مِنْ وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، فَأَتَوْهُ فَمَنَّاهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: مَا أَرَدْتُ بِمَا فَعَلْتُ إِلَّا صَلَاحَكُمْ وَحَقْنَ الدِّمَاءِ. وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُعْتَزِّ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي شَرَطَهَا الْمُسْتَعِينُ لِنَفْسِهِ وَلِقُوَّادِهِ، لِيُوَقِّعَ الْمُعْتَزُّ عَلَيْهَا بِخَطِّهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ إِلَى الْمُعْتَزِّ، فَمَضَوْا إِلَيْهِ، فَأَجَابَ إِلَى مَا طَلَبُوا، وَوَقَّعَ عَلَيْهِ بِخَطِّهِ،

وَشَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَوَجَّهَ مَعَهُمْ مَنْ يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ عَلَى الْمُسْتَعِينِ، وَحُمِلَ إِلَى الْمُسْتَعِينِ أُمُّهُ وَعِيَالُهُ، بَعْدَمَا فَتَّشُوا، وَأَخَذُوا مَا مَعَهُمْ، وَكَانَ دُخُولُ الرُّسُلِ بَغْدَادَ مِنْ عِنْدِ الْمُعْتَزِّ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ. ذِكْرُ غَزْوِ الْإِفْرِنْجِ بِالْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، جَيْشًا مَعَ ابْنِهِ الْمُنْذِرِ إِلَى بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةَ، فَسَارُوا، وَقَصَدُوا الْمِلَاحَةَ، وَكَانَتْ أَمْوَالٌ لِذُرَيقٍ بِنَاحِيَةِ أُلْبَةَ وَالْقِلَاعِ، فَلَمَّا عَمَّ الْمُسْلِمُونَ بَلَدَهُمْ بِالْخَرَابِ وَالنَّهْبِ، جُمِعَ لِذُرَيْقٍ عَسَاكِرُهُ، وَسَارَ يُرِيدُهُمْ، فَالْتَقَوْا بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ فَجَّ الْمَرْكُوَّيْنِ، وَبِهِ تُعْرَفُ هَذِهِ الْغَزَاةُ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَبْعُدُوا، وَاجْتَمَعُوا بِهَضْبَةٍ بِالْقُرْبِ مِنْ مَوْضِعِ الْمَعْرَكَةِ، فَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَوَلَّى الْفِرِنْجُ مُنْهَزِمِينَ لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ. وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ ثَانِيَ عَشَرَ رَجَبَ، وَكَانَ عَدَدُ مَا أُخِذَ مِنْ رُؤُوسِ الْمُشْرِكِينَ أَلْفَيْنِ وَأَرْبَعَ مِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَتِسْعِينَ رَأْسًا، وَكَانَ فَتْحًا عَظِيمًا، وَعَادَ الْمُسْلِمُونَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ رَجَعَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، صَرَفَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ، إِلَى طَبَرِسْتَانَ مِنْ جُرْجَانَ بِجَمْعٍ كَثِيرٍ، وَخَيْلٍ وَسِلَاحٍ، فَتَنَحَّى الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ طَبَرِسْتَانَ، وَلَحِقَ بِالدَّيْلَمِ، وَدَخَلَهَا سُلَيْمَانُ، وَقَصَدَ سَارِيَةَ، وَأَتَاهُ ابْنَانِ لَقَارَنَ بْنِ شَهْرَيَارَ، وَأَتَاهُ أَهْلُ آمُلَ وَغَيْرُهُمْ، مُنِيبِينَ مُظْهِرِينَ النَّدَمَ، يَسْأَلُونَ الصَّفْحَ، فَلَقِيَهُمْ بِمَا أَرَادُوا، وَنَهَى أَصْحَابَهُ عَنِ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَالْأَذَى. وَوَرَدَ كِتَابُ أَسَدِ بْنِ جَنَّدَانِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يُخْبِرُهُ أَنَّهُ لَقِيَ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ

الطَّالِبِيَّ الْمُسَمَّى بِالْمُرَعَّشِيِّ، فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ رُؤَسَاءِ الْجَبَلِ، فَهَزَمَهُ وَدَخَلَ مَدِينَةَ آمُلَ. وَفِيهَا ظَهَرَ بِأَرْمِينِيَّةَ رَجُلَانِ، فَقَاتَلَهُمَا الْعَلَاءُ بْنُ أَحْمَدَ عَامِلُ بُغَا الشَّرَابِيِّ، فَهَزَمَهُمَا، فَصَعِدَا قَلْعَةً هُنَاكَ، فَحَصَرَهُمَا، وَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، فَهُزِمَا مِنْهَا، وَخَفِيَ أَمْرَهُمَا عَلَيْهِ وَمَلِكَ الْقَلْعَةِ. وَفِيهَا حَارَبَ عِيسَى بْنُ الشَّيْخِ الْمُوَفَّقَ الْخَارِجِيَّ فَهَزَمَهُ وَأُسِرَ الْمُوَفَّقُ. وَفِيهَا وَرَدَ كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يُخْبِرُ الطَّالِبِيَّ الَّذِي ظَهَرَ بِالرَّيِّ، وَمَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْمُسَيَّرَةِ لَهُ، وَظَفِرَ بِهِ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، فَأَخَذَهُ أَسِيرًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى الرَّيِّ بَعْدَ أَسْرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ الْحُسَيْنِ الصَّغِيرِ ابْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِدْرِيسَ بْنِ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِيهَا انْهَزَمَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ، وَكَانَ لَقِيَهُ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْيَانَ الْحَسَنِ ثَلَاثَمِائَةَ رَجُلٍ وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا. وَفِيهَا خَرَجَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ الْعَلَوِيُّ ابْنُ أُخْتِ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَنِيِّ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَحْمَدَ الْمُوَلَّدِ، وَأَيُّوبَ بْنِ أَحْمَدَ

بِالسُّكَيْرِ مِنْ أَرْضِ بَنِي تَغْلِبَ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، فَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ وَنُهِبَ مَتَاعُهُ. وَفِيهَا غَزَا بَلْكَاجُورُ الرُّومَ، فَفَتَحَ مَطْمُورَةَ، وَغَنِمَ غَنِيمَةً كَثِيرَةً، وَأَسَرَ جَمَاعَةً مِنَ الرُّومِ. وَفِيهَا ظَهَرَ بِالْكُوفَةِ رَجُلٌ مِنَ الطَّالِبِيِّينَ اسْمُهُ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ [عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ] عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاسْتَخْلَفَ بِهَا مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ حَسَنِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُكَنَّى أَبَا أَحْمَدَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمُسْتَعِينُ مُزَاحِمَ بْنَ خَاقَانَ، وَكَانَ الْعَلَوِيُّ بِسَوَادِ الْكُوفَةِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَمِنَ الزَّيْدِيَّةِ، وَأَجْلَى عَنْهَا عَامِلَ الْخَلِيفَةِ وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ نُضَيْرِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ مَالِكٍ الْخُزَاعِيِّ إِلَى قَصْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَاجْتَمَعَ مُزَاحِمٌ وَهِشَامُ بْنُ أَبِي دُلَفَ الْعِجْلِيُّ، فَسَارَ مُزَاحِمٌ إِلَى الْكُوفَةِ، فَحَمَلَ أَهْلَ الْكُوفَةِ الْعَلَوِيَّةِ عَلَى قِتَالِهِمَا، وَوَعَدَهُمُ النُّصْرَةَ، فَتَقَدَّمَ مُزَاحِمٌ وَقَاتَلَهُمْ، وَكَانَ قَدْ سَيَّرَ قَائِدًا مَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَأَتَى أَهْلَ الْكُوفَةِ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَأَطْبَقُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، وَدَخَلَ الْكُوفَةَ، فَرَمَاهُ أَهْلُهَا بِالْحِجَارَةِ، فَأَحْرَقَهَا بِالنَّارِ، فَاحْتَرَقَ مِنْهَا سَبْعَةُ أَسْوَاقٍ حَتَّى خَرَجَتِ النَّارُ إِلَى السَّبِيعِ، ثُمَّ هَجَمَ عَلَى الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الْعَلَوِيُّ، فَهَرَبَ، وَأَقَامَ مُزَاحِمٌ بِالْكُوفَةِ، فَأَتَاهُ كِتَابُ الْمُعْتَزِّ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ. وَفِيهَا ظَهَرَ إِنْسَانٌ عَلَوِيٌّ بِنَاحِيَةِ نِينَوَى مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، فَلَقِيَهُ هِشَامُ بْنُ أَبِي دُلَفٍ

فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَلَوِيِّ جَمَاعَةً وَهَرَبَ فَدَخَلَ الْكُوفَةِ. وَفِيهَا ظَهَرَ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْأَرْقَطِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِالْكُرْكِيِّ، بِنَاحِيَةِ قَزْوِينَ، وَزَنْجَانَ، فَطَرَدَ عُمَّالَ طَاهِرٍ عَنْهَا. وَفِيهَا قَطَعَتْ بَنُو عَقِيلٍ طَرِيقَ جُدَّةٍ، فَحَارَبَهُمْ جَعْفَرٌ (بِشَاشَاتَ) فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ نَحْوُ ثَلَاثُمِائَةُ رَجُلٍ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِمَكَّةَ، وَأَغَارَتِ الْأَعْرَابُ عَلَى الْقُرَى. وَفِيهَا ظَهَرَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِمَكَّةَ، فَهَرَبَ جَعْفَرٌ (بِشَاشَاتَ) ، وَانْتَهَبَ إِسْمَاعِيلُ مُنْزِلَهُ وَمَنَازِلَ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ، وَقَتَلَ الْجُنْدَ وَجَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَخَذَ مَا كَانَ حَمَلَ لِإِصْلَاحِ الْقَبْرِ مِنَ الْمَالِ وَمَا فِي الْكَعْبَةِ وَخَزَائِنِهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَخَذَ كُسْوَةَ الْكَعْبَةِ، وَأَخَذَ مِنَ النَّاسِ نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَخَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ نَهَبَهَا، وَأَحْرَقَ بَعْضَهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَعْدَ خَمْسِينَ يَوْمًا وَسَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَتَوَارَى عَامِلُهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِسْمَاعِيلُ إِلَى مَكَّةَ فِي رَجَبٍ فَحَصَرَهُمْ حَتَّى تَمَاوَتَ أَهْلُهَا جُوعًا وَعَطَشًا، وَبَلَغَ الْخُبْزُ ثَلَاثَ أَوَاقٍ

بِدِرْهَمٍ، وَاللَّحْمُ رَطْلٌ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، وَشَرْبَةُ مَاءٍ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَلَقِيَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْهُ كُلَّ بَلَاءٍ. ثُمَّ سَارَ (إِلَى جُدَّةٍ بَعْدَ مَقَامِ سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا، فَحَبَسَ عَنِ النَّاسِ الطَّعَامَ) ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ الَّتِي لِلتُّجَّارِ وَأَصْحَابِ الْمَرَاكِبِ. ثُمَّ وَافَى إِسْمَاعِيلُ عَرَفَةَ وَبِهَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ الْمَنْصُورِ الْمُلَقَّبُ بِكَعْبِ الْبَقَرِ، وَعِيسَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَخْزُومِيُّ صَاحِبُ جَيْشِ مَكَّةَ، كَانَ الْمُعْتَزُّ وَجَّهَهُمَا إِلَيْهَا، فَقَاتَلَهُمَا إِسْمَاعِيلُ، وَقَتَلَ مِنَ الْحَاجِّ نَحْوَ أَلْفٍ وَمِائَةٍ، وَسَلَبَ النَّاسَ، وَهَرَبُوا إِلَى مَكَّةَ، لَمْ يَقِفُوا بِعَرَفَةَ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَوَقَفَ إِسْمَاعِيلُ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى جُدَّةٍ فَأَفْنَى أَمْوَالَهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ سَرِيٌّ السَّقْطِيُّ الزَّاهِدُ [الْوَفَيَاتُ] وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ بَهْرَامَ أَبُو يَعْقُوبَ الْكَوْسَجُ، الْحَافِظُ النَّيْسَابُورِيُّ، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَلَهُ مُسْنَدٌ يُرْوَى عَنْهُ.

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ] 252 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ خَلْعِ الْمُسْتَعِينِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ الْمُسْتَعِينُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ، وَبَايَعَ لِلْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ، وَخُطِبَ لِلْمُعْتَزِّ بِبَغْدَاذَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَأَخَذَ لَهُ الْبَيْعَةَ عَلَى كُلِّ مَنْ بِهَا مِنَ الْجُنْدِ. وَكَانَ ابْنُ طَاهِرٍ قَدْ دَخَلَ عَلَى الْمُسْتَعِينِ وَمَعَهُ سَعِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَقَدْ كَتَبَ شُرُوطَ الْأَمَانِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَدْ كَتَبَ سَعِيدٌ كِتَابَ الشُّرُوطِ، فَأَكَّدَهُ غَايَةَ التَّوْكِيدِ، أَفَنَقْرَأُهُ عَلَيْكَ لِتَسْمَعَهُ، فَقَالَ الْمُسْتَعِينُ: لَا حَاجَةَ لِي إِلَى تَوْكِيدِهَا، فَمَا الْقَوْمُ بِأَعْلَمَ بِاللَّهِ مِنْكَ، وَلَقَدْ أَكَّدْتَ عَلَى نَفْسِكَ قَبْلَهُمْ، فَكَانَ مَا عَلِمْتُ، فَمَا رَدَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ شَيْئًا. فَلَمَّا بَايَعَ الْمُسْتَعِينُ لِلْمُعْتَزِّ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، نُقِلَ مِنَ الرُّصَافَةِ إِلَى قَصْرِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ بِالْمُحَرَّمِ وَمَعَهُ عِيَالُهُ وَأَهْلُهُ جَمِيعًا، وَوَكَّلَ بِهِمْ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْبُرْدَةَ، وَالْقَضِيبَ، وَالْخَاتَمَ، وَوَجَّهَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَمَنَعَ الْمُسْتَعِينَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى مَكَّةَ، فَاخْتَارَ الْمُقَامَ بِالْبَصْرَةِ، فَقِيلَ لَهُ، إِنَّ الْبَصْرَةَ وَبِيَّةٌ، فَقَالَ: هِيَ أَوْبَأُ أَوْ تَرْكُ الْخِلَافَةِ! وَلِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ دَخَلَ بَغْدَادَ أَكْثَرُ مِنْ مِائَتَيْ سَفِينَةٍ فِيهَا صُنُوفُ التِّجَارَاتِ وَغَنَمٌ كَثِيرٌ.

وَفِيهَا سَيَّرَ الْمُسْتَعِينُ إِلَى وَاسِطَ، وَاسْتَوْزَرَ الْمُعْتَزُّ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي إِسْرَائِيلَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَرَجَعَ أَبُو أَحْمَدَ إِلَى سَامَرَّا لِاثْنَتَيْ عَشْرَةً خَلَتْ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي خَلْعِ الْمُسْتَعِينِ: خُلِعَ الْخَلِيفَةُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ... وَسَيُقْتَلُ التَّالِي لَهُ أَوْ يُخْلَعُ وَيَزُولُ مُلْكُ بَنِي أَبِيهِ وَلَا يُرَى ... أَحَدٌ تَمَلَّكَ مِنْهُمْ يَسْتَمْتِعُ إِيهًا بَنِي الْعَبَّاسِ إِنَّ سَبِيلَكُمْ ... فِي قَتْلِ أَعْبُدِكُمْ سَبِيلٌ مَهْيَعُ رَقَّعْتُمُ دُنْيَاكُمْ فَتَمَزَّقَتْ ... بِكُمُ الْحَيَاةُ تَمَزُّقًا لَا يُرْقَعُ وَقَالَ الشُّعَرَاءُ فِي خَلْعِهِ كَالْبُحْتُرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ أَبِي الْجَنُوبِ وَغَيْرِهِمَا فَأَكْثَرُوا. وَفِيهَا لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ انْصَرَفَ أَبُو السَّاجِ دُيودَادُ بْنُ دُيودُسْتَ إِلَى بَغْدَادَ، فَقَلَّدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مُعَاوِنَ مَا سَقَى الْفُرَاتُ مِنَ السَّوَادِ، فَسَيَّرَ نُوَّابَهُ إِلَيْهَا لِطَرْدِ الْأَتْرَاكِ وَالْمَغَارِبَةِ عَنْهَا، ثُمَّ سَارَ أَبُو السَّاجِ إِلَى الْكُوفَةِ. ذِكْرُ حَالِ وَصِيفٍ وَبُغَا وَفِيهَا كَتَبَ الْمُعْتَزُّ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي إِسْقَاطِ اسْمِ وَصِيفٍ وَبُغَا وَمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الدَّوَاوِينِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، وَهُوَ أَحَدُ قُوَّادِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَدْ وَعَدَ أَبَا أَحْمَدَ أَنْ يَقْتُلَ بُغَا وَوَصِيفًا، فَعَقَدَ لَهُ الْمُعْتَزُّ عَلَى الْيَمَامَةِ، وَالْبَحْرِينِ، وَالْبَصْرَةِ، فَكَتَبَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ بُغَا وَوَصِيفٍ إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ، وَحَذَّرُوهُمَا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَرَكِبَا إِلَى مُحَمَّدٍ، وَعَرَّفَاهُ مَا ضَمِنَهُ ابْنُ أَبِي عَوْنٍ مِنْ قَتْلِهِمَا، وَقَالَ بُغَا، إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ غَدَرُوا، وَخَالَفُوا مَا فَارَقُونَا عَلَيْهِ، وَاللَّهِ لَوْ أَرَادُوا أَنْ يَقْتُلُونَا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ. فَكَفَّهُ وَصِيفٌ وَقَالَ: نَحْنُ فِي بُيُوتِنَا حَتَّى يَجِيءَ مَنْ يَقْتُلُنَا! وَرَجَعَا إِلَى مَنْزِلِهِمَا، وَجَمَعَا جُنْدَهَمَا، وَوَجَّهَ وَصِيفٌ أُخْتَهُ سُعَادَ إِلَى الْمُؤَيَّدِ، وَكَانَ فِي حِجْرِهَا، فَكَلَّمَ الْمُؤَيِّدُ الْمُعْتَزَّ فِي الرِّضَاءِ عَنْهُ، فَرَضِيَ عَنْ وَصِيفٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَتَكَلَّمَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ فِي بُغَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِالرِّضَاءِ عَنْهُ، وَهُمَا بِبَغْدَاذَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ الْأَتْرَاكُ

بِإِحْضَارِهِمَا إِلَى سَامَرَّا، فَكَتَبَ إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدٍ لِيَمْنَعَهُمَا مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَاهُمَا كِتَابُ إِحْضَارِهِمَا، فَأَرْسَلَاهُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَسْتَأْذِنَانِهِ، وَخَرَجَ وَصِيفٌ وَبُغَا وَفُرْسَانُهُمَا وَأَوْلَادُهُمَا فِي نَحْوِ أَرْبَعِ مِائَةِ إِنْسَانٍ، وَخَلَّفَا الثِّقْلَ وَالْعِيَالَ، فَوَجَّهَ ابْنُ طَاهِرٍ إِلَى بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ مَنْ يَمْنَعُهُمْ، فَمَضَوْا إِلَى بَابِ خُرَاسَانَ، وَخَرَجُوا مِنْهُ، وَوَصَلَا سَامَرَّا، وَرَجَعَا إِلَى مَنْزِلِهِمَا مِنَ الْخِدْمَةِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمَا، وَعَقَدَ لَهُمَا عَلَى أَعْمَالِهِمَا، وَرَدَّ الْبَرِيدَ إِلَى مُوسَى بْنِ بُغَا الْكَبِيرِ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ جُنْدِ بَغْدَادَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ جُنْدِ بَغْدَادَ وَأَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّاكِرِيَّةَ وَأَصْحَابَ الْفُرُوضِ اجْتَمَعُوا إِلَى دَارِ مُحَمَّدٍ يَطْلُبُونَ أَرْزَاقَهُمْ فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي كَتَبْتُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِطْلَاقِ أَرْزَاقِكُمْ، فَكَتَبَ فِي الْجَوَابِ، إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْجُنْدَ لِنَفْسِكَ فَأَعْطِهِمْ أَرْزَاقَهُمْ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُهُمْ لَنَا فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِمْ، فَشَغَبُوا عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَ لَهُمْ أَلْفَيْ دِينَارٍ، فَفُرِّقَتْ فِيهِمْ، فَسَكَتُوا. ثُمَّ اجْتَمَعُوا فِي رَمَضَانَ أَيْضًا، وَمَعَهُمُ الْأَعْلَامُ وَالطُّبُولُ، وَضَرَبُوا الْخِيَامَ عَلَى بَابِ حَرْبٍ، وَعَلَى بَابٍ الشَّمَّاسِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا، وَبَنَوْا بُيُوتًا مِنْ بِوَارِيَّ وَقَصَبٍ، وَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا كَثُرَ جَمْعُهُمْ، وَأَحْضَرَ مُحَمَّدٌ أَصْحَابَهُ، فَبَاتُوا فِي دَارِهِ، وَشَحَنَ دَارَهُ بِالرِّجَالِ، وَاجْتَمَعَ إِلَى أُولَئِكَ (الْمِشْغَبِينَ) خَلْقٌ كَثِيرٌ، بِبَابِ حَرْبٍ، بِالسِّلَاحِ وَالْأَعْلَامِ وَالطُّبُولِ، وَرَئِيسُهُمْ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُونُ بْنُ الْمُوَفَّقِ، وَكَانَ مِنْ نُوَّابِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ، فَحَثَّهُمْ عَلَى طَلَبِ أَرْزَاقِهِمْ وَفَائِتِهِمْ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ أَرَادُوا أَنْ يَمْنَعُوا الْخَطِيبَ مِنَ الدُّعَاءِ لِلْمُعْتَزِّ، فَعَلِمَ الْخَطِيبُ (بِذَلِكَ) ، فَاعْتَذَرَ بِمَرَضٍ لَحِقَهُ، وَلَمْ يَخْطُبْ، فَمَضَوْا يُرِيدُونَ الْجِسْرَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ ابْنُ طَاهِرٍ عِدَّةً مِنْ قُوَّادِهِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُرْسَانِ وَالرِّجَالِ، فَاقْتَتَلُوا، فَقَتَلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى، وَدَفَعُوا أَصْحَابَ ابْنِ طَاهِرٍ عَنِ الْجِسْرِ، فَلَمَّا رَأَى الَّذِينَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ أَنَّ أَصْحَابَهُمْ أَزَالُوا أَصْحَابَ ابْنِ طَاهِرٍ (عَنِ الْجِسْرِ) حَمَلُوا يُرِيدُونَ الْعُبُورَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ، وَكَانَ ابْنُ

طَاهِرٍ قَدْ أَعَدَّ سَفِينَةً فِيهَا شَوْكٌ وَقَصَبٌ، فَأَلْقَى فِيهَا النَّارَ، وَأَرْسَلَهَا إِلَى الْجِسْرِ الْأَعْلَى فَأَحْرَقَتْ سُفُنَهُ، وَقَطَّعَتْهُ، وَصَارَتْ إِلَى الْجِسْرِ الْآخَرِ، فَأَدْرَكَهَا أَهْلُ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَغَرَّقُوهَا، وَعَبَرَ مَنْ [فِي] الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ إِلَى الْغَرْبِيِّ، وَدَفَعُوا أَصْحَابَ ابْنِ طَاهِرٍ إِلَى بَابِ دَارِهِ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ نَحْوُ عَشَرَةِ أَنْفُسٍ، وَنَهَبَ الْعَامَّةُ مَجْلِسَ الشُّرْطِ، وَأَخَذُوا مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ أَصْنَافِ الْمَتَاعِ. وَلَمَّا رَأَى ابْنُ طَاهِرٍ أَنَّ الْجُنْدَ قَدْ ظَهَرُوا عَلَى أَصْحَابِهِ أَمَرَ بِالْحَوَانِيتِ الَّتِي عَلَى بَابِ الْجِسْرِ أَنْ تُحْرَقَ، فَاحْتَرَقَ لِلتُّجَّارِ مَتَاعٌ كَثِيرٌ، فَحَالَتِ النَّارُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَرَجَعَ الْجُنْدُ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ بِبَابِ حَرْبٍ، وَجَمَعَ ابْنُ طَاهِرٍ عَامَّةَ أَصْحَابِهِ، وَعَبَّأَهُمْ تَعْبِئَةَ الْحَرْبِ خَوْفًا مِنْ رَجْعَةِ الْجُنْدِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَوْدَةٌ، فَأَتَاهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ رَجُلَانِ مِنَ الْجُنْدِ، فَدَلَّاهُ عَلَى عَوْرَةِ الْقَوْمِ، فَأَمَرَ لَهُمَا بِمِائَتَيْ دِينَارٍ، وَأَمَرَ الشَّاهَ بْنَ مِيكَالٍ وَغَيْرَهُ مِنَ الْقُوَّادِ فِي جَمَاعَةٍ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ، فَسَارَ إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ، وَابْنُ الْخَلِيلِ، وَهُمَا الْمُقَدَّمَانِ عَلَى الْجُنْدِ، قَدْ خَافَا بِمُضِيِّ ذَيْنَكَ الرَّجُلَيْنِ، (وَقَدْ تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُمَا) ، فَسَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى نَاحِيَةٍ. وَأَمَّا ابْنُ الْخَلِيلِ فَإِنَّهُ لَقِيَ الشَّاهَ بْنَ مِيكَالَ وَمَنْ مَعَهُ، فَصَاحَ بِهِمْ، وَصَاحَ بِهِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، وَصَارَ فِي وَسَطِهِمْ، فَقُتِلَ، وَأَمَّا أَبُو الْقَاسِمِ فَإِنَّهُ اخْتَفَى، فَدُلَّ عَلَيْهِ فَأُخِذَ وَحُمِلَ إِلَى ابْنِ طَاهِرٍ، وَتَفَرَّقَ الْجُنْدُ مِنْ بَابِ حَرْبٍ، وَرَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَقُيِّدَ أَبُو الْقَاسِمِ وَضُرِبَ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، فَمَاتَ مِنْهُ فِي رَمَضَانَ. ذِكْرُ خَلْعِ الْمُؤَيَّدِ وَمَوْتِهِ فِي رَجَبٍ خَلَعَ الْمُعْتَزُّ أَخَاهُ الْمُؤَيَّدَ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ بَعْدَهُ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ الْعَلَاءَ بْنَ أَحْمَدَ، عَامِلَ أَرْمِينِيَّةَ، بَعَثَ إِلَى الْمُؤَيَّدِ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ لِيُصْلِحَ بِهَا أَمْرَهُ، فَبَعَثَ

عِيسَى بْنَ فَرْخَانَشَاهَ إِلَيْهَا، فَأَخَذَهَا، فَأَغْرَى الْمُؤَيَّدُ الْأَتْرَاكَ بِعِيسَى، وَخَافَهُمُ الْمَغَارِبَةُ، فَبَعَثَ الْمُعْتَزُّ إِلَى الْمُؤَيَّدِ وَأَبِي أَحْمَدَ، فَأَخَذَهُمَا وَحَبَسَهُمَا، وَقَيَّدَ الْعَطَاءَ لِلْأَتْرَاكِ وَالْمَغَارِبَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ ضَرَبَهُ أَرْبَعِينَ مِقْرَعَةً، وَخَلَعَهُ بِسَامَرَّا، وَأَخَذَ خَطَّهُ بِخَلْعِ نَفْسِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ أَيْضًا فِي رَجَبٍ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ. وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ الْأَتْرَاكِ أَعْلَمَتْ مُحَمَّدَ بْنَ رَاشِدٍ أَنَّ الْأَتْرَاكَ يُرِيدُونَ إِخْرَاجَ الْمُؤَيَّدِ مِنَ الْحَبْسِ، فَأَنْهَى ذَلِكَ إِلَى الْمُعْتَزِّ، فَذَكَرَ مُوسَى بْنُ بُغَا عَنْهُ فَقَالَ: مَا أَرَادُوهُ، إِنَّمَا أَرَادُوا أَنْ يُخْرِجُوا أَبَا أَحْمَدَ بْنَ الْمُتَوَكِّلِ لِأُنْسِهِمْ بِهِ وَكَانَ فِي الْحَرْبِ الَّتِي كَانَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ دَعَا بِالْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْوُجُوهِ، فَأَخْرَجَ الْمُؤَيَّدُ إِلَيْهِمْ مَيِّتًا لَا أَثَرَ بِهِ، وَلَا جُرْحَ، وَحُمِلَ إِلَى أُمِّهِ، وَمَعَهُ كَفَنُهُ، وَأُمِرَتْ بِدَفْنِهِ. فَقِيلَ: إِنَّهُ أُدْرِجَ فِي لِحَافِ سَمُّورَ وَمُسِكَ طَرَفَاهُ حَتَّى مَاتَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أُقْعِدَ فِي الثَّلْجِ، وَجُعِلَ عَلَى رَأْسِهِ مِنْهُ كَثِيرٌ، فَجُمِّدَ بَرْدًا. وَلَمَّا مَاتَ الْمُؤَيَّدُ نُقِلَ أَخُوهُ أَبُو أَحْمَدَ إِلَى مَحْبِسِهِ، وَكَانَا لِأَبٍ وَأُمٍّ. ذِكْرُ قَتْلِ الْمُسْتَعِينِ وَلَمَّا أَرَادَ الْمُعْتَزُّ قَتْلَ الْمُسْتَعِينِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ، كَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَأْمُرُهُ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَعِينِ إِلَى سِيمَا الْخَادِمِ، فَكَتَبَ مُحَمَّدٌ إِلَى الْمُوكَلِينَ بِالْمُسْتَعِينِ بِوَاسِطَ فِي تَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ، وَأَرْسَلَ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ فِي تَسْلِيمِهِ، فَأَخَذَهُ أَحْمَدُ وَسَارَ بِهِ إِلَى الْقَاطُولِ، فَسَلَّمَهُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ صَالِحٍ، فَأَدْخَلَهُ سَعِيدٌ مَنْزِلَهُ، وَضَرَبَهُ حَتَّى مَاتَ. وَقِيلَ: بَلْ جَعَلَ فِي رِجْلِهِ حَجَرًا وَأَلْقَاهُ فِي دِجْلَةَ. وَقِيلَ: كَانَ قَدْ حَمَلَ مَعَهُ دَايَةً لَهُ تُعَادِلُهُ، فَلَمَّا أَخَذَهُ سَعِيدٌ ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، فَصَاحَ، وَصَاحَتْ دَايَتُهُ، ثُمَّ قُتِلَ وَقُتِلَتِ الْمَرْأَةُ مَعَهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى الْمُعْتَزِّ، وَهُوَ يَلْعَبُ

بِالشَّطْرَنْجِ، فَقِيلَ: هَذَا رَأْسُ الْمَخْلُوعِ! فَقَالَ: ضَعُوهُ حَتَّى أَفْرُغَ مِنَ الدُّسَتِ! فَلَمَّا فَرَغَ نَظَرَ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِ، وَأَمَرَ لِسَعِيدٍ بِخَمْسِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَوَلَّاهُ مَعُونَةَ الْبَصْرَةِ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَالْمَغَارِبَةِ (وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مُسْتَهَلَّ رَجَبٍ كَانَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَالْمَغَارِبَةِ. وَسَبَبُهَا أَنَّ الْأَتْرَاكَ) وَثَبُوا بِعِيسَى بْنِ فَرْخَانَشَاهَ، فَضَرَبُوهُ، وَأَخَذُوا دَابَّتَهُ، وَاجْتَمَعَتِ الْمَغَارِبَةُ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ رَاشِدٍ، وَنَصْرِ بْنِ سَعْدٍ، وَغَلَبُوا الْأَتْرَاكَ عَلَى الْجَوْسَقِ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْهُ، وَقَالُوا لَهُمْ: كُلُّ يَوْمٍ تَقْتُلُونَ خَلِيفَةً، وَتَخْلَعُونَ آخَر، وَتَعْمَلُونَ وَزِيرًا. وَصَارَ الْجَوْسَقُ وَبَيْتُ الْمَالِ فِي أَيْدِي الْمَغَارِبَةِ، وَأَخَذُوا الدَّوَابَّ الَّتِي كَانَ تَرَكَهَا الْأَتْرَاكُ، فَاجْتَمَعَ الْأَتْرَاكُ وَأَرْسَلُوا إِلَى الْكَرْخِ وَالدُّورِ مِنْهُمْ، فَاجْتَمَعُوا وَتَلَاقَوْا هُمْ وَالْمَغَارِبَةُ، وَأَعَانَ الْغَوْغَاءُ وَالشَّاكِرِيَّةُ الْمَغَارِبَةَ، فَضَعُفَ الْأَتْرَاكُ وَانْقَادُوا، فَأَصْلَحَ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَهُمْ، عَلَى أَنْ لَا يُحْدِثُوا شَيْئًا، وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَكُونُ فِيهِ رَجُلٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَكُونُ فِيهِ رَجُلٌ مِنَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، فَمَكَثُوا مُدَيْدَةً، ثُمَّ اجْتَمَعَ الْأَتْرَاكُ، وَقَالُوا: نَطْلُبُ هَذَيْنِ الرَّأْسَيْنِ، فَإِنْ ظَفِرْنَا بِهِمَا فَلَا أَحَدَ يُنْطِقُ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ بِاجْتِمَاعِ الْأَتْرَاكِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ رَاشِدٍ وَنَصْرِ بْنِ سَعْدِ، فَخَرَجَا إِلَى مَنْزِلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَزُّونَ لِيَكُونَا عِنْدَهُ حَتَّى يَسْكُنَ الْأَتْرَاكُ ثُمَّ يَرْجِعَا إِلَى جَمْعِهِمَا، فَغَمَزَ بِهِمَا إِلَى الْأَتْرَاكِ، فَأَخَذُوهُمَا فَقَتَلُوهُمَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُعْتَزَّ، فَأَرَادَ قَتْلَ ابْنِ عَزُّونَ، فَكُلِّمَ فِيهِ، فَنَفَاهُ إِلَى بَغْدَادَ. ذِكْرُ خُرُوجِ مُسَاوِرٍ بِالْبَوَازِيجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ (فِي رَجَبٍ) خَرَجَ مُسَاوِرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ مُسَاوِرٍ الشَّارِيُّ الْبَجَلِيُّ الْمَوْصِلِيُّ بِالْبَوَازِيجِ، وَإِلَى جَدِّهِ يُنْسَبُ فُنْدُقُ مُسَاوِرٍ بِالْمَوْصِلِ. وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ أَنَّ شُرْطَةَ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ يَتَوَلَّاهَا لِبَنِي عِمْرَانَ، وَأُمَرَاءَ

الْمَوْصِلِ، لَزِمُوا إِنْسَانًا اسْمُهُ حُسَيْنُ بْنُ بِكِيرٍ، فَأَخَذَ ابْنًا لِمُسَاوِرٍ هَذَا اسْمُهُ حَوْثَرَةُ، فَحَبَسَهُ بِالْحَدِيثَةِ، وَكَانَ حَوْثَرَةُ جَمِيلًا، فَكَانَ حُسَيْنُ هَذَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْحَبْسِ لَيْلًا وَيُحْضِرُهُ عِنْدَهُ، وَيَرُدُّهُ إِلَى الْحَبْسِ نَهَارًا، فَكَتَبَ حَوْثَرَةُ إِلَى أَبِيهِ مُسَاوِرٍ، وَهُوَ بِالْبَوَازِيجِ، يَقُولُ لَهُ: أَنَا بِالنَّهَارِ مَحْبُوسٌ وَبِاللَّيْلِ عَرُوسٌ، فَغَضِبَ لِذَلِكَ، وَقَلَقَ، وَخَرَجَ، وَبَايَعَهُ جَمَاعَةٌ، وَقَصَدَ الْحَدِيثَةَ، فَاخْتَفَى حُسَيْنُ بْنُ بَكِيرٍ، وَأَخْرَجَ مُسَاوِرٌ ابْنَهُ حَوْثَرَةَ مِنَ الْحَبْسِ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ مِنَ الْأَكْرَادِ وَالْأَعْرَابِ، وَسَارَ وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَنَزَلَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ. وَكَانَ الْوَالِيَ عَلَيْهَا عُقْبَةُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ أَهْبَانَ الْخُزَاعِيُّ، وَأَهْبَانُ يُقَالُ إِنَّهُ مُكَلِّمُ الذِّئْبَ، وَلَهُ صُحْبَةٌ، فَوَافَقَهُ (عُقْبَةُ) مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَعَبَرَ دِجْلَةَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ إِلَى مُسَاوِرٍ، فَقَاتَلَا، فَقُتِلَا، وَعَادَ مُسَاوِرٌ، وَكَرِهَ الْقِتَالَ. وَكَانَ حَوْثَرَةُ بْنُ مُسَاوِرٍ مَعَهُمْ، فَسُمِعَ يَقُولُ: أَنَا الْغُلَامُ الْبَجَلِيُّ الشَّارِيُّ ... أَخْرَجَنِي جُورُكُمْ مِنْ دَارِي ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حُمِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ الْعَطَّارُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الطَّالِبِيِّينَ، إِلَى سَامَرَّا، فِيهِمْ: أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ (بْنِ الْحَسَنِ بْنِ جَعْفَرِ) بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو هَاشِمٍ دَاوُدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْجَعْفَرِيُّ فِي شَعْبَانَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الطَّالِبِيِّينَ سَارَ مِنْ بَغْدَادَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الشَّاكِرِيَّةِ إِلَى نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ، وَكَانَتْ مِنْ أَعْمَالِ أَبِي السَّاجِ، وَكَانَ مُقِيمًا بِبَغْدَاذَ، فَأَمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَلِيفَتَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهَا رُمِيَ بِالْحِجَارَةِ، وَظَنُّوهُ جَاءَ لِحَرْبِ الْعَلَوِيِّ، فَقَالَ: لَسْتُ بِعَامِلٍ، إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وُجِّهْتُ لِحَرْبِ الْأَعْرَابِ، فَكَفُّوا عَنْهُ. وَكَانَ أَبُو أَحْمَدَ الطَّالِبِيُّ الْمَذْكُورُ قَدْ وَلَّاهُ الْمُعْتَزُّ الْكُوفَةَ، بَعْدَمَا هَزَمَ مُزَاحِمَ بْنَ خَاقَانَ الْعَلَوِيَّ الَّذِي كَانَ وُجِّهَ لِقِتَالِهِ بِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَعَاثَ أَبُو أَحْمَدَ فِيهَا، وَآذَى

النَّاسَ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَضِيَاعَهُمْ، فَلَمَّا أَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِالْكُوفَةِ لَاطَفَهُ وَاسْتَمَالَهُ، حَتَّى خَالَطَهُ أَبُو أَحْمَدَ، وَآكَلَهُ وَشَارَبَهُ، حَتَّى سَارَ بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مُتَنَزِّهًا إِلَى بُسْتَانٍ، فَأَمْسَى وَقَدْ عَبَّأَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَصْحَابَهُ، فَقَيَّدَهُ، وَسَيَّرَهُ إِلَى بَغْدَادَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَوُجِدَتْ مَعَ ابْنِ أَخٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ الْعَطَّارِ كُتُبٌ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ، فَكَتَبَ بِخَبَرِهِ إِلَى الْمُعْتَزِّ، فَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِحَمْلِهِ وَحَمْلِ الطَّالِبِيِّينَ الْمَذْكُورِينَ إِلَى سَامَرَّا، فَحُمِلُوا جَمِيعًا. وَفِيهَا وَلِيَ الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ قَضَاءَ الْقُضَاةِ. (وَفِيهَا تَوَجَّهَ أَبُو السَّاجِ إِلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ مِنْ قِبَلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) . وَفِيهَا عُقِدَ لِعِيسَى بْنِ الشَّيْخِ عَلَى الرَّمْلَةِ، وَأَنْفَذَ خَلِيفَتَهُ أَبَا الْمَغَرَّا إِلَيْهَا، وَعِيسَى هَذَا شَيْبَانِيٌّ، وَهُوَ عِيسَى بْنُ الشَّيْخِ بْنِ السَّلِيلِ، مِنْ وَلَدِ جَسَّاسِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ ذُهلَ بْنِ شَيْبَانَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى فِلَسْطِينَ جَمِيعِهَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْأَتْرَاكِ بِالْعِرَاقِ مَا ذَكَرْنَاهُ تَغَلَّبَ عَلَى دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا، وَقَطَعَ مَا كَانَ يُحْمَلُ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَاسْتَبَدَّ بِالْأَمْوَالِ. وَفِيهَا كَتَبَ وَصِيفٌ إِلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفَ الْعِجْلِيِّ بِتَوْلِيَتِهِ الْجَبَلَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِخَلْعٍ، فَتَوَلَّى ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ. وَفِيهَا قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الشَّارِيُّ بِدِيَارِ رَبِيعَةَ، (قَتَلَهُ خَلِيفَةٌ لِأَيُّوبَ بْنِ أَحْمَدَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ) . وَفِيهَا أَغَارَ جِسَتَانُ صَاحِبُ الدَّيْلَمِ مَعَ أَحْمَدَ بْنَ عِيسَى بْنِ أَحْمَدَ الْعَلَوِيِّ،

وَالْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَوْكَبِيُّ، عَلَى الرَّيِّ، فَقَتَلُوا، وَسَبَوْا، وَكَانَ بِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُزَيْرٍ، فَهَرَبَ مِنْهَا، فَصَالَحَهُمْ أَهْلُ الرَّيِّ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَارْتَحَلُوا عَنْهَا، وَعَادَ ابْنُ عُزَيْرٍ، فَأَخَذَ أَحْمَدَ بْنَ عِيسَى وَبَعَثَ بِهِ إِلَى نَيْسَابُورَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ الطَّالِبِيُّ الَّذِي كَانَ فَعَلَ بِمَكَّةَ مَا فَعَلَ. [بَقِيَّةُ الْحَوَادِثِ] وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ الْمَنْصُورِ. (وَفِيهَا سَيَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ [عَبْدِ الرَّحْمَنِ] صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ جَيْشًا إِلَى بِلَادِ الْعَدُوِّ، فَقَصَدُوا أُلْبَةَ، وَالْقِلَاعَ، وَمَدِينَةَ مَايَهَ وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا عَدَدًا كَثِيرًا، ثُمَّ قَفَلَ الْجَيْشُ سَالِمِينَ. [بَقِيَّةُ الْوَفَيَاتِ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ بُنْدَارٌ [الْوَفَيَاتُ] . وَأَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الزَّمِنُ الْبَصْرِيَّانِ، وَهُمَا مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، فِي " الصَّحِيحِ "، وَكَانَ مَوْلِدُ بُنْدَارٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ] 253 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ أَخْذِ كَرَجَ مِنْ أَبِي دُلَفٍ فِيهَا عَقَدَ الْمُعْتَزُّ لِمُوسَى بْنِ بُغَا الْكَبِيرِ فِي رَجَبٍ عَلَى الْجَبَلِ، فَسَارَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ مُفْلِحٌ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ خَارِجَ هَمَذَانَ، فَتَحَارَبَا، وَكَانَ مَعَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا مِنَ الصَّعَالِيكِ وَغَيْرِهِمْ، فَانْهَزَمَ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ. فَلَمَّا كَانَ فِي رَمَضَانَ سَارَ مُفْلِحٌ نَحْوَ كَرَجَ، وَجَعَلَ لَهُ كَمِينَيْنِ، وَوَجَّهَ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَسْكَرًا فِيهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، فَقَاتَلَهُمْ مُفْلِحٌ، وَخَرَجَ الْكَمِينَانِ عَلَى أَصْحَابِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَانْهَزَمُوا، وَقُتِلُوا، وَأُسِرُوا، وَأَقْبَلَ عَبْدُ الْعَزِيزِ لِيُعِينَ أَصْحَابَهُ، فَانْهَزَمَ بِانْهِزَامِهِمْ، وَتَرَكَ كَرَجَ، وَمَضَى إِلَى قَلْعَةٍ لَهُ يُقَالُ لَهَا زُرَّ، فَتَحَصَّنَ بِهَا، وَدَخَلَ مُفْلِحٌ كَرَجَ، فَأَخَذَ أَهْلَ عَبْدِ الْعَزِيزٍ وَفِيهِمْ وَالِدَتُهُ. ذِكْرُ قَتْلِ وَصِيفٍ وَفِيهَا قُتِلَ وَصِيفٌ، وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ الْأَتْرَاكَ وَالْفَرَاغِنَةَ وَالْأُشْرُوسَنِّيَّةَ شَغَبُوا، وَطَلَبُوا أَرْزَاقَهُمْ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ بُغَا وَوَصِيفٌ وَسِيمَا، فَكَلَّمَهُمْ وَصِيفٌ، فَقَالَ لَهُمْ: خُذُوا التُّرَابَ، لَيْسَ عِنْدَنَا مَالٌ، وَقَالَ بُغَا: نَعَمْ! نَسْأَلُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَنَتَنَاظَرُ فِي دَارِ أَشْنَاسَ، فَدَخَلُوا دَارَ أَشْنَاسَ. وَمَضَى سِيمَا وَبُغَا إِلَى الْمُعْتَزِّ، وَبَقِيَ وَصِيفٌ فِي أَيْدِيهِمْ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، وَوَجَأَهُ آخَرُ بِسِكِّينٍ، ثُمَّ ضَرَبُوهُ بِالطَّبْرَزِينَاتِ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا رَأْسَهُ

وَنَصَبُوهُ عَلَى مِحْرَاكِ تَنُّورٍ، وَجَعَلَ الْمُعْتَزُّ مَا كَانَ إِلَى وَصِيفٍ إِلَى بُغَا الشَّرَابِيِّ، وَهُوَ بُغَا الصَّغِيرُ، وَأَلْبَسَهُ التَّاجَ وَالْوِشَاحَيْنِ. ذِكْرُ قَتْلِ (بُنْدَارٍ) الطَّبَرَيِّ وَفِيهَا قُتِلَ بُنْدَارُ الطَّبَرَيُّ، وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ (أَنَّ مُسَاوِرَ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْمَوْصِلِيَّ الْخَارِجِيَّ لَمَّا خَرَجَ بِالْبَوَازِيجِ، كَمَا ذَكَرْنَا) ، وَكَانَ طَرِيقُ خُرَاسَانَ إِلَى بُنْدَارٍ، وَمُظَفَّرِ بْنِ سَيْسَلٍ، وَكَانَا بِالدَّسْكَرَةِ، أَتَى الْخَبَرُ إِلَى بُنْدَارٍ بِمَسِيرِ مُسَاوِرٍ إِلَى كَرْخِ حَدَّانِ، فَقَالَ الْمُظَفَّرُ (فِي الْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِلْمُظَفَّرِ) : قَدْ أَمْسَيْنَا، وَغَدًا الْعِيدُ، فَإِذَا قَضَيْنَا الْعِيدَ سِرْنَا إِلَيْهِ. فَسَارَ بُنْدَارٌ طَمَعًا فِي أَنْ يَكُونَ الظَّفَرُ لَهُ، فَسَارَ لَيْلًا، حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى عَسْكَرِ مُسَاوِرٍ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنْ يُبَيِّتَهُمْ، فَأَبَى وَقَالَ: حَتَّى أَرَاهُمْ وَيَرَوْنِي، فَأَحَسَّ بِهِ الْخَوَارِجُ، فَرَكِبُوا، وَاقْتَتَلُوا. وَكَانَ مَعَ بُنْدَارٍ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، وَمَعَ الْخَوَارِجِ سَبْعُ مِائَةٍ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَحَمَلَ الْخَوَارِجُ حَمْلَةً اقْتَطَعُوا مِنْ أَصْحَابِ بُنْدَارٍ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ، فَصَبَرُوا لَهُمْ، وَقَاتَلُوهُمْ، حَتَّى قُتِلُوا جَمِيعًا، فَانْهَزَمَ بُنْدَارُ وَأَصْحَابُهُ، وَجَعَلَ الْخَوَارِجُ يُقَطِّعُونَهُمْ قِطْعَةً بَعْدَ قِطْعَةٍ، فَقَتَلُوهُمْ. وَأَمْعَنَ بُنْدَارٌ فِي الْهَرَبِ، فَطَلَبُوهُ، فَلَحِقُوهُ، فَقَتَلُوهُ، وَنَصَبُوا رَأْسَهُ، وَنَجَا مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ رَجُلًا، وَقِيلَ: مِائَةٌ. وَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى الْمُظَفَّرِ، فَرَحَلَ نَحْوَ بَغْدَادَ، وَسَارَ مُسَاوِرُ نَحْوَ حُلْوَانَ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا، فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَرْبَعَ مِائَةِ إِنْسَانٍ، وَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً، وَقَتَلَ عِدَّةً مِنْ حُجَّاجِ خُرَاسَانَ كَانُوا بِحُلْوَانَ، وَأَعَانُوا أَهْلَهَا، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ.

وَقَالَ ابْنُ مُسَاوِرٍ فِي ذَلِكَ: فَجَعْتُ الْعِرَاقَ بِبُنَدَارِهَا ... وَحُزْتُ الْبِلَادَ بِأَقْطَارِهَا وَحُلْوَانُ صَبَّحْتُهَا غَارَةً ... فَقَتَّلْتُ أَغْرَارَ غَرَّارِهَا وَعُقْبَهُ بِالْمَوْصِلِ أَحْجَرْتُهُ ... وَطَوَّقْتُهُ الذُّلَّ فِي كَارِهَا ) ذِكْرُ مَوْتِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَفِي لَيْلَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ انْخَسَفَ الْقَمَرُ جَمِيعُهُ، وَمَعَ انْتِهَاءِ خُسُوفِهِ مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَكَانَتْ عِلَّتُهُ الَّتِي مَاتَ بِهَا قُرُوحًا أَصَابَتْهُ فِي حَلْقِهِ وَرَأْسِهِ فَذَبَحَتْهُ، وَكَانَتْ تَدْخُلُ فِيهَا الْفَتَايِلُ. وَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ وَأَصْحَابِهِ بِتَفْوِيضِ مَا إِلَيْهِ مِنَ الْوِلَايَةِ إِلَى أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فَلَمَّا مَاتَ تَنَازَعَ ابْنُهُ طَاهِرٌ وَأَخُوهُ عُبَيْدُ اللَّهِ (الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ، وَتَنَازَعَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَأَصْحَابُ) طَاهِرٍ، حَتَّى سَلُّوا السُّيُوفَ، وَرَمَوْا بِالْحِجَارَةِ، وَمَالَتِ الْعَامَّةُ مَعَ أَصْحَابِ طَاهِرٍ) ، وَعَبَرَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى دَارِهِ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَعَبَرَ مَعَهُ الْقُوَّادُ لِاسْتِخْلَافِ مُحَمَّدٍ، فَكَانَ أَوْصَاهُ عَلَى أَعْمَالِهِ، ثُمَّ وَجَّهَ الْمُعْتَزُّ بَعْدَ ذَلِكَ الْخِلَعَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ، فَأَمَرَ عُبَيْدُ اللَّهِ لِلَّذِي أَتَاهُ بِالْخِلَعِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِأَعْمَالِ الْمَوْصِلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حَرْبٌ بَيْنَ سُلَيْمَانِ بْنِ عِمْرَانَ الْأَزْدِيِّ وَبَيْنَ عَنْزَةَ، وَسَبَبُهَا أَنَّ سُلَيْمَانَ اشْتَرَى نَاحِيَةً مِنَ الْمَرْجِ، فَطَلَبَ مِنْهُ إِنْسَانٌ مِنْ عَنْزَةَ اسْمُهُ بَرْهُونَةُ الشُّفْعَةَ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَيْهَا، فَسَارَ بَرْهُونَةُ إِلَى عَنْزَةَ، وَهُمْ بَيْنَ الزَّابَيْنِ، فَاسْتَجَارَ بِهِمْ وَبِبَنِي شَيْبَانَ،

وَاجْتَمَعَ مَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ، (وَنَهَبُوا الْأَعْمَالَ فَأَسْرَفُوا) . وَجَمَعَ سَلِيمَانُ لَهُمْ بِالْمَوْصِلِ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَعَبَرَ الزَّابَ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ، (وَقُتِلَ فِيهَا كَثِيرٌ) ، وَكَانَ الظَّفَرُ لِسُلَيْمَانَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ بِبَابِ شَمْعُونَ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَأَدْخَلَ مِنْ رُؤُوسِهِمْ إِلَى الْمَوْصِلِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ رَأْسٍ، فَقَالَ حَفْصُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ قَصِيدَةً يَذْكُرُ فِيهَا الْوَقْعَةَ أَوَّلُهَا: شَهِدَتْ مَوَاقِفَنَا نِزَارُ فَأَحْمَدَتْ ... كَرَّاتِ كُلِّ سَمَيْدَعٍ قَمْقَامِ جَاؤُوا وَجِئْنَا لَا نَفَيْتُمْ صِلَّنَا ... ضَرْبًا يُطِيحُ جَمَاجِمَ الْأَجْسَامِ وَهِيَ طَوِيلَةٌ. وَفِيهَا كَانَ أَيْضًا بِأَعْمَالِ الْمَوْصِلِ فِتْنَةٌ وَحَرْبٌ قُتِلَ فِيهَا الْحَبَّابُ بْنُ بُكَيْرٍ التَّلِيدِيُّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّيِّدِ بْنِ أَنَسٍ التَّلِيدِيَّ الْأَزْدِيَّ كَانَ قَدِ اشْتَرَى قَرْيَتَيْنِ [كَانَ] رَهَنَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التَّلِيدِيُّ عِنْدَهُ، وَكَرِهَ صَاحِبُهُمَا (أَنْ يَشْتَرِيَهُمَا، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الْحَبَّابِ بْنِ بُكَيْرٍ) ، فَقَالَ الْحَبَّابُ لَهُ: ائْتِنِي بِكِتَابٍ مِنْ بُغَا لِأَمْنَعَ عَنْهُمَا، وَأَعْطَاهُ دَوَابَّ وَنَفَقَةً، وَانْحَدَرَ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى، وَأَحْضَرَ كِتَابًا مِنْ بُغَا إِلَى الْحَبَّابِ يَأْمُرُهُ بِكَفِّ يَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّيِّدِ عَنِ الْقَرْيَتَيْنِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا مَنْ مَنَعَ عَنْهُمَا مُحَمَّدًا، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ مُرَاسَلَاتٌ وَاصْطَلَحُوا. فَبَيْنَمَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّيِّدِ وَالْحَبَّابُ بِالْبُسْتَانِ عَلَى شَرَابٍ لَهُمَا، وَمَعَهُمَا قَيْنَةٌ، قَالَ لَهَا الْحَبَّابُ غَنِّي بِهَذَا الشِّعْرِ: مَتَّى تَجْمَعُ الْقَلْبَ الزَّكِيَّ وَصَارِمًا ... وَأَنْفًا حَمِيًّا تَجْتَنِبْكَ الْمَظَالِمُ

فَغَنَّتِ الْجَارِيَةُ، فَغَضِبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ لَهَا بَلْ غَنِّي: كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ لَا تَأْخُذُونَهَا ... مُرَاغَمَةً مَا دَامَ لِلسَّيْفِ قَائِمُ وَلَا صُلْحَ حَتَّى تُقْرَعَ الْبِيضُ بِالْقَنَا ... وَيُضْرَبُ بِالْبَيْضِ الْخِفَافِ الْجَمَاجِمُ وَافْتَرَقَا وَقَدْ حَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَأَعَادَ الْحَبَّابُ التَّوْكِيلَ بِالْقَرْيَتَيْنِ، فَجَمَعَ مُحَمَّدٌ جَمْعًا، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ فِي الصُّلْحِ، وَأَجَابَا إِلَى ذَلِكَ، وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ جَمْعَهُ، فَأَبْلَغَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْحَبَّابَ قَالَ: لَوْ كَانَ مَعَ مُحَمَّدٍ أَرْبَعَةٌ لَمَا أَجَابَ إِلَى الصُّلْحِ، فَغَضِبَ لِذَلِكَ، وَجَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا، (وَسَارَ مُبَادِرًا) إِلَى الْحَبَّابِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْحَبَّابُ غَيْرَ مُسْتَعِدٍّ، فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ الْحَبَّابُ وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ وَجَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا نُفِيَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ إِلَى الْبَصْرَةِ، ثُمَّ رُدَّ إِلَى بَغْدَادَ، فَأُنْزِلَ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ بِقَصْرِ دِينَارَ، وَنُفِيَ أَيْضًا عَلِيُّ بْنُ الْمُعْتَصِمِ إِلَى وَاسِطَ، ثُمَّ رُدَّ إِلَى بَغْدَادَ. وَفِيهَا مَاتَ مُزَاحِمُ بْنُ خَاقَانَ بِمِصْرَ فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانِ الزَّيْنَبِيُّ. وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ مِنْ نَاحِيَةِ مَلَطْيَةَ، فَانْهَزَمَ، وَأُسِرَ. وَفِيهَا التَقَى مُوسَى بْنُ بُغَا وَالْكَوَكْبِيُّ الْعَلَوِيُّ (عِنْدَ قَزْوِينَ) ، فَانْهَزَمَ الْكَوَكْبِيُّ وَلَحِقَ بِالدَّيْلَمِ، وَكَانَ سَبَبُ الْهَزِيمَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا اصْطَفُوا لِلْقِتَالِ جَعَلَ أَصْحَابُ الْكَوَكِبِيِّ تُرُوسَهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ، فَيَتَّقُونَ بِهَا سِهَامَ أَصْحَابِ مُوسَى، فَلَمَّا رَأَى مُوسَى أَنَّ سِهَامَ أَصْحَابِهِ لَا تَصِلُ إِلَيْهِمْ مَعَ فِعْلِهِمْ، أَمَرَ بِمَا مَعَهُ مِنَ النِّفْطِ أَنْ يُصَبَّ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالِاسْتِطْرَادِ لَهُمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَظَنَّ الْكَوَكْبِيُّ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُمْ قَدْ انْهَزَمُوا، فَتَبِعَهُمْ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا النِّفْطَ أَمَرَ

مُوسَى بِالنَّارِ فَأُلْقِيَتْ فِيهِ، فَالْتَهَبَ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ، فَجَعَلَتْ تَحْرِقُهُمْ، فَانْهَزَمُوا فَتَبِعَهُمْ مُوسَى، وَدَخَلَ قَزْوِينَ. وَفِيهَا (فِي ذِي الْحِجَّةِ) لَقِيَ مُسَاوِرٌ الْخَارِجِيُّ عَسْكَرًا لِلْخَلِيفَةِ (مُقَدِّمُهُمْ حُطُرْمُسُ) بِنَاحِيَةِ جَلَوْلَاءَ، فَهَزَمَهُ مُسَاوِرٌ. وَفِيهَا سَارَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ إِلَى بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَافْتَتَحُوا حُصُونَ جِرْنِيقَ، وَحَاصَرُوا فَوَثَبَ وَغَلَبَ عَلَى أَكْثَرِ أَسْوَارِهَا. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ دَوْلَةِ يَعْقُوبَ الصَّفَّارِ وَمُلْكِهِ هَرَاةَ وَبَوْشَنْجَ وَكَانَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ وَأَخُوهُ عَمْرٌو يَعْمَلَانِ الصُّفْرَ بِسِجِسْتَانَ، وَيُظْهِرَانِ الزُّهْدَ وَالتَّقَشُّفَ. وَكَانَ فِي أَيَّامِهِمَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ سِجِسْتَانَ يُظْهِرُ التَّطَوُّعَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، يُقَالُ لَهُ: صَالِحٌ الْمُطَّوِّعِيُّ، فَصَحِبَهُ يَعْقُوبُ، وَقَاتَلَ مَعَهُ، فَحَظِيَ عِنْدَهُ، فَجَعَلَهُ صَالِحٌ مَقَامَ الْخَلِيفَةِ عَنْهُ، ثُمَّ هَلَكَ صَالِحٌ، وَقَامَ مَقَامَهُ إِنْسَانٌ آخَرُ اسْمُهُ دِرْهَمٌ، فَصَارَ يَعْقُوبُ مَعَ دِرْهَمٍ كَمَا كَانَ مَعَ صَالِحٍ قَبْلَهُ. ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ خُرَاسَانَ احْتَالَ لِدِرْهَمٍ لَمَّا عَظُمَ شَأْنُهُ وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، حَتَّى ظَفِرَ بِهِ وَحَمَلَهُ إِلَى بَغْدَادَ، فَحَبَسَهُ بِهَا، ثُمَّ أُطْلِقَ، وَخَدَمَ الْخَلِيفَةَ بِبَغْدَاذَ. وَعَظُمَ أَمْرُ يَعْقُوبَ بَعْدَ أَخْذِ دِرْهَمٍ، وَصَارَ مُتَوَلِّيًا أَمْرَ الْمُتَطَوِّعَةِ مَكَانَ دِرْهَمٍ، وَقَامَ بِمُحَارَبَةِ الشُّرَاةِ، (فَظَفِرَ بِهِمْ) ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ، حَتَّى كَادَ يُفْنِيهِمْ، وَخَرَّبَ قُرَاهُمْ، وَأَطَاعَهُ أَصْحَابُهُ بِمَكْرِهِ، وَحُسْنِ حَالِهِ وَرَأْيِهِ طَاعَةً لَمْ يُطِيعُوهَا أَحَدًا كَانَ مِنْ قَبْلِهِ، وَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُ، فَغَلَبَ عَلَى سِجِسْتَانَ، وَأَظْهَرَ التَّمَسُّكَ بِطَاعَةِ الْخَلِيفَةِ، وَكَاتَبَهُ، وَصَدَرَ عَنْ أَمْرِهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ هُوَ أَمَرَهُ بِقِتَالِ الشُّرَاةِ، وَمَلَكَ سِجِسْتَانَ وَضَبَطَ الطُّرُقَ وَحَفِظَهَا، وَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ

الْمُنْكَرِ، فَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، فَخَرَجَ عَنْ حَدِّ طَلَبِ الشُّرَاةِ، وَصَارَ يَتَنَاوَلُ أَصْحَابَ أَمِيرِ خُرَاسَانَ لِلْخَلِيفَةِ. ثُمَّ سَارَ مِنْ سِجِسْتَانَ إِلَى هَرَاةَ مِنْ خُرَاسَانَ هَذِهِ السَّنَةَ لِيَمْلِكَهَا، وَكَانَ أَمِيرُ خُرَاسَانَ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَامِلُهُ عَلَى هَرَاةَ مُحَمَّدَ بْنَ أَوْسٍ الْأَنْبَارِيَّ، فَخَرَجَ مِنْهَا لِمُحَارَبَةِ يَعْقُوبَ فِي تَعْبِئَةٍ حَسَنَةٍ وَبَأْسٍ شَدِيدٍ وَزِيٍّ جَمِيلٍ، فَتَحَارَبَا وَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ ابْنُ أَوْسٍ، وَمَلَكَ يَعْقُوبُ هَرَاةَ وَبَشَنْجَ، وَصَارَتِ الْمَدِينَتَانِ فِي يَدِهِ، فَعَظُمَ أَمْرُهُ حِينَئِذٍ، وَهَابَهُ أَمِيرُ خُرَاسَانَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ.

ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ] 254 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ مَقْتَلِ بُغَا الشَّرَابِيِّ وَفِيهَا قُتِلَ بُغَا الشَّرَابِيُّ، وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ كَانَ يُحَرِّضُ الْمُعْتَزَّ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى بَغْدَادَ، وَالْمُعْتَزُّ يَأْبَى ذَلِكَ وَيَكْرَهُهُ، فَاتَّفَقَ أَنَّ بُغَا اشْتَغَلَ بِتَزْوِيجِ ابْنَتِهِ مِنْ صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ، فَرَكِبَ الْمُعْتَزُّ وَمَعَهُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْرَائِيلَ إِلَى كَرْخِ سَامَرَّا، إِلَى بَايْكُبَاكَ التُّرْكِيِّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنْحَرِفِينَ عَنْ بُغَا. وَكَانَ سَبَبُ انْحِرَافِهِ عَنْهُ أَنَّهُمَا كَانَا عَلَى شَرَابٍ لَهُمَا، فَعَرْبَدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَاخْتَفَى بَايْكُبَاكُ مِنْ بُغَا، فَلَمَّا أَتَاهُ الْمُعْتَزُّ اجْتَمَعَ مَعَهُ أَهْلُ الْكَرْخِ وَأَهْلُ الدُّورِ، ثُمَّ أَقْبَلُوا مَعَ الْمُعْتَزِّ إِلَى الْجَوْسَقِ بِسَامَرَّا، وَبَلَغَ ذَلِكَ بُغَا، فَخَرَجَ فِي غِلْمَانِهِ وَهُمْ زُهَاءَ خَمْسِمِائَةِ إِنْسَانٍ مِنْ وَلَدِهِ وَقُوَّادِهِ، فَسَارَ إِلَى السِّنِّ، فَشَكَا أَصْحَابُهُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَسْفِ، وَأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِغَيْرِ مَضَارِبَ وَلَا مَا يَلْبَسُونَهُ فِي الْبَرْدِ، وَأَنَّهُمْ فِي شِتَاءٍ، فَأَتَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِمْ، فَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَنْظُرَ اللَّيْلَةَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَكِبَ فِي زَوْرَقٍ، وَمَعَهُ خَادِمَانِ وَشَيْءٌ مِنَ الْمَالِ الَّذِي صَحِبَهُ، وَكَانَ قَدْ صَحِبَهُ تِسْعَ عَشْرَةَ بَدْرَةُ دَنَانِيرَ، وَمِائَةُ بَدْرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يَحْمِلْ مَعَهُ سِلَاحًا، وَلَا سِكِّينًا، وَلَا شَيْئًا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ عَسْكَرِهِ. وَكَانَ الْمُعْتَزُّ، فِي غَيْبَةِ بُغَا، لَا يَنَامُ إِلَّا فِي ثِيَابِهِ وَعَلَيْهِ السِّلَاحُ، فَسَارَ بُغَا إِلَى الْجِسْرِ فِي الثُّلُثِ الْأَوَّلِ مِنَ اللَّيْلِ، فَبَعَثَ الْمُوَكَّلُونَ بِالْجِسْرِ يَنْظُرُونَ مَنْ هُوَ، فَصَاحَ بِالْغُلَامِ، فَرَجَعَ، وَخَرَجَ بُغَا فِي الْبُسْتَانِ الْخَاقَانِيِّ، فَلَحِقَهُ عِدَّةٌ مِنَ الْمُوَكَّلِينَ، فَوَقَفَ لَهُمْ بُغَا، وَقَالَ: أَنَا بُغَا، إِمَّا أَنْ تَذْهَبُوا

مَعِي إِلَى صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ، وَإِمَّا أَنْ تَصِيرُوا مَعِي حَتَّى أُحْسِنَ إِلَيْكُمْ، فَتَوَكَّلَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الْمُعْتَزِّ بِالْخَبَرِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى الْمُعْتَزِّ، وَنُصِبَ بِسَامَرَّا وبِبَغْدَاذَ، وَأَحْرَقَتِ الْمَغَارِبَةُ جَسَدَهُ، وَكَانَ أَرَادَ أَنْ يَخْتَفِيَ عِنْدَ صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ، فَإِذَا اشْتَغَلَ النَّاسُ بِالْعِيدِ وَكَانَ قَدْ قَرُبَ خَرَجَ هُوَ وَصَالِحٌ (وَوَثَبُوا بِالْمُعْتَزِّ) . ذِكْرُ ابْتِدَاءِ حَالِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ كَانَتْ دِيَارُ مِصْرَ قَدْ أُقْطِعَهَا بَايْكُبَاكُ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ قُوَّادِ الْأَتْرَاكِ، وَكَانَ مُقِيمًا بِالْحَضْرَةِ، وَاسْتَخْلَفَ بِهَا مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ بِهَا. وَكَانَ طُولُونُ وَالِدُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ أَيْضًا مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَقَدْ نَشَأَ هُوَ بَعْدَ وَالِدِهِ عَلَى طَرِيقَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ وَسِيرَةٍ حَسَنَةٍ، فَالْتَمَسَ بَايْكُبَاكُ مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ بِمِصْرَ، فَأُشِيرَ عَلَيْهِ بِأَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ لِمَا ظَهَرَ عَنْهُ مِنْ حُسْنِ السِّيرَةِ، فَوَلَّاهُ وَسَيَّرَهُ إِلَيْهَا. وَكَانَ بِهَا ابْنُ الْمُدَبِّرِ عَلَى الْخَرَاجِ، وَقَدْ تَحَكَّمَ فِي الْبَلَدِ، فَلَمَّا قَدِمَهَا أَحْمَدُ كَفَّ يَدَ ابْنِ الْمُدَبِّرِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبَلَدِ، وَكَانَ بَايْكُبَاكُ قَدِ اسْتَعْمَلَ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ عَلَى مِصْرَ وَحْدَهَا سِوَى بَاقِي الْأَعْمَالِ كَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَلَمَّا قَتَلَ الْمُهْتَدِي بَايْكُبَاكَ وَصَارَتْ مِصْرُ لِيَارْكُوجَ التُّرْكِيِّ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ مَوَدَّةٌ مُتَأَكِّدَةٌ، اسْتَعْمَلَهُ عَلَى دِيَارِ مِصْرَ جَمِيعِهَا، فَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَعَلَا شَأْنُهُ، وَدَامَتْ أَيَّامُهُ، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21] . ذِكْرُ وَقْعَةٍ بَيْنَ مُسَاوِرٍ الْخَارِجِيِّ وَبَيْنَ عَسْكَرِ الْمَوْصِلِ كَانَ مُسَاوِرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى أَكْثَرِ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ وَقَوِيَ أَمْرُهُ، فَجَمَعَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيُّ التَّغْلِبِيُّ - وَكَانَ خَلِيفَةَ أَبِيهِ بِالْمَوْصِلِ - عَسْكَرًا كَثِيرًا مِنْهُمْ حَمْدَانُ بْنُ حَمْدُونَ جَدُّ الْأُمَرَاءِ الْحَمْدَانِيَّةِ، وَغَيْرُهُ، وَسَارَ إِلَى مُسَاوِرٍ وَعَبَرَ إِلَيْهِ نَهَرَ الزَّابِ، فَتَأَخَّرَ عَنْهُ مُسَاوِرٌ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَنَزَلَ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ وَادِي الذِّيَاتِ، وَهُوَ وَادٍ

عَمِيقٌ، فَسَارَ الْحَسَنُ فِي طَلَبِهِ، فَالْتَقَوْا فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْمَوْصِلِ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَسَقَطَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي الْوَادِي، فَهَلَكَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الْقَتْلَى، وَنَجَا الْحَسَنُ فَوَصَلَ إِلَى حَزَّةَ مِنْ أَعْمَالِ إِرْبِلَ الْيَوْمَ، وَنَجَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ السَّيِّدِ، فَظَنَّ الْخَوَارِجُ أَنَّهُ الْحَسَنُ فَتَبِعُوهُ، وَكَانَ فَارِسًا شُجَاعًا فَقَاتَلَهُمْ فَقُتِلَ، وَاشْتَدَّ أَمْرُ مُسَاوِرٍ وَعَظُمَ شَأْنُهُ وَخَافَهُ النَّاسُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ الرَّشِيدِ، وَهُوَ عَمُّ الْوَاثِقِ وَالْمُتَوَكِّلِ، وَعَمُّ أَبِي الْمُنْتَصِرِ وَالْمُسْتَعِينِ وَالْمُعْتَزِّ، وَكَانَ مَعَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ إِخْوَتُهُ الْأَمِينُ، وَالْمَأْمُونُ، وَالْمُعْتَصِمُ، وَابْنَا أَخِيهِ الْوَاثِقُ وَالْمُتَوَكِّلُ ابْنَا الْمُعْتَصِمِ، وَأَبْنَاءُ ابْنَيْ أَخِيهِ، وَهُمُ الْمُنْتَصِرُ، وَالْمُسْتَعِينُ، وَالْمُعْتَزُّ. وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسَامَرَّا، وَهُوَ أَحَدُ مَنْ يَعْتَقِدُ الْإِمَامِيَّةُ إِمَامَتَهُ، (وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ) . وَفِيهَا عَقَدَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ لِدِيُودَادَ عَلَى دِيَارِ مِصْرَ وَقِنَّسْرِينَ وَالْعَوَاصِمِ. وَفِيهَا أَوْقَعَ مُفْلِحٌ بِأَهْلِ قُمٍّ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةَ عَظِيمَةً. (وَفِيهَا عَاوَدَ أَهْلُ مَارِدَةَ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ الْخِلَافَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ خَالَفُوا قَدِيمًا عَلَى أَبِيهِ، فَظَفِرَ بِهِمْ، وَتَفَرَّقَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ تَجَمَّعَ إِلَيْهَا مَنْ كَانَ فَارَقَهَا، فَعَادُوا إِلَى الْخِلَافِ وَالْعِصْيَانِ، فَسَارَ مُحَمَّدٌ إِلَيْهِمْ، وَحَصَرَهُمْ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، فَانْقَادُوا إِلَى التَّسْلِيمِ وَالطَّاعَةِ، فَنَقَلَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَى قُرْطُبَةَ، وَهَدَمَ سُورَ مَارِدَةَ، وَحَصَّنَ بِهَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ يَسْكُنُهُ الْعُمَّالُ دُونَ غَيْرِهِمْ.

وَفِيهَا هَلَكَ أَرَدُونُ بْنُ رُدْمِيرَ صَاحِبُ جِلَّيقِيَّةَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، وَوُلِّيَ مَكَانَهُ أُدْفُونُشُ، وَهُوَ ابْنُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَفِيهَا انْكَسَفَ الْقَمَرُ كُسُوفًا كُلِّيًّا لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ ظَاهِرٌ. وَفِيهَا كَانَ بِبِلَادِ الْأَنْدَلُسِ قَحْطٌ شَدِيدٌ، تَتَابَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ [وَمِائَتَيْنِ] إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، وَكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ) . وَفِيهَا وَصَلَ دُلَفُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ الْعِجْلِيُّ إِلَى الْأَهْوَازِ وَجُنْدَيْسَابُورَ وَتُسْتَرَ، فَجَبَى بِهَا مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَكَانَ وَالِدُهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ. وَفِي رَمَضَانَ سَارَ نُوشَرى إِلَى مُسَاوِرٍ الشَّارِي، فَلَقِيَهُ فَهَزَمَهُ، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ. [الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قَطَنَ النَّحْوِيُّ الْقَيْرَوَانِيُّ بِهَا، وَكَانَ إِمَامًا فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَإِمَامًا بِالْعَرَبِيَّةِ، قِيلَ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ [وَمِائَتَيْنِ] وَهُوَ أَصَحُّ) .

ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ] 255 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ يَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ الصَّفَّارِ عَلَى كَرْمَانَ وَفِيهَا اسْتَوْلَى يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ الصَّفَّارُ عَلَى كَرْمَانَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ شِبْلٍ كَانَ عَلَى فَارِسَ، فَكَتَبَ إِلَى الْمُعْتَزِّ يَطْلُبُ كَرْمَانَ، وَيَذْكُرُ عَجْزَ الطَّاهِرِيَّةِ، وَأَنَّ يَعْقُوبَ قَدْ غَلَبَهُمْ عَلَى سِجِسْتَانَ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ قَدْ تَبَاطَأَ بِحَمْلِ خَرَاجِ فَارِسَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُعْتَزُّ بِوِلَايَةِ كَرْمَانَ، وَكَتَبَ إِلَى يَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ بِوِلَايَتِهَا أَيْضًا، يَلْتَمِسُ إِغْرَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِصَاحِبِهِ لِيُسْقِطَ مَؤُونَةَ الْهَالِكِ عَنْهُ، وَيَنْفَرِدَ بِالْآخَرِ. وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُظْهِرُ طَاعَةً لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَالْمُعْتَزُّ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهَا، فَأَرْسَلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ طَوْقَ بْنَ الْمُغَلِّسِ إِلَى كَرْمَانَ، وَسَارَ يَعْقُوبُ إِلَيْهَا، فَسَبَقَهُ طَوْقٌ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَأَقْبَلَ يَعْقُوبُ حَتَّى بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَرْمَانَ مَرْحَلَةٌ، فَأَقَامَ بِهَا شَهْرَيْنِ لَا يَتَقَدَّمُ إِلَى طَوْقٍ، وَلَا طَوْقٌ يَخْرُجُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَظْهَرَ الِارْتِحَالَ إِلَى سِجِسْتَانَ، فَارْتَحَلَ مَرْحَلَتَيْنِ، وَبَلَغَ طَوْقًا ارْتِحَالُهُ فَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ فِي حَرْبِهِ، وَتَرَكَ كَرْمَانَ، فَوَضَعَ آلَةَ الْحَرْبِ، وَقَعَدَ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمَلَاهِي. وَاتَّصَلَ بِيَعْقُوبَ إِقْبَالُ طَوْقٍ عَلَى الشُّرْبِ، فَكَّرَ رَاجِعًا، فَطَوَى الْمَرْحَلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَشْعُرْ طَوْقٌ إِلَّا بِغَبَرَةِ عَسْكَرِهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: غَبَرَةُ الْمَوَاشِي، فَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعِ مِنْ مُوَافَاةِ يَعْقُوبَ، فَأَحَاطَ بِهِ وَأَصْحَابِهِ، (فَذَهَبَ أَصْحَابُهُ) يُرِيدُونَ الْمُنَاهَضَةَ وَالدَّفْعَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ يَعْقُوبُ لِأَصْحَابِهِ: أَفْرِجُوا لِلْقَوْمِ! فَمَرُّوا هَارِبِينَ، وَخَلَّوْا كُلَّ مَا لَهُمْ، وَأَسَرَ يَعْقُوبُ طَوْقًا.

وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ قَدْ سَيَّرَ مَعَ طَوْقٍ فِي صَنَادِيقَ قُيُودًا لِيُقَيِّدَ بِهَا مَنْ يَأْخُذُهُ مِنْ أَصْحَابِ يَعْقُوبَ، وَفِي صَنَادِيقَ أَطْوِقَةٌ وَأَسْوِرَةٌ لِيُعْطِيَهَا أَهْلَ الْبَلَاءِ مِنْ أَصْحَابِ نَفْسِهِ، فَلَمَّا غَنِمَ يَعْقُوبُ عَسْكَرَهُمْ رَأَى ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا طَوْقُ؟ فَأَخْبَرَهُ، فَأَخَذَ الْأَطْوِقَةَ وَالْأَسْوِرَةَ، فَأَعْطَاهَا أَصْحَابَهُ، وَأَخَذَ الْقُيُودَ وَالْأَغْلَالَ، فَقَيَّدَ بِهَا أَصْحَابَ عَلِيٍّ، وَلَمَّا أَخْرَجَ يَدَ طَوْقٍ لِيَضَعَ فِيهَا الْغُلَّ رَآهَا يَعْقُوبُ وَعَلَيْهَا عِصَابَةٌ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: أَصَابَتْنِي حَرَارَةٌ فَفَصَدْتُهَا. فَأَمَرَ بِنَزْعِ خُفِّ نَفْسِهِ، فَتَسَاقَطَ مِنْهُ كِسَرُ خُبْزٍ يَابِسَةٍ، فَقَالَ: يَا طَوْقُ! هَذَا خُفِّي لَمْ أَنْزِعْهُ مُنْذُ شَهْرَيْنِ مِنْ رِجْلِي، وَخُبْزِي فِي خُفِّي مِنْهُ آكُلُ، وَأَنْتَ جَالِسٌ فِي الشُّرْبِ؟ ثُمَّ دَخَلَ كَرْمَانَ وَمَلَكَهَا مَعَ سِجِسْتَانَ. ذِكْرُ مُلْكِ يَعْقُوبَ فَارِسَ وَفِيهَا، رَابِعَ جُمَادَى الْأُولَى، مَلَكَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ فَارِسَ، وَلَمَّا بَلَغَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ شِبْلٍ بِفَارِسَ مَا فَعَلَهُ يَعْقُوبُ بِطَوْقٍ أَيْقَنَ بِمَجِيئِهِ إِلَيْهِ، وَكَانَ عَلِيٌّ بِشِيرَازَ، فَجَمَعَ جَيْشَهُ وَسَارَ إِلَى مَضِيقٍ خَارِجَ شِيرَازَ، مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ جَبَلٌ لَا يُسْلَكُ، وَمِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ نَهْرٌ لَا يُخَاضُ، فَأَقَامَ عَلَى رَأْسِ الْمَضِيقِ، وَهُوَ ضَيِّقٌ مَمَرُّهُ لَا يَسْلُكُهُ إِلَّا وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، وَهُوَ عَلَى طَرَفِ الْبَرِّ، وَقَالَ: إِنَّ يَعْقُوبَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجَوَازِ إِلَيْنَا. فَرَجَعَ. وَأَقْبَلَ يَعْقُوبُ حَتَّى دَنَا مِنْ ذَلِكَ الْمَضِيقِ، فَنَزَلَ عَلَى مِيلٍ مِنْهُ، وَسَارَ وَحْدَهُ وَمَعَهُ رَجُلٌ آخَرُ، فَنَظَرَ إِلَى ذَلِكَ الْمَضِيقِ وَالْعَسْكَرُ وَأَصْحَابُ [عَلِيِّ بْنِ] الْحَسَنِ يَسُبُّونَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ الظُّهْرَ سَارَ بِأَصْحَابِهِ حَتَّى صَارَ إِلَى طَرَفِ الْمَضِيقِ مِمَّا يَلِي كَرْمَانَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالنُّزُولِ وَحَطَّ الْأَثْقَالَ، فَفَعَلُوا، وَرَكِبُوا دَوَابَّهُمْ عُرْيًا، وَأَخَذَ كَلْبًا كَانَ مَعَهُ فَأَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ، فَجَعَلَ يَسْبَحُ إِلَى جَانِبِ عَسْكَرِ [عَلِيِّ بْنِ] الْحُسَيْنِ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابُهُ قَدْ رَكِبُوا يَنْظُرُونَ إِلَى فِعْلِهِ، وَيَضْحَكُونَ مِنْهُ. وَأَلْقَى يَعْقُوبُ نَفْسَهُ وَأَصْحَابَهُ فِي الْمَاءِ عَلَى خَيْلِهِمْ، وَبِأَيْدِيهِمُ الرِّمَاحُ، يَسِيرُونَ خَلْفَ الْكَلْبِ، فَلَمَّا رَأَى عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ أَنَّ يَعْقُوبَ قَدْ قَطَعَ عَامَّةَ النَّهْرِ تَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ، وَانْتَقَضَ عَلَيْهِ تَدْبِيرَهُ، وَخَرَجَ أَصْحَابُ يَعْقُوبَ مِنْ وَرَاءِ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، فَلَمَّا خَرَجَ أَوَائِلُهُمْ هَرَبَ أَصْحَابُهُ إِلَى مَدِينَةِ شِيرَازَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصِيرُونَ، إِذَا خَرَجَ يَعْقُوبُ وَأَصْحَابُهُ، بَيْنَ جَيْشِ يَعْقُوبَ وَالْمَضِيقِ، وَلَا يَجِدُونَ مَلْجَأً، فَانْهَزَمُوا، فَسَقَطَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ دَابَّتِهِ،

كَبَا بِهِ الْفَرَسُ، فَأُخِذَ أَسِيرًا، وَأُتِيَ بِهِ إِلَى يَعْقُوبَ، فَقَيَّدَهُ، وَأَخَذَ كُلَّ مَا فِي عَسْكَرِهِ، ثُمَّ رَحَلَ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَدَخَلَ شِيرَازَ لَيْلًا، فَلَمْ يَتَحَرَّكْ أَحَدٌ، فَلَمَّا أَصْبَحَ نَهَبَ أَصْحَابُهُ دَارَ عَلِيٍّ وَدُورَ أَصْحَابِهِ، وَأَخَذَ مَا فِي بُيُوتِ الْأَمْوَالِ، وَجَبَى الْخَرَاجَ وَرَجَعَ إِلَى سِجِسْتَانَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ جَرَى بَيْنَ يَعْقُوبَ الصَّفَّارِ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، بَعْدَ عُبُورِهِ النَّهْرَ، حَرْبٌ شَدِيدَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ جَمْعًا كَثِيرًا مِنَ الْمَوَالِي وَالْأَكْرَادِ وَغَيْرِهِمْ، بَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا بَيْنَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَعَبَّأَ أَصْحَابَهُ مَيْمَنَةً، وَمَيْسَرَةً، وَوَقَفَ هُوَ فِي الْقَلْبِ، وَأَقْبَلَ الصَّفَّارُ فَعَبَرَ النَّهْرَ، فَلَمَّا صَارَ مَعَ عَلَيٍّ عَلَى أَرْضٍ وَاحِدَةٍ حَمَلَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ حَمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى عَسْكَرِ عَلِيٍّ، فَثَبَتُوا لَهُمْ، ثُمَّ حَمَلَ ثَانِيَةً، فَأَزَالَهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ، وَصَدَقَهُمْ فِي الْحَرْبِ، فَانْهَزَمُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. وَتَبِعَهُمْ عَلِيٌّ يَصِيحُ بِهِمْ، وَيُنَاشِدُهُمُ اللَّهَ لِيَرْجِعُوا، أَوْ لِيَقِفُوا، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، وَقُتِلَ الرَّجَّالَةُ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَأَقْبَلَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى (بَابِ) شِيرَازَ مَعَ الْعَصْرِ، فَازْدَحَمُوا فِي الْأَبْوَابِ، فَتَفَرَّقُوا فِي نَوَاحِي فَارِسٍ، وَبَلَغَ بَعْضُهُمْ فِي هَزِيمَتِهِ إِلَى الْأَهْوَازِ. فَلَمَّا رَأَى الصَّفَّارُ مَا لَقُوا مِنَ الْقَتْلِ أَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ. وَكَانَ الْقَتْلَى خَمْسَةَ آلَافِ قَتِيلٍ، وَأَصَابَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ ثَلَاثُ جِرَاحَاتٍ، ثُمَّ أُخِذَ أَسِيرًا لَمَّا عَرَفُوهُ، وَدَخَلَ الصَّفَّارُ إِلَى شِيرَازَ، وَطَافَ بِالْمَدِينَةِ، وَنَادَى بِالْأَمَانِ فَاطْمَأَنَّ النَّاسُ، وَعَذَّبَ عَلِيًّا بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِ أَلْفَ بَدْرَةٍ، (وَقِيلَ: أَرْبَعُ مِائَةِ بَدْرَةٍ) وَمِنَ السِّلَاحِ وَالْأَفْرَاسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا لَا يُحَدُّ، وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِطَاعَتِهِ، وَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً جَلِيلَةً، مِنْهَا عَشْرَةُ بِيزَانٍ بِيضٍ، وَبَازٌ أَبْلَقُ صِينِيٌّ، وَمِائَةُ مَنٍّ مِسْكًا وَغَيْرَهَا مِنَ الطَّرَائِفِ، وَعَادَ إِلَى سِجِسْتَانَ وَمَعَهُ عَلِيٌّ، وَطَوْقٌ، تَحْتَ الِاسْتِظْهَارِ، فَلَمَّا فَارَقَ بِلَادَ فَارِسَ أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ عُمَّالَهُ إِلَيْهَا.

ذِكْرُ خَلْعِ الْمُعْتَزِّ وَمَوْتِهِ وَفِيهَا، فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ، خُلِعَ الْمُعْتَزُّ، وَلِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَعْبَانَ ظَهَرَ مَوْتُهُ. وَكَانَ سَبَبُ خَلْعِهِ أَنَّ الْأَتْرَاكَ لَمَّا فَعَلُوا بِالْكُتَّابِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَمْ يُحَصَّلْ مِنْهُمْ مَالٌ، سَارُوا إِلَى الْمُعْتَزِّ يَطْلُبُونَ أَرْزَاقَهُمْ، وَقَالُوا: أَعْطِنَا أَرْزَاقَنَا حَتَّى نَقْتُلَ صَالِحَ بْنَ وَصِيفٍ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِمْ، فَنَزَلُوا مَعَهُ إِلَى خَمْسِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَرْسَلَ الْمُعْتَزُّ إِلَى أُمِّهِ يَسْأَلُهَا أَنْ تُعْطِيَهُ مَالًا لِيُعْطِيَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ. فَلَمَّا رَأَى الْأَتْرَاكُ أَنَّهُمْ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِّ شَيْءٌ، وَلَا مِنْ أُمِّهِ، وَلَيْسَ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ، وَكَلِمَةُ الْمَغَارِبَةِ، وَالْفَرَاغِنَةِ، عَلَى خَلْعِ الْمُعْتَزِّ، فَسَارُوا إِلَيْهِ وَصَاحُوا، فَدَخَلَ إِلَيْهِ صَالِحٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بُغَا الْمَعْرُوفُ بِأَبِي نَصْرٍ، وَبَايَكْبَاكَ فِي السِّلَاحِ، فَجَلَسُوا عَلَى بَابِهِ، وَبَعَثُوا إِلَيْهِ أَنِ اخْرُجْ إِلَيْنَا، فَقَالَ: قَدْ شَرِبْتُ أَمْسِ دَوَاءً، وَقَدْ أَفْرَطَ فِي الْعَمَلِ، فَإِنْ كَانَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فَلْيَدْخُلْ بَعْضُكُمْ! وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ أَمْرَهُ وَاقِفٌ عَلَى حَالِهِ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، فَجَّرُوهُ بِرِجْلِهِ إِلَى بَابِ الْحُجْرَةِ، وَضَرَبُوهُ بِالدَّبَابِيسِ، وَخَرَقُوا قَمِيصَهُ، وَأَقَامُوهُ فِي الشَّمْسِ فِي الدَّارِ، فَكَانَ يَرْفَعُ رِجْلًا وَيَضَعُ أُخْرَى لِشِدَّةِ الْحَرِّ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَلْطِمُهُ وَهُوَ يَتَّقِي بِيَدِهِ، وَأَدْخَلُوهُ حُجْرَةً، وَأَحْضَرُوا ابْنَ أَبِي الشَّوَارِبِ وَجَمَاعَةً أَشْهَدُوهُمْ عَلَى خَلْعِهِ، وَشَهِدُوا عَلَى صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ أَنَّ لِلْمُعْتَزِّ وَأُمِّهِ وَوَلَدِهِ وَأُخْتِهِ الْأَمَانَ. وَكَانَتْ أُمُّهُ قَدِ اتَّخَذَتْ فِي دَارِهَا سَرَبًا، فَخَرَجَتْ مِنْهُ هِيَ وَأُخْتُ الْمُعْتَزِّ، وَكَانُوا أَخَذُوا عَلَيْهَا الطَّرِيقَ، (وَمَنَعُوا أَحَدًا يَجُوزُ إِلَيْهَا) ، وَسَلَّمُوا الْمُعْتَزَّ إِلَى مَنْ يُعَذِّبُهُ، فَمَنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَطَلَبَ حَسْوَةً مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ، فَمَنَعُوهُ، ثُمَّ أَدْخَلُوهُ سِرْدَابًا، وَجَصَّصُوا عَلَيْهِ، فَمَاتَ، فَلَمَّا مَاتَ أَشْهَدُوا عَلَى مَوْتِهِ بَنِي هَاشِمٍ وَالْقُوَّادَ، وَأَنَّهُ لَا أَثَرَ فِيهِ، وَدَفَنُوهُ مَعَ الْمُنْتَصِرِ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ مِنْ لَدُنْ بُويِعَ إِلَى أَنْ خُلِعَ أَرْبَعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا.

يَوْمًا، وَكَانَ عُمْرُهُ كُلُّهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَكَانَ أَبْيَضَ، أَسْوَدَ الشَّعْرِ، كَثِيفَهُ، حَسَنَ الْعَيْنَيْنِ وَالْوَجْهِ، أَحْمَرَ الْوَجْنَتَيْنِ، حَسَنَ الْجِسْمِ طَوِيلًا ; وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِسُرُّ مَنْ رَأَى، وَكَانَ فَصِيحًا، فَمِنْ كَلَامِهِ لَمَّا سَارَ الْمُسْتَعِينُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَقَدْ أَحْضَرَ جَمَاعَةً لِلرَّأْيِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَمَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذِهِ الْعِصَابَةِ الَّتِي ذَاعَ نِفَاقُهَا؟ الْهَمَجِ، الْعُصَاةِ، الْأَوْغَادِ الَّذِينَ لَا مِسْكَةَ بِهِمْ، وَلَا اخْتِيَارَ لَهُمْ، وَلَا تَمْيِيزَ مَعَهُمْ، قَدْ زَيَّنَ لَهُمْ تَقَحُّمَ الْخَطَأِ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ، فَهُمُ الْأَقَلُّونَ وَإِنْ كَثُرُوا، وَالْمُذَمُّونَ إِذَا ذُكِرُوا، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِقُوَّادِ الْجُيُوشِ، وَسَدِّ الثُّغُورِ، وَإِبْرَامِ الْأُمُورِ، وَتَدْبِيرِ الْأَقَالِيمِ إِلَّا رَجُلٌ قَدْ تَكَامَلَتْ فِيهِ خِصَالٌ أَرْبَعٌ: حَزْمٌ يَتَّقِي بِهِ عِنْدَ مَوَارِدِ الْأُمُورِ حَقَائِقَ مَصَادِرِهَا، وَعِلْمٌ يَحْجِزُهُ عَنِ التَّهَوُّرِ، وَالتَّغْرِيرِ فِي الْأَشْيَاءِ إِلَّا مَعَ إِمْكَانِ فُرْصَتِهَا، وَشَجَاعَةٌ لَا تَفُضُّهَا الْمُلِمَّاتُ مَعَ تَوَاتُرِ حَوَائِجِهَا، وُجُودٌ يُهَوِّنُ تَبْذِيرَ الْأَمْوَالِ عِنْدَ سُؤَالِهَا، وَسُرْعَةُ مُكَافَأَةِ الْإِحْسَانِ إِلَى صَالِحِ الْأَعْوَانِ، وَثِقَلُ الْوَطْأَةِ عَلَى أَهْلِ الزَّيْغِ وَالْعُدْوَانِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْحَوَادِثِ إِذْ لَا تُؤْمَنُ حَوَادِثُ الزَّمَانِ. وَأَمَّا الِاثْنَتَانِ فَإِسْقَاطُ الْحِجَابِ عَنِ الرَّعِيَّةِ، وَالْحُكْمُ بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ بِالسَّوِيَّةِ. وَأَمَّا الْوَاحِدَةُ فَالتَّيَقُّظُ لِلْأُمُورِ، وَقَدِ اخْتَرْتُ لَهُمْ رَجُلًا مِنْ مَوَالِي أَحَدِهِمْ شَدِيدَ الشَّكِيمَةِ، مَاضِيَ الْعَزِيمَةِ، لَا تُبْطِرُهُ السَّرَّاءُ، وَلَا تُدْهِشُهُ الضَّرَّاءُ، وَلَا يَهَابُ مَا وَرَاءَهُ، وَلَا يَهُولُهُ مَا يَلْقَاهُ، فَهُوَ كَالْحَرِيشِ فِي أَصْلِ الْإِسْلَامِ إِنْ حُرِّكَ حَمَلَ، وَإِنْ نَهَشَ قَتَلَ، عُدَّتُهُ عَتِيدَةٌ، وَنِعْمَتُهُ شَدِيدَةٌ، يَلْقَى الْجَيْشَ فِي النَّفَرِ الْقَلِيلِ الْعَدِيدِ، بِقَلْبٍ أَشَدَّ مِنَ الْحَدِيدِ، طَالِبٌ لِلثَّأْرِ لَا تَفُلُّهُ الْعَسَاكِرُ، بَاسِلُ الْبَأْسِ، وَمُقْتَضِبُ الْأَنْفَاسِ، لَا يَعُوزُهُ مَا طَلَبَ، وَلَا يَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ، وَارِي الزِّنَادِ مُضْطَلِعُ الْعِمَادِ، لَا تُشْرِهُهُ الرَّغَائِبُ، وَلَا تُعْجِزُهُ

النَّوَائِبُ، وَإِنْ وُلِّيَ كَفَى، وَإِنْ قَالَ وَفَى ; وَإِنْ نَازَلَ فَبَطَلٌ، وَإِنْ قَالَ فَعَلَ ; ظِلُّهُ لِوَلِيِّهِ ظَلِيلٌ، وَبَأْسُهُ فِي الْهِيَاجِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، يَفُوقُ مَنْ سَامَاهُ، وَيُعْجِزُهُ مَنْ نَاوَاهُ، وَيَتْعَبُ مَنْ جَارَاهُ، وَيَنْعِشُ مَنْ وَالَاهُ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُهْتَدِي وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ بُويِعَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْوَاثِقِ، وَلُقِّبَ بِالْمُهْتَدِي بِاللَّهِ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَأُمُّهُ رُومِيَّةٌ، وَكَانَتْ تُسَمَّى قُرْبَ، وَلَمْ يَقْبَلْ بَيْعَةَ أَحَدٍ، فَأَتَى بِالْمُعْتَزِّ فَخَلَعَ نَفْسَهُ، وَأَقَرَّ بِالْعَجْزِ عَمَّا أُسْنِدَ إِلَيْهِ، وَبِالرَّغْبَةِ فِي تَسْلِيمِهَا إِلَى ابْنِ الْوَاثِقِ، فَبَايَعَهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ. ذِكْرُ الشَّغَبِ بِبَغْدَاذَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ شَغَبَتِ الْعَامَّةُ بِبَغْدَاذَ سَلْخَ رَجَبٍ، وَوَثَبُوا بِسُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ كِتَابَ الْمُهْتَدِي وَرَدَ سَلْخَ رَجَبٍ إِلَى سُلَيْمَانَ يَأْمُرُهُ بِأَخْذِ الْبَيْعَةِ لَهُ ; وَكَانَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ الْمُعْتَزُّ قَدْ سَيَّرَهُ إِلَيْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ، فَأَرْسَلَ سُلَيْمَانُ إِلَيْهِ، فَأَخَذَهُ إِلَى دَارِهِ. وَسَمِعَ مَنْ بِبَغْدَاذَ مِنَ الْجُنْدِ وَالْعَامَّةِ بِأَمْرِ الْمُعْتَزِّ، فَاجْتَمَعُوا إِلَى بَابِ دَارِ سُلَيْمَانَ، فَقَاتَلَهُمْ أَصْحَابُهُ، وَقِيلَ لَهُمْ: مَا يَرِدُ عَلَيْنَا مِنْ سَامَرَّا خَبَرٌ، فَانْصَرَفُوا. وَرَجَعُوا الْغَدَ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، عَلَى ذَلِكَ، وَخُطِبَ لِلْمُعْتَزِّ بِبَغْدَاذَ، فَانْصَرَفُوا، وَبَكَّرُوا يَوْمَ السَّبْتِ، فَهَجَمُوا عَلَى دَارِ سُلَيْمَانَ، وَنَادَوْا بَاسِمِ أَبِي أَحْمَدَ، وَدَعَوْا إِلَى بَيْعَتِهِ، وَسَأَلُوا سُلَيْمَانَ أَنْ يُرِيَهُمْ أَبَا أَحْمَدَ، فَأَظْهَرَهُ لَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَصِيرَ إِلَى مَحَبَّتِهِمْ إِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُمْ مَا يُحِبُّونَ، فَانْصَرَفُوا بَعْدَ أَنْ أَكَّدُوا عَلَيْهِ فِي حِفْظِ أَبِي أَحْمَدَ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ سَامَرَّا مَالٌ فَفُرِّقَ فِيهِمْ، فَرَضُوا، وَبَايَعُوا لِلْمُهْتَدِي لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ وَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ.

ذِكْرُ ظُهُورِ قَبِيحَةَ أُمِّ الْمُعْتَزِّ قَدْ ذَكَرْنَا اسْتِتَارَهَا عِنْدَ قَتْلِ ابْنِهَا ; وَكَانَ السَّبَبُ فِي هَرَبِهَا وَظُهُورِهَا أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ وَاطَأَتِ النَّفَرَ مِنَ الْكُتَّابِ الَّذِينَ أَوْقَعَ بِهِمْ صَالِحٌ عَلَى الْفَتْكِ بِصَالِحٍ، فَلَمَّا أَوْقَعَ بِهِمْ، وَعَذَّبَهُمْ، عَلِمَتْ أَنَّهُمْ لَا يَكْتُمُونَ عَنْهُ شَيْئًا، فَأَيْقَنَتْ بِالْهَلَاكِ، فَعَمِلَتْ فِي الْخَلَاصِ، وَأَخْرَجَتْ مَا فِي الْخَزَائِنِ إِلَى خَارِجِ الْجَوْسَقِ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالْجَوَاهِرِ، وَغَيْرِهَا، فَأَوْدَعَتْهُ، وَاحْتَالَتْ، فَحَفَرَتْ سَرَبًا فِي حُجْرَةٍ لَهَا إِلَى مَوْضِعٍ يَفُوتُ التَّفْتِيشَ، فَلَمَّا خَرَجَتِ الْحَادِثَةُ عَلَى الْمُعْتَزِّ بَادَرَتْ فَخَرَجَتْ فِي ذَلِكَ السَّرَبِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الْمُعْتَزِّ طَلَبُوهَا فَلَمْ يَجِدُوهَا، وَرَأَوُا السَّرَبَ، فَخَرَجُوا مِنْهُ، فَلَمْ يَقِفُوا عَلَى خَبَرِهَا، وَبَحَثُوا عَنْهَا فَلَمْ يَظْفَرُوا بِهَا. ثُمَّ إِنَّهَا فَكَّرَتْ أَنَّ ابْنَهَا قُتِلَ، وَأَنَّ الَّذِي تَخْتَفِي عِنْدَهُ يَطْمَعُ فِي مَالِهَا وَفِي نَفْسِهَا، وَيَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى صَالِحٍ، (فَأَرْسَلَتِ امْرَأَةً عَطَّارَةً إِلَى صَالِحِ) بْنِ وَصِيفٍ، فَتَوَسَّطَتِ الْحَالَ بَيْنَهُمَا، وَظَهَرَتْ فِي رَمَضَانَ، وَكَانَتْ لَهَا أَمْوَالٌ بِبَغْدَاذَ، فَأَحْضَرَتْهَا، وَهِيَ مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَظَفِرُوا لَهَا بِخَزَائِنَ تَحْتَ الْأَرْضِ فِيهَا أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا دَارٌ تَحْتَ الْأَرْضِ، وَجَدُوا فِيهَا أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ وَثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَوَجَدُوا فِي سَفَطٍ قَدْرَ مَكُّوكٍ زُمُرُّدًا لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ، وَفِي سَفَطٍ آخَرَ مِقْدَارَ مَكُّوكٍ مِنَ اللُّؤْلُؤِ الْكِبَارِ ; وَفِي سَفَطٍ مِقْدَارَ كَيْلَجَةٍ مِنَ الْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ، فَحُمِلَ الْجَمِيعُ إِلَى صَالِحٍ، فَسَبَّهَا، وَقَالَ: عَرَّضَتِ ابْنَهَا لِلْقَتْلِ فِي خَمْسِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعِنْدَهَا هَذِهِ الْأَمْوَالُ كُلُّهَا! ثُمَّ سَارَتْ قَبِيحَةُ إِلَى مَكَّةَ، فَسُمِعَتْ وَهِيَ تَدْعُو بِصَوْتٍ عَالٍ عَلَى صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ، وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ أَخْزِ صَالِحًا كَمَا هَتَكَ سِتْرِي، وَقَتَلَ وَلَدِي، وَشَتَّتَ شَمْلِي، وَأَخَذَ مَالِي، وَغَرَّبَنِي عَنْ بَلَدِي، وَرَكِبَ الْفَاحِشَةَ مِنِّي، وَأَقَامَتْ بِمَكَّةَ. وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ سَمَّاهَا قَبِيحَةَ لِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا، كَمَا يُسَمَّى الْأَسْوَدُ كَافُورًا. قَالَ: وَكَانَتْ أَمُّ الْمُهْتَدِي قَدْ مَاتَتْ قَبْلَ اسْتِخْلَافِهِ، وَكَانَتْ تَحْتَ الْمُسْتَعِينِ، فَلَمَّا قُتِلَ جَعَلَهَا الْمُعْتَزُّ فِي قَصْرِ الرُّصَافَةِ، فَمَاتَتْ، فَلَمَّا وَلِيَ الْمُهْتَدِي قَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَيْسَ لِي أُمٌّ أَحْتَاجُ لَهَا غَلَّةَ عَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ لِجَوَارِيهَا، وَخَدَمِهَا، وَالْمُتَّصِلِينَ بِهَا، وَمَا أُرِيدُ إِلَّا

الْقُوتَ لِنَفْسِي وَوَلَدِي، وَمَا أُرِيدُ فَضْلًا إِلَّا لِإِخْوَتِي، فَإِنَّ الضَّائِقَةَ قَدْ مَسَّتْهُمْ. ذِكْرُ قَتْلِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْرَائِيلَ وَأَبِي نُوحٍ وَقِيلَ قُتِلَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ صَالِحٌ قَدْ عَذَّبَهُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَهُ وَأَخَذَ مَالَهُ وَمَالَ الْحَسَنِ بْنِ مَخْلَدٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِضَرْبِهِ وَضَرْبِ أَبِي نُوحٍ ضَرْبَ التَّلَفِ، كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ، فَمَاتَا وَدُفِنَا، وَبَقِيَ الْحَسَنُ بْنُ مَخْلَدٍ [فِي الْحَبْسِ] . وَلَمَّا بَلَغَ الْمُهْتَدِيَ ضَرْبُهُمَا قَالَ: أَمَا عُقُوبَةٌ إِلَّا السَّوْطُ وَالْقَتْلُ، أَمَا يَكْفِي الْحَبْسُ؟ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! يُكَرِّرُ ذَلِكَ مِرَارًا. ذِكْرُ وِلَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ بَغْدَاذَ وَشَغَبِ الْجُنْدِ وَالْعَامَّةِ بِهَا وَفِي رَمَضَانَ وَثَبَ عَامَّةُ بَغْدَاذَ وَجُنْدُهَا بِمُحَمَّدِ بْنِ أَوْسٍ الْبَلْخِيِّ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَوْسٍ قَدِمَ مِنْ خُرَاسَانَ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ عَلَى الْجَيْشِ الْقَادِمِينَ مِنْ خُرَاسَانَ، وَعَلَى الصَّعَالِيكِ الَّذِينَ مَعَهُمْ، وَلَمْ تَكُنْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي دِيوَانِ الْعِرَاقِ ; وَكَانَتِ الْعَادَةُ أَنْ يُقَامَ لِمَنْ يَقْدَمُ مِنْ خُرَاسَانَ بِالْعِرَاقِ مَا كَانَ لَهُمْ بِخُرَاسَانَ، وَيَكُونُ وَجْهُ ذَلِكَ مِنْ دَخْلِ ضِيَاعِ وَرَثَةِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَيُكْتَبُ إِلَى خُرَاسَانَ لِيُعْطَى الْوَرَثَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عِوَضَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِقُدُومِ سَلْمَانَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَمَصِيرِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، أَخَذَ مَا فِي بَيْتِ مَالِ الْوَرَثَةِ، وَأَخَذَ نُجُومًا لَمْ تَحِلَّ، وَسَارَ، فَأَقَامَ بِالْجُوَيْبِ، فِي شَرْقِيِّ دِجْلَةَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى غَرْبِيِّهَا، فَقَدِمَ سُلَيْمَانُ فَرَأَى بَيْتَ مَالِ الْوَرَثَةِ فَارِغًا، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، وَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مِنْ أَمْوَالِ جُنْدِ بَغْدَاذَ، وَتَحَرَّكَ الْجُنْدُ وَالشَّاكِرِيَّةُ فِي طَلَبِ الْأَرْزَاقِ. وَكَانَ الَّذِينَ قَدِمُوا مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ أَوْسٍ مِنْ خُرَاسَانَ قَدْ أَسَاءُوا مُجَاوَرَةَ أَهْلِ بَغْدَاذَ،

وَجَاهَرُوا بِالْفَاحِشَةِ، وَتَعَرَّضُوا لِلْحُرَمِ، وَالْغِلْمَانِ بِالْقَهْرِ، فَامْتَلَئُوا عَلَيْهِمْ غَيْظًا وَحَنَقًا، فَاتَّفَقَ الْعَامَّةُ مَعَ الْجُنْدِ، وَثَارُوا، وَأَتَوْا سِجْنَ بَغْدَاذَ، عِنْدَ بَابِ الشَّامِ، فَكَسَرُوا بَابَهُ، وَأَطْلَقُوا مَنْ فِيهِ، وَجَرَتْ حَرْبٌ بَيْنَ الْقَادِمِينَ مَعَ ابْنِ أَوْسٍ وَبَيْنَ أَهْلِ بَغْدَاذَ، فَعَبَرَ ابْنُ أَوْسٍ وَأَصْحَابُهُ وَأَوْلَادُهُ إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَتَصَايَحَ النَّاسُ: مَنْ أَرَادَ النَّهْبَ فَلْيَلْحَقْ بِنَا! فَقِيلَ إِنَّهُ عَبَرَ إِلَى الْجَزِيرَةِ مِنَ الْعَامَّةِ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ نَفْسٍ، وَأَتَاهُمُ الْجُنْدُ فِي السِّلَاحِ، فَهَرَبَ ابْنُ أَوْسٍ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَتَبِعَهُ النَّاسُ، فَتَحَارَبُوا نِصْفَ نَهَارٍ حَرْبًا شَدِيدَةً، وَجُرِحَ ابْنُ أَوْسٍ، وَانْهَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَتَبِعَهُمُ النَّاسُ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ مِنْ بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ، وَانْتَهَبُوا مَنْزِلَهُ وَجَمِيعَ مَا كَانَ فِيهِ، فَقِيلَ: كَانَ قِيمَةُ ذَلِكَ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَأَخَذُوا لَهُ مِنَ الْأَمْتِعَةِ مَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَنَهَبَ أَهْلُ بَغْدَاذَ مَنَازِلَ الصَّعَالِيكِ مِنْ أَصْحَابِهِ. فَأَرْسَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى ابْنِ أَوْسٍ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى خُرَاسَانَ، وَيُعْلِمُهُ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَرَحَلَ إِلَى النَّهْرَوَانِ، فَنَهَبَ وَأَفْسَدَ، ثُمَّ أَتَى بَايِكْبَاكَ التُّرْكِيَّ، كَتَبَ إِلَيْهِ وُلَاةُ طَرِيقِ خُرَاسَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. وَكَانَ مُسَاوِرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ قَدِ اسْتَخْلَفَ رَجُلًا اسْمُهُ مُوسَى بِالدَّسْكَرَةِ وَنَوَاحِيهَا، فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ، وَإِلَيْهِ مَا بَيْنَ حُلْوَانَ وَالسُّوسِ عَلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ وَبَطْنِ جُوخَى. وَفِيهَا أَمَرَ الْمُهْتَدِي بِإِخْرَاجِ الْقِيَانِ وَالْمُغَنِّينَ مِنْ سَامَرَّا، وَنَفَاهُمْ عَنْهَا، وَأَمَرَ أَيْضًا بِقَتْلِ السِّبَاعِ الَّتِي كَانَتْ بِدَارِ السُّلْطَانِ، وَطَرْدِ الْكِلَابِ، وَرَدَّ الْمَظَالِمَ، وَجَلَسَ لِلْعَامَّةِ، وَلَمَّا وَلِيَ كَانَتِ الدُّنْيَا كُلُّهَا بِالْفِتَنِ مَنْسُوخَةً. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مُفْلِحٍ عَلَى طَبَرِسْتَانَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مُفْلِحٌ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، فَحَارَبَ الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ الْعَلَوِيَّ، فَانْهَزَمَ الْحَسَنُ وَلَحِقَ بِالدَّيْلَمِ، وَدَخَلَ مُفْلِحٌ الْبَلَدَ، وَأَحْرَقَ مَنَازِلَ الْحَسَنِ، وَسَارَ إِلَى الدَّيْلَمِ فِي

طَلَبِهِ، ثُمَّ عَادَ عَنْ طَبَرِسْتَانَ بَعْدَ أَنْ دَخَلَهَا، وَهَزَمَ الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ الْعَلَوِيَّ، وَعَادَ مُوسَى بْنُ بُغَا مِنَ الرَّيِّ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قَبِيحَةَ أُمَّ الْمُعْتَزِّ لَمَّا رَأَتِ اضْطِرَابَ الْأَتْرَاكِ كَتَبَتْ إِلَى مُوسَى تَسْأَلُهُ الْقُدُومَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّلَتْ أَنْ يَصِلَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِطَ فِي وَلَدِهَا فَارِطٌ، فَعَزَمَ عَلَى الِانْصِرَافِ، وَكَتَبَ مُفْلِحٌ يَأْمُرُهُ بِالِانْصِرَافِ عَنْ طَبَرِسْتَانَ إِلَيْهِ بِالرَّيِّ، فَوَرَدَ كِتَابُهُ إِلَى مُفْلِحٍ وَهُوَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى أَرْضِ الدَّيْلَمِ فِي طَلَبِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيِّ، فَلَمَّا أَتَاهُ الْكِتَابُ رَجَعَ، فَأَتَاهُ مَنْ كَانَ هَرَبَ مِنَ الْحَسَنِ مِنْ أَهْلِ طَبَرِسْتَانَ، وَرَجَوُا الْعَوْدَ إِلَى بُيُوتِهِمْ، وَقَالُوا لَهُ: مَا سَبَبُ عَوْدِكَ؟ فَأَخْبَرَهُمْ بِكِتَابِ الْأَمِيرِ إِلَيْهِ يَعْزِمُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَهَيَّأْ لِمُوسَى الْمَسِيرُ عَنِ الرَّيِّ حَتَّى أَتَاهُ خَبَرُ قَتْلِ الْمُعْتَزِّ وَالْبَيْعَةِ لِلْمُهْتَدِي، فَبَايَعُوا الْمُهْتَدِي. ثُمَّ إِنَّ الْمَوَالِيَ الَّذِينَ مَعَ مُوسَى بَلَغَهُمْ مَا أَخَذَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ مِنْ أَمْوَالِ الْكُتَّابِ وَأَسْلَابِ الْمُعْتَزِّ، فَحَسَدُوا الْمُقِيمِينَ بِسَامَرَّا، فَدَعَوْا مُوسَى بْنَ بُغَا بِالِانْصِرَافِ، وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ مُفْلِحٌ وَهُوَ بِالرَّيِّ فَسَارَ نَحْوَ سَامَرَّا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُهْتَدِي يَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى الرَّيِّ وَلُزُومِ ذَلِكَ الثَّغْرِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يُعَرِّفَانِهِ ضِيقَ الْأَمْوَالِ عِنْدَهُ، وَيُحَذِّرَانِهِ غَلَبَةَ الْعَلَوِيِّينَ عَلَى مَا (يَجْعَلُهُ خَلْفَهُ) ، فَلَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ. وَكَانَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ يُعَظِّمُ عَلَى الْمُهْتَدِي انْصِرَافَهُ، وَيَنْسُبُهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْخِلَافِ، وَيَتَبَرَّأُ إِلَى الْمُهْتَدِي مِنْ فِعْلِهِ، وَلَمَّا أَتَى الرُّسُلُ مُوسَى ضَجَّ الْمَوَالِي، وَكَادُوا أَنْ يَثِبُوا بِالرُّسُلِ، وَرَدَّ مُوسَى الْجَوَابَ يَتَعَذَّرُ بِتَخَلُّفِ مَنْ مَعَهُ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِهِ دُونَ وُرُودِ بَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَحْتَجُّ بِمَا عَايَنَ الرُّسُلُ، وَأَنَّهُ إِنْ تَخَلَّفَ عَنْهُمْ قَتَلُوهُ، وَسَيَّرَ مَعَ الرُّسُلِ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَدِمُوا سَامَرَّا سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مُسَاوِرٍ عَلَى الْمَوْصِلِ لَمَّا انْهَزَمَ عَسْكَرُ الْمَوْصِلِ مِنْ مُسَاوِرٍ الْخَارِجِيِّ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، قَوِيَ أَمْرُهُ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، فَسَارَ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَقَصَدَ الْمَوْصِلَ، فَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا عِنْدَ الدَّيْرِ الْأَعْلَى، فَاسْتَتَرَ أَمِيرُ الْبَلَدِ مِنْهُ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، لِضَعْفِهِ عَنْ مُقَاتَلَتِهِ، وَلَمْ يَدْفَعْهُ أَهْلُ الْمَوْصِلِ أَيْضًا

(لِمَيْلِهِمْ إِلَى الْخِلَافِ) ، فَوَجَّهَ مُسَاوِرٌ جَمْعًا إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرِ الْبَلَدِ، فَأَحْرَقَهَا، وَدَخَلَ مُسَاوِرٌ الْمَوْصِلَ بِغَيْرِ حَرْبٍ، فَلَمْ يَعْرِضْ لِأَحَدٍ. وَحَضَرَتِ الْجُمُعَةُ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ، وَحَضَرَ النَّاسُ، أَوْ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَخَطَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْنَا، وَأَصْلِحْ وُلَاتَنَا! وَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ جَعَلَ إِبْهَامَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، ثُمَّ كَبَّرَ سِتَّ تَكَبِيرَاتٍ، ثُمَّ قَرَأَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمَّا خَطَبَ جَعَلَ عَلَى دَرَجِ الْمِنْبَرِ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يَحْرُسُهُ بِالسُّيُوفِ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ خَافَ مَنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ، ثُمَّ فَارَقَ الْمَوْصِلَ، وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى الْمُقَامِ بِهَا لِكَثْرَةِ أَهْلِهَا، وَسَارَ إِلَى الْحَدِيثَةِ ; لِأَنَّهُ كَانَ اتَّخَذَهَا دَارَ هِجْرَتِهِ. ذِكْرُ أَوَّلِ خُرُوجِ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَفِي شَوَّالٍ خَرَجَ فِي فُرَاتِ الْبَصْرَةِ رَجُلٌ، وَزَعَمَ أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ [بْنِ عَلِيِّ] بْنِ عِيسَى بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَمَعَ الزَّنْجَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْكُنُونَ السِّبَاخَ، وَعَبَرَ دِجْلَةَ، فَنَزَلَ الدِّينَارِيَّ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ اسْمُهُ، فِيمَا ذُكِرَ، عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، وَنَسَبُهُ فِي عَبْدِ الْقَيْسِ، وَأُمُّهُ ابْنَةُ عَلِيِّ بْنِ رَحِيبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ (مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ قُرَى الرَّيِّ، وَكَانَ يَقُولُ: جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ حَكِيمٍ) مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَحَدُ الْخَارِجِينَ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَعَ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَلَمَّا قُتِلَ زَيْدٌ هَرَبَ فَلَحِقَ بِالرَّيِّ، فَجَاءَ إِلَى قَرْيَةِ وَرْزَنِينَ وَأَقَامَ بِهَا. وَإِنَّ أَبَا أَبِيهِ عَبْدَ الرَّحِيمِ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، كَانَ مَوْلِدُهُ بِالطَّالَقَانِ، وَقَدِمَ الْعِرَاقَ، وَاشْتَرَى جَارِيَةً سِنْدِيَّةً، وَأَوْلَدَهَا مُحَمَّدًا أَبَاهُ، وَكَانَ مُتَّصِلًا قَبْلُ بِجَمَاعَةٍ مِنْ حَاشِيَةِ الْمُنْتَصِرِ، مِنْهُمْ غَانِمٌ الشَّطْرَنْجِيُّ، وَسَعِيدٌ الصَّغِيرُ، وَكَانَ مَعَاشُهُ مِنْهُمْ وَمِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ، وَكَانَ يَمْدَحُهُمْ وَيَسْتَمِيحُهُمْ بِشِعْرِهِ، (مِنْهُمْ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ) . ثُمَّ إِنَّهُ شَخَصَ مِنْ سَامَرَّا سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، فَادَّعَى بِهَا أَنَّهُ

عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَدَعَا النَّاسَ بِهَجَرَ إِلَى طَاعَتِهِ، فَاتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَهْلِهَا وَمِنْ غَيْرِهِمْ، فَجَرَى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ عَصَبِيَّةٌ قُتِلَ فِيهَا جَمَاعَةٌ. وَكَانَ أَهْلُ الْبَحْرَيْنِ قَدْ أَحَلُّوهُ بِمَحَلِّ نَبِيٍّ، وَجَبَى الْخَرَاجَ، وَنَفَذَ فِيهِمْ حُكْمُهُ، وَقَاتَلُوا أَصْحَابَ السُّلْطَانِ بِسَبَبِهِ، فَوَتَرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، فَتَنَكَّرُوا لَهُ، فَانْتَقَلَ عَنْهُمْ إِلَى الْأَحْسَاءِ، وَنَزَلَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ تَمِيمٍ، يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو الشَّمَّاسِ، وَأَقَامَ فِيهِمْ، وَفِي صُحْبَتِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْبَحْرَيْنِ مِنْهُمْ: يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْرَقُ الْبَحْرَانِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ، وَهُوَ قَائِدُ جَيْشِهِ. وَكَانَ يَنْتَقِلُ بِالْبَادِيَةِ، فَذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أُوتِيتُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ بِالْبَادِيَةِ آيَاتٍ مِنْ آيَاتِ إِمَامَتِي ظَاهِرَةً لِلنَّاسِ، مِنْهَا أَنِّي لُقِّنتُ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ، فَجَرَى بِهَا لِسَانِي فِي سَاعَةٍ، وَحَفِظْتُهَا فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، مِنْهَا: سُبْحَانَ، وَالْكَهْفُ، وَصَادْ، وَمِنْهَا أَنِّي فَكَّرْتُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَقْصِدُهُ حَيْثُ أَتَيْتُ فِي الْبِلَادِ، فَأَظَلَّتْنِي غَمَامَةٌ، وَخُوطِبْتُ مِنْهَا، فَقِيلَ لِي: اقْصِدِ الْبَصْرَةَ. وَقِيلَ عَنْهُ إِنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ: إِنَّهُ يَحْيَا بِهِ عُمَرُ الْعَلَوِيُّ أَبُو الْحَسَنِ الْمَقْتُولُ بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ، فَخَدَعَ أَهْلَهَا، فَأَتَاهُ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، فَزَحَفَ بِهِمْ إِلَى الرُّومِ، مِنَ الْبَحْرَيْنِ، كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، قُتِّلُوا قَتْلًا كَثِيرًا، فَتَفَرَّقَتِ الْعَرَبُ عَنْهُ. فَلَمَّا تَفَرَّقَتْ عَنْهُ سَارَ فَنَزَلَ الْبَصْرَةَ فِي بَنِي ضُبَيْعَةَ، فَاتَّبَعَهُ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ (كَبِيرَةٌ)

مِنْهُمْ: عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيُّ، وَكَانَ قُدُومُهُ الْبَصْرَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَجَاءٍ الْحَضَارِيُّ عَامِلُهَا، وَوَافَقَ ذَلِكَ فِتْنَةَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِالْبِلَالِيَّةِ، وَالسَّعْدِيَّةِ. وَطَمَعَ فِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَطَلَبَهُ ابْنُ رَجَاءٍ، فَهَرَبَ، فَحَبَسَ جَمَاعَةً مِمَّنْ كَانُوا يَمِيلُونَ إِلَيْهِ، مِنْهُمْ: ابْنُهُ، وَزَوْجَتُهُ، وَابْنَةٌ لَهُ، وَجَارِيَةٌ حَامِلٌ مِنْهُ. وَسَارَ يُرِيدُ بَغْدَاذَ، وَمَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَلْمٍ، وَيَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ، وَمُرْقُسُ الْقُرَيْعِيُّ، فَلَمَّا صَارَ بِالْبَطِيحَةِ نَذَرَ بِهِمْ (رَجُلٌ كَانَ يَلِي أَمْرَهَا، اسْمُهُ عُمَيْرُ بْنُ عَمَّارٍ، فَحَمَلَهُمْ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَوْفٍ عَامِلِ وَاسِطَ، فَخَلُصَ مِنْهُ) هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَدَخَلَ بَغْدَاذَ، فَأَقَامَ بِهَا حَوْلًا، فَانْتَسَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ زَيْدٍ، فَزَعَمَ بِهَا أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ آيَاتٌ عَرَفَ بِهَا مَا فِي ضَمَائِرِ أَصْحَابِهِ، وَمَا يَفْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَاسْتَمَالَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ بَغْدَاذَ مِنْهُمْ: جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصُّوحَانِيُّ مِنْ وَلَدِ يَزِيدَ بْنِ صُوحَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ، وَمُشْرِقٌ، وَرَقِيقٌ، غُلَامَا يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَسَمَّى مُشْرِقًا حَمْزَةَ، وَكَنَّاهُ أَبَا أَحْمَدَ، وَسَمَّى رَفِيقًا جَعْفَرًا، وَكَنَّاهُ أَبَا الْفَضْلِ. وَعُزِلَ مُحَمَّدُ بْنُ رَجَاءٍ عَنِ الْبَصْرَةِ، فَوَثَبَ رُؤَسَاءُ الْبِلَالِيَّةِ، وَالسَّعْدِيَّةِ، فَأَخْرَجُوا مَنْ فِي الْحُبُوسِ، فَخَلَصَ أَهْلُهُ فِيهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَلَاصُ أَهْلِهِ رَجَعَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَكَانَ رُجُوعُهُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ، وَيَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسُلَيْمَانُ، وَمَشْرِقٌ، وَرَقِيقٌ، فَوَافَوُا الْبَصْرَةَ، فَنَزَلَ بِقَصْرِ الْقُرَشِيِّ عَلَى نَهْرٍ يُعْرَفُ بِعَمُودِ ابْنِ الْمُنَجِّمِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ وَكِيلٌ لِوَلَدِ الْوَاثِقِ فِي بَيْعِ السَّبَخِ، فَأَقَامَ هُنَالِكَ.

وَذَكَرَ رَيْحَانُ أَحَدُ غِلْمَانِ السُّورَجِيِّينَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَحِبَهُ مِنْهُمْ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مُوَكَّلًا بِغِلْمَانِ مَوْلَايَ أَنْقُلُ لَهُمُ الدَّقِيقَ، فَأَخَذَنِي أَصْحَابُهُ، فَسَارُوا بِي إِلَيْهِ، وَأَمَرُونِي أَنْ أُسَلِّمَ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ، فَفَعَلْتُ، فَسَأَلَنِي عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي جِئْتُ مِنْهُ، فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي عَنْ أَخْبَارِ الْبَصْرَةِ، فَقُلْتُ: لَا عِلْمَ لِي ; وَسَأَلَنِي عَنْ غِلْمَانِ السُّرْجِيِّينَ، وَعَنْ أَحْوَالِهِمْ، وَمَا يَجْرِي لَهُمْ، فَأَعْلَمْتُهُ، فَدَعَانِي إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ: احْتَلْ فِيمَنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْغِلْمَانِ، وَأَقْبِلْ بِهِمْ إِلَيَّ، وَوَعَدَنِي أَنْ يَقُودَنِي عَلَى مَنْ آتِيهِ بِهِ، وَاسْتَحْلَفَنِي أَنْ لَا أُعْلِمَ أَحَدًا بِمَوْضِعِهِ، وَأَنْ أَرْجِعَ إِلَيْهِ، وَخَلَّى سَبِيلِي. وَعُدْتُ إِلَيْهِ مِنَ الْغَدَاةِ، وَقَدْ أَتَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ غِلْمَانِ الدَّبَّاسِينَ، فَكَتَبَ فِي حَرِيرَةٍ: " {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] الْآيَةَ ; وَجَعَلَهَا فِي رَأْسِ مُرْدِيٍّ، وَمَا زَالَ يَدْعُو غِلْمَانَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَيُقْبِلُونَ إِلَيْهِ لِلْخَلَاصِ مِنَ الرِّقِّ وَالتَّعَبِ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَخَطَبَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَقُودَهُمْ وَيُمَلِّكَهُمُ الْأَمْوَالَ، وَحَلَفَ لَهُمْ بِالْأَيْمَانِ أَنْ لَا يَغْدِرَ بِهِمْ، وَلَا يَخْذُلَهُمْ، وَلَا يَدَعُ شَيْئًا مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَّا أَتَى بِهِ إِلَيْهِمْ، فَأَتَاهُ مَوَالِيهِمْ، وَبَذَلُوا لَهُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ لِيُسْلِمَ إِلَيْهِ عَبْدَهُ، فَبَطَحَ أَصْحَابَهُمْ، وَأَمَرَ كُلَّ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَبِيدِ، فَضَرَبُوا مَوَالِيَهُمْ، أَوْ وَكِيلَهُمْ، كُلَّ سَيِّدٍ خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ، ثُمَّ أَطْلَقَهُمْ فَمَضَوْا نَحْوَ الْبَصْرَةِ. ثُمَّ رَكِبَ فِي سُفُنٍ هُنَاكَ، فَعَبَرَ دُجَيْلًا إِلَى نَهْرِ مَيْمُونٍ، فَأَقَامَ هُنَاكَ، وَلَمْ يَزَلْ هَذَا دَأْبُهُ يَتَجَمَّعُ إِلَيْهِ السُّودَانُ إِلَى يَوْمِ الْفِطْرِ، فَخَطَبَهُمْ، وَصَلَّى بِهِمْ، وَذَكَّرَهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْحَالِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْعَدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَرْفَعَ أَقْدَارَهُمْ، وَيُمَلِّكَهُمُ الْعَبِيدَ وَالْأَمْوَالَ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ رَأَى أَصْحَابُهُ الْحُمَيْرِيَّ، فَقَاتَلُوهُ حَتَّى أَخْرَجُوهُ مِنْ دِجْلَةَ،

وَاسْتَأْمَنَ إِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ رَجُلٌ (مِنْ رُؤَسَاءِ الزَّنْجِ) يُكَنَّى بِأَبِي صَالِحٍ، وَيُعْرَفُ بِالْقَصِيرِ، فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الزَّنْجِ، فَلَمَّا كَثُرُوا جَعَلَ الْقُوَّادَ فِيهِمْ مِنْهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: كُلُّ مَنْ أَتَى مِنْكُمْ بِرَجُلٍ فَهُوَ مَضْمُومٌ إِلَيْهِ. وَكَانَ ابْنُ عَوْنٍ قَدْ نُقِلَ مِنْ وَاسِطَ إِلَى وِلَايَةِ الْأُبُلَّةِ وَكُوَرِ دِجْلَةَ، وَسَارَ قَائِدُ الزَّنْجِ إِلَى الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَلَمَّا نَزَلَهَا وَافَاهُ أَصْحَابُ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ، فَصَاحَ الزَّنْجُ: السِّلَاحَ، وَقَامُوا، وَكَانَ فِيهِمْ فَتْحٌ الْحَجَّامُ، فَقَامَ وَأَخَذَ طَبَقًا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنَ السُّورَجِيِّينَ يُقَالُ لَهُ بُلْبُلٌ، فَلَمَّا رَآهُ فَتْحٌ حَمَلَ عَلَيْهِ، وَحَذَفَهُ بِالطَّبَقِ الَّذِي بِيَدِهِ، فَرَمَى سِلَاحَهُ وَوَلَّى هَارِبًا، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَكَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَمَاتَ بَعْضُهُمْ عَطَشًا، وَأَسَرَ مِنْهُمْ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ. ثُمَّ سَارَ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ، فَنَهَبَهَا أَصْحَابُهُ بِأَمْرِهِ، وَمَا زَالَ يَتَرَدَّدُ إِلَى أَنْهَارِ الْبَصْرَةِ، فَوَجَدَ بَعْضُ السُّودَانِ دَارًا لِبَعْضِ بَنِي هَاشِمٍ، فِيهَا سِلَاحٌ بِالسَّيْبِ، فَانْتَهَبُوهُ، فَصَارَ مَعَهُمْ مَا يُقَاتِلُونَ بِهِ، فَأَتَاهُ، وَهُوَ بِالسَّبَبِ، جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَاتِلُونَهُ، فَوَجَّهَ يَحْيَى بْنَ مُحَمَّدٍ فِي خَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ، فَلَقَوُا الْبَصْرِيِّينَ، فَانْهَزَمَ الْبَصْرِيُّونَ مِنْهُمْ، وَأَخَذُوا سِلَاحَهُمْ، ثُمَّ قَاتَلَ طَائِفَةً أُخْرَى عِنْدَ قَرْيَةٍ تُعْرَفُ بِقَرْيَةِ الْيَهُودِ، فَهَزَمَهُمْ أَيْضًا، وَأَثْبَتَ أَصْحَابَهُ فِي الصَّحْرَاءِ. ثُمَّ أَسْرَى إِلَى الْجَعْفَرِيَّةِ، فَوَضَعَ فِي أَهْلِهَا السَّيْفَ، فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَأَتَى مِنْهُمْ بِأَسْرَى فَأَطْلَقَهُمْ، وَلَقِيَ جَيْشًا كَبِيرًا لِلْبَصْرِيِّينَ مَعَ رَئِيسٍ اسْمُهُ عُقَيْلٌ، فَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ مَعَهُمْ سُفُنٌ، فَهَبَّتْ عَلَيْهَا رِيحٌ فَأَلْقَتْهَا إِلَى الشَّطِّ، فَنَزَلَ الزَّنْجُ وَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوا فِيهَا، وَغَنِمُوا مَا فِيهَا، وَكَانَ مَعَ الرَّئِيسِ (سُفُنٌ فَرَكِبَهَا وَنَجَا، فَأَنْفَذَ صَاحِبُ الزَّنْجِ فَأَخَذَهَا وَنَهَبَ مَا فِيهَا، ثُمَّ نَهَبَ) الْقَرْيَةَ الْمَعْرُوفَةَ بِالْمُهَلَّبِيَّةِ وَأَحْرَقَهَا، وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ وَعَاثَ. ثُمَّ لَقِيَهُ قَائِدٌ مِنْ قُوَّادِ الْأَتْرَاكِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو هِلَالٍ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ عَلَى نَهْرِ الرَّيَّانِ، فَاقْتَتَلُوا، وَحَمَلَ السُّودَانُ عَلَيْهِ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَقَتَلُوا صَاحِبَ عَلَمِهِ، فَانْهَزَمَ هُوَ

وَأَصْحَابُهُ، وَتَبِعَهُمُ السُّودَانُ، فَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هِلَالٍ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَسْرَى فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ. ثُمَّ إِنَّهُ أَتَاهُ مَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ الزَّيْنَبِيَّ قَدْ أَعَدَّ لَهُ الْخُيُولَ، وَالْمُتَطَوِّعَةَ، وَالْبِلَالِيَّةَ، وَالسَّعْدِيَّةَ، وَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ أَعَدُّوا الْحِبَالَ لِيُكَتَّفَ مَنْ يَأْخُذُونَهُ مِنَ السُّودَانِ، وَالْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ أَبُو مَنْصُورٍ، وَأَخَذَ مَوَالِيَ الْهَاشِمِيِّينَ، فَأَرْسَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ فِي مِائَةِ أَسْوَدَ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ، فَلَقِيَ طَائِفَةً مِنْهُمْ، فَهَزَمَهُمْ، وَصَارَ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْعَبِيدِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ. وَأَرْسَلَ طَائِفَةً أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَتَوْا إِلَى مَوْضِعٍ فِيهِ أَلْفٌ وَتِسْعُمِائَةِ سَفِينَةٍ، وَمَعَهَا مَنْ يَحُفُّهَا، فَلَمَّا رَأَوُا الزَّنْجَ هَرَبُوا عَنْهَا، فَأَخَذَ الزَّنْجُ السُّفُنَ وَأَتَوْا بِهَا إِلَى صَاحِبِهِمْ، فَلَمَّا أَتَوْهُ قَعَدَ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ. وَكَانَ فِي السُّفُنِ قَوْمٌ حُجَّاجٌ أَرَادُوا أَنْ يَسْلُكُوا طَرِيقَ الْبَصْرَةِ، فَنَاظَرَهُمْ، فَصَدَّقُوهُ عَلَى قَوْلِهِ، وَقَالُوا لَهُ: لَوْ كَانَ مَعَنَا فَضْلُ نَفَقَةٍ لَأَقَمْنَا مَعَكَ، فَأَطْلَقَهُمْ، وَأَرْسَلَ طَلِيعَةً تَأْتِيهِ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْعَسْكَرِ، فَأَتَاهُ خَبَرُهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ أَتَوْهُ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ، فَأَمَرَ مُحَمَّدَ بْنَ سَالِمٍ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ أَنْ يَقْعُدَا لَهُمْ بِالنَّخْلِ، وَقَعَدَ هُوَ عَلَى جَبَلٍ مُشْرِفٍ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَعَتِ الْأَعْلَامُ وَالرِّجَالُ، فَأَمَرَ الزَّنْجَ فَكَبَّرُوا، وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ، وَحَمَلَتِ الْخُيُولُ، فَتَرَاجَعَ الزَّنْجُ حَتَّى بَلَغُوا الْجَبَلَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، ثُمَّ حَمَلُوا، فَثَبَتُوا لَهُمْ، وَقُتِلَ مِنَ الزَّنْجِ فَتْحٌ الْحَجَّامُ، وَصَدَقَ الزَّنْجُ الْحَمْلَةَ، فَأَخَذُوهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَخَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمٍ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ، وَانْهَزَمَ النَّاسُ، وَذَهَبُوا كُلَّ مَذْهَبٍ، وَتَبِعَهَمُ السُّودَانُ إِلَى نَهْرِ بَيَانٍ، فَوَقَعُوا فِي الْوَحْلِ، فَقَتَلَهُمُ السُّودَانُ، وَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. وَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى الزُّنُوجِ بِأَنَّ لَهُمْ كَمِينًا، فَسَارُوا إِلَيْهِ، فَإِذَا الْكَمِينُ فِي (أَكْثَرِ مِنْ) أَلْفٍ مِنَ الْمَغَارِبَةِ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ حَمَلَ السُّودَانُ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلُوهُمْ أَجْمَعِينَ وَأَخَذُوا سِلَاحَهُمْ. ثُمَّ وَجَّهَ أَصْحَابَهُ فَرَأَوْا مِائَتَيْ سَفِينَةٍ فِيهَا دَقِيقٌ فَأَخَذُوهُ، وَمَتَاعًا فَنَهَبُوهُ، وَنَهَبَ الْمُعَلَّى بْنُ أَيُّوبَ ثُمَّ سَارَ، فَرَأَى مَسْلَحَةَ الزَّيْنَبِيَّ فَقَاتَلُوهُ، فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلَهُمْ أَجْمَعِينَ،

فَكَانُوا مِائَتَيْنِ، ثُمَّ سَارَ فَنَهَبَ قَرْيَةَ مَيْزَرَانَ، وَرَأَى فِيهَا جَمْعًا مِنَ الزَّنْجِ فَفَرَّقَهُمْ عَلَى قُوَّادِهِ ; ثُمَّ سَارَ، فَلَقِيَهُ سِتُّمِائَةِ فَارِسٍ مَعَ سُلَيْمَانَ ابْنِ أَخِي الزَّيْنَبِيِّ، وَلَمْ يُقَاتِلْهُ، فَأَرْسَلَ مَنْ يَنْهَبُ، فَأَتَوْهُ بِغَنَمٍ وَبَقَرٍ، فَذَبَحُوا وَأَكَلُوا، وَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ فِي انْتِهَابِ مَا هُنَاكَ. ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ الزَّنْجِ سَارَ يُرِيدُ الْبَصْرَةَ، حَتَّى إِذَا قَابَلَ النَّهْرَ الْمَعْرُوفَ بِالرِّيَاحِيِّ أَتَاهُ قَوْمٌ مِنَ السُّودَانِ فَأَعْلَمُوهُ أَنَّهُمْ رَأَوْا فِي الرِّيَاحِيِّ بَارِقَةً، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَادَى السُّودَانُ: السِّلَاحَ السِّلَاحَ، وَأَمَرَ عَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ بِالْعُبُورِ إِلَيْهِمْ، فَعَبَرَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ، وَقَالَ لَهُ: إِنِ احْتَجْتَ إِلَى مَدَدٍ فَاسْتَمِدَّنِي، فَلَمَّا مَضَى عَلِيٌّ صَاحَ الزَّنْجُ: السِّلَاحَ السِّلَاحَ، لِحَرَكَةٍ رَأَوْهَا فِي جِهَةٍ أُخْرَى، فَوَجَّهَ مُحَمَّدَ بْنَ سَالِمٍ، (فَرَأَى جَمْعًا، فَقَاتَلَهُمْ) مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ إِلَى آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ حَمَلَ الزُّنُوجُ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَهَزَمُوهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْأَعْرَابِ زُهَاءَ خَمْسِمِائَةٍ، وَرَجَعُوا إِلَى صَاحِبِهِمْ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ فِي أَصْحَابِهِ، وَقَدْ هَزَمُوا مَنْ بِإِزَائِهِمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ، وَمَعَهُ رَأْسُ ابْنِ أَبِي اللَّيْثِ الْبِلَالِيِّ الْقَوَارِيرِيِّ مِنْ أَعْيَانِ الْبِلَالِيَّةِ، ثُمَّ سَارَ مِنَ الْغَدِ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَنَهَى أَصْحَابَهُ عَنْ دُخُولِ الْبَصْرَةِ، فَتَسَرَّعَ بَعْضُهُمْ، فَلَقِيَهُمْ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ، وَانْتَهَى الْخَبَرُ إِلَيْهِ، فَوَجَّهَ مُحَمَّدَ بْنَ سَالِمٍ، (وَعَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ) ، وَمُشْرِقًا، وَخَلْقًا كَثِيرًا، وَجَاءَ هُوَ يُسَايِرُهُمْ فَلَقُوا الْبَصْرِيِّينَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِهِ لِيَتَأَخَّرُوا عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي هُمْ فِيهِ، فَتَرَاجَعُوا، فَأَكَبَّ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَانْهَزَمُوا، وَذَلِكَ عِنْدَ الْعَصْرِ، وَوَقَعَ الزُّنُوجُ فِي نَهْرٍ كَبِيرٍ، وَنَهْرِ شَيْطَانٍ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَغَرِقَ جَمَاعَةٌ، وَتَفَرَّقَ الْبَاقُونَ، وَتَخَلَّفَ صَاحِبُهُمْ عَنْهُمْ، وَبَقِيَ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَنَجَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ لَقِيَهُمْ وَهُمْ مُتَحَيِّرُونَ لِفَقْدِهِ، وَسَأَلَ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَإِذَا لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا خَمْسُمِائَةِ رَجُلٍ، فَأَمَرَ بِالنَّفْخِ فِي الْبُوقِ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ لِصَوْتِهِ، فَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ، وَكَانَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ قَدِ انْتَهَبُوا السُّفُنَ الَّذِي كَانَتْ لِلزُّنُوجِ، وَبِهَا مَتَاعُهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَأَى أَصْحَابَهُ فِي أَلْفِ رَجُلٍ، وَأَرْسَلَ مُحَمَّدَ بْنَ سَالِمٍ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَعِظُهُمْ، وَيُعْلِمُهُمْ مَا الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الْخُرُوجِ، فَقَتَلُوهُ.

فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ جَمَعَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَحَشَدُوا لَمَّا رَأَوْا مِنْ ظُهُورِهِمْ عَلَيْهِ، وَانْتُدِبَ لِذَلِكَ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِحِمَارٍ السَّاجِيِّ، وَكَانَ مِنْ غُزَاةِ الْبَحْرِ، وَلَهُ عِلْمٌ فِي رُكُوبِ السُّفُنِ، فَجَمَعَ الْمُتَطَوِّعَةَ، وَرُمَاةَ الْأَهْدَافِ، وَأَهْلَ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَمَنْ خَفَّ مَعَهُ مِنَ الْبِلَالِيَّةِ وَالسَّعْدِيَّةِ، وَمَنْ أَحَبَّ النَّظَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَشَحَنَ ثَلَاثَةَ مَرَاكِبَ، وَشَذَوَاتٍ مُقَابَلَةً، (وَجَعَلُوا يَزْدَحِمُونَ) ، وَمَضَى جُمْهُورُ النَّاسِ رَجَّالَةً، مِنْهُمْ مَنْ مَعَهُ سِلَاحٌ، وَمِنْهُ نَظَّارَةٌ، فَدَخَلَتِ الْمَرَاكِبُ فِي الْمَدِّ، وَالرَّجَّالَةُ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ. فَلَمَّا عَلِمَ صَاحِبُ الزَّنْجِ بِذَلِكَ وَجَّهَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَ زُرَيْقٍ الْأَصْبَهَانِيِّ، فِي شَرْقِيِّ النَّهْرِ، كَمِينًا، وَطَائِفَةً مَعَ شِبْلٍ، وَحُسَيْنٍ الْحَمَّامِيِّ، فِي غَرْبِيِّهِ كَمِينًا، وَأَمَرَ عَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ أَنْ يَلْقَى أَهْلَ الْبَصْرَةِ، وَأَنْ يَسْتَتِرَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ بِتِرَاسِهِمْ، وَلَا يُقَاتِلَ حَتَّى تَظْهَرَ أَصْحَابُهُ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْكَمِينَيْنِ، إِذْ جَاوَزَهُمْ أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَنْ يَخْرُجُوا، وَيَصِيحُوا بِالنَّاسِ، وَبَقِيَ هُوَ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ هَالَهُ مَا رَأَى مِنْ كَثْرَةِ الْجَمْعِ، فَسَارَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهِمْ، وَظَهَرَ الْكَمِينَانِ مِنْ جَانِبَيِ النَّهْرِ وَمِنْ وَرَاءِ السُّفُنِ، وَالرَّجَّالَةِ، فَضَرَبُوا مَنْ وَلَّى مِنَ الرَّجَّالَةِ وَالنَّظَّارَةِ، فَغَرِقَتْ طَائِفَةٌ، وَقُتِلَتْ طَائِفَةٌ، وَهَرَبَ الْبَاقُونَ إِلَى الشَّطِّ، فَأَدْرَكَهُمُ السَّيْفُ، فَمَنْ ثَبَتَ قُتِلَ، وَمَنْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ غَرِقَ، فَهَلَكَ أَكْثَرُ ذَلِكَ الْجَمْعِ، فَلَمْ يَنْجُ إِلَّا الشَّرِيدُ، وَكَثُرَ الْمَفْقُودُونَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَعَلَا الْعَوِيلُ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَهَذَا يَوْمُ الْبَيْدَاءِ الَّذِي أَعْظَمَهُ النَّاسُ. وَكَانَ فِيمَنْ قُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ لَا يُحْصَى، وَجُمِعَتْ لِلْخَبِيثِ الرُّءُوسُ، فَأَتَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِينَ، فَأَعْطَاهُمْ مَا عَرَفُوا، وَجَمَعَ الرُّءُوسَ الَّتِي لَمْ تُطْلَبْ، وَجَعَلَهَا فِي خَزِينَةٍ، فَأَطْلَقَهَا فَوَافَتِ الْبَصْرَةَ، فَجَاءَ النَّاسُ وَأَخَذُوا كُلَّ مَا عَرَفُوهُ مِنْهَا، وَقَوِيَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ، وَتَمَكَّنَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْهُ، وَأَمْسَكُوا عَنْ حَرْبِهِ.

وَكَتَبَ النَّاسُ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِخَبَرِ مَا كَانَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ جُعْلَانُ التُّرْكِيُّ مَدَدًا، وَأَمَرَ أَبَا الْأَحْوَصِ الْبَاهِلِيَّ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْأُبُلَّةِ وَالِيًا، وَأَمَدَّهُ بِقَائِدٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ. وَأَمَّا الْخَبِيثُ صَاحِبُ الزَّنْجِ فَإِنَّهُ انْصَرَفَ بِأَصْحَابِهِ إِلَى سَبْخَةٍ فِي آخِرِ النَّهَارِ، وَهِيَ سَبْخَةُ أَبِي قُرَّةَ، وَبَثَّ أَصْحَابَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا لِلْغَارَةِ وَالنَّهْبِ، فَهَذَا مَا كَانَ مِنْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ وَبَيْنَ مُسَاوِرٍ الشَّارِيِّ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ. وَفِيهَا مَاتَ الْمُعَلَّى بْنُ أَيُّوبَ. وَفِيهَا وَلِيَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ بَغْدَاذَ وَالسَّوَادَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ قُدُومُهُ مِنْ خُرَاسَانَ فِيهِ أَيْضًا، فَسَارَ إِلَى الْمُعْتَزِّ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ: مَنْ عَذِيرِي مِنَ الْخَلَائِقِ ضَلُّوا ... فِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (عَوَّضُوهُ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ بِغَدَا ... ذَ كَأَنْ قَدْ أَتَى بِفَتْحٍ جَلِيلِ مَنْ يَخُوضُ الرَّدَى إِذَا كَانَ مَنْ فَ ... رَّ أَثَابُوهُ بِالْجَزَاءِ الْجَمِيلِ ) يَعْنِي هَزِيمَةَ سُلَيْمَانَ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيِّ. وَفِيهَا أَخَذَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ أَحْمَدَ بْنَ إِسْرَائِيلَ، وَالْحَسَنَ بْنَ مَخْلَدٍ، وَأَبَا نُوحٍ عِيسَى بْنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَيَّدَهُمْ، وَطَالَبَهُمْ بِالْأَمْوَالِ.

وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ الْأَتْرَاكَ طَلَبُوا أَرْزَاقَهُمْ، فَقَالَ صَالِحٌ لِلْمُعْتَزِّ: هَؤُلَاءِ يَطْلُبُونَ أَرْزَاقَهُمْ، وَلَيْسَ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، وَقَدْ ذَهَبَ هَؤُلَاءِ الْكُتَّابُ بِالْأَمْوَالِ، وَكَانَ أَحْمَدُ وَزِيرُ الْمُعْتَزِّ، وَالْحُسَيْنُ وَزِيرُ أُمِّ الْمُعْتَزِّ، وَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْرَائِيلَ: يَا عَاصِي ابْنَ الْعَاصِي، فَتَرَاجَعَا الْكَلَامَ، فَسَقَطَ صَالِحٌ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَرَشَّ عَلَى وَجْهِهِ الْمَاءَ. وَبَلَغَ ذَلِكَ أَصْحَابَهُ، وَهُمْ بِالْبَابِ، فَصَاحُوا صَيْحَةً وَاحِدَةً، وَاخْتَرَطُوا سُيُوفَهُمْ، وَدَخَلُوا عَلَى الْمُعْتَزِّ، فَدَخَلَ وَتَرَكَهُمْ، وَأَخَذَ صَالِحٌ أَحْمَدَ بْنَ إِسْرَائِيلَ، وَابْنَ مَخْلَدٍ، وَعِيسَى، فَأَثْقَلَهُمْ بِالْحَدِيدِ، وَحَمَلَهُمْ إِلَى دَارِهِ، فَقَالَ الْمُعْتَزُّ لِصَالِحٍ، قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَهُمْ: هَبْ لِي أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ كَاتِبِي، فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ ضَرَبَهُمْ، وَأَخَذَ خُطُوطَهُمْ بِمَالٍ جَزِيلٍ قُسِّطَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وَقَامَ جَعْفَرُ بْنُ مَحْمُودٍ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، ظَهَرَ عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ الْحَسَنِيَّانِ بِالْكُوفَةِ، فَقَتَلَا بِهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى. وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ حُبِسَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ الْقَاضِي، وَوُلِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَائِلٍ الْبَصْرِيُّ قَضَاءَ سَامَرَّا فِي ذِي الْحَجَّةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَلِيُّ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ. وَفِيهَا ظَهَرَ بِمِصْرَ إِنْسَانٌ عَلَوِيٌّ ذُكِرَ أَنَّهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَبَاطَبَا، وَكَانَ ظُهُورُهُ بَيْنَ بُرْقَةَ، وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَسَارَ إِلَى الصَّعِيدِ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، وَادَّعَى الْخِلَافَةَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ جَيْشًا، فَقَاتَلُوهُ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ، وَثَبَتَ هُوَ فَقُتِلَ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى مِصْرَ.

[الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا تُوُفِّيَ خَفَاجَةُ بْنُ سُفْيَانَ أَمِيرُ صِقِلِّيَةَ فِي رَجَبٍ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَمَّا وَلِيَ مُحَمَّدٌ سَيَّرَ عَمَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سُفْيَانَ إِلَى سَرَقُوسَةَ، فَأَهْلَكَ زَرْعَهَا وَعَادَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو أَحْمَدَ عُمَرُ بْنُ شِمْرِ بْنِ حَمْدُوَيْهِ الْهَرَوِيُّ اللُّغَوِيُّ، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْأَشْعَارِ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، وَالرِّيَاشِيِّ، وَغَيْرِهِمَا) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ كَرَّامِ بْنِ عَرَّافِ بْنِ حِزَابَةَ بْنِ الْبَرَاءِ، صَاحِبُ الْمَقَالَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي التَّشْبِيهِ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِالشَّامِ، وَهُوَ مِنْ سِجِسْتَانَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ

قَاضِي مَكَّةَ، وَكَانَ سَقَطَ مِنْ سَطْحٍ، فَمَكَثَ يَوْمَيْنِ وَمَاتَ، وَكَانَ عُمْرُهُ أَرْبَعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، صَاحِبُ الْمُسْنَدِ، تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحَجَّةِ وَعُمْرُهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَأَبُو عُثْمَانَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ، وَهُوَ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ. وَعَلِيُّ بْنُ الْمُثَنَّى بْنِ يَحْيَى بْنِ عِيسَى الْمَوْصِلِيُّ وَالِدُ أَبِي يَعْلَى صَاحِبِ الْمُسْنَدِ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدٌ سَحْنُونٌ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ الْقَيْرَوَانِيُّ بِهَا) .

ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ] 256 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ وُصُولِ مُوسَى بْنِ بُغَا إِلَى سَامَرَّا وَاخْتِفَاءِ صَالِحٍ وَفِيهَا فِي ثَانِي عَشَرَ الْمُحَرَّمِ دَخَلَ مُوسَى بْنُ بُغَا إِلَى سَامَرَّا وَقَدْ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ، وَاخْتَفَى صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ، وَسَارَ مُوسَى إِلَى الْجَوْسَقِ، وَالْمُهْتَدِي جَالِسٌ لِلْمَظَالِمِ، فَأُعْلِمَ بِمَكَانِ مُوسَى، فَأَمْسَكَ سَاعَةً عَنِ الْإِذْنِ لَهُ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ، فَدَخَلُوا، فَتَنَاظَرُوا، وَأَقَامُوا الْمُهْتَدِيَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَحَمَلُوهُ عَلَى دَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّ الشَّاكِرِيَّةِ، وَانْتَهَبُوا مَا كَانَ فِي الْجَوْسَقِ، وَأَدْخَلُوا الْمُهْتَدِيَ دَارَ يَاجُورَ. وَكَانَ سَبَبُ أَخْذِهِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّمَا سَبَبُ هَذِهِ الْمُطَاوَلَةِ (حِيلَةٌ عَلَيْكُمْ) حَتَّى يَكْبِسَكُمْ صَالِحٌ بِجَيْشِهِ ; فَخَافُوا مِنْ ذَلِكَ، فَأَخَذُوهُ، فَلَمَّا أَخَذُوهُ قَالَ لِمُوسَى بْنِ بُغَا: اتَّقِ اللَّهَ، وَيْحَكَ، فَإِنَّكَ قَدْ رَكِبْتَ أَمْرًا عَظِيمًا ; فَقَالَ لَهُ مُوسَى: وَتُرْبَةِ الْمُتَوَكِّلِ مَا نُرِيدُ إِلَّا خَيْرًا ; وَلَوْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا لَقَالَ وَتُرْبَةِ الْمُعْتَصِمِ وَالْوَاثِقِ، ثُمَّ أَخَذُوا عَلَيْهِ الْعُهُودَ أَنْ لَا يُمَايِلَ صَالِحًا، وَلَا يُضْمِرَ لَهُمْ إِلَّا مِثْلَ مَا يُظْهِرُ ; ثُمَّ جَدَّدُوا لَهُ الْبَيْعَةَ، ثُمَّ أَصْبَحُوا، وَأَرْسَلُوا إِلَى صَالِحٍ لِيَحْضُرَ وَيُطَالِبُوهُ بِدِمَاءِ الْكُتَّابِ، وَالْأَمْوَالِ الَّتِي لِلْمُعْتَزِّ وَأَسْلَابِهِ، فَوَعَدَهُمْ ; فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ رَأَى أَنَّ أَصْحَابَهُ قَدْ تَفَرَّقُوا وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا بَعْضُهُمْ، فَهَرَبَ وَاخْتَفَى.

ذِكْرُ قَتْلِ صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ وَفِيهَا قُتِلَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ الْمُهْتَدِيَ لَمَّا كَانَ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ أَظْهَرَ كِتَابًا زَعَمَ أَنَّ امْرَأَةً دَفَعَتْهُ إِلَى سِيمَا الشَّرَابِيِّ، وَقَالَتْ: إِنَّ فِيهِ نَصِيحَةً، وَإِنَّ مَنْزِلَهَا بِمَكَانِ كَذَا، فَإِنْ طَلَبُونِي فَأَنَا فِيهِ. وَطُلِبَتِ الْمَرْأَةُ فَلَمْ تُوجَدْ. وَقِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَدْرِ مَنْ أَلْقَى الْكِتَابَ. وَدَعَا الْمُهْتَدِي الْقُوَّادَ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ وَهْبٍ، فَأَرَاهُمُ الْكِتَابَ، فَزَعَمَ سُلَيْمَانُ أَنَّهُ خَطُّ صَالِحٍ، فَقَرَأَهُ عَلَى الْقُوَّادِ، فَإِذَا فِيهِ أَنَّهُ مُسْتَخْفٍ بِسَامَرَّا، وَإِنَّمَا اسْتَتَرَّ طَلَبًا لِلسَّلَامَةِ وَإِبْقَاءِ الْمُوَالِي، وَطَلَبًا لِانْقِطَاعِ الْفِتَنِ، وَذَكَرَ مَا صَارَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ الْكُتَّابِ، وَأُمِّ الْمُعْتَزِّ، وَجِهَةَ خُرُوجِهَا، وَيَدُلُّ فِيهِ عَلَى قُوَّةِ نَفْسِهِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ قِرَاءَتِهِ وَصَلَهُ الْمُهْتَدِي بِالْحَثِّ عَلَى الصُّلْحِ، وَالِاتِّفَاقِ، وَالنَّهْيِ عَنِ التَّبَاغُضِ وَالتَّبَايُنِ، فَاتَّهَمَهُ الْأَتْرَاكُ بِأَنَّهُ يَعْرِفُ مَكَانَ صَالِحٍ وَيَمِيلُ إِلَيْهِ، وَطَالَ الْكَلَامُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ اجْتَمِعُوا بِدَارِ مُوسَى بْنِ بُغَا دَاخِلَ الْجَوْسَقِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى خَلْعِ الْمُهْتَدِي، فَقَالَ لَهُمْ بَايِكْبَاكُ: إِنَّكُمْ قَتَلْتُمُ ابْنَ الْمُتَوَكِّلِ، وَهُوَ حَسَنُ الْوَجْهِ، سَخِيُّ الْكَفِّ، فَاضِلُ النَّفْسِ، وَتُرِيدُونَ قَتْلَ هَذَا، وَهُوَ مُسْلِمٌ يَصُومُ وَلَا يَشْرَبُ النَّبِيذَ، مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ! وَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمْ هَذَا لَأَلْحَقَنَّ بِخُرَاسَانَ (لِأُشِيعَ أَمْرَكُمْ هُنَاكَ) . فَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالْمُهْتَدِي، فَتَحَوَّلَ مِنْ مَجْلِسِهِ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا، وَقَدْ لَبِسَ ثِيَابًا نِظَافًا وَتَطَيَّبَ، ثُمَّ أَمَرَ بِإِدْخَالِهِمْ عَلَيْهِ، فَدَخَلُوا فَقَالَ لَهُمْ: بَلَغَنِي مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَلَسْتُ كَمَنْ تَقَدَّمَنِي مِثْلَ الْمُسْتَعِينِ، وَالْمُعْتَزِّ، وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ إِلَيْكُمْ إِلَّا وَأَنَا مُتَحَنِّطٌ، وَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى أَخِي بِوَلَدِي، وَهَذَا سَيْفِي وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ بِهِ مَا اسْتَمْسَكَ قَائِمُهُ بِيَدِي، وَاللَّهِ لَئِنْ سَقَطَ مِنِّي شَعْرَةٌ لِيَهْلِكَنَّ وَلَيَذْهَبَنَّ أَكْثَرُكُمْ. كَمْ هَذَا الْخِلَافُ عَلَى الْخُلَفَاءِ، وَالْإِقْدَامُ، وَالْجُرْأَةُ عَلَى اللَّهِ! سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ مَنْ قَصَدَ الْإِبْقَاءَ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ كَانَ إِذَا بَلَغَهُ هَذَا مِنْكُمْ دَعَا بِالنَّبِيذِ فَشَرِبَهُ مَسْرُورًا بِمَكْرُوهِكُمْ،

حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ دُنْيَاكُمْ، أَمَا إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَّصِلِينَ بِكُمْ أَيْسَرُ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِي وَوَلَدِي (سَوْأَةٌ لَكُمْ) ، يَقُولُونَ: إِنِّي أَعْلَمُ بِمَكَانِ صَالِحٍ، وَهَلْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْمَوَالِي؟ فَكَيْفَ الْإِقَامَةُ مَعَهُ إِذَا سَاءَ رَأْيُكُمْ فِيهِ؟ وَإِذَا أَبْرَمْتُمُ الصُّلْحَ فِيهِ كَانَ (ذَلِكَ مَا أُنْفِذُهُ لِجَمِيعِكُمْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَشَأْنَكُمْ، وَاطْلُبُوا صَالِحًا، وَأَمَّا أَنَا فَمَا أَعْلَمُ مَكَانَهُ) . قَالُوا: فَاحْلِفْ لَنَا عَلَى ذَلِكَ! قَالَ: أَمَّا الْيَمِينُ فَنَعَمْ، وَلَكِنَّهَا تَكُونُ بِحَضْرَةِ بَنِي هَاشِمٍ، وَالْقُضَاةِ غَدًا إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ ; ثُمَّ قَالَ لِبَايِكْبَاكَ وَلِمُحَمَّدِ بْنِ بُغَا: قَدْ حَضَرْتُمَا مَا عَمِلَهُ صَالِحٌ فِي أَمْوَالِ الْكُتَّابِ، وَأُمِّ الْمُعْتَزِّ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَدْ أَخَذْتُمَا مِثْلَهُ، فَأَحْفَظَهُمَا ذَلِكَ، ثُمَّ أَرَادُوا خَلْعَهُ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُمْ خَوْفُ الِاضْطِرَابِ وَقِلَّةُ الْأَمْوَالِ، فَأَتَاهُمْ مَالٌ مِنْ فَارِسٍ عَشَرَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَخَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا كَانَ سَلْخُ الْمُحَرَّمِ انْتَشَرَ الْخَبَرُ فِي الْعَامَّةِ أَنَّ الْقَوْمَ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى خَلْعِ الْمُهْتَدِي وَالْفَتْكِ بِهِ، وَأَنَّهُمْ قَدْ أَرْهَقُوهُ، وَكَتَبُوا الرِّقَاعَ وَرَمَوْهَا فِي الطُّرُقِ وَالْمَسَاجِدِ، مَكْتُوبٌ فِيهَا: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ادْعُوا اللَّهَ لِخَلِيفَتِكُمُ الْعَدْلِ، الرِّضَا، الْمُضَاهِي لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ عَلَى عَدُوِّهِ، وَيَكْفِيَهُ مَئُونَةَ ظَالِمِهِ، وَتَتِمَّ النِّعْمَةُ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِبَقَائِهِ، فَإِنَّ الْأَتْرَاكَ قَدْ أَخَذُوهُ بِأَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ، وَهُوَ يُعَذَّبُ مُنْذُ أَيَّامٍ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ صَفَرٍ تَحَرَّكَ الْمَوَالِي بِالْكَرْخِ وَالدُّورِ، وَبَعَثُوا إِلَى الْمُهْتَدِي، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بَعْضَ إِخْوَتِهِ لِيُحَمِّلُوهُ رِسَالَةً، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ أَخَاهُ أَبَا الْقَاسِمِ عَبْدَ اللَّهِ، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّهُمْ سَامِعُونَ مُطِيعُونَ، وَأَنَّهُمْ بَلَغَهُمْ أَنَّ مُوسَى، وَجَمَاعَةً مَعَهُ يُرِيدُونَهُ عَلَى الْخَلْعِ، وَأَنَّهُمْ يَبْذُلُونَ دِمَاءَهُمْ دُونَ ذَلِكَ (وَمَا هُمْ دُونَ ذَلِكَ) ، وَشَكَوْا تَأَخُّرَ أَرْزَاقِهِمْ، وَمَا صَارَ مِنَ الْأَقْطَاعِ، وَالزِّيَادَاتِ، وَالرُّسُومِ إِلَى قُوَّادِهِمُ الَّتِي قَدْ أَجْحَفَتْ بِالْخَرَاجِ وَالضِّيَاعِ، مَا قَدْ أَخَذُوا النِّسَاءَ وَالدُّخَلَاءَ، فَكَتَبُوا بِذَلِكَ كِتَابًا، فَحَمَلَهُ

إِلَى الْمُهْتَدِي وَكَتَبَ جَوَابَهُ بِخَطِّهِ: قَدْ فَهِمْتُ كِتَابَكُمْ، وَسَرَّنِي مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ طَاعَتِكُمْ، فَأَحْسَنَ اللَّهُ جَزَاءَكُمْ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ خَلَّتِكُمْ وَحَاجَتِكُمْ فَعَزِيزٌ عَلَيَّ ذَلِكَ، وَلَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنَّ صَلَاحَكُمْ يُهَيَّأُ بِأَنْ لَا آكُلَ وَلَا أَشْرَبَ وَلَا أُطْعِمَ وَلَدِي إِلَّا الْقُوتَ، وَلَا أَكْسُوَهُ) إِلَّا سَتْرَ الْعَوْرَةِ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا صَارَ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْإِقْطَاعَاتِ وَغَيْرِهَا فَأَنَا أَنْظُرُ فِي ذَلِكَ وَأُصَرِّفُهُ إِلَى مَحَبَّتِكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَرَءُوا الْكِتَابَ وَكَتَبُوا، بَعْدَ الدُّعَاءِ، يَسْأَلُونَ أَنْ يَرُدَّ الْأُمُورَ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ مُعْتَرِضٌ، وَأَنْ يَرُدَّ رُسُومَهُمْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَيَّامَ الْمُسْتَعِينِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى كُلِّ تِسْعَةٍ عَرِيفٌ، وَعَلَى كُلِّ خَمْسِينَ خَلِيفَةٌ، وَعَلَى كُلِّ مِائَةٍ قَائِدٌ، وَأَنْ يُسْقِطَ النِّسَاءَ وَالزِّيَادَاتِ، وَلَا يَدْخُلَ مَوْلًى فِي مَالِهِ وَلَا غَيْرُهُ، وَأَنْ يُوضَعَ لَهُمُ الْعَطَاءُ كُلَّ شَهْرَيْنِ، وَأَنْ تُبْطَلَ الْإِقْطَاعَاتُ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ سَائِرُونَ إِلَى بَابِهِ لِيَقْضِيَ حَوَائِجَهُمْ، وَإِنْ بَلَغَهُمْ أَنَّ أَحَدًا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ أَخَذُوا رَأْسَهُ، وَإِنْ سَقَطَ مِنْ رَأْسِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ شَعْرَةٌ قَتَلُوا بِهَا مُوسَى بْنَ بُغَا وَبَايِكْبَاكَ وَيَاجُورَ وَغَيْرَهُمْ. وَأَرْسَلُوا الْكِتَابَ مَعَ أَبِي الْقَاسِمِ، وَتَحَوَّلُوا إِلَى سَامَرَّا، فَاضْطَرَبَ الْقُوَّادُ جِدًّا ; وَقَدْ كَانَ الْمُهْتَدِي قَعَدَ لِلْمَظَالِمِ، وَعِنْدَهُ الْفُقَهَاءُ، وَالْقُضَاةُ، وَقَامَ الْقُوَّادُ فِي مَرَاتِبِهِمْ، فَدَخَلَ أَبُو الْقَاسِمِ إِلَيْهِ بِالْكِتَابِ، فَقَرَأَهُ لِلْقُوَّادِ قِرَاءَةً ظَاهِرَةً، وَفِيهِمْ مُوسَى، وَكَتَبَ جَوَابَهُ بِخَطِّهِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا، وَدَفَعَهُ إِلَى أَبِي الْقَاسِمِ، فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ لِمُوسَى بْنِ بُغَا، وَبَايِكْبَاكَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ بُغَا: وَجِّهُوا مَعِي رُسُلًا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِمْ عَنْكُمْ ; فَوَجَّهُوا مَعَهُ رُسُلًا، فَوَصَلُوا إِلَى الْأَتْرَاكِ، وَهُمْ زُهَاءُ أَلْفِ فَارِسٍ، وَثَلَاثَةُ آلَافِ رَاجِلٍ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ صَفَرٍ، فَأَوْصَلَ الْكِتَابَ، وَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَجَابَكُمْ إِلَى مَا سَأَلْتُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: هَؤُلَاءِ رُسُلُ الْقُوَّادِ إِلَيْكُمْ، يَعْتَذِرُونَ مِنْ شَيْءٍ إِنْ كَانَ بَلَغَكُمْ عَنْهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا أَنْتُمْ إِخْوَةٌ، وَأَنْتُمْ مِنَّا وَإِلَيْنَا، وَاعْتَذَرَ عَنْهُمْ.

فَكَتَبُوا إِلَى الْمُهْتَدِي يَطْلُبُونَ خَمْسَةَ تَوْقِيعَاتٍ، تَوْقِيعًا بِخَطِّ الزِّيَادَاتِ، وَتَوْقِيعًا بِرَدِّ الْإِقْطَاعَاتِ، وَتَوْقِيعًا بِإِخْرَاجِ الْمَوَالِي الْبَرَّانِيِّينَ مِنَ الْخَاصَّةِ إِلَى الْبَرَّانِيِّينَ، وَتَوْقِيعًا بِرَدِّ الرُّسُومِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَيَّامَ الْمُسْتَعِينِ، وَتَوْقِيعًا بِرَدِّ الْبَلَاجِيِّ، ثُمَّ يَجْعَلُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْجَيْشَ إِلَى أَحَدِ إِخْوَتِهِ، أَوْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَرَى لِيَرْفَعَ إِلَيْهِمْ أُمُورَهُمْ، وَلَا يَكُونُ رَجُلًا مِنَ الْمَوَالِي، وَأَنْ يُحَاسِبَ صَالِحَ بْنَ وَصِيفٍ، وَمُوسَى بْنَ بُغَا عَمَّا عِنْدَهُمَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَيَجْعَلَ لَهُمُ الْعَطَاءَ كُلَّ شَهْرَيْنِ، لَا يُرْضِيهِمْ إِلَّا ذَلِكَ، وَدَفَعُوا الْكِتَابَ إِلَى أَبِي الْقَاسِمِ، وَكَتَبُوا كِتَابًا آخَرَ إِلَى الْقُوَّادِ مُوسَى وَغَيْرِهِ [ذَكَرُوا فِيهِ] أَنَّهُمْ كَتَبُوا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا كَتَبُوا، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُمْ شَيْئًا مِمَّا طَلَبُوا إِلَّا أَنْ يَعْتَرِضُوا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمْ يُوَافِقُوهُمْ، وَأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شَاكَهُ شَوْكَةٌ، وَأُخِذَ مِنْ رَأْسِهِ شَعْرَةٌ، أَخَذُوا رُءُوسَهُمْ جَمِيعًا، وَلَا يُقْنِعُهُمْ إِلَّا أَنْ يَظْهَرَ صَالِحٌ، وَيَجْتَمِعَ هُوَ وَمُوسَى بْنُ بُغَا حَتَّى يَنْظُرَ أَيْنَ الْأَمْوَالُ. فَلَمَّا قَرَأَ الْمُهْتَدِي الْكِتَابَ أَمَرَ بِإِنْشَاءِ التَوْقِيعًاتِ الْخَمْسَةِ عَلَى مَا سَأَلُوا، وَسَيَّرَهَا إِلَيْهِمْ مَعَ أَبِي الْقَاسِمِ وَقْتَ الْمَغْرِبِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ بِإِجَابَتِهِمْ إِلَى مَا طَلَبُوا، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ مُوسَى بْنُ بُغَا (كَذَلِكَ، وَأَذِنَ) فِي ظُهُورِ صَالَحٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَخُوهُ وَابْنُ عَمِّهِ، وَأَنَّهُ مَا أَرَادَ مَا يَكْرَهُونَ، فَلَمَّا قَرَءُوا الْكِتَابَيْنِ قَالُوا قَدْ أَمْسَيْنَا، وَغَدًا نُعَرِّفُكُمْ رَأْيَنَا، فَافْتَرَقُوا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَكِبَ مُوسَى مِنْ دَارِ الْخَلِيفَةِ، وَمَعَهُ مِنْ عَسْكَرِهِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ رَجُلٍ، فَوَقَفَ عَلَى طَرِيقِهِمْ، وَأَتَاهُمْ أَبُو الْقَاسِمِ، فَلَمْ يَعْقِلْ مِنْهُمْ جَوَابًا إِلَّا كُلُّ طَائِفَةٍ يَقُولُونَ شَيْئًا، فَلَمَّا طَالَ الْكَلَامُ انْصَرَفَ أَبُو الْقَاسِمِ، فَاجْتَازَ بِمُوسَى بْنِ بُغَا وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ، فَانْصَرَفَ مَعَهُ. ثُمَّ أَمَرَ الْمُهْتَدِي مُحَمَّدَ بْنَ بُغَا أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِمْ مَعَ أَخِيهِ أَبِي الْقَاسِمِ، فَسَارَ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ، وَرَجَعَ مُوسَى إِلَى مَكَانِهِ بُكْرَةً، وَتَقَدَّمَ أَبُو الْقَاسِمِ وَمُحَمَّدُ بْنُ بُغَا فَوَاعَدَاهُمْ عَنِ الْمُهْتَدِي، وَأَعْطَيَاهُمْ تَوْقِيعًا فِيهِ أَمَانُ صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ، مُوَكَّدًا غَايَةَ التَّوْكِيدِ، فَطَلَبُوا أَنْ يَكُونَ مُوسَى فِي مَرْتَبَةِ بُغَا الْكَبِيرِ، وَصَالِحٌ فِي مَرْتَبَةِ أَبِيهِ، وَيَكُونَ الْجَيْشُ (فِي يَدِ مَنْ)

هُوَ فِي يَدِهِ، وَأَنْ يَظْهَرَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ، وَيُوضَعَ لَهُمُ الْعَطَاءُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ قَوْمٌ: قَدْ رَضِيَنَا ; وَقَالَ قَوْمٌ: لَمْ نَرْضَ ; فَانْصَرَفَ أَبُو الْقَاسِمِ وَمُحَمَّدُ بْنُ بُغَا عَلَى ذَلِكَ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلَى الْكَرْخِ، وَالدُّورِ وَسَامَرَّا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَكِبَ بَنُو وَصِيفٍ فِي جَمَاعَةٍ مَعَهُمْ، وَتَنَادَوْا: السِّلَاحَ، وَنَهَبُوا دَوَابَّ الْعَامَّةِ، وَعَسْكَرُوا بِسَامَرَّا، وَتَعَلَّقُوا بِأَبِي الْقَاسِمِ، وَقَالُوا: نُرِيدُ صَالِحًا! وَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُهْتَدِيَ، فَقَالَ لِمُوسَى: يَطْلُبُونَ صَالِحًا مِنِّي كَأَنِّي أَنَا أَخْفَيْتُهُ، إِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُظْهِرُوهُ. ثُمَّ رَكِبَ مُوسَى، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْقُوَّادِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَبَلَغَ عَسْكَرُهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَعَسْكَرُوا، وَتَفَرَّقَ الْأَتْرَاكُ وَمَنْ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْكَرْخِيِّينَ وَلَا لِلدُّورِيِّينَ فِي هَذَا الْيَوْمِ حَرَكَةٌ، وَجَدَّ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ فِي طَلَبِ ابْنِ وَصِيفٍ، وَاتَّهَمُوا جَمَاعَةً بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ غُلَامًا دَخَلَ دَارًا وَطَلَبَ مَاءً لِيَشْرَبَهُ، فَسَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ تَنَحَّ، فَإِنَّ غُلَامًا يَطْلُبُ مَاءً، فَسَمِعَ الْغُلَامُ الْكَلَامَ، فَجَاءَ إِلَى عَيَّارٍ فَأَخْبَرَهُ، فَأَخَذَ مَعَهُ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ، وَجَاءَ إِلَى صَالِحٍ، وَبِيَدِهِ مِرْآةٌ وَمُشْطٌ، وَهُوَ يُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ، فَأَخَذَهُ، فَتَضَرَّعَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: لَا يُمْكِنُنِي تَرْكُكَ وَلَكِنِّي أَمُرُّ بِكَ عَلَى دِيَارِ أَهْلِكَ وَقُوَّادِكَ، وَأَصْحَابِكَ، فَإِنِ اعْتَرَضَكَ مِنْهُمُ اثْنَانِ أَطْلَقْتُكَ. فَأُخْرِجَ حَافِيًا لَيْسَ عَلَى رَأْسِهِ شَيْءٌ، وَالْعَامَّةُ تَعْدُو خَلْفَهُ، وَهُوَ عَلَى بِرْذَوْنٍ بِأُكَافٍ، فَأَتَوْا بِهِ نَحْوَ الْجَوْسَقِ، فَضَرَبَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ مُوسَى عَلَى عَاتِقِهِ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا رَأْسَهُ، وَتَرَكُوا جُثَّتَهُ، وَوَافَوْا بِهِ دَارَ الْمُهْتَدِي قَبْلَ الْمَغْرِبِ، فَقَالُوا لَهُ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ وَارُوهُ، ثُمَّ حُمِلَ رَأْسُهُ وَطِيفَ بِهِ عَلَى قَنَاةٍ، وَنُودِيَ عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ قَتَلَ مَوْلَاهُ. وَلَمَّا قُتِلَ أَنْزَلَ مُوسَى رَأْسَ بُغَا الصَّغِيرَ، وَسُلِّمَ إِلَى أَهْلِهِ لِيَدْفِنُوهُ، وَلَمَّا قُتِلَ صَالِحٌ قَالَ السَّلُولِيُّ لِمُوسَى بْنِ بُغَا: أَخَذْتَ وَتَرَكَ مِنْ فِرْعَوْنَ حِينَ طَغَى ... وَجِئْتَ إِذْ جِئْتَ يَا مُوسَى عَلَى قَدَرِ

ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ بَاغٍ أَخُو حَسَدٍ يَرْمِيكَ بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ عَنْ وَتَرِ ... وَصِيفٌ فِي الْكَرْخِ مَمْثُولٌ بِهِ وَبُغَا بِالْجِسْرِ مُحْتَرِقٌ بِالنَّارِ وَالشَّرَرِ ... وَصَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ بَعْدَ مُنْعَفِرٍ بِالْحِيرِ جُثَّتُهُ وَالرُّوحُ فِي سَقَرِ ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْخَوَارِجِ عَلَى مُسَاوِرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ إِنْسَانٌ مِنَ الْخَوَارِجِ اسْمُهُ عُبَيْدَةُ مِنْ بَنِي زُهَيْرٍ الْعَمْرَوِيُّ عَلَى مُسَاوِرٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ خَالَفَهُ فِي تَوْبَةِ الْمُخْطِئِ، فَقَالَ مَسَاوِرٌ: نَقْبَلُ تَوْبَتَهُ ; وَقَالَ عُبَيْدَةُ: لَا نَقْبَلُ، فَجَمَعَ عُبَيْدَةُ جَمْعًا كَثِيرًا وَسَارَ إِلَى مُسَاوِرٍ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ مَسَاوِرٌ مِنَ الْحَدِيثَةِ، فَالْتَقَوْا بِنَوَاحِي جُهَيْنَةَ، بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَوْصِلِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، فَتَرَجَّلَ مِنْ عِنْدِهِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، عَرْقَبُوا دَوَابَّهُمْ، فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ، وَانْهَزَمَ جَمْعُهُ، فَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَاسْتَوْلَى مُسَاوِرٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعِرَاقِ، وَمَنَعَ الْأَمْوَالَ عَنِ الْخَلِيفَةِ، فَضَاقَتْ عَلَى الْجُنْدِ أَرْزَاقُهُمْ، فَاضْطَرَّهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ سَارَ إِلَيْهِ مُوسَى بْنُ بُغَا، وَبَايِكْبَاكُ، وَغَيْرُهُمَا فِي عَسْكَرٍ عَظِيمٍ، فَوَصَلُوا إِلَى السِّنِّ، فَأَقَامُوا بِهِ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى سَامَرَّا، لِمَا نَذْكُرُهُ مِنْ خَلْعِ الْمُهْتَدِي. فَلَمَّا وَلِيَ الْمُعْتَمِدُ الْخِلَافَةَ سَيَّرَ مُفْلِحًا إِلَى مُسَاوِرٍ فِي عَسْكَرٍ كَبِيرٍ، حَسَنِ الْعُدَّةِ، فَلَمَّا قَارَبَ الْحَدِيثَةَ (فَارَقَهُمْ مُسَاوِرٌ، وَقَصَدَ جَبَلَيْنِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا زَيْنِي، وَلِلْآخَرِ عَامِرٌ، وَهُمَا بِالْقُرْبِ مِنَ الْحَدِيثَةِ، فَتَبِعَهُ مُفْلِحٌ، فَعَطَفَ عَلَيْهِ مُسَاوِرٌ وَهُوَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَاقْتَتَلَ هُوَ وَمُفْلِحٌ. وَكَانَ مُسَاوِرٌ قَدِ انْصَرَفَ عَنْ حَرْبِ عُبَيْدَةَ (وَقَدْ جَمَعَ كَثِيرًا) مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَقُوا مُفْلِحًا بِجَبَلِ زَيْنِي، فَلَمْ يَصِلْ مُفْلِحٌ مِنْهُ إِلَى مَا يُرِيدُهُ، (فَصَعِدَ رَأْسَ الْجَبَلِ فَاحْتَمَى

بِهِ) ، وَنَزَلَ مُفْلِحٌ فِي (أَصْلِ الْجَبَلِ) ، وَجَرَى بَيْنَهُمَا وَقَعَاتٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ أَصْبَحُوا يَوْمًا، وَطَلَبُوا مُسَاوِرًا، فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَكَانَ قَدْ نَزَلَ لَيْلًا مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي فِيهِ مُفْلِحٌ، لَمَّا أَيِسَ مِنَ الظَّفَرِ لِضَعْفِ أَصْحَابِهِ مِنَ الْجِرَاحِ، (فَحَيْثُ لَمْ) يَرَهُ مُفْلِحٌ سَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَسَارَ مِنْهَا إِلَى دِيَارِ رَبِيعَةِ سِنْجَارٍ، وَنَصِيبِينَ، وَالْخَابُورِ، فَنَظَرَ فِي أَمْرِهَا، ثُمَّ (عَادَ إِلَى) الْمَوْصِلِ، فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا، وَرَجَعَ عَنْهَا فِي رَجَبٍ مُتَأَهِّبًا لِلِقَاءِ مُسَاوِرٍ. (فَلَمَّا قَارَبَ الْحَدِيثَةَ فَارَقَهَا مُسَاوِرٌ، وَكَانَ قَدْ عَادَ إِلَيْهَا عِنْدَ غَيْبَةِ مُفْلِحٍ، فَتَبِعَهُ مُفْلِحٌ، فَكَانَ مُسَاوِرٌ) يَرْحَلُ عَنِ الْمَنْزِلِ، فَيَنْزِلُهُ مُفْلِحٌ، فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ عَلَى مُفْلِحٍ، وَتَوَغَّلَ فِي الْجِبَالِ وَالشِّعَابِ، وَالْمَضَايِقِ (وَرَاءَ مُسَاوِرٍ) ، وَلَحِقَ الْجَيْشُ الَّذِي مَعَهُ مَشَقَّةٌ، وَنَصَبٌ، عَادَ عَنْهُ، فَتَبِعَهُ مَسَاوِرٌ يَقْفُو أَثَرَهُ، وَيَأْخُذُ كُلَّ مَنْ يَنْقَطِعُ عَنْ سَاقَةِ الْعَسْكَرِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَقَاتَلُوهُ، ثُمَّ عَادُوا وَلَحِقُوا مُفْلِحًا، وَوَصَلُوا الْحَدِيثَةَ، فَأَقَامَ بِهَا مُفْلِحٌ أَيَّامًا، وَانْحَدَرَ أَوَّلَ شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى سَامَرَّا، فَاسْتَوْلَى حِينَئِذٍ مَسَاوِرٌ عَلَى الْبِلَادِ، وَجَبَى خَرَاجَهَا، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، اشْتَدَّ أَمْرُهُ. ذِكْرُ خَلْعِ الْمُهْتَدِي وَمَوْتِهِ (فِي رَجَبٍ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْهُ) ، خُلِعَ الْمُهْتَدِي، وَتُوُفِّيَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْهُ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْكَرْخِ وَالدُّورِ مِنَ الْأَتْرَاكِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ،

تَحَرَّكُوا فِي أَوَّلِ رَجَبٍ لِطَلَبِ أَرْزَاقِهِمْ، فَوَجَّهَ الْمُهْتَدِي إِلَيْهِمْ أَخَاهُ أَبَا الْقَاسِمِ، وَكَيْغَلَغَ وَغَيْرَهُمَا، فَسَكَّنُوهُمْ، فَرَجَعُوا، وَبَلَغَ أَبَا نَصْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ بُغَا أَنَّ الْمُهْتَدِيَ قَالَ لِلْأَتْرَاكِ: إِنَّ الْأَمْوَالَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى ابْنَيْ بُغَا، فَهَرَبَ إِلَى أَخِيهِ وَهُوَ بِالسِّنِّ مُقَابِلَ مُسَاوِرٍ الشَّارِيِّ، فَكَتَبَ الْمُهْتَدِي إِلَيْهِ أَرْبَعَةَ كُتُبٍ يُعْطِيهِ الْأَمَانَ، فَرَجَعَ هُوَ وَأَخُوهُ حَيْسُونٌ، فَحَبَسَهُمَا، وَمَعَهُمَا كَيْغَلَغَ، وَطُولِبَ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ بُغَا بِالْأَمْوَالِ، فَقُبِضَ مِنْ وَكِيلِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقُتِلَ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ رَجَبٍ، وَرُمِيَ بِهِ فِي بِئْرٍ فَأَنْتَنَ، فَأَخْرَجُوهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ الْمَأْمُونِ. وَكَتَبَ الْمُهْتَدِي إِلَى مُوسَى بْنِ بُغَا، لَمَّا حَبَسَ أَخَاهُ أَنْ يُسَلِّمَ الْعَسْكَرَ إِلَى بَايِكْبَاكَ وَيَرْجِعَ إِلَيْهِ، وَكَتَبَ إِلَى بَايِكْبَاكَ أَنْ يَتَسَلَّمَ الْعَسْكَرَ، وَيَقُومَ بِحَرْبِ مُسَاوِرٍ الشَّارِيِّ، وَقَتْلِ مُوسَى بْنِ بُغَا وَمُفْلِحٍ، فَسَارَ بَايِكْبَاكُ بِالْكِتَابِ إِلَى مُوسَى، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: لَسْتُ أَفْرَحُ بِهَذَا، فَإِنَّهُ تَدْبِيرٌ عَلَيْنَا جَمِيعِنَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ مُوسَى: أَرَى أَنْ تَسِيرَ إِلَى سَامَرَّا، وَتُخْبِرَهُ أَنَّكَ فِي طَاعَتِهِ وَنُصْرَتِهِ عَلَيَّ وَعَلَى مُفْلِحٍ، فَهُوَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْكَ، ثُمَّ تُدِبِّرُ فِي قَتْلِهِ. فَأَقْبَلَ إِلَى سَامَرَّا، فَوَصَلَهَا وَمَعَهُ يَارْكُوجُ، وَأَسَارْتَكِينُ، وَسِيمَا الطَّوِيلُ، وَغَيْرُهُمْ، فَدَخَلُوا دَارَ الْخِلَافَةِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَجَبٍ، فَحَبَسَ بَايِكْبَاكَ وَصَرَفَ الْبَاقِينَ، فَاجْتَمَعَ أَصْحَابُ بَايِكْبَاكَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَقَالُوا: لِمَ حُبِسَ قَائِدُنَا، وَلِمَ قُتِلَ أَبُو نَصْرِ بْنُ بُغَا؟ وَكَانَ عِنْدَ الْمُهْتَدِي صَالِحُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ الْمَنْصُورِ، فَشَاوَرَهُ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِنْ آبَائِكَ مَا بَلَغْتَهُ مِنَ الشَّجَاعَةِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ أَعْظَمَ شَأْنًا عِنْدَ أَهْلِ خُرَاسَانَ مِنْ هَذَا عِنْدَ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ طُرِحَ رَأْسُهُ حَتَّى سَكَتُوا، فَلَوْ فَعَلْتَ مِثْلَ ذَلِكَ سَكَتُوا. فَرَكِبَ الْمُهْتَدِي، وَقَدْ (جُمِعَ لَهُ جَمِيعُ) الْمَغَارِبَةِ، وَالْأَتْرَاكِ، وَالْفَرَاغِنَةِ، فَصَيَّرَ فِي

الْمَيْمَنَةِ مَسْرُورًا الْبَلْخِيَّ، وَفِي الْمَيْسَرَةِ يَارْكُوجَ، وَوَقَفَ هُوَ فِي الْقَلْبِ مَعَ أَسَارْتَكِينَ وَطَبَايْغُوَا، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْقُوَّادِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ بَايِكْبَاكَ، وَأَلْقَى رَأْسَهُ إِلَيْهِمْ عَتَّابُ بْنُ عَتَّابٍ، فَحَمَلُوا عَلَى عَتَّابٍ فَقَتَلُوهُ، وَعَطَفَتْ مَيْمَنَةُ الْمُهْتَدِي وَمَيْسَرَتُهُ بِمَنْ فِيهَا مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَصَارُوا مَعَ إِخْوَانِهِمُ الْأَتْرَاكِ، فَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ عَنِ الْمُهْتَدِي، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. فَقِيلَ: قُتِلَ سَبْعُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ رَجُلًا، وَقِيلَ: قُتِلَ مِنَ الْأَتْرَاكِ نَحْوُ أَرْبَعَةِ آلَافٍ. وَقِيلَ: أَلْفَانِ. وَقِيلَ: أَلْفٌ. وَقِيلَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُهْتَدِي خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَوَلَّى مُنْهَزِمًا، وَبِيَدِهِ السَّيْفُ، وَهُوَ يُنَادِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! أَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، قَاتِلُوا عَنْ خَلِيفَتِكُمْ! فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَامَّةِ إِلَى ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَى بَابِ السِّجْنِ، فَأَطْلَقَ مَنْ فِيهِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ يُعِينُونَهُ، فَهَرَبُوا وَلَمْ يُعِنْهُ أَحَدٌ، فَسَارَ إِلَى دَارِ أَحْمَدَ بْنِ جَمِيلٍ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ، فَدَخَلَهَا وَهُمْ فِي أَثَرِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَأَخْرَجُوهُ، وَسَارُوا بِهِ إِلَى الْجَوْسَقِ عَلَى بَغْلٍ فَحُبِسَ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ خَاقَانَ، (وَقَبَّلَ الْمُهْتَدِي يَدَهُ، فِيمَا قِيلَ، مِرَارًا عَدِيدَةً) ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَهُوَ مَحْبُوسٌ، كَلَامٌ كَثِيرٌ أَرَادُوهُ فِيهِ عَلَى الْخَلْعِ، فَأَبَى وَاسْتَسْلَمَ لِلْقَتْلِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ كَتَبَ بِخَطِّهِ رُقْعَةً لِمُوسَى بْنِ بُغَا، وَبَايِكْبَاكَ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْقُوَّادِ، أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ بِهِمْ، وَلَا يَغْتَالُهُمْ، وَلَا يَفْتِكُ بِهِمْ، وَلَا يَهُمُّ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ مَتَى فَعَلَ ذَلِكَ فَهُمْ فِي حِلٍّ مِنْ بَيْعَتِهِ، وَالْأَمْرُ إِلَيْهِمْ (يُقْعِدُونَ مَنْ) شَاءُوا. فَاسْتَحَلُّوا بِذَلِكَ تَقَضِّيَ أَمْرِهِ، فَدَاسُوا خَصْيَتَيْهِ، وَصَفَقُوهُ فَمَاتَ، وَأَشْهَدُوا عَلَى

مَوْتِهِ أَنَّهُ سَلِيمٌ لَيْسَ بِهِ أَثَرٌ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْمُنْتَصِرِ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ خَلْعِهِ وَمَوْتِهِ أَنَّ أَهْلَ الْكَرْخِ وَالدُّورِ اجْتَمَعُوا وَطَلَبُوا أَنْ يَدْخُلُوا إِلَى الْمُهْتَدِي، وَيُكَلِّمُوهُ بِحَاجَاتِهِمْ، فَدَخَلُوا الدَّارَ، وَفِيهَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ بُغَا، وَغَيْرُهُ مِنَ الْقُوَّادِ، فَخَرَجَ أَبُو نَصْرٍ مِنْهَا، وَدَخَلَ أَهْلُ الْكَرْخِ وَالدُّورِ، وَشَكَوْا حَالَهُمْ إِلَى الْمُهْتَدِي، وَهُمْ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُعْزَلَ مِنْهُمْ أُمَرَاؤُهُمْ، وَأَنْ يَصِيرَ الْأَمْرُ إِلَى إِخْوَتِهِ، وَأَنْ يَأْخُذَ الْقُوَّادَ وَكُتَّابَهُمْ بِالْمَالِ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِمْ، فَوَعَدَهُمْ بِإِجَابَتِهِمْ إِلَى مَا سَأَلُوهُ، فَأَقَامُوا يَوْمَهُمْ فِي الدَّارِ، فَحَمَلَ الْمُهْتَدِي إِلَيْهِمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَسَارَ مُحَمَّدُ بْنُ بُغَا إِلَى الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَأَصْبَحُوا مِنَ الْغَدِ يَطْلُبُونَ مَا سَأَلُوهُ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا أَمْرٌ صَعْبٌ، وَإِخْرَاجُ الْأَمْرِ عَنْ يَدِ هَؤُلَاءِ الْقُوَّادِ لَيْسَ بِسَهْلٍ، فَكَيْفَ إِذَا جَمَعَ إِلَيْهِ مُطَالَبَتَهُمْ بِالْأَمْوَالِ؟ فَانْظُرُوا فِي أُمُورِكُمْ، فَانْظُرُوا فِي أُمُورِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَصْبِرُونَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ إِلَى أَنْ نَبْلُغَ غَايَتَهُ، وَإِلَّا فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُحْسِنُ لَكُمُ النَّظَرَ، فَأَبَوْا إِلَّا مَا سَأَلُوهُ، فَدَعَوْا إِلَى أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ عَلَى أَنْ يُقِيمُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنْ يُقَاتِلُوا مَنْ قَاتَلَهُمْ، وَيَنْصَحُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ، فَأُخِذَتْ عَلَيْهِمْ أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ. ثُمَّ كَتَبُوا إِلَى أَبِي نَصْرٍ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَعَنِ الْمُهْتَدِي يُنْكِرُونَ خُرُوجَهُ عَنِ الدَّارِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا قَصَدُوا لِيَشْكُوا حَالَهُمْ، وَلَمَّا رَأَوُا الدَّارَ فَارِغَةً أَقَامُوا فِيهَا، فَرَجَعَ فَحَضَرَ عِنْدَ الْمُهْتَدِي، فَقَبَّلَ رِجْلَهُ وَيَدَهُ وَوَقَفَ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْأَمْوَالِ وَمَا يَقُولُهُ الْأَتْرَاكُ، فَقَالَ: وَمَا أَنَا وَالْأَمْوَالُ؟ قَالَ: وَهَلْ هِيَ إِلَّا عِنْدَكَ وَعِنْدَ أَخِيكَ وَأَصْحَابِكُمَا؟ ثُمَّ أَخَذُوا بِيَدِ مُحَمَّدٍ وَحَبَسُوهُ، وَكَتَبُوا إِلَى مُوسَى بْنِ بُغَا، وَمُفْلِحٍ بِالِانْصِرَافِ إِلَى سَامَرَّا، وَتَسْلِيمِ الْعَسْكَرِ إِلَى قُوَّادٍ ذَكَرُوهُمْ، وَكَتَبُوا إِلَى الْأَتْرَاكِ الصِّغَارِ فِي تَسَلُّمِ الْعَسْكَرِ مِنْهُمَا، وَذَكَرُوا مَا جَرَى لَهُمْ، وَقَالُوا: إِنْ أَجَابَ مُوسَى وَمُفْلِحٌ إِلَى مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْإِقْبَالِ إِلَى سَامَرَّا، وَتَسْلِيمِ الْعَسْكَرِ، وَإِلَّا فَشُدُّوهُمَا وَثَاقًا، وَاحْمِلُوهُمْ إِلَى الْبَابِ. وَأَجْرَى الْمُهْتَدِي عَلَى مَنْ أُخِذَتْ عَلَيْهِ الْبَيْعَةُ كُلِّ رَجُلٍ دِرْهَمَيْنِ، فَلَمَّا وَصَلَتِ الْكُتُبُ إِلَى عَسْكَرِ مُوسَى أَخَذَهَا مُوسَى، وَقُرِئَتْ عَلَيْهِ وَعَلَى النَّاسِ، وَأَخَذُوا عَلَيْهِمُ الْبَيْعَةَ بِالنُّصْرَةِ

لَهُمْ، وَسَارُوا نَحْوَ سَامَرَّا، فَنَزَلُوا عِنْدَ قَنْطَرَةِ (الرَّقِيقِ لِإِحْدَى) عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ، وَخَرَجَ الْمُهْتَدِي وَعَرَضَ النَّاسَ. وَعَادَ مِنْ يَوْمِهِ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ مِنَ الْغَدِ وَقَدْ دَخَلَ مِنْ أَصْحَابِ مُوسَى زُهَاءَ أَلْفِ فَارِسٍ، مِنْهُمْ كَوْبَكِينُ وَغَيْرُهُ، وَعَادَ، وَخَرَجَ الْمُهْتَدِي فَصَفَّ أَصْحَابَهُ، وَفِيهِمْ مَنْ أَتَى مِنْ أَصْحَابِ مُوسَى، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُوسَى (يُرِيدُ أَنْ يُوَلِّيَ) نَاحِيَةً يَنْصَرِفُ إِلَيْهَا، وَأَصْحَابُ الْمُهْتَدِي يُرِيدُونَ أَنْ يَجِيءَ إِلَيْهِمْ لِيُنَاظِرَهُمْ عَلَى الْأَمْوَالِ، فَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى شَيْءٍ. وَانْصَرَفَ عَنْ مُوسَى خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَعَدَلَ هُوَ وَمُفْلِحٌ يُرِيدَانِ طَرِيقَ خُرَاسَانَ، وَأَقْبَلَ بَايِكْبَاكُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ، فَوَصَلُوا إِلَى الْمُهْتَدِي، فَسَلَّمُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ، وَحَبَسَ بَايِكْبَاكَ، وَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَتَحَرَّكْ أَحَدٌ، وَلَا تَغَيَّرَ شَيْءٌ إِلَّا تَغَيُّرًا يَسِيرًا، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ. فَلَمَّا كَانَ الْأَحَدُ أَنْكَرَ الْأَتْرَاكُ مُسَاوَاةَ الْفَرَاغِنَةِ لَهُمْ فِي الدَّارِ، وَدُخُولَهُمْ مَعَهُمْ، وَرُفِعَ أَنَّ الْفَرَاغِنَةَ إِنَّمَا تَمَّ لَهُمْ هَذَا بِعَدَمِ رُؤَسَاءِ الْأَتْرَاكِ، فَخَرَجُوا مِنَ الدَّارِ بِأَجْمَعِهِمْ، وَبَقِيَتِ الدَّارُ عَلَى الْفَرَاغِنَةِ، وَالْمَغَارِبَةِ، فَأَنْكَرَ الْأَتْرَاكُ ذَلِكَ، وَأَضَافُوا إِلَيْهِ طَلَبَ بَايِكْبَاكَ، فَقَالَ الْمُهْتَدِي لِلْفَرَاعِنَةِ وَالْمَغَارِبَةِ مَا جَرَى مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ تَظُنُّونَ فِيكُمْ قُوَّةً فَمَا أَكْرَهُ قُرْبَكُمْ، وَإِلَّا أَرْضَيْنَاهُمْ مِنْ قَبْلِ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ! فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ يَقُومُونَ بِهِ، فَخَرَجَ بِهِمُ الْمُهْتَدِي وَهُمْ فِي سِتَّةِ آلَافٍ، مِنْهُمْ مِنَ الْأَتْرَاكِ نَحْوُ أَلْفٍ وَهُمْ أَصْحَابُ صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ، وَكَانَ الْأَتْرَاكُ فِي عَشَرَةِ آلَافِ، فَلَمَّا الْتَقَوُا انْهَزَمَ أَصْحَابُ صَالِحٍ، وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ كَمِينٌ لِلْأَتْرَاكِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْمُهْتَدِي، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ إِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا الْمُهْتَدِيَ بِدَارِ أَحْمَدَ بْنِ جَمِيلٍ قَاتَلَهُمْ، فَأَخْرَجُوهُ، وَكَانَ بِهِ أَثَرُ طَعْنَةٍ، فَلَمَّا رَأَى الْجُرْحَ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَيْهِمْ، وَأَرَادُوهُ عَلَى خَلْعٍ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهُمْ، فَمَاتَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَأَظْهَرُوهُ لِلنَّاسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ. وَكَانُوا قَدْ خَلَعُوا أَصَابِعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ مِنْ كَعْبَيْهِ، وَفَعَلُوا بِهِ غَيْرَ شَيْءٍ حَتَّى مَاتَ ;

وَطَلَبُوا مُحَمَّدَ بْنَ بُغَا، فَوَجَدُوهُ مَيِّتًا، فَكَسَرُوا عَلَى قَبْرِهِ أَلْفَ سَيْفٍ. وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَةِ الْمُهْتَدِي أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا وَخَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِيًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ وَاسِعَ الْجَبْهَةِ، أَسْمَرَ، رَقِيقًا، أَشْهَلَ، جَهْمَ الْوَجْهِ، عَرِيضَ الْبَطْنِ، عَرِيضَ الْمَنْكِبَيْنِ، قَصِيرًا، طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، وَمَوْلِدُهُ بِالْقَاطُولِ. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَةِ الْمُهْتَدِي كَانَ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ مِنْ أَحْسَنِ الْخُلَفَاءِ (مَذْهَبًا، وَأَجْمَلِهِمْ طَرِيقَةً، وَأَظْهَرِهِمْ وَرَعًا، وَأَكْثَرِهِمْ عِبَادَةً) . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْكَافِيُّ: جَلَسَ الْمُهْتَدِي لِلْمَظَالِمِ، فَاسْتَعْدَاهُ رَجُلٌ عَلَى ابْنٍ لَهُ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَأُحْضِرَ وَأَقَامَهُ إِلَى جَانِبِ خَصْمِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ الرَّجُلُ لِلْمُهْتَدِي: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَنْتَ إِلَّا كَمَا قِيلَ: حَكَّمْتُمُوهُ فَقَضَى بَيْنَكُمْ ... أَبْلَجُ مِثْلُ الْقَمَرِ الزَّاهِرِ لَا يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ فِي حُكْمِهِ ... وَلَا يُبَالِي غَبْنَ الْخَاسِرِ فَقَالَ الْمُهْتَدِي: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الرَّجُلُ فَأَحْسَنَ اللَّهُ مَقَالَتَكَ، وَأَمَّا أَنَا فَمَا جَلَسْتُ حَتَّى قَرَأْتُ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] الْآيَةَ، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ الْهَاشِمِيُّ: كُنْتُ عِنْدَ الْمُهْتَدِي بَعْضَ عَشَايَا شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقُمْتُ لِأَنْصَرِفَ، فَأَمَرَنِي بِالْجُلُوسِ، فَجَلَسْتُ حَتَّى صَلَّى الْمُهْتَدِي بِنَا الْمَغْرِبَ، وَأَمَرَ بِالطَّعَامِ فَأُحْضِرَ، وَأُحْضِرَ طَبَقٌ خِلَافٌ عَلَيْهِ رَغِيفَانِ، وَفِي إِنَاءٍ مِلْحٌ، وَفِي

آخَرَ زَيْتٌ، وَفِي آخَرَ خَلٌّ، فَدَعَانِي إِلَى الْأَكْلِ، وَأَكَلْتُ مُقْتَصِرًا ظَنًّا مِنِّي أَنَّهُ يُحْضِرُ طَعَامًا جَيِّدًا، فَلَمَّا رَأَى أَكْلِي كَذَلِكَ قَالَ: أَمَا كُنْتَ صَائِمًا؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: أَفَلَسْتَ تُرِيدُ عَشَاءَكَ، فَلَيْسَ هَهُنَا غَيْرُ مَا تَرَى. فَعَجِبْتُ مِنْ قَوْلِهِ، وَقُلْتُ: وَلِمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَدْ أَسْبَغَ اللَّهُ عَلَيْكَ النِّعْمَةَ وَوَسَّعَ رِزْقَهُ! فَقَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا وَصَفْتُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَكِنِّي فَكَّرْتُ فِي أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَغِرْتُ لِبَنِي هَاشِمٍ أَنْ لَا يَكُونَ فِي خُلَفَائِهِمْ مِثْلُهُ وَأَخَذْتُ نَفْسِي بِمَا رَأَيْتَ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ عَنْ بَعْضِ الْهَاشِمِيِّينَ: إِنَّ الْمُهْتَدِيَ وَجَدُوا لَهُ سَفَطًا فِيهِ جُبَّةُ صُوفٍ، وَكِسَاءٌ، وَبُرْنُسٌ كَانَ يَلْبَسُهُ بِاللَّيْلِ، وَيُصَلِّي فِيهِ، وَيَقُولُ: أَمَا يَسْتَحِي بَنُو الْعَبَّاسِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ مِثْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ؟ وَكَانَ قَدْ أَطَّرَحَ الْمَلَاهِيَ، وَحَرَّمَ الْغِنَاءَ وَالشَّرَابَ، وَمَنَعَ أَصْحَابَ السُّلْطَانِ عَنِ الظُّلْمِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ لَمَّا أُخِذَ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ وَحُبِسَ أُحْضِرَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ فِتْيَانٍ، وَكَانَ مَحْبُوسًا بِالْجَوْسَقِ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ، فَبَايَعَهُ الْأَتْرَاكُ، وَكَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى مُوسَى بْنِ بُغَا وَهُوَ بِخَانِقِينَ، فَحَضَرَ إِلَى سَامَرَّا فَبَايَعَهُ، وَلُقِّبَ الْمُعْتَمِدَ عَلَى اللَّهِ. ثُمَّ إِنَّ الْمُهْتَدِيَ مَاتَ ثَانِيَ يَوْمِ بَيْعَةِ الْمُعْتَمِدِ، وَسَكَنَ النَّاسُ. وَاسْتَوْزَرَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ.

ذِكْرُ أَخْبَارِ صَاحِبِ الزَّنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سُيِّرَ جُعْلَانُ لِحَرْبِ صَاحِبِ الزَّنْجِ بِالْبَصْرَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ نَزَلَ بِمَكَانٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الزَّنْجِ فَرْسَخٌ، وَخَنْدَقَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، وَأَقَامَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي خَنْدَقَةٍ، وَجَعَلَ يُوَجِّهُ الزَّيْنَبِيَّ وَبَنِي هَاشِمٍ وَمَنْ خَفَّ لِحَرْبِهِمْ هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي تَوَاعَدَهُمْ جُعَلَانُ لِلِقَائِهِ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ إِلَّا الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ وَالنُّشَّابِ، وَلَا يَجْدُ جُعَلَانُ إِلَى لِقَائِهِ سَبِيلًا، لِضِيقِ الْمَكَانِ عَنْ مَجَالِ الْخَيْلِ، وَكَانَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ جُعْلَانَ خَيَّالَةً. فَلَمَّا طَالَ مُقَامُهُ فِي خَنْدَقِهِ أَرْسَلَ صَاحِبَ الزَّنْجِ أَصْحَابَهُ إِلَى مَسَالِكِ الْخَنْدَقِ، فَيُبَيِّتُوا جُعْلَانَ، وَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً، وَخَافَ الْبَاقُونَ خَوْفًا شَدِيدًا. وَكَانَ الزَّيْنَبِيُّ قَدْ جَمَعَ الْبِلَالِيَّةَ، وَالسَّعْدِيَّةَ وَوَجَّهَ بِهِمْ مِنْ مَكَانَيْنِ، وَقَاتَلُوا الْخَبِيثَ، فَظَفِرَ بِهِمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، فَتَرَكَ جُعْلَانُ خَنْدَقَهُ وَانْصَرَفَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَظَهَرَ عَجْزُهُ لِلسُّلْطَانِ، فَصَرَفَهُ عَنْ حَرْبِ الزَّنْجِ، وَأَمَرَ سَعِيدًا الْحَاجِبَ بِمُحَارَبَتِهِمْ. وَتَحَوَّلَ صَاحِبُ الزَّنْجِ، بَعْدَ ذَلِكَ، مِنَ السَّبْخَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَنَزَلَ بِنَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ، وَأَخَذَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ مَرْكَبًا مِنْ مَرَاكِبِ الْبَحْرِ، وَأَخَذُوا مِنْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَةً لَا تُحْصَى، وَقُتِلَ مَنْ فِيهَا، وَنَهَبَهَا أَصْحَابُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَخَذَ لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ النَّهْبِ. ذِكْرُ دُخُولِ الزَّنْجِ الْأُبُلَّةِ وَفِيهَا دَخَلَ الزَّنْجُ الْأُبُلَّةَ، فَقَتَلُوا فِيهَا خَلْقًا كَثِيرًا وَأَحْرَقُوهَا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ جُعْلَانَ لَمَّا تَنَحَّى عَنْ خَنْدَقِهِ إِلَى الْبَصْرَةِ أَلَحَّ شَنَّا صَاحِبُ الزَّنْجِ بِالْغَارَاتِ عَلَى الْأُبُلَّةِ، وَجَعَلَتْ سَرَايَاهُ تَضْرِبُ إِلَى نَاحِيَةِ نَهْرِ مَعْقِلٍ، وَلَمْ يَزَلْ يُحَارِبُ إِلَى يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ، فَافْتَتَحَهَا، وَقُتِلَ أَبُو الْأَحْوَصِ (وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ الطُّوسِيِّ) ، وَأَضْرَمَهَا نَارًا وَكَانَتْ مَبْنِيَّةً بِالسَّاجِ، فَأَسْرَعَتِ النَّارُ فِيهَا، وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَحَوَوُا الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ، وَكَانَ مَا أَحْرَقَتِ النَّارُ أَكْثَرَ مِنَ الَّذِي نَهَبَ.

ذِكْرُ أَخْذِ الزَّنْجِ عَبَّادَانَ وَفِيهَا أَرْسَلَ أَهْلُ عَبَّادَانَ إِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ فَسَلَّمُوا إِلَيْهِ حِصْنَهُمْ. وَكَانَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ بِأَهْلِ الْأُبُلَّةِ مَا فَعَلَ خَافَ أَهْلُ عَبَّادَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَهْلِيهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِ الْبَلَدَ، فَأَمَّنَهُمْ، وَسَلَّمُوهُ إِلَيْهِ، فَأَنْفَذَ أَصْحَابَهُ إِلَيْهِمْ، وَأَخَذُوا مَا فِيهِ مِنَ الْعَبِيدِ وَالسِّلَاحِ، فَفَرَّقَهُ فِي أَصْحَابِهِ. ذِكْرُ أَخْذِهِمُ الْأَهْوَازَ وَلَمَّا فَرَغَ الْعَلَوِيُّ الْبَصْرِيُّ مِنَ الْأُبُلَّةِ وَعَبَّادَانَ طَمِعَ فِي الْأَهْوَازَ، فَاسْتَنْهَضَ أَصْحَابَهُ نَحْوَ جَيٍّ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَهْلُهَا، وَهَرَبُوا مِنْهُمْ، فَدَخَلَهَا الزَّنْجُ، وَقَتَلُوا مَنْ رَأَوْا بِهَا، وَأَحْرَقُوا وَنَهَبُوا، وَأَخْرَبُوا مَا وَرَاءَهَا إِلَى الْأَهْوَازِ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْأَهْوَازَ هَرَبَ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجُنْدِ وَمِنْ أَهْلِهَا، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَدَخَلُوا وَأَخْرَبُوهَا، وَكَانَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُدَبِّرِ مُتَوَلِّي الْخَرَاجِ، فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا بَعْدَ أَنْ جُرِحَ، وَنُهِبَ جَمِيعُ مَالِهِ، وَذَلِكَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِالْأَهْوَازِ، وَعَبْدَانَ، وَالْأُبُلَّةِ، خَافَهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَانْتَقَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا فِي الْبُلْدَانِ. ذِكْرُ عَزْلِ عِيسَى بْنِ الشَّيْخِ عَنِ الشَّامِ وَوِلَايَتِهِ أَرْمِينِيَّةَ لَمَّا اسْتَوْلَى ابْنُ الشَّيْخِ عَلَى دِمَشْقَ، وَقَطَعَ الْحَمْلَ عَنْ بَغْدَاذَ، اتَّفَقَ أَنَّ ابْنَ الْمُدَبِّرِ حَمَلَ مَالًا مِنْ مِصْرَ إِلَى بَغْدَاذَ، مِقْدَارَ سَبْعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَخَذَهَا عِيسَى بْنُ الشَّيْخِ. فَأَرْسَلَ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَيْهِ حُسَيْنُ الْخَادِمُ يُطَالِبُهُ بِالْمَالِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَلَى الْجُنْدِ، فَأَعْطَاهُ حُسَيْنٌ عَهْدَهُ عَلَى أَرْمِينِيَّةَ لِيُقِيمَ الدَّعْوَةَ لِلْمُعْتَمِدِ، (وَكَانَ قَدِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَخَذَ

الْعَهْدَ، وَأَقَامَ الدَّعْوَةَ لِلْمُعْتَمِدِ) ، وَلَبِسَ السَّوَادَ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الشَّامَ تَكُنْ بِيَدِهِ. فَأَنْقَذَ الْمُعْتَمِدُ أَمَاجُورَ، وَقَلَّدَهُ دِمَشْقَ وَأَعْمَالَهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي أَلْفِ رَجُلٍ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهَا أَنْهَضَ عِيسَى إِلَيْهِ وَلَدَهُ مَنْصُورًا فِي عِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، فَلَمَّا الْتَقَوُا انْهَزَمَ عَسْكَرُ مَنْصُورٍ وَقُتِلَ مَنْصُورٌ، فَوَهَنَ عِيسَى، وَسَارَ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ عَلَى طَرِيقِ السَّاحِلِ وَوَلَّى أَمَاجُورَ دِمَشْقَ. ذِكْرُ ابْنِ الصُّوفِيِّ الْعَلَوِيِّ وَخُرُوجِهِ بِمِصْرَ وَفِيهَا ظَهَرَ بِصَعِيدِ مِصْرَ إِنْسَانٌ عَلَوِيٌّ، ذُكِرَ أَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الصُّوفِيِّ، وَمَلَكَ مَدِينَةَ إِسْنَا، وَنَهَبَهَا، وَعَمَّ شَرُّهُ الْبِلَادَ. فَسَيَّرَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ جَيْشًا، فَهَزَمَهُ الْعَلَوِيُّ، وَأَسَرَ الْمُقَدَّمَ عَلَى الْجَيْشِ، فَقَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَصَلَبَهُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ ابْنُ طُولُونَ جَيْشًا آخَرَ، فَالْتَقَوْا بِنُوَاحِي إِخْمِيمَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ الْعَلَوِيُّ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ رِجَالِهِ، وَسَارَ هُوَ حَتَّى دَخَلَ الْوَاحَاتِ. وَسَيَرِدُ ذِكْرُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ ظُهُورِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَلَى الْكُوفَةِ وَخُرُوجِهِ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ الْعَلَوِيُّ بِالْكُوفَةِ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَأَزَالَ عَنْهَا نَائِبَ الْخَلِيفَةِ، وَاسْتَقَرَّ بِهَا. فَسُيِّرَ إِلَيْهِ الشَّاهُ بْنُ مِيكَالَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الشَّاهُ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَنَجَا الشَّاهُ. ثُمَّ وَجَّهَ الْمُعْتَمِدُ إِلَى مُحَارَبَتِهِ كِيجُورَ التُّرْكِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُ إِلَى الطَّاعَةِ، وَيَبْذُلَ لَهُ الْأَمَانَ، فَسَارَ (كِيجُورُ فَنَزَلَ بِشَاهِي، وَأَرْسَلَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ يَدْعُوهُ إِلَى

الطَّاعَةِ، وَبَذَلَ لَهُ الْأَمَانَ) ، فَطَلَبَ عَلِيٌّ أُمُورًا لَمْ يُجِبْهُ إِلَيْهَا كِيجُورُ، فَتَنَحَّى عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنِ الْكُوفَةِ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ، فَعَسْكَرَ بِهَا، وَدَخَلَ كِيجُورُ إِلَى الْكُوفَةِ ثَالِثَ شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ، وَمَضَى عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ إِلَى خَفَّانَ، وَدَخَلَ بِلَادَ بَنِي أَسَدٍ، وَكَانَ قَدْ صَاهَرَهُمْ، وَأَقَامَ هُنَاكَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى جُنْبُلَاءَ. وَبَلَغَ كِيجُورَ خَبَرُهُ، فَأَسْرَى إِلَيْهِ مِنَ الْكُوفَةِ سَلْخَ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ، فَوَاقَعَهُ، فَانْهَزَمَ عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، وَطَلَبَهُ كِيجُورُ فَفَاتَهُ، وَقَتَلَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَسَرَ آخَرِينَ، وَعَادَ كِيجُورُ إِلَى الْكُوفَةِ ; فَلَمَّا اسْتَقَامَتْ أُمُورُهَا عَادَ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى بِغَيْرِ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ نَفَرًا مِنَ الْقُوَّادِ، فَقَتَلُوهُ بِعُكْبَرَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا تَقَدَّمَ سَعِيدُ بْنُ صَالِحٍ (الْحَاجِبُ) لِحَرْبِ صَاحِبِ الزَّنْجِ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ. وَفِيهَا تَحَارَبَ مُسَاوِرٌ الْخَارِجِيُّ، وَأَصْحَابُهُ مُوسَى بْنُ بُغَا (بِنَاحِيَةِ خَانِقِينَ، وَكَانَ مُسَاوِرٌ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَكَانَ أَصْحَابُ مُوسَى بْنِ بُغَا) نَحْوَ مِائَتَيْنِ فَالْتَقَوْا بِمُسَاوِرٍ، وَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً. وَفِيهَا وَثَبَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاصِلِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، وَرَجُلٌ مِنْ أَكْرَادِهَا يُقَالُ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ اللَّيْثِ، بِالْحَارِثِ بْنِ سِيمَا، عَامِلِ فَارِسَ، فَحَارَبَاهُ وَقَتَلَاهُ، وَغَلَبَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاصِلٍ عَلَى فَارِصَ.

وَفِيهَا وُجِّهَ مُفْلِحٌ لِحَرْبِ مُسَاوِرٍ. وَفِيهَا غَلَبَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ الطَّالِبِيُّ عَلَى الرَّيِّ فِي رَمَضَانَ، فَسَارَ مُوسَى إِلَى بْنِ بُغَا الرَّيَّ فِي شَوَّالٍ وَشَيَّعَهُ الْمُعْتَمِدُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبُخَارِيُّ الْجُعْفِيُّ صَاحِبُ الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ.

ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ] 257 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ عَوْدِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى لَمَّا اشْتَدَّ أَمْرُ الزَّنْجِ، وَعَظُمَ شَرُّهُمْ، وَأَفْسَدُوا فِي الْبِلَادِ، أَرْسَلَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ إِلَى أَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ، فَأَحْضَرَهُ مِنْ مَكَّةَ، فَلَمَّا حَضَرَ عَقَدَ لَهُ عَلَى الْكُوفَةِ، وَطَرِيقِ مَكَّةَ، الْحَرَمَيْنِ، وَالْيَمَنِ، ثُمَّ عَقَدَ لَهُ عَلَى بَغْدَاذَ، وَالسَّوَادِ، وَوَاسِطَ، وَكُوَرِ دِجْلَةَ، وَالْبَصْرَةِ، وَالْأَهْوَازِ، وَفَارِسَ، وَأَمَرَ أَنْ يَعْقِدَ لِيَارْكُوجَ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَكُوَرِ دِجْلَهَ، وَالْبَحْرَيْنِ، وَالْيَمَامَةِ مَكَانَ سَعِيدِ بْنِ صَالِحٍ، فَاسْتَعْمَلَ يَارْكُوجُ مَنْصُورَ بْنَ جَعْفَرٍ الْخَيَّاطَ عَلَى الْبَصْرَةِ وَكُوَرِ دِجْلَةَ إِلَى مَا يَلِي الْأَهْوَازَ. ذِكْرُ انْهِزَامِ الزَّنْجِ مِنْ سَعِيدٍ الْحَاجِبِ وَفِيهَا (فِي رَجَبٍ) أَوْقَعَ سَعِيدٌ الْحَاجِبُ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الزَّنْجِ، فَهَزَمَهُمْ، وَاسْتَنْقَذَ مَا مَعَهُمْ (مِنَ النِّسَاءِ، وَالنَّهْبِ، وَجُرِحَ سَعِيدٌ عِدَّةَ جِرَاحَاتٍ. وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ بِجَمْعٍ آخَرَ مِنْهُمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُمْ، فَهَزَمَهُمْ أَيْضًا، وَاسْتَنْفَذَ مَا مَعَهُمْ) ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ تَأْخُذُ الزَّنْجِيَّ فَتَأْتِي بِهِ عَسْكَرَ سَعِيدٍ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا. وَعَسْكَرَ سَعِيدٌ بِهَطْمَةَ، ثُمَّ عَبَرَ إِلَى غَرْبِ دِجْلَةَ، فَأَوْقَعَ بِصَاحِبِ الزَّنْجِ عِدَّةَ وَقَعَاتٍ،

ثُمَّ عَادَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ بِهَطْمَةَ، فَأَقَامَ إِلَى ثَانِي رَجَبٍ، وَعَامَّةِ شَعْبَانَ. ذِكْرُ خَلَاصِ ابْنِ الْمُدَبِّرِ مِنَ الزَّنْجِ وَفِيهَا تَخَلَّصَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُدَبِّرِ مِنْ حَبْسِ الزَّنْجِ، وَكَانَ سَبَبُ خَلَاصِهِ أَنَّهُ كَانَ مَحْبُوسًا فِي بَيْتِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَحْرَانِيِّ، وَوَكَّلَ بِهِ رَجُلَيْنِ، مَنْزِلُهُمَا مُلَاصِقُ الْمَنْزِلِ الَّذِي فِيهِ إِبْرَاهِيمُ، فَضَمِنَ لَهُمَا مَالًا، وَرَغَّبَهُمَا، فَعَمِلَا سَرَبًا إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ إِبْرَاهِيمُ، فَخَرَجَ هُوَ وَابْنُ أَخٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ أَبُو غَالِبٍ وَرَجُلٌ هَاشِمِيٌّ. ذِكْرُ انْهِزَامِ سَعِيدٍ مِنَ الزَّنْجِ وَوِلَايَةِ مَنْصُورِ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَصْرَةَ وَفِيهَا أَوْقَعَ الْعَلَوِيُّ صَاحِبُ الزَّنْجِ بِسَعِيدٍ، وَكَانَ يُسَيِّرُ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَأَوْقَعُوا بِهِ لَيْلًا، وَأَصَابُوا مَقْتَلَةً مِنْ أَصْحَابِ سَعِيدٍ، فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَحْرَقُوا عَسْكَرَهُ، (فَضَعُفَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ) ، فَأَمَرَ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَابِ الْخَلِيفَةِ. وَنَزَلَ بُفْرَاجُ بِالْبَصْرَةِ، فَسَارَ سَعِيدٌ عَنِ الْبَصْرَةِ، وَأَقَامَ بِهَا بُفْرَاجُ يَحْمِي أَهْلَهَا، فَرَدَّ السُّلْطَانُ أَمْرَهَا إِلَى مَنْصُورِ بْنِ جَعْفَرٍ الْخَيَّاطِ، بَعْدَ سَعِيدٍ الْحَاجِبِ، وَكَانَ مَنْصُورٌ يُبَذْرِقُ السُّفُنَ، وَيَحْمِيَهَا، وَسَيَّرَهَا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَضَاقَتِ الْمِيرَةُ عَلَى الزَّنْجِ، فَجَمَعَ مَنْصُورٌ الشَّذَا فَأَكْثَرَ مِنْهَا، وَسَارَ نَحْوَ صَاحِبِ الزَّنْجِ، فَكَمَنَ لَهُ صَاحِبُ الزَّنْجِ، فَلَمَّا أَقْبَلْ خَرَجُوا عَلَيْهِ، فَقَتَلُوا فِي أَصْحَابِهِ مَقْتَلَهً عَظِيمَةً، وَغَرِقَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَحَمَلُوا مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبَحْرَانِيِّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الزُّنُوجِ بِنَهْرِ مَعْقِلٍ. ذِكْرُ انْهِزَامِ جَيْشِ الزَّنْجِ بِالْأَهْوَازِ وَفِيهَا أَرْسَلَ صَاحِبُ الزَّنْجِ جَيْشًا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ لِقَطْعِ قَنْطَرَةِ أَرْبَكَ، فَلَقِيَهُمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سِيمَا مُنْصَرِفًا مِنْ فَارِسَ، فَأَوْقَعَ بِجَيْشِ الْعَلَوِيِّ فَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ، وَجُرِحَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ. ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ سَارَ قَاصِدًا نَهْرَ جَيٍّ، فَأَمَرَ كَاتِبَهُ شَاهِينَ بْنَ بِسْطَامٍ بِالْمَسِيرِ عَلَى

طَرِيقٍ آخَرَ لِيُوَافِيَهُ بِنَهْرِ جَيٍّ، بَعْدَ الْوَقْعَةِ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ ; وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ قَدْ سَارَ مِنَ الْوَقْعَةِ فَنَزَلَ بِالْخَيْزُرَانِيَّةِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ بِإِقْبَالِ شَاهِينَ إِلَيْهِ، فَسَارَ نَحْوَهُ، فَالْتَقَيَا وَقْتَ الْعَصْرِ بِمَوْضِعٍ بَيْنَ جَيٍّ وَنَهْرِ مُوسَى، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ صَدَمَهُمُ الزَّنْجُ صَدْمَةً صَادِقَةً فَهَزَمُوهُمْ، وَقَتَلُوا شَاهِينَ وَابْنَ عَمٍّ لَهُ، وَقُتِلَ مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. فَلَمَّا فَرَغَ الزَّنْجُ مِنْهُمْ أَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِقُرْبِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سِيمَا مِنْهُمْ، فَسَارَ عَلَيٌّ نَحْوَهُ، فَوَافَاهُ وَقْتَ الْعَشَاءِ الْآخِرَةِ، فَأَوْقَعَ بِإِبْرَاهِيمَ دَفْعَةً أُخْرَى شَدِيدَةً قَتَلَ فِيهَا جَمْعًا كَثِيرًا. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ: وَكَانَ أَصْحَابِي قَدْ تَفَرَّقُوا بَعْدَ الْوَقْعَةِ مَعَ شَاهِينَ، وَلَمْ يَشْهَدْ مَعِي حَرْبَ إِبْرَاهِيمَ غَيْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا، وَانْصَرَفَ عَلِيٌّ إِلَى جَيٍّ. ذِكْرُ أَخْذِ الزَّنْجِ الْبَصْرَةَ وَتَخْرِيبِهَا لَمَّا سَارَ سَعِيدٌ عَنِ الْبَصْرَةِ ضَمَّ السُّلْطَانُ عَمَلَهُ إِلَى مَنْصُورِ بْنِ جَعْفَرٍ الْخَيَّاطِ، وَكَانَ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا، وَلَمْ يَعُدْ مَنْصُورٌ لِقِتَالِهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى تَخْفِيرِ الْقَيْرَوَانَاتِ وَالسُّفُنِ، فَامْتَنَعَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْعَلَوِيِّ، فَتَقَدَّمَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ بِالْمَقَامِ بِالْخَيْزُرَانِيَّةِ لِيَشْغَلَ مَنْصُورًا عَنْ تَسْيِيرِ الْقَيْرَوَانَاتِ، فَكَانَ بِنَوَاحِي جَيٍّ، وَالْخَيْزُرَانِيَّةِ، وَشَغَلَ مَنْصُورًا، فَعَادَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِلَى الضِّيقِ، وَأَلَحَّ أَصْحَابُ الْخَبِيثِ عَلَيْهِمْ بِالْحَرْبِ صَبَاحًا وَمَسَاءً. فَلَمَّا كَانَ فِي شَوَّالٍ أَزْمَعَ الْخَبِيثُ عَلَى جَمْعِ أَصْحَابِهِ لِدُخُولِ الْبَصْرَةِ، وَالْجِدِّ فِي إِخْرَابِهَا لِضَعْفِ أَهْلِهِ وَتَفَرُّقِهِمْ، وَخَرَابِ مَا حَوْلَهُمْ مِنَ الْقُرَى، ثُمَّ أَمَرَ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ الدَّارِمِيَّ، وَهُوَ أَحَدُ مَنْ صَحِبَهُ بِالْبَحْرَيْنِ، أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْأَعْرَابِ لِيَجْمَعَهُمْ، فَأَتَاهُ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأَنَاخُوا بِالْقِنْدَلِ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْعَلَوِيُّ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى الشَّعْرَانِيَّ، وَأَمَرَهَمْ بِتَطَرُّقِ الْبَصْرَةِ وَالْإِيقَاعِ بِهَا لِيَتَمَرَّنَ الْأَعْرَابُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَنْهَضَ عَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ،

وَضَمَّ إِلَيْهِ طَائِفَةً مِنَ الْأَعْرَابِ، وَأَمَرَ بِإِتْيَانِ الْبَصْرَةِ مِنْ نَاحِيَةِ بَنِي سَعِيدٍ، وَأَمَرَ يَحْيَى بْنَ مُحَمَّدٍ الْبَحْرَانِيَّ بِإِتْيَانِهَا مِمَّا يَلِي نَهْرَ عُدَيٍّ، وَضُمَّ إِلَيْهِ سَائِرُ الْأَعْرَابِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ وَاقَعَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ، وَبُفْرَاجُ يَوْمَئِذٍ بِالْبَصْرَةِ، فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْجُنْدِ، فَأَقَامَ يُقَاتِلُهُمْ يَوْمَيْنِ وَمَالَ النَّاسُ نَحْوَهُ. وَأَقْبَلَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ مَعَهُ نَحْوَ الْجِسْرِ، فَدَخَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ وَقْتَ صَلَاةِ الْجُمُعَةَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ شَوَّالٍ، فَأَقَامَ يَقْتُلُ وَيَحْرِقُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَيْلَةَ السَّبْتِ، وَيَوْمَ السَّبْتِ، وَغَادَى يَحْيَى الْبَصْرَةَ يَوْمَ الْأَحَدِ، فَتَلَقَّاهُ بُفْرَاجُ وَبَرِّيَّةُ فِي جَمْعٍ فَرَدُّوهُ، فَرَجَعَ يَوْمَهُ ذَلِكَ. ثُمَّ غَادَاهُمُ الْيَوْمَ الْآخَرَ، فَدَخَلَ وَقَدْ تَفَرَّقَ الْجُنْدُ، وَهَرَبَ بَرِّيَّةُ، وَانْحَازَ بُفْرَاجُ وَمَنْ مَعَهُ، وَلَقِيَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى الْمُهَلَّبِيُّ، فَاسْتَأْمَنَهُ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَأَمَّنَهُمْ، فَنَادَى مُنَادِي إِبْرَاهِيمَ: مَنْ أَرَادَ الْأَمَانَ فَلْيَحْضُرْ دَارَ إِبْرَاهِيمَ، فَحَضَرَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ قَاطِبَةً، حَتَّى (مَلَئُوا الرِّحَابَ) فَلَمَّا رَأَى اجْتِمَاعَهُمُ انْتَهَزَ الْفُرْصَةَ لِئَلَّا يَتَفَرَّقُوا، فَغَدَرَ بِهِمْ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِقَتْلِهِمْ، فَكَانَ السَّيْفُ يَعْمَلُ فِيهِمْ، وَأَصْوَاتُهُمْ مُرْتَفِعَةٌ بِالشَّهَادَةِ، فَقَتَلَ ذَلِكَ الْجَمْعَ كُلَّهُ، وَلَمْ يَسْلَمَ إِلَّا النَّادِرُ مِنْهُمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ يَوْمَهُ ذَلِكَ إِلَى الْحَرْبِيَّةِ. وَدَخَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ الْجَامِعَ فَأَحْرَقَهُ، وَأُحْرِقَتِ الْبَصْرَةُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، مِنْهَا الْمِرْبَدُ، وَزَهْرَانُ، وَغَيْرُهُمَا، وَاتَّسَعَ الْحَرِيقُ مِنَ الْجَبَلِ إِلَى الْجَبَلِ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ، وَعَمَّهَا الْقَتْلُ وَالنَّهْبُ وَالْإِحْرَاقُ، وَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ رَأَوْهُ بِهَا، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْيَسَارِ أَخَذُوا مَالَهُ وَقَتَلُوهُ ; وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا قَتَلُوهُ لِوَقْتِهِ، بَقُوا كَذَلِكَ عِدَّةَ أَيَّامٍ. ثُمَّ أَمَرَ يَحْيَى أَنْ يُنَادَى بِالْأَمَانِ لِيَظْهَرُوا، فَلَمْ يَظْهَرْ أَحَدٌ ; ثُمَّ انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى الْخَبِيثِ، فَصَرَفَ عَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ عَنْهَا، وَأَقَرَّ يَحْيَى عَلَيْهَا لِمُوَافَقَتِهِ هَوَاهُ فِي كَثْرَةِ الْقَتْلِ،

وَصَرَفَ عَلِيًّا لِإِبْقَائِهِ عَلَى أَهْلِهَا، فَهَرَبَ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَصَرَفَ الْخَبِيثُ جَيْشَهُ عَنِ الْبَصْرَةِ. فَلَمَّا أَخْرَبَ الْبَصْرَةَ انْتَسَبَ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ، وَذَلِكَ لِمَصِيرِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ إِلَيْهِ، وَكَانَ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ زَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ نِسَائِهِمْ، فَتَرَكَ الِانْتِسَابَ إِلَى عِيسَى بْنِ زَيْدٍ، وَانْتَسَبَ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ، قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ حَسَنٍ النَّوْفَلِيُّ: كَذَبَ ابْنُ يَحْيَى لَمْ يُعْقِبْ غَيْرَ بِنْتٍ مَاتَتْ وَهِيَ تَرْضَعُ. ذِكْرُ مَسِيرِ الْمُولَّدِ لِحَرْبِ الزَّنْجِ وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، أَمَرَ الْمُعْتَمِدُ أَحْمَدَ الْمُوَلَّدَ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْبَصْرَةِ لِحَرْبِ الزَّنْجِ، فَنَزَلَ الْأُبُلَّةَ، وَجَاءَ بَرِّيَّةُ فَنَزَلَ الْبَصْرَةَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَسَيَّرَ الْعَلَوِيَّ إِلَى حَرْبِ الْمُوَلَّدِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ، فَسَارَ إِلَيْهِ فَقَاتَلَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ وَطَّنَ الْمُوَلَّدَ نَفْسَهُ عَلَى الْمُقَامِ، فَكَتَبَ الْعَلَوِيُّ إِلَى يَحْيَى يَأْمُرُهُ بِتَبْيِيتِ الْمَوْلَّدِ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِ الشَّذَا مَعَ أَبِي اللَّيْثِ الْأَصْفَهَانِيِّ، فَبَيَّتَهُ، وَنَهَضَ الْمُوَلَّدُ فَقَاتَلَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَمِنَ الْغَدِ إِلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ انْهَزَمَ عَنْهُ. وَدَخَلَ الزَّنْجُ عَسْكَرَهُ فَغَنِمُوا مَا فِيهِ، فَاتَّبَعَهُ يَحْيَى إِلَى الْجَامِدَةِ، فَأَوْقَعَ بِأَهْلِهَا، وَنَهَبَ تِلْكَ الْقُرَى جَمِيعَهَا، وَسَفَكَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّمَاءِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى نَهْرِ مَعْقِلٍ. ذِكْرُ قَصْدِ يَعْقُوبَ فَارِسَ، وَمَلْكِهِ بَلْخَ، وَغَيْرِهَا وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ إِلَى فَارِسَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُعْتَمِدُ يُنْكِرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُوَفَّقُ بِوِلَايَةِ بَلْخَ، وَطَخَارِسْتَانَ، وَسِجِسْتَانَ، وَالسِّنْدِ، فَقَبِلَ ذَلِكَ وَعَادَ، وَسَارَ إِلَى بَلْخَ وَطَخَارِسْتَانَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَلْخَ نَزَلَ بِظَاهِرِهَا، وَخَرَّبَ نُوشَادَ، وَهِيَ أَبْنِيَةٌ كَانَ بَنَاهَا دَاوُدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مَابَنْجُورَ خَارِجَ بَلْخَ. ثُمَّ سَارَ يَعْقُوبُ مِنْ بَلْخَ إِلَى كَابُلَ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَقَبَضَ عَلَى زِنْبِيلٍ، وَأَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَمَعَهُ هَدِيَّةٌ جَلِيلَةُ الْمِقْدَارِ، وَفِيهَا أَصْنَامٌ أَخَذَهَا مِنْ كَابُلَ وَتِلْكَ الْبِلَادِ،

وَسَارَ إِلَى بُسْتَ فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً. وَسَبَبُ إِقَامَتِهِ أَنَّهُ أَرَادَ الرَّحِيلَ، فَرَأَى بَعْضَ قُوَّادِهِ قَدْ حَمَلَ بَعْضَ أَثْقَالِهِ، فَغَضِبَ وَقَالَ: أَتَرْحَلُونَ قَبْلِي؟ وَأَقَامَ سَنَةً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى سِجِسْتَانَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى هَرَاةَ، وَحَاصَرَ مَدِينَةَ كَرُوخَ حَتَّى أَخَذَهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى بُوشَنْجَ، وَقَبَضَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ طَاهِرِ (بْنِ الْحُسَيْنِ الْكَبِيرِ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرِ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَأَلَهُ إِطْلَاقَهُ (وَهُوَ عَمُّ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ طَاهِرٍ) ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَبَقِيَ فِي يَدِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيِّ جُرْجَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَصَدَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ الْعَلَوِيُّ صَاحِبُ طَبَرِسْتَانَ جُرْجَانَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ أَمِيرَ خُرَاسَانَ، لَمَّا بَلَغَهُ مِنْ عَزْمِ الْحَسَنِ عَلَى قَصْدِ جُرْجَانَ قَدْ جَهَّزَ الْعَسَاكِرَ فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَسَيَّرَهَا إِلَى جُرْجَانَ لِحِفْظِهَا، فَلَمَّا قَصَدَهَا الْحَسَنُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ، وَظَفِرَ بِهِمْ وَمَلَكَ الْبَلَدَ، وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَغَنِمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مَا عِنْدَهُمْ. وَضَعُفَ حِينَئِذٍ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ، وَانْتَقَضَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَ يَجِيءُ خَرَاجُهَا إِلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ إِلَّا بَعْضُ خُرَاسَانَ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مَفْتُونٌ مُنْتَقَضٌ بِالْمُتَغَلِّبِينَ فِي نَوَاحِيهَا، وَالشُّرَاةِ الَّذِينَ يَعِيثُونَ فِي عَمَلِهِ، فَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ تَغَلُّبِ يَعْقُوبَ الصَّفَّارِ عَلَى خُرَاسَانَ، كَمَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا أَخَذَ أَحْمَدُ الْمُوَلَّدُ سَعْدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ سَعْدٍ الْبَاهِلِيَّ، وَكَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى الْبَطَائِحِ، وَأَفْسَدَ الطَّرِيقَ، وَحُمِلَ إِلَى سَامَرَّا، فَضُرِبَ سَبْعَمِائَةِ سَوْطٍ فَمَاتَ، وَصُلِبَ مَيِّتًا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ.

وَفِيهَا وَثَبَ بُسَيْلٌ الْمَعْرُوفُ بِالصَّقْلَبِيِّ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الصَّقْلَبِيُّ، وَهُوَ مِنْ بَيْتِ الْمَمْلَكَةِ، لِأَنَّ أُمَّهُ صَقْلَبِيَّةٌ، عَلَى مِيخَائِيلَ بْنِ تُوفِيلَ مَلِكِ الرُّومِ، فَقَتَلَهُ ; وَكَانَ مُلْكُ مِيخَائِيلَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَمَلَكَ بُسَيْلُ الرُّومَ. وَفِيهَا أَقْطَعَ الْمُعْتَمِدُ مِصْرَ وَأَعْمَالَهَا لِيَارْكُوجَ التُّرْكِيِّ، فَأَقَرَّ عَلَيْهَا أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ. وَفِيهَا فَارَقَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي دُلَفٍ الرَّيَّ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَأَخْلَاهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ الْعُلْوِيُّ صَاحِبُ طَبَرِسْتَانَ الْقَاسِمَ بْنَ عَلِيِّ (بْنِ الْقَاسِمِ) بْنِ عَلِيٍّ الْعَلَوِيَّ الْمَعْرُوفَ بِدُلَيْسٍ، فَغَلَبَ عَلَيْهَا، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا جِدًّا، وَقَلَعُوا أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ مِنْ حَدِيدٍ، وَسَيَّرَهَا إِلَى الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ، وَبَقِيَ كَذَلِكَ نَحْوَ ثَلَاثِ سِنِينَ. وَفِيهَا خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ مُسَاوِرٍ الْخَارِجِيُّ، وَخَارِجِيٌّ آخَرُ اسْمُهُ طَوْقٌ مِنْ بَنِي زُهَيْرٍ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، فَسَارَ إِلَى أَذْرَمَةَ، فَحَارَبَهَا أَهْلُهَا، فَظَفِرَ بِهِمْ، فَدَخَلَهَا بِالسَّيْفِ، وَأَخَذَ جَارِيَةً بِكْرًا فَجَعَلَهَا فَيْئًا، وَافْتَضَّهَا فِي الْمَسْجِدِ، فَجَمَعَ عَلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ أَحْمَدَ الْعَدَوِيُّ جَمْعًا كَثِيرًا، فَحَارَبَهُ فَقَتَلَهُ، وَقَطَعَ رَأْسَهُ وَأَنْفَذَهُ إِلَى سَامَرَّا. (وَفِيهَا قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ خَفَاجَةَ أَمِيرُ صِقِلِّيَّةَ، قَتَلَهُ خَدَمُهُ نَهَارًا، وَكَتَمُوا قَتْلَهُ، فَلَمْ يُعْرَفْ إِلَّا مِنَ الْغَدِ. وَكَانَ الْخَدَمُ الَّذِينَ قَتَلُوهُ قَدْ هَرَبُوا، فَطُلِبُوا فَأُخِذُوا، وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ، وَلَمَّا قُتِلَ اسْتَعْمَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْأَغْلَبِ عَلَى صِقِلِّيَةَ أَحْمَدَ بْنَ يَعْقُوبَ بْنِ الْمَضَّاءِ بْنِ سَلَمَةَ فَلَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ) .

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ الْعَبْدِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ بِسُرَّ مَنْ رَأَى. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْفَضْلِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَرَجِ الرِّيَاشِيُّ اللُّغَوِيُّ، مِنْ كِبَارِهِمْ، وَرَوَى عَنِ الْأَصْمَعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ الْخَطَّابِ الْمَوْصِلِيُّ، وَكَانَ (مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ) .

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ] 258 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ قَتْلِ مَنْصُورِ بْنِ جَعْفَرٍ الْخَيَّاطِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مَنْصُورُ بْنُ جَعْفَرٍ الْخَيَّاطُ، وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ الْعَلَوِيَّ الْبَصْرِيَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ الْبَصْرَةِ أَمَّرَ عَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ بِالْمَسِيرِ إِلَى جَيٍّ لِحَرْبِ مَنْصُورِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَهُوَ يَلِي يَوْمَئِذٍ الْأَهْوَازَ، وَأَقَامَ بِإِزَائِهِ شَهْرًا، وَكَانَ مَنْصُورٌ فِي قِلَّةٍ مِنَ الرِّجَالِ، فَأَتَى عَسْكَرَ عَلِيٍّ وَهُوَ بِالْخَيْزُرَانِيَّةِ. ثُمَّ إِنَّ الْخَبِيثَ صَاحِبَ الزَّنْجِ، وَجَّهَ إِلَى عَلِيٍّ بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ شَذَاةً مَشْحُونَةً بِجُلَّةِ أَصْحَابِهِ، وَوَلَّى أَمَرَهُمْ أَبَا اللَّيْثِ الْأَصْبِهَانِيَّ، وَأَمَرَهُ بِطَاعَةِ عَلِيٍّ، فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهِ خَالَفَهُ، وَاسْتَبَدَّ عَلَيْهِ، وَجَاءَ مَنْصُورٌ كَمَا كَانَ يَجِيءُ لِلْحَرْبِ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَبُو اللَّيْثِ، عَنْ غَيْرِ إِذْنِ عَلِيٍّ، فَظَفِرَ بِهِ مَنْصُورٌ، وَبِالشَّذَوَاتِ الَّتِي مَعَهُ، وَقَتَلَ فِيهَا مِنَ الْبِيضِ وَالزَّنْجِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَفْلَتَ أَبُو اللَّيْثِ، وَرَجَعَ إِلَى الْخَبِيثِ. ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا وَجَّهَ طَلَائِعَ يَأْتُونَهُ بِخَبَرِ مَنْصُورٍ، وَأَسْرَى إِلَى وَالٍ كَانَ لِمَنْصُورٍ عَلَى كَرْنَبَا، فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ أَكْثَرَ أَصْحَابِهِ، وَغَنِمَ مَا كَانَ مَعَهُمْ وَرَجَعَ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ مَنْصُورًا، فَأَسْرَى إِلَى الْخَيْزُرَانِيَّةِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ، فَتَحَارَبُوا إِلَى الظُّهْرِ، ثُمَّ انْهَزَمَ مَنْصُورٌ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَانْقَطَعَ عَنْهُمْ، وَأَدْرَكَتْهُ طَائِفَةٌ مِنَ الزَّنْجِ،

فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، وَقَاتَلَهُمْ حَتَّى تَكَسَّرَ رُمْحُهُ، وَفَنِيَ نُشَّابُهُ، ثُمَّ حَمَلَ حِصَانَهُ لِيَعْبُرَ فِي النَّهْرِ، وَلَمْ يَعْبُرْهُ. وَكَانَ سَبَبُ وُقُوعِهِ أَنَّ بَعْضَ الزَّنْجِ رَآهُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَعْبُرَ النَّهْرَ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّهْرِ قَبْلَ مَنْصُورٍ وَتَلَقَّى الْفَرَسَ حِينَ وَثَبَ فَنَكَصَ، فَلَمَّا سَقَطَ فِي النَّهْرِ قَتَلَهُ الْأَسْوَدُ، وَأَخَذَ سَلَبَهُ، وَقَتَلَ مَعَهُ أَخُوهُ خَلَفَ بْنَ جَعْفَرٍ وَغَيْرَهُ، فَوَلِيَ يَارْكُوجُ مَا كَانَ إِلَى مَنْصُورِ بْنِ جَعْفَرٍ مِنَ الْعَمَلِ. ذِكْرُ مَسِيرِ أَبِي أَحْمَدَ إِلَى الزَّنْجِ وَقَتْلِ مُفْلِحٍ وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، عَقَدَ الْمُعْتَمِدُ لِأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ عَلَى دِيَارِ مِصْرَ، وَقِنَّسْرِينَ، وَالْعَوَاصِمِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَعَلَى مُفْلِحٍ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَسَيَّرَهُمَا إِلَى حَرْبِ الزَّنْجِ بِالْبَصْرَةِ، وَرَكِبَ الْمُعْتَمِدُ مَعَهُ يُشَيِّعُهُ، وَسَارَ نَحْوَ الْبَصْرَةِ، وَنَازَلَ الْعَلَوِيَّ وَقَاتَلَهُ. وَكَانَ سَبَبُ تَسْيِيرِهِ مَا فَعَلَهُ بِالْبَصْرَةِ، وَأَكْبَرَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَتَجَهَّزُوا إِلَيْهِ وَسَارُوا فِي عُدَّةٍ حَسَنَةٍ كَامِلَةٍ، وَصَحِبَهُ مِنْ سُوقَةِ بَغْدَاذَ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ بِجَيٍّ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَسَارَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَحْرَانِيُّ إِلَى نَهْرِ الْعَبَّاسِ، وَمَعَهُ أَكْثَرُ الزُّنُوجِ، فَبَقِيَ صَاحِبُهُمْ فِي قِلَّةٍ مِنَ النَّاسِ، وَأَصْحَابِهِ يُغَادُونَ الْبَصْرَةَ وَيُرَاوِحُونَهَا لِنَقْلِ مَا نَالُوهُ مِنْهَا، فَلَمَّا نَزَلَ عَسْكَرُ أَبِي أَحْمَدَ بِنَهْرِ مَعْقِلٍ، احْتَفَلَ مَنْ فِيهِ مِنَ الزُّنُوجِ إِلَى صَاحِبِهِمْ مَرْعُوبِينَ، وَأَخْبَرُوهُ بِعُظْمِ الْجَيْشِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِمْ مِثْلُهُ، وَأَحْضَرَ رَئِيسَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَسَأَلَهُمَا عَنْ قَائِدِ الْجَيْشِ فَلَمْ يَعْرِفَاهُ، فَجَزِعَ، وَارْتَاعَ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ فِيمَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى أَتَاهُ بَعْضُ قُوَّادِهِ، فَأَخْبَرَهُ بِمَجِيءِ الْعَسْكَرِ وَتَقَدُّمِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَيْسَ فِي وُجُوهِهِمْ مَنْ يَرُدُّهُمْ مِنَ الزُّنُوجِ، وَكَذَّبَهُ، وَسَبَّهُ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ فِي الزُّنُوجِ

بِالْخُرُوجِ إِلَى الْحَرْبِ، فَخَرَجُوا، فَرَأَوْا مُفْلِحًا قَدْ أَتَاهُمْ فِي عَسْكَرٍ لِحَرْبِهِمْ، فَقَاتَلَهُمْ، فَبَيْنَمَا مُفْلِحٌ يُقَاتِلُهُمْ إِذْ أَتَاهُ سَهْمُ غَرْبٍ لَا يُعْرَفُ مَنْ رَمَى بِهِ، فَأَصَابَهُ، فَرَجَعَ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَقَتَلُوا فِيهِمْ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَحَمَلُوا الرُّءُوسَ إِلَى الْعَلَوِيِّ، وَاقْتَسَمَ الزَّنْجُ (لُحُومَ الْقَتْلَى) . وَأُتِيَ بِالْأَسْرَى، فَسَأَلَهُمْ عَنْ قَائِدِ الْجَيْشِ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ أَبُو أَحْمَدَ، وَمَاتَ مُفْلِحٌ مِنْ ذَلِكَ السَّهْمِ، فَلَمْ يَلْبَثِ الْعَلَوِيُّ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى وَافَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا أَحْمَدَ رَحَلَ نَحْوَ الْأُبُلَّةِ لِيَجْمَعَ مَا فَرَّقَتْهُ الْهَزِيمَةُ، ثُمَّ سَارَ إِلَى نَهْرِ أَبِي الْأَسَدِ، وَلَمَّا عَلِمَ الْخَبِيثُ كَيْفَ قُتِلَ مُفْلِحٌ، وَلَمْ يَرَ أَحَدًا يَدَّعِي قَتْلَهُ، زَعَمَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ، وَكَذَبَ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُ. ذِكْرُ قَتْلِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَحْرَانِيِّ وَفِيهَا أُسِرَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَحْرَانِيُّ قَائِدُ صَاحِبِ الزَّنْجِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا سَارَ نَحْوَ نَهْرِ الْعَبَّاسِ لَقِيَهُ عَسْكَرُ أَصْعَجُورَ عَامِلِ الْأَهْوَازِ بَعْدَ مَنْصُورٍ، وَقَاتَلَهُمْ، وَكَانَ أَكْثَرَ مِنْهُمْ عَدَدًا، فَنَالَ ذَلِكَ الْعَسْكَرُ مِنَ الزَّنْجِ بِالنُّشَّابِ، وَجَرَحُوهُمْ، فَعَبَرَ يَحْيَى النَّهْرَ إِلَيْهِمْ، فَانْحَازُوا عَنْهُ، وَغَنِمَ سُفُنًا كَانَتْ مَعَ الْعَسْكَرِ، فِيهَا الْمِيرَةُ، وَسَارُوا بِهَا إِلَى عَسْكَرِ صَاحِبِ الزَّنْجِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي فِيهِ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ، لِتَحَاسُدٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَحْيَى. وَوَجَّهَ يَحْيَى طَلَائِعَهُ إِلَى دِجْلَةَ، فَلَقِيَهُمْ جَيْشُ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ سَائِرِينَ إِلَى نَهْرِ أَبِي الْأَسَدِ، فَرَجَعُوا إِلَى عَلِيٍّ، فَأَخْبَرُوهُ بِمَجِيءِ الْجَيْشِ، فَرَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي كَانَ سَلَكَهُ، وَسَلَكَ نَهْرَ الْعَبَّاسِ، وَعَلَى فَمِ النَّهْرِ شَذَوَاتٌ لِحَمِيَّةٍ مِنْ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا رَآهُمْ يَحْيَى رَاعَهُ ذَلِكَ، وَخَافَ أَصْحَابُهُ فَنَزَّلُوا السُّفُنَ (وَعَبَرُوا النَّهْرَ، وَلَقِيَ يَحْيَى وَمَنْ مَعَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَقَاتَلَهُمْ هُوَ وَذَلِكَ النَّفَرُ) الْيَسِيرُ، فَرَمَوْهُمْ بِالسِّهَامِ، فَجُرِحَ ثَلَاثَ جِرَاحَاتٍ ; فَلَمَّا جُرِحَ تَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ، (وَلَمْ يُعْرَفْ حَتَّى يُؤْخَذَ) ، فَرَجَعَ حَتَّى دَخَلَ بَعْضَ السُّفُنِ

وَهُوَ مُثْخَنٌ بِالْجِرَاحِ. وَأَخَذَ أَصْحَابُ السُّلْطَانِ الْغَنَائِمَ، وَأَخَذُوا السُّفُنَ، وَعَبَرُوا إِلَى سُفُنٍ كَانَتْ لِلزَّنْجِ فَأَحْرَقُوهَا، وَتَفَرَّقَ الزَّنْجُ عَنْ يَحْيَى بَقِيَّةَ نَهَارِهِمْ، فَلَمَّا رَأَى (تَفَرُّقَهُمْ رَكِبَ سُمَيْرِيَّةً، وَأَخَذَ مَعَهُ طَبِيبًا لِأَجْلِ الْجِرَاحِ، وَسَارَ فِيهَا، فَرَأَى) الْمَلَّاحُونَ سُمَيْرِيَّاتِ السُّلْطَانِ، فَخَافُوا، فَأَلْقَوْا يَحْيَى وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَمَشَى وَهُوَ مُثْقَلٌ، وَقَامَ الطَّبِيبُ الَّذِي مَعَهُ فَأَتَى أَصْحَابَ السُّلْطَانِ فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ. فَأَخَذُوهُ وَحَمَلُوهُ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ، فَحَمَلَهُ أَبُو أَحْمَدَ إِلَى سَامَرَّا، فَقُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، ثُمَّ قُتِلَ، فَجَزِعَ الْخَبِيثُ، وَالزُّنُوجُ عَلَيْهِ جَزَعًا كَبِيرًا، وَقَالَ لَهُمْ: لَمَّا قُتِلَ يَحْيَى اشْتَدَّ جَزَعِي عَلَيْهِ، فَخُوطِبْتُ أَنَّ قَتْلَهُ كَانَ خَيْرًا لَكَ، إِنَّهُ كَانَ شَرِهًا. ذِكْرُ عَوْدِ أَبِي أَحْمَدَ إِلَى وَاسِطَ وَفِيهَا انْحَازَ أَبُو أَحْمَدَ مِنْ مَوْضِعِهِ إِلَى وَاسِطَ ; وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا سَارَ إِلَى نَهْرِ أَبِي الْأَسَدِ كَثُرَتِ الْأَمَرَاضُ فِي أَصْحَابِهِ، وَكَثُرَ فِيهِمُ الْمَوْتُ، فَرَجَعَ إِلَى بَاذَاوَرْدَ فَأَقَامَ بِهَا، وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ الْآلَاتِ، وَإِعْطَاءِ الْجُنْدِ أَرْزَاقَهُمْ، وَإِصْلَاحِ السُّمَيْرِيَّاتِ وَالشَّذَا، وَشَحَنَهَا بِالْقُوَّادِ، وَعَادَ إِلَى عَسْكَرِ صَاحِبِ الزَّنْجِ، وَأَمَرَ جَمَاعَةً مِنْ قُوَّادِهِ بِقَصْدِ مَوَاضِعَ سَمَّاهَا مِنْ نَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ وَغَيْرِهِ، وَبَقِيَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَمَالَ أَكْثَرُ الْخَلْقِ، حِينَ الْتَقَى النَّاسُ وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ، إِلَى نَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ، وَبَقِيَ أَبُو أَحْمَدَ فِي قِلَّةِ أَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَزَلْ عَنْ مَوْضِعِهِ خَوْفًا أَنْ يَطْمَعَ الزَّنْجُ. وَلَمَّا رَأَى الزَّنْجُ قِلَّةَ مَنْ مَعَهُ طَمِعُوا فِيهِ، وَكَثُرُوا عَلَيْهِ، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ عِنْدَهُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ وَالْجِرَاحُ، وَأَحْرَقَ أَصْحَابُ أَبِي أَحْمَدَ مَنَازِلَ الزُّنُوجِ، وَاسْتَنْقَذُوا مِنَ النِّسَاءِ جَمْعًا كَثِيرًا، ثُمَّ أَلْقَى الزَّنْجُ جِدَّهُمْ نَحْوَهُ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو أَحْمَدَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ الْحَزْمَ فِي الْمُحَاجَزَةِ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى سُفُنِهِمْ عَلَى مَهَلٍ وَتُؤَدَةٍ. (وَاقْتَطَعَ الزَّنْجُ) طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَقَتَلُوا مِنَ الزَّنْجِ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ قُتِلُوا جَمِيعُهُمْ، وَحُمِلَتْ رُءُوسُهُمْ إِلَى قَائِدِ الزَّنْجِ، وَهِيَ مِائَةُ رَأْسٍ وَعَشْرَةُ أَرْؤُسٍ، فَزَادَ ذَلِكَ فِي عُتُوِّهِ.

وَنَزَلَ أَبُو أَحْمَدَ فِي عَسْكَرِهِ بِبَاذَاوَرْدَ، فَأَقَامَ يُعَبِّئُ أَصْحَابَهُ لِلرُّجُوعِ إِلَى الزَّنْجِ، فَوَقَعَتْ نَارٌ فِي أَطْرَافِ عَسْكَرِهِ، فِي يَوْمِ رِيحٍ عَاصِفٍ، فَاحْتَرَقَ كَثِيرٌ مِنْهُ، فَرَحَلَ مِنْهَا إِلَى وَاسِطَ، فَلَمَّا نَزَلَ وَاسِطَ تَفَرَّقَ عَنْهُ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ، فَسَارَ مِنْهَا إِلَى سَامَرَّا، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى وَاسِطَ، لِحَرْبِ الْعَلَوِيِّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُوَلَّدِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا وَقَعَ الْوَبَاءُ فِي كُوَرِ دِجْلَةَ، فَهَلَكَ مِنْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ بِبَغْدَاذَ، وَوَاسِطَ، وَسَامَرَّا، وَغَيْرِهَا. وَفِيهَا قُتِلَ سِرِسْجَارِسُ بِبِلَادِ الرُّومِ مَعَ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَفِيهَا كَانَتْ هَدَّةٌ عَظِيمَةٌ هَائِلَةٌ بِالصَّيْمَرَةِ، ثُمَّ سُمِعَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ هَدَّةٌ أَعْظَمُ مِنَ الْأُولَى، فَانْهَدَمَ أَكْثَرُ الْمَدِينَةِ، وَتَسَاقَطَتِ الْحِيطَانُ، وَهَلَكَ مِنْ أَهْلِهَا زُهَاءُ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَفِيهَا مَاتَ يَارْكُوجُ التُّرْكِيُّ فِي رَمَضَانَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو عِيسَى بْنُ الْمُتَوَكِّلِ، وَكَانَ صَاحِبَ مِصْرَ، وَمُقْطِعَهَا، وَدُعِيَ لَهُ فِيهَا قَبْلَ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ اسْتَقَلَّ أَحْمَدُ بِمِصْرَ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ (أَصْحَابِ) مُوسَى بْنِ بُغَا وَأَصْحَابِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيِّ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْحَسَنِ.

وَفِيهَا أَسَرَ مَسْرُورٌ الْبَلْخِيُّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ مُسَاوِرٍ الشَّارِيِّ، وَسَارَ مَسْرُورٌ إِلَى الْبَوَازِيجِ، فَلَقِيَ مُسَاوِرًا هُنَاكَ، فَكَانَ فِيهَا بَيْنَهُمَا وَقْعَةٌ أُسِرَ فِيهَا مِنْ أَصْحَابِ مَسْرُورٍ جَمَاعَةٌ، ثُمَّ انْصَرَفَ فِي ذِي الْحِجَّةِ إِلَى سَامَرَّا، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَسْكَرِهِ بِحَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ جُعْلَانَ. وَفِيهَا رَجَعَ أَكْثَرُ النَّاسِ مِنَ الْقَرْعَاءِ خَوْفَ الْعَطَشِ، وَسَلِمَ مَنْ سَارَ إِلَى مَكَّةَ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْحَسَنِ. (وَفِيهَا أُوقِعَ بِأَعْرَابٍ بِتِكْرِيتَ كَانُوا أَعَانُوا مُسَاوِرًا الشَّارِيَّ) . وَفِيهَا أَوْقَعَ مَسْرُورٌ الْبَلْخِيُّ بِالْأَكْرَادِ الْيَعْقُوبِيَّةِ، فَهَزَمَهُمْ، وَأَصَابَ فِيهَا. وَفِيهَا صَارَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاصِلٍ فِي طَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَسَلَّمَ فَارِسَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْفَيَّاضِ. وَفِيهَا أُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الزَّنْجِ كَانَ فِيهِمْ قَاضٍ كَانَ لَهُمْ بِعَبَّادَانَ، فَحُمِلُوا إِلَى سَامَرَّا، فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ الذُّهْلِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، وَلَهُ مَعَ الْبُخَارِيِّ حَادِثَةٌ ظَلَمَهُ بِهَا حَسَدًا لَهُ، لَيْسَ هَذَا مَكَانُ ذِكْرِهَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ الْوَاعِظُ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَكَانَ عَابِدًا صَالِحًا صَحِبَ أَبَا يَزِيدَ، وَغَيْرَهُ.

ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ] 259 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ دُخُولِ الزَّنْجِ الْأَهْوَازَ وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، دَخَلَتِ الزَّنْجُ الْأَهْوَازَ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ الْعَلَوِيَّ أَنْفَذَ عَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيَّ، وَضَمَّ إِلَيْهِ الْجَيْشَ الَّذِي كَانَ مَعَ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَحْرَانِيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى الشَّعْرَانِيِّ، وَسَيَّرَهُ إِلَى الْأَهْوَازِ. وَكَانَ الْمُتَوَلِّي لَهَا بَعْدَ مَنْصُورِ بْنِ جَعْفَرٍ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَصْعَجُورُ، فَبَلَغَهُ خَبَرُ الزَّنْجِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، وَالْتَقَى الْعَسْكَرَانِ بِدَشْتِ مَيْسَانَ، فَانْهَزَمَ أَصْعَجُورُ، وَقُتِلَ مَعَهُ ثَيْرَكُ، وَجُرِحَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَغَرِقَ أَصْعَجُورُ، وَأُسِرَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فِيهِمُ الْحَسَنُ بْنُ هَرْثَمَةَ، وَالْحَسَنُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَحُمِلَتِ الرُّءُوسُ، وَالْأَعْلَامُ، وَالْأَسْرَى إِلَى الْخَبِيثِ، فَأَمَرَ بِحَبْسِ الْأَسْرَى، وَدَخَلَ الزَّنْجُ الْأَهْوَازَ، فَأَقَامُوا يُفْسِدُونَ فِيهَا، وَيَعِيثُونَ إِلَى أَنْ قَدِمَ مُوسَى بْنُ بُغَا. ذِكْرُ مَسِيرِ مُوسَى بْنِ بُغَا لِحَرْبِ الزَّنْجِ وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَمَرَ الْمُعْتَمِدُ مُوسَى بْنَ بُغَا بِالْمَسِيرِ إِلَى حَرْبِ صَاحِبِ الزَّنْجِ، فَسَيَّرَ إِلَى الْأَهْوَازِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُفْلِحٍ، وَإِلَى الْبَصْرَةِ إِسْحَاقَ بْنَ كَنْدَاجِيقَ، وَإِلَى بَاذَاوَرْدَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سِيمَا، وَأَمَرَهُمْ بِمُحَارَبَةِ صَاحِبِ الزَّنْجِ. فَلَمَّا وَلِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَهْوَازَ سَارَ إِلَى مُحَارَبَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ، فَتَوَاقَعَا، فَانْهَزَمَ

عَبْدُ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ اسْتَعَدَّ، وَعَادَ إِلَى عَلَيٍّ، فَأَوْقَعَ بِهِ وَقْعَةً عَظِيمَةً قَتَلَ فِيهَا مِنَ الزَّنْجِ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَأَسَرَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَانْهَزَمَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ، وَالزَّنْجُ، ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهُمْ فَلَمْ يَرْجِعُوا مِنَ الْخَوْفِ الَّذِي دَخَلَهُمْ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ; فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَذِنَ لَهُمْ بِالِانْصِرَافِ، فَانْصَرَفُوا إِلَى مَدِينَةِ صَاحِبِهِمْ. وَوَافَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ حِصْنَ مَهْدِيٍّ لِيُعَسْكِرَ بِهِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الزَّنْجِ عَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ، فَوَاقَعَهُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَمَضَى يُرِيدُ الْمَوْضِعَ الْمَعْرُوفَ بِالدَّكَّةِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سِيمَا بِالْبَاذَاوَرْدِ، فَوَاقَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ، فَهَزَمَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ، ثُمَّ وَاقَعَهُ ثَانِيَةً، فَهَزَمَهُ إِبْرَاهِيمُ، فَمَضَى عَلِيٌّ فِي اللَّيْلِ وَمَعَهُ الْأَدِلَّاءُ فِي الْآجَامِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى نَهْرِ يَحْيَى. وَانْتَهَى خَبَرُهُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ طَاشْتُمُرَ فِي جَمْعٍ مِنَ الْمَوَالِي، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ لِامْتِنَاعِهِ بِالْقَصَبِ وَالْحَلَافِيِّ، فَأَضْرَمَهَا عَلَيْهِ نَارًا، فَخَرَجُوا مِنْهَا هَارِبِينَ، فَأَسَرَ مِنْهُمْ أَسْرَى، وَانْصَرَفَ أَصْحَابُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِالْأَسْرَى وَالظَّفَرِ. ثُمَّ سَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ نَحْوَ عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ بِمَكَانٍ نَزَلَ فِيهِ، فَكَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ يَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَدَّهُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ شَذَاةٍ، وَوَافَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَتَوَاقَعَا يَوْمَهُمَا، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ انْتَخَبَ عَلِيٌّ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً مِمَّنْ يَثِقُ بِهِمْ وَسَارَ، وَتَرَكَ عَسْكَرَهُ لِيُخْفِيَ أَمْرَهُ، وَأَتَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ وَرَائِهِ فَبَيَّتَهُ، فَنَالَ مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا، وَانْحَازَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَأَخَذَ عَلِيٌّ مِنْهُمْ أَرْبَعَ شَذَوَاتٍ، وَأَتَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ دَوْلَابَ فَأَقَامَ بِهِ. وَسَارَ طَاشْتُمُرُ إِلَى عَلِيٍّ، فَوَافَاهُ وَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ عَلِيٌّ إِلَى نَهْرِ السِّدْرَةِ، وَكَتَبَ يَسْتَمِدُّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَأَخْبَرَهُ بِانْهِزَامِ عَلِيٍّ عَنْهُ، فَأَتَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَوَاقَعَ عَلِيًّا بِنَهْرِ السِّدْرَةِ وَقْعَةً عَظِيمَةً، فَانْهَزَمَ عَلِيٌّ إِلَى الْخَبِيثِ، وَعَسْكَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِلُنْبَانَ، فَكَانَ هُوَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سِيمَا يَتَنَاوَبَانِ الْمَسِيرَ إِلَى عَسْكَرِ الْخَبِيثِ فَيُوقِعَانِ بِهِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ كَنْدَاجِيقَ بِالْبَصْرَةِ، وَقَدْ قَطَعَ الْمِيرَةَ عَنِ الزَّنْجِ، فَكَانَ صَاحِبُهُمْ يَجْمَعُ أَصْحَابَهُ يَوْمَ مُحَارَبَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

وَإِبْرَاهِيمَ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْحَرْبُ سَيَّرَ طَائِفَةً مِنْهُمْ إِلَى الْبَصْرَةِ، (يُقَاتِلُ بِهِمْ إِسْحَاقَ) ، فَأَقَامُوا كَذَلِكَ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا إِلَى أَنْ صُرِفَ مُوسَى بْنُ بُغَا عَنْ حَرْبِ الزَّنْجِ، وَوَلِيَهَا مَسْرُورٌ الْبَلْخِيُّ، فَانْتَهَى الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَى الْخَبِيثِ. ذِكْرُ مُلْكِ يَعْقُوبَ نَيْسَابُورَ وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ، دَخَلَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ نَيْسَابُورَ، وَكَانَ سَبَبُ مَسِيرِهِ إِلَيْهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ السِّجْزِيَّ كَانَ يُنَازِعُ يَعْقُوبَ بِسِجِسْتَانَ، فَلَمَّا قَوِيَ عَلَيْهِ يَعْقُوبُ هَرَبَ مِنْهُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ، فَأَرْسَلَ يَعْقُوبُ يَطْلُبُ مِنِ ابْنِ طَاهِرٍ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَسَارَ نَحْوَهُ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهَا، وَأَرَادَ دُخُولَهَا، وَجَّهَ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ يَسْتَأْذِنُهُ فِي تَلَقِّيهِ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَبَعَثَ بِعُمُومَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ فَتَلَقَّوْهُ. ثُمَّ دَخَلَ نَيْسَابُورَ فِي شَوَّالٍ، فَرَكِبَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ فِي مَضْرِبِهِ، فَسَاءَلَهُ، ثُمَّ وَبَّخَهُ عَلَى تَفْرِيطِهِ فِي عَمَلِهِ، وَقَبَضَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى نَيْسَابُورَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَذْكُرُ تَفْرِيطَ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ فِي عَمَلِهِ، وَأَنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ سَأَلُوهُ الْمَسِيرَ إِلَيْهِمْ، وَيَذْكُرُ غَلَبَةَ الْعَلَوِيِّينَ عَلَى طَبَرِسْتَانَ، وَبَالَغَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ، وَأَلَّا يَسْلُكَ مَعَهُ مَسْلَكَ الْمُخَالِفِينَ. وَقِيلَ كَانَ سَبَبُ مُلْكِ يَعْقُوبَ نَيْسَابُورَ مَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ [وَمِائَتَيْنِ] مِنْ ضَعْفِ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ أَمِيرِ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ يَعْقُوبُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الدَّفْعِ سَارَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ يُعْلِمُهُ أَنَّهُ قَدْ عَزَمَ عَلَى قَصْدِ طَبَرِسْتَانَ لِيُمْضِيَ مَا أَمَرَهُ الْخَلِيفَةُ فِي الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الْمُتَغَلِّبِ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ لَا يَعْرِضُ لِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ، وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ أَسْبَابِهِ. وَكَانَ بَعْضُ خَاصَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ، وَبَعْضُ أَهْلِهِ لَمَّا رَأَوْا إِدْبَارَ أَمْرِهِ مَالُوا إِلَى يَعْقُوبَ، فَكَاتَبُوهُ، وَاسْتَدْعَوْهُ، وَهَوَّنُوا عَلَى مُحَمَّدٍ أَمْرَ يَعْقُوبَ (مِنْ نَيْسَابُورَ) ، فَأَعْلَمُوهُ أَنَّهُ لَا خَوْفَ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَثَبَّطُوهُ عَنِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، فَرَكَنَ مُحَمَّدٌ إِلَى قَوْلِهِمْ، حَتَّى قَرُبَ

يَعْقُوبُ مِنْ نَيْسَابُورَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ قَائِدًا مِنْ قُوَّادِهِ يُطَيِّبُ قَلْبَهُ، وَأَمَرَهُ بِمَنْعِهِ عَنْ الِانْتِزَاحِ عَنْ نَيْسَابُورَ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ. ثُمَّ وَصَلَ يَعْقُوبُ إِلَى نَيْسَابُورَ رَابِعَ شَوَّالٍ وَأَرْسَلَ أَخَاهُ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ، فَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَقَيَّدَهُ، وَعَنَّفَهُ عَنْ إِهْمَالِهِ عَمَلَهُ، وَعَجْزِهِ عَنْ حِفْظِهِ، ثُمَّ قَبَضَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ مِائَةٍ وَسِتِّينَ رَجُلًا، وَحَمَلَهُمْ إِلَى سِجِسْتَانَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى خُرَاسَانَ، وَرَتَّبَ فِي الْأَعْمَالِ نُوَّابَهُ. وَكَانَتْ وِلَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرَيْنِ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ. ذِكْرُ ظُهُورِ ابْنِ الصُّوفِيِّ بِمِصْرَ ثَانِيًا وَفِيهَا عَادَ ابْنُ الصُّوفِيِّ الْعَلَوِيُّ فَظَهَرَ بِمِصْرَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ظُهُورَهُ وَهَرَبَهُ إِلَى الْوَاحَاتِ، فَأَحَمَّ نَفْسَهُ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ، فَتَبِعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَسَارَ بِهِمْ إِلَى الْأَشْمُونِينَ، فَوُجِّهَ إِلَيْهِ جَيْشٌ عَلَيْهِمْ قَائِدٌ يُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي الْغَيْثِ، فَوَجَدَهُ قَدْ أَصْعَدَ إِلَى لِقَاءِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُمَرِيِّ، وَسَنَذْكُرُ بَعْدُ هَذَا. فَلَمَّا وَصَلَ الْعَلَوِيُّ إِلَى الْعُمَرِيِّ الْتَقَيَا، فَكَانَ بَيْنَهُمَا قِتَالٌ شَدِيدٌ، أَجْلَتِ الْوَقْعَةُ عَنِ انْهِزَامِ الْعَلَوِيِّ، فَوَلَّى مُنْهَزِمًا إِلَى أَسْوَانَ، فَعَاثَ فِيهَا، وَقَطَعَ كَثِيرًا مِنْ نَخْلِهَا. فَسَيَّرَ إِلَيْهِ ابْنُ طُولُونَ جَيْشًا، وَأَمَرَ بِطَلَبِهِ أَيْنَ كَانَ، فَسَارَ الْجَيْشُ فِي طَلَبِهِ فَوَلَّى هَارِبًا إِلَى عَيْذَابَ، وَعَبَرَ الْبَحْرَ إِلَى مَكَّةَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَكَّةَ بَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى وَالِيهَا، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَحَبَسَهُ، ثُمَّ سَيَّرَهُ إِلَى ابْنِ طُولُونَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مِصْرَ أُمِرَ بِهِ فَطِيفَ بِهِ فِي الْبَلَدِ، ثُمَّ سَجَنَهُ مُدَّةً وَأَطْلَقَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ. ذِكْرُ حَالِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُمَرِيِّ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُمَرِيِّ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَكَانَ سَبَبُ ظُهُورِهِ بِمِصْرَ أَنَّ الْبِجَاةَ أَقْبَلَتْ يَوْمَ الْعِيدِ، فَنَهَبُوا وَقَتَلُوا وَعَادُوا غَانِمِينَ، وَفَعَلُوا ذَلِكَ مَرَّاتٍ، فَخَرَجَ هَذَا الْعُمَرِيُّ غَضَبًا لِلَّهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَكَمَنَ لَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ،

فَلَمَّا عَادُوا خَرَجَ عَلَيْهِمْ، وَقَتَلَ مُقَدَّمَهُمْ وَمَنْ مَعَهُ، وَدَخَلَ بِلَادَهُمْ فَنَهَبَهَا، وَقَتَلَ فِيهِمْ فَأَكْثَرَ، وَنَهَبُوا وَسَبَوْا مَا لَا يُحْصَى، وَتَابَعَ عَلَيْهِمُ الْغَارَاتِ حَتَّى أَدَّوْا إِلَيْهِ الْجِزْيَةَ، وَلَمْ يَفْعَلُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَاشْتَدَّتْ شَوْكَةُ الْعُمَرِيِّ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُ ابْنَ طُولُونَ سَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا، فَلَمَّا الْتَقَوْا تَقَدَّمَ الْعُمَرِيُّ، وَقَالَ لِمُقَدَّمِ الْجَيْشِ: إِنَّ ابْنَ طُولُونَ لَا يَعْرِفُ خَبَرِي، لَا شَكَّ، عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ لِلْفَسَادِ، وَلَمْ يَتَأَذَّ بِي مُسْلِمٌ وَلَا ذِمِّيٌّ، وَإِنَّمَا خَرَجْتُ طَلَبًا لِلْجِهَادِ، فَاكْتُبْ إِلَى الْأَمِيرِ أَحْمَدَ عَرِّفْهُ كَيْفَ حَالِي، فَإِنْ أَمَرَكَ بِالِانْصِرَافِ فَانْصَرِفْ، وَإِلَّا إِنْ أَمَرَكَ بِغَيْرِ ذَلِكَ كُنْتَ مَعْذُورًا. فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ جَيْشُ ابْنِ طُولُونَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ أَخْبَرُوهُ بِحَالِ الْعُمَرِيِّ فَقَالَ: كُنْتُمْ أَنْهَيْتُمْ حَالَهُ إِلَيَّ، فَإِنَّهُ نُصِرَ عَلَيْكُمْ بِبَغْيِكُمْ، وَتَرَكَهُ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ وَثَبَ عَلَى الْعُمَرِيِّ غُلَامَانِ لَهُ فَقَتَلَاهُ، وَحَمَلَا رَأْسَهُ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، فَلَمَّا حَضَرَا عِنْدَهُ سَأَلَهُمَا عَنْ سَبَبِ قَتْلِهِ، فَقَالَا: أَرَدْنَا التَّقَرُّبَ إِلَيْكَ بِذَلِكَ، فَقَتَلَهُمَا، وَأَمَرَ بِرَأْسِ الْعُمَرِيِّ فَغُسِّلَ، وَكُفِّنَ، وَدُفِنَ. ذِكْرُ مَا كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ بِالْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، إِلَى طُلَيْطِلَةَ فَنَازَلَهَا وَحَصَرَهَا، وَكَانَ أَهْلُهَا قَدْ خَالَفُوا عَلَيْهِ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَأَخَذَ رَهَائِنَهُمْ. وَفِيهَا خَرَجَ أَهْلُ طُلَيْطُلَةَ إِلَى حِصْنِ سَكْيَانَ، وَكَانَ فِيهِ سَبْعُمِائَةَ رَجُلٍ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَكَانَ أَهْلُ طُلَيْطُلَةَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا الْتَحَمَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمُ انْهَزَمَ أَحَدُ مُقَدَّمِي أَهْلِهَا، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَبِيبٍ، فَتَبِعَهُ أَهْلُ طُلَيْطُلَةَ فِي الْهَزِيمَةِ، وَإِنَّمَا انْهَزَمَ لِعَدَاوَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُقَدَّمٍ آخَرَ اسْمُهُ طُرَيْشَةُ مِنْ أَهْلِ طُلَيْطُلَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يُوهِنَهُ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا انْهَزَمُوا قَتَلُوا الْبِرْقِيلَ (؟) . وَفِيهَا عَادَ عَمْرُو بْنُ عَمْرُوسَ إِلَى طَاعَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ مُخَالِفًا عَلَيْهِ عِدَّةَ سِنِينَ، فَوَلَّاهُ مَدِينَةَ أَمَشْقَةَ، وَحَصَرَ مُحَمَّدٌ حُصُونَ بَنِي مُوسَى، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى بَنْبَلُونَةَ فَوَطِئَ أَرْضَهَا وَعَادَ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ (وَفِيهَا سَارَتْ سَرِيَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى مَدِينَةٍ سَرَقُوسَةَ، فَصَالَحَهَا أَهْلُهَا عَلَى أَنْ أَطْلَقُوا الْأَسْرَى الَّذِينَ كَانُوا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ أَسِيرًا، فَلَمَّا أَطْلَقُوهُمْ عَادَتْ عَنْهُمْ) . وَفِيهَا قُتِلَ كِيجُورُ، وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْكُوفَةِ، فَسَارَ عَنْهَا إِلَى سَامَرَّا بِغَيْرِ إِذَنٍ، فَأُمِرَ بِالرُّجُوعِ فَأَبَى، فَحُمِلَ إِلَيْهِ مَالٌ لِيُفَرِّقَهُ فِي أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَقْنَعْ بِهِ، وَسَارَ حَتَّى أَتَى عُكْبَرَا، فُوُجِّهَ إِلَيْهِ مِنْ سَامَرَّا عِدَّةٌ مِنَ الْقُوَّادِ فَقَتَلُوهُ، وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى سَامَرَّا. وَفِيهَا غَلَبَ شَرْكَبُ الْحِمَارُ عَلَى مَرْوَ، وَنَاحِيَتِهَا وَنَهَبَهَا. وَفِيهَا انْصَرَفَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ عَنْ بَلْخَ، فَأَقَامَ بِقَهِسْتَانَ، وَوَلَّى عُمَّالَهُ هَرَاةَ، وَبُوشَنْجَ، وَبَاذَغِيسَ، وَانْصَرَفَ إِلَى سِجِسْتَانَ. وَفِيهَا فَارَقَ عَبْدُ اللَّهِ السِّجْزِيُّ يَعْقُوبَ، وَحَاصَرَ نَيْسَابُورَ وَبِهَا مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ (قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ، فَوَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ) إِلَيْهِ الرُّسُلَ وَالْفُقَهَاءَ، فَاخْتَلَفُوا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ وَلَّاهُ الطَّبَسَيْنِ، وَقُهِسْتَانَ. وَفِيهَا غَلَبَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ عَلَى قُومِسَ وَدَخَلَهَا أَصْحَابُهُ.

وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ بَيَانٍ، وَوَهْسُوذَانَ بْنِ جُسْتَانَ الدَّيْلَمَيِّ، وَانْهَزَمَ وَهْسُوذَانُ. وَفِيهَا نَزَلَتِ الرُّومُ عَلَى سُمَيْسَاطَ، ثُمَّ نَزَلُوا عَلَى مَلْطِيَّةَ، (وَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا) ، فَانْهَزَمَتِ الرُّومُ، وَقُتِلَ بِطْرِيقُ الْبَطَارِقَةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ الْمَعْرُوفُ بِبَرِّيَّةَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُوسَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زَكَرِيَّاءَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ حَيُّوَيْهِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرُوسَ بْنِ يُونُسَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ دِينَارٍ الْكُوفِيُّ التَّغْلِبِيُّ، وَكَانَ شِيعِيًّا ضَعِيفَ الْحَدِيثِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ الطَّائِيُّ الْمَوْصِلِيُّ، وَكَانَ مُحَدِّثًا، (وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ أَبُوهُ عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ) .

ثم دخلت سنة ستين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ] 260 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ دُخُولِ يَعْقُوبَ طَبَرِسْتَانَ وَفِيهَا وَاقَعَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ الْعَلَوِيَّ، فَهَزَمَهُ، وَدَخَلَ طَبَرِسْتَانَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ السِّجْزِيَّ [كَانَ] يُنَازِعُ يَعْقُوبَ الرِّئَاسَةَ بِسِجِسْتَانَ، فَقَهَرَهُ يَعْقُوبُ، فَهَرَبَ مِنْهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَلَمَّا سَارَ يَعْقُوبُ إِلَى نَيْسَابُورَ، كَمَا ذَكَرْنَا، هَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ بِطَبَرِسْتَانَ، فَسَارَ يَعْقُوبُ فِي أَثَرِهِ، فَلَقِيَهُ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ بِقَرْيَةِ سَارِيَةَ. وَكَانَ يَعْقُوبُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى الْحَسَنِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ وَيَرْجِعَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ لِذَلِكَ، لَا لِحَرْبِهِ، فَلَمْ يُسْلِمْهُ الْحَسَنُ، فَحَارَبَهُ يَعْقُوبُ، فَانْهَزَمَ الْحَسَنُ، وَمَضَى نَحْوَ السِّرِّ وَأَرْضِ الدَّيْلَمِ، وَدَخَلَ يَعْقُوبُ سَارِيَةَ، وَآمُلَ، وَجَبَى أَهْلَهَا خَرَاجَ سَنَةٍ، ثُمَّ سَارَ فِي طَلَبِ الْحَسَنِ، فَسَارَ إِلَى بَعْضِ جِبَالِ طَبَرِسْتَانَ، وَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِ الْأَمْطَارُ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلَمْ يَتَخَلَّصْ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَهَلَكَ عَامَّةُ مَا مَعَهُ مِنَ الظَّهْرِ. ثُمَّ أَرَادَ الدُّخُولَ خَلْفَ الْحَسَنِ، فَوَقَفَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يُرِيدُ [أَنْ] يَسْلُكَهُ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْوُقُوفِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ وَحْدَهُ، وَتَأَمَّلَ الطَّرِيقَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ فَأَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ غَيْرُ هَذَا، وَإِلَّا لَا طَرِيقَ إِلَيْهِ. وَكَانَ نِسَاءُ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ قُلْنَ لِلرِّجَالِ: دَعُوهُ يَدْخُلْ، فَإِنَّهُ إِنْ دَخَلَ كَفَيْنَاكُمْ أَمْرَهُ، وَعَلَيْنَا أَسْرُهُ لَكُمْ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ طَبَرِسْتَانَ عَرَضَ رِجَالَهُ، فَفَقَدَ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَذَهَبَ أَكْثَرُ مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْإِبِلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْأَثْقَالِ، وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِمَا فَعَلَهُ مَعَ

الْحَسَنِ مِنَ الْهَزِيمَةِ، وَسَارَ إِلَى الرَّيِّ فِي طَلَبِ عَبْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَارَ إِلَيْهَا بَعْدَ هَزِيمَةِ الْحَسَنِ، فَلَمَّا قَارَبَهَا يَعْقُوبُ كَتَبَ إِلَى الصَّلَانِيِّ، وَإِلَيْهَا يُخَيِّرُهُ بَيْنَ تَسْلِيمِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَيْهِ وَيَنْصَرِفُ عَنْهُ، وَبَيْنَ الْمُحَارِبَةِ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ فَرَحَلَ عَنْهُ، وَقَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِالْمَوْصِلِ وَإِخْرَاجِ عَامِلِهِمْ كَانَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَوْصِلِ أَسَاتِكِينَ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ قُوَّادِ الْأَتْرَاكِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ ابْنَهُ أَذْكُوتَكِينَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ ; فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّيْرُوزِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ نِيسَانَ، غَيَّرَهُ الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ، وَدَعَا أَذْكُوتَكِينَ وَوُجُوهَ أَهْلِ الْمَوْصِلِ إِلَى قُبَّةٍ فِي الْمَيْدَانِ، وَأَحْضَرَ أَنْوَاعَ الْمَلَاهِي، وَأَكْثَرَ الْخَمْرَ، وَشَرِبَ ظَاهِرًا، وَتَجَاهَرَ أَصْحَابُهُ بِالْفُسُوقِ، وَفِعْلِ الْمُنْكَرَاتِ، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي النَّاسِ. وَكَانَ تِلْكَ السَّنَةَ بَرْدٌ شَدِيدٌ أَهْلَكَ الْأَشْجَارَ، وَالثِّمَارَ، وَالْحِنْطَةَ، وَالشَّعِيرَ، وَطَالَبَ النَّاسَ بِالْخَرَاجِ عَلَى الْغَلَّاتِ الَّتِي هَلَكَتْ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ لَا يَسْمَعُ بِفَرَسٍ جَيِّدٍ عِنْدَ أَحَدٍ إِلَّا أَخَذَهُ، وَأَهْلُ الْمَوْصِلِ صَابِرُونَ، إِلَى أَنْ وَثَبَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى امْرَأَةٍ فَأَخَذَهَا فِي الطَّرِيقِ، فَامْتَنَعَتْ، وَاسْتَغَاثَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ اسْمُهُ إِدْرِيسُ الْحِمْيَرِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالصَّلَاحِ، فَخَلَّصَهَا مِنْ يَدِهِ، فَعَادَ الْجُنْدِيُّ إِلَى أَذْكُوتَكِينَ فَشَكَا مِنَ الرَّجُلِ، فَأَحْضَرَهُ وَضَرَبَهُ ضَرْبًا شَدِيدًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكْشِفَ الْأَمَرَ، فَاجْتَمَعَ وُجُوهُ أَهْلِ الْمَوْصِلِ إِلَى الْجَامِعِ وَقَالُوا: قَدْ صَبَرْنَا عَلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَشَتْمِ الْأَعْرَاضِ، وَإِبْطَالِ السُّنَنِ وَالْعَسْفِ، وَقَدْ أَفْضَى الْأَمَرُ إِلَى أَخْذِ الْحَرِيمِ، فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى إِخْرَاجِهِ، وَالشَّكْوَى مِنْهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ. وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ فِي جُنْدِهِ، وَأَخَذَ مَعَهُ النَّفَّاطِينَ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ وَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا، حَتَّى أَخْرَجُوهُ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَنَهَبُوا دَارَهُ، وَأَصَابَهُ حَجَرٌ فَأَثْخَنَهُ، وَمَضَى يَوْمَهُ إِلَى بَلَدِهِ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى سَامَرَّا.

وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَى يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، وَقَلَّدُوهُ أَمْرَهُمْ، فَفَعَلَ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى أَنِ انْقَضَتْ سَنَةُ سِتِّينَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ [وَمِائَتَيْنِ] كَتَبَ أَسْتَاتَكِينُ إِلَى الْهَيْثَمِ بْنِ الْمُعَمِّرِ التَّغْلِبِيِّ، ثُمَّ الْعَدَوِيِّ، فِي أَنْ يَتَقَلَّدَ الْمَوْصِلَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخِلَعَ وَاللِّوَاءَ، وَكَانَ بِدِيَارِ رَبِيعَةَ، فَجَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَنَزَلَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَلَدِ دِجْلَةُ، فَقَاتَلُوهُ، فَعَبَرَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَزَحَفَ إِلَى بَابِ الْبَلَدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ فِي أَهْلِ الْمَوْصِلِ، فَقَاتَلُوهُ فَقَتَلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى كَثِيرَةً، وَكَثُرَتِ الْجِرَاحَاتُ وَعَادَ الْهَيْثَمُ عَنْهُمْ. فَاسْتَعْمَلَ أَسَاتِكِينُ عَلَى الْمَوْصِلِ إِسْحَاقَ بْنَ أَيُّوبَ التَّغْلِبِيَّ فِي جَمْعٍ يَبْلُغُونَ عِشْرِينَ أَلْفًا، مِنْهُمْ حَمْدَانُ بْنُ حَمْدُونَ التَّغْلِبِيُّ، وَغَيْرُهُ، فَنَزَلَ عِنْدَ الدَّيْرِ الْأَعْلَى، فَقَاتَلَهُ أَهْلُ الْمَوْصِلِ وَمَنَعُوهُ، فَبَقُوا كَذَلِكَ مُدَّةً، فَمَرِضَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَمِيرُ، فَطَمِعَ إِسْحَاقُ فِي الْبَلَدِ، وَوَصَلَ إِلَى سُوقِ الْأَرْبِعَاءِ، وَأَحْرَقَ سُوقَ الْحَشِيشِ، فَخَرَجَ بَعْضُ الْعُدُولِ، اسْمُهُ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ مُصْحَفًا، وَاسْتَغَاثَ بِالْمُسْلِمِينَ فَأَجَابُوهُ، وَعَادُوا إِلَى الْحَرْبِ، وَحَمَلُوا عَلَى إِسْحَاقَ وَأَصْحَابِهِ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ. وَبَلَغَ يَحْيَى بْنَ سُلَيْمَانَ الْخَبَرُ فَأَمَرَ فَحُمِلَ فِي مِحَفَّةٍ، وَجُعِلَ أَمَامَ الصَّفِّ، فَلَمَّا رَآهُ أَهْلُ الْمَوْصِلِ قَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ، وَلَمْ يَزَلِ الْأَمَرُ كَذَلِكَ، وَإِسْحَاقُ يُرَاسِلُ أَهْلَ الْمَوْصِلِ، (وَيَعِدُهُمُ الْأَمَانَ) ، وَحُسْنَ السِّيرَةِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَلَدَ، وَيُقِيمَ بِالرَّبَضِ الْأَعْلَى، فَدَخَلَ وَأَقَامَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ شَرٌّ، فَرَجَعُوا إِلَى الْحَرْبِ، وَأَخْرَجُوهُ عَنْهَا، وَاسْتَقَرَّ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ بِالْمَوْصِلِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ أَهْلِ طُلَيْطُلَةَ وَهَوَّارَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ مُوسَى بْنُ ذِي النُّونِ الْهَوَّارِيُّ بِشَنْتِ بَرِيَّةَ، وَأَغَارَ عَلَى أَهْلِ طُلَيْطُلَةَ، وَدَخَلَ حِصْنَ وَلِيدٍ مِنْ شَنْتَ بَرِيَّةَ، فَخَرَجَ أَهْلُ طُلَيْطُلَةَ إِلَيْهِ فِي نَحْوِ عِشْرِينَ

أَلْفًا، فَلَمَّا الْتَقَوْا بِمُوسَى وَاقْتَتَلُوا انْهَزَمَ مُحَمَّدُ بْنُ طُرَيْشَةَ فِي أَصْحَابِهِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ طُلَيْطُلَةَ، فَتَبِعَهُ أَهْلُ طُلَيْطُلَةَ فِي الْهَزِيمَةِ، وَانْهَزَمَ مَعَهُمْ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَعَمِلَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ مُكَافَأَةً لِمُطَرِّفٍ حِينَ انْهَزَمَ بِالنَّاسِ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ طُلَيْطُلَةَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَوِيَ مُوسَى بْنُ ذِي النُّونِ، وَهَابَهُ مَنْ حَاذَرَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ مُسَاوِرٍ الشَّارِيِّ مُحَمَّدَ بْنَ هَارُونَ بْنِ الْمُعَمِّرِ، رَآهُ وَهُوَ يُرِيدُ سَامَرَّا، فَقَتَلَهُ، وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى مُسَاوِرٍ، فَطَلَبَتْ رَبِيعَةُ بِثَأْرِهِ، فَنُدِبَ مَسْرُورٌ الْبَلْخِيُّ، وَغَيْرُهُ إِلَى أَخْذِ الطُّرُقِ عَلَى مُسَاوِرٍ. وَفِيهَا اشْتَدَّ الْغَلَاءُ فِي عَامَّةِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَانْجَلَى مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَثِيرٌ، وَرَحَلَ عَنْهَا عَامِلُهَا، وَهُوَ بَرِيَّةُ، وَبَلَغَ الْكُرُّ [مِنَ] الْحِنْطَةِ بِبَغْدَاذَ عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ، وَدَامَ ذَلِكَ شُهُورًا. وَفِيهَا قَتَلَتِ الْأَعْرَابُ مَنْجُورًا وَالِيَ حِمْصَ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا بَكْتُمُرُ. وَفِيهَا قُتِلَ الْعَلَاءُ بْنُ أَحْمَدَ الْأَزْدِيُّ عَامِلُ أَذْرَبِيجَانَ، وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ فُلِجَ، فَاسْتَعْمَلَ الْخَلِيفَةُ مَكَانَهُ أَبَا الرُّدَيْنِيِّ عُمَرَ بْنَ عَلِيٍّ، فَلَمَّا قَارَبَهَا خَرَجَ إِلَيْهِ الْعَلَاءُ، فَتَحَارَبَا، فَقُتِلَ الْعَلَاءُ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَأَخَذَ أَبُو الرُّدَيْنِيِّ مَا خَلَّفَهُ الْعَلَاءُ، وَكَانَ مَبْلَغُهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَسَبْعُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَعْرُوفُ بِبَرِيَّةَ، وَهُوَ أَمِيرُ مَكَّةَ. وَفِيهَا ظَهَرَ بِمِصْرَ إِنْسَانٌ يُكَنَّى أَبَا رَوْحٍ، وَاسْمُهُ سَكَنٌ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الصُّوفِيِّ، وَاجْتَمَعَ لَهُ جَمَاعَةٌ، فَقَطَعَ الطَّرِيقَ، وَأَخَافَ السَّبِيلَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ ابْنُ طُولُونَ

جَيْشًا، فَوَقَفَ أَبُو رُوحٍ فِي أَرْضٍ كَثِيرَةِ الشُّقُوقِ، وَقَدْ كَانَ بِهَا قَمْحٌ فَحُصِدَ، وَبَقِيَ مِنْ تِبْنِهِ عَلَى الْأَرْضِ مَا يَسْتُرُ الشُّقُوقَ، وَقَدْ أَلِفُوا الْمَشْيَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَرْضِ. فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْجَيْشُ لَقُوهُمْ، ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ أَبِي رَوْحٍ، فَتَبِعَهُمْ عَسْكَرُ ابْنِ طُولُونَ، فَوَقَعَتْ حَوَافِرُ خُيُولِهِمْ فِي تِلْكَ الشُّقُوقِ، فَسَقَطَ كَثِيرٌ مِنْ فُرْسَانِهَا عَنْهَا، وَتَرَاجَعَ أَصْحَابُ أَبِي رَوْحٍ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ شَرَّ قِتْلَةٍ وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ أَسْوَأَ هَزِيمَةٍ. فَسَيَّرَ أَحْمَدُ جَيْشًا إِلَى طَرِيقِهِمْ إِلَى الْوَاحَاتِ، وَجَيْشًا فِي طَلَبِهِ، فَلَقِيَهُ الْجَيْشُ الَّذِي فِي طَلَبِهِ وَقَدْ تَحَصَّنَ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ، فَحَذَرَهَا عَسْكَرُ أَحْمَدَ، فَحِينَ بَطَلَتْ حِيَلُهُمُ انْهَزَمَ، وَتَبِعَهُمُ الْعَسْكَرُ، فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى طَرِيقِ الْوَاحَاتِ رَأَى أَبُو رَوْحٍ الطَّرِيقَ قَدْ مُلِكَتْ عَلَيْهِ، فَرَاسَلَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَبُذِلَ لَهُ، وَبَطَلَتِ الْحَرْبُ، وَكُفِيَ الْمُسْلِمُونَ شَرَّهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيُّ الْحِمَّانِيُّ، وَكَانَ يَسْكُنُ الْحِمَّانَ، فَنُسِبَ إِلَيْهَا. وَفِيهَا قُتِلَ عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ صَاحِبُ الْكُوفَةِ، قَتَلَهُ صَاحِبُ الزَّنْجِ. (وَفِيهَا كَانَ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَالْأَنْدَلُسِ غَلَاءٌ شَدِيدٌ، وَعَمَّ غَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَتَبِعَهُ وَبَاءٌ وَطَاعُونٌ عَظِيمٌ هَلَكَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدُوسَ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ صَاحِبُ الْمَجْمُوعَةِ فِي الْفِقْهِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ) .

وَفِيهَا مَاتَ مَالِكُ بْنُ طَوْقٍ التَّغْلِبِيُّ بِالرَّحْبَةِ، وَهُوَ بَنَاهَا، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَلَوِيُّ الْعَسْكَرِيُّ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الِاثْنَى عَشَرَ، عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ، وَهُوَ وَالِدُ مُحَمَّدٍ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ الْمُنْتَظَرَ بِسِرْدَابِ سَامَرَّا ; (وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ الزَّعْفَرَانِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ البَغْدَاذِيِّينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ حُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَكِيمُ الطَّبِيبُ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَ كُتُبَ الْحُكَمَاءِ الْيُونَانِيِّينَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ عَالِمًا بِهَا.

ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ] 261 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ وَاصِلٍ وَابْنِ مُفْلِحٍ وَفِيهَا تَحَارَبَ ابْنُ وَاصِلٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُفْلِحٍ وَطَاشْتِمُرُ. . وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ وَاصِلَ كَانَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ سِيمَا، وَتَغَلَّبَ عَلَى فَارِسَ، فَأَضَافَ إِلَى الْمُعْتَمِدِ فَارِسَ إِلَى مُوسَى بْنِ بُغَا، وَالْأَهْوَازَ، وَالْبَصْرَةَ، وَالْبَحْرَيْنَ، وَالْيَمَامَةَ، مَعَ مَا كَانَ إِلَيْهِ ; فَوَجَّهَ مُوسَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُفْلِحٍ، وَهُوَ شَابُّ عُمْرُهُ إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً، إِلَى الْأَهْوَازِ، وَوَلَّاهُ إِيَّاهَا مَعَ فَارِسَ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ طَاشْتِمُرُ ; فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ ابْنُ وَاصِلٍ، وَأَنَّ ابْنَ مُفْلِحٍ قَدْ سَارَ نَحْوَهُ مِنَ الْأَهْوَازِ، زَحَفَ إِلَيْهِ مِنْ فَارِسَ، فَالْتَقَيَا بِرَامَهُرْمُزَ. وَانْضَمَّ أَبُو دَاوُدَ الصُّعْلُوكُ إِلَى ابْنِ وَاصِلٍ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأُخِذَ أَسِيرًا، وَقُتِلَ طَاشْتِمُرُ، وَاصْطُلِمَ عَسْكَرُهُمَا، وَغُنِمَ (مَا فِيهِ مِنَ) الْأَمْوَالِ وَالْعُدَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى ابْنِ وَاصِلٍ فِي إِطْلَاقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَتَلَهُ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ مَاتَ، وَسَارَ ابْنُ وَاصِلٍ مِنْ رَامَهُرْمُزَ، مِنْ بَعْدِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، مُظْهِرًا أَنَّهُ يُرِيدُ وَاسِطَ لِحَرْبِ مُوسَى بْنِ بُغَا، فَانْتَهَى إِلَى الْأَهْوَازِ وَفِيهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سِيمَا فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَلَمَّا رَأَى مُوسَى شِدَّةَ الْأَمَرَ بِهَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَكَثْرَةِ الْمُتَغَلِّبِينَ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْهُمْ، سَأَلَ أَنْ يُعْفَى، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ. ذِكْرُ وِلَايَةِ أَبِي السَّاجِ الْأَهْوَازَ وَفِيهَا وَلِيَ أَبُو السَّاجِ الْأَهْوَازَ، بَعْدَ مَسِيرَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْهَا إِلَى فَارِسَ، وَأَمَرَ بِمُحَارَبَةِ

الزَّنْجِ، فَسَيَّرَ صِهْرَهُ (عَبْدَ الرَّحْمَنِ) لِمُحَارَبَةِ الزَّنْجِ، فَلَقِيَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ بِنَاحِيَةِ دَوْلَابَ، فَقُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَانْحَازَ أَبُو السَّاجِ إِلَى نَاحِيَةِ عَسْكَرِ مُكْرَمٍ، وَدَخَلَ الزَّنْجُ الْأَهْوَازَ، فَقَتَلُوا أَهْلَهَا، وَسَبَوْا وَأَحْرَقُوا. ثُمَّ انْصَرَفَ أَبُو السَّاجِ عَمَّا كَانَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَهْوَازِ، وَحَرْبِ الزَّنْجِ، وَوَلَّاهَا إِبْرَاهِيمَ بْنَ سِيمَا، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى انْصَرَفَ عَنْهَا مَعَ مُوسَى بْنِ بُغَا. وَفِيهَا وَلِيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَوْسٍ الْبَلْخِيُّ طَرِيقَ خُرَاسَانَ. ذِكْرُ عَوْدِ الصَّفَّارِ إِلَى فَارِسَ وَالْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ وَاصِلٍ لَمَّا كَانَ مِنَ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُفْلِحٍ وَبَيْنَ ابْنِ وَاصِلٍ مَا ذَكَرْنَاهُ، اتَّصَلَ خَبَرُهُمَا إِلَى يَعْقُوبَ الصَّفَّارِ وَهُوَ بِسِجِسْتَانَ، فَتَجَدَّدَ طَمَعُهُ فِي مُلْكِ بِلَادِ فَارِسَ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالْخَزَائِنِ وَالسِّلَاحِ الَّتِي غَنِمَهَا ابْنُ وَاصِلٍ مِنَ ابْنِ مُفْلِحٍ، فَسَارَ مُجِدًّا. وَبَلَغَ ابْنُ وَاصِلٍ خَبَرُ قُرْبِهِ مِنْهُ وَأَنَّهُ نَزَلَ الْبَيْضَاءَ مِنْ أَرْضِ فَارِسَ، وَهُوَ بِالْأَهْوَازِ، فَعَادَ عَنْهَا لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ، وَأَرْسَلَ خَالَهُ أَبَا بِلَالٍ مِرْدَاسًا إِلَى الصَّفَّارِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ، وَضَمِنَ لَهُ طَاعَةَ ابْنِ وَاصِلٍ، فَأَرْسَلَ يَعْقُوبُ الصَّفَّارُ إِلَى ابْنِ وَاصِلٍ كُتُبًا وَرُسُلًا فِي الْمَعْنَى، فَحَبَسَهُمُ ابْنُ وَاصِلٍ، وَسَارَ يَطْلُبُ الصَّفَّارَ وَالرُّسُلُ مَعَهُ يُرِيدُ أَنْ يُخْفِيَ خَبَرَهُ، وَأَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفَّارِ بَغْتَةً لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَيَنَالُ مِنْهُ غَرَضَهُ، وَيُوقِعُ بِهِ. فَسَارَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، فِي أَرْضٍ صَعْبَةِ الْمَسْلَكِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ خَبَرَهُ قَدْ خَفِيَ عَنِ الصَّفَّارِ، فَلَمَّا كَانَ الظُّهْرُ تَعِبَتْ دَوَابُّهُمْ، فَنَزَلُوا لِيَسْتَرِيحُوا، فَمَاتَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ وَاصِلٍ مِنَ الرَّجَّالَةِ كَثِيرٌ جُوعًا وَعَطَشًا، وَبَلَغَ خَبَرُهُمُ الصَّفَّارَ، فَجَمَعَ أَصْحَابَهُ وَأَعْلَمَهُمُ الْخَبَرَ وَسَارَ، وَقَالَ لِأَبِي بِلَالٍ: إِنَّ ابْنَ وَاصِلٍ قَدْ غَدَرَ بِنَا، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ! وَمَضَى الصَّفَّارُ إِلَى ابْنِ وَاصِلٍ، فَلَمَّا قَارَبَهُمْ وَعَلِمُوا بِهِ انْخَذَلُوا وَضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ وَمُقَاتَلَتِهِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمُوا خُطْوَةً، فَلَمَّا صَارَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ رَمْيَةُ سَهْمٍ انْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ وَاصِلٍ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَتَبِعَهُمْ عَسْكَرُ الصَّفَّارِ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ جَمِيعَ مَا غَنِمُوا مِنَ ابْنِ مُفْلِحٍ، وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِ فَارِسَ، وَرَتَّبَ بِهَا أَصْحَابَهُ وَأَصْلَحَ أَحْوَالَهَا. (وَمَضَى ابْنُ وَاصِلٍ مُنْهَزِمًا، فَأَخَذَ أَمْوَالَهُ مِنْ قَلْعَتِهِ، وَكَانَتْ أَرْبَعِينَ أَلْفَ أَلْفِ

دِرْهَمٍ، وَأَوْقَعَ يَعْقُوبُ بِأَهْلِ زَمَّ لِأَنَّهُمْ أَعَانُوا ابْنَ وَاصِلٍ) ، وَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْأَهْوَازِ وَغَيْرِهَا. ذِكْرُ تَجْهِيزَ أَبِي أَحْمَدَ لِلْمَسِيرِ إِلَى الْبَصْرَةِ وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ جَلَسَ الْمُعْتَمِدُ فِي دَارِ الْعَامَّةِ، فَوَلَّى ابْنَهُ جَعْفَرًا الْعَهْدَ، وَلَقَّبَهُ الْمُفَوِّضَ إِلَى اللَّهِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ مُوسَى بْنَ بُغَا، فَوَلَّاهُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَمِصْرَ، وَالشَّامَ، وَالْجَزِيرَةَ، وَالْمَوْصِلَ، (وَأَرْمِينِيَّةَ) ، وَطَرِيقَ خُرَاسَانَ وَمِهْرَجَانِقَذَقَ، وَوَلَّى أَخَاهُ أَبَا أَحْمَدَ الْعَهْدَ بَعْدَ جَعْفَرٍ، وَلَقَّبَهُ النَّاصِرَ لِدِينِ اللَّهِ الْمُوَفَّقَ، وَوَلَّاهُ الْمَشْرِقَ، وَبَغْدَاذَ، وَالسَّوَادَ وَالْكُوفَةَ، وَطَرِيقَ مَكَّةَ، وَالْمَدِينَةَ، وَالْيَمَنَ، وَكُسْكَرَ، وَكُوَرَ دِجْلَةَ، الْأَهْوَازَ، وَفَارِسَ، وَأَصْبَهَانَ، وَقُمَّ، وَكَرَجَ، وَدِينَوَرَ، وَالرَّيَّ، وَزَنْجَانَ وَالسِّنْدَ، وَعَقَدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِوَاءَيْنِ: أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ، وَشَرَطَ إِنْ حَدَثَ بِهِ الْمَوْتُ، وَجَعْفَرٌ لَمْ يَبْلُغْ، أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلْمُوَفَّقِ، ثُمَّ لِجَعْفَرٍ بَعْدَهُ، وَأُخِذَتِ الْبَيْعَةُ بِذَلِكَ. فَعَقَدَ جَعْفَرٌ لِمُوسَى عَلَى الْمَغْرِبِ، وَأُمِرَ الْمُوَفَّقَ أَنْ يَسِيرَ إِلَى حَرْبِ الزَّنْجِ ; فَوَلَّى الْمُوَفَّقُ الْأَهْوَازَ وَالْبَصْرَةَ، وَكُوَرَ دِجْلَةَ مَسْرُورًا الْبَلْخِيَّ، وَسَيَّرَهُ فِي مُقَدِّمَتِهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَعَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ بَعْدَهُ، فَحَدَثَ مِنْ أَمْرِ يَعْقُوبَ الصَّفَّارِ مَا مَنَعَهُ عَنِ الْمَسِيرِ، وَسَنَذْكُرُ أَوَّلَ سَنَةِ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيهَا فَارَقَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدَوَيهِ يَعْقُوبَ بْنَ اللَّيْثِ، وَسَارَ إِلَى أَبِي السَّاجِ، وَأَقَامَ مَعَهُ بِالْأَهْوَازِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْمُعْتَمِدُ وَسَأَلَ أَنْ يُوَجِّهَ الْحُسَيْنَ بْنَ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ إِلَى خُرَاسَانَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ (الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ) عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.

وَمَاتَ الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ بِمَكَّةَ بَعْدَمَا حَجَّ. ذِكْرُ وِلَايَةِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَامَانَ خِدَاهَ بْنَ جُثْمَانَ بْنَ طِمْغَاثَ بْنِ نُوشَرْدَ بْنِ بَهْرَامَ جُوبِينَ بْنِ بَهْرَامَ خَشَنْشَ، وَكَانَ بَهْرَامُ خَشَنْشُ مِنَ الرَّيِّ، فَجَعَلَهُ كِسْرَى هُرْمُزُ بْنُ أَنُوشِرْوَانَ مَرْزُبَانَ أَذْرَبِيجَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَهْرَامَ جُوبِينَ عِنْدَ ذِكْرِ كِسْرَى هُرْمُزَ. وَلَمَّا وَلِيَ الْمَأْمُونُ خُرَاسَانَ، وَاصْطَلَحَ أَوْلَادُهُ وَهُمْ: نُوحٌ، وَأَحْمَدُ، وَيَحْيَى، وَإِلْيَاسُ، بَنُو أَسَدِ بْنِ سَامَانَ، قَرَّبَهُمْ وَرَفَعَ مِنْهُمْ وَاسْتَعْمَلَهُمْ وَرَعَى حَقَّ سَلَفِهِمْ، فَلَمَّا رَجَعَ الْمَأْمُونُ إِلَى الْعِرَاقِ اسْتَخْلَفَ عَلَى خُرَاسَانَ غَسَّانَ بْنَ عَبَّادٍ، فَوَلَّى غَسَّانُ نُوحَ بْنَ أَسَدٍ، فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ سَمَرْقَنْدَ، وَأَحْمَدَ بْنَ أَسَدٍ فَرْغَانَةَ، وَيَحْيَى بْنَ أَسَدٍ الشَّاشَ وَأَشْرُوسَنَةَ، وَإِلْيَاسَ بْنَ أَسَدٍ هَرَاةَ. فَلَمَّا وَلِيَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ خُرَاسَانَ وَلَّاهُمْ هَذِهِ الْأَعْمَالَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ نُوحُ بْنُ أَسَدٍ، وَأَقَرَّ طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخَوَيْهِ عَلَى عَمَلِهِ: يَحْيَى، وَأَحْمَدَ، وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ أَسَدٍ عَفِيفَ الطُّعْمَةِ، مَرْضِيَّ السِّيرَةِ، لَا يَأْخُذُ رِشْوَةً، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَفِيهِ قِيلَ، أَوْ فِي ابْنِهِ نَصْرٍ: ثَوَى ثَلَاثِينَ حَوْلًا فِي وِلَايَتِهِ ... فَجَاعَ يَوْمَ ثَوَى فِي قَبْرِهِ حَشَمُهُ وَكَانَ إِلْيَاسُ يَلِي هَرَاةَ، (وَلَهُ بِهَا عَقِبٌ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ، فَاسْتَقْدَمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ) ، وَكَانَ رَسْمُهُ فِيمَنْ يَسْتَقْدِمُهُ أَنْ يَعُدَّ أَيَّامَهُ، فَأَبْطَأَ إِلْيَاسُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِالْمُقَامِ حَيْثُ يَلْقَاهُ

كِتَابُهُ، فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ وَقَدْ سَارَ عَنْ بُوشَنْجَ، فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً تَأْدِيبًا لَهُ، ثُمَّ أَذِنَ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ. فَلَمَّا مَاتَ إِلْيَاسُ بِهَرَاةَ أَقَرَّ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُهُ أَبَا إِسْحَاقَ مُحَمَّدَ بْنَ إِلْيَاسَ عَلَى عَمَلِهِ، فَأَقَامَ بِهَرَاةَ ; وَكَانَ لِأَحْمَدَ بْنِ أَسَدٍ سَبْعَةُ بَنِينَ، وَهُمْ: نَصْرٌ، وَأَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ، وَأَبُو زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى، وَأَبُو الْأَشْعَثِ أَسَدٌ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو غَانِمٍ حُمَيْدٌ، لَمَّا تُوَفِّي أَحْمَدُ بْنُ أَسَدٍ اسْتَخْلَفَ ابْنَهُ نَصْرًا عَلَى أَعْمَالِهِ بِسَمَرْقَنْدَ وَمَا وَرَاءَهَا، فَبَقِيَ عَامِلًا عَلَيْهَا إِلَى آخِرِ أَيَّامِ الطَّاهِرِيَّةِ، وَبَعْدَ زَوَالِ أَمْرِهِمْ إِلَى أَنْ مَضَى لِسَبِيلِهِ. وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ يَخْدُمُ أَخَاهُ نَصْرًا، فَوَلَّاهُ نَصْرٌ بُخَارَى سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. وَمَعْنَى قَوْلِ أَبِي جَعْفَرٍ: وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ [وَمِائَتَيْنِ] وَلِيَ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، أَنَّهُ تَوَلَّاهُ مِنْ جَانِبِ الْخَلِيفَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ، مِنْ قَبْلُ، مِنْ عُمَّالِ خُرَاسَانَ، وَإِلَّا فَالْقَوْمُ تَوَلَّوْا قَبْلَ هَذَا التَّارِيخِ. وَكَانَ سَبَبُ اسْتِعْمَالِهِ إِسْمَاعِيلَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْلَى يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ عَلَى خُرَاسَانَ أَنْفَذَ نَصْرُ جَيْشًا إِلَى شَطِّ جَيْحُونَ لِيَأْمَنَ عُبُورَ يَعْقُوبَ، فَقَتَلُوا مُقَدَّمَهُمْ، وَرَجَعُوا إِلَى بُخَارَى، فَخَافَهُمْ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ نَائِبُ نَصْرٍ عَلَى نَفْسِهِ، فَتَغَيَّبَ عَنْهُمْ، فَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَبَا هَاشِمٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُبَشِّرِ بْنِ رَافِعِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، ثُمَّ عَزَلُوهُ، وَوَلَّوْا أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ لَيْثٍ وَالِدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُنَيْدٍ، ثُمَّ صَرَفُوهُ، وَوَلَّوُا الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ مِنْ وَلَدِ عَبْدَةَ بْنِ حَدِيدٍ ; ثُمَّ صَرَفُوهُ، وَبَقِيَتْ بُخَارَى بِغَيْرِ أَمِيرٍ، فَكَتَبَ رَئِيسُهَا وَفَقِيهُهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَفْصٍ إِلَى نَصْرٍ يَسْأَلُهُ تَوْجِيهَ مَنْ يَضْبُطُ بُخَارَى، فَوَجَّهَ أَخَاهُ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ إِنَّ إِسْمَاعِيلَ كَاتَبَ رَافِعَ بْنَ هَرْثَمَةَ حِينَ وَلِيَ خُرَاسَانَ، فَتَعَاقَدَا عَلَى التَّعَاوُنِ، وَالتَّعَاضُدِ، فَطَلَبَ مِنْهُ إِسْمَاعِيلُ أَعْمَالَ خُوَارِزْمَ فَوَلَّاهُ إِيَّاهَا. وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ يُؤَامِرُهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ، ثُمَّ سَعَتِ السُّعَاةُ بَيْنَ نَصْرٍ، وَإِسْمَاعِيلَ

فَأَفْسَدُوا مَا بَيْنَهُمَا، فَقَصَدَهُ نَصْرٌ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَأَرْسَلَ إِسْمَاعِيلُ حَمَّوَيْهِ بْنَ عَلِيٍّ إِلَى رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ يَسْتَنْجِدُهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَوَافَى بُخَارَى، قَالَ حَمَّوَيْهِ: فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي، وَقُلْتُ: إِنْ ظَفِرَ إِسْمَاعِيلُ بِأَخِيهِ فَمَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَقْبِضَ رَافِعٌ عَلَى إِسْمَاعِيلَ، وَيَتَغَلَّبَ عَلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ؟ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَوَفَّى لِإِسْمَاعِيلَ، فَلَا يَزَالُ إِسْمَاعِيلُ مُعْتَرِفًا بِأَنَّهُ فَقِيدُ رَافِعٍ وَجَرِيحُهُ، وَيَحْتَاجُ [أَنْ] يَتَصَرَّفَ عَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَاجْتَمَعْتُ بِرَافِعٍ خَلْوَةً، وَقُلْتُ لَهُ: نَصِيحَتُكَ وَاجِبَةٌ عَلَيَّ، وَقَدْ ظَهَرَ لِي مِنْ نَصْرٍ، وَإِسْمَاعِيلَ مَا كَانَ خَفِيًّا عَنِّي، وَلَسْتُ آمَنُهُمَا عَلَيْكَ، وَالرَّأْيُ أَنْ لَا تُشَاهِدَ الْحَرْبَ، وَتَحْمِلَهُمَا (عَلَى الصُّلْحِ ; فَقَبِلَ ذَلِكَ، فَتَصَالَحَا، وَانْصَرَفَ عَنْهُمَا. قَالَ حَمَّوَيْهِ: ثُمَّ إِنَّنِي أَعْلَمْتُ إِسْمَاعِيلَ) ، بَعْدَ ذَلِكَ الْحَالِ كَيْفَ كَانَ، فَعَذَرَ رَافِعًا فِي إِلْزَامِهِ بِالصُّلْحِ، وَاسْتَصْوَبَ فِعْلَ حَمَّوَيْهِ، بَقِيَ نَصْرٌ وَإِسْمَاعِيلُ مُدَّةً، ثُمَّ عَادَتِ السُّعَاةُ، فَفَسَدَ مَا بَيْنَهُمَا، حَتَّى تَحَارَبَا سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَظَهَرَ إِسْمَاعِيلُ بِأَخِيهِ نَصْرٍ، فَلَمَّا حَمَلَ إِلَيْهِ تَرَجَّلَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ، وَقَبَّلَ يَدَيْهِ، وَرَدَّهُ مِنْ مَوْضِعِهِ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، وَتَصَرَّفَ عَلَى النِّيَابَةِ عَنْهُ بِبُخَارَى. وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ خَيِّرًا، يُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَيُكْرِمُهُمْ، وَبِبَرَكَتِهِمْ دَامَ مُلْكُهُ وَمُلْكُ أَوْلَادِهِ وَطَالَتْ أَيَّامُهُمْ. حَكَى أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْعَمِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَمِيرَ أَبَا إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ: كُنْتُ بِسَمَرْقَنْدَ، فَجَلَسْتُ يَوْمًا لِلْمَظَالِمِ، وَجَلَسَ أَخِي إِسْحَاقُ إِلَى جَانِبِي، فَدَخَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، فَقُمْتُ لَهُ إِجْلَالًا لِعِلْمِهِ وَدِينِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ عَاتَبَنِي أَخِي إِسْحَاقُ، وَقَالَ: أَنْتَ أَمِيرُ خُرَاسَانَ، يَدْخُلُ عَلَيْكَ رَجُلٌ مَنْ رَعِيَّتِكَ فَتَقُومُ لَهُ، فَتَذْهَبُ السِّيَاسَةُ بِهَذَا. قَالَ: فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْمَنَامِ وَكَأَنِّي

وَاقِفٌ وَأَخِي إِسْحَاقُ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ بِعَضُدِي فَقَالَ لِي: يَا إِسْمَاعِيلُ، ثَبَّتَّ مُلْكَكَ وَمُلْكَ بَيْتِكَ لِإِجْلَالِكَ لِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى إِسْحَاقَ، وَقَالَ: ذَهَبَ مُلْكُ إِسْحَاقَ وَمُلْكُ بَيْتِهِ بِاسْتِخْفَافِهِ بِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ هَذَا مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِ، الْمُصَنِّفِينَ فِيهِ، وَسَافَرَ إِلَى الْبِلَادِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَأَخَذَ الْعِلْمَ بِمِصْرَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَالرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، وَصَحِبَ الْحَارِثَ الْمُحَاسِبِيَّ، وَأَخَذَ عَنْهُ عِلْمَ الْمُعَامَلَةِ، وَبَرَزَ فِيهِ أَيْضًا. ذِكْرُ عِصْيَانِ أَهْلِ بُرْقَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى أَهْلُ بُرْقَةَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، وَأَخْرَجُوا أَمِيرَهُمْ مُحَمَّدَ بْنَ الْفَرَجِ الْفَرْغَانِيَّ، فَبَعَثَ ابْنُ طُولُونَ جَيْشًا عَلَيْهِمْ غُلَامُهُ لُؤْلُؤٌ، وَأَمَرَهُ بِالرِّفْقِ بِهِمْ، وَاسْتِعْمَالِ اللِّينَ، فَإِنِ انْقَادُوا وَإِلَّا السَّيْفُ. فَسَارَ الْعَسْكَرُ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى بُرْقَةَ، وَحَصَرُوا أَهْلَهَا، وَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ مِنَ اللِّينِ، فَطَمِعَ أَهْلُ بُرْقَةَ، وَخَرَجُوا يَوْمًا عَلَى بَعْضِ الْعَسْكَرِ، وَهُمْ نَازِلُونَ عَلَى بَابِ الْبَلَدِ، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ. فَأَرْسَلَ لُؤْلُؤٌ إِلَى صَاحِبِهِ أَحْمَدَ يُعَرِّفُهُ الْخَبَرُ، فَأَمَرَ بِالْجِدِّ فِي قِتَالِهِمْ، فَنَصَبَ عَلَيْهِمُ الْمَجَانِيقَ، وَجَدَّ فِي قَتْلِهِمْ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ، فَفَتَحُوا لَهُ الْبَابَ، فَدَخَلَ الْبَلَدَ، وَقَبَضَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، وَضَرَبَهُمْ بِالسِّيَاطِ وَقَطَعَ أَيْدِيَ بَعْضِهِمْ، وَأَخَذَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنْهُمْ وَعَادَ إِلَى مِصْرَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى بُرْقَةَ عَامِلًا. وَلَمَّا وَصَلَ لُؤْلُؤٌ إِلَى مِصْرَ خَلَعَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ خِلْعَةً فِيهَا طَوْقَانِ، فَوَضَعَهَا فِي رَقَبَتِهِ، وَطِيفَ بِالْأَسْرَى فِي الْبَلَدِ.

ذِكْرُ وِلَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ إِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ (تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْأَغْلَبِ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، سَادِسَ جُمَادَى الْأُولَى، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ عَقَدَ لِابْنِهِ أَبِي عِقَالٍ الْعَهْدَ، وَاسْتَخْلَفَ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ لِئَلَّا يُنَازِعَهُ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ آلَ الْأَغْلَبِ وَمَشَايِخَ الْقَيْرَوَانِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَلَّى الْأَمَرَ إِلَى أَنْ يَكْبَرَ وَلَدُهُ، فَلَمَّا مَاتَ أَتَى أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ إِبْرَاهِيمَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ، لِحُسْنِ سِيرَتِهِ، وَعَدْلِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ أَجَابَ، انْتَقَلَ إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ، وَبَاشَرَ الْأُمُورَ، وَقَامَ بِهَا قِيَامًا مَرْضِيًّا) . وَكَانَ عَادِلًا، حَازِمًا فِي (أُمُورِهِ، أَمَّنَ) الْبِلَادَ، وَقَتَلَ أَهْلَ الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ، وَكَانَ يَجْلِسُ لِلْعَدْلِ فِي جَامِعِ الْقَيْرَوَانِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَالِاثْنَيْنِ، يَسْمَعُ شَكْوَى الْخُصُومِ، وَيَصْبِرُ عَلَيْهِمْ، وَيُنْصِفُ بَيْنَهُمْ. وَكَانَ الْقَوَافِلُ وَالتُّجَّارُ يَسِيرُونَ فِي الطَّرِيقِ آمِنِينَ. وَبَنَى الْحُصُونَ وَالْمَحَارِسَ عَلَى سَوَاحِلِ الْبَحْرِ، حَتَّى كَانَ يُوقِدُ النَّارَ مِنْ سَبْتَةَ فَيَصِلُ الْخَبَرُ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَبَنَى عَلَى سُوسَةَ سُورًا، وَعَزَمَ عَلَى الْحَجِّ، فَرَدَّ الْمَظَالِمَ، وَأَظْهَرَ الزُّهْدَ وَالنُّسُكَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنْ جَعَلَ طَرِيقَهُ إِلَى مَكَّةَ عَلَى مِصْرَ مَنَعَهُ صَاحِبُهَا ابْنُ طُولُونَ، فَتَجْرِي بَيْنَهُمَا حَرْبٌ، فَيُقْتَلُ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلَ طَرِيقَةً عَلَى جَزِيرَةِ صِقِلِّيَّةَ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَيَفْتَحَ مَا بَقِيَ مِنْ حُصُونِهَا، فَأَخْرَجَ جَمِيعَ مَا ادَّخَرَهُ مِنَ الْمَالِ وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى سُوسَةَ فَدَخَلَهَا وَعَلَيْهِ فَرْوٌ مُرَقَّعٌ فِي زِيِّ الزُّهَّادِ، أَوَّلَ سَنَةِ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَارَ مِنْهَا، فِي الْأُسْطُولِ، إِلَى صِقِلِّيَةَ.

وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ يَرْطِينْوَا فَمَلَكَهَا سَلْخَ رَجَبٍ، وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ، وَأَحْسَنَ إِلَى الرَّعِيَّةِ، وَسَارَ إِلَى طَبَرْمِينَ، فَاسْتَعَدَّ أَهْلُهَا لِقِتَالِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ خَرَجُوا إِلَيْهِ وَالْتَقَوْا، فَقَرَأَ الْقَارِئُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] فَقَالَ الْأَمِيرُ اقْرَأْ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] ، فَقَرَأَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَخْتَصِمُ أَنَا وَالْكُفَّارُ إِلَيْكَ فِي هَذَا الْيَوْمِ! وَحَمَلَ، وَمَعَهُ أَهْلُ الْبَصَائِرِ، فَهُزِمَ الْكُفَّارُ، وَقَتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ كَيْفَ شَاءُوا، وَدَخَلُوا مَعَهُمُ الْمَدِينَةَ عَنْوَةً، فَرَكِبَ بَعْضُ مَنْ بِهَا مِنَ الرُّومِ مَرَاكِبَ فَهَرَبُوا فِيهَا. وَالْتَجَأَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْحِصْنِ وَأَحَاطَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ وَقَاتَلُوهُمْ، فَاسْتَنْزَلُوهُمْ قَهْرًا، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ، وَسَبَوْا ذَرَارِيَهُمْ، وَذَلِكَ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ الْمُقَاتِلَةِ، وَبَيْعِ السَّبْيِ وَالْغَنِيمَةِ. وَلَمَّا اتَّصَلَ الْخَبَرُ بِفَتْحِ طَبَرْمِينَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ عَظُمَ عَلَيْهِ، وَبَقِيَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَا يَلْبَسُ التَّاجَ، وَقَالَ: لَا يَلْبَسُ التَّاجَ مَحْزُونٌ. وَتَحَرَّكَتِ الرُّومُ، وَعَزَمُوا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى صِقِلِّيَّةَ لِمَنْعِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَلَغَهُمْ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَتَرَكَ الْمَلِكُ بِهَا عَسْكَرًا عَظِيمًا، وَسِيَّرَ جَيْشًا إِلَى صِقِلِّيَّةَ. (وَأَمَّا الْأَمِيرُ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّهُ لَمَّا مَلَكَ طَبَرْمِينَ بَثَّ السَّرَايَا فِي مُدُنِ صِقِلِّيَّةَ) الَّتِي بِيَدِ الرُّومِ، وَبَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى مَيْقَشَ، وَسِرِيَّةً إِلَى دَمَنْشَ، فَوَجَدُوا أَهْلَهَا قَدْ أُجْلُوا عَنْهَا، فَغَنِمُوا مَا وَجَدُوا بِهَا. وَبَعَثَ طَائِفَةً إِلَى رَمْطَةَ، وَطَائِفَةً إِلَى الْيَاجِ، فَأَذْعَنَ الْقَوْمُ جَمِيعًا إِلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ غَيْرَ تَسْلِيمِ الْحُصُونِ، فَفَعَلُوا، فَهَدَمَهَا، وَسَارَ إِلَى كَسَنْتَةَ، فَجَاءَتْهُ الرُّسُلُ مِنْهَا يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ فَلَمْ يُجِبْهُمْ.

وَكَانَ قَدِ ابْتَدَأَ بِهِ الْمَرَضُ، وَهُوَ عِلَّةُ الذَّرْبِ، فَنَزَلَتِ الْعَسَاكِرُ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يَجِدُّوا فِي قِتَالِهَا لِغَيْبِهِ الْأَمِيرِ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ نَزَلَ مُنْفَرِدًا لِشِدَّةِ مَرَضِهِ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ النَّوْمُ وَحَدَثَ بِهِ الْفَوَاقُ، وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الرَّأْيِ مِنَ الْعَسْكَرِ أَنْ يُوَلُّوا أَمْرَهُمْ أَبَا مُضَرَ بْنِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ لِيَحْفَظَ الْعَسَاكِرَ، وَالْأَمْوَالَ، وَالْخَزَائِنَ، إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى ابْنِهِ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَجَعَلُوا الْأَمِيرَ إِبْرَاهِيمَ فِي تَابُوتٍ، وَحَمَلُوهُ إِلَى أَفْرِيقِيَّةَ وَدَفَنُوهُ بِالْقَيْرَوَانِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَ عَاقِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، مُحِبًّا لِلْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ، تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ، وَوَقَفَ أَمْلَاكَهُ جَمِيعَهَا ; وَكَانَ لَهُ فِطْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِإِظْهَارِ خَفَايَا الْعُمُلَاتِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَاجِرًا مِنْ أَهْلِ الْقَيْرَوَانِ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ صَالِحَةٌ عَفِيفَةٌ، فَاتَّصَلَ خَبَرُهَا بِوَزِيرِ الْأَمِيرِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَلَمْ تُجِبْهُ، فَاشْتَدَّ غَرَامُهُ بِهَا، وَشَكَا حَالَهُ إِلَى عَجُوزٍ كَانَتْ تَغْشَاهُ، وَكَانَتْ أَيْضًا لَهَا مِنَ الْأَمِيرِ (مَنْزِلَةٌ، وَمِنْ وَالِدَتِهِ) مَنْزِلَةٌ كَبِيرَةٌ وَهِيَ مَوْصُوفَةٌ عِنْدَهُمْ بِالصَّلَاحِ، يَتَبَرَّكُونَ بِهَا، وَيَسْأَلُونَهَا الدُّعَاءَ، فَقَالَتْ لِلْوَزِيرِ: أَنَا أَتَلَطَّفُ بِهَا، وَأَجْمَعُ بَيْنَكُمَا. وَرَاحَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَرْأَةِ، فَقَرَعَتِ الْبَابَ وَقَالَتْ: قَدْ أَصَابَ ثَوْبِي نَجَاسَةٌ أُرِيدُ تَطْهِيرَهَا ; فَخَرَجَتِ الْمَرْأَةُ وَلَقِيَتْهَا (فَرَحَّبَتْ بِهَا) وَأَدْخَلَتْهَا، وَطَهَّرَتْ ثَوْبَهَا، وَقَامَتِ الْعَجُوزُ تُصَلِّي، فَعَرَضَتِ الْمَرْأَةُ عَلَيْهَا الطَّعَامَ، فَقَالَتْ: إِنِّي صَائِمَةٌ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّرَدُّدِ إِلَيْكِ ; ثُمَّ صَارَتْ تَغْشَاهَا، ثُمَّ قَالَتْ لَهَا: عِنْدِي يَتِيمَةٌ أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَهَا إِلَى زَوْجِهَا، فَإِنْ خَفَّ عَلَيْكِ إِعَارَةُ حُلِيِّكِ أُجَمِّلُهَا بِهِ فَعَلْتُ. وَأَحْضَرَتْ جَمِيعَ حُلِيِّهَا وَسَلَّمَتْهُ إِلَيْهَا، فَأَخَذَتْهُ الْعَجُوزُ وَانْصَرَفَتْ، وَغَابَتْ أَيَّامًا، وَجَاءَتْ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهَا: أَيْنَ الْحُلِيُّ؟ فَقَالَتْ: هُوَ عِنْدَ الْوَزِيرِ، عَبَرْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَعِي فَأَخَذَهُ مِنِّي، وَقَالَ لَا يُسَلِّمُهُ إِلَّا إِلَيْكِ. فَتَنَازَعَتَا، وَخَرَجَتِ الْعَجُوزُ، وَجَاءَ التَّاجِرُ زَوْجُ الْمَرْأَةِ، فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ، فَحَضَرَ دَارَ الْأَمِيرِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَخْبَرَهُ بِالْخَبَرِ، فَدَخَلَ الْأَمِيرُ إِلَى وَالِدَتِهِ، وَسَأَلَهَا عَنِ الْعَجُوزِ، فَقَالَتْ: هِيَ تَدْعُو لَكَ ; فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهَا لِيَتَبَرَّكَ بِهَا، فَأَحْضَرَتْهَا

وَالِدَتُهُ، فَلَمَّا رَآهَا أَكْرَمَهَا وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا، وَانْبَسَطَ مَعَهَا. ثُمَّ إِنَّهُ أَخَذَ خَاتَمًا مِنْ إِصْبُعِهَا، وَجَعَلَ يُقَلِّبُهُ وَيَعْبَثُ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَحْضَرَ خَصِيًّا لَهُ وَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى بَيْتِ الْعَجُوزِ، وَقُلْ لِابْنَتِهَا تُسَلِّمُ الْحُقَّ الَّذِي فِيهِ الْحُلِيُّ، وَصِفَتُهُ كَذَا، وَهُوَ كَذَا كَذَا، وَهَذَا الْخَاتَمُ عَلَامَةٌ مِنْهَا. فَمَضَى الْخَادِمُ، وَأَحْضَرَ الْحُقَّ، فَقَالَ لِلْعَجُوزِ: مَا هَذَا؟ فَلَمَّا رَأَتِ الْحُقَّ سُقِطَ فِي يَدِهَا، وَقَتَلَهَا، وَدَفَنَهَا فِي الدَّارِ، وَأَعْطَى الْحُقَّ لِصَاحِبِهِ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ، وَقَالَ لَهُ: أَمَّا الْوَزِيرُ فَإِنِ انْتَقَمْتُ مِنْهُ الْآنَ يَنْكَشِفُ الْأَمْرُ، وَلَكِنْ سَأَجْعَلُ لَهُ ذَنْبًا آخُذُهُ بِهِ، فَتَرَكَهُ مُدَّةً يَسِيرَةً، وَجَعَلَ لَهُ جُرْمًا أَخَذَهُ بِهِ فَقَتَلَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ الْخَلِيفَةُ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَرَا الطَّائِيَّ الْمَوْصِلِيَّ، فَسَارَ إِلَيْهَا، وَجَمَعَ مَعَهُ جُمُوعًا كَثِيرَةً مِنْ خَوَارِجٍ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ الْعَلَاءُ بْنُ أَحْمَدَ الْأَزْدِيُّ، وَهُوَ مَفْلُوجٌ، فَخَرَجَ فِي مِحَفَّةٍ لِيَمْنَعَ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَرَ، فَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْعَلَاءِ، وَأُخِذَ أَسِيرًا، وَاسْتَوْلَى مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ عَلَى قَلْعَةِ الْعَلَاءِ، وَأَخَذَ مِنْهَا ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَاتَ الْعَلَاءُ فِي يَدِهِ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ عَلَى الْمَوْصِلِ الْخَضِرَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ التَّغْلِبِيَّ الْمَوْصِلِيَّ. وَفِيهَا رَجَعَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، وَأَحْرَقَ شَالُوسَ لِمُمَالَأَةِ أَهْلِهَا لِيَعْقُوبَ، وَأَقْطَعَ ضِيَاعَهُمْ لِلدَّيَالِمَةِ. وَفِيهَا أَمَرَ الْمُعْتَمِدُ بِجَمْعِ حَاجِّ خُرَاسَانَ، وَالرَّيِّ وَطَبَرِسْتَانَ، وَجُرْجَانَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُوَلِّ يَعْقُوبَ خُرَاسَانَ، وَلَمْ يَكُنْ دُخُولُهُ خُرَاسَانَ وَأَسْرُهُ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ بِأَمْرِهِ. وَفِيهَا قَتَلَ مُسَاوِرٌ الشَّارِيُّ يَحْيَى بْنَ جَعْفَرٍ الَّذِي كَانَ يَلِي خُرَاسَانَ، فَسَارَ مَسْرُورٌ

الْبَلْخِيُّ فِي طَلَبِهِ، وَتَبِعَهُ أَبُو أَحْمَدَ، وَهُوَ الْمُوَفَّقُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ، فَسَارَ مَسَاوِرٌ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمَا فَلَمْ يُدْرِكَاهُ. (وَفِيهَا هَرَبُ ابْنِ مَرْوَانَ الْجُلَيْقِيُّ مِنْ قُرْطُبَةَ، فَقَصَدَ قَلْعَةَ الْحَنَشِ، فَمَلَكَهَا، وَامْتَنَعَ بِهَا، فَسَارَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، فَحَصَرَهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَضَاقَ بِهِ الْأَمْرُ، حَتَّى أَكَلَ دَوَابَّهُ، فَطَلَبَ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُ مُحَمَّدٌ، فَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ بَطْلِيُوسَ. وَفِيهَا عَصَى أَهْلُ تَاكَرْنَا مَعَ أَسَدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ رَافِعٍ، فَغَزَاهُمْ جَيْشُ مُحَمَّدٍ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ، وَقَاتَلَهُمْ، فَعَادُوا إِلَى الطَّاعَةِ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو هَاشِمٍ دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجَعْفَرِيُّ. وَالْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ قَاضِي الْقُضَاةِ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي رَمَضَانَ. وَأَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ النَّيْسَابُورِيُّ، صَاحِبُ " الصَّحِيحِ ". وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ حَيَّانَ الْمَوْصِلِيُّ، وَكَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ. وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَسَنِ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ، وَكَانَ مِنَ الْمَوْصِلِ أَيْضًا.

ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ] 262 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُوَفَّقِ وَالصَّفَّارِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي مَحَرَّمٍ، سَارَ الصَّفَّارُ مِنْ فَارِسَ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمُعْتَمِدَ إِقْبَالُهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ وَبُفْرَاجُ، أَطْلَقَ مَنْ كَانَ فِي حَبْسِهِ مِنْ أَصْحَابِ يَعْقُوبَ، فَإِنَّهُ كَانَ حَبَسَهُمْ لَمَّا أَخَذَ يَعْقُوبُ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ. وَعَادَ إِسْمَاعِيلُ بِرِسَالَةٍ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ، (فَجَلَسَ أَبُو أَحْمَدَ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ قَدْ أَخَّرَ مَسِيرَهُ إِلَى الزَّنْجِ لِمَا بَلَغَهُ مِنْ خَبَرِ يَعْقُوبَ) ، وَأَحْضَرَ التُّجَّارَ، وَأَخْبَرَهُمْ بِتَوْلِيَةِ يَعْقُوبَ خُرَاسَانَ، وَجُرْجَانَ، وَطَبَرِسْتَانَ، وَالرَّيَّ، وَفَارِسَ، وَالشُّرْطَةَ بِبَغْدَاذَ، كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ دِرْهَمٍ صَاحِبِ يَعْقُوبَ، كَانَ يَعْقُوبُ قَدْ أَرْسَلَهُ يَطْلُبُ لِنَفْسِهِ مَا ذَكَرْنَا، وَأَعَادَهُ أَبُو أَحْمَدَ إِلَى يَعْقُوبَ، وَمَعَهُ عُمَرُ بْنُ سِيمَا، بِمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ مِنَ الْوِلَايَاتِ. فَعَادَ الرُّسُلُ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يُرْضِيهِ مَا كَتَبَ بِهِ دُونَ أَنْ يَسِيرَ إِلَى بَابِ الْمُعْتَمِدِ! وَارْتَحَلَ يَعْقُوبُ مِنْ عَسْكَرِ مُكْرَمٍ، وَسَارَ إِلَيْهِ أَبُو السَّاجِ، وَصَارَ مَعَهُ، فَأَكْرَمَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَوَصَلَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ الْمُعْتَمِدُ رِسَالَةَ يَعْقُوبَ خَرَجَ مِنْ سَامَرَّا فِي عَسَاكِرِهِ، وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ، ثُمَّ الزَّعْفَرَانِيَّةِ، فَنَزَلَهَا، وَقَدَّمَ أَخَاهُ الْمُوَفَّقَ، وَسَارَ يَعْقُوبُ مِنْ عَسْكَرِ مُكْرَمٍ إِلَى وَاسِطَ، فَدَخَلَهَا لَسْتٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَارْتَحَلَ الْمُعْتَمِدُ مِنَ الزَّعْفَرَانِيَّةِ إِلَى سَيْبِ بَنِي كَوْمَا، فَوَافَاهُ هُنَاكَ مَسْرُورٌ الْبَلْخِيُّ عَائِدًا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَسَارَ يَعْقُوبُ مِنْ وَاسِطَ إِلَى دَيْرِ الْعَاقُولِ ; وَسَيَّرَ الْمُعْتَمِدُ أَخَاهُ الْمُوَفَّقَ فِي الْعَسَاكِرِ لِمُحَارَبَةِ يَعْقُوبَ، فَجَعَلَ الْمُوَفَّقُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ مُوسَى بْنَ بُغَا، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ مَسْرُورًا الْبَلْخِيَّ، وَقَامَ هُوَ فِي الْقَلْبِ.

وَالْتَقَيَا، فَحَمَلَتْ مَيْسَرَةُ يَعْقُوبَ عَلَى مَيْمَنَةِ الْمُوَفَّقِ فَهَزَمَتْهَا، وَقَتَلَتْ مِنْهَا جَمَاعَةً مِنْ قُوَّادِهِمْ، مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سِيمَا وَغَيْرُهُ، ثُمَّ تَرَاجَعَ الْمُنْهَزِمُونَ، وَكَشَفَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ رَأْسَهُ، وَقَالَ: أَنَا الْغُلَامُ الْهَاشِمِيُّ! وَحَمَلَ، وَحَمَلَ مَعَهُ سَائِرُ عَسْكَرِهِ عَلَى عَسْكَرِ يَعْقُوبَ، فَثَبَتُوا، وَتَحَارَبُوا حَرْبًا شَدِيدَةً، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ يَعْقُوبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْحَسَنُ الدِّرْهَمِيُّ، وَأَصَابَتْ يَعْقُوبَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فِي حَلْقِهِ وَيَدَيْهِ، وَلَمْ تَزَلِ الْحَرْبُ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ. ثُمَّ وَافَى أَبَا أَحْمَدَ الْمُوَفَّقَ الدَّيْرَانِيُّ، (وَمُحَمَّدَ) بْنَ أَوْسٍ، فَاجْتَمَعَ جَمِيعُ مَنْ بَقِيَ فِي عَسْكَرِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ أَصْحَابِ يَعْقُوبَ كَرَاهَةٌ لِلْقِتَالِ مَعَهُ، إِذْ رَأَوُا الْخَلِيفَةَ يُقَاتِلُهُ، فَحَمَلُوا عَلَى يَعْقُوبَ وَمَنْ قَدْ ثَبَتَ لِلْقِتَالِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ يَعْقُوبَ، وَثَبَتَ يَعْقُوبُ فِي خَاصَّةِ أَصْحَابِهِ، حَتَّى مَضَوْا، وَفَارَقُوا مَوْضِعَ الْحَرْبِ، (وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ) ، فَغَنِمُوا مَا فِي عَسْكَرِهِمْ، وَكَانَ فِيهِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَالْبِغَالِ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَمِنَ الْأَمْوَالِ مَا يُكَلُّ عَنْ حَمْلِهِ، وَمِنْ جُرُبِ الْمِسْكِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَتَخَلَّصَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ، وَكَانَ مُثْقَلًا بِالْحَدِيدِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْمُوَفَّقُ، وَوَلَّاهُ الشُّرْطَةَ بِبَغْدَاذَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَسَارَ يَعْقُوبُ مِنَ الْهَزِيمَةِ إِلَى خُوزِسْتَانَ، فَنَزَلَ جَنْدِيْسَابُورَ، وَرَاسَلَهُ الْعَلَوِيُّ الْبَصْرِيُّ يَحُثُّهُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَيَعِدُهُ الْمُسَاعَدَةَ، فَقَالَ لِكَاتِبِهِ: اكْتُبْ إِلَيْهِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ - لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1 - 2] السُّورَةَ، وَسَيَّرَ الْكِتَابَ إِلَيْهِ. وَكَانَتِ الْوَاقِعَةُ لِإِحْدَى عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ ; وَكَتَبَ الْمُعْتَمِدِ إِلَى ابْنِ وَاصِلٍ بِتَوْلِيَتِهِ فَارِسَ، وَكَانَ قَدْ سَارَ إِلَيْهَا وَجَمَعَ جَمَاعَةً فَغَلَبَ عَلَيْهَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ يَعْقُوبُ عَسْكَرًا عَظِيمًا عَلَيْهِمُ ابْنُ عَزِيزِ بْنِ السَّرِيِّ إِلَى فَارِسَ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَرَجَعَ الْمُعْتَمِدُ إِلَى سَامَرَّا. وَأَمَّا أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى وَاسِطَ لِيَتْبَعَ الصَّفَّارَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّجَهُّزِ لِذَلِكَ، فَأَصَابَهُ مَرَضٌ، فَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ وَمَعَهُ مَسْرُورٌ، وَقَبَضَ مَا لِأَبِي السَّاجِ مِنَ الضِيَاعِ،

وَالْمَنَازِلِ، وَأَقْطَعَهَا مَسْرُورًا الْبَلْخِيَّ، وَقَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ بَغْدَاذَ. ذِكْرُ أَخْبَارِ الزَّنْجِ وَفِيهَا نَفَّذَ قَائِدُ الزَّنْجِ جُيُوشَهُ إِلَى نَاحِيَةِ الْبَطِيحَةِ وَدِسْتَ مَيْسَانَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ النَّوَاحِيَ، لَمَّا خَلَتْ مِنَ الْعَسَاكِرِ السُّلْطَانِيَّةِ بِسَبَبِ عَوْدِ مَسْرُورٍ لِحَرْبِ يَعْقُوبَ، بَثَّ صَاحِبُ الزَّنْجِ سَرَايَاهُ فِيهَا، تَنْهَبُ، وَتُخَرِّبُ. وَأَتَتْهُ الْأَخْبَارُ بِخُلُوِّ الْبَطِيحَةِ مِنْ جُنْدِ السُّلْطَانِ، فَأَمَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ جَامِعٍ، وَجَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْحَوَانِيتِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى بِالْمَسِيرِ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ. وَقَدِمَ ابْنُ التُّرْكِيِّ فِي ثَلَاثِينَ شَذَاةٍ يُرِيدُ عَسْكَرَ الزَّنْجِ، فَنَهَبَ، وَأَحْرَقَ، فَكَتَبَ الْخَبِيثُ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى يَأْمُرُهُ بِمَنْعِهِ مِنَ الْعُبُورِ، فَأَخَذَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ، فَقَاتَلَهُمْ شَهْرًا حَتَّى تَخَلَّصَ، وَانْحَازَ سُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ مِنْ مَذْكُورِي الْبِلَالِيَّةِ، وَأَنْجَادِهِمْ، جَمْعٌ كَثِيرٌ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ سُمَيْرِيَّةٍ، وَكَانَ مَسْرُورٌ قَدْ وَجَّهَ قَبْلَ مَسِيرِهِ عَنْ وَاسِطَ إِلَى الْمُعْتَمِدِ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى سُلَيْمَانَ فِي شَذَوَاتٍ، فَظَفِرَ بِهِمْ سُلَيْمَانُ وَهَزَمَهُمْ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ سَبْعَ شَذَوَاتٍ وَقَتَلَ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ. وَأَشَارَ الْبَاهِلِيُّونَ عَلَى سُلَيْمَانَ أَنْ يَتَحَصَّنَ فِي عَقْرَ، مَا وَرَاءَ طَهْثَا، وَالْأَدْغَالِ الَّتِي فِيهَا، كَرِهُوا خُرُوجَهُ عَنْهُمْ لِمُوَافَقَتِهِ فِي فِعْلِهِ، وَخَافُوا السُّلْطَانَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَ بِقَرْيَةِ مَرْوَانَ، بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ نَهْرِ طَهْثَا، وَجَمَعَ إِلَيْهِ رُؤَسَاءَ الْبَاهِلِيِّينَ، وَكَتَبَ إِلَى الْخَبِيثِ يُعْلِمُهُ بِمَا صَنَعَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يُصَوِّبُ رَأْيَهُ، وَيَأْمُرُ بِإِنْفَاذِ مَا عِنْدَهُ مِنْ مِيرَةٍ وَنَعَمٍ، فَأَنْفَذَ ذَلِكَ إِلَيْهِ. وَوَرَدَ عَلَى سُلَيْمَانَ أَنَّ أَغْرَتْمِشَ، وَحَشِيشًا قَدْ أَقْبَلَا فِي الْخَيْلِ وَالرِّجَالِ،

وَالسُّمَيْرِيَّاتِ، وَالشَّذَا يُرِيدُونَ حَرْبَهُ، فَجَزِعَ جَزَعًا شَدِيدًا ; فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَيْهِ وَرَآهُمْ أَخَذَ جَمْعًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَسَارَ رَاجِلًا، وَاسْتَدْبَرَ أَغْرَتْمِشَ، وَجَدَّ أَغْرَتْمِشَ فِي الْمَسِيرِ إِلَى عَسْكَرِ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ أَمَرَ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ مِنْ جَيْشِهِ أَنْ لَا يَظْهَرَ مِنْهُمْ أَحَدٌ لِأَصْحَابِ أَغْرَتْمِشَ، وَأَنْ يُخْفُوا أَنْفُسَهُمْ مَا قَدَرُوا إِلَى أَنْ يَسْمَعُوا أَصْوَاتَ طُبُولِهِمْ، فَإِذَا سَمِعُوهَا خَرَجُوا عَلَيْهِ. وَأَقْبَلَ أَغْرَتْمِشُ إِلَيْهِمْ، فَجَزِعَ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ جَزَعًا عَظِيمًا، فَتَفَرَّقُوا، وَنَهَضَتْ شِرْذِمَةٌ مِنْهُمْ، فَوَاقَعُوهُمْ، وَشَغَلُوهُمْ عَنْ دُخُولِ الْعَسْكَرِ، وَعَادَ سُلَيْمَانُ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَضَرَبَ طُبُولَهُ، وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ لِلْعُبُورِ إِلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَ أَغْرَتْمِشَ وَظَهَرَ مَنْ كَانَ مِنَ السُّودَانِ بِطَهْثَا، وَوَضَعُوا السُّيُوفَ فِيهِمْ، وَقُتِلَ حَشِيشٌ، وَانْهَزَمَ أَغْرَتْمِشَ، وَتَبِعَهُ الزُّنُوجُ إِلَى عَسْكَرِهِ، فَنَالُوا حَاجَاتِهِمْ مِنْهُ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ شَذَوَاتٍ فِيهَا مَالٌ، وَغَيْرُهُ، فَعَادَ أَغْرَتْمِشَ فَانْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَعَادَ سُلَيْمَانُ وَقَدْ ظَفِرَ وَغَنِمَ، وَكَتَبَ إِلَى صَاحِبِ (الزَّنْجِ بِالْخَبَرِ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ رَأْسَ حَشِيشٍ، فَسَيَّرَهُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ، وَهُوَ بِنَوَاحِي) الْأَهْوَازِ، وَسَيَّرَ سُلَيْمَانُ سَرِيَّةً، فَظَفِرُوا بِإِحْدَى عَشْرَةَ شَذَاةً، وَقَتَلُوا أَصْحَابَهَا. ذِكْرُ وَقْعَةٍ لِلزَّنْجِ عَظِيمَةٍ انْهَزَمُوا فِيهَا وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ لِلزُّنُوجِ مَعَ أَحْمَدَ بْنِ لَيْثَوَيْهِ ; وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ مَسْرُورًا الْبَلْخِيَّ وَجَّهَ أَحْمَدَ بْنَ لَيْثَوَيْهِ إِلَى كُوَرِ الْأَهْوَازِ، فَنَزَلَ السُّوسَ، وَكَانَ يَعْقُوبُ الصَّفَّارُ قَدْ قَلَّدَ مُحَمَّدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ هَزَارْمَرْدَ الْكُرْدِيَّ كُوَرَ الْأَهْوَازِ، فَكَاتَبَ مُحَمَّدًا قَائِدَ الزَّنْجِ يُطْمِعُهُ فِي الْمَيْلِ إِلَيْهِ، وَأَوْهَمَهُ أَنَّهُ يَتَوَلَّى لَهُ كُوَرَ الْأَهْوَازِ. وَكَانَ مُحَمَّدٌ يُكَاتِبُهُ قَدِيمًا، وَعَزَمَ عَلَى مُدَارَاةِ الصَّفَّارِ، وَقَائِدِ الزَّنْجِ، حَتَّى يَسْتَقِيمَ الْأَمْرُ فِيهَا، فَكَاتَبَهُ صَاحِبُ الزَّنْجِ يُجِيبُهُ إِلَى مَا طَلَبَ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ الْمُتَوَلِّيَ لِلْبِلَادِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يَخْلُفُهُ عَلَيْهَا، فَقَبِلَ مُحَمَّدٌ ذَلِكَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ جَيْشًا كَثِيرًا، وَأَمَدَّهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَسَارُوا نَحْوَ السُّوسِ، فَمَنَعَهُمْ أَحْمَدُ بْنُ لَيْثَوَيْهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنْدِ الْخَلِيفَةِ عَنْهَا، وَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ جَمَاعَةً. وَسَارَ أَحْمَدُ حَتَّى نَزَلَ سَابُورَ، وَسَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ مِنَ الْأَهْوَازِ مُمِدًّا مُحَمَّدَ بْنَ

عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ لَيْثَوَيْهِ، فَلَقِيَهُ مُحَمَّدٌ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأَكْرَادِ، وَالصَّعَالِيكِ، وَدَخَلَ مُحَمَّدٌ تَسْتُرَ، فَانْتَهَى إِلَى أَحْمَدَ بْنِ لَيْثَوَيْهِ الْخَبَرُ بِتَضَافُرِهِمَا عَلَى قِتَالِهِ، فَخَرَجَ عَنْ جَنْدِيْسَابُورَ إِلَى السُّوسِ. وَكَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ وَعَدَ عَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ أَنْ يَخْطُبَ لِصَاحِبِهِ قَائِدِ الزَّنْجِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى مِنْبَرِ تَسْتُرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ خَطَبَ لِلْمُعْتَمِدِ، وَلِلصَّفَّارِ، فَلَمَّا عَلِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ ذَلِكَ انْصَرَفَ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَهَدَمَ قَنْطَرَةً كَانَتْ هُنَاكَ لِئَلَّا تَلْحَقَهُ الْخَيْلُ، فَانْتَهَى أَصْحَابُ عَلِيٍّ إِلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ فَنَهَبُوهَا، وَكَانَتْ دَاخِلَةً فِي سِلْمِ الْخَبِيثِ، فَغَدَرُوا بِهَا وَسَارُوا إِلَى الْأَهْوَازِ. فَلَمَّا عَلِمَ أَحْمَدُ ذَلِكَ أَقْبَلَ إِلَى تَسْتُرَ، فَوَاقَعَ مُحَمَّدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ، فَانْهَزَمَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَدَخَلَ أَحْمَدُ تَسْتُرَ. وَأَتَتِ الْأَخْبَارُ عَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ بِأَنَّ أَحْمَدَ عَلَى قَصْدِكَ، فَسَارَ إِلَى لِقَائِهِ وَمُحَارَبَتِهِ، فَالْتَقَيَا، وَاقْتَتَلَ الْعَسْكَرَانِ، فَاسْتَأْمَنَ إِلَى أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ، فَانْهَزَمَ بَاقِي أَصْحَابِ عَلِيٍّ، وَثَبَتَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ يَسِيرَةٌ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَتَرَجَّلَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ، وَبَاشَرَ الْقِتَالَ رَاجِلًا، فَعَرَفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فَأَنْذَرَ النَّاسُ بِهِ، فَلَمَّا عَرَفُوهُ انْصَرَفَ هَارِبًا، وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَسْرُقَانِ، فَأَتَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِسُمَيْرِيَّةٍ، فَرَكِبَ فِيهَا وَنَجَا مَجْرُوحًا، وَقُتِلَ مِنْ أَبْطَالِ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ. ذِكْرُ أَخْبَارِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخُجُسْتَانِيِّ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُجُسْتَانِيُّ مِنْ خُجُسْتَانَ، وَهِيَ مِنْ جِبَالِ هَرَاةَ، مِنْ أَعْمَالِ بَاذَغِيسَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ، فَلَمَّا اسْتَوْلَى يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ عَلَى نَيْسَابُورَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، ضَمَّ أَحْمَدَ إِلَيْهِ، وَإِلَى أَخِيهِ عَلِيِّ بْنِ اللَّيْثِ، وَكَانَ بَنُو شَرْكُبٍ ثَلَاثَةَ إِخْوَةٍ: إِبْرَاهِيمُ، وَأَبُو حَفْصٍ يَعْمَرُ، وَأَبُو طَلْحَةَ مَنْصُورٌ، بَنُو مُسْلِمٍ، وَكَانَ أَسَنُّهُمْ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ قَدْ أَبْلَى بَيْنَ يَدَيْ يَعْقُوبَ عِنْدَ مُوَاقَعَةِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ بِجُرْجَانَ، فَقَدَّمَهُ،

فَدَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا نَيْسَابُورَ، وَهُوَ يَوْمٌ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ يَعْقُوبُ وَبَرَ سُمُّورٍ كَانَ عَلَى كَتِفِهِ، فَحَسَدَهُ عَلَيْهِ الْخُجُسْتَانِيُّ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ يَعْقُوبَ يُرِيدُ الْغَدْرَ بِكَ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلَعُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَاصَّتِهِ خِلْعَةً إِلَّا غَدَرَ بِهِ. فَغَمَّ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ، وَقَالَ: كَيْفَ الْحِيلَةُ فِي الْخَلَاصِ؟ قَالَ: الْحِيلَةُ أَنْ نَهْرُبَ جَمِيعًا إِلَى أَخِيكَ يَعْمُرَ، فَإِنِّي خَائِفٌ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَكَانَ يَعْمُرُ قَدْ حَاصَرَ أَبَا دَاوُدَ النَّاهِجُوزِيَّ بِبَلْخَ، وَمَعَهُ نَحْوٌ مِنْ خَمْسَةِ آلَافِ رَجُلٍ، فَاتَّفَقَا عَلَى الْخُرُوجِ لَيْلَتَهُمْ، فَسَبَقَهُ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْمَوْعِدِ، فَانْتَظَرَهُ سَاعَةً فَلَمْ يَرَهُ، فَسَارَ نَحْوَ سَرَخْسَ، وَذَهَبَ الْخُجُسْتَانِيُّ إِلَى يَعْقُوبَ فَأَعْلَمُهُ، فَأَرْسَلَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلَحِقُوهُ بِسَرَخْسَ فَقَتَلُوهُ، وَمَالَ يَعْقُوبُ إِلَى الْخُجُسْتَانِيِّ. فَلَمَّا أَرَادَ يَعْقُوبُ الْعَوْدَ إِلَى سِجِسْتَانَ اسْتَخْلَفَ عَلَى نَيْسَابُورَ عَزِيزَ بْنَ السَّرِيِّ، وَوَلَّى أَخَاهُ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ هَرَاةَ، فَاسْتَخْلَفَ عَمْرٌو عَلَيْهَا طَاهِرَ بْنَ حَفْصٍ الْبَاذَغِيسِيَّ. وَسَارَ يَعْقُوبُ إِلَى سِجِسْتَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَحَبَّ الْخُجُسْتَانِيُّ التَّخَلُّفَ لِمَا كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ، فَقَالَ لِعَلِيِّ بْنِ اللَّيْثِ: إِنَّ أَخَوَيْكَ قَدِ اقْتَسَمَا خُرَاسَانَ، وَلَيْسَ لَكَ بِهَا مَنْ يَقُومُ بِشُغْلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَيْهَا لِأَقُومَ بِأُمُورِكَ ; فَاسْتَأْذَنَ أَخَاهُ يَعْقُوبَ فِي ذَلِكَ، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا حَضَرَ أَحْمَدُ يُوَدِّعُ يَعْقُوبَ أَحْسَنَ لَهُ الْقَوْلَ، وَرَدَّهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا وَلَّى عَنْهُ قَالَ يَعْقُوبُ: أَشْهَدُ أَنَّ قَفَاهُ قَفَا مُسْتَعْصٍ، وَأَنَّ هَذَا آخِرُ عَهْدِنَا بِطَاعَتِهِ. فَلَمَّا فَارَقَهُمْ جَمَعَ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ فَوَرَدَ بِهِمْ بَشْتَ نَيْسَابُورَ، فَحَارَبَ عَامِلَهَا، وَأَخْرَجَهُ عَنْهَا، وَجَبَاهَا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى قُومِسَ، فَقَتَلَ بِبِسْطَامَ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. وَسَارَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَبِهَا عَزِيزُ بْنُ السَّرِيِّ، فَهَرَبَ عَزِيزٌ، وَأَخَذَ أَحْمَدُ أَثْقَالَهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى نَيْسَابُورَ يَدْعُو إِلَى الطَّاهِرِيَّةِ، وَذَلِكَ أَوَّلَ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَتَبَ إِلَى رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ يَسْتَقْدِمُهُ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَجَعَلَهُ صَاحِبَ جَيْشِهِ، وَكَتَبَ إِلَى يَعْمُرَ بْنِ شَرْكُبَ، وَهُوَ يُحَاصِرُ بَلْخَ، يَسْتَقْدِمُهُ لِيَتَّفِقَا عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ، فَلَمْ يَثِقْ إِلَيْهِ يَعْمُرُ لِفِعْلِهِ

بِأَخِيهِ، وَسَارَ يَعْمُرُ إِلَى هَرَاةَ، فَحَارَبَ طَاهِرَ بْنَ حَفْصٍ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أَعْمَالِ طَاهِرٍ، فَسَارَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا مُنَاوَشَاتٌ. وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ بْنُ شَرْكُبٍ غُلَامًا مِنْ أَحْسَنِ الْغِلْمَانِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِلَالٍ يَمِيلُ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَحَدُ قُوَّادِ يَعْمُرَ، فَرَاسَلَ الْخُجُسْتَانِيَّ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ يَعْمَلُ ضِيَافَةً لِيَعْمُرَ وَقُوَّادِهِ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يَوْمًا ذَكَرَهُ. وَيَأْمُرُهُ بِالنُّهُوضِ إِلَيْهِمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُسَاعِدُهُ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ أَبَا طَلْحَةَ، فَأَجَابَهُ أَحْمَدُ إِلَى ذَلِكَ، فَصَنَعَ ابْنُ بِلَالٍ طَعَامًا، وَدَعَا يَعْمُرَ، وَأَصْحَابَهُ، وَكَبَسَهُمْ أَحْمَدُ، وَقَبَضَ عَلَى يَعْمُرَ، وَسَيَّرَهُ إِلَى نَائِبِهِ بِنَيْسَابُورَ فَقَتَلَهُ، وَاجْتَمَعَ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَخِيهِ فَقَتَلُوا ابْنَ بِلَالٍ، وَسَارُوا إِلَى نَيْسَابُورَ وَكَانَ بِهَا الْحُسَيْنُ بْنُ طَاهِرٍ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ قَدْ وَرَدَهَا مِنْ أَصْبَهَانَ، طَمَعًا أَنْ يَخْطُبَ لَهُمْ أَحْمَدُ كَمَا كَانَ يُظْهِرُهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَخَطَبَ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ بِهَا، وَأَقَامَ مَعَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْخُجُسْتَانِيُّ مِنْ هَرَاةَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ عِنَانٍ، فَأَقَامَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ مِنْ نَيْسَابُورَ، وَوَجَّهَ أَخَاهُ الْعَبَّاسَ إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو طَلْحَةَ، فَقَاتَلَهُ، فَقُتِلَ الْعَبَّاسُ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ. فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُمْ إِلَى أَحْمَدَ عَادَ إِلَى هَرَاةَ، وَلَمْ يَعْلَمْ لِأَخِيهِ خَبَرًا، فَبَذَلَ الْأَمْوَالَ لِمَنْ يَأْتِيهِ بِخَبَرِهِ، فَلَمْ يُقْدِمْ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَأَجَابَهُ رَافِعُ بْنُ هَرْثَمَةَ إِلَيْهِ، فَاسْتَأْمَنَ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَأَمَّنَهُ وَقَرَّبَهُ، وَوَثِقَ إِلَيْهِ، وَتَحَقَّقَ رَافِعٌ خَبَرَ الْعَبَّاسِ، فَأَنْهَاهُ إِلَى أَخِيهِ أَحْمَدَ، وَأَنْفَذَهُ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى بَيْهَقَ، وَبَسْتَ لِيَجْبِيَ أَمْوَالَهَا لِنَفْسِهِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ قَائِدَيْنِ، فَجَبَى رَافِعٌ الْأَمْوَالَ، وَقَبَضَ عَلَى الْقَائِدَيْنِ، وَسَارَ إِلَى الْخُجُسْتَانِيِّ، إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى خَوَافَ، فَنَزَلَهَا وَبِهَا حَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْخَارِجِيُّ، فَنَزَلَ نَاحِيَةً عَنْهُ. فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ، فَرَكِبَ مُجِدًّا، فَوَصَلَ إِلَيْهِمْ لَيْلًا، فَأَوْقَعَ بِحَلِيٍّ، وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ يَظُنُّهُ رَافِعًا، وَهَرَبَ رَافِعٌ سَالِمًا، وَعَلِمَ أَبُو طَلْحَةَ بِحَالِ حَلِيٍّ بَعْدَ حَرْبٍ شَدِيدَةٍ، فَكَفَّ عَنْهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ.

ثُمَّ وَجَّهَ أَبُو طَلْحَةَ جَيْشًا إِلَى جُرْجَانَ، وَبِهَا ثَابِتُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ، وَمَعَهُ الدَّيْلَمُ، وَكَانَ عَلَى جَيْشِ أَبِي طَلْحَةَ إِسْحَاقُ الشَّارِيُّ، فَحَارَبُوا الدَّيْلَمَ بِجُرْجَانَ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَأَجْلَوْهُمْ عَنْهَا، وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. ثُمَّ عَصَى إِسْحَاقُ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ، فَسَارَ إِلَيْهِ أَبُو طَلْحَةَ، وَاشْتَغَلَ فِي طَرِيقِهِ بِاللَّهْوِ وَالصَّيْدِ، فَكَبَسَهُ إِسْحَاقُ وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ، وَانْهَزَمَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَاسْتَضْعَفَهُ أَهْلُهَا، فَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا، فَنَزَلَ عَلَى فَرْسَخٍ عَنْهَا، وَجَمَعَ جَمْعًا وَحَارَبَهُمْ، ثُمَّ افْتَعَلَ كِتَابًا عَنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ إِلَى إِسْحَاقَ، يَسْتَقْدِمُونَهُ إِلَيْهِمْ، وَيَعِدُونَهُ الْمُسَاعَدَةَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ، فَاغْتَرَّ إِسْحَاقُ بِذَلِكَ، وَكَتَبَ أَبُو طَلْحَةَ عَنْ إِسْحَاقَ كِتَابًا إِلَى أَهْلِ نَيْسَابُورَ يَعِدُهُمْ أَنَّهُ يُسَاعِدُهُمْ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ، وَيَأْمُرُهُمْ بِحِفْظِ الدُّرُوبِ، وَتَرْكِ مُقَارَبَةِ الْبَلَدِ إِلَى أَنْ يُوَافِيَهُمْ، فَاغْتَرُّوا بِذَلِكَ، وَظَنُّوهُ كِتَابَهُ، فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ. وَسَارَ إِسْحَاقُ مُجِدًّا، فَلَمَّا قَارَبَ نَيْسَابُورَ لَقِيَهُ أَبُو طَلْحَةَ، فَغَافَصَهُ، فَطَعَنَهُ أَبُو طَلْحَةَ، فَأَلْقَاهُ عَنْ فَرَسِهِ فِي بِئْرٍ هُنَاكَ، فَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ خَبَرٌ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَدَخَلَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ أَبُو طَلْحَةَ، فَكَاتَبُوا الْخُجُسْتَانِيَّ، وَاسْتَقْدَمُوهُ مِنْ هَرَاةَ، فَأَتَاهُمْ فِي يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ، وَوَرَدَ عَلَيْهِمْ لَيْلًا، فَفَتَحُوا لَهُ الْأَبْوَابَ، وَدَخَلَهَا وَسَارَ عَنْهَا أَبُو طَلْحَةَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ، فَأَمَدَّهُ بِجُنُودٍ، فَعَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِشَيْءٍ، فَسَارَ إِلَى بَلْخَ، وَحَصَرَ أَبَا دَاوُدَ النَّاهِجَوْزِيَّ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَذَلِكَ سَنَةَ خَمْسٍ، (وَقِيلَ سِتٍّ) وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. وَسَارَ الْخُجُسْتَانِيُّ إِلَى مُحَارَبَةِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ لِمُسَاعَدَتِهِ أَبَا طَلْحَةَ، فَاسْتَعَانَ الْحَسَنُ بِأَهْلِ جُرْجَانَ، فَأَعَانُوهُ، فَحَارَبَهُمُ الْخُجُسْتَانِيُّ فَهَزَمَهُمْ، وَأَغَارَ عَلَيْهِمْ، وَجَبَاهُمْ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ [وَمِائَتَيْنِ] . وَاتَّفَقَ أَنَّ يَعْقُوبَ بْنَ اللَّيْثِ تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ [وَمِائَتَيْنِ] أَيْضًا، وَوَلِيَ مَكَانَهُ أَخُوهُ عَمْرٌو، فَعَادَ إِلَى سِجِسْتَانَ وَقَصَدَ هَرَاةَ، فَعَادَ الْخُجُسْتَانِيُّ مِنْ جُرْجَانَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَوَافَاهُ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ، فَاقْتَتَلَا، وَانْهَزَمَ عَمْرٌو وَرَجَعَ إِلَى هَرَاةَ، وَأَقَامَ أَحْمَدُ بِنَيْسَابُورَ. وَكَانَ كَيْكَانُ، وَهُوَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ

وَالْفُقَهَاءِ بِنَيْسَابُورَ يَمِيلُونَ إِلَى عَمْرٍو لِتَوْلِيَةِ السُّلْطَانِ إِيَّاهُ، فَرَأَى الْخُجُسْتَانِيُّ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُمْ لِيَشْتَغِلَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَأَحْضَرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِمَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَقَرَّبَهُمْ، وَأَكْرَمَهُمْ، وَأَظْهَرُوا الْخِلَافَ عَلَى كَيْكَانَ، وَنَابَذُوهُ. وَكَانَ كَيْكَانُ يَقُولُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَكُفِيَ شَرُّهُمْ، وَسَارَ إِلَى هَرَاةَ فَحَصَرَ بِهَا عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِشَيْءٍ، فَسَارَ نَحْوَ سِجِسْتَانَ فَحَصَرَ فِي طَرِيقِهِ رَمْلَ سِيَّ فَلَمْ يَظْفَرْ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَاحْتَالَ حَتَّى اسْتَمَالَ رَجُلًا قَطَّانًا كَانَتْ دَارُهُ إِلَى جَانِبِ السُّورِ، وَوَعَدَهُ أَنْ يَنْقُبَ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى دَارِهِ، وَيُخْرِجَ أَصْحَابَهُ إِلَى الْبَلَدِ، فَاسْتَأْمَنَ رَجُلَانِ مِنَ الْبَلَدِ مِنْ أَصْحَابِ الْخُجُسْتَانِيِّ، وَذَكَرَا الْخَبَرَ لِصَاحِبِهِ، فَأُخِذَ الْقَطَّانُ وَأُخْرِبَتْ دَارُهُ، وَبَطَلَ مَا كَانَ الْخُجُسْتَانِيُّ عَزَمَ عَلَيْهِ. وَكَانَ خَلِيفَةُ الْخُجُسْتَانِيُّ بِنَيْسَابُورَ قَدْ أَسَاءَ السِّيرَةَ، وَقَوَّى الْعَيَّارِينَ وَأَهْلَ الْفَسَادِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَى كَيْكَانَ، فَثَارَ عَلَى نَائِبِهِ، وَأَعَانَهُمْ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ بِجُنْدِهِ، فَقَبَضُوا عَلَى خَلِيفَةِ الْخُجُسْتَانِيِّ، وَأَقَامَ أَصْحَابُ عَمْرٍو بِنَيْسَابُورَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى أَحْمَدَ، فَوَافَى نَيْسَابُورَ، فَخَرَجَ عَنْهَا كَيْكَانُ (وَغَيْرُهُ، فَرَدَّهُمْ أَصْحَابُ أَحْمَدَ الْخُجُسْتَانِيُّ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَغَيَّبَ كَيْكَانَ) ، فَلَمْ يَظْهَرْ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ مَيِّتًا، وَقَدْ بَنَى عَلَيْهِ حَائِطًا فَمَاتَ فِيهِ. وَأَقَامَ أَحْمَدُ بِنَيْسَابُورَ تَمَامَ سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ عَمْرًا كَاتَبَ أَبَا طَلْحَةَ، وَهُوَ يُحَاصِرُ بَلْخَ، يَسْتَقْدِمُهُ إِلَى هَرَاةَ، فَأَتَاهُ، فَأَكْرَمَهُ، وَأَعْطَاهُ مَالًا عَظِيمًا، وَوَعَدَهُ وَتَرَكَهُ بِخُرَاسَانَ، وَعَادَ إِلَى سِجِسْتَانَ ; فَسَارَ أَحْمَدُ إِلَى سَرَخْسَ، وَبِهَا عَامِلُ عَمْرٍو، فَأَتَاهُ أَبُو طَلْحَةَ، فَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ أَبُو طَلْحَةَ، وَمَرَّ عَلَى وَجْهِهِ،

وَسَارَ أَحْمَدُ خَلْفَهُ، فَلَحِقَهُ بُخُلْمُ فَحَارَبَهُ، فَهَزَمَهُ أَيْضًا، وَسَارَ نَحْوَ سِجِسْتَانَ، وَأَقَامَ أَحْمَدُ بِطَخَارِسْتَانَ. (وَكَانَ نَاسِرَارُ) عَبَّاسٌ الْقَطَّانُ قَدْ أَتَى طَلْحَةَ، فَسَارَ نَحْوَ نَيْسَابُورَ، فَأَعَانَهُ أَهْلُهَا، فَأَخَذُوا وَالِدَةَ الْخُجُسْتَانِيِّ، وَمَا كَانَ مَعَهَا ; (وَأَقَامَ بِنَيْسَابُورَ، وَلَحِقَ بِهِ أَبُو طَلْحَةَ، فَمَنَعَهُ أَهْلُ نَيْسَابُورَ مِنْ دُخُولِهَا) . وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالْخُجُسْتَانِيِّ، وَهُوَ بِطَايِكَانَ مِنْ طَخَارِسْتَانَ، فَسَارَ مُجِدًّا نَحْوَ نَيْسَابُورَ. وَلَمَّا أَيِسَ الطَّاهِرِيَّةُ مِنَ الْخُجُسْتَانِيِّ، وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ بِخُوَارِزْمَ وَالِيًا عَلَيْهَا، أَنْفَذَ أَبَا الْعَبَّاسِ النَّوْفَلِيَّ فِي خَمْسَةِ آلَافِ رَجُلٍ لِيُخْرِجَ أَحْمَدَ مِنْ نَيْسَابُورَ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ أَحْمَدَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَنْهَاهُ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، فَأَخَذَ النَّوْفَلِيُّ الرُّسُلَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِهِمْ، وَحَلْقِ لِحَاهُمْ، وَأَرَادَ قَتْلَهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَطْلُبُونَ الْجَلَّادِينَ، وَالْحَجَّامِينَ لِيَحْلِقُوا لِحَاهُمْ، أَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِقُرْبِ جَيْشِ أَحْمَدَ مِنْهُمْ، فَاشْتَغَلُوا، وَتَرَكُوا الرُّسُلَ، فَهَرَبُوا إِلَى أَحْمَدَ، وَأَعْلَمُوهُ الْخَبَرَ، فَعَبَّأَ أَصْحَابَهُ، وَحَمَلُوا عَلَى النَّوْفَلِيِّ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الْقَتْلَ، وَقَبَضُوا عَلَى النَّوْفَلِيِّ، وَأَحْضَرُوهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الرُّسُلَ لَتَخْتَلِفُ إِلَى بِلَادِ الْكُفَّارِ، فَلَا تَتَعَرَّضُ لَهُمْ، أَفَلَا اسْتَحْيَيْتَ أَنْ تَأْمُرَ فِي رُسُلِي بِمَا أَمَرْتَ؟ فَقَالَ النَّوْفَلِيُّ: أَخْطَأْتُ ; فَقَالَ: لَكِنِّي سَأُصِيبُ فِي أَمْرِكَ! ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. وَبَلَغَهُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بِمَرْوَ قَدْ جَبَى أَهْلَهَا فِي سَنَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ خَرَاجًا، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي أَبْيُورْدَ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَأَخَذَهُ مِنْ عَلَى فِرَاشِهِ، وَأَقَامَ بِمَرْوَ، فَجَبَى خَرَاجَهَا، ثُمَّ وَلَّاهَا مُوسَى الْبَلْخِيَّ، ثُمَّ وَافَاهَا الْحُسَيْنُ بْنُ طَاهِرٍ، فَأَحْسَنَ فِيهِمُ السِّيرَةَ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ نَحْوُ عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. ذِكْرُ قَتْلِ الْخُجُسْتَانِيِّ لَمَّا كَانَ الْخُجُسْتَانِيُّ بِطَخَارِسْتَانَ وَافَاهُ خَبَرُ أَخْذِ وَالِدَتِهِ مِنْ نَيْسَابُورَ، وَسَارَ مُجِدًّا،

فَلَمَّا قَارَبَ هَرَاةَ أَتَاهُ غُلَامٌ لِأَبِي طَلْحَةَ، يُعْرَفُ بِيَنَالَ دَهْ هَزَارَ، مُسْتَأْمِنًا، فَأَتَاهُ خَبَرُهُ قَبْلَ وُصُولِهِ، وَكَانَ لِلْخُجُسْتَانِيِّ غُلَامٌ اسْمُهُ رَامْجُورُ عَلَى خَزَائِنِهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُمَازِحِ لَهُ: إِنَّهُ سَيِّدُكَ يَنَالُ دَهْ هَزَارَ قَدِ اسْتَأْمَنَ إِلَيَّ، كَمَا عَلِمْتَ، فَانْظُرْ كَيْفَ يَكُونُ بِرُّكَ بِهِ، فَحَقَدَهَا عَلَيْهِ رَامْجُورُ، وَخَافَ أَنْ يُقَدِّمَ ذَلِكَ الْغُلَامَ عَلَيْهِ، وَيَطْلُبَ الْفُرْصَةَ لِيَقْتُلَهُ. وَكَانَ لِأَحْمَدَ غُلَامٌ [يُدْعَى] قَتْلَغُ، وَهُوَ عَلَى شَرَابِهِ، فَسَقَاهُ يَوْمًا، فَرَأَى فِي الْكُوزِ شَيْئًا، فَأَمَرَ بِهِ فَقُلِعَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، فَتَوَاطَأَ قَتْلَغُ وَرَامْجُورُ عَلَى قَتْلِهِ، فَشَرِبَ يَوْمًا بِنَيْسَابُورَ عِنْدَ وُصُولِهِ مِنْ طَايْكَانَ، فَسَكِرَ وَنَامَ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، فَقَتَلَهُ رَامْجُورُ، وَقَتْلَغُ، وَكَانَ قَتْلُهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَخَذَ رَامْجُورُ خَاتَمَهُ فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْإِصْطَبْلِ يَأْمُرُهُمْ بِإِسْرَاجِ عِدَّةِ دَوَابَّ، فَفَعَلُوا، فَسَيَّرَ عَلَيْهَا جَمَاعَةً إِلَى أَبِي طَلْحَةَ وَهُوَ بِجُرْجَانَ يُعْلِمُهُ الْحَالَ، وَيَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ، ثُمَّ أَغْلَقَ رَامْجُورُ الْبَابَ عَلَى أَحْمَدَ، وَاخْتَفَى. وَبَكَّرَ الْقُوَّادُ إِلَى بَابِ أَحْمَدَ، فَوَجَدُوا بَابَ حُجْرَتِهِ مُغْلَقًا، فَانْتَظَرُوهُ سَاعَةً طَوِيلَةً، فَرَابَهُمُ الْأَمْرُ، فَفَتَحُوا الْبَابَ فَرَأَوْهُ مَقْتُولًا، فَبَحَثُوا عَنِ الْحَالِ، وَأَخْبَرَهُمْ صَاحِبُ الْإِصْطَبْلِ خَبَرَ رَامْجُورَ فِي إِنْفَاذِ الْخَاتَمِ، فَطَلَبُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، ثُمَّ وَجَدُوهُ بَعْدَ مُدَّةٍ. وَكَانَ سَبَبُ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ أَنَّ صَبِيًّا مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ الَّتِي هُوَ بِهَا طَلَبَ نَارًا، فَقِيلَ لَهُ: مَا تَعْمَلُونَ بِالنَّارِ فِي الْيَوْمِ الْحَارِّ؟ فَقِيلَ: نَتَّخِذُ طَعَامًا لِلْقَائِدِ، قِيلَ: وَمَنِ الْقَائِدُ؟ قَالَ: رَامْجُورُ، فَأَنْهَوُا خَبَرَهُ إِلَى بَعْضِ الْقُوَّادِ، فَأَخَذُوهُ، وَقَتَلُوهُ. وَاجْتَمَعَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ بَعْدَ قَتْلِهِ عَلَى رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ. وَسَنَذْكُرُ أَخْبَارَ رَافِعٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، لَمَّا عَادَ مِنْ طَايِكَانَ بَعْدَ قَتْلِ وَالِدَتِهِ، نَصَبَ رُمْحًا طَوِيلًا فِي صَحْنِ دَارِهِ وَقَالَ: يَحْتَاجُ أَهْلُ نَيْسَابُورَ أَنْ يَضَعُوا الدُّرَّ حَتَّى يَغْمُرُوا هَذَا الرُّمْحَ، فَخَافُوا مِنْهُ، وَاسْتَخْفَى جَمْعٌ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالتُّجَّارِ، وَفَزِعَ النَّاسُ إِلَى الدُّعَاءِ، وَسَأَلُوا أَبَا عُثْمَانَ، وَغَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَفْصٍ الزَّاهِدِ أَنْ يَتَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِيُفَرِّجَ عَنْهُمْ، وَفَعَلُوا، فَتَدَارَكَهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، فَقُتِلَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

وَكَانَ أَحْمَدُ كَرِيمًا، جَوَادًا، شُجَاعًا، حَسَنَ الْعِشْرَةِ، كَثِيرَ الْبِرِّ لِإِخْوَانِهِ الَّذِينَ صَحِبُوهُ قَبْلَ إِمَارَتِهِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ لَهُمْ عَمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ مِنَ التَّوَاضُعِ وَالْآدَابِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ (وَفِيهَا وَلِيَ الْقَضَاءَ عَلِيُّ بْنُ) مُحَمَّدِ [بْنِ] أَبِي الشَّوَارِبِ. وَفِيهَا سَارَ الْحُسَيْنُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ إِلَى الْجَبَلِ فِي صَفَرٍ. وَفِيهَا مَاتَ الصَّلَانِيُّ وَالِي الرَّيِّ، وَوَلِيَهَا كَيْغَلَغُ. وَفِيهَا نُهِبَ ابْنُ زَيْدَوَيْهِ الطَّبِيبُ. وَمَاتَ صَالِحُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ الْمَنْصُورِ. وَوَلِيَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ قَضَاءَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَاذَ، فَصَارَ لَهُ قَضَاءُ الْجَانِبَيْنِ. وَفِيهَا تَنَافَرَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ، وَأَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ أَمِيرُ دِيَارِ مِصْرَ، وَصَارَ بِهِ بَيْنَهُمَا وَحْشَةٌ مُسْتَحْكِمَةٌ، وَتَطَلَّبَ الْمُوَفَّقُ مَنْ يَتَوَلَّى الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا ; لِأَنَّ ابْنَ طُولُونَ كَانَتْ خَدَمُهُ وَهَدَايَاهُ مُتَّصِلَةٌ إِلَى الْقُوَّادِ بِالْعِرَاقِ، وَأَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ، فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَتَوَلَّاهَا، فَكَتَبَ إِلَى ابْنِ طُولُونَ يُهَدِّدُهُ بِالْعَزْلِ، فَأَجَابَهُ جَوَابًا (فِيهِ بَعْضُ الْغِلْظَةِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْمُوَفَّقُ مُوسَى بْنَ بُغَا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَسَارَ إِلَى الرَّقَّةِ) . وَبَلَغَ الْخَبَرُ ابْنَ طُولُونَ، فَحَصَّنَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَأَقَامَ ابْنُ بُغَا عَشَرَةَ أَشْهُرٍ بِالرَّقَّةِ،

وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْمَسِيرُ لِقِلَّةِ الْأَمْوَالِ مَعَهُ، وَطَالَبَهُ الْأَجْنَادُ بِالْعَطَاءِ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يُعْطِيهِمْ، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، وَثَارُوا بِوَزِيرِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، فَاسْتَتَرَ، وَاضْطُرَّ ابْنُ بُغَا إِلَى الْعَوْدِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَكَفَى اللَّهُ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ شَرَّهُ فَتَصَدَّقَ بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ. وَفِيهَا قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَتَّابٍ، وَكَانَ سَائِرًا إِلَى السِّيبِينِ، وَهِيَ فِي وِلَايَتِهِ، فَقَتَلَهُ الْأَعْرَابُ. وَفِيهَا قُتِلَ الْقَطَّانُ صَاحِبُ مُفْلِحٍ، وَكَانَ عَامِلًا بِالْمَوْصِلِ، فَانْصَرَفَ عَنْهَا، فَقُتِلَ بِالرَّقَّةِ. وَفِيهَا عُقِدَ لِكَفْتِمُرَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ دَاوُدَ عَلَى طَرِيقِ مَكَّةَ. وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْخَيَّاطِينَ، وَالْجَزَّارِينَ بِمَكَّةَ قِتَالٌ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، حَتَّى خَافَ النَّاسُ أَنْ يَبْطُلَ الْحَجُّ، ثُمَّ تَحَاجَزُوا إِلَى أَنْ يَحُجَّ النَّاسُ، وَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ. (وَفِيهَا سَيَّرَ مُحَمَّدٌ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ ابْنَهُ الْمُنْذِرَ فِي جَيْشٍ إِلَى الْجُلَيْقِيِّ، وَكَانَ بِمَدِينَةِ بَطْلَيُوسَ، فَلَمَّا سَمِعَ خَبَرَهُمْ فَارَقَهَا، وَدَخَلَ حِصْنَ كَرْكَرَ، فَحُوصِرَ فِيهِ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي أَصْحَابِهِ فِي شَوَّالٍ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ النُّمَيْرِيُّ الْإِخْبَارِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ.

ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ] 263 - 263 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ وَقْعَةِ الزَّنْجِ لَمَّا انْهَزَمَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ جَرِيحًا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَادَ إِلَى الْأَهْوَازَ لَمْ يَقُمْ بِهَا، وَمَضَى إِلَى عَسْكَرِ صَاحِبِهِ يُدَاوِي جِرَاحَهُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَسْكَرِهِ بِالْأَهْوَازِ، فَلَمَّا بَرَأَ جُرْحُهُ عَادَ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَوَجَّهَ أَخَاهُ الْخَلِيلَ بْنَ أَبَانٍ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ لَيْثَوَيْهِ، وَكَانَ أَحْمَدُ بِعَسْكَرِ مُكْرَمٍ، فَكَمَنَ لَهُمْ أَحْمَدُ، وَخَرَجَ إِلَى قِتَالِهِمْ، فَالْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، وَخَرَجَ الْكَمِينُ عَلَى الزَّنْجِ فَانْهَزَمُوا، وَتَفَرَّقُوا، وَقُتِلُوا، وَوَصَلَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ، فَوَجَّهَ مَسْلَحَةً إِلَى الْمَسْرُقَانِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ أَحْمَدُ ثَلَاثِينَ فَارِسًا مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْ أَعْيَانِهِمْ، فَقَتَلَهُمُ الزَّنْجُ جَمِيعَهُمْ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ يَعْقُوبَ عَلَى الْأَهْوَازِ وَغَيْرِهَا وَفِيهَا أَقْبَلَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ مِنْ فَارِسَ، فَلَمَّا بَلَغَ النُّوبِنْدِجَانَ انْصَرَفَ أَحْمَدُ بْنُ اللَّيْثِ عَنْ تَسْتُرَ، فَلَمَّا بَلَغَ يَعْقُوبُ جَنْدَيْسَابُورَ وَنَزَلَهَا، ارْتَحَلَ عَنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ كُلُّ مَنْ بِهَا مِنْ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ، وَوَجَّهَ إِلَى الْأَهْوَازِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ [لَهُ] الْخَضِرُ بْنُ الْعَنْبَرِ، فَلَمَّا قَارَبَهَا خَرَجَ عَنْهَا عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الزَّنْجِ، فَنَزَلَ نَهْرَ السِّدْرَةِ، وَدَخَلَ الْخَضِرُ الْأَهْوَازَ، وَجَعَلَ أَصْحَابُهُ، وَأَصْحَابُ عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيُصِيبُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، إِلَى أَنِ اسْتَعَدَّ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ وَسَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَأَوْقَعَ بِالْخَضِرِ وَمَنْ مَعَهُ وَقْعَةً قُتِلَ فِيهَا مِنْ أَصْحَابِ الْخَضِرِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَصَابَ الْغَنَائِمَ الْكَثِيرَةَ، وَهَرَبَ الْخَضِرُ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ. وَأَقَامَ عَلِيٌّ بِالْأَهْوَازِ لِيَسْتَخْرِجَ مَا كَانَ فِيهَا، وَرَجَعَ إِلَى نَهْرِ السِّدْرَةِ، وَسَيَّرَ طَائِفَةً إِلَى

دَوْرَقَ، وَأَوْقَعُوا بِمَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنْ أَصْحَابِ يَعْقُوبَ، وَأَنْفَذَ يَعْقُوبُ إِلَى الْخَضِرِ مَدَدًا، وَأَمَرَهُ بِالْكَفِّ عَنْ قِتَالِ الزَّنْجِ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْمُقَامِ بِالْأَهْوَازِ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ عَلِيٌّ إِلَى ذَلِكَ دُونَ نَقْلِ طَعَامٍ كَانَ هُنَاكَ، فَأَجَابَهُ يَعْقُوبُ إِلَيْهِ، فَنَقَلَهُ، وَتَرَكَ الْعَلَفَ الَّذِي كَانَ بِالْأَهْوَازِ وَكَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. ذِكْرُ مَلِكِ الرُّومِ لُؤْلُؤَةَ وَفِيهَا سَلَّمَتِ الصَّقَالِبَةُ لُؤْلُؤَةَ إِلَى الرُّومِ ; وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ قَدْ أَدْمَنَ الْغَزْوَ بِطَرَسُوسَ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ مِصْرَ، فَلَمَّا وَلِيَ مِصْرَ كَانَ يُؤْثِرُ أَنْ يَلِيَ طَرَسُوسَ لِيَغْزُوَ مِنْهَا أَمِيرًا، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ يَطْلُبُ وِلَايَتَهَا، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا مُحَمَّدَ بْنَ هَارُونَ التَّغْلِبِيَّ، فَرَكِبَ فِي سَفِينَةٍ فِي دِجْلَةَ فَأَلْقَتْهَا الرِّيحُ إِلَى الشَّاطِئِ، فَأَخَذَهُ أَصْحَابُ مُسَاوِرٍ الشَّارِيِّ فَقَتَلُوهُ، وَاسْتَعْمَلَ عِوَضَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْأَرْمَنِيَّ، وَأُضِيفَ إِلَيْهِ أَنْطَاكِيَةَ، فَوَثَبَ بِهِ أَهْلُ طَرَسُوسَ فَقَتَلُوهُ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا (أَرْخُوزَ بْنَ يُولَغَ) بْنِ طَرْخَانَ التُّرْكِيَّ، فَسَارَ بِهَا، وَكَانَ غِرًّا جَاهِلًا، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ، وَأَخَّرَ عَنْ أَهْلِ لُؤْلُؤَةَ أَرْزَاقَهُمْ وَمِيرَتَهُمْ، فَضَجُّوا مِنْ ذَلِكَ، وَكَتَبُوا إِلَى أَهْلِ طَرَسُوسَ يَشْكُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ: إِنْ لَمْ تُرْسِلُوا إِلَيْنَا أَرْزَاقَنَا وَمِيرَتَنَا وَإِلَّا سَلَّمْنَا الْقَلْعَةَ إِلَى الرُّومِ. فَأَعْظَمَ ذَلِكَ أَهْلُ طَرَسُوسَ وَجَمَعُوا مِنْ بَيْنِهِمْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ لِيَحْمِلُوهَا إِلَيْهِمْ، فَأَخَذَهَا أَرْخُوزُ لِيَحْمِلَهَا إِلَى أَهْلِ لُؤْلُؤَةَ، فَأَخَذَهَا لِنَفْسِهِ. فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِمُ الْمَالُ سَلَّمُوا الْقَلْعَةَ إِلَى الرُّومِ، فَقَامَتْ عَلَى أَهْلِ طَرَسُوسَ الْقِيَامَةُ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ شَجًّا فِي حَلْقِ الْعَدُوِّ، وَلَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ لِلرُّومِ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ إِلَّا رَأَوْهُ، وَأَنْذَرُوا بِهِ ; وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالْمُعْتَمِدِ، فَقَلَّدَهَا أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا مَنْ يَقُومُ بِغَزْوِ الرُّومِ وَيَحْفَظُ ذَلِكَ الثَّغْرَ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ مُسَاوِرٌ الشَّارِيُّ، وَكَانَ قَدْ رَحَلَ مِنَ الْبَوَازِيجِ يُرِيدُ لِقَاءَ عَسْكَرٍ قَدْ سَارَ إِلَيْهِ مِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ، فَكَتَبَ أَصْحَابُهُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ خَرْزَادَ، وَهُوَ بِشَهْرَزَوْرَ لِيُوَلُّوهُ أَمْرَهُمْ فَامْتَنَعَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، فَبَايَعُوا أَيُّوبَ بْنَ حَيَّانَ الْوَارِقِيَّ الْبَجَلِيَّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ خَرْزَادَ لِيَذْكُرَ لَهُمْ أَنَّهُ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ، فَلَمْ يَسَعْهُ إِهْمَالُ الْأَمْرِ ; لِأَنَّ مُسَاوِرًا عَهِدَ إِلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ وَلَا نَغْدِرُ بِهِ ; فَسَارَ إِلَيْهِمْ فِيمَنْ بَايَعَهُ، فَقَاتَلَهُمْ، فَقُتِلَ أَيُّوبُ بْنُ حَيَّانَ، فَبَايَعُوا بَعْدَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى الْوَارِقِيَّ الْمَعْرُوفَ بِالْغُلَامِ، فَقُتِلَ أَيْضًا، فَبَايَعَ أَصْحَابُهُ هَارُونَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ، فَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، وَعَادَ عَنْهُ ابْنُ خَرْزَادَ، وَاسْتَوْلَى هَارُونُ عَلَى أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ، وَجَبَى خَرَاجَهُ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ مُوسَى وَالْأَعْرَابِ، فَوَّجَّهَ الْمُوَفَّقُ ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قُوَّادِهِ فِي طَلَبِ الْأَعْرَابِ. وَفِيهَا وَثَبَ الدَّيْرَانِيُّ بِابْنِ أَوْسٍ، فَكَبَسَهُ لَيْلًا، فَتَفَرَّقَ عَسْكَرُهُ، وَنَهَبَهُ، وَمَضَى ابْنُ أَوْسٍ إِلَى وَاسِطَ. وَفِيهَا ظَفِرَ أَصْحَابُ يَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ بِمُحَمَّدِ بْنِ وَاصِلٍ، فَأَسَرُوهُ. وَفِيهَا مَاتَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ، وَزِيرُ الْمُعْتَمِدِ سَقَطَ بِالْمَيْدَانِ مِنْ صَدْمَةِ خَادِمٍ لَهُ، فَسَالَ دِمَاغُهُ مِنْ مِنْخَرَيْهِ، وَأُذُنِهِ، فَمَاتَ لِوَقْتِهِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْمُوَفَّقُ، وَمَشَى فِي جِنَازَتِهِ، وَاسْتَوْزَرَ مِنَ الْغَدِ الْحَسَنَ بْنَ مَخْلَدٍ، فَقَدِمَ مُوسَى بْنُ بُغَا سَامَرَّا، فَاخْتَفَى الْحَسَنُ، وَاسْتَوْزَرَ مَكَانَهُ سُلَيْمَانَ بْنَ وَهْبٍ، وَدُفِعَتْ دَارُ عُبَيْدِ اللَّهِ إِلَى كَيْغَلَغَ. وَفِيهَا أُخْرِجَ (أَخُو) شَرْكُبَ الْحُسَيْنُ بْنُ طَاهِرٍ عَنْ نَيْسَابُورَ، وَغَلَبَ عَلَيْهَا، وَأَخَذَ

أَهْلُهُ بِإِعْطَائِهِ ثُلُثَ أَمْوَالِهِمْ، وَسَارَ الْحُسَيْنُ إِلَى مَرْوَ وَبِهَا ابْنُ خُوَارِزْمَ شَاهَ يَدْعُو لِمُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ. (وَفِيهَا سَيَّرَ مُحَمَّدٌ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ ابْنَهُ الْمُنْذِرَ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ، وَجَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى مَارِدَةَ، فَلَمَّا جَازَ مَارِدَةَ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ تَبِعَهُ تِسْعُمِائَةِ فَارِسٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدِ اسْتَظْهَرَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا كَثِيرًا صَبَرُوا فِيهِ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَدَدٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ اسْتَظْهَرَ ابْنُ الْجُلَيْقِيُّ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى السَّبْعِمِائَةِ، فَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيهِمْ فَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ. وَفِيهَا ابْتَدَأَ إِبْرَاهِيمُ أَمِيرُ إِفْرِيقِيَّةَ بِبِنَاءِ مَدِينَةِ رَقَّادَةَ) . [الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ الطَّائِيُّ الْمَوْصِلِيُّ أَخُو عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ، تُوُفِّيَ بِآذِنَةَ مِنْ بَلَدِ الثَّغْرِ) .

ثم دخلت سنة أربع وستين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ] 264 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ أَسْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَاوِسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَسَرَتِ الرُّومُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَشِيدِ بْنِ كَاوِسَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ بَلَدَ الرُّومِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الثُّغُورِ الشَّامِيَّةِ، فَغَنِمَ وَقَتَلَ، فَلَمَّا رَحَلَ عَنِ الْبَدَنْدُونَ خَرَجَ عَلَيْهِ بِطْرِيقُ سَلُوقِيَّةَ، وَبِطْرِيقُ قُرَّةِ كَوْكَبٍ، وَخَرْشَنَةَ، فَأَحْدَقُوا بِالْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَ الْمُسْلِمُونَ وَعَرْقَبُوا دَوَابَّهُمْ وَقَاتَلُوا، فَقُتِلُوا إِلَّا خَمْسَمِائَةٍ، فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَنَجَوْا عَلَى دَوَابِّهِمْ، وَقَتَلَ الرُّومُ مَنْ قَتَلُوا، وَأَسَرُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَشِيدٍ بَعْدَ ضَرَبَاتٍ أَصَابَتْهُ، وَحُمِلَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ. ذِكْرُ أَخْبَارِ الزَّنْجِ هَذِهِ السَّنَةَ وَدُخُولِهِمْ وَاسِطَ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ مَسِيرَ سُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ إِلَى الْبَطَائِحِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مَعَ أَغْرَتَمْشَ، فَلَمَّا أَوْقَعَ بِهِ كَتَبَ إِلَى صَاحِبِهِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْمَسِيرِ إِلَيْهِ لِيُحْدِثَ بِهِ عَهْدًا، وَيُصْلِحَ أُمُورَ مَنْزِلِهِ، (فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ) ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْجُبَّائِيُّ أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَى عَسْكَرْتَكِينَ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ بِبَرْدُودَ، فَقَبِلَ قَوْلَهُ، وَسَارَ إِلَى تَكِينَ، فَلَمَّا كَانَ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْهُ قَالَ لَهُ الْجُبَّائِيُّ: الرَّأْيُ أَنْ تُقِيمَ أَنْتَ هَا هُنَا، وَأَمْضِيَ أَنَا فِي السُّمَيْرِيَّاتِ، وَأَجُرَّ الْقَوْمَ إِلَيْكَ، فَيَأْتُونَكَ وَقَدْ تَعِبُوا، فَتَنَالَ مِنْهُمْ حَاجَتَكَ. فَفَعَلَ سُلَيْمَانُ ذَلِكَ، وَجَعَلَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ كَمِينًا، وَمَضَى الْجُبَّائِيُّ إِلَى تِكِينَ،

فَقَاتَلَهُ سَاعَةً، ثُمَّ تَطَارَدَ لَهُمْ، فَتَبِعُوهُ، فَأَرْسَلَ سُلَيْمَانُ يُعْلِمَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ، وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِ تِكِينِ شِبْهَ الْمُنْهَزِمِ، لِيَسْمَعَ أَصْحَابُ تِكِينَ قَوْلَهُ فَيَطْمَعُوا فِيهِ: غَرَرْتُمُونِي، وَأَهْلَكْتُمُونِي، وَكُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الدُّخُولِ هَهُنَا، فَأَبَيْتُمْ، وَلَا أَرَانَا نَنْجُو مِنْهُ. وَطَمِعَ أَصْحَابُ تِكِينَ وَجَدُّوا فِي طَلَبِهِ، وَجَعَلُوا يُنَادُونَ: بُلْبُلٌ فِي قَفَصٍ، فَمَا زَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى جَازُوا مَوْضِعَ الْكَمِينِ، وَقَارَبُوا عَسْكَرَ سُلَيْمَانَ، وَقَدْ كَمَنَ أَيْضًا خَلْفَ جُدُرٍ هُنَاكَ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ إِلَيْهِمْ فِي أَصْحَابِهِ فَقَاتَلَهُمْ، وَخَرَجَ الْكَمِينُ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَعَطَفَ الْجُبَّائِيُّ عَلَى مَنْ فِي النَّهْرِ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ تِكِينَ مِنَ الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَرَكِبَهُمُ الزَّنْجُ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَسْلُبُونَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ، وَعَادُوا عَنْهُمْ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ عَادَ الزَّنْجُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي مُعَسْكَرِهِمْ، فَكَبَسُوهُمْ، فَقَاتَلَهُمْ تِكِينُ وَأَصْحَابُهُ، فَانْكَشَفَ سُلَيْمَانُ، ثُمَّ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ، فَأَمَرَ طَائِفَةً أَنْ تَأْتِيَهُمْ مِنْ جِهَةٍ ذَكَرَهَا لَهُمْ، وَطَائِفَةً مِنَ الْمَاءِ، وَأَتَى هُوَ فِي الْبَاقِينَ، فَقَصَدُوا تِكِينَ مِنْ جِهَاتِهِ كُلِّهَا، فَلَمْ يَقِفْ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدٌ، وَانْهَزَمُوا، وَتَرَكُوا عَسْكَرَهُمْ، فَغَنِمَ الزَّنْجُ مَا فِيهِ، وَعَادُوا بَالْغَنِيمَةِ، وَاسْتَخْلَفَ سُلَيْمَانُ الْجُبَّائِيُّ عَلَى عَسْكَرِهِ، وَسَارَ إِلَى صَاحِبِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. فَلَمَّا سَارَ سُلَيْمَانُ إِلَى الْخَبِيثِ خَرَجَ الْجُبَّائِيُّ بِالْعَسْكَرِ الَّذِي خَلَّفَهُ سُلَيْمَانُ مَعَهُ إِلَى مَازُورَانَ لِطَلَبِ الْمِيرَةِ، فَاعْتَرَضَهُ جُعْلَانُ، فَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ الْجُبَّائِيُّ، وَأُخِذَتْ سُفُنُهُ، وَأَتَتْهُ الْأَخْبَارُ أَنَّ مَنْجُورَا وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ حَبِيبٍ الْيَشْكُرِيَّ قَدْ بَلَغَا الْحَجَّاجِيَّةَ، فَكَتَبَ إِلَى صَاحِبِهِ بِذَلِكَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانَ، فَوَصَلَ إِلَى طَهْثَا مُجِدًّا، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ قَصْدَ جُعْلَانَ، وَقَدِمَ الْجُبَّائِيُّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ جُعَلَانَ وَيَقِفَ بِحَيْثُ يَرَاهُ وَلَا يُقَاتِلُهُ. ثُمَّ سَارَ سُلَيْمَانُ نَحْوَ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ مُجِدًّا، فَأَوْقَعَ بِهِ وَقْعَةً عَظِيمَةً، وَغَنِمَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَقَتَلَ أَخًا لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَرَجَعَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا. ثُمَّ سَارَ فِي شَعْبَانَ إِلَى قَرْيَةِ حَسَّانَ، وَبِهَا قَائِدٌ يُقَالُ لَهُ حَسَنُ بْنُ خَمَارْتَكِينَ، فَأَوْقَعَ بِهِ، فَهَزَمَهُ، وَنَهَبَ الْقَرْيَةَ، وَأَحْرَقَهَا، وَعَادَ.

ثُمَّ سَارَ فِي شَعْبَانَ أَيْضًا إِلَى مَوَاضِعَ، فَنَهَبَهَا، وَعَادَ، ثُمَّ سَارَ فِي رَمَضَانَ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ جُعْلَانَ بِمَازُورَانَ، فَبَلَغَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى جُعَلَانَ بِذَلِكَ، فَضَبَطَ عَسْكَرُهُ، فَتَرَكَهُ سُلَيْمَانُ وَعَدَلَ إِلَى أَبَا فَأَوْقَعَ بِهِ وَهُوَ غَارٌّ، وَغَنِمَ مِنْهُ سِتَّ شَذَوَاتٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ الْجُبَّائِيَّ فِي جَمَاعَةٍ لِيَنْتَهِبَ، فَصَادَفَهُمْ جُعْلَانُ، فَأَخَذَ سُفُنَهُمْ، وَغَنِمَ مِنْهُمْ، فَأَتَاهُ سُلَيْمَانُ فِي الْبَرِّ، فَهَزَمَهُ، وَاسْتَنْقَذَ سُفُنَهُمْ، وَغَنِمَ شَيْئًا آخَرَ وَعَادَ. ثُمَّ سَارَ سُلَيْمَانُ إِلَى الرُّصَافَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَوْقَعَ بِمَطَرِ بْنِ جَامِعٍ وَهُوَ بِهَا، فَغَنِمَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَأَحْرَقَ الرُّصَافَةَ، وَاسْتَبَاحَهَا، وَحَمَلَ أَعْلَامًا وَانْحَدَرَ إِلَى مَدِينَةِ الْخَبِيثِ، وَأَقَامَ لِيُعَيِّدَ هُنَاكَ بِمَنْزِلِهِ، فَسَارَ مَطَرٌ إِلَى الْحَجَّاجِيَّةِ، فَأَوْقَعَ بِأَهْلِهَا، وَأَسَرَ جَمَاعَةً، وَكَانَ بِهَا قَاضٍ لِسُلَيْمَانَ، فَأَسَرَهُ مَطَرٌ وَحَمَلَهُ إِلَى وَاسِطَ، وَسَارَ مَطَرٌ إِلَى قَرِيبِ طَهْثَا وَرَجَعَ، فَكَتَبَ الْجُبَّائِيُّ إِلَى سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ، فَسَارَ نَحْوَهُ، فَوَافَاهُ لِلَيْلَتَيْنِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، ثُمَّ صَرَفَ جُعَلَانُ، وَوَافَى أَحْمَدُ بْنُ لَيْثَوَيْهِ، فَأَقَامَ بِالشَّدِيدِيَّةِ. وَمَضَى سُلَيْمَانُ إِلَى (نَهْرِ أَبَانٍ، وَبِهِ قَائِدٌ مِنْ قُوَّادِ أَحْمَدَ، فَأَوْقَعَ بِهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ سَارَ سُلَيْمَانُ إِلَى) تِكِينَ فِي خَمْسِ شَذَوَاتٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، فَوَاقَعَهُ تِكِينُ بِالشَّدِيدِيَّةِ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ لَيْثَوَيْهِ حِينَئِذٍ قَدْ سَارَ إِلَى الْكُوفَةِ وَجَنْبُلَاءَ، فَظَهَرَ تِكِينُ عَلَى سُلَيْمَانَ، وَأَخَذَ الشَّذَوَاتِ بِمَا فِيهَا، وَكَانَ بِهَا صَنَادِيدُ سُلَيْمَانَ وَقُوَّادُهُ فَقَتَلَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ أَحْمَدَ عَادَ إِلَى الشَّدِيدِيَّةِ، وَضَبَطَ تِلْكَ الْأَعْمَالَ، حَتَّى وَافَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُوَلَّدِ، وَقَدْ وَلَّاهُ الْمُوَفَّقُ مَدِينَةَ وَاسِطَ، فَكَتَبَ سُلَيْمَانُ إِلَى الْخَبِيثِ يَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَدَّهُ بِالْخَلِيلِ بْنِ أَبَانٍ فِي زُهَاءِ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ، فَلَمَّا أَتَاهُ الْمَدَدُ قَصَدَ إِلَى مُحَارَبَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُوَلَّدِ، وَدَخَلَ سُلَيْمَانُ مَدِينَةَ وَاسِطَ، فَقَتَلَ فِيهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَنَهَبَ وَأَحْرَقَ،

وَكَانَ بِهَا ابْنُ مَنْكَجُورَ الْبُخَارِيُّ، فَقَاتَلَهُ يَوْمَهُ إِلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ قُتِلَ، وَانْصَرَفَ سُلَيْمَانُ عَنْ وَاسِطَ إِلَى جَنْبُلَاءَ لِيَعِيثَ وَيُخَرِّبَ، فَأَقَامَ هُنَاكَ تِسْعِينَ لَيْلَةً، وَعَسْكَرُهُمْ بِنَهْرِ الْأَمِيرِ. ذِكْرُ وِزَارَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ لِلْخَلِيفَةِ - وَوِزَارَةِ الْحَسَنِ بْنِ مَخْلَدٍ، وَعَزْلِهِ وَفِيهَا خَرَجَ سُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى سَامَرَّا وَشَيَّعَهُ الْمُوَفَّقُ، وَالْقُوَّادُ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى سَامَرَّا غَضِبَ عَلَيْهِ الْمُعْتَمِدُ وَحَبَسَهُ، وَقَيَّدَهُ، وَانْتَهَتْ دَارُهُ، وَاسْتَوْزَرَ الْحَسَنَ بْنَ مَخْلَدٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَسَارَ الْمُوَفَّقُ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى سَامَرَّا، وَمَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ سَامَرَّا تَحَوَّلَ الْمُعْتَمِدُ إِلَى جَانِبِ الْغَرْبِيِّ فَعَسْكَرَ بِهِ (مُغَاضِبًا لِلْمُوَفَّقِ) ، وَاخْتَلَفَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُوَفَّقِ، وَاتَّفَقَا، وَخَلَعَ عَلَى الْمُوَفَّقِ، وَمَسْرُورٍ، وَكَيْغَلَغَ، وَأَحْمَدَ بْنِ مُوسَى بْنِ بُغَا، وَأَطْلَقَ سُلَيْمَانَ بْنَ وَهْبٍ، وَعَادَ إِلَى الْجَوْسَقِ، وَهَرَبَ الْحَسَنُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ أَبِي الْأَصْبَغِ، وَهَرَبَ الْقُوَّادُ الَّذِينَ كَانُوا بِسَامَرَّا مَعَ الْمُعْتَمِدِ خَوْفًا مِنَ الْمُوَفَّقِ، فَوَصَلُوا إِلَى الْمَوْصِلِ وَجَبَوُا الْخَرَاجَ ذِكْرُ وَفَاةِ أَمَاجُورَ، وَمُلْكِ ابْنِ طُولُونَ الشَّامَ وَطَرَسُوسَ، وَقَتْلِ سِيمَا الطَّوِيلِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَمَاجُورُ مُقْطَعَ دِمَشْقَ، وَوَلِيَ ابْنُهُ مَكَانَهُ، فَتَجَهَّزَ ابْنُ طُولُونَ لِيَسِيرَ إِلَى الشَّامِ فَيَمْلِكَهُ، فَكَتَبَ إِلَى ابْنِ أَمَاجُورَ يَذْكُرُ لَهُ أَنَّ الْخَلِيفَةَ قَدْ أَقْطَعَهُ الشَّامَ وَالثُّغُورَ، فَأَجَابَهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، سَارَ أَحْمَدُ، وَاسْتَخْلَفَ بِمِصْرَ ابْنَهُ الْعَبَّاسَ، فَلَقِيَهُ ابْنُ أَمَاجُورَ (بِالرَّمْلَةِ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ فَمَلَكَهَا وَأَقَرَّ قُوَّادَ أَمَاجُورَ) عَلَى أَقْطَاعِهِمْ، وَسَارَ إِلَى حِمْصَ فَمَلَكَهَا، وَكَذَلِكَ حَمَاةُ، وَحَلَبُ. وَرَاسَلَ سِيمَا الطَّوِيلَ بِأَنْطَاكِيَّةَ يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ لِيُقِرَّهُ عَلَى وِلَايَتِهِ، فَامْتَنَعَ، فَعَاوَدَهُ فَلَمْ يُطِعْهُ، فَسَارَ أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ، فَحَصَرَهُ بِأَنْطَاكِيَّةَ، وَكَانَ سَيِّئَ السِّيرَةِ مَعَ أَهْلِ الْبَلَدِ، فَكَاتَبُوا أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ، وَدَلُّوهُ عَلَى عَوْرَةِ الْبَلَدِ، فَنَصَبَ عَلَيْهِ الْمَجَانِيقَ، وَقَاتَلَهُ، فَمَلَكَ

الْبَلَدَ عَنْوَةً، وَالْحِصْنَ الَّذِي لَهُ، وَرَكِبَ سِيمَا، وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى قُتِلَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ، فَاجْتَازَ بِهِ بَعْضُ قُوَّادِهِ فَرَآهُ قَتِيلًا، فَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى أَحْمَدَ، فَسَاءَهُ قَتْلُهُ. وَرَحَلَ عَنْ أَنْطَاكِيَّةَ إِلَى طَرَسُوسَ، فَدَخَلَهَا وَعَزَمَ عَلَى الْمُقَامِ بِهَا، وَمُلَازَمَةِ الْغُزَاةِ، فَغَلَا السِّعْرُ بِهَا، وَضَاقَتْ عَنْهُ وَعَنْ عَسَاكِرِهِ، فَرَكِبَ أَهْلُهَا إِلَيْهِ بِالْمُخَيَّمِ، وَقَالُوا لَهُ: قَدْ ضَيَّقْتَ بَلَدَنَا، وَأَغْلَيْتَ أَسْعَارَنَا، فَإِمَّا أَقَمْتَ فِي عَدَدٍ يَسِيرٍ، وَإِمَّا ارْتَحَلْتَ عَنَّا، أَغْلَظُوا لَهُ فِي الْقَوْلِ، وَشَغَبُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ لِأَصْحَابِهِ: لِتَنْهَزِمُوا مِنَ الطَّرَسُوسِيِّينَ، وَتَرْحَلُوا عَنِ الْبَلَدِ، لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ وَخَاصَّةً الْعَدُوَّ أَنَّ ابْنَ طُولُونَ عَلَى بُعْدِ صِيتِهِ وَكَثْرَةِ عَسَاكِرِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَهْلِ طَرَسُوسَ ; وَانْهَزَمَ عَنْهُمْ لِيَكُونَ أَهْيَبَ لَهُمْ فِي قَلْبِ الْعَدُوِّ. وَعَادَ إِلَى الشَّامِ. فَأَتَاهُ خَبَرُ وَلَدِهِ الْعَبَّاسِ، وَهُوَ اسْتَخْلَفَهُ بِمِصْرَ، وَأَنَّهُ قَدْ عَصَى عَلَيْهِ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ، وَسَارَ إِلَى بُرْقَةَ مُشَاقًّا لِأَبِيهِ، فَلَمْ يَكْتَرِثْ لِذَلِكَ، وَلَمْ يَنْزَعِجْ لَهُ، وَثَبَتَ، وَقَضَى أَشْغَالَهُ، وَحَفِظَ أَطْرَافَ بِلَادِهِ، وَتَرَكَ بِحَرَّانَ عَسْكَرًا، وَبِالرَّقَّةِ عَسْكَرًا مَعَ غُلَامِهِ لُؤْلُؤٍ، وَكَانَتْ حَرَّانُ لِمُحَمَّدِ بْنِ أَتَامِشَ، (وَكَانَ شُجَاعًا) ، فَأَخْرَجَهُ عَنْهَا وَهَزَمَهُ هَزِيمَةً قَبِيحَةً. وَاتَّصَلَ خَبَرُهُ بِأَخِيهِ مُوسَى بْنِ أَتَامِشَ، وَكَانَ شُجَاعًا بَطَلًا، فَجَمَعَ عَسْكَرًا كَثِيرًا وَسَارَ نَحْوَ حَرَّانَ، وَبِهَا عَسْكَرُ ابْنِ طُولُونَ، وَمُقَدَّمُهُمْ أَحْمَدُ بْنُ جَيْعَوَيْهِ، فَلَمَّا اتَّصَلَ بِهِ خَبَرُ مَسِيرِ مُوسَى أَقْلَقَهُ ذَلِكَ وَأَزْعَجَهُ، فَفَطِنَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْأَغَرِّ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، أَرَاكَ مُفَكِّرًا مُنْذُ أَتَاكَ خَبَرُ ابْنِ أَتَامِشَ، وَمَا هَذَا مَحَلُّهُ، فَإِنَّهُ طَيَّاشٌ قَلِقٌ، وَلَوْ شَاءَ الْأَمِيرُ أَنْ آتِيَهُ بِهِ أَسِيرًا لَفَعَلْتُ. فَغَاظَهُ قَوْلُهُ، وَقَالَ: قَدْ شِئْتُ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ أَسِيرًا ; قَالَ: فَاضْمُمْ إِلَيَّ عِشْرِينَ رَجُلًا اخْتَارُهُمْ، قَالَ: افْعَلْ، فَاخْتَارَ عِشْرِينَ رَجُلًا وَسَارَ بِهِمْ إِلَى عَسْكَرِ مُوسَى، فَلَمَّا قَارَبَهُمْ كَمَنَ بَعْضُهُمْ، وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَامَةً إِذَا سَمِعُوهَا ظَهَرُوا. ثُمَّ دَخَلَ الْعَسْكَرُ الْبَاقِينَ فِي زِيِّ الْأَعْرَابِ، وَقَارَبَ مَضَارِبَ مُوسَى، وَقَصَدَ خَيْلًا

مَرْبُوطَةً فَأَطْلَقَهَا، وَصَاحَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِيهَا فَنَفَرَتْ، وَصَاحَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَأَصْحَابُ مُوسَى غَارُّونَ، وَقَدْ تَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ فِي حَوَائِجِهِمْ، انْزَعَجَ الْعَسْكَرُ، وَرَكِبُوا، وَرَكِبَ مُوسَى، فَانْهَزَمَ أَبُو الْأَغَرِّ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَتَبِعَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَجَازَ بِهِ الْكَمِينَ، فَنَادَى أَبُو الْأَغَرِّ بِالْعَلَامَةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ، فَثَارُوا مِنَ النَّوَاحِي، وَعَطَفَ أَبُو الْأَغَرِّ عَلَى مُوسَى فَأَسَرُوهُ، فَأَخَذُوهُ، وَسَارُوا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى ابْنِ جَيْعَوَيْهِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، وَحَارُوا، فَسَيَّرَهُ ابْنُ جَيْعَوَيْهِ إِلَى ابْنِ طُولُونَ، فَاعْتَقَلَهُ، وَعَادَ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبِلَادِ الصِّينَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ بِبِلَادِ الصِّينِ إِنْسَانٌ لَا يُعْرَفُ، فَجَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالْعَامَّةِ، فَأَهْمَلَ الْمَلِكُ أَمْرَهُ اسْتِصْغَارًا لِشَأْنِهِ، فَقَوِيَ، وَظَهَرَ حَالُهُ، وَكَثُفَ جَمْعُهُ، وَقَصَدَهُ أَهْلُ الشَّرِّ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَأَغَارَ عَلَى الْبِلَادِ وَأَخْرَبَهَا، وَنَزَلَ عَلَى مَدِينَةِ خَانْقُوَا، وَحَصَرَهَا وَهِيَ حَصِينَةٌ، وَلَهَا نَهْرٌ عَظِيمٌ، وَبِهَا عَالَمٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالنَّصَارَى، وَالْيَهُودِ، وَالْمَجُوسِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الصِّينِ، فَلَمَّا حَصَرَ الْبَلَدَ اجْتَمَعَتْ عَسَاكِرُ الْمَلِكِ، وَقَصَدَتْهُ، فَهَزَمَهَا، وَافْتَتَحَ الْمَدِينَةَ عَنْوَةً، وَبَذَلَ السَّيْفَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً. ثُمَّ سَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَلِكُ، وَأَرَادُوا حَصْرَهَا، فَالْتَقَاهُ مَلِكُ الصِّينِ، وَدَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ نَحْوُ سَنَةٍ، ثُمَّ انْهَزَمَ الْمَلِكُ، وَتَبِعَهُ الْخَارِجِيُّ إِلَى أَنْ تَحَصَّنَ مِنْهُ فِي مَدِينَةٍ مِنْ أَطْرَافِ بِلَادِهِ، وَاسْتَوْلَى الْخَارِجِيُّ عَلَى أَكْثَرِ الْبِلَادِ، وَالْخَزَائِنِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهُ فِي الْمُلْكِ إِذْ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ، فَأَخْرَبَ الْبِلَادَ وَنَهَبَ الْأَمْوَالَ، وَسَفَكَ الدِّمَاءَ. فَكَاتَبَ مَلِكُ الصِّينِ مُلُوكَ الْهِنْدِ يَسْتَمِدُّهُمْ، فَأَمَدُّوهُ بِالْعَسَاكِرِ، فَسَارَ إِلَى الْخَارِجِيِّ، فَالْتَقَوْا، وَاقْتَتَلُوا نَحْوَ سَنَةٍ أَيْضًا، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ إِنَّ الْخَارِجِيَّ عُدِمَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ قُتِلَ، وَقِيلَ بَلْ غَرِقَ، وَظَفِرَ الْمَلِكُ بِأَصْحَابِهِ، وَعَادَ إِلَى مَمْلَكَتِهِ. وَلَقَبُ مُلُوكِ الصِّينِ: يَعْفُورُ، وَمَعْنَاهُ ابْنُ السَّمَاءِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ ; وَتَفَرَّقَ الْمُلْكُ عَلَيْهِ، وَتَغَلَّبَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ عَلَى طَرَفٍ مِنَ الْبِلَادِ، وَصَارَ الصِّينُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مُلُوكُ الطَّوَائِفِ، يُظْهِرُونَ لَهُ الطَّاعَةَ، وَقَنَعَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةً طَوِيلَةً.

ذِكْرُ مُلْكِ الْمُسْلِمِينَ مَدِينَةَ سَرَقُوسَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَابِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ، مَلَكَ الْمُسْلِمُونَ سَرَقُوسَةَ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ [مُدُنِ] صِقِلِّيَّةَ. وَكَانَ سَبَبُ مُلْكِهَا أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَمِيرَ صِقِلِّيَّةَ غَزَاهَا، فَأَفْسَدَ زَرْعَهَا، وَزَرْعَ قَطَانِيَةَ، وَطَبَرْمِينَ، وَرَمْطَةَ، وَغَيْرَهَا مِنْ بِلَادِ صِقِلِّيَّةَ الَّتِي بِيَدِ الرُّومِ، وَنَازَلَ سَرَقُوسَةَ، وَحَصَرَهَا بَرًّا وَبَحْرًا، وَمَلَكَ بَعْضَ أَرْبَاضِهَا، وَوَصَلَتْ مَرَاكِبُ الرُّومِ نَجْدَةً لَهَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا أُسْطُولًا، فَأَصَابُوهَا، فَتَمَكَّنُوا حِينَئِذٍ مِنْ حَصْرِهَا، فَأَقَامَ الْعَسْكَرُ مُحَاصِرًا لَهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَفُتِحَتْ، وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِهَا عِدَّةُ أُلُوفٍ، أُصِيبَ فِيهَا مِنَ الْغَنَائِمِ مَا لَمْ يُصَبْ بِمَدِينَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَنْجُ مِنْ رِجَالِهَا إِلَّا الشَّاذُّ الْفَذُّ. وَأَقَامُوا فِيهَا بَعْدَ فَتْحِهَا بِشَهْرَيْنِ، ثُمَّ هَدَمُوهَا، ثُمَّ وَصَلَ بَعْدَ هَدْمِهَا مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أُسْطُولٌ، فَالْتَقَوْا هُمْ وَالْمُسْلِمُونَ، فَظَفِرَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَرْبَعَ قِطَعٍ، فَقَتَلُوا مَنْ فِيهَا، وَانْصَرَفَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى بَلَدِهِمْ آخِرَ ذِي الْقَعْدَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ (فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ ابْنَهُ الْمُنْذِرَ فِي جَيْشٍ إِلَى مَدِينَةِ بَنْبَلُونَةَ، وَجَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى سَرَقُسْطَةَ، فَقَاتَلَ أَهْلَهَا، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى تُطِيلَةَ، وَجَالَ فِي مَوَاضِعَ بَنِي مُوسَى، ثُمَّ دَخَلَ بَنْبَلُونَةَ، فَخَرَّبَ كَثِيرًا مِنْ حُصُونِهَا وَأَذْهَبَ زُرُوعَهَا وَعَادَ سَالِمًا. وَفِيهَا سَارَ جَمْعٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى مَدِينَةِ جُلَيْقِيَةَ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ قُتِلَ فِيهَا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ كَثِيرٌ. وَفِيهَا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَغْلَبِ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، مِنْ بِنَاءِ رَقَّادَةَ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ عِمَارَتِهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَمَّا (فَرَغَتِ انْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ إِلَيْهَا) .

وَفِيهَا وَجَّهَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ جَيْشًا إِلَى الصَّيْمَرَةِ، مُقَدِّمَةً إِلَيْهَا، وَأَخَذُوا صُعُونَ فَأَحْضَرُوهُ عِنْدَهُ، فَمَاتَ. وَفِيهَا مَاتَتْ قَبِيحَةُ أُمُّ الْمُعْتَزِّ. وَفِيهَا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِخُرَاسَانَ جَمِيعِهَا وَقُومِسَ، فَأَفْنَى خَلْقًا كَثِيرًا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى الْهَاشِمِيُّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِّيُّ، وَاسْمُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِدِمَشْقَ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ، صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِمِصْرَ. وَعَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الطَّائِيُّ، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ.

ثم دخلت سنة خمس وستين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ] 265 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ أَخْبَارِ الزَّنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ أَحْمَدَ بْنِ لَيْثَوَيْهِ وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ، وَالزَّنْجِ بِنَاحِيَةِ جَنْبُلَاءَ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ سُلَيْمَانَ كَتَبَ إِلَى الْخَبِيثِ يُخْبِرُهُ بِحَالِ نَهْرٍ يُسَمَّى الزُّهْرِيَّ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَأْذَنَ فِي عَمَلِهِ، فَإِنَّهُ مَتَى أَنْفَذَهُ تَهَيَّأَ لَهُ حَمْلُ مَا فِي جَنْبُلَاءَ وَسَوَادِ الْكُوفَةِ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ نَكْرَوَيْهِ لِذَلِكَ، وَأَمَرَهُ بِمُسَاعَدَتِهِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَى النَّهْرِ، فَمَضَى سُلَيْمَانُ فِيمَنْ مَعَهُ، وَأَقَامَ بِالشَّرِيطَةِ نَحْوًا مِنْ شَهْرٍ، وَشَرَعُوا فِي عَمَلِ النَّهْرِ. وَكَانَ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ، فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ، يَتَطَرَّقُونَ مَا حَوْلَهُمْ، فَوَاقَعَهُ أَحْمَدُ بْنُ لَيْثَوَيْهِ، وَهُوَ عَامِلُ الْمُوَفَّقِ بِجَنْبُلَاءَ، فَقُتِلَ مِنَ الزَّنْجِ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ قَائِدًا، وَمِنْ عَامَّتِهِمْ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً، أَحْرَقَ سُفُنَهُمْ، فَمَضَى سُلَيْمَانُ مَهْزُومًا إِلَى طَهْثَا. وَفِيهَا سَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الزُّنُوجِ فِي ثَلَاثِينَ سُمَيْرِيَّةٍ إِلَى حَبْلٍ، فَأَخَذُوا أَرْبَعَ سُفُنٍ فِيهَا طَعَامٌ وَانْصَرَفُوا. وَفِيهَا دَخَلَ الزَّنْجُ النُّعْمَانِيَّةَ فَأَحْرَقُوهَا، وَسَبَوْا، وَسَارُوا إِلَى جَرْجَرَايَا، وَدَخَلَ أَهْلُ السَّوَادِ بَغْدَاذَ.

ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ مَسْرُورٍ الْبَلْخِيِّ عَلَى الْأَهْوَازِ وَانْهِزَامِ الزَّنْجِ مِنْهُ وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الْمُوَفَّقُ مَسْرُورًا الْبَلْخِيَّ عَلَى كُوَرِ الْأَهْوَازِ، فَوَلَّى مَسْرُورٌ ذَلِكَ تِكِينَ الْبُخَارِيَّ، فَسَارَ إِلَيْهَا تِكِينُ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ، وَالزَّنْجُ قَدْ أَحَاطُوا بِتَسْتُرَ، فَخَافَ أَهْلُهَا، وَعَزَمُوا عَلَى تَسْلِيمِهَا إِلَيْهِمْ، فَوَافَاهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ تِكِينُ الْبُخَارِيُّ، فَوَاقَعَ عَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ ثِيَابَهُ، فَانْهَزَمَ عَلِيٌّ، وَالزَّنْجُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، وَتَفَرَّقُوا، وَنَزَلَ تِكِينُ بِتَسْتُرَ، وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ تُعْرَفُ بِوَقْعَةِ بَابِ كُورَكَ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ. ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا قَدَّمَ عَلَيْهَا جَمَاعَةً مِنْ قُوَّادِ الزَّنْجِ، فَأَمَرَهُمْ بِالْمُقَامِ بِقَنْطَرَةِ فَارِسَ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ غُلَامٌ رُومِيٌّ إِلَى تِكِينَ، وَأَخْبَرَهُ بِمُقَامِهِمْ بِالْقَنْطَرَةِ، وَتَشَاغُلِهِمْ بِالنَّبِيذِ، وَتَفَرُّقِهِمْ فِي جَمْعِ الطَّعَامِ، فَسَارَ تِكِينُ إِلَيْهِمْ لَيْلًا، فَأَوْقَعَ بِهِمْ، وَقَتَلَ مِنْ قُوَّادِهِمْ جَمَاعَةً، فَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ. وَسَارَ تِكِينُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ، فَلَمْ يَقِفْ لَهُ عَلِيٌّ، وَانْهَزَمَ، وَأُسِرَ غُلَامٌ لَهُ يُعْرَفُ بِجَعْفَرَوَيْهِ، وَرَجَعَ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَرَجَعَ تِكِينُ إِلَى تَسْتُرَ، وَكَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى تِكِينَ يَسْأَلُهُ الْكَفَّ عَنْ قَتْلِ غُلَامِهِ، فَحَبَسَهُ. ثُمَّ تَرَاسَلَ عَلِيٌّ، وَتِكِينُ، وَتَهَادَيَا، فَبَلَغَ الْخَبَرُ مَسْرُورًا بِمَيْلِ تِكِينَ إِلَى الزَّنْجِ، فَسَارَ حَتَّى وَافَى تِكِينَ، وَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَحَبَسَهُ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جُعْلَانَ، حَتَّى مَاتَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُ تِكِينَ، فَفِرْقَةٌ سَارَتْ إِلَى الزَّنْجِ، وَفِرَقَةٌ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْكُرْدِيِّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مَسْرُورًا فَأَمَّنَهُمْ، فَجَاءَهُ مِنْهُمُ الْبَاقُونَ. وَكَانَ بَعْضُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَمْرِ مَسْرُورٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَبَعْضُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. ذِكْرُ عِصْيَانِ الْعَبَّاسِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ عَلَى أَبِيهِ وَفِيهَا عَصَى الْعَبَّاسُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ عَلَى أَبِيهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ قَدْ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، وَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ الْعَبَّاسَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا أَبْعَدَ عَنْ مِصْرَ حَسَّنَ

لِلْعَبَّاسِ جَمَاعَةٌ كَانُوا عِنْدَهُ أَخْذَ الْأَمْوَالِ، وَالِانْشِرَاحَ إِلَى بُرْقَةَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَتَى بُرْقَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ أَبَاهُ، فَعَادَ إِلَى مِصْرَ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِهِ وَلَاطَفَهُ، وَاسْتَعْطَفَهُ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، وَخَافَ مَنْ مَعَهُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِقَصْدِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَسَارَ إِلَيْهَا، وَكَاتَبَ وُجُوهَ الْبَرْبَرِ، فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ، وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ يَقُولُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ قَلَّدَنِي أَمْرَ إِفْرِيقِيَّةَ وَأَعْمَالَهَا ; وَرَحَلَ، حَتَّى أَتَى حِصْنَ لَبْدَةَ، فَفَتَحَهُ أَهْلُهُ لَهُ، فَعَامَلَهُمْ أَسْوَأَ مُعَامَلَةٍ، وَنَهَبَهُمْ، فَمَضَى أَهْلُ الْحِصْنِ إِلَى إِلْيَاسَ بْنِ مَنْصُورٍ النُّفُوسِيِّ، رَئِيسِ الْإِبَاضِيَّةِ هُنَاكَ، فَاسْتَعَانُوا بِهِ، فَغَضِبَ لِذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى الْعَبَّاسِ لِيُقَاتِلَهُ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَغْلَبِ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى عَامِلِ طَرَابُلُسَ جَيْشًا، وَأَمَرَهِ بِقِتَالِ الْعَبَّاسِ، فَالْتَقَوْا، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا قَاتَلَ الْعَبَّاسُ فِيهِ بِيَدِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ وَافَاهُمْ إِلْيَاسُ بْنُ مَنْصُورٍ الْإِبَاضِيُّ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الْإِبَاضِيَّةِ، فَاجْتَمَعَ هُوَ وَعَامِلُ طَرَابُلْسَ عَلَى قِتَالِ الْعَبَّاسِ، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَانْهَزَمَ أَقْبَحَ هَزِيمَةً، وَكَادَ يُؤْسَرُ، فَخَلَّصَهُ مَوْلًى لَهُ، وَنَهَبُوا سَوَادَهُ وَأَكْثَرَ مَا حَمَلَهُ مِنْ مِصْرَ، وَعَادَ إِلَى بُرْقَةَ أَقْبَحَ عَوْدٍ. وَشَاعَ بِمِصْرَ أَنَّ الْعَبَّاسَ انْهَزَمَ، فَاغْتَمَّ وَالِدُهُ حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرَ لَمَّا عَلِمَ سَلَامَتَهُ، فَقَاتَلُوا قِتَالًا صَبَرَ فِيهِ الْفَرِيقَانِ، فَانْهَزَمَ الْعَبَّاسُ وَمَنْ مَعَهُ، وَكَثُرَ الْقَتْلَى فِي أَصْحَابِهِ، وَأُخِذَ الْعَبَّاسُ أَسِيرًا، وَحَمَلَ إِلَى أَبِيهِ، فَحَبَسَهُ فِي حُجْرَةٍ إِلَى دَارِهِ إِلَى أَنْ قَدِمَ بَاقِي الْأَسْرَى مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا قَدِمُوا أَحْضَرَهُمْ أَحْمَدُ عِنْدَهُ، وَالْعَبَّاسُ مَعَهُمْ، فَأَمَرَهُ أَبُوهُ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَ أَعْيَانِهِمْ وَأَرْجُلَهُمْ، فَفَعَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ وَبَّخَهُ أَبُوهُ وَذَمَّهُ وَقَالَ لَهُ: هَكَذَا يَكُونُ الرَّئِيسُ وَالْمُقَدَّمُ؟ كَانَ الْأَحْسَنُ كُنْتَ أَلْقَيْتَ نَفْسَكَ بَيْنَ يَدَيَّ، وَسَأَلْتَ الصَّفْحَ عَنْكَ وَعَنْهُمْ، فَكَانَ أَعْلَى لِمَحَلِّكَ، وَكُنْتَ قَضَيْتَ حُقُوقَهُمْ فِيمَا سَاعَدُوكَ وَفَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ لِأَجْلِكَ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ مِائَةَ مَقْرَعَةٍ، وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدَّيْهِ رِقَّةً لِوَلَدِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى الْحُجْرَةِ وَاعْتَقَلَهُ، وَذَلِكَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. ذِكْرُ مَوْتِ يَعْقُوبَ، وَوِلَايَةِ أَخِيهِ عَمْرٍو وَفِيهَا مَاتَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ الصَّفَّارُ تَاسِعَ شَوَّالٍ بِجُنْدَيْسَابُورَ مِنْ كُوَرِ الْأَهْوَازِ،

وَكَانَتْ عِلَّتُهُ الْقُولَنْجُ، فَأَمَرَهُ الْأَطِبَّاءُ بِالِاحْتِقَانِ بِالدَّوَاءِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَاخْتَارَ الْمَوْتَ. وَكَانَ الْمُعْتَمِدُ قَدْ أَنْفَذَ إِلَيْهِ رَسُولًا وَكِتَابًا يَسْتَمِيلُهُ وَيَتَرَضَّاهُ، وَيُقَلِّدُهُ أَعْمَالَ فَارِسَ، فَوَصَلَ الرَّسُولُ وَيَعْقُوبُ مَرِيضٌ، فَجَلَسَ لَهُ، وَجَعَلَ عِنْدَهُ سَيْفًا، وَرَغِيفًا مِنَ الْخُبْزِ الْخُشْكَارِ، وَمَعَهُ بَصَلٌ، وَأَحْضَرَ الرَّسُولَ، فَأَدَّى الرِّسَالَةَ، فَقَالَ لَهُ: قُلْ لِلْخَلِيفَةِ إِنَّنِي عَلِيلٌ، فَإِنْ مُتُّ فَقَدِ اسْتَرَحْتُ مِنْكَ وَاسْتَرَحْتَ مِنِّي، وَإِنْ عُوفِيتُ فَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ إِلَّا هَذَا السَّيْفُ، حَتَّى آخُذَ بِثَأْرِي، أَوْ تَكْسِرَنِي وَتَعْقِرَنِي، وَأَعُودُ إِلَى هَذَا الْخُبْزِ وَالْبَصَلِ، وَأَعَادَ الرَّسُولَ، فَلَمْ يَلْبَثْ يَعْقُوبُ أَنْ مَاتَ. وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ الْعَلَوِيُّ يُسَمِّي يَعْقُوبَ بْنَ اللَّيْثِ السِّنْدَانَ لِثَبَاتِهِ، وَكَانَ يَعْقُوبُ قَدِ افْتَتَحَ الرُّخَّجَ، وَقَتَلَ مَلِكَهَا، أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَى يَدِهِ، كَانَتْ مَمْلَكَتُهُ وَاسِعَةَ الْحُدُودِ، وَكَانَ اسْمُ مَلِكِهَا كَبْتِيرُ، وَكَانَ يُحْمَلُ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ يَحْمِلُهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَابْتَنَى عَلَى جَبَلٍ عَالٍ بَيْتًا، وَسَمَّاهُ مَكَّةَ، وَكَانَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ، فَقَتَلَهُ يَعْقُوبُ، وَافْتَتَحَ الْخَلْجِيَّةَ، وَزَابُلَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَيَّ سَنَةٍ كَانَ ذَلِكَ حَتَّى أَذْكُرَهُ فِيهَا. وَكَانَ يَعْقُوبُ عَاقِلًا، حَازِمًا، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ عَاشَرْتَهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَلَمْ تَعْرِفْ أَخْلَاقَهُ، فَلَا تَعْرِفْهَا سَنَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ سِيرَتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَقْلِهِ. وَلَمَّا مَاتَ قَامَ بِالْأَمِيرِ بَعْدَهُ أَخُوهُ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ، وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِطَاعَتِهِ، فَوَلَّاهُ الْمُوَفَّقُ خُرَاسَانَ، وَفَارِسَ، وَأَصْبَهَانَ، وَسِجِسْتَانَ، وَالسِّنْدَ وَكَرْمَانَ، وَالشُّرْطَةَ بِبَغْدَاذَ، وَأَشْهَدَ بِذَلِكَ، وَسَيَّرَهُ إِلَيْهِ مَعَ الْخَلْعِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ الْقَاسِمُ بْنُ مَهَاةَ بِدُلَفَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفَ بِأَصْبَهَانَ، فَقَتَلَهُ، وَوَثَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي دُلَفَ بِالْقَاسِمِ، فَقَتَلُوهُ، وَرَيَّسُوا عَلَيْهِمْ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَفِيهَا لَحِقَ مُحَمَّدُ الْمُوَلَّدُ بِيَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ، فَأَكْرَمَهُ يَعْقُوبُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِقَبْضِ أَمْوَالِهِ وَعَقَارِهِ. وَفِيهَا قَتَلَتِ الْأَعْرَابُ جُعْلَانَ الْمَعْرُوفَ بِالْعَيَّارِ، بِدِمِمَّا، وَكَانَ خَرَجَ يُسَيِّرُ قَافِلَةً فَقَتَلُوهُ فَوَجَّهَ فِي طَلَبِهِمْ، فَلَمْ يُلْحَقُوا. وَفِيهَا حَبَسَ الْمُوَفَّقُ سُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ ابْنَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ، وَعِدَّةً مِنْ أَصْحَابِهِمَا، وَقَبَضَ أَمْوَالَهُمْ وَضِيَاعَهُمْ، خَلَا أَحْمَدَ بْنَ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ صَالَحَ سُلَيْمَانَ وَابْنَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ عَلَى تِسْعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَجُعِلَا فِي مَوْضِعٍ يَصِلُ إِلَيْهِمَا مَنْ أَرَادُوا، وَعَسْكَرَ مُوسَى بْنُ أَتَامِشَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ كُنْدَاجِيقَ الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى بْنِ بُغَا، وَعَبَرُوا جِسْرَ بَغْدَاذَ، وَمَنْعَهُمُ الْمُوَفَّقُ، فَلَمْ يَرْجِعُوا، نَزَلُوا صَرْصَرَ، (فَاسْتَكْتَبَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ صَاعِدَ بْنَ مَخْلَدٍ، فَمَضَى إِلَى أُولَئِكَ الْقُوَّادِ، فَرَدَّهُمْ مِنْ صَرْصَرَ فَخَلَعَ عَلَيْهِمْ) . وَفِيهَا خَرَجَ خَمْسَةُ بَطَارِقَةٍ [مِنَ] الرُّومِ إِلَى أَذَنَةَ فَقَتَلُوا، وَأَسَرُوا، وَكَانَ أَرْجُوزُ وَالِي الثُّغُورِ، فَعُزِلَ عَنْهَا، فَأَقَامَ مُرَابِطًا، أَسَرُوا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَتَلُوا نَحْوًا مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْأُولَى. وَفِيهَا غَلَبَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُجُسْتَانِيُّ عَلَى نَيْسَابُورَ، سَارَ الْحُسَيْنُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ

عَبْدِ اللَّهِ إِلَى مَرْوَ، وَهُوَ عَامِلُ أَخِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ. وَأُخْرِبَتْ طُوسٌ. وَفِيهَا اسْتُوْزِرَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ بْنُ بُلْبُلٍ. وَفِيهَا وَثَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، مِنْ بَنِي أَسَدٍ، عَلَى عَلِيِّ بْنِ مَسْرُورٍ الْبَلْخِيِّ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْمُغِيثَةِ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَكَانَ الْمُوَفَّقُ وَلَّاهُ الطَّرِيقَ. وَفِيهَا بَعَثَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَشِيدِ بْنِ كَاوِسَ وَعِدَّةَ أَسْرَى، وَأَنْفَذَ مَعَهُمْ عِدَّةَ مَصَاحِفَ مِنْهُ هَدِيَّةً إِلَيْةِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى الْهَاشِمِيُّ. وَفِيهَا كَانَتْ مُوَافَاةُ أَبِي الْمُغِيرَةِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُخْزُومِيِّ إِلَى مَكَّةَ لِصَاحِبِ الزَّنْجِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِي أَبُو إِسْحَاقَ (النَّيْسَابُورِيُّ، وَكَانَ مِنَ الْأَبْدَالِ قَدْ صَحِبَ

أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَعَلِيَّ بْنَ حَرْبِ بْنِ مُحَمَّدِ) الطَّائِيَّ الْمَوْصِلِيَّ وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ (وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَعَلِيُّ بْنُ مُوَفَّقٍ الزَّاهِدُ. وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو الْفَضْلِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَرَجِ الرِّيَاشِيُّ، قَتَلَهُ الزَّنْجُ بِالْبَصْرَةِ، أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيِّ.

ثم دخلت سنة ست وستين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ] 266 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ أَخْبَارِ الزَّنْجِ مَعَ أَغْرَتْمِشَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلِيَ أَغْرَتَمْشُ مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ تِكِينُ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَعْمَالِ الْأَهْوَازِ، فَدَخَلَ تُسْتَرَ فِي رَمَضَانَ، وَمَعَهُ أَنَا، وَمَطَرُ بْنُ جَامِعٍ، وَقَتَلَ مَطَرُ بْنُ جَامِعٍ جَعْفَرَوَيْهِ غُلَامَ عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ، وَجَمَاعَةً مَعَهُ كَانُوا مَأْسُورِينَ، وَسَارُوا إِلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ، وَأَتَاهُمُ الزَّنْجُ هُنَاكَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ، فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا رَأَوْا كَثْرَةَ الزَّنْجِ قَطَعُوا الْجِسْرَ وَتَحَاجَزُوا، وَرَجَعَ عَلِيٌّ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَأَقَامَ أَخُوهُ الْخَلِيلُ بِالْمَسْرُقَانِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الزَّنْجِ. وَسَارَ أَغْرَتَمْشُ، وَمَنْ مَعَهُ نَحْوَ الْخَلِيلِ إِلَيْهِ مِنْ قَنْطَرَةِ أَرْبَكَ، فَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ عَلِيٍّ، فَوَافَاهُ فِي النَّهْرِ، وَأَخَافَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ بِالْأَهْوَازِ، فَارْتَحَلُوا إِلَى نَهْرِ السِّدْرَةِ، وَتَحَارَبَ عَلِيٌّ وَأَغْرَتَمْشُ يَوْمَهُمْ. ثُمَّ انْصَرَفَ عَلِيٌّ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَلَمْ يَجِدْ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ بِالْأَهْوَازِ، فَوَجَّهَ مَنْ يَرُدَّهُمْ مِنْ نَهْرِ السِّدْرَةِ، فَعَسُرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَتَبِعَهُمْ، وَأَقَامَ مَعَهُمْ، وَرَجَعَ أَغْرَتَمْشُ فَنَزَلَ عَسْكَرَ مُكْرَمٍ، وَاسْتَعَدَّ عَلِيٌّ لِقِتَالِهِمْ. وَبَلَغَ ذَلِكَ أَغْرَتَمْشَ، وَمَنْ مَعَهُ مِنْ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ، فَسَارُوا إِلَيْهِ، فَكَمَنَ لَهُمْ عَلِيٌّ وَقَدِمَ الْخَلِيلُ إِلَى قِتَالِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا، فَكَانَ أَوَّلُ النَّهَارِ لِأَصْحَابِ الْخَلِيفَةِ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمُ الْكَمِينُ، فَانْهَزَمُوا وَأُسِرَ مَطَرُ بْنُ جَامِعٍ، وَعِدَّةٌ مِنَ الْقُوَّادِ، فَقَتَلَهُ عَلِيٌّ بِغُلَامِهِ جَعْفَرَوَيْهِ، وَعَادَ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَأَرْسَلَ رُءُوسَ الْقَتْلَى إِلَى الْخَبِيثِ الْعَلَوِيِّ. وَكَانَ عَلِيٌّ، وَأَغَرَتَمْشُ بَعْدُ فِي حُرُوبِهِمْ عَلَى السَّوَاءِ، وَصَرَفَ صَاحِبُ الزَّنْجِ

أَكَثْرَ جُنُودِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَغْرَتَمْشُ وَادَعَهُ، وَجَعَلَ عَلِيٌّ يُغِيرُ عَلَى النَّوَاحِي، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَغَارَ عَلَى قَرْيَةِ بَيْرُوذَ فَنَهَبَهَا، وَوَجَّهَ الْغَنَائِمَ إِلَى صَاحِبِهِ. ذِكْرُ دُخُولِ الزَّنْجِ رَامَهُرْمُزَ وَفِيهَا دَخَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ، وَالزَّنْجُ رَامَهُرْمُزَ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ يَخَافُ عَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ لِمَا فِي نَفْسِ عَلِيٍّ مِنْهُ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَكَتَبَ إِلَى أَنْكِلَايَ ابْنِ الْعَلَوِيِّ وَسَأَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ أَبَاهُ لِيَرْفَعَ يَدَ عَلِيٍّ عَنْهُ وَيَضُمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، فَزَادَ ذَلِكَ غَيْظَ عَلِيٍّ مِنْهُ، كَتَبَ إِلَى الْخَبِيثِ بِالْإِيقَاعِ بِمُحَمَّدٍ، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ الطَّرِيقَ إِلَى مُطَالَبَةٍ بِالْخَرَاجِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدٍ يَطْلُبُ مِنْهُ حَمْلَ الْخَرَاجِ، فَمَطَلَهُ، وَدَافَعَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ وَهُوَ بِرَامَهُرْمُزَ، فَهَرَبَ مُحَمَّدٌ عَنْهَا، وَدَخَلَهَا عَلِيٌّ وَالزَّنْجُ فَاسْتَبَاحَهَا، وَلَحِقَ مُحَمَّدٌ بِأَقْصَى مَعَاقِلِهِ، وَانْصَرَفَ عَلِيٌّ غَانِمًا. وَخَافَ مُحَمَّدٌ فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَطْلُبُ الْمُسَالَمَةَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ، فَحَمَلَ إِلَيْهِ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَنْفَذَهَا إِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ، وَأَمْسَكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَعْمَالِهِ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ لِلزَّنْجِ انْهَزَمُوا فِيهَا، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ) كَتَبَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ، بَعْدَ الصُّلْحِ، يَسْأَلُهُ الْمَعُونَةَ عَلَى الْأَكْرَادِ الدَّارِنَانِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ غَنَائِمَهُمْ، فَكَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى صَاحِبِهِ يَسْتَأْذِنُهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ وَجِّهْ إِلَيْهِ جَيْشًا، وَأَقِمْ أَنْتَ، لَا تُنْفِذْ أَحَدًا حَتَّى تَسْتَوْثِقَ مِنْهُ بِالرَّهَائِنِ، (وَلَا يَأْمَنَ غَزْوَهُ وَالطَّلَبَ بِثَأْرِهِ. فَكَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى مُحَمَّدٍ يَطْلُبُ مِنْهُ الْيَمِينَ) وَالرَّهَائِنَ، فَبَذَلَ لَهُ الْيَمِينَ، وَمَطَلَهُ بِالرَّهَائِنِ، فَلِحِرْصِ عَلِيٍّ عَلَى الْغَنَائِمِ أَنْفَذَ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَسَيَّرَ مُحَمَّدٌ مَعَهُمْ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْأَكْرَادِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْأَكْرَادُ فَقَاتَلُوهُمْ، وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ، فَتَخَلَّى أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ عَنِ الزَّنْجِ، فَانْهَزَمُوا وَقَتَلَتِ الْأَكْرَادُ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا.

وَكَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ أَعَدَّ لَهُمْ مَنْ يَتَعَرَّضُهُمْ إِذَا انْهَزَمُوا، فَصَادَفُوهُمْ، وَأَوْقَعُوا بِهِمْ، وَسَلَبُوهُمْ، وَأَخَذُوا دَوَابَّهُمْ، وَرَجَعُوا (بِأَسْوَإِ حَالٍ، فَكَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى الْخَبِيثِ بِذَلِكَ فَعَنَّفَهُ، وَقَالَ: ضَيَّعْتَ أَمْرِي فِي تَرْكِ الرَّهَائِنِ، وَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدٍ يَتَهَدَّدُهُ، فَخَافَ مُحَمَّدٌ وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَخْضَعُ وَيَذِلُّ، وَرَدَّ بَعْضَ الدَّوَابِّ وَقَالَ: إِنَّنِي كَبَسْتُ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ، وَخَلَّصْتُ هَذِهِ مِنْهُمْ. فَأَظْهَرَ الْخَبِيثُ الْغَضَبَ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ مُحَمَّدٌ إِلَيْهِ بَهْبُودَ، وَمُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الْكَرْمَانِيَّ، وَكَانَا أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى عَلِيٍّ، فَضَمِنَ لَهُمَا مَالًا إِنْ أَصْلَحَا لَهُ عَلِيًّا وَصَاحِبَهُ، فَفَعَلَا ذَلِكَ، فَأَجَابَهُمَا الْخَبِيثُ إِلَى الرِّضَا عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَى أَنْ يَخْطُبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ بِلَادِهِ، وَأَعْلَمَا مُحَمَّدًا ذَلِكَ، فَأَجَابَهُمَا إِلَى كُلِّ مَا طَلَبَا، وَجَعَلَ يُرَاوِغُ فِي الدُّعَاءِ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ. ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا اسْتَعَدَّ لِمَتُّوثَ، وَسَارَ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا، فَرَجَعَ، وَعَمِلَ السَّلَالِيمَ، الْآلَاتِ الَّتِي يَصْعَدُ بِهَا إِلَى السُّورِ، وَاسْتَعَدَّ لِقَصْدِهَا، فَعَرَفَ ذَلِكَ مَنْصُورٌ الْبَلْخِيُّ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بُكُوَرِ الْأَهْوَازِ، فَلَمَّا سَارَ عَلِيٌّ إِلَيْهَا سَارَ إِلَيْهِ مَسْرُورٌ، فَوَافَاهُ قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَهُوَ نَازِلٌ عَلَيْهَا، فَلَمَّا عَايَنَ الزَّنْجُ أَوَائِلَ خَيْلِ مَسْرُورٍ انْهَزَمُوا أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَتَرَكُوا جَمِيعَ مَا كَانُوا أَعَدُّوهُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَانْصَرَفَ عَلِيٌّ مَهْزُومًا، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى أَتَتْهُ الْأَخْبَارُ بِإِقْبَالِ الْمُوَفَّقِ، وَلَمْ يَكُنْ لَعَلِيٍّ بَعْدَ مَتُّوثَ وَقْعَةٌ، حَتَّى فُتِحَتْ سُوقُ الْخَمِيسِ وَطَهْثَا عَلَى الْمُوَفَّقِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُهُ يَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ، وَيَسْتَحِثُّهُ حَثًّا شَدِيدًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ خِلَافَتَهُ عَلَى الشُّرْطَةِ بِبَغْدَاذَ وَسُرُّ مَنْ رَأَى فِي صَفَرٍ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْمُوَفَّقُ، وَعَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ. وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، غَلَبَ أَسَاتِكِينُ عَلَى الشُّرْطَةِ وَهِيَ الْآنُ مِنْ أَعْمَالِ سِجِسْتَانَ وَعَلَى الرَّيِّ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا خَطَلَنْخَجُورَ الْعَامِلَ عَلَيْهَا، ثُمَّ مَضَى إِلَى قَزْوِينَ وَعَلَيْهَا أَخُو

كَيْغَلَغَ، فَصَالَحَهُ، وَدَخَلَ أَسَاتِكِينُ قَزْوِينَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرَّيِّ. وَفِيهَا وَرَدَتْ سَرِيَّةٌ مِنْ سَرَايَا الرُّومِ إِلَى تَلِّ يَسْهَى، مِنْ دِيَارِ رَبِيعَةَ فَأَسَرَتْ نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ إِنْسَانًا، وَمَثَّلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ، فَنَفَرَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْمَوْصِلِ وَنَصِيبِينَ، فَرَجَعَتِ الرُّومُ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو السَّاجِ بِجَنْدَيْسَابُورَ، مُنْصَرِفًا مِنْ عَسْكَرِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ (إِلَى بَغْدَاذَ، وَمَاتَ قَبْلَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ. وَوَلَّى عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ) فِيهَا أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفَ أَصْبَهَانَ. وَوَلَّى مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي السَّاجِ طَرِيقَ مَكَّةَ وَالْحَرَمَيْنِ. وَفِيهَا فَارَقَ إِسْحَاقُ بْنُ كَنْدَاجَ أَحْمَدَ بْنَ مُوسَى بْنِ بُغَا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَحْمَدَ لَمَّا سَارَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَوَلِيَ مُوسَى بْنُ أَتَامِشَ دِيَارَ رَبِيعَةَ، أَنْكَرَ ذَلِكَ إِسْحَاقُ بْنُ كَنْدَاجَ، وَفَارَقَ عَسْكَرَهُ، وَسَارَ إِلَى بَلَدٍ، فَأَوْقَعَ بِالْأَكْرَادِ الْيَعْقُوبِيَّةِ فَهَزَمَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ لَقِيَ ابْنَ مُسَاوِرٍ الْخَارِجِيَّ فَقَتَلَهُ، وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَقَاطَعَ أَهْلَهَا عَلَى مَالٍ قَدْ أَعَدُّوهُ. وَكَانَ قَائِدٌ كَبِيرٌ بِمَعْلَثَايَا، وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، وَهُوَ الْمُخَاطِبُ لَهُ عَنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ، وَالْمَدَافِعُ، فَسَارَ ابْنُ كَنْدَاجَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَارَقَ مَعْلَثَايَا، وَعَبَرَ دِجْلَةَ، وَمَعَهُ حَمْدَانُ بْنُ حَمْدُونَ، إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ أَحْمَدَ التَّغْلِبِيِّ الْعَدَوِيِّ، فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ فَبَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ نَحْوَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَسَمِعَ ابْنُ كَنْدَاجَ (بِاجْتِمَاعِهِمْ، فَعَبَرَ إِلَى

بَلَدَ، وَعَبَرَ دِجْلَةَ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ) ، وَسَارَ (إِلَى نَهْرِ أَيُّوبَ) ، فَالْتَقَوْا بِكَرَاثَا، وَهِيَ الَّتِي تُعْرَفُ الْيَوْمَ بِتَلِّ مُوسَى، وَتَصَافُّوا لِلْحَرْبِ، فَأَرْسَلَ مُقَدَّمُ مَيْسَرَةِ ابْنِ أَيُّوبَ إِلَى ابْنِ كَنْدَاجَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّنِي فِي الْمَيْسَرَةِ، فَاحْمِلْ عَلَيَّ لِأَنْهَزِمَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَانْهَزَمَتِ مَيْسَرَةُ ابْنِ أَيُّوبَ، وَتَبِعَهَا الْبَاقُونَ، فَسَارَ حَمْدَانُ بْنُ حَمْدُونَ، وَعَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَأَخَذَ ابْنُ أَيُّوبَ نَحْوَ نَصِيبِينَ، فَاتَّبَعَهُ ابْنُ كَنْدَاجَ، فَسَارَ ابْنُ أَيُّوبَ عَنْ نَصِيبِينَ إِلَى آمِدَ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ كَنْدَاجَ عَلَى نَصِيبِينَ وَدِيَارِ رَبِيعَةَ، وَاسْتَجَارَ ابْنُ أَيُّوبَ بِعِيسَى بْنِ الشَّيْخِ الشَّيْبَانِيِّ، وَهُوَ بِآمِدَ، فَأَنْجَدَهُ) ، (وَطَلَبَ النَّجْدَةَ مِنْ أَبِي الْمُعِزِّ بْنِ مُوسَى بْنِ زُرَارَةَ، وَهُوَ بِأَرْزَنَ، فَأَنْجَدَهُ) أَيْضًا، وَعَادَ ابْنُ كَنْدَاجَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَمِدِ عَهْدٌ بِوِلَايَةِ الْمَوْصِلِ، فَعَادَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ الشَّيْخِ، وَابْنُ زُرَارَةَ، وَغَيْرُهُمَا بَذَلُوا لَهُ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ لِيُقِرَّهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَجَابَهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا وَعَادَ عَنْهُمْ وَقَصَدُوا بِلَادَهُمْ. (وَفِيهَا أَمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِإِنْشَاءِ مَرَاكِبَ بِنَهْرِ قُرْطُبَةَ، وَحَمَلَهَا إِلَى الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، وَكَانَ سَبَبُ عَمَلِهَا أَنَّهُ قِيلَ لَهُ جُلَيْقِيَةُ لَيْسَ لَهَا مَانِعٌ مِنْ جِهَةِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، وَإِنَّ مُلْكَهَا مِنْ هُنَاكَ سَهْلٌ، فَأَمَرَ بِعَمَلِ الْمَرَاكِبِ، فَلَمَّا فَرَغَتْ، وَكَمُلَتْ بِرِجَالِهَا وَعُدَّتِهَا، سَيَّرَهُا إِلَى الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، فَلَمَّا دَخَلَتْهُ الْمَرَاكِبُ تَقَطَّعَتْ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ مِنْهَا مَرْكَبَانِ، وَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهَا إِلَّا الْيَسِيرُ. وَفِيهَا الْتَقَى أُسْطُولُ الْمُسْلِمِينَ، وَأُسْطُولُ الرُّومِ عِنْدَ صِقِلِّيَّةَ، فَجَرَى بَيْنَهُمْ قِتَالٌ شَدِيدٌ، فَظَفِرَ الرُّومُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَأَخَذُوا مَرْكَبَهُمْ، وَانْهَزَمَ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ إِلَى مَدِينَةِ بَلَرْمَ بِصِقِلِّيَّةَ. وَفِيهَا كَانَ بِإِفْرِيقِيَّةَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ وَقَحْطٌ عَظِيمٌ، كَادَتِ الْأَقْوَاتُ تُعْدَمُ) .

وَفِيهَا قَتَلَ أَهْلُ حِمْصَ عَامِلَهُمْ عِيسَى الْكَرْخِيَّ. وَفِيهَا أَسْرَى لُؤْلُؤٌ غُلَامُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ مِنْ رَابِيَةِ بَنِي تَمِيمٍ إِلَى مُوسَى بْنِ أَتَامِشَ، وَهُوَ بِرَأْسِ عَيْنٍ، فَأَخَذَهُ سَيْرًا، وَسَيَّرَهُ إِلَى الرَّقَّةِ، ثُمَّ لَقِيَ لُؤْلُؤٌ أَحْمَدَ بْنَ مُوسَى بْنَ أَتَامِشَ بْنِ مُوسَى بْنِ أَتَامِشَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَانْهَزَمَ لُؤْلُؤٌ، وَرَجَعَ الْأَعْرَابُ إِلَى عَسْكَرِ أَحْمَدَ لِيَنْهَبُوهُ، فَعَطَفَ عَلَيْهِمْ لُؤْلُؤٌ وَأَصْحَابُهُ، فَانْهَزَمُوا، فَبَلَغَتْ هَزِيمَتُهُمْ قَرْقِيسِيَا، ثُمَّ سَارُوا إِلَى بَغْدَاذَ وَسَامَرَّا. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي أَسَرَ مُوسَى غَيْرُ لُؤْلُؤٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُؤَرِّخُو مِصْرَ. وَفِيهَا كَانَتْ بَيْنَ (أَحْمَدَ بْنِ) عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبَكْتِمُرَ (وَقْعَةٌ، فَانْهَزَمَ بَكْتِمُرُ) ، وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ. وَفِيهَا أَوْقَعَ الْخُجُسْتَانِيُّ بِالْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ بِجُرْجَانَ، وَهُوَ غَارٌّ، فَلَحِقَ بِآمُلَ، وَغَلَبَ الْخُجُسْتَانِيُّ عَلَى جُرْجَانَ وَأَطْرَافِ طَبَرِسْتَانَ، فَكَانَ الْحَسَنُ لَمَّا سَارَ عَنْ طَبَرِسْتَانَ إِلَى جُرْجَانَ اسْتَخْلَفَ بِسَارِيَةَ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُسَيْنٍ الْأَصْغَرَ الْعَقِيقِيَّ، فَلَمَّا انْهَزَمَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ أَظْهَرَ الْعَقِيقَيُّ بِسَارِيَةَ أَنَّهُ قُتِلَ، وَدَعَا إِلَى الْبَيْعَةِ لِنَفْسِهِ، فَبَايَعَهُ قَوْمٌ، وَوَافَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ، فَحَارَبَهُ، ثُمَّ ظَفِرَ بِهِ فَقَتَلَهُ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ الْخُجُسْتَانِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ انْهَزَمَ فِيهَا عَمْرٌو، وَدَخَلَ الْخُجُسْتَانِيُّ نَيْسَابُورَ، أَخْرَجَ مِنْهَا عَامِلَ عَمْرٍو، وَمَنْ كَانَ يَمِيلُ إِلَيْهِ. (وَفِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ بِالْمَدِينَةِ وَنَوَاحِيهَا بَيْنَ الْعَلَوِيِّينَ وَالْجَعْفَرِيَّةِ) . وَفِيهَا وَثَبَ الْأَعْرَابُ عَلَى كُسْوَةِ الْكَعْبَةِ فَانْتَهَبُوهَا، وَصَارَ بَعْضُهَا إِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ، وَأَصَابَ الْحُجَّاجَ فِيهَا شِدَّةٌ شَدِيدَةٌ.

وَفِيهَا خَرَجَتِ الرُّومُ عَلَى دِيَارِ الرُّومِ عَلَى دِيَارِ رَبِيعَةَ، فَاسْتَنْفَرَ النَّاسَ، فَنَفَرُوا فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِ دُخُولُ الدَّرْبِ. وَفِيهَا غَزَا سِيمَا خَلِيفَةُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ عَلَى الثُّغُورِ الشَّامِيَّةِ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ طَرَسُوسَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنْ بِلَادِ هَرْقَلَةَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْعَدُوِّ، أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَمَاعَةٌ. وَفِيهَا كَانَتْ بِمَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَرْبٌ بَيْنَ الْعَلَوِيِّينَ وَالْجَعْفَرِيِّينَ، وَغَلَا السِّعْرُ بِهَا حَتَّى تَعَذَّرَتِ الْأَقْوَاتُ، وَعَمَّ الْغَلَاءُ سَائِرَ الْبِلَادِ مِنَ الْحِجَازِ، وَالْعِرَاقِ، وَالْمَوْصِلِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَالشَّامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغِ الشِّدَّةَ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ. وَفِيهَا كَانَ النَّاسُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي تَحْتَ حُكْمِ الْخَلِيفَةِ جَمِيعِهَا فِي شِدَّةٍ عَظِيمَةٍ بِتَغَلُّبِ الْقُوَّادِ (وَأُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ عَلَى الْأَمْرِ) ، وَقِلَّةِ الْمُرَاقَبَةِ وَالْأَمْنِ مِنْ إِنْكَارِ مَا يَأْتُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ، لِاشْتِغَالِ الْمُوَفَّقِ بِقِتَالِ صَاحِبِ الزَّنْجِ، وَلِعَجْزِ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَمِدِ، وَاشْتِغَالِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَفِيهَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فِي تِشْرِينَ الثَّانِي، ثُمَّ اشْتَدَّ فِيهِ الْبَرْدُ حَتَّى جَمُدَ الْمَاءُ. وَفِيهَا قَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّاجِ مَكَّةَ، فَحَارَبَهُ الْمَخْزُومِيُّ، فَهَزَمَهُ مُحَمَّدٌ، وَاسْتَبَاحَ مَالَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ. وَفِيهَا سَارَ كَيْغَلَغُ إِلَى الْجَبَلِ وَبَكْتِمُرُ رَاجِعًا إِلَى الدِّينَوَرِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى الْهَاشِمِيُّ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ أَبُو بَكْرٍ الثَّلْجِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللُّؤْلُئِيِّ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ. الثَّلْجِيُّ بِالثَّاءِ الْمُعْجَمَةِ بِثَلَاثٍ وَالْجِيمِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.

ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ] 267 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ أَخْبَارِ الزَّنْجِ وَفِيهَا غَلَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْمُوَفَّقِ عَلَى عَامَّةِ مَا كَانَ بِيَدِ سُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ، وَالزَّنْجِ مِنْ أَعْمَالِ دِجْلَةَ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ هَذَا هُوَ الَّذِي صَارَ خَلِيفَةً بَعْدَ الْمُعْتَمِدِ، فَلُقِّبَ الْمُعْتَضِدَ بِاللَّهِ. وَكَانَ سَبَبُ مَسِيرِهِ أَنَّ الزَّنْجَ لَمَّا دَخَلُوا وَاسِطَ، وَعَمِلُوا بِأَهْلِهَا مَا ذَكَرْنَا، بَلَغَ ذَلِكَ الْمُوَفَّقَ، فَأَمَرَهُ ابْنُهُ بِتَعْجِيلِ الْمَسِيرِ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَيْهِمْ، فَسَارَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَشَيَّعَهُ أَبُوهُ، وَسَيَّرَ مَعَهُ عَشَرَةَ آلَافٍ مِنَ الرَّجَّالَةِ وَالْخَيَّالَةِ فِي الْعُدَّةِ الْكَامِلَةِ، أَخَذَ مَعَهُ الشَّذَوَاتِ، وَالسُّمَيْرِيَّاتِ، وَالْمَعَابِرَ لِلرَّجَّالَةِ، فَسَارَ حَتَّى وَافَى دَيْرَ الْعَاقُولِ. وَكَانَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ فِي الشَّذَوَاتِ نُصَيْرٌ، الْمَعْرُوفُ بِأَبِي حَمْزَةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ نُصَيْرٌ يُخْبِرُهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ جَامِعٍ قَدْ وَافَى بِخَيْلِهِ وَرَجْلِهِ فِي شَذَوَاتٍ وَسُمَيْرِيَّاتٍ، وَالْجُبَّائِيُّ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ، حَتَّى نَزَلَ الْجَزِيرَةَ بِحَضْرَةِ بَرْدَرُويَا، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى الشَّعْرَانِيَّ قَدْ وَافَى (مَعْرَابَانَ بِخَيْلِهِ وَرَجْلِهِ فِي سُمَيْرِيَّاتٍ، فَرَكِبَ أَبُو الْعَبَّاسِ حَتَّى وَافَى) الصِّلْحَ، وَوَجَّهَ طَلَائِعَهُ لِيَعْرِفَ أَخْبَارَهُمْ، فَعَادُوا وَأَعْلَمُوهُ بِمُوَافَاةِ الزَّنْجِ وَجَيْشِهِمْ، وَأَنَّ أَوَّلَهُمْ بِالصِّلْحِ، وَآخِرَهُمْ بِبُسْتَانِ مُوسَى بْنِ بُغَا، أَسْفَلَ وَاسِطَ. وَكَانَ سَبَبُ جَمْعِ الزَّنْجِ وَحَشْدِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ فَتًى حَدَثٌ، غِرٌّ

بِالْحَرْبِ، وَالرَّأْيُ لَنَا أَنْ نَرْمِيَهُ بِحَدِّنَا كُلِّهِ، وَنَجْبَهَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ نَلْقَاهُ فِي إِزَالَتِهِ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ يَرُوعُهُ فَيَنْصَرِفُ عَنَّا، فَجَمَعُوا، وَحَشَدُوا، فَلَمَّا عَلِمَ أَبُو الْعَبَّاسِ قُرْبَهُمْ عَدَلَ عَنْ سُنَنِ الطَّرِيقِ، اعْتَرَضَ فِي مَسِيرِهِ، وَلَقِيَ أَصْحَابُهُ أَوَائِلَ الزَّنْجِ، فَتَطَارَدُوا لَهُمْ، حَتَّى طَمِعُوا فِيهِمْ، وَاغْتَرُّوا وَاتَّبَعُوهُمْ، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: اطْلُبُوا أَمِيرًا لِلْحَرْبِ، فَإِنَّ أَمِيرَكُمْ قَدِ اشْتَغَلَ بِالصَّيْدِ. فَلَمَّا قَرُبُوا مِنْهُ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْخَيْلِ وَالرَّجْلِ، وَصَاحَ بِنُصَيْرٍ: إِلَى أَيْنَ تَتَأَخَّرُ عَنْ هَذِهِ الْأَكْلُبِ! فَرَجَعَ نُصَيْرٌ، وَرَكِبَ أَبُو الْعَبَّاسِ سُمَيْرِيَّةً وَحَفَّ بِهِ أَصْحَابُهُ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، فَانْهَزَمَتِ الزَّنْجُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَتَبِعُوهُمْ إِلَى أَنْ وَصَلُوا قَرْيَةَ عَبْدِ اللَّهِ، وَهِيَ سِتَّةُ فَرَاسِخَ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي لَقُوهُمْ بِهِ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ خَمْسَ شَذَوَاتٍ، وَعِدَّةَ سُمَيْرِيَّاتٍ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ، وَاسْتَأْمَنَ جَمَاعَةٌ، فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ الْفَتْحِ، فَسَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ إِلَى نَهْرِ الْأَمِيرِ، وَسَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الشَّعْرَانِيُّ إِلَى سُوقِ الْخَمِيسِ، وَانْحَدَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ فَأَقَامَ بِالْعُمْرِ وَهُوَ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ وَاسِطَ، وَأَصْلَحَ شَذَوَاتِهِ، وَجَعَلَ يُرَاوِحُ الْقَوْمَ الْقِتَالَ وَيُغَادِيهِمْ. ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ اسْتَعَدَّ وَحَشَدَ، وَجَعَلَ أَصْحَابَهُ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، وَقَالُوا: إِنَّهُ حَدَثٌ، غِرٌّ يُغَرِّرُ بِنَفْسِهِ، وَكَمَّنُوا كُمَنَاءَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ أَبَا الْعَبَّاسِ، فَحَذِرُوا وَأَقْبَلُوا وَقَدْ كَمَّنُوا الْكُمَنَاءَ لِيَغْتَرَّ بِاتِّبَاعِهِمْ فَيَخْرُجَ الْكَمِينُ عَلَيْهِ، فَمَنَعَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ، فَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّ كَيْدَهُمْ لَمْ يَتِمَّ خَرَجَ سُلَيْمَانُ فِي الشَّذَوَاتِ وَالسُّمَيْرِيَّاتِ، فَأَمَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ نُصَيْرًا أَنْ يَبْرُزَ إِلَيْهِمْ، وَرَكِبَ هُوَ شَذَاةً مِنْ شَذَوَاتِهِ سَمَّاهَا الْغَزَالَ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ خَاصَّتِهِ، وَأَمَرَ الْخَيَّالَةَ بِالْمَسِيرِ بِإِزَائِهِ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ، فَعَبَّرُوا دَوَابَّهُمْ، وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَوَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الزَّنْجِ، وَغَنِمَ أَبُو الْعَبَّاسِ مِنْهُمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شَذَاةً، وَأَفْلَتَ سُلَيْمَانُ وَالْجُبَّائِيُّ بَعْدَ أَنْ أَشْفَيَا عَلَى الْهَلَاكِ، وَبَلَغُوا طَهْثَا، وَأَسْلَمُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ. وَرَجَعَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، وَأَمَرَ بِإِصْلَاحِ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ مِنَ الشَّذَوَاتِ وَالسُّمَيْرِيَّاتِ، وَأَقَامَ الزَّنْجُ عِشْرِينَ يَوْمًا لَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَجَعَلُوا عَلَى طَرِيقِ الْخَيْلِ آبَارًا، وَجَعَلُوا فِيهَا سَفَافِيدَ حَدِيدَ، وَجَعَلُوا عَلَى رُءُوسِهَا الْبَوَارِيَ وَالتُّرَابَ لِيَسْقُطَ فِيهَا

الْمُجْتَازُونَ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ سَقَطَ فِيهَا رَجُلٌ مِنَ الْفَرَاغِنَةِ، فَفَطِنُوا لَهَا، وَتَرَكُوا ذَلِكَ الطَّرِيقَ. وَاسْتَمَدَّ سُلَيْمَانُ صَاحِبَ الزَّنْجِ، فَأَمَدَّهُ بِأَرْبَعِينَ سُمَيْرِيَّةٍ بِآلَاتِهَا وَمُقَاتِلَتِهَا، فَعَادُوا لِلتَّعَرُّضِ لِلْحَرْبِ، فَلَمْ يَكُونُوا يَثْبُتُوا لِأَبِي الْعَبَّاسِ ; ثُمَّ سَيَّرَ إِلَيْهِمْ عِدَّةَ سُمَيْرِيَّاتٍ، فَأَخَذَهَا الزَّنْجُ، فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ وَهُوَ يَتَغَدَّى، فَرَكِبَ فِي سُمَيْرِيَّةٍ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ أَصْحَابَهُ، وَتَبِعَهُ مِنْهُمْ مَنْ خَفَّ، فَأَدْرَكَ الزَّنْجَ، فَانْهَزَمُوا وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ، فَاسْتَنْقَذَ سُمَيْرِيَّاتِهِ وَمَنْ كَانَ فِيهَا، وَأَخَذَ مِنْهُمْ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سُمَيْرِيَّةً، وَرَمَى أَبُو الْعَبَّاسِ يَوْمَئِذٍ، عَنْ قَوْسٍ حَتَّى دَمِيَتْ إِبْهَامُهُ، فَلَمَّا رَجَعَ أَمَرَ لِمَنْ مَعَهُ بِالْخِلَعِ، وَأَمَرَ بِإِصْلَاحِ السُّمَيْرِيَّاتِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الزَّنْجِ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ رَأَى أَنْ يَتَوَغَّلَ [فِي] مَازَرْوَانَ حَتَّى يَصِيرَ إِلَى الْحَجَّاجِيَّةِ (وَنَهْرِ الْأَمِيرِ) ، وَيَعْرِفَ مَا هُنَاكَ، فَقَدَّمَ نُصَيْرًا فِي أَوَّلِ السُّمَيْرِيَّاتِ وَرَكِبَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي سُمَيْرِيَّةٍ وَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، وَدَخَلَ مَازَرْوَانَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ نُصَيْرًا أَمَامَهُ، فَلَمْ يَقِفْ لَهُ عَلَى خَبَرٍ، وَكَانَ قَدْ سَارَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقِ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَخَرَجَ مَنْ مَعَ أَبِي الْعَبَّاسِ مِنَ الْمَلَّاحِينَ إِلَى غَنَمٍ رَأَوْهَا لِيَأْخُذُوهَا، فَبَقِيَ هُوَ وَمُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، فَأَتَاهُمَا جَمْعٌ مِنَ الزَّنْجِ مِنْ جَانِبَيِ النَّهْرِ، فَقَاتَلَهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ بِالنُّشَّابِ، وَوَافَاهُ زَيْرَكُ فِي بَاقِي الشَّذَوَاتِ، فَسَلَّمَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَعَادَ عَسْكَرُهُ. وَرَجَعَ نُصَيْرٌ وَجَمَعَ سُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ أَصْحَابَهُ وَتَحَصَّنَ بِطَهْثَا، وَتَحَصَّنَ الشَّعْرَانِيُّ وَأَصْحَابُهُ بِسُوقِ الْخَمِيسِ، وَجَعَلُوا الْغَلَّاتِ إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ اجْتَمَعَ بِالصِّينِيَّةِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ فِي الْبَرِّ، وَإِذَا عَرَضَ لَهُمْ نَهْرٌ عَبَرُوهُ، وَرَكِبَ هُوَ فِي الشَّذَوَاتِ وَالسُّمَيْرِيَّاتِ، فَلَمَّا أَبْصَرَتِ الزَّنْجُ الْخَيْلَ خَافُوا، وَلَجَئُوا إِلَى الْمَاءِ وَالسُّفُنِ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ وَافَتْهُمُ الشَّذَا مَعَ أَبِي الْعَبَّاسِ، فَلَمْ يَجِدُوا مَلْجَأً، فَاسْتَسْلَمُوا، فَقُتِلَ مِنْهُمْ فَرِيقٌ، وَأُسِرَ فَرِيقٌ، أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ فَرِيقٌ، أَخَذَ أَصْحَابُ أَبِي الْعَبَّاسِ سُفُنَهُمْ وَهِيَ مَمْلُوءَةٌ أُرْزًا، أَخَذَ الصِّينِيَّةَ، وَأَزَاحَ الزَّنْجَ عَنْهَا، فَانْحَازُوا إِلَى طَهْثَا وَسُوقِ الْخَمِيسِ. وَكَانَ قَدْ رَأَى أَبُو الْعَبَّاسِ كُرْكِيًّا، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ، فَسَقَطَ فِي عَسْكَرِ الزَّنْجِ،

(فَعَرَفَ الزَّنْجُ السَّهْمَ) فَزَادَ ذَلِكَ فِي خَوْفِهِمْ، وَرَجَعَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى عَسْكَرِهِ، وَقَدْ فَتَحَ الصِّينِيَّةَ. وَبَلَغَهُ أَنَّ جَيْشًا عَظِيمًا لِلزَّنْجِ مَعَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي دُلَفَ وَلُؤْلُؤٍ الزَّنْجِيَّيْنِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَأَوْقَعَ بِهِمْ وَقْعَةً عَظِيمَةً وَقْتَ السَّحَرِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، مِنْهُمْ لُؤْلُؤٌ، وَأَسَرَ ثَابِتًا، فَمَنَّ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ مَعَ بَعْضِ قُوَّادِهِ، وَاسْتَنْقَذَ مِنَ النِّسَاءِ خَلْقًا كَثِيرًا، فَأَمَرَ بِإِطْلَاقِهِنَّ وَرَدِّهِنَّ إِلَى أَهْلِهِنَّ، أَخَذَ كُلَّ مَا كَانَ الزَّنْجُ جَمَعُوهُ، أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَسْتَرِيحُوا لِلْمَسِيرِ إِلَى سُوقِ الْخَمِيسِ، وَأَمَرَ نُصَيْرًا بِتَعْبِئَةِ أَصْحَابِهِ لِلْمَسِيرِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ نَهَرَ سُوقِ الْخَمِيسِ ضَيِّقٌ، فَأَقِمْ أَنْتَ وَنَسِيرُ نَحْنُ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ: إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلَا تُكْثِرْ مِنَ الشَّذَا، وَلَا مِنَ الرِّحَالِ، فَإِنَّ النَّهْرَ ضَيِّقٌ. فَسَارَ إِلَيْهِ، وَنُصَيْرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، إِلَى فَمِ نَهْرِ مُسَاوِرٍ، فَوَقَفَ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَتَقَدَّمَهُ نُصَيْرٌ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ شَذَاةً فِي نَهْرِ بَرَاطِقَ، وَهُوَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى مَدِينَةِ الشَّعْرَانِيِّ الَّتِي سَمَّاهَا الْمَنِيعَةَ فِي سُوقِ الْخَمِيسِ، فَلَمَّا غَابَ عَنْهُ نُصَيْرٌ خَرَجَ جَمَاعَةٌ فِي الْبَرِّ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ، فَمَنَعُوهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى الظُّهْرِ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ خَبَرُ نُصَيْرٍ، وَجَعَلَ الزَّنْجُ يَقُولُونَ: قَدْ قَتَلْنَا نُصَيْرًا. وَاغْتَمَّ أَبُو الْعَبَّاسِ لِذَلِكَ، وَأَمَرَ مُحَمَّدَ بْنَ شُعَيْبٍ بِتَعَرُّفِ خَبَرِهِ، فَسَارَ، فَرَآهُ عِنْدَ عَسْكَرِ الزَّنْجِ وَأَحْرَقَهُ وَأَضْرَمَ النَّارَ فِي مَدِينَتِهِمْ، وَهُوَ يُقَاتِلُهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَعَادَ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ فَأَخْبَرَهُ، فَسُرَّ بِذَلِكَ. وَأَسَرَ نُصَيْرٌ مِنَ الزَّنْجِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً، وَرَجَعَ حَتَّى وَافَى أَبَا الْعَبَّاسِ فَأَخْبَرَهُ، وَوَقَفَ أَبُو الْعَبَّاسِ يُقَاتِلُهُمْ، فَرَجَعُوا عَنْهُ، وَكَمَّنَ بَعْضَ شَذَوَاتِهِ، وَأَمَرَ أَنْ يُظْهِرَ وَاحِدَةً مِنْهَا، فَطَمِعُوا فِيهَا وَتَبِعُوهَا حَتَّى أَدْرَكُوهَا فَعَلِقُوا بِسُكَّانِهَا، فَخَرَجَتْ عَلَيْهِمُ السُّفُنُ الْمُكَمَّنَةُ وَفِيهَا أَبُو الْعَبَّاسِ، فَانْهَزَمَ الزَّنْجُ، وَغَنِمَ أَبُو الْعَبَّاسِ مِنْهُمْ سِتَّ سُمَيْرِيَّاتٍ، وَانْهَزَمُوا لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ، وَرَجَعَ إِلَى عَسْكَرِهِ سَالِمًا، وَخَلَعَ عَلَى الْمَلَّاحِينَ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ.

ذِكْرُ وُصُولِ الْمُوَفَّقِ إِلَى قِتَالِ الزَّنْجِ وَفَتْحِ الْمَنِيعَةِ وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، سَارَ الْمُوَفَّقُ عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى وَاسِطَ لِحَرْبِ الزَّنْجِ، وَكَانَ سَبَبُ تَأَخُّرِهِ عَنِ ابْنِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ هَذِهِ أَنَّهُ [كَانَ] يَجْمَعُ وَيَحْشِدُ الْفُرْسَانَ وَالرَّجَّالَةَ، وَيَسْتَكْثِرُ مِنَ الْعُدَّةِ الَّتِي يَقْوَى بِهَا عَلَى حَرْبِ الزَّنْجِ، وَيَسُدُّ الْجِهَاتِ الَّتِي يَخَافُ فِيهَا لِئَلَّا يَبْقَى لَهُ مَا يَشْغَلُ قَلْبَهُ. إِلَّا أَنَّ الْخَبِيثَ رَئِيسَ الزَّنْجِ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيِّ يَأْمُرُهُ بِالِاجْتِمَاعِ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ عَلَى حَرْبِ أَبِي الْعَبَّاسِ، فَخَافَ وَهْنًا يَتَطَرَّقُ إِلَى ابْنِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ، فَسَارَ عَنْ بَغْدَاذَ فِي صَفَرٍ، فَوَصَلَ إِلَى وَاسِطَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَلَقِيَهُ ابْنُهُ وَأَخْبَرَهُ بِحَالِ جُنْدِهِ وَقُوَّادِهِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، وَرَجَعَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى مُعَسْكَرِهِ بِالْعُمْرِ، ثُمَّ نَزَلَ الْمُوَفَّقُ عَلَى نَهْرِ شَدَّادٍ بِإِزَاءِ قَرْيَةِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى مُعَسْكَرِهِ بِالْعُمْرِ، ثُمَّ نَزَلَ الْمُوَفَّقُ عَلَى نَهْرِ شَدَّادٍ، وَأَمَرَ ابْنَهُ فَنَزَلَ شَرْقِيَّ دِجْلَةَ بِإِزَاءِ فُوَّهَةِ بَرْدُودَا، وَوَلَّاهُ مُقَدِّمَتَهُ، وَأَعْطَى الْجَيْشَ أَرْزَاقَهُمْ، وَأَمَرَ ابْنَهُ أَنْ يَسِيرَ بِمَا مَعَهُ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ إِلَى فُوَّهَةِ نَهْرِ مُسَاوِرٍ، فَرَحَلَ فِي نُخْبَةِ أَصْحَابِهِ، وَرَحَلَ الْمُوَفَّقُ بَعْدَهُ، فَنَزَلَ فُوَّهَةَ نَهْرِ مُسَاوِرٍ فَأَقَامَ يَوْمَيْنِ. ثُمَّ رَحَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي سَمَّاهَا صَاحِبُ الزَّنْجِ الْمَنِيعَةَ مِنْ سُوقِ الْخَمِيسِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَسَلَكَ بِالسُّفُنِ فِي نَهْرِ مُسَاوِرٍ، وَسَارَتِ الْخَيْلُ بِإِزَائِهِ شَرْقِيَّ نَهْرِ مُسَاوِرٍ، حَتَّى جَازُوا بَرَاطِقَ الَّذِي يُوصِلُ إِلَى الْمَنِيعَةِ، وَأَمَرَ بِتَعْبِيرِ الْخَيْلِ، وَتَصْيِيرِهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَأَمَرَ ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ بِالتَّقَدُّمِ بِالشَّذَا بِعَامَّةِ الْجَيْشِ، فَفَعَلَ، فَلَقِيَهُ الزَّنْجُ، فَحَارَبُوهُ حَرْبًا شَدِيدَةً، وَوَافَاهُمْ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ، وَالْخَيْلُ مِنْ جَانِبَيِ النَّهْرِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ انْهَزَمُوا وَتَفَرَّقُوا وَعَلَا أَصْحَابُ أَبِي الْعَبَّاسِ السُّورَ، وَوَضَعُوا السُّيُوفَ فِيمَنْ لَقِيَهُمْ، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ فَقَتَلُوا فِيهَا خَلْقًا كَثِيرًا، أَسَرُوا عَالَمًا عَظِيمًا، وَغَنِمُوا مَا كَانَ فِيهَا، وَهَرَبَ الشَّعْرَانِيُّ وَمَنْ مَعَهُ، وَتَبِعَهُ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ إِلَى الْبَطَائِحِ، فَغَرِقَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَلَجَأَ الْبَاقُونَ إِلَى الْآجَامِ.

وَرَجَعَ أَبُو أَحْمَدَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ مِنْ يَوْمِهِ، وَقَدِ اسْتَنْقَذَ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ زُهَاءَ خَمْسَةِ آلَافِ امْرَأَةٍ سِوَى مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنَ الزَّنْجِيَّاتِ، وَأَمَرَ أَبُو أَحْمَدَ بِحِفْظِ النِّسَاءِ وَحَمْلِهِنَّ إِلَى وَاسِطَ لِيُدْفَعْنَ إِلَى أَهْلِهِنَّ، ثُمَّ بَكَّرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِأَخْذِ مَا فِيهِ فَأُخِذَ جَمِيعُهُ، وَأَمَرَ بِهَدْمِ سُورِهَا، وَطَمِّ خَنْدَقِهَا، وَإِحْرَاقِ مَا بَقِيَ فِيهَا مِنَ السُّفُنِ، وَأَخَذُوا مِنَ الطَّعَامِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْأُرْزِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، مَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِبَيْعِ ذَلِكَ وَصَرْفِهِ إِلَى الْجُنْدِ. وَلَمَّا انْهَزَمَ سُلَيْمَانُ لَحِقَ بِالْمَرَازِ، وَكَتَبَ إِلَى الْخَائِنِ، صَاحِبِ الزَّنْجِ بِذَلِكَ، فَوَرَدَ الْكِتَابُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَتَحَدَّثُ، فَانْحَلَّ بَطْنُهُ، فَقَامَ إِلَى الْخَلَاءِ دَفَعَاتٍ، وَكَتَبَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ يُحَذِّرُهُ مِثْلَ الَّذِي نَزَلَ بِالشَّعْرَانِيِّ، وَيَأْمُرُهُ بِالتَّيَقُّظِ. وَأَقَامَ الْمُوَفَّقُ بِنَهْرِ مُسَاوِرٍ يَوْمَيْنِ يَتَعَرَّفُ أَخْبَارَ الشَّعَرْانِيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ، فَأَتَاهُ مَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ جَامِعٍ بِالْجَوَانِيتِ، فَسَارَ حَتَّى وَافَى الصِّينِيَّةَ، وَأَمَرَ ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ بِالتَّقَدُّمِ بِالشَّذَا وَالسُّمَيْرِيَّاتِ إِلَى الْجَوَانِيتِ مُخْتَفِيًا، فَسَارَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَرَ سُلَيْمَانَ بِهَا، وَرَأَى هُنَاكَ جَمْعًا مِنَ الزَّنْجِ مَعَ قَائِدَيْنِ لَهُمْ خَلَّفَهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ هُنَاكَ لِحِفْظِ غَلَّاتٍ كَثِيرَةٍ لَهُمْ فِيهَا، فَحَارَبَهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَدَامَتِ الْحَرْبُ إِلَى أَنْ حَجَزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، وَاسَتَأْمَنَ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ رَجُلٌ، فَسَأَلَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُقِيمٌ بِطَهْثَا، بِمَدِينَتِهِ الَّتِي سَمَّاهَا الْمَنْصُورَةَ، فَعَادَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى أَبِيهِ بِالْخَبَرِ، فَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بَرْدُودَا، فَأَقَامَ بِهَا لِإِصْلَاحِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَاسْتَكْثَرَ مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي يَسُدُّ بِهَا الْأَنْهَارَ، وَيُصْلِحُ بِهَا الطُّرُقَ لِلْخَيْلِ، وَخَلَّفَ بِبَرْدُودَا بُفْرَاجَ التُّرْكِيَّ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْمُوَفَّقِ عَلَى طَهْثَا لَمَّا فَرَغَ الْمُوَفَّقُ مِنَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ سَارَ عَنْ بَرْدُودَا إِلَى طَهْثَا لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ مَسِيرُهُ عَلَى الظُّهْرِ فِي خَيْلِهِ، وَانْحَدَرَتِ السُّفُنُ وَالْآلَاتُ، فَنَزَلَ بِقَرْيَةِ الْجَوْزِيَّةِ، وَعَقَدَ جِسْرًا، ثُمَّ غَدَا فَعَبَّرَ خَيْلَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ مُعَسْكَرًا عَلَى مِيلَيْنِ مِنْ طَهْثَا، فَأَقَامَ هُنَالِكَ يَوْمَيْنِ.

وَمَطَرَتِ السَّمَاءُ مَطَرًا شَدِيدًا، فَشُغِلَ عَنِ الْقِتَالِ، ثُمَّ رَكِبَ لِيَنْظُرَ مَوْضِعًا لِلْحَرْبِ، فَانْتَهَى إِلَى قَرِيبٍ مِنْ سُورِ مَدِينَةِ سُلَيْمَانَ بِطَهْثَا، وَهِيَ الَّتِي سَمَّاهَا الْمَنْصُورُ، فَتَلَقَّاهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ كُمَنَاءُ مِنْ مَوَاضِعَ شَتَّى، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، وَتَرَجَّلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُرْسَانِ، وَقَاتَلُوا حَتَّى خَرَجُوا عَنِ الْمَضِيقِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَأَسَرُوا مِنْ غِلْمَانِ الْمُوَفَّقِ جَمَاعَةً. وَرَمَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْمُوَفَّقِ أَحْمَدَ بْنَ هِنْدِيٍّ الْحَيَامِيَّ بِسَهْمٍ خَالَطَ دِمَاغَهُ، فَسَقَطَ وَحُمِلَ إِلَى الْعَلَوِيِّ، صَاحِبِ الزَّنْجِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، فَحَضَرَهُ الْخَبِيثُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَعَظُمَتْ لَدَيْهِ الْمُصِيبَةُ بِمَوْتِهِ، إِذْ كَانَ أَعْظَمَ أَصْحَابِهِ (غَنَاءً عَنْهُ) . وَانْصَرَفَ الْمُوَفَّقُ إِلَى عَسْكَرِهِ وَقْتَ الْمَغْرِبِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّحَارُسِ لَيْلَتَهُمْ وَالتَّأَهُّبِ لِلْحَرْبِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، عَبَّأَ الْمُوَفَّقُ أَصْحَابَهُ، وَجَعَلَهُمْ كَتَائِبَ يَتْلُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً، وَأَمَرَ بِالشَّذَا وَالسُّمَيْرِيَّاتِ أَنْ يُسَارَ بِهَا إِلَى النَّهْرِ الَّذِي يَشُقُّ مَدِينَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ النَّهْرُ الْمَعْرُوفُ بِنَهْرِ الْمُنْذِرِ، وَرَتَّبَ أَصْحَابَهُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَخَافُ مِنْهَا، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَابْتَهَلَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي النَّصْرِ، ثُمَّ لَبِسَ سِلَاحَهُ، وَأَمَرَ ابْنَهُ الْعَبَّاسَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى السُّورِ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ، فَرَأَى خَنْدَقًا، فَأَحْجَمَ النَّاسُ عَنْهُ، فَحَرَّضَهُمْ قُوَّادُهُمْ وَتَرَجَّلُوا مَعَهُمْ، فَاقْتَحَمُوهُ وَعَبَرُوهُ، وَانْتَهَوْا إِلَى الزَّنْجِ وَهُمْ عَلَى سُورِهِمْ. فَلَمَّا رَأَى الزَّنْجُ تَسَرُّعَهُمْ إِلَيْهِمْ وَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، وَاتَّبَعَهُمْ أَصْحَابُ أَبِي الْعَبَّاسِ، فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ، وَكَانَ الزَّنْجُ قَدْ حَصَّنُوهَا بِخَمْسَةِ خَنَادِقَ، وَجَعَلُوا أَمَامَ كُلِّ خَنْدَقٍ سُورًا، فَجَعَلُوا يَقِفُونَ عِنْدَ كُلِّ سُورٍ وَخَنْدَقٍ، فَكَشَفَهُمْ أَصْحَابُ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَدَخَلَتِ الشَّذَا وَالسُّمَيْرِيَّاتُ الْمَدِينَةَ مِنَ النَّهْرِ، فَجَعَلَتْ تُغْرِقُ كُلَّ مَا مَرَّتْ لَهُمْ بِهِ مِنْ سُمَيْرِيَّةٍ وَشَذَاةٍ، وَقَتَلُوا مَنْ بِجَانِبَيِ النَّهْرِ وَأَسَرُوا حَتَّى أَجْلَوْهُمْ عَنِ الْمَدِينَةِ وَعَمَّا اتَّصَلَ بِهَا، وَكَانَ مِقْدَارُ الْعِمَارَةِ فِيهَا فَرْسَخًا.

وَحَوَى الْمُوَفَّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَأَفْلَتَ سُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ وَنَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ وَالْأَسْرُ، وَاسْتَنْقَذَ أَبُو أَحْمَدَ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ وَاسِطَ، وَالْكُوفَةِ، وَالْقُرَى، وَغَيْرِهَا، وَصِبْيَانِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَأَمَرَ أَبُو أَحْمَدَ بِحَمْلِهِمْ إِلَى وَاسِطَ، وَدَفَعَهُمْ إِلَى أَهْلِيهِمْ ; وَأَحَذَ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الذَّخَائِرِ، وَالْأَمْوَالِ، وَأَمَرَ بِصَرْفِهِ إِلَى الْأَجْنَادِ، وَأَسَرَ مِنْ نِسَاءِ سُلَيْمَانَ وَأَوْلَادِهِ عِدَّةً، وَتَخَلَّصَ مَنْ كَانَ أُخِذَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُوَفَّقِ، وَنَجَا جَمْعٌ كَثِيرٌ إِلَى الْآجَامِ فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِطَلَبِهِمْ، فَأَقَامَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَدَمَ سُورَ الْمَدِينَةِ، وَطَمَّ خَنَادِقَهَا، وَجَعَلَ لِكُلِّ مَنْ أَتَاهُ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ جُعْلًا، فَكَانَ إِذَا أُتِيَ بِالْوَاحِدِ مِنْهُمْ عَفَا عَنْهُ وَضَمَّهُ إِلَى قُوَّادِهِ وَغِلْمَانِهِ، لِمَا كَانَ دَبَّرَهُ مِنَ اسْتِمَالَتِهِمْ. وَأَرْسَلَ فِي طَلَبِ سُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ، حَتَّى بَلَغُوا دِجْلَةَ الْعَوْرَاءَ، فَلَمْ يَظْفَرُوا بِهِ، وَأَمَرَ زِيرَكَ بِالْمُقَامِ بِطَهَثَا لِيَتَرَاجَعَ إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ أَهْلُهَا وَيَأْمَنُوا. ذِكْرُ مَسِيرِ الْمُوَفَّقِ إِلَى الْأَهْوَازَ وَإِجْلَاءِ الزِّنْجِ عَنْهَا فَلَمَّا فَرَغَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ مِنَ الْمَنْصُورِ رَحَلَ نَحْوَ الْأَهْوَازِ لِإِصْلَاحِهَا وَإِجْلَاءِ الزَّنْجِ عَنْهَا، فَأَمَرَ ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ، فَأَمَرَ بِإِصْلَاحِ الطَّرِيقِ لِلْجُيُوشِ، اسْتَخْلَفَ عَلَى مَنْ تَرَكَ مِنْ عَسْكَرِهِ بِوَاسِطَ ابْنَهُ هَارُونَ، وَلَحِقَهُ زِيرَكُ فَأَخْبَرَهُ بِعَوْدِ أَهْلِ طَهْثَا إِلَيْهَا، وَأَمَّنَ النَّاسَ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ بِالِانْحِدَارِ فِي الشَّذَا وَالسُّمَيْرِيَّاتِ مَعَ نُصَيْرٍ، وَتَتَبُّعِ الْمُنْهَزِمِينَ، وَالْإِيقَاعِ بِهِمْ وَبِمَنْ ظَفِرُوا بِهِ مِنَ الزَّنْجِ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى مَدِينَةِ الْخَبِيثِ بِنَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ، وَسَارَ. وَارْتَحَلَ الْمُوَفَّقُ مُسْتَهَلَّ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ وَاسِطَ حَتَّى أَتَى السُّوسَ، وَأَمَرَ مَسْرُورًا بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَامِلُهُ هُنَاكَ، فَأَتَاهُ. وَكَانَ الْخَبِيثُ لَمَّا بَلَغَهُ مَا عَمِلَ الْمُوَفَّقُ بِسُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ وَالزَّنْجِ خَافَ أَنْ يَأْتِيَهُ وَهُوَ عَلَى حَالٍ تَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ، وَكَتَبَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَكَانَ بِالْأَهْوَازِ فِي

ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَتَرَكَ جَمِيعَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ طَعَامٍ وَدَوَابَّ وَأَغْنَامٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الْكُرُنْبَائِيَّ، فَلَمْ يَقُمْ، وَاتَّبَعَ عَلِيًّا. وَكَتَبَ صَاحِبُ الزَّنْجِ أَيْضًا إِلَى بَهْبُودَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَهُوَ بِالْفَنْدَمِ وَالْبَاسِيَانَ وَمَا اتَّصَلَ بِهِمَا، يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَتَرَكَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الذَّخَائِرِ، وَسَارَ نَحْوَهُ، فَحَوَى ذَلِكَ جَمِيعَهُ الْمُوَفَّقُ، وَقَوِيَ بِهِ عَلَى حَرْبِ الْخَبِيثِ. وَلَمَّا سَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ عَنِ الْأَهْوَازِ تَخَلَّفَ بِهَا جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، زُهَاءَ أَلْفِ رَجُلٍ، فَأَرْسَلُوا إِلَى الْمُوَفَّقِ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ، فَأَجْرَى عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ، ثُمَّ رَحَلَ عَنِ السُّوسِ إِلَى جُنْدَيْسَابُورَ، وَتُسْتَرَ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ، وَوَجَّهَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْكُرْدِيِّ، وَكَانَ خَائِفًا مِنْهُ، فَأَمَّنَهُ وَعَفَا عَنْهُ، فَطَلَبَ مِنْهُ الْأَمْوَالَ وَالْعَسَاكِرَ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ. ثُمَّ رَحَلَ إِلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ، وَوَافَى الْأَهْوَازَ، ثُمَّ رَحَلَ عَنْهَا إِلَى نَهْرِ الْمُبَارَكِ مِنْ فُرَاتِ الْبَصْرَةِ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِهِ هَارُونَ لِيُوَافِيَهُ بِجَمِيعِ الْجَيْشِ إِلَى نَهْرِ الْمُبَارَكِ، فَلَقِيَهُ الْجَيْشُ بِالْمُبَارَكِ مُنْتَصَفَ رَجَبٍ. وَكَانَ زِيرَكُ، وَنُصَيْرُ لَمَّا خَلَّفَهُمَا الْمُوَفَّقُ لِيَتَتَبَّعَا الزَّنْجَ انْحَدَرَا حَتَّى وَافَيَا الْأُبُلَّةَ، فَأَسْتَأْمَنَ إِلَيْهِمَا رَجُلٌ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ الْخَبِيثَ قَدْ أَنْفَذَ إِلَيْهِمَا عَدَدًا كَثِيرًا فِي الشَّذَا، وَالسُّمَيْرِيَّاتِ إِلَى دِجْلَةَ لِيَمْنَعَ عَنْهَا مَنْ يُرِيدُهَا، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ عَسْكَرَ نُصَيْرٍ، وَكَانَ عَسْكَرُهُ بِنَهْرِ الْمَرْأَةِ، فَرَجَعَ نُصَيْرٌ إِلَى عَسْكَرِهِ مِنَ الْأُبُلَّةِ لَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ، وَسَارَ زِيرَكُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، لِأَنَّهُ قَدَّرَ أَنَّ الزَّنْجَ يَأْتُونَ عَسْكَرَ نُصَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، فَكَانَ كَذَلِكَ، فَلَقِيَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ، فَظَفِرَ بِهِمْ، وَانْهَزَمُوا مِنْهُ، وَكَانُوا قَدْ جَعَلُوا كَمِينًا، فَدَلَّ زِيرَكُ عَلَيْهِ، فَتَوَغَّلَ حَتَّى أَتَاهُ فَقَتَلَ مِنَ الْكُمَنَاءِ جَمَاعَةً وَأَسَرَ جَمَاعَةً.

وَكَانَ مِمَّنْ ظَفِرَ بِهِ مُقَدَّمُ الزَّنْجِ، وَهُوَ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَصْرِيُّ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ قُوَّادِهِمْ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ مَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِينَ سُمَيْرِيَّةٍ، فَجَزِعَ لِذَلِكَ جَمِيعُ الزَّنْجِ، فَأَسْتَأْمَنَ إِلَى نُصَيْرٍ مِنْهُمْ زُهَاءُ أَلْفَيْ رَجُلٍ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْمُوَفَّقِ، فَأَمَرَهُ بِقَبُولِهِمْ وَالْإِقْبَالِ إِلَيْهِ بِالنَّهْرِ الْمُبَارَكِ، فَوَافَاهُ هُنَاكَ. وَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ بِالْمَسِيرِ إِلَى مُحَارَبَةِ الْعَلَوِيِّ بِنَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَحَارَبَ مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى الظُّهْرِ، فَأَسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ قَائِدًا مِنْ قُوَّادِ الْعَلَوِيِّ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَكَسَرَ ذَلِكَ الْخَبِيثُ، وَعَادَ أَبُو الْعَبَّاسِ بِالظَّفَرِ، وَكَتَبَ الْمُوَفَّقُ إِلَى الْعَلَوِيِّ كِتَابًا يَدْعُوهُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا رَكِبَ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَانْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ، وَإِخْرَابِ الْبُلْدَانِ، وَاسْتِحْلَالِ الْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ، وَادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَيَبْذُلُ لَهُ الْأَمَانَ، فَوَصَلَ الْكِتَابُ إِلَيْهِ، فَقَرَأَهُ، وَلَمْ يَكْتُبْ جَوَابَهُ. ذِكْرُ مُحَاصَرَةِ مَدِينَةِ صَاحِبِ الزَّنْجِ لَمَّا أَنْفَذَ الْمُوَفَقُّ الْكِتَابَ إِلَى الْعَلَوِيِّ، وَلَمْ يَرُدَّ جَوَابَهُ، عَرَضَ عَسْكَرَهُ، وَأَصْلَحَ آلَاتِهِ، وَرَتَّبَ قُوَّادَهُ، ثُمَّ سَارَ هُوَ وَابْنُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ إِلَى مَدِينَةِ الْخَبِيثِ الَّتِي سَمَّاهَا الْمُخْتَارَةَ، وَأَشْرَفَ عَلَيْهَا، وَتَأَمَّلَهَا وَرَأَى حَصَانَتَهَا بِالْأَسْوَارِ وَالْخَنَادِقِ، وَغَوَّرَ الطَّرِيقَ إِلَيْهَا، وَمَا أُعِدَّ مِنَ الْمَجَانِيقِ وَالْعَرَّادَاتِ، وَالْقِسِيِّ، وَسَائِرِ الْآلَاتِ عَلَى سُورِهَا، مِمَّا لَمْ يَرَ مِثْلَهُ لِمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ مُنَازِعِي السُّلْطَانِ، وَرَأَى مِنْ كَثْرَةِ عَدَدِ الْمُقَاتِلَةِ مَا اسْتَعْظَمَهُ. فَلَمَّا عَايَنَ الزَّنْجُ أَصْحَابَ الْمُوَفَّقِ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ حَتَّى ارْتَجَّتِ الْأَرْضُ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ ابْنَهُ بِالتَّقَدُّمِ إِلَى سُورِ الْمَدِينَةِ، وَالرَّمْيِ لِمَنْ عَلَيْهِ بِالسِّهَامِ، فَتَقَدَّمَ حَتَّى أَلْصَقَ شَذَوَاتِهِ بِمُسَنَّاةِ قَصْرِ الْخَبِيثِ، فَكَثُرَ الزَّنْجُ وَأَصْحَابُهُمْ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ وَمَنْ مَعَهُ، وَتَتَابَعَتْ سِهَامُهُمْ وَحِجَارَةُ مَجَانِيقِهِمْ وَمَقَالِيعِهِمْ، وَرَمَى عَوَامُّهُمْ بِالْحِجَارَةِ عَنْ أَيْدِيهِمْ، حَتَّى مَا يَقَعُ الطَّرَفُ إِلَّا عَلَى سَهْمٍ أَوْ حَجَرٍ. وَثَبَتَ أَبُو الْعَبَّاسِ، فَرَأَى الْعَلَوِيُّ مِنْ صَبْرِهِ وَثَبَاتِ أَصْحَابِهِ مَا لَمْ يَرَ مِثْلَهُ مِنْ أَحَدٍ

[مِمَّنْ] حَارَبَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمُ الْمُوَفَّقُ بِالرُّجُوعِ فَفَعَلُوا، اسْتَأْمَنَ إِلَى الْمُوَفَّقِ مُقَاتِلَةٌ فِي سُمَيْرِيَّتَيْنِ، فَأَمَّنَهُمْ، فَخَلَعَ عَلَى مَنْ فِيهِمَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَالْمَلَّاحِينَ عَلَى أَقْدَارِهِمْ وَوَصَلَهُمْ وَأَمَرَ بِإِدْنَائِهِمْ إِلَى مَوْضِعٍ يَرَاهُمْ فِيهِ نُظَرَاؤُهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَنْجَعِ الْمَكَايِدِ، فَلَمَّا رَآهُمُ الْبَاقُونَ رَغِبُوا فِي الْأَمَانِ، وَتَنَافَسُوا فِيهِ، وَابْتَدَرُوا إِلَيْهِ، فَصَارَ إِلَى الْمُوَفَّقِ عَدَدٌ كَثِيرٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ أَصْحَابِ السُّمَيْرِيَّاتِ، فَعَمَّهُمْ بِالْخِلَعِ وَالصِّلَاتِ. فَلَمَّا رَأَى صَاحِبُ الزَّنْجِ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَدِّ أَصْحَابِهِ إِلَى السُّمَيْرِيَّاتِ إِلَى نَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ، وَوَكَّلَ بِفُوَّهَةِ النَّهْرِ مَنْ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ، وَأَمَرَ بَهْبُودَ، وَهُوَ مِنْ شَرِّ قُوَّادِهِ، أَنْ يَخْرُجَ فِي الشَّذَوَاتِ، فَخَرَجَ وَبَرَزَ إِلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي شَذَوَاتِهِ، وَقَاتَلَهُ، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، فَانْهَزَمَ بَهْبُودُ إِلَى فِنَاءِ قَصْرِ الْخَبِيثِ، وَأَصَابَتْهُ طَعْنَتَانِ، وَجُرِحَ بِالسِّهَامِ، وَأُوهِنَتْ أَعْضَاؤُهُ بِالْحِجَارَةِ، فَأَوْلَجُوهُ نَهْرَ أَبِي الْخَصِيبِ وَقَدْ أَشَفَى عَلَى الْمَوْتِ، فَقُتِلَ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ قَائِدٌ ذُو بَأْسٍ يُقَالُ لَهُ عَمِيرَةُ، وَظَفَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ بِشَذَاةٍ فَقَتَلَ أَهْلَهَا، وَرَجَعَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ سَالِمِينَ، فَاسْتَأْمَنَ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ أَهْلُ شَذَاةٍ مِنْهُمْ، فَأَمَّنَهُمْ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ. وَرَجَعَ الْمُوَفَّقُ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى عَسْكَرِهِ بِالنَّهْرِ الْمُبَارَكِ، اسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ عِنْدَ مُنْصَرَفِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأَمَّنَهُمْ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَوَصَلَهُمْ، وَأَثْبَتَ أَسْمَاءَهُمْ مَعَ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَأَقَامَ عَسْكَرُهُ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ نَقَلَ عَسْكَرَهُ لَسِتٍّ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ إِلَى نَهْرِ جَطَّى فَنَزَلَهُ، وَأَقَامَ بِهِ إِلَى مُنْتَصَفِ شَعْبَانَ لَمْ يُقَاتِلْ. ثُمَّ رَكِبَ مُنْتَصَفَ شَعْبَانَ فِي الْخَيْلِ وَالرِّجَالِ وَأَعَدَّ الشَّذَا وَالسُّمَيْرِيَّاتِ، وَكَانَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنْدِ وَالْمُتَطَوِّعَةِ زُهَاءَ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَكَانَ مَنْ مَعَ الْخَبِيثِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ، كُلُّهُمْ مِمَّنْ يُقَاتِلُ بِسَيْفٍ، أَوْ رُمْحٍ، أَوْ قَوْسٍ، أَوْ مِقْلَاعٍ، أَوْ مَنْجَنِيقٍ، وَأَضْعَفَهُمْ رُمَاةُ الْحِجَارَةِ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَهُمُ النَّظَّارَةُ، وَالنِّسَاءُ تُشْرِكُهُمْ فِي ذَلِكَ، فَأَقَامَ أَبُو أَحْمَدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَنُودِيَ بِالْأَمَانِ لِلنَّاسِ كَافَّةً إِلَّا الْخَبِيثَ، وَكَتَبَ الْأَمَانَ فِي رِقَاعٍ، وَرَمَاهَا فِي السِّهَامِ، وَوَعَدَ فِيهَا الْإِحْسَانَ، فَمَالَتْ قُلُوبُ أَصْحَابِ الْخَبِيثِ، وَاسْتَأْمَنَ ذَلِكَ الْيَوْمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَخَلَعَ عَلَيْهِمْ وَوَصَلَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَرْبٌ. ثُمَّ رَحَلَ مِنْ نَهْرِ جَطَّى مِنَ الْغَدِ، فَعَسْكَرَ قُرْبَ مَدِينَةِ الْخَبِيثِ، وَرَتَّبَ قُوَّادَهُ

وَأَجْنَادَهُ، وَعَيَّنَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مَوْضِعًا يُحَافِظُونَ عَلَيْهِ وَيَضْبُطُونَهُ، وَكَتَبَ الْمُوَفَّقُ إِلَى الْبِلَادِ فِي عَمَلِ السُّمَيْرِيَّاتِ، وَالشَّذَوَاتِ، وَالزَّوَارِيقِ، وَالْإِكْثَارِ مِنْهَا لِيَضْبُطَ بِهَا الْأَنْهَارَ، لِيَقْطَعَ الْمِيرَةَ عَنِ الْخَبِيثِ، وَأَسَّسَ فِي مَنْزِلَتِهِ مَدِينَةً سَمَّاهَا الْمُوَفَّقِيَّةَ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ فِي النَّوَاحِي بِحَمْلِ الْأَمْوَالِ وَالْمِيرَةِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إِلَى مَدِينَتِهِ، وَأَمَرَهِمْ بِإِنْفَاذِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِثْبَاتِ فِي الدِّيوَانِ، وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ ذَلِكَ شَهْرًا، فَوَرَدَتْ عَلَيْهِ الْمِيرَةُ مُتَتَابِعَةً، وَجَهَّزَ التُّجَّارُ صُنُوفَ التِّجَارَاتِ إِلَى الْمُوَفَّقِيَّةِ، وَاتُّخِذَتْ فِيهَا الْأَسْوَاقُ، وَوَرَدَتْهَا مَرَاكِبُ الْبَحْرِ، وَبَنَى الْمُوَفَّقُ بِهَا الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، فَجَمَعَتْ هَذِهِ الْمَدِينَةُ مِنَ الْمَرَافِقِ، وَسِيقَ إِلَيْهَا مِنْ صُنُوفِ الْأَشْيَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي مِصْرَ مِنَ الْأَمْصَارِ الْقَدِيمَةِ وَحُمِلَتِ الْأَمْوَالُ، وَأُدِرَّتِ الْأَرْزَاقُ. وَعَبَرَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الزَّنْجِ، فَنَهَبُوا أَطْرَافَ عَسْكَرِ نُصَيْرٍ، وَأَوْقَعُوا بِهِ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ نُصَيْرًا بِجَمْعِ عَسْكَرِهِ وَضَبْطِهِمْ، وَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ بِالْمَسِيرِ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الزَّنْجِ كَانُوا خَارِجَ الْمَدِينَةِ، فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمَ مَا كَانَ مَعَهُمْ، فَصَارَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ فِي الْأَمَانِ، فَأَمَّنَهُمْ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ وَوَصَلَهُمْ، وَأَقَامَ أَبُو أَحْمَدَ يُكَايِدُ الْخَبِيثَ بِبَذْلِ الْأَمْوَالِ لِمَنْ صَارَ إِلَيْهِ، وَمُحَاصَرَةِ الْبَاقِينَ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ. وَكَانَتْ قَافِلَةٌ قَدْ أَتَتْ مِنَ الْأَهْوَازِ، وَأَسْرَى إِلَيْهَا بَهْبُودُ فِي سُمَيْرِيَّاتٍ فَأَخَذَهَا، وَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُوَفَّقِ، وَغَرِمَ لِأَهْلِهَا مَا أُخِذَ مِنْهُمْ، وَأَمَرَ بِتَرْتِيبِ الشَّذَوَاتِ عَلَى مَخَارِجِ الْأَنْهَارِ، وَقَلَّدَ ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّذَا، وَحَفِظَ الْأَنْهَارَ بِهَا مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُمْ بِهِ. وَفِي رَمَضَانَ عَبَرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْخَبِيثِ يُرِيدُونَ الْإِيقَاعَ بِنُصَيْرٍ، (فَنَذَرَ بِهِمُ النَّاسُ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِمْ) فَرَدُّوهُمْ خَائِبِينَ، وَظَفِرُوا بِصَنْدَلٍ الزَّنْجِيِّ، كَانَ يَكْشِفُ رُءُوسَ الْمُسْلِمَاتِ، وَيُقَلِّبُهُنَّ تَقْلِيبَ الْإِمَاءِ، فَلَمَّا أُتِيَ بِهِ أَمَرَ الْمُوَفَّقُ أَنْ يُرْمَى بِالسِّهَامِ ثُمَّ قَتَلَهُ.

وَاسْتَأْمَنَ إِلَى الْمُوَفَّقِ مِنَ الزَّنْجِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَبَلَغَتْ عِدَّةُ مَنِ اسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ فِي آخِرِ رَمَضَانَ خَمْسِينَ أَلْفًا. وَفِي شَوَّالٍ انْتَخَبَ صَاحِبُ الزَّنْجِ مِنْ عَسْكَرِهِ خَمْسَةَ آلَافٍ مِنْ شُجْعَانِهِمْ وَقُوَّادِهِمْ، وَأَمَرَ عَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيَّ بِالْعُبُورِ لِكَبْسِ عَسْكَرِ الْمُوَفَّقِ، فَكَانَ فِيهِمْ أَكْثَرُ مِنْ مِائَتَيْ قَائِدٍ، فَعَبَرُوا لَيْلًا، وَاخْتَفَوْا فِي آخِرِ النَّخْلِ، وَأَمَرَهُمْ، إِذَا ظَهَرَ أَصْحَابُهُمْ، وَقَاتَلُوا الْمُوَفَّقَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، ظَهَرُوا، وَحَمَلُوا عَلَى عَسْكَرِهِ وَهُمْ غَارُّونَ، مَشَاغِيلُ بِحَرْبِ مِنْ أَمَامِهِمْ، فَأَسْتَأْمَنَ مِنْهُمْ إِنْسَانٌ مِنَ الْمَلَّاحِينَ، فَأَخْبَرَ الْمُوَفَّقَ، فَسَيَّرَ ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ لِقِتَالِهِمْ وَضَبْطِ الطُّرُقِ الَّتِي يَسْلُكُونَهَا، فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَأَسَرَ أَكْثَرَهُمْ، وَغَرِقَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ، وَنَجَا بَعْضُهُمْ، فَأَمَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَنْ يُحْمَلَ الْأَسْرَى، وَالرُّءُوسُ، وَالسُّمَيْرِيَّاتُ وَيُعْبَرَ بِهِمْ عَلَى مَدِينَةِ الْخَبِيثِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ. وَبَلَغَ الْمُوَفَّقَ أَنَّ الْخَبِيثَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ الْأَسْرَى مِنَ الْمُسْتَأْمِنَةِ، وَإِنَّ الرُّءُوسَ تَمْوِيهٌ عَلَيْهِمْ، فَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ الرُّءُوِسِ فِي مَنْجَنِيقٍ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهَا عَرَفُوهَا، فَأَظْهَرُوا الْجَزَعَ وَالْبُكَاءَ، وَظَهَرَ لَهُمْ كَذِبُ الْخَبِيثِ. وَفِيهَا أَمَرَ الْخَبِيثُ بِاتِّخَاذِ شَذَوَاتٍ، فَعُمِلَتْ لَهُ، فَكَانَتْ لَهُ خَمْسُونَ شَذَاةً فَقَسَمَهَا بَيْنَ ثَلَاثَةٍ مِنْ قُوَّادِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّعَرُّضِ لِعَسْكَرِ الْمُوَفَّقِ ; وَكَانَتْ شَذَوَاتُ الْمُوَفَّقِ يَوْمَئِذٍ قَلِيلَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ مَا أَمَرَ بِعَمَلِهِ، وَالَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ مِنْهَا فَرَّقَهَا عَلَى أَفْوَاهِ الْأَنْهَارِ لِقَطْعِ الْمِيرَةِ عَنِ الْخَبِيثِ، فَخَافَهُمْ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ، فَوَرَدَ عَلَيْهِمْ شَذَوَاتٌ كَانَ الْمُوَفَّقُ أَمَرَ بِعَمَلِهَا، فَسَيَّرَ ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ لِيُورِدَهَا خَوْفًا عَلَيْهَا مِنَ الزَّنْجِ، فَلَمَّا أَقْبَلْ بِهَا رَآهَا الزَّنْجُ فَعَارَضُوهَا بِشَذَوَاتِهِمْ، فَقَصَدَهُمْ غُلَامٌ لِأَبِي الْعَبَّاسِ لِيَمْنَعَهُمْ، وَقَاتَلَهُمْ، فَانْكَشَفُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَبِعَهُمْ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ نَهْرَ الْخَصِيبِ، انْقَطَعَ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَعَطَفُوا عَلَيْهِ، فَأَخَذُوهُ، وَمَنْ مَعَهُ بَعْدَ حَرْبٍ شَدِيدَةٍ، فَقُتِلُوا، وَسَلِمَتِ الشَّذَوَاتُ مَعَ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَأَصْلَحَهَا، وَرَتَّبَ فِيهَا مَنْ يُقَاتِلُ. ثُمَّ أَقْبَلَتْ شَذَوَاتُ الْعَلَوِيِّ عَلَى عَادَتِهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَاتَلَهُمْ، فَهَزَمَهُمْ، وَظَفِرَ مِنْهُمْ بِعِدَّةِ شَذَوَاتٍ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ ظَفِرَ بِهِ فِيهَا، فَمَنَعَ الْخَبِيثُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْ فِنَاءِ قَصْرِهِ، وَقَطَعَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمِيرَةَ عَنْهُمْ، فَاشْتَدَّ جَزَعُ

الزَّنْجِ، وَطَلَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ أَصْحَابِهِ الْأَمَانَ، فَأُمِّنُوا، وَكَانَ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ الْقُمِّيُّ، وَكَانَ إِلَيْهِ ضَبْطُ السُّورِ مِمَّا يَلِي عَسْكَرَ الْمُوَفَّقِ، فَيَخْرُجُ لَيْلًا، فَأَمَّنَهُ الْمُوَفَّقُ، وَوَصَلَهُ بِصِلَاتٍ كَثِيرَةٍ لَهُ وَلِمَنْ خَرَجَ مَعَهُ، وَحَمَلَهُ عَلَى عِدَّةِ دَوَابَّ بِآلَاتِهَا وَحِلْيَتِهَا، وَأَرَادَ إِخْرَاجَ زَوْجَتِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَأَخَذَهَا الْخَبِيثُ فَبَاعَهَا ; وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ الْيَرْبُوعِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَشْجَعِ رِجَالِ الْعَلَوِيِّ، وَغَيْرُهُمَا، فَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَوَصَلَهُمْ بِصِلَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَلَمَّا انْقَطَعَتِ الْمِيرَةُ وَالْمَوَادُّ عَنِ الْعَلَوِيِّ أَمَرَ شِبْلًا وَأَبَا الْبَذِّيِّ، وَهُمَا مِنْ رُؤَسَاءِ قُوَّادِهِ [الَّذِينَ] يَثِقُ بِهِمْ، بِالْخُرُوجِ إِلَى الْبَطِيحَةِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ لِلْغَارَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَطْعِ الْمِيرَةِ عَنِ الْمُوَفَّقِ، فَسَيَّرَ الْمُوَفَّقُ إِلَيْهِمْ زِيرَكَ فِي جَمْعٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَقِيَهُمْ بِنَهْرِ ابْنِ عُمَرَ، فَرَأَى كَثْرَتَهُمْ، فَرَاعَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى فِي قِتَالِهِمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ، فَقَذَفَ اللَّهُ تَعَالَى الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ فَانْهَزَمُوا، وَوَضَعَ فِيهِمُ السَّيْفَ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَغَرِقَ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَسَرَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَخَذَ مِنْ سُفُنِهِمْ مَا أَمْكَنَهُ أَخَذُهُ، وَغَرَّقَ مَا أَمْكَنَهُ تَغْرِيقُهُ، وَكَانَ مَا أَخَذَهُ مِنْ سُفُنِهِمْ نَحْوَ أَرْبَعَمِائَةِ سَفِينَةٍ، وَأَقْبَلَ بِالْأُسَارَى وَالرُّءُوسِ إِلَى مَدِينَةِ الْمُوَفَّقِ. ذِكْرُ عُبُورِ الْمُوَفَّقِ إِلَى مَدِينَةِ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَفِيهَا عَبَرَ الْمُوَفَّقُ إِلَى مَدِينَةِ الْخَبِيثِ لَسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ; وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ قُوَّادِ الْخَبِيثِ لَمَّا رَأَوْا مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ مِنْ قِبَلِ مَنْ يَظْهَرُ مِنْهُمْ، وَشِدَّةَ الْحِصَارِ عَلَى مَنْ لَزِمَ الْمَدِينَةَ، وَحَالَ مَنْ خَرَجَ بِالْأَمَانِ، جَعَلُوا يَهْرُبُونَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيَخْرُجُونَ إِلَى الْمُوَفَّقِ بِالْأَمَانِ. فَلَمَّا رَأَى الْخَبِيثُ ذَلِكَ جَعَلَ عَلَى الطُّرُقِ الَّتِي يُمْكِنُهُمُ الْهَرَبُ مِنْهَا مَنْ يَحْفَظُهَا، فَأَرْسَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ إِلَى الْمُوَفَّقِ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، وَأَنْ يُوَجِّهَ لِمُحَارَبَةِ الْخَبِيثِ جَيْشًا لِيَجِدُوا طَرِيقًا إِلَى الْمَصِيرِ إِلَيْهِ، فَأَمَرَ ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ بِالْمَسِيرِ إِلَى النَّهْرِ الْغَرْبِيِّ، وَبِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ (يَحْمِيهِ فَنَهَضَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَمَعَهُ الشَّذَوَاتُ، وَالسُّمَيْرِيَّاتُ، وَالْمَعَابِرُ،

فَقَصَدَهُ، وَتَحَارَبَ هُوَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ) ، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، وَاسْتَظْهَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ عَلَى الزَّنْجِ، وَأَمَدَّ الْخَبِيثُ أَصْحَابَهُ بِسُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَاتَّصَلَتِ الْحَرْبُ مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى الْعَصْرِ، وَكَانَ الظَّفَرُ لِأَبِي الْعَبَّاسِ، (وَصَارَ إِلَيْهِ الْقَوْمُ الَّذِينَ طَلَبُوا الْأَمَانَ. وَاجْتَازَ أَبُو الْعَبَّاسِ) بِمَدِينَةِ الْخَبِيثِ عِنْدَ نَهْرِ الْأَتْرَاكَ، فَرَأَى قِلَّةَ الزَّنْجِ هُنَاكَ، فَطَمِعَ فِيهِمْ، فَقَصَدَهُمْ أَصْحَابُهُ وَقَدِ انْصَرَفَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى الْمُوَفَّقِيَّةِ، فَدَخَلُوا ذَلِكَ الْمَسْلَكَ، (وَصَعِدَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ السُّورَ وَعَلَيْهِ فَرِيقٌ مِنَ الزَّنْجِ، فَقَتَلُوهُمْ وَسَمِعَ الْعَلَوِيُّ) فَجَهَّزَ أَصْحَابَهُ لِحَرْبِهِمْ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو الْعَبَّاسِ اجْتِمَاعَهُمْ وَحَشْدَهُمْ لِحَرْبِهِ مَعَ قِلَّةِ أَصْحَابِهِ، رَحَلَ فَأَرْسَلَ إِلَى الْمُوَفَّقِ يَسْتَمِدُّهُ، فَأَتَاهُ مَنْ خَفَّ مِنَ الْغِلْمَانِ، فَظَهَرُوا عَلَى الزَّنْجِ فَهَزَمُوهُمْ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ لَمَّا رَأَى ظُهُورَ أَبِي الْعَبَّاسِ سَارَ فِي النَّهْرِ مُصْعِدًا فِي جَمْعٍ كَبِيرٍ، ثُمَّ أَتَى أَصْحَابَ أَبِي الْعَبَّاسِ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَهُمْ يُحَارِبُونَ مَنْ بِإِزَائِهِمْ، وَخَفَقَتْ طُبُولُهُ، فَانْكَشَفَ أَصْحَابُ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَرَجَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ انْهَزَمَ عَنْهُمْ مِنَ الزَّنْجِ، فَأُصِيبَ جَمَاعَةٌ مِنْ غِلْمَانِ الْمُوَفَّقِ وَغَيْرِهِمْ، فَأَخَذَ الزَّنْجُ عِدَّةَ أَعْلَامٍ، وَحَامَى أَبُو الْعَبَّاسِ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَسَلِمَ أَكْثَرُهُمْ ثُمَّ انْصَرَفَ. وَطَمِعَ الزَّنْجُ بِهَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَشُدَّتْ قُلُوبُهُمْ، فَأَجْمَعَ الْمُوَفَّقُ عَلَى الْعُبُورِ إِلَى مَدِينَتِهِمْ بِجُيُوشِهِ أَجْمَعَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالتَّأَهُّبِ، وَجَمَعَ الْمَعَابِرَ، وَالسُّفُنَ وَفَرَّقَهَا عَلَيْهِمْ، وَعَبَرَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لَسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ لِيَضْطَرَّ الْخَبِيثُ إِلَى تَفْرِقَةِ أَصْحَابِهِ، وَقَصَدَ الْمُوَفَّقُ إِلَى رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ أَحْصَنُ مَا فِيهَا، وَقَدْ أَنْزَلَهُ الْخَبِيثُ ابْنَهُ، وَهُوَ أَنْكِلَايَ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ جَامِعٍ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ، وَغَيْرَهُمْ، وَعَلَيْهِ مِنَ الْمَجَانِيقِ، وَالْآلَاتِ لِلْقِتَالِ مَا لَا حَدَّ [لَهُ] . فَلَمَّا الْتَقَى الْجَمْعَانِ أَمَرَ الْمُوَفَّقُ غِلْمَانَهُ بِالدُّنُوِّ مِنْ ذَلِكَ الرُّكْنِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ السُّورِ نَهْرُ الْأَتْرَاكِ، وَهُوَ نَهْرٌ عَرِيضٌ كَثِيرُ الْمَاءِ، فَأَحْجَمُوا عَنْهُ، فَصَاحَ بِهِمُ الْمُوَفَّقُ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى الْعُبُورِ، فَعَبَرُوا سِبَاحَةً، وَالزَّنْجُ تَرْمِيهِمْ بِالْمَجَانِيقِ، وَالْمَقَالِيعِ، وَالْحِجَارَةِ،

وَالسِّهَامِ، فَصَبَرُوا حَتَّى جَاوَزُوا النَّهْرَ، وَانْتَهَوْا إِلَى السُّورِ، وَلَمْ يَكُنْ عَبَرَ مَعَهُمْ مِنَ الْفَعَلَةِ مَنْ كَانَ أُعِدَّ لِهَدْمِ السُّورِ، فَتَوَلَّى الْغِلْمَانُ تَشْعِيثَ السُّورِ بِمَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ السِّلَاحِ، وَسَهَّلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، وَكَانَ مَعَهُمْ بَعْضُ السَّلَالِيمِ، فَصَعِدُوا عَلَى ذَلِكَ الرُّكْنِ، وَنَصَبُوا عَلَمًا مِنْ أَعْلَامِ الْمُوَفَّقِ، فَانْهَزَمَ الزَّنْجُ عَنْهُ، وَأَسْلَمُوهُ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ ; وَلَمَّا عَلَا أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ السُّورَ أَحْرَقُوا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْجَنِيقٍ وَقَوْسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ قَصَدَ نَاحِيَةً أُخْرَى، فَمَضَى عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ إِلَى مُقَاتِلَتِهِ، فَهَزَمَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَقَتَلَ جَمْعًا كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ (وَنَجَا عَلِيٌّ، وَوَصَلَ) أَصْحَابُ أَبِي الْعَبَّاسِ إِلَى السُّورِ، فَثَلَمُوا فِيهِ ثُلْمَةً، وَدَخَلُوهُ، فَلَقِيَهُمْ سُلَيْمَانُ ابْنُ جَامِعٍ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى رَدَّهُمْ إِلَى مَوَاضِعِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ الْفَعَلَةَ وَافَوُا السُّورَ فَهَدَمُوهُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، فَعَمِلُوا عَلَى الْخَنْدَقِ جِسْرًا، فَعَبَرَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُوَفَّقِ، فَانْهَزَمَ الزَّنْجُ عَنْ سُورِ بَابٍ كَانُوا قَدِ اعْتَصَمُوا بِهِ، وَانْهَزَمَ النَّاسُ مَعَهُمْ، وَأَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ يَقْتُلُونَهُمْ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى نَهْرِ ابْنِ سَمْعَانَ، وَقَدْ صَارَتْ دَارُ ابْنِ سَمْعَانَ فِي أَيْدِي أَصْحَابِ الْمُوَفَّقِ، فَأَحْرَقُوهَا، وَقَاتَلَهُمُ الزَّنْجُ هُنَاكَ، ثُمَّ انْهَزَمُوا حَتَّى بَلَغُوا مَيْدَانَ الْخَبِيثِ، فَرَكِبَ فِي جَمْعٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ، وَقَرُبَ مِنْهُ بَعْضُ رَجَّالَةِ الْمُوَفَّقِ، فَضَرَبَ وَجْهَ فَرَسِهِ بِتُرْسِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَعَ مَغِيبِ الشَّمْسِ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ النَّاسَ بِالرَّجْعِ، فَرَجَعُوا وَمَعَهُمْ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِ الْخَبِيثِ شَيْءٌ كَثِيرٌ. وَكَانَ قَدِ اسْتَأْمَنَ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ أَوَّلَ النَّهَارِ نَفَرٌ مِنْ قُوَّادِ الْخَبِيثِ، فَتَوَقَّفَ عَلَيْهِمْ حَتَّى حَمَلَهُمْ فِي السُّفُنِ، وَأَظْلَمَ اللَّيْلُ، وَهَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ، وَقَوِيَ الْجَزْرُ، فَلَصِقَ أَكْثَرُ السُّفُنِ بِالطِّينِ، فَخَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الزَّنْجِ فَنَالُوا مِنْهَا، وَقَتَلُوا فِيهَا نَفَرًا، وَكَانَ بَهْبُودُ بِإِزَاءِ مَسْرُورٍ الْبَلْخِيِّ، فَأَوْقَعَ بِأَصْحَابِ مَسْرُورٍ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَأَسَرَ جَمَاعَةً، فَكَسَرَ ذَلِكَ مِنْ نَشَاطِ أَصْحَابِ الْمُوَفَّقِ. وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْخَبِيثِ قَدِ انْهَزَمَ عَلَى وَجْهِهِ نَحْوَ نَهْرِ الْأَمِيرِ، وَالْقَنْدَلِ، وَعَبَّادَانَ، وَهَرَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْرَابِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمُ الْمُوَفَّقُ،

وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَأَجْرَى الْأَرْزَاقَ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ مِمَّنْ رَغِبَ فِي الْأَمَانِ مِنْ قُوَّادِ الْفَاجِرِ رَيْحَانُ بْنُ صَالِحٍ الْمَغْرِبِيُّ، وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ أَصْحَابِهِ، أَرْسَلَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، وَأَنْ يُرْسِلَ جَمَاعَةً إِلَى مَكَانٍ ذَكَرَهُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَفَعَلَ الْمُوَفَّقُ، فَصَارَ إِلَيْهِ فَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَوَصَلَهُ، وَضَمَّهُ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ، وَاسْتَأْمَنَ مِنْ بَعْدِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ; وَكَانَ خُرُوجُ رَيْحَانَ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْخَوَارِجِ بِبَلَدِ الْمَوْصِلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ بَيْنَ هَارُونَ الْخَارِجِيِّ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ خُرَّزَادَ، وَهُوَ مِنَ الْخَوَارِجِ أَيْضًا، وَقْعَةٌ بِبَعْدَرَى مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا، سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ الْحَرْبَ الْحَادِثَةَ بَيْنَ هَارُونَ، وَمُحَمَّدٍ بَعْدَ مَوْتِ مُسَاوِرٍ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ جَمَعَ مُحَمَّدُ بْنُ خُرَّزَادَ أَصْحَابَهُ وَسَارَ إِلَى هَارُونَ مُحَارِبًا لَهُ، فَنَزَلَ وَاسِطَ، وَهِيَ مَحَلَّةٌ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ يَرْكَبُ الْبَقَرَ لِئَلَّا يَفِرَّ مِنَ الْقِتَالِ، وَيَلْبَسُ الصُّوفَ الْغَلِيظَ، وَيُرَقِّعُ ثِيَابَهُ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالنُّسُكِ، وَيَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ حَائِلٌ. فَلَمَّا نَزَلَ وَاسِطَ خَرَجَ إِلَيْهِ وُجُوهُ أَهْلِ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ هَارُونُ بِمَعْلَثَايَا يَجْمَعُ لِحَرْبِ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا سَمِعَ بِنُزُولِ مُحَمَّدٍ عِنْدَ الْمَوْصِلِ سَارَ إِلَيْهِ وَرَحَلَ ابْنُ خُرَّزَادَ نَحْوَهُ، فَالْتَقَوْا بِالْقُرْبِ مِنْ قَرْيَةِ شَمْرَخَ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا كَانَ فِيهِ مُبَارَزَةٌ، وَحَمَلَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَانْهَزَمَ هَارُونُ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوُ مِائَتَيْ رَجُلٍ، مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُرْسَانِ الْمَشْهُورِينَ، وَمَضَى هَارُونُ مُنْهَزِمًا، فَعَبَرَ دِجْلَةَ إِلَى الْغَرْبِ قَاصِدًا بَنِي تَغْلِبَ، فَنَصَرُوهُ وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، وَرَجَعَ ابْنُ خُرَّزَادَ مِنْ حَيْثُ أَقْبَلَ، وَعَادَ هَارُونُ إِلَى الْحَدِيثَةِ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَاتَبَ أَصْحَابَ ابْنِ خُرَّزَادَ، وَاسْتَمَالَهُمْ، فَأَتَاهُ مِنْهُمُ الْكَثِيرُ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ ابْنِ خُرَّزَادَ إِلَّا عَشِيرَتُهُ مِنَ الشَّمَرْدَلِيَّةِ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ شَهْرَزُورَ، وَإِنَّمَا فَارَقَهُ أَصْحَابُهُ لِأَنَّهُ كَانَ

خَشِنَ الْعَيْشِ، وَهُوَ بِبَلَدِ شَهْرَزُورَ، وَهُوَ بَلَدٌ كَثِيرُ الْأَعْدَاءِ، مِنَ الْأَكْرَادِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ هَارُونُ بِبَلَدِ الْمَوْصِلِ قَدْ صَلَحَ حَالُهُ وَحَالُ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَصْحَابُ ابْنِ خُرَّزَادَ ذَلِكَ مَالُوا إِلَيْهِ وَقَصَدُوهُ، وَوَاقَعَ ابْنُ خُرَّزَادَ بِنَوَاحِي شَهْرَزُورَ الْأَكْرَادَ الْجَلَالِيَّةَ وَغَيْرَهُمْ، فَقُتِلَ، وَتَفَرَّدَ هَارُونُ (بِالرِّئَاسَةِ عَلَى الْخَوَارِجِ) ، وَقَوِيَ وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، وَغَلَبُوا عَلَى الْقُرَى، وَالرَّسَاتِيقِ، وَجَعَلُوا عَلَى دِجْلَةَ مَنْ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُنْحَدِرَةِ وَالْمُصْعِدَةِ، وَبَثُّوا نُوَّابَهُمْ فِي الرَّسَاتِيقِ يَأْخُذُونَ الْأَعْشَارَ مِنَ الْغَلَّاتِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ (فِي هَذِهِ السَّنَةِ ابْتَدَرَ ابْنُ حَفْصُونَ بِالْأَنْدَلُسِ بِالْخِلَافِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ، بِنَاحِيَةِ رَيَّةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ جَيْشٌ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ مَعَ عَامِلِهَا، فَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ الْجَيْشُ، وَقَوِيَ أَمْرُ عُمَرَ بْنِ حَفْصُونَ، وَشَاعَ ذِكْرُهُ، وَأَتَاهُ مَنْ يُرِيدُ الشَّرَّ وَالْفَسَادَ، فَسَيَّرَ مُحَمَّدٌ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ عَامِلًا آخَرَ فِي جَيْشٍ، فَصَالَحَهُ عُمَرُ، فَطَلَبَ الْعَامِلُ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي مُسَاعَدَةِ عُمَرَ، فَأَهْلَكَهُ، وَفِيهِمْ مَنْ أَبْعَدَهُ، فَاسْتَقَامَتْ تِلْكَ النَّاحِيَةُ. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالشَّامِ، وَمِصْرَ، وَبِلَادِ الْجَزِيرَةِ، وَإِفْرِيقِيَّةَ، وَالْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ قَبْلَهَا هَدَّةٌ عَظِيمَةٌ قَوِيَّةٌ. وَفِيهَا وَلِيَ جَزِيرَةَ صِقِلِّيَّةَ الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ، فَبَثَّ السَّرَايَا إِلَى كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَخَرَجَ إِلَى قَطَانِيَةَ فَأَفْسَدَ زَرْعَهَا وَزَرْعَ طَبَرْمِينَ، وَقَطَعَ أَشْجَارَهَا، وَسَارَ إِلَى بَقَارَةَ فَأَفْسَدَ زَرْعَهَا، وَانْصَرَفَ إِلَى بَلَرْمَ، وَأَخْرَجَتِ الرُّومُ سَرَايَا فَأَصَابُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَثِيرًا، وَذَلِكَ أَيَّامَ الْحَسَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ) . وَفِيهَا حَبَسَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَعِدَّةً مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، بَعْدَ ظَفَرِ الْخُجُسْتَانِيِّ بِعَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، وَكَانَ عَمْرٌو اتَّهَمَهُ بِمُكَاتَبَةِ الْخُجُسْتَانِيِّ وَالْحُسَيْنِ بْنِ طَاهِرٍ، حَيْثُ كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ عَلَى مَنَابِرِ خُرَاسَانَ.

وَفِيهَا كَانَتْ بَيْنَ كَيْغَلَغَ التُّرْكِيِّ وَبَيْنَ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (ابْنِ أَبِي دُلَفَ حَرْبٌ انْهَزَمَ فِيهَا أَصْحَابُ أَحْمَدَ، وَسَارَ كَيْغَلَغُ إِلَى هَمَذَانَ، فَوَافَاهُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) فِيمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَانْهَزَمَ كَيْغَلَغُ وَانْحَازَ إِلَى الصَّيْمَرَةِ. وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مَاتَتْ أُمُّ حَبِيبٍ بِنْتُ الرَّشِيدِ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ إِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجِيقَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ، وَعِيسَى ابْنِ الشَّيْخِ، وَأَبِي الْمَغْرَا، وَحَمْدَانَ بْنِ حَمْدُونَ، وَمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِيعَةَ، وَتَغْلِبَ، وَبَكْرٍ، وَالْيَمَنِ، فَهَزَمَهُمُ ابْنُ كُنْدَاجِيقَ إِلَى نَصِيبِينَ، وَتَبِعَهُمْ إِلَى آمِدَ، وَخَلَّفَ عَلَى آمِدَ مَنْ حَصَرَ عِيسَى، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ وَقَعَاتٌ عِنْدَ آمِدَ. وَفِيهَا دَخَلَ الْخُجُسْتَانِيُّ نَيْسَابُورَ، وَانْهَزَمَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا، وَهَدَمَ دُورَ مُعَاذِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَضَرَبَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَتَرَكَ ذِكْرَ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ، وَدَعَا لِلْمُعْتَمِدِ وَلِنَفْسِهِ. وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ كَانَتْ لِأَصْحَابِ أَبِي السَّاجِ وَقْعَةٌ بِالْهَيْصَمِ الْعِجْلِيِّ قَتَلُوا فِيهَا مُقَدِّمَتَهُ، وَغَنِمُوا عَسْكَرَهُ. وَفِيهَا أَقْبَلَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُجُسْتَانِيُّ يُرِيدُ الْعِرَاقَ، فَبَلَغَ سَمْنَانَ، وَتَحَصَّنَ مِنْهُ أَهْلُ الرَّيِّ، فَرَجَعَ إِلَى خُرَاسَانَ. وَفِيهَا رَجَعَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْحُجَّاجِ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ لِشِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَضَى خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَمَاتَ مِنْهُمْ عَالَمٌ عَظِيمٌ مِنَ الْحَرِّ، وَالْعَطَشِ، وَذَاكَ كُلُّهُ فِي الْبَيْدَاءِ وَأَوْقَعَتْ فَزَارَةُ فِيهَا بِالتُّجَّارِ، فَأُخِذَ فِيمَا قِيلَ سَبْعُمِائَةِ حِمْلِ بَزٍّ. (وَفِيهَا نُفِيَ الطَّبَّاعُ مِنْ سَامَرَّا) .

وَفِيهَا ضَرَبَ الْخُجُسْتَانِيُّ لِنَفْسِهِ دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى الْهَاشِمِيُّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ بَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ أَبُو بَكْرٍ الْمُقْرِئُ صَاحِبُ خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، بِبَغْدَاذَ.

ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ] 268 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ أَخْبَارِ الزَّنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ خَرَجَ إِلَى الْمُوَفَّقِ مِنْ قُوَّادِ الْخَبِيثِ جَعْفَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ بِالسَّجَّانِ، وَكَانَ مِنْ ثِقَاتِ الْخَبِيثِ، فَارْتَاعَ لِذَلِكَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْمُوَفَّقُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَحَمَلَهُ فِي سُمَيْرِيَّةٍ إِلَى إِزَاءِ قَصْرِ الْخَبِيثِ، فَكَلَّمَ النَّاسَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ فِي غُرُورٍ، وَأَعْلَمَهُمْ بِمَا وَقَفَ عَلَيْهِ مِنْ كَذِبِ الْخَبِيثِ وَفُجُورِهِ، فَاسْتَأْمَنَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ قُوَّادِ الزَّنْجِ وَغَيْرِهِمْ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمُ الْمُوَفَّقُ، وَتَتَابَعَ النَّاسُ فِي طَلَبِ الْأَمَانِ. ثُمَّ أَقَامَ الْمُوَفَّقُ لَا يُحَارِبُ لِيُرِيحَ أَصْحَابَهُ إِلَى شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَلَمَّا انْتَصَفَ رَبِيعٌ الْآخِرُ قَصَدَ الْمُوَفَّقُ إِلَى مَدِينَةِ الْخَبِيثِ، وَفَرَّقَ قُوَّادَهُ عَلَى جِهَاتِهَا، وَجَعَلَ مَعَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مِنَ النَّقَّابِينَ جَمَاعَةً لِهَدْمِ السُّورِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى جَمِيعِهِمْ أَنْ لَا يَزِيدُوا عَلَى هَدْمِ السُّورِ، وَلَا يَدْخُلُوا الْمَدِينَةَ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الرُّمَاةِ أَنْ يَحْمُوا بِالسِّهَامِ مَنْ يَهْدِمُ السُّورَ وَيَنْقُبُهُ، فَتَقَدَّمُوا إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَاتِهَا وَقَابَلُوهَا، فَوَصَلُوا إِلَى السُّورِ، وَثَلَمُوهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. (وَدَخَلَ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ مِنْ جَمِيعِ تِلْكَ الثُّلَمِ، وَجَاءَ أَصْحَابُ الْخَبِيثِ يُحَارِبُونَهُمْ) ، فَهَزَمَهُمْ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ وَتَبِعُوهُمْ حَتَّى أَوْغَلُوا فِي طَلَبِهِمْ، فَاخْتَلَفَتْ

بِهِمْ طُرُقُ الْمَدِينَةِ، فَبَلَغُوا أَبْعَدَ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَصَلُوا إِلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَأَحْرَقُوا، وَأَسَرُوا، وَتَرَاجَعَ الزَّنْجُ عَلَيْهِمْ، وَخَرَجَ الْكُمَنَاءُ مِنْ مَوَاضِعَ يَعْرِفُونَهَا وَيَجْهَلُهَا الْآخَرُونَ، فَتَحَيَّرُوا، وَدَافَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَتَرَاجَعُوا نَحْوَ دِجْلَةَ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَأَخَذَ الزَّنْجُ أَسْلَابَهُمْ. وَرَجَعَ الْمُوَفَّقُ إِلَى مَدِينَتِهِ، وَأَمَرَ بِجَمْعِهِمْ، فَلَامَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَالْإِفْسَادِ عَلَيْهِ مِنْ رَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَأَمَرَ بِإِحْصَاءِ مَنْ فُقِدَ، وَأَقَرَّ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ رِزْقٍ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَحَسُنَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَزَادَ فِي صِحَّةِ نِيَّاتِهِمْ. ذِكْرُ الْوَقْعَةِ بَيْنَ الْمُعْتَضِدِ وَالْأَعْرَابِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْقَعَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُوَفَّقِ - وَهُوَ الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ - بِقَوْمٍ مِنَ الْأَعْرَابِ كَانُوا يَحْمِلُونَ الْمِيرَةَ إِلَى عَسْكَرِ الْخَبِيثِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَأَسَرَ الْبَاقِينَ، وَغَنِمَ مَا كَانَ مَعَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ مَنْ أَقَامَ بِهَا لِأَجْلِ قَطْعِ الْمِيرَةِ. وَسَيَّرَ الْمُوَفَّقُ رَشِيقًا مَوْلَى أَبِي الْعَبَّاسِ، فَأَوْقَعَ بِقَوْمٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ كَانُوا يَجْلِبُونَ الْمِيرَةَ إِلَى الْخَبِيثِ، فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَأَسَرَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ، فَحَمَلَ الْأَسْرَى، وَالرُّءُوسَ إِلَى الْمُوَفَّقِيَّةِ، فَأَمَرَ بِهِمُ الْمُوَفَّقُ، فَوَقَفُوا بِإِزَاءِ عَسْكَرِ الزَّنْجِ، وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ يُسْفِرُ بَيْنَ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَالْأَعْرَابِ بِجَلْبِ الْمِيرَةِ، فَقُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ، وَأُلْقِيَ فِي عَسْكَرِ الْخَبِيثِ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ الْأُسَارَى، وَانْقَطَعَتِ الْمِيرَةُ بِذَلِكَ عَنِ الْخَبِيثِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَأَضَرَّ بِهِمُ الْحِصَارُ، وَأَضْعَفَ أَبْدَانَهُمْ، فَكَانَ يَسْأَلُ الْأَسِيرَ، وَالْمُسْتَأْمِنَ عَنْ عَهْدِهِ بِالْخُبْزِ فَيَقُولُ: عَهْدِي بِهِ مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيلٍ. فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى هَذَا الْحَالِ رَأَى الْمُوَفَّقُ أَنْ يُتَابِعَ عَلَيْهِمُ الْحَرْبَ لِيَزِيدَهُمْ ضُرًّا وَجَهْدًا، فَكَثُرَ الْمُسْتَأْمِنُونَ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَخَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْخَبِيثِ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْقُرَى وَالْأَنْهَارِ الْبَعِيدَةِ فِي طَلَبِ الْقُوتِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُوَفَّقَ، فَأَمَرَ جَمَاعَةً مِنْ قُوَّادِ غِلْمَانِهِ السُّودَانِ بِقَصْدِ تِلْكَ الْمَوْضِعِ وَدَعْوَةِ مَنْ بِهَا إِلَيْهِ، فَمَنْ أَبَى قَتَلُوهُ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا

كَثِيرًا، وَأَتَاهُ أَكْثَرُ مِنْهُمْ. فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْتَأْمِنُونَ عِنْدَ الْمُوَفَّقِ عَرَضَهُمْ، فَمَنْ كَانَ ذَا قُوَّةٍ وَجَلَدٍ أَحْسَنَ إِلَيْهِ وَخَلَطَهُ بِغِلْمَانِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ ضَعِيفًا، أَوْ شَيْخًا، أَوْ جَرِيحًا قَدْ أَزْمَنَتْهُ الْجِرَاحَةُ كَسَاهُ، وَأَعْطَاهُ دَرَاهِمَ، وَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُحْمَلَ إِلَى عَسْكَرِ الْخَبِيثِ (فَيُلْقَى هُنَاكَ) ، وَيُؤْمَرَ بِذِكْرِ مَا رَأَى مِنْ إِحْسَانِ الْمُوَفَّقِ إِلَى مَنْ صَارَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ رَأْيُهُ فِيهِمْ. فَتَهَيَّأَ لَهُ بِذَلِكَ مَا أَرَادَ مِنَ اسْتِمَالَةِ أَصْحَابِ الْخَبِيثِ. وَجَعَلَ الْمُوَفَّقُ وَابْنُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ يُلَازِمَانِ قِتَالَ الْخَبِيثِ تَارَةً هَذَا وَتَارَةً هَذَا، وَجُرِحَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثُمَّ بَرَأَ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ مِنْ (أَعْيَانِ قُوَّادِ) الْخَبِيثِ بَهْبُودُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْخُرُوجِ فِي السُّمَيْرِيَّاتِ، وَكَانَ يَنْصِبُ عَلَيْهَا أَعْلَامًا تُشْبِهُ أَعْلَامَ الْمُوَفَّقِ، فَإِذَا رَأَى مَنْ يَسْتَضْعِفُهُ أَخَذَهُ، وَأَخَذَ مِنْ ذَلِكَ مَالًا جَزِيلًا، فَوَاقَعَهُ فِي بَعْضِ خَرَجَاتِهِ أَبُو الْعَبَّاسِ، فَأَفْلَتَ بَعْدَ أَنْ أَشَفَى عَلَى الْهَلَاكِ، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ مَرَّةً أُخْرَى فَرَأَى سُمَيْرِيَّةً فِيهَا بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي الْعَبَّاسِ، فَقَصَدَهَا طَامِعًا فِي أَخْذِهَا، فَحَارَبَهُ أَهْلُهَا، فَطَعَنَهُ غُلَامٌ مِنْ غِلْمَانِ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي بَطْنِهِ فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ، فَأَخَذَهُ أَصْحَابُهُ، فَحَمَلُوهُ إِلَى عَسْكَرِ الْخَبِيثِ، فَمَاتَ قَبْلَ وُصُولِهِ، (فَأَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِ) . وَكَانَ قَتْلُهُ مِنْ أَعْظَمِ الْفُتُوحِ، وَعَظُمَتِ الْفَجِيعَةُ عَلَى الْخَبِيثِ وَأَصْحَابِهِ، وَاشْتَدَّ جَزَعُهُمْ عَلَيْهِ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ الْمُوَفَّقَ بِقَتْلِهِ، فَأَحْضَرَ ذَلِكَ الْغُلَامَ، فَوَصَلَهُ، وَكَسَاهُ، وَطَوَّقَهُ، وَزَادَ فِي أَرْزَاقِهِ، وَفَعَلَ بِكُلِّ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي تِلْكَ السُّمَيْرِيَّةِ نَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ ظَفِرَ الْمُوَفَّقُ بِالذَّوَائِبِيِّ، وَكَانَ مُمَايِلًا لِصَاحِبِ الزَّنْجِ.

ذِكْرُ أَخْبَارِ رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ لَمَّا قُتِلَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُجُسْتَانِيُّ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَانَ قَتْلُهُ هَذِهِ السَّنَةَ، اتَّفَقَ أَصْحَابُهُ عَلَى رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ فَوَلَّوْهُ أَمْرَهُمْ. وَكَانَ رَافِعٌ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فَلَمَّا اسْتَوْلَى يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ عَلَى نَيْسَابُورَ، وَأَزَالَ الطَّاهِرِيَّةَ، صَارَ رَافِعٌ فِي جُمْلَتِهِ، فَلَمَّا عَادَ يَعْقُوبُ إِلَى سِجِسْتَانَ صَحِبَهُ رَافِعٌ، وَكَانَ طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، كَرِيهَ الْوَجْهِ، قَلِيلَ الطَّلَاقَةِ، فَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى يَعْقُوبَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: أَنَا لَا أَمِيلُ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَلْيَلْحَقْ بِمَا شَاءَ مِنَ الْبِلَادِ، فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ، فَفَارَقَهُ وَعَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ بِتَامِينَ، وَهِيَ مِنْ بَاذَغِيسَ، وَأَقَامَ بِهِ إِلَى أَنِ اسْتَقْدَمَهُ الْخُجُسْتَانِيُّ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَجَعَلَهُ صَاحِبَ جَيْشِهِ. فَلَمَّا قُتِلَ الْخُجُسْتَانِيُّ اجْتَمَعَ الْجَيْشُ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِهَرَاةَ، فَأَمَّرُوهُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَسَارَ رَافِعٌ مِنْ هَرَاةَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ بْنِ شَرْكُبَ قَدْ وَرَدَهَا مِنْ جُرْجَانَ، فَحَصَرَهُ فِيهَا رَافِعٌ وَقَطَعَ الْمِيرَةَ عَنْهُ وَعَنْ نَيْسَابُورَ، (فَاشْتَدَّ الْغَلَاءُ بِهَا، فَفَارَقَهَا أَبُو طَلْحَةَ، وَدَخَلَهَا رَافِعٌ فَأَقَامَ بِهَا) ، وَذَلِكَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، فَسَارَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى مَرْوَ، وَوَلَّى مُحَمَّدَ بْنَ مُهْتَدِي هَرَاةَ، وَخُطِبَ لِمُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ بِمَرْوَ وَهَرَاةَ، فَقَصَدَهُ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ، فَحَارَبَهُ، فَهَزَمَهُ، وَاسْتَخْلَفَ عَمْرٌو بِمَرْوَ مُحَمَّدَ بْنَ سَهْلِ بْنِ هَاشِمٍ، وَعَادَ عَنْهَا، وَخَرَجَ شَرْكُبُ إِلَى بِيكَنْدَ، وَاسْتَعَانَ بِإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ، فَأَمَدَّهُ بِعَسْكَرِهِ، فَعَادَ إِلَى مَرْوَ، فَأَخْرَجَ عَنْهَا مُحَمَّدَ بْنَ سَهْلٍ، وَأَغَارَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَخُطِبَ لِعَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ [وَمِائَتَيْنِ] . وَقَلَّدَ الْمُوَفَّقُ تِلْكَ السَّنَةَ أَعْمَالَ خُرَاسَانَ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ، وَكَانَ بِبَغْدَاذَ فَاسْتَخْلَفَ مُحَمَّدٌ عَلَى أَعْمَالِهِ رَافِعَ بْنَ هَرْثَمَةَ، مَا خَلَا مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَإِنَّهُ أَقَرَّ عَلَيْهِ نَصْرَ بْنَ أَحْمَدَ، وَوَرَدَتْ كُتُبُ الْمُوَفَّقِ إِلَى خُرَاسَانَ بِذَلِكَ، وَبِعَزْلِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ وَلَعْنِهِ، فَسَارَ رَافِعٌ إِلَى هَرَاةَ وَبِهَا مُحَمَّدُ بْنُ مُهْتَدِي خَلِيفَةُ أَبِي طَلْحَةَ شَرْكُبَ، فَقَتَلَهُ يُوسُفُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَأَقَامَ بِهَرَاةَ، فَلَمَّا وَافَاهُ رَافِعٌ اسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ يُوسُفُ فَأَمَّنَهُ وَعَفَا عَنْهُ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَى هَرَاةَ مَهْدِيَّ بْنَ مُحْسِنٍ، فَاسْتَمَدَّ رَافِعُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَحْمَدَ، فَسَارَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَاسْتَقْدَمَ رَافِعٌ أَيْضًا عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ الْمَرْوَرُّوذِيَّ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَسَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ إِلَى

شَرْكُبَ، وَهُوَ بِمَرْوَ، فَحَارَبُوهُ فَهَزَمُوهُ، وَعَادَ إِسْمَاعِيلُ (إِلَى مَحَازِلَ) (؟) وَذَلِكَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَسَارَ شَرْكُبُ إِلَى هَرَاةَ، فَطَابَقَهُ مَهْدِيٌّ وَخَالَفَ رَافِعًا، فَقَصَدَهُمَا رَافِعٌ فَهَزَمَهُمَا. وَأَمَّا شَرْكُبُ فَإِنَّهُ لَحِقَ بِعَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، وَأَمَّا مَهْدِيٌّ فَإِنَّهُ اخْتَفَى فِي سَرَبٍ، فَدُلَّ عَلَيْهِ رَافِعٌ، فَأَخَذَهُ، وَقَالَ لَهُ: تَبًّا لَكَ يَا قَلِيلَ الْوَفَاءِ! ثُمَّ عَفَا عَنْهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَسَارَ رَافِعٌ إِلَى خُوَارِزْمَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، فَجَبَى أَمْوَالَهَا، وَرَجَعَ إِلَى نَيْسَابُورَ. ذِكْرُ الْحَوَادِثِ بِالْأَنْدَلُسِ وَبِإِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ جَيْشًا مَعَ ابْنِهِ الْمُنْذِرِ إِلَى الْمُخَالِفِينَ عَلَيْهِ، فَقَصَدَ مَدِينَةَ سَرَقُسْطَةَ، فَأَهْلَكَ زَرْعَهَا، وَخَرَّبَ بَلَدَهَا، وَافْتَتَحَ حِصْنَ رُوطَةَ، فَأَخَذَ مِنْهُ عَبْدَ الْوَاحِدِ الرُّوطِيَّ، وَهُوَ مِنْ أَشْجَعِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى دَيْرِ تَرُوجَةَ، وَبَلَدِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْكَبِ بْنِ مُوسَى، فَهَتَكَهُمَا بِالْغَارَةِ، وَقَصَدَ مَدِينَةَ لَارَدَةَ، وَقَرْطَاجَةَ، فَكَانَ فِيهَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى، فَحَارَبَهُ، فَأَذْعَنَ إِسْمَاعِيلُ بِالطَّاعَةِ، وَتَرَكَ الْخِلَافَ، وَأَعْطَى رَهَائِنَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَصَدَ مَدِينَةَ أَنْقَرَةَ وَهِيَ لِلْمُشْرِكِينَ، فَافْتَتَحَ هُنَالِكَ حُصُونًا وَعَادَ. وَفِيهَا أَوْقَعَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْأَغْلَبِ بِأَهْلِ بَلَدِ الزَّابِ، وَكَانَ قَدْ حَضَرَ وُجُوهُهُمْ عِنْدَهُ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَوَصَلَهُمْ، وَكَسَاهُمْ، وَحَمَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، حَتَّى الْأَطْفَالَ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى الْعَجَلِ إِلَى حُفْرَةٍ فَأَلْقَاهُمْ فِيهَا. وَفِيهَا سَارَتْ سَرِيَّةٌ بِصِقِلِّيَةَ مُقَدَّمُهَا رَجُلٌ يُعْرَفُ بِأَبِي الثَّوْرِ، فَلَقِيَهُمْ جَيْشُ الرُّومِ، فَأُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ غَيْرَ سَبْعَةِ نَفَرٍ. وَعُزِلَ الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ عَنْ صِقِلِّيَةَ، وَوَلِيَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، فَبَثَّ السَّرَايَا فِي

كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنْ صِقِلِّيَةَ، وَخَرَجَ هُوَ فِي حَشْدٍ وَجَمْعٍ عَظِيمٍ، فَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ قَطَانِيَةَ فَأَهْلَكَ زَرْعَهَا، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى أَصْحَابِ الشَّلَنْدِيَّةِ فَقَاتَلَهُمْ، فَأَصَابَ فِيهِمْ فَأَكْثَرَ الْقَتْلَ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى طَبَرْمِينَ فَأَفْسَدَ زَرْعَهَا، ثُمَّ رَحَلَ فَلَقِيَ عَسَاكِرَ الرُّومِ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الرُّومُ، وَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ فَكَانَتْ عِدَّةُ الْقَتْلَى ثَلَاثَةَ آلَافِ قَتِيلٍ، وَوَصَلَتْ رُءُوسُهُمْ إِلَى بَلَرْمَ. ثُمَّ سَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى قَلْعَةٍ كَانَ الرُّومُ بَنَوْهَا عَنْ قَرِيبٍ، وَسَمَّوْهَا مَدِينَةَ الْمَلِكِ، فَمَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، وَقَتَلُوا مُقَاتِلَتَهَا، وَسَبَوْا مَنْ فِيهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا سَارَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ إِلَى فَارِسَ لِحَرْبِ عَامِلِهَا مُحَمَّدِ بْنِ اللَّيْثِ عَلَيْهَا، فَهَزَمَهُ عَمْرٌو، وَاسْتَبَاحَ عَسْكَرَهُ، وَنَجَا مُحَمَّدٌ، وَدَخَلَ عَمْرٌو إِصْطَخْرَ، فَنَهَبَهَا، وَأَصْحَابُهُ، وَوَجَّهَ فِي طَلَبِ مُحَمَّدٍ، فَظَفِرَ بِهِ، وَأَخَذَهُ أَسِيرًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى شِيرَازَ فَأَقَامَ بِهَا. وَفِيهَا زُلْزِلَتْ بَغْدَاذُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَوَقَعَ بِهَا (أَرْبَعُ) صَوَاعِقَ. وَفِيهَا زَحَفَ الْعَبَّاسُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ لِحَرْبِ أَبِيهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُوهُ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَظَفِرَ بِهِ، وَرَدَّهُ إِلَى مِصْرَ، فَرَجَعَ مَعَهُ إِلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ خَبَرُهُ سَابِقًا. وَفِيهَا أَوْقَعَ أَخُو شَرْكُبَ بِالْخُجُسْتَانِيِّ، وَأَخَذَ أُمَّهُ. (وَفِيهَا وَثَبَ ابْنُ شَبَثِ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَأَسَرَ عُمَرَ بْنَ سِيمَا عَامِلَ حُلْوَانَ) . وَفِيهَا انْصَرَفَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْأَصْبَغِ مِنْ عِنْدِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ أَنْفَذَهُ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفَ، فَقَدِمَ مَعَهُ بِمَالٍ، فَأَرْسَلَ عَمْرٌو إِلَى الْمُوَفَّقِ مِنَ

الْمَالِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَخَمْسِينَ مَنًّا مِسْكًا، وَخَمْسِينَ مَنًّا عَنْبَرًا، وَمِائَتَيْ مَنٍّ عُودٍ، وَثَلَاثَمِائَةِ ثَوْبٍ وَشِيٍّ، وَآنِيَةَ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَدَوَابَّ، وَغِلْمَانًا بِقِيمَةِ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ. وَفِيهَا وَلِيَ كَيْغَلَغُ الْخَلِيلُ بْنُ رَمَّالٍ حُلْوَانَ، فَنَالَهُمْ بِالْمَكَارِهِ بِسَبَبِ عُمَرَ بْنِ سِيمَا، وَأَخَذَهُمْ بِجَرِيرَةِ ابْنِ شَبَثٍ، وَضَمِنُوا لَهُ خَلَاصَ عُمَرَ، وَإِصْلَاحَ ابْنِ شَبَثٍ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ أَذْكُوتَكِينَ بْنِ أَسَاتِكِينَ، وَبَيْنَ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفَ، فَهَزَمَهُ أَذْكُوتَكِينُ، وَغَلَبَهُ عَلَى قُمَّ. وَفِيهَا وَجَّهَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ قَائِدًا بِأَمْرِ أَبِي أَحْمَدَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْكُرْدِيِّ، فَأَسَرَهُ الْقَائِدُ وَحَمَلَهُ إِلَيْهِ. وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، خَرَجَ بِالشَّامِ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ الْهَاشِمِيِّ يُقَالُ لَهُ بَكَّارٌ بَيْنَ سَلَمِيَّةَ، وَحَلَبَ، وَحِمْصَ، فَدَعَا لِأَبِي أَحْمَدَ، فَحَارَبَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ الْكِلَابِيُّ، فَانْهَزَمَ الْكِلَابِيُّ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ لُؤْلُؤٌ صَاحِبُ ابْنِ طُولُونَ قَائِدًا يُقَالُ لَهُ يُوذَرُ فِي عَسْكَرٍ، فَرَجَعَ وَلَيْسَ مَعَهُ كَبِيرُ أَمْرٍ. وَفِيهَا أَظْهَرَ لُؤْلُؤٌ الْخِلَافَ عَلَى مَوْلَاهُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ. وَفِيهَا قُتِلُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُجُسْتَانِيُّ فِي ذِي الْحِجَّةِ، (قَتَلَهُ غُلَامٌ لَهُ) .

وَفِيهَا قَتَلَ أَصْحَابُ أَبِي السَّاجِ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ حَبِيبٍ الْيَشْكُرِيَّ بِالْقَرْيَةِ، بِنَاحِيَةِ وَاسِطَ، وَنُصِبَ رَأْسُهُ بِبَغْدَاذَ. وَفِيهَا حَارَبَ مُحَمَّدُ بْنُ كِيجُورَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ كَفْتِمُرَ، فَأَسَرَ كَفْتِمُرَ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَفِيهَا سَارَ أَبُو الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ إِلَى مَكَّةَ، وَعَامِلُهَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَاشِمِيُّ، فَجَمَعَ هَارُونُ جَمْعًا احْتَمَى بِهِمْ، فَسَارَ الْمَخْزُومِيُّ إِلَى مُشَاشَ فَغَوَّرَ مَاءَهَا، وَإِلَى جُدَّةَ فَنَهَبَ الطَّعَامَ، وَأَحْرَقَ بُيُوتَ أَهْلِهَا، فَصَارَ الْخُبْزُ بِمَكَّةَ أُوقِيَّتَانِ بِدِرْهَمٍ. وَفِيهَا خَرَجَ مَلِكُ الرُّومِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصَّقْلَبِيَّةِ، فَنَازَلَ مَلْطِيَةَ، فَأَعَانَهُمْ أَهْلُ مَرْعَشَ، وَالْحَدَثِ، فَانْهَزَمَ مَلِكُ الرُّومِ. وَغَزَا الصَّائِفَةَ مِنْ نَاحِيَةِ الثُّغُورِ الشَّامِيَّةِ، الْفَرْغَانِيُّ عَامِلُ ابْنِ طُولُونَ، فَقَتَلَ مِنَ الرُّومِ بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَغَنِمَ النَّاسُ، فَبَلَغَ السَّهْمُ أَرْبَعِينَ دِينَارًا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، وَابْنُ أَبِي السَّاجِ عَلَى الْأَحْدَاثِ وَالطَّرِيقِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الْمِصْرِيُّ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، وَكَانَ قَدْ صَحِبَ الشَّافِعِيَّ، وَأَخَذَ عَنْهُ الْعِلْمَ.

ثم دخلت سنة تسع وستين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ] 269 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ أَخْبَارِ الزَّنْجِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ رُمِيَ الْمُوَفَّقُ بِسَهْمٍ فِي صَدْرِهِ ; وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَهْبُودَ لَمَّا هَلَكَ طَمِعَ الْعَلَوِيُّ فِي مَالَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ قَدْ صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّ مَلِكَهُ قَدْ حَوَى مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَجَوْهَرًا، وَفِضَّةً، فَطَلَبَ ذَلِكَ، وَأَخَذَ أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ فَضَرَبَهُمْ، وَهَدَمَ أَبْنِيَتَهُ طَمَعًا فِي الْمَالِ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَكَانَ فِعْلُهُ مِمَّا أَفْسَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْهَرَبِ مِنْهُ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ بِالنِّدَاءِ بِالْأَمَانِ فِي أَصْحَابِ بَهْبُودَ، فَسَارَعُوا إِلَيْهِ فَأَلْحَقَهُمْ فِي الْعَطَاءِ بِمَنْ تَقَدَّمَ. وَرَأَى الْمُوَفَّقُ مَا كَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُبُورِ إِلَى الزَّنْجِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تَهُبُّ فِيهَا الرِّيَاحُ لِتُحَرِّكَ الْأَمْوَاجَ، فَعَزَمَ عَلَى أَنْ يُوَسِّعَ لِنَفْسِهِ وَلِأَصْحَابِهِ مَوْضِعًا فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ النَّخْلِ وَإِصْلَاحِ الْمَكَانِ، وَأَنْ يُعْمَلَ لَهُ الْخَنَادِقُ، وَالسُّورُ لِيَأْمَنَ الْبَيَاتَ، وَجَعَلَ حِمَايَةَ الْعَامِلِينَ فِيهِ نُوَبًا عَلَى قُوَّادِهِ. فَعَلِمَ صَاحِبُ الزَّنْجِ، وَأَصْحَابُهُ أَنَّ الْمُوَفَّقَ إِذَا جَاوَرَهُمْ قَرَّبَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ اللَّحَاقَ بِهِ الْمَسَافَةَ مَعَ مَا يَدْخُلُ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْخَوْفِ، وَانْتِقَاضِ تَدْبِيرِهِ عَلَيْهِ، فَاهْتَمُّوا بِمَنْعِ الْمُوَفَّقِ مِنْ ذَلِكَ، وَبُذِلَ الْجُهْدُ فِيهِ، وَقَاتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، فَاتَّفَقَ أَنَّ الرِّيحَ عَصَفَتْ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَيَّامِ وَقَائِدٌ مِنَ الْقُوَّادِ هُنَاكَ، فَانْتَهَزَ الْخَبِيثُ الْفُرْصَةَ فِي إِنْفَاذِ هَذَا الْقَائِدِ، وَانْقِطَاعِ الْمَدَدِ عَنْهُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَمِيعَ أَصْحَابِهِ، فَقَاتَلُوهُ، فَهَزَمُوهُ، وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ تَجِدِ الشَّذَوَاتُ الَّتِي لِأَصْحَابِ الْمُوَفَّقِ سَبِيلًا إِلَى الْقُرْبِ مِنْهُمْ خَوْفًا مِنَ الزَّنْجِ أَنْ تُلْقِيَهَا عَلَى الْحِجَارَةِ فَتَنْكَسِرَ، فَغَلَبَ الزَّنْجُ عَلَيْهِمْ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ، وَمَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الشَّذَوَاتِ وَعَبَرُوا إِلَى الْمُوَفَّقِيَّةِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ.

وَنَظَرَ الْمُوَفَّقُ فَرَأَى أَنَّ نُزُولَهُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهِ حِيلَةَ الزَّنْجِ وَصَاحِبِهِمْ، وَانْتِهَازِ فُرْصَةٍ، لِكَثْرَةِ الْأَدْغَالِ، وَصُعُوبَةِ الْمَسَالِكِ، وَأَنَّ الزَّنْجَ أَعْرَفُ بِتِلْكَ الْمَضَايِقِ، وَأَجْرَأُ عَلَيْهَا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ قَصْدَهُ إِلَى هَدْمِ سُورِ الْفَاسِقِ، وَتَوْسِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالْمَسَالِكِ، فَأَمَرَ بِهَدْمِ السُّورِ مِنْ نَاحِيَةِ النَّهْرِ الْمَعْرُوفِ بِمَنْكِيٍّ، وَبَاشَرَ الْحَرْبَ بِنَفْسِهِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ، وَالْجِرَاحُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَدَامَ ذَلِكَ أَيَّامًا عِدَّةً. وَكَانَ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْوُلُوجَ لِقَنْطَرَتَيْنِ كَانَتَا فِي نَهْرِ مَنْكِيٍّ، كَانَ الزَّنْجُ يَعْبُرُونَ عَلَيْهِمَا وَقْتَ الْقِتَالِ، فَيَأْتُونَ أَصْحَابَ الْمُوَفَّقِ مِنْ وَرَاءِ ظُهُورِهِمْ فَيَنَالُونَ مِنْهُمْ، فَعَمِلَ الْحِيلَةَ فِي إِزَالَتِهِمَا، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِقَصْدِهِمَا عِنْدَ اشْتِغَالِ الزَّنْجِ، وَغَفْلَتِهِمْ عَنْ حِرَاسَتِهِمَا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِدُّوا الْفُئُوسَ، وَالْمَنَاشِيرَ، وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْآلَاتِ، فَقَصَدُوا الْقَنْطَرَةَ الْأُولَى نِصْفَ النَّهَارِ، فَأَتَاهُمُ الزَّنْجُ لِمَنْعِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الزَّنْجُ، وَكَانَ مُقَدِّمَهُمْ أَبُو النَّدَى، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فِي صَدْرِهِ فَقَتَلَهُ، وَقَطَعَ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ الْقَنْطَرَتَيْنِ وَرَجَعُوا. وَأَلَحَّ الْمُوَفَّقُ عَلَى الْخَبِيثِ بِالْحَرْبِ، وَهَدَمَ أَصْحَابُهُ مِنَ السُّورِ مَا أَمْكَنَهُمْ، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ وَقَاتَلُوا فِيهَا، وَانْتَهَوْا إِلَى دَارَيِ ابْنِ سَمْعَانَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ، فَهَدَمُوهُمَا وَنَهَبُوا مَا فِيهِمَا، وَانْتَهَوْا إِلَى سُوَيْقَةٍ لِلْخَبِيثِ، سَمَّاهَا الْمَيْمُونَةَ، فَهُدِمَتْ، وَأُخْرِبَتْ، وَهَدَمُوا دَارَ الْجُبَّائِيِّ، وَانْتَهَبُوا مَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَزَائِنِ الْفَاسِقِ، وَتَقَدَّمُوا إِلَى الْجَامِعِ لِيَهْدِمُوهُ، فَاشْتَدَّتْ مُحَامَاةُ الزَّنْجِ عَنْهُ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ خَلُصَ مَعَ الْخَبِيثِ نُخْبَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَرْبَابِ الْبَصَائِرِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يُقْتَلُ، أَوْ يُجْرَحُ، فَيَجْذِبُهُ الَّذِي إِلَى جَنْبِهِ وَيَقِفُ مَكَانَهُ. فَلَمَّا رَأَى الْمُوَفَّقُ ذَلِكَ أَمَرَ أَبَا الْعَبَّاسِ بِقَصْدِ الْجَامِعِ مِنْ أَحَدِ أَرْكَانِهِ بِشُجْعَانِ أَصْحَابِهِ، وَأَضَافَ إِلَيْهِمُ الْفَعَلَةَ لِلْهَدْمِ، وَنَصَبَ السَّلَالِيمَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَقَاتَلَ عَلَيْهِ أَشَدَّ قِتَالٍ، فَوَصَلُوا إِلَيْهِ، فَهَدَمُوهُ، فَأُخِذَ مِنْبَرُهُ، فَأُتِيَ بِهِ الْمُوَفَّقُ، ثُمَّ عَادَ الْمُوَفَّقُ لِهَدْمِ السُّورِ

فَأَكْثَرَ مِنْهُ، وَأَخَذَ أَصْحَابُهُ دَوَاوِينَ الْخَبِيثِ وَبَعْضَ خَزَائِنِهِ، فَظَهَرَ لِلْمُوَفَّقِ أَمَارَاتُ الْفَتْحِ، فَإِنَّهُمْ لَعَلَى ذَلِكَ إِذْ وَصَلَ سَهْمٌ إِلَى الْمُوَفَّقِ فَأَصَابَهُ فِي صَدْرِهِ، رَمَاهُ بِهِ رُومِيٌّ كَانَ مِنْ صَاحِبِ الزَّنْجِ، اسْمُهُ قِرْطَاسُ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، فَسَتَرَ الْمُوَفَّقُ ذَلِكَ، وَعَادَ إِلَى مَدِينَتِهِ وَبَاتَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْحَرْبِ عَلَى مَا بِهِ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ لِيَشْتَدَّ بِذَلِكَ قُلُوبُ أَصْحَابِهِ، فَزَادَ فِي عِلَّتِهِ، وَعَظُمَ أَمْرُهَا، حَتَّى خِيفَ عَلَيْهِ. وَاضْطَرَبَ الْعَسْكَرُ، وَالرَّعِيَّةُ، وَخَافُوا، فَخَرَجَ مِنْ مَدِينَتِهِ جَمَاعَةٌ، وَأَتَاهُ الْخَبَرُ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، بِحَادِثٍ فِي سُلْطَانِهِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَثِقَاتُهُ بِأَنْ يَعُودَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَيُخَلِّفَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَأَبَى ذَلِكَ، وَخَافَ أَنْ يَسْتَقِيمَ مِنْ حَالِ الْخَبِيثِ مَا فَسَدَ، وَاحْتَجَبَ عَنِ النَّاسِ مُدَّةً، ثُمَّ بَرَأَ مِنْ عِلَّتِهِ، وَظَهَرَ لَهُمْ، وَنَهَضَ لِحَرْبِ الْخَبِيثِ، وَكَانَ ظُهُورُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. ذِكْرُ إِحْرَاقِ قَصْرِ صَاحِبِ الزَّنْجِ لَمَّا صَحَّ الْمُوَفَّقُ مِنْ جِرَاحِهِ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَارَبَةِ الْعَلَوِيِّ، وَكَانَ قَدْ أَعَادَ [بِنَاءَ] بَعْضِ الثُّلَمِ فِي السُّورِ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ بِهَدْمِ ذَلِكَ، وَهَدْمِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ. وَرَكِبَ فِي بَعْضِ الْعَشَايَا، وَكَانَ الْقِتَالُ، ذَلِكَ الْيَوْمَ مُتَّصِلًا مِمَّا يَلِي نَهْرَ مَنْكِيٍّ، وَالزَّنْجُ مُجْتَمِعُونَ فِيهِ قَدْ شُغِلُوا بِتِلْكَ الْجِهَةِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْتَوْنَ إِلَّا مِنْهَا، فَأَتَى الْمُوَفَّقُ وَمَعَهُ الْفَعَلَةُ، وَقَرُبَ مِنْ نَهْرِ مَنْكِيٍّ، وَقَاتَلَهُمْ، فَلَمَّا اشْتَدَّتِ الْحَرْبُ أَمَرَ الَّذِينَ بِالشَّذَوَاتِ بِالْمَسِيرِ إِلَى أَسْفَلِ نَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ، وَهُوَ فَارِغٌ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ (وَالرَّجَّالَةِ، فَقَدِمَ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ، وَأَخْرَجُوا الْفَعَلَةَ، فَهَدَمُوا السُّورَ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَصَعِدَ الْمُقَاتِلَةُ) ، فَقَتَلُوا فِي النَّهْرِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَانْتَهَوْا إِلَى قُصُورٍ مِنْ قُصُورِ الزَّنْجِ فَأَحْرَقُوهَا، وَانْتَهَبُوا مَا فِيهَا، وَاسْتَنْقَذُوا عَدَدًا كَثِيرًا مِنَ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ فِيهَا، وَغَنِمُوا مِنْهَا. وَانْصَرَفَ الْمُوَفَّقُ، عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، بِالظَّفَرِ وَالسَّلَامَةِ، وَبَكَّرَ إِلَى حَرْبِهِمْ، وَهَدْمِ السُّورِ، فَأَسْرَعَ الْهَدْمَ حَتَّى اتَّصَلَ بِدَارِ الْكِلَابِيِّ وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِدَارِ الْخَبِيثِ، فَلَمَّا أَعْيَتِ الْخَبِيثَ الْحِيَلُ أَشَارَ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ بِإِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَى السِّبَاخِ، وَأَنْ يَحْفِرَ خَنَادِقَ فِي

مَوَاضِعَ عِدَّةٍ تَمْنَعُهُمْ عَنْ دُخُولِ الْمَدِينَةِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَرَأَى الْمُوَفَّقُ أَنْ يَجْعَلَ قَصْدَهُ لِطَمِّ الْخَنَادِقِ، وَالْأَنْهَارِ، وَالْمَوَاضِعِ الْمُغَوَّرَةِ، فَدَامَ ذَلِكَ، فَحَامَى عَنْهُ الْخُبَثَاءُ، وَدَامَتِ الْحَرْبُ، وَوَصَلَ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْقَتْلَى، وَالْجِرَاحِ أَمَرٌ عَظِيمٌ وَذَلِكَ لِتَقَارُبِ مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. فَلَمَّا رَأَى شِدَّةَ الْأَمْرِ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ قَصَدَ لِإِحْرَاقِ دَارِ الْخَبِيثِ، وَالْهُجُومِ عَلَيْهَا مِنْ دِجْلَةَ، فَكَانَ يَعُوقُ عَنْ ذَلِكَ كَثْرَةُ مَا أَعَدَّ الْخَبِيثُ لَهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَالْحُمَاةِ عَنْ دَارِهِ، فَكَانَتِ الشَّذَا إِذَا قَرُبَتْ مِنْ قَصْرِهِ رُمِيَتْ مِنْ فَوْقِ الْقَصْرِ بِالسِّهَامِ، وَالْحِجَارَةِ مِنَ الْمَنْجَنِيقِ وَالْمِقْلَاعِ، وَأُذِيبَ الرَّصَاصُ، وَأُفْرِغَ عَلَيْهِمْ، فَتَعَذَّرَ إِحْرَاقُهَا لِذَلِكَ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ أَنْ تُسْقَفَ الشَّذَا بِالْأَخْشَابِ، وَيُعْمَلَ عَلَيْهَا الْجِبْسُ وَيُطْلَى بِالْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَمْنَعُ النَّارَ مِنْ إِحْرَاقِهَا، فَفَرَغَ مِنْهَا، وَرَتَّبَ فِيهَا أَنْجَادَ أَصْحَابِهِ، وَمِنَ النَّفَّاطِينَ جَمْعًا كَثِيرًا. وَاسْتَأْمَنَ إِلَى الْمُوَفَّقِ مُحَمَّدُ بْنُ سَمْعَانَ كَاتِبُ الْخَبِيثِ، وَكَانَ أَوْثَقَ أَصْحَابِهِ فِي نَفْسِهِ، وَكَانَ سَبَبُ اسْتِئْمَانِهِ أَنَّ الْخَبِيثَ أَطْلَعَهُ عَلَى أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى الْخَلَاصِ وَحْدَهُ بِغَيْرِ أَهْلٍ وَلَا مَالٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْ عَزْمِهِ أَرْسَلَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُ الْمُوَفَّقُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ أَنَّهُ كَانَ كَارِهًا لِصُحْبَةِ الْخَبِيثِ، مُطَّلِعًا عَلَى كُفْرِهِ وَسُوءِ بَاطِنِهِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ إِلَى الْآنَ فَفَارَقَهُ، وَكَانَ خُرُوجُهُ عَاشِرَ شَعْبَانَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ بَكَّرَ الْمُوَفَّقُ إِلَى مُحَارَبَةِ الْخُبَثَاءِ، فَأَمَرَ أَبَا الْعَبَّاسِ بِقَصْدِ دَارِ مُحَمَّدٍ الْكَرْنَابِيِّ، وَهِيَ بِإِزَاءِ دَارِ الْخَبِيثِ، وَإِحْرَاقِهَا، وَمَا يَلِيهَا مِنْ مَنَازِلِ قُوَّادِ الزَّنْجِ، لِيَشْغَلَهُمْ بِذَلِكَ عَنْ حِمَايَةِ دَارِ الْخَبِيثِ، وَأَمَرَ الْمُرَتَّبِينَ فِي الشَّذَا الْمَطْلِيَّةِ بِقَصْدِ دَارِ الْخَبِيثِ، وَإِحْرَاقِهَا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَأَلْصَقُوا شَذَوَاتِهِمْ بِسُورِ قَصْرِهِ، وَحَارَبَهُمُ الْفَجَرَةُ أَشَدَّ حَرْبٍ، وَنَضَحُوهُمْ بِالنِّيرَانِ، فَلَمْ تَعْمَلْ شَيْئًا، وَأَحْرَقَ مِنَ الْقَصْرِ الرَّوَاشِينَ، وَالْأَبْنِيَةَ الْخَارِجَةَ، وَعَمِلَتِ النَّارُ فِيهَا، وَسَلِمَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الشَّذَا مِمَّا كَانَ الْخُبَثَاءُ يُرْسِلُونَهُ عَلَيْهِمْ بِالظِّلَالِ الَّتِي كَانَتْ فِي الشَّذَا، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَمْكِينِهِمْ مِنْ قَصْرِهِ. وَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ الَّذِينَ فِي الشَّذَا بِالرُّجُوعِ، فَرَجَعُوا، فَأَخْرَجَ مَنْ كَانَ فِيهَا وَرَتَّبَ

غَيْرَهُمْ، وَانْتَظَرَ إِقْبَالَ الْمَدِّ، وَعُلُوِّهِ، فَلَمَّا أَقْبَلْ عَادَتِ الشَّذَا إِلَى قَصْرِهِ، وَأَحْرَقُوا بُيُوتًا مِنْهُ كَانَتْ تُشْرِعُ عَلَى دِجْلَةَ، وَأُضْرِمَتِ النَّارُ فِيهَا، وَاتَّصَلَتْ، وَقَوِيَتْ، فَأَعْجَلَتِ الْخَبِيثَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ عَنِ التَّوَقُّفِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَانَ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالذَّخَائِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَخَرَجَ هَارِبًا وَتَرَكَهُ كُلَّهُ. وَعَلَا غِلْمَانُ الْمُوَفَّقِ قَصْرَهُ مَعَ أَصْحَابِهِمْ، فَانْتَهَبُوا مَا لَمْ تَأْتِ النَّارُ عَلَيْهِ مِنَ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْحُلِيِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاسْتَنْقَذُوا جَمَاعَةً مِنَ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي كَانَ الْخَبِيثُ يَأْنَسُ بِهِنَّ مِمَّنْ كَانَ اسْتَرَقَّهُنَّ، وَدَخَلُوا دُورَهُ (وَدُورَ ابْنِهِ أَنْكِلَايَ) ، فَأَحْرَقُوهَا جَمِيعًا، وَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَتَحَارَبُوا هُمْ وَأَصْحَابُ الْخَبِيثِ عَلَى بَابِ قَصْرِهِ، فَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي أَصْحَابِهِ، وَالْجِرَاحُ، وَالْأَسْرُ، وَفَعَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي دَارِ الْكَرْنَابِيِّ مِنَ النَّهْبِ وَالْهَدْمِ، وَالْإِحْرَاقِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَطَعَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَوْمَئِذٍ سِلْسِلَةً عَظِيمَةً كَانَ الْخَبِيثُ قَطَعَ بِهَا نَهَرَ أَبِي الْخَصِيبِ لِيَمْنَعَ الشَّذَا مِنْ دُخُولِهِ، فَحَازَهَا أَبُو الْعَبَّاسِ، وَأَخَذَهَا مَعَهُ. وَعَادَ الْمُوَفَّقُ بِالنَّاسِ مَعَ الْمَغْرِبِ مُظَفَّرًا، وَأُصِيبَ الْفَاسِقُ فِي مَالِهِ، وَنَفْسِهِ، (وَوَلَدِهِ، وَمَنْ) كَانَ عِنْدَهُ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلُ الَّذِي أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ مِنَ الذُّعْرِ، وَالْجَلَاءِ، وَتَشَتُّتِ الشَّمْلِ، وَالْمُصِيبَةِ، وَجُرِحَ ابْنُهُ أَنْكِلَايُ فِي بَطْنِهِ جِرَاحَةً أَشَفَى مِنْهَا عَلَى الْهَلَاكِ. ذِكْرُ غَرَقِ نُصَيْرٍ وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ غَرِقَ أَبُو حَمْزَةَ نُصَيْرٌ، وَهُوَ صَاحِبُ الشَّذَوَاتِ. وَكَانَ سَبَبُ غَرَقِهِ أَنَّ الْمُوَفَّقَ بَكَّرَ إِلَى الْقِتَالِ، وَأَمَرَ نُصَيْرًا بِقَصْدِ قَنْطَرَةٍ كَانَ الْخَبِيثُ عَمِلَهَا فِي نَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ دُونَ الْجِسْرَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَ اتَّخَذَهُمَا عَلَى النَّهْرِ، وَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ مِنَ الْجِهَاتِ، فَعَجِلَ نُصَيْرٌ، فَدَخَلَ نَهْرَ أَبِي الْخَصِيبِ، فِي أَوَّلِ الْمَدِّ، فِي عِدَّةٍ مِنْ شَذَوَاتِهِ، فَحَمَلَهَا الْمَاءُ فَأَلْصَقَهَا بِالْقَنْطَرَةِ، وَدَخَلَتْ عِدَّةٌ مِنْ شَذَوَاتِ الْمُوَفَّقِ مَعَ غِلْمَانِهِ

[مِمَّنْ] لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالدُّخُولِ، فَصَكَّتْ شَذَوَاتِ نُصَيْرٍ، وَصَكَّ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَمْ يَبْقَ لِلْمَلَّاحِينَ فِيهَا عَمَلٌ. وَرَأَى الزَّنْجُ ذَلِكَ فَاجْتَمَعُوا عَلَى جَانِبَيِ النَّهْرِ، وَأَلْقَى الْمَلَّاحُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ خَوْفًا مِنَ الزَّنْجِ، وَدَخَلَ الزَّنْجُ الشَّذَوَاتِ، فَقَتَلُوا بَعْضَ الْمُقَاتِلَةِ، وَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ، وَصَابَرَهُمْ نُصَيْرٌ، حَتَّى خَافَ الْأَسْرَ، فَقَذَفَ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ فَغَرِقَ، وَأَقَامَ الْمُوَفَّقُ يَوْمَهُ يُحَارِبُهُمْ، وَيَنْهَبُهُمْ، وَيَحْرِقُ مَنَازِلَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ يَوْمَهُ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِمْ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ قِتَالًا لِأَصْحَابِ الْمُوَفَّقِ، وَثَبَتَ مَكَانَهُ، حَتَّى خَرَجَ عَلَيْهِ كَمِينٌ لِلْمُوَفَّقِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَجُرِحَ سُلَيْمَانُ جِرَاحَةً فِي سَاقِهِ، وَسَقَطَ لِوَجْهِهِ فِي مَوْضِعٍ كَانَ فِيهِ حَرِيقٌ، وَفِيهِ بَعْضُ الْجَمْرِ، فَاحْتَرَقَ بَعْضُ جَسَدِهِ، وَحَمَلَهُ أَصْحَابُهُ بَعْدَ أَنْ كَادَ يُؤْسَرُ، وَانْصَرَفَ الْمُوَفَّقُ سَالِمًا ظَافِرًا. وَأَصَابَ الْمُوَفَّقَ مَرَضُ الْمَفَاصِلِ، فَبَقِيَ بِهِ شَهْرَ شَعْبَانَ، وَشَهْرَ رَمَضَانَ، وَأَيَّامًا مِنْ شَوَّالٍ، وَأَمْسَكَ عَنْ حَرْبِ الزَّنْجِ، ثُمَّ بَرَأَ، وَتَمَاثَلَ، فَأَمَرَ بِإِعْدَادِ آلَةِ الْحَرْبِ. ذِكْرُ إِحْرَاقِ قَنْطَرَةِ الْعَلَوِيِّ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَلَمَّا اشْتَغَلَ الْمُوَفَّقُ بِعِلَّتِهِ أَعَادَ الْخَبِيثُ الْقَنْطَرَةَ الَّتِي غَرِقَ عِنْدَهَا نُصَيْرٌ، وَزَادَ فِيهَا وَأَحْكَمَهَا، وَنَصَبَ دُونَهَا أَدْقَالَ سَاجٍ، وَأَلْبَسَهَا الْحَدِيدَ، وَسَكَّرَ أَمَامَ ذَلِكَ سِكَرًا مِنْ حِجَارَةٍ لِيُضَيِّقَ الْمَدْخَلَ عَلَى الشَّذَا، وَتَحْتَدَّ جَرْيَةُ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ، فَنَدَبَ الْمُوَفَّقُ أَصْحَابَهُ، وَسَيَّرَ طَائِفَةً مِنْ شَرْقِيِّ نَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ، وَطَائِفَةً مِنْ غَرْبِيِّهِ، وَأَرْسَلَ مَعَهُمَا النَّجَّارِينَ، وَالْفَعَلَةَ لِقَطْعِ الْقَنْطَرَةِ، وَمَا جُعِلَ أَمَامَهَا، وَأَمَرَ بِسُفُنٍ مَمْلُوءَةٍ مِنَ الْقَصَبِ أَنْ يُصَبَّ عَلَيْهَا النِّفْطُ، وَتَدْخُلَ النَّهْرَ، وَيُلْقَى فِيهَا النَّارُ لِيَحْتَرِقَ الْجِسْرُ، وَفَرَّقَ جُنْدَهُ عَلَى الْخُبَثَاءِ لِيَمْنَعُوهُمْ عَنْ مُعَاوَنَةِ مَنْ عِنْدَ الْقَنْطَرَةِ. فَسَارَ النَّاسُ إِلَى مَا أَمَرَهُمْ بِهِ عَاشِرَ شَوَّالٍ، وَتَقَدَّمَتِ الطَّائِفَتَانِ إِلَى الْجِسْرِ، فَلَقِيَهُمَا

أَنْكِلَايُ ابْنُ الْخَبِيثِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ، وَاشْتَبَكَتِ الْحَرْبُ، وَدَامَتْ، وَحَامَى أُولَئِكَ عَنِ الْقَنْطَرَةِ لِعِلْمِهِمْ بِمَا عَلَيْهِمْ فِي قَطْعِهَا مِنَ الْمَضَرَّةِ، وَأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى الْجِسْرَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ اللَّذَيْنِ يَأْتِي ذِكْرُهُمَا يَسْهُلُ. وَدَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى الْقَنْطَرَةِ إِلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ إِنَّ غِلْمَانَ الْمُوَفَّقِ أَزَالُوا الْخُبَثَاءَ عَنْهَا، وَقَطَعَهَا النَّجَّارُونَ، وَنَقَضُوهَا، وَمَا كَانَ عَمِلَ مِنَ الْأَدْقَالِ السَّاجِ، وَكَانَ قَطْعُهَا قَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ، فَأَدْخَلُوا تِلْكَ السُّفُنَ الَّتِي فِيهَا الْقَصَبُ، وَالنِّفْطُ، وَأَضْرَمُوهَا نَارًا، فَوَافَتِ الْقَنْطَرَةَ، فَأَحْرَقُوهَا، فَوَصَلَ النَّجَّارُونَ بِذَلِكَ إِلَى مَا أَرَادُوا، وَأَمْكَنَ أَصْحَابَ الشَّذَا دُخُولُ النَّهْرِ، فَدَخَلُوا، وَقَتَلُوا الزَّنْجَ حَتَّى أَجْلَوْهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ إِلَى الْجِسْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي يَتْلُو هَذِهِ الْقَنْطَرَةَ، وَقُتِلَ مِنَ الزَّنْجِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَاسْتَأْمَنَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَوَصَلَ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ إِلَى الْجِسْرِ الْمَغْرِبَ، فَكَرِهَ أَنْ يُدْرِكَهُمُ اللَّيْلُ، فَأَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ فَرَجَعُوا، وَكَتَبَ إِلَى الْبُلْدَانِ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى الْمَنَابِرِ أَنْ يُؤْتَى الْمُحْسِنُ عَلَى قَدْرِ إِحْسَانِهِ لِيَزْدَادُوا جِدًّا فِي حَرْبِ عَدُوِّهِ، وَأَخْرَبَ مِنَ الْغَدِ بُرْجَيْنِ مِنْ حِجَارَةٍ كَانُوا عَمِلُوهُمَا لِيَمْنَعُوا الشَّذَا مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهُ إِذَا دَخَلَتْهُ، فَلَمَّا أَخْرَبَهُمَا سَهُلَ لَهُ مَا أَرَادَ مِنْ دُخُولِ النَّهْرِ، وَالْخُرُوجِ مِنْهُ. ذِكْرُ انْتِقَالِ صَاحِبِ الزَّنْجِ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ وَإِحْرَاقِ سُوقِهِ لَمَّا أُحْرِقَتْ دُورُهُ، وَمَسَاكِنُ أَصْحَابِهِ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُمْ، انْتَقَلُوا إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ نَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ، وَجَمَعَ عِيَالَهُ حَوْلَهُ، وَنَقَلَ أَسْوَاقَهُ إِلَيْهِ، فَضَعُفَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ ضَعْفًا شَدِيدًا ظَهَرَ لِلنَّاسِ، فَامْتَنَعُوا مِنْ جَلْبِ الْمِيرَةِ إِلَيْهِ، فَانْقَطَعَتْ عَنْهُ كُلُّ مَادَّةٍ، وَبَلَغَ الرِّطْلُ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَأَكَلُوا الشَّعِيرَ، وَأَصْنَافَ الْحُبُوبِ. ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ بِهِمْ إِلَى أَنْ كَانَ أَحَدُهُمْ يَأْكُلُ صَاحِبَهُ إِذَا انْفَرَدَ بِهِ، وَالْقَوِيُّ يَأْكُلُ الضَّعِيفَ، ثُمَّ أَكَلُوا أَوْلَادَهُمْ. وَرَأَى الْمُوَفَّقُ أَنْ يُخَرِّبَ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ كَمَا أَخْرَبَ الْغَرْبِيَّ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِقَصْدِ

دَارِ الْهَمْدَانِيِّ، وَمَعَهُمُ الْفَعَلَةُ، وَكَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ مُحَصَّنًا بِجَمْعٍ كَثِيرٍ، وَعَلَيْهِ عَرَّادَاتٌ، وَمَنْجَنِيقَاتٌ، وَقِسِيٌّ، فَاشْتَبَكَتِ الْحَرْبُ، وَكَثُرَتِ الْقَتْلَى، فَانْتَصَرَ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ عَلَيْهِمْ، وَقَتَلُوهُمْ وَهَزَمُوهُمْ، وَانْتَهَوْا إِلَى الدَّارِ، فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمُ الصُّعُودُ إِلَيْهَا لِعُلُوِّ سُورِهَا، فَلَمْ تَبْلُغْهُ السَّلَالِيمُ الطِّوَالُ، فَرَمَى بَعْضُ غِلْمَانِ الْمُوَفَّقِ بِكَلَالِيبَ كَانَتْ مَعَهُمْ، فَعَلَّقُوهَا فِي أَعْلَامِ الْخَبِيثِ، وَجَذَبُوهَا، فَتَسَاقَطَتِ الْأَعْلَامُ مَنْكُوسَةً، فَلَمْ يَشُكَّ الْمُقَاتِلَةُ عَنِ الدَّارِ فِي أَنَّ أَصْحَابَ الْمُوَفَّقِ قَدْ مَلَكُوهَا، فَانْهَزَمُوا لَا يَلْوِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ، فَأَخَذَهَا أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ، وَصَعِدَ النَّفَّاطُونَ وَأَحْرَقُوهَا وَمَا كَانَ عَلَيْهَا مِنَ الْمَجَانِيقِ، وَالْعَرَّادَاتِ، وَنَهَبُوا مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْمَتَاعِ، وَالْأَثَاثِ، وَأَحْرَقُوا مَا كَانَ حَوْلَهَا مِنَ الدُّورِ، وَاسْتَنْقَذُوا مَا كَانَ فِيهَا مِنَ النِّسَاءِ، وَكُنَّ عَالَمًا كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمَاتِ، فَحُمِلْنَ إِلَى الْمُوَفَّقِيَّةِ، وَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ. وَاسْتَأْمَنَ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَصْحَابِ الْخَبِيثِ، وَخَاصَّتِهِ الَّذِينَ يَلُونَ خِدْمَتَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، فَأَمَّنَهُمُ الْمُوَفَّقُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَدَلَّتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْتَأْمِنَةِ الْمُوَفَّقَ عَلَى سُوقٍ عَظِيمَةٍ كَانَتْ لِلْخَبِيثِ مُتَّصِلَةٍ بِالْجِسْرِ الْأَوَّلِ، تُسَمَّى الْمُبَارَكَةَ، وَأَعْلَمُوهُ إِنْ أَحْرَقَهَا لَمْ يَبْقَ سُوقٌ غَيْرُهَا، وَخَرَجَ عَنْهُمْ تُجَّارُهُمِ الَّذِينَ كَانَ بِهِمْ قُوَامُهُمْ، فَعَزَمَ الْمُوَفَّقُ عَلَى إِحْرَاقِهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِقَصْدِ السُّوقِ مِنْ جَانِبَيْهَا، فَقَصَدُوهَا، وَأَقْبَلَتِ الزَّنْجُ إِلَيْهِمْ، فَتَحَارَبُوا أَشَدَّ حَرْبٍ تَكُونُ، وَاتَّصَلَتْ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ إِلَى طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ السُّوقِ وَأَلْقَوْا فِيهِ النَّارَ فَاحْتَرَقَ وَاتَّصَلَتِ النَّارُ. وَكَانَ النَّاسُ يَقْتَتِلُونَ، وَالنَّارُ مُحِيطَةٌ بِهِمْ، (وَاتَّصَلَتِ النَّارُ بِظِلَالِ السُّوقِ فَاحْتَرَقَتْ) وَسَقَطَتْ عَلَى الْمُقَاتِلَةِ، وَاحْتَرَقَ بَعْضُهُمْ، فَكَانَتْ هَذِهِ حَالُهُمْ إِلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ، ثُمَّ تَحَاجَزُوا، وَرَجَعَ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَانْتَقَلَ تُجَّارُ السُّوقِ إِلَى أَعْلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا قَدْ نَقَلُوا مُعْظَمَ أَمْتِعَتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مِنْ هَذِهِ السُّوقِ خَوْفًا مِنْ مِثْلِ هَذِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْخَبِيثَ فَعَلَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ حَفْرِ الْخَنَادِقِ، وَتَغْوِيرِ الطُّرُقِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَاحْتَفَرَ خَنْدَقًا عَرِيضًا حَصَّنَ بِهِ مَنَازِلَ أَصْحَابِهِ الَّتِي عَلَى النَّهْرِ الْغَرْبِيِّ، فَرَأَى الْمُوَفَّقُ أَنْ يُخَرِّبَ بَاقِيَ السُّورِ إِلَى النَّهْرِ الْغَرْبِيِّ، فَفَعَلَ ذَلِكَ

بَعْدَ حَرْبٍ طَوِيلَةٍ فِي مُدَّةٍ بَعِيدَةٍ. وَكَانَ لِلْخَبِيثِ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ جَمْعٌ مِنَ الزَّنْجِ قَدْ تَحَصَّنُوا بِالسُّورِ وَهُوَ مَنِيعٌ، وَهُمْ أَشْجَعُ أَصْحَابِهِ، فَكَانُوا يُحَامُونَ عَنْهُ، وَكَانُوا يَخْرُجُونَ عَلَى أَصْحَابِ الْمُوَفَّقِ، عِنْدَ مُحَارَبَتِهِمْ، عَلَى حِرَى كُورٍ وَمَا يَلِيهِ، وَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ أَنْ يُقْصَدَ هَذَا الْمَوْضِعُ، وَيُخَرَّبَ سُورُهُ، وَيُخْرَجَ مَنْ فِيهِ، فَأَمَرَ أَبَا الْعَبَّاسِ، وَالْقُوَّادَ بِالتَّأَهُّبِ لِذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَ بِالشَّذَا أَنْ تُقَرَّبَ مِنَ السُّورِ، وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ، وَدَامَتْ إِلَى بَعْدِ الظُّهْرِ، وَهَدَمَ مَوَاضِعَ، وَأَحْرَقَ مَا كَانَ عَلَيْهَا مِنَ الْعَرَّادَاتِ، وَتَحَاجَزَ الْفَرِيقَانِ، وَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، سِوَى هَدْمِ السُّورِ، وَإِحْرَاقِ عَرَّادَاتٍ كَانَتْ عَلَيْهِ، فَنَالَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْجِرَاحِ أَمْرٌ عَظِيمٌ. وَعَادَ الْمُوَفَّقُ، فَوَصَلَ أَهْلَ الْبَلَاءِ وَالْمَجْرُوحِينَ عَلَى قَدْرِ بَلَائِهِمْ، وَهَكَذَا كَانَ عَمَلُهُ فِي مُحَارَبَتِهِ، وَأَقَامَ الْمُوَفَّقُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ أَيَّامًا، ثُمَّ رَأَى مُعَاوَدَةَ هَذَا الْمَوْضِعِ لَمَّا رَأَى مِنْ حَصَانَتِهِ وَشَجَاعَةِ مَنْ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حِرَى كُورٍ إِلَّا بَعْدَ إِزَالَةِ هَؤُلَاءِ، فَأَعَدَّ الْآلَاتِ، وَرَتَّبَ أَصْحَابَهُ، وَقَصَدَهُ، وَقَاتَلَ مَنْ فِيهِ، وَأُدْخِلَتِ الشَّذَوَاتُ النَّهْرَ، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ وَدَامَتْ. وَأَمَدَّ الْخَبِيثُ أَصْحَابَهُ بِالْمُهَلَّبِيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ فِي جَيْشِهِمَا، فَحَمَلُوا عَلَى أَصْحَابِ الْمُوَفَّقِ حَتَّى أَلْحَقُوهُمْ بِسُفُنِهِمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، فَرَجَعَ الْمُوَفَّقُ وَلَمْ يَبْلُغْ مِنْهُمْ مَا أَرَادَ، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَاتِلَهُمْ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ لِتَخِفَّ وَطْأَتُهُمْ عَلَى مَنْ يَقْصِدُ هَذَا الْمَوْضِعَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ عَلَى جِهَاتِ أَصْحَابِ الْخَبِيثِ، وَسَارَ هُوَ إِلَى جِهَةِ النَّهْرِ الْغَرْبِيِّ، وَقَاتَلَ مَنْ فِيهِ. وَطَمِعَ الزَّنْجُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تِلْكَ الْوَقْعَةِ، فَصَدَقَهُمْ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ الْقِتَالَ، فَهَزَمُوهُمْ، فَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، وَتَرَكُوا حِصْنَهُمْ فِي أَيْدِي أَصْحَابِ الْمُوَفَّقِ، فَهَدَمُوهُ، وَغَنِمُوا مَا فِيهِ، وَأَسَرُوا، وَقَتَلُوا خَلْقًا لَا يُحْصَى، وَخَلَّصُوا مِنْ هَذَا الْحِصْنِ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَرَجَعَ الْمُوَفَّقُ إِلَى عَسْكَرِهِ بِمَا أَرَادَ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْمُوَفَّقِ عَلَى مَدِينَةِ صَاحِبِ الزَّنْجِ الْغَرْبِيَّةِ لَمَّا هَدَمَ الْمُوَفَّقُ دُورَ الْخَبِيثِ أَمَرَ بِإِصْلَاحِ الْمَسَالِكِ لِتَتَّسِعَ عَلَى الْمُقَاتِلَةِ الطَّرِيقُ لِلْحَرْبِ، ثُمَّ رَأَى قَلْعَ الْجِسْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي عَلَى نَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُعَاوَنَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَأَمَرَ بِسَفِينَةٍ كَبِيرَةٍ أَنْ تُمْلَأَ قَصَبًا وَيُجْعَلَ فِيهِ مِنَ النِّفْطِ، وَيُوضَعَ فِي وَسَطِهَا دَقَلٌ طَوِيلٌ يَمْنَعُهَا مِنْ مُجَاوَرَةِ الْجِسْرِ إِذَا الْتَصَقَتْ بِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا عِنْدَ غَفْلَةِ الزَّنْجِ، وَقُوَّةِ الْمَدِّ، فَوَافَتِ الْجِسْرَ، وَعَلِمَ بِهَا الزَّنْجُ، فَأَتَوْهَا، وَطَمُّوهَا بِالْحِجَارَةِ، وَالتُّرَابِ، وَنَزَلَ بَعْضُهُمْ (فِي الْمَاءِ فَنَقَبَهَا) فَغَرِقَتْ، وَكَانَ قَدِ احْتَرَقَ مِنَ الْجِسْرِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَأَطْفَأَهُ الزَّنْجُ. فَعِنْدَ ذَلِكَ اهْتَمَّ الْمُوَفَّقُ بِالْجِسْرِ، فَنَدَبَ أَصْحَابَهُ، وَأَعَدَّ النَّفَّاطِينَ، وَالْفَعَلَةَ، وَالْفُئُوسَ، وَأَمَرَهُمْ بِقَصْدِهِ مِنْ غَرْبِيِّ النَّهْرِ، وَشَرْقِيِّهِ، وَرَكِبَ الْمُوَفَّقُ فِي أَصْحَابِهِ، وَقَصَدَ فُوَّهَةَ نَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ، وَذَلِكَ مُنْتَصَفَ شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، فَسَبَقَ الطَّائِفَةَ الَّتِي فِي غَرْبِ النَّهْرِ، فَهَزَمَ الْمُوَكَّلَيْنِ عَلَى الْجِسْرِ، وَهُمَا سُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ، وَأَنْكِلَايُ وَلَدُ الْخَبِيثِ، وَأَحْرَقُوهُ. وَأَتَى بَعْدَ ذَلِكَ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، فَفَعَلُوا بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَحْرَقُوا الْجِسْرَ، وَتَجَاوَزُوهُ إِلَى جَانِبِ حَظِيرَةٍ كَانَتْ تُعْمَلُ فِيهَا سُمَيْرِيَّاتُ الْخَبِيثِ، وَآلَاتُهُ، وَاحْتَرَقَ ذَلِكَ عَنْ آخِرِهِ، إِلَّا شَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الشَّذَوَاتِ، وَالسُّمَيْرِيَّاتِ كَانَتْ فِي النَّهْرِ، وَقَصَدُوا سِجْنًا لِلْخَبِيثِ، فَقَاتَلَهُمُ الزَّنْجُ عَلَيْهِ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، ثُمَّ غَلَبَهُمْ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ عَلَيْهِ، فَأَطْلَقُوا مَنْ فِيهِ، وَأَحْرَقُوا كُلَّ مَا مَرُّوا بِهِ إِلَى دَارِ مُصْلِحٍ، وَهُوَ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ، فَدَخَلُوهَا، فَنَهَبُوهَا وَمَا فِيهَا، وَسَبَوْا نِسَاءَهُ، وَوَلَدَهُ، وَاسْتَنْقَذُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَعَادَ الْمُوَفَّقُ وَأَصْحَابُهُ سَالِمِينَ. وَانْحَازَ الْخَبِيثُ، وَأَصْحَابُهُ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ نَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ، وَاسْتَوْلَى الْمُوَفَّقُ عَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ غَيْرَ طَرِيقٍ يَسِيرٍ عَلَى الْجِسْرِ الثَّانِي، فَأَصْلَحُوا الطُّرُقَ، فَزَادَ ذَلِكَ فِي رُعْبِ الْخَبِيثِ، وَأَصْحَابِهِ، فَاجْتَمَعَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ

وَقُوَّادِهِ، وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانَ يَرَى أَنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَهُ، عَلَى طَلَبِ الْأَمَانِ، فَبَذَلَ لَهُمْ، فَخَرَجُوا أَرْسَالًا، فَأَحْسَنَ الْمُوَفَّقُ إِلَيْهِمْ، وَأَلْحَقَهُمْ بِأَمْثَالِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ الْمُوَفَّقَ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَرَّنَ أَصْحَابُهُ بِسُلُوكِ النَّهْرِ لِيَحْرِقَ الْجِسْرَ الثَّانِيَ، فَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِإِدْخَالِ الشَّذَا فِيهِ، وَإِحْرَاقِ مَا عَلَى جَانِبِهِ مِنَ الْمَنَازِلِ، فَهَرَبَ إِلَيْهِ بَعْضَ الْأَيَّامِ قَائِدٌ لِلزَّنْجِ، وَمَعَهُ قَاضٍ كَانَ لَهُمْ، وَمِنْبَرٌ، فَفَتَّ ذَلِكَ فِي أَعْضَادِ الْخُبَثَاءِ. ثُمَّ إِنَّ الْخَبِيثَ وَكَّلَ بِالْجِسْرِ الثَّانِي مَنْ يَحْفَظُهُ، وَشَحَنَهُ بِالرِّجَالِ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِإِحْرَاقِ مَا عِنْدَ الْجِسْرِ مِنْ سُفُنٍ، (فَفَعَلُوا حَتَّى أَحْرَقُوهَا) ، فَزَادَ ذَلِكَ فِي احْتِيَاطِ الْخَبِيثِ، وَفِي حِرَاسَتِهِ لِلْجِسْرِ لِئَلَّا يُحْرَقَ وَيَسْتَوْلِيَ الْمُوَفَّقُ عَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ فَيَهْلِكَ. وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمْعٌ فِي مَنَازِلِهِمُ الْمُقَارِبَةِ لِلْجِسْرِ الثَّانِي، وَكَانَ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ يَأْتُونَهُمْ وَيَقِفُونَ عَلَى الطَّرِيقِ الْخَفِيَّةِ، فَلَمَّا عَرَفُوا ذَلِكَ عَزَمُوا عَلَى إِحْرَاقِ الْجِسْرِ الثَّانِي، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ، وَالْقُوَّادَ بِالتَّجَهُّزِ لِذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ لِيُوَافُوا الْجِسْرَ، وَأَعَدَّ مَعَهُمُ الْفُئُوسَ، وَالنِّفْطَ، وَالْآلَاتِ، وَدَخَلَ هُوَ فِي النَّهْرِ بِالشَّذَوَاتِ، وَمَعَهُ أَنْجَادُ غِلْمَانِهِ، وَمَعَهُ الْآلَاتُ أَيْضًا، وَاشْتَبَكَتِ الْحَرْبُ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ. وَكَانَ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ بِإِزَاءِ أَبِي الْعَبَّاسِ وَمَنْ مَعَهُ أَنْكِلَايُ ابْنُ الْخَبِيثِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ، وَفِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ بِإِزَاءِ رَاشِدٍ مَوْلَى الْمُوَفَّقِ، وَمَنْ مَعَهُ الْخَبِيثُ، وَالْمُهَلَّبِيُّ فِي بَاقِي الْجَيْشِ، فَدَامَتِ الْحَرْبُ مِقْدَارَ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ، ثُمَّ انْهَزَمَ الْخُبَثَاءُ لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَأُخِذَتِ السُّيُوفُ مِنْهُمْ، وَدَخَلَ أَصْحَابُ الشَّذَا النَّهْرَ، وَدَنَوْا مِنَ الْجِسْرِ فَقَاتَلُوا مَنْ يَحْمِيهِ بِالسِّهَامِ، وَأَضْرَمُوا نَارًا. وَكَانَ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ سُلَيْمَانُ، وَأَنْكِلَايُ، وَكَانَا قَدْ أُثْخِنَا بِالْجِرَاحِ، فَوَافَيَا الْجِسْرَ، وَالنَّارُ فِيهِ، فَحَالَتْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعُبُورِ، وَأَلْقَيَا أَنْفُسَهُمَا فِي النَّهْرِ وَمَنْ مَعَهُمَا، فَغَرِقَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأَفْلَتَ أَنْكِلَايُ، وَسُلَيْمَانُ بَعْدَ أَنْ أَشْفَيَا عَلَى الْهَلَاكِ، وَقُطِعَ الْجِسْرُ، وَأُحْرِقَ، وَتَفَرَّقَ الْجَيْشُ فِي مَدِينَةِ الْخَبِيثِ فِي الْجَانِبَيْنِ، فَأَحْرَقُوا مِنْ دُورِهِمْ وَقُصُورِهِمْ، وَأَسْوَاقِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَاسْتَنْقَذُوا مِنْ (النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ مَا لَا يُحْصَى، وَدَخَلُوا الدَّارَ الَّتِي كَانَ الْخَبِيثُ

سَكَنَهَا بَعْدَ) إِحْرَاقِ قَصْرِهِ، وَأَحْرَقُوهَا وَنَهَبُوا مَا كَانَ فِيهَا مِمَّا كَانَ سَلِمَ مَعَهُ، وَهَرَبَ الْخَبِيثُ وَلَمْ يُقَفْ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى مَوَاضِعِ أَمْوَالِهِ. وَاسْتُنْقِذَ فِي هَذَا الْيَوْمِ نِسْوَةٌ مِنَ الْعَلَوِيَّاتِ كُنَّ مُحَبَّسَاتٍ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ دَارِهِ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا، فَأَحْسَنَ الْمُوَفَّقُ إِلَيْهِنَّ، وَحَمَلَهُنَّ، وَفَتَحَ سِجْنًا، كَانَ لَهُ وَأَخْرَجَ مِنْهُ خَلْقًا كَثِيرًا مِمَّنْ كَانَ يُحَارِبُ الْخَبِيثَ، فَفَكَّ الْمُوَفَّقُ عَنْهُمُ الْحَدِيدَ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ الْيَوْمَ كُلَّ مَا كَانَ فِي نَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ مِنْ شَذًا، وَمَرَاكِبَ بَحْرِيَّةٍ، وَسُفُنٍ صِغَارٍ، وَكِبَارٍ، وَحَرَّاقَاتٍ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ السُّفُنِ إِلَى دِجْلَةَ، فَأَبَاحَهَا الْمُوَفَّقُ أَصْحَابَهُ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ السَّلَبِ، وَكَانَتْ لَهُ قِيمَةٌ عَظِيمَةٌ. وَأَرْسَلَ أَنْكِلَايُ ابْنُ الْخَبِيثِ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، وَسَأَلَ أَشْيَاءَ، فَأَجَابَهُ الْمُوَفَّقُ إِلَيْهَا، فَعَلِمَ أَبُوهُ بِذَلِكَ فَعَذَلَهُ، وَرَدَّهُ عَمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ، فَعَادَ إِلَى الْحَرْبِ وَمُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ. وَوَجَّهَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الشَّعْرَانِيُّ، وَهُوَ أَحَدُ رُؤَسَاءِ الْخَبِيثِ، يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَلَمْ يُجِبْهُ الْمُوَفَّقُ إِلَى ذَلِكَ، لَمَّا كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْفَسَادِ، فَاتَّصَلَ بِهِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ (رُؤَسَاءِ) أَصْحَابِ الْخَبِيثِ قَدِ اسْتَوْحَشُوا الْمَنَعَةَ، فَأَجَابَهُ إِلَى الْأَمَانِ، فَأَرْسَلَ الشَّذَا إِلَى مَوْضِعٍ ذَكَرَهُ، فَخَرَجَ هُوَ وَأَخُوهُ، وَأَهْلُهُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِهِ، فَأَرْسَلَ الْخَبِيثُ مَنْ يَمْنَعُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَقَاتَلَهُمْ، وَوَصَلَ إِلَى الْمُوَفَّقِ، فَزَادَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ، وَأَمَرَ بِإِظْهَارِهِ لِأَصْحَابِ الْخَبِيثِ لِيَزْدَادُوا ثِقَةً، فَلَمْ يَبْرَحْ مِنْ مَكَانِهِ، حَتَّى اسْتَأْمَنَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِ الزِّنْجِ مِنْهُمْ شِبْلُ بْنُ سَالِمٍ، فَأَجَابَهُ الْمُوَفَّقُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ شَذَوَاتٍ، فَرَكِبَ فِيهَا هُوَ وَعِيَالُهُ، وَوَلَدُهُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِهِ، فَلَقِيَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الزِّنْجِ، فَقَاتَلَهُمْ، وَنَجَا، وَوَصَلَ إِلَى الْمُوَفَّقِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَوَصَلَهُ بِصِلَةٍ جَلِيلَةٍ، وَهُوَ مِنْ قُدَمَاءَ أَصْحَابِ الْخَبِيثِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَوْلِيَائِهِ لِمَا رَأَوْا مِنْ رَغْبَةِ رُؤَسَائِهِمْ فِي الْأَمَانِ. وَلَمَّا رَأَى الْمُوَفَّقُ مُنَاصَحَةَ شِبْلٍ، وَجَوْدَةَ فَهْمِهِ، أَمَرَهُ أَنْ يَكْفِيَهُ بَعْضَ الْأُمُورِ، فَسَارَ لَيْلًا فِي جَمْعٍ مِنَ الزِّنْجِ، لَمْ يُخَالِطْهُمْ غَيْرُهُمْ، إِلَى عَسْكَرِ الْخَبِيثِ يَعْرِفُ مَكَانَهُمْ، وَأَوْقَعَ

بِهِمْ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ، وَقَتَلَ، وَعَادَ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ الْمُوَفَّقُ، وَإِلَى أَصْحَابِهِ. وَصَارَ الزِّنْجُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ لَا يَنَامُونَ اللَّيْلَ، وَلَا يَزَالُونَ يَتَحَارَسُونَ لِلرُّعْبِ الَّذِي دَخَلَهُمْ، وَأَقَامَ الْمُوَفَّقُ يُنْفِذُ السَّرَايَا إِلَى الْخَبِيثِ، وَيَكِيدُهُ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُوتِ، وَأَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ يَتَدَرَّبُونَ فِي سُلُوكِ تِلْكَ الْمَضَايِقِ الَّتِي فِي أَرْضِهِ وَيُوَسِّعُونَهَا. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْمُوَفَّقِ عَلَى مَدِينَةِ الْخَبِيثِ الشَّرْقِيَّةِ لَمَّا عَلِمَ الْمُوَفَّقُ أَنَّ أَصْحَابَهُ قَدْ تَمَرَّنُوا عَلَى سُلُوكِ تِلْكَ الْأَرْضِ وَعَرَفُوهَا، صَمَّمَ الْعَزْمَ عَلَى الْعُبُورِ إِلَى مُحَارَبَةِ الْخَبِيثِ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ نَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ، فَجَلَسَ مَجْلِسًا عَامًّا، وَأَحْضَرَ قُوَّادَ الْمُسْتَأْمِنَةِ، وَفُرْسَانَهُمْ، فَوَقَفُوا بِحَيْثُ يَسْمَعُونَ كَلَامَهُ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ فَعَرَّفَهُمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَالْجَهْلِ، وَانْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ، وَمَعْصِيَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ أَحَلَّ لَهُ دِمَاءَهُمْ، وَأَنَّهُ غَفَرَ لَهُمْ زَلَّتَهُمْ، وَوَصَلَهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ عَلَيْهِمْ حَقَّهُ، وَطَاعَتَهُ، وَأَنَّهُمْ لَنْ يُرْضُوا رَبَّهُمْ، وَسُلْطَانَهُمْ بِأَكْثَرَ مِنَ الْجِدِّ فِي مُجَاهَدَةِ الْخَبِيثِ، وَأَنَّهُمْ لَيَعْرِفُونِ مَسَالِكَ الْعَسْكَرِ، وَمَضَايِقَ مَدِينَتِهِ، وَمَعَاقِلَهَا الَّتِي أَعَدَّهَا، فَهُمْ أَوْلَى أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي الْوُلُوجِ عَلَى الْخَبِيثِ، وَالْوُغُولِ إِلَى حُصُونِهِ، حَتَّى يُمَكِّنَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمُ الْإِحْسَانُ، وَالْمَزِيدُ، وَمَنْ قَصَّرَ مِنْهُمْ فَقَدْ أَسْقَطَ مَنْزِلَتَهُ وَحَالَهُ. فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالدُّعَاءِ لَهُ، وَالِاعْتِرَافِ بِإِحْسَانِهِ، وَبِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُنَاصَحَةِ، وَالطَّاعَةِ، وَأَنَّهُمْ يَبْذُلُونَ دِمَاءَهُمْ فِي كُلِّ مَا يُقَرِّبُهُمْ مِنْهُ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُفْرِدَهُمْ بِنَاحِيَةٍ لِيَظْهَرَ مِنْ نِكَايَتِهِمْ فِي الْعَدُوِّ مَا يَعْرِفُ بِهِ إِخْلَاصَهُمْ، وَطَاعَتَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَوَعَدَهُمْ، وَكَتَبَ فِي جَمْعِ السُّفُنِ، وَالْمَعَابِرِ مِنْ دِجْلَةَ، وَالْبَطِيحَةِ وَنَوَاحِيهَا لِيُضِيفَهَا إِلَى مَا فِي عَسْكَرِهِ، إِذْ كَانَ مَا عِنْدَهُ يَقْصُرُ عَنِ الْجَيْشِ لِكَثْرَتِهِ، وَأَحْصَى مَا فِي الشَّذَا، وَالسُّمَيْرِيَّاتِ، وَأَنْوَاعِ السُّفُنِ، فَكَانُوا زُهَاءَ عَشَرَةِ آلَافِ مَلَّاحٍ مِمَّنْ يَجْرِي عَلَيْهِ الرِّزْقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مُشَاهَرَةً، سِوَى سُفُنِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ الَّتِي يُحْمَلُ فِيهَا الْمِيرَةُ، وَيَرْكَبُهَا النَّاسُ فِي حَوَائِجِهِمْ، وَسِوَى مَا كَانَ لِكُلِّ قَائِدٍ مِنَ السُّمَيْرِيَّاتِ، وَالْحَرْبِيَّاتِ، وَالزَّوَارِيقِ. فَلَمَّا تَكَامَلَتِ السُّفُنُ تَقَدَّمَ إِلَى ابْنِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَقُوَّادِهِ بِقَصْدِ مَدِينَةِ الْخَبِيثِ الشَّرْقِيَّةِ

مِنْ جِهَاتِهَا، (فَسَيَّرَ ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ إِلَى) نَاحِيَةِ دَارِ الْمُهَلَّبِيِّ أَسْفَلَ الْعَسْكَرِ، وَكَانَ قَدْ شَحَنَهَا بِالرِّجَالِ، وَالْمُقَاتِلِينَ، وَأَمَرَ جَمِيعَ أَصْحَابَهُ بِقَصْدِ دَارِ الْخَبِيثِ، وَإِحْرَاقِهَا، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْهَا اجْتَمَعُوا عَلَى دَارِ الْمُهَلَّبِيِّ، وَسَارَ هُوَ فِي الشَّذَا، وَهِيَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ قِطْعَةً، فِيهَا أَنْجَادُ غِلْمَانِهِ، وَانْتَخَبَ مِنَ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا عَلَى جَانِبَيِ النَّهْرِ مَعَهُ إِذَا سَارَ، وَأَنْ يَقِفُوا مَعَهُ إِذَا وَقَفَ، لِيَتَصَرَّفُوا بِأَمْرِهِ. وَبَكَّرَ الْمُوَفَّقُ لِقِتَالِ الْفَاسِقِينَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانُوا قَدْ تَقَدَّمُوا إِلَيْهِمْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَوَاقَعُوهُمْ، وَتَقَدَّمَ كُلُّ طَائِفَةٍ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِهَا، فَلَقِيَهُمُ الزِّنْجُ، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ وَالْجِرَاحُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَحَامَى الْفَسَقَةُ عَنِ الَّذِي اقْتَصَرُوا عَلَيْهِ مِنْ مَدِينَتِهِمْ، وَاسْتَمَاتُوا، وَصَبَرُوا، فَنَصَرَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْمُوَفَّقِ، فَانْهَزَمَ الزِّنْجُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُسِرَ مِنْ أَنْجَادِهِمْ وَشُجْعَانِهِمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُ الْأَسْرَى فِي الْمَعْرَكَةِ، وَقَصَدَ بِجَمْعِهِ الدَّارَ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْخَبِيثُ، وَكَانَ قَدْ لَجَأَ إِلَيْهَا، وَجَمَعَ أَبْطَالَ أَصْحَابِهِ لِلْمُدَافَعَةِ عَنْهَا، فَلَمْ يُغْنُوا عَنْهَا شَيْئًا، وَانْهَزَمُوا عَنْهَا وَأَسْلَمُوهَا، وَدَخَلَهَا أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ وَفِيهَا بَقَايَا مَا كَانَ سَلِمَ لِلْخَبِيثِ مِنْ مَالِهِ، وَوَلَدِهِ، وَأَثَاثِهِ، فَنَهَبُوا ذَلِكَ أَجْمَعَ، وَأَخَذُوا حَرَمَهُ، وَأَوْلَادَهُ، وَكَانُوا عِشْرِينَ مَا بَيْنَ صَبِيَّةٍ، وَصَبِيٍّ، وَسَارَ الْخَبِيثُ هَارِبًا نَحْوَ دَارِ الْمُهَلَّبِيِّ لَا يَلْوِي عَلَى أَهْلٍ، وَلَا مَالٍ، وَأُحْرِقَتْ دَارُهُ، وَأُتِيَ الْمُوَفَّقُ بِأَهْلِ الْخَبِيثِ وَأَوْلَادِهِ، فَسَيَّرَهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ. وَكَانَ أَصْحَابُ أَبِي الْعَبَّاسِ قَدْ قَصَدُوا دَارَ الْمُهَلَّبِيِّ، وَقَدْ لَجَأَ إِلَيْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ، فَغَلَبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَاشْتَغَلُوا بِنَهْبِهَا، وَأَخَذُوا مَا فِيهَا مِنْ حَرَمِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَوْلَادِهِمْ، وَجَعَلَ مَنْ ظَفَرَ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ حَمَلَهُ إِلَى سَفِينَتِهِ، فَعَلَوْا فِي الدَّارِ وَنَوَاحِيهَا، فَلَمَّا رَآهُمُ الزِّنْجُ كَذَلِكَ رَجَعُوا إِلَيْهِمْ فَقَتَلُوا فِيهِمْ مَقْتَلَةً يَسِيرَةً. وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ غِلْمَانِ الْمُوَفَّقِ الَّذِينَ قَصَدُوا دَارَ الْخَبِيثِ تَشَاغَلُوا بِحَمْلِ الْغَنَائِمِ إِلَى السُّفُنِ أَيْضًا، فَأَطْمَعَ ذَلِكَ الزِّنْجَ فِيهِمْ، فَأَكَبُّوا عَلَيْهِمْ فَكَشَفُوهُمْ، وَاتَّبَعُوا آثَارَهُمْ، وَثَبَتَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَبْطَالِ الْمُوَفَّقِ، فَرَدُّوا الزِّنْجَ حَتَّى تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ، وَدَامَتِ الْحَرْبُ إِلَى الْعَصْرِ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ غِلْمَانَهُ بِصِدْقِ الْحَمْلَةِ عَلَيْهِمْ، فَفَعَلُوا، فَانْهَزَمَ الْخَبِيثُ وَأَصْحَابُهُ، وَأَخَذَتْهُمُ السُّيُوفُ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى دَارِهِ أَيْضًا، فَرَأَى الْمُوَفَّقُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ

يَصْرِفَ أَصْحَابَهُ إِلَى إِحْسَانِهِمْ، فَرَدَّهُمْ وَقَدْ غَنِمُوا، وَاسْتَنْقَذُوا جَمْعًا مِنَ النِّسَاءِ الْمَأْسُورَاتِ كُنْ يُخْرَجْنَ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَرْسَالًا فَيُحْمَلْنَ إِلَى الْمُوَفَّقِيَّةِ. وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ قَدْ أَرْسَلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قَائِدًا، فَأَحْرَقَ ثَمَّ بَيَادِرَ كَانَتْ ذَخِيرَةً لِلْخَبِيثِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا أُضْعِفَ بِهِ الْخَبِيثُ وَأَصْحَابُهُ. ثُمَّ وَصَلَ إِلَى الْمُوَفَّقِ كِتَابُ لُؤْلُؤٍ غُلَامِ ابْنِ طُولُونَ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَخَّرَ الْقِتَالَ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ. ذِكْرُ خِلَافِ لُؤْلُؤٍ عَلَى مَوْلَاهُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ وَفِيهَا خَالَفَ لُؤْلُؤٌ غُلَامُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ صَاحِبِ مِصْرَ، عَلَى مَوْلَاهُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، وَفِي يَدِهِ حِمْصُ، وَقِنَّسْرِينُ، وَحَلَبُ، وَدِيَارُ مُضَرَ، مِنَ الْجَزِيرَةِ، وَسَارَ إِلَى بَالِسَ فَنَهَبَهَا، وَكَاتَبَ الْمُوَفَّقَ فِي الْمَسِيرِ إِلَيْهِ، وَاشْتَرَطَ شُرُوطًا، فَأَجَابَهُ أَبُو أَحْمَدَ إِلَيْهَا، وَكَانَ بِالرَّقَّةِ، فَسَارَ إِلَى الْمُوَفَّقِ فَنَزَلَ قَرْقِيسِيَا، وَبِهَا ابْنُ صَفْوَانَ الْعُقَيْلِيُّ، فَحَارَبَهُ، وَأَخَذَهَا مِنْهُ، وَسَلَّمَهَا إِلَى أَحْمَدَ بْنِ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ، وَسَارَ إِلَى الْمُوَفَّقِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ يُقَاتِلُ الْخَبِيثَ الْعَلَوِيَّ. ذِكْرُ مَسِيرِ الْمُعْتَمِدِ إِلَى الشَّامِ وُعَوْدِهِ مِنَ الطَّرِيقِ وَفِيهَا سَارَ الْمُعْتَمِدُ نَحْوَ مِصْرَ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ غَيْرُ اسْمِهَا، وَلَا يَنْفُذُ لَهُ تَوْقِيعٌ لَا فِي قَلِيلٍ، وَلَا كَثِيرٍ، وَكَانَ الْحُكْمُ كُلُّهُ لِلْمُوَفَّقِ، وَالْأَمْوَالُ تُجْبَى إِلَيْهِ، فَضَجِرَ الْمُعْتَمِدُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنِفَ مِنْهُ، فَكَتَبَ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ يَشْكُو إِلَيْهِ حَالَهُ سِرًّا مِنْ أَخِيهِ الْمُوَفَّقِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بِاللَّحَاقِ بِهِ بِمِصْرَ، وَوَعَدَهُ النُّصْرَةَ، وَسَيَّرَ عَسْكَرًا إِلَى الرَّقَّةِ يَنْتَظِرُ وُصُولَ الْمُعْتَمِدِ إِلَيْهِمْ، فَاغْتَنَمَ الْمُعْتَمِدُ غَيْبَةَ الْمُوَفَّقِ عَنْهُ، فَسَارَ فِي جُمَادَى الْأُولَى وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ، فَأَقَامَ بِالْكُحَيْلِ يَتَصَيَّدُ. فَلَمَّا سَارَ إِلَى عَمَلِ إِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجِيقَ، وَكَانَ عَامِلَ الْمَوْصِلِ، وَعَامَّةِ الْجَزِيرَةِ، وَثَبَ ابْنُ كُنْدَاجِيقَ بِمَنْ مَعَ الْمُعْتَمِدِ مِنَ الْقُوَّادِ، فَقَبَضَهُمْ، وَهُمْ نَيْزَكُ، وَأَحْمَدُ بْنُ خَاقَانَ، وَخَطَارِمِشُ، فَقَيَّدَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ، وَكَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ صَاعِدُ بْنُ مَخْلَدٍ وَزِيرُ الْمُوَفَّقِ عَنِ الْمُوَفَّقِ، وَكَانَ سَبَبُ وُصُولِهِ إِلَى قَبْضَتِهِمْ أَنَّهُ أَظْهَرُ أَنَّهُ مَعَهُمْ فِي طَاعَةِ

الْمُعْتَمِدِ، إِذْ هُوَ الْخَلِيفَةُ، وَلَقِيَهُمْ لَمَّا صَارُوا إِلَى عَمَلِهِ، وَسَارَ مَعَهُمْ عِدَّةَ مَرَاحِلَ، فَلَمَّا قَارَبَ عَمَلَ ابْنِ طُولُونَ ارْتَحَلَ الْأَتْبَاعُ، وَالْغِلْمَانُ الَّذِينَ مَعَ الْمُعْتَمِدِ، وَقُوَّادِهِ، وَلَمْ يَتْرُكِ ابْنُ كُنْدَاجِيقَ أَصْحَابَهُ يَرْحَلُونَ، ثُمَّ خَلَا بِالْقُوَّادِ عِنْدَ الْمُعْتَمِدِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ قَارَبْتُمْ عَمَلَ ابْنِ طُولُونَ، وَالْأَمْرُ أَمْرُهُ، وَتَصِيرُونَ مِنْ جُنْدِهِ، وَتَحْتَ يَدِهِ، أَفَتَرْضَوْنَ بِذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ كَوَاحِدٍ مِنْكُمْ؟ وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ مُنَاظَرَةٌ، حَتَّى تَعَالَى النَّهَارُ، وَلَمْ يَرْحَلِ الْمُعْتَمِدُ وَمَنْ مَعَهُ، فَقَالَ ابْنُ كُنْدَاجِيقَ: قُومُوا بِنَا نَتَنَاظَرُ فِي غَيْرِ حَضْرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ; فَأَخَذَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى خَيْمَتِهِ لِأَنَّ مَضَارِبَهُمْ كَانَتْ قَدْ سَارَتْ، فَلَمَّا دَخَلُوا خَيْمَتَهُ قَبَضَ عَلَيْهِمْ وَقَيَّدَهُمْ، وَأَخَذَ سَائِرَ مَنْ مَعَ الْمُعْتَمِدِ مِنَ الْقُوَّادِ فَقَيَّدَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أُمُورِهِمْ مَضَى إِلَى الْمُعْتَمِدِ فَعَذَلَهُ مِنْ مَسِيرِهِ فِي دَارِ مُلْكِهِ، وَمُلْكِ آبَائِهِ، وَفِرَاقِ أَخِيهِ الْمُوَفَّقِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي هُوَ بِهَا مِنْ حَرْبٍ يُرِيدُ قَتْلَهُ، وَقَتْلَ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَزَوَالِ مُلْكِهِمْ، ثُمَّ حَمَلَهُ وَالَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ سَامَرَّا. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسْكَرِ ابْنِ طُولُونَ وَعَسْكَرِ الْمُوَفَّقِ بِمَكَّةَ وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بِمَكَّةَ بَيْنَ جَيْشٍ لِأَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، وَبَيْنَ عَسْكَرِ الْمُوَفَّقِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ سَيَّرَ جَيْشًا مَعَ قَائِدَيْنِ إِلَى مَكَّةَ، فَوَصَلُوا إِلَيْهَا، وَجَمَعُوا الْحَنَّاطِينَ، وَالْجَزَّارِينَ، وَفَرَّقُوا فِيهِمْ مَالًا، وَكَانَ عَامِلُ مَكَّةَ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ إِذْ ذَاكَ بِبُسْتَانِ ابْنِ عَامِرٍ قَدْ فَارَقَهَا خَوْفًا مِنْهُمْ، فَوَافَى مَكَّةَ جَعْفَرٌ الْبَاغَمَرْدِيُّ فِي ذِي الْحِجَّةِ فِي عَسْكَرٍ، وَتَلَقَّاهُ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي جَمَاعَةٍ، فَقَوِيَ بِهِمْ جَعْفَرٌ، وَالْتَقَوْا هُمْ وَأَصْحَابُ ابْنِ طُولُونَ، فَاقْتَتَلُوا، وَأَعَانَ أَهْلُ خُرَاسَانَ جَعْفَرًا، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ طُولُونَ مِائَتَيْ رَجُلٍ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ وَسُلِبُوا وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَأَخَذَ جَعْفَرٌ مِنَ الْقَائِدَيْنِ نَحْوَ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَمَّنَ الْمِصْرِيِّينَ، وَالْجَزَّارِينَ، وَالْحَنَّاطِينَ، وَقُرِئَ كِتَابٌ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِلَعْنِ ابْنِ طُولُونَ، وَسَلِمَ النَّاسُ وَأَمْوَالُ التُّجَّارِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَطَعَ الْأَعْرَابُ الطَّرِيقَ عَلَى قَافِلَةٍ مِنَ الْحَاجِّ بَيْنَ ثَوْرٍ وَسُمَيْرَاءَ، فَسَلَبُوهُمْ، وَسَاقُوا نَحْوًا مِنْ خَمْسَةِ آلَافِ بَعِيرٍ بِأَحْمَالِهَا وَأُنَاسًا كَثِيرًا. وَفِيهَا انْخَسَفَ الْقَمَرُ، وَغَابَ مُنْخَسِفًا، وَانْكَسَفَتِ الشَّمْسُ فِيهِ أَيْضًا آخِرَ النَّهَارِ، وَغَابَتْ مُنْكَسِفَةً، فَاجْتَمَعَ فِي الْمُحَرَّمِ كُسُوفَانِ. وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ وَثَبَتِ الْعَامَّةُ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيجِيِّ، فَانْتَهَبُوا دَارَهُ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ غُلَامًا لَهُ رَمَى امْرَأَةً بِسَهْمٍ فَقَتَلَهَا، فَاسْتَعْدَى السُّلْطَانُ عَلَيْهِ، فَامْتَنَعَ، وَرَمَى غِلْمَانُهُ النَّاسَ، فَقَتَلُوا جَمَاعَةً، وَجَرَحُوا، فَثَارَتْ بِهِمُ الْعَامَّةُ، فَقَتَلُوا فِيهِمْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ، وَنَهَبُوا مَنْزِلَهُ، وَدَوَابَّهُ، وَخَرَجَ هَارِبًا، فَجَمَعَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ - وَكَانَ نَائِبَ أَبِيهِ - دَوَابَّ إِبْرَاهِيمَ، وَمَا أُخِذَ لَهُ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ. وَفِيهَا وُجِّهَ إِلَى أَبِي السَّاجِ جَيْشٌ بَعْدَمَا انْصَرَفَ مِنْ مَكَّةَ، فَسَيَّرَهُ إِلَى جُدَّةَ، فَأَخَذَ لِلْمَخْزُومِيِّ مَرْكَبَيْنِ فِيهِمَا مَالٌ وَسِلَاحٌ. وَفِيهَا وَثَبَ خَلَفٌ صَاحِبُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ بِالثُّغُورِ الشَّامِيَّةِ، وَعَامِلُهُ عَلَيْهَا يَازْمَانُ الْخَادِمُ مَوْلَى مُفْلِحِ بْنِ خَاقَانَ، فَحَبَسَهُ، فَوَثَبَ بِهِ جَمَاعَةٌ فَاسْتَنْقَذُوا يَازْمَانَ، وَهَرَبَ خَلَفٌ، وَتَرَكَ الدُّعَاءَ لِابْنِ طُولُونَ، فَسَارَ إِلَيْهِمُ ابْنُ طُولُونَ، وَنَزَلَ أَذَنَةَ، فَاعْتَصَمَ أَهْلُ طَرَسُوسَ بِهَا، وَمَعَهُمْ يَازْمَانُ، فَرَجَعَ عَنْهُمُ ابْنُ طُولُونَ إِلَى حِمْصَ، ثُمَّ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَقَامَ بِهَا. وَفِيهَا قَامَ رَافِعُ بْنُ هَرْثَمَةَ بِمَا كَانَ الْخُجُسْتَانِيُّ غَلَبَ عَلَيْهِ مَنْ مُدُنِ خُرَاسَانَ، فَاجْتَبَى

عِدَّةً مِنْ كُوَرِ خُرَاسَانَ خَرَاجَهَا لِبِضْعِ عَشْرَةَ سَنَةٍ، فَأَفْقَرَ أَهْلَهَا وَأَخْرَبَهَا. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ الْحَسَنِيِّينَ، وَالْحُسَيْنِيِّينَ (بِالْحِجَازِ) ، وَالْجَعْفَرِيِّينَ، فَقُتِلَ مِنَ الْجَعْفَرِيِّينَ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ، وَخَلَّصُوا الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ الْعَبَّاسِيَّ عَامِلَ الْمَدِينَةِ. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، عَقَدَ هَارُونُ بْنُ الْمُوَفَّقِ لِابْنِ أَبِي السَّاجِ عَلَى الْأَنْبَارِ، وَطَرِيقِ الْفُرَاتِ، وَالرَّحْبَةِ، وَوَلِيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْكُوفَةَ وَسَوَادَهَا، فَلَقِيَ مُحَمَّدَ الْهَيْصَمَ الْعِجْلِيَّ، فَانْهَزَمَ الْهَيْصَمُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عِيسَى بْنُ الشَّيْخِ بْنِ السَّلِيلِ الشَّيْبَانِيُّ، وَبِيَدِهِ أَرْمِينِيَّةُ، وَدِيَارُ بَكْرٍ. وَفِيهَا لَعَنَ الْمُعْتَمِدُ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ فِي دَارِ الْعَامَّةِ وَأَمَرَ بِلَعْنِهِ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَوَلَّى إِسْحَاقَ بْنَ كُنْدَاجِيقَ عَلَى أَعْمَالِ ابْنِ طُولُونَ، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ مِنْ بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَوَلِيَ شُرْطَةَ الْخَاصَّةِ. وَكَانَ سَبَبُ هَذَا اللَّعْنِ أَنَّ ابْنَ طُولُونَ قَطَعَ خُطْبَةَ الْمُوَفَّقِ، وَأَسْقَطَ اسْمَهُ مِنَ الطِّرَازِ، فَتَقَدَّمَ الْمُوَفَّقُ إِلَى الْمُعْتَمِدِ بِلَعْنِهِ، فَفَعَلَ مُكْرَهًا، لِأَنَّ هَوَى الْمُعْتَمِدِ كَانَ مَعَ ابْنِ طُولُونَ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ ابْنِ أَبِي السَّاجِّ، وَالْأَعْرَابِ، فَهَزَمُوهُ، ثُمَّ بَيَّتَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ وَأَسَرَ، وَوَجَّهَ بِالرُّءُوسِ، وَالْأَسْرَى إِلَى بَغْدَاذَ.

وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ دَخَلَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ رَحْبَةَ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ بَعْدَ أَنْ قَاتَلَهُ أَهْلُهَا [فَغَلَبَهُمْ] ، وَقَتَلَهُمْ، وَهَرَبَ أَحْمَدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ سَارَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ إِلَى قَرْقِيسِيَا فَدَخَلَهَا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ. (وَفِيهَا خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ أَمِيرُ صِقِلِّيَةَ فِي عَسْكَرٍ إِلَى نَاحِيَةِ رَمْطَةَ، وَبَلَغَ الْعَسْكَرُ إِلَى قَطَانِيَةَ، فَقَتَلَ كَثِيرًا مِنَ الرُّومِ، وَسَبَى وَغَنِمَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَلَرْمَ فِي ذِي الْحِجَّةِ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ مُجَالِدٍ مَوْلَى الْمُعْتَصِمِ، وَهُوَ مِنْ دُعَاةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَخَذَ الْكَلَامَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُبَشِّرٍ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَفْصِ بْنِ أَبِي عُصْفُورٍ الْإِفْرِيقِيُّ، وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَرَادَ أَهْلَ الْقَيْرَوَانِ، فَسَلَّمَ لِذَلِكَ، وَصَحِبَ بِشْرًا الْمَرِّيسِيَّ، وَأَبَا الْهُذَيْلِ، وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ) .

ثم دخلت سنة سبعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 270 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ قَتْلِ الْخَبِيثِ صَاحِبِ الزِّنْجِ قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ حَرْبِ الزِّنْجِ، وَعَوْدِ الْمُوَفَّقِ عَنْهُمْ مُؤَيَّدًا بِالظَّفَرِ، فَلَمَّا عَادَ عَنْ قِتَالِهِمْ إِلَى مَدِينَةِ الْمُوَفَّقِيَّةِ عَزَمَ عَلَى مُنَاجَزَةِ الْخُبَثَاءِ، فَأَتَاهُ كِتَابُ لُؤْلُؤٍ غُلَامِ ابْنِ طُولُونَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْمَسِيرِ، فَأَذِنَ لَهُ وَتَرَكَ الْقِتَالَ يَنْتَظِرُهُ لِيَحْضُرَ الْقِتَالَ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ ثَالِثَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ، فَأَكْرَمَهُ الْمُوَفَّقُ، وَأَنْزَلَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَوَصَلَهُمْ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِالْأَرْزَاقِ عَلَى قَدْرِ مَرَاتِبِهِمْ، وَأَضْعَفَ مَا كَانَ لَهُمْ، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى لُؤْلُؤٍ بِالتَّأَهُّبِ لِحَرْبِ الْخُبَثَاءِ. وَكَانَ الْخَبِيثُ لَمَّا غَلَبَ عَلَى نَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ، وَقُطِعَتِ الْقَنَاطِرُ وَالْجُسُورُ الَّتِي عَلَيْهِ، أَحْدَثَ سِكْرًا فِي النَّهْرِ مِنْ جَانِبَيْهِ، وَجَعَلَ فِي وَسَطِ النَّهْرِ بَابًا ضَيِّقًا لِتَحْتَدَّ جَرْيَةُ الْمَاءِ فِيهِ، فَتَمْتَنِعَ الشَّذَا مِنْ دُخُولِهِ فِي الْجَزْرِ، وَيَتَعَذَّرُ خُرُوجُهَا مِنْهُ فِي الْمَدِّ، فَرَأَى الْمُوَفَّقُ أَنَّ جَرْيَهُ لَا يَتَهَيَّأُ إِلَّا بِقَلْعِ هَذَا السِّكْرِ، فَحَاوَلَ ذَلِكَ، فَاشْتَدَّتْ مُحَامَاةُ الْخُبَثَاءِ عَلَيْهِ، وَجَعَلُوا يَزِيدُونَ كُلَّ يَوْمٍ فِيهِ، وَهُوَ مُتَوَسِّطُ دُورِهِمْ، وَالْمَرْوِيَّةُ تُسَهِّلُ عَلَيْهِمْ، وَتُعَظِّمُ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَلْعَهُ، فَشَرَعَ فِي مُحَارَبَتِهِمْ بِفَرِيقٍ بَعْدَ فَرِيقٍ مِنْ أَصْحَابِ لُؤْلُؤٍ لِيَتَمَرَّنُوا عَلَى قِتَالِهِمْ، وَيَقِفُوا عَلَى الْمَسَالِكِ وَالطُّرُقِ فِي مَدِينَتِهِمْ، فَأَمَرَ لُؤْلُؤًا أَنْ يَحْضُرَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لِلْحَرْبِ عَلَى هَذَا السِّكْرِ، فَفَعَلَ، فَرَأَى الْمُوَفَّقُ مِنْ شَجَاعَةِ لُؤْلُؤٍ

وَإِقْدَامِهِ، وَشَجَاعَةِ أَصْحَابِهِ مَا سَرَّهُ، فَأَمَرَ لُؤْلُؤًا بِصَرْفِهِمْ إِشْفَاقًا عَلَيْهِمْ، وَوَصَلَهُمُ الْمُوَفَّقُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ. وَأَلَحَّ الْمُوَفَّقُ عَلَى هَذَا السِّكْرِ، وَكَانَ يُحَارِبُ الْمُحَامِينَ عَلَيْهِ بِأَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ لُؤْلُؤٍ وَغَيْرِهِمْ، وَالْفَعَلَةُ يَعْمَلُونَ فِي قَلْعِهِ، وَيُحَارِبُ الْخَبِيثَ وَأَصْحَابَهُ فِي عِدَّةِ وُجُوهٍ، فَيَحْرِقُ مَسَاكِنَهُمْ، وَيَقْتُلُ مُقَاتِلِيهِمْ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ الْجَمَاعَةُ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ لِلْخَبِيثِ وَأَصْحَابِهِ بَقِيَّةٌ مِنْ أَرَضِينَ بِنَاحِيَةِ النَّهْرِ الْغَرْبِيِّ، لَهُمْ فِيهَا مَزَارِعُ وَحُصُونٌ وَقَنْطَرَتَانِ، وَبِهِ جَمَاعَةٌ يَحْفَظُونَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ مِنْ جِهَاتِهِمْ، وَجَعَلَ كَمِينًا، ثُمَّ أَوْقَعَ بِهِمْ فَانْهَزَمُوا، فَكُلَّمَا قَصَدُوا جِهَةً خَرَجَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ فِيهَا، فَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا إِلَّا الشَّرِيدُ، فَأَخَذُوا مِنْ أَسْلِحَتِهِمْ مَا أَثْقَلَهُمْ حَمْلُهُ، وَقَطَعَ الْقَنْطَرَتَيْنِ، وَلَمْ يَزَلِ الْمُوَفَّقُ يُقَاتِلُهُمْ عَلَى سِكْرِهِمْ، حَتَّى تَهَيَّأَ لَهُ فِيهِ مَا أَحَبَّهُ فِي خَرْقِهِ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ عَزَمَ عَلَى لِقَاءِ الْخَبِيثِ، فَأَمَرَ بِإِصْلَاحِ السُّفُنِ، وَالْآلَاتِ لِلْمَاءِ وَالظَّهْرِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِهِ أَنْ يَأْتِيَ الْخَبِيثَ مِنْ نَاحِيَةِ دَارِ الْمُهَلَّبِيِّ، وَفَرَّقَ الْعَسَاكِرَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَأَضَافَ الْمُسْتَأْمِنَةَ إِلَى شِبْلٍ، وَأَمَرَهُ بِالْجِدِّ فِي قِتَالِ الْخَبِيثِ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ لَا يَزْحَفَ أَحَدٌ حَتَّى يُحَرِّكَ عَلَمًا أَسْوَدَ كَانَ نَصَبَهُ عَلَى دَارِ الْكَرْمَانِيِّ وَحَتَّى يَنْفُخَ فِي بُوقٍ بَعِيدِ الصَّوْتِ. وَكَانَ عُبُورُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَعَجِلَ بَعْضُ النَّاسِ، وَزَحَفَ نَحْوَهُمْ، فَلَقِيَهُ الزِّنْجُ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ، وَرَدُّوهُمْ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمْ سَائِرُ الْعَسْكَرِ بِذَلِكَ لِكَثْرَتِهِمْ، وَبُعْدِ الْمَسَافَةِ فِيمَا بَيْنَ بَعْضِهِمْ وَبَعْضٍ، وَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ بِتَحْرِيكِ الْعَلَمِ الْأَسْوَدِ، وَالنَّفْخِ فِي الْبُوقِ، فَزَحَفَ النَّاسُ فِي الْبَرِّ وَالْمَاءِ يَتْلُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَقِيَهُمُ الزِّنْجُ وَقَدْ حَشَدُوا، وَاجْتَرَءُوا، بِمَا تَهَيَّأَ لَهُمْ، عَلَى مَنْ كَانَ يُسْرِعُ إِلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُمُ الْجَيْشُ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ، وَبَصَائِرَ نَافِذَةٍ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْخَبِيثِ، وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَاخْتَلَطَ بِهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ مَا لَا يُحْصَى عَدَدًا، وَغَرِقَ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ، وَحَوَى الْمُوَفَّقُ الْمَدِينَةَ بِأَسْرِهَا، فَغَنِمَهَا أَصْحَابُهُ، وَاسْتَنْقَذُوا مَنْ كَانَ بَقِيَ مِنَ الْأَسْرَى مِنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَظَفِرُوا بِجَمِيعِ عِيَالِ عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيِّ، وَبِأَخَوَيْهِ: الْخَلِيلِ، وَمُحَمَّدٍ، وَأَوْلَادِهِمَا، وَعُبِرَ

بِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُوَفَّقِيَّةِ. وَمَضَى الْخَبِيثُ فِي أَصْحَابِهِ، وَمَعَهُ ابْنُهُ أَنْكِلَايُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ، وَقُوَّادٌ مِنَ الزِّنْجِ وَغَيْرِهِمْ، هَارِبِينَ، عَامِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ كَانَ الْخَبِيثُ قَدْ أَعَدَّهُ مَلْجَأً إِذَا غُلِبَ عَلَى مَدِينَتِهِ، وَذَلِكَ الْمَكَانُ عَلَى النَّهْرِ الْمَعْرُوفِ بِالسُّفْيَانِيِّ، وَكَانَ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ قَدِ اشْتَغَلُوا بِالنَّهْبِ، وَالْإِحْرَاقِ، وَتَقَدَّمَ الْمُوَفَّقُ فِي الشَّذَا نَحْوَ نَهْرِ السُّفْيَانِيِّ، وَمَعَهُ لُؤْلُؤٌ وَأَصْحَابُهُ، فَظَنَّ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى مَدِينَتِهِمُ الْمُوَفَّقِيَّةِ، فَانْصَرَفُوا إِلَى سُفُنِهِمْ بِمَا قَدْ حَوَوْا، وَانْتَهَى الْمُوَفَّقُ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى عَسْكَرِ الْخَبِيثِ وَهُمْ مُنْهَزِمُونَ، وَاتَّبَعَهُمْ لُؤْلُؤٌ فِي أَصْحَابِهِ، حَتَّى عَبَرَ السُّفْيَانِيَّ فَاقْتَحَمَ لُؤْلُؤٌ بِفَرَسِهِ، وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّهْرِ الْمَعْرُوفِ بِالْفِرَبْرِيِّ فَوَصَلَ إِلَيْهِ لُؤْلُؤٌ، وَأَصْحَابُهُ، فَأَوْقَعُوا بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ، فَهَزَمَهُمْ حَتَّى عَبَرَ نَهْرَ السُّفْيَانِيِّ، وَلُؤْلُؤٌ فِي أَثَرِهِمْ، فَاعْتَصَمُوا بِجَبَلٍ وَرَاءَهُ، وَانْفَرَدَ لُؤْلُؤٌ وَأَصْحَابُهُ بِاتِّبَاعِهِمْ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ بِالِانْصِرَافِ فَعَادَ مَشْكُورًا مَحْمُولًا لِفِعْلِهِ، فَحَمَلَهُ الْمُوَفَّقُ مَعَهُ، وَجَدَّدَ لَهُ مِنَ الْبِرِّ، وَالْكَرَامَةِ وَرِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ مَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَرَجَعَ الْمُوَفَّقُ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ بِمَدِينَةِ الزِّنْجِ، فَرَجَعَ إِلَى مَدِينَتِهِ، وَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِالْفَتْحِ، وَهَزِيمَةِ الزِّنْجِ وَصَاحِبِهِمْ. وَكَانَ الْمُوَفَّقُ قَدْ غَضِبَ عَلَى أَصْحَابِهِ بِمُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَهُ، وَتَرْكِهِمُ الْوُقُوفَ حَيْثُ أَمَرَهُمْ، فَجَمَعَهُمْ جَمِيعًا، وَوَبَّخَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَغْلَظَ لَهُمْ، فَاعْتَذَرُوا بِمَا ظَنُّوهُ مِنَ انْصِرَافِهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِمَسِيرِهِ، وَلَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَأَسْرَعُوا نَحْوَهُ، ثُمَّ تَعَاقَدُوا، وَتَحَالَفُوا بِمَكَانِهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَنْصَرِفَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِذَا تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْخَبِيثِ حَتَّى يَظْفَرُوا بِهِ، فَإِنْ أَعْيَاهُمْ أَقَامُوا بِمَكَانِهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَسَأَلُوا الْمُوَفَّقَ أَنْ يَرُدَّ السُّفُنَ الَّتِي يَعْبُرُونَ فِيهَا إِلَى الْخَبِيثِ، لِيَنْقَطِعَ النَّاسُ عَنِ الرُّجُوعِ، فَشَكَرَهُمْ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّأَهُّبِ. وَأَقَامَ الْمُوَفَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْجُمُعَةِ يُصْلِحُ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ بِالْمَسِيرِ إِلَى حَرْبِ الْخُبَثَاءِ بُكْرَةَ السَّبْتِ، وَطَافَ عَلَيْهِمْ هُوَ بِنَفْسِهِ يُعَرِّفُ كُلَّ قَائِدٍ مَرْكَزَهُ، وَالْمَكَانَ الَّذِي يَقْصِدُهُ، وَغَدَا الْمُوَفَّقُ يَوْمَ السَّبْتِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ صَفَرٍ، فَعَبَرَ

النَّاسُ، وَأَمَرَ بَرَدِّ السُّفُنِ، فَرُدَّتْ وَسَارَ يَقْدُمُهُمْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي قَدَّرَ أَنْ يَلْقَاهُمْ فِيهِ. وَكَانَ الْخَبِيثُ وَأَصْحَابُهُ قَدْ رَجَعُوا إِلَى مَدِينَتِهِمْ بَعْدَ انْصِرَافِ الْجَيْشِ عَنْهُمْ، وَأَمَلُوا أَنْ تَتَطَاوَلَ بِهِمُ الْأَيَّامُ وَتَنْدَفِعَ عَنْهُمُ الْمُنَاجَزَةُ، فَوَجَدَ الْمُوَفَّقُ الْمُتَسَرِّعِينَ مِنْ فُرْسَانِ غِلْمَانِهِ وَالرَّجَّالَةِ قَدْ سَبَقُوا الْجَيْشَ، فَأَوْقَعُوا بِالْخَبِيثِ وَأَصْحَابِهِ وَقْعَةً هَزَمُوهُمْ بِهَا، وَتَفَرَّقُوا لَا يَلْوِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ مَنْ لَحِقُوا مِنْهُمْ، وَانْقَطَعَ الْخَبِيثُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ حُمَاةِ أَصْحَابِهِ وَفِيهِمُ الْمُهَلَّبِيُّ، وَفَارَقَهُ ابْنُهُ أَنْكِلَايُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ، فَقَصَدَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ جَمْعًا كَثِيفًا مِنَ الْجَيْشِ. وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ قَدْ تَقَدَّمَ، فَلَقِيَ الْمُنْهَزِمِينَ فِي الْمَوْضِعِ الْمَعْرُوفِ بِعَسْكَرِ رَيْحَانَ، فَوَضَعَ أَصْحَابُهُ فِيهِمُ السِّلَاحَ، وَلَقِيَهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ أَيْضًا، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَأَسَرُوا سُلَيْمَانَ بْنَ جَامِعٍ، فَأَتَوْا بِهِ الْمُوَفَّقَ مِنْ غَيْرِ عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ، فَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِأَسْرِهِ، وَكَثُرَ التَّكْبِيرُ، وَأَيْقَنُوا الْفَتْحَ، إِذْ كَانَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْخَبِيثِ غَنَاءً عَنْهُ، وَأُسِرَ مِنْ بَعْدِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْهَمَذَانِيُّ، وَكَانَ أَحَدَ أُمَرَاءِ جُيُوشِهِ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ بِالِاسْتِيثَاقِ مِنْهُمْ وَجَعَلَهُمْ فِي شَذَاةٍ لِأَبِي الْعَبَّاسِ. ثُمَّ إِنَّ الزِّنْجَ الَّذِينَ انْفَرَدُوا مَعَ الْخَبِيثِ حَمَلُوا عَلَى النَّاسِ حَمْلَةً أَزَالُوهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ، فَفَتَرُوا، فَأَحَسَّ الْمُوَفَّقُ بِفُتُورِهِمْ، فَجَدَّ فِي طَلَبِ الْخَبِيثِ وَأَمْعَنَ، فَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ، وَانْتَهَى الْمُوَفَّقُ إِلَى آخِرِ نَهَرِ أَبِي الْخَصِيبِ، فَلَقِيَهُ الْبَشِيرُ بِقَتْلِ الْخَبِيثِ، وَأَتَاهُ بَشِيرٌ آخَرُ وَمَعَهُ كَفٌّ ذَكَرَ أَنَّهُ كَفُّهُ، فَقَوِيَ الْخَبَرُ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَتَاهُ غُلَامٌ مِنْ أَصْحَابِ لُؤْلُؤٍ يَرْكُضُ وَمَعَهُ رَأْسُ الْخَبِيثِ، فَأَدْنَاهُ مِنْهُ، وَعَرَضَهُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْتَأْمِنَةِ فَعَرَفُوهُ، فَخَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا، وَسَجَدَ مَعَهُ النَّاسُ، وَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ بِرَفْعِ رَأْسِهِ عَلَى قَنَاةٍ، فَتَأَمَّلَهُ النَّاسُ، فَعَرَفُوهُ، وَكَثُرَ الضَّجِيجُ بِالتَّحْمِيدِ. وَكَانَ مَعَ الْخَبِيثِ لَمَّا أُحِيطُ بِهِ الْمُهَلَّبِيُّ وَحْدَهُ، فَوَلَّى عَنْهُ هَارِبًا، وَقَصَدَ نَهْرَ الْأَمِيرِ فَأَلْقَى نَفْسَهُ فِيهِ يُرِيدُ النَّجَاةَ ; وَكَانَ أَنْكِلَايُ قَدْ فَارَقَ أَبَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَسَارَ نَحْوَ الدِّينَارِيِّ. وَرَجَعَ الْمُوَفَّقُ وَرَأْسُ الْخَبِيثِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسُلَيْمَانُ مَعَهُ، وَأَصْحَابُهُ إِلَى مَدِينَتِهِ، وَأَتَاهُ مِنَ الزِّنْجِ عَالَمٌ كَبِيرٌ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَانْتَهَى إِلَيْهِ خَبَرُ أَنْكِلَايُ، وَالْمُهَلَّبِيِّ، وَمَكَانُهُمَا، وَمَنْ مَعَهُمَا مِنْ مُقَدَّمِي الزِّنْجِ، فَبَثَّ الْمُوَفَّقُ أَصْحَابَهُ فِي طَلَبِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَيْقَنُوا أَنْ لَا مَلْجَأَ أَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ، فَظُفِرَ بِهِمْ وَبِمَنْ مَعَهُمْ، وَكَانُوا زُهَاءَ خَمْسَةِ آلَافٍ،

فَأَمَرَ بِالِاسْتِيثَاقِ مِنَ الْمُهَلَّبِيِّ، وَأَنْكِلَايَ، وَكَانَ مِمَّنْ هَرَبَ قِرْطَاسٌ الرُّومِيُّ الَّذِي رَمَى الْمُوَفَّقَ بِالسَّهْمِ فِي صَدْرِهِ، فَانْتَهَى إِلَى رَامَهُرْمُزَ، فَعَرَفَهُ رَجُلٌ، فَدَلَّ عَلَيْهِ عَامِلَ الْبَلَدِ، فَأَخَذَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى الْمُوَفَّقِ فَقَتَلَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ. وَفِيهَا اسْتَأْمَنَ دَرْمَوَيْهِ الزِّنْجِيُّ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ، وَكَانَ دَرْمَوَيْهِ مِنْ أَنْجَادِ الزِّنْجِ وَأَبْطَالِهِمْ، وَكَانَ الْخَبِيثُ قَدْ وَجَّهَهُ قَبْلَ هَلَاكِهِ بِمُدَّةٍ إِلَى مَوْضِعٍ كَثِيرِ الشَّجَرِ، وَالْأَدْغَالِ، وَالْآجَامِ، مُتَّصِلٍ بِالْبَطِيحَةِ، وَكَانَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ هُنَالِكَ عَلَى السَّابِلَةِ فِي زَوَارِيقَ خِفَافٍ، فَإِذَا طُلِبُوا دَخَلُوا الْأَنْهَارَ الصِّغَارَ الضَّيِّقَةَ، وَاعْتَصَمُوا بِالْأَدْغَالِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ مَسْلَكٌ لِضِيقِهِ حَمَلُوا سُفُنَهُمْ وَلَجَئُوا إِلَى الْأَمْكِنَةِ الْوَسِيعَةِ، وَيَعْبُرُونَ عَلَى قُرَى الْبَطِيحَةِ، وَيَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، فَظَفِرَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ عَسْكَرِ الْمُوَفَّقِ مَعَهُمْ نِسَاءٌ قَدْ عَادُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، فَقَتَلَ الرِّجَالَ، وَأَخَذَ النِّسَاءَ، فَسَأَلَهُنَّ عَنِ الْخَبَرِ، فَأَخْبَرْنَهُ بِقَتْلِ الْخَبِيثِ، وَأَسْرِ أَصْحَابِهِ، وَقُوَّادِهِ، وَمَصِيرِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ إِلَى الْمُوَفَّقِ بِالْأَمَانِ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، فَسُقِطَ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ مَلْجَأً إِلَّا طَلَبَ الْأَمَانِ، وَالصَّفْحِ عَنْ جُرْمِهِ، فَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَأَجَابَهُ الْمُوَفَّقُ إِلَيْهِ، فَخَرَجَ وَجَمِيعُ مَنْ مَعَهُ، حَتَّى وَافَى عَسْكَرَ الْمُوَفَّقِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَمَّنَهُمْ. فَلَمَّا اطْمَأَنَّ دَرْمَوَيْهِ أَظْهَرَ مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالْأَمْتِعَةِ، وَرَدَّهَا إِلَى أَرْبَابِهَا رَدًّا ظَاهِرًا، فَعُلِمَ بِذَلِكَ حُسْنُ نِيَّتِهِ، فَازْدَادَ إِحْسَانُ الْمُوَفَّقِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ إِلَى أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ بِالنِّدَاءِ فِي أَهْلِ النَّوَاحِي الَّتِي دَخَلَهَا الزِّنْجُ بِالرُّجُوعِ إِلَى أَوْطَانِهِمْ، فَسَارَ النَّاسُ إِلَى ذَلِكَ ; وَأَقَامَ الْمُوَفَّقُ بِالْمَدِينَةِ الْمُوَفَّقِيَّةِ لِيَأْمَنَ النَّاسُ بِمُقَامِهِ، وَوَلَّى الْبَصْرَةَ، وَالْأُبُلَّةَ، وَكُوَرَ دِجْلَةَ، رَجُلًا مِنْ قُوَّادِهِ قَدْ حَمِدَ مَذْهَبَهُ، وَعَلِمَ حُسْنَ سِيرَتِهِ، يُقَالُ لَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ تَرْكُسَ، وَأَمَرَهُ بِالْمُقَامِ بِالْبَصْرَةِ، وَوَلَّى قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَالْأُبُلَّةِ وَكُوَرَ دِجْلَةَ مُحَمَّدَ بْنَ حَمَّادٍ. وَقَدَّمَ ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَمَعَهُ رَأْسُ الْخَبِيثِ لِيَرَاهُ النَّاسُ، فَبَلَغَهَا لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَ خُرُوجُ صَاحِبِ الزِّنْجِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقُتِلَ يَوْمَ السَّبْتِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَتْ

أَيَّامُهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ فِي أَمْرِ الْمُوَفَّقِ، وَأَصْحَابِ الزِّنْجِ أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَسْلَمِيِّ: أَقُولُ وَقَدْ جَاءَ الْبَشِيرُ بِوَقْعَةٍ ... أَعَزَّتْ مِنَ الْإِسْلَامِ مَا كَانَ وَاهِيَا جَزَى اللَّهُ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ بَعْدَمَا ... أُبِيحَ حِمَاهُمْ خَيْرَ مَا كَانَ جَازِيَا تَفَرَّدَ، إِذْ لَمْ يَنْصُرِ اللَّهَ، نَاصِرٌ ... بِتَجْدِيدِ دِينٍ كَانَ أَصْبَحَ بَالِيَا وَتَجْدِيدِ مُلْكٍ قَدْ وَهَى بَعْدَ عِزِّهِ ... وَأَخْذٍ بِثَارَاتٍ تُبِينُ الْأَعَادِيَا وَرَدِّ عِمَارَاتٍ أُزِيلَتْ وَأُخْرِبَتْ ... لِيَرْجِعَ فَيْءٌ قَدْ تُخُرِّمَ وَافِيَا وَتَرْجِعَ أَمْصَارٌ أُبِيحَتْ وَأُحْرِقَتْ ... مِرَارًا فَقَدْ أَمْسَتْ قِوَاءً عَوَافِيَا وَيَشْفِي صُدُورَ الْمُسْلِمِينَ بِوَقْعَةٍ ... يُقِرُّ بِهَا مِنْهَا الْعُيُونَ الْبَوَاكِيَا وَيُتْلَى كِتَابُ اللَّهِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ... وَيُلْقَى دُعَاءُ الطَّالِبِيِّينَ خَاسِيَا فَأَعْرَضَ عَنْ أَحْبَابِهِ وَنَعِيمِهِ ... وَعَنْ لَذَّةِ الدُّنْيَا وَأَصْبَحَ غَازِيَا وَهِيَ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا شِعْرًا كَثِيرًا. انْقَضَى أَمْرُ الزِّنْجِ.

ذِكْرُ الظَّفَرِ بِالرُّومِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَتِ الرُّومُ فِي مِائَةِ أَلْفٍ، فَنَزَلُوا عَلَى قَلَمْيَةَ، وَهِيَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنْ طَرَسُوسَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ بَازْمَانُ لَيْلًا، فَبَيَّتَهُمْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ، فِيمَا يُقَالُ: سَبْعِينَ أَلْفًا، وَقَتَلَ مُقَدَّمَهُمْ، وَهُوَ بِطْرِيقُ الْبَطَارِقَةِ، وَقَتَلَ أَيْضًا بِطْرِيقَ الْقَبَازِيقِ، وَبِطْرِيقَ النَّاطَلِيقِ، وَأَفْلَتَ بِطْرِيقُ قُرَّةَ وَبِهِ عِدَّةُ جِرَاحَاتٍ، وَأَخَذَ لَهُمْ سَبْعَ صُلْبَانٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ ; وَصَلِيبَهُمُ الْأَعْظَمَ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلٍ بِالْجَوْهَرِ، وَأَخَذَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دَابَّةٍ، وَمِنَ السُّرُوجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَسُيُوفًا مُحَلَّاةً، وَأَرْبَعَةَ كَرَاسِيَّ مِنْ ذَهَبٍ، وَمِائَتَيْ كُرْسِيٍّ مِنْ فِضَّةٍ، وَآنِيَةً كَثِيرَةً، وَنَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ عَلَمٍ دَيْبَاجٍ، وَدَيْبَاجًا كَثِيرًا (وَبَزْيُونَ) وَغَيْرَ ذَلِكَ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ، وَوِلَايَةِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ الْعَلَوِيُّ صَاحِبُ طَبَرِسْتَانَ فِي رَجَبٍ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ. وَكَانَ الْحَسَنُ جَوَادًا امْتَدَحَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ مُتَوَاضِعًا لِلَّهِ تَعَالَى. حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَدَحَهُ شَاعِرٌ فَقَالَ: اللَّهُ فَرْدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ فَرْدٌ، فَقَالَ: بِفِيكَ الْحَجَرُ، يَا كَذَّابُ، هَلَّا قُلْتَ اللَّهُ فَرْدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ عَبْدٌ! ثُمَّ نَزَلَ عَنْ مَكَانِهِ، وَخَرَّ سَاجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالتُّرَابِ، وَحَرَمَ الشَّاعِرَ. وَكَانَ عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالْعَرَبِيَّةِ، مَدَحَهُ شَاعِرٌ فَقَالَ:

لَا تَقُلْ بُشْرَى، وَلَكِنْ بُشْرَيَانِ ... عِزَّةُ الدَّاعِي وَيَوْمُ الْمِهْرَجَانِ فَقَالَ لَهُ: كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تَفْتَتِحَ الْأَبْيَاتَ بِغَيْرِ لَا، فَإِنَّ الشَّاعِرَ الْمُجِيدَ يَتَخَيَّرُ لِأَوَّلِ الْقَصِيدَةِ مَا يُعْجِبُ السَّامِعَ، وَيَتَبَرَّكُ بِهِ، وَلَوِ ابْتَدَأَتْ بِالْمِصْرَاعِ الثَّانِي لَكَانَ أَحْسَنُ، فَقَالَ الشَّاعِرُ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا كَلِمَةٌ أَجْلُّ مَنْ قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَوَّلُهَا لَا، فَقَالَ: أَصَبْتَ! وَأَجَازَهُ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ غَنَّى عِنْدَهُ مُغَنٍّ بِأَبْيَاتِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ فِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ الَّتِي أَوَّلُهَا: وَأَنَا الْأَخْضَرُ مَنْ يَعْرِفُنِي؟ ... أَخْضَرُ الْجِلْدَةِ مِنْ بَيْتِ الْعَرَبِ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قَوْلِهِ: بِرَسُولِ اللَّهِ وَابْنَيْ عَمِّهِ ... وَبِعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ غَيَّرَ الْبَيْتَ فَقَالَ: لَا بِعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَغَضِبَ الْحَسَنُ، وَقَالَ: يَا ابْنَ اللَّخْنَاءِ، تَهْجُو بَنِي عَمِّنَا بَيْنَ يَدَيَّ، وَتُحَرِّفُ مَا مُدِحُوا بِهِ؟ لَئِنْ فَعَلْتَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً لَأَجْعَلَنَّهَا آخِرَ غِنَائِكَ. ذِكْرُ وَفَاةِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، وَوِلَايَةِ ابْنِهِ خُمَارَوَيْهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ، صَاحِبُ مِصْرَ، وَالشَّامِ، وَالثُّغُورِ الشَّامِيَّةِ. وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّ نَائِبَهُ بِطَرَسُوسَ وَثَبَ عَلَيْهِ يَازْمَانُ الْخَادِمُ، وَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَعَصَى عَلَى أَحْمَدَ، وَأَظْهَرَ الْخِلَافَ، فَجَمَعَ أَحْمَدُ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَصَلَ أَذَنَةَ كَاتَبَهُ وَرَاسَلَهُ يَسْتَمِيلُهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى رِسَالَتِهِ فَسَارَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ، وَنَازَلَهُ وَحَصَرَهُ، فَخَرَقَ يَازْمَانُ نَهْرَ الْبَلَدِ عَلَى مَنْزِلَةِ الْعَسْكَرِ، فَكَادَ النَّاسُ يَهْلِكُونَ، فَرَحَلَ أَحْمَدُ مَغِيظًا حَنِقًا، وَكَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً، وَأَرْسَلَ إِلَى يَازْمَانَ: إِنَّنِي لَمْ أَرْحَلْ إِلَّا خَوْفًا أَنْ تَنْخَرِقَ حُرْمَةُ هَذَا الثَّغْرِ فَيَطْمَعَ فِيهِ الْعَدُوُّ. فَلَمَّا عَادَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ أَكَلَ لَبَنَ الْجَوَامِيسِ، فَأَكْثَرَ مِنْهُ، فَأَصَابَهُ مِنْهُ هَيْضَةٌ،

وَاتَّصَلَتْ حَتَّى صَارَ مِنْهَا ذَرَبٌ، وَكَانَ الْأَطِبَّاءُ يُعَالِجُونَهُ، وَهُوَ يَأْكُلُ سِرًّا، فَلَمْ يَنْجَعِ الدَّوَاءُ، فَتُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ نَحْوَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَ عَاقِلًا، حَازِمًا، كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ وَالصَّدَقَةِ مُتَدَيِّنًا، يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَأَهْلَ الدِّينِ، وَعَمِلَ كَثِيرًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى قَلْعَةَ يَافَا، وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ بِغَيْرِ قَلْعَةٍ. وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَيُكْرِمُ أَصْحَابَهُ. وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ خُمَارَوَيْهِ، وَأَطَاعَهُ الْقُوَّادُ، وَعَصَى عَلَيْهِ نَائِبُ أَبِيهِ بِدِمَشْقَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرَ فَأَجْلَوْهُ، وَسَارُوا مِنْ دِمَشْقَ إِلَى شَيْزَرَ. ذِكْرُ مَسِيرِ إِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجِيقَ إِلَى الشَّامِ لَمَّا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ كُنْدَاجِيقَ عَلَى الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ، فَطَمِعَ هُوَ وَابْنُ أَبِي السَّاجِ فِي الشَّامِ، وَاسْتَصْغَرَا أَوْلَادَ أَحْمَدَ، وَكَاتَبَا الْمُوَفَّقَ بِاللَّهِ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَمَدَّاهُ فَأَمَرَهُمَا بِقَصْدِ الْبِلَادِ، وَوَعَدَهُمَا إِنْفَاذَ الْجُيُوشِ، فَجَمَعَا، وَقَصَدَا مَا يُجَاوِرُهُمَا مِنَ الْبِلَادِ، فَاسْتَوْلَيَا عَلَيْهِ وَأَعَانَهُمَا النَّائِبُ بِدِمَشْقَ لِأَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، وَوَعَدَهُمَا الِانْحِيَازَ إِلَيْهِمَا، فَتَرَاجَعَ مَنْ بِالشَّامِ مِنْ نُوَّابِ أَحْمَدَ بِأَنْطَاكِيَةَ، وَحَلَبَ، وَحِمْصَ، وَعَصَى مُتَوَلِّي دِمَشْقَ، وَاسْتَوْلَى إِسْحَاقُ عَلَى ذَلِكَ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى أَبِي الْجَيْشِ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ، فَسَيَّرَ الْجُيُوشَ إِلَى الشَّامِ فَمَلَكُوا دِمَشْقَ، وَهَرَبَ النَّائِبُ الَّذِي كَانَ بِهَا، (وَسَارَ عَسْكَرُ خُمَارَوَيْهِ) مِنْ دِمَشْقَ إِلَى شَيْزَرَ لِقِتَالِ إِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجِيقَ وَابْنِ أَبِي السَّاجِ، فَطَاوَلَهُمْ إِسْحَاقُ يَنْتَظِرُ الْمَدَدَ مِنَ الْعِرَاقِ، وَهَجَمَ الشِّتَاءُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَأَضَرَّ بِأَصْحَابِ ابْنِ طُولُونَ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْمَنَازِلِ بِشَيْزَرَ. وَوَصَلَ الْعَسْكَرُ الْعِرَاقِيُّ إِلَى كُنْدَاجِيقَ، وَعَلَيْهِمْ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُوَفَّقِ وَهُوَ

الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ، فَلَمَّا وَصَلَ سَارَ مُجِدًّا إِلَى عَسْكَرِ خُمَارَوَيُهِ بِشَيْزَرَ، فَلَمْ يَشْعُرُوا حَتَّى كَبَسَهُمْ فِي الْمَسَاكِنِ، وَوَضَعَ السَّيْفَ فِيهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَسَارَ مَنْ سَلِمَ إِلَى دِمَشْقَ (عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ، فَسَارَ الْمُعْتَضِدُ إِلَيْهِمْ، فَجَلَوْا عَنْ دِمَشْقَ إِلَى الرَّمْلَةِ، وَمَلَكَ هُوَ دِمَشْقَ) ، وَدَخَلَهَا فِي شَعْبَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَقَامَ عَسْكَرُ ابْنِ طُولُونَ بِالرَّمْلَةِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى خُمَارَوَيْهِ يُعَرِّفُونَهُ الْحَالَ، فَخَرَجَ مِنْ مِصْرَ فِي عَسَاكِرِهِ قَاصِدًا إِلَى الشَّامِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى تُوُفِّيَ هَارُونُ بْنُ الْمُوَفَّقِ بِبَغْدَاذَ. وَفِيهَا، كَانَ فِدَاءُ أَهْلِ سِنْدِيَّةَ عَلَى يَدِ يَازْمَانَ وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ شَغَبَ أَصْحَابُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْمُوَفَّقِ عَلَى صَاعِدِ بْنِ مَخْلَدٍ، وَهُوَ وَزِيرُ الْمُوَفَّقِ، وَطَلَبُوا الْأَرْزَاقَ، وَقَاتَلَهُمْ أَصْحَابُ صَاعِدٍ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ قُتِلَ فِيهَا جَمَاعَةٌ، وَأُسِرَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْعَبَّاسِ جَمَاعَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَبُو الْعَبَّاسِ حَاضِرًا، كَانَ قَدْ خَرَجَ مُتَصَيِّدًا، وَدَامَتِ الْحَرْبُ إِلَى بَعْدِ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ كَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، ثُمَّ وَضَعَ الْعَطَاءَ مِنَ الْغَدِ، وَاصْطَلَحُوا. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ إِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجِيقَ وَبَيْنَ ابْنِ دَعْبَاشَ (وَكَانَ ابْنُ دَعْبَاشَ) بِالرَّقَّةِ عَامِلًا عَلَيْهَا، وَعَلَى الثُّغُورِ وَالْعَوَاصِمِ لِابْنِ طُولُونَ، وَابْنُ كُنْدَاجِيقَ عَلَى الْمَوْصِلِ لِلْخَلِيفَةِ. وَفِيهَا ابْتَدَأَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى بِبِنَاءِ مَدِينَةِ لَارَدَةَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ مُخَالِفًا لِمُحَمَّدٍ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ، ثُمَّ صَالَحَهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، فَلَمَّا سَمِعَ صَاحِبُ بَرْشِلُونَةَ الْفِرِنْجِيُّ جَمَعَ وَحَشَدَ وَسَارَ يُرِيدُ مَنْعَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَسَمِعَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ، فَقَصَدَهُ وَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ

الْمُشْرِكُونَ، وَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَبَقِيَ أَكْثَرُ الْقَتْلَى فِي تِلْكَ الْأَرْضِ دَهْرًا طَوِيلًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّاغَانِيُّ الْحَافِظُ. وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُثْمَانَ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ وَارَةَ الرَّازِيِّ، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ، وَلَهُ فِيهِ مُصَنَّفَاتٌ. (فِيهَا تُوُفِّيَ) دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ الْفَقِيهُ، إِمَامُ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُصْعَبُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُصْعَبٍ أَبُو أَحْمَدَ الصُّوفِيُّ الزَّاهِدُ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ الْجُنَيْدِ. وَفِيهَا مَاتَ مَلِكُ الرُّومِ، وَهُوَ ابْنُ الصَّقْلَبِيَّةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ خَالِدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ السَّيَّدُوسِيُّ الذُّهْلِيُّ الَّذِي كَانَ أَمِيرَ خُرَاسَانَ

بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ قَدْ قَصَدَ الْحَجَّ فَقَبَضَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَمِدُ وَحَبَسَهُ، فَمَاتَ بِالْحَبْسِ، وَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الْبُخَارِيَّ صَاحِبَ " الصَّحِيحِ " مِنْ بُخَارَى وَخَبَرُهُ مَعَهُ مَشْهُورٌ، فَدَعَا عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فَأَدْرَكَتْهُ الدَّعْوَةُ) .

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 271 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ خِلَافِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ الْعَلَوِيَّيْنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ مُحَمَّدٌ، وَعَلِيٌّ ابْنَا الْحُسَيْنِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمَدِينَةَ، وَقَتَلَا جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِهَا، وَأَخَذَا مِنْ قَوْمٍ مَالًا، وَلَمْ يُصَلِّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ جُمَعٍ، لَا جُمُعَةً، وَلَا جَمَاعَةً، فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَلَوِيُّ فِي ذَلِكَ: أُخْرِبَتْ دَارُ هِجْرَةِ الْمُصْطَفَى الْبَ ... رِّ فَأَبْكَى خَرَابُهَا الْمُسْلِمِينَا عَيْنُ فَابْكِي مَقَامَ جِبْرِيلَ وَالْقَبْ ... رَ فَبَكَى وَالْمِنْبَرَ الْمَيْمُونَا وَعَلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسُّهُ التَّقْ ... وَى، خَلَاءً أَمْسَى مِنَ الْعَابِدِينَا وَعَلَى طِيبَةَ الَّتِي بَارَكَ اللَّ ... هُ عَلَيْهَا بِخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَا ذِكْرُ عَزْلِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ عَنْ خُرَاسَانَ وَفِيهَا أَدْخَلَ الْمُعْتَمِدُ إِلَيْهِ حَاجَّ خُرَاسَانَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ قَدْ عَزَلَ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ عَمَّا كَانَ قَلَّدَهُ، وَلَعَنَهُ بِحَضْرَتِهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَلَّدَ خُرَاسَانَ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ، وَأَمَرَ أَيْضًا بِلَعْنِ عَمْرٍو عَلَى الْمَنَابِرِ، فَلُعِنَ، فَسَارَ صَاعِدُ بْنُ مَخْلَدٍ إِلَى فَارِسَ لِحَرْبِ عَمْرٍو، فَاسْتَخْلَفَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ رَافِعَ بْنَ هَرْثَمَةَ عَلَى خُرَاسَانَ، فَلَمْ يُغَيِّرِ السَّامَانِيَّةَ عَمَّا وَرَاءَ النَّهْرِ.

ذِكْرُ وَقْعَةِ الطَّوَاحِينِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةُ الطَّوَاحِينِ بَيْنَ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدِ وَبَيْنَ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَضِدَ سَارَ مِنْ دِمَشْقَ، بَعْدَ أَنْ مَلَكَهَا نَحْوَ الرَّمْلَةِ إِلَى عَسَاكِرِ خُمَارَوَيْهِ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِوُصُولِ خُمَارَوَيْهِ إِلَى عَسَاكِرِهِ، وَكَثْرَةِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُمُوعِ، فَهَمَّ بِالْعَوْدِ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ خُمَارَوَيْهِ الَّذِينَ صَارُوا مَعَهُ، وَكَانَ الْمُعْتَضِدُ قَدْ أَوْحَشَ ابْنَ كُنْدَاجِيقَ، وَابْنَ أَبِي السَّاجِ، وَنَسَبَهُمَا إِلَى الْجُبْنِ، حَيْثُ انْتَظَرَاهُ لِيَصِلَ إِلَيْهَا، فَفَسَدَتْ نِيَّاتُهُمَا مَعَهُ. وَلَمَّا وَصَلَ خُمَارَوَيْهِ إِلَى الرَّمْلَةِ نَزَلَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّوَاحِينُ، فَمَلَكَهُ، فَنُسِبَتِ الْوَقْعَةُ إِلَيْهِ، وَوَصَلَ الْمُعْتَضِدُ وَقَدْ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا فَعَلَ خُمَارَوَيْهِ، وَجَعَلَ لَهُ كَمِينًا عَلَيْهِمْ سَعِيدًا الْأَيْسَرَ، وَحَمَلَتْ مَيْسَرَةُ الْمُعْتَضِدِ عَلَى مَيْمَنَةِ خُمَارَوَيْهِ، فَانْهَزَمَتْ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خُمَارَوَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ رَأَى مَصَافًّا قَبْلَهُ، وَلَّى مُنْهَزِمًا فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَحْدَاثِ الَّذِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ وَلَمْ يَقِفْ دُونَ مِصْرَ. وَنَزَلَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى خِيَامِ خُمَارَوَيْهِ، وَهُوَ لَا يَشُكُّ فِي تَمَامِ النَّصْرِ، فَخَرَجَ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ سَعِيدٌ الْأَيْسَرُ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ مَنْ بَقِيَ مَنْ جَيْشِ خُمَارَوَيْهِ، وَنَادَوْا بِشِعَارِهِمْ، وَحَمَلُوا عَلَى عَسْكَرِ الْمُعْتَضِدِ وَهُمْ مَشْغُولُونَ بِنَهْبِ السَّوَادِ، وَوَضَعَ الْمِصْرِيُّونَ السَّيْفَ فِيهِمْ، وَظَنَّ الْمُعْتَضِدُ أَنَّ خُمَارَوَيْهِ قَدْ عَادَ، فَرَكِبَ فَانْهَزَمَ وَلَمْ يَلْوِ عَلَى شَيْءٍ، فَوَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ، وَلَمْ يَفْتَحْ لَهُ أَهْلُهَا بَابَهَا، فَمَضَى مُنْهَزِمًا حَتَّى بَلَغَ طَرَسُوسَ، وَبَقِيَ الْعَسْكَرَانِ يَضْطَرِبَانِ بِالسُّيُوفِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهَا أَمِيرٌ. وَطَلَبَ سَعِيدٌ الْأَيْسَرُ خُمَارَوَيْهِ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَأَقَامَ أَخَاهُ أَبَا الْعَشَائِرِ، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْعِرَاقِيِّينَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَأُسِرَ كَثِيرٌ. وَقَالَ سَعِيدٌ لِلْعَسَاكِرِ: إِنَّ هَذَا أَخُو صَاحِبِكُمْ، وَهَذِهِ الْأَمْوَالُ تُنْفَقُ فِيكُمْ، وَوَضَعَ الْعَطَاءَ، فَاشْتَغَلَ الْجُنْدُ عَنِ الشَّغَبِ بِالْأَمْوَالِ، وَسُيِّرَتِ الْبِشَارَةُ إِلَى مِصْرَ، فَفَرِحَ خُمَارَوَيْهِ بِالظَّفَرِ، وَخَجِلَ لِلْهَزِيمَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَكْثَرَ الصَّدَقَةَ، وَفَعَلَ مَعَ الْأَسْرَى فَعْلَةً لَمْ يَسْبِقْ إِلَى مِثْلِهَا

أَحَدٌ قَبْلَهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ أَضْيَافُكُمْ فَأَكْرِمُوهُمْ، ثُمَّ أَحْضَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُمْ: مَنِ اخْتَارَ الْمُقَامَ عِنْدِي فَلَهُ الْإِكْرَامُ وَالْمُوَاسَاةُ، وَمَنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ جَهَّزْنَاهُ وَسَيَّرْنَاهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَقَامَ وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ مُكْرَمًا، وَعَادَتْ عَسْكَرُ خُمَارَوَيْهِ إِلَى الشَّامِ فَفَتَحَتْهُ أَجْمَعَ، فَاسْتَقَرَّ مُلْكُ خُمَارَوَيْهِ لَهُ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ، وَعَمْرٍو الصَّفَّارِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَاشِرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ عَسَاكِرِ الْخَلِيفَةِ وَفِيهَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفَ، وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ الصَّفَّارِ، وَدَامَتِ الْحَرْبُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى الظُّهْرِ، فَانْهَزَمَ عَمْرٌو وَعَسَاكِرُهُ، وَكَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا بَيْنَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، وَجُرِحَ الدِّرْهَمِيُّ مُقَدَّمُ جَيْشِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، وَقُتِلَ مِائَةُ رَجُلٍ مِنْ حُمَاتِهِمْ، وَأُسِرَ ثَلَاثَةُ آلَافِ أَسِيرٍ، اسْتَأْمَنَ مِنْهُمْ أَلْفُ رَجُلٍ، وَغَنِمُوا مِنْ مُعَسْكَرِ عَمْرٍو مِنَ الدَّوَابِّ وَالْبَقَرِ وَالْحَمِيرِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ رَأْسٍ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَخَارِجٌ عَنِ الْحَدِّ. ذِكْرُ حُرُوبِ الْأَنْدَلُسِ وَإِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ مُحَمَّدٌ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ جَيْشًا مَعَ ابْنِهِ الْمُنْذِرِ إِلَى مَدِينَةِ بَطْلَيُوسَ، فَزَالَ عَنْهَا ابْنُ مَرْوَانَ الْجِلِّيقِيُّ، وَكَانَ مُخَالِفًا، كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَصَدَ حِصْنَ أَشِيرَ غِرَّةً فَتَحَصَّنَ بِهِ، فَأَحْرَقَ الْمُنْذِرُ بَطْلَيُوسَ، وَسَيَّرَ مُحَمَّدٌ أَيْضًا جَيْشًا مَعَ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى مَدِينَةِ سَرَقُسْطَةَ، بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ لُبِّ بْنِ مُوسَى، فَمَلَكَهَا هَاشِمٌ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا مُحَمَّدًا، وَكَانَ مَعَهُ عُمَرُ بْنُ حَفْصُونٍ الَّذِي ذَكَرْنَا خُرُوجَهُ عَلَى صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ فَصَالَحَهُ. فَلَمَّا عَادُوا إِلَى قُرْطُبَةَ هَرَبَ عُمَرُ بْنُ حَفْصُونٍ، وَقَصَدَ بَرْبُشْتَرَ مُخَالِفًا، فَاهْتَمَّ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ بِهِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَفِيهَا سَارَتْ سَرِيَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَظِيمَةٌ بِصِقِلِّيَةَ إِلَى رَمْطَةَ، فَخَرَّبَتْ وَغَنِمَتْ وَسَبَتْ، وَأَسَرَتْ كَثِيرًا وَعَادَتْ. وَتُوُفِّيَ أَمِيرُ صِقِلِّيَةَ، وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ، فَوُلِّيَ بَعْدَهُ سَوَادَةُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَفَاجَةَ التَّمِيمِيُّ، وَقَدِمَ إِلَيْهَا، فَسَارَ عَسْكَرٌ كَبِيرٌ إِلَى مَدِينَةِ قَطَانِيَةَ فَأَهْلَكَ مَا فِيهَا، وَسَارَ إِلَى طَبَرْمِينَ فَقَاتَلَ أَهْلَهَا، وَأَفْسَدَ زَرْعَهَا، وَتَقَدَّمَ فِيهَا، فَأَتَاهُ رَسُولُ بِطْرِيقِ الرُّومِ يَطْلُبُ الْهُدْنَةَ، وَالْمُفَادَاةَ، فَهَادَنَهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَفَادَاهُ ثَلَاثَمِائَةِ أَسِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَرَجَعَ سَوَادَةُ إِلَى بَلَرْمَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُقِدَ لِأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّائِيِّ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَطَرِيقِ مَكَّةَ، فَوَثَبَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ - وَهُوَ وَالِي مَكَّةَ - عَلَى بَدْرٍ غُلَامِ الطَّائِيِّ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْحَاجِّ، فَحَارَبَهُ، وَأَسَرَهُ، فَثَارَ الْجُنْدُ بِيُوسُفَ، فَقَاتَلُوهُ، وَاسْتَنْقَذُوا بَدْرًا، وَأَسَرُوا يُوسُفَ، وَحَمَلُوهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَكَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَفِيهَا خَرَّبَتِ الْعَامَّةُ الدَّيْرَ الْعَتِيقَ الَّذِي وَرَاءَ نَهْرِ عِيسَى، وَانْتَهَبُوا مَا فِيهِ، وَقَلَعُوا أَبْوَابَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِمُ الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، صَاحِبُ شُرْطَةِ بَغْدَاذَ مِنْ قِبَلِ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ هَدْمِ مَا بَقِيَ مِنْهُ، وَكَانَ يَتَرَدَّدُ هُوَ وَالْعَامَّةُ إِلَيْهِ أَيَّامًا، حَتَّى كَادَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ، ثُمَّ بَنَى مَا هَدَمَ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَكَانَتْ إِعَادَةُ بِنَائِهِ بِقُوَّةِ عَبْدُونَ أَخِي صَاعِدِ بْنِ مَخْلَدٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْبَصْرِيُّ.

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 272 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ أَذْكُوتَكِينَ وَمُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، مُنْتَصَفَ جُمَادَى الْأُولَى، كَانَتْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ أَذْكُوتَكِينَ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيِّ، صَاحِبِ طَبَرِسْتَانَ، ثُمَّ سَارَ أَذْكُوتَكِينَ مِنْ قَزْوِينَ إِلَى الرَّيِّ، وَمَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ فَارِسٍ، وَكَانَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَالطَّبَرِيَّةِ وَالْخُرَاسَانِيَّةِ عَالَمٌ كَبِيرٌ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، وَتَفَرَّقُوا، وَقُتِلَ مِنْهُمْ سِتَّةُ آلَافٍ وَأُسِرَ أَلْفَانِ، وَغَنِمَ أَذْكُوتَكِينَ، وَعَسْكَرُهُ مِنْ أَثْقَالِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَدَوَابِّهِمْ شَيْئًا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ، وَدَخَلَ أَذْكُوتَكِينُ الرَّيَّ فَأَقَامَ بِهَا، وَأَخَذَ مِنْ أَهْلِهَا مِائَةَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفَرَّقَ عُمَّالَهُ فِي أَعْمَالِ الرَّيِّ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا وَقَعَ بَيْنَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْمُوَفَّقِ وَبَيْنَ يَازْمَانَ بِطَرَسُوسَ، فَثَارَ أَهْلُ طَرَسُوسَ بِأَبِي الْعَبَّاسِ فَأَخْرَجُوهُ، فَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ فِي النِّصْفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ فِي جَيْشِ الْمُوَفَّقِ فِي صَفَرٍ. وَفِيهَا خَرَجَ خَارِجِيٌّ بِطُرُقِ خُرَاسَانَ، وَسَارَ إِلَى دَسْكَرَةِ الْمَلِكِ فَقُتِلَ.

وَفِيهَا دَخَلَ حَمْدَانُ بْنُ حَمْدُونَ، وَهَارُونُ الشَّارِيُّ مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ، وَصَلَّى بِهِمُ الشَّارِيُّ فِي جَامِعِهَا. وَفِيهَا نُقِبَ الْمُطْبَقُ مِنْ دَاخِلِهِ، وَأُخْرِجَ مِنْهُ الذَّوَائِبِيُّ الْعَلَوِيُّ، وَفِتْيَانٌ مَعَهُ، فَرَكِبُوا دَوَابَّ أُعِدَّتْ لَهُمْ وَهَرَبُوا، فَأُغْلِقَتْ أَبْوَابُ بَغْدَاذَ، فَأُخِذَ الذَّوَائِبِيُّ، وَمَنْ مَعَهُ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ، وَهُوَ بِوَاسِطَ، أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ، وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، فَقُطِعَ. وَفِيهَا قَدِمَ صَاعِدُ بْنُ مَخْلَدٍ مِنْ فَارِسَ إِلَى وَاسِطَ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ جَمِيعَ الْقُوَّادِ أَنْ يَسْتَقْبِلُوهُ، فَاسْتَقْبَلُوهُ، وَتَرَجَّلُوا لَهُ، وَقَبَّلُوا يَدَهُ، وَهُوَ لَا يُكَلِّمُهُمْ كِبْرًا وَتِيهًا، ثُمَّ قَبَضَ الْمُوَفَّقُ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَنَهَبَ مَنَازِلَهُمْ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَكَانَ قَبْضُهُ فِي رَجَبٍ، وَقُبِضَ ابْنَاهُ أَبُو عِيسَى، وَصَالِحٌ، وَأَخُوهُ عَبْدُونُ بِبَغْدَاذَ، وَاسْتَكْتَبَ مَكَانَهُ أَبَا الصَّقْرِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ بُلْبُلٍ، اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى الْكِتَابَةِ دُونَ غَيْرِهَا. (وَفِيهَا نَزَلَ بَنُو شَيْبَانَ، وَمَنْ مَعَهُمْ بَيْنَ الزَّانِّينَ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ، عَاثُوا فِي الْبَلَدِ، وَأَفْسَدُوا، وَجَمَعَ هَارُونُ الْخَارِجِيُّ عَلَى قَصْدِهِمْ، وَكَتَبَ إِلَى حَمْدَانَ ابْنِ حَمْدُونَ التَّغْلِبِيِّ فِي الْمَجِيءِ إِلَيْهِ، إِلَى الْمَوْصِلِ، فَسَارَ هَارُونُ نَحْوَ الْمَوْصِلِ، وَسَارَ حَمْدَانُ، وَمَنْ مَعَهُ إِلَيْهِ، فَعَبَرُوا إِلَيْهِ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ دِجْلَةَ، وَسَارُوا جَمِيعًا إِلَى نَهْرِ الْخَازِرِ، وَقَارَبُوا حِلَلَ بَنِي شَيْبَانَ، فَوَاقَعَتْهُ طَلِيعَةٌ لَبَنِي شَيْبَانَ عَلَى طَلِيعَةِ هَارُونَ، فَانْهَزَمَتْ طَلِيعَةُ هَارُونَ، وَانْهَزَمَ هَارُونُ، وَجَلَا أَهْلُ نِينَوَى عَنْهَا، إِلَّا مَنْ تَحَصَّنَ بِالْقُصُورِ) . وَفِيهَا زُلْزِلَتْ مِصْرُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ زَلْزَلَةً شَدِيدَةً أَخْرَبَتِ الدُّورَ وَالْمَسْجِدَ الْجَامِعَ، وَأُحْصِيَ بِهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَلْفُ جِنَازَةٍ.

وَفِيهَا غَلَا السِّعْرُ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ أَهْلَ سَامَرَّا مَنَعُوا مِنَ انْحِدَارِ السُّفُنِ بِالطَّعَامِ، وَمَنَعَ الطَّائِيُّ أَرْبَابَ الضَّيَاعِ مِنَ الدِّيَاسِ لِيُغْلُوا الْأَسْعَارَ، وَمَنَعَ أَهْلُ بَغْدَاذَ عَنْ سَامَرَّا الزَّيْتَ، وَالصَّابُونَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَامَّةُ، وَوَثَبُوا بِالطَّائِيِّ، فَجَمَعَ أَصْحَابَهُ، وَقَاتَلَهُمْ، فَجَرَحَ بَيْنَهُمْ جَمَاعَةً، وَرَكِبَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ وَسَكَّنَ النَّاسَ، وَصَرَفَهُمْ عَنْهُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ بُرَيَّةَ الْهَاشِمِيُّ فِي شَوَّالٍ. وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ. وَفِيهَا تَحَرَّكَتِ الزِّنْجُ بِوَاسِطَ، وَصَاحُوا: أَنْكِلَايُ، يَا مَنْصُورُ، وَكَانَ هُوَ وَالْمُهَلَّبِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِهِمْ فِي حَبْسِ الْمُوَفَّقِ بِبَغْدَاذَ، وَكَتَبَ الْمُوَفَّقُ بِقَتْلِهِمْ، فَقُتِلُوا، وَأُرْسِلَتْ رُءُوسُهُمْ إِلَيْهِ، وَصُلِبَتْ أَبْدَانُهُمْ بِبَغْدَاذَ. وَفِيهَا صَلُحَ أَمْرُ مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَيْهَا. وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ يَازْمَانُ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. (وَفِيهَا سَيَّرَ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ إِلَى ابْنِ مَرْوَانَ الْجِلِّيقِيِّ، وَهُوَ بِحِصْنِ أَشِيرَ غِرَّةً، فَحَصَرُوهُ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ، وَسَيَّرَ جَيْشًا آخَرَ إِلَى مُحَارَبَةِ عُمَرَ بْنِ حَفْصُونٍ بِحِصْنِ بَرْبُشْتَرَ. وَفِيهَا انْفَضَّتِ الْهُدْنَةُ بَيْنَ سَوَادَةَ أَمِيرِ صِقِلِّيَةَ وَالرُّومِ، فَأَخْرَجَ سَوَادَةُ السَّرَايَا إِلَى بَلَدِ الرُّومِ بِصِقِلِّيَةَ، فَغَنِمَتْ وَعَادَتْ. وَفِيهَا قَدِمَ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ بِطْرِيقٌ، يُقَالُ لَهُ أَنْجَفُورُ، فِي عَسْكَرٍ كَبِيرٍ، فَنَزَلَ عَلَى مَدِينَةِ سِبْرِينَةَ فَحَصَرَهَا، وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَلَّمُوهَا عَلَى أَمَانٍ وَلَحِقُوا

بِأَرْضِ صِقِلِّيَةَ، ثُمَّ وَجَّهَ أَنْجَفُورُ عَسْكَرًا إِلَى مَدِينَةِ مَنْتِيَةَ، فَحَصَرَهَا، حَتَّى سَلَّمَهَا أَهْلُهَا بِأَمَانٍ (إِلَى بَلَرْمَ مِنْ صِقِلِّيَةَ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْمَاطِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِكَيْجَلَةَ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَهُوَ لَقَبُهُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُطَارِدٍ الْعُطَارِدِيُّ التَّمِيمِيُّ، وَهُوَ يَرْوِي " مَغَازِيَ ابْنِ إِسْحَاقَ " عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَمِنْ طَرِيقِهِ سَمِعْنَاهُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْجَشَّاشِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ شُعَيْبُ بْنُ بِكَّارٍ الْكَاتِبُ، وَلَهُ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ.

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 273 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ ابْنِ أَبِي السَّاجِ، وَابْنِ كُنْدَاجَ، وَالْخُطْبَةِ بِالْجَزِيرَةِ لِابْنِ طُولُونَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَسَدَ الْحَالُ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي السَّاجِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجَ، وَكَانَا مُتَّفِقَيْنِ فِي الْجَزِيرَةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبِي السَّاجِ (نَافَرَ إِسْحَاقَ فِي الْأَعْمَالِ، وَأَرَادَ التَّقَدُّمَ، وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ إِسْحَاقُ، فَأَرْسَلَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ إِلَى) خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ صَاحِبِ مِصْرَ، (وَأَطَاعَهُ، وَصَارَ مَعَهُ) وَخَطَبَ لَهُ بِأَعْمَالِهِ، وَهِيَ قِنَّسْرِينَ، وَسَيَّرَ وَلَدَهُ دِيوَدَادَ إِلَى خُمَارَوَيْهِ رَهِينَةً، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ خُمَارَوَيْهِ مَالًا جَزِيلًا لَهُ وَلِقُوَّادِهِ. وَسَارَ خُمَارَوَيْهِ إِلَى الشَّامِ، فَاجْتَمَعَ هُوَ وَابْنُ أَبِي السَّاجِ بِبَالِسَ، وَعَبَرَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ الْفُرَاتَ إِلَى الرَّقَّةِ، فَلَقِيَهُ ابْنُ كُنْدَاجَ، وَجَرَى بَيْنَهُمَا حَرْبٌ انْهَزَمَ فِيهَا ابْنُ كُنْدَاجَ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ أَبِي السَّاجِ عَلَى مَا كَانَ لِابْنِ كُنْدَاجَ، وَعَبَرَ خُمَارَوَيْهِ الْفُرَاتَ وَنَزَلَ الرَّافِقَةَ، وَمَضَى إِسْحَاقُ مُنْهَزِمًا إِلَى قَلْعَةِ مَارْدِينَ، (فَحَصَرَهُ ابْنُ أَبِي السَّاجِ، وَسَارَ عَنْهَا إِلَى سِنْجَارَ، فَأَوْقَعَ بِهَا بِقَوْمٍ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَسَارَ ابْنُ كُنْدَاجَ مِنْ مَارْدِينَ) نَحْوَ الْمَوْصِلِ، فَلَقِيَهُ ابْنُ أَبِي السَّاجِ بِبَرْقَعِيدَ، فَكَمَنَ كَمِينًا، فَخَرَجُوا عَلَى ابْنِ كُنْدَاجَ وَقْتَ الْقِتَالِ، فَانْهَزَمَ عَنْهَا، وَعَادَ إِلَى مَارْدِينَ فَكَانَ فِيهَا ; وَقَوِيَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ، وَظَهَرَ أَمْرُهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ، وَخَطَبَ لِخُمَارَوَيْهِ فِيهَا ثُمَّ لِنَفْسِهِ بَعْدَهُ.

ذِكْرُ وَقْعَةٍ بَيْنَ عَسْكَرِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ وَالشُّرَاةِ لَمَّا اسْتَوْلَى ابْنُ أَبِي السَّاجِ عَلَى الْمَوْصِلِ أَرْسَلَ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ مَعَ غُلَامِهِ فَتْحٍ، وَكَانَ شُجَاعًا مُقَدَّمًا عِنْدَهُ، إِلَى الْمَرْجِ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ، فَسَارُوا إِلَيْهَا، وَجَبَوُا الْخَرَاجَ مِنْهَا. وَكَانَ الْيَعْقُوبِيَّةُ الشُّرَاةُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَهَادَنَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّمَا مُقَامِي بِالْمَرْجِ مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ ثُمَّ أَرْحَلُ عَنْهُ. فَسَكَنُوا إِلَى قَوْلِهِ، وَتَفَرَّقُوا، فَنَزَلَ بَعْضُهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْ سُوقِ الْأَحَدِ، فَأَسْرَى إِلَيْهِمْ فَتْحٌ فِي السَّحَرِ، فَكَبَسَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، وَانْهَزَمَ الرِّجَالُ عَنْهُ. وَكَانَ بَاقِي الْيَعْقُوبِيَّةِ قَدْ خَرَجُوا إِلَى أَصْحَابِهِمُ الَّذِينَ أَوْقَعَ بِهِمْ فَتْحٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمُوا بِالْوَاقِعَةِ، فَلَقِيَهُمُ الْمُنْهَزِمُونَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، (فَاجْتَمَعُوا، وَعَادُوا إِلَى فَتْحٍ فَقَاتَلُوهُ) ، وَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَهَزَمُوهُ، وَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ أَلْفَ رَجُلٍ، فَأَفْلَتَ فِي نَحْوِ مِائَةِ رَجُلٍ، وَتَفَرَّقَ مِائَةٌ فِي الْقُرَى وَاخْتَفَوْا، وَعَادُوا إِلَى الْمَوْصِلِ مُتَفَرِّقِينَ، وَأَقَامُوا بِهَا. ذِكْرُ وَفَاةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَوِلَايَةِ ابْنِهِ الْمُنْذِرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ الْأُمَوِيُّ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، سَلْخَ صَفَرٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ نَحْوًا مِنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ أَبْيَضَ، مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ، رَبْعَةً، أَوْقَصَ، يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ، وَالْكَتَمِ، وَخَلَّفَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَلَدًا ذُكُورًا، وَكَانَ ذَكِيًّا، فَطِنًا بِالْأُمُورِ الْمُشْتَبِهَةِ مُتَعَانِيًا مِنْهَا. وَلَمَّا مَاتَ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْمُنْذِرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، بُويِعَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ بِثَلَاثِ لَيَالٍ،

وَأَطَاعَهُ النَّاسُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ (وَفِيهَا أَيْضًا كَانَتْ وَقْعَةٌ بِالرَّقَّةِ فِي جُمَادَى الْأُولَى بَيْنَ إِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجِيقَ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي السَّاجِ، فَانْهَزَمَ إِسْحَاقُ، ثُمَّ كَانَتْ بَيْنَهُمَا وَقْعَةٌ أُخْرَى فِي ذِي الْحِجَّةِ فَانْهَزَمَ إِسْحَاقُ أَيْضًا) . وَفِي السَّنَةِ وَثَبَ أَوْلَادُ مَلِكِ الرُّومِ عَلَى أَبِيهِمْ، فَقَتَلُوهُ، وَمَلَكَ أَحَدُهُمْ بَعْدَهُ. وَفِيهَا قُبِضَ الْمُوَفَّقُ عَلَى لُؤْلُؤٍ غُلَامِ ابْنِ طُولُونَ الَّذِي كَانَ قِدَمَ عَلَيْهِ بِالْأَمَانِ (حِينَ كَانَ يُقَاتِلُ الزِّنْجَ بِالْبَصْرَةِ، وَلَمَّا قَبَضَهُ قَيَّدَهُ) ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَكَانَ لُؤْلُؤٌ يَقُولُ: لَيْسَ لِي ذَنْبٌ إِلَّا كَثْرَةَ مَالِي ; وَلَمْ تَزَلْ أُمُورُهُ فِي إِدْبَارٍ إِلَى أَنِ افْتَقَرَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ فِي آخِرِ أَيَّامِ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ، فَرِيدًا وَحِيدًا، بِغُلَامٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ هَذَا ثَمَرَةُ الْعَقْلِ السَّخِيفِ، وَكُفْرِ الْإِحْسَانِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. وَفِيهَا ثَارَ السُّودَانُ بِمِصْرَ، وَحَصَرُوا صَاحِبَ الشُّرْطَةِ، فَسَمِعَ خُمَارَوَيْهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ الْخَبَرَ، فَرَكِبَ، وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ مَسْلُولٌ، وَقَصَدَ دَارَ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ، وَقَتَلَ كُلَّ مَنْ لَقِيَهُ مِنَ السُّودَانِ، فَانْهَزَمُوا مِنْهُ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَسَكَنَتْ مِصْرُ وَأَمِنَ النَّاسُ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو سُلَيْمَانَ بْنُ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ، صَاحِبُ كِتَابِ " السُّنَنِ ". وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيُّ، وَلَهُ أَيْضًا كِتَابُ " السُّنَنِ "، وَكَانَ عَاقِلًا، إِمَامًا عَالِمًا. وَتُوُفِّيَ الْفَتْحُ بْنُ شُخْرُفَ أَبُو دَاوُدَ الْكَشِّيُّ الصُّوفِيُّ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِبَغْدَاذَ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ الشَّرِيفَةِ. وَتُوُفِّيَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ.

ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 274 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسْكَرِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ وَبَيْنَ عَسْكَرِ الْمُوَفَّقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْمُوَفَّقُ إِلَى فَارِسَ لِحَرْبِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ الصَّفَّارِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى عَمْرٍو، فَسَيَّرَ الْعَبَّاسَ بْنَ إِسْحَاقٍ فِي جَمْعٍ كَبِيرٍ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى سِيرَافَ، وَأَنْفَذَ ابْنَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرٍو إِلَى أَرْجَانَ، وَسِيَّرَ أَبَا طَلْحَةَ شَرْكُبَ صَاحِبَ جَيْشِهِ، عَلَى مُقَدِّمَتِهِ، فَاسْتَأْمَنَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى الْمُوَفَّقِ، وَسَمِعَ عَمْرٌو ذَلِكَ، فَتَوَقَّفَ عَنْ قَصْدِ الْمُوَفَّقِ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَلْحَةَ عَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى عَمْرٍو، فَبَلَغَ الْمُوَفَّقَ خَبَرُهُ فَقَبَضَ عَلَيْهِ بِقُرْبِ شِيزَارَ، وَجَعَلَ مَالَهُ لِابْنِهِ الْمُعْتَضِدِ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَسَارَ يَطْلُبُ عَمْرًا، فَعَادَ عَمْرٌو إِلَى كَرْمَانَ، وَمِنْهَا إِلَى سِجِسْتَانَ عَلَى الْمَفَازَةِ، فَتُوُفِّيَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ بِالْمَفَازَةِ، وَلَمْ يَقْدِرِ الْمُوَفَّقُ عَلَى أَخْذِ كَرْمَانَ (وَسِجِسْتَانَ مِنْ عَمْرٍو فَعَادَ عَنْهُ) . ذِكْرُ عِدَّةَ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا يَازْمَانُ، فَأَوْغَلَ فِي أَرْضِ الرُّومِ (فَأَوْقَعَ فِيهَا بِكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِهَا، وَقَتَلَ وَغَنِمَ، وَسَبَى، وَأَسَرَ، وَعَادَ سَالِمًا إِلَى طَرَسُوسَ) .

وَفِيهَا دَخَلَ صِدِّيقٌ الْفَرْغَانِيُّ دُورَ سَامَرَّا (فَنَهَبَهَا، وَأَخَذَ) أَمْوَالَ التُّجَّارِ (مِنْهَا، وَأَفْسَدَ) ; وَكَانَ صِدِّيقٌ هَذَا يَخْفِرُ الطَّرِيقَ وَيَحْمِيهِ، ثُمَّ صَارَ يَقْطَعُهُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْكَبْشِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ، وَكَانَ قَدْ حَبَسَهُ أَخُوهُ الْمُعْتَمِدُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمٍ. وَعَلِيٌّ [إِبْرَاهِيمُ] بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَاسِطِيُّ. [بَقِيَّةُ الْحَوَادِثِ] وَفِيهَا جَمَعَ إِسْحَاقُ بْنُ كُنْدَاجَ جَمْعًا كَثِيرًا وَسَارَ نَحْوَ الشَّامِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ خُمَارَوَيْهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ وَقَدْ عَبَرَ الْفُرَاتَ، فَالْتَقَيَا، وَجَرَى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ قِتَالٌ شَدِيدٌ، انْهَزَمَ فِيهِ إِسْحَاقُ هَزِيمَةً عَظِيمَةً لَمْ يَرُدَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى عَبَرَ الْفُرَاتَ، وَتَحَصَّنَ بِهَا، وَسَارَ خُمَارَوَيْهِ إِلَى الْفُرَاتِ، فَعَمِلَ جِسْرًا، فَلَمَّا عَلِمَ إِسْحَاقُ بِذَلِكَ سَارَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى قِلَاعٍ لَهُ قَدْ أَعَدَّهَا وَحَصَّنَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى خُمَارَوَيْهِ يَخْضَعُ لَهُ، يَبْذُلُ لَهُ الطَّاعَةَ فِي جَمِيعِ وِلَايَتِهِ، وَهِيَ الْجَزِيرَةُ وَمَا وَالَاهَا، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ. وَصَالَحَهُ ابْنُ أَبِي السَّاجِ، وَجَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا، وَسَارَ نَحْوَ الشَّامِ قَاصِدًا مُنَازَعَةَ

خُمَارَوَيْهِ حَيْثُ كَانَ أَبْعَدَ إِلَى مِصْرَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ خُمَارَوَيْهِ فَخَرَجَ عَنْ مِصْرَ فِي عَسَاكِرِهِ، فَالْتَقَيَا فِي الْبَثْنِيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ، فَاقْتَتَلَا قِتَالًا عَظِيمًا، فَانْهَزَمَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ، وَعَادَ مُنْهَزِمًا حَتَّى عَبَرَ الْفُرَاتَ، فَأَحْضَرَ خُمَارَوَيْهِ وَلَدَ ابْنَ أَبِي السَّاجِ، وَكَانَ رَهِينَةً عِنْدَهُ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَطْلَقَهُ، وَسَيَّرَهُ إِلَى أَبِيهِ، وَعَادَ إِلَى مِصْرَ.

ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 275 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ خُمَارَوَيْهِ وَابْنِ أَبِي السَّاجِ قَدْ ذَكَرْنَا اتِّفَاقَ ابْنِ أَبِي السَّاجِ، وَخُمَارَوَيْهِ بْنِ طُولُونَ، وَطَاعَةَ ابْنِ أَبِي السَّاجِ لَهُ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ خَالَفَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ عَلَى خُمَارَوَيْهِ، فَسَمِعَ خُمَارَوَيْهِ الْخَبَرَ، فَسَارَ عَنْ مِصْرَ فِي عَسَاكِرِهِ نَحْوَ الشَّامِ، فَقَدِمَ إِلَيْهِ آخِرَ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، فَسَارَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا عِنْدَ ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ بِقُرْبِ دِمَشْقَ، وَاقْتَتَلُوا فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، كَانَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمَا، فَانْهَزَمَتْ مَيْمَنَةُ خُمَارَوَيْهِ، وَأَحَاطَ بَاقِي عَسْكَرِهِ بِابْنِ أَبِي السَّاجِ، وَمَنْ مَعَهُ، فَمَضَى مُنْهَزِمًا، وَاسْتُبِيحَ مُعَسْكَرُهُ، وَأُخِذَتِ الْأَثْقَالُ، وَالدَّوَابُّ، وَجَمِيعُ مَا فِيهِ. وَكَانَ قَدْ خَلَّفَ بِحِمْصَ شَيْئًا كَثِيرًا، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ خُمَارَوَيْهِ قَائِدًا فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ جَرِيدَةً فَسَبَقُوا ابْنَ أَبِي السَّاجِ إِلَيْهَا، وَمَنَعُوهُ مِنْ دُخُولِهَا وَالِاعْتِصَامِ بِهَا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى مَا لَهُ فِيهَا، فَمَضَى ابْنُ أَبِي السَّاجِ مُنْهَزِمًا إِلَى حَلَبَ، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى الرَّقَّةِ، فَتَبِعَهُ خُمَارَوَيْهِ، فَفَارَقَ الرَّقَّةَ، فَعَبَرَ خُمَارَوَيْهِ الْفُرَاتَ، (سَارَ فِي أَثَرِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ، فَوَصَلَ خُمَارَوَيْهِ إِلَى مَدِينَةِ بَلَدَ، وَكَانَ قَدْ سَبَقَهُ ابْنُ أَبِي السَّاجِ إِلَى الْمَوْصِلِ) . فَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ بِوُصُولِهِ إِلَى بَلَدَ سَارَ عَنِ الْمَوْصِلِ إِلَى الْحَدِيثَةِ، وَأَقَامَ خُمَارَوَيْهِ بِبَلَدَ، وَعَمِلَ لَهُ سَرِيرًا طَوِيلَ الْأَرْجُلِ، فَكَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ فِي دِجْلَةَ، هَكَذَا ذَكَرَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ يَزِيدُ بْنُ إِيَاسٍ الْأَزْدِيُّ الْمَوْصِلِيُّ صَاحِبُ " تَارِيخِ الْمَوْصِلِ ": أَنَّ خُمَارَوَيْهِ وَصَلَ إِلَى بَلَدَ، وَكَانَ إِمَامًا فَاضِلًا عَالِمًا بِمَا يَقُولُ وَهُوَ يُشَاهِدُ الْحَالَ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ ابْنِ كُنْدَاجَ، وَابْنِ أَبِي السَّاجِ لَمَّا انْهَزَمَ كُنْدَاجُ مِنَ ابْنِ أَبِي السَّاجِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ أَقَامَ إِلَى أَنِ انْهَزَمَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ مِنْ خُمَارَوَيْهِ، فَلَمَّا وَافَى خُمَارَوَيْهِ بَلَدَ أَقَامَ بِهَا، وَسَيَّرَ مَعَ إِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجَ جَيْشًا كَثِيرًا، وَجَمَاعَةً مِنَ الْقُوَّادِ، وَرَحَلَ يَطْلُبُ ابْنَ أَبِي السَّاجِ، فَمَضَى بَيْنَ يَدَيْهِ وَابْنُ كُنْدَاجَ يَتْبَعُهُ إِلَى تِكْرِيتَ، فَعَبَرَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ دِجْلَةَ، وَأَقَامَ ابْنُ كُنْدَاجَ، وَجَمَعَ السُّفُنَ لِيَعْمَلَ جِسْرًا يَعْبُرُ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُجْرِي بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مُرَامَاةً. وَكَانَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ فِي نَحْوِ أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَابْنُ كُنْدَاجَ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا، فَلَمَّا رَأَى أَبُو السَّاجِ اجْتِمَاعَ السُّفُنِ سَارَ عَنْ تِكْرِيتَ إِلَى الْمَوْصِلِ لَيْلًا، فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا عِنْدَ الدَّيْرِ الْأَعْلَى، وَسَارَ ابْنُ كُنْدَاجَ يَتْبَعُهُ، فَوَصَلَ إِلَى الْعَزِيقِ، فَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ خَبَرَهُ سَارَ إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا، وَاقْتَتَلُوا عِنْدَ قَصْرِ حَرْبٍ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَصَبَرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّاجِ صَبْرًا عَظِيمًا، لِأَنَّهُ فِي قِلَّةٍ، فَنَصَرَهُ اللَّهُ، وَانْهَزَمَ ابْنُ كُنْدَاجَ، وَجَمِيعُ عَسْكَرِهِ، وَمَضَى مُنْهَزِمًا. وَكَانَ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ فِي هَزِيمَتِهِ بَغْيَهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ أَبِي السَّاجِ قَدْ أَقْبَلَ نَحْوَكَ مِنَ الْمَوْصِلِ لِيُقَاتِلَكَ، قَالَ: أَسْتَقْبِلُ الْكَلْبَ! فَعَدَّ النَّاسُ هَذَا بَغْيًا وَخَافُوا مِنْهُ، فَلَمَّا انْهَزَمَ، وَسَارَ إِلَى الرَّقَّةَ، تَبِعَهُ مُحَمَّدٌ إِلَيْهَا، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ يُعَرِّفُهُ مَا كَانَ مِنْهُ، وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي عُبُورِ الْفُرَاتِ إِلَى الشَّامِ بِلَادِ خُمَارَوَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُوَفَّقُ يَشْكُرُهُ، وَيَأْمُرُهُ بِالتَّوَقُّفِ إِلَى أَنْ تَصِلَهُ الْأَمْدَادُ مِنْ عِنْدِهِ. وَأَمَّا ابْنُ كُنْدَاجَ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى خُمَارَوَيْهِ، فَسَيَّرَ مَعَهُ جَيْشًا، فَوَصَلُوا إِلَى الْفُرَاتِ، فَكَانَ إِسْحَاقُ بْنُ كُنْدَاجَ عَلَى الشَّامِ، وَابْنُ أَبِي السَّاجِ بِالرَّقَّةَ، وَوَكَّلَ بِالْفُرَاتِ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ عُبُورِهَا، فَبَقُوا كَذَلِكَ مُدَّةً. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ كُنْدَاجَ سَيَّرَ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ، فَعَبَرُوا الْفُرَاتَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوَضِعِ، وَسَارُوا، فَلَمْ تَشْعُرْ طَائِفَةُ عَسْكَرِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ، وَكَانُوا طَلِيعَةً، إِلَّا وَقَدْ أَوْقَعُوا بِهِمْ، فَانْهَزَمُوا مِنْ عَسْكَرِ إِسْحَاقَ إِلَى الرَّقَّةَ، فَلَمَّا رَأَى ابْنُ أَبِي السَّاجِ ذَلِكَ سَارَ عَنِ الرَّقَّةَ إِلَى

الْمَوْصِلِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا طَلَبَ مِنْ أَهْلِهَا الْمُسَاعَدَةَ بِالْمَالِ، وَقَالَ لَهُمْ: لَيْسَ بِالْمُضْطَرِّ مُرُوءَةٌ ; فَأَقَامَ بِهَا نَحْوَ شَهْرٍ، وَانْحَدَرَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَاتَّصَلَ بِأَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ إِلَى الْجَبَلِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَوَصَلَهُ بِمَالٍ، وَأَقَامَ ابْنُ كُنْدَاجَ بِدِيَارِ رَبِيعَةَ، وَدِيَارِ مُضَرَ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الطَّائِيِّ، وَفَارِسٍ الْعَبْدِيِّ وَفِيهَا ظَهَرَ فَارِسٌ الْعَبْدِيُّ فِي جَمْعٍ، فَأَخَافَ السَّبِيلَ، وَسَارَ إِلَى دُورِ سَامَرَّا، وَنَهَبَ، فَسَارَ إِلَيْهِ الطَّائِيُّ مُقَاتِلًا، فَهَزَمَهُ الطَّائِيُّ، وَأَخَذَ سَوَادَهُ، ثُمَّ سَارَ الطَّائِيُّ إِلَى دِجْلَةَ لِيَعْبُرَهَا، فَدَخَلَ طَيَّارَةً لَهُ، فَأَدْرَكَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ فَارِسٍ فَتَعَلَّقُوا بِكَوْثَلِ الطَّيَّارَةِ، فَرَمَى الطَّائِيُّ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ وَسَبَحَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْهُ نَفَضَ لِحْيَتَهُ، وَقَالَ: إِيشْ ظَنُّ الْعَبْدِيِّ؟ أَلَيْسَ أَنَا أَسْبَحُ مِنْ سَمَكَةٍ؟ ثُمَّ نَزَلَ الطَّائِيُّ السِّنَّ وَالْعَبْدِيُّ بِإِزَائِهِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ بَسَّامٍ فِي الطَّائِيِّ: قَدْ أَقْبَلَ الطَّائِيُّ مَا أَقْبَلَا ... يَفْتَحُ فِي الْأَفْعَالِ مَا أَجْمَلَا كَأَنَّهُ مِنْ لِينِ أَلْفَاظِهِ ... صَبِيَّةٌ تَمْضُغُ جَهْدَ الْبَلَا وَجَهْدُ الْبَلَا ضَرْبٌ مِنَ النَّافِطِ يُتَعَلَّكُ. وَفِيهَا قَبَضَ الْمُوَفَّقُ عَلَى الطَّائِيِّ وَقَيَّدَهُ، وَخَتَمَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَهُ، وَكَانَ يَلِي الْكُوفَةَ وَسَوَادَهَا، وَطَرِيقَ خُرَاسَانَ، وَسَامَرَّا، وَالشُّرْطَةَ بِبَغْدَاذَ، وَخَرَاجِ بَادُورِيَا، وَقُطْرَبُّلَ، وَمَسِكَنَ. ذِكْرُ قَبْضِ الْمُوَفَّقِ عَلَى ابْنِهِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، قَبَضَ الْمُوَفَّقُ عَلَى ابْنِهِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُوَفَّقَ دَخَلَ إِلَى وَاسِطَ وَنَزَلَ بِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَتَخَلَّفَ

الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ بِالْمَدَائِنِ، وَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ ابْنَهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَقَالَ: لَا أَخْرُجُ إِلَّا إِلَى الشَّامِ لِأَنَّهَا الْوِلَايَةُ الَّتِي وَلَّانِيهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَلَمَّا حَضَرَ أَمَرَ بَعْضُ خَدَمِهِ أَنْ يَحْبِسَهُ فِي حُجْرَةٍ فِي دَارِهِ، فَلَمَّا قَامَ الْمُعْتَضِدُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْخَادِمُ وَأَمَرَهُ بِدُخُولِ تِلْكَ الدَّارِ، فَدَخَلَ وَوُكِّلَ بِهِ فِيهَا. وَثَارَ الْقُوَّادُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ وَرَكِبُوا، وَاضْطَرَبَتْ بَغْدَاذُ لَمَّا رَأَوُا السِّلَاحَ وَالْقُوَّادَ، فَرَكِبَ الْمُوَفَّقُ إِلَى الْمَيْدَانِ، وَقَالَ لَهُمْ: مَا شَأْنُكُمْ؟ أَتَرَوْنَ أَنَّكُمْ أَشْفَقُ عَلَى وَلَدِي مِنِّي، وَقَدِ احْتَجْتُ إِلَى تَقْوِيمِهِ! فَانْصَرَفُوا. (فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الطَّائِيُّ إِلَى سَامَرَّا بِسَبَبِ صِدِّيقٍ، فَرَاسَلَهُ، وَأَمَّنَهُ، وَدَخَلَ سَامَرَّا فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَخَذَهُمُ الطَّائِيُّ، وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ، وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَحَمَلَهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ. وَفِيهَا غَزَا يَازْمَانُ فِي الْبَحْرِ، فَغَنِمَ مِنَ الرُّومِ أَرْبَعَةَ مَرَاكِبَ) . ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ عَلَى جُرْجَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ رَافِعُ بْنُ هَرْثَمَةَ إِلَى جُرْجَانَ، فَأَزَالَ عَنْهَا مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدٍ، وَسَارَ مُحَمَّدٌ إِلَى إِسْتِرَابَاذَ، فَحَصَرَهُ فِيهَا رَافِعٌ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ نَحْوَ سَنَتَيْنِ فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ مَا يُؤْكَلُ، وَبِيعَ وَزْنُ دِرْهَمِ مِلْحٍ بِدِرْهَمَيْنِ فِضَّةٍ، وَفَارَقَهَا مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ لَيْلًا فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ إِلَى سَارِيَةٍ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ رَافِعٌ عَسْكَرًا، فَتَحَارَبَا، وَسَارَ مُحَمَّدٌ عَنْ سَارِيَةَ، وَعَنْ طَبَرِسْتَانَ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَاسْتَأْمَنَ رُسْتُمُ بْنُ قَارِنَ إِلَى رَافِعٍ بِطَبَرِسْتَانَ، فَصَاهَرَهُ ابْنُ قُولَهْ. وَقِدَمَ عَلَى رَافِعٍ، وَهُوَ بِطَبَرِسْتَانَ عَلِيُّ بْنُ اللَّيْثِ، وَكَانَ قَدْ حَبَسَهُ أَخُوهُ عَمْرٌو بِكَرْمَانَ، فَاحْتَالَ حَتَّى تَخَلَّصَ هُوَ وَابْنَاهُ الْمُعَدَّلُ وَاللَّيْثُ، وَأَنْفَذَ رَافِعٌ إِلَى شَالُوسَ

مُحَمَّدَ بْنَ هَارُونَ نَائِبًا عَنْهُ، فَأَتَاهُ بِهَا عَلِيُّ بْنُ كَالِي مُسْتَأْمِنًا، فَأَتَاهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ، وَحَصَرَهُمَا بِشَالُوسَ، وَأَخَذَ الطَّرِيقَ عَلَيْهِمَا، فَلَمْ يَصِلْ مِنْهُمَا إِلَى رَافِعٍ خَبَرٌ، فَلَمَّا تَأَخَّرَ خَبَرُهُمَا عَنْهُ أَرْسَلَ جَاسُوسًا يَأْتِيهِ بِأَخْبَارِهِمَا، فَعَادَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ بِحَصْرِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ إِيَّاهُمَا بِشَالُوسَ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَسَارَ إِلَيْهِمَا، فَرَحَلَ عَنْهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ إِلَى أَرْضِ الدَّيْلَمِ، فَدَخَلَ رَافِعٌ خَلْفَهُ أَرْضَ الدَّيْلَمِ فَخَرَقَهَا حَتَّى اتَّصَلَ بِحُدُودِ قَزْوِينَ، وَعَادَ إِلَى الرَّيِّ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ الْمُوَفَّقُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُنْذِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأُمَوِيِّ وَفِيهَا فِي الْمُحَرَّمِ تُوُفِّيَ الْمُنْذِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ الْأُمَوِيُّ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، وَقِيلَ فِي صَفَرٍ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَنَةً وَاحِدَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ نَحْوًا مِنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَكَانَ أَسْمَرَ طَوِيلًا بِوَجْهِهِ أَثَرُ جُدَرِيٍّ، جَعْدًا كَثَّ اللِّحْيَةِ، وَخَلَّفَ سِتَّةَ ذُكُورٍ، وَكَانَ جَوَادًا يَصِلُ الشُّعَرَاءَ وَيُحِبُّ الشِّعْرَ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ بُويِعَ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، بُويِعَ لَهُ يَوْمَ مَوْتِ أَخِيهِ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ، أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا عِشَارُ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ ابْنِهَا بِسَنَةٍ، وَفِي أَيَّامِهِ امْتَلَأَتِ الْأَنْدَلُسُ بِالْفِتَنِ، وَصَارَ فِي كُلِّ جِهَةٍ مُتَغَلِّبٌ، وَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ طُولُ وِلَايَتِهِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْمَرْوَرُّوذِيُّ، وَهُوَ صَاحِبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ الْعَطَّارُ الْمَوْصِلِيُّ التَّمِيمِيُّ، وَكَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَالرِّوَايَةِ، وَكَانَ مُعَدَّلًا عِنْدَ الْحُكَّامِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّكَّرِيُّ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ الْمَشْهُورُ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ. وَقِيلَ تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 276 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ [وَمِائَتَيْنِ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ جُعِلَتْ شُرْطَةُ بَغْدَاذَ إِلَى عُمَرَ بْنِ اللَّيْثِ، وَكُتِبَ اسْمُهُ عَلَى الْأَعْلَامِ، وَالتِّرَسَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ فِي شَوَّالٍ. ثُمَّ تَرَتَّبَ فِي الشُّرَطَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ مِنْ قِبَلِ عَمْرٍو، ثُمَّ أَمَرَهُ بِطَرْحِ اسْمِ عَمْرٍو عَنِ الْأَعْلَامِ، وَغَيْرِهَا فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَفِيهَا فِي مُنْتَصَفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَارَ الْمُوَفَّقُ إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ، وَسَبَبُ مَسِيرِهِ أَنَّ الْمَاذُرَائِيَّ، كَاتَبَ أَذْكُوتَكِينَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ هُنَاكَ مَالًا عَظِيمًا، وَأَنَّهُ إِنْ سَارَ مَعَهُ أَخَذَهُ جَمِيعَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجِدِ الْمَالَ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ شَيْئًا سَارَ إِلَى الْكَرْجِ، ثُمَّ إِلَى أَصْبَهَانَ يُرِيدُ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفَ، فَتَنَحَّى أَحْمَدُ عَنِ الْبَلَدِ بِجَيْشِهِ وَعِيَالِهِ، وَتَرَكَ دَارَهُ بِفَرْشِهَا لِيَنْزِلِهَا الْمُوَفَّقُ إِذَا قَدِمَ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الْمُوَفَّقُ بِاللَّهِ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ ابْنَ أَبِي السَّاجِ، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْهَمْدَانِيُّ، صَاحِبُ مَرَاغَةَ، لِيُصْدِرَهُ عَنْهَا، فَحَارَبَهُ، فَانْهَزَمَ عَبْدُ اللَّهِ وَحُصِرَ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، كَمَا نَذْكُرُهُ، وَاسْتَقَرَّ ابْنُ أَبِي السَّاجِ لِعَمَلِهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ يَزِيدَ الْقَاضِي.

وَفِيهَا قَتَلَ عَامِلُ الْمَوْصِلِ لِابْنِ كُنْدَاجَ إِنْسَانًا مِنَ الْخَوَارِجِ اسْمُهُ نُعَيْمٌ، فَسَمِعَ هَارُونُ مُقَدَّمُ الْخَوَارِجِ بِذَلِكَ وَهُوَ بِحَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ، فَجَمَعَ أَصْحَابَهُ وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ يُرِيدُ حَرْبَ أَهْلِهَا، فَنَزَلَ شَرْقِيَّ دِجْلَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَعْيَانُهُمْ وَمُقَدَّمُوهُمْ يَسْأَلُونَهُ مَا الَّذِي أَقْدَمَهُ؟ فَذَكَرَ قَتْلَ نُعَيْمٍ، فَقَالُوا: إِنَّمَا قَتَلَهُ عَامِلُ السُّلْطَانِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنَّا، وَطَلَبُوا مِنْهُ الْأَمَانَ لِيَحْضُرُوا عِنْدَهُ يَعْتَذِرُونَ، وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ قَتْلِهِ، فَأَمَّنَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ، وَأَعْيَانِهِمْ، وَتَبَرَّءُوا مِنْ قَتْلِهِ، فَرَحَلَ عَنْهُمْ. وَفِيهَا عَادَ حُجَّاجُ الْيَمَنِ عَنْ مَكَّةَ، فَنَزَلُوا وَادِيًا، فَأَتَاهُمُ السَّيْلُ فَحَمَلَهُمْ جَمِيعَهُمْ، وَأَلْقَاهُمْ فِي الْبَحْرِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو قِلَابَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّقَاشِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَكَانَ يَسْكُنُ بَغْدَاذَ. وَفِيهَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِانْفِرَاجِ تَلٍّ مِنْ نَهْرِ الصِّلَّةِ، يُعْرَفُ بِتَلِّ [بَنِي] شَقِيقٍ، عَنْ سَبْعَةِ أَقْبُرٍ فِيهَا سَبْعَةُ أَبْدَانٍ صَحِيحَةٍ، وَالْقُبُورُ فِي شِبْهِ الْحَوْضِ مِنْ حَجَرٍ (فِي لَوْنِ الْمِسَنِّ، عَلَيْهِ كِتَابٌ لَا يُدْرَى مَا هُوَ، وَعَلَيْهِمْ أَكْفَانٌ جُدُدٌ) وَيَفُوحُ مِنْهَا رِيحُ الْمِسْكِ، أَحَدُهُمْ شَابٌّ لَهُ جُمَّةٌ، وَعَلَى شَفَتَيْهِ بَلَلٌ كَأَنَّهُ قَدْ شَرِبَ مَاءً وَكَأَنَّهُ قَدْ كُحِلَ، وَبِهِ ضَرْبَةٌ فِي خَاصِرَتِهِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَاشِمِيُّ.

[الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ، صَاحِبُ كِتَابِ " أَدَبِ الْكَاتِبِ "، وَكِتَابِ " الْمَعَارِفِ "، وَهُوَ كُوفِيٌّ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الدِّينَوَرِيُّ لِأَنَّهُ كَانَ قَاضِيَهَا. وَقِيلَ مَاتَ سَنَةَ سَبْعِينَ [وَمِائَتَيْنِ] . وَأَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيُّ النَّحْوِيُّ الرَّاوِيَةُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو جَعْفَرٍ الْقَصَّابُ الصُّوفِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ السَّرِيِّ، وَصَحِبَهُ الْجُنَيْدُ كَثِيرًا.

ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 277 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَعَا يَازْمَانُ بِطَرَسُوسَ لِخُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ خُمَارَوَيْهِ أَنْفَذَ إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَخَمْسَمِائَةِ ثَوْبٍ، وَخَمْسَمِائَةِ مِطْرَفٍ، وَسِلَاحًا كَثِيرًا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ دَعَا لَهُ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيْهِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ كَانَ بَيْنَ وَصِيفٍ خَادِمِ ابْنِ أَبِي السَّاجِّ، وَالْبَرَابِرَةِ أَصْحَابِ أَبِي الصَّقْرِ (فِتْنَةٌ، فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ جَمَاعَةٌ، كَانَ ذَلِكَ بِبَابِ الشَّامِ، فَرَكِبَ أَبُو الصَّقْرِ) فَفَرَّقَهُمْ. وَفِيهَا وَلِيَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَظَالِمَ، وَأَمَرَ مَنْ يُنَادِي: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ قِبَلَ الْأَمِيرِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ الْمُوَفَّقِ، أَوْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَلْيَحْضُرْ. وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ قَدِمَ بَغْدَاذَ قَائِدٌ عَظِيمٌ مِنْ قُوَّادِ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْهَاشِمِيُّ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمُثَنَّى الْمَوْصِلِيُّ، وَكَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. وَمَاتَ فِيهَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ جَوَّانَ الْفَسَوِيُّ، وَكَانَ يَتَشَيَّعُ. وَيَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مَعْقِلٍ الْأُمَوِيُّ، وَالِدُ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَصَمِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ عَرِيبُ الْمُغَنِّيَةُ الْمَأْمُونِيَّةُ، وَقِيلَ إِنَّهَا ابْنَةُ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، وَكَانَ مَوْلِدُهَا سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ، وَاسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهَ بِالصَّوَابِ. (الْخَرَّازُ: بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ وَالزَّايِ) .

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 278 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبَغْدَاذَ فِيهَا كَانَتِ الْحَرْبُ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ أَصْحَابِ وَصِيفٍ الْخَادِمِ، وَالْبَرْبَرِ، وَأَصْحَابِ مُوسَى ابْنِ أُخْتِ مُفْلِحٍ، أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا، وَقَدْ قُتِلَ بَيْنَهُمْ جَمَاعَةٌ، ثُمَّ وَقَعَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ وَقْعَةٌ بَيْنَ أَصْحَابِ يُونُسَ قُتِلَ فِيهَا رَجُلٌ، ثُمَّ انْصَرَفُوا. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُوَفَّقِ وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ بِاللَّهِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ، وَكَانَ قَدْ مَرِضَ فِي بِلَادِ الْجَبَلِ، فَانْصَرَفَ وَقَدِ اشْتَدَّ بِهِ وَجَعُ النَّقْرَسِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوبِ، فَعُمِلَ لَهُ سَرِيرٌ عَلَيْهِ قُبَّةٌ، فَكَانَ يَقْعُدُ عَلَيْهِ [هُوَ] وَخَادِمٌ لَهُ يُبْرِدُ رِجْلَهُ بِالْأَشْيَاءِ الْبَارِدَةِ، حَتَّى إِنَّهُ يَضَعُ عَلَيْهَا الثَّلْجَ، ثُمَّ صَارَتْ عِلَّةٌ بِرِجْلِهِ، دَاءُ الْفِيلِ، وَهُوَ وَرَمٌ عَظِيمٌ يَكُونُ فِي السَّاقِ، يَسِيلُ مِنْهُ مَاءٌ. وَكَانَ يَحْمِلُ سَرِيرَهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا بِالنُّوبَةِ، فَقَالَ لَهُمْ يَوْمًا: قَدْ ضَجِرْتُمْ مِنْ حَمْلِي، بِوُدِّي أَنْ أَكُونَ كَوَاحِدٍ مِنْكُمْ أَحْمِلُ عَلَى رَأْسِي، وَآكُلُ، وَأَنَا فِي عَافِيَةٍ. وَقَالَ فِي مَرَضِهِ: أَطْبَقَ دِيوَانِي (عَلَى) مِائَةِ أَلْفِ مُرْتَزِقٍ، مَا أَصْبَحَ فِيهِمْ أَسْوَأُ

حَالًا مِنِّي، فَوَصَلَ إِلَى دَارِهِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ صَفَرٍ. وَشَاعَ مَوْتُهُ بَعْدَ انْصِرَافِ أَبِي الصَّقْرِ مِنْ دَارِهِ، وَكَانَ تَقَدَّمَ بِحِفْظِ أَبِي الْعَبَّاسِ، فَأُغْلِقَتْ عَلَيْهِ أَبْوَابٌ دُونَ أَبْوَابٍ، وَقَوِيَ الْإِرْجَافُ بِمَوْتِهِ، وَكَانَ قَدِ اعْتَرَتْهُ غَشْيَةٌ، فَوَجَّهَ أَبُو الصَّقْرِ إِلَى الْمَدَائِنِ، فَحَمَلَ مِنْهَا الْمُعْتَمِدَ وَأَوْلَادَهُ، فَجِيءَ بِهِمْ إِلَى دَارِهِ، وَلَمْ يَسِرْ أَبُو الصَّقْرِ إِلَى دَارِ الْمُوَفَّقِ. فَلَمَّا رَأَى غِلْمَانُ الْمُوَفَّقِ الْمَائِلُونَ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ وَالرُّؤَسَاءُ مِنْ غِلْمَانِ أَبِي الْعَبَّاسِ مَا نَزَلَ بِالْمُوَفَّقِ، كَسَرُوا الْأَقْفَالَ، وَالْأَبْوَابَ الْمُغْلَقَةَ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو الْعَبَّاسِ ذَلِكَ ظَنَّ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ بِيَدِهِ، وَقَالَ لِغُلَامٍ عِنْدَهُ: وَاللَّهِ لَا يَصِلُونَ إِلَيَّ وَفِي شَيْءٍ مِنَ الرُّوحِ! فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ رَأَى فِي أَوَّلِهِمْ غُلَامَهُ وَصِيفًا مُوشْكِيرَ، فَلَمَّا رَآهُ أَلْقَى السَّيْفَ مِنْ يَدِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ مَا يُرِيدُونَ إِلَّا الْخَيْرَ، فَأَخْرَجُوهُ، وَأَقْعَدُوهُ عِنْدَ أَبِيهِ، فَلَمَّا فَتَحَ عَيْنَهُ رَآهُ، فَقَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ إِلَيْهِ. وَجَمَعَ أَبُو الصَّقْرِ عِنْدَ الْقُوَّادِ وَالْجُنْدِ، وَقَطَعَ الْجِسْرَيْنِ، وَحَارَبَهُ قَوْمٌ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَقَتَلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى، فَلَمَّا بَلَغَ النَّاسُ أَنَّ الْمُوَفَّقَ حَيٌّ حَضَرَ عِنْدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّاجِ، وَفَارَقَ أَبَا الصَّقْرِ، وَتَسَلَّلَ الْقُوَّادُ، وَالنَّاسُ عَنْ أَبِي الصَّقْرِ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو الصَّقْرِ ذَلِكَ حَضَرَ هُوَ وَابْنُهُ دَارَ الْمُوَفَّقِ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ الْمُوَفَّقُ شَيْئًا مِمَّا جَرَى، فَأَقَامَ فِي دَارِ الْمُوَفَّقِ، فَلَمَّا رَأَى الْمُعْتَمِدُ أَنَّهُ بَقِيَ فِي الدَّارِ نَزَلَ هُوَ وَبَنُوهُ وَبَكْتِمُرُ، فَرَكِبُوا زَوْرَقًا، فَلَقِيَهُمْ طَيَّارٌ لِأَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفَ، فَحَمَلَهُ فِيهِ إِلَى دَارِ عَلِيِّ بْنِ جِهْشِيَارَ. وَذَكَرَ أَعْدَاءُ أَبِي الصَّقْرِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى الْمُعْتَمِدِ بِمَالِ الْمُوَفَّقِ، وَأَسْبَابِهِ، وَأَشَاعُوا ذَلِكَ عَنْهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْمُوَفَّقِ، فَنُهِبَتْ دَارُ أَبِي الصَّقْرِ، حَتَّى أُخْرِجَتْ نِسَاؤُهُ مِنْهَا حُفَاةً بِغَيْرِ أُزُرٍ، وَنُهِبَ مَا يُجَاوِرُهَا مِنَ الدُّورِ، وَكُسِرَتْ أَبْوَابُ السِّجْنِ، وَخَرَجَ مَنْ كَانَ فِيهَا. وَخَلَعَ الْمُوَفَّقُ عَلَى ابْنِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَعَلَى أَبِي الصَّقْرِ، وَرَكِبَا جَمِيعًا، فَمَضَى أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَأَبُو الصَّقْرِ إِلَى مَنْزِلِهِ وَقَدْ نُهِبَ، فَطَلَبَ حَصِيرَةً يَقْعُدُ عَلَيْهَا عَارِيَةً،

فَوَلَّى أَبُو الْعَبَّاسِ غُلَامَهُ بَدْرًا الشُّرْطَةَ، وَاسْتَخْلَفَ مُحَمَّدَ بْنَ غَانِمِ بْنِ الشَّاهْ عَلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ. وَمَاتَ الْمُوَفَّقُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ بِالرُّصَافَةِ، وَجَلَسَ أَبُو الْعَبَّاسِ لِلتَّعْزِيَةِ. وَكَانَ الْمُوَفَّقُ عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، يَجْلِسُ لِلْمَظَالِمِ، وَعِنْدَهُ الْقُضَاةُ، وَغَيْرُهُمْ، فَيَنْتَصِفُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَدَبِ، وَالنَّسَبِ، وَالْفِقْهِ، وَسِيَاسَةِ الْمُلْكِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ يَوْمًا: إِنَّ جَدِّي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْعَبَّاسِ قَالَ: إِنَّ الذُّبَابَ لِيَقَعُ عَلَى جَلِيسِي فَيُؤْذِينِي ذَلِكَ، وَهَذَا نِهَايَةُ الْكَرَمِ، وَأَنَا وَاللَّهِ أَرَى جُلَسَائِي بِالْعَيْنِ الَّتِي أَرَى بِهَا إِخْوَانِي، وَاللَّهِ لَوْ تَهَيَّأَ لِي أَنْ أُغَيِّرَ أَسْمَاءَهُمْ لَنَقَلْتُهَا مِنَ الْجُلَسَاءِ إِلَى الْأَصْدِقَاءِ وَالْإِخْوَانِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ: دَعَا الْمُوَفَّقُ يَوْمًا جُلَسَاءَهُ، فَسَبَقْتُهُمْ وَحْدِي، فَلَمَّا رَآنِي وَحْدِي أَنْشَدَ يَقُولُ: وَأَسْتَصْحِبُ الْأَصْحَابَ حَتَّى إِذَا دَنَوْا ... وَمَلُّوا مِنَ الْإِدْلَاجِ جِئْتُكُمُ وَحْدِي فَدَعَوْتُ لَهُ، وَاسْتَحْسَنْتُ إِنْشَادَهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَهُ مَحَاسِنُ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا. ذِكْرُ الْبَيْعَةِ لِلْمُعْتَضِدِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ لَمَّا مَاتَ الْمُوَفَّقُ اجْتَمَعَ الْقُوَّادُ وَبَايَعُوا ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ بَعْدَ الْمُفَوِّضِ ابْنِ الْمُعْتَمِدِ، وَلُقِّبَ الْمُعْتَضِدَ بِاللَّهِ، وَخُطِبَ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْمُفَوِّضِ، وَذَلِكَ لِسَبْعِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ أَبِيهِ، وَتَوَلَّى مَا كَانَ أَبُوهُ يَتَوَلَّاهُ. وَفِيهَا قَبَضَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى أَبِي الصَّقْرِ وَأَصْحَابِهِ، وَانْتَهَبَ مَنَازِلَهُمْ، وَطَلَبَ بَنِي الْفُرَاتِ فَاخْتَفَوْا. وَخَلَعَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ، وَوَلَّاهُ الْوِزَارَةَ.

وَسَيَّرَ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي السَّاجِ إِلَى وَاسِطَ لِيَرُدَّ غُلَامَهُ وَصِيفًا إِلَى بَغْدَاذَ، فَمَضَى وَصِيفٌ إِلَى السُّوسِ فَعَاثَ بِهَا وَنَهَبَ الطِّيبَ، وَأَبَى الرُّجُوعَ إِلَى بَغْدَاذَ. وَفِيهَا قُتِلَ عَلِيُّ بْنُ اللَّيْثِ أَخُو الصَّفَّارِ، قَتَلَهُ رَافِعُ بْنُ هَرْثَمَةَ، وَكَانَ قَدْ يَحْنِقُ بِهِ، وَتَرَكَ أَخَاهُ. وَفِيهَا غَارَ مَاءُ النِّيلِ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِمِصْرَ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ أَمْرِ الْقَرَامِطَةِ وَفِيهَا تَحَرَّكَ بِسَوَادِ الْكُوفَةِ قَوْمٌ يُعْرَفُونَ بِالْقَرَامِطَةِ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِمْ، فِيمَا ذُكِرَ، أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ قَدِمَ نَاحِيَةً خُوزِسْتَانَ إِلَى سَوَادِ الْكُوفَةِ، فَكَانَ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ النَّهْرَيْنِ، يُظْهِرُ الزُّهْدَ، وَالتَّقَشُّفَ، وَيَسِفُّ الْخُوصَ، وَيَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ، وَيُكْثِرُ الصَّلَاةَ، فَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةً، فَكَانَ إِذَا قَعَدَ إِلَيْهِ رَجُلٌ ذَاكَرَهُ أَمْرَ الدِّينِ، وَزَهَّدَهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَى النَّاسِ خَمْسُونَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، حَتَّى فَشَا ذَلِكَ [عَنْهُ] بِمَوْضِعِهِ، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى إِمَامٍ مِنْ آلِ بَيْتِ الرَّسُولِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى اسْتَجَابَ لَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ. وَكَانَ يَقْعُدُ إِلَى بَقَّالٍ هُنَاكَ. فَجَاءَ قَوْمٌ إِلَى الْبَقَّالِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ رَجُلًا يَحْفَظُ عَلَيْهِمْ مَا

صَرُمُوا مِنْ نَخْلِهِمْ، فَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ أَجَابَكُمْ إِلَى حِفْظِ تَمْرِكُمْ فَإِنَّهُ بِحَيْثُ تُحِبُّونَ، فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ عَلَى أُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَكَانَ يَحْفَظُ لَهُمْ، وَيُصَلِّي أَكْثَرَ نَهَارِهِ، وَيَصُومُ، وَيَأْخُذُ عِنْدَ إِفْطَارِهِ مِنَ الْبَقَّالِ رِطْلَ تَمْرٍ فَيُفْطِرُ عَلَيْهِ، وَيَجْمَعُ نَوَى ذَلِكَ التَّمْرِ وَيُعْطِيهِ الْبَقَّالَ، فَلَمَّا حَمَلَ التُّجَّارُ تَمْرَهُمْ حَاسَبُوا أَجِيرَهُمْ عِنْدَ الْبَقَّالِ، وَدَفَعُوا إِلَيْهِ أُجْرَتَهُ، وَحَاسَبَ الْأَجِيرُ الْبَقَّالَ عَلَى مَا أَخَذَ مِنْهُ مِنَ التَّمْرِ، وَحَطَّ ثَمَنَ النَّوَى، فَسَمِعَ أَصْحَابُ التَّمْرِ مُحَاسَبَتَهُ لِلْبَقَّالِ بِثَمَنِ النَّوَى فَضَرَبُوهُ، وَقَالُوا لَهُ: أَلَمْ تَرْضَ بِأَكْلِ تَمْرِنَا، حَتَّى بِعْتَ النَّوَى؟ فَقَالَ لَهُمُ الْبَقَّالُ: لَا تَفْعَلُوا! وَقَصَّ عَلَيْهِمُ الْقِصَّةَ، فَنَدِمُوا عَلَى ضَرْبِهِ، وَاسْتَحْلَوْا مِنْهُ مَا فَعَلَ، وَازْدَادَ بِذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ لِمَا وَقَفُوا عَلَيْهِ مِنْ زُهْدِهِ. ثُمَّ مَرِضَ، فَمَكَثَ عَلَى الطَّرِيقِ مَطْرُوحًا، وَكَانَ فِي الْقَرْيَةِ رَجُلٌ أَحْمَرُ الْعَيْنَيْنِ، يَحْمِلُ عَلَى أَثِوَارٍ لَهُ، يُسَمُّونَهُ كَرْمِيتَةَ لِحُمْرَةِ عَيْنَيْهِ، وَهُوَ بِالنَّبَطِيَّةِ أَحْمَرُ الْعَيْنِ، فَكَلَّمَ الْبَقَّالُ الْكَرْمِيتَةَ فِي حَمْلِ الْمَرِيضِ إِلَى مَنْزِلِهِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ، فَفَعَلَ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ حَتَّى بَرَأَ، وَدَعَا أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ إِلَى مَذْهَبِهِ، فَأَجَابُوهُ، وَكَانَ يَأْخُذُ مِنَ الرَّجُلِ إِذَا أَجَابَهُ دِينَارًا، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ لِلْإِمَامِ، وَاتَّخَذَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْعُوا النَّاسَ إِلَى مَذْهَبِهِمْ، وَقَالَ: أَنْتُمْ كَحَوَارِيِّي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَاشْتَغَلَ أَهْلُ كُوَرِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِمَا رَسَمَ لَهُمْ مِنَ الصَّلَوَاتِ. كَانَ لِلْهَيْصَمِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ ضِيَاعٌ، فَرَأَى تَقْصِيرَ الْأُكْرَةِ فِي عِمَارَتِهَا، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، فَأُخْبِرَ بِخَبَرِ الرَّجُلِ، فَأَخَذَهُ، وَحَبَسَهُ، وَحَلَفَ أَنْ يَقْتُلَهُ لَمَّا اطَّلَعَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَأَغْلَقَ بَابَ الْبَيْتِ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ مِفْتَاحَ الْبَيْتِ تَحْتَ وِسَادَتِهِ، وَاشْتَغَلَ بِالشُّرْبِ، فَسَمِعَ بَعْضُ مَنْ فِي الدَّارِ مِنَ الْجَوَارِي بِمَسَاءَتِهِ، فَرَقَّتْ لِلرَّجُلِ، فَلَمَّا نَامَ الْهَيْصَمُ أَخَذَتِ الْمِفْتَاحَ، وَفَتَحَتِ الْبَابَ وَأَخْرَجَتْهُ، ثُمَّ أَعَادَتِ الْمِفْتَاحَ إِلَى مَكَانِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الْهَيْصَمُ فَتَحَ الْبَابَ لِيَقْتُلَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ.

وَشَاعَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ، فَافْتَتَنَ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، (وَقَالُوا: رُفِعَ) ، ثُمَّ ظَهَرَ فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَلَقِيَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَسَأَلُوهُ عَنْ قِصَّتِهِ، فَقَالَ: لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَنَالَنِي بِسُوءٍ! فَعَظُمَ فِي أَعْيُنِهِمْ، ثُمَّ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَخَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ الشَّامِ، فَلَمْ يُوقَفْ لَهُ عَلَى خَبَرٍ، وَسُمِّيَ بِاسْمِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ فِي دَارِهِ كَرْمِيتَةَ صَاحِبِ الْأَثْوَارِ، ثُمَّ خُفِّفَ فَقِيلَ قَرْمَطُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ زِكْرَوَيْهِ عَنْهُ. وَقِيلَ إِنَّ قَرْمَطَ لَقَبُ رَجُلٍ كَانَ بِسَوَادِ الْكُوفَةِ يَحْمِلُ غَلَّةَ السَّوَادِ عَلَى أَثْوَارٍ لَهُ، وَاسْمُهُ حَمْدَانُ، ثُمَّ فَشَا مَذْهَبُ الْقَرَامِطَةِ بِسَوَادِ الْكُوفَةِ. وَوَقَفَ الطَّائِيُّ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَلَى أَمْرِهِمْ، فَجَعَلَ عَلَى الرَّجُلِ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ دِينَارًا، فَقَدِمَ قَوْمٌ مِنَ الْكُوفَةِ، فَرَفَعُوا أَمْرَ الْقَرَامِطَةِ، وَالطَّائِيِّ إِلَى السُّلْطَانِ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ أَحْدَثُوا دِينًا غَيْرَ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ السَّيْفَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا مَنْ بَايَعَهُمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَسْمَعْ قَوْلَهُمْ. وَكَانَ فِيمَا حُكِيَ عَنِ الْقَرَامِطَةِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُمْ جَاءُوا بِكِتَابٍ فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ! يَقُولُ الْفَرَجُ بْنُ عُثْمَانَ، وَهُوَ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا نَصْرَانَةُ، دَاعِيَةُ الْمَسِيحِ، وَهُوَ عِيسَى، وَهُوَ الْكَلِمَةُ، وَهُوَ الْمَهْدِيُّ، وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمَسِيحَ تَصَوَّرَ لَهُ فِي جِسْمِ إِنْسَانٍ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ الدَّاعِيَةُ، وَإِنَّكَ الْحُجَّةُ، وَإِنَّكَ النَّاقَةُ، وَإِنَّكَ الدَّابَّةُ، وَإِنَّكَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ، وَإِنَّكَ رُوحُ الْقُدُسِ. وَعَرَّفَهُ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَانِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ غُرُوبِهَا، وَأَنَّ الْأَذَانَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يَقُولَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَرَّتَيْنِ، أَشْهَدُ أَنَّ آدَمَ رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ نُوحًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ عِيسَى رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ الِاسْتِفْتَاحَ، وَهِيَ مِنَ الْمُنَزَّلِ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْقِبْلَةَ إِلَى بَيْتِ

الْمَقْدِسِ، [وَالْحَجَّ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ] ، وَأَنَّ الْجُمُعَةَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ لَا يُعْمَلُ فِيهِ شَيْءٌ، وَالسُّورَةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بِكَلِمَتِهِ، وَتَعَالَى بِاسْمِهِ، الْمُتَّخَذِ لِأَوْلِيَائِهِ بِأَوْلِيَائِهِ. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] ، ظَاهِرُهَا لِيُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِينَ وَالْحِسَابُ وَالشُّهُورُ وَالْأَيَّامُ، وَبَاطِنُهَا أَوْلِيَائِي الَّذِينَ عَرَّفُوا عِبَادِي سَبِيلِي اتَّقُونِي يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، وَأَنَا الَّذِي لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ، وَأَنَا الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَأَنَا الَّذِي أَبْلُو عِبَادِي، وَأَمْتَحِنُ خَلْقِي، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى بَلَائِي، وَمِحْنَتِي، وَاخْتِبَارِي أَلْقَيْتُهُ فِي جَنَّتِي، وَأَخْلَدْتُهُ فِي نِعْمَتِي، وَمَنْ زَالَ عَنْ أَمْرِي، وَكَذَّبَ رُسُلِي أَخَذْتُهُ مُهَانًا فِي عَذَابِي، وَأَتْمَمْتُ أَجَلِي، وَأَظْهَرْتُ أَمْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِي. وَأَنَا الَّذِي لَمْ يَعْلُ عَلَيَّ جَبَّارٌ إِلَّا وَضَعْتُهُ، وَلَا عَزِيزٌ إِلَّا ذَلَلْتُهُ، وَلَيْسَ الَّذِي أَصَرَّ عَلَى أَمْرِهِ، وَدَامَ عَلَى جَهَالَتِهِ، وَقَالُوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ، وَبِهِ مُوقِنِينَ، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ. ثُمَّ يَرْكَعُ، وَيَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي رَبِّ الْعِزَّةِ، وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُ الظَّالِمُونَ، يَقُولُهَا مَرَّتَيْنِ، فَإِذَا سَجَدَ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَى، اللَّهُ أَعْلَى، اللَّهُ أَعْظَمُ، اللَّهُ أَعْظَمُ. وَمِنْ شَرِيعَتِهِ أَنْ يَصُومَ يَوْمَيْنِ فِي السَّنَةِ، وَهُمَا الْمِهْرَجَانُ وَالنَّيْرُوزُ، وَأَنَّ النَّبِيذَ حَرَامٌ، وَالْخَمْرَ حَرَامٌ، وَلَا غُسْلَ مِنْ جَنَابَةٍ إِلَّا الْوُضُوءُ كَوُضُوءِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّ مَنْ حَارَبَهُ وَجَبَ قَتْلُهُ، وَمَنْ لَمْ يُحَارِبْهُ مِمَّنْ يُخَالِفُهُ أَخَذَ مِنْهُ الْجِزْيَةَ، وَلَا يُؤْكَلُ كُلُّ ذِي نَابٍ، وَلَا كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ. وَكَانَ مَسِيرُ قَرْمَطَ إِلَى سَوَادِ الْكُوفَةِ قَبْلَ قَتْلِ صَاحِبِ الزِّنْجِ، فَسَارَ قَرْمَطُ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي عَلَى مَذْهَبٍ وَرَأْيٍ، وَمَعِي مِائَةُ أَلْفِ ضَارِبِ سَيْفٍ، فَتُنَاظِرُنِي، فَإِنِ اتَّفَقْنَا عَلَى الْمَذْهَبِ مِلْتُ بِمَنْ مَعِي، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى انْصَرَفْتُ عَنْكَ، فَتَنَاظَرَا، فَاخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمَا، فَانْصَرَفَ قَرْمَطُ عَنْهُ.

ذِكْرُ غَزْوِ الرُّومِ وَوَفَاةِ يَازْمَانَ فِيهَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، دَخَلَ أَحْمَدُ الْعُجَيْفِيُّ طَرَسُوسَ، وَغَزَا مَعَ يَازْمَانَ الصَّائِفَةَ، فَبَلَغُوا شَكَنْدَ، فَأَصَابَتْ يَازْمَانَ شَظِيَّةٌ مِنْ حَجَرِ مَنْجَنِيقٍ فِي أَضْلَاعِهِ، فَارْتَحَلَ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ أَشْرَفَ عَلَى أَخْذِهَا، فَتُوُفِّيَ فِي الطَّرِيقِ مُنْتَصَفَ رَجَبٍ، وَحُمِلَ إِلَى طَرَسُوسَ فَدُفِنَ بِهَا. وَكَانَ قَدْ أَطَاعَ خُمَارَوَيْهِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ خَلَفَهُ ابْنُ عُجَيْفٍ، وَكَتَبَ إِلَى خُمَارَوَيْهِ يُخْبِرُهُ بِمَوْتِهِ، فَأَقَرَّهُ عَلَى وِلَايَةِ طَرَسُوسَ، وَأَمَدَّهُ بِالْخَيْلِ، وَالسِّلَاحِ، وَالذَّخَائِرِ، وَغَيْرِهَا، ثُمَّ عَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا ابْنَ عَمِّهِ مُحَمَّدَ بْنَ مُوسَى بْنِ طُولُونَ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِطَرَسُوسَ وَفِيهَا ثَارَ النَّاسُ، بِطَرَسُوسَ، بِالْأَمِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى، فَقَبَضُوا عَلَيْهِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُوَفَّقَ لَمَّا تُوُفِّيَ كَانَ لَهُ خَادِمٌ مِنْ خَوَاصِّهِ يُقَالُ لَهُ: رَاغِبٌ، فَاخْتَارَ الْجِهَادَ، فَسَارَ إِلَى طَرَسُوسَ عَلَى عَزْمِ الْمُقَامِ بِهَا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الشَّامِ سَيَّرَ مَا مَعَهُ مِنْ دَوَابَّ، وَآلَاتٍ، وَخِيَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَى طَرَسُوسَ، وَسَارَ هُوَ جَرِيدَةً إِلَى خُمَارَوَيْهِ لِيَزُورَهُ، وَيُعَرِّفَهُ عَزْمَهُ، فَلَمَّا لَقِيَهُ بِدِمَشْقَ أَكْرَمَهُ خُمَارَوَيْهِ، وَأَحَبَّهُ، وَأَنِسَ بِهِ، وَاسْتَحْيَا رَاغِبٌ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الْمَسِيرَ إِلَى طَرَسُوسَ، فَطَالَ مُقَامُهُ عِنْدَهُ، فَظَنَّ أَصْحَابُهُ أَنَّ خُمَارَوَيْهِ قَبَضَ عَلَيْهِ، فَأَذَاعُوا ذَلِكَ، فَاسْتَعْظَمَهُ النَّاسُ، وَقَالُوا: يَعْمِدُ إِلَى رَجُلٍ قَصَدَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَبَضَ عَلَيْهِ! ثُمَّ شَغَبُوا عَلَى أَمِيرِهِمْ مُحَمَّدِ ابْنِ عَمِّ خُمَارَوَيْهِ، وَقَبَضُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: لَا يَزَالُ فِي الْحَبْسِ إِلَى أَنْ يُطْلِقَ ابْنُ عَمِّكَ رَاغِبًا، وَنَهَبُوا دَارَهُ، وَهَتَكُوا حُرَمَهُ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى خُمَارَوَيْهِ، فَأَطْلَعَ رَاغِبًا عَلَيْهِ، وَأَذِنَ لَهُ فِي الْمَسِيرِ إِلَى طَرَسُوسَ، فَلَمَّا بَلَغَ إِلَيْهَا أَطْلَقَ أَهْلُهَا أَمِيرَهُمْ، فَلَمَّا أَطْلَقُوهُ قَالَ لَهُمْ: قَبَّحَ اللَّهُ جِوَارَكُمْ! وَسَارَ عَنْهُمْ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَأَقَامَ بِهِ، وَلَمَّا سَارَ عَنْ طَرَسُوسَ عَادَ الْعُجَيْفِيُّ إِلَى وِلَايَتِهَا.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا ظَهَرَ كَوْكَبٌ ذُو جُمَّةٍ، وَصَارَتِ الْجُمَّةُ ذُؤَابَةً. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ. [الْوَفَيَاتُ] وَتُوُفِّيَ فِيهَا عَبْدُ الْكَرِيمِ الدَّيْرُعَاقُولِيُّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بْنُ كُنْدَاجَ، وَوَلِيَ مَا كَانَ إِلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ رَبِيعَةَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ. وَتُوُفِّيَ إِدْرِيسُ بْنُ سُلَيْمٍ الْفَقْعَسِيُّ الْمَوْصِلِيُّ، وَكَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ، وَالصَّلَاحِ.

ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 279 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ خَلْعِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَمِدِ، وَوِلَايَةِ الْمُعْتَضِدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ خَرَجَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ، وَجَلَسَ لِلْقُوَّادِ، وَالْقُضَاةِ، وَوُجُوهِ النَّاسِ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ خَلَعَ ابْنَهُ الْمُفَوِّضَ إِلَى اللَّهِ جَعْفَرًا مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَجَعَلَ وِلَايَةَ الْعَهْدِ لِلْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُوَفَّقِ، وَشَهِدُوا عَلَى الْمُفَوِّضِ أَنَّهُ قَدْ تَبَرَّأَ مِنَ الْعَهْدِ، وَاسْقَطَ اسْمَهُ مِنَ السَّكَّةِ، وَالْخُطْبَةِ، وَالطِّرَازِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَخُطِبَ لِلْمُعْتَضِدِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. فَقَالَ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ يُهَنِّئُ الْمُعْتَضِدَ: لِيَهْنِكَ عَقْدٌ أَنْتَ فِيهِ الْمُقَدَّمُ ... حَبَاكَ بِهِ رَبٌّ بِفَضْلِكَ أَعْلَمُ فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَصْبَحْتَ وَالِيَ عَهْدِنَا ... فَأَنْتَ غَدًا فِينَا الْإِمَامُ الْمُعَظَّمُ وَلَا زَالَ مَنْ وَلَّاكَ فِينَا مُبَلَّغًا مُنَاهُ ... ، وَمَنْ عَادَاكَ يَشْجَى وَيُرْغَمُ وَكَانَ عَمُودُ الدِّينِ فِيهِ تَأَوُّدٌ ... فَعَادَ بِهَذَا الْعَهْدِ وَهْوَ مُقَوَّمُ

وَأَصْبَحَ وَجْهُ الْمَلِكِ جَذْلَانَ ضَاحِكًا يُضِيءُ لَنَا مِنْهُ الَّذِي كَانَ يُظْلِمُ ... فَدُونَكَ فَاشْدُدْ عَقْدَ مَا حَوَيْتَهُ فَإِنَّكَ دُونَ النَّاسِ فِيهِ الْمُحَكَّمُ وَفِيهَا نُودِيَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ أَنْ لَا يَقْعُدَ عَلَى الطَّرِيقِ وَلَا فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ قَاضٍ، وَلَا مُنَجِّمٌ، وَلَا زَاجِرٌ، وَحَلَفَ الْوَرَّاقُونَ أَنْ لَا يَبِيعُوا كُتُبَ الْكَلَامِ وَالْجَدَلِ، وَالْفَلْسَفَةِ. وَفِيهَا قُبِضَ عَلَى جَرَادٍ كَاتِبِ أَبِي الصَّقْرِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ بُلْبُلٍ. وَفِيهَا انْصَرَفَ أَبُو طَلْحَةَ مَنْصُورُ بْنُ مُسْلِمٍ مِنْ شَهْرَزَوْرَ، وَكَانَتْ لَهُ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْخَوَارِجِ، وَأَهْلِ الْمَوْصِلِ، وَالْأَعْرَابِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَتِ الْخَوَارِجُ، وَمُقَدَّمُهُمْ هَارُونُ، وَمَعَهُمْ مُتَطَوِّعَةُ أَهْلِ الْمَوْصِلِ، وَغَيْرُهُمْ، وَحَمْدَانُ بْنُ حَمْدُونَ التَّغْلِبِيُّ، عَلَى قِتَالِ بَنِي شَيْبَانَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ جَمْعًا كَثِيرًا مِنْ بَنِي شَيْبَانَ عَبَرُوا الزَّابَ، وَقَصَدُوا نِينَوَى مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ، لِلْإِغَارَةِ عَلَيْهَا وَعَلَى الْبَلَدِ، فَاجْتَمَعَ هَارُونُ الشَّارِيُّ، وَحَمْدَانُ بْنُ حَمْدُونَ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ الْمُوَاصِلَةِ، وَأَعْيَانِ أَهْلِهَا، عَلَى قِتَالِهِمْ وَدَفْعِهِمْ. وَكَانَ بَنُو شَيْبَانَ نَزَلُوا عَلَى بَاعْشِيقَا، وَمَعَهُمْ هَارُونُ بْنُ سُلَيْمَانَ مَوْلَى أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ الشَّيْخِ الشَّيْبَانِيِّ صَاحِبِ دِيَارِ بَكْرٍ، وَكَانَ قَدْ أَنْفَذَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجَ وَالِيًا عَلَى الْمَوْصِلِ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُ أَهْلُهَا مِنَ الْمُقَامِ عِنْدَهُمْ، فَطَرَدُوهُ، فَقَصَدَ بَنِي شَيْبَانَ (مُعَاوِنًا عَلَى الْخَوَارِجِ، وَأَهْلِ الْمَوْصِلِ) ، فَالْتَقَوْا، وَتَصَافُّوا، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَتْ بَنُو شَيْبَانَ، وَتَبِعَهُمْ حَمْدَانُ، وَالْخَوَارِجُ، وَمَلَكُوا بُيُوتَهُمْ، وَاشْتَغَلُوا بِالنَّهْبِ. وَكَانَ الزَّابُ (لَمَّا عَبَرَهُ بَنُو شَيْبَانَ [زَائِدًا] ، فَلَمَّا انْهَزَمُوا) عَلِمُوا أَنْ لَا مَلْجَأَ وَلَا

مَنْجَى غَيْرُ الصَّبْرِ، فَعَادُوا إِلَى الْقِتَالِ، وَالنَّاسُ مَشْغُولُونَ بِالنَّهْبِ، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ وَمَنْ مَعَهُمْ، وَعَادَ الظَّفَرُ لِلْأَعْرَابِ. وَكَتَبَ هَارُونُ بْنُ سِيمَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ كُنْدَاجَ يُعَرِّفُهُ أَنَّ الْبَلَدَ خَارِجٌ عَنْ يَدِهِ إِنْ لَمْ يَحْضُرْ هُوَ بِنَفْسِهِ، فَسَارَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ يُرِيدُ الْمَوْصِلَ، فَخَافَهُ أَهْلُهَا، فَانْحَدَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ يَطْلُبُونَ إِرْسَالَ وَالٍ إِلَيْهِمْ، وَإِزَالَةَ ابْنِ كُنْدَاجَ عَنْهُمْ، فَاجْتَازُوا فِي طَرِيقِهِمْ بِالْحَدِيثَةِ، وَبِهَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَجْرُوحُ يَحْفَظُ الطَّرِيقَ، قَدْ وَلَّاهُ الْمُعْتَضِدُ ذَلِكَ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ عَهْدٌ بِوِلَايَتِهِ الْمَوْصِلَ، فَحَثُّوهُ عَلَى تَعْجِيلِ السَّيْرِ، وَأَنْ يَسْبِقَ مُحَمَّدَ بْنَ كُنْدَاجَ إِلَيْهَا، وَخَوَّفُوهُ مِنِ ابْنِ كُنْدَاجَ إِذَا دَخَلَ الْمَوْصِلَ قَبْلَهُ، فَسَارَ، فَسَبَقَ مُحَمَّدٌ إِلَيْهَا، وَوَصَلَ مُحَمَّدُ بْنُ كُنْدَاجَ إِلَى بَلَدَ، فَبَلَغَهُ دُخُولُ الْمَجْرُوحِ الْمَوْصِلَ، (فَنَدِمَ عَلَى التَّبَاطُؤِ وَكَتَبَ إِلَى خُمَارَوَيْهِ بْنِ طُولُونَ يُخْبِرُهُ الْخَبَرَ، فَأَرْسَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَصَّاصِ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ إِلَى الْمُعْتَضِدِ، وَيَطْلُبُ أُمُورًا، مِنْهَا إِمْرَةُ الْمَوْصِلِ كَمَا كَانَتْ لَهُ قَبْلُ، فَلَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ كَرَاهَةَ أَهْلِ الْمَوْصِلِ مِنْ عُمَّالِهِ، (فَأَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهَا) . وَبَقِيَ الْمَجْرُوحُ بِالْمَوْصِلِ يَسِيرًا، وَعَزَلَهُ الْمُعْتَضِدُ، وَاسْتَعْمَلَ بَعْدَهُ عَلِيَّ بْنَ دَاوُدَ بْنِ رَهْزَادَ الْكُرْدِيَّ، فَقَالَ شَاعِرٌ يُقَالُ لَهُ الْعُجَيْنِيُّ: مَا رَأَى النَّاسُ لِهَذَا ال ... دَّهْرِ مُذْ كَانُوا شَبِيهَا ذَلَّتِ الْمَوْصِلُ حَتَّى ... أُمِّرَ الْأَكْرَادُ فِيهَا (الْعُجَيْنِيُّ بِالنُّونِ) . ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُعْتَمِدِ وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ

قَدْ شَرِبَ عَلَى الشَّطِّ فِي الْحَسَنِيِّ بِبَغْدَاذَ، يَوْمَ الْأَحَدِ، شَرَابًا كَثِيرًا، وَتَعَشَّى فَأَكْثَرَ، فَمَاتَ لَيْلًا، وَأَحْضَرَ الْمُعْتَضِدُ الْقُضَاةَ وَأَعْيَانَ النَّاسِ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، وَحُمِلَ إِلَى سَامَرَّا فَدُفِنَ بِهَا. وَكَانَ عُمْرُهُ خَمْسِينَ سَنَةٍ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنَ الْمُوَفَّقِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَكَانَ فِي خِلَافَتِهِ مَحْكُومًا عَلَيْهِ، قَدْ تَحَكَّمَ عَلَيْهِ أَخُوهُ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، حَتَّى إِنَّهُ احْتَاجَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، إِلَى ثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَمْ يَجِدْهَا ذَلِكَ الْوَقْتَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ فِي الْعَجَائِبِ أَنَّ مِثْلِي ... يَرَى مَا قَلَّ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ وَتُؤْخَذُ بِاسْمِهِ الدُّنْيَا جَمِيعًا ... وَمَا مِنْ ذَاكَ شَيْءٌ فِي يَدَيْهِ إِلَيْهِ تُحْمَلُ الْأَمْوَالُ طُرًّا ... وَيُمْنَعُ بَعْضَ مَا يُجْبَى إِلَيْهِ وَكَانَ أَوَّلُ الْخُلَفَاءِ انْتَقَلَ مِنْ سُرَّ مَنْ رَأَى، مُذْ بُنِيَتْ، ثُمَّ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ. ذِكْرُ خِلَافَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدِ وَفِي صَبِيحَةِ اللَّيْلَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا الْمُعْتَمِدُ بُويِعَ لِأَبِي الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُوَفَّقِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ بِالْخِلَافَةِ، فَوَلَّى غُلَامَهُ بَدْرًا الشُّرْطَةَ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ الْوِزَارَةَ، وَمُحَمَّدَ بْنَ الشَّاهْ بْنِ مَالِكٍ الْحَرَسَ. وَوَصَلَهُ فِي شَوَّالٍ رَسُولُ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ وَمَعَهُ هَدَايَا كَثِيرَةٌ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ خُرَاسَانَ، فَعَقَدَ لَهُ عَلَيْهَا، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْخِلَعَ، وَاللِّوَاءَ، وَالْعَهْدَ، فَنَصَبَ اللِّوَاءَ فِي دَارِهِ ثَلَاثَةَ

أَيَّامٍ. ذِكْرُ وَفَاةِ نَصْرٍ السَّامَانِيِّ وَفِيهَا مَاتَ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ، وَقَامَ بِمَا كَانَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ أَخُوهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، وَكَانَ نَصْرٌ دَيِّنًا، عَاقِلًا، لَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، مِنْهُ مَا قَالَ فِي رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ: أَخُوكَ فِيكَ عَلَى خُبْرٍ وَمَعْرِفَةٍ ... إِنَّ الذَّلِيلَ ذَلِيلٌ حَيْثُمَا كَانَا لَوْلَا زَمَانٌ خَئُونٌ فِي تَصَرُّفِهِ ... وَدَوْلَةٌ ظَلَمَتْ مَا كُنْتَ إِنْسَانًا ذِكْرُ عَزْلِ رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ مِنْ خُرَاسَانَ وَقَتْلِهِ وَفِيهَا عَزَلَ الْمُعْتَضِدُ رَافِعَ بْنَ هَرْثَمَةَ عَنْ خُرَاسَانَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَضِدَ كَتَبَ إِلَى رَافِعٍ بِتَخْلِيَةِ قُرَى السُّلْطَانِ بِالرَّيِّ، فَلَمْ يَقْبَلْ، فَأَشَارَ عَلَى رَافِعٍ أَصْحَابُهُ بِرَدِّ الْقُرَى لِئَلَّا يَفْسُدَ حَالُهُ بِكِتَابٍ، فَلَمْ يَقْبَلْ أَيْضًا، وَكَتَبَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفَ بِأَمْرِهِ بِمُحَارَبَةِ رَافِعٍ وَإِخْرَاجِهِ عَنِ الرَّيِّ، وَكَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ بِتَوْلِيَتِهِ خُرَاسَانَ. ثُمَّ إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَقِيَ رَافِعًا فَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ رَافِعٌ عَنِ الرَّيِّ، وَسَارَ إِلَى جُرْجَانَ، وَمَاتَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَعَادَ رَافِعٌ إِلَى الرَّيِّ، فَلَاقَاهُ عَمْرٌو، وَبَكْرٌ ابْنَا عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ عَمْرٌو وَبَكْرٌ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَوَصَلُوا إِلَى أَصْبَهَانَ، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانِينَ [وَمِائَتَيْنِ] . وَأَقَامَ رَافِعٌ بِالرَّيِّ بَاقِيَ سَنَتِهِ، وَمَاتَ عَلِيُّ بْنُ اللَّيْثِ مَعَهُ فِي الرَّيِّ. ثُمَّ إِنَّ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ وَافَى نَيْسَابُورَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ،

وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَعَلَى خُرَاسَانَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى رَافِعٍ، فَجَمَعَ أَصْحَابَهُ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْأَعْدَاءَ قَدْ أَحْدَقُوا بِنَا، وَلَا آمَنُ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَيْنَا ; هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ بِالدَّيْلَمِ يَنْتَظِرُ فُرْصَةً لِيَنْتَهِزَهَا ; وَهَذَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَدْ فَعَلْتُ بِهِ مَا فَعَلْتُ، فَهُوَ يَتَرَبَّصُ الدَّوَائِرَ ; وَهَذَا عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ قَدْ وَافَى خُرَاسَانَ بِجُمُوعِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أُصَالِحَ مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدٍ، وَأُعِيدَ إِلَيْهِ طَبَرِسْتَانَ، وَأُصَالِحَ ابْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ أَسِيرَ إِلَى عَمْرٍو، فَأُخْرِجَهُ عَنْ خُرَاسَانَ، فَوَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَصَالَحَهُ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانِينَ [وَمِائَتَيْنِ] . ثُمَّ سَارَ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، فَوَرَدَهَا فِي شَعْبَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، وَكَانَ قَدْ أَقَامَ بِجُرْجَانَ، فَأَحْكَمَ أُمُورَهَا، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِطَبَرِسْتَانَ رَاسَلَ مُحَمَّدَ بْنِ زَيْدٍ، وَصَالَحَهُ، وَوَعَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ أَنْ يُنْجِدَهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ رَجُلٍ مِنْ شُجْعَانِ الدَّيْلَمِ. وَخُطِبَ لِمُحَمَّدٍ بِطَبَرِسْتَانَ، وَجُرْجَانَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَبَلَغَ خَبَرُ مُصَالَحَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ وَرَافِعٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مُحَمَّدٍ يُذَكِّرُهُ مَا فَعَلَ بِهِ، وَيُحَذِّرُهُ مِنْهُ وَ [مِنْ] غَدْرِهِ إِنِ اسْتَقَامَ أَمْرُهُ، فَعَادَ عَنْ إِنْجَادِهِ بِعَسْكَرٍ. فَلَمَّا قَوِيَ عَمْرٌو عَرَفَ لِمُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ ذَلِكَ، وَخَلَّى عَلَيْهِ طَبَرِسْتَانَ ; وَلَمَّا أَحْكَمَ رَافِعٌ أَمْرَ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ سَارَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَوَرَدَ نَيْسَابُورَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمْرٍو حَرْبٌ شَدِيدَةٌ انْهَزَمَ فِيهَا رَافِعٌ إِلَى أَبْيُورْدَ، وَأَخَذَ عَمْرٌو مِنْهُ الْمُعَدَّلَ، وَاللَّيْثَ وَلَدَيْ أَخِيهِ عَلِيِّ بْنِ اللَّيْثِ، وَكَانَا عِنْدَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ عَلِيٍّ. وَلَمَّا وَرَدَ رَافِعٌ أَبْيُورْدَ أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى هَرَاةَ (أَوْ مَرْوٍ) ، فَعَلِمَ عَمْرٌو بِذَلِكَ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ بِسَرَخْسَ، فَلَمَّا عَلِمَ رَافِعٌ بِمَسِيرِ عَمْرٍو عَنْ نَيْسَابُورَ سَارَ عَلَى مَضَايِقَ، وَطُرُقٍ غَامِضَةٍ غَيْرَ طَرِيقِ الْجَيْشِ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَدَخَلَهَا، وَعَادَ إِلَيْهِ عَمْرٌو مِنْ سَرَخْسَ فَحَصَرَهُ فِيهَا، وَتَلَاقَيَا، وَاسْتَأْمَنَ بَعْضُ قُوَّادِ رَافِعٍ إِلَى عَمْرٍو، فَانْهَزَمَ رَافِعٌ، وَأَصْحَابُهُ، وَسَيَّرَ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ هَرْثَمَةَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ يَسْتَمِدُّهُ، وَيَطْلُبُ مَا وَعَدَهُ مِنَ الرِّجَالِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَلَمْ يُمِدَّهُ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَتَفَرَّقَ عَنْ رَافِعٍ أَصْحَابُهُ وَغِلْمَانُهُ، وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ غُلَامٍ، وَلَمْ يَمْلِكْ أَحَدٌ مِنْ وُلَاةِ خُرَاسَانَ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَفَارَقَهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ

أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ بِبُخَارَى، وَخَرَجَ رَافِعٌ مُنْهَزِمًا إِلَى خُوَارِزْمَ عَلَى الْجَمَّازَاتِ، وَحَمَلَ مَا بَقِيَ مَعَهُ مِنْ مَالٍ وَآلَةٍ، وَهِيَ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ. فَلَمَّا بَلَغَ رِبَاطَ جَبْوَهْ وَجَّهَ إِلَيْهِ خُوَارِزْمُشَاهْ أَبَا سَعِيدٍ الدَّرْغَانِيَّ لِيُقِيمَ لَهُ الْأَنْزَالَ، وَيَخْدِمَهُ إِلَى خُوَارِزْمَ، فَرَآهُ أَبُو سَعِيدٍ فِي قِلَّةٍ مِنْ رِجَالِهِ، وَغَدَرَ بِهِ، وَقَتَلَهُ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، وَهُوَ بِنَيْسَابُورَ، وَأَنْفَذَ عَمْرٌو الرَّأْسَ إِلَى الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، فَنُصِبَ بِبَغْدَاذَ. وَصَفَتْ خُرَاسَانُ إِلَى شَاطِئِ جَيْحُونَ لِعَمْرٍو. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا قَدِمَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجَصَّاصِ مِنْ مِصْرَ بِهَدَايَا عَظِيمَةٍ مِنْ خُمَارَوَيْهِ، فَتَزَوَّجَ الْمُعْتَضِدُ ابْنَةَ خُمَارَوَيْهِ. وَفِيهَا مَلَكَ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الشَّيْخِ قَلْعَةَ مَارْدِينَ، وَكَانَتْ بِيَدِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجِيقَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَهِيَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا، وَأَوَّلُ حَجَّةٍ حَجَّهَا بِالنَّاسِ، سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ التِّرْمِذِيُّ السُّلَمِيُّ بِتِرْمِذَ فِي رَجَبٍ، وَكَانَ إِمَامًا حَافِظًا لَهُ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ، مِنْهَا: " الْجَامِعُ الْكَبِيرُ " فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَحْسَنُ الْكُتُبِ، وَكَانَ ضَرِيرًا. وَتُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُدَبَّرُ فِي شَوَّالٍ [وَكَانَ يَلِي دِيوَانَ الضِّيَاعِ] .

ثم دخلت سنة ثمانين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ] 280 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ حَبْسَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُهْتَدِي فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخَذَ الْمُعْتَضِدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُهْتَدِي، وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ الْمَعْرُوفَ بِشَيْلَمَةَ، وَكَانَ شَيْلَمَةُ هَذَا مَعَ صَاحِبِ الزِّنْجِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِهِ، ثُمَّ لَحِقَ بِالْمُوَفَّقِ فِي الْأَمَانِ، فَأَمَّنَهُ. وَكَانَ سَبَبُ أَخْذِهِ إِيَّاهُ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْتَأْمِنَةِ سَعَى بِهِ إِلَى الْمُعْتَضِدِ، وَأَنَّهُ يَدْعُو لِرَجُلٍ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَأَنَّهُ قَدْ أَفْسَدَ جَمَاعَةً مِنَ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ، فَأَخَذَهُ الْمُعْتَضِدُ فَقَرَّرَهُ، فَلَمْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ وَقَالَ: لَوْ كَانَ الرَّجُلُ تَحْتَ قَدَمِي مَا رَفَعْتُهُمَا عَنْهُ! فَأَمَرَ بِهِ فَشُدَّ عَلَى خَشَبَةٍ مِنْ خَشَبِ الْخِيَمِ، ثُمَّ أُوقِدَتْ نَارٌ عَظِيمَةٌ، وَأُدِيرَ عَلَى النَّارِ حَتَّى تَقَطَّعَ جِلْدُهُ، ثُمَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَصُلِبَ عِنْدَ الْجِسْرِ، وَحَبَسَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُهْتَدِي إِلَى أَنْ عَلِمَ بَرَاءَتَهُ، وَأَطْلَقَهُ. وَكَانَ الْمُعْتَضِدُ قَالَ لِشَيْلَمَةَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَدْعُو إِلَى ابْنِ الْمُهْتَدِي؟ فَقَالَ: الْمَشْهُورُ عَنِّي أَنَّنِي أَتَوَلَّى آلَ أَبِي طَالِبٍ.

ذِكْرُ قَصْدِ الْمُعْتَضِدِ بَنِي شَيْبَانَ، وَصُلْحِهِ مَعَهُمْ وَفِيهَا، فِي أَوَّلِ صَفَرٍ سَارَ الْمُعْتَضِدُ مِنْ بَغْدَاذَ يُرِيدُ بَنِي شَيْبَانَ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ بِهِ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ قَصْدُهُ جَمَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَأَغَارَ الْمُعْتَضِدُ عَلَى أَعْرَابٍ عِنْدَ السِّنِّ، فَنَهَبَ أَمْوَالَهُمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَغَرِقَ مِنْهُمْ فِي الزَّابِّ مِثْلُ ذَلِكَ، وَعَجَزَ النَّاسُ عَنْ حَمْلِ مَا غَنِمُوهُ، فَبِيعَتِ الشَّاةُ بِدِرْهَمٍ، وَالْبَعِيرُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ. وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَبَلَدَ، فَلَقِيَهُ بَنُو شَيْبَانَ يَسْأَلُونَهُ الْعَفْوَ، وَبَذَلُوا لَهُ رَهَائِنَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا، وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ. وَأَرْسَلَ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ الشَّيْخِ يَطْلُبُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ مِنْ أَمْوَالِ ابْنِ كُنْدَاجِيقَ بِآمِدَ، فَبَعَثَهُ إِلَيْهِ وَمَعَهُ هَدَايَا كَثِيرَةٌ. ذِكْرُ خُرُوجِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَادَةَ عَلَى هَارُونَ وَكِلَاهُمَا خَارِجِيَّانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَيُعْرَفُ بِأَبِي جَوْزَةَ، وَهُوَ مِنْ بَنِي زُهَيْرٍ مِنْ أَهْلِ قَبْرَاثَا، مِنَ الْبَقْعَاءِ عَلَى هَارُونَ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْخَوَارِجِ، وَكَانَ أَوَّلَ أَمْرِهِ فَقِيرًا، وَكَانَ هُوَ وَابْنَانِ لَهُ يَلْتَقِطُونَ الْكَمْأَةَ وَيَبِيعُونَهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَمَعَ جَمَاعَةً، وَحُكِّمَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَهْلُ تِلْكَ النَّوَاحِي مِنَ الْأَعْرَابِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَأَخَذَ عُشْرَ الْغَلَّاتِ، وَقَبَضَ الزَّكَاةَ، وَسَارَ إِلَى مَعْلَثَايَا، فَقَاطَعَهُ أَهْلُهَاَ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ، (وَجَبَى تِلْكَ الْأَعْمَالَ) ، وَعَادَ وَبَنَى عِنْدَ سِنْجَارَ حِصْنًا، وَحَمَلَ إِلَيْهِ الْأَمْتِعَةَ، وَالْمِيرَةَ، وَجَعَلَ فِيهِ ابْنَهُ أَبَا هِلَالٍ وَمَعَهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ وُجُوهِ بَنِي زُهَيْرٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَوَصَلَ خَبَرُهُمْ إِلَى هَارُونَ الشَّارِيِّ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ وُجُوهِ أَصْحَابِهِ عَلَى قَصْدِ الْحِصْنِ أَوَّلًا، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْهُ سَارُوا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَجَمَعَ أَصْحَابَهُ، فَبَلَغُوا مِائَةَ رَاجِلٍ، وَأَلْفًا وَمِائَتَيْ فَارِسٍ، وَسَارَ إِلَيْهِ مُبَادِرًا، وَأَحْدَقَ بِهِ وَحَصَرَهُ ; وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَادَةَ فِي

قَبْرَاثَا لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ. وَجَدَّ هَارُونُ فِي قِتَالِ الْحِصْنِ، وَكَانَ مَعَهُ سَلَالِيمُ قَدْ أَخَذَهَا، وَزَحَفَ إِلَيْهِ وَكَانَ أَصْحَابُهُ قَدْ مَنَعُوا أَحَدًا يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ أَعْلَى السُّورِ، فَلَمَّا رَأَى مَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ تَغَلُّبَهُ عَلَى الْحِصْنِ أَعْطَوْا مَنْ فِيهِ مِنْ بَنِي زُهَيْرٍ الْأَمَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ هَارُونَ، فَشَقَّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَغْيِيرِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ قَتَلَ أَبَا هِلَالِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَنَفَرًا مَعَهُ قَبْلَ الْأَمَانِ، وَفَتَحُوا الْحِصْنَ، وَمَلَكُوا مَا فِيهِ. وَسَارُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، وَهُوَ بِقَبْرَاثَا، فَلَقُوهُ وَهُوَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ رَجُلٍ فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ هَارُونُ وَمَنْ مَعَهُ، فَوَقَفَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَنَادَى رِجَالًا بِأَسْمَائِهِمْ فَاجْتَمَعُوا نَحْوَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا، وَحَمَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَادَةَ. فَانْهَزَمَتِ الْمَيْمَنَةُ، وَعَادَتِ الْحَرْبُ، فَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ وَمَنْ مَعَهُ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيهِمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةِ رَجُلٍ، وَحَجَزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، وَجَمَعَ هَارُونُ مَا لَهُمْ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ إِلَى آمِدَ، فَأَخَذَهُ صَاحِبُهَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الشَّيْخِ، بَعْدَ حَرْبٍ، فَظَفِرَ بِهِ، فَأَخَذَهُ أَسِيرًا، وَسَيَّرَهُ إِلَى الْمُعْتَضِدِ، فَسَلَخَ جِلْدَهُ كَمَا يَسْلُخُ الشَّاةَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ لَمَّا افْتَتَحَ بْنُ أَبِي السَّاجِ مَرَاغَةَ، بَعْدَ حَرْبٍ شَدِيدَةٍ وَحِصَارٍ عَظِيمٍ، أَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بَعْدَ أَنْ أَمَّنَهُ وَأَصْحَابَهُ، وَقَيَّدَهُ وَحَبَسَهُ، وَقَرَّرَهُ بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ. وَفِيهَا مَاتَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفَ، وَقَامَ بَعْدَهُ أَخُوهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَفِيهَا افْتَتَحَ مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَمَّانَ، وَبَعَثَ بِرُءُوسِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِهَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَعْفَرُ بْنُ الْمُعْتَمِدِ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَكَانَ يُنَادِمُ الْمُعْتَضِدَ.

وَفِيهَا دَخَلَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ نَيْسَابُورَ فِي جُمَادَى الْأُولَى. وَفِيهَا وَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّاجِ ثَلَاثِينَ نَفْسًا مِنَ الْخَوَارِجِ مِنْ طَرِيقِ الْمَوْصِلِ فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُ أَكْثَرِهِمْ، وَحُبِسَ الْبَاقُونَ. وَفِيهَا دَخَلَ أَحْمَدُ بْنُ أَبَّا طَرَسُوسَ لِلْغَزَاةِ مِنْ قِبَلِ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، وَدَخَلَ بَعْدَهُ بَدْرٌ الْحَمَّامِيُّ، فَغَزَوْا جَمِيعًا مَعَ الْعُجَيْفِيِّ أَمِيرِ طَرَسُوسَ حَتَّى بَلَغُوا الْبَلْقَسُونَ. وَفِيهَا غَزَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ السَّامَانِيِّ بِلَادَ التُّرْكِ، وَافْتَتَحَ مَدِينَةَ مَلِكِهِمْ، وَأَسَرَ أَبَاهُ، وَامْرَأَتَهُ خَاتُونَ وَنَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمَ مِنَ الدَّوَابِّ مَا لَا يُعْلَمُ عَدَدًا، وَأَصَابَ الْفَارِسُ مِنَ الْغَنِيمَةِ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ رَاشِدٌ مَوْلَى الْمُوَفَّقِ بِالدِّينَوَرْدِ، وَحُمِلَ إِلَى بَغْدَاذَ فِي رَمَضَانَ. وَفِي شَوَّالٍ مَاتَ مَسْرُورٌ الْبَلْخِيُّ. وَفِيهَا غَارَتِ الْمِيَاهُ بِالرَّيِّ، وَطَبَرِسْتَانَ، حَتَّى بَلَغَ الْمَاءُ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ. وَفِي شَوَّالٍ انْكَسَفَ الْقَمَرُ، وَأَصْبَحَ أَهْلُ دَبِيلَ وَالدُّنْيَا مُظْلِمَةٌ، وَدَامَتِ الظُّلْمَةُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْعَصْرِ هَبَّتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ فَدَامَتْ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ زُلْزِلُوا فَخُرِّبَتِ الْمَدِينَةُ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ إِلَّا قَدْرُ مِائَةِ دَارٍ، وَزُلْزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ خَمْسَ مِرَارٍ، وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ أُخْرِجَ مِنْ تَحْتِ الرَّدْمِ مِائَةُ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا كُلُّهُمْ مَوْتَى.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ تُرُنْجَةَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يُوسُفَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ فِي رَمَضَانَ وَلَهُ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ. وَأَحْمَدُ بْنُ سَيَّارِ بْنِ أَيُّوبَ الْفَقِيهُ الْمَرْوَزِيُّ، وَكَانَ زَاهِدًا عَالِمًا. وَأَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ بِمِصْرَ.

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ] 281 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ مَسِيرِ الْمُعْتَضِدِ إِلَى مَارْدِينَ وَمُلْكِهِ إِيَّاهَا وَفِيهَا خَرَجَ الْمُعْتَضِدُ الْخَرْجَةَ الثَّانِيَةَ إِلَى الْمَوْصِلِ، قَاصِدًا لِحَمْدَانَ بْنِ حَمْدُونَ، لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ حَمْدَانَ مَالَ إِلَى هَارُونَ الشَّارِيِّ، وَدَعَا لَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْأَعْرَابَ، وَالْأَكْرَادَ مَسِيرُ الْمُعْتَضِدِ تَحَالَفُوا أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ عَلَى دَمٍ وَاحِدٍ، وَاجْتَمَعُوا، وَعَبَّوْا عَسْكَرَهُمْ، وَسَارَ الْمُعْتَضِدُ إِلَيْهِمْ فِي خَيْلِهِ جَرِيدَةً، فَأَوْقَعَ بِهِمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ، وَغَرِقَ مِنْهُمْ فِي الزَّابِ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَسَارَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى الْمَوْصِلِ يُرِيدُ قَلْعَةَ مَارْدِينَ، وَكَانَتْ لِحَمْدَانَ بْنِ حَمْدُونَ، فَهَرَبَ حَمْدَانُ مِنْهَا وَخَلَّفَ ابْنَهُ بِهَا، فَنَازَلَهَا الْمُعْتَضِدُ، وَقَاتَلَ مَنْ فِيهَا يَوْمَهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ رَكِبَ الْمُعْتَضِدُ فَصَعِدَ إِلَى بَابِ الْقَلْعَةِ، وَصَاحَ: يَا ابْنَ حَمْدَانَ! فَأَجَابَهُ، فَقَالَ: افَتْحِ الْبَابَ، فَفَتَحَهُ، فَقَعَدَ الْمُعْتَضِدُ فِي الْبَابِ، وَأَمَرَ بِنَقْلِ مَا فِي الْقَلْعَةِ وَهَدَمَهَا، ثُمَّ وَجَّهَ خَلْفَ ابْنِ حَمْدُونَ، وَطُلِبَ أَشَدَّ الطَّلَبِ، وَأُخِذَتْ أَمْوَالٌ لَهُ، ثُمَّ ظَفِرَ بِهِ الْمُعْتَضِدُ بَعْدَ عَوْدِهِ إِلَى بَغْدَاذَ. وَفِي عَوْدِهِ قَصَدَ الْحَسَنِيَّةَ وَبِهَا رَجُلٌ كُرْدِيٌّ يُقَالُ لَهُ شَدَّادٌ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ، قِيلَ كَانُوا عَشَرَةَ آلَافِ رَجُلٍ، وَكَانَ لَهُ قَلْعَةٌ، فَظَفِرَ بِهِ الْمُعْتَضِدُ وَهَدَمَ قَلْعَتَهُ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا وَرَدَ تُرْكُ بْنُ الْعَبَّاسِ عَامِلُ الْمُعْتَضِدِ عَلَى دِيَارِ مُضَرَ، مِنَ الْجَزِيرَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَمَعَهُ نَيِّفٌ وَأَرْبَعُونَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَغَرِّ صَاحِبِ سُمَيْسَاطَ عَلَى جِمَالٍ عَلَيْهِمْ بَرَانِسُ وَدَرَارِيعُ حَرِيرٍ، فَمَضَى بِهِمْ إِلَى الْحَبْسِ، وَعَادَ إِلَى دَارِهِ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ لِوَصِيفٍ خَادِمِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَهَزَمَهُ، ثُمَّ سَارَ وَصِيفٌ إِلَى مَوْلَاهُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي السَّاجِ. وَفِيهَا دَخَلَ طُغَجُ بْنُ جَفٍّ طَرَسُوسَ لِغَزْوِ الصَّائِفَةِ مِنْ قِبَلِ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ فَبَلَغَ طَرَابَزَوْنَ، وَفَتَحَ مَلُّورِيَّةَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَفِيهَا مَاتَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّائِيِّ بِالْكُوفَةِ فِي جُمَادَى. (وَفِيهَا غَارَتِ الْمِيَاهُ بِالرَّيِّ، وَطَبَرِسْتَانَ) . وَفِيهَا سَارَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى نَاحِيَةِ الْجَبَلِ، وَقَصَدَ الدِّينَوَرَ، وَوَلَّى ابْنَهُ عَلِيًّا - وَهُوَ الْمُكْتَفِي - الرَّيَّ، وَقَزْوِينَ، وَزِنْجَانَ، وَأَبْهَرَ، وَقُمَّ، وَهَمَذَانَ، وَالدِّينَوَرَ، وَجَعَلَ عَلَى كِتَابَتِهِ أَحْمَدَ بْنَ الْأَصْبَغِ، وَقَلَّدَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفَ أَصْبَهَانَ، وَنَهَاوَنْدَ، وَالْكَرَجَ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ لِأْجْلِ غَلَاءِ السِّعْرِ. وَفِيهَا اسْتَأْمَنَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ كَوْرَةُ عَامِلُ رَافِعٍ عَلَى الرَّيِّ إِلَى عَلِيِّ بْنِ

الْمُعْتَضِدِ [فِي زُهَاءِ أَلْفِ رَجُلٍ] ، فَوَجَّهَهُ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى أَبِيهِ. وَفِيهَا دَخَلَ الْأَعْرَابُ سَامَرَّا، فَقَتَلُوا ابْنَ سِيمَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ. وَفِيهَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ الرُّومُ، فَدَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، فَظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ وَغَنِمُوا غَنِيمَةً كَثِيرَةً وَعَادُوا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ الْمَشْهُورَةِ.

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ] 282 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ النَّيْرُوزِ الْمُعْتَضِدِيِّ فِيهَا أَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِالْكِتَابَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ كُلِّهَا وَالْبِلَادِ جَمِيعِهَا بِتَرْكِ افْتِتَاحِ الْخَرَاجِ فِي النَّيْرُوزِ الْعَجَمِيِّ، وَتَأْخِيرِ ذَلِكَ إِلَى الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ حُزَيْرَانَ، وَسَمَّاهُ النَّيْرُوزَ الْمُعْتَضِدَيَّ، وَأُنْشِئَتِ الْكُتُبُ بِذَلِكَ مِنَ الْمَوْصِلِ، وَالْمُعْتَضِدُ بِهَا وَأَرَادَ التَّرْفِيهَ عَنِ النَّاسِ، وَالرِّفْقَ بِهِمْ. ذِكْرُ قَصْدِ حَمْدَانَ، وَانْهِزَامِهِ، وَعَوْدِهِ إِلَى الطَّاعَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ، وَحَمْدَانَ بْنِ حَمْدُونَ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي الْمَوْصِلِ، فَبَادَرَ إِسْحَاقُ، وَتَحَصَّنَ حَمْدَانُ بِقِلَاعِهِ، وَأَوْدَعَ أَمْوَالَهُ وَحَرَمَهُ، فَسَيَّرَ الْمُعْتَضِدُ الْجُيُوشَ نَحْوَهُ مَعَ وَصِيفٍ مُوشْكِيرَ، وَنَصْرٍ الْقُشُورِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، فَصَادَفُوا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ كُورَةَ وَأَصْحَابَهُ مُتَحَصِّنِينَ بِمَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِدَيْرِ الزَّعْفَرَانِ، مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ. وَفِيهَا وَصَلَ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ بْنِ حَمْدُونَ، فَلَمَّا رَأَى الْحُسَيْنُ أَوَائِلَ الْعَسْكَرِ طَلَبَ الْأَمَانَ، فَأُمِّنَ، وَسُيِّرَ إِلَى الْمُعْتَضِدِ، وَسَلَّمَ الْقَلْعَةِ، فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِهَدْمِهَا. وَسَارَ وَصِيفٌ فِي طَلَبِ حَمْدَانَ، وَكَانَ بِبَاسُورِينَ، فَوَاقَعَهُ وَصِيفٌ وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً، وَانْهَزَمَ حَمْدَانُ فِي زَوْرَقٍ كَانَ لَهُ فِي دِجْلَةَ، وَحَمَلَ مَعَهُ مَالًا كَانَ لَهُ، وَعَبَرَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ دِجْلَةَ، فَصَارَ فِي دِيَارِ رَبِيعَةَ.

وَعَبَرَ نَفَرٌ مِنَ الْجُنْدِ، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ، حَتَّى أَشْرَفُوا عَلَى دَيْرٍ قَدْ نَزَلَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ هَرَبَ، وَتَرَكَ مَالَهُ، فَأُخِذَ وَأُتِيَ بِهِ الْمُعْتَضِدَ. وَسَارَ أُولَئِكَ فِي طَلَبِ حَمْدَانَ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ، فَقَصَدَ خَيْمَةَ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ، وَهُوَ مَعَ الْمُعْتَضِدِ، وَاسْتَجَارَ بِهِ، فَأَحْضَرَهُ إِسْحَاقُ عِنْدَ الْمُعْتَضِدِ، فَأَمَرَ بِالِاحْتِفَاظِ بِهِ وَتَتَابَعَ رُؤَسَاءُ الْأَكْرَادِ فِي طَلَبِ الْأَمَانِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ. ذِكْرُ انْهِزَامِ هَارُونَ الْخَارِجِيِّ مِنْ عَسْكَرِ الْمَوْصِلِ كَانَ الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ قَدْ خَلَّفَ بِالْمَوْصِلِ نَصْرًا الْقُشُورِيَّ يَجْبِي الْأَمْوَالَ، وَيُعِينُ الْعُمَّالَ عَلَى جِبَايَتِهَا، فَخَرَجَ عَامِلُ مَعْلَثَايَا إِلَيْهَا وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ نَصْرٍ، فَوَقَعَ عَلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ، فَاقْتَتَلُوا إِلَى أَنْ أَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمْ، وَقُتِلَ مِنَ الْخَوَارِجِ إِنْسَانٌ اسْمُهُ جَعْفَرٌ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ هَارُونَ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ قَتْلُهُ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْإِفْسَادِ فِي الْبِلَادِ. فَكَتَبَ نَصْرٌ الْقُشُورِيُّ إِلَى هَارُونَ الْخَارِجِيِّ كِتَابًا يَتَهَدَّدُهُ بِقُرْبِ الْخَلِيفَةِ، وَأَنَّهُ إِنْ هَمَّ بِهِ أَهْلَكَهُ وَأَهْلَكَ أَصْحَابَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَغْتَرُّ بِمَنْ سَارَ إِلَى حَرْبِهِ فَعَادَ عَنْهُ بِمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ هَارُونُ كِتَابًا، مِنْهُ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِمَّنْ أَرَادَ قَصْدِي، وَرَجَعَ عَنِّي، فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا جِدَّنَا، وَاجْتِهَادَنَا كَانُوا بِإِذْنِ اللَّهِ فَرَاشًا مُتَتَابِعًا، وَنَحْنُ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْهُمْ، وَمَا غَرَّكَ، إِلَّا مَا أَصَبْتَ بِهِ صَاحِبَنَا، فَظَنَنْتَ أَنَّ دَمَهُ مَطْلُولٌ، أَوْ أَنَّ وَتَرَهُ مَتْرُوكٌ لَكَ، كَلَّا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ وَرَائِكَ، وَآخِذٌ بِنَاصِيَتِكَ، وَمُعِينٌ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَقِّ مِنْكَ، وَلِمَ تُعَيِّرُنَا بِغَيْرِكَ وَتَدَعُ أَنْ يَكُونَ مَكَانُ ذَلِكَ إِبْدَاءَ صَحْفَتِكَ، وَإِظْهَارَ عَدَاوَتِكَ؟ وَإِنَّا إِيَّاكَ كَمَا قِيلَ: فَلَا تُوعِدْنَا بِاللِّقَاءِ وَأَبْرِزُوا ... إِلَيْنَا سَوَادًا نَلْقَهُ بِسَوَادِ وَلَعَمْرُ اللَّهِ مَا نَدْعُو إِلَى الْبِرَازِ ثِقَةً بِأَنْفُسِنَا، وَلَا عَنْ ظَنٍّ أَنَّ الْحَوْلَ وَالْقُوَّةَ لَنَا، لَكِنْ

ثِقَةً بِرَبِّنَا، وَاعْتِمَادًا عَلَى جَمِيلِ عَوَائِدِهِ عِنْدَنَا. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِ سُلْطَانِكَ فَإِنَّ سُلْطَانَكَ لَا يَزَالُ مِنَّا قَرِيبٌ، وَبِحَالِنَا عَالِمًا، (فَلَا قَدَّمَ أَجَلًا وَلَا أَخَّرَهُ) ، وَلَا بَسَطَ رِزْقًا، وَلَا قَبَضَهُ، قَدْ بَعَثْنَا عَلَى مُقَابَلَتِكَ، وَسَتَعْلَمُ عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَعَرَضَ نَصْرٌ كِتَابَ هَارُونَ عَلَى الْمُعْتَضِدِ، فَجَدَّ فِي قَصْدِهِ، وَوَلَّى الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ كَوْرَةَ الْمَوْصِلَ، وَأَمَرَهُ بِقَصْدِ الْخَوَارِجِ، وَأَمَرَ مُقَدَّمِي الْوِلَايَاتِ وَالْعُمَّالَ كَافَّةً بِطَاعَتِهِ، فَجَمَعَهُمْ، وَسَارَ إِلَى أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ، وَخَنْدَقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَقَامَ إِلَى أَنْ رَفَعَ النَّاسُ غَلَّاتِهِمْ، ثُمَّ سَارَ الْخَوَارِجُ، وَعَبَرَ الزَّابَ إِلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُمْ قَرِيبًا مِنَ الْمُغَلَّةِ، وَتَصَافُّوا لِلْحَرْبِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْكَشَفَ الْخَوَارِجُ عَنْهُ لِيُفَرِّقُوا جَمْعِيَّتَهُ، ثُمَّ يَعْطِفُوا عَلَيْهِ، فَأَمَرَ الْحَسَنُ أَصْحَابَهُ بِلُزُومِ (مَوَاقِفِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَرَجَعَ الْخَوَارِجُ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ سَبْعَ عَشْرَةَ حَمْلَةً، فَانْكَشَفَتْ) مَيْمَنَةُ الْحَسَنِ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَثَبَتَ هُوَ، فَحَمَلَ الْخَوَارِجُ عَلَيْهِ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَثَبَتَ لَهُمْ وَضَرَبَ عَلَى رَأْسِهِ عِدَّةَ ضَرَبَاتٍ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ. فَلَمَّا رَأَى أَصْحَابُهُ ثَبَاتَهُ تَرَاجَعُوا إِلَيْهِ وَصَبَرُوا، (فَانْهَزَمَ الْخَوَارِجُ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ) ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَفَارَقُوا مَوْضِعَ الْمَعْرَكَةِ، وَدَخَلُوا أَذْرَبِيجَانَ. وَأَمَّا هَارُونُ فَإِنَّهُ تَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ، وَقَصَدَ الْبَرِّيَّةَ، (وَنَزَلَ عِنْدَ بَنِي تَغْلِبَ، ثُمَّ عَادَ مَعْلَثَايَا، ثُمَّ) عَادَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، ثُمَّ رَجَعَ عَبْرَ دِجْلَةَ إِلَى حَزَّةَ، وَعَادَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ. وَأَمَّا وُجُوهُ أَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا إِقْبَالَ دَوْلَةِ الْمُعْتَضِدِ وَقُوَّتَهُ، وَمَا لَحِقَهُمْ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ، رَاسَلُوا الْمُعْتَضِدَ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، فَأَتَاهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، يَبْلُغُونَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ رَجُلًا، وَبَقِيَ مَعَهُ بَعْضُهُمْ يَجُولُ بِهِمْ فِي الْبِلَادِ، إِلَى أَنْ قُتِلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ [وَمِائَتَيْنِ] عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُبِضَ عَلَى تَكْتِمُرَ بْنِ طَاشْتِمُرَ، وَقُيِّدَ وَأُخِذَ مَالُهُ ;

(وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى) الْمَوْصِلِ، وَاسْتَعْمَلَ بَعْدَهُ عَلَيْهَا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ الْخُرَاسَانِيَّ، وَيُعْرَفُ بِكَوْرَةَ. وَفِيهَاَ قَدِمَ ابْنُ الْجَصَّاصِ بِابْنَةِ خُمَارَوَيْهِ زَوْجَةِ الْمُعْتَضِدِ، وَمَعَهَا أَحَدُ عُمُومَتِهَا، وَكَانَ الْمُعْتَضِدُ بِالْمَوْصِلِ. وَفِيهَا عَادَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى بَغْدَادَ، وَزُفَّتْ إِلَيْهِ ابْنَةُ خُمَارَوَيْهِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ وَفِيهَا سَارَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى الْجَبَلِ، فَبَلَغَ الْكَرَجَ، وَأَخَذَ أَمْوَالًا لِابْنِ أَبِي دُلَفَ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطْلُبُ مِنْهُ جَوْهَرًا كَانَ عِنْدَهُ، فَوَجَّهَ بِهِ إِلَيْهِ، تَنَحَّى مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَفِيهَا أُطْلِقَ لُؤْلُؤٌ غُلَامُ ابْنِ طُولُونَ، وَحُمِلَ عَلَى دَوَابَّ وَبِغَالٍ. وَفِيهَا وَجَّهَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ إِلَى الصَّيْمَرَةِ مَدَدًا الْقَلَانِسِيَّ غُلَامَ الْمُوَفَّقِ، فَهَرَبَ يُوسُفُ فِيمَنْ أَطَاعَهُ إِلَى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ بِمَرَاغَةَ، وَلَقِيَ مَالًا لِلْمُعْتَضِدِ فَأَخَذَهُ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ: إِمَامَ الْهُدَى أَنْصَارُكُمْ آلُ طَاهِرٍ ... بِلَا سَبَبٍ تُخْفُونَ وَالدَّهْرُ يَذْهَبُ وَقَدْ خَلَطُوا شُكْرًا بِصَبْرٍ وَرَابَطُو ... وَغَيْرُهُمْ يُعْطِي وَيَحْبِي وَيَهْرَبُ

وَفِيهَا وَجَّهَ الْمُعْتَضِدُ وَزِيرَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ إِلَى ابْنِهِ بِالرَّيِّ وَعَادَ مِنْهَا. وَفِيهَا وُجِّهَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ الْعَلَوِيُّ مِنْ طَبَرِسْتَانَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ وَرْدٍ الْعَطَّارِ بِاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ لِيُفَرِّقَهَا عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ بِبَغْدَاذَ، وَالْكُوفَةِ، وَالْمَدِينَةِ، فَسَعَى بِهِ الْمُعْتَضِدُ، فَأُحْضِرَ مُحَمَّدٌ عِنْدَ بَدْرٍ، وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَقَرَّ أَنَّهُ يُوَجِّهُ إِلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ مِثْلَ ذَلِكَ، فَفَرَّقَهُ، وَأَنْهَى بَدْرٌ إِلَى الْمُعْتَضِدِ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْمُعْتَضِدُ: أَمَا تَذْكُرُ الرُّؤْيَا الَّتِي خَبَّرْتُكَ بِهَا؟ قَالَ: لَا، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ; قَالَ: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنِّي أُرِيدُ نَاحِيَةَ النَّهْرَوَانِ، وَأَنَا فِي جَيْشِي، إِذْ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَاقِفٍ عَلَى تَلٍّ يُصَلِّي وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيَّ، فَعَجِبْتُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ لِي: أَقْبِلْ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ لِي: أَتَعْرِفُنِي؟ قُلْتُ: لَا! قَالَ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، خُذْ هَذِهِ فَاضْرِبْ بِهَا الْأَرْضَ، بِمِسْحَاةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذْتُهَا، فَضَرَبْتُ بِهَا ضَرَبَاتٍ، فَقَالَ لِي: إِنَّهُ سَيَلِي مِنْ وَالَدِكَ هَذَا الْأَمْرَ بِعَدَدِ الضَّرَبَاتِ، فَأَوْصِهِمْ بِوَلَدِي خَيْرًا. وَأَمَرَ بَدْرًا بِإِطْلَاقِ الْمَالِ وَالرَّجُلِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى صَاحِبِهِ بِطَبَرِسْتَانَ أَنْ يُوَجِّهَ مَا يُرِيدُ ظَاهِرًا، وَأَنْ يُفَرِّقَ مَا يَأْتِيهِ ظَاهِرًا، وَتَقَدَّمَ بِمَعُونَتِهِ عَلَى ذَلِكَ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو طَلْحَةَ مَنْصُورُ بْنُ مُسْلِمٍ فِي حَبْسِ الْمُعْتَضِدِ) . (وَفِيهَا وَلَدَتْ جَارِيَةٌ اسْمُهَا شَغَبُ لِلْمُعْتَضِدِ وَلَدًا سَمَّاهُ جَعْفَرًا، وَهُوَ الْمُقْتَدِرُ) . وَفِيهَا قُتِلَ خُمَارَوَيْهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، ذَبَحَهُ بَعْضُ خَدَمِهِ عَلَى فِرَاشِهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ بِدِمَشْقَ، وَقُتِلَ مِنْ خَدَمِهِ الَّذِينَ اتُّهِمُوا نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ نَفْسًا. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ سَعَى إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَقَالَ لَهُ إِنَّ جَوَارِيَ دَارِهِ قَدِ اتَّخَذَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ خَصِيًّا مِنْ خِصْيَانِ دَارِهِ لَهَا كَالزَّوْجِ، وَقَالَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَعْلَمَ صِحَّةَ ذَلِكَ فَأَحْضِرْ بَعْضَ الْجَوَارِي فَاضْرِبْهَا وَقَرِّرْهَا، حَتَّى تَعْلَمَ صِحَّةَ ذَلِكَ. فَبَعَثَ مِنْ وَقْتِهِ إِلَى نَائِبِهِ بِمِصْرَ يَأْمُرُهُ بِإِحْضَارِ عِدَّةٍ مِنَ الْجَوَارِي لِيَعْلَمَ الْحَالَ مِنْهُنَّ، فَاجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ

الْخَدَمِ، وَقَرَّرُوا بَيْنَهُمُ الِاتِّفَاقَ عَلَى قَتْلِهِ، خَوْفًا مِنْ ظُهُورِ مَا قِيلَ لَهُ، وَكَانُوا خَاصَّتَهُ، فَذَبَحُوهُ لَيْلًا وَهَرَبُوا. فَلَمَّا قُتِلَ اجْتَمَعَ الْقُوَّادُ، وَأَجْلَسُوا ابْنَهُ جَيْشَ بْنَ خُمَارَوَيْهِ فِي الْإِمَارَةِ، وَكَانَ مَعَهُ بِدِمَشْقَ، وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ، فَبَايَعُوهُ فَفُرِّقَتْ فِيهِمُ الْأَمْوَالُ وَكَانَ صَبِيًّا غِرًّا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ أَبُو سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ أَخَذَ الْفِقْهَ عَنِ الْبُوَيْطِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَدَبَ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو حَنِيفَةَ أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ الدِّينَوَرِيُّ اللُّغَوِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ النَّبَاتِ وَغَيْرِهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، وَلَهُ " مُسْنَدٌ " يُرْوَى غَالِبًا فِي زَمَانِنَا هَذَا. (وَأَبُو الْعَيْنَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ، وَكَانَ يَرْوِي عَنِ الْأَصْمَعِيِّ) .

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ] 283 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ الظَّفَرِ بِهَارُونَ الْخَارِجِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى الْمَوْصِلِ بِسَبَبِ هَارُونَ الشَّارِيِّ وَظَفِرَ بِهِ. وَسَبَبُ الظَّفَرِ بِهِ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى تِكْرِيتَ، وَأَقَامَ بِهَا، وَأَحْضَرَ الْحُسَيْنَ بْنَ حَمْدَانَ التَّغْلِبِيَّ، وَسَيَّرَهُ فِي طَلَبِ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَارِجِيِّ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُرْسَانِ، وَالرَّجَّالَةِ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: إِنْ أَنَا جِئْتُ بِهِ فَلِي ثَلَاثُ حَوَائِجَ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ; قَالَ: اذْكُرْهَا! قَالَ إِحْدَاهُنَّ إِطْلَاقُ أَبِي، وَحَاجَتَانِ أَذْكُرُهُمَا بَعْدَ مَجِيئِي بِهِ. فَقَالَ لَهُ الْمُعْتَضِدُ: لَكَ ذَلِكَ. فَانْتَخَبَ ثَلَاثَمِائَةِ فَارِسٍ، وَسَارَ بِهِمْ، وَمَعَهُمْ وَصِيفُ بْنُ مُوشْكِيرَ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: تَأْمُرُهُ بِطَاعَتِي، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ. وَسَارَ بِهِمُ الْحُسَيْنُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَخَاضَةٍ فِي دِجْلَةَ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ لِوَصِيفٍ وَلِمَنْ مَعَهُ: لِيَقِفُوا هُنَاكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ إِنْ هَرَبَ غَيْرُ هَذَا، فَلَا تَبْرَحُنَّ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ حَتَّى يَمُرَّ بِكُمْ فَتَمْنَعُوهُ عَنِ الْعُبُورِ، وَأَجِيءُ أَنَا، أَوْ يَبْلُغُكُمْ أَنِّي قُتِلْتُ. وَمَضَى حُسَيْنٌ فِي طَلَبِ هَارُونَ، (فَلَقِيَهُ، وَوَاقَعَهُ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمَا قَتْلَى، وَانْهَزَمَ هَارُونُ، وَأَقَامَ وَصَيْفٌ عَلَى الْمَخَاضَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: قَدْ طَالَ مُقَامُنَا، وَلَسْنَا نَأْمَنُ أَنْ يَأْخُذَ حُسَيْنٌ الشَّارِيَّ، فَيَكُونَ لَهُ الْفَتْحُ دُونَنَا، وَالصَّوَابُ أَنْ نَمْضِيَ فِي آثَارِهِمْ. فَأَطَاعَهُمْ وَمَضَى. وَجَاءَ هَارُونَ مُنْهَزِمًا إِلَى مَوْضِعِ الْمَخَاضَةِ فَعَبَرَ، وَجَاءَ حُسَيْنٌ فِي أَثَرِهِ فَلَمْ يَرَ وَصِيفًا وَأَصْحَابَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَرَكَهُمْ فِيهِ، وَلَا عَرَفَ لَهُمْ خَبَرًا فَعَبَرَ فِي أَثَرِ هَارُونَ، وَجَاءَ

إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَكَتَمُوهُ فَتَهَدَّدَهُمْ، فَأَعْلَمُوهُ أَنَّهُ اجْتَازَ بِهِمْ، فَتَبِعَهُ حَتَّى لَحِقَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَهَارُونُ فِي نَحْوِ مِائَةِ رَجُلٍ، فَنَاشَدَهُ الشَّارِيُّ وَوَعَدَهُ، وَأَبَى حُسَيْنٌ إِلَّا مُحَارَبَتَهُ، فَحَارَبَهُ فَأَلْقَى الْحُسَيْنُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ أَسِيرًا وَجَاءَ بِهِ إِلَى الْمُعْتَضِدِ، فَانْصَرَفَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى بَغْدَادَ، (فَوَصَلَهَا لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ) . وَخَلَعَ الْمُعْتَضِدُ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْدَانَ، وَطَوَّقَهُ، وَخَلَعَ عَلَى إِخْوَتِهِ، وَأُدْخِلَ هَارُونُ عَلَى الْفِيلِ، وَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِحَلِّ قُيُودِ حَمْدَانَ بْنِ حَمْدُونَ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَيْهِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَوَعَدَ بِإِطْلَاقِهِ. وَلَمَّا أَرْكَبُوا هَارُونَ عَلَى الْفِيلِ أَرَادُوا أَنْ يُلْبِسُوهُ دَيْبَاجًا مُشَهَّرًا، فَامْتَنَعَ، وَقَالَ: هَذَا لَا يَحِلُّ ; فَأَلْبَسُوهُ كَارِهًا، وَلَمَّا صُلِبَ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وَكَانَ هَارُونُ صُفْرِيًّا. ذِكْرُ عِصْيَانِ دِمَشْقَ عَلَى جَيْشِ بْنِ خُمَارَوَيْهِ، وَخِلَافِ جُنْدِهِ عَلَيْهِ، وَقَتْلِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِ جَيْشِ بْنِ خُمَارَوَيْهِ عَلَيْهِ، وَجَاهَرُوا بِالْمُخَالَفَةِ، وَقَالُوا: لَا نَرْضَى بِكَ أَمِيرًا، فَاعْتَزِلْنَا حَتَّى نُوَلِّيَ عَمَّكَ الْإِمَارَةَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وُلِّيَ وَكَانَ صَبِيًّا قَرَّبَ الْأَحْدَاثَ، وَالسُّفَّلَ، وَأَخْلَدَ إِلَى اسْتِمَاعِ أَقْوَالِهِمْ، فَغَيَّرُوا نِيَّتَهُ عَلَىَ قُوَّادِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَصَارَ يَقَعُ فِيهِمْ وَيَذُمُّهُمْ، وَيُظْهِرُ الْعَزْمَ عَلَى الِاسْتِبْدَالِ بِهِمْ، وَأَخْذِ نِعَمِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، فَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ، وَيُقِيمُوا عَمَّهُ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكْتُمْهُ بَلْ أَطْلَقَ لِسَانَهُ فِيهِمْ، فَفَارَقَهُ بَعْضُهُمْ، وَخَلَعَهُ طُغَجُ بْنُ جَفٍّ أَمِيرُ دِمَشْقَ. وَسَارَ الْقُوَّادُ الَّذِينَ فَارَقُوهُ إِلَى بَغْدَادَ، وَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجِيقَ، وَخَاقَانُ الْمُفْلِحِيُّ، وَبَدْرُ بْنُ جَفٍّ، أَخُو طُغَجَ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ قُوَّادِ مِصْرَ، فَسَلَكُوا الْبَرِّيَّةَ، وَتَرَكُوا أَهَالِيَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، فَتَاهُوا أَيَّامًا، وَمَاتَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَطَشِ، وَخَرَجُوا فَوْقَ الْكُوفَةِ بِمَرْحَلَتَيْنِ، وَقَدِمُوا عَلَى الْمُعْتَضِدِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ.

وَبَقِيَ سَائِرُ الْجُنُودِ بِمِصْرَ عَلَى خِلَافِهِمُ ابْنَ خُمَارَوَيْهِ، فَسَأَلَهُمْ كَاتِبُهُ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمَاذُرَائِيُّ أَنْ يَنْصَرِفُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، (فَرَجَعُوا) ، فَقَتَلَ جَيْشٌ (عَمَّيْنِ لَهُ، وَبَكَّرَ الْجُنْدُ إِلَيْهِ، فَرَمَى بِالرَّأْسَيْنِ إِلَيْهِمْ، فَهَجَمَ الْجُنْدُ عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ) وَنَهَبُوا دَارَهُ وَنَهَبُوا مِصْرَ وَأَحْرَقُوهَا، وَأَقْعَدُوا أَخَاهُ هَارُونَ فِي الْإِمْرَةِ بَعْدَهُ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ. ذِكْرُ حَصْرِ الصَّقَالِبَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَتِ الصَّقَالِبَةُ إِلَى الرُّومِ، فَحَصَرُوا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَخَرَّبُوا الْبِلَادَ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مَلِكُ الرُّومِ مِنْهُمْ خَلَاصًا جَمَعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْطَاهُمُ السِّلَاحَ، وَسَأَلَهُمْ مَعُونَتَهُ عَلَى الصَّقَالِبَةِ، فَفَعَلُوا، وَكَشَفُوا الصَّقَالِبَةَ، وَأَزَاحُوهُمْ عَنِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَلَمَّا رَأَى مَلِكُ الرُّومِ ذَلِكَ خَافَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نَفْسِهِ، فَرَدَّهُمْ، وَأَخَذَ السِّلَاحَ مِنْهُمْ وَفَرَّقَهُمْ فِي الْبِلَادِ حَذَرًا مِنْ جِنَايَتِهِمْ عَلَيْهِ. ذِكْرُ الْفِدَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ، فَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ فُدِيَ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ وَأَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسْكَرِ الْمُعْتَضِدِ، وَأَوْلَادِ أَبِي دُلَفَ وَفِيهَا سَارَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفَ بِالْجَبَلِ، فَسَارَ عُمَرُ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ فِي شَعْبَانَ، فَأَذْعَنَ بِالطَّاعَةِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ. وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ دَخَلَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالْأَمَانِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَبَدْرٍ، فَوَلَّيَاهُ عَمَلَ أَخِيهِ عَلَى أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِ فَيُحَارِبَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عُمَرُ فِي الْأَمَانِ قَالَا لِبَكْرٍ: إِنَّ أَخَاكَ قَدْ دَخَلَ فِي الطَّاعَةِ، وَإِنَّمَا وَلَّيْنَاكَ عَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ عَاصٍ، وَالْمُعْتَضِدُ يَفْعَلُ فِي أَمْرِكُمَا مَا يَرَاهُ، فَامْضِيَا إِلَى بَابِهِ.

وَوَلِيَ النُّوشَرِيُّ أَصْبَهَانَ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَهَرَبَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَكَتَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الْمُعْتَضِدِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى بَدْرٍ لِيُقِيمَ بِمَكَانِهِ إِلَى أَنْ يَعْرِفَ حَالَ بَكْرٍ. وَسَارَ الْوَزِيرُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْمُعْتَضِدِ بِالرَّيِّ، وَلَحِقَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالْأَهْوَازِ، فَسَيَّرَ الْمُعْتَضِدُ إِلَيْهِ وَصَيْفَ بْنَ مُوشَكِيرَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَلَحِقَهُ بِحُدُودِ فَارِسَ، وَبَاتَا مُتَقَابِلَيْنِ، وَارْتَحَلَ بَكْرٌ إِلَى أَصْبَهَانَ (لَيْلًا، فَلَمْ يَتْبَعْهُ وَصَيْفٌ، بَلْ رَجَعَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَسَارَ بَكْرٌ إِلَى أَصْبَهَانَ) ، فَكَتَبَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى بَدْرٍ يَأْمُرُهُ بِطَلَبِ بَكْرٍ وَحَرْبِهِ، فَأَمَرَ بَدْرٌ عِيسَى النُّوشَرِيَّ بِذَلِكَ، فَقَالَ بَكْرٌ: عَنِّي مَلَامَكَ لَيْسَ حِينَ مَلَامِ ... هَيْهَاتَ أَجْدَبَ زَائِدُ الْأَيَّامِ ظَأَرَتْ عِنَايَاتُ الصِّبَا عَنْ مَفْرِقِي ... وَمَضَى أَوَانُ شَرَاسَتِي وَغَرَامِي أَلْقَى الْأَحِبَّةُ بِالْعِرَاقِ عِصِيَّهُمْ ... وَبَقِيتُ نُصْبَ حَوَادِثِ الْأَيَّامَ وَتَقَاذَفَتْ بِأَخِي النَّوَى وَرَمَتْ ... بِهِ رَمْيَ الْعَبِيدِ قَطِيعَةُ الْأَرْحَامِ فَلَأَقْرَعَنَّ صَفَاةَ دَهْرٍ نَابَهُمْ ... قَرْعًا يَهُزُّ رَوَاسِيَ الْأَعْلَامِ وَلَأَضْرِبَنَّ الْهَامَ دُونَ حَرِيمِهِمْ ... ضَرْبَ الْقُدَارِ بِقِيعَةِ الْقَدَّامِ وَلَأَتْرُكَنَّ الْوَارِدِينَ حِيَاضَهُمْ ... بِقَرَارَةٍ لِمَوْطِئِ الْأَقْدَامِ يَا بَدْرُ إِنَّكَ لَوْ شَهِدْتَ مَوَاقِفِي ... وَالْمَوْتُ يَلْحَظُ وَالسُّيُوفُ دَوَامِي لَذَمَمْتَ رَأْيَكَ فِي إِضَاعَةِ حُرْمَتِي ... وَلَضَاقَ ذَرْعُكَ فِي اطِّرَاحِ ذِمَامِي

حَرَّكْتَنِي بَعْدَ السُّكُونِ وَإِنَّمَا حَرَّكْتَ مِنْ حِصْنٍ جِبَالَ تِهَامِ ... وَعَجَمْتَنِي فَعَجَمْتَ مِنِّي مَنْ حَمَى خَشِنَ الْمَنَاكِبِ كُلَّ يَوْمِ زِحَامِ ... قُلْ لِلْأَمِيرِ أَبِي مُحَمَّدٍ الَّذِي يَجْلُو بِغُرَّتِهِ دُجَى الْإِظْلَامِ ... أَسْكَنْتَنِي ظِلَّ الْعُلَا فَسَكَنْتُهُ فِي عِيشَةٍ رَغَدٍ وَعِزٍّ نَامِ ... حَتَّى إِذَا خَلَّيْتَ عَنِّيَ نَابَنِي نُوَبٌ أَتَتْ وَتَنَكَّرَتْ أَيَّامِي ... فَلَأَشْكُرَنَّ جَمِيلَ مَا أَوْلَيْتِنِي مَا غَرَّدَتْ فِي الْأَيْكِ وُرْقُ حَمَامِ ... هَذَا أَبُو حَفْصٍ يَدِي وَذَخِيرَتِي لِلنَّائِبَاتِ وَعُدَّتِي وَسَنَامِي ... نَادَيْتُهُ فَأَجَابَنِي وَهَزَزْتُهُ فَهَزَزْتُ حَدَّ الصَّارِمِ الصَّمْصَامِ ... مَنْ رَامَ أَنْ يُغْضِيَ الْجُفُونَ عَلَى الْقَذَى أَوْ يَسْتَكِينَ يَرُومُ غَيْرَ مَرَامِ ... وَيَخِيمُ حِينَ يَرَى الْأَسِنَّةَ شُرَّعًا وَالْبِيضَ مُصْلَتَةً لَضَرْبِ الْهَامِ ثُمَّ إِنَّ النُّوشَرِيَّ انْهَزَمَ عَنْ بَكْرٍ، فَقَالَ بَكْرٌ يَذْكُرُ هَرَبَهُ، وَيُعَيِّرُ وَصِيفًا بِالْإِحْجَامِ عَنْهُ، وَيَتَهَدَّدُ بَدْرًا [فِي أَبْيَاتٍ] مِنْهَا: قَدْ رَأَى النُّوشَرِيُّ حِينَ الْتَقَيْنَا ... مَنْ إِذَا أُشْرِعَ الرِّمَاحُ يَفِرُّ جَاءَ فِي قَسْطَلٍ لِهَامٍ فَصُلْنَا ... صَوْلَةً دُونَهَا الْكُمَاةُ تَهِرُّ

وَلِوَاءُ النُّوشَرِيِّ آثَارُ نَارٍ رَوِيَتْ عِنْدَ ذَاكَ بِيضٌ وَسُمْرُ ... غَرَّ بَدْرًا حِلْمِي وَفَضْلٌ أَتَانِي وَاحْتِمَالِي لِلْعِبْءِ مِمَّا يَغُرُّ ... سَوْفَ يَأْتِيهِ مِنْ خُيُولِي قُبٌّ لَاحِقَاتُ الْبُطُونِ جُونٌ وَشُقْرُ ... يَتَنَادَوْنَ كَالسَّعَالِي عَلَيْهَا مِنْ بَنِي وَائِلٍ أُسُودٌ تَكُرُّ ... لَسْتُ بَكْرًا إِنْ لَمْ أَدَعْهُمْ حَدِيثًا مَا سَرَى كَوْكَبٌ وَمَا كَرَّ دَهْرُ ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِالْكِتَابَةِ إِلَى جَمِيعِ الْبُلْدَانِ أَنْ يُرَدَّ الْفَاضِلُ مِنْ سِهَامِ الْمَوَارِيثِ إِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَأَبْطَلَ دِيوَانَ الْمَوَارِيثِ. وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ مَاتَ [عَلِيُّ بْنُ] مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ الْقَاضِي، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ لِلْقَضَاءِ بِمَدِينَةِ الْمَنْصُورِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَفِيهَا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفَ بَغْدَاذَ، فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ النَّاسَ وَالْقُوَّادَ بِاسْتِقْبَالِهِ، وَقَعَدَ لَهُ الْمُعْتَضِدُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، وَأَكْرَمَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ. وَفِيهَا، (فِي رَمَضَانَ، تَحَارَبَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ الصَّفَّارُ وَرَافِعُ بْنُ هَرْثَمَةَ، فَانْهَزَمَ رَافِعٌ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَمْرًا فَارَقَ) نَيْسَابُورَ، فَخَالَفَهُ إِلَيْهَا رَافِعٌ وَمَلَكَهَا،

وَخُطِبَ فِيهَا لِمُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيِّ، فَرَجَعَ عَمْرٌو مِنْ مَرْوَ إِلَى نَيْسَابُورَ فَحَصَرَهَا، فَانْهَزَمَ رَافِعٌ مِنْهَا، وَوَجَّهَ عَمْرٌو فِي طَلَبِهِ عَسْكَرًا، فَلَحِقُوهُ بِطَوْسٍ، فَانْهَزَمَ مِنْهُمْ إِلَى خُوَارِزْمَ، فَلَحِقُوهُ بِهَا، فَقَتَلُوهُ وَأَرْسَلُوا رَأْسَهُ إِلَى الْمُعْتَضِدِ، فَوَصَلَهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ [وَمِائَتَيْنِ] فِي الْمُحَرَّمِ، فَأَمَرَ بِنَصْبِهِ بِبَغْدَاذَ، وَخَلَعَ عَلَى الْقَاصِدِ بِهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ الْبُحْتُرِيُّ الشَّاعِرُ، وَاسْمُهُ الْوَلِيدُ أَبُو عُبَادَةَ، بِمَنْبَجَ، أَوْ حَلَبَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو بَكْرٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَاغَنْدِيِّ. وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ جُرَيْجٍ الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرُّومِيِّ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، وَدِيوَانُهُ مَعْرُوفٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ بْنِ رُفَيْعٍ التُّسْتَرِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ مِائَتَيْنِ، وَقِيلَ [إِحْدَى] وَمِائَتَيْنِ.

ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ] 284 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ فِتْنَةٌ بِطَرَسُوسَ بَيْنَ رَاغِبٍ مَوْلَى الْمُوَفَّقِ وَبَيْنَ دُمْيَانَةَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ رَاغِبًا تَرَكَ الدُّعَاءَ لِهَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، وَدَعَا لِبَدْرٍ مَوْلَى الْمُعْتَضِدِ، وَاخْتَلَفَ هُوَ وَأَحْمَدُ بْنُ طُوغَانَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَحْمَدُ بْنُ طُوغَانَ مِنَ الْفِدَاءِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ [وَمِائَتَيْنِ] رَكِبَ الْبَحْرَ وَمَضَى، وَلَمْ يَدْخُلْ طَرَسُوسَ، وَخَلَّفَ دُمْيَانَةَ بِهَا لِلْقِيَامِ بِأَمْرِهَا، وَأَمَدَّهُ ابْنُ طُوغَانَ، فَقَوِيَ بِذَلِكَ، وَأَنْكَرَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ رَاغِبٌ، (فَوَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، فَظَفِرَ بِهِمْ رَاغِبٌ) ، فَحَمَلَ دُمْيَانَةَ إِلَى بَغْدَاذَ. وَفِيهَا أَوْقَعَ عِيسَى بْنُ النُّوشَرِيُّ بِبَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفَ بِنَوَاحِي أَصْبَهَانَ، فَقَتَلَ رِجَالَهُ، وَاسْتَبَاحَ عَسْكَرَهُ، وَنَجَا بَكْرٌ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَمَضَى إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيِّ بِطَبَرِسْتَانَ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ [وَمِائَتَيْنِ] وَمَاتَ، وَلَمَّا وَصَلَ خَبَرُ مَوْتِهِ إِلَى الْمُعْتَضِدِ أَعْطَى الْقَاصِدَ بِهِ أَلْفَ دِينَارٍ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، قُلِّدَ أَبُو عُمَرَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَضَاءَ بِمَدِينَةِ الْمَنْصُورِ (مَكَانَ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ) بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ.

وَفِيهَا أُخِذَ خَادِمٌ نَصْرَانِيٌّ لِغَالِبٍ النَّصْرَانِيِّ وَشُهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ بَغْدَاذَ وَصَاحُوا بِالْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَطَالَبُوهُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَى دَارِ الْمُعْتَضِدِ، فَسُئِلُوا عَنْ حَالِهِمْ، فَذَكَرُوهُ لِلْمُعْتَضِدِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُمْ إِلَى الْقَاضِي (أَبِي عُمَرَ، فَكَادُوا يَقْتُلُونَهُ مِنْ كَثْرَةِ ازْدِحَامِهِمْ، فَدَخَلَ) بَابًا، وَأَغْلَقَهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْخَادِمِ ذِكْرٌ، وَلَا لِلْعَامَّةِ ذِكْرُ اجْتِمَاعٍ فِي أَمْرِهِ. وَفِيهَا قَدِمَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ طَرَسُوسَ عَلَى الْمُعْتَضِدِ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْهِمْ وَالِيًا، وَكَانُوا قَدْ أَخْرَجُوا عَامِلَ ابْنِ طُولُونَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمُ الْمُعْتَضِدُ ابْنَ الْإِخْشِيدِ أَمِيرًا. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ ظَهَرَتْ بِمِصْرَ ظُلْمَةٌ وَحُمْرَةٌ فِي السَّمَاءِ شَدِيدَةٌ، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ الْآخَرِ فَيَرَاهُ أَحْمَرَ، فَمَكَثُوا كَذَلِكَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَخَرَجَ النَّاسُ مِنْ مَنَازِلِهِمْ يَدْعُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ. وَفِيهَا عَزَمَ الْمُعْتَضِدُ عَلَى لَعْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَأَمَرَ بِإِنْشَاءِ كِتَابٍ يُقْرَأُ عَلَى النَّاسِ، وَهُوَ كِتَابٌ طَوِيلٌ قَدْ أَحْسَنَ كِتَابَتَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدِ اسْتَدَلَّ فِيهِ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ عَلَى وُجُوبِ لَعْنِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَصِحُّ، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ يَزِيدَ، وَغَيْرَهُ مِنْ بَيْنِ أُمَيَّةَ، وَعُمِلَتْ بِهِ نُسَخٌ قُرِئَتْ بِجَانِبَيْ بَغْدَاذَ، وَمُنِعَ الْقُصَّاصُ وَالْعَامَّةُ مِنَ الْقُعُودِ بِالْجَامِعَيْنِ وَرِحَابِهِمَا، وَنُهِيَ عَنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى قَاضٍ لِمُنَاظَرَةٍ، أَوْ جَدَلٍ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَنُهِيَ الَّذِينَ يَسْقُونَ الْمَاءَ فِي الْجَامِعَيْنَ أَنْ يَتَرَحَّمُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ، أَوْ يَذْكُرُوهُ. فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ: إِنَّا نَخَافُ اضْطِرَابَ الْعَامَّةِ، وَإِثَارَةَ الْفِتْنَةِ، فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ لِلْقَاضِي يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ لِيَحْتَالَ فِي مَنْعِهِ عَنْ ذَلِكَ، فَكَلَّمَ يُوسُفُ الْمُعْتَضِدَ، وَحَذَّرَهُ اضْطِرَابَ الْعَامَّةِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا نَصْنَعُ بِالطَّالِبِيِّينَ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَيَمِيلُ إِلَيْهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لِقَرَابَتِهِمْ مِنْ

رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَإِذَا سَمِعَ النَّاسُ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ إِطْرَائِهِمْ كَانُوا إِلَيْهِمْ أَمْيَلَ، وَكَانُوا هُمْ أَبْسَطَ أَلْسِنَةً، وَأَظْهَرَ حُجَّةً فِيهِمُ الْيَوْمَ، فَأَمْسَكَ الْمُعْتَضِدُ، وَلَمْ يَأْمُرْ فِي الْكِتَابِ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ مِنَ الْمُنْحَرِفَةِ مِنْ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِيهَا سَيَّرَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ الْخِلَعَ وَاللِّوَاءَ بِوِلَايَةِ الرَّيِّ، وَهَدَايَا. وَفِيهَا فُتِحَتْ قُرَّةُ مِنْ بَلَدِ الرُّومِ عَلَى يَدِ رَاغِبٍ مَوْلَى الْمُوَفَّقِ، وَابْنِ كَلُوبٍ فِي رَجَبٍ. وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ ظَهَرَ بِدَارِ الْمُعْتَضِدِ إِنْسَانٌ بِيَدِهِ سَيْفٌ، فَمَضَى إِلَيْهِ بَعْضُ الْخَدَمِ لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَجَرَحَهُ، وَهَرَبَ الْخَادِمُ، وَدَخَلَ الشَّخْصُ فِي زَرْعٍ فِي الْبُسْتَانِ فَتَوَارَى فِيهِ، فَطُلِبَ فِي بَاقِي لَيْلَتِهِ، وَمِنَ الْغَدِ، فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ خَبَرٌ، فَاسْتَوْحَشَ الْمُعْتَضِدُ، وَكَثُرَ النَّاسُ فِي أَمْرِهِ بِالظُّنُونِ حَتَّى قَالُوا: إِنَّهُ مِنَ الْجِنِّ، وَظَهَرَ مِرَارًا كَثِيرَةً، حَتَّى وَكَّلَ الْمُعْتَضِدُ بِسُورِ دَارِهِ، وَأَحْكَمَهُ ضَبْطًا، ثُمَّ أَحْضَرَ الْمَجَانِينَ وَالْمُعَزِّمِينَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الشَّخْصِ، فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ فَقَالَ الْمُعَزِّمُونَ: نَحْنُ نَعْزِمُ عَلَى بَعْضِ الْمَجَانِينِ، فَإِذَا سَقَطَ سَأَلَ الْجِنِّيَّ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، فَعَزَمُوا عَلَى امْرَأَةٍ مَجْنُونَةٍ فَصُرِعَتْ، وَالْمُعْتَضِدُ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا صُرِعَتْ أَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ. وَفِيهَا وَجَّهَ كَرَامَةُ بْنُ مُرٍّ مِنَ الْكُوفَةِ بِقَوْمٍ مُقَيَّدِينَ ذُكِرَ أَنَّهُمْ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، فَقُرِّرُوا بِالضَّرْبِ فَأَقَرُّوا عَلَى أَبِي هَاشِمِ بْنِ صَدَقَةَ الْكَاتِبِ أَنَّهُ مِنْهُمْ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَحَبَسَهُ. وَفِيهَا وَثَبَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي لَيْلَى بِشَفِيعٍ الْخَادِمِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ أَخُوهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَدْ أَخَذَهُ وَقَيَّدَهُ وَحَبَسَهُ فِي قَلْعَتِهِ زَزَّ، وَوَكَّلَ بِهِ

شَفِيعًا الْخَادِمَ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ غِلْمَانِ عُمَرَ، فَلَمَّا اسْتَأْمَنَ عُمَرُ إِلَى الْمُعْتَضِدِ وَهَرَبَ بَكْرٌ بَقِيَتِ الْقَلْعَةُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ بِيَدِ شَفِيعٍ، فَكَلَّمَهُ أَبُو لَيْلَى فِي إِطْلَاقِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَطَلَبَ مِنْ غُلَامٍ كَانَ يَخْدِمُهُ مِبْرَدًا، فَأَدْخَلَهُ فِي الطَّعَامِ، فَبَرَدَ مِسْمَارَ قَيْدِهِ. وَكَانَ شَفِيعٌ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ يَأْتِي إِلَى أَبِي لَيْلَى يَفْتَقِدُهُ وَيَمْضِي وَيَنَامُ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ سَيْفٌ مَسْلُولٌ، فَجَاءَ شَفِيعٌ فِي لَيْلَةٍ إِلَيْهِ، فَحَادَثَهُ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَشْرَبَ مَعَهُ أَقْدَاحًا، فَفَعَلَ، وَقَامَ الْخَادِمُ لِحَاجَتِهِ، فَجَعَلَ أَبُو لَيْلَى فِي فِرَاشِهِ ثِيَابًا تُشْبِهُ إِنْسَانًا نَائِمًا، وَغَطَّاهَا بِاللِّحَافِ، وَقَالَ لِجَارِيَةٍ كَانَتْ تَخْدِمُهُ: إِذَا عَادَ شَفِيعٌ قُولِي لَهُ هُوَ نَائِمٌ. وَمَضَى أَبُو لَيْلَى فَاخْتَفَى ظَاهِرَ الدَّارِ، وَقَدْ أَخْرَجَ قَيْدَهُ مِنْ رِجْلِهِ، فَلَمَّا عَادَ شَفِيعٌ قَالَتْ لَهُ الْجَارِيَةُ: هُوَ نَائِمٌ، فَأَغْلَقَ الْبَابَ، وَمَشَى إِلَى دَارِهِ، وَنَامَ فِيهَا، فَخَرَجَ أَبُو لَيْلَى، وَأَخَذَ السَّيْفَ مِنْ عِنْدِ شَفِيعٍ، وَقَتَلَهُ، فَوَثَبَ الْغِلْمَانُ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو لَيْلَى: قَدْ قَتَلْتُ شَفِيعًا، وَمَنْ تَقَدَّمَ إِلَيَّ قَتَلْتُهُ، فَأَنْتُمْ آمِنُونَ، فَخَرَجُوا مِنَ الدَّارِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَكَلَّمَهُمْ، وَوَعَدَهُمُ الْإِحْسَانَ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمِ الْأَيْمَانَ، وَجَمَعَ الْأَكْرَادَ، وَغَيْرَهُمْ، وَخَرَجَ مُخَالِفًا عَلَى الْمُعْتَضِدِ. وَكَانَ قَتْلُ شَفِيعٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. وَلَمَّا خَرَجَ أَبُو لَيْلَى عَلَى السُّلْطَانِ قَصَدَهُ عِيسَى النُّوشَرِيُّ، فَاقْتَتَلُوا، فَأَصَابَ أَبُو لَيْلَى فِي حَلْقِهِ سَهْمٌ فَنَحَرَهُ، فَسَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى أَصْبَهَانَ، ثُمَّ إِلَى بَغْدَاذَ. وَفِيهَا كَانَ الْمُنَجِّمُونَ يُوعِدُونَ بِغَرَقِ أَكْثَرِ الْأَقَالِيمِ إِلَّا إِقْلِيمَ بَابِلَ فَإِنَّهُ يَسْلَمُ مِنْهُ الْيَسِيرُ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِكَثْرَةِ الْأَمْطَارِ، وَزِيَادَةِ الْأَنْهَارِ، وَالْعُيُونِ. (فَقَحَطَ النَّاسُ، وَقَلَّتِ الْأَمْطَارُ، وَغَارَتِ الْمِيَاهُ حَتَّى احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى الِاسْتِسْقَاءِ، فَاسْتَسْقَوْا بِبَغْدَاذَ مَرَّاتٍ) . [وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ الْمَعْرُوفُ بِأُتْرُنْجَةَ] . وَفِيهَا ظَهَرَ اخْتِلَالُ حَالِ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ بِمِصْرَ، وَاخْتَلَفَتْ

الْقُوَّادُ، وَطَمِعُوا، فَانْحَلَّ النِّظَامُ، وَتَفَرَّقَتِ الْكَلِمَةُ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا مُدَبِّرَ دَوْلَتِهِ أَبَا جَعْفَرِ بْنِ أَبَّا، وَكَانَ عِنْدَ وَالِدِهِ وَجَدِّهِ مُقَدَّمًا، كَبِيرَ الْقَدْرِ، فَأَصْلَحَ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا اسْتَطَاعَ، (وَكَمْ جَهِدَ الصُّنَّاعُ إِذَا اتَّسَعَ الْخَرْقُ) . وَكَانَ [مَنْ] بِدِمَشْقَ مِنَ الْجُنْدِ قَدْ خَالَفُوا عَلَى أَخِيهِ جَيْشٍ كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا تَوَلَّى أَبُو جَعْفَرٍ الْأُمُورَ سَيَّرَ جَيْشًا إِلَى دِمَشْقَ عَلَيْهِمْ بَدْرٌ الْحَمَّامِيُّ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَاذُرَائِيُّ، فَأَصْلَحَا حَالَهَا، وَقَرَّرَا أُمُورَ الشَّامِ، وَاسْتَعْمَلَا عَلَى دِمَشْقَ طُغَجَ بْنَ جَفٍّ، وَاسْتَعْمَلَا عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ، وَرَجَعَا إِلَى مِصْرَ، وَالْأُمُورُ فِيهَا اخْتِلَالٌ، وَالْقُوَّادُ قَدِ اسْتَوْلَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْجُنْدِ وَأَخَذَهُمْ إِلَيْهِ، وَهَكَذَا يَكُونُ انْتِقَاضُ الدُّوَلِ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا فَلَا مَرَدَّ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ أَبُو يَعْقُوبَ الْأَسْفِرَايِنِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ. وَالْغِيَاثِيُّ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ وَلَدِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ. وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَضَّاحِ بْنِ رَبِيعٍ الْأَنْدَلُسِيُّ، وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ.

ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ] 285 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ فِيهَا قَطَعَ صَالِحُ بْنُ مُدْرِكٍ الطَّائِيُّ الطَّرِيقَ عَلَى الْحَاجِّ بِالْأَجْفَرِ فِي الْمُحَرَّمِ، فَحَارَبَهُ حُبَّى الْكَبِيرُ، وَهُوَ أَمِيرُ الْقَافِلَةِ، (فَلَمْ يَقْوَ بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَظَفِرَ بِالْحَجِّ وَمَنْ مَعَهُ بِالْقَافِلَةِ) ، فَأَخَذُوا مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالتِّجَارَاتِ، وَأَخَذُوا جَمَاعَةً مِنَ النِّسَاءِ، وَالْجَوَارِي، وَالْمَمَالِيكِ، فَكَانَتْ قِيمَةُ مَا أَخَذَهُ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ. وَفِيهَا وَلِيَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَعُزِلَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ. وَفِيهَا كَانَ بِالْكُوفَةِ رِيحٌ صَفْرَاءُ، فَبَقِيَتْ إِلَى الْمَغْرِبِ، ثُمَّ اسْوَدَّتْ، فَتَضَرَّعَ النَّاسُ، ثُمَّ مُطِرُوا مَطَرًا شَدِيدًا بِرُعُودٍ هَائِلَةٍ وَبُرُوقٍ مُتَّصِلَةٍ. ثُمَّ سَقَطَ بَعْدَ سَاعَةٍ بِقَرْيَةٍ تُعْرَفُ بِأَحْمَدَابَاذَ وَنَوَاحِيهَا أَحْجَارٌ بِيضٌ وَسُودٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ، فِي أَوْسَاطِهَا طَبَقٌ، وَحُمِلَ مِنْهَا إِلَى بَغْدَاذَ، فَرَآهُ النَّاسُ. وَفِيهَا سَارَ فَاتِكٌ مَوْلَى الْمُعْتَضِدِ إِلَى الْمَوْصِلِ لِيَنْظُرَ فِي أَعْمَالِهَا وَأَعْمَالِ الْجَزِيرَةِ

وَالثُّغُورِ الشَّامِيَّةِ، وَالْجَزْرِيَّةِ، وَإِصْلَاحِهَا، مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ يَتَقَلَّدُهُ مِنَ الْبَرِيدِ بِهَا. وَفِيهَا كَانَ بِالْبَصْرَةِ رِيحٌ صَفْرَاءُ، ثُمَّ عَادَتْ خَضْرَاءَ، ثُمَّ سَوْدَاءَ، ثُمَّ تَتَابَعَتِ الْأَمْطَارُ بِمَا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ، ثُمَّ وَقَعَ بَرَدٌ كِبَارٌ، وَزْنُ الْبَرَدَةِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا فِيمَا قِيلَ. وَفِيهَا مَاتَ الْخَلِيلُ بْنُ رِمَالٍ بِحُلْوَانَ. وَفِيهَا وَلَّى الْمُعْتَضِدُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي السَّاجِ أَعْمَالَ أَذْرَبِيجَانَ، وَأَرْمِينِيَّةَ، وَكَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا وَخَالَفَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِخِلَعٍ. وَفِيهَا غَزَا رَاغِبٌ مَوْلَى الْمُوَفَّقِ فِي الْبَحْرِ، فَغَنِمَ مَرَاكِبَ كَثِيرَةً، فَضَرَبَ أَعْنَاقَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الرُّومِ كَانُوا فِيهَا، وَأَحْرَقَ الْمَرَاكِبَ، وَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً، وَعَادَ سَالِمًا وَمَنْ مَعَهُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الشَّيْخِ، وَقَامَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ بِآمِدَ وَمَا يَلِيهَا، عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ، فَسَارَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى آمِدَ بِالْعَسَاكِرِ، وَمَعَهُ ابْنُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيٌّ الْمُكْتَفِي فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَجَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى الْمَوْصِلِ، فَوَصَلَ آمِدَ، وَحَصَرَهَا إِلَى رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، فَأَرْسَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى يَطْلُبُ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ، وَلِمَنْ مَعَهُ، وَلِأَهْلِ الْبَلَدِ، فَأَمَّنَهُمُ الْمُعْتَضِدُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَلَدَ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ الْمُعْتَضِدُ وَأَكْرَمَهُ، وَهَدَمَ سُورَهَا. ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الشَّيْخِ يُرِيدُ الْهَرَبَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ. وَفِيهَا وَجَّهَ هَارُونُ بْنُ خُمَارَوَيْهِ إِلَى الْمُعْتَضِدِ لِيَسْأَلَهُ أَنْ يُقَاطِعَهُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ وَيَدِ

نُوَّابِهِ مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ، وَيُسَلِّمَ أَعْمَالَ قِنَّسْرِينَ إِلَى الْمُعْتَضِدِ، وَيَحْمِلَ كُلَّ سَنَةٍ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَسَارَ مِنْ آمِدَ، وَاسْتَخْلَفَ فِيهَا ابْنَهُ الْمُكْتَفِيَ، وَوَصَلَ إِلَى قِنَّسْرِينَ، وَالْعَوَاصِمِ، فَتَسَلَّمَهَا مِنْ أَصْحَابِ هَارُونَ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيهَا غَزَا ابْنُ الْإِخْشِيدِ بِأَهْلِ طَرَسُوسَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، وَبَلَغَ سَلَنْدُوَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ بِبَغْدَاذَ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الْمُحَدِّثِينَ. وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ صَاحِبُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِصَنْعَاءَ، (وَهُوَ مِنْ آخِرِ مَنْ رَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ) . (الدَّبَرِيُّ: بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبَعْدَهَا رَاءٌ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْأَزْدِيُّ الْيَمَانِيُّ الْخَوِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالْمُبَرِّدِ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَ النَّحْوَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْمَازِنِيِّ.

ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ] 286 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّاجِ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي الْمُسَافِرِ إِلَى بَغْدَاذَ رَهِينَةً بِمَا ضَمِنَ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمُنَاصَحَةِ، وَمَعَهُ هَدَايَا جَلِيلَةٌ. وَفِيهَا أَرْسَلَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ هَدِيَّةً إِلَى الْمُعْتَضِدِ مِنْ نَيْسَابُورَ، فَكَانَتْ قِيمَتُهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ [أَلْفِ] دِرْهَمٍ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ أَمْرِ الْقَرَامِطَةِ بِالْبَحْرَيْنِ وَفِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ يُعْرَفُ بِأَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ بِالْبَحْرَيْنِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْرَابِ وَالْقَرَامِطَةِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، فَقَتَلَ مَا حَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْقَطِيفِ فَقَتَلَ [مَنْ] بِهَا، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْبَصْرَةَ، فَكَتَبَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْوَاثِقِيُّ، وَكَانَ مُتَوَلِّيَ الْبَصْرَةِ، إِلَى الْمُعْتَضِدِ بِذَلِكَ، فَأَمَرَهُ بِعَمَلِ سُورٍ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَكَانَ مَبْلَغُ الْخَرْجِ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَكَانَ ابْتِدَاءُ الْقَرَامِطَةِ بِنَاحِيَةِ الْبَحْرَيْنِ أَنَّ رَجُلًا يُعْرَفُ بِيَحْيَى بْنِ الْمَهْدِيِّ قَصَدَ الْقَطِيفَ فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ يُعْرَفُ بِعَلِيِّ بْنِ الْمُعَلَّى بْنِ حَمْدَانَ، مَوْلَى الزِّيَادِيِّينَ، وَكَانَ مُغَالِيًا فِي التَّشَيُّعِ، فَأَظْهَرَ لَهُ يَحْيَى أَنَّهُ رَسُولُ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ إِحْدَى

وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى شِيعَتِهِ فِي الْبِلَادِ يَدْعُوهُمْ إِلَى أَمْرِهِ، وَأَنَّ ظُهُورَهُ قَدْ قَرُبَ ; فَوَجَّهَ عَلِيُّ بْنُ الْمُعَلَّى إِلَى الشِّيعَةِ مِنْ أَهْلِ الْقَطِيفِ فَجَمَعَهُمْ، وَأَقْرَأَهُمُ الْكِتَابَ الَّذِي مَعَ يَحْيَى بْنِ الْمَهْدِيِّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَهْدِيِّ، فَأَجَابُوهُ، وَأَنَّهُمْ خَارِجُونَ مَعَهُ إِذَا أَظْهَرَ أَمْرَهُ، وَوَجَّهَ إِلَى سَائِرِ قُرَى الْبَحْرَيْنِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَأَجَابُوهُ. وَكَانَ فِيمَنْ أَجَابَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ، وَكَانَ يَبِيعُ لِلنَّاسِ الطَّعَامَ، وَيَحْسِبُ لَهُمْ بَيْعَهُمْ، ثُمَّ غَابَ عَنْهُمْ يَحْيَى بْنُ الْمَهْدِيِّ مُدَّةً، ثُمَّ رَجَعَ وَمَعَهُ كِتَابٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنَ الْمَهْدِيِّ إِلَى شِيعَتِهِ، فِيهِ: قَدْ عَرَّفَنِي رَسُولِي يَحْيَى بْنُ الْمَهْدِيِّ مُسَارَعَتَكُمْ إِلَى أَمْرِي، فَلْيَدْفَعْ إِلَيْهِ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ سِتَّةَ دَنَانِيرَ وَثُلُثَيْنِ ; فَفَعَلُوا ذَلِكَ. ثُمَّ غَابَ عَنْهُمْ، وَعَادَ وَمَعَهُ كِتَابٌ فِيهِ أَنِ ادْفَعُوا إِلَى يَحْيَى خُمْسَ أَمْوَالِكُمْ، فَدَفَعُوا إِلَيْهِ الْخُمْسَ. وَكَانَ يَحْيَى يَتَرَدَّدُ فِي قَبَائِلِ قَيْسٍ، وَيُورِدُ إِلَيْهِمْ كُتُبًا يَزْعُمُ أَنَّهَا مِنَ الْمَهْدِيِّ، وَأَنَّهُ ظَاهِرٌ، فَكُونُوا عَلَى أُهْبَةٍ. وَحَكَى إِنْسَانٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ الصَّائِغُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ، وَأَتَاهُ يَحْيَى، فَأَكَلُوا طَعَامًا، فَلَمَّا فَرَغُوا خَرَجَ أَبُو سَعِيدٍ مِنْ بَيْتِهِ، وَأَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَدْخُلَ إِلَى يَحْيَى، وَأَنْ لَا تَمْنَعَهُ إِنْ أَرَادَ، فَانْتَهَى هَذَا الْخَبَرُ إِلَى الْوَالِي، فَأَخَذَ يَحْيَى فَضَرَبَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَلِحْيَتَهُ، وَهَرَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ إِلَى جَنَّابَا، وَسَارَ يَحْيَى بْنُ الْمَهْدِيِّ إِلَى بَنِي كِلَابٍ، وَعُقَيْلٍ، وَالْخَرِيسِ، فَاجْتَمَعُوا مَعَهُ وَمَعَ أَبِي سَعِيدٍ، فَعَظُمَ أَمْرُ أَبِي سَعِيدٍ، وَكَانَ مِنْهُ مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ (وَفِيهَا سَارَ الْمُعْتَضِدُ مِنْ آمِدَ بَعْدَ أَنْ مَلَكَهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، إِلَى الرَّقَّةِ، فَوَلَّى ابْنَهُ عَلِيًّا الْمُكْتَفِيَ قِنَّسْرِينَ، وَالْعَوَاصِمَ، وَالْجَزِيرَةَ، وَكَاتِبَهُ النَّصْرَانِيَّ، وَاسْمُهُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرٍو، فَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْأَمْوَالِ، فَقَالَ الْخَلِيعُ فِي ذَلِكَ:

حُسَيْنُ بْنُ عَمْرٍو عَدُوُّ الْقُرْآنِ ... يَصْنَعُ فِي الْعُرْبِ مَا يَصْنَعُ يَقُومُ لِهَيْبَتِهِ الْمُسْلِمُونَ ... صُفُوفًا لِفَرْدٍ إِذَا يَطْلَعُ فَإِنْ قِيلَ قَدْ أَقْبَلَ الْجَاثِلِيقُ ... تَحَفَّى لَهُ وَمَشَى يَظْلَعُ وَفِيهَا تُوُفِّيَ ابْنُ الْإِخْشِيدِ أَمِيرُ طَرَسُوسَ، وَاسْتَخْلَفَ أَبَا ثَابِتٍ عَلَى طَرَسُوسَ) . وَفِيهَا سَارَ إِلَى الْأَنْبَارِ جَمَاعَةُ أَعْرَابٍ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ، وَأَغَارُوا عَلَى الْقُرَى، وَقَتَلُوا مَنْ لَحِقُوا مِنَ النَّاسِ، وَأَخَذُوا الْمَوَاشِيَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ كُمُشْجُورَ مُتَوَلِّيهَا، فَلَمْ يَطِقْهُمْ، فَكَتَبَ إِلَى الْمُعْتَضِدِ بِذَلِكَ، فَأَمَدَّهُ بِجَيْشٍ، فَأَدْرَكُوا الْأَعْرَابَ، وَقَاتَلُوهُمْ، فَهَزَمَهُمُ الْأَعْرَابُ (وَقَتَلُوا فِيهِمْ، وَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ، وَتَفَرَّقُوا، وَعَاثَ الْأَعْرَابُ) فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ. وَبَلَغَ خَبَرُ الْهَزِيمَةِ إِلَى الْمُعْتَضِدِ، فَسَيَّرَ جَيْشًا آخَرَ، فَرَحَلَ الْأَعْرَابُ إِلَى عَيْنِ التَّمْرِ، (فَأَفْسَدُوا وَعَاثُوا، وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ، وَرَمَضَانَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا آخَرَ إِلَى عَيْنِ التَّمْرِ) ، فَسَلَكُوا الْبَرِّيَّةَ إِلَى نَوَاحِي الشَّامِ، فَعَادَ الْعَسْكَرُ إِلَى بَغْدَاذَ وَلَمْ يَلْقَهُمْ. وَفِيهَا اسْتَدْعَى الْمُعْتَضِدُ رَاغِبًا مَوْلَى الْمُوَفَّقِ مِنْ طَرَسُوسَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ وَهُوَ بِالرَّقَّةَ، فَحَبَسَهُ وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا كَانَ لَهُ، فَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ مِنْ حَبْسِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ، وَقَبَضَ عَلَى بَكْنُونَ غُلَامِ رَاغِبٍ، وَأَخَذَ مَالَهُ بِطَرَسُوسَ. وَفِيهَا قَلَّدَ الْمُعْتَضِدُ دِيوَانَ الْمَشْرِقِ مُحَمَّدَ بْنَ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَعَزَلَ عَنْهُ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَقَلَّدَ دِيوَانَ الْمَغْرِبِ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بْنِ دَاوُدَ ابْنِ الْجَرَّاحِ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو [بَكْرٍ] مُحَمَّدُ بْنُ [عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَّابٍ] الْأَنْمَاطِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِمِرْبَعٍ، صَاحِبُ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَكَانَ حَافِظًا لِلْحَدِيثِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِيُّ الْبَصْرِيُّ.

ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ] 287 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي ثَابِتٍ أَمِيرِ طَرَسُوسَ وَوِلَايَةِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَتِ الرُّومُ، وَحَشَدَتْ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَوَافَتْ بَابَ قَلَمْيَةَ مِنْ طَرَسُوسَ، فَنَفَرَ أَبُو ثَابِتٍ أَمِيرُ طَرَسُوسَ بَعْدَ مَوْتِ ابْنِ الْإِخْشِيدِ، وَكَانَ اسْتَخْلَفَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَبَلَغَ أَبُو ثَابِتٍ فِي نَفِيرِهِ إِلَى نَهْرِ الرَّجَانِ فِي طَلَبِهِمْ، فَأُسِرَ أَبُو ثَابِتٍ، وَأُصِيبَ النَّاسُ مَعَهُ. وَكَانَ ابْنُ كَلُوبٍ غَازِيًا فِي دَرْبِ السَّلَامَةِ، فَلَمَّا عَادَ جَمَعَ مَشَايِخَ الثَّغْرِ لِيَتَرَاضَوْا بِأَمِيرٍ، فَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، فَوَلَّوْهُ أَمْرَهُمْ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. ذِكْرُ ظَفَرِ الْمُعْتَضِدِ بِوَصِيفٍ وَمَنْ مَعَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَرَبَ وَصَيْفٌ خَادِمُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي السَّاجِ مِنْ بَرْذَعَةَ إِلَى مَلْطِيَّةَ مِنْ أَعْمَالِ مَوْلَاهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْمُعْتَضِدِ يَسْأَلُهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ الثُّغُورَ، فَأَخَذَ رُسُلَهُ وَقَرَّرَهُمْ عَنْ سَبَبِ مُفَارَقَةِ وَصَيْفٍ مَوْلَاهُ، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّهُ فَارَقَهُ عَلَى مُوَاطَأَةٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ مَتَى وَلِيَ وَصَيْفٌ الثُّغُورَ سَارَ إِلَيْهِ مَوْلَاهُ، وَقَصَدَا دِيَارَ مُضَرَ وَتَغَلَّبَا عَلَيْهَا. فَسَارَ الْمُعْتَضِدُ نَحْوَهُ، فَنَزَلَ الْعَيْنَ السَّوْدَاءَ، وَأَرَادَ الرَّحِيلَ فِي طَرِيقِ الْمِصِّيصَةِ،

فَأَتَتْهُ الْعُيُونُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ وَصِيفًا يُرِيدُ عَيْنَ زَرْبَةَ، فَسَأَلَ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ إِلَى لِقَاءِ وَصَيْفٍ، فَأَخَذُوهُ وَسَارُوا بِهِ نَحْوَهُ، وَقَدَّمَ جَمْعًا مِنْ عَسْكَرِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَقُوا وَصِيفًا فَقَاتَلُوهُ، وَأَخَذُوهُ أَسِيرًا، فَأَحْضَرُوهُ عِنْدَ الْمُعْتَضِدِ فَحَبَسَهُ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ فِي أَصْحَابِ وَصَيْفٍ بِالْأَمَانِ، وَأَمَرَ الْعَسْكَرَ بِرَدِّ مَا نَهَبُوهُ مِنْهُمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ. وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ ; فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ رَحَلَ إِلَى الْمِصِّيصَةِ، وَأَحْضَرَ رُؤَسَاءَ طَرَسُوسَ فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَاتَبُوا وَصِيفًا، وَأَمَرَ بِإِحْرَاقِ مَرَاكِبِ طَرَسُوسَ الَّتِي كَانُوا يَغْزُونَ فِيهَا، وَجَمِيعَ آلَاتِهَا، وَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهَا نَحْوٌ مِنْ خَمْسِينَ مَرْكَبًا قَدِيمَةً، قَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصَى، وَلَا يُمْكِنُ عَمَلُ مِثْلِهَا، فَأَضَرَّ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَفَتَّ فِي أَعَضَادِهِمْ، وَ [قَوِيَ] أَمْرُ الرُّومِ أَنْ يَغْزُوَ فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ إِحْرَاقُهَا بِإِشَارَةِ دُمْيَانَةَ غُلَامِ يَازْمَانَ لِشَيْءٍ كَانَ فِي نَفْسِهِ عَلَى أَهْلِ طَرَسُوسَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى أَهْلِ الثُّغُورِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ كَوْرَةَ. وَسَارَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ وَحَلَبَ وَغَيْرِهِمَا، وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَتِ ابْنَةُ خُمَارَوَيْهِ زَوْجُ الْمُعْتَضِدِ) . ذِكْرُ أَمْرِ الْقَرَامِطَةِ، وَانْهِزَامِ الْعَبَّاسِ الْغَنَوِيِّ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، عَظُمَ أَمْرُ الْقَرَامِطَةِ بِالْبَحْرَيْنِ، وَأَغَارُوا عَلَى نَوَاحِي هَجَرَ، وَقَرُبَ بَعْضُهُمْ مِنْ نَوَاحِي الْبَصْرَةِ، فَكَتَبَ أَحْمَدُ الْوَاثِقِيُّ يَسْأَلُ الْمَدَدَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ سُمَيْرِيَّاتٍ فِيهَا ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِاخْتِيَارِ رَجُلٍ يُنْفِذُهُ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَعَزَلَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَمْرٍو الْغَنَوِيَّ عَنْ بِلَادِ فَارِسَ، وَأَقْطَعَهُ الْيَمَامَةَ وَالْبَحْرَيْنِ، وَأَمَرَهُ بِمُحَارَبَةِ الْقَرَامِطَةِ وَضَمَّ إِلَيْهِ زُهَاءَ أَلْفَيْ رَجُلٍ، فَسَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ وَالْجُنْدِ، وَالْخَدَمِ. ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ، فَلَقُوهُ مَسَاءً، وَتَنَاوَشُوا الْقِتَالَ، وَحَجَزَ بَيْنَهُمُ

اللَّيْلُ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ انْصَرَفَ عَنِ الْعَبَّاسِ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَعْرَابِ بَنِي ضَبَّةَ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ، إِلَى الْبَصْرَةِ، وَتَبِعَهُمْ مُطَّوِّعَةُ الْبَصْرَةِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الْعَبَّاسُ بَاكَرَ الْحَرْبَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا. ثُمَّ حَمَلَ نَجَاحٌ غُلَامُ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ الشَّيْخِ مِنْ مَيْسَرَةِ الْعَبَّاسِ فِي مِائَةِ رَجُلٍ عَلَى مَيْمَنَةِ أَبِي سَعِيدٍ، فَوَغَلُوا فِيهِمْ، فَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَحَمَلَ الْجَنَّابِيُّ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى أَصْحَابِ الْعَبَّاسِ، فَانْهَزَمُوا وَأُسِرَ الْعَبَّاسُ، وَاحْتَوَى الْجَنَّابِيُّ عَلَى مَا كَانَ فِي عَسْكَرِهِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَحْضَرَ الْجَنَّابِيُّ الْأَسْرَى فَقَتَلَهُمْ جَمِيعًا وَحَرَّقَهُمْ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ آخِرَ شَعْبَانَ. ثُمَّ سَارَ الْجَنَّابِيُّ إِلَى هَجَرَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ، فَدَخَلَهَا وَأَمَّنَ أَهْلَهَا، وَانْصَرَفَ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ، وَهُمْ قَلِيلٌ نَحْوَ الْبَصْرَةِ بِغَيْرِ زَادٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَصْرَةِ نَحْوُ أَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ عَلَى الرَّوَاحِلِ، وَمَعَهُمُ الطَّعَامُ، وَالْكِسْوَةُ وَالْمَاءُ، فَلَقُوا بِهَا الْمُنْهَزِمِينَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ بَنُو أَسَدٍ، وَأَخَذُوا الرَّوَاحِلَ وَمَا عَلَيْهَا، وَقَتَلُوا مَنْ سَلِمَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ، فَاضْطَرَبَتِ الْبَصْرَةُ لِذَلِكَ، وَعَزَمَ أَهْلُهَا عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْهَا، فَمَنَعَهُمُ الْوَاثِقِيُّ. وَبَقِيَ الْعَبَّاسُ عِنْدَ الْجَنَّابِيِّ أَيَّامًا ثُمَّ أَطْلَقَهُ، وَقَالَ لَهُ: امْضِ إِلَى صَاحِبِكَ، وَعَرِّفْهُ مَا رَأَيْتَ، وَحَمَلَهُ عَلَى رَوَاحِلَ، فَوَصَلَ إِلَى بَعْضِ السَّوَاحِلِ وَرَكِبَ الْبَحْرَ فَوَافَى الْأُبُلَّةَ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى بَغْدَاذَ فَوَصَلَهَا فِي رَمَضَانَ، فَدَخَلَ عَلَى الْمُعْتَضِدِ فَخَلَعَ عَلَيْهِ. بَلَغَنِي أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ قَالَ: عَجَائِبُ الدُّنْيَا ثَلَاثٌ: جَيْشُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَمْرٍو يُؤْسَرُ وَحْدَهُ، وَيَنْجُو وَحْدَهُ، وَيُقْتَلُ جَمِيعُ جَيْشِهِ ; وَجَيْشُ عَمْرِو بْنِ الصَّفَّارِ (يُؤْسَرُ وَحْدَهُ، وَيَسْلَمُ) جَمِيعُ جَيْشِهِ ; وَأَنَا أَنْزِلُ فِي بَيْتِي، وَتَوَلِّي ابْنِي أَبُو الْعَبَّاسِ الْجِسْرَيْنِ بِبَغْدَاذَ. وَلَمَّا أَطْلَقَ أَبُو سَعِيدٍ الْعَبَّاسَ أَعْطَاهُ دَرَجًا مُلْصَقًا وَقَالَ لَهُ: أَوْصِلْهُ إِلَى الْمُعْتَضِدِ فَإِنَّ لِي فِيهِ أَسْرَارًا. فَلَمَّا دَخَلَ الْعَبَّاسُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ (عَاتَبَهُ الْمُعْتَضِدُ) فَأَوْصَلَ إِلَيْهِ الْعَبَّاسُ الْكِتَابَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَنِي أَنِّي أَنْفَذْتُكَ إِلَيْهِ فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ، فَرَدَّكَ فَرْدًا ; وَفَتَحَ الْكِتَابَ وَإِذَا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ.

وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَوْقَعَ بَدْرٌ غُلَامُ الطَّائِيِّ الْقَرَامِطَةَ، عَلَى غِرَّةٍ مِنْهُمْ، بِنَوَاحِي مَيْسَانَ، وَغَيْرِهَا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً، ثُمَّ تَرَكَهُمْ خَوْفًا أَنْ تُخَرَّبَ السَّوَادُ، وَكَانُوا فَلَّاحِيَّةً، وَطَلَبَ رُؤَسَاءَهُمْ فَقَتَلَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ. ذِكْرُ أَسْرِ عَمْرٍو الصَّفَّارِ وَمُلْكِ إِسْمَاعِيلَ خُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أُسِرَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ الصَّفَّارُ ; وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَمْرًا أَرْسَلَ إِلَى الْمُعْتَضِدِ بِرَأْسِ رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْخِلَعَ وَاللِّوَاءَ بِذَلِكَ، وَهُوَ بِنَيْسَابُورَ، فَوَجَّهَ لِمُحَارَبَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ صَاحِبِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ مُحَمَّدَ بْنَ بَشِيرٍ، وَكَانَ خَلِيفَتَهُ وَحَاجِبَهُ، وَأَخَصَّ أَصْحَابِهِ بِخِدْمَتِهِ، وَأَكْبَرَهُمْ عِنْدَهُ، وَغَيْرَهُ مِنْ قُوَّادِهِ إِلَى آمُلَ، فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ إِسْمَاعِيلُ جَيْحُونَ، فَحَارَبَهُمْ، فَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ مُحَمَّدَ بْنَ بَشِيرٍ فِي نَحْوِ سِتَّةِ آلَافِ رَجُلٍ. وَبَلَغَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى عَمْرٍو، وَهُوَ بِنَيْسَابُورَ، وَعَادَ إِسْمَاعِيلُ إِلَى بُخَارَى فَتَجَهَّزَ عَمْرٌو لِقَصْدِ إِسْمَاعِيلَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِإِنْفَاذِ الْجُيُوشِ، وَلَا يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، وَسَارَ عَنْ نَيْسَابُورَ نَحْوَ بَلْخَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ: إِنَّكَ قَدْ وُلِّيتَ دُنْيَا عَرِيضَةً، وَإِنَّمَا فِي يَدِي مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَأَنَا فِي ثَغْرٍ، فَاقْنَعْ بِمَا فِي يَدِكَ، وَاتْرُكْنِي فِي هَذَا الثَّغْرِ. فَأَبَى، فَذُكِرَ لِعَمْرٍو، وَأَصْحَابِهِ شِدَّةَ الْعُبُورِ بِنَهْرِ بَلْخَ، فَقَالَ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَكِّرَهُ بِبَذْرِ الْأَمْوَالِ، وَأَعْبُرَهُ لَفَعَلْتُ. فَسَارَ إِسْمَاعِيلُ نَحْوَهُ وَعَبَرَ النَّهْرَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَجَاءَ عَمْرٌو فَنَزَلَ بَلْخَ، وَأَخَذَ

إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ النَّوَاحِيَ لِكَثْرَةِ جَمْعِهِ، وَصَارَ عَمْرٌو كَالْمُحَاصَرِ، وَنَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ، وَطَلَبَ الْمُحَاجَزَةَ، فَأَبَى إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ، فَاقْتَتَلُوا، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ كَثِيرُ قِتَالٍ حَتَّى انْهَزَمَ عَمْرٌو فَوَلَّى هَارِبًا، وَمَرَّ بِأَجَمَةٍ فِي طَرِيقِهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا أَقْرَبُ الطُّرُقِ، فَقَالَ لِعَامَّةِ مَنْ مَعَهُ: امْضُوا فِي الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ ; وَسَارَ هُوَ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَدَخَلَ الْأَجَمَةَ، فَوَحَلَتْ بِهِ دَابَّتُهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي نَفْسِهِ حِيلَةٌ، وَمَضَى مَنْ مَعَهُ وَلَمْ يُعَرِّجُوا عَلَيْهِ، وَجَاءَ أَصْحَابُ إِسْمَاعِيلَ فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا، فَسَيَّرَهُ إِسْمَاعِيلُ إِلَى سَمَرْقَنْدَ. وَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْمُعْتَضِدِ ذَمَّ عَمْرًا وَمَدَحَ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ إِنَّ إِسْمَاعِيلَ خَيَّرَ عَمْرًا بَيْنَ مُقَامِهِ عِنْدَهُ، أَوْ إِنْفَاذِهِ إِلَى الْمُعْتَضِدِ، فَاخْتَارَ الْمُقَامَ عِنْدَ الْمُعْتَضِدِ، فَسَيَّرَهُ إِلَيْهِ، فَوَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَلَمَّا وَصَلَ رُكِّبَ عَلَى جَمَلٍ وَأُدْخِلَ بَغْدَاذَ، ثُمَّ حُبِسَ، فَبَقِيَ مَحْبُوسًا حَتَّى قُتِلَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَأَرْسَلَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بِالْخِلَعِ، وَوَلَّاهُ مَا كَانَ بِيَدِ عَمْرٍو، وَخَلَعَ عَلَى نَائِبِهِ بِالْحَضْرَةِ الْمَعْرُوفِ بِالْمَرْزُبَانِيِّ، وَاسْتَوْلَى إِسْمَاعِيلُ عَلَى خُرَاسَانَ وَصَارَتْ بِيَدِهِ. وَكَانَ عَمْرٌو أَعْوَرَ شَدِيدَ السُّمْرَةِ، عَظِيمَ السِّيَاسَةِ، قَدْ مَنَعَ أَصْحَابَهُ وَقُوَّادَهُ أَنْ (يَضْرِبَ أَحَدٌ مِنْهُمْ غُلَامًا) إِلَّا بِأَمْرِهِ، أَوْ يَتَوَلَّى عُقُوبَةَ الْغُلَامِ نَائِبُهُ، أَوْ أَحَدُ حُجَّابِهِ، وَكَانَ يَشْتَرِي الْمَمَالِيكَ الصِّغَارَ، وَيُرَبِّيهِمْ، وَيَهَبُهُمْ لِقُوَّادِهِ وَيُجْرِي عَلَيْهِمُ الْجِرَايَاتِ الْحَسَنَةِ سِرًّا، لِيُطَالِعُوهُ بِأَحْوَالِ قُوَّادِهِ، وَلَا يَنْكَتِمُ عَنْهُ مِنْ أَخْبَارِهِمْ شَيْءٌ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مَنْ يَنْقُلُ إِلَيْهِ عَنْهُمْ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَحْذَرُهُ وَهُوَ وَحْدَهُ. حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَامِلٌ بِفَارِسَ يُقَالُ لَهُ أَبُو حُصَيْنٍ، فَسَخِطَ عَلَيْهِ عَمْرٌو، وَأَلْزَمَهُ أَنْ يَبِيعَ أَمْلَاكَهُ، (وَيُوصِلَ ثَمَنَهَا إِلَيْهِ) ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ أَدَّاهَا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَإِلَّا قَتَلَهُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْكَاتِبِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَاجْتَمَعَ بِهِ، وَعَرَّفَهُ ضِيقَ يَدِهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ لِيَخْرُجَ

مِنْ مَحْبَسِهِ وَيَسْعَى فِي تَحْصِيلِ الْمَبْلَغِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، فَفَعَلَ وَأَخْرَجَهُ، فَلَمْ يُفْتَحْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَعَادَ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْكَاتِبِ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ عَمْرًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مِنْ أَيِّهِمَا أَعْجَبُ، مِنْ أَبِي سَعِيدٍ فِيمَا فَعَلَ مِنْ بَذْلِ مِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَمْ مِنْ أَبِي حُصَيْنٍ كَيْفَ عَادَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ الْقَتْلُ! ثُمَّ أَمَرَ بِإِطْلَاقِ مَا عَلَيْهِ وَرَدَّهُ إِلَى مَنْزِلَتِهِ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ أَحْمَالًا كَثِيرَةً مِنَ الْجُرُبِ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا مُرَادُهُ، فَاتَّفَقَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ أَنَّهُ قَصَدَ طَائِفَةً مِنَ الْعُصَاةِ عَلَيْهِ (لِلْإِيقَاعِ بِهِمْ) ، فَسَلَكَ طَرِيقًا لَا تَظُنُّ الْعُصَاةُ أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ مِنْهُ، وَكَانَ فِي طَرِيقِهِ وَادٍ، فَأَمَرَ بِتِلْكَ الْجُرُبِ فَمُلِئَتْ تُرَابًا، وَأَحْجَارًا، وَنَضَّدَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَجَعَلَهَا طَرِيقًا فِي الْوَادِي، فَعَبَرَ أَصْحَابُهُ عَلَيْهَا، وَأَتَاهُمْ وَهُمْ آمِنُونَ فَأَثْخَنَ فِيهِمْ وَبَلَغَ مِنْهُمْ مَا أَرَادَ. وَحُكِيَ أَيْضًا أَنَّ أَكْبَرَ حُجَّابِهِ كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدَ بْنَ بَشِيرٍ، وَكَانَ يَخْلُفُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِ الْعِظَامِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا، وَأَخَذَ يُعَدِّدُ عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ، فَحَلَفَ مُحَمَّدٌ بِاللَّهِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا خَمْسِينَ بِدْرَةً، وَهُوَ يَحْمِلُهَا إِلَى الْخِزَانَةِ، وَلَا يَجْعَلُ لَهُ ذَنْبًا لَمْ يَعْلَمْهُ، فَقَالَ عَمْرٌو: مَا أَعْقَلَكَ مِنْ رَجُلٍ! احْمِلْهَا إِلَى الْخِزَانَةِ، فَحَمَلَهَا، فَرَضِيَ عَنْهُ، وَمَا أَقْبَحَ هَذَا مِنْ فِعْلٍ (وَشَرَهٍ إِلَى أَمْوَالِ) مَنْ أَذْهَبَ عُمْرَهُ فِي خِدْمَتِهِ! ذِكْرُ قَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ طَبَرِسْتَانَ وَالدَّيْلَمِ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ بِهِ أَسْرُ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ الصَّفَّارِ خَرَجَ مِنْ طَبَرِسْتَانَ نَحْوَ خُرَاسَانَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ السَّامَانِيَّ لَا يَتَجَاوَزُ عَمَلَهُ، وَلَا يَقْصِدُ خُرَاسَانَ، وَأَنَّهُ لَا دَافِعَ لَهُ عَنْهَا. فَلَمَّا سَارَ إِلَى جُرْجَانَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ، وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَى خُرَاسَانَ، يَقُولُ لَهُ: الْزَمْ عَمَلَكَ، وَلَا تَتَجَاوَزْ عَمَلَهُ، وَلَا تَقْصِدْ خُرَاسَانَ ; وَتَرَكَ جُرْجَانَ لَهُ، فَأَبَى ذَلِكَ مُحَمَّدٌ، فَنَدَبَ إِلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ مُحَمَّدَ بْنَ هَارُونَ، وَمُحَمَّدٌ هَذَا كَانَ يَخْلُفُ رَافِعَ بْنَ

هَرْثَمَةَ أَيَّامَ وِلَايَتِهِ خُرَاسَانَ، فَجَمَعَ مُحَمَّدٌ جَمْعًا كَثِيرًا مِنْ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، وَسَارَ نَحْوَ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، فَالْتَقَوْا عَلَى بَابِ جُرْجَانَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ وَقَدْ تَفَرَّقَ أَصْحَابُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ فِي الطَّلَبِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَدْ رَجَعَ إِلَيْهِمْ وَلَّوْا هَارِبِينَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَأَصَابَتِ ابْنَ زَيْدٍ ضَرَبَاتٌ، وَأُسِرَ ابْنُهُ زَيْدٌ، وَغَنِمَ ابْنُ هَارُونَ عَسْكَرَهُ وَمَا فِيهِ، ثُمَّ مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ بَعْدَ أَيَّامٍ مِنْ جِرَاحَاتِهِ الَّتِي أَصَابَتْهُ، فَدُفِنَ عَلَى بَابِ جُرْجَانَ. وَحُمِلَ ابْنُهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ، فَأَكْرَمَهُ وَوَسَّعَ فِي الْإِنْزَالِ عَلَيْهِ، وَأَنْزَلَهُ بُخَارَى، وَسَارَ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ إِلَى طَبَرِسْتَانَ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ فَاضِلًا، أَدِيبًا، شَاعِرًا، عَارِفًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ الْأَسْتَرَابَاذِيُّ: كُنْتُ أُورِدُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ أَخْبَارَ الْعَبَّاسِيِّينَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ قَدْ لَقَّبُوا أَنْفُسَهُمْ، فَإِذَا ذَكَرْتَهُمْ عِنْدَكَ أُسَمِّيهِمْ، أَوْ أُلَقِّبُهُمْ؟ فَقَالَ: الْأَمْرُ مُوَسَّعٌ عَلَيْكَ، سَمِّهِمْ وَلَقِّبْهُمْ بِأَحْسَنِ أَلْقَابِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ، وَأَحَبِّهَا إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ حَضَرَ عِنْدَهُ خَصْمَانِ أَحَدُهُمَا اسْمُهُ مُعَاوِيَةُ وَالْآخَرُ اسْمُهُ عَلِيٌّ، فَقَالَ: الْحُكْمُ بَيْنَكُمَا ظَاهِرٌ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّ تَحْتَ هَذَيْنِ الْاسْمَيْنِ خَبَرًا، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: إِنَّ أَبِي كَانَ مِنْ صَادِقِي الشِّيعَةِ، فَسَمَّانِي مُعَاوِيَةَ لِيَنْفِيَ شَرَّ النَّوَاصِبِ، وَإِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ نَاصِبِيًّا، فَسَمَّاهُ عَلِيًّا خَوْفًا مِنَ الْعَلَوِيَّةِ وَالشِّيعَةِ. فَتَبَسَّمَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَقَرَّبَهُ. وَقِيلَ: اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَضِرَّاءِ الشِّيعَةِ وَقُرَّائِهِمْ، فَقَالَ: ادْخُلُوا، فَإِنَّهُ لَا يُحِبُّنَا إِلَّا كُلُّ كَسِيرٍ وَأَعْوَرَ. ذِكْرُ وِلَايَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ صِقِلِّيَةَ كَانَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ أَمِيرِ إِفْرِيقِيَّةَ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَلَى صِقِلِّيَةَ أَبَا مَالِكٍ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَاسْتَضْعَفَهُ، فَوَلَّى بَعْدَهُ ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَغْلَبِ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا غُرَّةَ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مَرْكَبًا، وَأَرْبَعِينَ حَرْبِيٍّ، وَحَصَرَ طَرَابُلُسَ.

وَاتَّصَلَ خَبَرُهُ بِعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ بِمَدِينَةِ بَلَرْمَ [وَهُمْ] يُقَاتِلُونَ أَهْلَ جَرْجَنْتَ، فَعَادُوا إِلَى بَلَرْمَ، وَأَرْسَلُوا جَمَاعَةً مِنْ شُيُوخِهِمْ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِمْ، وَاعْتَذَرُوا مِنْ قَصْدِهِمْ جَرْجَنْتَ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ جَرْجَنْتَ، وَشَكَوْا مِنْهُمْ وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَيَّرُوا مَشَايِخَهُمْ خَدِيعَةً وَمَكْرًا، وَأَنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ ; وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَعْلَمَ مِصْدَاقَ هَذَا فَاطْلُبْ إِلَيْكَ مِنْهُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَطْلُبُهُمْ فَامْتَنَعُوا عَنِ الْحُضُورِ عِنْدَهُ، وَخَالَفُوا عَلَيْهِ، وَأَظْهَرُوا ذَلِكَ، فَاعْتَقَلَ الشُّيُوخَ الْوَاصِلِينَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، وَاجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَرْمَ وَسَارُوا إِلَيْهِ مُنْتَصَفَ شَعْبَانَ، وَمُقَدَّمُهُمْ مَسْعُودٌ الْبَاجِيُّ، وَأَمِيرُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ رَكْمَوَيْهِ، وَصَحِبَهُمْ ثَمَّ أُسْطُولٌ فِي الْبَحْرِ نَحْوُ ثَلَاثِينَ قِطْعَةً، فَهَاجَ الْبَحْرُ عَلَى الْأُسْطُولِ، فَعَطِبَ أَكْثَرُهُ، وَعَادَ الْبَاقِي إِلَى بَلَرْمَ. وَأَمَّا الْعَسْكَرُ الَّذِينَ فِي الْبَرِّ فَإِنَّهُمْ وَصَلُوا إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى طَرَابُلُسَ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ الْقِتَالِ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ وَافْتَرَقُوا، ثُمَّ عَاوَدُوا الْقِتَالَ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ بَلَرْمَ وَقْتَ الْعَصْرِ، وَتَبِعَهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى بَلَرْمَ بَرًّا وَبَحْرًا فَعَاوَدُوا قِتَالَهُ عَاشِرَ رَمَضَانَ مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى الْعَصْرِ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَوَقَعَ الْقَتْلُ فِيهِمْ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَاسْتُعْمِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ عَلَى أَرْبَاضِهَا، وَنُهِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَهَرَبَ كَثِيرٌ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَى طَبَرْمِينَ، وَهَرَبَ رَكْمَوَيْهِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ رِجَالِ الْحَرْبِ إِلَى بِلَادِ النَّصْرَانِيَّةِ، كَالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَمَلَكَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَدِينَةَ، وَدَخَلَهَا، وَأَمَّنَ أَهْلَهَا، وَأَخَذَ جَمَاعَةً مِنْ وُجُوهِ أَهْلِهَا فَوَجَّهَهُمْ إِلَى أَبِيهِ بِإِفْرِيقِيَّةَ. ثُمَّ رَحَلَ إِلَى طَبَرْمِينَ، فَقَطَعَ كُرُومَهَا، وَقَاتَلَهُمْ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى قَطَانِيَةَ فَحَصَرَهَا، فَلَمْ يَنَلْ مِنْهَا غَرَضًّا، فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَقَامَ إِلَى أَنْ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ فَتَجَهَّزَ لِلْغَزْوِ، وَطَابَ الزَّمَانُ، وَعَمَّرَ الْأُسْطُولَ وَسَيَّرَهُ أَوَّلَ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَنَزَلَ عَلَى دَمَنْشَ، وَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَأَقَامَ أَيَّامًا. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَسِّينِي، وَجَازَ فِي الْحَرْبِيَّةِ إِلَى رِيُّو، وَقَدِ اجْتَمَعَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الرُّومِ، فَقَاتَلَهُمْ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، وَهَزَمَهُمْ، (وَمَلَكَ الْمَدِينَةَ) بِالسَّيْفِ فِي رَجَبٍ،

وَغَنِمَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا لَا يُحَدُّ، وَشَحَنَ الْمَرَاكِبَ بِالدَّقِيقِ، وَالْأَمْتِعَةِ، وَرَجَعَ إِلَى مَسِّينِي وَهَدَمَ سُورَهَا، وَوَجَدَ بِهَا مَرَاكِبَ قَدْ وَصَلَتْ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَأَخَذَ مِنْهَا ثَلَاثِينَ مَرْكَبًا وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَقَامَ إِلَى سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، فَأَتَاهُ كِتَابُ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ يَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، فَرَجَعَ إِلَيْهَا جَرِيدَةً فِي خَمْسِ قِطَعٍ شَوَانِي، وَتَرَكَ الْعَسْكَرَ مَعَ وَلَدَيْهِ أَبِي مُضَرَ، وَأَبِي مَعَدٍّ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ اسْتَخْلَفَهُ أَبُوهُ بِهَا، وَسَارَ هُوَ إِلَى صِقِلِّيَةَ مُجَاهِدًا، عَازِمًا عَلَى الْحَجِّ بَعْدَ الْجِهَادِ، فَوَصَلَهَا فِي رَجَبٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا خَبَرَهُ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَتْ طَيٌّ مَنْ قَدَرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَخَرَجُوا عَلَى قُفُلِ الْحَاجِّ، فَوَاقَعُوهُمْ بِالْمَعْدِنِ، وَقَاتَلُوهُمْ يَوْمَيْنِ بَيْنَ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ، لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَانْهَزَمَ الْعَرَبُ وَقُتِلَ كَثِيرٌ وَسَلِمَ الْحَاجُّ. وَفِيهَا مَاتَ إِسْحَاقُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيُّ - عَدِيُّ رَبِيعَةَ - أَمِيرُ دِيَارِ رَبِيعَةَ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ، فَوَلِيَ مَكَانَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْهَيْثَمِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ قَطْرُ النَّدَى ابْنَةُ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ صَاحِبِ مِصْرَ، وَهِيَ امْرَأَةُ الْمُعْتَضِدِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ.

وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الْمُعْتَضِدُ عِيسَى النُّوشَرِيُّ، وَهُوَ أَمِيرُ أَصْبَهَانَ، عَلَى بِلَادِ فَارِسَ، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ فَهْدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فَهْدٍ الْأَزْدِيُّ الْمَوْصِلِيُّ، وَكَانَ مِنَ الْأَعْيَانِ. وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ، وَهُوَ صَاحِبُ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، بِالتَّشْدِيدِ.

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ] 288 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ الْوَبَاءُ بِأَذْرَبِيجَانَ فَمَاتَ مِنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ إِلَى أَنْ فَقَدَ النَّاسُ مَا يُكَفِّنُونَ بِهِ الْمَوْتَى، وَكَانُوا يَتْرُكُونَهُمْ عَلَى الطُّرُقِ غَيْرَ مُكَفَّنِينَ وَلَا مُدَفَّنِينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّاجِ بِأَذْرَبِيجَانَ فِي الْوَبَاءِ الْكَثِيرِ الْمَذْكُورِ، فَاجْتَمَعَ أَصْحَابُهُ، فَوَلَّوُا ابْنَهُ دُيُودَادَ، وَاعْتَزَلَهُمْ عَمُّهُ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ مُخَالِفًا لَهُمْ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَفَرٌ يَسِيرٌ، فَأَوْقَعَ بِابْنِ أَخِيهِ دُيُودَادَ، وَهُوَ فِي عَسْكَرِ أَبِيهِ فَهَزَمَهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ يُوسُفُ الْمُقَامَ مَعَهُ فَأَبَى، وَسَلَكَ طَرِيقَ الْمَوْصِلِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ. وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ دَخَلَ طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ بِلَادَ فَارِسَ فِي عَسْكَرِهِ، وَأَخْرَجُوا عَنْهَا عَامِلَ الْخَلِيفَةِ، فَكَتَبَ الْأَمِيرُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ إِلَى طَاهِرٍ يَذْكُرُ لَهُ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمُعْتَضِدَ قَدْ وَلَّاهُ سِجِسْتَانَ، وَأَنَّهُ سَائِرٌ إِلَيْهَا، فَعَادَ طَاهِرٌ لِذَلِكَ. وَفِيهَا وَلَّى الْمُعْتَضِدُ مَوْلَاهُ بَدْرًا فَارِسَ، وَأَمَرَهُ بِالشُّخُوصِ إِلَيْهَا لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ طَاهِرًا تَغَلَّبَ عَلَيْهَا، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ فَارِسَ تَنَحَّى عَنْهَا مَنْ كَانَ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ طَاهِرٍ، فَدَخَلَهَا بَدْرٌ، وَجَبَى خَرَاجَهَا، وَعَادَ طَاهِرٌ إِلَى سِجِسْتَانَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مُرَاسَلَةِ إِسْمَاعِيلَ السَّامَانِيِّ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُرِيدُ [أَنْ] يَقْصِدَ سِجِسْتَانَ.

وَفِيهَا تَغَلَّبَ بَعْضُ الْعَلَوِيِّينَ عَلَى صَنْعَاءَ، فَقَصَدَهُ بَنُو يَعْفُرَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَقَاتَلُوهُ، فَهَزَمُوهُ، وَنَجَا هَارِبًا نَحْوُ خَمْسِينَ فَارِسًا، وَأَسَرُوا ابْنًا لَهُ، وَدَخَلَهَا بَنُو يَعْفُرَ، وَخَطَبُوا فِيهَا لِلْمُعْتَضِدِ. وَفِيهَا سَيَّرَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ كَوْرَةَ صَاحِبَهُ نِزَارَ بْنَ مُحَمَّدٍ إِلَى صَائِفَةِ الرُّومِ فَغَزَا، وَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً لِلرُّومِ، وَعَادَ وَمَعَهُ الْأَسْرَى. ثُمَّ إِنَّ الرُّومَ سَارُوا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إِلَى نَاحِيَةِ كَيْسُومَ، فَأَخَذُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَعَادُوا. وَفِيهَا قَرُبَ أَصْحَابُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَخَافَ أَهْلُهَا، وَهَمُّوا بِالْهَرَبِ مِنْهَا، فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَالِيهِمْ. وَفِيهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ، قُتِلَ وَصَيْفٌ خَادِمُ ابْنِ أَبِي السَّاجِ، وَصُلِبَتْ جُثَّتُهُ بِبَغْدَاذَ، وَقِيلَ إِنَّهُ مَاتَ وَلَمْ يُقْتَلْ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ الْوَزِيرُ، فَعَظُمَ مَوْتُهُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ، وَجَعَلَ ابْنَهُ أَبَا الْحُسَيْنِ الْقَاسِمَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بَعْدَ أَبِيهِ فِي الْوِزَارَةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ (إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ) . وَبِشْرُ بْنُ مُوسَى الْأَسَدِيُّ، وَهُوَ مِنَ الْحُفَّاظِ لِلْحَدِيثِ.

وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ تُوُفِّيَ ثَابِتُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ سِنَانٍ الصَّابِيُّ الطَّبِيبُ الْمَشْهُورُ، وَمُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى.

ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ] 289 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ أَخْبَارِ الْقَرَامِطَةِ بِالشَّامِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ بِالشَّامِ رَجُلٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، وَجَمَعَ جُمُوعًا مِنَ الْأَعْرَابِ، وَأَتَى دِمَشْقَ، وَأَمِيرُهَا طُغَجُ بْنُ جُفٍّ مِنْ قِبَلِ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا وَقَعَاتٌ. وَكَانَ ابْتِدَاءُ حَالِ هَذَا الْقَرْمَطِيِّ أَنَّ زِكْرَوَيْهِ بْنَ مَهْرَوَيْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ دَاعِيَةُ قَرْمَطَ هَذَا، لَمَّا رَأَى أَنَّ الْجُيُوشَ مِنَ الْمُعْتَضِدِ مُتَتَابِعَةٌ إِلَى مَنْ بِسَوَادِ الْكُوفَةِ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ قَدْ أَبَادَهُمْ، سَعَى فِي اسْتِغْوَاءِ مَنْ قَرُبَ مِنَ الْكُوفَةِ مِنَ الْأَعْرَابِ: (أَسَدٍ، وَطَيٍّ، وَغَيْرِهِمْ) ، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَأَرْسَلَ أَوْلَادَهُ إِلَى كَلْبِ بْنِ وَبَرَةَ فَاسْتَغْوَوْهُمْ، فَلَمْ (يُجِبْهُمْ مِنْهُمْ) إِلَّا الْفَخِدُ الْمَعْرُوفُ بِبَنِي الْعُلَيْصِ بْنِ ضَمْضَمِ بْنِ عُدَيِّ بْنِ خَبَّابٍ وَمَوَالِيهِمْ خَاصَّةً، فَبَايَعُوا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ بِنَاحِيَةِ السَّمَاوَةِ ابْنَ زِكْرَوَيْهِ، الْمُسَمَّى بِيَحْيَى، الْمُكَنَّى أَبَا الْقَاسِمِ، فَلَقَّبُوهُ الشَّيْخَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَلَدٌ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَزَعَمَ أَنَّ لَهُ بِالْبِلَادِ مِائَةَ أَلْفِ تَابِعٍ، وَأَنَّ نَاقَتَهُ الَّتِي يَرْكَبُهَا مَأْمُورَةٌ، فَإِذَا تَتَبَّعُوهَا فِي مَسِيرِهَا نُصِرُوا، وَأَظْهَرَ عَضُدًا لَهُ (نَاقِصَةً وَذَكَرَ أَنَّهَا آيَتُهُ) ، وَأَتَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي الْأَصْبَغِ، وَسُمُّوا الْفَاطِمِيِّينَ، وَدَانُوا

بِدِينِهِ، فَقَصَدَهُمْ شِبْلٌ غُلَامُ الْمُعْتَضِدِ مِنْ نَاحِيَةِ الرُّصَافَةِ (فَاغْتَرُّوهُ فَقَتَلُوهُ، وَأَحْرَقُوا مَسْجِدَ الرُّصَافَةِ) ، وَاعْتَرَضُوا كُلَّ قَرْيَةٍ اجْتَازُوا بِهَا، حَتَّى بَلَغُوا وِلَايَةَ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ الَّتِي قُوطِعَ عَلَيْهَا طُغَجُ بْنُ جُفٍّ، فَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ بِهَا وَالْإِغَارَةَ، فَقَاتَلَهُمْ طُغَجُ، فَهَزَمُوهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. ذِكْرُ أَخْبَارِ الْقَرَامِطَةِ بِالْعِرَاقِ وَفِيهَا انْتَشَرَ الْقَرَامِطَةُ بِسَوَادِ الْكُوفَةِ، فَوَجَّهَ الْمُعْتَضِدُ إِلَيْهِمْ شِبْلًا غُلَامَ أَحْمَدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّائِيِّ، وَظَفِرَ بِهِمْ، وَأَخَذَ رَئِيسًا لَهُمْ يُعْرَفُ بِأَبِي الْفَوَارِسِ فَسَيَّرَهُ إِلَى الْمُعْتَضِدِ، فَأَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي، هَلْ تَزْعُمُونَ أَنَّ رُوحَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَرْوَاحَ أَنْبِيَائِهِ تَحِلُّ فِي أَجْسَادِكُمْ فَتَعْصِمُكُمْ مِنَ الزَّلَلِ، وَتُوَفِّقُكُمْ لِصَالِحِ الْعَمَلِ؟ فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا إِنْ حَلَّتْ رُوحُ (اللَّهِ فِينَا فَمَا يَضُرُّكَ؟ وَإِنْ حَلَّتْ رُوحُ) إِبْلِيسَ فَمَا يَنْفَعُكَ؟ فَلَا تَسْأَلْ عَمَّا لَا يَعْنِيكَ وَسَلْ عَمَّا يَخُصُّكَ. فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِيمَا يَخُصُّنِي؟ قَالَ: أَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ وَأَبُوكُمُ الْعَبَّاسُ حَيٌّ، فَهَلْ طَالَبَ بِالْخِلَافَةِ، أَمْ هَلْ بَايَعَهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ فَاسْتَخْلَفَ عُمَرَ، وَهُوَ يَرَى مَوْضِعَ الْعَبَّاسِ، وَلَمْ يُوصِ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَاتَ عُمَرُ وَجَعَلَهَا شُورَى فِي سِتَّةِ أَنْفُسٍ، وَلَمْ يُوصِ إِلَيْهِ، وَلَا أَدْخَلَهُ فِيهِمْ، فَبِمَاذَا تَسْتَحِقُّونَ أَنْتُمُ الْخِلَافَةَ؟ وَقَدِ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى دَفْعِ جَدِّكَ عَنْهَا. فَأَمَرَ بِهِ الْمُعْتَضِدُ فَعُذِّبَ، وَخُلِعَتْ عِظَامُهُ، ثُمَّ قُطِّعَتْ يَدَاهُ، وَرِجْلَاهُ، ثُمَّ قُتِلَ.

ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُعْتَضِدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ تُوُفِّيَ الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُوَفَّقِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ، لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْهُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ اجْتَمَعَ الْقُوَّادُ، مِنْهُمْ يُونُسُ الْخَادِمُ، وَمُوشْكِيرُ، وَغَيْرُهُمَا. وَقَالُوا لِلْوَزِيرِ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ لِيُجَدِّدَ الْبَيْعَةَ لِلْمُكْتَفِي. وَقَالُوا: إِنَّا لَا نَأْمَنُ فِتْنَةً، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْمَالَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلِوَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَخَافُ [أَنْ] أُطْلِقَ الْمَالَ، فَيَبْرَأَ مِنْ عِلَّتِهِ، فَيُنْكِرَ عَلَيَّ ذَلِكَ. فَقَالَ: إِنْ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ، فَنَحْنُ الْمُحْتَجُّونَ، وَالْمُنَاظِرُونَ، وَإِنْ صَارَ الْأَمْرُ إِلَى وَلَدِهِ، فَلَا يَلُومُنَا، وَنَحْنُ نَطْلُبُ الْأَمْرَ لَهُ. فَأَطْلَقَ الْمَالَ وَجَدَّدَ عَلَيْهِ الْبَيْعَةَ، وَأَحْضَرَ عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ (الْمُوَفَّقِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْبَيْعَةَ فَوَكَّلَ بِهِ، وَأَحْضَرَ ابْنَ الْمُعْتَزِّ، وَمَضَى ابْنُ الْمُؤَيَّدِ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ) الْمُعْتَمِدِ، وَوَكَّلَ بِهِمْ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَحْضَرَ يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ، وَأَبَا حَازِمٍ، وَأَبَا عُمَرَ بْنَ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ فَتَوَلَّى غُسْلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْوَزِيرُ، وَدُفِنَ لَيْلًا فِي دَارِ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ، وَجَلَسَ الْوَزِيرُ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ لِلْعَزَاءِ، وَجَدَّدَ الْبَيْعَةَ لِلْمُكْتَفِي. وَكَانَتْ أُمُّ الْمُعْتَضِدِ، وَاسْمُهَا ضِرَارُ، قَدْ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ خِلَافَتِهِ.

وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ تِسْعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا ; وَخَلَّفَ مِنَ الْوَلَدِ الذُّكُورِ: عَلِيًّا وَهُوَ الْمُكْتَفِي، وَجَعْفَرًا وَهُوَ الْمُقْتَدِرُ، وَهَارُونُ، وَمِنَ الْبَنَاتِ إِحْدَى عَشْرَةَ بِنْتًا، وَقِيلَ: سَبْعَ عَشْرَةَ. (وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَنْشَدَ: تَمَتَّعْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ لَا تَبْقَى وَخُذْ ... صَفْوَهَا مَا إِنْ صَفَتْ وَدَعِ الرَّنْقَا وَلَا تَأْمَنَنَّ الدَّهْرَ إِنِّي أَمِنْتُهُ فَلَمْ ... يُبْقِ لِي حَالًا وَلَا يَرْعَ لِي حَقَّا قَتَلْتُ صَنَادِيدَ الرِّجَالِ وَلَمْ أَدَعْ ... عَدُوًّا وَلَمْ أُمْهِلْ عَلَى طَغْيِهِ خَلْقَا وَأَخْلَيْتُ دَارَ الْمُلْكِ مِنْ كُلِّ نَازِعٍ ... فَشَرَّدْتُهُمْ غَرْبًا وَمَزَّقْتُهُمْ شَرْقَا فَلَمَّا بَلَغْتُ النَّجْمَ عِزًّا وَرِفْعَةً ... وَصَارَتْ رِقَابُ الْخَلْقِ أَجْمَعَ لِي رِقَّا رَمَانِي الرَّدَى سَهْمًا فَأَخْمَدَ جَمْرَتِي ... فَهَا أَنَا ذَا فِي حُفْرَتِي عَاجِلًا أُلْقَى وَلَمْ يُغْنِ عَنِّي مَا جَمَعْتُ وَلَمْ أَجِدْ ... لِذِي الْمُلْكِ وَالْأَحْيَاءِ فِي حُسْنِهَا رِفْقَا فَيَا لَيْتَ شِعْرِي بَعْدَ مَوْتِيَ مَا أَلْقَى ؟ إِلَى نِعَمِ الرَّحْمَنِ أَمْ نَارِهِ أُلْقَى

ذِكْرُ صِفَتِهِ وَسِيرَتِهِ كَانَ الْمُعْتَضِدُ أَسْمَرَ، نَحِيفَ الْجِسْمِ، مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ، قَدْ وَخَطَهُ الشَّيْبُ، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا مِقْدَامًا ; (وَكَانَ ذَا عَزْمٍ) ، وَكَانَ فِيهِ شُحٌّ ; بَلَغَهُ خَبَرُ وَصَيْفٍ خَادِمِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ، وَعَلَيْهِ قِبَاءٌ أَصْفَرُ، فَسَارَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَظَفِرَ بِوَصِيفٍ، وَعَادَ. فَدَخَلَ أَنْطَاكِيَةَ، وَعَلَيْهِ الْقِبَاءُ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِهَا: الْخَلِيفَةُ بِغَيْرِ سَوَادٍ ; فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّهُ سَارَ فِيهِ، وَلَمْ يَنْزِعْهُ عَنْهُ إِلَى الْآنَ، وَكَانَ عَفِيفًا. حَكَى الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ، وَعَلَى رَأْسِهِ أَحْدَاثٌ رُومٌ صِبَاحُ الْوُجُوهِ، فَأَطَلْتُ النَّظَرَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا قُمْتُ أَمَرَنِي بِالْقُعُودِ، فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ قَالَ: يَا قَاضِي، وَاللَّهِ مَا حَلَلْتُ سَرَاوِيلِي عَلَى غَيْرِ حَلَالٍ قَطُّ. وَكَانَ مَهِيبًا عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَّقُونَ سَطْوَتَهُ، وَيَكُفُّونَ عَنِ الظُّلْمِ خَوْفًا مِنْهُ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ وَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمُعْتَضِدُ كَتَبَ الْوَزِيرُ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ عَلِيِّ بْنِ الْمُعْتَضِدِ، وَهُوَ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ، يُعَرِّفُهُ بِذَلِكَ وَيَأْخُذُ الْبَيْعَةَ لَهُ، وَكَانَ بِالرَّقَّةِ. فَلَمَّا وَصَلَهُ الْخَبَرُ أَخَذَ الْبَيْعَةَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْأَجْنَادِ، وَوَضَعَ لَهُمُ الْعَطَاءَ، وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَوَجَّهَ إِلَى النَّوَاحِي مِنْ دِيَارِ رَبِيعَةَ. وَمُضَرَ، وَنَوَاحِي الْعَرَبِ مَنْ يَحْفَظُهَا، وَدَخَلَ بَغْدَاذَ، لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، فَلَمَّا سَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ أَمَرَ بِهَدْمِ الْمَطَامِيرِ الَّتِي كَانَ أَبُوهُ اتَّخَذَهَا لِأَهْلِ الْجَرَائِمِ. ذِكْرُ قَتْلِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ الصَّفَّارِ وَفِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ الْمُكْتَفِي بَغْدَاذَ قُتِلَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ الصَّفَّارُ وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ،

وَكَانَ الْمُعْتَضِدُ بَعْدَمَا امْتَنَعَ مِنَ الْكَلَامِ، أَمَرَ صَافِيًا الْحُرْمِيَّ بِقَتْلِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ، وَوَضْعِ يَدِهِ عَلَى (رَقَبَتِهِ، وَعَلَى عَيْنِهِ بِأَنِ) اذْبَحِ الْأَعْوَرَ، وَكَانَ عَمْرٌو أَعْوَرَ، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ صَافِي لِعِلْمِهِ بِقُرْبِ وَفَاةِ الْمُعْتَضِدِ، وَكَرِهَ قَتْلَ عَمْرٍو. فَلَمَّا وَصَلَ الْمُكْتَفِي بَغْدَاذَ سَأَلَ (الْوَزِيرَ عَنْهُ، فَقَالَ) : هُوَ حَيٌّ، فَسُرَّ بِذَلِكَ وَأَرَادَ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ مِنَ الْهَدِيَّةِ إِلَيْهِ لَمَّا كَانَ بِالرَّيِّ، فَكَرِهَ الْوَزِيرُ ذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ عَلَى الرَّيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَاتَبَ أَهْلُ الرَّيِّ مُحَمَّدَ بْنَ هَارُونَ الَّذِي كَانَ حَارَبَ مُحَمَّدَ بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيَّ، وَتَوَلَّى طَبَرِسْتَانَ لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ قَدْ خَلَعَ طَاعَةَ إِسْمَاعِيلَ فَسَأَلَهُ أَهْلُ الرَّيِّ الْمَسِيرَ إِلَيْهِمْ لِيُسَلِّمُوهَا إِلَيْهِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَالِيَ عَلَيْهِمْ كَانَ قَدْ أَسَاءَ السِّيرَةَ فِيهِمْ. فَسَارَ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ إِلَيْهِمْ فَحَارَبَهُ وَالِيهَا وَهُوَ الدَّتْمَشُ التُّرْكِيُّ، فَقَتَلَهُ مُحَمَّدٌ، وَقَتَلَ ابْنَيْنِ لَهُ وَأَخَا كَيْغَلَغَ، وَهُوَ مِنْ قُوَّادِ الْخَلِيفَةِ، وَدَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرَّيَّ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا فِي رَجَبٍ. ذِكْرُ قَتْلِ بَدْرٍ وَفِيهَا قُتِلَ بَدْرٌ غُلَامُ الْمُعْتَضِدِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَاسِمَ الْوَزِيرَ كَانَ قَدْ هَمَّ بِنَقْلِ الْخِلَافَةِ عَنْ وَلَدِ الْمُعْتَضِدِ بَعْدَهُ، فَقَالَ لِبَدْرٍ، فِي ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الْمُعْتَضِدِ بَعْدَ أَنِ اسْتَحْلَفَهُ وَاسْتَكْتَمَهُ، فَقَالَ بَدْرٌ: مَا كُنْتُ لِأَصْرِفَهَا عَنْ وَلَدِ مَوْلَايَ وَوَلِيِّ نِعْمَتِي، فَلَمْ

يُمْكِنْهُ مُخَالَفَةُ بَدْرٍ إِذْ كَانَ صَاحِبَ الْجَيْشِ، وَحَقَدَهَا عَلَى بَدْرٍ، فَلَمَّا مَاتَ الْمُعْتَضِدُ كَانَ بَدْرٌ بِفَارِسَ، فَعَقَدَ الْقَاسِمُ الْبَيْعَةَ لِلْمُكْتَفِي وَهُوَ بِالرَّقَّةِ. وَكَانَ الْمُكْتَفِي أَيْضًا مُبَاعِدًا لِبَدْرٍ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، وَعَمِلَ الْقَاسِمُ فِي هَلَاكِ بَدْرٍ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَذْكُرَ مَا كَانَ مِنْهُ لِلْمُكْتَفِي. فَوَّجَهَ الْمُكْتَفِي مُحَمَّدَ بْنَ كَشْتِمُرَ بِرَسَائِلَ إِلَى الْقُوَّادِ الَّذِينَ مَعَ بَدْرٍ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ وَمُفَارَقَةِ بَدْرٍ، فَفَارَقَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَمْرٍو الْغَنَوِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجَ، وَخَاقَانُ الْمُفْلِحِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمُ الْمُكْتَفِي. وَسَارَ بَدْرٌ إِلَى وَاسِطَ، فَوَكَّلَ الْمُكْتَفِي بِدَارِهِ، وَقَبَضَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَقُوَّادِهِ، وَحَبَسَهُمْ وَأَمَرَ بِمَحْوِ بَدْرٍ مِنَ التِّرَاسِ، وَالْأَعْلَامِ، وَسَيَّرَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ كَوْرَةَ فِي جَيْشِ وَاسِطَ. وَأَرْسَلَ إِلَى بَدْرٍ يَعْرِضُ عَلَيْهِ أَيَّ النَّوَاحِي شَاءَ، فَأَبَى ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا بُدَّ لِي مِنَ الْمَسِيرِ إِلَى بَابِ مَوْلَايَ ; فَوَجَدَ الْقَاسِمُ مَسَاغًا لِلْقَوْلِ، وَخَوَّفَ الْمُكْتَفِي غَائِلَتَهُ، وَبَلَغَ بَدْرًا مَا فُعِلَ بِأَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَأَرْسَلَ مَنْ يَأْتِيهِ بِوَلَدِهِ هِلَالٍ سِرًّا، فَعَلِمَ الْوَزِيرُ بِذَلِكَ فَاحْتَاطَ عَلَيْهِ وَدَعَا أَبَا حَازِمٍ قَاضِيَ الشَّرْقِيَّةِ، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَدْرٍ، وَتَطْيِيبِ نَفْسِهِ عَلَى الْمُكْتَفِي، وَإِعْطَائِهِ الْأَمَانَ عَنْهُ لِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو حَازِمٍ: أَحْتَاجُ إِلَى سَمَاعِ ذَلِكَ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ; فَصَرَفَهُ، وَدَعَا أَبَا عُمَرَ الْقَاضِيَ، وَأَمَرَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ، وَسَارَ وَمَعَهُ كِتَابُ الْأَمَانِ. فَسَارَ بَدْرٌ عَنْ وَاسِطَ نَحْوَ بَغْدَاذَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ مَنْ قَتَلَهُ، فَلَمَّا أَيْقَنَ بِالْقَتْلِ سَأَلَ أَنْ يُمْهَلَ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَصَلَّاهُمَا ثُمَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. ثُمَّ أُخِذَ رَأْسُهُ وَتُرِكَتْ جُثَّتُهُ هُنَالِكَ، فَوَجَّهَ عِيَالُهُ مَنْ أَخَذَهَا سِرًّا وَجَعَلُوهَا فِي تَابُوتٍ. فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْحَجِّ حَمَلُوهَا إِلَى مَكَّةَ فَدَفَنُوهَا بِهَا وَكَانَ أَوْصَى بِذَلِكَ، وَأَعْتَقَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ كُلَّ مَمْلُوكٍ كَانَ لَهُ. وَرَجَعَ أَبُو عُمَرَ الْقَاضِي إِلَى دَارِهِ كَئِيبًا حَزِينًا لِمَا كَانَ مِنْهُ، وَقَالَ النَّاسُ فِيهِ أَشْعَارًا وَتَكَلَّمُوا فِيهِ، فَمِمَّا قِيلَ فِيهِ. قُلْ لِقَاضِي مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ بِمَ أَحْلَلْتَ أَخْذَ رَأْسِ الْأَمِيرِ

عِنْدَ إِعْطَائِهِ الْمَوَاثِيقَ وَالْعَهْ ... دَ وَعَقْدِ الْأَيْمَانِ فِي مَنْشُورِ أَيْنَ أَيْمَانُكَ الَّتِي شَهِدَ اللَّ ... هُ عَلَى أَنَّهَا يَمِينُ فُجُورِ إِنَّ كَفَّيْكَ لَا تُفَارِقُ كَفَّيْ ... هِ إِلَى أَنْ تُرَى عَلِيلَ السَّرِيرِ يَا قَلِيلَ الْحَيَاءِ يَا أَكْذَبَ الْأُمَّ ... ةِ يَا شَاهِدًا شَهَادَةَ زُورِ لَيْسَ هَذَا فِعْلَ الْقُضَاةِ وَلَا يُحْ ... سِنُ أَمْثَالَهُ وُلَاةُ الْجُسُورِ أَيُّ أَمْرٍ رَكِبْتَ فِي الْجُمُعَةِ الزَّهْ ... رَاءِ مِنْهُ فِي خَيْرِ هَذِي الشُّهُورِ قَدْ مَضَى مَنْ قَتَلْتَ فِي رَمَضَا ... نَ صَائِمًا بَعْدَ سَجْدَةِ التَّعْفِيرِ يَا بَنِي يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ أَضْحَى ... أَهْلُ بَغْدَاذَ مِنْكُمْ فِي غُرُورِ بَدَّدَ اللَّهُ شَمْلَكُمْ وَأَرَانِي ... ذُلَّكُمْ فِي حَيَاةِ هَذَا الْوَزِيرِ فَأَعِدُّوا الْجَوَابَ لِلْحَكَمِ الْعَدْ ... لِ وَمِنْ بَعْدُ مُنْكِرٍ وَنَكِيرِ أَنْتُمْ كُلُّكُمْ فِدًا لِأَبِي حَا ... زِمٍ الْمُسْتَقِيمِ كُلِّ الْأُمُورِ ذِكْرُ وِلَايَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ إِفْرِيقِيَّةَ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَحْمَدَ أَمِيرَ إِفْرِيقِيَّةَ عَهِدَ إِلَى وَلَدِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ فِيهَا. فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَالِدُهُ قَامَ

بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ، وَكَانَ أَدِيبًا لَبِيبًا شُجَاعًا أَحَدَ الْفُرْسَانِ الْمَذْكُورِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِالْحَرْبِ، وَتَصَرُّفِهَا. وَكَانَ عَاقِلًا عَالِمًا لَهُ نَظَرٌ حَسَنٌ فِي الْجَدَلِ. وَفِي أَيَّامِهِ عَظُمَ أَمْرُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ، فَأَرْسَلَ أَخَاهُ الْأَحْوَلَ، وَلَمْ يَكُنْ أَحْوَلَ، وَإِنَّمَا لُقِّبَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا نَظَرَ دَائِمًا رُبَّمَا كَسَرَ جَفْنَهُ، فَلُقِّبَ بِالْأَحْوَلِ، إِلَى قِتَالِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ. فَلَمَّا بَلَغَهُ حَرَكَتُهُ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي جُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، وَالْتَقَوْا عِنْدَ كَمُّوشَةَ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَانْهَزَمَ الْأَحْوَلُ، إِلَّا أَنَّهُ أَقَامَ فِي مُقَابَلَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ. وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَيَّامَ أَبِيهِ عَلَى خَوْفٍ شَدِيدٍ مِنْهُ لِسُوءِ أَخْلَاقِهِ، وَاسْتَعْمَلَهُ أَبُوهُ عَلَى صِقِلِّيَةَ فَفَتَحَ فِيهَا مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ أَيَّامَ وَالِدِهِ. وَلَمَّا وَلِيَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِفْرِيقِيَّةَ، كَتَبَ إِلَى الْعُمَّالِ كِتَابًا يُقْرَأُ عَلَى الْعَامَّةِ، يَعِدُهُمْ فِيهِ الْإِحْسَانَ، وَالْعَدْلَ، وَالرِّفْقَ، وَالْجِهَادَ، فَفَعَلَ مَا وَعَدَ مِنْ نَفْسِهِ، (وَأَحْضَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ لِيُعِينُوهُ عَلَى أَمْرِ الرَّعِيَّةِ) . وَلَهُ شِعْرٌ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ بِصِقِلِّيَةَ وَقَدْ شَرِبَ دَوَاءً: شَرِبْتُ الدَّوَاءَ عَلَى غُرْبَةٍ ... بَعِيدًا مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَنْزِلِ وَكُنْتُ إِذَا مَا شَرِبْتُ الدَّوَا ... أُطَيِّبُ بِالْمِسْكِ وَالْمَنْدَلِ وَقَدْ صَارَ شُرْبِي بِحَارَ الْدِّمَا وَنَقْعَ الْعَجَاجَةِ وَالْقَسْطَلِ

وَاتَّصَلَ بِأَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ وَلَدِهِ أَبِي مُضَرَ زِيَادَةِ اللَّهِ وَالِي صِقِلِّيَةَ لَهُ اعْتِكَافُهُ عَلَى اللَّهْوِ، وَإِدْمَانُهُ شُرْبَ الْخَمْرِ، فَعَزَلَهُ وَوَلَّى مُحَمَّدَ (بْنَ) السَّرَقُوسِيِّ، وَحَبَسَ وَلَدَهُ. فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْأَرْبِعَاءِ آخِرَ شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ قُتِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ، قَتَلَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنْ خَدَمِهِ الصَّقَالِبَةِ بِوَضْعٍ مِنْ وَلَدِهِ، وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى وَلَدِهِ أَبِي مُضَرَ، وَهُوَ فِي الْحَبْسِ، فَقَتَّلَ الْخَدَمَ وَصَلَبَهُمْ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي وَضَعَهُمْ، فَكَانَتْ إِمَارَتُهُ سَنَةً وَاثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ يَوْمًا. وَكَانَ سُكْنَاهُ وَقَتْلُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَدِينَةِ تُونُسَ. وَكَانَ كَثِيرَ الْعَدْلِ، أَحْضَرَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً عِنْدَهُ لِيُعِينُوهُ عَلَى الْعَدْلِ، وَيُعَرِّفُوهُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ مَا يَفْعَلُ فِيهِ (عَلَى سَبِيلِ) الْإِنْصَافِ، وَأَمَرَ الْحَاكِمَ فِي بَلَدِهِ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ، وَعَلَى جَمِيعِ أَهْلِهِ، وَخَوَاصِّ أَصْحَابِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. وَلَمَّا قُتِلَ وُلِّيَ ابْنُهُ أَبُو مُضَرَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، مُنْتَصَفَ رَمَضَانَ قُتِلَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ الْمُوَفَّقِ، وَكَانَتْ وَالِدَتُهُ إِذَا سَأَلَتْ عَنْهُ قِيلَ لَهَا: إِنَّهُ فِي دَارِ الْمُكْتَفِي. فَلَمَّا مَاتَ الْمُكْتَفِي أَيِسَتْ مِنْهُ، فَأَقَامَتْ عَلَيْهِ مَأْتَمًا. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ أَصْحَابِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ وَبَيْنَ ابْنِ جُسْتَانَ الدَّيْلَمِيِّ بِطَبَرِسْتَانَ، فَانْهَزَمَ ابْنُ جُسْتَانَ. وَفِيهَا لَحِقَ إِسْحَاقُ الْفَرْغَانِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ، بِالْبَادِيَةِ، وَأَظْهَرَ الْخِلَافَ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمُكْتَفِي، فَحَارَبَهُ أَبُو الْأَغَرِّ، فَهَزَمَهُ إِسْحَاقُ، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً.

وَفِيهَا سُيِّرَ خَاقَانُ الْمُفْلِحِيُّ إِلَى الرَّيِّ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ لِيَتَوَلَّاهَا. وَفِيهَا صَلَّى النَّاسُ الْعَصْرَ فِي قُمُصِ الصَّيْفِ بِبَغْدَاذَ، ثُمَّ هَبَّ هَوَاءٌ مِنْ نَاحِيَةِ الشِّمَالِ، فَبَرِدَ الْوَقْتُ، وَاشْتَدَّ الْبَرْدُ، حَتَّى احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى النَّارِ وَلُبْسِ الْجِبَابِ، وَجَعَلَ الْبَرَدُ يَزْدَادُ حَتَّى جَمُدَ الْمَاءُ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ بِالرَّيِّ، فَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ، وَلَحِقَ بِالدَّيْلَمِ مُسْتَجِيرًا بِهِمْ، وَدَخَلَ إِسْمَاعِيلُ الرَّيَّ. وَفِيهَا زَادَتْ دِجْلَةُ قَدْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا. وَفِيهَا خَلَعَ الْمُكْتَفِي عَلَى هِلَالِ بْنِ بَدْرٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِيهِ فِي جُمَادَى الْأُولَى. وَفِيهَا هَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ بِالْبَصْرَةِ، فَقَلَعَتْ كَثِيرًا مِنْ نَخْلِهَا، وَخُسِفَ بِمَوْضِعٍ مِنْهَا هَلَكَ فِيهِ سِتَّةُ آلَافِ نَفْسٍ، وَزُلْزِلَتْ بَغْدَادُ فِي رَجَبٍ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، فَتَضَرَّعَ أَهْلُهَا فِي الْجَامِعِ (فَكُشِفَ عَنْهُمْ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو حَمْزَةَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ سَرِيٍّ السَّقَطِيِّ.

ثم دخلت سنة تسعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 290 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ أَخْبَارِ الْقَرَامِطَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، سَيَّرَ طُغَجُ بْنُ جُفٍّ جَيْشًا مِنْ دِمَشْقَ إِلَى الْقَرْمَطِيِّ، عَلَيْهِمْ غُلَامٌ لَهُ اسْمُهُ بَشِيرٌ، فَهَزَمَهُمُ الْقَرْمَطِيُّ، وَقَتَلَ بَشِيرًا. وَفِيهَا حَصَرَ الْقَرْمَطِيُّ دِمَشْقَ، وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا، وَقَتَلَ أَصْحَابَ طُغَجَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَأَشْرَفَ أَهْلُهَا عَلَى الْهَلَكَةِ، فَاجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَاذَ وَأَنْهَوْا ذَلِكَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَوَعَدَهُمُ النَّجْدَةَ، (وَأَمَدَّ الْمِصْرِيُّونَ أَهْلَ دِمَشْقَ بِبَدْرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْقُوَّادِ) ، فَقَاتَلُوا الشَّيْخَ مُقَدَّمَ الْقَرَامِطَةِ، فَقُتِلَ عَلَى بَابِ دِمَشْقَ، رَمَاهُ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ بِمِزْرَاقٍ، وَزَرَقَهُ نَفَّاطٌ بِالنَّارِ فَاحْتَرَقَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَكَانَ هَذَا الْقَرْمَطِيُّ يَزْعُمُ أَنَّهُ إِذَا أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى جِهَةٍ مِنَ الَّتِي فِيهَا مُحَارِبُوهُ انْهَزَمُوا. وَلَمَّا قُتِلَ يَحْيَى الْمَعْرُوفُ بِالشَّيْخِ وَقُتِلَ أَصْحَابُهُ، اجْتَمَعَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ عَلَى أَخِيهِ الْحُسَيْنِ، وَسَمَّى نَفْسَهُ أَحْمَدَ، وَكَنَّاهُ أَبَا الْعَبَّاسِ، وَدَعَا النَّاسَ فَأَجَابَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْبَوَادِي وَغَيْرُهُمْ، فَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُ، وَأَظْهَرَ شَامَةً فِي وَجْهِهِ، وَزَعَمَ أَنَّهَا آيَتُهُ. فَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى خَرَاجٍ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ وَانْصَرَفَ عَنْهُمْ.

ثُمَّ سَارَ إِلَى أَطْرَافِ حِمْصَ، فَغَلَبَ عَلَيْهَا، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِهَا، وَتَسَمَّى الْمَهْدِيَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَتَاهُ ابْنُ عَمِّهِ عِيسَى بْنُ الْمَهْدِيِّ، الْمُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، فَلَقَّبَهُ الْمُدَّثِّرَ وَعَهِدَ إِلَيْهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ الْمُدَّثِّرُ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ، وَلَقَّبَ غُلَامًا مِنْ أَهْلِهِ الْمُطَوَّقَ، وَقَلَّدَهُ قَتْلَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ. وَلَمَّا أَطَاعَهُ أَهْلُ حِمْصَ، وَفَتَحُوا لَهُ بَابَهَا خَوْفًا مِنْهُ، سَارَ إِلَى حَمَاةَ، وَمَعَرَّةِ النُّعْمَانِ، وَغَيْرِهِمَا، فَقَتَلَ أَهْلَهَا، وَقَتَلَ النِّسَاءَ، وَالصِّبْيَانَ. ثُمَّ سَارَ إِلَى بَعْلَبَكَّ، فَقَتَلَ عَامَّةَ أَهْلِهَا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْيَسِيرُ. ثُمَّ سَارَ إِلَى سَلَمِيَّةَ فَمَنَعَهُ أَهْلُهَا، ثُمَّ صَالَحَهُمْ، وَأَعْطَاهُمُ الْأَمَانَ، فَفَتَحُوا لَهُ بَابَهَا، فَبَدَأَ بِمَنْ فِيهَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَكَانُوا جَمَاعَةً، فَقَتَلَهُمْ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ قَتَلَ الْبَهَائِمَ، وَالصِّبْيَانَ بِالْمَكَاتِبِ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا، وَلَيْسَ بِهَا عَيْنٌ تَطْرِفُ. وَسَارَ فِيمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى يَسْبِي، وَيَقْتُلُ وَيُخِيفُ السَّبِيلَ. فَذُكِرَ عَنْ مُتَطَبِّبٍ بِبَابِ الْمُحَوَّلِ يُدْعَى أَبَا الْحُسَيْنِ قَالَ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ بَعْدَمَا أُدْخِلَ الْقَرْمَطِيُّ صَاحِبُ الشَّامَةِ بَغْدَادَ، وَقَالَتْ: أُرِيدُ أَنْ تُعَالِجَ جُرْحًا فِي كَتِفِي ; فَقُلْتُ: هَهُنَا امْرَأَةٌ تُعَالِجُ النِّسَاءَ فَانْتَظَرَتْهَا، فَقَعَدَتْ وَهِيَ بَاكِيَةٌ مَكْرُوبَةٌ، فَسَأَلْتُهَا عَنْ قِصَّتِهَا قَالَتْ: كَانَ لِي وَلَدٌ طَالَتْ غَيْبَتُهُ عَنِّي، فَخَرَجْتُ أَطُوفُ عَلَيْهِ الْبِلَادَ، فَلَمْ أَرَهُ، فَخَرَجْتُ مِنَ الرَّقَّةِ فِي طَلَبِهِ، فَوَقَعْتُ فِي عَسْكَرِ الْقَرْمَطِيِّ أَطْلُبُهُ، فَرَأَيْتُهُ، فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ حَالِي وَحَالَ إِخْوَتِهِ، فَقَالَ: دَعِينِي مِنْ هَذَا، أَخْبِرِينِي مَا دِينُكِ؟ فَقُلْتُ: أَمَا تَعْرِفُ مَا دِينِي؟ فَقَالَ: مَا كُنَّا فِيهِ بَاطِلٌ، وَالدِّينُ مَا نَحْنُ فِيهِ الْيَوْمَ، فَعَجِبْتُ مِنْ ذَلِكَ، وَخَرَجَ وَتَرَكَنِي، وَوَجَّهَ بِخُبْزٍ [وَلَحْمٍ] فَلَمْ أَمَسَّهُ، حَتَّى عَادَ فَأَصْلَحَهُ. وَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَسَأَلَنِي هَلْ أُحْسِنُ مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ شَيْئًا؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَدْخَلَنِي دَارًا فَإِذَا امْرَأَةٌ تَطْلُقُ، فَقَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهَا، وَجَعَلْتُ أُكَلِّمُهَا وَلَا تُكَلِّمُنِي، حَتَّى وَلَدَتْ غُلَامًا، فَأَصْلَحْتُ مِنْ شَأْنِهِ، وَتَلَطَّفْتُ بِهَا حَتَّى كَلَّمَتْنِي، فَسَأَلْتُهَا عَنْ حَالِهَا، فَقَالَتْ:

أَنَا امْرَأَةٌ هَاشِمِيَّةٌ أَخَذَنَا هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ، فَذَبَحُوا أَبِي، وَأَهْلِي جَمِيعًا، وَأَخَذَنِي صَاحِبُهُمْ، فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ (خَمْسَةَ أَيَّامٍ) ، ثُمَّ أَمَرَ بِقَتْلِي، فَطَلَبَنِي مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ مِنْ قُوَّادِهِ، فَوَهَبَنِي لَهُمْ، وَكُنْتُ مَعَهُمْ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مِمَّنْ هَذَا الْوَلَدُ مِنْهُمْ. قَالَتْ: فَجَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَتْ لِي: هَنِّيهِ، فَهَنَّيْتُهُ، فَأَعْطَانِي سَبِيكَةَ فِضَّةٍ (وَجَاءَ آخَرُ، وَآخَرُ، أُهَنِّي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَيُعْطِينِي سَبِيكَةَ فِضَّةٍ، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعُ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَهَنَّيْتُهُ، فَأَعْطَانِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَبِتْنَا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قُلْتُ لِلْمَرْأَةِ: قَدْ وَجَبَ حَقِّي عَلَيْكِ، فَاللَّهَ اللَّهَ خَلِّصِينِي قَالَتْ: مِمَّنْ أُخَلِّصُكِ؟ فَأَخْبَرْتُهَا خَبَرَ ابْنِي، فَقَالَتْ: عَلَيْكِ بِالرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ آخِرَ الْقَوْمِ، فَأَقَمْتُ يَوْمِي، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ، وَجَاءَ الرَّجُلُ قُمْتُ لَهُ، وَقَبَّلْتُ يَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَوَعَدْتُهُ أَنَّنِي أَعُودُ بَعْدَ أَنْ أُوَصِّلَ مَا مَعِي إِلَى بَنَاتِي ; فَدَعَا قَوْمًا مِنْ غِلْمَانِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِحَمْلِي إِلَى مَكَانٍ ذَكَرَهُ، وَقَالَ: اتْرُكُوهَا فِيهِ وَارْجِعُوا ; فَسَارُوا بِي عَشَرَةَ فَرَاسِخَ، فَلَحِقَنَا ابْنِي، فَضَرَبَنِي بِالسَّيْفِ، فَجَرَحَنِي، وَمَنَعَهُ الْقَوْمُ، وَسَارُوا بِي إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي سَمَّاهُ لَهُمْ صَاحِبُهُمْ، وَتَرَكُونِي، وَجِئْتُ إِلَى هَهُنَا. قَالَتْ: وَلَمَّا قَدِمَ الْأَمِيرُ بِالْقَرَامِطَةِ وَبِالْأُسَارَى رَأَيْتُ ابْنِي فِيهِمْ عَلَى جَمَلٍ عَلَيْهِ بُرْنُسٌ، وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: لَا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكَ وَلَا خَلَّصَكَ. ثُمَّ إِنَّ كُتُبَ أَهْلِ الشَّامِ، وَمِصْرَ وَصَلَتْ إِلَى الْمُكْتَفِي يَشْكُونَ مَا يَلْقَوْنَ مِنَ الْقَرْمَطِيِّ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَتَخْرِيبِ الْبِلَادِ، فَأَمَرَ الْجُنْدَ بِالتَّأَهُّبِ وَخَرَجَ مِنْ بَغْدَاذَ، فِي رَمَضَانَ، وَسَارَ إِلَى الشَّامِ وَجَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى الْمَوْصِلِ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَبَا الْأَغَرِّ فِي عَشَرَةِ آلَافِ رَجُلٍ، فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْ حَلَبَ، فَكَبَسَهُمُ الْقَرْمَطِيُّ صَاحِبُ الشَّامَةِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَلِمَ أَبُو الْأَغَرِّ، فَدَخَلَ حَلَبَ فِي أَلْفِ رَجُلٍ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ فِي رَمَضَانَ، وَسَارَ الْقَرْمَطِيُّ إِلَى بَابِ حَلَبَ، فَحَارَبَهُ أَبُو الْأَغَرِّ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ وَأَهْلُ الْبَلَدِ، فَرَجَعَ عَنْهُمْ. وَسَارَ الْمُكْتَفِي حَتَّى نَزَلَ الرَّقَّةَ، وَسَيَّرَ الْجُيُوشَ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ أَمْرَهُمْ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْكَاتِبِ.

وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ تَحَارَبَ الْقَرْمَطِيُّ صَاحِبُ الشَّامَةِ، وَبَدْرٌ مَوْلَى ابْنِ طُولُونَ، فَانْهَزَمَ الْقَرْمَطِيُّ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَمَضَى مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ نَحْوَ الْبَادِيَةِ. فَوَجَّهَ الْمُكْتَفِي فِي أَثَرِهِمُ الْحُسَيْنَ بْنَ حَمْدَانَ، وَغَيْرَهُ مِنَ الْقُوَّادِ. وَفِيهَا كَبَسَ ابْنُ بَانْوَا أَمِيرُ الْبَحْرَيْنِ حِصْنًا لِلْقَرَامِطَةِ، فَظَفِرَ بِمَنْ فِيهِ، وَوَاقَعَ قَرَابَةَ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ، فَهَزَمَهُ ابْنُ بَانْوَا، وَكَانَ مُقَامُ هَذَا الْقَرْمَطِيِّ بِالْقَطِيفِ، وَهُوَ وَلِيُّ عَهْدِ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ أَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَمَا انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ قَتِيلًا، فَأُخِذَ رَأْسُهُ، وَسَارَ ابْنُ بَانْوَا إِلَى الْقَطِيفِ، فَافْتَتَحَهَا. ذِكْرُ أَسْرِ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ وَفِيهَا أُخِذَ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ أَسِيرًا ; وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُكْتَفِيَ أَنْفَذَ عَهْدًا إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ بِوِلَايَةِ الرَّيِّ، فَسَارَ إِلَيْهَا، وَبِهَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ، فَسَارَ عَنْهَا مُحَمَّدٌ إِلَى قَزْوِينَ وَزَنْجَانَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، فَاسْتَعْمَلَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ عَلَى جُرْجَانَ بَارِسَ الْكَبِيرَ، وَأَلْزَمَهُ بِإِحْضَارِ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ قَسْرًا، أَوْ صُلْحًا، وَكَاتَبَهُ بَارِسُ، وَضَمِنَ لَهُ إِصْلَاحَ حَالِهِ مَعَ الْأَمِيرِ إِسْمَاعِيلَ، فَقَبِلَ مُحَمَّدٌ قَوْلَهُ، وَانْصَرَفَ عَنْ جُسْتَانَ الدَّيْلَمِيِّ، وَقَصَدَ بُخَارَى. فَلَمَّا بَلَغَ مَرْوَ قُيِّدَ بِهَا، وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. ثُمَّ حُمِلَ إِلَى بُخَارَى، فَأُدْخِلَهَا عَلَى جَمَلٍ وَحُبِسَ بِهَا، فَمَاتَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ مَحْبُوسًا. وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ خَيَّاطًا، ثُمَّ أَنَّهُ جَمَعَ جَمْعًا مِنَ الرَّعَاعِ، وَأَهْلِ الْفَسَادِ، فَقَطَعَ الطَّرِيقَ بِمَفَازَةِ سَرَخْسَ مُدَّةً. ثُمَّ اسْتَأْمَنَ إِلَى رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ، وَبَقِيَ مَعَهُ إِلَى أَنِ انْهَزَمَ عَمْرٌو الصَّفَّارُ، فَاسْتَأْمَنَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ صَاحِبِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، بَعْدَ قَتْلِ رَافِعٍ، فَسَيَّرَهُ إِسْمَاعِيلُ إِلَى قِتَالِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَقَدْ ذَكَرَهُ الْخَوَافِيُّ فِي شِعْرِهِ فَقَالَ: كَانَ أَبُو هَارُونَ خَيَّاطًا لَهُ ... إِبَرٌ وَرَايَةٌ سَامَهَا عَشْرًا بِقِيرَاطِ

فَانْسَلَّ فِي الْأَرْضِ يَبْغِي الْمُلْكَ فِي عُصَبٍ زُطٍّ وَنُوبٍ وَأَكْرَادٍ وَأَنْبَاطِ ... أَنَّى يَنَالُ الثُّرَيَّا كَفُّ مُلْتَزِقٍ بِالتُّرْبِ عَنْ ذُرْوَةِ الْعَلْيَاءِ هَبَّاطِ ... صَبْرًا أَمِيرُكَ إِسْمَاعِيلُ مُنْتَقِمٌ مِنْهُ وَمِنْ كُلِّ غَدَّارٍ وَخَيَّاطِ ... رَأَيْتُ عَيْرًا سَمَا جَهْلًا عَلَى أَسَدٍ يَا عَيْنُ وَيْحَكِ مَا أَشْقَاكِ مِنْ شَاطِي ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، خُلِعَ عَلَى أَبِي الْعَشَائِرِ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ وَوُلِّيَ طَرَسُوسَ، وَعُزِلَ عَنْهَا مُظَفَّرُ بْنُ حَاجٍّ لِشَكْوَى أَهْلِ الثُّغُورِ مِنْهُ. وَفِيهَا قُوطِعَ طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ عَنْ بِلَادِ فَارِسَ، وَعَقَدَ لَهُ الْمُكْتَفِي عَلَيْهَا. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، هَرَبَ الْقَائِدُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُوَارِزْمِيُّ الَّذِي اسْتَأْمَنَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، (وَأَخَذَ نَحْوَ طَرِيقِ الْمَوْصِلِ) ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ الْمَعْرُوفِ بِغُلَامِ نُونٍ بِتِكْرِيتَ، وَهُوَ يَتَوَلَّى تِلْكَ النَّوَاحِيَ، فَعَارَضَهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَاجْتَمَعَ بِهِ، فَخَدَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ وَقَتَلَهُ، وَسَارَ نَحْوَ شَهْرَزُورَ، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَابْنُ الرَّبِيعِ الْكُرْدِيُّ عَلَى عِصْيَانِ الْخَلِيفَةِ. وَفِيهَا أَرَادَ الْمُكْتَفِي الْبِنَاءَ بِسَامَرَّا، وَخَرَجَ إِلَيْهَا وَمَعَهُ الصُّنَّاعُ، فَقَدَّرُوا لَهُ مَا يَحْتَاجُ، وَكَانَ مَالًا جَلِيلًا، وَطَوَّلُوا لَهُ مُدَّةَ الْفَرَاغِ، فَعَظَّمَ الْوَزِيرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَصَرَفَهُ إِلَى بَغْدَاذَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ (بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (بْنِ

عُبَيْدِ اللَّهِ) بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَلَّوَيْهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْجُرْجَانِيُّ، وَكَانَ قَدْ تَفَقَّهَ عَلَى الْمُزَنِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ. وَتُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ.

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 291 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ أَخْبَارِ الْقَرَامِطَةِ، وَقَتْلِ صَاحِبِ الشَّامَةِ قَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَ الْمُكْتَفِي إِلَى الرَّقَّةِ، وَإِرْسَالَهُ الْجُيُوشَ إِلَى صَاحِبِ الشَّامَةِ، وَتَوْلِيَةَ حَرْبِ صَاحِبِ الشَّامَةِ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ الْكَاتِبَ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ أَمَرَ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بِمُنَاهَضَةِ صَاحِبِ الشَّامَةِ، فَسَارَ إِلَيْهِ عَسَاكِرُ الْخَلِيفَةِ، حَتَّى لَقُوهُ وَأَصْحَابَهُ بِمَكَانٍ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ حَمَاةَ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَقَدَّمَ الْقَرْمَطِيُّ أَصْحَابَهُ إِلَيْهِمْ، وَبَقِيَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، مَعَهُ مَالٌ كَانَ جَمَعَهُ، وَسَوَادُ عَسْكَرِهِ، وَالْتَحَمَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْخَلِيفَةِ، وَالْقَرَامِطَةِ، وَاشْتَدَّتْ، وَانْهَزَمَتِ الْقَرَامِطَةُ، وَقُتِّلُوا كُلَّ قِتْلَةٍ وَأُسِرَ (مِنْ رِجَالِهِمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ) ، وَتَفَرَّقَ الْبَاقُونَ فِي الْبَوَادِي، وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ الْخَلِيفَةِ. فَلَمَّا رَأَى صَاحِبُ الشَّامَةِ مَا نَزَلَ بِأَصْحَابِهِ حَمَّلَ أَخًا لَهُ يُكَنَّى أَبَا الْفَضْلِ مَالًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْبَوَادِي إِلَى أَنْ يَظْهَرَ بِمَكَانٍ فَيَسِيرَ إِلَيْهِ، وَرَكِبَ هُوَ وَابْنُ عَمِّهِ الْمُسَمَّى بِالْمُدَّثِّرِ، وَالْمُطَوَّقُ صَاحِبُهُ، وَغُلَامٌ لَهُ رُومِيٌّ، [وَأَخَذَ دَلِيلًا] وَسَارَ يُرِيدُ الْكُوفَةَ عَرْضًا فِي الْبَرِّيَّةِ، فَانْتَهَى إِلَى الدَّالِيَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْفُرَاتِ، وَقَدْ نَفَدَ مَا مَعَهُمْ مِنَ الزَّادِ وَالْعَلَفِ، فَوَجَّهَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ إِلَى الدَّالِيَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِابْنِ طَوْقٍ لِيَشْتَرِيَ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فَأَنْكَرُوا رَأْيَهُ، فَسَأَلُوهُ عَنْ حَالِهِ فَكَتَمَهُ، فَرَفَعُوهُ إِلَى مُتَوَلِّي تِلْكَ النَّاحِيَةِ خَلِيفَةِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ كَشْمَرْدَ، فَسَأَلَهُ عَنْ خَبَرِهِ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّ صَاحِبَ الشَّامَةِ خَلْفَ رَابِيَةٍ هُنَاكَ مَعَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ، فَمَضَى إِلَيْهِمْ وَأَخَذَهُمْ، وَأَحْضَرَهُمْ عِنْدَ ابْنِ كَشْمَرْدَ، فَوَجَّهَ بِهِمْ إِلَى الْمُكْتَفِي بِالرَّقَّةِ، وَرَجَعَتِ الْجُيُوشُ مِنَ الطَّلَبِ بَعْدَ أَنْ قَتَلُوا وَأَسَرُوا، وَكَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ أَثَرًا فِي الْحَرْبِ الْحُسَيْنَ بْنَ حَمْدَانَ، وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ وَعَلَى بَنِي شَيْبَانَ، فَإِنَّهُمُ اصْطَلَوْا

الْحَرْبَ، وَهَزَمُوا الْقَرَامِطَةَ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْأَسْرَ، حَتَّى لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ. وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ أُدْخِلَ صَاحِبُ الشَّامَةِ الرَّقَّةَ ظَاهِرًا لِلنَّاسِ عَلَى فَالِجٍ، وَهُوَ الْجَمَلُ ذُو السَّنَامَيْنِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْمُدَّثِّرُ وَالْمُطَوَّقُ ; وَسَارَ الْمُكْتَفِي إِلَى بَغْدَاذَ وَمَعَهُ صَاحِبُ الشَّامَةِ، وَأَصْحَابُهُ، وَخَلَّفَ الْعَسَاكِرَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَأُدْخِلَ الْقَرْمَطِيُّ بَغْدَاذَ عَلَى فِيلٍ، وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْجَمَلِ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُكْتَفِي بِحَبْسِهِمْ إِلَى أَنْ يَقْدَمَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، فَقَدِمَ بَغْدَاذَ، وَقَدِ اسْتَقْصَى فِي طَلَبِ الْقَرَامِطَةِ، فَظَفِرَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِهِمْ وَرُءُوسِهِمْ، فَأَمَرَ الْمُكْتَفِي بِقَطْعِ أَيْدِيهِمْ، وَأَرْجُلِهِمْ، وَضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأُخْرِجُوا مِنَ الْحَبْسِ، وَفُعِلَ بِهِمْ ذَلِكَ، وَضُرِبَ صَاحِبُ الشَّامَةِ مِائَتَيْ سَوْطٍ، وَقُطِعَتْ يَدَاهُ، وَكُوِيَ، فَغُشِيَ عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا خَشَبًا وَجَعَلُوا فِيهِ نَارًا، وَوَضَعُوهُ عَلَى خَوَاصِرِهِ، فَجَعَلَ يَفْتَحُ عَيْنَهُ وَيُغْمِضُهَا، فَلَمَّا خَافُوا مَوْتَهُ ضَرَبُوا عُنُقَهُ، وَرَفَعُوا رَأْسَهُ عَلَى خَشَبَةٍ، فَكَبَّرَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَنُصِبَ عَلَى الْجِسْرِ. وَفِيهَا قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْعُلَيْصِ مِنْ وُجُوهِ الْقَرَامِطَةِ، يُسَمَّى إِسْمَاعِيلَ بْنَ النُّعْمَانِ، وَكَانَ نَجَا فِي جَمَاعَةٍ لَمْ يَنْجُ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ غَيْرُهُ، فَكَاتَبَهُ الْمُكْتَفِي وَبَذَلَ لَهُ الْأَمَانَ، فَحَضَرَ فِي الْأَمَانِ هُوَ وَنَيِّفٌ (وَمِائَةٌ) وَسِتُّونَ نَفْسًا، فَأُمِّنُوا وَأُحْسِنَ إِلَيْهِمْ، وَوُصِلُوا بِمَالٍ، وَصَارُوا إِلَى رَحْبَةِ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ مَعَ الْقَاسِمِ بْنِ سِيمَا، وَهِيَ مِنْ عَمَلِهِ، فَأَقَامُوا مَعَهُ مُدَّةً، ثُمَّ أَرَادُوا الْغَدْرَ بِالْقَاسِمِ، وَعَزَمُوا عَلَى أَنْ يَثِبُوا بِالرَّحْبَةِ يَوْمَ الْفِطْرِ عِنْدَ اشْتِغَالِ النَّاسِ بِالصَّلَاةِ، وَكَانَ قَدْ صَارَ مَعَهُمْ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ، فَقَتَلَهُمْ، فَارْتَدَعَ مَنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ مَوَالِي بَنِي الْعُلَيْصِ، وَذَلُّوا، وَأُلْزِمُوا السَّمَاوَةَ، حَتَّى جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنَ الْخَبِيثِ زِكْرَوَيْهِ يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّامَةِ، وَأَخَاهُ الْمَعْرُوفُ بِالشَّيْخِ يُقْتَلَانِ، وَأَنَّ إِمَامَهُ الَّذِي هُوَ حَيٌّ يَظْهَرُ بَعْدَهُمَا وَيَظْفَرُ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا جَاءَتْ أَخْبَارٌ أَنَّ حَوَى وَمَا يَلِيهَا جَاءَهَا سَيْلٌ فَغَرِقَ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ فَرْسَخًا، وَغَرِقَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَغَرِقَتِ الْمَوَاشِي وَالْغَلَّاتُ، وَخَرِبَتِ الْقُرَى، وَأُخْرِجَ مِنَ الْغَرْقَى أَلْفٌ وَمِائَتَا نَفْسٍ، سِوَى مَنْ لَمْ يُلْحَقْ مِنْهُمْ. وَفِيهَا خَلَعَ الْمُكْتَفِي عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ كَاتِبِ الْجَيْشِ، وَعَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْقُوَّادِ وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى الشَّامِ، وَمِصْرَ لِأَخْذِ الْأَعْمَالِ مِنْ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ، لِمَا ظَهَرَ مِنْ عَجْزِهِ، وَذَهَابِ رِجَالِهِ بِقَتْلِ الْقَرْمَطِيِّ، فَسَارَ عَنْ بَغْدَاذَ فِي رَجَبٍ وَهُوَ فِي عَشَرَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَجَدَّ فِي السَّيْرِ. وَفِيهَا خَرَجَتِ التُّرْكُ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ لَا يُحْصَوْنَ إِلَى وَرَاءِ النَّهْرِ، وَكَانَ فِي عَسْكَرِهِمْ سَبْعُمِائَةِ قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا لِلرُّؤَسَاءِ مِنْهُمْ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ جَيْشًا كَثِيرًا، وَتَبِعَهُمْ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَسَارُوا نَحْوَ التُّرْكِ، فَوَصَلُوا إِلَيْهِمْ وَهُمْ غَارُّونَ، فَكَبَسَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مَعَ الصُّبْحِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا عَظِيمًا لَا يُحْصَوْنَ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، اسْتُبِيحَ عَسْكَرُهُمْ، وَعَادَ الْمُسْلِمُونَ سَالِمِينَ غَانِمِينَ. وَفِيهَا خَرَجَ مِنَ الرُّومِ عَشَرَةُ صُلْبَانٍ مَعَ كُلِّ صَلِيبٍ عَشَرَةُ آلَافٍ إِلَى الثُّغُورِ، فَقَصَدَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى الْحَدَثِ، فَأَغَارُوا، وَسَبَوْا، وَأَحْرَقُوا. وَفِيهَا سَارَ الْمَعْرُوفُ بِغُلَامِ زَرَافَةَ مِنْ طَرَسُوسَ نَحْوَ بِلَادِ الرُّومِ، فَفَتَحَ مَدِينَةَ

أَنْطَالِيَّةَ، وَهِيَ تُعَادِلُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَتَحَهَا بِالسَّيْفِ عَنْوَةً، فَقَتَلَ خَمْسَةَ آلَافِ رَجُلٍ وَأَسَرَ مِثْلَهُمْ، وَاسْتَنْفَذَ مِنَ الْأُسَارَى خَمْسَةَ آلَافٍ، وَأَخَذَ لَهُمْ سِتِّينَ مَرْكَبًا فَحَمَلَ فِيهَا مَا غَنِمَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْمَتَاعِ، وَالرَّقِيقِ، وَقُدِّرَ نَصِيبُ كُلِّ رَجُلٍ أَلْفَ دِينَارٍ، وَهَذِهِ الْمَدِينَةُ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَاسْتَبْشَرَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاسِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانَ عُمْرُهُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَلَمَّا مَاتَ قَالَ ابْنُ سَيَّارٍ: أَمَاتَ لِيَحْيَا، فَمَا إِنْ حَيِيَ ، وَأَفْنَى لِيَبْقَى، فَمَا إِنْ بَقِيَ ... وَمَا زَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَرَى أَمَارَةَ حَتْفٍ وَشِيكٍ وَحِيَ ... وَمَازَالَ يَسْلَحُ مِنْ دُبُرِهِ إِلَى أَنْ خَرِيَ النَّفْسَ فِيمَا خَرِيَ وَفِيهَا مَاتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَاسْتِوَايُّ الْفَقِيهُ بِنَيْسَابُورَ. (وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُزُوعِيُّ) ، قَاضِي الْمَوْصِلِ بِبَغْدَاذَ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الشَّيْبَانِيُّ النَّحْوِيُّ، وَكَانَ عَالِمًا بِنَحْوِ الْكُوفِيِّينَ، كَانَ مَوْتُهُ بِبَغْدَاذَ) .

ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 292 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ اسْتِلَاءِ الْمُكْتَفِي عَلَى الشَّامِ، وَمِصْرَ وَانْقِرَاضِ مُلْكِ الطُّولُونِيَّةِ وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا سَارَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ إِلَى حُدُودِ مِصْرَ لِحَرْبِ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ لَمَّا تَخَلَّفَ عَنِ الْمُكْتَفِي، وَعَادَ عَنْ مُحَارَبَةِ الْقَرَامِطَةِ، وَاسْتَقْصَى مُحَمَّدٌ فِي طَلَبِهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَ مَا أَرَادَ عَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَأَتَاهُ كِتَابُ بَدْرٍ الْحَمَّامِيِّ غُلَامِ ابْنِ طُولُونَ، وَكِتَابُ فَائِقٍ، وَهُمَا بِدِمَشْقَ، يَدْعُوَانِهِ إِلَى قَصْدِ الْبِلَادِ بِالْعَسَاكِرِ لِيُسَاعِدَاهُ عَلَى أَخْذِهَا، فَلَمَّا عَادَ إِلَى بَغْدَاذَ أَنْهَى ذَلِكَ إِلَى الْمُكْتَفِي، فَأَمَرَهُ بِالْعَوْدِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ الْجُنُودَ، وَالْأَمْوَالَ. وَوَجَّهَ الْمُكْتَفِي دُمْيَانَةَ غُلَامَ يَازْمَانَ، وَأَمَرَهُ بِرُكُوبِ الْبَحْرِ إِلَى مِصْرَ، وَدُخُولِ النِّيلِ، وَقَطْعِ الْمَوَادِّ عَنْ مِصْرَ، فَفَعَلَ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ. وَزَحَفَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي الْجُيُوشِ، فِي الْبَرِّ، حَتَّى دَنَا مِنْ مِصْرَ، وَكَاتَبَ مَنْ بِهَا مِنَ الْقُوَّادِ ; وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِ بَدْرٌ الْحَمَّامِيُّ، وَكَانَ رَئِيسَهُمْ، فَكَسَرَهُمْ ذَلِكَ، وَتَتَابَعَ الْمُسْتَأْمِنَةُ مِنْ قُوَّادِ الْمِصْرِيِّينَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ هَارُونُ خَرَجَ فِيمَنْ مَعَهُ لِقِتَالِ

مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ وَقَعَاتٌ، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَ أَصْحَابِ هَارُونَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ عَصَبِيَّةٌ، فَاقْتَتَلُوا، فَخَرَجَ هَارُونُ يُسَكِّنُهُمْ، فَرَمَاهُ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ بِمِزْرَاقٍ مَعَهُ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ قَامَ عَمُّهُ شَيْبَانُ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، وَبَذَلَ الْمَالَ لِلْجُنْدِ، فَأَطْلَقُوهُ وَقَاتَلُوا مَعَهُ، فَأَتَتْهُمْ كُتُبُ بَدْرٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْأَمَانِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا عَلِمَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْخَبَرَ سَارَ إِلَى مِصْرَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ شَيْبَانُ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَأَجَابَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ لَيْلًا، لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْجُنْدِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَصَدُوا دَارَهُ، وَلَمْ يَجِدُوهُ، فَبَقُوا حَيَارَى، لَمَّا وَصَلَ مُحَمَّدٌ مِصْرَ دَخَلَهَا، وَاسْتَوْلَى عَلَى دُورِ آلِ طُولُونَ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَخَذَهُمْ جَمِيعًا، وَهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَقَيَّدَهُمْ، وَحَبَسَهُمْ، وَاسْتَقْصَى أَمْوَالَهُمْ، (وَكَانَ ذَلِكَ فِي صَفَرٍ) ، وَكَتَبَ بِالْفَتْحِ إِلَى الْمُكْتَفِي، فَأَمَرَ بِإِشْخَاصِ آلِ طُولُونَ وَأَسْبَابِهِمْ مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ إِلَى بَغْدَاذَ، لَا يَتْرُكُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَوَلَّى مَعُونَةَ مِصْرَ عِيسَى النُّوشَرِيَّ. ثُمَّ ظَهَرَ بِمِصْرَ إِنْسَانٌ يُعْرَفُ بِالْخَلَنْجِيِّ، وَهُوَ مِنْ قُوَّادِهِمْ، وَكَانَ تَخَلَّفَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، فَاسْتَمَالَ جَمَاعَةً، وَخَالَفَ عَلَى السُّلْطَانِ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَعَجَزَ النُّوشَرِيُّ (عَنْهُ، فَسَارَ) إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَدَخَلَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلَنْجِيُّ مِصْرَ، وَكَتَبَ النُّوشَرِيُّ إِلَى الْمُكْتَفِي بِالْخَبَرِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْجُنُودَ مَعَ فَاتَكٍ مَوْلَى الْمُعْتَضِدِ، وَبَدْرٍ الْحَمَّامِيِّ، فَسَارُوا فِي شَوَّالٍ نَحْوَ مِصْرَ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا أُخِذَ بِالْبَصْرَةِ رَجُلٌ ذَكَرُوا أَنَّهُ أَرَادَ الْخُرُوجَ، وَأُخِذَ مَعَهُ وَلَدُهُ وَتِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا، وَحُمِلُوا إِلَى بَغْدَادَ، فَكَانُوا يَبْكُونَ، وَيَسْتَغِيثُونَ، وَيَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ بُرَآءٌ، فَأَمَرَ بِهِمُ الْمُكْتَفِي فَحُبِسُوا. وَفِيهَا أَغَارَ أَنْدُرُونِقْسُ الرُّومِيُّ عَلَى مَرْعَشَ وَنَوَاحِيهَا، فَنَفَّرَ أَهْلَ الْمِصِّيصَةِ وَأَهْلَ طَرَسُوسَ فَأُصِيبَ أَبُو الرِّجَالِ بْنُ أَبِي بَكَّارٍ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَعَزَلَ الْخَلِيفَةُ أَبَا الْعَشَائِرِ عَنِ الثُّغُورِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رُسْتُمَ بْنَ بَرَدُوَا. وَفِيهَا كَانَ الْفِدَاءُ عَلَى يَدِ رُسْتُمَ، فَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ فُودِيَ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَلْفَ نَفْسٍ (وَمِائَتَيْ نَفْسٍ) . وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَفِيهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً مُفْرِطَةً، حَتَّى تَهَدَّمَتِ الدُّورُ الَّتِي عَلَى شَاطِئِهَا بِالْعِرَاقِ. وَفِيهَا فِي الْعِشْرِينَ مِنْ أَيَارَ، طَلَعَ كَوْكَبٌ لَهُ ذَنَبٌ عَظِيمٌ جِدًّا فِي بُرْجِ الْجَوْزَاءِ. وَفِيهَا وَقَعَ الْحَرِيقُ بِبَغْدَاذَ بِبَابِ الطَّاقِ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ إِلَى طُرُقِ الصَّفَّارِينَ، فَاحْتَرَقَ أَلْفُ دُكَّانٍ مَمْلُوءَةٍ مَتَاعًا لِلتُّجَّارِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكَجِّيُّ، وَيُقَالُ الْكَشِّيُّ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبُو حَازِمٍ، قَاضِي الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ، بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ مِنْ أَفَاضِلِ الْقُضَاةِ.

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 293 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ إِمَارَةِ بَنِي حَمْدَانَ بِالْمَوْصِلِ وَمَا فَعَلُوهُ بِالْأَكْرَادِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ الْمَوْصِلَ وَأَعْمَالَهَا أَبَا الْهَيْجَاءِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَمْدَانَ بْنِ حَمْدُونَ التَّغْلِبِيَّ الْعَدَوِيَّ، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَهَا أَوَّلَ الْمُحَرَّمِ، فَأَقَامَ بِهَا يَوْمَهُ، وَخَرَجَ مِنَ الْغَدِ (لِعَرْضِ الرِّجَالِ) الَّذِينَ قَدِمُوا مَعَهُ، وَالَّذِينَ بِالْمَوْصِلِ، فَأَتَاهُ الصَّرِيخُ مِنْ نِينَوَى بِأَنَّ الْأَكْرَادَ الْهَذْبَانِيَّةَ، وَمُقَدَّمَهُمْ مُحَمَّدَ بْنَ بِلَالٍ، قَدْ أَغَارُوا عَلَى الْبَلَدِ، وَغَنِمُوا كَثِيرًا مِنْهُ، فَسَارَ مِنْ وَقْتِهِ وَعَبَرَ الْجِسْرَ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَلَحِقَ الْأَكْرَادُ بِالْمَعْرُوبَةِ عَلَى الْخَازِرِ، فَقَاتَلُوهُ، فَقُتِلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اسْمُهُ سِيمَا الْحَمْدَانِيُّ، فَعَادَ عَنْهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْتَدْعِي النَّجْدَةَ، فَأَتَتْهُ النَّجْدَةُ بَعْدَ شُهُورٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدِ انْقَضَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَدَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ. فَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا سَارَ فِيمَنْ مَعَهُ إِلَى الْهَذْبَانِيَّةِ، وَكَانُوا قَدِ اجْتَمَعُوا فِي خَمْسَةِ آلَافِ بَيْتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا جِدَّهُ (فِي طَلَبِهِمْ) سَارُوا إِلَى الْبَابَةِ الَّتِي فِي جَبَلِ السَّلَقِ، وَهُوَ مَضِيقٌ فِي جَبَلٍ عَالٍ مُشْرِفٍ عَلَى شَهْرَزُورَ، فَامْتَنَعُوا [بِهَا] وَأَغَارَ مُقَدَّمُهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ بِلَالٍ، وَقَرُبَ مِنِ ابْنِ حَمْدَانَ، وَرَاسَلَهُ فِي أَنْ يُطِيعَهُ وَيَحْضُرَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ، وَيَجْعَلَهُمْ عِنْدَهُ يَكُونُونَ رَهِينَةً، وَيَتْرُكُونَ الْفَسَادَ، فَقَبِلَ ابْنُ حَمْدَانَ ذَلِكَ، فَرَجَعَ مُحَمَّدٌ لِيَأْتِيَ بِمَنْ ذَكَرَ، فَحَثَّ أَصْحَابَهُ عَلَى الْمَسِيرِ نَحْوَ أَذْرَبِيجَانَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ فِي الَّذِي فَعَلَهُ مَعَ ابْنِ حَمْدَانَ أَنْ يَتْرُكَ الْجِدَّ فِي الطَّلَبِ لِيَأْخُذَ (أَصْحَابُهُ أُهْبَتَهُمْ وَيَسِيرُوا آمِنِينَ.

فَلَمَّا تَأَخَّرَ عَوْدُ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ حَمْدَانَ عَلِمَ مُرَادَهُ، فَجَرَّدَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنْ جُمْلَتِهِمْ) إِخْوَتُهُ سُلَيْمَانُ، وَدَاوُدُ، وَسَعِيدٌ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ وَبِشَجَاعَتِهِ، وَأَمَرَ النَّجْدَةَ الَّتِي جَاءَتْهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يَسِيرُوا مَعَهُ، فَتَثَبَّطُوا، فَتَرَكَهُمْ وَسَارَ يَقْفُو أَثَرَهُمْ، فَلَحِقَهُمْ وَقَدْ تَعَلَّقُوا بِالْجَبَلِ الْمَعْرُوفِ بِالْقِنْدِيلِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، (وَصَعِدُوا ذُرْوَةَ) الْجَبَلِ، وَانْصَرَفَ ابْنُ حَمْدَانَ عَنْهُمْ. وَلَحِقَ الْأَكْرَادُ بِأَذْرَبِيجَانَ، وَأَنْهَى ابْنُ حَمْدَانَ مَا كَانَ مِنْ حَالِهِمْ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَالْوَزِيرِ فَأَنْجَدُوهُ بِجَمَاعَةٍ صَالِحَةٍ وَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَجَمَعَ رِجَالَهُ وَسَارَ إِلَى جَبَلِ السَّلَقِ، وَفِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ بِلَالٍ وَمَعَهُ الْأَكْرَادُ، فَدَخَلَهُ ابْنُ حَمْدَانَ، وَالْجَوَاسِيسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، خَوْفًا مِنْ كَمِينٍ يَكُونُ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ يَتْبَعُونَهُ، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَجَاوَزُوا الْجَبَلَ، وَقَارَبُوا الْأَكْرَادَ، وَسَقَطَ عَلَيْهِمُ الثَّلْجُ، وَاشْتَدَّ الْبَرْدُ، وَقَلَّتِ الْمِيرَةُ وَالْعَلَفُ عِنْدَهُمْ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَبَلَغَ الْحِمْلُ [مِنَ] التِّبْنِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، ثُمَّ عُدِمَ عِنْدَهُمْ وَهُوَ صَابِرٌ. فَلَمَّا رَأَى الْأَكْرَادُ صَبْرَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا حِيلَةَ لَهُمْ فِي دَفْعِهِمْ لَجَأَ مُحَمَّدُ بْنُ بِلَالٍ وَأَوْلَادُهُ وَمَنْ لَحِقَ بِهِ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ حَمْدَانَ عَلَى بُيُوتِهِمْ، وَسَوَادِهِمْ، وَأَهْلِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَأَبْقَى عَلَيْهِمْ، وَرَدَّهُمْ إِلَى بَلَدِ حَزَّةَ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَلَمْ يَقْتُلْ مِنْهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ صَاحِبَهُ سِيمَا الْحَمْدَانِيَّ، وَأَمِنَتِ الْبِلَادُ مَعَهُ، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا. ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ بِلَالٍ طَلَبَ الْأَمَانَ مِنِ ابْنِ حَمْدَانَ فَأَمَّنَهُ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَأَقَامَ بِالْمَوْصِلِ، وَتَتَابَعَ الْأَكْرَادُ الْحَمِيدِيَّةُ، وَأَهْلُ جَبَلِ دَاسِنَ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ، فَأَمِنَتِ الْبِلَادُ وَاسْتَقَامَتْ.

ذِكْرُ الظَّفَرِ بِالْخَلَنْجِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، وَصَلَ عَسْكَرُ الْمُكْتَفِي إِلَى نَوَاحِي مِصْرَ، وَتَقَدَّمَ أَحْمَدُ بْنُ كَيْغَلَغَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْقُوَّادِ، فَلَقِيَهُمُ الْخَلَنْجِيُّ بِالْقُرْبِ مِنَ الْعَرِيشِ، فَهَزَمَهُمْ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، فَنَدَبَ جَمَاعَةً مِنَ الْقُوَّادِ إِلَيْهِمْ بِبَغْدَاذَ، وَفِيهِمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ كَيْغَلَغَ، فَخَرَجُوا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَسَارُوا نَحْوَ مِصْرَ. وَاتَّصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِقُوَّةِ الْخَلَنْجِيِّ، فَبَرَزَ الْمُكْتَفِي إِلَى بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ لِيَسِيرَ إِلَى مِصْرَ فِي رَجَبٍ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ كِتَابُ فَاتَكٍ فِي شَعْبَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ وَالْقُوَّادَ رَجَعُوا إِلَى الْخَلَنْجِيِّ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ قُتِلَ بَيْنَهُمْ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّ آخِرَ حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ قُتِلَ فِيهَا مُعْظَمُ أَصْحَابِ الْخَلَنْجِيِّ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، وَظَفِرُوا بِهِمْ، وَغَنِمُوا عَسْكَرَهُمْ، وَهَرَبَ الْخَلَنْجِيُّ، فَدَخَلَ فُسْطَاطَ مِصْرَ، فَاسْتَتَرَ بِهَا عِنْدَ رَجُلٍ مَنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، فَدَخَلْنَا الْمَدِينَةَ، فَدَلُّونَا عَلَيْهِ، فَأَخَذْنَاهُ وَمَنِ اسْتَتَرَ عِنْدَهُ، وَهُمْ فِي الْحَبْسِ. فَكَتَبَ الْمُكْتَفِي إِلَى فَاتِكٍ فِي حَمْلِ الْخَلَنْجِيِّ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَعَادَ الْمُكْتَفِي فَدَخَلَ بَغْدَاذَ، وَأَمَرَ بِرَدِّ خَزَائِنِهِ، وَكَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ تَكْرِيتَ، فَوَجَّهَ فَاتِكٌ الْخَلَنْجِيَّ إِلَى بَغْدَاذَ، فَدَخَلَهَا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَأَمَرَ الْمُكْتَفِي بِحَبْسِهِمْ. ذِكْرُ أَمْرِ الْقَرَامِطَةِ فِيهَا أَنْفَذَ زَكْرَوَيْهِ بْنُ مَهْرَوَيْهِ، بَعْدَ قَتْلِ صَاحِبِ الشَّامَةِ، رَجُلًا كَانَ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ بِالرَّافُوفَةِ مِنَ الْفَلُّوجَةِ يُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ، وَيُكَنَّى أَبَا غَانِمٍ، فَسُمِّيَ نَصْرًا، وَقِيلَ كَانَ الْمُنْفِذُ ابْنَ زَكْرَوَيْهِ، فَدَارَ عَلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ مِنْ كَلْبٍ وَغَيْرِهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَأْيِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، إِلَّا رَجُلًا مِنْ بَنِي زِيَادٍ يُسَمَّى مِقْدَامَ بْنَ الْكَيَّالِ، وَاسْتَقْوَى بِطَوَائِفَ مِنَ الْأَصْبَغِيِّينَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْفَوَاطِمِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَيْصِيِّينَ، وَصَعَالِيكَ مِنْ سَائِرِ بُطُونِ كَلْبٍ، وَقَصَدَ نَاحِيَةَ الشَّامِ، وَالْعَامِلُ بِدِمَشْقَ وَالْأُرْدُنِّ أَحْمَدُ بْنُ كَيْغَلَغَ، وَهُوَ بِمِصْرَ يُحَارِبُ الْخَلَنْجِيَّ، فَاغْتَنَمَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَسَارَ إِلَى بُصْرَى

وَأَذْرِعَاتٍ وَالْبَثَنَيَّةِ، فَحَارَبَ أَهْلَهَا، ثُمَّ أَمَّنَهُمْ، فَلَمَّا اسْتَسْلَمُوا إِلَيْهِ قَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ. ثُمَّ قَصَدَ دِمَشْقَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ نَائِبُ ابْنِ كَيْغَلَغَ، وَهُوَ صَالِحُ بْنُ الْفَضْلِ، فَهَزَمَهُ الْقَرَامِطَةُ، وَأَثْخَنُوا فِيهِمْ، ثُمَّ [أَمَّنُوهُمْ] وَغَدَرُوهُمْ بِالْأَمَانِ، وَقَتَلُوا صَالِحًا، وَفَضُّوا عَسْكَرَهُ، وَسَارُوا إِلَى دِمَشْقَ، فَمَنَعَهُمْ أَهْلُهَا، فَقَصَدُوا طَبَرِيَّةَ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ جُنْدِ دِمَشْقَ افْتُتِنُوا بِهِ، فَوَاقَعَهُمْ يُوسُفُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَغَامَرْدِيِّ، وَهُوَ خَلِيفَةُ أَحْمَدَ بْنِ كَيْغَلَغَ بِالْأُرْدُنِّ، فَهَزَمُوهُ، وَبَذَلُوا لَهُ الْأَمَانَ، وَغَدَرُوا بِهِ، وَقَتَلُوهُ، وَنَهَبُوا طَبَرِيَّةَ، وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا وَسَبَوُا النِّسَاءَ. فَأَنْفَذَ الْخَلِيفَةُ الْحُسَيْنَ بْنَ حَمْدَانَ وَجَمَاعَةً مِنَ الْقُوَّادِ فِي طَلَبِهِمْ، فَوَرَدُوا دِمَشْقَ، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمُ الْقَرَامِطَةُ رَجَعُوا نَحْوَ السَّمَاوَةِ، وَتَبِعَهُمُ الْحُسَيْنُ فِي السَّمَاوَةِ وَهُمْ يَنْتَقِلُونَ فِي الْمِيَاهِ وَيُغَوِّرُونَهَا، حَتَّى لَجَئُوا إِلَى مَاءَيْنِ يُعْرَفُ أَحَدُهُمَا بِالدِّمْعَانَةِ، وَالْآخَرُ بِالْحَبَالَةِ. وَانْقَطَعَ ابْنُ حَمْدَانَ عَنْهُمْ لِعَدَمِ الْمَاءِ، وَعَادَ إِلَى الرَّحْبَةِ، وَأَسْرَى الْقَرَامِطَةُ مَعَ نَصْرٍ إِلَى هِيتَ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ، فَنَهَبُوا رَبَضَهَا، وَامْتَنَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِسُورِهِمْ، وَنَهَبُوا السُّفُنَ، وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِائَتَيْ نَفْسٍ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ وَالْمَتَاعَ، وَأَوْقَرُوا ثَلَاثَةَ آلَافِ رَاحِلَةٍ مِنَ الْحِنْطَةِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْمُكْتَفِي فَسَيَّرَ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجَ، فَلَمْ يُقِيمُوا لِمُحَمَّدٍ، وَرَجَعُوا إِلَى الْمَاءَيْنِ فَنَهَضَ مُحَمَّدٌ خَلْفَهُمْ، فَوَجَدَهُمْ قَدْ غَوَّرُوا الْمِيَاهَ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ مِنْ بَغْدَاذَ الْأَزْوَادَ وَالدَّوَابَّ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ حَمْدَانَ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ الرَّحْبَةِ لِيَجْتَمِعَ هُوَ وَمُحَمَّدٌ عَلَى الْإِيقَاعِ بِهِمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا أَحَسَّ الْكَلْبِيُّونَ بِإِقْبَالِ الْجَيْشِ إِلَيْهِمْ وَثَبُوا بِنَصْرٍ فَقَتَلُوهُ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ الذِّئْبُ بْنُ الْقَائِمِ، وَسَارَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمُكْتَفِي مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ، مُسْتَأْمِنًا، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَأُجِيزَ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ، وَأَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْ قَوْمِهِ.

وَاقْتَتَلَتِ الْقَرَامِطَةُ بَعْدَ نَصْرٍ حَتَّى صَارَتْ بَيْنَهُمُ الدِّمَاءُ، وَسَارَتْ فِرْقَةٌ كَرَّهَتْ أُمُورَهُمْ إِلَى بَنِي أَسَدٍ بِنَوَاحِي عَيْنِ التَّمْرِ، وَاعْتَذَرُوا إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَقَبِلَ عُذْرَهُمْ، وَبَقِيَ عَلَى الْمَاءَيْنِ بَقِيَّتُهُمْ مِمَّنْ لَهُ بَصِيرَةٌ فِي دِينِهِ، فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى ابْنِ حَمْدَانَ يَأْمُرُهُ بِمُعَاوَدَتِهِمْ، وَاجْتِثَاثِ أَصْلِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ زَكْرَوَيْهِ بْنُ مَهْرَوَيْهِ دَاعِيَةً لَهُ يُسَمَّى الْقَاسِمَ بْنَ أَحْمَدَ، وَيُعْرَفُ بِأَبِي مُحَمَّدٍ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ فِعْلَ الذِّئْبِ قَدْ نَفَّرَهُ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الدِّينِ، وَأَنَّ وَقْتَ ظُهُورِهِمْ قَدْ حَضَرَ، وَقَدْ بَايَعَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَأَنَّ يَوْمَ مَوْعِدِهِمُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي شَأْنِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدُوِّهِ فِرْعَوْنَ إِذْ {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59] ، وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَفُوا أَمْرَهُمْ، وَأَنْ يَسِيرُوا حَتَّى يُصَبِّحُوا الْكُوفَةَ يَوْمَ النَّحْرِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْهَا، وَأَنَّهُ يَظْهَرُ لَهُمْ، وَيُنْجِزُ لَهُمْ وَعْدَهُ الَّذِي يَعِدُهُمْ إِيَّاهُ، وَأَنْ يَحْمِلُوا إِلَيْهِ الْقَاسِمَ بْنَ أَحْمَدَ. فَامْتَثَلُوا رَأْيَهُ، وَوَافَوْا بَابَ الْكُوفَةِ وَقَدِ انْصَرَفَ النَّاسُ عَنْ مُصَلَّاهُمْ، وَعَامِلُهُمْ إِسْحَاقُ بْنُ عِمْرَانَ، وَوَصَلُوهَا فِي ثَمَانِمِائَةِ فَارِسٍ عَلَيْهِمُ الدُّرُوعُ، وَالْجَوَاشِنُ، وَالْآلَاتُ الْحَسَنَةُ، وَقَدْ ضَرَبُوا عَلَى الْقَاسِمِ بْنِ أَحْمَدَ قُبَّةً، وَقَالُوا هَذَا أَثَرُ رَسُولِ اللَّهِ، وَنَادَوْا: يَا لَثَارَاتِ الْحُسَيْنِ، يَعْنُونَ الْحُسَيْنَ بْنَ زَكْرَوَيْهِ الْمَصْلُوبَ بِبَغْدَاذَ، وَشِعَارُهُمْ: يَا أَحْمَدُ، يَا مُحَمَّدُ، يَعْنُونَ ابْنِيْ زَكْرَوَيْهِ الْمَقْتُولَيْنِ، فَأَظْهَرُوا الْأَعْلَامَ الْبِيضَ، وَأَرَادُوا اسْتِمَالَةَ رَعَاعَ النَّاسِ بِالْكُوفَةِ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ، فَأَوْقَعَ الْقَرَامِطَةُ بِمَنْ لَحِقُوهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَتَلُوا نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا. وَبَادَرَ النَّاسُ الْكُوفَةَ، وَأَخَذُوا السِّلَاحَ، وَنَهَضَ بِهِمْ إِسْحَاقُ، وَدَخَلَ مَدِينَةَ الْكُوفَةِ مِنَ الْقَرَامِطَةِ مِائَةُ فَارِسٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ نَفْسًا، وَأُخْرِجُوا عَنْهَا، وَظَهَرَ إِسْحَاقُ، وَحَارَبَهُمْ إِلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا نَحْوَ الْقَادِسِيَّةِ، وَكَانَ فِيمَنْ يُقَاتِلُهُمْ مَعَ إِسْحَاقَ جَمَاعَةٌ مِنَ الطَّالِبِيَّةِ. وَكَتَبَ إِسْحَاقُ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَدَّهُ بِجَمَاعَةٍ مِنْ قُوَّادِهِ، مِنْهُمْ: وَصِيفُ بْنُ صُوَارِتِكِينَ التُّرْكِيُّ، وَالْفَضْلُ بْنُ مُوسَى بْنِ بُغَا، وَبِشْرٌ الْخَادِمُ الْأَفْشِينِيُّ، وَرَائِقٌ الْخَزَرِيُّ، مَوْلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْغِلْمَانِ الْحُجَرِيَّةِ، فَسَارُوا مُنْتَصَفَ

ذِي الْحِجَّةِ حَتَّى قَارَبُوا الْقَادِسِيَّةَ فَنَزَلُوا بِالصَّوَّانِ، فَلَقِيَهُمْ زَكْرَوَيْهِ. وَأَمَّا الْقَرَامِطَةُ فَإِنَّهُمْ أَنْفَذُوا وَاسْتَخْرَجُوا زَكْرَوَيْهِ مِنْ جُبٍّ فِي الْأَرْضِ كَانَ مُنْقَطِعًا فِيهِ سِنِينَ كَثِيرَةً، بِقَرْيَةِ الدَّرِيَّةِ، وَكَانَ عَلَى الْجُبِّ بَابٌ حَدِيدٌ مُحْكَمُ الْعَمَلِ، وَكَانَ زَكْرَوَيْهِ إِذَا خَافَ الطَّلَبَ جَعَلَ تَنُّورًا هُنَاكَ عَلَى بَابِ الْجُبِّ، وَقَامَتِ امْرَأَةٌ تَسْجُرُهُ، فَلَا يُفْطَنُ إِلَيْهِ، وَكَانَ رُبَّمَا أُخْفِيَ فِي بَيْتٍ خَلْفَ بَابِ الدَّارِ الَّتِي كَانَ بِهَا سَاكِنًا، فَإِذَا انْفَتَحَ بَابُ الدَّارِ انْطَبَقَ عَلَى بَابِ الْبَيْتِ، فَيَدْخُلُ الدَّاخِلُ الدَّارَ فَلَا يَرَى شَيْئًا، فَلَمَّا اسْتَخْرَجُوهُ حَمَلُوهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَسَمَّوْهُ وَلِيَّ اللَّهِ، وَلَمَّا رَأَوْهُ سَجَدُوا لَهُ، وَحَضَرَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ دُعَاتِهِ وَخَاصَّتِهِ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ أَحْمَدَ (مِنْ) أَعْظَمِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ ذِمَّةً وَمِنَّةً، وَأَنَّهُ رَدَّهُمْ إِلَى الدِّينِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ عَنْهُ، وَأَنَّهُمْ إِنِ امْتَثَلُوا أَوَامِرَهُ أَنْجَزَ مَوْعِدَهُمْ، وَبَلَغُوا آمَالَهُمْ، وَرَمَّزَ لَهُمْ رُمُوزًا ذَكَرَ فِيهَا آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ نَقَلَهَا عَنِ الْوَجْهِ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ، فَاعْتَرَفَ لَهُ مَنْ رَسَخَ حُبُّ الْكُفْرِ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ رَئِيسُهُمْ وَكَهْفُهُمْ، وَأَيْقَنُوا بِالنَّصْرِ وَبُلُوغِ الْأَمَلِ. وَسَارَ بِهِمْ وَهُوَ مَحْجُوبٌ يَدْعُونَهُ السَّيِّدَ وَلَا يُبْرِزُونَهُ، وَالْقَاسِمُ يَتَوَلَّى الْأُمُورَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ أَهْلَ السَّوَادِ قَاطِبَةً خَارِجُونَ إِلَيْهِ، فَأَقَامَ بِسَقْيِ الْفُرَاتِ عِدَّةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ مِنْهُمْ إِلَّا خَمْسُمِائَةِ رَجُلٍ، ثُمَّ وَافَتْهُ الْجُنُودُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ، فَلَقِيَهُمْ زَكْرَوَيْهِ بِالصَّوَّانِ، وَقَاتَلَهُمْ وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ أَوَّلَ النَّهَارِ عَلَى الْقَرَامِطَةِ وَكَانَ زَكْرَوَيْهِ قَدْ كَمَّنَ لَهُمْ كَمِينًا مِنْ خَلْفِهِمْ، فَلَمْ يَشْعُرْ أَصْحَابُ الْخَلِيفَةِ إِلَّا وَالسَّيْفُ فِيهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَانْهَزَمُوا أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَوَضَعَ الْقَرَامِطَةُ السَّيْفَ فِيهِمْ، فَقَتَلُوهُمْ كَيْفَ شَاءُوا، وَغَنِمُوا سَوَادَهُمْ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ أَصْحَابِ الْخَلِيفَةِ إِلَّا مَنْ دَابَّتُهُ قَوِيَّةٌ، أَوْ مَنْ أُثْخِنَ بِالْجِرَاحِ، فَوَضَعَ نَفْسَهُ بَيْنَ الْقَتْلَى، فَتَحَامَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ. وَأُخِذَ لِلْخَلِيفَةِ فِي هَذَا الْعَسْكَرِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ جَمَّازَةٍ عَلَيْهَا الْمَالُ وَالسِّلَاحُ، وَخَمْسُمِائَةِ بَغْلٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْخَلِيفَةِ، سِوَى الْغِلْمَانِ، أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ رَجُلٍ، وَقَوِيَ الْقَرَامِطَةُ بِمَا غَنِمُوا.

وَلَمَّا وَرَدَ خَبَرُ هَذِهِ الْوَقْعَةِ إِلَى بَغْدَاذَ أَعْظَمَهَا الْخَلِيفَةُ وَالنَّاسُ، وَنَدَبَ إِلَى الْقَرَامِطَةِ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجَ، وَضَمَّ إِلَيْهِ مِنَ الْأَعْرَابِ بَنِي شَيْبَانَ وَغَيْرَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ رَجُلٍ، وَأَعْطَاهُمُ الْأَرْزَاقَ، وَرَحَلَ زَكْرَوَيْهِ مِنْ مَكَانِهِ إِلَى نَهْرِ الْمُثْنِيَةِ لِنَتَنِ الْقَتْلَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، قَدِمَ إِلَى بَغْدَاذَ قَائِدٌ مِنْ أَصْحَابِ طَاهِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ مُسْتَأْمِنًا، وَيُعْرَفُ بِأَبِي قَابُوسَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ طَاهِرًا تَشَاغَلَ بِاللَّهْوِ وَالصَّيْدِ، وَمَضَى إِلَى سِجِسْتَانَ لِلصَّيْدِ وَالتَّنَزُّهِ، فَغَلَبَ عَلَى الْأَمْرِ بِفَارِسَ اللَّيْثُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ اللَّيْثِ، وَسُبْكَرِيٌّ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ هَذَا الْقَائِدِ تَبَاعُدٌ، فَفَارَقَهُمْ، وَوَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَسْأَلُ رَدَّ أَبِي قَابُوسَ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ جَبَى الْمَالَ وَأَخَذَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيْهِ، أَوْ تَحْتَسِبَ لَهُ بِمَا ذَهَبَ مَعَهُ مِنَ الْمَالِ مِنْ جُمْلَةِ الْقَرَارِ الَّذِي عَلَيْهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ الْخَلِيفَةُ إِلَى ذَلِكَ. وَفِيهَا صَارَتِ الدَّاعِيَةُ الَّتِي لِلْقَرَامِطَةِ بِالْيَمَنِ إِلَى مَدِينَةِ صَنْعَاءَ، فَحَارَبَهُ أَهْلُهَا، فَظَفِرَ بِهِمْ وَقَتَلَهُمْ، فَلَمْ يَفْلِتْ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَتَغَلَّبَ عَلَى سَائِرِ مُدُنِ الْيَمَنِ، ثُمَّ اجْتَمَعَ أَهْلُ صَنْعَاءَ وَغَيْرِهَا، فَحَارَبُوا الدَّاعِيَةَ، فَهَزَمُوهُ فَانْحَازَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْ نَوَاحِي الْيَمَنِ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ الْخَلِيفَةَ، فَخَلَعَ عَلَى الْمُظَفَّرِ بْنِ حَاجٍّ فِي شَوَّالٍ، وَسَيَّرَهُ إِلَى عَمَلِهِ بِالْيَمَنِ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ. وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى قُورُسَ، مِنْ أَعْمَالِ حَلَبَ، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْهَزَمُوا، وَقَتَلُوا (أَكْثَرَهُمْ، وَقَتَلُوا رُؤَسَاءَ بَنِي تَمِيمٍ)

وَدَخَلَ الرُّومُ قُورُسَ فَأَحْرَقُوا جَامِعَهَا، وَسَاقُوا مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِهَا. وَفِيهَا افْتَتَحَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ، مَلِكُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ مَوَاضِعَ مِنْ بِلَادِ التُّرْكِ وَمِنْ بِلَادِ الدَّيْلَمِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَافِظُ فِي رَمَضَانَ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاشِيُّ الشَّاعِرُ الْكَاتِبُ الْأَنْبَارِيُّ.

ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 294 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ أَخْبَارِ الْقَرَامِطَةِ وَأَخْذِهِمُ الْحَاجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، ارْتَحَلَ زَكْرَوَيْهِ مِنْ نَهْرِ الْمُثْنِيَةِ يُرِيدُ الْحَاجَّ، فَبَلَغَ السَّلْمَانَ، وَأَقَامَ يَنْتَظِرُهُمْ، فَبَلَغَتِ الْقَافِلَةُ الْأَوْلَى وَاقِصَةَ سَابِعَ الْمُحَرَّمِ، فَأَنْذَرَهُمْ أَهْلُهَا وَأَخْبَرُوهُمْ بِقُرْبِ الْقَرَامِطَةِ، فَارْتَحَلُوا لِسَاعَتِهِمْ. وَسَارَ الْقَرَامِطَةُ إِلَى وَاقِصَةَ، فَسَأَلُوا أَهْلَهَا عَنِ الْحَاجِّ، فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ سَارُوا، فَاتَّهَمَهُمْ زَكْرَوَيْهِ، فَقَتَلَ الْعَلَّافَةَ، وَأَحْرَقَ الْعَلَفَ، وَتَحَصَّنَ أَهْلُ وَاقِصَةَ فِي حِصْنِهِمْ، فَحَصَرَهُمْ أَيَّامًا، ثُمَّ ارْتَحَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ زُبَالَةَ، وَأَغَارَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ. وَوَصَلَتِ الْعَسَاكِرُ الْمُنْفَذَةُ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى عُيُونِ الطَّفِّ، فَبَلَغَهُمْ مَسِيرُ زَكْرَوَيْهِ مِنَ السَّلْمَانِ، فَانْصَرَفُوا، وَسَارَ عَلَّانُ بْنُ كُشْمُرْدَ جَرِيدَةً، فَنَزَلَ وَاقِصَةَ بَعْدَ أَنْ جَازَتِ الْقَافِلَةُ الْأُولَى. وَلَقِيَ زَكْرَوَيْهِ الْقَرْمَطِيُّ قَافِلَةَ الْخُرَاسَانِيَّةِ بِعَقَبَةِ الشَّيْطَانِ رَاجِعِينَ مِنْ مَكَّةَ، فَحَارَبَهُمْ حَرْبًا شَدِيدَةً، فَلَمَّا رَأَى شِدَّةَ حَرْبِهِمْ سَأَلَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ نَائِبٌ لِلسُّلْطَانِ؟ فَقَالُوا: مَا مَعَنَا أَحَدٌ، قَالَ: فَلَسْتُ أُرِيدُكُمْ. فَاطْمَأَنُّوا وَسَارُوا، فَلَمَّا سَارُوا أَوْقَعَ بِهِمْ، وَقَتَلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا الشَّرِيدُ، وَسَبَوْا مِنَ النِّسَاءِ مَا أَرَادُوا، وَقَتَلُوا مِنْهُنَّ.

وَلَقِيَ بَعْضُ الْمُنْهَزِمِينَ عَلَّانَ بْنَ كُشْمُرْدَ، فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُمْ، وَقَالُوا لَهُ: مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَلَوْ رَأَوْكَ لَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، فَاللَّهَ اللَّهَ فِيهِمْ! فَقَالَ: لَا أُعَرِّضُ أَصْحَابَ السُّلْطَانِ لِلْقَتْلِ، وَرَجَعَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. وَكَتَبَ مَنْ نَجَا مِنَ الْحُجَّاجِ مِنْ هَذِهِ الْقَافِلَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى رُؤَسَاءِ الْقَافِلَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْحُجَّاجِ يُعْلِمُونَهُمْ مَا جَرَى مِنَ الْقَرَامِطَةِ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِالتَّحَذُّرِ، وَالْعُدُولِ عَنِ الْجَادَّةِ نَحْوَ وَاسِطَ وَالْبَصْرَةِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى فَيْدَ وَالْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ تَأْتِيَهُمْ جُيُوشُ السُّلْطَانِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا، وَلَمْ يُقِيمُوا. وَسَارَتِ الْقَرَامِطَةُ مِنَ الْعَقَبَةِ بَعْدَ أَخْذِ الْحَاجِّ، وَقَدْ طَمَّوُا الْآبَارَ وَالْبِرَكَ بِالْجِيَفِ، وَالتُّرَابِ، بِوَاقِصَةَ، وَالثَّعْلَبِيَّةِ، وَالْعَقَبَةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَنَاهِلِ فِي جَمِيعِ طَرِيقِهِمْ. وَأَقَامَ [زَكْرَوَيْهِ] بِالْهَبِيرِ يَنْتَظِرُ الْقَافِلَةَ الثَّالِثَةَ، فَسَارُوا فَصَادَفُوهُ هُنَاكَ، فَقَاتَلَهُمْ زَكْرَوَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهُمْ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَاسْتَسْلَمُوا لِشِدَّةِ الْعَطَشِ، فَوَضَعَ فِيهِمُ السَّيْفَ وَقَتَلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَجَمَعَ الْقَتْلَى كَالتَّلِّ، وَأَرْسَلَ خَلْفَ الْمُنْهَزِمِينَ مَنْ يَبْذُلُ لَهُمُ الْأَمَانَ، فَلَمَّا رَجَعُوا قَتَلَهُمْ، وَكَانَ فِي الْقَتْلَى مُبَارَكٌ الْقُمِّيُّ، وَوَلَدُهُ أَبُو الْعَشَائِرِ بْنُ حَمْدَانَ. وَكَانَ نِسَاءُ الْقَرَامِطَةِ يَطُفْنَ بِالْمَاءِ بَيْنَ الْقَتْلَى يَعْرِضْنَ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ، فَمَنْ كَلَّمَهُنَّ قَتَلْنَهُ، فَقِيلَ إِنَّ عِدَّةَ الْقَتْلَى بَلَغَتْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا مَنْ كَانَ بَيْنَ الْقَتْلَى فَلَمْ يُفْطَنْ لَهُ فَنَجَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَنْ هَرَبَ عِنْدَ اشْتِغَالِ الْقَرَامِطَةِ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ، فَكَانَ مَنْ مَاتَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَكْثَرَ مِمَّنْ سَلِمَ وَمَنِ اسْتَعْبَدُوهُ، وَكَانَ مَبْلَغُ مَا أَخَذُوهُ مِنْ هَذِهِ الْقَافِلَةِ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا أَخَذُوا فِيهَا أَمْوَالُ الطُّولُونِيَّةِ وَأَسْبَابُهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا عَزَمُوا عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ مِصْرَ إِلَى بَغْدَاذَ خَافُوا أَنْ يَسْتَصْحِبُوهَا فَتُؤْخَذَ مِنْهُمْ، فَعَمِلُوا الذَّهَبَ وَالنَّقْرَةَ سَبَائِكَ، وَجَعَلُوهَا فِي حَدَائِجِ الْجِمَالِ، وَجَمِيعَ مَا لَهُمْ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْجَوْهَرِ، وَسَيَّرُوا الْجَمِيعَ إِلَى مَكَّةَ سِرًّا، وَسَارَ مِنْ مَكَّةَ فِي هَذِهِ الْقَافِلَةِ فَأُخِذَتْ. وَبَثَّ زَكْرَوَيْهِ الطَّلَائِعَ خَوْفًا مِنْ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي كَانَ بِالْقَادِسِيَّةِ، وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ وُصُولَ مَنْ كَانَ فِي الْحَجِّ مِنْ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ وَأَصْحَابِهِ، فَكَانُوا بِفَيْدَ يَنْتَظِرُونَ هَلْ تَعْرِضُ الْقَرَامِطَةُ لِلْحَاجِّ أَمْ لَا، فَكَانَ مَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ التُّجَّارِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَا صَنَعَ الْقَرَامِطَةُ أَقَامُوا يَنْتَظِرُونَ وُصُولَ عَسْكَرٍ مِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ، فَسَارَ زَكْرَوَيْهِ إِلَيْهِمْ

وَغَوَّرَ الْآبَارَ، وَالْمَصَانِعَ، وَالْمِيَاهَ إِلَى فَيْدَ، فَاحْتَمَى أَهْلُ فَيْدَ وَمَنْ بِهَا مِنَ الْحُجَّاجِ بِالْحِصْنَيْنِ اللَّذَيْنِ بِفَيْدَ وَحَصَرَهُمْ فِيهِمَا الْقَرَامِطَةُ، وَأَرْسَلَ زَكْرَوَيْهِ إِلَى أَهْلِ فَيْدَ يَأْمُرُهُمْ بِإِخْرَاجِهِمْ أَوْ بِتَسْلِيمِ الْحِصْنَيْنِ إِلَيْهِ، وَبَذَلَ لَهُمُ الْأَمَانَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَتَهَدَّدَهُمْ بِالنَّهْبِ وَالْقَتْلِ، فَازْدَادَ امْتِنَاعُهُمْ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ عِدَّةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى النِّبَاجِ ثُمَّ إِلَى حُفَيْرِ أَبِي مُوسَى. ذِكْرُ قَتْلِ زَكْرَوَيْهِ لَعَنَهُ اللَّهُ لَمَّا فَعَلَ زَكْرَوَيْهِ بِالْحُجَّاجِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْخَلِيفَةِ خَاصَّةً، وَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، فَجَهَّزَ الْمُكْتَفِي الْجُيُوشَ، فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَيَّرَ وَصِيفَ بْنَ صُوَارِتِكِينَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْقُوَّادِ وَالْعَسَاكِرِ إِلَى الْقَرَامِطَةِ، فَسَارَ عَلَى طَرِيقِ حِفَّانَ، فَلَقِيَهُمْ زَكْرَوَيْهِ، وَمَنْ مَعَهُ مَنِ الْقَرَامِطَةِ، ثَامِنَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَاقْتَتَلُوا يَوْمَهُمْ، (ثُمَّ حَجَزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، وَبَاتُوا يَتَحَارَسُونَ، ثُمَّ بَكَّرُوا لِلْقِتَالِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا) ، فَقُتِلَ مِنَ الْقَرَامِطَةِ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ. وَوَصَلَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ إِلَى عَدُوِّ اللَّهِ زَكْرَوَيْهِ، فَضَرَبَهُ بَعْضُ الْجُنْدِ وَهُوَ مُوَلٍّ بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ، فَبَلَغَتِ الضَّرْبَةُ دِمَاغَهُ، وَأَخَذَهُ أَسِيرًا، وَأُخِذَ خَلِيفَتُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ خَوَاصِّهِ وَأَقْرِبَائِهِ، وَفِيهِمُ ابْنُهُ، وَكَاتِبُهُ، وَزَوْجَتُهُ، وَاحْتَوَى الْجُنْدُ عَلَى مَا فِي الْعَسْكَرِ. وَعَاشَ زَكْرَوَيْهِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَمَاتَ، فَسُيِّرَتْ جِيفَتُهُ وَالْأَسْرَى إِلَى بَغْدَاذَ، وَانْهَزَمَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الشَّامِ، فَأَوْقَعَ بِهِمُ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ، فَقَتَلُوهُمْ جَمِيعًا، وَأَخَذُوا جَمَاعَةً مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَحُمِلَ رَأْسُ زَكْرَوَيْهِ إِلَى خُرَاسَانَ، لِئَلَّا يَنْقَطِعَ الْحُجَّاجُ، وَأَخَذَ الْأَعْرَابُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ زَكْرَوَيْهِ يُعْرَفُ أَحَدَهُمَا بِالْحَدَّادِ، وَالْآخَرُ بِالْمُنْتَقِمِ، وَهُوَ أَخُو امْرَأَةِ زَكْرَوَيْهِ، كَانَا قَدْ سَارَا إِلَيْهِمْ يَدْعُوَانِهِمْ إِلَى الْخُرُوجِ مَعَهُمْ، فَلَمَّا

أَخَذُوهُمَا سَيَّرُوهُمَا إِلَى بَغْدَاذَ، وَتَتَبَّعَ الْخَلِيفَةُ الْقَرَامِطَةَ بِالْعِرَاقِ، فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ، وَحَبَسَ بَعْضَهُمْ، وَمَاتَ بَعْضُهُمْ فِي الْحَبْسِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا ابْنُ كَيْغَلَغَ الرُّومَ مَنْ طَرَسُوسَ، فَأَصَابَ مِنَ الرُّومِ أَرْبَعَةَ آلَافِ رَأْسِ سَبْيٍ وَدَوَابَّ وَمَتَاعًا، وَدَخَلَ بِطْرِيقٌ مِنْ بَطَارِقَةِ الرُّومِ فِي الْأَمَانِ وَأَسْلَمَ. وَفِيهَا غَزَا ابْنُ كَيْغَلَغَ فَبَلَغَ شَكَنْدَ، وَافْتَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَارَ إِلَى اللَّيْسِ، فَغَنِمُوا نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ رَأْسٍ، وَقَتَلُوا مَقْتَلَةً عَظِيمَةً مِنَ الرُّومِ، وَانْصَرَفُوا سَالِمِينَ. وَكَاتَبَ أَنْدُرُونِقْسُ الْبِطْرِيقُ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الْأَمَانَ، وَكَانَ عَلَى حَرْبِ أَهْلِ الثُّغُورِ مِنْ قِبَلِ مَلِكِ الرُّومِ، فَأَعْطَاهُ الْمُكْتَفِي مَا طَلَبَ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ مِائَتَا أَسِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي حِصْنِهِ، وَكَانَ مَلِكُ الرُّومِ قَدْ أَرْسَلَ لِلْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَأَعْطَى الْمُسْلِمِينَ سِلَاحًا وَخَرَجُوا مَعَهُ، فَقَبَضُوا عَلَى الَّذِي أَرْسَلَهُ مَلِكُ الرُّومِ لِيَقْبِضَ عَلَيْهِ لَيْلًا، فَقَتَلُوا مِمَّنْ مَعَهُ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمُوا مَا فِي عَسْكَرِهِمْ، فَاجْتَمَعَتِ الرُّومُ عَلَى أَنْدُرُونِقْسَ لِيُحَارِبُوهُ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ جَمْعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيُخَلِّصُوهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، فَبَلَغُوا قُونِيَّةَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الرُّومِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَسَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَسْكَرِ إِلَى أَنْدُرُونِقْسَ، وَهُوَ بِحِصْنِهِ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ إِلَيْهِمْ، وَسَارَ مَعَهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَخْرَبَ الْمُسْلِمُونَ قُونِيَّةَ، فَأَرْسَلَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُكْتَفِي فَطَلَبَ الْفِدَاءَ.

وَفِيهَا ظَهَرَ بِالشَّامِ رَجُلٌ يَدَّعِي أَنَّهُ السُّفْيَانِيُّ، فَأُخِذَ وَحُمِلَ إِلَى بَغْدَاذَ فَقِيلَ إِنَّهُ مُوَسْوَسٌ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْدَانَ وَبَيْنَ أَعْرَابٍ مِنْ بَنِي كَلْبٍ، وَطَيٍّ، وَالْيَمَنِ، وَأَسَدٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَفِيهَا حَاصَرَ أَعْرَابُ طَيٍّ وَصِيفَ بْنَ صُوَارِتِكِينَ بِفَيْدَ، وَقَدْ سَيَّرَهُ الْمُكْتَفِي أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ، فَحَصَرُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ خَرَجَ فَوَاقَعَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ قَتْلَى، ثُمَّ انْهَزَمَتِ الْأَعْرَابُ وَرَحَلَ وَصِيفٌ بِمَنْ مَعَهُ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ الْمُلَقَّبُ بِجَزَرَةَ الْبَغْدَاذِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِسَمَرْقَنْدَ، وَلَهُ تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ. وَفِيهَا قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَاهَوَيْهِ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، قَتَلَهُ الْقَرَامِطَةُ حِينَ أَخَذُوا الْحَاجَّ.

ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 295 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ وَفَاةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، مُنْتَصَفَ صَفَرٍ، تُوُفِّيَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ أَمِيرُ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، بِبُخَارَى، وَكَانَ يُلَقَّبُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْمَاضِي، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُكْتَفِيَ عَهْدَهُ بِالْوِلَايَةِ، وَعَقَدَ لِوَاءَهُ بِيَدِهِ. وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ عَاقِلًا، عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ فِي رَعِيَّتِهِ، حَلِيمًا، حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لِوَلَدِهِ أَحْمَدَ مُؤَدِّبٌ يُؤَدِّبُهُ، فَمَرَّ بِهِ الْأَمِيرُ إِسْمَاعِيلُ يَوْمًا، وَالْمُؤَدِّبُ لَا يَعْلَمُ بِهِ، فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَسُبُّ ابْنَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، وَلَا فِيمَنْ وَلَدَكَ! فَدَخَلَ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا، نَحْنُ لَمْ نُذْنِبْ ذَنْبًا لِتَسُبَّنَا، فَهَلْ تَرَى أَنْ تُعْفِيَنَا مِنْ سَبِّكَ، وَتَخُصَّ الْمُذْنِبَ بِشَتْمِكَ وَذَمِّكَ؟ فَارْتَاعَ الْمُؤَدِّبُ، فَخَرَجَ إِسْمَاعِيلُ عَنْهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِصِلَةٍ جَزَاءً لِخَوْفِهِ مِنْهُ. وَقِيلَ: جَرَى بَيْنَ يَدَيْهِ ذِكْرُ الْأَنْسَابِ وَالْأَحْسَابِ فَقَالَ لِبَعْضِ جُلَسَائِهِ: كُنْ

عِصَامِيًّا وَلَا تَكُنْ عِظَامِيًّا، فَلَمْ يَفْهَمْ مُرَادَهُ، فَذَكَرَ لَهُ مَعْنَى ذَلِكَ. وَسَأَلَ يَوْمًا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ النَّيْسَابُورِيَّ فَقَالَ لَهُ: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّ آلَ مُعَاذٍ لَمَّا زَالَتْ دَوْلَتُهُمْ بَقِيَتْ عَلَيْهِمْ نِعْمَتُهُمْ بِخُرَاسَانَ، مَعَ سُوءِ سِيرَتِهِمْ وَظُلْمِهِمْ، وَأَنَّ آلَ طَاهِرٍ لَمَّا زَالَتْ دَوْلَتُهُمْ عَنْ خُرَاسَانَ زَالَتْ مَعَهَا نِعْمَتُهُمْ مَعَ عَدْلِهِمْ، وَحُسْنِ سِيرَتِهِمْ، وَنَظَرِهِمْ لِرَعِيَّتِهِمْ؟ فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ آلَ مُعَاذٍ لَمَّا تَغَيَّرَ أَمْرُهُمْ كَانَ الَّذِي وَلِيَ الْبِلَادَ بَعْدَهُمْ آلُ طَاهِرٍ فِي عَدْلِهِمْ، وَإِنْصَافِهِمْ، وَاسْتِعْفَافِهِمْ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَرَغْبَتِهِمْ فِي اصْطِنَاعِ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ، فَقَدَّمُوا آلَ مُعَاذٍ وَأَكْرَمُوهُمْ، وَأَنَّ آلَ طَاهِرٍ لَمَّا زَالَتْ عَنْهُمْ كَانَ سُلْطَانُ بِلَادِهِمْ آلَ الصَّفَّارِ فِي ظُلْمِهِمْ، وَغَشَمِهِمْ، وَمُعَادَاتِهِمْ لِأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ وَمُنَاصَبَتِهِمْ لِأَهْلِ الشَّرَفِ وَالنِّعَمِ، فَأَتَوْا عَلَيْهِمْ وَأَزَالُوا نِعْمَتَهُمْ. فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ: لِلَّهِ دَرُّكَ يَا يَحْيَى، فَقَدْ شَفَيْتَ صَدْرِي! وَأَمَرَ لَهُ بِصِلَةٍ، وَلَمَّا وَلِيَ بَعْدَ أَخِيهِ كَانَ يُكَاتِبُ أَصْحَابَهُ وَأَصْدِقَاءَهُ بِمَا كَانَ يُكَاتِبُهُمْ أَوَّلًا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: يَجِبُ عَلَيْنَا، إِذَا زَادَنَا اللَّهُ رِفْعَةً، أَنْ لَا نُنْقِصَ إِخْوَانَنَا بَلْ نَزِيدَهُمْ رِفْعَةً، وَعُلًا، وَجَاهًا، لِيَزِيدُوا لَنَا إِخْلَاصًا وَشُكْرًا. وَلَمَّا وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ، وَاسْتَوْثَقَ أَمْرُهُ، أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى الرَّيِّ فَأَشَارَ

عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ زِيدَوَيْهِ بِالْخُرُوجِ إِلَى سَمَرْقَنْدَ وَالْقَبْضِ عَلَى عَمِّهِ إِسْحَاقَ بْنِ أَحْمَدَ لِئَلَّا يَخْرُجَ عَلَيْهِ وَيَشْغَلَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَاسْتَدْعَى عَمَّهُ إِلَى بُخَارَى، فَحَضَرَ فَاعْتَقَلَهُ بِهَا، ثُمَّ عَبَرَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَلَمَّا وَرَدَ نَيْسَابُورَ هَرَبَ بَارِسُ الْكَبِيرُ مِنْ جُرْجَانَ إِلَى بَغْدَاذَ، خَوْفًا مِنْهُ. وَكَانَ سَبَبُ خَوْفِهِ أَنَّ الْأَمِيرَ إِسْمَاعِيلَ كَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَ ابْنَهُ أَحْمَدَ عَلَى جُرْجَانَ لَمَّا أَخَذَهَا مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا بَارِسَ الْكَبِيرَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَ بَارِسَ أَمْوَالٌ جَمَّةٌ مِنْ خَرَاجِ الرَّيِّ، وَطَبَرِسْتَانَ، وَجُرْجَانَ، فَبَلَغَتْ ثَمَانِينَ وِقْرًا، فَحَمَلَهَا إِلَى إِسْمَاعِيلَ، فَلَمَّا سَارَتْ عَنْهُ بَلَغَهُ خَبَرُ مَوْتِ إِسْمَاعِيلَ، فَرَدَّهَا وَأَخَذَهَا، فَلَمَّا سَارَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ خَافَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْمُكْتَفِي يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْمَصِيرِ إِلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَأَرْسَلَ أَحْمَدُ خَلْفَهُ عَسْكَرًا، فَلَمْ يُدْرِكُوهُ، وَاجْتَازَ الرَّيَّ، فَتَحَصَّنَ بِهَا نَائِبُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، فَسَارَ (إِلَى بَغْدَاذَ) ، فَوَصَلَهَا وَقَدْ مَاتَ الْمُكْتَفِي، وَوَلِيَ الْمُقْتَدِرُ بَعْدَهُ، (فَأَعْجَبَهُ الْمُقْتَدِرُ) . وَكَانَ وُصُولُهُ بَعْدَ حَادِثَةِ ابْنِ الْمُعْتَزِّ، فَسَيَّرَهُ الْمُقْتَدِرُ فِي عَسْكَرِهِ إِلَى بَنِي حَمْدَانَ وَوَلَّاهُ دِيَارَ رَبِيعَةَ، فَخَافَهُ أَصْحَابُ الْخَلِيفَةِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ، فَوَضَعُوا عَلَيْهِ غُلَامًا لَهُ فَسَمَّهُ فَمَاتَ، وَاسْتَوْلَى غُلَامُهُ عَلَى مَالِهِ، وَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِالْمَوْصِلِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُكْتَفِي فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ تُوُفِّيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ (أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُوَفَّقِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ) ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سِتَّ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ رَبْعًا جَمِيلًا، رَقِيقَ الْبَشَرَةِ، حَسَنَ الشِّعْرِ، وَافِرَ اللِّحْيَةِ، (وَكُنْيَتُهُ

أَبُو مُحَمَّدٍ) وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ تُرْكِيَّةٌ، اسْمُهَا جِيجَكْ، وَطَالَ عَلَيْهِ مَرَضُهُ عِدَّةَ شُهُورٍ، وَلَمَّا مَاتَ دُفِنَ بِدَارِ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ، (رَحِمَهُ اللَّهُ) . ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ وَكَانَ السَّبَبُ فِي وِلَايَةِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ الْخِلَافَةَ، وَهُوَ أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ الْمُعْتَضِدِ، أَنَّ الْمُكْتَفِيَ لَمَّا ثَقُلَ فِي مَرَضِهِ أَفْكَرَ الْوَزِيرُ حِينَئِذٍ، وَهُوَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْحَسَنِ، فِيمَنْ يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ، وَكَانَ عَادَتُهُ أَنْ يُسَايِرَهُ، إِذَا رَكِبَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الدَّوَاوِينَ، وَهُمْ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَأَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدَانَ، وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى، فَاسْتَشَارَ الْوَزِيرُ يَوْمًا مُحَمَّدَ بْنَ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ، وَوَصَفَهُ بِالْعَقْلِ وَالْأَدَبِ وَالرَّأْيِ، وَاسْتَشَارَ بَعْدَهُ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ الْفُرَاتِ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتِي أُشِيرُ فِيهِ، وَإِنَّمَا أُشَاوِرُ فِي الْعُمَّالِ لَا فِي الْخُلَفَاءِ، فَغَضِبَ الْوَزِيرُ وَقَالَ: هَذِهِ مُقَاطَعَةٌ بَارِدَةٌ، وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْكَ الصَّحِيحُ. وَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ رَأْيُ الْوَزِيرِ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَى أَحَدٍ يُعَيِّنُهُ فَلْيَفْعَلْ، فَعَلِمَ أَنَّهُ عَنَى ابْنَ الْمُعْتَزِّ لِاشْتِهَارِ خَبَرِهِ، فَقَالَ الْوَزِيرُ: لَا أَقْنَعُ إِلَّا أَنْ تَمْحَضَنِي النَّصِيحَةَ. فَقَالَ ابْنُ الْفُرَاتِ: فَلْيَتَّقِ اللَّهَ الْوَزِيرُ، وَلَا يُنَصِّبْ إِلَّا مَنْ قَدْ عَرَفَهُ، وَاطَّلَعَ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَلَا يُنَصِّبْ بَخِيلًا فَيُضَيِّقَ عَلَى النَّاسِ وَيَقْطَعَ أَرْزَاقَهُمْ، وَلَا طَمَّاعًا فَيَشْرَهَ فِي أَمْوَالِهِمْ، فَيُصَادِرَهُمْ وَيَأْخُذَ أَمْوَالَهُمْ وَأَمْلَاكَهُمْ، وَلَا قَلِيلَ الدِّينِ فَلَا يَخَافُ الْعُقُوبَةَ وَالْآثَامَ، وَيَرْجُو الثَّوَابَ فِيمَا يَفْعَلُهُ، وَلَا يُوَلِّ مَنْ عَرَفَ نِعْمَةَ هَذَا، وَبُسْتَانَ هَذَا، وَضَيْعَةَ

هَذَا، وَفَرَسَ هَذَا، وَمَنْ قَدْ لَقِيَ النَّاسَ وَلَقُوهُ، وَعَامَلَهُمْ وَعَامَلُوهُ، وَيَتَخَيَّلُ، وَيَحْسِبُ حِسَابَ نِعَمِ النَّاسِ، وَعَرَفَ وُجُوهَ دَخْلِهِمْ وَخَرْجِهِمْ. فَقَالَ الْوَزِيرُ: صَدَقْتَ وَنَصَحْتَ، فَبِمَنْ تُشِيرُ؟ قَالَ: أَصْلَحُ الْمَوْجُودِ جَعْفَرُ بْنُ الْمُعْتَضِدِ، قَالَ: وَيْحَكَ، هُوَ صَبِيٌّ، قَالَ ابْنُ الْفُرَاتِ: إِلَّا أَنَّهُ ابْنُ الْمُعْتَضِدِ، وَلَمْ نَأْتِ بِرَجُلٍ كَامِلٍ يُبَاشِرُ الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ، غَيْرِ مُحْتَاجٍ إِلَيْنَا. ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ اسْتَشَارَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى، فَلَمْ يُسَمِّ أَحَدًا، وَقَالَ: لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ، وَيَنْظُرَ مَنْ يَصْلُحُ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَمَالَتْ نَفْسُ الْوَزِيرِ إِلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِهِ ابْنُ الْفُرَاتِ، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ وَصِيَّةُ الْمُكْتَفِي، فَإِنَّهُ أَوْصَى، لَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ، بِتَقْلِيدِ أَخِيهِ جَعْفَرٍ الْخِلَافَةَ، فَلَمَّا مَاتَ الْمُكْتَفِي نَصَّبَ الْوَزِيرُ جَعْفَرًا لِلْخِلَافَةِ، وَعَيَّنَهُ لَهَا، وَأَرْسَلَ صَافِيًا الْحُرَمِيَّ إِلَيْهِ لِيُحَذِّرَهُ مِنْ دُورِ آلِ طَاهِرٍ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَكَانَ يَسْكُنُهَا، فَلَمَّا حَطَّهُ فِي الْحَرَّاقَةِ وَحَدَرَهُ، وَصَارَتِ الْحَرَّاقَةُ مُقَابِلَ دَارِ الْوَزِيرِ، صَاحَ غِلْمَانُ الْوَزِيرِ بِالْمَلَّاحِ لِيَدْخُلَ إِلَى دَارِ الْوَزِيرِ، فَظَنَّ صَافِي الْحُرَمِيُّ أَنَّ الْوَزِيرَ يُرِيدُ الْقَبْضَ عَلَى جَعْفَرٍ، وَيُنَصِّبُ فِي الْخِلَافَةِ غَيْرَهُ، فَمَنَعَ الْمَلَّاحَ مِنْ ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، وَأَخَذَ لَهُ صَافِي الْبَيْعَةَ عَلَى الْخَدَمِ، وَحَاشِيَةِ الدَّارِ، وَلَقَّبَ نَفْسَهُ الْمُقْتَدِرَ بِاللَّهِ، وَلَحِقَ الْوَزِيرُ بِهِ وَجَمَاعَةُ الْكُتَّابِ فَبَايَعُوهُ، ثُمَّ جَهَّزُوا الْمُكْتَفِيَ وَدَفَنُوهُ بِدَارِ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ.

وَلَمَّا بُويِعَ الْمُقْتَدِرُ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، حِينَ بُويِعَ، خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ (أَلْفِ) دِينَارٍ، فَأَطْلَقَ يَدَ الْوَزِيرِ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ حَقَّ الْبَيْعَةِ. وَكَانَ مَوْلِدُ الْمُقْتَدِرِ ثَامِنَ رَمَضَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا شَغَبُ، فَلَمَّا بُويِعَ اسْتَصْغَرَهُ الْوَزِيرُ، وَكَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَثُرَ كَلَامُ النَّاسِ (فِيهِ) ، فَعَزَمَ عَلَى خَلْعِهِ، وَتَقْلِيدِ الْخِلَافَةِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، (جَمِيلَ الْوَجْهِ) وَالْفِعْلِ، فَرَاسَلَهُ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَقَرَّ الْحَالُ، وَانْتَظَرَ الْوَزِيرُ قُدُومَ بَارِسَ حَاجِبُ إِسْمَاعِيلَ صَاحِبِ خُرَاسَانَ، وَكَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقُدُومِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَرَادَ الْوَزِيرُ [أَنْ] يَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى غِلْمَانِ الْمُعْتَضِدِ، فَتَأَخَّرَ بَارِسُ. وَاتَّفَقَ أَنَّهُ وَقَعَ بَيْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَمِدِ وَبَيْنَ ابْنِ عَمْرَوَيْهِ، صَاحِبِ الشُّرْطَةِ، (مُنَازَعَةٌ) فِي ضَيْعَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا، فَأَغْلَظَ ابْنُ عَمْرَوَيْهِ، فَغَضِبَ ابْنُ الْمُعْتَمِدِ غَضَبًا شَدِيدًا، وَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَفُلِجَ فِي الْمَجْلِسِ، فَحُمِلَ إِلَى ثِيَتِهِ فِي مِحَفَّةٍ، فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَأَرَادَ الْوَزِيرُ الْبَيْعَةَ لِأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ، فَمَاتَ أَيْضًا بَعْدَ

خَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَتَمَّ أَمْرُ الْمُقْتَدِرِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ نُجْحِ بْنِ جَاخَ وَبَيْنَ الْأَجْنَادِ بِمِنَىً، ثَانِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا جَائِزَةَ بَيْعَةِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَهَرَبَ النَّاسُ إِلَى بُسْتَانِ ابْنِ عَامِرٍ، وَأَصَابَ الْحُجَّاجَ فِي عَوْدِهِمْ عَطَشٌ عَظِيمٌ (فَمَاتَ) مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ. (وَحُكِيَ أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يَبُولُ فِي كَفِّهِ ثُمَّ يَشْرَبُهُ) . وَفِيهَا خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِسْمَعِيُّ عَنْ أَصْبَهَانَ إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا مُخَالِفًا لِلْخَلِيفَةِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَحْوٌ (مِنْ) عَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ الْأَكْرَادِ وَغَيْرِهِمْ، فَأُمِرَ بَدْرٌ الْحَمَّامِيُّ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَسَارَ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْجُنْدِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْصُورٍ الْكَاتِبُ يُخَوِّفُهُ عَاقِبَةَ الْخِلَافِ، فَسَارَ إِلَيْهِ وَأَدَّى (إِلَيْهِ) الرِّسَالَةَ، فَرَجَعَ إِلَى الطَّاعَةِ، وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَاسْتُخْلِفَ عَلَى عَمَلِهِ بِأَصْبَهَانَ، فَرَضِيَ عَنْهُ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ لِلْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى عَلَى أَعْرَابِ طَيٍّ، الَّذِينَ كَانُوا حَصَرُوا وَصِيفًا، عَلَى غِرَّةٍ مِنْهُمْ، فَقَتَلَ فِيهِمْ كَثِيرًا، وَأَسَرَ.

وَفِيهَا أَوْقَعَ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بِالْأَكْرَادِ الَّذِينَ تَغَلَّبُوا عَلَى نَوَاحِي الْمَوْصِلِ، فَظَفِرَ بِهِمْ، وَاسْتَبَاحَهُمْ، وَنَهَبَ أَمْوَالَهُمْ، وَهَرَبَ رَئِيسُهُمْ إِلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَلَمْ يُدْرَكْ. وَفِيهَا فَتَحَ الْمُظَفَّرُ بْنُ جَاخَ بَعْضَ مَا كَانَ غَلَبَ عَلَيْهِ الْخَارِجِيُّ بِالْيَمَنِ، وَأَخَذَ رَئِيسًا مِنْ (رُؤَسَاءِ أَصْحَابِهِ) ، يُعْرَفُ بِالْحَكِيمِيِّ. وَفِيهَا تَمَّ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ فُودِيَ بِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ثَلَاثَةَ آلَافِ نَفْسٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ الْجُرْجَانِيُّ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، الْفَقِيهُ (الشَّافِعِيُّ) الْمُحَدِّثُ. وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ (نَصْرٍ أَبُو) جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تُوُفِّيَ بِبَغْدَاذَ. وَأَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّورِيُّ شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ.

وَتُوُفِّيَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو عَلِيٍّ الْخِرَقِيُّ، الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ، يَوْمَ الْفِطْرِ (الْخِرَقِيُّ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ) ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي وَارَةَ.

ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 296 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ وَوِلَايَةِ ابْنِ الْمُعْتَزِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَ الْقُوَّادُ، وَالْقُضَاةُ، وَالْكُتَّابُ، مَعَ الْوَزِيرِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَسَنِ، عَلَى خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ، وَالْبَيْعَةِ لِابْنِ الْمُعْتَزِّ، (وَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الْمُعْتَزِّ) فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ سَفْكُ دَمٍ، وَلَا حَرْبٌ، فَأَخْبَرُوهُ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مُنَازِعٌ وَلَا مُحَارِبٌ. وَكَانَ الرَّأْسَ فِي ذَلِكَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَأَبُو الْمُثَنَّى أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، وَمِنَ الْقُوَّادِ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ، وَبَدْرٌ الْأَعْجَمِيُّ، وَوَصِيفُ بْنُ صُوَارِتِكِينَ. ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ رَأَى أَمَرَهُ صَالِحًا مَعَ الْمُقْتَدِرِ، وَأَنَّهُ عَلَى مَا يُحِبُّ، فَبَدَا لَهُ فِي ذَلِكَ، فَوَثَبَ بِهِ الْآخَرُونَ فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى قَتْلَهُ مِنْهُمُ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ، وَبَدْرٌ الْأَعْجَمِيُّ، وَوَصِيفٌ، وَلَحِقُوهُ، وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى بُسْتَانٍ لَهُ، فَقَتَلُوهُ فِي طَرِيقِهِ، وَقَتَلُوا مَعَهُ فَاتِكًا الْمُعْتَضِدِيَّ، وَذَلِكَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَخُلِعَ الْمُقْتَدِرُ مِنَ الْغَدِ، وَبَايَعَ النَّاسُ لِابْنِ الْمُعْتَزِّ. وَرَكَضَ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ إِلَى الْحَلْبَةِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْمُقْتَدِرَ يَلْعَبُ هُنَاكَ بِالْكُرَةِ، فَيَقْتُلَهُ، فَلَمْ يُصَادِفْهُ، لِأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ، فَبَلَغَهُ قَتْلُ الْوَزِيرِ وَفَاتِكٍ، فَرَكَّضَ دَابَّتَهُ فَدَخَلَ الدَّارَ، وَغُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ، فَنَدِمَ الْحُسَيْنُ حَيْثُ لَمْ يَبْدَأْ بِالْمُقْتَدِرِ.

وَأَحْضَرُوا ابْنَ الْمُعْتَزِّ وَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ، وَكَانَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَخْذَ الْبَيْعَةِ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَزْرَقُ، وَحَضَرَ النَّاسُ، وَالْقُوَّادُ، وَأَصْحَابُ الدَّوَاوِينِ، سِوَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَخَوَاصِّ الْمُقْتَدِرِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَحْضُرُوا. وَلُقِّبَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ الْمُرْتَضِيَ بِاللَّهِ، وَاسْتَوْزَرَ مُحَمَّدَ بْنَ دَاوُدَ الْجَرَّاحَ، وَقَلَّدَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى الدَّوَاوِينَ، وَكُتِبَتِ الْكُتُبُ إِلَى الْبِلَادِ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُرْتَضِي بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ، وَوَجَّهَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ يَأْمُرُهُ بِالِانْتِقَالِ إِلَى دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ الَّتِي كَانَ مُقِيمًا فِيهَا، لِيَنْتَقِلَ هُوَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَأَجَابَهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَسَأَلَ الْإِمْهَالَ إِلَى اللَّيْلِ. وَعَادَ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ بُكَرَةَ غَدٍ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَقَاتَلَهُ الْخَدَمُ وَالْغِلْمَانُ وَالرَّجَّالَةُ مِنْ وَرَاءِ السُّتُورِ عَامَّةَ النَّهَارِ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ آخِرَ النَّهَارِ، فَلَمَّا جَنَّهُ اللَّيْلُ سَارَ عَنْ بَغْدَاذَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ وَكُلِّ مَا لَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، لَا يَدْرِي لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مَعَ الْمُقْتَدِرِ مِنَ الْقُوَّادِ غَيْرُ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، وَمُؤْنِسٍ الْخَازِنِ، وَغَرِيبِ الْخَالِ وَحَاشِيَةِ الدَّارِ. فَلَمَّا هَمَّ الْمُقْتَدِرُ بِالِانْتِقَالِ عَنِ الدَّارِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا نُسَلِّمُ الْخِلَافَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نُبْلِيَ عُذْرًا، وَنَجْتَهِدَ فِي دَفْعِ مَا أَصَابَنَا، فَأُجْمِعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَصْعَدُوا فِي الْمَاءِ إِلَى الدَّارِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ الْمُعْتَزِّ بِالْحُرَمِ يُقَاتِلُونَهُ، فَأَخْرَجَ لَهُمُ الْمُقْتَدِرُ السِّلَاحَ وَالزَّرَدِيَّاتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَرَكِبُوا السُّمَيْرِيِّاتِ، وَأَصْعَدُوا فِي الْمَاءِ، فَلَمَّا رَآهُمْ مَنْ عِنْدَ ابْنِ الْمُعْتَزِّ هَالَهُمْ كَثْرَتُهُمْ، وَاضْطَرَبُوا وَهَرَبُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ حَمْدَانَ عَرَفَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَجْرِيَ فَهَرَبَ مِنَ اللَّيْلِ، وَهَذِهِ مُوَاطَأَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقْتَدِرِ، وَهَذَا كَانَ سَبَبَ هَرَبِهِ.

وَلَمَّا رَأَى ابْنُ الْمُعْتَزِّ ذَلِكَ رَكِبَ وَمَعَهُ وَزِيرُهُ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ وَهَرَبَا، وَغُلَامٌ لَهُ يُنَادِي بَيْنَ يَدَيْهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَامَّةِ، ادْعُوا لِخَلِيفَتِكُمُ السُّنِّيِّ الْبَرْبَهَارِيِّ، وَإِنَّمَا نُسِبَتْ هَذِهِ النِّسْبَةُ لِأَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَرْبَهَارِيَّ كَانَ مُقَدَّمَ الْحَنَابِلَةِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْعَامَّةِ، وَلَهُمْ فِيهَا اعْتِقَادٌ عَظِيمٌ، فَأَرَادَ اسْتِمَالَتَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْمُعْتَزِّ وَمَنْ مَعَهُ سَارُوا نَحْوَ الصَّحْرَاءِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ مَنْ بَايَعَهُ مِنَ الْجُنْدِ يَتْبَعُونَهُ، فَلَمْ يَلْحَقْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَكَانُوا عَزَمُوا أَنْ يَسِيرُوا إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى بِمَنْ يَتْبَعُهُمْ مِنَ الْجُنْدِ، فَيَشْتَدَّ سُلْطَانُهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ أَحَدٌ رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ الرَّأْيِ، وَاخْتَفَى مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ (فِي دَارِهِ) وَنَزَلَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ عَنْ (دَابَّتِهِ) وَمَعَهُ غُلَامُهُ يُمْنٌ، وَانْحَدَرَ إِلَى دَارِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَصَّاصِ، فَاسْتَجَارَ بِهِ، وَاسْتَتَرَ أَكْثَرُ مَنْ بَايَعَ ابْنَ الْمُعْتَزِّ، وَوَقَعَتِ الْفِتْنَةُ وَالنَّهْبُ وَالْقَتْلُ بِبَغْدَاذَ، وَثَارَ الْعَيَّارُونَ وَالسِّفْلُ يَنْهَبُونَ الدُّورَ. وَكَانَ ابْنُ عَمْرَوَيْهِ، صَاحِبُ الشُّرْطَةِ، مِمَّنْ بَايَعَ ابْنَ الْمُعْتَزِّ، فَلَمَّا هَرَبَ جَمَعَ ابْنُ عَمْرَوَيْهِ أَصْحَابَهُ، وَنَادَى بِشِعَارِ الْمُقْتَدِرِ، يُدَلِّسُ بِذَلِكَ فَنَادَاهُ الْعَامَّةُ: يَا مُرَائِي، يَا كَذَّابُ! وَقَاتَلُوهُ، فَهَرَبَ وَاسْتَتَرَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، فَهَجَاهُ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ بِأَبْيَاتٍ مِنْهَا: بَايَعُوهُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْأَنْ ... وُكِ إِلَّا التَّغْيِيرُ وَالتَّخْبِيطُ

رَافِضِيُّونَ بَايَعُوا أَنْصَبَ الْأُ مَّةِ هَذَا لَعَمْرِيَ التَّخْلِيطُ ... ثُمَّ وَلَّى مِنْ زَعْقَةٍ وَمُحَامُو هُ وَمَنْ خَلْفَهُمْ لَهُمْ تَضْرِيطُ وَقَلَّدَ الْمُقْتَدِرُ، تِلْكَ السَّاعَةَ، الشُّرْطَةَ مُؤْنِسًا الْخَازِنَ، وَهُوَ غَيْرُ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، وَخَرَجَ بِالْعَسْكَرِ، وَقَبَضَ عَلَى وَصِيفِ بْنِ صُوَارِتِكِينَ وَغَيْرِهِ، فَقَتَلَهُمْ، وَقَبَضَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ، وَعَلِيَّ بْنِ عِيسَى، وَالْقَاضِي مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ وَكِيعٍ، ثُمَّ أَطْلَقَهُمْ، وَقَبَضَ عَلَى الْقَاضِي الْمُثَنَّى أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، فَقَتَلَهُ لِأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: بَايِعِ الْمُقْتَدِرَ، فَقَالَ: لَا أُبَايِعُ صَبِيًّا، فَذُبِحَ. وَأَرْسَلَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَكَانَ مُخْتَفِيًا، فَأَحْضَرَهُ، وَاسْتَوْزَرَهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ. وَكَانَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ عَجَائِبُ مِنْهَا: أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ وَالْبَيْعَةِ لِابْنِ الْمُعْتَزِّ، فَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ إِرَادَتِهِمْ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. وَمِنْهَا أَنَّ ابْنَ حَمْدَانَ، عَلَى شِدَّةِ تَشَيُّعِهِ وَمَيْلِهِ إِلَى عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ، يَسْعَى فِي الْبَيْعَةِ لِابْنِ الْمُعْتَزِّ عَلَى انْحِرَافِهِ عَنْ عَلِيٍّ وَغُلُوِّهِ فِي النَّصْبِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ خَادِمًا لِابْنِ الْجَصَّاصِ، يُعْرَفُ بِسَوْسَنَ، أَخْبَرَ صَافِيًا الْحُرَمِيَّ بِأَنَّ ابْنَ الْمُعْتَزِّ عِنْدَ مَوْلَاهُ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَكُبِسَتْ دَارُ ابْنِ الْجَصَّاصِ، وَأُخِذَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ مِنْهَا، وَحُبِسَ إِلَى اللَّيْلِ، وَعُصِرَتْ خُصْيَتَاهُ حَتَّى مَاتَ، وَلُفَّ فِي كِسَاءٍ، وَسُلِّمَ إِلَى أَهْلِهِ. وَصُودِرَ ابْنُ الْجَصَّاصِ عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ، وَأُخِذَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ وَزِيرُ ابْنِ الْمُعْتَزِّ، وَكَانَ

مُسْتَتِرًا، فَقُتِلِ، وَنُفِيَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى إِلَى وَاسِطَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْوَزِيرِ ابْنِ الْفُرَاتِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْمَسِيرِ إِلَى مَكَّةَ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَسَارَ إِلَيْهَا عَلَى طَرِيقِ الْبَصْرَةِ وَأَقَامَ بِهَا. وَصُودِرَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَسُيِّرَتِ الْعَسَاكِرُ مِنْ بَغْدَاذَ فِي طَلَبِ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْدَانَ فَتَبِعُوهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، ثُمَّ إِلَى بَلَدٍ فَلَمْ يَظْفَرُوا بِهِ فَعَادُوا إِلَى بَغْدَاذَ (فَكَتَبَ الْوَزِيرُ إِلَى أَخِيهِ أَبِي الْهَيْجَاءِ بْنِ حَمْدَانَ، وَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَى الْمَوْصِلِ، يَأْمُرُهُ بِطَلَبِهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ إِلَى بَلَدٍ، فَفَارَقَهَا الْحُسَيْنُ إِلَى سِنْجَارَ وَأَخُوهُ فِي أَثَرِهِ، فَدَخَلَ الْبَرِّيَّةَ فَتَبِعَهُ أَخُوهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَأَدْرَكَهُ فَاقْتَتَلُوا فَظَفِرَ أَبُو الْهَيْجَاءِ، وَأُسِرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَأُخِذَ مِنْهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَعَادَ عَنْهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَمَّا كَانَ فَوْقَ تَكْرِيتَ أَدْرَكَهُ أَخُوهُ الْحُسَيْنُ، فَبَيَّتَهُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ قَتْلَى، وَانْحَدَرَ أَبُو الْهَيْجَاءِ إِلَى بَغْدَاذَ. وَأَرْسَلَ الْحُسَيْنُ إِلَى ابْنِ الْفُرَاتِ، وَزِيرِ الْمُقْتَدِرِ، يَسْأَلُهُ الرِّضَى عَنْهُ، فَشَفَعَ فِيهِ إِلَى الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ لِيَرْضَى عَنْهُ، وَعَنْ) إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَيْغَلَغَ، وَابْنِ عَمْرَوَيْهِ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ وَغَيْرِهِمْ، (فَرَضِيَ عَنْهُمْ، وَدَخَلَ الْحُسَيْنُ بَغْدَاذَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ أَخُوهُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، وَأَقَامَ الْحُسَيْنُ بِبَغْدَاذَ إِلَى أَنْ وَلِيَ قُمَّ فَسَارَ إِلَيْهَا) ، وَأَخَذَ الْجَرَائِدَ الَّتِي فِيهَا أَسْمَاءُ مَنْ أَعَانَ عَلَى الْمُقْتَدِرِ، فَغَرَّقَهَا فِي دِجْلَةَ. وَبَسَطَ ابْنُ الْفُرَاتِ الْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ وَأَخْرَجَ الْإِدْرَارَاتِ لِلْعَبَّاسِيِّينَ وَالطَّالِبِيِّينَ، وَأَرْضَى الْقُوَّادَ بِالْأَمْوَالِ، فَفَرَّقَ مُعْظَمَ مَا كَانَ فِي بُيُوتِ الْأَمْوَالِ. ذِكْرُ حَادِثَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَاطَ مِنْ مِثْلِهَا وَيُفْعَلَ فِيهَا مِثْلُ فِعْلِ صَاحِبِهَا كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُخَلَّدٍ مُتَّصِلًا بِابْنِ الْفُرَاتِ، وَبَيْنَهُمَا مَوَدَّةٌ وَصَدَاقَةٌ، فَوَجَدَ الْوَزِيرُ كُتُبَ الْبَيْعَةِ لِابْنِ الْمُعْتَزِّ بِخَطِّ سُلَيْمَانَ لِاتِّصَالٍ كَانَ لِمُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا، فَلَمْ يُظْهِرْ عَلَيْهَا الْمُقْتَدِرَ، وَأَخْفَاهَا عَنْهُ، وَأَحْسَنَ ابْنُ الْفُرَاتِ إِلَى

سُلَيْمَانَ، وَقَلَّدَهُ الْأَعْمَالَ، فَسَعَى سُلَيْمَانُ بِابْنِ الْفُرَاتِ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، وَكَتَبَ بِخَطِّهِ مُطَالَعَةً تَتَضَمَّنُ ذِكْرَ أَمَلَاكِ الْوَزِيرِ وَضِيَاعِهِ وَمُسْتَغَلَّاتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِهِ، وَأَخَذَ الرُّقْعَةَ لِيُوَصِّلَهَا إِلَى الْمُقْتَدِرِ، فَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ ذَلِكَ. وَحَضَرَ دَارَ الْوَزِيرِ وَهِيَ مَعَهُ، وَسَقَطَتْ مِنْ كُمِّهِ، فَظَفِرَ بِهَا بَعْضُ الْكُتَّابِ فَأَوْصَلَهَا إِلَى الْوَزِيرِ، فَلَمَّا قَرَأَهَا قَبَضَ عَلَى سُلَيْمَانَ، وَجَعَلَهُ فِي زَوْرَقٍ وَأَحْضَرَهُ إِلَى وَاسِطَ، وَوَكَّلَ بِهِ هُنَاكَ، وَصَادَرَهُ، ثُمَّ أَرَادَ الْعَفْوَ عَنْهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: نَظَرْتُ - أَعَزَّكَ اللَّهُ - فِي حَقِّكَ عَلَيَّ وَجُرْمِكَ إِلَيَّ، فَرَأَيْتُ الْحَقَّ مُوفِيًا عَلَى الْجُرْمِ، وَتَذَكَّرْتُ مِنْ سَالِفِ خِدْمَتِكَ مَا عَطَّفَنِي عَلَيْكَ، وَثَنَانِي إِلَيْكَ وَأَعَادَنِي لَكَ إِلَى أَفْضَلِ مَا عَهِدْتُ، وَأَجْمَلِ مَا أَلِفْتُ، وَأَطْلَقَ لَهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَعَفَا عَنْهُ، وَاسْتَعْمَلَهُ وَأَكْرَمَهُ. ذِكْرُ وِلَايَةِ أَبِي مُضَرَ إِفْرِيقِيَّةَ وَهَرَبِهُ إِلَى الْعِرَاقِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، مُسْتَهَلِّ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلِيَ أَبُو مُضَرَ زِيَادَةُ اللَّهِ بْنُ (أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ) عَبْدِ اللَّهِ إِفْرِيقِيَّةَ، بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِ، فَعَكَفَ عَلَى اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَمُلَازِمَةِ النُّدَمَاءِ وَالْمُضْحِكِينَ، وَأَهْمَلَ أُمُورَ الْمَمْلَكَةِ وَأَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ، وَأَرْسَلَ كِتَابًا، (يَوْمَ وُلِّيَ) إِلَى عَمِّهِ الْأَحْوَلِ عَلَى لِسَانِ أَبِيهِ يَسْتَعْجِلُهُ (فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ وَيَحُثُّهُ عَلَى السُّرْعَةِ، فَسَارَ مُجِدًّا وَلَمْ يَعْلَمْ بِقَتْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ) ، فَلَمَّا وَصَلَ قَتَلَهُ وَقَتَلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَامِهِ وَإِخْوَتِهِ. وَاشْتَدَّتْ شَوْكَةُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ فِي أَيَّامِهِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَكَانَ الْأَحْوَلُ قُبَالَتَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ صَفَتْ لَهُ الْبِلَادُ، وَدَانَتْ لَهُ الْأَمْصَارُ وَالْعِبَادُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ زِيَادَةُ اللَّهِ جَيْشًا مَعَ

إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْأَغْلَبِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَمِّهِ، بَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا سِوَى مَنِ انْضَافَ إِلَيْهِ، فَهَزَمَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ (آنِفًا) ، فَلَمَّا اتَّصَلَ بِزِيَادَةِ اللَّهِ خَبَرُ الْهَزِيمَةِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا مُقَامَ لَهُ لِأَنَّ هَذَا (الْجَمْعَ) هُوَ آخِرُ مَا انْتَهَتْ قُدْرَتُهُ إِلَيْهِ، فَجَمَعَ مَا عَزَّ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَعَزَمَ عَلَى الْهَرَبِ إِلَى بِلَادِ الشَّرْقِ، وَأَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَهُ خَبَرُ، (هَزِيمَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ) ، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ رِجَالٍ مِنَ الْحَبْسِ، فَقَتَلَهُمْ، وَأَعْلَمَ خَاصَّتَهُ حَقِيقَةَ الْحَالِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ. فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَهْلُ دَوْلَتِهِ بِأَنْ لَا يَفْعَلَ وَلَا يَتْرُكَ مُلْكَهُ. قَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَا يُجْسَرُ عَلَيْهِ فَشَتَمَهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ رَأْيَهُ، وَقَالَ: أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكَ أَنْ يَأْخُذَنِي بِيَدِي. وَانْصَرَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ خَاصَّتِهِ وَأَهْلِهِ يَتَجَهَّزُ لِلْمَسِيرِ مَعَهُ، وَأَخْذِ مَا أَمْكَنَهُ حَمْلُهُ. وَكَانَتْ دَوْلَةُ آلِ (الْأَغْلَبِ بِإِفْرِيقِيَّةَ) قَدْ طَالَتْ مُدَّتُهَا، وَكَثُرَتْ عَبِيدُهَا (وَقَوِيَ سُلْطَانُهَا) ، وَسَارَ عَنْ إِفْرِيقِيَةَ إِلَى مِصْرَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَاجْتَمَعَ مَعَهُ خَلْقٌ عَظِيمٌ، فَلَمْ يَزَلْ سَائِرًا حَتَّى وَصَلَ طَرَابُلُسَ، فَدَخَلَهَا، فَأَقَامَ بِهَا تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَرَأَى بِهَا أَبَا الْعَبَّاسِ أَخَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ، وَكَانَ مَحْبُوسًا بِالْقَيْرَوَانِ، حَبَسَهُ زِيَادَةُ اللَّهِ، فَهَرَبَ إِلَى طَرَابُلُسَ، فَلَمَّا رَآهُ أَحْضَرَهُ وَقَرَّرَهُ: هَلْ هُوَ أَخُو أَبِي عَبْدِ اللَّهِ؟ فَأَنْكَرَ وَقَالَ: أَنَا رَجُلٌ تَاجِرٌ قِيلَ عَنِّي، (إِنَّنِي أَخُو أَبِي عَبْدِ اللَّهِ) فَحَبَسْتَنِي. فَقَالَ لَهُ زِيَادَةُ اللَّهِ: أَنَا أُطْلِقُكَ فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِي أَنَّكَ تَاجِرٌ فَلَا نَأْثَمُ فِيكَ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، وَأَنْتَ أَخُو

أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَلْيَكُنْ لِلصَّنِيعَةِ عِنْدَكَ مَوْضِعٌ، وَتَحْفَظْنَا فِيمَنْ خَلَّفْنَاهُ. وَأَطْلَقَهُ. وَكَانَ مِنْ كِبَارِ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْأَغْلَبِ، فَأَرَادَ قَتْلَهُ وَقَتْلَ رَجُلٍ آخَرَ كَانَا قَدْ عَرَضَا أَنْفُسَهُمَا عَلَى وِلَايَةِ الْقَيْرَوَانِ، فَعَلِمَا ذَلِكَ، وَهَرَبَا إِلَى مِصْرَ، وَقَدِمَا عَلَى الْعَامِلِ بِهَا وَهُوَ عِيسَى النُّوشَرِيُّ، فَتَحَدَّثَا مَعَهُ، وَسَعَيَا بِزِيَادَةِ اللَّهِ وَقَالَا لَهُ: إِنَّهُ يُمَنِّي نَفْسَهُ بِوِلَايَةِ مِصْرَ، فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، وَأَرَادَ مَنْعَهُ عَنْ دُخُولِ مِصْرَ إِلَّا بِأَمْرِ الْخَلِيفَةِ مِنْ بَغْدَاذَ، فَوَصَلَ زِيَادَةُ اللَّهِ لَيْلًا، وَعَبَرَ الْجِسْرَ إِلَى الْجِيزَةِ قَهْرًا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ النُّوشَرِيُّ لَمْ يُمْكِنْهُ مَنْعُهُ، فَأَنْزَلَهُ بِدَارِ ابْنِ الْجَصَّاصِ، وَنَزَلَ أَصْحَابُهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، فَأَقَامَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَرَحَلَ يُرِيدُ بَغْدَاذَ، فَهَرَبَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَفِيهِمْ غُلَامٌ لَهُ، (وَأُخِذَ مِنْهُ مِائَةُ) أَلْفِ دِينَارٍ فَأَقَامَ عِنْدَ النُّوشَرِيِّ، فَأَرْسَلَ النُّوشَرِيُّ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ، يُعَرِّفُهُ حَالَ زِيَادَةِ اللَّهِ وَحَالَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ بِمِصْرَ، فَأَمَرَهُ بِرَدِّ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ إِلَيْهِ مَعَ الْمَالِ، فَفَعَلَ. وَسَارَ زِيَادَةُ اللَّهِ حَتَّى بَلَغَ الرَّقَّةَ وَكَتَبَ إِلَى الْوَزِيرِ وَهُوَ ابْنُ الْفُرَاتِ يَسْأَلُهُ فِي الْإِذْنِ لَهُ لِدُخُولِ بَغْدَاذَ، فَأَمَرَهُ بِالتَّوَقُّفِ، فَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ (سَنَةً) ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا مُدْمِنٌ الْخَمْرَ، وَاسْتِمَاعَ الْمَلَاهِي، وَسُعِيَ بِهِ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، وَقِيلَ لَهُ يُرَدُّ إِلَى الْمَغْرِبِ يَطْلُبُ بِثَأْرِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى النُّوشَرِيِّ بِإِنْجَادِهِ بِالرِّجَالِ وَالْعُدَدِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ مِصْرَ لِيَعُودَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَعَادَ إِلَى مِصْرَ، فَأَمَرَهُ النُّوشَرِيُّ بِالْخُرُوجِ إِلَى ذَاتِ الْحَمَّامِ لِيَكُونَ هُنَاكَ إِلَى أَنْ يَجْتَمِعَ إِلَيْهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالْمَالِ، فَفَعَلَ، (وَمَطَلَهُ) ، فَطَالَ مُقَامَهُ، وَتَتَابَعَتْ بِهِ الْأَمْرَاضُ. وَقِيلَ بَلْ سَمَّهُ بَعْضُ غِلْمَانِهِ، فَسَقَطَ شَعْرُ لِحْيَتِهِ، فَعَادَ إِلَى مِصْرَ، وَقَصَدَ الْبَيْتَ

الْمُقَدَّسَ، فَتُوُفِّيَ بِالرَّمْلَةِ وَدُفِنَ بِهَا. فَسُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَلَا يَزُولُ مُلْكُهُ وَلَمْ يَبْقَ بِالْمَغْرِبِ مِنْ بَنِي الْأَغْلَبِ أَحَدٌ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِمْ مِائَةَ سَنَةٍ وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّنَا نَخْرُجُ إِلَى مِصْرَ وَالشَّامِ، وَنَرْبُطُ خَيْلَنَا فِي زَيْتُونِ فِلَسْطِينَ، فَكَانَ زِيَادَةُ اللَّهِ هُوَ الْخَارِجَ إِلَى فِلَسْطِينَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ لَا عَلَى مَا ظَنُّوهُ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَلَوِيَّةِ بِإِفْرِيقِيَّةَ هَذِهِ دَوْلَةٌ اتَّسَعَتْ أَكْنَافُ مَمْلَكَتِهَا، وَطَالَتْ مُدَّتُهَا، فَإِنَّهَا مَلَكَتْ إِفْرِيقِيَّةَ هَذِهِ السَّنَةَ، وَانْقَرَضَتْ دَوْلَتُهُمْ بِمِصْرَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَنَحْتَاجُ أَنْ نَسْتَقْصِيَ ذِكْرَهَا فَنَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ وَلِيَ مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ عُبَيْدُ اللَّهِ، فَقِيلَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، (وَمَنْ يَنْسِبُ هَذَا النَّسَبَ يَجْعَلُهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْقَدَّاحِيَّةُ. وَقِيلَ هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الثَّانِي ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ نَسَبِهِ، فَقَالَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْقَائِلُونَ بِإِمَامَتِهِ: إِنَّ نَسَبَهُ صَحِيحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَمْ يَرْتَابُوا فِيهِ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ الْعَالِمِينَ بِالْأَنْسَابِ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ أَيْضًا، وَيَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مَا قَالَهُ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ:

مَا مُقَامِي عَلَى الْهَوَانِ وَعِنْدِي ... مَقُولٌ صَارِمٌ، وَأَنْفٌ حَمِيُّ أَلْبَسُ الذُّلَّ فِي بِلَادِ الْأَعَادِي ... وَبِمِصْرَ الْخَلِيفَةُ الْعَلَوِيُّ مَنْ أَبُوهُ أَبِي، وَمَوْلَاهُ مَوْلَا ... يَ إِذَا ضَامَنِي الْبَعِيدُ الْقَصِيُّ لَفَّ عِرْقِي بِعِرْقِهِ سَيِّدَا النَّا ... سِ جَمِيعًا: مُحَمَّدٌ، وَعَلِيُّ إِنَّ ذُلِّي بِذَلِكَ الْجَوِّ عِزٌّ ... وَأُوَامِي بِذَلِكَ النَّقْعِ رِيُّ وَإِنَّمَا لَمْ يُودِعْهَا فِي بَعْضِ دِيوَانِهِ خَوْفًا، وَلَا حُجَّةَ بِمَا كَتَبَهُ فِي الْمَحْضَرِ الْمُتَضَمِّنِ الْقَدْحَ فِي أَنْسَابِهِمْ، فَإِنَّ الْخَوْفَ يَحْمِلُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ مَا يُصَدِّقُ مَا ذَكَرْتُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْقَادِرَ بِاللَّهِ لَمَّا بَلَغَتْهُ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ أَحْضَرَ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْبَاقِلَّانِيِّ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى الشَّرِيفِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوسَوِيِّ وَالِدِ الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ، يَقُولُ لَهُ: قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَتَكَ مِنَّا، وَمَا لَا نَزَالُ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِدَادِ بِكَ بِصِدْقِ الْمُوَالَاةِ مِنْكَ، وَمَا تَقَدَّمَ لَكَ فِي الدَّوْلَةِ مِنْ مَوَاقِفَ مَحْمُودَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ عَلَى خَلِيفَةٍ تَرْضَاهُ، وَيَكُونَ وَلَدُكَ عَلَى مَا يُضَادُّهَا، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ قَالَ شِعْرًا، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي عَلَى أَيِّ مُقَامِ ذُلٍّ أَقَامَ، وَهُوَ نَاظِرٌ فِي النِّقَابَةِ وَالْحَجِّ، وَهُمَا مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْمَالِ، وَلَوْ كَانَ بِمِصْرَ لَكَانَ كَبَعْضِ الرَّعَايَا، وَأَطَالَ الْقَوْلَ، فَحَلَفَ أَبُو أَحْمَدَ أَنَّهُ مَا عَلِمَ بِذَلِكَ. وَأَحْضَرَ وَلَدَهُ، وَقَالَ لَهُ فِي الْمَعْنَى فَأَنْكَرَ الشِّعْرَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ خَطَّكَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِالِاعْتِذَارِ، وَاذْكُرْ فِيهِ أَنَّ نَسَبَ الْمِصْرِيِّ مَدْخُولٌ، وَأَنَّهُ مُدَّعٍ فِي نَسَبِهِ، فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ! فَقَالَ أَبُوهُ: تُكَذِّبُنِي فِي قَوْلِي؟

فَقَالَ: مَا أُكَذِّبُكَ، وَلَكِنِّي أَخَافُ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَأَخَافُ مِنَ الْمِصْرِيِّ وَمِنَ الدُّعَاةِ فِي الْبِلَادِ، فَقَالَ أَبُوهُ: أَتَخَافُ مِمَّنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنْكَ، وَتُرَاقِبُهُ، وَتُسْخِطُ مَنْ (هُوَ قَرِيبٌ) وَأَنْتَ بِمَرْأًى مِنْهُ وَمَسْمَعٍ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ؟ وَتَرَدَّدَ الْقَوْلُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَكْتُبِ الرَّضِيُّ خَطَّهُ، فَحَرَدَ عَلَيْهِ أَبُوهُ وَغَضِبَ وَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يُقِيمُ مَعَهُ فِي بَلَدٍ، فَآلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ حَلَفَ الرَّضِيُّ (أَنَّهُ) مَا قَالَ هَذَا الشِّعْرَ وَانْدَرَجَتِ الْقِصَّةُ عَلَى هَذَا. فَفِي امْتِنَاعِ الرَّضِيِّ مِنَ الِاعْتِذَارِ، وَمِنْ أَنْ يَكْتُبَ طَعْنًا فِي نَسَبِهِمْ مَعَ الْخَوْفِ، دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى صِحَّةِ نَسَبِهِمْ. وَسَأَلْتُ أَنَا جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ الْعَلَوِيِّينَ فِي نَسَبِهِ، فَلَمْ يَرْتَابُوا فِي صِحَّتِهِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ نَسَبَهُ مَدْخُولٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَعَدَا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنْ جَعَلُوا نَسَبَهُ يَهُودِيًّا، وَقَدْ كُتِبَ فِي الْأَيَّامِ الْقَادِرِيَّةِ مَحْضَرٌ يَتَضَمَّنُ الْقَدْحَ فِي نَسَبِهِ وَنَسَبِ أَوْلَادِهِ، وَكَتَبَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ نَسَبَهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ غَيْرُ صَحِيحٍ. فَمِمَّنْ كَتَبَ فِيهِ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ الْمُرْتَضَى، وَأَخُوهُ الرَّضِيُّ، وَابْنُ الْبَطْحَاوِيِّ، وَابْنُ الْأَزْرَقِ الْعَلَوِيَّانِ، وَمِنْ غَيْرِهِمُ ابْنُ الْأَكْفَانِيِّ وَابْنُ الْخَرَزِيِّ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْأَبِيوَرْدِيُّ، وَأَبُو حَامِدٍ، وَالْكَشْفَلِيُّ، وَالْقُدُورِيُّ، وَالصَّيْمَرِيُّ أَبُو الْفَضْلِ النَّسَوِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ النَّسَفِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ النُّعْمَانِ، فَقِيهُ الشِّيعَةِ.

وَزَعَمَ الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ نَسَبِهِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مِمَّنْ كَتَبَ فِي الْمَحْضَرِ إِنَّمَا كَتَبُوا خَوْفًا وَتَقِيَّةً، وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِالْأَنْسَابِ فَلَا احْتِجَاجَ بِقَوْلِهِ. وَزَعَمَ الْأَمِيرُ عَبْدُ الْعَزِيزِ، صَاحِبُ تَارِيخِ إِفْرِيقِيَّةَ وَالْمَغْرِبِ، أَنَّ نَسَبَهُ مُعْرِقٌ فِي الْيَهُودِيَّةِ، وَنَقَلَ فِيهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدِ اسْتَقْصَى، ذِكْرَ ابْتِدَاءِ دَوْلَتِهِمْ، وَبَالَغَ. وَأَنَا أَذْكُرُ مَعْنَى مَا قَالَهُ مَعَ الْبَرَاءَةِ مِنْ عُهْدَةِ طَعْنِهِ فِي نَسَبِهِ، وَمَا عَدَاهُ فَقَدْ أَحْسَنَ فِيمَا ذَكَرَ، قَالَ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى سَيِّدَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالرُّومِ وَالْفُرْسِ وَقُرَيْشٍ، وَسَائِرِ الْعَرَبِ، لِأَنَّهُ سَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ، (وَعَابَ) أَدْيَانَهُمْ وَآلِهَتَهُمْ، وَفَرَّقَ جَمْعَهُمْ، فَاجْتَمَعُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَيْهِ، فَكَفَاهُ اللَّهُ كَيْدَهُمْ، وَنَصَرَهُ عَلَيْهِمْ، فَأَسْلَمَ مِنْهُمْ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمَّا قُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَجَمَ النِّفَاقُ، وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، وَظَنُّوا أَنَّ الصَّحَابَةَ يَضْعُفُونَ بَعْدَهُ، فَجَاهَدَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَتَلَ مُسَيْلِمَةَ، وَرَدَّ الرِّدَّةَ، وَأَذَلَّ الْكُفْرَ، وَوَطَّأَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ، وَغَزَا فَارِسَ وَالرُّومَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ظَنُّوا أَنَّ بِوَفَاتِهِ يَنْتَقِصُ الْإِسْلَامُ. فَاسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَأَذَلَّ فَارِسَ وَالرُّومَ، وَغَلَبَ عَلَى مَمَالِكِهَا، فَدَسَّ عَلَيْهِ الْمُنَافِقُونَ أَبَا لُؤْلُؤَةَ فَقَتَلَهُ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ بِقَتْلِهِ يَنْطَفِئُ نُورُ الْإِسْلَامِ. فَوُلِّيَ بَعْدَهُ عُثْمَانُ، فَزَادَ فِي الْفُتُوحِ، وَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَةُ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا قُتِلَ وَوُلِّيَ بَعْدَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ قَامَ بِالْأَمْرِ أَحْسَنَ قِيَامٍ. فَلَمَّا يَئِسَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنَ اسْتِئْصَالِهِ بِالْقُوَّةِ أَخَذُوا فِي وَضْعِ الْأَحَادِيثِ الْكَاذِبَةِ، وَتَشْكِيكِ ضَعَفَةِ الْعُقُولِ فِي دِينِهِمْ، بِأُمُورٍ قَدْ ضَبَطَهَا الْمُحَدِّثُونَ، وَأَفْسَدُوا الصَّحِيحَ

بِالتَّأْوِيلِ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْنَبَ مَوْلَى بَنِي أَسَدٍ وَأَبُو شَاكِرٍ مَيْمُونُ بْنُ دَيْصَانَ صَاحِبُ كِتَابِ " الْمِيزَانِ " فِي نُصْرَةِ الزَّنْدَقَةِ، وَغَيْرُهُمَا، فَأَلْقَوْا إِلَى مَنْ وَثِقُوا بِهِ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ بَاطِنًا وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَمَنْ عَرَفَ الْأَئِمَّةَ وَالْأَبْوَابَ، صَلَاةً وَلَا زَكَاةً، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، وَأَبَاحُوا لَهُمْ نِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ قُيُودٌ لِلْعَامَّةِ سَاقِطَةٌ عَنِ الْخَاصَّةِ. وَكَانُوا يُظْهِرُونَ التَّشَيُّعَ لِآلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتُرُوا أَمْرَهُمْ، وَيَسْتَمِيلُوا الْعَامَّةَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُمْ فِي الْبِلَادِ، وَأَظْهَرُوا الزُّهْدَ وَالْعِبَادَةَ، يُغْرُونَ النَّاسَ بِذَلِكَ وَهُمْ عَلَى خِلَافِهِ، فَقُتِلَ أَبُو الْخَطَّابِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ قَالُوا لَهُ: إِنَّا نَخَافُ الْجُنْدَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَسْلِحَتَهُمْ لَا تَعْمَلُ فِيكُمْ، فَلَمَّا ابْتَدَؤُوا فِي ضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ أَلَمْ تَقُلْ إِنَّ سُيُوفَهُمْ لَا تَعْمَلُ فِينَا؟ فَقَالَ: إِذَا كَانَ قَدْ أَرَادَ اللَّهُ فَمَا حِيلَتِي؟ وَتَفَرَّقَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ فِي الْبِلَادِ وَتَعَلَّمُوا الشَّعْبَذَةَ، وَالنَّارِنْجِيَّاتِ، وَالزَّرَقَ وَالنُّجُومَ، وَالْكِمْيَاءَ، فَهُمْ يَحْتَالُونَ عَلَى كُلِّ قَوْمٍ بِمَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْعَامَّةِ بِإِظْهَارِ الزُّهْدِ. وَنَشَأَ لِابْنِ دَيْصَانَ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ الْقَدَّاحُ، عَلَّمَهُ الْحِيَلَ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى أَسْرَارِ هَذِهِ النِّحْلَةِ، فَحَذَقَ وَتَقَدَّمَ.

وَكَانَ بِنَوَاحِي كَرْخَ وَأَصْبَهَانَ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِمُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ وَيُلَقَّبُ بِدَنْدَانَ يَتَوَلَّى تِلْكَ الْمَوَاضِعَ، وَلَهُ نِيَابَةٌ عَظِيمَةٌ، وَكَانَ يُبْغِضُ الْعَرَبَ وَيَجْمَعُ مَسَاوِيَهِمْ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْقَدَّاحُ، وَعَرَّفَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا زَادَ بِهِ مَحَلُّهُ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُظْهِرَ، (مَا فِي نَفْسِهِ) ، وَإِنَّمَا يَكْتُمُهُ، وَيُظْهِرُ التَّشَيُّعَ وَالطَّعْنَ عَلَى الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ الطَّعْنَ فِيهِمْ طَعْنٌ فِي الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ بِطَرِيقِهِمْ وَصَلَتْ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، فَاسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ وَأَعْطَاهُ مَالًا عَظِيمًا يُنْفِقُهُ عَلَى الدُّعَاةِ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ فَسَيَّرَهُ إِلَى كُوَرِ الْأَهْوَازِ وَالْبَصْرَةِ، وَالْكُوفَةِ، وَطَالِقَانَ، وَخُرَاسَانَ، وَسَلَمِيَّةَ، مِنْ أَرْضِ حِمْصَ، وَفَرَّقَهُ فِي دُعَاتِهِ، وَتُوُفِّيَ الْقَدَّاحُ، وَدَنْدَانُ. وَإِنَّمَا لُقِّبَ الْقَدَّاحَ لِأَنَّهُ كَانَ يُعَالِجُ الْعُيُونَ وَيَقْدَحُهَا. فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْقَدَّاحُ قَامَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَحْمَدُ مَقَامَهُ، وَصَحِبَهُ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ رُسْتُمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَوْشَبِ بْنِ دَاذَانَ النَّجَّارُ، مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَكَانَا يَقْصِدَانِ الْمَشَاهِدَ، وَكَانَ بِالْيَمَنِ رَجُلٌ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ كَثِيرُ الْمَالِ وَالْعَشِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَدِ، يَتَشَيَّعُ، فَجَاءَ إِلَى مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ يَزُورُهُ، فَرَآهُ أَحْمَدُ وَرُسْتُمُ يَبْكِي كَثِيرًا، فَلَمَّا خَرَجَ اجْتَمَعَ بِهِ أَحْمَدُ، وَطَمِعَ فِيهِ لِمَا رَأَى مِنْ بُكَائِهِ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ مَذْهَبَهُ فَقَبِلَهُ، وَسَيَّرَ مَعَهُ النَّجَّارَ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَمَرَهُ بِلُزُومِ الْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْمَهْدِيِّ وَأَنَّهُ خَارِجٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِالْيَمَنِ، فَسَارَ النَّجَّارُ إِلَى الْيَمَنِ، وَنَزَلَ بِعَدَنَ، بِقُرْبِ قَوْمٍ مِنَ الشِّيعَةِ يُعْرَفُونَ بِبَنِي مُوسَى، وَأَخَذَ فِي بَيْعِ مَا مَعَهُ. وَأَتَاهُ بَنُو مُوسَى، وَقَالُوا لَهُ: فِيمَ جِئْتَ؟ قَالَ: لِلتِّجَارَةِ.

قَالُوا: لَسْتَ بِتَاجِرٍ، وَإِنَّمَا أَنْتَ رَسُولُ الْمَهْدِيِّ، وَقَدْ بَلَغَنَا خَبَرُكَ، وَنَحْنُ بَنُو مُوسَى، وَلَعَلَّكَ قَدْ سَمِعْتَ بِنَا، فَانْبَسِطْ وَلَا تَحْتَشِمْ، فَإِنَّا إِخْوَانُكَ، فَأَظْهَرَ أَمْرَهُ، وَقَوَّى عَزَائِمَهُمْ، وَقَرُبَ أَمْرُ الْمَهْدِيِّ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ هَذَا أَوَانُ ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ، وَمِنْ عِنْدِهِمْ يَظْهَرُ. وَاتَّصَلَتْ أَخْبَارُهُ بِالشِّيعَةِ الَّذِينَ بِالْعِرَاقِ، فَسَارُوا إِلَيْهِ فَكَثُرَ جَمْعُهُمْ وَعَظُمَ بِأْسُهُمْ، وَأَغَارُوا عَلَى مَنْ جَاوَرَهُمْ، وَسَبَوْا، وَجَبَوُا الْأَمْوَالَ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ بِالْكُوفَةِ مِنْ وَلِدِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَدَّاحِ هَدَايَا عَظِيمَةً، وَكَانُوا أَنْفَذُوا إِلَى الْمَغْرِبِ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا يُعْرَفُ بِالْحُلْوَانِيِّ، وَالْآخَرُ يُعْرَفُ بِأَبِي سُفْيَانَ، وَقَالُوا لَهُمَا: إِنَّ الْمَغْرِبَ أَرْضٌ بُورٌ، فَاذْهَبَا فَاحْرُثَا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُ الْبَدْرِ، فَسَارَا فَنَزَلَ بِأَرْضِ كُتَامَةَ بِبَلَدٍ (يُسَمَّى مَرْمَجَنَّةَ) وَالْآخَرُ بِسُوقِ حِمَارٍ، فَمَالَتْ قُلُوبُ أَهْلِ تِلْكَ النَّوَاحِي إِلَيْهِمَا، وَحَمَلُوا إِلَيْهِمَا الْأَمْوَالَ وَالتُّحَفَ، فَأَقَامَا سِنِينَ كَثِيرَةً، وَمَاتَا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا قَرِيبَ الْوَفَاةِ مِنَ الْآخَرِ. ذِكْرُ إِرْسَالِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ إِلَى الْمَغْرِبِ كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّاءَ الشِّيعِيُّ مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ، وَقَدْ سَارَ إِلَى ابْنِ حَوْشَبٍ النَّجَّارِ، وَصَحِبَهُ بِعَدَنَ، وَصَارَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ لَهُ عِلْمٌ وَفَهْمٌ وَدَهَاءٌ وَمَكْرٌ، فَلَمَّا أَتَى خَبَرُ وَفَاةِ الْحُلْوَانِيِّ وَأَبِي سُفْيَانَ (إِلَى ابْنِ حَوْشَبٍ) قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ: إِنَّ أَرْضَ كُتَامَةَ مِنَ الْمَغْرِبِ قَدْ حَرَثَهَا الْحُلْوَانِيُّ وَأَبُو سُفْيَانَ، وَقَدْ مَاتَا، وَلَيْسَ لَهَا غَيْرُكَ، فَبَادِرْ، فَإِنَّهَا مُوَطَّأَةٌ مُمَهَّدَةٌ لَكَ. فَخَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (إِلَى مَكَّةَ) ، وَأَعْطَاهُ ابْنُ حَوُشَبٍ مَالًا، وَسَيَّرَ مَعَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ

أَبِي مَلَاحِفَ، فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَكَّةَ سَأَلَ عَنْ حُجَّاجِ كُتَامَةَ فَأُرْشِدَ إِلَيْهِمْ، فَاجْتَمَعَ بِهِمْ، وَلَمْ يُعَرِّفْهُمْ قَصْدَهُ، وَجَلَسَ قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَسَمِعَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ بِفَضَائِلِ أَهْلِ الْبَيْتِ، فَأَظْهَرَ اسْتِحْسَانَ ذَلِكَ، وَحَدَّثَهُمْ بِمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ، فَلَمَّا أَرَادَ الْقِيَامَ سَأَلُوهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي زِيَارَتِهِ وَالِانْبِسَاطِ مَعَهُ، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَسَأَلُوهُ أَيْنَ مَقْصِدُهُ، فَقَالَ: أُرِيدُ مِصْرَ، فَفَرِحُوا بِصُحْبَتِهِ. وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ الْكُتَامِيِّينَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ اسْمُهُ حُرَيْثٌ الْجَمِيلِيُّ، وَآخَرُ اسْمُهُ مُوسَى بْنُ مَكَّادَ، فَرَحَلُوا، وَهُوَ لَا يُخْبِرُهُمْ بِغَرَضِهِ، وَأَظْهَرَ لَهُمُ الْعِبَادَةَ، وَالزُّهْدَ، فَازْدَادُوا فِيهِ رَغْبَةً، وَخَدَمُوهُ، وَكَانَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، وَعَنْ طَاعَتِهِمْ لِسُلْطَانِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَقَالُوا: مَا لَهُ عَلَيْنَا طَاعَةٌ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ. قَالَ: أَفَتَحْمِلُونَ السِّلَاحَ؟ قَالُوا: هُوَ شُغْلُنَا، وَلَمْ يَزَلْ يَتَعَرَّفُ أَحْوَالَهُمْ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا أَرَادَ وَدَاعَهُمْ قَالُوا لَهُ: أَيُّ شَيْءٍ تَطْلُبُ بِمِصْرَ؟ قَالَ: أَطْلُبُ التَّعْلِيمَ بِهَا، قَالُوا: إِذَا كُنْتَ تَقْصِدُ هَذَا فَبِلَادُنَا أَنْفَعُ لَكَ، وَنَحْنُ أَعْرَفُ بِحَقِّكَ، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَجَابَهُمْ إِلَى الْمَسِيرِ (مَعَهُمْ) بَعْدَ الْخُضُوعِ وَالسُّؤَالِ، فَسَارَ مَعَهُمْ. فَلَمَّا قَارَبُوا بِلَادَهُمْ لَقِيَهُمْ رِجَالٌ مِنَ الشِّيعَةِ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِخَبَرِهِ، فَرَغِبُوا فِي نُزُولِهِ عِنْدَهُمْ، وَاقْتَرَعُوا فِيمَنْ يُضَيِّفُهُ (مِنْهُمْ) ثُمَّ رَحَلُوا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى أَرْضِ كُتَامَةَ، مُنْتَصَفَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَسَأَلَهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنْ يَنْزِلَ عِنْدَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوا دُونَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: أَيْنَ يَكُونُ فَجُّ الْأَخْيَارِ؟ فَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُونُوا ذَكَرُوهُ لَهُ، فَقَالُوا لَهُ: عِنْدَ بَنِي سُلَيَّانَ. فَقَالَ: إِلَيْهِ نَقْصِدُ، ثُمَّ نَأْتِي قَوْمًا مِنْكُمْ فِي دِيَارِكُمْ، وَنَزُورُهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ، فَأَرْضَى بِذَلِكَ الْجَمِيعَ.

وَسَارَ إِلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ إِنْكِجَانَ، وَفِيهِ فَجُّ الْأَخْيَارِ، (فَقَالَ: هَذَا فَجُّ الْأَخْيَارِ) ، وَمَا سُمِّيَ إِلَّا بِكُمْ، وَلَقَدْ جَاءَ فِي الْآثَارِ: إِنَّ لِلْمَهْدِيِّ هِجْرَةً تَنْبُو عَنِ الْأَوْطَانِ، يَنْصُرُهُ فِيهَا الْأَخْيَارُ مِنْ (أَهْلِ) ذَلِكَ الزَّمَانِ، قَوْمٌ مُشْتَقٌّ اسْمُهُمْ مِنَ الْكِتْمَانِ، (فَإِنَّهُمْ كُتَامَةُ) ، وَبِخُرُوجِكُمْ مِنْ هَذَا الْفَجِّ يُسَمَّى فَجَّ الْأَخْيَارِ. فَتَسَامَعَتِ الْقَبَائِلُ، وَصَنَعَ مِنَ الْحِيَلِ وَالْمَكِيدَاتِ وَالنَّارِنْجِيَّاتِ مَا أَذْهَلَ عُقُولَهُمْ، وَأَتَاهُ الْبَرْبَرُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ إِلَى أَنْ تَقَاتَلَتْ كُتَامَةُ عَلَيْهِ مَعَ قَبَائِلِ الْبَرْبَرِ، وَسَلِمَ مِنَ الْقَتْلِ مِرَارًا وَهُوَ (فِي كُلِّ) ذَلِكَ لَا يَذْكُرُ اسْمَ الْمَهْدِيِّ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى مُنَاظَرَتِهِ وَقَتْلِهِ، فَلَمْ يَتْرُكْهُ الْكُتَامِيُّونَ يُنَاظِرُهُمْ، وَكَانَ اسْمُهُ عِنْدَهُمْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَشْرِقِيَّ. وَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَغْلَبِ أَمِيرِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَأَرْسَلَ عَامِلَهُ عَلَى مَدِينَةِ مِيلَةَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَصَغَّرَهُ وَذَكَرَ (لَهُ) أَنَّهُ يَلْبَسُ الْخَشِنَ، وَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَالْعِبَادَةِ فَسَكَتَ عَنْهُ. ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ لِلْكُتَامِيِّينَ: أَنَا صَاحِبُ الْبَدْرِ الَّذِي ذَكَرَ لَكُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَالْحُلْوَانِيُّ، فَازْدَادَتْ مَحَبَّتُهُمْ لَهُ، وَتَعْظِيمُهُمْ لِأَمْرِهِ، وَتَفَرَّقَتْ كَلِمَةُ الْبَرْبَرِ وَكُتَامَةَ بِسَبَبِهِ، فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ قَتْلَهُ، فَاخْتَفَى، وَوَقَعَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ شَدِيدٌ، وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِإِنْسَانٍ اسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ هَارُونَ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ كُتَامَةَ، فَأَخَذَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَدَافَعَ عَنْهُ، وَمَضَيَا إِلَى مَدِينَةِ نَاصِرُونَ، فَأَتَتْهُ الْقَبَائِلُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَصَارَتِ الرِّئَاسَةُ لِلْحَسْنِ بْنِ هَارُونَ.

وَسَلَّمَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَعِنَّةَ الْخَيْلِ، وَظَهَرَ مِنَ الِاسْتِتَارِ، وَشَهَرَ الْحُرُوبَ، فَكَانَ الظَّفَرُ لَهُ فِيهَا، وَغَنِمَ الْأَمْوَالَ، وَانْتَقَلَ إِلَى مَدِينَةِ نَاصِرُونَ وَخَنْدَقَ عَلَيْهَا، فَزَحَفَتْ قَبَائِلُ الْبَرْبَرِ إِلَيْهَا، وَاقْتَتَلُوا، ثُمَّ اصْطَلَحُوا، ثُمَّ أَعَادُوا الْقِتَالَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَقَائِعُ كَثِيرَةٌ وَظَفِرَ بِهِمْ، وَصَارَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُمْ، فَاسْتَقَامَ لَهُ أَمْرُ الْبَرْبَرِ وَعَامَّةِ كُتَامَةَ. ذِكْرُ مِلْكِهِ مَدِينَةَ مِيلَةَ وَانْهِزَامِهِ فَلَمَّا تَمَّ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ذَلِكَ زَحَفَ إِلَى مَدِينَةِ مِيلَةَ، فَجَاءَهُ مِنْهَا رَجُلٌ اسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، فَأَطْلَعَهُ عَلَى غِرَّةِ الْبَلَدِ، فَقَاتَلَ أَهْلَهُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَأَخَذَ الْأَرْبَاضَ، فَطَلَبُوا مِنْهُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَدَخَلَ مَدِينَةَ مِيلَةَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ أَمِيرَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَهُوَ حِينَئِذٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، فَنَفَّذَ وَلَدَهُ الْأَحْوَلَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَتَبِعَهُمْ مِثْلُهُمْ، فَالْتَقَيَا، فَاقْتَتَلَ الْعَسْكَرَانِ، فَانْهَزَمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي أَصْحَابِهِ، وَتَبِعَهُ الْأَحْوَلُ، وَسَقَطَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ حَالَ بَيْنَهُمْ، وَسَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِلَى جَبَلِ إِنْكِجَانَ، فَوَصَلَ الْأَحْوَلُ إِلَى مَدِينَةِ نَاصِرُونَ، فَأَحْرَقَهَا، وَأَحْرَقَ مَدِينَةَ مِيلَةَ، (وَلَمْ يَجِدْ بِهَا أَحَدًا) . وَبَنَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِإِنْكِجَانَ دَارَ هِجْرَةٍ، فَقَصَدَهَا أَصْحَابُهُ، وَعَادَ الْأَحْوَلُ إِلَى إِفْرِيقِيَةَ، فَسَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ رَحِيلِهِمْ، فَغَنِمَ مِمَّا رَأَى مِمَّا تَخَلَّفَ عَنْهُمْ، وَأَتَاهُ (خَبَرُ) وَفَاةِ إِبْرَاهِيمَ، فَسُرَّ بِهِ، ثُمَّ أَتَاهُ خَبَرُ قَتْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ وَلَدِهِ، وَوِلَايَةِ زِيَادَةِ اللَّهِ، وَاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، فَاشْتَدَّ سُرُورُهُ، وَكَانَ الْأَحْوَلُ قَدْ جَمَعَ جَيْشًا كَثِيرًا أَيَّامَ أَخِيهِ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَلَقِيَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَانْهَزَمَ الْأَحْوَلُ. (وَبَقِيَ الْأَحْوَلُ) قَرِيبًا مِنْهُ يُقَاتِلُهُ وَيَمْنَعُهُ مِنَ التَّقَدُّمِ، فَلَمَّا وَلِيَ أَبُو مُضَرَ زِيَادَةُ اللَّهِ

إِفْرِيقِيَّةَ أَحْضَرَ الْأَحْوَلَ وَقَتَلَهُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحْوَلَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكْسِرُ عَيْنَهُ إِذَا أَدَامَ النَّظَرَ فَلُقِّبَ بِهِ، فَلَمَّا قُتِلَ انْتَشَرَتْ حِينَئِذٍ جُيُوشُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْبِلَادِ، وَصَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: الْمَهْدِيُّ يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَيَمْلِكُ الْأَرْضَ، فَيَا طُوبَى لِمَنْ هَاجَرَ إِلَيَّ وَأَطَاعَنِي! وَيُغْرِي النَّاسَ بِأَبِي مُضَرَ، وَيَعِيبُهُ. وَكَانَ كُلُّ مَنْ عِنْدَ زِيَادَةِ اللَّهِ مِنَ الْوُزَرَاءِ شِيعَةً، فَلَا يَسُوءُهُمْ أَنْ يَظْفَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا سِيَّمَا مَعَ مَا كَانَ يَذْكُرُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَاتِ الَّتِي لِلْمَهْدِيِّ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَرَدِّ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَمِلْكِهِ الْأَرْضَ بِأَسْرِهَا! وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ، وَيَسْحَرُهُمْ، وَيَعِدُهُمْ. ذِكْرُ سَبَبِ اتِّصَالِ الْمَهْدِيِّ عُبَيْدِ اللَّهِ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ وَمَسِيرِهِ إِلَى سِجِلْمَاسَةَ لِمَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحُ ادَّعَى وَلَدُهُ أَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُمْ مَعَ هَذَا يَسْتُرُونَ، وَيُسِرُّونَ أَمْرَهُمْ، وَيُخْفُونَ أَشْخَاصَهُمْ. وَكَانَ وَلَدُهُ أَحْمَدُ هُوَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، فَتُوُفِّيَ وَخَلَّفَ وَلَدَهُ مُحَمَّدًا، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُكَاتِبُهُ الدُّعَاةُ فِي الْبِلَادِ، وَتُوَفِّيَ مُحَمَّدٌ وَخَلَّفَ أَحْمَدَ وَالْحُسَيْنَ، فَسَارَ الْحُسَيْنُ إِلَى سَلَمِيَّةَ مِنْ أَرْضِ حِمْصَ، وَلَهُ بِهَا وَدَائِعُ وَأَمْوَالٌ مِنْ وَدَائِعِ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَدَّاحِ، وَوُكَلَاءُ، وَغِلْمَانٌ، وَبَقِيَ بِبَغْدَاذَ مِنْ أَوْلَادِ الْقَدَّاحِ أَبُو الشَّلَغْلَغِ. وَكَانَ الْحُسَيْنُ يَدَّعِي أَنَّهُ الْوَصِيُّ وَصَاحِبُ الْأَمْرِ، وَالدُّعَاةُ بِالْيَمَنِ وَالْمَغْرِبِ يُكَاتِبُونَهُ وَيُرَاسِلُونَهُ، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ جَرَى بِحَضْرَتِهِ حَدِيثُ النِّسَاءِ بِسَلَمِيَّةَ، فَوَصَفُوا لَهُ امْرَأَةَ

رَجُلٍ يَهُودِيٍّ حَدَّادٍ، مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَهِيَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، فَتَزَوَّجَهَا، وَلَهَا وَلَدٌ مِنَ الْحَدَّادِ يُمَاثِلُهَا فِي الْجَمَالِ، فَأَحَبَّهَا وَحَسُنَ مَوْقِعُهَا مَعَهُ، وَأَحَبَّ وَلَدَهَا، وَأَدَّبَهُ، وَعَلَّمَهُ، فَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَصَارَتْ لَهُ نَفْسٌ عَظِيمَةٌ، وَهِمَّةٌ كَبِيرَةٌ. فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِمَامَ الَّذِي كَانَ بِسَلَمِيَّةَ، وَهُوَ الْحُسَيْنُ، مَاتَ وَلَمْ يَكُنْ [لَهُ] وَلَدٌ، فَعَهِدَ إِلَى ابْنِ الْيَهُودِيِّ الْحَدَّادِ، وَهُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَعَرَّفَهُ أَسْرَارَ الدَّعْوَةِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَأَيْنَ الدُّعَاةُ، وَأَعْطَاهُ الْأَمْوَالَ وَالْعَلَامَاتِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ بِطَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَأَنَّهُ الْإِمَامُ وَالْوَصِيُّ، وَزَوَّجَهُ ابْنَةَ عَمِّهِ أَبِي الشَّلَغْلَغِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَبْيَضِ الْعَلَوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَجَعَلَ لِنَفْسِهِ نَسَبًا، وَهُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ (بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ) بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُونَ، وَهُمْ قَلِيلٌ: إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ (هَذَا مِنْ وَلَدِ الْقَدَّاحِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِيهَا مَا فِيهَا، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي حَمَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ) الشِّيعِيَّ وَغَيْرَهُ مِمَّنْ قَامَ بِإِظْهَارِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، حَتَّى يُخْرِجُوا (هَذَا) الْأَمْرَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَيُسَلِّمُوا إِلَى وَلَدِ يَهُودِيٍّ، وَهَلْ يُسَامِحُ نَفْسَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ مَنْ يَعْتَقِدُهُ دِينًا يُثَابُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَلَمَّا عَهِدَ الْحُسَيْنُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ سَتُهَاجِرُ بَعْدِي هِجْرَةً بَعِيدَةً، وَتَلْقَى مِحَنًا شَدِيدَةً، فَتُوُفِّيَ الْحُسَيْنُ، وَقَامَ بَعْدَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَانْتَشَرَتْ دَعْوَتُهُ، وَبَذَلَ الْأَمْوَالَ خِلَافَ مَا تَقَدَّمَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رِجَالًا مِنْ كُتَامَةَ مِنَ الْمَغْرِبِ لِيُخْبِرُوهُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ. وَشَاعَ خَبَرُهُ عِنْدَ النَّاسِ أَيَّامَ الْمُكْتَفِي فَطُلِبَ، فَهَرَبَ هُوَ وَوَلَدُهُ أَبُو الْقَاسِمِ نِزَارٌ

الَّذِي وَلِيَ بَعْدَهُ، وَتَلَقَّبَ بِالْقَائِمِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ، وَخَرَجَ مَعَهُ خَاصَّتُهُ وَمَوَالِيهِ يُرِيدُ الْمَغْرِبَ، وَذَلِكَ أَيَّامَ زِيَادَةِ اللَّهِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مِصْرَ أَقَامَ مُسْتَتِرًا بِزِيِّ التُّجَّارِ، وَكَانَ عَامِلَ مِصْرَ حِينَئِذٍ عِيسَى النُّوشَرِيُّ، فَأَتَتْهُ الْكُتُبُ مِنَ الْخَلِيفَةِ بِصِفَتِهِ وَحِلْيَتِهِ، وَأُمِرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ يُشْبِهُهُ. وَكَانَ بَعْضُ خَاصَّةِ عِيسَى مُتَشَيِّعًا، فَأَخْبَرَ الْمَهْدِيَّ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالِانْصِرَافِ، فَخَرَجَ مِنْ مِصْرَ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَمَعَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، فَأَوْسَعَ النَّفَقَةَ عَلَى مَنْ صَحِبَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى النُّوشَرِيِّ فَرَّقَ الرُّسُلَ فِي طَلَبِ الْمَهْدِيِّ وَخَرَجَ بِنَفْسِهِ فَلَحِقَهُ، فَلَمَّا رَآهُ لَمْ يَشُكَّ فِيهِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَنَزَلَ بِبُسْتَانٍ، وَوَكَّلَ بِهِ، فَلَمَّا حَضَرَ الطَّعَامُ دَعَاهُ لِيَأْكُلَ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ صَائِمٌ، فَرَقَّ لَهُ، وَقَالَ لَهُ: أَعْلِمْنِي بِحَقِيقَةِ حَالِكَ حَتَّى أُطْلِقَكَ، فَخَوَّفَهُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْكَرَ حَالَهُ، وَلَمْ يَزَلْ يُخَوِّفُهُ وَيَتَلَطَّفُهُ فَأَطْلَقَهُ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ مَنْ يُوَصِّلُهُ إِلَى رُفْقَتِهِ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ بِي إِلَى ذَلِكَ، وَدَعَا لَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَعْطَاهُ فِي الْبَاطِنِ مَالًا حَتَّى أَطْلَقَهُ، فَرَجَعَ (بَعْضُ) أَصْحَابِ النُّوشَرِيِّ عَلَيْهِ بِاللَّوْمِ، فَنَدِمَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَأَرَادَ إِرْسَالَ الْجَيْشِ وَرَاءَهُ لِيَرُدُّوهُ، وَكَانَ الْمَهْدِيُّ لَمَّا لَحِقَ أَصْحَابَهُ رَأَى ابْنَهُ أَبَا الْقَاسِمِ قَدْ ضَيَّعَ كَلْبًا كَانَ لَهُ يَصِيدُ بِهِ، وَهُوَ يُبْكِي عَلَيْهِ، فَعَرَّفَهُ عَبِيدُهُ أَنَّهُمْ تَرَكُوهُ فِي الْبُسْتَانِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، فَرَجَعَ الْمَهْدِيُّ بِسَبَبِ الْكَلْبِ، حَتَّى دَخَلَ الْبُسْتَانَ وَمَعَهُ عَبِيدُهُ، فَرَآهُمُ النُّوشَرِيُّ فَسَأَلَ عَنْهُمْ فَقِيلَ: إِنَّهُ فُلَانٌ، وَقَدْ عَادَ بِسَبَبِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ النُّوشَرِيُّ لِأَصْحَابِهِ: قَبَّحَكُمُ اللَّهُ! أَرَدْتُمْ أَنْ تَحْمِلُونِي عَلَى قَتْلِ هَذَا حَتَّى آخُذَهُ، فَلَوْ كَانَ يَطْلُبُ مَا يُقَالُ أَوْ كَانَ مُرِيبًا لَكَانَ يَطْوِي الْمَرَاحِلَ، وَيُخْفِي نَفْسَهُ، وَمَا كَانَ رَجَعَ فِي طَلَبِ كَلْبٍ، وَتَرَكَهُ. وَجَدَّ الْمَهْدِيُّ فِي الْهَرَبِ، فَلَحِقَهُ (لُصُوصٌ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الطَّاحُونَةُ، فَأَخَذُوا

بَعْضَ مَتَاعِهِ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ كُتُبٌ وَمَلَاحِمُ لِآبَائِهِ، فَأُخِذَتْ) ، فَعَظُمَ أَمْرُهَا عَلَيْهِ، فَيُقَالُ إِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ ابْنُهُ أَبُو الْقَاسِمِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَخَذَهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَانْتَهَى الْمَهْدِيُّ وَوَلَدُهُ إِلَى مَدِينَةِ طَرَابُلُسَ، وَتَفَرَّقَ مَنْ صَحِبَهُ مِنَ التُّجَّارِ، وَكَانَ فِي صُحْبَتِهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَخُو أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ، فَقَدَّمَهُ الْمَهْدِيُّ إِلَى الْقَيْرَوَانِ بِبَعْضِ مَا مَعَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِكُتَامَةَ. فَلَمَّا وَصَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى الْقَيْرَوَانِ وَجَدَ الْخَبَرَ قَدْ سَبَقَهُ إِلَى زِيَادَةِ اللَّهِ بِخَبَرِ الْمَهْدِيِّ، فَسَأَلَ عَنْهُ رُفْقَتَهُ، فَأَخْبَرُوا أَنَّهُ تَخَلَّفَ بِطَرَابُلُسَ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ بِالْقَيْرَوَانِ، فَأُخِذَ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَقُرِّرَ فَأَنْكَرَ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ تَاجِرٌ صَحِبْتُ رَجُلًا فِي الْقَفْلِ، فَحَبَسَهُ. وَسَمِعَ الْمَهْدِيُّ، فَسَارَ إِلَى قَسْطِيلَةَ، وَوَصَلَ كِتَابُ زِيَادَةِ اللَّهِ إِلَى عَامِلِ طَرَابُلُسَ بِأَخْذِهِ، وَكَانَ الْمَهْدِيُّ قَدْ أَهْدَى لَهُ وَاجْتَمَعَ بِهِ، فَكَتَبَ الْعَامِلُ يُخْبِرُهُ أَنَّهُ قَدْ سَارَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، فَلَمَّا وَصَلَ الْمَهْدِيُّ إِلَى قَسْطِيلَةَ تَرَكَ قَصْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ، لِأَنَّ أَخَاهُ أَبَا الْعَبَّاسِ كَانَ قَدْ أُخِذَ، فَعَلِمَ أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ أَخَاهُ تَحَقَّقُوا الْأَمْرَ وَقَتَلُوهُ، فَتَرَكَهُ وَسَارَ إِلَى سِجِلْمَاسَةَ، وَلَمَّا سَارَ مِنْ قَسْطِيلَةَ وَصَلَ الرُّسُلُ فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يُوجَدْ، وَوَصَلَ سِجِلْمَاسَةَ، فَأَقَامَ بِهَا، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْعُيُونُ فِي طَرِيقِهِ. وَكَانَ صَاحِبُ سِجِلْمَاسَةَ رَجُلًا يُسَمَّى أَلْيَسَعُ بْنُ مِدْرَارٍ، فَأَهْدَى لَهُ الْمَهْدِيُّ، وَوَاصَلَهُ، فَقَرَّبَهُ أَلْيَسَعُ، وَأَحَبَّهُ، فَأَتَاهُ كِتَابُ زِيَادَةِ اللَّهِ يُعَرِّفُهُ أَنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَحَبَسَهُ، فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا حَتَّى أَخْرَجَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَهَرَبِ زِيَادَةِ اللَّهِ أَمِيرِهَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ حَالِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ إِنَّ زِيَادَةَ اللَّهِ لَمَّا رَأَى اسْتِيلَاءَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْبِلَادِ، وَأَنَّهُ قَدْ فَتَحَ مَدِينَةَ مِيلَةَ وَمَدِينَةَ سَطِيفَ، وَغَيْرَهُمَا، أَخَذَ فِي جَمْعِ

الْعَسَاكِرِ، وَبَذْلِ الْأَمْوَالِ فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ عَسَاكِرُ عَظِيمَةٌ، فَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ خُنَيْشٍ وَهُوَ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَكَانَ لَا يَعْرِفُ الْحَرْبَ، فَبَلَغَتْ عِدَّةُ جَيْشِهِ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْأَمْوَالَ وَالْعُدَدَ، وَلَمْ يَتْرُكْ بِإِفْرِيقِيَّةَ شُجَاعًا إِلَّا أَخْرَجَهُ مَعَهُ، وَسَارَ إِلَيْهِ، فَانْضَافَ إِلَيْهِ مِثْلُ جَيْشِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ الْهَوَاءِ، وَهِيَ مَدِينَةٌ قَدِيمَةٌ حَصِينَةٌ، نَزَلَ بِهَا، وَأَتَاهُ كَثِيرٌ مِنْ كُتَامَةَ الَّذِينَ لَمْ يُطِيعُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَقَتَلَ فِي طَرِيقِهِ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَخَافَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْهُ، وَجَمِيعُ كُتَامَةَ، وَأَقَامَ بِقُسْطَنْطِينِيَّةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُتَحَصِّنٌ فِي الْجَبَلِ. فَلَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَا يَتَقَدَّمُ إِلَيْهِ بَادَرَ وَزَحَفَ بِالْعَسَاكِرِ الْمُجْتَمِعَةِ إِلَى بَلَدٍ اسْمُهُ كَرْمَةُ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ خَيْلًا اخْتَارَهَا (لِيَخْتَبِرَ نُزُولَهُ) ، فَوَافَاهَا بِالْمَوْضِعِ الْمَذْكُورِ، فَلَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ الْخَيْلَ قَصَدَ إِلَيْهَا بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَصْحَبْهُ (إِلَيْهَا) أَحَدٌ مِنْ جَيْشِهِ، وَكَانَتْ أَثْقَالُ الْعَسْكَرِ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ لَمْ تُحَطَّ، وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا. وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَزَحَفَ بِالْعَسَاكِرِ، فَوَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ، فَجُرِحَ وَعُقِرَ فَرَسُهُ وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْجَيْشِ جَمِيعِهِ، وَأَسْلَمُوا الْأَثْقَالَ بِأَسْرِهَا، فَغَنِمَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَتَمَّ [أَمْرُ] إِبْرَاهِيمَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَشَاشَتْ بِلَادُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَعَظُمَ أَمْرُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَاسْتَقَرَّتْ دَوْلَتُهُ، وَكَتَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ كِتَابًا إِلَى الْمَهْدِيِّ، وَهُوَ فِي سِجْنِ سِجِلْمَاسَةَ يُبَشِّرُهُ، وَسَيَّرَ الْكِتَابَ مَعَ بَعْضِ ثِقَاتِهِ، فَدَخَلَ السِّجْنَ فِي زِيِّ قَصَّابٍ يَبِيعُ اللَّحْمَ، فَاجْتَمَعَ بِهِ وَعَرَّفَهُ ذَلِكَ. وَسَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِلَى مَدِينَةِ طُبْنَةَ فَحَصَرَهَا، وَنَصَبَ عَلَيْهَا الدَّبَّابَاتِ، وَنَقَبَ بُرْجًا وَبَدَنَةً، فَسَقَطَ السُّورُ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ، وَمَلَكَ الْبَلَدَ، فَاحْتَمَى الْمُقْدِمُونَ بِحِصْنِ الْبَلَدِ، فَحَصَرَهُمْ، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ، وَأَمَّنَ أَهْلَ الْبَلَدِ، وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ بِلُزْمَةَ

وَكَانَ قَدْ حَصَرَهَا مِرَارًا كَثِيرَةً فَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا فَلَمَّا حَصَرَهَا الْآنَ ضَيَّقَ عَلَيْهَا، وَجَدَّ فِي الْقِتَالِ وَنَصَبَ عَلَيْهَا الدَّبَّابَاتِ، وَرَمَاهَا بِالنَّارِ، فَأَحْرَقَهَا، وَفَتَحَهَا بِالسَّيْفِ وَقَتَلَ الرِّجَالَ، وَهَدَمَ الْأَسْوَارَ. وَاتَّصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِزِيَادَةِ اللَّهِ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ [ذَلِكَ] ، وَأَخَذَ فِي الْجَمْعِ وَالْحَشْدِ، فَجَمَعَ عَسْكَرًا عُدَّتُهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ هَارُونَ بْنَ الطُّبْنِيِّ، فَسَارَ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَصَدَ مَدِينَةَ دَارِ مُلُوكٍ، وَكَانَ أَهْلُهَا قَدْ أَطَاعُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَقَتَلَ هَارُونُ أَهْلَهَا، وَهَدَمَ الْحِصْنَ، وَلَقِيَهُ فِي طَرِيقِهِ خَيْلٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ كَانَ قَدْ أَرْسَلَهَا لِيَخْتَبِرُوا عَسْكَرَهُ، فَلَمَّا رَآهَا الْعَسْكَرُ اضْطَرَبُوا وَصَاحُوا صَيْحَةً عَظِيمَةً، وَهَرَبُوا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، فَظَنَّ أَصْحَابُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهَا مَكِيدَةٌ، فَلَمَّا ظَهَرَ أَنَّهَا هَزِيمَةٌ اسْتَدْرَكُوا الْأَمْرَ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ، فَمَا يُحْصَى مَنْ قُتِلُوا، وَقُتِلَ هَارُونُ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ، وَفَتَحَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَدِينَةَ تِيجِسَ صُلْحًا، فَاشْتَدَّ الْأَمْرُ حِينَئِذٍ عَلَى زِيَادَةِ اللَّهِ، وَأَخْرَجَ الْأَمْوَالَ، وَجَيَّشَ الْجُيُوشَ وَخَرَجَ بِنَفْسِهِ إِلَى مُحَارَبَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَوَصَلَ إِلَى الْأُرْبُسِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ وُجُوهُ دَوْلَتِهِ: إِنَّكَ تُغَرِّرُ بِنَفْسِكَ، فَإِنْ يَكُنْ عَلَيْكَ لَا يَبْقَى لَنَا مَلْجَأٌ، وَالرَّأْيُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى مُسْتَقَرِّ مُلْكِكَ، وَتُرْسِلَ الْجَيْشَ مَعَ مَنْ تَثِقُ بِهِ فَإِنْ كَانَ الْفَتْحُ لَنَا فَنَصِلُ إِلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ فَتَكُونُ مَلْجَأً لَنَا. وَرَجَعَ فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَيَّرَ الْجَيْشَ، وَقَدَّمَ عَلَيْهِ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَمِّهِ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْأَغْلَبِ، وَكَانَ شُجَاعًا، وَبَلَغَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْخَبَرُ، وَكَانَ أَهْلُ بَاغَايَةَ قَدْ كَاتَبُوهُ بِالطَّاعَةِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهَا، هَرَبَ عَامِلُهَا إِلَى الْأُرْبُسِ، فَدَخَلَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَتَرَكَ بِهَا جُنْدًا، وَعَادَ إِلَى إِنْكِجَانَ وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى زِيَادَةِ اللَّهِ، فَزَادَهُ غَمًّا وَحُزْنًا، فَقَالَ لَهُ إِنْسَانٌ كَانَ يُضْحِكُهُ يَا مَوْلَانَا لَقَدْ عَمِلْتُ بَيْتَ شِعْرٍ، فَعَسَى تَجْعَلُ مَنْ

يُلَحِّنُهُ وَتَشْرَبُ عَلَيْهِ، وَاتْرُكْ هَذَا الْحُزْنَ، فَقَالَ: مَا هُوَ؟ فَقَالَ الْمُضْحِكُ، (لِلْمُغَنِّينَ: غَنُّوا شِعْرًا كَذَا) وَقُولُوا بَعْدَ فَرَاغِ كُلِّ بَيْتٍ: اشْرَبْ وَاسْقِنَا مِنَ الْقَرْنِ يَكْفِينَا فَلَمَّا غَنَّوْا طَرِبَ زِيَادَةُ اللَّهِ (وَشَرِبَ) ، وَانْهَمَكَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالشَّهَوَاتِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ سَاعَدُوهُ عَلَى مُرَادِهِ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَخْرَجَ خَيْلًا إِلَى مَدِينَةِ مَجَانَةَ فَافْتَتَحَهَا عَنْوَةً، وَقَتَلَ عَامِلَهَا، وَسَيَّرَ عَسْكَرًا آخَرَ إِلَى مَدِينَةِ تِيفَاشَ، فَمَلَكَهَا وَأَمَّنَ أَهْلَهَا. وَقَصَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ وَسَارَ بِنَفْسِهِ إِلَى مِسْكِيَانَةَ ثُمَّ إِلَى تَبِسَّةَ، ثُمَّ إِلَى مُدْبِرَةَ، فَوَجَدَ فِيهَا أَهْلَ قَصْرِ الْإِفْرِيقِيِّ وَمَدِينَةِ مَرْمَجَنَّةَ، وَمَدِينَةِ مَجَانَةَ وَأَخْلَاطًا مِنَ النَّاسِ قَدِ الْتَجَئُوا إِلَيْهَا وَتُحَصَّنُوا فِيهَا، وَهِيَ حَصِينَةٌ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا، وَقَاتَلَهَا، فَأَصَابَهُ عِلَّةُ الْحَصَى، وَكَانَتْ تَعْتَادُهُ، فَشُغِلَ بِنَفْسِهِ، وَطَلَبَ أَهْلُهَا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الْعَسْكَرِ، فَفَتَحُوا الْحِصْنَ، فَدَخَلَهَا الْعَسْكَرُ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ، وَانْتَهَبُوا. وَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَرَحَلَ، فَنَزَلَ عَلَى الْقَصْرَيْنِ مِنْ قَمُّودَةَ وَطَلَبَ أَهْلُهَا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَبَلَغَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي الْأَغْلَبِ، أَمِيرَ الْجَيْشِ الَّذِي سَيَّرَهُ زِيَادَةُ اللَّهِ، أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُرِيدُ [أَنْ] يَقْصِدُ زِيَادَةَ اللَّهِ بِرَقَّادَةَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ زِيَادَةِ اللَّهِ كَبِيرُ عَسْكَرٍ، فَخَرَجَ مِنَ

الْأُرْبُسِ وَنَزَلَ دَرْدَمِينَ، (وَسَيَّرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَرِيَّةً إِلَى دَرْدَمِينَ) ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَصْحَابِ زِيَادَةِ اللَّهِ قِتَالٌ، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَمَاعَةٌ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ. وَاسْتَبْطَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ خَبَرَهُمْ، فَسَارَ فِي جَمِيعِ عَسَاكِرِهِ، فَلَقِيَ أَصْحَابَهُ مُنْهَزِمِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَوِيَتْ قُلُوبُهُمْ، وَرَجَعُوا، وَكَرُّوا عَلَى أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَحَجَزَ اللَّيْلُ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ سَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِلَى قَسْطِيلَةَ، فَحَصَرَهَا، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا، ثُمَّ طَلَبُوا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ (وَأَخَذَ مَا كَانَ لِزِيَادَةِ اللَّهِ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْعُدَدِ وَرَحَلَ إِلَى قَفْصَةَ، فَطَلَبَ أَهْلُهَا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ) وَرَجَعَ إِلَى بَاغَايَةَ، فَتَرَكَ بِهَا جَيْشًا وَعَادَ إِلَى جَبَلِ إِنْكِجَانَ. فَسَارَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْأَغْلَبِ (فِي جَيْشِهِ إِلَى بَاغَايَةَ) وَحَصَرَهَا، فَبَلَغَ الْخَبَرُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَجَمَعَ عَسْكَرَهُ وَسَارَ مُجِدًّا إِلَيْهَا، وَوَجَّهَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَأَمَرَ مُقَدَّمَهُمْ أَنْ يَسِيرَ إِلَى بَاغَايَةَ، فَإِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ رَحَلَ عَنْهَا فَلَا يُجَاوِزْ فَجَّ الْعَرْعَارِ، فَمَضَى الْجَيْشُ وَكَانَ أَصْحَابُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الَّذِينَ فِي بَاغَايَةَ قَدْ قَاتَلُوا عَسْكَرَ إِبْرَاهِيمَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَلَمَّا رَأَى صَبْرَهُمْ عَجِبَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْهُمْ، فَأَرْعَبَ ذَلِكَ قُلُوبَهُمْ، ثُمَّ بَلَغَهُمْ قُرْبُ الْعَسْكَرِ مِنْهُمْ فَعَادَ إِبْرَاهِيمُ بِعَسَاكِرِهِ، فَوَصَلَ عَسْكَرُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَلَمْ يَرَ وَاحِدًا فَنَهَبُوا مَا وَجَدُوا وَعَادُوا. وَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْأُرْبُسِ. وَلَمَّا دَخَلَ فَصْلُ الرَّبِيعِ، وَطَابَ الزَّمَانُ، جَمَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَسَاكِرَهُ، فَبَلَغَتْ مِائَتَيْ أَلْفَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، وَاجْتَمَعَ مِنْ عَسَاكِرِ زِيَادَةِ اللَّهِ بِالْأُرْبُسِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ مَا لَا يُحْصَى، وَسَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَوَّلَ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ وَطَالَ زَمَانُهُ، وَظَهَرَ أَصْحَابُ زِيَادَةِ اللَّهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ

اخْتَارَ مِنْ أَصْحَابِهِ سِتَّمِائَةِ رَاجِلٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا عَسْكَرَ زِيَادَةِ اللَّهِ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَمَضَوْا لِمَا أَمَرَهُمْ فِي الطَّرِيقِ (الَّذِي أَمَرَهُمْ) بِسُلُوكِهِ. وَاتَّفَقَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَالْتَقَى الطَّائِفَتَانِ، فَاقْتَتَلُوا فِي مَضِيقٍ هُنَاكَ، (فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ إِبْرَاهِيمَ، وَوَقَعَ الصَّوْتُ فِي عَسْكَرِهِ بِكَمِينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ) (وَانْهَزَمُوا، وَتَفَرَّقُوا) ، وَهَرَبَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى جِهَةِ بِلَادِهِمْ، وَهَرَبَ إِبْرَاهِيمُ وَبَعْضُ مَنْ مَعَهُ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، (وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ) يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَغَنِمُوا الْأَمْوَالَ وَالْخَيْلَ وَالْعُدَدَ، وَدَخَلَ أَصْحَابُهُ مَدِينَةَ الْأُرْبُسِ فَقَتَلُوا بِهَا خَلْقًا عَظِيمًا، وَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا الْجَامِعَ فَقُتِلَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَنَهَبُوا الْبَلَدَ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ أَوَاخِرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَانْصَرَفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِلَى قَمُّودَةَ. فَلَمَّا وَصَلَ خَبَرُ الْهَزِيمَةِ إِلَى زِيَادَةِ اللَّهِ هَرَبَ (إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا تَقَدَّمَ، وَلَمَّا هَرَبَ زِيَادَةُ اللَّهِ هَرَبَ) أَهْلُ مَدِينَةِ رَقَّادَةَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، فِي اللَّيْلِ، إِلَى الْقَصْرِ الْقَدِيمِ، وَإِلَى الْقَيْرَوَانِ، وَسُوَسَةَ، وَدَخَلَ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ رَقَّادَةَ وَنَهَبُوا مَا فِيهَا، وَأَخَذَ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ، وَنُهِبَتْ قُصُورُ بَنِيَ الْأَغْلَبِ، وَبَقِيَ النَّهْبُ سِتَّةَ أَيَّامٍ. وَوَصَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْأَغْلَبِ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَقَصَدَ قَصْرَ الْإِمَارَةِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ، وَنَادَى مُنَادِيهِ بِالْأَمَانِ، وَتَسْكِينِ النَّاسِ، وَذَكَرَ لَهُمْ أَحْوَالَ زِيَادَةِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ، حَتَّى أَفْسَدَ مُلْكَهُ، وَصَغَّرَ أَمْرَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْهُمْ، وَيَحْمِيَ حَرِيمَهُمْ وَبَلَدَهُمْ، وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْمُسَاعَدَةَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْأَمْوَالِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ فُقَهَاءُ، وَعَامَّةٌ، وَتُجَّارٌ، وَمَا فِي أَمْوَالِنَا مَا يَبْلُغُ غَرَضَكَ، وَلَيْسَ لَنَا بِالْقِتَالِ طَاقَةٌ، فَأَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ وَأَعْلَمُوا النَّاسَ بِمَا قَالَهُ صَاحُوا بِهِ: اخْرُجْ عَنَّا، فَمَا لَكَ عِنْدَنَا سَمْعٌ وَلَا طَاعَةٌ! وَشَتَمُوهُ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ وَهُمْ يَرْجُمُونَهُ. وَلَمَّا بَلَغَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَرَبُ زِيَادَةِ اللَّهِ كَانَ بِنَاحِيَةِ سَبِيبَةَ، وَرَحَلَ فَنَزَلَ بِوَادِي

النَّمْلِ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَرُوبَةَ بْنَ يُوسُفَ، وَحَسَنَ بْنَ أَبِي خِنْزِيرٍ، فِي أَلْفِ فَارِسٍ إِلَى رَقَّادَةَ، فَوَجَدُوا النَّاسَ يَنْهَبُونَ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَثَاثِ، فَأَمَّنُوهُمْ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِأَحَدٍ، وَتَرَكُوا لِكُلٍّ وَاحِدٍ مَا حَمَلَهُ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَفَرِحَ أَهْلُهَا. وَخَرَجَ الْفُقَهَاءُ وَوُجُوهُ الْبَلَدِ إِلَى لِقَاءِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَلَقُوهُ، وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَهَنَّئُوهُ بِالْفَتْحِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ رَدًّا حَسَنًا، وَحَدَّثَهُمْ، وَأَعْطَاهُمُ الْأَمَانَ، فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ وَسَرَّهُمْ، وَذَمُّوا زِيَادَةَ اللَّهِ، وَذَكَرُوا مَسَاوِئَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا كَانَ (إِلَّا قَوِيًّا) ، وَلَهُ مَنَعَةٌ، وَدَوْلَةٌ شَامِخَةٌ، وَمَا قَصَّرَ فِي مُدَافَعَتِهِ، وَلَكِنَّ أَمْرَ اللَّهِ لَا يُعَانَدُ وَلَا يُدَافَعُ! فَأَمْسَكُوا عَنِ الْكَلَامِ، وَرَجَعُوا إِلَى الْقَيْرَوَانِ. وَدَخَلَ رَقَّادَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، مُسْتَهَلَّ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَنَزَلَ بِبَعْضِ قُصُورِهَا، وَفَرَّقَ دُورَهَا عَلَى كُتَامَةَ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا فِيهَا، وَأَمَرَ فَنُودِيَ بِالْأَمَانِ، فَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى أَوْطَانِهِمْ، وَأَخْرَجَ الْعُمَّالَ إِلَى الْبِلَادِ، وَطَلَبَ أَهْلَ الشَّرِّ فَقَتَلَهُمْ، وَأَمَرَ أَنْ يُجْمَعَ مَا كَانَ لِزِيَادَةِ اللَّهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالسِّلَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ كَثِيرٌ مِنْهُ، وَفِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْجَوَارِي لَهُنَّ مِقْدَارٌ وَحَظٌّ مِنَ الْجَمَالِ، فَسَأَلَ عَمَّنْ كَانَ يَكْفُلُهُنَّ، فَذُكِرَ لَهُ امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ كَانَتْ لِزِيَادَةِ اللَّهِ، فَأَحْضَرَهَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ بِحِفْظِهِنَّ، وَأَمَرَ لَهُنَّ بِمَا يُصْلِحُهُنَّ وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. وَلَمَّا حَضَرَتِ الْجُمْعَةُ أَمَرَ الْخُطَبَاءَ بِالْقَيْرَوَانِ وَرَقَّادَةَ، فَخَطَبُوا وَلَمْ يَذْكُرُوا أَحَدًا، وَأَمَرَ بِضَرْبِ السِّكَّةِ، وَأَنْ لَا يُنْقَشَ عَلَيْهَا اسْمٌ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ مَكَانَ الِاسْمِ مِنْ وَجْهٍ: بَلَغَتْ حُجَّةُ اللَّهِ، وَمِنَ الْوَجْهِ الْآخَرِ: تَفَرَّقَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، وَنَقَشَ عَلَى السِّلَاحِ: عُدَّةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَوَسَمَ الْخَيْلَ عَلَى أَفْخَاذِهَا: الْمُلْكُ لِلَّهِ، وَأَقَامَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ لُبْسِ الدُّونِ الْخَشِنِ، وَالْقَلِيلِ مِنَ الطَّعَامِ الْغَلِيظِ.

ذِكْرُ مَسِيرِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ إِلَى سِجِلْمَاسَةَ وَظُهُورِ الْمَهْدِيِّ لَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (فِي رَقَّادَةَ وَسَائِرِ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ) أَتَاهُ أَخُوهُ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدٌ، فَفَرِحَ بِهِ، وَكَانَ هُوَ الْكَبِيرَ، فَسَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ مِنْ رَقَّادَةَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى إِفْرِيقِيَةَ أَخَاهُ أَبَا الْعَبَّاسِ، وَأَبَا زَاكِي، وَسَارَ فِي جُيُوشٍ عَظِيمَةٍ، فَاهْتَزَّ الْمَغْرِبُ لِخُرُوجِهِ، وَخَافَتْهُ زَنَاتَةُ، وَزَالَتِ الْقَبَائِلُ عَنْ طَرِيقِهِ، وَجَاءَتْ رُسُلُهُمْ وَدَخَلُوا فِي طَاعَتِهِ. فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ سِجِلْمَاسَةَ، (وَانْتَهَى خَبَرُهُ إِلَى أَلْيَسَعَ بْنِ مِدْرَارٍ، أَمِيرِ سِجِلْمَاسَةَ) ، أَرْسَلَ إِلَى الْمَهْدِيِّ، وَهُوَ فِي حَبْسِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، يَسْأَلُهُ عَنْ نَسَبِهِ وَحَالِهِ، وَهَلْ إِلَيْهِ قَصَدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ؟ فَحَلَفَ لَهُ الْمَهْدِيُّ أَنَّهُ مَا رَأَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، (وَلَا عَرَفَهُ) ، وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ تَاجِرٌ، فَاعْتُقِلَ فِي دَارٍ وَحْدَهُ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِوَلَدِهِ أَبِي الْقَاسِمِ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمَا الْحَرَسَ، وَقُرِّرَ وَلَدُهُ أَيْضًا، فَمَا حَالَ عَنْ كَلَامِ أَبِيهِ، وَقَرَّرَ رِجَالًا كَانُوا مَعَهُ، (وَضَرَبَهُمْ) ، فَلَمْ يُقِرُّوا بِشَيْءٍ. وَسَمِعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ذَلِكَ، فَشَقَّ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَلْيَسَعَ يَتَلَطَّفُهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الْحَرْبَ، وَإِنَّمَا لَهُ حَاجَةٌ مُهِمَّةٌ عِنْدَهُ، وَوَعَدَهُ الْجَمِيلَ، فَرَمَى الْكِتَابَ، وَقَتَلَ الرُّسُلَ، فَعَادُوهُ بِالْمُلَاطَفَةِ خَوْفًا عَلَى الْمَهْدِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ لَهُ، فَقَتَلَ الرَّسُولَ أَيْضًا، فَأَسْرَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي السَّيْرِ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَلْيَسَعُ، وَقَاتَلَهُ يَوْمَهُ ذَلِكَ، (وَافْتَرَقُوا) ، فَلَمَّا جَنَّهُمُ اللَّيْلُ هَرَبَ أَلْيَسَعُ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَهْلِهِ وَبَنِي عَمِّهِ، وَبَاتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ فِي غَمٍّ عَظِيمٍ لَا يَعْلَمُونَ مَا صُنِعَ بِالْمَهْدِيِّ وَوَلَدِهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَأَعْلَمُوهُ بِهَرَبِ أَلْيَسَعَ، فَدَخَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْبَلَدَ، وَأَتَوُا

الْمَكَانَ الَّذِي فِيهِ الْمَهْدِيُّ، فَاسْتَخْرَجَهُ، وَاسْتَخْرَجَ وَلَدَهُ، فَكَانَتْ فِي النَّاسِ مَسَرَّةٌ عَظِيمَةٌ كَادَتْ تَذْهَبُ بِعُقُولِهِمْ، فَأَرْكَبَهُمَا، وَمَشَى هُوَ وَرُؤَسَاءُ الْقَبَائِلِ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ لِلنَّاسِ: هَذَا مَوْلَاكُمْ، (وَهُوَ يَبْكِي) مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى فُسْطَاطٍ قَدْ ضُرِبَ لَهُ فَنَزَلَ فِيهِ، وَأَمَرَ بِطَلَبِ أَلْيَسَعَ (فَطُلِبَ) ، فَأُدْرِكَ، فَأُخِذَ وَضُرِبَ السِّيَاطَ ثُمَّ قُتِلَ. فَلَمَّا ظَهَرَ الْمَهْدِيُّ أَقَامَ بِسِجِلْمَاسَةَ أَرَبَعِينَ يَوْمًا، وَسَارَ إِلَى إِفْرِيقِيَةَ، وَأَحْضَرَ الْأَمْوَالَ مِنْ إِنْكِجَانَ، فَجَعَلَهَا أَحْمَالًا وَأَخَذَهَا مَعَهُ، وَوَصَلَ إِلَى رَقَّادَةَ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ (مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ) مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَزَالَ مُلْكُ بَنِي الْأَغْلَبِ، وَمُلْكُ بَنِي مِدْرَارٍ الَّذِينَ مِنْهُمْ أَلْيَسَعَ وَكَانَ لَهُمْ ثَلَاثُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ مُنْفَرِدِينَ بِسِجِلْمَاسَةَ، وَزَالَ مُلْكُ بَنِي رُسْتُمَ مِنْ تَاهَرْتَ، وَلَهُمْ سِتُّونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ تَفَرَّدُوا بِتَاهَرْتَ، وَمَلَكَ الْمَهْدِيُّ جَمِيعَ ذَلِكَ. فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ رَقَّادَةَ تَلَقَّاهُ أَهْلُهَا، وَأَهْلُ الْقَيْرَوَانِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَرُؤَسَاءُ كُتَامَةَ مُشَاةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَوَلَدُهُ خَلْفَهُ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، فَرَدَّ [رَدًّا] جَمِيلًا، وَأَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ، وَنَزَلَ بِقَصْرٍ مِنْ قُصُورِ رَقَّادَةَ، وَأَمَرَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ بِذِكْرِ اسْمِهِ فِي الْخُطْبَةِ فِي الْبِلَادِ، وَتَلَقَّبَ بِالْمَهْدِيِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَجَلَسَ بَعْدَ الْجُمْعَةِ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِالشَّرِيفِ، وَمَعَهُ الدُّعَاةُ، وَأَحْضَرُوا النَّاسَ بِالْعُنْفِ وَالشِّدَّةِ، وَدَعَوْهُمْ إِلَى مَذْهَبِهِمْ، (فَمَنْ أَجَابَ أُحْسِنَ إِلَيْهِ، وَمَنْ أَبَى حُبِسَ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي مَذْهَبِهِمْ) إِلَّا بَعْضُ النَّاسِ، وَهُمْ قَلِيلٌ، وَقُتِلَ (كَثِيرٌ مِمَّنْ) لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ. وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ جَوَارِيَ زِيَادَةِ اللَّهِ، فَاخْتَارَ مِنْهُنَّ كَثِيرًا لِنَفْسِهِ وَلِوَلَدِهِ أَيْضًا، وَفَرَّقَ مَا بَقِيَ عَلَى وُجُوهِ كُتَامَةَ، وَقَسَّمَ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَدَوَّنَ الدَّوَاوِينَ، وَجَبَى

الْأَمْوَالَ، وَاسْتَقَرَّتْ قَدَمُهُ، وَدَانَتْ لَهُ أَهْلُ الْبِلَادِ، وَاسْتَعْمَلَ الْعُمَّالَ عَلَيْهَا جَمِيعِهَا، فَاسْتَعْمَلَ عَلَى جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ الْحَسَنَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خِنْزِيرٍ، (فَوَصَلَ إِلَى مَازَرَ عَاشِرَ) ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، (فَوَلَّى أَخَاهُ عَلَى جَرْجَنْتَ) ، وَجَعَلَ قَاضِيًا بِصِقِلِّيَةَ إِسْحَاقَ بْنَ الْمِنْهَالِ، وَهُوَ أَوَّلُ قَاضٍ تَوَلَّى بِهَا لِلْمَهْدِيِّ الْعَلَوِيَّ. وَبَقِيَ ابْنُ أَبِي خِنْزِيرٍ إِلَى سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، فَسَارَ فِي عَسْكَرِهِ إِلَى دَمَنْشَ، فَغَنِمَ، وَسَبَى، وَأَحْرَقَ، وَعَادَ فَبَقِيَ مُدَّةً يَسِيرَةً، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا، فَثَارُوا بِهِ، وَأَخَذُوهُ وَحَبَسُوهُ، وَكَتَبُوا إِلَى الْمَهْدِيِّ بِذَلِكَ، وَاعْتَذَرُوا، فَقَبِلَ عُذْرَهُمْ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَلِيَّ بْنَ عُمَرَ الْبَلَوِيَّ، فَوَصَلَ آخِرَ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ (وَأَخِيهِ أَبِي الْعَبَّاسِ) فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ قُتِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ، قَتَلَهُ الْمَهْدِيُّ عُبَيْدُ اللَّهِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ لَمَّا اسْتَقَامَتْ لَهُ الْبِلَادُ، وَدَانَتْ لَهُ الْعِبَادُ، وَبَاشَرَ الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ، وَكَفَّ يَدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَيَدَ أَخِيهِ أَبِي الْعَبَّاسِ، دَاخَلَ أَبَا الْعَبَّاسِ الْحَسَدُ، وَعَظُمَ عَلَيْهِ الْفِطَامُ عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ، فَأَقْبَلَ يُزْرِي عَلَى الْمَهْدِيِّ فِي مَجْلِسِ أَخِيهِ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهِ، وَأَخُوهُ يَنْهَاهُ، وَلَا يَرْضَى فِعْلَهُ، فَلَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِلَّا لَجَاجًا. ثُمَّ إِنَّهُ أَظْهَرَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ لَهُ: مَلَكْتَ أَمْرًا، فَجِئْتَ بِمَنْ أَزَالَكَ عَنْهُ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُسْقِطَ حَقَّكَ.

وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى أَثَّرَ فِي قَلْبِ أَخِيهِ، فَقَالَ يَوْمًا لِلْمَهْدِيِّ: لَوْ كُنْتَ تَجْلِسُ فِي قَصْرِكَ، وَتَتْرُكُنِي مَعَ كُتَامَةَ آمُرُهُمْ وَأَنْهَاهُمْ، لِأَنِّي عَارِفٌ بِعَادَاتِهِمْ، لَكَانَ أَهْيَبَ لَكَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ. وَكَانَ الْمَهْدِيُّ سَمِعَ شَيْئًا مِمَّا يَجْرِي بَيْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَخِيهِ، فَتَحَقَّقَ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ رَدَّ رَدًّا لَطِيفًا، فَصَارَ أَبُو الْعَبَّاسِ يُشِيرُ إِلَى الْمُقَدَّمِينَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَمَنْ رَأَى مِنْهُ قَبُولًا كَشَفَ لَهُ مَا فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ: مَا جَازَاكُمْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ، وَذَكَرَ لَهُمُ الْأَمْوَالَ الَّتِي أَخَذَهَا الْمَهْدِيُّ مِنْ إِنْكِجَانَ، وَقَالَ: هَلَّا قَسَّمَهَا فِيكُمْ! وَكُلُّ ذَلِكَ يَتَّصِلُ بِالْمَهْدِيِّ، وَهُوَ يَتَغَافَلُ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ يُدَارِي، ثُمَّ صَارَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ الَّذِي كُنَّا نَعْتَقِدُ طَاعَتَهُ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمَهْدِيَّ يَخْتِمُ بِالْحُجَّةِ، وَيَأْتِي بِالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، فَأَخَذَ قَوْلُهُ بِقُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، مِنْهُمْ إِنْسَانٌ مِنْ كُتَامَةَ يُقَالُ لَهُ شَيْخُ الْمَشَايِخِ، فَوَاجَهَ الْمَهْدِيَّ بِذَلِكَ، وَقَالَ: إِنْ كَنْتَ الْمَهْدِيَّ فَأَظْهِرْ لَنَا آيَةً، فَقَدْ شَكَكْنَا فِيكَ، فَقَتَلَهُ الْمَهْدِيُّ، فَخَافَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلِمَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ قَدْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ، فَاتَّفَقَ هُوَ وَأَخُوهُ وَمَنْ مَعَهُمَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ عِنْدَ أَبِي زَاكِي، وَعَزَمُوا عَلَى قَتْلِ الْمَهْدِيِّ وَاجْتَمَعَ مَعَهُمْ قَبَائِلُ كُتَامَةَ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ. وَكَانَ مَعَهُمْ رَجُلٌ يُظْهِرُ أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَيَنْقُلُ مَا يَجْرِي إِلَى الْمَهْدِيِّ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ مِرَارًا فَلَمْ يَجْسُرُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا لَيْلَةً عِنْدَ أَبِي زَاكِي، فَلَمَّا أَصْبَحُوا لَبِسَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ثَوْبَهُ مَقْلُوبًا، وَدَخَلَ عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَرَأَى ثَوْبَهُ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ بِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالْقَمِيصُ بِحَالِهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ: مَا هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي أَذْهَلَكَ عَنْ إِصْلَاحِ ثَوْبِكَ؟ فَهُوَ مَقْلُوبٌ مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَعَلِمْتُ أَنَّكَ مَا نَزَعْتَهُ، فَقَالَ: مَا عَلِمْتُ بِذَلِكَ إِلَّا سَاعَتِي هَذِهِ، قَالَ: أَيْنَ كُنْتَ الْبَارِحَةَ وَاللَّيَالِيَ قَبْلَهَا؟ فَسَكَتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ

فَقَالَ: أَلَيْسَ بِتَّ فِي دَارِ أَبِي زَاكِي؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: وَمَا الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ دَارِكَ؟ قَالَ: خِفْتُ. قَالَ: وَهَلْ يَخَافُ الْإِنْسَانُ إِلَّا مِنْ عَدُوِّهِ؟ فَعَلِمَ أَنَّ أَمْرَهُ ظَهَرَ لِلْمَهْدِيِّ، فَخَرَجَ وَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ، وَخَافُوا، وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْحُضُورِ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلْمَهْدِيِّ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْقَدِيمِ، كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْمِ، وَعِنْدَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، مِنْ أَمْوَالِ زِيَادَةِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا مَوْلَايَ إِنْ شِئْتَ أَتَيْتُكَ بِهِمْ، وَمَضَى فَجَاءَ بِهِمْ، فَعَلِمَ الْمَهْدِيُّ صِحَّةَ مَا قِيلَ عَنْهُ، فَلَاطَفَهُمْ وَفَرَّقَهُمْ فِي الْبِلَادِ، وَجَعَلَ أَبَا زَاكِي وَالِيًا عَلَى طَرَابُلُسَ، وَكَتَبَ إِلَى عَامِلِهَا أَنْ يَقْتُلَهُ عِنْدَ وُصُولِهِ، فَلَمَّا وَصَلَهَا قَتَلَهُ عَامِلُهَا، وَأَرْسَلَ رَأْسَهُ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَهَرَبَ ابْنُ الْقَدِيمِ، فَأُخِذَ، فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ. وَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ عَرُوبَةَ وَرِجَالًا مَعَهُ أَنْ يَرْصُدُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَأَخَاهُ الْعَبَّاسَ، وَيَقْتُلُوهُمَا، فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى قُرْبِ الْقَصْرِ حَمَلَ عَرُوبَةُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ يَا بُنَيَّ! فَقَالَ: الَّذِي أَمَرْتَنَا بِطَاعَتِهِ أَمَرَنَا بِقَتْلِكَ، فَقُتِلَ هُوَ وَأَخُوهُ، وَكَانَ قَتْلُهُمَا فِي الْيَوْمِ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ أَبُو زَاكِي، فَقِيلَ: إِنَّ الْمَهْدِيَّ صَلَّى عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ، أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَجَزَاكَ خَيْرًا بِجَمِيلِ سَعْيِكَ. وَثَارَتْ فِتْنَةٌ بِسَبَبِ قَتْلِهِمَا، وَجَرَّدَ أَصْحَابُهُمَا السُّيُوفَ، فَرَكِبَ الْمَهْدِيُّ وَأَمَّنَ النَّاسَ، فَسَكَنُوا، ثُمَّ تَتَبَّعَهُمْ حَتَّى قَتَلَهُمْ. وَثَارَتْ فِتْنَةٌ ثَانِيَةٌ بَيْنَ كُتَامَةَ وَأَهْلِ الْقَيْرَوَانِ، قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَخَرَجَ الْمَهْدِيُّ وَسَكَّنَ الْفِتْنَةَ، وَكَفَّ الدُّعَاةَ عَنْ طَلَبِ التَّشَيُّعِ مِنَ الْعَامَّةِ. وَلَمَّا اسْتَقَامَتِ الدَّوْلَةُ لِلْمَهْدِيِّ عَهِدَ إِلَى وَلَدِهِ أَبِي الْقَاسِمِ نِزَارٍ بِالْخِلَافَةِ، وَرَجَعَتْ

كُتَامَةُ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَأَقَامُوا طِفْلًا وَقَالُوا: هَذَا هُوَ الْمَهْدِيُّ، ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّهُ نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَمُتْ، وَزَحَفُوا إِلَى مَدِينَةِ مِيلَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَهْدِيَّ فَأَخْرَجَ ابْنَهُ أَبَا الْقَاسِمِ، فَحَصَرَهُمْ فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمَهُمْ وَاتَّبَعَهُمْ حَتَّى أَجْلَاهُمْ إِلَى الْبَحْرِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا عَظِيمًا، وَقَتَلَ الطِّفْلَ الَّذِي أَقَامُوهُ. وَخَالَفَ عَلَيْهِ أَهْلُ صِقِلِّيَةَ مَعَ ابْنِ وَهْبٍ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِمْ أُسْطُولًا، فَفَتَحَهَا وَأَتَى بِابْنِ وَهْبٍ فَقَتَلَهُ. وَخَالَفَ عَلَيْهِ أَهْلُ تَاهَرْتَ، فَغَزَاهَا فَفَتَحَهَا، وَقَتَلَ أَهْلَ الْخِلَافِ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ بَنِي الْأَغْلَبِ بِرَقَّادَةَ كَانُوا قَدْ رَجَعُوا إِلَيْهَا بَعْدَ وَفَاةِ زِيَادَةِ اللَّهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا سُيِّرَ (الْقَاسِمُ بْنُ سِيمَا وَجَمَاعَةٌ) مِنَ الْقُوَّادِ فِي طَلَبِ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْدَانَ، فَسَارُوا حَتَّى بَلَغُوا قَرْقِيسِيَاءَ وَالرَّحْبَةَ، فَلَمْ يَظْفَرُوا بِهِ، فَكَتَبَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ، (وَهُوَ الْأَمِيرُ بِالْمَوْصِلِ) يَأْمُرُهُ بِطَلَبِ أَخِيهِ الْحُسَيْنِ، فَسَارَ هُوَ وَالْقَاسِمُ بْنُ سِيمَا، فَالْتَقَوْا عِنْدَ تَكْرِيتَ، فَانْهَزَمَ الْحُسَيْنُ، فَأَرْسَلَ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ حَمْدَانَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَدَخَلَ بَغْدَاذَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَعَقَدَ لَهُ عَلَى قُمَّ وَقَاشَانَ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَصَرَفَ عَنْهَا الْعَبَّاسَ بْنَ عَمْرٍو. وَفِيهَا وَصَلَ بَارِسُ غُلَامُ إِسْمَاعِيلَ السَّامَانِيِّ، وَقُلِّدَ دِيَارَ رَبِيعَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ طَاهِرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ وَبَيْنَ سُبْكَرِيٍّ غُلَامِ عَمْرٍو، فَأَسَرَ طَاهِرًا وَوَجَّهَهُ وَأَخَاهُ يَعْقُوبَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو إِلَى الْمُقْتَدِرِ مَعَ كَاتِبِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَعْفَرٍ الشِّيرَازِيِّ، فَأُدْخِلَا بَغْدَاذَ أَسِيرَيْنِ، فَحُبِسَا، وَكَانَ سُبْكَرِيٌّ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى فَارِسَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ كَاتِبُهُ قَرَّرَ أَمْرَهُ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ، وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَى بَغْدَاذَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ.

وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى مُؤْنِسٍ الْمُظَفَّرِ الْخَادِمِ، وَأُمِرَ بِالْمَسِيرِ إِلَى غَزْوِ الرُّومِ، فَسَارَ فِي جَمْعٍ كَثِيفٍ، فَغَزَا مِنْ نَاحِيَةِ مَلَطْيَةَ، وَمَعَهُ أَبُو الْأَعَزِّ السُّلَمِيُّ، فَظَفِرَ وَغَنِمَ وَأَسَرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً (وَعَادَ) . وَفِيهَا قُلِّدَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ أَعْمَالَ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، وَضَمِنَهَا بِمِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَارَ إِلَيْهَا مِنَ الدِّينَوَرِ. وَفِيهَا سَقَطَ بِبَغْدَاذَ ثَلْجٌ كَثِيرٌ مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى الْعَصْرِ، فَصَارَ عَلَى الْأَرْضِ أَرْبَعَ أَصَابِعَ، وَكَانَ مَعَهُ بَرْدٌ شَدِيدٌ، وَجَمُدَ الْمَاءُ وَالْخَلُّ وَالْبَيْضُ وَالْأَدْهَانُ، وَهَلَكَ النَّخْلُ، وَكَثِيرٌ مِنَ الشَّجَرِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ (بْنُ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ) . وَفِيهَا قُتِلَ سَوْسَنٌ حَاجِبُ الْمُقْتَدِرِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي أَمْرِ ابْنِ الْمُعْتَزِّ، فَلَمَّا بُويِعَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ وَاسْتُحْجِبَ غَيْرُهُ لَزِمَ الْمُقْتَدِرَ، فَلَمَّا اسْتُوْزِرَ ابْنُ الْفُرَاتِ تَفَرَّدَ بِالْأُمُورِ، فَعَادَاهُ سَوْسَنٌ، وَسَعَى فِي فَسَادِ حَالِهِ، فَأَعْلَمَ ابْنُ الْفُرَاتِ الْمُقْتَدِرَ بِاللَّهِ بِحَالِ سَوْسَنٍ، وَأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ أَعَانَ ابْنَ الْمُعْتَزِّ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ عَمُّ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْكِتَابَةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ خَاقَانَ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدُّهْكَانِيُّ.

ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 297 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ اللَّيْثِ عَلَى فَارِسَ وَقَتْلِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ اللَّيْثُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ اللَّيْثِ مِنْ سِجِسْتَانَ إِلَى فَارِسَ [فِي جَيْشٍ] وَأَخَذَهَا، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَهَرَبَ سُبْكَرِيٌّ عَنْهَا إِلَى أَرَّجَانَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ الْمُقْتَدِرَ جَهَّزَ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ وَسَيَّرَهُ إِلَى فَارِسَ، مَعُونَةً لِسُبْكَرِيٍّ، فَاجْتَمَعَا بِأَرَّجَانَ. وَبَلَغَ خَبَرُ اجْتِمَاعِهِمَا اللَّيْثَ، فَسَارَ إِلَيْهِمَا، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِمَسِيرِ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْدَانَ مِنْ قُمَّ إِلَى الْبَيْضَاءِ، مَعُونَةً لِمُؤْنِسٍ، فَسَيَّرَ أَخَاهُ فِي بَعْضِ جَيْشِهِ إِلَى شِيرَازَ لِيَحْفَظَهَا، ثُمَّ سَارَ فِي بَعْضِ جُنْدِهِ فِي طَرِيقٍ مُخْتَصَرٍ لِيُوَاقِعَ الْحُسَيْنَ بْنَ حَمْدَانَ، فَأَخَذَ بِهِ الدَّلِيلُ فِي طَرِيقِ الرَّجَّالَةِ، فَهَلَكَ أَكْثَرُ دَوَابِّهِ، وَلَقِيَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مَشَقَّةً عَظِيمَةً، فَقَتَلَ الدَّلِيلَ، وَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ، فَأَشْرَفَ عَلَى عَسْكَرِ مُؤْنِسٍ، فَظَنَّهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ عَسْكَرُهُ الَّذِي سُيِّرَ مَعَ أَخِيهِ إِلَى شِيرَازَ، فَكَبَّرُوا، فَثَارَ إِلَيْهِمْ مُؤْنِسٌ وَسُبْكَرِيٌّ فِي جُنْدِهِمَا، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ اللَّيْثِ، وَأُخِذَ هُوَ أَسِيرًا. فَلَمَّا أَسَرَهُ مُؤْنِسٌ قَالَ لَهُ (أَصْحَابُهُ: إِنَّ) الْمَصْلَحَةَ أَنْ نَقْبِضَ عَلَى سُبْكَرِيٍّ، وَنَسْتَوْلِيَ عَلَى بِلَادِ فَارِسَ، وَنَكْتُبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ لِيُقِرَّهَا عَلَيْكَ، فَقَالَ: سَأَفْعَلُ غَدًا، إِذَا صَارَ إِلَيْنَا عَلَى عَادَتِهِ. فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْلُ أَرْسَلَ مُؤْنِسٌ إِلَى سُبْكَرِيٍّ سِرًّا يُعَرِّفُهُ مَا أَشَارَ بِهِ أَصْحَابُهُ، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى شِيرَازَ، فَفَعَلَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ مُؤْنِسٌ قَالَ لِأَصْحَابِهِ:

أَرَى سُبْكَرِيًّا قَدْ تَأَخَّرَ عَنَّا، فَتَعَرَّفُوا خَبَرَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَعَادَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ سُبْكَرِيًّا سَارَ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى شِيرَازَ، فَلَامَ أَصْحَابَهُ، وَقَالَ: مِنْ جِهَتِكُمْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ حَتَّى اسْتَوْحَشَ، وَعَادَ مُؤْنِسٌ وَمَعَهُ اللَّيْثُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَعَادَ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ إِلَى قُمَّ. ذِكْرُ أَخْذِ فَارِسَ مِنْ سُبْكَرِيٍّ لَمَّا عَادَ مُؤْنِسٌ عَنْ سُبْكَرِيٍّ اسْتَوْلَى كَاتِبُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَعْفَرٍ عَلَى الْأُمُورِ فَحَسَدَهُ أَصْحَابُ سُبْكَرِيٍّ فَنَقَلُوا عَنْهُ أَنَّهُ كَاتَبَ الْخَلِيفَةَ، وَأَنَّهُ قَدْ حَلَّفَ أَكْثَرَ الْقُوَّادِ لَهُ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَقَيَّدَهُ وَحَبَسَهُ، وَاسْتَكْتَبَ مَكَانَهُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ، فَحَمَلَهُ عَلَى الْعِصْيَانِ وَمَنْعِ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَفَعَلَ ذَلِكَ. فَكَتَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَعْفَرٍ إِلَى ابْنِ الْفُرَاتِ، وَزِيرِ الْخَلِيفَةِ، يَعَرِّفُهُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَمَّا نَهَى سُبْكَرِيًّا عَنِ الْعِصْيَانِ قَبَضَ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ ابْنُ الْفُرَاتِ إِلَى مُؤْنِسٍ، وَهُوَ بِوَاسِطَ، يَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى فَارِسَ، وَيُعَجِّزُهُ حَيْثُ لَمْ يَقْبِضْ عَلَى سُبْكَرِيٍّ، وَيَحْمِلْهُ مَعَ اللَّيْثِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَعَادَ مُؤْنِسٌ إِلَى الْأَهْوَازِ. وَأَرْسَلَ سُبْكَرِيٌّ مُؤْنِسًا، وَهَادَاهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَتَوَسَّطَ حَالَهُ مَعَ الْخَلِيفَةِ، فَكَتَبَ فِي أَمْرِهِ، وَبَذَلَ عَنْهُ مَالًا، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، وَعَلِمَ ابْنُ الْفُرَاتِ أَنَّ مُؤْنِسًا يَمِيلُ إِلَى سُبْكَرِيٍّ، فَأَنْفَذَ وَصِيفًا كَاتِبَهُ، وَجَمَاعَةً مِنَ الْقُوَّادِ، (وَمُحَمَّدَ بْنَ) جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيَّ، وَعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي فَتْحِ فَارِسَ، وَكَتَبَ إِلَى مُؤْنِسٍ يَأْمُرُهُ بِاسْتِصْحَابِ اللَّيْثِ مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَعَادَ مُؤْنِسٌ. وَسَارَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ إِلَى فَارِسَ، وَوَاقَعَ سُبْكَرِيًّا عَلَى بَابِ شِيرَازَ فَانْهَزَمَ سُبْكَرِيٌّ إِلَى بُمَّ وَتَحَصَّنُ بِهَا، وَتَبِعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَحَصَرَهُ بِهَا فَخَرَجَ إِلَيْهِ سُبْكَرِيٌّ وَحَارَبَهُ

مَرَّةً ثَانِيَةً، فَهَزَمَهُ مُحَمَّدٌ وَنَهَبَ مَالَهُ وَدَخَلَ سُبْكَرِيٌّ مَفَازَةَ خُرَاسَانَ، فَظَفِرَ بِهِ صَاحِبُ خُرَاسَانَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَاسْتَوْلَى مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَلَى فَارِسَ فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا فُتَيْحًا خَادِمَ الْأَفْشِينِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ فَتْحَ فَارِسَ كَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ [وَمِائَتَيْنِ] . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا وَجَّهَ الْمُقْتَدِرُ الْقَاسِمَ بْنَ سِيمَا لِغَزْوِ الصَّائِفَةِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عِيسَى النُّوشَرِيُّ (فِي شَعْبَانَ) بِمِصْرَ، بَعْدَ مَوْتِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ بِسْطَامٍ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَدُفِنَ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، (وَاسْتَعْمَلَ الْمُقْتَدِرُ) مَكَانَهُ تِكِينَ الْخَادِمَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ مُنْتَصَفَ شَهْرِ رَمَضَانَ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمٍ، صَاحِبُ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ) .

وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْفَيْضُ بْنُ الْخَضِرِ، وَقِيلَ ابْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو الْفَيْضِ الْأُولَاسِيُّ الطَّرَسُوسِيُّ. وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيُّ الْفَقِيهُ الظَّاهِرِيُّ. وَمُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي. وَالْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ حَمَّادٍ، وَلَهُ تِسْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 298 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَلَى سِجِسْتَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، اسْتَوْلَى أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السَّامَانِيُّ عَلَى سِجِسْتَانَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ، وَثَبَتَ مُلْكُهُ، خَرَجَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى الرَّيِّ، وَكَانَ يَسْكُنُ بُخَارَى، ثُمَّ سَارَ إِلَى هَرَاةَ، فَسَيَّرَ مِنْهَا جَيْشًا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ إِلَى سِجِسْتَانَ، وَسَيَّرَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ قُوَّادِهِ وَأُمَرَائِهِ، مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ، وَسِيمَجُورُ الدَّوَاتِيُّ، وَهُوَ وَالِدُ آلِ سِيمَجُورَ وُلَاةِ خُرَاسَانَ لِلسَّامَانِيَّةِ، وَسَيَرِدُ ذِكْرُهُمْ، وَاسْتَعْمَلَ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا الْجَيْشِ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ الْمَرْوَرُوذِيِّ، فَسَارُوا حَتَّى أَتَوْا سِجِسْتَانَ، وَبِهَا الْمُعَدَّلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ اللَّيْثِ الصَّفَّارُ وَهُوَ صَاحِبُهَا. فَلَمَّا بَلَغَ الْمُعَدَّلَ خَبَرُهُمْ سَيَّرَ أَخَاهُ أَبَا عَلِيٍّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ اللَّيْثِ إِلَى بُسْتَ وَالرُّخَّجِ لِيَحْمِيَ أَمْوَالَهَا، وَيُرْسِلَ مِنْهَا الْمِيرَةَ إِلَى سِجِسْتَانَ، فَسَارَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ بِبُسْتَ، وَجَاذَبَهُ، وَأَخَذَهُ أَسِيرًا، وَعَادَ بِهِ إِلَى هَرَاةَ. وَأَمَّا الْجَيْشُ الَّذِي بِسِجِسْتَانَ فَإِنَّهُمْ حَصَرُوا الْمُعَدَّلَ، وَضَايَقُوهُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أَخَاهُ أَبَا عَلِيٍّ مُحَمَّدًا قَدْ أُخِذَ أَسِيرًا، صَالَحَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ، فَاسْتَوْلَى الْحُسَيْنُ عَلَى سِجِسْتَانَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا الْأَمِيرُ أَحْمَدُ أَبَا صَالِحٍ مَنْصُورَ بْنَ إِسْحَاقَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ، وَانْصَرَفَ الْحُسَيْنُ عَنْهَا وَمَعَهُ الْمُعَدَّلُ إِلَى بُخَارَى، ثُمَّ إِنَّ سِجِسْتَانَ خَالَفَ أَهْلُهَا سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَلَمَّا اسْتَوْلَى السَّامَانِيَّةُ عَلَى سِجِسْتَانَ بَلَغَهُمْ خَبَرُ مَسِيرِ سُبْكَرِيٍّ فِي الْمَفَازَةِ مِنْ

فَارِسَ إِلَى سِجِسْتَانَ، فَسَيَّرُوا إِلَيْهِ جَيْشًا، فَلَقُوهُ وَهُوَ وَعَسْكَرُهُ قَدْ أَهْلَكَهُمُ التَّعَبُ، فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى عَسْكَرِهِ، وَكَتَبَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ إِلَى الْمُقْتَدِرِ بِذَلِكَ، وَبِالْفَتْحِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَشْكُرُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَأْمُرُهُ بِحَمْلِ سُبْكَرِيٍّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اللَّيْثِ، إِلَى بَغْدَاذَ، فَسَيَّرَهُمَا، وَأُدْخِلَا بَغْدَاذَ مَشْهُورَيْنِ عَلَى فِيلَيْنِ، وَأَعَادَ الْمُقْتَدِرُ رُسُلَ أَحْمَدَ، صَاحِبِ خُرَاسَانَ، وَمَعَهُمُ الْهَدَايَا وَالْخِلَعُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا أَطْلَقَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَمَّهُ إِسْحَاقَ بْنَ أَحْمَدَ مِنْ مَحْبِسِهِ، وَأَعَادَهُ إِلَى سَمَرْقَنْدَ وَفَرْغَانَةَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْعَبَرْتَاي، وَقُنْبُجُ الْخَادِمُ أَمِيرُ فَارِسَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْمِسْمَعِيَّ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ كَرْمَانَ. وَفِيهَا جُعِلَتْ أُمُّ مُوسَى الْهَاشِمِيَّةُ قَهْرَمَانَةَ دَارِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، فَكَانَتْ تُؤَدِّي الرَّسَائِلَ مِنَ الْمُقْتَدِرِ وَأُمِّهِ، إِلَى الْوَزِيرِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا لِأَنَّ لَهَا فِيمَا بَعْدُ مِنَ الْحُكْمِ فِي الدَّوْلَةِ مَا أَوْجَبَ ذِكْرَهَا، وَإِلَّا كَانَ الْإِضْرَابُ عَنْهَا أَوْلَى. وَفِيهَا غَزَا الْقَاسِمُ بْنُ سِيمَا الصَّائِفَةَ. وَفِيهَا فِي رَجَبٍ، تُوُفِّيَ الْمُظَفَّرُ بْنُ جَاخَ، أَمِيرُ الْيَمَنِ، وَحُمِلَ إِلَى مَكَّةَ وَدُفِنَ بِهَا، وَاسْتَعْمَلَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْيَمَنِ بَعْدَهُ مُلَاحِظًا.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ. وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، أُخِذَ جَمَاعَةٌ بِبَغْدَاذَ، قِيلَ إِنَّهُمْ أَصْحَابُ رَجُلٍ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ، يُعْرَفُ بِمُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ. وَفِيهَا هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ حَارَّةٌ صَفْرَاءُ بِحَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ، فَمَاتَ لِشِدَّةِ حَرِّهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ جُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصُّوفِيُّ، وَكَانَ إِمَامَ الدُّنْيَا فِي زَمَانِهِ، وَأَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ، وَالتَّصَوُّفَ عَنْ سَرِيٍّ السَّقَطِيِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَرْزَةَ الْحَاسِبُ، وَاسْمُهُ الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاسِمُ بْنُ الْعَبَّاسِ (أَبُو مُحَمَّدٍ) الْمَعْشَرِيُّ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْمَعْشَرِيُّ لِأَنَّهُ ابْنُ بِنْتِ أَبِي مَعْشَرٍ نَجِيحٍ الْمَدَنِيِّ، وَكَانَ زَاهِدًا فَقِيهًا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ عِصَامٍ أَبُو الْعَبَّاسِ، (وَمُحَمَّدُ بْنُ إِيَاسٍ وَالِدُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ، صَاحِبُ تَارِيخِ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا، وَهُوَ أَزْدِيٌّ.

ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائتين

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ] 299 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى ابْنِ الْفُرَاتِ وَوِزَارَةِ الْخَاقَانِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ الْمُقْتَدِرُ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ قَدْ ظَهَرَ، قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَيْهِ بِمُدَّةٍ (يَسِيرَةٍ) ، ثَلَاثَةُ كَوَاكِبَ مُذَنَّبَةٍ، أَحَدُهَا ظَهَرَ آخِرَ رَمَضَانَ فِي بُرْجِ الْأَسَدِ، وَالْآخَرُ ظَهَرَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فِي الْمَشْرِقِ، وَالثَّالِثُ ظَهَرَ فِي الْمَغْرِبِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ أَيْضًا فِي بُرْجِ الْعَقْرَبِ. وَلَمَّا قُبِضَ عَلَى الْوَزِيرِ وُكِّلَ بِدَارِهِ، وَهَتْكِ حُرَمِهِ، وَنَهْبِ مَالِهِ، وَنُهِبَتْ دُورُ أَصْحَابِهِ وَمَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَافْتُتِنَتْ بَغْدَاذُ لِقَبْضِهِ، وَلَقِيَ النَّاسُ شِدَّةً ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ سَكَنُوا. وَكَانَتْ مُدَّةُ وِزَارَتِهِ هَذِهِ، وَهِيَ الْوِزَارَةُ الْأُولَى، ثَلَاثَ سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَلِّدَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ (يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ) يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ الْوِزَارَةَ، فَرَتَّبَ أَصْحَابَ الدَّوَاوِينِ، وَتَوَلَّى مُنَاظَرَةَ ابْنِ الْفُرَاتِ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي الْبَغْلِ، وَكَانَ أَخُوهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي الْبَغْلِ مُقِيمًا بِأَصْبَهَانَ، فَسَعَى أَخُوهُ لَهُ فِي الْوِزَارَةِ هُوَ وَأُمُّ مُوسَى الْقَهْرَمَانَةُ، فَأَذِنَ الْمُقْتَدِرُ فِي حُضُورِهِ لِيَتَوَلَّى الْوِزَارَةَ، فَحَضَرَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ

الْخَاقَانِيَّ انْحَلَّتْ أُمُورُهُ، فَدَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ (وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ) ، فَأَمَرَهُ بِالْقَبْضِ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ (وَأَبِي الْحُسَيْنِ أَخِيهِ، فَقُبِضَ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ) وَكَتَبَ فِي الْقَبْضِ عَلَى أَبِي الْحُسَيْنِ، فَقُبِضَ أَيْضًا، ثُمَّ خَافَ الْقَهْرَمَانَةَ، فَأَطْلَقَهُمَا وَاسْتَعْمَلَهُمَا. ثُمَّ إِنَّ أُمُورَ الْخَاقَانِيِّ انْحَلَّتْ لِأَنَّهُ كَانَ ضَجُورًا، ضَيِّقَ الصَّدْرِ، مُهْمِلًا لِقِرَاءَةِ كُتُبِ الْعُمَّالِ، وَجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ يَتَقَرَّبُ إِلَى الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، فَمَنَعَ خَدَمَ السُّلْطَانِ وَخَوَاصَّهُ أَنْ يُخَاطِبُوهُ بِالْعَبْدِ، وَكَانَ إِذَا رَأَى جَمَاعَةً مِنَ الْمَلَّاحِينَ وَالْعَامَّةِ يُصَلُّونَ جَمَاعَةً، يَنْزِلُ وَيُصَلِّي مَعَهُمْ، وَإِذَا سَأَلَهُ أَحَدٌ حَاجَةً دَقَّ صَدْرَهُ، وَقَالَ: نَعَمْ وَكَرَامَةً، فَسُمِّيَ " دَقَّ صَدْرَهُ "، إِلَّا أَنَّهُ قَصَّرَ فِي إِطْلَاقِ الْأَمْوَالِ لِلْفُرْسَانِ وَالْقَوَّادِ، فَنَفَرُوا عَنْهُ وَاتَّضَعَتِ الْوِزَارَةُ بِفِعْلِهِ مَا تَقَدَّمَ. وَكَانَ أَوْلَادُهُ قَدْ تَحَكَّمُوا عَلَيْهِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَسْعَى لِمَنْ يَرْتَشِي مِنْهُ، وَكَانَ يُوَلِّي فِي الْأَيَّامِ الْقَلِيلَةِ عِدَّةً مِنَ الْعُمَّالِ، حَتَّى إِنَّهُ وَلَّى بِالْكُوفَةِ، فِي مُدَّةِ عِشْرِينَ يَوْمًا، سَبْعَةً مِنَ الْعُمَّالِ، فَاجْتَمَعُوا فِي الطَّرِيقِ، فَعَرَضُوا تَوْقِيعَاتِهِمْ، فَسَارَ الْأَخِيرُ مِنْهُمْ، وَعَادَ الْبَاقُونَ يَطْلُبُونَ مَا خَدَمُوا بِهِ أَوْلَادَهُ، فَقِيلَ فِيهِ: وَزِيرٌ قَدْ تَكَامَلَ فِي الرَّقَاعِهْ ... يُوَلِّي ثُمَّ يَعْزِلُ بَعْدَ سَاعِهْ إِذَا أَهْلُ الرُّشَى اجْتَمَعُوا لَدَيْهِ ... فَخَيْرُ الْقَوْمِ أَوْفَرُهُمْ بِضَاعَهْ وَلَيْسَ يُلَامُ فِي هَذَا بِحَالٍ ... لِأَنَّ الشَّيْخَ أَفْلَتَ مِنْ مَجَاعَهْ ثُمَّ زَادَ الْأَمْرُ، حَتَّى تَحَكَّمَ أَصْحَابُهُ، فَكَانُوا يُطْلِقُونَ الْأَمْوَالَ وَيُفْسِدُونَ الْأَحْوَالَ، فَانْحَلَّتِ الْقَوَاعِدُ، وَخَبُثَتِ النِّيَّاتُ، وَاشْتَغَلَ الْخَلِيفَةُ بِعَزْلِ وُزَرَائِهِ وَالْقَبْضِ عَلَيْهِمْ، وَالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ النِّسَاءِ وَالْخَدَمِ، وَالتَّصَرُّفِ عَلَى مُقْتَضَى آرَائِهِمْ، فَخَرَجَتِ الْمَمَالِكُ، وَطَمِعَ الْعُمَّالُ فِي الْأَطْرَافِ، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ.

ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ أَحْضَرَ الْوَزِيرَ ابْنَ الْفُرَاتِ مِنْ مَحْبِسِهِ، فَجَعَلَهُ عِنْدَهُ فِي بَعْضِ الْحُجَرِ مُكَرَّمًا، فَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ مُطَالَعَاتِ الْعُمَّالِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَأَكْرَمَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ أَخَذَ أَمْوَالَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا غَزَا رُسْتُمُ أَمِيرُ الثُّغُورِ الصَّائِفَةَ مِنْ نَاحِيَةِ طَرَسُوسَ، وَمَعَهُ دَمْيَانَةُ، فَحَصَرَ حِصْنَ مَلِيحٍ الْأَرْمَنِيِّ، ثُمَّ دَخَلَ بَلَدَهُ وَأَحْرَقَهُ. وَفِيهَا دَخَلَ بَغْدَاذَ الْعُطَيْرُ وَالْأَغْبَرُ وَهُمَا مِنْ قُوَّادِ زَكْرَوَيْهِ الْقَرْمَطِيِّ، دَخَلَا بِالْأَمَانِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِيهَا جَاءَ نَفَرٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ إِلَى بَابِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ عَلَيْهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجِيقَ، وَكَانَ وُصُولُهُمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ، فَوَقَعَ الصَّوْتُ بِمَجِيءِ الْقَرَامِطَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْمُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ بَابِ الْبَصْرَةِ، فَرَأَوْا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِمَا، فَقَتَلَ الْقَرَامِطَةُ مِنْهُمْ رَجُلًا وَعَادُوا فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي جَمْعٍ، فَلَمْ يَرَهُمْ، فَسَيَّرَ فِي أَثَرِهِمْ جَمَاعَةً، فَأَدْرَكُوهُمْ، وَكَانُوا نَحْوَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، فَقَاتَلُوهُمْ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَعَادَ ابْنُ كُنْدَاجِيقَ وَأَغْلَقَ أَبْوَابَ

الْبَصْرَةِ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ أُولَئِكَ الْقَرَامِطَةَ كَانُوا مُقَدِّمَةً لِأَصْحَابِهِمْ، وَكَاتَبَ الْوَزِيرَ بِبَغْدَاذَ يُعَرِّفُهُ وُصُولَ الْقَرَامِطَةِ وَيَسْتَمِدُّهُ، (فَلَمَّا أَصْبَحَ) وَلَمْ يَرَ لِلْقَرَامِطَةِ أَثَرًا نَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ مِنْ بَغْدَاذَ عَسْكَرًا مَعَ بَعْضِ الْقُوَّادِ. وَفِيهَا خَالَفَ أَهْلُ طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ عَلَى الْمَهْدِيِّ، عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا عَسْكَرًا فَحَاصَرَهَا، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا الْمَهْدِيُّ ابْنَهُ أَبَا الْقَاسِمِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ، فَحَاصَرَهَا، وَصَابَرَهَا، وَاشْتَدَّ فِي الْقِتَالِ، فَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ فِي الْبَلَدِ حَتَّى أَكَلَ أَهْلُهُ الْمَيْتَةَ، فَفَتَحَ الْبَلَدَ عُنْفًا، وَعَفَا عَنْ أَهْلِهِ، وَأَخَذَ أَمْوَالًا عَظِيمَةً مِنَ الَّذِينَ أَثَارُوا الْخِلَافَ وَغَرَّمَ أَهْلَ الْبَلَدِ جَمِيعَ مَا أَخْرَجَهُ عَلَى عَسْكَرِهِ، وَأَخَذَ وُجُوهَ الْبَلَدِ رَهَائِنَ عِنْدَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ عَامِلًا وَانْصَرَفَ. وَفِيهَا كَانَتْ زَلَازِلُ بِالْقَيْرَوَانِ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا شِدَّةً وَعَظَمَةً، وَثَارَ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ، فَقَتَلُوا مِنْ كُتَامَةَ نَحْوَ أَلْفِ رَجُلٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ كَيْسَانَ أَبُو الْحَسَنِ النَّحْوِيُّ، وَكَانَ عَالِمًا بِنَحْوِ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ، لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ ثَعْلَبٍ وَالْمُبَرِّدِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّرِيِّ الْقَنْطَرِيُّ.

وَأَبُو صَالِحٍ الْحَافِظُ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ سِيبَوَيْهِ، وَأَبُو يَعْقُوبَ بْنُ حُنَيْنٍ الطَّبِيبُ.

ثم دخلت سنة ثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِمِائَة] 300 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ عَزْلِ الْخَاقَانِيِّ عَنِ الْوِزَارَةِ، وَوِزَارَةِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ لِلْمُقْتَدِرِ تَخْلِيطُ الْخَاقَانِيِّ، وَعَجْزُهُ فِي الْوِزَارَةِ، فَأَرَادَ عَزْلَهُ، وَإِعَادَةَ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ إِلَى الْوِزَارَةِ، فَمَنَعَهُ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ عَنِ ابْنِ الْفُرَاتِ لِنُفُورِهِ عَنْهُ لِأُمُورٍ، مِنْهَا: إِنْفَاذُ الْجَيْشِ إِلَى فَارِسَ مَعَ غَيْرِهِ، وَإِعَادَتُهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، فَقَالَ لِلْمُقْتَدِرِ: مَتَى أَعَدْتَهُ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّكَ إِنَّمَا قَبَضْتَ عَلَيْهِ شَرَهًا فِي مَالِهِ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ تَسْتَدْعِيَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى مِنْ مَكَّةَ وَتَجْعَلَهُ وَزِيرًا، فَهُوَ الْكَافِي الثِّقَةُ، الصَّحِيحُ الْعَمَلِ، الْمَتِينُ الدِّينِ. فَأَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِإِحْضَارِهِ، فَأَنْفَذَ مَنْ يُحْضِرُهُ، فَوَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ أَوَّلَ سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَجَلَسَ فِي الْوِزَارَةِ، وَقُبِضَ عَلَى الْخَاقَانِيِّ (وَسُلِّمَ إِلَيْهِ) ، فَأَحْسَنَ قَبْضَهُ، وَوَسَّعَ عَلَيْهِ، وَتَوَلَّى عَلِيُّ بْنُ عِيسَى، وَلَازَمَ الْعَمَلَ وَالنَّظَرَ فِي الْأُمُورِ، (وَرَدَّ الْمَظَالِمَ، وَأَطْلَقَ) مِنَ الْمُكُوسِ شَيْئًا كَثِيرًا بِمَكَّةَ وَفَارِسَ، وَأَطْلَقَ الْمَوَاخِيرَ وَالْمُفْسِدَاتِ بِدَوْبَقَ، وَأَسْقَطَ زِيَادَاتٍ كَانَ الْخَاقَانِيُّ قَدْ زَادَهَا لِلْجُنْدِ، لِأَنَّهُ عَمِلَ الدَّخْلَ وَالْخَرْجَ، فَرَأَى الْخَرْجَ أَكْثَرَ، فَأَسْقَطَ أُولَئِكَ، وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ، وَتَبْيِيضِهَا وَفَرْشِهَا بِالْحُصْرِ، وَإِشْعَالِ الْأَضْوَاءِ فِيهَا، وَأَجْرَى لِلْأَئِمَّةِ، وَالْقُرَّاءِ، وَالْمُؤَذِّنِينَ، أَرْزَاقًا، وَأَمَرَ بِإِصْلَاحِ الْبِيمَارِسْتَانَاتِ، وَعَمَلِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَرْضَى مِنَ الْأَدْوِيَةِ، وَقَرَّرَ فِيهَا فُضَلَاءَ الْأَطِبَّاءِ، وَأَنْصَفَ الْمَظْلُومِينَ، وَأَسْقَطَ مَا زِيدَ فِي خَرَاجِ الضِّيَاعِ، وَلَمَّا عُزِلَ الْخَاقَانِيُّ أَكْثَرَ النَّاسُ التَّزْوِيرَ عَلَى خَطِّهِ بِمُسَامَحَاتٍ وَإِدَارَاتٍ، فَنَظَرَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى فِي تِلْكَ الْخُطُوطِ، فَأَنْكَرَهَا، وَأَرَادَ إِسْقَاطَهَا، فَخَافَ ذَمَّ النَّاسِ، وَرَأَى

أَنْ يُنْفِذَهَا إِلَى الْخَاقَانِيِّ لِيُمَيِّزَ الصَّحِيحَ مِنَ الْمُزَوَّرِ عَلَيْهِ، فَيَكُونَ الذَّمُّ لَهُ، فَلَمَّا عُرِضَتْ تِلْكَ الْخُطُوطُ عَلَيْهِ، قَالَ: هَذِهِ جَمِيعُهَا خَطِّي وَأَنَا أَمَرْتُ بِهَا، فَلَمَّا عَادَ الرَّسُولُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بِذَلِكَ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَذَبَ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُزَوَّرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ اعْتَرَفَ بِهَا لِيَحْمَدَهُ النَّاسُ وَيَذُمُّونِي، وَأَمَرَ بِهَا فَأُجِيزَتْ. وَقَالَ الْخَاقَانِيُّ لِوَلَدِهِ: يَا بُنَيَّ هَذِهِ لَيْسَتْ خَطِّي، وَلَكِنَّهُ أَنْفَذَهَا إِلَيَّ وَقَدْ عَرَفَ الصَّحِيحَ مِنَ السَّقِيمِ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الشَّوْكَ بِأَيْدِينَا، وَيُبَغِّضَنَا إِلَى النَّاسِ، وَقَدْ عَكَسْتُ مَقْصُودَهُ. ذِكْرُ خِلَافِ سِجِسْتَانَ وَعَوْدِهَا إِلَى طَاعَةِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ السَّامَانِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنْفَذَ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السَّامَانِيُّ عَسْكَرًا إِلَى سِجِسْتَانَ لِيَفْتَحَهَا ثَانِيًا، وَكَانَتْ قَدْ عَصَتْ عَلَيْهِ، وَخَافَ مَنْ بِهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ هُرْمُزَ، الْمَعْرُوفَ بِالْمَوْلَى الصَّنْدَلِيِّ، كَانَ خَارِجِيَّ الْمَذْهَبِ، وَكَانَ قَدْ أَقَامَ بِبُخَارَى وَهُوَ مِنْ أَهْلِ سِجِسْتَانَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَجَاءَ يَوْمًا إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَارِضِ يَطْلُبُ رِزْقَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْأَصْلَحَ لِمِثْلِكَ مِنَ الشُّيُوخِ أَنْ يَلْزَمَ رِبَاطًا يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ، حَتَّى يُوَافِيَهُ أَجْلُهُ، فَغَاظَهُ ذَلِكَ، فَانْصَرَفَ إِلَى سِجِسْتَانَ وَالْوَالِي عَلَيْهَا مَنْصُورُ بْنُ إِسْحَاقَ، فَاسْتَمَالَ جَمَاعَةً مِنَ الْخَوَارِجِ، وَدَعَا إِلَى الصَّفَّارِ، وَبَايَعَ فِي السِّرِّ لِعَمْرِو بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، وَكَانَ رَئِيسَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَفَّارِ، وَكَانَ شَدِيدَ الْقُوَّةِ، فَخَرَجُوا، وَقَبَضُوا عَلَى مَنْصُورِ بْنِ إِسْحَاقَ أَمِيرِهِمْ وَحَبَسُوهُ فِي (سِجْنِ أَرْكٍ) وَخَطَبُوا لِعَمْرِو بْنِ يَعْقُوبَ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ سِجِسْتَانَ. فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْأَمِيرِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ سَيَّرَ الْجُيُوشَ مَعَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، مَرَّةً ثَانِيَةً إِلَى زَرَنْجَ، فِي سَنَةِ ثَلَاثِمِائَةٍ، فَحَصَرَهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَصَعِدَ يَوْمًا مُحَمَّدُ بْنُ

هُرْمُزَ الصَّنْدَلِيُّ إِلَى السُّورِ، وَقَالَ: مَا حَاجَتُكُمْ إِلَى أَذَى شَيْخٍ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلُزُومِ رِبَاطٍ؟ يُذَكِّرُهُمْ بِمَا قَالَهُ الْعَارِضُ بِبُخَارَى، وَاتَّفَقَ أَنَّ الصَّنْدَلِيَّ مَاتَ، فَاسْتَأْمَنَ عَمْرُو بْنُ يَعْقُوبٍ الصَّفَّارُ، وَابْنُ الْحَفَّارِ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَطْلَقُوا عَنْ مَنْصُورِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَكَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ يُكْرِمُ ابْنَ الْحَفَّارِ وَيُقَرِّبُهُ، فَوَاطَأَ ابْنُ الْحَفَّارِ جَمَاعَةً عَلَى الْفَتْكِ بِالْحُسَيْنِ، فَعَلِمَ الْحُسَيْنُ ذَلِكَ، وَكَانَ ابْنُ الْحَفَّارِ يَدْخُلُ عَلَى الْحُسَيْنِ، لَا يُحْجَبُ عَنْهُ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ يَوْمًا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى سَيْفٍ، فَأَمَرَ الْحُسَيْنُ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى بُخَارَى. وَلَمَّا انْتَهَى خَبَرُ فَتْحِ سِجِسْتَانَ إِلَى الْأَمِيرِ أَحْمَدَ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا سِيمَجُورَ الدَّوَاتِيَّ، وَأَمَرَ الْحُسَيْنَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، فَرَجَعَ وَمَعَهُ عَمْرُو بْنُ يَعْقُوبَ وَابْنُ الْحَفَّارِ وَغَيْرُهُمَا وَكَانَ عَوْدُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَاسْتَعْمَلَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ مَنْصُورًا ابْنَ عَمِّهِ إِسْحَاقَ عَلَى نَيْسَابُورَ وَأَنْفَذَهُ إِلَيْهَا، وَتُوُفِّيَ ابْنُ الْحَفَّارِ. ذِكْرُ طَاعَةِ أَهْلِ صِقِلِّيَةَ لِلْمُقْتَدِرِ وَعَوْدِهِمْ إِلَى طَاعَةِ الْمَهْدِيِّ الْعَلَوِيِّ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ اسْتِعْمَالَ الْمَهْدِيِّ عَلِيَّ بْنَ عُمَرَ عَلَى صِقِلِّيَةَ، فَلَمَّا وَلِيَهَا كَانَ شَيْخًا لَيِّنًا، فَلَمْ يَرْضَ أَهْلُ صِقِلِّيَةَ بِسِيرَتِهِ، فَعَزَلُوهُ عَنْهُمْ، وَوَلَّوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَحْمَدَ بْنَ قَرْهَبَ، فَلَمَّا وَلِيَ سَيَّرَ سَرِيَّةً إِلَى أَرْضِ قِلُّورِيَةَ، فَغَنِمُوا مِنْهَا، وَأَسَرُوا مِنَ الرُّومِ وَعَادُوا. وَأَرْسَلَ سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ ابْنَهُ عَلِيًّا إِلَى قَلْعَةِ طَبَرْمِينَ الْمُحْدَثَةِ فِي جَيْشٍ، وَأَمَرَهُ بِحَصْرِهَا، وَكَانَ غَرَضُهُ إِذَا مَلَكَهَا أَنْ يَجْعَلَ بِهَا وَلَدَهُ وَأَمْوَالَهُ وَعَبِيدَهُ، فَإِذَا رَأَى مِنْ أَهْلِ صِقِلِّيَةَ مَا يَكْرَهُ امْتَنَعَ بِهَا، فَحَصَرَهَا (ابْنُهُ سِتَّةَ) أَشْهُرٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعَسْكَرُ عَلَيْهِ، وَكَرِهُوا الْمُقَامَ، فَأَحْرَقُوا خَيْمَتَهُ، وَسَوَادَ الْعَسْكَرِ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَمَنَعَهُمُ الْعَرَبُ.

وَدَعَا أَحْمَدُ بْنُ قَرْهَبَ النَّاسَ إِلَى طَاعَةِ الْمُقْتَدِرِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَخَطَبَ لَهُ بِصِقِلِّيَةَ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ الْمَهْدِيِّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ قَرْهَبَ جَيْشًا فِي الْبَحْرِ إِلَى سَاحِلِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَلَقُوا هُنَاكَ أُسْطُولَ الْمَهْدِيِّ وَمُقَدَّمَهُ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي خِنْزِيرٍ، فَأَحْرَقُوا الْأُسْطُولَ، وَقَتَلُوا الْحَسَنَ، وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى ابْنِ قَرْهَبَ، وَسَارَ الْأُسْطُولُ الصِّقِلِّيُّ إِلَى مَدِينَةِ سَفَاقُسَ، فَخَرَّبُوهَا، وَسَارُوا إِلَى طَرَابُلُسَ، فَوَجَدُوا فِيهَا الْقَائِمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ، فَعَادُوا. وَوَصَلَتِ الْخِلَعُ السُّودُ وَالْأَلْوِيَةُ إِلَى ابْنِ قَرْهَبَ مِنَ الْمُقْتَدِرِ، ثُمَّ أَخْرَجَ مَرَاكِبَ فِيهَا جَيْشٌ إِلَى قِلُّورِيَةَ، فَغَنِمَ جَيْشُهُ، وَخَرَّبُوا وَعَادُوا، وَسَيَّرَ أَيْضًا أُسْطُولًا إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ أُسْطُولُ الْمَهْدِيِّ، فَظَفِرُوا بِالَّذِي لِابْنِ قَرْهَبَ وَأَخَذُوهُ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِابْنِ قَرْهَبَ حَالٌ، وَأَدْبَرَ أَمْرُهُ، وَطَمِعَ فِيهِ النَّاسُ، وَكَانُوا يَخَافُونَهُ. وَخَافَ مِنْهُ أَهْلُ جَرْجَنْتَ، وَعَصَوْا أَمْرَهُ، وَكَاتَبُوا الْمَهْدِيَّ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الْبِلَادِ كَاتَبُوا الْمَهْدِيَّ أَيْضًا، وَكَرِهُوا الْفِتْنَةَ، وَثَارُوا بِابْنِ قَرْهَبَ، وَأَخَذُوهُ أَسِيرًا سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَحَبَسُوهُ، وَأَرْسَلُوهُ إِلَى الْمَهْدِيِّ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ خَاصَّتِهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ عَلَى قَبْرِ ابْنِ خِنْزِيرٍ، فَقُتِلُوا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى صِقِلِّيَةَ أَبَا سَعِيدٍ مُوسَى بْنَ أَحْمَدَ، وَسَيَّرَ مَعَهُ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ شُيُوخِ كُتَامَةَ، فَوَصَلُوا إِلَى طَرَابُنُشَ. وَسَبَبُ إِرْسَالِ الْعَسْكَرِ مَعَهُ أَنَّ ابْنَ قَرْهَبَ كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَى الْمَهْدِيِّ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ صِقِلِّيَةَ يُكْثِرُونَ الشَّغَبَ عَلَى أُمَرَائِهِمْ، وَلَا يُطِيعُونَهُمْ، وَيَنْهَبُونَ أَمْوَالَهُمْ، وَلَا يَزُولُ ذَلِكَ إِلَّا بِعَسْكَرٍ يَقْهَرُهُمْ وَيُزِيلُ الرِّئَاسَةَ عَنْ رُؤَسَائِهِمْ، فَفَعَلَ الْمَهْدِيُّ ذَلِكَ، فَلَمَّا وَصَلَ مَعَهُ الْعَسْكَرُ خَافَ مِنْهُ أَهْلُ صِقِلِّيَةَ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ جَرْجَنْتَ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهَا، فَتَحَصَّنَ مِنْهُمْ أَبُو سَعِيدٍ وَعَمِلَ عَلَى نَفْسِهِ سُورًا إِلَى الْبَحْرِ، وَصَارَ الْمَرْسَى مَعَهُ

فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ أَهْلُ صِقِلِّيَةَ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، (وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ) وَطَلَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ إِلَّا رَجُلَيْنِ هُمَا أَثَارَا الْفِتْنَةَ، فَرَضُوا بِذَلِكَ وَتَسَلَّمَ الرَّجُلَيْنِ، وَسَيَّرَهُمَا إِلَى الْمَهْدِيِّ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَتَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَهَدَمَ أَبْوَابَهَا، وَأَتَاهُ كِتَابُ الْمَهْدِيِّ يَأْمُرُهُ بِالْعَفْوِ عَنِ الْعَامَّةِ. ذِكْرُ وَفَاةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ وَوِلَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَاكِمِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْأُمَوِيُّ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ عُمْرُهُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ أَبْيَضَ، أَصْهَبَ، أَزْرَقَ، رَبْعَةً، يَخْضِبُ بِالسَّوَادِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، وَخَلَّفَ أَحَدَ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا، أَحَدُهُمْ مُحَمَّدٌ الْمَقْتُولُ، قَتَلَهُ فِي (حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ) ، وَهُوَ وَالِدُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِي بَعْدَهُ (ابْنُ) ابْنِهِ هَذَا مُحَمَّدٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَاكِمِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (الدَّاخِلِ إِلَى الْأَنْدَلُسِ) ابْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَاكِمِ الْأُمَوِيُّ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ تُسَمَّى مُزْتَةُ، وَكَانَ عُمْرُهُ لَمَّا قُتِلَ أَبُوهُ عِشْرِينَ يَوْمًا. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ مِنَ الْمُسْتَطْرَفِ لِأَنَّهُ كَانَ شَابًّا، وَبِالْحَضْرَةِ أَعْمَامُهُ وَأَعْمَامُ أَبِيهِ، فَلَمْ يَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، وَوُلِّيَ الْإِمَارَةَ وَالْبِلَادَ كُلَّهَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِمْ قَبْلَهُ، وَامْتَنَعَ حُصُونٌ

(بِكَوْرَةِ رَيَّةَ وَحِصْنِ بُبَشْتَرَ) فَحَارَبَهُ، حَتَّى صَلَحَتِ الْبِلَادُ بِنَاحِيَتِهِ، وَكَانَ مَنْ بِطُلَيْطِلَةَ أَيْضًا (قَدْ خَالَفُوا) ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى عَادُوا إِلَى الطَّاعَةِ، وَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُ الْمُخَالِفِينَ حَتَّى أَذْعَنُوا لَهُ، وَأَطَاعُوا نَيِّفًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَاسْتَقَامَتِ الْبِلَادُ، وَأَمِنَتْ فِي دَوْلَتِهِ، وَمَضَى لِحَالِ سَبِيلِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِسْمَعِيُّ عَنْ فَارِسَ وَكَرْمَانَ وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا بَدْرٌ الْحَمَّامِيُّ، وَكَانَ بَدْرٌ يَتَقَلَّدُ أَصْبَهَانَ، وَاسْتُعْمِلَ بَعْدَهُ عَلَى أَصْبَهَانَ عَلِيُّ بْنُ وَهْسُوذَانَ الدَّيْلَمَيُّ. وَفِيهَا وَرَدَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَرَسُولٌ مِنْ عَامِلِ بَرْقَةَ، وَهِيَ مِنْ عَمَلِ مِصْرَ وَمَا بَعْدَهَا بِأَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ لِمِصْرَ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْمَغْرِبِ بِخَبَرِ خَارِجِيٍّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ ظَفِرُوا بِهِ وَبِعَسْكَرِهِ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، (وَوَصَلَ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ مِنْ أُنُوفِهِمْ وَآذَانِهِمْ شَيْءٌ كَثِيرٌ) . وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ وَالْعِلَلُ بِبَغْدَاذَ. وَفِيهَا كَلِبَتِ الْكِلَابُ وَالذِّئَابُ بِالْبَادِيَةِ، فَأَهْلَكَتْ خَلْقًا كَثِيرًا. وَفِيهَا وُلِّيَ بِشْرٌ الْأَفْشِينِيُّ طَرَسُوسَ. وَفِيهَا قُلِّدَ مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ الْحَرَمَيْنِ وَالثُّغُورَ. (وَفِيهَا انْقَضَّتِ الْكَوَاكِبُ انْقِضَاضًا كَثِيرًا إِلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ) .

وَفِيهَا مَاتَ إِسْكَنْدَرُوسُ بْنُ لَاوِنَ مَلِكُ الرُّومِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ، وَاسْمُهُ قُسْطَنْطِينُ، وَعُمْرُهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَارُودِيُّ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ ابْنُ أَخِي الْعَرَقِ الْمُقْرِئِ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبِي الْأَحْوَصِ، وَعَلِيُّ بْنُ طَيْفُورَ النَّشَوِيُّ، وَأَبُو عُمَرَ الْقَتَّاتُ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، تُوُفِّيَ يَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الْمُنَجِّمُ الْمَعْرُوفُ بِالنَّدِيمِ.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِمِائَة] 301 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خُلِعَ عَلَى الْأَمِيرِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَقُلِّدَ أَعْمَالَ مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، وَعُمْرُهُ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَاسْتُخْلِفَ لَهُ عَلَى مِصْرَ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ. وَأَبُو الْعَبَّاسِ هَذَا هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ الْقَاهِرِ بِاللَّهِ، وَلُقِّبَ بِالرَّاضِي بِاللَّهِ. وَخُلِعَ أَيْضًا عَلَى الْأَمِيرِ عَلِيِّ بْنِ الْمُقْتَدِرِ، وَوَلِيَ الرَّيَّ، وَدُنْبَاوَنْدَ، وَقَزْوِينَ وَزَنْجَانَ، وَأَبْهَرَ. وَفِيهَا أُحْضِرَ بِدَارِ عِيسَى رَجُلٌ يُعْرَفُ بِالْحَلَّاجِ وَيُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ، وَكَانَ مُشَعْبِذًا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَصَاحِبَ حَقِيقَةٍ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ، وَصُلِبَ هُوَ وَصَاحِبُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، كُلَّ يَوْمٍ مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى انْتِصَافِ النَّهَارِ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمَا إِلَى الْحَبْسِ، وَسَنَذْكُرُ أَخْبَارَهُ وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ عِنْدَ صَلْبِهِ. وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، (عُزِلَ أَبُو الْهَيْجَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ عَنِ الْمَوْصِلِ) ، وَقُلِّدَ يُمْنٌ الطُّولُونِيُّ الْمَعُونَةَ بِالْمَوْصِلِ، ثُمَّ صُرِفَ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا نِحْرِيرٌ (الْخَادِمُ) الصَّغِيرُ. وَفِيهَا خَالَفَ أَبُو الْهَيْجَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ عَلَى الْمُقْتَدِرِ فَسُيِّرَ إِلَيْهِ مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ بُنِّيُّ بْنُ نَفِيسٍ، خَرَجَ إِلَى الْمَوْصِلِ مُنْتَصَفَ صَفَرٍ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ

مِنَ الْقُوَّادِ، وَخَرَجَ مُؤْنِسٌ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا عَلِمَ أَبُو الْهَيْجَاءِ بِذَلِكَ قَصَدَ مُؤْنِسًا مُسْتَأْمِنًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَوَرَدَ مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَخَلَعَ الْمُقْتَدِرُ عَلَيْهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ دَمْيَانَةُ أَمِيرُ الثُّغُورِ وَبَحْرِ الرُّومِ، وَقُلِّدَ مَكَانَهُ ابْنُ بُلْكَ. ذِكْرُ قَتَلِ الْأَمِيرِ أَبِي نَصْرٍ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ السَّامَانِيِّ وَوِلَايَةِ وَلَدِهِ نَصْرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ صَاحِبُ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءِ النَّهْرِ، وَكَانَ مُولَعًا بِالصَّيْدِ، فَخَرَجَ إِلَى فِرَبْرَ مُتَصَيِّدًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَمَرَ بِإِحْرَاقِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ عَسْكَرُهُ، وَانْصَرَفَ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابُ نَائِبِهِ بِطَبَرِسْتَانَ، وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ صُعْلُوكٌ، وَكَانَ يَلِيهَا بَعْدَ وَفَاةِ ابْنِ نُوحٍ بِهَا، يُخْبِرُهُ بِظُهُورِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْعَلَوِيِّ الْأُطْرُوشِ بِهَا، وَتَغَلُّبِهِ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْهَا، فَغَمَّ ذَلِكَ أَحْمَدَ، وَعَادَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ الَّذِي أَحْرَقَهُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ فَتَطَيَّرَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ لَهُ أَسَدٌ يَرْبُطُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ عَلَى بَابِ مَبِيتِهِ، فَلَا يَجْسُرُ أَحَدٌ [أَنْ] يَقْرَبَهُ، فَأَغْفَلُوا إِحْضَارَ الْأَسَدِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ غِلْمَانِهِ، فَذَبَحُوهُ عَلَى سَرِيرِهِ وَهَرَبُوا، وَكَانَ قَتْلُهُ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَحُمِلَ إِلَى بُخَارَى فَدُفِنَ بِهَا، وَلُقِّبَ حِينَئِذٍ بِالشَّهِيدِ وَطُلِبَ أُولَئِكَ الْغِلْمَانُ، فَأُخِذَ بَعْضُهُمْ فَقُتِلَ. وَوَلِيَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ أَبُو الْحَسَنِ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَلُقِّبَ بِالسَّعِيدِ، وَبَايَعَهُ أَصْحَابُ أَبِيهِ بِبُخَارَى بَعْدَ دَفْنِ أَبِيهِ وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اللَّيْثِ، وَكَانَ مُتَوَلِّي (أَمْرِ) بُخَارَى فَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَبَايَعَ لَهُ

النَّاسَ، وَلَمَّا حَمَلَهُ خَدَمُ أَبِيهِ لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ خَافَهُمْ، وَقَالَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي كَمَا قَتَلْتُمْ أَبِي؟ فَقَالُوا: (لَا إِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ تَكُونَ) مَوْضِعَ أَبِيكَ أَمِيرًا، فَسَكَنَ رُوعُهُ. وَاسْتَصْغَرَ النَّاسُ نَصْرًا، وَاسْتَضْعَفُوهُ، وَظَنُّوا أَنَّ أَمْرَهُ لَا يَنْتَظِمُ مَعَ قُوَّةِ عَمِّ أَبِيهِ الْأَمِيرِ إِسْحَاقَ بْنِ أَحْمَدَ، وَهُوَ شَيْخُ السَّامَانِيَّةِ، وَهُوَ صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ وَمَيْلُ النَّاسِ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ سِوَى بُخَارَى إِلَيْهِ وَإِلَى أَوْلَادِهِ، وَتَوَلَّى تَدْبِيرَ دَوْلَةِ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْجَيْهَانِيُّ، فَأَمْضَى الْأُمُورَ وَضَبَطَ الْمَمْلَكَةَ، وَاتَّفَقَ هُوَ وَحَشَمُ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ عَلَى تَدْبِيرِ الْأَمْرِ فَأَحْكَمُوهُ وَمَعَ هَذَا، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ طَمِعُوا فِي الْبِلَادِ، فَخَرَجُوا مِنَ النَّوَاحِي عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. فَمِمَّنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ أَهْلُ سِجِسْتَانَ، وَعَمُّ أَبِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدٍ بِسَمَرْقَنْدَ، وَابْنَاهُ مَنْصُورٌ وَإِلْيَاسُ ابْنَا إِسْحَاقَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مَتٍّ، وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ يُوسُفَ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَرْوَرُوذِيُّ، (وَمُحَمَّدُ بْنُ حَيْدٍ) وَأَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ، وَلَيْلَى بْنُ نُعْمَانَ صَاحِبُ الْعَلَوِيِّينَ بِطَبَرِسْتَانَ، وَوَقَّعَهُ سِيمَجُورُ مَعَ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ النَّاصِرِ، وَقُرَاتِكِينَ، (وَمَاكَانَ بْنُ كَالِيَّ) وَخَرَجَ عَلَيْهِ إِخْوَتُهُ يَحْيَى وَمَنْصُورٌ وَإِبْرَاهِيمُ، أَوْلَادُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَجَعْفَرُ (بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ) ، وَابْنُ دَاوُدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِلْيَاسَ، وَنَصْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَتٍّ، وَمَرْدَاوِيجُ وَوَشْمَكِيرُ ابْنَا زَيَّارَ، وَكَانَ السَّعِيدُ مُظَفَّرًا مَنْصُورًا عَلَيْهِمْ.

ذِكْرُ أَمْرِ سِجِسْتَانَ وَلَمَّا قُتِلَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ خَالَفَ أَهْلُ سِجِسْتَانَ عَلَى وَلَدِهِ نَصْرٍ وَانْصَرَفَ عَنْهَا سِيمَجُورُ الدَّوَاتِيُّ، فَوَلَّاهَا الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ بَدْرًا الْكَبِيرَ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهَا الْفَضْلَ بْنَ حُمَيْدٍ، وَأَبَا يَزِيدَ خَالِدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيَّ، وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْجَيْهَانِيُّ بِبُسْتَ، وَالرُّخَّجِ، وَسَعْدٌ الطَّالْقَانِيُّ بِغَزْنَةَ مِنْ جِهَةِ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، فَقَصَدَهُمَا الْفَضْلُ وَخَالِدٌ، وَانْكَشَفَ عَنْهُمَا عُبَيْدُ اللَّهِ، وَقَبَضَا عَلَى سَعْدٍ الطَّالْقَانِيُّ وَأَنْفَذَاهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَاسْتَوْلَى الْفَضْلُ وَخَالِدٌ عَلَى غَزْنَةَ وَبُسْتَ ثُمَّ اعْتَلَّ الْفَضْلُ، وَانْفَرَدَ خَالِدٌ بِالْأُمُورِ، وَعَصَى عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ دَرَكًا أَخَا نَجَحٍ الطُّولُونِيِّ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ خَالِدٌ. وَسَارَ خَالِدٌ إِلَى كَرْمَانَ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ بَدْرٌ جَيْشًا، فَقَاتَلَهُمْ خَالِدٌ، فَجُرِحَ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَأُخِذَ هُوَ أَسِيرًا، فَمَاتَ، فَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى بَغْدَاذَ. ذِكْرُ خُرُوجِ إِسْحَاقَ بْنِ أَحْمَدَ وَابْنِهِ إِلْيَاسَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهِيَ إِحْدَى وَثَلَاثِمِائَةٍ، خَرَجَ عَلَى السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَمُّ أَبِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدٍ وَابْنُهُ إِلْيَاسُ، وَكَانَ إِسْحَاقُ بِسَمَرْقَنْدَ لَمَّا قُتِلَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَوَلِيَ ابْنُهُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ عَصَى بِهَا، وَقَامَ ابْنُهُ إِلْيَاسُ يَأْمُرُ الْجَيْشَ، وَقَوِيَ أَمْرُهُمَا، فَسَارُوا نَحْوَ بُخَارَى، فَسَارَ إِلَيْهِ حَمُّوَيْهِ بْنُ عَلِيٍّ فِي عَسْكَرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ إِسْحَاقُ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، ثُمَّ جَمَعَ وَعَادَ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ إِسْحَاقُ أَيْضًا، وَتَبِعَهُ حَمُّوَيْهِ إِلَى سَمَرْقَنْدَ فَمَلَكَهَا قَهْرًا. (وَاخْتَفَى إِسْحَاقُ، وَطَلَبَهُ حَمُّوَيْهِ) ، وَوَضَعَ عَلَيْهِ الْعُيُونَ وَالرَّصَدَ، فَضَاقَ بِإِسْحَاقَ

مَكَانُهُ، فَأَظْهَرَ نَفْسَهُ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَى حَمُّوَيْهِ فَأَمَّنَهُ وَحَمَلَهُ إِلَى بُخَارَى فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ. وَأَمَّا ابْنُهُ إِلْيَاسُ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى فَرْغَانَةَ، وَبَقِيَ بِهَا إِلَى أَنْ خَرَجَ ثَانِيًا. ذِكْرُ ظُهُورِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْأُطْرُوشِ وَفِيهَا اسْتَوْلَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى طَبَرِسْتَانَ، وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالنَّاصِرِ. وَكَانَ سَبَبُ ظُهُورِهِ مَا نَذْكُرُهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ عِصْيَانَ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَهَرَبَهُ مِنْهُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ الْأَمِيرَ أَحْمَدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ اسْتَعْمَلَ عَلَى طَبَرِسْتَانَ أَبَا الْعَبَّاسِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ نُوحٍ، فَأَحْسَنَ فِيهِمُ السِّيرَةَ، وَعَدَلَ فِيهِمْ، وَأَكْرَمَ مَنْ بِهَا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ، وَبَالَغَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَرَاسَلَ رُؤَسَاءَ الدَّيْلَمِ، وَهَادَاهُمْ، وَاسْتَمَالَهُمْ. وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْأُطْرُوشُ قَدْ دَخَلَ الدَّيْلَمَ بَعْدَ قَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَقَامَ بَيْنَهُمْ نَحْوَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيَقْتَصِرُ مِنْهُمْ عَلَى الْعُشْرِ، وَيُدَافِعُ عَنْهُمُ ابْنُ حَسَّانَ مَلِكُهُمْ فَأَسْلَمَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَبَنَى فِي بِلَادِهِمْ، (مَسَاجِدَ. وَكَانَ لِلْمُسْلِمِينَ بِإِزَائِهِمْ) ثُغُورٌ مِثْلُ: قَزْوِينُ، وَسَالُوسُ، وَغَيْرُهُمَا وَكَانَ بِمَدِينَةِ سَالُوسَ حِصْنٌ مَنِيعٌ قَدِيمٌ، فَهَدَمَهُ الْأُطْرُوشُ حِينَ أَسْلَمَ الدَّيْلَمُ وَالْجِيلُ، ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، فَلَا يُجِيبُونَهُ إِلَى ذَلِكَ لِإِحْسَانِ ابْنِ نُوحٍ، فَاتَّفَقَ أَنَّ الْأَمِيرَ أَحْمَدَ عَزَلَ ابْنَ نُوحٍ عَنْ طَبَرِسْتَانَ وَوَلَّاهُمَا سَلَّامًا، فَلَمْ يُحْسِنْ سِيَاسَةَ أَهْلِهَا، وَهَاجَ عَلَيْهِ الدَّيْلَمُ، فَقَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ، وَاسْتَقَالَ عَنْ وِلَايَتِهَا، فَعَزَلَهُ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ، وَأَعَادَ إِلَيْهَا ابْنَ نُوحٍ، فَصَلَحَتِ الْبِلَادُ مَعَهُ.

ثُمَّ إِنَّهُ مَاتَ بِهَا، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ صُعْلُوكٌ، فَغَيَّرَ رُسُومَ ابْنَ نُوحٍ، (وَأَسَاءَ السِّيرَةَ، وَقَطَعَ عَنْ رُؤَسَاءَ الدَّيْلَمِ مَا كَانَ يُهْدِيهِ إِلَيْهِمُ ابْنُ نُوحٍ) ، فَانْتَهَزَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْفُرْصَةَ، وَهَيَّجَ الدَّيْلَمَ عَلَيْهِ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَأَجَابُوهُ وَخَرَجُوا مَعَهُ، وَقَصَدَهُمْ صُعْلُوكٌ فَالْتَقَوْا بِمَكَانٍ يُسَمَّى نَوْرُوزَ وَهُوَ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ، عَلَى يَوْمٍ مِنْ سَالُوسَ، فَانْهَزَمَ ابْنُ صُعْلُوكٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوُ أَرْبَعَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَحَصَرَ الْأُطْرُوشُ الْبَاقِينَ ثُمَّ أَمَّنَهُمْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ، فَأَمَّنَهُمْ وَعَادَ عَنْهُمْ إِلَى آمُلَ وَانْتَهَى إِلَيْهِمُ الْحَسَنُ بْنُ الْقَاسِمِ الدَّاعِي الْعَلَوِيُّ، وَكَانَ خَتَنَ الْأُطْرُوشِ، فَقَتَلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَمَّنَهُمْ، وَلَا عَاهَدَهُمْ وَاسْتَوْلَى الْأُطْرُوشُ عَلَى طَبَرِسْتَانَ. وَخَرَجَ صُعْلُوكٌ إِلَى الرَّيِّ، وَذَلِكَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى بَغْدَاذَ وَكَانَ الْأُطْرُوشُ قَدْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ (مِنَ الدَّيْلَمِ) الَّذِينَ هُمْ وَرَاءَ أَسْفِيدَرُوذَ إِلَى نَاحِيَةِ آمُلَ، وَهُمْ يَذْهَبُونَ مَذْهَبَ الشِّيعَةِ. وَكَانَ الْأُطْرُوشُ زِيْدِيَّ الْمَذْهَبِ، شَاعِرًا مُفُلِّقًا، ظَرِيفًا، عَلَّامَةً، إِمَامًا فِي الْفِقْهِ وَالدِّينِ، كَثِيرَ الْمُجُونِ، حَسَنَ النَّادِرَةِ. حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ عَلَى جُرْجَانَ، وَكَانَ يُرْمَى بِالْأُبْنَةِ، فَاسْتَعْجَزَهُ الْحَسَنُ يَوْمًا فِي شُغْلٍ لَهُ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ! أَنَا أَحْتَاجُ إِلَى رِجَالٍ أَجْلَادٍ يُعِينُونَنِي، فَقَالَ: قَدْ بَلَغَنِي ذَلِكَ. وَكَانَ سَبَبُ صَمَمِهِ أَنَّهُ ضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ بِسَيْفٍ فِي حَرْبِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ فَطَرِشَ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ أَبُو الْحَسَنِ، وَأَبُو الْقَاسِمِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ، فَقَالَ: يَوْمًا لِابْنِهِ أَبِي

الْحَسَنِ: يَا بُنَيَّ! هَاهُنَا شَيْءٌ مِنَ الْغِرَاءِ نَلْصِقُ بِهِ كَاغِدًا؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا هَاهُنَا بِالْخَاءِ، فَحَقَدَهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوَلِّهِ شَيْئًا، وَوَلَّى ابْنَيْهِ أَبَا الْقَاسِمِ، وَأَبَا الْحُسَيْنِ، وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يُنْكِرُ تَرْكَهُ مَعْزُولًا، وَيَقُولُ: أَنَا أَشْرَفُ مِنْهُمَا لِأَنَّ أُمِّي حَسَنِيَّةٌ، وَأُمَّهُمَا أَمَةٌ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ شَاعِرًا، وَلَهُ مُنَاقَضَاتٌ مَعَ ابْنِ الْمُعْتَزِّ، وَلَحِقَ أَبُو الْحَسَنِ بِابْنِ أَبِي السَّاجِ، (فَخَرَجَ مَعَهُ يَوْمًا مُتَصَيِّدًا، فَسَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ فَبَقِيَ رَاجِلًا، فَمَرَّ بِهِ ابْنُ أَبِي السَّاجِ) فَقَالَ لَهُ: ارْكَبْ مَعِي عَلَى دَابَّتِي! فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ لَا يَصْلُحُ بَطَلَانِ عَلَى دَابَّةٍ. ذِكْرُ الْقَرَامِطَةِ وَقَتْلِ الْجَنَّابِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ أَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ بَهْرَامَ الْجَنَّابِيُّ كَبِيرُ الْقَرَامِطَةِ قَتَلَهُ خَادِمٌ لَهُ صَقْلَبِيٌّ فِي الْحَمَّامِ، فَلَمَّا قَتَلَهُ اسْتَدْعَى رَجُلًا مِنْ أَكَابِرِ رُؤَسَائِهِمْ وَقَالَ لَهُ: السَّيِّدُ يَسْتَدْعِيكَ، فَلَمَّا دَخَلَ قَتَلَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ، (مِنْ رُؤَسَائِهِمْ) ، وَاسْتَدْعَى الْخَامِسَ، فَلَمَّا دَخَلَ فَطِنَ لِذَلِكَ، فَأَمْسَكَ بِيَدِ الْخَادِمِ وَصَاحَ، فَدَخَلَ النَّاسُ، وَصَاحَ النِّسَاءُ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخَادِمِ مُنَاظَرَاتٌ ثُمَّ قَتَلُوهُ. وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ قَدْ عَهِدَ إِلَى ابْنِهِ سَعِيدٍ، وَهُوَ الْأَكْبَرُ، فَعَجَزَ عَنِ الْأَمْرِ، فَغَلَبَهُ أَخُوهُ الْأَصْغَرُ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، وَيَرِدُ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا يُعْلَمُ بِهِ مَحَلُّهُ.

وَلَمَّا قُتِلَ أَبُو سَعِيدٍ كَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى هَجَرَ وَالْإِحْسَاءِ وَالْقَطِيفِ وَالطَّائِفِ، وَسَائِرِ بِلَادِ الْبَحْرَيْنِ، وَكَانَ الْمُقْتَدِرُ قَدْ كَتَبَ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ كِتَابًا لَيِّنًا فِي مَعْنَى مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، وَيُنَاظِرُهُ، وَيُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِ، وَنَفَّذَهُ مَعَ الرُّسُلِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْبَصْرَةِ بَلَغَهُمْ خَبَرُ مَوْتِهِ فَأَعْلَمُوا الْخَلِيفَةَ بِذَلِكَ، فَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى وَلَدِهِ، فَأَتَوْا أَبَا طَاهِرٍ بِالْكِتَابِ فَأَكْرَمَ الرُّسُلَ، وَأَطْلَقَ الْأَسْرَى، وَنَفَّذَهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَجَابَ عَنِ الْكِتَابِ. ذِكْرُ مَسِيرِ جَيْشِ الْمَهْدِيِّ إِلَى مِصْرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ الْمَهْدِيُّ الْعَسَاكِرَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ، وَسَيَّرَهَا مَعَ وَلَدِهِ أَبِي الْقَاسِمِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَسَارُوا إِلَى بُرْقَةَ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَسَارُوا إِلَى مِصْرَ، فَمَلَكَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ وَالْفَيُّومَ، وَصَارَ فِي يَدِهِ أَكْثَرُ الْبِلَادِ، وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَحَارَبَهُمْ وَأَجْلَاهُمْ عَنْ مِصْرَ، فَعَادُوا إِلَى الْمَغْرِبِ مَهْزُومِينَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ الدَّمَوِيَّةُ، وَمَاتَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ وَأَكْثَرُهُمْ بِالْحَرْبِيَّةِ، فَإِنَّهَا أُغْلِقَتْ بِهَا دُورٌ كَثِيرَةٌ لِفَنَاءِ أَهْلِهَا.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْفِرْيَابِيُّ بِبَغْدَاذَ، وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ الثَّقَفِيُّ.

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَة] 302 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أُمِرَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْوَزِيرُ بِالْمَسِيرِ إِلَىِ طَرَسُوسَ لِغَزْوِ الصَّائِفَةِ فَسَارَ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ مَعُونَةً لِبِشْرٍ الْخَادِمِ وَالِي طَرَسُوسَ، فَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمْ غَزْوُ الصَّائِفَةِ، فَغَزَوْهَا شَاتِيَةً فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ وَثَلْجٍ. وَفِيهَا تَنَحَّى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْأُطْرُوشُ الْعَلَوِيُّ عَنْ آمُلٍ، بَعْدَ غَلَبَتِهِ عَلَيْهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَسَارَ إِلَى سَالُوسَ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِ صُعْلُوكٌ جَيْشًا مِنَ الرَّيِّ فَلَقِيَهُمُ الْحَسَنُ، وَهَزَمَهُمْ، وَعَادَ إِلَى آمُلَ. وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ حَسَنَ السِّيرَةِ، عَادِلًا، وَلَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ فِي عَدْلِهِ وَحُسْنِ سِيرَتِهِ، وَإِقَامَتِهِ الْحَقَّ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ مِسْكَوَيْهِ فِي كِتَابِ " تَجَارِبِ الْأُمَمِ " فَقَالَ: الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّاعِي، وَلَيْسَ بِهِ، إِنَّمَا الدَّاعِي عَلِيُّ بْنُ الْقَاسِمِ، وَهُوَ خَتَنُ هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَفِيهَا قَبَضَ الْمُقْتَدِرُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الْجَصَّاصِ الْجَوْهَرِيِّ، وَأَخَذَ مَا فِي بَيْتِهِ مِنْ صُنُوفِ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ قِيمَتُهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ هُوَ يَدَّعِي أَنَّ قِيمَةَ مَا أُخِذَ مِنْهُ عِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.

ذِكْرُ مُخَالِفَةِ مَنْصُورِ بْنِ إِسْحَاقَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ مَنْصُورُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدٍ عَلَى الْأَمِيرِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، وَوَافَقَهُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَرْوَرُوذِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَيْدٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ لَمَّا افْتَتَحَ سِجِسْتَانَ، الدُّفْعَةَ الْأُولَى عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، لِلْأَمِيرِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ طَمِعَ أَنْ يَتَوَلَّاهَا، فَوَلِيَهَا الْمَنْصُورُ بْنُ إِسْحَاقَ هَذَا، (فَخَالَفَ أَهْلُهَا، وَحَبَسُوا مَنْصُورًا، فَأَنْفَذَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ عَلِيًّا أَيْضًا) ، فَافْتَتَحَهَا ثَانِيًا، وَطَمِعَ أَنْ يَتَوَلَّاهَا فَوَلِيَهَا سِيمَجُورُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا جَمِيعَهُ. فَلَمَّا وَلِيَهَا سِيمَجُورُ اسْتَوْحَشَ عَلِيٌّ لِذَلِكَ، وَنَفَرَ مِنْهُ، وَتَحَدَّثَ مَعَ مَنْصُورِ بْنِ إِسْحَاقَ فِي الْمُوَافَقَةِ وَالتَّعَاضُدِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ، وَتَكُونُ إِمَارَةُ خُرَاسَانَ لِمَنْصُورٍ، وَيَكُونُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ خَلِيفَتَهُ عَلَى أَعْمَالِهِ، فَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا قُتِلَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ كَانَ مَنْصُورُ بْنُ إِسْحَاقَ بِنَيْسَابُورَ، (وَالْحُسَيْنُ بِهَرَاةَ، فَأَظْهَرَ الْحُسَيْنُ الْعِصْيَانَ، وَسَارَ إِلَى مَنْصُورٍ يَحُثُّهُ عَلَى مَا كَانَ اتَّفَقَا عَلَيْهِ، فَخَالَفَ أَيْضًا، وَخُطِبَ لِمَنْصُورٍ بِنَيْسَابُورَ فَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا مِنْ بُخَارَى حَمُّوَيْهِ بْنُ عَلِيٍّ فِي عَسْكَرٍ ضَخْمٍ لِمُحَارَبَتِهِمَا، فَاتَّفَقَ أَنَّ مَنْصُورًا مَاتَ، فَقِيلَ إِنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ سَمَّهُ، فَلَمَّا قَارَبَهُ حَمُّوَيْهِ سَارَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ نَيْسَابُورَ إِلَى هَرَاةَ وَأَقَامَ بِهَا. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ حَيْدٍ (عَلَى شُرْطَةِ) بُخَارَى مُدَّةً طَوِيلَةً، فَسَيَّرَ مِنْ بُخَارَى إِلَى نَيْسَابُورَ لِشُغْلٍ يَقُومُ بِهِ، فَوَرَدَهَا، ثُمَّ عَادَ عَنْهَا بِغَيْرِ أَمْرٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مِنْ بُخَارَى بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَعَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بِهَرَاةَ، فَسَارَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ هَرَاةَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَاسْتَخْلَفَ بِهَرَاةَ أَخَاهُ مَنْصُورَ بْنَ عَلِيٍّ، وَاسْتَوْلَى

عَلَى نَيْسَابُورَ، فَسُيِّرَ مِنْ بُخَارَى إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ لِمُحَارَبَتِهِ، فَابْتَدَأَ أَحْمَدُ بِهَرَاةَ فَحَصَرَهَا وَأَخَذَهَا، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ مَنْصُورُ بْنُ عَلِيٍّ. وَسَارَ أَحْمَدُ مِنْ هَرَاةَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَيْهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَنَازَلَ الْحُسَيْنَ، وَحَصَرَهُ، وَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ، وَأُسِرَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَقَامَ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ بِنَيْسَابُورَ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَذْكُرَ اسْتِيلَاءَ أَحْمَدَ عَلَى نَيْسَابُورَ، وَأَسْرَ الْحُسَيْنِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ، لَكِنْ رَأَيْنَا أَنْ نَجْمَعَ سِيَاقَ الْحَادِثَةِ لِئَلَّا يُنْسَى أَوَّلُهَا. وَأَمَّا ابْنُ حَيْدٍ فَإِنَّهُ كَانَ بِمَرْوَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ اسْتِيلَاءُ أَحْمَدَ بْنِ سَهْلٍ عَلَى نَيْسَابُورَ، وَأَسْرُهُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، سَارَ إِلَيْهِ فَقَبَضَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَأَخَذَ مَالَهُ وَسَوَادَهُ، وَسَيَّرَهُ وَالْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ إِلَى بُخَارَى، فَأَمَّا ابْنُ حَيْدٍ فَإِنَّهُ سُيِّرَ إِلَى خُوَارِزْمَ فَمَاتَ بِهَا. وَأَمَّا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ حُبِسَ بِبُخَارَى إِلَى أَنْ خَلَّصَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَيْهَانِيُّ وَعَادَ إِلَى خِدْمَةِ الْأَمِيرِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا عِنْدَهُ إِذْ طَلَبَ الْأَمِيرُ نَصْرٌ مَاءً، فَأُتِيَ بِمَاءٍ فِي كُوزٍ غَيْرِ حَسَنِ الصَّنْعَةِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ لِأَحْمَدَ (بْنِ حَمُّوَيْهِ، وَكَانَ حَاضِرًا: أَلَا يُهْدِي وَالِدُكَ) [إِلَى] الْأَمِيرِ مِنْ نَيْسَابُورَ مِنْ هَذِهِ الْكِيزَانِ اللِّطَافِ النِّظَافِ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ: إِنَّمَا يُهْدِي أَبِي إِلَى الْأَمِيرِ مِثْلَكَ وَمِثْلَ أَحْمَدَ بْنِ سَهْلٍ، وَمِثْلَ لَيْلَى الدَّيْلِمِيِّ، لَا الْكِيزَانَ، فَأَطْرَقَ الْحُسَيْنُ مُفْحَمًا، وَأَعْجَبَ نَصْرًا قَوْلُهُ. ذِكْرُ خَبَرِ مِصْرَ مَعَ الْعَلَوِيِّ الْمَهْدِيِّ وَفِيهَا أَنْفَذَ أَبُو مُحَمَّدٍ عُبَيْدُ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالْمَهْدِيِّ جَيْشًا مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ مَعَ قَائِدٍ مِنْ قُوَّادِهِ يُقَالُ لَهُ حَبَاسَةُ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَغَلَبَ عَلَيْهَا. وَكَانَ مَسِيرُهُ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى مِصْرَ، فَنَزَلَ بَيْنَ مِصْرَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُقْتَدِرَ، فَأَرْسَلَ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ فِي عَسْكَرٍ إِلَى مِصْرَ لِمُحَارَبَةِ حَبَاسَةَ وَأَمَدَّهُ بِالسِّلَاحِ وَالْمَالِ، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَالْتَقَى الْعَسْكَرَانِ فِي جُمَادَى الْأُولَى، فَاقْتَتَلُوا (قِتَالًا شَدِيدًا) فَقُتِلَ

مِنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَجُرِحَ مِثْلُهُمْ، ثُمَّ كَانَ بَيْنَهُمْ وَقْعَةٌ أُخْرَى بِنَحْوِهَا، ثُمَّ وَقْعَةٌ ثَالِثَةٌ وَرَابِعَةٌ، فَانْهَزَمَ فِيهَا الْمَغَارِبَةُ أَصْحَابُ الْعَلَوِيِّ، وَقُتِلُوا، وَأُسِرُوا، فَكَانَ مَبْلَغُ الْقَتْلَى سَبْعَةَ آلَافٍ مَعَ الْأَسْرَى وَهَرَبَ الْبَاقُونَ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ سَلْخَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَعَادُوا إِلَى الْغَرْبِ، فَلَمَّا (وَصَلُوا إِلَى الْغَرْبِ) قَتَلَ الْمَهْدِيُّ حَبَاسَةَ. وَفِيهَا خَالَفَ عَرُوبَةُ بْنُ يُوسُفَ الْكُتَامِيُّ عَلَى الْمَهْدِيِّ بِالْقَيْرَوَانِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ كُتَامَةَ وَالْبَرَابِرِ، فَأَخْرَجَ الْمَهْدِيُّ إِلَيْهِمْ مَوْلَاهُ غَالِبًا، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فِي مَحْضَرِ الْقَيْرَوَانِ، فَقُتِلَ عَرُوبَةُ وَبَنُو عَمِّهِ، وَقُتِلَ مَعَهُمْ عَالَمٌ لَا يُحْصَوْنَ، وَجُمِعَتْ رُءُوسُ مُقَدَّمِيهِمْ فِي قُفَّةٍ وَحُمِلَتْ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَقَالَ: مَا أَعْجَبَ أُمُورَ الدُّنْيَا! قَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْقُفَّةُ رُءُوسَ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ كَانَ يَضِيقُ بِعَسَاكِرِهِمْ فَضَاءُ الْمَغْرِبِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا غَزَا بِشْرٌ الْخَادِمُ وَالِي طَرَسُوسَ بِلَادَ الرُّومِ، فَفَتَحَ فِيهَا وَغَنِمَ وَسَبَى، وَأَسَرَ مِائَةً وَخَمْسِينَ بِطْرِيقًا، وَكَانَ السَّبْيُ نَحْوًا مِنْ أَلْفَيْ رَأْسٍ. وَفِيهَا أَوْقَعَ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ بِنَاحِيَةِ وَادِي الذِّئَابِ بِمَنْ هُنَالِكَ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَنَهَبَ بُيُوتَهُمْ فَأَصَابَ فِيهَا مِنْ أَمْوَالِ التُّجَّارِ الَّتِي كَانُوا أَخَذُوهَا بِقَطْعِ الطَّرِيقِ مَا لَا يُحْصَى.

(وَفِيهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مَاتَتْ بِدْعَةُ الْمُغَنِّيَةُ، مَوْلَاةُ عَرِيبٍ مَوْلَى الْمَأْمُونِ) . وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، خَرَجَتِ الْأَعْرَابُ مِنَ الْحَاجِرِ عَلَى الْحُجَّاجِ، فَقَطَعُوا عَلَيْهِمُ الطَّرِيقَ، وَأَخَذُوا مِنَ الْعَيْنِ وَمَا مَعَهُمْ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْجِمَالِ مَا أَرَادُوا، وَأَخَذُوا مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ امْرَأَةً، وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِيهَا قَلَّدَ أَبُو الْهَيْجَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنَ حَمْدَانَ الْمَوْصِلَ. وَفِيهَا مَاتَ الشَّاهُ بْنُ مِيكَالَ. وَفِيهَا، فِي لَيْلَةِ الْأَضْحَى، انْقَضَّ ثَلَاثَةُ كَوَاكِبَ اثْنَانِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَوَاحِدٌ آخِرَهُ سِوَى كَوَاكِبَ صِغَارٍ كَثِيرَةٍ. وَإِلَى (آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ) انْتَهَى تَارِيخُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ إِلَى آخِرِ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقِيلَ إِنَّ سَنَةَ ثَلَاثٍ هِيَ زِيَادَةٌ فِيهِ، وَلَيْسَ مِنْ تَارِيخِ الطَّبَرَيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي حَسَّانَ الْأَنْمَاطِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، وَأَبُو عِيسَى بْنُ الْعَرَّادِ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْبَرَّانِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرِ بْنِ بَسَّامٍ الشَّاعِرُ وَلَهُ نَيِّفٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 303 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ أَمْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْدَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ بِالْجَزِيرَةِ عَنْ طَاعَةِ الْمُقْتَدِرِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَزِيرَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى طَالَبَهُ بِمَالٍ عَلَيْهِ مِنْ دِيَارِ رَبِيعَةَ، وَهُوَ يَتَوَلَّاهَا، فَدَافَعَهُ، فَأَمَرَهُ بِتَسْلِيمِ الْبِلَادِ إِلَى عُمَّالِ السُّلْطَانِ، فَامْتَنَعَ. وَكَانَ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ غَائِبًا بِمِصْرَ لِمُحَارَبَةِ عَسْكَرِ الْمَهْدِيِّ الْعَلَوِيِّ، صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَجَهَّزَ الْوَزِيرُ رَائِقًا الْكَبِيرَ فِي جَيْشٍ وَسَيَّرَهُ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْدَانَ. وَكَتَبَ إِلَى مُؤْنِسٍ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى دِيَارِ الْجَزِيرَةِ لِقِتَالِ الْحُسَيْنِ، بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْعَلَوِيِّ، فَسَارَ رَائِقٌ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْدَانَ. (وَجَمَعَ لَهُمُ الْحُسَيْنُ نَحْوَ عِشْرِينَ) أَلْفَ فَارِسٍ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ فَوَصَلَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ قَدْ قَارَبُوهَا، فَلَمَّا رَأَوْا كَثْرَةَ جَيْشِهِ عَلِمُوا عَجْزَهُمْ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ، فَانْحَازُوا إِلَى جَانِبِ دِجْلَةَ، وَنَزَلُوا بِمَوْضِعٍ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَجَاءَ الْحُسَيْنُ فَنَزَلَ عَلَيْهِمْ وَحَصَرَهُمْ، وَمَنَعَ الْمِيرَةَ عَنْهُمْ مِنْ فَوْقٍ وَمِنْ أَسْفَلَ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَقْوَاتُ وَالْعُلُوفَاتُ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَبْذُلُونَ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ الْخَلِيفَةُ مَا كَانَ بِيَدِهِ وَيَعُودَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يُجِبْ إِلَى ذَلِكَ وَلَزِمَ حِصَارَهُمْ، وَأَدَامَ قِتَالَهُمْ إِلَى أَنْ عَادَ مُؤْنِسٌ مِنَ الشَّامِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْعَسْكَرُ بِقُرْبِهِ قَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ وَضَعُفَتْ نُفُوسُ الْحُسَيْنِ وَمَنْ مَعَهُ، فَخَرَجَ الْعَسْكَرُ إِلَيْهِ لَيْلًا وَكَبَسُوهُ، فَانْهَزَمَ وَعَادَ إِلَى دِيَارِ رَبِيعَةَ، وَسَارَ الْعَسْكَرُ فَنَزَلُوا عَلَى الْمَوْصِلِ.

وَسَمِعَ مُؤْنِسٌ خَبَرَ الْحُسَيْنِ، وَجَدَّ مُؤْنِسٌ فِي الْمَسِيرِ نَحْوَ الْحُسَيْنِ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ أَحْمَدَ بْنَ كَيْغَلَغَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ رَاسَلَهُ الْحُسَيْنُ يَعْتَذِرُ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ حَالٌ، فَرَحَلَ مُؤْنِسٌ نَحْوَ الْحُسَيْنِ حَتَّى نَزَلَ بِإِزَاءِ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَحَلَ الْحُسَيْنُ نَحْوَ أَرْمِينِيَّةَ مَعَ ثَقَلِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَتَفَرَّقَ عَسْكَرُ الْحُسَيْنِ عَنْهُ، وَصَارُوا إِلَى مُؤْنِسٍ. ثُمَّ إِنَّ مُؤْنِسًا جَهَّزَ جَيْشًا فِي أَثَرِ الْحُسَيْنِ، مُقَدَّمُهُمْ بُلَيْقٌ وَمَعَهُ سِيمَا الْجَزَرِيُّ، وَجَنَّى الصَّفْوَانِيُّ، فَتَبِعُوهُ إِلَى تَلِّ فَافَانَ، فَرَأَوْهَا خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا، قَدْ قَتَلَ أَهْلَهَا وَأَحْرَقَهَا، فَجَدُّوا فِي اتِّبَاعِهِ فَأَدْرَكُوهُ فَقَاتَلُوهُ، فَانْهَزَمَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأُسِرَ هُوَ وَمَعَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَجَمِيعُ أَهْلِهِ وَأَكْثَرُ مَنْ صَحِبَهُ، وَقَبَضَ أَمْلَاكَهُ. وَعَادَ مُؤْنِسٌ إِلَى بَغْدَاذَ عَلَى [طَرِيقِ] الْمَوْصِلِ وَالْحُسَيْنُ مَعَهُ، فَأُرْكِبَ عَلَى جَمَلٍ هُوَ وَابْنُهُ وَعَلَيْهِمَا الْبَرَانِسُ، وَاللُّبُودُ الطِّوَالُ، وَقُمْصَانٌ مِنْ شَعْرٍ أَحْمَرَ وَحُبِسَ الْحُسَيْنُ وَابْنُهُ عِنْدَ زَيْدَانَ الْقَهْرَمَانَةِ، وَقَبَضَ الْمُقْتَدِرُ عَلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ بْنِ حَمْدَانَ (وَعَلَى جَمِيعِ إِخْوَتِهِ وَحُبِسُوا، وَكَانَ قَدْ هَرَبَ بَعْضُ أَوْلَادِ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْدَانَ) ، فَجَمَعَ جَمْعًا وَمَضَى نَحْوَ آمِدَ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ مُسْتَحْفِظُهَا، وَقُتِلَ ابْنُ الْحُسَيْنِ وَأُنْفِذَ رَأْسُهُ إِلَى بَغْدَاذَ. ذِكْرُ بِنَاءِ الْمَهْدِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْمَهْدِيُّ بِنَفْسِهِ إِلَى تُونِسَ وَقَرْطَاجَنَّةَ وَغَيْرِهِمَا يَرْتَادُ مَوْضِعًا عَلَى

سَاحِلِ الْبَحْرِ يَتَّخِذُ فِيهِ مَدِينَةً. وَكَانَ يَجِدُ فِي الْكُتُبِ خُرُوجَ أَبِي يَزِيدٍ عَلَى دَوْلَتِهِ، وَمِنْ أَجْلِهِ بَنَى الْمَهْدِيَّةَ، فَلَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا أَحْسَنَ وَلَا أَحْصَنَ مِنْ مَوْضِعِ الْمَهْدِيَّةِ، وَهِيَ جَزِيرَةٌ مُتَّصِلَةٌ بِالْبَرِّ كَهَيْئَةِ كَفٍّ مُتَّصِلَةٍ بِزَنْذٍ، فَبَنَاهَا وَجَعَلَهَا دَارَ مُلْكِهِ، وَجَعَلَ لَهَا سُورًا مُحْكَمًا وَأَبْوَابًا عَظِيمَةً وَزْنُ كُلِّ مِصْرَاعٍ مِائَةُ قِنْطَارٍ. وَكَانَ ابْتِدَاءُ بِنَائِهَا يَوْمَ السَّبْتَ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ السُّورُ أَمَرَ رَامِيًا [أَنْ] يَرْمِيَ بِالْقَوْسِ سَهْمًا إِلَى نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ، فَرَمَى سَهْمَهُ فَانْتَهَى إِلَى مَوْضِعِ الْمُصَلَّى، فَقَالَ: إِلَى مَوْضِعِ هَذَا يَصِلُ صَاحِبُ الْحِمَارِ، يَعْنِي أَبَا يَزِيدَ الْخَارِجِيَّ، لِأَنَّهُ كَانَ يَرْكَبُ حِمَارًا. وَكَانَ يَأْمُرُ الصُّنَّاعَ بِمَا يَعْمَلُونَ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُنْقَرَ دَارُ صِنَاعَةٍ فِي الْجَبَلِ تَسَعُمِائَةَ شِينِيٍّ، وَعَلَيْهَا بَابٌ مُغْلَقٌ، وَنُقِرَ فِي أَرْضِهَا أَهْرَاءُ لِلطَّعَامِ، وَمَصَانِعُ لِلْمَاءِ، وَبَنَى فِيهَا الْقُصُورَ وَالدُّورَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ: الْيَوْمَ أَمِنْتُ عَلَى الْفَاطِمِيَّاتِ، يَعْنِي بَنَاتِهِ، وَارْتَحَلَ عَنْهَا. وَلَمَّا رَأَى إِعْجَابَ النَّاسِ بِهَا، وَبِحَصَانَتِهَا، كَانَ يَقُولُ: هَذَا لِسَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ، وَكَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ أَبَا يَزِيدَ وَصَلَ إِلَى مَوْضِعِ السَّهْمِ، وَوَقَفَ فِيهِ سَاعَةً، وَعَادَ وَلَمْ يَظْفَرْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى الثُّغُورِ الْجَزْرِيَّةِ، وَقَصَدُوا حِصْنَ مَنْصُورٍ، وَسَبَوْا مَنْ فِيهِ

وَجَرَى عَلَى النَّاسِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَكَانَتِ الْجُنُودُ مُتَشَاغِلَةً بِأَمْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْدَانَ. وَفِيهَا عَادَ الْحُجَّاجُ وَقَدْ لَقُوا مِنَ الْعَطَشِ وَالْخَوْفِ شِدَّةً، وَخَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى أَبِي حَامِدٍ وَرْقَاءَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُرَتَّبِ (عَلَى الثَّعْلَبِيَّةِ) لِحِفْظِ الطَّرِيقِ، فَقَاتَلَهُمْ، وَظَفِرَ بِهِمْ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ، وَأَسَرَ الْبَاقِينَ وَحَمَلَهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِتَسْلِيمِهِمْ إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ لِيَحْبِسَهُمْ، فَثَارَتْ بِهِمُ الْعَامَّةُ فَقَتَلُوهُمْ وَأَلْقَوْهُمْ فِي دِجْلَةَ. وَفِيهَا ظَهَرَ بِالْجَامِدَةِ إِنْسَانٌ زَعَمَ أَنَّهُ عَلَوِيٌّ فَقَتَلَ الْعَامِلَ بِهَا وَنَهَبَهَا، وَأَخَذَ مِنْ دَارِ الْخَرَاجِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ظُهُورِهِ بِيَسِيرٍ، وَقُتِلَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ. وَفِيهَا ظَهَرَتِ الرُّومُ وَعَلَيْهِمُ الْغَثِيطُ فَأَوْقَعُوا بِجَمَاعَةٍ مِنْ مُقَاتِلَةِ طَرَسُوسَ وَالْغُزَاةِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ نَحْوَ سِتِّمِائَةِ فَارِسٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ صَائِفَةٌ. وَفِيهَا خَرَجَ مَلِيحٌ الْأَرْمَنِيُّ إِلَى مَرْعَشَ، فَعَاثَ فِي بَلَدِهَا، وَأَسَرَ جَمَاعَةً مِمَّنْ حَوْلَهَا وَعَادَ. وَفِيهَا وَقَعَ الْحَرِيقُ بِبَغْدَاذَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، فَاحْتَرَقَ كَثِيرٌ مِنْهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ، صَاحِبُ كِتَابِ " السُّنَنِ "، بِمَكَّةَ، وَدُفِنَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ النَّسَوِيُّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَيْنُونَةَ بِنَصِيبِينَ، وَكَانَ يَتَوَلَّى أَعْمَالَ الْخَرَاجِ وَالضِّيَاعِ بِدِيَارِ رَبِيعَةَ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِيَ ابْنُهُ الْحَسَنُ مَكَانَهُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْجُبَّائِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَمُوتُ بْنُ الْمُزَرِّعِ الْعَبْدِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ الْجَاحِظِ، تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ) .

ثم دخلت سنة أربع وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 304 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ عَزْلِ ابْنِ وَهْسُوذَانَ عَنْ أَصْبَهَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، أَرْسَلَ عَلِيُّ بْنُ وَهْسُوذَانَ، وَهُوَ مُتَوَلِّي الْحَرْبِ بِأَصْبَهَانَ، غُلَامًا كَانَ رَبَّاهُ وَتَبَنَّاهُ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ شَاهٍ، مُتَوَلِّي الْخَرَاجِ، فِي حَاجَةٍ فَلَقِيَهُ رَاكِبًا فَكَلَّمَهُ فِي حَاجَةِ مَوْلَاهُ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ، فَشَتَمَهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ: يَا مُؤَاجَرُ تُكَلِّمُنِي بِهَذَا عَلَى الطَّرِيقِ! وَحَرَّدَ عَلَيْهِ، فَعَادَ إِلَى مَوْلَاهُ بَاكِيًا، وَعَرَّفَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: صَدَقَ، لَوْلَا أَنَّكَ مُؤَاجَرٌ لَقَتَلْتَهُ، فَعَادَ الْغُلَامُ فَلَقِيَهُ وَهُوَ رَاكِبٌ فَقَتَلَهُ، فَأَنْكَرَ الْخَلِيفَةُ ذَلِكَ، وَصَرَفَ عَلِيَّ بْنَ وَهْسُوذَانَ عَنْ أَصْبَهَانَ، وَوَلَّى مَكَانَهُ أَحْمَدَ بْنَ مَسْرُورٍ الْبَلْخِيَّ، وَأَقَامَ ابْنُ وَهْسُوذَانَ بِنَوَاحِي الْجَبَلِ. ذِكْرُ وِزَارَةِ ابْنِ الْفُرَاتِ الثَّانِيَةِ وَعَزْلِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، عُزِلَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى عَنِ الْوِزَارَةِ، وَأُعِيدَ إِلَيْهَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْفُرَاتِ. وَكَانَ (سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ الْفُرَاتِ كَانَ) مَحْبُوسًا، وَكَانَ الْمُقْتَدِرُ يُشَاوِرُهُ وَهُوَ فِي مَحْبِسِهِ، وَيَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى يُمَشِّي أَمْرَ الْوِزَارَةِ، وَلَمْ يَتَّبِعْ أَصْحَابَ ابْنِ الْفُرَاتِ وَأَسْبَابَهُ (وَلَا غَيْرَهُ) ، وَكَانَ جَمِيلَ الْمَحْضَرِ (قَلِيلَ

الشَّرِّ) ، فَبَلَغَهُ أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ الْفُرَاتِ قَدْ تَحَدَّثَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْخَلِيفَةِ فِي إِعَادَتِهِ إِلَى الْوِزَارَةِ، فَسَارَعَ وَاسْتَعْفَى مِنَ الْوِزَارَةِ، وَسُئِلَ فِي ذَلِكَ، فَأَنْكَرَ الْمُقْتَدِرُ عَلَيْهِ، وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَسَكَنَ. فَلَمَّا كَانَ آخِرُ ذِي الْقِعْدَةِ جَاءَتْهُ أُمُّ مُوسَى الْقَهْرَمَانَةُ لِتَتَّفِقَ مَعَهُ عَلَى مَا يَحْتَاجُ حُرَمُ الدَّارِ وَالْحَاشِيَةُ الَّتِي لِلدَّارِ مِنَ الْكِسْوَاتِ وَالنَّفَقَاتِ، فَوَصَلَتْ إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ لَهَا حَاجِبُهُ: إِنَّهُ نَائِمٌ وَلَا أَجْسُرُ [أَنْ] أُوقِظَهُ، فَاجْلِسِي فِي الدَّارِ سَاعَةً حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، فَغَضِبَتْ مِنْ هَذَا وَعَادَتْ، وَاسْتَيْقَظَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى فِي الْحَالِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا حَاجِبَهُ وَوَلَدَهُ يَعْتَذِرُ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَدَخَلَتْ عَلَى الْمُقْتَدِرِ وَتَخَرَّصَتْ عَلَى الْوَزِيرِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أُمِّهِ، فَعَزَلَهُ عَنِ الْوِزَارَةِ، وَقَبَضَ عَلَيْهِ ثَامِنَ ذِي الْقِعْدَةِ. وَأُعِيدَ ابْنُ الْفُرَاتِ إِلَى الْوِزَارَةِ، وَضَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَحْمِلَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ أَلْفَ دِينَارٍ وَخَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَبَضَ عَلَى أَصْحَابِ الْوَزِيرِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى وَعَادَ فَقَبَضَ عَلَى الْخَاقَانِيِّ الْوَزِيرِ وَأَصْحَابِهِ، وَاعْتَرَضَ الْعُمَّالَ وَغَيْرَهَمْ، وَعَادَ عَلَيْهِمْ بِأَمْوَالٍ عَظِيمَةٍ لِيَقُومَ بِمَا ضَمِنَهُ. وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى قَدْ تَعَجَّلَ بِمَالٍ مِنَ الْخَرَاجِ لِيُنْفِقَهُ فِي الْعِيدِ، فَاتَّسَعَ بِهِ ابْنُ الْفُرَاتِ. وَكَانَ قَدْ كَاتَبَ الْعُمَّالَ بِالْبِلَادِ كَفَارِسَ، وَالْأَهْوَازِ، وَبِلَادِ الْجَبَلِ، وَغَيْرِهِمَا فِي حَمْلِ الْمَالِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ غَايَةَ الْحَثِّ، فَوَصَلَ بَعْدَ قَبْضِهِ، فَادَّعَى ابْنُ الْفُرَاتِ الْكِفَايَةَ وَالنَّهْضَةَ فِي جَمْعِ الْمَالِ. وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ مُسْتَخْفِيًا مُذْ قُبِضَ ابْنُ الْفُرَاتِ إِلَى الْآنَ، فَلَمَّا عَادَ ابْنُ

الْفُرَاتِ إِلَى الْوِزَارَةِ ظَهَرَ، فَأَشْخَصَهُ ابْنُ الْفُرَاتِ وَقَرَّبَهُ. ذِكْرُ أَمْرِ يُوسُفَ بْنِ أَبِي السَّاجِ كَانَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ وَأَرْمِينِيَّةَ قَدْ وَلِيَ الْحَرْبَ، وَالصَّلَاةَ، وَالْأَحْكَامَ، وَغَيْرَهَا، مُنْذُ أَوَّلِ وِزَارَةِ ابْنِ الْفُرَاتِ الْأُولَى، وَعَلَيْهِ مَالٌ يُؤَدِّيهِ إِلَى دِيوَانِ الْخِلَافَةِ، فَلَمَّا عُزِلَ ابْنُ الْفُرَاتِ وَوَلِيَ الْخَاقَانِيُّ الْوِزَارَةَ، وَبَعْدَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى، طَمِعَ فَأَخَّرَ حَمْلَ بَعْضِ الْمَالِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ مَا قَوِيَتْ بِهِ نَفْسُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ. فَلَمَّا بَلَغَهُ الْقَبْضُ عَلَى الْوَزِيرِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى أَظْهَرَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ أَنْفَذَ لَهُ عَهْدًا بِالرَّيِّ، وَأَنَّ الْوَزِيرَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى سَعَى لَهُ فِي ذَلِكَ، فَأَنْفَذَهُ إِلَيْهِ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ إِلَى الرَّيِّ وَبِهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ صُعْلُوكٌ يَتَوَلَّى أَمْرَهَا لِصَاحِبِ خُرَاسَانَ، وَهُوَ الْأَمِيرُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ السَّامَانِيُّ. وَكَانَ صُعْلُوكٌ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى الرَّيِّ (وَمَا يَلِيهَا) ، أَيَّامَ وِزَارَةِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى دِيوَانِ الْخِلَافَةِ فَقَاطَعَ عَلَيْهَا بِمَالٍ يَحْمِلُهُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَسِيرُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي السَّاجِ نَحْوَهُ سَارَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَدَخَلَ يُوسُفُ الرَّيَّ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَعَلَى قَزْوِينَ وَزَنْجَانَ وَأَبْهَرَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمُقْتَدِرَ فِعْلُهُ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى أَنْفَذَ لَهُ الْعَهْدَ وَاللِّوَاءَ بِذَلِكَ، أَنْكَرَهُ وَاسْتَعْظَمَهُ. وَكَتَبَ يُوسُفُ إِلَى الْوَزِيرِ ابْنِ الْفُرَاتِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى أَنْفَذَ إِلَيْهِ بِعَهْدِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَمَاكِنِ، وَأَنَّهُ افْتَتَحَهَا وَطَرَدَ مِنْهَا الْمُتَغَلِّبِينَ عَلَيْهَا، وَيَعْتَذِرُ بِذَلِكَ، وَيَذْكُرُ كَثْرَةَ مَا أَخْرَجَهُ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُقْتَدِرِ، وَأَمَرَ ابْنَ الْفُرَاتِ أَنْ يَسْأَلَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى عَنِ الَّذِي ذَكَرَهُ يُوسُفُ، فَأَحْضَرَهُ وَسَأَلَهُ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: سَلُوا الْكُتَّابَ وَحَاشِيَةَ الْخَلِيفَةِ، فَإِنَّ

الْعَهْدَ وَاللِّوَاءَ لَا بُدَّ أَنْ يَسِيرَ بِهِمَا بَعْضُ خَدَمِ الْخَلِيفَةِ، أَوْ بَعْضُ قُوَّادِهِ، فَعَلِمُوا صِدْقَهُ. وَكَتَبَ ابْنُ الْفُرَاتِ إِلَى ابْنِ أَبِي السَّاجِ يُنْكِرُ عَلَيْهِ تَعَرُّضَهُ لِهَذِهِ الْبِلَادِ، وَكَذِبَهُ عَلَى الْوَزِيرِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، وَجَهَّزَ الْعَسَاكِرَ لِمُحَارَبَتِهِ، وَكَانَ مَسِيرُ الْعَسَاكِرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِمِائَةِ. وَكَانَ الْمُقَدَّمَ عَلَى الْعَسْكَرِ خَاقَانُ الْمُفْلِحِيُّ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ كَأَحْمَدَ بْنِ مَسْرُورٍ الْبَلْخِيِّ، وَسِيمَا الْجَزَرِيِّ، وَنِحْرِيرٍ الصَّغِيرِ، فَسَارُوا، وَلَقُوا يُوسُفَ، وَاقْتَتَلُوا، فَهَزَمَهُمْ يُوسُفُ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَأَدْخَلَهُمُ الرَّيَّ مَشْهُورِينَ عَلَى الْجِمَالِ، فَسَيَّرَ الْخَلِيفَةُ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى مُحَارَبَتِهِ، فَسَارَ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ الْعَسْكَرُ الَّذِي كَانَ مَعَ خَاقَانَ، فَصُرِفَ خَاقَانُ عَنْ أَعْمَالِ الْجَبَلِ، وَوَلِيَهَا نِحْرِيرٌ الصَّغِيرُ. وَسَارَ مُؤْنِسٌ فَأَتَاهُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ صُعْلُوكٍ، مُسْتَأْمِنًا، فَأَكْرَمَهُ وَوَصَلَهُ، وَكَتَبَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ يَسْأَلُ الرِّضَى، وَأَنْ يُقَاطِعَ عَلَى أَعْمَالِ الرَّيِّ وَمَا يَلِيهَا عَلَى سَبْعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ لِبَيْتِ الْمَالِ، سِوَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْجُنْدُ وَغَيْرُهُمْ، فَلَمْ يُجِبْهُ الْمُقْتَدِرُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَوْ بَذَلَ مِلْءَ الْأَرْضِ لَمَا أَقَرَّهُ عَلَى الرَّيِّ يَوْمًا وَاحِدًا لِإِقْدَامِهِ عَلَى التَّزْوِيرِ، فَلَمَّا عَرَفَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ ذَلِكَ سَارَ عَنِ الرَّيِّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَبَهَا، وَجَبَى خَرَاجَهَا فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ. وَقَلَّدَ الْخَلِيفَةُ الرَّيَّ وَقَزْوِينَ وَأَبْهَرَ وَصِيفًا الْبُكْتُمْرِيَّ، وَطَلَبَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ أَنْ يُقَاطِعَ عَلَى مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنَ الْوِلَايَةِ، فَأَشَارَ ابْنُ الْفُرَاتِ بِإِجَابَتِهِ إِلَى ذَلِكَ، فَعَارَضَهُ نَصْرٌ الْحَاجِبُ، وَابْنُ الْحَوَارِيِّ، وَقَالَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُجَابَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَطَأَ الْبِسَاطَ. وَنُسِبَ ابْنُ الْفُرَاتِ إِلَى مُوَاطَأَةِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ وَالْمَيْلِ مَعَهُ، فَحَصَلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ابْنِ الْفُرَاتِ عَدَاوَةٌ، فَامْتَنَعَ الْمُقْتَدِرُ مِنْ إِجَابَتِهِ إِلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ فِي خِدْمَتِهِ بِنَفْسِهِ،

فَلَمَّا رَأَى يُوسُفُ أَنَّ دَمَهُ عَلَى خَطَرٍ إِنْ حَضَرَ لِخِدْمَتِهِ حَارَبَ مُؤْنِسًا، فَانْهَزَمَ مُؤْنِسٌ إِلَى زَنْجَانَ، وَقُتِلَ مِنْ قُوَّادِهِ سِيمَا بْنُ بُوَيْهِ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، فِيهِمْ هِلَالُ بْنُ بَدْرٍ، فَأَدْخَلَهُمْ أَرْدَبِيلَ مُشْتَهَرِينَ عَلَى الْجِمَالِ. وَأَقَامَ مُؤْنِسٌ بِزَنْجَانَ يَجْمَعُ الْعَسَاكِرَ، وَيَسْتَمِدُّ الْخَلِيفَةَ، وَكَاتِبَهُ ابْنَ أَبِي السَّاجِ فِي الصُّلْحِ، وَتَرَاسَلَا فِي ذَلِكَ، وَكَتَبَ مُؤْنِسٌ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَالْوَزِيرُ يَوْمَئِذٍ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، اجْتَمَعَ لِمُؤْنِسٍ عَسْكَرٌ كَبِيرٌ، فَسَارَ إِلَى يُوسُفَ، فَتَوَاقَعَا عَلَى بَابِ أَرْدَبِيلَ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ يُوسُفَ، وَأُسِرَ يُوسُفُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَادَ بِهِمْ مُؤْنِسٌ إِلَى بَغْدَاذَ، فَدَخَلَهَا فِي الْمُحَرَّمِ أَيْضًا، وَأَدْخَلَ يُوسُفَ أَيْضًا بَغْدَاذَ مُشْتَهِرًا عَلَى جَمَلٍ، وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ بِأَذْنَابِ الثَّعَالِبِ، فَأُدْخِلَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، ثُمَّ حُبِسَ بِدَارِ الْخَلِيفَةِ عِنْدَ زَيْدَانَ الْقَهْرَمَانَةِ. وَلَمَّا ظَفِرَ مُؤْنِسٌ بِابْنِ أَبِي السَّاجِ قَلَّدَ عَلِيَّ بْنَ وَهْسُوذَانَ أَعْمَالَ الرَّيِّ، وَدَنْبَاوَنْدَ، وَقَزْوِينَ، وَأَبْهَرَ، وَزَنْجَانَ، وَجَعَلَ أَمْوَالَهَا لِرِجَالِهِ، وَقَلَّدَ أَصْبَهَانَ، وَقُمَّ، وَقَاشَانَ، وَسَاوَةَ لِأَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ صُعْلُوكٍ، وَسَارَ عَنْ أَذْرَبِيجَانَ. ذِكْرُ حَالِ هَذِهِ الْبِلَادِ بَعْدَ مَسِيرِ مُؤْنِسٍ لَمَّا سَارَ مُؤْنِسٌ عَنْ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى الْعِرَاقِ وَثَبَ سُبُكٌ غُلَامُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي السَّاجِ عَلَى بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ، فَمَلَكَهَا، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ عَسْكَرٌ عَظِيمٌ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ مُؤْنِسٌ مُحَمَّدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الْفَارِقِيَّ، وَقَلَّدَهُ الْبِلَادَ، وَسَارَ إِلَى سُبُكٍ وَحَارَبَهُ، فَانْهَزَمَ الْفَارِقِيُّ وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَتَمَكَّنَ سُبُكٌ مِنَ الْبِلَادِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْأَلُ أَنْ يُقَاطِعَ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَقُرِّرَ عَلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ مِائَتَانِ وَعِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأُنْفِذَتْ إِلَيْهِ الْخِلَعُ وَالْعَهْدُ، فَلَمْ يَقِفْ عَلَى مَا قَرَّرَهُ. ثُمَّ وَثَبَ أَحْمَدُ بْنُ مُسَافِرٍ، صَاحِبُ الطِّرْمِ، عَلَى ابْنِ أَخِيهِ عَلِيِّ بْنِ وَهْسُوذَانَ وَهُوَ

مُقِيمٌ بِنَاحِيَةِ قَزْوِينَ، فَقَتَلَهُ عَلَى فِرَاشِهِ، وَهَرَبَ إِلَى بَلَدِهِ، فَاسْتَعْمَلَ مَكَانَ عَلِيِّ بْنِ وَهْسُوذَانَ وَصَيفًا الْبُكْتُمَرِيَّ، وَقَلَّدَ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ صَاحِبَ الْجَيْشِ أَعْمَالَ الْخَرَاجِ بِهَا. وَسَارَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ صُعْلُوكٍ مِنْ قُمَّ إِلَى الرَّيِّ، فَدَخَلَهَا، فَأَنْفَذَ الْخَلِيفَةُ يُنْكِرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَيَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى قُمَّ فَعَادَ، ثُمَّ إِنَّهُ أَظْهَرَ الْخِلَافَ، وَصَرَفَ عُمَّالَ الْخَرَاجِ عَنْ قُمَّ، وَاسْتَعَدَّ لِلْمَسِيرِ إِلَى الرَّيِّ، فَكُوتِبَ نِحْرِيرٌ الصَّغِيرُ، وَهُوَ عَلَى هَمَذَانَ، لِيَسِيرَ هُوَ وَوَصِيفٌ إِلَى الرَّيِّ لِمَنْعِ أَحْمَدَ (بْنِ عَلِيٍّ عَنْهَا، فَسَارُوا إِلَيْهَا، فَلَقِيَهُمْ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى بَابِ الرَّيِّ، فَهَزَمَهُمْ) أَحْمَدُ، وَقُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَاسْتَوْلَى أَحْمَدُ عَلَى الرَّيِّ، وَكَاتَبَ نَصْرًا الْحَاجِبَ لِيُصْلِحَ أَمْرَهُ مَعَ الْخَلِيفَةِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَصْلَحَ أَمْرَهُ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِ عَنِ الرَّيِّ وَدَنْبَاوَنْدَ وَقَزْوِينَ وَزَنْجَانَ وَأَبْهَرَ مِائَةً وَسِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ مَحْمُولَةً كُلَّ سَنَةٍ إِلَى بَغْدَاذَ، فَنَزَلَ أَحْمَدُ عَنْ قُمَّ، فَاسْتَعْمَلَ الْخَلِيفَةُ عَلَيْهَا مَنْ يَنْظُرُ فِيهَا. ذِكْرُ تَغَلُّبِ كَثِيرِ بْنِ أَحْمَدَ عَلَى سِجِسْتَانَ وَمُحَارَبَتِهِ كَانَ كَثِيرُ بْنُ أَحْمَدَ (بْنِ شَهْفُورَ) قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى أَعْمَالِ سِجِسْتَانَ، فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَدْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَمَّامِيِّ، وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ أَعْمَالَ فَارِسَ، يَأْمُرُهُ أَنْ يُرْسِلَ جَيْشًا يُحَارِبُونَ كَثِيرًا، وَيُؤَمِّرُ عَلَيْهِمْ دَرَكًا، وَيَسْتَعْمِلُ عَلَى الْخَرَاجِ بِهَا زَيْدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، فَجَهَّزَ بَدْرٌ جَيْشًا كَثِيفًا وَسَيَّرَهُمْ، فَلَمَّا وَصَلُوا قَاتَلَهُمْ كَثِيرٌ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِمْ قُوَّةٌ، وَضَعُفَ أَمْرُهُ وَكَادُوا يَمْلِكُونَ الْبَلَدَ، فَبَلَغَ أَهْلَ الْبَلَدِ أَنَّ زَيْدًا مَعَهُ قُيُودٌ وَأَغْلَالٌ لِأَعْيَانِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا مَعَ كَثِيرٍ، وَشَدُّوا مِنْهُ، وَقَاتَلُوا مَعَهُ فَهَزَمُوا عَسْكَرَ الْخَلِيفَةِ، وَأَسَرُوا زَيْدًا، فَوَجَدُوا مَعَهُ الْقُيُودَ وَالْأَغْلَالَ، فَجَعَلُوهَا فِي رِجْلَيْهِ وَعُنُقِهِ.

وَكَتَبَ كَثِيرٌ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَتَبَرَّأُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَجْعَلُ الذَّنْبَ فِيهِ لِأَهْلِ الْبَلَدِ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَدْرٍ الْحَمَّامِيِّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَسِيرَ بِنَفْسِهِ إِلَى قِتَالِ كَثِيرٍ، فَتَجَهَّزَ بَدْرٌ، فَلَمَّا سَمِعَ كَثِيرٌ ذَلِكَ خَافَ، فَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الْمُقَاطَعَةَ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ كُلَّ سَنَةٍ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَقُوطِعَ عَلَى خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقُرِّرَتِ الْبِلَادُ عَلَيْهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الصَّيْفِ، خَافَتِ الْعَامَّةُ بِبَغْدَادَ مِنْ حَيَوَانٍ كَانُوا يُسَمُّونَهُ الزَّبْزَبَ، وَيَقُولُونَ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ فِي اللَّيْلِ عَلَى سُطُوحِهِمْ، وَإِنَّهُ يَأْكُلُ أَطْفَالَهُمْ، وَرُبَّمَا عَضَّ يَدَ الرَّجُلِ وَثَدْيَ الْمَرْأَةِ فَقَطَعَهُمَا، (وَهَرَبَ بِهِمَا) ، فَكَانَ النَّاسُ يَتَحَارَسُونَ، وَيَتَزَاعَقُونَ، وَيَضْرِبُونَ بِالطُّشُوتِ وَالصَّوَانِي وَغَيْرِهَا لِيُفْزِعُوهُ فَارْتَجَّتْ بَغْدَاذُ لِذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ السُّلْطَانِ صَادُوا لَيْلَةً حَيَوَانًا أَبْلَقَ بِسَوَادٍ، قَصِيرَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَقَالُوا: هَذَا هُوَ الزَّبْزَبُ، وَصَلَبُوهُ عَلَى الْجِسْرِ، فَسَكَنَ النَّاسُ، وَهَذِهِ دَابَّةٌ تُسَمَّى طَبْرَةَ، وَأَصَابَ اللُّصُوصُ حَاجَتَهُمْ لِاشْتِغَالِ النَّاسِ عَنْهُمْ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ النَّاصِرُ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ طَبَرِسْتَانَ، فِي شَعْبَانَ وَعُمْرُهُ تِسْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَبَقِيَتْ طَبَرِسْتَانَ فِي أَيْدِي الْعَلَوِيَّةِ إِلَى أَنْ قُتِلَ الدَّاعِي، وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ الْقَاسِمِ، سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَفِيهَا خَالَفَ أَبُو زَيْدٍ خَالِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَادَرَائِيُّ عَلَى الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ بِكَرْمَانَ وَكَانَ

يَتَوَلَّى الْخَرَاجَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى شِيرَازَ يُرِيدُ التَّغَلُّبَ عَلَى فَارِسَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ بَدْرٌ الْحَمَّامِيُّ فَحَارَبَهُ وَقَتَلَهُ، وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى بَغْدَاذَ وَطِيفَ بِهِ. وَفِيهَا سَارَ مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ لِغَزَاةِ الصَّائِفَةِ، فَلَمَّا صَارَ بِالْمَوْصِلِ قَلَّدَ سُبُكًا الْمُفْلِحِيَّ بَازَبْدَى وَقَرْدَى، وَقَلَّدَ عُثْمَانَ الْعَنْزِيَّ مَدِينَةَ بُلْدَ، وَبَاعِينَاثَا، وَسِنْجَارَ، وَقَلَّدَ وَصِيفًا الْبُكْتُمْرِيَّ بَاقِيَ بِلَادِ رَبِيعَةَ، وَسَارَ مُؤْنِسٌ إِلَى مَلَطْيَةَ وَغَزَا فِيهَا، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بِسْطَامٍ أَنْ يَغْزُوَ مِنْ طَرَسُوسَ فِي أَهْلِهَا، فَفَعَلَ. وَفَتَحَ مُؤْنِسٌ حُصُونًا كَثِيرَةً مِنَ الرُّومِ، وَأَثَّرَ آثَارًا جَمِيلَةً، وَعَتَبَ عَلَيْهِ أَهْلُ الثُّغُورِ وَقَالُوا: لَوْ شَارَ لَفَعَلَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَكْرَمَهُ الْخَلِيفَةُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَمُوتُ بْنُ الْمُزَرِّعِ الْعَبْدِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ الْجَاحِظِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو مُوسَى النَّحْوِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْحَامِضِ، (أَخَذَ

الْعِلْمَ عَنْ ثَعْلَبٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ ثَعْلَبٍ. وَيُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَعْقُوبَ الرَّازِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ ذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ، وَهُوَ صَاحِبُ قِصَّةِ الْفَأْرَةِ مَعَهُ.

ثم دخلت سنة خمس وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِمِائَة] 305 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، وَصَلَ رَسُولَانِ مِنْ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى الْمُقْتَدِرِ يَطْلُبَانِ الْمُهَادَنَةَ وَالْفِدَاءَ، فَأُكْرِمَا إِكْرَامًا كَثِيرًا، وَأُدْخِلَا عَلَى الْوَزِيرِ وَهُوَ فِي أَكْمَلِ أُبَّهَةٍ، وَقَدْ صُفَّ الْأَجْنَادُ بِالسِّلَاحِ، (وَالزِّينَةِ التَّامَّةِ) ، وَأَدَّيَا الرِّسَالَةَ إِلَيْهِ، (ثُمَّ إِنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى الْمُقْتَدِرِ، وَقَدْ جَلَسَ لَهُمَا، وَاصْطَفَّ الْأَجْنَادُ بِالسِّلَاحِ وَالزِّينَةِ التَّامَّةِ، وَأَدَّيَا الرِّسَالَةَ) ، فَأَجَابَهُمَا الْمُقْتَدِرُ إِلَى مَا طَلَبَ مَلِكُ الرُّومِ مِنَ الْفِدَاءِ، وَسَيَّرَ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ لِيُحْضِرَ الْفِدَاءَ، وَجَعَلَهُ أَمِيرًا عَلَى كُلِّ بَلَدٍ يَدْخُلُهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ عَلَى مَا يُرِيدُ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ، وَسَيَّرَ مَعَهُ جَمْعًا مِنَ الْجُنُودِ، وَأَطْلَقَ لَهُمْ أَرْزَاقًا وَاسِعَةً، وَأَنْفَذَ مَعَهُ مِائَةَ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ دِينَارٍ لِفِدَاءِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَسَارَ مُؤْنِسٌ وَالرُّسُلُ، وَكَانَ الْفِدَاءُ عَلَى يَدِ مُؤْنِسٍ. وَفِيهَا أُطْلِقَ أَبُو الْهَيْجَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ، وَإِخْوَتُهُ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ مِنَ الْحَبْسِ، وَكَانُوا مَحْبُوسِينَ بِدَارِ الْخَلِيفَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ حَبْسِهِمْ وَسَبَبِهِ.

وَفِيهَا مَاتَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَمْرٍو الْغَنَوِيُّ وَكَانَ مُتَقَلِّدًا أَعْمَالَ الْحَرْبِ (بِدِيَارِ مِصْرَ) ، فَجُعِلَ مَكَانَهُ وَصِيفٌ الْبُكْتُمْرِيُّ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِ (الْعَمَلِ، فَعُزِلَ، وَجُعِلَ مَكَانَهُ جِنِّيٌّ الصَّفْوَانِيُّ، فَضَبَطَهُ أَحْسَنَ ضَبْطٍ) . وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ بِالْبَصْرَةِ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ، وَسَبَبُهَا أَنَّهُ كَانَ الْحَسَنُ بْنُ الْخَلِيلِ بْنِ رَمَّالٍ مُتَقَلِّدًا أَعْمَالَ الْحَرْبِ بِالْبَصْرَةِ، وَأَقَامَ بِهَا سِنِينَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامَّةِ مِنْ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ فِتَنٌ كَثِيرَةٌ، وَسَكَنَتْ، ثُمَّ ثَارَتْ بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ اتَّصَلَتْ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ مِنْ مَنْزِلِهِ بِرَحْبَةِ بَنِي نُمَيْرٍ، وَاجْتَمَعَ الْجُنْدُ كُلُّهُمْ مَعَهُ، وَكَانَ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ (فِي طَرِيقٍ) إِلَّا قُتِلَ، حَتَّى حُوصِرَتْ، وَغُوِّرَتِ الْقَنَاةُ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ إِلَى بَنِي نُمَيْرٍ، فَاضْطَرَّ إِلَى الرُّكُوبِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَقَتَلَ مِنَ الْعَامَّةِ خَلْقًا كَثِيرًا. فَلَمَّا عَجَزَ عَنْ إِصْلَاحِهِمْ خَرَجَ هُوَ وَمَعَهُ الْأَعْيَانُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِلَى وَاسِطَ، فَعُزِلَ عَنْهَا، وَاسْتُعْمِلَ أَبُو دُلَفٍ هَاشِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ عَلَيْهَا فَبَقِيَ نَحْوَ سَنَةٍ وَصُرِفَ عَنْهَا، وَوَلِيَهَا سُبُكٌ الْمُفْلِحِيُّ نِيَابَةً عَنْ شَفِيعٍ الْمُقْتَدِرِيِّ. (وَفِيهَا عُقِدَ لِثُمَالٍ الْخَادِمِ عَلَى الْغَزَاةِ فِي بَحْرِ الرُّومِ، وَسَارَ)

وَفِيهَا غَزَا جِنِّيُّ الصَّفْوَانِيُّ بِلَادَ الرُّومِ، فَغَنِمَ وَنَهَبَ وَسَبَى وَعَادَ سَالِمًا [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ أَبُو خَلِيفَةَ الْمُحَدِّثُ الْبَصْرِيُّ. (وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، مَاتَ) أَبُو جَعْفَرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالسَّمَّانِ، وَيُعْرَفُ أَيْضًا بِالْعَمْرِيِّ، رَئِيسُ الْإِمَامِيَّةِ، وَكَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ الْبَابُ إِلَى الْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ، وَأَوْصَى إِلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ. (وَفِي آخِرِهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُرَيْحٍ وَكَانَ عَالِمًا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ) .

ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَة] 306 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ عَزْلِ ابْنِ الْفُرَاتِ وَوِزَارَةِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، قُبِضَ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِزَارَتِهِ هَذِهِ، وَهِيَ الثَّانِيَةُ، سَنَةً وَاحِدَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَخَّرَ إِطْلَاقَ أَرْزَاقِ الْفُرْسَانِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِضِيقِ الْأَمْوَالِ، وَأَنَّهَا أُخْرِجَتْ فِي مُحَارَبَةِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ، وَأَنَّ الِارْتِفَاعَ نَقَصَ بِأَخْذِ يُوسُفَ أَمْوَالَ الرَّيِّ وَأَعْمَالَهَا، فَشَغَبَ الْجُنْدُ شَغَبًا عَظِيمًا، وَخَرَجُوا إِلَى الْمُصَلَّى، وَالْتَمَسَ ابْنُ الْفُرَاتِ مِنَ الْمُقْتَدِرِ إِطْلَاقَ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الْخَاصِّ لِيُضِيفَ إِلَيْهَا مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ يُحَصِّلُهَا، وَيَصْرِفُ الْجَمِيعَ فِي أَرْزَاقِ الْجُنْدِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُقْتَدِرِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: إِنَّكَ ضَمِنْتَ أَنَّكَ تُرْضِي جَمِيعَ الْأَجْنَادِ، وَتَقُومُ بِجَمِيعِ النَّفَقَاتِ الرَّاتِبَةِ عَلَى الْعَادَةِ الْأُولَى وَتَحْمِلُ بَعْدَ ذَلِكَ (مَا ضَمِنْتَ أَنَّكَ تَحْمِلُهُ يَوْمًا بِيَوْمٍ) ، فَأَرَاكَ تَطْلُبُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الْخَاصِّ، فَاحْتَجَّ بِقِلَّةِ الِارْتِفَاعِ، وَمَا أَخَذَهُ ابْنُ أَبِي السَّاجِ (مِنَ الِارْتِفَاعِ) وَمَا خَرَجَ عَلَى مُحَارَبَتِهِ، فَلَمْ يَسْمَعِ الْمُقْتَدِرُ حُجَّتَهُ وَتَنَكَّرَ لَهُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ قَبْضِهِ أَنَّ الْمُقْتَدِرَ قِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ الْفُرَاتِ يُرِيدُ إِرْسَالَ

الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْدَانَ إِلَى ابْنِ أَبِي السَّاجِ لِيُحَارِبَهُ، وَإِذَا صَارَ عِنْدَهُ اتَّفَقَا عَلَيْكَ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْفُرَاتِ قَالَ لِلْمُقْتَدِرِ فِي إِرْسَالِ الْحُسَيْنِ إِلَى ابْنِ أَبِي السَّاجِ، فَقَتَلَ ابْنَ حَمْدَانَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَقَبَضَ عَلَى ابْنِ الْفُرَاتِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْعُمَّالِ ذَكَرَ لِابْنِ الْفُرَاتِ مَا يَتَحَصَّلُ لِحَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ مِنْ أَعْمَالِ وَاسِطَ زِيَادَةً عَلَى ضَمَانِهِ، فَاسْتَكْثَرَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ (بِذَلِكَ، فَكَاتَبَهُ) ، فَخَافَ حَامِدٌ أَنْ يُؤْخَذَ وَيُطَالَبَ بِذَلِكَ الْمَالِ، فَكَتَبَ إِلَى نَصْرٍ الْحَاجِبِ وَإِلَى وَالِدِهِ الْمُقْتَدِرِ، وَضَمِنَ لَهُمَا مَالًا لِيَتَحَدَّثَا لَهُ فِي الْوِزَارَةِ، فَذَكَرَ لِلْمُقْتَدِرِ حَالَهُ وَسَعَةَ نَفْسِهِ، وَكَثْرَةَ أَتْبَاعِهِ، وَأَنَّهُ لَهُ أَرْبَعُمِائَةِ مَمْلُوكٍ يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ، وَاتَّفَقَ ذَلِكَ عِنْدَ نَفْرَةِ الْمُقْتَدِرِ عَنِ ابْنِ الْفُرَاتِ، فَأَمَرَهُ بِالْحُضُورِ مِنْ وَاسِطَ، فَحَضَرَ وَقَبَضَ عَلَى ابْنِ الْفُرَاتِ وَوَلَدِهِ الْمُحَسِّنِ وَأَصْحَابِهِمَا وَأَتْبَاعِهِمَا. وَلَمَّا وَصَلَ حَامِدٌ إِلَى بَغْدَاذَ أَقَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي دَارِ الْخَلِيفَةِ، فَكَانَ يَتَحَدَّثُ مَعَ النَّاسِ، وَيُضَاحِكُهُمْ، وَيَقُومُ لَهُمْ، فَبَانَ لِلْخَدَمِ وَلِأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْحَوَارِيِّ وَحَاشِيَةِ الدَّارِ قِلَّةُ مَعْرِفَتِهِ بِالْوِزَارَةِ، وَقَالَ لَهُ حَاجِبُهُ: يَا مَوْلَانَا! الْوَزِيرُ يَحْتَاجُ إِلَى لُبْسِهِ، وَجَلْسِهِ، وَعَبَسِهِ، فَقَالَ لَهُ: (تَعْنِي أَنْ) تَلْبَسَ، وَتَقْعُدَ، فَلَا تَقُومَ لِأَحَدٍ، وَلَا تَضْحَكَ فِي وَجْهِ أَحَدٍ، وَلَا تُحَدَّثَ أَحَدًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ حَامِدٌ: إِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي وَجْهًا طَلْقًا، وَخَلْقًا حَسَنًا، وَمَا كُنْتُ بِالَّذِي أُعَبِّسُ وَجْهِي، وَأُقَبِّحُ خَلْقِي لِأَجْلِ الْوِزَارَةِ، فَعَابُوهُ عِنْدَ الْمُقْتَدِرِ، وَنَسَبُوهُ إِلَى الْجَهْلِ بِأُمُورِ الْوِزَارَةِ، فَأَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِإِطْلَاقِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى مِنْ مَحْبِسِهِ، وَجَعَلَهُ يَتَوَلَّى الدَّوَاوِينَ شِبْهَ النَّائِبِ عَنْ حَامِدٍ، فَكَانَ يُرَاجِعُهُ فِي الْأُمُورِ وَيَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَبَدَّ بِالْأَمْرِ دُونَ حَامِدٍ، وَلَمْ يَبْقَ لِحَامِدٍ غَيْرُ اسْمِ الْوِزَارَةِ وَمَعْنَاهَا لِعَلِيٍّ، حَتَّى قِيلَ فِيهِمَا: هَذَا وَزِيرٌ بِلَا سَوَادٍ وَذَا سَوَادٌ بِلَا وَزِيرٍ ثُمَّ إِنَّ حَامِدًا أَحْضَرَ ابْنَ الْفُرَاتِ لِيُقَابِلَهُ عَلَى أَعْمَالِهِ، وَوَكَّلَ بِمُنَاظَرَتِهِ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ الْمَادَرَائِيَّ لِيُصَحِّحَ عَلَيْهِ الْأَمْوَالَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِثْبَاتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَانْتُدِبَ لَهُ حَامِدٌ، وَسَبَّهُ، وَنَالَ مِنْهُ، وَقَامَ إِلَيْهِ فَلَكَمَهُ.

(وَكَانَ حَامِدٌ سَفِيهًا) فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْفُرَاتِ: أَنْتَ عَلَى بِسَاطِ السُّلْطَانُ، وَفِي دَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا تَعْرِفُهُ مِنْ بَيْدَرٍ تُقَسِّمُهُ، أَوْ غَلَّةٍ تَسْتَفْضِلُ فِي كَيْلِهَا، وَلَا هُوَ مِثْلُ أَكَّارٍ تَشْتُمُهُ، ثُمَّ قَالَ لِشَفِيعٍ اللُّؤْلُؤِيِّ: قُلْ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِّي إِنَّ حَامِدًا إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْوِزَارَةِ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، إِنَّنِي أَوْجَبْتُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ مِنْ فَضْلِ ضَمَانِهِ، وَأَلْحَحْتُ فِي مُطَالَبَتِهِ بِهَا، فَظَنَّ أَنَّهَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ بِدُخُولِهِ فِي الْوِزَارَةِ، (وَأَنَّهُ يُضِيفُ) إِلَيْهَا غَيْرَهَا، فَاسْتَشَاطَ حَامِدٌ وَبَالَغَ فِي شَتْمِهِ، فَأَنْفَذَ الْمُقْتَدِرُ، فَأَقَامَ ابْنُ الْفُرَاتِ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَرَدَّهُ إِلَى مَحْبِسِهِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى، وَنَصْرٌ الْحَاجِبُ لِحَامِدٍ: قَدْ جَنَيْتَ عَلَيْنَا وَعَلَى نَفْسِكَ جِنَايَةً عَظِيمَةً بِمَا فَعَلْتَهُ بِابْنِ الْفُرَاتِ، وَأَيْقَظْتَ مِنْهُ شَيْطَانًا لَا يَنَامُ. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْفُرَاتِ صُودِرَ عَلَى مَالٍ عَظِيمٍ، وَضُرِبَ وَلَدُهُ الْمُحَسِّنُ وَأَصْحَابُهُ، وَأُخِذَ مِنْهُ أَمْوَالٌ جَمَّةٌ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ نِزَارٌ عَنْ شُرْطَةِ بَغْدَاذَ، وَجُعِلَ فِيهَا نَجَحٌ الطُّولُونِيُّ، وَجُعِلَ فِي الْأَرْبَاعِ فُقَهَاءُ يَكُونُ عَمَلُ أَصْحَابِ الشُّرْطَةِ بِفَتْوَاهُمْ، فَضَعُفَتْ هَيْبَةُ السَّلْطَنَةِ بِذَلِكَ، وَطَمِعَ اللُّصُوصُ وَالْعَيَّارُونَ، وَكَثُرَتِ الْفِتَنُ، وَكُبِسَتْ دُورُ التُّجَّارِ، وَأُخِذَتْ بَنَاتُ النَّاسِ فِي الطَّرِيقِ الْمُنْقَطِعَةِ، (وَكَثُرَ الْمُفْسِدُونَ) .

ذِكْرُ إِرْسَالِ الْمَهْدِيِّ الْعَلَوِيِّ الْعَسَاكِرَ إِلَى مِصْرَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ الْمَهْدِيُّ صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ ابْنِهِ أَبِي الْقَاسِمِ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى مِصْرَ، وَهِيَ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ، فَوَصَلَ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَخَرَجَ عَامِلُ الْمُقْتَدِرِ عَنْهَا، وَدَخَلَهَا الْقَائِمُ، وَرَحَلَ إِلَى مِصْرَ، فَدَخَلَ الْجِيزَةَ، وَمَلَكَ الْأُشْمُونِينَ وَكَثِيرًا مِنَ الصَّعِيدِ، وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ. وَوَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَبَعَثَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ فِي شَعْبَانَ، وَجَدَّ فِي السَّيْرِ فَوَصَلَ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَائِمِ عِدَّةُ وَقَعَاتٍ، وَوَصَلَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ ثَمَانُونَ مَرْكَبًا نَجْدَةً لِلْقَائِمِ، فَأَرْسَتْ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَعَلَيْهَا سُلَيْمَانُ الْخَادِمُ، وَيَعْقُوبُ الْكُتَامِيُّ، وَكَانَا شُجَاعَيْنِ، فَأَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ أَنْ يُسَيِّرَ مَرَاكِبَ طَرَسُوسَ إِلَيْهِمْ، فَسَارَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مَرْكَبًا، وَفِيهَا النِّفْطُ وَالْعُدَدُ، وَمُقَدَّمُهَا أَبُو الْيُمْنِ، فَالْتَقَتِ الْمَرَاكِبُ بِالْمَرَاكِبِ، وَاقْتَتَلُوا عَلَى رَشِيدٍ، فَظَفِرَ أَصْحَابُ مَرَاكِبِ الْمُقْتَدِرِ، وَأَحْرَقُوا كَثِيرًا مِنْ مَرَاكِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَهَلَكَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا، وَأُسِرَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، وَفِي الْأَسْرَى سُلَيْمَانُ الْخَادِمُ، وَيَعْقُوبُ، فَقُتِلَ مِنَ الْأَسْرَى كَثِيرٌ، (وَأُطْلِقَ كَثِيرٌ) ، وَمَاتَ سُلَيْمَانُ فِي الْحَبْسِ بِمِصْرَ، وَحُمِلَ يَعْقُوبُ إِلَى بَغْدَاذَ، ثُمَّ هَرَبَ مِنْهَا وَعَادَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ. وَأَمَّا عَسْكَرُ الْقَائِمِ فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤْنِسٍ وَقَعَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ الظَّفَرُ لِمُؤْنِسٍ فَلُقِّبَ حِينَئِذٍ بِالْمُظَفَّرِ. وَوَقَعَ الْوَبَاءُ فِي عَسْكَرِ الْقَائِمِ، وَالْغَلَاءُ، فَمَاتَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَالْخَيْلِ، فَعَادَ مَنْ سَلِمَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَسَارَ عَسْكَرُ مِصْرَ فِي أَثَرِهِمْ، حَتَّى أُبْعِدُوا، فَوَصَلَ الْقَائِمُ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ فِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا بِشْرٌ الْأَفْشِينِيُّ بِلَادَ الرُّومِ، فَافْتَتَحَ عِدَّةَ حُصُونٍ، وَغَنَمَ، وَسَلِمَ. وَغَزَا ثَمِلٌ فِي بَحْرِ الرُّومِ، فَغَنِمَ، وَسَبَى، وَعَادَ، وَكَانَ عَلَى الْمَوْصِلِ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ حَمَّادٍ الْمَوْصِلِيُّ. وَفِيهَا دَخَلَ جِنِّيٌّ الصَّفْوَانِيُّ بِلَادَ الرُّومِ، فَنَهَبَ، وَخَرَّبَ، وَأَحْرَقَ، وَفَتَحَ وَعَادَ، فَقُرِئَتِ الْكُتُبُ عَلَى الْمَنَابِرِ بِبَغْدَاذَ بِذَلِكَ. وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَأَخَذَ الْخَلِيفَةُ جَمَاعَةً مِنْهُمْ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الْبَصْرَةِ فَحُبِسُوا. وَفِيهَا أَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِبِنَاءِ بِيمَارِسْتَانَ، فَبُنِيَ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ النَّفَقَاتُ الْكَثِيرَةُ، وَكَانَ يُسَمَّى الْبِيمَارِسْتَانَ الْمُقْتَدَرِيَّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفِ بْنِ حَيَّانَ أَبُو بَكْرٍ الضَّبِّيُّ الْمَعْرُوفُ بِوَكِيعٍ، وَكَانَ عَالِمًا بِأَخْبَارِ النَّاسِ وَغَيْرِهَا، وَلَهُ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ.

وَالْقَاضِي أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ شُرَيْحٍ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ وَلَهُ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً. وَفِيهَا مَاتَ كُنَيْزٌ الْمُغَنِّي، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِالْحِذْقِ فِي الْغِنَاءِ. (كُنَيْزٌ بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِ النُّونِ وَآخِرُهَا زَايٌ) .

ثم دخلت سنة سبع وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِمِائَة] 307 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ضَمِنَ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ أَعْمَالَ الْخَرَاجِ، وَالضِّيَاعِ الْخَاصَّةِ، وَالْعَامَّةِ، وَالْمُسْتَحْدَثَةِ، وَالْفُرَاتِيَّةِ بِسَوَادِ بَغْدَاذَ، وَالْكُوفَةِ، وَوَاسِطَ، وَالْبَصْرَةِ، وَالْأَهْوَازِ، وَأَصْبَهَانَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ قَدْ تَعَطَّلَ عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَتَفَرَّدَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى شَرَعَ فِي هَذَا لِيَصِيرَ لَهُ حَدِيثٌ وَأَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَاسْتَأْذَنَ الْمُقْتَدِرَ فِي الِانْحِدَارِ إِلَى وَاسِطَ (لِيُدَبِّرَ أَمْرَ ضَمَانِهِ الْأَوَّلِ) ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَانْحَدَرَ إِلَيْهَا وَاسْمُ الْوِزَارَةِ عَلَيْهِ، وَعَلِيُّ بْنُ عِيسَى يُدَبِّرُ الْأُمُورَ، وَأَظْهَرَ حَامِدٌ زِيَادَةً ظَاهِرَةً فِي الْأَمْوَالِ، وَزَادَ زِيَادَةً مُتَوَفِّرَةً، فَسُرَّ الْمُقْتَدِرُ بِذَلِكَ، وَبَسَطَ يَدَ حَامِدٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، حَتَّى خَافَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى. ثُمَّ إِنَّ السِّعْرَ تَحَرَّكَ بِبَغْدَاذَ، فَثَارَتِ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ لِذَلِكَ، وَاسْتَغَاثُوا، وَكَسَرُوا الْمَنَابِرَ، وَكَانَ حَامِدٌ يُخَزِّنُ الْغِلَالَ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْقُوَّادِ وَنُهِبَتْ عِدَّةٌ مِنْ دَكَاكِينِ الدَّقَاقِينَ، فَأَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِإِحْضَارِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَحَضَرَ مِنَ الْأَهْوَازَ، فَعَادَ النَّاسُ مِنْ شَغَبِهِمْ، فَأُنْفِذَ حَامِدٌ لِمَنْعِهِمْ، فَقَاتَلُوهُمْ، وَأَحْرَقُوا الْجِسْرَيْنِ، وَأَخْرَجُوا الْمُحَبَّسِينَ مِنَ السُّجُونِ، وَنَهَبُوا دَارَ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ، وَلَمْ يَتْرُكُوا لَهُ شَيْئًا، فَأَنْفَذَ الْمُقْتَدِرُ جَيْشًا مَعَ غَرِيبِ الْخَالِ، فَقَاتَلَ الْعَامَّةَ، فَهَرَبُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَدَخَلُوا الْجَامِعَ بِبَابِ الطَّاقِ، فَوَكَّلَ بِأَبْوَابِ الْجَامِعِ، وَأَخَذَ كُلَّ مَنْ فِيهِ فَحَبَسَهُمْ، وَضَرَبَ بَعْضَهُمْ، وَقَطَعَ أَيْدِي مَنْ يُعْرَفُ بِالْفَسَادِ.

ثُمَّ أَمَرَ الْمُقْتَدِرُ مِنَ الْغَدِ، فَنُودِيَ فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ، فَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ، ثُمَّ إِنْ حَامِدًا رَكِبَ إِلَى دَارِ الْمُقْتَدِرِ فِي الطَّيَّارِ، فَرَجَمَهُ الْعَامَّةُ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِتَسْكِينِهِمْ فَسَكَنُوا، وَأَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِفَتْحِ مَخَازِنِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ الَّتِي لِحَامِدٍ، وَلِأُمِّ الْمُقْتَدِرِ، وَغَيْرِهِمَا، وَبَيْعِ مَا فِيهَا، فَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ، وَسَكَنَ النَّاسُ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى لِلْمُقْتَدِرِ: إِنَّ سَبَبَ غَلَاءِ الْأَسْعَارِ إِنَّمَا هُوَ ضَمَانُ حَامِدٍ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ الْغِلَالِ فِي الْبَيَادِرِ وَخَزَنَهَا، فَأَمَرَ بِفَسْخِ الضَّمَانِ عَنْ حَامِدٍ، وَصَرْفِ عُمَّالِهِ عَنِ السَّوَادِ، وَأَمَرَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ، فَسَكَنَ النَّاسُ وَاطْمَأَنُّوا، وَكَانَ أَصْحَابُ حَامِدٍ يَقُولُونَ إِنَّ ذَلِكَ الشَّغَبَ كَانَ بِوَضْعٍ مِنْ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى. ذِكْرُ أَمْرِ أَحْمَدَ بْنِ سَهْلٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَفِرَ الْأَمِيرُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ صَاحِبُ خُرَاسَانَ (وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ) بِأَحْمَدَ بْنِ سَهْلٍ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ حَالَهُ مِنْ أَوَّلِهِ. كَانَ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ هَذَا مِنْ كِبَارِ قُوَّادِ الْأَمِيرِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ، وَوَلَدِهِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَوَلَدِهِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ تَقَدُّمِهِ عَلَى الْجُيُوشِ فِي الْحُرُوبِ مَا يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ. وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْوَلِيدِ (بْنِ جَبَلَةَ) بْنِ كَامْكَارَ بْنِ يَزْدَجِرْدَ بْنِ شَهْرَيَارَ الْمَلِكِ، وَكَانَ كَامْكَارُ دِهْقَانًا بِنُوَاحِي مَرْوَ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ الْوَرْدُ الْكَامْكَارِيُّ، وَهُوَ الشَّدِيدُ الْحُمْرَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِالرَّيِّ الْقَصْرَانِيَّ، وَبِالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ الْجُورِيَّ، يُنْسَبُ إِلَى قَصْرَانَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالرَّيِّ، وَإِلَى مَدِينَةِ جُورَ، وَهِيَ مِنْ مُدُنِ فَارِسَ.

وَكَانَ لِأَحْمَدَ إِخْوَةٌ يُقَالُ لَهُمْ مُحَمَّدٌ، وَالْفَضْلُ، وَالْحُسَيْنُ، قُتِلُوا فِي عَصَبِيَّةِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ بِمَرْوَ، وَكَانَ أَحْمَدُ خَلِيفَةَ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ عَلَى مَرْوَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ عَمْرٌو، وَنَقَلَهُ إِلَى سِجِسْتَانَ، فَحَبَسَهُ بِهَا، فَرَأَى وَهُوَ فِي السِّجْنِ كَأَنَّ يُوسُفَ النَّبِيَّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى بَابِ السِّجْنِ، فَقَالَ لَهُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُخَلِّصَنِي وَيُوَلِّيَنِي! فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَذِنَ اللَّهُ فِي خَلَاصِكَ، لَكِنَّكَ لَا تَلِي عَمَلًا بِرَأْسِكَ. ثُمَّ إِنَّ أَحْمَدَ طَلَبَ الْحَمَّامَ فَأُدْخِلُ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ النُّورَةَ فَطَلَى بِهَا رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ فَسَقَطَ شَعْرُهُ، وَخَرَجَ مِنَ الْحَمَّامِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ، فَاخْتَفَى، فَطَلَبَهُ عَمْرٌو فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ سِجِسْتَانَ نَحْوَ مَرْوَ، فَقَبَضَ عَلَى خَلِيفَةِ عَمْرٍو وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَاسْتَأْمَنَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ بِبُخَارَى، فَأَكْرَمَهُ، وَقَدَّمَهُ، وَرَفَعَ قَدْرَهُ، وَكَانَ عَاقِلًا كَتُومًا لِأَسْرَارِهِ. فَلَمَّا عَصَى الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ سَيَّرَ إِلَيْهِ أَحْمَدَ، فَظَفِرَ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَضِمِنَ لَهُ الْأَمِيرُ نَصْرٌ أَشْيَاءَ لَمْ يَفِ لَهُ بِهَا، فَاسْتَوْحَشَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَاهُ يَوْمًا بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي جَعْفَرٍ صُعْلُوكٍ، فَحَادَثَهُ، فَأَنْشَدَهُ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ، وَقَدْ ذَكَرَ حَالَهُ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَفُوا لَهُ بِمَا وَعَدُوهُ: سَتَقْطَعُ فِي الدُّنْيَا إِذَا مَا قَطَعْتَنِي ... يَمِينَكَ، فَانْظُرْ أَيَّ كَفَّيْكَ تُبْدِّلُ وَفِي النَّاسِ إِنْ رَثَّتْ حِبَالُكَ وَاصَلٌ ... وَفِي الْأَرْضِ عَنْ دَارِ الْعُلَى مُتَحَوَّلُ إِذَا أَنْتَ لَمْ تُنْصِفْ أَخَاكَ وَجَدْتَهُ ... عَلَى طَرَفِ الْهِجْرَانِ إِنْ كَانَ يَعْقِلُ وَتَرْكَبُ حَدَّ السَّيْفِ مِنْ أَنْ تُضِيمَهُ ... إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ شَفْرَةِ السَّيْفِ مَرْحَلُ إِذَا انْصَرَفَتْ نَفْسِي عَنِ الشَّيْءِ لَمْ تَكَدْ - إِلَيْهِ بِوَجْهٍ، آخِرَ الدَّهْرِ، تُقْبِلُ قَالَ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ أَضْمَرَ الْمُخَالَفَةَ، فَلَمْ تَمْضِ إِلَّا أَيَّامٌ حَتَّى خَالَفَهُ بِنَيْسَابُورَ

(وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا) وَأَسْقَطَ خُطْبَةَ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، وَأَنْفَذَ رَسُولًا إِلَى بَغْدَاذَ يَخْطُبُ لَهُ أَعْمَالَ خُرَاسَانَ. وَسَارَ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى جُرْجَانَ وَبِهَا قُرَاتِكِينُ، فَحَارَبَهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، (وَأَخْرَجَ قُرَائِكِينَ عَنْهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَقَصَدَ مَرْوَ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا) ، وَبَنَى عَلَيْهَا سُورًا وَتَحَصَّنَ بِهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ السَّعِيدُ نَصْرٌ الْجُيُوشَ مَعَ حَمُّوَيْهِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ بُخَارَى، فَوَافَى مَرْوَ الرُّوذَ، فَأَقَامَ بِنَوَاحِيهَا لِيَخْرُجَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ مِنْهَا، فَلَمْ يَفْعَلْ. وَدَخَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ عَلَيْهِ يَوْمًا، وَهُوَ يُفَكِّرُ بَعْدَ نُزُولِ حَمُّوَيْهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: لَا شَكَّ أَنَّ الْأَمِيرَ مَشْغُولُ الْقَلْبِ لِهَذَا الْخَطْبِ، فَمَا هُوَ رَأْيُ الْأَمِيرِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِي مَا تَظُنُّ، وَلَكِنْ ذَكَرْتُ رُؤْيَا رَأَيْتُهَا فِي حَبْسِ سِجِسْتَانَ، وَذَكَرَ قَوْلَ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّكَ لَا تَلِي عَمَلًا بِرَأْسِكَ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ يَغْتَنِمُونَ سِلْمَكَ، وَيُعْطُونَكَ مَا تُرِيدُ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ يَتَوَسَّطَ الْحَالُ فَعَلْنَا، فَأَنْشَدَ: سَأَغْسِلُ عَنِّي الْعَارَ بِالسَّيْفِ جَالِبًا ... عَلَيَّ قَضَاءُ اللَّهِ مَا كَانَ جَالِبًا وَلَمَّا رَأَى حَمُّوَيْهِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إِلَيْهِ مِنْ مَرْوَ عَمِلَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: قَدْ أَدْخَلْتُ ابْنَ سَهْلٍ فِي جُحْرِ فَأْرٍ، وَسَدَدْتُ عَلَيْهِ وُجُوهَ الْفِرَارِ، وَأَشْبَاهَ هَذَا الْكَلَامِ لِيَغْضَبَ أَحْمَدُ فَيَخْرُجَ، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ أَمَرَ حَمُّوَيْهِ جَمَاعَةً مِنْ ثِقَاتِ قُوَّادِهِ، فَكَاتَبُوا أَحْمَدَ بْنَ سَهْلٍ سِرًّا، وَأَظْهَرُوا لَهُ الْمَيْلَ، وَدَعَوْهُ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَرْوَ لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ حَمُّوَيْهِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الْغَيْظِ عَلَى حَمُّوَيْهِ، فَخَرَجَ عَنْ مَرْوَ نَحْوَ حَمُّوَيْهِ، فَالْتَقَوْا عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنْ مَرْوِ الرُّوذِ فِي رَجَبٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ، وَحَارَبَ هُوَ إِلَى أَنْ عَجَزَتْ دَابَّتُهُ، فَنَزَلَ عَنْهَا وَاسْتَأْمَنَ، فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا، وَأَنْفَذُوهُ إِلَى بُخَارَى، فَمَاتَ بِهَا فِي الْحَبْسِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَكَانَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِأَحْمَدَ بْنِ سَهْلٍ أَنْ يَغِيبَ

عَنْ بَابِ السُّلْطَانِ، فَإِنَّهُ إِنْ غَابَ عَنْهُ أَثَارَ شُغْلًا عَظِيمًا، كَأَنَّهُ يَتَوَسَّمُ فِيهِ مَا فَعَلَ، فَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فِرَاسَةُ الْمَلِكِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ حَرِيقٌ بَالْكَرْخِ مِنْ بَغْدَاذَ، فَاحْتَرَقَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الدُّورِ وَالنَّاسِ. وَفِيهَا قُلِّدَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْدَانَ دِيَارَ رَبِيعَةَ، وَقُلِّدَ بُنِّيُّ بْنُ نَفِيسٍ شَهْرَزُورَ فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ، فَاسْتَمَدَّ الْمُقْتَدِرَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَحَصَرَهَا وَلَمْ يَفْتَحْهَا، وَقُلِّدَ الْقِتَالَ بِالْمَوْصِلِ وَأَعْمَالِهَا. وَفِيهَا أَوْقَعَ ثَمِلٌ مُتَوَلِّي الْغَزْوِ فِي الْبَحْرِ بِمَرَاكِبَ لِلْمَهْدِيِّ الْعَلَوِيِّ، صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِمَّنْ فِيهَا، وَأَسَرَ خَادِمًا لَهُ. وَفِيهَا انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ، (فَاشْتَدَّ ضَوْءُهُ وَعَظُمَ) ، وَتَفَرَّقَ ثَلَاثَ فِرَقٍ، وَسُمِعَ عِنْدَ انْقِضَاضِهِ مِثْلُ صَوْتِ الرَّعْدِ الشَّدِيدِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي السَّمَاءِ غَيْمٌ. وَفِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ بِالْمَوْصِلِ بَيْنَ أَصْحَابِ الطَّعَامِ وَبَيْنَ الْأَسَاكِفَةِ، وَاحْتَرَقَ سُوقُ الْأَسَاكِفَةِ وَمَا فِيهِ، وَكَانَ الْوَالِيَ عَلَى الْمَوْصِلِ وَأَعْمَالِهَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجَ، وَكَانَ خَارِجًا عَنِ الْبَلَدِ، فَسَمِعَ بِالْفِتْنَةِ، فَرَجَعَ لِيُوقِعَ بِأَهْلِ الْمَوْصِلِ، فَعَزَمُوا عَلَى قِتَالِهِ، وَحَصَّنُوا الْبَلَدَ، وَسَدُّوا الدُّرُوبَ فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ تَرَكَ قِتَالَهُمْ، وَأَمَرَ الْأَعْرَابَ بِتَخْرِيبِ الْأَعْمَالِ، فَصَارُوا يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْجِسْرِ وَفِي الْمَيْدَانِ، وَيُقَاسِمُونَهُ.

فَخَرَّبَ الْبَلَدَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَعَزَلَهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَاسْتَعْمَلَ بَعْدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْفَتَّانَ، وَكَانَ عَفِيفًا، صَارِمًا، كَفَّ الْأَعْرَابَ عَنِ الْبَلَدِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو يَعْلَى أَحْمَدُ (بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى الْمَوْصِلِيُّ، صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ " بِهَا) .

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِمِائَة] 308 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ الْمُقْتَدِرُ عَلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ، وَقُلِّدَ طَرِيقَ خُرَاسَانَ وَالدِّينَوَرِ، وَخَلَعَ عَلَى أَخَوَيْهِ أَبِي الْعَلَاءِ وَأَبِي السَّرَايَا. وَفِيهَا وَصَلَ رَسُولُ أَخِي صُعْلُوكٍ بِالْمَالِ، وَالْهَدَايَا، وَالتُّحَفِ، وَيُخْبِرُ بِاسْتِمْرَارِهِ عَلَى الطَّاعَةِ لِلْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْدَانَ فِي الْمُحَرَّمِ. وَفِيهَا قُلِّدَ بَدْرٌ الشَّرَابِيُّ دَقُوقَا، وَعُكْبَرَا، وَطَرِيقَ الْمَوْصِلِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ صَاحِبُ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ يُرْوَى " صَحِيحُ مُسْلِمٍ " إِلَى الْيَوْمِ.

ثم دخلت سنة تسع وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 309 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ لَيْلَى بْنِ النُّعْمَانِ الدَّيْلَمِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ لَيْلَى بْنُ النُّعْمَانِ الدَّيْلَمِيُّ، وَكَانَ لَيْلَى هَذَا أَحَدَ قُوَّادِ أَوْلَادِ الْأُطْرُوشِ الْعَلَوِيِّ، وَكَانَ إِلَيْهِ وِلَايَةُ جُرْجَانَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهَا الْحَسَنُ بْنُ الْقَاسِمِ الدَّاعِي سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ أَوْلَادُ الْأُطْرُوشِ يُكَاتِبُونَهُ: الْمُؤَيِّدُ لِدِينِ اللَّهِ الْمُنْتَصِرُ لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَى بْنُ النُّعْمَانِ، وَكَانَ كَرِيمًا، بَذَّالًا لِلْأَمْوَالِ، شُجَاعًا، مِقْدَامًا عَلَى الْأَهْوَالِ. وَسَارَ مِنْ جُرْجَانَ إِلَى الدَّامِغَانِ، فَحَارَبَهُ أَهْلُهَا، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَعَادَ إِلَى جُرْجَانَ، فَابْتَنَى أَهْلُ الدَّامِغَانِ حِصْنًا يَحْمِيهِمْ، وَسَارَ قُرَاتِكِينُ إِلَيْهِ بِجُرْجَانَ، فَحَارَبَهُ عَلَى نَحْوِ عَشَرَةِ فَرَاسِخَ مِنْ جُرْجَانَ، فَانْهَزَمَ قُرَاتِكِينُ، وَاسْتَأْمَنَ غُلَامُهُ بَارِسُ إِلَى لَيْلَى وَمَعَهُ أَلْفُ فَارِسٍ، فَأَكْرَمَهُ لَيْلَى، وَزَوَّجَهُ أُخْتَهُ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حَفْصٍ ابْنُ أُخْتِ أَحْمَدَ بْنِ سَهْلٍ، فَأَكْرَمَهُ لَيْلَى. ثُمَّ إِنَّ الْأَجْنَادَ كَثُرُوا عَلَى لَيْلَى بْنِ النُّعْمَانَ، فَضَاقَتِ الْأَمْوَالُ عَلَيْهِ، فَسَارَ نَحْوَ نَيْسَابُورَ بِأَمْرِ الْحَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ الدَّاعِي، وَتَحْرِيضِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ حَفْصٍ وَكَانَ بِهَا قُرَاتِكِينُ، فَوَرَدَهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَقَامَ بِهَا الْخُطْبَةَ لِلدَّاعِي، وَأَنْفَذَ السَّعِيدُ نَصْرٌ مِنْ بُخَارَى إِلَيْهِ حَمُّوَيْهِ بْنَ عَلِيٍّ، فَالْتَقَوْا بِطُوسَ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ حَمُّوَيْهِ بْنِ عَلِيٍّ حَتَّى بَلَغُوا مَرْوَ، وَثَبَتَ حَمُّوَيْهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْغَمِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ صُعْلُوكٌ، وَخَوَارِزْمُ شَاهٍ وَسِيمَجُورُ الدَّوَاتِيُّ، (فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ بَعْضُ أَصْحَابِ

لَيْلَى، وَمَضَى لَيْلَى مُنْهَزِمًا) ، فَدَخَلَ (لَيْلَى سِكَّةً) لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا مَخْرَجٌ، وَلَحِقَهُ بُغْرَا فِيهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ لَيْلَى عَلَى الْهَرَبِ، فَنَزَلَ وَتَوَارَى فِي دَارٍ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ بُغْرَا، وَأَنْفَذَ إِلَى حَمُّوَيْهِ فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ، فَأَنْفَذَ مَنْ قَطَعَ رَأْسَ لَيْلَى، وَنَصَبَهُ عَلَى رُمْحٍ، فَلَمَّا رَآهُ أَصْحَابُهُ طَلَبُوا الْأَمَانَ فَأُمِّنُوا. ثُمَّ قَالَ حَمُّوَيْهِ لِلْجُنْدِ: قَدْ مَكَّنَكُمُ اللَّهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِيلِ وَالدَّيْلَمِ، فَأَبِيدُوهُمْ وَاسْتَرِيحُوا مِنْهُمْ أَبَدَ الدَّهْرِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَحَامَى كُلُّ قَائِدٍ جَمَاعَةً فَخَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ قَتْلُ لَيْلَى فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَحُمِلَ رَأَسُهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَبَقِيَ بَارِسُ غُلَامُ قُرَاتِكِينَ بِجُرْجَانَ. وَقِيلَ إِنَّ حَمُّوَيْهِ لَمَّا سَارَ إِلَى قِتَالِ لَيْلَى قِيلَ لَهُ: إِنَّ لَيْلَى يَسْتَبْطِئُكَ فِي قَصْدِهِ، فَقَالَ: إِنِّي أَلْبَسُ أَحَدَ خُفَّيَّ لِلْحَرْبِ الْعَامَ، وَالْآخَرَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَبَلَغَ قَوْلُهُ لَيْلَى، فَقَالَ: لَكِنِّي أَلْبَسُ أَحَدَ خُفَّيَّ لِلْحَرْبِ قَاعِدًا، وَالثَّانِيَ قَائِمًا وَرَاكِبًا فَلَمَّا قُتِلَ قَالَ حَمُّوَيْهِ: هَكَذَا مَنْ تَعَجَّلَ إِلَى الْحَرْبِ. ذِكْرُ قَتَلِ الْحُسَيْنِ الْحَلَّاجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجُ الصُّوفِيُّ وَأُحْرِقَ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ حَالِهِ أَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ الزُّهْدَ وَالتَّصَوُّفَ، وَيُظْهِرُ الْكَرَامَاتِ، وَيُخْرِجُ لِلنَّاسِ فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي

الصَّيْفِ وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَيَمُدُّ يَدَهُ إِلَى الْهَوَاءِ فَيُعِيدُهَا مَمْلُوءَةً دَرَاهِمَ عَلَيْهَا مَكْتُوبٌ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَيُسَمِّيهَا دَرَاهِمَ الْقُدْرَةِ وَيُخْبِرُ النَّاسَ بِمَا أَكَلُوهُ، وَمَا صَنَعُوهُ فِي بُيُوتِهِمْ، وَيَتَكَلَّمُ بِمَا فِي ضَمَائِرِهِمْ فَافْتُتِنَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَاعْتَقَدُوا فِي الْحُلُولِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِيهِ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَمِنْ قَائِلٍ إِنَّهُ حَلَّ فِيهِ جُزْءٌ إِلَهِيٌّ، وَيَدَّعِي فِيهِ الرُّبُوبِيَّةَ، وَمِنْ قَائِلٍ إِنَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُ مِنْ جُمْلَةِ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ وَمِنْ قَائِلٍ إِنَّهُ مُشَعْبِذٌ، وَمُمَخْرِقٌ، وَسَاحِرٌ كَذَّابٌ، وَمُتَكَهِّنٌ، وَالْجِنُّ تُطِيعُهُ فَتَأْتِيهِ بِالْفَاكِهَةِ فِي غَيْرِ أَوَانِهَا. وَكَانَ قَدِمَ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الْعِرَاقِ وَسَارَ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً فِي الْحِجْرِ لَا يَسْتَظِلُّ تَحْتَ سَقْفٍ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا، وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ، فَإِذَا جَاءَ الْعَشَاءُ أَحْضَرَ لَهُ الْقَوَّامُ كُوزَ مَاءٍ، وَقُرْصًا، فَيَشْرَبُهُ، وَيَعَضُّ مِنَ الْقُرْصِ ثَلَاثَ عَضَّاتٍ (مِنْ جَوَانِبِهِ) ، فَيَأْكُلُهَا وَيَتْرُكُ الْبَاقِيَ فَيَأْخُذُونَهُ، وَلَا يَأْكُلُ شَيْئًا آخَرَ إِلَى الْغَدِ آخِرَ النَّهَارِ. وَكَانَ شَيْخَ الصُّوفِيَّةِ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَغْرِبِيُّ، فَأَخَذَ أَصْحَابَهُ وَمَشَى إِلَى زِيَارَةِ الْحَلَّاجِ، فَلَمْ يَجِدْهُ فِي الْحِجْرِ، وَقِيلَ لَهُ: قَدْ صَعِدَ إِلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيِسٍ، فَصَعِدَ إِلَيْهِ، فَرَآهُ عَلَى صَخْرَةٍ حَافِيًا، مَكْشُوفَ الرَّأْسِ، وَالْعَرَقُ يَجْرِي مِنْهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ أَصْحَابَهُ وَعَادَ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ، فَقَالَ: هَذَا يَتَصَبَّرُ وَيَتَقَوَّى عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ، سَوْفَ يَبْتَلِيهُ اللَّهُ بِمَا يَعْجَزُ عَنْهُ (صَبْرُهُ وَقُدْرَتُهُ وَعَادَ الْحُسَيْنُ إِلَى بَغْدَاذَ. وَأَمَّا سَبَبُ قَتْلِهِ فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ) عِنْدَ عَوْدِهِ إِلَى بَغْدَاذَ إِلَى الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَنَّهُ أَحْيَا جَمَاعَةً، وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَأَنَّ الْجِنَّ يَخْدِمُونَهُ، وَأَنَّهُمْ يُحْضِرُونَ عِنْدَهُ

مَا يَشْتَهِي، وَأَنَّهُ قَدَّمُوهُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ حَوَاشِي الْخَلِيفَةِ، وَأَنَّ نَصْرًا الْحَاجِبَ قَدْ مَالَ إِلَيْهِ وَغَيْرَهُ، فَالْتَمَسَ حَامِدٌ الْوَزِيرُ مِنَ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ الْحَلَّاجَ وَأَصْحَابَهُ، فَدَفَعَ عَنْهُ نَصْرٌ الْحَاجِبُ، فَأَلَحَّ الْوَزِيرُ، فَأَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ، فَأَخَذَهُ، وَأُخِذَ مَعَهُ إِنْسَانٌ يُعْرَفُ بِالشِّمْرِيِّ، وَغَيْرِهِ، قِيلَ إِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ فَقَرَّرَهُمْ، فَاعْتَرَفُوا أَنَّهُمْ قَدْ صَحَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِلَهٌ، وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَقَابَلُوا الْحَلَّاجَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ، (أَوِ النُّبُوَّةَ) ، وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ أَعْبُدُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ! فَأَحْضَرَ حَامِدٌ الْقَاضِيَ أَبَا عَمْرٍو وَالْقَاضِيَ أَبَا جَعْفَرِ بْنَ الْبُهْلُولِ، وَجَمَاعَةً مِنْ وُجُوهِ الْفُقَهَاءِ وَالشُّهُودِ، فَاسْتَفْتَاهُمْ، فَقَالُوا: لَا يُفْتَى فِي أَمْرِهِ بِشَيْءٍ إِلَّا أَنْ يَصِحَّ عِنْدَنَا مَا يُوجِبُ قَتْلَهُ، وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ قَوْلِ مَنْ يَدَّعِي عَلَيْهِ مَا ادَّعَاهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ. وَكَانَ حَامِدٌ يُخْرِجُ الْحَلَّاجَ إِلَى مَجْلِسِهِ، وَيَسْتَنْطِقُهُ، فَلَا يَظْهَرُ مِنْهُ مَا تَكْرَهُهُ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ. وَطَالَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ وَحَامِدٌ الْوَزِيرُ مُجِدٌّ فِي أَمْرِهِ، وَجَرَى لَهُ مَعَهُ قِصَصٌ يَطُولُ شَرْحُهَا وَفِي آخِرِهَا أَنَّ الْوَزِيرَ رَأَى كِتَابًا حَكَى فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ الْحَجَّ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ، أَفْرَدَ مِنْ دَارِهِ بَيْتًا لَا يَلْحَقُهُ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَلَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ، فَإِذَا حَضَرَتْ أَيَّامُ الْحَجِّ طَافَ حَوْلَهُ، وَفَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ بِمَكَّةَ ثُمَّ يَجْمَعُ ثَلَاثِينَ يَتِيمًا، وَيَعْمَلُ أَجْوَدَ طَعَامٍ يُمْكِنُهُ، وَيُطْعِمُهُمْ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ، وَيَخْدِمُهُمْ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا فَرَغُوا كَسَاهُمْ، وَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ فَإِذَا، (فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ كَمَنْ حَجَّ) .

فَلَمَّا قُرِئَ هَذَا عَلَى الْوَزِيرِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو عَمْرٍو لِلْحَلَّاجِ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ كِتَابِ " الْإِخْلَاصِ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ "، قَالَ لَهُ الْقَاضِي: كَذَبْتَ يَا حَلَالَ الدَّمِ! (قَدْ سَمِعْنَاهُ بِمَكَّةَ وَلَيْسَ فِيهِ هَذَا، فَلَمَّا قَالَ لَهُ: يَا حَلَالَ الدَّمِ) ، وَسَمِعَهَا الْوَزِيرُ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ بِهَذَا، فَدَافَعَهُ أَبُو عَمْرٍو، فَأَلْزَمَهُ حَامِدٌ، فَكَتَبَ بِإِبَاحَةِ دَمِهِ، وَكَتَبَ بَعْدَهُ مَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ. وَلَمَّا سَمِعَ الْحَلَّاجُ ذَلِكَ قَالَ: مَا يَحِلُّ لَكُمْ دَمِي وَاعْتِقَادِي الْإِسْلَامُ وَمَذْهَبِي السُّنَّةُ، وَلِي كُتُبٌ مَوْجُودَةٌ، فَاللَّهَ اللَّهَ فِي دَمِي! (وَتَفَرَّقَ النَّاسُ) وَكَتَبَ الْوَزِيرُ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْتَأْذِنُ فِي قَتْلِهِ وَأَرْسَلَ الْفَتَاوَى إِلَيْهِ، فَأَذِنَ فِي قَتْلِهِ، فَسَلَّمَهُ الْوَزِيرُ إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ، فَضَرَبَهُ أَلْفَ سَوْطٍ فَمَا تَأَوَّهَ ثُمَّ قَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ رِجْلَهُ، ثُمَّ يَدَهُ، ثُمَّ رِجْلَهُ، ثُمَّ قُتِلَ وَأُحْرِقَ بِالنَّارِ فَلَمَّا صَارَ رَمَادًا أُلْقِيَ فِي دِجْلَةَ، وَنُصِبَ الرَّأْسُ بِبَغْدَاذَ، وَأُرْسِلَ إِلَى خُرَاسَانَ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ بِهَا أَصْحَابٌ، فَأَقْبَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ، وَإِنَّمَا أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى دَابَّةٍ، وَإِنَّهُ يَجِيءُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَقِيتُهُ عَلَى حِمَارٍ بِطَرِيقِ النَّهْرَوَانِ، وَإِنَّهُ قَالَ لَهُمْ: لَا تَكُونُوا مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْبَقَرِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنِّي ضُرِبْتُ وَقُتِلْتُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقَعَ حَرِيقٌ كَبِيرٌ فِي الْكَرْخِ، فَاحْتَرَقَ فِيهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الْمُقْتَدِرُ عَلَى حَرْبِ الْمَوْصِلِ وَمَعُونَتِهَا مُحَمَّدَ بْنَ نَصْرٍ الْحَاجِبَ فِي

جُمَادَى الْأُولَى، وَسَارَ إِلَيْهَا فِيهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا أَوْقَعَ بِمَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْأَكْرَادِ الْمَارَانِيَّةِ، فَقَتَلَ، وَأَسَرَ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَغْدَاذَ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ أَسِيرًا، فَشُهِرُوا. وَفِيهَا قُلِّدَ دَاوُدُ بْنُ حَمْدَانَ دِيَارَ رَبِيعَةَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَطَاءٍ الْآدَمِيُّ الصُّوفِيُّ مِنْ كِبَارِ مَشَايِخِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، وَأَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَارُونَ الْحَرَّانِيُّ الطَّبِيبُ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدُونَ النَّدِيمُ.

ثم دخلت سنة عشر وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 310 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ حَرْبِ سِيمَجُورَ مَعَ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْعَلَوِيِّ قَدْ ذَكَرْنَا قَتْلَ لَيْلَى بْنِ النُّعْمَانِ، وَأَنَّ جُرْجَانَ تَخَلَّفَ بِهَا بَارِسُ غُلَامُ قُرَاتِكِينَ، فَلَمَّا قُتِلَ لَيْلَى بْنُ النُّعْمَانِ عَادَ قُرَاتِكِينُ إِلَى جُرْجَانَ، فَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ غُلَامُهُ بَارِسُ، فَقَتَلَهُ قُرَاتِكِينُ، وَانْصَرَفَ عَنْ جُرْجَانَ، وَقَدِمَهَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْأُطْرُوشُ الْعَلَوِيُّ، الْمُلَقَّبُ وَالِدُهُ بِالنَّاصِرِ، وَأَقَامَ بِهَا فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ السَّعِيدُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ سِيمَجُورَ الدَّوَاتِيَّ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَنَزَلَ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ جُرْجَانَ، وَحَاصَرَ أَبَا الْحُسَيْنِ نَحْوَ شَهْرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافِ رَجُلٍ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَالْجُرْجَانِيَّةِ، وَصَاحِبُ جَيْشِهِ سُرْخَابُ بْنُ وَهْسُوذَانَ ابْنِ عَمِّ مَاكَانَ بْنِ كَالِي الدَّيْلَمِيِّ، فَتَحَارَبَا حَرْبًا عَظِيمَةً، وَكَانَ سِيمَجُورُ قَدْ جَعَلَ كَمِينًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَبُطَؤُوا عَنْهُ فَانْهَزَمَ سِيمَجُورُ، وَوَقَعَ أَصْحَابُ أَبِي الْحُسَيْنِ فِي عَسْكَرِ سِيمَجُورَ، وَاشْتَغَلُوا بِالنَّهْبِ وَالْغَارَةِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الْكَمِينُ بَعْدَ الظَّفَرِ، فَقَتَلُوا مِنَ الدَّيْلَمِ وَالْجُرْجَانِيَّةِ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَانْهَزَمَ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى أَسْتِرَابَاذَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ فَلُّ أَصْحَابِهِ. وَكَانَ سُرْخَابُ قَدْ تَبِعَ سِيمَجُورَ فِي هَزِيمَتِهِ، فَلَمَّا عَادَ رَأَى أَصْحَابَهُ مُقَتَّلِينَ مُشَرَّدِينَ

فَسَارَ إِلَى أَسْتِرَابَاذَ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ عِيَالَ أَصْحَابِهِ وَمُخَلَّفِيهِمْ، وَأَقَامَ بِهَا مَعَ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ النَّاصِرِ، ثُمَّ سَمِعَ سِيمَجُورُ بِظَفَرِ أَصْحَابِهِ، فَعَادَ إِلَيْهِمْ، وَأَقَامَ بِجُرْجَانَ، ثُمَّ اعْتَلَّ سُرْخَابُ وَمَاتَ، وَرَجَعَ ابْنُ النَّاصِرِ إِلَى سَارِيَةَ وَاسْتَخْلَفَ مَاكَانَ بْنَ كَالِي عَلَى أَسْتِرَابَاذَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الدَّيْلَمُ، وَقَدَّمُوهُ وَأَمَّرُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. ثُمَّ سَارَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَلْغَمِيُّ وَسِيمَجُورُ إِلَى بَابِ أَسْتِرَابَاذَ، وَحَارَبُوا مَاكَانَ بْنَ كَالِي، فَلَمَّا طَالَ مُقَامُهُمُ اتَّفَقُوا مَعَهُ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ عَنِ أَسْتِرَابَاذَ إِلَى سَارِيَةَ، وَبَذَلُوا لَهُ عَلَى هَذَا مَالًا لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ قَدِ افْتَتَحُوهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ عَنْهَا وَيَعُودُ إِلَيْهَا، فَفَعَلَ وَسَارَ إِلَى سَارِيَةَ، ثُمَّ رَحَلُوا عَنْ أَسْتِرَابَاذَ، فَلَمَّا سَارُوا عَنْهَا عَادَ إِلَيْهَا مَاكَانُ بْنُ كَالِي، فَفَارَقَهَا بُغْرَا، (إِلَى جُرْجَانَ، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا، وَخَرَجَ إِلَيْهِ مَاكَانُ، فَرَجَعَ بُغْرَا) إِلَى نَيْسَابُورَ، وَأَقَامَ مَاكَانُ بِجُرْجَانَ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ ابْتِدَاءً حَالَ مَاكَانَ، وَنَنْقُلُهَا عِنْدَ قَتْلِهِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ خُرُوجِ إِلْيَاسَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدٍ السَّامَانِيِّ ثُمَّ خَرَجَ إِلْيَاسُ (بْنُ إِسْحَاقَ) بْنِ أَحْمَدَ، الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ أَبِيهِ وَانْهَزَمَ إِلَى فَرْغَانَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ فَرْغَانَةَ أَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ خَرَجَ ثَانِيًا، وَاسْتَعَانَ عِنْدَ خُرُوجِهِ بِمُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَتٍّ، وَجَمَعَ مِنَ التُّرْكِ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ عَنَانٍ، فَقَصَدَ سَمَرْقَنْدَ مُشَاقًّا لِلسَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ نَصْرٌ أَبَا عَمْرٍو، وَمُحَمَّدَ بْنَ أَسَدٍ وَغَيْرَهُ فِي أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ، فَكَمَنُوا خَارِجَ سَمَرْقَنْدَ يَوْمَ وُرُودِ إِلْيَاسَ فَلَمَّا وَرَدَهَا، وَاشْتَغَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ بِالنُّزُولِ، خَرَجَ الْكَمِينُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِ الشَّجَرِ، وَوَضَعُوا السُّيُوفَ فِيهِمْ، فَانْهَزَمَ إِلْيَاسُ وَأَصْحَابُهُ، فَوَصَلَ إِلْيَاسُ إِلَى فَرْغَانَةَ، وَوَصَلَ ابْنُ مَتٍّ إِلَى أَسْبِيجَابَ، وَمِنْهَا إِلَى نَاحِيَةِ طِرَازَ، فَكُوتِبَ دِهْقَانُ النَّاحِيَةِ الَّتِي نَزَلَهَا، وَأُطْمِعَ، وَقَبَضَ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ، وَأَنْفَذَ رَأْسَهُ إِلَى بُخَارَى. وَكَانَ ابْنُ مَتٍّ شُجَاعًا، وَكَانَ قَدْ سَخَّرَ جِمَالًا عِنْدَ خُرُوجِهِ، فَجَاءَ أَصْحَابُهُ

يَطْلُبُونَهَا مِنْهُ، فَقَالَ: سَأَرَدُّهَا عَلَيْكُمْ بِبَغْدَاذَ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنْ بَغْدَاذَ، ثِقَةً بِكَثْرَةِ جَمْعِهِ وَقُوَّتِهِ، فَجَاءَتِ الْأَقْدَارُ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحِسَابِ. ثُمَّ عَادَ إِلْيَاسُ فَخَرَجَ مَرَّةً ثَالِثَةً، وَأَعَانَهُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ أَبِي يُوسُفَ، صَاحِبُ الشَّاشِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ مُحَمَّدَ بْنَ أَلْيَسَعَ، فَحَارَبَهُمْ، فَانْهَزَمَ إِلْيَاسُ إِلَى كَاشْغَرَ وَأُسِرَ أَبُو الْفَضْلِ، وَحُمِلَ إِلَى بُخَارَى فَمَاتَ بِهَا. وَأَمَّا إِلْيَاسُ فَصَاهَرَ دِهْقَانُ كَاشْغَرَ طُغَانْتِكِينَ، وَاسْتَقَرَّ بِهَا، ثُمَّ وَلِيَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ فَرْغَانَةَ، فَرَجَعَ إِلَيْهَا ابْنُ إِسْحَاقَ مُعَانِدًا، فَحَارَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ، فَهَزَمَهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَعَادَ إِلَى كَاشْغَرَ، فَكَاتَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ، وَاسْتَمَالَهُ، وَلَطَفَ بِهِ، فَأَمِنَ إِلْيَاسُ إِلَيْهِ، وَحَضَرَ إِلَى بُخَارَى، فَأَكْرَمَهُ السَّعِيدُ، وَصَاهَرَهُ، وَأَقَامَ مَعَهُ. ذِكْرُ وَفَاةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، صَاحِبُ التَّارِيخِ، بِبَغْدَاذَ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَدُفِنَ لَيْلًا بِدَارِهِ، لِأَنَّ الْعَامَّةَ اجْتَمَعَتْ، وَمَنَعَتْ مِنْ دَفْنِهِ نَهَارًا، وَادَّعَوْا عَلَيْهِ الرَّفْضَ، ثُمَّ ادَّعَوْا عَلَيْهِ الْإِلْحَادَ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ سُئِلَ هَؤُلَاءِ عَنْ مَعْنَى الرَّفْضِ وَالْإِلْحَادِ مَا عَرَفُوهُ، وَلَا فَهِمُوهُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ مِسْكَوَيْهِ صَاحِبُ " تَجَارِبِ الْأُمَمِ "، وَحُوشِيَ ذَلِكَ الْإِمَامُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عَنْ تَعَصُّبِ الْعَامَّةِ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ تَعَصَّبُوا عَلَيْهِ، وَوَقَعُوا فِيهِ، فَتَبِعَهُمْ غَيْرُهُمْ، وَلِذَلِكَ سَبَبٌ، (وَهُوَ أَنَّ الطَّبَرِيَّ جَمَعَ كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ، لَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ،

فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا، وَإِنَّمَا كَانَ مُحَدِّثًا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْحَنَابِلَةِ، وَكَانُوا لَا يُحْصُونَ كَثْرَةً بِبَغْدَاذَ، فَشَغِبُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا مَا أَرَادُوا) : حَسَدُوا الْفَتَى إِذْ لَمْ يَنَالُوا سَعْيَهُ ... فَالنَّاسُ أَعْدَاءٌ لَهُ وَخُصُومُ كَضَرَائِرِ الْحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا ... حَسَدًا وَبَغْيًا إِنَّهُ لِدَمِيمُ وَقَدْ ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي أَبِي جَعْفَرٍ يُعْلَمُ [مِنْهُ] مَحَلُّهُ فِي الْعِلْمِ، وَالثِّقَةِ، وَحُسْنِ الِاعْتِقَادِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَنْ رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْهُ، وَمَنْ رَوَى عَنِ الطَّبَرِيِّ، فَقَالَ: " وَكَانَ أَحَدَ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ يُحْكَمُ بِقَوْلِهِ، وَيُرْجَعُ إِلَى رَأْيِهِ لِمَعْرِفَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ مِنَ الْعُلُومِ مَا لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَكَانَ حَافِظًا لِكِتَابِ اللَّهِ، عَارِفًا بِالْقِرَاءَاتِ، بَصِيرًا بِالْمَعَانِي، فَقِيهًا فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، عَالِمًا بِالسُّنَنِ وَطُرُقِهَا، صَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا، نَاسِخِهَا وَمَنْسُوخِهَا، عَارِفًا بِأَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الْأَحْكَامِ، وَمَسَائِلِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، خَبِيرًا بِأَيَّامِ النَّاسِ وَأَخْبَارِهِمْ، وَلَهُ الْكِتَابُ الْمَشْهُورُ فِي تَارِيخِ الْأُمَمِ وَالْمُلُوكِ، وَالْكِتَابُ الَّذِي فِي التَّفْسِيرِ لَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُهُ، وَلَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ، وَأَخْبَارٌ مِنْ أَقَاوِيلِ الْفُقَهَاءِ، وَتَفَرَّدَ بِمَسَائِلَ حُفِظَتْ عَنْهُ ". وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ: أَوَّلُ مَا سَأَلَنِي الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ خُزَيْمَةَ قَالَ لِي: كَتَبْتَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ؟ قُلْتُ: لَا! قَالَ: لِمَ؟ قُلْتُ: لَا يَظْهَرُ، وَكَانَتِ الْحَنَابِلَةُ تَمْنَعُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ.

فَقَالَ بِئْسَ مَا فَعَلْتَ! لَيْتَكَ لَمْ تَكْتُبْ عَنْ كُلِّ مَنْ كَتَبْتَ عَنْهُ، وَسَمِعْتَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ. وَقَالَ حُسَيْنُكَ، وَاسْمُهُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ حِينَ طَالَعَ كِتَابَ التَّفْسِيرِ لِلطَّبَرِيِّ: مَا أَعْلَمُ عَلَى أَدِيمِ الْأَرْضِ أَعْلَمَ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَلَقَدْ ظَلَمَتْهُ الْحَنَابِلَةُ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْفَرْغَانِيُّ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَصَانِيفَهُ: وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ مِمَّنْ لَا يَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يَعْدِلُ، فِي عِلْمِهِ وَتِبْيَانِهِ، عَنْ حَقٍّ يَلْزَمُهُ لِرَبِّهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، إِلَى بَاطِلٍ لِرَغْبَةٍ وَلَا رَهْبَةٍ، مَعَ عَظِيمِ مَا كَانَ يَلْحَقُهُ مِنَ الْأَذَى وَالشَّنَاعَاتِ مِنْ جَاهِلٍ، وَحَاسِدٍ، وَمُلْحِدٍ. وَأَمَّا أَهْلُ الدِّينِ وَالْوَرَعِ فَغَيْرُ مُنْكِرِينَ عِلْمَهُ، وَفَضْلَهُ، وَزُهْدَهُ، وَتَرْكَهُ الدُّنْيَا مَعَ إِقْبَالِهَا عَلَيْهِ، وَقَنَاعَتِهِ بِمَا كَانَ يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ قَرْيَةٍ خَلَّفَهَا لَهُ أَبُوهُ بِطَبَرِسْتَانَ يَسِيرَةٍ، وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ لَا يُحْتَمَلُ هَاهُنَا أَكْثَرُ مِنْ هَذَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا أَطْلَقَ الْمُقْتَدِرُ يُوسُفَ بْنَ أَبِي السَّاجِ مِنَ الْحَبْسِ بِشَفَاعَةِ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ وَحُمِلَ إِلَيْهِ، وَدَخَلَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَقَدَ لَهُ عَلَى الرَّيِّ، وَقَزْوِينَ، وَأَبْهَرَ، وَزَنْجَانَ، وَأَذْرَبِيجَانَ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِ خَمْسَمِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ مَحْمُولَةً كُلَّ سَنَةٍ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ سِوَى أَرْزَاقِ الْعَسَاكِرِ الَّذِينَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ وَخَلَعَ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى وَصِيفٍ الْبُكْتُمْرِيِّ، وَعَلَى طَاهِرٍ وَيَعْقُوبَ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ اللَّيْثِ.

وَتَجَهَّزَ يُوسُفُ، وَضَمَّ إِلَيْهِ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ الْعَسَاكِرَ مَعَ وَصِيفٍ الْبُكْتُمْرِيِّ وَسَارَ عَنْ بَغْدَاذَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَأَمَرَ أَنْ يَجْعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى الْمَوْصِلِ، وَيَنْظُرَ فِي أُمُورِ دِيَارِ رَبِيعَةَ، فَقَدِمَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَنَظَرَ فِي الْأَعْمَالِ، وَسَارَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، فَرَأَى غُلَامَهُ سُبُكًا قَدْ مَاتَ. وَفِيهَا قُلِّدَ نَازُوكُ الشُّرْطَةَ بِبَغْدَاذَ. وَفِيهَا وَصَلَتْ هَدِيَّةٌ إِلَى أَبِي زُقْبُورٍ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَادِرَانِيِّ مِنْ مِصْرَ وَفِيهَا بَغْلَةٌ، وَمَعَهَا فِلْوٌ يَتْبَعُهَا، وَيَرْضَعُ مِنْهَا، وَغُلَامٌ طَوِيلُ اللِّسَانِ، يَلْحَقُ لِسَانُهُ أَرْنَبَةَ أَنْفِهِ. وَفِيهَا قَبَضَ الْمُقْتَدِرُ عَلَى أُمِّ مُوسَى الْقَهْرَمَانَةِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهَا زَوَّجَتِ ابْنَةَ أُخْتِهَا مِنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ، وَكَانَ مُحْسِنًا، لَهُ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَمُرُوءَةٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ يُرَشَّحُ لِلْخِلَافَةِ، فَلَمَّا صَاهَرَتْهُ أَكْثَرَتْ مِنَ النِّثَارِ وَالدَّعَوَاتِ، وَخَسِرَتْ أَمْوَالًا جَلِيلَةً، فَتَكَلَّمَ أَعْدَاؤُهَا، وَسَعَوْا بِهَا إِلَى الْمُقْتَدِرِ، وَقَالُوا إِنَّهَا قَدْ سَعَتْ لِأَبِي الْعَبَّاسِ فِي الْخِلَافَةِ، وَحَلَّفَتْ لَهُ الْقُوَّادَ، (وَكَثُرَ الْقَوْلُ عَلَيْهَا) ، فَقَبَضَ عَلَيْهَا، وَأَخَذَ مِنْهَا أَمْوَالًا عَظِيمَةً وَجَوَاهِرَ نَفِيسَةً. (وَفِيهَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَغَنِمُوا وَسَلِمُوا) .

وَفِيهَا كَانَ بِالْمَوْصِلِ شَغَبٌ مِنَ الْعَامَّةِ، وَقَتَلُوا خَلِيفَةَ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْحَاجِبِ بِهَا، فَتَجَهَّزُ الْعَسْكَرُ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى الْمَوْصِلِ. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ لَهُ ذَنَبٌ فِي الْمَشْرِقِ فِي بُرْجِ السُّنْبُلَةِ، طُولُهُ نَحْوُ ذِرَاعَيْنِ. وَفِيهَا سَارَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْحَاجِبُ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَى الْغَزَاةِ (عَلَى قَالِيقِلَا) ، فَغَزَا الرُّومَ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَدَخَلَ أَهْلُ طَرَسُوسَ مَلَطْيَةَ، فَظَفِرُوا، وَبَلَغُوا مِنْ بِلَادِ الرُّومِ وَالظَّفَرِ بِهِمْ مَا لَمْ يَظُنُّوهُ وَعَادُوا. [الْوَفَيَاتُ] . (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْيَزِيدِيُّ الْأَدِيبُ، أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ ثَعْلَبٍ وَالرِّيَاشِيِّ) .

ثم دخلت سنة إحدى عشرة وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 311 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ عَزْلِ حَامِدٍ وَوِلَايَةِ ابْنِ الْفُرَاتِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، عَزَلَ الْمُقْتَدِرُ حَامِدَ بْنَ الْعَبَّاسِ عَنِ الْوِزَارَةِ، وَعَلِيَّ بْنَ عِيسَى عَنِ الدَّوَاوِينِ، وَخَلَعَ عَلَى أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَأُعِيدَ إِلَى الْوِزَارَةِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُقْتَدِرَ ضَجِرَ مِنَ اسْتِغَاثَةِ الْأَوْلَادِ، وَالْحُرَمِ، وَالْخَدَمِ وَالْحَاشِيَةِ مِنْ تَأْخِيرِ أَرْزَاقِهِمْ، فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى كَانَ يُؤَخِّرُهَا فَإِذَا اجْتَمَعَ عِدَّةُ شُهُورٍ أَعْطَاهُمُ الْبَعْضَ، وَأَسْقَطَ الْبَعْضَ، وَحَطَّ مِنْ أَرْزَاقِ الْعُمَّالِ فِي كُلِّ سَنَةٍ شَهْرَيْنِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَهُ رِزْقٌ، فَزَادَتْ عَدَاوَةُ النَّاسِ لَهُ. وَكَانَ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ قَدْ ضَجِرَ مِنَ الْمُقَامِ بِبَغْدَاذَ وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ غَيْرَ لُبْسِ السَّوَادِ، وَأَنِفَ مِنَ اطِّرَاحِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بِجَانِبِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُهِينُهُ فِي تَوْقِيعَاتِهِ بِالْإِطْلَاقِ عَلَيْهِ لِضَمَانِهِ بَعْضَ الْأَعْمَالِ، وَكَانَ يَكْتُبُ: لِيُطْلِقْ جِهْبَذٌ الْوَزِيرُ أَعَزَّهُ اللَّهُ، وَلْيُبَادِرْ نَائِبُ الْوَزِيرِ.

وَكَانَ إِذَا شَكَا إِلَيْهِ بَعْضُ نُوَّابِ حَامِدٍ يَكْتُبُ عَلَى الْقِصَّةِ: إِنَّمَا عُقِدَ الضَّمَانُ عَلَى النَّائِبِ الْوَزِيرِيِّ، عَنِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ السُّلْطَانِيَّةِ، فَلْيَتَقَدَّمْ إِلَى عُمَّالِهِ بِكَفِّ الظُّلْمِ عَنِ الرَّعِيَّةِ، فَاسْتَأْذَنَ حَامِدٌ، وَسَارَ إِلَى وَاسِطَ لِيَنْظُرَ فِي ضَمَانِهِ، فَأَذِنَ لَهُ، وَجَرَى بَيْنَ مُفْلِحٍ الْأَسْوَدِ وَبَيْنَ حَامِدٍ كَلَامٌ، قَالَ لَهُ حَامِدٌ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَشْتِرِيَ مِائَةَ خَادِمٍ أَسْوَدَ، وَأُسَمِّيهِمْ مُفْلِحًا، وَأَهَبُهُمْ لِغِلْمَانِي، فَحَقَدَهُ مُفْلِحٌ، وَكَانَ خِصِّيصًا بِالْمُقْتَدِرِ، فَسَعَى مَعَهُ الْمُحَسِّنُ بْنُ الْفُرَاتِ لِوَالِدِهِ بِالْوِزَارَةِ، وَضَمِنَ أَمْوَالًا جَلِيلَةً وَكَتَبَ عَلَى يَدِهِ رُقْعَةً يَقُولُ: إِنْ يُسَلَّمِ الْوَزِيرُ، وَعَلِيُّ بْنَ عِيسَى، وَابْنُ الْحَوَارِيِّ، وَشَفِيعٌ اللُّؤْلُؤِيُّ، وَنَصْرٌ الْحَاجِبُ، وَأُمُّ مُوسَى الْقَهْرَمَانَةُ، وَالْمَادِرَانِيُّونَ يُسْتَخْرَجْ مِنْهُمْ سَبْعَةُ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَ الْمُحَسِّنُ مُطْلَقًا، وَكَانَ يُوَاصِلُ السِّعَايَةَ بِهَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْفُرَاتِ لِلْمُقْتَدِرِ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ ابْنُ الْحَوَارِيِّ كُلَّ سَنَةٍ مِنَ الْمَالِ، فَاسْتَكْثَرَهُ فَقُبِضَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ عِيسَى فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَسُلِّمَ إِلَى زَيْدَانَ الْقَهْرَمَانَةِ، فَحَبَسَتْهُ فِي الْحُجْرَةِ الَّتِي كَانَ ابْنُ الْفُرَاتِ مَحْبُوسًا فِيهَا، وَأُطْلِقَ ابْنُ الْفُرَاتِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ، وَتَوَلَّى الْوِزَارَةَ، وَخُلِعَ عَلَى ابْنِهِ الْمُحَسِّنِ، وَهَذِهِ الْوِزَارَةُ الثَّالِثَةُ لِابْنِ الْفُرَاتِ. وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ قَدْ سَعَى بِابْنِ الْفُرَاتِ، وَكَانَ يَتَقَلَّدُ بَعْضَ الْأَعْمَالِ أَيَّامَ حَامِدٍ، فَحَضَرَ عِنْدَ ابْنِ الْفُرَاتِ، وَكَانَ ابْنُ الْفُرَاتِ هُوَ الَّذِي قَدَّمَ ابْنَ مُقْلَةَ وَرَبَّاهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا قِيلَ عَنْهُ إِنَّهُ سَعَى بِهِ لَمْ يُصَدِّقْ ذَلِكَ، حَتَّى تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ حَامِدًا صَعِدَ مِنْ وَاسِطَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ ابْنُ الْفُرَاتِ مَنْ يَقْبِضُ عَلَيْهِ (فِي الطَّرِيقِ) وَعَلَى أَصْحَابِهِ، فَقُبِضَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَسَمِعَ حَامِدٌ فَهَرَبَ وَاخْتَفَى بِبَغْدَاذَ، ثُمَّ إِنَّ حَامِدًا لَبِسَ زِيَّ رَاهِبٍ، وَخَرَجَ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي اخْتَفَى فِيهِ، وَمَشَى إِلَى نَصْرٍ الْحَاجِبِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ إِيصَالَ حَالِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَاسْتَدْعَى نَصْرٌ مُفْلِحًا الْخَادِمَ، (وَقَالَ: هَذَا يَسْتَأْذِنُ إِلَى الْخَلِيفَةِ، إِذَا كَانَ عِنْدَ حَرَمِهِ) . (فَلَمَّا حَضَرَ مُفْلِحٌ) فَرَأَى حَامِدًا قَالَ: أَهْلًا بِمَوْلَانَا الْوَزِيرِ، أَيْنَ مَمَالِيكُكَ

السُّودَانُ الَّذِينَ سَمَّيْتَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُفْلِحًا؟ فَسَأَلَهُ نَصْرٌ أَنْ لَا يُؤَاخِذَهُ، وَقَالَ لَهُ: حَامِدٌ يَسْأَلُ أَنْ يَكُونَ مَحْبِسُهُ فِي دَارِ الْخَلِيفَةِ، وَلَا يُسَلَّمُ إِلَى ابْنِ الْفُرَاتِ. فَدَخَلَ مُفْلِحٌ، وَقَالَ ضِدَّ مَا قِيلَ لَهُ، فَأَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِتَسْلِيمِهِ إِلَى ابْنِ الْفُرَاتِ فَأُرْسِلَ إِلَيْهِ فَحَبَسَهُ فِي دَارٍ حَسَنَةٍ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْكُسْوَةِ، وَالطِّيبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا كَانَ لَهُ وَهُوَ وَزِيرٌ، ثُمَّ أَحْضَرَهُ وَأَحْضَرَ الْفُقَهَاءَ وَالْعُمَّالَ، وَنَاظَرَهُ عَلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَالِ، وَطَالَبَهُ بِهِ، فَأَقَرَّ بِجِهَاتِ تُقَارِبُ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ وَضَمِنَهُ الْمُحَسِّنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ مِنَ الْمُقْتَدِرِ (بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ) ، فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ، فَعَذَّبَهُ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَأَنْفَذَهُ إِلَى وَاسِطَ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ لِيَبِيعَ مَا لَهُ بِوَاسِطَ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَسْقُوهُ سُمًّا، فَسَقَوْهُ سُمًّا فِي بَيْضٍ مَشْوِيٍّ، وَكَانَ طَلَبَهُ، فَأَصَابَهُ إِسْهَالٌ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى وَاسِطَ أَفْرَطَ الْإِغْيَامُ بِهِ، وَكَانَ قَدْ تَسَلَّمَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَزَوْفَرِيُّ، فَلَمَّا رَأَى حَالَهُ أَحْضَرَ الْقَاضِيَ وَالشُّهُودَ لِيَشْهَدُوا عَلَيْهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ فِي أَمْرِهِ صُنْعٌ فَلَمَّا حَضَرُوا عِنْدَ حَامِدٍ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَصْحَابَ الْمُحَسِّنِ سَقَوْنِي سُمًّا فِي بَيْضٍ مَشْوِيٍّ فَأَنَا أَمُوتُ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِمُحَمَّدٍ فِي أَمْرِي صُنْعٌ، لَكِنَّهُ قَدْ أَخَذَ قِطْعَةً مِنْ أَمْوَالِي وَأَمْتِعَتِي، وَجَعَلَ يَحْشُوهَا فِي الْمَسَاوِرِ، وَتُبَاعُ الْمِسْوَرَةُ فِي السُّوقِ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَمِينِ السُّلْطَانِ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَوَضَعَ عَلَيْهَا مَنْ يَشْتَرِيهَا، وَيَحْمِلُهَا إِلَيْهِ، فَيَكُونُ فِيهَا أَمْتِعَةٌ تُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ. وَكَانَ صَاحِبُ الْخَبَرِ حَاضِرًا، (فَكَتَبَ ذَلِكَ، وَسَيَّرَهُ) ، وَنَدِمَ الْبَزَوْفَرِيُّ عَلَى مَا فَعَلَ، ثُمَّ مَاتَ حَامِدٌ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ صُودِرَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَخَذَهُ الْمُحَسِّنُ بْنُ الْفُرَاتِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ الْمَالَ، فَعَذَّبَهُ وَصَفَعَهُ فَلَمْ يُؤَدِّ إِلَيْهِ شَيْئًا.

وَبَلَغَ الْخَبَرُ الْوَزِيرَ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ الْفُرَاتَ، فَأَنْكَرَ عَلَى ابْنِهِ ذَلِكَ، لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ أَيَّامَ وِلَايَتِهِ، وَكَانَ قَدْ أَعْطَى الْمُحَسِّنَ، وَقْتَ نَكْبَتِهِ، عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأَدَّى عَلِيُّ بْنُ عِيسَى مَالَ الْمُصَادَرَةِ، وَسَيَّرَهُ ابْنُ الْفُرَاتِ إِلَى مَكَّةَ وَكَتَبَ إِلَى أَمِيرِ مَكَّةَ لِيُسَيِّرَهُ إِلَى صَنْعَاءَ، ثُمَّ قَبَضَ ابْنُ الْفُرَاتِ عَلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ، وَقَبَضَ عَلَى ابْنِ الْحَوَارِيِّ، وَكَانَ خِصِّيصًا بِالْمُقْتَدِرِ، وَسَلَّمَهُ إِلَى ابْنِهِ الْمُحَسِّنِ، فَعَذَّبَهُ عَذَابًا شَدِيدًا، وَكَانَ الْمُحَسِّنُ وَقِحًا، سَيِّئَ الْأَدَبِ، ظَالِمًا، ذَا قَسْوَةٍ شَدِيدَةٍ، وَكَانَ النَّاسُ يُسَمُّونَهُ الْخَبِيثَ ابْنَ الطَّيِّبِ، وَسَيَّرَ ابْنَ الْحَوَارِيِّ إِلَى الْأَهْوَازِ لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهُ الْأَمْوَالَ الَّتِي لَهُ، فَضَرَبَهُ الْمُوَكَّلُ بِهِ حَتَّى مَاتَ، وَقَبَضَ أَيْضًا عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَادِرَانِيَّيْنِ، وَكَانَ الْحُسَيْنُ قَدْ تَوَلَّى مِصْرَ وَالشَّامَ، فَصَادَرَهُمَا عَلَى أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ وَسَبْعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ صَادَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْكُتَّابِ وَنَكَبَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْفُرَاتِ خَوَّفَ الْمُقْتَدِرَ مِنْ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يُسَيِّرَهُ عَنِ الْحَضْرَةِ إِلَى الشَّامِ لِيَكُونَ هُنَالِكَ، فَسَمِعَ قَوْلَهُ، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ، وَكَانَ قَدْ عَادَ مِنَ الْغَزَاةِ، فَسَأَلَ أَنْ يُقِيمَ عِدَّةَ أَيَّامٍ بَقِيَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَخَرَجَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْمَطَرِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُؤْنِسًا لَمَّا قَدِمَ ذَكَرَ لِلْمُقْتَدِرِ مَا اعْتَمَدَهُ ابْنُ الْفُرَاتِ مِنْ مُصَادَرَاتِ النَّاسِ، وَمَا يَفْعَلُهُ ابْنُهُ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ وَضَرْبِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، فَخَافَهُ ابْنُ الْفُرَاتِ فَأَبْعَدَهُ عَنِ الْمُقْتَدِرِ، ثُمَّ سَعَى ابْنُ الْفُرَاتِ بِنَصْرٍ الْحَاجِبِ، وَأَطْمَعَ الْمُقْتَدِرَ فِي مَالِهِ وَكَثْرَتِهِ، فَالْتَجَأَ نَصْرٌ إِلَى أُمِّ الْمُقْتَدِرِ، فَمَنَعَتْهُ مِنِ ابْنِ الْفُرَاتِ. ذِكْرُ الْقَرَامِطَةِ وَفِيهَا قَصَدَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْهَجَرِيُّ الْبَصْرَةَ، فَوَصَلَهَا لَيْلًا فِي أَلْفٍ

وَسَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ، وَمَعَهُ السَّلَالِيمُ الشَّعْرُ، فَوَضَعَهَا عَلَى السُّورِ، وَصَعِدَ أَصْحَابُهُ فَفَتَحُوا الْبَابَ، وَقَتَلُوا الْمُوَكَّلِينَ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ. وَكَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ سُبُكٌ الْمُفْلِحِيُّ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ إِلَّا فِي السَّحَرِ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمُ الْقَرَامِطَةُ بَلِ اعْتَقَدَ أَنَّهُمْ عَرَبٌ تَجَمَّعُوا، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ، وَلَقِيَهُمْ، فَقَتَلُوهُ وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَهَرَبَ النَّاسُ إِلَى الْكَلَإِ (وَحَارَبُوا الْقَرَامِطَةَ عَشْرَةَ) أَيَّامٍ، فَظَفِرَ بِهِمُ الْقَرَامِطَةُ، وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا وَطَرَحَ النَّاسُ أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ، فَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ. وَأَقَامَ أَبُو طَاهِرٍ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَحْمِلُ مِنْهَا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ وَالْأَمْتِعَةِ، وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَعَادَ إِلَى بَلَدِهِ، وَاسْتَعْمَلَ الْمُقْتَدِرُ عَلَى الْبَصْرَةِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِقِيَّ، فَانْحَدَرَ إِلَيْهَا وَقَدْ سَارَ الْهَجَرِيُّ عَنْهَا. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ عَلَى الرَّيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى الرَّيِّ فَحَارَبَهُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ أَخُو صُعْلُوكٍ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَقُتِلَ هُوَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَأُنْفِذَ رَأْسُهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ قَدْ فَارَقَ أَخَاهُ صُعْلُوكًا، وَسَارَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ فَأُقْطِعَ الرَّيَّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ عَصَى، وَهَادَنَ مَاكَانَ بْنَ كَالِي وَأَوْلَادَ الْحَسَنِ بْنَ عَلِيٍّ الْأُطْرُوشِ،

وَهُمْ بِطَبَرِسْتَانَ، وَجُرْجَانَ وَفَارَقَ طَاعَةَ الْمُقْتَدِرِ وَعَصَى عَلَيْهِ، وَوَصَلَ رَأْسُهُ إِلَى بَغْدَاذَ. وَكَانَ ابْنُ الْفُرَاتِ يَقَعُ فِي نَصْرٍ الْحَاجِبِ، وَيَقُولُ لِلْمُقْتَدِرِ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ أَحْمَدَ بْنَ عَلِيٍّ بِالْعِصْيَانِ لِمَوَدَّةٍ بَيْنَهُمَا. وَكَانَ قَتْلُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ آخَرَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ أَبِي السَّاجِ عَلَى الرَّيِّ، وَدَخَلَهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ، ثُمَّ سَارَ عَنْهَا فِي أَوَّلِ سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى هَمَذَانَ، وَاسْتَخْلَفَ بِالرَّيِّ مُفْلِحًا، فَأَخْرَجَهُ أَهْلُ الرَّيِّ عَنْهُمْ فَلِحَقَ يُوسُفَ، وَعَادَ يُوسُفُ إِلَى الرَّيِّ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا غَزَا مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ بِلَادَ الرُّومِ، فَغَنِمَ وَفَتَحَ حُصُونًا، وَغَزَا ثَمِلٌ أَيْضًا فِي الْبَحْرِ، فَغَنِمَ مِنَ السَّبْيِ أَلْفَ رَأْسٍ، وَمِنَ الدَّوَابِّ ثَمَانِيَةَ آلَافِ رَأْسٍ، وَمِنَ الْغَنَمِ مِائَتَيْ أَلْفِ رَأْسٍ، وَمِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ شَيْئًا كَثِيرًا. وَفِيهَا ظَهَرَ جَرَادٌ كَثِيرٌ بِالْعِرَاقِ فَأَضَرَّ بِالْغَلَّاتِ وَالشَّجَرِ وَعَظُمَ. وَفِيهَا اسْتُعْمِلَ بُنِّيُّ بْنُ نَفِيسٍ عَلَى حَرْبِ أَصْبَهَانَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ بَدْرٌ الْمُعْتَضِدِيُّ بِفَارِسَ، وَهُوَ أَمِيرُهَا، وَوَلِيَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ مَكَانَهُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْجُرَيْرِيُّ الصُّوفِيُّ، وَهُوَ مِنْ مَشَاهِيرِ مَشَايِخِهِمْ

(الْجُرَيْرِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ) ، وَأَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السِّرِّيجِ الزَّجَّاجُ النَّحْوِيُّ، صَاحِبُ كِتَابِ مَعَانِي الْقُرْآنِ.

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَة] 312 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ حَادِثَةٍ غَرِيبَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ فِي دَارٍ كَانَ يَسْكُنُهَا الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ إِنْسَانٌ أَعْجَمِيٌّ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ فَاخِرَةٌ، وَتَحْتَهَا مِمَّا يَلِي بَدَنَهُ قَمِيصُ صُوفٍ، وَمَعَهُ مِقْدَحَةٌ، وَكِبْرِيتٌ، وَمِحْبَرَةٌ، وَأَقْلَامٌ، وَسِكِّينٌ وَكَاغَدٌ، وَفِي كِيسٍ سَوِيقٌ، وَسُكَّرٌ، وَحَبْلٌ طَوِيلٌ مِنْ قُنَّبٍ، يُقَالُ إِنَّهُ دَخَلَ مَعَ الصُّنَّاعِ، فَبَقِيَ هُنَاكَ، فَعَطِشَ، فَخَرَجَ يَطْلُبُ الْمَاءَ فَأُخِذَ، فَأَحْضَرُوهُ عِنْدَ ابْنِ الْفُرَاتِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَ: لَا أُخْبِرُ إِلَّا صَاحِبَ الدَّارِ، (فَرَفَقَ بِهِ) ، فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ: لَا أُخْبِرُ إِلَّا صَاحِبَ الدَّارِ، فَضَرَبُوهُ لِيُقَرِّرُوهُ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ بَدَأْتُمْ بِالشَّرِّ؟ وَلَزِمَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ بِالْفَارِسِيَّةِ: نَدَانَمْ مَعْنَاهُ لَا أَدْرِي، فَأُمِرَ بِهِ فَأُحْرِقَ. وَأَنْكَرَ ابْنُ الْفُرَاتِ عَلَى نَصْرٍ الْحَاجِبِ هَذِهِ الْحَالَ حَيْثُ هُوَ الْحَاجِبُ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُقْتَدِرِ، وَنَسَبَهُ إِلَى أَنَّهُ أَخْفَاهُ لِيَقْتُلَ الْمُقْتَدِرَ، فَقَالَ نَصْرٌ: لِمَ أَقْتُلُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ رَفَعَنِي مِنَ الثَّرَى إِلَى الثُّرَيَّا؟ إِنَّمَا يَسْعَى فِي قَتْلِهِ مَنْ صَادَرَهُ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُ، وَأَطَالَ حَبْسَهُ هَذِهِ السِّنِينَ، وَأَخَذَ ضِيَاعَهُ، وَصَارَ لِابْنِ الْفُرَاتِ بِسَبَبِ هَذَا حَدِيثٌ فِي مَعْنَى نَصْرٍ. ذِكْرُ أَخْذِ الْحَاجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ أَبُو طَاهِرٍ الْقَرْمَطِيُّ إِلَى الْهَبِيرِ فِي عَسْكَرٍ عَظِيمٍ لِيَلْقَى الْحَاجَّ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي رُجُوعِهِمْ مِنْ مَكَّةَ، فَأَوْقَعَ بِقَافِلَةٍ تَقَدَّمَتْ مُعْظَمَ

الْحَاجِّ، وَكَانَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَاذَ وَغَيْرِهِمْ، فَنَهَبَهُمْ، وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِبَاقِي الْحَاجِّ وَهُمْ بِفَيْدَ فَأَقَامُوا بِهَا حَتَّى فَنِيَ زَادُهُمْ، فَارْتَحَلُوا مُسْرِعِينَ. وَكَانَ أَبُو الْهَيْجَاءِ بْنُ حَمْدَانَ قَدْ أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِالْعَوْدِ إِلَى وَادِي الْقُرَى، وَأَنَّهُمْ لَا يُقِيمُونَ بِفَيْدَ، فَاسْتَطَالُوا الطَّرِيقَ، وَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، وَكَانَ إِلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ طَرِيقُ الْكُوفَةِ، وَكَثِيرُ الْحَاجِّ، فَلَمَّا فَنِيَ زَادُهُمْ سَارُوا عَلَى طَرِيقِ الْكُوفَةِ، فَأَوْقَعَ بِهِمُ الْقَرَامِطَةُ، وَأَخَذُوهُمْ، وَأَسَرُوا أَبَا الْهَيْجَاءِ، وَأَحْمَدَ بْنَ كُشْمُرْدَ، وَنِحْرِيرًا وَأَحْمَدَ بْنَ بَدْرٍ عَمَّ وَالِدَةِ الْمُقْتَدِرِ، وَأَخَذَ أَبُو طَاهِرٍ جِمَالَ الْحُجَّاجِ جَمِيعَهَا وَمَا أَرَادَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالنِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَعَادَ إِلَى هَجَرَ وَتَرَكَ الْحَاجَّ فِي مَوَاضِعِهِمْ، فَمَاتَ أَكْثَرُهُمْ جُوعًا، وَمِنْ حَرِّ الشَّمْسِ. وَكَانَ عُمْرُ أَبِي طَاهِرٍ حِينَئِذٍ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَانْقَلَبَتْ بَغْدَاذُ، وَاجْتَمَعَ حُرَمُ الْمَأْخُوذِينَ إِلَى حُرَمِ الْمَنْكُوبِينَ الَّذِينَ نَكَبَهُمُ ابْنُ الْفُرَاتِ، وَجَعَلْنَ يُنَادِينَ: الْقَرْمَطِيُّ الصَّغِيرُ، (أَبُو طَاهِرٍ) قَتَلَ الْمُسْلِمِينَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، وَالْقَرْمَطِيُّ الْكَبِيرُ ابْنُ الْفُرَاتِ قَدْ قَتَلَ الْمُسْلِمِينَ بِبَغْدَاذَ. وَكَانَتْ صُورَةً فَظِيعَةً شَنِيعَةً، وَكَسَرَ الْعَامَّةُ مَنَابِرَ الْجَوَامِعِ، وَسَوَّدُوا الْمَحَارِيبَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ صَفَرٍ، وَضَعُفَتْ نَفْسُ ابْنِ الْفُرَاتِ، وَحَضَرَ عِنْدَ الْمُقْتَدِرِ لِيَأْخُذَ أَمْرَهُ فِيمَا يَفْعَلُهُ، وَحَضَرَ نَصْرٌ الْحَاجِبُ الْمَشُورَةَ فَانْبَسَطَ لِسَانُهُ عَلَى ابْنِ الْفُرَاتِ، وَقَالَ لَهُ: السَّاعَةَ تَقُولُ أَيَّ شَيْءٍ نَصْنَعُ، وَمَا هُوَ الرَّأْيُ بَعْدَ أَنْ زَعْزَعْتَ أَرْكَانَ الدَّوْلَةِ، وَعَرَّضْتَهَا لِلزَّوَالِ فِي الْبَاطِنِ بِالْمَيْلِ مَعَ كُلِّ عَدُوٍّ يَظْهَرُ وَمُكَاتَبَتِهِ، وَمُهَادَنَتِهِ، وَفِي الظَّاهِرِ بِإِبْعَادِكَ مُؤْنِسًا وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الرَّقَّةِ، وَهُمْ سُيُوفُ الدَّوْلَةِ، فَمَنْ يَدْفَعُ الْآنَ هَذَا الرَّجُلَ إِنْ قَصَدَ الْحَضْرَةَ أَنْتَ أَوْ وَلَدُكَ؟ وَقَدْ ظَهَرَ الْآنَ أَنَّ مَقْصُودَكَ بِإِبْعَادِ مُؤْنِسٍ وَبِالْقَبْضِ

عَلَيَّ وَعَلَى غَيْرِي أَنْ تَسْتَضْعِفَ الدَّوْلَةَ وَتُقَوِّيَ أَعْدَاءَهَا لِتَشْفِيَ، غَيْظَ قَلْبِكَ مِمَّنْ صَادَرَكَ وَأَخَذَ أَمْوَالَكَ، وَمَنِ الَّذِي سَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْقَرْمَطِيِّ غَيْرُكُ لِمَا يُجْمَعُ بَيْنَكُمَا مِنَ التَّشَيُّعِ وَالرَّفْضِ؟ وَقَدْ أَظْهَرَ أَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ الْعَجَمِيَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْقَرْمَطِيِّ، وَأَنْتَ أَوْصَلْتَهُ. فَحَلَفَ ابْنُ الْفُرَاتِ أَنَّهُ مَا كَاتَبَ الْقَرْمَطِيَّ، وَلَا هَادَاهُ، وَلَا رَأَى ذَلِكَ الْأَعْجَمِيَّ إِلَّا تِلْكَ السَّاعَةَ، وَالْمُقْتَدِرُ مُعْرِضٌ عَنْهُ، وَأَشَارَ نَصْرٌ عَلَى الْمُقْتَدِرِ أَنْ يُحْضِرَ مُؤْنِسًا وَمَنْ مَعَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِالْحُضُورِ، فَسَارَ إِلَى ذَلِكَ وَنَهَضَ ابْنُ الْفُرَاتِ، فَرَكِبَ فِي طَيَّارَةٍ فَرَجَمَهُ الْعَامَّةُ حَتَّى كَادَ يَغْرَقُ. (وَتَقَدَّمَ الْمُقْتَدِرُ) إِلَى يَاقُوتٍ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْكُوفَةِ، (لِيَمْنَعَهَا مِنَ الْقَرَامِطَةِ فَخَرَجَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَمَعَهُ وَلَدَاهُ الْمُظَفَّرُ وَمُحَمَّدٌ، فَخَرَجَ عَلَى ذَلِكَ الْعَسْكَرِ مَالٌ عَظِيمٌ، وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِعَوْدِ الْقَرَامِطَةِ، فَعُطِّلَ مَسِيرُ يَاقُوتٍ) . وَوَصَلَ مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَلَمَّا رَأَى الْمُحَسِّنُ ابْنُ (الْوَزِيرِ ابْنِ) الْفُرَاتِ انْحِلَالَ أُمُورِهِمْ، أَخَذَ كُلَّ مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا (عِنْدَهُ مِنَ الْمُصَادَرِينَ) ، فَقَتَلَهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَخَذَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَلِيلَةً (وَلَمْ يُوصِلْهَا إِلَى الْمُقْتَدِرِ) ، فَخَافَ أَنْ يُقِرُّوا عَلَيْهِ. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى الْوَزِيرِ ابْنِ الْفُرَاتِ وَوَلَدِهِ الْمُحَسِّنِ ثُمَّ إِنَّ الْإِرْجَافَ كَثُرَ عَلَى ابْنِ الْفُرَاتِ، فَكَتَبَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ يَعَرِّفُهُ ذَلِكَ، وَأَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا عَادَوْهُ لِنُصْحِهِ وَشَفَقَتِهِ، وَأَخْذِ حُقُوقِهِ مِنْهُمْ، فَأَنْفَذَ الْمُقْتَدِرُ إِلَيْهِ يُسَكِّنُهُ وَيُطَيِّبُ (قَلْبَهُ

فَرَكِبَ هُوَ وَوَلَدُهُ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، فَأَدْخَلَهُمَا إِلَيْهِ فَطَيَّبَ) قُلُوبَهُمَا فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ فَمَنَعَهُمَا نَصْرٌ الْحَاجِبُ مِنَ الْخُرُوجِ وَوَكَّلَ بِهِمَا، فَدَخَلَ عَلَى الْمُقْتَدِرِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ عَزْلِهِ فَأَمَرَ بِإِطْلَاقِهِمَا، فَخَرَجَ هُوَ وَابْنُهُ الْمُحَسِّنُ، فَأَمَّا الْمُحَسِّنُ فَإِنَّهُ اخْتَفَى وَأَمَّا الْوَزِيرُ فَإِنَّهُ جَلَسَ عَامَّةَ نَهَارِهِ يُمْضِي الْأَشْغَالَ إِلَى اللَّيْلِ، ثُمَّ بَاتَ مُفَكِّرًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ سَمِعَهُ بَعْضُ خَدَمِهِ يُنْشِدُ: وَأَصْبَحَ لَا يَدْرِي وَإِنْ كَانَ حَازِمًا ... أَقُدَّامَهُ خَيْرٌ لَهُ أَمْ وَرَاءَهُ فَلَمَّا أَصْبَحَ الْغَدُ، وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَارْتَفَعَ النَّهَارُ أَتَاهُ نَازُوكُ، وَبُلَيْقٌ فِي عِدَّةٍ مِنَ الْجُنْدِ، فَدَخَلُوا إِلَى الْوَزِيرِ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَرَمِ، فَأَخْرَجُوهُ حَافِيًا مَكْشُوفَ الرَّأْسِ، وَأُخِذَ إِلَى دِجْلَةَ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ بُلَيْقٌ طَيْلَسَانًا غَطَّى بِهِ رَأَسَهُ، وَحُمِلَ إِلَى طَيَّارٍ فِيهِ مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ، وَمَعَهُ هِلَالُ بْنُ بَدْرٍ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ ابْنُ الْفُرَاتِ، وَأَلَانَ كَلَامَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَنَا الْآنَ الْأُسْتَاذُ، وَكُنْتُ بِالْأَمْسِ الْخَائِنَ السَّاعِيَ فِي فَسَادِ الدَّوْلَةِ، وَأَخْرَجْتَنِي وَالْمَطَرُ عَلَى رَأْسِي وَرُءُوسِ أَصْحَابِي، (وَلَمْ تُمْهِلْنِي) . ثُمَّ سُلِّمَ إِلَى شَفِيعٍ اللُّؤْلُؤِيِّ، فَحُبِسَ عِنْدَهُ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِزَارَتِهِ هَذِهِ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأُخِذَ أَصْحَابُهُ وَأَوْلَادُهُ وَلَمْ يَنْهَجْ مِنْهُمْ إِلَّا الْمُحَسِّنُ، فَإِنَّهُ اخْتَفَى، وَصُودِرَ ابْنُ الْفُرَاتِ عَلَى جُمْلَةٍ مِنَ الْمَالِ مَبْلَغُهَا أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ.

ذِكْرُ وِزَارَةِ أَبِي الْقَاسِمِ الْخَاقَانِيِّ وَلَمَّا تَغَيَّرَ حَالُ ابْنِ الْفُرَاتِ سَعَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ الْخَاقَانِيُّ فِي الْوِزَارَةِ، وَكَتَبَ خَطَّهُ أَنَّهُ يَتَكَفَّلُ ابْنَ الْفُرَاتِ وَأَصْحَابَهَ بِمُصَادَرَةِ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَسَعَى لَهُ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ، وَهَارُونُ بْنُ غَرِيبِ الْخَالِ، وَنَصْرٌ الْحَاجِبُ. وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْخَاقَانِيُّ، وَالِدُ أَبِي الْقَاسِمُ، مَرِيضًا شَدِيدَ الْمَرَضِ، وَقَدْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ لِكِبَرِ سِنِّهِ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِشَيْءٍ مِنْ حَالِ وَلَدِهِ، وَتَوَلَّى أَبُو الْقَاسِمِ الْوِزَارَةَ تَاسِعَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ الْمُقْتَدِرُ يَكْرَهُهُ، فَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ الْفُرَاتِ، وَهُوَ مَحْبُوسٌ، بِوِلَايَتِهِ قَالَ: الْخَلِيفَةُ هُوَ الَّذِي نُكِبَ لَا أَنَا، يَعْنِي أَنَّ الْوَزِيرَ عَاجِزٌ لَا يَعْرِفُ أَمْرَ الْوِزَارَةِ. وَلَمَّا وَزَرَ الْخَاقَانِيُّ شَفَعَ إِلَيْهِ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ فِي إِعَادَةِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى (مِنْ صَنْعَاءَ) إِلَى مَكَّةَ، فَكَتَبَ إِلَى جَعْفَرٍ عَامِلِ الْيَمَنِ فِي الْإِذْنِ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى فِي الْعَوْدِ إِلَى مَكَّةَ، وَأَذِنَ لِعَلِيٍّ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى أَعْمَالِ مِصْرَ وَالشَّامِ. وَمَاتَ أَبُو عَلِيٍّ الْخَاقَانِيُّ فِي وِزَارَةِ وَلَدِهِ هَذِهِ. ذِكْرُ قَتْلِ ابْنِ الْفُرَاتِ وَوَلَدِهِ الْمُحَسِّنَ وَكَانَ الْمُحَسِّنُ ابْنُ الْوَزِيرِ ابْنِ الْفُرَاتِ مُخْتَفِيًا، كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ عِنْدَ حَمَاتِهِ حُزَانَةَ، وَهِيَ وَالِدَةُ الْفَضْلِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَكَانَتْ تَأْخُذُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِلَى الْمَقْبَرَةِ، وَتَعُودُ بِهِ إِلَى الْمَنَازِلِ الَّتِي يَثِقُ بِأَهْلِهَا عِشَاءً وَهُوَ فِي زِيِّ امْرَأَةٍ، فَمَضَتْ يَوْمًا إِلَى مَقَابِرِ قُرَيْشٍ، وَأَدْرَكَهَا اللَّيْلُ، فَبَعُدَ عَلَيْهَا الطَّرِيقُ، فَأَشَارَتْ عَلَيْهَا امْرَأَةٌ مَعَهَا أَنْ تَقْصِدَ امْرَأَةً صَالِحَةً تَعْرِفُهَا بِالْخَيْرِ، تَخْتَفِي عِنْدَهَا، فَأَخَذَتِ الْمُحَسِّنَ وَقَصَدَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةَ وَقَالَتْ

لَهَا: مَعَنَا صَبِيَّةٌ بِكْرٌ نُرِيدُ بَيْتًا نَكُونُ فِيهِ فَأَمَرَتْهُمْ بِالدُّخُولِ إِلَى دَارِهَا، وَسَلَّمَتْ إِلَيْهِمْ قُبَّةً فِي الدَّارِ، فَأَدْخَلْنَ الْمُحَسِّنَ إِلَيْهَا، وَجَلَسَتِ النِّسَاءُ اللَّاتِي مَعَهُ فِي صُفَّةٍ بَيْنَ يَدَيْ بَابِ الْقُبَّةِ، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ، فَرَأَتِ الْمُحَسِّنَ فِي الْقُبَّةِ، فَعَادَتْ إِلَى مَوْلَاتِهَا، فَأَخْبَرَتْهَا أَنَّ فِي الدَّارِ رَجُلًا، فَجَاءَتْ صَاحِبَتُهَا فَلَمَّا رَأَتْهُ عَرَفَتْهُ. وَكَانَ الْمُحَسِّنُ قَدْ أَخَذَ زَوْجَهَا لِيُصَادِرَهُ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ فِي دَارِهِ يُجْلَدُونَ، وَيُشَقَّصُونَ، وَيُعَذَّبُونَ مَاتَ فَجْأَةً، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ الْمُحَسِّنَ وَعَرَفَتْهُ رَكِبَتْ فِي سَفِينَةٍ، وَقَصَدَتْ دَارَ الْخِلَافَةِ، وَصَاحَتْ: مَعِي نَصِيحَةٌ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ! فَأَحْضَرَهَا نَصْرٌ الْحَاجِبُ، فَأَخْبَرَتْهُ بِخَبَرِ الْمُحَسِّنِ، فَانْتَهَى ذَلِكَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، فَأَمَرَ نَازُوكَ، صَاحِبَ الشُّرْطَةِ، أَنْ يَسِيرَ مَعَهَا وَيُحْضِرَهُ، فَأَخَذَهَا مَعَهُ (إِلَى مَنْزِلِهَا) ، وَدَخَلَ الْمَنْزِلَ، وَأَخَذَ الْمُحَسِّنَ وَعَادَ بِهِ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، فَرَدَّهُ إِلَى دَارِ الْوَزِيرِ، فَعُذِّبَ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ لِيُجِيبَ إِلَى مُصَادَرَةٍ يَبْذُلُهَا، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى دِينَارٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ: لَا أَجْمَعُ لَكُمْ بَيْنَ نَفْسِي وَمَالِي، وَاشْتَدَّ الْعَذَابُ عَلَيْهِ بِحَيْثُ امْتَنَعَ عَنِ الطَّعَامِ. فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ الْمُقْتَدِرُ أَمَرَ بِحَمْلِهِ مَعَ أَبِيهِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَقَالَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ لِمُؤْنِسٍ، وَهَارُونَ بْنِ غَرِيبِ الْخَالِ، وَنَصْرٍ الْحَاجِبِ: إِنْ يُنْقَلِ ابْنُ الْفُرَاتِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ بَذَلَ أَمْوَالَهُ، وَأَطْمَعَ الْمُقْتَدِرَ فِي أَمْوَالِنَا، وَضَمِنَنَا مِنْهُ، وَتَسَلَّمَنَا فَأَهْلَكَنَا، فَوَضَعُوا الْقُوَّادَ وَالْجُنْدَ، حَتَّى قَالُوا لِلْخَلِيفَةِ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَتْلِ ابْنِ الْفُرَاتِ وَوَلَدِهِ، فَإِنَّنَا لَا نَأْمَنُ عَلَى أَنْفُسِنَا مَا دَامَا فِي الْحَيَاةِ. وَتَرَدَّدَتِ الرَّسَائِلُ فِي ذَلِكَ، وَأَشَارَ مُؤْنِسٌ، وَهَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ، وَنَصْرٌ الْحَاجِبُ

بِمُوَافَقَتِهِمْ وَإِجَابَتِهِمْ إِلَى مَا طَلَبُوا، فَأَمَرَ نَازُوكَ بِقَتْلِهِمَا، فَذَبَحَهُمَا كَمَا يُذْبَحُ الْغَنَمُ. وَكَانَ ابْنُ الْفُرَاتِ قَدْ أَصْبَحَ يَوْمَ الْأَحَدِ صَائِمًا، فَأُتِيَ بِطَعَامٍ فَلَمْ يَأْكُلْهُ، فَأُتِيَ أَيْضًا بِطَعَامٍ لِيُفْطِرَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُفْطِرْ، وَقَالَ: رَأَيْتُ أَخِي الْعَبَّاسَ فِي النَّوْمِ يَقُولُ لِي: أَنْتَ وَوَلَدُكَ عِنْدَنَا يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّنَا نُقْتَلُ، فَقُتِلَ ابْنُهُ الْمُحَسِّنُ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى أَبِيهِ، فَارْتَاعَ لِذَلِكَ شَدِيدًا، ثُمَّ عُرِضَ أَبُوهُ عَلَى السَّيْفِ فَقَالَ: لَيْسَ إِلَّا السَّيْفُ، رَاجِعُوا فِي أَمْرِي، فَإِنَّ عِنْدِي أَمْوَالًا جَمَّةً، وَجَوَاهِرَ كَثِيرَةً، فَقِيلَ لَهُ: جَلَّ الْأَمْرُ عَنْ ذَلِكَ! وَقُتِلَ وَكَانَ عُمْرُهُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَعُمْرُ وَلَدِهِ الْمُحَسِّنِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَلَمَّا قُتِلَا حُمِلَ رَأْسَاهُمَا إِلَى الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، فَأَمَرَ بِتَغْرِيقِهِمَا. وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْفُرَاتِ يَقُولُ: إِنَّ الْمُقْتَدِرَ بِاللَّهِ يَقْتُلُنِي، فَصَحَّ قَوْلُهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَادَ مِنْ عِنْدِهِ يَوْمًا، وَهُوَ مُفَكِّرٌ كَثِيرُ الْهَمِّ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا خَاطَبْتُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا قَالَ لِي نَعَمْ، فَقُلْتُ لَهُ الشَّيْءَ وَضِدَّهُ، فَفِي كُلِّ ذَلِكَ يَقُولُ نَعَمْ، فَقِيلَ لَهُ: هَذَا لِحُسْنِ ظَنِّهِ بِكَ، وَثِقَتِهِ بِمَا تَقُولُ، وَاعْتِمَادِهِ عَلَى شَفَقَتِكَ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنَّهُ أُذُنٌ لِكُلِّ قَائِلٍ، وَمَا يَؤْمِنِّي أَنْ يُقَالَ لَهُ بِقَتْلِ الْوَزِيرِ، فَيَقُولَ نَعَمْ وَاللَّهِ إِنَّهُ قَاتِلِي! وَلَمَّا قُتِلَ رَكِبَ هَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ مُسْرِعًا إِلَى الْوَزِيرِ الْخَاقَانِيِّ، وَهَنَّأَهُ بِقَتْلِهِ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، حَتَّى ظَنَّ هَارُونُ وَمَنْ هُنَاكَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، وَصَرَخَ أَهْلُهُ وَأَصْحَابُهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ مِنْ غَشْيَتِهِ لَمْ يُفَارِقْهُ هَارُونُ حَتَّى أَخَذَ مِنْهُ أَلْفَيْ دِينَارٍ. وَأَمَّا أَوْلَادُهُ (سِوَى الْمُحَسِّنِ) فَإِنَّ مُؤْنِسًا الْمُظَفَّرَ شَفَعَ فِي ابْنَيْهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي

نَصْرٍ، فَأُطْلِقَا لَهُ فَخَلَعَ عَلَيْهِمَا، وَوَصَلَهُمَا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَصُودِرَ ابْنُهُ الْحَسَنُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأُطْلِقَ إِلَى مَنْزِلِهِ. وَكَانَ الْوَزِيرُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْفُرَاتِ كَرِيمًا، ذَا رِئَاسَةٍ وَكِفَايَةٍ فِي عَمَلِهِ حَسَنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَيِّئَةٌ إِلَّا وَلَدَهُ الْمُحَسِّنَ. وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنَّهُ جَرَى ذِكْرُ أَصْحَابِ الْأَدَبِ، وَطَلْبَةِ الْحَدِيثِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْفَقْرِ وَالتَّعَفُّفِ، فَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ مَنْ أَعَانَهُمْ، وَأَطْلَقَ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلِلشُّعَرَاءِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلِأَصْحَابِ الْأَدَبِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلِلْفُقَهَاءِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلِلصُّوفِيَّةِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَذَلِكَ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَكَانَ إِذَا وَلِيَ الْوِزَارَةَ ارْتَفَعَتْ أَسْعَارُ الثَّلْجِ، وَالشَّمْعِ، وَالسُّكَّرِ، وَالْقَرَاطِيسِ، لِكَثْرَةِ مَا كَانَ يَسْتَعْمِلُهَا وَيُخْرِجُ مِنْ دَارِهِ لِلنَّاسِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يُعَابُ بِهِ إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا يَفْعَلُونَ مَا يُرِيدُونَ، وَيَظْلِمُونَ، فَلَا يَمْنَعُهُمْ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ ظَلَمَ امْرَأَةً فِي مِلْكٍ لَهَا، فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ تَشْكُو مِنْهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَهُوَ لَا يَرُدُّ لَهَا جَوَابًا، فَلَقِيَتْهُ يَوْمًا، وَقَالَتْ لَهُ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ أَنْ تَسْمَعَ (مِنِّي كَلِمَةً) فَوَقَفَ لَهَا فَقَالَتْ: قَدْ كَتَبْتُ إِلَيْكَ فِي ظُلَامَتِي غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَمْ تُجِبْنِي، وَقَدْ تَرَكْتُكَ وَكَتَبْتُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا (كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ) ، وَرَأَى تَغَيُّرَ حَالِهِ، قَالَ لِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ: (مَا أَظُنُّ) إِلَّا جَوَابَ رُقْعَةِ

تِلْكَ الْمَرْأَةِ الْمَظْلُومَةِ (قَدْ خَرَجَ) ، فَكَانَ كَمَا قَالَ. ذِكْرُ دُخُولِ الْقَرَامِطَةِ الْكُوفَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ أَبُو طَاهِرٍ الْقَرْمَطِيُّ إِلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا طَاهِرٍ أَطْلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْأَسْرَى الَّذِينَ كَانَ أَسَرَهُمْ مِنَ الْحُجَّاجِ، وَفِيهِمُ ابْنُ حَمْدَانَ وَغَيْرُهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ يَطْلُبُ الْبَصْرَةَ وَالْأَهْوَازَ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَسَارَ مِنْ هَجَرَ يُرِيدُ الْحَاجَّ. وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ وَرْقَاءَ الشَّيْبَانِيُّ مُتَقَلِّدًا أَعْمَالَ الْكُوفَةِ وَطَرِيقَ مَكَّةَ، فَلَمَّا سَارَ الْحُجَّاجُ مِنْ بَغْدَاذَ سَارَ جَعْفَرٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ خَوْفًا مِنْ أَبِي طَاهِرٍ، وَمَعَهُ أَلْفُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ، وَسَارَ مَعَ الْحُجَّاجِ مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ ثَمِلٌ صَاحِبُ الْبَحْرِ، وَجِنِّيٌّ الصَّفْوَانِيُّ، وَطَرِيفٌ السُّبْكَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ، فِي سِتَّةِ آلَافِ رَجُلٍ، فَلَقِيَ أَبُو طَاهِرٍ الْقَرْمَطِيُّ (جَعْفَرًا الشَّيْبَانِيَّ، فَقَاتَلَهُ جَعْفَرٌ. فَبَيْنَمَا هُوَ يُقَاتِلُهُ إِذْ طَلَعَ جَمْعٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ) عَنْ يَمِينِهِ، فَانْهَزَمَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فَلَقِيَ الْقَافِلَةَ الْأُولَى وَقَدِ انْحَدَرَتْ مِنَ الْعَقَبَةِ، فَرَدَّهُمْ إِلَى الْكُوفَةِ وَمَعَهُمْ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ، وَتَبِعَهُمْ أَبُو طَاهِرٍ إِلَى بَابِ الْكُوفَةِ، فَقَاتَلَهُمْ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ، وَأَسَرَ جِنِّيًّا الصَّفْوَانِيَّ، وَهَرَبَ الْبَاقُونَ وَالْحُجَّاجُ مِنَ الْكُوفَةِ، وَدَخَلَهَا أَبُو طَاهِرٍ، وَأَقَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ يَدْخُلُ الْبَلَدَ نَهَارًا فَيُقِيمُ فِي الْجَامِعِ إِلَى اللَّيْلِ، ثُمَّ يَخْرُجُ يَبِيتُ فِي عَسْكَرِهِ، وَحَمَلَ مِنْهَا مَا قَدَرَ عَلَى حَمْلِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالثِّيَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَادَ إِلَى هَجَرَ.

وَدَخَلَ الْمُنْهَزِمُونَ بَغْدَاذَ، فَتَقَدَّمَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى مُؤْنِسٍ الْمُظَفَّرِ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَبَلَغَهَا وَقَدْ عَادَ الْقَرَامِطَةُ عَنْهَا، فَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا يَاقُوتًا، وَسَارَ مُؤْنِسٌ إِلَى وَاسِطَ خَوْفًا عَلَيْهَا مِنْ أَبِي طَاهِرٍ، وَخَافَ أَهْلُ بَغْدَاذَ وَانْتَقَلَ النَّاسُ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ (مِنَ النَّاسِ) أَحَدٌ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ الْمُقْتَدِرُ عَلَى نَجَحٍ الطُّولُونِيِّ وَوَلِيَ أَصْبَهَانَ. وَفِيهَا وَرَدَ رَسُولُ مَلِكِ الرُّومِ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، وَمَعَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي فَطَلَبَا مِنَ الْمُقْتَدِرِ الْهُدْنَةَ وَتَقْرِيرَ الْفِدَاءِ فَأُجِيبَا إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ غَزَاةِ الصَّائِفَةِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خُلِعَ عَلَى جِنِّيِّ الصَّفْوَانِيِّ بَعْدَ عَوْدِهِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ. وَفِيهَا اسْتُعْمِلَ سَعِيدُ بْنُ حَمْدَانَ عَلَى الْمَعَاوِنِ وَالْحَرْبِ بِنَهَاوَنْدَ.

وَفِيهَا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ بِلَادَ الرُّومِ فَنَهَبُوا، وَسَبَوْا، وَعَادُوا. وَفِيهَا ظَهَرَ عِنْدَ الْكُوفَةِ رَجُلٌ ادَّعَى أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ رَئِيسُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَجَمَعَ جَمْعًا عَظِيمًا مِنَ الْأَعْرَابِ وَأَهْلِ السَّوَادِ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ فِي شَوَّالٍ فَسُيِّرَ إِلَيْهِ جَيْشٌ مِنْ بَغْدَاذَ، فَقَاتَلُوهُ، فَظَفِرُوا بِهِ وَانْهَزَمَ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْحَاجِبُ وَقَدْ كَانَ اسْتُعْمِلَ عَلَى الْمَوْصِلِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ شَفِيعٌ اللُّؤْلُؤِيُّ وَكَانَ عَلَى الْبَرِيدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَوَلِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ شَفِيعٌ الْمُقْتَدِرِيُّ.

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 313 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ عَزْلِ الْخَاقَانِيِّ عَنِ الْوِزَارَةِ وَوِزَارَةِ الْخَصِيبِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، عُزِلَ أَبُو الْقَاسِمِ الْخَاقَانِيُّ عَنْ وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَبَّاسَ الْخَصِيبِيَّ عَلِمَ بِمَكَانِ امْرَأَةِ الْمُحَسِّنِ بْنِ الْفُرَاتِ، فَسَأَلَ أَنْ يَتَوَلَّى النَّظَرَ فِي أَمْرِهَا، فَأَذِنَ لَهُ الْمُقْتَدِرُ فِي ذَلِكَ، (فَاسْتَخْلَصَ مِنْهَا سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَحَمَلَهَا إِلَى الْمُقْتَدِرِ) ، فَصَارَ لَهُ مَعَهُ حَدِيثٌ، فَخَافَهُ الْخَاقَانِيُّ، فَوَضَعَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ وَسَعَى بِهِ، فَلَمْ يُصْعِ الْمُقْتَدِرُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا عَلِمَ الْخَصِيبِيُّ بِالْحَالِ كَتَبَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ يَذْكُرُ مَعَايِبَ الْخَاقَانِيِّ، وَابْنِهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَعَجْزِهِمَا، وَضَيَاعِ الْأَمْوَالِ، وَطَمَعِ الْعُمَّالِ. ثُمَّ إِنَّ الْخَاقَانِيَّ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا وَطَالَ بِهِ، فَوَقَفَتِ الْأَحْوَالُ، وَطَلَبُ الْجُنْدُ أَرْزَاقَهُمْ، وَشَغَبُوا فَأَرْسَلَ الْمُقْتَدِرُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ، فَحِينَئِذٍ عَزَلَهُ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا الْعَبَّاسِ الْخَصِيبِيَّ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِأُمِّ الْمُقْتَدِرِ، فَلَمَّا وَزَرَ كَتَبَ لَهَا بَعْدَهُ أَبُو يُوسُفَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ قَدْ تَزَهَّدَ وَتَرَكَ عَمَلَ السُّلْطَانِ وَلَبِسَ الصُّوفَ وَالْفُوَطَ، فَلَمَّا أُسْنِدَ إِلَيْهِ هَذَا الْعَمَلُ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الزُّهْدِ، فَسَمَّاهُ النَّاسُ الْمُرْتَدُّ. فَلَمَّا وَلِيَ الْخَصِيبِيُّ أَقَرَّ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى عَلَى الْإِشْرَافِ عَلَى أَعْمَالِ مِصْرَ وَالشَّامِ، فَكَانَ يَتَرَدَّدُ مِنْ مَكَّةَ إِلَيْهَا فِي الْأَوْقَاتِ، وَاسْتَعْمَلَ الْعُمَّالَ فِي (الْأَعْمَالِ، وَاسْتَعْمَلَ) أَبَا

جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ الْكَرْخِيَّ بَعْدَ أَنْ صَادَرَهُ بِثَمَانِيَةٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ عَلَى الْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ رَبِيعَةَ. ذِكْرُ مَا فَتَحَهُ أَهْلُ صِقِلِّيَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ جَيْشُ صِقِلِّيَةَ مَعَ أَمِيرِهِمْ سَالِمِ بْنِ رَاشِدٍ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْمَهْدِيُّ جَيْشًا مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ، فَسَارَ إِلَى أَرْضِ أَنْكَبْرَدَةَ، فَفَتَحُوا غَيْرَانَ وَأَبْرَجَةَ، وَغَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَعَادَ جَيْشُ صِقِلِّيَةَ، وَسَارُوا إِلَى أَرْضِ قِلُّورِيَةَ، وَقَصَدُوا مَدِينَةَ طَارَنْتَ، فَحَصَرُوهَا وَفَتَحُوهَا بِالسَّيْفِ (فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَوَصَلُوا إِلَى مَدِينَةِ أَدْرَنْتَ، فَحَصَرُوهَا) ، وَخَرَّبُوا مَنَازِلَهَا فَأَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مَرَضٌ شَدِيدٌ كَبِيرٌ، فَعَادُوا، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ صِقِلِّيَةَ يُغِيرُونَ عَلَى مَا بِأَيْدِي الرُّومِ مِنْ جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ، وَقِلُّورِيَةَ، وَيَنْهَبُونَ وَيُخَرِّبُونَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ إِبْرَاهِيمُ الْمِسْمَعِيُّ نَاحِيَةَ الْقَفَصِ، وَهِيَ مِنْ حُدُودِ كَرْمَانَ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ خَمْسَةَ آلَافِ إِنْسَانٍ وَحَمَلَهُمْ إِلَى فَارِسَ وَبَاعَهُمْ.

وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَرْطَابُ بِبَغْدَاذَ، حَتَّى عَمِلُوا مِنْهَا التُّمُورَ، وَحُمِلَتْ إِلَى وَاسِطَ وَالْبَصْرَةِ، فَنُسِبَ أَهْلُ بَغْدَاذَ إِلَى الْبَغْيِ. وَفِيهَا كَتَبَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى أَهْلِ الثُّغُورِ يَأْمُرُهُمْ بِحَمْلِ الْخَرَاجِ إِلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلُوا، وَإِلَّا قَصَدَهُمْ فَقَتَلَ الرِّجَالَ، وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ، وَقَالَ: إِنَّنِي صَحَّ عِنْدِي ضَعْفُ وُلَاتِكُمْ، فَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَأَخْرَبَ الْبِلَادَ، وَدَخَلَ مَلَطْيَةَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَأَخْرَبُوهَا، وَسَبَوْا مِنْهَا، وَنَهَبُوا، وَأَقَامَ فِيهَا سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَفِيهَا اعْتَرَضَ الْقَرَامِطَةُ الْحَاجَّ بِزُبَالَةَ فَقَاتَلَهُمْ أَصْحَابُ الْخَلِيفَةِ، فَانْهَزَمُوا، وَوَضَعَ الْقَرَامِطَةُ عَلَى الْحَاجِّ قَطِيعَةً، فَأَخَذُوهَا، وَكَفُّوا عَنْهُمْ، فَسَارُوا إِلَى مَكَّةَ. وَفِيهَا انْقَضَّ كَوْكَبٌ كَبِيرٌ وَقْتَ الْمَغْرِبِ، لَهُ صَوْتٌ مِثْلُ الرَّعْدِ الشَّدِيدِ وَضَوْءٌ عَظِيمٌ أَضَاءَتْ لَهُ الدُّنْيَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْبَاغَنْدِيُّ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ مِنْ حُفَّاظِ الْمُحَدِّثِينَ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِهْرَانَ السَّرَّاجُ النَّيْسَابُورِيُّ وَعُمْرُهُ

تِسْعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ، وَكَانَ عُمْرُهُ مِائَةَ سَنَةٍ وَسَنَتَيْنِ، وَهُوَ ابْنُ بِنْتِ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ (بْنُ مُحَمَّدِ) بْنِ بَشَّارٍ أَبُو الْحَسَنِ الزَّاهِدُ.

ثم دخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَة] 314 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مَسِيرِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ إِلَى وَاسِطَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَلَّدَ الْمُقْتَدِرُ يُوسُفَ بْنَ أَبِي السَّاجِ نَوَاحِيَ الْمَشْرِقِ، (وَأَذِنَ لَهُ) فِي أَخْذِ أَمْوَالِهَا وَصَرْفِهَا إِلَى قُوَّادِهِ وَأَجْنَادِهِ، وَأَمَرَهُ بِالْقُدُومِ إِلَى بَغْدَاذَ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ، وَالْمَسِيرِ إِلَى وَاسِطَ، لِيَسِيرَ إِلَى هَجَرَ لِمُحَارَبَةِ أَبِي طَاهِرٍ الْقَرْمَطِيِّ، فَسَارَ إِلَى وَاسِطَ، وَكَانَ بِهَا مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ، فَلَمَّا قَارَبَهَا يُوسُفُ صَعِدَ مُؤْنِسٌ إِلَى بَغْدَاذَ لِيُقِيمَ بِهَا، وَجَعَلَ لَهُ أَمْوَالَ الْخَرَاجِ بِنُوَاحِي هَمَذَانَ، وَسَاوَةَ، وَقُمَّ، وَقَاشَانَ، وَمَاهَ الْبَصْرَةِ، وَمَاهَ الْكُوفَةِ، وَمَاسَبَذَانَ، لِيُنْفِقَهَا عَلَى مَائِدَتِهِ، وَيَسْتَعِينَ بِذَلِكَ عَلَى مُحَارَبَةِ الْقَرَامِطَةِ، وَكَانَ هَذَا كُلُّهُ مِنْ تَدْبِيرِ الْخَصِيبِيِّ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ وَالْأَكْرَادِ وَالْعَرَبِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَفْسَدَ الْأَكْرَادُ وَالْعَرَبُ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ وَطَرِيقِ خُرَاسَانَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ يَتَوَلَّى الْجَمِيعَ وَهُوَ بِبَغْدَاذَ، وَابْنُهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِالْمَوْصِلِ، فَكَتَبَ

(إِلَيْهِ أَبُوهُ) يَأْمُرُهُ بِجَمْعِ الرِّجَالِ، وَالِانْحِدَارِ إِلَى تَكْرِيتَ، فَفَعَلَ (وَسَارَ إِلَيْهَا) فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي رَمَضَانَ وَاجْتَمَعَ بِأَبِيهِ، وَأَحْضَرَ الْعَرَبَ، وَطَالَبَهُمْ بِمَا أَحْدَثُوا فِي عَمَلِهِ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، وَنَكَّلَ بِبَعْضِهِمْ فَرَدُّوا عَلَى النَّاسِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَرَحَلَ بِهِمْ إِلَى شَهْرَزُورَ، فَوَطِئَ الْأَكْرَادُ الْجَلَالِيَّةَ، (فَقَاتَلَهُمْ، وَانْضَافَ إِلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ، فَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ) انْقَادُوا إِلَيْهِ لَمَّا رَأَوْا قُوَّتَهُ، وَكَفُّوا عَنِ الْفَسَادِ وَالشَّرِّ. ذِكْرُ عَزْلِ الْخَصِيبِيِّ وَوِزَارَةِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْقِعْدَةِ، عَزَلَ الْمُقْتَدِرُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْخَصِيبِيَّ عَنِ الْوِزَارَةِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَصِيبِيَّ أَضَاقَ إِضَاقَةً شَدِيدَةً، وَوَقَفَتْ أُمُورُ السُّلْطَانِ لِذَلِكَ، وَاضْطَرَبَ أَمْرُ الْخَصِيبِيِّ. وَكَانَ حِينَ وَلِيَ الْوِزَارَةَ قَدِ اشْتَغَلَ بِالشُّرْبِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَكَانَ يُصْبِحُ سَكْرَانَ لَا قَصْدَ فِيهِ لِعَمَلٍ وَسَمَاعِ حَدِيثٍ، وَكَانَ يَتْرُكُ الْكُتُبَ الْوَارِدَةَ الدَّوَاوِينَ لَا يَقْرَؤُهَا إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ، وَيُهْمِلُ الْأَجْوِبَةَ عَنْهَا، فَضَاعَتِ الْأَمْوَالُ، وَفَاتَتِ الْمَصَالِحُ، ثُمَّ إِنَّهُ لِضَجَرِهِ وَتَبَرُّمِهِ بِهَا وَبِغَيْرِهَا مِنَ الْأَشْغَالِ، وَكَلَ الْأُمُورَ إِلَى نُوَّابِهِ، وَأَهْمَلَ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا، فَبَاعُوا مَصْلَحَتَهُ بِمَصْلَحَةِ نُفُوسِهِمْ. فَلَمَّا صَارَ الْأَمْرُ إِلَى هَذِهِ الصُّورَةِ أَشَارَ مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ بِعَزْلِهِ، وَوِلَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، فَقُبِضَ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ وِزَارَتُهُ سِنَةً وَشَهْرَيْنِ، وَأُخِذَ ابْنُهُ وَأَصْحَابُهُ فَحُبِسُوا، وَأَرْسَلَ الْمُقْتَدِرُ

بِاللَّهِ بَالَغْدَ (إِلَى دِمَشْقَ يَسْتَدْعِي عَلِيَّ بْنَ عِيسَى، وَكَانَ بِهَا. وَأَمَرَ الْمُقْتَدِرُ) أَبَا الْقَاسِمِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَلْوَذَانِيَّ بِالنِّيَابَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى إِلَى أَنْ يَحْضُرَ، فَسَارَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى إِلَى بَغْدَاذَ، فَقَدِمَهَا أَوَائِلَ سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، وَاشْتَغَلَ بِأُمُورِ الْوِزَارَةِ، وَلَازَمَ النَّظَرَ فِيهَا، فَمَشَتِ الْأُمُورُ، وَاسْتَقَامَتِ الْأَحْوَالُ. وَكَانَ مِنْ أَقْوَمِ الْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْخَصِيبِيَّ (كَانَ قَدْ) اجْتَمَعَ عِنْدَهُ رِقَاعُ الْمُصَادَرِينَ، وَكَفَالَاتُ مَنْ كُفِلَ مِنْهُمْ، وَضَمَانَاتُ الْعُمَّالِ بِمَا ضَمِنُوا مِنَ الْمَالِ بِالسَّوَادِ، وَالْأَهْوَازِ، وَفَارِسَ، وَالْمَغْرِبِ، فَنَظَرَ فِيهَا عَلِيٌّ، وَأَرْسَلَ فِي طَلَبِ تِلْكَ الْأَمْوَالِ، فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَأَدَّى الْأَرْزَاقَ، وَأَخْرَجَ الْعَطَاءَ، وَأَسْقَطَ مِنَ الْجُنْدِ مَنْ لَا يَحْمِلُ السِّلَاحَ، وَمِنْ أَوْلَادِ الْمُرْتَزَقَةِ مَنْ هُوَ فِي الْمَهْدِ، فَإِنَّ آبَاءَهُمْ أَثْبَتُوا أَسْمَاءَهُمْ، وَمِنْ أَرْزَاقِ الْمُغَنِّينَ، وَالْمَسَاخِرَةِ، وَالنُّدَمَاءِ، وَالصَّفَاعِنَةِ، وَغَيْرِهِمْ، مِثْلَ الشَّيْخِ الْهَرِمِ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ سِلَاحٌ، فَإِنَّهُ أَسْقَطَهُمْ، وَتَوَلَّى الْأَعْمَالَ بِنَفْسِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَاسْتَعْمَلَ الْعُمَّالَ فِي الْوِلَايَاتِ، وَاخْتَارَ الْكُفَاةَ. وَأَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ بِمُنَاظَرَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْخَصِيبِيِّ، فَأَحْضَرَهُ، وَأَحْضَرَ الْفُقَهَاءَ وَالْقُضَاةَ وَالْكُتَّابَ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ عَلِيٌّ وَقُورًا لَا يَسْفَهُ، فَسَأَلَهُ عَمَّا صَحَّ مِنَ الْأَمْوَالِ مِنَ الْخَرَاجِ، وَالنَّوَاحِي، وَالْأَصْقَاعِ وَالْمُصَادَرَاتِ وَالْمُتَكَلِّفِينَ بِهَا، وَمِنَ الْبَوَاقِي الْقَدِيمَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا أَعْلَمُهُ. وَسَأَلَهُ عَنِ الْإِخْرَاجَاتِ، وَالْوَاصِلِ إِلَى الْمَخْزَنِ، فَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ، وَقَالَ لَهُ: لِمَ أَحْضَرْتَ يُوسُفَ بْنَ أَبِي السَّاجِ، وَسَلَّمْتَ إِلَيْهِ أَعْمَالَ الْمَشْرِقِ، سِوَى أَصْبَهَانَ، وَكَيْفَ تَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَقْدِرُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَهُمْ قَدْ أَلِفُوا الْبِلَادَ الْبَارِدَةَ الْكَثِيرَةَ الْمِيَاهِ، عَلَى سُلُوكِ الْبَرِّيَّةِ الْقَفْرَاءِ، وَالصَّبْرِ عَلَى حَرِّ بِلَادِ الْإِحْسَاءِ وَالْقَطِيفِ، وَلِمَ لَمْ تَجْعَلْ مَعَهُ مُنْفِقًا يُخْرِجُ

الْمَالَ عَلَى الْأَجْنَادِ؟ فَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى قِتَالِ الْقَرَامِطَةِ، وَامْتَنَعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مُنْفِقٌ. فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ اسْتَجَزْتَ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ ضَرْبَ حُرَمِ الْمُصَادَرِينَ وَتَسْلِيمَهُنَّ إِلَى أَصْحَابِكَ، كَامْرَأَةِ ابْنِ الْفُرَاتِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانُوا فَعَلُوا مَا لَا يَجُوزُ أَلَسْتَ أَنْتَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ؟ ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الْحَاصِلِ لَهُ، وَعَنْ إَخْرَاجَاتِهِ، فَخَلَطَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: غَرَّرْتَ (بِنَفْسِكَ، وَغَرَّرْتَ) بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا قُلْتَ لَهُ إِنَّنِي لَا أَصْلُحُ لِلْوِزَارَةِ، فَقَدْ كَانَ الْفُرْسُ، إِذَا (أَرَادُوا أَنْ) يَسْتَوْزِرُوا وَزِيرًا، نَظَرُوا فِي تَصَرُّفِهِ لِنَفْسِهِ (فَإِنْ وَجَدُوهُ حَازِمًا، ضَابِطًا، وَلَّوْهُ، وَإِلَّا قَالُوا: مَنْ لَا يُحْسِنُ يُدَبِّرُ نَفْسَهُ) فَهُوَ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ أَعْجَزُ، وَتَرَكُوهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ إِلَى مَحْبِسِهِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ السَّامَانِيَّةِ عَلَى الرَّيِّ لَمَّا اسْتَدْعَى الْمُقْتَدِرُ يُوسُفَ بْنَ أَبِي السَّاجِ إِلَى وَاسِطَ كَتَبَ إِلَى السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ بِوِلَايَةِ الرَّيِّ، وَأَمَرَهُ بِقَصْدِهَا، وَأَخْذِهَا مِنْ فَاتِكٍ غُلَامِ يُوسُفَ، فَسَارَ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ إِلَيْهَا، أَوَائِلَ سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَوَصَلَ إِلَى جَبَلِ قَارِنٍ، فَمَنَعَهُ أَبُو نَصْرٍ الطَّبَرِيُّ مِنَ الْعُبُورِ، فَأَقَامَ هُنَاكَ، فَرَاسَلَهُ، وَبَذَلَ لَهُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ حَتَّى مَكَّنَهُ مِنَ الْعُبُورِ، فَسَارَ حَتَّى قَارَبَ الرَّيَّ فَخَرَجَ فَاتِكٌ عَنْهَا، وَاسْتَوْلَى نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ عَلَيْهَا فِي

جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَأَقَامَ بِهَا شَهْرَيْنِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا سِيمَجُورَ الدَّوَاتِيَّ وَعَادَ عَنْهَا. ثُمَّ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ صُعْلُوكٌ، وَسَارَ نَصْرُ إِلَى بُخَارَى، وَدَخَلَ صُعْلُوكٌ الرَّيَّ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَوَائِلِ شَعْبَانَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فَمَرِضَ، فَكَاتَبَ الْحَسَنَ الدَّاعِيَ، وَمَاكَانَ بْنَ كَالِي فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ لِيُسَلِّمَ الرَّيَّ إِلَيْهِمَا، فَقَدِمَا عَلَيْهِ، فَسَلَّمَ الرَّيَّ إِلَيْهِمَا وَسَارَ عَنْهَا، فَلَمَّا بَلَغَ الدَّامِغَانَ مَاتَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ضَمِنَ أَبُو الْهَيْجَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ أَعْمَالَ الْخَرَاجِ وَالضِّيَاعِ بِالْمَوْصِلِ، وَقَرْدَى، وَبَازَبُدَى، وَمَا يَجْرِي مَعَهَا. وَفِيهَا سَارَ ثَمِلٌ إِلَى عَمَلِهِ بِالثُّغُورِ، (وَكَانَ فِي) بَغْدَاذَ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، خَرَجَتِ الرُّومُ إِلَى مَلَطْيَةَ وَمَا يَلِيهَا مَعَ الدُّمُسْتُقِ، وَمَعَهُ مَلِيحٌ الْأَرْمَنِيُّ صَاحِبُ الدُّرُوبِ، فَنَزَلُوا عَلَى مَلَطْيَةَ، وَحَصَرُوهَا، فَصَبَرَ أَهْلُهَا، فَفَتَحَ الرُّومُ أَبْوَابًا مِنَ الرَّبَضِ، فَدَخَلُوا، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهُ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْهُ، وَلَمْ يَظْفَرُوا (مِنَ الْمَدِينَةِ) بِشَيْءٍ، وَخَرَّبُوا قُرًى كَثِيرَةً مِنْ قُرَاهَا، وَنَبَشُوا الْمَوْتَى، وَمَثَّلُوا بِهِمْ، وَرَحَلُوا عَنْهُمْ، وَقَصَدَ أَهْلُ مَلَطْيَةَ بَغْدَاذَ مُسْتَغِيثِينَ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، فَلَمْ يُعَانُوا، فَعَادُوا بِغَيْرِ فَائِدَةٍ،

وَغَزَا أَهْلُ طَرَسُوسَ صَائِفَةً، فَغَنِمُوا وَعَادُوا. وَفِيهَا جَمُدَتْ دِجْلَةُ (عِنْدَ الْمَوْصِلِ) مِنْ بَلَدٍ إِلَى الْحَدِيثَةِ، حَتَّى عَبَرَ عَلَيْهَا الدَّوَابُّ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ الْخَاقَانِيُّ، وَهَرَبَ ابْنُهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَلَمْ يَحْضُرْ غُسْلَ أَبِيهِ، وَلَا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْوَزِيرُ قَدْ أُطْلِقَ مِنْ مَحْبِسِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَفِيهَا تَوَجَّهَ أَبُو طَاهِرٍ الْقَرْمَطِيُّ نَحْوَ مَكَّةَ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى أَهْلِهَا، فَنَقَلُوا حُرَمَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَى الطَّائِفِ وَغَيْرِهِ خَوْفًا مِنْهُ. وَفِيهَا كَتَبَ الْكَلْوَذَانِيُّ إِلَى الْوَزِيرِ الْخَصِيبِيِّ، قَبْلَ عَزْلِهِ، بِأَنَّ أَبَا طَالِبٍ النُّوبَنْدَجَانِيُّ قَدْ صَارَ يَجْرِي مَجْرَى أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ، وَأَنَّهُ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى ضِيَاعِ السُّلْطَانِ، وَاسْتَغَلَّ مِنْهَا جُمْلَةً عَظِيمَةً، فَصُودِرَ أَبُو طَالِبٍ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.

ثم دخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَة] 315 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ ابْتِدَاءِ الْوَحْشَةِ بَيْنَ الْمُقْتَدِرِ وَمُؤْنِسٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَاجَتِ الرُّومُ، وَقَصَدُوا الثُّغُورَ، وَدَخَلُوا سُمَيْسَاطَ، وَغَنِمُوا جَمِيعَ مَا فِيهَا مِنْ مَالٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَضَرَبُوا فِي الْجَامِعِ بِالنَّاقُوسِ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ. ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ خَرَجُوا فِي أَثَرِ الرُّومِ، وَقَاتَلُوهُمْ، وَغَنِمُوا مِنْهُمْ غَنِيمَةً عَظِيمَةً، فَأَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ بِتَجْهِيزِ الْعَسَاكِرِ مَعَ مُؤْنِسٍ الْمُظَفَّرِ، وَخَلَعَ الْمُقْتَدِرُ عَلَيْهِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، لِيَسِيرَ، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْوَدَاعُ امْتَنَعَ مُؤْنِسٌ مِنْ دُخُولِ دَارِ الْخَلِيفَةِ لِلْوَدَاعِ، وَاسْتَوْحَشَ مِنَ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ (وَظَهَرَ ذَلِكَ. وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ خَادِمًا مِنْ خُدَّامِ الْمُقْتَدِرُ حَكَى لِمُؤْنِسٍ أَنَّ الْمُقْتَدِرَ بِاللَّهِ) أَمَرَ خَوَاصَّ خَدَمِهِ أَنْ يَحْفِرُوا جُبًّا فِي دَارِ الشَّجَرَةِ، وَيُغَطُّوهُ بِبُرَايَةٍ وَتُرَابٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَجْلِسُ فِيهِ لِوَدَاعِ مُؤْنِسٍ، فَإِذَا حَضَرَ وَقَارَبَهَا أَلْقَاهُ الْخَدَمُ فِيهَا، وَخَنَقُوهُ، وَأَظْهَرُوهُ مَيِّتًا، فَامْتَنَعَ مُؤْنِسٌ مِنْ دُخُولِ دَارِ الْخَلِيفَةِ، وَرَكِبَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْأَجْنَادِ، وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ وَإِخْوَتُهُ، وَخَلَتْ دَارُ الْخَلِيفَةِ، وَقَالُوا لِمُؤْنِسٍ: نَحْنُ نُقَاتِلُ بَيْنَ يَدَيْكَ إِلَى أَنْ تَنْبَتَّ لَكَ لِحْيَةٌ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمُقْتَدِرُ رُقْعَةً بِخَطِّهِ يَحْلِفُ لَهُ عَلَى بُطْلَانِ مَا بَلَغَهُ، فَصَرَفَ مُؤْنِسٌ الْجَيْشَ، وَكَتَبَ الْجَوَابَ أَنَّهُ الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ، وَأَنَّ الَّذِي أَبْلَغَهُ ذَلِكَ قَدْ كَانَ وَضَعَهُ

مَنْ يُرِيدُ إِيحَاشَهُ مِنْ مَوْلَاهُ، وَأَنَّهُ مَا اسْتَدْعَى الْجُنْدَ، وَإِنَّمَا هُمْ حَضَرُوا، وَقَدْ فَرَّقَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ مُؤْنِسًا قَصَدَ دَارَ الْمُقْتَدِرِ فِي جَمْعٍ مِنَ الْقُوَّادِ، وَدَخَلَ إِلَيْهِ، وَقَبَّلَ يَدَهُ، وَحَلَفَ الْمُقْتَدِرُ عَلَى صَفَاءِ نِيَّتِهِ لَهُ، وَوَدَّعَهُ وَسَارَ إِلَى الثَّغْرِ فِي الْعَشْرِ الْآخَرِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَخَرَجَ لِوَدَاعِهِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْمُقْتَدِرِ، وَهُوَ الرَّاضِي بِاللَّهِ، وَالْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى. ذِكْرُ (وُصُولِ الْقَرَامِطَةِ إِلَى الْعِرَاقِ) وَقَتْلِ يُوسُفَ بْنِ أَبِي السَّاجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِمَسِيرِ أَبِي طَاهِرٍ الْقَرْمَطِيِّ مِنْ هَجَرَ نَحْوَ الْكُوفَةِ ثُمَّ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ مِنَ الْبَصْرَةِ بِأَنَّهُ اجْتَازَ قَرِيبًا مِنْهُمْ نَحْوَ الْكُوفَةِ. فَكَتَبَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى يُوسُفَ بْنِ أَبِي السَّاجِ يُعَرِّفُهُ هَذَا الْخَبَرَ، وَيَأْمُرُهُ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَارَ إِلَيْهَا عَنْ وَاسِطَ، آخِرَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ بِالْكُوفَةِ الْأَنْزَالَ لَهُ وَلِعَسْكَرِهِ، فَلَمَّا وَصَلَهَا أَبُو طَاهِرٍ الْهَجَرِيُّ هَرَبَ نُوَّابُ السُّلْطَانِ عَنْهَا، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا أَبُو طَاهِرٍ، وَعَلَى تِلْكَ الْأَنْزَالِ وَالْعُلُوفَاتِ، وَكَانَ فِيهَا مِائَةُ كُرٍّ دَقِيقًا، وَأَلْفُ كُرٍّ شَعِيرًا، وَكَانَ قَدْ فَنِيَ مَا مَعَهُ مِنَ الْمِيرَةِ وَالْعَلُوفَةِ، فَقَوُوا بِمَا أَخَذُوهُ. وَوَصَلَ يُوسُفُ إِلَى الْكُوفَةِ بَعْدَ وُصُولِ الْقَرْمَطِيِّ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ، فَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا، وَكَانَ وُصُولُهُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ ثَامِنَ شَوَّالٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَةِ الْمُقْتَدِرِ، فَإِنْ أَبَوْا فَمَوْعِدُهُمُ الْحَرْبُ يَوْمَ الْأَحَدِ، فَقَالُوا: لَا طَاعَةَ عَلَيْنَا إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْمَوْعِدُ بَيْنَنَا لِلْحَرْبِ بُكْرَةَ غَدٍ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ ابْتَدَأَ أَوْبَاشُ الْعَسْكَرِ بِالشَّتْمِ وَرَمْيِ الْحِجَارَةِ، وَرَأَى يُوسُفُ قِلَّةَ الْقَرَامِطَةِ، فَاحْتَقَرَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكِلَابَ بَعْدَ سَاعَةٍ فِي يَدِي! وَتَقَدَّمَ بِأَنْ يَكْتُبَ كِتَابَ الْفَتْحِ وَالْبِشَارَةِ بِالظَّفَرِ قَبْلَ اللِّقَاءِ تَهَاوُنًا بِهِمْ.

وَزَحَفَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، (فَسَمِعَ أَبُو طَاهِرٍ) أَصْوَاتَ الْبُوقَاتِ وَالزَّعَقَاتِ، فَقَالَ لِصَاحِبٍ لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: فَشَلٌ! قَالَ: أَجَلْ، لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا، فَاقْتَتَلُوا مِنْ ضَحْوَةِ النَّهَارِ، يَوْمَ السَّبْتِ، إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَاهِرٍ ذَلِكَ بَاشَرَ الْحَرْبَ بِنَفْسِهِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ يَثِقُ بِهِمْ، وَحَمَلَ بِهِمْ، فَطَحَنَ أَصْحَابَ يُوسُفَ، وَدَقَّهُمْ، فَانْهَزَمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَسَرَ يُوسُفَ وَعَدَدًا كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ أَسْرُهُ وَقْتَ الْمَغْرِبِ، وَحَمَلُوهُ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَوَكَّلَ بِهِ أَبُو طَاهِرٍ طَبِيبًا يُعَالِجُ جِرَاحَهُ. وَوَرَدَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَاذَ بِذَلِكَ، فَخَافَ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ مِنَ الْقَرَامِطَةِ خَوْفًا شَدِيدًا، وَعَزَمُوا عَلَى الْهَرَبِ إِلَى حُلْوَانَ وَهَمَذَانَ، وَدَخَلَ الْمُنْهَزِمُونَ بَغْدَاذَ، أَكْثَرُهُمْ رَجَّالَةٌ، حُفَاةٌ، عُرَاةٌ، فَبَرَزَ مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ لِيَسِيرَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْقَرَامِطَةَ قَدْ سَارُوا إِلَى عَيْنِ التَّمْرِ، فَأَنْفَذَ مِنْ بَغْدَاذَ خَمْسَمِائَةِ سُمَيْرِيَّةٍ فِيهَا الْمُقَاتِلَةُ لِتَمْنَعَهُمْ مِنْ عُبُورِ الْفُرَاتِ، (وَسَيَّرَ جَمَاعَةً مِنَ الْجَيْشِ إِلَى الْأَنْبَارِ لِحِفْظِهَا، وَمَنْعِ الْقَرَامِطَةِ مِنَ الْعُبُورِ هُنَالِكَ. ثُمَّ إِنَّ الْقَرَامِطَةَ قَصَدُوا الْأَنْبَارَ، فَقَطَعَ أَهْلُهَا الْجِسْرَ، وَنَزَلَ الْقَرَامِطَةُ غَرْبَ الْفُرَاتِ، وَأَنْفَذَ أَبُو طَاهِرٍ أَصْحَابَهُ إِلَى الْحَدِيثَةِ، فَأَتَوْهُ بِسُفُنٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَهْلُ الْأَنْبَارِ بِذَلِكَ، وَعَبَرَ فِيهَا ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، فَقَاتَلُوا عَسْكَرَ الْخَلِيفَةِ، فَهَزَمُوهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَاسْتَوْلَى الْقَرَامِطَةُ عَلَى مَدِينَةِ الْأَنْبَارِ، وَعَقَدُوا الْجِسْرَ، وَعَبَرَ أَبُو طَاهِرٍ جَرِيدَةَ وَخَلَّفَ سَوَادَهُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ. وَلَمَّا وَرَدَ الْخَبَرُ بِعُبُورِ أَبِي طَاهِرٍ إِلَى الْأَنْبَارِ، خَرَجَ نَصْرٌ الْحَاجِبُ فِي عَسْكَرٍ جَرَّارٍ، فَلَحِقَ بِمُؤْنِسٍ الْمُظَفَّرِ، فَاجْتَمَعَا فِي نَيِّفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، سِوَى الْغِلْمَانِ وَمَنْ يُرِيدُ النَّهْبَ، وَكَانَ مِمَّنْ مَعَهُ أَبُو الْهَيْجَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ، وَمِنْ إِخْوَتِهِ أَبُو الْوَلِيدِ، وَأَبُو السَّرَايَا فِي أَصْحَابِهِمْ، وَسَارُوا حَتَّى بَلَغُوا نَهْرَ زَبَارَا، عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ بَغْدَاذَ، عِنْدَ عَقْرَقُوفَ، فَأَشَارَ أَبُو الْهَيْجَاءِ بْنُ حَمْدَانَ بِقَطْعِ الْقَنْطَرَةِ الَّتِي عَلَيْهِ، فَقَطَعُوهَا، وَسَارَ أَبُو طَاهِرٍ وَمَنْ مَعَهُ نَحْوَهُمْ، فَبَلَغُوا نَهْرَ زَبَارَا، وَفِي أَوَائِلِهِمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ، فَمَا زَالَ الْأَسْوَدُ

يَدْنُو مِنَ الْقَنْطَرَةِ، وَالنِّشَابُ يَأْخُذُهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ، حَتَّى أَشْرَفَ عَلَيْهَا، فَرَآهَا مَقْطُوعَةً، فَعَادَ وَهُوَ مِثْلُ الْقُنْفُذِ. وَأَرَادَ الْقَرَامِطَةُ الْعُبُورَ فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ لِأَنَّ النَّهْرَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَخَاضَةٌ، وَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ هَرَبَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ إِلَى بَغْدَاذَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْقَوْهُمْ، فَلَمَّا رَأَى ابْنُ حَمْدَانَ ذَلِكَ قَالَ لِمُؤْنِسٍ: كَيْفَ رَأَيْتَ مَا أَشَرْتُ بِهِ عَلَيْكُمْ؟ فَوَاللَّهِ لَوْ عَبَرَ الْقَرَامِطَةُ النَّهْرَ لَانْهَزَمَ كُلُّ مَنْ مَعَكَ وَلَأَخَذُوا بَغْدَاذَ، وَلَمَّا رَأَى الْقَرَامِطَةُ ذَلِكَ، (عَادُوا إِلَى الْأَنْبَارِ) ، وَسَيَّرَ مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ صَاحِبَهُ بُلَيْقًا فِي سِتَّةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، إِلَى عَسْكَرِ الْقَرَامِطَةِ، غَرْبِيَّ الْفُرَاتِ، لِيَغْنَمُوهُ وَيُخَلِّصُوا ابْنَ أَبِي السَّاجِ، فَبَلَغُوا إِلَيْهِمْ، وَقَدْ عَبَرَ أَبُو طَاهِرٍ الْفُرَاتَ فِي زَوْرَقِ صَيَّادٍ، وَأَعْطَاهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا رَآهُ أَصْحَابُهُ قَوِيَتْ قُلُوبُهُمْ، وَلَمَّا أَتَاهُمْ عَسْكَرُ مُؤْنِسٍ كَانَ أَبُو طَاهِرٍ عِنْدَهُمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ. وَنَظَرَ أَبُو طَاهِرٍ إِلَى ابْنِ أَبِي السَّاجِ وَهُوَ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْخَيْمَةِ يَنْظُرُ وَيَرْجُو الْخَلَاصَ، وَقَدْ نَادَاهُ أَصْحَابُهُ: أَبْشِرْ بِالْفَرَجِ! فَلَمَّا انْهَزَمُوا أَحْضَرَهُ وَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ جَمِيعَ الْأَسْرَى مِنْ أَصْحَابِهِ. وَسَلِمَتْ بَغْدَاذُ مِنْ نَهْبِ الْعَيَّارِينَ، لِأَنَّ نَازُوكَ كَانَ يَطُوفُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَمَنْ وَجَدُوهُ بَعْدَ الْعَتَمَةِ قَتَلُوهُ فَامْتَنَعَ الْعَيَّارُونَ، وَاكْتَرَى كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَاذَ سُفُنًا، وَنَقَلُوا إِلَيْهَا أَمْوَالَهُمْ، وَرَبَطُوهَا لِيَنْحَدِرُوا إِلَى وَاسِطَ، وَفِيهِمْ مَنْ نَقَلَ مَتَاعَهُ إِلَى وَاسِطَ وَإِلَى حُلْوَانَ لِيَسِيرُوا إِلَى خُرَاسَانَ. وَكَانَ عِدَّةُ الْقَرَامِطَةِ أَلْفَ رَجُلٍ وَخَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ مِنْهُمْ سَبْعُمِائَةِ فَارِسٍ وَثَمَانِمِائَةِ رَاجِلٍ، وَقِيلَ كَانُوا أَلْفَيْنِ وَسَبْعَمِائَةٍ. وَقَصَدَ الْقَرَامِطَةُ مَدِينَةَ هَيْتَ، وَكَانَ الْمُقْتَدِرُ قَدْ سَيَّرَ إِلَيْهَا سَعِيدَ بْنَ حَمْدَانَ، وَهَارُونَ بْنَ غَرِيبٍ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْقَرَامِطَةُ رَأَوْا عَسْكَرَ الْخَلِيفَةِ قَدْ سَبَقَهُمْ فَقَاتَلُوهُمْ عَلَى السُّورِ، فَقَتَلُوا مِنَ الْقَرَامِطَةِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً، فَعَادُوا عَنْهَا.

وَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ بَغْدَاذَ عَوْدُهُمْ مِنْ هَيْتَ سَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ، وَلَمَّا عَلِمَ الْمُقْتَدِرُ بِعِدَّةِ عَسْكَرِهِ وَعَسْكَرِ الْقَرَامِطَةِ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ أَلْفًا يَعْجَزُونَ عَنْ أَلْفَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ. وَجَاءَ إِنْسَانٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ فِي جِيرَانِهِ رَجُلًا مِنْ شِيرَازَ عَلَى مَذْهَبِ الْقَرَامِطَةِ يُكَاتِبُ أَبَا طَاهِرٍ بِالْأَخْبَارِ، فَأَحْضَرَهُ، وَسَأَلَهُ وَاعْتَرَفَ، وَقَالَ: مَا صَحِبْتُ أَبَا طَاهِرٍ إِلَّا لِمَا صَحَّ عِنْدِي أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنْتَ وَصَاحِبُكَ كُفَّارٌ تَأْخُذُونَ مَا لَيْسَ لَكُمْ، وَلَا بُدَّ لِلَّهِ مِنْ حُجَّةٍ فِي أَرْضِهِ، وَإِمَامُنَا الْمَهْدِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ فُلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ الْمُقِيمُ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَلَسْنَا كَالرَّافِضَةِ، (وَالِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ) الَّذِينَ يَقُولُونَ بِجَهْلِهِمْ إِنَّ لَهُمْ إِمَامًا يَنْتَظِرُونَهُ، وَيَكْذِبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَيَقُولُ: قَدْ رَأَيْتُهُ وَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقْرَأُ، وَلَا يُنْكِرُونَ بِجَهْلِهِمْ وَغَبَاوَتِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنَ الْعُمْرِ مَا يَظُنُّونَهُ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ خَالَطْتَ عَسْكَرَنَا وَعَرَفْتَهُمْ، فَمَنْ فِيهِمْ عَلَى مَذْهَبِكَ؟ فَقَالَ: وَأَنْتَ بِهَذَا الْعَقْلِ تُدَبِّرُ الْوِزَارَةُ، كَيْفَ تَطْمَعُ مِنِّي أَنَّنِي أُسَلِّمُ قَوْمًا مُؤْمِنِينَ إِلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ يَقْتُلُونَهُمْ؟ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ. فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَمُنِعَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فَمَاتَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقَدْ كَانَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ قَبْلَ قِتَالِهِ الْقَرَامِطَةَ قَدْ قَبَضَ عَلَى وَزِيرِهِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ النِّيرَمَانِيِّ وَجَعَلَ مَكَانَهُ أَبَا عَلِيٍّ الْحَسَنَ بْنَ هَارُونَ، وَصَادَرَ مُحَمَّدًا عَلَى خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ النِّيرَمَانِيَّ عَظُمَ شَأْنُهُ، وَكَثُرَ مَالُهُ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِوِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ، فَكَتَبَ إِلَى نَصْرٍ الْحَاجِبِ يَخْطُبُ الْوِزَارَةَ. وَيَسْعَى بِابْنِ أَبِي السَّاجِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّهُ قَرْمَطِيٌّ يَعْتَقِدُ إِمَامَةَ الْعَلَوِيِّ الَّذِي بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَإِنَّنِي نَاظِرْتُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَرْجِعْ

عَنْهُ، وَإِنَّهُ لَا يَسِيرُ إِلَى قِتَالِ أَبِي طَاهِرٍ الْقَرْمَطِيِّ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الْمَالَ بِهَذَا السَّبَبِ، وَيَقْوَى بِهِ عَلَى قَصْدِ حَضْرَةِ السُّلْطَانِ، وَإِزَالَةِ الْخِلَافَةِ عَنْ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَطَوَّلَ فِي ذَلِكَ وَعَرَّضَ. وَكَانَ لِمُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ أَعْدَاءٌ قَدْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ (فَسَعَوْا بِهِ، فَأَعْلَمُوا يُوسُفَ بْنَ أَبِي السَّاجِ) ذَلِكَ، وَأَرَوْهُ كُتُبًا جَاءَتْهُ مِنْ بَغْدَاذَ فِي الْمَعْنَى مَنْ نَصْرٍ الْحَاجِبِ وَفِيهَا رُمُوزٌ إِلَى قَوَاعِدَ قَدْ تَقَدَّمَتْ وَتَقَرَّرَتْ، وَفِيهَا الْوَعْدُ لَهُ بِالْوِزَارَةِ، وَعَزْلِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ، فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ قَبَضَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أُسِرَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ تَخَلَّصَ مِنَ الْحَبْسِ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ يُسَمَّى الشَّيْخَ الْكَرِيمَ لِمَا جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ خِلَالِ الْكَمَالِ وَالْكَرَمِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ أَسْفَارٍ عَلَى جُرْجَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى أَسْفَارُ بْنُ شِيرُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ عَلَى جُرْجَانَ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ مَاكَانَ بْنِ كَالِي الدَّيْلَمِيِّ، وَكَانَ سَيِّئَ الْخُلُقِ وَالْعِشْرَةِ، فَأَخْرَجَهُ مَاكَانُ مِنْ عَسْكَرِهِ، فَاتَّصَلَ بِبَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَلْيَسَعَ، وَهُوَ بِنَيْسَابُورَ، وَخَدَمَهُ، فَسَيَّرَهُ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَى جُرْجَانَ لِيَفْتَحَهَا. وَكَانَ مَاكَانُ بْنُ كَالِي، ذَلِكَ الْوَقْتَ، بِطَبَرِسْتَانَ، وَأَخُوهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ كَالِي بِجُرْجَانَ، وَقَدِ اعْتَقَلَ أَبَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْأُطْرُوشَ الْعَلَوِيَّ عِنْدَهُ، فَشَرِبَ أَبُو

الْحَسَنِ بْنُ كَالِي لَيْلَةً وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ فَفَرَّقَهُمْ، وَبَقِيَ فِي بَيْتٍ هُوَ وَالْعَلَوِيُّ، فَقَامَ إِلَى الْعَلَوِيِّ لِيَقْتُلَهُ، فَظَفِرَ بِهِ الْعَلَوِيُّ وَقَتَلَهُ، وَخَرَجَ مِنَ الدَّارِ وَاخْتَفَى، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَرْسَلَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْقُوَّادِ يُعَرِّفُهُمُ الْحَالَ فَفَرِحُوا بِقَتْلِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ كَالِي، وَأَخْرَجُوا الْعَلَوِيَّ، وَأَلْبَسُوهُ الْقَلَنْسُوَةَ وَبَايَعُوهُ، فَأَمْسَى أَسِيرًا، وَأَصْبَحَ أَمِيرًا، وَجَعَلَ مُقَدَّمُ جَيْشِهِ عَلِيَّ بْنَ خُرْشِيدَ وَرَضِيَ بِهِ الْجَيْشُ، وَكَاتَبُوا أَسْفَارَ بْنَ شِيرُوَيْهِ، وَعَرَّفُوهُ الْحَالَ، وَاسْتَقْدَمُوهُ إِلَيْهِمْ، فَاسْتَأْذَنَ بَكْرَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَسَارَ إِلَى جُرْجَانَ، وَاتَّفَقَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ خُرْشِيدَ، وَضَبَطُوا تِلْكَ النَّاحِيَةَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ مَاكَانُ بْنُ كَالِي، مِنْ طَبَرِسْتَانَ، فِي جَيْشِهِ، فَحَارَبُوهُ وَهَزَمُوهُ وَأَخْرَجُوهُ عَنْ طَبَرِسْتَانَ، وَأَقَامُوا بِهَا وَمَعَهُمُ الْعَلَوِيُّ، فَلَعِبَ يَوْمًا بِالْكُرَةِ، فَسَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ فَمَاتَ. ثُمَّ مَاتَ عَلِيُّ بْنُ خُرْشِيدَ صَاحِبُ الْجَيْشِ، وَعَادَ مَاكَانُ بْنُ كَالِي إِلَى أَسْفَارٍ، فَحَارَبَهُ، فَانْهَزَمَ أَسْفَارٌ مِنْهُ، وَرَجَعَ إِلَى بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَلْيَسَعَ، وَهُوَ بِجُرْجَانَ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بَكْرٌ بِهَا، فَوَلَّاهَا الْأَمِيرُ السَّعِيدُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَسْفَارَ بْنَ شِيرَوَيْهِ، وَذَلِكَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَرْسَلَ أَسْفَارٌ إِلَى مَرْدَاوِيجَ بْنِ زَيَّارَ الْجِيلِيِّ يَسْتَدْعِيهِ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَجَعَلَهُ أَمِيرَ الْجَيْشِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَقَصَدُوا طَبَرِسْتَانَ وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا. وَنَحْنُ نَذْكُرُ حَالَ ابْتِدَاءِ مَرْدَاوِيجَ وَكَيْفَ تَقَلَّبَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَتْ سَرِيَّةٌ مِنْ طَرَسُوسَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا الْعَدُوُّ فَاقْتَتَلُوا (فَاسْتَظْهَرَ الرُّومُ) وَأَسَرُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَمِائَةِ رَجُلٍ، فَقُتِلُوا صَبْرًا. وَفِيهَا سَارَ الدُّمُسْتُقُ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ مِنَ الرُّومِ إِلَى مَدِينَةِ دَبِيلَ، وَفِيهَا نَصْرٌ السُّبْكِيُّ فِي عَسْكَرٍ يَحْمِيهَا، وَكَانَ مَعَ الدُّمُسْتُقِ دَبَّابَاتٌ وَمَجَانِيقُ وَمَعَهُ مِزْرَاقٌ يَزْرُقُ بِالنَّارِ عِدَّةَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَلَا يَقِرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ أَحَدٌ مِنْ شِدَّةِ نَارِهِ وَاتِّصَالِهِ، فَكَانَ مِنْ أَشَدِّ شَيْءٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَكَانَ الرَّامِي بِهِ، مُبَاشِرٌ بِالْقِتَالِ، (مِنْ أَشْجَعِهِمْ) ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَأَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِ. وَكَانَ الدُّمُسْتُقُ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ يُشْرِفُ عَلَى الْبَلَدِ (وَعَلَى عَسْكَرِهِ، فَأَمَرَهُمْ بِالْقِتَالِ عَلَى مَا يَرَاهُ، فَصَبَرَ لَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ) ، وَهُوَ مُلَازِمُ الْقِتَالِ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى سُورِ الْمَدِينَةِ، فَنَقَبُوا فِيهِ نُقُوبًا كَثِيرَةً، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا وَمَنْ فِيهَا مِنَ الْعَسْكَرِ قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْتَصَرَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَخْرَجُوا الرُّومَ مِنْهَا، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ نَحْوَ عَشَرَةِ آلَافِ رَجُلٍ. وَفِيهَا فِي ذِي الْقِعْدَةِ، عَادَ ثَمِلٌ إِلَى طَرَسُوسَ مِنَ الْغَزَاةِ الصَّائِفَةِ سَالِمًا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ (فَلَقَوْا جَمْعًا كَثِيرًا) مِنَ الرُّومِ، فَاقْتَتَلُوا فَانْتَصَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ وَقَتَلُوا مِنَ الرُّومِ كَثِيرًا، وَغَنِمُوا مَا لَا يُحْصَى. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا غَنِمُوا أَنَّهُمْ ذَبَحُوا مِنَ الْغَنَمِ فِي بِلَادِ الرُّومِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ رَأْسٍ، سِوَى مَا سَلِمَ مَعَهُمْ، وَلَقِيَهُمْ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِابْنِ الضَّحَّاكِ، وَهُوَ مِنْ رُؤَسَاءِ الْأَكْرَادِ، وَكَانَ لَهُ حِصْنٌ يُعْرَفُ بِالْجَعْفَرِيِّ، فَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَصَارَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ فَأَجْزَلَ لَهُ الْعَطِيَّةَ، وَأَمَرَهُ بِالْعَوْدِ إِلَى حِصْنِهِ، فَلَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَاتَلُوهُ، (فَأَسَرُوهُ، وَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ) مَعَهُ.

ذِكْرُ مَسِيرِ جَيْشِ الْمَهْدِيِّ إِلَى الْمَغْرِبِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ الْمَهْدِيُّ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، ابْنَهُ أَبَا الْقَاسِمِ مِنَ الْمَهْدِيَّةِ إِلَى الْمَغْرِبِ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ، فِي صَفَرٍ، لِسَبَبِ مُحَمَّدِ بْنِ خَرَزٍ الزَّنَاتِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَفِرَ بِعَسْكَرٍ مِنْ كُتَامَةَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَسَيَّرَ وَلَدَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ تَفَرَّقَ الْأَعْدَاءُ، وَسَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَا وَرَاءِ تَاهَرْتَ، فَلَمَّا عَادَ مِنْ سَفْرَتِهِ هَذِهِ خَطَّ بِرُمْحِهِ فِي الْأَرْضِ صِفَةَ مَدِينَةٍ وَسَمَّاهَا الْمُحَمَّدِيَّةَ، وَهِيَ الْمَسِيلَةُ. وَكَانَتْ خُطَّتُهُ لَبَنِي كُمْلَانَ، فَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، وَنَقَلَهُمْ إِلَى فَحْصِ الْقَيْرَوَانِ، كَالْمُتَوَقِّعِ مِنْهُمْ أَمْرًا، فَلِذَلِكَ أَحَبُّوا أَنْ يَكُونُوا قَرِيبًا مِنْهُ، وَهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ أَبِي يَزِيدَ الْخَارِجِيِّ، وَانْتَقَلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ إِلَى الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَأَمَرَ عَامِلَهَا أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الطَّعَامِ وَيُخَزِّنَهُ وَيَحْتَفِظَ بِهِ (فَفَعَلَ ذَلِكَ) ، فَلَمْ يَزَلْ مَخْزُونًا إِلَى أَنْ خَرَجَ أَبُو يَزِيدَ وَلَقِيَهُ الْمَنْصُورُ، وَمِنَ الْمُحَمَّدِيَّةِ كَانَ يَمْتَارُ مَا يُرِيدُ إِذْ لَيْسَ بِالْمَوْضِعِ مَدِينَةٌ سِوَاهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمِسْمَعِيِّ مِنْ حُمَّى حَادَّةٍ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِالنُّوبَنْدَجَانِ، فَاسْتَعْمَلَ الْمُقْتَدِرُ مَكَانَهُ عَلَى فَارِسَ يَاقُوتًا، وَاسْتَعْمَلَ عِوَضَهُ عَلَى كَرْمَانَ أَبَا طَاهِرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمَا. وَفِيهَا شَغَبَ الْفُرْسَانُ بِبَغْدَاذَ، وَخَرَجُوا إِلَى الْمُصَلَّى، وَنَهَبُوا الْقَصْرَ الْمَعْرُوفَ بِالثُّرَيَّا، وَذَبَحُوا مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْوَحْشِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُؤْنِسٌ، وَضَمِنَ لَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ. وَفِيهَا ظَفِرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ الْأُمَوِيُّ، صَاحِبُ

الْأَنْدَلُسِ، بِأَهْلِ طُلَيْطِلَةَ وَكَانَ قَدْ حَصَرَهَا مُدَّةً لِخِلَافٍ كَانَ عَلَيْهِ فِيهَا، فَلَمَّا ظَفِرَ بِهِمْ أَخَرَبَ كَثِيرًا مِنْ عِمَارَاتِهَا وَشَعَثِهَا، وَكَانَتْ حِينَئِذٍ دَارَ إِسْلَامٍ. وَفِيهَا قَصَدَ الْأَعْرَابُ سَوَادَ الْكُوفَةِ فَنَهَبُوهُ وَخَرَّبُوهُ، وَدَخَلُوا الْحِيرَةَ فَنَهَبُوهَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمُ الْخَلِيفَةُ جَيْشًا فَدَفَعُوهُمْ عَنِ الْبِلَادِ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ، وَصَارَ لَهُ صَوْتٌ شَدِيدٌ عَلَى سَاعَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنَ النَّهَارِ. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، احْتَرَقَ كَثِيرٌ مِنَ الرُّصَافَةِ وَوَصِيفٌ الْجَوْهَرِيُّ وَمُرَبَّعَةُ الْخُرْسِيِّ بِبَغْدَاذَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ السَّرِيِّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّرَّاجِ النَّحْوِيُّ، صَاحِبُ كِتَابِ الْأُصُولِ فِي النَّحْوِ. وَقِيلَ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشُ فَجْأَةً.

ثم دخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَة] 316 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ أَخْبَارِ الْقَرَامِطَةِ لَمَّا سَارَ الْقَرَامِطَةُ مِنَ الْأَنْبَارِ عَادَ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَدَخَلَهَا ثَالِثَ الْمُحَرَّمِ، وَسَارَ أَبُو طَاهِرٍ الْقَرْمَطِيُّ إِلَى الدَّالِيَةِ مِنْ طَرِيقِ الْفُرَاتِ، فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا، فَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا جَمَاعَةً، ثُمَّ سَارَ إِلَى الرَّحْبَةِ، فَدَخَلَهَا ثَامِنَ الْمُحَرَّمِ، بَعْدَ أَنْ حَارَبَهُ أَهْلُهَا، فَوَضَعَ فِيهِمُ السَّيْفَ بَعْدَ أَنْ ظَفِرَ بِهِمْ، فَأُمِرَ مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الرَّقَّةِ، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي صَفَرٍ، وَجَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى الْمَوْصِلِ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَنَزَلَ بِهَا، وَأَرْسَلَ أَهْلُ قَرْقِيسِيَا يَطْلُبُونَ مِنْ أَبِي طَاهِرٍ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَظْهَرَ أَحَدٌ بِالنَّهَارِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ. وَسَيَّرَ أَبُو طَاهِرٍ سَرِيَّةً إِلَى الْأَعْرَابِ بِالْجَزِيرَةِ فَنَهَبُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَخَافَهُ الْأَعْرَابُ خَوْفًا شَدِيدًا وَهَرَبُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِمْ إِتَاوَةً عَلَى كُلِّ رَأْسٍ دِينَارٌ يَحْمِلُونَهُ إِلَى هَجَرَ، ثُمَّ صَعِدَ أَبُو طَاهِرٍ مِنَ الرَّحْبَةِ إِلَى الرِّقَّةِ، فَدَخَلَ أَصْحَابُهُ الرَّبَضَ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَأَعَانَ أَهْلُ الرَّقَّةِ أَهَّلَ الرَّبَضِ، وَقَتَلُوا مِنَ الْقَرَامِطَةِ جَمَاعَةً، فَقَاتَلَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا آخِرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ. وَبَثَّتِ الْقَرَامِطَةُ سَرِيَّةً إِلَى رَأْسِ عَيْنٍ، وَكَفَرْتُوثَا، فَطَلَبَ أَهْلُهَا الْأَمَانَ، فَأَمَّنُوهُمْ، وَسَارُوا أَيْضًا إِلَى سِنْجَارَ، فَنَهَبُوا الْجِبَالَ، وَنَازَلُوا سِنْجَارَ، فَطَلَبَ أَهْلُهَا الْأَمَانَ، فَأَمَّنُوهُمْ. وَكَانَ مُؤْنِسٌ قَدْ وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَبَلَغَهُ قَصْدُ الْقَرَامِطَةِ إِلَى الرَّقَّةِ (فَجَدَّ

السَّيْرَ إِلَيْهَا، فَسَارَ أَبُو طَاهِرٍ عَنْهَا، وَعَادَ) إِلَى الرَّحْبَةِ، وَوَصَلَ مُؤْنِسٌ إِلَى الرَّقَّةِ بَعْدَ انْصِرَافِ الْقَرَامِطَةِ عَنْهَا، ثُمَّ إِنَّ الْقَرَامِطَةَ سَارُوا إِلَى هَيْتَ، وَكَانَ أَهْلُهَا قَدْ أَحْكَمُوا سُورَهَا، فَقَاتَلُوهُ، فَعَادَ عَنْهُمْ إِلَى الْكُوفَةِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأُخْرِجَ هَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ، (وَبُنِّيُّ بْنُ نَفِيسٍ) وَنَصْرٌ الْحَاجِبُ (إِلَيْهَا، وَوَصَلَتْ خَيْلُ الْقَرْمَطِيِّ إِلَى قَصْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَقَتَلُوا مِنْهُ جَمَاعَةً. ثُمَّ إِنَّ نَصْرًا الْحَاجِبَ) حُمَّ فِي طَرِيقِهِ حُمَّى حَادَّةً، فَتَجَلَّدَ وَسَارَ، فَلَمَّا قَارَبَهُمُ الْقَرْمَطِيُّ لَمْ يَكُنْ فِي نَصْرٍ قُوَّةٌ عَلَى النُّهُوضِ وَالْمُحَارَبَةِ، فَاسْتَخْلَفَ أَحْمَدَ بْنَ كَيْغَلَغَ، وَاشْتَدَّ مَرَضُ نَصْرٍ، وَأُمْسِكَ لِسَانُهُ لِشِدَّةِ مَرَضِهِ، فَرَدُّوهُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ فِي أَوَاخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَجُعِلَ مَكَانَهُ عَلَى الْجَيْشِ هَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ، وَرُتِّبَ ابْنُهُ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ فِي الْحَجْبَةِ لِلْمُقْتَدِرِ مَكَانَ أَبِيهِ، فَانْصَرَفَ الْقَرَامِطَةُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، وَعَادَ هَارُونُ إِلَى بَغْدَاذَ (فِي الْجَيْشِ) ، فَدَخَلَهَا لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ. ذِكْرُ عَزْلِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى وَوِزَارَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى عَنْ وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ، وَرُتِّبَ فِيهَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا رَأَى نَقْصَ الِارْتِفَاعِ، وَاخْتِلَالَ الْأَعْمَالِ بِوِزَارَةِ الْخَاقَانِيِّ وَالْخَصِيبِيِّ، وَزِيَادَةَ النَّفَقَاتِ، وَأَنَّ الْجُنْدَ لَمَّا عَادُوا مِنَ الْأَنْبَارِ زَادَهُمُ الْمُقْتَدِرُ فِي أَرْزَاقِهِمْ مِائَتَيْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي السَّنَةِ، وَرَأَى أَيْضًا كَثْرَةَ النَّفَقَاتِ لِلْخَدَمِ وَالْحُرَمِ، لَا سِيَّمَا وَالِدَةُ الْمُقْتَدِرِ، هَالَهُ ذَلِكَ، وَعَظُمَ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ رَأَى نَصْرًا الْحَاجِبَ يَقْصِدُهُ، وَيَنْحَرِفُ عَنْهُ لِمَيْلِ مُؤْنِسٍ إِلَيْهِ، فَإِنَّ نَصْرًا كَانَ يُخَالِفُ مُؤْنِسًا فِي جَمِيعِ مَا يُشِيرُ بِهِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ اسْتَعْفَى مِنَ الْوِزَارَةِ، وَاحْتَجَّ

بِالشَّيْخُوخَةِ، وَقِلَّةِ النَّهْضَةِ، فَأَمَرَهُ الْمُقْتَدِرُ بِالصَّبْرِ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ وَالِدِي الْمُعْتَضِدِ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِعْفَاءِ، فَشَاوَرَ مُؤْنِسًا فِي ذَلِكَ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ لِلْوِزَارَةِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ: الْفَضْلُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْفُرَاتِ الَّذِي أُمُّهُ حَنْزَانَةُ، وَأُخْتُهُ زَوْجَةُ الْمُحَسِّنِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ النِّيرَمَانِيُّ الَّذِي كَانَ وَزِيرَ ابْنِ أَبِي السَّاجِ، فَقَالَ مُؤْنِسٌ: أَمَّا الْفَضْلُ فَقَدْ قَتَلْنَا عَمَّهُ الْوَزِيرَ أَبَا الْحَسَنِ، وَابْنَ عَمِّهِ زَوْجَ أُخْتِهِ الْمُحَسِّنَ ابْنَ الْوَزِيرِ، وَصَادَرْنَا أُخْتَهُ (فَلَا نَأْمَنُهُ، وَأَمَّا) ابْنُ مُقْلَةَ فَحَدَثٌ غِرٌّ لَا تَجْرِبَةَ لَهُ بِالْوِزَارَةِ، وَلَا يَصْلُحُ لَهَا، وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ فَجَاهِلٌ مُتَهَوِّرٌ لَا يُحْسِنُ شَيْئًا، وَالصَّوَابُ مُدَارَاةُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى. ثُمَّ لَقِيَ مُؤْنِسٌ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى، وَسَكَّنَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَوْ كُنْتَ مُقِيمًا لَاسْتَعَنْتُ بِكَ، وَلَكِنَّكَ سَائِرٌ إِلَى الرَّقَّةِ ثُمَّ إِلَى الشَّامِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ، فَجَدَّ فِي السَّعْيِ، وَضَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الضَّمَانَاتِ، وَشَاوَرَ الْمُقْتَدِرُ نَصْرًا الْحَاجِبَ فِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، فَقَالَ: أَمَّا الْفَضْلُ بْنُ الْفُرَاتِ فَلَا يُدْفَعُ عَنْ صِنَاعَةِ الْكِتَابَةِ، وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْكِفَايَةِ، وَلَكِنَّكَ بِالْأَمْسِ قَتَلْتَ عَمَّهُ وَابْنَ عَمِّهِ وَصِهْرَهُ، وَصَادَرْتَ أُخْتَهُ وَأُمَّهُ، ثُمَّ إِنَّ بَنِي الْفُرَاتِ يَدِينُونَ بِالرَّفْضِ، وَيُعْرَفُونَ بِوَلَاءِ آلِ عَلِيٍّ وَوَلَدِهِ، وَأَمَّا أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ فَلَا هَيْبَةَ لَهُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى كِفَايَةٍ، وَلَا تَجْرِبَةٍ، وَأَشَارَ بِمُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ لِمَوَدَّةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا، فَنَفَرَ الْمُقْتَدِرُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ جَهْلِهِ وَتَهَوُّرِهِ، وَوَاصَلَ ابْنُ مُقْلَةَ بِالْهَدِيَّةِ إِلَى نَصْرٍ الْحَاجِبِ، فَأَشَارَ عَلَى الْمُقْتَدِرِ بِهِ، فَاسْتَوْزَرَهُ. وَكَانَ ابْنُ مُقْلَةَ لَمَّا قَرُبَ الْهَجَرِيُّ مِنَ الْأَنْبَارِ قَدْ أَنْفَذَ صَاحِبًا لَهُ مَعَهُ خَمْسُونَ طَائِرًا، وَأَمَرَهُ بِالْمُقَامِ بِالْأَنْبَارِ، وَإِرْسَالِ الْأَخْبَارِ إِلَيْهِ وَقْتًا بِوَقْتٍ، (فَفَعَلَ ذَلِكَ) ، فَكَانَتْ

الْأَخْبَارُ تَرِدُ مِنْ جِهَتِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ عَلَى يَدِ نَصْرٍ الْحَاجِبِ، فَقَالَ نَصْرٌ: هَذَا فِعْلُهُ فِيمَا لَا يَلْزَمُهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ إِذَا اصْطَنَعْتَهُ! فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي وِزَارَتِهِ. وَتَقَدَّمَ الْمُقْتَدِرُ فِي مُنْتَصَفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِالْقَبْضِ عَلَى الْوَزِيرِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، وَأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَخَلَعَ عَلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، وَتَوَلَّى الْوِزَارَةَ، وَأَعَانَهُ عَلَيْهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ لِمَوَدَّةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ حَالِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ وَإِخْوَتِهِ لَمَّا وَلِيَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْوِزَارَةَ كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْبَرِيدِيِّ قَدْ ضَمِنَ الْخَاصَّةَ، وَكَانَ أَخُوهُ أَبُو يُوسُفَ عَلَى سُرَّقَ، فَلَمَّا اسْتَعْمَلَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْعُمَّالَ، وَرَتَّبَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: تُقَلِّدُ مِثْلَ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْجَلِيلَةِ، وَتَقْتَصِرُ بِي عَلَى ضَمَانِ الْخَاصَّةِ بِالْأَهْوَازِ، وَبِأَخِي أَبِي يُوسُفَ عَلَى سُرَّقَ! لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يَقْنَعُ بِهَذَا مِنْكَ، فَإِنَّ لِطَلَبِي صَوْتًا سَوْفَ يُسْمَعُ بَعْدَ أَيَّامٍ. فَلَمَّا بَلَغَهُ اضْطِرَابُ أَمْرِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى أَرْسَلَ أَخَاهُ أَبَا الْحُسَيْنِ إِلَى بَغْدَاذَ (وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْطُبَ لَهُ أَعْمَالَ الْأَهْوَازِ وَمَا يَجْرِي مَعَهَا إِذَا تَجَدَّدَتْ وِزَارَةٌ) لِمَنْ يَأْخُذُ الرُّشَا، وَيَرْتَفِقُ، فَلَمَّا وَزَرَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ بَذَلَ لَهُ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ عَلَى ذَلِكَ، فَقَلَّدَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْأَهْوَازَ جَمِيعَهَا، سِوَى السُّوسِ وَجُنْدَيْسَابُورَ، وَقَلَّدَ أَخَاهُ أَبَا الْحُسَيْنِ الْفُرَاتِيَّةَ، وَقَلَّدَ أَخَاهُمَا أَبَا يُوسُفَ الْخَاصَّةَ وَالْأَسَافِلَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي ذِمَّةِ أَبِي أَيُّوبَ السِّمْسَارِ إِلَى أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِي الْأَعْمَالِ. وَكَتَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقِلَّةَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْقَبْضِ عَلَى ابْنِ أَبِي السَّلَاسِلِ، فَسَارَ

بِنَفْسِهِ فَقَبَضَ عَلَيْهِ بِتُسْتَرَ، وَأَخَذَ مِنْهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ وَلَمْ يُوصِلْهَا، وَكَانَ مُتَهَوِّرًا لَا يُفَكِّرُ فِي عَاقِبَةِ أَمْرٍ، وَسَيَرِدُ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا يُعْلَمُ بِهِ دَهَاؤُهُ، وَمَكْرُهُ وَقِلَّةُ دِينِهِ، وَتَهَوُّرُهُ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ جَعَلَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنَ بْنَ أَحْمَدَ الْمَادَرَائِيَّ مُشْرِفًا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ. (الْبَرِيدِيُّ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْبَرِيدِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْأَمِيرُ ابْنُ مَاكُولَا، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ مِسْكَوَيْهِ بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتٍ، وَالزَّايِ، وَقَالَ: كَانَ جَدُّهُ يَخْدِمُ يَزِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ الْحِمْيَرِيَّ، فَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَمَا ذَكَرْنَا قَوْلَ ابْنِ مِسْكَوَيْهِ إِلَّا حَتَّى لَا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّنَا لَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ، وَأَخْطَأْنَا الصَّوَابَ) . ذِكْرُ مَنْ ظَهَرَ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ مِنَ الْقَرَامِطَةِ لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِي طَاهِرٍ الْقَرْمَطِيِّ مَا ذَكَرْنَاهُ، اجْتَمَعَ مَنْ كَانَ بِالسَّوَادِ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ الْقَرَامِطَةِ فَيَكْتُمُ اعْتِقَادَهُ خَوْفًا، فَأَظْهَرُوا اعْتِقَادَهُمْ، فَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ بِسَوَادِ وَاسِطَ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَوَلَّوْا أَمْرَهُمْ رَجُلًا يُعْرَفُ بِحُرَيْثِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَاجْتَمَعَ طَائِفَةٌ أُخْرَى بِعَيْنِ التَّمْرِ وَنَوَاحِيهَا فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَوَلَّوْا أَمْرَهُمْ إِنْسَانًا يُسَمَّى عِيسَى بْنَ مُوسَى، وَكَانُوا يَدْعُونَ إِلَى الْمَهْدِيِّ. وَسَارَ عِيسَى إِلَى الْكُوفَةِ، وَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا، وَجَبَى الْخَرَاجَ، وَصَرَفَ الْعُمَّالَ عَنِ السَّوَادِ. وَسَارَ حُرَيْثُ بْنُ مَسْعُودٍ إِلَى أَعْمَالِ الْمُوَفَّقِيِّ وَبَنَى بِهَا دَارًا سَمَّاهَا دَارَ الْهِجْرَةِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَكَانُوا يَنْهَبُونَ، وَيَسْبُونَ، وَيَقْتُلُونَ، وَكَانَ يَتَقَلَّدُ الْحَرْبَ بِوَاسِطَ بُنِّيُّ بْنُ نَفِيسٍ، فَقَاتَلَهُمْ، فَهَزَمُوهُ، فَسَيَّرَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ إِلَى حُرَيْثِ بْنِ مَسْعُودٍ وَمَنْ

مَعَهُ هَارُونَ بْنَ غَرِيبٍ، وَإِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ بِالْكُوفَةِ صَافِيًا الْبَصْرِيَّ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ هَارُونُ، وَأَوْقَعَ صَافِي بِمَنْ سَارَ إِلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَتِ الْقَرَامِطَةُ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، وَقُتِلَ أَكْثَرُ مِمَّنْ أُسِرَ، وَأُخِذَتْ أَعْلَامُهُمْ، وَكَانَتْ بِيضًا، وَعَلَيْهَا مَكْتُوبٌ: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] (فَأُدْخِلَتْ بَغْدَاذَ مَنْكُوسَةً) ، وَاضْمَحَلَّ أَمْرُ مَنْ بِالسَّوَادِ مِنْهُمْ، وَكَفَى اللَّهُ النَّاسَ شَرَّهُمْ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ نَازُوكَ وَهَارُونَ بْنِ غَرِيبٍ وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ نَازُوكَ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ، وَهَارُونَ بْنِ غَرِيبٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سَاسَةَ دَوَابِّ هَارُونَ بْنِ غَرِيبٍ وَسَاسَةَ نَازُوكَ تَغَايَرُوا عَلَى غُلَامٍ أَمْرَدَ، وَتَضَارَبُوا بِالْعِصِيِّ، فَحَبَسَ نَازُوكُ (سَاسَةَ دَوَابِّ) هَارُونَ، بَعْدَ أَنْ ضَرَبَهُمْ، فَسَارَ أَصْحَابُ هَارُونَ إِلَى مَحْبِسِ الشُّرْطَةِ، وَوَثَبُوا عَلَى نَائِبِ نَازُوكَ بِهِ، وَانْتَزَعُوا أَصْحَابَهُمْ مِنَ الْحَبْسِ، فَرَكِبَ نَازُوكُ، وَشَكَا إِلَى الْمُقْتَدِرِ، فَقَالَ: كِلَاكُمَا عَزِيزٌ عَلَيَّ، وَلَسْتُ أَدْخُلُ بَيْنَكُمَا، فَعَادَ وَجَمَعَ رِجَالَهُ، وَجَمَعَ هَارُونُ رِجَالَهُ، وَزَحَفَ أَصْحَابُ نَازُوكَ إِلَى دَارِ هَارُونَ، فَأَغْلَقَ بَابَهُ، وَبَقِيَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ خَارِجَ الدَّارِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَصْحَابُ نَازُوكَ، وَجَرَحُوا، فَفَتَحَ هَارُونُ الْبَابَ، وَخَرَجَ أَصْحَابُهُ، فَوَضَعُوا السِّلَاحَ فِي أَصْحَابِ نَازُوكَ، (فَقَتَلُوا مِنْهُمْ، وَجَرَحُوا، وَاشْتَبَكَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، فَكَفَّ نَازُوكُ أَصْحَابَهُ. وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ، فَكَفَّا، وَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ، وَاسْتَوْحَشَ نَازُوكُ) ، وَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَغَيُّرِ الْمُقْتَدِرِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَيْهِ هَارُونُ وَصَالَحَهُ، وَخَرَجَ

بِأَصْحَابِهِ، وَنَزَلَ بِالْبُسْتَانِ النَّجْمِيِّ لِيَبْعُدَ عَنْ نَازُوكَ، فَأَكْثَرَ النَّاسُ الْأَرَاجِيفَ، وَقَالُوا: قَدْ صَارَ هَارُونُ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ مُؤْنِسٍ، وَكَتَبُوا إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ بِالرَّقَّةِ، فَأَسْرَعَ الْعَوْدَ إِلَى بَغْدَاذَ، (فَنَزَلَ بِالشَّمَّاسِيَّةِ فِي أَعْلَى بَغْدَاذَ) ، وَلَمْ يَلْقَ الْمُقْتَدِرَ، فَصَعِدَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْمُقْتَدِرِ، وَالْوَزِيرُ ابْنُ مُقْلَةَ، فَأَبْلَغَاهُ سَلَامَ الْمُقْتَدِرِ وَاسْتِيحَاشَهُ لَهُ، وَعَادَ فَاسْتَشْعَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُقْتَدِرِ وَمُؤْنِسٍ مِنْ صَاحِبِهِ، وَأَحْضَرَ الْمُقْتَدِرُ هَارُونَ بْنَ غَرِيبٍ، وَهُوَ ابْنُ خَالِهِ، فَجَعَلَهُ مَعَهُ فِي دَارِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ مُؤْنِسٌ بِذَلِكَ ازْدَادَ نُفُورًا وَاسْتِيحَاشًا، وَأَقْبَلَ أَبُو الْهَيْجَاءِ بْنُ حَمْدَانَ مِنْ بِلَادِ الْجَبَلِ، فَنَزَلَ عِنْدَ مُؤْنِسٍ (وَمَعَهُ عَسْكَرٌ كَبِيرٌ، وَصَارَتِ الْمُرَاسَلَاتُ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَمُؤْنِسٍ) تَتَرَدَّدُ، وَالْأُمَرَاءُ يَخْرُجُونَ إِلَى مُؤْنِسٍ، وَانْقَضَتِ السَّنَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. ذِكْرُ قَتْلِ الْحَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ الدَّاعِي فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الْحَسَنُ بْنُ الْقَاسِمِ الدَّاعِي الْعَلَوِيُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اسْتِيلَاءَ أَسْفَارِ بْنِ شِيرُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ عَلَى طَبَرِسْتَانَ، وَمَعَهُ مَرْدَاوِيجُ، فَلَمَّا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا كَانَ الْحَسَنُ بْنُ الْقَاسِمِ بِالرَّيِّ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَأَخْرَجَ مِنْهَا أَصْحَابَ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى قَزْوِينَ، وَزَنْجَانَ، وَأَبْهَرَ، وَقُمَّ، وَكَانَ مَعَهُ مَاكَانُ بْنُ كَالِي الدَّيْلَمِيُّ، فَسَارَ نَحْوَ طَبَرِسْتَانَ، وَالْتَقَوْا هُمْ وَأَسْفَارٌ عِنْدَ سَارِيَةَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ الْحَسَنُ (وَمَاكَانُ بْنُ كَالِي فَلُحِقَ الْحَسَنُ فَقُتِلَ، وَكَانَ انْهِزَامُ مُعْظَمِ أَصْحَابِ الْحَسَنِ عَلَى تَعَمُّدٍ) مِنْهُمْ لِلْهَزِيمَةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ، وَمَنَعَهُمْ عَنْ ظُلْمِ الرَّعِيَّةِ، وَشُرْبِ

الْخُمُورِ، وَكَانُوا يُبْغِضُونَهُ لِذَلِكَ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَسْتَقْدِمُوا هَرُوسِنْدَانَ وَهُوَ أَحَدُ رُؤَسَاءِ الْجِيلِ، وَكَانَ خَالَ مَرْدَاوِيجَ وَوَشْمَكِيرَ، لِيُقَدِّمُوهُ عَلَيْهِمْ، وَيَقْبِضُوا عَلَى الْحَسَنِ الدَّاعِي، وَيُنَصِّبُوا أَبَا الْحَسَنِ بْنَ الْأُطْرُوشِ، وَيَخْطُبُوا لَهُ. وَكَانَ هَرُوسِنْدَانُ مَعَ أَحْمَدَ الطَّوِيلِ بِالدَّامِغَانِ بَعْدَ مَوْتِ صُعْلُوكٍ، فَوَقَفَ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى الْحَسَنِ الدَّاعِي يُعْلِمُهُ، فَأَخَذَ حِذْرَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ هَرُوسِنْدَانُ لَقِيَهُ مَعَ الْقُوَّادِ، وَأَخَذَهُمْ إِلَى قَصْرِهِ بِجُرْجَانَ لِيَأْكُلُوا طَعَامًا، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ وَافَقَ خَوَاصَّ أَصْحَابِهِ عَلَى قَتْلِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِمَنْعِ أَصْحَابِ أُولَئِكَ الْقُوَّادِ مِنَ الدُّخُولِ، فَلَمَّا دَخَلُوا دَارَهُ قَابَلَهُمْ عَلَى مَا يُرِيدُونَ [أَنْ] يَفْعَلُوهُ، وَمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي أَحَلَّتْ لَهُ دِمَاءَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُمُ الَّذِينَ بِبَابِهِ بِقَتْلِهِمْ، وَأَمْرَهُمْ بِنَهْبِ أَمْوَالِهِمْ، فَاشْتَغَلُوا بِالنَّهْبِ، وَتَرَكُوا أَصْحَابَهُمْ، وَعَظُمَ قَتْلُهُمْ عَلَى أَقْرِبَائِهِمْ وَنَفَرُوا عَنْهُ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ تَخَلَّوْا عَنْهُ حَتَّى قُتِلَ. وَلَمَّا قُتِلَ اسْتَوْلَى أَسْفَارٌ عَلَى بِلَادِ طَبَرِسْتَانَ، وَالرَّيِّ، وَجُرْجَانَ، وَقَزْوِينَ، وَزَنْجَانَ، وَأَبْهَرَ، وَقُمَّ، وَالْكَرْخِ، وَدَعَا لِصَاحِبِ خُرَاسَانَ، وَهُوَ السَّعِيدُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ، وَأَقَامَ بِسَارِيَةَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى آمُلَ هَارُونَ بْنَ بَهْرَامَ، وَكَانَ هَارُونُ يَحْتَاجُ أَنْ يَخْطُبَ فِيهَا لِأَبِي جَعْفَرٍ الْعَلَوِيِّ، وَخَافَ أَسْفَارٌ نَاحِيَةَ أَبِي جَعْفَرٍ أَنْ يُجَدِّدَ لَهُ فِتْنَةً وَحَرْبًا، فَاسْتَدْعَى هَارُونَ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِلَى أَحَدِ أَعْيَانِ آمُلَ، وَيُحْضِرَ عُرْسَهُ أَبَا جَعْفَرٍ وَغَيْرَهُ مِنْ رُؤَسَاءِ الْعَلَوِيِّينَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ ذَكَرَهُ أَسْفَارٌ، ثُمَّ سَارَ أَسْفَارٌ مِنْ سَارِيَةَ مُجِدًّا فَوَافَى آمُلَ وَقْتَ الْمَوْعِدِ، وَهَجَمَ [عَلَى] دَارِ

هَارُونَ (عَلَى حِينِ) غَفْلَةٍ، وَقَبَضَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَعْيَانِ الْعَلَوِيِّينَ، وَحَمَلَهُمْ إِلَى بُخَارَى، فَاعْتُقِلُوا بِهَا إِلَى أَنْ خَلَصُوا أَيَّامَ فِتْنَةِ أَبِي زَكَرِيَّاءَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَلَمَّا فَرَغَ أَسْفَارٌ مِنْ أَمْرِ طَبَرِسْتَانَ سَارَ إِلَى الرَّيِّ، وَبِهَا مَاكَانُ بْنُ كَالِي، فَأَخَذَهَا مِنْهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَسَارَ مَاكَانُ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، فَأَقَامَ هُنَاكَ. وَأَحَبَّ أَسْفَارٌ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى قَلْعَةِ أَلَمُوتَ، وَهِيَ قَلْعَةٌ عَلَى جَبَلٍ شَاهِقٍ مِنْ حُدُودِ الدَّيْلَمِ، وَكَانَتْ لِسِيَاهْ جَشْمَ بْنِ مَالِكٍ الدَّيْلَمِيِّ، وَمَعْنَاهُ الْأَسْوَدُ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى إِحْدَى عَيْنَيْهِ شَامَةٌ سَوْدَاءُ، فَرَاسَلَهُ أَسْفَارٌ وَهَنَّأَهُ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ عِيَالَهُ فِي قَلْعَةِ أَلَمُوتَ، وَوَلَّاهُ قَزْوِينَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَنَقَلَهُمْ إِلَيْهَا، ثُمَّ كَانَ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا حَصَلَ فِيهَا مِائَةُ رَجُلٍ اسْتَدْعَاهُ مِنْ قَزْوِينَ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ قَبَضَ عَلَيْهِ، وَقَتَلَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ. وَكَانَ أَسْفَارٌ لَمَّا اجْتَازَ بِسُمْنَانَ اسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ ابْنُ أَمِيرٍ كَانَ صَاحِبَ جَبَلِ دَنْبَاوَنْدَ، وَامْتَنَعَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ السُّمَّانِيُّ مِنَ النُّزُولِ إِلَيْهِ، وَامْتَنَعَ بِحِصْنٍ بِقَرْيَةِ رَأْسِ الْكَلْبِ، فَحَقَدَهَا عَلَيْهِ أَسْفَارٌ، فَلَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى الرَّيِّ أَنْفَذَ إِلَيْهِ جَيْشًا يَحْصُرُونَهُ، وَعَلَيْهِمْ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ (الدَّيْلَمِيُّ، فَحَصَرُوهُ) ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ مَنْ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِمُصَالَحَتِهِ فَفَعَلَ، وَأَجَابَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ وَضَعَ عَلَيْهِ مَنْ يُحَسِّنُ لَهُ أَنْ يُضِيفَ عَبْدَ الْمَلِكِ، فَأَضَافَهُ، فَحَضَرَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ شُجْعَانِ أَصْحَابِهِ، فَتَرَكَهُمْ تَحْتَ الْحِصْنِ، وَصَعِدَ وَحْدَهُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَتَحَادَثَا سَاعَةً، ثُمَّ اسْتَخْلَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ لِيُشِيرَ إِلَيْهِ شَيْئًا فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمَا

أَحَدٌ غَيْرَ غُلَامٍ صَغِيرٍ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ مُنَقْرَسًا زَمِنًا، وَأَخْرَجَ حَبْلَ إِبْرَيْسَمَ كَانَ قَدْ أَعَدَّهُ فَشَدَّهُ فِي نَافِذَةٍ فِي تِلْكَ الْغُرْفَةِ وَنَزَلَ وَتَخَلَّصَ. وَاسْتَغَاثَ ذَلِكَ الْغُلَامُ، فَجَاءَ أَصْحَابُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَكَسَرُوا الْبَابَ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ أَغْلَقَهُ، فَلَمَّا دَخَلُوا رَأَوْهُ مَقْتُولًا، فَقَتَلُوا بِهِ كُلَّ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَحَفِظُوا نُفُوسَهُمْ. وَعَظُمَتْ جُيُوشُ أَسْفَارٍ وَجَلَّ قَدْرُهُ، فَتَجَبَّرَ وَعَصَى عَلَى الْأَمِيرِ السَّعِيدِ، صَاحِبِ خُرَاسَانَ، وَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجًا وَيَنْصِبَ بِالرَّيِّ سَرِيرَ ذَهَبٍ لِلسَّلْطَنَةِ، وَيُحَارِبَ الْخَلِيفَةَ، وَصَاحِبَ خُرَاسَانَ، فَسَيَّرَ الْمُقْتَدِرُ إِلَيْهِ هَارُونَ بْنَ غَرِيبٍ فِي عَسْكَرٍ نَحْوَ قَزْوِينَ، فَحَارَبَهُ أَصْحَابُ أَسْفَارٍ بِهَا، فَانْهَزَمَ هَارُونُ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِبَابِ قَزْوِينَ، وَكَانَ أَهْلُ قَزْوِينَ قَدْ سَاعَدُوا أَصْحَابَ هَارُونَ، فَحَقَدَهَا عَلَيْهِمْ أَسْفَارٌ. ثُمَّ إِنَّ الْأَمِيرَ السَّعِيدَ، صَاحِبَ خُرَاسَانَ، سَارَ مِنْ بُخَارَى قَاصِدًا نَحْوَ أَسْفَارٍ لِيَأْخُذَ بِلَادَهُ، فَبَلَغَ نَيْسَابُورَ، فَجَمَعَ أَسْفَارٌ عَسْكَرَهُ وَأَشَارَ عَلَى أَسْفَارٍ وَزِيرُهُ مُطَرِّفُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُرْجَانِيُّ بِمُرَاسَلَةِ صَاحِبِ خُرَاسَانَ، وَالدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ وَبَذْلِ الْمَالِ لَهُ، فَإِنْ أَجَابَ، وَإِلَّا فَالْحَرْبُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَكَانَ فِي عَسْكَرِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَتْرَاكِ صَاحِبِ خُرَاسَانَ قَدْ سَارُوا مَعَهُ فَخَوَّفَهُ وَزِيرُهُ مِنْهُمْ، فَرَجَعَ إِلَى رَأْيِهِ وَرَاسَلَهُ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَعَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ أَنْ يَقْبَلَ الْأَمْوَالَ، وَإِقَامَةَ الْخُطْبَةِ لَهُ وَخَوَّفُوهُ الْحَرْبَ وَأَنَّهُ لَا يَدْرِي لِمَنِ النَّصْرُ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ، وَأَجَابَ أَسْفَارٌ إِلَى مَا طَلَبَ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ شُرُوطًا مِنْ حَمْلِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاتَّفَقَا فَشَرَعَ أَسْفَارٌ بَعْدَ إِتْمَامِ الصُّلْحِ، وَقَسَّطَ عَلَى الرَّيِّ وَأَعْمَالِهَا، عَلَى كُلِّ رَجُلٍ دِينَارًا، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ أَمْ مِنَ الْمُجْتَازِينَ، فَحَصَلَ لَهُ مَالٌ عَظِيمٌ أَرْضَى صَاحِبَ خُرَاسَانَ بِبَعْضِهِ، وَرَجَعَ عَنْهُ.

فَعَظُمَ أَمْرُ أَسْفَارٍ خِلَافَ مَا كَانَ، وَزَادَ تَجَبُّرُهُ، وَقَصَدَ قَزْوِينَ لِمَا فِي نَفْسِهِ عَلَى أَهْلِهَا، فَأَوْقَعَ بِهِمْ وَقْعَةً عَظِيمَةً أَخَذَ فِيهَا أَمْوَالَهُمْ، وَعَذَّبَهُمْ، وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَعَسَّفَهُمْ عَسْفًا شَدِيدًا، وَسَلَّطَ الدَّيْلَمَ عَلَيْهِمْ، فَضَاقَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِمْ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، وَسَمِعَ مُؤَذِّنَ الْجَامِعِ يُؤَذِّنُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُلْقِيَ مِنَ الْمَنَارَةِ إِلَى الْأَرْضِ، فَاسْتَغَاثَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ وَظُلْمِهِ، وَخَرَجَ أَهْلُ قَزْوِينَ إِلَى الصَّحْرَاءِ: الرِّجَالُ، وَالنِّسَاءُ، وَالْوَلَدَانُ يَتَضَرَّعُونَ وَيَدْعُونَ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُونَ اللَّهَ كَشْفَ مَا هُمْ فِيهِ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَضَحِكَ مِنْهُمْ، وَشَتَمَهُمُ اسْتِهْزَاءً بِالدُّعَاءِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ انْهَزَمَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ قَتْلِ أَسْفَارٍ كَانَ فِي أَصْحَابِ أَسْفَارٍ قَائِدٌ مِنْ أَكْبَرِ قُوَّادِهِ يُقَالُ لَهُ مَرْدَاوِيجُ بْنُ زَيَّارٍ الدَّيْلَمِيُّ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى سَلَارَ صَاحِبِ شَمِيرَانَ الطِّرْمِ يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ، وَسَلَارُ هَذَا هُوَ الَّذِي صَارَ وَلَدُهُ فِيمَا بَعْدُ صَاحِبَ أَذْرَبِيجَانَ وَغَيْرِهَا، فَلَمَّا وَصَلَ مَرْدَاوِيجُ إِلَيْهِ تَشَاكَيَا مَا كَانَ النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْجُهْدِ وَالْبَلَاءِ، فَتَحَالَفَا، وَتَعَاقَدَا عَلَى قَصْدِهِ، وَالتَّسَاعُدِ عَلَى حَرْبِهِ. وَكَانَ أَسْفَارٌ قَدْ وَصَلَ إِلَى قَزْوِينَ، وَهُوَ يَنْتَظِرُ وَصُولَ مَرْدَاوِيجَ بِجَوَابِهِ، فَكَتَبَ مَرْدَاوِيجُ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْقُوَّادِ يَثِقُ بِهِمْ يُعَرِّفُهُمْ مَا اتَّفَقَ هُوَ وَسَلَارُ عَلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ الْجُنْدُ قَدْ سَئِمُوا أَسْفَارًا لِسُوءِ سِيرَتِهِ، وَظُلْمِهِ، وَجَوْرِهِ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ أَجَابَ إِلَى مُسَاعَدَةِ مَرْدَاوِيجَ مُطَرِّفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَزِيرُ أَسْفَارٍ، وَسَارَ مَرْدَاوِيجُ وَسَلَارُ نَحْوَ أَسْفَارٍ، وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ قَدْ بَايَعُوا مَرْدَاوِيجَ، فَأَحَسَّ بِالشَّرِّ، وَكَانَ ذَلِكَ عَقِيبَ حَادِثَتِهِ مَعَ أَهْلِ قَزْوِينَ وَدُعَائِهِمْ، وَثَارَ الْجُنْدُ بِأَسْفَارٍ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ غِلْمَانِهِ وَوَرَدَ الرَّيَّ، فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالٍ كَانَ (عِنْدَ

نَائِبِهِ) بِهَا شَيْئًا، فَلَمْ يُعْطِهِ غَيْرَ خَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أَمِيرٌ وَلَا يُعْوِزُكَ مَالٌ، فَتَرَكَهُ وَانْصَرَفَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَأَقَامَ بِنَاحِيَةِ بَيْهَقَ. وَأَمَّا مَرْدَاوِيجُ فَإِنَّهُ عَادَ مِنْ قَزْوِينَ نَحْوَ الرَّيِّ، وَكَتَبَ إِلَى مَاكَانَ بْنِ كَالِي، وَهُوَ بِطَبَرِسْتَانَ، يَسْتَدْعِيهِ لِيَتَسَاعَدَا وَيَتَعَاضَدَا، فَسَرَى مَاكَانُ بْنُ كَالِي إِلَى أَسْفَارٍ، وَكَانَ قَدْ عَسَفَ أَهْلَ النَّاحِيَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا، فَلَمَّا أَحَسَّ بِمَاكَانَ سَارَ إِلَى بُسْتَ، وَرَكِبَ الْمَفَازَةَ نَحْوَ الرَّيِّ لِيَقْصِدَ قَلْعَةَ أَلَمُوتَ الَّتِي بِهَا أَهْلُهُ وَأَمْوَالُهُ، فَانْقَطَعَ عَنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَقَصَدَ مَرْدَاوِيجَ فَأَعْلَمَهُ خَبَرَهُ، فَخَرَجَ مَرْدَاوِيجُ مِنْ سَاعَتِهِ فِي أَثَرِهِ، وَقَدَّمَ بَعْضَ قُوَّادِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَحِقَهُ ذَلِكَ الْقَائِدُ وَقَدْ نَزَلَ يَسْتَرِيحُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ، فَقَالَ لَهُ أَسْفَارٌ: لَعَلَّكُمُ اتَّصَلَ بِكُمْ خَبَرِي وَبُعِثْتَ فِي طَلَبِي؟ (قَالَ: نَعَمْ) ! فَبَكَى أَصْحَابُهُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَسْفَارٌ ذَلِكَ، وَقَالَ: بِمِثْلِ هَذِهِ الْقُلُوبِ تَتَجَنَّدُونَ! أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الْوِلَايَاتِ مَقْرُونَةٌ بِالْبَلِيَّاتِ؟ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ذَلِكَ الْقَائِدِ وَهُوَ يَضْحَكُ، وَسَأَلَهُ عَنْ قُوَّادِهِ الَّذِينَ أَسْلَمُوهُ وَخَذَلُوهُ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْدَاوِيجَ قَتَلَهُمْ، فَتَهَلَّلَ وَجْهُهُ وَقَالَ: كَانَتْ حَيَاةُ هَؤُلَاءِ غُصَّةً فِي حَلْقِي، وَقَدْ طَابَتِ الْآنَ نَفْسِي، فَامْضِ فِي مَا أُمِرْتَ بِهِ، وَظَنَّ أَنَّهُ أُمِرَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ: مَا أُمِرْتُ فِيكَ بِسُوءٍ، وَحَمَلَهُ إِلَى مَرْدَاوِيجَ، فَسَلَّمَهُ إِلَى جَمَاعَةِ أَصْحَابِهِ لِيَحْمِلَهُ إِلَى الرَّيِّ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّ أَكْثَرَ (مَنْ مَعَكَ) كَانُوا أَصْحَابَ هَذَا، فَانْحَرَفُوا عَنْهُ إِلَيْكَ، (وَقَدْ

أَوْحَشْتَ أَكْثَرَهُمْ بِقَتْلِ قُوَّادِهِمْ) فَمَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ غَدًا وَيَقْبِضُوا عَلَيْكَ؟ فَحِينَئِذٍ أَمَرَ بِقَتْلِهِ وَانْصَرَفَ إِلَى الرَّيِّ. وَقِيلَ فِي قَتْلِهِ: إِنَّهُ لَمَّا عَادَ نَحْوَ قَلْعَةِ أَلَمُوتَ نَزَلَ فِي وَادٍ هُنَاكَ يَسْتَرِيحُ، فَاتَّفَقَ أَنَّ مَرْدَاوِيجَ خَرَجَ يَتَصَيَّدُ، وَيَسْأَلُ عَنْ أَخْبَارِهِ، فَرَأَى خَيْلًا يَسِيرَةً فِي وَادٍ هُنَاكَ، فَأَرْسَلَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ لِيَأْخُذَ خَبَرَهَا، فَرَأَوْا أَسْفَارَ بْنَ شِيرُوَيْهِ فِي عِدَّةٍ يَسِيرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، يُرِيدُ الْحِصْنَ لِيَأْخُذَ مَا لَهُ فِيهِ وَيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى جَمْعِ الْجُيُوشِ، وَيَعُودَ إِلَى مُحَارَبَةِ مَرْدَاوِيجَ، فَأَخَذُوهُ وَمَنْ مَعَهُ، وَحَمَلُوهُ إِلَى مَرْدَاوِيجَ، فَلَمَّا رَآهُ نَزَلَ إِلَيْهِ فَذَبَحَهُ. وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ مَرْدَاوِيجَ فِي الْبِلَادِ، وَعَادَ إِلَى قَزْوِينَ بَعْدَ قَتْلِ أَسْفَارٍ، فَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا، وَوَعَدَهُمُ الْجَمِيلَ. وَقِيلَ: بَلْ دَخَلَ أَسْفَارٌ إِلَى رَحًى، وَقَدْ نَالَ مِنْهُ الْجُوعُ، فَطَلَبَ مِنَ الطَّحَّانِ شَيْئًا يَأْكُلُهُ، فَقَدَّمَ لَهُ خُبْزًا وَلَبَنًا، فَأَكَلَ مِنْهُ هُوَ وَغُلَامٌ لَهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَأَقْبَلَ مَرْدَاوِيجُ إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَأَشْرَفَ عَلَى الرَّحَى فَرَأَى حَوَافِرَ الدَّوَابِّ، فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ دَخَلَ فَارِسَانِ إِلَى هَذِهِ الرَّحَى، فَكَبَسَ مَرْدَاوِيجُ الرَّحَى، فَرَآهُ وَقَتَلَهُ. ذِكْرُ مُلْكِ مَرْدَاوِيجَ وَلَمَّا انْهَزَمَ أَسْفَارٌ مِنْ مَرْدَاوِيجَ ابْتَدَأَ فِي مِلْكِ الْبِلَادِ ثُمَّ إِنَّهُ ظَفِرَ بِأَسْفَارٍ فَقَتَلَهُ فَتَمَكَّنَ مُلْكُهُ وَثَبَتَ، وَتَنَقَّلَ فِي الْبِلَادِ يَمْلِكُهَا مَدِينَةً مَدِينَةً، وَوِلَايَةً وِلَايَةً، فَمَلَكَ قَزْوِينَ، وَوَعَدَهُمُ الْجَمِيلَ فَأَحَبُّوهُ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الرَّيِّ فَمَلَكَهَا، وَمَلَكَ هَمَذَانَ، وَكَنْكُورَ، وَالدِّينَوَرَ، وَبُرُوجَرْدَ، وَقُمَّ، وَقَاشَانَ، وَأَصْبَهَانَ، وَجَرْبَاذَقَانَ وَغَيْرَهَا.

ثُمَّ إِنَّهُ أَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِ أَصْبَهَانَ خَاصَّةً، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ، وَهَتَكَ الْمَحَارِمَ، وَطَغَى، وَعَمِلَ لَهُ سَرِيرًا مِنْ ذَهَبٍ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَسَرِيرًا مِنْ فِضَّةٍ يَجْلِسُ عَلَيْهِ أَكَابِرُ قُوَّادِهِ، وَإِذَا جَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ يَقِفُ عَسْكَرُهُ صُفُوفًا بِالْبُعْدِ مِنْهُ، وَلَا يُخَاطِبُهُ أَحَدٌ إِلَّا الْحُجَّابَ الَّذِينَ رَتَّبَهُمْ لِذَلِكَ، وَخَافَهُ النَّاسُ خَوْفًا شَدِيدًا. ذِكْرُ مُلْكِ مَرْدَاوِيجَ طَبَرِسْتَانَ قَدْ ذَكَرْنَا اتِّفَاقَ مَاكَانَ بْنِ كَالِي مَعَ مَرْدَاوِيجَ، وَمُسَاعَدَتَهُ عَلَى أَسْفَارٍ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مُلْكُ مَرْدَاوِيجَ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُ وَعَسَاكِرُهُ، طَمِعَ فِي جُرْجَانَ، وَطَبَرِسْتَانَ، وَكَانَتَا مَعَ مَاكَانَ بْنِ كَالِي، فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، فَثَبَتَ لَهُ مَاكَانُ، فَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ مَرْدَاوِيجُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى طَبَرِسْتَانَ وَرَتَّبَ فِيهَا بَلْقَاسِمَ بْنَ بَانِجِينَ، وَهُوَ اسْفِهْسِلَارُ عَسْكَرِهِ، وَكَانَ حَازِمًا شُجَاعًا، جَيِّدَ الرَّأْيِ. ثُمَّ سَارَ مَرْدَاوِيجُ نَحْوَ جُرْجَانَ، وَكَانَ بِهَا مِنْ قِبَلِ مَاكَانَ شِيرْزِيلُ بْنُ سَلَارَ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ تُرْكِيِّ، فَهَرَبَا مِنْ مَرْدَاوِيجَ، وَمَلَكَهَا مَرْدَاوِيجُ وَرَتَّبَ فِيهَا سُرْخَابَ بْنَ بَاوِسَ، خَالَ وَلَدِ بَلْقَاسِمِ بْنِ بَانْجِينَ، خَلِيفَةً عَنْ بَلْقَاسِمِ فَجَمَعَ بَلْقَاسِمُ جُرْجَانَ، وَطَبَرِسْتَانَ، وَعَادَ مَرْدَاوِيجُ إِلَى أَصْبَهَانَ ظَافِرًا غَانِمًا. وَسَارَ مَاكَانُ إِلَى الدَّيْلَمِ وَاسْتَنْجَدَ أَبَا الْفَضْلِ الثَّائِرَ بِهَا، فَأَكْرَمَهُ، وَسَارَ مَعَهُ إِلَى طَبَرِسْتَانَ فَلَقِيَهُمَا بَلْقَاسِمُ، وَتَحَارَبُوا، فَانْهَزَمَ مَاكَانُ، (وَالثَّائِرُ، فَأَمَّا الثَّائِرُ فَقَصَدَ الدَّيْلَمَ،

وَأَمَّا مَاكَانُ) فَسَارَ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَدَخَلَ فِي طَاعَةِ السَّعِيدِ نَصْرٍ، وَاسْتَنْجَدَهُ، فَأَمَدَّهُ بِأَكْثَرِ جَيْشِهِ، وَبَالَغَ فِي تَقْوِيَتِهِ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ مَاكَانُ وَأَبُو عَلِيٍّ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ وَمَاكَانُ وَعَادَا إِلَى نَيْسَابُورَ، ثُمَّ عَادَ مَاكَانُ بْنُ كَالِي إِلَى الدَّامِغَانِ لِيَتَمَلَّكَهَا، فَسَارَ نَحْوَهُ بَلْقَاسِمُ، (فَصَدَّهُ عَنْهَا) ، فَعَادَ إِلَى خُرَاسَانَ. وَسَنَذْكُرُ بَاقِي أَخْبَارِ مَاكَانَ فِيمَا بَعْدُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا كَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِ أَبِي يَزِيدَ الْخَارِجِيِّ بِالْمَغْرِبِ، وَسَنَذْكُرُ أَمْرَهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ مُسْتَقْصًى. وَفِيهَا ظَهَرَ بِسِجِسْتَانَ خَارِجِيٌّ، وَسَارَ فِي جَمْعٍ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ يُرِيدُ التَّغَلُّبَ عَلَيْهَا، فَقَتَلَهُ أَصْحَابُهُ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا، وَتَفَرَّقُوا. وَفِيهَا صُرِفَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الْعُشُورِيُّ عَنْ حَجْبَةِ الْخَلِيفَةِ وَقُلِّدُهَا يَاقُوتٌ، وَكَانَ يَتَوَلَّى بِفَارِسَ، وَهُوَ بِهَا، فَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْحَجْبَةِ ابْنَهُ أَبَا الْفَتْحِ الْمُظَفَّرَ. وَفِيهَا وَصَلَ الدُّمُسْتُقُ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ مِنَ الرُّومِ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ، فَحَصَرُوا خِلَاطَ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا، (وَرَحَلَ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ) أَخْرَجَ الْمِنْبَرَ مِنَ الْجَامِعِ وَجَعَلَ مَكَانَهُ صَلِيبًا، (وَفَعَلَ بِبِدْلِيسَ) كَذَلِكَ، وَخَافَهُ أَهْلُ أَرْزَنَ وَغَيْرُهُمْ، فَفَارَقُوا بِلَادَهُمْ، (وَانْحَدَرَ أَعْيَانُهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ) ، وَاسْتَغَاثُوا إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَلَمْ يُغَاثُوا.

وَفِيهَا وَصَلَ سَبْعُمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الرُّومِ وَالْأَرْمَنِ إِلَى مَلَطْيَةَ، (وَمَعَهُمُ الْفُؤُوسُ وَالْمَعَاوِلُ) ، وَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ يَتَكَسَّبُونَ بِالْعَمَلِ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ مَلِيحًا الْأَرْمَنِيَّ، صَاحِبَ الدُّرُوبِ، وَضَعَهُمْ لِيَكُونُوا بِهَا، فَإِذَا حَصَرَهَا سَلَّمُوهَا إِلَيْهِ، فَعَلِمَ بِهِمْ أَهْلُ مَلَطْيَةَ، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا مَا مَعَهُمْ. وَفِيهَا، فِي مُنْتَصَفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، قُلِّدَ مُؤْنِسٌ الْمُؤْنِسِيُّ الْمَوْصِلَ وَأَعْمَالَهَا. [الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا مَاتَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَسْفَرَايِنِيُّ، وَلَهُ مُسْنَدٌ مُخَرَّجٌ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ السَّرِيِّ النَّحْوِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّرَّاجِ صَاحِبُ كِتَابِ الْأُصُولِ، فِي النَّحْوِ) .

ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَة] 317 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خُلِعَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ مِنَ الْخِلَافَةِ، وَبُويِعَ أَخُوهُ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُعْتَضِدِ، فَبَقِيَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أُعِيدَ الْمُقْتَدِرُ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنَ اسْتِيحَاشِ مُؤْنِسٍ وَنُزُولِهِ بِالشَّمَّاسِيَّةِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ نَازُوكُ، صَاحِبُ الشُّرْطَةِ، فِي عَسْكَرِهِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ أَبُو الْهَيْجَاءِ بْنُ حَمْدَانَ (فِي عَسْكَرِهِ) ، مِنْ بَلَدِ الْجَبَلِ، وَبُنِّيُّ بْنُ نَفِيسٍ، وَكَانَ الْمُقْتَدِرُ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ الدِّينَوَرَ، فَأَعَادَهَا إِلَيْهِ مُؤْنِسٌ عِنْدَ مَجِيئِهِ إِلَيْهِ. وَجَمَعَ الْمُقْتَدِرُ عِنْدَهُ فِي دَارِهِ، هَارُونَ بْنَ غَرِيبٍ، وَأَحْمَدَ بْنَ كَيْغَلَغَ، وَالْغِلْمَانَ الْحُجَرِيَّةَ، وَالرَّجَّالَةَ الْمُصَافِيَّةَ، وَغَيْرَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ آخِرَ النَّهَارِ ذَلِكَ الْيَوْمَ انْفَضَّ أَكْثَرُ مَنْ عِنْدَ الْمُقْتَدِرِ، وَخَرَجُوا إِلَى مُؤْنِسٍ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَائِلَ الْمُحَرَّمِ. ثُمَّ كَتَبَ مُؤْنِسٌ إِلَى الْمُقْتَدِرِ رُقْعَةً يَذْكُرُ فِيهَا أَنَّ الْجَيْشَ عَاتِبٌ مُنْكِرٌ لِلسَّرَفِ فِيمَا يُطْلَقُ بِاسْمِ الْخَدَمِ وَالْحُرَمِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالضِّيَاعِ، وَلِدُخُولِهِمْ فِي الرَّأْيِ وَتَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ، وَيُطَالِبُونَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الدَّارِ، وَأَخْذِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْلَاكِ، وَإِخْرَاجِ هَارُونَ بْنِ غَرِيبٍ مِنَ الدَّارِ.

فَأَجَابَهُ الْمُقْتَدِرُ أَنَّهُ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهُ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَاسْتَعْطَفَهُمْ، وَذَكَّرَهُمْ بَيْعَتَهُ فِي أَعْنَاقِهِمْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَخَوَّفَهُمْ عَاقِبَةَ النَّكْثِ، وَأَمَرَ هَارُونَ بِالْخُرُوجِ مِنْ بَغْدَاذَ، وَأَقْطَعَهُ الثُّغُورَ الشَّامِيَّةَ وَالْجُزُرِيَّةَ، وَخَرَجَ مِنْ بَغْدَاذَ تَاسِعَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، (وَرَاسَلَهُمُ الْمُقْتَدِرُ) ، وَذَكَّرَهُمْ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ، وَحَذَّرَهُمْ كُفْرَ إِحْسَانِهِ، وَالسَّعْيَ فِي الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ. فَلَمَّا أَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ دَخَلَ مُؤْنِسٌ وَابْنُ حَمْدَانَ وَنَازُوكُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَرْجَفَ النَّاسُ بِأَنَّ مُؤْنِسًا وَمَنْ مَعَهُ قَدْ عَزَمُوا عَلَى خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ وَتَوْلِيَةِ غَيْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ خَرَجَ مُؤْنِسٌ وَالْجَيْشُ إِلَى بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ، فَتَشَاوَرُوا سَاعَةً، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ بِأَسْرِهِمْ، فَلَمَّا (زَحَفُوا إِلَيْهَا) ، وَقَرُبُوا مِنْهَا، هَرَبَ الْمُظَفَّرُ بْنُ يَاقُوتٍ، وَسَائِرُ الْحُجَّابِ وَالْخَدَمِ وَغَيْرُهُمْ، وَالْفَرَّاشُونَ، وَكُلُّ مَنْ فِي الدَّارِ، وَكَانَ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ حَاضِرًا، فَهَرَبَ وَدَخَلَ مُؤْنِسٌ وَالْجَيْشُ دَارَ الْخَلِيفَةِ، وَأَخْرَجَ الْمُقْتَدِرَ، وَوَالِدَتَهُ، وَخَالَتَهُ، وَخَوَاصَّ جَوَارِيهِ، وَأَوْلَادَهُ، مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَحُمِلُوا إِلَى دَارِ مُؤْنِسٍ، فَاعْتُقِلُوا بِهَا. وَبَلَغَ الْخَبَرُ هَارُونَ بْنَ غَرِيبٍ، وَهُوَ بِقُطْرُبُّلَ، فَدَخَلَ بَغْدَاذَ وَاسْتَتَرَ، وَمَضَى ابْنُ حَمْدَانَ إِلَى دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ، فَأَحْضَرَ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُعْتَضِدِ، وَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ، وَلَقَّبُوهُ الْقَاهِرَ بِاللَّهِ، وَأَحْضَرُوا الْقَاضِيَ أَبَا عُمَرَ عِنْدَ الْمُقْتَدِرِ لِيَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالْخَلْعِ، وَعِنْدَهُ مُؤْنِسٌ، وَنَازُوكُ، وَابْنُ حَمْدَانَ، وَبُنِّيُّ بْنُ نَفِيسٍ، فَقَالَ مُؤْنِسٌ لِلْمُقْتَدِرِ لِيَخْلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ، فَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْقَاضِيَ بِالْخَلْعِ، فَقَامَ ابْنُ حَمْدَانَ، وَقَالَ لِلْمُقْتَدِرِ: يَا سَيِّدِي يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ أَرَاكَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْكَ، وَأَحْذَرُهَا، وَأَنْصَحُ لَكَ، وَأُحَذِّرُكَ عَاقِبَةَ الْقَبُولِ مِنَ الْخَدَمِ، وَالنِّسَاءِ، فَتُؤْثِرُ أَقْوَالَهُمْ عَلَى قَوْلِي، وَكَأَنِّي كُنْتُ أَرَى هَذَا، وَبَعْدُ فَنَحْنُ عَبِيدُكَ وَخَدَمُكَ. وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ وَعَيْنَا الْمُقْتَدِرِ، وَشَهِدَ الْجَمَاعَةُ عَلَى الْمُقْتَدِرِ بِالْخَلْعِ، وَأَوْدَعُوا الْكِتَابَ

بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ، فَكَتَمَهُ وَلَمْ يُظْهِرْ عَلَيْهِ أَحَدًا، فَلَمَّا عَادَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى الْخِلَافَةِ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَوَلَّاهُ قَضَاءَ الْقُضَاةِ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِلْقَاهِرِ أَخْرَجَ مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى مِنَ الْحَبْسِ، وَرَتَّبَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ فِي الْوِزَارَةِ، وَأَضَافَ إِلَى نَازُوكَ مَعَ الشُّرْطَةِ حَجْبَ الْخَلِيفَةِ، وَكَتَبَ إِلَى الْبِلَادِ بِذَلِكَ، وَأَقْطَعَ ابْنَ حَمْدَانَ، مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ أَعْمَالِ طَرِيقِ خُرَاسَانَ، حُلْوَانَ، وَالدِّينَوَرَ، وَهَمَذَانَ، وَكَنْكُورَ، وَكَرْمَانَ، وَشَاهَانَ، وَالرَّاذَنَاتِ، وَدَقُوقًا، وَخَانِيجَارَ، وَنَهَاوَنْدَ، وَالصَّيْمَرَةَ، وَالسَّيْرَوَانَ، وَمَاسَبَذَانَ وَغَيْرَهَا، وَنُهِبَتْ دَارُ الْخَلِيفَةِ، وَمَضَى بُنِّيُّ بْنُ نَفِيسٍ إِلَى تُرْبَةٍ لِوَالِدَةِ الْمُقْتَدِرِ، فَأَخْرَجَ مِنْ قَبْرٍ فِيهَا سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَحَمَلَهَا إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ. وَكَانَ خَلْعُ الْمُقْتَدِرِ النِّصْفَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ سَكَنَ النَّهْبُ، وَانْقَطَعَتِ الْفِتْنَةُ، وَلَمَّا تَقَلَّدَ نَازُوكُ حَجْبَةَ الْخَلِيفَةِ أَمَرَ الرَّجَّالَةَ الْمُصَافِيَّةَ بِقَلْعِ خِيَامِهِمْ مِنْ دَارِ الْخَلِيفَةِ، وَأَمَرَ رِجَالَهُ وَأَصْحَابَهُ أَنْ يُقِيمُوا بِمَكَانِ الْمُصَافِيَّةِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَتَقَدَّمَ إِلَى خُلَفَاءِ الْحُجَّابِ أَنْ لَا يُمَكِّنُوا أَحَدًا مِنَ الدُّخُولِ إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ، إِلَّا مَنْ لَهُ مَرْتَبَةٌ، فَاضْطَرَبَتِ الْحَجْبَةُ مِنْ ذَلِكَ. ذِكْرُ عَوْدِ الْمُقْتَدِرِ إِلَى الْخِلَافَةِ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْإِثْنَيْنِ سَابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ بَكَّرَ النَّاسُ إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ لِأَنَّهُ يَوْمُ مَوْكِبِ دَوْلَةٍ جَدِيدَةٍ، فَامْتَلَأَتِ الْمَمَرَّاتُ، وَالْمُرَاحَاتُ، وَالرِّحَابُ، وَشَاطِئُ دِجْلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَحَضَرَ الرَّجَّالَةُ الْمُصَافِيَّةُ فِي السِّلَاحِ الشَّاكِي، يُطَالِبُونَ بِحَقِّ الْبَيْعَةِ، وَرِزْقِ سَنَةٍ، وَهُمْ حَنِقُونَ بِمَا فَعَلَ بِهِمْ نَازُوكُ، وَلَمْ يَحْضُرْ مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَارْتَفَعَتْ زَعَقَاتُ الرَّجَّالَةِ، فَسَمِعَ بِهَا نَازُوكُ، فَأَشْفَقَ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ فِتْنَةٌ وَقِتَالٌ، فَتَقَدَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَعْرِضُوا لَهُمْ، وَلَا يُقَاتِلُوهُمْ

وَزَادَ شَغَبُ الرَّجَّالَةِ، وَهَجَمُوا يُرِيدُونَ الصَّحْنَ التِّسْعِينِيَّ، فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَصْحَابُ نَازُوكَ، وَدَخَلَ مَنْ كَانَ عَلَى الشَّطِّ بِالسِّلَاحِ، وَقَرُبَتْ زَعَقَاتُهُمْ مِنْ مَجْلِسِ الْقَاهِرِ بِاللَّهِ، وَعِنْدَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ الْوَزِيرُ، وَنَازُوكُ، وَأَبُو الْهَيْجَاءِ بْنُ حَمْدَانَ، فَقَالَ الْقَاهِرُ لِنَازُوكَ: اخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَسَكِّنْهُمْ، وَطَيِّبْ قُلُوبَهُمْ! فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ نَازُوكُ وَهُوَ مَخْمُورٌ، قَدْ شَرِبَ طُولَ لَيْلَتِهِ، فَلَمَّا رَآهُ الرَّجَّالَةُ تَقَدَّمُوا إِلَيْهِ لِيَشْكُوا حَالَهُمْ إِلَيْهِ فِي مَعْنَى أَرْزَاقِهِمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ بِأَيْدِيهِمُ السُّيُوفُ يَقْصِدُونَهُ خَافَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ فَهَرَبَ، فَطَمِعُوا فِيهِ، فَتَبِعُوهُ، فَانْتَهَى بِهِ الْهَرَبُ إِلَى بَابٍ كَانَ هُوَ سَدَّهُ أَمْسِ، فَأَدْرَكُوهُ عِنْدَهُ، فَقَتَلُوهُ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَابِ، وَقَتَلُوا قَبْلَهُ خَادِمَهُ عَجِيبًا، وَصَاحُوا: يَا مُقْتَدِرُ، يَا مَنْصُورُ! فَهَرَبَ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي الدَّارِ مِنَ الْوَزِيرِ، وَالْحُجَّابِ، وَسَائِرِ الطَّبَقَاتِ وَبَقِيَتِ الدَّارُ فَارِغَةً، وَصَلَبُوا نَازُوكَ وَعَجِيبًا بِحَيْثُ يَرَاهُمَا مَنْ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ. ثُمَّ صَارَ الرَّجَّالَةُ إِلَى دَارِ مُؤْنِسٍ يَصِيحُونَ، وَيُطَالِبُونَهُ بِالْمُقْتَدِرِ، وَبَادَرَ الْخَدَمُ فَأَغْلَقُوا أَبْوَابَ دَارِ الْخَلِيفَةِ، وَكَانُوا جَمِيعُهُمْ خَدَمَ الْمُقْتَدِرِ، وَمَمَالِيكَهُ، وَصَنَائِعَهُ، وَأَرَادَ أَبُو الْهَيْجَاءِ بْنُ حَمْدَانَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدَّارِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ الْقَاهِرُ، وَقَالَ: أَنَا فِي ذِمَامِكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُسْلِمُكَ أَبَدًا، وَأَخَذَ بِيَدِ الْقَاهِرِ، وَقَالَ: قُمْ بِنَا نَخْرُجُ جَمِيعًا، وَأَدَعُو أَصْحَابِي وَعَشِيرَتِي فَيُقَاتِلُونَ مَعَكَ وَدُونَكَ. فَقَامَا لِيَخْرُجَا، فَوَجَدَا الْأَبْوَابَ مُغْلَقَةً، فَتَبِعَهُمَا فَائِقٌ وَجْهُ الْقَصْعَةِ يَمْشِي مَعَهُمَا، فَأَشْرَفَ الْقَاهِرُ مِنْ سَطْحٍ، فَرَأَى كَثْرَةَ الْجَمْعِ، فَنَزَلَ هُوَ وَابْنُ حَمْدَانَ وَفَائِقٌ، فَقَالَ ابْنُ حَمْدَانَ لِلْقَاهِرِ: قِفْ حَتَّى أَعُودَ إِلَيْكَ، وَنَزَعَ سَوَادَهُ وَثِيَابَهُ، وَأَخَذَ جُبَّةَ صُوفٍ لِغُلَامٍ هُنَاكَ، فَلَبِسَهَا وَمَشَى نَحْوَ بَابِ النُّوبِىِّ، فَرَآهُ مُغْلَقًا وَالنَّاسُ مِنْ وَرَائِهِ، فَعَادَ إِلَى الْقَاهِرِ، وَتَأَخَّرَ عَنْهُمَا وَجْهُ الْقَصْعَةِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْخَدَمِ، فَأَمَرَهُمْ وَجْهُ الْقَصْعَةِ بِقَتْلِهِمَا أَخْذًا بِثَأْرِ الْمُقْتَدِرِ وَمَا صَنَعَا بِهِ، فَعَادَ إِلَيْهِمَا عَشَرَةٌ مِنَ الْخَدَمِ بِالسِّلَاحِ، فَعَادَ إِلَيْهِمْ أَبُو الْهَيْجَاءِ

وَسَيْفُهُ بِيَدِهِ، وَنَزَعَ الْجُبَّةَ الصُّوفَ، وَأَخَذَهَا بِيَدِهِ الْأُخْرَى، وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَانْجَفَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَغَشِيَهُمْ، فَرَمَوْهُ بِالنِّشَابِ ضَرُورَةً، فَعَادَ عَنْهُمْ، وَانْفَرَدَ عَنْهُ الْقَاهِرُ وَمَشَى إِلَى آخِرِ الْبُسْتَانِ فَاخْتَفَى مِنْهُ. وَدَخَلَ أَبُو الْهَيْجَاءِ إِلَى بَيْتٍ مِنْ سَاجٍ، وَتَقَدَّمَ الْخَدَمُ إِلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَبُو الْهَيْجَاءِ، فَوَلَّوْا هَارِبِينَ، وَدَخَلَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ أَكَابِرِ الْغِلْمَانِ الْحُجَرِيَّةِ، وَمَعَهُ أَسْوَدَانِ بِسِلَاحٍ، فَقَصَدُوا أَبَا الْهَيْجَاءِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَرُمِيَ بِالسِّهَامِ فَسَقَطَ، فَقَصَدَهُ بَعْضُهُمْ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى، وَأَخَذَ رَأْسَهُ فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ، وَمَشَى وَهُوَ مَعَهُ. وَأَمَّا الرَّجَّالَةُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا انْتَهَوْا إِلَى دَارِ مُؤْنِسٍ وَسَمِعَ زَعَقَاتِهِمْ قَالَ: مَا الَّذِي تُرِيدُونَ؟ فَقِيلَ لَهُ: نُرِيدُ الْمُقْتَدِرَ، فَأَمَرَ بِتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا قِيلَ لِلْمُقْتَدِرِ لِيَخْرُجَ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ تَكُونَ حِيلَةً عَلَيْهِ، فَامْتَنَعَ، وَحُمِلَ وَأُخْرِجَ إِلَيْهِمْ، فَحَمَلَهُ الرَّجَّالَةُ عَلَى رِقَابِهِمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُ دَارَ الْخِلَافَةِ، فَلَمَّا حَصَلَ فِي الصَّحْنِ التِّسْعِينِيِّ اطْمَأَنَّ وَقَعَدَ، فَسَأَلَ عَنْ أَخِيهِ الْقَاهِرِ، وَعَنِ ابْنِ حَمْدَانَ، فَقِيلَ: هُمَا حَيَّانِ، فَكَتَبَ لَهُمَا أَمَانًا بِخَطِّهِ، وَأَمَرَ خَادِمًا بِالسُّرْعَةِ بِكِتَابِ الْأَمَانِ لِئَلَّا يَحْدُثَ عَلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ حَادِثٌ، فَمَضَى بِالْخَطِّ إِلَيْهِ، (فَلَقِيَهُ الْخَادِمُ) الْآخَرُ وَمَعَهُ رَأْسٌ، فَعَادَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُقْتَدِرُ، وَأَخْبَرَهُ بِقَتْلِهِ، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! مَنْ قَتَلَهُ؟ فَقَالَ الْخَادِمُ: مَا نَعْرِفُ قَاتِلَهُ، وَعَظُمَ عَلَيْهِ قَتْلُهُ، وَقَالَ: مَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَيُسَلِّينِي، وَيُذْهِبُ عَنِّي الْغَمَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ غَيْرُهُ. ثُمَّ أُخِذَ الْقَاهِرُ وَأُحْضِرَ عِنْدَ الْمُقْتَدِرِ، فَاسْتَدْنَاهُ، فَأَجْلَسَهُ عِنْدَهُ وَقَبَّلَ جَبِينَهُ وَقَالَ لَهُ: يَا أَخِي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَكَ، وَأَنَّكَ قُهِرْتَ، وَلَوْ لَقَّبُوكَ بِالْمَقْهُورِ لَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْقَاهِرِ، وَالْقَاهِرُ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! نَفْسِي، نَفْسِي، اذْكُرِ الرَّحِمَ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ! فَقَالَ لَهُ الْمُقْتَدِرُ: وَحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ لَا جَرَى عَلَيْكَ سُوءٌ مِنِّي أَبَدًا، وَلَا وَصَلَ أَحَدٌ

إِلَى مَكْرُوهِكَ وَأَنَا حَيٌّ! فَسَكَنَ وَأَخْرَجَ رَأْسَ نَازُوكَ، وَرَأْسَ أَبِي الْهَيْجَاءِ، وَشُهِّرَا، وَنُودِيَ عَلَيْهِمَا: هَذَا جَزَاءُ مَنْ عَصَى مَوْلَاهُ. وَأَمَّا بُنِّيُّ بْنُ نَفِيسٍ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَشَدِّ الْقَوْمِ عَلَى الْمُقْتَدِرِ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْخِلَافَةِ، فَرَكِبَ جَوَادًا وَهَرَبَ عَنْ بَغْدَاذَ، (وَغَيَّرَ زِيَّهُ) ، وَسَارَ حَتَّى بَلَغَ الْمَوْصِلَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى أَرْمِينِيَّةَ، وَسَارَ حَتَّى دَخَلَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَتَنَصَّرَ. وَهَرَبَ أَبُو السَّرَايَا نَصْرُ بْنُ حَمْدَانَ أَخُو أَبِي الْهَيْجَاءِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ، وَأَحْضَرَ الْمُقْتَدِرُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ، وَأَعَادَهُ إِلَى وِزَارَتِهِ، وَكَتَبَ إِلَى الْبِلَادِ بِمَا تَجَدَّدُ لَهُ، وَأَطْلَقَ لِلْجُنْدِ أَرْزَاقَهُمْ وَزَادَهُمْ، وَبَاعَ مَا فِي الْخَزَائِنِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْجَوَاهِرِ، وَأَذِنَ فِي بَيْعِ الْأَمْلَاكِ مِنَ النَّاسِ، فَبِيعَ ذَلِكَ بِأَرْخَصِ الْأَثْمَانِ، لِيُتِمَّ أُعْطِيَاتِ الْجُنْدِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مُؤْنِسًا الْمُظَفَّرَ لَمْ يَكُنْ مُؤْثِرًا لِمَا جَرَى عَلَى الْمُقْتَدِرِ مِنَ الْخَلْعِ، وَإِنَّمَا وَافَقَ الْجَمَاعَةَ مَغْلُوبًا عَلَى رَأْيِهِ، وَلِعِلْمِهِ أَنَّهُ إِنْ خَالَفَهُمْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْمُقْتَدِرُ، وَوَافَقَهُمْ لِيُؤَمِّنُوهُ، وَسَعَى مَعَ الْغِلْمَانِ الْمُصَافِيَّةِ وَالْحُجَرِيَّةِ، وَوَضَعَ قُوَّادَهُمْ عَلَى أَنْ عَمِلُوا مَا عَمِلُوا، وَأَعَادُوا الْمُقْتَدِرَ إِلَى الْخِلَافَةِ، وَكَانَ هُوَ قَدْ قَالَ لِلْمُقْتَدِرِ، (لَمَّا كَانَ) فِي دَارِهِ: مَا تُرِيدُونَ أَنْ نَصْنَعَ؟ فَلِهَذَا أَمَّنَهُ الْمُقْتَدِرُ، وَلَمَّا حَمَلُوهُ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ مِنْ دَارِ مُؤْنِسٍ وَرَأَى فِيهَا كَثْرَةَ الْخَلْقِ وَالِاخْتِلَافِ عَادَ إِلَى دَارِ مُؤْنِسٍ لِثِقَتِهِ بِهِ، وَاعْتِمَادِهِ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا هَوَى مُؤْنِسٍ مَعَ الْمُقْتَدِرِ لَكَانَ حَضَرَ عِنْدَ الْقَاهِرِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَكَانَ أَيْضًا قَتَلَ الْمُقْتَدِرَ لَمَّا طُلِبَ مِنْ دَارِهِ لِيُعَادَ إِلَى الْخِلَافَةِ. وَأَمَّا الْقَاهِرُ فَإِنَّ الْمُقْتَدِرَ حَبَسَهُ عِنْدَ وَالِدَتِهِ، فَأَحْسَنَتْ إِلَيْهِ، وَأَكْرَمَتْهُ، وَوَسَّعَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ، وَاشْتَرَتْ لَهُ السَّرَارِيَ وَالْجَوَارِيَ لِلْخِدْمَةِ، وَبَالَغَتْ فِي إِكْرَامِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ (بِكُلِّ طَرِيقٍ) .

ذِكْرُ مَسِيرِ الْقَرَامِطَةِ إِلَى مَكَّةَ وَمَا فَعَلُوهُ بِأَهْلِهَا وَبِالْحُجَّاجِ وَأَخْذِهِمُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَنْصُورٌ الدَّيْلِمِيُّ، وَسَارَ بِهِمْ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى مَكَّةَ، فَسَلِمُوا فِي الطَّرِيقِ، فَوَافَاهُمْ أَبُو طَاهِرٍ الْقَرْمَطِيُّ بِمَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَنَهَبَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ أَمْوَالَ الْحُجَّاجِ، وَقَتَلُوهُمْ حَتَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَفِي الْبَيْتِ نَفْسِهِ، وَقَلَعَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَنَفَّذَهُ إِلَى هَجَرَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ ابْنُ مُحْلِبٍ، أَمِيرُ مَكَّةَ، فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَشْرَافِ، فَسَأَلُوهُ فِي أَمْوَالِهِمْ، فَلَمْ يُشَفِّعْهُمْ، فَقَاتَلُوهُ، فَقَتَلَهُمْ أَجْمَعِينَ، وَقَلَعَ بَابَ الْبَيْتِ، وَأَصْعَدَ رَجُلًا لِيَقْلَعَ الْمِيزَابَ فَسَقَطَ فَمَاتَ، وَطَرَحَ الْقَتْلَى فِي بِئْرِ زَمْزَمَ وَدَفَنَ الْبَاقِينَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَيْثُ قُتِلُوا بِغَيْرِ كَفَنٍ وَلَا غُسْلٍ، وَلَا صَلَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَأَخَذَ كُسْوَةَ الْبَيْتُ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَنَهَبَ دَوْرَ أَهْلِ مَكَّةَ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَهْدِيَّ أَبَا مُحَمَّدٍ عُبَيْدَ اللَّهِ الْعَلَوِيَّ بِإِفْرِيقِيَّةَ كَتَبَ إِلَيْهِ يُنْكِرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَيَلُومُهُ، وَيَلْعَنُهُ، وَيُقِيمُ عَلَيْهِ الْقِيَامَةَ، وَيَقُولُ: قَدْ حَقَّقْتَ عَلَى شِيعَتِنَا وَدُعَاةِ دَوْلَتِنَا اسْمَ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ بِمَا فَعَلْتَ، وَإِنْ لَمْ تَرُدَّ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَعَلَى الْحُجَّاجِ وَغَيْرِهِمْ مَا أَخَذْتَ مِنْهُمْ، وَتَرُدَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ إِلَى مَكَانِهِ، وَتَرُدَّ كُسْوَةَ الْكَعْبَةِ، فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَلَمَّا وَصَلَهُ هَذَا الْكِتَابُ أَعَادَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَاسْتَعَادَ مَا أَمْكَنَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَرَدَّهُ، وَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ اقْتَسَمُوا كُسْوَةَ الْكَعْبَةِ وَأَمْوَالَ الْحُجَّاجِ، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِمْ.

ذِكْرُ خُرُوجِ أَبِي زَكَرِيَّاءَ وَإِخْوَتِهِ بِخُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى، وَأَبُو صَالِحٍ مَنْصُورٌ، وَأَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ، أَوْلَادُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ السَّامَانِيِّ، عَلَى أَخِيهِمُ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، وَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ [وَثَلَاثَمِائَةٍ] وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَخَاهُمْ نَصْرًا كَانَ قَدْ حَبَسَهُمْ فِي الْقَهَنْدَزِ بِبُخَارَى، وَوَكَّلَ بِهِمْ مَنْ يَحْفَظُهُمْ، فَتَخَلَّصُوا مِنْهُ، وَكَانَ سَبَبُ خَلَاصِهِمْ أَنَّ رَجُلًا يُعْرَفُ بِأَبِي بَكْرٍ الْخَبَّازِ الْأَصْبَهَانِيِّ كَانَ يَقُولُ إِذَا جَرَى ذِكْرُ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ: إِنَّ لَهُ مِنِّي يَوْمًا طَوِيلَ الْبَلَاءِ وَالْعَنَاءِ، فَكَانَ النَّاسُ يَضْحَكُونَ مِنْهُ، فَخَرَجَ السَّعِيدُ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَاسْتَخْلَفَ بِبُخَارَى أَبَا الْعَبَّاسِ الْكَوْسَجَ، وَكَانَتْ وَظِيفَةُ إِخْوَتِهِ تُحْمَلُ إِلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي بَكْرٍ الْخَبَّازِ وَهُمْ فِي السَّجْنِ، فَسَعَى لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ لِيُخْرِجُوهُمْ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَعْلَمَهُمْ مَا سَعَى لَهُمْ فِيهِ. فَلَمَّا سَارَ السَّعِيدُ عَنْ بُخَارَى تَوَاعَدَ هَؤُلَاءِ لِلِاجْتِمَاعِ بِبَابِ الْقَهَنْدَزِ يَوْمَ جُمْعَةٍ، وَكَانَ الرَّسْمُ أَنْ لَا يُفْتَحَ بَابُ الْقَهَنْدَزِ أَيَّامَ الْجُمَعِ إِلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ، فَلَمَّا كَانَ الْخَمِيسُ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الْخَبَّازُ إِلَى الْقَهَنْدَزِ قَبْلَ الْجُمْعَةِ الَّتِي اتَّعَدُوا الِاجْتِمَاعَ فِيهَا بِيَوْمٍ، فَبَاتَ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، وَهُوَ الْجُمْعَةُ، جَاءَ الْخَبَّازُ إِلَى بَابَ الْقَهَنْدَزِ، وَأَظْهَرَ لِلْبَوَّابِ زُهْدًا وَدِينًا، وَأَعْطَاهُ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ لِيَفْتَحَ لَهُ الْبَابَ لِيُخْرِجَهُ لِئَلَّا تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ، فَفَتَحَ لَهُ (الْبَابَ، فَصَاحَ أَبُو بَكْرٍ الْخَبَّازُ بِمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ، وَكَانُوا عَلَى الْبَابِ) ، فَأَجَابُوهُ، وَقَبَضُوا عَلَى الْبَوَّابِ، وَدَخَلُوا وَأَخْرَجُوا يَحْيَى، وَمَنْصُورًا، وَإِبْرَاهِيمَ بَنِي أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ مِنَ الْحَبْسِ مَعَ

جَمِيعِ مَنْ فِيهِ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَالْعَلَوِيِّينَ، وَالْعَيَّارِينَ، فَاجْتَمَعُوا، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمْ مَنْ كَانَ وَافَقَهُمْ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَرَأَسَهُمْ شُرُوِينُ الْجِيلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْقُوَّادِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ عَظُمَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَنَهَبُوا خَزَائِنَ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ وَدُورَهُ وَقُصُورَهُ، وَاخْتَصَّ يَحْيَى بْنُ أَحْمَدَ أَبَا بَكْرٍ الْخَبَّازَ، وَقَدَّمَهُ وَقَوَّدَهُ، وَكَانَ السَّعِيدُ إِذْ ذَاكَ بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ، صَاحِبُ جَيْشِ خُرَاسَانَ، بِجُرْجَانَ، فَلَمَّا خَرَجَ يَحْيَى وَبَلَغَ خَبَرُهُ السَّعِيدَ، عَادَ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى بُخَارَى، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ، فَرَاسَلَ مَاكَانَ بْنَ كَالِي، وَصَاهَرَهُ، وَوَلَّاهُ نَيْسَابُورَ، وَأَمَرَهُ بِمَنْعِهَا مِمَّنْ يَقْصِدُهَا، فَسَارَ مَاكَانُ إِلَيْهَا، وَكَانَ السَّعِيدُ قَدْ سَارَ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى بُخَارَى، (وَكَانَ يَحْيَى وَكَّلَ) بِالنَّهْرِ أَبَا بَكْرٍ الْخَبَّازَ، فَأَخَذَهُ السَّعِيدُ أَسِيرًا، وَعَبَرَ النَّهْرَ إِلَى بُخَارَى فَبَالَغَ فِي تَعْذِيبِ الْخَبَّازِ، ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي التَّنُّورِ الَّذِي كَانَ يَخْبِزُ فِيهِ فَاحْتَرَقَ. وَسَارَ يَحْيَى مِنْ بُخَارَى إِلَى سَمَرْقَنْدَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَاجْتَازَ بِنَوَاحِي الصَّغَانِيَّانِ وَبِهَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ، وَسَارَ يَحْيَى إِلَى تِرْمِذَ، فَعَبَرَ النَّهْرَ إِلَى بَلْخَ وَبِهَا قُرَاتِكِينُ، فَوَافَقَهُ قُرَاتِكِينُ، وَخَرَجَا إِلَى مَرْوَ، وَلَمَّا وَرَدَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ بِنَيْسَابُورَ كَاتَبَهُ يَحْيَى، وَاسْتَمَالَهُ فَأَظْهَرَ لَهُ مُحَمَّدٌ الْمَيْلَ إِلَيْهِ، وَوَعَدَهُ الْمَسِيرَ نَحْوَهُ، ثُمَّ سَارَ عَنْ نَيْسَابُورَ، وَاسْتَخْلَفَ بِهَا مَاكَانَ بْنَ كَالِي، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ مَرْوَ، ثُمَّ عَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ نَحْوَ بُوشَنْجَ وَهَرَاةَ مُسْرِعًا فِي سَيْرِهِ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِمَا. وَسَارَ مُحَمَّدٌ عَنْ هَرَاةَ نَحْوَ الصَّغَانِيَّانِ عَلَى طَرِيقِ غَرْشِسْتَانَ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ يَحْيَى فَسَيَّرَ (إِلَى طَرِيقِهِ) عَسْكَرًا فَلَقِيَهُمْ مُحَمَّدٌ فَهَزَمَهُمْ وَسَارَ عَنْ غَرْشِسْتَانَ، وَاسْتَمَدَّ ابْنَهُ أَبَا عَلِيٍّ مِنَ الصَّغَانِيَّانِ، فَأَمَدَّهُ بِجَيْشٍ، وَسَارَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ إِلَى بَلْخَ، وَبِهَا (مَنْصُورُ بْنُ) قُرَاتِكِينَ، فَالْتَقَيَا، وَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ مَنْصُورٌ إِلَى الْجَوْزَجَانِ، وَسَارَ مُحَمَّدٌ

إِلَى الصَّغَانِيَّانِ، فَاجْتَمَعَ بِوَلَدِهِ، وَكَتَبَ إِلَى السَّعِيدِ يُخْبِرُهُ، (فَسَّرَهُ ذَلِكَ) ، (وَوَلَّاهُ بَلْخَ وَطُخَارِسْتَانَ) وَاسْتَقْدَمَهُ، فَوَلَّاهُمَا مُحَمَّدٌ ابْنَهُ أَبَا عَلِيٍّ أَحْمَدَ، وَأَنْفَذَهُ إِلَيْهِمَا، وَلَحِقَ مُحَمَّدٌ بِالسَّعِيدِ، فَاجْتَمَعَ بِهِ بِبَلْخَ رُسْتَاقُ، وَهُوَ فِي أَثَرِ يَحْيَى وَهُوَ بِهَرَاةَ. وَكَانَ يَحْيَى قَدْ سَارَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَبِهَا مَاكَانُ بْنُ كَالِي، (فَمَنَعَهُ عَنْهَا، وَنَزَلُوا عَلَيْهَا، فَلَمْ يَظْفَرُوا بِهَا، وَكَانَ مَعَ يَحْيَى مُحَمَّدُ) (بْنُ إِلْيَاسَ) فَاسْتَأْمَنَ إِلَى مَاكَانَ، وَاسْتَأْمَنَ مَنْصُورٌ وَإِبْرَاهِيمُ أَخُو يَحْيَى إِلَى السَّعِيدِ نَصْرٍ فَلَمَّا قَارَبَ السَّعِيدُ هَرَاةَ، وَبِهَا يَحْيَى وَقُرَاتِكِينُ، سَارَا عَنْ هَرَاةَ إِلَى بَلْخَ، فَاحْتَالَ قُرَاتِكِينُ لِيَصْرِفَ السَّعِيدَ عَنْ نَفْسِهِ، فَأَنْفَذَ يَحْيَى مِنْ بَلْخَ إِلَى بُخَارَى، (وَأَقَامَ هُوَ بِبَلْخَ، فَعَطَفَ السَّعِيدُ إِلَى بُخَارَى، فَلَمَّا عَبَرَ النَّهْرَ هَرَبَ يَحْيَى مِنْ بُخَارَى إِلَى سَمَرْقَنْدَ، ثُمَّ عَادَ مِنْ سَمَرْقَنْدَ ثَانِيًا، فَلَمْ يُعَاوِنْهُ قُرَاتِكِينُ، فَسَارَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَبِهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِلْيَاسَ قَدْ قَوِيَ أَمْرُهُ، وَسَارَ عَنْهَا مَاكَانُ إِلَى جُرْجَانَ، وَوَافَقَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِلْيَاسَ، وَخَطَبَ لَهُ، وَأَقَامُوا بِنَيْسَابُورَ. وَكَانَ السَّعِيدُ فِي أَثَرِ يَحْيَى لَا يُمَكِّنُهُ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ خَبَرُ مَجِيءِ السَّعِيدِ (إِلَى نَيْسَابُورَ) تَفَرَّقُوا، فَخَرَجَ ابْنُ إِلْيَاسَ إِلَى كَرْمَانَ وَأَقَامَ بِهَا، وَخَرَجَ قُرَاتِكِينُ وَمَعَهُ يَحْيَى إِلَى بُسْتَ وَالرُّخَّجِ، فَأَقَامَا بِهَا، وَوَصَلَ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ نَيْسَابُورَ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَأَنْفَذَ إِلَى قُرَاتِكِينَ، وَوَلَّاهُ بَلْخَ، وَبَذَلَ الْأَمَانَ لِيَحْيَى، فَجَاءَ إِلَيْهِ، وَزَالَتِ الْفِتْنَةُ، وَانْقَطَعَ الشَّرُّ وَكَانَ قَدْ دَامَ هَذِهِ الْمُدَّةَ كُلَّهَا. وَأَقَامَ السَّعِيدُ بِنَيْسَابُورَ إِلَى أَنْ حَضَرَ عِنْدَهُ يَحْيَى، فَأَكْرَمَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَضَى بِهَا لِسَبِيلِهِ هُوَ وَأَخُوهُ أَبُو صَالِحٍ مَنْصُورٌ، فَلَمَّا رَأَى أَخُوهُمَا إِبْرَاهِيمُ ذَلِكَ هَرَبَ مِنْ عِنْدِ السَّعِيدِ إِلَى بَغْدَاذَ، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى الْمَوْصِلِ، وَسَيَأْتِي خَبَرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَمَّا قُرَاتِكِينُ فَإِنَّهُ مَاتَ بِبُسْتَ، وَنُقِلَ إِلَى أَسْبِيجَابَ، فَدُفِنَ بِهَا فِي رِبَاطِهِ الْمَعْرُوفِ بِرِبَاطِ قُرَاتِكِينَ، (وَلَمْ يَمْلِكْ ضَيْعَةً قَطُّ) ، وَكَانَ يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْجُنْدِيِّ أَنْ يَصْحَبَهُ كُلُّ مَا مَلَكَ أَيْنَ سَارَ، حَتَّى لَا يَعْتَقِلَهُ شَيْءٌ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُنْتَصَفَ الْمُحَرَّمِ، وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِالْمَوْصِلِ بَيْنَ أَصْحَابِ الطَّعَامِ وَبَيْنَ أَهْلِ الْمُرَبَّعَةِ وَالْبَزَّازِينَ، (فَظَهَرَ أَصْحَابُ الطَّعَامِ عَلَيْهِمْ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَانْضَمَّ الْأَسَاكِفَةُ إِلَى أَهْلِ الْمُرَبَّعَةِ وَالْبَزَّازِينَ) فَاسْتَظْهَرُوا بِهِمْ، وَقَهَرُوا أَصْحَابَ الطَّعَامِ وَهَزَمُوهُمْ وَأَحْرَقُوا أَسْوَاقَهُمْ. وَتَتَابَعَتِ الْفِتْنَةُ بَعْدَ الْحَادِثَةِ وَاجْتَرَأَ أَهْلُ الشَّرِّ، وَتَعَاقَدَ أَصْحَابُ الْخُلُقَانِ وَالْأَسَاكِفَةُ عَلَى أَصْحَابِ الطَّعَامِ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا (دَامَ بَيْنَهُمْ) ، ثُمَّ ظَفِرَ أَصْحَابُ الطَّعَامِ فَهَزَمُوا الْأَسَاكِفَةَ وَمَنْ مَعَهُمْ، وَأَحْرَقُوا سُوقَهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ، وَرَكِبَ أَمِيرُ الْمَوْصِلِ، وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ الَّذِي لُقِّبَ بَعْدُ بِنَاصِرِ الدَّوْلَةِ لِيُسَكِّنَ النَّاسَ، فَلَمْ يَسْكُنُوا وَلَا كَفُّوا، ثُمَّ دَخَلَ بَيْنَهُمْ نَاسٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ، فَأَصْلَحُوا بَيْنَهُمْ. وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ أَصْحَابِ أَبِي بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ الْحَنْبَلِيِّ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعَامَّةِ، وَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْجُنْدِ فِيهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَ الْمَرْوَزِيِّ قَالُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] ، هُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ

يُقْعِدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ عَلَى الْعَرْشِ، وَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى: إِنَّمَا هُوَ الشَّفَاعَةُ، فَوَقَعَتِ الْفِتْنَةُ وَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى كَثِيرَةٌ. وَفِيهَا ضَعُفَتِ الثُّغُورُ الْجُزُرِيَّةُ عَنْ دَفْعِ الرُّومِ عَنْهُمْ، مِنْهَا مَلَطْيَةُ وَمَيَّافَارِقِينُ (وَآمِدُ وَأَرْزَنُ) وَغَيْرُهَا، وَعَزَمُوا عَلَى طَاعَةِ مَلِكِ الرُّومِ (وَالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ) لِعَجْزِ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ عَنْ نَصْرِهِمْ، وَأَرْسَلُوا إِلَى بَغْدَاذَ يَسْتَأْذِنُونَ فِي التَّسْلِيمِ، (وَيَذْكُرُونَ عَجْزَهُمْ، وَيَسْتَمِدُّونَ) الْعَسَاكِرَ لِتَمْنَعَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَحْصُلُوا عَلَى فَائِدَةٍ، فَعَادُوا. وَفِيهَا قُلِّدَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ (مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادِ) بْنِ زَيْدٍ قَضَاءَ الْقُضَاةِ. وَفِيهَا قُلِّدَ ابْنَا رَائِقٍ شُرْطَةَ بَغْدَاذَ مَكَانَ نَازُوكَ. وَفِيهَا مَاتَ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيهَا أَقَرَّ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْهَيْجَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ حَمْدَانَ عَلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ أَعْمَالِ قَرْدَى وَبَازَبْدَى، وَعَلَى أَقَطَاعِ أَبِيهِ وَضِيَاعِهِ. وَفِيهَا قُلِّدَ نِحْرِيرٌ الصَّغِيرُ أَعْمَالَ الْمَوْصِلِ، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ

السَّنَةِ، (وَوَلِيَهَا بَعْدَهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ) . (وَفِيهَا سَارَ حَاجُّ الْعِرَاقِ إِلَى مَكَّةَ عَلَى طَرِيقِ الشَّامِ فَوَصَلُوا إِلَى الْمَوْصِلِ أَوَّلَ شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى الشَّامِ، لِانْقِطَاعِ الطَّرِيقِ بِسَبَبِ الْقَرْمَطِيِّ، وَكَانَتْ كُسْوَةُ الْكَعْبَةِ مَعَ ابْنِ عَبْدُوسَ الْجَهْشَيَارِيِّ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْوَزِيرِ) . (وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، ظَهَرَ بِالْمَوْصِلِ خَارِجِيٌّ يُعْرَفُ بِابْنِ مَطَرٍ، وَقَصَدَ نَصِيبِينَ، فَسَارَ إِلَيْهَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ، فَقَاتَلَهُ، فَأَسَرَهُ. وَظَهَرَ فِيهَا أَيْضًا خَارِجِيٌّ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ بِالْبَوَازِيجِ، فَسَارَ إِلَيْهِ أَبُو السَّرَايَا نَصْرُ بْنُ حَمْدَانَ، فَأَخَذَهُ أَيْضًا) . وَفِيهَا الْتَقَى مُفْلِحٌ السَّاجِيُّ وَالدُّمُسْتُقُ، فَاقْتَتَلَا، فَانْهَزَمَ الدُّمُسْتُقُ وَدَخَلَ مُفْلِحٌ وَرَاءَهُ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ. وَفِيهَا، آخِرَ ذِي الْقِعْدَةِ، انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ، وَصَارَ لَهُ ضَوْءٌ عَظِيمٌ جِدًّا. وَفِيهَا هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، وَحَمَلَتْ رَمْلًا أَحْمَرَ شَدِيدَ الْحُمْرَةِ، فَعَمَّ جَانِبَيْ بَغْدَاذَ، وَامْتَلَأَتْ مِنْهُ الْبُيُوتُ وَالدُّرُوبُ، يُشْبِهُ رَمْلَ طَرِيقِ مَكَّةَ. [الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ شُقَيْرٍ النَّحْوِيُّ، كَانَ عَالِمًا بِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَلَهُ فِيهِ تَصَانِيفُ) .

ثم دخلت سنة ثماني عشرة وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَة] 318 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ هَلَاكِ الرِّجَالِ الْمُصَافِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ هَلَكَ الرَّجَّالَةُ الْمُصَافِيَّةُ، وَأُخْرِجُوا مِنْ بَغْدَاذَ بَعْدَ (مَا عَظُمَ شَرُّهُمْ، وَقَوِيَ أَمْرُهُمْ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَعَادُوا) الْمُقْتَدِرَ إِلَى الْخِلَافَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، زَادَ إِدْلَالُهُمْ وَاسْتِطَالَتُهُمْ، وَصَارُوا يَقُولُونَ أَشْيَاءَ لَا يَحْتَمِلُهَا الْخُلَفَاءُ، مِنْهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ يُصْعِدُ الْحِمَارَ إِلَى السَّطْحِ يَقْدِرُ يَحُطُّهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ الْمُقْتَدِرُ مَعَنَا مَا نَسْتَحِقُّهُ، قَاتَلْنَاهُ بِمَا يَسْتَحِقُّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَكَثُرَ شَغَبُهُمْ وَمُطَالَبَتُهُمْ، وَأَدْخَلُوا فِي الْأَرْزَاقِ أَوْلَادَهُمْ، وَأَهْلِيهِمْ، وَمَعَارِفَهَمْ، وَأَثْبَتُوا أَسْمَاءَهُمْ، فَصَارَ لَهُمْ فِي الشَّهْرِ مِائَةُ أَلْفٍ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَاتَّفَقَ أَنْ شَغَبَ الْفُرْسَانُ فِي طَلَبِ أَرْزَاقِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ بَيْتَ الْمَالِ فَارِغٌ وَقَدِ انْصَرَفَتِ الْأَمْوَالُ إِلَى الرَّجَّالَةِ (فَثَارَ بِهِمُ الْفُرْسَانُ، فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ مِنَ الْفُرْسَانِ جَمَاعَةٌ، وَاحْتَجَّ الْمُقْتَدِرُ بِقَتْلِهِمْ عَلَى الرَّجَّالَةِ) ، وَأَمَرَ مُحَمَّدَ بْنَ يَاقُوتٍ فَرَكِبَ، وَكَانَ قَدِ اسْتُعْمِلَ عَلَى الشُّرْطَةِ، فَطَرَدَ الرَّجَّالَةَ عَنْ دَارِ الْمُقْتَدِرِ، وَنُودِيَ فِيهِمْ بِخُرُوجِهِمْ عَنْ بَغْدَاذَ، وَمَنْ أَقَامَ قُبِضَ عَلَيْهِ وَحُبِسَ، وَهُدِمَتْ دُورُ زُعَمَائِهِمْ، وَقُبِضَتْ أَمْلَاكُهُمْ، وَظَفِرَ بَعْدَ النِّدَاءِ، بِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ فَضَرَبَهُمْ، وَحَلَقَ لِحَاهُمْ، وَشَهَّرَ بِهِمْ.

وَهَاجَ السُّودَانُ تَعَصُّبًا لِلرَّجَّالَةِ، فَرَكِبَ مُحَمَّدٌ أَيْضًا فِي الْحُجَرِيَّةِ، وَأَوْقَعَ بِهِمْ، وَأَحْرَقَ مَنَازِلَهُمْ، فَاحْتَرَقَ فِيهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهُمْ، وَمِنْ أَوْلَادِهِمْ، وَمِنْ نِسَائِهِمْ، فَخَرَجُوا إِلَى وَاسِطَ، وَاجْتَمَعَ بِهَا مِنْهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ، (وَتَغَلَّبُوا عَلَيْهَا) ، وَطَرَحُوا عَامِلَ الْخَلِيفَةِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ مُؤْنِسٌ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ، فَلَمْ تَقُمْ لَهُمْ بَعْدَهَا رَايَةٌ. ذِكْرُ عَزْلِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ عَنِ الْمَوْصِلِ (وَوِلَايَةِ عَمَّيْهِ سَعِيدٍ وَنَصْرٍ) فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، عُزِلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ عَنِ الْمَوْصِلِ، (وَوَلِيَهَا عَمَّاهُ سَعِيدٌ وَنَصْرٌ ابْنَا حَمْدَانَ) ، وَوَلِيَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ دِيَارَ رَبِيعَةَ، وَنَصِيبِينَ، وَسِنْجَارَ، وَالْخَابُورَ، وَرَأْسَ عَيْنٍ، وَمَعَهَا مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ، مَيَّافَارِقِينُ وَأَرْزَنُ، ضَمِنَ ذَلِكَ بِمَالٍ مَبْلَغُهُ مَعْلُومٌ، فَسَارَ إِلَيْهَا، وَوَصَلَ سَعِيدٌ إِلَى الْمَوْصِلِ (فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ) . ذِكْرُ عَزْلِ ابْنِ مُقْلَةَ وَوِزَارَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ مُقْلَةَ مِنْ وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ. وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ أَنَّ الْمُقْتَدِرَ كَانَ يَتَّهِمُهُ بِالْمَيْلِ إِلَى مُؤْنِسٍ الْمُظَفَّرِ، وَكَانَ الْمُقْتَدِرُ مُسْتَوْحِشًا مِنْ مُؤْنِسٍ، وَيُظْهِرُ لَهُ الْجَمِيلَ، فَاتَّفَقَ أَنَّ مُؤْنِسًا خَرَجَ إِلَى أَوَانَا، وَعُكْبَرَا، فَرَكِبَ

ابْنُ مُقْلَةَ إِلَى دَارِ الْمُقْتَدِرِ آخِرَ جُمَادَى الْأُولَى، فَقُبِضَ عَلَيْهِ. وَكَانَ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ وَبَيْنَ ابْنِ مُقْلَةَ عَدَاوَةٌ، فَأَنْفَذَ إِلَى دَارِهِ، بَعْدَ أَنْ قَبَضَ عَلَيْهِ، وَأَحْرَقَهَا لَيْلًا. وَأَرَادَ الْمُقْتَدِرُ أَنْ يَسْتَوْزِرَ الْحُسَيْنَ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ مُؤْنِسٌ قَدْ عَادَ فَأَنْفَذَ (إِلَى الْمُقْتَدِرِ مَعَ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى يَسْأَلُ أَنْ يُعَادَ ابْنُ مُقْلَةَ، فَلَمْ يُجِبِ) الْمُقْتَدِرُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرَادَ قَتْلَ ابْنِ مُقْلَةَ، فَرَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَسَأَلَ مُؤْنِسٌ أَنْ لَا يَسْتَوْزِرَ الْحُسَيْنَ، فَتَرَكَهُ، وَاسْتَوْزَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ الْحَسَنِ مُنْتَصَفَ جُمَادَى الْأُولَى، وَأَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الدَّوَاوِينِ، وَأَنْ لَا يَنْفَرِدَ سُلَيْمَانُ عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَصُودِرَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِزَارَتِهِ سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى أَوْلَادِ الْبَرِيدِيِّ كَانَ أَوْلَادُ الْبَرِيدِيِّ، وَهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ، قَدْ ضَمِنُوا الْأَهْوَازَ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَمَّا عُزِلَ الْوَزِيرُ ابْنُ مُقْلَةَ كَتَبَ الْمُقْتَدِرُ بِخَطِّ يَدِهِ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ الْقُشُورِيِّ الْحَاجِبِ يَأْمُرُهُ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمْ، فَفَعَلَ، وَأَوْدَعَهُمْ عِنْدَهُ فِي دَارِهِ. فَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ سَمِعَ ضَجَّةً عَظِيمَةً، وَأَصْوَاتًا هَائِلَةً، فَسَأَلَ: مَا الْخَبَرُ؟ فَقِيلَ: إِنَّ الْوَزِيرَ قَدْ كَتَبَ بِإِطْلَاقِ بَنِي الْبَرِيدِيِّ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ كِتَابًا مُزَوَّرًا يَأْمُرُهُ فِيهِ بِإِطْلَاقِهِمْ، وَإِعَادَتِهِمْ إِلَى أَعْمَالِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ أَحْمَدُ: هَذَا كِتَابُ الْخَلِيفَةِ بِخَطِّهِ، يَقُولُ فِيهِ: لَا تُطْلِقْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ كِتَابٌ آخَرُ بِخَطِّي. ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْكِتَابَ مُزَوَّرٌ، ثُمَّ أَنْفَذَ الْمُقْتَدِرُ فَاسْتَحْضَرَهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ، وَصُودِرُوا

عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، (وَكَانَ لَا يَطْمَعُ فِيهَا مِنْهُمْ) ، وَإِنَّمَا طَلَبُ مِنْهُمْ هَذَا الْقَدْرَ لِيُجِيبُوا إِلَى بَعْضِهِ، فَأَجَابُوا إِلَيْهِ جَمِيعَهُ لِيَتَخَلَّصُوا وَيَعُودُوا إِلَى عَمَلِهِمْ. ذِكْرُ خُرُوجِ صَالِحٍ وَالْأَغَرِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، خَرَجَ خَارِجِيٌّ مِنْ بَجِيلَةَ، مِنْ أَهْلِ الْبَوَازِيجِ، اسْمُهُ صَالِحُ بْنُ مَحْمُودٍ، وَعَبَرَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي مَالِكٍ، وَسَارَ إِلَى سِنْجَارَ فَأَخَذَ مِنْ أَهْلِهَا مَالًا (فَلَقِيَهُ قَوَافِلُ) ، فَأَخَذَ عُشْرَهَا، وَخَطَبَ بِسِنْجَارَ، فَذَكَّرَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَحَذَّرَ، وَأَطَالَ فِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: نَتَوَلَّى الشَّيْخَيْنِ، وَنَبْرَأُ مِنَ الْخَبِيثَيْنِ، وَلَا نَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَسَارَ مِنْهَا إِلَى الشَّجَاجِيَّةِ، مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَطَالَبَ أَهْلَهَا وَأَهْلَ أَعْمَالِ الْفَرَجِ بِالْعُشْرِ، وَأَقَامَ أَيَّامًا، وَانْحَدَرَ إِلَى الْحَدِيثَةِ، تَحْتَ الْمَوْصِلِ، فَطَالَبَ الْمُسْلِمِينَ بِزَكَاةِ أَمْوَالِهِمْ، وَالنَّصَارَى بِجِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ، فَجَرَى بَيْنَهُمْ حَرْبٌ، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةٌ، وَمَنَعُوهُ مِنْ دُخُولِهَا، فَأَحْرَقَ لَهُمْ سِتَّ عُرُوبٍ، وَعَبَرَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَأَسَرَ أَهْلُ الْحَدِيثَةِ ابْنًا لِصَالِحٍ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، فَأَخَذَهُ نَصْرُ بْنُ حَمْدَانَ بْنِ حَمْدُونَ، وَهُوَ الْأَمِيرُ بِالْمَوْصِلِ، فَأَدْخَلَهُ إِلَيْهَا، ثُمَّ سَارَ صَالِحٌ إِلَى السِّنِّ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى مَالٍ أَخَذَهُ مِنْهُمْ، وَانْصَرَفَ إِلَى الْبَوَازِيجِ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى تَلِّ خُوسَا، قَرْيَةٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ عِنْدَ الزَّابِ الْأَعْلَى، وَكَاتَبَ أَهْلَ الْمَوْصِلِ فِي أَمْرِ وَلَدِهِ، وَتَهَدَّدَهُمْ إِنْ لَمْ يَرُدُّوهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَحَلَ

إِلَى السَّلَامِيَّةِ، فَسَارَ إِلَيْهِ نَصْرُ بْنُ حَمْدَانَ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَفَارَقَهَا صَالِحٌ إِلَى الْبَوَازِيجِ، فَطَلَبَهُ نَصْرٌ، فَأَدْرَكَهُ بِهَا، فَحَارَبَهُ حَرْبًا شَدِيدًا قُتِلَ فِيهِ مِنْ رِجَالِ صَالِحٍ نَحْوُ مِائَةِ رَجُلٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ نَصْرٍ جَمَاعَةٌ، وَأُسِرَ صَالَحٌ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ، وَأُدْخِلُوا إِلَى الْمَوْصِلِ، وَحُمِلُوا إِلَى بَغْدَاذَ فَأُدْخِلُوا مَشْهُورِينَ. وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ خَرَجَ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ خَارِجِيٌّ اسْمُهُ الْأَغَرُّ بْنُ مَطَرَةَ الثَّعْلَبِيُّ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ عَتَّابِ بْنِ كُلْثُومٍ الثَّعْلَبِيِّ أَخِي عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ الشَّاعِرِ، وَكَانَ خُرُوجُهُ بِنَوَاحِي رَأْسِ الْعَيْنِ، وَقَصَدَ كَفَرْتُوثَا وَقَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ نَحْوُ أَلْفَيْ رَجُلٍ، فَدَخَلَهَا وَنَهَبَهَا وَقَتَلَ فِيهَا. وَسَارَ إِلَى نَصِيبِينَ، فَنَزَلَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَالِيهَا وَمَعَهُ جَمْعٌ مِنَ الْجُنْدِ وَمِنَ الْعَامَّةِ، فَقَاتَلُوهُ، فَقَتَلَ الشَّارِيُّ مِنْهُمْ مِائَةَ رَجُلٍ، وَأَسَرَ أَلْفَ رَجُلٍ، فَبَاعَهُمْ نُفُوسَهُمْ، وَصَالَحَهُ أَهْلُ نَصِيبِينَ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. (وَبَلَغَ خَبَرُهُ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ بْنَ حَمْدَانَ، وَهُوَ أَمِيرُ دِيَارِ رَبِيعَةَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا) ، فَقَاتَلُوهُ، فَظَفِرُوا بِهِ وَأَسَرُوهُ، وَسَيَّرَهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ. ذِكْرُ مُخَالِفَةِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ وَعَوْدِهِ كَانَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ مُقِيمًا بِالْخُتَّلِ، وَالِيًا عَلَيْهَا لِلسَّامَانِيَّةِ فَبَدَتْ مِنْهُ أُمُورٌ نُسِبَ بِسَبَبِهَا إِلَى الِاسْتِعْصَاءِ، فَكُوتِبَ أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ

بِقَصْدِهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ، وَحَارَبَهُ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَحَمَلَهُ إِلَى بُخَارَى، (وَذَلِكَ قَبْلَ مُخَالَفَةِ أَبِي زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى، فَلَمَّا حُمِلَ إِلَى بُخَارَى) حُبِسَ فِيهَا، فَلَمَّا خَالَفَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى أَخْرَجَهُ مِنَ الْحَبْسِ وَصَحِبَهُ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ فِي الْعَوْدِ إِلَى وِلَايَةِ الْخُتَّلِ وَجَمْعِ الْجُيُوشِ لَهُ بِهَا، فَأَذِنَ لَهُ فَسَارَ إِلَيْهَا، وَأَقَامَ بِهَا، وَتَمَسَّكَ بِطَاعَةِ (السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ) أَحْمَدَ، فَصَلُحَ حَالُهُ، وَذَلِكَ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. (الْخُتَّلُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالتَّاءُ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ وَالْخَاءُ مَضْمُومَةٌ وَالتَّاءُ مُشَدَّدَةٌ مَفْتُوحَةٌ) . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ شَغَبَ الْفُرْسَانُ، وَتَهَدَّدُوا بِخَلْعِ الطَّاعَةِ، فَأَحْضَرَ الْمُقْتَدِرُ قُوَّادَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَوَعَدَهُمُ الْجَمِيلَ، وَأَنْ يُطْلِقَ أَرْزَاقَهُمْ فِي الشَّهْرِ الْمُقْبِلِ، فَسَكَنُوا، ثُمَّ شَغَبَ الرَّجَّالَةُ، فَأُطْلِقَتْ أَرْزَاقُهُمْ. وَفِيهَا خَلَعَ الْمُقْتَدِرُ عَلَى ابْنِهِ هَارُونَ، وَرَكِبَ مَعَهُ الْوَزِيرُ، وَالْجَيْشُ، وَأَعْطَاهُ وِلَايَةَ فَارِسَ وَكَرْمَانَ وَسِجِسْتَانَ وَمَكْرَانَ. وَفِيهَا أَيْضًا خَلَعَ عَلَى ابْنِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَأَقْطَعُهُ بِلَادَ الْغَرْبِ وَمِصْرَ، وَالشَّامِ، وَجَعَلَ مُؤْنِسًا الْمُظَفَّرَ يَخْلُفُهُ فِيهَا. وَفِيهَا صُرِفَ ابْنَا رَائِقٍ عَنِ الشُّرْطَةِ، وَقُلِّدَهَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ.

وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِنَصِيبِينَ بَيْنَ أَهْلِ بَابِ الرُّومِ وَالْبَابِ الشَّرْقِيِّ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَأَدْخَلُوا إِلَيْهِمْ قَوْمًا (مِنَ الْعَرَبِ) وَالسَّوَادِ فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَأُحْرِقَتِ الْمَنَازِلُ وَالْحَوَانِيتُ، وَنُهِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَنَزَلَ بِهِمْ قَافِلَةٌ عَظِيمَةٌ تُرِيدُ الشَّامُ، فَنَهَبُوهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ الْبَغْدَاذِيُّ وَكَانَ عُمْرُهُ تِسْعِينَ سَنَةً، وَهُوَ مِنْ فُضَلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ، وَالْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ التَّنُوخِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَدَبِ وَنَحْوِ الْكُوفِيِّينَ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ.

ثم دخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَة] 319 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ تَجَدُّدِ الْوَحْشَةِ بَيْنَ مُؤْنِسٍ وَالْمُقْتَدِرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَجَدَّدَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ مُؤْنِسٍ الْمُظَفَّرِ وَبَيْنَ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يَاقُوتٍ كَانَ مُنْحَرِفًا عَلَى الْوَزِيرِ سُلَيْمَانَ، وَمَائِلًا إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَاسِمِ، وَكَانَ مُؤْنِسٌ يَمِيلُ إِلَى سُلَيْمَانَ، بِسَبَبِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، وَثِقَتِهِمْ بِهِ، وَقَوِيَ أَمْرُ مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ، وَقُلِّدَ، مَعَ الشُّرْطَةِ، الْحِسْبَةَ، وَضَمَّ إِلَيْهِ رِجَالًا، فَقَوِيَ بِهِمْ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى مُؤْنِسٍ، وَسَأَلَ الْمُقْتَدِرَ صَرْفَ مُحَمَّدٍ عَنِ الْحِسْبَةِ، وَقَالَ: هَذَا شُغْلٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ غَيْرُ الْقُضَاةِ وَالْعُدُولِ، فَأَجَابَهُ الْمُقْتَدِرُ. وَجَمَعَ مُؤْنِسٌ إِلَيْهِ أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَمَعَ يَاقُوتٌ وَابْنُهُ الرِّجَالَ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، وَفِي دَارِ مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ، وَقِيلَ لِمُؤْنِسٍ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يَاقُوتٍ قَدْ عَزَمَ عَلَى كَبْسِ دَارِكَ لَيْلًا، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ أَصْحَابُهُ حَتَّى أَخْرَجُوهُ إِلَى بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ فَضَرَبُوا مَضَارِبَهُمْ هُنَاكَ، وَطَالَبَ الْمُقْتَدِرَ بِصَرْفِ يَاقُوتٍ عَنِ الْحِسْبَةِ وَصَرْفِ ابْنِهِ عَنِ الشُّرْطَةِ، وَإِبْعَادِهِمَا عَنِ الْحَضْرَةِ، فَأُخْرِجَا إِلَى الْمَدَائِنِ. وَقَلَّدَ الْمُقْتَدِرُ يَاقُوتًا أَعْمَالَ فَارِسَ وَكَرْمَانَ، وَقَلَّدَ ابْنَهُ الْمُظَفَّرَ بْنَ يَاقُوتٍ أَصْبَهَانَ وَقَلَّدَ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ يَاقُوتٍ سِجِسْتَانَ، وَتَقَلَّدَ ابْنَا رَائِقٍ إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ مَكَانَ يَاقُوتٍ وَوَلَدِهِ الْحِسْبَةَ وَالشُّرْطَةَ، وَأَقَامَ يَاقُوتٌ بِشِيرَازَ مُدَّةً.

وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ خَلَفِ بْنِ طَيَّابٍ ضَامِنًا أَمْوَالَ الضِّيَاعِ وَالْخَرَاجِ بِهَا. فَتَضَافَرَا، وَتَعَاقَدَا، وَقَطَعَا الْحِمْلَ عَلَى الْمُقْتَدِرِ، إِلَى أَنْ مَلَكَ عَلِيُّ بْنُ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ بِلَادَ فَارِسَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ قَبْضِ الْوَزِيرِ سُلَيْمَانَ وَوِزَارَةِ أَبِي الْقَاسِمِ الْكَلْوَذَانِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ الْمُقْتَدِرُ عَلَى وَزِيرِهِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ ضَاقَتِ الْأَمْوَالُ عَلَيْهِ إِضَاقَةً شَدِيدَةً، وَكَثُرَتْ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَاتُ، وَوَقَفَتْ وَظَائِفُ السُّلْطَانِ، وَاتَّصَلَتْ رِقَاعُ مَنْ يُرَشِّحُ نَفْسَهُ لِلْوِزَارَةِ بِالسِّعَايَةِ لَهَا وَالضَّمَانِ بِالْقِيَامِ بِالْوَظَائِفِ، وَأَرْزَاقِ الْجُنْدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَنَقَلَهُ إِلَى دَارِهِ. وَكَانَ الْمُقْتَدِرُ كَثِيرَ الشَّهْوَةِ لِتَقْلِيدِ الْحَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ الْوِزَارَةَ، فَامْتَنَعَ مُؤْنِسٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَشَارَ بِوِزَارَةِ أَبِي الْقَاسِمِ الْكَلْوَذَانِيِّ، فَاضْطَرَّ الْمُقْتَدِرُ إِلَى ذَلِكَ، فَاسْتَوْزَرَهُ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ، فَكَانَتْ وِزَارَةُ سُلَيْمَانَ سَنَةً وَاحِدَةً وَشَهْرَيْنِ، وَكَانَتْ وِزَارَتُهُ غَيْرَ مُتَمَكِّنَةٍ أَيْضًا، فَإِنَّهُ كَانَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى مَعَهُ عَلَى الدَّوَاوِينِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ، وَأُفْرِدَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى (عَنْهُ بِالنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ) ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَى دِيوَانِ السَّوَادِ غَيْرُهُ، فَانْقَطَعَتْ مَوَادُّ الْوَزِيرِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُقِيمُ مِنْ قِبَلِهِ مَنْ يَشْتَرِي تَوْقِيعَاتِ أَرْزَاقِ جَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُهُمْ مُفَارَقَةُ مَا هُمْ عَلَيْهِ بِصَدَدِهِ مِنَ الْخِدْمَةِ، فَكَانَ يُعْطِيهِمْ نِصْفَ الْمَبْلَغِ، وَكَانَتْ إِدْرَارَاتُ الْفُقَهَاءِ وَأَرْبَابِ الْبُيُوتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَكَانَ أَبُو بَكْرِ بْنُ قُرَابَةَ مُنْتَمِيًا إِلَى مُفْلِحٍ الْخَادِمِ، فَأَوْصَلَهُ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، فَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ يَعْرِفُ وُجُوهَ مَرَافِقِ الْوُزَرَاءِ، فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهَا لِيُصْلِحَهُ لِلْخَلِيفَةِ، فَسَعَى فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ مِنَ الْعُمَّالِ، وَالضُّمَّانِ، وَالتُّنَّاءِ، وَغَيْرِهِمْ، فَأَخْلَقَ بِذَلِكَ الْخِلَافَةَ وَفَضَحَ الدِّيوَانَ وَوَقَفَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ، فَإِنَّ الْوُزَرَاءَ وَأَرْبَابَ الْوِلَايَاتِ لَا يَقُومُونَ بِأَشْغَالِ الرَّعَايَا وَالتَّعَبِ

مَعَهُمْ إِلَّا لِرِفْقٍ يَحْصُلُ لَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى النَّظَرِ فِي أَحْوَالِهِمْ، فَإِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْهُمْ، فَإِذَا مُنِعُوا تِلْكَ الْمَرَافِقَ (تَرَكُوا النَّاسَ يَضْطَرِبُونَ) ، وَلَا يَجِدُونَ مَنْ يَأْخُذُ بِأَيْدِيهِمْ، وَلَا يَقْضِي حَوَائِجَهُمْ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ هَذَا عِيَانًا فِي زَمَانِنَا هَذَا، وَفَاتَ بِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مَا لَا يُحْصَى. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ هَارُونَ وَعَسْكَرِ مَرْدَاوِيجَ قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ قَتْلَ أَسْفَارٍ وَمُلْكَ مَرْدَاوِيجَ، وَأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَى بَلَدِ الْجَبَلِ وَالرَّيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَأَقْبَلَتِ الدَّيْلَمُ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ لِبَذْلِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى جُنْدِهِ، فَعَظُمَتْ جُيُوشُهُ، وَكَثُرَتْ عَسَاكِرُهُ، وَكَثُرَ الْخَرَاجُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكْفِهِ مَا فِي يَدِهِ، فَفَرَّقَ نُوَّابَهُ فِي النَّوَاحِي الْمُجَاوِرَةِ لَهُ. فَكَانَ مِمَّنْ سَيَّرَهُ إِلَى هَمَذَانَ ابْنُ أُخْتٍ لَهُ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ، وَكَانَ بِهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ فِي عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ، فَتَحَارَبُوا حُرُوبًا كَثِيرَةً، وَأَعَانَ أَهْلُ هَمَذَانَ عَسْكَرَ الْخَلِيفَةِ، فَظَفِرُوا بِالدَّيْلَمِ، وَقُتِلَ ابْنُ أُخْتِ مَرْدَاوِيجَ، فَسَارَ مَرْدَاوِيجُ مِنَ الرَّيِّ إِلَى هَمَذَانَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُ الْخَلِيفَةِ بِمَسِيرِهِ انْهَزَمُوا مِنْ هَمَذَانَ، فَجَاءَ إِلَى هَمَذَانَ، وَنَزَلَ عَلَى بَابِ الْأَسَدِ، فَتَحَصَّنَ مِنْهُ أَهْلُهَا، فَقَاتَلَهُمْ، فَظَفِرَ بِهِمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَحْرَقَ وَسَبَى، ثُمَّ رَفَعَ السَّيْفَ عَنْهُمْ وَأَمَّنَ بَقِيَّتَهُمْ. فَأَنْفَذَ الْمُقْتَدِرُ هَارُونَ بْنَ غَرِيبِ الْخَالِ فِي عَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ إِلَى مُحَارَبَتِهِ، فَالْتَقَوْا بِنُوَاحِي هَمَذَانَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ هَارُونُ وَعَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ، وَاسْتَوْلَى مَرْدَاوِيجُ عَلَى بِلَادِ الْجَبَلِ جَمِيعِهَا، وَمَا وَرَاءَ هَمَذَانَ، وَسَيَّرَ قَائِدًا كَبِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ يُعْرَفُ بِابْنِ عَلَّانَ الْقَزْوِينِيِّ إِلَى الدِّينَوَرِ، فَفَتَحَهَا بِالسَّيْفِ، وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، وَبَلَغَتْ عَسَاكِرُهُ إِلَى نَوَاحِي حُلْوَانَ، فَغَنِمَتْ، وَنَهَبَتْ، وَقَتَلَتْ، وَسَبَتِ الْأَوْلَادَ وَالنِّسَاءَ، وَعَادُوا إِلَيْهِ. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ لَشْكَرِيُّ مِنَ الْمُخَالَفَةِ كَانَ لَشْكَرِيُّ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَسْفَارٍ، (وَاسْتَأْمَنَ إِلَى) الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا

انْهَزَمَ هَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ مِنْ مَرْدَاوِيجَ سَارَ مَعَهُ إِلَى قَرْمِيسِينَ، وَأَقَامَ هَارُونُ بِهَا، وَاسْتَمَدَّ الْمُقْتَدِرَ لِيُعَاوِدَ (مُحَارَبَةَ) مَرْدَاوِيجَ، وَسَيَّرَ هَارُونُ لَشْكَرِيَّ هَذَا إِلَى نَهَاوَنْدَ لِحَمْلِ مَالٍ بِهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا صَارَ لَشْكَرِيُّ بِنَهَاوَنْدَ، وَرَأَى غِنَى أَهْلِهَا طَمِعَ فِيهِمْ، وَصَادَرَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَاسْتَخْرَجَهَا فِي مُدَّةِ أُسْبُوعٍ، وَجَنَّدَ بِهَا جُنْدًا، ثُمَّ مَضَى إِلَى أَصْبَهَانَ هَارِبًا مِنْ هَارُونَ فِي الْجُنْدِ الَّذِينَ انْضَمُّوا إِلَيْهِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَكَانَ الْوَالِيَ عَلَى أَصْبَهَانَ حِينَئِذٍ أَحْمَدُ بْنُ كَيْغَلَغَ، وَذَلِكَ قَبْلَ اسْتِيلَاءِ مَرْدَاوِيجَ عَلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ فَحَارَبَهُ، فَانْهَزَمَ أَحْمَدُ هَزِيمَةً قَبِيحَةً، وَمَلَكَ لَشْكَرِيُّ أَصْبَهَانَ، وَدَخَلَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهَا فَنَزَلُوا فِي الدُّورِ وَالْخَانَاتِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يَدْخُلْ لَشْكَرِيُّ مَعَهُمْ. وَلَمَّا انْهَزَمَ أَحْمَدُ نَجَا إِلَى بَعْضِ قُرَى أَصْبَهَانَ فِي ثَلَاثِينَ فَارِسًا، وَرَكِبَ لَشْكَرِيُّ يَطُوفُ بِسُورِ أَصْبَهَانَ مِنْ ظَاهِرِهِ، فَنَظَرَ إِلَى أَحْمَدَ فِي جَمَاعَتِهِ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ: لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ كَيْغَلَغَ، فَسَارَ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوَهُمْ، وَكَانُوا عِدَّةً يَسِيرَةً، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ تَعَارَفُوا، فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ لَشْكَرِيُّ، قَتَلَهُ أَحْمَدُ بْنُ كَيْغَلَغَ، ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَدَّ الْمِغْفَرَ وَالْخُوذَةَ، وَنَزَلَ السَّيْفُ حَتَّى خَالَطَ دِمَاغَهُ، فَسَقَطَ مَيِّتًا. وَكَانَ (عُمْرُ أَحْمَدَ) إِذْ ذَاكَ قَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ، فَلَمَّا قُتِلَ لَشْكَرِيُّ انْهَزَمَ مَنْ مَعَهُ، فَدَخَلُوا أَصْبَهَانَ، وَأَعْلَمُوا أَصْحَابَهُمْ، فَهَرَبُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَتَرَكُوا أَثْقَالَهُمْ وَأَكْثَرَ رِحَالِهِمْ، وَدَخَلَ أَحْمَدُ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ اسْتِيلَاءِ مَرْدَاوِيجَ عَلَى أَصْبَهَانَ، وَكَانَ

هَذَا مِنَ الْفَتْحِ الظَّرِيفِ، وَكَانَ جَزَاؤُهُ (أَنْ صُرِفَ) عَنْ أَصْبَهَانَ، وَوَلِيَ عَلَيْهَا الْمُظَفَّرُ بْنُ يَاقُوتٍ. ذِكْرُ مُلْكِ مَرْدَاوِيجَ أَصْبَهَانَ ثُمَّ أَنْفَذَ مَرْدَاوِيجُ طَائِفَةً أُخْرَى إِلَى أَصْبَهَانَ، مَلَكُوهَا وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَبَنَوْا لَهُ فِيهَا مَسَاكِنَ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفَ الْعِجْلِيِّ، وَالْبَسَاتِينَ، فَسَارَ مَرْدَاوِيجُ إِلَيْهَا فَنَزَلَهَا وَهُوَ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَقِيلَ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَأَرْسَلَ جَمْعًا آخَرَ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا وَعَلَى خُوزِسْتَانَ، وَجَبَوْا أَمْوَالَ هَذِهِ الْبِلَادِ وَالنَّوَاحِي، وَقَسَمَهَا فِي أَصْحَابِهِ، وَجَمَعَ مِنْهَا الْكَثِيرَ فَاذَّخَرَهُ. ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ رَسُولًا يُقَرِّرُ عَلَى نَفْسِهِ مَالًا عَلَى هَذِهِ الْبِلَادِ كُلِّهَا، وَنَزَلَ لِلْمُقْتَدِرِ عَنْ هَمَذَانَ وَمَاهِ الْكُوفَةِ، فَأَجَابَهُ الْمُقْتَدِرُ إِلَى ذَلِكَ، وَقُوطِعَ عَلَى مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ كُلَّ سَنَةٍ. ذِكْرُ عَزْلِ الْكَلْوَذَانِيِّ وَوِزَارَةِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَاسِمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ أَبُو الْقَاسِمِ الْكَلْوَذَانِيُّ عَنْ وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ وَوَزَرَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بِبَغْدَاذَ إِنْسَانٌ يُعْرَفُ بِالدَّانِيَالِيِّ، وَكَانَ زَرَّاقًا، ذَكِيًّا مُحْتَالًا، وَكَانَ يُعَتِّقُ الْكَاغَدَ، وَيَكْتُبُ فِيهِ بِخَطِّهِ مَا يُشْبِهُ الْخَطَّ الْعَتِيقَ، وَيَذْكُرُ فِيهِ إِشَارَاتٍ وَرُمُوزًا يُودِعُهَا أَسْمَاءَ أَقْوَامٍ مِنْ أَرْبَابِ الدَّوْلَةِ، فَيَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ رِفْقٌ كَثِيرٌ.

فَمِنْ جُمْلَةِ مَا فَعَلَهُ أَنَّهُ وَضَعَ فِي جُمْلَةِ كِتَابٍ: مِيمٌ مِيمٌ مِيمٌ، يَكُونُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا، وَأَحْضَرَهُ عِنْدَ (مُفْلِحٍ وَقَالَ: هَذَا كِنَايَةٌ عَنْكَ، فَإِنَّكَ) مُفْلِحٌ مَوْلَى الْمُقْتَدِرِ، وَذَكَرَ لَهُ عَلَامَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَأَغْنَاهُ، (فَتَوَصَّلَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ مَعَهُ، حَتَّى جَعَلَ اسْمَهُ فِي كِتَابٍ وَضَعَهُ) وَعَتَّقَهُ، وَذَكَرَ فِيهِ عَلَامَةَ وَجْهِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْآثَارِ، وَيَقُولُ إِنَّهُ يَزِرُ لِلْخَلِيفَةِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَتَسْتَقِيمُ الْأُمُورُ عَلَى يَدَيْهِ، وَيَقْهَرُ الْأَعَادِيَ، وَتَتَعَمَّرُ الدُّنْيَا فِي أَيَّامِهِ، وَجَعَلَ هَذَا كُلَّهُ فِي جُمْلَةِ كِتَابٍ ذَكَرَ فِيهِ حَوَادِثَ قَدْ وَقَعَتْ، وَأَشْيَاءَ لَمْ تَقَعْ بَعْدُ، وَنَسَبَ ذَلِكَ إِلَى دَانْيَالَ، وَعَتَّقَ الْكِتَابَ وَأَخَذَهُ وَقَرَأَهُ عَلَى مُفْلِحٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَخَذَ الْكِتَابَ وَأَحْضَرَهُ عِنْدَ الْمُقْتَدِرِ، وَقَالَ لَهُ: أَتَعْرِفُ فِي الْكُتَّابِ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؟ فَقَالَ: مَا أَعْرِفُهُ إِلَّا الْحُسَيْنَ بْنَ الْقَاسِمِ، فَقَالَ: صَدَقْتَ وَإِنَّ قَلْبِي لِيَمِيلُ إِلَيْهِ، فَإِنْ جَاءَكَ مِنْهُ رَسُولٌ بِرُقْعَةٍ فَاعْرِضْهَا عَلَيَّ، وَاكْتُمْ حَالَهُ وَلَا تُطْلِعْ عَلَى أَمْرِهِ أَحَدًا. وَخَرَجَ مُفْلِحٌ إِلَى الدَّانْيَالِيِّ فَسَأَلَهُ: هَلْ تَعْرِفُ أَحَدًا مِنَ الْكُتَّابِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؟ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ أَحَدًا، قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ وَصَلَ إِلَيْكَ هَذَا الْكِتَابُ؟ فَقَالَ: مِنْ أَبِي، وَهُوَ وَرِثَهُ مِنْ آبَائِهِ، وَهُوَ مِنْ مَلَاحِمِ دَانْيَالَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَعَادَ ذَلِكَ عَلَى الْمُقْتَدِرِ، فَقَبِلَهُ، فَعَرَّفَ الدَّانْيَالِيُّ ذَلِكَ الْحُسَيْنَ بْنَ الْقَاسِمِ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُ كَتَبَ رُقْعَةً إِلَى مُفْلِحٍ، فَأَوْصَلَهَا إِلَى الْمُقْتَدِرِ، وَوَعَدَهُ الْجَمِيلَ، وَأَمَرَهُ بِطَلَبِ الْوِزَارَةِ وَإِصْلَاحِ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي وِزَارَتِهِ مَعَ كَثْرَةِ الْكَارِهِينَ لَهُ. ثُمَّ اتَّفَقَ أَنَّ الْكَلْوَذَانِيَّ عَمِلَ حِسْبَةً بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ النَّفَقَاتِ، وَعَلَيْهَا خَطُّ أَصْحَابِ الدِّيوَانِ، فَبَقِيَ مُحْتَاجًا إِلَى سَبْعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعَرَضَهَا عَلَى الْمُقْتَدِرِ، وَقَالَ: لَيْسَ لِهَذِهِ جِهَةٌ إِلَّا مَا يُطْلِقُهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لِأُنْفِقَهُ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُقْتَدِرِ. وَكَتَبَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ لَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ يَضْمَنُ جَمِيعَ النَّفَقَاتِ، وَلَا يُطَالِبُهُ بِشَيْءٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَضَمِنَ أَنَّهُ يَسْتَخْرِجُ سِوَى ذَلِكَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ يَكُونُ فِي بَيْتِ

الْمَالِ، فَعُرِضَتْ رُقْعَتُهُ عَلَى الْكَلْوَذَانِيِّ فَاسْتَقَالَ، وَأَذِنَ فِي وِزَارَةِ الْحُسَيْنِ، وَمَضَى الْحُسَيْنُ إِلَى بُلَيْقٍ، وَضَمِنَ لَهُ مَالًا لِيَصْلُحَ لَهُ قَلْبُ مُؤْنِسٍ، فَفَعَلَ، فَعُزِلَ الْكَلْوَذَانِيُّ فِي رَمَضَانَ، (وَتَوَلَّى الْحُسَيْنُ الْوِزَارَةَ) لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَمَضَانَ أَيْضًا، وَكَانَتْ وِلَايَةُ الْكَلْوَذَانِيِّ شَهْرَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَاخْتَصَّ بِالْحُسَيْنِ بَنُو الْبَرِيدِيِّ وَابْنُ قُرَابَةَ، وَشَرَطَ أَنْ لَا يَطَّلِعَ مَعَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، (وَشَرَعَ فِي إِخْرَاجِهِ مِنْ بَغْدَاذَ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ) ، فَأُخْرِجَ إِلَى الصَّافِيَّةِ. ذِكْرُ تَأَكُّدِ الْوَحْشَةِ بَيْنَ مُؤْنِسٍ وَالْمُقْتَدِرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تَجَدَّدَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ مُؤْنِسٍ وَالْمُقْتَدِرِ، حَتَّى آلَ ذَلِكَ إِلَى قَتْلِ الْمُقْتَدِرِ. وَكَانَ سَبَبُهَا مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ بَلَغَ مُؤْنِسًا أَنَّ الْوَزِيرَ الْحُسَيْنَ بْنَ الْقَاسِمِ قَدْ وَافَقَ جَمَاعَةً مِنَ الْقُوَّادِ فِي التَّدْبِيرِ عَلَيْهِ، فَتَنَكَّرَ لَهُ مُؤْنِسٌ، وَبَلَغَ الْحُسَيْنَ أَنَّ مُؤْنِسًا قَدْ تَنَكَّرَ لَهُ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَكْبِسَ دَارَهُ لَيْلًا وَيَقْبِضَ عَلَيْهِ، فَتَنَقَّلَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَكَانَ لَا يَحْضُرُ دَارَهُ إِلَّا بُكْرَةً، ثُمَّ إِنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَطَلَبَ مُؤْنِسٌ مِنَ الْمُقْتَدِرِ عَزْلَ الْحُسَيْنِ وَمُصَادَرَتَهُ، فَأَجَابَ إِلَى عَزْلِهِ وَلَمْ يُصَادِرْهُ، وَأَمَرَ الْحُسَيْنَ بِلُزُومِ بَيْتِهِ، فَلَمْ يَقْنَعْ مُؤْنِسٌ بِذَلِكَ (فَبَقِيَ فِي وِزَارَتِهِ) . وَأَوْقَعَ الْحُسَيْنُ عِنْدَ الْمُقْتَدِرِ أَنَّ مُؤْنِسًا يُرِيدُ أَخْذَ وَلَدِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَهُوَ الرَّاضِي، مِنْ دَارِهِ بِالْمُحَرَّمِ، وَالْمَسِيرِ بِهِ إِلَى الشَّامِ، وَالْبَيْعَةِ لَهُ، فَرَدَّهُ الْمُقْتَدِرُ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَعَلِمَ ذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ، فَلَمَّا أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ فَعَلَ بِالْحُسَيْنِ مَا نَذْكُرُ. وَكَتَبَ الْحُسَيْنُ إِلَى هَارُونَ، وَهُوَ بِدَيْرِ الْعَاقُولِ، بَعْدَ انْهِزَامِهِ مِنْ مَرْدَاوِيجَ، لِيَسْتَقْدِمَهُ

إِلَى بَغْدَاذَ، وَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ، وَهُوَ بِالْأَهْوَازِ. يَأْمُرُهُ بِالْإِسْرَاعِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَزَادَ اسْتِشْعَارُ مُؤْنِسٍ، وَصَحَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْحُسَيْنَ يَسْعَى فِي التَّدْبِيرِ عَلَيْهِ، وَسَنَذْكُرُ تَمَامَ أَمْرِهِ سَنَةَ عِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ (الْحُرُوبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ) فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، غَزَا ثَمِلٌ وَالِي طَرَسُوسَ بِلَادَ الرُّومِ، فَعَبَرَ نَهْرًا، وَنَزَلَ عَلَيْهِمْ (ثَلْجٌ إِلَى) صُدُورِ الْخَيْلِ، وَأَتَاهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الرُّومِ، فَوَاقَعُوهُمْ، فَنَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ. فَقَتَلُوا مِنَ الرُّومِ سِتَّمِائَةٍ، وَأَسَرُوا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَغَنِمُوا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالدِّيبَاجِ وَغَيْرِهِ شَيْئًا كَثِيرًا. وَفِيهَا فِي رَجَبٍ عَادَ ثَمِلٌ (إِلَى طَرَسُوسَ) ، وَدَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ صَائِفَةٌ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، فَبَلَغُوا عَمُّورِيَّةَ، وَكَانَ قَدْ تَجَمَّعَ إِلَيْهَا كَثِيرٌ مِنَ الرُّومِ، فَفَارَقُوهَا لَمَّا سَمِعُوا خَبَرَ ثَمِلٍ، وَدَخَلَهَا الْمُسْلِمُونَ، فَوَجَدُوا فِيهَا مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالطَّعَامِ شَيْئًا كَثِيرًا فَأَخَذُوهُ وَأَحْرَقُوا مَا كَانُوا عَمَّرُوهُ مِنْهَا، وَأَوْغَلُوا فِي بِلَادِ الرُّومِ (يَنْهَبُونَ، وَيَقْتُلُونَ، وَيُخَرِّبُونَ) ، حَتَّى بَلَغُوا أَنْقَرَةَ، (وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْآنَ أَنْكُورِيَةَ) ، وَعَادُوا سَالِمِينَ لَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا، فَبَلَغَتْ قِيمَةُ السَّبْيِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَسِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ وُصُولُهُمْ إِلَى طَرَسُوسَ آخِرَ رَمَضَانَ.

وَفِيهَا كَاتَبَ ابْنُ الدَّيْرَانِيِّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَرْمَنِ، وَهُمْ بِأَطْرَافِ أَرْمِينِيَّةَ الرُّومَ، (وَحَثُّوهُمْ عَلَى قَصْدِ) بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَوَعَدَهُمُ النُّصْرَةَ، فَسَارَتِ الرُّومُ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ، فَخَرَّبُوا بَزْكَرَى وَبِلَادَ خِلَاطَ وَمَا جَاوَرَهَا، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأَسَرُوا كَثِيرًا (مِنْهُمْ، فَبَلَغَ خَبَرُهُمْ مُفْلِحًا) غُلَامَ يُوسُفَ بْنِ أَبِي السَّاجِ، وَهُوَ وَالِي أَذْرَبِيجَانَ، فَسَارَ فِي عَسْكَرٍ كَبِيرٍ، وَتَبِعَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ، فَوَصَلَهَا فِي رَمَضَانَ، وَقَصَدَ بَلَدَ ابْنِ الدَّيْرَانِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ لِحَرْبِهِ، وَقَتَلَ أَهْلَهُ، وَنَهَبَ أَمْوَالَهُمْ، وَتَحَصَّنَ ابْنُ الدَّيْرَانِيِّ (بِقَلْعَةٍ لَهُ) ، وَبَالَغَ النَّاسُ فِي كَثْرَةِ الْقَتْلَى مِنَ الْأَرْمَنِ، وَحَتَّى قِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا مِائَةَ أَلْفِ قَتِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَارَتْ عَسَاكِرُ الرُّومِ إِلَى سُمَيْسَاطَ فَحَصَرُوهَا، فَاسْتَصْرَخَ أَهْلُهَا بِسَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ، وَكَانَ الْمُقْتَدِرُ قَدْ وَلَّاهُ الْمَوْصِلَ وَدِيَارَ رَبِيعَةَ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ غَزْوَ الرُّومِ، وَأَنْ يَسْتَنْقِذَ مَلَطْيَةَ مِنْهُمْ، وَكَانَ أَهْلُهَا قَدْ ضَعُفُوا، فَصَالَحُوا الرُّومَ، وَسَلَّمُوا مَفَاتِيحَ الْبَلَدِ إِلَيْهِمْ، فَحَكَمُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، (فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ أَهْلِ سُمَيْسَاطَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ تَجَهَّزَ وَسَارَ إِلَيْهِمْ مُسْرِعًا، فَوَصَلَ وَقَدْ كَانَ الرُّومُ يَفْتَحُونَهَا، فَلَمَّا قَارَبَهُمْ هَرَبُوا مِنْهُ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى مَلَطْيَةَ وَبِهَا جَمْعٌ مِنَ الرُّومِ وَمِنْ عَسْكَرِ مَلِيحٍ الْأَرْمَنِيِّ وَمَعَهُ بُنِّيُّ بْنُ نَفِيسٍ، صَاحِبُ

الْمُقْتَدِرِ، وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ، وَهُوَ مَعَ الرُّومِ، فَلَمَّا أَحَسُّوا بِإِقْبَالِ سَعِيدٍ خَرَجُوا مِنْهَا، وَخَافُوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ فِي عَسْكَرِهِ مِنْ خَارِجِ الْمَدِينَةِ، وَيَثُورَ أَهْلُهَا بِهِمْ فَيَهْلَكُوا، فَفَارَقُوهَا. وَدَخَلَهَا سَعِيدٌ ثُمَّ اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا أَمِيرًا، (وَعَادَ عَنْهَا) ، فَدَخَلَ بَلَدَ الرُّومِ غَازِيًا فِي شَوَّالٍ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيَّتَيْنِ فَقَتَلَتَا مِنَ الرُّومِ خَلْقًا كَثِيرًا قَبْلَ دُخُولِهِ إِلَيْهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالٍ، جَاءَ إِلَى تَكْرِيتَ سَيْلٌ كَبِيرٌ مِنَ الْمَطَرِ نَزَلَ فِي الْبَرِّ، فَغَرِقَ مِنْهَا أَرْبَعُمِائَةِ دَارٍ وَدُكَّانٍ، وَارْتَفَعَ الْمَاءُ فِي أَسْوَاقِهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ شِبْرًا، وَغَرِقَ خَلْقٌ كَثِيرٌ (مِنَ النَّاسِ، وَدُفِنَ) الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى مُجْتَمِعِينَ لَا يُعْرَفُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَفِيهَا هَاجَتْ بِالْمَوْصِلِ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فِيهَا حُمْرَةٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ اسْوَدَّتْ حَتَّى لَا يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ صَاحِبَهُ، وَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ، ثُمَّ جَاءَ (اللَّهُ تَعَالَى بِمَطَرٍ فَكَشَفَ ذَلِكَ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْمُودٍ الْبَلْخِيُّ فِي شَعْبَانَ، وَهُوَ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَاذِيِّينَ.

ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 320 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مَسِيرِ مُؤْنِسٍ إِلَى الْمَوْصِلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، سَارَ مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ إِلَى الْمَوْصِلِ مُغَاضِبًا لِلْمُقْتَدِرِ. وَسَبَبُ مَسِيرِهِ أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ عِنْدَهُ إِرْسَالُ الْوَزِيرِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَاسِمِ إِلَى هَارُونَ بْنِ غَرِيبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ يَسْتَحْضِرُهُمَا، زَادَ اسْتِيحَاشُهُ، ثُمَّ سَمِعَ بِأَنَّ الْحُسَيْنَ قَدْ جَمَعَ الرِّجَالَ وَالْغِلْمَانَ الْحُجَرِيَّةَ فِي دَارِ الْخَلِيفَةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ فِيهِمْ وَإِنَّ هَارُونَ بْنَ غَرِيبٍ قَدْ قَرُبَ مِنْ بَغْدَاذَ، فَأَظْهَرَ الْغَضَبَ، وَسَارَ نَحْوَ الْمَوْصِلِ وَوَجَّهَ خَادِمَهُ بُشْرَى بِرِسَالَةٍ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، فَسَأَلَهُ الْحُسَيْنُ عَنِ الرِّسَالَةِ، فَقَالَ: لَا أَذْكُرُهَا إِلَّا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ الْمُقْتَدِرُ يَأْمُرُهُ بِذِكْرِ مَا مَعَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ لِلْوَزِيرِ، فَامْتَنَعَ، وَقَالَ: مَا أَمَرَنِي صَاحِبِي بِهَذَا، فَسَبَّهُ الْوَزِيرُ، وَشَتَمَ صَاحِبَهُ، وَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، وَصَادَرَهُ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَخَذَ خَطَّهُ بِهَا، وَحَبَسَهُ وَنَهَبَ دَارَهُ. فَلَمَّا بَلَغَ مُؤْنِسًا مَا جَرَى عَلَى خَادِمِهِ، وَهُوَ يَنْتَظِرُ أَنْ يُطَيِّبَ الْمُقْتَدِرُ قَلْبَهُ، وَيُعِيدَهُ، فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ سَارَ نَحْوَ (الْمَوْصِلِ وَمَعَهُ جَمِيعُ قُوَّادِهِ، فَكَتَبَ الْحُسَيْنُ إِلَى الْقُوَّادِ وَالْغِلْمَانِ يَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَعَادَ جَمَاعَةٌ، وَسَارَ مُؤْنِسٌ نَحْوَ) الْمَوْصِلِ فِي أَصْحَابِهِ وَمَمَالِيكِهِ، وَمَعَهُ مِنَ السَّاجِيَّةِ ثَمَانِيمِائَةِ رَجُلٍ وَتَقَدَّمَ الْوَزِيرُ بِقَبْضِ أَقَطَاعِ مُؤْنِسٍ وَأَمْلَاكِهِ وَأَمْلَاكِ مَنْ مَعَهُ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ مَالٌ عَظِيمٌ، وَزَادَ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الْوَزِيرِ عِنْدَ الْمُقْتَدِرِ، فَلَقَّبَهُ " عَمِيدَ الدَّوْلَةِ "، وَضَرَبَ اسْمَهُ عَلَى الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَمَكَّنَ مِنَ الْوِزَارَةِ، وَوَلَّى وَعَزَلَ.

وَكَانَ فِيمَنْ تَوَلَّى أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَرِيدِيُّ، وَلَّاهُ الْوَزِيرُ الْبَصْرَةَ وَجَمِيعَ أَعْمَالِهَا بِمَبْلَغٍ لَا يَفِي بِالنَّفَقَاتِ عَلَى الْبَصْرَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، بَلْ فَضَلَ لِأَبِي يُوسُفَ مِقْدَارُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ أَحَالَهُ الْوَزِيرُ بِهَا، فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ الْفَضْلُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ اسْتَدْرَكَ عَلَى أَبِي يُوسُفَ، وَأَظْهَرَ لَهُ الْغَلَطَ فِي الضَّمَانِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْضِيهِ، فَأَجَابَ إِلَى أَنْ يَقُومَ بِنَفَقَاتِ الْبَصْرَةِ، وَيَحْمِلَ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ كُلَّ سَنَةٍ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَانْتَهَى ذَلِكَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، فَحَسُنَ مَوْقِعُهُ عِنْدَهُ، (فَقَصَدَهُ الْوَزِيرُ، فَاسْتَتَرَ) ، وَسَعَى بِالْوَزِيرِ إِلَى الْمُقْتَدِرِ إِلَى أَنْ أَفْسَدَ حَالَهُ. ذِكْرُ عَزْلِ الْحُسَيْنِ عَنِ الْوِزَارَةِ وَفِيهَا عُزِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنِ الْوِزَارَةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَمْوَالُ، وَكَثُرَتِ الْإِخْرَاجَاتُ، فَاسْتَسْلَفَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جُمْلَةً وَافِرَةً أَخْرَجَهَا فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَأَنْهَى هَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ ذَلِكَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، فَرَتَّبَ مَعَهُ الْخَصِيبِيَّ، فَلَمَّا تَوَلَّى مَعَهُ نَظَرَ فِي أَعْمَالِهِ، فَرَآهُ قَدْ عَمِلَ حِسْبَةً إِلَى الْمُقْتَدِرِ لَيْسَ فِيهَا عَلَيْهِ وَجْهٌ، وَمَوَّهَ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ لِلْمُقْتَدِرِ، فَأَمَرَ بِجَمْعِ الْكُتَّابِ وَكَشْفِ الْحَالِ، فَحَضَرُوا وَاعْتَرَفُوا بِصِدْقِ الْخَصِيبِيِّ بِذَلِكَ، وَقَابَلُوا الْوَزِيرَ بِذَلِكَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَكَانَتْ وِزَارَتُهُ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَاسْتَوْزَرَ الْمُقْتَدِرُ أَبَا الْفَتْحِ الْفَضْلَ بْنَ جَعْفَرٍ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنَ، فَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِإِسَاءَتِهِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مُؤْنِسٍ عَلَى الْمَوْصِلِ قَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَ مُؤْنِسٍ إِلَى الْمَوْصِلِ فَلَمَّا سَمِعَ الْحُسَيْنُ الْوَزِيرُ بِمَسِيرِهِ كَتَبَ إِلَى سَعِيدٍ، وَدَاوُدَ ابْنَيْ حَمْدَانَ، وَإِلَى ابْنِ أَخِيهِمَا نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ، يَأْمُرُهُمْ بِمُحَارَبَةِ مُؤْنِسٍ، وَصَدِّهِ عَنِ الْمَوْصِلِ.

وَكَانَ مُؤْنِسٌ كَتَبَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى رُؤَسَاءِ الْعَرَبِ يَسْتَدْعِيهِمْ، وَيَبْذُلُ لَهُمُ الْأَمْوَالَ وَالْخِلَعَ، وَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ قَدْ وَلَّاهُ الْمَوْصِلَ وَدِيَارَ رَبِيعَةَ. وَاجْتَمَعَ بَنُو حَمْدَانَ عَلَى مُحَارَبَةِ مُؤْنِسٍ، إِلَّا دَاوُدَ بْنَ حَمْدَانَ فَإِنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِإِحْسَانِ مُؤْنِسٍ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ (بَعْدَ أَبِيهِ) ، وَرَبَّاهُ فِي حِجْرِهِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ إِحْسَانًا عَظِيمًا، فَلَمَّا امْتَنَعَ مِنْ مُحَارَبَتِهِ لَمْ يَزَلْ بِهِ إِخْوَتُهُ حَتَّى وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرُوا لَهُ إِسَاءَةَ الْحُسَيْنِ وَأَبِي الْهَيْجَاءِ ابْنَيْ حَمْدَانَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْسِلُوا تِلْكَ السَّيِّئَةَ، وَلَمَّا أَجَابَهُمْ قَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَحْمِلُونَنِي عَلَى الْبَغْيِ، وَكُفْرَانِ الْإِحْسَانِ، وَمَا آمَنُ أَنْ يَجِيئَنِي سَهْمٌ عَاثِرٌ فَيَقَعَ فِي نَحْرِي فَيَقْتُلَنِي، فَلَمَّا الْتَقَوْا أَتَاهُ سَهْمٌ كَمَا وَصَفَ فَقَتَلَهُ. وَكَانَ مُؤْنِسٌ إِذَا قِيلَ لَهُ: إِنَّ دَاوُدَ عَازِمٌ عَلَى قِتَالِكَ، يُنْكِرُهُ وَيَقُولُ: كَيْفَ يُقَاتِلُنِي وَقَدْ أَخَذْتُهُ طِفْلًا وَرَبَّيْتُهُ فِي حِجْرِي وَلَمَّا قَرُبَ مُؤْنِسٌ مِنَ الْمَوْصِلِ كَانَ فِي ثَمَانِمِائَةِ فَارِسٍ، وَاجْتَمَعَ بَنُو حَمْدَانَ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ بَنُو حَمْدَانَ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ غَيْرُ دَاوُدَ، وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالْمُجَفْجَفِ وَفِيهِ يَقُولُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، (وَقَدْ هَجَا أَمِيرًا) : لَوْ كُنْتَ فِي أَلْفِ أَلْفٍ كُلُّهُمْ بَطَلٌ ... مِثْلُ الْمُجَفْجَفِ دَاوُدَ بْنِ حَمْدَانِ وَتَحْتَكَ الرِّيحُ تَجْرِي حَيْثُ تَأْمُرُهَا ... وَفِي يَمِينِكَ سَيْفٌ غَيْرُ خَوَّانِ لَكُنْتَ أَوَّلَ فَرَّارٍ إِلَى عَدَنٍ ... إِذَا تَحَرَّكَ سَيْفٌ مِنْ خُرَاسَانِ وَكَانَ دَاوُدُ هَذَا مِنْ أَشْجَعِ النَّاسِ، وَدَخَلَ مُؤْنِسٌ الْمَوْصِلَ ثَالِثَ صَفَرٍ وَاسْتَوْلَى عَلَى أَمْوَالِ بَنِي حَمْدَانَ وَدِيَارِهِمْ،

فَخَرَجَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعَسَاكِرِ مِنْ بَغْدَاذَ، وَالشَّامِ، وَمِصْرَ، مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ لِإِحْسَانِهِ [الَّذِي] كَانَ إِلَيْهِمْ، (وَعَادَ إِلَيْهِ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ، فَصَارَ مَعَهُ، وَأَقَامَ بِالْمَوْصِلِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَعَزَمَ عَلَى الِانْحِدَارِ إِلَى بَغْدَادَ. ذِكْرُ قَتْلِ الْمُقْتَدِرِ لَمَّا اجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ عَلَى مُؤْنِسٍ بِالْمَوْصِلِ قَالُوا لَهُ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى الْخَلِيفَةِ فَإِنْ أَنْصَفَنَا، (وَأَجْرَى أَرْزَاقَنَا) . وَإِلَّا قَاتَلْنَاهُ، فَانْحَدَرَ مُؤْنِسٌ مِنَ الْمَوْصِلِ فِي شَوَّالٍ، وَبَلَغَ خَبَرُهُ جُنْدَ بَغْدَاذَ، فَشَغَبُوا وَطَلَبُوا أَرْزَاقَهُمْ، فَفَرَّقَ الْمُقْتَدِرُ فِيهِمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسَعْهُمْ، وَأَنْفَذَ أَبَا الْعَلَاءِ سَعِيدَ بْنَ حَمْدَانَ وَصَافِيًا الْبَصْرِيَّ فِي خَيْلٍ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى، وَأَنْفَذَ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ يَاقُوتٍ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَمَعَهُ الْغِلْمَانُ الْحُجَرِيَّةُ، إِلَى الْمَعْشُوقِ. فَلَمَّا وَصَلَ مُؤْنِسٌ إِلَى تَكْرِيتَ أَنْفَذَ طَلَائِعَهُ، فَلَمَّا قَرُبُوا مِنَ الْمَعْشُوقِ جَعَلَ الْعَسْكَرُ الَّذِينَ مَعَ ابْنِ يَاقُوتٍ يَتَسَلَّلُونَ وَيَهْرُبُونَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجَعَ إِلَى عُكْبَرَا، وَسَارَ مُؤْنِسٌ، فَتَأَخَّرَ ابْنُ يَاقُوتٍ وَعَسْكَرُهُ، وَعَادُوا إِلَى بَغْدَاذَ، فَنَزَلَ بِبَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ وَنَزَلَ ابْنُ يَاقُوتٍ وَغَيْرُهُ مُقَابِلَهُمْ، وَاجْتَهَدَ الْمُقْتَدِرُ بِابْنِ خَالِهِ هَارُونَ بْنِ غَرِيبٍ لِيَخْرُجَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: أَخَافُ مِنْ عَسْكَرِي، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ أَصْحَابُ مُؤْنِسٍ، وَبَعْضَهُمْ قَدِ انْهَزَمَ

أَمْسِ مِنْ مَرْدَاوِيجَ، فَأَخَافُ أَنْ يُسْلِمُونِي وَيَنْهَزِمُوا عَنِّي، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ الْوَزِيرَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُ، وَأَشَارُوا عَلَى الْمُقْتَدِرِ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ مِنْهُ وَمِنْ وَالِدَتِهِ لِيُرْضِي الْجُنْدَ، وَمَتَى سَمِعَ أَصْحَابُ مُؤْنِسٍ بِتَفْرِيقِ الْأَمْوَالِ تَفَرَّقُوا عَنْهُ وَاضْطُرَّ إِلَى الْهَرَبِ، فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ لِي وَلَا لِوَالِدَتِي جِهَةُ شَيْءٍ. وَأَرَادَ الْمُقْتَدِرُ أَنْ يَنْحَدِرَ إِلَى وَاسِطَ، وَيُكَاتِبَ الْعَسَاكِرَ مِنْ جِهَةِ الْبَصْرَةِ، وَالْأَهْوَازِ، وَفَارِسَ، وَكَرْمَانَ، وَغَيْرِهَا، وَيَتْرُكَ بَغْدَاذَ لِمُؤْنِسٍ إِلَى أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ، وَيَعُودَ إِلَى قِتَالِهِ، فَرَدَّهُ ابْنُ يَاقُوتٍ عَنْ ذَلِكَ، وَزَيَّنَ لَهُ اللِّقَاءَ، وَقَوَّى نَفْسَهُ بِأَنَّ الْقَوْمَ مَتَى رَأَوْهُ عَادُوا بِأَجْمَعِهِمْ إِلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ وَهُوَ كَارِهٌ. (ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِ بِحُضُورِ الْحَرْبِ، فَخَرَجَ وَهُوَ كَارِهٌ) ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَالْقُرَّاءُ مَعَهُمُ الْمَصَاحِفُ مَشْهُورَةٌ، وَعَلَيْهِ الْبُرْدَةُ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَوَقَفَ عَلَى تَلٍّ عَالٍ بَعِيدٍ عَنِ الْمَعْرَكَةِ، فَأَرْسَلَ قُوَّادُ أَصْحَابِهِ يَسْأَلُونَهُ التَّقَدُّمَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، (وَهُوَ وَاقِفٌ) ، فَلَمَّا أَلَحُّوا عَلَيْهِ تَقَدَّمَ مِنْ مَوْضِعِهِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ قَدْ أَمَرَ فَنُودِيَ: مَنْ جَاءَ بِأَسِيرٍ فَلَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، وَمَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ فَلَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ لَقِيَهُ عَلِيُّ بْنُ بُلَيْقٍ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ مُؤْنِسٍ، فَتَرَجَّلَ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَقَالَ لَهُ: إِلَى أَيْنَ تَمْضِي؟ ارْجِعْ، فَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَشَارَ عَلَيْكَ بِالْحُضُورِ! فَأَرَادَ الرُّجُوعَ، فَلَقِيَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمَغَارِبَةِ وَالْبَرْبَرِ، فَتَرَكَهُ عَلِيٌّ مَعَهُمْ وَسَارَ عَنْهُ، فَشَهَرُوا عَلَيْهِ سُيُوفَهُمْ، فَقَالَ: وَيْحَكُمْ أَنَا الْخَلِيفَةُ! فَقَالُوا: قَدْ عَرَفْنَاكَ يَا سِفْلَةُ، أَنْتَ خَلِيفَةُ إِبْلِيسَ، تَبْذُلُ فِي كُلِّ رَأْسٍ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ، وَفِي كُلِّ أَسِيرٍ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ! وَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ بِسَيْفِهِ عَلَى عَاتِقِهِ فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ وَذَبَحَهُ بَعْضُهُمْ، فَقِيلَ: إِنَّ عَلِيَّ بْنَ بُلَيْقٍ غَمَزَ بَعْضَهُمْ فَقَتَلَهُ. وَكَانَ الْمُقْتَدِرُ ثَقِيلَ الْبَدَنِ، عَظِيمَ الْجُثَّةِ، فَلَمَّا قَتَلُوهُ رَفَعُوا رَأْسَهُ عَلَى خَشَبَةٍ وَهُمْ يَكْبِّرُونَ وَيَلْعَنُونَهُ، وَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ حَتَّى سَرَاوِيلَهُ، وَتَرَكُوهُ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، إِلَى أَنْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَكَرَةِ، فَسَتَرَهُ بِحَشِيشٍ، ثُمَّ حَفَرَ لَهُ مَوْضِعَهُ، وَدُفِنَ، وَعُفِيَ قَبْرُهُ.

وَكَانَ مُؤْنِسٌ فِي الرَّاشِدِيَّةِ لَمْ يَشْهَدِ الْحَرْبَ، فَلَمَّا حُمِلَ رَأْسُ الْمُقْتَدِرِ إِلَيْهِ بَكَى، وَلَطَمَ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ، وَقَالَ: يَا مُفْسِدُونَ! مَا هَكَذَا أَوْصَيْتُكُمْ، وَقَالَ: قَتَلْتُمُوهُ، وَكَانَ هَذَا آخِرَ أَمْرِهِ، وَاللَّهِ لَنُقْتَلَنَّ كُلُّنَا، وَأَقَلُّ مَا فِي الْأَمْرِ أَنَّكُمْ تُظْهِرُونَ أَنَّكُمْ قَتَلْتُمُوهُ خَطَأً، وَلَمْ تَعْرِفُوهُ. وَتَقَدَّمَ مُؤْنِسٌ إِلَى الشَّمَّاسِيَّةِ، وَأَنْفَذَ إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ مَنْ يَمْنَعُهَا مِنَ النَّهْبِ، وَمَضَى عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ الْمُقْتَدِرِ، وَهَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ، وَابْنَا رَائِقٍ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَكَانَ مَا فَعَلَهُ مُؤْنِسٌ سَبَبًا لِجُرْأَةِ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ (عَلَى) الْخُلَفَاءِ وَطَمَعِهِمْ فِيمَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ لَهُمْ عَلَى بَالٍ، وَانْخَرَقَتِ الْهَيْبَةُ وَضَعُفَ أَمْرُ الْخِلَافَةِ حَتَّى صَارَ الْأَمْرُ إِلَى مَا نَحْكِيهِ. عَلَى أَنَّ الْمُقْتَدِرَ أَهْمَلَ مِنْ أَحْوَالِ الْخِلَافَةِ كَثِيرًا، وَحَكَّمَ فِيهَا النِّسَاءَ وَالْخَدَمَ، وَفَرَّطَ فِي الْأَمْوَالِ، وَعَزَلَ مِنَ الْوُزَرَاءِ وَوَلَّى مِمَّا أَوْجَبَ طَمَعَ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ وَالنُّوَّابَ، وَخُرُوجَهَمْ عَنِ الطَّاعَةِ. وَكَانَ جُمْلَةُ مَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، تَبْذِيرًا وَتَضْيِيعًا فِي غَيْرِ وَجْهٍ، نَيِّفًا وَسَبْعِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، سِوَى مَا أَنْفَقَهُ فِي الْوُجُوهِ الْوَاجِبَةِ، وَإِذَا اعْتَبَرْتَ أَحْوَالَ الْخِلَافَةِ فِي أَيَّامِهِ وَأَيَّامِ أَخِيهِ الْمُكْتَفِي وَوَالِدِهِ الْمُعْتَضِدِ، رَأَيْتَ بَيْنَهُمْ تَفَاوُتًا بَعِيدًا، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِيًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَنَحْوًا مِنْ شَهْرَيْنِ.

ذِكْرُ خِلَافَةِ الْقَاهِرِ بِاللَّهِ لَمَّا قُتِلَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ عَظُمَ قَتْلُهُ عَلَى مُؤْنِسٍ، وَقَالَ: الرَّأْيُ أَنْ نُنَصِّبَ وَلَدَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ (أَحْمَدَ) فِي الْخِلَافَةِ، فَإِنَّهُ تَرْبِيَتِي، وَهُوَ صَبِيٌّ عَاقِلٌ، وَفِيهِ دِينٌ وَكَرْمٌ، (وَوَفَاءٌ بِمَا يَقُولُ) ، فَإِذَا جَلَسَ فِي الْخِلَافَةِ سَمَحَتْ نَفْسُ جَدَّتِهِ، وَالِدَةُ الْمُقْتَدِرِ وَإِخْوَتِهِ، وَغِلْمَانِ أَبِيهِ بِبَذْلِ الْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَنْتَطِحْ فِي قَتْلِ الْمُقْتَدِرِ عَنْزَانِ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النُّوبَخْتِيُّ، وَقَالَ: بَعْدَ الْكَدِّ وَالتَّعَبِ اسْتَرَحْنَا مِنْ خَلِيفَةٍ لَهُ أُمٌّ، وَخَالَةٌ، وَخَدَمٌ يُدَبِّرُونَهُ فَنَعُودُ إِلَى تِلْكَ الْحَالِ! وَاللَّهِ لَا نَرْضَى إِلَّا بِرَجُلٍ كَامِلٍ، يُدَبِّرُ نَفْسَهُ، وَيُدَبِّرُنَا وَمَا زَالَ حَتَّى رَدَّ مُؤْنِسًا عَنْ رَأْيِهِ، وَذَكَرَ لَهُ أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُعْتَضِدِ فَأَجَابَهُ مُؤْنِسٌ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ النُّوبَخْتِيُّ فِي ذَلِكَ كَالْبَاحِثِ عَنْ حَتْفِهِ بِظِلْفِهِ فَإِنَّ الْقَاهِرَ قَتَلَهُ، كَمَا نَذْكُرُهُ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ. وَأَمَرَ مُؤْنِسٌ بِإِحْضَارِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ، فَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَوَّالٍ، وَلَقَّبُوهُ الْقَاهِرَ بِاللَّهِ، وَكَانَ مُؤْنِسٌ كَارِهًا لِخِلَافَتِهِ، (وَالْبَيْعَةِ لَهُ) ، وَيَقُولُ: إِنَّنِي عَارِفٌ بِشَرِّهِ، وَسُوءِ نِيَّتِهِ، وَلَكِنْ لَا حِيلَةَ. وَلَمَّا بُويِعَ اسْتَحْلَفَهُ مُؤْنِسٌ لِنَفْسِهِ وَلِحَاجِبِهِ بُلَيْقٍ، وَلِعَلِيِّ بْنِ بُلَيْقٍ وَأَخَذُوا

خَطَّهُ بِذَلِكَ وَاسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ لَهُ، (وَبَايَعَهُ النَّاسُ) ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ، وَكَانَ بِفَارِسَ، فَاسْتَقْدَمَهُ، وَوَزَرَ لَهُ، وَاسْتَحْجَبَ الْقَاهِرُ عَلِيَّ بْنَ بُلَيْقٍ، وَتَشَاغَلَ الْقَاهِرُ بِالْبَحْثِ عَمَّنِ اسْتَتَرَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُقْتَدِرِ وَحُرَمِهِ، وَبِمُنَاظَرَةِ وَالِدَةِ الْمُقْتَدِرِ، وَكَانَتْ مَرِيضَةً قَدِ ابْتَدَأَ بِهَا الِاسْتِسْقَاءُ، وَقَدْ زَادَ مَرَضُهَا بِقَتْلِ ابْنِهَا، وَلَمَّا سَمِعَتْ أَنَّهُ بَقِيَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ جَزِعَتْ جَزَعًا شَدِيدًا، وَامْتَنَعَتْ عَنِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ حَتَّى كَادَتْ تَهْلِكُ، فَوَعَظَهَا النِّسَاءُ حَتَّى أَكَلَتْ شَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الْخُبْزِ وَالْمِلْحِ. ثُمَّ أَحْضَرَهَا الْقَاهِرُ عِنْدَهُ، وَسَأَلَهَا عَنْ مَالِهَا، فَاعْتَرَفَتْ لَهُ بِمَا عِنْدَهَا مِنَ الْمَصُوغِ وَالثِّيَابِ، وَلَمْ تَعْتَرِفْ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَالِ وَالْجَوْهَرِ، فَضَرَبَهَا أَشَدَّ مَا يَكُونُ مِنَ الضَّرْبِ، وَعَلَّقَهَا بِرِجْلِهَا، وَضَرَبَ الْمَوَاضِعَ الْغَامِضَةَ مِنْ بَدَنِهَا، فَحَلَفَتْ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ غَيْرَ مَا أَطْلَعَتْهُ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: لَوْ كَانَ عِنْدِي مَالٌ لَمَا أَسْلَمْتُ وَلَدِي لِلْقَتْلِ، وَلَمْ تَعْتَرِفْ بِشَيْءٍ. وَصَادَرَ جَمِيعَ حَاشِيَةِ الْمُقْتَدِرِ وَأَصْحَابَهُ، وَأَخْرَجَ الْقَاهِرُ وَالِدَةَ الْمُقْتَدِرِ لِتُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهَا الْقُضَاةَ وَالْعُدُولَ بِأَنَّهَا قَدْ حَلَّتْ أَوْقَافَهَا، وَوَكَّلَتْ فِي بَيْعِهَا، فَامْتَنَعَتْ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: قَدْ أَوْقَفْتُهَا عَلَى أَبْوَابِ الْبِرِّ وَالْقُرَبِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالثُّغُورِ، وَعَلَى الضَّعْفَى وَالْمَسَاكِينِ، وَلَا أَسْتَحِلُّ حِلَّهَا وَلَا بَيْعَهَا وَإِنَّمَا أُوَكِّلُ عَلَى بَيْعِ أَمْلَاكِي. فَلَمَّا عَلِمَ الْقَاهِرُ بِذَلِكَ أَحْضَرَ الْقَاضِيَ وَالْعُدُولَ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ حَلَّ وُقُوفَهَا جَمِيعَهَا، وَوَكَّلَ فِي بَيْعِهَا، فَبِيعَ ذَلِكَ جَمِيعُهُ مَعَ غَيْرِهِ، وَاشْتَرَاهُ الْجُنْدُ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْقَاهِرُ بِكَبْسِ الدُّورِ الَّتِي سُعِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ اخْتَفَى فِيهَا وَلَدُ الْمُقْتَدِرِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ وَجَدُوا مِنْهُمْ أَبَا الْعَبَّاسِ الرَّاضِيَ، وَهَارُونَ، وَعَلِيًّا، وَالْعَبَّاسَ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالْفَضْلَ، فَحُمِلُوا إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ فَصُودِرُوا عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ، وَسَلَّمَهُمْ عَلِيُّ بْنُ بُلَيْقٍ إِلَى كَاتِبِهِ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ فَأَحْسَنَ صُحْبَتَهُمْ.

وَاسْتَقَرَّ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ فِي الْوِزَارَةِ، (وَعَزَلَ وَوَلَّى) ، وَقَبَضَ عَلَى (جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُمَّالِ، وَقَبَضَ عَلَى) بَنِي الْبَرِيدِيِّ، وَعَزَلَهُمْ عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَصَادَرَهُمْ. ذِكْرُ وُصُولِ وَشْمَكِيرَ إِلَى أَخِيهِ مَرْدَاوِيجَ وَفِيهَا أَرْسَلَ مَرْدَاوِيجُ إِلَى أَخِيهِ وَشْمَكِيرَ، وَهُوَ بِبِلَادِ جِيلَانَ، يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ وَكَانَ الرَّسُولُ ابْنُ الْجَعْدِ، قَالَ: أَرْسَلَنِي مَرْدَاوِيجُ، وَأَمَرَنِي بِالتَّلَطُّفِ لِإِخْرَاجِ أَخِيهِ وَشْمَكِيرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَصَلَ سَأَلْتُ عَنْهُ، فَدُلِلْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ مَعَ جَمَاعَةٍ يَزْرَعُونَ الْأُرْزَ (فَلَمَّا رَأَوْنِي قَصَدُونِي) وَهُمْ حُفَاةٌ عُرَاةٌ عَلَيْهِمْ سَرَاوِيلَاتٌ مُلَوَّنَةُ الْخِرَقِ، وَأَكْسِيَةٌ مُمَزَّقَةٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَأَبْلَغْتُهُ رِسَالَةَ أَخِيهِ، وَأَعْلَمْتُهُ بِمَا مَلَكَ مِنَ الْبِلَادِ وَالْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا، فَضَرَطَ بِفَمِهِ فِي لِحْيَةِ أَخِيهِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَبِسَ السَّوَادَ، وَخَدَمَ الْمُسَوِّدَةَ، يَعْنِي الْخُلَفَاءَ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ. فَلَمْ أَزَلْ أُمَنِّيهِ وَأُطَمِّعُهُ حَتَّى خَرَجَ مَعِي، فَلَمَّا بَلَغْنَا قَزْوِينَ اجْتَهَدْتُ بِهِ لِيَلْبَسَ السَّوَادَ، فَامْتَنَعَ ثُمَّ لَبِسَ بَعْدَ الْجُهْدِ. قَالَ: فَرَأَيْتُ مِنْ جَهْلِهِ أَشْيَاءَ أَسْتَحْيِي مِنْ ذِكْرِهَا، ثُمَّ أَعْطَتْهُ السَّعَادَةُ مَا كَانَ لَهُ فِي الْغَيْبِ فَصَارَ مِنْ أَعْرَفِ الْمُلُوكِ بِتَدْبِيرِ الْمَمَالِكِ وَسِيَاسَةِ الرَّعَايَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ (بْنُ يُوسُفَ) بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا حَلِيمًا، وَأَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ خَوَّانٍ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ عَابِدًا وَرِعًا،

أُرِيدَ عَلَى الْقَضَاءِ فَلَمْ يَفْعَلْ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَدِيٍّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْجُرْجَانِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْأَسْتِرَابَاذِيِّ.

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 321 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ حَالِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ وَمَنْ مَعَهُ قَدْ ذَكَرْنَا هَرَبَ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ، وَهَارُونَ بْنِ غَرِيبٍ، وَمُفْلِحٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ، وَابْنَيْ رَائِقٍ، بَعْدَ قَتْلِ الْمُقْتَدِرِ إِلَى الْمَدَائِنِ، ثُمَّ إِنَّهُمُ انْحَدَرُوا مِنْهَا إِلَى وَاسِطَ، وَأَقَامُوا بِهَا، وَخَافَهُمُ النَّاسُ، فَابْتَدَأَ هَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ وَكَتَبَ إِلَى بَغْدَادَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، وَيَبْذُلُ مُصَادَرَةَ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ يُطْلِقَ لَهُ أَمْلَاكَهُ، وَيَنْزِلَ عَنِ الْأَمْلَاكِ الَّتِي اسْتَأْجَرَهَا، وَيُؤَدِّي مِنْ أَمْلَاكِهِ حُقُوقَ بَيْتِ الْمَالِ الْقَدِيمَةَ، فَأَجَابَهُ الْقَاهِرُ (وَمُؤْنِسٌ) إِلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَا لَهُ كِتَابَ أَمَانٍ وَقُلِّدَ أَعْمَالَ مَاهِ الْكُوفَةِ، وَمَاسَبَذَانَ وَمَهْرَجَانِ قَذَقَ، وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ. وَخَرَجَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ الْمُقْتَدِرِ مِنْ وَاسِطَ فِيمَنْ بَقِيَ مَعَهُ وَمَضَوْا إِلَى السُّوسِ وَسُوقِ الْأَهْوَازِ، وَجَبَوُا الْمَالَ، وَطَرَدُوا الْعُمَّالَ، وَأَقَامُوا بِالْأَهْوَازِ فَجَهَّزَ مُؤْنِسٌ إِلَيْهِمْ جَيْشًا كَثِيفًا، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ بُلَيْقًا. وَكَانَ الَّذِي حَرَّضَهُمْ عَلَى إِنْفَاذِ الْجَيْشِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْحَبْسِ فَخَوَّفَهُمْ عَاقِبَةَ إِهْمَالِ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَمَنْ مَعَهُ وَبَذَلَ مُسَاعَدَةً مُعَجَّلَةً خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ يَتَوَلَّى الْأَهْوَازَ، وَعِنْدَ اسْتِقْرَارِهِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ يُعَجِّلُ بَاقِيَ الْمَالِ، وَأَمَرَ

مُؤْنِسٌ بِالتَّجْهِيزِ، وَأَنْفَقَ ذَلِكَ الْمَالَ، وَسَارَ الْعَسْكَرُ وَفِيهِمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ قَدِ اسْتَبَدَّ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَمْرِ، فَنَفَرَتْ لِذَلِكَ قُلُوبُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْقُوَّادِ وَالْجُنْدِ فَلَمَّا قَرُبَ الْعَسْكَرُ مِنْ وَاسِطَ أَظْهَرَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْقُوَّادِ مَا فِي نُفُوسِهِمْ، وَفَارَقُوهُ، وَلَمَّا وَصَلَ بُلَيْقٌ إِلَى السُّوسِ فَارَقَ عَبْدُ الْوَاحِدِ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ الْأَهْوَازَ وَسَارَا إِلَى تُسْتَرَ، فَعَمِلَ الْقَرَارِيطِيُّ، وَكَانَ مَعَ الْعَسْكَرِ، (بِأَهْلِ الْأَهْوَازِ) مَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ: نَهَبَ أَمْوَالَهُمْ، وَصَادَرَهُمْ جَمِيعَهُمْ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَنَزَلَ عَبْدُ الْوَاحِدِ وَابْنُ يَاقُوتٍ بِتُسْتَرَ، وَفَارَقَهُمَا مَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْقُوَّادِ إِلَى بُلَيْقٍ بِأَمَانٍ وَبَقِيَ مُفْلِحٌ وَسُرُورٌ الْخَادِمُ مَعَ عَبْدِ الْوَاحِدِ، فَقَالَا لِمُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ: أَنْتَ مُعْتَصِمٌ بِهَذِهِ الْمَدِينَةِ، وَبِمَالِكَ وَرِجَالِكَ، وَنَحْنُ فَلَا مَالَ مَعَنَا، وَلَا رِجَالَ، وَمُقَامُنَا مَعَكَ يَضُرُّكَ، وَلَا يَنْفَعُكَ، وَقَدْ عَزَمْنَا عَلَى أَخْذِ الْأَمَانِ لَنَا وَلِعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ، فَأَذِنَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ فَكَتَبَا إِلَى بُلَيْقٍ فَأَمَّنَهُمْ، فَعَبَرُوا إِلَيْهِ، وَبَقِيَ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ مُنْفَرِدًا، فَضَعُفَتْ نَفْسُهُ، وَتَحَيَّرَ، فَتَرَاسَلَ هُوَ وَبُلَيْقٌ، وَاسْتَقَرَّ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَخْرُجُ إِلَى بُلَيْقٍ عَلَى شَرْطٍ أَنَّهُ يُؤَمِّنُهُ، وَيَضْمَنُ لَهُ أَمَانَ مُؤْنِسٍ وَالْقَاهِرِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَحَلَفَ لَهُ، وَخَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ. وَاسْتَوْلَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ عَلَى الْبِلَادِ، وَعَسَفَ أَهْلَهَا، وَأَخَذَ أَمْوَالَ التُّجَّارِ وَعَمِلَ بِأَهْلِ الْبِلَادِ مَا لَا يَعْمَلُهُ الْفِرِنْجُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَحَدٌ عَمَّا يُرِيدُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الدِّينِ مَا يَزَعُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَعَادَ إِخْوَتُهُ إِلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَمَّا عَادَ عَبْدُ الْوَاحِدِ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ وَفَى لَهُمُ الْقَاهِرُ، وَأَطْلَقَ لِعَبْدِ الْوَاحِدِ

أَمْلَاكَهُ، وَتَرَكَ لِوَالِدَتِهِ الْمُصَادَرَةَ الَّتِي صَادَرَهَا بِهَا. ذِكْرُ اسْتِيحَاشِ مُؤْنِسٍ وَأَصْحَابِهِ مِنَ الْقَاهِرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْحَشَ مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ وَبُلَيْقٌ الْحَاجِبُ وَوَلَدُهُ عَلِيٌّ وَالْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ مِنَ الْقَاهِرِ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ وَعَلَى أَسْبَابِهِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يَاقُوتٍ تَقَدَّمَ عِنْدَ الْقَاهِرِ، وَعَلَتْ مَنْزِلَتُهُ وَصَارَ يَخْلُو بِهِ وَيُشَاوِرُهُ فَغَلُظَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ مُقْلَةَ لِعَدَاوَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، فَأَلْقَى إِلَى مُؤْنِسٍ أَنَّ مُحَمَّدًا يَسْعَى بِهِ عِنْدَ الْقَاهِرِ، وَأَنَّ عِيسَى الطَّبِيبَ يَسْفُرُ بَيْنَهُمَا فِي التَّدْبِيرِ عَلَيْهِ، فَوَجَّهَ مُؤْنِسٌ عَلِيَّ بْنَ بُلَيْقٍ لِإِحْضَارِ عِيسَى الطَّبِيبِ، فَوَجَدَهُ بَيْنَ يَدِيِ الْقَاهِرِ، فَأَخَذَهُ وَأَحْضَرَهُ عِنْدِ مُؤْنِسٍ فَسَيَّرَهُ مِنْ سَاعَتِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى الْإِيقَاعِ بِمُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ، وَكَانَ فِي الْخِيَامِ (فَرَكِبَ عَلِيُّ بْنُ بُلَيْقٍ فِي جُنْدِهِ لِيَكْبِسَهُ، فَوَجَدَهُ قَدِ اخْتَفَى، فَنَهَبَ أَصْحَابَهُ وَاسْتَتَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ) . وَوَكَّلَ عَلِيُّ بْنُ بُلَيْقٍ عَلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ أَحْمَدَ بْنِ زِيرَكَ، وَأَمَرَهُ بِالتَّضْيِيقِ عَلَى الْقَاهِرِ، وَتَفْتِيشِ كُلِّ مَنْ يَدْخُلُ الدَّارَ وَيَخْرُجُ مِنْهَا، وَأَنْ يَكْشِفَ وُجُوهَ النِّسَاءِ الْمُنَقَّبَاتِ، وَإِنْ وَجَدَ مَعَ أَحَدٍ رُقْعَةً دَفَعَهَا إِلَى مُؤْنِسٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَزَادَ عَلَيْهِ، حَتَّى إِنَّهُ حُمِلَ إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ لَبَنٌ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ لِئَلَّا يَكُونَ فِيهِ رُقْعَةٌ وَنَقَلَ بُلَيْقٌ مَنْ كَانَ بِدَارِ الْقَاهِرِ مَحْبُوسًا إِلَى دَارِهِ كَوَالِدَةِ الْمُقْتَدِرِ وَغَيْرِهَا وَقَطَعَ أَرْزَاقَ حَاشِيَتِهِ. فَأَمَّا وَالِدَةُ الْمُقْتَدِرِ فَإِنَّهَا كَانَتْ قَدِ اشْتَدَّتْ عِلَّتُهَا لِشِدَّةِ الضَّرْبِ الَّذِي ضَرَبَهَا الْقَاهِرُ، فَأَكْرَمَهَا عَلِيُّ بْنُ بُلَيْقٍ وَتَرَكَهَا عِنْدَ وَالِدَتِهِ، فَمَاتَتْ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ وَكَانَتْ مُكَرَّمَةً مُرَفَّهَةً، وَدُفِنَتْ بِتُرْبَتِهَا بِالرُّصَافَةِ.

وَضَيَّقَ عَلِيُّ بْنُ بُلَيْقٍ عَلَى الْقَاهِرِ، فَعَلِمَ الْقَاهِرُ أَنَّ الْعِتَابَ لَا يُفِيدُ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِرَأْيِ مُؤْنِسٍ وَابْنِ مُقْلَةَ، فَأَخَذَ فِي الْحِيلَةِ وَالتَّدْبِيرِ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ. وَكَانَ قَدْ عَرَفَ فَسَادَ قَلْبِ طَرِيفٍ السُّبْكَرِيِّ وَبُشْرَى خَادِمِ مُؤْنِسٍ لِبُلَيْقٍ وَوَلَدِهِ عَلِيٍّ، وَحَسَدَهُمَا عَلَى مَرَاتِبِهِمَا، فَشَرَعَ فِي إِغْرَائِهِمَا بِبُلَيْقٍ وَابْنِهِ. وَعَلِمَ أَيْضًا أَنَّ مُؤْنِسًا وَبُلَيْقًا أَكْثَرُ اعْتِمَادِهِمَا عَلَى السَّاجِيَّةِ أَصْحَابِ يُوسُفَ بْنِ أَبِي السَّاجِ وَغِلْمَانِهِ الْمُنْتَقِلِينَ إِلَيْهِمَا بَعْدَهُ، وَكَانَا قَدْ وَعَدَا السَّاجِيَّةَ بِالْمَوْصِلِ مَوَاعِيدَ أَخْلَفَاهَا، فَأَرْسَلَ الْقَاهِرُ إِلَيْهِمْ يُغْرِيهِمْ بِمُؤْنِسٍ، وَبُلَيْقٍ، وَيَحْلِفُ لَهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا أَخْلَفَاهُمْ، فَتَغَيَّرَتْ قُلُوبُ السَّاجِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ رَاسَلَ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مُقْلَةَ، وَصَاحِبَ مَشُورَتِهِ، وَوَعَدَهُ الْوِزَارَةَ، فَكَانَ يُطَالِعُهُ بِالْأَخْبَارِ، وَبَلَغَ ابْنَ مُقْلَةَ أَنَّ الْقَاهِرَ قَدْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِي التَّدْبِيرِ عَلَيْهِ وَعَلَى مُؤْنِسٍ، وَبُلَيْقٍ، وَابْنِهِ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ، فَأَخْبَرَهُمُ ابْنُ مُقْلَةَ بِذَلِكَ. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى مُؤْنِسٍ وَبُلَيْقٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَوَّلَ شَعْبَانَ، قَبَضَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ عَلَى بُلَيْقٍ وَابْنِهِ، وَمُؤْنِسٍ الْمُظَفَّرِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ ابْنُ مُقْلَةَ لِمُؤْنِسٍ وَبُلَيْقٍ مَا هُوَ عَلَيْهِ الْقَاهِرُ مِنَ التَّدْبِيرِ فِي اسْتِئْصَالِهِمْ خَافُوهُ، وَحَمَلَهُمُ الْخَوْفُ عَلَى الْجِدِّ فِي خَلْعِهِ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى اسْتِخْلَافِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ الْمُكْتَفِي وَعَقَدُوا لَهُ الْأَمْرَ سِرًّا، وَحَلَفَ لَهُ بُلَيْقٌ وَابْنُهُ عَلِيٌّ، وَالْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ، وَالْحَسَنُ بْنُ هَارُونَ، وَبَايَعُوهُ، ثُمَّ كَشَفُوا الْأَمْرَ لِمُؤْنِسٍ فَقَالَ لَهُمْ: لَسْتُ أَشُكُّ فِي شَرِّ الْقَاهِرِ وَخُبْثِهِ، وَلَقَدْ كُنْتُ كَارِهًا لِخِلَافَتِهِ، وَأَشَرْتُ بِابْنِ الْمُقْتَدِرِ، فَخَالَفْتُمْ وَقَدْ بَالَغْتُمُ الْآنَ فِي الِاسْتِهَانَةِ بِهِ، وَمَا صَبَرَ عَلَى الْهَوَانِ إِلَّا مِنْ خُبْثِ طَوِيَّتِهِ لِيُدَبِّرَ

عَلَيْكُمْ، فَلَا تَعْجَلُوا (عَلَى أَمْرٍ حَتَّى تُؤْنِسُوهُ وَيَنْبَسِطَ إِلَيْكُمْ، ثُمَّ فَتِّشُوا لِتَعْرِفُوا مَنْ وَاطَأَهُ مِنَ الْقُوَّادِ وَمِنَ السَّاجِيَّةِ وَالْحُجَرِيَّةِ، ثُمَّ اعْمَلُوا عَلَى ذَلِكَ) ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ بُلَيْقٍ، (وَالْحَسَنُ بْنُ هَارُونَ) : مَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّطْوِيلِ، فَإِنَّ الْحَجْبَةَ لَنَا، وَالدَّارَ فِي أَيْدِينَا وَمَا يَحْتَاجُ أَنْ نَسْتَعِينَ فِي الْقَبْضِ عَلَيْهِ بِأَحَدٍ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ طَائِرٍ فِي قَفَصٍ. وَعَمِلُوا عَلَى مُعَاجَلَتِهِ، فَاتَّفَقَ أَنْ سَقَطَ بُلَيْقٌ مِنَ الدَّابَّةِ، فَاعْتَلَّ وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَاتَّفَقَ ابْنُهُ عَلِيٌّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ وَزَيَّنَا لِمُؤْنِسٍ خَلْعَ الْقَاهِرِ، وَهَوَّنَا عَلَيْهِ الْأَمْرَ، فَأَذِنَ لَهُمَا، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمَا عَلَى أَنْ يُظْهِرُوا أَنَّ أَبَا طَاهِرٍ الْقَرْمَطِيَّ قَدْ وَرَدَ الْكُوفَةَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ، وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ بُلَيْقٍ سَائِرٌ إِلَيْهِ فِي الْجَيْشِ لِيَمْنَعَهُ عَنْ بَغْدَاذَ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَى الْقَاهِرِ لِيُودِّعَهُ وَيَأْخُذَ أَمْرَهُ فِيمَا يَفْعَلُ قَبَضَ عَلَيْهِ. (فَلَمَّا اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ جَلَسَ ابْنُ مُقْلَةَ، وَعِنْدَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ قُرَابَةَ) : أَعَلِمْتَ أَنَّ الْقَرْمَطِيَّ قَدْ دَخَلَ الْكُوفَةَ فِي سِتَّةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ بِالسِّلَاحِ التَّامِّ؟ قَالَ: لَا قَالَ ابْنُ مُقْلَةَ: قَدْ وَصَلَنَا كُتُبُ النُّوَّابِ بِهَا بِذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ قُرَابَةَ: هَذَا كَذِبٌ وَمُحَالٌ، فَإِنَّ فِي جِوَارِنَا إِنْسَانًا مِنَ الْكُوفَةِ، وَقَدْ أَتَاهُ الْيَوْمَ كِتَابٌ عَلَى جَنَاحِ طَائِرٍ تَارِيخُهُ الْيَوْمَ يُخْبِرُ فِيهِ بِسَلَامَتِهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُقْلَةَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَنْتُمْ أَعْرَفُ مِنَّا بِالْأَخْبَارِ؟ فَسَكَتَ ابْنُ قُرَابَةَ. وَكَتَبَ ابْنُ مُقْلَةَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنِّي قَدْ جَهَّزْتُ (جَيْشًا مَعَ) عَلِيِّ بْنِ بُلَيْقٍ لِيَسِيرَ يَوْمَنَا هَذَا، وَالْعَصْرَ يَحْضُرُ إِلَى الْخِدْمَةِ لِيَأْمُرَهُ مَوْلَانَا بِمَا يَرَاهُ، فَكَتَبَ الْقَاهِرُ فِي جَوَابِهِ يَشْكُرُهُ، وَيَأْذَنُ لَهُ فِي حُضُورِ ابْنِ بُلَيْقٍ، فَجَاءَتْ رُقْعَةُ الْقَاهِرِ وَابْنُ مُقْلَةَ نَائِمٌ، فَتَرَكُوهَا وَلَمْ يُوصِلُوهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عَادَ وَكَتَبَ رُقْعَةً أُخْرَى فِي الْمَعْنَى، فَأَنْكَرَ الْقَاهِرُ الْحَالَ، حَيْثُ قَدْ كَتَبَ جَوَابَهُ، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَكْرٌ.

وَهُوَ فِي هَذَا إِذْ وَصَلَتْ رُقْعَةُ طَرِيفٍ السُّبْكَرِيِّ يَذْكُرُ أَنَّ عِنْدَهُ نَصِيحَةً وَأَنَّهُ قَدْ حَضَرَ فِي زِيِّ امْرَأَةٍ لِيُنْهِيَهَا إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعَ بِهِ الْقَاهِرُ، فَذَكَرَ لَهُ جَمِيعَ مَا قَدْ زَعَمُوا عَلَيْهِ، وَمَا فَعَلُوهُ مِنَ التَّدْبِيرِ لِيَقْبِضَ ابْنُ بُلَيْقٍ عَلَيْهِ إِذَا اجْتَمَعَ بِهِ وَأَنَّهُمْ قَدْ بَايَعُوا أَبَا أَحْمَدَ بْنَ الْمُكْتَفِي، فَلَمَّا سَمِعَ الْقَاهِرُ ذَلِكَ أَخَذَ حَذَرَهُ وَأَنْفَذَ إِلَى السَّاجِيَّةِ فَأَحْضَرَهُمْ مُتَفَرِّقِينَ، وَكَمَّنَهُمْ فِي الدَّهَالِيزِ، (وَالْمَمَرَّاتِ) ، وَالرِّوَاقَاتِ، وَحَضَرَ عَلِيُّ بْنُ بُلَيْقٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَفِي رَأْسِهِ نَبِيذٌ وَمَعَهُ عَدَدٌ يَسِيرٌ مِنْ غِلْمَانِهِ بِسِلَاحٍ خَفِيفٍ، فِي طَيَّارَةٍ، وَأَمَرَ جَمَاعَةً مِنْ عَسْكَرِهِ بِالرُّكُوبِ إِلَى أَبْوَابِ دَارِ الْخَلِيفَةِ، وَصَعِدَ مِنَ الطَّيَّارَةِ، وَطَلَبَ الْإِذْنَ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْقَاهِرُ، فَغَضِبَ وَأَسَاءَ أَدَبَهُ، وَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ لِقَائِهِ شَاءَ أَوْ أَبَى. وَكَانَ الْقَاهِرُ قَدْ أَحْضَرَ السَّاجِيَّةَ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَهُمْ عِنْدَهُ فِي الدَّارِ فَأَمَرَهُمُ الْقَاهِرُ بِرَدِّهِ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ وَشَتَمُوهُ وَشَتَمُوا أَبَاهُ وَشَهَرُوا سِلَاحَهُمْ وَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِ جَمِيعُهُمْ، فَفَرَّ أَصْحَابُهُ عَنْهُ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الطَّيَّارَةِ وَعَبَرَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَاخْتَفَى مِنْ سَاعَتِهِ، فَبَلَغَ ابْنَ مُقْلَةَ الْخَبَرُ، فَاسْتَتَرَ وَاسْتَتَرَ الْحَسَنُ بْنُ هَارُونَ أَيْضًا. فَلَمَّا سَمِعَ طَرِيفٌ الْخَبَرَ رَكِبَ فِي أَصْحَابِهِ، وَعَلَيْهِمُ السِّلَاحُ، وَحَضَرُوا دَارَ الْخَلِيفَةِ وَوَقَفَ الْقَاهِرُ، فَعَظُمَ الْأَمْرُ حِينَئِذٍ عَلَى ابْنِ بُلَيْقٍ وَجَمَاعَتِهِمْ وَأَنْكَرَ بُلَيْقٌ مَا جَرَى عَلَى ابْنِهِ، وَسَبَّ السَّاجِيَّةَ، وَقَالَ: لَا بُدَّ مِنَ الْمُضِيِّ إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ، فَإِنْ كَانَ السَّاجِيَّةُ فَعَلُوا هَذَا بِغَيْرِ تَقَدُّمٍ قَابَلْتُهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَإِنْ كَانَ بِتَقَدُّمٍ سَأَلْتُهُ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ. فَحَضَرَ دَارَ الْخَلِيفَةِ وَمَعَهُ جَمِيعُ الْقُوَّادِ الَّذِينَ بِدَارِ مُؤْنِسٍ، فَلَمْ يُوصِلْهُ الْقَاهِرُ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَحَبْسِهِ، وَأَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ زِيرَكَ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ

وَحَصَلَ الْجَيْشُ كُلُّهُمْ فِي الدَّارِ، فَأَنْفَذَ الْقَاهِرُ وَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ، وَوَعْدَهُمُ الزِّيَادَةَ، وَأَنَّهُ يُوقِفُ هَؤُلَاءِ عَلَى ذُنُوبِهِمْ ثُمَّ يُطْلِقُهُمْ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، فَعَادُوا. وَرَاسَلَ الْقَاهِرُ مُؤْنِسًا يَسْأَلُهُ الْحُضُورَ عِنْدَهُ لِيَعْرِضَ عَلَيْهِ مَا رُفِعَ عَلَيْهِمْ لِيَفْعَلَ مَا يَرَاهُ، وَقَالَ: إِنَّهُ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَعْمَلَ شَيْئًا إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ، فَاعْتَذَرَ مُؤْنِسٌ عَنِ الْحَرَكَةِ، (وَنَهَاهُ أَصْحَابُهُ عَنِ الْحُضُورِ) عِنْدَهُ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَحْضَرَ الْقَاهِرُ طَرِيفًا السُّبْكَرِيَّ وَنَاوَلَهُ خَاتَمَهُ، وَقَالَ لَهُ: قَدْ فَوَّضْتُ إِلَى وَلَدِي عَبْدِ الصَّمَدِ مَا كَانَ الْمُقْتَدِرُ فَوَّضَهُ إِلَى ابْنِهِ مُحَمَّدٍ، وَقَلَّدْتُكَ خِلَافَتَهُ، وَرِئَاسَةَ الْجَيْشِ، وَإِمَارَةَ الْأُمَرَاءِ، وَبُيُوتَ الْأَمْوَالِ، كَمَا كَانَ ذَلِكَ إِلَى مُؤْنِسٍ، وَيَجِبُ أَنْ تَمْضِيَ إِلَيْهِ وَتَحْمِلَهُ إِلَى الدَّارِ، فَإِنَّهُ مَا دَامَ فِي مَنْزِلِهِ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ مَنْ يُرِيدُ الشَّرَّ وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يُولَدَ شُغْلٌ، فَيَكُونَ هَاهُنَا مُرَفَّهًا، وَمَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يَخْدِمُهُ عَلَى عَادَتِهِ. فَمَضَى إِلَى دَارِ مُؤْنِسٍ، وَعِنْدَهُ أَصْحَابُهُ فِي السِّلَاحِ، وَهُوَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْكِبَرُ وَالضَّعْفُ، فَسَأَلَهُ أَصْحَابُ مُؤْنِسٍ عَنِ الْحَالِ، فَذَكَرَ سُوءَ صَنِيعِ بُلَيْقٍ وَابْنِهِ، فَكُلُّهُمْ سَبَّهُمَا، وَعَرَّفَهُمْ مَا أَخَذَ لَهُمْ مِنَ الْأَمَانِ وَالْعُهُودِ، فَسَكَتُوا، وَدَخَلَ إِلَى مُؤْنِسٍ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْحُضُورِ عِنْدَ الْقَاهِرِ، وَحَمَلَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ تَأَخَّرْتَ طَمِعَ، وَلَوْ رَآكَ نَائِمًا مَا تَجَاسَرَ أَنْ يُوقِظَكَ، وَكَانَ مُوَافِقًا عَلَى مُؤْنِسٍ وَأَصْحَابِهِ لِمَا نَذْكُرُهُ، فَسَارَ مُؤْنِسٌ إِلَيْهِ فَلَمَّا دَخَلَ الدَّارَ قَبَضَ الْقَاهِرُ عَلَيْهِ وَحَبَسَهُ وَلَمْ يَرَهُ. قَالَ طَرِيفٌ: لَمَّا أَعْلَمْتُ الْقَاهِرَ بِمَجِيءِ مُؤْنِسٍ ارْتَعَدَ، وَتَغَيَّرَتْ أَحْوَالُهُ، وَزَحَفَ مِنْ صَدْرِ فِرَاشِهِ، فَخِفْتُهُ أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي مَعْنَاهُ، وَعَلِمْتُ أَنَّنِي قَدْ أَخْطَأْتُ، وَنَدِمْتُ وَتَيَقَّنْتُ أَنَّنِي

لَاحِقٌ بِالْقَوْمِ عَنْ قَرِيبٍ، وَذَكَرْتُ قَوْلَ مُؤْنِسٍ (فِيهِ إِنَّهُ يَعْرِفُهُ بِالْهَوَجِ، وَالشَّرِّ وَالْإِقْدَامِ، وَالْجَهْلِ) وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا وَكَانَتْ وِزَارَةُ ابْنِ مُقْلَةَ هَذِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَاسْتَوْزَرَ الْقَاهِرُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، مُسْتَهَلَّ شَعْبَانَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَنْفَذَ الْقَاهِرُ وَخَتَمَ عَلَى دُورِ مُؤْنِسٍ، وَبُلَيْقٍ وَابْنِهِ عَلِيٍّ، وَابْنِ مُقْلَةَ، وَأَحْمَدَ بْنِ زِيرَكَ، وَالْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ، وَنَقَلَ دَوَابَّهُمْ، وَوَكَّلَ بِحُرَمِهِمْ وَأَنْفَذَ فَاسْتَقْدَمَ عِيسَى الْمُتَطَبِّبَ مِنَ الْمَوْصِلِ، وَأَمَرَ بِنَقْلِ مَا فِي دَارِ ابْنِ مُقْلَةَ وَإِحْرَاقِهَا، فَنُهِبَتْ وَأُحْرِقَتْ، وَنُهِبَتْ دُورُ الْمُتَعَلِّقِينَ بِهِمْ، وَظَهَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ، وَقَامَ بِالْحَجَبَةِ ثُمَّ رَأَى كَرَاهِيَةَ طَرِيفٍ السُّبْكَرِيِّ وَالسَّاجِيَّةِ لَهُ، فَاخْتَفَى وَهَرَبَ إِلَى أَبِيهِ بِفَارِسَ، فَكَاتَبَهُ الْقَاهِرُ يَلُومُهُ عَلَى عَجَلَتِهِ بِالْهَرَبِ، وَقَلَّدَهُ كُوَرَ الْأَهْوَازِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي مَيْلِ طَرِيفٍ السُّبْكَرِيِّ، وَالسَّاجِيَّةِ، وَالْحُجَرِيَّةِ إِلَى الْقَاهِرِ، وَمُوَاطَأَتِهِمْ عَلَى مُؤْنِسٍ وَبُلَيْقٍ وَابْنِهِ مَا نَذْكُرُهُ، وَهُوَ أَنَّ طَرِيفًا كَانَ قَدْ أَخَذَ قُوَّادَ مُؤْنِسٍ وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً، وَكَانَ بُلَيْقٌ وَابْنُهُ مِمَّنْ يُقَبِّلُ يَدَهُ وَيَخْدُمُهُ فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ تَقَدَّمَ بُلَيْقٌ وَابْنُهُ، وَحَكَمَا فِي الدَّوْلَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَأَهْمَلَ ابْنُ بُلَيْقٍ جَانِبَ طَرِيفٍ، وَقَصَدَهُ وَعَطَّلَهُ مِنْ أَكْثَرِ أَعْمَالِهِ، فَلَمَّا طَالَتْ عُطْلَتُهُ اسْتَحْيَا مِنْهُ بُلَيْقٌ، وَخَافَ جَانِبَهُ، فَعَزَمَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ عَلَى دِيَارِ مِصْرَ لِيَقْضِيَ حَقَّهُ، وَيُبْعِدَهُ، وَمَعَهُ أَعْيَانُ رُفَقَائِهِ لِيَأْمَنَهُمْ، وَقَالَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، فَرَآهُ صَوَابًا، فَاعْتَذَرَ بُلَيْقٌ إِلَى طَرِيفٍ لِسَبَبِ عَطَلَتِهِ، وَأَعْلَمَهُ بِحَدِيثِ مِصْرَ فَشَكَرَهُ، وَشَكَرَ الْوَزِيرَ أَيْضًا، فَمَنَعَ عَلِيَّ ابْنُ بُلَيْقٍ مِنْ إِتْمَامِهِ، وَتَوَلَّى هُوَ الْعَمَلَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ يَخْلُفُهُ فِيهِ، فَصَارَ طَرِيفٌ عَدُوًّا يَتَرَبَّصُ بِهِمُ الدَّوَائِرَ. وَأَمَّا السَّاجِيَّةُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عُدَّةَ مُؤْنِسٍ وَعَضُدَهُ، وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَعَادُوا مَعَهُ إِلَى قِتَالِ الْمُقْتَدِرِ، وَوَعَدَهُمْ مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ بِالزِّيَادَةِ فَلَمَّا قُتِلَ الْمُقْتَدِرُ لَمْ يَرَوْا لِمِيعَادِهِ وَفَاءً، ثَنَاهُ عَنْهُ ابْنُ بُلَيْقٍ، وَاطَّرَحَهُمُ ابْنُ بُلَيْقٍ أَيْضًا، وَأَعْرَضَ عَنْهُمْ.

وَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ خَادِمٌ أَسْوَدُ اسْمُهُ صَنْدَلٌ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِهِمْ، وَكَانَ خَادِمٌ اسْمُهُ مُؤْتَمَنٌ، فَبَاعَهُ، فَاتَّصَلَ بِالْقَاهِرِ قَبْلَ خِلَافَتِهِ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ قَدَّمَهُ وَجَعَلَهُ لِرَسَائِلِهِ، فَلَمَّا بُلِيَ الْقَاهِرُ بِابْنِ بُلَيْقٍ وَسُوءِ مُعَامَلَتِهِ كَانَ كَالْغَرِيقِ يَتَمَسَّكُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَكَانَ خَبِيرًا بِالدَّهَاءِ وَالْمَكْرِ، فَأَمَرَ مُؤْتَمَنًا أَنْ يَقْصِدَ صَنْدَلًا السَّاجِيَّ الَّذِي بَاعَهُ، وَيَشْكُوَ مِنَ الْقَاهِرِ، فَإِنْ رَأَى مِنْهُ رَدًّا لِمَا يَقُولُهُ أَعْلَمَهُ بِحَالِ الْقَاهِرِ وَمَا يُقَاسِي مِنِ ابْنِ بُلَيْقٍ وَابْنِهِ، وَإِنْ رَأَى مِنْهُ خِلَافَ ذَلِكَ سَكَتَ فَجَاءَ إِلَيْهِ وَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ. فَلَمَّا شَكَا قَالَ لَهُ صَنْدَلٌ: وَفِي أَيِّ شَيْءٍ هُوَ الْخَلِيفَةُ حَتَّى يُعْطِيَكَ، وَيُوَسِّعَ عَلَيْكَ؟ إِنْ فَرَجَّ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ هَذَا الْمُفْسِدِ احْتَجْتُ أَنَا وَغَيْرِي إِلَيْكَ، وَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ وَصَدَقَةٌ إِنْ مَلَكَ الْخَلِيفَةُ أَمْرَهُ، وَاسْتَرَاحَ، وَأَرَاحَنَا مِنْ هَذَا الْمَلْعُونِ، فَأَعَادَ الْمُؤْتَمَنُ الْحَدِيثَ عَلَى الْقَاهِرِ، فَأَرْسَلَ عَلَى يَدِهِ هَدِيَّةً جَمِيلَةً مِنْ طِيبٍ وَغَيْرِهِ إِلَى زَوْجَةِ صَنْدَلٍ، وَقَالَ لَهُ: تَحْمِلُهُ إِلَيْهَا، وَزَوْجُهَا غَائِبٌ عَنْهَا، وَتَقُولُ لَهَا إِنَّ الْخَلِيفَةَ قَسَّمَ فِينَا شَيْئًا، وَهَذَا مِنْ نَصِيبِي أَهْدَيْتُهُ إِلَيْكُمْ، فَفَعَلَ هَذَا، فَقَبِلَتْهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا مِنَ الْغَدِ وَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ قَالَ صَنْدَلٌ لَمَّا رَأَى انْبِسَاطِي عَلَيْكُمْ؟ فَقَالَتْ: اجْتَمَعَ هُوَ وَفُلَانٌ، وَذَكَرَتْ سِتَّةَ نَفَرٍ مِنْ أَعْيَانِهِمْ، وَرَأَوْا مَا أَهْدَيْتَ إِلَيْنَا فَاسْتَعْمَلُوا مِنْهُ وَدَعَوْا لِلْخَلِيفَةِ. فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَهَا إِذْ حَضَرَ زَوْجُهَا فَشَكَرَ مُؤْتَمَنًا، وَسَأَلَهُ عَنْ أَحْوَالِ الْخَلِيفَةِ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَصَفَهُ بِالْكَرَمِ، وَحُسْنِ الْأَخْلَاقِ، وَصَلَابَتِهِ فِي الدِّينِ، فَقَالَ صَنْدَلٌ إِنَّ ابْنَ بُلَيْقٍ نَسَبَهُ إِلَى قِلَّةِ الدِّينِ، وَيَرْمِيهِ بِأَشْيَاءَ قَبِيحَةٍ، فَحَلَفَ مُؤْتَمَنٌ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ، وَأَنَّ جَمِيعَهُ كَذِبٌ. ثُمَّ أَمَرَ الْقَاهِرُ مُؤْتَمَنًا أَنْ يَقْصِدَ زَوْجَةَ صَنْدَلٍ، وَيَسْتَدْعِيَهَا إِلَى قَهْرَمَانَةِ الْقَاهِرِ فَتَحْضُرَ مُتَنَكِّرَةً عَلَى أَنَّهَا قَابِلَةٌ يَأْنَسُ بِهَا مَنْ عِنْدَ الْقَاهِرِ، لَمَّا كَانُوا بِدَارِ ابْنِ طَاهِرٍ وَقَدْ حَضَرَتْ لِحَاجَةِ بَعْضِ أَهْلِ الدَّارِ إِلَيْهَا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، وَدَخَلَتِ الدَّارَ وَبَاتَتْ عِنْدَهُمْ، فَحَمَّلَهَا الْقَاهِرُ رِسَالَةً إِلَى زَوْجِهَا وَرُفَقَائِهِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ رُقْعَةً بِخَطِّهِ يَعِدُهُمْ بِالزِّيَادَةِ فِي الْأَقْطَاعِ وَالْجَارِي، وَأَعْطَاهَا لِنَفْسِهَا مَالًا، فَعَادَتْ إِلَى زَوْجِهَا وَأَخْبَرَتْهُ بِمَا كَانَ جَمِيعُهُ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى ابْنِ بُلَيْقٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ دَخَلَتْ إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ، فَلِهَذَا مَنَعَ ابْنُ بُلَيْقٍ مِنْ دُخُولِ امْرَأَةٍ حَتَّى تُبْصَرَ وَتُعْرَفَ.

وَكَانَ لِلسَّاجِيَّةِ قَائِدٌ كَبِيرٌ اسْمُهُ سِيمَا، وَكُلُّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى قَوْلِهِ، فَاتَّفَقَ صَنْدَلٌ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى إِعْلَامِ سِيمَا بِذَلِكَ إِذْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، وَأَعْلَمُوهُ بِرِسَالَةِ الْقَاهِرِ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: هَذَا صَوَابٌ، وَالْعَاقِبَةُ فِيهِ جَمِيلَةٌ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُدْخِلُوا فِي الْأَمْرِ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، يَعْنِي أَصْحَابَ بُلَيْقٍ وَمُؤْنِسٍ، وَلْيَكُنْ مِنْ أَكَابِرِهِمْ، فَالْتَقَوْا عَلَى طَرِيفٍ السُّبْكَرِيِّ، وَقَالُوا: هُوَ أَيْضًا مُتَسَخِّطٌ فَحَضَرُوا عِنْدَهُ وَشَكَوْا إِلَيْهِ مَا هُمْ فِيهِ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ الْأُسْتَاذُ، يَعْنُونَ مُؤْنِسًا، يَمْلِكُ أَمْرَهُ لَبَلَغْنَا مُرَادَنَا، وَلَكِنْ قَدْ عَجَزَ وَضَعُفَ، وَاسْتَبَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ بُلَيْقٍ بِالْأُمُورِ، فَوَجَدُوا عِنْدَهُ مِنْ كَرَاهَتِهِمْ أَضْعَافَ مَا أَرَادُوا، فَأَعْلَمُوهُ حِينَئِذٍ حَالَهُمْ فَأَجَابَهُمْ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ، وَاسْتَحْلَفَهُمْ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ مُؤْنِسًا وَبُلَيْقًا وَابْنَهُ مَكْرُوهٌ وَأَذًى فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ بُلَيْقٌ وَابْنُهُ بُيُوتَهُمْ وَيَكُونُ مُؤْنِسًا عَلَى مَرْتَبَتِهِ لَا يَتَغَيَّرُ، فَحَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ، وَحَلَفَ لَهُمْ عَلَى الْمُوَافَقَةِ وَطَلَبَ خَطَّ الْقَاهِرِ بِمَا طَلَبَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى الْقَاهِرِ بِمَا كَانَ فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ بِمَا أَرَادُوا وَزَادَ بِأَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، وَيَخْطُبُ أَيَّامَ الْجُمَعِ، وَيَحُجُّ بِهِمْ (وَيَغْزُو مَعَهُمْ) ، وَيَقْعُدُ لِلنَّاسِ وَيَكْشِفُ مَظَالِمَهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ السِّيرَةِ. ثُمَّ إِنَّ طَرِيفًا اجْتَمَعَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الْحُجَرِيَّةِ، وَكَانَ ابْنُ بُلَيْقٍ قَدْ أَبْعَدَهُمْ عَنِ الدَّارِ وَأَقَامَ بِهَا أَصْحَابَهُ، فَهُمْ حَنِقُونَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُمْ طَرِيفٌ الْأَمْرَ أَجَابُوهُ إِلَيْهِ، فَظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَى ابْنِ مُقْلَةَ، وَابْنِ بُلَيْقٍ، وَلَمْ يَعْلَمُوا تَفْصِيلَهُ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَقْبِضُوا عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ قُوَّادِ السَّاجِيَّةِ وَالْحُجَرِيَّةِ، فَلَمْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ. وَكَانَ الْقَاهِرُ قَدْ أَظْهَرَ مَرَضًا مِنْ دَمَامِيلَ وَغَيْرِهَا، فَاحْتَجَبَ عَنِ النَّاسِ خَوْفًا مِنْهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا خَوَاصَّ خَدَمِهِ مِنَ الْأَوْقَاتِ النَّادِرَةِ فَتَعَذَّرَ عَلَى ابْنِ مُقْلَةَ وَابْنِ بُلَيْقٍ الِاجْتِمَاعُ بِهِ لِيَبْلُغُوا مِنْهُ مَا يُرِيدُونَ، فَوَضَعَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَخْبَارِ الْقَرَامِطَةِ لِيَظْهَرَ لَهُمْ وَيَفْعَلُوا بِهِ مَا أَرَادُوا

(وَلَمَّا قَبَضَ الْقَاهِرُ عَلَى مُؤْنِسٍ وَجَمَاعَتِهِ) اسْتَعْمَلَ الْقَاهِرُ عَلَى الْحَجْبَةِ سَلَامَةَ الطُّولُونِيَّ وَعَلَى الشُّرْطَةِ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ خَاقَانَ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ عَلَى الْمُسْتَتِرِينَ، وَإِبَاحَةِ مَالِ مَنْ أَخْفَاهُمْ وَهَدْمِ دَارِهِ، وَجَدَّ فِي طَلَبِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُكْتَفِي، فَظَفِرَ بِهِ، فَبَنَى عَلَيْهِ حَائِطًا وَهُوَ حَيٌّ فَمَاتَ، وَظَفِرَ بِعَلِيِّ بْنِ بُلَيْقٍ فَقَتَلَهُ. ذِكْرُ قَتْلِ مُؤْنِسٍ وَبُلَيْقٍ وَوَلَدِهِ عَلِيٍّ وَالنُّوبَخْتِيِّ وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، قَتَلَ الْقَاهِرُ مُؤْنِسًا الْمُظَفَّرَ، وَبُلَيْقًا، وَعَلِيَّ بْنَ بُلَيْقٍ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِمْ أَنَّ أَصْحَابَ مُؤْنِسٍ شَغَبُوا وَثَارُوا، وَتَبِعَهُمْ سَائِرُ الْجُنْدِ، وَأَحْرَقُوا رَوْشَنَ دَارِ الْوَزِيرِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَنَادَوْا بِشِعَارِ مُؤْنِسٍ، وَقَالُوا: لَا نَرْضَى إِلَّا بِإِطْلَاقِ مُؤْنِسٍ. وَكَانَ الْقَاهِرُ قَدْ ظَفِرَ بِعَلِيِّ بْنِ بُلَيْقٍ، وَأَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدِ مِنْهُمْ فِي مَنْزِلٍ، فَلَمَّا شَغَبَ الْجُنْدُ دَخَلَ الْقَاهِرُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ بُلَيْقٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَذُبِحَ وَاحْتُزَّ رَأْسُهُ، فَوَضَعُوهُ فِي طَشْتٍ، ثُمَّ مَضَى الْقَاهِرُ وَالطَّشْتُ يُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَى بُلَيْقٍ فَوَضَعَ الطَّشْتَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَفِيهِ رَأْسُ ابْنِهِ، فَلَمَّا رَآهُ بَكَى، وَأَخَذَهُ يُقَبِّلُهُ وَيَتَرَشَّفُهُ، فَأَمَرَ بِهِ الْقَاهِرُ فَذُبِحَ أَيْضًا، وَجُعِلَ رَأْسُهُ فِي طَشْتٍ، وَحُمِلَ بَيْنَ يَدِيِ الْقَاهِرِ، وَمَضَى حَتَّى دَخَلَ عَلَى مُؤْنِسٍ فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى الرَّأْسَيْنِ تَشَهَّدَ، وَاسْتَرْجَعَ، وَلَعَنَ قَاتِلَهُمَا، فَقَالَ الْقَاهِرُ: جُرُّوا بِرِجْلِ الْكَلْبِ الْمَلْعُونِ! فَجَرُّوهُ وَذَبَحُوهُ وَجَعَلُوا رَأْسَهُ فِي طَشْتٍ، وَأَمَرَ فَطِيفَ بِالرُّءُوسِ فِي جَانِبَيْ بَغْدَاذَ، وَنُودِيَ عَلَيْهَا: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَخُونُ الْإِمَامَ، وَيَسْعَى فِي فَسَادِ دَوْلَتِهِ، ثُمَّ أُعِيدَتْ وَنُظِّفَتْ وَجُعِلَتْ فِي خِزَانَةِ الرُّءُوسِ، كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ.

وَقِيلَ إِنَّهُ قَتَلَ بُلَيْقًا وَابْنُهُ مُسْتَخِفٍ، ثُمَّ ظَفِرَ بِابْنِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ، فَأَقْبَلَ ابْنُ بُلَيْقٍ عَلَى الْقَاهِرِ، وَسَبَّهُ أَقْبَحَ سَبٍّ، وَأَعْظَمَ شَتْمٍ، فَأَمَرَ بِهِ الْقَاهِرُ فَقُتِلَ، وَطِيفَ بِرَأْسِهِ فِي جَانِبَيْ بَغْدَاذَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ يَعْقُوبَ النُّوبَخْتِيِّ، وَهُوَ فِي مَجْلِسِ وَزِيرِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ، فَأَخَذَهُ وَحَبَسَهُ، وَرَأَى النَّاسُ مِنْ شِدَّةِ الْقَاهِرِ مَا عَلِمُوا مَعَهُ أَنَّهُمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنْ يَدِهِ، وَنَدَمَ كُلُّ مَنْ أَعَانَهُ مِنْ سُبُكٍ، وَالسَّاجِيَّةِ، وَالْحُجَرِيَّةِ، حَيْثُ لَمْ يَنْفَعْهُمُ النَّدَمُ. ذِكْرُ وِزَارَةِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ لِلْخَلِيفَةِ وَعَزْلِهِ وَوِزَارَةِ الْخَصِيبِيِّ لَمَّا قَبَضَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ عَلَى مُؤْنِسٍ وَبُلَيْقٍ وَابْنِهِ سَأَلَ عَمَّنْ يَصْلُحُ لِلْوَزَارَةِ، فَدُلَّ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَاسْتَوْزَرَهُ، فَبَقِيَ وَزِيرًا إِلَى يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ، فَأَرْسَلَ الْقَاهِرُ فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَوْلَادِهِ، وَعَلَى أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَحُرَمِهِ، وَكَانَ مَرِيضًا بِقَوْلَنْجَ، فَبَقِيَ مَحْبُوسًا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَمَاتَ، فَحُمِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَأَطْلَقَ أَوْلَادَهُ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْخَصِيبِيَّ، وَكَانَتْ وِزَارَةُ أَبِي جَعْفَرٍ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا.

ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى طَرِيفٍ السُّبْكَرِيِّ لَمَّا تَمَكَّنَ الْقَاهِرُ، وَقَبَضَ عَلَى مُؤْنِسٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَتَلَهُمْ، لَمْ يَقِفْ عَلَى الْيَمِينِ وَالْأَمَانِ اللَّذَيْنِ كَتَبَهُمَا لِطَرِيفٍ، وَكَانَ الْقَاهِرُ يُسْمِعُ طَرِيفًا مَا يَكْرَهُ، وَيَسْتَخِفُّ بِهِ، وَيَعْرِضُ لَهُ بِالْأَذَى، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خَافَهُ، وَتَيَقَّنَ الْقَبْضَ عَلَيْهِ وَالْقَتْلَ، فَوَصَّى وَفَرَغَ مِنْ جَمِيعِ مَا يُرِيدُهُ. وَاشْتَغَلَ الْقَاهِرُ عَنْهُ بِقَبْضِ مَنْ قَبَضَ عَلَيْهِ مِنْ وَزِيرٍ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ أَحْضَرَهُ بَعْدَ أَنْ قَبَضَ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي جَعْفَرٍ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، فَتَيَقَّنَ الْقَتْلَ أُسْوَةً بِمَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَرُفَقَائِهِ، فَبَقِيَ مَحْبُوسًا يَتَوَقَّعُ الْقَتْلَ صَبَاحًا وَمَسَاءً إِلَى أَنْ خُلِعَ الْقَاهِرُ. ذِكْرُ أَخْبَارِ خُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مَرْدَاوِيجُ مِنَ الرَّيِّ إِلَى جُرْجَانَ، وَبِهَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ مَرِيضًا، فَلَمَّا قَصَدَهُ مَرْدَاوِيجُ عَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَكَانَ السَّعِيدُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بِنَيْسَابُورَ، فَلَمَّا بَلَغَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ سَارَ السَّعِيدُ نَحْوَ جُرْجَانَ، وَكَاتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَلْغَمِيُّ (مُطَرِّفَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَزِيرَ مَرْدَاوِيجَ، وَاسْتَمَالَهُ، فَمَالَ إِلَيْهِ، فَانْتَهَى الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَى مَرْدَاوِيجَ، فَقَبَضَ عَلَى مُطَرِّفٍ وَقَتَلَهُ. وَأَرْسَلَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَلْغَمِيُّ) إِلَى مَرْدَاوِيجَ يَقُولُ لَهُ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تَسْتَحْسِنُ كُفْرَ مَا يَفْعَلُهُ مَعَكَ الْأَمِيرُ السَّعِيدُ، وَأَنَّكَ إِنَّمَا حَمَلَكَ عَلَى قَصْدِ جُرْجَانَ وَزِيرُكَ مُطَرِّفٌ لِيَرَى أَهْلُهَا مَحَلَّهُ مِنْكَ، كَمَا فَعَلَهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ كَاتِبُ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، حَمَلَ عَمْرًا عَلَى قَصْدِ بَلْخَ لِيُشَاهِدَ أَهْلُهَا مَنْزِلَتَهُ مِنْ عَمْرٍو، فَكَانَ مِنْهُ مَا بَلَغَكَ، وَأَنَا لَا أَرَى مُنَاصَبَةَ مَلِكٍ يُطِيفُ بِهِ مِائَةُ أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ غِلْمَانِهِ وَمَوَالِيهِ وَمَوَالِي أَبِيهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّكَ تَتْرُكُ جُرْجَانَ لَهُ، وَتَبْذُلُ عَنِ الرَّيِّ مَالًا تُصَالِحُهُ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ مَرْدَاوِيجُ ذَلِكَ، وَعَادَ عَنْ جُرْجَانَ، وَبَذَلَ عَنِ الرَّيِّ مَالًا، وَعَادَ إِلَيْهَا، وَصَالَحَهُ السَّعِيدُ عَلَيْهَا.

ذِكْرُ وِلَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ عَلَى خُرَاسَانَ وَلَمَّا فَرَغَ السَّعِيدُ مِنْ أَمْرِ جُرْجَانَ، وَأَحْكَمَهُ، اسْتَعْمَلَ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُظَفَّرِ بْنِ مُحْتَاجٍ عَلَى جُيُوشِ خُرَاسَانَ، وَرَدَّ إِلَيْهِ تَدْبِيرَ الْأُمُورِ بِنَوَاحِي خُرَاسَانَ جَمِيعِهَا، وَعَادَ إِلَى بُخَارَى مَقَرِّ عِزِّهِ، وَكُرْسِيِّ مُلْكِهِ. وَكَانَ سَبَبُ تَقَدُّمِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا عِنْدَ السَّعِيدِ، وَهُوَ يُحَادِثُهُ فِي بَعْضِ مُهِمَّاتِهِ خَالِيًا، فَلَسَعَتْهُ عَقْرَبٌ فِي إِحْدَى رِجْلَيْهِ عِدَّةَ لَسَعَاتٍ، فَلَمْ يَتَحَرَّكْ، وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ أَثَرُ ذَلِكَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حَدِيثِهِ، وَعَادَ مُحَمَّدٌ إِلَى مَنْزِلِهِ، نَزَعَ خُفَّهُ فَرَأَى الْعَقْرَبَ فَأَخَذَهَا. فَانْتَهَى خَبَرُ ذَلِكَ إِلَى السَّعِيدِ، فَأُعْجِبَ بِهِ، وَقَالَ: مَا عَجِبْتُ إِلَّا مِنْ فَرَاغِ بَالِكَ لِتَدْبِيرِ مَا قُلْتُهُ لَكَ، فَهَلَّا قُمْتَ وَأَزَلْتَهَا! فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَقْطَعَ حَدِيثَ الْأَمِيرِ بِسَبَبِ عَقْرَبٍ، وَإِذَا لَمْ أَصْبِرْ بَيْنَ يَدَيْكَ عَلَى لَسْعَةِ عَقْرَبٍ فَكَيْفَ أَصْبِرُ، وَأَنَا بَعِيدٌ مِنْكَ عَلَى حَدِّ سُيُوفِ أَعْدَاءِ دَوْلَتِكَ إِذَا دَفَعْتُهُمْ عَنْ مَمْلَكَتِكَ؟ فَعَظُمَ مَحَلُّهُ عِنْدَهُ، وَأَعْطَاهُ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ.

ذِكْرُ ابْتِدَاءِ دَوْلَةِ بَنِي بُوَيْهِ [بَقِيَّةُ سَنَةِ 321 هـ] وَهُمْ عِمَادُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ، وَرُكْنُ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ، وَمُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ، أَوْلَادُ أَبِي شُجَاعٍ بُوَيْهِ بْنِ فَنَّاخِسْرُو بْنِ تَمَّامِ بْنِ كُوهِي بْنِ شَيْرَزِيلَ الْأَصْغَرِ بْنِ شَيْرَكَنْدَهَ بْنِ شَيْرَزِيلَ الْأَكْبَرِ بْنِ شَيْرَانَ شَاهَ بْنِ شِيرَوَيْهِ بْنِ سَشْتَانَ شَاهَ بْنِ سَيَسَ فَيْرُوزَ بْنِ شَيْرَوَزِيلَ بْنِ سِنْبَادَ بْنِ بَهْرَامَ جَوْرِ الْمَلِكِ ابْنِ يَزْدَجُرْدَ الْمَلِكِ (ابْنِ هُرْمُزَ الْمَلِكِ) ابْنِ شَابُورَ الْمَلِكِ بْنِ شَابُورَ ذِي الْأَكْتَافِ، وَبَاقِي النَّسَبِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي

أَوَّلِ الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ مُلُوكِ الْفُرْسِ؛ هَكَذَا سَاقَ نَسَبَهُمُ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَأَمَّا ابْنُ مَسْكَوَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ: (إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ) أَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ يَزْدَجُرْدَ بْنِ شَهْرَيَارَ، آخِرِ مُلُوكِ الْفُرْسِ، إِلَّا أَنَّ النَّفْسَ (أَكْثَرُ ثِقَةً) بِنَقْلِ ابْنِ مَاكُولَا ; لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَهَذَا نَسَبٌ عَرِيقٌ فِي الْفُرْسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى الدَّيْلَمِ حَيْثُ طَالَ مُقَامُهُمْ بِبِلَادِهِمْ. وَأَمَّا ابْتِدَاءُ أَمْرِهِمْ، فَإِنَّ وَالِدَهُمْ أَبَا شُجَاعٍ بُوَيْهِ كَانَ مُتَوَسِّطَ الْحَالِ، فَمَاتَتْ زَوْجَتُهُ وَخَلَّفَتْ لَهُ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، فَلَمَّا مَاتَتِ اشْتَدَّ حُزْنُهُ عَلَيْهَا، فَحَكَى شَهْرَيَارُ بْنُ رُسْتُمَ الدَّيْلِمِيُّ، قَالَ: كُنْتُ صَدِيقًا لِأَبِي شُجَاعٍ بُوَيْهِ، فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ يَوْمًا فَعَذَلْتُهُ عَلَى كَثْرَةِ حُزْنِهِ، وَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ رَجُلٌ يَحْتَمِلُ الْحُزْنَ، وَهَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينُ أَوْلَادُكَ يُهْلِكُهُمُ الْحُزْنُ، (وَرُبَّمَا مَاتَ أَحَدُهُمْ، فَيُجَدِّدُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْزَانِ مَا يُنْسِيكَ الْمَرْأَةَ، وَسَلَّيْتُهُ بِجُهْدِي، وَأَخَذْتُهُ فَفَرَّجْتُهُ، وَأَدْخَلْتُهُ وَمَعَهُ أَوْلَادُهُ إِلَى مَنْزِلِي لِيَأْكُلُوا طَعَامًا، وَشَغَلْتُهُ عَنْ حُزْنِهِ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ اجْتَازَ بِنَا رَجُلٌ يَقُولُ عَنْ نَفْسِهِ: إِنَّهُ مُنَجِّمٌ، وَمُعَزِّمٌ، وَمُعَبِّرٌ لِلْمَنَامَاتِ، وَيَكْتُبُ الرُّقَى وَالطَّلْسَمَاتِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَأَحْضَرَهُ أَبُو شُجَاعٍ، وَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنَّنِي أَبُولُ، فَخَرَجَ مِنْ ذَكَرِي نَارٌ عَظِيمَةٌ، اسْتَطَالَتْ وَعَلَتْ حَتَّى كَادَتْ تَبْلُغُ السَّمَاءَ، ثُمَّ انْفَجَرَتْ فَصَارَتْ ثَلَاثَ شُعَبٍ، وَتَوَلَّدَ مِنْ تِلْكَ الشُّعَبِ عِدَّةُ شُعَبٍ، فَأَضَاءَتِ الدُّنْيَا بِتِلْكَ النِّيرَانِ، وَرَأَيْتُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ خَاضِعِينَ لِتِلْكَ النِّيرَانِ. فَقَالَ الْمُنَجِّمُ: هَذَا مَنَامٌ عَظِيمٌ، لَا أُفَسِّرُهُ إِلَّا بِخِلْعَةٍ، وَفَرَسٍ، وَمَرْكَبٍ، فَقَالَ أَبُو شُجَاعٍ: وَاللَّهِ، مَا أَمْلِكُ إِلَّا الثِّيَابَ الَّتِي عَلَى جَسَدِي، فَإِنْ أَخَذْتَهَا بَقِيتُ عُرْيَانًا، قَالَ

الْمُنَجِّمُ: فَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ، قَالَ: وَاللَّهِ، مَا أَمْلِكُ دِينَارًا فَكَيْفَ عَشَرَةً، فَأَعْطَاهُ شَيْئًا، فَقَالَ الْمُنَجِّمُ: اعْلَمْ أَنَّهُ يَكُونُ لَكَ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ، يَمْلِكُونَ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَيَعْلُو ذِكْرُهُمْ فِي الْآفَاقِ كَمَا عَلَتْ تِلْكَ النَّارُ، وَيُولَدُ لَهُمْ جَمَاعَةُ مُلُوكٍ مَا رَأَيْتَ مِنْ تِلْكَ الشُّعَبِ. فَقَالَ أَبُو شُجَاعٍ: أَمَا تَسْتَحِي تَسْخَرُ مِنَّا؟ أَنَا رَجُلٌ فَقِيرٌ، وَأَوْلَادِي هَؤُلَاءِ فُقَرَاءُ مَسَاكِينُ، كَيْفَ يَصِيرُونَ مُلُوكًا؟ (فَقَالَ الْمُنَجِّمُ) : أَخْبِرْنِي بِوَقْتِ مِيلَادِهِمْ، فَأَخْبَرَهُ، فَجَعَلَ يَحْسِبُ، ثُمَّ قَبَضَ عَلَى يَدِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيٍّ فَقَبَّلَهَا، وَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي يَمْلِكُ الْبِلَادَ، ثُمَّ هَذَا مِنْ بَعْدِهِ، وَقَبَضَ عَلَى يَدِ أَخِيهِ أَبِي عَلِيٍّ الْحَسَنِ، فَاغْتَاظَ مِنْهُ أَبُو شُجَاعٍ، وَقَالَ لِأَوْلَادِهِ: اصْفَعُوا هَذَا الْحَكِيمَ، فَقَدْ أَفْرَطَ فِي السُّخْرِيَةِ بِنَا، فَصَفَعُوهُ، وَهُوَ يَسْتَغِيثُ، وَنَحْنُ نَضْحَكُ مِنْهُ، ثُمَّ أَمْسَكُوا، فَقَالَ لَهُمْ: اذْكُرُوا لِي هَذَا إِذَا قَصَدْتُكُمْ وَأَنْتُمْ مُلُوكٌ، فَضَحِكْنَا مِنْهُ، وَأَعْطَاهُ أَبُو شُجَاعٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بِلَادِ الدَّيْلَمِ جَمَاعَةٌ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ لِيَمْلِكَ الْبِلَادَ مِنْهُمْ مَاكَانُ بْنُ بَالِي، وَلَيْلَى بْنُ النُّعْمَانِ، وَأَسْفَارُ بْنُ شِيرَوَيْهِ، وَمَرْدَاوَيْجْ بْنُ زِيَارْ، وَخَرَجَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَخَرَجَ أَوْلَادُ أَبِي شُجَاعٍ فِي جُمْلَةِ مَنْ خَرَجَ، وَكَانُوا مِنْ جُمْلَةِ قُوَّادِ مَاكَانَ بْنِ كَالِي، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ مَاكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الِاتِّفَاقِ ثُمَّ الِاخْتِلَافِ، بَعْدَ قَتْلِ أَسْفَارَ، وَاسْتِيلَاءِ مَرْدَاوَيْجَ عَلَى مَا كَانَ (بِيَدِ مَاكَانَ) مِنْ طَبَرِسْتَانَ وَجُرْجَانَ، وَعَوْدُ مَاكَانَ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى جُرْجَانَ وَالدَّامَغَانَ، وَعَوْدُهُ إِلَى نَيْسَابُورَ مَهْزُومًا. فَلَمَّا رَأَى أَوْلَادُ بُوَيْهِ ضَعْفَهُ وَعَجْزَهُ، قَالَ لَهُ عِمَادُ الدَّوْلَةِ وَرُكْنُ الدَّوْلَةِ: نَحْنُ فِي جَمَاعَةٍ، وَقَدْ صِرْنَا ثُقْلًا عَلَيْكَ وَعِيَالًا، وَأَنْتَ مُضَيَّقٌ، وَالْأَصْلَحُ لَكَ أَنْ نُفَارِقَكَ لِنُخَفِّفَ

عَنْكَ مَؤُونَتَنَا، فَإِذَا صَلُحَ أَمْرُنَا عُدْنَا إِلَيْكَ، فَأَذِنَ لَهُمَا، فَسَارَا إِلَى مَرْدَاوَيْجَ، وَاقْتَدَى بِهِمَا جَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِ مَاكَانَ وَتَبِعُوهُمَا، فَلَمَّا صَارُوا إِلَيْهِ قَبِلَهُمْ أَحْسَنَ قَبُولٍ، وَخَلَعَ عَلَى ابْنَيْ بُوَيْهِ، وَأَكْرَمَهُمَا، وَقَلَّدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ قُوَّادِ مَاكَانَ الْوَاصِلِينَ إِلَيْهِ نَاحِيَةً مِنْ نَوَاحِي الْجَبَلِ، فَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ بُوَيْهِ فَإِنَّهُ قَلَّدَهُ كَرَجَ. ذِكْرُ سَبَبِ تَقَدُّمِ عَلِيِّ بْنِ بُوَيْهِ (كَانَ السَّبَبُ فِي ارْتِفَاعِ) عَلِيِّ بْنِ بُوَيْهِ (مِنْ بَيْنِهِمْ) - بَعْدَ الْأَقْدَارِ - أَنَّهُ كَانَ سَمْحًا، حَلِيمًا، شُجَاعًا، فَلَمَّا قَلَّدَهُ مَرْدَاوَيْجُ كَرَجَ، وَقَلَّدَ جَمَاعَةَ الْقُوَّادِ الْمُسْتَأْمَنَةِ مَعَهُ الْأَعْمَالَ، وَكَتَبَ لَهُمُ الْعُهُودَ، وَسَارُوا إِلَى الرَّيِّ، وَبِهَا وَشْمَكِيرُ بْنُ زِيَارَ أَخُو مَرْدَاوَيْجَ، وَمَعَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُلَقَّبُ بِالْعَمِيدِ، وَهُوَ وَالِدُ أَبِي الْفَضْلِ الَّذِي وَزَرَ لِرُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَكَانَ الْعَمِيدُ يَوْمَئِذٍ وَزِيرَ مَرْدَاوَيْجَ. وَكَانَ مَعَ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بَغْلَةٌ شَهْبَاءُ مِنْ أَحْسَنِ مَا يَكُونُ، فَعَرَضَهَا لِلْبَيْعِ، فَبَلَغَ ثَمَنُهَا مِائَتَيْ دِينَارٍ، فَعُرِضَتْ عَلَى الْعَمِيدِ، فَأَخَذَهَا وَأَنْفَذَ ثَمَنَهَا، فَلَمَّا حُمِلَ الثَّمَنُ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ، أَخَذَ مِنْهُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَرَدَّ الْبَاقِيَ، وَجَعَلَ مَعَهُ هَدِيَّةً جَمِيلَةً. ثُمَّ إِنَّ مَرْدَاوَيْجَ نَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ تَوْلِيَةِ أُولَئِكَ الْقُوَّادِ الْبِلَادَ، فَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ وَشْمَكِيرَ وَإِلَى الْعَمِيدِ يَأْمُرُهُمَا بِمَنْعِهِمْ مِنَ الْمَسِيرِ إِلَى أَعْمَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَرَجَ، فَيُرَدُّ. وَكَانَتِ الْكُتُبُ تَصِلُ إِلَى الْعَمِيدِ قَبْلَ وَشْمَكِيرَ، فَيَقْرَأُهَا ثُمَّ يَعْرِضُهَا عَلَى وَشْمَكِيرَ، فَلَمَّا وَقَفَ الْعَمِيدُ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ، أَنْفَذَ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ مِنْ سَاعَتِهِ إِلَى عَمَلِهِ، وَيَطْوِي الْمَنَازِلَ، فَسَارَ مِنْ وَقْتِهِ، وَكَانَ الْمَغْرِبُ، وَأَمَّا الْعَمِيدُ فَلَمَّا أَصْبَحَ، عَرَضَ الْكِتَابَ عَلَى وَشْمَكِيرَ، فَمَنَعَ سَائِرَ الْقُوَّادِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الرَّيِّ، وَاسْتَعَادَ التَّوْقِيعَاتِ الَّتِي

مَعَهُمْ بِالْبِلَادِ، وَأَرَادَ وَشْمَكِيرُ أَنْ يُنْفِذَ خَلْفَ عِمَادِ الدَّوْلَةِ مَنْ يَرُدُّهُ، فَقَالَ الْعَمِيدُ: إِنَّهُ لَا يَرْجِعُ طَوْعًا، وَرُبَّمَا قَاتَلَ مَنْ يَقْصِدُهُ وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِنَا، فَتَرَكَهُ. وَسَارَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ إِلَى كَرَجَ، وَأَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ، وَلَطَفَ بِعُمَّالِ الْبِلَادِ، فَكَتَبُوا إِلَى مَرْدَاوَيْجَ يَشْكُرُونَهُ، وَيَصِفُونَ ضَبْطَهُ الْبَلَدَ، وَسِيَاسَتَهُ، وَافْتَتَحَ قِلَاعًا كَانَتْ لِلْخَرْمِيَّةِ، وَظَفَرَ مِنْهَا بِذَخَائِرَ كَثِيرَةٍ، صَرَفَهَا جَمِيعَهَا إِلَى اسْتِمَالَةِ الرِّجَالِ، وَالصِّلَاتِ، وَالْهِبَاتِ، فَشَاعَ ذِكْرُهُ، وَقَصَدَهُ النَّاسُ وَأَحَبُّوهُ. وَكَانَ مَرْدَاوَيْجُ ذَلِكَ الْوَقْتِ بَطَبَرِسْتَانَ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى الرَّيِّ أَطْلَقَ مَالًا لِجَمَاعَةٍ مِنْ قُوَّادِهِ عَلَى كَرَجَ، فَاسْتَمَالَهُمْ عِمَادُ الدَّوْلَةِ، وَوَصَلَهُمْ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، حَتَّى مَالُوا إِلَيْهِ، وَأَحَبُّوا طَاعَتَهُ. وَبَلَغَ ذَلِكَ مَرْدَاوَيْجَ، فَاسْتَوْحَشَ وَنَدِمَ عَلَى إِنْفَاذِ أُولَئِكَ الْقُوَّادِ إِلَى الْكَرَجِ، فَكَتَبَ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ وَأُولَئِكَ يَسْتَدْعِيهِمْ إِلَيْهِ، وَتَلَطَّفَ بِهِمْ، فَدَافَعَهُ عِمَادُ الدَّوْلَةِ، وَاشْتَغَلَ بِأَخْذِ الْعُهُودِ، وَخَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَةِ مَرْدَاوَيْجَ، فَأَجَابُوهُ جَمِيعُهُمْ، فَجَبَى مَالَ كَرَجَ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ شَيْرَزَادُ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ قُوَّادِ الدَّيْلَمِ، فَقَوِيَتْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ، وَسَارَ بِهِمْ عَنْ كَرَجَ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَبِهَا الْمُظَفَّرُ بْنُ يَاقُوتٍ، فِي نَحْوٍ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَعَلَى خَرَاجِهَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ رُسْتُمَ، فَأَرْسَلَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِمَا يَسْتَعْطِفُهُمَا، وَيَسْتَأْذِنُهُمَا فِي الِانْحِيَازِ إِلَيْهِمَا، وَالدُّخُولِ فِي طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ، لِيَمْضِيَ إِلَى الْحَضْرَةِ بِبِغْدَاذَ، فَلَمْ يُجِيبَاهُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ أَشَدَّهُمَا كَرَاهَةً، فَاتَّفَقَ لِلسَّعَادَةِ أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ مَاتَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، وَبَرَزَ ابْنُ يَاقُوتٍ عَنْ أَصْبَهَانَ ثَلَاثَةَ فَرَاسِخَ، وَكَانَ فِي أَصْحَابِهِ جِيلٌ وَدَيْلَمٌ مِقْدَارُ سِتِّمِائَةِ رَجُلٍ، فَاسْتَأْمَنُوا إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ لِمَا بَلَغَهُمْ مِنْ كَرَمِهِ، فَضَعُفَ قَلْبُ ابْنِ يَاقُوتٍ، وَقَوِيَ جَنَانُ عِمَادِ الدَّوْلَةِ، فَوَاقَعَهُ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ ابْنُ يَاقُوتٍ، وَاسْتَوْلَى عِمَادُ الدَّوْلَةِ عَلَى أَصْبَهَانَ، وَعَظُمَ فِي عُيُونِ النَّاسِ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي تِسْعِمِائَةِ رَجُلٍ هَزَمَ بِهِمْ مَا يُقَارِبُ عَشَرَةَ آلَافِ رَجُلٍ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ فَاسْتَعْظَمَهُ، وَبَلَغَ خَبَرُ هَذِهِ الْوَقْعَةِ مَرْدَاوَيْجَ فَأَقْلَقَهُ، وَخَافَ عَلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الْبِلَادِ، (وَاغْتَمَّ لِذَلِكَ غَمًّا شَدِيدًا) .

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ ابْنِ بُوَيْهِ عَلَى أَرَّجَانَ وَغَيْرِهَا، وَمِلْكِ مَرْدَاوَيْجَ أَصْبَهَانَ لَمَّا بَلَغَ خَبَرُ الْوَقْعَةِ إِلَى مَرْدَاوَيْجَ، خَافَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ، فَشَرَعَ فِي إِعْمَالِ الْحِيلَةِ، فَرَاسَلَهُ يُعَاتِبُهُ وَيَسْتَمِيلُهُ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُظْهِرَ طَاعَتَهُ حَتَّى يَمُدَّهُ بِالْعَسَاكِرِ الْكَثِيرَةِ ; لِيَفْتَحَ بِهَا الْبِلَادَ، وَلَا يُكَلِّفُهُ سِوَى الْخُطْبَةِ لَهُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَسْتَوْلِي عَلَيْهَا. فَلَمَّا سَارَ الرَّسُولُ، جَهَّزَ مَرْدَاوَيْجُ أَخَاهُ وَشْمَكِيرَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ لِيَكْبِسَ ابْنَ بُوَيْهِ، وَهُوَ مُطْمَئِنٌّ إِلَى الرِّسَالَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، فَعَلِمَ ابْنُ بُوَيْهِ بِذَلِكَ، فَرَحَلَ عَنْ أَصْبَهَانَ بَعْدَ أَنْ جَبَاهَا شَهْرَيْنِ، وَتَوَجَّهَ إِلَى أَرَّجَانَ، وَبِهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ يَاقُوتٍ، فَانْهَزَمَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَقَصَدَ رَامَهُرْمُزَ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ بُوَيْهِ عَلَى أَرَّجَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَلَمَّا سَارَ عَنْ أَصْبَهَانَ دَخَلَهَا وَشْمَكِيرُ وَعَسْكَرُ أَخِيهِ مَرْدَاوَيْجَ وَمَلَكُوهَا، فَلَمَّا سَمِعَ الْقَاهِرُ أَرْسَلَ إِلَى مَرْدَاوَيْجَ قَبْلَ خَلْعِهِ لِيَمْنَعَ أَخَاهُ عَنْ أَصْبَهَانَ وَيُسَلِّمُهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَوَلِيَهَا مُحَمَّدٌ. وَأَمَّا ابْنُ بُوَيْهِ فَإِنَّهُ لَمَّا مَلَكَ أَرَّجَانَ، اسْتَخْرَجَ مِنْهَا أَمْوَالًا فَقَوِيَ بِهَا، وَوَرَدَتْ عَلَيْهِ كُتُبُ أَبِي طَالِبٍ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ النَّوْبَنْدَجَانِيِّ يَسْتَدْعِيهِ، (وَيُشِيرُ عَلَيْهِ) بِالْمَسِيرِ إِلَى شِيرَازَ، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَمْرَ يَاقُوتٍ وَأَصْحَابِهِ، وَيُعَرِّفُهُ تَهَوُّرَهُ، وَاشْتِغَالَهُ بِجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ، وَكَثْرَةَ مَئُونَتِهِ وَمَئُونَةِ أَصْحَابِهِ، وَثِقَلَ وَطْأَتِهِمْ عَلَى النَّاسِ، مَعَ فَشَلِهِمْ وَجُبْنِهِمْ، فَخَافَ ابْنُ بُوَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ يَاقُوتًا مَعَ كَثْرَةِ عَسَاكِرِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَيَحْصُلَ بَيْنَ يَاقُوتٍ وَوَلَدِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مَشُورَتَهُ، وَلَمْ يَبْرَحْ مِنْ مَكَانِهِ، فَعَادَ أَبُو طَالِبٍ وَكَتَبَ إِلَيْهِ يُشَجِّعُهُ، وَيُعْلِمُهُ أَنَّ مَرْدَاوَيْجَ قَدْ كَتَبَ إِلَى يَاقُوتٍ يَطْلُبُ مُصَالَحَتَهُ، فَإِنْ تَمَّ ذَلِكَ اجْتَمَعَا عَلَى مُحَارَبَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِمَا طَاقَةٌ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ الرَّأْيَ لِمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ أَنْ يُعَاجِلَ مَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يَنْتَظِرَ بِهِمُ الِاجْتِمَاعَ وَالْكَثْرَةَ، وَأَنْ يُحْدِقُوا بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَإِنَّهُ إِذَا هَزَمَ مَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ، خَافَهُ الْبَاقُونَ، وَلَمْ يَقْدُمُوا عَلَيْهِ. وَلَمْ يَزَلْ أَبُو طَالِبٍ يُرَاسِلُهُ إِلَى أَنْ سَارَ نَحْوَ النُّوَبَنْدِجَانِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ إِحْدَى

وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِمَا مُقَدِّمَةُ يَاقُوتٍ فِي نَحْوِ أَلْفَيْ فَارِسٍ مِنْ شُجْعَانِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا وَافَاهُمُ ابْنُ بُوَيْهِ، لَمْ يَثْبُتُوا لَهُ لَمَّا لَقِيَهُمْ، وَانْهَزَمُوا إِلَى كَرْكَانَ، وَجَاءَهُمْ يَاقُوتٌ فِي جَمِيعِ أَصْحَابِهِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَتَقَدَّمَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى وُكَلَائِهِ بِالنُّوَبَنْدِجَانِ بِخِدْمَةِ ابْنِ بُوَيْهِ، وَالْقِيَامِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَتَنَحَّى هُوَ عَنِ الْبَلَدِ إِلَى بَعْضِ الْقُرَى، حَتَّى لَا يُعْتَقَدَ فِيهِ الْمُوَاطَأَةُ لَهُ، فَكَانَ مَبْلَغُ مَا خَسِرَ عَلَيْهِ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِقْدَارَ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ. وَأَنْفَذَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ أَخَاهُ رُكْنُ الدَّوْلَةِ الْحَسَنُ إِلَى كَازْرُوَنَ وَغَيْرِهَا مِنْ أَعْمَالِ فَارِسَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا أَمْوَالًا جَلِيلَةً، فَأَنْفَذَ يَاقُوتٌ عَسْكَرًا إِلَى كَازْرُوَنَ، فَوَاقَعَهُمْ رُكْنُ الدَّوْلَةِ، فَهَزَمَهُمْ وَهُوَ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، وَعَادَ غَانِمًا سَالِمًا إِلَى أَخِيهِ. ثُمَّ إِنَّ عِمَادَ الدَّوْلَةِ انْتَهَى إِلَيْهِ مُرَاسَلَةُ مَرْدَاوَيْجَ وَأَخِيهِ وَشْمَكِيرَ إِلَى يَاقُوتٍ وَمُرَاسَلَتُهُ إِلَيْهِمَا، فَخَافَ اجْتِمَاعَهُمْ، فَسَارَ مِنَ النُّوَبَنْدِجَانِ إِلَى إِصْطَخْرَ ثُمَّ إِلَى الْبَيْضَاءِ، وَيَاقُوتٌ يَتْبَعُهُ، وَانْتَهَى إِلَى قَنْطَرَةٍ عَلَى طَرِيقِ كَرْمَانَ، فَسَبَقَهُ يَاقُوتٌ إِلَيْهَا، وَمَنَعَهُ مِنْ عُبُورِهَا، وَاضْطُرَّ إِلَى الْحَرْبِ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . وَدَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَتْ بَنُو ثَعْلَبَةَ إِلَى بَنِي أَسَدٍ الْقَاصِدِينَ إِلَى أَرْضِ الْمَوْصِلِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ طَيٍّ، فَصَارُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى بَنِي مَالِكٍ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ تَغْلِبَ، وَقَرُبَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لِلْحَرْبِ، فَرَكِبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ فِي أَهْلِهِ وَرِجَالِهِ، وَمَعَهُ أَبُو الْأَغَرِّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ لِلصُّلْحِ بَيْنَهُمْ، فَتَكَلَّمَ أَبُو الْأَغَرِّ، فَطَعَنَهُ رَجُلٌ مِنْ حِزْبِ بَنِي ثَعْلَبَةَ فَقَتَلَهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ وَمَنْ مَعَهُ، فَانْهَزَمُوا وَقُتِلَ مِنْهُمْ، وَمُلِكَتْ بُيُوتُهُمْ، وَأُخِذَ حَرِيمُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَنَجَوْا عَلَى ظُهُورِ خُيُولِهِمْ، وَتَبِعَهُمْ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْحَدِيثَةِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا لَقِيَهُمْ يَأْنَسُ غُلَامُ مُؤْنِسٍ، وَقَدْ وَلِيَ الْمَوْصِلَ، (وَهُوَ مُصْعِدٌ إِلَيْهَا) ، فَانْضَمَّ إِلَيْهِ بَنُو ثَعْلَبَةَ وَبَنُو أَسَدٍ، وَعَادُوا إِلَى دِيَارِ رَبِيعَةَ.

وَفِيهَا وَرَدَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَاذَ بِوَفَاةِ تِكِينَ الْخَاصَّةِ بِمِصْرَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، فَوَلِيَ مَكَانَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، وَأَرْسَلَ لَهُ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ الْخِلَعَ، وَثَارَ الْجُنْدُ بِمِصْرَ، فَقَاتَلَهُمْ مُحَمَّدٌ وَظَفَرَ بِهِمْ. وَفِيهَا أَمَرَ عَلِيُّ بْنُ بُلَيْقٍ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَكَاتَبَهُ الْحَسَنُ بْنُ هَارُونَ بِلَعْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَابْنِهِ يَزِيدَ عَلَى الْمَنَابِرِ بِبَغْدَادَ، فَاضْطَرَبَتِ الْعَامَّةُ، فَأَرَادَ عَلِيُّ بْنُ بُلْيَقٍ أَنْ يَقْبِضَ عَلَى الْبَرْبَهَارِيِّ رَئِيسِ الْحَنَابِلَةِ، وَكَانَ يُثِيرُ الْفِتَنَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ فَهَرَبَ، فَأَخَذَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ، وَحُبِسُوا وَجُعِلُوا فِي زَوْرَقٍ، وَأُحْدِرُوا إِلَى عُمَانَ. وَفِيهَا أَمَرَ الْقَاهِرُ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْغِنَاءِ وَسَائِرِ الْأَنْبِذَةِ، وَنَفَى بَعْضَ مَنْ كَانَ يُعْرَفُ بِذَلِكَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَأَمَّا الْجَوَارِي الْمُغَنِّيَاتُ فَأَمَرَ بِبَيْعِهِنَّ عَلَى أَنَّهُنَّ سَوَذِاجُ لَا يَعْرِفْنَ الْغِنَاءَ، ثُمَّ وَضَعَ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ كُلَّ حَاذِقَةٍ فِي صَنْعَةِ الْغِنَاءِ، فَاشْتَرَى مِنْهُنَّ مَا أَرَادَ بِأَرْخَصِ الْأَثْمَانِ، وَكَانَ الْقَاهِرُ مُشْتَهِرًا بِالْغِنَاءِ وَالسَّمَاعِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى تَحْصِيلِ غَرَضِهِ رَخِيصًا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي لَا يَرْضَاهَا عَامَّةُ النَّاسِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ دُرَيْدٍ اللُّغَوِيُّ فِي شَعْبَانَ، وَأَبُو هَاشِمِ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ الْمُتَكَلِّمُ الْمُعْتَزِلِيُّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَدُفِنَا بِمَقَابِرِ الْخَيْزُرَانِ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مَطَرٍ الْفِرَبْرِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي رُوِيَ " صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ " عَنْهُ، (وَكَانَ قَدْ سَمِعَهُ عَشَرَاتُ أُلُوفٍ مِنَ الْبُخَارِيِّ) ، فَلَمْ يَنْتَشِرْ إِلَّا عَنْهُ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى فِرَبْرَ بِالْفَاءِ وَالرَّاءَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا بَاءٌ مُعْجَمَةٌ مُوَحَّدَةٌ، وَهِيَ مِنْ قُرَى بُخَارَى.

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 322 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ ابْنِ بُوَيْهِ عَلَى شِيرَازَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَفِرَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ (بِيَاقُوتٍ، وَمَلِكِ شِيرَازَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ) إِلَى الْقَنْطَرَةِ، وَسَبْقِ يَاقُوتٍ إِلَيْهَا، فَلَمَّا وَصَلَهَا ابْنُ بُوَيْهِ وَصَدَّهُ يَاقُوتٌ عَنْ عُبُورِهَا، اضْطُرَّ إِلَى مُحَارَبَتِهِ، فَتَحَارَبَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَأَحْضَرَ عَلِيُّ بْنُ بُوَيْهِ أَصْحَابَهُ، وَوَعَدَهُمْ (أَنَّهُ يَتَرَجَّلُ مَعَهُمْ عِنْدَ الْحَرْبِ [وَيُقَاتِلُ كَأَحَدِهِمْ] ، وَمَنَّاهُمْ وَوَعَدَهُمُ) الْإِحْسَانَ. وَكَانَ مِنْ سَعَادَتِهِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ اسْتَأْمَنُوا إِلَى يَاقُوتٍ فَحِينَ رَآهُمْ يَاقُوتٌ، أَمَرَ بِضَرْبِ رِقَابِهِمْ، فَأَيْقَنَ مَنْ مَعَ ابْنِ بُوَيْهِ أَنَّهُمْ لَا أَمَانَ لَهُمْ عِنْدَهُ، فَقَاتَلُوا قِتَالَ مُسْتَقْتِلٍ. ثُمَّ إِنَّ يَاقُوتًا قَدَّمَ أَمَامَ أَصْحَابِهِ رَجَّالَةً كَثِيرَةً يُقَاتِلُونَ بِقَوَارِيرِ النَّفْطِ، فَانْقَلَبَتِ الرِّيحُ فِي وُجُوهِهِمْ، وَاشْتَدَّتْ، فَلَمَّا أَلْقَوُا النَّارَ عَادَتِ النَّارُ عَلَيْهِمْ، فَعَلَقَتْ بِوُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، فَاخْتَلَطُوا وَأَكَبَّ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ ابْنِ بُوَيْهِ، فَقَتَلُوا أَكْثَرَ الرَّجَّالَةِ، وَخَالَطُوا الْفُرْسَانَ فَانْهَزَمُوا، فَكَانَتِ الدَّائِرَةُ عَلَى يَاقُوتٍ وَأَصْحَابِهِ. فَلَمَّا انْهَزَمَ صَعِدَ عَلَى نَشَزٍ مُرْتَفِعٍ، وَنَادَى فِي أَصْحَابِهِ الرَّجْعَةَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَحْوُ أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَقَالَ لَهُمْ: اثْبُتُوا، فَإِنَّ الدَّيْلَمَ يَشْتَغِلُونَ بِالنَّهْبِ، وَيَتَفَرَّقُونَ، فَنَأْخُذُهُمْ، فَثَبَتُوا مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَى ابْنَ بُوَيْهِ ثَبَاتَهُمْ، نَهَى أَصْحَابَهُ عَنِ النَّهْبِ، وَقَالَ: إِنَّ عَدُوَّكُمْ يَرْصُدُكُمْ لِتَشْتَغِلُوا بِالنَّهْبِ، فَيَعْطِفَ عَلَيْكُمْ وَيَكُونَ هَلَاكُكُمْ، فَاتْرُكُوا هَذَا، وَافْرَغُوا مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ ثُمَّ عُودُوا إِلَيْهِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى يَاقُوتٌ أَنَّهُمْ عَلَى قَصْدِهِ، وَلَّى مُنْهَزِمًا وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُ ابْنِ بُوَيْهِ، يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ وَيَغْنَمُونَ الْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ.

وَكَانَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ أَثَرًا، وَكَانَ صَبِيًّا لَمْ تَنْبُتْ لِحْيَتُهُ، وَكَانَ عُمُرُهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى السَّوَادِ، فَغَنِمُوا وَوَجَدُوا فِي سَوَادِهِ بَرَانِسَ لُبُودٍ عَلَيْهَا أَذْنَابُ الثَّعَالِبِ، وَوَجَدُوا قُيُودًا وَأَغْلَالًا، فَسَأَلُوا عَنْهَا، فَقَالَ أَصْحَابُ يَاقُوتٍ: إِنَّ هَذِهِ أُعِدَّتْ لَكُمْ لِتُجْعَلَ عَلَيْكُمْ، وَيُطَافَ بِكُمْ فِي الْبِلَادِ، فَأَشَارَ أَصْحَابُ ابْنِ بُوَيْهِ أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ (مِثْلُ ذَلِكَ) ، فَامْتَنَعَ وَقَالَ: إِنَّهُ بَغْيٌ، وَلُؤْمُ ظَفْرٍ، وَلَقَدْ لَقِيَ يَاقُوتٌ بَغْيَهُ. ثُمَّ أَحْسَنَ إِلَى الْأَسَارَى وَأَطْلَقَهُمْ، وَقَالَ: هَذِهِ نِعْمَةٌ، وَالشُّكْرُ عَلَيْهَا وَاجِبٌ يَقْتَضِي الْمَزِيدَ، وَخَيَّرَ الْأَسَارَى بَيْنَ الْمُقَامِ عِنْدَهُ وَاللُّحُوقِ بِيَاقُوتٍ، فَاخْتَارُوا الْمُقَامَ عِنْدَهُ، فَخَلَعَ عَلَيْهِمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ. وَسَارَ مِنْ مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ حَتَّى نَزَلَ بِشِيرَازَ، وَنَادَى فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ، وَبَثَّ الْعَدْلَ، وَأَقَامَ لَهُمْ شِحْنَةً يَمْنَعُ مَنْ ظَلَمَهُمْ، وَاسْتَوْلَى عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ، وَطَلَبَ الْجُنْدُ أَرْزَاقَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِمْ، فَكَادَ يَنْحَلُّ أَمْرُهُ، فَقَعَدَ فِي غُرْفَةٍ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ بِشِيرَازَ يُفَكِّرُ فِي أَمْرِهِ، فَرَأَى حَيَّةً خَرَجَتْ مِنْ مَوْضِعٍ فِي سَقْفِ تِلْكَ الْغُرْفَةِ، وَدَخَلَتْ فِي ثُقْبٍ هُنَاكَ، فَخَافَ أَنْ تَسْقُطَ عَلَيْهِ، فَدَعَا الْفَرَّاشِينَ، فَفَتَحُوا الْمَوْضِعَ، فَرَأَوْا وَرَاءَهُ بَابًا، فَدَخَلُوهُ إِلَى غُرْفَةٍ أُخْرَى، وَفِيهَا عَشَرَةُ صَنَادِيقَ مَمْلُوءَةٌ مَالًا وَمَصُوغًا، وَكَانَ فِيهَا مَا قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَنْفَقَهَا، وَثَبَّتَ مُلْكَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الزَّوَالِ. وَحُكِيَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُفَصِّلَ ثِيَابًا، فَدَلُّوهُ عَلَى خَيَّاطٍ كَانَ لِيَاقُوتٍ، فَأَحْضَرَهُ، فَحَضَرَ خَائِفًا، وَكَانَ أَصَمَّ، فَقَالَ لَهُ عِمَادُ الدَّوْلَةِ: لَا تَخَفْ، فَإِنَّمَا أَحْضَرْنَاكَ لِتُفَصِّلَ ثِيَابًا، فَلَمْ يَعْلَمْ مَا قَالَ، فَابْتَدَأَ وَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الصَّنَادِيقَ الَّتِي عِنْدَهُ لِيَاقُوتٍ مَا فَتَحَهَا، فَتَعَجَّبَ الْأَمِيرُ مِنْ هَذَا الِاتِّفَاقِ، فَأَمَرَهُ بِإِحْضَارِهَا، فَأَحْضَرَ ثَمَانِيَةَ صَنَادِيقَ فِيهَا مَالٌ وَثِيَابٌ قِيمَتُهُ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ مِنْ وَدَائِعِ يَاقُوتٍ وَذَخَائِرِ يَعْقُوبَ وَعَمْرٍو ابْنَيِ اللَّيْثِ جُمْلَةٌ كَثِيرَةٌ، فَامْتَلَأَتْ خَزَائِنُهُ وَثَبَتَ مُلْكُهُ. فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْ شِيرَازَ وَفَارِسَ، كَتَبَ إِلَى الرَّاضِي بِاللَّهِ، وَكَانَتْ قَدْ أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَإِلَى وَزِيرِهِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ يُعَرِّفُهُمَا أَنَّهُ عَلَى الطَّاعَةِ،

وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُقَاطِعَ عَلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الْبِلَادِ، وَبَذَلَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، فَأَنْفَذُوا لَهُ الْخِلَعَ، وَشَرَطُوا عَلَى الرَّسُولِ أَنْ لَا يُسَلِّمَ إِلَيْهِ الْخِلَعَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْمَالِ. فَلَمَّا وَصَلَ الرَّسُولُ، خَرَجَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ إِلَى لِقَائِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْخِلَعَ وَاللِّوَاءَ، فَذَكَرَ لَهُ الشَّرْطَ، فَأَخَذَهُمَا مِنْهُ قَهْرًا، وَلَبِسَ الْخِلَعَ، وَنَشَرَ اللِّوَاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَدَخَلَ الْبَلَدَ، وَغَالَطَ الرَّسُولَ بِالْمَالِ، فَمَاتَ الرَّسُولُ عِنْدَهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَقَصَدَهُ الرِّجَالُ مِنَ الْأَطْرَافِ. وَلَمَّا سَمِعَ مَرْدَاوَيْجُ بِمَا نَالَهُ مِنِ ابْنِ بُوَيْهِ، قَامَ لِذَلِكَ وَقَعَدَ وَسَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ لِلتَّدْبِيرِ عَلَيْهِ، وَكَانَ بِهَا أَخُوهُ وَشْمَكِيرُ ; لِأَنَّهُ لَمَّا خَلَعَ الْقَاهِرُ، وَتَأَخَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ عَنْهَا، عَادَ إِلَيْهَا وَشْمَكِيرُ بَعْدَ أَنْ بَقِيَتْ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا خَالِيَةً مِنْ أَمِيرٍ، فَلَمَّا وَصَلَهَا مَرْدَاوَيْجُ، رَدَّ أَخَاهُ وَشْمَكِيرَ إِلَى الرَّيِّ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ عَلَى كَرْمَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ إِلْيَاسَ مِنْ نَاحِيَةِ كَرْمَانَ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ، وَبَلَغَ إِصْطَخْرَ، فَأَظْهَرَ لِيَاقُوتٍ أَنَّهُ يُرِيدُ [أَنْ] يَسْتَأْمِنَ إِلَيْهِ حِيلَةً وَمَكْرًا، فَعَلِمَ يَاقُوتٌ مَكْرَهُ، فَعَادَ إِلَى كَرْمَانَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ السَّعِيدُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ صَاحِبُ خُرَاسَانَ، مَاكَانَ بْنَ كَالِي فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ ابْنُ إِلْيَاسَ، وَاسْتَوْلَى مَاكَانُ عَلَى كَرْمَانَ، نِيَابَةً عَنْ صَاحِبِ خُرَاسَانَ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِلْيَاسَ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، فَغَضِبَ عَلَيْهِ وَحَبَسَهُ، ثُمَّ شَفَعَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَلْعَمِيُّ، فَأَخْرَجَهُ، وَسَيَّرَهُ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ إِلَى جُرْجَانَ، فَلَمَّا خَرَجَ يَحْيَى بْنُ أَحْمَدَ وَإِخْوَتُهُ بِبُخَارَى، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، سَارَ مُحَمَّدُ بْنُ

إِلْيَاسَ إِلَيْهِ فَصَارَ مَعَهُ، فَلَمَّا أَدْبَرَ أَمْرُهُ سَارَ مُحَمَّدٌ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى كَرْمَانَ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، فَأَزَالَهُ مَاكَانُ عَنْهَا، فَسَارَ إِلَى الدِّينَوَرِ، وَأَقَامَ مَاكَانُ بِكَرْمَانَ، فَلَمَّا عَادَ عَنْهَا - عَلَى مَا نَذْكُرُهُ - رَجَعَ إِلَيْهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِلْيَاسَ. ذِكْرُ خَلْعِ الْقَاهِرِ بِاللَّهِ وَفِيهَا خُلِعَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ كَانَ مُسْتَتِرًا مِنَ الْقَاهِرِ، وَالْقَاهِرُ يَتَطَلَّبُهُ، وَكَذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ هَارُونَ، فَكَانَا يُرَاسِلَانِ قُوَّادَ السَّاجِيَّةِ، وَالْحَجَرِيَّةِ، وَيُخَوِّفَانِهِمْ مِنْ شَرِّهِ، وَيَذْكُرَانِ لَهُمْ غَدْرَهُ وَنَكْثَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، كَقَتْلِ مُؤْنِسٍ، وَبُلَيْقٍ، وَابْنِهِ عَلِيٍّ بَعْدَ الْأَيْمَانِ لَهُمْ، وَكَقَبْضِهِ عَلَى طَرِيفٍ السُّبْكَرِيِّ بَعْدَ الْيَمِينِ لَهُ، مَعَ نُصْحِ طَرِيفٍ لَهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَكَانَ ابْنُ مُقْلَةَ يَجْتَمِعُ بِالْقُوَّادِ لَيْلًا، تَارَةً فِي زِيِّ أَعْمَى، وَتَارَةً فِي زِيِّ مُكَدٍّ، وَتَارَةً فِي زِيِّ امْرَأَةٍ، وَيُغْرِيهِمْ بِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ أَعْطَى مُنَجِّمًا كَانَ لِسِيمَا مِائَتَيْ دِينَارٍ، وَأَعْطَاهُ الْحَسَنُ مِائَةَ دِينَارٍ، وَكَانَ يَذْكُرُ لِسِيمَا أَنَّ طَالِعَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَنْكُبَهُ الْقَاهِرُ وَيَقْتُلَهُ، (وَأَعْطَى ابْنَ مُقْلَةَ أَيْضًا) لِمُعَبِّرٍ كَانَ لِسِيمَا يَعَبِّرُ لَهُ الْمَنَامَاتِ، فَكَانَ يُحَذِّرُهُ أَيْضًا مِنَ الْقَاهِرِ، وَيُعَبِّرُ لَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، فَازْدَادَ نُفُورًا (مِنَ الْقَاهِرِ) . ثُمَّ إِنَّ الْقَاهِرَ شَرَعَ فِي عَمَلِ مَطَامِيرَ فِي الدَّارِ، فَقِيلَ لِسِيمَا وَلِجَمَاعَةِ قُوَّادِ السَّاجِيَّةِ وَالْحَجَرِيَّةِ: إِنَّمَا عَمَلُهَا لِأَجْلِكُمْ، فَازْدَادَا نُفُورًا، وَنَقَلَ إِلَى سِيمَا أَنَّ الْقَاهِرَ يُرِيدُ قَتْلَهُ،

فَجَمَعَ السَّاجِيَّةَ، وَكَانَ هُوَ رَئِيسَهُمُ الْمُقَدَّمَ عَلَيْهِمْ، وَأَعْطَاهُمُ السِّلَاحَ، وَأَنْفَذُوا إِلَى الْحَجَرِيَّةِ: إِنْ كُنْتُمْ مُوَافِقِينَ لَنَا، فَجِيئُوا إِلَيْنَا حَتَّى نَحْلِفَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ، وَتَكُونَ كَلِمَتُنَا وَاحِدَةً، فَاجْتَمَعُوا جَمِيعُهُمْ، وَتَحَالَفُوا عَلَى اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَقَتْلِ مَنْ خَالَفَ مِنْهُمْ. فَاتَّصَلَ ذَلِكَ بِالْقَاهِرِ وَوَزِيرِهِ الْخُصَيْبِيِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْوَزِيرُ: مَا الَّذِي حَمَلَكُمْ عَلَى هَذَا؟ فَقَالُوا: قَدْ صَحَّ عِنْدَنَا أَنَّ الْقَاهِرَ يُرِيدُ الْقَبْضَ عَلَى سِيمَا، وَقَدْ عَمِلَ مَطَامِيرَ لِيَحْبِسَ فِيهَا قُوَّادَنَا وَرُؤَسَاءَنَا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، اجْتَمَعَ السَّاجِيَّةُ وَالْحَجَرِيَّةُ عِنْدَ سِيمَا، وَتَحَالَفُوا عَلَى الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْقَبْضِ عَلَى الْقَاهِرِ، فَقَالَ لَهُمْ سِيمَا: قُومُوا بِنَا السَّاعَةَ حَتَّى نُمْضِيَ هَذَا الْعَزْمَ، فَإِنَّهُ إِنْ تَأَخَّرَ عَلِمَ بِهِ، وَاحْتَرَزَ وَأَهْلَكَنَا. وَبَلَغَ ذَلِكَ الْوَزِيرَ، فَأَرْسَلَ الْحَاجِبَ سَلَامَةَ وَعِيسَى الطَّبِيبَ لِيُعْلِمَاهُ بِذَلِكَ، فَوَجَدَاهُ نَائِمًا قَدْ شَرِبَ أَكْثَرَ لَيْلَتِهِ، فَلَمْ يَقْدِرَا عَلَى إِعْلَامِهِ بِذَلِكَ. وَزَحَفَ الْحَجَرِيَّةُ وَالسَّاجِيَّةُ إِلَى الدَّارِ، وَوَكَّلَ سِيمَا بِأَبْوَابِهَا مَنْ يَحْفَظُهَا، وَبَقِيَ هُوَ عَلَى بَابِ الْعَامَّةِ، وَهَجَمُوا إِلَى الدَّارِ مِنْ سَائِرِ الْأَبْوَابِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْقَاهِرُ الْأَصْوَاتَ وَالْجَلَبَةَ، اسْتَيْقَظَ مَخْمُورًا، وَطَلَبَ بَابًا يَهْرُبُ مِنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْأَبْوَابَ جَمِيعُهَا مَشْحُونَةً بِالرِّجَالِ، فَهَرَبَ إِلَى سَطْحِ حَمَّامٍ، فَلَمَّا دَخَلَ الْقَوْمُ لَمْ يَجِدُوهُ، فَأَخَذُوا الْخَدَمَ وَسَأَلُوهُمْ عَنْهُ، فَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ خَادِمٌ صَغِيرٌ، فَقَصَدُوهُ، فَرَأَوْهُ وَبِيَدِهِ السَّيْفُ، فَاجْتَهَدُوا بِهِ فَلَمْ يَنْزِلْ لَهُمْ، فَأَلَانُوا لَهُ الْقَوْلَ، وَقَالُوا: نَحْنُ عَبِيدُكَ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نَأْخُذَ عَلَيْكَ الْعُهُودَ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، وَقَالَ: مَنْ صَعِدَ إِلَيَّ قَتَلْتُهُ. فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ سَهْمًا، وَقَالَ: إِنْ نَزَلْتَ، وَإِلَّا وَضَعْتُهُ فِي نَحْرِكَ. فَنَزَلَ حِينَئِذٍ إِلَيْهِمْ، فَأَخَذُوهُ وَسَارُوا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ طَرِيفٌ السُّبْكَرِيُّ، فَفَتَحُوهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنْهُ، وَحَبَسُوا الْقَاهِرَ مَكَانَهُ، ثُمَّ سَلَّمُوهُ، وَهَرَبَ وَزِيرُهُ الْخُصَيْبِيُّ وَسَلَامَةُ حَاجِبُهُ. وَقِيلَ فِي سَبَبِ خَلْعِهِ وَقِيَامِ السَّاجِيَّةِ وَالْحَجَرِيَّةِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاهِرَ لَمَّا تَمَكَّنَ مِنَ الْخِلَافَةِ، أَقْبَلَ يَنْقُصُ السَّاجِيَّةَ وَالْحَجَرِيَّةَ عَلَى مَمَرِّ الْأَيَّامِ، وَلَا يَقْضِي لِأَكَابِرِهِمْ حَاجَةً، وَيُلْزِمُهُمُ النَّوْبَةَ فِي دَارِهِ، وَيُؤَخِّرُ أُعْطِيَاتِهِمْ، وَيُغْلِطُ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ مِنْهُمْ فِي أَمْرٍ، وَيَحْرِمُهُ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ يُنْذِرُ بَعْضًا، وَيَتَشَاكَوْنَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِسَلَامَةَ

حَاجِبِهِ: يَا سَلَامَةُ، أَنْتَ بَيْنَ يَدَيَّ كَنْزُ مَالٍ يَمْشِي، فَأَيُّ شَيْءٍ يَبِينُ فِي مَالِكَ لَوْ أَعْطَيْتَنِي أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ؟ فَيَحْمِلُ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى الْهَزْلِ. وَكَانَ وَزِيرُهُ الْخُصَيْبِيُّ أَيْضًا خَائِفًا لِمَا يَرَى مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ حَفَرَ فِي الدَّارِ نَحْوَ خَمْسِينَ مَطْمُورَةً تَحْتَ الْأَرْضِ، وَأَحْكَمَ أَبْوَابَهَا، فَكَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ عَمِلَهَا لِمُقَدِّمِي السَّاجِيَّةِ وَالْحَجَرِيَّةِ، فَازْدَادَ نُفُورُهُمْ مِنْهُ وَخَوْفُهُمْ، ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْقَرَامِطَةِ أَخَذُوا بِفَارِسَ وَأَرْسَلُوا إِلَى بَغْدَاذَ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَحُبِسُوا فِي تِلْكَ الْمَطَامِيرِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ سِرًّا بِفَتْحِ الْأَبْوَابِ عَلَيْهِمْ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَقْوَى بِهِمْ عَلَى الْقَبْضِ عَلَى مُقَدِّمِي الْحَجَرِيَّةِ وَالسَّاجِيَّةِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ غِلْمَانِهِ. وَأَنْكَرَ الْحَجَرِيَّةُ وَالسَّاجِيَّةُ حَالَ الْقَرَامِطَةِ، وَكَوْنِهِمْ مَعَهُ فِي دَارِهِ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ، وَقَالُوا لِوَزِيرِهِ الْخُصَيْبِيِّ، وَحَاجِبِهِ سَلَامَةَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَا لَهُ، فَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الدَّارِ، فَسَلَّمَهُمْ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ، وَهُوَ عَلَى شُرْطَةِ بَغْدَاذَ، فَأَنْزَلَهُمْ فِي دَارٍ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ يَدْخُلُ إِلَيْهِمْ مَنْ يُرِيدُ، فَعَظُمَ اسْتِيحَاشُهُمْ. ثُمَّ صَارَ يَذُمُّهُمْ فِي مَجْلِسِهِ، وَيُظْهِرُ كَرَاهَتَهُمْ، حَتَّى تَبَيَّنُوا ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ وَحَرَكَاتِهِ مَعَهُمْ، فَأَظْهَرُوا أَنَّ لِبَعْضِ قُوَّادِهِمْ عُرْسًا، فَاجْتَمَعُوا بِحُجَّتِهِ، وَقَرَّرُوا بَيْنَهُمْ مَا أَرَادُوا، وَافْتَرَقُوا، وَأَرْسَلُوا إِلَى سَابُوُرَ خَادِمِ وَالِدَةِ الْمُقْتَدِرِ، فَقَالُوا لَهُ: قَدْ عَلِمْتَ مَا فَعَلَهُ بِمَوْلَاتِكَ، وَقَدْ رَكِبَتْ فِي مُوَافَقَتِهِ كُلَّ عَظِيمٍ، فَإِنْ وَافَقْتَنَا عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمْتَ إِلَى الْخَدَمِ بِحِفْظِهِ، فَعَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ مِنْكَ، وَإِلَّا فَنَحْنُ نَبْدَأُ بِكَ، فَأَعْلَمَهُمْ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَوْفِ وَالْكَرَاهَةِ لِلْقَاهِرِ، وَأَنَّهُ مُوَافِقُهُمْ، وَكَانَ ابْنُ مُقْلَةَ مَعَ هَذَا يَصْنَعُ عَلَيْهِ وَيَسْعَى فِيهِ إِلَى أَنْ خُلِعَ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَةً وَاحِدَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الرَّاضِي بِاللَّهِ هُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَلَمَّا قُبِضَ الْقَاهِرُ سَأَلُوا الْخَدَمَ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْمُقْتَدِرِ، فَدَلُّوهُمْ عَلَيْهِ، وَكَانَ هُوَ وَوَالِدَتُهُ مَحْبُوسِينَ، فَقَصَدُوهُ،

وَفَتَحُوا عَلَيْهِ وَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، وَأَخْرَجُوهُ وَأَجْلَسُوهُ عَلَى سَرِيرِ الْقَاهِرِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَلَقَّبُوهُ بِالرَّاضِي بِاللَّهِ، وَبَايَعَهُ الْقُوَّادُ وَالنَّاسُ، وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى وَأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَصَدَرَ عَنْ رَأْيِهِمَا فِيمَا يَفْعَلُهُ، وَاسْتَشَارَهُمَا وَأَرَادَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى عَلَى الْوِزَارَةِ، فَامْتَنَعَ لِكِبَرِهِ، وَعَجْزِهِ، وَضَعْفِهِ، وَأَشَارَ بِابْنِ مُقْلَةَ. ثُمَّ إِنَّ سِيمَا قَالَ لِلرَّاضِي: إِنَّ الْوَقْتَ لَا يَحْتَمِلُ أَخْلَاقَ عَلِيٍّ، وَابْنَ مُقْلَةَ أَلْيَقُ بِالْوَقْتِ، فَكَتَبَ لَهُ أَمَانًا وَأَحْضَرَهُ وَاسْتَوْزَرَهُ، فَلَمَّا وَزَرَ، أَحْسَنَ إِلَى كُلِّ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، وَأَحْسَنَ سِيرَتَهُ، وَقَالَ: عَاهَدْتُ اللَّهَ عِنْدَ اسْتِتَارِي بِذَلِكَ، فَوَفَّى بِهِ، وَأَحْضَرَ الشُّهُودَ وَالْقُضَاةَ، وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى الْقَاهِرِ ; لِيَشْهَدُوا عَلَيْهِ بِالْخَلْعِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَسُمِلَ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَبَقِيَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُ. وَأَرْسَلَ ابْنُ مُقْلَةَ إِلَى الْخُصَيْبِيِّ وَعِيسَى الْمُتَطَبِّبِ بِالْأَمَانِ، فَظَهَرَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمَا، وَاسْتَعْمَلَ الْخُصَيْبِيَّ وَوَلَّاهُ، وَاسْتَعْمَلَ الرَّاضِيَ بِاللَّهِ عَلَى الشُّرْطَةِ بَدْرًا الْخَرْشَنِيَّ، وَاسْتَعْمَلَ ابْنَ مُقْلَةَ أَبَا الْفَضْلِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ الْفُرَاتِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، نَائِبًا عَنْهُ عَلَى سَائِرِ الْعُمَّالِ بِالْمَوْصِلِ، وَقَرْدَى، وَبَازَبْدِيِّ، وَمَارِدَيْنِ، وَطُورِ عَبْدِينَ، وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ، وَدِيَارِ بَكْرٍ، وَطَرِيقِ الْفُرَاتِ، وَالثُّغُورِ الْجَزْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ، وَأَجْنَادِ الشَّامِ، وَدِيَارِ مِصْرَ، يَصْرِفُ مَنْ يَرَى، وَيَسْتَعْمِلُ مَنْ يَرَى فِي الْخَرَاجِ، وَالْمُعَاوِنِ، وَالنَّفَقَاتِ، وَالْبَرِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَرْسَلَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ يَسْتَدْعِيهِ لِيُوَلِّيَهُ الْحَجَبَةَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى الْأَهْوَازِ

وَأَعْمَالِهَا، وَدَفَعَ عَنْهَا ابْنَ يَاقُوتٍ، (وَلَمْ يَبْقَ بِيَدِ ابْنِ يَاقُوتٍ) مِنْ تِلْكَ الْوَلَايَةِ إِلَّا السُّوسُ، وَجُنْدَيْسَابُورُ، وَهُوَ يُرِيدُ الْمَسِيرَ إِلَى أَصْبَهَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَانَ ذَلِكَ آخَرَ أَيَّامِ الْقَاهِرِ، فَلَمَّا وَلِيَ الرَّاضِي، وَاسْتَحْضَرَهُ، سَارَ إِلَى وَاسِطَ، وَأَرْسَلَ مُحَمَّدَ بْنَ يَاقُوتٍ يَخْطُبُ الْحَجَبَةَ، فَأُجِيبُ إِلَيْهَا، فَسَارَ فِي أَثَرِ ابْنِ رَائِقٍ، وَبَلَغَ ابْنَ رَائِقٍ الْخَبَرُ، فَلَمْ يَقِفْ وَسَارَ مِنْ وَاسِطَ مُصْعِدًا إِلَى بَغْدَاذَ يُسَابِقُ ابْنَ يَاقُوتٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَدَائِنِ، لَقِيَهُ تَوْقِيعُ الرَّاضِي يَأْمُرُهُ بِتَرْكِ دُخُولِ بَغْدَاذَ، وَتَقْلِيدِهِ الْحَرْبَ وَالْمُعَاوِنَ بِوَاسِطَ، مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا، فَعَادَ مُنْحَدِرًا فِي دِجْلَةَ، وَلَقِيَهُ ابْنُ يَاقُوتٍ مُصْعِدًا فِيهَا أَيْضًا، فَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأُصْعِدَ ابْنُ يَاقُوتٍ إِلَى بَغْدَاذَ فَتَوَلَّى الْحَجَبَةَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَهْدِيِّ صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَوَلَايَةِ وَلَدِهِ الْقَائِمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ الْمَهْدِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ عُبَيْدُ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ بِالْمَهْدِيَّةِ، وَأَخْفَى وَلَدُهُ أَبُو الْقَاسِمِ مَوْتَهُ سَنَةً لِتَدْبِيرٍ كَانَ لَهُ، وَكَانَ يَخَافُ أَنْ يَخْتَلِفَ النَّاسُ عَلَيْهِ إِذَا عَلِمُوا بِمَوْتِهِ، وَكَانَ عُمُرُ الْمَهْدِيِّ لَمَّا تُوُفِّيَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وَلَايَتُهُ مُنْذُ دَخَلَ رَقَّادَةَ وَدُعِيَ لَهُ بِالْإِمَامَةِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَشَهْرًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدٌ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ عَهِدَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا أَظْهَرَ وَفَاةَ وَالِدِهِ كَانَ قَدْ تَمَكَّنَ وَفَرَغَ مِنْ جَمِيعِ مَا أَرَادَهُ، وَاتَّبَعَ سُنَّةَ أَبِيهِ، وَثَارَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، فَتَمَكَّنَ مِنْهُمْ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ابْنُ طَالُوتَ الْقُرَشِيُّ فِي نَاحِيَةِ طَرَابُلُسَ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ وَلَدُ الْمَهْدِيِّ، فَقَامُوا مَعَهُ، وَزَحَفَ إِلَى مَدِينَةِ طَرَابُلُسَ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ لِلْبَرْبَرِ كَذِبُهُ، فَقَتَلُوهُ وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى الْقَائِمِ. وَجَهَّزَ الْقَائِمُ أَيْضًا جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ مَيْسُورِ الْفَتَى إِلَى الْمَغْرِبِ، فَانْتَهَى إِلَى فَاسَ، وَإِلَى تَكْرُورَ، وَهَزَمَ خَارِجِيًّا هُنَاكَ، وَأَخَذَ وَلَدَهُ أَسِيرًا، وَسَيَّرَ أَيْضًا جَيْشًا فِي الْبَحْرِ، وَقَدَّمَ

عَلَيْهِمْ رَجُلًا اسْمُهُ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ إِلَى بَلَدِ الرُّومِ، فَسَبَى وَغَنِمَ فِي بَلَدِ جِنْوَةَ، وَسَيَّرَ جَيْشًا آخَرَ مَعَ خَادِمِهِ زَيْدَانَ، وَبَالَغَ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ وَتَجْهِيزِهِمْ إِلَى مِصْرَ، فَدَخَلُوا الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ الْإِخْشِيدُ عَسْكَرًا كَثِيفًا، فَقَاتَلَهُمْ، وَهَزَمُوا الْمَغَارِبَةَ، وَقَتَلُوا فِيهِمْ وَأَسَرُوا، وَعَادَ الْمَغَارِبَةُ مَفْلُولِينَ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مَرْدَاوَيْجَ عَلَى الْأَهْوَازِ لَمَّا بَلَغَ مَرْدَاوَيْجَ اسْتِيلَاءُ عَلِيِّ بْنِ بُوَيْهِ عَلَى فَارِسَ، اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَسَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ لِلتَّدْبِيرِ عَلَى ابْنِ بُوَيْهِ، فَرَأَى أَنْ يُنْفِذَ عَسْكَرًا إِلَى الْأَهْوَازِ لِيَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا، وَيَسُدَّ الطَّرِيقَ عَلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ إِذَا قَصَدَهُ، فَلَا يَبْقَى لَهُ طَرِيقٌ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَيَقْصِدُهُ هُمْ مِنْ نَاحِيَةِ أَصْبَهَانَ، وَيَقْصِدُهُ عَسْكَرُهُ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَهْوَازِ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ. سَارَتْ عَسَاكِرُ مَرْدَاوَيْجَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَّى بَلَغَتْ إِيذَجَ، فَخَافَ يَاقُوتٌ أَنْ يَحْصُلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ابْنِ بُوَيْهِ، فَسَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ (وَمَعَهُ ابْنُهُ الْمُظَفَّرُ، وَكَتَبَ إِلَى الرَّاضِي لِيُقَلِّدَهُ أَعْمَالَ الْأَهْوَازِ) ، فَقَلَّدَهُ ذَلِكَ، وَصَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْبَرِيدِيُّ كَاتِبُهُ مُضَافًا لَهُ إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْخَرَاجِ بِالْأَهْوَازِ، وَصَارَ أَخُوهُ أَبُو الْحُسَيْنِ يَخْلُفُ يَاقُوتًا بِبَغْدَاذَ. ثُمَّ اسْتَوْلَى عَسْكَرُ مَرْدَاوَيْجَ عَلَى رَامَهُرْمُزَ، أَوَّلَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَسَارُوا نَحْوَ الْأَهْوَازَ، فَوَقَفَ لَهُمْ يَاقُوتٌ عَلَى قَنْطَرَةِ أَرْبَقَ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنَ الْعُبُورِ لِشِدَّةِ جَرْيَةِ الْمَاءِ، فَأَقَامُوا بِإِزَائِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ رَحَلُوا فَعَبَرُوا عَلَى الْأَطْوَافِ نَهْرَ الْمُسْرَقَانِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى يَاقُوتٍ، وَقَدْ أَتَاهُ مَدَدٌ مِنْ بَغْدَاذَ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى قَرْيَةِ الرِّيخِ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى وَاسِطَ، وَبِهَا حِينَئِذٍ مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ، فَأَخْلَى لَهُ غَرْبِيَّ وَاسِطَ، فَنَزَلَ فِيهِ يَاقُوتٌ.

وَلَمَّا بَلَغَ عِمَادَ الدَّوْلَةِ اسْتِيلَاءُ مَرْدَاوَيْجَ عَلَى الْأَهْوَازِ، كَاتَبَ نَائِبَ مَرْدَاوَيْجَ يَسْتَمِيلُهُ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَتَوَسَّطَ الْحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَرْدَاوَيْجَ، (فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَعَى فِيهِ، فَأَجَابَهُ مَرْدَاوَيْجُ) إِلَى ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُطِيعَهُ وَيَخْطُبَ لَهُ، فَاسْتَقَرَّ الْحَالُ بَيْنَهُمَا، وَأَهْدَى لَهُ ابْنُ بُوَيْهِ هَدِيَّةً جَلِيلَةً، وَأَنْفَذَ أَخَاهُ رُكْنَ الدَّوْلَةِ رَهِينَةً، وَخَطَبَ لِمَرْدَاوَيْجَ فِي بِلَادِهِ، فَرَضِيَ مَرْدَاوَيْجُ مِنْهُ، وَاتُّفِقَ أَنَّهُ قُتِلَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، فَقَوِيَ أَمْرُ ابْنِ بُوَيْهِ. ذِكْرُ عَوْدِ يَاقُوتٍ إِلَى الْأَهْوَازِ وَلَمَّا وَصَلَ يَاقُوتٌ إِلَى وَاسِطَ، أَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ قُتِلَ مَرْدَاوَيْجُ، وَمَعَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ يَكْتُبُ لَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ مَرْدَاوَيْجُ عَادَ يَاقُوتٌ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى تِلْكَ الْوَلَايَةِ، وَلَمَّا وَصَلَ يَاقُوتٌ إِلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ، بَعْدَ قَتْلِ مَرْدَاوَيْجَ، كَانَتْ عَسَاكِرُ ابْنِ بُوَيْهِ قَدْ سَبَقَتْهُ، فَالْتَقَوْا بِنَوَاحِي أَرَّجَانَ، وَكَانَ ابْنُ بُوَيْهِ قَدْ لَحِقَ بِأَصْحَابِهِ، وَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَانْهَزَمَ يَاقُوتٌ، وَلَمْ يُفْلِحْ بَعْدَهَا. وَرَاسَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ ابْنَ بُوَيْهِ فِي الصُّلْحِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَ بِهِ إِلَى الرَّاضِي، فَأَجَابَ (إِلَى ذَلِكَ) ، وَقَرَّرَ بِلَادَ فَارِسَ عَلَى ابْنِ بُوَيْهِ، وَاسْتَقَرَّ بِشِيرَازَ، وَاسْتَقَرَّ يَاقُوتٌ بِالْأَهْوَازِ وَمَعَهُ ابْنُ الْبَرِيدِيِّ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ قَدْ سَارَ إِلَى بَغْدَاذَ وَتَوَلَّى الْحَجَبَةَ، وَخَلَعَ الرَّاضِيَ عَلَيْهِ، وَتَوَلَّى مَعَ الْحَجَبَةِ رِئَاسَةَ الْجَيْشِ، وَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي أَمْرِ الدَّوَاوِينِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِأَنْ لَا يَقْبَلُوا تَوْقِيعًا بِوَلَايَةٍ وَلَا عَزْلٍ وَإِطْلَاقٍ إِلَّا إِذَا كَانَ خَطُّهُ عَلَيْهِ، وَأَمْرَهُمْ بِحُضُورِ مَجْلِسِهِ، فَصَبَرَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَلْزَمَ نَفْسَهُ بِالْمَصِيرِ إِلَى دَارِ يَاقُوتٍ، فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَبَقِيَ كَالْمُتَعَطِّلِ. وَلَقَدْ كَانَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْقَلِيلَةِ حَوَادِثُ عَظِيمَةٌ مِنْهَا: انْصِرَافُ وَشْمَكِيرَ أَخِي مَرْدَاوَيْجَ عَنْ أَصْبَهَانَ بِكِتَابِ الْقَاهِرِ، بَعْدَ أَنْ مَلَكَهَا، وَاسْتِعْمَالُ الْقَاهِرِ مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ عَلَيْهَا، وَخَلْعُ الْقَاهِرِ، وَخِلَافَةُ الرَّاضِي، وَأَمْرُ الْحُجَّةِ لِمُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ، ثُمَّ انْفِسَاخُهُ، وَمَسِيرُ مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ مِنْ رَامَهُرْمُزَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَوَلَايَتُهُ الْحَجَبَةَ، بَعْدَ أَنْ كَانَ سَائِرًا

إِلَى أَصْبَهَانَ لِيَتَوَلَّاهَا، وَإِعَادَةُ مَرْدَاوَيْجَ أَخَاهُ وَشْمَكِيرَ إِلَيْهَا، وَمَلَكَ عَلِيُّ بْنُ بُوَيْهِ أَرَّجَانَ، هَذَا جَمِيعُهُ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ الْقَرِيبَةِ فِي سَبْعِينَ يَوْمًا، فَتَبَارَكَ اللَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَالْمَلَكُوتُ، يُصَرِّفُ الْأُمُورَ كَيْفَ يَشَاءُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. ذِكْرُ قَتْلِ هَارُونَ بْنِ غَرِيبٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ هَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ، وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ كَانَ - كَمَا ذَكَرْنَا - قَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْقَاهِرُ عَلَى مَاهِ الْكُوفَةِ، وَقَصَبَتِهَا الدِّيْنَوَرِ، وَعَلَى مَاسَبَذَانَ وَغَيْرِهَا، فَلَمَّا خُلِعَ الْقَاهِرُ وَاسْتُخْلِفَ الرَّاضِي، رَأَى هَارُونُ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالدَّوْلَةِ مِنْ غَيْرِهِ ; لِقَرَابَتِهِ مِنَ الرَّاضِي، حَيْثُ هُوَ ابْنُ خَالِ الْمُقْتَدِرِ، فَكَاتَبَ الْقُوَّادَ بِبَغْدَاذَ يَعِدُهُمُ الْإِحْسَانَ وَالزِّيَادَةَ فِي الْأَرْزَاقِ، ثُمَّ سَارَ مِنَ الدِّينَوَرِ إِلَى خَانِقَيْنَ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ مُقْلَةَ وَابْنِ يَاقُوتٍ وَالْحَجَرِيَّةِ وَالسَّاجِيَّةِ، وَاجْتَمَعُوا وَشَكَوْهُ إِلَى الرَّاضِي، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ كَارِهٌ لَهُ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي مَنْعِهِ، فَرَاسَلُوهُ أَوَّلًا، وَبَذَلُوا لَهُ طَرِيقَ خُرَاسَانَ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي يَدِهِ، فَلَمْ يَقْنَعْ بِهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى النَّهْرَوَانِ، وَشَرَعَ فِي جِبَايَةِ الْأَمْوَالِ، وَظَلَمَ النَّاسَ وَعَسَفَهُمْ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ فِي سَائِرِ جُيُوشِ بَغْدَاذَ، وَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْهُ، وَوَقَعَتِ الطَّلَائِعُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَهَرَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ إِلَى هَارُونَ، وَرَاسَلَهُ مُحَمَّدُ يَسْتَمِيلُهُ، وَيَبْذُلُ لَهُ، فَلَمْ يُجِبْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ بَغْدَاذَ. فَلَمَّا كَانَ (يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ) لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، تَزَاحَفَ الْعَسْكَرَانِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَاسْتَظْهَرَ أَصْحَابُ هَارُونَ لِكَثْرَتِهِمْ، فَانْهَزَمَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ ابْنِ يَاقُوتٍ وَنُهِبَ أَكْثَرُ سَوَادِهِمْ، وَكَثُرَ فِيهِمُ الْجِرَاحُ وَالْقَتْلُ، فَسَارَ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ حَتَّى قَطَعَ قَنْطَرَةَ نَهْرِ بِينَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ هَارُونَ، فَسَارَ نَحْوَ الْقَنْطَرَةِ مُنْفَرِدًا عَنْ أَصْحَابِهِ، طَمَعًا فِي قَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ

يَاقُوتٍ، أَوْ أَسْرِهِ، فَتَقَنْطَرَ بِهِ فَرَسُهُ، فَسَقَطَ عَنْهُ فِي سَاقِيَةٍ، فَلَحِقَهُ غُلَامٌ لَهُ اسْمُهُ يُمْنٌ، فَضَرَبَهُ بِالطَّبَرْزَيْنِ حَتَّى أَثْخَنَهُ، وَكَسَّرَ عِظَامَهُ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَيْهِ فَذَبَحَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَتَفَرَّقُوا، وَدَخَلَ بَعْضُهُمْ بَغْدَاذَ سِرًّا، وَنُهِبَ سَوَادُ هَارُونَ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِهِ وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ. وَسَارَ مُحَمَّدٌ إِلَى مَوْضِعِ جُثَّةِ هَارُونَ، فَأَمَرَ بِحَمْلِهَا إِلَى مَضْرِبِهِ، وَأَمَرَ بِغَسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ، وَأَنْفَذَ إِلَى دَارِهِ مَنْ يَحْفَظُهَا مِنَ النَّهْبِ، وَدَخَلَ بَغْدَاذَ وَرَأْسُ هَارُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَرُءُوسُ جَمَاعَةٍ مِنْ قُوَّادِهِ، فَنُصِبَ بِبَغْدَاذَ. ذِكْرُ ظُهُورِ إِنْسَانٍ ادَّعَى النُّبُوَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ بِبَاسِنْدَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّغَانِيَانِ رَجُلٌ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، فَقَصَدَهُ فَوْجٌ بَعْدَ فَوْجٍ، وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَحَارَبَ مَنْ خَالَفَهُ، فَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِمَّنْ كَذَّبَهُ، فَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ مِنْ أَهْلِ الشَّاشِ خُصُوصًا. وَكَانَ صَاحِبُ حِيَلٍ وَمَخَارِيقَ، وَكَانَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي حَوْضٍ مَلْآنَ مَاءً، فَيُخْرِجُهَا مَمْلُوءَةً دَنَانِيرَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَخَارِيقِ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ جَيْشًا، فَحَارَبُوهُ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ فَوْقَ جَبَلٍ عَالٍ، حَتَّى قَبَضُوا عَلَيْهِ وَقَتَلُوهُ، وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ، وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِمَّنِ اتَّبَعَهُ وَآمَنَ بِهِ، وَكَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ مَتَى مَاتَ، عَادَ إِلَى الدُّنْيَا، فَبَقِيَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ عَلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ اضْمَحَلُّوا وَفَنَوْا.

ذِكْرُ قَتْلِ الشَّلْمَغَانِيِّ وَحِكَايَةِ مَذْهَبِهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّلْمَغَانِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي الْعَزَاقِرِ، (وَشَلْمَغَانُ الَّتِي يُنْسَبُ إِلَيْهَا قَرْيَةٌ بِنُوَاحِي وَاسِطَ) . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مَذْهَبًا غَالِيًا فِي التَّشَيُّعِ وَالتَّنَاسُخِ، وَحُلُولِ الْإِلَهِيَّةِ فِيهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْكِيهِ، وَأَظْهَرَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ أَبُو الْقَاسِمِ الْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ، الَّذِي تُسَمِّيهِ الْإِمَامِيَّةُ الْبَابَ، مُتَدَاوِلُ وِزَارَةِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، ثُمَّ اتَّصَلَ أَبُو جَعْفَرٍ الشَّلْمَغَانِيُّ بِالْمُحْسِنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ فِي وِزَارَةِ أَبِيهِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ طَلَبَ فِي وِزَارَةِ الْخَاقَانِيِّ، فَاسْتَتَرَ وَهَرَبَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَبَقِيَ سِنِينَ عِنْدَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ، ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى بَغْدَاذَ وَاسْتَتَرَ، وَظَهَرَ عَنْهُ بِبَغْدَاذَ أَنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ الرُّبُوبِيَّةَ، وَقِيلَ إِنَّهُ اتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ الَّذِي وَزَرَ لِلْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو عَلِيٍّ ابْنَا بِسْطَامٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، وَابْنُ شَبِيبٍ الزَّيَّاتُ، وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدُوسٍ، كَانُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ فِيهِ، وَظَهَرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَطَلَبُوا أَيَّامَ وِزَارَةِ ابْنِ مُقْلَةَ لِلْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، فَلَمْ يَجِدُوا.

فَلَمَّا كَانَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، ظَهَرَ الشَّلْمَغَانِيُّ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ ابْنُ مُقْلَةَ وَسَجَنَهُ، وَكَبَسَ دَارَهُ فَوَجَدَ فِيهَا رِقَاعًا وَكُتُبًا مِمَّنْ يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِهِ، يُخَاطِبُونَهُ بِمَا لَا يُخَاطَبُ بِهِ الْبَشَرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفِيهَا خَطُّ الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَاسِمِ، فَعُرِضَتِ الْخُطُوطُ فَعَرَفَهَا النَّاسُ، وَعُرِضَتْ عَلَى الشَّلْمَغَانِيِّ فَأَقَرَّ أَنَّهَا خُطُوطُهُمْ، وَأَنْكَرَ مَذْهَبَهُ، وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَتَبَرَّأَ مِمَّا يُقَالُ فِيهِ، وَأَخَذَ ابْنَ أَبِي عَوْنٍ، وَابْنَ عَبْدُوسٍ مَعَهُ، وَأُحْضِرَا مَعَهُ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ، وَأُمِرَا بِصَفْعِهِ فَامْتَنَعَا، فَلَمَّا أُكْرِهَا مَدَّ ابْنُ عَبْدُوسٍ يَدَهُ وَصَفَعَهُ، وَأَمَّا ابْنُ أَبِي عَوْنٍ فَإِنَّهُ مَدَّ يَدَهُ إِلَى لِحْيَتِهِ وَرَأْسِهِ، فَارْتَعَدَتْ يَدُهُ، فَقَبَّلَ لِحْيَةَ الشَّلْمَغَانِيِّ وَرَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِلَهِي، وَسَيِّدِي، وَرَازِقِي، فَقَالَ لَهُ الرَّاضِي: قَدْ زَعَمْتَ أَنَّكَ لَا تَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ، فَمَا هَذَا؟ فَقَالَ: وَمَا عَلَيَّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّنِي مَا قُلْتُ لَهُ إِنَّنِي إِلَهٌ قَطُّ. فَقَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ: إِنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْإِلَهِيَّةِ، وَإِنَّمَا ادَّعَى أَنَّهُ الْبَابُ إِلَى الْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ، مَكَانَ ابْنِ رَوْحٍ، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ تَقِيَّةً. ثُمَّ أُحْضِرُوا عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وَمَعَهُمُ الْفُقَهَاءُ، وَالْقُضَاةُ، وَالْكُتَّابُ، وَالْقُوَّادُ، وَفِي آخِرِ الْأَيَّامِ أَفْتَى الْفُقَهَاءُ بِإِبَاحَةِ دَمِهِ، فَصُلِبَ ابْنُ الشَّلْمَغَانِيِّ، وَابْنُ أَبِي عَوْنٍ، فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَأُحْرِقَا بِالنَّارِ. وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ إِلَهُ الْآلِهَةِ الْحَقُّ، وَأَنَّهُ الْأَوَّلُ الْقَدِيمُ، الظَّاهِرُ، الْبَاطِنُ، الرَّازِقُ، التَّامُّ، الْمُومَأُ إِلَيْهِ بِكُلِّ مَعْنًى، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يَحِلُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْتَمِلُ، وَإِنَّهُ خَلَقَ الضِّدَّ لِيَدُلَّ عَلَى الْمَضْدُودِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ حَلَّ فِي آدَمَ لَمَّا خَلَقَهُ، وَفِي إِبْلِيسِهِ أَيْضًا، وَكِلَاهُمَا ضِدٌّ لِصَاحِبِهِ لِمُضَادَّتِهِ إِيَّاهُ فِي مَعْنَاهُ، وَإِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى الْحَقِّ أَفْضَلُ مِنَ الْحَقِّ، وَإِنَّ الضِّدَّ أَقْرَبُ إِلَى الشَّيْءِ مِنْ شَبَهِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - إِذَا حَلَّ فِي جَسَدٍ نَاسُوتِيٍّ، ظَهَرَ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْمُعْجِزَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ، وَإِنَّهُ لَمَّا غَابَ آدَمُ، ظَهَرَ اللَّاهُوتُ فِي خَمْسَةِ نَاسُوتِيَّةٍ، كُلَّمَا غَابَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، ظَهَرَ مَكَانَهُ

آخَرُ، وَفِي خَمْسَةِ أَبَالِسَةَ أَضْدَادٍ لِتِلْكَ الْخَمْسَةِ، ثُمَّ اجْتَمَعَتِ اللَّاهُوتِيَّةُ فِي إِدْرِيسَ وَإِبْلِيسِهِ، وَتَفَرَّقَتْ بَعْدَهُمَا كَمَا تَفَرَّقَتْ بَعْدَ آدَمَ، وَاجْتَمَعَتْ فِي نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِبْلِيسِهِ، وَتَفَرَّقَتْ عِنْدَ غَيْبَتِهِمَا، وَاجْتَمَعَتْ فِي هُودٍ وَإِبْلِيسِهِ، وَتَفَرَّقَتْ بَعْدَهُمَا، وَاجْتَمَعَتْ فِي صَالِحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِبْلِيسِهِ عَاقِرِ النَّاقَةِ، وَتَفَرَّقَتْ بَعْدَهُمَا، وَاجْتَمَعَتْ فِي إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِبْلِيسِهِ نَمْرُوذَ، وَتَفَرَّقَتْ لَمَّا غَابَا، وَاجْتَمَعَتْ فِي هَارُونَ وَإِبْلِيسِهِ فِرْعَوْنَ، وَتَفَرَّقَتْ بَعْدَهُمَا، وَاجْتَمَعَتْ (فِي سُلَيْمَانَ وَإِبْلِيسِهِ، وَتَفَرَّقَتْ بَعْدَهُمَا، وَاجْتَمَعَتْ) فِي عِيسَى وَإِبْلِيسِهِ، فَلَمَّا غَابَا تَفَرَّقَتْ فِي تَلَامِيذِ عِيسَى وَأَبَالِسَتِهِمْ، ثُمَّ اجْتَمَعَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَإِبْلِيسِهِ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ يُظْهِرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَكُلِّ مَعْنًى، وَإِنَّهُ فِي كُلِّ أَحَدٍ بِالْخَاطِرِ الَّذِي يَخْطِرُ بِقَلْبِهِ، فَيَتَصَوَّرُ لَهُ مَا يَغِيبُ عَنْهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ، وَإِنَّ اللَّهَ اسْمٌ لِمَعْنًى، وَإِنَّ مَنِ احْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَهُوَ إِلَهٌ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوْجِبُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يُسَمَّى إِلَهًا، وَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَشْيَاعِهِ يَقُولُ: إِنَّهُ رَبٌّ لِمَنْ هُوَ فِي دُونِ دَرَجَتِهِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَقُولُ: أَنَا رَبٌّ لِفُلَانٍ، وَفُلَانٌ رَبٌّ (لِفُلَانٍ وَفُلَانٌ رَبُّ) رَبِّي، حَتَّى يَقَعَ الِانْتِهَاءُ إِلَى ابْنِ أَبِي الْعَزَاقِرِ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّ الْأَرْبَابِ، لَا رُبُوبِيَّةَ بَعْدَهُ. وَلَا يَنْسُبُونَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِلَى عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ; لِأَنَّ مَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ الرُّبُوبِيَّةُ لَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ مُوسَى وَمُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَائِنِينَ ; لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ هَارُونَ أَرْسَلَ مُوسَى، وَعَلِيًّا أَرْسَلَ مُحَمَّدًا، فَخَانَاهُمَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا أَمْهَلَ مُحَمَّدًا عِدَّةَ سِنِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَإِذَا انْقَضَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ سَنَةً، انْتَقَلَتِ الشَّرِيعَةُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كُلُّ مَنْ مَلَكَ

نَفْسَهُ وَعَرَفَ الْحَقَّ، وَإِنَّ الْجَنَّةَ مَعْرِفَتُهُمْ وَانْتِحَالُ مَذْهَبِهِمْ، وَالنَّارُ الْجَهْلُ بِهِمْ وَالْعُدُولُ عَنْ مَذْهَبِهِمْ. وَيَعْتَقِدُونَ تَرْكَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَلَا يَتَنَاكَحُونَ بِعَقْدٍ، وَيُبِيحُونَ الْفُرُوجَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ إِلَى كُبَرَاءِ قُرَيْشٍ وَجَبَابِرَةِ الْعَرَبِ، وَنُفُوسُهُمْ أَبِيَّةٌ، فَأَمَرَهُمْ بِالسُّجُودِ، وَإِنَّ الْحِكْمَةَ الْآنَ أَنْ يَمْتَحِنَ النَّاسَ بِإِبَاحَةِ فُرُوجِ نِسَائِهِمْ، وَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجَامِعَ الْإِنْسَانُ مَنْ شَاءَ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ، وَحَرَمِ صَدِيقِهِ وَابْنِهِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِلْفَاضِلِ مِنْهُمْ أَنْ يَنْكِحَ الْمَفْضُولَ لِيُولِجَ النُّورَ فِيهِ، وَمَنِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ قُلِبَ فِي الدَّوْرِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَ هَذَا الْعَالَمِ امْرَأَةً، إِذْ كَانَ مَذْهَبُهُمُ التَّنَاسُخَ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ إِهْلَاكَ الطَّالِبِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلَّوًا كَبِيرًا. وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بِمَقَالَةِ النُّصَيْرِيَّةِ، وَلَعَلَّهَا هِيَ هِيَ، فَإِنَّ النُّصَيْرِيَّةَ يَعْتَقِدُونَ فِي ابْنِ الْفُرَاتِ، وَيَجْعَلُونَهُ رَأْسًا فِي مَذْهَبِهِمْ. وَكَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ بِالرَّقَّةِ، فَأَرْسَلَ الرَّاضِيَ بِاللَّهِ إِلَيْهِ، فَقُتِلَ آخِرَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى بَغْدَاذَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ حَاجِبُ الْخَلِيفَةِ رَسُولًا إِلَى أَبِي طَاهِرٍ الْقُرْمُطِيِّ يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ، لِيُقِرَّهُ عَلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الْبِلَادِ، وَيُقَلِّدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ مِنَ الْبُلْدَانِ، وَيُحْسِنَ إِلَيْهِ، وَيَلْتَمِسَ مِنْهُ أَنْ يَكُفَّ عَنِ الْحَاجِّ جَمِيعِهِمْ، وَأَنْ يَرُدَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ إِلَى مَوْضِعِهِ بِمَكَّةَ، فَأَجَابَ أَبُو طَاهِرٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْحَاجِّ، وَلَا يُصِيبُهُمْ بِمَكْرُوهٍ، وَلَمْ يُجِبْ إِلَى رَدِّ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِلَى مَكَّةَ، وَسَأَلَ أَنْ يُطْلِقَ لَهُ الْمِيرَةَ مِنَ الْبَصْرَةِ لِيَخْطُبَ فِي أَعْمَالِ هَجَرَ، فَسَارَ الْحَاجُّ إِلَى مَكَّةَ وَعَادَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُمُ الْقَرَامِطَةُ.

وَفِيهَا فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَزَمَ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْأَهْوَازِ ; لِمُحَارَبَةِ عَسْكَرِ مَرْدَاوَيْجَ، فَتَقَدَّمَ إِلَى الْجُنْدِ الْحَجَرِيَّةِ وَالسَّاجِيَّةِ بِالتَّجَهُّزِ لِلْمَسِيرِ مَعَهُ، وَبَذَلَ مَالًا يَتَجَهَّزُونَ بِهِ، فَامْتَنَعُوا وَتَجَمَّعُوا وَقَصَدُوا دَارَ مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ، فَأَغْلَظَ لَهُمْ فِي الْخِطَابِ، فَسَبُّوا، وَرَمَوْا دَارَهُ بِالْحِجَارَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَصَدُوا دَارَهُ أَيْضًا، وَأَغْلَظُوا لَهُ فِي الْخِطَابِ، وَقَاتَلُوا مَنْ بِدَارِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَرَمَاهُمْ أَصْحَابُهُ وَغِلْمَانُهُ بِالنُّشَّابِ، فَانْصَرَفُوا وَبَطَلَتِ الْحَرَكَةُ إِلَى الْأَهْوَازِ. وَفِيهَا سَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي طَاهِرٍ الْقُرْمُطِيِّ إِلَى نُوَاحِي تَوَّجَ فِي مَرَاكِبَ، وَخَرَجُوا مِنْهَا إِلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ، فَلَمَّا بَعُدُوا عَنِ الْمَرَاكِبِ، أَرْسَلَ الْوَالِي فِي الْبِلَادِ إِلَى الْمَرَاكِبِ وَأَحْرَقَهَا، وَجَمَعَ النَّاسَ وَحَارَبَ الْقَرَامِطَةَ، فَقَتَلَ بَعْضًا، وَأَسَرَ بَعْضًا فِيهِمُ ابْنُ الْغَمْرِ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ دُعَاتِهِمْ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ (أَيَّامَ الْقَاهِرِ) ، فَدَخَلُوهَا مَشْهُورِينَ، وَسُجِنُوا، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي خَلْعِ الْقَاهِرِ. وَفِيهَا قَتَلَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ إِسْحَاقَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ النُّوبَخْتِيَّ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ بِاسْتِخْلَافِهِ، فَكَانَ كَالْبَاحِثِ عَنْ حَتْفِهِ بِظِلْفِهِ، وَقَتَلَ أَيْضًا أَبَا السَّرَايَا بْنَ حَمْدَانَ، وَهُوَ أَصْغَرُ وَلَدِ أَبِيهِ، وَسَبَبُ قَتْلِهِمَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مُغَنِّيَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ، فَزَادَ عَلَيْهِ فِي ثَمَنِهِمَا، فَحَقَدَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا، فَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُمَا اسْتَدْعَاهُمَا لِلْمُنَادَمَةِ، فَتَزَيَّنَا وَتَطَيَّبَا، وَحَضَرَا عِنْدَهُ، فَأَمَرَ بِإِلْقَائِهِمَا إِلَى بِئْرٍ فِي الدَّارِ وَهُوَ حَاضِرٌ، فَتَضَرَّعَا وَبَكَيَا، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمَا وَأَلْقَاهُمَا فِيهَا وَطَمَّهَا عَلَيْهِمَا. وَفِيهَا أَحْضَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مِقْسَمٍ بِبَغْدَاذَ فِي دَارِ سَلَامَةَ الْحَاجِبِ، وَقِيلَ لَهُ إِنَّهُ قَدِ ابْتَدَعَ قِرَاءَةً لَمْ تُعْرَفْ، وَأَحْضَرَ ابْنَ مُجَاهِدٍ وَالْقُضَاةَ وَالْقُرَّاءَ وَنَاظَرُوهُ، فَاعْتَرَفَ بِالْخَطَأِ وَتَابَ مِنْهُ، وَأُحْرِقَتْ كُتُبُهُ.

وَفِيهَا سَارَ الدُّمُسْتُقُ قَرْقَاشُ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا مِنَ الرُّومِ، فَنَازَلَ مَلَطْيَةَ وَحَصَرَهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، وَهَلَكَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا بِالْجُوعِ، وَضَرَبَ خَيْمَتَيْنِ عَلَى إِحْدَاهُمَا صَلِيبٌ، وَقَالَ: مَنْ أَرَادَ النَّصْرَانِيَّةَ، انْحَازَ إِلَى خَيْمَةِ الصَّلِيبِ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَمَنْ أَرَادَ الْإِسْلَامَ، انْحَازَ إِلَى الْخَيْمَةِ الْأُخْرَى، وَلَهُ الْأَمَانُ عَلَى نَفْسِهِ، وَنُبَلِّغُهُ مَأْمَنَهُ، فَانْحَازَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْخَيْمَةِ الَّتِي عَلَيْهَا الصَّلِيبُ، طَمَعًا فِي أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَسَيَّرَ مَعَ الْبَاقِينَ بِطْرِيقًا يُبَلِّغُهُمْ مَأْمَنَهُمْ، وَفَتَحَهَا بِالْأَمَانِ مُسْتَهَلَّ جُمَادَى الْآخِرَةِ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَمَلَكُوا سُمَيْسَاطَ، وَخَرَّبُوا الْأَعْمَالَ وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ، وَفَعَلُوا الْأَفَاعِيلَ الشَّنِيعَةَ، وَصَارَ أَكْثَرُ الْبِلَادِ فِي أَيْدِيهِمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَدِيٍّ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَقِيهُ الْجُرْجَانِيُّ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ الصُّوفِيُّ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ، (وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ) [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . وَفِيهَا تُوُفِّيَ خَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّسَّاجُ الصُّوفِيُّ مِنْ أَهْلِ سَامَرَا، وَكَانَ مِنَ الْأَبْدَالِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو بَكْرٍ الْكَتَّانِيُّ الصُّوفِيُّ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مِنْ

أَصْحَابِ الْجُنَيْدِ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخَرَّازِ، (الْخَرَّازُ: بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ وَالزَّايِ) .

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 323 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ مَرْدَاوَيْجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مَرْدَاوَيْجُ (الدَّيْلَمِيُّ صَاحِبُ بِلَادِ الْجَبَلِ وَغَيْرِهَا) . وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ كَانَ كَثِيرُ الْإِسَاءَةِ لِلْأَتْرَاكِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ رُوحَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَلَّتْ فِيهِ، وَإِنَّ الْأَتْرَاكَ هُمُ الشَّيَاطِينُ وَالْمَرَدَةُ، فَإِنْ قَهَرَهُمْ وَإِلَّا أَفْسَدُوا، فَثَقُلَتْ وَطْأَتُهُ عَلَيْهِمْ وَتَمَنَّوْا هَلَاكَهُ. فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْمِيلَادِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهِيَ لَيْلَةُ الْوَقُودِ، أَمَرَ بِأَنْ يُجْمَعَ الْحَطَبُ مِنَ الْجِبَالِ وَالنَّوَاحِي، وَأَنْ يُجْعَلَ عَلَى جَانِبَيِ الْوَادِي الْمَعْرُوفِ بِزَنْدَرُوذَ كَالْمَنَابِرِ وَالْقِبَابِ الْعَظِيمَةِ، وَيُعْمَلُ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى الْجَبَلِ الْمَعْرُوفِ بِكَرِيمِ كَوْهَ الْمُشْرِفِ عَلَى أَصْبَهَانَ، مِنْ أَسْفَلِهِ إِلَى أَعْلَاهُ، بِحَيْثُ إِذَا اشْتَعَلَتْ تِلْكَ الْأَحْطَابُ، يَصِيرُ الْجَبَلُ كُلُّهُ نَارًا، وَعَمِلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِجَمِيعِ الْجِبَالِ وَالتِّلَالِ الَّتِي هُنَاكَ، وَأَمَرَ فَجُمِعَ لَهُ النَّفْطُ وَمَنْ يَلْعَبُ بِهِ، وَعَمِلَ مِنَ الشُّمُوعِ مَا لَا يُحْصَى، وَصِيدَ لَهُ مِنَ الْغِرْبَانِ وَالْحَدَأِ زِيَادَةٌ عَلَى أَلْفَيْ طَائِرٍ لِيَجْعَلَ فِي أَرْجُلِهَا النَّفْطَ وَتُرْسَلُ لِتَطِيرَ بِالنَّارِ فِي الْهَوَاءِ، وَأَمَرَ بِعَمَلِ سِمَاطٍ عَظِيمٍ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِيهِ: مِائَةُ فَرَسٍ، وَمِائَتَانِ مِنَ الْبَقَرِ مَشْوِيَّةٌ صِحَاحًا، سِوَى مَا شُوِيَ مِنَ الْغَنَمِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ ثَلَاثَةُ آلَافِ رَأْسٍ، سِوَى الْمَطْبُوخِ، وَكَانَ فِيهِ مِنَ الدَّجَاجِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّيْرِ زِيَادَةٌ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ عَدَدٍ، وَعُمِلَ مِنْ أَلْوَانِ الْحَلْوَاءِ مَا لَا يُحَدُّ، وَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ السِّمَاطِ، فَإِذَا فَرَغُوا قَامَ إِلَى مَجْلِسِ الشَّرَابِ وَيُشْعِلُ النِّيرَانَ فَيَتَفَرَّجُ.

فَلَمَّا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ، رَكِبَ وَحْدَهُ وَغِلْمَانُهُ رَجَّالَةً، وَطَافَ بِالسِّمَاطِ وَنَظَرَ إِلَيْهِ وَإِلَى تِلْكَ الْأَحْطَابِ، فَاسْتَحْقَرَ الْجَمِيعَ لِسِعَةِ الصَّحْرَاءِ، فَتَضَجَّرَ وَغَضِبَ، وَلَعَنَ مَنْ صَنَعَهُ وَدَبَّرَهُ، فَخَافَهُ مَنْ حَضَرَ، فَعَادَ وَنَزَلَ وَدَخَلَ خَرْكَاةً لَهُ فَنَامَ، فَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ [أَنْ] يُكَلِّمَهُ. وَاجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ وَالْقُوَّادُ وَغَيْرُهُمْ، وَأَرْجَفُوا عَلَيْهِ، فَمِنْ قَائِلٍ إِنَّهُ غَضِبَ لِكَثْرَتِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ بَخِيلًا، وَمِنْ قَائِلٍ إِنَّهُ قَدِ اعْتَرَاهُ جُنُونٌ، وَقِيلَ بَلْ أَوْجَعَهُ فُؤَادُهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكَادَتِ الْفِتْنَةُ تَثُورُ. وَعَرَّفَ الْعَمِيدُ وَزِيرَهُ صُورَةَ الْحَالِ، فَأَتَاهُ وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى اسْتَيْقَظَ وَعَرَّفَهُ مَا النَّاسُ فِيهِ، فَخَرَجَ وَجَلَسَ عَلَى الطَّعَامِ، وَأَكَلَ ثَلَاثَ لُقَمٍ، ثُمَّ قَامَ وَنَهَبَ النَّاسُ الْبَاقِيَ، وَلَمْ يَجْلِسْ لِلشَّرَابِ، وَعَادَ إِلَى مَكَانِهِ، وَبَقِيَ فِي مُعَسْكَرِهِ بِظَاهِرِ أَصْبَهَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَظْهَرُ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ، تَقَدَّمَ بِإِسْرَاجِ الدَّوَابِّ لِيَعُودَ مِنْ مَنْزِلَتِهِ (إِلَى دَارِهِ بِأَصْبَهَانَ) ، فَاجْتَمَعَ بِبَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَبَقِيَتِ الدَّوَابُّ مَعَ الْغِلْمَانِ، وَكَثُرَ صَهِيلُهَا وَلَعِبُهَا، وَالْغِلْمَانُ يَصِيحُونَ بِهَا لِتَسْكُنَ مِنَ الشَّغَبِ، وَكَانَتْ مُزْدَحِمَةً، فَارْتَفَعَ مِنَ الْجَمِيعِ أَصْوَاتٌ هَائِلَةٌ. وَكَانَ مَرْدَاوَيْجُ نَائِمًا، فَاسْتَيْقَظَ، فَصَعِدَ فَنَظَرَ فَرَأَى، فَسَأَلَ فَعَرَفَ الْحَالَ، فَازْدَادَ غَضَبًا، وَقَالَ: أَمَا كَفَى مِنْ خَرْقِ الْحُرْمَةِ مَا فَعَلُوهُ فِي ذَلِكَ الطَّعَامِ، وَمَا أَرَجَفُوا بِهِ، حَتَّى انْتَهَى أَمْرِي إِلىَ هَؤُلَاءِ الْكِلَابِ؟ ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَصْحَابِ الدَّوَابِّ، فَقِيلَ: إِنَّهَا لِلْغِلْمَانِ الْأَتْرَاكِ، وَقَدْ نَزَلُوا إِلَى خِدْمَتِكَ، فَأَمَرَ أَنْ تُحَطَّ السُّرُوجُ عَنِ الدَّوَابِّ وَتُجْعَلَ عَلَى ظُهُورِ أَصْحَابِهَا الْأَتْرَاكِ، وَيَأْخُذُوا بِأَرْسَانِ الدَّوَابِّ إِلَى الْإِسْطَبْلَاتِ،

وَمَنِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، ضَرَبَهُ الدَّيْلَمُ بِالْمُقَارِعِ حَتَّى يُطِيعَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِمْ، وَكَانَتْ صُورَةً قَبِيحَةً، يَأْنَفُ مِنْهَا أَحْقَرُ النَّاسِ. ثُمَّ رَكِبَ هُوَ بِنَفْسِهِ مَعَ خَاصَّتِهِ، وَهُوَ يَتَوَعَّدُ الْأَتْرَاكَ، حَتَّى صَارَ إِلَى دَارِهِ قُرْبَ الْعِشَاءِ، وَكَانَ قَدْ ضَرَبَ قَبْلَ ذَلِكَ جَمَاعَةً مِنْ أَكَابِرِ الْغِلْمَانِ الْأَتْرَاكِ، فَحَقَدُوا عَلَيْهِ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَلَمْ يَجِدُوا أَعْوَانًا، فَلَمَّا جَرَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ انْتَهَزُوا الْفُرْصَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا وَجْهُ صَبْرِنَا عَلَى هَذَا الشَّيْطَانِ؟ فَاتَّفَقُوا وَتَحَالَفُوا عَلَى الْفَتْكِ بِهِ، فَدَخَلَ الْحَمَّامَ، وَكَانَ كُورَتِكِينُ يَحْرُسُهُ فِي خَلَوَاتِهِ وَحَمَّامِهِ، فَأَمَرَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَنْ لَا يَتْبَعَهُ، فَتَأَخَّرَ عَنْهُ مُغْضَبًا، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ الْحَرَسَ، فَلِشِدَّةِ غَضَبِهِ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا أَنْ يَحْضُرَ حِرَاسَتَهُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ. وَكَانَ لَهُ أَيْضًا خَادِمٌ أَسْوَدُ يَتَوَلَّى خِدْمَتَهُ بِالْحَمَّامِ، فَاسْتَمَالُوهُ فَمَالَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لِلْخَادِمِ: أَلَا يَحْمِلُ مَعَهُ سِلَاحًا؟ ، وَكَانَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ خِنْجَرًا طُولُهُ نَحْوَ ذِرَاعٍ مَلْفُوفًا فِي مَنْدِيلٍ، فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لِلْخَادِمِ قَالَ: مَا أَجْسَرَ؛ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ كَسَرُوا حَدِيدَ الْخِنْجَرِ، وَتَرَكُوا النِّصَابَ فِي الْغِلَافِ بِغَيْرِ حَدِيدٍ، فَلَفُّوهُ فِي الْمَنْدِيلِ كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ لِئَلَّا يُنْكِرَ الْحَالَ. فَلَمَّا دَخَلَ مَرْدَاوَيْجُ الْحَمَّامَ، فَعَلَ الْخَادِمُ مَا قِيلَ لَهُ، وَجَاءَ خَادِمٌ آخَرُ وَهُوَ أُسْتَاذُ دَارِهِ، (فَجَلَسَ عَلَى بَابِ الْحَمَّامِ، فَهَجَمَ الْأَتْرَاكُ إِلَى الْحَمَّامِ، فَقَامَ أُسْتَاذُ دَارِهِ) لِيَمْنَعَهُمْ، وَصَاحَ بِهِمْ، فَضَرَبَهُ بَعْضُهُمْ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَ يَدَهُ، فَصَاحَ بِالْأَسْوَدِ وَسَقَطَ، وَسَمِعَ مَرْدَاوَيْجُ الضَّجَّةَ، فَبَادَرَ إِلَى الْخِنْجَرِ لِيَدْفَعَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَوَجَدَهُ مَكْسُورًا، فَأَخَذَ سَرِيرًا مِنْ خَشَبٍ كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ إِذَا اغْتَسَلَ، فَتَرَسَ بِهِ بَابَ الْحَمَّامِ مِنْ دَاخِلٍ، وَدَفَعَ الْأَتْرَاكُ الْبَابَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى فَتْحِهِ، فَصَعِدَ بَعْضُهُمْ إِلَى السَّطْحِ، وَكَسَرُوا الْجَامَاتِ، وَرَمَوْهُ بِالنُّشَّابِ، فَدَخَلَ الْبَيْتَ الْحَارَّ، وَجَعَلَ يَتَلَطَّفَهُمْ وَيَحْلِفُ لَهُمْ عَلَى الْإِحْسَانِ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، وَكَسَرُوا بَابَ الْحَمَّامِ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ.

وَكَانَ الَّذِينَ أَلَّبُوا النَّاسَ عَلَيْهِ وَشَرَعُوا فِي قَتْلِهِ تُوزُونُ، وَهُوَ الَّذِي صَارَ أَمِيرَ الْعَسَاكِرِ بِبَغْدَاذَ وَيَارُوقُ، وَابْنُ بِغِرَا، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَنَالَ التُّرْجُمَانُ، وَوَافَقَهُمْ بُجْكُمُ، وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ أَمْرَ الْعِرَاقِ قَبْلَ تُوزُونَ، وَسَيَرِدُ ذِكْرُ ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَلَمَّا قَتَلُوهُ بَادَرُوا فَأَعْلَمُوا أَصْحَابَهُمْ، فَرَكِبُوا وَنَهَبُوا قَصْرَهُ وَهَرَبُوا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمُ الدَّيْلَمُ ; لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا الْمَدِينَةَ لِيَلْحَقَ بِهِمْ، وَتَخلَفَ الْأَتْرَاكُ مَعَهُ لِهَذَا السَّبَبِ. فَلَمَّا عَلِمَ الدَّيْلَمُ وَالْجِيلُ، رَكِبُوا فِي أَثَرِهِمْ، فَلَمْ يُلْحِقُوا مِنْهُمْ إِلَّا نَفَرًا يَسِيرًا وَقَفَتْ دَوَابُّهُمْ، فَقَتَلُوهُمْ، وَعَادُوا لِيَنْهَبُوا الْخَزَائِنَ، فَرَأَوُا الْعَمِيدَ قَدْ أَلْقَى النَّارَ فِيهَا، فَلَمْ يَصِلُوا إِلَيْهَا، فَبَقِيَتْ بِحَالِهَا. وَمِنْ عَجِبَ مَا يُحْكَى أَنَّ الْعَسَاكِرَ (فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا رَأَوْا غَضَبَ مَرْدَاوَيْجَ) ، قَعَدُوا يَتَذَاكَرُونَ مَا هُمْ فِيهِ مَعَهُ مِنَ الْجَوْرِ، وَشِدَّةِ عُتُوِّهِ، وَتَمَرُّدِهِ عَلَيْهِمْ، وَدَخَلَ بَيْنَهُمْ رَجُلٌ شَيْخٌ لَا يَعْرِفُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَهُوَ رَاكِبٌ، فَقَالَ: قَدْ زَادَ أَمْرُ هَذَا الْكَافِرِ، وَالْيَوْمَ تُكَفِّنُونَهُ وَيَأْخُذُهُ اللَّهُ، ثُمَّ سَارَ، فَلَحِقَتِ الْجَمَاعَةُ دَهْشَةٌ، وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ فِي وُجُوهِ بَعْضٍ، وَمَرَّ الشَّيْخُ، فَقَالُوا: الْمَصْلَحَةُ أَنَّنَا نَتْبَعُهُ وَنَأْخُذُهُ وَنَسْتَعِيدُهُ الْحَدِيثَ، لِئَلَّا يَسْمَعَ مَرْدَاوَيْجُ مَا جَرَى، فَلَا نَلْقَى مِنْهُ خَيْرًا، فَتَبِعُوهُ فَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا. وَكَانَ مَرْدَاوَيْجُ قَدْ تَجَبَّرَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ وَعَتَا، وَعُمِلَ لَهُ كُرْسِيًّا مِنْ ذَهَبٍ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَعُمِلَ كَرَاسِيُّ مِنْ فِضَّةٍ يَجْلِسُ عَلَيْهَا أَكَابِرُ قُوَّادِهِ، وَكَانَ قَدْ عَمِلَ تَاجًا مُرَصَّعًا عَلَى صِفَةِ تَاجِ كِسْرَى، وَقَدْ عَزَمَ عَلَى قَصْدِ الْعِرَاقِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، وَبِنَاءِ الْمَدَائِنِ وَدَوْرِ كِسْرَى وَمَسَاكِنِهِ، وَأَنْ يُخَاطَبَ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِشَاهِنْشَاهْ، فَأَتَاهُ أَمْرُ اللَّهِ وَهُوَ غَافِلٌ عَنْهُ، وَاسْتَرَاحَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُرِيحَ النَّاسَ مِنْ كُلِّ ظَالِمٍ سَرِيعًا. وَلَمَّا قُتِلَ مَرْدَاوَيْجُ، اجْتَمَعَ أَصْحَابُهُ الدَّيْلَمُ وَالْجِيلُ وَتَشَاوَرُوا، وَقَالُوا: إِنْ بَقِينَا بِغَيْرِ رَأْسٍ هَلَكْنَا، فَاجْتَمَعُوا عَلَى طَاعَةِ أَخِيهِ وَشْمَكِيرَ بْنِ زِيَارَ، وَهُوَ وَالِدُ قَابُوسٍ، وَكَانَ بِالرَّيِّ، فَحَمَلُوا تَابُوتَ مَرْدَاوَيْجَ وَسَارُوا نَحْوَ الرَّيِّ، فَخَرَجَ مَنْ بِهَا مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَ أَخِيهِ وَشْمَكِيرَ،

فَالْتَقُوهُ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مُشَاةً حُفَاةً، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَأَمَّا أَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا بِالْأَهْوَازِ وَأَعْمَاِلِهَا، فَإِنَّهُمْ لَمَّا بَلَغَهُمُ الْخَبَرُ كَتَمُوهُ، وَسَارُوا نَحْوَ الرَّيِّ، فَأَطَاعُوا وَشْمَكِيرَ أَيْضًا، وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ. وَلَمَّا قُتِلَ مَرْدَاوَيْجُ، كَانَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ رَهِينَةً عِنْدَهُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَبَذَلَ لِلْمُوَكَّلِينَ مَالًا فَأَطْلَقُوهُ، فَخَرَجَ إِلَى الصَّحْرَاءِ لِيَفُكَّ قُيُودَهُ، فَأَقْبَلَتْ بِغَالٍ عَلَيْهَا تَبْنٌ، وَعَلَيْهَا أَصْحَابُهُ وَغِلْمَانُهُ، فَأُلْقِي التِّبْنُ، وَكَسَرَ أَصْحَابُهُ قُيُودَهُ وَرَكِبُوا الدَّوَابَّ، وَنَجَوْا إِلَى أَخِيهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بِفَارِسَ. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ الْأَتْرَاكُ بَعْدَ قَتْلِهِ لَمَّا قَتَلَ الْأَتْرَاكُ مَرْدَاوَيْجَ، هَرَبُوا وَافْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ، فَفِرْقَةٌ سَارَتْ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ (مَعَ خَجْخَجَ الَّذِي سَلَّمَهُ تُوزُونُ فِيمَا بَعْدُ، وَسَنَذْكُرُهُ) . وَفِرْقَةٌ سَارَتْ نَحْوَ الْجَبَلِ مَعَ بُجْكُمَ، وَهِيَ أَكْثَرُهَا، فَجَبَوْا خَرَاجَ الدِّينَوَرِ وَغَيْرَهَا، وَسَارُوا إِلَى النَّهْرَوَانِ، فَكَاتَبُوا الرَّاضِيَ فِي الْمَسِيرِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا بَغْدَاذَ، فَظَنَّ الْحَجَرِيَّةُ أَنَّهَا حِيلَةٌ عَلَيْهِمْ، فَطَلَبُوا رَدَّ الْأَتْرَاكِ إِلَى بَلَدِ الْجَبَلِ، فَأَمَرَهُمُ ابْنُ مُقْلَةَ بِذَلِكَ، وَأَطْلَقَ لَهُمْ مَالًا، فَلَمْ يَرْضَوْا بِهِ، وَغَضِبُوا، فَكَاتَبَهُمُ ابْنُ رَائِقٍ، وَهُوَ بِوَاسِطَ، وَلَهُ الْبَصْرَةُ أَيْضًا، فَاسْتَدْعَاهُمْ فَمَضَوْا إِلَيْهِ، وَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ بُجْكُمَ، وَأَمَرَهُ بِمُكَاتَبَةِ الْأَتْرَاكِ وَالدَّيْلَمِ مِنْ أَصْحَابِ مَرْدَاوَيْجَ، فَكَاتَبَهُمْ، فَأَتَاهُ مِنْهُمْ عِدَّةٌ وَافِرَةٌ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ وَإِلَى بُجْكُمَ خَاصَّةً، وَأَمْرَهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى النَّاسِ بُجْكُمُ الرَّائِقِيُّ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ حَالِ وَشْمَكِيرَ بَعْدَ قَتْلِ أَخِيهِ وَأَمَّا وَشْمَكِيرُ فَإِنَّهُ لَمَّا قُتِلَ أَخُوهُ، وَقَصَدَتْهُ الْعَسَاكِرُ الَّتِي كَانَتْ لِأَخِيهِ وَأَطَاعَتْهُ، وَأَقَامَ بِالرَّيِّ، فَكَتَبَ الْأَمِيرُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَّانِيُّ إِلَى أَمِيرِ جَيْشِهِ بِخُرَاسَانَ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ مُحْتَاجٍ، بِالْمَسِيرِ إِلَى قُومِسَ، وَكَتَبَ إِلَى مَاكَانَ بْنِ كَالِي، وَهُوَ بِكَرْمَانَ، بِالْمَسِيرِ عَنْهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ ; لِيَقْصِدُوا جُرْجَانَ وَالرَّيَّ.

فَسَارَ مَاكَانُ إِلَى الدَّامَغَانَ عَلَى الْمَفَازَةِ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ بَانْجِينُ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ أَصْحَابِ وَشْمَكِيرَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، وَاسْتَمَدَّ مَاكَانُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُظَفَّرِ، وَهُوَ بِبِسْطَامٍ، فَأَمَدَّهُ بِجَمْعٍ كَثِيرٍ أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الْمُحَارِبَةِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ، فَخَالَفُوهُ وَحَارَبُوا بَانْجِينَ، فَلَمْ يَتَعَاوَنُوا وَتَخَاذَلُوا (فَهَزَمَهُمْ بَانْجِينُ) فَرَجَعُوا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ، وَخَرَجُوا إِلَى جُرْجَانَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ بَانْجِينُ لِيَصُدَّهُمْ عَنْهَا، فَانْصَرَفُوا إِلَى نَيْسَابُورَ وَأَقَامُوا بِهَا وَجُعِلَتْ وَلَايَتُهَا لِمَاكَانَ بْنِ كَالِي وَأَقَامَ بِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَأَوَّلَ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَلَمَّا سَارَ مَاكَانُ عَنْ كَرْمَانَ، عَادَ إِلَيْهَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ إِلْيَاسَ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَصَفَتْ لَهُ بَعْدَ حُرُوبٍ لَهُ مَعَ جُنُودِ نَصْرٍ بِكَرْمَانَ، وَكَانَ الظَّفَرُ لَهُ أَخِيرًا، وَسَنَذْكُرُ بَاقِيَ خَبَرِهِمْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى ابْنَيْ يَاقُوتٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى الْأُولَى قَبَضَ الرَّاضِي بِاللَّهِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالْمُظَفَّرِ ابْنَيْ يَاقُوتٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَزِيرَ أَبَا عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ كَانَ قَدْ قَلِقَ لِتَحَكُّمِ مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ فِي الْمَمْلَكَةِ بِأَسْرِهَا، وَأَنَّهُ هُوَ لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ فِي شَيْءٍ، فَسَعَى بِهِ إِلَى الرَّاضِي، وَأَدَامَ السِّعَايَةَ، فَبَلَغَ مَا أَرَادَهُ. فَلَمَّا كَانَ خَامِسُ جُمَادَى الْأُولَى، رَكِبَ جَمِيعُ الْقُوَّادِ إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ عَلَى عَادَتِهِمْ، وَحَضَرَ الْوَزِيرُ، وَأَظْهَرَ الرَّاضِي أَنَّهُ يُرِيدُ [أَنْ] يُقَلِّدَ جَمَاعَةً مِنَ الْقُوَّادِ أَعْمَالًا، وَحَضَرَ

مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ لِلْحَجَبَةِ، وَمَعَهُ كَاتِبُهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْقَرَارِيطِيُّ، فَخَرَجَ الْخَدَمُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ، فَاسْتَدْعَوْهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَدَخَلَ مُبَادِرًا، فَعَدَلُوا بِهِ إِلَى حُجْرَةٍ هُنَاكَ، فَحَبَسُوهُ فِيهَا ثُمَّ اسْتَدْعَوُا الْقَرَارِيطِيَّ، فَدَخَلَ فَعَدَلُوا بِهِ إِلَى حُجْرَةٍ (أُخْرَى، ثُمَّ اسْتَدْعَوُا الْمُظَفَّرَ بْنَ يَاقُوتٍ مِنْ بَيْتِهِ، وَكَانَ مَخْمُورًا، فَحَضَرَ) ، فَحَبَسُوهُ أَيْضًا. وَأَنْفَذَ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ إِلَى دَارِ مُحَمَّدٍ يَحْفَظُهَا مِنَ النَّهْبِ، وَكَانَ يَاقُوتٌ حِينَئِذٍ مُقِيمًا بِوَاسِطَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْقَبْضُ عَلَى ابْنَيْهِ، انْحَدَرَ يَطْلُبُ فَارِسَ لِيُحَارِبَ ابْنَ بُوَيْهِ، وَكَتَبَ إِلَى الرَّاضِي يَسْتَعْطِفُهُ، وَيَسْأَلُهُ إِنْفَاذَ ابْنَيْهِ لِيُسَاعِدَاهُ عَلَى حُرُوبِهِ، فَاسْتَبَدَّ ابْنُ مُقْلَةَ بِالْأَمْرِ. ذِكْرُ حَالِ الْبَرِيدِيِّ وَفِيهَا قَوِيَ أَمْرُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ ضَامِنًا أَعْمَالَ الْأَهْوَازِ، فَلَمَّا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا، عَسْكَرُ مَرْدَاوَيْجَ وَانْهَزَمَ يَاقُوتٌ، كَمَا ذَكَرْنَا، عَادَ الْبَرِيدِيُّ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَصَارَ يَتَصَرَّفُ فِي أَسَافِلِ أَعْمَالِ الْأَهْوَازِ، مُضَافًا إِلَى كِتَابَةِ يَاقُوتٍ، وَسَارَ إِلَى يَاقُوتٍ فَأَقَامَ مَعَهُ بِوَاسِطَ. فَلَمَّا قُبِضَ عَلَى ابْنَيْ يَاقُوتٍ، كَتَبَ ابْنُ مُقْلَةَ إِلَى ابْنِ الْبَرِيدِيِّ يَأْمُرُهُ أَنْ يُسَكِّنَ يَاقُوتًا، وَيُعَرِّفَهُ أَنَّ الْجُنْدَ اجْتَمَعُوا وَطَلَبُوا الْقَبْضَ عَلَى وَلَدَيْهِ، فَقُبِضَا تَسْكِينًا لِلْجُنْدِ، وَأَنَّهُمَا يَسِيرَانِ إِلَى أَبِيهِمَا عَنْ قَرِيبٍ، وَأَنَّ الرَّأْيَ أَنْ يَسِيرَ هُوَ لِفَتْحِ فَارِسَ، فَسَارَ يَاقُوتٌ مِنْ وَاسِطَ عَلَى طَرِيقِ السُّوسِ، وَسَارَ الْبَرِيدِيُّ عَلَى طَرِيقِ الْمَاءِ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَكَانَ إِلَى أَخَوَيْهِ أَبِي الْحُسَيْنِ وَأَبِي يُوسُفَ ضَمَانُ السُّوسِ وَجُنْدُ يَسَابُورَ، وَادَّعَيَا أَنَّ دَخْلَ الْبِلَادِ لِسَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] أَخَذَهُ عَسْكَرُ مَرْدَاوَيْجَ، وَأَنَّ دَخْلَ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] لَا يُحَصَّلُ مِنْهُ شَيْءٌ ; لِأَنَّ نُوَّابَ مَرْدَاوَيْجَ ظَلَمُوا النَّاسَ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَا يَزْرَعُونَهُ. وَكَانَ الْأَمْرُ بِضِدِّ ذَلِكَ فِي السَّنَتَيْنِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْوَزِيرَ ابْنَ مُقْلَةَ، فَأَنْفَذَ نَائِبًا لَهُ لِيُحَقِّقَ

الْحَالَ، فَوَاطَأَ ابْنَيِ الْبَرِيدِيِّ، وَكَتَبَ يُصَدِّقُهُمْ، فَحَصَّلَ لَهُمْ بِذَلِكَ مَالٌ عَظِيمٌ، وَقَوِيَتْ حَالُهُمْ، وَكَانَ مَبْلَغُ مَا أَخَذُوهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَأَشَارَ ابْنُ الْبَرِيدِيِّ عَلَى يَاقُوتٍ بِالْمَسِيرِ إِلَى أَرَّجَانَ لِفَتْحِ فَارِسَ، وَقَامَ هُوَ بِجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ مِنَ الْبِلَادِ، فَحَصَلَ مِنْهَا مَا أَرَادَ، فَلَمَّا سَارَ يَاقُوتٌ إِلَى فَارِسَ (فِي جُمُوعِهِ) لَقِيَهُ ابْنُ بُوَيْهِ بِبَابِ أَرَّجَانَ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ يَاقُوتٍ وَبَقِيَ إِلَى آخِرِهِمْ، ثُمَّ انْهَزَمَ وَسَارَ ابْنُ بُوَيْهِ خَلْفَهُ إِلَى رَامَهُرْمُزَ، وَسَارَ يَاقُوتٌ إِلَى عَسْكَرِ مَكْرَمٍ، وَأَقَامَ ابْنُ بُوَيْهِ بِرَامَهُرْمُزَ إِلَى أَنْ وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا. ذِكْرُ فِتْنَةِ الْحَنَابِلَةِ بِبَغْدَاذَ وَفِيهَا عَظُمَ أَمْرُ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَصَارُوا يَكْسِبُونَ مِنْ دُورِ الْقُوَّادِ وَالْعَامَّةِ، وَإِنْ وَجَدُوا نَبِيذًا أَرَاقُوهُ، وَإِنْ وَجَدُوا مُغَنِّيَةً ضَرَبُوهَا وَكَسَرُوا آلَةَ الْغِنَاءِ، وَاعْتَرَضُوا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَمَشَى الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَإِذَا رَأَوْا ذَلِكَ سَأَلُوهُ عَنِ الَّذِي مَعَهُ مَنْ هُوَ، فَأَخْبَرَهُمْ، وَإِلَّا ضَرَبُوهُ وَحَمَلُوهُ إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ، وَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِالْفَاحِشَةِ، فَأَرْهَجُوا بَغْدَاذَ. فَرَكِبَ بَدْرٌ الْخَرْشَنِيُّ، وَهُوَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ، عَاشِرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَنَادَى فِي جَانِبَيْ بَغْدَاذَ، فِي أَصْحَابِ أَبِي مُحَمَّدِ الْبَرْبَهَارِيِّ الْحَنَابِلَةِ، أَلَا يَجْتَمِعُ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَلَا يَتَنَاظَرُوا فِي مَذْهَبِهِمْ، وَلَا يُصَلِّي مِنْهُمْ إِمَامٌ إِلَّا إِذَا جَهَرَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءَيْنِ، فَلَمْ يُفِدْ فِيهِمْ، وَزَادَ شَرُّهُمْ وَفِتْنَتُهُمْ، وَاسْتَظْهَرُوا بِالْعُمْيَانِ الَّذِينَ كَانُوا يَأْوُونَ الْمَسَاجِدَ، وَكَانُوا إِذَا مَرَّ بِهِمْ شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ أَغْرَوْا بِهِ الْعُمْيَانَ، فَيَضْرِبُونَهُ بِعِصِيِّهِمْ، حَتَّى يَكَادَ يَمُوتُ. فَخَرَجَ تَوْقِيعُ الرَّاضِي بِمَا يُقْرَأُ عَلَى الْحَنَابِلَةِ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ فِعْلَهُمْ، وَيُوَبِّخُهُمْ بِاعْتِقَادِ التَّشْبِيهِ وَغَيْرِهِ، فَمِنْهُ تَارَةً أَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ صُورَةَ وُجُوهِكُمُ الْقَبِيحَةِ السَّمِجَةِ عَلَى مِثَالِ رَبِّ

الْعَالَمِينَ، وَهَيْئَتَكُمُ الرَّذْلَةِ عَلَى هَيْئَتِهِ، وَتَذْكُرُونَ الْكَفَّ وَالْأَصَابِعَ وَالرِّجْلَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ الْمُذَهَّبَيْنِ، وَالشَّعْرَ الْقَطَطِ، وَالصُّعُودَ إِلَى السَّمَاءِ، وَالنُّزُولَ إِلَى الدُّنْيَا، تَبَارَكَ اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، ثُمَّ طَعْنُكُمْ عَلَى خِيَارِ الْأَئِمَّةِ، وَنِسْبَتُكُمْ شِيعَةَ آلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، ثُمَّ اسْتِدْعَاؤُكُمُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الدِّينِ بِالْبِدَعِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَذَاهِبِ الْفَاجِرَةِ الَّتِي لَا يَشْهَدُ بِهَا الْقُرْآنُ، وَإِنْكَارُكُمْ زِيَارَةَ قُبُورِ الْأَئِمَّةِ، وَتَشْنِيعِكُمْ عَلَى زُوَّارِهَا بِالِابْتِدَاعِ) ، وَأَنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ تَجْتَمِعُونَ عَلَى زِيَارَةِ قَبْرِ رَجُلٍ مِنَ الْعَوَامِّ لَيْسَ بِذِي شَرَفٍ وَلَا نَسَبٍ، (وَلَا سَبَبٍ) بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَأْمُرُونَ بِزِيَارَتِهِ، وَتَدَّعُونَ لَهُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، فَلَعَنَ اللَّهُ شَيْطَانًا زَيَّنَ لَكُمْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ، وَمَا أَغْوَاهُ. وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَمًا جَهْدًا إِلَيْهِ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عَنْ مَذْمُومِ مَذْهَبِكُمْ وَمُعْوَجِّ طَرِيقَتِكُمْ لَيُوسِعَنَّكُمْ ضَرْبًا وَتَشْرِيدًا، وَقَتْلًا وَتَبْدِيدًا، وَلَيَسْتَعْمِلَنَّ السَّيْفَ فِي رِقَابِكُمْ، وَالنَّارَ فِي مَنَازِلِكُمْ وَمَحَالِّكُمْ. ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ حَمْدَانَ وَفِيهَا قَتَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ عَمَّهُ أَبَا الْعَلَاءِ بْنَ حَمْدَانَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْعَلَاءِ سَعِيدَ بْنَ حَمْدَانَ ضَمِنَ الْمَوْصِلَ وَدِيَارَ رَبِيعَةَ سِرًّا، وَكَانَ بِهَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ ابْنُ أَخِيهِ أَمِيرًا، فَسَارَ عَنْ بَغْدَاذَ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ لِيَطْلُبَ مَالَ الْخَلِيفَةِ مِنِ ابْنِ أَخِيهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، خَرَجَ ابْنُ أَخِيهِ إِلَى تَلَقِّيهِ، وَقَصَدَ مُخَالَفَةَ طَرِيقِهِ، فَوَصَلَ أَبُو الْعَلَاءِ، وَدَخَلَ دَارَ ابْنِ أَخِيهِ، وَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ: إِنَّهُ خَرَجَ إِلَى لِقَائِكَ، فَقَعَدَ يَنْتَظِرُهُ، فَلَمَّا عَلِمَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِمَقَامِهِ فِي الدَّارِ، أَنْفَذَ جَمَاعَةً مِنْ غِلْمَانِهِ، فَقَبَضُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَنْفَذَ جَمَاعَةً غَيْرَهُمْ فَقَتَلُوهُ.

ذِكْرُ مَسِيرِ ابْنِ مُقْلَةَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ لَمَّا قَتَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ عَمَّهُ أَبَا الْعَلَاءِ وَاتَّصَلَ خَبَرُهُ بِالرَّاضِي، عَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَأَنْكَرَهُ، وَأَمَرَ ابْنَ مُقْلَةَ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي الْعَسَاكِرِ فِي شَعْبَانَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا، رَحَلَ عَنْهَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ، وَدَخَلَ الزَّوْزَانَ، وَتَبِعَهُ الْوَزِيرُ إِلَى جَبَلِ التِّنِّينِ، ثُمَّ عَادَ عَنْهُ وَأَقَامَ بِالْمَوْصِلِ يَجْبِي مَالَهَا. وَلَمَّا طَالَ مَقَامُهُ بِالْمَوْصِلِ، احْتَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ ابْنِ حَمْدَانَ عَلَى وَلَدِ الْوَزِيرِ، وَكَانَ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الْوِزَارَةِ بِبَغْدَاذَ، فَبَذَلَ لَهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ لِيَكْتُبَ إِلَى أَبِيهِ يَسْتَدْعِيهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَقُولُ: إِنَّ الْأُمُورَ بِالْحَضْرَةِ قَدِ اخْتَلَّتْ، وَإِنْ تَأَخَّرَ لَمْ يَأْمَنْ حُدُوثَ مَا يُبْطِلُ بِهِ أَمْرَهُمْ، فَانْزَعَجَ الْوَزِيرُ لِذَلِكَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَوْصِلِ عَلِيَّ بْنَ خَلَفِ بْنِ طِيَّابٍ وَمَاكِرْدَ الدَّيْلَمَيَّ، وَهُوَ مِنَ السَّاجِيَّةِ، وَانْحَدَرَ إِلَى بَغْدَاذَ مُنْتَصَفَ شَوَّالٍ. فَلَمَّا فَارَقَ الْمَوْصِلَ، عَادَ إِلَيْهَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ، فَاقْتَتَلَ هُوَ وَمَاكِرْدُ الدَّيْلَمَيُّ، فَانْهَزَمَ ابْنُ حَمْدَانَ، ثُمَّ عَادَ وَجَمَعَ عَسْكَرًا آخَرَ، فَالْتَقَوْا عَلَى نَصِيبِينَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَانْهَزَمَ مَاكِرْدُ إِلَى الرَّقَّةِ، وَانْحَدَرَ مِنْهَا إِلَى بَغْدَاذَ، وَانْحَدَرَ أَيْضًا ابْنُ طِيَّابٍ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ حَمْدَانَ عَلَى الْمَوْصِلِ وَالْبِلَادِ، وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْأَلُهُ الصَّفْحَ، وَأَنْ يَضْمَنَ الْبِلَادَ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ وَاسْتَقَرَّتِ الْبِلَادُ عَلَيْهِ.

ذِكْرُ فَتْحِ جَنَوَةَ وَغَيْرِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ الْقَائِمُ الْعَلَوِيُّ جَيْشًا مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ فِي الْبَحْرِ إِلَى نَاحِيَةِ الْفِرِنْجِ، فَفَتَحُوا مَدِينَةَ جَنَوَةَ، وَمَرُّوا بِسَرْدَانِيَّةَ فَأَوْقَعُوا بِأَهْلِهَا، وَأَحْرَقُوا مَرَاكِبَ كَثِيرَةً، وَمَرُّوا بِقَرْقِيسِيَا، فَأَحْرَقُوا مَرَاكِبَهَا وَعَادُوا سَالِمِينَ. ذِكْرُ الْقَرَامِطَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ النَّاسُ إِلَى الْحَجِّ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْقَادِسِيَّةَ اعْتَرَضَهُمْ أَبُو طَاهِرٍ الْقُرْمُطِيُّ ثَانِيَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ، فَلَمْ يَعْرِفُوهُ، فَقَاتَلَهُ أَصْحَابُ الْخَلِيفَةِ، وَأَعَانَهُمُ الْحَجَّاجُ، ثُمَّ الْتَجَئُوا إِلَى الْقَادِسِيَّةِ، فَخَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ بِالْكُوفَةِ إِلَى أَبِي طَاهِرٍ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَكُفَّ عَنِ الْحَجَّاجِ، فَكَفَّ عَنْهُمْ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى بَغْدَاذَ، فَرَجَعُوا، وَلَمْ يَحُجَّ بِهَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْعِرَاقِ أَحَدٌ، وَسَارَ أَبُو طَاهِرٍ إِلَى الْكُوفَةِ فَأَقَامَ بِهَا عِدَّةَ أَيَّامٍ وَرَحَلَ عَنْهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ قَلَّدَ الرَّاضِي بِاللَّهِ وَلَدَيْهِ أَبَا جَعْفَرٍ وَأَبَا الْفَضْلِ نَاحِيَتَيِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مِمَّا بِيَدِهِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْبِلَادِ. وَفِيهَا فِي لَيْلَةِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَوْقَعَ الْقُرْمُطِيُّ بِالْحَجَّاجِ، انْقَضَّتِ الْكَوَاكِبُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ انْقِضَاضًا دَائِمًا مُسْرِفًا جِدًّا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ.

وَفِيهَا مَاتَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ فِي الْحَبْسِ بِنَفْثِ الدَّمِ، فَأُحْضِرَ الْقَاضِي وَالشُّهُودُ (وَعُرِضَ عَلَيْهِمْ) ، فَلَمْ يَرَوْا بِهِ أَثَرَ ضَرْبٍ وَلَا خَنْقٍ، وَجَذَبُوا شَعْرَهُ فَلَمْ يَكُنْ مَسْمُومًا، فَسُلِّمَ إِلَى أَهْلِهِ، وَأَخَذُوا مَالَهُ وَأَمْلَاكَهُ وَمُعَامِلِيهِ وَوُكَلَاءَهُ وَكُلَّ مَنْ يُخَالِطُهُ. وَفِيهَا كَانَ بِخُرَاسَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ، وَمَاتَ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْجُوعِ، فَعَجَزَ النَّاسُ عَنْ دَفْنِهِمْ، فَكَانُوا يَجْمَعُونَ الْغُرَبَاءَ وَالْفُقَرَاءَ فِي دَارٍ إِلَى أَنْ يَتَهَيَّأَ لَهُمْ تَكْفِينُهُمْ وَدَفْنُهُمْ. وَفِيهَا جَهَّزَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ أَخَاهُ رُكْنَ الدَّوْلَةِ الْحَسَنَ إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ الْعَسَاكِرَ بَعْدَ عَوْدِهِ لَمَّا قُتِلَ مَرْدَاوَيْجُ، فَسَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَأَنْزَلَ عَنْهَا وَعَنْ عِدَّةٍ مِنْ بِلَادِ الْجَبَلِ نُوَّابَ وَشْمَكِيرَ، وَأَقْبَلَ وَشْمَكِيرُ وَجَهَّزَ الْعَسَاكِرَ نَحْوَهُ، وَبَقِيَ هُوَ وَشْمَكِيرُ يَتَنَازَعَانِ تِلْكَ الْبِلَادَ، وَهِيَ أَصْبَهَانُ وَهَمَذَانُ، وَقُمُّ، وَقَاجَانُ، وَكَرَجُ، وَالرَّيُّ، وَكِنْكِوَرُ، وَقَزْوِينُ وَغَيْرُهَا. وَفِيهَا فِي آخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، شَغَبَ الْجُنْدُ بِبَغْدَاذَ، وَقَصَدُوا دَارَ الْوَزِيرِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ وَابْنِهِ، وَزَادَ شَغَبُهُمْ، فَمَنَعَهُمْ أَصْحَابُ ابْنِ مُقْلَةَ، فَاحْتَالَ الْجُنْدُ وَنَقَبُوا دَارَ الْوَزِيرِ مِنْ ظَهْرِهَا وَدَخَلُوهَا، وَمَلَكُوهَا وَهَرَبَ الْوَزِيرُ وَابْنُهُ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَلَمَّا سَمِعَ السَّاجِيَّةُ بِذَلِكَ، رَكِبُوا إِلَى دَارِ الْوَزِيرِ، وَرَفَقُوا بِالْجُنْدِ فَرَدُّوهُمْ، وَعَادَ الْوَزِيرُ وَابْنُهُ إِلَى مَنَازِلِهِمَا. وَاتَّهَمَ الْوَزِيرُ بِإِثَارَةِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ بَعْضَ أَصْحَابِ ابْنِ يَاقُوتٍ، فَأَمَرَ فَنُودِيَ أَنْ لَا يُقِيمَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، ثُمَّ عَاوَدَ الْجُنْدُ الشَّغَبَ حَادِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَنَقَبُوا دَارَ الْوَزِيرِ عِدَّةَ نَقُوبٍ، فَقَاتَلَهُمْ غِلْمَانُهُ وَمَنَعُوهُمْ، فَرَكِبَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ، وَحَفِظَ السُّجُونَ حَتَّى لَا تُفْتَحَ، ثُمَّ سَكَنُوا مِنَ الشَّغَبِ. (وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أُطْلِقَ الْمُظَفَّرُ بْنُ يَاقُوتٍ مِنْ حَبْسِ الرَّاضِي بِاللَّهِ بِشَفَاعَةِ الْوَزِيرِ ابْنِ مُقْلَةَ، وَحَلَفَ لِلْوَزِيرِ أَنَّهُ يُوَالِيهِ وَلَا يَنْحَرِفُ عَنْهُ، وَلَا يَسْعَى لَهُ وَلَا لِوَلَدِهِ بِمَكْرُوهٍ، فَلَمْ يَفِ لَهُ (وَلَا لِوَلَدِهِ) وَوَافَقَ الْحَجَرِيَّةَ عَلَيْهِ، فَجَرَى فِي حَقِّهِ مَا يَكْرَهُ.

وَكَانَ الْمُظَفَّرُ حَقَدَ عَلَى الْوَزِيرِ حِينَ قُتِلَ أَخُوهُ لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ أَنَّهُ سَمَّهُ) . (وَفِيهَا أَرْسَلَ ابْنُ مُقْلَةَ رَسُولًا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ بِوَاسِطَ، وَكَانَ قَدْ قَطَعَ الْحَمْلَ عَنِ الْخَلِيفَةِ، فَطَالَبَهُ بِارْتِفَاعِ الْبِلَادِ، وَاسْطُ وَالْبَصْرَةُ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَأَحْسَنَ إِلَى الرُّسُلِ وَرَدَّهُمْ بِرِسَالَةٍ ظَاهِرَةٍ إِلَى ابْنِ مُقْلَةَ مُغَالَطَةً، وَأُخْرَى بَاطِنَةٍ إِلَى الْخَلِيفَةِ الرَّاضِي بِاللَّهِ وَحْدَهُ، مَضْمُونُهَا أَنَّهُ إِنِ اسْتُدْعِيَ إِلَى الْحَضْرَةِ وَفُوِّضَتْ إِلَيْهِ الْأُمُورُ وَتَدْبِيرُ الدَّوْلَةِ، قَامَ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ نَفَقَاتِ الْخَلِيفَةِ وَأَرْزَاقِ الْجُنْدِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْخَلِيفَةُ الرِّسَالَةَ، لَمْ يُعِدْ إِلَيْهِ جَوَابَهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدَوَيْهِ بْنِ سَدُوسٍ الْهُذَلِيُّ مِنْ وَلَدِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ مِنْ نَيْسَابُورَ. وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ الْمَعْرُوفُ بِنَفْطَوَيْهِ النَّحْوِيِّ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ.

ثم دخلت سنة أربع وعشرين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 324 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى ابْنِ مُقْلَةَ وَوِزَارَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عِيسَى لَمَّا عَادَ الرُّسُلُ مِنْ عِنْدِ ابْنِ رَائِقٍ بِغَيْرِ مَالٍ، رَأَى الْوَزِيرُ أَنْ يُسَيِّرَ ابْنَهُ، فَتَجَهَّزَ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْأَهْوَازَ، فَلَمَّا كَانَ مُنْتَصَفُ جُمَادَى الْأُولَى، حَضَرَ الْوَزِيرُ دَارَ الرَّاضِي لِيُنْفِذَ رَسُولًا إِلَى ابْنِ رَائِقٍ يُعَرِّفُهُ عَزْمَهُ عَلَى قَصْدِ الْأَهْوَازِ ; لِئَلَّا يَسْتَوْحِشَ لِحَرَكَتِهِ فَيَحْتَاطُ، فَلَمَّا دَخَلَ الدَّارَ، قَبَضَ عَلَيْهِ الْمُظَفَّرُ بْنُ يَاقُوتٍ وَالْحَجَرِيَّةُ، وَكَانَ الْمُظَفَّرُ قَدْ أُطْلِقَ مِنْ مَحْبَسِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَوَجَّهُوا إِلَى الرَّاضِي يُعَرِّفُونَهُ ذَلِكَ، فَاسْتَحْسَنَ فِعْلَهُمْ، وَاخْتَفَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ وَسَائِرُ أَوْلَادِهِ وَحَرَمِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَطَلَبَ الْحَجَرِيَّةُ وَالسَّاجِيَّةُ مِنَ الرَّاضِي أَنْ يَسْتَوْزِرَ وَزِيرًا، فَرَدَّ الِاخْتِيَارَ إِلَيْهِمْ، فَأَشَارُوا بِوِزَارَةِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، فَأَحْضَرَهُ الرَّاضِي لِلْوِزَارَةِ، فَامْتَنَعَ وَأَشَارَ بِأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَاسْتَوْزَرَهُ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ ابْنَ مُقْلَةَ فَصَادَرَهُ وَصَرَفَ بَدْرًا الْخَرْشَنِيَّ عَنِ الشُّرْطَةِ، ثُمَّ عَجَزَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ تَمْشِيَةِ الْأُمُورِ وَضَاقَ عَلَيْهِ، فَاسْتَعْفَى [مِنَ] الْوِزَارَةِ. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَوِزَارَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الْكَرْخِيِّ لَمَّا ظَهَرَ عَجْزُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِلرَّاضِي وَوُقُوفُ الْأُمُورِ، قَبَضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، فَصَادَرَهُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَصَادَرَ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بِسَبْعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ.

ذِكْرُ قَتْلِ يَاقُوتٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ يَاقُوتٌ بِعَسْكَرِ مُكْرَمٍ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ ثِقَتُهُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ فَخَانَهُ، وَقَابَلَ إِحْسَانَهُ بِالْإِسَاءَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ارْتَسَمَ بِكِتَابَةِ يَاقُوتٍ مَعَ ضَمَانِ الْأَهْوَازِ، فَلَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ، وَثِقَ بِهِ وَعَوَّلَ عَلَى مَا يَقُولُهُ، وَكَانَ إِذَا قِيلَ لَهُ شَيْءٌ فِي أَمْرِهِ وَخُوِّفَ مِنْ شَرِّهِ، يَقُولُ: إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ ; لِأَنَّهُ لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالْإِمْرَةِ وَقَوْدِ الْعَسَاكِرِ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ الْكِتَابَةُ، فَاغْتَرَّ بِهَذَا مِنْهُ. وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَلِيمَ الْقَلْبِ، حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، فَلِهَذَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ حِينَ قَبَضَ عَلَى وَلَدَيْهِ بَلْ دَامَ عَلَى الْوَفَاءِ. فَأَمَّا حَالُهُ مَعَ الْبَرِيدِيِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا عَادَ مَهْزُومًا مِنْ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ إِلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ، كَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يُقِيمَ بِعَسْكَرِ مَكْرَمٍ لِيَسْتَرِيحَ، وَيَقَعَ التَّدْبِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ بِالْأَهْوَازِ، وَهُوَ يَكْرَهُ الِاجْتِمَاعَ مَعَهُ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، فَسَمِعَ يَاقُوتٌ قَوْلَهُ وَأَقَامَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَخَاهُ أَبَا يُوسُفَ الْبَرِيدِيَّ يَتَوَجَّعُ لَهُ وَيُهَنِّيهِ بِالسَّلَامَةِ، وَقَرَّرَ الْقَاعِدَةَ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ لَهُ أَخُوهُ مِنْ مَالِ الْأَهْوَازِ خَمْسِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عِنْدَهُ مِنَ الْجُنْدِ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْهُمُ الْبَرْبَرُ، وَالشَّفِيعِيَّةُ، وَالنَّازُوكِيَّةُ، وَالْبَلْقِيَّةُ، وَالْهَارُونِيَّةُ. كَانَ ابْنُ مُقْلَةَ قَدْ مَيَّزَ هَذِهِ الْأَصْنَافَ مِنْ عَسْكَرِ بَغْدَاذَ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الْأَهْوَازِ ; لِيَخِفَّ عَلَيْهِ مَؤُونَتُهُمْ، فَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مَتَى رَأَوُا الْمَالَ يَخْرُجُ عَنْهُمْ إِلَيْكَ شَغَبُوا، وَيَحْتَاجُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِلَى مُفَارَقَةِ الْأَهْوَازِ، ثُمَّ يَصِيرُ أَمْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَكَ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّ رِجَالَكَ مَعَ سُوءِ أَثَرِهِمْ يَقْنَعُونَ بِالْقَلِيلِ.

فَصَدَّقَهُ يَاقُوتٌ فِيمَا قَالَ، وَأَخَذَ ذَلِكَ الْمَالَ وَفَرَّقَهُ، وَبَقِيَ عِدَّةَ شُهُورٍ لَمْ يَصِلْهُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى أَنْ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، فَضَاقَ الرِّزْقُ عَلَى أَصْحَابِ يَاقُوتٍ وَاسْتَغَاثُوا، وَذَكَرُوا مَا فِيهِ أَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ بِالْأَهْوَازِ مِنَ السِّعَةِ، وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضِّيقِ. وَكَانَ قَدِ اتَّصَلَ بِيَاقُوتٍ طَاهِرٌ الْجِيلِيُّ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ ابْنِ بُوَيْهِ، فِي ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ، وَهُوَ مِنْ أَرْبَابِ الْمَرَاتِبِ الْعَالِيَةِ، وَمِمَّنْ يَسْمُو إِلَى مَعَالِي الْأُمُورِ. وَسَبَبُ اتِّصَالِهِ بِهِ خَوْفُهُ مِنِ ابْنِ بُوَيْهِ أَنْ يَقْبِضَ عَلَيْهِ خُوفًا مِنْهُ، فَلَمَّا رَأَى حَالَ يَاقُوتٍ انْصَرَفَ عَنْهُ إِلَى غَرْبَيْ تُسْتَرَ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَى مَاهِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ مَعَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الصَّيْمَرِيُّ، وَهُوَ كَاتِبُهُ، فَسَمِعَ بِهِ عِمَادُ الدَّوْلَةِ بْنُ عِمَادِ بْنِ بُوَيْهِ فَكَبَسَهُ، فَانْهَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَاسْتَوْلَى ابْنُ بُوَيْهِ عَلَى عَسْكَرِهِ وَغَنَمِهِ، وَأَسَرَ الصَّيْمَرِيَّ، فَأَطْلَقَهُ الْخَيَّاطُ وَزِيرُ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، فَمَضَى إِلَى كَرْمَانَ، وَاتَّصَلَ بِالْأَمِيرِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ بُوَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبُ إِقْبَالِهِ. فَلَمَّا سَارَ طَاهِرٌ مِنْ عِنْدِ يَاقُوتٍ، ضَعُفَتْ نَفْسُهُ وَاسْتَطَالَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، فَخَافَهُمْ وَرَاسَلَ الْبَرِيدِيَّ وَعَرَّفَهُ مَا هُوَ فِيهِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ مُعَوَّلَهُ عَلَى مَا يُدَبِّرُهُ بِهِ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ الْبَرِيدِيُّ يَقُولُ: إِنَّ عَسْكَرَكَ قَدْ فَسَدُوا، وَفِيهِمْ مَنْ يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ، وَالرَّأْيُ أَنْ يُنْفِذَهُمْ إِلَيْهِ لِيَسْتَصْلِحَهُمْ، فَإِنَّهُ لَهُ أَشْغَالٌ تَمْنَعُهُ أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُ، وَلَوْ حَضَرَ عِنْدَهُ وَالْجُنْدُ مُجْتَمِعُونَ، لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الِانْتِصَافِ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُمْ يُظَاهِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَإِذَا حَضَرُوا عِنْدَهُ بِالْأَهْوَازِ مُتَفَرِّقِينَ، فَعَلَ بِهِمْ مَا أَرَادَ وَلَا يُمْكِنُهُمْ خِلَافُهُ. فَفَعَلَ ذَلِكَ يَاقُوتٌ، وَأَنْفَذَ أَصْحَابَهُ إِلَيْهِ، فَاخْتَارَ مِنْهُمْ مَنْ أَرَادَ لِنَفْسِهِ، وَرَدَّ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ إِلَى يَاقُوتٍ، (بَعْدَ أَنْ كَسَرَهُمْ وَأَسْقَطَ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِيَاقُوتٍ) ، فَأُشِيرَ عَلَيْهِ بِمُعَاجَلَةِ الْبَرِيدِيِّ قَبْلَ أَنْ يَسْتَفْحِلَ أَمْرُهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ وَقَالَ: جَعَلْتُهُمْ عِنْدَهُ عِدَّةً لِي.

وَأَحْسَنَ الْبَرِيدِيُّ إِلَى مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْجُنْدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ يَاقُوتٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَطَلَبُوا أَرْزَاقَهُمُ الَّتِي قَرَّرَهَا الْبَرِيدِيُّ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ فَلَمْ يُنْفِذْ شَيْئًا، فَرَاجَعَهُ فَلَمْ يُنْفِذْ شَيْئًا، فَسَارَ يَاقُوتٌ إِلَيْهِ جَرِيدَةً لِئَلَّا يَسْتَوْحِشَ مِنْهُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ خَرَجَ إِلَى لِقَائِهِ، وَقَبَّلَ يَدَهُ وَقَدَمَهُ، وَأَنْزَلَهُ دَارَهُ وَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ الطَّعَامَ لِيَأْكُلَ. وَكَانَ قَدْ وَضَعَ الْجُنْدَ عَلَى إِثَارَةِ الْفِتْنَةِ، فَحَضَرُوا الْبَابَ وَشَغَبُوا وَاسْتَغَاثُوا، فَسَأَلَ يَاقُوتٌ عَنِ الْخَبَرِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْجُنْدَ بِالْأَبْوَابِ قَدْ شَغَبُوا، وَيَقُولُونَ: قَدِ اصْطَلَحَ يَاقُوتٌ وَالْبَرِيدِيُّ، وَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ قَتْلِ يَاقُوتٍ، فَقَالَ لَهُ الْبَرِيدِيُّ: قَدْ تَرَى مَا دَفَعْنَا إِلَيْهِ، فَانْجُ بِنَفْسِكَ وَإِلَّا قُتِلْنَا جَمِيعًا، فَخَرَجَ مِنْ بَابٍ آخَرَ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، وَلَمْ يُفَاتِحِ الْبَرِيدِيَّ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَادَ إِلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْبَرِيدِيُّ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ الْعَسْكَرَ الَّذِينَ شَغَبُوا قَدِ اجْتَهَدْتُ فِي إِصْلَاحِهِمْ وَعَجَزْتُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَسْتُ آمَنُهُمْ أَنْ يَقْصِدُوكَ، وَبَيْنَ عَسْكَرِ مُكْرَمٍ وَالْأَهْوَازِ ثَمَانِيَةُ فَرَاسِخَ، وَالرَّأْيُ أَنْ تَتَأَخَّرَ إِلَى تُسْتَرَ لِتَبْعُدَ عَنْهُمْ، وَهِيَ حَصِينَةٌ، وَكَتَبَ لَهُ عَلَى عَامِلِ تُسْتَرَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ دِينَارٍ. فَسَارَ يَاقُوتٌ إِلَيْهَا، وَكَانَ لَهُ خَادِمٌ اسْمُهُ مُؤْنِسٌ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّ الْبَرِيدِيَّ [يَحُزُّ مَفَاصِلَنَا] وَيَفْعَلُ بِنَا مَا تَرَى، وَأَنْتَ مُغْتَرٌّ بِهِ، (وَهُوَ الَّذِي وَضَعَ الْجُنْدَ بِالْأَهْوَازِ حَتَّى فَعَلُوا ذَلِكَ) ، وَقَدْ شَرَعَ فِي إِبْعَادِكَ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ وُجُوهَ أَصْحَابِكَ، (وَقَدْ أَطْلَقَ لَكَ) مَا لَا يَقُومُ بِأَوَدِ أَصْحَابِكِ الَّذِينَ عِنْدَكَ، وَمَا أَعْطَاكَ ذَلِكَ أَيْضًا إِلَّا حَتَّى تَتَبَلَّغَ بِهِ، وَتَضِيقَ الْأَرْزَاقُ عَلَيْنَا، وَيَفْنَى مَا لَنَا مِنْ دَابَّةٍ وَعِدَّةٍ فَنَنْصَرِفَ عَنْكَ عَلَى أَقْبَحِ حَالٍ، فَحِينَئِذٍ يَبْلُغُ مِنْكَ مَا يُرِيدُهُ، فَاحْفَظْ نَفْسَكَ مِنْهُ وَلَا تَأْمَنْهُ، وَلَمْ يَثِقْ لِلْجُنْدِ الْحَجَرِيَّةِ بِبَغْدَاذَ شَيْخٌ غَيْرُكَ، وَقَدْ كَاتَبُوكَ فَسِرْ إِلَيْهِمْ، فَكُلُّ مَنْ بِبَغْدَاذَ يُسَلِّمُ إِلَيْكَ الرِّئَاسَةَ، فَإِنْ فَعَلْتَ، وَإِلَّا فَسِرْ بِنَا إِلَى الْأَهْوَازِ ; لِنَطْرُدَ الْبَرِيدِيَّ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَّا، فَأَنْتَ أَمِيرٌ وَهُوَ كَاتِبٌ. فَقَالَ: لَا تَقُلْ فِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ هَذَا، فَلَوْ كَانَ لِي أَخٌ مَا زَادَ عَلَى مَحَبَّتِهِ.

ثُمَّ إِنَّ يَاقُوتًا ظَهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ عَنِ الْبَرِيدِيِّ، فَضَعُفَتْ نُفُوسُ أَصْحَابِهِ، وَصَارَ كُلُّ لَيْلَةٍ يَمْضِي مِنْهُمْ طَائِفَةٌ إِلَى الْبَرِيدِيِّ، فَإِذَا قِيلَ ذَلِكَ لِيَاقُوتٍ، يَقُولُ: إِلَى كَاتِبِي يَمْضُونَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى بَقِيَ فِي ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ. ثُمَّ إِنَّ الرَّاضِيَ قَبَضَ عَلَى الْمُظَفَّرِ بْنِ يَاقُوتٍ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَسَجَنَهُ أُسْبُوعًا ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى أَبِيهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ بِتُسْتَرَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَإِنْ دَخَلَهَا، فَقَدْ حَصَلَ لَهُ مَا يُرِيدُ، وَإِلَّا سَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ رَبِيعَةَ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، فَفَارَقَهُ وَلَدُهُ إِلَى الْبَرِيدِيِّ، فَأَكْرَمَهُ وَجَعَلَ مُوَكَّلِينَ يَحْفَظُونَهُ. ثُمَّ إِنَّ الْبَرِيدِيَّ خَافَ مَنْ عِنْدِهِ مِنْ أَصْحَابِ يَاقُوتٍ أَنْ يُعَاوِدُوا الْمَيْلَ وَالْعَصَبِيَّةَ لَهُ، وَيُنَادُوا بِشِعَارِهِ فَيَهْلَكَ، فَأَرْسَلَ إِلَى يَاقُوتٍ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ كِتَابَ الْخَلِيفَةِ وَرَدَ عَلَيَّ يَأْمُرُنِي أَنْ لَا أَتْرُكَكَ تُقِيمُ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، وَمَا يُمْكِنُنِي مُخَالَفَةُ السُّلْطَانِ، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُخَيِّرَكَ إِمَّا أَنْ تَمْضِيَ إِلَى حَضْرَتِهِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ غُلَامًا، وَإِمَّا إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ لِيُوَلِّيَكَ بَعْضَ الْأَعْمَالِ، فَإِنْ خَرَجْتَ طَائِعًا، وَإِلَّا أَخْرَجْتُكَ قَهْرًا. فَلَمَّا وَصَلَتِ الرِّسَالَةُ إِلَى يَاقُوتٍ تَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ، وَاسْتَشَارَ مُؤْنِسَا غُلَامَهُ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ نَهَيْتُكَ عَنِ الْبَرِيدِيِّ وَمَا سَمِعْتَ، وَمَا بَقِيَ لِلرَّأْيِ وَجْهٌ، فَكَتَبَ يَاقُوتٌ يَسْتَمْهِلُهُ شَهْرًا لِيَتَأَهَّبَ، وَعَلِمَ حِينَئِذٍ خُبْثَ الْبَرِيدِيِّ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ. فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُ يَاقُوتٍ يَطْلُبُ الْمُهْلَةَ، أَجَابَهُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْمُهْلَةِ، وَسَيَّرَ الْعَسَاكِرَ مِنَ الْأَهْوَازِ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ يَاقُوتٌ الْجَوَاسِيسَ لِيَأْتُوهُ بِالْأَخْبَارِ، فَظَفَرَ الْبَرِيدِيُّ بِجَاسُوسٍ، فَأَعْطَاهُ مَالًا عَلَى أَنْ يَعُودَ إِلَى يَاقُوتٍ وَيُخْبِرَهُ أَنَّ الْبَرِيدِيَّ وَأَصْحَابَهُ قَدْ وَافُوا عَسْكَرَ مُكْرَمٍ، وَنَزَلُوا فِي الدُّورِ مُتَفَرِّقِينَ مُطَمْئِنِينَ، فَمَضَى الْجَاسُوسُ وَأَخْبَرَ يَاقُوتًا بِذَلِكَ، فَأَحْضَرَ مُؤْنِسًا وَقَالَ: قَدْ ظَفِرْنَا بِعَدُوِّنَا وَكَافِرِ نِعْمَتِنَا، وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ الْجَاسُوسُ، وَقَالَ: نَسِيرُ مِنْ تُسْتَرَ الْعَتَمَةَ، وَنُصْبِحُ عَسْكَرَ مُكْرَمٍ وَهُمْ غَارُّونَ، فَنَكْبِسَهُمْ فِي الدُّورِ، فَإِنْ وَقَعَ الْبَرِيدِيُّ فَاللَّهُ مَشْكُورٌ، وَإِنَّ هَرَبَ اتَّبَعْنَاهُ. فَقَالَ مُؤْنِسٌ: مَا أَحْسَنَ هَذَا إِنْ صَحَّ، وَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ صَادِقًا، فَقَالَ يَاقُوتٌ: إِنَّهُ يُحِبُّنِي وَيَتَوَلَّانِي وَهُوَ صَادِقٌ، فَسَارَ يَاقُوتٌ فَوَصَلَ إِلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ طُلُوعَ الشَّمْسِ، فَلَمْ يَرَ لِلْعَسْكَرِ أَثَرًا، فَعَبَرَ الْبَلَدَ إِلَى نِهَارِ جَارُودَ، وَخَيَّمَ هُنَاكَ، وَبَقِيَ يَوْمَهُ وَلَا يَرَى لِعَسْكَرِ الْبَرِيدِيِّ أَثَرًا، فَقَالَ لَهُ مُؤْنِسٌ: إِنَّ الْجَاسُوسَ كَذَبَنَا، وَأَنْتَ تَسْمَعُ كَلَامَ الْكَاذِبِينَ، وَإِنَّنِي خَائِفٌ عَلَيْكَ.

فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ، أَقْبَلَتْ عَسَاكِرُ الْبَرِيدِيِّ، فَنَزَلُوا عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ يَاقُوتٍ، وَحَجَزَ بَيْنِهِمُ اللَّيْلُ وَأَصْبَحُوا الْغَدَ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ مُنَاوَشَةٌ، وَاتَّعَدُوا لِلْحَرْبِ الْغَدَ. وَكَانَ الْبَرِيدِيُّ قَدْ سَيَّرَ عَسْكَرًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى لِيَصِيرُوا وَرَاءَ يَاقُوتٍ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، فَيَكُونُ كَمِينًا يَظْهَرُ عِنْدَ الْقِتَالِ فَهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْعِدُ بَاكَرُوا بِالْقِتَالِ، فَاقْتَتَلُوا مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى الظُّهْرِ، وَكَانَ عَسْكَرُ الْبَرِيدِيِّ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَزِيمَةِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ، وَكَانَ مُقَدِّمُهُمْ أَبَا جَعْفَرٍ الْحَمَّالَ. فَلَمَّا جَاءَ الظُّهْرُ، ظَهَرَ الْكَمِينُ مِنْ وَرَاءِ عَسْكَرِ يَاقُوتٍ، فَرَدَّ إِلَيْهِمْ مُؤْنِسًا فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ، فَقَاتَلَهُمْ وَهُمْ فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ رَجُلٍ، فَعَادَ مُؤْنِسٌ مُنْهَزِمًا، فَحِينَئِذٍ انْهَزَمَ أَصْحَابُ يَاقُوتٍ، وَكَانُوا سِوَى الثَّلَاثِمِائَةِ خَمْسَمِائَةٍ، فَلَمَّا رَأَى يَاقُوتٌ ذَلِكَ نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَأَلْقَى سِلَاحَهُ، وَجَلَسَ بِقَمِيصٍ إِلَى جَانِبِ جِدَارِ رِبَاطٍ. وَلَوْ دَخَلَ الرِّبَاطَ وَاسْتَتَرَ فِيهِ لَخَفِيَ أَمْرُهُ، وَكَانَ أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ، فَرُبَّمَا سَلِمَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. فَلَمَّا جَلَسَ مَعَ الْحَائِطِ غَطَّى وَجْهَهُ بِكُمِّهِ، وَمَدَّ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَصَدَّقُ وَيَسْتَحْيِي [أَنْ] يَكْشِفَ وَجْهَهُ، فَمَرَّ بِهِ قَوْمٌ مِنَ الْبَرْبَرِ مِنْ أَصْحَابِ الْبَرِيدِيِّ فَأَنْكَرُوهُ، فَأَمَرُوهُ بِكَشْفِ وَجْهِهِ فَامْتَنَعَ، فَنَخَسَهُ أَحَدُهُمْ بِمِزْرَاقٍ مَعَهُ، فَكَشَفَ وَجَّهَهُ وَقَالَ: أَنَا يَاقُوتٌ، فَمَا تُرِيدُونَ مِنِّي؟ احْمِلُونِي إِلَى الْبَرِيدِيِّ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى الْعَسْكَرِ، وَكَتَبَ أَبُو جَعْفَرٍ الْحَمَّالُ كِتَابًا إِلَى الْبَرِيدِيِّ عَلَى جَنَاحِ طَائِرٍ يَسْتَأْذِنُهُ فِي حَمْلِ رَأْسِهِ (إِلَى الْعَسْكَرِ) ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ بِإِعَادَةِ الرَّأْسِ إِلَى الْجُثَّةِ وَتَكْفِينِهِ وَدَفْنِهِ، وَأَسْرِ غُلَامِهِ مُؤْنِسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ قُوَّادِهِ فَقُتِلُوا، وَأَرْسَلَ الْبَرِيدِيُّ إِلَى تُسْتَرَ فَحَمَلَ مَا فِيهَا لِيَاقُوتٍ مِنْ جَوَارٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَظْهَرْ لِيَاقُوتٍ غَيْرُ اثْنَيْ [عَشْرَ] أَلْفِ دِينَارٍ، فَحُمِلَ الْجَمِيعُ إِلَيْهِ، وَقُبِضَ عَلَى الْمُظَفَّرِ بْنِ يَاقُوتٍ، فَبَقِيَ فِي حَبْسِ الْبَرِيدِيِّ مُدَّةً ثُمَّ نَفَّذَهُ إِلَى بَغْدَاذَ.

وَتَجَبَّرَ الْبَرِيدِيُّ بَعْدَ يَاقُوتٍ وَعَصَى، وَقَدْ أَطَلْنَا فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا عَلَى طُولِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّضَةِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالِاحْتِرَازِ، فَإِنَّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فِيهَا تَجَارِبُ وَأُمُورٌ يَكْثُرُ وُقُوعُ مِثْلِهَا. ذِكْرُ عَزْلِ أَبِي جَعْفَرٍ وَوِزَارَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ لَمَّا تَوَلَّى الْوَزِيرُ أَبُو جَعْفَرٍ الْكَرْخِيُّ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، رَأَى قِلَّةَ الْأَمْوَالِ وَانْقِطَاعَ الْمَوَادِّ، فَازْدَادَ عَجْزًا إِلَى عَجْزِهِ، وَضَاقَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ. وَمَا زَالَتِ الْإِضَاقَةُ تَزِيدُ، وَطَمَعُ مَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمُعَامِلِينَ فِيمَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَقَطَعَ ابْنُ رَائِقٍ حِمْلَ وَاسِطَ وَالْبَصْرَةِ، وَقَطَعَ الْبَرِيدِيُّ حِمْلَ الْأَهْوَازِ وَأَعْمَالِهَا. وَكَانَ ابْنُ بُوَيْهِ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى فَارِسَ، فَتَحَيَّرَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَكَثُرَتِ الْمُطَالَبَاتُ عَلَيْهِ، وَنَقُصَتْ هَيْبَتُهُ، وَاسْتَتَرَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ مِنْ وِزَارَتِهِ، فَلَمَّا اسْتَتَرَ اسْتَوْزَرَ الرَّاضِي أَبَا الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ بْنَ الْحَسَنِ، فَكَانَ فِي الْوِزَارَةِ كَأَبِي جَعْفَرٍ فِي وُقُوفِ الْحَالِ وَقِلَّةِ الْمَالِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ ابْنِ رَائِقٍ عَلَى أَمْرِ الْعِرَاقِ وَتَفَرُّقِ الْبِلَادِ لَمَّا رَأَى الرَّاضِي وُقُوفَ الْحَالِ عِنْدَهُ، أَلْجَأَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى أَنْ رَاسَلَ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ رَائِقٍ وَهُوَ بِوَاسِطَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ إِجَابَتَهُ إِلَى مَا كَانَ بَذَلَهُ مِنَ الْقِيَامِ بِالنَّفَقَاتِ وَأَرْزَاقِ الْجُنْدِ بِبَغْدَاذَ، فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ بِذَلِكَ فَرِحَ بِهِ، وَشَرَعَ يَتَجَهَّزُ لِلْمَسِيرِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ الرَّاضِي السَّاجِيَّةَ، وَقَلَّدَهُ إِمَارَةَ الْجَيْشِ، وَجَعْلَهُ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَوَلَّاهُ الْخَرَاجَ وَالْمُعَاوِنَ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ وَالدَّوَاوِينِ، وَأَمَرَ بِأَنْ يُخْطَبَ لَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمَنَابِرِ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ الْخِلَعَ.

وَانْحَدَرَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ الدَّوَاوِينِ وَالْكُتَّابُ وَالْحُجَّابُ، وَتَأَخَّرَ الْحَجَرِيَّةُ عَنِ الِانْحِدَارِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الَّذِينَ انْحَدَرُوا إِلَى وَاسِطَ، قَبَضَ ابْنُ رَائِقٍ عَلَى السَّاجِيَّةِ سَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَنَهَبَ رَحْلَهُمْ وَمَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِتَتَوَفَّرَ أَرْزَاقُهُمْ عَلَى الْحَجَرِيَّةِ، فَاسْتَوْحَشَ الْحَجَرِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا: الْيَوْمَ لِهَؤُلَاءِ وَغَدًا لَنَا، وَخَيَّمُوا بِدَارِ الْخَلِيفَةِ، فَأُصْعِدَ ابْنُ رَائِقٍ إِلَى بَغْدَاذَ وَمَعَهُ بُجْكُمُ، وَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَيْهِ أَوَاخِرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَتَاهُ الْحَجَرِيَّةُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُمْ بِقَلْعِ خِيَامِهِمْ، فَقَلَعُوهَا وَعَادُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ. وَبَطَلَتِ الدَّوَاوِينُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، (وَبَطَلَتِ الْوِزَارَةُ) ، فَلَمْ يَكُنِ الْوَزِيرُ يَنْظُرُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ، إِنَّمَا كَانَ ابْنُ رَائِقٍ وَكَاتِبِهِ يَنْظُرَانِ فِي الْأُمُورِ جَمِيعِهَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ تَوَلَّى إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ بَعْدَهُ، وَصَارَتِ الْأَمْوَالُ تُحْمَلُ إِلَى خَزَائِنِهِمْ فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَمَا يُرِيدُونَ، وَيُطْلِقُونَ لِلْخَلِيفَةِ مَا يُرِيدُونَ، وَبَطَلَتْ بُيُوتُ الْأَمْوَالِ، وَتَغَلَّبَ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ، وَزَالَتْ عَنْهُمُ الطَّاعَةُ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْخَلِيفَةِ غَيْرُ بَغْدَاذَ وَأَعْمَالِهَا، وَالْحُكْمُ فِي جَمِيعِهَا لِابْنِ رَائِقٍ لَيْسَ لِلْخَلِيفَةِ حُكْمٌ. وَأَمَّا بَاقِي الْأَطْرَافِ فَكَانَتِ الْبَصْرَةُ فِي يَدِ (ابْنِ رَائِقٍ، وَخُوزِسْتَانُ فِي يَدِ) الْبَرِيدِيِّ. وَفَارِسُ فِي يَدِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ. وَكَرْمَانُ فِي يَدِ أَبِي عَلِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ إِلْيَاسَ. وَالرَّيُّ وَأَصْبَهَانُ فِي يَدِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ وَيَدِ وَشْمَكِيرَ أَخِي مَرْدَاوَيْجَ يَتَنَازَعَانِ عَلَيْهَا، وَالْمَوْصِلُ وَدِيَارُ بِكْرٍ وَمُضَرَ وَرَبِيعَةَ فِي يَدِ بَنِي حَمْدَانَ، وَمِصْرُ وَالشَّامُ فِي يَدِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجَ. وَالْمَغْرِبُ وَإِفْرِيقِيَّةُ فِي يَدِ أَبِي الْقَاسِمِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ بْنِ الْمَهْدِيِّ الْعَلَوِيِّ، وَهُوَ الثَّانِي مِنْهُمْ، وَيُلَقَّبُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَنْدَلُسُ فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُلَقَّبِ بِالنَّاصِرِ الْأُمَوِيِّ،

وَخُرَاسَانُ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي يَدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ. وَطَبَرِسْتَانُ وَجُرْجَانُ فِي يَدِ الدَّيْلَمِ. وَالْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَامَةُ فِي يَدِ أَبِي طَاهِرٍ الْقُرْمُطِيِّ. ذِكْرُ مَسِيرِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ إِلَى كَرْمَانَ، وَمَا جَرَى عَلَيْهِ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ، الْمُلَقَّبُ بِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، إِلَى كَرْمَانَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عِمَادَ الدَّوْلَةِ بْنَ بُوَيْهِ وَأَخَاهُ رُكْنُ الدَّوْلَةِ لَمَّا تَمَكَّنَّا مِنْ بِلَادِ فَارِسَ وَبِلَادِ الْجَبَلِ، وَبَقِيَ أَخُوهُمَا الْأَصْغَرُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بِغَيْرِ وَلَايَةٍ يَسْتَبِدُّ بِهَا، رَأَيَا أَنْ يُسَيِّرَاهُ إِلَى كَرْمَانَ، فَفَعَلَا ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى كَرْمَانَ فِي عَسْكَرٍ ضَخْمٍ شُجْعَانٍ، فَلَمَّا بَلَغَ السِّيرَجَانَ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَجَبَى أَمْوَالَهَا وَأَنْفَقَهَا فِي عَسْكَرِهِ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سِيمَجُورَ الدَّوَاتِيُّ يُحَاصِرُ مُحَمَّدَ بْنَ إِلْيَاسَ بْنَ أَلِيَسَعَ بِقَلْعَةٍ هُنَاكَ بِعَسَاكِرِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ صَاحِبِ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ إِقْبَالُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، سَارَ عَنْ كَرْمَانَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَنَفَّسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِلْيَاسَ، فَتَخَلَّصَ مِنَ الْقَلْعَةِ، وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ بَمَّ، وَهِيَ عَلَى طَرَفِ الْمَفَازَةِ بَيْنَ كَرْمَانَ وَسِجِسْتَانَ، فَسَارَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ، فَرَحَلَ مِنْ مَكَانِهِ إِلَى سِجِسْتَانَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَسَارَ أَحْمَدُ إِلَى جِيرَفْتَ، وَهِيَ قَصَبَةُ كَرْمَانَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَمَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ. فَلَمَّا قَارَبَ جِيرَفْتُ أَتَاهُ (رَسُولُ عَلِيِّ) بْنِ الزِّنْجِيِّ الْمَعْرُوفِ بَعَلِيٍّ كَلِوَيْهِ، وَهُوَ رَئِيسُ الْقَفَصِ، وَالْبُلُوصِ، وَكَانَ هُوَ وَأَسْلَافُهُ مُتَغَلِّبِينَ عَلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يُجَامِلُونَ كُلَّ سُلْطَانٍ يَرِدُ الْبِلَادَ وَيُطِيعُونَهُ، وَيَحْمِلُونَ إِلَيْهِ مَالًا مَعْلُومًا وَلَا يَطَئُونَ بِسَاطَهُ، فَبَذَلَ لِابْنِ بُوَيْهِ ذَلِكَ الْمَالَ، فَامْتَنَعَ أَحْمَدُ مِنْ قَبُولِهِ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ جِيرَفْتَ، فَتَأَخَّرَ عَلِيُّ بْنُ كُلِوَيْهِ نَحْوَ عَشَرَةِ فَرَاسِخَ، وَنَزَلَ بِمَكَانٍ صَعْبِ الْمَسْلَكِ، وَدَخَلَ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ جِيرَفْتَ، وَاصْطَلَحَ هُوَ وَعَلَيٌّ، وَأَخَذَ رَهَائِنَهُ وَخَطَبَ لَهُ. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ وَانْفَصَلَ الْأَمْرُ، أَشَارَ بَعْضُ أَصْحَابِ ابْنِ بُوَيْهِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقْصِدَ عَلِيًّا وَيَغْدِرَ بِهِ، وَيَسْرِيَ إِلَيْهِ سِرًّا عَلَى غَفْلَةٍ، وَأَطْمَعَهُ فِي أَمْوَالِهِ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ بِسُكُونِهِ إِلَى

الصُّلْحِ، فَأَصْغَى الْأَمِيرُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ إِلَى ذَلِكَ لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ، وَجَمَعَ أَصْحَابَهُ وَأَسْرَى نَحْوَهُمْ جَرِيدَةً. وَكَانَ عَلِيٌّ مُحْتَرِزًا وَمَنْ مَعَهُ قَدْ وَضَعُوا الْعُيُونَ عَلَى ابْنِ بُوَيْهِ، (فَسَاعَةَ تَحَرَّكَ بَلَغَتْهُ الْأَخْبَارُ، فَجَمَعَ أَصْحَابَهُ وَرَتَّبَهُمْ بِمَضِيقٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِمُ ابْنُ بُوَيْهِ) ثَارُوا بِهِ لَيْلًا مِنْ جَوَانِبِهِ، فَقَتَلُوا فِي أَصْحَابِهِ، وَأَسَرُوا، وَلَمْ يَفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَوَقَعَتْ بِالْأَمِيرِ أَبِي الْحُسَيْنِ ضَرَبَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَوَقَعَتْ ضَرْبَةٌ مِنْهَا فِي يَدِهِ الْيُسْرَى فَقَطَعَتْهَا مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ، وَأَصَابَ يَدَهُ الْيُمْنَى ضَرْبَةٌ أُخْرَى سَقَطَ [مِنْهَا] بَعْضُ أَصَابِعِهِ، وَسَقَطَ مُثْخِنًا بِالْجِرَاحِ بَيْنَ الْقَتْلَى، وَبَلَغَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَى جِيرَفْتَ، فَهَرَبَ كُلُّ مَنْ كَانَ بِهَا مِنْ أَصْحَابِهِ. وَلَمَّا أَصْبَحَ عَلِيٌّ كَلِوَيْهِ تَتَبَّعَ الْقَتْلَى، فَرَأَى الْأَمِيرَ أَبَا الْحُسَيْنِ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى التَّلَفِ، فَحَمَلَهُ إِلَى جِيرَفْتَ، وَأَحْضَرَ لَهُ الْأَطِبَّاءَ، وَبَالَغَ فِي عِلَاجِهِ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، وَأَنْفَذَ رُسُلَهُ يَعْتَذِرُ إِلَى أَخِيهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَيُعَرِّفُهُ غَدْرَ أَخِيهِ، وَيَبْذُلُ مِنْ نَفْسِهِ الطَّاعَةَ، فَأَجَابَهُ عِمَادُ الدَّوْلَةِ إِلَى مَا بَذَلَهُ، وَاسْتَقَرَّ بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ، وَأَطْلَقَ عَلِيٌّ كُلَّ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْأَسْرَى وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ. وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِلْيَاسَ بِمَا جَرَى عَلَى أَحْمَدَ بْنِ بُوَيْهِ، فَسَارَ مِنْ سِجِسْتَانَ إِلَى الْبَلَدِ الْمَعْرُوفِ بِجَنَابَةَ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ ابْنُ بُوَيْهِ، وَوَاقِعَهُ وَدَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمَا عِدَّةَ أَيَّامٍ، فَانْهَزَمَ ابْنُ إِلْيَاسَ، وَعَادَ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ ظَافِرًا، وَسَارَ (نَحْوَ عَلِيٍّ) كَلِوَيْهِ لِيَنْتَقِمَ مِنْهُ، فَلَمَّا قَارَبَهُ أَسْرَى إِلَيْهِ فِي أَصْحَابِهِ الرَّجَّالَةِ، فَكَبَسُوا عَسْكَرَهُ لَيْلًا فِي لَيْلَةٍ شَدِيدَةِ الْمَطَرِ، فَأَثَّرُوا فِيهِمْ وَقَتَلُوا وَنَهَبُوا وَعَادُوا، وَبَقِيَ ابْنُ بُوَيْهِ بَاقِيَ لَيْلَتِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ سَارَ نَحْوَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ عَدَدَاً كَثِيرًا، وَانْهَزَمَ عَلِيٌّ كَلِوَيْهِ. وَكَتَبَ ابْنُ بُوَيْهِ إِلَى أَخِيهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بِمَا جَرَى لَهُ مَعَهُ وَمَعَ ابْنِ إِلْيَاسَ وَهَزِيمَتِهِ، فَأَجَابَهُ أَخُوهُ يَأْمُرُهُ بِالْوُقُوفِ بِمَكَانِهِ وَلَا يَتَجَاوَزُهُ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ قَائِدًا مِنْ قُوَّادِهِ يَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ إِلَى فَارِسَ، وَيُلْزِمُهُ بِذَلِكَ، فَعَادَ إِلَى أَخِيهِ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ بِإِصْطَخْرَ إِلَى أَنْ قَصْدَهُمْ أَبُو

عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ مُنْهَزِمًا مِنِ ابْنِ رَائِقٍ وَبُجْكُمَ، فَأَطْمَعَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ فِي الْعِرَاقِ، وَسَهُلَ عَلَيْهِ مُلْكُهُ، فَسَيَّرَ مَعَهُ أَخَاهُ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ أَبَا الْحُسَيْنِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مَاكَانَ عَلَى جُرْجَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى مَاكَانُ بْنُ كَالِي عَلَى جُرْجَانَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّنَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا أَنَّ مَاكَانَ لَمَّا عَادَ مِنْ جُرْجَانَ، أَقَامَ بِنَيْسَابُورَ، وَأَقَامَ بَانْجِينُ بِجُرْجَانَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، خَرَجَ بَانْجِينُ يَلْعَبُ بِالْكُرَةِ، فَسَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ فَوَقَعَ مَيِّتًا. وَبَلَغَ خَبَرُهُ مَاكَانَ بْنَ كَالِي وَهُوَ بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَوْحَشَ مَنْ عَارَضَ جَيْشَ خُرَاسَانَ، فَاحْتَجَّ عَلِيُّ [بْنُ] مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ صَاحِبُ الْجَيْشِ بِخُرَاسَانَ بِأَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ قَدْ هَرَبَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ فِي طَلَبِهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَسَارَ عَنْ نَيْسَابُورَ إِلَى أَسْفَرَايِينَ، فَأَنْفَذَ جَمَاعَةً مِنْ عَسْكَرِهِ إِلَى جُرْجَانَ وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، فَأَظْهَرَ الْعِصْيَانَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ، وَسَارَ مِنْ أَسْفَرَايِينَ إِلَى نَيْسَابُورَ مُغَافَصَةً، وَبِهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ، فَخَذَلَ مُحَمَّدًا أَصْحَابُهُ وَلَمْ يُعَاوِنُوهُ، وَكَانَ فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ غَيْرَ مُسْتَعِدٍّ لَهُ، فَسَارَ نَحْوَ سَرْخَسَ، وَعَادَ مَاكَانُ مِنْ نَيْسَابُورَ خَوْفًا مِنِ اجْتِمَاعِ الْعَسَاكِرِ عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ وِزَارَةِ الْفَضْلِ بْنِ جَعْفَرٍ لِلْخَلِيفَةِ وَفِيهَا كَتَبَ ابْنُ رَائِقٍ كِتَابًا عَنِ الرَّاضِي إِلَى أَبِي الْفَتْحِ الْفَضْلِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْفُرَاتِ يَسْتَدْعِيهِ لِيَجْعَلَهُ وَزِيرًا، وَكَانَ يَتَوَلَّى الْخَرَاجَ بِمِصْرَ وَالشَّامِ، وَظَنَّ ابْنُ رَائِقٍ أَنَّهُ إِذَا اسْتَوْزَرَهُ جَبَى لَهُ أَمْوَالَ الشَّامِ وَمِصْرَ، فَقَدِمَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَنُفِّذَتْ لَهُ الْخِلَعُ قَبْلَ وُصُولِهِ، فَلَقِيَتْهُ بِهِيتَ، فَلَبِسَهَا وَدَخَلَ بَغْدَاذَ، وَتَوَلَّى وِزَارَةَ الْخَلِيفَةِ وَوِزَارَةَ ابْنِ رَائِقٍ جَمِيعًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَلَّدَ الرَّاضِي مُحَمَّدَ بْنَ طُغْجَ أَعْمَالَ مِصْرَ مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الشَّامِ، وَعَزَلَ أَحْمَدَ بْنَ كَيَغْلَغَ عَنْ مِصْرَ.

وَفِيهَا انْخَسَفَ الْقَمَرُ جَمِيعُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَانْخَسَفَ جَمِيعُهُ أَيْضًا لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ) . (وَفِيهَا قُبِضَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدُوسٍ الْجِهْشَيَارِيِّ، وَصُودِرَ عَلَى مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ) . وَفِيهَا وُلِدَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَبُو شُجَاعٍ فَنَّاخِسْرُو بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ أَبِي عَلِيٍّ الْحَسَنِ بْنِ بُوَيْهِ بِأَصْبَهَانَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُوسَى بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكٍ، الْمَعْرُوفُ بِجِحْظَةَ، وَلَهُ شِعْرٌ مَطْبُوعٌ، وَكَانَ عَارِفًا بِفُنُونٍ شَتَّى مِنَ الْعُلُومِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُجَاهِدٍ فِي شَعْبَانَ، وَكَانَ إِمَامًا فِي مَعْرِفَةِ الْقِرَاءَاتِ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغَلِّسِ أَبُو الْحَسَنِ الْفَقِيهُ الظَّاهِرِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادِ بْنِ وَاصِلِ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ قَدْ جَالَسَ الرَّبِيعَ بْنَ سُلَيْمَانَ وَالْمُزَنِيَّ، وَيُونُسَ بْنَ عَبْدِ الْأَعْلَى أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ إِمَامًا.

ثم دخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 325 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مَسِيرِ الرَّاضِي بِاللَّهِ إِلَى حَرْبِ الْبَرِيدِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَشَارَ مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ عَلَى الرَّاضِي بِاللَّهِ بِالِانْحِدَارِ مَعَهُ إِلَى وَاسِطَ لِيَقْرُبَ مِنَ الْأَهْوَازِ، وَيُرَاسِلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْبَرِيدِيِّ، فَإِنْ أَجَابَ إِلَى مَا يَطْلُبُ مِنْهُ، وَإِلَّا قَرُبَ قَصْدُهُ عَلَيْهِ، فَأَجَابَ الرَّاضِي إِلَى ذَلِكَ، وَانْحَدَرَ أَوَّلَ الْمُحَرَّمِ، فَخَالَفَ الْحَجَرِيَّةَ وَقَالُوا: هَذِهِ حِيلَةٌ عَلَيْنَا لِيَعْمَلَ بِنَا مِثْلَ مَا عَمِلَ بِالسَّاجِيَّةِ، فَلَمْ يَلْتَفِتِ ابْنُ رَائِقٍ إِلَيْهِمْ، وَانْحَدَرَ وَتَبِعَهُ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ انْحَدَرُوا بَعْدَهُ، فَلَمَّا صَارُوا بِوَاسِطَ، اعْتَرَضَهُمُ ابْنُ رَائِقٍ، فَأَسْقَطَ أَكْثَرَهُمْ، فَاضْطَرَبُوا وَثَارُوا، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ الْحَجَرِيَّةُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ. وَلَمَّا وَصَلَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى بَغْدَاذَ، رَكِبَ لُؤْلُؤٌ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ بِبَغْدَاذَ وَلَقِيَهُمْ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ فَاسْتَتَرُوا، فَنُهِبَتْ دُورُهُمْ، وَقُبِضَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَمْلَاكُهُمْ، وَقُطِعَتْ أَرْزَاقُهُمْ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُمُ ابْنُ رَائِقٍ، قَتَلَ مَنْ كَانَ اعْتَقَلَهُ مِنَ السَّاجِيَّةِ سِوَى صَافِي الْخَازِنِ، وَهَارُونَ بْنِ مُوسَى، فَلَمَّا فَرَغَ، أَخْرَجَ مَضَارِبَهُ وَمَضَارِبَ الرَّاضِي نَحْوَ الْأَهْوَازِ لِإِجْلَاءِ ابْنِ الْبَرِيدِيِّ عَنْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فِي مَعْنَى تَأْخِيرِ الْأَمْوَالِ، وَمَا قَدِ ارْتَكَبَهُ مِنَ الِاسْتِبْدَادِ بِهَا وَإِفْسَادِ الْجُيُوشِ وَتَزْيِينِ الْعِصْيَانِ لَهُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ مَعَايِبِهِ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِنَّهُ إِنْ حَمَلَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُنْدَ الَّذِينَ أَفْسَدَهُمْ أُقِرَّ عَلَى عَمَلِهِ، وَإِنْ أَبَى قُوبِلَ بِمَا اسْتَحَقَّهُ. فَلَمَّا سَمِعَ الرِّسَالَةَ جَدَّدَ ضَمَانَ الْأَهْوَازِ، كُلُّ سَنَةٍ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ، يَحْمِلُ كُلَّ شَهْرٍ بِقِسْطِهِ، وَأَجَابَ إِلَى تَسْلِيمِ الْجَيْشِ إِلَى أَنْ يُؤْمَرَ بِتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسِيرُ بِهِمْ

إِلَى قِتَالِ ابْنِ بُوَيْهِ، إِذْ كَانُوا كَارِهِينَ لِلْعَوْدِ إِلَى بَغْدَاذَ لِضِيقِ الْأَمْوَالِ بِهَا وَاخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ، فَكَتَبَ الرُّسُلُ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ، فَعَرَضَهُ عَلَى الرَّاضِي، وَشَاوَرَ فِيهِ أَصْحَابَهُ، فَأَشَارَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ النُّوبَخْتِيُّ بِأَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ خِدَاعٌ وَمَكْرٌ لِلْقُرْبِ مِنْهُ، وَمَتَى عُدْتُمْ عَنْهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى مَا بَذَلَهُ. وَأَشَارَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُقَاتِلٍ بِإِجَابَتِهِ إِلَى مَا الْتَمَسَ مِنَ الضَّمَانِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، وَكَانَ يَتَعَصَّبُ لِلْبَرِيدِيِّ، فَسُمِعَ قَوْلُهُ وَعُقِدَ الضَّمَانُ عَلَى الْبَرِيدِيِّ، وَعَادَ هُوَ وَالرَّاضِي إِلَى بَغْدَاذَ، فَدَخَلَاهَا ثَامِنَ صَفَرٍ. فَأَمَّا الْمَالُ فَمَا حَمَلَ مِنْهُ دِينَارًا وَاحِدًا، وَأَمَّا الْجَيْشُ فَإِنَّ ابْنَ رَائِقٍ أَنْفَذَ جَعْفَرَ بْنَ وَرْقَاءَ لِيَتَسَلَّمَهُ مِنْهُ وَلِيَسِيرَ إِلَى فَارِسَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْأَهْوَازِ لَقِيَهُ ابْنُ الْبَرِيدِيِّ فِي الْجَيْشِ جَمِيعِهِ، وَلَمَّا عَادَ سَارَ الْجَيْشُ مَعَ الْبَرِيدِيِّ إِلَى دَارِهِ وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ جَعْفَرًا وَقَدَّمَ لَهُمْ طَعَامًا كَثِيرًا، فَأَكَلُوا وَانْصَرَفُوا، وَأَقَامَ جَعْفَرُ عِدَّةَ أَيَّامٍ. ثُمَّ إِنَّ جَعْفَرًا أَمَرَ الْجَيْشَ فَطَالَبُوهُ بِمَالٍ يُفَرِّقُهُ فِيهِمْ لِيَتَجَهَّزُوا بِهِ إِلَى فَارِسَ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ، فَشَتَمُوهُ وَتَهَدَّدُوهُ بِالْقَتْلِ، فَاسْتَتَرَ مِنْهُمْ وَلَجَأَ إِلَى الْبَرِيدِيِّ، وَقَالَ (لَهُ الْبَرِيدِيُّ) : لَيْسَ الْعَجَبُ مِمَّنْ أَرْسَلَكَ، وَإِنَّمَا الْعَجَبُ مِنْكَ كَيْفَ جِئْتَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَلَوْ أَنَّ الْجَيْشَ مَمَالِيكٌ لَمَا سَارُوا إِلَّا بِمَالٍ تُرْضِيهِمْ بِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ لَيْلًا، وَقَالَ: انْجُ بِنَفْسِكَ، فَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ خَائِبًا. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ مُقَاتِلٍ شَرَعَ مَعَ ابْنِ رَائِقٍ فِي عَزْلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ النُّوبَخْتِيِّ وَزِيرِهِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالِاعْتِضَادِ بِالْبَرِيدِيِّ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ وَزِيرًا لَهُ عِوَضَ النُّوبَخْتِيِّ، وَبَذَلَ لَهُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلِ ابْنُ مُقَاتِلٍ يَسْعَى وَيَجْتَهِدُ إِلَى أَنْ أَجَابَهُ إِلَيْهِ، فَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي بُلُوغِ ابْنِ مُقَاتِلٍ غَرَضَهُ أَنَّ النُّوبَخْتِيَّ كَانَ مَرِيضًا، فَلَمَّا تَحَدَّثَ ابْنُ مُقَاتِلٍ مَعَ ابْنِ رَائِقٍ فِي عَزْلِهِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ كَثِيرٌ، هُوَ الَّذِي سَعَى لِي حَتَّى بَلَغْتُ هَذِهِ الرُّتْبَةَ، فَلَا أَبْتَغِي بِهِ بَدِيلًا. فَقَالَ ابْنُ مُقَاتِلٍ: فَإِنَّ النُّوبَخْتِيَّ مَرِيضٌ لَا مَطْمَعَ فِي عَافِيَتِهِ. قَالَ لَهُ ابْنُ رَائِقٍ: فَإِنَّ الطَّبِيبَ قَدْ أَعْلَمَنِي أَنَّهُ قَدْ صَلُحَ وَأَكَلَ الدُّرَّاجَ.

فَقَالَ: إِنَّ الطَّبِيبَ يَعْلَمُ مَنْزِلَتَهُ مِنْكَ، وَأَنَّهُ وَزِيرُ الدَّوْلَةِ، فَلَا يَلْقَاكَ فِي أَمْرِهِ بِمَا تَكْرَهُ، وَلَكِنْ أَحْضِرِ ابْنَ أَخِي النُّوبَخْتِيِّ وَصِهْرَهُ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ، وَاسْأَلْهُ عَنْهُ سِرًّا، فَهُوَ يُخْبِرُكَ بِحَالِهِ. فَقَالَ: أَفْعَلُ. وَكَانَ النُّوبَخْتِيُّ قَدِ اسْتَنَابَ ابْنَ أَخِيهِ هَذَا عِنْدَ ابْنِ رَائِقٍ لِيَقُومَ بِخِدْمَتِهِ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ مُقَاتِلٍ فَارَقَ ابْنَ رَائِقٍ عَلَى هَذَا، وَاجْتَمَعَ بِعَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ وَقَالَ لَهُ: قَدْ قَرَّرْتُ لَكَ مَعَ الْأَمِيرِ ابْنِ رَائِقٍ الْوِزَارَةَ، فَإِذَا سَأَلَكَ عَنْ عَمِّكِ، فَأَعْلِمْهُ أَنَّهُ عَلَى الْمَوْتِ وَلَا يَجِيءُ مِنْهُ شَيْءٌ لِتَتِمَّ لَكَ الْوِزَارَةُ. فَلَمَّا اجْتَمَعَ ابْنُ رَائِقٍ بِعَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ سَأَلَهُ عَنْ عَمِّهِ، فَغُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَطَمَ بِرَأْسِهِ وَوَجْهِهِ، وَقَالَ: يُبْقِي اللَّهُ الْأَمِيرَ وَيُعْظِمُ أَجْرَهُ فِيهِ، فَلَا يَعُدُّهُ الْأَمِيرُ إِلَّا فِي الْأَمْوَاتِ، فَاسْتَرْجَعَ وَحَوْقَلَ، وَقَالَ: لَوْ فُدِيَ بِجَمِيعِ مَا أَمْلِكُهُ لَفَعَلْتُ. فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ ابْنُ مُقَاتِلٍ، قَالَ لَهُ ابْنُ رَائِقٍ: قَدْ كَانَ الْحَقُّ مَعَكَ، وَقَدْ يَئِسْنَا مِنَ النُّوبَخْتِيِّ، فَاكْتُبْ إِلَى الْبَرِيدِيِّ لِيُرْسِلَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي وِزَارَتِي، فَفَعَلَ وَكَتَبَ إِلَى الْبَرِيدِيِّ (بِإِنْفَاذِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ) الْكُوفِيِّ لِيَنُوبَ عَنْهُ فِي وِزَارَةِ ابْنِ رَائِقٍ، فَأَنْفَذَهُ، فَاسْتَوْلَى عَلَى الْأُمُورِ، وَتَمَشَّى حَالُ الْبَرِيدِيِّ بِذَلِكَ، فَإِنَّ النُّوبَخْتِيَّ كَانَ عَارِفًا بِهِ لَا يَتَمَشَّى مَعَهُ مَحَالُّهُ. فَلَمَّا اسْتَوْلَى الْكُوفِيُّ وَابْنُ مُقَاتِلٍ، شَرَعَا فِي تَضْمِينِ الْبَصْرَةِ مِنْ أَبِي يُوسُفَ بْنِ الْبَرِيدِيِّ أَخِي عَبْدِ اللَّهِ، فَامْتَنَعَ ابْنُ رَائِقٍ مِنْ ذَلِكَ، فَخَدَعَاهُ إِلَى أَنْ أَجَابَ إِلَيْهِ، وَكَانَ نَائِبُ ابْنِ رَائِقٍ بِالْبَصْرَةِ مُحَمَّدَ بْنَ يَزْدَادَ، وَقَدْ أَسَاءَ السِّيرَةَ وَظَلَمَ أَهْلَهَا، (فَلَمَّا ضَمِنَهَا الْبَرِيدِيُّ، حَضَرَ عِنْدَهُ بِالْأَهْوَازِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِهَا) فَوَعَدَهُمْ وَمَنَّاهُمْ، وَذَمَّ ابْنَ رَائِقٍ عِنْدَهُمْ بِمَا كَانَ يَفْعَلُهُ ابْنُ يَزْدَادَ، فَدَعَوْا لَهُ.

ثُمَّ أَنْفَذَ الْبَرِيدِيُّ غُلَامَهُ إِقْبَالًا فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَقَامِ بِحِصْنِ مَهْدِيٍّ إِلَى أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِمَا يَفْعَلُونَ، فَلَمَّا عَلِمَ ابْنُ يَزْدَادَ بِهِمْ، قَامَتْ قِيَامَتُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّ الْبَرِيدِيَّ يُرِيدُ التَّغَلُّبَ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ يُرِيدُ التَّصَرُّفَ فِي ضَمَانِهِ، لَكَانَ يَكْفِيهِ عَامِلٌ فِي جَمَاعَتِهِ. وَأَمَرَ الْبَرِيدِيُّ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ مَا كَانَ ابْنُ يَزْدَادَ يَأْخُذُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، حَتَّى اطْمَأَنُّوا، وَقَاتَلُوا مَعَهُ عَسْكَرَ ابْنِ رَائِقٍ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِمْ، فَعَمِلَ بِهِمْ أَعْمَالًا تَمَنَّوْا [مَعَهَا] أَيَّامَ ابْنِ رَائِقٍ وَعَدُّوهَا أَعْيَادًا. ذِكْرُ ظُهُورِ الْوَحْشَةِ بَيْنَ ابْنِ رَائِقٍ وَالْبَرِيدِيِّ، وَالْحَرْبِ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا ظَهَرَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ ابْنِ رَائِقٍ وَالْبَرِيدِيِّ، وَكَانَ لِذَلِكَ عِدَّةُ أَسْبَابٍ مِنْهَا: أَنَّ ابْنَ رَائِقٍ لَمَّا عَادَ مِنْ وَاسِطَ إِلَى بَغْدَاذَ، أَمَرَ بِظُهُورِ مَنِ اخْتَفَى مِنَ الْحَجَرِيِّينَ، فَظَهَرُوا، فَاسْتَخْدَمَ مِنْهُمْ نَحْوَ أَلْفَيْ رَجُلٍ، وَأَمَرَ الْبَاقِينَ بِطَلَبِ الرِّزْقِ أَيْنَ أَرَادُوا، فَخَرَجُوا مِنْ بَغْدَاذَ، وَاجْتَمَعُوا بِطَرِيقِ خُرَاسَانَ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، فَأَكْرَمَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَذَمَّ ابْنَ رَائِقٍ وَعَابَهُ، وَكَتَبَ إِلَى بَغْدَاذَ يَعْتَذِرُ عَنْ قَبُولِهِمْ، وَيَقُولُ: إِنَّنِي خِفْتُهُمْ، فَلِهَذَا قَبِلْتُهُمْ، وَجَعَلَهُمْ طَرِيقًا إِلَى قَطْعِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ، وَذُكِرَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا مَعَ الْجَيْشِ الَّذِي عِنْدَهُ وَمَنَعُوهُ مِنْ حَمْلِ الْمَالِ (الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ) ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ ابْنُ رَائِقٍ يُلْزِمُهُ بِإِبْعَادِ الْحَجَرِيَّةِ، فَاعْتَذَرَ وَلَمْ يَفْعَلْ. وَمِنْهَا ابْنُ رَائِقٍ بَلَغَهُ مَا ذَمَّهُ بِهِ ابْنُ الْبَرِيدِيِّ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ، وَبَلَغَهُ مَقَامُ إِقْبَالٍ فِي جَيْشِهِ بِحِصْنِ مَهْدِيٍّ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَاتَّهَمَ الْكُوفِيَّ بِمُحَابَاةِ الْبَرِيدِيِّ، وَأَرَادَ عَزْلَهُ، فَمَنَعَهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ عِنْدَ ابْنِ رَائِقٍ، فَأَمَرَ الْكُوفِيَّ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْبَرِيدِيِّ يُعَاتِبُهُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَيَأْمُرُهُ بِإِعَادَةِ عَسْكَرِهِ

مِنْ حِصْنِ مَهْدِيٍّ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَ بِأَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ يُخْفُونَ الْقَرَامِطَةَ، وَابْنُ يَزْدَادَ عَاجِزٌ عَنْ حِمَايَتِهِمْ، وَقَدْ تَمَسَّكُوا بِأَصْحَابِي لِخَوْفِهِمْ. وَكَانَ أَبُو طَاهِرٍ الْهِجْرِيُّ قَدْ وَصَلَ إِلَى الْكُوفَةِ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَخَرَجَ ابْنُ رَائِقٍ فِي عَسَاكِرِهِ إِلَى قَصْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْقُرْمُطِيِّ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ بَيْنَهُمْ أَمْرٌ، فَعَادَ الْقُرْمُطِيُّ إِلَى بَلَدِهِ، فَعَادَ حِينَئِذٍ ابْنُ رَائِقٍ وَسَارَ إِلَى وَاسِطَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْبَرِيدِيَّ، فَكَتَبَ إِلَى عَسْكَرِهِ بِحِصْنِ مَهْدِيٍّ يَأْمُرُهُمْ بِدُخُولِ الْبَصْرَةِ، وَقِتَالِ مَنْ مَنَعَهُمْ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةً مِنَ الْحَجَرِيَّةِ مَعُونَةً لَهُمْ، فَأَنْفَذَ ابْنُ يَزْدَادَ جَمَاعَةً مِنْ عِنْدِهِ لِيَمْنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْبَصْرَةِ، فَاقْتَتَلُوا بِنَهْرِ الْأَمِيرِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ يَزْدَادُ، فَأَعَادَهُمْ، وَزَادَ فِي عِدَّتِهِمْ كُلُّ مُتَجَنِّدٍ فِي الْبَصْرَةِ، وَاقْتَتَلُوا ثَانِيًا فَانْهَزَمُوا أَيْضًا. وَدَخَلَ إِقْبَالٌ وَأَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ الْبَصْرَةَ، وَانْهَزَمَ ابْنَ يَزْدَادَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ عَلَى ابْنِ رَائِقٍ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ يَتَهَدَّدُهُ، وَيَأْمُرُهُ بِإِعَادَةِ أَصْحَابِهِ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَاعْتَذَرَ وَلَمْ يَفْعَلْ، وَكَانَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يُرِيدُونَ الْبَرِيدِيَّ لِسُوءِ سِيرَةِ ابْنِ يَزْدَادَ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ بُجْكُمَ عَلَى الْأَهْوَازِ لَمَّا وَصَلَ جَوَابُ الرِّسَالَةِ مِنَ الْبَرِيدِيِّ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ بِالْمُغَالَطَةِ عَنْ إِعَادَةِ جُنْدِهِ مِنَ الْبَصْرَةِ، اسْتَدْعَى بَدْرًا الْخَرْشَنِيَّ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَحْضَرَ بُجْكُمَ أَيْضًا وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَسَيَّرَهُمَا فِي جَيْشٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا بِالْجَامِدَةِ، فَبَادَرَ بُجْكُمُ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى بَدْرٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَسَارَ إِلَى السُّوسِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ الْبَرِيدِيَّ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَمُقَدِّمُهُمْ غُلَامُهُ مُحَمَّدٌ الْمَعْرُوفُ بِالْحَمَّالِ، فَاقْتَتَلُوا بِظَاهِرِ السُّوسِ، وَكَانَ مَعَ بُجْكُمَ مِائَتَانِ وَسَبْعُونَ رَجُلًا مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ وَعَادُوا إِلَيْهِ، فَضَرَبَ الْبَرِيدِيُّ مُحَمَّدًا الْحَمَّالَ، وَقَالَ: انْهَزَمْتَ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ؟ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ ظَنَنْتَ أَنَّكَ تُحَارِبُ يَاقُوتًا الْمُدَبِّرَ، قَدْ جَاءَكَ خِلَافُ مَا عَهِدْتَ، فَقَامَ إِلَيْهِ وَجَعَلَ يَلْكُمُهُ بِيَدَيْهِ.

ثُمَّ رَجَعَ عَسْكَرُهُ، وَأَضَافَ إِلَيْهِمْ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْوَقْعَةَ، فَبَلَغُوا سِتَّةَ آلَافِ رَجُلٍ، وَسَيَّرَهُمْ مَعَ الْحَمَّالِ أَيْضًا، فَالْتَقَوْا عِنْدَ نَهْرِ تُسْتَرَ، فَبَادَرَ بُجْكُمُ فَعَبَرَ النَّهْرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمَّا رَآهُ أَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ، انْهَزَمُوا مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ، رَكِبَ هُوَ وَإِخْوَتُهُ وَمَنْ يَلْزَمُهُ فِي السُّفُنِ، فَأَخَذَ مَعَهُ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ، وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَغَرِقَتِ السَّفِينَةُ بِهِمْ، فَأَخْرَجَهُمُ الْغَوَّاصُونَ وَقَدْ كَادُوا يَغْرَقُونَ، وَأُخْرِجَ (بَعْضُ الْمَالِ، وَأُخْرِجَ) بَاقِي الْمَالِ لِبُجْكُمَ، وَوَصَلُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَأَقَامُوا بِالْأُبُلَّةِ، وَأَعَدُّوا الْمَرَاكِبَ لِلْهَرَبِ إِنِ انْهَزَمَ إِقْبَالٌ. وَسَيَّرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ غُلَامَهُ إِقْبَالًا إِلَى مَطَارَا، وَسَيَّرَ مَعَهُ جَمْعًا مِنْ فِتْيَانِ الْبَصْرَةِ، فَالْتَقَوْا بِمَطَارَا مَعَ أَصْحَابِ ابْنِ رَائِقٍ، فَانْهَزَمَتِ الرَّائِقِيَّةُ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، فَأَطْلَقَهُمُ الْبَرِيدِيُّ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ يَسْتَعْطِفُهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَحْلِفَ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ لِيَكُونُوا مَعَهُ وَيُسَاعِدُوهُ، فَامْتَنَعَ وَحَلَفَ لَئِنْ ظَفِرَ بِهَا لَيَحْرِقَنَّهَا، وَيَقْتُلُ كُلَّ مَنْ فِيهَا، فَازْدَادُوا بَصِيرَةً فِي قِتَالِهِ. وَاطْمَأَنَّ الْبَرِيدِيُّونَ بَعْدَ انْهِزَامِ عَسْكَرِ ابْنِ رَائِقٍ، وَأَقَامُوا حِينَئِذٍ بِالْبَصْرَةِ، وَاسْتَوْلَى بُجْكُمُ عَلَى الْأَهْوَازِ، فَلَمَّا بَلَغَ ابْنَ رَائِقٍ هَزِيمَةُ أَصْحَابِهِ، جَهَّزَ جَيْشًا آخَرَ وَسَيَّرَهُ إِلَى الْبَرِّ وَالْمَاءِ، (فَالتَقَى عَسْكَرُهُ الَّذِي عَلَى الظَّهْرِ مَعَ عَسْكَرِ الْبَرِيدِيِّ، فَانْهَزَمَ الرَّائِقِيَّةُ، وَأَمَّا الْعَسْكَرُ الَّذِي فِي الْمَاءِ) ، فَإِنَّهُمُ اسْتَوْلَوْا عَلَى الْكِلَاءِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ، رَكِبَ فِي السُّفُنِ وَهَرَبَ إِلَى جَزِيرَةِ أُوَالَ، وَتَرَكَ أَخَاهُ أَبَا الْحُسَيْنِ بِالْبَصْرَةِ فِي عَسْكَرٍ يَحْمِيهَا، فَخَرَجَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ مَعَ أَبِي الْحُسَيْنِ لِدَفْعِ عَسْكَرِ ابْنِ رَائِقٍ عَنِ الْكِلَاءِ، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى أَجْلَوْهُمْ عَنْهُ. فَلَمَّا اتَّصَلَ ذَلِكَ بِابْنِ رَائِقٍ، سَارَ بِنَفْسِهِ مِنْ وَاسِطَ إِلَى الْبَصْرَةِ عَلَى الظَّهْرِ، وَكَتَبَ إِلَى بُجْكُمَ لِيَلْحَقَ بِهِ، فَأَتَاهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْجُنْدِ، فَتَقَدَّمُوا وَقَاتَلُوا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، (فَاشْتَدَّ

الْقِتَالُ، وَحَامَى أَهْلُ الْبَصْرَةِ) ، وَشَتَمُوا ابْنَ رَائِقٍ، فَلَمَّا رَأَى بُجْكُمُ ذَلِكَ هَالَهُ، وَقَالَ لِابْنِ رَائِقٍ: مَا الَّذِي عَمِلْتَ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ حَتَّى أَحْوَجْتَهُمْ إِلَى هَذَا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَدْرِي. وَعَادَ ابْنُ رَائِقٍ وَبُجْكُمَ إِلَى مُعَسْكَرِهِمَا. وَأَمَّا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ فَإِنَّهُ سَارَ مِنْ جَزِيرَةِ أُوَالَ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ ابْنِ بُوَيْهِ، وَاسْتَجَارَ بِهِ، وَأَطْمَعَهُ فِي الْعِرَاقِ، وَهُوَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْخَلِيفَةِ وَابْنُ رَائِقٍ، فَنَفِذَ مَعَهُ أَخَاهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. فَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ رَائِقٍ بِإِقْبَالِهِمْ مِنْ فَارِسَ إِلَى الْأَهْوَازِ، سَيَّرَ بُجْكُمُ إِلَيْهَا، فَامْتَنَعَ مِنَ الْمَسِيرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ الْحَرْبُ وَالْخَرَاجُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَسَيَّرَهُ إِلَيْهَا. ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ الْبَرِيدِيِّ قَصَدُوا عَسْكَرَ ابْنِ رَائِقٍ لَيْلًا، فَصَاحُوا فِي جَوَانِبِهِ فَانْهَزَمُوا، فَلَمَّا رَأَى ابْنُ رَائِقٍ ذَلِكَ، أَمَرَ بِإِحْرَاقِ سَوَادِهِ وَآلَاتِهِ ; لِئَلَّا يَغْنَمَهُ الْبَرِيدِيُّ، وَسَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ جَرِيدَةً، فَأَشَارَ جَمَاعَةٌ عَلَى بُجْكُمَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَقَامَ ابْنُ رَائِقٍ أَيَّامًا، وَعَادَ إِلَى وَاسِطَ، وَكَانَ بَاقِي عَسْكَرِهِ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَيْهَا. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ أَهْلِ صِقِلِّيَةَ وَأُمَرَائِهِمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ أَهْلُ جُرْجَنْتَ، وَهِيَ مِنْ بِلَادِ صِقِلِّيَةَ عَلَى أَمِيرِهِمْ سَالِمِ بْنِ رَاشِدٍ، وَكَانَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهِمُ الْقَائِمُ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَ سَيِّئَ السِّيرَةِ فِي النَّاسِ، فَأَخْرَجُوا عَامِلَهُ عَلَيْهِمْ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ سَالِمٌ جَيْشًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ صِقِلِّيَةَ وَإِفْرِيقِيَّةَ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، فَهَزَمَهُمْ أَهْلُ جُرْجَنْتَ، وَتَبِعَهُمْ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ سَالِمٌ وَلَقِيَهُمْ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ وَعَظُمَ الْخَطْبُ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ جُرْجَنْتَ فِي شَعْبَانَ. فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ خِلَافَ أَهْلِ جُرْجَنْتَ، خَرَجُوا أَيْضًا عَلَى سَالِمٍ وَخَالَفُوهُ، وَعَظُمَ شَغَبُهُمْ عَلَيْهِ، وَقَاتَلُوهُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَهَزَمَهُمْ وَحَصَرَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْقَائِمِ بِالْمَهْدِيَّةِ يُعَرِّفُهُ أَنَّ أَهْلَ صِقِلِّيَةَ قَدْ خَرَجُوا عَنْ طَاعَتِهِ، وَخَالَفُوا

عَلَيْهِ، وَيَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَدَّهُ الْقَائِمُ بِجَيْشٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ خَلِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ، فَسَارُوا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى صِقِلِّيَةَ، فَرَأَى خَلِيلٌ مِنْ طَاعَةِ أَهْلِهَا مَا سَرَّهُ، وَشَكَوْا إِلَيْهِ مِنْ ظُلْمِ سَالِمٍ وَجَوْرِهِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَبْكُونَ وَيَشْكُونَ، فَرَقَّ النَّاسُ لَهُمْ، وَبَكَوْا لِبُكَائِهِمْ. وَجَاءَ أَهْلُ الْبِلَادِ إِلَى خَلِيلٍ وَأَهْلِ جُرْجَنْتَ، فَلَمَّا وَصَلُوا، اجْتَمَعَ بِهِمْ سَالِمٌ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْقَائِمَ قَدْ أَرْسَلَ خَلِيلًا لِيَنْتَقِمَ مِنْهُمْ بِمَنْ قَتَلُوا مِنْ عَسْكَرِهِ، فَعَاوَدُوا الْخِلَافَ، فَشَرَعَ خَلِيلٌ فِي بِنَاءِ مَدِينَةٍ عَلَى مَرْسَى الْمَدِينَةِ وَحَصَّنَهَا، وَنَقَضَ كَثِيرًا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَأَخَذَ أَبْوَابَهَا، وَسَمَّاهَا الْخَالِصَةَ. وَنَالَ النَّاسُ شِدَّةً فِي بِنَاءِ الْمَدِينَةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ جُرْجَنْتَ، فَخَافُوا وَتَحَقَّقَ عِنْدَهُمْ مَا قَالَ لَهُمْ سَالِمٌ، وَحَصَّنُوا مَدِينَتَهُمْ وَاسْتَعَدُّوا لِلْحَرْبِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ خَلِيلٌ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَحَصَرَهُمْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، وَبَقِيَ (مُحَاصِرًا لَهُمْ) ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ لَا يَخْلُو يَوْمٌ مِنْ قِتَالٍ، وَجَاءَ الشِّتَاءُ فَرَحَلَ عَنْهُمْ فِي ذِي الْحِجَّةِ إِلَى الْخَالِصَةِ فَنَزَلَهَا. وَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، خَالَفَ عَلَى خَلِيلٍ جَمِيعُ الْقِلَاعِ وَأَهْلُ مَازَرَ، كُلُّ ذَلِكَ بِسَعْيِ أَهْلِ جُرْجَنْتَ، وَبَثُّوا سَرَايَاهُمْ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ، وَكَاتَبُوا مَلِكَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ يَسْتَنْجِدُونَهُ، فَأَمَدَّهُمْ بِالْمَرَاكِبِ فِيهَا الرِّجَالُ وَالطَّعَامُ، فَكَتَبَ خَلِيلٌ إِلَى الْقَائِمِ يَسْتَنْجِدُهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيرًا، فَخَرَجَ خَلِيلٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ صِقِلِّيَةَ فَحَصَرُوا قَلْعَةَ (أَبِي ثَوْرٍ، فَمَلَكُوهَا وَكَذَلِكَ أَيْضًا الْبَلُّوطُ مَلَكُوهَا، وَحَصَرُوا قَلْعَةَ أَبَلَاطَنْوَا) ، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا حَتَّى انْقَضَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، رَحَلَ خَلِيلٌ عَنْ أَبَلَاطَنْوَا، وَحَصَرَ جُرْجَنْتَ وَأَطَالَ الْحِصَارَ، ثُمَّ رَحَلَ عَنْهَا وَتَرَكَ عَلَيْهَا عَسْكَرًا يُحَاصِرُهَا، مُقَدِّمُهُمْ أَبُو خَلَفِ بْنُ هَارُونَ، فَدَامَ الْحِصَارُ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَسَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَطَلَبَ الْبَاقُونَ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ عَلَى أَنْ يَنْزِلُوا مِنَ الْقَلْعَةِ، فَلَمَّا نَزَلُوا غَدَرَ بِهِمْ وَحَمَلَهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ.

فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ سَائِرِ الْقِلَاعِ ذَلِكَ أَطَاعُوا، فَلَمَّا عَادَتِ الْبِلَادُ الْإِسْلَامِيَّةُ إِلَى طَاعَتِهِ، رَحَلَ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَخَذَ مَعَهُ وُجُوهَ أَهْلِ جُرْجَنْتَ، وَجَعَلَهُمْ فِي مَرْكِبٍ، وَأَمَرَ بِنَقْبِهِ وَهُوَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرُ فَغَرِقُوا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَتِ الْفِرِنْجُ إِلَى بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ الَّتِي لِلْمُسْلِمِينَ، فَنَهَبُوا وَقَتَلُوا وَسَبَوْا، وَمِمَّنْ قُتِلَ مِنَ الْمَشْهُورِينَ جِحَافُ بْنُ يُمْنٍ قَاضِي بَلَنْسِيَةَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْخَزَّازُ النَّحْوِيُّ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ صَحِبَ ثَعْلَبًا وَالْمُبَرِّدَ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ.

ثم دخلت سنة ست وعشرين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 326 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عَلَى الْأَهْوَازِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ إِلَى الْأَهْوَازِ وَتِلْكَ الْبِلَادِ، فَمَلَكَهَا (وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا) . وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَسِيرِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ كَمَا سَبَقَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ، أَطْمَعَهُ فِي الْعِرَاقِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، فَسَيَّرَ مَعَهُ أَخَاهُ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَتَرَكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ وَلَدَيْهِ: أَبَا الْحَسَنِ مُحَمَّدًا، وَأَبَا جَعْفَرٍ الْفَيَّاضَ عِنْدَ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ رَهِينَةً وَسَارُوا، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى بُجْكُمَ بِنُزُولِهِمْ أَرَّجَانَ، فَسَارَ لِحَرْبِهِمْ، فَانْهَزَمَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ. وَكَانَ سَبَبُ الْهَزِيمَةِ أَنَّ الْمَطَرَ اتَّصَلَ أَيَامًا كَثِيرَةً، فَعُطِّلَتْ أَوْتَارُ قِسِيِّ الْأَتْرَاكِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى رَمْيِ النُّشَّابِ، فَعَادَ بُجْكُمُ وَأَقَامَ بِالْأَهْوَازِ، وَجَعَلَ بَعْضَ عَسْكَرِهِ بِعَسْكَرِ مُكْرَمٍ، فَقَاتَلُوا مُعِزَّ الدَّوْلَةِ بِهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ انْهَزَمُوا إِلَى تُسْتَرَ، فَاسْتَوْلَى مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ، وَسَارَ بُجْكُمُ إِلَى تُسْتَرَ مِنَ الْأَهْوَازِ، وَأَخَذَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ الْأَهْوَازِ، وَسَارَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ إِلَى وَاسِطَ، وَأَرْسَلَ مِنَ الطَّرِيقِ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ يُعْلِمُهُ الْخَبَرَ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ الْعَسْكَرَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ مَعَكَ مِائَتَا أَلْفِ دِينَارٍ فَتُقِيمَ بِوَاسِطَ حَتَّى نَصِلَ إِلَيْكَ، وَتُنْفِقَ فِيهِ الْمَالَ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا، فَالرَّأْيُ أَنَّكَ تَعُودُ إِلَى بَغْدَاذَ لِئَلًا يَجْرِي مِنَ الْعَسْكَرِ شَغَبٌ. فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ، عَادَ مِنْ وَاسِطَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَوَصَلَ بُجْكُمُ إِلَى وَاسِطَ فَأَقَامَ بِهَا، وَاعْتَقَلَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَهْوَازِيِّينَ، وَطَالَبَهُمْ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ فِيهِمْ أَبُو زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ السُّوسِيُّ.

قَالَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ: أَرَدْتُ أَنْ أَعْلَمَ مَا فِي نَفْسِ بُجْكُمَ، فَأَنْفَذْتُ إِلَيْهِ أَقُولُ: عِنْدِي نَصِيحَةٌ، فَأَحْضَرَنِي عِنْدَهُ، فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، أَنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ بِمَمْلَكَةِ الدُّنْيَا، وَخِدْمَةِ الْخِلَافَةِ، وَتَدْبِيرِ الْمَمَالِكِ، كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَعْتَقِلَ قَوْمًا مَنْكُوبِينَ قَدْ سُلِبُوا نِعْمَتَهُمْ، وَتُطَالِبُهُمْ بِمَالٍ وَهُمْ فِي بَلَدِ غُرْبَةٍ، وَتَأْمُرُ بِتَعْذِيبِهِمْ حِينَ جُعِلَ أَمْسُ طَشْتٌ فِيهِ نَارٌ عَلَى بَطْنَ بَعْضِهِمْ؟ أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا إِذَا سُمِعَ عَنْكَ اسْتَوْحَشَ مِنْكَ النَّاسُ، وَعَادَاكَ مَنْ لَا يَعْرِفُكَ؟ وَقَدْ أَنْكَرْتَ عَلَى ابْنِ رَائِقٍ إِيحَاشَهُ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، أَتَرَاهُ أَسَاءَ إِلَى جَمِيعِهِمْ؟ لَا وَاللَّهِ، بَلْ أَسَاءَ إِلَى بَعْضِهِمْ، فَأَبْغَضُوهُ كُلُّهُمْ، وَعَوَامُّ بَغْدَاذَ لَا تَحْتَمِلُ أَمْثَالَ هَذَا، وَذَكَرْتُ لَهُ فِعْلَ مَرْدَاوَيْجَ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ، قَالَ: قَدْ صَدَقْتَنِي، وَنَصَحْتَنِي، ثُمَّ أَمَرَ بِإِطْلَاقِهِمْ. وَلَمَّا اسْتَوْلَى ابْنُ بُوَيْهِ وَالْبَرِيدِيُّ عَلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ، سَارَ أَهْلُ الْأَهْوَازِ إِلَى الْبَرِيدِيِّ يُهَنُّونَهُ، وَفِيهِمْ طَبِيبٌ حَاذِقٌ، وَكَانَ الْبَرِيدِيُّ يُحَمُّ بِحُمَّى الرِّبْعِ، فَقَالَ لِذَلِكَ الطَّبِيبِ: أَمَا تَرَى يَا أَبَا زَكَرِيَّاءَ حَالِي وَهَذِهِ الْحُمَّى؟ فَقَالَ لَهُ: خَلْطٌ، يَعْنِي فِي الْمَأْكُولِ، فَقَالَ لَهُ: أَكْثَرُ مِنْ هَذَا التَّخْلِيطِ، قَدْ رَهِجَتِ الدُّنْيَا. ثُمَّ سَارُوا إِلَى الْأَهْوَازِ فَأَقَامُوا بِهَا خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ هَرَبَ الْبَرِيدِيُّ مِنِ ابْنِ بُوَيْهِ إِلَى الْبَاسِيَّانِ، فَكَاتَبَهُ بِعَتَبٍ كَثِيرٍ، وَيَذْكُرُ غَدْرَهُ فِي هَرَبِهِ. وَكَانَ سَبَبُ هَرَبِهِ أَنَّ ابْنَ بُوَيْهِ طَلَبَ عَسْكَرَهُ الَّذِينَ بِالْبَصْرَةِ لِيَسِيرُوا إِلَى أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بِأَصْبَهَانَ، مَعُونَةً لَهُ عَلَى حَرْبِ وَشْمَكِيرَ، فَأَحْضَرَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَلَمَّا حَضَرُوا، قَالَ لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ: إِنْ أَقَامُوا، وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّيْلَمِ فِتْنَةٌ، وَالرَّأْيُ أَنْ يَسِيرُوا إِلَى السُّوسِ ثُمَّ يَسِيرُوا إِلَى أَصْبَهَانَ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ طَالَبَهُ بِأَنْ يُحْضِرَ عَسْكَرَهُ الَّذِينَ بِحِصْنِ مَهْدِيٍّ لِيُسَيِّرَهُمْ فِي الْمَاءِ إِلَى وَاسِطَ، فَخَافَ الْبَرِيدِيُّ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ مِثْلُ مَا عَمِلَ هُوَ بِيَاقُوتٍ. وَكَانَ الدَّيْلَمُ يُهِينُونَهُ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، فَهَرَبَ وَأَمَرَ جَيْشَهُ الَّذِي بِالسُّوسِ، فَسَارُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، وَكَاتَبَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ بِالْإِفْرَاجِ لَهُ عَنِ الْأَهْوَازِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ ضَمَانِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ ضَمِنَ الْأَهْوَازَ وَالْبَصْرَةَ مِنْ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، كُلَّ سَنَةٍ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ،

فَرَحَلَ عَنْهَا إِلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ خَوْفًا مِنْ أَخِيهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ ; لِئَلَّا يَقُولُ لَهُ: كَسَرْتَ الْمَالَ، فَانْتَقَلَ الْبَرِيدِيُّ إِلَى بَنَابَاذَ، وَأَنْفَذَ خَلِيفَتَهُ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَأَنْفَذَ إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ يَذْكُرُ حَالَهُ وَخَوْفَهُ مِنْهُ، وَيَطْلُبُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى السُّوسِ مِنْ عَسْكَرِ مُكْرَمٍ ; لِيَبْعُدَ عَنْهُ وَيَأْمَنَ بِالْأَهْوَازِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْبَرِيدِيَّ (يُرِيدُ أَنْ) يَفْعَلَ بِكَ كَمَا فَعَلَ بِيَاقُوتٍ، وَيُفَرِّقَ أَصْحَابَكَ عَنْكَ، ثُمَّ يَأْخُذَكَ فَيَتَقَرَّبَ بِكَ إِلَى بُجْكُمَ (وَابْنِ رَائِقٍ، وَيَسْتَعِيدَ أَخَاكَ لِأَجْلِكَ، فَامْتَنَعَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ ذَلِكَ. وَعَلِمَ بُجْكُمُ بِالْحَالِ) ، فَأَنْفَذَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَاسْتَوْلَوْا عَلَى السُّوسِ وَجُنْدَيْسَابُورَ، وَبَقِيَتِ الْأَهْوَازُ بِيَدِ الْبَرِيدِيِّ، وَلَمْ يَبْقَ بِيَدِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مِنْ كُورِ الْأَهْوَازِ إِلَّا عَسْكَرُ مُكْرَمٍ، فَاشْتَدَّ الْحَالُ عَلَيْهِ، وَفَارَقَهُ بَعْضُ جُنْدِهِ، وَأَرَادُوا الرُّجُوعَ إِلَى فَارِسَ، فَمَنَعَهُمْ أَصْفَهَدُوَسْتُ وَمُوسَى قَيَاذَةَ، هُمَا مِنْ أَكَابِرِ الْقُوَّادِ، وَضَمِنَا لَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ لِيُقِيمُوا شَهْرًا، فَأَقَامُوا وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ يُعَرِّفُهُ حَالَهُ، فَأَنْفَذَ لَهُ جَيْشًا، فَقَوِيَ بِهِمْ، وَعَادَ فَاسْتَوْلَى عَلَى الْأَهْوَازِ، وَهَرَبَ الْبَرِيدِيُّ إِلَى الْبَصْرَةِ (وَاسْتَقَرَّ فِيهَا) فَاسْتَقَرَّ ابْنُ بُوَيْهِ بِالْأَهْوَازِ. وَأَقَامَ بُجْكُمُ بِوَاسِطَ طَامِعًا فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَى بَغْدَاذَ وَمَكَانِ ابْنِ رَائِقٍ، وَلَا يُظْهِرُ لَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْفَذَ ابْنُ رَائِقٍ عَلِيَّ بْنَ خَلَفِ بْنِ طَيَّابٍ إِلَى بُجْكُمَ لِيَسِيرَ مَعَهُ إِلَى الْأَهْوَازِ وَيُخْرِجَ مِنْهَا ابْنَ بُوَيْهِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَتْ وَلَايَتُهَا لِبُجْكُمَ وَالْخَرَاجُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ، فَلَمَّا وَصَلَ عَلِيٌّ إِلَى بُجْكُمَ بِوَاسِطَ اسْتَوْزَرَهُ بُجْكُمُ، وَأَقَامَ مَعَهُ وَأَخَذَ بُجْكُمُ جَمِيعَ مَالِ وَاسِطَ. وَلَمَّا رَأَى أَبُو الْفَتْحِ الْوَزِيرَ بِبَغْدَاذَ إِدْبَارَ الْأُمُورِ، أَطْمَعَ ابْنَ رَائِقٍ فِي مِصْرَ وَالشَّامِ،

وَصَاهَرَهُ، وَعَقَدَ بَيْنَهُ ابْنُ طُغْجَ عَهْدًا وَصِهْرًا، وَقَالَ لِابْنِ رَائِقٍ: أَنَا أَجْبِي إِلَيْكَ مَالَ مِصْرَ وَالشَّامِ إِنْ سَيَّرْتَنِي إِلَيْهِمَا، فَأَمَرَهُ بِالتَّجَهُّزِ لِلْحَرَكَةِ، فَفَعَلَ وَسَارَ أَبُو الْفَتْحِ إِلَى الشَّامِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ بُجْكُمَ وَالْبَرِيدِيِّ، وَالصُّلْحِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا أَقَامَ بُجْكُمُ بِوَاسِطَ وَعَظُمَ شَأْنُهُ، خَافَهُ ابْنُ رَائِقٍ ; لِأَنَّهُ ظَنَّ مَا فَعَلَهُ بُجْكُمُ مِنَ التَّغَلُّبِ عَلَى الْعِرَاقِ، فَرَاسَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ وَطَلَبَ مِنْهُ الصُّلْحَ عَلَى بُجْكُمَ، فَإِذَا انْهَزَمَ تَسَلَّمَ الْبَرِيدِيُّ وَاسِطًا، وَضَمِنَهَا بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ فِي السَّنَةِ عَلَى أَنْ يُنْفِذَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَسْكَرًا. فَسَمِعَ بُجْكُمُ بِذَلِكَ، فَخَافَ وَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي الَّذِي يَفْعَلُهُ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يَبْتَدِئَ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، وَأَنْ لَا يَهْجُمَ إِلَى حَضْرَةِ الْخِلَافَةِ، وَلَا يُكَاشِفَ ابْنَ رَائِقٍ إِلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْبَرِيدِيِّ، (فَجَمَعَ عَسْكَرَهُ، وَسَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ يُرِيدُ الْبَرِيدِيَّ) ، فَسَيَّرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ جَيْشًا بَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ عَشَرَةَ آلَافِ رَجُلٍ، عَلَيْهِمْ غُلَامُهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدٌ الْحَمَّالُ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْبَرِيدِيِّ، وَلَمْ يَتْبَعْهُمْ بُجْكُمُ بَلْ كَفَّ عَنْهُمْ. وَكَانَ الْبَرِيدِيُّونَ بِمَطَارَا يَنْتَظِرُونَ مَا يَنْكَشِفُ مِنَ الْحَالِ، فَلَمَّا انْهَزَمَ عَسْكَرُهُمْ خَافُوا، وَضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا رَأَى عَسْكَرَهُ سَالِمًا لَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ (وَلَا غَرِقَ) طَابَ قَلْبُهُ. وَكَانَتْ نِيَّةُ بُجْكُمَ إِذْلَالَ الْبَرِيدِيِّ وَقَطْعَهُ عَنِ ابْنِ رَائِقٍ، وَنَفْسُهُ مُعَلَّقَةٌ بِالْحَضْرَةِ، فَأَرْسَلَ ثَانِيَ يَوْمِ الْهَزِيمَةِ إِلَى الْبَرِيدِيِّ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ مِمَّا جَرَى، وَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ بَدَأْتَ وَتَعَرَّضْتَ بِي، وَقَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ وَعَنْ أَصْحَابِكَ، وَلَوْ تَبِعْتُهُمْ لَغَرِقَ وَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَأَنَا أُصَالِحُكَ عَلَى أَنْ أُقَلِّدَكَ وَاسِطًا إِذَا مَلَكْتُ الْحَضْرَةَ، وَأُصَاهِرَكَ، فَسَجَدَ الْبَرِيدِيُّ شُكْرًا

لِلَّهِ تَعَالَى، وَحَلَفَ بُجْكُمُ وَتَصَالَحَا، وَعَادَ إِلَى وَاسِطَ، وَأَخَذَ فِي التَّدْبِيرِ عَلَى ابْنِ رَائِقٍ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْحَضْرَةِ بِبَغْدَاذَ. ذِكْرُ قَطَعِ يَدِ ابْنِ مُقْلَةَ وَلِسَانِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي مُنْتَصَفِ شَوَّالٍ قُطِعَتْ يَدُ الْوَزِيرِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ. وَكَانَ سَبَبُ قَطْعِهَا أَنَّ الْوَزِيرَ أَبَا الْفَتْحِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ الْفُرَاتِ لَمَّا عَجَزَ عَنِ الْوِزَارَةِ وَسَارَ إِلَى الشَّامِ، اسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ الرَّاضِي بِاللَّهِ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، إِنَّمَا الْأَمْرُ جَمِيعُهُ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ، وَكَانَ ابْنُ رَائِقٍ قَبَضَ أَمْوَالَ ابْنِ مُقْلَةَ وَأَمْلَاكَهُ، وَأَمْلَاكَ ابْنِهِ، فَخَاطَبَهُ فَلَمْ يَرُدَّهَا، فَاسْتَمَالَ أَصْحَابَهُ، وَسَأَلَهُمْ مُخَاطَبَتَهُ فِي رَدِّهَا، فَوَعَدُوهُ، فَلَمْ يَقْضُوا حَاجَتَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ، سَعَى بِابْنِ رَائِقٍ، فَكَاتَبَ بُجْكُمَ يُطَمِّعُهُ فِي مَوْضِعِ ابْنِ رَائِقٍ، وَكَتَبَ إِلَى وَشْمَكِيرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ بِالرَّيِّ، وَكَتَبَ إِلَى الرَّاضِي يُشِيرُ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ عَلَى ابْنِ رَائِقٍ وَأَصْحَابِهِ، وَيَضْمَنُ أَنَّهُ يَسْتَخْرِجُ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِاسْتِدْعَاءِ بُجْكُمَ وَإِقَامَتِهِ مَقَامَ ابْنِ رَائِقٍ، فَأَطْمَعَهُ الرَّاضِي وَهُوَ كَارِهٌ لِمَا قَالَهُ، فَعَجَّلَ ابْنُ مُقْلَةَ، وَكَتَبَ إِلَى بُجْكُمَ يُعَرِّفُهُ إِجَابَةَ الرَّاضِي، وَيَسْتَحِثُّهُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْمَجِيءِ إِلَى بَغْدَاذَ. وَطَلَبَ ابْنُ مُقْلَةَ مِنَ الرَّاضِي أَنْ يَنْتَقِلَ وَيُقِيمَ عِنْدَهُ بِدَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى أَنْ يُتِمَّ عَلَى ابْنِ رَائِقٍ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَحَضَرَ مُتَنَكِّرًا آخِرَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَالَ: إِنَّ الْقَمَرَ تَحْتَ الشُّعَاعِ، وَهُوَ يَصْلُحُ لِلْأَسْرَارِ، فَكَانَ عُقُوبَتُهُ حِينَ نَظَرَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ أَنْ ذَاعَ سِرُّهُ وَشَهُرَ أَمْرُهُ، فَلَمَّا حَصَلَ بِدَارِ الْخَلِيفَةِ لَمْ يُوصِلْهُ الرَّاضِي إِلَيْهِ، وَاعْتَقَلَهُ فِي حُجْرَةٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، أَنْفَذَ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ خَطَّ ابْنِ مُقْلَةَ، فَشَكَرَ الرَّاضِي، وَمَا زَالَتِ الرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا فِي مَعْنَى ابْنِ مُقْلَةَ إِلَى مُنْتَصَفِ شَوَّالٍ، فَأُخْرِجَ ابْنُ مُقْلَةَ مِنْ مَحْبَسِهِ، وَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ عُولِجَ فَبَرَأَ، فَعَادَ يُكَاتِبُ الرَّاضِيَ، وَيَخْطُبُ الْوِزَارَةَ، وَيَذْكُرُ [أَنَّ] قَطْعَ يَدِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ عَمَلِهِ، وَكَانَ يَشُدُّ الْقَلَمَ عَلَى يَدِهِ الْمَقْطُوعَةِ وَيَكْتُبُ. فَلَمَّا قَرُبَ بُجْكُمُ مِنْ بَغْدَاذَ، سَمِعَ الْخَدَمَ يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنْ وَصَلَ بُجْكُمُ

فَهُوَ يَسْتَخْلِصُنِي، وَأُكَافِئُ ابْنَ رَائِقٍ، وَصَارَ يَدْعُو عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ وَقَطَعَ يَدَهُ، فَوَصَلَ خَبَرُهُ إِلَى الرَّاضِي وَإِلَى ابْنِ رَائِقٍ، فَأَمَرَا بِقَطْعِ لِسَانِهِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَحْبِسٍ ضَيِّقٍ، ثُمَّ لَحِقَهُ ذَرَبٌ فِي الْحَبْسِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يَخْدِمُهُ، فَآلَ الْحَالُ إِلَى أَنْ كَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، وَيُمْسِكُ الْحَبْلَ بِفِيهِ، وَلَحِقَهُ شَقَاءٌ شَدِيدٌ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَدُفِنَ بِدَارِ الْخَلِيفَةِ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَهُ سَأَلُوا فِيهِ، فَنُبِشَ وَسُلِّمَ إِلَيْهِمْ، فَدَفَنُوهُ فِي دَارِهِ، ثُمَّ نُبِشَ فَنُقِلَ إِلَى دَارٍ أُخْرَى. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُ وَلِيَ الْوِزَارَةَ ثَلَاثَ دَفَعَاتٍ، وَوَزَرَ لِثَلَاثَةِ خُلَفَاءَ، وَسَافَرَ ثَلَاثَ سَفَرَاتٍ: اثْنَتَيْنِ مَنْفِيًّا إِلَى شِيرَازَ، وَوَاحِدَةً فِي وِزَارَتِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَدُفِنَ بَعْدَ مَوْتِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَخُصَّ بِهِ مَنْ خَدَمَهُ ثَلَاثَةٌ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ بُجْكُمَ عَلَى بَغْدَاذَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ بُجْكُمُ بَغْدَاذَ، وَلَقِيَ الرَّاضِيَ، وَقُلِّدَ إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ مَكَانَ ابْنِ رَائِقٍ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ ابْتِدَاءً أَمْرَ بُجْكُمَ، وَكَيْفَ بَلَغَ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَإِنَّ بَعْضَ أَمْرِهِ قَدْ تَقَدَّمَ، وَإِذَا افْتَرَقَ لَمْ يَحْصُلِ الْغَرَضُ مِنْهُ. كَانَ بُجْكُمُ هَذَا مِنْ غِلْمَانِ أَبِي عَلِيٍّ الْعَارِضِ، وَكَانَ وَزِيرًا لِمَاكَانَ بْنِ كَالِي الدَّيْلَمَيِّ، فَطَلَبَهُ مِنْهُ مَاكَانُ، فَوَهَبَهُ لَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ فَارَقَ مَاكَانَ مَعَ مَنْ فَارَقَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ

وَالْتَحَقَ بِمَرْدَاوَيْجَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَتَلَهُ، وَسَارَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَاتَّصَلَ بِابْنِ رَائِقٍ، وَسَيَّرَهُ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَطَرَدَ الْبَرِيدِيَّ عَنْهَا. (ثُمَّ خَرَجَ الْبَرِيدِيُّ مَعَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ مِنْ فَارِسَ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَأَخَذُوهَا مِنْ بُجْكُمَ، وَانْتَقَلَ بُجْكُمُ مِنَ الْأَهْوَازِ إِلَى وَاسِطَ) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِوَاسِطَ تَعَلَّقَتْ هِمَّتُهُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى حَضْرَةِ الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُظْهِرُ التَّبَعِيَّةَ لِابنِ رَائِقٍ، وَكَانَ عَلَى أَعْلَامِهِ وَتِرَاسِهِ بُجْكُمُ الرَّائِقِيُّ، فَلَمَّا وَصَلَتْهُ كُتُبُ ابْنِ مُقْلَةَ يُعَرِّفُهُ أَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ مَعَ الرَّاضِي أَنْ يُقَلِّدَهُ إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ، طَمِعَ فِي ذَلِكَ، وَكَاشَفَ ابْنَ رَائِقٍ وَمَحَا نِسْبَتَهُ إِلَيْهِ مِنْ أَعْلَامِهِ، وَسَارَ مِنْ وَاسِطَ نَحْوَ بَغْدَاذَ غُرَّةَ ذِي الْقِعْدَةِ. وَاسْتَعَدَّ ابْنُ رَائِقٍ لَهُ، وَسَأَلَ الرَّاضِيَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى بُجْكُمَ يَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى وَاسِطَ، فَكَتَبَ الرَّاضِي إِلَيْهِ، وَسَيَّرَ الْكُتَّابَ، فَلَمَّا قَرَأَهُ، أَلْقَاهُ عَنْ يَدِهِ وَرَمَى بِهِ، وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ شَرْقِيَّ نَهَرَ دِيَالِي، وَكَانَ أَصْحَابُ ابْنِ رَائِقٍ عَلَى غَرْبَيْهِ، فَأَلْقَى أَصْحَابُ بُجْكُمَ نُفُوسَهُمْ فِي الْمَاءِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ رَائِقٍ، وَعَبَرَ أَصْحَابُ بُجْكُمَ وَسَارُوا إِلَى بَغْدَاذَ، وَخَرَجَ ابْنُ رَائِقٍ عَنْهَا إِلَى عُكْبَرَا، وَدَخَلَ بُجْكُمُ بَغْدَاذَ ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَلَقِيَ الرَّاضِيَ مِنَ الْغَدِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَكَتَبَ كُتُبًا عَنِ الرَّاضِي إِلَى الْقُوَّادِ الَّذِينَ مَعَ ابْنِ رَائِقٍ يَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَفَارَقُوهُ جَمِيهُمْ وَعَادُوا. فَلَمَّا رَأَى ابْنُ رَائِقٍ ذَلِكَ، عَادَ إِلَى بَغْدَاذَ وَاسْتَتَرَ، وَنَزَلَ بُجْكُمُ بِدَارَ مُؤْنِسٍ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ بِبَغْدَاذَ، فَكَانَتْ مُدَّةُ إِمَارَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ رَائِقٍ سَنَةً وَاحِدَةً وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَمِنْ مَكْرِ بُجْكُمَ أَنَّهُ كَانَ يُرَاسِلُ ابْنَ رَائِقٍ عَلَى لِسَانِ أَبِي زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ السُّوسِيِّ، قَالَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ: أَشَرْتُ عَلَى بُجْكُمَ أَنَّهُ لَا يُكَاشِفَ ابْنَ رَائِقٍ، فَقَالَ: لِمَ أَشَرْتَ بِهَذَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ عَلَيْكَ رِئَاسَةٌ وَإِمْرَةٌ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْكَ وَأَكْثَرُ عَدَدًا، وَالْخَلِيفَةُ مَعَهُ، وَالْمَالُ عِنْدَهُ كَثِيرٌ، فَقَالَ: أَمَّا كَثْرَةُ رِجَالِهِ، فَهُوَ جَوْزٌ فَارِغٌ، وَقَدْ بَلَوْتُهُمْ، فَمَا أُبَالِي بِهِمْ قَلُّوا أَمْ كَثُرُوا، وَأَمَّا كَوْنُ الْخَلِيفَةِ مَعَهُ، فَهَذَا لَا يَضُرُّنِي عِنْدَ أَصْحَابِي، وَأَمَّا قِلَّةُ الْمَالِ مَعِي، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، قَدْ وَفَّيْتُ أَصْحَابِي مُسْتَحَقَّهُمْ، وَمَعِي مَا يُسْتَظْهَرُ بِهِ،

فَكَمْ تَظُنُّ مَبْلَغَهُ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ: عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَقُلْتُ: مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، مَعِي خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ لَا أَحْتَاجُ إِلَيْهَا. فَلَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى بَغْدَاذَ، قَالَ لِي يَوْمًا: أَتَذْكُرُ إِذْ قُلْتُ لَكَ: مَعِي خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ؟ وَاللَّهِ لَمْ يَكُنْ مَعِي غَيْرُ خَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقُلْتُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ ثِقَتِكِ بِي؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّكَ كُنْتَ رَسُولِي إِلَى ابْنِ رَائِقٍ، فَإِذَا عَلِمْتَ قِلَّةَ الْمَالِ مَعِي، ضَعُفَتْ نَفْسُكَ، فَطَمِعَ الْعَدُوُّ فِينَا، فَأَرَدْتُ أَنْ تَمْضِيَ إِلَيْهِ بِقَلْبٍ قَوِيٍّ، فَتُكَلِّمَهُ بِمَا تَخْلَعُ [بِهِ] قَلْبَهُ وَتُضْعِفُ نَفْسَهُ. قَالَ: فَعَجِبْتُ مِنْ مَكْرِهِ وَعَقْلِهِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ لَشْكُرِيُّ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ وَقَتْلِهِ وَفِيهَا تَغَلَّبَ لَشْكُرِيُّ بْنُ مُرْدَى عَلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَلَشْكُرِيُّ هَذَا أَعْظَمُ مِنَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإِنَّ هَذَا كَانَ خَلِيفَةُ وَشْمَكِيرَ عَلَى أَعْمَالِ الْجَبَلِ، فَجَمَعَ مَالًا وَرِجَالًا وَسَارَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَبِهَا يَوْمَئِذٍ دَيْسَمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكُرْدِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ، فَجَمَعَ عَسْكَرًا وَتَحَارَبَ هُوَ وَلَشْكُرِيُّ، (فَانْهَزَمَ دَيْسَمُ، ثُمَّ عَادَ وَجَمَعَ) ، وَتَصَافَّا (مَرَّةً ثَانِيَةً) ، فَانْهَزَمَ أَيْضًا وَاسْتَوْلَى لَشْكُرِيُّ عَلَى بِلَادِهِ إِلَّا أَرْدَبِيلَ، فَإِنَّ أَهْلَهَا امْتَنَعُوا بِهَا لِحَصَانَتِهَا، وَلَهُمْ بَأْسٌ وَنَجْدَةٌ، وَهِيَ دَارُ الْمَمْلَكَةِ بِأَذْرَبِيجَانَ، فَرَاسَلَهُمْ لَشْكُرِيُّ، وَوَعَدَهُمُ الْإِحْسَانَ لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ مِنْ سُوءِ سِيرَةِ الدَّيْلَمِ مَعَ بِلَادِ الْجَبَلِ هَمَذَانَ وَغَيْرِهَا، فَحَصَرَهُمْ وَطَالَ الْحِصَارُ، ثُمَّ صَعِدَ أَصْحَابُهُ السُّورَ وَنَقَبُوهُ أَيْضًا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ وَدَخَلُوا الْبَلَدَ. وَكَانَ لَشْكُرِيُّ يُدْخِلُهُ نَهَارًا، وَيُخْرِجُ مِنْهُ لَيْلًا إِلَى عَسْكَرِهِ، فَبَادَرَ أَهْلُ الْبَلَدِ وَأَصْلَحُوا ثَلْمَ السُّورِ، وَأَظْهَرُوا الْعِصْيَانَ، وَعَاوَدُوا الْحَرْبَ، فَنَدَمَ عَلَى التَّفْرِيطِ وَإِضَاعَةِ الْحَزْمِ، فَأَرْسَلَ أَهْلُ أَرْدَبِيلَ إِلَى دَيْسَمَ يَعَرِّفُونَهُ الْحَالَ وَيُوَاعِدُونَهُ يَوْمًا يَجِيءُ فِيهِ لِيَخْرُجُوا فِيهِ إِلَى

قِتَالِ لَشْكُرِيِّ، وَيَأْتِي هُوَ مِنْ وَرَائِهِ، فَفَعَلَ وَسَارَ نَحْوَهُمْ، وَظَهَرُوا يَوْمَ الْمَوْعِدِ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ، وَقَاتَلُوا لَشْكُرِيَّ، وَأَتَاهُ دَيْسَمُ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ، فَانْهَزَمَ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَانْحَازَ إِلَى مُوقَانَ، فَأَكْرَمَهُ أَصْبَهْبَذُهَا وَيُعْرَفُ بِابْنِ دَوْلَةٍ، (وَأَحْسَنَ ضِيَافَتَهُ. وَجَمَعَ لَشْكُرِيُّ وَسَارَ نَحْوَ دَيْسَمَ، وَسَاعَدَهُ ابْنُ دَوْلَةٍ) ، فَهَرَبَ دَيْسَمُ (وَعَبَرَ نَهْرَ أُرْسَ، وَعَبَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ لَشْكُرِيِّ إِلَيْهِ، فَانْهَزَمَ دَيْسَمُ) ، وَقَصَدَ وَشْمَكِيرَ، وَهُوَ بِالرَّيِّ، وَخَوَّفَهُ مَنْ لَشْكُرِيِّ، وَبَذَلَ لَهُ مَالًا كُلَّ سَنَةٍ لِيُسَيِّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَسَيَّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا، وَكَاتَبَ عَسْكَرُ لَشْكُرِيِّ وَشْمَكِيرَ يُعْلِمُونَهُ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَأَنَّهُمْ مَتَى رَأَوْا عَسْكَرَهُ صَارُوا مَعَهُ عَلَى لَشْكُرِيِّ، فَظَفِرَ لَشْكُرِيُّ بِالْكُتُبِ، فَكَتَمَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ عَسْكَرُ وَشْمَكِيرَ، جَمَعَ أَصْحَابَهُ وَأَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يَقْوَى بِهِمْ، وَأَنَّهُ يَسِيرُ بِهِمْ نَحْوَ الزَّوْزَانَ، وَيَنْهَبُ مَنْ عَلَى طَرِيقِهِ مِنَ الْأَرْمَنِ، وَيَسِيرُ نَحْوَ الْمَوْصِلِ وَيَسْتَوْلِي عَلَيْهَا وَعَلَى غَيْرِهَا، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ، فَنَهَبَ وَغَنِمَ وَسَبَى، وَانْتَهَى إِلَى الزَّوْزَانَ وَمَعَهُمُ الْغَنَائِمُ، فَنَزَلَ بِوَلَايَةِ إِنْسَانٍ أَرْمَنِيٍّ، وَبَذَلَ لَهُ مَالًا لِيَكُفَّ عَنْهُ وَعَنْ بِلَادِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ الْأَرْمَنِيَّ كَمَنَ كَمِينًا فِي مَضِيقٍ هُنَاكَ، وَأَمَرَ بَعْضَ الْأَرْمَنَ أَنْ يَنْهَبَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ لَشْكُرِيَّ وَيَسْلُكُ ذَلِكَ الْمَضِيقَ، فَفَعَلُوا، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى لَشْكُرِيَّ، فَرَكِبَ فِي خَمْسَةِ أَنْفُسٍ، فَسَارَ وَرَاءَهُمْ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْكَمِينُ فَقَتَلُوهُ وَمَنْ مَعَهُ، وَلَحِقَهُ عَسْكَرُهُ، فَرَأَوْهُ قَتِيلًا وَمَنْ مَعَهُ، فَعَادُوا وَوَلَّوْا عَلَيْهِمُ ابْنَهُ لَشْكُرِسْتَانَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَسِيرُوا عَلَى عَقَبَةِ التِّنِّينِ، وَهِيَ تُجَاوِزُ الْجُودِيَّ، وَيُحْرِزُوا سَوَادَهُمْ، وَيَرْجِعُوا إِلَى بَلَدِ طَرْمَ الْأَرْمَنِيِّ فَيُدْرِكُوا آثَارَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ طَرْمَ، فَرَتَّبَ الرِّجَالَ عَلَى تِلْكَ الْمَضَايِقِ يَرْمُونَهُمْ بِالْحِجَارَةِ، وَيَمْنَعُونَهُمُ الْعُبُورَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَلِمَ الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، وَفِيمَنْ سَلِمَ لَشْكُرِسْتَانُ، وَسَارَ فِيمَنْ مَعَهُ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ بِالْمَوْصِلِ، فَأَقَامَ بَعْضُهُمْ عِنْدَهُ وَانْحَدَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ.

فَأَمَّا الَّذِينَ أَقَامُوا بِالْمَوْصِلِ، فَسَيَّرَهُمْ مَعَ ابْنِ عَمِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ لَمَّا أَقْبَلَ نَحْوَهُ دَيْسَمُ (لِيَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ) ، وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ قِبَلِ ابْنِ عَمِّهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ عَلَى مُعَاوِنِ أَذْرَبِيجَانَ، فَقَصَدَهُ دَيْسَمُ وَقَاتَلَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِابْنِ حَمْدَانَ بِهِ طَاقَةٌ، فَفَارَقَ أَذْرَبِيجَانَ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا دَيْسَمُ. ذِكْرُ اخْتِلَالِ أُمُورِ الْقَرَامِطَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَسَدَ حَالُ الْقَرَامِطَةِ، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ ابْنُ سَنْبَرٍ، وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ أَبِي سَعِيدٍ الْقُرْمُطِيِّ وَالْمَطَّلِعِينَ عَلَى سِرِّهِ، وَكَانَ لَهُ عَدُوٌّ مِنَ الْقَرَامِطَةِ اسْمُهُ أَبُو حَفْصٍ الشَّرِيكُ، فَعَمَدَ ابْنُ سَنْبَرٍ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْبَهَانَ، وَقَالَ لَهُ: إِذَا مَلَّكْتُكَ أَمْرَ الْقَرَامِطَةِ، أُرِيدُ مِنْكَ أَنْ تَقْتُلَ عَدُوِّي أَبَا حَفْصٍ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَعَاهَدَهُ عَلَيْهِ، فَأَطْلَعَهُ عَلَى أَسْرَارِ أَبِي سَعِيدٍ، وَعَلَامَاتٍ كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهَا فِي صَاحِبِهِمُ الَّذِي يَدْعُونَ إِلَيْهِ، فَحَضَرَ عِنْدَ أَوْلَادِ أَبِي سَعِيدٍ، وَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو طَاهِرٍ: هَذَا الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، فَأَطَاعُوهُ، وَدَانُوا لَهُ، حَتَّى كَانَ يَأْمُرُ الرَّجُلَ بِقَتْلِ أَخِيهِ فَيَقْتُلُهُ، وَكَانَ إِذَا كَرِهَ رَجُلًا يَقُولُ لَهُ إِنَّهُ مَرِيضٌ، يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ شَكَّ فِي دِينِهِ، وَيَأْمُرُ بِقَتْلِهِ. وَبَلَغَ أَبَا طَاهِرٍ أَنَّ الْأَصْبَهَانَيَّ يُرِيدُ قَتْلَهُ لِيَتَفَرَّدَ بِالْمُلْكِ، فَقَالَ لِإِخْوَتِهِ: لَقَدْ أَخْطَأْنَا فِي هَذَا الرَّجُلِ، وَسَأَكْشِفُ حَالَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لَنَا مَرِيضًا، فَانْظُرْ إِلَيْهِ لِيَبْرَأَ، فَحَضَرُوا وَأَضْجَعُوا وَالِدَتَهُ وَغَطَّوْهَا بِإِزَارٍ، فَلَمَّا رَآهَا قَالَ: إِنَّ هَذَا الْمَرِيضَ لَا يَبْرَأُ فَاقْتُلُوهُ، فَقَالُوا لَهُ: كَذَبْتَ، هَذِهِ وَالِدَتُهُ، ثُمَّ قَتَلُوهُ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ عُظَمَائِهِمْ وَشُجْعَانِهِمْ. وَكَانَ هَذَا سَبَبُ تَمَسُّكِهِمْ بِهَجَرَ، وَتَرْكِ قَصْدِ الْبِلَادِ، وَالْإِفْسَادِ فِيهَا.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَكَانَ الْقَيِّمُ بِهِ ابْنُ وَرْقَاءَ الشَّيْبَانِيُّ، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ فَوِدِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِتَّةَ آلَافٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ مِنْ بَيْنِ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَكَانَ الْفِدَاءُ عَلَى نَهَرِ الْبَدْنَدُونِ. وَفِيهَا وُلِدَ الصَّاحِبُ أَبُو الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّادٍ.

ثم دخلت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 327 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مَسِيرِ الرَّاضِي وَبُجْكُمَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَظُهُورِ ابْنِ رَائِقٍ وَمَسِيرِهِ إِلَى الشَّامِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ سَارَ الرَّاضِي بِاللَّهِ وَبُجْكُمُ إِلَى الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ رَبِيعَةَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ بْنَ حَمْدَانَ أَخَّرَ الْمَالَ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ ضَمَانِ الْبِلَادِ الَّتِي بِيَدِهِ، فَاغْتَاظَ الرَّاضِي مِنْهُ لِسَبَبِ ذَلِكَ، فَسَارَ هُوَ وَبُجْكُمُ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَمَعَهُمَا قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحُسَيْنِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا بَلَغُوا تَكْرِيتَ أَقَامَ الرَّاضِي بِهَا، وَسَارَ بُجْكُمُ، فَلَقِيَهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِالْكَحِيلِ عَلَى سِتَّةِ فَرَاسِخَ مِنَ الْمَوْصِلِ، فَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَسَارُوا إِلَى نَصِيبِينَ، وَتَبِعَهُمْ بُجْكُمُ وَلَمْ يَنْزِلْ بِالْمَوْصِلِ. فَلَمَّا بَلَغَ نَصِيبِينَ سَارَ ابْنُ حَمْدَانَ إِلَى آمِدَ، وَكَتَبَ بُجْكُمُ إِلَى الرَّاضِي بِالْفَتْحِ، فَسَارَ مِنْ تَكْرِيتَ فِي الْمَاءِ يُرِيدُ الْمَوْصِلَ، وَكَانَ مَعَ الرَّاضِي جَمَاعَةٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ إِلَى بَغْدَاذَ قَبْلَ وُصُولِ كِتَابِ بُجْكُمَ، وَكَانَ ابْنُ رَائِقٍ يُكَاتِبُهُمْ، فَلَمَّا بَلَغُوا بَغْدَاذَ ظَهَرَ ابْنُ رَائِقٍ مِنِ اسْتِتَارِهِ وَاسْتَوْلَى عَلَى بَغْدَاذَ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِدَارِ الْخَلِيفَةِ. وَبَلَغَ الْخَبَرَ إِلَى الرَّاضِي، فَأُصْعِدَ مِنَ الْمَاءِ إِلَى الْبَرِّ، وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَكَتَبَ إِلَى بُجْكُمَ بِذَلِكَ، فَعَادَ عَنْ نَصِيبِينَ، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرَ عَوْدِهِ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ سَارَ مِنْ آمِدَ إِلَى نَصِيبِينَ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَعَلَى دِيَارِ رَبِيعَةَ، فَقَلِقَ بُجْكُمُ لِذَلِكَ، وَتَسَلَّلَ أَصْحَابُهُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَاحْتَاجَ أَنْ يَحْفَظَ أَصْحَابَهُ، وَقَالَ: قَدْ حَصَلَ الْخَلِيفَةُ وَأَمِيرُ الْأُمَرَاءِ عَلَى

قَصَبَةِ الْمَوْصِلِ حَسْبُ. وَأَنْفَذَ ابْنُ حَمْدَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ خَبَرُ ابْنِ رَائِقٍ، يَطْلُبُ الصُّلْحَ وَيُعَجِّلُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَفَرِحَ بُجْكُمُ بِذَلِكَ، وَأَنْهَاهُ إِلَى الرَّاضِي، فَأَجَابَ إِلَيْهِ، وَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ، وَانْحَدَرَ الرَّاضِي وَبُجْكُمُ إِلَى بَغْدَاذَ. وَكَانَ قَدْ رَاسَلَهُمُ ابْنُ رَائِقٍ مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ شَيْرَزَادَ يَلْتَمِسُ الصُّلْحَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ إِلَى الْمَوْصِلِ وَأَدَّى الرِّسَالَةَ (إِلَى بُجْكُمَ، فَأَكْرَمَهُ بُجْكُمُ وَأَنْزَلَهُ مَعَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَقَدَّمَهُ إِلَى الرَّاضِي فَأَبْلَغَهُ الرِّسَالَةَ أَيْضًا) ، فَأَجَابَهُ الرَّاضِي وَبُجْكُمُ إِلَى مَا طَلَبَ، وَأَرْسَلَ فِي جَوَابِ رِسَالَتِهِ قَاضِيَ الْقُضَاةِ أَبَا الْحُسَيْنِ عُمَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَقَلَّدَهُ طَرِيقَ الْفُرَاتِ وَدِيَارَ مُضَرَ: (حَرَّانَ، وَالرُّهَا، وَمَا جَاوَرَهَا) ، وَجُنْدَ قِنَّسْرِينَ، وَالْعَوَاصِمَ، فَأَجَابَ ابْنُ رَائِقٍ أَيْضًا إِلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَسَارَ عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى وَلَايَتِهِ، وَدَخَلَ الرَّاضِي وَبُجْكُمُ بَغْدَاذَ تَاسِعَ رَبِيعٍ الْآخَرِ. ذِكْرُ وِزَارَةِ الْبَرِيدِيِّ لِلْخَلِيفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَتْحِ الْفَضْلُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْفُرَاتِ بِالرَّمْلَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ مَسِيرِهِ إِلَى الشَّامِ، فَكَانَتْ وِزَارَتُهُ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَلَمَّا سَارَ إِلَى الشَّامِ، اسْتَنَابَ بِالْحَضْرَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ النُّقُرِيِّ. وَكَانَ بُجْكُمُ قَدْ قَبَضَ عَلَى وَزِيرِهِ عَلِيِّ بْنِ خَلَفِ بْنِ طِيَّابٍ، فَاسْتَوْزَرَ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنَ شَيْرَزَادَ، فَسَعَى أَبُو جَعْفَرٍ فِي الصُّلْحِ بَيْنَ بُجْكُمَ وَالْبَرِيدِيِّ، فَتَمَّ ذَلِكَ، ثُمَّ ضَمِنَ الْبَرِيدِيُّ أَعْمَالَ وَاسِطَ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ كُلَّ سَنَةٍ، ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ شَيْرَزَادَ أَيْضًا بَعْدَ مَوْتِ أَبِي الْفَتْحِ الْوَزِيرِ بِالرَّمْلَةِ فِي تَقْلِيدِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ الْوِزَارَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الرَّاضِي فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَ إِلَيْهِ فِي رَجَبٍ، وَاسْتَنَابَ بِالْحَضْرَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ

النُّقُرِيَّ أَيْضًا كَمَا كَانَ يُخْلِفُ أَبَا الْفَتْحِ. ذِكْرُ مُخَالَفَةِ بِالُبَا عَلَى الْخَلِيفَةِ كَانَ بُجْكُمُ قَدِ اسْتَنَابَ بَعْضَ قُوَّادِهِ الْأَتْرَاكِ وَيُعْرَفُ بِبَالُبَا عَلَى الْأَنْبَارِ، فَكَاتَبَهُ يَطْلُبُ أَنْ يُقَلَّدَ أَعْمَالَ طَرِيقِ الْفُرَاتِ بِأَسْرِهَا لِيَكُونَ فِي وَجْهِ ابْنِ رَائِقٍ وَهُوَ بِالشَّامِ، فَقَلَّدَهُ بُجْكُمُ ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَى الرَّحْبَةِ، وَكَاتَبَ ابْنَ رَائِقٍ، وَخَالَفَ عَلَى بُجْكُمَ وَالرَّاضِي، وَأَقَامَ الدَّعْوَةَ لِابنِ رَائِقٍ وَعَظُمَ أَمْرُهُ. فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى بُجْكُمَ فَسَيَّرَ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ وَأَمَرَهَمْ بِالْجِدِّ، وَأَنْ يَطْوُوا الْمَنَازِلَ وَيَسْبِقُوا خَبَرَهُمْ وَيَكْبِسُوا بِالرَّحْبَةِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَوَصَلُوا إِلَى الرَّحْبَةِ فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَدَخَلُوهَا عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ بَالُبَا، وَهُوَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ، اخْتَفَى عِنْدَ إِنْسَانٍ حَائِكٍ، ثُمَّ ظَفِرُوا بِهِ فَأَخَذُوهُ وَأَدْخَلُوهُ بَغْدَاذَ عَلَى جَمَلٍ ثُمَّ حُبِسَ، فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ. ذِكْرُ وَلَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُحْتَاجٍ خُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ الْأَمِيرُ السَّعِيدُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ عَلَى خُرَاسَانَ وَجُيُوشِهَا أَبَا عَلِيٍّ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ مُحْتَاجٍ، وَعَزَلَ أَبَاهُ وَاسْتَقْدَمَهُ إِلَى بُخَارَى. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا طَالَ بِهِ، فَأَنْفَذَ السَّعِيدَ فَأَحْضَرَ ابْنَهُ أَبَا عَلِيٍّ مِنَ الصَّغَانِيَانِ، وَاسْتَعْمَلَهُ مَكَانَ أَبِيهِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ، فَسَارَ عَنْ نَيْسَابُورَ، فَلَقِيَهُ وَلَدُهُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ مِنْ نَيْسَابُورَ، فَعَرَّفَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَسَارَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى بُخَارَى مَرِيضًا، وَدَخَلَ وَلَدُهُ أَبُو عَلِيٍّ نَيْسَابُورَ أَمِيرًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ عَاقِلًا شُجَاعًا حَازِمًا، فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، يَسْتَعِدُّ لِلْمَسِيرِ إِلَى جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.

ذِكْرُ غَلَبَةِ وَشْمَكِيرَ عَلَى أَصْبَهَانَ وَأَلَمُوتَ وَفِيهَا أَرْسَلَ وَشْمَكِيرُ بْنُ زِيَارَ أَخُو مَرْدَاوَيْجَ جَيْشًا كَثِيفًا مِنَ الرَّيِّ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَبِهَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ بُوَيْهِ، وَهُوَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ، فَأَزَالُوهُ عَنْهَا وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَخَطَبُوا فِيهَا لِوَشْمَكِيرَ، ثُمَّ سَارَ (رُكْنُ الدَّوْلَةِ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ، فَنَزَلَ بِظَاهِرِ إِصْطَخْرَ، وَسَارَ) وَشْمَكِيرُ إِلَى قَلْعَةِ أَلَمُوتَ، فَمَلَكَهَا وَعَادَ عَنْهَا، وَسَيَرِدُ مِنْ أَخْبَارِهِمَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] مَا تَقِفُ عَلَيْهِ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِالْأَنْدَلُسِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى أُمَيَّةُ بْنُ إِسْحَاقَ بِمَدِينَةِ شَنْتَرِينَ، عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَخٌ اسْمُهُ أَحْمَدُ، وَكَانَ وَزِيرًا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ أُمَيَّةُ بِشَنْتَرِينَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ عَصَى فِيهَا، وَالْتَجَأَ إِلَى رُدْمِيرَ مَلِكِ الْجَلَالِقَةِ، وَدَلَّهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ خَرَجَ أُمَيَّةُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ يَتَصَيَّدُ، فَمَنَعَهُ أَصْحَابُهُ مِنْ دُخُولِ الْبَلَدِ، فَسَارَ إِلَى رُدْمِيرَ فَاسْتَوْزَرَهُ. وَغَزَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِلَادَ الْجَلَالِقَةِ، (فَالْتَقَى هُوَ وَرُدْمِيرُ هَذِهِ السَّنَةَ، فَانْهَزَمَتِ الْجَلَالِقَةُ) ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَحَصَرَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. ثُمَّ إِنَّ الْجَلَالِقَةَ خَرَجُوا عَلَيْهِ وَظَفِرُوا بِهِ وَبِالْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَأَرَادَ اتِّبَاعَهُمْ، فَمَنَعَهُ أُمَيَّةُ وَخَوَّفَهُ الْمُسْلِمِينَ (وَرَغَّبَهُ فِي الْخَزَائِنِ وَالْغَنِيمَةِ. وَعَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ، فَجَهَّزَ الْجُيُوشَ إِلَى بِلَادِ الْجَلَالِقَةِ، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِمْ بِالْغَارَاتِ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ أَضْعَافَ مَا قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ، ثُمَّ إِنَّ أُمَيَّةَ اسْتَأْمَنَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَأَكْرَمَهُ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ انْكَسَفَ الْقَمَرُ جَمِيعُهُ فِي صَفَرٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيُّ صَاحِبُ " الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ ". وَعُثْمَانُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الدُّنْيَا الْمَعْرُوفُ بِالْأَشَجِّ الَّذِي يُقَالُ إِنَّهُ لَقِيَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ، وَيُكَنُّونَهُ أَبَا الْحَسَنِ آخِرَ أَيَّامِهِ، وَلَهُ صَحِيفَةٌ تُرْوَى عَنْهُ وَلَا تَصِحُّ، وَقَدْ رَوَاهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ مَعَ عِلْمٍ مِنْهُمْ بِضَعْفِهَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ (مُحَمَّدِ بْنِ) سَهْلٍ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ، كَاعْتِلَالِ الْقُلُوبِ وَغَيْرِهِ، بِمَدِينَةِ يَافَا.

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 328 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ أَبِي عَلِيٍّ عَلَى جُرْجَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ، سَارَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُحْتَاجٍ فِي جَيْشِ خُرَاسَانَ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى جُرْجَانَ، وَكَانَ بِجُرْجَانَ مَاكَانُ بْنُ كَالِي قَدْ خَلَعَ طَاعَةَ الْأَمِيرِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، فَوَجَدَهُمْ أَبُو عَلِيٍّ قَدْ غَوَّرُوا الْمِيَاهَ، فَعَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَمْ يَشْعُرُوا بِهِ، حَتَّى نَزَلَ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ جُرْجَانَ، فَحَصَرَ مَاكَانَ بِهَا، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَقَطَعَ الْمِيرَةَ عَنِ الْبَلَدِ، فَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَاكَانَ، وَضَاقَ الْحَالُ بِمَنْ بَقِيَ بِجُرْجَانَ حَتَّى صَارَ الرَّجُلُ يَقْتَصِرُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى حَفْنَةِ سِمْسِمٍ، أَوْ كَيْلَةٍ مِنْ كُسْبٍ، أَوْ بَاقَةِ بَقْلٍ. وَاسْتَمَدَّ مَاكَانُ مِنْ وَشْمَكِيرَ وَهُوَ بِالرَّيِّ، فَأَمَدَّهُ بِقَائِدٍ مِنْ قُوَّادِهِ يُقَالُ لَهُ شَيْرَحُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى جُرْجَانَ وَرَأَى الْحَالَ، شَرَعَ فِي الصُّلْحِ بَيْنَ أَبِي عَلِيٍّ وَبَيْنَ مَاكَانَ بْنِ كَالِي ; لِيَجْعَلَ لَهُ طَرِيقًا يَنْجُوَ فِيهِ، فَفَعَلَ أَبُو عَلِيٍّ ذَلِكَ، وَهَرَبَ مَاكَانُ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، وَاسْتَوْلَى أَبُو عَلِيٍّ عَلَى جُرْجَانَ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سِيمَجُورَ الدَّوَاتِيُّ، بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَ حَالَهَا وَأَقَامَ بِهَا إِلَى الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَسَارَ إِلَى الرَّيِّ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ مَسِيرِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ بُوَيْهِ إِلَى وَاسِطَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيَّ أَنْفَذَ جَيْشًا إِلَى السُّوسِ، وَقَتَلَ قَائِدًا مِنَ الدَّيْلَمِ، فَتَحَصَّنَ أَبُو جَعْفَرٍ الصَّيْمَرِيُّ بِقَلْعَةِ السُّوسِ، وَكَانَ عَلَى خَرَاجِهَا.

وَكَانَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ بِالْأَهْوَازِ، فَخَافَ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِ الْبَرِيدِيُّ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ بِبَابِ إِصْطَخْرَ قَدْ عَادَ مِنْ أَصْبَهَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ كِتَابُ أَخِيهِ سَارَ إِلَيْهِ مُجِدًّا يَطْوِي الْمَنَازِلَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى السُّوسِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى وَاسِطَ لِيَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا إِذْ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْ أَصْبَهَانَ، وَلَيْسَ لَهُ مُلْكٌ لِيَسْتَقِلَّ بِهِ، فَنَزَلَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَكَانَ البَّرِيدِيُّونَ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَاضْطَرَبَ رِجَالُ ابْنِ بُوَيْهِ، فَاسْتَأْمَنَ مِنْهُمْ مِائَةُ رَجُلٍ إِلَى الْبَرِيدِيِّ. ثُمَّ سَارَ الرَّاضِي وَبُجْكُمُ مِنْ بَغْدَاذَ نَحْوَ وَاسِطَ لِحَرْبِهِ، فَخَافَ أَنْ يَكْثُرَ الْجَمْعُ عَلَيْهِ وَيَسْتَأْمِنَ رِجَالُهُ فَيَهْلَكُ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ سَنَةٌ لَمْ يُنْفِقْ فِيهِمْ مَالًا، فَعَادَ مِنْ وَاسِطَ إِلَى الْأَهْوَازِ ثُمَّ إِلَى رَامَهُرْمُزَ. ذِكْرُ مُلْكِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ أَصْبَهَانَ وَفِيهَا عَادَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ فَاسْتَوْلَى عَلَى أَصْبَهَانَ، سَارَ مِنْ رَامَهُرْمُزَ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَأَخْرَجَ عَنْهَا أَصْحَابَ وَشْمَكِيرَ وَقَتَلَ مِنْهُمْ، وَاسْتَأْسَرَ بِضْعَةَ عَشَرَ قَائِدًا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ وَشْمَكِيرَ كَانَ قَدْ أَنْفَذَ عَسْكَرَهُ إِلَى مَاكَانَ نَجْدَةً لَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَخَلَتْ بِلَادُ وَشْمَكِيرَ مِنَ الْعَسَاكِرِ، (وَسَارَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَبِهَا نَفَرٌ يَسِيرٌ مِنَ الْعَسَاكِرِ) ، فَهَزَمَهُمْ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَكَاتَبَ هُوَ وَأَخُوهُ عِمَادُ الدَّوْلَةِ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُحْتَاجٍ يُحَرِّضَانِهِ عَلَى مَاكَانَ وَوَشْمَكِيرَ، وَيَعِدَانِهِ الْمُسَاعَدَةَ عَلَيْهِمَا، فَصَارَ بَيْنَهُمْ بِذَلِكَ مَوَدَّةٌ. ذِكْرُ مَسِيرِ بُجْكُمَ نَحْوَ بِلَادِ الْجَبَلِ وَعَوْدِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ بُجْكُمُ مِنْ بَغْدَاذَ نَحْوَ بِلَادِ الْجَبَلِ، ثُمَّ عَادَ عَنْهَا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ صَالَحَ هَذِهِ السَّنَةَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيَّ وَصَاهَرَهُ، وَتَزَوَّجَ ابْنَتَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْبَرِيدِيُّ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَسِيرَ إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ لِفَتْحِهَا وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، وَيُعَرِّفَهُ أَنَّهُ إِذْ سَارَ إِلَى الْجَبَلِ سَارَ هُوَ إِلَى الْأَهْوَازِ وَاسْتَنْقَذَهَا مِنْ يَدِ ابْنِ بُوَيْهِ، فَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ بُجْكُمُ خَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعُونَةً لَهُ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ صَاحِبَهُ أَبَا زَكَرِيَّاءَ السُّوسِيَّ يَحُثُّهُ عَلَى الْحَرَكَةِ، وَيَكُونُ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ يَرْحَلَ عَنْ وَاسِطَ إِلَى الْأَهْوَازِ. وَسَارَ بُجْكُمُ إِلَى حُلْوَانَ، وَصَارَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ السُّوسِيُّ يَحُثُّ ابْنَ الْبَرِيدِيِّ عَلَى الْمَسِيرِ

إِلَى السُّوسِ وَالْأَهْوَازِ، وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَوْقَاتَ، وَكَانَ عَازِمًا عَلَى قَصْدِ بَغْدَاذَ إِذَا أَبْعَدَ عَنْهَا بُجْكُمَ لِيَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا، وَهُوَ يُقَدِّمُ رَجْلًا وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى، وَيَنْتَظِرُ بِهِ الدَّوَائِرَ مِنْ هَزِيمَةٍ أَوْ قَتْلٍ. وَأَقَامَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ عِنْدَهُ نَحْوَ شَهْرٍ يَحُثُّهُ عَلَى الْمَسِيرِ، وَهُوَ يُغَالِطُهُ، فَعَلِمَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ مَقْصُودَهُ، فَكَتَبَ إِلَى بُجْكُمَ، فَلَحِقَهُ الْخَبَرُ وَهُوَ سَائِرٌ، فَرَكِبَ الْجَمَّازَاتِ وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَخَلَّفَ عَسْكَرَهُ وَرَاءَهُ. وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْبَرِيدِيِّ بِدُخُولِ بُجْكُمَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَسَقَطَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ أَتَتْهُ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ بُجْكُمَ قَدْ سَارَ نَحْوَهُ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ بُجْكُمَ عَلَى وَاسِطَ لَمَّا عَادَ بُجْكُمُ إِلَى بَغْدَاذَ، تَجَهَّزَ لِلِانْحِدَارِ إِلَى وَاسِطَ، وَحَفِظَ الطُّرُقَ لِئَلَّا يَصِلَ خَبَرُهُ إِلَى الْبَرِيدِيِّ فَيَتَحَرَّزَ، وَانْحَدَرَ هُوَ فِي الْمَاءِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، وَسَيَّرَ عَسْكَرَهُ فِي الْبَرِّ، وَأَسْقَطَ اسْمَ الْبَرِيدِيِّ مِنَ الْوِزَارَةِ، وَجَعَلَ مَكَانَهُ أَبَا الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ مُخَلَّدٍ، وَكَانَتْ وِزَارَةُ الْبَرِيدِيِّ سَنَةً وَاحِدَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقُبِضَ عَلَى ابْنِ شَيْرَزَادَ ; لِأَنَّهُ هُوَ كَانَ سَبَبَ وَصْلَتِهِ بِالْبَرِيدِيِّ، (وَأَخَذَ مِنْهُ مَائَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ) . فَمِنْ عَجِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّ بُجْكُمَ كَانَ لَهُ كَاتِبٌ عَلَى أَمْرِ دَارِهِ وَحَاشِيَتِهِ، وَهُوَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ عِنْدَ انْحِدَارِهِ إِلَى وَاسِطَ، فَجَاءَ طَائِرٌ فَسَقَطَ عَلَى صَدْرِ السَّفِينَةِ، فَأُخِذَ وَأُحْضِرَ عِنْدَ بُجْكُمَ، فَوَجَدَ عَلَى ذَنَبِهِ كِتَابًا فَفَتَحَهُ، وَإِذَا هُوَ مِنْ هَذَا الْكَاتِبِ إِلَى أَخٍ لَهُ مَعَ الْبَرِيدِيِّ، يُخْبِرُهُ بِخَبَرِ بُجْكُمَ، وَمَا هُوَ عَازِمٌ عَلَيْهِ، فَأَلْقَى الْكِتَابَ إِلَيْهِ، فَاعْتَرَفَ بِهِ إِذْ لَمْ يُمْكِنُهُ جَحْدُهُ ; لِأَنَّهُ بِخَطِّهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ وَأَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ. وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ بُجْكُمَ إِلَى الْبَرِيدِيِّ سَارَ عَنْ وَاسِطَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَلَمْ يُقِمْ بِهَا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا بُجْكُمُ لَمْ يَجِدْ بِهَا أَحَدًا، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَكَانَ بُجْكُمُ قَدْ خَلَّفَ عَسْكَرًا بِبَلَدِ الْجَبَلِ، (قَصْدُهُمُ الدَّيْلَمُ وَالْجِيلُ) ، فَانْهَزَمُوا وَعَادُوا إِلَى بَغْدَاذَ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ ابْنِ رَائِقٍ عَلَى الشَّامِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى ابْنُ رَائِقٍ عَلَى الشَّامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَمَّا دَخَلَ الشَّامَ، قَصَدَ مَدِينَةَ حِمْصَ فَمَلَكَهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ، وَبِهَا بَدْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْإِخْشِيدِيُّ الْمَعْرُوفُ بِبُدَيْرٍ، وَالِيًا عَلَيْهَا لِلْإِخْشِيدِ، فَأَخْرَجَهُ ابْنُ رَائِقٍ مِنْهَا وَمَلَكَهَا، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى (الرَّمْلَةِ فَمَلَكَهَا. وَسَارَ إِلَى) عَرِيشِ مِصْرَ يُرِيدُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَلَقِيَهُ الْإِخْشِيدُ مُحَمَّدُ بْنُ طُغْجَ، وَحَارَبَهُ، فَانْهَزَمَ الْإِخْشِيدُ، فَاشْتَغَلَ أَصْحَابُ ابْنِ رَائِقٍ بِالنَّهْبِ، وَنَزَلُوا فِي خِيَمِ أَصْحَابِ الْإِخْشِيدِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ كَمِينٌ لِلْإِخْشِيدِ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ وَهَزَمَهُمْ وَفَرَّقَهُمْ، وَنَجَا ابْنُ رَائِقٍ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا، وَوَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ. فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْإِخْشِيدُ أَخَاهُ أَبَا نَصْرِ بْنَ طُغْجَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمُ ابْنُ رَائِقٍ، سَارَ إِلَيْهِمْ مِنْ دِمَشْقَ، فَالْتَقَوْا بِاللُّجُونِ رَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ أَبِي نَصْرٍ وَقُتِلَ هُوَ، فَأَخَذَهُ ابْنُ رَائِقٍ وَكَفَّنَهُ وَحَمَلَهُ إِلَى أَخِيهِ الْإِخْشِيدِ، (وَهُوَ بِمِصْرَ، وَأَنْفَذَ مَعَهُ ابْنَهُ مُزَاحِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ، وَكَتَبَ إِلَى الْإِخْشِيدِ) كِتَابًا يُعَزِّيهِ عَنْ أَخِيهِ، وَيَعْتَذِرُ مِمَّا جَرَى وَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ قَتْلَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ أَنْفَذَ ابْنَهُ لِيَفْدِيَهُ بِهِ إِنْ أَحَبَّ ذَلِكَ، فَتَلَقَّى الْإِخْشِيدُ مُزَاحِمًا بِالْجَمِيلِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَرَدَّهُ إِلَى أَبِيهِ، وَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الرَّمْلَةُ وَمَا وَرَاءَهَا إِلَى مِصْرَ لِلْإِخْشِيدِ، وَبَاقِي الشَّامِ لِمُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ، وَيَحْمِلُ إِلَيْهِ الْإِخْشِيدُ (عَنِ الرَّمْلَةِ) (كُلَّ سَنَةٍ) مِائَةَ أَلْفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. ذِكْرُ عِدَّةَ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ طَرِيفُ السُّبْكَرِيُّ.

(وَفِيهَا عَزَلَ بُجْكُمُ وَزِيرَهُ أَبَا جَعْفَرِ بْنَ شَيْرَزَادَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَصَادَرَهُ عَلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَاسْتَوْزَرَ بَعْدَهُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيَّ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَبُو جَعْفَرٍ الْكُلَيْنِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِمَامِيَّةِ وَعُلَمَائِهِمْ. (الْكُلَيْنِيُّ: بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتٍ ثُمَّ بِالنُّونِ، وَهُوَ مُمَالٌ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ الْمُقْرِئُ الْبَغْدَاذِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ شَنَبُوذَ فِي صَفَرٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ الْمُرْتَعِشُ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، وَهُوَ نَيْسَابُورِيٌّ سَكَنَ بَغْدَاذَ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ عُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَ الْقَضَاءَ بَعْدَ أَبِيهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، وَهُوَ مُصَنِّفُ كِتَابِ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ.

وَفِيهَا فِي حَادِي عَشَرَ شَوَّالٍ مَاتَ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ فِي الْحَبْسِ. وَفِيهَا لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَوَّالٍ، تُوفِّي الْوَزِيرُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْخُصَيْبِيُّ بِسَكْتَةٍ لَحِقَتْهُ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ مُقْلَةٍ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُمِّيُّ، وَزِيرُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، فَاسْتَوْزَرَ بَعْدَهُ أَبَا الْفَضْلِ بْنَ الْعَمِيدِ، فَتَمَكَّنَ مِنْهُ، فَنَالَ مَا لَمْ يَنَلْهُ أَحَدٌ مِنْ وُزَرَاءِ بَنِي بُوَيْهِ، وَسَيَرِدُ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا يُعْلَمُ بِهِ مَحَلُّهُ.

ثم دخلت سنة تسع وعشرين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 329 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مَوْتِ الرَّاضِي بِاللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الرَّاضِي بِاللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُقْتَدِرِ مُنْتَصَفَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سِتَّ سِنِينَ (وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ) وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ عُمُرُهُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَشُهُورًا، وَكَانَتْ عِلَّتُهُ الِاسْتِسْقَاءَ، وَكَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا، فَمِنْ شِعْرِهِ: يَصْفَرُّ وَجْهِي إِذَا تَأَمَّلَهُ ... طَرْفِي وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ خَجَلَا حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي بِوَجْنَتِهِ ... مِنْ دَمِ جِسْمِي إِلَيْهِ قَدْ نُقِلَا وَلَهُ أَيْضًا يَرْثِي أَبَاهُ الْمُقْتَدِرَ: وَلَوْ أَنَّ حَيًّا كَانَ قَبْرًا لِمَيِّتٍ ... لَصَيَّرْتُ أَحْشَائِي لِأَعْظُمِهِ قَبْرًا وَلَوْ أَنَّ عُمُرِي كَانَ طَوْعَ مَشِيئَتِي ... وَسَاعَدَنِي التَّقْدِيرُ قَاسَمْتُهُ الْعُمُرَا بِنَفْسِي ثَرَىً ضَاجَعْتُ فِي تُرْبِهِ الْبِلَى ... لَقَدْ ضَمَّ مِنْكَ الْغَيْثَ وَاللَّيْثَ وَالْبَدْرَا

وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا: كُلُّ صَفْوٍ إِلَى كَدَرْ ... كُلُّ أَمْنٍ إِلَى حَذَرْ وَمَصِيرُ الشَّبَابِ لِلْ ... مَوْتِ فِيهِ أَوِ الْكَدَرْ دَرَّ دَرُّ الْمَشِيبِ مِنْ ... وَاعِظٍ يُنْذِرُ الْبَشَرْ أَيُّهَا الْآمِلُ الَّذِي ... تَاهَ فِي لُجَّةِ الْغَرَرْ أَيْنَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا ... دَرَسَ الْعَيْنُ وَالْأَثَرْ سَيَرُدُّ الْمَعَادُ مَنْ ... عُمُرُهُ كُلُّهُ خَطَرْ رَبِّ إِنِّي ذَخَرْتُ عِنْ ... دَكَ أَرْجُوكَ مُدَّخَرْ إِنَّنِي مُؤْمِنٌ بِمَا بَيْ ... نَ الْوَحْيِ فِي السُّوَرْ وَاعْتِرَافِي بِتَرْكِ نَفْ ... عِي وَإِيثَارِي الضَّرَرْ رَبِّ فَاغْفِرْ لِي الْخَطِي ... ئَةَ يَا خَيْرَ مَنْ غَفَرْ وَكَانَ الرَّاضِي أَيْضًا سَمْحًا، سَخِيًّا، يُحِبُّ مُحَادَثَةَ الْأُدَبَاءِ وَالْفُضَلَاءِ وَالْجُلُوسَ مَعَهُمْ. وَلَمَّا مَاتَ أَحْضَرَ بُجْكُمُ نُدَمَاءَهُ وَجُلَسَاءَهُ، وَطَمِعَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِمْ، فَلَمْ يَفْهَمْ مِنْهُمْ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَكَانَ مِنْهُمْ سِنَانُ بْنُ ثَابِتٍ الصَّابِيُّ الطَّبِيبُ، فَأَحْضَرَهُ وَشَكَا إِلَيْهِ غَلَبَةَ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَارِهٌ لَهَا، فَمَا زَالَ مَعَهُ فِي تَقْبِيحِ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَتَحْسِينِ ضِدِّهِ مِنَ الْحِلْمِ، وَالْعَفْوِ، وَالْعَدْلِ، وَتَوَصَّلَ مَعَهُ حَتَّى زَالَ أَكْثَرُ مَا كَانَ يَجِدُهُ، وَكَفَّ عَنِ الْقَتْلِ وَالْعُقُوبَاتِ. وَكَانَ الرَّاضِي أَسْمَرَ، أَعْيَنَ، خَفِيفَ الْعَارِضِينَ، وَأُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا ظَلُومٌ، وَخَتَمَ الْخُلَفَاءَ فِي أُمُورٍ عِدَّةٍ، فَمِنْهَا: أَنَّهُ آخِرُ خَلِيفَةٍ لَهُ شِعْرٌ يُدَوَّنُ، وَآخِرُ خَلِيفَةٍ خَطَبَ كَثِيرًا

عَلَى مِنْبَرٍ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ قَدْ خَطَبَ نَادِرًا لَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَكَانَ آخِرَ خَلِيفَةٍ جَالَسَ الْجُلَسَاءَ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ النُّدَمَاءُ، وَآخِرَ خَلِيفَةٍ كَانَتْ لَهُ نَفَقَتُهُ، وَجَوَائِزُهُ، وَعَطَايَاهُ، وَجِرَايَاتُهُ، وَخَزَائِنُهُ، وَمَطَابِخُهُ، وَمَجَالِسُهُ، وَخَدَمُهُ، وَحِجَابُهُ، وَأُمُورُهُ عَلَى تَرْتِيبِ الْخُلَفَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ لَمَّا مَاتَ الرَّاضِي بِاللَّهِ، بَقِيَ الْأَمْرُ فِي الْخِلَافَةِ مَوْقُوفًا انْتَظَارًا لِقُدُومِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيِّ كَاتِبِ بُجْكُمَ (مِنْ وَاسِطَ، وَكَانَ بُجْكُمُ بِهَا) . وَاحْتِيطَ عَلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَوَرَدَ كِتَابُ بُجْكُمَ مَعَ الْكُوفِيِّ يَأْمُرُ فِيهِ بِأَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ أَبِي الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ وَزِيرِ الرَّاضِي، كُلُّ مَنْ تَقَلَّدَ الْوِزَارَةَ، وَأَصْحَابُ الدَّوَاوِينِ، وَالْعَلَوِيُّونَ، وَالْقُضَاةُ، وَالْعَبَّاسِيُّونَ، وَوُجُوهُ الْبَلَدِ، وَيُشَاوِرُهُمُ الْكُوفِيُّ فِيمَنْ يُنَصَّبُ لِلْخِلَافَةِ مِمَّنْ يَرْتَضِي مَذْهَبَهُ وَطَرِيقَتَهُ، فَجَمَعَهُمُ الْكُوفِيُّ وَاسْتَشَارَهُمْ، فَذَكَرَ بَعْضُهُمْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمُقْتَدِرِ، وَتَفَرَّقُوا عَلَى هَذَا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَأُحْضِرَ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، وَبُويِعَ لَهُ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ أَلْقَابٌ، فَاخْتَارَ " الْمُتَّقِي لِلَّهِ "، وَبَايَعَهُ النَّاسُ كَافَّةً، وَسَيَّرَ الْخِلَعَ وَاللِّوَاءَ إِلَى بُجْكُمَ بِوَاسِطَ. وَكَانَ بُجْكُمُ بَعْدَ مَوْتِ الرَّاضِي وَقَبْلَ اسْتِخْلَافِ الْمُتَّقِي، قَدْ أَرْسَلَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ

فَأَخَذَ فَرْشًا وَآلَاتٍ كَانَ يَسْتَحْسِنُهَا، وَجَعَلَ سَلَامَةَ الطُّولُونِيَّ حَاجِبَهُ، وَأَقَرَّ سُلَيْمَانُ عَلَى وِزَارَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْوِزَارَةِ إِلَّا اسْمُهَا، وَإِنَّمَا التَّدْبِيرُ كُلُّهُ إِلَى الْكُوفِيِّ كَاتِبِ بُجْكُمَ. ذِكْرُ قَتْلِ مَاكَانَ بْنِ كَالِي، وَاسْتِيلَاءِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُحْتَاجٍ عَلَى الرَّيِّ قَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ مُحْتَاجٍ إِلَى جُرْجَانَ، وَإِخْرَاجِ مَاكَانَ عَنْهَا، فَلَمَّا سَارَ عَنْهَا مَاكَانُ، قَصَدَ طَبَرِسْتَانَ وَأَقَامَ بِهَا، وَأَقَامَ أَبُو عَلِيٍّ بِجُرْجَانَ يُصْلِحُ أَمْرَهَا، ثُمَّ اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمَ بْنَ سِيمَجُورَ الدَّوَاتِيَّ، وَسَارَ نَحْوَ الرَّيِّ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَوَصَلَهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَبِهَا وَشْمَكِيرُ بْنُ زِيَارَ أَخُو مَرْدَاوَيْجَ. وَكَانَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ وَرُكْنُ الدَّوْلَةِ ابْنَا بُوَيْهِ يُكَاتِبَانِ أَبَا عَلِيٍّ، وَيَحُثَّانِهِ عَلَى قَصْدِ وَشْمَكِيرَ، وَيَعِدَانِهِ الْمُسَاعَدَةَ، وَكَانَ قَصْدُهُمَا أَنْ تُؤْخَذَ الرَّيُّ مِنْ وَشْمَكِيرَ، فَإِذَا أَخَذَهَا أَبُو عَلِيٍّ، لَا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ بِهَا لِسِعَةِ وَلَايَتِهِ بِخُرَاسَانَ، فَيَغْلِبَانِ عَلَيْهَا. وَبَلَغَ أَمْرُ اتِّفَاقِهِمْ إِلَى وَشْمَكِيرَ. وَكَاتَبَ مَاكَانَ بْنَ كَالِي يَسْتَخْدِمُهُ وَيُعَرِّفُهُ الْحَالَ، فَسَارَ مَاكَانُ بْنُ كَالِي مَنْ طَبَرِسْتَانَ إِلَى الرَّيِّ، وَسَارَ أَبُو عَلِيٍّ وَأَتَاهُ عَسْكَرُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا مَعَهُ بِإِسْحَاقَابَاذَ، وَالْتَقَوْا هُمْ وَوَشْمَكِيرُ، وَوَقَفَ مَاكَانُ بْنُ كَالِي فِي الْقَلْبِ وَبَاشَرَ الْحَرْبَ بِنَفْسِهِ، وَعَبَّأَ أَبُو عَلِيٍّ أَصْحَابَهُ كَرَادِيسَ، وَأَمَرَ مَنْ بِإِزَاءِ الْقَلْبِ أَنْ يَلُحُّوا عَلَيْهِمْ فِي الْقِتَالِ، ثُمَّ يَتَطَارَدُوا لَهُمْ وَيَسْتَجِرُّوهُمْ، ثُمَّ وَصَّى مَنْ بِإِزَاءِ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ أَنْ يُنَاوِشُوهُمْ مُنَاوَشَةً بِمِقْدَارِ مَا يَشْغَلُونَهُمْ عَنْ مُسَاعَدَةِ مَنْ فِي الْقَلْبِ، وَلَا يُنَاجِزُوهُمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ. وَأَلَحَّ أَصْحَابُهُ عَلَى قَلْبِ وَشْمَكِيرَ بِالْحَرْبِ، ثُمَّ تَطَارَدُوا لَهُمْ، فَطَمِعَ فِيهِمْ مَاكَانُ وَمَنْ مَعَهُ، فَتَبِعُوهُمْ وَفَارَقُوا مَوَاقِفَهُمْ، فَحِينَئِذٍ أَمَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْكَرَادِيسَ الَّتِي بِإِزَاءِ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَعْضُهُمْ، وَيَأْتِيَ مَنْ فِي قَلْبِ وَشْمَكِيرَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو عَلِيٍّ أَصْحَابَهُ قَدْ أَقْبَلُوا مِنْ وَرَاءِ مَاكَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَمْرَ الْمُتَطَارِدِينَ

بِالْعَوْدِ وَالْحَمْلَةِ عَلَى مَاكَانَ وَأَصْحَابِهِ، وَكَانَتْ نُفُوسُهُمْ قَدْ قَوِيَتْ بِأَصْحَابِهِمْ، فَرَجَعُوا وَحَمَلُوا عَلَى أُولَئِكَ، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، فَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ. فَلَمَّا رَأَى مَاكَانُ ذَلِكَ، تَرَجَّلَ وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا، وَظَهَرَتْ مِنْهُ شَجَاعَةٌ لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهَا، فَأَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَوَقَعَ فِي جَبِينِهِ، فَنَفَذَ فِي الْخُوذَةِ وَالرَّأْسِ حَتَّى طَلَعَ مِنْ قَفَاهُ وَسَقَطَ مَيِّتًا، وَهَرَبَ وَشْمَكِيرُ وَمَنْ سَلِمَ مَعَهُ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، فَأَقَامَ بِهَا، وَاسْتَوْلَى أَبُو عَلِيٍّ عَلَى الرَّيِّ، وَأَنْفَذَ رَأْسَ مَاكَانَ إِلَى بُخَارَى وَالسَّهْمُ فِيهِ، وَلَمْ يُحْمَلْ إِلَى بَغْدَاذَ حَتَّى قُتِلَ بُجْكُمُ ; لِأَنَّ بُجْكُمَ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَجَلَسَ لِلْعَزَاءِ لَمَّا قُتِلَ، فَلَمَّا قُتِلَ بُجْكُمُ، حُمِلَ الرَّأْسُ مِنْ بُخَارَى إِلَى بَغْدَاذَ وَالسَّهْمُ فِيهِ وَفِي الْخُوذَةِ، وَأَنْفَذَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَسْرَى إِلَى بُخَارَى أَيْضًا، وَكَانُوا بِهَا حَتَّى دَخَلَ وَشْمَكِيرُ فِي طَاعَةِ آلِ سَامَانَ، وَسَارَ إِلَى خُرَاسَانَ فَاسْتَوْهَبَهُمْ، فَأَطْلَقُوا لَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ ثَلَاثِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . ذِكْرُ قَتْلِ بُجْكُمَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ بُجْكُمُ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيَّ أَنْفَذَ جَيْشًا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى مَذَارَ، فَأَنْفَذَ بُجْكُمُ جَيْشًا إِلَيْهِمْ عَلَيْهِمْ تُوزُونُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا كَانَ أَوَّلًا عَلَى تُوزُونَ، فَكَتَبَ إِلَى بُجْكُمَ يَطْلُبُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ، فَسَارَ بُجْكُمُ إِلَيْهِمْ مِنْ وَاسِطَ مُنْتَصَفَ رَجَبٍ، فَلَقِيَهُ كِتَابُ تُوزُونَ بِأَنَّهُ ظَفِرَ بِهِمْ وَهَزَمَهُمْ، فَأَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى وَاسِطَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِأَنْ يَتَصَيَّدَ، فَقَبِلَ مِنْهُ، وَتَصَيَّدَ حَتَّى بَلَغَ نَهْرَ جُورَ، فَسَمِعَ أَنَّ هُنَاكَ أَكْرَادًا لَهُمْ مَالٌ وَثَرْوَةٌ، فَشَرِهَتْ نَفْسُهُ (إِلَى أَخْذِهِ) ، فَقَصَدَهُمْ فِي قِلَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بِغَيْرِ جُنَّةٍ تَقِيهِ، فَهَرَبَ الْأَكْرَادُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَرَمَى هُوَ أَحَدَهُمْ فَلَمْ يُصِبْهُ، فَرَمَى آخَرَ فَأَخْطَأَهُ أَيْضًا، وَكَانَ لَا يَخِيبُ سَهْمُهُ، فَأَتَاهُ غُلَامٌ مِنَ الْأَكْرَادِ مِنْ خَلْفِهِ وَطَعَنَهُ فِي خَاصِرَتِهِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، فَقَتَلَهُ وَذَلِكَ

لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَاخْتَلَفَ عَسْكَرُهُ، فَمَضَى الدَّيْلَمُ خَاصَّةً نَحْوَ الْبَرِيدِيِّ، وَكَانُوا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَأَضْعَفَ أَرْزَاقَهُمْ، وَأَوْصَلَهَا إِلَيْهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَكَانَ الْبَرِيدِيُّ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْهَرَبِ مِنَ الْبَصْرَةِ هُوَ وَإِخْوَتُهُ، وَكَانَ بُجْكُمُ قَدْ رَاسَلَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ وَطَيَّبَ قُلُوبَهُمْ، فَمَالُوا إِلَيْهِ، فَأَتَى الْبَرِيدِيِّينَ الْفَرَجُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَعَادَ أَتْرَاكُ بُجْكُمَ إِلَى وَاسِطَ، وَكَانَ تُكَيْنَكُ مَحْبُوسًا بِهَا، حَبَسَهُ بُجْكُمُ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ مَحْبَسِهِ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَظْهَرُوا طَاعَةَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ. وَصَارَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ مَيْمُونٍ يُدَبِّرُ الْأُمُورَ، وَاسْتَوْلَى الْمُتَّقِي عَلَى دَارِ بُجْكُمَ، فَأَخَذَ مَالَهُ مِنْهَا، وَكَانَ قَدْ دَفَنَ فِيهَا مَالًا كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِي الصَّحْرَاءِ ; لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَنْكَبَّ فَلَا يَصِلَ إِلَى مَالِهِ فِي دَارِهِ. وَكَانَ مَبْلَغُ مَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِ وَدَفَائِنِهِ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ وَمِائَتَيْ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ إِمَارَةِ بُجْكُمَ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ. ذِكْرُ إِصْعَادِ الْبَرِيدِيَّينَ إِلَى بَغْدَاذَ لَمَّا قُتِلَ بُجْكُمُ، اجْتَمَعَتِ الدَّيْلَمُ عَلَى بَلْسَوَازَ بْنِ مَالِكِ بْنِ مُسَافِرٍ، فَقَتَلَهُ الْأَتْرَاكُ، فَانْحَدَرَ الدَّيْلَمُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، وَكَانُوا مُنْتَخَبِينَ لَيْسَ فِيهِمْ حَشْوٌ، فَقَوِيَ بِهِمْ، وَعَظُمَتْ شَوْكَتُهُ، فَأَصْعَدُوا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى وَاسِطَ فِي شَعْبَانَ، فَأَرْسَلَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ إِلَيْهِمْ يَأْمُرُهُمْ أَنْ لَا يَصْعَدُوا، فَقَالُوا: نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى مَالٍ، فَإِنْ أُنْفِذَ لَنَا مِنْهُ شَيْءٌ، لَمْ نَصْعَدْ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِمْ مِائَةَ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ الْأَتْرَاكُ لِلْمُتَّقِي: نَحْنُ نُقَاتِلُ بَنِي الْبَرِيدِيِّ، فَأَطْلِقْ لَنَا مَالًا وَانْصُبْ لَنَا مُقَدِّمًا، فَأَنْفَقَ فِيهِمْ مَالًا، وَفِي أَجْنَادِ بَغْدَاذَ الْقُدَمَاءِ أَرْبَعُمِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ مِنَ الْمَالِ الَّذِي أُخِذَ لِبُجْكُمَ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ سَلَامَةَ الطُّولُونِيَّ، وَبَرَزُوا مَعَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ إِلَى نَهْرِ دِيَالِيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ. وَسَارَ الْبَرِيدِيُّ مِنْ وَاسِطَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَلَمْ يَقِفْ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ مَعَهُ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ بَغْدَاذَ اخْتَلَفَ الْأَتْرَاكُ الْبُجْكُمِيَّةُ، وَاسْتَأْمَنَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْبَرِيدِيِّ، وَبَعْضُهُمْ سَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَاسْتَتَرَ سَلَامَةُ الطُّولُونِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ، وَلَمْ يَحْصُلِ الْخَلِيفَةُ إِلَّا عَلَى

إِخْرَاجِ الْمَالِ، وَهُمْ أَرْبَابُ النِّعَمِ وَالْأَمْوَالِ، بِالِانْتِقَالِ مِنْ بَغْدَاذَ خَوْفًا مِنَ الْبَرِيدِيِّ وَظُلْمِهِ وَتَهَوُّرِهِ. وَدَخَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ بَغْدَاذَ ثَانِ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَنَزَلَ بِالشَّفِيعِيِّ، وَلَقِيَهُ الْوَزِيرُ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَالْقُضَاةُ، وَالْكُتَّابُ، وَأَعْيَانُ النَّاسِ، وَكَانَ مَعَهُ مِنْ أَنْوَاعِ السُّفُنِ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ الْمُتَّقِي يُهَنِّيهِ بِسَلَامَتِهِ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ طَعَامًا وَغَيْرَهُ عِدَّةَ لَيَالٍ، وَكَانَ يُخَاطَبُ بِالْوَزِيرِ، وَكَذَلِكَ أَبْو الْحُسَيْنِ بْنُ مَيْمُونٍ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ أَيْضًا، ثُمَّ عُزِلَ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِزَارَةِ أَبِي الْحُسَيْنِ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ قَبَضَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ عَلَى أَبِي الْحُسَيْنِ وَسَيَّرَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَحَبَسَهُ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ (فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ حُمَّى حَادَّةٍ) . ثُمَّ أَنْفَذَ الْبَرِيدِيُّ إِلَى الْمُتَّقِي يَطْلُبُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ لِيُفَرِّقَهَا فِي الْجُنْدِ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَتَهَدَّدُهُ، وَيُذَكِّرَهُ مَا جَرَى عَلَى الْمُعْتَزِّ، وَالْمُسْتَعِينِ، وَالْمُهْتَدِي، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ تَمَامَ خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَلَمْ يَلْقَ الْبَرِيدِيُّ الْمُتَّقِيَ لِلَّهِ مُدَّةَ مَقَامِهِ بِبَغْدَاذَ. ذِكْرُ عَوْدِ الْبَرِيدِيِّ إِلَى وَاسِطَ كَانَ الْبَرِيدِيُّ يَأْمُرُ الْجُنْدَ بِطَلَبِ الْأَمْوَالِ مِنَ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا أَنْفَذَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ الْمَالَ الْمَذْكُورَ، انْصَرَفَتْ أَطْمَاعُ الْجُنْدِ عَنِ الْخَلِيفَةِ إِلَى الْبَرِيدِيِّ وَعَادَتْ مَكِيدَتُهُ عَلَيْهِ، فَشَغَبَ الْجُنْدُ عَلَيْهِ، وَكَانَ الدَّيْلَمُ قَدْ قَدَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كُورَتِكِينُ الدَّيْلَمَيُّ، وَقَدَّمَ الْأَتْرَاكُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ تُكَيْنَكَ التُّرْكِيَّ غُلَامَ بُجْكُمَ، وَثَارَ الدَّيْلَمُ إِلَى دَارِ الْبَرِيدِيِّ، فَأَحْرَقُوا دَارَ أَخِيهِ أَبِي الْحُسَيْنِ الَّتِي كَانَ يَنْزِلُهَا، وَنَفَرُوا عَنِ الْبَرِيدِيِّ، وَانْضَافَ تُكَيْنَكُ إِلَيْهِمْ، وَصَارَتْ أَيْدِيهِمْ وَاحِدَةً، وَاتَّفَقُوا عَلَى قَصْدِ الْبَرِيدِيِّ وَنَهْبِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَسَارُوا إِلَى النَّجْمِيِّ وَوَافَقَهُمُ الْعَامَّةُ، (فَقَطَعَ الْبَرِيدِيُّ الْجِسْرَ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ فِي الْمَاءِ، وَوَثَبَ الْعَامَّةُ) بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ عَلَى أَصْحَابِ الْبَرِيدِيِّ، فَهَرَبَ هُوَ وَأَخُوهُ وَابْنُهُ أَبُو الْقَاسِمِ وَأَصْحَابُهُ، وَانْحَدَرُوا فِي الْمَاءِ إِلَى وَاسِطَ، وَنُهِبَتْ دَارُهُ فِي النَّجْمِيِّ وَدُورُ قُوَّادِهِ، وَكَانَ هَرَبُهُ سَلْخَ رَمَضَانَ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مَقَامِهِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا.

ذِكْرُ إِمَارَةِ كُورَتِكِينَ الدَّيْلَمِيِّ لَمَّا هَرَبَ الْبَرِيدِيُّ، اسْتَوْلَى كُورَتِكِينُ عَلَى الْأُمُورِ بِبَغْدَاذَ، وَدَخَلَ إِلَى الْمُتَّقِي لِلَّهِ، فَقَلَّدَهُ إِمَارَةَ الْأُمَرَاءِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدْعَى الْمُتَّقِي عَلِيَّ بْنَ عِيسَى وَأَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عِيسَى، فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَدَبَّرَ الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ بِوِزَارَةٍ، ثُمَّ إِنَّ كُورَتِكِينَ قَبَضَ تُكَيْنَكَ التُّرْكِيَّ خَامِسَ شَوَّالٍ، وَغَرَّقَهُ، وَتَفَرَّدَ بِالْأَمْرِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَامَّةَ اجْتَمَعُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ شَوَّالٍ، وَتَظَلَّمُوا مِنَ الدَّيْلَمِ وَنُزُولِهِمْ فِي دُورِهِمْ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ، فَمَنَعَتِ الْعَامَّةُ الْخَطِيبَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالدَّيْلَمُ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ. ذِكْرُ عَوْدِ ابْنِ رَائِقٍ إِلَى بَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ (أَبُو بَكْرٍ) مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ مِنَ الشَّامِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَصَارَ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَتْرَاكَ الْبُجْكُمِيَّةَ لَمَّا سَارُوا إِلَى الْمَوْصِلِ، لَمْ يَرَوْا عِنْدَ ابْنِ حَمْدَانَ مَا يُرِيدُونَ، فَسَارُوا نَحْوَ الشَّامِ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ، وَكَانَ فِيهِمْ مِنَ الْقُوَّادِ تُوزُونُ، وَخَجْخَجُ، وَنُوشْتِكِينُ، وَصِيغُونُ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ، أَطْمَعُوهُ فِي الْعَوْدِ إِلَى الْعِرَاقِ، ثُمَّ وَصَلَتْ إِلَيْهِ كُتُبُ الْمُتَّقِي يَسْتَدْعِيهِ، فَسَارَ مِنْ دِمَشْقَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الشَّامِ أَبَا الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مُقَاتِلٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، تَنَحَّى عَنْ طَرِيقِهِ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ، فَتَرَاسَلَا، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَتَصَالَحَا، وَحَمَلَ ابْنُ حَمْدَانَ إِلَيْهِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَسَارَ ابْنُ رَائِقٍ إِلَى بَغْدَاذَ، فَقَبَضَ كُورَتِكِينُ عَلَى الْقَرَارِيطِيِّ الْوَزِيرِ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا

جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ الْكَرْخِيَّ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَكَانَتْ وِزَارَةُ الْقَرَارِيطِيُّ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَبَلَغَ خَبَرُ ابْنِ رَائِقٍ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، فَسَيَّرَ إِخْوَتَهُ إِلَى وَاسِطَ فَدَخَلُوهَا، وَأَخْرَجُوا الدَّيْلَمَ عَنْهَا، وَخَطَبُوا لَهُ بِوَاسِطَ، وَخَرَجَ كُورَتِكِينُ عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى عُكْبَرَا، وَوَصَلَ إِلَيْهِ ابْنُ رَائِقٍ، فَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَاتَّصَلَتْ عِدَّةَ أَيَّامٍ. فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْخَمِيسِ لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، سَارَ ابْنُ رَائِقٍ لَيلًا مِنْ عُكْبَرَا هُوَ وَجَيْشُهُ، فَأَصْبَحَ بِبَغْدَاذَ فَدَخَلَهَا مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ هُوَ وَجَمِيعُ جَيْشِهِ، وَنَزَلَ فِي النَّجْمِيِّ، وَعَبَرَ مِنَ الْغَدِ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَلَقِيَهُ، وَرَكِبَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ مَعَهُ فِي دِجْلَةَ، ثُمَّ عَادَ وَوَصَلَ هَذَا الْيَوْمَ بَعْدَ الظُّهْرِ كُورَتِكِينُ مَعَ جَمِيعِ جَيْشِهِ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَكَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِأَصْحَابِ ابْنِ رَائِقٍ، وَيَقُولُونَ: أَيْنَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْقَافِلَةُ الْوَاصِلَةُ مِنَ الشَّامِ؟ وَنَزَلُوا بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ. وَلَمَّا دَخَلَ كُورَتِكِينُ بَغْدَاذَ أَيِسَ ابْنُ رَائِقٍ مِنْ وَلَايَتِهَا، فَأَمَرَ بِحَمْلِ أَثْقَالِهِ وَالْعَوْدِ إِلَى الشَّامِ، فَرَفَعَ النَّاسُ أَثْقَالَهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ عَزَمَ (أَنْ يُنَاوِشَهُمْ) شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ قَبْلَ مَسِيرِهِ، فَأَمَرَ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ أَنْ يَعْبُرُوا دِجْلَةَ وَيَأْتُوا الْأَتْرَاكَ مِنْ وَرَائِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ رَكِبَ فِي سُمَيْرِيِّةٍ، وَرَكِبَ مَعَهُ عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي عِشْرِينَ سُمَيْرِيِّةٍ، وَوَقَفُوا يَرْمُونَ الْأَتْرَاكَ بِالنُّشَّابِ، وَوَصَلَ أَصْحَابُهُ وَصَاحُوا مِنْ خَلْفِهِمْ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَامَّةُ مَعَ أَصْحَابِ ابْنِ رَائِقٍ يَضِجُّونَ، فَظَنَّ كُورَتِكِينُ أَنَّ الْعَسْكَرَ قَدْ جَاءَهُ مَنْ خَلْفِهِ وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَانْهَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَاخْتَفَى هُوَ، وَرَجَمَهُمُ الْعَامَّةُ بِالْآجُرِّ وَغَيْرِهِ. وَقَوِيَ أَمْرُ ابْنِ رَائِقٍ، وَأَخَذَ مَنِ اسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ مِنَ الدَّيْلَمِ فَقَتَلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَكَانُوا نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةٍ، فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ اخْتَفَى بَيْنَ الْقَتْلَى، وَحُمِلَ مَعَهُمْ فِي الْجَوَالِيقِ، وَأُلْقِي فِي دِجْلَةَ فَسَلِمَ وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ دَهْرًا، وَقُتِلَ الْأَسْرَى مِنْ قُوَّادِ الدَّيْلَمِ، وَكَانُوا بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا.

وَخَلَعَ الْمُتَّقِي عَلَى ابْنِ رَائِقٍ، وَجَعَلَهُ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَأَمَرَ جَعْفَرَ الْكَرْخِيَّ بِلُزُومِ بَيْتِهِ، وَكَانَتْ وَزَارَتُهُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَاسْتَوْلَى أَحْمَدُ الْكُوفِيُّ عَلَى الْأَمْرِ فَدَبَّرَهُ، ثُمَّ ظَفِرَ ابْنُ رَائِقٍ بِكُورَتِكِينَ فَحُبِسَ بِدَارِ الْخَلِيفَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ بِالْعِرَاقِ غَلَاءٌ شَدِيدٌ، فَاسْتَسْقَى النَّاسُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَسُقُوا مَطَرًا قَلِيلًا لَمْ يَجْرِ مِنْهُ مِيزَابٌ، ثُمَّ اشْتَدَّ الْغَلَاءُ وَالْوَبَاءُ، وَكَثُرَ الْمَوْتُ حَتَّى كَانَ يُدْفَنُ الْجَمَاعَةُ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ وَلَا يُغَسَّلُونَ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، وَرَخَّصَ الْعَقَّارُ بِبَغْدَاذَ الْأَثَاثَ حَتَّى بِيعَ مَا ثَمَنُهُ دِينَارٌ بِدِرْهَمٍ، وَانْقَضَى تِشْرِينُ الْأَوَّلُ وَتِشْرِينُ الثَّانِي، وَالْكَانُونَانِ، وَشُبَاطُ، وَلَمْ يَجِئْ مَطَرٌ غَيْرُ الْمَطَرَةِ الَّتِي عِنْدَ الِاسْتِسْقَاءِ، ثُمَّ جَاءَ الْمَطَرُ فِي آذَارَ وَنِيسَانَ. وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ، اسْتَوْزَرَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ أَبَا إِسْحَاقَ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الْإِسْكَافِيَّ الْمَعْرُوفَ بِالْقَرَارِيطِيَّ، بَعْدَ عَوْدِ بَنِي الْبَرِيدِيِّ مِنْ بَغْدَاذَ، وَجَعَلَ بَدْرًا الْخَرْشِيَّ حَاجِبَهُ، فَبَقِيَ وَزِيرًا إِلَى الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ كُورَتِكِينُ، وَكَانَتْ وَزَارَتُهُ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَاسْتَوْزَرَ بَعْدَهُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ الْكَرْخِيَّ، فَبَقِيَ وَزِيرًا إِلَى الثَّامِنِ

وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَعَزَلَهُ ابْنُ رَائِقٍ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى الْأُمُورِ بِبَغْدَاذَ، فَكَانَتْ وِزَارَتُهُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَدَبَّرَ الْأُمُورَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ كَاتِبُ ابْنِ رَائِقٍ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ بِوِزَارَةٍ. وَفِيهَا عَادَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْعِرَاقِ، وَلَمْ يَصِلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، بَلْ سَلَكُوا الْجَادَّةَ بِسَبَبِ طَالِبِيٍّ ظَهَرَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ وَقَوِيَ أَمْرُهُ. وَفِيهَا كَثُرَتِ الْحُمَّيَاتُ وَوَجَعُ الْمَفَاصِلِ فِي النَّاسِ، وَمَنْ عَجَّلَ الْفِصَادَ بَرِئَ وَإِلَّا طَالَ مَرَضُهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي أَيَّامِ الرَّاضِي تُوُفِّيَ أَبُو بِشْرٍ أَخُو مَتَّى بْنِ يُونُسَ الْحَكِيمُ الْفَيْلَسُوفُ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي شَرْحِ كُتُبِ أَرِسْطَاطَالِيسَ. وَفِيهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ، مَاتَ بُخْتَيْشُوعُ بْنُ يَحْيَى الطَّبِيبُ. وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَلْعَمِيُّ وَزِيرُ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ صَاحِبِ خُرَاسَانَ، وَكَانَ مِنْ عُقَلَاءِ الرِّجَالِ، وَكَانَ نَصْرٌ قَدْ صَرَفَهُ عَنْ وِزَارَتِهِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَجَعَلَ مَكَانَهُ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْجَيْهَانِيَّ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ بْنِ مُحْتَاجٍ، وَدُفِنَ بِالصَّغَانِيَانِ. وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ الْبَرْبَهَارِيُّ رَئِيسُ الْحَنَابِلَةِ، تُوُفِّيَ مُسْتَتِرًا وَدُفِنَ فِي تُرْبَةِ نَصْرِ الْقُشُورِيِّ، وَكَانَ عُمُرُهُ سِتًّا وَسَبْعِينَ سَنَةً.

ثم دخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 330 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ وِزَارَةِ الْبَرِيدِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَزَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ لِلْمُتَّقِي لِلَّهِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ رَائِقٍ اسْتَوْحَشَ مِنَ الْبَرِيدِيِّ ; لِأَنَّهُ أَخَّرَ حَمْلَ الْمَالِ، وَانْحَدَرَ إِلَى وَاسِطَ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ، فَهَرَبَ بَنُو الْبَرِيدِيِّ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَسَعَى لَهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ حَتَّى عَادُوا وَضَمِنُوا بَقَايَا وَاسِطَ بِمِائَةٍ وَتِسْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَضَمَنُوهَا (كُلَّ سَنَةٍ) بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَعَادَ ابْنُ رَائِقٍ إِلَى بَغْدَاذَ، فَشَغَبَ الْجُنْدُ عَلَيْهِ ثَانِيَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَفِيهِمْ تُوزُونُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْقُوَّادِ، وَرَحَلُوا فِي الْعَشْرِ الْآخَرِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ بِوَاسِطَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ قَوِيَ بِهِمْ، فَاحْتَاجَ ابْنُ رَائِقٍ إِلَى مُدَارَاتِهِ، فَكَاتَبَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيَّ بِالْوِزَارَةِ، وَأَنْفَذَ لَهُ الْخِلَعَ، وَاسْتَخْلَفَ أَبَا (عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ شَيْرَزَادَ. ثُمَّ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى بَغْدَاذَ بِعَزْمِ الْبَرِيدِيِّ عَلَى الْإِصْعَادِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَزَالَ ابْنُ رَائِقٍ اسْمَ الْوِزَارَةِ عَنْهُ، وَأَعَادَ أَبَا إِسْحَاقَ الْقَرَارِيطِيَّ، وَلَعَنَ بَنِي الْبَرِيدِيِّ عَلَى الْمَنَابِرِ بِجَانِبَيْ بَغْدَاذَ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْبَرِيدِيِّ عَلَى بَغْدَاذَ، وَإِصْعَادِ الْمُتَّقِي إِلَى الْمَوْصِلِ وَسَيَّرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ أَخَاهُ أَبَا الْحُسَيْنِ إِلَى بَغْدَاذَ فِي جَمِيعِ الْجَيْشِ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَالدَّيْلَمِ، وَعَزَمَ ابْنُ رَائِقٍ عَلَى أَنْ يَتَحَصَّنَ بِدَارِ الْخَلِيفَةِ، فَأَصْلَحَ سُورَهَا، وَنَصَبَ عَلَيْهِ الْعَرَّادَاتِ وَالْمَنْجَنِيقَاتِ، وَعَلَى دِجْلَةَ، وَأَنْهَضَ الْعَامَّةَ، وَجَنَّدَ بَعْضَهُمْ، فَثَارُوا فِي بَغْدَاذَ وَأَحْرَقُوا وَنَهَبُوا، وَأَخَذُوا النَّاسَ لَيْلًا وَنَهَارًا. وَخَرَجَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ وَابْنُ رَائِقٍ إِلَى نَهْرِ دِيَالِي مُنْتَصَفَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَوَافَاهُمْ أَبُو الْحُسَيْنِ عِنْدَهُ فِي الْمَاءِ وَالْبَرِّ، وَاقْتَتَلَ النَّاسُ، وَكَانَتِ الْعَامَّةُ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ فِي الْجَانِبَيْنِ يُقَاتِلُونَ مَنْ فِي الْمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الْبَرِيدِيِّ، (وَانْهَزَمَ أَهْلُ بَغْدَاذَ، وَاسْتَوْلَى أَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ) عَلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ، وَدَخَلُوا إِلَيْهَا فِي الْمَاءِ وَذَلِكَ لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَهَرَبَ الْمُتَّقِي وَابْنُهُ الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي نَحْوِ عِشْرِينَ فَارِسًا، وَلَحِقَ بِهِمَا ابْنُ رَائِقٍ فِي جَيْشِهِ، فَسَارُوا جَمِيعًا نَحْوَ الْمَوْصِلِ، وَاسْتَتَرَ الْوَزِيرُ الْقَرَارِيطِيُّ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِزَارَتِهِ الثَّانِيَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَإِمَارَةُ ابْنِ رَائِقٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقَتَلَ أَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ مَنْ وَجَدُوا فِي دَارِ الْخَلِيفَةِ مِنَ الْحَاشِيَةِ، وَنَهَبُوهَا، وَنَهَبُوا دُورَ الْحُرَمِ. وَكَثُرَ النَّهْبُ فِي بَغْدَاذَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَأَخَذُوا كُورَتِكِينَ مِنْ حَبْسِهِ، وَأَنْفَذَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ إِلَى أَخِيهِ بِوَاسِطَ فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْقَاهِرِ بِاللَّهِ، وَنَزَلَ أَبُو الْحُسَيْنِ بِدَارِ مُؤْنِسٍ الَّتِي يَسْكُنُهَا ابْنُ رَائِقٍ وَعَظُمَ النَّهْبُ، فَأَقَامَ أَبُو الْحُسَيْنِ تُوزُونَ عَلَى الشُّرْطَةِ بِشَرْقِيِّ بَغْدَاذَ، وَجَعَلَ نُوشْتِكِينَ عَلَى شُرْطَةِ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَسَكَنَ النَّاسُ شَيْئًا يَسِيرًا، وَأَخَذَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيُّ رَهَائِنَ الْقَوَّادِ الَّذِينَ مَعَ تُوزُونَ وَغَيْرِهِ، وَأَخَذَ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ فَسَيَّرَهُمْ إِلَى أَخِيهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بِوَاسِطَ.

ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ الْبَرِيدِيُّ بِبَغْدَاذَ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى بَغْدَاذَ أَخَذَ أَصْحَابُهُ فِي النَّهْبِ وَالسَّلْبِ وَأَخْذِ الدَّوَابِّ، وَجَعَلُوا طَلَبَهَا طَرِيقًا إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَثَاثِ، وَكُبِسَتِ الدُّورُ، وَأُخْرِجَ أَهْلُهَا مِنْهَا وَنَزَلَتْ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ، وَجُعِلَ عَلَى كُرٍّ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَأَصْنَافِ الْحُبُوبِ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ فَبِيعَ كُرُّ الْحِنْطَةِ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ دِينَارًا، وَالْخُبْزُ الْخَشْكَوَارُ رِطْلَيْنِ بِقِيرَاطَيْنِ صَحِيحٍ أَمِيرِيٍّ، وَحَبِطَ أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَأَخَذَ الْقَوِيُّ بِالضَّعِيفِ، وَوَرَدَ مِنَ الْكُوفَةِ وَسَوَادِهَا خَمْسُمِائَةُ كُرٍّ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، فَأَخَذَهُ جَمِيعَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ لِلْعَامِلِ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ. وَوَقَعَتِ الْفِتَنُ بَيْنَ النَّاسِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، فَجَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَتْرَاكِ حَرْبٌ قُتِلَ فِيهَا جَمَاعَةٌ، وَانْهَزَمَ الْقَرَامِطَةُ، وَفَارَقُوا بَغْدَاذَ، وَوَقَعَتْ حَرْبٌ بَيْنَ الدَّيْلَمِ وَالْعَامَّةِ، قُتِلَ فِيهَا جَمَاعَةٌ مِنْ حَدِّ نَهْرِ طَابَقٍ إِلَى الْقَنْطَرَةِ الْجَدِيدَةِ. وَفِي آخِرِ شَعْبَانَ زَادَ الْبَلَاءُ عَلَى النَّاسِ، فَكَبَسُوا مَنَازِلَهُمْ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَاسْتَتَرَ أَكْثَرُ الْعُمَّالِ (لِعَظِيمِ مَا) طُولِبُوا بِهِ مِمَّا لَيْسَ فِي السَّوَادِ، وَافْتَرَقَ النَّاسُ، (فَخَرَجَ النَّاسُ) وَأَصْحَابُ السُّلْطَانِ إِلَى قُرْبٍ مِنْ بَغْدَاذَ، فَحَصَدُوا مَا اسْتَحْصَدُوا مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَحَمَلُوهُ بِسُنْبُلِهِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَنْهَبُ وَيَعْسِفُ أَهْلَ الْعِرَاقِ وَيَظْلِمُهُمْ ظُلْمًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ قَطُّ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. (وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ لِيَعْلَمَ الظَّلَمَةُ أَنَّ أَخْبَارَهُمْ تُنْقَلُ وَتَبْقَى عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، فَرُبَّمَا تَرَكُوا الظُّلْمَ لِهَذَا إِنْ لَمْ يَتْرُكُوهُ لِلَّهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

ذِكْرُ قَتْلِ ابْنِ رَائِقٍ، وَوَلَايَةِ ابْنِ حَمْدَانَ إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ كَانَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ قَدْ أَنْفَذَ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ يَسْتَمِدُّهُ عَلَى الْبَرِيدِيِّينَ، فَأَرْسَلَ أَخَاهُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ نَجْدَةً لَهُ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَلَقِيَ الْمُتَّقِيَ وَابْنَ رَائِقٍ بِتَكْرِيتَ قَدِ انْهَزَمَا، فَخَدَمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ لِلْمُتَّقِي خِدْمَةً عَظِيمَةً، وَسَارَ مَعَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَفَارَقَهَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَتَوَجَّهَ نَحْوَ مَعْلَثَايَّا، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ رَائِقٍ، حَتَّى تَعَاهَدَا وَاتَّفَقَا، فَحَضَرَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ وَنَزَلَ عَلَى دِجْلَةَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَعَبَرَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ الْمُتَّقِي وَابْنُ رَائِقٍ يُسَلِّمَانِ عَلَيْهِ، فَنَثَرَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ عَلَى وَلَدِ الْمُتَّقِي، فَلَمَّا أَرَادُوا الِانْصِرَافَ مِنْ عِنْدِهِ رَكِبَ ابْنُ الْمُتَّقِي، وَأَرَادَ ابْنُ رَائِقٍ الرُّكُوبَ، فَقَالَ لَهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ: تُقِيمُ الْيَوْمَ عِنْدِي لِنَتَحَدَّثَ فِيمَا نَفْعَلُهُ، فَاعْتَذَرَ ابْنُ رَائِقٍ بِابْنِ الْمُتَّقِي، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ ابْنُ حَمْدَانَ، فَاسْتَرَابَ بِهِ، وَجَذَبَ كُمَّهُ مِنْ يَدِهِ فَقَطَعَهُ، وَأَرَادَ الرُّكُوبَ فَشَبَّ بِهِ الْفَرَسُ فَسَقَطَ، فَصَاحَ ابْنُ حَمْدَانَ بِأَصْحَابِهِ: اقْتُلُوهُ. فَقَتَلُوهُ، وَأَلْقَوْهُ فِي دِجْلَةَ. وَأَرْسَلَ ابْنُ حَمْدَانَ إِلَى الْمُتَّقِي يَقُولُ: إِنَّهُ عَلِمَ أَنَّ ابْنَ رَائِقٍ أَرَادَ أَنْ يَغْتَالَهُ، فَفَعَلَ بِهِ مَا فَعَلَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْمُتَّقِي رَدًّا جَمِيلًا، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَسَارَ ابْنُ حَمْدَانَ إِلَى الْمُتَّقِي لِلَّهِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَلَقَّبَهُ " نَاصِرَ الدَّوْلَةِ "، وَجَعَلَهُ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَذَلِكَ مُسْتَهَلَّ شَعْبَانَ، وَخَلَعَ عَلَى أَخِيهِ أَبِي الْحُسَيْنِ عَلِيٍّ، وَلَقَّبَهُ " سَيْفَ الدَّوْلَةِ ". وَكَانَ قَتْلُ ابْنِ رَائِقٍ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ.

وَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ رَائِقٍ، سَارَ الْإِخْشِيدُ مِنْ مِصْرَ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَانَ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزْدَادَ خَلِيفَةُ ابْنِ رَائِقٍ، فَاسْتَأْمَنَ إِلَى الْإِخْشِيدِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ دِمَشْقَ، فَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ نَقَلَهُ عَنْهَا إِلَى مِصْرَ وَجَعَلَهُ عَلَى شُرْطَتِهَا، وَيُقَالُ أَنْ لِابنِ رَائِقٍ شِعْرًا مِنْهُ: يَصْفَرُّ وَجْهِي إِذَا تَأَمَّلَهُ ... طَرْفِي وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ خَجَلَا حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي بِوَجْنَتِهِ ... مِنْ دَمِ قَلْبِي إِلَيْهِ قَدْ نُقِلَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا لِلرَّاضِي بِاللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. ذِكْرُ عَوْدِ الْمُتَّقِي إِلَى بَغْدَاذَ، وَهَرَبِ الْبَرِيدِيِّ عَنْهَا لَمَّا اسْتَوْلَى أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيُّ عَلَى بَغْدَاذَ، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، نَفَرَتْ عَنْهُ قُلُوبُ النَّاسِ الْعَامَّةِ وَالْأَجْنَادِ، فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ رَائِقٍ، سَارَعَ الْجُنْدُ إِلَى الْهَرَبِ مِنَ الْبَرِيدِيِّ، فَهَرَبَ خَجْخَجُ إِلَى الْمُتَّقِي، وَكَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْبَرِيدِيُّ عَلَى الرَّاذَانَاتِ وَمَا يَلِيهَا، ثُمَّ تَحَالَفَ تُوزُونُ وَنُوشْتِكِينُ وَالْأَتْرَاكُ عَلَى كَبْسِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيِّ، فَغَدَرَ نُوشْتِكِينُ، فَأَعْلَمَ الْبَرِيدِيَّ الْخَبَرَ، فَاحْتَاطَ وَأَحْضَرَ الدَّيْلَمَ عِنْدَهُ، وَقَصَدَهُ تُوزُونُ، فَحَارَبَهُ الدَّيْلَمُ، وَعَلِمَ تُوزُونُ غَدْرَ نُوشْتِكِينَ بِهِ، فَعَادَ وَمَعَهُ جُمْلَةٌ وَافِرَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَسَارَ نَحْوَ الْمَوْصِلِ خَامِسَ رَمَضَانَ، فَقَوِيَ بِهِمُ ابْنُ حَمْدَانَ، وَعَزَمَ عَلَى الِانْحِدَارِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَتَجَهَّزَ وَانْحَدَرَ هُوَ وَالْمُتَّقِي، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى أَعْمَالِ الْخَرَاجِ وَالضِّيَاعِ بِدِيَارِ مُضَرَ، وَهِيَ الرُّهَا وَحَرَّانُ وَالرَّقَّةُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ طِيَّابٍ، وَسَيَّرَهُ مِنَ الْمَوْصِلِ. وَكَانَ عَلَى دِيَارِ مُضَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُقَاتِلٍ خَلِيفَةً لِابْنِ رَائِقٍ،

فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ مُقَاتِلٍ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ طِيَّابٍ عَلَيْهَا، فَلَمَّا قَارَبَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ وَنَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بَغْدَاذَ، هَرَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ مِنْهَا إِلَى وَاسِطَ، وَاضْطَرَبَتِ الْعَامَّةُ بِبَغْدَاذَ، وَنَهَبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانَ مَقَامُ أَبِي الْحُسَيْنِ بِبَغْدَاذَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَدَخَلَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ إِلَى بَغْدَاذَ وَمَعَهُ بَنُو حَمْدَانَ فِي جُيُوشٍ كَثِيرَةٍ، وَاسْتَوْزَرَ الْمُتَّقِي أَبَا إِسْحَاقَ الْقَرَارِيطِيَّ، وَقَلَّدَ تُوزُونَ شُرْطَةَ جَانِبَيْ بَغْدَاذَ، وَذَلِكَ فِي شَوَّالٍ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ ابْنِ حَمْدَانَ وَالْبَرِيدِيِّ لَمَّا هَرَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيُّ إِلَى وَاسِطَ، وَوَصَلَ بَنُو حَمْدَانَ وَالْمُتَّقِي إِلَى بَغْدَاذَ، خَرَجَ بَنُو حَمْدَانَ عَنْ بَغْدَاذَ نَحْوَ وَاسِطَ، وَكَانَ أَبُو الْحُسَيْنِ قَدْ سَارَ مِنْ وَاسِطَ إِلَيْهِمْ بِبَغْدَاذَ، فَأَقَامَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِالْمَدَائِنِ، وَسَيَّرَ أَخَاهُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ وَابْنَ عَمِّهِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ فِي الْجَيْشِ إِلَى قِتَالِ أَبِي الْحُسَيْنِ، فَالْتَقَوْا نَحْوَ الْمَدَائِنِ بِفَرْسَخَيْنِ، وَاقْتَتَلُوا عِدَّةَ أَيَّامٍ آخِرُهَا رَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ تُوزُونُ وَخَجْخَجُ وَالْأَتْرَاكُ مَعَ ابْنِ حَمْدَانَ، فَانْهَزَمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَبِهَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، فَرَدَّهُمْ وَأَضَافَ إِلَيْهِمْ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْجَيْشِ، فَعَاوَدُوا الْقِتَالَ، فَانْهَزَمَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيُّ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ، وَعَادَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيُّ مُنْهَزِمًا إِلَى وَاسِطَ، وَلَمْ يَقْدِرْ سَيْفُ الدَّوْلَةِ عَلَى اتِّبَاعِهِ إِلَيْهَا ; لِمَا فِي أَصْحَابِهِ مِنَ الْوَهْنِ وَالْجِرَاحِ. وَكَانَ الْمُتَّقِي قَدْ سَيَّرَ أَهْلَهُ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى، فَأَعَادَهُمْ، وَكَانَ أَعْيَانُ النَّاسِ قَدْ هَرَبُوا مِنْ بَغْدَاذَ، فَلَمَّا انْهَزَمَ الْبَرِيدِيُّ عَادُوا إِلَيْهَا، وَعَادَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَدَخَلَهَا ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْأَسْرَى عَلَى الْجِمَالِ، وَلَمَّا اسْتَرَاحَ

سَيْفُ الدَّوْلَةِ وَأَصْحَابُهُ، انْحَدَرُوا مِنْ مَوْضِعِ الْمَعْرَكَةِ إِلَى وَاسِطَ، فَرَأَوُا الْبَرِيدِيَّيْنَ قَدِ انْحَدَرُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَأَقَامَ بِوَاسِطَ وَمَعَهُ الْجَيْشُ، وَسَنَذْكُرُ مِنْ أَخْبَارِهِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . وَلَمَّا عَادَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، نَظَرَ فِي الْعِيَارِ، فَرَآهُ نَاقِصًا، فَأَمَرَ بِإِصْلَاحِ الدَّنَانِيرِ، فَضَرَبَ دَنَانِيرَ سَمَّاهَا الْإِبْرِيزِيَّةَ، عِيَارُهَا خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهَا، فَكَانَ الدِّينَارُ بِعَشَرَةِ دَارَهِمَ، فَبِيعَ هَذَا الدِّينَارُ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الدَّيْلَمِ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ كَانَتْ أَذْرَبِيجَانُ بِيَدِ دَيْسَمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْكُرْدِيِّ، وَكَانَ قَدْ صَحِبَ يُوسُفَ بْنَ أَبِي السَّاجِ، وَخَدَمَ وَتَقَدَّمَ حَتَّى اسْتَوْلَى عَلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَكَانَ يَقُولُ بِمَذْهَبِ الشُّرَاةِ هُوَ وَأَبُوهُ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَصْحَابِ هَارُونَ الشَّارِيِّ، فَلَمَّا قُتِلَ هَارُونُ، هَرَبَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ رَئِيسٍ مِنْ أَكْرَادِهَا، فَوَلَدَتْ لَهُ دَيْسَمَ، فَانْضَمَّ إِلَى أَبِي السَّاجِ، فَارْتَفَعَ وَكَبُرَ شَأْنُهُ، وَتَقَدَّمَ إِلَى أَنْ مَلَكَ أَذْرَبِيجَانَ بَعْدَ يُوسُفَ بْنِ أَبِي السَّاجِ، وَكَانَ مُعْظَمُ جُيُوشِهِ الْأَكْرَادُ، إِلَّا نَفَرًا يَسِيرًا مِنَ الدَّيْلَمِ مِنْ عَسْكَرِ وَشْمَكِيرَ، أَقَامُوا عِنْدَهُ حِينَ صَحِبُوهُ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ. ثُمَّ إِنَّ الْأَكْرَادَ تَقَوَّوْا، وَتَحَكَّمُوا عَلَيْهِ، وَتَغَلَبُّوا عَلَى بَعْضِ قِلَاعِهِ وَأَطْرَافِ بِلَادِهِ، فَرَأَى أَنْ يَسْتَظْهِرَ عَلَيْهِمْ بِالدَّيْلَمِ، فَاسْتَكْثَرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَكَانَ فِيهِمْ صُعْلُوكُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسَافِرٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ وَغَيْرُهُمَا، فَأَكْرَمَهُمْ دَيْسَمُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَانْتَزَعَ مِنَ الْأَكْرَادِ مَا تَغَلَّبُوا عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِهِ، وَقَبَضَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ.

وَكَانَ وَزِيرُهُ أَبَا الْقَاسِمِ عَلِيَّ بْنَ جَعْفَرٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَذْرَبِيجَانَ، فَسَعَى بِهِ أَعْدَاؤُهُ، فَأَخَافَهُ دَيْسَمُ، فَهَرَبَ إِلَى الطَّرْمِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ مُسَافِرٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ رَأَى ابْنَيْهِ وَهْسُوذَانَ وَالْمَرْزُبَانَ قَدِ اسْتَوْحَشَا مِنْهُ، وَاسْتَوْلَيَا عَلَى بَعْضِ قِلَاعِهِ، وَكَانَ سَبَبُ وَحْشَتِهِمَا سُوءَ مُعَامَلَتِهِ مَعَهُمَا وَمَعَ غَيْرِهِمَا، ثُمَّ إِنَّهُمَا قَبَضَا عَلَى أَبِيهِمَا مُحَمَّدِ بْنِ مُسَافِرٍ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُ وَذَخَائِرَهُ، وَبَقِيَ فِي حِصْنٍ آخَرَ وَحِيدًا فَرِيدًا بِغَيْرِ مَالٍ وَلَا عُدَّةٍ، فَرَأَى عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ الْحَالَ، فَتَقَرَّبَ إِلَى الْمَزْرُبَانَ وَخَدَمَهُ وَأَطْعَمَهُ فِي أَذْرَبِيجَانَ، وَضَمِنَ لَهُ تَحْصِيلَ أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ يَعْرِفُ هُوَ وُجُوهَهَا، فَقَلَّدَهُ وِزَارَتَهُ. وَكَانَ يَجْمَعْهُمَا مَعَ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا كَانَا مَعَ الشِّيعَةِ، فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ جَعْفَرٍ كَانَ مِنْ دُعَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَالْمَزْرُبَانُ مَشْهُورٌ بِذَلِكَ، وَكَانَ دَيْسَمُ كَمَا ذَكَرْنَا يَذْهَبُ إِلَى مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ فِي بُغْضِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَنَفَرَ عَنْهُ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَابْتَدَأَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ فَكَاتَبَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَوْحِشُ مِنْ دَيْسَمَ يَسْتَمِيلَهُ، إِلَى أَنْ أَجَابَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَفَسَدَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى دَيْسَمَ، وَخَاصَّةً الدَّيْلَمُ، وَسَارَ الْمَرْزُبَانُ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَسَارَ دَيْسَمُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا الْتَقَيَا لِلْحَرْبِ عَادَ الدَّيْلَمُ إِلَى الْمَرْزُبَانِ، وَتَبِعَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الْأَكْرَادِ مُسْتَأْمِنِينَ، فَحَمَلَ الْمَرْزُبَانُ عَلَى دَيْسَمَ، فَهَرَبَ فِي طَائِفَةٍ يَسِيرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ، وَاعْتَصَمَ بِحَاجِيقَ بْنِ الدِّيرَانِيِّ، لِمَوَدَّةٍ بَيْنِهِمَا، فَأَكْرَمَهُ وَاسْتَأْنَفَ دَيْسَمُ يُؤَلِّفُ الْأَكْرَادَ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُشِيرُونَ عَلَيْهِ بِإِبْعَادِ الدَّيْلَمِ لِمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ فِي الْجِنْسِ وَالْمَذْهَبِ، فَعَصَاهُمْ وَمَلَّكَ الْمَرْزُبَانَ أَذْرَبِيجَانَ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُهُ إِلَى أَنْ فَسَدَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَزِيرِهِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ. وَكَانَ سَبَبُ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ عَلِيًّا أَسَاءَ السِّيرَةَ مَعَ أَصْحَابِ الْمَرْزُبَانِ، (فَتَضَافَرُوا عَلَيْهِ، فَأَحَسَّ بِذَلِكَ، فَاحْتَالَ عَلَى الْمَرْزُبَانِ) فَأَطْمَعَهُ فِي أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ يَأْخُذُهَا لَهُ مِنْ بَلَدِ تِبْرِيزَ، فَضَمَّ جُنْدًا مِنَ الدَّيْلَمِ وَسَيَّرَهُمْ إِلَيْهَا، فَاسْتَمَالَ أَهْلَ الْبَلَدِ، فَعَرَّفَهُمْ أَنَّ الْمَرْزُبَانَ إِنَّمَا سَيَّرَهُ إِلَيْهِمْ لِيَأْخُذَ أَمْوَالَهُمْ، وَحَسَّنَ لَهُمْ قَتْلَ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَمُكَاتَبَةَ دَيْسَمَ لِيَقَدُمَ عَلَيْهِمْ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ.

وَكَاتَبَ دَيْسَمَ، وَوَثَبَ أَهْلُ الْبَلَدِ بِالدَّيْلَمِ فَقَتَلُوهُمْ، وَسَارَ دَيْسَمُ فِيمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى تِبْرِيزَ، وَكَانَ الْمَرْزُبَانُ قَدْ أَسَاءَ إِلَى مَنِ اسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَكْرَادِ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِدَيْسَمَ أَنَّهُ يُرِيدُ تِبْرِيزَ سَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا اتَّصَلَ ذَلِكَ بِالْمَرْزُبَانِ، نَدِمَ عَلَى إِيحَاشِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، ثُمَّ جَمَعَ عَسْكَرَهُ وَسَارَ إِلَى تِبْرِيزَ، فَتَحَارَبَ هُوَ وَدَيْسَمُ بِظَاهِرِ تِبْرِيزَ، فَانْهَزَمَ دَيْسَمُ وَالْأَكْرَادُ، وَعَادُوا فَتَحَصَّنُوا بِتِبْرِيزَ، وَحَصَرَهُمُ الْمَرْزُبَانُ وَأَخَذَ فِي إِصْلَاحِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ وَمُرَاسَلَتِهِ، وَبَذَلَ لَهُ الْأَيْمَانَ عَلَى مَا يُرِيدُهُ، فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ: إِنَّنِي لَا أُرِيدُ مِنْ جَمِيعِ مَا بَذَلْتَهُ إِلَّا السَّلَامَةَ وَتَرْكَ الْعَمَلَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَحَلَفَ لَهُ. وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَى دَيْسَمَ، فَسَارَ مِنْ تِبْرِيزَ إِلَى أَرْدَبِيلَ، (وَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ إِلَى الْمَزْرَبَانِ، فَسَارُوا إِلَى أَرْدَبِيلَ) وَتَرَكَ الْمَرْزُبَانُ عَلَى تِبْرِيزِ مَنْ يَحْصُرُهَا، وَحَصَرَ هُوَ دَيْسَمَ بِأَرْدَبِيلَ، فَلَمَّا طَالَ الْحِصَارُ عَلَيْهِ طَلَبَ الصُّلْحَ، وَرَاسَلَ الْمَرْزُبَانَ فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ، فَاصْطَلَحَا وَتَسَلَّمَ الْمَرْزُبَانُ أَرْدَبِيلَ، فَأَكْرَمَ دَيْسَمَ وَعَظَّمَهُ، وَوَفَّى لَهُ بِمَا حَلَفَ لَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ دَيْسَمَ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْمَرْزُبَانِ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُسَيِّرَهُ إِلَى قَلْعَتِهِ بِالطَّرْمِ فَيَكُونَ فِيهَا هُوَ وَأَهْلُهُ، وَيَقْنَعَ بِمَا يَتَحَصَّلُ لَهُ مِنْهَا، وَلَا يُكَلِّفَهُ شَيْئًا آخَرَ، فَفَعَلَ الْمَرْزُبَانُ ذَلِكَ، وَأَقَامَ دَيْسَمُ بِقَلْعَتِهِ هُوَ وَأَهْلُهُ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُحْتَاجٍ عَلَى بَلَدِ الْجَبَلِ، وَطَاعَةِ وَشْمَكِيرَ لِلْسَامَانِيِّةِ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] مَسِيرَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُحْتَاجٍ صَاحِبِ جُيُوشِ خُرَاسَانَ لِلْسَامَانِيِّةِ إِلَى الرَّيِّ، وَأَخَذَهَا مِنْ وَشْمَكِيرَ، وَمَسِيرَ وَشْمَكِيرَ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، وَأَقَامَ أَبُو عَلِيٍّ بِالرَّيِّ بَعْدَ مِلْكِهَا تِلْكَ الشَّتْوَةِ، وَسَيَّرَ الْعَسَاكِرَ إِلَى بَلَدِ الْجَبَلِ فَافْتَتَحَهَا، وَاسْتَوْلَى عَلَى زِنْكَانَ، وَأَبْهَرَ، وَقَزْوِينَ، وَقُمَّ، وَكَرَجَ، وَهَمَذَانَ، وَنَهَاوَنْدَ وَالدِّينَوَرَ إِلَى حُدُودِ حُلْوَانَ، وَرَتَّبَ فِيهَا الْعُمَّالَ، وَجَبَى أَمْوَالَهَا.

وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَيْرُزَانِ بِسَارِيَةٍ، فَقَصَدَهُ وَشْمَكِيرُ وَحَصَرَهُ، فَسَارَ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ وَاسْتَنْجَدَهُ، وَأَقَامَ وَشْمَكِيرُ مُتَحَصِّنًا بِسَارِيَةٍ، فَسَارَ إِلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ وَمَعَهُ الْحَسَنُ وَحَصَرَاهُ بِهَا سَنَةَ ثَلَاثِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ بِالْقِتَالِ كُلَّ يَوْمٍ، وَهُمْ فِي شِتَاءٍ شَاتٍ كَثِيرِ الْمَطَرِ، فَسَأَلَ وَشْمَكِيرُ الْمُوَاعَدَةَ، فَصَالَحَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَأَخَذَ رَهَائِنَهُ عَلَى لُزُومِ طَاعَةِ الْأَمِيرِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ، وَرَحَلَ عَنْهُ إِلَى جُرْجَانَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَأَتَاهُ مَوْتُ الْأَمِيرِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، فَسَارَ عَنْهَا إِلَى خُرَاسَانَ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْحَسَنِ بْنِ الْفَيْرُزَانِ عَلَى جُرْجَانَ كَانَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَيْرُزَانِ عَمَّ مَاكَانَ بْنِ كَالِي، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ فِي الشَّجَاعَةِ، فَلَمَّا قُتِلَ مَاكَانُ، رَاسَلَهُ وَشْمَكِيرُ لِيَدْخُلَ فِي طَاعَتِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَكَانَ بِمَدِينَةِ سَارِيَةَ، وَصَارَ يَسُبُّ وَشْمَكِيرَ، وَيَنْسُبُهُ إِلَى الْمُوَاطَأَةِ عَلَى قَتْلِ مَاكَانَ، فَقَصَدَهُ وَشْمَكِيرُ، فَسَارَ الْحَسَنُ مِنْ سَارِيَةَ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ صَاحِبِ جُيُوشِ خُرَاسَانَ، وَاسْتَنْجَدَهُ، فَسَارَ مَعَهُ أَبُو عَلِيٍّ مِنَ الرَّيِّ، فَحَصَرَ وَشْمَكِيرَ بِسَارِيَةَ، وَأَقَامَ يُحَاصِرُهُ إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، وَاصْطَلَحَا. وَعَادَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى خُرَاسَانَ، وَأَخَذَ ابْنًا لِوَشْمَكِيرَ - اسْمُهُ سَالَارُ - رَهِينَةً، وَصَحِبَهُ الْحَسَنُ بْنُ الْفَيْرُزَانِ، وَهُوَ كَارِهٌ لِلصُّلْحِ، فَبَلَغَهُ وَفَاةُ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ صَاحِبِ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا سَمِعَ الْحَسَنُ ذَلِكَ، عَزَمَ عَلَى الْفَتْكِ بِأَبِي عَلِيٍّ، فَثَارَ بِهِ وَبِعَسْكَرِهِ، فَسَلَّمَ أَبُو عَلَيٍّ، وَنَهَبَ الْحَسَنُ سَوَادَهُ، وَأَخَذَ ابْنَ وَشْمَكِيرَ، وَعَادَ إِلَى جُرْجَانَ فَمَلَكَهَا، وَمَلَكَ الدَّامَغَانَ وَسَمْنَانَ، وَلَمَّا وَصَلَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى نَيْسَابُورَ، رَأَى إِبْرَاهِيمَ بْنَ سِيمَجُورَ الدَّوَاتِيَّ قَدِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ بِهَا وَخَالَفَهُ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ فَاصْطَلَحُوا. ذِكْرُ مِلْكِ وَشْمَكِيرَ الرَّيَّ لَمَّا انْصَرَفَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى خُرَاسَانَ، وَجَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْحَسَنِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَادَ إِلَى جُرْجَانَ، سَارَ وَشْمَكِيرُ مِنْ طَبَرِسْتَانَ إِلَى الرَّيِّ، فَمَلَكَهَا وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَرَاسَلَهُ الْحَسَنُ بْنُ الْفَيْرُزَانِ يَسْتَمِيلُهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنَهُ سَالَارَ الَّذِي كَانَ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ رَهِينَةً، وَقَصَدَ أَنْ يَتَقَوَّى بِهِ

عَلَى الْخُرَاسَانِيَّةِ إِنْ عَادُوا إِلَيْهِ، فَأَلَانَ لَهُ وَشْمَكِيرُ الْجَوَابَ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِمَا يُخَالِفُ قَاعِدَتَهُ مَعَ أَبِي عَلِيٍّ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ عَلَى الرَّيِّ لَمَّا سَمِعَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ وَأَخُوهُ عِمَادُ الدَّوْلَةِ ابْنَا بُوَيْهِ بِمِلْكِ وَشْمَكِيرَ الرَّيَّ، طَمِعَا فِيهِ ; لِأَنَّ وَشْمَكِيرُ كَانَ قَدْ ضَعُفَ، وَقَلَّتْ رِجَالُهُ وَمَالُهُ بِتِلْكَ الْحَادِثَةِ مَعَ أَبِي عَلِيٍّ، فَسَارَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ الْحَسَنُ بْنُ بُوَيْهِ إِلَى الرَّيِّ، وَاقْتَتَلَ هُوَ وَوَشْمَكِيرُ، فَانْهَزَمَ وَشْمَكِيرُ، وَاسْتَأْمَنَ كَثِيرٌ مِنْ رِجَالِهِ إِلَى رُكْنِ الدَّوْلَةِ، فَسَارَ وَشْمَكِيرُ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، فَقَصَدَهُ الْحَسَنُ بْنُ الْفَيْرُزَانِ، فَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ عَسْكَرِهِ أَيْضًا، فَانْهَزَمَ وَشْمَكِيرُ إِلَى خُرَاسَانَ. ثُمَّ إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ الْفَيْرُزَانِ رَاسَلَ رُكْنَ الدَّوْلَةِ وَوَاصَلَهُ، فَتَزَوَّجَ (رُكْنُ الدَّوْلَةِ) بِنْتًا لِلْحَسَنِ، فَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدَهُ فَخْرَ الدَّوْلَةِ عَلِيًّا. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَذْكُرَ هَذِهِ الْحَوَادِثَ بَعْدَ وَفَاةِ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا هَاهُنَا ; لِيَتْلُوَ بَعْضُهَا بَعْضًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صُرِفَ بَدْرٌ الْخَرْشَنِيُّ عَنْ حَجَبَةِ الْخَلِيفَةِ، وَجُعِلَ مَكَانَهُ سَلَامَةُ الطُّولُونِيُّ. وَفِيهَا ظَهَرَ كَوْكَبٌ فِي الْمُحَرَّمِ بِذَنَبٍ عَظِيمٍ فِي أَوَّلِ بُرْجِ الْقَوْسِ، وَآخِرِ بُرْجِ الْعَقْرَبِ بَيْنَ الْغَرْبِ وَالشَّمَالِ، (وَكَانَ رَأْسُهُ فِي الْمَغْرِبِ وَذَنَبُهُ فِي الْمَشْرِقِ، وَكَانَ عَظِيمًا مُنْتَشِرَ الذَّنَبِ، وَبَقِيَ ظَاهِرًا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَسَارَ فِي الْقَوْسِ وَالْجَدْيِ، ثُمَّ اضْمَحَلَّ) . وَفِيهَا اشْتَدَّ الْغَلَاءُ لَا سِيَّمَا بِالْعِرَاقِ، وَبِيعَ الْخُبْزُ أَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ بِقِيرَاطَيْنِ صَحِيحٍ أَمِيرِيٍّ، وَأَكَلَ الضُّعَفَاءُ الْمَيْتَةَ، وَكَثُرَ الْوَبَاءُ وَالْمَوْتُ جِدًّا.

وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَصَلَ الرُّومُ إِلَى قُرْبِ حَلَبَ، وَنَهَبُوا وَخَرَّبُوا الْبِلَادَ، وَسَبَوْا نَحْوَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ إِنْسَانٍ. وَفِيهَا دَخَلَ الثَّمَلِيُّ مِنْ نَاحِيَةِ طَرَسُوسَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَقَتَلَ وَسَبَى، وَغَنِمَ وَعَادَ سَالِمًا، وَقَدْ أَسَرَ عِدَّةً مِنْ بَطَارِقَتِهِمُ الْمَشْهُورِينَ. وَفِيهَا فِي ذِي الْقِعْدَةِ، قَلَّدَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ بَدْرًا الْخَرْشَنِيَّ طَرِيقَ الْفُرَاتِ، فَسَارَ إِلَى الْإِخْشِيدِ مُسْتَأْمِنًا، فَقَلَّدَهُ بَلْدَةَ دِمَشْقَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ، حُمَّ وَمَاتَ بِهَا. وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وُلِدَ أَبُو مَنْصُورِ بُوَيْهِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَهُوَ مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ (عَبْدِ اللَّهِ) الْمَعْرُوفُ بِالصَّيْرَفِيِّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَحَامِلِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ فِي الْحَدِيثِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ (خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ) (وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ وَفَارِسَ، فَاسْتَعْفَى مِنَ الْقَضَاءِ وَأَلَحَّ فِي ذَلِكَ، فَأُجِيبَ إِلَيْهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي) بِشْرٍ الْأَشْعَرِيُّ الْمُتَكَلِّمُ، صَاحِبُ الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ.

وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ (بْنُ مُحَمَّدٍ) الْجَيْهَانِيُّ وَزِيرُ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ تَحْتَ الْهَدْمِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ [بْنِ بِشْرِ] بْنِ النَّضْرِ الْهَرَوِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَخَذَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ وَتَعَلَّمَ مِنْهُ.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 331 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ ظَفْرِ نَاصِرٍ بِعَدْلِ الْبُجْكُمِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَفِرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ بِعَدْلٍ حَاجِبِ بُجْكُمَ، وَسَمَلَهُ، وَسَيَّرَهُ إِلَى بَغْدَاذَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَدْلًا صَارَ بَعْدَ قَتْلِ بُجْكُمَ مَعَ ابْنِ رَائِقٍ، وَسَارَ مَعَهُ (إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَصْعَدَ مَعَهُ) إِلَى الْمَوْصِلِ، فَلَمَّا قَتَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَبَا بَكْرِ بْنَ رَائِقٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، صَارَ عَدْلٌ فِي جُمْلَةِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَسَيَّرَهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ مَعَ عَلِيِّ بْنِ خَلَفِ بْنِ طِيَّابٍ إِلَى دِيَارِ مُضَرَ، وَالشَّامِ الَّذِي كَانَ بِيَدِ ابْنِ رَائِقٍ، (وَكَانَ بِالرَّحْبَةِ مِنْ جِهَةِ ابْنِ رَائِقٍ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُسَافِرُ بْنُ الْحَسَنِ، فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ رَائِقٍ، اسْتَوْلَى مُسَافِرٌ هَذَا عَلَى النَّاحِيَةِ، وَمَنَعَ مِنْهَا، وَجَبَى خَرَاجَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ طِيَّابٍ عَدْلًا فِي جَيْشٍ لِيُخْرِجَهُ عَنِ الرَّحْبَةِ، فَلَمَّا سَارَ إِلَيْهَا، فَارَقَهَا مُسَافِرٌ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَمَلَكَ عَدْلٌ الْحَاجِبُ الْبَلَدَ، وَكَاتَبَ مَنْ بِبَغْدَادَ مِنَ الْبُجْكُمِيَّةَ، فَقَصَدُوهُ مُسْتَخْفِينَ، فَقَوِيَ أَمْرُهُ بِهِمْ، وَاسْتَوْلَى عَلَى طَرِيقِ الْفُرَاتِ وَبَعْضِ الْخَابُورِ. ثُمَّ إِنَّ مُسَافِرًا جَمَعَ جَمْعًا مِنْ بَنِي نُمَيرٍ وَسَارَ إِلَى قَرْقِيسِيَا، فَأَخْرَجَ مِنْهَا أَصْحَابَ عَدْلٍ وَمَلَكَهَا، فَسَارَ عَدْلٌ إِلَيْهَا، وَاسْتَتَرَ عَنْهَا، وَعَزَمَ عَدْلٌ عَلَى قَصْدِ الْخَابُورِ وَمَلْكِهِ، فَاحْتَاطَ أَهْلُهُ مِنْهُ، وَاسْتَنْصَرُوا بِبَنِي نُمَيرٍ، فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ عَدْلٌ، تَرَكَ قَصْدَهُمْ. ثُمَّ صَارَ يَرْكَبُ كُلَّ يَوْمٍ قَبْلَ الْعَصْرِ بِسَاعَةٍ فِي جَمِيعِ عَسْكَرِهِ وَيَطُوفُ صَحَارِيَ قَرْقِيسِيَا إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، وَعُيُونُهُ تَأْتِيهِ مِنْ أَهْلِ الْخَابُورِ بِأَنَّهُمْ يَحْذَرُونَ كُلَّمَا سَمِعُوا

بِحَرَكَتِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْخَابُورِ اتِّصَالَ رُكُوبِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْصِدُهُمْ، فَرَّقُوا جَمْعَهُمْ وَأَمِنُوهُ، فَأَتَتْهُ عُيُونُهُ بِذَلِكَ عَلَى رَسْمِهِ، فَلَمَّا تَكَامَلَ رِجَالُهُ أَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ، وَأَنْ يُرْسِلُوا غِلْمَانَهُمْ فِي حَمْلِ أَثْقَالِهِمْ، وَسَارَ لِوَقْتِهِ فَصَبَّحَ الشَّمْسَانِيَّةَ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ قُرَى الْخَابُورِ وَأَحْصَنِهَا، فَتَحَصَّنَ أَهْلُهَا مِنْهُ، فَقَاتَلَهُمْ وَنَقَبَ السُّورَ وَمَلَكَهَا وَقَتَلَ فِيهَا، وَأَخَذَ مِنْ أَهْلِهَا مَالًا كَثِيرًا، وَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى غَيرِهَا، فَبَقِيَ فِي الْخَابُورِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَجَبَى الْخَرَاجَ وَالْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ، وَاسْتَظْهَرَ بِهَا، وَقَوِيَ أَصْحَابُهُ بِمَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا، وَعَادَ إِلَى الرَّحْبَةِ، وَاتَّسَعَتْ حَالُهُ، وَاشْتَدَّ أَمْرُهُ، وَقَصَدَهُ الْعَسَاكِرُ مِنْ بَغْدَاذَ، فَعَظُمَ حَالُهُ. ثُمَّ إِنَّهُ سَارَ يُرِيدُ نَصِيبِينَ لِعِلْمِهِ بِبُعْدِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ عَنِ الْمَوْصِلِ وَالْبِلَادِ الْجَزِيرِيَّةِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ قَصْدُ الرَّقَّةِ وَحَرَّانَ لِأَنَّهَا كَانَ بِهَا يَأْنَسُ الْمُؤْنِسِيُّ فِي عَسْكَرٍ، وَمَعَهُ جَمْعٌ مِنْ بَنِي نُمَيْرٍ، فَتَرَكَهَا وَسَارَ إِلَى رَأْسِ عَيْنٍ، وَمِنْهَا إِلَى نَصِيبِينَ، فَاتَّصَلَ خَبَرُهُ بِالْحُسَيْنِ بْنِ حَمْدَانَ، فَجَمَعَ الْجَيْشَ وَسَارَ إِلَيْهِ إِلَى نَصِيبِينَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ لَقِيَهُ عَدْلٌ فِي جَيْشِهِ، فَلَمَّا الْتَقَى الْعَسْكَرَانِ، اسْتَأْمَنَ أَصْحَابُهُ مِنْ عَدْلٍ إِلَى ابْنِ حَمْدَانَ، وَبَقِيَ مَعَهُ مِنْهُمْ نَفَرٌ يَسِيرٌ مِنْ خَاصَّتِهِ، فَأَسَرَهُ ابْنُ حَمْدَانَ، وَأَسَرَ مَعَهُ ابْنَهُ، فَسَمَلَ عَدْلًا، وَسَيَّرَهُمَا إِلَى بَغْدَاذَ، فَوَصَلَهَا فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، فَشُهِّرَ هُوَ وَابْنُهُ فِيهَا. ذِكْرُ حَالِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِوَاسِطَ قَدْ ذَكَرْنَا مُقَامَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ عَلِيِّ بْنِ حَمْدَانَ بِوَاسِطَ بَعْدَ انْحِدَارِ الْبَرِيدِيِّينَ عَنْهَا، وَكَانَ يُرِيدُ الِانْحِدَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ لِأَخْذِهَا مِنَ الْبَرِيدِيِّ، وَلَا يُمْكِنُهُ لِقِلَّةِ الْمَالِ عِنْدَهُ، وَيَكْتُبُ إِلَى أَخِيهِ فِي ذَلِكَ، فَلَا يُنْفِذُ إِلَيْهِ شَيْئًا، وَكَانَ تُوزُونُ وَخَجْخَجُ يُسِيئَانِ الْأَدَبَ وَيَتَحَكَّمَانِ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ أَنْفَذَ إِلَى أَخِيهِ مَالًا مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيِّ لِيُفَرِّقَهُ فِي الْأَتْرَاكِ، فَأَسْمَعَهُ تُوزُونُ وَخَجْخَجُ الْمَكْرُوهَ، وَثَارَا بِهِ، فَأَخَذَهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ وَغَيَّبَهُ عَنْهُمَا وَسَيَّرَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَمَرَ تُوزُونَ أَنْ يَسِيرَ إِلَى الْجَامِدَةِ وَيَأْخُذَهَا وَيَنْفَرِدَ بِحَاصِلِهَا، وَأَمَرَ خَجْخَجَ أَنْ يَسِيرَ إِلَى مَذَارَ وَيَحْفَظَهَا وَيَأْخُذَ حَاصِلَهَا،

وَكَانَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ يَزْهَدُ بِالْأَتْرَاكِ فِي الْعِرَاقِ، وَيُحْسِنُ لَهُمْ قَصْدَ الشَّامِ مَعَهُ وَالِاسْتِيلَاءَ عَلَيْهِ وَعَلَى مِصْرَ، وَيَقَعُ فِي أَخِيهِ عِنْدَهُمْ، فَكَانُوا يُصَدِّقُونَهُ فِي أَخِيهِ، وَلَا يُجِيبُونَهُ إِلَى الْمَسِيرِ إِلَى الشَّامِ مَعَهُ، وَيَتَسَحَّبُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يُجِيبُهُمْ إِلَى الَّذِي يُرِيدُونَهُ. فَلَمَّا كَانَ سَلْخُ شَعْبَانَ، ثَارَ الْأَتْرَاكُ بِسَيْفِ الدَّوْلَةِ فَكَبَسُوهُ لَيْلًا، فَهَرَبَ مِنْ مُعَسْكَرِهِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَنَهَبَ سَوَادَهُ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ. وَأَمَّا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، بَرَزَ لِيَسِيرَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَرَكِبَ الْمُتَّقِي إِلَيْهِ، وَسَأَلَهُ التَّوَقُّفَ عَنِ الْمَسِيرِ، فَأَظْهَرَ لَهُ الْإِجَابَةَ إِلَى أَنْ عَادَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَنُهِبَتْ دَارُهُ، وَثَارَ الدَّيْلَمُ وَالْأَتْرَاكُ وَدَبَّرَ الْأَمْرَ أَبُو إِسْحَاقَ الْقَرَارِيطِيُّ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ بِوِزَارَةٍ. وَكَانَتْ إِمَارَةُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ بِبَغْدَاذَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَوِزَارَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ إِلَى الْأَصْبَهَانَيِّ أَحَدًا وَخَمْسِينَ يَوْمًا، وَوَصَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ. ذِكْرُ حَالِ الْأَتْرَاكِ بَعْدَ إِصْعَادِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ لَمَّا هَرَبَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ مِنْ وَاسِطَ، عَادَ الْأَتْرَاكُ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ، فَوَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ تُوزُونَ وَخَجْخَجَ، وَتَنَازَعَا الْإِمَارَةَ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْحَالُ عَلَى أَنْ يَكُونَ تُوزُونُ أَمِيرًا وَخَجْخَجُ صَاحِبَ الْجَيْشِ، وَتَصَاهَرَا. وَطَمِعَ الْبَرِيدِيُّ فِي وَاسِطَ، فَأَصْعَدَ إِلَيْهَا، فَأَمَرَ تُوزُونُ خَجْخَجَ بِالْمَسِيرِ إِلَى نَهَرِ أَبَانٍ، وَأَرْسَلَ الْبَرِيدِيُّ إِلَى تُوزُونَ يَطْلُبُ أَنْ يُضَمِّنَهُ وَاسِطَ، فَرَدَّهُ رَدًا جَمِيلًا، وَلَمْ يَفْعَلْ. وَلَمَّا عَادَ الرَّسُولُ أَتْبَعَهُ تُوزُونُ بِجَاسُوسٍ يَأْتِيهِ بِخَبَرِهِ مَعَ خَجْخَجَ، فَعَادَ الْجَاسُوسُ فَأَخْبَرَ تُوزُونَ بِأَنَّ الرَّسُولَ اجْتَمَعَ هُوَ وَخَجْخَجُ وَطَالَ الْحَدِيثُ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ خَجْخَجَ يُرِيدُ أَنْ

يَنْتَقِلَ إِلَى الْبَرِيدِيِّ، فَسَارَ تُوزُونُ إِلَيْهِ جَرِيدَةً فِي مِائَتَيْ غُلَامٍ يَثِقُ بِهِمْ، وَكَبَسَهُ فِي فِرَاشِهِ لَيْلَةَ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِ رَكِبَ دَابَّتَهُ بِقَمِيصٍ، وَفِي يَدِهِ لُتٌّ، وَدَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ قَلَيْلًا، ثُمَّ أُخِذَ وَحُمِلَ إِلَى تُوزُونَ فَحَمَلَهُ إِلَى وَاسِطَ، فَسَمَلَهُ وَأَعْمَاهُ ثَانِيَ يَوْمِ وُصُولِهِ إِلَيْهَا. ذِكْرُ عَوْدِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ وَهَرَبِهِ عَنْهَا لَمَّا هَرَبَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا، لَحِقَ بِأَخِيهِ، فَبَلَغَهُ خِلَافُ تُوزُونَ وَخَجْخَجَ، فَطَمِعَ فِي بَغْدَاذَ، فَعَادَ وَنَزَلَ بِبَابِ حَرْبٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُتَّقِي لِلَّهِ يَطْلُبُ مِنْهُ مَالًا لِيُقَاتِلَ تُوزُونَ إِنْ قَصَدَ بَغْدَاذَ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَفَرَّقَهَا فِي أَصْحَابِهِ، وَظَهَرَ مَنْ كَانَ مُسْتَخْفِيًا بِبَغْدَاذَ وَخَرَجُوا إِلَيْهِ، وَكَانَ وُصُولُهُ ثَالِثَ عَشَرَ رَمَضَانَ. وَلَمَّا بَلَغَ تُوزُونَ وُصُولُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، خَلَّفَ بِوَاسِطَ كَيَغْلَغُ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ وَأَصْعَدَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَمَّا سَمِعَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بِإِصْعَادِهِ، رَحَلَ مِنْ بَابِ حَرْبٍ فِيمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ مِنْ أَجْنَادِ بَغْدَاذَ، وَفِيهِمُ الْحَسَنُ بْنُ هَارُونَ. ذِكْرُ إِمَارَةِ تُوزُونَ قَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَاذَ، فَلَمَّا فَارَقَهَا دَخَلَهَا تُوزُونُ، وَكَانَ دُخُولُهُ بَغْدَاذَ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ، وَجَعَلَهُ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَصَارَ أَبُو جَعْفَرٍ الْكَرْخِيُّ يَنْظُرُ فِي الْأُمُورِ، كَمَا كَانَ الْكُوفِيُّ يَنْظُرُ فِيهَا. وَلَمَّا سَارَ تُوزُونُ عَنْ وَاسِطَ، أَصْعَدَ إِلَيْهَا الْبَرِيدِيُّ، فَهَرَبَ مَنْ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ تُوزُونَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَلَمْ يُمَكِّنْ تُوزُونَ الْمُبَادَرَةَ إِلَى وَاسِطَ إِلَى أَنْ تَسْتَقِرَّ الْأُمُورُ بِبَغْدَاذَ، فَأَقَامَ إِلَى أَنْ مَضَى بَعْضُ ذِي الْقِعْدَةِ. وَكَانَ تُوزُونُ قَدْ أَسَرَ غُلَامًا عَزِيزًا عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ قَرِيبًا مِنْهُ، يُقَالُ لَهُ ثِمَالٌ، فَأَطْلَقَهُ

وَأَكْرَمَهُ وَأَنَفَذَهُ إِلَيْهِ، فَحَسُنُ مَوْقِعُ ذَلِكَ مِنْ بَنِي حَمْدَانَ، ثُمَّ إِنَّ تُوزُونَ انْحَدَرَ إِلَى وَاسِطَ لِقَصْدِ الْبَرِيدِيِّ، فَأَتَاهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ شَيْرَزَادَ (هَارِبًا مِنَ الْبَرِيدِيِّ) ، فَقَبِلَهُ وَفَرِحَ بِهِ، وَقَلَّدَهُ أُمُورَهُ كُلَّهَا. ذِكْرُ مَسِيرِ صَاحِبِ عَمَّانَ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، سَارَ يُوسُفُ بْنُ وَجِيهٍ صَاحِبُ عَمَّانَ فِي مَرَاكِبَ كَثِيرَةٍ يُرِيدُ الْبَصْرَةَ، وَحَارَبَ الْبَرِيدِيَّ (فَمَلَكَ الْأُبُلَّةَ) ، وَقَوِيَ قُوَّةً عَظِيمَةً، وَقَارَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْبَصْرَةَ، فَأَشْرَفَ الْبَرِيدِيُّ وَإِخْوَتُهُ عَلَى الْهَلَاكِ. وَكَانَ لَهُ مَلَّاحٌ يُعْرَفُ بِالرَّنَّادِيِّ، فَضَمِنَ لِلْبَرِيدِيِّ هَزِيمَةَ يُوسُفَ، فَوَعَدَهُ الْإِحْسَانَ الْعَظِيمَ، وَأَخَذَ الْمَلَّاحُ زَوْرَقَيْنِ فَمَلَأَهُمَا سَعَفًا يَابِسًا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ، وَأَحْدَرَهُمَا فِي اللَّيْلِ حَتَّى قَارَبَ الْأُبُلَّةَ. وَكَانَتْ مَرَاكِبُ ابْنُ وَجِيهٍ تُشَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ (فِي اللَّيْلِ) ، فَتَصِيرُ كَالْجِسْرِ، فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَشْعَلَ ذَلِكَ الْمَلَّاحُ النَّارَ فِي السَّعَفِ الَّذِي فِي الزَّوْرَقَيْنِ، وَأَرْسَلَهُمَا مَعَ الْجَزْرِ وَالنَّارُ فِيهِمَا، فَأَقْبَلَا أَسْرَعَ مِنَ الرِّيحِ، فَوَقَعَا فِي تِلْكَ السُّفُنِ وَالْمَرَاكِبِ، فَاشْتَعَلَتْ وَاحْتَرَقَتْ قُلُوسُهَا، وَاحْتَرَقَ مَنْ فِيهَا، وَنَهَبَ النَّاسُ مِنْهَا مَالًا عَظِيمًا، وَمَضَى يُوسُفُ بْنُ وَجِيهٍ هَارِبًا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، (وَأَحْسَنَ الْبَرِيدِيُّ إِلَى ذَلِكَ الْمَلَّاحِ) ، وَفِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ هَرَبَ ابْنُ شَيْرَزَادَ (مِنَ الْبَرِيدِيِّ) وَأَصْعَدَ إِلَى تُوزُونَ.

ذِكْرُ الْوَحْشَةِ بَيْنَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ وَتُوزُونَ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يَنَالَ التُّرْجُمَانُ مِنْ أَكْبَرِ قُوَّادٍ تُوزُونَ، وَهُوَ خَلِيفَتُهُ بِبَغْدَاذَ، فَلَمَّا انْحَدَرَ تُوزُونُ إِلَى وَاسِطَ، سَعَى بِمُحَمَّدٍ إِلَيْهِ وَقَبُحَ ذِكْرُهُ عِنْدَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُحَمَّدًا فَنَفَرَ مِنْهُ. وَكَانَ الْوَزِيرُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ مُقْلَةَ قَدْ ضَمِنَ الْقُرَى الْمُخْتَصَّةَ بِتُوزُونَ بِبَغْدَاذَ، فَخَسِرَ فِيهَا جُمْلَةً، فَخَافَ أَنْ يُطَالَبَ بِهَا، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ اتِّصَالُ ابْنِ شَيْرَزَادَ بِتُوزُونَ، فَخَافَهُ الْوَزِيرُ وَغَيْرُهُ، وَظَنُّوا أَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى تُوزُونَ بِاتِّفَاقٍ مِنَ الْبَرِيدِيِّ، فَاتَّفَقَ التُّرْجُمَانُ وَابْنُ مُقْلَةَ، وَكَتَبُوا إِلَى ابْنِ حَمْدَانَ لِيُنْفِذَ عَسْكَرًا يَسِيرًا صُحْبَةَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ إِلَيْهِ، وَقَالُوا لِلْمُتَّقِي: قَدْ رَأَيْتَ مَا فَعَلَ مَعَكَ الْبَرِيدِيُّ بِالْأَمْسِ، أَخَذَ مِنْكَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَخْرَجْتَ عَلَى الْأَجْنَادِ مِثْلَهَا، وَقَدْ ضَمِنَكَ الْبَرِيدِيُّ مَنْ تُوزُونَ بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ أُخْرَى، زَعَمَ أَنَّهَا فِي يَدِكَ مِنْ تَرِكَةِ بُجْكُمَ، وَابْنُ شَيْرَزَادَ وَاصِلٌ لِيَتَسَلَّمَكَ وَيَخْلَعَكَ وَيُسَلِّمَكَ إِلَى الْبَرِيدِيِّ، فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ، وَعَزَمَ عَلَى الْإِصْعَادِ إِلَى ابْنِ حَمْدَانَ، وَوَرَدَ ابْنُ شَيْرَزَادَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ جَرِيدَةً. ذِكْرُ مَوْتِ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ السَّعِيدُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ صَاحِبُ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ (فِي رَجَبٍ) ، وَكَانَ مَرَضُهُ السُّلَّ، فَبَقِيَ مَرِيضًا ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ مَشَايِخِ دَوْلَتِهِمْ أَحَدٌ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ سَعَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَهَلَكَ بَعْضُهُمْ، وَمَاتَ بَعْضُهُمْ، وَكَانَتْ وَلَايَتُهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً (وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَكَانَ عُمُرُهُ ثَمَانِيًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً) . وَكَانَ حَلِيمًا، كَرِيمًا، عَاقِلًا، فَمِنْ حِلْمِهِ أَنَّ بَعْضَ الْخَدَمِ سَرَقَ جَوْهَرًا نَفِيسًا وَبَاعَهُ

مِنْ بَعْضِ التُّجَّارِ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَحَضَرَ التَّاجِرُ عِنْدَ السَّعِيدِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ قَدِ اشْتَرَى جَوْهَرًا نَفِيسًا لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلسُّلْطَانِ، وَأَحْضَرَ الْجَوْهَرَ عِنْدَهُ، فَحِينَ رَآهُ عَرَفَهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ وَقَدْ سُرِقَ، فَسَأَلَهُ عَنْ ثَمَنِهِ، وَمِنْ أَيْنَ اشْتَرَاهُ، فَذَكَرَ لَهُ الْخَادِمَ وَالثَّمَنَ، فَأَمَرَ فَأُحْضِرَ ثَمَنُهُ فِي الْحَالِ، وَأَرْبَحَهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ زِيَادَةً. ثُمَّ إِنَّ التَّاجِرَ سَأَلَهُ فِي دَمِ الْخَادِمِ، فَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ تَأْدِيبِهِ، وَأَمَّا دَمُهُ فَهُوَ لَكَ، فَأَحْضَرَهُ وَأَدَّبَهُ، ثُمَّ أَنْفَذَهُ إِلَى التَّاجِرِ، وَقَالَ: كُنَّا وَهَبْنَا لَكَ دَمَهُ، فَقَدَ أَنْفَذْنَاهُ إِلَيْكَ، فَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ الْجَوْهَرِ بَعْضُ الرَّعَايَا، لَقَالَ: هَذَا مَالِي قَدْ عَادَ إِلَيَّ، وَخُذْ أَنْتَ مَالَكَ مِمَّنْ سَلَّمْتَهُ إِلَيْهِ. وَحُكِيَ أَنَّهُ اسْتَعْرَضَ جُنْدَهُ، وَفِيهِمْ إِنْسَانٌ اسْمُهُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْعَرْضُ، سَأَلَهُ عَنِ اسْمِهِ فَسَكَتَ، فَأَعَادَ السُّؤَالَ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ: اسْمُهُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ، وَإِنَّمَا سَكَتَ إِجْلَالًا لِلْأَمِيرِ، فَقَالَ السَّعِيدُ: إِذًا يُوجَبُ حَقُّهُ، وَنَزِيدُ فِي رِزْقِهِ، ثُمَّ قَرَّبَهُ وَزَادَ فِي أَرْزَاقِهِ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِ أَخُوهُ أَبُو زَكَرِيَّاءَ، نَهَبَ خَزَائِنَهُ وَأَمْوَالَهُ، فَلَمَّا عَادَ السَّعِيدُ إِلَى مُلْكِهِ، قِيلَ لَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ انْتَهَبُوا مَالَهُ، فَلَمْ يَعْرِضْ إِلَيْهِمْ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّ بَعْضَ السُّوقَةِ اشْتَرَى مِنْهَا سِكِّينًا نَفِيسًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَطَلَبَ السِّكِّينَ، فَأَبَى أَنْ يَبِيعَهُ إِلَّا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا؟ أَرَى عِنْدَهُ مَالِيَ فَلَمْ أُعَاقِبْهُ، وَأَعْطَيْتُهُ حَقَّهُ، فَاشْتَطَّ فِي الطَّلَبِ، ثُمَّ أَمَرَ بِرِضَائِهِ. وَحُكِيَ أَنَّهُ طَالَ مَرَضُهُ فَبَقِيَ بِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، فَأَقْبَلَ عَلَى الصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ، وَبَنَى لَهُ فِي قَصْرِهِ بَيتًا سَمَّاهُ بَيْتَ الْعِبَادَةِ، فَكَانَ يَلْبَسُ ثِيابًا نِظَافًا وَيَمْشِي إِلَيْهِ حَافِيًا، وَيُصَلِّي فِيهِ، وَيَدْعُو وَيَتَضَرَّعُ، وَيَجْتَنِبُ الْمُنْكَرَاتِ وَالْآثَامِ إِلَى أَنْ مَاتَ وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ. ذِكْرُ وَلَايَةِ ابْنِهِ الْأَمِيرِ نُوحِ بْنِ نَصْرٍ لَمَّا مَاتَ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ، تَوَلَّى بَعْدَهُ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ ابْنُهُ نُوحٌ، وَاسْتَقَرَّ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ وَحَلَفُوا لَهُ، وَلُقِّبَ بِالْأَمِيرِ الْحَمِيدِ، وَفَوَّضَ أَمْرَهُ

وَتَدْبِيرَ مَمْلَكَتِهِ إِلَى أَبِي الْفَضْلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَاكِمِ، وَصَدَرَ عَنْ رَأْيِهِ. وَلَمَّا وَلِيَ نُوحٌ، هَرَبَ مِنْهُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَوَيْهِ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ أَبِيهِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ السَّعِيدَ نَصْرًا كَانَ قَدْ وَلَّى ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ بُخَارَى، وَكَانَ أَبُو الْفَضْلِ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ وَخِلَافَتَهُ، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ مَعَ نُوحٍ وَأَصْحَابِهِ، فَحَقَدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ إِسْمَاعِيلُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ. وَكَانَ نَصْرٌ يَمِيلُ إِلَى أَبِي الْفَضْلِ وَيُؤْثِرُهُ، فَقَالَ لَهُ: إِذَا حَدَثَ عَلَيَّ حَادِثُ الْمَوْتِ فَانْجُ بِنَفْسِكَ، فَإِنِّي لَا آمَنُ نُوحًا عَلَيْكَ، فَلَمَّا مَاتَ الْأَمِيرُ نَصْرٌ، سَارَ أَبُو الْفَضْلِ مِنْ بُخَارَى وَعَبَرَ جَيْحُونَ، وَوَرَدَ آمُلَ، وَكَاتَبَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُحْتَاجٍ وَهُوَ بِنَيْسَابُورَ، يُعَرِّفُهُ الْحَالُ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا مُصَاهَرَةٌ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ يَنْهَاهُ عَنِ الْإِلْمَامِ بِنَاحِيَتِهِ لِمَصْلَحَةٍ. ثُمَّ إِنَّ الْأَمِيرَ نُوحًا أَرْسَلَ إِلَى أَبِي الْفَضْلِ كِتَابَ أَمَانٍ بِخَطِّهِ، فَعَادَ إِلَيْهِ فَأَحْسَنَ الْفِعْلَ مَعَهُ، وَوَلَّاهُ سَمَرْقَنْدَ وَكَانَ أَبُو الْفَضْلِ مُعْرِضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَاكِمِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، وَيُسَمِّيهِ الْخَيَّاطَ، فَأَضْمَرَ الْحَاكِمُ بُغْضَهُ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ وَصَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَحَارَبَ الْبَرِيدِيِّينَ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ مُدَّةً، ثُمَّ اسْتَأْمَنَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِهِ إِلَى الْبَرِيدِيِّينَ، فَاسْتَوْحَشَ مِنَ الْبَاقِينَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ بِابْنَةِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَكَانَ الصَّدَاقُ أَلْفَ أَلْفِ دَرْهَمٍ، وَالْحِمْلُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ. وَفِيهَا قَبَضَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي إِسْحَاقَ الْقَرَارِيطِيِّ، وَرَتَّبَ مَكَانَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَهَانَيَّ فِي رَجَبٍ، وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ الْأُمُورَ، وَكَانَتْ وِزَارَةُ الْقَرَارِيطِيِّ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوَمًا، وَكَانَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ يَنْظُرُ فِي قِصَصِ النَّاسِ وَتُقَامُ الْحُدُودُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ.

وَفِيهَا كَانَتِ الزَّلْزَلَةُ الْمَشْهُورَةُ بِنَاحِيَةِ نَسَا (مِنْ خُرَاسَانَ) ، فَخَرِبَتْ قُرًى كَثِيرَةً، وَمَاتَ تَحْتَ الْهَدْمِ عَالَمٌ عَظِيمٌ، وَكَانَتْ عَظِيمَةً جِدًّا. وَفِيهَا اسْتَقْدَمَ الْأَمِيرُ نُوحٌ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ النَّسَفِيَّ الْبَرْدَهِيَّ، وَكَانَ قَدْ طُعِنَ فِيهِ عِنْدَهُ، فَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ، فَسُرِقَ مِنَ الْجِذْعِ، وَلَمْ يُعْلَمْ مَنْ سَرَقَهُ. وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ أَبَا الْحُسَيْنِ بْنَ مُقْلَةَ ثَامِنَ شَهْرِ رَمَضَانَ، بَعْدَ إِصْعَادِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَقَبْلَ إِصْعَادِ أَخِيهِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ مِنْ وَاسِطَ إِلَى بَغْدَادَ. وَفِيهَا أَرْسَلَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى الْمُتَّقِي لِلَّهِ يَطْلُبُ مِنْدِيلًا، زَعَمَ أَنَّ الْمَسِيحَ مَسَحَ بِهِ وَجْهَهُ، فَصَارَتْ صُورَةُ وَجْهِهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ فِي بَيْعَةِ الرُّهَا. وَذَكَرَ أَنَّهُ إِنْ أَرْسَلَ الْمِنْدِيلَ، أَطْلَقَ عَدَدًا كَثِيرًا مِنْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَحْضَرَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ، وَاسْتَفْتَاهُمْ فَاخْتَلَفُوا، فَبَعْضٌ رَأَى تَسْلِيمَهُ إِلَى الْمَلِكِ وَإِطْلَاقَ الْأَسْرَى، وَبَعْضٌ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْمِنْدِيلَ لَمْ يَزَلْ مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَطْلُبْهُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الرُّومِ، وَفِي دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ غَضَاضَةٌ. وَكَانَ فِي الْجَمَاعَةِ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْوَزِيرُ، فَقَالَ: إِنَّ خَلَاصَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَسْرِ وَمِنَ الضُّرِّ وَالضَّنْكِ الَّذِي هُمْ فِيهِ أَوْلَى مِنْ حِفْظِ هَذَا الْمِنْدِيلِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِمْ، وَإِطْلَاقِ الْأَسْرَى، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ مَنْ يَتَسَلَّمُ الْأَسْرَى مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، فَأُطْلِقُوا.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْفَرَغَانِيُّ الصُّوفِيُّ أُسْتَاذُ أَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزْدَادَ الشَّهْرُزُورِيُّ، وَكَانَ يَلِي إِمْرَةَ دِمَشْقَ لِمُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ، ثُمَّ اتَّصَلَ بِالْإِخْشِيدِ فَجَعَلَهُ عَلَى شُرْطَتِهِ بِمِصْرَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ سِنَانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ قُرَّةَ، مُسْتَهَلَّ ذِي الْقِعْدَةِ، بِعِلَّةِ الذَّرَبِ، وَكَانَ حَاذِقًا فِي الطِّبِّ، فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ عِنْدَ دُنُوِّ الْأَجَلِ شَيْئًا. وَفِيهَا أَيْضًا مَاتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ الْجِهْشَيَارِيُّ.

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 332 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مَسِيرِ الْمُتَّقِي إِلَى الْمَوْصِلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أُصْعِدَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ إِلَى الْمَوْصِلِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ سِعَايَةِ ابْنِ مُقْلَةَ وَالتُّرْجُمَانِ مَعَ الْمُتَّقِي بِتُوزُونَ وَابْنِ شَيْرَزَادَ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ شَيْرَزَادَ وَصَلَ خَامِسَ الْمُحَرَّمِ إِلَى بَغْدَاذَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ غُلَامٍ جَرِيدَةً، فَازْدَادَ خَوْفُ الْمُتَّقِي، وَأَقَامَ بِبَغْدَاذَ يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَلَا يُرَاجِعُ الْمُتَّقِي فِي شَيْءٍ. وَكَانَ الْمُتَّقِي قَدْ أَنْفَذَ يَطْلُبُ مِنْ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ إِنْفَاذَ جَيْشٍ إِلَيْهِ لِيَصْحَبُوهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَأَنْفَذَهُمْ مَعَ ابْنِ عَمِّهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى بَغْدَاذَ نَزَلُوا بِبَابِ حَرْبٍ، وَاسْتَتَرَ ابْنُ شَيْرَزَادَ، وَخَرَجَ الْمُتَّقِي إِلَيْهِمْ فِي حَرَمِهِ، وَأَهْلِهِ، وَوَزِيرِهِ، وَأَعْيَانِ بَغْدَاذَ، مِثْلِ سَلَامَةَ الطُّولُونِيِّ، وَأَبِي زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ السُّوسِيِّ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ الْمَارَدَانِيِّ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْقَرَارِيطِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمُوسَوِيِّ، وَثَابِتِ بْنِ سِنَانَ بْنِ ثَابِتِ بْنِ قُرَّةَ الطَّبِيبِ، وَأَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ يَنَالَ التُّرْجُمَانِ، وَغَيْرِهِمْ. وَلَمَّا سَارَ الْمُتَّقِي مِنْ بَغْدَاذَ، ظَلَمَ ابْنُ شَيْرَزَادَ النَّاسَ وَعَسَفَهُمْ وَصَادَرَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى تُوزُونَ وَهُوَ بِوَاسِطَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ تُوزُونَ الْخَبَرُ، عَقَدَ ضَمَانَ وَاسِطَ عَلَى الْبَرِيدِيِّ وَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ، وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ وَانْحَدَرَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ وَحْدَهُ إِلَى الْمُتَّقِي لِلَّهِ بِتَكْرِيتَ، فَأَرْسَلَ الْمُتَّقِي (إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ يَسْتَدْعِيهِ وَيَقُولُ لَهُ: لَمْ يَكُنِ الشَّرْطُ مَعَكَ إِلَّا أَنْ تَنْحَدِرَ إِلَيْنَا، فَانْحَدَرَ، فَوَصَلَ إِلَى تَكْرِيتَ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَرَكِبَ الْمُتَّقِي إِلَيْهِ، فَلَقِيَهُ بِنَفْسِهِ وَأَكْرَمَهُ. وَأَصْعَدَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَأَقَامَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِتَكْرِيتَ، وَسَارَ تُوزُونُ نَحْوَ تَكْرِيتَ، فَالْتَقَى هُوَ وَسَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ تَحْتَ تَكْرِيتَ بِفَرْسَخَيْنِ، فَاقْتَتَلُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ انْهَزَمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَغَنِمَ تُوزُونُ وَالْأَعْرَابُ سَوَادَهُ وَسَوَادَ أَخِيهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَعَادَا مِنْ تَكْرِيتَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَمَعَهُمَا الْمُتَّقِي لِلَّهِ) .

وَشَغَبَ أَصْحَابُ تُوزُونَ (فَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَعَادَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ وَانْحَدَرَ، فَالْتَقَى هُوَ وَتُوزُونُ بِحَرْبَى) فِي شَعْبَانَ، فَانْهَزَمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَتَبِعَهُ تُوزُونُ. وَلَمَّا بَلَغَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْمَوْصِلِ، سَارَ عَنْهَا هُوَ وَأَخُوهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ وَالْمُتَّقِي لِلَّهِ وَمِنْ مَعَهُمْ إِلَى نَصِيبِينَ، وَدَخَلَ تُوزُونُ الْمَوْصِلَ، فَسَارَ الْمُتَّقِي إِلَى الرَّقَّةِ، وَلَحِقَهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، وَأَرْسَلَ الْمُتَّقِي إِلَى تُوزُونَ يَذْكُرُ أَنَّهُ اسْتَوْحَشَ مِنْهُ لِاتِّصَالِهِ بِالْبَرِيدِيِّ، وَأَنَّهُمَا صَارَا يَدًا وَاحِدَةً، فَإِنْ آثَرَ رِضَاهُ يُصَالِحُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ وَنَاصِرَ الدَّوْلَةِ لِيَعُودَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَتَرَدَّدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيُّ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَى تُوزُونَ فِي ذَلِكَ، فَتَمَّ الصُّلْحُ، وَعُقِدَ الضَّمَانُ عَلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ لِمَا بِيَدِهِ مِنَ الْبِلَادِ ثَلَاثَ سِنِينَ، كُلُّ سَنَةٍ بِثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفِ وَسِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَعَادَ تُوزُونُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَقَامَ الْمُتَّقِي عِنْدَ بَنِي حَمْدَانَ بِالْمَوْصِلِ، ثُمَّ سَارُوا عَنْهَا إِلَى الرَّقَّةِ فَأَقَامُوا بِهَا. ذِكْرُ وُصُولِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطَ وَدِيَالِي وَعَوْدِهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَلَغَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ أَبَا الْحُسَيْنِ بْنَ بُوَيْهِ إِصْعَادُ تُوزُونَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَسَارَ هُوَ إِلَى وَاسِطَ لِمِيعَادٍ مِنَ الْبَرِيدِيِّينَ، وَكَانُوا قَدْ وَعَدُوهُ أَنْ يَمُدُّوهُ بِعَسْكَرٍ فِي الْمَاءِ، فَأَخْلَفُوهُ. وَعَادَ تُوزُونُ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَانْحَدَرَ مِنْهَا إِلَى لِقَاءِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَالْتَقَوْا سَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ بِقِبَابِ حُمَيْدٍ، وَطَالَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمَا بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَ تُوزُونَ يَتَأَخَّرُونَ، وَالدَّيْلَمُ يَتَقَدَّمُونَ، إِلَى أَنْ عَبَرَ تُوزُونُ نَهَرَ دِيَالِي، وَوَقَفَ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ الدَّيْلَمَ مِنَ الْعُبُورِ. وَكَانَ مَعَ تُوزُونَ مُقَابَلَةٌ فِي الْمَاءِ فِي دِجْلَةَ، فَكَانُوا يَوَدُّونَ [أَنَّ] الدَّيْلَمَ يَسْتَوْلُونَ عَلَى أَطْرَافِهِمْ، فَرَأَى ابْنَ بُوَيْهِ أَنْ يَصْعَدَ عَلَى دِيَالِي لِيَبْعُدَ عَنْ دِجْلَةَ وَقِتَالِ مَنْ بِهَا، وَيَتَمَكَّنَ مِنَ الْمَاءِ، فَعَلِمَ تُوزُونُ بِذَلِكَ، فَسَيَّرَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، وَعَبَرُوا دِيَالِي وَكَمِنُوا، فَلَمَّا سَارَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مُصْعِدًا وَسَارَ سَوَادُهُ فِي أَثَرِهِ، خَرَجَ الْكَمِينُ عَلَيْهِ، فَحَالُوا بَيْنَهُمَا، وَوَقَعُوا فِي الْعَسْكَرِ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ تَعْبِيَةٍ.

وَسَمِعَ تُوزُونُ الصِّيَاحَ، فَتَعَجَّلَ وَعَبَرَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ سِبَاحَةً، فَوَقَعُوا فِي عَسْكَرِ ابْنِ بُوَيْهِ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ حَتَّى مَلُّوا، وَانْهَزَمَ ابْنُ بُوَيْهِ وَوَزِيرُهُ الصَّيْمَرِيُّ إِلَى السُّوسِ رَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَلَحِقَ بِهِ مَنْ سَلِمَ مِنْ عَسْكَرِهِ، وَكَانَ قَدْ أُسِرَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَائِدًا مِنْهُمُ ابْنُ الدَّاعِي الْعَلَوِيُّ، وَاسْتَأْمَنَ كَثِيرٌ مِنَ الدَّيْلَمِ إِلَى تُوزُونَ. ثُمَّ إِنَّ تُوزُونَ عَاوَدَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الصَّرَعِ، فَشُغِلَ بِنَفْسِهِ عَنْ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ. ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي يُوسُفَ الْبَرِيدِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ أَخَاهُ أَبَا يُوسُفَ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيَّ كَانَ قَدْ نَفَذَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ فِي مُحَارَبَةِ بَنِي حَمْدَانَ وَمَقَامِهِمْ بِوَاسِطٍ، وَفِي مُحَارَبَةِ تُوزُونَ، فَلَمَّا رَأَى جُنْدُهُ قِلَّةَ مَالِهِ، مَالُوا إِلَى أَخِيهِ أَبِي يُوسُفَ ; لِكَثْرَةِ مَالِهِ، فَاسْتَقْرَضَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَخِيهِ أَبِي يُوسُفَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَكَانَ يُعْطِيهِ الْقَلِيلَ مِنَ الْمَالِ، وَيَعِيبُهُ وَيَذْكُرُ تَضْيِيعَهُ وَسُوءَ تَدْبِيرِهِ وَجُنُونَهُ وَتَهَوُّرَهُ، فَصَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْقَبْضَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَالِاسْتِبْدَادَ بِالْأَمْرِ وَحْدَهُ، فَاسْتَوْحَشَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنْفَذَ إِلَى أَخِيهِ جَوهَرًا نَفِيسًا كَانَ بُجْكُمُ قَدْ وَهَبَهُ لِبِنْتِهِ لَمَّا تَزَوَّجَهَا الْبَرِيدِيُّ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَهُ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ، فَأَخَذَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْهَا حِينَ تَزَوَّجَهَا، فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ وَأَبْلَغَهُ ذَلِكَ وَعَرَضَ عَلَيْهِ (الْجَوْهَرَ، أَحْضَرَ) الْجَوْهَرِيِّينَ لِيُثَمِّنُوهُ، فَلَمَّا أَخَذُوا فِي وَصْفِهِ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَحَرَدَ وَنَزَلَ فِي ثَمَنِهِ إِلَى خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَخَذَ فِي الْوَقِيعَةِ فِي أَخِيهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَذَكَرَ مَعَايِبَهُ وَمَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَالِ، وَأَنْفَذَ مَعَ الرَّسُولِ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا عَادَ الرَّسُولُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَبْلَغَهُ ذَلِكَ فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، وَقَالَ: أَلَا قُلْتَ لَهُ: جُنُونِي وَقِلَّةُ تَحْصِيلِي أَقْعَدَكَ هَذَا الْمَقْعَدَ وَصَيَّرَكَ كَقَارُونَ، ثُمَّ عَدَّدَ مَا عَمِلَهُ مَعَهُ مِنَ الْإِحْسَانِ.

فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ، أَقَامَ غِلْمَانَهُ فِي طَرِيقٍ (مُسْقَفٍ) بَيْنَ دَارِهِ وَالشَّطِّ، وَأَقْبَلَ أَخُوهُ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الشَّطِّ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ، فَثَارُوا بِهِ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ يَصِيحُ: يَا أَخِي، يَا أَخِي، قَتَلُونِي. وَأَخُوهُ يَسْمَعُهُ، وَيَقُولُ: إِلَى لَعْنَةِ اللَّهِ! فَخَرَجَ أَخُوهُمَا أَبُو الْحُسَيْنِ مِنْ دَارِهِ، وَكَانَ بِجَنْبِ دَارِ أَخِيهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ يَسْتَغِيثُ: يَا أَخِي، قَتَلْتَهُ! فَسَبَّهُ وَهَدَّدَهُ، فَسَكَتَ، فَلَمَّا قُتِلَ دَفَنَهُ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَبَرُ الْجُنْدَ، فَثَارُوا وَشَغَبُوا ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ حَيٌّ، فَأَمَرَ بِهِ فَنُبِشَ وَأَلْقَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ سَكَتُوا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُفِنَ، وَانْتَقَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِلَى دَارِ أَخِيهِ أَبِي يُوسُفَ، فَأَخَذَ مَا فِيهَا، وَالْجَوْهَرَ فِي جُمْلَتِهِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ مَالِ أَخِيهِ عَلَى طَائِلٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُ انْكَسَرَ عَلَى النَّاسِ، وَذَهَبَتْ نَفْسُ أَخِيهِ. ذِكْرُ وَفَاةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ مَاتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ أَخَاهُ بِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ بِحُمَّى حَادَّةٍ، وَاسْتَقَرَّ فِي الْأَمْرِ بَعْدَهُ أَخُوهُ أَبُو الْحُسَيْنِ، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ إِلَى الْأَجْنَادِ، فَثَارُوا بِهِ لِيَقْتُلُوهُ وَيَجْعَلُوهُ أَبَا الْقَاسِمِ ابْنَ أَخِيهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَكَانَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ إِلَى هَجَرَ، وَاسْتَجَارَ بِالْقَرَامِطَةِ فَأَعَانُوهُ، وَسَارَ مَعَهُ إِخْوَانٌ لِأَبِي طَاهِرٍ الْقُرْمُطِيِّ فِي جَيْشٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَرَأَوْا أَبَا الْقَاسِمِ قَدْ حَفِظَهَا، فَرَدَّهُمْ عَنْهَا، فَحَصَرُوهُ مُدَّةً ثُمَّ ضَجِرُوا وَأَصْلَحُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمِّهِ وَعَادُوا، وَدَخَلَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرَةَ، فَتَجَهَّزَ مِنْهَا، وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ فَدَخَلَ عَلَى تُوزُونَ. ثُمَّ طَمِعَ يَأْنَسُ مَوْلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ فِي التَّقَدُّمِ، فَوَاطَأَ قَائِدًا مِنْ قُوَّادِ الدَّيْلَمِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الرِّئَاسَةُ بَيْنَهُمَا، وَيُزِيلَا أَبَا الْقَاسِمِ مَوْلَاهُ، فَاجْتَمَعَتِ الدَّيْلَمُ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَائِدِ، فَأَرْسَلَ أَبُو الْقَاسِمِ إِلَيْهِمْ يَأْنَسُ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِالْأَمْرِ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ يَأْنَسُ، أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِالتَّوَقُّفِ، فَطَمِعَ فِيهِ ذَلِكَ الْقَائِدُ الدَّيْلِمِيُّ، وَأَحَبَّ التَّفَرُّدَ بِالرِّئَاسَةِ، فَأُمِرَ بِهِ فَضُرِبَ بِزَوْبِينَ فِي ظَهْرِهِ فَجُرِحَ، وَهَرَبَ يَأْنَسُ وَاخْتَفَى. ثُمَّ إِنَّ الدَّيْلَمَ اخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ فَتَفَرَّقُوا، وَاخْتَفَى ذَلِكَ الْقَائِدُ، فَأُخِذَ وَنُفِيَ، وَأَمَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَرِيدِيُّ بِمُعَالَجَةِ يَأْنَسَ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُ حَالُهُ، فَعُولِجَ حَتَّى بَرَأَ، ثُمَّ قَبَضَ عَلَيْهِ أَبُو الْقَاسِمِ بَعْدَ نَيِّفٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَصَادَرَهُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَتَلَهُ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُ أَبِي الْقَاسِمِ إِلَى أَنْ أَتَاهُ أَمْرُ اللَّهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.

ذِكْرُ مُرَاسَلَةِ الْمُتَّقِي تُوزُونَ فِي الْعَوْدِ وَفِيهَا أَرْسَلَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ إِلَى تُوزُونَ يَطْلُبُ [مِنْهُ] الْعَوْدَ إِلَى بَغْدَاذَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى مِنْ بَنِي حَمْدَانَ تَضَجُّرًا بِهِ وَإِيثَارَ الْمُفَارَقَةِ، فَاضْطُرَّ إِلَى مُرَاسَلَةِ تُوزُونَ، فَأَرْسَلَ الْحَسَنَ بْنَ هَارُونَ وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيَّ إِلَيْهِ فِي الصُّلْحِ، فَلَقِيَهُمَا تُوزُونُ وَابْنُ شَيْرَزَادَ بِنِهَايَةِ الرَّغْبَةِ فِيهِ وَالْحِرْصِ عَلَيْهِ، فَاسْتَوْثَقَا مِنْ تُوزُونَ وَحَلَّفَاهُ لِلْمُتَّقِي لِلَّهِ، وَأَحْضَرَ لِلْيَمِينِ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْقُضَاةِ، وَالْعُدُولِ، وَالْعَبَّاسِيِّينَ، وَالْعَلَوِيِّينَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَحَلَفَ تُوزُونُ لِلْمُتَّقِي وَالْوَزِيرِ، وَكَتَبُوا خُطُوطَهُمْ بِذَلِكَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ مِلْكِ الرُّوسِ مَدِينَةَ بَرْدَعَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الرُّوسِيَّةِ فِي الْبَحْرِ إِلَى نَوَاحِي أَذْرَبِيجَانَ، وَرَكِبُوا فِي الْبَحْرِ فِي نَهْرِ الْكَرِّ، وَهُوَ نَهْرٌ كَبِيرٌ، فَانْتَهَوْا إِلَى بَرْدَعَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ نَائِبُ الْمَرْزُبَانِ بِبَرْدَعَةَ فِي جَمْعٍ مِنَ الدَّيْلَمِ وَالْمُطَّوَّعَةِ يَزِيدُونَ عَلَى خَمْسَةِ آلَافِ رَجُلٍ، فَلَقُوا الرُّوسَ، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا سَاعَةً حَتَّى انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ، وَقُتِلَ الدَّيْلَمُ عَنْ آخِرِهِمْ، تَبِعَهُمُ الرُّوسُ إِلَى الْبَلَدِ، فَهَرَبَ مَنْ كَانَ لَهُ مَرْكُوبٌ وَتَرَكَ الْبَلَدَ، فَنَزَلَهُ الرُّوسُ وَنَادَوْا فِيهِ بِالْأَمَانِ فَأَحْسَنُوا السِّيرَةَ. وَأَقْبَلَتِ الْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَكَانَتِ الرُّوسُ تُقَاتِلُهُمْ، فَلَا يَثْبُتُ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ، وَكَانَ عَامَّةُ الْبَلَدِ يَخْرُجُونَ وَيَرْجُمُونَ الرُّوسَ بِالْحِجَارَةِ، وَيَصِيحُونَ بِهِمْ،

فَيَنْهَاهُمُ الرُّوسُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، سِوَى الْعُقَلَاءِ فَإِنَّهُمْ كَفُّوا أَنْفُسَهُمْ وَسَائِرُ الْعَامَّةِ وَالرُّعَاعُ لَا يَضْبِطُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ نَادَى مُنَادِيهِمْ بِخُرُوجِ أَهْلِ الْبَلَدِ مِنْهُ، وَأَنْ لَا يُقِيمُوا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَخَرَجَ مَنْ كَانَ لَهُ ظَهْرٌ يَحْمِلُهُ، وَبَقِيَ أَكْثَرُهُمْ بَعْدَ الْأَجَلِ، فَوَضَعَ الرُّوسِيَّةُ فِيهِمُ السِّلَاحَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرُوا بَعْدَ الْقَتْلِ بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ نَفْسٍ، وَجَمَعُوا مَنْ بَقِيَ بِالْجَامِعِ، وَقَالُوا: اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ وَإِلَّا قَتَلْنَاكُمْ، وَسَعَى لَهُمْ إِنْسَانٌ نَصْرَانِيٌّ، فَقَرَّرَ عَنْ كُلِّ رَجُلٍ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ إِلَّا عُقَلَاؤُهُمْ، فَلَمَّا رَأَى الرُّوسِيَّةُ أَنَّهُ لَا يُحَصَّلُ مِنْهُمْ شَيْءٌ، قَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَ أَهْلِهَا وَاسْتَعْبَدُوا السَّبْيَ، وَاخْتَارُوا مِنَ النِّسَاءِ مَنِ اسْتَحْسَنُوهَا. ذِكْرُ مَسِيرِ الْمَرْزُبَانِ إِلَيْهِمْ، وَالظَّفَرِ بِهِمْ لَمَّا فَعَلَ الرُّوسُ بِأَهْلِ بَرْدَعَةَ مَا ذَكَرْنَاهُ، اسْتَعْظَمَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَتَنَادَوْا بِالنَّفِيرِ، وَجَمَعَ الْمَرْزُبَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاسَ وَاسْتَنْفَرَهُمْ، فَبَلَغَ عِدَّةُ مَنْ مَعَهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَسَارَ بِهِمْ فَلَمْ يُقَاوِمِ الرُّوسِيَّةَ، وَكَانَ يُغَادِيهُمُ الْقِتَالَ وَيُرَاوِحُهُمْ، فَلَا يَعُودُ إِلَّا مَفْلُولًا، فَبَقُوا كَذَلِكَ أَيَّامًا كَثِيرَةً، وَكَانَ الرُّوسِيَّةُ قَدْ تَوَجَّهُوا نَحْوَ مَرَاغَةَ، فَأَكْثَرُوا مِنْ أَكْلِ الْفَوَاكِهِ، فَأَصَابَهُمُ الْوَبَاءُ، وَكَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ وَالْمَوْتُ فِيهِمْ. وَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ عَلَى الْمَرْزُبَانِ، أَعْمَلَ الْحِيلَةَ، فَرَأَى أَنْ يَكْمُنَ كَمِينًا، ثُمَّ يَلْقَاهُمْ فِي عَسْكَرِهِ، وَيَتَطَارَدَ لَهُمْ، فَإِذَا خَرَجَ الْكَمِينُ عَادَ عَلَيْهِمْ، فَتَقَدَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ، وَرَتَّبَ الْكَمِينَ ثُمَّ لَقِيَهُمْ، (وَاقْتَتَلُوا، فَتَطَارَدَ لَهُمُ الْمَرْزُبَانُ وَأَصْحَابُهُ، وَتَبِعَهُمُ الرُّوسِيَّةُ) حَتَّى جَازَوْا مَوْضِعَ الْكَمِينِ، فَاسْتَمَرَّ النَّاسُ عَلَى هَزِيمَتِهِمْ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. فَحَكَى الْمَرْزُبَانُ، قَالَ: صِحْتُ بِالنَّاسِ لِيَرْجِعُوا، فَلَمْ يَفْعَلُوا لِمَا تَقَدَّمَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ هَيْبَةِ الرُّوسِيَّةِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ إِنِ اسْتَمَرَّ النَّاسُ عَلَى الْهَزِيمَةِ، قَتَلَ الرُّوسُ أَكْثَرَهُمْ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى الْكَمِينِ (فَفَطِنُوا بِهِمْ) ، فَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ.

قَالَ: فَرَجَعْتُ وَحْدِي، وَتَبِعَنِي أَخِي وَصَاحِبِي، وَوَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَى الشَّهَادَةِ، فَحِينَئِذٍ عَادَ أَكْثَرُ الدَّيْلَمِ اسْتِحْيَاءً فَرَجَعُوا وَقَاتَلْنَاهُمْ، وَنَادَيْنَا بِالْكَمِينِ بِالْعَلَامَةِ بَيْنَنَا، فَخَرَجُوا مِنْ وَرَائِهِمْ، وَصَدَقْنَاهُمُ الْقِتَالَ، فَقَتَلْنَا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْهُمْ أَمِيرُهُمْ، وَالْتَجَأَ الْبَاقُونَ إِلَى حِصْنِ الْبَلَدِ، وَيُسَمَّى شِهْرِسْتَانَ، وَكَانُوا قَدْ نَقَلُوا إِلَيْهِ مِيرَةً كَثِيرَةً، وَجَعَلُوا مَعَهُمُ السَّبْيَ وَالْأَمْوَالَ، فَحَاصَرَهُمُ الْمَرْزُبَانُ وَصَابَرَهُمْ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ قَدْ سَارَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، (وَأَنَّهُ وَاصِلٌ إِلَى سَلْمَاسَ، وَكَانَ ابْنُ عَمِّهِ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ قَدْ سَيَّرَهُ لِيَسْتَوْلِيَ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ) ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْمَرْزُبَانِ، تَرَكَ عَلَى الرُّوسِيَّةِ مَنْ يُحَاصِرُهُمْ وَسَارَ إِلَى ابْنِ حَمْدَانَ، فَاقْتَتَلُوا، ثُمَّ نَزَلَ الثَّلْجُ، فَتَفَرَّقَ أَصْحَابُ ابْنِ حَمْدَانَ ; لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ أَعْرَابٌ، ثُمَّ أَتَاهُ كِتَابُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ يُخْبِرُهُ بِمَوْتِ تُوزُونَ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ الِانْحِدَارَ إِلَى بَغْدَاذَ وَيَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ، فَرَجَعَ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الْمَرْزُبَانِ فَإِنَّهُمْ أَقَامُوا يُقَاتِلُونَ الرُّوسِيَّةَ، (وَزَادَ الْوَبَاءُ عَلَى الرُّوسِيَّةِ) (فَكَانُوا إِذَا دَفَنُوا الرَّجُلَ، دَفَنُوا مَعَهُ سِلَاحَهُ، فَاسْتَخْرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا) كَثِيرًا بَعْدَ انْصِرَافِ الرُّوسِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ خَرَجُوا مِنَ الْحِصْنِ لَيْلًا وَقَدْ حَمَلُوا عَلَى ظُهُورِهِمْ مَا أَرَادُوا مِنَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا، وَمَضَوْا إِلَى الْكَرِّ، وَرَكِبُوا فِي سُفُنِهِمْ وَمَضَوْا، وَعَجَزَ أَصْحَابُ الْمَرْزُبَانِ عَنِ اتِّبَاعِهِمْ وَأَخْذِ مَا مَعَهُمْ، فَتَرَكُوهُمْ وَطَهَّرَ اللَّهُ الْبِلَادَ مِنْهُمْ. ذِكْرُ خُرُوجِ ابْنِ أَشْكَامَ عَلَى نُوحٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَشْكَامَ عَلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ، وَامْتَنَعَ بِخُوَارَزْمَ، فَسَارَ نُوحٌ مِنْ بُخَارَى إِلَى مَرْوَ بِسَبَبِهِ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَارِسَ، وَسَارُوا نَحْوَهُ، فَمَاتَ إِبْرَاهِيمُ فِي الطَّرِيقِ، وَكَاتَبَ ابْنُ أَشْكَامَ مَلِكَ التُّرْكِ وَرَاسَلَهُ، وَاحْتَمَى بِهِ. وَكَانَ لِمَلِكِ التُّرْكِ وَلَدٌ فِي يَدِ نُوحٍ، وَهُوَ مَحْبُوسٌ بِبُخَارَى، فَرَاسَلَ نُوحٌ أَبَاهُ فِي إِطْلَاقِهِ لِيَقْبِضَ عَلَى ابْنِ أَشْكَامَ، فَأَجَابَهُ مَلِكُ التُّرْكِ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا عَلِمَ ابْنُ أَشْكَامَ الْحَالَ، عَادَ إِلَى طَاعَةِ نُوحٍ، وَفَارَقَ خُوَارَزْمَ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ نُوحٌ وَأَكْرَمَهُ، وَعَفَا عَنْهُ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَمَضَانَ مَاتَ أَبُو طَاهِرٍ الْهَجَرِيُّ رَئِيسُ الْقَرَامِطَةِ، أَصَابَهُ جُدَرِيٌّ فَمَاتَ، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ مِنْهُمْ: أَبُو الْقَاسِمِ سَعِيدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْأَكْبَرُ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهَذَانَ كَانَا يَتَّفِقَانِ مَعَ أَبِي طَاهِرٍ عَلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ، وَكَانَ لَهُمَا أَخٌ ثَالِثٌ لَا يَجْتَمِعُ بِهِمَا، وَهُوَ مَشْغُولٌ بِالشُّرْبِ وَاللَّهْوِ. وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى غَلَتِ الْأَسْعَارُ فِي بَغْدَاذَ حَتَّى بِيعَ الْقَفِيزُ الْوَاحِدُ مِنَ الدَّقِيقِ الْخُشْكَارِ بِنَيِّفٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا، وَالْخُبْزُ الْخُشْكَارُ ثَلَاثَةُ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ. وَكَانَتِ الْأَمْطَارُ كَثِيرَةً مُسْرِفَةً جِدًّا حَتَّى (خَرِبَتِ الْمَنَازِلُ، وَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ تَحْتَ الْهَدْمِ، وَنَقُصَتْ قِيمَةُ الْعَقَارِ حَتَّى) صَارَ مَا كَانَ يُسَاوِي دِينَارًا يُبَاعُ بِأَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ حَقِيقَةً، وَمَا يَسْقُطُ مِنَ الْأَبْنِيَةِ لَا يُعَادُ، وَتَعَطَّلَ كَثِيرٌ مِنَ الْحَمَّامَاتِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَالْأَسْوَاقِ ; لِقِلَّةِ النَّاسِ، وَتَعَطَّلَ كَثِيرٌ مِنْ أَتَاتِينِ الْآجُرِّ ; لِقِلَّةِ الْبِنَاءِ، وَمَنْ يَضْطَّرُّ إِلَيْهِ اجْتَزَأَ بِالْأَنْقَاضِ، وَكَثُرَتِ الْكَبْسَاتُ مِنَ اللُّصُوصِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ حَمْدِيٍّ، وَتَحَارَسَ النَّاسُ بِالْبُوقَاتِ، وَعَظُمَ أَمْرُ ابْنِ حَمْدِيٍّ فَأَعْجَزَ النَّاسَ، وَأَمَّنَهُ ابْنُ شَيْرَزَادَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَشَرَطَ مَعَهُ أَنْ يُوَصِّلَهُ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ مِمَّا يَسْرِقُهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ يَسْتَوْفِيهَا مِنِ ابْنِ حَمْدِيٍّ بِالرَّوْزَاتِ، فَعَظُمَ شَرُّهُ حِينَئِذٍ، وَهَذَا مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ الدَّيْلِمِيَّ، صَاحِبَ الشُّرْطَةِ بِبَغْدَاذَ، ظَفِرَ بِابْنِ حَمْدِيٍّ فَقَتَلَهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَخَفَّ عَنِ النَّاسِ بَعْضُ مَا هُمْ فِيهِ. وَفِيهَا فِي شَعْبَانَ وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي نِيسَانَ، ظَهَرَ فِي الْجَوِّ شَيْءٌ كَثِيرٌ سَتَرَ عَيْنَ

الشَّمْسِ بِبَغْدَادَ، فَتَوَهَّمَهُ النَّاسُ جَرَادًا لِكَثْرَتِهِ، وَلَمْ يَشُكُّوا فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا هُوَ حَيَوَانٌ يَطِيرُ فِي الْبَسَاتِينِ وَلَهُ جَنَاحَانِ قَائِمَانِ مَنْقُوشَانِ، فَإِذَا أَخَذَ الْإِنْسَانُ جَنَاحَهُ بِيَدِهِ بَقِيَ أَثَرُ أَلْوَانِ الْجَنَاحِ فِي يَدِهِ وَيَعْدِمُ الْجَنَاحَ، وَيُسَمِّيهِ الصِّبْيَانُ طَحَّانَ الذَّرِيرَةِ. وَفِيهَا اسْتَوْلَى مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى وَاسِطٍ، وَانْحَدَرَ مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْبَرِيدِيِّ فِيهَا إِلَى الْبَصْرَةِ. وَفِيهَا قَبَضَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَنَالَ التُّرْجُمَانِ بِالرَّقَّةِ وَقَتَلَهُ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّهُ قَدْ وَاطَأَ الْمُتَّقِيَ عَلَى الْإِيقَاعِ بِسَيْفِ الدَّوْلَةِ. وَفِيهَا عَرَضَ لِتُوزُونَ صَرَعٌ وَهُوَ جَالِسٌ لِلسَّلَامِ، وَالنَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَامَ ابْنُ شَيْرَزَادَ وَمَدَّ فِي وَجْهِهِ مَا سَتَرَهُ عَنِ النَّاسِ، فَصَرَفَهُمْ وَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ ثَارَ بِهِ خُمَارٌ لَحِقَهُ. وَفِيهَا ثَارَ نَافِعٌ غُلَامُ يُوسُفَ بْنِ وَجِيهٍ صَاحِبِ عَمَّانَ عَلَى مَوْلَاهُ يُوسُفَ، وَمَلَكَ الْبَلَدَ بَعْدَهُ. وَفِيهَا دَخَلَ الرُّومُ رَأَسَ عَيْنٍ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَأَقَامُوا بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَنَهَبُوهَا، وَسَبَوْا مِنْ أَهْلِهَا، وَقَصَدَهُمُ الْأَعْرَابُ، فَقَاتَلُوهُمْ فَفَارَقَهَا الرُّومُ، وَكَانَ الرُّومُ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا مَعَ الدُّمُسْتُقِ. وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، اسْتَعْمَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مُقَاتِلٍ عَلَى طَرِيقِ الْفُرَاتِ، وَدِيَارِ مُضَرَ، وَجُنْدِ قِنَّسْرِينَ، وَالْعَوَاصِمِ، وَحِمْصَ، وَأَنْفَذَهُ إِلَيْهَا مِنَ الْمَوْصِلِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَ بَعْدَهُ فِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ ابْنَ عَمِّهِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الرَّقَّةِ مَنَعَهُ أَهْلُهَا، فَقَاتَلَهُمْ فَظَفِرَ بِهِمْ، وَأَحْرَقَ مِنَ الْبَلَدِ قِطْعَةً، وَأَخَذَ رُؤَسَاءَ أَهْلِهَا وَسَارَ إِلَى حَلَبَ.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 333 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مَسِيرِ الْمُتَّقِي إِلَى بَغْدَاذَ وَخَلْعِهِ كَانَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ قَدْ كَتَبَ إِلَى الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجَ مُتَوَلِّي مِصْرَ يَشْكُو حَالَهُ وَيَسْتَقْدِمُهُ إِلَيْهِ، فَأَتَاهُ مِنْ مِصْرَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى حَلَبَ، سَارَ عَنْهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ، وَكَانَ ابْنُ مُقَاتِلٍ بِهَا مَعَهُ، فَلَمَّا عَلِمَ بِرَحِيلِهِ عَنْهَا اخْتَفَى، فَلَمَّا قَدِمَ الْإِخْشِيدُ إِلَيْهَا، ظَهَرَ إِلَيْهِ ابْنُ مُقَاتِلٍ، فَأَكْرَمَهُ الْإِخْشِيدُ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَرَاجِ مِصْرَ، وَانْكَسَرَ عَلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنَ الْمُصَادَرَةِ الَّتِي صَادَرَهُ بِهَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ، وَمَبْلَغُهُ خَمْسُونَ أَلْفِ دِينَارٍ. وَسَارَ الْإِخْشِيدُ مِنْ حَلَبَ، فَوَصَلَ إِلَى الْمُتَّقِي مُنْتَصَفَ مُحَرَّمٍ وَهُوَ بِالرَّقَّةِ، فَأَكْرَمَهُ الْمُتَّقِي وَاحْتَرَمَهُ، وَوَقَفَ الْإِخْشِيدُ وُقُوفَ الْغِلْمَانِ، وَمَشَى بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَمَرَهُ الْمُتَّقِي بِالرُّكُوبِ فَلَمْ يَفْعَلْ إِلَى أَنْ نَزَلَ الْمُتَّقِي، وَحَمَلَ إِلَى الْمُتَّقِي هَدَايَا عَظِيمَةً، وَإِلَى الْوَزِيرِ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ مُقْلَةَ وَسَائِرِ الْأَصْحَابِ، وَاجْتَهَدَ بِالْمُتَّقِي لِيَسِيرَ مَعَهُ إِلَى مِصْرَ وَالشَّامِ، وَيَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمُقَامِ مَكَانَهُ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَخَوَّفَهُ مِنْ تُوزُونَ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَأَشَارَ عَلَى ابْنِ مُقْلَةَ أَنْ يَسِيرَ مَعَهُ إِلَى مِصْرَ لِيُحَكِّمَهُ فِي جَمِيعِ بِلَادِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَخَوَّفَهُ أَيْضًا مَنْ تُوزُونَ، فَكَانَ ابْنُ مُقْلَةَ يَقُولُ (بَعْدَ ذَلِكَ) : نَصَحَنِي الْإِخْشِيدُ، فَلَمْ أَقْبَلْ نَصِيحَتَهُ. وَكَانَ قَدْ أَنْفَذَ رُسُلًا إِلَى تُوزُونَ فِي الصُّلْحِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَحَلَّفُوا تُوزُونَ لِلْخَلِيفَةِ وَالْوَزِيرِ، فَلَمَّا حَلَفَ كَتَبَ الرُّسُلُ إِلَى الْمُتَّقِي بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ النَّاسُ أَيْضًا بِمَا شَاهَدُوا مِنْ تَأْكِيدِ الْيَمِينِ، فَانْحَدَرَ الْمُتَّقِي مِنَ الرَّقَّةِ فِي الْفُرَاتِ إِلَى بَغْدَاذَ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَعَادَ الْإِخْشِيدُ إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْمُتَّقِي إِلَى هَيْتَ أَقَامَ بِهَا، وَأَنْفَذَ مَنْ

يُجَدِّدُ الْيَمِينَ عَلَى تُوزُونَ، فَعَادَ وَحَلَفَ، وَسَارَ عَنْ بَغْدَاذَ لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ لِيَلْتَقِيَ الْمُتَّقِيَ، فَالْتَقَاهُ بِالسَّنَدِيَّةِ، فَنَزَلَ تُوزُونُ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَقَالَ: هَا أَنَا قَدْ وَفَّيْتُ بِيَمِينِي وَالطَّاعَةُ لَكَ، ثُمَّ وَكَّلَ بِهِ وَبِالْوَزِيرِ وَبِالْجَمَاعَةِ، وَأَنْزَلَهُمْ فِي مَضْرِبِ نَفْسِهِ مَعَ حُرَمِ الْمُتَّقِي، ثُمَّ كَحَّلَهُ فَأَذْهَبَ عَيْنَيْهِ، فَلَمَّا سَمَلَهُ صَاحَ، وَصَاحَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْحُرَمِ وَالْخَدَمِ، وَارْتَجَّتِ الدُّنْيَا، فَأَمَرَ تُوزُونُ بِضَرْبِ الدَّبَادَبِ لِئَلَّا تَظْهَرَ أَصْوَاتُهُمْ، فَخَفِيَتْ أَصْوَاتُهُمْ، وَعَمِيَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ، وَانْحَدَرَ تُوزُونُ مِنَ الْغَدِ إِلَى بَغْدَاذَ وَالْجَمَاعَةُ فِي قَبْضَتِهِ. وَكَانَتْ خِلَافَةُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ أَبْيَضَ (أَشْهَلَ) الْعَيْنَيْنِ، وَأُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا خَلُوبُ، وَكَانَتْ وِزَارَةُ ابْنِ مُقْلَةَ سَنَةً وَاحِدَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا. ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ هُوَ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ عَلِيِّ بْنِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ، يَجْتَمِعُ هُوَ وَالْمُتَّقِي لِلَّهِ فِي الْمُعْتَضِدِ، لَمَّا قَبَضَ تُوزُونُ عَلَى الْمُتَّقِي لِلَّهِ، أَحْضَرَ الْمُسْتَكْفِيَ إِلَيْهِ إِلَى السَّنَدِيَّةِ، وَبَايَعَهُ هُوَ وَعَامَّةُ النَّاسِ. وَكَانَ سَبَبُ الْبَيْعَةِ لَهُ مَا حَكَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ التَّمِيمِيُّ الرَّازِيُّ، وَكَانَ مِنْ خَوَاصِّ تُوزُونَ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا السَّبَبَ فِي الْبَيْعَةِ لِلْمُسْتَكْفِي، وَذَلِكَ أَنَّنِي دَعَانِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الزُّوبَيْنَدَارِ الدَّيْلَمَيُّ، فَمَضَيْتُ إِلَيْهِ، فَذَكَرَ لِي أَنَّهُ تَزَوَّجَ إِلَى قَوْمٍ وَأَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ قَالَتْ لَهُ: إِنَّ الْمُتَّقِيَ هَذَا قَدْ عَادَاكُمْ وَعَادَيْتُمُوهُ، وَكَاشَفَكُمْ وَلَا يَصْفُو قَلْبُهُ لَكُمْ، وَهَا هُنَا رَجُلٌ مِنْ أَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ مِنْ وَلَدِ الْمُكْتَفِي - وَذَكَرَتْ عَقْلَهُ، وَأَدَبَهُ، وَدِينَهُ - تُنَصِّبُونَهُ لِلْخِلَافَةِ فَيَكُونُ صَنِيعَتَكُمْ وَغَرْسَكُمْ، وَيَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْوَالٍ جَلِيلَةٍ لَا يَعْرِفُهَا غَيْرُهُ، وَتَسْتَرِيحُونَ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحِرَاسَةِ.

قَالَ: فَعَلِمْتُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِكَ، فَدَعَوْتُكَ لَهُ، فَقُلْتُ: أُرِيدُ [أَنْ] أَسْمَعُ كَلَامَ الْمَرْأَةِ، فَجَاءَنِي بِهَا، فَرَأَيْتُ امْرَأَةً عَاقِلَةً جَزْلَةً، فَذَكَرَتْ لِي نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: لَا بُدَّ أَنْ أَلْقَى الرَّجُلَ، فَقَالَتْ: تَعُودُ غَدًا إِلَى هَا هُنَا حَتَّى أَجْمَعَ بَيْنَكُمَا، فَعُدْتُ إِلَيْهَا مِنَ الْغَدِ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ أُخْرِجَ مِنْ دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ فِي زِيِّ امْرَأَةٍ، فَعَرَّفَنِي نَفْسَهُ، وَضَمِنَ إِظْهَارَ ثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ مِنْهَا مِائَةُ أَلْفٍ لِتُوزُونَ، وَذَكَرَ وُجُوهَهَا وَخَاطَبَنِي خِطَابَ رَجُلٍ فَهْمٍ عَاقِلٍ، وَرَأَيْتُهُ يَتَشَيَّعُ، قَالَ: فَأَتَيْتُ تُوزُونَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَوَقَعَ كَلَامِي بِقَلْبِهِ، وَقَالَ: أُرِيدُ [أَنْ] أُبْصِرَ الرَّجُلَ، فَقُلْتُ: لَكَ ذَلِكَ، وَلَكِنِ اكْتُمْ أَمْرَنَا مِنِ ابْنِ شَيْرَزَادَ، فَقَالَ: أَفْعَلُ، وَعُدْتُ إِلَيْهِمْ وَأَخْبَرْتُهُمُ الَّذِي ذُكِرَ، وَوَعَدْتُهُمْ حُضُورَ تُوزُونَ مِنَ الْغَدِ. فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْأَحَدِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ، مَشَيْتُ مَعَ تُوزُونَ مُسْتَخْفِيَيْنِ، فَاجْتَمَعْنَا بِهِ، وَخَاطَبَهُ تُوزُونُ وَبَايَعَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَكَتَمَ الْأَمْرَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْمُتَّقِي، قُلْتُ لِتُوزُونَ لَمَّا لَقِيَهُ: أَنْتَ عَلَى ذَلِكَ الْعَزْمِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَلْتُ: فَافْعَلْهُ السَّاعَةَ، فَإِنَّهُ إِنْ دَخَلَ الدَّارَ بَعُدَ عَلَيْكَ مَرَامُهُ، فَوَكَّلَ بِهِ وَسَمَلَهُ، وَجَرَى مَا جَرَى. وَبُويِعَ الْمُسْتَكْفِي بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ خَلْعِ الْمُتَّقِي. وَأُحْضِرَ الْمُتَّقِي، فَبَايَعَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ الْبُرْدَةَ وَالْقَضِيبَ، وَصَارَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ قَهْرَمَانَةَ الْمُسْتَكْفِي، وَسَمَّتْ نَفْسَهَا عَلَمًا، وَغَلَبَتْ عَلَى أَمْرِهِ كُلِّهِ. وَاسْتَوْزَرَ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبَا الْفَرَجِ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ السَّامَّرِّيَّ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا اسْمُ الْوِزَارَةِ، وَالَّذِي يَتَوَلَّى الْأُمُورَ ابْنُ شَيْرَزَادَ، وَحُبِسَ الْمُتَّقِي، وَخَلَعَ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ عَلَى تُوزُونَ خُلْعَةً وَتَاجًا، وَطَلَبَ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبَا الْقَاسِمِ الْفَضْلَ بْنَ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ الْخِلَافَةَ، وَلُقِّبَ " الْمُطِيعُ لِلَّهِ " ;

لِأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُهُ يَطْلُبُ الْخِلَافَةَ، فَاسْتَتَرَ مُدَّةَ خِلَافَةِ الْمُسْتَكْفِي، فَهُدِمَتْ دَارُهُ الَّتِي عَلَى دِجْلَةَ عِنْدَ دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ. ذِكْرُ خُرُوجِ أَبِي يَزِيدَ الْخَارِجِيِّ بِإِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّتْ شَوْكَةُ أَبِي يَزِيدَ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ وَهَزَمَ الْجُيُوشَ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِ أَنَّهُ مِنْ زَنَاتَةَ، وَاسْمُ وَالِدِهِ كَيْدَادُ مِنْ مَدِينَةِ تَوْزَرَ مِنْ قَسْطِيلِيَّةَ، وَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى بِلَادِ السُّودَانِ لِتِجَارَةٍ، فَوُلِدَ لَهُ بِهَا أَبُو يَزِيدَ مِنْ جَارِيَةٍ هَوَّارِيَّةٍ، فَأَتَى بِهَا إِلَى تَوْزَرَ، فَنَشَأَ بِهَا، وَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَخَالَطَ جَمَاعَةً مِنَ النَّكَارِيَّةِ، فَمَالَتْ نَفْسُهُ إِلَى مَذْهَبِهِمْ، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى تَاهَرْتَ فَأَقَامَ بِهَا يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ إِلَى أَنْ خَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ إِلَى سِجِلْمَاسَةَ فِي طَلَبِ الْمَهْدِيِّ، فَانْتَقَلَ إِلَى تَقْيَوَسَ، وَاشْتَرَى ضَيْعَةً وَأَقَامَ يُعَلِّمُ فِيهَا. وَكَانَ مَذْهَبُهُ تَكْفِيرَ أَهْلِ الْمِلَّةِ، وَاسْتِبَاحَةَ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْخُرُوجَ عَلَى السُّلْطَانِ، فَابْتَدَأَ يَحْتَسِبُ عَلَى النَّاسِ فِي أَفْعَالِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ، فَصَارَ لَهُ جَمَاعَةٌ يُعَظِّمُونَهُ، وَذَلِكَ أَيَّامَ الْمَهْدِيِّ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنِ اشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ فِي أَيَّامِ الْقَائِمِ (وَلَدِ الْمَهْدِيِّ، فَصَارَ يُغُيْرُ وَيَحْرِقُ وَيُفْسِدُ، وَزَحَفَ إِلَى بِلَادِ الْقَائِمِ) وَحَاصَرَ بَاغَايَةَ، وَهَزَمَ الْجُيُوشَ الْكَثِيرَةَ عَلَيْهَا، ثُمَّ حَاصَرَ قَسْطِيلِيَّةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَفَتَحَ تَبْسَةَ وَمَجَانَةَ وَهَدَمَ سُورَهَا، وَأَمَّنَ أَهْلَهَا، وَدَخَلَ مَرْمَجَنَّةَ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَأَهْدَى لَهُ حِمَارًا أَشْهَبَ مَلِيحَ الصُّورَةِ، فَرَكِبَهُ أَبُو يَزِيدَ مِنْ ذَلِكَ الْيَومِ. وَكَانَ قَصِيرًا أَعْرَجَ يَلْبِسُ جُبَّةَ صُوفٍ قَصِيرَةً، قَبِيحَ الصُّورَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ هَزَمَ كُتَامَةَ، وَأَنْفَذَ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ إِلَى سَبِيبَةَ، فَفَتَحَهَا وَصَلَبَ عَامِلَهَا، وَسَارَ إِلَى الْأَرْبَسِ، فَفَتَحَهَا وَأَحْرَقَهَا وَنَهَبَهَا، وَجَاءَ النَّاسُ إِلَى الْجَامِعِ، فَقَتَلَهُمْ فِيهِ، فَلَمَّا اتَّصَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْمَهْدِيَّةِ اسْتَعْظَمُوهُ، وَقَالُوا لِلْقَائِمِ: الْأَرْبَسُ بَابُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَلَمَّا أُخِذَتْ، زَالَتْ دَوْلَةُ بَنِي الْأَغْلَبِ، فَقَالَ: لَا بُدَّ أَنْ يَبْلُغَ أَبُو يَزِيدَ الْمُصَلَّى، وَهُوَ أَقْصَى غَايَتَهُ.

ثُمَّ إِنَّ الْقَائِمَ أَخْرَجَ الْجُيُوشَ لِضَبْطِ الْبِلَادِ، فَأَخْرَجَ جَيْشًا إِلَى رَقَّادَةَ، وَجَيْشًا إِلَى الْقَيْرَوَانِ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، فَخَافَ أَبُو يَزِيدَ، وَعَوَّلَ عَلَى أَخْذِ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ وَإِخْرَابِهَا وَقَتْلِ أَهْلِهَا، وَسَيَّرَ الْقَائِمُ الْجَيْشَ الَّذِي اجْتَمَعَ لَهُ مَعَ فَتَاهُ مَيْسُورٍ، وَسَيَّرَ بَعْضَهُ مَعَ فَتَاهُ بُشْرَى إِلَى بَاجَّةَ، فَلَمَّا بَلَغَ أَبَا يَزِيدَ خَبَرُ بُشْرَى، تَرَكَ أَثْقَالَهُ (وَسَارَ جَرِيدَةً إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا) بِبَاجَّةَ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ أَبِي يَزِيدَ، وَبَقِيَ فِي نَحْوِ أَرْبَعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، فَقَالَ لَهُمْ: مِيلُوا بِنَا نُخَالِفُهُمْ إِلَى خِيَامِهِمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَانْهَزَمَ بُشْرَى إِلَى تُونُسَ، وَقُتِلَ مِنْ عَسْكَرِهِ كَثِيرٌ مِنْ وُجُوهِ كُتَامَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَدَخَلَ أَبُو يَزِيدَ بَاجَّةَ فَأَحْرَقَهَا وَنَهَبَهَا، وَقَتَلُوا الْأَطْفَالَ، وَأَخَذُوا النِّسَاءَ، وَكَتَبَ إِلَى الْقَبَائِلِ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِهِ فَأَتَوْهُ، وَعَمِلَ الْأَخْبِيَةَ وَالْبُنُودَ وَآلَاتِ الْحَرْبِ. وَلَمَّا وَصَلَ بُشْرَى إِلَى تُونُسَ، جَمَعَ النَّاسَ وَأَعْطَاهُمُ الْأَمْوَالَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَجَهَّزَهُمْ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى أَبِي يَزِيدَ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ أَبُو يَزِيدَ جَيْشًا، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ أَبِي يَزِيدَ، وَرَجَعَ أَصْحَابُ بُشْرَى إِلَى تُونُسَ غَانِمِينَ، وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ فِي تُونُسَ، وَنَهَبَ أَهْلُهَا دَارَ عَامِلِهَا، فَهَرَبَ، وَكَاتَبُوا أَبَا يَزِيدَ، فَأَعْطَاهُمُ الْأَمَانَ، وَوَلَّى عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ رَحْمُونُ، وَانْتَقَلَ إِلَى فَحْصِ أَبِي صَالِحٍ، وَخَافَهُ النَّاسُ، فَانْتَقَلُوا إِلَى الْقَيْرَوَانِ، وَأَتَاهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ خَوفًا وَرُعْبًا. وَأَمَرَ الْقَائِمُ بُشْرَى أَنْ يَتَجَسَّسَ أَخْبَارَ أَبِي يَزِيدَ، (فَمَضَى نَحْوَهُ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى أَبِي يَزِيدَ) ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنْ عَسْكَرِهِ، وَأَمَرَ مُقَدِّمَهُ أَنْ يَقْتُلَ، وَيُمَثِّلَ وَيَنْهَبَ، لِيُرْعِبَ قُلُوبَ النَّاسِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَالْتَقَى هُوَ وَبُشْرَى، وَاقْتَتَلُوا وَانْهَزَمَ عَسْكَرُ أَبِي يَزِيدَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَأُسِرَ خَمْسُمِائَةٍ، فَسَيَّرَهُمْ بُشْرَى إِلَى الْمَهْدِيَّةِ فِي السَّلَاسِلِ، فَقَتَلَهُمُ الْعَامَّةُ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ أَبِي يَزِيدَ عَلَى الْقَيْرَوَانِ وَرَقَّادَةَ لَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُ أَبِي يَزِيدَ، غَاظَهُ ذَلِكَ، وَجَمَعَ الْجُمُوعَ، وَرَحَلَ وَسَارَ إِلَى قِتَالِ الْكُتَامِيِّينَ، فَوَصَلَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَتَلَاقَتِ الطَّلَائِعُ، وَجَرَى بَيْنَهُمَا قِتَالٌ، فَانْهَزَمَتْ طَلَائِعُ الْكُتَامِيِّينَ، وَتَبِعَهُمُ الْبَرْبَرُ إِلَى رَقَّادَةَ، وَنَزَلَ أَبُو يَزِيدَ بِالْغَرْبِ مِنَ الْقَيْرَوَانِ فِي مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَنَزَلَ مِنَ الْغَدِ شَرْقِيَّ رَقَّادَةَ، وَعَامِلُهَا خَلِيلٌ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى أَبِي يَزِيدَ، وَلَا يُبَالِي بِهِ، وَالنَّاسُ يَأْتُونَهُ وَيُخْبِرُونَهُ بِقُرْبِهِمْ، فَأَمَرَ أَنْ لَا يَخْرُجَ أَحَدٌ لِقِتَالٍ، وَكَانَ يَنْتَظِرُ وُصُولَ مَيْسُورٍ فِي الْجَيْشِ الَّذِي مَعَهُ.

فَلَمَّا عَلِمَ أَبُو يَزِيدَ ذَلِكَ، زَحَفَ إِلَى الْبَلَدِ بَعْضُ عَسْكَرِهِ، فَأَنْشَبُوا الْقِتَالَ، فَجَرَى بَيْنَهُمْ قَتِالٌ (عَظِيمٌ) قُتِلَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْقَيْرَوَانِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَانْهَزَمُوا وَخَلِيلٌ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمْ، فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ، فَخَرَجَ مُتَكَارِهًا مِنْ بَابِ تُونُسَ، وَأَقْبَلَ أَبُو يَزِيدَ، فَانْهَزَمَ خَلِيلٌ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَدَخَلَ الْقَيْرَوَانَ وَنَزَلَ بِدَارِهِ وَأَغْلَقَ بَابَهَا يَنْتَظِرُ وُصُولَ مَيْسُورٍ، وَفَعَلَ كَذَلِكَ أَصْحَابُهُ، وَدَخَلَ الْبَرْبَرُ الْمَدِينَةَ فَقَتَلُوا وَأَفْسَدُوا، وَقَاتَلَ بَعْضُ النَّاسِ فِي أَطْرَافِ الْبَلَدِ. وَبَعَثَ أَبُو يَزِيدَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ اسْمُهُ أَيُّوبُ الزُّوَيْلِيُّ إِلَى الْقَيْرَوَانِ بِعَسْكَرٍ، فَدَخَلَهَا أَوَاخِرَ صَفَرٍ، فَنَهَبَ الْبَلَدَ وَقَتَلَ، وَعَمِلَ أَعْمَالًا عَظِيمَةً، وَحَصَرَ خَلِيلًا فِي دَارِهِ، فَنَزَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ بِالْأَمَانِ، فَحُمِلَ خَلِيلٌ إِلَى أَبِي يَزِيدَ فَقَتَلَهُ، وَخَرَجَ شُيُوخُ أَهْلِ الْقَيْرَوَانِ إِلَى أَبِي يَزِيدَ وَهُوَ بِرَقَّادَةَ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَمَاطَلَهُمْ، وَأَصْحَابُهُ يَقْتُلُونَ وَيَنْهَبُونَ، فَعَاوَدُوا الشَّكْوَى، وَقَالُوا: خَرِبَتِ الْمَدِينَةُ، فَقَالَ: وَمَا يَكُونُ؟ خَرِبَتْ مَكَّةُ، وَالْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ! ثُمَّ أَمَرَ بِالْأَمَانِ، وَبَقِيَ طَائِفَةٌ مِنَ الْبَرْبَرِ يَنْهَبُونَ، فَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِوُصُولِ مَيْسُورٍ فِي عَسَاكِرَ عَظِيمَةً، فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَرْبَرُ مِنَ الْمَدِينَةِ خَوفًا مِنْهُ. وَقَارَبَ مَيْسُورٌ مَدِينَةَ الْقَيْرَوَانِ، وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالْقَائِمِ أَنَّ بَنِي كَمْلَانَ قَدْ كَاتَبَ بَعْضُهُمْ أَبَا يَزِيدَ عَلَى أَنْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ مَيْسُورٍ، فَكَتَبَ إِلَى مَيْسُورٍ يُعَرِّفُهُ وَيُحَذِّرُهُ، وَيَأْمُرُهُ بِطَرْدِهِمْ، فَرَجَعُوا إِلَى أَبِي يَزِيدَ، وَقَالُوا لَهُ: إِنْ عَجَّلْتَ ظَفِرْتَ بِهِ، فَسَارَ مِنْ يَوْمِهِ، فَالْتَقَوْا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَانْهَزَمَتْ مَيْسَرَةُ أَبِي يَزِيدَ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو يَزِيدَ ذَلِكَ، حَمَلَ عَلَى مَيْسُورٍ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ مَيْسُورٍ، فَعَطَفَ مَيْسُورٌ فَرَسَهُ، فَكَبَا بِهِ، فَسَقَطَ عَنْهُ، وَقَاتَلَ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ لِيَمْنَعُوهُ، فَقَصَدَهُ بَنُو كَمْلَانَ الَّذِينَ طَرَدَهُمْ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ حِينَئِذٍ، فَقُتِلَ مَيْسُورٌ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى أَبِي يَزِيدَ، وَانْهَزَمَ عَامَّةُ عَسْكَرِهِ، وَسَيَّرَ الْكُتُبَ إِلَى عَامَّةِ الْبِلَادِ يُخْبِرُ بِهَذَا الظَّفَرِ، وَطِيفَ بِرَأْسِ مَيْسُورٍ بِالْقَيْرَوَانِ. وَاتَّصَلَ خَبَرُ الْهَزِيمَةِ بِالْقَائِمِ، فَخَافَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ بِالْمَهْدِيَّةِ، وَانْتَقَلَ أَهْلُهَا مِنْ أَرْبَاضِهَا إِلَى الْبَلَدِ، فَاجْتَمَعُوا وَاحْتَمَوْا بِسُورِهِ، فَمَنَعَهُمُ الْقَائِمُ، وَوَعَدَهُمُ الظَّفَرَ، فَعَادُوا إِلَى زَوِيلَةَ، وَاسْتَعَدُّوا لِلْحِصَارِ، وَأَقَامَ أَبُو يَزِيدَ شَهْرَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ فِي خِيَمِ مَيْسُورٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ السَّرَايَا إِلَى كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَيَغْنَمُونَ وَيَعُودُونَ، وَأَرْسَلَ سَرِيَّةً إِلَى سُوسَةَ فَفَتَحُوهَا بِالسَّيْفِ، وَقَتَلُوا الرِّجَالَ، وَسَبَوُا النِّسَاءَ، وَأَحْرَقُوهَا، وَشَقُّوا فُرُوجَ النِّسَاءِ، وَبَقَرُوا الْبُطُونَ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي إِفْرِيقِيَّةَ مَوْضِعٌ مَعْمُورٌ

وَلَا سَقْفٌ مَرْفُوعٌ، وَمَضَى جَمِيعُ مَنْ بَقِيَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ حُفَاةً عُرَاةً، وَمَنْ تَخَلَّصَ مِنَ السَّبْيِ، مَاتَ جُوعًا وَعَطَشًا. وَفِي آخِرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ أَمَرَ الْقَائِمُ بِحَفْرِ الْخَنَادِقِ حَوْلَ أَرْبَاضِ الْمَهْدِيَّةِ، وَكَتَبَ إِلَى زِيرِي بْنِ مَنَادٍ سَيِّدِ صِنْهَاجَةَ، وَإِلَى سَادَاتِ كُتَامَةَ وَالْقَبَائِلِ يُحُثُّهُمْ عَلَى الِاجْتِمَاعِ بِالْمَهْدِيَّةِ وَقِتَالِ النِّكَارِ، فَتَأَهَّبُوا لِلْمَسِيرِ إِلَى الْقَائِمِ. ذِكْرُ حِصَارِ أَبِي يَزِيدَ الْمَهْدِيَّةَ لَمَّا سَمِعَ أَبُو يَزِيدَ بِتَأَهُّبِ صِنْهَاجَةَ وَكُتَامَةَ وَغَيْرِهِمْ لِنُصْرَةِ الْقَائِدِ، خَافَ وَرَحَلَ مِنْ سَاعَتِهِ نَحْوَ الْمَهْدِيَّةِ، فَنَزَلَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلًا مِنْهَا، وَبَثَّ سَرَايَاهُ إِلَى نَاحِيَةِ الْمَهْدِيَّةِ، فَانْتَهَبَتْ مَا وَجَدَتْ، وَقَتَلَتْ مَنْ أَصَابَتْ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، وَاتَّفَقَتْ كُتَامَةُ وَأَصْحَابُ الْقَائِمِ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى أَبِي يَزِيدَ لِيَضْرِبُوا عَلَيْهِ فِي مُعَسْكَرِهِ؛ لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ عَسْكَرَهُ قَدْ تَفَرَّقَ فِي الْغَارَةِ، فَخَرَجُوا يَوْمَ الْخَمِيسِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنَ السَّنَةِ. وَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا يَزِيدَ، وَقَدْ أَتَاهُ فَضْلٌ بِعَسْكَرٍ مِنَ الْقَيْرَوَانِ، فَوَجَّهَهُمْ إِلَى قِتَالِ كُتَامَةَ، وَقَدَّمَ عَلَيْهِمُ ابْنَهُ، فَالْتَقَوْا عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَهْدِيَّةِ وَاقْتَتَلُوا، وَبَلَغَ الْخَبَرُ أَبَا يَزِيدَ، فَرَكِبَ بِجَمِيعِ مَنْ بَقِيَ مَعَهُ، فَلَقِيَ أَصْحَابَهُ مُنْهَزِمِينَ، وَقَدْ قُتِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ الْكُتَامِيُّونَ انْهَزَمُوا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَأَبُو يَزِيدَ فِي أَثَرِهِمْ إِلَى بَابِ الْفَتْحِ، وَاقْتَحَمَ قَوْمٌ مِنَ الْبَرْبَرِ فَدَخَلُوا بَابَ الْفَتْحِ، فَأَشْرَفَ أَبُو يَزِيدَ عَلَى الْمَهْدِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَأَتَى بَابَ الْفَتْحِ، وَوَجَّهَ زَوِيلَةَ إِلَى بَابِ بَكْرٍ، ثُمَّ وَقَفَ هُوَ عَلَى الْخَنْدَقِ الْمُحْدَثِ، وَبِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَبِيدِ، فَنَاشَبَهُمْ أَبُو يَزِيدَ الْقِتَالَ عَلَى الْخَنْدَقِ، ثُمَّ اقْتَحَمَ أَبُو يَزِيدَ وَمَنْ مَعَهُ الْبَحْرَ، فَبَلَغَ الْمَاءُ صُدُورَ الدَّوَابِّ، حَتَّى جَاوَزُوا السُّورَ الْمُحْدَثَ، فَانْهَزَمَ الْعَبِيدُ، وَأَبُو يَزِيدَ فِي طَلَبِهِمْ. وَوَصَلَ أَبُو يَزِيدَ إِلَى بَابِ الْمَهْدِيَّةِ، عِنْدَ الْمُصَلَّى الَّذِي لِلْعِيدِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَهْدِيَّةِ رَمْيَةَ سَهْمٍ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ فِي زَوِيلَةَ يَنْهَبُونَ وَيَقْتُلُونَ، وَأَهْلُهَا يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، وَالْقِتَالُ عِنْدَ بَابِ الْفَتْحِ بَيْنَ كُتَامَةَ وَالْبَرْبَرِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ أَبُو يَزِيدَ فِي ذَلِكَ

الْجَانِبِ، فَحَمَلَ الْكُتَّامِيُّونَ عَلَى الْبَرْبَرِ، فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا فِيهِمْ، وَسَمِعَ أَبُو يَزِيدَ بِذَلِكَ، وَوُصُولَ زِيرِي بْنِ مَنَادٍ (فِي صِنْهَاجَةَ) ، فَخَافَ الْمَقَامَ، فَقَصَدَ بَابَ الْفَتْحِ لِيَأْتِيَ زِيرِي وَكُتَامَةَ مِنْ وَرَائِهِمْ بِطُبُولِهِ وَبُنُودِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْأَرْبَاضِ ذَلِكَ، ظَنُّوا أَنَّ الْقَائِمَ قَدْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ مِنَ الْمَهْدِيَّةِ، فَكَبَّرُوا وَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ، فَتَحَيَّرَ أَبُو يَزِيدَ، وَعَرَفَهُ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَمَالُوا عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ عِنْدَهُ، فَهَدَمَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ حَائِطًا وَخَرَجَ مِنْهُ فَتَخَلَّصَ، وَوَصَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَ الْعَبِيدَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَوِيَتْ قُلُوبُهُمْ، وَانْهَزَمَ الْعَبِيدُ وَافْتَرَقُوا. ثُمَّ رَحَلَ أَبُو يَزِيدَ إِلَى ثَرْنُوطَةَ، وَحَفَرَ عَلَى عَسْكَرِهِ خَنْدَقًا، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَلْقٌ عَظِيمٌ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ، وَالْبَرْبَرِ، وَنَفُوسَةَ، وَالزَّابِّ، وَأَقَاصِي الْمَغْرِبِ، فَحَصَرَ الْمَهْدِيَّةَ حِصَارًا شَدِيدًا، وَمَنَعَ النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهَا وَالْخُرُوجِ مِنْهَا، ثُمَّ زَحَفَ إِلَيْهَا لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنَ السَّنَةِ، فَجَرَى قِتَالٌ عَظِيمٌ قُتِلَ [فِيهِ] جَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ عَسْكَرِ الْقَائِمِ، وَاقْتَحَمَ أَبُو يَزِيدَ بِنَفْسِهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى قُرْبِ الْبَابِ، فَعَرَفَهُ بَعْضُ الْعَبِيدِ، فَقَبَضَ عَلَى لِجَامِهِ وَصَاحَ: هَذَا أَبُو يَزِيدَ فَاقْتُلُوهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي يَزِيدَ فَقَطَعَ يَدَهُ، وَخَلَّصَ أَبُو يَزِيدَ. فَلَمَّا رَأَى شِدَّةَ قِتَالِ أَصْحَابِ الْقَائِمِ، كَتَبَ إِلَى عَامِلِ الْقَيْرَوَانِ يَأْمُرُهُ بِإِرْسَالِ مُقَاتِلَةِ أَهْلِهَا إِلَيْهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَوَصَلُوا إِلَيْهِ، فَزَحَفَ بِهِمْ آخِرَ رَجَبٍ، فَجَرَى قِتَالٌ شَدِيدٌ انْهَزَمَ فِيهِ أَبُو يَزِيدَ هَزِيمَةً مُنْكَرَةً، وَقُتِلَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْقَيْرَوَانِ، ثُمَّ زَحَفَ الزَّحْفَةَ الرَّابِعَةَ فِي الْعَشْرِ الْآخَرِ مِنْ شَوَّالٍ، فَجَرَى قِتَالٌ عَظِيمٌ، وَانْصَرَفَ (إِلَى مَنْزِلِهِ، وَكَثُرَ خُرُوجُ) النَّاسِ مِنَ الْجُوعِ وَالْغَلَاءِ، فَفَتَحَ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَائِمُ الْأَهْرَاءَ الَّتِي عَمِلَهَا الْمَهْدِيُّ وَمَلَأَهَا طَعَامًا، وَفَرَّقَ مَا فِيهَا عَلَى رِجَالِهِ، وَعَظُمَ الْبَلَاءُ عَلَى الرَّعِيَّةِ حَتَّى أَكَلُوا الدَّوَابَّ وَالْمَيْتَةَ، وَخَرَجَ مِنَ الْمَهْدِيَّةِ أَكْثَرُ السُّوقَةِ وَالتُّجَّارِ، وَلَمْ يَبْقَ بِهَا سِوَى الْجُنْدِ، فَكَانَ الْبَرْبَرُ يَأْخُذُونَ مَنْ خَرَجَ وَيَقْتُلُونَهُمْ وَيَشُقُّونَ بُطُونَهُمْ طَلَبًا لِلذَّهَبِ.

(ثُمَّ وَصَلَتْ كُتَامَةُ) فَنَزَلَتْ بِقَسَنْطِينَةَ، فَخَافَ أَبُو يَزِيدَ، فَسَارَ رَجُلٌ مِنْ عَسْكَرِهِ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنْ وَرْفَجُومَةَ وَغَيْرِهِمْ (إِلَى كُتَامَةَ) ، فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ، فَتَفَرَّقُوا، وَكَانَ الْبَرْبَرُ يَأْتُونَ إِلَى أَبِي يَزِيدَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَيَنْهَبُونَ، وَيَقْتُلُونَ، وَيَرْجِعُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، حَتَّى أَفْنَوْا مَا كَانَ فِي إِفْرِيقِيَّةَ: (فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ مَا يُنْهَبُ، تَوَقَّفُوا عَنِ الْمَجِيءِ إِلَيْهِ) فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى أَهْلِ أُورَاسَ وَبَنِي كَمْلَانَ. (فَلَمَّا عَلِمَ الْقَائِمُ) تَفَرُّقَ عَسَاكِرِهِ، أَخْرَجَ عَسْكَرَهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ شَدِيدٌ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ صَبَّحُوهُمْ مِنَ الْغَدِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ، وَكَانَ أَبُو يَزِيدَ قَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِ الرِّجَالِ مِنْ أُورَاسَ، ثُمَّ زَحَفَتْ عَسَاكِرُ الْقَائِمِ إِلَيْهِ، فَخَرَجَ مِنْ خَنْدَقِهِ، وَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ بَيْنَهُمُ الْقِتَالُ، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي يَزِيدَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، فَعَظُمَ قَتْلُهُ عَلَيْهِ، وَدَخَلَ خَنْدَقَهُ ثُمَّ عَاوَدَ الْقِتَالَ، فَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ مُظْلِمَةٌ، فَكَانَ الرَّجُلُ لَا يُبْصِرُ صَاحِبَهُ، فَانْهَزَمَ (عَسْكَرُ الْقَائِمِ) (وَقُتِلَ مِنْهُمْ) جَمَاعَةٌ وَعَادَ الْحِصَارُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَهَرَبَ (كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْمَهْدِيَّةِ) إِلَى جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ، وَطَرَابُلُسَ، وَمِصْرَ، وَبَلَدِ الرُّومِ. وَفِي آخِرِ ذِي الْقِعْدَةِ اجْتَمَعَ عِنْدَ أَبِي يَزِيدَ جُمُوعٌ عَظِيمَةٌ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ فَقَاتَلَ عَلَيْهَا، فَتَخَيَّرَ الْكُتَامِيُّونَ مِنْهُمْ مِائَتَيْ فَارِسٍ، فَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَقَتَلُوا فِي أَصْحَابِهِ كَثِيرًا، وَأَسَرُوا مِثْلَهُمْ، وَكَادُوا يَصِلُونَ إِلَيْهِ، فَقَاتَلَ أَصْحَابُهُ دُونَهُ وَخَلَّصُوهُ، وَفَرِحَ أَهْلُ الْمَهْدِيَّةِ، وَأَخَذُوا الْأَسْرَى فِي الْحِبَالِ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، (وَدَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ

وَثَلَاثِمِائَةٍ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى الْمَهْدِيَّةِ) . وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا ظَهَرَ بِإِفْرِيقِيَّةَ رَجُلٌ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ، فَأَجَابَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَأَطَاعُوهُ، وَادَّعَى أَنَّهُ عَبَّاسِيٌّ وَرَدَ مِنْ بَغْدَاذَ وَمَعَهُ أَعْلَامٌ سُودٌ، فَظَفِرَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي يَزِيدَ وَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى أَبِي يَزِيدَ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ أَبِي يَزِيدَ هَرَبَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ؛ بِسَبَبِ عَدَاوَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَقْوَامٍ سَعَوْا بِهِمْ إِلَيْهِ، فَخَرَجُوا مِنَ الْمَهْدِيَّةِ (مَعَ أَصْحَابِ الْقَائِمِ) فَقَتَلُوا أَصْحَابَ أَبِي يَزِيدَ، فَظَفِرُوا، فَتَفَرَّقَ عِنْدَ ذَلِكَ أَصْحَابُ أَبِي يَزِيدَ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ غَيْرُ هَوَارَةَ وَأُورَاسَ وَبَنِي كَمْلَانَ، وَكَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَيْهِمْ. ذِكْرُ رَحِيلِ أَبِي يَزِيدَ عَنِ الْمَهْدِيَّةِ لَمَّا تَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ كَمَا ذَكَرْنَا، اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ مَنْ بَقِيَ مَعَهُ وَتَشَاوَرُوا، وَقَالُوا: نَمْضِي إِلَى الْقَيْرَوَانِ، وَنَجْمَعُ الْبَرْبَرَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَنَرْجِعُ إِلَى أَبِي يَزِيدَ، فَإِنَّنَا لَا نَأْمَنُ أَنْ يَعْرِفَ الْقَائِمُ خَبَرَنَا فَيَقْصِدَنَا، فَرَكِبُوا وَمَضَوْا، وَلَمْ يُشَاوِرُوا أَبَا يَزِيدَ، وَمَعَهُمْ أَكْثَرُ الْعَسْكَرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَبُو يَزِيدَ لِيَرُدَّهُمْ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، فَرَحَلَ مُسْرِعًا فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَتَرَكَ جَمِيعَ أَثْقَالِهِ، فَوَصَلَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ سَادِسَ صَفَرٍ، فَنَزَلَ الْمُصَلَّى، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقَيْرَوَانِ سِوَى عَامِلِهِ، وَخَرَجَ الصِّبْيَانُ يَلْعَبُونَ حَوْلَهُ وَيَضْحَكُونَ مِنْهُ. وَبَلَغَ الْقَائِمُ رُجُوعَهُ، فَخَرَجَ النَّاسُ إِلَى أَثْقَالِهِ، فَوَجَدُوا الطَّعَامَ وَالْخِيَامَ (وَغَيْرَ ذَلِكَ) عَلَى حَالِهِ، فَأَخَذُوهُ وَحَسُنَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَاسْتَرَاحُوا مِنْ شِدَّةِ الْحِصَارِ، وَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ، وَأَنْفَذَ الْقَائِمُ إِلَى الْبِلَادِ عُمَّالًا يَطْرُدُونَ عُمَّالَ أَبِي يَزِيدَ عَنْهَا، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ قِلَّةَ عَسْكَرِ أَبِي يَزِيدَ خَافُوا الْقَائِمَ، فَأَرَادُوا أَنْ يَقْبِضُوا أَبَا يَزِيدَ، ثُمَّ هَابُوهُ، فَكَاتَبُوا الْقَائِمَ يَسْأَلُونَهُ الْأَمَانَ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ. وَبَلَغَ أَبَا يَزِيدَ الْخَبَرُ، فَأَنْكَرَ عَلَى عَامِلِهِ بِالْقَيْرَوَانِ اشْتِغَالَهُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ

ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْعَسَاكِرَ مِنَ الْقَيْرَوَانِ لِلْجِهَادِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَلَانَ لَهُمُ الْقَوْلَ، وَخَوَّفَهُمُ الْقَائِمُ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ. وَتَسَامَعَ النَّاسُ فِي الْبِلَادِ بِذَلِكَ، فَأَتَاهُ الْعَسَاكِرُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَكُلُّ أَهْلِ الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى لَمَّا سُمِعُوا تَفَرُّقَ عَسَاكِرِهِ عَنْهُ، أَخَذُوا عُمَّالَهُ، فَمِنْهُمْ (مَنْ قُتِلَ، وَمِنْهُمْ) مَنْ أُرْسِلَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ. وَثَارَ أَهْلُ سُوسَةَ، فَقَبَضُوا عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَرْسَلُوهُمْ إِلَى الْقَائِمِ، فَشَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ سَبْعَةَ مَرَاكِبَ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ عَسَاكِرُ أَبِي يَزِيدَ، أَرْسَلَ الْجُيُوشَ إِلَى الْبِلَادِ وَأَمَرَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالنَّهْبِ وَالْخَرَابِ وَإِحْرَاقِ الْمَنَازِلِ، فَوَصَلَ عَسْكَرُهُ إِلَى تُونُسَ، فَدَخَلُوهَا بِالسَّيْفِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَنَهَبُوا جَمِيعَ مَا فِيهَا، وَسَبَوُا النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَقَتَلُوا الرِّجَالَ، (وَهَدَمُوا الْمَسَاجِدَ) ، وَنَجَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْبَحْرِ فَغَرِقَ. فَسَيَّرَ إِلَيْهِمُ الْقَائِمُ عَسْكَرًا إِلَى تُونُسَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَصْحَابُ أَبِي يَزِيدَ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْقَائِمِ هَزِيمَةً قَبِيحَةً، وَحَالَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، وَالْتَجَئُوا إِلَى جَبَلِ الرُّصَاصِ، ثُمَّ إِلَى اصْطَفُورَةَ، فَتَبِعَهُمْ عَسْكَرُ أَبِي يَزِيدَ فَلَحِقُوهُمْ وَاقْتَتَلُوا، وَصَبَرَ عَسْكَرُ الْقَائِمِ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ أَبِي يَزِيدَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلَقٌ كَثِيرٌ، وَقَتَلُوا، حَتَّى دَخَلُوا تُونُسَ خَامِسَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَأَخْرَجُوا مَنْ فِيهَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي يَزِيدَ بَعْدَ أَنْ قَتَلُوا أَكْثَرَهُمْ، وَأُخِذَ لَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ شَيْءٌ كَثِيرٌ. وَكَانَ لِأَبِي يَزِيدَ وَلَدٌ اسْمُهُ أَيُّوبُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَخْرَجَ مَعَهُ عَسْكَرًا كَثِيرًا، فَاجْتَمَعَ مَعَ مَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ الْجَيْشِ، وَرَجَعُوا إِلَى تُونُسَ فَقَتَلُوا مَنْ عَادَ إِلَيْهَا وَأَحْرَقُوا مَا بَقِيَ فِيهَا، وَتَوَجَّهَ إِلَى بَاجَّةَ، فَقَتَلَ مَنْ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ الْقَائِمِ، وَدَخَلَهَا بِالسَّيْفِ وَأَحْرَقَهَا، وَكَانَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالتَّخْرِيبِ مَا لَا يُوصَفُ. وَاتَّفَقَ جَمَاعَةٌ عَلَى قَتْلِ أَبِي يَزِيدَ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الْقَائِمِ فَرَغَّبَهُمْ وَوَعَدَهُمْ، فَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِأَبِي يَزِيدَ فَقَتَلَهُمْ، وَهَجَمَ رِجَالٌ مِنَ الْبَرْبَرِ فِي اللَّيْلِ عَلَى رَجُلٍ مَنْ أَهْلِ الْقَيْرَوَانِ، وَأَخَذُوا مَالَهُ وَثَلَاثَ بَنَاتٍ أَبْكَارٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، قَامَ الرَّجُلُ فِي

الْجَامِعِ وَصَاحَ، وَذَكَرَ مَا حَلَّ بِهِ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَصَاحُوا، فَاجْتَمَعَ الْخَلْقُ الْعَظِيمُ، وَوَصَلُوا إِلَى أَبِي يَزِيدَ فَأَسْمَعُوهُ كَلَامًا غَلِيظًا، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ وَلَطَفَ بِهِمْ وَأَمَرَ بَرِدِّ الْبَنَاتِ. فَلَمَّا انْصَرَفُوا وَجَدُوا فِي طَرِيقِهِمْ رَجُلًا مَقْتُولًا، فَسَأَلُوا عَنْهُ، فَقِيلَ إِنَّ فَضْلَ بْنَ أَبِي يَزِيدَ قَتَلَهُ وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، فَحَمَلَ النَّاسُ الْمَقْتُولَ إِلَى الْجَامِعِ، وَقَالُوا: لَا طَاعَةَ إِلَّا لِلْقَائِمِ، وَأَرَادُوا الْوُثُوبَ بِأَبِي يَزِيدَ، فَاجْتَمَعَ أَصْحَابُ أَبِي يَزِيدَ عِنْدَهُ وَلَامُوهُ، وَقَالُوا: فَتَحْتَ عَلَى نَفْسِكِ مَا لَا طَاقَةَ لَكَ بِهِ لَا سِيَّمَا وَالْقَائِمُ قَرِيبٌ مِنَّا، فَجَمَعَ أَهْلَ الْقَيْرَوَانِ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، وَأَعْطَاهُمُ الْعُهُودَ أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ، وَيَنْهَبُ، وَلَا يَأْخُذُ الْحَرِيمَ، فَأَتَاهُ سَبْيُ أَهْلِ تُونُسَ وَهُمْ عِنْدَهُ، فَوَثَبُوا إِلَيْهِمْ وَخَلَّصُوهُمْ. وَكَانَ الْقَائِمُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى مُقَدَّمٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُسَمَّى عَلِيَّ بْنَ حَمْدُونَ يَأْمُرُهُ بِجَمْعِ الْعَسَاكِرِ وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَسِيلَةِ، فَجَمَعَ مِنْهَا وَمِنْ سَطِيفَ وَغَيْرِهَا، فَاجْتَمَعَ لَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَتَبِعَهُ بَعْضُ بَنِي هَرَاسَ فَقَصَدَ الْمَهْدِيَّةَ، فَسَمِعَ بِهِ أَيُّوبُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، وَهُوَ بِمَدِينَةِ بَاجَّةَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ عَلِيُّ بْنُ حَمْدُونَ، فَسَارَ إِلَيْهِ أَيُّوبُ وَكَبَسَهُ وَاسْتَبَاحَ عَسْكَرَهُ، وَقَتَلَ فِيهِمْ وَغَنِمَ أَثْقَالَهُمْ، وَهَرَبَ عَلِيٌّ الْمَذْكُورُ، ثُمَّ سَيَّرَ أَيُّوبُ جَرِيدَةَ خَيْلٍ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْ عَسْكَرِ الْمَهْدِيِّ خَرَجُوا إِلَى تُونُسَ، فَسَارُوا وَاجْتَمَعُوا، وَوَقَعَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ (فَكَانَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ قِتَالٌ عَظِيمٌ) (قُتِلَ فِيهِ) جَمْعٌ كَثِيرٌ وَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْقَائِمِ، ثُمَّ عَادُوا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً، (وَعَزَمُوا عَلَى الْمَوْتِ، وَحَمَلُوا) حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ أَبِي يَزِيدَ وَقَتَلُوا قَتْلًا ذَرِيعًا، وَأُخِذَتْ أَثْقَالُهُمْ وَعِدَدُهُمْ، وَانْهَزَمَ أَيُّوبُ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْقَيْرَوَانِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى أَبِي يَزِيدَ، وَأَرَادَ أَنْ يَهْرَبَ (عَنِ الْقَيْرَوَانِ) ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ

أَصْحَابُهُ بِالتَّوَقُّفِ وَتَرْكِ الْعَجَلَةِ، ثُمَّ جَمَعَ عَسْكَرًا عَظِيمًا، وَأَخْرَجَ ابْنَهُ أَيُّوبَ ثَانِيَةً لِقِتَالِ عَلِيِّ بْنِ حَمْدُونَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ بَلْطَةُ، وَكَانُوا يَقْتَتِلُونَ، فَمَرَّةً يَظْفَرُ أَيُّوبُ، وَمَرَّةً يَظْفَرُ عَلِيٌّ، وَكَانَ عَلِيٌّ قَدْ وَكَّلَ بِحِرَاسَةِ الْمَدِينَةِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَكَانَ يَحْرُسُ بَابًا مِنْهَا رَجُلٌ اسْمُهُ أَحْمَدُ، فَرَاسَلَ أَيُّوبَ فِي التَّسْلِيمِ إِلَيْهِ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ، فَأَجَابَهُ أَيُّوبُ إِلَى مَا طَلَبَ، وَقَاتَلَ عَلَى ذَلِكَ الْبَابِ، فَفَتَحَهُ أَحْمَدُ وَدَخَلَهُ أَصْحَابُ أَبِي يَزِيدَ، فَقَتَلُوا مَنْ كَانَ بِهَا، وَهَرَبَ عَلِيٌّ إِلَى بِلَادِ كُتَامَةَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ رَاجِلٍ، وَكَتَبَ إِلَى قَبَائِلِ كُتَامَةَ وَنَفْزَةَ وَمَزَاتَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا وَعَسْكَرُوا عَلَى مَدِينَةِ الْقَسَنْطِينَةِ. وَوَجَّهَ عَسْكَرًا إِلَى هَوَّارَةَ، فَقَتَلُوا هَوَّارَةَ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ، وَكَانَ اعْتِمَادُ أَبِي يَزِيدَ عَلَيْهِمْ، فَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِأَبِي يَزِيدَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ عَسَاكِرَ عَظِيمَةً يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانَ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَالْفَتْحُ وَالظَّفَرُ فِي كُلِّهَا لِعَلِيٍّ وَعَسْكَرِ الْقَائِمِ، وَمَلَكَ مَدِينَةَ تَيْجَسَ، وَمَدِينَةَ بَاغَايَةَ، وَأَخَذَهُمَا مِنْ أَبِي يَزِيدَ. ذِكْرُ مُحَاصَرَةِ أَبِي يَزِيدَ سُوسَةَ وَانْهِزَامِهِ مِنْهَا لَمَّا رَأَى أَبُو يَزِيدَ مَا جَرَى عَلَى عَسْكَرِهِ مِنَ الْهَزِيمَةِ، جَدَّ فِي أَمْرِهِ، فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ إِلَى سُوسَةَ سَادِسَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنَ السَّنَةِ، وَبِهَا جَيْشٌ كَثِيرٌ لِلْقَائِمِ، فَحَصَرَهَا حَصْرًا شَدِيدًا، فَكَانَ يُقَاتِلُهَا كُلَّ يَوْمٍ، فَمَرَّةً لَهُ، وَمَرَّةً عَلَيْهِ، وَعَمِلَ الدَّبَّابَاتِ وَالْمَنْجَنِيقَاتِ، فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ سُوسَةَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَحَاصَرَهَا إِلَى أَنْ فَوَّضَ الْقَائِمُ الْعَهْدَ إِلَى وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ الْمَنْصُورِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَتُوُفِّيَ الْقَائِمُ وَمَلَكَ الْمُلْكَ ابْنُهُ الْمَنْصُورُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَكَتَمَ مَوْتَ أَبِيهِ خَوْفًا مِنْ أَبِي يَزِيدَ لِقُرْبِهِ، وَهُوَ عَلَى مَدِينَةِ سُوسَةَ. فَلَمَّا وَلِيَ عَمِلَ الْمَرَاكِبَ، وَشَحَنَهَا بِالرِّجَالِ، وَسَيَّرَهَا إِلَى سُوسَةَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا رَشِيقًا الْكَاتِبَ، وَيَعْقُوبَ بْنَ إِسْحَاقَ، وَوَصَّاهُمَا أَنْ لَا يُقَاتِلَا حَتَّى يَأْمُرَهُمَا، ثُمَّ سَارَ مِنَ الْغَدِ يُرِيدُ السُّوسَةَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَصْحَابُهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ الطَّرِيقُ عَلِمُوا فَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَعُودَ وَلَا يُخَاطِرَ بِنَفْسِهِ، فَعَادَ وَأَرْسَلَ إِلَى رَشِيقٍ وَيَعْقُوبَ بِالْجِدِّ فِي الْقِتَالِ، فَوَصَلُوا إِلَى سُوسَةَ وَقَدْ أَعَدَّ أَبُو يَزِيدَ الْحَطَبَ لِإِحْرَاقِ السُّورِ، وَعَمِلَ دَبَّابَةً عَظِيمَةً

فَوَصَلَ أُسْطُولُ الْمَنْصُورِ إِلَى سُوسَةَ، وَاجْتَمَعُوا بِمَنْ فِيهَا، وَخَرَجُوا إِلَى قِتَالِ أَبِي يَزِيدَ، فَرَكِبَ بِنَفْسِهِ، وَاقْتَتَلُوا وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، وَانْهَزَمَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْمَنْصُورِ حَتَّى دَخَلُوا الْمَدِينَةَ، فَأَلْقَى رَشِيقٌ النَّارَ فِي الْحَطَبِ الَّذِي جَمَعَهُ أَبُو يَزِيدَ، وَفِي الدَّبَّابَةِ، فَأَظْلَمَ الْجَوُّ بِالدُّخَانِ، وَاشْتَعَلَتِ النَّارُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو يَزِيدَ وَأَصْحَابُهُ خَافُوا، وَظَنُّوا أَنَّ أَصْحَابَهُ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ قَدْ هَلَكُوا، فَلِهَذَا تَمَكَّنَ أَصْحَابُ الْمَنْصُورِ مِنْ إِحْرَاقِ الْحَطَبِ إِذْ لَمْ يَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَانْهَزَمَ أَبُو يَزِيدَ وَأَصْحَابُهُ، وَخَرَجَتْ عَسَاكِرُ الْمَنْصُورِ، فَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَأَحْرَقُوا خِيَامَهُ. وَجَدَّ أَبُو يَزِيدَ هَارِبًا حَتَّى دَخَلَ الْقَيْرَوَانَ مِنْ يَوْمِهِ، وَهَرَبَ الْبَرْبَرُ عَلَى وُجُوهِهِمْ، فَمَنْ سَلِمَ مِنَ السَّيْفِ، مَاتَ جُوعًا وَعَطَشًا. وَلَمَّا وَصَلَ أَبُو يَزِيدَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، أَرَادَ الدُّخُولَ إِلَيْهَا، فَمَنَعَهُ أَهْلُهَا، وَرَجَعُوا إِلَى دَارِ عَامِلِهِ فَحَصَرُوهُ، وَأَرَادُوا كَسْرَ الْبَابِ، فَنَثَرَ الدَّنَانِيرَ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فَاشْتَغَلُوا عَنْهُ، فَخَرَجَ إِلَى أَبِي يَزِيدَ، وَأَخَذَ أَبُو يَزِيدَ امْرَأَتَهُ أَمَّ أَيُّوبَ، وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ بِعِيَالَاتِهِمْ، وَرَحَلُوا إِلَى نَاحِيَةِ سَبِيبَةَ، وَهِيَ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمَيْنِ مِنَ الْقَيْرَوَانِ، فَنَزَلُوهَا. ذِكْرُ مِلْكِ الْمَنْصُورِ مَدِينَةَ الْقَيْرَوَانِ وَانْهِزَامِ أَبِي يَزِيدَ لَمَّا بَلَغَ الْمَنْصُورَ الْخَبَرُ، سَارَ إِلَى مَدِينَةِ سُوسَةَ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ، فَنَزَلَ خَارِجًا مِنْهَا، وَسُرَّ بِمَا فَعَلَهُ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا يُؤَمِّنُهُمْ فِيهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ وَاجِدًا عَلَيْهِمْ لِطَاعَتِهِمْ أَبَا يَزِيدَ، وَأَرْسَلَ مَنْ يُنَادِي فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ، وَطَابَتْ نُفُوسُهُمْ، وَرَحَلَ إِلَيْهِمْ، فَوَصَلَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا، فَأَمَّنَهُمْ وَوَعَدَهُمْ خَيْرًا. وَوَجَدَ فِي الْقَيْرَوَانِ مِنْ حُرَمِ أَبِي يَزِيدَ وَأَوْلَادِهِ جَمَاعَةً، فَحَمَلَهُمْ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا يَزِيدَ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ، وَأَرْسَلَ سَرِيَّةً (إِلَى الْقَيْرَوَانِ) يَتَخَبَّرُونَ لَهُ، فَاتَّصَلَ

خَبَرُهُمْ بِالْمَنْصُورِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ سَرِيَّةً، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، وَكَانَ أَصْحَابُ أَبِي يَزِيدَ قَدْ جَعَلُوا كَمِينًا، فَانْهَزَمُوا، وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ الْمَنْصُورِ، فَخَرَجَ الْكَمِينُ عَلَيْهِمْ، فَأَكْثَرَ فِيهِمُ الْقَتْلَ وَالْجِرَاحَ. فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ ذَلِكَ، سَارَعُوا إِلَى أَبِي يَزِيدَ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ، فَعَادَ وَنَازَلَ الْقَيْرَوَانَ، وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ جَعَلَ خَنْدَقًا فِي عَسْكَرِهِ، فَفَرَّقَ أَبُو يَزِيدَ عَسْكَرَهُ ثَلَاثَ فِرَقٍ، وَقَصَدَ هُوَ بِشُجْعَانِ أَصْحَابِهِ إِلَى خَنْدَقِ الْمَنْصُورِ، فَاقْتَتَلُوا، وَعَظُمَ الْأَمْرُ، وَكَانَ الظَّفَرُ لِلْمَنْصُورِ، ثُمَّ عَاوَدُوا الْقِتَالَ، فَبَاشَرَ الْمَنْصُورُ الْقِتَالَ بِنَفْسِهِ، وَجَعَلَ يَحْمِلُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَالْمِظَلَّةُ عَلَى رَأْسِهِ كَالْعَلَمِ، وَمَعَهُ خَمْسُمِائَةِ فَارِسٍ، وَأَبُو يَزِيدَ فِي مِقْدَارِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْمَنْصُورِ هَزِيمَةً عَظِيمَةً حَتَّى دَخَلُوا الْخَنْدَقَ وَنَهَبُوا، وَبَقِيَ الْمَنْصُورُ فِي نَحْوِ عِشْرِينَ فَارِسًا. وَأَقْبَلَ أَبُو يَزِيدَ قَاصِدًا إِلَى الْمَنْصُورِ، فَلَمَّا رَآهُمْ شَهَرَ سَيْفَهُ وَثَبَتَ مَكَانَهُ، وَحَمَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَبِي يَزِيدَ حَتَّى كَادَ يَقْتُلُهُ، فَوَلَّى أَبُو يَزِيدَ هَارِبًا، وَقَتَلَ الْمَنْصُورُ مَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمْ، وَأَرْسَلَ مَنْ يَرُدُّ عَسْكَرَهُ فَعَادُوا، وَكَانُوا قَدْ سَلَكُوا طَرِيقَ الْمَهْدِيَّةِ وَسُوسَةَ، وَتَمَادَى الْقِتَالُ إِلَى الظُّهْرِ فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ الْمَشْهُودَةِ لَمْ يَكُنْ فِي مَاضِي الْأَيَّامِ مِثْلُهُ. وَرَأَى النَّاسُ مِنْ شَجَاعَةِ الْمَنْصُورِ مَا لَمْ يَظُنُّوهُ، فَزَادَتْ هَيْبَتُهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَرَحَلَ أَبُو يَزِيدَ عَنِ الْقَيْرَوَانِ أَوَاخِرَ ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَفَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَنَادَى الْمَنْصُورُ: مَنْ أَتَى بِرَأْسِ أَبِي يَزِيدَ، فَلَهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَأَذِنَ النَّاسُ فِي الْقِتَالِ، فَجَرَى قِتَالٌ شَدِيدٌ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْمَنْصُورِ حَتَّى دَخَلُوا الْخَنْدَقَ، ثُمَّ رَجَعَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى أَبِي يَزِيدَ، فَافْتَرَقُوا وَقَدِ انْتَصَفَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ جَمْعٌ عَظِيمٌ، وَعَادَتِ الْحَرْبُ مَرَّةً لِهَذَا وَمَرَّةً لِهَذَا، وَصَارَ أَبُو يَزِيدَ يُرْسِلُ السَّرَايَا، فَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ بَيْنَ الْمَهْدِيَّةِ وَالْقَيْرَوَانِ وَسْوَسَةَ. ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى الْمَنْصُورِ يَسْأَلُ أَنْ يُسَلَّمَ إِلَيْهِ حَرَمَهُ وَعِيَالَهُ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ بِالْقَيْرَوَانِ وَأَخَذَهُمُ الْمَنْصُورُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، دَخَلَ فِي طَاعَتِهِ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنَهُ وَأَصْحَابَهُ، وَحَلَفَ لَهُ بِأَغْلَظِ الْأَيْمَانِ عَلَى ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ الْمَنْصُورُ إِلَى مَا طَلَبَ، وَأَحْضَرَ عِيَالَهُ وَسَيَّرَهُمْ إِلَيْهِ

مُكَرَّمِينَ، بَعْدَ أَنْ وَصَلَهُمْ، وَأَحْسَنَ كُسْوَتَهُمْ، وَأَكْرَمَهُمْ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ، نَكَثَ جَمِيعَ مَا عَقَدَهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا وَجَّهَهُمْ خَوفًا مِنِّي، فَانْقَضَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَدَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ (فِي الْقِتَالِ) . فَفِي خَامِسِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا زَحَفَ أَبُو يَزِيدَ، وَرَكِبَ الْمَنْصُورُ، وَكَانَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ قِتَالٌ مَا سُمِعَ بِمِثْلِهِ، وَحَمَلَتِ الْبَرْبَرُ عَلَى الْمَنْصُورِ وَحَمَلَ عَلَيْهَا، وَجَعَلَ يَضْرِبُ فِيهِمْ، فَانْهَزَمُوا مِنْهُ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا انْتَصَفَ الْمُحَرَّمُ عَبَّأَ الْمَنْصُورُ عَسْكَرَهُ، فَجَعَلَ فِي الْمَيْمَنَةِ أَهْلَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكُتَامَةَ فِي الْمَيْسَرَةِ، وَهُوَ فِي عَبِيدِهِ وَخَاصَّتِهِ فِي الْقَلْبِ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ شَدِيدٌ، فَحَمَلَ أَبُو يَزِيدَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ فَهَزَمَهَا، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى الْقَلْبِ فَبَادَرَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ، وَقَالَ: هَذَا يَوْمُ الْفَتْحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَحَمَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَانْهَزَمَ أَبُو يَزِيدَ، وَأَخَذَتِ السُّيُوفُ أَصْحَابَهُ فَوَلُّوا مُنْهَزِمِينَ، وَأَسْلَمُوا أَثْقَالَهُمْ، وَهَرَبَ أَبُو يَزِيدَ عَلَى وَجْهِهِ، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَا لَا يُحْصَى، فَكَانَ مَا أَخَذَهُ أَطْفَالُ أَهْلِ الْقَيْرَوَانِ مِنْ رُءُوسِ الْقَتْلَى عَشَرَةَ آلَافِ رَأْسٍ، وَسَارَ أَبُو يَزِيدَ إِلَى تَاهِ مَدِيتَ. ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي يَزِيدَ لَمَّا تَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى أَبِي يَزِيدَ، أَقَامَ الْمَنْصُورُ يَتَجَهَّزُ لِلْمَسِيرِ فِي أَثَرِهِ، ثُمَّ رَحَلَ أَوَاخِرَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَلَدِ مَذَامًا الصِّقِلِّيَّ، فَأَدْرَكَ أَبَا يَزِيدَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ مَدِينَةَ بَاغَايَةَ ; لِأَنَّهُ أَرَادَ دُخُولَهَا لَمَّا انْهَزَمَ، فَمُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَحَصَرَهَا، فَأَدْرَكَهُ الْمَنْصُورُ وَقَدْ كَادَ يَفْتَحُهَا، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ هَرَبَ أَبُو يَزِيدَ، وَجَعَلَ كُلَّمَا قَصَدَ مَوْضِعًا يَتَحَصَّنُ فِيهِ، سَبَقَهُ الْمَنْصُورُ، حَتَّى وَصَلَ طَبَنَةَ، فَوَصَلَتْ رُسُلُ مُحَمَّدِ بْنِ خَزَرٍ

الزُّنَاتِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ أَبِي يَزِيدَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُ الْمَنْصُورُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْصُدَ أَبَا يَزِيدَ، وَاسْتَمَرَّ الْهَرَبُ بِأَبِي يَزِيدَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى جَبَلِ الْبَرْبَرِ وَيُسَمَّى بَرْزَالَ، وَأَهْلُهُ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَسَلَكَ الرِّمَالَ لِيَخْتَفِيَ أَثَرُهُ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَعَادَ إِلَى نَوَاحِي مَقْبَرَةَ وَالْمَنْصُورُ (بِهَا، فَكَمَّنَ أَبُو يَزِيدَ أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ عَسْكَرُ الْمَنْصُورِ رَآهُمْ، فَحَذَّرُوا مِنْهُمْ، فَعَبَّأَ حِينَئِذٍ أَبُو يَزِيدَ أَصْحَابَهُ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَتْ مَيْمَنَةُ الْمَنْصُورِ) ، وَحَمَلَ هُوَ بِنَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ، فَانْهَزَمَ أَبُو يَزِيدَ إِلَى جَبَلِ سَالَّاتَ، وَرَحَلَ الْمَنْصُورُ فِي أَثَرِهِ، (فَدَخَلَ مَدِينَةَ الْمَسِيلَةِ، وَرَحَلَ فِي أَثَرِ أَبِي يَزِيدَ) فِي جِبَالٍ وَعِرَةٍ، وَأَوْدِيَةٍ عَمِيقَةٍ خَشِنَةِ الْأَرْضِ، فَأَرَادَ الدُّخُولَ وَرَاءَهُ، فَعَرَّفَهُ الْأَدِلَّاءُ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ لَمْ يَسْلُكْهَا جَيْشٌ قَطُّ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى أَهْلِ الْعَسْكَرِ، فَبَلَغَ عَلِيقُ كُلِّ دَابَّةٍ دِينَارًا وَنِصْفًا، وَبَلَغَتْ قِرْبَةُ الْمَاءِ دِينَارًا، وَإِنَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ رِمَالٌ وَقِفَارُ بِلَادِ السُّودَانِ، لَيْسَ فِيهَا عِمَارَةٌ، وَإِنَّ أَبَا يَزِيدَ اخْتَارَ الْمَوْتَ جُوعًا وَعَطَشًا عَلَى الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ. فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ، رَجَعَ إِلَى بِلَادِ صِنْهَاجَةَ، فَوَصَلَ إِلَى مَوْضِعٍ يُسَمَّى قَرْيَةَ دَمُرَهُ، فَاتَّصَلَ بِهِ الْأَمِيرُ زِيرِي بْنُ مَنَادٍ الصِّنْهَاجِيُّ الْحِمْيَرِيُّ بِعَسَاكِرِ صِنْهَاجَةَ، وَزِيرِي هَذَا هُوَ جَدُّ بَنِي بَادِيسَ مُلُوكِ إِفْرِيقِيَّةَ - كَمَا يَأْتِي ذِكْرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَكْرَمَهُ الْمَنْصُورُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَوَصَلَ كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ خَزَرٍ يَذْكُرُ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ أَبُو يَزِيدَ مِنَ الرِّمَالِ. وَمَرِضَ الْمَنْصُورُ مَرَضًا شَدِيدًا أَشَفَى مِنْهُ، فَلَمَّا أَفَاقَ مِنْ مَرَضِهِ، رَحَلَ إِلَى الْمَسِيلَةِ ثَانِيَ رَجَبٍ، وَكَانَ أَبُو يَزِيدَ قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا لَمَّا بَلَغَهُ مِنْ مَرَضِ الْمَنْصُورِ، وَحَصَرَهَا، فَلَمَّا قَصَدَهُ الْمَنْصُورُ، هَرَبَ مِنْهُ يُرِيدُ بِلَادَ السُّودَانِ، فَأَبَى ذَلِكَ بَنُو كَمْلَانَ وَهَوَارَةَ وَخَدَعُوهُ، وَصَعِدَ

إِلَى جِبَالِ كُتَامَةَ وَعَجِيسَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَتَحَصَّنَ بِهَا وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا، وَصَارُوا يَنْزِلُونَ يَتَخَطَّفُونَ النَّاسَ، فَسَارَ الْمَنْصُورُ عَاشِرَ شَعْبَانَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَنْزِلْ أَبُو يَزِيدَ، فَلَمَّا عَادَ نَزَلَ إِلَى سَاقَةِ الْعَسْكَرِ، فَرَجَعَ الْمَنْصُورُ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ فَانْهَزَمَ أَبُو يَزِيدَ، وَأَسْلَمَ أَوْلَادَهُ وَأَصْحَابَهُ، وَلَحِقَهُ فَارِسَانِ فَعَقَرَا فَرَسَهُ فَسَقَطَ عَنْهُ، فَأَرْكَبَهُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، وَلَحِقَهُ زِيرِي بْنُ مُنَادٍ فَطَعَنَهُ فَأَلْقَاهُ، وَكَثُرَ الْقِتَالُ عَلَيْهِ، فَخَلَّصَهُ أَصْحَابُهُ وَخَلَصُوا مَعَهُ، وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ الْمَنْصُورِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ. ثُمَّ سَارَ الْمَنْصُورُ فِي أَثَرِهِ أَوَّلَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَاقْتَتَلُوا أَيْضًا أَشَدَّ قِتَالٍ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْهَزِيمَةِ لِضِيقِ الْمَكَانِ وَخُشُونَتِهِ، ثُمَّ انْهَزَمَ أَبُو يَزِيدَ أَيْضًا، وَاحْتَرَقَتْ أَثْقَالُهُ وَمَا فِيهَا، وَطَلَعَ أَصْحَابُهُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ يَرْمُونَ بِالصَّخْرِ، وَأَحَاطَ الْقِتَالُ (بِالْمَنْصُورِ وَتَوَاخَذُوا بِالْأَيْدِي، وَكَثُرَ الْقَتْلُ) حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ الْفَنَاءُ، وَافْتَرَقُوا عَلَى السَّوَاءِ، وَالْتَجَأَ أَبُو يَزِيدَ إِلَى قَلْعَةِ كُتَامَةَ، وَهِيَ مَنِيعَةٌ، فَاحْتَمَى بِهَا. وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ (أَتَى إِلَى الْمَنْصُورِ) جُنْدٌ لَهُ مَنْ كُتَامَةَ بِرَجُلٍ ظَهَرَ فِي أَرْضِهِمُ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ بِقَتْلِهِ، وَأَقْبَلَتْ هَوَارَةُ وَأَكْثَرُ مَنْ مَعَ أَبِي يَزِيدَ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمُ الْمَنْصُورُ، وَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ كُتَامَةَ، فَحَصَرَ أَبَا يَزِيدَ فِيهَا، وَفَرَّقَ جُنْدَهُ حَوْلَهَا، فَنَاشَبَهُ أَصْحَابُ أَبِي يَزِيدَ الْقِتَالَ، وَزَحَفَ إِلَيْهَا الْمَنْصُورُ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَفِي آخِرِهَا مَلَكَ أَصْحَابُهُ بَعْضَ الْقَلْعَةِ، وَأَلْقَوْا فِيهَا النِّيرَانَ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ أَبِي يَزِيدَ (وَقُتِلُوا قَتْلًا ذَرِيعًا، وَدَخَلَ أَبُو يَزِيدَ) وَأَوْلَادُهُ وَأَعْيَانُ أَصْحَابِهِ إِلَى قَصْرٍ فِي الْقَلْعَةِ، فَاجْتَمَعُوا فِيهِ، فَاحْتَرَقَتْ أَبْوَابُهُ وَأَدْرَكَهُمُ الْقَتْلُ، فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ بِإِشْعَالِ النَّارِ فِي شِعَارِي الْجَبَلِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ لِئَلًا يَهْرَبَ أَبُو يَزِيدَ، فَصَارَ اللَّيْلُ كَالنَّهَارِ. فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ، خَرَجَ أَصْحَابُهُ وَهُمْ يَحْمِلُونَهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَحَمَلُوا عَلَى

النَّاسِ حَمْلَةً مُنْكَرَةً، فَأَفْرَجُوا لَهُمْ، فَنَجَوْا بِهِ، وَنَزَلَ مِنَ الْقَلْعَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأُخِذُوا، فَأَخْبَرُوا بِخُرُوجِ أَبِي يَزِيدَ، فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ يَطْلُبُهُ، وَقَالَ: مَا أَظُنُّهُ إِلَّا قَرِيبًا مِنَّا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أُتِيَ بِأَبِي يَزِيدَ، وَذَلِكَ أَنَّ ثَلَاثَةً مِنْ أَصْحَابِهِ حَمَلُوهُ مِنَ الْمَعْرَكَةِ ثُمَّ وَلَّوْا عَنْهُ، وَإِنَّمَا حَمَلُوهُ لِقُبْحِ عَرَجِهِ، فَذَهَبَ لِيَنْزِلَ مِنَ الْوَعْرِ، فَسَقَطَ فِي مَكَانٍ صَعْبٍ، فَأُدْرِكَ فَأُخِذَ وَحُمِلَ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ - تَعَالَى، وَالنَّاسُ يُكَبِّرُونَ حَوْلَهُ، وَبَقِيَ عِنْدَهُ إِلَى سَلْخِ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَمَاتَ مِنَ الْجِرَاحِ الَّتِي بِهِ، فَأَمَرَ بِإِدْخَالِهِ فِي قَفَصٍ عُمِلَ لَهُ، وَجَعَلَ مَعَهُ قِرْدَيْنِ يَلْعَبَانِ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ بِسَلْخِ جِلْدِهِ وَحَشَاهُ تِبْنًا، وَأَمَرَ بِالْكُتُبِ إِلَى سَائِرِ الْبِلَادِ بِالْبِشَارَةِ. ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِ عِدَّةُ خَوَارِجَ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ خَزَرٍ، فَظَفِرَ بِهِ الْمَنْصُورُ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ يُرِيدُ نُصْرَةَ أَبِي يَزِيدَ، وَخَرَجَ أَيْضًا فَضْلُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، وَأَفْسَدَ وَقَطَعَ الطَّرِيقَ، فَغَدَرَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَقَتَلَهُ، وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى الْمَنْصُورِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] أَيْضًا، وَعَادَ الْمَنْصُورُ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، فَدَخَلَهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ. ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيِّ وَإِحْرَاقِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، قَدِمَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيُّ إِلَى بَغْدَاذَ مُسْتَأْمِنًا إِلَى تُوزُونَ، فَأَمَّنَهُ، وَأَنْزَلَهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ شَيْرَزَادَ إِلَى جَانِبِ دَارِهِ، وَأَكْرَمَهُ، وَطَلَبَ أَنْ يُقَوِّيَ يَدَهُ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ، وَضَمِنَ أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الْبَصْرَةَ يُوصِلُ لَهُ مَالًا كَثِيرًا، فَوَعَدُوهُ النَّجْدَةَ وَالْمُسَاعَدَةَ، فَأَنْفَذَ ابْنُ أَخِيهِ مِنَ الْبَصْرَةِ مَالًا كَثِيرًا (خَدَمَ بِهِ) تُوزُونَ وَابْنَ شَيْرَزَادَ، فَأَنْفَذُوا لَهُ الْخِلَعَ وَأَقَرُّوهُ عَلَى عَمَلِهِ. فَلَمَّا عَلِمَ أَبُو الْحُسَيْنِ بِذَلِكَ سَعَى فِي أَنْ يَكْتُبَ لِتُوزُونَ، وَيَقْبِضَ عَلَى ابْنِ شَيْرَزَادَ، فَعَلَمَ ابْنُ شَيْرَزَادَ بِذَلِكَ، فَسَعَى بِهِ إِلَى أَنْ قُبِضَ عَلَيْهِ، وَقُيِّدَ وَضُرِبَ ضَرْبًا عَنِيفًا، وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيُّ قَدْ أَخَذَ أَيَّامَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ فَتْوَى الْفُقَهَاءِ

وَالْقُضَاةِ بِإِحْلَالِ دَمِهِ، فَأَحْضَرَهَا، وَأَحْضَرَ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ فِي دَارِ الْخَلِيفَةِ، وَأُخْرِجَ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَسُئِلَ الْفُقَهَاءُ عَنِ الْفَتَاوَى، فَاعْتَرَفُوا أَنَّهُمْ أَفْتَوْا بِذَلِكَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِ رَقَبَتِهِ، فَقُتِلَ وَصُلِبَ، ثُمَّ أُنْزِلَ وَأُحْرِقَ، وَنُهِبَتْ دَارُهُ، وَكَانَ هَذَا آخِرَ أَمْرِ الْبَرِيدِيِّينَ، وَكَانَ قَتْلُهُ مُنْتَصَفَ ذِي الْحِجَّةِ. وَفِيهَا نَقَلَ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ الْقَاهِرَ بِاللَّهِ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ بِهِ الضُّرُّ وَالْفَقْرُ إِلَى أَنْ كَانَ مُلْتَفًّا بِقُطْنِ جُبَّةٍ، وَفِي رِجْلِهِ قَبْقَابُ خَشَبٍ. ذِكْرُ مَسِيرِ أَبِي عَلِيٍّ إِلَى الرَّيِّ وَعَوْدِهِ قَبْلَ مِلْكِهَا لَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمِيرُ نُوحٌ فِي وَلَايَتِهِ (بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَخُرَاسَانَ) ، أَمَرَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُحْتَاجٍ أَنْ يَسِيرَ فِي عَسَاكِرِ خُرَاسَانَ إِلَى الرَّيِّ وَيَسْتَنْقِذَهَا مِنْ يَدِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، فَسَارَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَلَقِيَهُ وَشْمَكِيرُ بِخُرَاسَانَ وَهُوَ يَقْصِدُ الْأَمِيرَ نُوحًا، فَسَيَّرَهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ نُوحٌ حِينَئِذٍ بِمَرْوَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَكْرَمَهُ وَأَنْزَلَهُ، وَبَالَغَ فِي إِكْرَامِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ. وَأَمَّا أَبُو عَلِيٍّ فَإِنَّهُ سَارَ نَحْوَ الرَّيِّ، فَلَمَّا نَزَلَ بِبِسْطَامَ خَالَفَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ، وَعَادُوا عَنْهُ مَعَ مَنْصُورِ بْنِ قَرَاتَكِينَ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ نُوحٍ وَخَوَاصِّهِ، فَسَارُوا نَحْوَ جُرْجَانَ، وَبِهَا الْحَسَنُ بْنُ الْفَيْرُزَانِ، فَصَدَّهُمُ الْحَسَنُ عَنْهَا، فَانْصَرَفُوا إِلَى نَيْسَابُورَ، وَسَارَ أَبُو عَلِيٍّ (نَحْوَ الرَّيِّ) فِيمَنْ بَقِيَ مَعَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رُكْنُ الدَّوْلَةِ مُحَارِبًا، فَالْتَقَوْا عَلَى ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ مِنَ الرَّيِّ، وَكَانَ مَعَ أَبِي عَلِيٍّ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَكْرَادِ، فَغَدَرُوا بِهِ، وَاسْتَأْمَنُوا إِلَى رُكْنِ الدَّوْلَةِ، فَانْهَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ، وَعَادَ نَحْوَ نَيْسَابُورَ وَغَنِمُوا بَعْضَ أَثْقَالِهِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ وَشْمَكِيرَ عَلَى جُرْجَانَ لَمَّا عَادَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى نَيْسَابُورَ، لَقِيَهُ وَشْمَكِيرُ، وَقَدْ سَيَّرَهُ الْأَمِيرُ نُوحٍ وَمَعَهُ جَيْشٌ فِيهِمْ مَالِكُ بْنُ شَكَرْتَكِينَ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ يَأْمُرُهُ بِمُسَاعَدَةِ وَشْمَكِيرَ، فَوُجِّهَ فِيمَنْ مَعَهُ إِلَى جُرْجَانَ، وَبِهَا الْحَسَنُ بْنُ الْفَيْرُزَانِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا فَانْهَزَمَ الْحَسَنُ، وَاسْتَوْلَى وَشْمَكِيرُ عَلَى جُرْجَانَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ أَبِي عَلِيٍّ عَلَى الرَّيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ أَبُو عَلِيٍّ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى نُوحٍ، وَهُوَ بِمَرْوَ، فَاجْتَمَعَ بِهِ فَأَعَادَهُ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَأَمَرَهُ بِقَصْدِ الرَّيِّ، وَأَمَدَّهُ بِجَيْشٍ كَثِيرٍ، فَعَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى الرَّيِّ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَبِهَا رُكْنُ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا عَلِمَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بِكَثْرَةِ جُمُوعِهِ، سَارَ عَنِ الرَّيِّ وَاسْتَوْلَى أَبُو عَلِيٍّ عَلَيْهَا وَعَلَى سَائِرِ أَعْمَالِ الْجِبَالِ، وَأَنْفَذَ نُوَّابَهُ إِلَى الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْأَمِيرَ نُوحًا سَارَ مِنْ مَرْوَ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي رَجَبٍ، وَأَقَامَ بِهَا خَمْسِينَ يَوْمًا، فَوَضَعَ (أَعْدَاءَ أَبِي) عَلِيٍّ جَمَاعَةً مِنَ الْغَوْغَاءِ وَالْعَامَّةِ، فَاجْتَمَعُوا وَاسْتَغَاثُوا عَلَيْهِ، وَشَكُوا سُوءَ سِيرَتِهِ وَسِيرَةِ نُوَّابِهِ، فَاسْتَعْمَلَ الْأَمِيرُ نُوحٌ عَلَى نَيْسَابُورَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سِيمَجُورَ وَعَادَ عَنْهَا (إِلَى بُخَارَى فِي رَمَضَانَ، وَكَانَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ يَقْطَعُوا طَمَعَ أَبِي عَلِيٍّ عَنْ خُرَاسَانَ) لِيُقِيمَ بِالرَّيِّ وَبِلَادِ الْجَبَلِ، فَاسْتَوْحَشَ أَبُو عَلِيٍّ لِذَلِكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُحْسِنُ إِلَيْهِ بِسَبَبِ فَتْحِ الرَّيِّ وَتِلْكَ الْأَعْمَالِ، فَلَمَّا عُزِلَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَوَجَّهَ أَخَاهُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْفَضْلَ بْنَ مُحَمَّدٍ إِلَى كُوَرِ الْجِبَالِ، وَوَلَّاهُ هَمَذَانَ، وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً عَلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ، فَقَصَدَ الْفَضْلُ نَهَاوَنْدَ وَالدِّينَوَرَ وَغَيْرَهُمَا وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْأَكْرَادِ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَأَنْفَذُوا رَهَائِنَهُمْ. ذِكْرُ وَصُولِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ آخِرَ رَجَبٍ، وَصَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ إِلَى مَدِينَةِ وَاسِطَ، فَسَمِعَ تُوزُونَ بِهِ، فَسَارَ هُوَ وَالْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى وَاسِطَ، فَلَمَّا سَمِعَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِمَسِيرِهِمْ إِلَيْهِ، فَارَقَهَا سَادِسَ رَمَضَانَ، وَوَصَلَ الْخَلِيفَةُ وَتُوزُونُ إِلَى وَاسِطَ، فَأَرْسَلَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَرِيدِيُّ يَضْمَنُ الْبَصْرَةَ، فَأَجَابَهُ تُوزُونُ إِلَى ذَلِكَ وَضَمِنَهُ، وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، وَعَادَ الْخَلِيفَةُ وَتُوزُونُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَدَخَلَاهَا ثَامِنَ شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ. ذِكْرُ مِلْكِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ مَدِينَةَ حَلَبَ وَحِمْصَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ (عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْهَيْجَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ) إِلَى حَلَبَ، فَمَلَكَهَا وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَكَانَ مَعَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ بِالرَّقَّةِ، فَلَمَّا عَادَ الْمُتَّقِي إِلَى بَغْدَاذَ وَانْصَرَفَ الْإِخْشِيدُ إِلَى الشَّامِ، بَقِيَ يَأْنَسُ الْمُؤْنِسِيُّ بِحَلَبَ، فَقَصَدَهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، (فَلَمَّا

نَازَلَهَا، فَارَقَهَا يَأْنَسُ وَسَارَ إِلَى الْإِخْشِيدِ، فَمَلَكَهَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ) ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى حِمْصَ، فَلَقِيَهُ بِهَا عَسْكَرُ الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجَ، صَاحِبِ الشَّامِ وَمِصْرَ مَعَ مَوْلَاهُ كَافُورٍ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْإِخْشِيدِ وَكَافُورٌ، وَمَلَكَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ مَدِينَةَ حِمْصَ، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ فَحَصَرَهَا، فَلَمْ يَفْتَحْهَا أَهْلُهَا لَهُ فَرَجَعَ. وَكَانَ الْإِخْشِيدُ قَدْ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، وَسَارَ خَلْفَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَالْتَقَيَا بِقِنَّسْرِينَ، فَلَمْ يَظْفَرْ أَحَدُ الْعَسْكَرَيْنِ بِالْآخَرِ، وَرَجَعَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْجَزِيرَةِ، فَلَمَّا عَادَ الْإِخْشِيدُ إِلَى دِمَشْقَ، رَجَعَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ، وَلَمَّا مَلَكَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ حَلَبَ، سَارَتِ الرُّومُ إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَاتَلَهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، فَظَفَرَ بِهِمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَامِنِ جُمَادَى الْأُولَى، قَبَضَ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ عَلَى كَاتِبِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَعَلَى أَخِيهِ، وَاسْتَكْتَبَ أَبَا أَحْمَدَ الْفَضْلَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشِّيرَازِيَّ عَلَى خَاصِّ أَمْرِهِ، وَكَانَ أَبُو أَحْمَدَ لَمَّا تَقَلَّدَ الْمُسْتَكْفِي الْخِلَافَةَ بِالْمَوْصِلِ، يَكْتُبُ لِنَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ تَقَلُّدِهِ الْخِلَافَةَ، انْحَدَرَ إِلَى بَغْدَاذَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدِمُ الْمُسْتَكْفِيَ بِاللَّهِ، وَيَكْتُبُ لَهُ وَهُوَ فِي دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ. وَفِيهَا فِي رَجَبٍ سَارَ تُوزُونُ وَمَعَهُ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ مِنْ بَغْدَاذَ يُرِيدَانِ الْمَوْصِلَ، وَقَصَدَ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَخَّرَ حَمْلَ الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ ضَمَانِ الْبِلَادِ، وَاسْتَخْدَمَ غِلْمَانًا هَرَبُوا مِنْ تُوزُونَ، وَكَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ أَحَدًا مِنْ عَسْكَرِ تُوزُونَ. فَلَمَّا خَرَجَ الْخَلِيفَةُ وَتُوزُونُ مِنْ بَغْدَاذَ، تَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ فِي الصُّلْحِ، وَتَوَسَّطَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ شَيْرَزَادَ الْأَمْرَ، وَانْقَادَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ لِحَمْلِ الْمَالِ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مُكْرَمٍ كَاتِبُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ هُوَ الرَّسُولُ فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا تَقَرَّرَ الصُّلْحُ عَادَ الْمُسْتَكْفِي وَتُوزُونُ فَدَخَلَا بَغْدَاذَ.

وَفِيهَا فِي (سَابِعِ) رَبِيعٍ الْآخَرِ، قَبَضَ الْمُسْتَكْفِي عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي الْفَرَجِ (السُّرْمَرَائِيِّ) ، وَصُودِرَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِزَارَتِهِ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا.

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 334 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مَوْتِ تُوزُونَ وَإِمَارَةِ ابْنِ شَيْرَزَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ، مَاتَ تُوزُونُ فِي دَارِهِ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَتْ مُدَّةُ إِمَارَتِهِ سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَتَبَ لَهُ ابْنُ شَيْرَزَادَ مُدَّةَ إِمَارَتِهِ، غَيْرَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَلَمَّا مَاتَ تُوزُونُ كَانَ ابْنُ شَيْرَزَادَ بِهَيْتَ لِتَخْلِيصِ أَمْوَالِهَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ، عَزَمَ عَلَى عَقْدِ الْإِمَارَةِ لِنَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَاضْطَرَبَتِ الْأَجْنَادُ، وَعَقَدُوا الرِّئَاسَةَ عَلَيْهِمْ لِابْنِ شَيْرَزَادَ، فَحَضَرَ وَنَزَلَ بِبَابِ حَرْبٍ مُسْتَهَلَّ صَفَرٍ، وَخَرَجَ عَلَيْهِ الْأَجْنَادُ جَمِيعُهُمْ، وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَحَلَفُوا لَهُ، وَوَجَّهَ إِلَى الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ لِيَحْلِفَ لَهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، (وَحَلَفَ لَهُ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْعُدُولِ، وَدَخَلَ إِلَيْهِ ابْنُ شَيْرَزَادَ) ، وَعَادَ مُكْرَمًا يُخَاطَبُ بِأَمِيرِ الْأُمَرَاءِ، وَزَادَ الْأَجْنَادُ زِيَادَةً كَثِيرَةً، فَضَاقَتِ الْأَمْوَالُ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيِّ وَهُوَ بِالْمَوْصِلِ، يُطَالِبُهُ بِحَمْلِ الْمَالِ، وَيَعِدُهُ بِرَدِّ الرِّئَاسَةِ إِلَيْهِ، وَأَنْفَذَ لَهُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَطَعَامًا كَثِيرًا، فَفَرَّقَهَا فِي عَسْكَرِهِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ، فَقَسَّطَ الْأَمْوَالَ عَلَى الْعُمَّالِ وَالْكُتَّابِ وَالتُّجَّارِ وَغَيْرِهِمْ لِأَرْزَاقِ الْجُنْدِ، وَظُلِمَ النَّاسُ بِبَغْدَاذَ.

وَظَهَرَ اللُّصُوصُ وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ، وَجَلَا التُّجَّارُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى وَاسِطَ يَنَالُ كُوشَةَ، وَعَلَى تَكْرِيتَ الْلَشْكُرِيَّ، فَأَمَّا يَنَالُ فَإِنَّهُ كَاتِبُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَاسْتَقْدَمَهُ وَصَارَ مَعَهُ، وَأَمَّا الْفَتْحُ الْلَشْكُرِيُّ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بِالْمَوْصِلِ، وَصَارَ مَعَهُ، فَأَقَرَّهُ عَلَى تَكْرِيتَ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عَلَى بَغْدَاذَ لَمَّا كَاتَبَ يَنَالُ كُوشَةَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ بْنَ بُوَيْهِ وَهُوَ بِالْأَهْوَازِ، وَدَخَلَ فِي طَاعَتِهِ، سَارَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ نَحْوَهُ، فَاضْطَرَبَ النَّاسُ بِبَغْدَاذَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَاجِسْرَى، اخْتَفَى الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ وَابْنُ شَيْرَزَادَ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا اسْتَتَرَ، سَارَ الْأَتْرَاكُ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَلَمَّا أُبْعِدُوا ظَهَرَ الْمُسْتَكْفِي وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، وَقَدِمَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ صَاحِبُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَاجْتَمَعَ بِابْنِ شَيْرَزَادَ بِالْمَكَانِ الَّذِي اسْتَتَرَ فِيهِ، ثُمَّ اجْتَمَعَ بِالْمُسْتَكْفِي، فَأَظْهَرَ الْمُسْتَكْفِي السُّرُورَ بِقُدُومِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَتَرَ مِنَ الْأَتْرَاكِ لِيَتَفَرَّقُوا فَيَحْصُلَ الْأَمْرُ لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ بِلَا قِتَالٍ. وَوَصَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ حَادِي عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى، فَنَزَلَ بِبَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ، وَدَخَلَ مِنَ الْغَدِ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَكْفِي وَبَايَعَهُ، وَحَلَفَ لَهُ الْمُسْتَكْفِي، وَسَأَلَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَنْ يَأْذَنَ لِابْنِ شَيْرَزَادَ بِالظُّهُورِ، وَأَنْ يَأْذَنَ أَنْ يَسْتَكْتِبَهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَظَهَرَ ابْنُ شَيْرَزَادَ، وَلَقِيَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ، فَوَلَّاهُ الْخَرَاجَ وَجِبَايَةَ الْأَمْوَالِ، وَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَلَقَّبَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ " مُعِزَّ الدَّوْلَةِ "، وَلَقَّبَ أَخَاهُ (عَلِيًّا) " عِمَادَ الدَّوْلَةِ "، وَلَقَّبَ أَخَاهُ الْحَسَنَ " رُكْنَ الدَّوْلَةِ "، وَأَمَرَ أَنْ تُضْرَبَ أَلْقَابُهُمْ وَكُنَاهُمْ عَلَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ.

وَنَزَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِدَارِ مُؤْنِسٍ، وَنَزَلَ أَصْحَابُهُ فِي دُورِ النَّاسِ، فَلَحِقَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ شِدَّةً عَظِيمَةً، وَصَارَ رَسْمًا عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ بِبَغْدَاذَ، وَلَمْ يُعْرَفْ بِهَا قَبْلَهُ. وَأُقِيمُ لِلْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ لِنَفَقَاتِهِ، وَكَانَتْ رُبَّمَا تَأَخَّرَتْ عَنْهُ، فَأُقِرَّتْ لَهُ مَعَ ذَلِكَ ضَيَاعٌ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ تَوَلَّاهَا أَبُو أَحْمَدَ الشِّيرَازِيُّ كَاتِبُهُ. ذِكْرُ خَلْعِ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خُلِعَ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَلَمًا الْقَهْرَمَانَةَ صَنَعَتْ دَعْوَةً، حَضَرَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِ الدَّيْلَمِ وَالْأَتْرَاكِ، فَاتَّهَمَهَا مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ لِتَأْخُذَ عَلَيْهِمُ الْبَيْعَةَ لِلْمُسْتَكْفِي وَيُزِيلُوا مُعِزَّ الدَّوْلَةِ، فَسَاءَ ظَنُّهُ لِذَلِكَ لَمَّا رَأَى مِنْ إِقْدَامِ عَلَمٍ، وَحَضَرَ أَصْفَهَدُوَسْتُ عِنْدَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَقَالَ: قَدْ رَاسَلَنِي الْخَلِيفَةُ فِي أَنْ أَلْقَاهُ مُتَنَكِّرًا. فَلَمَّا مَضَى اثْنَانِ وَعِشْرُونَ يَوْمًا مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، حَضَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَالنَّاسُ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ، وَحَضَرَ رَسُولُ صَاحِبِ خُرَاسَانَ، وَمُعِزُّ الدَّوْلَةِ جَالِسٌ، ثُمَّ حَضَرَ رَجُلًا مِنْ نُقَبَاءِ الدَّيْلَمِ يَصِيحَانِ، فَتَنَاوَلَا يَدَ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ، فَظَنَّ أَنَّهُمَا يُرِيدَانِ تَقْبِيلَهَا، (فَمَدَّهَا إِلَيْهِمَا) ، فَجَذَبَاهُ عَنْ سَرِيرِهِ، وَجَعَلَا عِمَامَتَهُ فِي حَلْقِهِ، وَنَهَضَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، وَاضْطَرَبَ النَّاسُ، وَنُهِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَسَاقَ الدَّيْلَمِيَّانِ الْمُسْتَكْفِيَ بِاللَّهِ مَاشِيًا إِلَى دَارِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَاعْتُقِلَ بِهَا، وَنُهِبَتْ دَارُ الْخِلَافَةِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِهَا شَيْءٌ،

وَقُبِضَ عَلَى أَبِي أَحْمَدَ الشِّيرَازِيِّ كَاتِبِ الْمُسْتَكْفِي، وَأُخِذَتْ عَلَمُ الْقَهْرَمَانَةُ فَقُطِعَ لِسَانُهَا. وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَةِ الْمُسْتَكْفِي سَنَةً وَاحِدَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَمَا زَالَ مَغْلُوبًا عَلَى أَمْرِهِ مَعَ تُوزُونَ وَابْنِ شَيْرَزَادَ، وَلَمَّا بُويِعَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ، سُلِّمَ إِلَيْهِ الْمُسْتَكْفِي، فَسَمَلَهُ وَأَعْمَاهُ، وَبَقِيَ مَحْبُوسًا إِلَى أَنْ مَاتَ (فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ ثَالِثَ عَشَرَ صَفَرٍ سَنَةَ) سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا غُصْنٌ. وَكَانَ أَبْيَضَ، حَسَنَ الْوَجْهِ، قَدْ وَخَطَهُ الشَّيْبُ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ لَمَّا وَلِيَ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ الْخِلَافَةَ، خَافَهُ الْمُطِيعُ، وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ الْفَضْلُ بْنُ الْمُقْتَدِرِ ; لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ، وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْخِلَافَةَ، وَهُوَ يَسْعَى فِيهَا، فَلَمَّا وَلِيَ الْمُسْتَكْفِي (خَافَهُ وَاسْتَتَرَ مِنْهُ، فَطَلَبَهُ الْمُسْتَكْفِي) أَشَدَّ الطَّلَبِ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بَغْدَاذَ، قِيلَ: إِنَّ الْمُطِيعَ انْتَقَلَ إِلَيْهِ، وَاسْتَتَرَ عِنْدَهُ، وَأَغْرَاهُ بِالْمُسْتَكْفِي حَتَّى قَبَضَ عَلَيْهِ وَسَمَلَهُ، فَلَمَّا قُبِضَ الْمُسْتَكْفِي، بُويِعَ لِلْمُطِيعِ لِلَّهِ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ الْخَمِيسَ ثَانِي عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَلُقِّبَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ، وَأَحْضَرَ الْمُسْتَكْفِيَ عِنْدَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْخَلْعِ.

وَازْدَادَ أَمْرُ الْخِلَافَةِ إِدْبَارًا، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَقَدْ كَانُوا يُرَاجَعُونَ وَيُؤْخَذُ أَمْرُهُمْ فِيمَا يُفْعَلُ، وَالْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ بَعْضَ الشَّيْءِ، فَلَمَّا كَانَ أَيَّامُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، زَالَ ذَلِكَ جَمِيعُهُ، بِحَيْثُ أَنَّ الْخَلِيفَةَ لَمْ يَبْقَ لَهُ وَزِيرٌ، إِنَّمَا كَانَ لَهُ كَاتِبٌ يُدَبِّرُ أَقْطَاعَهُ وَإِخْرَاجَاتِهِ لَا غَيْرَ، وَصَارَتِ الْوِزَارَةُ لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ يَسْتَوْزِرُ لِنَفْسِهِ مَنْ يُرِيدُ. وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الدَّيْلَمَ كَانُوا يَتَشَيَّعُونَ، وَيُغَالُونَ فِي التَّشَيُّعِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْعَبَّاسِيِّينَ قَدْ غَصَبُوا الْخِلَافَةَ وَأَخَذُوهَا مِنْ مُسْتَحِقِّيهَا، فَلَمْ يَكُنْ (عِنْدَهُمْ) بَاعِثٌ دِينِيٌّ يَحُثُّهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ، حَتَّى لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ اسْتَشَارَ جَمَاعَةً مِنْ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ فِي إِخْرَاجِ الْخِلَافَةِ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ وَالْبَيْعَةِ لِلْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ، أَوْ لِغَيْرِهِ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ، فَكُلُّهُمْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ مَا عَدَا بَعْضَ خَوَاصِّهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِرَأْيٍ فَإِنَّكَ الْيَوْمَ مَعَ خَلِيفَةٍ تَعْتَقِدُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْخِلَافَةِ، وَلَوْ أَمَرْتَهُمْ بِقَتْلِهِ لَقَتَلُوهُ (مُسْتَحِلِّينَ دَمَهُ) ، وَمَتَى أَجْلَسْتَ بَعْضَ الْعَلَوِيِّينَ خَلِيفَةً، كَانَ مَعَكَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ صِحَّةَ خِلَافَتِهِ، فَلَوْ أَمَرَهُمْ بِقَتْلِكَ لَفَعَلُوهُ، فَأَعْرِضْ عَنْ ذَلِكَ، فَهَذَا كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي زَوَالِ أَمْرِهِمْ وَنَهْبِهِمْ مَعَ حُبِّ الدُّنْيَا وَطَلَبِ التَّفَرُّدِ بِهَا. وَتَسَلَّمَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ الْعِرَاقَ بِأَسْرِهِ، وَلَمْ يَبْقَ بِيَدِ الْخَلِيفَةِ مِنْهُ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، إِلَّا مَا أَقْطَعَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِمَّا يَقُومُ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ وَمُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَفِيهَا فِي رَجَبٍ، سَيَّرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَسْكَرًا فِيهِمْ مُوسَى فَيَادَةَ وَيَنَالُ كُوشَةَ إِلَى الْمَوْصِلِ (فِي مُقَدِّمَتِهِ، فَلَمَّا نَزَلُوا عُكْبَرَا أَوْقَعَ يَنَالُ كُوشَةَ بِمُوسَى فَيَادَةَ) ، (وَنُهِبَ

سَوَادُهُ) ، وَمَضَى هُوَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْمَوْصِلِ نَحْوَ الْعِرَاقِ، وَوَصَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى سَامِرَّا فِي شَعْبَانَ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بِعُكْبَرَا. وَفِي رَمَضَانَ سَارَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مَعَ الْمُطِيعِ لِلَّهِ إِلَى عُكْبَرَا، فَلَمَّا سَارَ عَنْ بَغْدَاذَ لَحِقَ ابْنُ شَيْرَزَادَ بِنَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ مَعَ عَسْكَرٍ لِنَاصِرِ الدَّوْلَةِ، (فَاسْتَوْلُوا عَلَيْهَا، وَدَبَّرَ ابْنُ شَيْرَزَادَ الْأُمُورَ بِهَا نِيَابَةً عَنْ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ) ، (وَنَاصِرُ الدَّوْلَةِ) يُحَارِبُ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا كَانَ عَاشِرُ رَمَضَانَ، سَارَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ مِنْ سَامِرَّا إِلَى بَغْدَاذَ فَأَقَامَ بِهَا، فَلَمَّا سَمِعَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ الْخَبَرَ، سَارَ إِلَى تَكْرِيتَ فَنَهَبَهَا ; لِأَنَّهَا كَانَتْ لِنَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَعَادَ الْخَلِيفَةُ مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَنَزَلُوا بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَنَزَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَلَمْ يُخْطَبْ لِلْمُطِيعِ بِبَغْدَاذَ. ثُمَّ وَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ بِبَغْدَاذَ، وَانْتَشَرَتْ أَعْرَابُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَمَنَعُوا أَصْحَابَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مِنَ الْمِيرَةِ وَالْعَلَفِ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ عَلَى الدَّيْلَمِ، حَتَّى بَلَغَ الْخُبْزُ عِنْدَهُمْ كُلُّ رِطْلٍ بِدِرْهَمٍ وَرُبُعٍ، وَكَانَ السِّعْرُ عِنْدَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ رَخِيصًا، كَانَتْ تَأْتِيهِ الْمِيرَةُ فِي دِجْلَةَ مِنَ الْمَوْصِلِ، فَكَانَ الْخُبْزُ عِنْدَهُ كُلُّ خَمْسَةِ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ. وَمَنَعَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْمُعَامَلَةِ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي عَلَيْهَا اسْمُ الْمُطِيعِ، وَضَرَبَ دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ عَلَى سِكَّةِ سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَعَلَيْهَا اسْمُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ، وَاسْتَعَانَ ابْنُ شَيْرَزَادَ بِالْعَيَّارِينَ وَالْعَامَّةِ عَلَى حَرْبِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَكَانَ يَرْكَبُ فِي الْمَاءِ وَهُمْ مَعَهُ وَيُقَاتِلُ الدَّيْلَمَ. وَفِي بَعْضِ اللَّيَالِي عَبَرَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ فِي أَلْفِ فَارِسٍ لِكَبْسِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَلَقِيَهُمْ أَسْفَهْدُوَسْتُ فَهَزَمَهُمْ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ شَجَاعَةً، وَضَاقَ الْأَمْرُ بِالدَّيْلَمِ حَتَّى عَزَمَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَقَالَ: نَعْمَلُ مَعَهُمْ حِيلَةً هَذِهِ الْمَرَّةَ، فَإِنْ أَفَادَتْ وَإِلَّا عُدْنَا، فَرَتَّبَ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَعَابِرِ بِنَاحِيَةِ الثَّمَّارِينَ، وَأَمَرَ وَزِيرَهُ أَبَا جَعْفَرٍ الصَّيْمَرِيَّ

وَأَسْفَهْدُوَسْتَ بِالْعُبُورِ، ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بَاقِيَ الْعَسْكَرِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يَعْبُرُ فِي قُطْرَبُّلَ، وَسَارَ لَيْلًا وَمَعَهُ الْمَشَاعِلُ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، فَسَارَ أَكْثَرُ عَسْكَرِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بِإِزَائِهِ لِيَمْنَعُوهُ مِنَ الْعُبُورِ، فَتَمَكَّنَ الصَّيْمَرِيُّ وَأَسْفَهْدُوَسْتُ مِنَ الْعُبُورِ، فَعَبَرُوا وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُهُمْ. فَلَمَّا عَلِمَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِعُبُورِ أَصْحَابِهِ عَادَ إِلَى مَكَانِهِ، فَعَلِمُوا بِحِيلَتِهِ، فَلَقِيَهُمْ يَنَالُ كُوشَةَ فِي جَمَاعَةِ أَصْحَابِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَهَزَمُوهُ وَاضْطَرَبَ عَسْكَرُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَمَلَكَ الدَّيْلَمُ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ، وَأُعِيدَ الْخَلِيفَةَ إِلَى دَارِهِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، وَغَنِمَ الدَّيْلَمُ وَنَهَبُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِبَغْدَاذَ، فَكَانَ مِقْدَارُ مَا غَنَمُوهُ وَنَهَبُوهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمَعْرُوفِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَمَرَهُمْ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِرَفْعِ السَّيْفِ وَالْكَفِّ عَنِ النَّهْبِ، وَأَمَّنَ النَّاسَ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَأَمَرَ وَزِيرَهُ أَبَا جَعْفَرٍ الصَّيْمَرِيَّ، فَرَكِبَ وَقَتَلَ وَصَلَبَ جَمَاعَةً، وَطَافَ بِنَفْسِهِ فَامْتَنَعُوا. وَاسْتَقَرَّ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَاذَ، وَأَقَامَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِعُكْبَرَا، وَأَرْسَلَ فِي الصُّلْحِ بِغَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ التُّوزُونِيَّةِ، فَهَمُّوا بِقَتْلِهِ، فَسَارَ عَنْهُمْ مُجِدًّا نَحْوَ الْمَوْصِلِ. ثُمَّ اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . ذِكْرُ وَفَاةِ الْقَائِمِ وَوَلَايَةِ الْمَنْصُورِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيُّ الْعَلَوِيُّ صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ شَوَّالٍ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ ابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ وَتُلُقِّبَ الْمَنْصُورُ بِاللَّهِ، وَكَتَمَ مَوْتَهُ خَوْفًا أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ أَبُو يَزِيدَ، وَهُوَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ عَلَى سُوسَةَ، وَأَبْقَى الْأُمُورَ عَلَى حَالِهَا، وَلَمْ يَتَسَمَّ بِالْخَلِيفَةِ، وَلَمْ يُغَيِّرِ السِّكَّةَ، وَلَا الْخُطْبَةَ، وَلَا الْبُنُودَ، وَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ فَرَغَ مِنْ أَمْرِ أَبِي يَزِيدَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ أَظْهَرَ مَوْتَهُ، وَتَسَمَّى بِالْخِلَافَةِ، وَعَمِلَ آلَاتِ الْحَرْبِ وَالْمَرَاكِبِ، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا وَضَبَطَ الْمُلْكَ وَالْبِلَادَ.

ذِكْرُ أَقَطَاعِ الْبِلَادِ وَتَخْرِيبِهَا فِيهَا شَغَبَ الْجُنْدُ عَلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَأَسْمَعُوهُ الْمَكْرُوهَ، فَضَمِنَ لَهُمْ إِيصَالَ أَرْزَاقِهِمْ فِي مُدَّةٍ ذَكَرَهَا لَهُمْ، فَاضْطُرَّ إِلَى خَبْطِ النَّاسِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ مِنْ غَيْرِ وُجُوهِهَا، وَأَقْطَعَ قُوَّادَهُ وَأَصْحَابَهُ الْقُرَى جَمِيعَهَا الَّتِي لِلسُّلْطَانِ وَأَصْحَابِ الْأَمْلَاكِ، فَبَطَلَ لِذَلِكَ أَكْثَرُ الدَّوَاوِينِ، وَزَالَتْ أَيْدِي الْعُمَّالِ، وَكَانَتِ الْبِلَادُ قَدْ خَرِبَتْ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَالْغَلَاءِ، وَالنَّهْبِ، فَأَخَذَ قُوَّادُهُ الْقُرَى الْعَامِرَةَ، وَزَادَتْ عِمَارَتُهَا مَعَهُمْ، وَتَوَفَّرَ دَخْلُهَا بِسَبَبِ الْجَاهِ، فَلَمْ يُمْكِنْ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ الْعَوْدَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الْأَتْبَاعُ فَإِنَّ الَّذِي أَخَذُوهُ ازْدَادَ خَرَابًا، فَرَدُّوهُ وَطَلَبُوا الْعِوَضَ عَنْهُ، فَعُوِّضُوا، وَتَرَكَ الْأَجْنَادُ الِاهْتِمَامَ بِمَشَارِبِ الْقُرَى وَتَسْوِيَةِ طُرُقِهَا، فَهَلَكَتْ وَبَطَلَ الْكَثِيرُ مِنْهَا. وَأَخَذَ غِلْمَانُ الْمُقْطَعِينَ فِي ظُلْمِ وَتَحْصِيلِ الْعَاجِلِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا عَجَزَ الْحَاصِلُ تَمَّمَهُ (بِمُصَادَرَاتِهَا) . ثُمَّ إِنَّ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ فَوَّضَ حِمَايَةَ كُلِّ مَوْضِعٍ إِلَى بَعْضِ أَكَابِرِ أَصْحَابِهِ فَاتَّخَذَهُ مَسْكَنًا وَأَطْمَعَهُ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمُ الْإِخْوَةُ، وَصَارَ الْقُوَّادُ يَدَّعُونَ الْخَسَارَةَ فِي الْحَاصِلِ، فَلَا يَقْدِرُ وَزِيرُهُ وَلَا غَيْرُهُ عَلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ، فَإِنِ اعْتَرَضَهُمْ مُعْتَرِضٌ صَارُوا أَعْدَاءً لَهُ، فَتُرِكُوا وَمَا يُرِيدُونَ، فَازْدَادَ طَمَعُهُمْ، وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَ غَايَةٍ، فَتَعَذَّرَ عَلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ جَمْعُ ذَخِيرَةٍ تَكُونُ لِلنَّوَائِبِ وَالْحَوَادِثِ، وَأَكْثَرَ مِنْ إِعْطَاءِ غِلْمَانِهِ الْأَتْرَاكِ وَالزِّيَادَةِ لَهُمْ فِي الْأَقْطَاعِ، فَحَسَدَهُمُ الدَّيْلَمُ وَتَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ الْوَحْشَةُ وَالْمُنَافَرَةُ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ مَوْتِ الْإِخْشِيدِ وَمِلْكِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ دِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، مَاتَ الْإِخْشِيدُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ طُغْجَ صَاحِبُ دِيَارِ مِصْرَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِدِمَشْقَ،

وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، وَوَلِيَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْقَاسِمِ أَنُوجُورُ، فَاسْتَوْلَى عَلَى الْأَمْرِ كَافُورٌ الْخَادِمُ الْأَسْوَدُ، وَهُوَ مِنْ خَدَمِ الْإِخْشِيدِ، وَغَلَبَ أَبَا الْقَاسِمَ وَاسْتَضْعَفَهُ وَتَفَرَّدَ بِالْوَلَايَةِ، وَكَافُورٌ هَذَا هُوَ الَّذِي مَدَحَهُ الْمُتَنَبِّي ثُمَّ هَجَاهُ. وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ صَغِيرًا، وَكَانَ كَافُورٌ أَتَابِكَهُ، فَلِهَذَا اسْتَضْعَفَهُ وَحَكَمَ عَلَيْهِ، فَسَارَ كَافُورٌ إِلَى مِصْرَ، فَقَصَدَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ دِمَشْقَ، فَمَلَكَهَا وَأَقَامَ بِهَا، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ هُوَ وَالشَّرِيفُ الْعَقِيلِيُّ بِنَوَاحِي دِمَشْقَ، فَقَالَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ: مَا تَصْلُحُ هَذِهِ الْغُوطَةُ إِلَّا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ لَهُ الْعَقِيلِيُّ: هِيَ لِأَقْوَامٍ كَثِيرَةٍ، فَقَالَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ: لَئِنْ أَخَذَتْهَا الْقَوَانِينُ السُّلْطَانِيَّةُ لَيَنْبَرُونَ مِنْهَا، فَأَعْلَمَ الْعَقِيلِيُّ أَهْلَ دِمَشْقَ بِذَلِكَ، فَكَاتَبُوا كَافُورًا يَسْتَدْعُونَهُ، فَجَاءَهُمْ، فَأَخْرَجُوا سَيْفَ الدَّوْلَةِ عَنْهُمْ (سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ أَنُوجُورُ مَعَ كَافُورٍ، فَتَبِعُوا سَيْفَ الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ، فَخَافَهُمْ سَيْفُ الدَّوْلَةِ فَعَبَرَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَأَقَامَ أَنُوجُورُ عَلَى حَلَبَ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا، وَعَادَ أَنُوجُورُ إِلَى مِصْرَ وَعَادَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ، وَأَقَامَ كَافُورٌ بِدِمَشْقَ يَسِيرًا وَوَلِيَ عَلَيْهَا بَدْرٌ الْإِخْشِيدِيُّ، وَيُعْرَفُ بِبُدَيرٍ، وَعَادَ إِلَى مِصْرَ، فَبَقِيَ بُدَيْرٌ عَلَى دِمَشْقَ سَنَةً، ثُمَّ وَلِيَهَا أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ طُغْجَ وَقَبَضَ عَلَى بُدَيْرٍ.

ذِكْرُ مُخَالِفَةِ أَبِي عَلِيٍّ عَلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُحْتَاجٍ عَلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ، صَاحِبِ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ لَمَّا عَادَ مِنْ مَرْوَ إِلَى نَيْسَابُورَ وَتَجَهَّزَ لِلْمَسِيرِ إِلَى الرَّيِّ، أَنْفَذَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ نُوحٌ عَارِضًا يَسْتَعْرِضُ الْعَسْكَرَ، فَأَسَاءَ الْعَارِضُ السِّيرَةَ مَعَهُمْ، وَأَسْقَطَ مِنْهُمْ وَنَقَصَ، فَنَفَرَتْ قُلُوبُهُمْ، فَسَارُوا وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ (وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ) أَنَّ نُوحًا أَنَفَذَ مَعَهُمْ مَنْ يَتَوَلَّى أَعْمَالَ الدِّيوَانِ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ الْحَلَّ وَالْعَقْدَ وَالْإِطْلَاقَ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَمِيعُهُ أَيَّامَ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ، فَنَفَرَ قَلْبُهُ لِذَلِكَ، (ثُمَّ إِنَّهُ عُزِلَ عَنْ خُرَاسَانَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمَ بْنَ سِيمَجُورَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ) . ثُمَّ إِنَّ الْمُتَوَلِّيَ أَسَاءَ إِلَى الْجُنْدِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ وَحَوَائِجِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ، فَازْدَادُوا نُفُورًا، فَشَكَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَهُمْ إِذْ ذَاكَ بِهَمَذَانَ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى مُكَاتَبَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَمِّ نُوحٍ، وَاسْتِقْدَامِهِ إِلَيْهِمْ وَمُبَايَعَتِهِ وَتَمْلِيكِهِ الْبِلَادَ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ حِينَئِذٍ بِالْمَوْصِلِ فِي خِدْمَةِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ سَبَبُ مَسِيرِهِ إِلَيْهَا مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ أَظْهَرُوا عَلَيْهِ أَبَا عَلِيٍّ، فَنَهَاهُمْ عَنْهُ، فَتَوَعَّدُوهُ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ إِنْ خَالَفَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا، فَكَاتَبُوا إِبْرَاهِيمَ وَعَرَّفُوهُ حَالَهُمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي تِسْعِينَ فَارِسًا، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَقِيَهُ أَبُو عَلِيٍّ بِهَمَذَانَ وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى الرَّيِّ فِي شَوَّالٍ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا اطَّلَعَ أَبُو عَلِيٍّ مِنْ أَخِيهِ الْفَضْلِ عَلَى كِتَابٍ كَتَبَهُ إِلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ يُطْلِعُهُ عَلَى حَالِهِمْ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَعَلَى ذَلِكَ الْمُتَوَلِّي الَّذِي أَسَاءَ إِلَى الْجُنْدِ، وَسَارَ إِلَى نَيْسَابُورَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الرَّيِّ وَالْجَبَلِ نُوَّابَهُ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ، فَتَجَهَّزَ وَسَارَ إِلَى مَرْوَ مِنْ بُخَارَى، وَكَانَ الْأَجْنَادُ قَدْ مَلُّوا مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَاكِمِ الْمُتَوَلِّي لِلْأُمُورِ لِسُوءِ سِيرَتِهِ، فَقَالُوا لِنُوحٍ: إِنَّ الْحَاكِمَ أَفْسَدَ عَلَيْكَ الْأُمُورَ بِخُرَاسَانَ، وَأَحْوَجَ أَبَا عَلِيٍّ إِلَى الْعِصْيَانِ، وَأَوْحَشَ الْجُنُودَ، وَطَلَبُوا تَسْلِيمَهُ إِلَيْهِمْ، وَإِلَّا سَارُوا إِلَى عَمِّهِ إِبْرَاهِيمَ وَأَبِي عَلِيٍّ، فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ، فَقَتَلُوهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] .

وَلَمَّا وَصَلَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى نَيْسَابُورَ، كَانَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سِيمَجُورَ، وَمَنْصُورُ بْنُ قَرَاتَكِينَ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْقُوَّادِ، فَاسْتَمَالَهُمَا أَبُو عَلِيٍّ، فَمَالَا إِلَيْهِ وَصَارَا مَعَهُ، وَدَخَلَهَا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ مِنْ مَنْصُورٍ مَا يَكْرَهُ فَقَبَضَ عَلَيْهِ. ثُمَّ سَارَ أَبُو عَلِيٍّ وَإِبْرَاهِيمُ مِنْ نَيْسَابُورَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] إِلَى مَرْوَ، وَبِهَا الْأَمِيرُ نُوحٌ، فَهَرَبَ الْفَضْلُ أَخُو أَبِي عَلِيٍّ مِنْ مَحْبَسِهِ، احْتَالَ عَلَى الْمُوَكَّلِينَ بِهِ وَهَرَبَ إِلَى قُوهِسْتَانَ فَأَقَامَ بِهَا، وَسَارَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى مَرْوَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا أَتَاهُ كَثِيرٌ مِنْ عَسْكَرِ نُوحٍ، وَسَارَ نُوحٌ عَنْهَا إِلَى بُخَارَى، وَاسْتَوْلَى أَبُو عَلِيٍّ عَلَى مَرْوَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] وَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، وَأَتَاهُ أَكْثَرُ أَجْنَادِ نُوحٍ وَسَارَ نَحْوَ بُخَارَى، وَعَبَرَ النَّهْرَ إِلَيْهَا، فَفَارَقَهَا نُوحٌ وَسَارَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، وَدَخَلَ أَبُو عَلِيٍّ بُخَارَى فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَخَطَبَ فِيهَا لِإِبْرَاهِيمَ الْعَمِّ، وَبَايَعَ لَهُ النَّاسُ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا عَلِيٍّ اطَّلَعَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَى سُوءٍ قَدْ أَضْمَرَهُ لَهُ، فَفَارَقَهُ وَسَارَ إِلَى تِرْكِسْتَانَ، وَبَقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي بُخَارَى، وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ أَطْلَقَ أَبُو عَلِيٍّ مَنْصُورَ بْنَ قَرَاتَكِينَ، فَسَارَ إِلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ. ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَافَقَ جَمَاعَةً فِي السِّرِّ عَلَى أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْأَمْرِ وَيَرُدَّهُ إِلَى وَلَدِ أَخِيهِ الْأَمِيرِ نُوحٍ، وَيَكُونَ هُوَ صَاحِبَ جَيْشِهِ، وَيَتَّفِقَ مَعَهُ عَلَى قَصْدِ أَبِي عَلِيٍّ، وَدَعَا أَهْلَ بُخَارَى إِلَى ذَلِكَ، فَأَجَابُوهُ وَاجْتَمَعُوا وَخَرَجُوا إِلَى أَبِي عَلِيٍّ وَقَدْ تَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَرَكِبَ إِلَيْهِمْ فِي خَيْلٍ، فَرَدَّهُمْ إِلَى الْبَلَدِ أَقْبَحَ رَدٍّ، وَأَرَادَ إِحْرَاقَ الْبَلَدِ، فَشَفَعَ إِلَيْهِ مَشَايِخُ بُخَارَى، فَعَفَا عَنْهُمْ وَعَادَ إِلَى مَكَانِهِ، وَاسْتَحْضَرَ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، وَهُوَ أَخُو الْأَمِيرِ نُوحٍ، وَعَقَدَ لَهُ الْإِمَارَةَ وَبَايَعَ لَهُ، وَخَطَبَ لَهُ فِي النَّوَاحِي كُلِّهَا. ثُمَّ ظَهَرَ لِأَبِي عَلِيٍّ فَسَادَ نِيَّاتِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْجُنْدِ، فَرَتَّبَ أَبَا جَعْفَرٍ فِي الْبَلَدِ، وَرَتَبَ مَا يَجِبُ تَرْتِيبُهُ، وَخَرَجَ عَنِ الْبَلَدِ يُظْهِرُ الْمَسِيرَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، وَيُضْمِرُ الْعَوْدَ إِلَى الصَّغَانِيَانِ، وَمِنْهَا إِلَى نَسْفَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ، رَدَّ جَمَاعَةً مِنَ الْجُنْدِ وَالْحَشَمِ إِلَى بُخَارَى، وَكَاتَبَ نُوحًا بِإِفْرَاجِهِ عَنْهَا. ثُمَّ سَارَ إِلَى الصَّغَانِيَانِ فِي شَعْبَانَ،

وَلَمَّا فَارَقَ أَبُو عَلِيٍّ بُخَارَى، خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ إِلَى سَمَرْقَنْدَ مُسْتَأْمِنِينَ إِلَى نُوحٍ، مَظْهِرِينَ النَّدَمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ، فَقَرَّبَهُمْ وَقَبِلَهُمْ وَوَعَدَهُمْ وَعَادَ إِلَى بُخَارَى فِي رَمَضَانَ، وَقَتَلَ نُوحٌ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ طَغَانَ الْحَاجِبَ، وَسَمَلَ عَمَّهُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَخَوَيْهِ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدًا وَأَحْمَدَ، وَعَادَتِ الْجُيُوشُ فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ وَالْأَجْنَادُ، وَأَصْلَحَ الْفَسَادَ. وَأَمَّا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخُو أَبِي عَلِيٍّ فَإِنَّهُ لَمَّا هَرَبَ مِنْ أَخِيهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَحِقَ بِقُوهِسْتَانَ، جَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا وَسَارَ نَحْوَ نَيْسَابُورَ، وَبِهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ قِبَلِ أَبِي عَلِيٍّ، فَخَرَجَ مِنْهَا الْفَضْلُ، فَالْتَقَيَا وَتَحَارَبَا، فَانْهَزَمَ الْفَضْلُ وَمَعَهُ فَارِسٌ وَاحِدٌ، فَلَحِقَ بِبُخَارَى، فَأَكْرَمَهُ الْأَمِيرُ نُوحٌ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَقَامَ فِي خِدْمَتِهِ. ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ مَنْصُورِ بْنِ قَرَاتَكِينَ عَلَى خُرَاسَانَ لَمَّا عَادَ الْأَمِيرُ نُوحٌ إِلَى بُخَارَى وَأَصْلَحَ الْبِلَادَ، وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ بِالصَّغَانِيَانِ، وَبِمَرْوَ أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَزْوِينِيُّ، فَرَأَى نُوحٌ أَنْ يَجْعَلَ مَنْصُورَ بْنَ قَرَاتَكِينَ عَلَى جُيُوشِ خُرَاسَانَ، فَوَلَّاهُ ذَلِكَ، وَسَيَّرَهُ إِلَى مَرْوَ وَبِهَا أَبُو أَحْمَدَ، وَقَدْ غَوَّرَ الْمَنَاهِلَ مَا بَيْنَ آمُلَ وَمَرْوَ، وَوَافَقَ أَبَا عَلِيٍّ ثُمَّ تَخَلَّى عَنْهُ. وَسَارَ إِلَيْهِ مَنْصُورٌ جَرِيدَةً فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ، فَلَمْ يَشْعُرِ الْقَزْوِينِيُّ إِلَّا بِنُزُولِ مَنْصُورٍ بِكُشْمَاهِنَ عَلَى خَمْسَةِ فَرَاسِخَ مِنْ مَرْوَ، وَاسْتَوْلَى مَنْصُورٌ عَلَى مَرْوَ، وَاسْتَقْبَلَهُ أَبُو أَحْمَدَ الْقَزْوِينِيُّ فَأَكْرَمَهُ، وَسَيَّرَهُ إِلَى بُخَارَى مَعَ مَالِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا بَلَغَهَا أَكْرَمَهُ (الْأَمِيرُ نُوحٌ) وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ (إِلَّا أَنَّهُ وَكَّلَ بِهِ، فَظَفِرَ بَعْضَ الْأَيَّامِ بِرُقْعَةٍ قَدْ كَتَبَهَا الْقَزْوِينِيُّ بِمَا أَنْكَرَهُ) ، فَأَحْضَرَهُ وَبَكَّتَهُ بِذُنُوبِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ.

ذِكْرُ مُصَالَحَةِ أَبِي عَلِيٍّ مَعَ نُوحٍ ثُمَّ إِنَّ أَبَا عَلِيٍّ أَقَامَ بِالصَّغَانِيَانِ، فَبَلَغَهُ أَنَّ الْأَمِيرَ نُوحًا قَدْ عَزَمَ عَلَى تَسْيِيرِ عَسْكَرٍ إِلَيْهِ، فَجَمَعَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُيُوشَ وَخَرَجَ إِلَى بَلْخَ وَأَقَامَ بِهَا، وَأَتَاهُ رَسُولُ الْأَمِيرِ نُوحٍ فِي الصُّلْحِ، فَأَجَابَ إِلَيْهِ، فَأَبَى عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ مَعَهُ مِنْ قُوَّادِ نُوحٍ الَّذِينَ انْتَقَلُوا إِلَيْهِ، وَقَالُوا: نُحِبُّ أَنْ تَرُدَّنَا إِلَى مَنَازِلِنَا، ثُمَّ صَالَحَ، (فَخَرَجَ أَبُو عَلِيٍّ نَحْوَ بُخَارَى) ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ نُوحٌ فِي عَسَاكِرِهِ، وَجَعَلَ الْفَضْلَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَخَا أَبِي عَلِيٍّ صَاحِبَ جَيْشِهِ، فَالْتَقَوْا بِجُرْجِيكَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتُحَارَبُوا قُبَيْلَ الْعَصْرِ، فَاسْتَأْمَنَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ الدَّاعِيَ إِلَى نُوحٍ، وَتَفَرَّقَ الْعَسْكَرُ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ، فَانْهَزَمَ وَرَجَعَ إِلَى الصَّغَانِيَانِ. ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ الْأَمِيرَ نُوحًا قَدْ أَمَرَ الْعَسَاكِرَ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ مِنْ بُخَارَى وَبَلْخَ وَغَيْرِهِمَا، وَأَنَّ صَاحِبَ الْخُتَّلِ قَدْ تَجَهَّزَ لِمُسَاعَدَةِ أَبِي عَلِيٍّ، فَسَارَ أَبُو عَلِيٍّ فِي جَيْشِهِ إِلَى تِرْمِذَ، وَعَبَرَ جَيْحُونَ، وَسَارَ إِلَى بَلْخَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَعَلَى طَخَارِسْتَانَ، وَجَبَى مَالَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ. وَسَارَ مِنْ بُخَارَى عَسْكَرٌ جَرَّارٌ إِلَى الصَّغَانِيَانِ، فَأَقَامُوا بِنَسْفَ وَمَعَهُمُ الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخُو أَبِي عَلِيٍّ، فَكَتَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِ الْعَسْكَرِ إِلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ بِأَنَّ الْفَضْلَ قَدِ اتَّهَمُوهُ بِالْمَيْلِ إِلَى أَخِيهِ، فَأَمَرَهُمْ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَقَبَضُوا عَلَيْهِ وَسَيَّرُوهُ إِلَى بُخَارَى. وَبَلَغَ خَبَرُ الْعَسْكَرِ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ، وَهُوَ بِطَخَارِسْتَانَ، فَعَادَ إِلَى الصَّغَانِيَانِ وَوَقَعَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ أَبُو عَلِيٍّ فِي الْعَلُوفَةِ، فَانْتَقَلُوا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنَ الصَّغَانِيَانِ، فَقَاتَلَهُمْ أَبُو عَلِيٍّ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَهَرُوهُ، وَسَارَ إِلَى شُومَانَ وَهِيَ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا مِنَ الصَّغَانِيَانِ، وَدَخَلَ عَسْكَرُ نُوحٍ إِلَى الصَّغَانِيَانِ، فَأَخْرَبُوا قُصُورَ أَبِي عَلِيٍّ وَمَسَاكِنَهُ، وَتَبِعُوا أَبَا عَلِيٍّ، فَعَادَ إِلَيْهِمْ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْكَتِيبَةُ، وَضَيَّقَ عَلَى عَسْكَرِ نُوحٍ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكَ، فَانْقَطَعَتْ عَنْهُمْ

أَخْبَارُ بُخَارَى، وَأَخْبَارُهُمْ عَنْ بُخَارَى نَحْوَ عِشْرِينَ يَوْمًا، فَأَرْسَلُوا إِلَى أَبِي عَلِيٍّ يَطْلُبُونَ الصُّلْحَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى إِنْفَاذِ ابْنِهِ أَبِي الْمُظَفَّرِ عَبْدِ اللَّهِ رَهِينَةً إِلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ، وَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَسَيَّرَ ابْنَهُ إِلَى بُخَارَى، فَأَمَرَ نُوحٌ بِاسْتِقْبَالِهِ، فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ دَخَلَ إِلَيْهِ بِعِمَامَةٍ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ الْقَلَنْسُوَةَ، وَجَعَلَهُ مِنْ نُدَمَائِهِ، وَزَالَ الْخُلْفُ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَذْكُرَ هَذِهِ الْحَوَادِثَ فِي السِّنِينَ الَّتِي هِيَ فِيهَا كَانَتْ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهَا مُتَتَابِعَةً فِي هَذِهِ السَّنَةِ لِئَلَّا يَتَفَرَّقُ ذِكْرُهَا. هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُ التَّوَارِيخِ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعِرَاقِيُّونَ هَذِهِ الْحَوَادِثَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ السِّيَاقَةِ، وَأَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ أَعْلَمُ بِأَحْوَالِهِمْ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ مُخْتَصَرًا، قَالُوا: إِنَّ أَبَا عَلِيٍّ لَمَّا سَارَ نَحْوَ الرَّيِّ فِي عَسَاكِرِ خُرَاسَانَ، كَتَبَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ إِلَى أَخِيهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ يَسْتَمِدُّهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِمُفَارَقَةِ الرَّيِّ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ لِتَدْبِيرٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَفَعَلَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ. وَدَخَلَ أَبُو عَلِيٍّ الرَّيَّ، فَكَتَبَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ إِلَى نُوحٍ سِرًّا يَبْذُلُ لَهُ فِي الرَّيِّ فِي كُلِّ سَنَةٍ زِيَادَةً عَلَى مَا بَذَلَهُ أَبُو عَلِيٍّ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَيُعَجِّلُ ضَمَانَ سَنَةٍ، وَيَبْذُلُ مِنْ نَفْسِهِ مُسَاعَدَتَهُ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ حَتَّى يَظْفَرَ بِهِ (وَخَوَّفَهُ مِنْهُ) ، فَاسْتَشَارَ نُوحٌ أَصْحَابَهُ، وَكَانُوا يَحْسُدُونَ أَبَا عَلِيٍّ وَيُعَادُونَهُ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِإِجَابَتِهِ، فَأَرْسَلَ نُوحٌ إِلَى ابْنِ بُوَيْهِ مَنْ يُقَرِّرُ الْقَاعِدَةَ وَيَقْبِضُ الْمَالَ، فَأَكْرَمَ الرَّسُولَ وَوَصَلَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ يُعْلِمُهُ خَبَرَ هَذِهِ الرِّسَالَةِ، وَأَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى عَهْدِهِ وَوُدِّهِ، وَحَذَّرَهُ مِنْ غَدْرِ الْأَمِيرِ نُوحٍ، فَأَنْفَذَ أَبُو عَلِيٍّ رَسُولَهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ بِالْمَوْصِلِ يَسْتَدْعِيهِ لِيُمَلِّكَهُ الْبِلَادَ، فَسَارَ إِبْرَاهِيمُ، فَلَقِيَهُ أَبُو عَلِيٍّ بِهَمَذَانَ، وَسَارُوا إِلَى خُرَاسَانَ. وَكَتَبَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ إِلَى أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَأْمُرُهُ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى الرَّيِّ، فَعَادَ إِلَيْهِ، وَاضْطَرَبَتْ خُرَاسَانُ، وَرَدَّ عِمَادُ الدَّوْلَةِ رَسُولَ نُوحٍ بِغَيْرِ مَالٍ، وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ أُنْفِذَ الْمَالَ فَيَأْخُذَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَأَرْسَلَ إِلَى نُوحٍ يُحَذِّرُهُ مِنْ أَبِي عَلِيٍّ وَيَعِدُهُ الْمُسَاعَدَةَ عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ يَعِدُهُ بِإِنْفَاذِ الْعَسَاكِرِ نَجْدَةً لَهُ، وَيُشِيرُ عَلَيْهِ بِسُرْعَةِ اللِّقَاءِ، وَإِنَّ نُوحًا (سَارَ

فَالْتَقَى) هُوَ وَأَبُو عَلِيٍّ بِنَيْسَابُورَ، فَانْهَزَمَ نُوحٌ وَعَادَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، وَاسْتَوْلَى أَبُو عَلِيٍّ عَلَى بُخَارَى، وَإِنَّ أَبَا عَلِيٍّ اسْتَوْحَشَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ فَانْقَبَضَ عَنْهُ. وَجَمَعَ نُوحٌ الْعَسَاكِرَ وَعَادَ إِلَى بُخَارَى، وَحَارَبَ عَمَّهُ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا الْتَقَى الصَّفَّانِ، عَادَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى نُوحٍ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، وَأُخِذَ إِبْرَاهِيمُ أَسِيرًا، فَسُمِلَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، سَمَلَهُمْ نُوحٌ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اصْطَلَحَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَرِيدِيُّ، وَضَمِنَ أَبُو الْقَاسِمِ مَدِينَةَ وَاسِطَ وَأَعْمَالَهَا مِنْهُ. وَفِيهَا اشْتَدَّ الْغَلَاءُ بِبَغْدَادَ حَتَّى أَكَلَ النَّاسُ الْمَيْتَةَ، وَالْكِلَابَ، وَالسَّنَانِيرَ، وَأُخِذَ بَعْضُهُمْ وَمَعَهُ صَبِيٌّ قَدْ شَوَاهُ لِيَأْكُلَهُ، وَأَكَلَ النَّاسُ خَرُّوبَ الشَّوْكِ (فَأَكْثَرُوا مِنْهُ) ، وَكَانُوا يَسْلُقُونَ حَبَّهُ وَيَأْكُلُونَهُ، فَلِحَقَ النَّاسَ أَمْرَاضٌ وَأَوْرَامٌ فِي أَحْشَائِهِمْ، وَكَثُرَ فِيهِمُ الْمَوْتُ، حَتَّى عَجَزَ النَّاسُ عَنْ دَفْنِ الْمَوْتَى، فَكَانَتِ الْكِلَابُ تَأْكُلُ لُحُومَهُمْ، وَانْحَدَرَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَاذَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَمَاتَ أَكْثَرُهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَمَنْ وَصَلَ مِنْهُمْ، مَاتَ بَعْدَ مُدَيْدَةٍ يَسِيرَةٍ، وَبِيعَتِ الدُّورُ وَالْعَقَارُ بِالْخُبْزِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْغَلَّاتُ انْحَلَّ السِّعْرُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ الْوَزِيرُ وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى دِينِهِ وَكِفَايَتِهِ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ عُمَرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخِرَقِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ بِبَغْدَاذَ. وَأَبُو بَكْرٍ الشِّبْلِيُّ الصُّوفِيُّ، تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي مُوسَى الْحَنَفِيِّ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 335 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ، اسْتَقَرَّ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَاذَ، وَأَعَادَ الْمُطِيعَ لِلَّهِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَوْثَقَ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا. وَفِيهَا اصْطَلَحَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَنَاصِرُ الدَّوْلَةِ، وَكَانَتِ الرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ التُّوزُونِيَّةِ، وَكَانَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ نَازِلًا شَرْقِيَّ تَكْرِيتَ، فَلَمَّا عَلِمَ الْأَتْرَاكُ بِذَلِكَ ثَارُوا بِنَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ وَعَبَرَ دِجْلَةَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَنَزَلَ عَلَى مُلْهَمٍ وَالْقَرَامِطَةِ، فَأَجَارُوهُ وَسَيَّرُوهُ وَمَعَهُ ابْنُ شَيْرَزَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ. ذِكْرُ حَرْبِ تِكِينَ وَنَاصِرِ الدَّوْلَةِ لَمَّا هَرَبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، اتَّفَقُوا عَلَى تَأْمِيرِ تِكِينَ الشِّيرَازِيِّ، وَقَبَضُوا عَلَى ابْنِ قُرَابَةَ، وَعَلَى كُتَّابِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ (وَمَنْ تَخَلَّفَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَبَضَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ) عَلَى ابْنِ شَيْرَزَادَ عِنْدَ وُصُولِهِ إِلَى جُهَيْنَةَ، وَلَمْ يَلْبَثْ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِالْمَوْصِلِ بَلْ سَارَ إِلَى نَصِيبِينَ، وَدَخَلَ تِكِينُ وَالْأَتْرَاكُ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَسَارُوا فِي طَلَبِهِ، فَمَضَى إِلَى سِنْجَارَ، فَتَبِعَهُ تِكِينُ إِلَيْهَا، فَسَارَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ مِنْ سِنْجَارَ إِلَى الْحَدِيثَةِ، فَتَبِعَهُ تِكِينُ. وَكَانَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ قَدْ كَتَبَ إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ يَسْتَصْرِخُهُ، فَسَيَّرَ الْجُيُوشَ إِلَيْهِ، فَسَارَ

نَاصِرُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْحَدِيثَةِ إِلَى السِّنِّ، فَاجْتَمَعَ هُنَاكَ بِعَسْكَرِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَفِيهِمْ وَزِيرُهُ أَبُو جَعْفَرٍ الصَّيْمَرِيُّ، وَسَارُوا بِأَسْرِهِمْ إِلَى الْحَدِيثَةِ لِقِتَالِ تِكِينَ، فَالْتَقَوْا بِهَا، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ تِكِينُ وَالْأَتْرَاكُ بَعْدَ أَنْ كَادُوا يَسْتَظْهِرُونَ، فَلَمَّا انْهَزَمُوا، تَبِعَهُمُ الْعَرَبُ مِنْ أَصْحَابِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَأَدْرَكُوهُمْ وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَأَسَرُوا تِكِينَ الشِّيرَازِيَّ وَحَمَلُوهُ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَسَمَلَهُ فِي الْوَقْتِ فَأَعْمَاهُ، وَحَمَلَهُ إِلَى قَلْعَةٍ مِنْ قِلَاعِهِ فَسَجَنَهُ بِهَا. وَسَارَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ وَالصَّيْمَرِيُّ (إِلَى الْمَوْصِلِ فَنَزَلُوا شَرْقِيَّهَا، وَرَكِبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى خَيْمَةِ الصَّيْمَرِيِّ) ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ. فَحُكِيَ عَنْ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ أَنَّهُ قَالَ: نَدِمْتُ حِينَ دَخَلْتُ خَيْمَتَهُ، فَبَادَرْتُ وَخَرَجْتُ. وَحُكِيَ عَنِ الصَّيْمَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ مِنْ عِنْدِي، نَدِمْتُ حَيْثُ لَمْ أَقْبِضْ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَسَلَّمَ الصَّيْمَرِيُّ بْنُ شَيْرَزَادَ مِنْ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ أَلْفَ كَرٍّ حِنْطَةً وَشَعِيرًا وَغَيْرَ ذَلِكَ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ عَلَى الرَّيِّ لَمَّا كَانَ مِنْ عَسَاكِرِ خُرَاسَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَعَادَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى خُرَاسَانَ، رَجَعَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ إِلَى الرَّيِّ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَعَلَى سَائِرِ أَعْمَالِ الْجَبَلِ، وَأَزَالَ عَنْهَا الْخُرَاسَانِيَّةَ، وَعَظُمَ مُلْكُ بَنِي بُوَيْهِ، فَإِنَّهُمْ صَارَ بِأَيْدِيهِمْ أَعْمَالُ الرَّيِّ، وَالْجَبَلِ، وَفَارِسَ، وَالْأَهْوَازِ، وَالْعِرَاقِ، وَيُحْمَلُ إِلَيْهِمْ ضَمَانُ الْمَوْصِلِ، وَدِيَارُ بَكْرٍ، وَدِيَارُ مُضَرَ (مِنَ الْجَزِيرَةِ) . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اخْتَلَفَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ وَأَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْبَرِيدِيِّ وَالِي الْبَصْرَةِ، فَأَرْسَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ جَيْشًا إِلَى وَاسِطَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمُ ابْنُ الْبَرِيدِيِّ جَيْشًا مِنَ الْبَصْرَةِ فِي الْمَاءِ

وَعَلَى الظَّهْرِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ، وَأُسِرَ مِنْ أَعْيَانِهِمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ. وَفِيهَا كَانَ الْفِدَاءُ بِالثُّغُورِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ عَلَى يَدِ نَصْرِ الثَّمَلِيِّ أَمِيرِ الثُّغُورِ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَكَانَ عِدَّةُ الْأَسْرَى أَلْفَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَةِ أَسِيرٍ وَثَمَانِينَ أَسِيرًا مَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَفَضَلَ لِلرُّومِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِائَتَانِ وَثَلَاثُونَ أَسِيرًا لِكَثْرَةِ مِنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأَسْرَى، فَوَفَّاهُمْ ذَلِكَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ. وَفِيهَا فِي شَعْبَانَ، قَبَضَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ مُحَمَّدٍ الْقَرَارِيطِيِّ، وَكَانَ اسْتَكْتَبَهُ اسْتِظْهَارًا عَلَى أَبِي الْفَرَجِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ السُّرِّ مِنْ رَائِي، وَاسْتَكْتَبَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ فَهْدٍ الْمَوْصِلِيَّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَحْرٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، فِي شَوَّالٍ، ومُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ (بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صُولٍ) أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ، وَكَانَ عَالِمًا بِفُنُونِ الْآدَابِ وَالْأَخْبَارِ.

ثم دخلت سنة ست وثلاثين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 336 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عَلَى الْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَمَعَهُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ إِلَى الْبَصْرَةِ ; لِاسْتِنْقَاذِهَا مِنْ يَدِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، وَسَلَكُوا الْبَرِّيَّةَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ الْقَرَامِطَةُ مِنْ هَجَرَ إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ مَسِيرَهُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ، وَهِيَ لَهُمْ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ عَنْ كِتَابِهِمْ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: قُلْ لَهُمْ مَنْ أَنْتُمْ حَتَّى تَسْتَأْمِرُوا، وَلَيْسَ قَصْدِي مِنْ أَخْذِ الْبَصْرَةِ غَيْرَكُمْ، وَسَتَعْلَمُونَ مَا تَلْقَوْنَ مِنِّي. وَلَمَّا وَصَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الدَّرْهَمِيَّةِ، اسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ عَسَاكِرُ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَرِيدِيِّ، وَهَرَبَ أَبُو الْقَاسِمِ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ إِلَى هَجَرَ، وَالْتَجَأَ إِلَى الْقَرَامِطَةِ، وَمَلَكَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ الْبَصْرَةَ، فَانْحَلَّتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَاذَ انْحِلَالًا كَثِيرًا. وَسَارَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْأَهْوَازِ لِيَلْقَى أَخَاهُ عِمَادَ الدَّوْلَةِ، وَأَقَامَ الْخَلِيفَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ الصَّيْمَرِيُّ بِالْبَصْرَةِ، وَخَالَفَ كُورَكِيرُ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْقُوَّادِ، عَلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الصَّيْمَرِيُّ، فَقَاتَلَهُ فَانْهَزَمَ كُورَكِيرُ وَأُخِذَ أَسِيرًا، فَحَبَسَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِقَلْعَةِ رَامَهُرْمُزَ، وَلَقِيَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَخَاهُ عِمَادَ الدَّوْلَةِ بِأَرَّجَانَ فِي شَعْبَانَ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ يَقِفُ قَائِمًا عِنْدَهُ، فَيَأْمُرُهُ بِالْجُلُوسِ، فَلَا يَفْعَلُ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَعَادَ الْمُطِيعُ أَيْضًا إِلَيْهَا، وَأَظْهَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَنَّهُ يُرِيدُ [أَنْ] يَسِيرَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ وَحُمِلَ الْمَالُ إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ فَسَكَتَ عَنْهُ.

ذِكْرُ مُخَالِفَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِطُوسَ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِطُوسَ وَأَعْمَالِهَا، وَهِيَ فِي يَدِهِ وَيَدِ نُوَّابِهِ، فَخَالَفَ عَلَى الْأَمِيرِ نُوحِ بْنِ نَصْرٍ السَّامَانِيِّ، وَكَانَ مَنْصُورُ بْنُ قَرَاتَكِينَ صَاحِبَ جَيْشِ خُرَاسَانَ بِمَرْوَ عِنْدَ نُوحٍ، فَوَصَلَ إِلَيْهِمَا وَشْمَكِيرُ مُنْهَزِمًا مِنْ جُرْجَانَ، قَدْ غَلَبَهُ عَلَيْهَا الْحَسَنُ بْنُ الْفَيْرُزَانِ، فَأَمَرَ نُوحٌ مَنْصُورًا بِالْمَسِيرِ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَمُحَارَبَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَأَخْذِ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ يَسِيرُ مَعَ وَشْمَكِيرَ إِلَى جُرْجَانَ، فَسَارَ مَنْصُورٌ وَوَشْمَكِيرُ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَكَانَ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَفَارَقَهَا نَحْوَ أُسْتُوا، فَاتَّبَعَهُ مَنْصُورٌ، فَسَارَ مُحَمَّدٌ إِلَى جُرْجَانَ، وَكَاتَبَ رُكْنَ الدَّوْلَةِ بْنَ بُوَيْهِ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ، فَأَمَرَهُ بِالْوُصُولِ إِلَى الرَّيِّ. وَسَارَ مَنْصُورٌ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى طُوسَ، وَحَصَرُوا رَافِعَ بْنَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِقَلْعَةِ شَمِيلَانَ، فَاسْتَأْمَنَ بَعْضُ أَصْحَابِ رَافِعٍ إِلَيْهِ، فَهَرَبَ رَافِعٌ مِنْ شَمِيلَانَ إِلَى حِصْنِ دَرَكَ، فَاسْتَوْلَى مَنْصُورٌ عَلَى شَمِيلَانَ، (وَأَخَذَ مَا فِيهَا مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ) ، وَاحْتَمَى رَافِعٌ بِدَرَكَ، وَبِهَا أَهْلُهُ وَوَالِدَتُهُ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ مِنْ شَمِيلَانَ، (فَأَخْرَبَ مَنْصُورٌ شَمِيلَانَ) ، وَسَارَ إِلَى دَرَكَ فَحَاصَرَهَا، وَحَارَبَهُمْ عِدَّةَ أَيَّامٍ، فَتَغَيَّرَتِ الْمِيَاهُ بِدَرَكَ، فَاسْتَأْمَنَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ إِلَى مَنْصُورٍ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي عَمِّهِ وَأَهْلِهِ، وَعَمِدَ أَخُوهُ رَافِعٌ إِلَى الصَّامِتِ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالْجَوَاهِرِ، وَأَلْقَاهَا فِي الْبُسُطِ إِلَى تَحْتِ الْقَلْعَةِ، وَنَزَلَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ فَأَخَذُوا تِلْكَ الْأَمْوَالَ وَتَفَرَّقُوا فِي الْجِبَالِ. وَاحْتَوَى مَنْصُورٌ عَلَى مَا كَانَ فِي قَلْعَةِ دَرَكَ، وَأَنْفَذَ عِيَالَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَوَالِدَتِهِ إِلَى بُخَارَى فَاعْتُقِلُوا بِهَا، وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَإِنَّهُ سَارَ مِنْ جُرْجَانَ إِلَى الرَّيِّ، وَبِهَا رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ، فَأَكْرَمَهُ رُكْنُ الدَّوْلَةِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا، وَسَرَّحَهُ إِلَى مُحَارَبَةِ الْمَرْزُبَانِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ وَلَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ صِقِلِّيَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ الْمَنْصُورُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَلْبِيَّ عَلَى جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ، وَكَانَ لَهُ مَحَلٌّ كَبِيرٌ عِنْدَ الْمَنْصُورِ، وَلَهُ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي قِتَالِ أَبِي يَزِيدَ. وَكَانَ سَبَبُ وَلَايَتِهِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدِ اسْتَضْعَفَهُمُ الْكُفَّارُ بِهَا أَيَّامَ عَطَّافٍ لِعَجْزِهِ وَضَعْفِهِ، وَامْتَنَعُوا مِنْ إِعْطَاءِ مَالِ الْهُدْنَةِ، وَكَانُوا بِصِقِلِّيَةَ بَنُو الطَّبَرِيِّ مِنْ أَعْيَانِ الْجَمَاعَةِ، وَلَهُمْ أَتْبَاعٌ كَثِيرُونَ، فَوَثَبُوا بِعَطَّافٍ أَيْضًا، وَأَعَانَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ سَنَةَ

خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، وَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِنْ رِجَالِهِ، وَأَفْلَتَ عَطَّافٌ هَارِبًا بِنَفْسِهِ إِلَى الْحِصْنِ، فَأَخَذُوا أَعْلَامَهُ وَطُبُولَهُ وَانْصَرَفُوا إِلَى دِيَارِهِمْ، فَأَرْسَلَ أَبُو عَطَّافٍ إِلَى الْمَنْصُورِ يُعْلِمُهُ الْحَالَ وَيَطْلُبُ الْمَدَدَ. فَلَمَّا عَلِمَ الْمَنْصُورُ ذَلِكَ، اسْتَعْمَلَ عَلَى الْوَلَايَةِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ، فَسَارَ فِي الْمَرَاكِبِ، فَأَرْسَى بِمَدِينَةِ مَازَرَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَبَقِيَ يَوْمَهُ، فَأَتَاهُ فِي اللَّيْلِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكُتَامَةَ، وَغَيْرِهِمْ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ خَافُوا الْحُضُورَ عِنْدَهُ مِنِ ابْنِ الطَّبَرِيِّ وَمَنِ اتَّفَقَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادَ، وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ الطَّبَرِيِّ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدُونَ، وَغَيْرَهُمَا قَدْ سَارُوا إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَأَوْصَوْا بَنِيهِمْ لِيَمْنَعُوهُ مِنْ دُخُولِ الْبَلَدِ، وَمُفَارَقَةِ مَرَاكِبِهِ إِلَى أَنْ تَصِلَ كُتُبُهُمْ بِمَا يَلْقَوْنَ مِنَ الْمَنْصُورِ، وَقَدْ مَضَوْا يَطْلُبُونَ أَنْ يُوَلِّيَ الْمَنْصُورُ غَيْرَهُ. ثُمَّ أَتَاهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الطَّبَرِيِّ وَمَنْ مَعَهُ لِيُشَاهِدُوا مَنْ مَعَهُ، فَرَأَوْهُ فِي قِلَّةٍ، فَطَمِعُوا فِيهِ، وَخَادَعُوهُ وَخَادَعَهُمْ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ وَعَدَهُمْ أَنَّهُ يُقِيمُ بِمَكَانِهِ إِلَى أَنْ يَعُودُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا فَارَقُوهُ جَدَّ السَّيْرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَجْمَعُوا أَصْحَابَهُمْ وَيَمْنَعُوهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْبَيْضَاءِ، أَتَاهُ حَاكِمُ الْبَلَدِ وَأَصْحَابُ الدَّوَاوِينِ، وَكُلُّ مَنْ يُرِيدُ الْعَافِيَةَ، فَلَقِيَهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الطَّبَرِيِّ بِخُرُوجِ هَذَا الْجَمْعِ إِلَيْهِ، اضْطُرَّ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَيْهِ، فَلَقِيَهُ الْحَسَنُ وَأَكْرَمَهُ وَعَادَ إِلَى دَارِهِ، وَدَخَلَ الْحَسَنُ الْبَلَدَ، وَمَالَ إِلَيْهِ كُلُّ مُنْحَرِفٍ عَنْ بَنِي الطَّبَرِيِّ وَمَنْ مَعَهُمْ. فَلَمَّا رَأَى ابْنُ الطَّبَرِيِّ ذَلِكَ، أَمَرَ رَجُلًا صِقِلِّيًّا، فَدَعَا بَعْضَ عَبِيدِ الْحَسَنِ وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالشَّجَاعَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ بَيْتَهُ، خَرَجَ الرَّجُلُ يَسْتَغِيثُ وَيَصِيحُ وَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا دَخَلَ بَيْتِي، وَأَخَذَ امْرَأَتِي بِحَضْرَتِي غَصْبًا، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْبَلَدِ لِذَلِكَ، وَحَرَّكَهُمُ ابْنُ الطَّبَرِيِّ وَخَوَّفَهُمْ وَقَالَ: هَذَا فِعْلُهُمْ، وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْبَلَدِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْحُضُورِ عِنْدَ الْحَسَنِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ مَمْلُوكَهُ، فَيَثُورُ النَّاسُ بِهِ، فَيُخْرِجُونَهُ مِنَ الْبَلَدِ. فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ، وَذَلِكَ الرَّجُلُ يَصِيحُ وَيَسْتَغِيثُ، أَحْضَرَهُ الْحَسَنُ عِنْدَهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ، فَحَلَّفَهُ بِاللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى مَا يَقُولُ، فَحَلَفَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْغُلَامِ فَقُتِلَ، فَسُّرَّ

أَهْلُ الْبَلَدِ وَقَالُوا: الْآنَ طَابَتْ نُفُوسُنَا، وَعَلِمْنَا أَنَّ بَلَدَنَا يَتَعَمَّرُ، وَيَظْهَرُ فِيهِ الْعَدْلُ، فَانْعَكَسَ الْأَمْرُ عَلَى ابْنِ الطَّبَرِيِّ، وَأَقَامَ الْحَسَنُ وَهُوَ خَائِفٌ مِنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّ الْمَنْصُورَ أَرْسَلَ إِلَى الْحَسَنِ يُعَرِّفُهُ أَنَّهُ قَبَضَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ الطَّبَرِيِّ، وَعَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدُونَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جُنَّا، وَمَنْ مَعَهُمْ، وَيَأْمُرُهُ بِالْقَبْضِ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ الطَّبَرِيِّ، وَرَجَاءِ بْنِ جُنَّا وَمُحَمَّدٍ. . وَمُخْلِفِي الْجَمَاعَةِ الْمَقْبُوضِينَ، فَاسْتَعْظَمَ الْأَمْرَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ الطَّبَرِيِّ يَقُولُ لَهُ: كُنْتَ قَدْ وَعَدْتَنِي أَنْ نَتَفَرَّجَ فِي الْبُسْتَانِ الَّذِي لَكَ، فَتَحْضُرَ لِنَمْضِيَ إِلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْجَمَاعَةِ عَلَى لِسَانِ ابْنِ الطَّبَرِيِّ يَقُولُ: تَحْضُرُونَ لِنَمْضِيَ مَعَ الْأَمِيرِ إِلَى الْبُسْتَانِ، فَحَضَرُوا عِنْدَهُ، وَجَعَلَ يُحَادِثُهُمْ وَيَطُولُ إِلَى أَنْ أَمْسَوْا، فَقَالَ: قَدْ فَاتَ اللَّيْلُ، وَتَكُونُونَ أَضْيَافَنَا، فَأَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ يَقُولُ: إِنَّهُمُ اللَّيْلَةَ فِي ضِيَافَةِ الْأَمِيرِ، فَتَعُودُونَ إِلَى بُيُوتِهِمْ إِلَى الْغَدِ، فَمَضَى أَصْحَابُهُمْ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ، وَأَخَذَ جَمِيعَ أَمْوَالِهِمْ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، فَلَمَّا رَأَى الرُّومُ ذَلِكَ، أَحْضَرَ الرَّاهِبُ مَالَ الْهُدْنَةِ لِثَلَاثِ سِنِينَ. ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ الرُّومِ أَرْسَلَ بِطْرِيقًا فِي الْبَحْرِ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ إِلَى صِقِلِّيَةَ، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَالسَّرْدَغُوسُ، فَأَرْسَلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى الْمَنْصُورِ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أُسْطُولًا فِيهِ سَبْعَةُ آلَافِ فَارِسٍ، وَثَلَاثَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةِ رَاجِلٍ سِوَى الْبَحْرِيَّةِ، وَجَمَعَ الْحَسَنُ إِلَيْهِمْ جَمْعًا كَثِيرًا، وَسَارَ (فِي الْبَرِّ) وَالْبَحْرِ، فَوَصَلَ إِلَى مَسِّينِي، وَعَدَتِ الْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ إِلَى رِيُّو، وَبَثَّ الْحَسَنُ السَّرَايَا فِي أَرْضِ قِلَّوْرِيَةَ، وَنَزَلَ الْحَسَنُ عَلَى جَرَاجَةَ، وَحَاصَرَهَا أَشَدَّ حِصَارٍ، وَأَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَاكِ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ،

فَوَصَلَهُمُ الْخَبَرُ أَنَّ الرُّومَ قَدْ زَحَفُوا إِلَيْهِ، فَصَالَحَ أَهْلَ جَرَاجَةَ عَلَى مَالٍ أَخَذَهُ مِنْهُمْ، وَسَارَ إِلَى لِقَاءِ الرُّومِ، فَفَرُّوا مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ إِلَى مَدِينَةِ بَارَّةَ، وَنَزَلَ الْحَسَنُ عَلَى قَلْعَةِ قِسَّانَةَ، وَبَثَّ سَرَايَاهُ إِلَى قِلَّوْرِيَةَ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا شَهْرًا، فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى مَالٍ أَخَذَهُ مِنْهُمْ. وَدَخَلَ الشِّتَاءُ، فَرَجَعَ الْجَيْشُ إِلَى مَسِّينِي، وَشَتَّى الْأُسْطُولُ بِهَا، فَأَرْسَلَ الْمَنْصُورُ يَأْمُرُهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى قِلَّوْرِيَةَ، فَسَارَ الْحَسَنُ، وَعَدَا الْمَجَازَ إِلَى جَرَاجَةَ، فَالْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالسَّرْدَغُوسُ وَمَعَهُ الرُّومُ يَوْمَ عَرَفَةَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ، فَانْهَزَمَتِ الرُّومُ، وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ أَكْتَافَهُمْ إِلَى اللَّيْلِ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَغَنِمُوا أَثْقَالَهُمْ وَسِلَاحَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ. ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] فَقَصَدَ الْحَسَنُ جَرَاجَةَ فَحَصَرَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَى قُسْطَنْطِينَ مَلِكِ الرُّومِ يَطْلُبُ مِنْهُ الْهُدْنَةَ، فَهَادَنَهُ، وَعَادَ الْحَسَنُ إِلَى رِيُّو وَبَنَى بِهَا مَسْجِدًا كَبِيرًا فِي وَسَطِ الْمَدِينَةِ، وَبَنَى فِي أَحَدِ أَرْكَانِهِ مِئْذَنَةً، وَشَرَطَ عَلَى الرُّومِ أَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عِمَارَتِهِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَالْأَذَانِ، وَأَنْ لَا يَدْخُلَهُ نَصْرَانِيُّ، وَمَنْ دَخَلَهُ مِنَ الْأَسَارَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ آمِنٌ سَوَاءً كَانَ مُرْتَدًا أَوْ مُقِيمًا عَلَى دِينِهِ، وَإِنْ أَخْرَجُوا حَجَرًا مِنْهُ، هُدِمَتْ كَنَائِسُهُمْ كُلُّهَا بِصِقِلِّيَةَ وَإِفْرِيقِيَّةَ، فَوَفَى الرُّومُ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ كُلِّهَا ذِلَّةً وَصَغَارًا. وَبَقِيَ الْحَسَنُ بِصِقِلِّيَةَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ الْمَنْصُورُ وَمَلَكَ الْمُعِزُّ، فَسَارَ إِلَيْهِ وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ عِصْيَانِ جُمَانَ بِالرَّحْبَةِ وَمَا كَانَ مِنْهُ كَانَ جُمَانُ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ تُوزُونَ، وَصَارَ فِي جُمْلَةِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَلَمَّا كَانَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَاذَ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَهُوَ يُحَارِبُ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ، ضَمَّ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ جَمِيعَ الدَّيْلَمِ الَّذِينَ مَعَهُ إِلَى جُمَانَ لِقِلَّةِ ثِقَتِهِ بِهِمْ، وَقَلَّدَهُ الرَّحْبَةَ وَأَخْرَجَهُ إِلَيْهَا، فَعَظُمَ أَمْرُهُ هُنَاكَ، وَقَصَدَهُ الرِّجَالُ، فَأَظْهَرَ الْعِصْيَانَ عَلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَعَزَمَ عَلَى التَّغَلُّبِ عَلَى

الرَّقَّةِ وَدِيَارِ مُضَرَ، فَسَارَ إِلَى الرَّقَّةِ فَحَصَرَهَا سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَحَارَبَهُ أَهْلُهَا وَهَزَمُوهُ، وَوَثَبَ أَهْلُ الرَّحْبَةِ بِأَصْحَابِهِ وَعُمَّالِهِ، فَقَتَلُوهُمْ لِشِدَّةِ ظُلْمِهِمْ، وَسُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ. فَلَمَّا عَادَ مِنَ الرَّقَّةِ، وَضَعَ السَّيْفَ فِي أَهْلِهَا، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ حَاجِبَهُ يَارُوخُ فِي جَيْشٍ، فَاقْتَتَلُوا عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، فَانْهَزَمَ جُمَانُ، فَوَقَعَ فِي الْفُرَاتِ فَغَرِقَ، وَاسْتَأْمَنَ أَصْحَابُهُ إِلَى يَارُوخَ، وَأُخْرِجَ جُمَانُ مِنَ الْمَاءِ فَدُفِنَ مَكَانُهُ. ذِكْرُ مِلْكِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ طَبَرِسْتَانَ وَجُرْجَانَ وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، اجْتَمَعَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ، وَالْحَسَنُ بْنُ الْفَيْرُزَانِ، وَقَصَدَا بِلَادَ وَشْمَكِيرَ، فَالْتَقَاهُمَا وَشْمَكِيرُ وَانْهَزَمَ مِنْهُمَا، وَمَلَكَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ طَبَرِسْتَانَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى جُرْجَانَ فَمَلَكَهَا، وَاسْتَأْمَنَ مِنْ قُوَّادِ وَشْمَكِيرَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ قَائِدًا، فَأَقَامَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَيْرُزَانِ بِجُرْجَانَ، وَمَضَى وَشْمَكِيرُ إِلَى خُرَاسَانَ مُسْتَجِيرًا وَمُسْتَنْجِدًا لِإِعَادَةِ بِلَادِهِ، فَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرٍ، ظَهَرَ كَوْكَبٌ لَهُ ذَنَبٌ طُولُهُ نَحْوَ ذِرَاعَيْنِ فِي الْمَشْرِقِ، وَبَقِيَ نَحْوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَاضْحَمَلَّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ سَلَامَةُ الطُّولُونِيُّ الَّذِي كَانَ حَاجِبَ الْخُلَفَاءِ، فَأَخَذَ مَالَهُ وَعِيَالَهُ، وَسَارَ إِلَى الشَّامِ أَيَّامَ الْمُسْتَكْفِي، فَمَاتَ هُنَاكَ، وَلَمَّا سَارَ عَنْ بَغْدَاذَ، أُخِذَ مَالُهُ فِي الطَّرِيقِ وَمَاتَ (هُوَ الْآنَ) ، فَذَهَبَتْ نِعْمَتُهُ وَنَفْسُهُ حَيْثُ ظَنَّ السَّلَامَةَ

وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ حَيْثُ يَقُولُ: وَإِذَا خَشِيتَ مِنَ الْأُمُورِ مُقَدَّرًا ... فَهَرَبَتْ مِنْهُ فَنَحْوَهُ تَتَقَدَّمُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَثْرَمُ الْمُقْرِئُ.

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 337 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مِلْكِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ الْمَوْصِلَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى الْمَوْصِلِ قَاصِدًا لِنَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا سَمِعَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِذَلِكَ، سَارَ عَنِ الْمَوْصِلِ إِلَى نَصِيبِينَ، وَوَصَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ فَمَلَكَ الْمَوْصِلَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَظَلَمَ أَهْلَهَا وَعَسَفَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَ الرَّعَايَا، فَكَثُرَ الدُّعَاءُ عَلَيْهِ. وَأَرَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَنْ يَمْلِكَ جَمِيعَ بِلَادِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ مِنْ أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ أَنَّ عَسَاكِرَ خُرَاسَانَ قَدْ قَصَدَتْ جُرْجَانَ وَالرَّيَّ، وَيَسْتَمِدُّهُ وَيَطْلُبُ مِنْهُ الْعَسَاكِرَ، فَاضْطُرَّ إِلَى مُصَالَحَةِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا (فِي ذَلِكَ) ، وَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ كُلِّهَا، وَالشَّامِ، كُلَّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَيَخْطُبُ فِي بِلَادِهِ لِعِمَادِ الدَّوْلَةِ، (وَرُكْنِ الدَّوْلَةِ) ، وَمُعِزِّ الدَّوْلَةِ بَنِي بُوَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ عَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ فَدَخَلَهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ. ذِكْرُ مَسِيرِ عَسْكَرِ خُرَاسَانَ إِلَى جُرْجَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مَنْصُورُ بْنُ قَرَاتَكِينَ فِي جُيُوشِ خُرَاسَانَ إِلَى جُرْجَانَ، صُحْبَةَ وَشْمَكِيرَ، وَبِهَا الْحَسَنُ بْنُ الْفَيْرُزَانِ، وَكَانَ مَنْصُورٌ مُنْحَرِفًا عَنْ وَشْمَكِيرَ فِي السَّيْرِ، فَتَسَاهَلَ لِذَلِكَ مَعَ الْحَسَنِ، وَصَالَحَهُ وَأَخَذَ ابْنَهُ رَهِينَةً. ثُمَّ بَلَغَ مَنْصُورًا أَنَّ الْأَمِيرَ نُوحًا اتَّصَلَ بِابْنَةِ خَتَكِينَ، مَوْلَى قَرَاتَكِينَ، وَهُوَ

صَاحِبُ بُسْتَ وَالرُّخَّجِ، فَسَاءَ ذَلِكَ مَنْصُورًا وَأَقْلَقَهُ، وَكَانَ نُوحٌ قَدْ زَوَّجَ قَبْلَ ذَلِكَ بِنْتًا لِمَنْصُورٍ مِنْ بَعْضِ مَوَالِيهِ، اسْمُهُ فَتَكِينُ، فَقَالَ مَنْصُورٌ: يَتَزَوَّجُ الْأَمِيرُ بِابْنَةِ مَوْلَايَ، وَتُزَوَّجُ ابْنَتِي مِنْ مَوْلَاهُ؟ فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى مُصَالَحَةِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَيْرُزَانِ وَأَعَادَ عَلَيْهِ ابْنَهُ، وَعَادَ عَنْهُ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَأَقَامَ الْحَسَنُ بِزَوْزَنَ، وَبَقِيَ وَشْمَكِيرُ بِجُرْجَانَ. ذِكْرُ مَسِيرِ الْمَرْزُبَانِ إِلَى الرَّيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْمَرْزُبَانُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسَافِرٍ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى الرَّيِّ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ خُرُوجُ عَسَاكِرِ خُرَاسَانَ إِلَى الرَّيِّ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُ رُكْنَ الدَّوْلَةِ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَحَلَقَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ لِحْيَتَهُ، وَسَبَّهُ وَسَبَّ صَاحِبَهُ، وَكَانَ سَفِيهًا، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْمَرْزُبَانِ، وَأَخَذَ فِي جَمْعِ الْعَسَاكِرِ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ بَعْدُ قُوَّادِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَأَطْمَعَهُ فِي الرَّيِّ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ مَنْ وَرَاءَهُ مِنَ الْقُوَّادِ يُرِيدُونَهُ، فَطَمِعَ لِذَلِكَ، فَرَاسَلَهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ يَعِدُ الْمُسَاعَدَةَ، وَيُشِيرُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِبَغْدَاذَ، فَخَالَفَهُ، ثُمَّ أَحْضَرَ أَبَاهُ وَأَخَاهُ وَهْسُوذَانَ، وَاسْتَشَارَهُمَا فِي ذَلِكَ، فَنَهَاهُ أَبُوهُ عَنْ قَصْدِ الرَّيِّ، فَلَمْ يَقْبَلْ، فَلَمَّا وَدَّعَهُ بَكَى أَبُوهُ وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَيْنَ أَطْلُبُكَ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا؟ قَالَ: إِمَّا فِي دَارِ الْإِمَارَةِ بِالرَّيِّ، وَإِمَّا بَيْنَ الْقَتْلَى. فَلَمَّا عَرَفَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ خَبَرَهُ، كَتَبَ إِلَى أَخَوَيْهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ وَمُعِزِّ الدَّوْلَةِ يَسْتَمِدُّهُمَا، فَسَيَّرَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ جَيْشًا مَعَ سُبُكْتِكِينَ التُّرْكِيِّ، وَأَنْفَذَ عَهْدًا مِنَ الْمُطِيعِ لِلَّهِ لِرُكْنِ الدَّوْلَةِ بِخُرَاسَانَ، فَلَمَّا صَارُوا بِالدِّينَوَرِ خَالَفَ الدَّيْلَمُ عَلَى سُبُكْتِكِينَ، وَكَبَسُوهُ لَيْلًا، فَرَكِبَ فَرَسَ النَّوْبَةِ وَنَجَا، وَاجْتَمَعَ الْأَتْرَاكُ عَلَيْهِ، فَعَلِمَ الدَّيْلَمُ أَنَّهُمْ لَا قُوَّةَ لَهُمْ بِهِ، فَعَادُوا إِلَيْهِ وَتَضَرَّعُوا، فَقَبِلَ عُذْرَهُمْ. وَكَانَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ قَدْ شَرَعَ مَعَ الْمَرْزُبَانِ فِي الْمُخَادَعَةِ، وَإِعْمَالِ الْحِيلَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَتَوَاضَعُ لَهُ وَيُعَظِّمُهُ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْهُ عَلَى شَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ رُكْنُ الدَّوْلَةِ زَنْجَانَ، وَأَبْهَرَ، وَقَزْوِينَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ وَصْلَهُ الْمَدَدُ مِنْ عِمَادِ الدَّوْلَةِ

وَمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَأَحْضَرَ مَعَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَأَنْفَذَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ الْفَيْرُزَانِ عَسْكَرًا مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ مَاكَانَ، فَلَمَّا كَثُرَ جَمْعُهُ قَبَضَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِمَّنْ كَانَ يَتَّهِمُهُمْ مِنْ قُوَّادِهِ وَسَارَ إِلَى قَزْوِينَ، فَعَلِمَ الْمَرْزُبَانُ عَجْزَهُ عَنْهُ، وَأَنِفَ مِنَ الرُّجُوعِ، فَالْتَقَيَا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْمَرْزُبَانِ، وَأُخِذَ أَسِيرًا، وَحُمِلَ إِلَى سُمَيْرِمَ فَحُبِسَ بِهَا، وَعَادَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ، وَنَزَلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِنَوَاحِي أَذْرَبِيجَانَ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الْمَرْزُبَانِ فَإِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسَافِرٍ، وَوَلُّوهُ أَمْرَهُمْ، فَهَرَبَ مِنْهُ ابْنُهُ وَهْسُوذَانُ إِلَى حِصْنٍ لَهُ، فَأَسَاءَ مُحَمَّدُ السِّيرَةَ مَعَ الْعَسْكَرِ، فَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَهَرَبَ إِلَى ابْنِهِ وَهْسُوذَانَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ تَحَيَّرَ وَهْسُوذَانُ فِي أَمْرِهِ، فَاسْتَدْعَى دَيْسَمَ الْكُرْدِيَّ لِطَاعَةِ الْأَكْرَادِ لَهُ، وَقَوَّاهُ، وَسَيَّرَهُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَالْتَقَيَا، فَانْهَزَمَ دَيْسَمُ، وَقَوِيَ ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَأَقَامَ بِنَوَاحِي أَذْرَبِيجَانَ يَجْبِي أَمْوَالَهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرَّيِّ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَاتَبَ الْأَمِيرَ نُوحًا، وَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً، وَسَأَلَهُ الصَّفْحَ، فَقَبِلَ عُذْرَهُ، وَكَاتَبَ وَشْمَكِيرَ بِمُهَادَنَتِهِ، فَهَادَنَهُ، ثُمَّ عَادَ مُحَمَّدٌ إِلَى طُوسَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] لَمَّا خَرَجَ مَنْصُورٌ إِلَى الرَّيِّ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ إِلَى بَلَدِ الرُّومِ، فَلَقِيَهُ الرُّومُ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، وَأَخَذَ الرُّومُ مَرْعَشَ، وَأَوْقَعُوا بِأَهْلِ طَرَسُوسَ. وَفِيهَا قَبَضَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى أَسْفَهْدُوَسْتَ، وَهُوَ خَالُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ قُوَّادِهِ، وَأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ، وَيَعِيبُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَفْعَالِهِ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ

(كَانَ) يُرَاسِلُ الْمُطِيعَ لِلَّهِ فِي قَتْلِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى رَامَهُرْمُزَ فَسَجَنَهُ بِهَا. وَفِيهَا اسْتَأْمَنَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَرِيدِيُّ إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَقَدِمَ بَغْدَاذَ فَلَقِيَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَقْطَعَهُ.

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 338 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ حَالِ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَفْحَلَ أَمْرُ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ، وَقَوِيَ شَأْنُهُ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ حَالِهِ أَنَّهُ مَنْ أَهْلِ الْجَامِدَةِ، فَجَبَى جِبَايَاتٍ، فَهَرَبَ إِلَى الْبَطِيحَةِ خَوفًا مِنَ السُّلْطَانِ، وَأَقَامَ بَيْنَ الْقَصَبِ وَالْآجَامِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى مَا يَصِيدُهُ مِنَ السَّمَكِ وَطُيُورِ الْمَاءِ قُوتًا، ثُمَّ صَارَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى مَنْ يَسَلُكُ الْبَطِيحَةَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّيَّادِينَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ اللُّصُوصِ، فَقَوِيَ بِهِمْ، وَحَمَى جَانِبَهُ مِنَ السُّلْطَانِ، فَلَمَّا خَافَ أَنْ يُقْصَدَ، اسْتَأْمَنَ (إِلَى أَبِي الْقَاسِمِ) الْبَرِيدِيِّ، فَقَلَّدَهُ حِمَايَةَ الْجَامِدَةِ وَنَوَاحِي الْبَطَائِحِ، وَمَا زَالَ يَجْمَعُ الرِّجَالَ إِلَى أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَقَوِيَ وَاسْتَعَدَّ بِالسِّلَاحِ، وَاتَّخَذَ مَعَاقِلَ عَلَى التَّلُولِ الَّتِي بِالْبَطِيحَةِ، وَغَلَبَ عَلَى تِلْكَ النَّوَاحِي. فَلَمَّا اشْتَدَّ أَمْرُهُ، سَيَّرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى مُحَارَبَتِهِ وَزِيرَهُ أَبَا جَعْفَرٍ الصَّيْمَرِيَّ، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي الْجُيُوشِ، وَحَارَبَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَاسْتَأْسَرَ أَهْلَهُ وَعِيَالَهُ، وَهَرَبَ عِمْرَانُ بْنُ شَاهِينَ وَاسْتَتَرَ، وَأَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ. فَاتَّفَقَ أَنَّ عِمَادَ الدَّوْلَةِ بْنَ بُوَيْهِ مَاتَ، وَاضْطَرَبَ جَيْشُهُ بِفَارِسَ، فَكَتَبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الصَّيْمَرِيِّ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى شِيرَازَ لِإِصْلَاحِ الْأُمُورِ بِهَا، فَتَرَكَ عِمْرَانَ وَسَارَ إِلَى شِيرَازَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْتِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا سَارَ الصَّيْمَرِيُّ عَنِ الْبَطَائِحِ، ظَهَرَ عِمْرَانُ بْنُ شَاهِينَ مِنِ اسْتِتَارِهِ، وَعَادَ إِلَى أَمْرِهِ، وَجَمَعَ مَنْ تَفَرَّقَ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَسَنَذْكُرُ مِنْ أَخْبَارِهِ فِيمَا بَعْدُ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ.

ذِكْرُ مَوْتِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ بُوَيْهِ بِمَدِينَةِ شِيرَازَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَتْ عِلَّتُهُ الَّتِي مَاتَ بِهَا قُرْحَةٌ فِي كُلْيَتِهِ طَالَتْ بِهِ، وَتَوَالَتْ عَلَيْهِ الْأَسْقَامُ وَالْأَمْرَاضُ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِالْمَوْتِ، أَنْفَذَ إِلَى أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُنْفِذَ ابْنَهُ عَضُدَ الدَّوْلَةِ فَنَّاخِسْرُو لِيَجْعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ، وَوَارِثِ مَمْلَكَتِهِ بِفَارِسَ ; لِأَنَّ عِمَادَ الدَّوْلَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ، فَأَنْفَذَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ وَلَدَهُ عَضُدَ الدَّوْلَةِ، فَوَصَلَ فِي حَيَاةِ عَمِّهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ، وَسَارَ فِي جُمْلَةِ ثِقَاتِ أَصْحَابِ رَكْنِ الدَّوْلَةِ، فَخَرَجَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ إِلَى لِقَائِهِ فِي جَمِيعِ عَسْكَرِهِ، وَأَجْلَسَهُ فِي دَارِهِ عَلَى السَّرِيرِ، وَوَقَفَ هُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالسَّلَامِ عَلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، وَكَانَ يَوْمًا عَظِيمًا مَشْهُودًا. وَكَانَ فِي قُوَّادِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ يَخَافُهُمْ، وَيَعْرِفُهُمْ بِطَلَبِ الرِّئَاسَةِ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ أَكْبَرَ مِنْهُ نَفْسًا وَبَيْتًا، وَأَحَقَّ بِالتَّقَدُّمِ، وَكَانَ يُدَارِيهِمْ، فَلَمَّا جَعَلَ وَلَدَ أَخِيهِ فِي الْمُلْكِ، خَافَهُمْ عَلَيْهِ، فَأَفْنَاهُمْ بِالْقَبْضِ، وَكَانَ مِنْهُمْ قَائِدٌ كَبِيرٌ يُقَالُ لَهُ شَيْرَنْحِينُ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، فَشَفَعَ فِيهِ أَصْحَابُهُ وَقُوَّادُهُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ بِحَدِيثٍ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ أُطْلِقَهُ فَعَلْتُ، فَحَدَّثَهُمْ أَنَّهُ كَانَ فِي خُرَاسَانَ فِي خِدْمَةِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، وَنَحْنُ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَمَعَنَا هَذَا، فَجَلَسَ يَوْمًا نَصْرٌ وَفِي خِدْمَتِهِ مِنْ مَمَالِيكِهِ وَمَمَالِيكِ أَبِيهِ بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا سِوَى سَائِرِ الْعَسْكَرِ، فَرَأَيْتُ شَيْرَنْحِينَ هَذَا قَدْ جَرَّدَ سِكِّينًا مَعَهُ وَلَفَّهُ فِي كِسَائِهِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: أُرِيدُ أَنَّ أَقْتُلَ هَذَا الصَّبِيَّ، يَعْنِي نَصْرًا، وَلَا أُبَالِيَ بِالْقَتْلِ بَعْدَهُ، فَإِنِّي قَدْ أَنِفَتْ نَفْسِي مِنَ الْقِيَامِ فِي خِدْمَتِهِ. (وَكَانَ عُمُرُ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ سَنَةً، وَقَدْ خَرَجَتْ لِحْيَتُهُ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ) إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ، لَمْ يُقْتَلْ وَحْدَهُ بَلْ نُقْتَلُ كُلُّنَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَقُلْتُ لَهُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ حَدِيثٌ، فَمَضَيْتُ بِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ، وَجَمَعْتُ الدَّيْلَمَ، وَحَدَّثْتُهُمْ حَدِيثَهُ، فَأَخَذُوا مِنْهُ السِّكِّينَ، فَتُرِيدُونَ مِنِّي بَعْدَ أَنْ سَمِعْتُمْ حَدِيثَهُ فِي مَعْنَى نَصْرٍ أَنْ أُمَكِّنَهُ مِنَ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ هَذَا الصَّبِيِّ، يَعْنِي ابْنَ أَخِي؟

فَأَمْسَكُوا عَنْهُ، وَبَقِيَ مَحْبُوسًا حَتَّى مَاتَ فِي مَحْبَسِهِ. وَمَاتَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ وَبَقِيَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بِفَارِسَ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ، فَكَتَبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى وَزِيرِهِ الصَّيْمَرِيِّ بِالْمَسِيرِ إِلَى شِيرَازَ، وَتَرْكِ مُحَارَبَةِ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ، فَسَارَ إِلَى فَارِسَ، وَوَصَلَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ (أَيْضًا، وَاتَّفَقَا عَلَى تَقْرِيرِ قَاعِدَةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ) قَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الرَّيِّ عَلِيَّ بْنَ كَامَةَ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ، وَلَمَّا وَصَلَ رُكْنَ الدَّوْلَةِ إِلَى شِيرَازَ، ابْتَدَأَ بِزِيَارَةِ قَبْرِ أَخِيهِ بِإِصْطَخْرَ، فَمَشَى حَافِيًا حِاسِرًا وَمَعَهُ الْعَسَاكِرُ عَلَى حَالِهِ، وَلَزِمَ الْقَبْرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَى أَنْ سَأَلَهُ الْقُوَّادُ الْأَكَابِرُ لِيَرْجِعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَرَجَعَ إِلَيْهَا، وَأَقَامَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَأَنْفَذَ إِلَى أَخِيهِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْمَالِ وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَانَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ فِي حَيَاتِهِ هُوَ أَمِيرُ الْأُمَرَاءِ، فَلَمَّا مَاتَ، صَارَ أَخُوهُ رُكْنُ الدَّوْلَةِ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ هُوَ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْعِرَاقِ وَالْخِلَافَةِ، وَهُوَ كَالنَّائِبِ عَنْهُمَا، وَكَانَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ كَرِيمًا، حَلِيمًا، عَاقِلًا، حَسَنَ السِّيَاسَةِ (لِلْمُلْكِ وَالرَّعِيَّةِ) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَقْلِهِ وَسِيَاسَتِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، قَلَّدَ أَبُو السَّائِبِ عُتْبَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِبَغْدَاذَ. وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، مَاتَ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، وَكَانَتْ عِلَّتُهُ نَفْثَ الدَّمِ.

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 339 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مَوْتِ الصَّيْمَرِيِّ وَوِزَارَةِ الْمُهَلَّبِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّيْمَرِيُّ، وَزِيرُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بِأَعْمَالِ الْجَامِدَةِ، وَكَانَ قَدْ عَادَ مِنْ فَارِسَ إِلَيْهَا، وَأَقَامَ يُحَاصِرُ عِمْرَانَ بْنَ شَاهِينَ، فَأَخَذَتْهُ حُمَّى حَادَّةٌ مَاتَ مِنْهَا. وَاسْتَوْزَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيَّ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَكَانَ يَخْلُفُ الصَّيْمَرِيَّ بِحَضْرَةِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَعَرَفَ أَحْوَالَ الدَّوْلَةِ وَالدَّوَاوِينِ، فَامْتَحَنَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، فَرَأَى فِيهِ مَا يُرِيدُهُ مِنَ الْأَمَانَةِ، وَالْكِفَايَةِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِمَصَالِحِ الدَّوْلَةِ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ، فَاسْتَوْزَرَهُ وَمَكَّنَهُ مِنْ وِزَارَتِهِ، فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، وَأَزَالَ كَثِيرًا مِنَ الْمَظَالِمِ خُصُوصًا بِالْبَصْرَةِ، فَإِنَّ الْبَرِيدِيِّينَ كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوا فِيهَا كَثِيرًا مِنَ الْمَظَالِمِ، فَأَزَالَهَا وَقَرَّبَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَتَنَقَّلَ فِي الْبِلَادِ لِكَشْفِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَظَالِمِ وَتَخْلِيصِ الْأَمْوَالِ، فَحَسُنَ أَثَرُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ غَزْوِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِلَادَ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَغَزَا وَأَوْغَلَ فِيهَا، وَفَتَحَ فِيهَا حُصُونًا كَثِيرَةً، وَسَبَى وَغَنِمَ، فَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ بَلَدِ الرُّومِ، أَخَذُوا عَلَيْهِ الْمَضَايِقَ

فَهَلَكَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَسْرًا وَقَتْلًا، وَاسْتَرَدَّ الرُّومُ الْغَنَائِمَ وَالسَّبْيَ، وَغَنِمُوا أَثْقَالَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ، وَنَجَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ فِي عَدَدٍ يَسِيرٍ. ذِكْرُ إِعَادَةِ الْقَرَامِطَةِ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعَادَ الْقَرَامِطَةُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ إِلَى مَكَّةَ، وَقَالُوا: أَخَذْنَاهُ بِأَمْرٍ، وَأَعَدْنَاهُ بِأَمْرٍ. وَكَانَ بُجْكُمُ قَدْ بَذَلَ لَهُمْ فِي رَدِّهِ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ، وَرَدُّوهُ الْآنَ بِغَيْرِ شَيْءٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فَلَمَّا أَرَادُوا رَدَّهُ حَمَلُوهُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَعَلَّقُوهُ بِجَامِعِهَا حَتَّى رَآهُ النَّاسُ، ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَكَّةَ، (وَكَانُوا أَخَذُوهُ مِنْ رُكْنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ مُكْثُهُ عِنْدَهُمُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً) . ذِكْرُ مَسِيرِ الْخُرَاسَانِيِّينَ إِلَى الرَّيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مَنْصُورُ بْنُ قَرَاتَكِينَ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى الرَّيِّ فِي صَفَرٍ، أَمَرَهُ الْأَمِيرُ نُوحٌ بِذَلِكَ، وَكَانَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بِبِلَادِ فَارِسَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَوَصَلَ مَنْصُورٌ إِلَى الرَّيِّ

وَبِهَا عَلِيُّ بْنُ كَامَةَ خَلِيفَةُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، فَسَارَ عَلِيٌّ عَنْهَا إِلَى أَصْبَهَانَ، وَدَخَلَ مَنْصُورٌ الرَّيَّ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَفَرَّقَ الْعَسَاكِرَ فِي الْبِلَادِ فَمَلَكُوا بِلَادَ الْجَبَلِ إِلَى قِرْمِيسِينَ، وَأَزَالُوا عَنْهَا نُوَّابَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، (وَاسْتَوْلُوا عَلَى هَمَذَانَ وَغَيْرِهَا. فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى رُكْنِ الدَّوْلَةِ) وَهُوَ بِفَارِسَ، فَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ يَأْمُرُهُ بِإِنْفَاذِ عَسْكَرٍ بِدَفْعِ تِلْكَ الْعَسَاكِرِ عَنِ النَّوَاحِي الْمُجَاوِرَةِ لِلْعِرَاقِ، فَسَيَّرَ سُبُكْتِكِينَ الْحَاجِبَ فِي عَسْكَرٍ ضَخْمٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَالدَّيْلَمِ، وَالْعَرَبِ، فَلَمَّا سَارَ سُبُكْتِكِينُ عَنْ بَغْدَاذَ، خَلَّفَ أَثْقَالَهُ، وَأَسْرَى جَرِيدَةً إِلَى مَنْ بِقِرْمِيسِينَ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ، فَكَبَسَهُمْ وَهُمْ غَارُّونَ، فَقَتَلَ فِيهِمْ، وَأَسَرَ مُقَدِّمَهُمْ مِنَ الْحَمَّامِ وَاسْمُهُ بُجْكُمُ الْخَمَارَتَكِينِيُّ، فَأَنْفَذَهُ مَعَ الْأَسْرَى إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَحَبَسَهُ مُدَّةً ثُمَّ أَطْلَقَهُ. فَلَمَّا بَلَغَ الْخُرَاسَانِيَّةَ ذَلِكَ، اجْتَمَعُوا إِلَى هَمَذَانَ، فَسَارَ سُبُكْتِكِينُ نَحْوَهُمْ، فَفَارَقُوا هَمَذَانَ وَلَمْ يُحَارِبُوهُ، وَدَخَلَ سُبُكْتِكِينُ هَمَذَانَ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنَّ وَرَدَ عَلَيْهِ رُكْنُ الدَّوْلَةِ (فِي شَوَّالٍ. وَسَارَ مَنْصُورٌ مِنَ الرَّيِّ فِي الْعَسَاكِرِ نَحْوَ هَمَذَانَ، وَبِهَا رُكْنُ الدَّوْلَةِ) ، فَلَمَّا بَقِيَ بَيْنَهُمَا مِقْدَارُ عِشْرِينَ فَرْسَخًا، عَدَلَ مَنْصُورٌ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَلَوْ قَصَدَ هَمَذَانَ، لَانْحَازَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ عَنْهُ، وَكَانَ مَلَكَ الْبِلَادَ بِسَبَبِ اخْتِلَافٍ كَانَ فِي عَسْكَرِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَلَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْهُ لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ اللَّهُ - تَعَالَى، وَتَقَدَّمَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ إِلَى سُبُكْتِكِينَ بِالْمَسِيرِ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ، فَلَمَّا أَرَادَ الْمَسِيرَ، شَغَبَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَتْرَاكِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَقَالَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ: هَؤُلَاءِ أَعْدَاؤُنَا وَمَعَنَا، وَالرَّأْيُ أَنْ نَبْدَأَ بِهِمْ، فَوَاقَعَهُمْ وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الْأَتْرَاكُ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَكَتَبَ إِلَى ابْنِ أَبِي الشَّوْكِ الْكُرْدِيِّ وَغَيْرِهِ يَأْمُرُهُمْ بِطَلَبِهِمْ وَالْإِيقَاعِ بِهِمْ، فَطَلَبُوهُمْ وَأَسَرُوا مِنْهُمْ وَقَتَلُوا، وَمَضَى مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَسَارَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ نَحْوَ أَصْبَهَانَ، وَوَصَلَ ابْنُ قَرَاتَكِينَ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَانْتَقَلَ مَنْ

كَانَ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ رَكْنِ الدَّوْلَةِ، وَأَهْلِهِ وَأَسْبَابِهِ، وَرَكِبُوا الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ، حَتَّى الْبَقَرِ وَالْحَمِيرِ، وَبَلَغَ كِرَاءُ الثَّوْرِ وَالْحِمَارِ إِلَى خَانِ لِنْجَانَ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَهِيَ عَلَى تِسْعَةِ فَرَاسِخَ مِنْ أَصْبَهَانَ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ مُجَاوَرَةَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلَوْ سَارَ إِلَيْهِمْ مَنْصُورٌ لِغَنَمِهِمْ وَأَخَذَ مَا مَعَهُمْ، وَمَلَكَ مَا وَرَاءَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ دَخَلَ أَصْبَهَانَ وَأَقَامَ بِهَا. وَوَصَلَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ فَنَزَلَ بِخَانِ لَنْجَانَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَضَاقَتِ الْمِيرَةُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَبَلَغَ بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ ذَبَحُوا دَوَابَّهُمْ، وَلَوْ أَمْكَنَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ الِانْهِزَامُ لَفَعَلَ، وَلَكِنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَاسْتَشَارَ وَزِيرَهُ أَبَا الْفَضْلِ بْنَ الْعَمِيدِ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي فِي الْهَرَبِ، فَقَالَ لَهُ: لَا مَلْجَأَ لَكَ إِلَّا اللَّهَ - تَعَالَى، فَانْوِ لِلْمُسْلِمِينَ خَيرًا، وَصَمِّمِ الْعَزْمَ عَلَى حُسْنِ السِّيرَةِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْحِيَلَ الْبَشَرِيَّةَ كُلُّهَا تَقَطَّعَتْ بِنَا، وَإِنِ انْهَزَمْنَا، تَبِعُونَا وَأَهْلَكُونَا وَهُمْ أَكْثَرُ مِنَّا، فَلَا يُفْلِتُ مِنَّا أَحَدٌ، (فَقَالَ لَهُ: قَدْ سَبَقْتُكَ إِلَى هَذَا) . فَلَمَّا كَانَ الثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ، أَتَاهُمُ الْخَبَرُ أَنَّ مَنْصُورًا وَعَسْكَرَهُ قَدْ عَادُوا إِلَى الرَّيِّ وَتَرَكُوا خِيَامَهُمْ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِيرَةَ وَالْعَلُوفَةَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ الدَّيْلَمَ كَانُوا يَصْبِرُونَ، وَيَقْنَعُونَ بِالْقَلِيلِ مِنَ الطَّعَامِ، وَإِذَا ذَبَحُوا دَابَّةً أَوْ جَمَلًا، اقْتَسَمَهُ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ، وَكَانَ الْخُرَاسَانِيَّةُ بِالضِّدِّ مِنْهُمْ لَا يَصْبِرُونَ وَلَا يَكْفِيهِمُ الْقَلِيلُ، فَشَغَبُوا عَلَى مَنْصُورٍ وَاخْتَلَفُوا، وَعَادُوا إِلَى الرَّيِّ، فَكَانَ عَوْدُهُمْ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، فَأَتَى الْخَبَرُ رُكْنَ الدَّوْلَةِ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ حَتَّى تَوَاتَرَ عِنْدَهُ، فَرَكِبَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ، وَاحْتَوَى عَلَى مَا خَلَّفَهُ الْخُرَاسَانِيَّةُ. حَكَى أَبُو الْفَضْلِ بْنُ الْعَمِيدِ، قَالَ: اسْتَدْعَانِي رُكْنُ الدَّوْلَةِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الثُّلُثَ الْأَخِيرَ، وَقَالَ لِي: قَدْ رَأَيْتُ السَّاعَةَ فِي مَنَامِي كَأَنِّي عَلَى دَابَّتِي فَيْرُوزَ، وَقَدِ انْهَزَمَ عَدُوُّنَا، وَأَنْتَ تَسِيرُ إِلَى جَانِبٍ، وَقَدْ جَاءَنَا الْفَرَجُ مِنْ حَيْثُ لَا نَحْتَسِبُ، فَمَدَدْتُ عَيْنِيَ فَرَأَيْتُ عَلَى الْأَرْضِ خَاتَمًا، فَأَخَذْتُهُ فَإِذَا فَصُّهُ مِنْ فَيْرُوزَجَ، فَجَعَلْتُهُ فِي إِصْبَعِي، وَتَبَرَّكْتُ بِهِ، وَانْتَبَهْتُ وَقَدْ أَيْقَنْتُ بِالظَّفَرِ، فَإِنَّ الْفَيْرُوزَجَ مَعْنَاهُ الظَّفَرُ، وَلِذَلِكَ لَقَّبَ الدَّابَّةَ فَيْرُوزَ.

قَالَ ابْنُ الْعَمِيدِ: فَأَتَانَا الْخَبَرُ وَالْبِشَارَةُ بِأَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ رَحَلَ، فَمَا صَدَّقْنَا حَتَّى تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ، فَرَكِبْنَا وَلَا نَعْرِفُ سَبَبَ هَرَبِهِمْ، وَسِرْنَا حَذِرِينَ مِنْ كَمِينٍ، وَسِرْتُ إِلَى جَانِبِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ فَيْرُوزَ، فَصَاحَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بِغُلَامٍ بَيْنَ يَدَيْهِ: نَاوِلْنِي ذَلِكَ الْخَاتَمَ، فَأَخَذَ خَاتَمًا مِنَ الْأَرْضِ فَنَاوَلَهُ إِيَّاهُ، فَإِذَا هُوَ فَيْرُوزَجُ، فَجَعَلَهُ فِي إِصْبَعِهِ وَقَالَ: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ، وَهَذَا الْخَاتَمُ الَّذِي رَأَيْتُ مُنْذُ سَاعَةٍ. وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا يُحْكَى وَأَعْجَبِهِ. ذِكْرُ أَخْبَارِ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ، وَانْهِزَامِ عَسَاكِرِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا حَالَ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ بَعْدَ مَسِيرِ الصَّيْمَرِيِّ عَنْهُ، وَأَنَّهُ زَادَ قُوَّةً وَجُرْأَةً، فَأَنْفَذَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى قِتَالِهِ رُوزْبَهَانَ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ عَسْكَرِهِ، فَنَازَلَهُ وَقَاتَلَهُ، فَطَاوَلَهُ عِمْرَانُ، وَتَحَصَّنَ مِنْهُ فِي مَضَايِقِ الْبَطِيحَةِ، فَضَجَرَ رُوزْبَهَانُ وَأَقْدَمَ عَلَيْهِ طَالِبًا لِلْمُنَاجَزَةِ، فَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ عِمْرَانُ وَهَزَمَهُ وَأَصْحَابَهُ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ وَغَنِمَ جَمِيعَ مَا مَعَهُمْ مِنَ السِّلَاحِ وَآلَاتِ الْحَرْبِ، فَقَوِيَ بِهَا، وَتَضَاعَفَتْ قُوَّتُهُ، فَطَمِعَ أَصْحَابُهُ فِي السُّلْطَانِ، فَصَارُوا إِذَا اجْتَازَ بِهِمْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ، يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْبَذْرَقَةَ وَالْخِفَارَةَ، فَإِنْ أَعْطَاهُمْ، وَإِلَّا ضَرَبُوهُ وَاسْتَخَفُّوا بِهِ وَشَتَمُوهُ. وَكَانَ الْجُنْدُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْعُبُورِ عَلَيْهِمْ إِلَى ضَيَاعِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ بِالْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ انْقَطَعَ الطَّرِيقُ إِلَى الْبَصْرَةِ إِلَّا عَلَى الظَّهْرِ، فَشَكَا النَّاسُ ذَلِكَ إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَكَتَبَ إِلَى الْمُهَلَّبِيِّ بِالْمَسِيرِ إِلَى وَاسِطَ لِهَذَا السَّبَبِ، وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ، فَأَصْعَدَ إِلَيْهَا، وَأَمَدَّهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِالْقُوَّادِ وَالْأَجْنَادِ وَالسِّلَاحِ، وَأَطْلَقَ يَدَهُ فِي الْإِنْفَاقِ، فَزَحَفَ إِلَى الْبَطِيحَةِ وَضَيَّقَ عَلَى عِمْرَانَ، وَسَدَّ الْمَذَاهِبَ عَلَيْهِ، فَانْتَهَى إِلَى الْمَضَايِقِ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا عِمْرَانُ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحَبَّ رُوزْبَهَانُ أَنْ يُصِيبَ الْمُهَلَّبِيَّ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْهَزِيمَةِ، وَلَا يَسْتَبِدَّ بِالظَّفَرِ وَالْفَتْحِ، وَأَشَارَ عَلَى الْمُهَلَّبِيِّ بِالْهُجُومِ عَلَى عِمْرَانَ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، فَكَتَبَ إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ يُعَجِّزُ الْمُهَلَّبِيَّ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ يُطَاوِلُ لِيُنْفِقَ الْأَمْوَالَ وَيَفْعَلَ مَا يُرِيدُ، فَكَتَبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِالْعَتَبِ وَالِاسْتِبْطَاءِ،

فَتَرَكَ الْمُهَلَّبِيُّ الْحَزْمَ، وَمَا كَانَ يُرِيدُ [أَنْ] يَفْعَلَهُ، وَدَخَلَ بِجَمِيعِ عَسْكَرِهِ، وَهَجَمَ عَلَى مَكَانِ عِمْرَانَ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ الْكُمَنَاءَ فِي تِلْكَ الْمَضَايِقِ، وَتَأَخَّرَ رُوزْبَهَانُ لِيَسْلَمَ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ. فَلَمَّا تَقَدَّمَ الْمُهَلَّبِيُّ، خَرَجَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ الْكُمَنَاءُ، وَوَضَعُوا فِيهِمُ السِّلَاحَ، فَقُتِلُوا، وَغُرِّقُوا، وَأُسِرُوا، وَانْصَرَفَ رُوزْبَهَانُ سَالِمًا هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَأَلْقَى الْمُهَلَّبِيُّ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ فَنَجَا سِبَاحَةً، وَأَسَرَ عِمْرَانُ الْقَوَّادَ وَالْأَكَابِرَ، فَاضْطُرَّ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى مُصَالَحَتِهِ وَإِطْلَاقِ مَنْ عِنْدِهِ مِنْ أَهْلِ عِمْرَانَ وَإِخْوَتِهِ، فَأَطْلَقَ عِمْرَانُ مَنْ فِي أَسْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَقَلَّدَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ الْبَطَائِحَ، فَقَوِيَ وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَيْلَةَ يَوْمِ السَّبْتِ رَابِعَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، طَلَعَ الْقَمَرُ مُنْكَسِفًا، وَانْكَسَفَ جَمِيعُهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ قُرَابَةَ بِالْمَوْصِلِ، وَحُمِلَ تَابُوتُهُ إِلَى بَغْدَاذَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارَابِيُّ، الْحَكِيمُ الْفَيْلَسُوفُ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ فِيهَا، وَكَانَ مَوْتُهُ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ تِلْمِيذَ يُوحَنَّا بْنِ جِيلَانَ، وَكَانَتْ وَفَاةُ يُوحَنَّا أَيَّامَ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْقَاسِمِ (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ) الزَّجَّاجِيُّ النَّحْوِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] .

ثم دخلت سنة أربعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 340 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ مَنْصُورِ بْنِ قَرَاتَكِينَ وَأَبِي الْمُظَفَّرِ بْنِ مُحْتَاجٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ مَنْصُورُ بْنُ قَرَاتَكِينَ صَاحِبُ الْجُيُوشِ الْخُرَاسَانِيَّةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، بَعْدَ عَوْدِهِ مِنْ أَصْبَهَانَ إِلَى الرَّيِّ، فَذَكَرَ الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّهُ أَدْمَنَ الشُّرْبَ عِدَّةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، فَمَاتَ فَجْأَةً، وَقَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ: إِنَّهُ مَرِضَ وَمَاتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا مَاتَ، رَجَعَتِ الْعَسَاكِرُ الْخَرَاسَانِيَّةُ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَحُمِلَ تَابُوتُ مَنْصُورٍ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ وَالِدِهِ بِأَسْبِيجَابَ. وَمِنْ عَجِيبِ مَا يُحْكَى أَنَّ مَنْصُورًا لَمَّا سَارَ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى الرَّيِّ، سَيَّرَ غُلَامًا لَهُ إِلَى أَسْبِيجَابَ لِيُقِيمَ فِي رِبَاطِ وَالِدِهِ قَرَاتَكِينَ الَّذِي فِيهِ قَبْرُهُ، فَلَمَّا وَدَّعَهُ، قَالَ: كَأَنَّكَ بِي قَدْ حُمِلْتُ فِي تَابُوتٍ إِلَى تِلْكَ الْبَرِّيَّةِ، فَكَانَ كَمَا قَالَ بَعْدَ قَلِيلٍ: مَاتَ وَحُمِلَ تَابُوتُهُ إِلَى ذَلِكَ الرِّبَاطِ، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ وَالِدِهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُحْتَاجٍ بِبُخَارَى، كَانَ قَدْ رَكِبَ دَابَّةً أَنْفَذَهَا إِلَيْهِ أَبُوهُ، فَأَلْقَتْهُ وَسَقَطَتْ عَلَيْهِ فَهَشَّمَتْهُ، وَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَعَظُمَ مَوْتُهُ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَشَقَّ مَوْتُهُ عَلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ، وَحُمِلَ إِلَى الصَّغَانِيَانِ إِلَى وَالِدِهِ أَبِي عَلِيٍّ، وَكَانَ مُقِيمًا بِهَا. ذِكْرُ عَوْدِ أَبِي عَلِيٍّ إِلَى خُرَاسَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أُعِيدَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُحْتَاجٍ إِلَى قِيَادَةِ الْجُيُوشِ بِخُرَاسَانَ، وَأُمِرِ بِالْعَوْدِ إِلَى نَيْسَابُورَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْصُورَ بْنَ قَرَاتَكِينَ كَانَ قَدْ تَأَذَّى بِالْجُنْدِ، وَاسْتَصْعَبَ

إِيَالَتَهُمْ، وَكَانُوا قَدِ اسْتَبَدُّوا بِالْأُمُورِ دُونَهُ، وَعَاثُوا فِي نَوَاحِي نَيْسَابُورَ، فَتَوَاتَرَتْ كُتُبُهُ إِلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ بِالِاسْتِعْفَاءِ مِنْ وَلَايَتِهِمْ، وَيَطْلُبُ أَنْ يُقْتَصَرَ بِهِ عَلَى هَرَاةَ، وَيُوَلِّيَ مَا بِيَدِهِ مَنْ أَرَادَ نُوحٌ، فَكَانَ نُوحٌ يُرْسِلُ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ يَعِدُهُ بِإِعَادَتِهِ إِلَى مَرْتَبَتِهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ مَنْصُورٌ، أَرْسَلَ الْأَمِيرُ نُوحٌ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ الْخِلَعَ وَاللِّوَاءَ، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَأَقْطَعَهُ الرَّيَّ وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهَا، فَسَارَ عَنِ الصَّغَانِيَانِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَاسْتَخْلَفَ مَكَانَهُ ابْنَهُ أَبَا مَنْصُورٍ، وَوَصَلَ إِلَى مَرْوَ وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ أَصْبَحَ أَمْرُ خُوَارِزْمَ، وَكَانَتْ شَاغِرَةً، وَسَارَ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَوَرَدَهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ فَأَقَامَ بِهَا. ذِكْرُ الْحَرْبِ بِصِقِلِّيَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ كَانَ الْمَنْصُورُ الْعَلَوِيُّ صَاحِبَ إِفْرِيقِيَّةَ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَلَى صِقِلِّيَةَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْكَلْبِيَّ، فَدَخَلَهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَغَزَا الرُّومَ الَّذِينَ بِهَا عِدَّةَ غَزَوَاتٍ، فَاسْتَمَدُّوا مَلِكَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا كَثِيرًا، فَنَزَلُوا أَذْرَنْتَ، فَأَرْسَلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى الْمَنْصُورِ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ خَادِمِهِ فَرَحٍ، فَجَمَعَ الْحَسَنَ جُنْدَهُ مَعَ الْوَاصِلِينَ، وَسَارَ إِلَى رِيُّو، وَبَثَّ السَّرَايَا فِي أَرْضِ قِلَّوْرِيَةَ، وَحَاصَرَ الْحَسَنُ جَرَاجَةَ أَشَدَّ حِصَارٍ، فَأَشْرَفَ أَهْلُهَا عَلَى الْهَلَاكِ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَخْذُهَا، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ أَنَّ عَسْكَرَ الرُّومِ وَاصِلٌ إِلَيْهِ، فَهَادَنَ أَهْلَ جَرَاجَةَ عَلَى مَالٍ يُؤَدُّونَهُ، وَسَارَ إِلَى الرُّومِ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِقُرْبِهِ مِنْهُمُ، انْهَزَمُوا بِغَيْرِ قِتَالٍ وَتَرَكُوا أَذْرَنْتَ. وَنَزَلَ الْحَسَنُ عَلَى قَلْعَةِ قِسَانَةَ، وَبَثَّ سَرَايَاهُ تَنْهَبُ، فَصَالَحَهُ أَهْلُ قِسَانَةَ عَلَى مَالٍ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ الْمَصَافُّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَعَسْكَرِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الرُّومِ الَّذِينَ بِصِقِلِّيَةَ لَيْلَةَ الْأَضْحَى، وَاقْتَتَلُوا وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَانْهَزَمَ الرُّومُ، وَرَكِبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ إِلَى اللَّيْلِ، وَغَنِمُوا جَمِيعَ أَثْقَالِهِمْ، وَسِلَاحِهِمْ، وَدَوَابِّهِمْ، وَسَيَّرَ الرُّءُوسَ إِلَى مَدَائِنِ صِقِلِّيَةَ، وَإِفْرِيقِيَّةَ، وَحَصَرَ الْحَسَنُ جَرَاجَةَ، فَصَالَحُوهُ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُونَهُ، وَرَجَعَ عَنْهُمْ، وَسَيَّرَ سَرِيَّةً إِلَى الْمَدِينَةِ بِطَرْقُوقَةَ فَفَتَحُوهَا، وَغَنِمُوا مَا فِيهَا.

وَلَمْ يَزَلِ الْحَسَنُ بِجَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، فَمَاتَ الْمَنْصُورُ، فَسَارَ عَنْهَا إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَاتَّصَلَ بِالْمُعِزِّ بْنِ الْمَنْصُورِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى صِقِلِّيَةَ ابْنَهُ أَبَا الْحَسَنِ أَحْمَدَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ رُفِعَ إِلَى الْمُهَلَّبِيِّ أَنَّ رَجُلًا يُعْرَفُ بِالْبَصْرِيِّ مَاتَ بِبَغْدَاذَ، وَهُوَ مُقَدَّمُ الْقَرَاقِرِيَّةِ يَدَّعِي أَنَّ رُوحَ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْقَرَاقِرِ قَدْ حَلَّتْ فِيهِ، وَأَنَّهُ خَلَّفَ مَالًا كَثِيرًا كَانَ يَجْبِيهِ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَأَنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَعْتَقِدُونَ رُبُوبِيَّتَهُ، وَأَنَّ أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ حَلَّتْ فِيهِمْ، فَأَمَرَ بِالْخَتْمِ عَلَى التَّرِكَةِ، وَالْقَبْضِ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَالَّذِي قَامَ بِأَمْرِهِمْ بَعْدَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِلَّا مَالًا يَسِيرًا، وَرَأَى دَفَاتِرَ فِيهَا أَشْيَاءُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ. وَكَانَ فِيهِمْ غُلَامٌ شَابٌّ يَدَّعِي أَنَّ رُوحَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَلَّتْ فِيهِ، وَامْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا فَاطِمَةُ تَدَّعِي أَنَّ رُوحَ فَاطِمَةَ حَلَّتْ فِيهَا، وَخَادِمٌ لِبَنِي بِسِطَامَ يَدَّعِي أَنَّهُ مِيكَائِيلُ، فَأَمَرَ بِهِمُ الْمُهَلَّبِيُّ فَضُرِبُوا وَنَالَهُمْ مَكْرُوهٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَوَصَّلُوا بِمَنْ أَلْقَى إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ أَنَّهُمْ مِنْ شِيعَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَمَرَ بِإِطْلَاقِهِمْ، وَخَافَ الْمُهَلَّبِيُّ أَنْ يُقِيمَ عَلَى تَشَدُّدِهِ فِي أَمْرِهِمْ فَيُنْسَبُ إِلَى تَرْكِ التَّشَيُّعِ، فَسَكَتَ عَنْهُمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ لَالٍ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ الْمَشْهُورُ فِي شَعْبَانَ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ عَابِدًا مُعْتَزِلِيًّا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو جَعْفَرٍ الْفَقِيهُ بِبُخَارَى.

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 341 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ حِصَارِ الْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ يُوسُفُ بْنُ وَجِيهٍ صَاحِبُ عَمَّانَ فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ إِلَى الْبَصْرَةِ (فَحَصَرَهَا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ لَمَّا سَلَكَ الْبَرِّيَّةَ إِلَى الْبَصْرَةِ) ، وَأَرْسَلَ الْقَرَامِطَةُ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَأَجَابَهُمْ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، عَلِمَ يُوسُفُ بْنُ وَجِيهٍ اسْتِيحَاشَهُمْ مِنْ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ يُطْمِعُهُمْ فِي الْبَصْرَةِ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَمُدُّوهُ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَرِّ، فَأَمَدُّوهُ بِجَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَسَارَ يُوسُفُ فِي الْبَحْرِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْوَزِيرِ الْمُهَلَّبِيِّ وَقَدْ فَرَغَ مِنَ الْأَهْوَازِ وَالنَّظَرِ فِيهَا، فَسَارَ مُجِدًّا فِي الْعَسَاكِرِ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَدَخَلَهَا قَبْلَ وُصُولِ يُوسُفَ إِلَيْهَا، وَشَحَنَهَا بِالرِّجَالِ، وَأَمَدَّهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِالْعَسَاكِرِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَتَحَارَبَ هُوَ وَابْنُ وَجِيهٍ أَيَّامًا، ثُمَّ انْهَزَمَ ابْنُ وَجِيهٍ، وَظَفَرَ الْمُهَلَّبِيُّ بِمَرَاكِبِهِ وَمَا مَعَهُ مِنْ سِلَاحٍ وَغَيْرِهِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَنْصُورِ الْعَلَوِيِّ وَمِلْكِ وَلَدِهِ الْمُعِزِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمَنْصُورُ بِاللَّهِ أَبُو الطَّاهِرِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَائِمِ أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيِّ سَلْخَ شَوَّالٍ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَبْعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا،

وَكَانَ عُمُرُهُ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ خَطِيبًا بَلِيغًا، يَخْتَرِعُ الْخُطْبَةَ لِوَقْتِهِ، وَأَحْوَالُهُ مَعَ أَبِي يَزِيدَ الْخَارِجِيِّ وَغَيْرِهِ تَدُلُّ عَلَى شَجَاعَةٍ وَعَقْلٍ. وَكَانَ سَبَبُ وَفَاتِهِ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى سَفَاقُسَ وَتُونُسَ ثُمَّ إِلَى قَابِسَ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ جَزِيرَةِ جَرْبَةَ يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ رِجَالًا مَعَهُ وَعَادَ، وَكَانَتْ سُفْرَتُهُ شَهْرًا، وَعَهِدَ إِلَى ابْنِهِ مَعَدٍّ بِوَلَايَةِ الْعَهْدِ، فَلَمَّا كَانَ رَمَضَانُ، خَرَجَ مُتَنَزِّهًا أَيْضًا إِلَى مَدِينَةِ جَلُولَاءَ، وَهُوَ مَوْضِعٌ كَثِيرُ الثِّمَارِ، وَفِيهِ مِنَ الْأُتْرُجِّ مَا لَا يُرَى مِثْلُهُ فِي عِظَمِهِ، يَكُونُ شَيْءٌ يَحْمِلُ الْجَمَلُ مِنْهُ أَرْبَعَ أُتْرُجَّاتٍ، فَحَمَلَ مِنْهُ إِلَى قَصْرِهِ. وَكَانَ لِلْمَنْصُورِ جَارِيَةٌ حَظِيَّةٌ عِنْدَهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ اسْتَحْسَنَتْهُ، وَسَأَلَتِ الْمَنْصُورَ أَنْ تَرَاهُ فِي أَغْصَانِهِ، فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ، وَرَحَلَ إِلَيْهَا فِي خَاصَّتِهِ، وَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَنْصُورِيَّةِ، فَأَصَابَهُ فِي الطَّرِيقِ (رِيحٌ شَدِيدَةٌ) وَبَرْدٌ وَمَطَرٌ، وَدَامَ عَلَيْهِ فَصَبَرَ وَتَجَلَّدَ، وَكَثُرَ الثَّلْجُ، فَمَاتَ جَمَاعَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَهُ، وَاعْتَلَّ الْمَنْصُورُ عِلَّةً شَدِيدَةً، لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَنْصُورِيَّةِ أَرَادَ دُخُولَ الْحَمَّامِ، فَنَهَاهُ طَبِيبُهُ إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ وَدَخَلَ الْحَمَّامَ، فَفَنِيَتِ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ مِنْهُ وَلَازَمَهُ السَّهَرُ، فَأَقْبَلَ إِسْحَاقُ يُعَالِجُ الْمَرَضَ وَالسَّهَرُ بَاقٍ بِحَالِهِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَنْصُورِ، فَقَالَ لِبَعْضِ الْخَدَمِ: أَمَا فِي الْقَيْرَوَانِ طَبِيبٌ غَيْرُ إِسْحَاقَ يُخَلِّصُنِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ: هَاهُنَا شَابٌّ قَدْ نَشَأَ الْآنَ اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، وَشَكَا إِلَيْهِ مَا يَجِدُهُ مِنَ السَّهَرِ، فَجَمَعَ لَهُ أَشْيَاءَ مُنَوِّمَةٍ، وَجُعِلَتْ فِي قِنِّينَةٍ عَلَى النَّارِ، وَكَلَّفَهُ شَمَّهَا، فَلَمَّا أَدْمَنَ شَمَّهَا نَامَ. وَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ مَسْرُورٌ بِمَا فَعَلَ، وَبَقِيَ الْمَنْصُورُ نَائِمًا، فَجَاءَ إِسْحَاقُ فَطَلَبَ الدُّخُولَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: هُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ صَنَعَ لَهُ شَيْءٌ يَنَامُ مِنْهُ فَقَدْ مَاتَ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَوَجَدُوهُ مَيِّتًا، فَدُفِنَ فِي قَصْرِهِ وَأَرَادُوا قَتْلَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ إِسْحَاقُ: مَا لَهُ ذَنْبٌ، إِنَّمَا دَاوَاهُ بِمَا ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاءُ، غَيْرَ أَنَّهُ جَهِلَ أَصْلَ الْمَرَضِ وَمَا عَرَفْتُمُوهُ، وَذَلِكَ أَنَّنِي كُنْتُ (فِي مُعَالَجَتِهِ) أَنْظُرُ فِي تَقْوِيَةِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَبِهَا يَكُونُ النَّوْمُ، فَلَمَّا عُولِجَ بِالْأَشْيَاءِ الْمُطْفِئَةِ لَهَا، عَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ.

وَلَمَّا مَاتَ وَلِيَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مَعَدٌّ، وَهُوَ الْمُعِزُّ لِدِينِ اللَّهِ، وَأَقَامَ فِي تَدْبِيرِ الْأُمُورِ إِلَى سَابِعِ ذِي الْحِجَّةِ، فَأَذِنَ لِلنَّاسِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَجَلَسَ لَهُمْ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، وَكَانَ عُمُرُهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] صَعِدَ جَبَلَ أُورَاسَ، وَجَالَ فِيهِ عَسْكَرُهُ، وَهُوَ مَلْجَأُ كُلِّ مُنَافِقٍ عَلَى الْمُلُوكِ، وَكَانَ فِيهِ بَنُو كَمْلَانَ، وَمُلَيْلَةَ، وَقَبِيلَتَانِ مِنْ هَوَارَةَ، لَمْ يَدْخُلُوا فِي طَاعَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، فَأَطَاعُوا الْمُعِزَّ، وَدَخَلُوا مَعَهُ الْبِلَادَ، وَأَمَرَ نُوَّابَهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْبَرْبَرِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَتَاهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمُ الْمُعِزُّ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَنِ اسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَزَرٍ الزَّنَاتِيُّ أَخُو مَعْبَدٍ، فَأَمَّنَهُ الْمُعِزُّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، ضَرَبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَزِيرَهُ أَبَا مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيَّ بِالْمَقَارِعِ مِائَةً وَخَمْسِينَ مِقْرَعَةً، وَوَكَّلَ بِهِ فِي دَارِهِ وَلَمْ يَعْزِلْهُ مِنْ وِزَارَتِهِ، وَكَانَ نَقِمَ عَلَيْهِ أُمُورًا ضَرْبَهُ بِسَبَبِهَا. وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَاذَ فِي سُوقِ الثُّلَاثَاءِ، فَاحْتَرَقَ فِيهِ لِلنَّاسِ مَا لَا يُحْصَى. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلِكَ الرُّومُ مَدِينَةَ سِرُوجَ، وَسَبَوْا أَهْلَهَا وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ، وَأَخْرَبُوا الْمَسَاجِدَ. وَفِيهَا سَارَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ مِنَ الرَّيِّ إِلَى طَبَرِسْتَانَ وَجُرْجَانَ، فَسَارَ عَنْهَا إِلَى نَاحِيَةِ نَسَا وَأَقَامَ بِهَا، وَاسْتَوْلَى رُكْنُ الدَّوْلَةِ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ، وَعَادَ عَنْهَا إِلَى الرَّيِّ، وَاسْتَخْلَفَ بِجُرْجَانَ الْحَسَنَ بْنَ فَيْرُزَانَ وَعَلِيَّ بْنَ كَامَةَ، فَلَمَّا رَجَعَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ عَنْهَا، قَصَدَهَا وَشْمَكِيرُ فَانْهَزَمُوا مِنْهُ، وَاسْتَرَدَّهَا وَشْمَكِيرُ.

وَفِيهَا وُلِدَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَهُوَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيٍّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الصَّفَارُ النَّحْوِيُّ الْمُحَدِّثُ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُبَرِّدِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، (وَكَانَ مُكْثِرًا مِنَ الْحَدِيثِ) .

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 342 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ هَرَبِ دَيْسَمَ عَنْ أَذْرَبِيجَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَرَبَ دَيْسَمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو سَالِمٍ عَنْ أَذْرَبِيجَانَ، وَكُنَّا قَدْ ذَكَرْنَا اسْتِيلَاءَهُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا سَبَبُ هَرَبِهِ عَنْهَا فَإِنَّهُ كَانَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ قَدْ قَبَضَ عَلَى بَعْضِ قُوَّادِهِ، وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ مَيْسَكِيِّ، فَأَفْلَتَ مِنَ الْحَبْسِ وَقَصَدَ الْجَبَلَ، وَجَمَعَ جَمْعًا وَسَارَ إِلَى وَهْسُوذَانَ أَخِي الْمَرْزُبَانِ، فَاتَّفَقَ مَعَهُ وَتَسَاعَدَا عَلَى دَيْسَمَ. ثُمَّ إِنَّ الْمَرْزُبَانَ اسْتَوْلَى عَلَى قَلْعَةِ سُمَيْرِمَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَوَصَلَتْ كُتُبُهُ إِلَى أَخِيهِ وَعَلِيِّ بْنِ مَيْسَكِيِّ بِخَلَاصِهِ، وَكَاتَبَ الدَّيْلَمَ وَاسْتَمَالَهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمْ دَيْسَمُ بِخَلَاصِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّ وَهْسُوذَانَ وَعَلِيَّ بْنَ مَيْسَكِيِّ يُقَاتِلَانِهِ. وَكَانَ لَهُ وَزِيرٌ يُعْرَفُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيِّ، فَشَرَهَ إِلَى مَالِهِ وَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَاسْتَكْتَبَ إِنْسَانًا كَانَ يَكْتُبُ لِلنُّعَيْمِيِّ، (فَاحْتَالَ النُّعَيْمِيُّ) بِأَنْ أَجَابَهُ إِلَى كُلِّ مَا الْتَمَسَ مِنْهُ، (وَضَمِنَ مِنْهُ) ذَلِكَ الْكَاتِبَ بِمَالٍ، فَأَطْلَقَهُ دَيْسَمُ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ كَاتِبَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى حَالِهِ. ثُمَّ سَارَ دَيْسَمُ وَخَلَّفَهُ بِأَرْدَبِيلَ لِيُحَصِّلَ الْمَالَ الَّذِي بَذَلَهُ، فَقَتَلَ النُّعَيْمِيُّ ذَلِكَ الْكَاتِبَ وَهَرَبَ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْمَالِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ مَيْسَكِيِّ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ دَيْسَمَ بِقُرْبِ زَنْجَانَ، فَعَادَ إِلَى أَرْدَبِيلَ، فَشَغَبَ الدَّيْلَمُ عَلَيْهِ، فَفَرَّقَ فِيهِمْ مَا كَانَ لَهُ مِنْ مَالٍ، وَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِمَسِيرِ عَلِيِّ بْنِ مَيْسَكِيِّ إِلَى أَرْدَبِيلَ فِي عِدَّةٍ يَسِيرَةٍ، فَسَارَ نَحْوَهُ وَالْتَقَيَا وَاقْتَتَلًا، فَانْحَازَ الدَّيْلَمُ إِلَى عَلِيٍّ، وَانْهَزَمَ دَيْسَمُ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَكْرَادِ، فَحَمَلَ إِلَيْهِ مُلُوكَهَا مَا تَمَاسَكَ بِهِ. وَوَرَدَ عَلَيْهِ الْخَبَرُ بِمَسِيرِ الْمَرْزُبَانِ عَنْ قَلْعَةِ سُمَيْرِمَ إِلَى أَرْدَبِيلَ، وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى

أَذْرَبِيجَانَ، وَإِنْفَاذِهِ جَيْشًا نَحْوَهُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْمَقَامُ، فَهَرَبَ عَنْ أَرْمِينِيَّةَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَكَانَ وُصُولُهُ هَذِهِ السَّنَةَ، فَلَقِيَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ. ثُمَّ كَاتَبَهُ أَهْلُهُ وَأَصْحَابُهُ بِأَذْرَبِيجَانَ يَسْتَدْعُونَهُ، فَرَحَلَ عَنْ بَغْدَاذَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] وَطَلَبَ مِنْ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ أَنْ يُنْجِدَهُ بِعَسْكَرٍ، فَلَمْ يَفْعَلْ؛ لِأَنَّ الْمَرْزُبَانَ كَانَ قَدْ صَالَحَ رُكْنَ الدَّوْلَةِ وَصَاهَرَهُ، فَلَمْ يُمْكِنْ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مُخَالَفَةَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، فَسَارَ دَيْسَمُ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ بِالْمَوْصِلِ يَسْتَنْجِدُهُ، فَلَمْ يُنْجِدْهُ، فَسَارَ إِلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِالشَّامِ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ إِلَى سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَاتُّفِقَ أَنَّ الْمَرْزُبَانَ خَرَجَ عَلَيْهِ جَمْعٌ بِبَابِ الْأَبْوَابِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ مُقَدَّمٌ مِنْ أَكْرَادِ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى دَيْسَمَ يَسْتَدْعِيهِ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ لِيُعَاضِدَهُ عَلَى مَلِكِهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا، وَمَلَكَ مَدِينَةَ سَلْمَاسَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَرْزُبَانُ قَائِدًا مِنْ قُوَّادِهِ، فَقَاتَلَهُ، فَاسْتَأْمَنَ أَصْحَابُ الْقَائِدِ إِلَى دَيْسَمَ، فَعَادَ الْقَائِدُ مُنْهَزِمًا، وَبَقِيَ دَيْسَمُ بِسَلْمَاسَ. فَلَمَّا فَرَغَ الْمَرْزُبَانُ مِنْ أَمْرِ الْخَوَارِجِ عَلَيْهِ، عَادَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ دَيْسَمَ، فَارَقَ سَلْمَاسَ وَسَارَ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ وَقَصَدَ ابْنَ الدَّيَرَانِيَّ وَابْنَ حَاجِيقَ لِثِقَتِهِ بِهِمَا، فَكَتَبَ الْمَرْزُبَانُ إِلَى ابْنِ الدَّيَرَانِيِّ يَأْمُرُهُ بِالْقَبْضِ عَلَى دَيْسَمَ، فَدَافَعَهُ ثُمَّ قَبَضَ عَلَيْهِ خَوفًا مِنَ الْمَرْزُبَانِ، (فَلَمَّا قَبَضَ عَلَيْهِ أَمَرَهُ الْمَرْزُبَانُ بِأَنْ) يَحْمِلَهُ إِلَيْهِ، فَدَافَعَهُ ثُمَّ اضْطُرَّ إِلَى تَسْلِيمِهِ، فَلَمَّا تَسَلَّمَهُ الْمَرْزُبَانُ سَمَلَهُ وَأَعْمَاهُ، ثُمَّ حَبَسَهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمَرْزُبَانُ قَتَلَ دَيْسَمَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْمَرْزُبَانِ خَوفًا مِنْ غَائِلَتِهِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْمَرْزُبَانِ عَلَى سُمَيْرِمَ قَدْ ذَكَرْنَا أَسْرَ الْمَرْزُبَانِ وَحَبْسَهُ بِسُمَيْرِمَ، وَأَمَّا سَبَبُ خَلَاصِهِ فَإِنَّ وَالِدَتَهُ، وَهِيَ ابْنَةُ جِسْتَانَ بْنِ وَهْسُوذَانَ الْمَلِكِ، وَضَعَتْ جَمَاعَةً لِلسَّعْيِ فِي خَلَاصِهِ، فَقَصَدُوا سُمَيْرِمَ، وَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ تُجَّارٌ، وَأَنَّ الْمَرْزُبَانَ قَدْ أَخَذَ مِنْهُمْ أَمْتِعَةً نَفِيسَةً وَلَمْ يُوصِلْ ثَمَنَهَا إِلَيْهِمْ، وَاجْتَمَعُوا بِمُتَوَلِّي سُمَيْرِمَ، وَيُعْرَفُ بِبَشِيرِ أَسْفَارْ، وَعَرَّفُوهُ مَا ظَلَمَهُمْ بِهِ الْمَرْزُبَانُ، وَسَأَلُوهُ أَنْ

يَجْمَعَ بَيْنَهُمْ لِيُحَاسِبُوهُ وَلِيَأْخُذُوا خَطَّهُ إِلَى وَالِدَتِهِ بِإِيصَالِ مَا لَهُمْ إِلَيْهِمْ، فَرَقَّ لَهُمْ بَشِيرُ أَسْفَارٍ وَجَمَعَ بَيْنَهُمْ، فَطَالَبُوهُ بِمَالِهِمْ، فَأَنْكَرَ الْمَرْزُبَانُ ذَلِكَ، فَغَمَزَهُ أَحَدُهُمْ، فَفَطِنَ لَهُمْ وَاعْتَرَفَ لَهُمْ، وَقَالَ: حَتَّى أَتَذَكَّرَ مَالَكُمْ، فَإِنَّنِي لَا أَعْرِفُ مِقْدَارَهُ، فَأَقَامُوا هُنَاكَ، وَبَذَلُوا الْأَمْوَالَ لِبَشِيرِ أَسْفَارٍ وَالْأَجْنَادِ، وَضَمِنُوا لَهُمُ الْأَمْوَالَ الْجَلِيلَةَ إِذَا خَلُصَ مَا لَهُمْ عِنْدَ الْمَرْزُبَانِ، فَصَارُوا لِذَلِكَ يَدْخُلُونَ الْحِصْنَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَكَثُرَ اجْتِمَاعُهُمْ بِالْمَرْزُبَانِ وَأَوْصَلُوا إِلَيْهِ أَمْوَالًا مِنْ عِنْدِ وَالِدَتِهِ، وَأَخْبَارًا، وَأَخَذُوا مِنْهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَكَانَ لِبَشِيرِ أَسْفَارٍ غُلَامٌ أَمَرَدُ، جَمِيلُ الْوَجْهِ، يَحْمِلُ تُرْسَهُ وَزَوْبِينَهُ، فَأَظْهَرَ الْمَرْزُبَانُ لِذَلِكَ الْغُلَامِ مَحَبَّةً شَدِيدَةً وَعِشْقًا، وَأَعْطَاهُ مَالًا كَثِيرًا مِمَّا جَاءَهُ مِنْ وَالِدَتِهِ، فَوَاطَأَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَأَوْصَلَ إِلَيْهِ دِرْعًا وَمَبَارِدَ، فَبَرَدَ قَيْدَهُ، وَاتَّفَقَ الْمَرْزُبَانُ وَذَلِكَ الْغُلَامُ وَالَّذِينَ جَاءُوا لِتَخْلِيصِ الْمَرْزُبَانِ عَلَى أَنْ يَقْتُلُوا بَشِيرَ أَسْفَارٍ فِي يَوْمٍ ذَكَرُوهُ. وَكَانَ بَشِيرُ أَسْفَارٍ يَقْصِدُ الْمَرْزُبَانَ كُلَّ أُسْبُوعٍ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَفْتَقِدُهُ وَقُيُودَهُ وَيُصَبِّرُهُ وَيَعُودُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْمَوْعِدِ، دَخَلَ أَحَدُ أُولَئِكَ التُّجَّارِ، فَقَعَدَ عِنْدَ الْمَرْزُبَانِ، وَجَلَسَ آخَرُ عِنْدَ الْبَوَّابِ، وَأَقَامَ الْبَاقُونَ عِنْدَ بَابِ الْحِصْنِ يَنْتَظِرُونَ الصَّوْتَ، وَدَخَلَ بَشِيرُ أَسْفَارٍ إِلَى الْمَرْزُبَانِ، فَتَلَطَّفَ بِهِ الْمَرْزُبَانُ وَسَأَلَهُ أَنْ يُطْلِقَهُ، وَبَذَلَ لَهُ أَمْوَالًا جَلِيلَةً وَإِقْطَاعًا كَثِيرًا، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَا أَخُونُ رُكْنَ الدَّوْلَةِ أَبَدًا. فَنَهَضَ الْمَرْزُبَانُ وَقَدْ أَخْرَجَ رِجْلَهُ مِنْ قَيْدِهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْبَابِ، فَأَخَذَ التُّرْسَ وَالزَّوْبِينَ مِنْ ذَلِكَ الْغُلَامِ، وَعَادَ إِلَى بَشِيرِ أَسْفَارٍ، فَقَتَلَهُ هُوَ وَذَلِكَ التَّاجِرُ الَّذِي عِنْدَهُ، وَثَارَ الرَّجُلُ الَّذِي عِنْدَ الْبَوَّابِ بِهِ فَقَتَلَهُ، وَدَخَلَ مَنْ كَانَ عِنْدَ بَابِ الْحِصْنِ إِلَى الْمَرْزُبَانِ. وَكَانَ أَجْنَادُ الْقَلْعَةِ مُتَفَرِّقِينَ، فَلَمَّا وَقَعَ الصَّوْتُ اجْتَمَعُوا، فَرَأَوْا صَاحِبَهُمْ قَتِيلًا، فَسَأَلُوا الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمُ الْمَرْزُبَانُ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الْقَلْعَةِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَخَرَجَ فَلَحِقَ بِأُمِّهِ وَأَخِيهِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ.

ذِكْرُ مَسِيرِ أَبِي عَلِيٍّ إِلَى الرَّيِّ لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ وَشْمَكِيرَ وَرُكْنِ الدَّوْلَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، كَتَبَ وَشْمَكِيرُ إِلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ يَسْتَمِدُّهُ، فَكَتَبَ نُوحٌ إِلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُحْتَاجٍ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ فِي جُيُوشِ خُرَاسَانَ إِلَى الرَّيِّ وَقِتَالِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، فَسَارَ أَبُو عَلِيٍّ فِي جُيُوشٍ كَثِيرَةٍ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ وَشْمَكِيرُ، فَسَارَا إِلَى الرَّيِّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى رُكْنِ الدَّوْلَةِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِمَنْ قَصَدَهُ، فَرَأَى أَنْ يَحْفَظَ بَلَدَهُ، وَيُقَاتِلَ عَدُوَّهُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَحَارَبَ الْخُرَاسَانِيِّينَ بِطَبَرَكَ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ عِدَّةَ شُهُورٍ يُقَاتِلُهُ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ وَهَلَكَتْ دَوَابُّ الْخُرَاسَانِيَّةِ، وَأَتَاهُمُ الشِّتَاءُ وَمَلُّوا فَلَمْ يَصْبِرُوا، فَاضْطُرَّ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى الصُّلْحِ، فَتَرَاسَلُوا فِي ذَلِكَ، وَكَانَ الرَّسُولُ أَبَا جَعْفَرٍ الْخَازِنَ، صَاحِبَ كِتَابِ زِيجِ الصَّفَائِحِ، وَكَانَ عَارِفًا بِعُلُومِ الرِّيَاضَةِ، وَكَانَ الْمُشِيرُ بِهِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَتَصَالَحَا وَتَقَرَّرَ عَلَى رُكْنِ الدَّوْلَةِ كُلَّ سَنَةٍ مِائَتَا أَلْفِ دِينَارٍ، وَعَادَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى خُرَاسَانَ. وَكَتَبَ وَشْمَكِيرُ إِلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، وَيَذْكُرُ لَهُ أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ لَمْ يَصْدُقْ فِي الْحَرْبِ، وَأَنَّهُ مَالَأَ رُكْنَ الدَّوْلَةِ، (فَاغْتَاظَ نُوحٌ مِنْ أَبِي عَلِيٍّ، وَأَمَّا رُكْنُ الدَّوْلَةِ) فَإِنَّهُ لَمَّا عَادَ عَنْهُ أَبُو عَلِيٍّ، سَارَ نَحْوَ وَشْمَكِيرَ، فَانْهَزَمَ وَشْمَكِيرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ إِلَى أَسْفَرَايِينَ، وَاسْتَوْلَى رُكْنُ الدَّوْلَةِ عَلَى طَبَرِسْتَانَ. ذِكْرُ عَزْلِ أَبِي عَلِيٍّ عَنْ خُرَاسَانَ لَمَّا اتَّصَلَ خَبَرُ أَبِي عَلِيٍّ عَنِ الرَّيِّ إِلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ، سَاءَهُ ذَلِكَ، وَكَتَبَ وَشْمَكِيرُ إِلَى نُوحٍ يُلْزِمُ الذَّنْبَ فِيهِ أَبَا عَلِيٍّ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ بِعَزْلِهِ عَنْ خُرَاسَانَ، وَكَتَبَ إِلَى الْقُوَّادِ يُعَرِّفُهُمْ أَنَّهُ قَدْ عَزَلَهُ عَنْهُمْ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْجُيُوشِ بَعْدَهُ أَبَا سَعِيدٍ بَكْرَ بْنَ مَالِكٍ الْفَرْغَانِيَّ، فَأَنْفَذَ أَبُو عَلِيٍّ يَعْتَذِرُ، وَرَاسَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ نَيْسَابُورَ يُقِيمُونَ عُذْرَهُ، وَيَسْأَلُونَ أَنْ لَا يُعْزَلَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يُجَابُوا إِلَى ذَلِكَ، وَعُزِلَ أَبُو عَلِيٍّ عَنْ خُرَاسَانَ، وَأَظْهَرَ الْخِلَافَ وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ بِنَيْسَابُورَ.

وَكَتَبَ (نُوحٌ إِلَى) وَشْمَكِيرَ وَالْحَسَنِ بْنِ فَيَرُزَانَ يَأْمُرُهُمَا بِالصُّلْحِ، وَأَنْ يَتَسَاعَدَا عَلَى مَنْ يُخَالِفُ الدَّوْلَةَ، فَفَعَلَا ذَلِكَ، فَلَمَّا عَلِمَ أَبُو عَلِيٍّ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ مَعَ نُوحٍ، كَاتَبَ عَلَيْهِ رُكْنَ الدَّوْلَةِ فِي الْمَصِيرِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْمَقَامُ بِخُرَاسَانَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى الصَّغَانِيَانِ، فَاضْطُرَّ إِلَى مُكَاتَبَةِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ فِي الْمَصِيرِ إِلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شُبَاطَ، ظَهَرَ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ جَرَادٌ كَثِيرٌ أَقَامَ أَيَّامًا، وَأَثَّرَ فِي الْغَلَّاتِ آثَارًا قَبِيحَةً، وَكَذَلِكَ ظَهَرَ بِالْأَهْوَازِ، وَدِيَارِ الْمَوْصِلِ، وَالْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ، وَسَائِرِ النَّوَاحِي، فَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ بِالْعِرَاقِ. وَفِيهَا عَادَ رُسُلٌ كَانَ الْخَلِيفَةُ أَرْسَلَهُمْ إِلَى خُرَاسَانَ لِلصُّلْحِ بَيْنَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ وَنُوحٍ صَاحِبِ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى حُلْوَانَ، خَرَجَ عَلَيْهِمُ ابْنُ أَبِي الشَّوْكِ فِي أَكْرَادِهِ، فَنَهَبَهُمْ وَنَهَبَ الْقَافِلَةَ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُمْ، وَأَسَرَ الرُّسُلَ ثُمَّ أَطْلَقَهُمْ، فَسَيَّرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَسْكَرًا إِلَى حُلْوَانَ، فَأَوْقَعُوا بِالْأَكْرَادِ وَأَصْلَحُوا الْبِلَادَ هُنَاكَ وَعَادُوا. وَفِيهَا سَيَّرَ الْحُجَّاجَ الشَّرِيفَانِ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ يَحْيَى الْعَلَوِيَّانِ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ عَسَاكِرِ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ طُغْجَ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ الظَّفَرُ لَهُمَا، فَخَطَبَ لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ مَكَّةَ، لِحَقَهُمَا عَسْكَرُ مِصْرَ، فَقَاتَلَهُمَا فَظَفِرَا بِهِ أَيْضًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْفَهْمِ دَاوُدُ أَبُو الْقَاسِمِ جَدُّ الْقَاضِي عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ التَّنُوخِيِّ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ عَالِمًا بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالنُّجُومِ، وَلَهُ شِعْرٌ.

وَفِيهَا فِي رَمَضَانَ، مَاتَ الشَّرِيفُ أَبُو عَلِيٍّ عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ (الْعَلَوِيُّ الْكُوفِيُّ) بِبَغْدَاذَ بِصَرْعٍ لَحِقَهُ. وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ، مَاتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ فَهْدٍ الْمَوْصِلِيُّ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْفَضْلِ الْعَبَّاسُ بْنُ فَسَانْجِسَ بِالْبَصْرَةِ مِنْ ذَرَبٍ لَحِقَهُ، وَحُمِلَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَدُفِنَ بِمَشْهَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، وَتَقَلَّدَ الدِّيوَانَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْفَرَجِ، وَجَرَى عَلَى قَاعِدَةِ أَبِيهِ. وَفِيهَا (فِي ذِي الْقِعْدَةِ) مَاتَتْ بِدْعَةُ الْمُغَنِّيَةُ الْمَشْهُورَةُ، الْمَعْرُوفَةُ بِبِدْعَةَ الْحَمْدُونِيَّةِ عَنِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 343 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ حَالِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُحْتَاجٍ قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَخْبَارِ أَبِي عَلِيٍّ مَا تَقَدَّمَ، فَلَمَّا كَتَبَ إِلَى رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْمَصِيرِ إِلَيْهِ، أَذِنَ لَهُ، فَسَارَ إِلَى الرَّيِّ، فَلَقِيَهُ رُكْنُ الدَّوْلَةِ وَأَكْرَمَهُ، وَأَقَامَ الْأَتْرَاكُ الضِّيَافَةَ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ، وَطَلَبَ أَبُو عَلِيٍّ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ عَهْدًا مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ بِوَلَايَةِ خُرَاسَانَ، فَأَرْسَلَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ فِي ذَلِكَ، فَسَيَّرَ لَهُ عَهْدًا بِمَا طَلَبَ، وَسَيَّرَ لَهُ نَجْدَةً مِنْ عَسْكَرِهِ، فَسَارَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى خُرَاسَانَ (وَاسْتَوْلَى عَلَى نَيْسَابُورَ، وَخَطَبَ لِلْمُطِيعِ بِهَا وَبِمَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنْ خُرَاسَانَ) ، وَلَمْ يَكُنْ يُخْطَبُ لَهُ بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ نُوحًا مَاتَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ وَلَدُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ، سَيَّرَ بَكْرُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى خُرَاسَانَ مِنْ بُخَارَى، وَجَعَلَهُ مُقَدَّمًا عَلَى جُيُوشِهَا، وَأَمَرَهُ بِإِخْرَاجِ أَبِي عَلِيٍّ مِنْ خُرَاسَانَ، فَسَارَ فِي الْعَسَاكِرِ نَحْوَ أَبِي عَلِيٍّ، فَتَفَرَّقَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ أَصْحَابُهُ وَعَسْكَرُهُ، وَبَقِيَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ مِائَتَا رَجُلٍ سِوَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الدَّيْلَمِ نَجْدَةً لَهُ، فَاضْطُرَّ إِلَى الْهَرَبِ، فَسَارَ نَحْوَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، فَأَنْزَلَهُ مَعَهُ فِي الرَّيِّ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ مَالِكٍ عَلَى خُرَاسَانَ، فَأَقَامَ بِنَيْسَابُورَ وَتَتَبَّعَ أَصْحَابَ أَبِي عَلِيٍّ. ذِكْرُ مَوْتِ الْأَمِيرِ نُوحِ بْنِ نَصْرٍ، وَوَلَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْأَمِيرُ نُوحُ بْنُ نَصْرِ السَّامَانِيُّ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ

بِالْأَمِيرِ الْحَمِيدِ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ، مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، (وَكَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَ بَكْرَ بْنَ مَالِكٍ عَلَى جُيُوشِ خُرَاسَانَ، كَمَا ذَكَرْنَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ بَكْرٌ إِلَى خُرَاسَانَ، فَقَامَ بَكْرٌ بِأَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ) بْنِ نُوحٍ، وَقَرَّرَ أَمْرَهُ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ حَالُهُ وَثَبَّتَ مُلْكَهُ، أَمَرَ بَكْرًا بِالْمَسِيرِ إِلَى خُرَاسَانَ، فَسَارَ إِلَيْهَا، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَ أَبِي عَلِيٍّ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. ذِكْرُ غَزَاةٍ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، غَزَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَتَلَ وَأَسَرَ، وَسَبَى وَغَنِمَ، وَكَانَ فِيمَنْ قُتِلَ قُسْطَنْطِينُ بْنُ الدُّمُسْتُقِ، فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى الرُّومِ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى الدُّمُسْتُقِ، فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ مِنَ الرُّومِ وَالرُّوسِ وَالْبُلْغَارِ وَغَيْرِهِمْ وَقَصَدَ الثُّغُورَ، فَسَارَ إِلَيْهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ، فَالْتَقَوْا عِنْدَ الْحَدَثِ فِي شَعْبَانَ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - نَصَرَ الْمُسْلِمِينَ، فَانْهَزَمَ الرُّومُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ وَمِمَّنْ مَعَهُمْ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَأُسِرَ صِهْرُ الدُّمُسْتُقِ وَابْنِ ابْنَتِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ بَطَارِقَتِهِ، وَعَادَ الدُّمُسْتُقُ مَهْزُومًا مَسْلُولًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ بِخُرَاسَانَ وَالْجِبَالِ وَبَاءٌ عَظِيمٌ، هَلَكَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً. وَفِيهَا صُرِفَ الْأَبْرَعَاجِيُّ عَنْ شُرْطَةِ بَغْدَاذَ، وَصُودِرَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَرُتِّبَ مَكَانُهُ بَكْبِيكُ نَقِيبُ الْأَتْرَاكِ. وَفِيهَا سَارَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ إِلَى جُرْجَانَ وَمَعَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُحْتَاجٍ، فَدَخَلَهَا بِغَيْرِ حَرْبٍ، وَانْصَرَفَ وَشْمَكِيرُ عَنْهَا إِلَى خُرَاسَانَ.

وَفِيهَا وَقَعَتِ الْحَرْبُ بِمَكَّةَ بَيْنَ أَصْحَابِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَأَصْحَابِ ابْنِ طُغْجَ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ، فَكَانَتِ الْغَلَبَةُ لِأَصْحَابِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَخُطِبَ بِمَكَّةَ وَالْحِجَازِ لِرُكْنِ الدَّوْلَةِ وَمُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَوَلَدِهِ عِزِّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ، وَبَعْدَهُمْ لِابْنِ طُغْجَ. وَفِيهَا أَرْسَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ سُبُكْتِكِينَ فِي جَيْشٍ إِلَى شَهْرَزُورَ فِي رَجَبٍ، وَمَعَهُ الْمَنْجَنِيقَاتُ لِفَتْحِهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا وَأَقَامَ بِتِلْكَ الْوَلَايَةِ إِلَى الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَعَادَ وَلَمْ يُمْكِنُهُ فَتْحُهَا ; لِأَنَّهُ اتَّصَلَ بِهِ خُرُوجُ عَسَاكِرِ خُرَاسَانَ إِلَى الرَّيِّ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى، فَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَدَخَلَهَا فِي الْمُحَرَّمِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ، مَاتَ (أَبُو) الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ النَّحْوِيِّ الْفَقِيهُ. وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ أَيْضًا، (مَاتَ) أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَرْخِيُّ.

ثم دخلت سنة أربع وأربعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 344 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مَرِضِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَمَا فَعَلَهُ ابْنُ شَاهِينَ كَانَ قَدْ عَرَضَ لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] مَرَضٌ يُسَمَّى فَرْيَافَسْمَسَ، وَهُوَ دَوَامُ الْإِنْعَاظِ مَعَ وَجَعٍ شَدِيدٍ فِي ذَكَرِهِ، مَعَ تَوَتُّرِ أَعْصَابِهِ، وَكَانَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ خَوَّارًا فِي أَمْرَاضِهِ، فَأُرْجِفَ النَّاسُ بِهِ، وَاضْطَرَبَتْ بَغْدَاذُ، فَاضْطُرَّ إِلَى الرُّكُوبِ، فَرَكِبَ فِي ذِي الْحِجَّةِ عَلَى مَا بِهِ مِنْ شِدَّةِ الْمَرَضِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ بَخْتِيَارَ، وَقَلَّدَهُ الْأَمْرَ بَعْدَهُ، وَجَعَلَهُ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ. وَبَلَغَ عِمْرَانَ بْنَ شَاهِينَ أَنَّ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ قَدْ مَاتَ، وَاجْتَازَ عَلَيْهِ مَالٌ يُحْمَلُ إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مِنَ الْأَهْوَازِ، وَفِي صُحْبَتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ التُّجَّارِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَأَخَذَ الْجَمِيعَ، فَلَمَّا عُوفِيَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، رَاسَلَ ابْنَ شَاهِينَ فِي الْمَعْنَى، فَرَدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذَهُ لَهُ، وَحَصَّلَ لَهُ أَمْوَالَ التُّجَّارِ، وَانْفَسَخَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ. ذِكْرُ خُرُوجِ الْخُرَاسَانِيَّةِ إِلَى الرَّيِّ وَأَصْبَهَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ عَسْكَرُ خُرَاسَانَ إِلَى الرَّيِّ وَبِهَا رُكْنُ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَهَا مِنْ جُرْجَانَ أَوَّلَ الْمُحَرَّمِ، فَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ يَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَدَّهُ بِعَسْكَرٍ مُقَدَّمُهُمُ الْحَاجِبُ سُبُكْتِكِينُ، وَسَيَّرَ مِنْ خُرَاسَانَ عَسْكَرًا آخَرَ إِلَى أَصْبَهَانَ عَلَى طَرِيقِ الْمَفَازَةِ، وَبِهَا

الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ بُوَيْهِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ. فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُهُمْ، سَارَ عَنْ أَصْبَهَانَ بِالْخَزَائِنِ وَالْحُرَمِ الَّتِي لِأَبِيهِ، فَبَلَغُوا خَانَ لِنْجَانَ، وَكَانَ مُقَدَّمُ الْعَسْكَرِ الْخُرَاسَانِيِّ مُحَمَّدَ بْنَ مَاكَانَ، فَوَصَلُوا إِلَى أَصْبَهَانَ، فَدَخَلُوهَا وَخَرَجَ ابْنُ مَاكَانَ مِنْهَا فِي طَلَبِ بُوَيْهِ، فَأَدْرَكَ الْخَزَائِنَ فَأَخَذَهَا وَسَارَ فِي أَثَرِهِ، وَكَانَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ أَنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا الْفَضْلِ بْنَ الْعَمِيدِ وَزِيرَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، اتَّصَلَ بِهِمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَعَارَضَ ابْنَ مَاكَانَ وَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ الْعَمِيدِ عَنْهُ، وَاشْتَغَلَ (أَصْحَابُ) ابْنِ مَاكَانَ بِالنَّهْبِ. قَالَ ابْنُ الْعَمِيدِ: فَبَقِيتُ وَحْدِي وَأَرَدْتُ اللَّحَاقَ بِأَصْحَابِي، فَفَكَّرْتُ وَقُلْتُ: بِأَيِّ وَجْهٍ أَلْقَى صَاحِبِي وَقَدْ أَسْلَمْتُ أَوْلَادَهُ، وَأَهْلَهُ، وَأَمْوَالَهُ، وَمُلْكَهُ، وَنَجَوْتُ بِنَفْسِي؟ فَرَأَيْتُ الْقَتْلَ أَيْسَرَ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، فَوَقَفْتُ، وَعَسْكَرُ ابْنُ مَاكَانَ يَنْهَبُ أَثْقَالِي وَأَثْقَالَ عَسْكَرِي، فَلَحِقَ بِابْنِ الْعَمِيدِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَوَقَفُوا مَعَهُ، وَأَتَاهُمْ غَيْرُهُمْ فَاجْتَمَعَ مَعَهُمْ (جَمَاعَةٌ) ، فَحَمَلَ عَلَى الْخُرَاسَانِيِّينَ وَهُمْ مَشْغُولُونَ بِالنَّهْبِ، وَصَاحُوا فِيهِمْ، فَانْهَزَمَ الْخُرَاسَانِيُّونَ فَأُخِذُوا مِنْ بَيْنِ قَتِيلٍ وَأَسِيرٍ، وَأُسِرَ ابْنُ مَاكَانَ وَأُحْضِرَ عِنْدَ ابْنِ الْعَمِيدِ، وَسَارَ ابْنُ الْعَمِيدِ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَأَخْرَجَ مَنْ كَانَ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَاكَانَ، وَأَعَادَ أَوْلَادَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ وَحُرَمَهُ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَاسْتَنْقَذَ أَمْوَالَهُ. ثُمَّ إِنَّ رُكْنَ الدَّوْلَةِ رَاسَلَ بَكْرَ بْنَ مَالِكٍ صَاحِبَ جُيُوشِ خُرَاسَانَ، وَاسْتَمَالَهُ فَاصْطَلَحَا عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ رُكْنُ الدَّوْلَةِ (إِلَيْهِ، وَيَكُونُ الرَّيُّ وَبَلَدُ الْجَبَلِ بِأَسْرِهِ مَعَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَأَرْسَلَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ) إِلَى أَخِيهِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ يَطْلُبُ خِلَعًا وَلِوَاءً بِوَلَايَةِ خُرَاسَانَ لِبَكْرِ بْنِ مَالِكٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ذَلِكَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ بِالرَّيِّ وَبَاءٌ كَثِيرٌ، مَاتَ فِيهِ مِنَ الْخَلْقِ مَا لَا يُحْصَى، وَكَانَ فِيمَنْ مَاتَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُحْتَاجٍ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ جُيُوشِ خُرَاسَانَ، وَمَاتَ مَعَهُ وَلَدُهُ، وَحُمِلَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى الصَّغَانِيَانِ، وَعَادَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْقُوَّادِ إِلَى خُرَاسَانَ.

وَفِيهَا وَقَعَ الْأَكْرَادُ بِنَاحِيَةِ سَاوَةَ عَلَى قُفْلٍ مِنَ الْحُجَّاجِ فَاسْتَبَاحُوهُ، وَفِيهَا خَرَجَ بِنَاحِيَةِ دُنْبَاوَنْدَ رَجُلٌ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، فَقُتِلَ، وَخَرَجَ بِأَذْرَبِيجَانَ رَجُلٌ آخَرُ يَدَّعِي أَنَّهُ يُحَرِّمُ اللُّحُومَ وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَأَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَأَضَافَهُ رَجُلٌ أَطْعَمَهُ كِشْكِيَّةً بِشَحْمٍ، فَلَمَّا أَكَلَهَا قَالَ لَهُ: أَلَسْتَ تُحَرِّمُ اللَّحْمَ وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَأَنَّكَ تَعْلَمُ الْغَيْبَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَهَذِهِ الْكِشْكِيَّةُ بِشَحْمٍ، وَلَوْ عَلِمْتَ الْغَيْبَ لَمَا خَفِيَ عَلَيْكَ ذَلِكَ، فَأَعْرَضَ النَّاسُ عَنْهُ. وَفِيهَا أَنْشَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ مَرْكِبًا كَبِيرًا لَمْ يُعْمَلْ مِثْلُهُ، وَسَيَّرَ فِيهِ أَمْتِعَةً إِلَى بِلَادِ الشَّرْقِ، فَلَقِيَ فِي الْبَحْرِ مَرْكِبًا فِيهِ رَسُولٌ مِنْ صِقِلِّيَةَ إِلَى الْمُعِزِّ، فَقَطَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَرْكِبِ الْأَنْدَلُسِيِّ، وَأَخَذُوا مَا فِيهِ، وَأَخَذُوا الْكُتُبَ الَّتِي إِلَى الْمُعِزِّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُعِزَّ، فَعَمَّرَ أُسْطُولًا وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ صَاحِبَ صِقِلِّيَةَ، وَسَيَّرَهُ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، فَوَصَلُوا إِلَى الْمِرْيَةِ، فَدَخَلُوا الْمَرْسَى وَأَحْرَقُوا جَمِيعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَرَاكِبِ، وَأَخَذُوا ذَلِكَ الْمَرْكِبَ، وَكَانَ قَدْ عَادَ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَفِيهِ أَمْتِعَةٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَجِوَارٍ مُغَنِّيَاتٍ، وَصَعِدَ مِنَ الْأُسْطُولِ إِلَى الْبَرِّ فَقَتَلُوا وَنَهَبُوا، وَرَجَعُوا سَالِمِينَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ. وَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ، سَيَّرَ أُسْطُولًا إِلَى بَعْضِ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَنَزَلُوا وَنَهَبُوا، فَقَصَدَتْهُمْ عَسَاكِرُ الْمُعِزِّ، فَعَادُوا إِلَى مَرَاكِبِهِمْ، وَرَجَعُوا إِلَى الْأَنْدَلُسِ وَقَدْ قَتَلُوا وَقُتِلَ مِنْهُمْ (خَلْقٌ كَثِيرٌ) .

ثم دخلت سنة خمس وأربعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 345 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ عِصْيَانِ رُوزْبَهَانَ عَلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ رُوزْبَهَانُ (بْنُ) وَنْدَادَ خُرْشِيدَ الدَّيْلَمِيُّ عَلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَعَصَى عَلَيْهِ، وَخَرَجَ أَخُوهُ بَلَكَا بِشِيرَازَ، وَخَرَجَ أَخُوهُمَا أَسْفَارٌ بِالْأَهْوَازِ، وَلَحِقَ رُوزْبَهَانُ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَكَانَ يُقَاتِلُ عِمْرَانَ بِالْبَطِيحَةِ، فَعَادَ إِلَى وَاسِطَ وَسَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ فِي رَجَبٍ، وَبِهَا الْوَزِيرُ الْمُهَلَّبِيُّ، فَأَرَادَ مُحَارَبَةَ رُوزْبَهَانَ، فَاسْتَأْمَنَ رِجَالُهُ إِلَى رُوزْبَهَانَ، فَانْحَازَ الْمُهَلَّبِيُّ عَنْهُ. وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ لِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ رَفَعَهُ بَعْدَ الضِّعَةِ، وَنَوَّهَ بِذِكْرِهِ بَعْدَ الْخُمُولِ، فَتَجَهَّزَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى مُحَارَبَتِهِ، وَمَالَ الدَّيْلَمُ بِأَسْرِهِمْ إِلَى رُوزْبَهَانَ، وَلَقُوا مُعِزَّ الدَّوْلَةِ بِمَا يَكْرَهُ، وَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ وَتَتَابَعُوا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى رُوزْبَهَانَ، وَسَارَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَنْ بَغْدَاذَ خَامِسَ شَعْبَانَ، وَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ مُنْحَدِرًا إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ ; لِأَنَّ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ لَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ، سَيَّرَ الْعَسَاكِرَ مِنَ الْمَوْصِلِ مَعَ وَلَدِهِ أَبِي الْمُرَجَّى جَابِرٍ لِقَصْدِ بَغْدَاذَ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ، انْحَدَرَ مِنْ بَغْدَاذَ، فَأَعَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ الْحَاجِبَ سُبُكْتِكِينَ وَغَيْرَهُ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِمْ مِنْ عَسْكَرِهِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَشَغَبَ الدَّيْلَمُ الَّذِينَ بِبَغْدَادَ، فَوُعِدُوا بِأَرْزَاقِهِمْ فَسَكَنُوا وَهُمْ عَلَى قُنُوطٍ مِنْ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ. (وَأَمَّا مُعِزُّ الدَّوْلَةِ) فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى أَنْ بَلَغَ قَنْطَرَةَ أَرْبُقَ، فَنَزَلَ هُنَاكَ وَجَعَلَ عَلَى الطُّرُقِ مَنْ يَحْفَظُ أَصْحَابَ الدَّيْلَمِ مِنَ الِاسْتِئْمَانِ إِلَى رُوزْبَهَانَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْعَطَاءَ

مِنْهُ ثُمَّ يَهْرُبُونَ عَنْهُ، وَكَانَ اعْتِمَادُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عَلَى أَصْحَابِهِ الْأَتْرَاكِ وَمَمَالِيكِهِ وَنَفَرٍ يَسِيرٍ مِنَ الدَّيْلَمِ. فَلَمَّا كَانَ سَلْخُ رَمَضَانَ، أَرَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ الْعُبُورَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ يَثِقُ بِهِمْ إِلَى مُحَارَبَةِ رُوزْبَهَانَ، فَاجْتَمَعَ الدَّيْلَمُ وَقَالُوا لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ: إِنْ كُنَّا رِجَالَكَ، فَأَخْرِجْنَا مَعَكَ نُقَاتِلْ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَإِنَّهُ لَا صَبْرَ لَنَا عَلَى الْقُعُودِ مَعَ الصِّبْيَانِ وَالْغِلْمَانِ، فَإِنْ ظَفِرْتَ كَانَ الِاسْمُ لِهَؤُلَاءِ دُونَنَا، وَإِنْ ظَفِرَ عَدُوُّكَ لَحِقَنَا الْعَارُ، وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا الْكَلَامَ خَدِيعَةً لِيُمَكِّنَهُمْ مِنَ الْعُبُورِ مَعَهُ فَيَتَمَكَّنُوا (مِنْهُ، فَلَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُمْ) سَأَلَهُمُ التَّوَقُّفَ، وَقَالَ: إِنَّمَا أُرِيدُ [أَنْ] أَذُوقَ حَرْبَهُمْ ثُمَّ أَعُودُ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ لَقِينَاهُمْ بِأَجْمَعِنَا وَنَاجَزْنَاهُمْ، وَكَانَ يُكْثِرُ لَهُمُ الْعَطَاءَ فَأَمْسَكُوا عَنْهُ. وَعَبَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، وَعَبَّأَ أَصْحَابَهُ كَرَادِيسَ تَتَنَاوَبُ الْحَمَلَاتِ، فَمَا زَالُوا كَذَلِكَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَفَنِيَ نُشَّابُ الْأَتْرَاكِ وَتَعِبُوا، وَشَكَوْا إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ التَّعَبِ، وَقَالُوا: نَسْتَرِيحُ اللَّيْلَةَ وَنَعُودُ غَدًا، فَعَلِمَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ، زَحَفَ إِلَيْهِ رُوزْبَهَانُ وَالدَّيْلَمُ، وَثَارَ مَعَهُمْ أَصْحَابُهُ الدَّيْلَمُ، فَيَهْلَكُ وَلَا يُمْكِنُهُ الْهَرَبُ، فَبَكَى بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ سَرِيعَ الدَّمْعَةِ، ثُمَّ سَأَلَهُمْ أَنْ تُجْمَعَ الْكَرَادِيسُ كُلُّهَا وَيَحْمِلُوا حَمْلَةً وَاحِدَةً، (وَهُوَ فِي أَوَّلِهِمْ) ، فَإِمَّا أَنْ يَظْفَرُوا، وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ (أَوَّلَ مَنْ يُقْتَلُ) ، فَطَالَبُوهُ بِالنُّشَّابِ، فَقَالَ: قَدْ بَقِيَ مَعَ صِغَارِ الْغِلْمَانِ نُشَّابٌ، فَخُذُوهُ وَاقْسِمُوهُ. وَكَانَ جَمَاعَةٌ صَالِحَةٌ مِنَ الْغِلْمَانِ الْأَصَاغِرِ تَحْتَهُمُ الْخَيْلُ الْجِيَادُ، وَعَلَيْهِمُ اللُّبْسُ الْجَيِّدُ، وَكَانُوا سَأَلُوا مُعِزَّ الدَّوْلَةِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الْحَرْبِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: إِذَا جَاءَ وَقْتٌ يَصْلُحُ لَكُمْ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الْقِتَالِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ تِلْكَ السَّاعَةِ مَنْ يَأْخُذُ مِنْهُمُ النُّشَّابَ، وَأَوْمَأَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ أَنِ اقْبَلُوا مِنْهُ وَسَلِّمُوا إِلَيْهِ النُّشَّابَ، فَظَنُّوا أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالْحَمْلَةِ، فَحَمَلُوا وَهُمْ مُسْتَرِيحُونَ، فَصَدَمُوا صُفُوفَ رُوزْبَهَانَ فَخَرَقُوهَا، وَأَلْقَوْا بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ، فَصَارُوا خَلْفَهُمْ، وَحَمَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ فَيْمَنْ مَعَهُ بِاللَّتُوتِ، فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى رُوزْبَهَانَ وَأَصْحَابِهِ، وَأُخِذَ رُوزْبَهَانُ أَسِيرًا وَجَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِهِ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَتَبَ

مُعِزُّ الدَّوْلَةِ (بِذَلِكَ، فَلَمْ يُصَدِّقِ النَّاسُ) لِمَا عَلِمُوا مِنْ قُوَّةِ رُوزْبَهَانَ وَضَعْفِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ وَمَعَهُ رُوزْبَهَانُ لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَسَيَّرَ سُبُكْتِكِينَ إِلَى أَبِي الْمُرَجَّى بْنِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ بِعُكْبَرَا، فَلَمْ يَلْحَقْهُ لِأَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ، عَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَسَجَنَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ رُوزْبَهَانَ، فَبَلَغَهُ أَنَّ الدَّيْلَمَ قَدْ عَزَمُوا عَلَى إِخْرَاجِهِ قَهْرًا وَالْمُبَايَعَةِ لَهُ، فَأَخْرَجَهُ لَيْلًا وَغَرَّقَهُ. وَأَمَّا أَخُو رُوزْبَهَانَ الَّذِي خَرَجَ بِشِيرَازَ، فَإِنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا الْفَضْلِ بْنَ الْعَمِيدِ سَارَ إِلَيْهِ فِي الْجُيُوشِ، فَقَاتَلَهُ فَظَفِرَ بِهِ، وَأَعَادَ عَضُدَ الدَّوْلَةِ (بْنَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ) إِلَى مُلْكِهِ، وَانْطَوَى خَبَرُ رُوزْبَهَانَ وَإِخْوَتِهِ، وَكَانَ قَدِ اشْتَعَلَ اشْتِعَالَ النَّارِ. وَقَبَضَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَتَرَكَ مَنْ سِوَاهُمْ، وَاصْطَنَعَ الْأَتْرَاكَ وَقَدَّمَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِتَوْبِيخِ الدَّيْلَمِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَطْلَقَ لِلْأَتْرَاكِ إِطْلَاقَاتٍ زَائِدَةً عَلَى وَاسِطَ (وَالْبَصْرَةِ) ، فَسَارُوا لِقَبْضِهَا مُدِلِّينَ بِمَا صَنَعُوا، فَأَخْرَبُوا الْبِلَادَ وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَصَارَ ضَرَرُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِمْ. ذِكْرُ غَزْوِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِلَادَ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَجَبٍ، سَارَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ فِي جُيُوشٍ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ وَغَزَاهَا حَتَّى بَلَغَ خَرْشَنَةَ، وَصَارِخَةَ، وَفَتَحَ عِدَّةَ حُصُونٍ، وَسَبَى وَأَسَرَ، وَأَحْرَقَ وَخَرَّبَ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَرَجَعَ إِلَى أُذُنَةَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى جَاءَهُ رَئِيسُ طَرَسُوسَ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَعَادَ إِلَى حَلَبَ.

فَلَمَّا سَمِعَ الرُّومُ بِمَا فَعَلَ، جَمَعُوا وَسَارُوا إِلَى مَيَّافَارِقِينَ، وَأَحْرَقُوا سَوَادَهَا وَنَهَبُوهُ، وَخَرَّبُوا وَسَبَوْا أَهْلَهُ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ وَعَادُوا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِأَصْبَهَانَ بَيْنَ أَهْلِهَا وَبَيْنَ أَهْلِ قُمَّ بِسَبَبِ الْمَذَاهِبِ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّهُ قِيلَ عَنْ رَجُلٍ قُمِّيٍّ إِنَّهُ سَبَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ شِحْنَةِ أَصْبَهَانَ، فَثَارَ أَهْلُهَا، وَاسْتَغَاثُوا بِأَهْلِ السَّوَادِ، فَاجْتَمَعُوا فِي خَلْقٍ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَحَضَرُوا دَارَ الشِّحْنَةِ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى، وَنَهَبَ أَهْلُ أَصْبَهَانَ أَمْوَالَ التُّجَّارِ مَنْ أَهْلِ قُمَّ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ رُكْنَ الدَّوْلَةِ، فَغَضِبَ لِذَلِكَ وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَطَرَحَ عَلَى أَهْلِهَا مَالًا كَثِيرًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ، غُلَامُ ثَعْلَبٍ، فِي ذِي الْقِعْدَةِ. وَفِيهَا كَانَتِ الزَّلْزَلَةُ بِهَمَذَانَ، وَأَسْتَرَابَاذَ وَنَوَاحِيهَا، وَكَانَتْ عَظِيمَةً أَهْلَكَتْ تَحْتَ الْهَدْمِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَانْشَقَّتْ مِنْهَا حِيطَانُ قَصْرِ شِيرِينَ مِنْ صَاعِقَةٍ. وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، سَارَ الرُّومُ فِي الْبَحْرِ، فَأَوْقَعُوا بِأَهْلِ طَرَسُوسَ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ أَلْفًا وَثَمَانَمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَحْرَقُوا الْقُرَى الَّتِي حَوْلَهَا. وَفِيهَا سَارَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ صَاحِبُ صِقِلِّيَةَ عَلَى أُسْطُولٍ كَثِيرٍ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ.

ثم دخلت سنة ست وأربعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 346 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مَوْتِ الْمَرْزُبَانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَمَضَانَ، تُوُفِّيَ السَّلَّارُ الْمَرْزُبَانُ بِأَذْرَبِيجَانَ، وَهُوَ صَاحِبُهَا، فَلَمَّا يَئِسَ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْصَى إِلَى أَخِيهِ وَهْسُوذَانَ بِالْمُلْكِ، وَبَعْدَهُ لِابْنِهِ جِسْتَانَ بْنِ الْمَرْزُبَانِ. وَكَانَ الْمَرْزُبَانُ قَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلًا إِلَى نُوَّابِهِ بِالْقِلَاعِ أَنْ لَا يُسَلِّمُوهَا بَعْدَهُ إِلَّا إِلَى وَلَدِهِ جِسْتَانَ، فَإِنْ مَاتَ فَإِلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنْ مَاتَ فَإِلَى ابْنِهِ نَاصِرٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِلَى أَخِيهِ وَهْسُوذَانَ، فَلَمَّا أَوْصَى هَذِهِ الْوَصِيَّةَ إِلَى أَخِيهِ، عَرَّفَهُ عَلَامَاتٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُوَّابِهِ فِي قِلَاعِهِ لِيَسْتَلِمَهَا مِنْهُمْ، فَلَمَّا مَاتَ الْمَرْزُبَانُ، أَنْفَذَ أَخُوهُ وَهْسُوذَانُ خَاتَمَهُ وَعَلَامَاتِهِ إِلَيْهِمْ، فَأَظْهَرُوا وَصِيَّتَهُ الْأَوْلَى، فَظَنَّ وَهْسُوذَانُ أَخَاهُ خَدَعَهُ بِذَلِكَ، فَأَقَامَ مَعَ أَوْلَادِ أَخِيهِ، فَاسْتَبَدُّوا بِالْأَمْرِ دُونَهُ، فَخَرَجَ مِنْ أَرْدَبِيلَ كَالْهَارِبِ إِلَى الطَّرْمِ، فَاسْتَبَدَّ جِسْتَانُ بِالْأَمْرِ، وَأَطَاعَهُ إِخْوَتُهُ، وَقَلَّدَ وِزَارَتَهُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، وَأَتَاهُ قُوَّادُ أَبِيهِ إِلَّا جِسْتَانَ بْنَ شَرْمِزَنَّ فَإِنَّهُ عَزَمَ عَلَى التَّغَلُّبِ عَلَى أَرْمِينِيَّةَ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهَا. وَشَرَعَ وَهْسُوذَانُ فِي الْإِفْسَادِ بَيْنَ أَوْلَادِ أَخِيهِ وَتَفْرِيقِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِطْمَاعِ أَعْدَائِهِمْ فِيهِمْ، حَتَّى بَلَغَ مَا أَرَادَ وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَ بِبَغْدَاذَ وَنَوَاحِيهِمَا أَوْرَامُ الْحَلْقِ وَالْمَاشَرَا، وَكَثُرَ الْمَوْتُ بِهِمَا،

وَمَوْتُ الْفَجْأَةِ، وَكُلُّ مَنِ افْتَصَدَ، انْصَبَّ إِلَى ذِرَاعَيْهِ مَادَّةٌ حَادَّةٌ عَظِيمَةٌ، تَبِعَهَا حُمَّى حَادَّةٌ، وَمَا سَلِمَ أَحَدٌ مِمَّنِ افْتَصَدَ، وَكَانَ الْمَطَرُ مَعْدُومًا. وَفِيهَا تَجَهَّزَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَسَارَ نَحْوَ الْمَوْصِلِ لِقَصْدِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بِسَبَبِ مَا فَعَلَهُ، فَرَاسَلَهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، وَبَذَلَ لَهُ مَالًا، وَضَمِنَ الْبِلَادَ مِنْهُ كُلَّ سَنَةٍ بِأَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَحُمِلَ إِلَيْهِ مِثْلُهَا، فَعَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِسَبَبِ خَرَابِ بِلَادِهِ لِلْفِتْنَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَثِقْ بِأَصْحَابِهِ. ثُمَّ إِنَّ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ مَنَعَ حَمْلَ الْمَالِ، فَسَارَ إِلَيْهِ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَفِيهَا نَقُصَ الْبَحْرُ ثَمَانِينَ بَاعًا، فَظَهَرَتْ فِيهِ جَزَائِرُ وَجِبَالٌ لَمْ تُعْرَفْ قَبْلُ ذَلِكَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مَعْقِلٍ الْأُمَوِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْأَصَمِّ، وَكَانَ عَالِيَ الْإِسْنَادِ فِي الْحَدِيثِ، وَصَحِبَ الرَّبِيعَ بْنَ سُلَيْمَانَ صَاحِبَ الشَّافِعِيِّ، وَرَوَى عَنْهُ كُتُبَ الشَّافِعِيِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ (بْنِ أَحْمَدَ) بْنِ إِسْحَاقَ الْفَقِيهُ الْبُخَارِيُّ الْأَمِينُ. وَفِيهَا كَانَتْ بِالْعِرَاقِ وَبِلَادِ الْجِبَالِ وَقُمَّ وَنَوَاحِيهَا زَلَازِلُ كَثِيرَةٌ مُتَتَابِعَةٌ دَامَتْ نَحْوَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَسْكُنُ وَتَعُودُ، فَتَهَدَّمَتِ الْأَبْنِيَةُ، وَغَارَتِ الْمِيَاهُ، وَهَلَكَ تَحْتَ الْهَدْمِ مِنَ الْأُمَمِ الْكَثِيرُ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ زَلْزَلَةٌ (بِالرَّيِّ وَنَوَاحِيهَا مُسْتَهَلَّ ذِي الْحِجَّةِ، أَخْرَبَتْ كَثِيرًا مِنَ الْبَلَدِ، وَهَلَكَ مِنْ أَهْلِهَا كَثِيرٌ

وَكَذَلِكَ أَيْضًا كَانَتِ الزَّلْزَلَةُ) بِالطَّالَقَانِ وَنَوَاحِيهَا عَظِيمَةً جِدًّا، أَهْلَكَتْ أُمَمًا كَثِيرَةً.

ثم دخلت سنة سبع وأربعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 347 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عَلَى الْمَوْصِلِ وَعَوْدِهِ عَنْهَا قَدْ ذَكَرْنَا صُلْحَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مَعَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ كُلَّ سَنَةٍ، فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ، أَخَّرَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ حَمْلَ الْمَالِ، فَتَجَهَّزَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الْمَوْصِلِ وَسَارَ نَحْوَهَا مُنْتَصَفَ جُمَادَى الْأُولَى، وَمَعَهُ وَزِيرُهُ الْمُهَلَّبِيُّ، فَفَارَقَهَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى نَصِيبِينَ، وَاسْتَوْلَى مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى الْمَوْصِلِ. فَكَانَ مِنْ عَادَةِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ إِذَا قَصَدَهُ أَحَدٌ، سَارَ عَنِ الْمَوْصِلِ وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ جَمِيعَ الْكُتَّابِ، وَالْوُكَلَاءِ، وَمَنْ يَعْرِفُ أَبْوَابَ الْمَالِ، وَمَنَافِعَ السُّلْطَانِ، وَرُبَّمَا جَعَلَهُمْ فِي قِلَاعِهِ كَقَلْعَةِ كُوَاشَى، وَالزَّعْفَرَانِ، وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَتْ قَلْعَةُ كُوَاشَى تُسَمَّى ذَلِكَ الْوَقْتَ قَلْعَةُ أَرْدُمُشْتَ، وَكَانَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ يَأْمُرُ الْعَرَبَ بِالْإِغَارَةِ عَلَى الْعَلَّافَةِ وَمَنْ يَحْمِلُ الْمِيرَةَ، فَكَانَ الَّذِي يَقْصِدُ بِلَادَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ يَبْقَى مَحْصُورًا مُضَيَّقًا عَلَيْهِ. فَلَمَّا قَصَدَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ هَذِهِ الْمَرَّةِ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ، فَضَاقَتِ الْأَقْوَاتُ عَلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَعَسْكَرِهِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ بِنَصِيبِينَ مِنَ الْغَلَّاتِ السُّلْطَانِيَّةِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَسَارَ عَنِ الْمَوْصِلِ نَحْوَهَا، وَاسْتَخْلَفَ بِالْمَوْصِلِ سُبُكْتِكِينَ الْحَاجِبَ الْكَبِيرَ، فَلَمَّا تَوَسَّطَ الطَّرِيقَ، بَلَغَهُ أَنَّ أَوْلَادَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ أَبَا الْمُرَجَّى وَهِبَةَ اللَّهِ بِسِنْجَارَ فِي عَسْكَرٍ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا، فَلَمْ يَشْعُرْ أَوْلَادُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بِالْعَسْكَرِ إِلَّا وَهُوَ مَعَهُمْ، فَعُجِّلُوا عَنْ أَخْذِ أَثْقَالِهِمْ، فَعَادَ أَوْلَادُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ غَارُّونَ، فَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيهِمْ فَقَتَلُوا، وَأَسَرُوا، وَأَقَامُوا بِسِنْجَارَ. وَسَارَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى نَصِيبِينَ، فَفَارَقَهَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ، فَفَارَقَهُ أَصْحَابُهُ وَعَادُوا إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مُسْتَأْمِنِينَ، فَلَمَّا رَأَى نَاصِرُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ سَارَ إِلَى أَخِيهِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ

بِحَلَبَ، فَلَمَّا وَصَلَ خَرَجَ إِلَيْهِ وَلَقِيَهُ، وَبَالَغَ فِي إِكْرَامِهِ، وَخَدَمَهُ بِنَفْسِهِ، حَتَّى إِنَّهُ نَزَعَ خُفَّهُ بِيَدَيْهِ. وَكَانَ أَصْحَابُ نَاصِرٍ فِي حُصُونِهِ بِبَلَدِ الْمَوْصِلِ، وَالْجَزِيرَةِ، يُغِيرُونَ عَلَى أَصْحَابِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بِالْبَلَدِ، فَيَقْتُلُونَ فِيهِمْ، وَيَأْسِرُونَ مِنْهُمْ، وَيَقْطَعُونَ الْمِيرَةَ عَنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّ سَيْفَ الدَّوْلَةِ رَاسَلَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ فِي الصُّلْحِ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ (فِي ذَلِكَ) ، فَامْتَنَعَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ فِي تَضْمِينِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ لِخُلْفِهِ مَعَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَضَمِنَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ الْبِلَادَ مِنْهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَتِسْعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَإِطْلَاقَ مَنْ أَسَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ بِسِنْجَارَ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . وَإِنَّمَا أَجَابَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الصُّلْحِ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنَ الْبِلَادِ ; لِأَنَّهُ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَمْوَالُ، وَتَقَاعَدَ النَّاسُ فِي حَمْلِ الْخَرَاجِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى غَلَّاتِهِمْ، وَطَلَبُوا الْحِمَايَةَ مِنَ الْعَرَبِ أَصْحَابِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَاضْطُرَّ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الِانْحِدَارِ، وَأَنِفَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا وَرَدَتْ عَلَيْهِ رِسَالَةُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، اسْتَرَاحَ إِلَيْهَا، وَأَجَابَهُ إِلَى مَا طَلَبَهُ مِنَ الصُّلْحِ، ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى بَغْدَاذَ. ذِكْرُ مَسِيرِ جُيُوشِ الْمُعِزِّ الْعَلَوِيِّ إِلَى أَقَاصِي الْمَغْرِبِ وَفِيهَا عَظُمَ أَمْرُ أَبِي الْحَسَنِ جَوْهَرٍ عِنْدَ الْمُعِزِّ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَعَلَا مَحَلَّهُ، وَصَارَ فِي رُتْبَةِ الْوِزَارَةِ، فَسَيَّرَهُ الْمُعِزُّ فِي صَفَرٍ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ مِنْهُمْ زِيرِي بْنُ مُنَادٍ الصِّنْهَاجِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَمْرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى أَقَاصِي الْمَغْرِبِ، فَسَارَ إِلَى تَاهَرْتَ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ يَعْلَى بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّنَاتِيُّ، فَأَكْرَمَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، ثُمَّ خَالَفَ عَلَى جَوْهَرٍ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَثَارَ أَصْحَابُهُ، فَقَاتَلَهُمْ جَوْهَرٌ، فَانْهَزَمُوا وَتَبِعَهُمْ جَوْهَرٌ إِلَى مَدِينَةِ أَفَكَانَ، فَدَخَلَهَا بِالسَّيْفِ وَنَهَبَهَا،

وَنَهَبَ قُصُورَ يَعْلَى، وَأَخَذَ وَلَدَهُ، وَكَانَ صَبِيًّا، وَأَمَرَ بِهَدْمِ أَفَكَانَ وَإِحْرَاقِهَا بِالنَّارِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى فَاسَ، وَبِهَا صَاحِبُهَا أَحْمَدُ بْنُ بَكْرٍ، فَأَغْلَقَ أَبْوَابَهَا، فَنَازَلَهَا جَوْهَرٌ وَقَاتَلَهَا مُدَّةً، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، وَأَتَتْهُ هَدَايَا الْأُمَرَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ بِأَقَاصِي السُّوسِ، وَأَشَارَ عَلَى جَوْهَرٍ وَأَصْحَابِهِ بِالرَّحِيلِ إِلَى سِجِلْمَاسَةَ، وَكَانَ صَاحِبُهَا مُحَمَّدُ بْنُ وَاسُولَ قَدْ تُلُقِّبَ بِالشَّاكِرِ لِلَّهِ، وَيُخَاطَبُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَضَرَبَ السِّكَّةَ بِاسْمِهِ، وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمَّا سَمِعَ بِجَوْهَرٍ هَرَبَ، ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى سِجِلْمَاسَةَ، فَلَقِيَهُ أَقْوَامٌ، فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا، وَحَمَلُوهُ إِلَى جَوْهَرٍ. وَمَضَى جَوْهَرٌ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، فَأَمَرَ أَنْ يُصْطَادَ لَهُ مِنْ سَمَكِهِ فَاصْطَادُوا لَهُ، فَجَعَلَهُ فِي قِلَالِ الْمَاءِ وَحَمَلَهُ إِلَى الْمُعِزِّ، وَسَلَكَ تِلْكَ الْبِلَادَ جَمِيعَهَا فَافْتَتَحَهَا وَعَادَ إِلَى فَاسَ، فَقَاتَلَهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، فَقَامَ زِيرِي بْنُ مُنَادٍ فَاخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ رِجَالًا لَهُمْ شَجَاعَةٌ، (وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا السَّلَالِيمَ، وَقَصَدُوا الْبَلَدَ) فَصَعِدُوا إِلَى السُّورِ الْأَدْنَى فِي السَّلَالِيمِ، وَأَهْلُ فَاسَ آمِنُونَ، فَلَمَّا صَعِدُوا عَلَى السُّورِ، قَتَلُوا مَنْ عَلَيْهِ وَنَزَلُوا إِلَى السُّورِ الثَّانِي، وَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ، (وَأَشْعَلُوا الْمَشَاعِلَ) ، وَضَرَبُوا الطُّبُولَ، وَكَانَتِ الْإِمَارَةُ بَيْنَ زِيرِي وَجَوْهَرٍ، فَلَمَّا سَمِعَهَا جَوْهَرٌ، رَكِبَ فِي الْعَسَاكِرِ فَدَخَلَ فَاسًا، فَاسْتَخْفَى صَاحِبُهَا، وَأُخِذَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ، وَجُعِلَ مَعَ صَاحِبِ سِجِلْمَاسَةَ، وَكَانَ فَتْحُهَا فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَحَمَلَهُمَا فِي قَفَصَيْنِ إِلَى (الْمُعِزِّ بِالْمَهْدِيَّةِ) ، وَأَعْطَى تَاهَرْتَ لِزِيرِي بْنِ مُنَادٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ بِبِلَادِ الْجَبَلِ وَبَاءٌ عَظِيمٌ، مَاتَ فِيهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْبِلَادِ، وَكَانَ أَكْثَرُ مَنْ مَاتَ فِي النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَتَعَذَّرَ عَلَى النَّاسِ عِيَادَةُ الْمَرْضَى، وَشُهُودُ الْجَنَائِزِ لِكَثْرَتِهَا. وَفِيهَا انْخَسَفَ الْقَمَرُ جَمِيعُهُ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْبُوشَنْجِيُّ الصُّوفِيُّ بِنَيْسَابُورَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَشْهُورِينَ مِنْهُمْ، وَأَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ قَاضِي بَغْدَاذَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ الْحَافِظُ النَّيْسَابُورِيُّ فِي جُمَادَى الْأُولَى. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ دَرَسْتَوَيْهِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ النَّحْوِيُّ فِي صَفَرٍ، (وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ) ، (وَأَخَذَ النَّحْوَ عَنِ الْمُبَرِّدِ) .

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 348 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ [ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ] . فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ، تَمَّ الصُّلْحُ بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَعَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَرَجَعَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْمَوْصِلِ. وَفِيهَا أَنْفَذَ الْخَلِيفَةُ لِوَاءً وَخِلْعَةً لِأَبِي عَلِيِّ بْنِ إِلْيَاسَ صَاحِبِ كَرْمَانَ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَافَرُّوخِيُّ كَاتِبُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَكَتَبَ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ. وَفِيهَا كَانَتْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ عَلِيِّ بْنِ كَامَةَ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَبَيْنَ بِيسْتُونَ بْنِ وَشْمَكِيرَ، فَانْهَزَمَ بِيسْتُونُ. وَفِيهَا غَرِقَ مِنْ حُجَّاجِ الْمَوْصِلِ فِي الْمَاءِ بِضْعَةَ عَشْرَ زَوْرَقًا. وَفِيهَا غَزَتِ الرُّومُ طَرَسُوسَ وَالرُّهَا، فَقَتَلُوا وَسَبَوْا، وَغَنِمُوا وَعَادُوا سَالِمِينَ. وَفِيهَا سَارَ مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ مِنَ الرَّيِّ إِلَى بَغْدَاذَ، فَتَزَوَّجَ بِابْنَةِ عَمِّهِ مُعِزِّ

الدَّوْلَةِ، وَنَقَلَهَا مَعَهُ إِلَى الرَّيِّ، ثُمَّ عَادَ إِلَى أَصْبَهَانَ. وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَقَعَتْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ عَامَّةِ بَغْدَاذَ، وَقُتِلَ فِيهَا جَمَاعَةٌ، وَاحْتَرَقَ مِنَ الْبَلَدِ كَثِيرٌ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ، الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالنِّجَادِ، وَكَانَ عُمُرُهُ خَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ الْخُلْدِيُّ الصُّوفِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْجُنَيْدِ، فَرَوَى الْحَدِيثَ وَأَكْثَرَ. وَفِيهَا انْقَطَعَتِ الْأَمْطَارُ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ، فَخَرَجَ النَّاسُ يَسْتَسْقُونَ فِي كَانُونَ الثَّانِي فِي الْبِلَادِ، وَمِنْهَا بَغْدَاذُ، فَمَا سُقُوا، فَلَمَّا كَانَ فِي آذَارَ، ظَهَرَ جَرَادٌ عَظِيمٌ، فَأَكَلَ مَا كَانَ قَدْ نَبَتَ مِنَ الْخُضْرَوَاتِ وَغَيْرِهَا، فَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ.

ثم دخلت سنة تسع وأربعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 349 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ ظُهُورِ الْمُسْتَجِيرِ بِاللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ بِأَذْرَبِيجَانَ رَجُلٌ مِنْ أَوْلَادِ عِيسَى بْنِ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ، وَتَلَقَّبَ بِالْمُسْتَجِيرِ بِاللَّهِ، وَبَايَعَ لِلرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَلَبِسَ الصُّوفَ وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ، وَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ظُهُورِهِ أَنَّ جِسْتَانَ بْنَ الْمَرْزُبَانِ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ، تَرَكَ سِيرَةَ وَالِدِهِ فِي سِيَاسَةِ الْجَيْشِ، وَاشْتَغَلَ بِاللَّعِبِ، وَمُشَاوَرَةِ النِّسَاءِ، وَكَانَ جِسْتَانُ بْنُ شَرْمِزَنَّ بِأُرْمِيَةَ (مُتَحَصِّنًا بِهَا) ، وَكَانَ وَهْسُوذَانُ بِالطَّرْمِ يَضْرِبُ بَيْنَ أَوْلَادِ أَخِيهِ لِيَخْتَلِفُوا. ثُمَّ إِنَّ جِسْتَانَ بْنَ الْمَرْزُبَانِ قَبَضَ عَلَى وَزِيرِهِ النُّعَيْمِيِّ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَزِيرِ جِسْتَانَ بْنِ شَرْمِزَنَّ مُصَاهَرَةٌ، وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَوَيْهِ، فَاسْتَوْحَشَ أَبُو الْحَسَنِ لِقَبْضِ النُّعَيْمِيِّ، فَحَمَلَ صَاحِبَهُ ابْنَ شَرْمِزَنَّ عَلَى مُكَاتَبِةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَرْزُبَانِ، وَكَانَ بِأَرْمِينِيَّةَ، فَكَاتَبَهُ وَأَطْمَعَهُ فِي الْمُلْكِ، فَسَارَ إِلَيْهِ فَقَصَدُوا مَرَاغَةَ وَاسْتَوْلُوا عَلَيْهَا، فَلَمَّا عَلِمَ جِسْتَانُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ بِذَلِكَ، رَاسَلَ ابْنَ شَرْمِزَنَّ وَوَزِيرَهُ أَبَا الْحَسَنِ، فَأَصْلَحَهُمَا، وَضَمِنَ لَهُمَا إِطْلَاقَ النُّعَيْمِيِّ، فَعَادَ عَنْ نُصْرَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَظَهَرَ لَهُ وَلِأَخِيهِ نِفَاقُ ابْنِ شَرْمِزَنَّ، فَتَرَاسَلَا وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ النُّعَيْمِيَّ هَرَبَ مِنْ حَبْسِ جِسْتَانَ بْنِ الْمَرْزُبَانِ، وَسَارَ إِلَى مُوقَانَ، وَكَاتَبَ ابْنَ عِيسَى بْنِ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ، وَأَطْمَعَهُ فِي الْخِلَافَةِ، وَأَنْ يَجْمَعَ لَهُ الرِّجَالَ، وَيَمْلِكَ لَهُ أَذْرَبِيجَانَ، فَإِذَا قَوِيَ قَصَدَ الْعِرَاقَ، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي نَحْوِ ثَلَاثِمِائِةِ رَجُلٍ، وَأَتَاهُ جِسْتَانُ بْنُ

شَرْمِزَنَّ فَقَوِيَ بِهِ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ جِسْتَانُ وَإِبْرَاهِيمُ ابْنَا الْمَرْزُبَانِ قَاصِدِينَ قِتَالَهُمْ، فَلَمَّا الْتَقَوُا، انْهَزَمَ أَصْحَابُ الْمُسْتَجِيرِ، وَأُخِذَ أَسِيرًا فَعُدِمَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ قُتِلَ، وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ وَهْسُوذَانَ عَلَى بَنِي أَخِيهِ وَقَتْلِهِمْ وَأَمَّا وَهْسُوذَانُ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى اخْتِلَافَ أَوْلَادِ أَخِيهِ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدِ انْطَوَى عَلَى غِشِّ صَاحِبِهِ، رَاسَلَ إِبْرَاهِيمَ بَعْدَ وَقْعَةِ الْمُسْتَجِيرِ، وَاسْتَزَارَهُ فَزَارَهُ، فَأَكْرَمَهُ عَمُّهُ، وَوَصَلَهُ بِمَا مَلَأَ عَيْنَهُ، وَكَاتَبَ نَاصِرًا وَلَدَ أَخِيهِ أَيْضًا، وَاسْتَغْوَاهُ، فَفَارَقَ أَخَاهُ جِسْتَانَ وَصَارَ إِلَى مُوقَانَ، فَوَجَدَهُ الْجُنْدُ طَرِيقًا إِلَى تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ، فَفَارَقَ أَكْثَرُهُمْ جِسْتَانَ وَصَارُوا إِلَى أَخِيهِ نَاصِرٍ، فَقَوِيَ بِهِمْ عَلَى أَخِيهِ جِسْتَانَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أَرْدَبِيلَ. ثُمَّ إِنَّ الْأَجْنَادَ طَالَبُوا نَاصِرًا بِالْأَمْوَالِ، فَعَجَزَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَعَدَ عَمُّهُ وَهْسُوذَانُ عَنْ نُصْرَتِهِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ كَانَ يَغْوِيهِ، فَرَاسَلَ أَخَاهُ جِسْتَانَ، وَتَصَالَحَا وَاجْتَمَعَا، (وَهُمَا فِي) غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنْ قِلَّةِ الْأَمْوَالِ وَاضْطِرَابِ الْأُمُورِ، وَتَغَلَّبَ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ، فَاضْطُرَّ جِسْتَانُ وَنَاصِرٌ ابْنَا الْمَرْزُبَانِ إِلَى الْمَسِيرِ إِلَى عَمِّهِمَا وَهْسُوذَانَ مَعَ وَالِدَتِهِمَا، فَرَاسَلَاهُ فِي ذَلِكَ، وَأَخَذَا عَلَيْهِ الْعُهُودَ وَسَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا حَصَلُوا عِنْدَهُ نَكَثَ، وَغَدَرَ بِهِمْ، وَقَبَضَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ جِسْتَانُ وَنَاصِرٌ وَوَالِدَتُهُمَا، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْعَسْكَرِ، وَعَقَدَ الْإِمَارَةَ لِابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ أَكْثَرَ قِلَاعِهِ، وَأَخْرَجَ الْأَمْوَالَ وَأَرْضَى الْجُنْدَ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ قَدْ سَارَ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ، فَتَأَهَّبَ لِمُنَازَعَةِ إِسْمَاعِيلَ وَاسْتِنْفَاذِ أَخَوَيْهِ مِنْ حَبْسِ عَمِّهِمَا وَهْسُوذَانَ، فَلَمَّا عَلِمَ وَهْسُوذَانُ ذَلِكَ وَرَأَى اجْتِمَاعَ النَّاسِ عَلَيْهِ، بَادَرَ فَقَتَلَ جِسْتَانَ وَنَاصِرًا ابْنَيْ أَخِيهِ وَأُمَّهُمَا، وَكَاتَبَ جِسْتَانَ بْنَ شَرْمِزَنَّ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَدَّهُ بِالْجُنْدِ وَالْمَالِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَاضْطُرَّ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْهَرَبِ وَالْعَوْدِ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ شَرْمِزَنَّ عَلَى عَسْكَرِهِ وَعَلَى مَدِينَةِ مَرَاغَةَ مَعَ أُرْمِيَةَ.

ذِكْرُ غَزْوِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِلَادَ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ بِلَادَ الرُّومِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَأَثَّرَ فِيهَا آثَارًا كَثِيرَةً، وَأَحْرَقَ وَفَتَحَ عِدَّةَ حُصُونٍ، وَأَخَذَ مِنَ السَّبْيِ وَالْغَنَائِمِ وَالْأَسْرَى شَيْئًا كَثِيرًا، وَبَلَغَ إِلَى خَرْشَنَةَ، ثُمَّ إِنَّ الرُّومَ أَخَذُوا عَلَيْهِ الْمَضَايِقَ، فَلَمَّا أَرَادَ الرُّجُوعَ، قَالَ لَهُ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ طَرَسُوسَ: إِنَّ الرُّومَ قَدْ مَلَكُوا الدَّرْبَ خَلْفَ ظَهْرِكَ، فَلَا تَقْدِرُ عَلَى الْعَوْدِ مِنْهُ وَالرَّأْيُ أَنْ تَرْجِعَ مَعَنَا، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ وَكَانَ مُعْجَبًا بِرَأْيِهِ يُحِبُّ أَنْ يَسْتَبِدَّ وَلَا يُشَاوِرَ أَحَدًا ; لِئَلَّا يُقَالَ إِنَّهُ أَصَابَ بِرَأْيِ غَيْرِهِ وَعَادَ فِي الدَّرْبِ الَّذِي دَخَلَ مِنْهُ، فَظَهَرَ الرُّومُ عَلَيْهِ وَاسْتَرَدُّوا مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْغَنَائِمِ، (وَأَخَذُوا أَثْقَالَهُ) ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِي أَصْحَابِهِ فَأَتَوْا عَلَيْهِمْ قَتْلًا وَأَسْرًا، وَتَخَلَّصَ هُوَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ بَعْدَ جَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ، (وَهَذَا مِنْ سُوءِ رَأْيِ كُلِّ مَنْ يَجْهَلُ آرَاءَ النَّاسِ الْعُقَلَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ) . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نُوحٍ صَاحِبُ خُرَاسَانَ، وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَكَابِرِ قُوَّادِهِ وَأُمَرَائِهِ يُسَمَّى نَجْتَكِينَ، وَقَتَلَهُ، فَاضْطَرَبَتْ خُرَاسَانُ. وَفِيهَا اسْتَأْمَنَ أَبُو الْفَتْحِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْعُرْبَانِ، أَخُو عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ صَاحِبِ

الْبَطِيحَةِ، إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَكَانَ خَافَ أَخَاهُ، فَأَكْرَمَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ. وَفِيهَا أَسْلَمَ مِنَ الْأَتْرَاكِ نَحْوَ مِائَتَيْ أَلْفِ خَرْكَاةٍ. وَفِيهَا انْصَرَفَ حُجَّاجُ مِصْرَ مِنَ الْحَجِّ، فَنَزَلُوا وَادِيًا وَبَاتُوا فِيهِ، فَأَتَاهُمُ السَّيْلُ لَيْلًا، فَأَخَذَهُمْ جَمِيعَهُمْ مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَجِمَالِهِمْ، فَأَلْقَاهُمْ فِي الْبَحْرِ. وَفِيهَا سَارَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ مِنَ الرَّيِّ إِلَى جُرْجَانَ، فَلَقِيَهُ الْحَسَنُ بْنُ الْفَيْرُزَانِ وَابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَوَصَلَهُمَا بِمَالٍ جَلِيلٍ. وَفِيهَا كَانَ بِالْبِلَادِ غَلَاءٌ شَدِيدٌ، وَكَانَ أَكْثَرُهُ بِالْمَوْصِلِ، فَبَلَغَ الْكُرُّ مِنَ الْحِنْطَةِ أَلْفًا وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَالْكُرُّ مِنَ الشَّعِيرِ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَهَرَبَ أَهْلُهَا إِلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ. وَفِيهَا خَامِسَ شَعْبَانَ، وَكَانَ بِبَغْدَادَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْعَامَّةِ، وَتَعَطَّلَتِ الْجُمُعَةُ مِنَ الْغَدِ لِاتِّصَالِ الْفِتْنَةِ فِي الْجَانِبَيْنِ، سِوَى مَسْجِدِ بَرَاثَا، (فَإِنَّ الْجُمُعَةَ تَمَّتْ فِيهِ) ، وَقُبِضَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ اتُّهِمُوا أَنَّهُمْ سَبَبُ الْفِتْنَةِ، ثُمَّ أُطْلِقُوا مِنَ الْغَدِ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْخَيْرِ الْأَقْطَعُ التِّينَاتِيُّ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ عُمُرُهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَلَهُ كَرَامَاتٌ مَشْهُورَةٌ مَسْطُورَةٌ. (التِّينَاتِيُّ بِالتَّاءِ الْمَكْسُورَةِ الْمُعْجَمَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقُ، ثُمَّ الْيَاءُ الْمُعْجَمَةُ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتُ، ثُمَّ بِالنُّونِ وَالْأَلِفِ ثُمَّ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ أَيْضًا) . وَفِيهَا مَاتَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ ثَوَابَةَ كَاتِبُ الْخَلِيفَةِ وَمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَقُلِّدَ دِيوَانَ الرَّسَائِلِ بَعْدَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِلَالٍ الصَّابِيُّ. وَفِيهَا فِي آخِرِهَا، مَاتَ أَنُوجُورُ بْنُ الْإِخْشِيدِ صَاحِبُ مِصْرَ، وَتَقَلَّدَ أَخُوهُ عَلِيٌّ مَكَانَهُ.

ثم دخلت سنة خمسين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 350 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ بِنَاءِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ دَوْرَهُ بِبَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ، مَرِضَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ الْبَوْلُ، ثُمَّ كَانَ يَبُولُ بَعْدَ جَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ دَمًا، وَتَبِعَهُ الْبَوْلُ، وَالْحَصَى، وَالرَّمْلُ، فَاشْتَدَّ جَزَعُهُ وَقَلَقُهُ، وَأَحْضَرَ الْوَزِيرَ الْمُهَلَّبِيَّ، وَالْحَاجِبَ سُبُكْتِكِينَ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا، وَوَصَّاهُمَا بِابْنِهِ بَخْتِيَارَ، وَسَلَّمَ جَمِيعَ مَالِهِ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ عُوفِيَ، فَعَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْأَهْوَازِ ; لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ مَا اعْتَادَهُ مِنَ الْأَمْرَاضِ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ مَقَامِهِ بِبَغْدَاذَ، وَظَنَّ أَنَّهُ إِنْ عَادَ إِلَى الْأَهْوَازِ، عَاوَدَهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الصِّحَّةِ، وَنَسِيَ الْكِبَرَ وَالشَّبَابَ، فَلَمَّا انْحَدَرَ إِلَى كَلْوَاذَى لِيَتَوَجَّهَ إِلَى الْأَهْوَازِ، أَشَارَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِالْمَقَامِ، وَأَنْ يُفَكِّرَ فِي هَذِهِ الْحَرَكَةِ وَلَا يُعَجِّلَ، فَأَقَامَ بِهَا، وَلَمْ يُؤْثِرْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ انْتِقَالَهُ لِمُفَارَقَةِ أَوْطَانِهِمْ وَأَسَفًا عَلَى بَغْدَاذَ كَيْفَ تُخَرَّبُ بِانْتِقَالِ دَارِ الْمُلْكِ عَنْهَا، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْعَوْدِ إِلَى بَغْدَاذَ، (وَأَنْ يَبْنِيَ بِهَا) لَهُ دَارًا فِي أَعْلَى بَغْدَاذَ لِتَكُونَ أَرَقَّ هَوَاءً، وَأَصْفَى مَاءً، فَفَعَلَ، وَشَرَعَ فِي بِنَاءِ دَارِهِ فِي مَوْضِعِ الْمُسَنَّاةِ الْمُعِزِّيَّةِ، فَكَانَ مَبْلَغُ مَا خَرَجَ عَلَيْهَا (إِلَى أَنْ مَاتَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ) أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَاحْتَاجَ بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَى مُصَادَرَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ.

ذِكْرُ مَوْتِ الْأَمِيرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نُوحٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَقَطَ الْفَرَسُ تَحْتَ الْأَمِيرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نُوحٍ صَاحِبِ خُرَاسَانَ، فَوَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ، فَمَاتَ مِنْ سَقْطَتِهِ، وَافْتَتَنَتْ خُرَاسَانُ بَعْدَهُ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ أَخُوهُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ، وَكَانَ مَوْتُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ حَادِيَ عَشَرَ شَوَّالٍ. ذِكْرُ وَفَاةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ، وَوَلَايَةِ ابْنِهِ الْحَاكِمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، الْمُلَقَّبُ بِالنَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، فِي رَمَضَانَ، فَكَانَتْ إِمَارَتُهُ خَمْسِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ عُمُرُهُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، كَانَ أَبْيَضَ، أَشْهَلَ، حَسَنَ الْوَجْهِ، عَظِيمَ الْجِسْمِ، قَصِيرَ السَّاقَيْنِ، كَانَ رِكَابُ سَرْجِهِ يُقَارِبُ الشِّبْرَ، وَكَانَ طَوِيلَ الظَّهْرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَلَقَّبَ مِنَ الْأُمَوِيِّينَ بِأَلْقَابِ الْخُلَفَاءِ، تَسَمَّى بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَلَّفَ أَحَدَ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا، وَكَانَ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ آبَائِهِ يُخَاطَبُونَ وَيُخْطَبُ لَهُمْ بِالْأَمِيرِ وَأَبْنَاءِ الْخَلَائِفِ. وَبَقِيَ هُوَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَضَى مِنْ إِمَارَتِهِ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَلَمَّا بَلَغَهُ ضَعْفُ الْخُلَفَاءِ بِالْعِرَاقِ وَظُهُورُ الْعَلَوِيِّينَ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَمُخَاطَبَتُهُمْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَرَ حِينَئِذٍ أَنْ يُلَقَّبَ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ، وَيُخْطَبَ لَهُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَقُولَ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ: إِنَّهُ أَوَّلُ خَلِيفِةٍ وَلِي بَعْدَ جَدِّهِ، كَانَتْ أُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا مُزْنَةُ، وَلَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِمَّنْ تَلَقَّبَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُدَّتَهُ فِي الْخِلَافَةِ غَيْرُ الْمُسْتَنْصِرِ الْعَلَوِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ، فَإِنَّ خِلَافَتَهُ كَانَتْ سِتِّينَ سَنَةً. وَلَمَّا مَاتَ وَلِيَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْحَاكِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَتَلَقَّبَ بِالْمُسْتَنْصِرِ، وَأَمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ تُسَمَّى مَرْجَانَةُ، وَخَلَّفَ النَّاصِرُ عِدَّةَ أَوْلَادٍ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ شَافِعِيُّ

الْمَذْهَبِ، عَالِمًا بِالشَّعْرِ وَالْأَخْبَارِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ نَاسِكًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ قُفْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ إِلَى طَرَسُوسَ وَمَعَهُمْ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ كَمِينٌ لِلرُّومِ، فَأَخَذَ مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَأَفْلَتَ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ وَبِهِ جِرَاحَاتٌ. وَفِيهَا فِي رَمَضَانَ، دَخَلَ نَجَا غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِلَادَ الرُّومِ مِنْ نَاحِيَةِ مَيَّافَارِينَ غَازِيًا، وَإِنَّهُ فِي رَمَضَانَ غَنِمَ مَا قِيمَتُهُ قِيمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَسَبَى، وَأَسَرَ وَخَرَجَ سَالِمًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ الْقَاضِي أَبُو السَّائِبِ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَقُبِضَتْ أَمْلَاكُهُ، وَتَوَلَّى قَضَاءَ الْقُضَاةِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، وَضَمِنَ أَنْ يُؤَدِّيَ كُلَّ سَنَةٍ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ضَمِنَ الْقَضَاءَ، وَكَانَ ذَلِكَ أَيَّامَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَلَمْ يُسْمَعْ بِذَلِكَ قَبْلَهُ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْخَلِيفَةُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ بِأَنْ لَا يَحْضُرَ الْمَوْكِبَ لَمِا ارْتَكَبَهُ مِنْ ضَمَانِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ ضَمِنَتْ بَعْدَهُ الْحِسْبَةُ وَالشُّرْطَةُ بِبَغْدَاذَ. وَفِيهَا وَصَلَ أَبُو الْقَاسِمِ أَخُو عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مُسْتَأْمِنًا.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الطَّبَرِيِّ وَكَانَ يَرْوِي تَارِيخَهُ.

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 351 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الرُّومِ عَلَى عَيْنِ زَرْبَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ، نَزَلَ الرُّومُ مَعَ الدُّمُسْتُقِ عَلَى عَيْنِ زَرْبَةَ، وَهِيَ فِي سَفْحِ جَبَلٍ عَظِيمٍ، وَهُوَ مُشْرِفٌ عَلَيْهَا، وَهُمْ جَمْعٌ عَظِيمٌ، فَأَنْفَذَ بَعْضَ عَسْكَرِهِ، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ فَمَلَكُوهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُهَا، وَأَنَّ الدُّمُسْتُقَ قَدْ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ وَمَعَهُ الدَّبَّابَاتُ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَى السُّورِ وَشَرَعَ فِي النَّقْبِ، طَلَبُوا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمُ الدُّمُسْتُقُ، وَفَتَحُوا لَهُ بَابَ الْمَدِينَةِ فَدَخَلَهَا، فَرَأَى أَصْحَابُهُ الَّذِينَ فِي الْجَبَلِ قَدْ نَزَلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَنَدِمَ عَلَى إِجَابَتِهِمْ إِلَى الْأَمَانِ. وَنَادَى فِي الْبَلَدِ أَوَّلَ اللَّيْلِ بِأَنْ يَخْرُجَ جَمِيعُ أَهْلِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فِي مَنْزِلِهِ قُتِلَ، فَخَرَجَ مَنْ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَنْفَذَ رِجَّالَتَهُ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا سِتِّينَ أَلْفًا، وَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِ مَنْ وَجَدُوهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا (مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَأَمَرَ بِجَمْعِ مَا فِي الْبَلَدِ مِنَ السِّلَاحِ فَجُمِعَ، فَكَانَ شَيْئًا كَثِيرًا) . وَأَمَرَ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ بِأَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْبَلَدِ حَيْثُ شَاءُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، وَمَنْ أَمْسَى قُتِلَ، فَخَرَجُوا مُزْدَحِمَيْنِ، فَمَاتَ بِالزَّحْمَةِ جَمَاعَةٌ، وَمَرُّوا عَلَى وُجُوهِهِمْ لَا يَدْرُونَ أَيْنَ يَتَوَجَّهُونَ، فَمَاتُوا فِي الطُّرُقَاتِ، وَقَتَلَ الرُّومُ مَنْ وَجَدُوهُ بِالْمَدِينَةِ آخِرَ النَّهَارِ، وَأَخَذُوا كُلَّ مَا خَلَّفَهُ النَّاسُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْتِعَتِهِمْ، وَهَدَمُوا سُورَيِ الْمَدِينَةِ.

وَأَقَامَ الدُّمُسْتُقُ فِي بَلَدِ الْإِسْلَامِ أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَفَتَحَ حَوْلَ عَيْنِ زَرْبَةَ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ حِصْنًا لِلْمُسْلِمِينَ بَعْضُهَا بِالسَّيْفِ وَبَعْضُهَا بِالْأَمَانِ، وَإِنَّ حِصْنًا مِنْ تِلْكَ الْحُصُونِ الَّتِي فُتِحَتْ بِالْأَمَانِ أَمَرَ أَهْلَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ فَخَرَجُوا، فَتَعَرَّضَ أَحَدُ الْأَرْمَنِ لِبَعْضِ حُرَمِ الْمُسْلِمِينَ، فَلِحَقَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَةٌ عَظِيمَةٌ، فَجَرَّدُوا سُيُوفَهُمْ، فَاغْتَاظَ الدُّمُسْتُقُ لِذَلِكَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةِ رَجُلٍ، وَقَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يُسْتَرَقَّ. فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الصَّوْمُ، انْصَرَفَ عَلَى أَنْ يَعُودَ بَعْدَ الْعِيدِ، وَخَلَّفَ جَيْشَهُ بِقَيْسَارِيَّةَ، وَكَانَ ابْنُ الزَّيَّاتِ صَاحِبُ طَرَسُوسَ، قَدْ خَرَجَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ رَجُلٍ مِنَ الطَرَسُوسِيِّينَ، فَأَوْقَعَ بِهِمُ الدُّمُسْتُقُ، فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَقَتَلَ أَخًا لِابْنِ الزَّيَّاتِ، فَعَادَ إِلَى طَرَسُوسَ، وَكَانَ قَدْ قَطَعَ الْخُطْبَةَ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ (بْنِ حَمْدَانَ، فَلَمَّا أَصَابَهُمْ هَذَا الْوَهَنُ، أَعَادَ أَهْلُ الْبَلَدِ الْخُطْبَةَ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ) وَرَاسَلُوهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا عَلِمَ ابْنُ الزَّيَّاتِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، صَعِدَ إِلَى رَوْشَنَ فِي دَارِهِ فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْهُ إِلَى نَهْرٍ تَحْتَهُ فَغَرِقَ، وَرَاسَلَ أَهْلُ بَغْرَاسَ الدُّمُسْتُقَ، وَبَذَلُوا لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَقَرَّهُمْ وَتَرَكَ مُعَارَضَتَهُمْ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الرُّومِ عَلَى مَدِينَةِ حَلَبَ (وَعَوْدِهِمْ عَنْهَا بِغَيْرِ سَبَبٍ) فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى الرُّومُ عَلَى مَدِينَةِ حَلَبَ دُونَ قَلْعَتِهَا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الدُّمُسْتُقَ سَارَ إِلَى حَلَبَ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ الْمُسْلِمُونَ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ خَلَّفَ عَسْكَرَهُ بِقَيْسَارِيَّةَ وَدَخَلَ بِلَادَهُمْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا قَضَى صَوْمَ النَّصَارَى، خَرَجَ إِلَى عَسْكَرِهِ مِنَ الْبِلَادِ جَرِيدَةً، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ، وَسَارَ بِهِمْ عِنْدَ وُصُولِهِ، فَسَبَقَ خَبَرَهُ، وَكَبَسَ مَدِينَةَ حَلَبَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ وَلَا غَيْرُهُ. فَلَمَّا بَلَغَهَا وَعَلِمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ الْخَبَرَ، أَعْجَلَهُ الْأَمْرُ عَنِ الْجَمْعِ وَالِاحْتِشَادِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ

فِيمَنْ مَعَهُ، فَقَاتَلَهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ قُوَّةُ الصَّبْرِ لِقِلَّةِ مَنْ مَعَهُ، فَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَوْلَادِ دَاوُدَ بْنِ حَمْدَانَ أَحَدٌ، قُتِلُوا جَمِيعُهُمْ، فَانْهَزَمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، وَظَفِرَ الدُّمُسْتُقُ بِدَارِهِ، وَكَانَتْ خَارِجَ مَدِينَةِ حَلَبَ، (تُسَمَّى الدَّارَيْنَ) ، فَوُجِدَ فِيهَا لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ ثَلَاثِمِائَةِ بُدْرَةٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ، وَأَخَذَ لَهُ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةِ بَغْلٍ، وَمِنْ خَزَائِنِ السِّلَاحِ مَا لَا يُحْصَى، فَأَخَذَ الْجَمِيعَ، وَخَرَّبَ الدَّارَ، وَمَلَكَ الْحَاضِرَ، وَحَصَرَ الْمَدِينَةَ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا. وَهَدَمَ الرُّومُ فِي السُّورِ ثُلْمَةً، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ حَلَبَ عَلَيْهَا، فَقُتِلَ مِنَ الرُّومِ كَثِيرٌ، وَدَفَعُوهُمْ عَنْهَا، فَلَمَّا جَنَّهُمُ اللَّيْلُ عَمَّرُوهَا، فَلَمَّا رَأَى الرُّومُ ذَلِكَ، تَأَخَّرُوا إِلَى جَبَلِ جَوْشَنَ. ثُمَّ إِنَّ رِجَّالَةَ الشُّرْطَةِ بِحَلَبَ قَصَدُوا مَنَازِلَ النَّاسِ، وَخَانَاتِ التُّجَّارِ لِيَنْهَبُوهَا، فَلَحِقَ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ لِيَمْنَعُوهَا، فَخَلَا السُّورُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَأَى الرُّومُ السُّورَ خَالِيًا مِنَ النَّاسِ، قَصَدُوهُ وَقَرُبُوا مِنْهُ، فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَحَدٌ، فَصَعِدُوا إِلَى أَعْلَاهُ، فَرَأَوُا الْفِتْنَةَ قَائِمَةً فِي الْبَلَدِ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَنَزَلُوا وَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ، وَدَخَلُوا الْبَلَدَ بِالسَّيْفِ يَقْتُلُونَ مَنْ وَجَدُوا، وَلَمْ يَرْفَعُوا السَّيْفَ إِلَى أَنْ تَعِبُوا وَضَجِرُوا. وَكَانَ فِي حَلَبَ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ مِنَ الْأَسَارَى، فَتَخَلَّصُوا، وَأَخَذُوا السِّلَاحَ وَقَتَلُوا النَّاسَ، وَسُبِيَ مِنَ الْبَلَدِ بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ صَبِيٍّ وَصَبِيَّةٍ، وَغَنِمُوا مَا لَا يُوصَفُ كَثْرَةً، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ مَعَ الرُّومِ مَا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ الْغَنِيمَةَ أَمَرَ الدُّمُسْتُقُ بِإِحْرَاقِ الْبَاقِيَ، وَأَحْرَقَ الْمَسَاجِدَ، وَكَانَ قَدْ بَذَلَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِ ثَلَاثَةَ آلَافِ صَبِيٍّ وَصَبِيَّةٍ (وَمَالًا ذَكَرَهُ) ، وَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَمَلَكَهُمْ كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ عِدَّةُ عَسْكَرِهِ مِائَتَيْ أَلْفِ رَجُلٍ، مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ أَلْفَ رَجُلٍ بِالْجَوَاشِنِ، وَثَلَاثُونَ أَلْفًا لِلْهَدْمِ، وَإِصْلَاحِ الطُّرُقِ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَرْبَعَةُ آلَافِ بَغْلٍ يَحْمِلُ الْحَسَكَ الْحَدِيدَ. وَلَمَّا دَخَلَ الرُّومُ الْبَلَدَ، قَصَدَ النَّاسُ الْقَلْعَةَ، فَمَنْ دَخَلَهَا نَجَا بِحُشَاشَةِ نَفْسِهِ، وَأَقَامَ الدُّمُسْتُقُ تِسْعَةَ أَيَّامٍ، وَأَرَادَ الِانْصِرَافَ عَنِ الْبَلَدِ بِمَا غَنِمَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أُخْتِ الْمَلِكِ، وَكَانَ مَعَهُ: هَذَا الْبَلَدُ قَدْ حَصَلَ فِي أَيْدِينَا، وَلَيْسَ مَنْ (يَدْفَعُنَا عَنْهُ) ، فَلِأَيِّ سَبَبٍ نَنْصَرِفُ عَنْهُ؟ فَقَالَ الدُّمُسْتُقُ: قَدْ بَلَغَنَا مَا لَمْ يَكُنِ الْمَلِكُ يُؤَمِّلُهُ، وَغَنِمْنَا وَقَتَلْنَا، وَخَرَّبْنَا وَأَحْرَقْنَا، وَخَلَّصْنَا أَسْرَانَا، وَبَلَغْنَا مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، فَتَرَاجَعَا الْكَلَامَ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ

الدُّمُسْتُقُ: انْزِلْ عَلَى الْقَلْعَةِ فَحَاصِرْهَا، فَإِنَّنِي مُقِيمٌ بِعَسْكَرِي عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، فَتَقَدَّمَ ابْنُ أُخْتِ الْمَلِكِ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَمَعَهُ سَيْفٌ وَتُرْسٌ، وَتَبِعَهُ الرُّومُ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ بَابِ الْقَلْعَةِ، أُلْقِيَ عَلَيْهِ حَجَرٌ فَسَقَطَ، وَرُمِيَ بِخَشَبٍ فَقُتِلَ، فَأَخَذَهُ أَصْحَابُهُ وَعَادُوا إِلَى الدُّمُسْتُقِ، فَلَمَّا رَآهُ قَتِيلًا، قَتَلَ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا أَلْفًا وَمِائَتَيْ رَجُلٍ، وَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِسَوَادِ حَلَبَ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ بِالزِّرَاعَةِ وَالْعِمَارَةِ لِيَعُودَ إِلَيْهِمْ بِزَعْمِهِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ عَلَى طَبَرِسْتَانَ وَجُرْجَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ، سَارَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، وَبِهَا وَشْمَكِيرُ، فَنَزَلَ عَلَى مَدِينَةِ سَارِيَةَ فَحَصَرَهَا وَمَلَكَهَا، فَفَارَقَ حِينَئِذٍ وَشْمَكِيرُ طَبَرِسْتَانَ وَقَصَدَ جُرْجَانَ، (فَأَقَامَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بِطَبَرِسْتَانَ إِلَى أَنْ مَلَكَهَا كُلَّهَا، وَأَصْلَحَ أُمُورَهَا، وَسَارَ فِي طَلَبِ وَشْمَكِيرَ إِلَى جُرْجَانَ) ، فَأَزَاحَ وَشْمَكِيرَ عَنْهَا، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ مِنْ عَسْكَرِ وَشْمَكِيرَ ثَلَاثَةُ آلَافِ رَجُلٍ، فَازْدَادَ قُوَّةً، وَازْدَادَ وَشْمَكِيرُ ضَعْفًا وَوَهْنًا، فَدَخَلَ بِلَادَ الْجَبَلِ. ذِكْرُ مَا كُتِبَ عَلَى مَسَاجِدِ بَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، كَتَبَ عَامَّةُ الشِّيعَةِ بِبَغْدَاذَ بِأَمْرِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عَلَى الْمَسَاجِدِ مَا هَذِهِ صُورَتُهُ: لَعَنَ اللَّهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَلَعَنَ مَنْ غَصَبَ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَدْكًا، وَمَنْ مَنَعَ مِنْ أَنْ يُدْفَنَ الْحَسَنُ عِنْدَ قَبْرِ جَدِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَنْ نَفَى أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ، وَمَنْ أَخْرَجَ الْعَبَّاسَ مِنَ الشُّورَى، فَأَمَّا الْخَلِيفَةُ فَكَانَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ لَا

يَقْدِرُ عَلَى الْمَنْعِ، وَأَمَّا مُعِزُّ الدَّوْلَةِ فَبِأَمْرِهِ كَانَ ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ، حَكَّهُ بَعْضُ النَّاسِ، فَأَرَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِعَادَتَهُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ بِأَنْ يَكْتُبَ مَكَانَ مَا مُحِيَ: لَعَنَ اللَّهُ الظَّالِمِينَ لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَذْكُرُ أَحَدًا فِي اللَّعْنِ إِلَّا مُعَاوِيَةَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. ذِكْرُ فَتْحِ طَبَرْمِينَ مِنْ صِقِلِّيَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَتْ جُيُوشُ الْمُسْلِمِينَ بِصِقِلِّيَةَ، وَأَمِيرُهُمْ أَحْمَدُ (بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ) أَبِي الْحُسَيْنِ إِلَى قَلْعَةِ طَبَرْمِينَ مِنْ صِقِلِّيَةَ أَيْضًا، وَهِيَ بِيَدِ الرُّومِ، فَحَصَرُوهَا، وَهِيَ مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ وَأَشَدِّهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَامْتَنَعَ أَهْلُهَا، وَدَامَ الْحِصَارُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ، عَمَدُوا إِلَى الْمَاءِ الَّذِي يَدْخُلُهَا فَقَطَعُوهُ عَنْهَا، وَأَجْرُوهُ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَلَمْ يُجَابُوا إِلَيْهِ، فَعَادُوا وَطَلَبُوا أَنْ يُؤَمَّنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ، وَيَكُونُوا رَقِيقًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمْوَالُهُمْ فَيْئًا، فَأُجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ، وَأُخْرِجُوا مِنَ الْبَلَدِ، وَمَلَكَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ. وَكَانَتْ مُدَّةُ الْحِصَارِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفًا، وَأُسْكِنَتِ الْقَلْعَةُ نَفَرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَسُمِّيَتِ الْمُعِزِّيَّةُ، نِسْبَةٌ إِلَى الْمُعِزِّ الْعَلَوِيِّ صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَسَارَ جَيْشٌ إِلَى رَمْطَةَ (مَعَ الْحَسَنِ بْنِ عَمَّارٍ) ، فَحَصَرُوهَا وَضَيَّقُوا عَلَيْهَا، فَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، أَرْسَلَ الْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ، صَاحِبُ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ إِلَى بَعْضِ قُوَّادِهِ الْكِبَارِ، وَاسْمُهُ الْفَتَكِينُ يَسْتَدْعِيهِ، فَامْتَنَعَ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ جَيْشًا،

فَلَقِيَهُمُ الْفَتَكِينُ فَهَزَمَهُمْ، وَأَسَرَ وُجُوهَ الْقُوَّادِ مِنْهُمْ، وَفِيهِمْ خَالُ مَنْصُورٍ. وَفِيهَا فِي مُنْتَصَفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَيْضًا، انْخَسَفَ الْقَمَرُ جَمِيعُهُ. وَفِيهَا جُمَادَى الْأُولَى، كَانَتْ فِتْنَةٌ بِالْبَصْرَةِ وَبِهَمَذَانَ أَيْضًا بَيْنَ الْعَامَّةِ بِسَبَبِ الْمَذَاهِبِ، قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَفِيهَا أَيْضًا فَتَحَ الرُّومُ حِصْنَ دُلُوكَ وَثَلَاثَةَ حُصُونٍ مُجَاوِرَةٍ لَهُ بِالسَّيْفِ. وَفِيهَا لَقَّبَ الْخَلِيفَةُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ (فَنَّاخِسْرُو بْنَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بِعَضُدِ الدَّوْلَةِ) . وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، أَعَادَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بِنَاءَ عَيْنِ زَرْبَةَ، وَسَيَّرَ حَاجِبَهُ فِي جَيْشٍ مَعَ أَهْلِ طَرَسُوسَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَغَنِمُوا، وَقَتَلُوا، وَسَبَوْا وَعَادُوا، فَقَصَدَ الرُّومُ حِصْنَ سَيْسِيَّةَ فَمَلَكُوهُ. وَفِيهَا سَارَ نَجَا غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ فِي جَيْشٍ إِلَى حِصْنِ زِيَادٍ، فَلَقِيَهُ جَمْعٌ مِنَ الرُّومِ، فَهَزَمَهُمْ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ مِنَ الرُّومِ خَمْسُمِائَةِ رَجُلٍ. وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ، أَسَرَتِ الرُّومُ أَبَا فِرَاسِ بْنَ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ مِنْ مَنْبِجَ، وَكَانَ مُتَقَلِّدًا لَهَا، وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ جَيِّدٍ.

وَفِيهَا سَارَ جَيْشٌ مِنَ الرُّومِ فِي الْبَحْرِ إِلَى جَزِيرَةِ أَقْرِيطِشَ، فَأَرْسَلَ أَهْلُهَا إِلَى الْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ يَسْتَنْجِدُونَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ نَجْدَةً، فَقَاتَلُوا الرُّومَ، فَانْتَصَرَ الْمُسْلِمُونَ، وَأُسِرَ مَنْ كَانَ بِالْجَزِيرَةِ مِنَ الرُّومِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ النَّقَّاشُ الْمُقْرِئُ، صَاحِبُ كِتَابِ " شِفَاءِ الصُّدُورِ "، وَعَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَدَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ السِّجْزِيُّ الْمُعَدَّلُ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيُّ.

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 352 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ عِصْيَانِ أَهْلِ حَرَّانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ (فِي صَفَرٍ) ، امْتَنَعَ أَهْلُ حَرَّانَ عَلَى صَاحِبِهَا هِبَةَ اللَّهِ بْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَعَصَوْا عَلَيْهِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُتَقَلِّدًا لَهَا وَلِغَيْرِهَا مِنْ دِيَارِ مُضَرَ مِنْ قِبَلِ عَمِّهِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَعَسَفَهُمْ نُوَّابُهُ وَظَلَمُوهُمْ، وَطَرَحُوا الْمُتْعَةَ عَلَى التُّجَّارِ مَنْ أَهْلِ حَرَّانَ، وَبَالَغُوا فِي ظُلْمِهِمْ. وَكَانَ هِبَةُ اللَّهِ عِنْدَ عَمِّهِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِحَلَبَ، فَثَارَ أَهْلُهَا عَلَى نُوَّابِهِ وَطَرَدُوهُمْ، فَسَمِعَ هِبَةُ اللَّهِ بِالْخَبَرِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَحَارَبَهُمْ، وَحَصَرَهُمْ، فَقَاتَلَهُمْ وَقَاتَلُوهُ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا رَأَى سَيْفُ الدَّوْلَةِ شِدَّةَ الْأَمْرِ وَاتِّصَالَ الشَّرِّ، قَرُبَ مِنْهُمْ وَرَاسَلَهُمْ، وَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا يُرِيدُونَ، فَاصْطَلَحُوا وَفَتَحُوا أَبْوَابَ الْبَلَدِ، وَهَرَبَ مِنْهُ الْعَيَّارُونَ خَوْفًا مِنْ هِبَةِ اللَّهِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْوَزِيرِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْوَزِيرُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ وَزِيرُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى عَمَّانَ لِيَفْتَحَهَا، فَلَمَّا بَلَغَ الْبَحْرَ اعْتَلَّ، وَاشْتَدَّتْ عِلَّتُهُ، فَأُعِيدَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ فِي شَعْبَانَ، وَحُمِلَ تَابُوتُهُ إِلَى بَغْدَاذَ فَدُفِنَ بِهَا، وَقَبَضَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَمْوَالَهُ وَذَخَائِرَهُ وَكُلَّ مَا كَانَ لَهُ، وَأَخَذَ أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ وَحَوَاشِيهِ، حَتَّى مَلَّاحَهُ، وَمَنْ خَدَمَهُ يَوْمًا وَاحِدًا، فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ وَحَبَسَهُمْ، فَاسْتَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ وَاسْتَقْبَحُوهُ.

وَكَانَتْ مُدَّةُ وِزَارَتِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ كَرِيمًا فَاضِلًا ذَا عَقْلٍ وَمُرُوَّةٍ، فَمَاتَ بِمَوْتِهِ الْكَرَمُ. وَنَظَرَ فِي الْأُمُورِ بَعْدَهُ أَبُو الْفَضْلِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْحُسَيْنِ الشِّيرَازِيُّ، وَأَبُو الْفَرَجِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ فَسَانِجَسَ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ لِأَحَدِهِمَا بِوِزَارَةٍ. ذِكْرُ غَزْوَةٍ إِلَى الرُّومِ وَعِصْيَانِ حَرَّانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالٍ، دَخَلَ أَهْلُ طَرَسُوسَ بِلَادَ الرُّومِ غَازِينَ، وَدَخَلَهَا أَيْضًا نَجَا غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ (بْنُ حَمْدَانَ مِنْ دَرْبٍ آخَرَ، وَلَمْ يَكُنْ سَيْفُ الدَّوْلَةِ) مَعَهُمْ لِمَرَضِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ لَحِقَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ فَالِجٌ، فَأَقَامَ عَلَى رَأْسِ دَرْبٍ مِنْ تِلْكَ الدُّرُوبِ، فَأَوْغَلَ أَهْلُ طَرَسُوسَ فِي غَزْوَتِهِمْ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى قَوْنِيَّةَ وَعَادُوا، فَرَجَعَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ، فَلَحِقَهُ فِي الطَّرِيقِ غَشْيَةٌ أَرْجَفَ عَلَيْهِ النَّاسُ بِالْمَوْتِ، فَوَثَبَ هِبَةُ اللَّهِ ابْنُ أَخِيهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ بِابْنِ نَجَا النَّصْرَانِيِّ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ خِصِّصِيًا بِسَيْفِ الدَّوْلَةِ، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَعَرَّضُ لِغُلَامٍ لَهُ، فَغَارَ لِذَلِكَ. ثُمَّ أَفَاقَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا عَلِمَ هِبَةُ اللَّهِ أَنَّ عَمَّهُ لَمْ يَمُتْ، هَرَبَ إِلَى حَرَّانَ، فَلَمَّا دَخَلَهَا، أَظْهَرَ لِأَهْلِهَا أَنَّ عَمَّهُ مَاتَ، وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْيَمِينَ عَلَى أَنْ يَكُونُوا سِلْمًا لِمَنْ سَالَمَهُ، وَحَرْبًا لِمَنْ حَارَبَهُ، فَحَلَفُوا لَهُ، وَاسْتَثْنَوْا عَمَّهُ فِي الْيَمِينِ، فَأَرْسَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ غُلَامَهُ نَجَا إِلَى حَرَّانَ فِي طَلَبِ هِبَةِ اللَّهِ، فَلَمَّا قَارَبَهَا، هَرَبَ هِبَةُ اللَّهِ إِلَى أَبِيهِ بِالْمَوْصِلِ، فَنَزَلَ نَجَا عَلَى حَرَّانَ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، فَخَرَجَ أَهْلُهَا إِلَيْهِ (مِنَ الْغَدِ) ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ، وَصَادَرَهُمْ عَلَى أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَوَكَّلَ بِهِمْ حَتَّى أَدَّوْهَا فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ، بَعْدَ الضَّرْبِ الْوَجِيعِ بِحَضْرَةِ عِيَالَاتِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَأَخْرَجُوا أَمْتِعَتَهُمْ فَبَاعُوا كُلَّ مَا يُسَاوِي دِينَارًا بِدِرْهَمٍ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ كُلُّهُمْ كَانُوا يَبِيعُونَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَشْتَرِي ; لِأَنَّهُمْ مُصَادِرُونَ، فَاشْتَرَى

ذَلِكَ أَصْحَابُ نَجَا بِمَا أَرَادُوا، وَافْتَقَرَ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَسَارَ نَجَا إِلَى مَيَّافَارِقِينَ، وَتَرَكَ حَرَّانَ شَاغِرَةً بِغَيْرِ وَالٍ، فَتَسَلَّطَ الْعَيَّارُونَ عَلَى أَهْلِهَا، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ نَجَا مَا نَذْكُرُهُ (سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ) [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ، أَمَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ النَّاسَ أَنْ يُغَلِّقُوا دَكَاكِينَهُمْ، وَيُبَطِّلُوا الْأَسْوَاقَ وَالْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، وَأَنْ يُظْهِرُوا النِّيَاحَةَ، وَيَلْبِسُوا (قِبَابًا عَمَلُوهَا) بِالْمُسُوحِ، وَأَنْ يَخْرُجَ النِّسَاءُ مُنَشِّرَاتٍ الشُّعُورَ، مُسَوِّدَاتٍ الْوُجُوهَ، قَدْ شَقَقْنَ ثِيَابَهُنَّ، يَدُرْنَ فِي الْبَلَدِ بِالنَّوَائِحِ، وَيَلْطِمْنَ وُجُوهَهُنَّ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَفَعَلَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلسُّنَّةِ قُدْرَةٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ لِكَثْرَةِ الشِّيعَةِ ; وَلِأَنَّ السُّلْطَانَ مَعَهُمْ. وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، اجْتَمَعَ مِنْ رِجَالِهِ الْأَرْمَنِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَقَصَدُوا الرُّهَا فَأَغَارُوا عَلَيْهَا، فَغَنِمُوا وَأَسَرُوا، وَعَادُوا مَوْفُورِينَ. وَفِيهَا عُزِلَ ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ عَنْ قَضَاءِ بَغْدَاذَ، وَتَقَلَّدَ مَكَانَهُ أَبُو بِشْرٍ عَمْرُو بْنُ أَكْثَمَ، وَعُفِيَ عَمَّا كَانَ يَحْمِلُهُ ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ مِنَ الضَّمَانِ عَنِ الْقَضَاءِ، وَأَمَرَ بِإِبْطَالِ أَحْكَامِهِ وَسِجِلَّاتِهِ. وَفِيهَا فِي شَعْبَانَ، ثَارَ الرُّومُ بِمَلِكِهِمْ فَقَتَلُوهُ وَمَلَّكُوا غَيْرَهُ، وَصَارَ ابْنُ شَمَشْقِيقَ دُمُسْتُقًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُهُ الْعَامَّةُ ابْنُ الشَّمْشَكِيِّ. وَفِيهَا فِي الثَّامِنِ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، أَمَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِإِظْهَارِ الزِّينَةِ فِي الْبَلَدِ، وَأُشْعِلَتِ النِّيرَانُ بِمَجْلِسِ الشُّرْطَةِ، وَأُظْهِرَ الْفَرَحُ، وَفُتِحَتِ الْأَسْوَاقُ بِاللَّيْلِ، كَمَا يُفْعَلُ لَيَالِيَ الْأَعْيَادِ

فُعِلَ ذَلِكَ فَرَحًا بَعِيدِ الْغَدِيرِ، يَعْنِي غَدِيرَ خُمٍّ، وَضُرِبَتِ الدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَفِيهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ الْوَاقِعِ فِي كَانُونَ الثَّانِي، خَرَجَ النَّاسُ فِي الْعِرَاقِ لِلِاسْتِسْقَاءِ لِعَدَمِ الْمَطَرِ.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 353 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ عِصْيَانِ نَجَا وَقَتْلِهِ وَمِلْكِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بَعْضَ أَرْمِينِيَّةَ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] مَا فَعَلَهُ نَجَا غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ بِأَهْلِ حَرَّانَ، وَمَا أَخَذَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ عِنْدَهُ تِلْكَ الْأَمْوَالُ، قَوِيَ بِهَا وَبَطَرَ، وَلَمْ يَشْكُرْ وَلِيَّ نِعْمَتِهِ بَلْ كَفَرَهُ، وَسَارَ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ، وَقَصَدَ بِلَادَ أَرْمِينِيَّةَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْهَا رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ يُعْرَفُ بِأَبِي الْوَرْدِ، فَقَاتَلَهُ نَجَا، فَقُتِلَ أَبُو الْوَرْدِ وَأَخَذَ نَجَا قِلَاعَهُ وَبِلَادَهُ: خِلَاطَ، وَمَلَازَكَرْدَ، وَمُوشَ، وَغَيْرَهَا، وَحَصَلَ لَهُ مِنْ أَمْوَالِ أَبِي الْوَرْدِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَأَظْهَرَ الْعِصْيَانَ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ. فَاتُّفِقَ أَنَّ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ بْنَ بُوَيْهِ سَارَ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَنَصِيبِينَ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَطَرَدَ عَنْهَا نَاصِرَ الدَّوْلَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، فَكَاتَبَهُ نَجَا وَرَاسَلَهُ، وَهُوَ بِنَصِيبِينَ، يَعِدُهُ الْمُعَاضَدَةَ وَالْمُسَاعَدَةَ عَلَى مَوَالِيهِ بَنِي حَمْدَانَ، فَلَمَّا عَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ وَاصْطَلَحَ هُوَ وَنَاصِرُ الدَّوْلَةِ، سَارَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى نَجَا لِيُقَاتِلَهُ عَلَى عِصْيَانِهِ عَلَيْهِ، وَخُرُوجِهِ عَنْ طَاعَتِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ، هَرَبَ نَجَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَمَلَكَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بِلَادَهُ وَقِلَاعَهُ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ أَبِي الْوَرْدِ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ نَجَا فَقَتَلَهُمْ، (وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ أَخُو نَجَا، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَكْرَمَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى نَجَا يُرَغِّبُهُ وَيُرَهِّبُهُ إِلَى أَنْ أُحْضِرَ عِنْدَهُ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَعَادَهُ إِلَى مَرْتَبَتِهِ. ثُمَّ إِنَّ غِلْمَانَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَثَبُوا عَلَى نَجَا فِي دَارِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِمَيَّافَارِقِينَ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ (سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ) [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، فَقَتَلُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَغُشِيَ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ،

وَأُخْرِجَ نَجَا فَأُلْقِي فِي مَجْرَى الْمَاءِ وَالْأَقْذَارِ، وَبَقِيَ إِلَى الْغَدِ ثُمَّ أُخْرِجَ وَدُفِنَ. ذِكْرُ حَصْرِ الرُّومِ الْمَصِّيصَةَ وَوُصُولِ الْغُزَاةِ مِنْ خُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ الرُّومُ مَعَ الدُّمُسْتُقِ الْمَصِّيصَةَ، وَقَاتَلُوا أَهْلَهَا، وَنَقَبُوا سُورَهَا، وَاشْتَدَّ قِتَالُ أَهْلِهَا عَلَى النَّقْبِ حَتَّى دَفَعَهُمْ عَنْهُ بَعْدَ قِتَالٍ عَظِيمٍ، وَأَحْرَقَ الرُّومُ رُسْتَاقَهَا وَرُسْتَاقَ أَذَنَةَ وَطَرَسُوسَ لِمُسَاعَدَتِهِمْ أَهْلَهَا، فَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ، وَأَقَامَ الرُّومُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَمْ يَقْصِدْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ، فَعَادُوا لِغَلَاءِ الْأَسْعَارِ وَقِلَّةِ الْأَقْوَاتِ. ثُمَّ إِنَّ إِنْسَانًا وَصَلَ إِلَى الشَّامِ مِنْ خُرَاسَانَ يُرِيدُ الْغُزَاةَ وَمَعَهُ نَحْوُ خَمْسَةُ آلَافِ رَجُلٍ، وَكَانَ طَرِيقُهُمْ عَلَى أَرْمِينِيَّةَ وَمَيَّافَارِقِينَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ فِي صَفَرٍ، أَخَذَهُمْ سَيْفُ الدَّوْلَةِ وَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ بِلَادِ الرُّومِ لِدَفْعِهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَوَجَدُوا الرُّومَ قَدْ عَادُوا، فَتَفَرَّقَ الْغُزَاةُ الْخُرَاسَانِيَّةُ فِي الثُّغُورِ لِشِدَّةِ الْغَلَاءِ، وَعَادَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ وَمِنْهَا إِلَى خُرَاسَانَ. وَلَمَّا أَرَادَ الدُّمُسْتُقُ الْعُودَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ الْمَصِّيصَةِ وَأَذَنَةَ وَطَرَسُوسَ: إِنِّي مُنْصَرِفٌ عَنْكُمْ لَا لِعَجْزٍ، وَلَكِنْ لِضِيقِ الْعَلُوفَةِ وَشِدَّةِ الْغَلَاءِ، وَأَنَا عَائِدٌ إِلَيْكُمْ، فَمَنِ انْتَقَلَ مِنْكُمْ فَقَدْ نَجَا، وَمَنْ وَجَدْتُهُ بَعْدَ عَوْدِي قَتَلْتُهُ. ذِكْرُ مِلْكِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ الْمَوْصِلَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَجَبٍ، سَارَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَمَلَكَهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ كَانَ قَدِ اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عَلَى أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، يَحْمِلُهَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ كُلَّ سَنَةٍ، فَلَمَّا حَصَلَتِ الْإِجَابَةُ مِنْ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، بَذَلَ زِيَادَةً لِيَكُونَ الْيَمِينُ أَيْضًا لِوَلَدِهِ أَبِي تَغْلِبَ فَضْلِ اللَّهِ الْغَضَنْفَرِ مَعَهُ، وَأَنْ يَحْلِفَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ لَهُمَا، فَلَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ، وَتَجَهَّزَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَلَمَّا

قَارَبَهَا، سَارَ (نَاصِرُ الدَّوْلَةِ) إِلَى نَصِيبِينَ، وَوَصَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الْمَوْصِلِ وَمَلَكَهَا فِي رَجَبٍ، وَسَارَ يَطْلُبُ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ (حَادِيَ عَشَرَ) شَعْبَانَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَوْصِلِ أَبَا الْعَلَاءِ صَاعِدَ بْنَ ثَابِتٍ لِيَحْمِلَ الْغَلَّاتِ وَيَجْبِيَ الْخَرَاجَ، وَخَلَّفَ بِكْتُوزُونَ وَسُبُكْتِكِينَ الْعَجَمِيَّ فِي جَيْشٍ لِيَحْفَظَ الْبَلَدَ. فَلَمَّا قَارَبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ نَصِيبِينَ، (فَارَقَهَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، وَمَلَكَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ نَصِيبِينَ) ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَيَّ جِهَةٍ قَصَدَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، فَخَافَ أَنْ يُخَالِفَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَعَادَ عَنْ نَصِيبِينَ نَحْوَ الْمَوْصِلِ، وَتَرَكَ بِهَا مَنْ يَحْفَظُهَا، وَكَانَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ قَدْ قَصَدَ الْمَوْصِلَ، وَحَارَبَ مِنْ أَصْحَابِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَكَانَتِ الدَّائِرَةُ عَلَيْهِ، فَانْصَرَفَ بَعْدَ أَنْ أَحْرَقَ السُّفُنَ الَّتِي لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَأَصْحَابِهِ. وَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بِظَفَرِ أَصْحَابِهِ، سَكَنَتْ نَفْسُهُ، وَأَقَامَ بِبَرْقَعِيدَ يَتَوَقَّعُ أَخْبَارَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُ نَزَلَ بِجَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، فَرَحَلَ عَنْ بَرْقَعِيدَ إِلَيْهَا، فَوَصَلَهَا سَادِسَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَمْ يَجِدْ بِهَا نَاصِرَ الدَّوْلَةِ، فَمَلَكَهَا وَسَأَلَ عَنْ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ بِالْحَسَنِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ وَعَسَاكِرُهُ وَسَارَ نَحْوَ الْمَوْصِلِ، فَأَوقَعَ بِمَنْ فِيهَا مِنْ أَصْحَابِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَأَسَرَ كَثِيرًا، وَفِي الْأَسْرَى أَبُو الْعَلَاءِ، وَسُبُكْتِكِينُ، وَبِكْتُوزُونُ، وَمَلَكَ جَمِيعَ مَا خَلَّفَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ مَالٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَحُمِلَ جَمِيعُهُ مَعَ الْأَسْرَى إِلَى قَلْعَةِ كُوَاشَى. فَلَمَّا سَمِعَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِمَا فَعَلَهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، سَارَ يَقْصِدُهُ، فَرَحَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى سِنْجَارَ، فَلَمَّا وَصَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، بَلَغَهُ مَسِيرُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ إِلَى سِنْجَارَ، فَعَادَ إِلَى نَصِيبِينَ، فَسَارَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا عِنْدَ الدَّيْرِ الْأَعْلَى، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَى أَحَدٍ مِمَّنْ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا سَمِعَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِنُزُولِ أَبِي تَغْلِبَ بِالْمَوْصِلِ سَارَ إِلَيْهَا، فَفَارَقَهَا أَبُو تَغْلِبَ وَقَصَدَ الزَّابَّ فَأَقَامَ عِنْدَهُ، وَرَاسَلَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ (فِي الصُّلْحِ) ، فَأَجَابَهُ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ مَتَى فَارَقَ الْمَوْصِلَ، عَادُوا وَمَلَكُوهَا، وَمَتَى أَقَامَ بِهَا لَا

يَزَالُ مُتَرَدِّدًا وَهُمْ يُغِيرُونَ عَلَى النَّوَاحِي، فَأَجَابَهُ إِلَى مَا الْتَمَسَهُ، وَعَقَدَ عَلَيْهِ ضَمَانَ الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ رَبِيعَةَ وَالرَّحْبَةِ وَمَا كَانَ فِي يَدِ أَبِيهِ بِمَالٍ قَرَّرَهُ، وَأَنْ يُطْلِقَ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَسْرَى، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَوَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَحَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَكَانَ مَعَهُ فِي سُفْرَتِهِ هَذِهِ ثَابِتُ بْنُ سِنَانَ بْنِ ثَابِتِ بْنِ قُرَّةَ. ذِكْرُ حَالِ الدَّاعِي الْعَلَوِيِّ كَانَ قَدْ هَرَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الدَّاعِي مِنْ بَغْدَاذَ، وَهُوَ حَسَنِيٌّ مِنْ أَوْلَادِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ -، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَسَارَ نَحْوَ بِلَادِ الدَّيْلَمِ، وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَعِيَالَهُ بِبَغْدَاذَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بِلَادِ الدَّيْلَمِ، اجْتَمَعَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ آلَافِ رَجُلٍ، فَهَرَبَ ابْنُ النَّاصِرِ الْعَلَوِيُّ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَتَلَقَّبَ ابْنُ الدَّاعِي بِالْمَهْدِيِّ لِدِينِ اللَّهِ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَأَوقَعَ بِقَائِدٍ كَبِيرٍ مِنْ قُوَّادِ وَشْمَكِيرَ فَهَزَمَهُ. ذِكْرُ حَصْرِ الرُّومِ طَرَسُوسَ وَالْمَصِّيصَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا نَزَلَ مَلِكُ الرُّومِ عَلَى طَرَسُوسَ وَحَصَرَهَا، وَجَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِهَا حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ سَقَطَ فِي بَعْضِهَا الدُّمُسْتُقُ بْنُ الشَّمَشْقِيقِ إِلَى الْأَرْضِ، وَكَادَ يُؤْسَرُ فَقَاتَلَ عَلَيْهِ الرُّومُ وَخَلَّصُوهُ، وَأَسَرَ أَهْلُ طَرَسُوسَ بِطْرِيقًا كَبِيرًا مِنْ بَطَارِقَةِ الرُّومِ، وَرَحَلَ الرُّومُ عَنْهُمْ، وَتَرَكُوا عَسْكَرًا عَلَى الْمَصِّيصَةِ مَعَ الدُّمُسْتُقِ، فَحَصَرَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْهَا أَحَدٌ، فَاشْتَدَّ الْغَلَاءُ عَلَى الرُّومِ، وَكَانَ شَدِيدًا قَبْلَ نُزُولِهِمْ، فَلِهَذَا طَمِعُوا فِي الْبِلَادِ لِعَدَمِ الْأَقْوَاتِ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَ الرُّومُ زَادَ شِدَّةً، وَكَثُرَ الْوَبَاءُ أَيْضًا، فَمَاتَ مِنَ الرُّومِ كَثِيرٌ، فَاضْطُرُّوا إِلَى الرَّحِيلِ. ذِكْرُ فَتْحِ رَمْطَةَ وَالْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ بِصِقِلِّيَةَ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] فَتْحَ طَبَرْمِينَ وَحَصْرَ رَمْطَةَ وَالرُّومُ فِيهَا،

فَلَمَّا رَأَى الرُّومُ ذَلِكَ، خَافُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى مَلِكِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ يُعْلِمُونَهُ الْحَالَ، وَيَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَنْجِدَهُمْ بِالْعَسَاكِرِ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا عَظِيمًا يَزِيدُونَ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَسَيَّرَهُمْ فِي الْبَحْرِ، فَوَصَلَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى الْأَمِيرِ أَحْمَدَ أَمِيرِ صِقِلِّيَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمُعِزِّ بِإِفْرِيقِيَّةَ يَعْرِفُهُ ذَلِكَ وَيَسْتَمِدُّهُ، وَيَسْأَلُ إِرْسَالَ الْعَسَاكِرِ إِلَيْهِ سَرِيعًا، وَشَرَعَ هُوَ فِي إِصْلَاحِ الْأُسْطُولِ، وَالزِّيَادَةِ فِيهِ، وَجَمَعَ الرِّجَالَ الْمُقَاتِلَةَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَأَمَّا الْمُعِزُّ فَإِنَّهُ جَمَعَ الرِّجَالَ، وَحَشَدَ وَفَرَّقَ فِيهِمُ الْأَمْوَالَ الْجَلِيلَةَ، وَسَيَّرَهُمْ مَعَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَالِدِ أَحْمَدَ، فَوَصَلُوا إِلَى صِقِلِّيَةَ فِي رَمَضَانَ، وَسَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى الَّذِينَ يُحَاصِرُونَ رَمْطَةَ، فَكَانُوا مَعَهُمْ عَلَى حِصَارِهَا. فَأَمَّا الرُّومُ فَإِنَّهُمْ وَصَلُوا أَيْضًا إِلَى صِقِلِّيَةَ، وَنَزَلُوا عِنْدَ مَدِينَةِ مَسِّينِي فِي شَوَّالٍ، وَزَحَفُوا مِنْهَا بِجُمُوعِهِمُ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ صِقِلِّيَةَ مِثْلُهَا إِلَى رَمْطَةَ، فَلَمَّا سَمِعَ الْحَسَنُ بْنُ عَمَّارٍ مُقَدَّمُ الْجَيْشِ الَّذِينَ يُحَاصِرُونَ رَمْطَةَ ذَلِكَ، جَعَلَ عَلَيْهَا طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ يَمْنَعُونَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا، وَبَرَزَ بِالْعَسَاكِرِ لِلِقَاءِ الرُّومِ وَقَدْ عَزَمُوا عَلَى الْمَوْتِ، وَوَصَلَ الرُّومُ وَأَحَاطُوا بِالْمُسْلِمِينَ. وَنَزَلَ أَهْلُ رَمْطَةَ إِلَى مَنْ يَلِيهِمْ لِيَأْتُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ ظُهُورِهِمْ، فَقَاتَلَهُمُ الَّذِينَ جُعِلُوا هُنَاكَ لِمَنْعِهِمْ، وَصَدُّوهُمْ عَمَّا أَرَادُوا، وَتَقَدَّمَ الرُّومُ إِلَى الْقِتَالِ، وَهُمْ مُدِلُّونَ بِكَثْرَتِهِمْ وَبِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْعُدَدِ وَغَيْرِهَا، وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ وَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَلْحَقَهُمُ الْعَدُوُّ بِخِيَامِهِمْ، وَأَيْقَنَ الرُّومُ بِالظَّفَرِ، فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ عِظَمَ مَا نَزَلْ بِهِمُ، اخْتَارُوا الْمَوْتَ، وَرَأَوْا أَنَّهُ أَسْلَمُ لَهُمْ، وَأَخَذُوا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ ... لِنَفْسَي حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا. فَحَمَلَ بِهِمُ الْحَسَنُ بْنُ عَمَّارٍ أَمِيرُهُمْ، وَحَمِيَ الْوَطِيسُ حِينَئِذٍ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بَطَارِقَةُ الرُّومِ، حَمَلُوا وَحَرَّضُوا عَسَاكِرَهُمْ. وَحَمَلَ مَنْوِيلُ مُقَدَّمُ الرُّومِ، فَقَتَلَ فِي الْمُسْلِمِينَ، (فَطَعَنَهُ الْمُسْلِمُونَ) ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ لِكَثْرَةِ مَا عَلَيْهِ مِنَ اللِّبَاسِ، فَرَمَى بَعْضُهُمْ فَرَسَهُ فَقَتَلَهُ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ عَلَيْهِ، فَقُتِلَ هُوَ

وَجَمَاعَةٌ مِنْ بَطَارِقَتِهِ، فَلَمَّا قُتِلَ انْهَزَمَ الرُّومُ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَأَكْثَرَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمُ الْقَتْلَ، وَوَصَلَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى جَرْفِ خَنْدَقٍ عَظِيمٍ كَالْحُفْرَةِ، فَسَقَطُوا فِيهَا مِنْ خَوْفِ السَّيْفِ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى امْتَلَأَتْ، وَكَانَتِ الْحَرْبُ مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى الْعَصْرِ، وَبَاتَ الْمُسْلِمُونَ يُقَاتِلُونَهُمْ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَغَنِمُوا مِنَ السِّلَاحِ وَالْخَيْلِ، وَصُنُوفِ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحَدُّ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ سَيْفٌ هِنْدِيٌّ عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ: هَذَا سَيْفٌ هِنْدِيٌّ، وَزْنُهُ مِائَةٌ وَسَبْعُونَ مِثْقَالًا، طَالَمَا ضُرِبَ بِهِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُرْسِلَ إِلَى الْمُعِزِّ مَعَ الْأَسْرَى وَالرُّءُوسِ، وَسَارَ مَنْ سَلِمَ مِنَ الرُّومِ إِلَى رَيُّو. وَأَمَّا أَهْلُ رَمْطَةَ فَإِنَّهُمْ ضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ، وَكَانَتِ الْأَقْوَاتُ قَدْ قَلَّتْ عِنْدَهُمْ، فَأَخْرَجُوا مَنْ فِيهَا مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَبَقِيَ الْمُقَاتِلَةُ، فَزَحَفَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ وَقَاتَلُوهُمْ إِلَى اللَّيْلِ، (وَلَزِمُوا) الْقِتَالَ فِي اللَّيْلِ أَيْضًا، وَتَقَدَّمُوا بِالسَّلَالِيمِ فَمَلَكُوهَا عَنْوَةً، وَقَتَلُوا مَنْ فِيهَا، وَسَبَوُا الْحُرَمَ وَالصِّغَارَ، وَغَنِمُوا مَا فِيهَا، وَكَانَ شَيْئًا كَثِيرًا عَظِيمًا، وَرَتَّبَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُعَمِّرُهَا وَيُقِيمُ فِيهَا. ثُمَّ إِنَّ الرُّومَ تَجَمَّعَ مَنْ سَلِمَ مِنْهَا، وَأَخَذُوا مَعَهُمْ مَنْ فِي صِقِلِّيَةَ وَجَزِيرَةِ رَيُّو مِنْهُمْ، وَرَكِبُوا مَرَاكِبَهُمْ يَحْفَظُونَ نُفُوسَهُمْ، فَرَكِبَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ فِي عَسَاكِرِهِ وَأَصْحَابِهِ فِي الْمَرَاكِبِ أَيْضًا، وَزَحَفَ إِلَيْهِمْ فِي الْمَاءِ وَقَاتَلَهُمْ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَأَلْقَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نُفُوسَهُمْ فِي الْمَاءِ، وَخَرَقُوا كَثِيرًا مِنَ الْمَرَاكِبِ الَّتِي لِلرُّومِ، (فَغَرِقَتْ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الرُّومِ) ، فَانْهَزَمُوا لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَسَارَتْ سَرَايَا الْمُسْلِمِينَ فِي مَدَائِنِ الرُّومِ، فَغَنِمُوا مِنْهَا، فَبَذَلَ أَهْلُهَا لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَهَادَنُوهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهَذِهِ الْوَقْعَةُ الْأَخِيرَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِوَقْعَةِ الْمَجَازِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ، أُغْلِقَتِ الْأَسْوَاقُ بِبَغْدَاذَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَفَعَلَ النَّاسُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَثَارَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الشِّيعَةِ وَالسُّنَّةِ، جُرِحَ فِيهَا كَثِيرٌ، وَنُهِبَتِ الْأَمْوَالُ. وَفِيهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ، ظَهَرَ بِالْكُوفَةِ إِنْسَانٌ ادَّعَى أَنَّهُ عَلَوِيٌّ، وَكَانَ مُبَرْقَعًا، فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْعَلَوِيِّ وَقَائِعَ، فَلَمَّا عَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنَ الْمَوْصِلِ، هَرَبَ الْمُبَرْقَعُ.

ثم دخلت سنة أربع وخمسين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 354 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الرُّومِ عَلَى الْمَصِّيصَةِ وَطَرَسُوسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ الرُّومُ الْمَصِّيصَةَ وَطَرَسُوسَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ نِقْفُورَ مَلِكَ الرُّومِ بَنَى بِقَيْسَارِيَّةَ مَدِينَةً لِيَقْرُبَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَأَقَامَ بِهَا، وَنَقَلَ أَهْلَهُ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَهْلُ طَرَسُوسَ وَالْمَصِّيصَةَ (يَبْذُلُونَ لَهُ إِتَاوَةً) ، وَيَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يُنْفِذَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يُقِيمُ عِنْدَهُمْ، فَعَزَمَ عَلَى إِجَابَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ. فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِأَنَّهُمْ قَدْ ضَعُفُوا وَعَجَزُوا، وَأَنَّهُمْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ، وَأَنَّ الْغَلَاءَ قَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ عَجَزُوا عَنِ الْقُوتِ، وَأَكَلُوا الْكِلَابَ وَالْمَيْتَةَ، وَقَدْ كَثُرَ فِيهِمُ الْوَبَاءُ، فَيَمُوتُ مِنْهُمْ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثُمِائَةِ نَفْسٍ، فَعَادَ نَقْفُورُ عَنْ إِجَابَتِهِمْ، وَأَحْضَرَ الرَّسُولَ وَأَحْرَقَ الْكِتَابَ عَلَى رَأْسِهِ، وَاحْتَرَقَتْ لِحْيَتُهُ، وَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ كَالْحَيَّةِ، فِي الشِّتَاءِ تُخَدَّرُ وَتَذْبُلُ حَتَّى تَكَادَ تَمُوتُ، فَإِنْ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا وَأَدْفَأَهَا، انْتَعَشَتْ وَنَهَشَتْهُ، وَأَنْتُمْ إِنَّمَا أَطَعْتُمْ لِضَعْفِكُمْ، وَإِنْ تَرَكْتُكُمْ حَتَّى تَسْتَقِيمَ أَحْوَالُكُمْ، تَأَذَّيْتُ بِكُمْ. وَأَعَادَ الرَّسُولَ، وَجَمَعَ جُيُوشَ الرُّومِ، وَسَارَ إِلَى الْمَصِّيصَةِ بِنَفْسِهِ، فَحَاصَرَهَا وَفَتَحَهَا عَنْوَةً (بِالسَّيْفِ يَوْمَ السَّبْتِ ثَالِثَ عَشَرَ رَجَبٍ) ، وَوَضَعَ السَّيْفَ فِيهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، ثُمَّ رَفَعَ السَّيْفَ وَنَقَلَ كُلَّ مَنْ بِهَا إِلَى بَلَدِ الرُّومِ، كَانُوا نَحْوَ مِائَتَيْ أَلْفِ إِنْسَانٍ.

ثُمَّ سَارَ إِلَى طَرَسُوسَ فَحَصَرَهَا، فَأَذْعَنَ أَهْلُهَا بِالطَّاعَةِ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ وَفَتَحُوا الْبَلَدَ، فَلَقِيَهُمْ بِالْجَمِيلِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا مِنْ سِلَاحِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ (مَا يُطِيقُونَ) وَيَتْرُكُوا الْبَاقِيَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَسَارُوا بَرًا وَبَحْرًا، وَسَيَّرَ مَعَهُمْ مَنْ يَحْمِيهِمْ حَتَّى بَلَغُوا أَنْطَاكِيَّةَ. وَجَعَلَ الْمَلِكُ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ إِصْطَبْلًا لِدَوَابِّهِ، وَأَحْرَقَ الْمِنْبَرَ، وَعَمَّرَ طَرَسُوسَ وَحِصْنَهَا، وَجَلَبَ الْمِيرَةَ إِلَيْهَا حَتَّى رَخُصَتِ الْأَسْعَارُ، وَتَرَاجَعَ إِلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَدَخَلُوا فِي طَاعَةِ الْمَلِكِ، وَتَنَصَّرَ بَعْضُهُمْ. وَأَرَادَ الْمَقَامَ بِهَا لِيَقْرُبَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَأَرَادَ الدُّمُسْتُقُ وَهُوَ ابْنُ الشَّمَشْقِيقِ أَنْ يَقْصِدَ مَيَّافَارِقِينَ، وَبِهَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ، فَأَمَرَهُ الْمَلِكُ بِاتِّبَاعِهِ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَمَضَى إِلَيْهِ. ذِكْرُ مُخَالِفَةِ أَهْلِ أَنْطَاكِيَّةَ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى أَهْلُ أَنْطَاكِيَّةَ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ إِنْسَانًا مَنْ أَهْلِ طَرَسُوسَ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِيهَا، يُسَمَّى رَشِيقًا النَّسِيمِيَّ، كَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ سَلَّمَهَا إِلَى الرُّومِ وَخَرَجَ إِلَى أَنْطَاكِيَّةَ، فَلَمَّا وَصَلَهَا، خَدَمَهُ إِنْسَانٌ يُعَرَفُ بِابْنِ الْأَهْوَازِيِّ كَانَ يَضْمَنُ الْأَرْحَاءَ بِأَنْطَاكِيَّةَ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ مَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْ حَاصِلِ الْأَرْحَاءِ، وَحَسُنَ لَهُ الْعِصْيَانُ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ سَيْفَ الدَّوْلَةِ بِمَيَّافَارِقِينَ قَدْ عَجَزَ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى الشَّامِ، فَعَصَى وَاسْتَوْلَى عَلَى أَنْطَاكِيَّةَ، وَسَارَ إِلَى حَلَبَ، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّائِبِ عَنْ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ قَرْغُوَيْهِ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَصَعِدَ قَرْغُوَيْهِ إِلَى قَلْعَةِ حَلَبَ فَتَحَصَّنَ بِهَا، وَأَنْفَذَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ عَسْكَرًا مَعَ خَادِمِهِ بَشَّارَةَ نَجْدَةً لِقَرْغُوَيْهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ رَشِيقٌ، انْهَزَمَ عَنْ حَلَبَ، فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ إِنْسَانٌ عَرَبِيٌّ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ رَأْسَهُ وَحَمَلَهُ إِلَى قَرْغُوَيْهِ وَبَشَّارَةَ.

وَوَصَلَ ابْنُ الْأَهْوَازِيِّ إِلَى أَنْطَاكِيَّةَ، فَأَظْهَرَ إِنْسَانًا مِنَ الدَّيْلَمِ اسْمُهُ دَزْبَرُ، وَسَمَّاهُ الْأَمِيرُ، وَتَقْوَّى بِإِنْسَانٍ عَلَوِيٍّ لِيُقِيمَ لَهُ الدَّعْوَةَ، وَتَسَمَّى هُوَ بِالْأُسْتَاذِ، فَظَلَمَ النَّاسَ، وَجَمَعَ الْأَمْوَالَ، وَقَصَدَ قَرْغُوَيْهِ إِلَى أَنْطَاكِيَّةَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ، فَكَانَتْ عَلَى ابْنِ الْأَهْوَازِيِّ أَوَّلًا، ثُمَّ عَادَتْ عَلَى قَرْغُوَيْهِ، فَانْهَزَمَ وَعَادَ إِلَى حَلَبَ. ثُمَّ إِنَّ سَيْفَ الدَّوْلَةِ عَادَ عَنْ مَيَّافَارِقِينَ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْغُزَاةِ إِلَى حَلَبَ، فَأَقَامَ بِهَا لَيْلَةً، وَخَرَجَ مِنَ الْغَدِ، فَوَاقَعَ دَزْبَرَ وَابْنَ الْأَهْوَازِيِّ، فَقَاتَلَ مَنْ بِهَا فَانْهَزَمُوا، وَأَسَرَ دَزْبَرَ وَابْنَ الْأَهْوَازِيِّ، فَقَتَلَ دَزْبَرَ، وَسَجَنَ ابْنَ الْأَهْوَازِيِّ مُدَّةً ثُمَّ قَتَلَهُ. ذِكْرُ عِصْيَانِ أَهْلِ سِجِسْتَانَ وَفِي السَّنَةِ عَصَى أَهْلُ سِجِسْتَانَ عَلَى أَمِيرِهِمْ خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ، وَكَانَ خَلَفُ هَذَا هُوَ صَاحِبُ سِجِسْتَانَ حِينَئِذٍ، وَكَانَ عَالِمًا مُحِبًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ، فَاتُّفِقَ أَنَّهُ حَجَّ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى أَعْمَالِهِ إِنْسَانًا مِنْ أَصْحَابِهِ يُسَمَّى طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ، فَطَمِعَ فِي الْمُلْكِ، وَعَصَى عَلَى خَلَفٍ لَمَّا عَادَ مِنَ الْحَجِّ، فَسَارَ خَلَفٌ إِلَى بُخَارَى، وَاسْتَنْصَرَ بِالْأَمِيرِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحٍ، وَسَأَلَهُ مَعُونَتَهُ، وَرَدَّهُ إِلَى مُلْكِهِ، فَأَنْجَدَهُ وَجَهَّزَ مَعَهُ الْعَسَاكِرَ، فَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ سِجِسْتَانَ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ طَاهِرٌ، فَارَقَ مَدِينَةَ خَلَفٍ وَتَوَجَّهَ نَحْوَ اسْفِرَارَ، وَعَادَ خَلَفٌ إِلَى قَرَارِهِ وَمُلْكِهِ وَفَرَّقَ الْعَسَاكِرَ. فَلَمَّا عَلِمَ طَاهِرٌ بِذَلِكَ، عَادَ إِلَيْهِ، وَغَلَبَ عَلَى سِجِسْتَانَ، وَفَارَقَهَا خَلَفٌ، وَعَادَ إِلَى حَضْرَةِ الْأَمِيرِ مَنْصُورٍ أَيْضًا بِبُخَارَى، فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَنْجَدَهُ بِالْعَسَاكِرِ الْكَثِيرَةِ، وَرَدَّهُ

إِلَى سِجِسْتَانَ، فَوَافَقَ وُصُولُهُ مَوْتَ طَاهِرٍ، وَانْتِصَابِ ابْنِهِ الْحُسَيْنِ مَكَانَهُ، فَحَاصَرَهُ خَلَفٌ وَضَايَقَهُ، وَكَثُرَ بَيْنَهُمُ الْقَتْلَى، وَاسْتَظْهَرَ خَلَفٌ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ كَتَبَ إِلَى بُخَارَى يَعْتَذِرُ وَيَتَنَصَّلُ، وَيُظْهِرُ الطَّاعَةَ، وَيَسْأَلُ الْإِقَالَةَ، فَأَجَابَهُ الْأَمِيرُ مَنْصُورٌ إِلَى مَا طَلَبَهُ، وَكَتَبَ فِي تَمْكِينِهِ مِنَ الْمَسِيرِ إِلَيْهِ فَسَارَ مِنْ سِجِسْتَانَ إِلَى بُخَارَى، فَأَحْسَنَ الْأَمِيرُ مَنْصُورٌ إِلَيْهِ. وَاسْتَقَرَّ خَلَفُ بْنُ أَحْمَدَ بِسِجِسْتَانَ، وَدَامَتْ أَيَّامُهُ فِيهَا، وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُ وَرِجَالُهُ، فَقَطَعَ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ إِلَى بُخَارَى مِنَ الْخِلَعِ وَالْخَدَمِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي اسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَيْهَا، فَجُهِّزَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَيْهِ، وَجُعِلَ مُقَدَّمُهَا الْحَسَنُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْمَذْكُورُ، فَسَارُوا إِلَى سِجِسْتَانَ، وَحَصَرُوا خَلَفَ بْنَ أَحْمَدَ بِحِصْنِ أَرَكَ، وَهُوَ مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ وَأَعْلَاهَا مَحَلًّا وَأَعْمَقِهَا خَنْدَقًا، فَدَامَ الْحِصَارُ عَلَيْهِ سَبْعَ سِنِينَ. وَكَانَ خَلَفٌ يُقَاتِلُهُمْ بِأَنْوَاعِ السِّلَاحِ، وَيُعْمِلُ بِهِمْ أَنْوَاعَ الْحِيَلِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِصَيْدِ الْحَيَّاتِ وَيَجْعَلُهَا فِي جِرَابٍ وَيَقْذِفُهَا فِي الْمَنْجَنِيقِ إِلَيْهِمْ، فَكَانُوا يَنْتَقِلُونَ لِذَلِكَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ الْحِصَارُ، وَفَنِيَتِ الْأَمْوَالُ وَالْآلَاتُ، كَتَبَ نُوحُ بْنُ مَنْصُورٍ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ سِيمْجُورَ الَّذِي كَانَ أَمِيرَ جُيُوشِ خُرَاسَانَ، وَكَانَ حِينَئِذٍ قَدْ عُزِلَ عَنْهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى خَلَفٍ وَمُحَاصَرَتِهِ، وَكَانَ بِقُوهِسْتَانَ، فَسَارَ مِنْهَا إِلَى سِجِسْتَانَ، وَحَصَرَ خَلَفًا، وَكَانَ بَيْنَهُمَا مَوَدَّةٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِالنُّزُولِ عَنْ حِصْنِ أَرَكَ وَتَسْلِيمِهِ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ طَاهِرٍ، لِيَصِيرَ لِمَنْ قَدْ حَصَرَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ طَرِيقٌ وَحُجَّةٌ يَعُودُونَ بِهَا إِلَى بُخَارَى، فَإِذَا تَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ عَاوَدَ هُوَ مُحَارَبَةَ الْحُسَيْنِ (وَبَكْرُ بْنُ الْحُسَيْنِ مُفْرَدًا مِنَ) الْعَسَاكِرِ، فَقَبِلَ خَلَفٌ مَشُورَتَهُ، وَفَارَقَ حِصْنَ أَرَكَ إِلَى حِصْنِ الطَّارِقِ، وَدَخَلَ أَبُو الْحَسَنِ السِّيمْجُورِيُّ إِلَى أَرَكَ، وَأَقَامَ بِهِ الْخُطْبَةَ لِلْأَمِيرِ نُوحٍ، وَانْصَرَفَ عَنْهُ، وَقَرَّرَ الْحُسَيْنُ بْنُ طَاهِرٍ فِيهِ. وَسَنُورِدُ مَا يَتَجَدَّدُ فِيمَا بَعْدُ، وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ وَهْنٍ دَخَلَ عَلَى دَوْلَةِ السَّامَانِيَّةِ، فَطَمِعَ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ فِيهِمْ لِسُوءِ طَاعَةِ أَصْحَابِهِمْ لَهُمْ، وَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نُورِدَ كُلَّ حَادِثٍ مِنْ

هَذِهِ الْحَوَادِثِ فِي سَنَتِهِ، لَكِنَّنَا جَمَعْنَاهُ لِقِلَّتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُنْسَى أَوَّلُهُ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخِرِهِ. ذِكْرُ طَاعَةِ أَهْلِ عُمَانَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ وَفِيهَا سَيَّرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَسْكَرًا إِلَى عُمَانَ، فَلَقَوْا أَمِيرَهَا، وَهُوَ نَافِعٌ مَوْلَى يُوسُفَ بْنِ وَجِيهٍ، وَكَانَ يُوسُفُ قَدْ هَلَكَ، وَمَلَكَ نَافِعٌ الْبَلَدَ بَعْدَهُ، وَكَانَ أَسْوَدَ، فَدَخَلَ نَافِعٌ فِي طَاعَةِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَخَطَبَ لَهُ، وَضَرَبَ لَهُ اسْمَهُ عَلَى الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، فَلَمَّا عَادَ الْعَسْكَرُ عَنْهُ وَثَبَ بِهِ أَهْلُ عُمَانَ فَأَخْرَجُوهُ عَنْهُمْ، وَأَدْخَلُوا الْقَرَامِطَةَ الْهَجَرِيِّينَ إِلَيْهِمْ، وَتَسَلَّمُوا الْبَلَدَ، فَكَانُوا يُقِيمُونَ فِيهِ نَهَارًا وَيَخْرُجُونَ لَيْلًا إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ، وَكَتَبُوا إِلَى أَصْحَابِهِمْ بِهَجَرَ يُعَرِّفُونَهُمُ الْخَبَرَ لِيَأْمُرُوهُمْ بِمَا يَفْعَلُونَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَيْلَةَ السَّبْتِ رَابِعَ عَشَرَ صَفَرَ انْخَسَفَ الْقَمَرُ جَمِيعُهُ. وَفِيهَا نَزَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ التُّرْكِ عَلَى بِلَادِ الْخَزَرِ، فَانْتَصَرَ الْخَزَرُ بِأَهْلِ خُوَارَزْمَ فَلَمْ يُنْجِدُوهُمْ وَقَالُوا: أَنْتُمْ كُفَّارٌ، فَإِنْ أَسْلَمْتُمْ نَصَرْنَاكُمْ، فَأَسْلَمُوا إِلَّا مِلْكَهُمْ، فَنَصَرَهُمْ أَهْلُ خُوَارَزْمَ وَأَزَالُوا التُّرْكَ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَسْلَمَ مَلِكُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِيهَا، رَابِعُ جُمَادَى الْآخِرَةِ، تَقَلَّدَ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى وَالِدُ الرَّضِيِّ وَالْمُرْتَضَى نِقَابَةَ الْعَلَوِيِّينَ، (وَإِمَارَةَ الْحَاجِّ) ، وَكُتِبَ لَهُ مَنْشُورٌ مِنْ دِيوَانِ الْخَلِيفَةِ. وَفِيهَا أَنْفَذَ الْقَرَامِطَةُ سَرِيَّةً إِلَى عُمَانَ، وَالشُّرَاةُ فِي جِبَالِهَا (كَثِيرٌ فَاجْتَمَعُوا) ، فَأَوْقَعُوا بِالْقَرَامِطَةِ فَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَعَادَ الْبَاقُونَ. وَفِيهَا ثَارَ إِنْسَانٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ اسْتَأْمَنُوا إِلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ، وَاسْمُهُ مَرْوَانُ وَكَانَ يَتَقَلَّدُ السَّوَاحِلَ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ ثَارَ بِحِمْصَ فَمَلَكَهَا وَمَلَكَ غَيْرَهَا، فَخَرَجَ

إِلَيْهِ غُلَامٌ لِقَرْغَوَيْهِ حَاجِبِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، اسْمُهُ بَدْرٌ وَوَاقَعَ الْقَرْمَطِيَّ عِدَّةَ وَقَعَاتٍ، فَفِي بَعْضِهَا رَمَى بَدْرٌ مَرْوَانَ بِنُشَّابَةٍ مَسْمُومَةٍ، وَاتُّفِقَ أَنَّ أَصْحَابَ مَرْوَانَ أَسَرُوا بَدْرًا، فَقَتَلَهُ مَرْوَانُ، ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ قَتْلِهِ أَيَّامًا وَمَاتَ. وَفِيهَا قُتِلَ الْمُتَنَبِّي الشَّاعِرُ، وَاسْمُهُ أَبُو الطِّيِّبِ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْكِنْدِيُّ، قَرِيبًا مِنَ النُّعْمَانِيَّةِ وَقُتِلَ مَعَهُ ابْنُهُ، وَكَانَ قَدْ عَادَ مِنْ عِنْدِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِفَارِسَ، فَقَتَلَهُ الْأَعْرَابُ هُنَاكَ وَأَخَذُوا مَا مَعَهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ (بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حِبَّانَ) أَبُو حَاتِمٍ الْبَسْتِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مِقْسَمٍ الْمُفَسِّرُ النَّحْوِيُّ الْمُقْرِئُ، وَكَانَ عَالِمًا بِنَحْوِ الْكُوفِيِّينَ وَلَهُ تَفْسِيرٌ كَبِيرٌ حَسَنٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدَوَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ عَالِيَ الْإِسْنَادِ. (حِبَّانُ: بِكَسْرِ الْحَاءِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) .

ثم دخلت سنة خمس وخمسين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 355 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مَا تَجَدَّدَ بِعُمَانَ وَاسْتِيلَاءِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِ قَدْ ذَكَرْنَا فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ خَبَرَ عُمَانَ وَدُخُولَ الْقَرَامِطَةِ إِلَيْهَا، وَهَرَبَ نَافِعٍ عَنْهَا، فَلَمَّا هَرَبَ نَافِعٌ، وَاسْتَوْلَى الْقَرَامِطَةُ عَلَى الْبَلَدِ، كَانَ مَعَهُمْ كَاتِبٌ يُعْرَفُ بِعَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ يَنْظُرُ فِي أَمْرِ الْبَلَدِ، وَكَانَ بِعُمَانَ قَاضٍ لَهُ عَشِيرَةٌ وَجَاهٌ، فَاتَّفَقَ هُوَ وَأَهْلُ الْبَلَدِ أَنْ يُنَصِّبُوا فِي الْإِمْرَةِ رَجُلًا يُعْرَفُ بِابْنِ طُغَانَ، وَكَانَ مِنْ صِغَارِ الْقُوَّادِ بِعُمَانَ، وَأَدْنَاهُمْ مَرْتَبَةً، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ (فِي الْإِمْرَةِ) خَافَ مِمَّنْ فَوْقَهُ مِنَ الْقُوَّادِ، فَقَبَضَ عَلَى ثَمَانِينَ قَائِدًا، فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ، وَغَرَّقَ بَعْضَهُمْ. وَقَدِمَ الْبَلَدَ ابْنَا أُخْتٍ لِرَجُلٍ مِمَّنْ قَدْ غَرَّقَهُمْ، فَأَقَامَا مُدَّةً، ثُمَّ إِنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى طُغَانَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ السَّلَامِ، فَسَلَّمَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا تَقَوَّضَ الْمَجْلِسُ قَتَلَاهُ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُ النَّاسِ عَلَى تَأْمِيرِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَرْوَانَ، وَهُوَ مِنْ أَقَارِبِ الْقَاضِي، فَوَلِيَ الْإِمَارَةَ بَعْدَ امْتِنَاعٍ مِنْهُ، وَاسْتَكْتَبَ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْهَجَرِيِّينَ، فَأَمَرَ عَبْدُ الْوَهَّابِ كَاتِبَهُ عَلِيًّا أَنْ يُعْطِيَ الْجُنْدَ أَرْزَاقَهُمْ صِلَةً، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الزِّنْجِ، وَكَانُوا سِتَّةَ آلَافِ رَجُلٍ، (وَلَهُمْ بَأْسٌ وَشِدَّةٌ) ، قَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ: إِنَّ الْأَمِيرَ عَبْدَ الْوَهَّابِ أَمَرَنِي أَنْ أُعْطِيَ الْبِيضَ مِنَ الْجُنْدِ كَذَا وَكَذَا، (وَأَمَرَ لَكُمْ بِنِصْفِ) ذَلِكَ، فَاضْطَرَبُوا وَامْتَنَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكَمَ أَنْ تُبَايِعُونِي فَأُعْطِيَكُمْ مِثْلَ سَائِرِ الْأَجْنَادِ؟ فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَبَايَعُوهُ، وَأَعْطَاهُمْ

مِثْلَ الْبِيضِ مِنَ الْجُنْدِ، فَامْتَنَعَ الْبِيضُ مِنْ ذَلِكَ، وَوَقَعَ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ، فَظَهَرَ الزِّنْجُ عَلَيْهِمْ، فَسَكَنُوا، وَاتَّفَقُوا مَعَ الزِّنْجِ وَأَخْرَجُوا عَبْدَ الْوَهَّابِ مِنَ الْبَلَدِ، فَاسْتَقَرَّ فِي الْإِمَارَةِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ. ثُمَّ إِنَّ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ سَارَ إِلَى وَاسِطَ لِحَرْبِ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ، وَلِإِرْسَالِ جَيْشٍ إِلَى عُمَانَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى وَاسِطَ قَدِمَ عَلَيْهِ نَافِعٌ الْأَسْوَدُ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ عُمَانَ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَقَامَ لِلْفَرَاغِ مِنْ أَمْرِ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَانْحَدَرَ مِنْ وَاسِطَ إِلَى الْأُبُلَّةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَأَقَامَ بِهَا يُجَهِّزُ الْجَيْشَ وَالْمَرَاكِبَ لِيَسِيرُوا إِلَى عُمَانَ، فَفَرَغَ مِنْهُ، وَسَارُوا مُنْتَصَفَ شَوَّالٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ أَبَا الْفَرَجِ مُحَمَّدَ بْنَ الْعَبَّاسِ بْنِ فَسَانْجِسَ، وَكَانُوا فِي مِائَةِ قِطْعَةٍ، فَلَمَّا كَانُوا بِسِيرَافَ انْضَمَّ إِلَيْهِمُ الْجَيْشُ الَّذِي جَهَّزَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مِنْ فَارِسَ نَجْدَةً لِعَمِّهِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَاجْتَمَعُوا وَسَارُوا إِلَى عُمَانَ، وَدَخَلَهَا تَاسِعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَخَطَبَ لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ فِيهَا، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَأُحْرِقَتْ مَرَاكِبُهُمْ، وَهِيَ تِسْعَةٌ وَثَمَانُونَ مَرْكَبًا. ذِكْرُ هَزِيمَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَرْزُبَانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْهَزَمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ عَنْ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى الرَّيِّ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا انْهَزَمَ مِنْ جَسْتَانَ بْنِ شَرْمَزَنَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَصَدَ أَرْمِينِيَّةَ، وَشَرَعَ يَسْتَعِدُّ وَيَتَجَهَّزُ لِلْعَوْدِ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَكَانَتْ مُلُوكُ أَرْمِينِيَّةَ مِنَ الْأَرْمَنِ وَالْأَكْرَادِ، وَرَاسَلَ جَسْتَانَ بْنَ شَرْمَزَنَ وَأَصْلَحَهُ، فَأَتَاهُ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ. وَاتُّفِقَ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ ابْنَ عَمِّهِ وَهْسُوذَانَ تُوُفِّيَ، فَسَارَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَرْدَبِيلَ فَمَلَكَهَا، وَانْصَرَفَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَسِيكِيَّ إِلَى وَهْسُوذَانَ، وَصَارَ مَعَهُ، وَسَارَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى عَمِّهِ وَهْسُوذَانَ يُطَالِبُهُ بِثَأْرِ إِخْوَتِهِ، فَخَافَهُ عَمُّهُ وَهْسُوذَانُ، وَسَارَ هُوَ وَابْنُ مَسِيكِيَّ إِلَى بَلَدِ الدَّيْلَمِ، وَاسْتَوْلَى إِبْرَاهِيمُ عَلَى أَعْمَالِ عَمِّهِ، وَخَبَطَ أَصْحَابَهُ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُ الَّتِي ظَفِرَ بِهَا. وَجَمَعَ وَهْسُوذَانُ الرِّجَالَ وَعَادَ إِلَى قَلْعَتِهِ بِالطَّرْمِ، وَسَيَّرَ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ مَسِيكِيَّ فِي الْجُيُوشِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَلَقِيَهُمْ إِبْرَاهِيمُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَ إِبْرَاهِيمُ وَتَبِعَهُ

الطُّلَّبُ فَلَمْ يُدْرِكُوهُ، وَسَارَ وَحْدَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الرَّيِّ إِلَى رُكْنِ الدَّوْلَةِ، فَأَكْرَمَهُ رُكْنُ الدَّوْلَةِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ زَوْجَ أُخْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَبَالَغَ فِي إِكْرَامِهِ لِذَلِكَ، وَأَجْزَلَ لَهُ الْهَدَايَا وَالصِّلَاتِ. ذِكْرُ خَبَرِ الْغُزَاةِ الْخُرَاسَانِيَّةِ مَعَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَمَضَانَ، خَرَجَ مِنْ خُرَاسَانَ جَمْعٌ عَظِيمٌ يَبْلُغُونَ عِشْرِينَ أَلْفًا إِلَى الرَّيِّ بِنِيَّةِ الْغَزَاةِ، فَبَلَغَ خَبَرُهُمْ إِلَى رُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَكَثْرَةُ جَمْعِهِمْ، وَمَا فَعَلُوهُ فِي أَطْرَافِ بِلَادِهِ مِنَ الْفَسَادِ، وَأَنَّ رُؤَسَاءَهُمْ لَمْ يَمْنَعُوهُمْ (عَنْ ذَلِكَ) ، (فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ الْعَمِيدِ، وَهُوَ وَزِيرُهُ، بِمَنْعِهِمْ مِنْ دُخُولِ بِلَادِهِ مُجْتَمِعِينَ، فَقَالَ: لَا تَتَحَدَّثُ الْمُلُوكُ أَنَّنِي خِفْتُ جَمْعًا مِنَ الْغُزَاةِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِهِمْ إِلَى أَنْ يَجْمَعَ عَسْكَرَهُ، وَكَانُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَعَ صَاحِبِ خُرَاسَانَ مُوَاطَأَةً عَلَى بِلَادِكَ وَدَوْلَتِكَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ. فَلَمَّا وَرَدُوا الرَّيَّ اجْتَمَعَ رُؤَسَاؤُهُمْ، وَفِيهِمُ الْقَفَّالُ الْفَقِيهُ، وَحَضَرُوا مَجْلِسَ ابْنِ الْعَمِيدِ، وَطَلَبُوا مَالًا يُنْفِقُونَهُ، فَوَعَدَهُمْ فَاشْتَطُّوا فِي الطَّلَبِ وَقَالُوا: نُرِيدُ خَرَاجَ هَذِهِ الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، فَإِنَّهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَقَدْ فَعَلَ الرُّومُ بِالْمُسْلِمِينَ مَا بَلَغَكُمْ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى بِلَادِكُمْ، وَكَذَلِكَ الْأَرْمَنُ، وَنَحْنُ غُزَاةٌ، وَفُقَرَاءُ، وَأَبْنَاءُ سَبِيلٍ، فَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمَالِ مِنْكُمْ، وَطَلَبُوا جَيْشًا يَخْرُجُ مَعَهُمْ، وَاشْتَطُّوا فِي الِاقْتِرَاحِ، فَعَلِمَ ابْنُ الْعَمِيدِ حِينَئِذٍ خُبْثَ سَرَائِرِهِمْ، وَتَيَقَّنَ مَا كَانَ ظَنُّهُ فِيهِمْ، فَرَفَقَ بِهِمْ وَدَارَاهُمْ، فَعَدَلُوا عَنْهُ إِلَى مُشَاتَمَةِ الدَّيْلَمِ، وَلَعْنِهِمْ، وَتَكْفِيرِهِمْ، ثُمَّ قَامُوا عَنْهُ، وَشَرَعُوا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَسْلُبُونَ الْعَامَّةَ بِحُجَّةِ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَثَارُوا الْفِتْنَةَ، وَحَارَبُوا جَمَاعَةً مِنَ الدَّيْلَمِ إِلَى أَنَّ حَجَزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، ثُمَّ بَاكَرُوا الْقِتَالَ وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ، وَنَهَبُوا دَارَ الْوَزِيرِ ابْنِ الْعَمِيدِ وَجَرَحُوهُ، وَسَلِمَ مِنَ الْقَتْلِ. وَخَرَجَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِمْ فِي أَصْحَابِهِ، وَكَانَ فِي قِلَّةٍ، فَهَزَمَهُ الْخُرَاسَانِيَّةُ، فَلَوْ تَبِعُوهُ لَأَتَوْا عَلَيْهِ وَمَلَكُوا الْبَلَدَ مِنْهُ، لَكِنَّهُمْ عَادُوا عَنْهُ لِأَنَّ اللَّيْلَ أَدْرَكَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا رَاسَلَهُمْ رُكْنُ الدَّوْلَةِ وَلَطُفَ بِهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَسِيرُونَ مِنْ بَلَدِهِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَكَانُوا يَنْتَظِرُونَ مَدَدًا يَأْتِيهِمْ

مِنْ صَاحِبِ خُرَاسَانَ، فَإِنَّهُمْ كَانَ بَيْنَهُمْ مُوَاعَدَةٌ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ. ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا وَقَصَدُوا الْبَلَدَ لِيَمْلِكُوهُ، فَخَرَجَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِمْ فَقَاتَلَهُمْ، وَأَمَرَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَسِيرُوا إِلَى مَكَانٍ يَرَاهُمْ، ثُمَّ يُثِيرُوا غَبَرَةً شَدِيدَةً، وَيُرْسِلُوا إِلَيْهِ مَنْ يُخْبِرُهُ أَنَّ الْجُيُوشَ قَدْ أَتَتْهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ. وَكَانَ أَصْحَابُهُ قَدْ خَافُوا لِقِلَّتِهِمْ، وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، فَلَمَّا رَأَوُا الْغَبَرَةَ وَأَتَاهُمْ مَنْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ أَصْحَابَهُ لَحِقُوهُمْ قَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ رُكْنُ الدَّوْلَةِ: احْمِلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ لَعَلَّنَا نَظْفَرُ بِهِمْ قَبْلَ وُصُولِ أَصْحَابِنَا، فَيَكُونُ الظَّفَرُ وَالْغَنِيمَةُ لَنَا، فَكَبَّرُوا، وَحَمَلُوا حَمْلَةً صَادِقَةً، فَكَانَ لَهُمُ الظَّفَرُ، وَانْهَزَمَ الْخُرَاسَانِيَّةُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُسِرَ أَكْثَرُ مِمَّنْ قُتِلَ، وَتَفَرَّقَ الْبَاقُونَ، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ رُكْنُ الدَّوْلَةِ. وَكَانَ قَدْ دَخَلَ الْبَلَدَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ يُكَبِّرُونَ كَأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ، وَيَقْتُلُونَ كُلَّ مَنْ رَأَوْهُ بِزِيِّ الدَّيْلَمِ، وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ رَافِضَةٌ، فَبَلَغَهُمْ خَبَرُ انْهِزَامِ أَصْحَابِهِمْ، وَقَصْدِهِمُ الدَّيْلَمَ لِيَقْتُلُوهُمْ، فَمَنَعَهُمْ رُكْنُ الدَّوْلَةِ وَأَمَّنَهُمْ، وَفَتَحَ لَهُمُ الطَّرِيقَ لِيَعُودُوا، وَوَصَلَ بَعْدَهُمْ نَحْوُ أَلْفَيْ رَجُلٍ بِالْعُدَّةِ وَالسِّلَاحِ، فَقَاتَلَهُمْ رُكْنُ الدَّوْلَةِ، فَهَزَمَهُمْ وَقَتَّلَ فِيهِمْ، ثُمَّ أَطْلَقَ الْأَسَارَى، وَأَمَرَ لَهُمْ بِنَفَقَاتٍ، وَرَدَّهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ عِنْدَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، فَأَثَّرَ فِيهِمْ آثَارًا حَسَنَةً. ذِكْرُ عَوْدِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَرْزُبَانِ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ رُكْنَ الدَّوْلَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، جَهَّزَ الْعَسَاكِرَ مَعَهُ، وَسَيَّرَ مَعَهُ الْأُسْتَاذَ أَبَا الْفَضْلِ بْنَ الْعَمِيدِ لِيَرُدَّهُ إِلَى وِلَايَتِهِ، وَيُصْلِحَ لَهُ أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ، فَسَارَ مَعَهُ إِلَيْهَا، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَأَصْلَحَ لَهُ جَسْتَانَ بْنَ شَرْمَزَنَ، وَقَادَهُ إِلَى طَاعَتِهِ، وَغَيْرِهِ مِنْ طَوَائِفِ الْأَكْرَادِ، وَمَكَّنَهُ مِنَ الْبِلَادِ. وَكَانَ ابْنُ الْعَمِيدِ لَمَّا وَصَلَ إِلَى تِلْكَ الْبِلَادِ رَأَى كَثْرَةَ دَخْلِهَا، وَسَعَةَ مِيَاهِهَا وَرَأَى مَا

يَتَحَصَّلُ لِإِبْرَاهِيمَ مِنْهَا، فَوَجَدَهُ قَلِيلًا لِسُوءِ تَدْبِيرِهِ، وَطَمَعِ النَّاسِ فِيهِ لِاشْتِغَالِهِ بِالشُّرْبِ وَالنِّسَاءِ، فَكَتَبَ إِلَى رُكْنِ الدَّوْلَةِ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، وَيُشِيرُ بِأَنْ يُعَوِّضَهُ مِنْ بَعْضِ وِلَايَتِهِ بِمِقْدَارِ مَا يَتَحَصَّلُ (لَهُ مِنْ) هَذِهِ الْبِلَادِ وَيَأْخُذُهَا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُ حَالٌ مَعَ الَّذِينَ بِهَا، وَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ، فَامْتَنَعَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَقَالَ: لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ عَنِّي أَنِّي اسْتَجَارَ بِي إِنْسَانٌ وَطَمِعْتُ فِيهِ، وَأَمَرَ أَبَا الْفَضْلِ بِالْعَوْدِ عَنْهُ وَتَسْلِيمِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ، فَفَعَلَ وَعَادَ وَحَكَى لِرُكْنِ الدَّوْلَةِ صُورَةَ الْحَالِ، وَحَذَّرَهُ خُرُوجَ الْبِلَادِ مِنْ يَدِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ، حَتَّى أُخِذَ إِبْرَاهِيمُ وَحُبِسَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ خُرُوجِ الرُّومِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، خَرَجَتِ الرُّومُ، فَقَصَدُوا مَدِينَةَ آمِدَ، وَنَزَلُوا عَلَيْهَا، وَحَصَرُوهَا وَقَاتَلُوا أَهْلَهَا، فَقُتِلَ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ، وَأُسِرَ نَحْوُ أَرْبَعِمِائَةِ أَسِيرٍ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ فَتْحُهَا، فَانْصَرَفُوا إِلَى دَارَا، وَقَرُبُوا مِنْ نَصِيبِينَ، (وَلَقِيَهُمْ قَافِلَةٌ وَارِدَةٌ مِنْ مَيَّافَارِقِينَ، فَأَخَذُوهَا، وَهَرَبَ النَّاسُ مِنْ نَصِيبِينَ) خَوْفًا مِنْهُمْ، حَتَّى بَلَغَتْ أُجْرَةُ الدَّابَّةِ مِائَةَ دِرْهَمٍ. وَرَاسَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ الْأَعْرَابَ لِيَهْرَبَ مَعَهُمْ، وَكَانَ فِي نَصِيبِينَ، فَاتَّفَقَ أَنَّ الرُّومَ عَادُوا قَبْلَ هَرَبِهِ، فَأَقَامَ بِمَكَانِهِ، وَسَارُوا مِنْ دِيَارِ الْجَزِيرَةِ إِلَى الشَّامِ، فَنَازَلُوا أَنْطَاكِيَةَ، فَأَقَامُوا عَلَيْهَا مُدَّةً طَوِيلَةً يُقَاتِلُونَ أَهْلَهَا، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ فَتْحُهَا، فَخَرَّبُوا بَلَدَهَا وَنَهَبُوهُ، وَعَادُوا إِلَى طَرَسُوسَ. ذِكْرُ مَا جَرَى لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ مَعَ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ قَدْ ذَكَرْنَا انْحِدَارَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطَ لِأَجْلِ قَصْدِ وِلَايَةِ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ بِالْبَطَائِحِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى وَاسِطَ أَنْفَذَ الْجَيْشَ مَعَ أَبِي الْفَضْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَسَنِ،

فَسَارُوا، فَنَزَلُوا الْجَامِدَةَ، وَشَرَعُوا فِي سَدِّ الْأَنْهَارِ الَّتِي تَصُبُّ إِلَى الْبَطَائِحِ. وَسَارَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الْأُبُلَّةِ، وَأَرْسَلَ الْجَيْشَ إِلَى عُمَانَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَادَ إِلَى وَاسِطَ لِإِتْمَامِ حَرْبِ عِمْرَانَ وَمِلْكِ بَلَدِهِ، فَأَقَامَ بِهَا، فَمَرِضَ، وَأَصْعَدَ إِلَى بَغْدَادَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ (سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ) [وَثَلَاثِمِائَةٍ وَهُوَ عَلِيلٌ، وَخَلَّفَ الْعَسْكَرَ بِهَا، وَوَعَدَهُمْ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ تُوُفِّيَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى مُصَالَحَةِ عِمْرَانَ وَالِانْصِرَافِ عَنْهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَتْ بَنُو سُلَيْمٍ عَلَى الْحُجَّاجِ السَّائِرِينَ مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ، وَكَانُوا عَالَمًا كَثِيرًا، وَمَعَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الثُّغُورِ وَالشَّامِ هَرَبُوا مِنْ خَوْفِهِمْ مِنَ الرُّومِ، بِأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَقَصَدُوا مَكَّةَ لِيَسِيرُوا مِنْهَا إِلَى الْعِرَاقِ، فَأُخِذُوا، وَمَاتَ مِنَ النَّاسِ فِي الْبَرِّيَّةِ مَا لَا يُحْصَى، وَلَمْ يَسْلَمْ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَفِيهَا عَظُمَ أَمْرُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّاعِي بِالدَّيْلَمِ، وَلَبِسَ الصُّوفَ، وَأَظْهَرَ النُّسُكَ وَالْعِبَادَةَ، وَحَارَبَ ابْنَ وَشْمَكِيرَ، فَهَزَمَهُ وَعَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، وَكَتَبَ إِلَى الْعِرَاقِ كِتَابًا يَدْعُوهُمْ فِيهِ إِلَى الْجِهَادِ. وَفِيهَا تَمَّ الْفِدَاءُ بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَالرُّومِ، وَسَلَّمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ ابْنَ عَمِّهِ أَبَا فِرَاسِ بْنَ حَمْدَانَ، وَأَبَا الْهَيْثَمِ ابْنَ الْقَاضِي أَبِي الْحُصَيْنِ. وَفِيهَا انْخَسَفَ الْقَمَرُ جَمِيعُهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ ثَالِثَ عَشَرَ شَعْبَانَ، وَغَابَ مُنْخَسِفًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجِعَابِيِّ

الْحَافِظُ الْبَغْدَادِيُّ بِهَا، وَكَانَ يَتَشَيَّعُ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ (بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ) بْنِ الْوَضَّاحِ الْوَضَّاحِيُّ، الشَّاعِرُ الْأَنْبَارِيُّ.

ثم دخلت سنة ست وخمسين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 356 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مَوْتِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ بَخْتِيَارَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، تُوُفِّيَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِعِلَّةِ الذَّرَبِ، وَكَانَ بِوَاسِطَ، وَقَدْ جَهَّزَ الْجُيُوشَ لِمُحَارَبَةِ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ، فَابْتَدَأَ بِهِ الْإِسْهَالُ، وَقَوِيَ عَلَيْهِ، فَسَارَ نَحْوَ بَغْدَاذَ، وَخَلَّفَ أَصْحَابَهُ، وَوَعَدَهُمْ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ رَجَا الْعَافِيَةَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ اشْتَدَّ مَرَضُهُ، وَصَارَ لَا يَثْبُتُ فِي مَعِدَتِهِ شَيْءٌ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِالْمَوْتِ عَهِدَ إِلَى ابْنِهِ عِزِّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ، وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ، وَتَصَدَّقَ بِأَكْثَرِ مَالِهِ، وَأَعْتَقَ مَمَالِيكَهُ، وَرَدَّ شَيْئًا كَثِيرًا عَلَى أَصْحَابِهِ، وَتُوُفِّيَ وَدُفِنَ بِبَابِ التِّبْنِ فِي مَقَابِرِ قُرَيْشٍ، فَكَانَتْ إِمَارَتُهُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا وَيَوْمَيْنِ. وَكَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا عَاقِلًا، وَلَمَّا مَاتَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَجَلَسَ ابْنُهُ عِزُّ الدَّوْلَةِ فِي الْإِمَارَةِ مُطِرَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا مَطَرًا دَائِمًا مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْحَرَكَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْقُوَّادِ فَأَرْضَاهُمْ، فَانْجَلَتِ السَّمَاءُ، وَقَدْ رَضُوا فَسَكَنُوا وَلَمْ يَتَحَرَّكْ أَحَدٌ. وَكَتَبَ عِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الْعَسْكَرِ بِمُصَالَحَةِ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ، فَفَعَلُوا وَعَادُوا. وَكَانَتْ إِحْدَى يَدَيْ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مَقْطُوعَةً، وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ قَطْعِهَا، فَقِيلَ قُطِعَتْ بِكَرْمَانَ لَمَّا سَارَ إِلَى قِتَالِ مَنْ بِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَحْدَثَ أَمْرَ السُّعَاةِ، وَأَعْطَاهُمْ عَلَيْهِ الْجِرَايَاتِ الْكَثِيرَةَ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَصِلَ خَبَرُهُ إِلَى أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ سَرِيعًا، فَنَشَأَ فِي أَيَّامِهِ فَضْلٌ وَمَرْعُوشٌ، وَفَاقَا جَمِيعَ السُّعَاةِ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسِيرُ

فِي الْيَوْمِ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ فَرْسَخًا، وَتَعَصَّبَ لَهُمَا النَّاسُ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا سَاعِيَ السُّنَّةِ، وَالْآخَرُ سَاعِيَ الشِّيعَةِ. ذِكْرُ سُوءِ سِيرَةِ بَخْتِيَارَ وَفَسَادِ حَالِهِ لَمَّا حَضَرَتْ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ الْوَفَاةُ وَصَّى وَلَدَهُ بَخْتِيَارَ بِطَاعَةِ عَمِّهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَاسْتِشَارَتِهِ فِي كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ، وَبِطَاعَةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ ابْنِ عَمِّهِ، لِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا، وَأَقْوَمُ بِالسِّيَاسَةِ، وَوَصَّاهُ بِتَقْرِيرِ كَاتِبَيْهِ أَبِي الْفَضْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَأَبِي الْفَرَجِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، (لِكِفَايَتِهِمَا وَأَمَانَتِهِمَا، وَوَصَّاهُ بِالدَّيْلَمِ وَالْأَتْرَاكِ) وَبِالْحَاجِبِ سُبُكْتِكِينَ، فَخَالَفَ هَذِهِ الْوَصَايَا جَمِيعَهَا، وَاشْتَغَلَ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَعِشْرَةِ النِّسَاءِ، وَالْمَسَاخِرِ، وَالْمُغَنِّينَ، وَشَرَعَ فِي إِيحَاشِ كَاتِبَيْهِ وَسُبُكْتِكِينَ، فَاسْتَوْحَشُوا، وَانْقَطَعَ سُبُكْتِكِينُ عَنْهُ فَلَمْ يَحْضُرْ دَارَهُ. وَنَفَى كِبَارُ الدَّيْلَمِ عَنْ مَمْلَكَتِهِ شَرَّهَا إِلَى إِقْطَاعَاتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِ الْمُتَّصِلِينَ بِهِمْ، فَاتَّفَقَ أَصَاغِرُهُمْ عَلَيْهِ، وَطَلَبُوا الزِّيَادَاتِ، وَاضْطَرَّ إِلَى مَرْضَاتِهِمْ، وَاقْتَدَى بِهِمُ الْأَتْرَاكُ فَعَمِلُوا مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتِمَّ لَهُ عَلَى سُبُكْتِكِينَ مَا يُرِيدُ لِاحْتِيَاطِهِ، وَاتَّفَقَ الْأَتْرَاكُ مَعَهُ، وَخَرَجَ الدَّيْلَمُ إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَطَالَبُوا بَخْتِيَارَ بِإِعَادَةِ مَنْ أَسْقَطَ مِنْهُمْ، فَاحْتَاجَ أَنْ يُجِيبَهُمْ لِتَغَيُّرِ سُبُكْتِكِينَ عَلَيْهِ، وَفَعَلَ الْأَتْرَاكُ أَيْضًا مِثْلَ فِعْلِهِمْ. وَاتَّصَلَ خَبَرُ مَوْتِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بِكَاتِبِهِ أَبِي الْفَرَجِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَهُوَ مُتَوَلِّي أَمْرِ عُمَانَ، فَسَلَّمَهَا إِلَى نُوَّابِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَسَارَ نَحْوَ بَغْدَاذَ. وَكَانَ سَبَبُ تَسْلِيمِهَا إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ أَنَّ بَخْتِيَارَ لَمَّا مَلَكَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ تَفَرَّدَ أَبُو الْفَضْلِ بِالنَّظَرِ فِي الْأُمُورِ، فَخَافَ أَبُو الْفَرَجِ أَنْ يَسْتَمِرَّ انْفِرَادُهُ عَنْهُ، فَسَلَّمَ عُمَانَ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ لِئَلَّا يُؤْمَرَ بِالْمُقَامِ فِيهَا لِحِفْظِهَا وَإِصْلَاحِهَا، وَسَارَ إِلَى بَغْدَادَ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الَّذِي أَرَادَ، وَتَفَرَّدَ أَبُو الْفَضْلِ بِالْوِزَارَةِ.

ذِكْرُ خُرُوجِ عَسَاكِرِ خُرَاسَانَ وَمَوْتِ وَشْمَكِيرَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ الْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ صَاحِبُ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ الْجُيُوشَ إِلَى الرَّيِّ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنَ إِلْيَاسَ سَارَ مِنْ كَرْمَانَ إِلَى بُخَارَى مُلْتَجِئًا إِلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورٍ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ أَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ، فَأَطْمَعَهُ فِي مَالِكِ بَنِي بُوَيْهٍ، وَحَسَّنَ لَهُ قَصْدَهَا، وَعَرَّفَهُ أَنَّ نُوَّابَهُ لَا يُنَاصِحُونَهُ، وَأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الرِّشَى مِنَ الدَّيْلَمِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَا كَانَ يَذْكُرُهُ لَهُ وَشْمَكِيرُ، فَكَاتَبَ الْأَمِيرُ مَنْصُورٌ وَشْمَكِيرَ، وَالْحَسَنَ بْنَ الْفَيْرَزَانِ، يُعَرِّفُهُمَا مَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ قَصْدِ الرَّيِّ، وَيَأْمُرُهُمَا بِالتَّجَهُّزِ لِذَلِكَ لِيَسِيرَا مَعَ عَسْكَرِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ جَهَّزَ الْعَسَاكِرَ وَسَيَّرَهَا مَعَ صَاحِبِ جُيُوشِ خُرَاسَانَ، وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سِيمْجُورُ الدَّوَاتِيُّ، وَأَمَرَهُ بِطَاعَةِ وَشَمْكِيرَ، وَالِانْقِيَادِ لَهُ، وَالتَّصَرُّفِ بِأَمْرِهِ، وَجَعْلِهِ مُقَدَّمَ الْجُيُوشِ جَمِيعِهَا. فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى رُكْنِ الدَّوْلَةِ أَتَاهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِ، وَأَخْذَهُ الْمُقِيمَ الْمُقْعَدَ، وَعَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ، فَسَيَّرَ أَوْلَادَهُ وَأَهْلَهُ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَكَاتَبَ وَلَدَهُ عَضُدَ الدَّوْلَةِ يَسْتَمِدُّهُ، وَكَاتَبَ ابْنَ أَخِيهِ عِزَّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ يَسْتَنْجِدُهُ أَيْضًا. فَأَمَّا عَضُدُ الدَّوْلَةِ فَإِنَّهُ جَهَّزَ الْعَسَاكِرَ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ قَصْدَ خُرَاسَانَ لِخُلُوِّهَا مِنَ الْعَسَاكِرِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ أَهْلَ خُرَاسَانَ فَأَحْجَمُوا قَلِيلًا، ثُمَّ سَارُوا حَتَّى بَلَغُوا الدَّامَغَانَ، وَبَرَزَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ فِي عَسَاكِرِهِ مِنَ الرَّيِّ نَحْوَهُمْ، فَاتَّفَقَ مَوْتَ وَشْمِكِيرَ، فَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ وَصَلَهُ مِنْ صَاحِبِ خُرَاسَانَ هَدَايَا مِنْ جُمْلَتِهَا خَيْلٌ، فَاسْتَعْرَضَ الْخَيْلَ وَاخْتَارَ أَحَدَهَا وَرَكِبَهُ لِلصَّيْدِ، فَعَارَضَهُ خِنْزِيرٌ قَدْ رُمِيَ بِحَرْبَةٍ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِيهِ، فَحَمَلَ الْخِنْزِيرُ عَلَى وَشْمَكِيرَ، وَهُوَ غَافِلٌ، فَضَرَبَ الْفَرَسَ، فَشَبَّ تَحْتَهُ، فَأَلْقَاهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَخَرَجَ الدَّمُ مِنْ أُذُنَيْهِ وَأَنْفِهِ، فَحُمِلَ مَيِّتًا، وَذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، وَانْتَقَضَ جَمِيعُ مَا كَانُوا فِيهِ، وَكَفَى اللَّهُ رُكْنَ الدَّوْلَةِ شَرَّهُمْ. وَلَمَّا مَاتَ وَشْمَكِيرُ قَامَ ابْنُهُ بِيسَتُونُ مَقَامَهُ، وَرَاسَلَ رُكْنَ الدَّوْلَةِ وَصَالَحَهُ، فَأَمَدَّ رُكْنَ الدَّوْلَةِ بِالْمَالِ وَالرَّجُلِ. وَمِنْ أَعْجَبِ مَا يُحْكَى مِمَّا يُرَغِّبُ فِي حُسْنِ النِّيَّةِ وَكَرَمِ الْمَقْدِرَةِ أَنَّ وَشْمِكِيرَ لَمَّا

اجْتَمَعَتْ مَعَهُ عَسَاكِرُ خُرَاسَانَ وَسَارَ كَتَبَ إِلَى رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَتَهَدَّدُهُ بِضُرُوبٍ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَئِنْ ظَفِرْتُ بِكَ لَأَفْعَلَنَّ بِكَ وَلَأَصْنَعَنَّ، بِأَلْفَاظٍ قَبِيحَةٍ، فَلَمْ يَتَجَاسَرِ الْكَاتِبُ أَنْ يَقْرَأَهُ، فَأَخَذَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ فَقَرَأَهُ وَقَالَ لِلْكَاتِبِ: اكْتُبْ إِلَيْهِ: أَمَّا جَمْعُكَ وَأَحْشَادُكَ فَمَا كُنْتَ قَطُّ أَهْوَنَ مِنْكَ عَلَيَّ الْآنَ، وَأَمَّا تَهْدِيدُكَ وَإِيعَادُكَ فَوَاللَّهِ لَئِنْ ظَفِرْتُ بِكَ لَأُعَامِلَنَّكَ بِضِدِّهِ، وَلَأُحْسِنَنَّ إِلَيْكَ وَلَأُكْرِمَنَّكَ، فَلَقِيَ وَشْمَكِيرُ سُوءَ نِيَّتِهِ، وَلَقِيَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ حُسْنَ نِيَّتِهِ. وَكَانَ بِطَبَرِسْتَانَ عَدُوٌّ لِرُكْنِ الدَّوْلَةِ يُقَالُ لَهُ نُوحُ بْنُ نَصْرٍ، شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لَهُ، لَا يَزَالُ يَجْمَعُ لَهُ وَيَقْصِدُ أَطْرَافَ بِلَادِهِ، فَمَاتَ الْآنَ، وَعَصَى عَلَيْهِ بِهَمَذَانَ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ الْهَمَذَانِيُّ لَمَّا رَأَى خُرُوجَ عَسَاكِرِ خُرَاسَانَ، وَأَظْهَرَ الْعِصْيَانَ، فَلَمَّا أَتَاهُ خَبَرُ مَوْتِ وَشْمَكِيرَ مَاتَ لِوَقْتِهِ، وَكَفَى اللَّهُ رُكْنَ الدَّوْلَةِ هَمَّ الْجَمِيعِ. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ عَلَى أَبِيهِ، وَحَبَسَهُ فِي الْقَلْعَةِ، لَيْلَةَ السَّبْتِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى. وَكَانَ سَبَبُ قَبْضِهِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ كَبُرَ وَسَاءَتْ أَخْلَاقُهُ، وَضَيَّقَ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَخَالَفَهُمْ فِي أَغْرَاضِهِمْ لِلْمَصْلَحَةِ، فَضَجِرُوا مِنْهُ. وَكَانَ فِيمَا خَالَفَهُمْ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَزَمَ أَوْلَادُهُ عَلَى قَصْدِ الْعِرَاقِ وَأَخْذِهِ مِنْ بَخْتِيَارَ، فَنَهَاهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ قَدْ خَلَّفَ مَالًا يَسْتَظْهِرُ بِهِ ابْنُهُ عَلَيْكُمْ، فَاصْبِرُوا حَتَّى يُفَرِّقَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ، ثُمَّ اقْصُدُوهُ وَفَرِّقُوا الْأَمْوَالَ، فَإِنَّكُمْ تَظْفَرُونَ بِهِ لَا مَحَالَةَ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ أَبُو تَغْلِبَ، فَقَبَضَهُ، وَرَفَعَهُ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَوَكَّلَ بِهِ مَنْ يَخْدِمُهُ، (وَيَقُومُ بِحَاجَاتِهِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ) . فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ خَالَفَهُ بَعْضُ إِخْوَتِهِ، وَانْتَشَرَ أَمْرُهُمُ الَّذِي كَانَ يَجْمَعُهُمْ، وَصَارَ قُصَارَاهُمْ حِفْظَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَاحْتَاجَ أَبُو تَغْلِبَ إِلَى مُدَارَاةِ عِزِّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ، وَتَجْدِيدِ

عَقْدِ الضَّمَانِ لِيَحْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى إِخْوَتِهِ، وَمَنْ خَلْفَهُ، فَضَمَّنَهُ الْبِلَادَ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفَ دِرْهَمٍ كُلَّ سَنَةٍ. ذِكْرُ مَنْ مَاتَ هَذِهِ السَّنَةَ مِنَ الْمُلُوكِ مَاتَ فِيهَا وَشْمَكِيرُ بْنُ زِيَادٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمُعِزُّ الدَّوْلَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَالْحَسَنُ بْنُ الْفَيْرَزَانِ، وَكَافُورٌ الْإِخْشِيدِيُّ، وَنَقْفُورُ مَلِكُ الرُّومِ، وَأَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ إِلْيَاسَ صَاحِبُ كَرْمَانَ، وَسَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ. فَأَمَّا سَيْفُ الدَّوْلَةِ (أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْهَيْجَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ حَمْدُونَ التَّغْلِبِيُّ الرَّبَعِيُّ) فَإِنَّهُ مَاتَ بِحَلَبَ فِي صَفَرَ، وَحُمِلَ تَابُوتُهُ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ فَدُفِنَ بِهَا، وَكَانَتْ عِلَّتُهُ الْفَالِجَ، وَقِيلَ عُسْرُ الْبَوْلِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ جَوَادًا كَرِيمًا، شُجَاعًا، وَأَخْبَارُهُ مَشْهُورَةٌ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ فِي أَخِيهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ: وُهَبْتُ لَكَ الْعَلْيَا وَقَدْ كُنْتَ أَهْلَهَا ... وَقُلْتُ لَهُمْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَخِي فَرْقُ وَمَا كَانَ بِي عَنْهَا نُكُولٌ وَإِنَّمَا ... تَجَاوَزْتُ عَنْ حَقِّي فَتَمَّ لَكَ الْحَقُّ أَمَا كُنْتَ تَرْضَى أَنْ أَكُونَ مُصَلِّيًا ... إِذَا كُنْتُ أَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ السَّبْقُ

وَلَهُ أَيْضًا: قَدْ جَرَى فِي دَمْعِهِ دَمُهُ ... فَإِلَى كَمْ أَنْتَ تَظْلِمُهُ؟ رُدَّ عَنْهُ الطَّرْفَ مِنْكَ فَقَدْ ... جَرَحَتْهُ مِنْكَ أَسْهُمُهُ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ التَّجَلُّدَ مَنْ ... خَطَرَاتُ الْوَهْمِ تُؤْلِمُهُ (وَلَمَّا تُوُفِّيَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ مَلَكَ بِلَادَهُ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْمَعَالِي شَرِيفٌ) . وَأَمَّا أَبُو عَلِيِّ بْنُ إِلْيَاسَ فَسَيَرِدُ ذِكْرُ مَوْتِهِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . وَأَمَّا كَافُورٌ فَإِنَّهُ كَانَ صَاحِبَ مِصْرَ، وَكَانَ مِنْ مَوَالِي الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغُجَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى مِصْرَ وَدِمَشْقَ بَعْدَ مَوْتِ الْإِخْشِيدِ لِصِغَرِ أَوْلَادِهِ، وَكَانَ خَصِيًّا أَسْوَدَ، وَلِلْمُتَنَبِّي فِيهِ مَدِيحٌ وَهَجْوٌ، وَكَانَ قَصْدُهُ إِلَى مِصْرَ، وَخَبَرُهُ مَعَهُ مَشْهُورٌ، وَلَمَّا دُفِنَ كُتِبَ عَلَى قَبْرِهِ: انْظُرْ إِلَى غَيْرِ الْأَيَّامِ مَا صَنَعَتْ ... أَفْنَتْ أُنَاسًا بِهَا كَانُوا وَقَدْ فَنِيَتْ دُنْيَاهُمُ ضَحِكَتْ أَيَّامَ دَوْلَتِهِمْ ... حَتَّى إِذَا انْقَرَضُوا نَاحَتْ لَهُمْ وَبَكَتْ [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْفَرَجِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْأَصْبَهَانِيُّ الْأُمَوِيُّ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ الْأُمَوِيِّ، وَكَانَ شِيعِيًّا، وَهَذَا مِنَ الْعَجَبِ، وَهُوَ صَاحِبُ كِتَابِ " الْأَغَانِي " وَغَيْرِهِ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ (بْنِ أَبِي عُمَرَ) الْقَاضِي، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَوَلِيَ قَضَاءَ بَغْدَاذَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ وَبَعْدَهُ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ صَاحِبُ سَهْلٍ التُّسْتَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) .

ثم دخلت سنة سبع وخمسين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 357 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ عِصْيَانِ حُبْشِيِّ بْنِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عَلَى بَخْتِيَارَ بِالْبَصْرَةِ وَأَخْذِهِ قَهْرًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى حُبْشِيُّ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عَلَى أَخِيهِ بَخْتِيَارَ، وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ (لَمَّا مَاتَ وَالِدُهُ، فَحَسَّنَ لَهُ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ الِاسْتِبْدَادَ بِالْبَصْرَةِ) ، وَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ أَخَاهُ بَخْتِيَارَ لَا (يَقْدِرُ عَلَى قَصْدِهِ) ، فَشَرَعَ فِي ذَلِكَ، فَانْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى أَخِيهِ، فَسَيَّرَ وَزِيرَهُ أَبَا الْفَضْلِ الْعَبَّاسَ بْنَ الْحُسَيْنِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُ بِأَخْذِهِ كَيْفَ أَمْكَنَ، فَأَظْهَرَ الْوَزِيرُ أَنَّهُ يُرِيدُ الِانْحِدَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ. وَلَمَّا بَلَغَ وَاسِطَ أَقَامَ بِهَا لِيُصْلِحَ أَمْرَهَا، وَكَتَبَ إِلَى حُبْشِيٍّ يَعِدُهُ أَنَّهُ يُسَلِّمُ إِلَيْهِ الْبَصْرَةَ سِلْمًا، وَيُصَالِحُهُ عَلَيْهَا، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّنِي قَدْ لَزِمَنِي مَالٌ عَلَى الْوِزَارَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُسَاعَدَتِي، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ حُبْشِيٌّ مِائَتَيْ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَتَيَقَّنَ حُصُولَ الْبَصْرَةِ لَهُ، وَأَرْسَلَ الْوَزِيرُ إِلَى عَسْكَرِ الْأَهْوَازِ يَأْمُرُهُمْ بِقَصْدِ الْأُبُلَّةِ فِي يَوْمٍ ذَكَرَهُ لَهُمْ، (وَسَارَ هُوَ مِنْ وَاسِطَ نَحْوَ الْبَصْرَةِ، فَوَصَلَهَا هُوَ وَعَسْكَرُ الْأَهْوَازِ لِمِيعَادِهِمْ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ حُبْشِيٌّ مِنْ إِصْلَاحِ شَأْنِهِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَظَفِرُوا بِهِ وَأَخَذُوهُ أَسِيرًا وَحَبَسُوهُ بِرَامَهُرْمُزَ، فَأَرْسَلَ عَمُّهُ رُكْنُ الدَّوْلَةِ وَخَلَّصَهُ، فَسَارَ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَأَقْطَعَهُ إِقْطَاعًا وَافِرًا، وَأَقَامَ عِنْدَهُ رُكْنٌ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي آخِرِ سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَخَذَ الْوَزِيرُ مِنْ أَمْوَالِهِ بِالْبَصْرَةِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أَخَذَ لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ مُجَلَّدًا سِوَى الْأَجْزَاءِ وَالْمُسَرَّسِ وَمَا لَيْسَ لَهُ جِلْدٌ.

ذِكْرُ الْبَيْعَةِ لِمَحُمَّدِ بْنِ الْمُسْتَكْفِي فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، دَعْوَةٌ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَقِيلَ إِنَّهُ الدَّجَّالُ الَّذِي وَعَدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفُ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُجَدِّدُ مَا عَفَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ قِيلَ لَهُ إِنَّهُ عَبَّاسِيٌّ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشِّيعَةِ قِيلَ لَهُ إِنَّهُ عَلَوِيٌّ فَكَثُرَتِ الدُّعَاةُ إِلَيْهِ وَالْبَيْعَةُ لَهُ. وَكَانَ الرَّجُلُ بِمِصْرَ وَقَدْ أَكْرَمَهُ كَافُورٌ الْإِخْشِيدِيُّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَكَانَ (فِي جُمْلَةِ مَنْ بَايَعَ لَهُ سُبُكْتِكِينُ الْعَجَمِيُّ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ قُوَّادِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ) يَتَشَيَّعُ فَظَنَّهُ عَلَوِيًّا وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَسْتَدْعِيهِ مِنْ مِصْرَ فَسَارَ إِلَى الْأَنْبَارِ وَخَرَجَ سُبُكْتِكِينُ إِلَى طَرِيقِ الْفُرَاتِ وَكَانَ يَتَوَلَّى حِمَايَتَهُ فَلَقِيَ ابْنَ الْمُسْتَكْفِي وَتَرَجَّلَ لَهُ وَخَدَمَهُ وَأَخَذَهُ وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ وَهُوَ لَا يَشُكُّ فِي حُصُولِ الْأَمْرِ لَهُ. ثُمَّ ظَهَرَ لِسُبُكْتِكِينَ أَنَّ الرَّجُلَ عَبَّاسِيٌّ فَعَادَ عَنْ ذَلِكَ الرَّأْيِ فَفَطِنَ ابْنُ الْمُسْتَكْفِي وَخَافَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَهَرَبُوا وَتَفَرَّقُوا فَأُخِذَ ابْنُ الْمُسْتَكْفِي وَمَعَهُ أَخٌ لَهُ وَأُحْضِرَا عِنْدَ بَخْتِيَارَ فَأَعْطَاهُمَا الْأَمَانَ ثُمَّ إِنَّ الْمُطِيعَ تَسَلَّمَهُ مِنْ بَخْتِيَارَ فَجَدَعَ أَنْفَهُ ثُمَّ خَفِيَ خَبَرُهُ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ عَلَى كَرْمَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بِلَادَ كَرْمَانَ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنَ إِلْيَاسَ كَانَ صَاحِبَهَا مُدَّةً طَوِيلَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهَ ثُمَّ إِنَّهُ أَصَابَهُ فَالِجٌ خَافَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ فَجَمَعَ أَكَابِرَ أَوْلَادِهِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ إِلْيَسَعُ وَإِلْيَاسُ وَسُلَيْمَانُ فَاعْتَذَرَ إِلَى إِلْيَسَعَ مِنْ جَفْوَةٍ كَانَتْ مِنْهُ لَهُ قَدِيمًا وَوَلَّاهُ الْأَمْرَ ثُمَّ بَعْدَهُ أَخَاهُ

إِلْيَاسَ وَأَمَرَ سُلَيْمَانَ بِالْعَوْدِ إِلَى بِلَادِهِمْ وَهِيَ بِلَادُ الصُّغْدِ وَأَمَرَهُ بِأَخْذِ أَمْوَالٍ لَهُ هُنَاكَ وَقَصَدَ إِبْعَادَهُ عَنْ إِلْيَسَعَ لِعَدَاوَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا. فَسَارَ مِنْ عِنْدِ أَبِيهِ وَاسْتَوْلَى عَلَى السِّيرَجَانِ فَلَمَّا بَلَغَ أَبَاهُ ذَلِكَ أَنْفَذَ إِلَيْهِ إِلَيْسَعَ فِي جَيْشٍ وَأَمَرَهُ بِمُحَارَبَتِهِ وَإِجْلَائِهِ عَنِ الْبِلَادِ وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ قَصْدِ الصُّغْدِ إِنْ طَلَبَ ذَلِكَ فَسَارَ إِلَيْهِ وَحَصَرَهُ وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ إِلْيَسَعُ بِالسِّيرَجَانِ وَمَلَكَهَا وَأَمَرَ بِنَهْبِهَا فَنُهِبَتْ فَسَأَلَهُ الْقَاضِي وَأَعْيَانُ الْبَلَدِ الْعَفْوَ عَنْهُمْ فَعَفَا. ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ وَالِدِهِ خَافُوهُ، فَسَعَوْا بِهِ إِلَى أَبِيهِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَسَجَنَهُ فِي قَلْعَةٍ لَهُ، فَمَشَتْ وَالِدَتُهُ إِلَى أَخِيهِ إِلْيَاسَ وَقَالَتْ لَهَا: إِنَّ صَاحِبَنَا قَدْ فَسَخَ مَاكَانَ عَقَدَهُ لِوَلَدِي، وَبَعْدَهُ يَفْعَلُ بِوَلَدِكِ مِثْلَهُ، وَيُخْرِجُ الْمُلْكَ عَنْ آلِ إِلْيَاسَ، وَالرَّأْيُ أَنْ تُسَاعِدِينِي عَلَى تَخْلِيصِ وَلَدِي لِيَعُودَ الْأَمْرُ إِلَى مَاكَانَ عَلَيْهِ. وَكَانَ وَالِدُهُ أَبُو عَلِيٍّ تَأْخُذُهُ غَشْيَةٌ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَيَمْكُثُ زَمَانًا طَوِيلًا لَا يَعْقِلُ، فَاتَّفَقَتِ الْمَرْأَتَانِ وَجَمَعَتَا الْجَوَارِيَ فِي وَقْتِ غَشْيَتِهِ، وَأَخْرَجْنَ إِلْيَسَعَ مِنْ حَبِسِهِ وَدَلَّيْنَهُ مِنْ ظَهْرِ الْقَلْعَةِ إِلَى الْأَرْضِ، فَكَسَرَ قَيْدَهُ وَقَصَدَ الْعَسْكَرَ، فَاسْتَبْشَرُوا بِهِ وَأَطَاعُوهُ، وَهَرَبَ مِنْهُ مَنْ كَانَ أَفْسَدَ حَالَهُ مَعَ أَبِيهِ، وَأَخَذَ بَعْضَهُمْ، وَنَجَا بَعْضُهُمْ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْقَلْعَةِ لِيَحْصُرَهَا. فَلَمَّا أَفَاقَ وَالِدُهُ وَعَرَفَ الصُّورَةَ رَاسَلَ وَلَدَهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ وَيُؤَمِّنَهُ عَلَى مَالِهِ وَأَهْلِهِ حَتَّى يُسَلَّمَ إِلَيْهِ الْقَلْعَةَ وَجَمِيعَ أَعْمَالِ كَرْمَانَ، وَيَرْحَلَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَيَكُونَ عَوْنًا لَهُ هُنَاكَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْقَلْعَةَ وَكَثِيرًا مِنَ الْمَالِ، وَأَخَذَ مَعَهُ مَا أَرَادَ إِلَى خُرَاسَانَ وَقَصَدَ بُخَارَى، فَأَكْرَمَهُ الْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَقَرَّبَهُ مِنْهُ، فَحَمَلَ مَنْصُورًا عَلَى تَجْهِيزِ الْعَسَاكِرِ إِلَى الرَّيِّ وَقَصْدِ بَنِي بُوَيْهٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ بِعِلَّةِ الْفَالِجِ، عَلَى مَاذَكَرْنَاهُ. وَكَانَ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ بُبَخَارَى أَيْضًا وَأَمَّا إِلْيَسَعُ فَإِنَّهُ صَفَتْ لَهُ كَرْمَانُ، فَحَمَلَهُ تَرَفُ الشَّبَابِ وَجَهْلُهُ عَلَى مُغَالَبَةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ عَلَى بَعْضِ حُدُودِ عَمَلِهِ، وَأَتَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ عَادَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَاتَّهَمَ إِلْيَسَعُ الْبَاقِينَ، فَعَاقَبَهُمْ، وَمَثَّلَ بِهِمْ.

ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ اسْتَأْمَنُوا إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَكْرَمَهُمْ وَوَصَلَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى أَصْحَابُهُ تَبَاعُدَ مَابَيْنَ الْحَالَيْنِ تَأَلَّبُوا عَلَيْهِ وَفَارَقُوهُ مُتَسَلِّلِينَ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَأَتَاهُ مِنْهُمْ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ نَحْوُ أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، فَبَقِيَ فِي خَاصَّتِهِ، وَفَارَقَهُ مُعْظَمُ عَسْكَرِهِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَخَذَ أَمْوَالَهُ وَأَهْلَهُ وَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ بُخَارَى لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ، وَسَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى كَرْمَانَ فَاسْتَوَى عَلَيْهَا وَمَلَكَهَا وَأَخَذَ مَا بِهَا مِنْ أَمْوَالِ آلِ إِلْيَاسَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَقْطَعَهَا وَلَدَهُ أَبَا الْفَوَارِسِ، وَهُوَ الَّذِي لُقِّبَ بَعْدَ ذَلِكَ شَرَفَ الدَّوْلَةِ، وَمَلَكَ الْعِرَاقَ، وَاسْتَخْلَفَ، عَلَيْهَا كُورْتِكِينَ بْنَ جَسْتَانَ، وَعَادَ إِلَى فَارِسَ وَرَاسَلَهُ صَاحِبُ سِجِسْتَانَ، وَخَطَبَ لَهُ بِهَا، وَكَانَ هَذَا أَيْضًا مِنَ الْوَهْنِ عَلَى بَنِي سَامَانَ وَمِمَّا طَرَقَ الطَّمَعَ فِيهِمْ. وَأَمَّا إِلْيَسَعُ فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى بُخَارَى أَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَصَارَ يَذُمُّ أَهْلَ سَامَانَ فِي قُعُودِهِمْ عَنْ نَصْرِهِ، وَإِعَادَتِهِ إِلَى مُلْكِهِ، فَنُفِيَ عَنْ بُخَارَى إِلَى خُوَارَزْمَ. وَبَلَغَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ سِيمْجُورَ خَبَرُهُ، فَقَصَدَ مَالَهُ وَأَثْقَالَهُ، وَكَانَ خَلْفَهَا بِبَعْضِ نَوَاحِي خُرَاسَانَ، فَاسْتَوْلَى عَلَى ذَلِكَ جَمِيعِهِ، وَأَصَابَ إِلْيَسَعَ رَمَدٌ شَدِيدٌ بِخُوَارَزْمَ، فَأَقْلَقَهُ، فَحَمَلَهُ الضَّجَرُ وَعَدَمُ السَّعَادَةِ إِلَى أَنْ قَلَعَ عَيْنَهُ الرَّمِدَةَ بِيَدِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ هَلَاكِهِ، وَلَمْ يَعُدْ لِآلِ إِلْيَاسَ بِكَرْمَانَ دَوْلَةٌ، وَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ لِشُؤْمِ عِصْيَانِ وَالِدِهِ وَثَمَرَةِ عُقُوقِهِ. ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي فِرَاسِ بْنِ حَمْدَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، قُتِلَ أَبُو فِرَاسِ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا بِحِمْصَ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي الْمَعَالِي (بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَحْشَةٌ، فَطَلَبَهُ أَبُو الْمَعَالِي) ، فَانْحَازَ أَبُو فِرَاسٍ إِلَى صَدَدَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ فِي طَرَفِ الْبَرِّيَّةِ عِنْدَ حِمْصَ، فَجَمَعَ أَبُو الْمَعَالِي الْأَعْرَابَ مِنْ بَنِي كِلَابٍ وَغَيْرِهِمْ، وَسَيَّرَهُمْ فِي طَلَبِهِ مَعَ قَرْغَوَيْهِ، فَأَدْرَكَهُ بِصَدَدَ، فَكَبَسُوهُ، فَاسْتَأْمَنَ أَصْحَابَهُ، وَاخْتَلَطَ هُوَ

بِمَنِ اسْتَأْمَنَ مِنْهُمْ، فَقَالَ قَرْغَوَيْهِ لِغُلَامٍ لَهُ: اقْتُلْهُ، فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ رَأْسَهُ وَتُرِكَتْ جُثَّتُهُ فِي الْبَرِّيَّةِ، حَتَّى دَفَنَهَا بَعْضُ الْأَعْرَابِ. وَأَبُو فِرَاسٍ هُوَ خَالُ أَبِي الْمَعَالِي بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، مُنْتَصَفَ شَعْبَانَ، مَاتَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُقْتَدِرِ فِي دَارِهِ وَدُفِنَ فِيهَا. وَفِيهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَصَلَتْ سَرِيَّةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الرُّومِ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ فَقَتَلُوا فِي سَوَادِهَا وَغَنِمُوا، وَسَبَوُا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَفِيهَا كَانَ بَيْنَ هِبَةِ الرِّفْعَايِّ وَبَنِي أَسَدِ بْنِ وَزِيرِ الْغُبَرِيِّ حَرْبٌ، فَاسْتَمَدَّتْ أَسَدٌ خَزَرَ الْيَشْكُرِيَّ الَّذِي مَعَ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ، صَاحِبِ الْبَطَائِحِ، وَأَوْقَعَ بِهِبَةَ، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَهَزَمَهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى جُنْبُلَا وَقُسِّينَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، فَسَارَ سُبُكْتِكِينُ الْعَجَمِيُّ إِلَى خَزَرٍ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَمَضَى إِلَى الْبَصْرَةِ وَاسْتَأْمَنَ إِلَى الْوَزِيرِ أَبِي الْفَضْلِ، وَفِيهَا عَمِلَ أَهْلُ بَغْدَاذَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَغَدِيرَ خُمٍّ، كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ مِنْ إِظْهَارِ الْحُزْنِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَالسُّرُورِ يَوْمَ الْغَدِيرِ،

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ بُنْدَارِ بْنِ الْحُسَيْنِ أَبُو الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالصَّيْرَفِيِّ النَّيْسَابُورِيِّ.

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 358 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ الْمُعِزِّ الْعَلَوِيِّ مِصْرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ الْمُعِزُّ لِدِينِ اللَّهِ أَبُو تَمِيمٍ مَعْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَنْصُورَ بِاللَّهِ الْقَائِدَ أَبَا الْحَسَنِ جَوْهَرًا، غُلَامَ وَالِدِهِ الْمَنْصُورِ، وَهُوَ رُومِيٌّ، فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ كَافُورٌ الْإِخْشِيدِيُّ، صَاحِبُ مِصْرَ، اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ فِيهَا، وَوَقَعَ بِهَا غَلَاءٌ شَدِيدٌ، حَتَّى بَلَغَ الْخُبْزُ كُلُّ رِطْلٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَالْحِنْطَةُ كُلُّ وَيْبَةٍ بِدِينَارٍ وَسُدْسٍ مِصْرِيٍّ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ إِلَى الْمُعِزِّ، وَهُوَ بِإِفْرِيقِيَّةَ، سَيَّرَ جَوْهَرًا إِلَيْهَا، فَلَمَّا اتَّصَلَ خَبَرُ مَسِيرِهِ إِلَى الْعَسَاكِرِ الْإِخْشِيدِيَّةِ بِمِصْرَ هَرَبُوا عَنْهَا جَمِيعُهُمْ قَبْلَ وُصُولِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ قَدِمَهَا سَابِعَ عَشَرَ شَعْبَانَ، وَأُقِيمَتِ الدَّعْوَةُ لِلْمُعِزِّ بِمِصْرَ فِي الْجَامِعِ الْعَتِيقِ فِي شَوَّالٍ، وَكَانَ الْخَطِيبُ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحُسَيْنِ الشِّمْشَاطِيَّ. وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنَ سَنَةِ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] سَارَ جَوْهَرٌ إِلَى جَامِعِ ابْنِ طُولُونَ، وَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ بِحَيِّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا أُذِّنَ بِمِصْرَ ثُمَّ أُذِّنَ بَعْدَهُ فِي الْجَامِعِ الْعَتِيقِ، وَجَهَرَ فِي الصَّلَاةِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ جَوْهَرٌ بِمِصْرَ شَرَعَ فِي بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ.

ذِكْرُ مُلْكِ عَسْكَرِ الْمُعِزِّ دِمَشْقَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الشَّامِ لَمَّا اسْتَقَرَّ جَوْهَرٌ بِمِصْرَ، وَثَبَّتَ قَدَمَهُ، سَيَّرَ جَعْفَرَ بْنَ فَلَاحٍ الْكُتَامِيَّ إِلَى الشَّامِ فِي جَمْعٍ كَبِيرٍ، فَبَلَغَ الرَّمْلَةَ، وَبِهَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طُغُجَ، فَقَاتَلَهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ كَانَ الظَّفَرُ فِيهَا لِجَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ، وَأُسِرَ ابْنُ طُغُجَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْقُوَّادِ فَسَيَّرَهُمْ إِلَى جَوْهَرٍ، وَسَيَّرَهُمْ جَوْهَرٌ إِلَى الْمُعِزِّ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَدَخَلَ ابْنُ الْفَلَاحِ الْبَلَدَ عَنْوَةً، فَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ أَمَّنَ مَنْ بَقِيَ، وَجَبَى الْخَرَاجَ وَسَارَ إِلَى طَبَرِيَّةَ، فَرَأَى ابْنَ مُلْهَمٍ قَدْ أَقَامَ الدَّعْوَةَ لِلْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ، فَسَارَ عَنْهَا إِلَى دِمَشْقَ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا، فَظَفِرَ بِهِمْ وَمَلَكَ الْبَلَدَ، وَنَهَبَ بَعْضَهُ وَكَفَّ عَنِ الْبَاقِي، وَأَقَامَ الْخُطْبَةَ لِلْمُعِزِّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَيَّامٍ خَلَتْ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] وَقُطِعَتِ الْخُطْبَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ. وَكَانَ بِدِمَشْقَ الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي يَعْلَى الْهَاشِمِيُّ، وَكَانَ جَلِيلَ الْقَدْرِ، نَافِذَ الْحُكْمِ فِي أَهْلِهَا، فَجَمَعَ أَحْدَاثَهَا وَمَنْ يُرِيدُ الْفِتْنَةَ، فَثَارَ بِهِمْ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَبْطَلَ الْخُطْبَةَ لِلْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ وَأَعَادَ خُطْبَةَ الْمُطِيعِ لِلَّهِ. وَلَبِسَ السَّوَادَ وَعَادَ إِلَى دَارِهِ، فَقَاتَلَهُ جَعْفَرُ بْنُ فَلَاحٍ وَمَنْ مَعَهُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَصَبَرَ أَهْلُ دِمَشْقَ، ثُمَّ افْتَرَقُوا آخِرَ النَّهَارِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ تَزَاحَفَ الْفَرِيقَانِ وَاقْتَتَلُوا وَنَشَبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمَا، وَكَثُرَ الْقَتْلَى مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَدَامَ الْقِتَالُ، فَعَادَ عَسْكَرُ دِمَشْقَ مُنْهَزِمِينَ وَالشَّرِيفُ بْنُ أَبِي يَعْلَى مُقِيمٌ عَلَى بَابِ الْبَلَدِ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّبْرِ. وَوَاصَلَ الْمَغَارِبَةُ الْحَمَلَاتِ عَلَى الدَّمَاشِقَةِ حَتَّى أَلْجَئُوهُمْ إِلَى بَابِ الْبَلَدِ، وَوَصَلَ الْمَغَارِبَةُ إِلَى قَصْرِ حَجَّاجٍ، وَنَهَبُوا مَا وَجَدُوا، فَلَمَّا رَأَى ابْنُ أَبِي يَعْلَى (الْهَاشِمِيَّ وَالْأَحْدَاثَ مَا) لَقِيَ النَّاسُ مِنَ الْمَغَارِبَةِ خَرَجُوا مِنَ الْبِلَادِ لَيْلًا، فَأَصْبَحَ النَّاسُ حَيَارَى، فَدَخَلَ الشَّرِيفُ الْجَعْفَرِيُّ، وَكَانَ خَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ فِي الصُّلْحِ، فَأَعَادَهُ وَأَمَرَهُ بِتَسْكِينِ النَّاسِ وَتَطْيِيبِ قُلُوبِهِمْ، وَوَعْدِهِمْ بِالْجَمِيلِ، فَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْجُنْدِ وَالْعَامَّةِ بِلُزُومِ مَنَازِلِهِمْ، وَأَنْ لَا يَخْرُجُوا مِنْهَا إِلَى أَنْ يَدْخُلَ جَعْفَرُ بْنُ فَلَاحٍ الْبَلَدَ وَيَطُوفَ فِيهِ وَيَعُودَ إِلَى عَسْكَرِهِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ.

فَلَمَّا دَخَلَ الْمَغَارِبَةُ الْبَلَدَ عَاثُوا فِيهِ، وَنَهَبُوا قُطْرًا مِنْهُ، فَثَارَ النَّاسُ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيهِمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَشَرَعُوا فِي تَحْصِينِ الْبَلَدِ وَحَفْرِ الْخَنَادِقِ، وَعَزَمُوا عَلَى اصْطِلَاءِ الْحَرْبِ، وَبَذْلِ النُّفُوسِ فِي الْحِفْظِ، وَأَحْجَمَتِ الْمَغَارِبَةُ عَنْهُمْ، وَمَشَى النَّاسُ إِلَى الشَّرِيفِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي يَعْلَى، فَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَسْعَى فِيمَا يَعُودُ بِصَلَاحِ الْحَالِ، فَفَعَلَ، وَدَبَّرَ الْحَالَ إِلَى أَنْ تَقَرَّرَ الصُّلْحُ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِسِتَّ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ الْحَرِيقُ قَدْ أَتَى عَلَى عِدَّةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الدُّورِ وَقْتَ الْحَرْبِ. وَدَخَلَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ جَعْفَرُ بْنُ فَلَاحٍ الْبَلَدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَصَلَّى مَعَ النَّاسِ وَسَكَّنَهُمْ وَطَيَّبَ قُلُوبَهُمْ، وَقَبَضَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَحْدَاثِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَبَضَ عَلَى الشَّرِيفِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي يَعْلَى الْهَاشِمِيِّ الْمَذْكُورِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى مِصْرَ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ دِمَشْقَ. (وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَخَّرَ) (مِلْكُ ابْنِ الْفَلَاحِ دِمَشْقَ إِلَى آخِرِ السَّنَةِ) ، وَإِنَّمَا قَدَّمْتُهُ لِيَتَّصِلَ خَبَرُ الْمَغَارِبَةِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. ذِكْرُ اخْتِلَافِ أَوْلَادِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ وَمَوْتِ أَبِيهِمْ كَانَ سَبَبُ اخْتِلَافِ أَوْلَادِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ أَنَّهُ كَانَ أَقْطَعَ وَلَدَهُ حَمْدَانَ مَدِينَةَ الرُّحْبَةِ وَمَارِدِينَ وَغَيْرَهُمَا. وَكَانَ أَبُو تَغْلِبَ وَأَبُو الْبَرَكَاتِ وَأُخْتُهُمَا جُمْلَةَ أَوْلَادِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ مِنْ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَحْمَدَ الْكُرْدِيَّةِ، وَكَانَتْ مَالِكَةَ أَمْرِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَاتَّفَقَتْ مَعَ ابْنِهَا أَبِي تَغْلِبَ، وَقَبَضُوا عَلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَابْتَدَأَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ يُدَبِّرُ فِي الْقَبْضِ عَلَيْهِمْ، فَكَاتَبَ ابْنَهُ حَمْدَانَ يَسْتَدْعِيهِ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَيْهِمْ، فَظَفِرَ أَوْلَادُهُ بِالْكِتَابِ، فَلَمْ يُنْفِذُوهُ، وَخَافُوا أَبَاهُمْ وَحَذِرُوهُ، فَحَمَلَهُمْ خَوْفُهُ عَلَى نَقْلِهِ إِلَى قَلْعَةِ كَوَاشِي. وَاتَّصَلَ ذَلِكَ بِحَمْدَانَ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَصَارَ عَدُوًّا مُبَايِنًا، وَكَانَ أَشْجَعَهُمْ، وَكَانَ قَدْ

سَارَ عِنْدَ وَفَاةِ عَمِّهِ (سَيْفِ الدَّوْلَةِ مِنَ الرُّحْبَةِ إِلَى الرَّقَّةِ فَمَلَكَهَا، وَسَارَ) إِلَى نَصِيبِينَ وَجَمَعَ مَنْ أَطَاعَهُ، وَطَالَبَ إِخْوَتَهُ بِالْإِفْرَاجِ عَنْ وَالِدِهِ وَإِعَادَتِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَسَارَ أَبُو تَغْلِبَ، (إِلَيْهِ لِيُحَارِبَهُ، فَانْهَزَمَ حَمْدَانُ قَبْلَ اللِّقَاءِ إِلَى الرَّقَّةِ، فَنَازَلَهُ أَبُو تَغْلِبَ) وَحَصَرَهُ ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى دَخَنٍ، وَعَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى مَوْضِعِهِ. وَعَاشَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْهَيْجَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ حَمْدُونَ التَّغْلِبِيُّ شُهُورًا، وَمَاتَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، (وَدُفِنَ بِتَلِّ تَوْبَةَ، شَرْقِيَّ الْمَوْصِلِ) ، وَقَبَضَ أَبُو تَغْلِبَ أَمْلَاكَ أَخِيهِ حَمْدَانَ، وَسَيَّرَ أَخَاهُ أَبَا الْبَرَكَاتِ إِلَى حَمْدَانَ، فَلَمَّا قَرُبَ الرُّحْبَةَ اسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ حَمْدَانَ، فَانْهَزَمَ حِينَئِذٍ، وَقَصَدَ الْعِرَاقَ مُسْتَأْمِنًا إِلَى بَخْتِيَارَ، فَوَصَلَ بَغْدَاذَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَأَكْرَمَهُ بَخْتِيَارُ وَعَظَّمَهُ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ هَدِيَّةً كَثِيرَةً جَلِيلَةَ الْمِقْدَارِ وَمَعَهَا كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِثْلُهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي تَغْلِبَ النَّقِيبَ أَبَا أَحْمَدَ الْمُوسَوِيَّ وَالِدَ الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ فِي الصُّلْحِ مَعَ أَخِيهِ، فَاصْطَلَحَا، وَعَادَ حَمْدَانُ إِلَى الرُّحْبَةِ، وَكَانَ مَسِيرُهُ مِنْ بَغْدَاذَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بِمَسِيرِ أَخِيهِ حَمْدَانَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ فَارَقَ الرُّحْبَةَ، وَدَخَلَهَا حَمْدَانُ، وَرَاسَلَهُ أَخُوهُ أَبُو تَغْلِبَ فِي الِاجْتِمَاعِ بِهِ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَعَادَ أَبُو تَغْلِبَ وَسَيَّرَ إِلَيْهِ أَخَاهُ أَبَا الْبَرَكَاتِ، فَلَمَّا عَلِمَ حَمْدَانُ بِذَلِكَ فَارَقَهَا، فَاسْتَوْلَى أَبُو الْبَرَكَاتِ عَلَيْهَا، وَاسْتَنَابَ بِهَا مَنْ يَحْفَظُهَا فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، وَعَادَ إِلَى الرَّقَّةِ ثُمَّ إِلَى عَرَبَانَ. فَلَمَّا سَمِعَ حَمْدَانُ بِعَوْدَتِهِ عَنْهَا، وَكَانَ بِبَرِّيَّةِ تَدْمُرَ، عَادَ إِلَيْهَا فِي شَعْبَانَ، فَوَافَاهَا لَيْلًا، فَأَصْعَدَ جَمَاعَةً مِنْ غِلْمَانِهِ السُّورَ، وَفَتَحُوا لَهُ بَابَ الْبَلَدِ فَدَخَلَهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَنْ بِهِ مِنَ الْجُنْدِ، فَلَمَّا صَارَ فِي الْبَلَدِ وَأَصْبَحَ أَمَرَ بِضَرْبِ الْبُوقِ، (فَبَادَرَ مَنْ بِالرُّحْبَةِ مِنَ الْجُنْدِ

مُنْقَطِعِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ صَوْتَ الْبُوقِ) مِنْ خَارِجِ الْبَلَدِ، وَكُلُّ مَنْ وَصَلَ إِلَى حَمْدَانَ أَسَرَهُ، حَتَّى أَخَذَهُمْ جَمِيعَهُمْ، فَقَتَلَ بَعْضًا وَاسْتَبْقَى بَعْضًا، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بِذَلِكَ عَادَ إِلَى قَرْقِيسِيَّا، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَأَخُوهُ حَمْدَانُ مُنْفَرِدَيْنِ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ بَيْنَهُمَا قَاعِدَةٌ، فَقَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ لِحَمْدَانَ: أَنَا أَعُودُ إِلَى عَرَبَانَ، وَأَرْسِلْ إِلَى أَبِي تَغْلِبَ يُجِيبُ إِلَى مَا تَلْتَمِسُهُ مِنْهُ. فَسَارَ عَائِدًا إِلَى عَرَبَانَ، وَعَبَرَ حَمْدَانُ الْفُرَاتَ فِي مَخَاضَةٍ بِهَا، وَسَارَ فِي أَثَرِ أَخِيهِ أَبِي الْبَرَكَاتِ، فَأَدْرَكَهُ بِعَرَبَانَ وَهُوَ آمِنٌ، فَلَقِيَهُمْ أَبُو الْبَرَكَاتِ بِغَيْرِ جُنَّةٍ وَلَا سِلَاحٍ، فَقَاتَلَهُمْ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَحَمَلَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بِنَفْسِهِ فِي وَسَطِهِمْ، فَضَرَبَهُ أَخُوهُ حَمْدَانُ فَأَلْقَاهُ وَأَخَذَهُ أَسِيرًا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، وَهُوَ ثَالِثُ رَمَضَانَ، فَحُمِلَ فِي تَابُوتٍ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَدُفِنَ بِتَلِّ تَوْبَةَ عِنْدَ أَبِيهِ. وَتَجَهَّزَ أَبُو تَغْلِبَ لِيَسِيرَ إِلَى حَمْدَانَ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَخَاهُ أَبَا الْفَوَارِسِ مُحَمَّدًا إِلَى نَصِيبِينَ، فَلَمَّا وَصَلَهَا كَاتَبَ أَخَاهُ حَمْدَانَ وَمَالَأَ عَلَى أَبِي تَغْلِبَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ أَبَا تَغْلِبَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْتَدْعِيهِ لِيَزِيدَ فِي إِقْطَاعِهِ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ قَبَضَ عَلَيْهِ وَسَيَّرَهُ إِلَى قَلْعَةِ كَوَاشِي، مِنْ بَلَدِ الْمَوْصِلِ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُ، وَكَانَتْ قِيمَتُهَا خَمْسَمِائَةِ أَلْفَ دِينَارٍ. فَلَمَّا قَبَضَ عَلَيْهِ سَارَ إِبْرَاهِيمُ وَالْحُسَيْنُ ابْنَا نَاصِرِ الدَّوْلَةِ إِلَى أَخِيهِمَا حَمْدَانَ، خَوْفًا مِنْ أَبِي تَغْلِبَ، فَاجْتَمَعَا مَعَهُ، وَسَارُوا إِلَى سِنْجَارَ، فَسَارَ أَبُو تَغْلِبَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَوْصِلِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِلِقَائِهِ طَاقَةٌ، فَرَاسَلَهُ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ وَالْحُسَيْنُ يَطْلُبَانِ الْعَوْدَ إِلَيْهِ خَدِيعَةً مِنْهُمَا لِيُؤَمِّنَهُمَا وَيَفْتِكَا بِهِ، فَأَجَابَهُمَا إِلَى ذَلِكَ، فَهَرَبَا إِلَيْهِ، وَتَبِعَهُمَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ حَمْدَانَ، (فَعَادَ حَمْدَانُ) حِينَئِذٍ مِنْ سِنْجَارَ إِلَى عَرَبَانَ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَى أَبِي تَغْلِبَ، صَاحِبِ حَمْدَانَ وَأَطْلَعَهُ حِيلَةَ أَخَوَيْهِ عَلَيْهِ، وَهُمَا إِبْرَاهِيمُ وَالْحُسَيْنُ، فَأَرَادَ الْقَبْضَ عَلَيْهِمَا فَحَذِرَا وَهَرَبَا. ثُمَّ إِنَّ غُلَامَ حَمْدَانَ وَنَائِبَهُ بِالرُّحْبَةِ أَخَذَ جَمِيعَ مَالِهِ وَهَرَبَ إِلَى أَصْحَابِ أَبِي تَغْلِبَ بَحَرَّانَ، وَكَانُوا مَعَ صَاحِبِهِ سَلَامَةَ الْبَرْقَعِيدِيِّ، فَاضْطَرَّ حَمْدَانُ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى الرُّحْبَةِ، وَسَارَ أَبُو تَغْلِبَ إِلَى قَرْقِيسِيَّا، وَأَرْسَلَ سَرِيَّةً عَبَرُوا الْفُرَاتَ وَكَبَسُوا حَمْدَانَ بِالرُّحْبَةِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَنَجَا هَارِبًا، وَاسْتَوْلَى أَبُو تَغْلِبَ عَلَيْهَا، وَعَمَّرَ سُورَهَا، وَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ،

وَدَخَلَهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. (وَسَارَ حَمْدَانُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَدَخَلَهَا آخِرَ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتِّينَ) [وَثَلَاثِمِائَةٍ] مُلْتَجِئًا إِلَى بَخْتِيَارَ وَمَعَهُ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ، وَكَانَ أَخُوهُمَا الْحُسَيْنُ قَدْ عَادَ إِلَى أَخِيهِ أَبِي تَغْلِبَ مُسْتَأْمِنًا، وَحَمَلَ بَخْتِيَارُ إِلَى حَمْدَانَ وَأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ هَدَايَا جَلِيلَةَ الْمِقْدَارِ، وَأَكْرَمَهُمَا وَاحْتَرَمَهُمَا. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ الرُّومُ بِالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ مَلِكُ الرُّومِ الشَّامَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَحَدٌ، وَلَا قَاتَلَهُ، فَسَارَ فِي الْبِلَادِ إِلَى طَرَابُلُسَ، وَأَحْرَقَ رَبَضَهَا، وَحَصَرَ قَلْعَةَ عِرْقَةَ، فَمَلَكَهَا وَنَهَبَهَا وَسَبَى مَنْ فِيهَا. وَكَانَ صَاحِبُ طَرَابُلُسَ قَدْ أَخْرَجَهُ أَهْلُهَا لِشِدَّةِ ظُلْمِهِ، فَقَصَدَ عِرْقَةَ، فَأَخَذَهُ الرُّومُ وَجَمِيعَ مَالِهِ، وَكَانَ كَثِيرًا. وَقَصَدَ (مَلِكُ الرُّومِ) حِمْصَ، وَكَانَ أَهْلُهَا قَدِ انْتَقَلُوا عَنْهَا وَأَخْلَوْهَا فَأَحْرَقَهَا مَلِكُ الرُّومِ وَرَجَعَ إِلَى بُلْدَانِ السَّاحِلِ (فَأَتَى عَلَيْهَا نَهْبًا وَتَخْرِيبًا) ، وَمَلَكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْبَرًا، فَأَمَّا الْقِرَى فَكَثِيرٌ لَا يُحْصَى، وَأَقَامَ فِي الشَّامِ شَهْرَيْنِ يَقْصِدُ أَيَّ مَوْضِعٍ شَاءَ، وَلَا يَمْنَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ كَانُوا يُغِيرُونَ عَلَى أَطْرَافِهِمْ، فَأَتَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ وَتَنَصَّرُوا وَكَادُوا الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، فَامْتَنَعَتِ الْعَرَبُ مِنْ قَصْدِهِمْ، وَصَارَ لِلرُّومِ الْهَيْبَةُ الْعَظِيمَةُ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَرَادَ أَنْ يَحْضُرَ أَنْطَاكِيَةَ وَحَلَبَ، فَبَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَهَا قَدْ أَعَدُّوا الذَّخَائِرَ وَالسِّلَاحَ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَعَادَ وَمَعَهُ مِنَ السَّبْيِ نَحْوُ مِائَةِ أَلْفَ رَأْسٍ، وَلَمْ يَأْخُذْ إِلَّا الصِّبْيَانَ، وَالصَّبَايَا،

وَالشُّبَّانَ، فَأَمَّا الْكُهُولُ، وَالشُّيُوخُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَتَلَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَهُ. وَكَانَ بِحَلَبَ قَرْغَوَيْهِ، غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبَا الْمَعَالِي بْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ مِنْهَا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، فَصَانَعَ الرُّومَ عَلَيْهَا، فَعَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ عَوْدِهِمْ كَثْرَةَ الْأَمْرَاضِ، وَالْمَوْتِ، وَقِيلَ: ضَجِرُوا مِنْ طُولِ السَّفَرِ وَالْغَيْبَةِ عَنْ بِلَادِهِمْ، فَعَادُوا عَلَى عَزْمِ الْعَوْدِ. وَسَيَّرَ مَلِكُ الرُّومِ سَرِيَّةً كَثِيرَةً إِلَى الْجَزِيرَةِ، فَبَلَغُوا كَفْرَ تُوثَا، وَنَهَبُوا وَسَبَوْا وَأَحْرَقُوا وَعَادُوا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ فِي ذَلِكَ نَكِيرٌ وَلَا أَثَرٌ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ قَرْغَوَيْهِ عَلَى حَلَبَ وَإِخْرَاجِ أَبِي الْمَعَالِي بْنِ حَمْدَانَ مِنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا اسْتَوْلَى قَرْغَوَيْهِ غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ (عَلَى حَلَبَ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا أَبَا الْمَعَالِي شَرِيفَ بْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ) ، فَسَارَ أَبُو الْمَعَالِي إِلَى حَرَّانَ، فَمَنَعَهُ أَهْلُهَا مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِمْ، فَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَأْذَنُوا لِأَصْحَابِهِ أَنْ يَدْخُلُوا فَيَتَزَوَّدَا مِنْهَا يَوْمَيْنِ فَأَذِنُوا لَهُمْ، وَدَخَلَ إِلَى وَالِدَتِهِ بِمَيَّافَارِقِينَ، وَهِيَ ابْنَةُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَمَضَوْا إِلَى أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى وَالِدَتِهِ بَلَغَهَا أَنَّ غِلْمَانَهُ وَكُتَّابَهُ قَدْ عَمِلُوا عَلَى الْقَبْضِ عَلَيْهَا وَحَبْسِهَا، كَمَا فَعَلَ أَبُو تَغْلِبَ بِأَبِيهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَأَغْلَقَتْ أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ وَمَنَعَتِ ابْنَهَا مِنْ

دُخُولِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، حَتَّى أَبْعَدَتْ مَنْ تُحِبُّ إِبْعَادَهُ، وَاسْتَوْثَقَتْ لِنَفْسِهَا، وَأَذِنَتْ لَهُ وَلِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ فِي دُخُولِ الْبَلَدِ وَأَطْلَقَتْ لَهُمُ الْأَرْزَاقَ، وَبَقِيَتْ حَرَّانُ لَا أَمِيرَ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ الْخُطْبَةَ فِيهَا لِأَبِي الْمَعَالِي بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنْ مُقَدَّمِي أَهْلِهَا يَحْكُمُونَ فِيهَا، وَيُصْلِحُونَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْمَعَالِي عَبَرَ الْفُرَاتَ إِلَى الشَّامِ، وَقَصَدَ حَمَاةَ فَأَقَامَ بِهَا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ خُرُوجِ أَبِي خَزَرٍ بِإِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ بِإِفْرِيقِيَّةَ أَبُو خَزَرٍ الزَّنَاتِيُّ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْبَرْبَرِ وَالنَّكَارِ، فَخَرَجَ الْمُعِزُّ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ يُرِيدُ قِتَالَهُ، حَتَّى بَلَغَ مَدِينَةَ بَاغَايَةَ، وَكَانَ أَبُو خَزَرٍ قَرِيبًا مِنْهَا، وَهُوَ يُقَاتِلُ نَائِبَ الْمُعِزِّ عَلَيْهَا، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو خَزَرٍ بِقُرْبِ الْمُعِزِّ تَفَرَّقَتْ عَنْهُ جُمُوعُهُ، وَسَارَ الْمُعِزُّ فِي طَلَبِهِ فَسَلَكَ الْأَوْعَارَ، فَعَادَ الْمُعِزُّ وَأَمَرَ أَبَا الْفُتُوحِ يُوسُفَ بُلُكِّينَ بْنَ زِيرِي بِالْمَسِيرِ فِي طَلَبِهِ أَيْنَ سَلَكَ، فَسَارَ فِي أَثَرِهِ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْهِ خَبَرُهُ، وَوَصَلَ الْمُعِزُّ إِلَى مُسْتَقَرِّهِ بِالْمَنْصُورِيَّةِ. فَلَمَّا كَانَ رَبِيعٌ الْآخِرُ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] وَصَلَ أَبُو خَزَرٍ الْخَارِجِيُّ إِلَى الْمُعِزِّ مُسْتَأْمِنًا، وَيَطْلُبُ الدُّخُولَ فِي طَاعَتِهِ، فَقَبِلَ مِنْهُ الْمُعِزُّ ذَلِكَ وَفَرِحَ بِهِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ رِزْقًا كَثِيرًا. وَوَصَلَهُ، عُقَيْبَ هَذِهِ الْحَالِ، كَتَبَ جَوْهَرٌ بِإِقَامَةِ الدَّعْوَةِ لَهُ فِي مِصْرَ وَالشَّامِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى الْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَفَرِحَ الْمُعِزُّ فَرَحًا شَدِيدًا أَظْهَرَهُ لِلنَّاسِ كَافَّةً (وَمَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ، فَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ هَانِئٍ الْأَنْدَلُسِيُّ) فَقَالَ: يَقُولُ بَنُو الْعَبَّاسِ قَدْ فُتِحَتْ مِصْرُ فَقُلْ لِبَنِي الْعَبَّاسِ: قَدْ قُضِيَ الْأَمْرُ

ذِكْرُ قَصْدِ أَبِي الْبَرَكَاتِ بْنِ حَمْدَانَ مَيَّافَارِقِينَ وَانْهِزَامِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، سَارَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ فِي عَسْكَرِهِ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ، فَأَغْلَقَتْ زَوْجَةُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ أَبْوَابَ الْبَلَدِ فِي وَجْهِهِ، وَمَنَعَتْهُ مِنْ دُخُولِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا يَقُولُ: إِنَّنِي مَا قَصَدْتُ إِلَّا الْغُزَاةَ، وَيَطْلُبُ مِنْهَا مَا يَسْتَعِينُ بِهِ، فَاسْتَقَرَّ بَيْنَهُمَا أَنْ تَحْمِلَ إِلَيْهِ مِائَتَيْ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَتُسَلِّمَ إِلَيْهِ قَرَايًا كَانَتْ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ بِالْقُرْبِ مِنْ نَصِيبِينَ. ثُمَّ ظَهَرَ لَهَا أَنَّهُ يَعْمَلُ سِرًّا فِي دُخُولِ الْبَلَدِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَنْ مَعَهُ مِنْ غِلْمَانِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ تَقُولُ لَهُمْ: مَا مِنْ حَقِّ مَوْلَاكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا بِحُرَمِهِ وَأَوْلَادِهِ هَذَا، فَنَكَلُوا عَنِ الْقِتَالِ وَالْقَصْدِ، ثُمَّ جَمَعَتْ رَجَّالَةً وَكَبَسَتْ أَبَا الْبَرَكَاتِ لَيْلًا، فَانْهَزَمَ وَنُهِبَ سَوَادُهُ وَعَسْكَرُهُ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغِلْمَانِهِ، فَرَاسَلَهَا: إِنَّنِي لَمْ أَقْصِدْ لِسُوءٍ، فَرَدَّتْ رَدًّا جَمِيلًا، وَأَعَادَتْ إِلَيْهِ بَعْضَ مَا نُهِبَ مِنْهُ، وَحَمَلَتْ إِلَيْهِ مِائَةَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَطْلَقَتِ الْأَسْرَى، فَعَادَ عَنْهَا. وَكَانَ ابْنُهَا (أَبُو الْمَعَالِي بْنُ) سَيْفِ الدَّوْلَةِ عَلَى حَلَبَ يُقَاتِلُ قَرْغَوَيْهِ غُلَامَ أَبِيهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ، عَمِلَ أَهْلُ بَغْدَاذَ مَا قَدْ صَارَ عَادَةً مِنْ إِغْلَاقِ الْأَسْوَاقِ، وَتَعْطِيلِ الْمَعَاشِ، وَإِظْهَارِ النَّوْحِ وَالْمَأْتَمِ، بِسَبَبِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا. وَفِيهَا أَرْسَلَ الْقَرَامِطَةُ رُسُلًا إِلَى بَنِي نُمَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ يَدْعُونَهُمْ إِلَى طَاعَتِهِمْ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ، وَأُخِذَتْ عَلَيْهِمُ الْأَيْمَانُ بِالطَّاعَةِ، وَأَرْسَلَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ إِلَى الْقَرَامِطَةِ بِهَجَرَ هَدَايَا جَمِيلَةً قِيمَتُهَا خَمْسُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَفِيهَا طَلَبَ سَابُورُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْقَرْمَطِيُّ مِنْ أَعْمَامِهِ أَنْ يُسَلِّمُوا الْأَمِيرَ إِلَيْهِ وَالْجَيْشَ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ عَهِدَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَحَبَسُوهُ فِي دَارِهِ، وَوَكَّلُوا بِهِ، ثُمَّ أُخْرِجَ مَيِّتًا فِي نِصْفِ رَمَضَانَ، فَدُفِنَ وَمُنِعَ أَهْلُهُ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُمْ بَعْدَ أُسْبُوعٍ أَنْ يَعْمَلُوا مَا يُرِيدُونَ.

وَفِيهَا، لَيْلَةَ الْخَمِيسِ رَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ، انْخَسَفَ الْقَمَرُ جَمِيعُهُ، وَغَابَ مُنْخَسِفًا. وَفِيهَا فِي شَعْبَانَ، وَقَعَتْ حَرْبٌ بَيْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّاعِي الْعَلَوِيِّ وَبَيْنَ عَلَوِيٍّ آخَرَ يُعْرَفُ بِأُمَيْرَكْ، وَهُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الثَّائِرُ فِي اللَّهِ، قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الدَّيْلَمِ وَالْجِيلِ، وَأُسِرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الدَّاعِي، وَسُجِنَ فِي قَلْعَةٍ، ثُمَّ أُطْلِقَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] وَعَادَ إِلَى رِئَاسَتِهِ، وَصَارَ أَبُو جَعْفَرٍ صَاحِبَ جَيْشِهِ. وَفِيهَا قَبَضَ بَخْتِيَارُ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي الْفَضْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ، وَقَبَضَ أَمْوَالَهُمْ وَأَمْلَاكَهُمْ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا الْفَرَجِ مُحَمَّدَ بْنَ الْعَبَّاسِ، ثُمَّ عَزَلَ أَبَا الْفَرَجِ وَأَعَادَ أَبَا الْفَضْلِ. وَفِيهَا اشْتَدَّ الْغَلَاءُ بِالْعِرَاقِ، وَاضْطَرَبَ النَّاسُ، فَسَعَّرَ السُّلْطَانُ الطَّعَامَ، فَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ، فَدَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى إِزَالَةِ التَّسْعِيرِ، فَسَهَّلَ الْأَمْرَ، وَخَرَجَ النَّاسُ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الْمَوْصِلِ وَالشَّامِ وَخُرَاسَانَ مِنَ الْغَلَاءِ. وَفِيهَا نُفِيَ شِيرَزَادُ، وَكَانَ قَدْ غُلِبَ عَلَى أَمْرِ بَخْتِيَارَ، وَصَارَ يَحْكُمُ عَلَى الْوَزِيرِ وَالْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ، فَأَوْحَشَ الْأَجْنَادَ، وَعَزَمَ الْأَتْرَاكُ عَلَى قَتْلِهِ، فَمَنَعَهُمْ سُبُكْتِكِينُ وَقَالَ لَهُمْ: خَوِّفُوهُ لِيَهْرَبَ، فَهَرَبَ مِنْ بَغْدَاذَ، وَعَهِدَ إِلَى بَخْتِيَارَ لِيَحْفَظَ مَالَهُ وَمُلْكَهُ، فَلَمَّا سَارَ عَنْ بَغْدَاذَ قَبَضَ بَخْتِيَارُ أَمْوَالَهُ وَأَمْلَاكَهُ وَدُورَهُ وَكَانَ هَذَا مِمَّا يُعَابُ بِهِ بَخْتِيَارُ. ثُمَّ إِنَّ شِيرَزَادَ سَارَ إِلَى رُكْنِ الدَّوْلَةِ لِيُصْلِحَ أَمْرَهُ مَعَ بَخْتِيَارَ، فَتُوُفِّيَ بِالرَّيِّ عِنْدَ وُصُولِهِ إِلَيْهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو الْفَتْحِ النَّحْوِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِجَخْجَخَ. وَفِيهَا مَاتَ عِيسَى الطَّبِيبُ الَّذِي كَانَ طَبِيبَ الْقَاهِرِ بِاللَّهِ، وَالْحَاكِمِ فِي دَوْلَتِهِ، وَكَانَ قَدْ عَمِيَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَتَيْنِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِيِنَ وَمِائَتَيْنِ.

ثم دخلت سنة تسع وخمسين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 359 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ الرُّومِ مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، مَلَكَ الرُّومُ مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ حَصَرُوا حِصْنًا بِالْقُرْبِ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ يُقَالُ لَهُ حِصْنُ لُوقَا، وَأَنَّهُمْ وَافَقُوا أَهْلَهُ، وَهُمْ نَصَارَى، عَلَى أَنْ يَرْتَحِلُوا مِنْهُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَيُظْهِرُوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا انْتَقَلُوا مِنْهُ خَوْفًا مِنَ الرُّومِ، فَإِذَا صَارُوا بِأَنْطَاكِيَةَ أَعَانُوهُمْ عَلَى فَتْحِهَا، وَانْصَرَفَ الرُّومُ عَنْهُمْ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَانْتَقَلَ أَهْلُ الْحِصْنِ وَنَزَلُوا بِأَنْطَاكِيَةَ بِالْقُرْبِ مِنَ الْجَبَلِ الَّذِي بِهَا. فَلَمَّا كَانَ انْتِقَالُهُمْ بِشَهْرَيْنِ وَافَى الرُّومُ مَعَ أَخِي نَقْفُورَ الْمَلِكِ، وَكَانُوا نَحْوَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ رَجُلٍ، فَأَحَاطُوا بِسُورِ أَنْطَاكِيَةَ، (وَصَعِدُوا الْجَبَلَ إِلَى النَّاحِيَةِ الَّتِي بِهَا أَهْلُ حِصْنِ لُوقَا) ، فَلَمَّا رَآهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ قَدْ مَلَكُوا تِلْكَ النَّاحِيَةَ طَرَحُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ السُّورِ، وَمَلَكَ الرُّومُ الْبَلَدَ، وَوَضَعُوا فِي أَهْلِهِ السَّيْفَ، ثُمَّ أَخْرَجُوا الْمَشَايِخَ، وَالْعَجَائِزَ، وَالْأَطْفَالَ مِنَ الْبَلَدِ، وَقَالُوا لَهُمُ: اذْهَبُوا حَيْثُ شِئْتُمْ، فَأَخَذُوا الشَّبَابَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَالصَّبَايَا، فَحَمَلُوهُمْ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ سَبْيًا، وَكَانُوا يَزِيدُونَ عَلَى أَلْفِ إِنْسَانٍ، وَكَانَ حَصْرُهُمْ لَهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ.

ذِكْرُ مُلْكِ الرُّومِ مَدِينَةَ حَلَبَ وَعَوْدِهِمْ عَنْهَا لَمَّا مَلَكَ الرُّومُ أَنْطَاكِيَةَ أَنْفَذُوا جَيْشًا كَثِيفًا إِلَى حَلَبَ، وَكَانَ أَبُو الْمَعَالِي شَرِيفُ بْنُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ مُحَاصِرًا لَهَا، وَبِهَا قَرْغَوَيْهِ السَّيْفِيُّ مُتَغَلِّبًا عَلَيْهَا. فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو الْمَعَالِي خَبَرَهُمْ فَارَقَ حَلَبَ وَقَصَدَ الْبَرِّيَّةَ لِيَبْعُدَ عَنْهُمْ، وَحَصَرُوا الْبَلَدَ، وَفِيهِ قَرْغَوَيْهِ وَأَهْلُ الْبَلَدِ قَدْ تَحَصَّنُوا بِالْقَلْعَةِ، فَمَلَكَ الرُّومُ الْمَدِينَةَ، وَحَصَرُوا الْقَلْعَةَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ حَلَبَ، وَتَوَسَّطُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَرْغَوَيْهِ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ، فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ عَلَى هُدْنَةٍ مُؤَبَّدَةٍ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ قَرْغَوَيْهِ إِلَيْهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ لِلرُّومِ إِذَا أَرَادُوا الْغَزَاةَ أَنْ لَا يُمَكِّنَ قَرْغَوَيْهِ أَهْلَ الْقَرَايَا مِنَ الْجَلَاءِ عَنْهَا لِيَبْتَاعَ الرُّومُ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْهَا. وَكَانَ مَعَ حَلَبَ حَمَاةُ، وَحِمْصُ، وَكَفْرُ طَابَ، وَالْمَعَرَّةُ، وَأَفَامِيَةُ، وَشَيْزَرُ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْحُصُونِ وَالْقَرَايَا، وَسَلَّمُوا الرَّهَائِنَ إِلَى الرُّومِ، وَعَادُوا عَنْ حَلَبَ وَتَسَلَّمَهَا الْمُسْلِمُونَ. ذِكْرُ مُلْكِ الرُّومِ مَلَازْكَرْدَ وَفِيهَا أَرْسَلَ مَلِكُ الرُّومِ جَيْشًا إِلَى مَلَازْكَرْدَ مِنْ أَعْمَالِ أَرْمِينِيَّةَ، فَحَصَرُوهَا، وَضَيَّقُوا عَلَى مَنْ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَلَكُوهَا عَنْوَةً وَقَهْرًا، وَعَظُمَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَخَافَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي أَقْطَارِ الْبِلَادِ، وَصَارَتْ كُلُّهَا سَائِبَةً لَا تَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ يَقْصِدُونَ أَيُّهَا شَاءُوا. ذِكْرُ مَسِيرِ ابْنِ الْعَمِيدِ إِلَى حَسْنُوَيْهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ وَزِيرَهُ أَبَا الْفَضْلِ بْنَ الْعَمِيدِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى بَلَدِ حَسْنُوَيْهِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حَسْنُوَيْهِ بْنَ الْحَسَنِ الْكُرْدِيَّ كَانَ قَدْ قَوِيَ وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ

لِاشْتِغَالِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يُعِينُ الدَّيْلَمَ عَلَى جُيُوشِ خُرَاسَانَ إِذَا قَصَدَتْهُمْ، فَكَانَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ يُرَاعِيهِ لِذَلِكَ وَيُغْضِي عَلَى مَا يَبْدُو مِنْهُ، وَكَانَ يَتَعَرَّضُ إِلَى الْقَوَافِلِ وَغَيْرِهَا بِخِفَارَةٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رُكْنَ الدَّوْلَةِ، فَسَكَتَ عَنْهُ. فَلَمَّا كَانَ الْآنَ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَهْلَانَ بْنِ مُسَافِرٍ خِلَافٌ أَدَّى إِلَى أَنْ قَصَدَهُ سَهْلَانُ وَحَارَبَهُ، وَهَزَمَهُ حَسْنُوَيْهِ، فَانْحَازَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى مَكَانٍ اجْتَمَعُوا فِيهِ، فَقَصْدَهُمْ حَسْنُوَيْهِ وَحَصَرَهُمْ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَمَعَ مِنَ الشَّوْكِ وَالنَّبَاتِ وَغَيْرِهِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَفَرَّقَهُ فِي نَوَاحِي أَصْحَابِ سَهْلَانَ وَأَلْقَى فِيهِ النَّارَ، وَكَانَ الزَّمَانُ صَيْفًا، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ حَتَّى كَادُوا يَهْلَكُونَ، فَلَمَّا عَايَنُوا الْهَلَاكَ طَلَبُوا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ فَأَخَذَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ. وَبَلَغَ ذَلِكَ رُكْنَ الدَّوْلَةِ فَلَمْ يَتَحَمَّلْ لَهُ، فَحِينَئِذٍ أَمَرَ ابْنَ الْعَمِيدِ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَتَجَهَّزَ وَسَارَ فِي الْمُحَرَّمِ وَمَعَهُ وَلَدُهُ أَبُو الْفَتْحِ، وَكَانَ شَابًّا مَرِحًا، قَدْ أَبْطَرَهُ الشَّبَابُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَكَانَ يَظْهَرُ مِنْهُ مَا يَغْضَبُ بِسَبَبِهِ وَالِدُهُ، وَازْدَادَتْ عِلَّتُهُ، وَكَانَ بِهِ نِقْرِسٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَمْرَاضِ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى هَمَذَانَ تُوُفِّيَ بِهَا، وَقَامَ وَلَدُهُ مَقَامَهُ، فَصَالَحَ حَسْنُوَيْهِ عَلَى مَالٍ أَخَذَهُ مِنْهُ، وَعَادَ إِلَى الرَّيِّ إِلَى خِدْمَةِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ. وَكَانَ وَالِدُهُ يَقُولُ عِنْدَ مَوْتِهِ: مَا قَتَلَنِي إِلَّا وَلَدِي، وَمَا أَخَافُ عَلَى بَيْتِ الْعَمِيدِ أَنْ يُخَرَّبَ وَيَهْلَكُوا إِلَّا مِنْهُ. فَكَانَ عَلَى مَا ظَنَّ. وَكَانَ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ الْعَمِيدِ بْنِ مَحَاسِنِ الدُّنْيَا، قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي غَيْرِهِ مِنْ حُسْنِ التَّدْبِيرِ، وَسِيَاسَةِ الْمُلْكِ، وَالْكِتَابَةِ الَّتِي أَتَى فِيهَا بِكُلِّ بَدِيعٍ. وَكَانَ عَالِمًا فِي عِدَّةِ فُنُونٍ مِنْهَا الْأَدَبُ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهِ، (وَمِنْهَا حِفْظُ أَشْعَارِ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُ حَفِظَ مِنْهَا مَا لَمْ يَحْفَظْ غَيْرُهُ مِثْلَهُ) ، وَمِنْهَا عُلُومُ الْأَوَائِلِ فَإِنَّهُ كَانَ مَاهِرًا فِيهَا مَعَ سَلَامَةِ اعْتِقَادٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَضَائِلِ، وَمَعَ حُسْنِ خُلُقٍ وَلِينِ عِشْرَةٍ مَعَ أَصْحَابِهِ وَجُلَسَائِهِ، وَشَجَاعَةٍ تَامَّةٍ، وَمَعْرِفَةٍ بِأُمُورِ الْحَرْبِ وَالْمُحَاصَرَاتِ، وَبِهِ تَخَرَّجَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ، وَمِنْهُ تَعَلَّمَ سِيَاسَةَ الْمُلْكِ، وَمَحَبَّةَ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ، وَكَانَ عُمْرُ ابْنِ الْعَمِيدِ قَدْ زَادَ

عَلَى سِتِّينَ سَنَةً يَسِيرًا، وَكَانَتْ وِزَارَتُهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. ذِكْرُ قَتْلِ نَقْفُورَ مَلِكِ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ نَقْفُورُ مَلِكُ الرُّومِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْمَمْلَكَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ دُمُسْتُقًا، وَالدُّمُسْتُقُ عِنْدَهُمُ الَّذِي كَانَ يَلِي بِلَادَ الرُّومِ الَّتِي هِيَ شَرْقِيَّ خَلِيجِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَأَكْثَرُهَا الْيَوْمَ بِيَدِ أَوْلَادِ فَلْجَ أَرْسِلَانَ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ يَلِيهَا يُلَقَّبُ بِالدُّمُسْتُقِ، وَكَانَ نَقْفُورُ هَذَا شَدِيدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ حَلَبَ أَيَّامَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ فَعَظُمَ شَأْنُهُ عِنْدَ الرُّومِ، وَهُوَ أَيْضًا الَّذِي فَتَحَ طَرَسُوسَ، وَالْمِصِّيصَةَ، وَأَذَنَةَ، وَعَيْنَ زَرْبَةَ، وَغَيْرَهَا. وَلَمْ يَكُنْ نَصْرَانِيَّ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْ وَلَدِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ مِنْ أَهْلِ طَرَسُوسَ يُعْرَفُ بِابْنِ الْفَقَّاسِ تَنَصَّرَ، وَكَانَ ابْنُهُ هَذَا شَهْمًا، شُجَاعًا، حَسَنَ التَّدْبِيرِ لِمَا يَتَوَلَّاهُ. فَلَمَّا عَظُمَ أَمْرُهُ وَقَوِيَ شَأْنُهُ قَتَلَ الْمَلِكَ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَمَلَكَ الرُّومَ بَعْدَهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا جَمِيعَهُ. فَلَمَّا مَلَكَ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ الْمَلِكِ الْمَقْتُولِ عَلَى كُرْهٍ مِنْهَا، وَكَانَ لَهَا مِنَ الْمَلِكِ الْمَقْتُولِ ابْنَانِ، وَجَعَلَ نَقْفُورُ هِمَّتَهُ قَصْدَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَالِاسْتِيلَاءَ عَلَيْهَا، وَتَمَّ لَهُ مَا أَرَادَ بِاشْتِغَالِ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَدَوَّخَ الْبِلَادَ وَكَانَ قَدْ بَنَى أَمْرَهُ عَلَى أَنْ يَقْصِدَ سَوَادَ الْبِلَادِ فَيَنْهَبَهُ وَيُخَرِّبَهُ، فَيُضْعِفَ الْبِلَادَ فَيَمْلِكُهَا، وَغَلَبَ عَلَى ثُغُورِ الْجَزَرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ وَسَبَى، وَأَسَرَ مَا يَخْرُجُ عَنِ الْحَصْرِ، وَهَابَهُ الْمُسْلِمُونَ هَيْبَةً عَظِيمَةً، وَلَمْ يَشُكُّوا فِي أَنَّهُ يَمْلِكُ جَمِيعَ الشَّامِ، وَمِصْرَ، وَالْجَزِيرَةِ وَدِيَارَ بَكْرٍ لِخُلُوِّ الْجَمِيعِ مِنْ مَانِعٍ.

فَلَمَّا اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ أَتَاهُ أَمْرُ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَزَمَ عَلَى أَنْ يُخْصِيَ ابْنَيِ الْمَلِكِ الْمَقْتُولِ لِيَنْقَطِعَ نَسْلُهُمَا، وَلَا يُعَارِضَ أَحَدٌ أَوْلَادَهُ فِي الْمُلْكِ، فَلَمَّا عَلِمَتْ أُمُّهُمَا ذَلِكَ قَلِقَتْ مِنْهُ، وَاحْتَالَتْ عَلَى قَتْلِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى ابْنِ الشَّمْشَقِيقِ، وَهُوَ الدُّمُسْتُقُ حِينَئِذٍ، وَوَافَقَتْهُ عَلَى أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهَا فِي زِيِّ النِّسَاءِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، وَقَالَتْ لِزَوْجِهَا إِنَّ نِسْوَةً مِنْ أَهْلِهَا قَدْ زَارُوهَا، فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهَا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ جَعَلَهُمْ فِي بَيْعَةٍ تَتَّصِلُ بِدَارِ الْمُلْكِ، وَكَانَ الشَّمْشَقِيقُ شَدِيدَ الْخَوْفِ مِنْهُ لِعِظَمِ هَيْبَتِهِ، فَاسْتَجَابَ لِلْمَرْأَةِ إِلَى مَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْمِيلَادِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ نَامَ، وَاسْتَقَلَّ فِي نَوْمِهِ، فَفَتَحَتِ امْرَأَتُهُ الْبَابَ وَدَخَلُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَثَارَ بِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ وَخَاصَّتِهِ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ نَيِّفٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا، وَأُجْلِسَ فِي الْمُلْكِ الْأَكْبَرُ مِنْ وَلَدَيِ الْمَلِكِ الْمَقْتُولِ، وَصَارَ الْمُدَبِّرُ لَهُ ابْنَ الشَّمْشَقِيقِ، وَيُقَالُ: إِنَّ نَقْفُورَ مَا بَاتَ قَطُّ إِلَّا بِسِلَاحٍ إِلَّا تِلْكَ اللَّيْلَةَ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَتْلِهِ وَفَنَاءِ أَجَلِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ أَبِي تَغْلِبَ مَدِينَةَ حَرَّانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، سَارَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ إِلَى حَرَّانَ، فَرَأَى أَهْلَهَا قَدْ أَغْلَقُوا أَبْوَابَهَا، وَامْتَنَعُوا مِنْهُ، فَنَازَلَهُمْ وَحَصَرَهُمْ، فَرَعَى أَصْحَابُهُ زُرُوعَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَكَانَ الْغَلَاءُ فِي الْعَسْكَرِ كَثِيرًا، فَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ نَفَرَانِ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِهَا لَيْلًا وَصَالَحَاهُ، وَأَخَذَا الْأَمَانَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ وَعَادَا. فَلَمَّا أَصْبَحَا أَعْلَمَا أَهْلَ حَرَّانَ مَا فَعَلَاهُ، فَاضْطَرَبُوا، وَحَمَلُوا السِّلَاحَ وَأَرَادُوا قَتْلَهُمَا، فَسَكَّنَهُمْ بَعْضُ أَهْلِهَا، فَسَكَنُوا، وَاتَّفَقُوا عَلَى إِتْمَامِ الصُّلْحِ، وَخَرَجُوا جَمِيعُهُمْ إِلَى أَبِي تَغْلِبَ، وَفَتَحُوا أَبْوَابَ الْبَلَدِ وَدَخَلَهُ أَبُو تَغْلِبَ وَإِخْوَتُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَصَلَّوْا بِهِ الْجُمُعَةَ وَخَرَجُوا إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهِمْ سَلَامَةُ الْبَرْقَعِيدِيُّ لِأَنَّهُ طَلَبَهُ أَهْلُهُ لِحُسْنِ سِيرَتِهِ، وَكَانَ إِلَيْهِ أَيْضًا عَمَلُ الرَّقَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ بَنِي حَمْدَانَ، وَعَادَ أَبُو تَغْلِبَ إِلَى

الْمَوْصِلِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَحْدَاثِ حَرَّانَ، وَسَبَبُ سُرْعَةِ عَوْدِهِ أَنَّ بَنِي نُمَيْرٍ عَاثُوا فِي بَلَدِ الْمَوْصِلِ، وَقَتَلُوا الْعَامِلَ بِبَرْقَعِيدَ، فَعَادَ إِلَيْهِمْ لِيَكْفِيَهُمْ. ذِكْرُ قَتْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ إِلْيَاسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ إِلْيَاسَ الَّذِي كَانَ وَالِدُهُ صَاحِبَ كَرْمَانَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ لِلْأَمِيرِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحٍ صَاحِبِ خُرَاسَانَ أَنَّ أَهْلَ كَرْمَانَ مِنَ الْقُفْصِ وَالْبِلَّوْصِ مَعَهُ وَفِي طَاعَتِهِ، (وَأَطْمَعَهُ فِي كَرْمَانَ، فَسَيَّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا إِلَيْهَا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا وَافَقَهُ الْقُفْصُ وَالْبِلَّوْصُ) وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأُمَمِ الْمُفَارِقَةِ لِطَاعَةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ، وَعَظُمَ جَمْعُهُ، فَلَقِيَهُ كُورْكِيرُ بْنُ جَسْتَانَ، خَلِيفَةُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِكَرْمَانَ، وَحَارَبَهُ، فَقُتِلَ سُلَيْمَانُ وَابْنَا أَخِيهِ إِلْيَسَعَ، وَهُمَا بَكْرٌ وَالْحُسَيْنُ، وَعَدَدٌ كَثِيرٌ مِنَ الْقُوَّادِ وَالْخُرَاسَانِيَّةِ، وَحُمِلَتْ رُءُوسُهُمْ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِشِيرَازَ، فَسَيَّرَهَا إِلَى أَبِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً كَثِيرَةً أَسْرَى. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِصِقِلِّيَّةَ وَفِي السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ الْمُعِزُّ لِدِينِ اللَّهِ (الْخَلِيفَةُ الْعَلَوِيُّ) ، عَلَى جَزِيرَةِ صِقِلِّيَّةَ، يَعِيشَ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ، فَجَمَعَ الْقَبَائِلَ فِي دَارِ الصِّنَاعَةِ فَوَقَعَ الشَّرُّ بَيْنَ مَوَالِي كُتَامَةَ (وَالْقَبَائِلِ، فَاقْتَتَلُوا) ، فَقُتِلَ مِنْ (مَوَالِي كُتَامَةَ كَثِيرٌ، وَقُتِلَ مِنَ) الْمَوَالِي بِنَاحِيَةِ سَرَقُوسَةَ جَمَاعَةٌ. وَازْدَادَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ، وَتَمَكَّنَتِ الْعَدَاوَةُ، وَسَعَى يَعِيشُ فِي الصُّلْحِ، فَلَمْ يُوَافِقُوهُ، وَتَطَاوَلَ أَهْلُ الشَّرِّ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، (وَنَهَبُوا) وَأَفْسَدُوا، وَاسْتَطَالُوا عَلَى أَهْلِ (الْمَرَاعِي، وَاسْتَطَالُوا عَلَى أَهْلِ) الْقِلَاعِ الْمُسْتَأْمَنَةِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْمُعِزِّ، فَعَزَلَ يَعِيشَ، وَاسْتَعْمَلَ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ نِيَابَةً عَنْ أَخِيهِ أَحْمَدَ، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا وَصَلَ فَرِحَ بِهِ النَّاسُ، وَزَالَ الشَّرُّ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَاتَّفَقُوا عَلَى طَاعَتِهِ.

ذِكْرُ حَصْرِ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، انْحَدَرَ بَخْتِيَارُ إِلَى مُحَاصَرَةِ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ، فَأَقَامَ بِوَاسِطَ يَتَصَيَّدُ شَهْرًا، ثُمَّ أَمَرَ وَزِيرَهُ أَبَا الْفَضْلِ أَنْ يَنْحَدِرَ إِلَى الْجَامِدَةِ، وَطُفُوفِ الْبَطِيحَةِ، وَبَنَى أَمْرَهُ عَلَى أَنْ يَسُدَّ أَفْوَاهَ الْأَنْهَارِ وَمَجَارِيَ الْمِيَاهِ إِلَى الْبَطِيحَةِ، وَيَرُدَّهَا إِلَى دِجْلَةَ وَالْفَارُوثَ، وَرَبْعَ طَيْرٍ، فَبَنَى الْمَسْنِيَّاتِ الَّتِي يُمْكِنُ السُّلُوكُ عَلَيْهَا إِلَى الْعِرَاقِ، فَطَالَتِ الْأَيَّامُ، وَزَادَتْ دِجْلَةُ فَخَرَّبَتْ مَا عَمِلُوهُ. وَانْتَقَلَ عِمْرَانُ إِلَى مَعْقِلٍ آخَرَ مِنْ مَعَاقِلِ الْبَطِيحَةِ وَنَقَلَ كُلَّ مَالِهِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا نَقَصَتِ الْمِيَاهُ، وَاسْتَقَامَتِ الطُّرُقُ، وَجَدُوا مَكَانَ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ فَارِغًا، فَطَالَتِ الْأَيَّامُ، وَضَجِرَ النَّاسُ مِنَ الْمُقَامِ، وَكَرِهُوا تِلْكَ الْأَرْضَ مِنَ الْحَرِّ، وَالْبَقِّ، وَالضَّفَادِعِ، وَانْقِطَاعِ الْمَوَادِّ الَّتِي أَلِفُوهَا، وَشَغَبَ الْجُنْدُ عَلَى الْوَزِيرِ، وَشَتَمُوهُ، وَأَبَوْا أَنْ يُقِيمُوا، فَاضْطُرَّ بَخْيِتَارُ إِلَى مُصَالَحَةِ عِمْرَانَ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُ. وَكَانَ عِمْرَانُ قَدْ خَافَهُ فِي الْأَوَّلِ، وَبَذَلَ لَهُ خَمْسَةَ آلَافِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا رَأَى اضْطَرَابَ أَمْرِ بَخْتِيَارَ بَذَلَ أَلْفَيْ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي نُجُومٍ، وَلَمْ يُسَلِّمْ إِلَيْهِمْ رَهَائِنَ، وَلَا حَلَفَ لَهُمْ عَلَى تَأْدِيَةِ الْمَالِ، وَلَمَّا رَحَلَ الْعَسْكَرُ تَخَطَّفَ عِمْرَانُ أَطْرَافَ النَّاسِ فَغَنِمَ مِنْهُمْ، وَفَسَدَ عَسْكَرُ بَخْتِيَارَ، وَزَالَتْ عَنْهُمُ الطَّاعَةُ وَالْهَيْبَةُ، وَوَصَلَ بَخْتِيَارُ إِلَى بَغْدَاذَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، اصْطَلَحَ قَرْغَوَيْهِ، غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَأَبُو الْمَعَالِي بْنُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، وَخُطِبَ لِأَبِي الْمَعَالِي بِحَلَبَ، وَكَانَ بِحِمْصَ،

وَخَطَبَ هُوَ وَقَرْغَوَيْهِ فِي أَعْمَالِهِ لِلْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ، صَاحِبِ الْمَغْرِبِ وَمِصْرَ. وَفِيهَا، فِي رَمَضَانَ، وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَاذَ فِي سُوقِ الثُّلَاثَاءِ، فَاحْتَرَقَ جَمَاعَةُ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، وَأَمَّا الرِّحَالُ، وَغَيْرُهَا فَكَثِيرٌ، وَوَقَعَ الْحَرِيقُ أَيْضًا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ فِيهَا أَيْضًا. وَفِيهَا كَانَتِ الْخُطْبَةُ بِمَكَّةَ لِلْمُطِيعِ لِلَّهِ وَلِلْقَرَامِطَةِ الْهَجَرِيِّينَ، وَخُطِبَ بِالْمَدِينَةِ لِلْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ، وَخَطَبَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ وَالِدُ الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ خَارِجَ الْمَدِينَةِ لِلْمُطِيعِ لِلَّهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو الْقَاسِمِ الْعَبْسِيُّ الْمُقْرِئُ الشَّافِعِيُّ بِقُرْطُبَةَ، وَلَهُ تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِبَغْدَاذَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الدِّينَوَرِيُّ الصُّوفِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالرَّقِّيِّ وَهُوَ مِنْ مَشَاهِيرِ مَشَايِخِهِمْ، وَقِيلَ مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْعَلَاءِ مُحَارِبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالْكَلَامِ.

ثم دخلت سنة ستين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَة] 360 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ عِصْيَانِ أَهْلِ كَرْمَانَ عَلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ لَمَّا مَلَكَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ كَرْمَانَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، اجْتَمَعَ الْقُفْصُ وَالْبِلَّوْصُ، وَفِيهِمْ أَبُو سَعِيدٍ الْبِلَّوْصِيُّ وَأَوْلَادُهُ، عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْخِلَافِ، وَتَحَالَفُوا عَلَى الثَّبَاتِ وَالِاجْتِهَادِ، فَضَمَّ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى كُورْكِيرِ بْنِ جَسْتَانَ عَابِدَ بْنَ عَلِيٍّ فَسَارَا إِلَى جِيرُفْتَ فِيمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْعَسَاكِرِ، فَالْتَقَوْا عَاشِرَ صَفَرَ، فَاقْتَتَلُوا، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ ثُمَّ انْهَزَمَ الْقُفْصُ وَمَنْ مَعَهُمْ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَمْسَةُ آلَافٍ مِنْ شُجْعَانِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ، وَقُتِلَ ابْنَانِ لِأَبِي سَعِيدٍ. ثُمَّ سَارَ عَابِدُ بْنُ عَلِيٍّ يَقُصُّ آثَارَهُمْ لِيَسْتَأْصِلَهُمْ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ عِدَّةَ وَقَائِعَ، وَأَثْخَنَ فِيهِمْ، وَانْتَهَى إِلَى هَرْمُوزَ فَمَلَكَهَا، وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِ التَّيْزِ وَمَكْرَانَ، وَأَسَرَ أَلْفَيْ أَسِيرٍ، وَطَلَبَ الْبَاقُونَ الْأَمَانَ، وَبَذَلُوا تَسْلِيمَ مَعَاقِلِهِمْ وَجِبَالِهِمْ، عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا فِي السِّلْمِ، وَيَنْزِعُوا شِعَارَ الْحَرْبِ، وَيُقِيمُوا حُدُودَ الْإِسْلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ. ثُمَّ سَارَ عَابِدٌ إِلَى طَوَائِفَ أُخَرَ يُعْرَفُونَ بِالْحَرُومِيَّةِ وَالْحَاسِكِيَّةِ يُخِيفُونَ السَّبِيلَ فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ، وَكَانُوا قَدْ أَعَانُوا سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ إِلْيَاسَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ، وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَأَنْقَذَهُمْ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَاسْتَقَامَتْ تِلْكَ الْأَرْضُ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ.

ثُمَّ لَمْ يَلْبَثِ الْبِلَّوْصُ أَنْ عَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سَفْكِ الدَّمِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ تَجَهَّزَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ وَسَارَ إِلَى كَرْمَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى السِّيرَجَانِ رَأَى فَسَادَهُمْ وَمَا فَعَلُوهُ مِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ بِكَرْمَانَ وَسِجِسْتَانَ وَخُرَاسَانَ، فَجَرَّدَ عَابِدَ بْنَ عَلِيٍّ فِي عَسْكَرٍ كَثِيفٍ، وَأَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهِمْ، فَلَمَّا أَحَسُّوا بِهِ أَوْغَلُوا فِي الْهَرَبِ إِلَى مَضَايِقَ ظَنُّوا أَنَّ الْعَسْكَرَ لَا يَتَوَغَّلُهَا، فَأَقَامُوا آمِنِينَ. فَسَارَ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمْ يَشْعُرُوا إِلَّا وَقَدْ أَطَلَّ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْهَرَبُ، فَصَبَرُوا يَوْمَهُمْ، وَهُوَ تَاسِعُ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ انْهَزَمُوا آخِرَ النَّهَارِ، وَقُتِلَ أَكْثَرُ رِجَالِهِمُ الْمُقَاتِلَةِ، وَسُبِيَ الذَّرَارِي وَالنِّسَاءُ، وَبَقِيَ الْقَلِيلُ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ فَأُجِيبُوا إِلَيْهِ، وَنُقِلُوا عَنْ تِلْكَ الْجِبَالِ، وَأَسْكَنَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مَكَانَهُمُ الْأَكَرَةَ وَالزَّرَّاعِينَ، حَتَّى طَبَّقُوا تِلْكَ الْأَرْضَ بِالْعَمَلِ، وَتَتَبَّعَ عَابِدٌ تِلْكَ الطَّوَائِفَ بَرًّا حَتَّى أَتَى عَلَيْهِمْ وَبَدَّدَ شَمْلَهُمْ. ذِكْرُ مُلْكِ الْقَرَامِطَةِ دِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَصَلَ الْقَرَامِطَةُ إِلَى دِمَشْقَ فَمَلَكُوهَا، وَقَتَلُوا جَعْفَرَ بْنَ فَلَاحٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا بَلَغَهُمُ اسْتِيلَاءُ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ عَلَى الشَّامِ أَهَمَّهُمْ وَأَزْعَجَهُمْ وَقَلِقُوا (لِأَنَّهُ) كَانَ قَدْ تَقَرَّرَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ابْنِ طُغُجَ أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِمْ كُلَّ سَنَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا مَلَكَهَا جَعْفَرٌ عَلِمُوا أَنَّ الْمَالَ يَفُوتُهُمْ، فَعَزَمُوا عَلَى قَصْدِ الشَّامِ، وَصَاحِبُهُمْ حِينَئِذٍ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَهْرَامَ الْقَرْمَطِيُّ، فَأَرْسَلَ إِلَى عِزِّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُسَاعَدَةَ بِالسِّلَاحِ وَالْمَالِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَقَرَّ الْحَالُ أَنَّهُمْ إِذَا وَصَلُوا (إِلَى الْكُوفَةِ سَائِرِينَ إِلَى الشَّامِ حُمِلَ الَّذِي اسْتَقَرَّ، فَلَمَّا وَصَلُوا " إِلَى الْكُوفَةِ أَوْصَلَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَسَارُوا إِلَى دِمَشْقَ. وَبَلَغَ خَبَرُهُمْ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ فَاسْتَهَانَ بِهِمْ وَلَمْ يَحْتَرِزْ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ حَتَّى كَبَسُوهُ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ وَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا مَالَهُ وَسِلَاحَهُ وَدَوَابَّهُ، وَمَلَكُوا دِمَشْقَ، وَأَمَّنُوا أَهْلَهَا، وَسَارُوا إِلَى الرَّمْلَةِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى جَمِيعِ مَا بَيْنَهُمَا.

فَلَمَّا سَمِعَ مَنْ بِهَا مِنَ الْمَغَارِبَةِ خَبَرَهُمْ سَارُوا عَنْهَا إِلَى يَافَا فَتَحَصَّنُوا بِهَا، وَمَلَكَ الْقَرَامِطَةُ الرَّمْلَةَ، وَسَارُوا إِلَى مِصْرَ، وَتَرَكُوا عَلَى يَافَا مَنْ يَحْصُرُهَا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى مِصْرَ اجْتَمَعَ مَعَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَالْجُنْدُ وَالْإِخْشِيدِيَّةُ وَالْكَافُورِيَّةُ، فَاجْتَمَعُوا بِعَيْنِ شَمْسٍ عِنْدَ مِصْرَ، وَاجْتَمَعَ عَسَاكِرُ جَوْهَرٍ وَخَرَجُوا إِلَيْهِمْ، فَاقْتَتَلُوا غَيْرَ مَرَّةٍ، الظَّفَرُ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الْأَيَّامِ لِلْقَرَامِطَةِ، وَحَصَرُوا الْمَغَارِبَةَ حَصْرًا شَدِيدًا، ثُمَّ إِنَّ الْمَغَارِبَةَ خَرَجُوا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ مِنْ مِصْرَ، وَحَمَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ الْقَرَامِطَةِ، فَانْهَزَمَ مَنْ بِهَا مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَصَدُوا سَوَادَ الْقَرَامِطَةِ فَنَهَبُوهُ، فَاضْطَرُّوا إِلَى الرَّحِيلِ، فَعَادُوا إِلَى الشَّامِ، فَنَزَلُوا الرَّمْلَةَ. ثُمَّ حَصَرُوا يَافَا حَصْرًا شَدِيدًا، وَضَيَّقُوا عَلَى مَنْ بِهَا، فَسَيَّرَ جَوْهَرٌ مِنْ مِصْرَ نَجْدَةً إِلَى أَصْحَابِهِ الْمَحْصُورِينَ بِيَافَا، وَمَعَهُمْ مِيرَةٌ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مَرْكَبًا، فَأَرْسَلَ الْقَرَامِطَةُ مَرَاكِبَهُمْ إِلَيْهَا، فَأَخَذُوا مَرَاكِبَ جَوْهَرٍ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهَا غَيْرُ مَرْكَبَيْنِ، فَغَنِمَهَا مَرَاكِبُ الرُّومِ. وَلِلْحُسَيْنِ بْنِ بَهْرَامَ مُقَدَّمِ الْقَرَامِطَةِ شِعْرٌ، فَمِنْهُ فِي الْمَغَارِبَةِ أَصْحَابِ الْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ: زَعَمَتْ رِجَالُ الْغَرْبِ أَنِّي ... هِبْتُهَا فَدَمِي إِذًا مَا بَيْنَهُمْ مَطْلُولُ يَا مِصْرُ إِنْ لَمْ أَسْقِ أَرْضَكِ مِنْ ... دَمٍ يَرْوِي ثَرَاكِ فَلَا سَقَانِي النِّيلُ ذِكْرُ قَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الزَّنَاتِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ يُوسُفُ بُلُكِّينُ بْنُ زِيرِي مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ خَزَرٍ الزَّنَاتِيَّ وَجَمَاعَةً مِنْ أَهْلِهِ وَبَنِي عَمِّهِ، وَكَانَ قَدْ عَصَى عَلَى الْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ مِنْ زَنَاتَةَ وَالْبَرْبَرِ، فَأَهَمَّ الْمُعِزَّ أَمْرُهُ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى مِصْرَ، فَخَافَ أَنْ يُخَلِّفَ مُحَمَّدًا فِي الْبِلَادِ عَاصِيًا، وَكَانَ جَبَّارًا عَاتِيًا طَاغِيًا. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ قَتْلِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَعَلِمَ يُوسُفُ بِهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ جَرِيدَةً مُتَخَفِّيًا، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ مُحَمَّدٌ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ مُحَمَّدٌ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسَيْفِهِ، وَقَتَلَ يُوسُفُ الْبَاقِينَ وَأَسَرَ مِنْهُمْ، فَحَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُعِزِّ مَحِلًّا عَظِيمًا، وَقَعَدَ لِلْهَنَاءِ بِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى كُورْكِيرَ بْنِ جَسْتَانَ قَبْضًا فِيهِ إِبْقَاءٌ وَمَوْضِعٌ لِلصُّلْحِ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ ابْنَةَ عِزِّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ، وَعُمْرُهَا ثَلَاثُ سِنِينَ، عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ الْوَكِيلُ فِي قَبُولِ الْعَقْدِ أَبَا الْحَسَنِ (عَلِيَّ بْنَ) عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ صَاحِبَ أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ، وَوَقَعَ الْعَقْدُ فِي صَفَرَ. وَفِيهَا قُتِلَ رَجُلَانِ بِمَسْجِدِ دَيْرِ مَارَ مِيخَائِيلَ بِظَاهِرِ الْمَوْصِلِ، فَصَادَرَ أَبُو تَغْلِبَ جَمَاعَةً مِنَ النَّصَارَى. وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ أَبَا الْقَاسِمَ بْنَ عَبَّادٍ، وَأَصْلَحَ أُمُورَهُ كُلَّهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ الطَّبَرَانِيُّ صَاحِبُ الْمَعَاجِمِ الثَّلَاثَةِ (بِأَصْبَهَانَ) وَكَانَ عُمْرُهُ مِائَةَ سَنَةٍ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْآجُرِّيُّ بِمَكَّةَ، وَهُمَا مِنْ حُفَّاظِ الْمُحَدِّثِينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ السَّرِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ السَّرِيِّ أَبُو الْحَسَنِ الْكِنْدِيُّ الرَّفَّا، الشَّاعِرُ الْمَوْصِلِيُّ، بِبَغْدَادَ.

ثم دخلت سنة إحدى وستين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَة] 361 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ الرُّومُ بِالْجَزِيرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، أَغَارَ مَلِكُ الرُّومِ عَلَى الرَّهَا وَنَوَاحِيهَا، وَسَارَ فِي دِيَارِ الْجَزِيرَةِ حَتَّى بَلَغُوا نَصِيبِينَ، فَغَنِمُوا، وَسَبَوْا وَأَحْرَقُوا وَخَرَّبُوا الْبِلَادَ، وَفَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ بِدِيَارِ بَكْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ فِي ذَلِكَ حَرَكَةٌ، وَلَا سَعْيٌ فِي دَفْعِهِ، لَكِنَّهُ حَمَلَ إِلَيْهِ مَالًا كَفَّهُ (بِهِ عَنْ نَفْسِهِ) . فَسَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ إِلَى بَغْدَاذَ مُسْتَنْفِرِينَ، وَقَامُوا فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَشَاهَدِ، وَاسْتَنْفَرُوا الْمُسْلِمِينَ، وَذَكَرُوا مَا فَعَلَهُ الرُّومُ مِنَ النَّهْبِ، وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَالسَّبْيِ، فَاسْتَعْظَمَهُ النَّاسُ، وَخَوَّفَهُمْ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ مِنِ انْفِتَاحِ الطَّرِيقِ وَطَمَعِ الرُّومِ، وَأَنَّهُمْ لَا مَانِعَ لَهُمْ عِنْدَهُمْ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُمْ أَهْلُ بَغْدَاذَ، وَقَصَدُوا دَارَ الْخَلِيفَةِ الطَّائِعِ لِلَّهِ، وَأَرَادُوا الْهُجُومَ عَلَيْهِ، فَمُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَأُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ، فَأُسْمِعُوا مَا يَقْبُحُ ذِكْرُهُ. وَكَانَ بَخْتِيَارُ حِينَئِذٍ يَتَصَيَّدُ الْكُوفَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ (وُجُوهُ) أَهْلِ بَغْدَاذَ مُسْتَغِيثِينَ، مُنْكِرِينَ عَلَيْهِ اشْتِغَالَهُ بِالصَّيْدِ، وَقِتَالَ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَتَرْكَ جِهَادِ الرُّومِ، وَمَنَعَهُمْ عَنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ حَتَّى تَوَغَّلُوهَا، فَوَعَدَهُمُ التَّجَهُّزَ لِلْغُزَاةِ وَأَرْسَلَ إِلَى سُبُكْتِكِينَ يَأْمُرُهُ بِالتَّجَهُّزِ لِلْغَزْوِ وَأَنْ يَسْتَنْفِرَ الْعَامَّةَ، فَفَعَلَ سُبُكْتِكِينُ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ مِنَ الْعَامَّةِ عَدَدٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَكَتَبَ بَخْتِيَارُ إِلَى أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، يَأْمُرُهُ بِإِعْدَادِ الْمِيرَةِ وَالْعُلُوفَاتِ، وَيُعَرِّفُهُ عَزْمَهُ عَلَى الْغَزَاةِ، فَأَجَابَهُ

بِإِظْهَارِ الْفَرَحِ، وَإِعْدَادِ مَا طُلِبَ مِنْهُ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ بِبَغْدَاذَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأَظْهَرُوا الْعَصَبِيَّةَ الزَّائِدَةَ، وَتَحَزَّبَ النَّاسُ، وَظَهَرَ الْعَيَّارُونَ وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ وَأَخَذُوا أَمْوَالَ النَّاسِ. وَكَانَ سَبَبُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ اسْتِنْفَارِ الْعَامَّةِ لِلْغَزَاةِ، فَاجْتَمَعُوا وَكَثُرُوا فَتَوَلَّدَ بَيْنَهُمْ مِنْ أَصْنَافِ الْبَنَوِيَّةِ، وَالْفِتْيَانِ، وَالسُّنَّةُ، وَالشِّيعَةِ، وَالْعَيَّارِينَ، فَنُهِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَقُتِلَ الرِّجَالُ، وَأُحْرِقَتِ الدُّورُ، وَفِي جُمْلَةِ مَا احْتَرَقَ مَحَلَّةُ الْكَرْخِ، وَكَانَتْ مَعْدِنَ التُّجَّارِ وَالشِّيعَةِ، وَجَرَى بِسَبَبِ ذَلِكَ فِتْنَةٌ بَيْنَ النَّقِيبِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوسَوِيِّ وَالْوَزِيرِ أَبِي الْفَضْلِ الشِّيرَازِيِّ وَعَدَاوَةٌ. ثُمَّ إِنَّ بَخْتِيَارَ أَنْفَذَ إِلَى الْمُطِيعِ لِلَّهِ يَطْلُبُ مِنْهُ مَالًا يُخْرِجُهُ فِي الْغَزَاةِ، فَقَالَ الْمُطِيعُ: إِنَّ الْغَزَاةَ وَالنَّفَقَةَ عَلَيْهَا، وَغَيْرَهَا مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، تَلْزَمُنِي إِذَا كَانَتِ الدُّنْيَا فِي يَدِي وَتُجْبَى إِلَيَّ الْأَمْوَالُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ حَالِي هَذِهِ فَلَا يَلْزَمُنِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَنِ الْبِلَادُ فِي يَدِهِ وَلَيْسَ لِي إِلَّا الْخُطْبَةُ، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ أَعْتَزِلَ فَعَلْتُ. وَتَرَدَّدَتِ الرَّسَائِلُ بَيْنَهُمَا، حَتَّى بَلَغَ إِلَى التَّهْدِيدِ، فَبَذَلَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَاحْتَاجَ إِلَى بَيْعِ ثِيَابِهِ وَأَنْقَاضِ دَارِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَشَاعَ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَحُجَّاجِ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْخَلِيفَةَ قَدْ صُودِرَ. فَلَمَّا قَبَضَ بَخْتِيَارُ الْمَالَ صَرَفَهُ فِي مَصَالِحِهِ، وَبَطَلَ حَدِيثُ الْغَزَاةِ.

ذِكْرُ مَسِيرِ الْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ مِنَ الْغَرْبِ إِلَى مِصْرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْمُعِزُّ لِدِينِ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ (يُرِيدُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ) . وَكَانَ أَوَّلُ مَسِيرِهِ أَوَاخِرَ شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ أَوَّلُ رَحِيلِهِ مِنَ الْمَنْصُورِيَّةِ، فَأَقَامَ بِسَرْدَانِيَةَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ قَرِيبَةٌ مِنَ الْقَيْرَوَانِ، وَلَحِقَهُ بِهَا رِجَالُهُ، وَعُمَّالُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَجَمِيعُ مَا كَانَ لَهُ فِي قَصْرِهِ مِنْ أَمْوَالٍ وَأَمْتِعَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الدَّنَانِيرَ سُكِبَتْ وَجُعِلَتْ كَهَيْئَةِ الطَّوَاحِينِ وَحُمِلَ كُلُّ طَاحُونَتَيْنِ عَلَى جَمَلٍ. وَسَارَ عَنْهَا وَاسْتَعْمَلَ عَلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ يُوسُفَ بُلُكِّينَ بْنِ زِيرِي بْنِ مَنَادٍ الصِّنْهَاجِيَّ الْحِمْيَرِيَّ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حُكْمًا عَلَى جَزِيرَةِ صِقِلِّيَّةَ، وَلَا عَلَى مَدِينَةِ طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ، وَلَا عَلَى أَجْدَابِيَّةَ، وَسُرْتُ، وَجَعَلَ عَلَى (صِقِلِّيَّةَ حَسَنَ بْنَ) عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، وَجَعَلَ عَلَى طَرَابُلُسَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَخْلُفَ الْكُتَامِيَّ، وَكَانَ أَثِيرًا عِنْدَهُ وَجَعَلَ عَلَى جِبَايَةِ أَمْوَالِ إِفْرِيقِيَّةَ زِيَادَةَ اللَّهِ بْنَ زِيَادِ بْنِ الْقَدِيمِ، وَعَلَى الْخَرَاجِ عَبْدَ الْجَبَّارِ الْخُرَاسَانِيَّ، وَحُسَيْنَ بْنَ خَلَفٍ الْمُوصِدِيَّ، وَأَمَرَهُمْ بِالِانْقِيَادِ لِيُوسُفَ بْنِ زِيرِي. فَأَقَامَ بِسَرْدَانِيَةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى فَرَغَ مِنْ جَمِيعِ مَا يُرِيدُ، ثُمَّ رَحَلَ عَنْهَا، وَمَعَهُ يُوسُفُ بُلُكِّينُ وَهُوَ يُوصِيهِ بِمَا يَفْعَلُهُ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ سَلَفِ يُوسُفَ بُلُكِّينَ وَأَهْلِهِ مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَرُدَّ يُوسُفُ إِلَى أَعْمَالِهِ، وَسَارَ إِلَى طَرَابُلُسَ وَمَعَهُ جُيُوشُهُ وَحَوَاشِيهِ، فَهَرَبَ مِنْهُ بِهَا جَمْعٌ مِنْ عَسْكَرِهِ إِلَى جِبَالِ نَفُوسَةَ فَطَلَبَهُمْ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَرْقَةَ وَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَانِئٍ الشَّاعِرُ الْأَنْدَلُسِيُّ، قُتِلَ غِيلَةً، فَرُؤِيَ مُلْقًى عَلَى جَانِبِ الْبَحْرِ قَتِيلًا لَا يُدْرَى مَنْ قَتَلَهُ، وَكَانَ قَتْلُهُ أَوَاخِرَ رَجَبٍ

مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمُجِيدِينَ إِلَّا أَنَّهُ غَالَى فِي مَدْحِ الْمُعِزِّ حَتَّى كَفَّرَهُ الْعُلَمَاءُ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: مَا شِئْتَ لَا مَا شَاءَتِ الْأَقْدَارُ ... فَاحْكُمْ فَأَنْتَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ وَقَوْلُهُ: () وَلَطَالَ مَا زَاحَمْتُ حَوْلَ رِكَابِهِ جِبْرِيلَا وَمِنْ ذَلِكَ مَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَلَمْ أَجِدْهَا فِي دِيوَانِهِ قَوْلُهُ: حَلَّ بِرِقَّادَةَ الْمَسِيحُ ... حَلَّ بِهَا آدَمُ وَنُوحُ حَلَّ بِهَا اللَّهُ ذُو الْمَعَالِي ... فَكُلُّ شَىْءٍ سِوَاهُ رِيحُ وَرِقَّادَةُ اسْمُ مَدِينَةٍ بِالْقُرْبِ مِنَ الْقَيْرَوَانِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ مَنْ يَتَعَصَّبُ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ جَازَ حَدَّ الْمَدِيحِ. ثُمَّ سَارَ الْمُعِزُّ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ أَوَاخِرَ شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ، وَأَتَاهُ أَهْلُ مِصْرَ وَأَعْيَانُهَا، فَلَقِيَهُمْ، وَأَكْرَمَهُمْ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَسَارَ فَدَخَلَ الْقَاهِرَةَ خَامِسَ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَنْزَلَ عَسَاكِرَهُ مِصْرَ وَالْقَاهِرَةَ فِي الدِّيَارِ، وَبَقِيَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي الْخِيَامِ. وَأَمَّا يُوسُفُ بُلُكِّينُ فَإِنَّهُ لَمَّا عَادَ مِنْ وَدَاعِ الْمُعِزِّ أَقَامَ بِالْمَنْصُورِيَّةِ يَعْقِدُ الْوِلَايَاتِ لِلْعُمَّالِ عَلَى الْبِلَادِ، ثُمَّ سَارَ فِي الْبِلَادِ، وَبَاشَرَ الْأَعْمَالَ، وَطَيَّبَ قُلُوبَ النَّاسِ، فَوَثَبَ أَهْلُ بَاغَايَةَ عَلَى عَامِلِهِ فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمُوهُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ يُوسُفُ جَيْشًا فَقَاتَلَهُمْ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ،

فَأَرْسَلَ إِلَى يُوسُفَ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ فَتَأَهَّبَ يُوسُفُ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ لِيَسِيرَ إِلَيْهِمْ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي التَّجَهُّزِ أَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ تَاهَرْتَ أَنَّ أَهْلَهَا قَدْ عَصَوْا، وَخَالَفُوا، وَأَخْرَجُوا عَامِلَهُ، فَرَحَلَ إِلَى تَاهَرْتَ فَقَاتَلَهَا، فَظَفِرَ بِأَهْلِهَا، وَخَرَّبَهَا، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِهَا أَنَّ زَنَاتَةَ قَدْ نَزَلُوا عَلَى تِلِمْسَانَ، فَرَحَلَ إِلَيْهِمْ، فَهَرَبُوا مِنْهُ، وَأَقَامَ عَلَى تِلِمْسَانَ فَحَصَرَهَا مُدَّةً ثُمَّ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَعَفَا عَنْهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ نَقَلَهُمْ إِلَى مَدِينَةَ أَشِيرَ، فَبَنَوْا عِنْدَهَا مَدِينَةً سَمَّوْهَا تِلْمِسَانَ. ثُمَّ إِنَّ زِيَادَةَ اللَّهِ بْنَ الْقُدَيْمِ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَامِلٍ آخَرَ كَانَ مَعَهُ، اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَاتِبُ، مُنَافَسَةٌ صَارَتْ إِلَى مُحَارَبَةٍ، وَاجْتَمَعَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ عِدَّةُ دَفَعَاتٍ، وَكَانَ يُوسُفُ بُلُكِّينُ مَائِلًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ لِصُحْبَةٍ قَدِيمَةٍ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَبَضَ عَلَى ابْنِ الْقُدَيْمِ وَسَجَنَهُ وَاسْتَبَدَّ بِالْأُمُورِ بَعْدَهُ، وَبَقِيَ ابْنُ الْقُدَيْمِ مَحْبُوسًا حَتَّى تُوُفِّيَ الْمُعِزُّ بِمِصْرَ، وَقَوِيَ أَمْرُ يُوسُفَ بُلُكِّينَ. وَفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] طَلَعَ خَلَفُ بْنُ حُسَيْنٍ إِلَى قَلْعَةٍ مَنِيعَةٍ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْقُدَيْمِ الْمُسَاعِدِينَ لَهُ، فَسَمِعَ يُوسُفُ بِذَلِكَ، فَسَارَ إِلَيْهِ وَنَازَلَ الْقَلْعَةَ وَحَارَبَهُ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمَا عِدَّةُ قَتْلَى، وَافْتَتَحَهَا، وَهَرَبَ خَلَفُ بْنُ حُسَيْنٍ، وَقُتِلَ مِمَّنْ كَانَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَبَعَثَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ مِنْ رُءُوسِهِمْ سَبْعَةَ آلَافِ رَأْسٍ، ثُمَّ أُخِذَ خَلَفٌ وَأُمِرَ بِهِ فَطِيفَ بِهِ عَلَى جَمَلٍ، (ثُمَّ صُلِبَ) وَسُيِّرَ رَأْسُهُ إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ بَاغَايَةَ بِذَلِكَ خَافُوا، فَصَالَحُوا يُوسُفَ وَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَأَخْرَجَهُمْ مِنْ بَاغَايَةَ وَخَرَّبَ سُورَهَا. ذِكْرُ خَبَرِ يُوسُفَ بُلُكِّينَ بْنِ زِيرِي بْنِ مَنَادٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ هُوَ يُوسُفُ بُلُكِّينُ بْنُ زِيرِي بْنِ مَنَادٍ الصِّنْهَاجِيُّ الْحِمْيَرِيُّ، اجْتَمَعَتْ صِنْهَاجَةُ وَمَنْ وَالَاهَا بِالْمَغْرِبِ عَلَى طَاعَتِهِ، قَبْلَ أَنْ يُقَدِّمَهُ الْمَنْصُورُ، وَكَانَ أَبُوهُ مَنَادٌ كَبِيرًا فِي قَوْمِهِ، كَثِيرَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، حَسَنَ الضِّيَافَةِ لِمَنْ يَمُرُّ بِهِ، وَيُقَدِّمُ ابْنَهُ زِيرِي فِي أَيَّامِهِ، وَقَادَ كَثِيرًا مِنْ

صِنْهَاجَةَ، وَأَغَارَ بِهِمْ، وَسَبَى، فَحَسَدَتْهُ زَنَاتَةَ، وَجَمَعَتْ لَهُ لِتَسِيرَ إِلَيْهِ وَتُحَارِبَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ مُجِدًّا، فَكَبَسَهُمْ لَيْلًا وَهُمْ غَارُّونَ بِأَرْضِ مُغِيلَةَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ كَثِيرًا، وَغَنِمَ مَا مَعَهُمْ، فَكَثُرَ تَبَعُهُ، فَضَاقَتْ بِهِمْ أَرْضُهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: لَوِ اتَّخَذْتَ لَنَا بَلَدًا غَيْرَ هَذَا، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى مَوْضِعِ مَدِينَةِ أَشِيرَ، فَرَأَى مَا فِيهِ مِنَ الْعُيُونِ، فَاسْتَحْسَنَهُ، وَبَنَى فِيهِ مَدِينَةَ أَشِيرَ، وَسَكَنَهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَكَانَتْ زَنَاتَةُ تُفْسِدُ فِي الْبِلَادِ، فَإِذَا طَلَبُوا احْتَمَوْا بِالْجِبَالِ وَالْبَرَارِي، فَلَمَّا بُنِيَتْ أَشِيرُ صَارَتْ صِنْهَاجَةُ بَيْنَ زَنَاتَةَ وَالْبَرْبَرِ، فَسُرَّ بِذَلِكَ الْقَائِمُ. وَسَمِعَ زِيرِي بِغِمَارَةَ وَفَسَادِهِمْ، وَاسْتِحْلَالِهِمُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَنَّهُمْ قَدْ ظَهَرَ فِيهِمْ نَبِيٌّ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَغَزَاهُمْ، وَظَفِرَ بِهِمْ، وَأَخَذَ الَّذِي كَانَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ أَسِيرًا، وَأَحْضَرَ الْفُقَهَاءَ فَقَتَلَهُ. ثُمَّ كَانَ لَهُ أَثَرٌ حَسَنٌ فِي حَادِثَةِ أَبِي يَزِيدَ الْخَارِجِيِّ، وَحَمَلَ الْمِيرَةَ إِلَى الْقَائِمِ بِالْمَهْدِيَّةِ، فَحَسُنَ مَوْقِعُهَا مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ زَنَاتَةَ حَصَرَتْ مَدِينَةَ أَشِيرَ، فَجَمَعَ لَهُمْ زِيرِي جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَجَرَى بَيْنَهُمْ عِدَّةُ وَقَعَاتٍ قُتِلَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ ظَفِرَ بِهِمْ وَاسْتَبَاحَهُمْ. ثُمَّ ظَهَرَ بِجَبَلِ أُورَاسَ رَجُلٌ، وَخَالَفَ عَلَى الْمَنْصُورِ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، يُقَالُ لَهُ سَعِيدُ بْنُ يُوسُفَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ زِيرِي وَلَدَهُ بُلُكِّينَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَلَقِيَهُ عِنْدَ بَاغَايَةَ، وَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ الْخَارِجِيُّ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ هَوَارَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَزَادَ مَحَلُّهُ عِنْدَ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ لَهُ فِي فَتْحِ مَدِينَةِ فَاسَ أَثَرٌ عَظِيمٌ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. ثُمَّ إِنَّ بُلُكِّينَ بْنَ زِيرِي قَصَدَ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ خَزَرٍ الزَّنَاتِيَّ، وَقَدْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْمُعِزِّ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ، فَظَفِرَ بِهِ يُوسُفُ بُلُكِّينُ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِي أَصْحَابِهِ، فَسُرَّ الْمُعِزُّ بِذَلِكَ سُرُورًا عَظِيمًا لِأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ [أَنْ] يَسْتَخْلِفَ يُوسُفَ بُلُكِّينَ عَلَى الْغَرْبِ لِقُوَّتِهِ، وَكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ، وَكَانَ يَخَافُ أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَى الْبِلَادِ بَعْدَ مَسِيرِهِ عَنْهَا إِلَى مِصْرَ. فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَنَاتَةَ أَمِنَ تَغَلُّبَهُ عَلَى الْبِلَادِ. ثُمَّ إِنَّ جَعْفَرَ بْنَ عَلِيٍّ، صَاحِبَ مَدِينَةِ مَسِيلَةَ وَأَعْمَالِ الزَّابِ، كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زِيرِي مُحَاسَدَةٌ، فَلَمَّا كَثُرَ تَقَدُّمُ زِيرِي عِنْدَ الْمُعِزِّ سَاءَ ذَلِكَ جَعْفَرًا، فَفَارَقَ بِلَادَهُ وَلَحِقَ بِزَنَاتَةَ فَقَبِلُوهُ قَبُولًا عَظِيمًا، وَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ عَدَاوَةً لِزِيرِي، وَعَصَى عَلَى الْمُعِزِّ، فَسَارَ زِيرِي إِلَيْهِ

فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ صِنْهَاجَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَالْتَقَوْا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَكَبَا بِزِيرِي فَرَسُهُ (فَوَقَعَ) فَقُتِلَ، وَرَأَى جَعْفَرٌ مِنْ زَنَاتَةَ تَغَيُّرًا عَنْ طَاعَتِهِ، وَنَدَمًا عَلَى قَتْلِ زِيرِي، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ ابْنَهُ يُوسُفَ بُلُكِّينَ لَا يَتْرُكُ ثَأْرَ أَبِيهِ، وَلَا يَرْضَى بِمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ، وَالرَّأْيُ أَنْ نَتَحَصَّنَ بِالْجِبَالِ الْمَنِيعَةِ، وَالْأَوْعَارِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَحَمَلَ مَالَهُ وَأَهْلَهُ فِي الْمَرَاكِبِ، وَبَقِيَ هُوَ مَعَ الزَّنَاتِيِّينَ، وَأَمَرَ عَبِيدَهُ (فِي الْمَرَاكِبِ) أَنْ يَعْمَلُوا فِي الْمَرَاكِبِ فِتْنَةً، فَفَعَلُوا وَهُوَ يُشَاهِدُهُمْ مِنَ الْبَرِّ، فَقَالَ لِزَنَاتَةَ: أُرِيدُ [أَنْ] أَنْظُرَ مَا سَبَبُ هَذَا الشَّرِّ، فَصَعِدَ الْمَرْكَبَ، وَنَجَا مَعَهُمْ، وَسَارَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ إِلَى الْحَاكِمِ الْأُمَوِيِّ، فَأَكْرَمَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَنَدِمَتْ زَنَاتَةُ كَيْفَ لَمْ يَقْتُلُوهُ وَيَغْنَمُوا مَا مَعَهُ. ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ بُلُكِّينَ جَمَعَ فَأَكْثَرَ، وَقَصَدَ زَنَاتَةَ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَسَبَى نِسَاءَهُمْ، وَغَنِمَ أَوْلَادَهُمْ، وَأَمَرَ أَنْ تُجْعَلَ الْقُدُورُ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَيُطْبَخَ فِيهَا، وَلَمَّا سَمِعَ الْمُعِزُّ بِذَلِكَ سَرَّهُ أَيْضًا، وَزَادَ فِي أَقَطَاعِ بُلُكِّينَ الْمَسِيلَةَ وَأَعْمَالَهَا، وَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَنَذْكُرُ بَاقِيَ أَحْوَالِهِ بَعْدَ مُلْكِهِ إِفْرِيقِيَّةَ. ذِكْرُ الصُّلْحِ بَيْنَ الْأَمِيرِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحٍ وَبَيْنَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ وَعَضُدِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَمَّ الصُّلْحُ بَيْنَ الْأَمِيرِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحٍ السَّامَانِيِّ، صَاحِبِ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَبَيْنَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ وَابْنِهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ وَابْنُهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ، إِلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَتَزَوَّجَ نُوحٌ بِابْنَةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ مَا لَمْ يُحْمَلْ مِثْلُهُ، وَكُتِبَ بَيْنَهُمْ كِتَابٌ صَالِحٌ، وَشَهِدَ فِيهِ أَعْيَانُ خُرَاسَانَ، وَفَارِسَ، وَالْعِرَاقِ. وَكَانَ الَّذِي سَعَى فِي هَذَا الصُّلْحِ وَقَرَّرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سِيمْجُورَ، صَاحِبُ جُيُوشِ خُرَاسَانَ مِنْ جِهَةِ الْأَمِيرِ مَنْصُورٍ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرَ، انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ، وَلَهُ نُورٌ كَثِيرٌ، وَسُمِعَ لَهُ عِنْدَ انْقِضَاضِهِ صَوْتٌ كَالرَّعْدِ، وَبَقِيَ ضَوْءُهُ. وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا مَلَكَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ قَلْعَةَ مَارِدِينَ، سَلَّمَهَا إِلَيْهِ نَائِبُ أَخِيهِ حَمْدَانَ، فَأَخَذَ أَبُو تَغْلِبَ كُلَّ مَا كَانَ لِأَخِيهِ فِيهَا مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ وَأَثَاثٍ وَسِلَاحٍ، وَحَمَلَ الْجَمِيعَ إِلَى الْمَوْصِلِ.

ثم دخلت سنة اثنين وستين وثلاثمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.] 362 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ انْهِزَامِ الرُّومِ وَأَسْرِ الدُّمُسْتُقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقَعَتْ بَيْنَ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَبَيْنَ الدُّمُسْتُقِ بِنَاحِيَةِ مَيَّافَارِقِينَ. وَكَانَ سَبَبُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ غَزْوِ الدُّمُسْتُقِ بِلَادَ الْإِسْلَامِ، وَنَهْبِهِ دِيَارَ رَبِيعَةَ وَدِيَارَ بَكْرٍ، فَلَمَّا رَأَى الدُّمُسْتُقُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُ مِنْ مُرَادِهِ لَهُ قَوِيَ طَمَعُهُ عَلَى أَخْذِ آمِدَ إِلَيْهَا، وَبِهَا هَزَارْمَرْدُ غُلَامُ أَبِي الْهَيْجَاءِ بْنِ حَمْدَانَ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي تَغْلِبَ يَسْتَصْرِخُهُ وَيَسْتَنْجِدُهُ، وَيُعْلِمُهُ الْحَالَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ أَخَاهُ أَبَا الْقَاسِمِ هِبَةَ اللَّهِ بْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَاجْتَمَعَا عَلَى حَرْبِ الدُّمُسْتُقِ، وَسَارَا فَلَقِيَاهُ سَلْخَ رَمَضَانَ، وَكَانَ الدُّمُسْتُقُ فِي كَثْرَةٍ لَكِنْ لَقِيَاهُ فِي مَضِيقٍ لَا تَجُولُ فِيهِ الْخَيْلُ، وَالرُّومُ عَلَى غَيْرِ أُهْبَةٍ، فَانْهَزَمُوا، وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الدُّمُسْتُقَ أَسِيرًا، وَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا إِلَى أَنْ مَرِضَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَبَالَغَ أَبُو تَغْلِبَ فِي عِلَاجِهِ، وَاجْتَمَعَ الْأَطِبَّاءُ لَهُ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَمَاتَ. ذِكْرُ حَرِيقِ الْكَرْخِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ، احْتَرَقَ الْكَرْخُ حَرِيقًا عَظِيمًا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَعُونَةِ قَتَلَ عَامِّيًّا، فَثَارَ بِهِ الْعَامَّةُ وَالْأَتْرَاكُ، فَهَرَبَ وَدَخَلَ دَارَ بَعْضِ الْأَتْرَاكِ، فَأُخْرِجَ مِنْهَا مَسْحُوبًا، وَقُتِلَ وَأُحْرِقَ، وَفُتِحَتِ السُّجُونُ فَأُخْرِجَ (مَنْ فِيهَا، فَرَكِبَ) الْوَزِيرُ أَبُو الْفَضْلِ لِأَخْذِ الْجُنَاةِ، وَأَرْسَلَ حَاجِبًا لَهُ يُسَمَّى صَافِيًا فِي جَمْعٍ

لِقِتَالِ الْعَامَّةِ بِالْكَرْخِ، وَكَانَ شَدِيدَ الْعَصَبِيَّةِ لِلسُّنَّةِ، فَأَلْقَى النَّارَ فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ، فَاحْتَرَقَ حَرِيقًا عَظِيمًا، وَكَانَ عُدَّةُ مَنِ احْتَرَقَ فِيهِ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ إِنْسَانٍ، وَثَلَاثَمِائَةِ دُكَّانٍ، وَكَثِيرًا مِنَ الدُّورِ، وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ مَسْجِدًا،، وَمِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصَى. ذِكْرُ عَزْلِ أَبِي الْفَضْلِ مِنْ وِزَارَةِ عِزِّ الدَّوْلَةِ وَوِزَارَةِ ابْنِ بَقِيَّةَ وَفِيهَا أَيْضًا عُزِلُ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَضْلِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْحُسَيْنِ مِنْ وِزَارَةِ عِزِّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَاسْتُوزِرَ مُحَمَّدُ بْنُ بَقِيَّةَ، فَعَجِبَ النَّاسُ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ وَضِيعًا فِي نَفْسِهِ، وَأَهْلِ أَوَانَا، وَكَانَ أَبُوهُ أَحَدَ الزَّرَّاعِينَ، لَكِنَّهُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ بَخْتِيَارَ، وَكَانَ يَتَوَلَّى لَهُ الْمَطْبَخَ، وَيُقَدِّمُ إِلَيْهِ الطَّعَامَ وَمِنْدِيلُ الْخِوَانِ عَلَى كَتِفِهِ، إِلَى أَنِ اسْتُوزِرَ. وَحُبِسَ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَضْلِ، فَمَاتَ عَنْ قَرِيبٍ، فَقِيلَ إِنَّهُ مَاتَ مَسْمُومًا، وَكَانَ فِي وِلَايَتِهِ مُضَيِّعًا لِجَانِبِ اللَّهِ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَحْرَقَ الْكَرْخَ بِبَغْدَاذَ، فَهَلَكَ فِيهِ مِنَ النَّاسِ وَالْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصَى، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ ظَلَمَ الرَّعِيَّةَ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ لِيُفَرِّقَهَا عَلَى الْجُنْدِ لِيَسْلَمَ، فَمَا سَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا نَفَعَهُ ذَلِكَ، وَصَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ يَقُولُ: «مَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ» . وَكَانَ مَا فَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ أَبْلَغَ الطُّرُقِ الَّتِي سَلَكَهَا أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْوَقِيعَةِ فِيهِ، وَالسَّعْيِ بِهِ، وَتَمَشَّى لَهُمْ مَا أَرَادُوا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ تَفْرِيطِهِ فِي أَمْرِ دِينِهِ، وَظُلْمِ رَعِيَّتِهِ، وَعَقِبَ ذَلِكَ أَنَّ زَوْجَتَهُ مَاتَتْ وَهُوَ مَحْبُوسٌ وَحَاجِبَهُ وَكَاتِبَهُ، فَخَرِبَتْ دَارُهُ، وَعُفِيَ أَثَرُهَا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْأَقْدَارِ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَخْتِمَ بِخَيْرٍ أَعْمَالَنَا، فَإِنَّ الدُّنْيَا إِلَى زَوَالٍ مَا هِيَ. وَأَمَّا ابْنُ بَقِيَّةَ فَإِنَّهُ اسْتَقَامَتْ أُمُورُهُ، وَمَشَتِ الْأَمْوَالُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِمَا أَخَذَهُ مِنْ أَمْوَالِ أَبِي

الْفَضْلِ، وَأَمْوَالِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا فَنِيَ ذَلِكَ عَادَ إِلَى ظُلْمِ الرَّعِيَّةِ، فَانْتَشَرَتِ الْأُمُورُ عَلَى يَدِهِ، وَخَرِبَتِ النَّوَاحِي، وَظَهَرَ الْعَيَّارُونَ، وَعَمِلُوا مَا أَرَادُوا، وَزَادَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَبَيْنَ بَخْتِيَارَ، فَشَرَعَ ابْنُ بَقِيَّةَ فِي إِصْلَاحِ الْحَالِ مَعَ بَخْتِيَارَ وَسُبُكْتِكِينَ، فَاصْطَلَحُوا، وَكَانَتْ هُدْنَةً عَلَى دَخَنٍ وَرَكِبَ سُبُكْتِكِينُ إِلَى بَخْتِيَارَ وَمَعَهُ الْأَتْرَاكُ، فَاجْتَمَعَ بِهِ، ثُمَّ عَادَ الْحَالُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ دَيْلَمِيًّا اجْتَازَ بِدَارِ سُبُكْتِكِينَ وَهُوَ سَكْرَانُ، فَرَمَى الرَّوْشَنَ بِزُوبَيْنِ فِي يَدِهِ، فَأَثْبَتَهُ فِيهِ، وَأَحَسَّ بِهِ سُبُكْتِكِينُ، فَصَاحَ بِغِلْمَانِهِ فَأَخَذُوهُ، وَظَنَّ سُبُكْتِكِينُ أَنَّهُ قَدْ وُضِعَ عَلَى قَتْلِهِ، فَقَرَّرَهُ فَلَمْ يَعْتَرِفْ، وَأَنْفَذَهُ إِلَى بَخْتِيَارَ وَعَرَّفَهُ الْحَالَ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ، فَقَوِيَ ظَنُّ سُبُكْتِكِينَ أَنَّهُ كَانَ وَضْعُهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ لِئَلَّا يُفْشِيَ ذَلِكَ، وَتَحَرَّكَ الدَّيْلَمُ بِقَتْلِهِ، وَحَمَلُوا السِّلَاحَ، ثُمَّ أَرْضَاهُمْ بَخْتِيَارُ فَرَجَعُوا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، أَرْسَلَ عِزُّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارُ الشَّرِيفَ أَبَا أَحْمَدَ الْمُوسَوِيَّ، وَالِدَ الرَّضِيِّ وَالْمُرْتَضِي، فِي رِسَالَةٍ إِلَى أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ بِالْمَوْصِلِ، فَمَضَى إِلَيْهِ، وَعَادَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ الْمُخَرِّمِيُّ الصُّوفِيُّ صَاحِبُ الشِّبْلِيِّ بِمَكَّةَ.

ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 363 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ بَخْتِيَارَ عَلَى الْمَوْصِلِ وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَارَ بَخْتِيَارُ إِلَى الْمَوْصِلِ لِيَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا وَعَلَى أَعْمَالِهَا وَمَا بِيَدِ أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَسِيرِ حَمْدَانَ بْنِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى بَخْتِيَارَ، وَاسْتِجَارَتِهِمَا بِهِ، وَشَكْوَاهُمَا إِلَيْهِ مِنْ أَخِيهِمَا أَبِي تَغْلِبَ، فَوَعَدَهُمَا أَنْ يَنْصُرَهُمَا وَيُخَلِّصَ أَعْمَالَهُمَا وَأَمْوَالَهُمَا مِنْهُ، وَيَنْتَقِمَ لَهُمَا، وَاشْتَغَلَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْبَطِيحَةِ وَغَيْرِهَا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ جَمِيعِ أَشْغَالِهِ عَاوَدَ حَمْدَانُ وَإِبْرَاهِيمُ الْحَدِيثَ مَعَهُ، وَبَذَلَ لَهُ حَمْدَانُ مَالًا جَزِيلًا، وَصَغُرَ عِنْدَهُ أَمْرُ أَخِيهِ أَبِي تَغْلِبَ، وَطَلَبَ أَنْ يُضَمِّنَهُ بِلَادَهُ لِيَكُونَ فِي طَاعَتِهِ، وَيَحْمِلَ إِلَيْهِ الْأَمْوَالَ وَيُقِيمَ لَهُ الْخُطْبَةَ. ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ أَبَا الْفَضْلِ حَسَّنَ ذَلِكَ، وَأَشَارَ بِهِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْأَمْوَالَ تَكْثُرُ عَلَيْهِ فَتَمْشِي الْأُمُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ هَرَبَ مِنْ عِنْدِ بَخْتِيَارَ، وَعَادَ إِلَى أَخِيهِ أَبِي تَغْلِبَ، فَقَوِيَ عَزْمُ بَخْتِيَارَ عَلَى قَصْدِ الْمَوْصِلِ أَيْضًا، ثُمَّ عَزَلَ أَبَا الْفَضْلِ الْوَزِيرَ وَاسْتَوْزَرَ ابْنَ بَقِيَّةَ، فَكَاتَبَهُ أَبُو تَغْلِبَ، فَقَصَّرَ فِي خِطَابِهِ فَأَغْرَى بِهِ بَخْتِيَارُ، وَحَمَلَهُ عَلَى قَصْدِهِ، فَسَارَ عَنْ بَغْدَاذَ، وَوَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ تَاسِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَنَزَلَ بِالدَّيْرِ الْأَعْلَى. وَكَانَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ قَدْ سَارَ عَنِ الْمَوْصِلِ لَمَّا قَرُبَ مِنْهُ بَخْتِيَارُ، وَقَصَدَ سِنْجَارَ، وَكَسَرَ الْعَرُوبَ، وَأَخْلَى الْمَوْصِلَ مِنْ كُلِّ مِيرَةٍ، وَكَاتَبَ الدِّيوَانَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى سِنْجَارَ يَطْلُبُ بَغْدَاذَ، وَلَمْ يَعْرِضْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ سَوَادِهَا بَلْ كَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَشْتَرُونَ

الْأَشْيَاءَ بِأَوْفَى الْأَثْمَانِ. فَلَمَّا سَمِعَ بَخْتِيَارُ بِذَلِكَ أَعَادَ وَزِيرَهُ ابْنَ بَقِيَّةَ، وَالْحَاجِبَ سُبُكْتِكِينَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَمَّا ابْنُ بَقِيَّةَ فَدَخَلَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَمَّا سُبُكْتِكِينُ فَأَقَامَ بِحَرْبَى، وَكَانَ أَبُو تَغْلِبَ قَدْ قَارَبَ بَغْدَاذَ، فَثَارَ الْعَيَّارُونَ بِهَا، وَأَهْلُ الشَّرِّ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ، وَحَمَلَ أَهْلُ سُوقِ الطَّعَامِ، وَهُمْ مِنَ السُّنَّةِ، امْرَأَةً عَلَى جَمَلٍ وَسَمَّوْهَا عَائِشَةَ، وَسَمَّى بَعْضُهُمْ نَفْسَهُ طَلْحَةَ، وَبَعْضُهُمُ الزُّبَيْرُ، وَقَاتَلُوا (الْفِرْقَةَ الْأُخْرَى) ، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: نُقَاتِلُ أَصْحَابَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَأَمْثَالَ هَذَا الشَّرِّ. وَكَانَ الْجَانِبُ الشَّرْقِيُّ آمِنًا، وَالْجَانِبُ الْغَرْبِيُّ مَفْتُونًا، فَأُخِذَ جَمَاعَةٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْعَيَّارِينَ وَقُتِلُوا، فَسَكَنَ النَّاسُ بَعْضَ السُّكُونِ، وَأَمَّا أَبُو تَغْلِبَ لَمَّا بَلَغَهُ دُخُولُ ابْنِ بَقِيَّةَ بَغْدَاذَ، وَنُزُولُ سُبُكْتِكِينَ الْحَاجِبَ بِحَرْبَى، عَادَ عَنْ بَغْدَاذَ، وَنَزَلَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَجَرَى بَيْنَهُمَا مُطَارَدَةٌ يَسِيرَةٌ، ثُمَّ اتَّفَقَا فِي السِّرِّ عَلَى أَنْ يُظْهِرَا الِاخْتِلَافَ إِلَى أَنْ يَتَمَكَّنَا مِنَ الْقَبْضِ عَلَى الْخَلِيفِهِ وَالْوَزِيرِ وَوَالِدَةِ بَخْتِيَارَ وَأَهْلِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ انْتَقَلَ سُبُكْتِكِينُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَعَادَ أَبُو تَغْلِبَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَيَبْلُغُ مِنْ بَخْتِيَارَ مَا أَرَادَ وَيَمْلِكُ دَوْلَتَهُ. ثُمَّ إِنَّ سُبُكْتِكِينَ خَافَ سُوءَ الْأُحْدُوثَةِ، فَتَوَقَّفَ وَسَارَ الْوَزِيرُ ابْنُ بَقِيَّةَ إِلَى سُبُكْتِكِينَ، فَاجْتَمَعَ بِهِ، وَانْفَسَخَ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَتَرَاسَلُوا فِي الصُّلْحِ عَلَى أَنَّ أَبَا تَغْلِبَ يَضْمَنُ الْبِلَادَ عَلَى مَا كَانَتْ مَعَهُ، وَعَلَى أَنْ يُطْلِقَ لِبَخْتِيَارَ ثَلَاثَةَ آلَافِ كُرٍّ غَلَّةً عِوَضًا عَنْ مَئُونَةِ سَفَرِهِ، وَعَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَى أَخِيهِ حَمْدَانَ أَمْلَاكَهُ وَأَقْطَاعَهُ، إِلَّا مَارِدِينَ. وَلَمَّا اصْطَلَحُوا أَرْسَلُوا إِلَى بَخْتِيَارَ بِذَلِكَ لِيَرْحَلَ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَعَادَ أَبُو تَغْلِبَ إِلَيْهَا وَدَخَلَ سُبُكْتِكِينُ بَغْدَاذَ، وَأَسْلَمَ بَخْتِيَارُ. فَلَمَّا سَمِعَ بَخْتِيَارُ بِقُرْبِ أَبِي تَغْلِبَ مِنْهُ خَافَهُ لِأَنَّ عَسْكَرَهُ قَدْ عَادَ أَكْثَرُهُ مَعَ سُبُكْتِكِينَ، وَطَلَبَ الْوَزِيرُ ابْنُ بَقِيَّةَ مِنْ سُبُكْتِكِينَ أَنْ يَسِيرَ نَحْوَ بَخْتِيَارَ، فَتَثَاقَلَ، ثُمَّ فَكَّرَ فِي الْعَوَاقِبِ، فَسَارَ عَلَى مَضَضٍ، وَكَانَ أَظْهَرَ لِلنَّاسِ مَا كَانَ هَمَّ بِهِ. وَأَمَّا بَخْتِيَارُ فَإِنَّهُ جَمَعَ أَصْحَابَهُ وَهُوَ بِالدَّيْرِ الْأَعْلَى، وَنَزَلَ أَبُو تَغْلِبَ بِالْحَصْبَاءِ، (تَحْتَ

الْمَوْصِلِ) ، وَبَيْنَهُمَا عُرْضُ الْبَلَدِ، وَتَعَصَّبَ أَهْلُ الْمَوْصِلِ لِأَبِي تَغْلِبَ، وَأَظْهَرُوا مَحَبَّتَهُ لِمَا نَالَهُمْ مِنْ بَخْتِيَارَ مِنَ الْمُصَادَرَاتِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَدَخَلَ النَّاسُ بَيْنَهُمَا فِي الصُّلْحِ، فَطَلَبَ أَبُو تَغْلِبَ مِنْ بَخْتِيَارَ أَنْ يُلَقَّبَ لَقَبًا سُلْطَانِيًّا، وَأَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ زَوْجَتَهُ ابْنَةَ بَخْتِيَارَ، وَأَنْ يَحُطَّ عَنْهُ الْقَرَارَ. فَأَجَابَهُ بَخْتِيَارُ خَوْفًا مِنْهُ، وَتَحَالَفَا، وَسَارَ بَخْتِيَارُ عَنِ الْمَوْصِلِ عَائِدًا إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَظْهَرَ أَهْلُ الْمَوْصِلِ السُّرُورَ بِرَحِيلِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسَاءَ مَعَهُمُ السِّيرَةَ وَظَلَمَهُمْ. فَلَمَّا وَصَلَ بَخْتِيَارُ إِلَى الْكُحَيْلِ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا تَغْلِبَ قَدْ قَتَلَ قَوْمًا كَانُوا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَدِ اسْتَأْمَنُوا إِلَى بَخْتِيَارَ، فَعَادُوا إِلَى الْمَوْصِلِ لِيَأْخُذُوا مَا لَهُمْ بِهَا مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ فَقَتَلَهُمْ. فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ اشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَأَقَامَ بِمَكَانِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْوَزِيرِ أَبِي طَاهِرِ بْنِ بَقِيَّةَ وَالْحَاجِبِ سُبُكْتِكِينَ يَأْمُرُهُمَا بِالْإِصْعَادِ إِلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمَا يَأْمُرُهُمَا بِالتَّوَقُّفِ، وَيَقُولُ لَهُمَا إِنَّ الصُّلْحَ قَدِ اسْتَقَرَّ، فَلَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهَا يَطْلُبُهَا أُصْعِدَا إِلَيْهِ فِي الْعَسَاكِرِ، فَعَادُوا جَمِيعُهُمْ، (إِلَى الْمَوْصِلِ) ، وَنَزَلُوا بِالدَّيْرِ الْأَعْلَى أَوَاخِرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَفَارَقَهَا أَبُو تَغْلِبَ إِلَى تَلِّ يَعْفُرَ، وَعَزَمَ عِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى قَصْدِهِ وَطَلَبِهِ أَيْنَ سَلَكَ، فَأَرْسَلَ أَبُو تَغْلِبَ كَاتِبَهُ وَصَاحِبَهُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي عَمْرٍو إِلَى عِزِّ الدَّوْلَةِ، فَاعْتَقَلَهُ، وَاعْتَقَلَ مَعَهُ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ عُرْسٍ، وَأَبَا أَحْمَدَ بْنَ حَوْقَلٍ. وَمَا زَالَتِ الْمُرَاسَلَاتُ بَيْنَهُمَا، وَحَلَفَ أَبُو تَغْلِبَ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِقَتْلِ أُولَئِكَ، فَعَادَ الصُّلْحُ وَاسْتَقَرَّ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ مَا اسْتَقَرَّ مِنَ الْمَالِ، فَأَرْسَلَ عِزُّ الدَّوْلَةِ الشَّرِيفَ أَبَا أَحْمَدَ الْمُوسَوِيَّ، وَالْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَحَلَّفَا أَبَا تَغْلِبَ، وَتَجَدَّدَ الصُّلْحُ، وَانْحَدَرَ عِزُّ الدَّوْلَةِ عَنِ الْمَوْصِلِ سَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَعَادَ أَبُو تَغْلِبَ إِلَى بَلَدِهِ. وَلَمَّا عَادَ بَخْتِيَارُ عَنِ الْمَوْصِلِ جَهَّزَ ابْنَتَهُ وَسَيَّرَهَا إِلَى أَبِي تَغْلِبَ، وَبَقِيَتْ مَعَهُ إِلَى أَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ خَبَرٌ.

ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ بَخْتِيَارَ وَأَصْحَابِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ابْتَدَأَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَالدَّيْلَمِ بِالْأَهْوَازِ، فَعَمَّتِ الْعِرَاقَ جَمِيعَهُ، وَاشْتَدَّتْ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عِزَّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ قَلَّتْ عَنْهُ الْأَمْوَالُ، وَكَثُرَ إِدْلَالُ جُنْدِهِ، وَاطِّرَاحُهُمْ لِجَانِبِهِ، وَشَغَبُهُمْ، فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْقَرَارُ، وَلَمْ يَجِدْ دِيوَانُهُ وَوَزِيرُهُ جِهَةً يَحْتَالُ مِنْهَا بِشَيْءٍ، وَتَوَجَّهُوا إِلَى الْمَوْصِلِ لِهَذَا السَّبَبِ، فَلَمْ يَنْفَتِحْ عَلَيْهِمْ، فَرَأَوْا أَنْ يَتَوَجَّهُوا إِلَى الْأَهْوَازِ، وَيَتَعَرَّضُوا لِبُخْتِكِينَ آزَادْرَوَيْهِ وَكَانَ مُتَوَلِّيَهَا، وَيَعْمَلُوا لَهُ حُجَّةً يَأْخُذُونَ مِنْهُ مَالًا وَمِنْ غَيْرِهِ، فَسَارَ بَخْتِيَارُ وَعَسْكَرُهُ، وَتَخَلَّفَ عَنْهُ سُبُكْتِكِينُ التُّرْكِيُّ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْأَهْوَازِ خَدَمَ بَخْتِيَارَ وَحَمَلَ لَهُ أَمْوَالًا جَلِيلَةَ الْمِقْدَارِ، وَبَذَلَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ الطَّاعَةَ، وَبَخْتِيَارُ يُفَكِّرُ فِي طَرِيقٍ يَأْخُذُهُ بِهِ. فَاتَّفَقَ أَنَّهُ جَرَى فِتْنَةٌ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَالدَّيْلَمِ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ بَعْضَ الدَّيْلَمِ نَزَلَ دَارًا بِالْأَهْوَازَ، وَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْهُ بَعْضُ الْأَتْرَاكِ، وَكَانَ هُنَاكَ لَبِنٌ مَوْضُوعٌ فَأَرَادَ غُلَامُ الدَّيْلَمِيِّ [أَنْ] يَبْنِيَ مِنْهُ مَعْلِفًا لِلدَّوَابِّ، فَمَنَعَهُ غُلَامُ التُّرْكِيِّ، فَتَضَارَبَا، وَخَرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ التُّرْكِيِّ وَالدَّيْلَمِيِّ إِلَى نُصْرَةِ غُلَامِهِ، فَضَعُفَ التُّرْكِيُّ عَنْهُ، فَرَكِبَ، وَاسْتَنْصَرَ بِالْأَتْرَاكِ، فَرَكِبُوا الدَّيْلَمَ، وَأَخَذُوا السِّلَاحَ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ بَعْضُ قُوَّادِ الْأَتْرَاكِ، وَطَلَبَ الْأَتْرَاكُ بِثَأْرِ صَاحِبِهِمْ، وَقَتَلُوا بِهِ مِنَ الدَّيْلَمِ قَائِدًا أَيْضًا، وَخَرَجُوا إِلَى الْبَلَدِ. وَاجْتَهَدَ فِي تَسْكِينِ الْفِتْنَةِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، فَاسْتَشَارَ الدَّيْلَمَ فِيمَا يَفْعَلُهُ، كَانَ أُذُنًا يَتْبَعُ كُلَّ قَائِلٍ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِقَبْضِ رُؤَسَاءِ الْأَتْرَاكِ لِتَصْفُوَ لَهُ الْبِلَادُ، فَأَحْضَرُوا آزَادْرَوَيْهِ وَكَاتِبَهُ سَهْلَ بْنَ بِشْرٍ، وَسَبَاشَى الْخُوَارَزْمِيَّ بَكْتِيجُورَ، وَكَانَ حَمًا لِسُبُكْتِكِينَ، فَحَضَرُوا، فَاعْتَقَلَهُمْ وَقَيَّدَهُمْ، وَأَطْلَقَ الدَّيْلَمَ فِي الْأَتْرَاكِ، فَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ

وَدَوَابَّهُمْ وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى، وَهَرَبَ الْأَتْرَاكُ، وَاسْتَوْلَى بَخْتِيَارُ عَلَى أَقْطَاعِ سُبُكْتِكِينَ فَأَخَذَهُ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ بِالْبَصْرَةِ بِإِبَاحَةِ دَمِ الْأَتْرَاكِ. ذِكْرُ حِيلَةٍ لِبَخْتِيَارَ عَادَتْ عَلَيْهِ كَانَ بَخْتِيَارُ قَدْ وَاطَأَ وَالِدَتَهُ وَإِخْوَتَهُ أَنَّهُ إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِمْ بِالْقَبْضِ عَلَى الْأَتْرَاكِ يُظْهِرُونَ أَنَّ بَخْتِيَارَ قَدْ مَاتَ، وَيَجْلِسُونَ لِلْعَزَاءِ، فَإِذَا حَضَرَ سُبُكْتِكِينُ عِنْدَهُمْ قَبَضُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَبَضَ بَخْتِيَارُ عَلَى الْأَتْرَاكِ كَتَبَ إِلَيْهِمْ عَلَى أَجْنِحَةِ الطُّيُورِ يُعَرِّفُهُمْ بِذَلِكَ، فَلَمَّا وَقَفُوا عَلَى الْكُتُبِ وَقَعَ الصُّرَاخُ فِي دَارِهِ، وَأَشَاعُوا مَوْتَهُ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ سُبُكْتِكِينَ يَحْضُرُ عِنْدَهُمْ سَاعَةَ يَبْلُغُهُ الْخَبَرُ، فَلَمَّا سَمِعَ الصُّرَاخَ أَرْسَلَ يَسْأَلُ عَنِ الْخَبَرِ، فَأَعْلَمُوهُ، فَأَرْسَلَ يَسْأَلُ عَنِ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ، وَكَيْفَ أَتَاهُمُ الْخَبَرُ، فَلَمْ يَجِدْ نَقْلًا يَثِقُ الْقَلْبُ بِهِ، فَارْتَابَ بِذَلِكَ. ثُمَّ وَصَلَهُ رُسُلُهُ الْأَتْرَاكُ بِمَا جَرَى، فَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَكِيدَةً عَلَيْهِ، وَدَعَاهُ الْأَتْرَاكُ إِلَى أَنْ يَتَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ، فَتَوَقَّفَ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ يُعْلِمُهُ أَنَّ الْحَالَ قَدِ انْفَسَدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ، فَلَا يُرْجَى صَلَاحُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَرَى الْعُدُولَ عَنْ طَاعَةِ مَوَالِيهِ وَإِنْ أَسَاءُوا إِلَيْهِ، يَدْعُوهُ إِلَى أَنْ يَعْقِدَ الْأَمْرَ لَهُ. فَعَرَضَ قَوْلَهُ عَلَى وَالِدَتِهِ، فَمَنَعَتْهُ. فَلَمَّا رَأَى سُبُكْتِكِينُ ذَلِكَ رَكِبَ فِي الْأَتْرَاكِ، وَحَصَرَ دَارَ بَخْتِيَارَ (يَوْمَيْنِ، ثُمَّ أَحْرَقَهَا وَدَخَلَهَا) ، وَأَخَذَ أَبَا إِسْحَاقَ وَأَبَا طَاهِرٍ ابْنَيْ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَوَالِدَتَهُمَا وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنَ الِانْحِدَارِ إِلَى وَاسِطَ، فَفَعَلَ، وَانْحَدَرُوا، وَانْحَدَرَ مَعَهُمُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ فِي الْمَاءِ، فَأَنْفَذَ سُبُكْتِكِينُ فَأَعَادَهُ وَرَدَّهُ إِلَى دَارِهِ وَذَلِكَ تَاسِعُ ذِي الْقَعْدَةِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى مَا كَانَ لِبَخْتِيَارَ جَمِيعِهِ بِبَغْدَاذَ، وَنَزَلَ الْأَتْرَاكُ فِي دُورِ الدَّيْلَمِ، وَتَتَبَّعُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَخَذُوهَا، وَثَارَتِ الْعَامَّةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَنْصُرُونَ سُبُكْتِكِينُ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَسَنَّنُ، فَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ لَهُمُ الْعُرَفَاءَ وَالْقُوَّادَ، فَثَارُوا بِالشِّيعَةِ وَحَارَبُوا (وَسُفِكَتْ بَيْنَهُمُ) الدِّمَاءُ، وَأُحْرِقَتِ

الْكَرْخُ حَرِيقًا ثَانِيًا، وَظَهَرَتِ السُّنَّةُ عَلَيْهِمْ. ذِكْرُ خَلْعِ الْمُطِيعِ وَخِلَافَةِ الطَّائِعِ لِلَّهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، مُنْتَصَفَ ذِي الْقَعْدَةِ، خُلِعَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ، وَكَانَ بِهِ مَرَضُ الْفَالِجِ، وَقَدْ ثَقُلَ لِسَانُهُ، وَتَعَذَّرَتِ الْحَرَكَةُ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَسْتَرُ ذَلِكَ، فَانْكَشَفَ حَالُهُ لِسُبُكْتِكِينَ هَذِهِ الدَّفْعَةَ، فَدَعَاهُ إِلَى أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ وَيُسَلِّمَهَا إِلَى وَالِدِهِ الطَّائِعِ لِلَّهِ، وَاسْمُهُ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الْكَرِيمِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْخَلْعِ ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ. وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ غَيْرَ أَيَّامٍ، وَبُويِعَ لِلطَّائِعِ لِلَّهِ بِالْخِلَافَةِ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ وَالْقَرَامِطَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْقَرَامِطَةُ، وَمُقَدَّمُهُمُ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، مِنَ الْأَحْسَاءِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ فَحَصَرَهَا، وَلَمَّا سَمِعَ الْمُعِزُّ لِدِينِ اللَّهِ صَاحِبُ مِصْرَ بِأَنَّهُ يُرِيدُ قَصْدَ مِصْرَ كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا يَذْكُرُ فِيهِ فَضْلَ نَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَأَنَّ الدَّعْوَةَ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ الْقَرَامِطَةَ إِنَّمَا كَانَتْ دَعْوَتُهُمْ إِلَيْهِ، وَإِلَى آبَائِهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَوَعَظَهُ وَبَالَغَ، وَتَهَدَّدَهُ، وَسَيَّرَ الْكِتَابَ إِلَيْهِ. فَكَتَبَ جَوَابَهُ: وَصَلَ كِتَابُكَ الَّذِي قَلَّ تَحْصِيلُهُ وَكَثُرَ تَفْضِيلُهُ، وَنَحْنُ سَائِرُونَ إِلَيْكَ عَلَى أَثَرِهِ، وَالسَّلَامُ. وَسَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مِصْرَ، فَنَزَلَ عَلَى عَيْنِ شَمْسٍ بِعَسْكَرِهِ، وَأَنْشَبَ الْقِتَالَ، وَبَثَّ

السَّرَايَا فِي الْبِلَادِ يَنْهَبُونَهَا فَكَثُرَتْ جُمُوعُهُ، وَأَتَاهُ مِنَ الْعَرَبِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ مِمَّنْ أَتَاهُ حَسَّانُ بْنُ الْجَرَّاحِ الطَّائِيُّ، أَمِيرُ الْعَرَبِ بِالشَّامِ، وَمَعَهُ جَمْعٌ عَظِيمٌ. فَلَمَّا رَأَى الْمُعِزُّ كَثْرَةَ جُمُوعِهِ اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَأَهَمَّهُ، وَتَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ، وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى إِخْرَاجِ عَسْكَرِهِ لِقِتَالِهِ، فَاسْتَشَارَ أَهْلَ الرَّأْيِ مِنْ نُصَحَائِهِ، فَقَالُوا: لَيْسَ حِيلَةٌ غَيْرَ السَّعْيِ فِي تَفْرِيقِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِلْقَاءِ الْخُلْفِ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِابْنِ الْجَرَّاحِ، فَرَاسَلَهُ الْمُعِزُّ وَاسْتَمَالَهُ، وَبَذَلَ لَهُ مِائَةَ أَلْفَ دِينَارٍ إِنْ هُوَ خَالَفَ عَلَى الْقَرْمَطِيِّ، فَأَجَابَهُ ابْنُ الْجَرَّاحِ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ، فَاسْتَحْلَفُوهُ، فَحَلَفَ أَنَّهُ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْمَالُ الْمُقَرَّرُ انْهَزَمَ بِالنَّاسِ. فَأَحْضَرُوا الْمَالَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ اسْتَكْثَرُوهُ، فَضَرَبُوا أَكْثَرَهَا دَنَانِيرَ مِنْ صَفَرَ، وَأَلْبَسُوهَا الذَّهَبَ، وَجَعَلُوهَا فِي أَسْفَلِ الْأَكْيَاسِ، وَجَعَلُوا الذَّهَبَ الْخَاصَّ عَلَى رُءُوسِهَا، وَحُمِلَ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمُعِزِّ أَنْ يَخْرُجَ فِي عَسْكَرِهِ يَوْمَ كَذَا وَيُقَاتِلُوهُ وَهُوَ فِي الْجِهَةِ الْفُلَانِيَّةِ فَإِنَّهُ يَنْهَزِمُ، فَفَعَلَ الْمُعِزُّ ذَلِكَ فَانْهَزَمَ وَتَبِعَهُ الْعَرَبُ كَافَّةً، فَلَمَّا رَآهُ الْحَسَنُ الْقَرْمَطِيُّ مُنْهَزِمًا تَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ، وَثَبَتَ، وَقَاتَلَ بِعَسْكَرِهِ إِلَّا أَنَّ عَسْكَرَ الْمُعِزِّ طَمِعُوا فِيهِ وَتَابَعُوا الْحَمَلَاتِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَرْهَقُوهُ، فَوَلَّى مُنْهَزِمًا، وَاتَّبَعُوا أَثَرَهُ، وَظَفِرُوا بِمُعَسْكَرِهِ فَأَخَذُوا مَنْ فِيهِ أَسْرَى، وَكَانُوا نَحْوَ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ أَسِيرٍ، فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ، وَنُهِبَ مَا فِي الْمُعَسْكَرِ. وَجُرِّدَ الْمُعِزُّ الْقَائِدُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ فِي عَشَرَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَأَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ الْقَرَامِطَةِ بِهِمْ، فَاتَّبَعَهُمْ، وَتَثَاقَلَ فِي سَيْرِهِ خَوْفًا أَنْ تَرْجِعَ الْقَرَامِطَةُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا هُمْ فَإِنَّهُمْ سَارُوا حَتَّى نَزَلُوا أَذْرِعَاتٍ، وَسَارُوا مِنْهُمْ إِلَى بَلَدِهِمُ الْأَحْسَاءِ، وَيُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَعُودُونَ.

ذِكْرُ مُلْكِ الْمُعِزِّ دِمَشْقَ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْفِتَنِ لَمَّا بَلَغَ الْمُعِزَّ انْهَزَامُ الْقَرْمَطِيِّ مِنَ الشَّامِ، وَعَوْدُهُ إِلَى بِلَادِهِ، أَرْسَلَ الْقَائِدَ ظَالِمَ بْنَ مَوْهِبٍ الْعُقَيْلِيَّ وَالِيًا عَلَى دِمَشْقَ، فَدَخَلَهَا، وَعَظُمَ حَالُهُ، وَكَثُرَتْ جُمُوعُهُ وَأَمْوَالُهُ وَعُدَّتُهُ، لِأَنَّ أَبَا الْمُنَجَّى وَابْنَهُ صَاحِبَيِ الْقَرْمَطِيِّ كَانَا بِدِمَشْقَ، وَمَعَهُمَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، فَأَخْذَهُمْ ظَالِمٌ وَحَبَسَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَجَمِيعَ مَا يَمْلِكُونَ. ثُمَّ إِنَّ الْقَائِدَ أَبَا مَحْمُودٍ الَّذِي سَيَّرَهُ الْمُعِزُّ يَتْبَعُ الْقَرَامِطَةَ وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ بَعْدَ وُصُولِ ظَالِمٍ إِلَيْهَا بِأَيَّامٍ قَلِيلَةٍ، فَخَرَجَ ظَالِمٌ مُتَلَقِّيًا لَهُ مَسْرُورًا بِقُدُومِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَشْعِرًا مِنْ عَوْدِ الْقَرْمَطِيِّ إِلَيْهِ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَنْزِلَ بِعَسْكَرِهِ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ، فَفَعَلَ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ أَبَا الْمُنَجَّى وَابْنَهُ وَرَجُلًا آخَرَ يُعْرَفُ بِالنَّابُلُسِيِّ، وَكَانَ هَرَبَ مِنَ الرَّمْلَةِ، وَتَقَرَّبَ إِلَى الْقَرْمَطِيِّ، فَأُسِرَ بِدِمَشْقَ أَيْضًا، فَحَمَلَهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ إِلَى مِصْرَ، فَسُجِنَ أَبُو الْمُنَجَّى وَابْنُهُ، وَقِيلَ لِلنَّابُلُسِيِّ: أَنْتَ الَّذِي قُلْتَ: لَوْ أَنَّ مَعِي عَشَرَةَ أَسْهُمٍ لَرَمَيْتُ تِسْعَةً فِي الْمَغَارِبَةِ وَوَاحِدًا فِي الرُّومِ؟ فَاعْتَرَفَ، فَسُلِخَ جِلْدُهُ وَحُشِيَ تِبْنًا وَصُلِبَ. وَلَمَّا نَزَلَ أَبُو مَحْمُودٍ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ امْتَدَّتْ أَيْدِي أَصْحَابِهِ بِالْعَيْثِ وَالْفَسَادِ، وَقَطْعِ الطُّرُقِ، فَاضْطَرَبَ النَّاسُ وَخَافُوا، ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ الشُّرْطَةِ أَخَذَ إِنْسَانًا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ فَقَتَلَهُ، فَثَارَ بِهِ الْغَوْغَاءُ وَالْأَحْدَاثُ، وَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ، وَأَقَامَ ظَالِمٌ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ يُدَارِيهِمْ، وَانْتَزَحَ أَهْلُ الْقُرَى مِنْهَا لِشِدَّةِ نَهْبِ الْمَغَارِبَةِ أَمْوَالَهُمْ، وَظُلْمِهِمْ لَهُمْ. وَدَخَلُوا الْبَلَدَ، فَلَمَّا كَانَ نِصْفُ شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ عَسْكَرِ أَبِي مَحْمُودٍ وَبَيْنَ الْعَامَّةِ، وَجَرَى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ قِتَالٌ شَدِيدٌ، وَظَالِمٌ مَعَ الْعَامَّةِ يُظْهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْإِصْلَاحَ، وَلَمْ يُكَاشِفْ أَبَا مَحْمُودٍ، وَانْفَصَلُوا. ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ أَبِي مَحْمُودٍ أَخَذُوا مِنَ الْغُوطَةِ قُفْلًا مِنْ حُورَانَ، وَقَتَلُوا مِنْهُ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ، فَأَخَذَهُمْ أَهْلُوهُمْ وَأَلْقَوْهُمْ فِي الْجَامِعِ، فَأُغْلِقَتِ الْأَسْوَاقُ، وَخَافَ النَّاسُ، وَأَرَادُوا الْقِتَالَ، فَسَكَّنَهُمْ عُقَلَاؤُهُمْ.

ثُمَّ إِنَّ الْمَغَارِبَةَ أَرَادُوا نَهْبَ قَيْنِيَةَ وَاللُّؤْلُؤَةَ، فَوَقَعَ الصَّائِحُ فِي أَهْلِ الْبَلَدِ، فَنَفَرُوا، وَقَاتَلُوا الْمَغَارِبَةَ فِي السَّابِعَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَرَكِبَ أَبُو مَحْمُودٍ فِي جُمُوعِهِ وَزَحَفَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَوِيَ الْمَغَارِبَةُ، وَانْهَزَمَ الْعَامَّةُ إِلَى سُورِ الْبَلَدِ، فَصَبَرُوا عِنْدَهُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُمْ، وَكَثُرَ النَّشَّابُ عَلَى الْمَغَارِبَةِ فَأَثْخَنَ فِيهِمْ، فَعَادُوا، فَتَبِعَهُمُ الْعَامَّةُ، فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى الْعَوْدَةِ، فَعَادُوا، وَحَمَلُوا عَلَى الْعَامَّةِ فَانْهَزَمُوا، وَتَبِعُوهُمْ إِلَى الْبَلَدِ، وَخَرَجَ ظَالِمٌ مِنْ دَارِ الْإِمَارَةِ. وَأَلْقَى الْمَغَارِبَةُ النَّارَ فِي الْبَلَدِ مِنْ نَاحِيَةِ بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَأَحْرَقُوا تِلْكَ النَّاحِيَةَ فَأَخَذَتِ النَّارُ إِلَى الْقِبْلَةِ فَأَحْرَقَتْ مِنَ الْبَلَدِ كَثِيرًا، وَهَلَكَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَمَا لَا يُحَدُّ مِنَ الْأَثَاثِ وَالرِّحَالِ وَالْأَمْوَالِ، وَبَاتَ النَّاسُ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُمُ اصْطَلَحُوا هُمْ وَأَبُو مَحْمُودٍ، ثُمَّ انْتَقَضُوا، وَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ إِلَى رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ وِلَايَةِ جَيْشِ بْنِ الصَّمْصَامَةِ دِمَشْقَ ثُمَّ عَادَتِ الْفِتْنَةُ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتَرَدَّدُوا فِي الصُّلْحِ، فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَ الْقَائِدِ أَبِي مَحْمُودٍ وَالدِّمَشْقِيِّينَ عَلَى إِخْرَاجِ ظَالِمٍ مِنَ الْبَلَدِ، وَأَنْ يَلِيَهُ جَيْشُ بْنُ الصَّمْصَامَةِ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ أَبِي مَحْمُودٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَخَرَجَ ظَالِمٌ مِنَ الْبَلَدِ، وَوَلِيَهُ جَيْشُ بْنُ الصَّمْصَامَةِ، وَسَكَنَتِ الْفِتْنَهُ وَاطْمَأَنَّ النَّاسُ. ثُمَّ إِنَّ الْمَغَارِبَةَ بَعْدَ أَيَّامٍ عَاثُوا وَأَفْسَدُوا بَابَ الْفَرَادِيسِ، فَثَارَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ وَقَاتَلُوهُمْ، وَقَتَلُوا مَنْ لَحِقُوهُ، وَصَارُوا إِلَى الْقَصْرِ الَّذِي فِيهِ جَيْشٌ، فَهَرَبَ مِنْهُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنْدِ الْمَغَارِبَةِ، وَلَحِقَ بِالْعَسْكَرِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، وَهُوَ أَوَّلُ جُمَادَى الْأُولَى مِنَ السَّنَةِ، زَحَفَ جَيْشٌ فِي الْعَسْكَرِ إِلَى الْبَلَدِ، وَقَاتَلَهُ أَهْلُهُ، فَظَفِرَ بِهِمْ وَهَزَمَهُمْ، وَأَحْرَقَ مِنَ الْبَلَدِ مَا كَانَ سَلِمَ، وَدَامَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ أَيَّامًا كَثِيرَةً فَاضْطَرَبَ النَّاسُ وَخَافُوا، وَخَرِبَتِ الْمَنَازِلُ، وَانْقَطَعَتِ الْمَوَادُّ، وَانْسَدَّتِ الْمَسَالِكُ، وَبَطَلَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، وَقُطِعَ الْمَاءُ عَنِ

الْبَلَدِ، فَبَطَلَتِ الْقَنَوَاتُ وَالْحَمَّامَاتُ، وَمَاتَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ عَلَى الطُّرُقَاتِ مِنَ الْجُوعِ وَالْبَرْدِ، فَأَتَاهُمُ الْفَرَجُ بِعَزْلِ أَبِي مَحْمُودٍ. ذِكْرُ وِلَايَةِ رَيَّانَ الْخَادِمِ دِمَشْقَ لَمَّا كَانَ بِدِمَشْقَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقِتَالِ، وَالتَّحْرِيقِ، وَالتَّخْرِيبِ، وَصَلَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَى الْمُعِزِّ صَاحِبِ مِصْرَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَاسْتَبْشَعَهُ وَاسْتَعْظَمَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْقَائِدِ رَيَّانَ الْخَادِمِ، وَالِي طَرَابُلُسَ، وَيَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى دِمَشْقَ لِمُشَاهَدَةِ حَالِهَا وَكَشْفِ أُمُورِ أَهْلِهَا، (وَتَعْرِيفِهِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ) ، وَأَنْ يَصْرِفَ الْقَائِدَ أَبَا مَحْمُودٍ عَنْهَا، فَامْتَثَلَ رَيَّانُ ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَشَفَ الْأَمْرُ فِيهَا وَكَتَبَ بِهِ إِلَى الْمُعِزِّ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْقَائِدِ أَبِي مَحْمُودٍ بِالِانْصِرَافِ عَنْهَا، فَسَارَ فِي جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى الرَّمْلَةِ، وَبَقِيَ الْأَكْثَرُ مِنْهُمْ مَعَ رَيَّانَ. وَبَقِيَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ وَلِيَ الْفَتْكِينُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ حَالِ بَخْتِيَارَ بَعْدَ قَبْضِ الْأَتْرَاكِ لَمَّا فَعَلَ بَخْتِيَارُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْضِ الْأَتْرَاكِ ظَفِرَ بِذَخِيرَةٍ لِآزَادْرَوَيْهِ بِجَنْدِيسَابُورَ، فَأَخَذَهَا، ثُمَّ رَأَى مَا فَعَلَهُ الْأَتْرَاكُ مَعَ سُبُكْتِكِينَ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ بِسَوَادِ الْأَهْوَازِ قَدْ عَصَوْا عَلَيْهِ، وَاضْطَرَبَ عَلَيْهِ غِلْمَانُهُ الَّذِينَ فِي دَارِهِ، وَأَتَاهُ مَشَايِخُ الْأَتْرَاكِ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَعَاتَبُوهُ عَلَى مَا فَعَلَ بِهِمْ، وَقَالَ لَهُ عُقَلَاءُ الدَّيْلَمِ: لَا بُدَّ لَنَا فِي الْحَرْبِ مِنَ الْأَتْرَاكِ يَدْفَعُونَ عَنَّا بِالنُّشَّابِ، فَاضْطَرَبَ رَأْيُ بَخْتِيَارَ، ثُمَّ أَطْلَقَ آزَادْرَوَيْهِ، وَجَعَلَهُ صَاحِبَ الْجَيْشِ مَوْضِعَ سُبُكْتِكِينَ، وَظَنَّ أَنَّ الْأَتْرَاكَ يَأْنَسُونَ بِهِ، وَأَطْلَقَ الْمُعْتَقَلِينَ وَسَارَ إِلَى وَالِدَتِهِ وَإِخْوَتِهِ بِوَاسِطَ، وَكَتَبَ إِلَى عَمِّهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ وَإِلَى ابْنِ عَمِّهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ يَسْأَلُهُمَا أَنْ يُنْجِدَاهُ، وَيَكْشِفَا مَا نَزَلَ بِهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُسَاعِدَهُ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَسْقَطَ عَنْهُ الْمَالَ الَّذِي عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ بِالْبَطِيحَةِ خِلَعًا وَأَسْقَطَ عَنْهُ بَاقِيَ الْمَالِ الَّذِي اصْطَلَحَا عَلَيْهِ وَخَطَبَ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُسَيِّرَ إِلَيْهِ عَسْكَرًا.

فَأَمَّا رُكْنُ الدَّوْلَةِ عَمُّهُ فَإِنَّهُ جَهَّزَ عَسْكَرًا مَعَ وَزِيرِهِ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ الْعَمِيدِ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ يَأْمُرُ بِالْمَسِيرِ إِلَى عَمِّهِ وَالِاجْتِمَاعِ مَعَ ابْنِ الْعَمِيدِ. وَأَمَّا عَضُدُ الدَّوْلَةِ فَإِنَّهُ وَعَدَ بِالْمَسِيرِ، وَانْتَظَرَ بِبَخْتِيَارَ الدَّوَائِرَ طَمَعًا فِي مُلْكِ الْعِرَاقِ. وَأَمَّا عِمْرَانُ بْنُ شَاهِينَ فَإِنَّهُ قَالَ: أَمَّا إِسْقَاطُ الْمَالِ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَقَدْ قَبِلْتُهُ، وَأَمَّا الْوَصْلَةُ فَإِنَّنِي لَا أَتَزَوَّجُ أَحَدًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ مِنْ عِنْدِي، وَقَدْ خَطَبَ إِلَيَّ الْعَلَوِيُّونَ، وَهُمْ مَوَالِينَا، فَمَا أَجَبْتُهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا الْخِلَعُ وَالْفَرسُ فَإِنَّنِي لَسْتُ مِمَّنْ يَلْبَسُ مَلْبُوسَكُمْ، وَقَدْ (قَبِلَهَا ابْنِي) ، وَأَمَّا إِنْقَاذُ عَسْكَرٍ فَإِنَّ رِجَالِي لَا يَسْكُنُونَ إِلَيْكُمْ لِكَثْرَةِ مَا قَتَلُوا مِنْكُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا عَامَلَهُ بِهِ هُوَ وَأَبُوهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَالَ: وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ بَيْتِي مُسْتَجِيرًا بِي، وَاللَّهِ وَلَأُعَامِلَنَّهُ بِضِدِّ مَا عَامَلَنِي بِهِ هُوَ وَأَبُوهُ، فَكَانَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ فَإِنَّهُ أَجَابَ إِلَى الْمُسَارَعَةِ، وَأَنْفَذَ أَخَاهُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنَ بْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ إِلَى تَكْرِيتَ فِي عَسْكَرٍ، وَانْتَظَرَ انْحِدَارَ الْأَتْرَاكِ عَنْ بَغْدَاذَ، فَإِنْ ظَفِرُوا بِبَخْتِيَارَ دَخَلَ بَغْدَاذَ مَالِكًا لَهَا، فَلَمَّا انْحَدَرَ الْأَتْرَاكُ عَنْ بَغْدَاذَ سَارَ أَبُو تَغْلِبَ إِلَيْهَا لِيُوجِبَ عَلَى بَخْتِيَارَ الْحُجَّةَ فِي إِسْقَاطِ الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ، وَوَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ وَالنَّاسُ فِي بَلَاءٍ عَظِيمٍ مَعَ الْعَيَّارِينَ، فَحَمَى الْبَلَدَ، وَكَفَّ أَهْلَ الْفَسَادِ. وَأَمَّا الْأَتْرَاكُ فَإِنَّهُمُ انْحَدَرُوا مَعَ سُبُكْتِكِينَ إِلَى وَاسِطَ، وَأَخَذُوا مَعَهُمُ الْخَلِيفَةَ الطَّائِعَ لِلَّهِ، وَالْمُطِيعَ أَيْضًا وَهُوَ مَخْلُوعٌ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى دَيْرِ الْعَاقُولِ تُوُفِّيَ بِهَا الْمُطِيعُ لِلَّهِ، وَمَرِضَ سُبُكْتِكِينُ فَمَاتَ بِهَا أَيْضًا، فَحُمِلَا إِلَى بَغْدَاذَ، وَقَدَّمَ الْأَتْرَاكُ عَلَيْهِمُ الْفَتْكِينَ، وَهُوَ

مِنْ أَكَابِرِ قُوَّادِهِمْ وَمَوَالِي مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَفَرِحَ بَخْتِيَارُ بِمَوْتِ سُبُكْتِكِينَ، وَظَنَّ أَنَّ أَمْرَ الْأَتْرَاكِ يَنْحَلُّ وَيَنْتَشِرُ بِمَوْتِهِ، فَلَمَّا رَأَى انْتِظَامَ أُمُورِهِمْ سَاءَهُ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ الْأَتْرَاكَ سَارُوا إِلَيْهِ، وَهُوَ بِوَاسِطَ، فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهُ، وَصَارُوا يُقَاتِلُونَهُ نَوَائِبَ، نَحْوَ خَمْسِينَ يَوْمًا، وَلَمْ تَزَلِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَبَخْتِيَارَ مُتَّصِلَةً، وَالظَّفَرُ لِلْأَتْرَاكِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَحَصَرُوا بَخْتِيَارَ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحِصَارُ، وَأَحْدَقُوا بِهِ، وَصَارَ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، وَتَابَعَ إِنْفَاذَ الرُّسُلِ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِالْحَثِّ وَالْإِسْرَاعِ وَكَتَبَ إِلَيْهِ: فَإِنْ كُنْتُ مَأْكُولًا فَكُنْ أَنْتَ آكِلِي وَإِلَّا فَأَدْرِكْنِي وَلَمَّا أُمَزَّقِ فَلَمَّا رَأَى عَضُدُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ بَلَغَ بِبَخْتِيَارَ مَا كَانَ يَرْجُوهُ، سَارَ نَحْوَ الْعِرَاقِ نَجْدَةً لَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَبَاطِنُهُ بِضِدِّ ذَلِكَ. ذِكْرُ مُلْكِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ عُمَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ الْمُطَهِّرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَزِيرُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ عَلَى جِبَالِ عُمَانَ، وَمَنْ بِهَا مِنَ الشُّرَاةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ لَمَّا تُوُفِّيَ، وَبِعُمَانَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْعَبَّاسِ، نَائِبُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَارَقَهَا، فَتَوَلَّى أَمْرَهَا عُمَرُ بْنُ نَهْبَانَ الطَّائِيُّ، وَأَقَامَ الدَّعْوَةَ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ إِنَّ الزِّنْجَ غَلَبَتْ عَلَى الْبَلَدِ، وَمَعَهُمْ طَوَائِفُ مِنَ الْجُنْدِ، وَقَتَلُوا ابْنَ نَهْبَانَ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ إِنْسَانًا يُعْرَفُ بِابْنِ حَلَّاجٍ، فَسَيَّرَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ جَيْشًا مِنْ كَرْمَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ أَبَا حَرْبٍ طُغَانَ، فَسَارُوا فِي الْبَحْرِ إِلَى عُمَانَ، فَخَرَجَ أَبُو حَرْبٍ مِنَ الْمَرْكَبِ إِلَى الْبَرِّ وَسَارَتِ الْمَرَاكِبُ فِي الْبَحْرِ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَتَوَافَوْا عَلَى صُحَارِ قَصَبَةِ عُمَانَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْجُنْدُ وَالزِّنْجُ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَظَفِرَ أَبُو حَرْبٍ، وَاسْتَوْلَى عَلَى صُحَارَ، وَانْهَزَمَ أَهْلُهَا، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] .

ثُمَّ إِنَّ الزِّنْجَ اجْتَمَعُوا إِلَى بَرِيمٍ، وَهُوَ رُسْتَاقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صُحَارَ مَرْحَلَتَانِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ أَبُو حَرْبٍ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ وَقْعَةً أَتَتْ عَلَيْهِمْ قَتْلًا وَأَسْرًا، فَاطْمَأَنَّتِ الْبِلَادُ. ثُمَّ إِنَّ جِبَالَ عُمَانَ اجْتَمَعَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الشُّرَاةِ، وَجَعَلُوا لَهُمْ أَمِيرًا اسْمُهُ وَرْدُ بْنُ زِيَادٍ، وَجَعَلُوا لَهُمْ خَلِيفَةً اسْمُهُ حَفْصُ بْنُ رَاشِدٍ، فَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُمْ، فَسَيَّرَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ الْمُطَهِّرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي الْبَحْرِ أَيْضًا، فَبَلَغَ إِلَى نَوَاحِي حَرْفَانَ مِنْ أَعْمَالِ عُمَانَ، فَأَوْقَعَ بِأَهْلِهَا، وَأَثْخَنَ فِيهِمْ، وَأَسَرَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى دَمَا وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ مِنْ صُحَارَ، فَقَاتَلَ مَنْ بِهَا، وَأَوْقَعَ بِهِمْ وَقْعَةً عَظِيمَةً فِيهَا وَأَسَرَ كَثِيرًا مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، وَانْهَزَمَ أَمِيرُهُمْ وَرْدٌ، وَإِمَامُهُمْ حَفْصٌ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُطَهِّرُ إِلَى نَزْوَى وَهِيَ قَصَبَةُ تِلْكَ الْجِبَالِ، فَانْهَزَمُوا مِنْهُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمُ الْعَسَاكِرَ، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ وَقْعَةً أَتَتْ عَلَى بَاقِيهِمْ، وَقُتِلَ وَرْدٌ، وَانْهَزَمَ حَفْصٌ إِلَى الْيَمَنِ، فَصَارَ مُعَلِّمًا، وَسَارَ الْمُطَهِّرُ إِلَى مَكَانٍ يُعْرَفُ بِالشَّرَفِ بِهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ، نَحْوُ عَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ، وَاسْتَقَامَتِ الْبِلَادُ، وَدَانَتْ بِالطَّاعَةِ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مُخَالِفٌ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا خُطِبَ لِلْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ، صَاحِبِ مِصْرَ، بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فِي الْمَوْسِمِ. وَفِيهَا خَرَجَ بَنُو هِلَالٍ وَجَمْعٌ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى الْحَاجِّ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَضَاقَ الْوَقْتُ، فَبَطَلَ الْحَجُّ، وَلَمْ يَسْلَمْ إِلَّا مَنْ مَضَى مَعَ الشَّرِيفِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوسَوِيِّ، وَالِدِ الرَّضِيِّ، عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، فَتَمَّ حَجُّهُمْ. وَفِيهَا كَانَتْ بِوَاسِطَ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ فِي ذِي الْحِجَّةِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي يَزْدَادَ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الْمَعْرُوفُ بِغُلَامِ الْخَلَّالِ وَعُمْرُهُ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ سَنَةً.

وَإِلَى آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ انْتَهَى " تَارِيخُ " ثَابِتِ بْنِ سِنَانِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ قُرَّةَ، وَأَوَّلُهُ مِنْ خِلَافَةِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ.

ثم دخلت سنة أربع وستين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَة] 364 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْعِرَاقِ وَقَبْضِ بَخْتِيَارَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ وَاسْتَوْلَى عَلَى الْعِرَاقِ، وَقَبَضَ بَخْتِيَارَ ثُمَّ عَادَ فَأَخْرَجَهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَخْتِيَارَ لَمَّا تَابَعَ كُتُبَهُ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ يَسْتَنْجِدُهُ، وَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْأَتْرَاكِ، وَسَارَ إِلَيْهِ فِي عَسَاكِرِ فَارِسَ، وَاجْتَمَعَ بِهِ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ الْعَمِيدِ، وَزِيرُ أَبِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، فِي عَسَاكِرِ الرَّيِّ بِالْأَهْوَازِ، وَسَارُوا إِلَى وَاسِطَ. فَلَمَّا سَمِعَ الْفَتْكِينُ بِخَبَرِ وُصُولِهِمْ رَجَعَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَيُقَاتِلَ عَلَى دَيَالَى. وَوَصَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فَاجْتَمَعَ بِهِ بَخْتِيَارُ، وَسَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَأَمَرَ بَخْتِيَارَ أَنْ يَسِيرَ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ. وَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى أَبِي تَغْلِبَ بِقُرْبِ الْفَتْكِينَ مِنْهُ عَادَ عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى الْمَوْصِلِ لِأَنَّ أَصْحَابَهُ شَغَبُوا عَلَيْهِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْمُقَامَ، وَوَصَلَ الْفَتْكِينُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَحَصَلَ مَحْصُورًا مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ بَخْتِيَارَ كَتَبَ إِلَى ضَبَّةَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَسَدِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ عَيْنِ التَّمْرِ، وَهُوَ الَّذِي هَجَاهُ الْمُتَنَبِّي، فَأَمَرَهُ بِالْإِغَارَةِ عَلَى أَطْرَافِ بَغْدَاذَ، وَبِقَطْعِ الْمِيرَةِ عَنْهَا، وَكَتَبَ بِمِثْلِ ذَلِكَ إِلَى بَنِي شَيْبَانَ. وَكَانَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَوْصِلِ يَمْنَعُ الْمِيرَةَ وَيُنَفِّذُ سَرَايَاهُ، فَغَلَا السِّعْرُ بِبَغْدَاذَ، وَثَارَ الْعَيَّارُونَ وَالْمُفْسِدُونَ فَنَهَبُوا النَّاسَ بِبَغْدَاذَ، وَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الْمَعَاشِ لِخَوْفِ

الْفِتَنِ، وَعَدَمِ الطَّعَامِ وَالْقُوتِ بِهَا، وَكَبْسِ الْفَتْكِينِ الْمَنَازِلَ فِي طَلَبِ الطَّعَامِ. وَسَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ نَحْوَ بَغْدَاذَ، فَلَقِيَهُ الْفَتْكِينُ وَالْأَتْرَاكُ بَيْنَ دَيَالَى وَالْمَدَائِنِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَ الْأَتْرَاكُ فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَوَصَلُوا إِلَى دَيَالَى فَعَبَرُوا عَلَى جُسُورٍ كَانُوا عَمِلُوهَا عَلَيْهِ، فَغَرِقَ مِنْهُمْ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الزَّحْمَةِ، وَكَذَلِكَ قُتِلَ وَغَرِقَ مِنَ الْعَيَّارِينَ الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ مِنْ بَغْدَاذَ، وَاسْتَبَاحُوا عَسْكَرَهُمْ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ رَابِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى. وَسَارَ الْأَتْرَاكُ إِلَى تَكْرِيتَ، وَسَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فَنَزَلَ بِظَاهِرِ بَغْدَاذَ، فَلَمَّا عَلِمَ وُصُولَ الْأَتْرَاكِ إِلَى تَكْرِيتَ دَخَلَ بَغْدَاذَ وَنَزَلَ بِدَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَكَانَ الْأَتْرَاكُ قَدْ أَخَذُوا الْخَلِيفَةَ مَعَهُمْ كَارِهًا، فَسَعَى عَضُدُ الدَّوْلَةِ حَتَّى رَدَّهُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَوَصَلَهَا ثَامِنَ رَجَبٍ فِي الْمَاءِ وَخَرَجَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فَلَقِيَهُ فِي الْمَاءِ أَيْضًا، وَامْتَلَأَتْ دِجْلَةُ بِالسُّمَيْرِيَّاتِ وَالزَّبَازِبِ، وَلَمْ يَبْقَ بِبَغْدَاذَ أَحَدٌ، وَلَوْ أَرَادَ إِنْسَانٌ أَنْ يَعْبُرَ دِجْلَةَ عَلَى السُّمَيْرِيَّاتِ مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى أُخْرَى لَأَمْكَنَهُ ذَلِكَ لِكَثْرَتِهَا، وَسَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مَعَ الْخَلِيفَةِ وَأَنْزَلَهُ بِدَارِ الْخِلَافَةِ. وَكَانَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ قَدْ طَمِعَ فِي الْعِرَاقِ، وَاسْتَضْعَفَ بَخْتِيَارَ، وَإِنَّمَا خَافَ أَبَاهُ رُكْنَ الدَّوْلَةِ، فَوَّضَ جُنْدَ بَخْتِيَارَ عَلَى أَنْ يَثُورُوا بِهِ وَيَشْغَبُوا عَلَيْهِ، وَيُطَالِبُوهُ بِأَمْوَالِهِمْ وَالْإِحْسَانِ لِأَجْلِ صَبْرِهِمْ مُقَابِلَ الْأَتْرَاكِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَبَالَغُوا، وَكَانَ بَخْتِيَارُ لَا يَمْلِكُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَقَدْ نُهِبَ الْبَعْضُ، وَأَخْرَجَ هُوَ الْبَاقِيَ، وَالْبِلَادُ خَرَابٌ، فَلَا تَصِلُ يَدُهُ إِلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهَا. وَأَشَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى بَخْتِيَارَ بِتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ، وَالْغِلْظَةِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَأَنْ لَا يَعِدَهُمْ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُعَرِّفَهُمْ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الْإِمَارَةَ وَالرِّئَاسَةَ عَلَيْهِمْ، وَوَعَدَهُ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ تَوَسَّطَ الْحَالَ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا يُرِيدُهُ. فَظَنَّ بَخْتِيَارُ أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُ، مُشْفِقٌ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَاسْتَعْفَى مِنَ الْإِمَارَةِ، وَأَغْلَقَ بَابَ دَارِهِ، وَصَرَفَ كُتَّابَهُ وَحُجَّابَهُ،

فَرَاسَلَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ ظَاهِرًا بِمَحْضَرٍ مِنْ مُقَدَّمِي الْجُنْدِ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِمُقَارَبَتِهِمْ، وَتَطْيِيبِ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَ أَوْصَاهُ سِرًّا أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ. فَعَمِلَ بَخْتِيَارُ بِمَا أَوْصَاهُ، وَقَالَ: لَسْتُ أَمِيرًا لَهُمْ، وَلَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مُعَامَلَةٌ، وَقَدْ بَرِئْتُ مِنْهُمْ. فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَعَضُدُ الدَّوْلَةِ يُغْرِيهِمْ بِهِ، وَالشَّغْبُ يَزِيدُ، وَأَرْسَلَ بَخْتِيَارُ إِلَيْهِ يَطْلُبُ نَجَازَ مَا وَعَدَهُ بِهِ، فَفَرَّقَ الْجُنْدَ عَلَى عِدَةٍ جَمِيلَةٍ، وَاسْتَدْعَى بَخْتِيَارَ وَإِخْوَتَهُ إِلَيْهِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ، وَوَكَّلَ بِهِمْ، وَجَمَعَ النَّاسَ وَأَعْلَمَهُمُ اسْتِعْفَاءَ بَخْتِيَارَ عَنِ الْإِمَارَةِ عَجْزًا عَنْهَا، وَوَعَدَهُمُ الْإِحْسَانَ وَالنَّظَرَ فِي أُمُورِهِمْ فَسَكَنُوا إِلَى قَوْلِهِ. وَكَانَ قَبْضُهُ عَلَى بَخْتِيَارَ [فِي] السَّادِسِ (وَالْعِشْرِينَ مِنْ) جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَكَانَ الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ لِلَّهِ نَافِزًا عَنْ بَخْتِيَارَ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ الْأَتْرَاكِ فِي حُرُوبِهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَبْضُهُ سَرَّهُ ذَلِكَ، وَعَادَ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَأَظْهَرَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مِنْ تَعْظِيمِ الْخِلَافَةِ مَا كَانَ قَدْ نُسِيَ وَتُرِكَ، وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ الدَّارِ، وَالْإِكْثَارِ مِنَ الْآلَاتِ، وَعِمَارَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَلِيفَةِ، وَحِمَايَةِ أَقْطَاعِهِ، وَلَمَّا دَخَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَاذَ وَدَخَلَ دَارَ الْخِلَافَةِ أَنْفَذَ إِلَيْهِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مَالًا كَثِيرًا، وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْفُرُشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ذِكْرُ عَوْدِ بَخْتِيَارَ إِلَى مُلْكِهِ لَمَّا قُبِضَ بَخْتِيَارُ كَانَ وَلَدُهُ الْمَرْزُبَانُ بِالْبَصْرَةِ مُتَوَلِّيًا لَهَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَبْضُ وَالِدِهِ امْتَنَعَ فِيهَا عَلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَكَتَبَ إِلَى رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَشْكُو مَا جَرَى عَلَى وَالِدِهِ وَعَمَّيْهِ مِنْ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَمِنْ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ الْعَمِيدِ، وَيَذْكُرُ لَهُ الْحِيلَةَ الَّتِي تَمَّتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ أَلْقَى نَفْسَهُ (عَنْ سَرِيرِهِ) إِلَى الْأَرْضِ وَتَمَرَّغَ عَلَيْهَا، وَامْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَمَرِضَ مَرَضًا لَمْ يَسْتَقِلَّ مِنْهُ بَاقِيَ حَيَاتِهِ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ بَقِيَّةَ، بَعْدَ بَخْتِيَارَ، قَدْ خَدَمَ عَضُدَ الدَّوْلَةِ، وَضَمِنَ مِنْهُ مَدِينَةَ وَاسِطَ وَأَعْمَالَهَا، فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهَا خَلَعَ طَاعَةَ الدَّوْلَةِ، وَخَالَفَ عَلَيْهِ وَأَظْهَرَ الِامْتِعَاضَ لِقَبْضِ

بَخْتِيَارَ، وَكَاتَبَ عِمْرَانَ بْنَ شَاهِينَ، وَطَلَبَ مُسَاعَدَتَهُ، وَحَذَّرَهُ مَكْرَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَأَجَابَهُ عِمْرَانُ إِلَى مَا الْتَمَسَ. وَكَانَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ قَدْ ضَمَّنَ سَهْلَ بْنَ بِشْرٍ، وَزِيرَ الْفَتْكِينَ، بَلَدَ الْأَهْوَازِ، وَأَخْرَجَهُ (مِنْ حَبْسِ) بَخْتِيَارَ، فَكَاتَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَقِيَّةَ وَاسْتَمَالَهُ، فَأَجَابَهُ، فَلَمَّا عَصَى ابْنُ بَقِيَّةَ أَنْفَذَ إِلَيْهِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ جَيْشًا قَوِيًّا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ ابْنُ بَقِيَّةَ فِي الْمَاءِ وَمَعَهُ عَسْكَرٌ قَدْ سَيَّرَهُ إِلَيْهِ عِمْرَانُ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَكَاتَبَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بِحَالِهِ حَالَ بَخْتِيَارَ، فَكَتَبَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى الْمَرْزُبَانِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنِ احْتَمَى لِبَخْتِيَارَ، يَأْمُرُهُمْ بِالثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَيُعَرِّفُهُمْ أَنَّهُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ لِإِخْرَاجِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَإِعَادَةِ بَخْتِيَارَ. فَاضْطَرَبَتِ النَّوَاحِي عَلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَتَجَاسَرَ عَلَيْهِ الْأَعْدَاءُ حَيْثُ عَلِمُوا إِنْكَارَ أَبِيهِ عَلَيْهِ، وَانْقَطَعَتْ عَنْهُ مَوَادُّ فَارِسَ وَالْبَحْرِ، وَلَمْ يَبْقَ بِيَدِهِ إِلَّا قَصَبَةُ بَغْدَاذَ، وَطَمِعَ فِيهِ الْعَامَّةُ وَأَشْرَفَ عَلَى مَا يَكْرَهُ، فَرَأَى إِنْفَاذَ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ الْعَمِيدِ بِرِسَالَةٍ إِلَى أَبِيهِ يُعَرِّفُهُ مَا جَرَى لَهُ وَمَا فَرَّقَ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَضَعُفَ بَخْتِيَارُ عَنْ حِفْظِ الْبِلَادِ، وَإِنْ أُعِيدَ إِلَى حَالِهِ خَرَجَتِ الْمَمْلَكَةُ وَالْخِلَافَةُ عَنْهُمْ، وَكَانَ بَوَارُهُمْ، وَيَسْأَلُ تَرْكَ نُصْرَةِ بَخْتِيَارَ، وَقَالَ لِأَبِي الْفَتْحِ: فَإِنْ أَجَابَ إِلَى مَا تُرِيدُ مِنْهُ، وَإِلَّا فَقُلْ لَهُ: إِنَّنِي أَضْمَنُ مِنْكَ أَعْمَالَ الْعِرَاقِ، وَأَحْمِلُ إِلَيْكَ مِنْهَا كُلَّ سَنَةٍ ثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَبْعَثُ بَخْتِيَارَ وَأَخَوَيْهِ إِلَيْكَ لِتَجْعَلَهُمْ بِالْخِيَارِ، فَإِنِ اخْتَارُوا أَقَامُوا عَنْكَ، وَإِنِ اخْتَارُوا بَعْضَ بِلَادِ فَارِسَ سَلَّمْتُهُ إِلَيْهِمْ، وَوَسَّعْتَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ أَجَبْتَ أَنْتَ أَنْ تَحْضُرَ فِي الْعِرَاقِ لِتَلِيَ تَدْبِيرَ الْخِلَافَةِ، وَتُنْفِذَ بَخْتِيَارَ إِلَى الرَّيِّ وَأَعُودُ أَنَا إِلَى فَارِسَ فَالْأَمْرُ إِلَيْكَ. وَقَالَ لِابْنِ الْعَمِيدِ: فَإِنْ أَجَابَ إِلَى مَا ذَكَرْتَ لَهُ، وَإِلَّا فَقُلْ لَهُ: أَيُّهَا السَّيِّدُ الْوَالِدُ، أَنْتَ مَقْبُولُ الْحُكْمِ وَالْقَوْلِ، وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى إِطْلَاقِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بَعْدَ مُكَاشَفَتِهِمْ، وَإِظْهَارِ الْعَدَاوَةِ، وَسَيُقَاتِلُونَنِي بِغَايَةِ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، فَتَنْتَشِرُ الْكَلِمَةُ، وَيَخْتَلِفُ أَهْلُ الْبَيْتِ أَبَدًا، فَإِنْ قَبِلْتَ مَا ذَكَرْتُهُ فَأَنَا الْعَبْدُ الطَّائِعُ، وَإِنْ أَبَيْتَ، وَحَكَمْتَ بِانْصِرَافِي، فَإِنِّي سَأَقْتُلُ بَخْتِيَارَ وَأَخَوَيْهِ، وَأَقْبِضُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَتَّهِمُهُ بِالْمَيْلِ إِلَيْهِمْ وَأَخْرُجُ عَنِ الْعِرَاقِ، وَأَتْرُكُ الْبِلَادَ سَائِبَةً لِيُدَبِّرَهَا مَنِ اتَّفَقْتُ لَهُ. فَخَافَ ابْنُ الْعَمِيدِ أَنْ يَسِيرَ بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ، وَأَشَارَ أَنْ يَسِيرَ بِهَا غَيْرُهُ، وَيَسِيرَ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ كَالْمُشِيرِ عَلَى رُكْنِ الدَّوْلَةِ بِإِجَابَتِهِ إِلَى مَا طَلَبَ، فَأَرْسَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ رَسُولًا بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ، وَسَيَّرَ بَعْدَهُ ابْنَ الْعَمِيدِ عَلَى الْجَمَّازَاتِ، فَلَمَّا حَضَرَ الرَّسُولُ عِنْدَ رُكْنِ

الدَّوْلَةِ، وَذَكَرَ بَعْضَ الرِّسَالَةِ، وَثَبَ إِلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ، فَهَرَبَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّهُ بَعْدَ أَنْ سَكَنَ غَضَبُهُ، وَقَالَ: قُلْ لِفُلَانٍ، يَعْنِي عَضُدَ الدَّوْلَةِ، وَسَمَّاهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ، وَشَتَمَهُ، خَرَجْتَ إِلَى نُصْرَةِ ابْنِ أَخِي وَلِلطَّمَعِ فِي مَمْلَكَتِهِ، أَمَا عَرَفْتَ أَنِّي نَصَرْتُ الْحَسَنَ بْنَ الْفَيْرَزَانِ، وَهُوَ غَرِيبٌ مِنِّي، مِرَارًا كَثِيرَةً أُخَاطِرُ فِيهَا بِمُلْكِي وَنَفْسِي، فَإِذَا أَعَدْتُ لَهُ بِلَادَهُ، وَلَمْ أَقْبَلْ مِنْهُ مَا قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ، وَأَعَدْتُهُ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَأَنْفَذْتُ وَزِيرِي وَعَسَاكِرِي فِي نُصْرَتِهِ، وَلَمْ آخُذْ مِنْهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا، كُلُّ ذَلِكَ طَلَبًا لِحُسْنِ الذِّكْرِ، وَمُحَافَظَةً عَلَى الْفُتُوَّةِ، تُرِيدُ أَنْ تَمُنَّ أَنْتَ عَلَيَّ بِدِرْهَمَيْنِ أَنْفَقْتَهُمَا أَنْتَ عَلَيَّ وَعَلَى أَوْلَادِ أَخِي، ثُمَّ تَطْمَعُ فِي مَمَالِكِهِمْ وَتُهَدِّدُنِي بِقَتْلِهِمْ! . فَعَادَ الرَّسُولُ وَوَصَلَ ابْنُ الْعَمِيدِ، فَحَجَبَهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَسْمَعْ حَدِيثَهُ، وَتَهَدَّدَهُ بِالْهَلَاكِ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: لَأَتْرُكُنَّكَ وَذَلِكَ الْفَاعِلَ، يَعْنِي عَضُدَ الدَّوْلَةِ، تَجْتَهِدَانِ جُهْدَكُمَا، ثُمَّ لَا أَخْرُجُ إِلَيْكُمَا إِلَّا فِي ثَلَاثِمِائَةِ جَمَّازَةٍ وَعَلَيْهَا الرَّجُلُ، ثُمَّ اثْبُتُوا إِنْ شِئْتُمْ، فَوَاللَّهِ لَا قَاتَلْتُكُمَا إِلَّا بِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْكُمَا. وَكَانَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ يَقُولُ: إِنَّنِي أَرَى أَخِي مُعِزَّ الدَّوْلَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي الْمَنَامِ يَعَضُّ عَلَى أَنَامِلِهِ وَيَقُولُ: يَا أَخِي هَكَذَا ضَمِنْتَ لِي أَنْ تَخْلُفَنِي فِي وَلَدِي. وَكَانَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ يُحِبُّ أَخَاهُ مَحَبَّةً شَدِيدَةً لِأَنَّهُ رَبَّاهُ، فَكَانَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ. ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ سَعَوْا لِابْنِ الْعَمِيدِ، وَتَوَسَّطُوا الْحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا تَحَمَّلَ ابْنُ الْعَمِيدِ هَذِهِ الرِّسَالَةَ لِيَجْعَلَهَا طَرِيقًا لِلْخَلَاصِ مِنْ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَالْوُصُولِ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَ بِمَا تَرَاهُ. فَأَذِنَ لَهُ فِي الْحُضُورِ عِنْدَهُ، فَاجْتَمَعَ بِهِ، وَضَمِنَ لَهُ إِعَادَةَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ إِلَى فَارِسَ، وَتَقْرِيرَ بَخْتِيَارَ بِالْعِرَاقِ، فَرَدَّهُ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَعَرَّفَهُ جَلِيَّةَ الْحَالِ. فَلَمَّا رَأَى عَضُدُ الدَّوْلَةِ انْحِرَافَ الْأُمُورِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ إِلَى الْمَسِيرِ إِلَى فَارِسَ وَإِعَادَةَ بَخْتِيَارَ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ مَحْبِسِهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ بِالْعِرَاقِ، وَيَخْطُبُ لَهُ، وَيَجْعَلُ أَخَاهُ أَبَا إِسْحَاقَ أَمِيرَ الْجَيْشِ لِضَعْفِ بَخْتِيَارَ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ مَا كَانَ لَهُمْ، وَسَارَ إِلَى فَارِسَ فِي شَوَّالٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَمَرَ أَبَا الْفَتْحِ بْنَ الْعَمِيدِ، وَزِيرَ أَبِيهِ، أَنْ يَلْحَقَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. فَلَمَّا سَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَقَامَ ابْنُ الْعَمِيدِ عِنْدَ بَخْتِيَارَ مُتَشَاغِلًا بِالذَّاتِ، وَبِمَا هُوَ بَخْتِيَارُ مُغْرًى بِهِ مِنَ اللَّعِبِ، وَاتَّفَقَا بَاطِنًا عَلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ سَارَ إِلَيْهِ وَوَزَرَ لَهُ، وَاتَّصَلَ ذَلِكَ بِعَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَكَانَ سَبَبَ هَلَاكِ ابْنِ الْعَمِيدِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.

وَاسْتَقَرَّ بَخْتِيَارُ بِبَغْدَاذَ، وَلَمْ يَقِفْ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْعُهُودِ. فَلَمَّا ثَبَتَ أَمْرُ بَخْتِيَارَ أَنْفَذَ ابْنَ بَقِيَّةَ مِنْ خَلْفِهِ لَهُ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَأَكَّدَ الْوَحْشَةَ بَيْنَ بَخْتِيَارَ وَعَضُدِ الدَّوْلَةِ، (وَثَارَتِ الْفِتْنَةُ بَعْدَ مَسِيرِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ) ، وَاسْتَمَالَ ابْنُ بَقِيَّةَ الْأَجْنَادَ، وَجَبَى كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ إِلَى خِزَانَتِهِ، وَكَانَ إِذَا طَالَبَهُ بَخْتِيَارُ بِالْمَالِ وَضَعَ الْجُنْدَ عَلَى مُطَالَبَتِهِ، فَثَقُلَ عَلَى بَخْتِيَارٍ فَاسْتَشَارَ فِي مَكْرُوهٍ يُوقِعُهُ بِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ بَقِيَّةَ، فَعَاتَبَ بَخْتِيَارَ عَلَيْهِ، فَأَنْكَرَهُ وَحَلَفَ لَهُ فَاحْتَرَزَ ابْنُ بَقِيَّةَ مِنْهُ. ذِكْرُ اضْطِرَابَ كَرْمَانَ عَلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَعَوْدِهَا لَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ أَهْلُ كَرْمَانَ عَلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْجُرُومِيَّةِ، وَهِيَ الْبِلَادُ، يُقَالُ لَهُ طَاهِرُ بْنُ الصِّمَّةِ، ضَمِنَ مِنْ عَضُدِ الدَّوْلَةِ ضَمَانَاتٍ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، فَطَمِعَ فِيهَا، وَكَانَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ قَدْ سَارَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَسَيَّرَ وَزِيرَهُ الْمُطَهِّرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى عُمَانَ لِيَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا، فَخَلَتْ كَرْمَانُ مِنَ الْعَسَاكِرِ، فَجَمَعَ طَاهِرٌ الرِّجَالَ الْجُرُومِيَّةَ وَغَيْرَهُمْ، فَاجْتَمَعَ لَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَاتُّفِقَ أَنَّ بَعْضَ الْأَتْرَاكِ السَّامَانِيَّةِ، اسْمُهُ يُوزْتَمَرُ، كَانَ قَدْ اسْتَوْحَشَ مِنْ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سِيمْجُورَ، صَاحِبِ جَيْشِ خُرَاسَانَ لِلسَّامَانِيَّةِ، فَكَاتَبَهُ طَاهِرٌ، وَأَطْمَعَهُ فِي أَعْمَالِ كَرْمَانَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، وَاتَّفَقَا، وَكَانَ يُوزْتَمَرُ هُوَ الْأَمِيرَ، فَاتُّفِقَ أَنَّ الرِّجَالَ الْجُرُومِيَّةَ شَغَبُوا عَلَى يُوزْتَمَرَ، فَظَنَّ أَنَّ طَاهِرًا وَضَعَهُمْ، فَاخْتَلَفَا وَاقْتَتَلَا، فَظَفِرَ يُوزْتَمَرُ بِطَاهِرٍ وَأَسَرَهُ، وَظَفِرَ بِأَصْحَابِهِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ إِلْيَاسَ، وَهُوَ بِخُرَاسَانَ، فَطَمِعَ فِي الْبِلَادِ، فَجَمَعَ جَمْعًا وَسَارَ إِلَيْهَا، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ بِهَا جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ. ثُمَّ إِنَّ الْمُطَهِّرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ اسْتَوْلَى عَلَى عُمَانَ وَجِبَالِهَا، وَأَوْقَعَ بِالشُّرَاةِ فِيهَا وَعَادَ، فَوَصَلَهُ كِتَابُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَاذَ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى كَرْمَانَ، فَسَارَ إِلَيْهَا مُجِدًّا، وَأَوْقَعَ فِي طَرِيقِهِ بِأَهْلِ الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ، وَقَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ، (وَمَثَّلَ بِهِمْ، وَوَصَلَ إِلَى يُوزْتَمَرَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْهُ، فَاقْتَتَلُوا بِنَوَاحِي مَدِينَةِ

بَمَّ، فَانْهَزَمَ يُوزْتَمَرُ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ وَحَصَرَهُ الْمُطَهِّرُ فِي حِصْنٍ فِي وَسَطِ الْمَدِينَةِ، فَطَلَبَ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ طَاهِرٌ فَأَمَرَ الْمُطَهِّرَ بِطَاهِرٍ فَشُهِرَ، ثُمَّ ضُرِبَ عُنُقُهُ. وَأَمَّا يُوزْتَمَرُ فَإِنَّهُ رَفَعَهُ إِلَى الْقِلَاعِ، فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ، وَسَارَ الْمُطَهِّرُ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ إِلْيَاسَ، فَرَأَى كَثْرَةَ مَنْ مَعَهُ، فَخَافَ جَانِبَهُمْ، وَلَمْ يَجِدْ مِنَ اللِّقَاءِ بُدًّا، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ الْحُسَيْنُ عَلَى بَابِ جِيرُفْتَ، وَانْهَزَمَ عَسْكَرُهُ فَمَنَعَهُمْ سُورُ الْمَدِينَةِ مِنَ الْهَرَبِ، فَكَثُرَ فِيهِمُ الْقَتْلُ، وَأُخِذَ الْحُسَيْنُ أَسِيرًا، وَأُحْضِرَ عِنْدَ الْمُطَهِّرِ، فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ بَعْدُ خَبَرٌ، وَصَلُحَتْ كَرْمَانُ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ. ذِكْرُ وِلَايَةِ الْفَتْكِينِ دِمَشْقَ وَمَاكَانَ مِنْهُ إِلَى أَنْ مَاتَ قَدْ ذَكَرْنَا مَا كَانَ مِنِ انْهِزَامِ الْفَتْكِينِ التُّرْكِيِّ، مَوْلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهٍ، مِنْ مَوْلَاهُ بَخْتِيَارَ بْنِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَمِنْ عَضُدِ الدَّوْلَةِ فِي فِتْنَةِ الْأَتْرَاكِ بِالْعِرَاقِ، فَلَمَّا انْهَزَمَ مِنْهُمْ سَارَ فِي طَائِفَةٍ صَالِحَةٍ مِنَ الْجُنْدِ التُّرْكِ، فَوَصَلَ إِلَى حِمْصَ، فَنَزَلَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، فَقَصَدَهُ ظَالِمُ بْنُ مَوْهُوبٍ الْعُقَيْلِيُّ الَّذِي كَانَ أَمِيرَ دِمَشْقَ لِلْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ لِيَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَخْذِهِ، فَعَادَ عَنْهُ وَسَارَ الْفَتْكِينُ إِلَى دِمَشْقَ فَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا. وَكَانَ أَمِيرُهَا حِينَئِذٍ رَيَّانَ الْخَادِمَ لِلْمُعِزِّ، وَكَانَ الْأَحْدَاثُ قَدْ غَلَبُوا عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لِلْأَعْيَانِ مَعَهُمْ حُكْمٌ، وَلَا لِلسَّلْطَنَةِ عَلَيْهِمْ طَاعَةٌ، فَلَمَّا نَزَلَ خَرَجَ أَشْرَافُهَا وَشُيُوخُهَا إِلَيْهِ، وَأَظْهَرُوا لَهُ السُّرُورَ بِقُدُومِهِ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُمْ، وَيَمْلِكَ بَلَدَهُمْ، وَيُزِيلَ عَنْهُمْ سِمَةَ الْمِصْرِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ يَكْرَهُونَهَا بِمُخَالَفَةِ الِاعْتِقَادِ، وَلِظُلْمِ عُمَّالِهِمْ، وَيَكُفُّ عَنْهُمْ شَرَّ الْأَحْدَاثِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَخْلَفَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمُسَاعَدَةِ، وَحَلَفَ لَهُمْ عَلَى الْحِمَايَةِ وَكَفَّ الْأَذَى عَنْهُمْ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ، وَدَخَلَ الْبَلَدَ، وَأَخْرَجَ عَنْهُ رَيَّانَ الْخَادِمَ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ الْمُعِزِّ، وَخَطَبَ لِلطَّائِعِ لِلَّهِ فِي شَعْبَانَ، وَقَمَعَ أَهْلَ الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ، وَهَابَهُ النَّاسُ كَافَّةً، وَأَصْلَحَ كَثِيرًا مِنْ أُمُورِهِمْ. فَكَانَتِ الْعَرَبُ قَدِ اسْتَوْلَتْ عَلَى سَوَادِ الْبَلَدِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ، فَقَصَدَهُمْ، وَأَوْقَعَ بِهِمْ،

وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَأَبَانَ عَنْ شَجَاعَةٍ، وَقُوَّةِ نَفْسٍ، وَحُسْنِ تَدْبِيرٍ، فَأَذْعَنُوا لَهُ وَأُقْطِعَ الْبِلَادَ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَتَوَفَّرَتْ أَمْوَالُهُ، وَثَبَتَ قَدَمُهُ. وَكَاتَبَ الْمُعِزَّ بِمِصْرَ يُدَارِيهِ، وَيُظْهِرُ لَهُ الِانْقِيَادَ، فَشَكَرَهُ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُحْضِرَهُ عِنْدَهُ لِيَخْلَعَ عَلَيْهِ، وَيُعِيدَهُ وَالِيًا مِنْ جَانِبِهِ، فَلَمْ يَثِقْ بِهِ، وَامْتَنَعَ (مِنَ الْمَسِيرِ) فَتَجَهَّزَ الْمُعِزُّ وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ لِقَصْدِهِ، فَمَرِضَ وَمَاتَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَوُلِّيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْعَزِيزُ بِاللَّهِ، فَأَمِنَ الْفَتْكِينَ بِمَوْتِهِ جِهَةَ مِصْرَ، فَقَصَدَ بِلَادَ الْعَزِيزِ الَّتِي بِسَاحِلِ الشَّامِ، فَعَمَدَ إِلَى صَيْدَا فَحَصَرَهَا وَبِهَا ابْنُ الشَّيْخِ، وَمَعَهُ رُءُوسُ الْمَغَارِبَةِ، وَمَعَهُمْ ظَالِمُ بْنُ مَوْهُوبٍ الْعُقَيْلِيُّ، فَقَاتَلَهُمْ وَكَانُوا فِي كَثْرَةٍ، فَطَمِعُوا فِيهِ وَخَرَجُوا إِلَيْهِ، فَاسْتَجَرَّهُمْ حَتَّى أُبْعِدُوا، ثُمَّ عَادَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلَافِ قَتِيلٍ. وَطَمِعَ فِي أَخْذِ عَكَّا، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا، وَقَصَدَ طَبَرِيَةَ، فِيهَا مِنَ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ مِثْلَ صَيْدَا، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ. فَلَمَّا سَمِعَ الْعَزِيزُ بِذَلِكَ اسْتَشَارَ وَزِيرَهُ يَعْقُوبَ بْنَ كِلِّسٍ فِيمَا يَفْعَلُ، فَأَشَارَ بِإِرْسَالِ جَوْهَرٍ فِي الْعَسَاكِرِ إِلَى الشَّامِ، فَجَهَّزَهُ وَسَيَّرَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ الْفَتْكِينُ بِمَسِيرِهِ جَمَعَ أَهْلَ دِمَشْقَ وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّنِي مَا وَلِيتُ أَمْرَكُمْ إِلَّا عَنْ رِضًى مِنْكُمْ، وَطَلَبٍ مِنْ كَبِيرِكُمْ وَصَغِيرِكُمْ لِي، وَإِنَّمَا كُنْتُ مُجْتَازًا وَقَدْ أَظَلَّكُمْ هَذَا الْأَمْرُ، وَأَنَا سَائِرٌ عَنْكُمْ لِئَلَّا يَنَالَكُمْ أَذًى بِسَبَبِي. فَقَالُوا: لَا نُمَكِّنُكَ مِنْ فِرَاقِنَا، وَنَحْنُ نَبْذُلُ الْأَنْفُسَ وَالْأَمْوَالَ فِي هَوَاكَ، وَنَنْصُرُكَ، وَنَقُومُ مَعَكَ، فَاسْتَحْلَفَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَحَلَفُوا لَهُ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ. فَوَصَلَ جَوْهَرٌ إِلَى الْبَلَدِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَحَصَرَهُ، فَرَأَى مِنْ قِتَالِ الْفَتْكِينِ وَمَنْ مَعَهُ مَا اسْتَعْظَمَهُ، وَدَامَتِ الْحَرْبُ شَهْرَيْنِ، قُتِلَ فِيهَا عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ. فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ دِمَشْقَ طُولَ مُقَامِ الْمَغَارِبَةِ عَلَيْهِمْ أَشَارُوا عَلَى الْفَتْكِينِ بِمُكَاتَبَةِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْقَرْمَطِيِّ، وَاسْتِنْجَادِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَسَارَ الْقَرْمَطِيُّ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْسَاءِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ رَحَلَ جَوْهَرٌ عَنْ دِمَشْقَ، خَوْفًا أَنْ يَبْقَى بَيْنَ عَدُوَّيْنِ، وَكَانَ مُقَامُهُ عَلَيْهَا سَبْعَةَ

أَشْهُرٍ، وَوَصَلَ الْقَرْمَطِيُّ وَاجْتَمَعَ هُوَ وَالْفَتْكِينُ، وَسَارَا فِي أَثَرِ جَوْهَرٍ، فَأَدْرَكَاهُ وَقَدْ نَزَلَ بِظَاهِرِ الرَّمْلَةِ، وَسَيَّرَ أَثْقَالَهُ إِلَى عَسْقَلَانَ، فَاقْتَتَلُوا، فَكَانَ جَمْعُ الْفَتْكِينِ وَالْقَرْمَطِيِّ كَثِيرًا مِنْ رِجَالِ الشَّامِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، فَكَانُوا نَحْوَ خَمْسِينَ أَلْفَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَنَزَلُوا عَلَى نَهْرِ الطَّوَاحِينِ، عَلَى ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ مِنَ الْبَلَدِ، وَمِنْهُ مَاءُ أَهْلِ الْبَلَدِ، فَقَطَعُوهُ عَنْهُمْ، فَاحْتَاجَ جَوْهَرٌ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى مَاءِ الْمَطَرِ فِي الصَّهَارِيجِ وَهُوَ قَلِيلٌ لَا يَقُومُ بِهِمْ، فَرَحَلَ إِلَى عَسْقَلَانَ، وَتَبِعَهُ الْفَتْكِينُ وَالْقَرْمَطِيُّ فَحَصَرَاهُ بِهَا، وَطَالَ الْحِصَارُ فَقَلَّتِ الْمِيرَةُ، وَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ، وَكَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً، فَلَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ الذَّخَائِرِ فِي الْبَحْرِ مِنْ مِصْرَ وَغَيْرِهَا، فَاضْطَرُّوا إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَبَلَغَ الْخُبْزُ كُلُّ خَمْسَةِ أَرْطَالٍ، بِالشَّامِيِّ، بِدِينَارٍ مِصْرِيٍّ. وَكَانَ جَوْهَرٌ يُرَاسِلُ الْفَتْكِينَ، وَيَدْعُوهُ إِلَى الْمُوَافَقَةِ وَالطَّاعَةِ، وَيَبْذُلُ لَهُ الْبُذُولَ الْكَثِيرَةَ، فَيَهِمُّ أَنْ يَفْعَلَ، فَيَمْنَعُهُ الْقَرْمَطِيُّ وَيُخَوِّفُهُ مِنْهُ، فَزَادَتِ الشِّدَّةُ عَلَى جَوْهَرٍ وَمَنْ مَعَهُ، فَعَايَنُوا الْهَلَاكَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْفَتْكِينِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَاجْتَمَعَا رَاكِبِينَ. فَقَالَ لَهُ جَوْهَرٌ: قَدْ عَرَفْتُ مَا يَجْمَعُنَا مِنْ عِصْمَةِ الْإِسْلَامِ وَحُرْمَةِ الدِّينِ، وَقَدْ طَالَتْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ، وَأُرِيقَتْ فِيهَا الدِّمَاءُ وَنُهِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَنَحْنُ الْمُؤَاخَذُونَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ دَعَوْتُكَ إِلَى الصُّلْحِ وَالطَّاعَةِ وَالْمُوَافَقَةِ، وَبَذَلْتُ لَكَ الرَّغَائِبَ، فَأَبَيْتَ إِلَّا الْقَبُولَ مِمَّنْ يُشِبُّ (نَارَ الْفِتْنَةِ) فَرَاقِبِ اللَّهَ تَعَالَى، وَرَاجِعْ نَفْسَكَ، وَغَلِّبْ رَأْيَكَ عَلَى هَوَى غَيْرِكَ. فَقَالَ الْفَتْكِينُ: أَنَا وَاللَّهِ وَاثِقٌ بِكَ (فِي صِحَّةِ) الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ مِنْكَ، لَكِنِّي غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ بِسَبَبِ الْقَرْمَطِيِّ الَّذِي أَحْوَجَتْنِي أَنْتَ إِلَى مُدَارَاتِهِ وَالْقَبُولِ مِنْهُ. فَقَالَ جَوْهَرٌ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ فَإِنَّنِي أُصْدِقُكَ الْحَالَ تَعْوِيلًا عَلَى أَمَانَتِكَ، وَمَا أَجِدُهُ مِنَ الْفُتُوَّةِ عِنْدَكَ، وَقَدْ ضَاقَ الْأَمْرُ بِنَا، وَأُرِيدُ أَنْ تَمُنَّ عَلَيَّ بِنَفْسِي وَبِمَنْ مَعِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَذُمَّ لَنَا، وَأَعُودُ إِلَى صَاحِبِي شَاكِرًا لَكَ وَتَكُونُ قَدْ جَمَعْتَ بَيْنَ حَقْنِ الدِّمَاءِ وَاصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَحَلَفَ لَهُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ، وَعَادَ وَاجْتَمَعَ بِالْقَرْمَطِيِّ وَعَرَّفَهُ الْحَالَ (فَقَالَ: لَقَدْ أَخْطَأْتَ) فَإِنَّ جَوْهَرًا لَهُ رَأْيٌ وَحَزْمٌ وَمَكِيدَةٌ، وَسَيَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهِ فَيَحْمِلُهُ

عَلَى قَصْدِنَا بِمَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ تَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ لِيَمُوتُوا جَوْعًا، وَنَأْخُذُهُمْ بِالسَّيْفِ، فَامْتَنَعَ الْفَتْكِينُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا أَغْدِرُ بِهِ، وَأَذِنَ لِجَوْهَرٍ وَلِمَنْ مَعَهُ بِالسَّيْرِ إِلَى مِصْرَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، وَاجْتَمَعَ بِالْعَزِيزِ، وَشَرَحَ لَهُ الْحَالَ وَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُهُمْ فَاخْرُجْ إِلَيْهِمْ بِنَفْسِكَ، وَإِلَّا فَهَمَّ وَاصِلُونَ عَلَى أَثَرِي، فَبَرَزَ الْعَزِيزُ، وَفَرَّقَ الْأَمْوَالَ، وَجَمَعَ الرِّجَالَ، وَسَارَ وَجَوْهَرٌ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ. وَوَرَدَ الْخَبَرُ إِلَى الْفَتْكِينِ وَالْقَرْمَطِيِّ فَعَادَا إِلَى الرَّمْلَةِ، وَجَمَعَا الْعَرَبَ وَغَيْرَهَا، وَحَشَدَا، وَوَصَلَ الْعَزِيزُ فَنَزَلَ بِظَاهِرِ الرَّمْلَةِ، وَنَزَلَا بِالْقُرْبِ مِنْهُ، ثُمَّ اصْطَفَوْا لِلْحَرْبِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَرَأَى الْعَزِيزُ مِنْ شَجَاعَةِ الْفَتْكِينِ مَا أَعْجَبَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ (فِي تِلْكَ الْحَالِ) يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَبْذُلُ لَهُ الرَّغَائِبَ وَالْوِلَايَاتِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ مُقَدِّمَ عَسْكَرِهِ، وَالْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ فِي دَوْلَتِهِ، وَيَطْلُبُ أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُ وَيَسْمَعَ قَوْلَهُ، فَتَرَجَّلَ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: قُلْ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: لَوْ قَدَّمَ هَذَا الْقَوْلَ لَسَارَعْتُ وَأَطَعْتُ، وَأَمَّا الْآنَ فَلَا يُمْكِنُ إِلَّا مَا تَرَى. (وَحُمِلَ عَلَى الْمَسِيرَةِ) فَهَزَمَهَا، وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْهَا فَلَمَّا رَأَى الْعَزِيزُ ذَلِكَ حُمِلَ مِنَ الْقَلْبِ، وَأَمَرَ الْمَيْمَنَةَ (فَحُمِلَتْ، فَانْهَزَمَ الْقَرْمَطِيُّ وَالْفَتْكِينُ وَمَنْ مَعَهُمَا، وَوَضَعَ الْمَغَارِبَةُ السَّيْفَ، فَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ، وَقَتَلُوا نَحْوَ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَنَزَلَ الْعَزِيزُ فِي خِيَامِهِ، وَجَاءَهُ النَّاسُ بِالْأَسْرَى، فَكُلُّ مَنْ أَتَاهُ بِأَسِيرٍ خَلَعَ عَلَيْهِ، وَبَذَلَ لِمَنْ أَتَاهُ بِالْفَتْكِينِ أَسِيرًا مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، (وَكَانَ الْفَتْكِينُ) قَدْ مَضَى مُنْهَزِمًا فَكَظَّهُ الْعَطَشُ، فَلَقِيَهُ الْمُفَرِّجُ بْنُ دَغْفَلٍ الطَّائِيُّ وَكَانَ بَيْنَهُمَا أُنْسٌ قَدِيمٌ، فَطَلَبَ مِنْهُ الْفَتْكِينُ مَاءً، فَسَقَاهُ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى بَيْتِهِ فَأَنْزَلَهُ وَأَكْرَمَهُ، وَسَارَ إِلَى الْعَزِيزِ بِاللَّهِ فَأَعْلَمَهُ بِأَسْرِ الْفَتْكِينِ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْمَالَ، فَأَعْطَاهُ مَا ضَمِنَهُ، وَسَيَّرَ مَعَهُ مَنْ تَسَلَّمَ الْفَتْكِينُ مِنْهُ، فَلَمَّا وَصَلَ الْفَتْكِينُ إِلَى الْعَزِيزِ لَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ لِوَقْتِهِ، فَرَأَى مِنْ إِكْرَامِ الْعَزِيزِ لَهُ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ مَا أَعْجَزَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِالْخِيَامِ فَنُصِبَتْ، وَأَعَادَ إِلَيْهِ جَمِيعَ (مَنْ كَانَ يَخْدِمُهُ) ، فَلَمْ يَفْقِدْ مِنْ حَالِهِ شَيْئًا، وَحَمَلَ إِلَيْهِ مِنَ التُّحَفِ وَالْأَمْوَالِ مَا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى مِصْرَ وَجَعَلَهُ مَنْ أَخَصِّ خَدَمِهِ وَحُجَّابِهِ.

وَأَمَّا الْحَسَنُ الْقَرْمَطِيُّ فَإِنَّهُ وَصَلَ مُنْهَزِمًا إِلَى طَبَرِيَةَ، فَأَدْرَكَهُ رَسُولُ الْعَزِيزِ يَدْعُوهُ إِلَى الْعَوْدِ إِلَيْهِ لِيُحْسِنَ إِلَيْهِ، وَيَفْعَلَ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ مَعَ الْفَتْكِينِ، فَلَمْ يَرْجِعْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْعَزِيزُ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَجَعَلَهَا كُلَّ سَنَةٍ، فَكَانَ يُرْسِلُهَا إِلَيْهِ، وَعَادَ إِلَى الْأَحْسَاءِ. وَلَمَّا عَادَ الْعَزِيزُ إِلَى مِصْرَ أَنْزَلَ الْفَتْكِينُ عِنْدَهُ قَصْرَهُ، وَزَادَ أَمْرُهُ، وَتَحَكَّمَ، فَتَكَبَّرَ عَلَى وَزِيرِهِ يَعْقُوبَ بْنِ كِلِّسٍ، وَتَرَكَ الرُّكُوبَ إِلَيْهِ، فَصَارَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ مُتَأَكِّدَةٌ، فَوَضَعَ عَلَيْهِ مَنْ سَقَاهُ سُمًّا فَمَاتَ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ الْعَزِيزُ وَاتَّهَمَ الْوَزِيرَ فَحَبَسَهُ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَخَذَ مِنْهُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ وَقَفَتْ أُمُورُ دَوْلَةِ الْعَزِيزِ بِاعْتِزَالِ الْوَزِيرِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَعَادَهُ إِلَى وِزَارَتِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْحَجَّاجُ إِلَى سُمَيْرَاءَ فَرَأَوْا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ بِهَا، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِأَنْ يُرَى الْهِلَالُ بَعْدَهُ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَبَلَغَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الْمَاءَ إِلَى غَمْرَةَ، وَهُوَ بِهَا أَيْضًا قَلِيلٌ، وَبَيْنَهُمَا نَحْوُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَغَدَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَقَفُوا بِهَا وَعَادُوا، فَكَانُوا أَوَّلَ الْمُحَرَّمِ فِي الْكُوفَةِ. وَفِيهَا ظَهَرَ بِإِفْرِيقِيَّةَ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَلَهُ ذُؤَابَةٌ وَضَوْءٌ عَظِيمٌ، فَبَقِيَ يَطْلُعُ كَذَلِكَ نَحْوًا مِنْ شَهْرٍ ثُمَّ غَابَ فَلَمْ يُرَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْمُخَرِّمِيُّ الصُّوفِيُّ نَزِيلُ مَكَّةَ، وَكَانَ قَدْ صَحِبَ أَبَا عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيَّ وَطَبَقَتَهُ وَغَيْرَهُ.

ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَة] 365 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ الْعَزِيزِ بِاللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمُعِزُّ لِدِينِ اللَّهِ أَبُو تَمِيمٍ مَعَدُّ بْنُ الْمَنْصُورِ بِاللَّهِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ الْحُسَيْنِيِّ بِمِصْرَ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ، وَكَانَ مَوْتُهُ سَابِعَ عَشَرَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَوُلِدَ بِالْمَهْدِيَّةِ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ حَادِيَ عَشَرَ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَعُمْرُهُ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ تَقْرِيبًا. وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا كَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ بِإِفْرِيقِيَّةَ، فَخَلَا بِهِ بَعْضَ الْأَيَّامِ، فَقَالَ لَهُ الْمُعِزُّ: أَتَذْكُرُ إِذْ أَتَيْتَنِي رَسُولًا، وَأَنَا بِالْمَهْدِيَّةِ، فَقُلْتُ لَكَ: لَتَدْخُلَنَّ عَلَيَّ وَأَنَا بِمِصْرَ مَالِكًا لَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: وَأَنَا أَقُولُ لَكَ: لَتَدْخُلَنَّ عَلَيَّ بِبَغْدَاذَ وَأَنَا خَلِيفَةٌ.

فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ: إِنْ أَمَّنْتَنِي عَلَى نَفْسِي، وَلَمْ تَغْضَبْ، قُلْتُ لَكَ مَا عِنْدِي. قَالَ لَهُ الْمُعِزُّ: قُلْ وَأَنْتَ آمِنٌ، قَالَ: بَعَثَنِي إِلَيْكَ الْمَلِكُ ذَلِكَ الْعَامَ، فَرَأَيْتُ مِنْ عَظَمَتِكَ فِي عَيْنِي وَكَثْرَةِ أَصْحَابِكَ مَا كِدْتُ أَمُوتُ مِنْهُ، وَوَصَلْتُ إِلَى قَصْرِكَ، فَرَأَيْتُ عَلَيْهِ نُورًا عَظِيمًا غَطَّى بَصَرِي، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْكَ، فَرَأَيْتُكَ عَلَى سَرِيرِكَ، فَظَنَنْتُكَ خَالِقًا، فَلَوْ قُلْتَ لِي إِنَّكَ تَعْرُجُ إِلَى السَّمَاءِ لَتَحَقَّقْتُ ذَلِكَ، ثُمَّ جِئْتُ إِلَيْكَ الْآنَ، فَمَا رَأَيْتُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، أَشْرَفْتُ عَلَى مَدِينَتِكَ، فَكَانَتْ فِي عَيْنِي سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْكَ، فَمَا وَجَدْتُ مِنَ الْمَهَابَةِ مَا وَجَدْتُهُ ذَلِكَ الْعَامَ، فَقُلْتُ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا مُقْبِلًا، وَإِنَّهُ الْآنَ بِضِدِّ مَا كَانَ عَلَيْهِ. فَأَطْرَقَ الْمُعِزُّ وَخَرَجَ الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَخَذَتِ الْمُعِزَّ الْحُمَّى لِشِدَّةِ مَا وَجَدَ، وَاتَّصَلَ مَرَضُهُ حَتَّى مَاتَ. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، مِنْهَا: مُقَامُهُ بِمِصْرَ، وَالْبَاقِي بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَهُوَ أَوَّلُ الْخُلَفَاءِ الْعَلَوِيِّينَ مَلَكَ مِصْرَ وَخَرَجَ إِلَيْهَا، وَكَانَ مُغْرًى بِالنُّجُومِ، وَيَعْمَلُ بِأَقْوَالِ الْمُنَجِّمِينَ. قَالَ لَهُ مُنَجِّمُهُ: إِنَّ عَلَيْهِ قَطْعًا فِي وَقْتِ كَذَا، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِعَمَلِ سِرْدَابٍ يَخْتَفِي فِيهِ إِلَى أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ الْوَقْتُ، فَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ وَأَحْضَرَ قُوَّادَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَهْدًا أَنَا مَاضٍ إِلَيْهِ، وَقَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمُ ابْنِي نِزَارًا، يَعْنِي الْعَزِيزَ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا. وَنَزَلَ السِّرْدَابَ، فَكَانَ أَحَدُ الْمَغَارِبَةِ إِذَا رَأَى سَحَابًا نَزَلَ وَأَوْمَأَ بِالسَّلَامِ إِلَيْهِ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْمُعِزَّ فِيهِ. فَغَابَ سَنَةً ثُمَّ ظَهَرَ، وَبَقِيَ مُدَيْدَةً، وَمَرِضَ وَتُوُفِّيَ، فَسَتَرَ ابْنُهُ الْعَزِيزُ مَوْتَهُ إِلَى عِيدِ النَّحْرِ مِنَ السَّنَةِ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ وَخَطَبَهُمْ، وَدَعَا لِنَفْسِهِ، وَعَزَّى بِأَبِيهِ. وَكَانَ الْمُعِزُّ عَالِمًا، فَاضِلًا، جَوَّادًا شُجَاعًا، جَارِيًا عَلَى مِنْهَاجِ أَبِيهِ مِنْ حُسْنِ السِّيرَةِ، وَإِنْصَافِ الرَّعِيَّةِ، وَسَتْرِ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ، إِلَّا عَنِ الْخَاصَّةِ، ثُمَّ أَظْهَرُهُ، وَأَمَرَ الدُّعَاةَ بِإِظْهَارِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ فِيهِ إِلَى حَدٍّ يُذَمُّ بِهِ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْعَزِيزُ فِي الْمُلْكِ أَطَاعَهُ الْعَسْكَرُ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ هُوَ يُدَبِّرُ الْأُمُورَ مُنْذُ مَاتَ أَبُوهُ إِلَى أَنْ أَظْهَرَهُ، ثُمَّ سَيَّرَ إِلَى الْغَرْبِ دَنَانِيرَ عَلَيْهَا اسْمُهُ، فُرِّقَتْ فِي النَّاسِ، وَأَقَرَّ يُوسُفُ بُلُكِّينُ عَلَى وِلَايَةِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ مَا كَانَ أَبُوهُ اسْتَعْمِلْ عَلَيْهِ غَيْرَ يُوسُفَ، وَهِيَ

طَرَابُلُسَ، وَسُرْتُ، وَأَجْدَابِيَّةَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا يُوسُفُ عُمَّالَهُ، وَعَظُمَ حِينَئِذٍ، وَأَمِنَ نَاحِيَةَ الْعَزِيزِ، وَاسْتَبَدَّ بِالْمُلْكِ، وَكَانَ يُظْهِرُ الطَّاعَةَ مُجَامَلَةً، وَمُرَاقَبَةً لَا طَائِلَ وَرَاءَهَا. ذِكْرُ حَرْبِ يُوسُفَ بُلُكِّينَ مَعَ زَنَاتَةَ وَغَيْرِهَا بِإِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ خَزَرُونُ بْنُ فَلْفُولِ بْنِ خَزَرٍ الزَّنَاتِيَّ جَمْعًا كَثِيرًا، وَسَارَ إِلَى (سِجِلْمَاسَةَ، فَلَقِيَهُ صَاحِبُهَا فِي رَمَضَانَ فَقَتَلَهُ خَزَرُونُ وَمَلِكَ) سِجِلْمَاسَةَ، وَأَخَذَ مِنْهَا، مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْعُدَدِ، شَيْئًا كَثِيرًا وَبَعَثَ بِرَأْسِ صَاحِبِهَا إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَعَظُمَ شَأْنُ زَنَاتَةَ، وَاشْتَدَّ مُلْكُهَا. وَكَانَ بُلُكِّينُ عِنْدَ سَبْتَةَ، وَكَانَ قَدْ رَحَلَ إِلَى فَاسَ وَسِجِلْمَاسَةَ وَأَرْضِ الْهَبْطِ، وَمَلَكَهُ كُلَّهُ وَطَرَدَ عَنْهُ عُمَّالَ بَنِي أُمَيَّةَ وَهَرَبَتْ زَنَاتَةُ مِنْهُ، فَلَجَأَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى سَبْتَةَ، وَهِيَ لِلْأُمَوِيِّ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ فِي طَرِيقِهِ شِعَارِي مُشْتَبِكَةً، وَلَا تَسْلُكُ، فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا وَإِحْرَاقِهَا، فَقُطِعَتْ وَأُحْرِقَتْ حَتَّى صَارَتْ لِلْعَسْكَرِ طَرِيقًا. ثُمَّ مَضَى بِنَفْسِهِ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى سَبْتَةَ مِنْ جَبَلٍ مُطِلٍّ عَلَيْهَا، فَوَقَفَ نِصْفَ نَهَارٍ لِيَنْظُرَ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ يُحَاصِرُهَا وَيُقَاتِلُهَا، فَرَأَى أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ إِلَّا بِأُسْطُولٍ، فَخَافَهُ أَهْلُهَا خَوْفًا عَظِيمًا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا نَحْوَ الْبَصْرَةِ، وَهِيَ مَدِينَةٌ حَسَنَةٌ تُسَمَّى بُصْرَةَ فِي الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِهِ زَنَاتَةُ رَحَلُوا إِلَى أَقَاصِي الْغَرْبِ فِي الرِّمَالِ وَالصَّحَارَى هَارِبِينَ مِنْهُ فَدَخَلَ يُوسُفَ الْبَصْرَةَ، وَكَانَ قَدْ عَمَّرَهَا صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ عِمَارَةً عَظِيمَةً، فَأَمَرَ بِهَدْمِهَا وَنَهْبِهَا، وَرَحَلَ إِلَى بَلَدِ بِرْغَوَاطَةَ. وَكَانَ مَلِكُهُمْ عَبْسُ بْنُ أُمِّ الْأَنْصَارِ وَكَانَ مُشَعْبِذًا، سَاحِرًا وَادَّعَى النُّبُوَّةَ، فَأَطَاعُوهُ فِي كُلِّ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَجَعَلَ لَهُمْ شَرِيعَةً، فَغَزَاهُ بُلُكِّينُ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ عَظِيمَةٌ لَا تُوصَفُ كَانَ الظَّفَرُ فِي آخِرِهَا لِبُلُكِّينَ، وَقَتَلَ اللَّهُ عَبْسَ بْنَ أُمِّ الْأَنْصَارِ، وَهَزَمَ عَسَاكِرَهُ، وَقُتِلُوا قَتْلًا ذَرِيعًا، وَسَبَى مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ مَا لَا يُحْصَى، وَسَيَّرَهُ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، (فَقَالَ أَهْلُ

إِفْرِيقِيَّةَ) : إِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ إِلَيْهِمْ مِنَ السَّبْيِ مِثْلُهُ قَطُّ، وَأَقَامَ يُوسُفُ بُلُكِّينُ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ قَاهِرًا لِأَهْلِهَا، وَأَهْلُ سَبْتَةَ مِنْهُ خَائِفُونَ، وَزَنَاتَةُ هَارِبُونَ فِي الرِّمَالِ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ حَصْرِ كَسَنْتَةَ وَغَيْرِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ أَمِيرُ صِقِلِّيَّةَ، وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ، فِي عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُصْلِحِينَ وَالْعُلَمَاءِ، فَنَازَلَ مَدِينَةَ مَسِّينِي فِي رَمَضَانَ، فَهَرَبَ الْعَدُوُّ عَنْهَا، وَعَدَا الْمُسْلِمُونَ إِلَى كَسَنْتَةَ فَحَصَرُوهَا أَيَّامًا، فَسَأَلَ أَهْلُهَا الْأَمَانَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ مَالًا، وَرَحَلَ عَنْهَا إِلَى قَلْعَةِ جَلُّوا، فَفَعَلَ كَذَلِكَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، وَأَمَرَ أَخَاهُ الْقَاسِمَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْأُسْطُولِ إِلَى نَاحِيَةِ بَرْبُولَةَ وَيَبُثُّ السَّرَايَا فِي جَمِيعِ قِلَّوْرِيَةَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فَغَنِمَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَقَتَلَ وَسَبَى، وَعَادَ هُوَ وَأَخُوهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا كَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ أَمَرَ أَبُو الْقَاسِمِ بِعِمَارَةِ رَمْطَةَ، وَكَانَتْ قَدْ خَرِبَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَاوَدَ الْغَزْوَ وَجَمَعَ الْجُيُوشَ، وَسَارَ فَنَازَلَ قَلْعَةَ إِغَاثَةَ، فَطَلَبَ أَهْلُهَا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ الْقَلْعَةَ بِجَمِيعِ مَا فِيهَا وَرَحَلَ إِلَى مَدِينَةِ طَارَنْتَ، فَرَأَى أَهْلَهَا قَدْ هَرَبُوا مِنْهَا وَأَغْلَقُوا أَبْوَابَهَا، فَصَعِدَ النَّاسُ السُّورَ، وَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ، وَدَخَلَهَا النَّاسُ، فَأَمَرَ الْأَمِيرُ بِهَدْمِهَا فَهُدِمَتْ وَأُحْرِقَتْ، وَأَرْسَلَ السَّرَايَا فَبَلَغُوا أَذَرَنْتَ وَغَيْرَهَا، وَنَزَلَ هُوَ عَلَى مَدِينَةِ عَرْدَلِيَةَ، فَقَاتَلَهَا، فَبَذَلَ أَهْلُهَا لَهُ مَالًا صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خُطِبَ لِلْعَزِيزِ الْعَلَوِيِّ بِمَكَّةَ، حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى، بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَ جَيْشًا

إِلَيْهَا فَحَصَرُوهَا، وَضَيَّقُوا عَلَى أَهْلِهَا، وَمَنَعُوهُمُ الْمِيرَةَ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِهَا، وَلَقِيَ أَهْلُهَا شِدَّةً شَدِيدَةً. وَفِيهَا أَقَامَ بَسِيلُسُ بْنُ أَرْمَانُوسَ مَلِكُ الرُّومِ وَرْدًا، الْمَعْرُوفَ بِسَقْلَارُوسَ، دَمَسْتَقًا، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي الْوِلَايَةِ اسْتَوْحَشَ مِنَ الْمُلْكِ، فَعَصَى عَلَيْهِ، وَاسْتَظْهَرَ بِأَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ، وَصَاهَرَهُ، وَلَبِسَ التَّاجَ وَطَلَبَ الْمُلْكَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عُدَيٍّ الْجُرْجَانِيُّ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَهُوَ إِمَامٌ مَشْهُورٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَدْرٍ الْكَبِيرُ الْحَمَامِيُّ، غُلَامُ ابْنِ طُولُونَ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَ فَارِسَ بَعْدَ أَبِيهِ. وَفِيهَا، فِي ذِي الْقِعْدَةِ، تُوُفِّيَ ثَابِتُ بْنُ سِنَانِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ قُرَّةَ الصَّابِيُّ، صَاحِبُ " التَّارِيخِ ".

ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 366 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ وَمُلْكِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ رُكْنُ الدِّينِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ بُوَيْهٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى مَمَالِكِهِ ابْنَهُ عَضُدَ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ مَرَضِهِ حِينَ سَمِعَ بِقَبْضِ بَخْتِيَارَ ابْنَ أَخِيهِ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ ابْنُهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ قَدْ عَادَ مِنْ بَغْدَاذَ، بَعْدَ أَنْ أَطْلَقَ بَخْتِيَارَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَظَهَرَ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ غَضَبُ وَالِدِهِ عَلَيْهِ، فَخَافَ أَنْ يَمُوتَ أَبُوهُ وَهُوَ عَلَى حَالِ غَضَبِهِ (فَيَخْتَلَّ مُلْكُهُ، وَتَزُولَ طَاعَتُهُ) ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي الْفَتْحِ بْنِ الْعَمِيدِ، وَزِيرِ وَالِدِهِ، يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ مَعَ أَبِيهِ وَإِحْضَارَهُ عِنْدَهُ، وَأَنْ يَعْهَدَ إِلَيْهِ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ. فَسَعَى أَبُو الْفَتْحِ فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ رُكْنُ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ قَدْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً، فَسَارَ مِنَ الرَّيِّ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَوَصَلَهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأُحْضِرَ وَلَدُهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مِنْ فَارِسَ، وَجَمَعَ عِنْدَهُ أَيْضًا سَائِرَ أَوْلَادِهِ بِأَصْبَهَانَ، فَعَمِلَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ الْعَمِيدِ دَعْوَةً عَظِيمَةً حَضَرَهَا رُكْنُ الدَّوْلَةِ وَأَوْلَادَهُ، وَالْقُوَّادُ وَالْأَجْنَادُ. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ عَهِدَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ إِلَى وَلَدِهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِالْمُلْكِ، وَجَعَلَ لِوَلَدِهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيٍّ هَمَذَانَ وَأَعْمَالَ الْجَبَلِ، وَلِوَلَدِهِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ أَصْبَهَانَ وَأَعْمَالَهُ، وَجَعَلَهُمَا فِي هَذِهِ الْبِلَادِ بِحُكْمِ أَخِيهِمَا عَضُدِ الدَّوْلَةِ. - وَخَلَعَ (عَضُدُ الدَّوْلَةِ) عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، ذَلِكَ الْيَوْمَ، الْأَقْبِيَةَ وَالْأَكْسِيَةَ عَلَى زِيِّ الدَّيْلَمِ، وَحَيَّاهُ الْقُوَّادُ وَإِخْوَتُهُ بِالرَّيْحَانِ عَلَى عَادَتِهِمْ مَعَ مُلُوكِهِمْ، وَأَوْصَى رُكْنُ الدَّوْلَةِ أَوْلَادَهُ بِالِاتِّفَاقِ وَتَرْكِ الِاخْتِلَافِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ.

ثُمَّ سَارَ عَنْ أَصْبَهَانَ فِي رَجَبٍ نَحْوَ الرَّيِّ، فَدَامَ مَرَضُهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، فَأُصِيبَ بِهِ الدِّينُ وَالدُّنْيَا جَمِيعًا لِاسْتِكْمَالِ جَمِيعِ خِلَالِ الْخَيْرِ فِيهِ، وَكَانَ عُمْرُهُ قَدْ زَادَ عَلَى سَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ أَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ كَانَ حَلِيمًا، كَرِيمًا وَاسِعَ الْكَرَمِ، كَثِيرَ الْبَذْلِ، حَسَنَ السِّيَاسَةِ لِرَعَايَاهُ وَجُنْدِهِ، رَءُوفًا بِهِمْ، عَادِلًا فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ بَعِيدَ الْهِمَّةِ، عَظِيمَ الْجِدِّ وَالسَّعَادَةِ، مُتَحَرِّجًا مِنَ الظُّلْمِ، مَانِعًا لِأَصْحَابِهِ مِنْهُ، عَفِيفًا عَنِ الدِّمَاءِ، يَرَى حَقْنَهَا وَاجِبًا إِلَّا فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَكَانَ يُحَامِي عَلَى أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ، وَكَانَ يُجْرِي عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ، وَيَصُونُهُمْ عَنِ التَّبَذُّلِ، وَكَانَ يَقْصِدُ الْمَسَاجِدَ الْجَامِعَةَ، فِي أَشْهُرِ الصِّيَامِ، لِلصَّلَاةِ، وَيَنْتَصِبُ لِرَدِّ الْمَظَالِمِ، وَيَتَعَهَّدُ الْعَلَوِيِّينَ بِالْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْأَمْوَالِ الْجَلِيلَةِ عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَيَلِينُ جَانِبُهُ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ. قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ،، وَذَكَرَ لَهُ شَدَّ مَرْدَاوِيجَ، فَقَالَ: انْظُرُ كَيْفَ اخْتُرِمَ، وَوَثَبَ عَلَيْهِ أَخَصُّ أَصْحَابِهِ بِهِ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ لِعُنْفِهِ وَشِدَّتِهِ، وَكَيْفَ عَمَّرْتُ، وَأَحَبَّنِي النَّاسُ لِلِينِ جَانِبِي. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سَارَ فِي سَفَرٍ، فَنَزَلَ فِي خَرْكَاةٍ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ قَبْلَ أَصْحَابِهِ، وَقُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ، فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: لِأَيٍّ قِيلَ فِي الْمَثَلِ: خَيْرُ الْأَشْيَاءِ فِي الْقَرْيَةِ الْإِمَارَةُ؟ فَقَالَ صَاحِبُهُ: لِقُعُودِكَ فِي الْخَرْكَاةِ، وَهَذَا الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَأَنَا لَا خَرْكَاةَ وَلَا طَعَامَ، فَضَحِكَ وَأَعْطَاهُ الْخَرْكَاةَ وَالطَّعَامَ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْخُلُقِ مَا أَحْسَنَهُ وَمَا أَجْمَلَهُ. وَفِي فِعْلِهِ فِي حَادِثَةِ بَخْتِيَارَ مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ مُرُوءَتِهِ وَحُسْنِ عَهْدِهِ، وَصِلَتِهِ لِرَحِمِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (وَأَرْضَاهُ، وَكَانَ لَهُ حُسْنُ عَهْدٍ وَمَوَدَّةٍ وَإِقْبَالٍ) .

ذِكْرُ مَسِيرِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ إِلَى الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَجَهَّزَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ وَسَارَ يَطْلُبُ الْعِرَاقَ لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُ عَنْ بَخْتِيَارَ وَابْنِ بَقِيَّةَ مِنِ اسْتِمَالَةِ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ كَحَسْنُوَيْهِ الْكُرْدِيِّ، وَفَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَأَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ، وَعِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ، وَغَيْرِهِمْ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى مُعَادَاتِهِ، وَلِمَا كَانَا يَقُولَانِهِ مِنَ الشَّتْمِ الْقَبِيحِ لَهُ، وَلِمَا رَأَى مِنْ حُسْنِ الْعِرَاقِ وَعِظَمِ مَمْلَكَتِهِ غَيْرَ ذَلِكَ. وَانْحَدَرَ بَخْتِيَارُ إِلَى وَاسِطَ عَلَى عَزْمِ مُحَارَبَةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ حَسْنُوَيْهِ وَعَدَهُ أَنَّهُ يَحْضُرُ بِنَفْسِهِ لِنُصْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ، فَلَمْ يَفِ لَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. ثُمَّ سَارَ بَخْتِيَارُ إِلَى الْأَهْوَازِ، أَشَارَ بِذَلِكَ ابْنُ بَقِيَّةَ، وَسَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مِنْ فَارِسَ نَحْوَهُمْ، فَالْتَقَوْا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَاقْتَتَلُوا، فَخَامَرَ عَلَى بَخْتِيَارَ بَعْضُ عَسْكَرِهِ، وَانْتَقَلُوا إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَانْهَزَمَ بَخْتِيَارُ، وَأُخِذَ مَالُهُ وَمَالُ ابْنِ بَقِيَّةَ، وَنُهِبَتِ الْأَثْقَالُ وَغَيْرُهَا، وَلَمَّا وَصَلَ بَخْتِيَارُ إِلَى وَاسِطَ حَمَلَ إِلَيْهِ ابْنُ شَاهِينَ صَاحِبُ الْبَطِيحَةِ مَالًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْهَدَايَا النَّفِيسَةِ، وَدَخَلَ بَخْتِيَارُ إِلَيْهِ، فَأَكْرَمَهُ، وَحَمَلَ مَالًا جَلِيلًا، وَأَعْلَاقًا نَفِيسَةً، وَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ قَوْلِ عِمْرَانَ: إِنَّ بَخْتِيَارَ سَيَدْخُلُ مَنْزِلِي وَسَيَسْتَجِيرُ بِي، فَكَانَ كَمَا ذَكَرَ، ثُمَّ أَصْعَدَ بَخْتِيَارَ إِلَى وَاسِطَ. وَأَمَّا عَضُدُ الدَّوْلَةِ فَإِنَّهُ سَيَّرَ إِلَى الْبَصْرَةِ جَيْشًا فَمَلَكُوهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَهَا اخْتَلَفُوا، وَكَانَتْ مُضَرُ تَهْوَى عَضُدَ الدَّوْلَةِ، وَتَمِيلُ إِلَيْهِ لِأَسْبَابٍ قَرَّرَهَا مَعَهُمْ، وَخَالَفَتْهُمْ رَبِيعَةُ، وَمَالَتْ إِلَى بَخْتِيَارَ، فَلَمَّا انْهَزَمَ ضَعُفُوا، وَقَوِيَتْ مُضَرُ، وَكَاتَبُوا عَضُدَ الدَّوْلَةِ، وَطَلَبُوا مِنْهُ إِنْفَاذَ جَيْشٍ إِلَيْهِمْ، فَسَيَّرَ جَيْشًا تَسَلَّمَ الْبَلَدَ وَأَقَامَ عِنْدَهُمْ. وَأَقَامَ بَخْتِيَارُ بِوَاسِطَ، وَأَحْضَرَ مَا كَانَ لَهُ بِبَغْدَاذَ وَالْبَصْرَةِ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ فَفَرَّقَهُ (فِي أَصْحَابِهِ) ، ثُمَّ إِنَّهُ قَبَضَ عَلَى ابْنِ بَقِيَّةَ لِأَنَّهُ اطَّرَحَهُ وَاسْتَبَدَّ بِالْأُمُورِ دُونَهُ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يُوصِلْ إِلَى بَخْتِيَارَ مِنْهَا شَيْئًا، وَأَرَادَ أَيْضًا التَّقَرُّبَ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِقَبْضِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُفْسِدُ الْأَحْوَالَ بَيْنَهُمْ. وَلَمَّا قَبَضَ عَلَيْهِ أَخَذَ أَمْوَالَهُ فَفَرَّقَهَا، وَرَاسَلَ عَضُدَ الدَّوْلَةِ فِي الصُّلْحِ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بِذَلِكَ، وَكَانَ أَصْحَابُ بَخْتِيَارَ يَخْتَلِفُونَ عَلَيْهِ، فَبَعْضُهُمْ يُشِيرُ بِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَنْهَى عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ أَتَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَبَدْرٌ ابْنَا حَسْنُوَيْهِ فِي نَحْوِ أَلْفِ فَارِسٍ مَعُونَةً لَهُ، فَلَمَّا وَصَلَا إِلَيْهِ أَظْهَرَ الْمُقَامَ بِوَاسِطَ وَمُحَارَبَةَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ. فَاتَّصَلَ بِعَضُدِ الدَّوْلَةِ أَنَّهُ نَقَضَ الشَّرْطَ، ثُمَّ بَدَا لِبَخْتِيَارَ فِي

الْمَسِيرِ، فَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَعَادَ عَنْهُ ابْنَا حَسْنُوَيْهِ إِلَى أَبِيهِمَا، وَأَقَامَ بَخْتِيَارُ بِبَغْدَاذَ وَانْقَضَتِ السَّنَةُ وَهُوَ بِهَا، وَسَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطَ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَأَصْلَحَ بَيْنَ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، وَكَانُوا فِي الْحُرُوبِ وَالِاخْتِلَافِ نَحْوَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَمِنْ عَجِيبِ مَا جَرَى لِبَخْتِيَارَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ غُلَامٌ تُرْكِيٌّ يَمِيلُ إِلَيْهِ، فَأُخِذَ فِي جُمْلَةِ الْأَسْرَى، وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ عَنْ بَخْتِيَارَ، فَحَزِنَ لِذَلِكَ، وَامْتَنَعَ مِنْ لَذَّاتِهِ وَالِاهْتِمَامِ بِمَا رُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ زَوَالِ مُلْكِهِ وَذَهَابِ نَفْسِهِ، حَتَّى قَالَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ: إِنَّ فَجِيعَتِي بِهَذَا الْغُلَامِ أَعْظَمُ مِنْ فَجِيعَتِي بِذَهَابِ مُلْكِي، ثُمَّ سَمِعَ أَنَّهُ فِي جُمْلَةِ الْأَسْرَى، فَأَرْسَلَ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ يَبْذُلُ لَهُ مَا أَحَبَّ فِي رَدِّهِ إِلَيْهِ، فَأَعَادَهُ عَلَيْهِ، وَسَارَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ عَنْهُ، فَازْدَادَ فَضِيحَةً وَهَوَانًا عِنْدَ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ. ذِكْرُ وَفَاةِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحٍ وَمُلْكِ ابْنِهِ نُوحٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ صَاحِبُ خُرَاسَانَ، وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، مُنْتَصَفَ شَوَّالٍ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِبُخَارَى، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَوَلِيَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْقَاسِمِ نُوحٌ، وَكَانَ عُمْرُهُ حِينَ وَلِيَ الْأَمْرَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلُقِّبَ بِالْمَنْصُورِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْقَاضِي مُنْذِرٌ الْبَلُّوطِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، مَاتَ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ، أَبُو الْحَاكِمِ، قَاضِي قُضَاةِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ إِمَامًا فَقِيهًا، خَطِيبًا، شَاعِرًا، فَصِيحًا، ذَا دِينٍ مَتِينٍ، دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ، صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ، بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الزَّهْرَاءِ وَقُصُورِهَا، وَقَدْ قَعَدَ فِي قُبَّةٍ مُزَخْرَفَةٍ بِالذَّهَبِ، وَالْبِنَاءِ الْبَدِيعِ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ النَّاصِرُ: هَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ أَحَدًا بَنَى مِثْلَ هَذَا الْبِنَاءِ؟ فَقَالَ لَهُ الْجَمَاعَةُ: لَمْ

نَرَ وَلَمْ نَسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَأَثْنَوْا وَبَالَغُوا، وَالْقَاضِي مُطْرِقٌ، فَاسْتَنْطَقَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَبَكَى الْقَاضِي، وَانْحَدَرَتْ دُمُوعُهُ عَلَى لِحْيَتِهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الشَّيْطَانَ، أَخْزَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، يَبْلُغُ مِنْكَ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ قِيَادِكَ هَذَا التَّمَكُّنَ، مَعَ مَا آتَاكَ اللَّهُ، وَفَضَّلَكَ بِهِ، حَتَّى أَنْزَلَكَ مَنَازِلَ الْكَافِرِينَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: انْظُرْ مَا تَقُولُ، وَكَيْفَ أَنْزَلَنِي مَنْزِلَ الْكَافِرِينَ؟ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا} [الزخرف: 33] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35] . فَوَجَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبَكَى، وَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَكْثَرَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِثْلَكَ. وَأَخْبَارُ هَذَا الْقَاضِي كَثِيرَةٌ حَسَنَةٌ جِدًّا، مِنْهَا: أَنَّهُ قَحَطَ النَّاسُ وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ، فَقَالَ الْقَاضِي لِلرَّسُولِ: يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي يَصْنَعُهُ الْأَمِيرُ يَوْمَنَا هَذَا؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ أَخْشَعَ مِنْهُ الْآنَ، قَدْ لَبِسَ خَشِنَ الثِّيَابِ، وَافْتَرَشَ التُّرَابَ، وَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَبَكَى، وَاعْتَرَفَ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ: هَذِهِ نَاصِيَتِي بِيَدَيْكَ، أَتُرَاكَ تُعَذِّبُ هَذَا الْخَلْقَ لِأَجْلِي؟ فَقَالَ الْقَاضِي يَا غُلَامُ احْمِلِ الْمِمْطَرَ مَعَكَ، فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ بِسُقْيَانَا، إِذَا خَشَعَ جَبَّارُ الْأَرْضِ رَحِمَ جَبَّارُ السَّمَاءِ، فَخَرَجَ وَاسْتَسْقَى بِالنَّاسِ، فَلَمَّا صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَرَأَى النَّاسَ قَدْ شَخَصُوا إِلَيْهِ بِأَبْصَارِهِمْ قَالَ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ} [الأنعام: 54] الْآيَةَ، وَكَرَّرَهَا، فَضَجَّ النَّاسُ بِالْبُكَاءِ وَالتَّوْبَةِ، وَتَمَّمَ خُطْبَتَهُ فَسُقِيَ النَّاسُ. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى أَبِي الْفَتْحِ بْنِ الْعَمِيدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى أَبِي الْفَتْحِ بْنِ الْعَمِيدِ، وَزِيرِ أَبِيهِ، وَسَمَلَ عَيْنَهُ الْوَاحِدَةَ وَقَطَعَ أَنْفَهُ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْفَتْحِ لَمَّا كَانَ بِبَغْدَاذَ مَعَ (عَضُدِ الدَّوْلَةِ، عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ، وَسَارَ) عَضُدُ الدَّوْلَةِ نَحْوَ فَارِسَ تَقَدَّمَ إِلَى أَبِي الْفَتْحِ بِتَعْجِيلِ الْمَسِيرِ عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى الرَّيِّ،

فَخَالَفَهُ وَأَقَامَ، وَأَعْجَبَهُ الْمُقَامُ بِبَغْدَاذَ، وَشَرِبَ مَعَ بَخْتِيَارَ، وَمَالَ فِي هَوَاهُ، وَاقْتَنَى بِبَغْدَاذَ أَمْلَاكًا وَدُورًا عَلَى عَزْمِ الْعَوْدِ إِلَيْهَا إِذَا مَاتَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ صَارَ يُكَاتِبُ بَخْتِيَارَ بِأَشْيَاءَ يَكْرَهُهَا عَضُدُ الدَّوْلَةِ. (وَكَانَ لَهُ نَائِبٌ يَعْرِضُهَا عَلَى بَخْتِيَارَ، فَكَانَ ذَلِكَ النَّائِبُ يُكَاتِبُ بِهَا عَضُدَ الدَّوْلَةِ) سَاعَةً فَسَاعَةً، (فَلَمَّا مَلَكَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ) بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بِالرَّيِّ يَأْمُرُهُ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَانْقَلَعَ بَيْتُ الْعَمِيدِ عَلَى يَدِهِ كَمَا ظَنَّهُ أَبُوهُ الْفَضْلُ. وَكَانَ أَبُو الْفَتْحِ لَيْلَةَ قُبِضَ قَدْ أَمْسَى مَسْرُورًا، فَأَحْضَرَ النُّدَمَاءَ وَالْمُغَنِّينَ، وَأَظْهَرَ مِنَ الْآلَاتِ الذَّهَبِيَّةِ، وَالزُّجَاجِ الْمَلِيحِ، وَأَنْوَاعِ الطِّيبِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِثْلُهُ، وَشَرِبُوا، وَعَمِلَ شِعْرًا وَغُنِّيَ لَهُ فِيهِ وَهُوَ: دَعَوْتُ الْمُنَى وَدَعَوْتُ الْعُلَى ... فَلَمَّا أَجَابَا دَعَوْتُ الْقَدَحْ وَقُلْتُ لِأَيَّامِ شَرْخِ الشَّبَابِ ... إِلَيَّ فَهَذَا أَوَانُ الْفَرَحْ إِذَا بَلَغَ الْمَرْءُ آمَالَهُ ... فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَهَا مُقْتَرَحْ فَلَمَّا غُنِّيَ فِي الشِّعْرِ اسْتَطَابَهُ، وَشَرِبَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ سَكِرَ، وَقَامَ وَقَالَ لِغِلْمَانِهِ: اتْرُكُوا الْمَجْلِسَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لِنَصْطَبِحَ غَدًا، وَقَالَ لِنُدَمَائِهِ: بَكِّرُوا إِلَيَّ غَدًا لِنَصْطَبِحَ، وَلَا تَتَأَخَّرُوا. فَانْصَرَفَ النُّدَمَاءُ، وَدَخَلَ هُوَ إِلَى بَيْتِ مَنَامِهِ، فَلَمَّا كَانَ السَّحَرُ دَعَاهُ مُؤَيَّدُ الدَّوْلَةِ فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى دَارِهِ فَأَخَذَ جَمِيعَ مَا فِيهَا وَمِنْ جُمْلَتِهِ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ بِمَا فِيهِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْحَاكِمِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ هِشَامٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْحَاكِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ الْأُمَوِيُّ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَعُمْرُهُ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ أَصْهَبَ أَعْيَنَ، أَقْنَى، عَظِيمَ

الصَّوْتِ، ضَخْمَ الْجِسْمِ، أَفْقَمَ، وَكَانَ مُحِبًّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ، عَالِمًا فَقِيهًا فِي الْمَذَاهِبِ، عَالِمًا بِالْأَنْسَابِ وَالتَّوَارِيخِ، جَمَّاعًا لِلْكُتُبِ وَالْعُلَمَاءِ، مُكْرِمًا لَهُمْ، مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ، أَحْضَرَهُمْ مِنَ الْبُلْدَانِ الْبَعِيدَةِ لِيَسْتَفِيدَ مِنْهُمْ وَيُحْسِنَ إِلَيْهِمْ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ هِشَامٌ بِعَهْدِ أَبِيهِ، وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ، وَلُقِّبَ الْمُؤَيَّدَ بِاللَّهِ، وَاخْتَلَفَتِ الْبِلَادُ فِي أَيَّامِهِ، وَأُخِذَ وَحُبِسَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِمَارَةِ. وَسَبَبُهُ أَنَّهُ لَمَّا وَلِيَ الْمُؤَيَّدُ تَحَجَّبَ لَهُ الْمَنْصُورُ أَبُو عَامِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الْمَعَافِرِيُّ، وَابْنَاهُ الْمُظَفَّرُ وَالنَّاصِرُ، فَلَمَّا حَجَبَ لَهُ أَبُو عَامِرٍ حَجَبَهُ عَنِ النَّاسِ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرَاهُ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ، وَقَامَ بِأَمْرِ دَوْلَتِهِ الْقِيَامَ الْمَرْضِيَّ، وَعَدَلَ فِي الرَّعِيَّةِ، وَأَقْبَلَتِ الدُّنْيَا إِلَيْهِ، وَاشْتَغَلَ بِالْغَزْوِ، وَفَتَحَ مِنْ بِلَادِ الْأَعْدَاءِ كَثِيرًا، وَامْتَلَأَتْ بِلَادُ الْأَنْدَلُسِ بِالْغَنَائِمِ وَالرَّقِيقِ، وَجَعَلَ أَكْثَرَ جُنْدِهِ مِنْهُمْ كَوَاضِحٍ الْفَتَى وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَشْهُورِينَ، وَكَانُوا يُعْرَفُونَ بِالْعَامِرِيِّينَ. (وَأَدَامَ اللَّهُ) لَهُ الْحَالَ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، غَزَا فِيهَا اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ غَزَاةً مَا بَيْنَ صَائِفَةٍ وَشَاتِيَةٍ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ حَازِمًا، قَوِيَّ الْعَزْمِ، كَثِيرَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، حَسَنَ السِّيَاسَةِ. فَمِنْ مَحَاسِنِ أَعْمَالِهِ: أَنَّهُ دَخَلَ بِلَادَ الْفِرِنْجِ غَازِيًا، فَجَازَ الدَّرْبَ إِلَيْهَا، وَهُوَ مَضِيقٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، وَأَوْغَلَ فِي بِلَادِ الْفِرِنْجِ يَسْبِي، وَيُخَرِّبُ، وَيَغْنَمُ، فَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ رَآهُمْ قَدْ سَدُّوا الدَّرْبَ وَهُمْ عَلَيْهِ يَحْفَظُونَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْمُقَامَ فِي بِلَادِهِمْ، وَشَرَعَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ فِي عِمَارَةِ الْمَسَاكِنِ وَزَرْعِ الْغَلَّاتِ، وَأَحْضَرُوا الْحَطَبَ، وَالتِّبْنَ، وَالْمِيرَةَ، وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْا عَزْمَهُ عَلَى الْمُقَامِ مَالُوا إِلَى السِّلْمِ، فَرَاسَلُوهُ فِي تَرْكِ الْغَنَائِمِ وَالْجَوَازِ إِلَى بِلَادِهِ، فَقَالَ: أَنَا عَازِمٌ عَلَى الْمُقَامِ، فَتَرَكُوا لَهُ الْغَنَائِمَ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى الصُّلْحِ، فَبَذَلُوا لَهُ مَالًا، وَدَوَابَّ تَحْمِلُ لَهُ مَا غَنِمَهُ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى الصُّلْحِ، وَفَتَحُوا الدَّرْبَ، فَجَازَ إِلَى بِلَادِهِ. وَكَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ، وَوَرَدَ شَابًّا إِلَى قُرْطُبَةَ، طَالِبًا لِلْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَسَمَاعِ الْحَدِيثِ، فَبَرَعَ فِيهَا وَتَمَيَّزَ، ثُمَّ تَعَلَّقَ بِخِدْمَةِ صُبْحَ وَالِدَةِ الْمُؤَيَّدِ، وَعَظُمَ مَحَلُّهُ عِنْدَهَا، فَلَمَّا مَاتَ الْحَاكِمُ الْمُسْتَنْصِرُ كَانَ الْمُؤَيَّدُ صَغِيرًا، فَخِيفَ عَلَى الْمُلْكِ أَنْ يَخْتَلَّ، فَضَمِنَ لِصُبْحَ سُكُونَ الْبِلَادِ، وَزَوَالَ الْخَوْفِ، وَكَانَ قَوِيَّ النَّفْسِ، وَسَاعَدَتْهُ الْمَقَادِيرُ،

وَأَمَدَّتْهُ الْأُمَرَاءُ بِالْأَمْوَالِ، فَاسْتَمَالَ الْعَسَاكِرَ، وَجَرَتِ الْأُمُورُ عَلَى أَحْسَنِ نِظَامٍ. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَمِيمِيَّةً، وَأَبُوهُ مَعَافِرِيًّا، بَطْنٌ مِنْ حِمْيَرَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ الْمُلَقَّبُ بِالْمُظَفَّرِ، فَسَارَ كَسَيْرَةِ أَبِيهِ، وَتُوَفِّيَ سُنَّةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَبْعَ سِنِينَ. وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ سَمَّهُ فِي تُفَّاحَةٍ قَطَعَهَا بِسِكِّينٍ كَانَ قَدْ سَمَّ أَحَدَ جَانِبَيْهَا، فَنَاوَلَ أَخَاهُ مَا يَلِي الْجَانِبَ الْمَسْمُومَ، وَأَخَذَ هُوَ مَا يَلِي الْجَانِبَ الصَّحِيحَ، فَأَكَلَهُ بِحَضْرَتِهِ، فَاطْمَأَنَّ الْمُظَفَّرُ، وَأَكَلَ مَا بِيَدِهِ مِنْهَا فَمَاتَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِي بَعْدَهُ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُلَقَّبُ بِالنَّاصِرِ، فَسَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِ أَبِيهِ وَأَخِيهِ، وَأَخَذَ فِي الْمُجُونِ، وَشُرْبِ الْخُمُورِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ دَسَّ إِلَى الْمُؤَيَّدِ مَنْ خَوَّفَهُ مِنْهُ إِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَحَقَدَ النَّاسُ وَبَنُو أُمَيَّةَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَأَبْغَضُوهُ، وَتَحَرَّكُوا فِي أَمْرِهِ إِلَى أَنْ قُتِلَ. وَغَزَا شَاتِيَةً، وَأَوْغَلَ فِي بِلَادِ الْجَلَالِقَةِ، فَلَمْ يُقْدِمْ مَلِكُهَا عَلَى لِقَائِهِ، وَتَحَصَّنَ مِنْهُ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى اتِّبَاعِهِ لِزِيَادَةِ الْأَنْهَارِ، وَكَثْرَةِ الثُّلُوجِ، فَأَثْخَنَ فِي الْبِلَادِ الَّتِي وَطِئَهَا، وَخَرَجَ مَوْفُورًا، فَبَلَغَهُ فِي طَرِيقِهِ ظُهُورُ مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ بِقُرْطُبَةَ، وَاسْتِيلَاؤُهُ عَلَيْهَا وَأَخْذُهُ الْمُؤَيَّدَ أَسِيرًا، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ عَسْكَرُهُ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا خَاصَّتُهُ، فَسَارَ إِلَى قُرْطُبَةَ لِيَتَلَافَى ذَلِكَ الْخَطْبَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَسْكَرُ مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامٍ فَقَتَلُوهُ وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى قُرْطُبَةَ فَطَافُوا بِهِ، وَكَانَ قَتْلُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ صَلَبُوهُ. ذِكْرُ ظُهُورِ مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامٍ بِقُرْطُبَةَ وَفِي سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ظَهَرَ بِقُرْطُبَةَ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ الْأُمَوِيِّ، وَمَعَهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَبَايَعَهُ النَّاسُ. وَكَانَ ظُهُورُهُ سَلْخَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَتَلَقَّبَ بِالْمَهْدِيِّ بِاللَّهِ، وَمَلَكَ قُرْطُبَةَ، وَأَخَذَ الْمُؤَيَّدَ فَحَبَسَهُ مَعَهُ فِي الْقَصْرِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَأَخْفَاهُ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ مَاتَ. وَكَانَ قَدْ مَاتَ إِنْسَانٌ نَصْرَانِيٌّ يُشْبِهُ الْمُؤَيَّدَ، فَأَبْرَزَهُ لِلنَّاسِ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّهُ الْمُؤَيَّدُ، فَلَمْ يَشُكُّوا فِي مَوْتِهِ، وَصَلَّوْا عَلَيْهِ، وَدَفَنُوهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ

إِنَّهُ أَظْهَرَهُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ، فَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَةِ الْمُؤَيَّدِ هَذِهِ إِلَى أَنْ حُبِسَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَنَقَمَ النَّاسُ عَلَى ابْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَشْيَاءَ مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ النَّبِيذَ فِي قَصْرِهِ، فَسَمَّوْهُ نَبَّاذًا، وَمِنْهَا فِعْلُهُ بِالْمُؤَيَّدِ، وَأَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا، مُتَلَوِّنًا، مُبْغِضًا لِلْبَرْبَرِ، فَانْقَلَبَ النَّاسُ عَلَيْهِ. ذِكْرُ خُرُوجِ هِشَامِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ لَمَّا اسْتَوْحَشَ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ مِنِ ابْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَأَبْغَضُوهُ، قَصَدُوا هِشَامَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، فَأَخْرَجُوهُ مِنْ دَارِهِ، وَبَايَعُوهُ، فَتَلَقَّبَ بِالرَّشِيدِ، وَذَلِكَ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، وَاجْتَمَعُوا بِظَاهِرِ قُرْطُبَةَ، وَحَصَرُوا ابْنَ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ لِيَخْلَعَ ابْنَ عَبْدِ الْجَبَّارِ مِنَ الْمُلْكِ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنَهُ وَأَهْلَهُ (وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ) . ثُمَّ إِنَّ ابْنَ عَبْدِ الْجَبَّارِ جَمَعَ أَصْحَابَهُ وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَاتَلَهُمْ، فَانْهَزَمَ هِشَامٌ وَأَصْحَابُهُ، وَأُخِذَ هِشَامٌ أَسِيرًا فَقَتَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَقَتَلَ مَعَهُ عِدَّةً مِنْ قُوَّادِهِ، اسْتَقَرَّ أَمْرُ ابْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَكَانَ عَمَّ هِشَامٍ. ذِكْرُ خُرُوجِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا وَلَمَّا قَتَلَ ابْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ هِشَامَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ نَاصِرٍ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، انْهَزَمَ مَعَهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَاكِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ نَاصِرٍ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي هِشَامٍ الْمَقْتُولِ، فَبَايَعَهُ أَصْحَابُ عَمِّهِ، وَأَكْثَرُهُمُ الْبَرْبَرُ، بَعْدَ الْوَقْعَةِ بِيَوْمَيْنِ، وَلَقَّبُوهُ الْمُسْتَعِينَ بِاللَّهِ، ثُمَّ لُقِّبَ بِالظَّاهِرِ بِاللَّهِ، وَسَارُوا إِلَى النَّصَارَى فَصَالَحُوهُمْ وَاسْتَنْجَدُوهُمْ وَأَنْجَدُوهُمْ، وَسَارُوا مَعَهُمْ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَابْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بِقَنْتِيجَ، وَهِيَ الْوَقْعَةُ الْمَشْهُورَةُ غَزَوْا فِيهَا وَقُتِلَ مَا لَا يُحْصَى، فَانْهَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَتَحَصَّنَ بِقَصْرِ قُرْطُبَةَ، وَدَخَلَ سُلَيْمَانُ الْبَلَدَ، وَحَصَرَهُ فِي الْقَصْرِ. فَلَمَّا رَأَى ابْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ مَا نَزَلَ بِهِ أَظْهَرَ الْمُؤَيَّدَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ (يُخْلَعُ هُوَ وَسُلَيْمَانُ وَيَرْجِعُ الْأَمْرُ إِلَى الْمُؤَيَّدِ، فَلَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ) الْمُؤَيِّدَ قَدْ مَاتَ. فَلَمَّا أَعْيَاهُ

الْأَمْرُ احْتَالَ فِي الْهَرَبِ، فَهَرَبَ سِرًّا وَاخْتَفَى، وَدَخَلَ سُلَيْمَانُ الْقَصْرَ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ بِالْخِلَافَةِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ، وَبَقِيَ بِقُرْطُبَةَ أَيَّامًا، وَكَانَ عِدَّةُ الْقَتْلَى بِقَنْتِيجَ نَحْوَ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَأَغَارَ الْبَرْبَرُ وَالرُّومُ عَلَى قُرْطُبَةَ فَنَهَبُوا وَسَبَوْا وَأَسَرُوا عَدَدًا عَظِيمًا. ذِكْرُ عَوْدِ ابْنِ الْجَبَّارِ وَقَتْلِهِ وَعَوْدِ الْمُؤَيَّدِ لَمَّا اخْتَفَى ابْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ سَارَ سِرًّا إِلَى طُلَيْطِلَةَ، وَأَتَاهُ وَاضِحٌ الْفَتَى الْعَامِرِيُّ فِي أَصْحَابِهِ، وَجَمَعَ لَهُ النَّصَارَى وَسَارَ بِهِمْ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ سُلَيْمَانُ فَالْتَقَوْا بِقُرْبِ عَقَبَةِ الْبَقَرِ، وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، فَانْهَزَمَ سُلَيْمَانُ وَمَنْ مَعَهُ مُنْتَصَفَ شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ، وَمَضَى سُلَيْمَانُ إِلَى شَاطِبَةَ، وَدَخَلَ ابْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ قُرْطُبَةَ وَجَدَّدَ الْبَيْعَةَ لِنَفَسِهِ، وَجَعَلَ الْحِجَابَةَ لِوَاضِحٍ وَتَصَرَّفَ بِالِاخْتِيَارِ. ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْفِتْيَانِ الْعَامِرِيِّينَ، مِنْهُمْ عَنْبَرٌ، وَخَيْرُونُ، وَغَيْرُهُمَا، كَانُوا مَعَ سُلَيْمَانَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ يَطْلُبُونَ قَبُولَ طَاعَتِهِمْ، وَأَنْ يَجْعَلَهُمْ فِي جُمْلَةِ رِجَالِهِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ مَكِيدَةً بِهِ لِيَقْتُلُوهُ، فَلَمَّا دَخَلُوا قُرْطُبَةَ اسْتَمَالُوا وَاضِحًا فَأَجَابَهُمْ إِلَى قَتْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ تَاسِعُ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ اجْتَمَعُوا فِي الْقَصْرِ فَمَلَكُوهُ، وَأَخَذُوا ابْنَ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَسِيرًا، وَأَخْرَجُوا الْمُؤَيَّدَ بِاللَّهِ فَأَجْلَسُوهُ مَجْلِسَ الْخِلَافَةِ وَبَايَعُوهُ، وَأَحْضَرُوا ابْنَ عَبْدِ الْجَبَّارِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَدَّدَ ذُنُوبَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُتِلَ، وَطِيفَ بِرَأْسِهِ فِي قُرْطُبَةَ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَذْكُرَ هَذِهِ الْحَوَادِثَ مُتَأَخِّرَةً، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَاهَا لِتَعَلُّقِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، (وَلِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ لَيْسَ لَهُ مِنْ طُولِ الْمُدَّةِ مَا تُؤَخَّرُ أَخْبَارُهُ وَتُفَرَّقُ) . ذِكْرُ عَوْدِ أَبِي الْمَعَالِي بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ إِلَى مُلْكِ حَلَبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ أَبُو الْمَعَالِي شَرِيفُ بْنُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ مُلْكَ حَلَبَ وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ قَرْغَوَيْهِ لَمَّا تَغَلَّبَ عَلَيْهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَوْلَاهُ أَبَا الْمَعَالِي، (كَمَا ذَكَرْنَاهُ

سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَسَارَ أَبُو الْمَعَالِي إِلَى وَالِدَتِهِ بِمَيَّافَارِقِينَ) ، ثُمَّ أَتَى حَمَاةَ، وَهِيَ لَهُ، فَنَزَلَ بِهَا، وَكَانَتِ الرُّومُ قَدْ خَرَّبَتْ حِمْصَ وَأَعْمَالَهَا، وَقَدْ ذُكِرَ أَيْضًا، فَنَزَلَ إِلَيْهِ يَارْقَتَاشُ مَوْلَى أَبِيهِ، وَهُوَ بِحِصْنِ بَرْزُويَهْ، وَخَدَمَهُ، وَعَمَّرَ لَهُ مَدِينَةَ حِمْصَ، فَكَثُرَ أَهْلُهَا. وَكَانَ قَرْغَوَيْهِ قَدِ اسْتَنَابَ بِحَلَبَ مَوْلًى لَهُ اسْمُهُ بَكْجُورُ، فَقَوِيَ بَكْجُورُ وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ، وَقَبَضَ عَلَى مَوْلَاهُ قَرْغَوَيْهِ، وَحَبَسَهُ فِي قَلْعَةِ حَلَبَ، وَأَقَامَ بِهَا نَحْوَ سِتِّ سِنِينَ، فَكَتَبَ مَنْ بِحَلَبَ مِنْ أَصْحَابِ قَرْغَوَيْهِ إِلَى أَبِي الْمَعَالِي بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ لِيَقْصِدَ حَلَبَ وَيَمْلِكَهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا، وَحَصَرَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَمَلَكَهَا. وَبَقِيَتِ الْقَلْعَةُ بِيَدِ بَكْجُورَ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، فَأَجَابَ إِلَى التَّسْلِيمِ عَلَى أَنَّ يُؤَمِّنَهُ فِي نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَيُوَلِّيَهُ حِمْصَ، وَطَلَبَ بَكْجُورُ أَنْ يَحْضُرَ هَذَا الْأَمَانَ وَالْعَهْدَ وُجُوهُ بَنِي كِلَابٍ، فَفَعَلَ أَبُو الْمَعَالِي ذَلِكَ، وَأَحْضَرَهُمُ الْأَمَانَ وَالْعَهْدَ، وَسَلَّمَ قَلْعَةَ حَلَبَ إِلَى أَبِي الْمَعَالِي، وَسَارَ بَكْجُورُ إِلَى حِمْصَ فَوَلِيَهَا لِأَبِي الْمَعَالِي، وَصَرَفَ هِمَّتَهُ إِلَى عِمَارَتِهَا، وَحِفْظِ الطُّرُقِ، فَازْدَادَتْ عِمَارَتُهَا، وَكَثُرَ الْخَيْرُ بِهَا، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى وِلَايَةِ دِمَشْقَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ دَوْلَةِ آلِ سُبُكْتِكِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ سُبُكْتِكِينُ مَدِينَةَ غَزْنَةَ وَأَعْمَالَهَا، وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ غِلْمَانِ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ الْبَتْكِينِ، صَاحِبِ جَيْشِ غَزْنَةَ لِلسَّامَانِيَّةِ، وَكَانَ مُقَدَّمًا عِنْدَهُ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ أَمْرِهِ، وَقَدِمَ إِلَى بُخَارَى، أَيَّامَ الْأَمِيرِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحٍ، مَعَ أَبِي إِسْحَاقَ، فَعَرَفَهُ أَرْبَابُ تِلْكَ الدَّوْلَةِ بِالْعَقْلِ، وَالْعِفَّةِ، وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ وَالصَّرَامَةِ، وَعَادَ مَعَهُ إِلَى غَزْنَةَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَبُو إِسْحَاقَ أَنْ تُوُفِّيَ، وَلَمْ يُخَلِّفْ مِنْ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ مَنْ يَصْلُحُ لِلتَّقَدُّمِ، فَاجْتَمَعَ عَسْكَرُهُ وَنَظَرُوا فِيمَنْ يَلِي أَمْرَهُمْ، وَيَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ، فَاخْتَلَفُوا ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى سُبُكْتِكِينَ، لِمَا عَرَفُوهُ مِنْ عَقْلِهِ، وَدِينِهِ، وَمُرُوءَتِهِ، وَكَمَالِ خِلَالِ الْخَيْرِ فِيهِ، فَقَدَّمُوهُ عَلَيْهِمْ، وَوَلَّوْهُ أَمْرَهُمْ، وَحَلَفُوا لَهُ وَأَطَاعُوهُ فَوَلِيَهُمْ وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِيهِمْ، وَسَاسَ أُمُورَهُمْ سِيَاسَةً حَسَنَةً، وَجَعَلَ

نَفْسَهُ كَأَحَدِهِمْ فِي الْحَالِ وَالْمَالِ، وَكَانَ يَذَّخِرُ مِنْ أَقَطَاعِهِ مَا يَعْمَلُ مِنْهُ طَعَامًا لَهُمْ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّتَيْنِ. ثُمَّ إِنَّهُ جَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ نَحْوَ الْهِنْدِ مُجَاهِدًا، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهُنُودِ حُرُوبٌ يَشِيبُ لَهَا الْوَلِيدُ، وَكَشَفَ بِلَادَهُمْ، وَشَنَّ الْغَارَاتِ عَلَيْهَا، وَطَمِعَ فِيهَا، وَخَافَهُ الْهُنُودُ، فَفَتَحَ مِنْ بِلَادِهِمْ حُصُونًا وَمَعَاقِلَ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِحْصَاءِ. وَاتُّفِقَ لَهُ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ أَنَّ الْهُنُودَ اجْتَمَعُوا فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ، وَطَاوَلُوهُ الْأَيَّامَ، وَمَاطَلُوهُ الْقِتَالَ، فَعَدِمَ الزَّادُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَجَزُوا عَنِ الِامْتِيَارِ، فَشَكَوْا إِلَيْهِ مَا هُمْ فِيهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي اسْتَصْحَبْتُ لِنَفْسِي شَيْئًا مِنَ السَّوِيقِ اسْتِظْهَارًا، وَأَنَا أَقْسِمُهُ بَيْنَكُمْ قِسْمَةً عَادِلَةً عَلَى السَّوَاءِ إِلَى أَنْ يَمُنَّ اللَّهُ بِالْفَرَجِ، فَكَانَ يُعْطِي كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِلْءَ قَدَحٍ مَعَهُ، وَيَأْخُذُ لِنَفْسِهِ مِثْلَ أَحَدِهِمْ، فَيَجْتَزِئُ بِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ، فَرَزَقَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ وَالظَّفَرَ بِهِمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَأَسَرُوا خَلْقًا كَثِيرًا. ذِكْرُ وِلَايَةِ سُبُكْتِكِينَ عَلَى قُصْدَارَ وَبُسْتَ ثُمَّ إِنَّ سُبُكْتِكِينَ عَظُمَ شَأْنُهُ، وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ، وَحَسُنَ بَيْنَ النَّاسِ ذِكْرُهُ، وَتَعَلَّقَتِ الْأَطْمَاعُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، فَأَتَاهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ، وَهُوَ صَاحِبُ بُسْتَ وَاسْمُهُ طَغَانُ، مُسْتَعِينًا بِهِ مُسْتَنْصِرًا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَيْهِ أَمِيرٌ يُعْرَفُ بِبَابِي تُورَ، فَمَلَكَ مَدِينَةَ بُسْتَ عَلَيْهِ، وَأَجْلَاهُ عَنْهَا بَعْدَ حَرْبٍ شَدِيدَةٍ، فَقَصَدَ سُبُكْتِكِينَ مُسْتَنْصِرًا بِهِ، وَضَمِنَ لَهُ مَالًا مُقَرَّرًا، وَطَاعَةً يَبْذُلُهَا لَهُ، فَتَجَهَّزَ وَسَارَ مَعَهُ حَتَّى نَزَلَ عَلَى بُسْتَ وَخَرَجَ إِلَيْهِ بَابِي تُورُ فَقَاتَلَهُ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْهَزَمَ بَابِي تُورُ وَتَفَرَّقَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَتَسَلَّمَ طَغَانُ الْبَلَدَ. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِيهِ طَالَبَهُ سُبُكْتِكِينَ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ، فَأَخَذَ فِي الْمَطْلِ، فَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ لِكَثْرَةِ مَطْلِهِ، فَحَمَلَ طَغَانُ جَهْلَهُ عَلَى أَنْ سَلَّ السَّيْفَ فَضَرَبَ يَدَ سُبُكْتِكِينَ فَجَرَحَهَا، فَأَخَذَ سُبُكْتِكِينُ السَّيْفَ وَضَرَبَهُ أَيْضًا فَجَرَحَهُ، وَحَجَزَ الْعَسْكَرُ بَيْنَهُمَا، وَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، فَانْهَزَمَ طَغَانُ وَاسْتَوْلَى سُبُكْتِكِينُ عَلَى بُسْتَ.

ثُمَّ إِنَّهُ سَارَ إِلَى قُصْدَارَ، وَكَانَ مُتَوَلِّيهَا قَدْ عَصَى عَلَيْهِ لِصُعُوبَةِ مَسَالِكِهَا، وَحَصَانَتِهَا، وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ جَرِيدَةً مُجِدًّا، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَالْخَيْلُ مَعَهُ، فَأُخِذَ مِنْ دَارِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِ وَرَدَّهُ إِلَى وِلَايَتِهِ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِ مَالًا يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ. ذِكْرُ مَسِيرِ الْهِنْدِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ مَعَ سُبُكْتِكِينَ لَمَّا فَرَغَ سُبُكْتِكِينُ مَنْ بُسْتَ وَقُصْدَارَ غَزَا الْهِنْدَ، فَافْتَتَحَ قِلَاعًا حَصِينَةً عَلَى شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، وَعَادَ سَالِمًا ظَافِرًا. وَلَمَّا رَأَى جِيبَالُ مَلِكُ الْهِنْدِ مَا دَهَاهُ، وَأَنَّ بِلَادَهُ تُمْلَكُ مِنْ أَطْرَافِهَا، أَخَذَهُ مَا قَدُمَ وَحَدُثَ، فَحَشَدَ وَجَمَعَ وَاسْتَكْثَرَ مِنَ الْفُيُولِ، وَسَارَ حَتَّى اتَّصَلَ بِوِلَايَةِ سُبُكْتِكِينَ، وَقَدْ بَاضَ الشَّيْطَانُ فِي رَأْسِهِ وَفَرَّخَ، فَسَارَ سُبُكْتِكِينُ عَنْ غَزْنَةَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ عَسَاكِرُهُ (وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا أَيَّامًا كَثِيرَةً، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ) . (وَكَانَ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ) عَقَبَةُ غُورَكَ، وَفِيهَا عَيْنُ مَاءٍ لَا تَقْبَلُ نَجَسًا وَلَا قَذَرًا، وَإِذَا أُلْقِيَ بِهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ اكْفَهَرَّتِ السَّمَاءُ وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَكَثُرَ الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ وَالْأَمْطَارُ وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ تَطْهُرَ مِنَ الَّذِي أُلْقِيَ فِيهَا فَأَمَرَ سُبُكْتِكِينُ بِإِلْقَاءِ نَجَاسَةٍ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ، فَجَاءَ الْغَيْمُ وَالرَّعْدُ وَالْبَرْقُ، وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ عَلَى الْهُنُودِ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا مَا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ، وَتَوَالَتْ عَلَيْهِمُ الصَّوَاعِقُ وَالْأَمْطَارُ، وَاشْتَدَّ الْبَرْدُ، حَتَّى هَلَكُوا، وَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْمَذَاهِبُ، وَاسْتَسْلَمُوا لِشِدَّةِ مَا عَايَنُوهُ. وَأَرْسَلَ مَلِكُ الْهِنْدِ إِلَى سُبُكْتِكِينَ يَطْلُبُ الصُّلْحَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ بَعْدَ امْتِنَاعٍ مِنْ وَلَدِهِ مَحْمُودٍ، عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ، وَبِلَادٍ يُسَلِّمُهَا، وَخَمْسِينَ فِيلًا يَحْمِلُهَا إِلَيْهِ، فَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ، وَرَهَنَ عِنْدَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِهِ (عَلَى تَسْلِيمِ الْبِلَادِ) ، وَسَيَّرَ مَعَهُ سُبُكْتِكِينُ مَنْ يَتَسَلَّمُهَا، فَإِنَّ الْمَالَ وَالْفِيَلَةَ كَانَتْ مُعَجَّلَةً، فَلَمَّا أَبْعَدَ جِيبَالُ مَلِكُ الْهِنْدِ قَبَضَ عَلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَهُمْ عِنْدَهُ عِوَضًا عَنْ رَهَائِنِهِ. فَلَمَّا سَمِعَ سُبُكْتِكِينُ بِذَلِكَ جَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ نَحْوَ الْهِنْدِ، فَأَخْرَبَ كُلَّ مَا مَرَّ عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَقَصَدَ لَمْغَانَ، وَهِيَ مِنْ أَحْصَنِ قِلَاعِهِمْ، فَافْتَتَحَهَا عَنْوَةً وَهَدَمَ بُيُوتَ

الْأَصْنَامِ، وَأَقَامَ فِيهَا شِعَارَ الْإِسْلَامِ، وَسَارَ عَنْهَا يَفْتَحُ الْبِلَادَ وَيَقْتُلُ أَهْلَهَا فَلَمَّا بَلَغَ مَا أَرَادَهُ عَادَ إِلَى غَزْنَةَ. فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى جِيبَالَ سُقِطَ فِي يَدِهِ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ فِي مِائَةِ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، فَلَقِيَهُ سُبُكْتِكِينُ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَنَاوَبُوا الْقِتَالَ مَعَ الْهُنُودِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَضَجِرَ الْهُنُودُ مِنْ دَوَامِ الْقِتَالِ مَعَهُمْ، وَحَمَلُوا حَمْلَةً وَاحِدَةً، فَعِنْدَ ذَلِكَ اشْتَدَّ الْأَمْرُ وَعَظُمَ الْخَطْبُ، وَحَمَلَ أَيْضًا الْمُسْلِمُونَ جَمِيعُهُمْ، وَاخْتَلَطَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَانْهَزَمَ الْهُنُودُ، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ مَا لَا يُعَدُّ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ وَأَثْقَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمُ الْكَثِيرَةَ. وَذَلَّ الْهُنُودُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَعْدَهَا رَايَةٌ، وَرَضُوا بِأَنْ لَا يُطْلَبُوا فِي أَقَاصِي بِلَادِهِمْ، وَلَمَّا قَوِيَ سُبُكْتِكِينُ، بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ، أَطَاعَهُ الْأَفْغَانِيَّةُ وَالْخُلْجُ وَصَارُوا فِي طَاعَتِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ قَابُوسَ بْنِ وَشْكَمِيرَ جُرْجَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ ظَهِيرُ الدَّوْلَةِ بِيسَتُونَ بْنُ وَشْكَمِيرَ بِجُرْجَانَ، وَكَانَ قَابُوسٌ أَخُوهُ زَائِرًا خَالَهُ رُسْتُمَ بِجَبَلِ شَهْرَيَارَ، وَخَلَّفَ بِيسَتُونُ ابْنًا صَغِيرًا بِطَبَرِسْتَانَ مَعَ جَدِّهِ لِأُمِّهِ، فَطَمِعَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُلْكَ، فَبَادَرَ إِلَى جُرْجَانَ، فَرَأَى بِهَا جَمَاعَةً مِنَ الْقُوَّادِ قَدْ مَالُوا إِلَى قَابُوسٍ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى قَابُوسٍ فَسَارَ إِلَى جُرْجَانَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا خَرَجَ الْجَيْشُ إِلَيْهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَمَلَّكُوهُ، وَهَرَبَ مَنْ كَانَ مَعَ ابْنِ بِيسَتُونَ، فَأَخَذَهُ عَمُّهُ قَابُوسٌ وَكَفَلَهُ، وَجَعَلَهُ أُسْوَةَ أَوْلَادِهِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، نُقِلَتِ ابْنَةُ عِزِّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ إِلَى الطَّائِعِ لِلَّهِ، وَكَانَ تَزَوَّجَهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّاءَ بْنِ حَيَّوَيْهِ فِي رَجَبٍ.

وَفِي صَفَرَ مِنْهَا تُوُفِّيَّ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ وَصِيفٍ النَّاشِئُ الْمَعْرُوفُ بِالْخَلَّالِ، صَاحِبُ الْمَرَاثِي الْكَثِيرَةِ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ الْحَسَنِ الْجَنَّابِيُّ صَاحِبُ هَجَرَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتَوَلَّى أَمْرَ الْقَرَامِطَةِ بَعْدَهُ سِتَّةُ نَفَرٍ شَرِكَةً، وَسُمُّوا السَّادَةَ، وَكَانُوا مُتَّفِقِينَ.

ثم دخلت سنة سبع وستين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 367 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَخْتِيَارَ يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ، وَأَنْ يَسِيرَ عَنِ الْعِرَاقِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ أَرَادَ، وَضَمِنَ مُسَاعَدَتَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَالٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ بَخْتِيَارَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَابَةِ إِلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ أَجَابَ إِلَيْهِ لِضَعْفِ نَفْسِهِ، فَأَنْفَذَ لَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ خِلْعَةً، فَلَبِسَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَطْلُبُ مِنْهُ ابْنَ بَقِيَّةَ، فَقَلَعَ عَيْنَيْهِ وَأَنْفَذَهُ إِلَيْهِ. (وَتَجَهَّزَ بَخْتِيَارُ بِمَا أَنْفَذَهُ إِلَيْهِ) عَضُدُ الدَّوْلَةِ، وَخَرَجَ عَنْ بَغْدَاذَ عَازِمًا عَلَى قَصْدِ الشَّامِ، وَسَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فَدَخَلَ بَغْدَاذَ، وَخُطِبَ لَهُ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ يُخْطَبُ لِأَحَدٍ بِبَغْدَاذَ، وَضَرَبَ عَلَى بَابِهِ ثَلَاثَ نُوَبٍ، وَلَمْ تَجْرِ بِذَلِكَ عَادَةُ مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَأَمَرَ بِأَنْ يُلْقَى ابْنُ بَقِيَّةَ بَيْنَ قَوَائِمِ الْفِيَلَةِ لِتَقْتُلَهُ، فَفُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، وَخَبَطَتْهُ الْفِيَلَةُ حَتَّى قَتَلَتْهُ، وَصُلِبَ عَلَى رَأْسِ الْجِسْرِ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَرَثَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَنْبَارِيُّ بِأَبْيَاتٍ حَسَنَةٍ فِي مَعْنَاهَا وَهِيَ: عُلُوٌّ فِي الْحَيَاةِ وَفِي الْمَمَاتِ ... لَحَقٌّ تِلْكَ إِحْدَى الْمُعْجِزَاتِ كَأَنَّ النَّاسَ حَوْلَكَ حِينَ قَامُوا ... وُفُودُ نَدَاكَ أَيَّامَ الصِّلَاتِ

كَأَنَّكَ قَائِمٌ فِيهِمْ خَطِيبًا ، وَكُلُّهُمْ قِيَامٌ لِلصَّلَاةِ مَدَدْتَ يَدَيْكَ نَحْوَهُمُ اقْتِفَاءً ، كَمَدِّهِمَا إِلَيْهِمْ فِي الْهِبَاتِ ... وَلَمَّا ضَاقَ بَطْنُ الْأَرْضِ عَنْ أَنْ يَضُمَّ عُلَاكَ مِنْ بَعْدِ الْمَمَاتِ ... أَصَارُوا الْجَوَّ قَبْرَكَ، وَاسْتَنَابُوا عَنِ الْأَكْفَانِ ثَوْبَ السَّافِيَاتِ ... لِعُظْمِكَ فِي النُّفُوسِ تَبِيتُ تُرْعَى بِحُرَّاسٍ وَحُفَّاظٍ ثِقَاتِ ... وَتُشْعَلُ عِنْدَكَ النِّيرَانُ لَيْلًا كَذَلِكَ كُنْتَ أَيَّامَ الْحَيَاةِ ... وَلَمْ أَرَ قَبْلَ جِذْعِكَ قَطُّ جِذْعًا تَمَكَّنَ مِنْ عِنَاقِ الْمَكْرُمَاتِ ... رَكِبْتَ مَطِيَّةً مِنْ قَبْلُ زَيْدٌ عَلَاهَا فِي السِّنِينَ الذَّاهِبَاتِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، قَوْلُهُ: زَيْدٌ عَلَاهَا يَعْنِي: زَيْدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمَّا قُتِلَ وَصُلِبَ أَيَّامَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَدْ ذُكِرَ، وَبَقِيَ ابْنُ بَقِيَّةَ مَصْلُوبًا إِلَى أَيَّامِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ فَأُنْزِلَ مِنْ جِذْعِهِ وَدُفِنَ. ذِكْرُ قَتْلِ بَخْتِيَارَ لَمَّا سَارَ بَخْتِيَارُ عَنْ بَغْدَاذَ عَزَمَ قَصْدَ الشَّامِ وَمَعَهُ ابْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ ابْنِ حَمْدَانَ، فَلَمَّا صَارَ بَخْتِيَارُ بِعُكْبَرَا حَسَّنَ لَهُ حَمْدَانُ قَصْدَ الْمَوْصِلِ، (وَكَثْرَةَ أَمْوَالِهَا) ، وَأَطْمَعَهُ فِيهَا، وَقَالَ إِنَّهَا خَيْرٌ مِنَ الشَّامِ وَأَسْهَلُ. فَسَارَ بَخْتِيَارُ نَحْوَ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ قَدْ حَلَّفَهُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ وِلَايَةَ أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ لِمَوَدَّةٍ وَمُكَاتَبَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا، فَنَكَثَ وَقَصَدَهَا، فَلَمَّا صَارَ إِلَى تَكْرِيتَ أَتَتْهُ

رُسُلُ أَبِي تَغْلِبَ تَسْأَلُهُ أَنْ يَقْبِضَ عَلَى أَخِيهِ حَمْدَانَ وَيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا فَعَلَ سَارَ بِنَفْسِهِ وَعَسَاكِرِهِ إِلَيْهِ، وَقَاتَلَ مَعَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ، وَأَعَادَهُ إِلَى مُلْكِهِ بَغْدَاذَ، فَقَبَضَ بَخْتِيَارُ عَلَى حَمْدَانَ وَسَلَّمَهُ إِلَى نُوَّابِ أَبِي تَغْلِبَ، فَحَبَسَهُ فِي قَلْعَةٍ لَهُ، وَسَارَ بَخْتِيَارُ إِلَى الْحَدِيثَةِ، وَاجْتَمَعَ مَعَ أَبِي تَغْلِبَ، وَسَارَا جَمِيعًا نَحْوَ الْعِرَاقِ، وَكَانَ مَعَ أَبِي تَغْلِبَ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ. وَبَلَغَ ذَلِكَ عَضُدَ الدَّوْلَةِ فَسَارَ عَنْ بَغْدَاذَ نَحْوَهُمَا، فَالْتَقَوْا بِقَصْرِ الْجِصِّ بِنَوَاحِي تَكْرِيتَ ثَامِنَ عَشَرَ شَوَّالٍ، فَهَزَمَهُمَا، وَأَسَرَ بَخْتِيَارَ، وَأُحْضِرَ عِنْدَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَلَمْ يَأْذَنْ بِإِدْخَالِهِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ، وَذَلِكَ بِمَشُورَةِ أَبِي الْوَفَاءِ طَاهِرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، (وَكَانَ عُمْرُ بَخْتِيَارَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَمَلَكَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَشُهُورًا) . ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ عَلَى مُلْكِ بَنِي حَمْدَانَ لَمَّا انْهَزَمَ أَبُو تَغْلِبَ وَبَخْتِيَارُ سَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ نَحْوَ الْمَوْصِلِ، فَمَلَكَهَا ثَانِيَ عَشْرَةَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، وَظَنَّ أَبُو تَغْلِبَ أَنَّهُ كَمَا كَانَ غَيْرُهُ يَفْعَلُ، يُقِيمُ يَسِيرًا، ثُمَّ يَضْطَرُّ إِلَى الْمُصَالَحَةِ، وَيَعُودُ. وَكَانَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَحْزَمَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَصَدَ الْمَوْصِلَ حَمَلَ مَعَهُ الْمِيرَةَ وَالْعُلُوفَاتِ، وَمَنْ يَعْرِفُ وِلَايَةَ الْمَوْصِلِ وَأَعْمَالَهَا، وَأَقَامَ بِالْمَوْصِلِ مُطْمَئِنًّا، وَبَثَّ السَّرَايَا فِي طَلَبِ أَبِي تَغْلِبَ، فَأَرْسَلَ أَبُو تَغْلِبَ يَطْلُبُ أَنْ يَضْمَنَ الْبِلَادَ، فَلَمْ يُجِبْهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذِهِ الْبِلَادُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْعِرَاقِ. وَكَانَ مَعَ أَبِي تَغْلِبَ الْمَرْزُبَانُ بْنُ بَخْتِيَارَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو طَاهِرٍ ابْنَا مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَوَالِدَتُهُمَا، وَهِيَ أُمُّ بَخْتِيَارَ، وَأَسْبَابُهُمْ، فَسَارَ أَبُو تَغْلِبَ إِلَى نَصِيبِينَ، فَسَيَّرَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ سَرِيَّةً عَلَيْهَا حَاجِبُهُ أَبُو حَرْبٍ طَغَانُ إِلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَيَّرَ فِي طَلَبِ أَبِي تَغْلِبَ سَرِيَّةً، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَبَا الْوَفَاءِ طَاهِرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، عَلَى طَرِيقِ سِنْجَارَ، فَسَارَ أَبُو تَغْلِبَ مُجِدًّا، فَبَلَغَ مَيَّافَارِقِينَ، وَأَقَامَ بِهَا وَمَعَهُ أَهْلُهُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَسِيرُ أَبِي الْوَفَاءِ إِلَيْهِ سَارَ نَحْوَ بَدْلِيسَ وَمَعَهُ النِّسَاءُ وَغَيْرُهُنَّ مِنْ أَهْلِهِ، وَوَصَلَ أَبُو الْوَفَاءِ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ، فَأُغْلِقَتْ دُونَهُ وَهِيَ حَصِينَةٌ مِنْ حُصُونِ الرُّومِ الْقَدِيمَةِ، وَتَرَكَهَا وَطَلَبَ أَبَا تَغْلِبَ.

(وَكَانَ أَبُو تَغْلِبَ) قَدْ عَدَلَ مِنْ أَرْزَنِ الرُّومِ إِلَى الْحُسَنِيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ الْجَزِيرَةِ وَصَعِدَ إِلَى قَلْعَةِ كَوَاشَى وَغَيْرِهَا مِنْ قِلَاعِهِ، وَأَخَذَ مَا لَهُ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَعَادَ أَبُو الْوَفَاءِ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ وَحَصَرَهَا. وَلَمَّا اتَّصَلَ بِعَضُدِ الدَّوْلَةِ مَجِئُ أَبِي تَغْلِبَ إِلَى قِلَاعِهِ سَارَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يُدْرِكْهُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ أَكْثَرَ أَصْحَابِهِ، وَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَسَيَّرَ فِي أَثَرِ أَبِي تَغْلِبَ عَسْكَرًا مَعَ قَائِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ طَغَانُ، فَتَعَسَّفَ أَبُو تَغْلِبَ إِلَى بَدْلِيسَ، وَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَتْبَعُهُ أَحَدٌ، فَتَبِعَهُ طُغَانُ، فَهَرَبَ مِنْ بَدْلِيسَ وَقَصَدَ بِلَادَ الرُّومِ لِيَتَّصِلَ بِمَلِكِهِمُ الْمَعْرُوفِ بِوَرْدٍ الرُّومِيِّ، وَلَيْسَ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ، وَإِنَّمَا تَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ قَهْرًا، (وَاخْتَلَفَ الرُّومُ عَلَيْهِ) ، وَنَصَّبُوا غَيْرَهُ مِنْ أَوْلَادِ مُلُوكِهِمْ، فَطَالَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، فَصَاهَرَ وَرْدٌ هَذَا أَبَا تَغْلِبَ لِيَتَقَوَّى بِهِ فَقُدِّرَ أَنَّ أَبَا تَغْلِبَ احْتَاجَ إِلَى الِاعْتِضَادِ بِهِ. وَلَمَّا سَارَ أَبُو تَغْلِبَ مِنْ بَدْلِيسَ أَدْرَكَهُ عَسْكَرُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَهُمْ حَرِيصُونَ عَلَى أَخْذِ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَالِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ سَمِعُوا بِكَثْرَتِهِ، فَلَمَّا وَقَعُوا عَلَيْهِ نَادَى أَمِيرُهُمْ: لَا تَتَعَرَّضُوا لِهَذَا الْمَالِ، فَهُوَ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَفَتُرُوا عَنِ الْقِتَالِ. فَلَمَّا رَآهُمْ أَبُو تَغْلِبَ فَاتِرِينَ حَمَلَ عَلَيْهِمْ فَانْهَزَمُوا، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَنَجَا مِنْهُمْ، فَنَزَلَ بِحِصْنِ زِيَادٍ وَيُعْرَفُ الْآنَ بِخَرْتَبِرْتَ، وَأَرْسَلَ وَرْدٌ الْمَذْكُورُ فَعَرَّفَهُ مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنِ اجْتِمَاعِ الرُّومِ عَلَيْهِ وَاسْتَمَدَّهُ وَقَالَ: إِذَا فَرَغْتُ عُدْتُ إِلَيْكَ. فَسَيَّرَ إِلَيْهِ أَبُو تَغْلِبَ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ، فَاتُّفِقَ أَنَّ وَرْدًا انْهَزَمَ، فَلَمَّا عَلِمَ أَبُو تَغْلِبَ بِذَلِكَ يَئِسَ مِنْ نَصْرِهِ، وَعَادَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَنَزَلَ بِآمِدَ، وَأَقَامَ بِهَا شَهْرَيْنِ إِلَى أَنْ فُتِحَتْ مَيَّافَارِقِينَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا ظَهَرَ بِإِفْرِيقِيَّةَ فِي السَّمَاءِ حُمْرَةٌ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالشَّمَالِ، مِثْلُ لَهَبِ النَّارِ فَخَرَجَ النَّاسُ يَدْعُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ. وَكَانَ بِالْمَهْدِيَّةِ زَلَازِلُ وَأَهْوَالٌ أَقَامَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، حَتَّى فَارَقَ أَهْلُهَا مَنَازِلَهُمْ، وَأَسْلَمُوا أَمْتِعَتَهُمْ.

وَفِيهَا سَيَّرَ الْعَزِيزُ بِاللَّهِ الْعَلَوِيُّ صَاحِبُ مِصْرَ وَإِفْرِيقِيَّةَ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ لِيَحُجَّ بِالنَّاسِ، وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ لَهُ بِمَكَّةَ، وَكَانَ الْأَمِيرُ عَلَى الْمَوْسِمِ بَادِيسَ بْنَ زِيرِي أَخَا يُوسُفَ بُلُكِّينَ، خَلِيفَتُهُ بِإِفْرِيقِيَّةَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَكَّةَ أَتَاهُ اللُّصُوصُ بِهَا فَقَالُوا لَهُ: نَتَقَبَّلُ مِنْكَ الْمَوْسِمَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَا تَتَعَرَّضُ لَنَا، فَقَالَ لَهُمْ: أَفْعَلُ ذَلِكَ، اجْمَعُوا إِلَيَّ أَصْحَابَكُمْ حَتَّى يَكُونَ الْعَقْدُ مَعَ جَمِيعِكُمْ، فَاجْتَمَعُوا فَكَانُوا نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، فَقَالَ: هَلْ بَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدٌ؟ (فَحَلَفُوا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ) ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ كُلَّهُمْ. وَفِيهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً، وَغَرَّقَتْ كَثِيرًا مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ بِبَغْدَاذَ، وَغَرَّقَتْ أَيْضًا مَقَابِرَ بِبَابِ التِّبْنِ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْهَا، وَبَلَغَتِ السَّفِينَةُ أُجْرَةً وَافِرَةً، وَأَشْرَفَتِ النَّاسُ عَلَى الْهَلَاكِ، ثُمَّ نَقَصَ الْمَاءُ فَأَمِنُوا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ قُرَيْعَةَ، وَلَهُ نَوَادِرُ مَجْمُوعَةٌ، وَعُمْرُهُ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ بِالرَّيِّ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِهَا وَبِمَا تَحْتَ حُكْمِ مُؤَيَّدِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْبِلَادِ، وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيَرِدُ فِي تَرَاجِمِ تَصَانِيفِهِ: قَاضِي الْقُضَاةِ، وَيَعْنِي بِهِ قَاضِيَ قُضَاةِ أَعْمَالِ الرَّيِّ، وَبَعْضُ مَنْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ يَظُنُّهُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 368 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ فَتْحِ مَيَّافَارِقِينَ وَآمِدَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ عَلَى يَدِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ لَمَّا عَادَ أَبُو الْوَفَاءِ مِنْ طَلَبِ أَبِي تَغْلِبَ نَازَلَ مَيَّافَارِقِينَ، وَكَانَ الْوَالِي عَلَيْهَا هَزَارْمَرْدَ، فَضَبَطَ الْبَلَدَ، وَبَالَغَ فِي قِتَالِ أَبِي الْوَفَاءِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مَاتَ هَزَارْمَرْدُ، فَكُوتِبَ أَبُو تَغْلِبَ بِذَلِكَ، فَأَمَرَ أَنْ يُقَامَ مَقَامَهُ غُلَامٌ مِنَ الْحَمْدَانِيَّةِ اسْمُهُ مُؤْنِسٌ (فَوَلِيَ الْبَلَدَ) وَلَمْ يَكُنْ لِأَبِي الْوَفَاءِ فِيهِ حِيلَةٌ، فَعَدَلَ عَنْهُ، وَأَرْسَلَ رَجُلًا مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ اسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَاسْتَمَالَهُ فَأَجَابَهُ، وَشَرَعَ فِي اسْتِمَالَةِ الرَّعِيَّةِ إِلَى أَبِي الْوَفَاءِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى مُؤْنِسٍ يَطْلُبُ لَهُ الْأَمَانَ، فَأَرْسَلَ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ إِلَى أَبِي الْوَفَاءِ فِي ذَلِكَ فَأَمَّنَهُ، وَأَمَّنَ سَائِرَ أَهْلِ الْبَلَدِ، فَفَتَحَ لَهُ الْبَلَدَ وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ. وَكَانَ أَبُو الْوَفَاءِ مُدَّةَ مُقَامِهِ عَلَى مَيَّافَارِقِينَ قَدْ بَثَّ سَرَايَاهُ فِي تِلْكَ الْحُصُونِ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا، فَافْتَتَحَهَا جَمِيعَهَا، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو تَغْلِبَ بِذَلِكَ سَارَ عَنْ آمِدَ نَحْوَ الرُّحْبَةِ، هُوَ وَأُخْتُهُ جَمِيلَةُ، وَأَمَرَ بَعْضَ أَهْلِهِ بِالِاسْتِئْمَانِ إِلَى أَبِي الْوَفَاءِ، فَفَعَلُوا، ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْوَفَاءِ سَارَ إِلَى آمِدَ فَحَصَرَهَا، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُهَا ذَلِكَ سَلَكُوا مَسْلَكَ أَهْلِ مَيَّافَارِقِينَ، فَسَلَّمُوا الْبَلَدَ بِالْأَمَانِ فَاسْتَوْلَى أَبُو الْوَفَاءِ عَلَى سَائِرِ دِيَارِ بَكْرٍ، وَقَصَدَهُ أَصْحَابُ أَبِي تَغْلِبَ وَأَهْلُهُ مُسْتَأْمِنِينَ إِلَيْهِ، فَأَمَّنَهُمْ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ. وَأَمَّا أَبُو تَغْلِبَ فَإِنَّهُ لَمَّا قَصَدَ الرُّحْبَةَ أَنْفَذَ رَسُولًا إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ يَسْتَعْطِفُهُ، وَيَسْأَلُهُ

الصَّفْحَ، فَأَحْسَنَ جَوَابَ الرُّسُلِ، وَبَذَلَ لَهُ إِقْطَاعًا يُرْضِيهِ، عَلَى أَنْ يَطَأَ بِسَاطَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَبُو تَغْلِبَ إِلَى ذَلِكَ، (وَسَارَ إِلَى الشَّامِ، إِلَى الْعَزِيزِ بِاللَّهِ صَاحِبِ مِصْرَ) . ذِكْرُ فَتْحِ دِيَارِ مُضَرَ عَلَى يَدِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ كَانَ مُتَوَلِّي دِيَارِ مُضَرَ لِأَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ سَلَامَةَ الْبَرْقَعِيدِيَّ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ سَعْدُ الدَّوْلَةِ بْنُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ مِنْ حَلَبَ جَيْشًا، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ، وَكَانَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ قَدْ كَاتَبَ عَضُدَ الدَّوْلَةِ، وَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَأَنْفَذَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ النَّقِيبَ أَبَا أَحْمَدَ، وَالِدَ الرَّضِيِّ، إِلَى الْبِلَادِ الَّتِي بِيَدِ سَلَامَةَ، فَتَسَلَّمَهَا بَعْدَ حَرْبٍ شَدِيدَةٍ، وَدَخَلَ أَهْلُهَا فِي الطَّاعَةِ، فَأَخَذَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ لِنَفْسِهِ الرَّقَّةَ حَسْبُ، وَرَدَّ بَاقِيَهَا إِلَى سَعْدِ الدَّوْلَةِ فَصَارَتْ لَهُ. ثُمَّ اسْتَوْلَى عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى الرُّحْبَةِ، وَتَفَرَّغَ بَعْدَ ذَلِكَ لِفَتْحِ قِلَاعِهِ وَحُصُونِهِ، وَهِيَ قَلْعَةُ كَوَاشَى، وَكَانَ فِيهَا خَزَائِنُهُ وَأَمْوَالُهُ، وَقَلْعَةُ هَرُورَ وَالْمَلَاسِي وَبُرْقَى وَالشِّعْبَانِيُّ وَغَيْرُهَا مِنَ الْحُصُونِ، فَلَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ أَبِي تَغْلِبَ اسْتَخْلَفَ أَبَا الْوَفَاءِ عَلَى الْمَوْصِلِ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ فِي سَلْخِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَلَقِيَهُ الطَّائِعُ لِلَّهِ، وَجَمْعٌ مِنَ الْجُنْدِ وَغَيْرُهُمْ. ذِكْرُ وِلَايَةِ قَسَّامٍ دِمَشْقَ لَمَّا فَارَقَ الْفَتْكِينُ دِمَشْقَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، تَقَدَّمَ عَلَى أَهْلِهَا قَسَّامٌ، وَكَانَ سَبَبُ تَقَدُّمِ قَسَّامٍ أَنَّ الْفَتْكِينَ قَرَّبَهُ وَوَثِقَ إِلَيْهِ، وَعَوَّلَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِ عَلَيْهِ، فَعَلَا ذِكْرُهُ وَصِيتُهُ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ مِنَ الْأَحْدَاثِ، فَاسْتَوْلَى عَلَى الْبَلَدِ وَحَكَمَ فِيهِ. وَكَانَ الْقَائِدُ أَبُو مَحْمُودٍ قَدْ عَادَ إِلَى الْبَلَدِ عَلَيْهِ وَالِيًا عَلَيْهِ لِلْعَزِيزِ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ مَعَ قَسَّامٍ أَمْرٌ، وَكَانَ لَا حُكْمَ لَهُ، وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُ قَسَّامٍ عَلَى دِمَشْقَ نَافِذًا، وَهُوَ يَدْعُو لِلْعَزِيزِ بِاللَّهِ الْعَلَوِيِّ. وَوَصَلَ إِلَيْهِ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، مُنْهَزِمًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَمَنَعَهُ

قَسَّامٌ مِنْ دُخُولِ دِمَشْقَ، وَخَافَهُ عَلَى الْبَلَدِ أَنْ يَتَوَلَّاهُ، إِمَّا غَلَبَةً، وَإِمَّا بِأَمْرِ الْعَزِيزِ، فَاسْتَوْحَشَ (أَبُو تَغْلِبَ) وَجَرَى بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ أَبِي تَغْلِبَ شَيْءٌ مِنْ قِتَالٍ، فَرَحَلَ أَبُو تَغْلِبَ إِلَى طَبَرِيَةَ. وَوَرَدَ مِنْ عِنْدِ الْعَزِيزِ قَائِدٌ اسْمُهُ الْفَضْلُ فِي جَيْشٍ، فَحَصَرَ قَسَّامًا بِدِمَشْقَ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ، فَعَادَ عَنْهُ، وَبَقِيَ قَسَّامٌ كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَسَيَّرَ مِنْ مِصْرَ أَمِيرًا إِلَى دِمَشْقَ اسْمُهُ سَلْمَانُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا، فَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ دُخُولِهَا، وَأَقَامَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، فَنَهَى النَّاسَ عَنْ حَمْلِ السِّلَاحِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، وَوَضَعَ قَسَّامٌ أَصْحَابَهُ عَلَى سَلْمَانَ، فَقَاتَلُوهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ. وَكَانَ قَسَّامٌ بِالْجَامِعِ، وَالنَّاسُ عِنْدَهُ، فَكَتَبَ مَحْضَرًا وَسَيَّرَهُ إِلَى الْعَزِيزِ يَذْكُرُ أَنَّهُ كَانَ بِالْجَامِعِ عِنْدَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا، وَبَذَلَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ إِنْ قَصَدَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهٍ أَوْ عَسْكَرٌ لَهُ قَاتَلَهُ، (وَمَنَعَهُ مِنَ الْبَلَدِ، فَأَغْضَى الْعَزِيزُ لِقَسَّامٍ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ لِأَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَقْصِدَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ الشَّامَ، فَلَمَّا فَارَقَ سَلْمَانُ دِمَشْقَ عَادَ إِلَيْهَا الْقَائِدُ أَبُو مَحْمُودٍ، وَلَا حُكْمَ لَهُ، وَالْحُكْمُ جَمِيعُهُ لِقَسَّامٍ) ، (فَدَامَ ذَلِكَ) . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ زَلَازِلُ شَدِيدَةٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ أَشَدُّهَا بِالْعِرَاقِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السِّيرَافِيُّ النَّحْوِيُّ مُصَنِّفُ " شَرْحِ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ "، وَكَانَ فَقِيهًا، فَاضِلًا، مُهَنْدِسًا مَنْطِقِيًّا، فِيهِ كُلُّ فَضِيلَةٍ، وَعُمْرُهُ أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَوَلِيَ بَعْدَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مَعْرُوفٍ الْحَاكِمُ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ بِبَغْدَاذَ.

ثم دخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 369 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرَ، قُتِلَ أَبُو تَغْلِبَ فَضْلُ اللَّهِ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ سَارَ إِلَى الشَّامِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَوَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ، وَبِهَا قَسَّامٌ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمْ يُمَكِّنْ أَبَا تَغَلُّبٍ مِنْ دُخُولِهَا فَنَزَلَ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَأَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى الْعَزِيزِ بِمِصْرَ يَسْتَنْجِدُهُ لِيَفْتَحَ لَهُ دِمَشْقَ، فَوَقَعَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَأَصْحَابِ قَسَّامٍ فِتْنَةٌ، فَرَحَلَ إِلَى نَوَى، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ، فَأَتَاهُ كِتَابُ رَسُولِهِ مِنْ مِصْرَ يَذْكُرُ أَنَّ الْعَزِيزَ يُرِيدُ أَنْ يَحْضُرَ هُوَ عِنْدَهُ بِمِصْرَ لِيَسِيرَ مَعَهُ الْعَسَاكِرُ، فَامْتَنَعَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ، وَرَحَلَ إِلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَةَ، وَسَيَّرَ الْعَزِيزُ عَسْكَرًا إِلَى دِمَشْقَ مَعَ قَائِدٍ اسْمُهُ الْفَضْلُ، فَاجْتَمَعَ بِأَبِي تَغْلِبَ عِنْدَ طَبَرِيَةَ، وَوَعْدَهُ، عَنِ الْعَزِيزِ، بِكُلِّ مَا أَحَبَّ، وَأَرَادَ أَبُو تَغْلِبَ الْمَسِيرَ مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ، فَمَنَعَهُ بِسَبَبِ الْفِتْنَةِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ قَسَّامٍ، لِئَلَّا يَسْتَوْحِشَ قَسَّامٌ، وَأَرَادَ أَخْذَ الْبَلَدِ مِنْهُ سِلْمًا، وَرَحَلَ الْفَضْلُ إِلَى دِمَشْقَ فَلَمْ يَفْتَحْهَا. وَكَانَ بِالرَّمْلَةِ دَغْفَلُ بْنُ الْمُفَرِّجِ بْنِ الْجَرَّاحِ الطَّائِيُّ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى هَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَأَظْهَرَ طَاعَةَ الْعَزِيزِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِأَحْكَامِهِ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَسَارَ إِلَى أَحْيَاءِ عُقَيْلٍ الْمُقِيمَةِ بِالشَّامِ لِيُخْرِجَهَا مِنَ الشَّامِ، فَاجْتَمَعَتْ عُقَيْلٌ إِلَى أَبِي تَغْلِبَ وَسَأَلَتْهُ نُصْرَتَهَا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ دَغْفَلٌ يَسْأَلُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، فَتَوَسَّطَ أَبُو تَغْلِبَ الْحَالَ، فَرَضُوا بِمَا يَحْكُمُ بِهِ الْعَزِيزُ. (وَرَحَلَ أَبُو تَغْلِبَ، فَنَزَلَ فِي جِوَارِ عُقَيْلٍ) ، فَخَافَهُ دَغْفَلٌ، وَالْفَضْلُ صَاحِبُ الْعَزِيزِ، وَظَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أَخْذَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ.

ثُمَّ إِنَّ أَبَا تَغْلِبَ سَارَ إِلَى الرَّمْلَةِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، فَلَمْ يَشُكَّ ابْنُ الْجَرَّاحِ وَالْفَضْلُ أَنَّهُ يُرِيدُ حَرْبَهُمَا، وَكَانَا بِالرَّمْلَةِ، فَجَمَعَ الْفَضْلُ الْعَسَاكِرَ مِنَ السَّوَاحِلِ، وَكَذَلِكَ جَمَعَ دَغْفَلٌ مَنْ أَمْكَنَهُ (جَمْعُهُ) ، وَتَصَافَّ النَّاسُ لِلْحَرْبِ، فَلَمَّا رَأَتْ عُقَيْلٌ كَثْرَةَ الْجَمْعِ انْهَزَمَتْ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ أَبِي تَغْلِبَ إِلَّا نَحْوُ سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ، مِنْ غِلْمَانِهِ وَغِلْمَانِ أَبِيهِ، فَانْهَزَمَ وَلَحِقَهُ الطُّلَبُ، فَوَقَفَ يَحْمِي نَفْسَهُ وَأَصْحَابَهُ، فَضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ فَسَقَطَ، وَأُخِذَ أَسِيرًا، وَحُمِلَ إِلَى دَغْفَلٍ فَأَسَرَهُ وَكَتَّفَهُ. وَأَرَادَ الْفَضْلُ أَخْذَهُ وَحَمْلَهُ إِلَى الْعَزِيزِ بِمِصْرَ، فَخَافَ دَغْفَلٌ أَنْ يَصْطَنِعَهُ الْعَزِيزُ، كَمَا فَعَلَ بِالْفَتْكِينِ، وَيَجْعَلَهُ عِنْدَهُ، فَقَتَلَهُ، فَلَامَهُ الْفَضْلُ عَلَى قَتْلِهِ، وَأَخَذَ رَأْسَهُ وَحَمَلَهُ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ مَعَهُ أُخْتُهُ جَمِيلَةُ بِنْتُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ وَزَوْجَتُهُ، وَهِيَ بِنْتُ عَمِّهِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، (فَلَمَّا قُتِلَ حَمَلَهُمَا بَنُو عُقَيْلٍ إِلَى حَلَبَ إِلَى سَعْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ) ، فَأَخَذَ أُخْتَهُ، وَسَيَّرَ جَمِيلَةَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَسُلِّمَتْ إِلَى أَبِي الْوَفَاءِ نَائِبِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَأَرْسَلَهَا إِلَى بَغْدَاذَ، فَاعْتُقِلَتْ فِي حُجْرَةِ دَارِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ. ذِكْرُ مُحَارَبَةِ الْحَسَنِ بْنِ عِمْرَانَ مَعَ جُيُوشِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عِمْرَانُ بْنُ شَاهِينَ، فَجْأَةً، فِي الْمُحَرَّمِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ، بَعْدَ أَنْ طَلَبَهُ الْمُلُوكُ وَالْخُلَفَاءُ وَبَذَلُوا الْجُهْدَ فِي أَخْذِهِ، وَأَعْمَلُوا الْحِيَلَ، أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمْ يُقَدِّرْهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ. فَلَمَّا مَاتَ وَلِيَ مَكَانَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ، فَتَجَدَّدَ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ طَمَعٌ فِي أَعْمَالِ الْبَطِيحَةِ، فَجَهَّزَ الْعَسَاكِرَ مَعَ وَزِيرِهِ الْمُطَهِّرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَمَدَّهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ وَالْآلَاتِ، وَسَارَ الْمُطَهِّرُ فِي صَفَرَ، فَلَمَّا وَصَلَ شَرَعَ فِي سَدِّ أَفْوَاهِ الْأَنْهَارِ الدَّاخِلَةِ فِي الْبَطَائِحِ، فَضَاعَ فِيهَا الزَّمَانُ وَالْأَمْوَالُ، وَجَاءَتِ الْمُدُودُ، وَبَثَقَ الْحَسَنُ بْنُ عِمْرَانَ بَعْضَ تِلْكَ السُّدُودِ، فَأَعَانَهُ الْمَاءُ فَقَلَعَهَا.

وَكَانَ الْمُطَهِّرُ إِذَا سَدَّ جَانِبًا انْفَتَحَتْ عِدَّةُ جَوَانِبَ، ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَسَنِ وَقْعَةٌ فِي الْمَاءِ فَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ الْحَسَنُ، وَكَانَ الْمُطَهِّرُ سَرِيعًا قَدْ أَلِفَ الْمُنَاجَزَةَ، وَلَمْ يَأْلَفْ فِي الْمُصَابَرَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَكَانَ مَعَهُ فِي عَسْكَرِهِ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْعَلَوِيُّ الْكُوفِيُّ، فَاتَّهَمَهُ بِمُرَاسَلَةِ الْحَسَنِ، وَإِطْلَاعِهِ عَلَى أَسْرَارِهِ، وَخَافَ الْمُطَهِّرُ أَنْ تَنْقُصَ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَيَشْمَتَ بِهِ أَعْدَاؤُهُ، كَأَبِي الْوَفَاءِ وَغَيْرِهِ، فَعَزَمَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ، فَأَخَذَ سِكِّينًا وَقَطَعَ شَرَايِينَ ذِرَاعِهِ، فَخَرَجَ الدَّمُ مِنْهُ، فَدَخَلَ فَرَّاشٌ لَهُ، فَرَأَى الدَّمَ فَصَاحَ، فَدَخَلَ النَّاسُ فَرَأَوْهُ، وَظَنُّوا أَنَّ أَحَدًا فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، فَتَكَلَّمَ، وَكَانَ بِآخِرِ رَمَقٍ، وَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَرَ أَحْوَجَنِي إِلَى هَذَا، ثُمَّ مَاتَ وَحُمِلَ إِلَى بَلَدِهِ كَازَرُونَ، فَدُفِنَ فِيهَا. وَأَرْسَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مَنْ حَفَظَ الْعَسْكَرَ، وَصَالَحَ الْحَسَنَ بْنَ عِمْرَانَ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ، وَأَخَذَ رَهَائِنَهُ، وَانْفَرَدَ نَصْرُ بْنُ هَارُونَ بِوِزَارَةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ مُقِيمًا بِفَارِسَ فَاسْتَخْلَفَ لَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بِحَضْرَتِهِ أَبَا الرَّيَّانِ حَمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ بَنِي شَيْبَانَ وَعَسْكَرِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، سَيَّرَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ جَيْشًا إِلَى بَنِي شَيْبَانَ، وَكَانُوا قَدْ أَكْثَرُوا الْغَارَاتِ عَلَى الْبِلَادِ وَالْفَسَادَ، وَعَجَزَ الْمُلُوكُ عَنْ طَلَبِهِمْ، وَكَانُوا قَدْ عَقَدُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَكْرَادِ شَهْرَزُورَ مُصَاهِرَاتٍ، وَكَانَتْ شَهْرَزُورُ مُمْتَنِعَةً عَلَى الْمُلُوكِ، فَأَمَرَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَسْكَرَهُ بِمُنَازَلَةِ شَهْرَزُورَ لِيَنْقَطِعَ طَمَعُ بَنِي شَيْبَانَ عَنِ التَّحَصُّنِ بِهَا، فَاسْتَوْلَى أَصْحَابُهُ عَلَيْهَا وَمَلَكُوهَا، فَهَرَبَ بَنُو شَيْبَانَ، وَسَارَ الْعَسْكَرُ فِي طَلَبِهِمْ، وَأَوْقَعُوا بِهِمْ وَقِيعَةً عَظِيمَةً قُتِلَ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ ثَمَانُمِائَةِ أَسِيرٍ وَحُمِلُوا إِلَى بَغْدَاذَ. ذِكْرُ وَصُولِ وَرْدٍ الرُّومِيِّ إِلَى دِيَارِ بَكْرٍ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ وَرْدٌ الرُّومِيُّ إِلَى دِيَارِ بَكْرٍ مُسْتَجِيرًا بِعَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْتَنْصِرُهُ عَلَى مُلُوكِ الرُّومِ، وَيَبْذُلُ لَهُ الطَّاعَةَ إِذَا مَلَكَ وَحَمْلَ الْخَرَاجِ.

وَكَانَ سَبَبُ قُدُومِهِ أَنَّ أَرْمَانُوسَ مَلِكَ الرُّومِ لَمَّا تُوُفِّيَ خَلَّفَ وَلَدَيْنِ لَهُ صَغِيرَيْنِ، فَمَلَكَا بَعْدَهُ، وَكَانَ نَفْقُورُ، وَهُوَ حِينَئِذٍ الدُّمُسْتُقُ، قَدْ خَرَجَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَنَكَى فِيهَا وَعَادَ، فَلَمَّا قَارَبَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ بَلَغَهُ مَوْتُ أَرْمَانُوسَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْجُنْدُ وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلنِّيَابَةِ عَنِ الْمَلِكَيْنِ غَيْرُكُ، فَإِنَّهُمَا صَغِيرَانِ، فَامْتَنَعَ، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَأَجَابَهُمْ، وَخَدَمَ الْمَلِكَيْنِ، وَتَزَوَّجَ بِوَالِدَتِهِمَا، وَلَبِسَ التَّاجَ. ثُمَّ إِنَّهُ جَفَا وَالِدَتَهُمَا، فَرَاسَلَتِ ابْنَ الشَّمْشَقِيقِ فِي قَتْلِ نَقْفُورَ وَإِقَامَتِهِ مَقَامَهُ، فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَيْهِ سِرًّا هُوَ وَعَشَرَةُ رِجَالٍ، فَاغْتَالُوا الدُّمُسْتُقَ فَقَتَلُوهُ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ الشَّمْشَقِيقِ عَلَى الْأَمْرِ، وَقَبَضَ عَلَى لَاوِنَ أَخِي الدُّمُسْتُقِ، وَعَلَى وَرْدِيسَ بْنِ لَاوِنَ، وَاعْتَقَلَهُ فِي بَعْضِ الْقِلَاعِ، وَسَارَ إِلَى أَعْمَالِ الشَّامِ فَأَوْغَلَ فِيهَا، وَنَالَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَرَادَ، وَبَلَغَ إِلَى طَرَابُلُسَ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا فَحَصَرَهُمْ. وَكَانَ لِوَالِدَةِ الْمَلِكَيْنِ أَخٌ خَصِيٌّ، وَهُوَ حِينَئِذٍ الْوَزِيرُ، فَوَضَعَ عَلَى ابْنِ الشَّمْشَقِيقِ مَنْ سَقَاهُ سُمًّا، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِ أَسْرَعَ الْعَوْدَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَمَاتَ فِي طَرِيقِهِ. وَكَانَ وَرْدُ بْنُ مُنِيرٍ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ الْجُيُوشِ وَعُظَمَاءِ الْبَطَارِقَةِ، فَطَمِعَ فِي الْأَمْرِ، وَكَاتَبَ أَبَا تَغْلِبَ بْنَ حَمْدَانَ وَصَاهَرَهُ، وَاسْتَجَاشَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنَ الثُّغُورِ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، فَقَصَدَ الرُّومَ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ الْمَلِكَانِ جَيْشًا بَعْدَ جَيْشٍ وَهُوَ يَهْزِمُهُمْ، فَقَوِيَ جِنَانُهُ وَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَقَصَدَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَخَافَهُ الْمَلِكَانِ، فَأَطْلَقَا وَرْدِيسَ بْنَ لَاوِنَ، وَقَدَّمَاهُ عَلَى الْجُيُوشِ، وَسَيَّرَاهُ لِقِتَالِ وَرْدٍ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَطَالَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ انْهَزَمَ وَرْدٌ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَقَصَدَ دِيَارَ بَكْرٍ، وَنَزَلَ بِظَاهِرِ مَيَّافَارِقِينَ، وَرَاسَلَ عَضُدَ الدَّوْلَةِ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ أَخَاهُ يَبْذُلُ الطَّاعَةَ وَالِاسْتِنْصَارَ بِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَوَعَدَهُ بِهِ. ثُمَّ إِنَّ مَلِكَيِ الرُّومِ رَاسَلَا عَضُدَ الدَّوْلَةِ وَاسْتَمَالَاهُ، فَقَوِيَ فِي نَفْسِهِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْمَلِكَيْنِ، وَعَادَ عَنْ نُصْرَةِ وَرْدٍ، وَكَاتَبَ أَبَا عَلِيٍّ التَّمِيمِيَّ، وَهُوَ حِينَئِذٍ يَنُوبُ عَنْهُ بِدِيَارِ بَكْرٍ، بِالْقَبْضِ عَلَى وَرْدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَشَرَعَ يُدَبِّرُ الْحِيلَةَ عَلَيْهِ، وَاجْتَمَعَ إِلَى وَرْدٍ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا لَهُ:

إِنَّ مُلُوكَ الرُّومِ قَدْ كَاتَبُوا عَضُدَ الدَّوْلَةِ وَرَاسَلُوهُ فِي أَمْرِنَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يُرَغِّبُونَهُ فِي الْمَالِ وَغَيْرِهِ فَيُسَلِّمُنَا إِلَيْهِمْ، وَالرَّأْيُ أَنْ نَرْجِعَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ عَلَى صُلْحٍ إِنْ أَمْكَنَنَا، أَوْ عَلَى حَرْبٍ نَبْذُلُ فِيهَا أَنْفُسَنَا، فَإِمَّا ظَفِرْنَا أَوْ مُتْنَا كِرَامًا. فَقَالَ: مَا هَذَا رَأْيٌ، وَلَا رَأَيْنَا مِنْ عَضُدِ الدَّوْلَةِ إِلَّا الْجَمِيلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ نَنْصَرِفَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ مَا عِنْدَهُ، فَفَارَقَهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَطَمِعَ فِيهِ أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، وَرَاسَلَهُ فِي الِاجْتِمَاعِ، فَأَجَابَهُ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ قَبَضَ عَلَيْهِ، وَعَلَى وَلَدِهِ وَأَخِيهِ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاعْتَقَلَهُمْ بِمَيَّافَارِقِينَ ثُمَّ حَمَلَهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ، فَبَقَوْا فِي الْحَبْسِ إِلَى أَنَّ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَكَانَ قَبْضُهُ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ عِمَارَةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ شَرَعَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فِي عِمَارَةِ بَغْدَاذَ، وَكَانَتْ قَدْ خَرِبَتْ بِتَوَالِي الْفِتَنِ فِيهَا، وَعَمَّرَ مَسَاجِدَهَا وَأَسْوَاقَهَا، وَأَدَرَّ الْأَمْوَالَ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَالْمُؤَذِّنِينَ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالْقُرَّاءِ، وَالْغُرَبَاءِ، وَالضُّعَفَاءِ، الَّذِينَ يَأْوُونَ [إِلَى] الْمَسَاجِدِ، وَأَلْزَمَ أَصْحَابَ الْأَمْلَاكِ الْخَرَابِ بِعِمَارَتِهَا، وَجَدَّدَ مَا دُثِرَ مِنَ الْأَنْهَارِ، وَأَعَادَ حَفْرَهَا وَتَسْوِيَتَهَا، وَأَطْلَقَ مُكُوسَ الْحُجَّاجِ، وَأَصْلَحَ الطَّرِيقَ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى مَكَّةَ، شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَأَطْلَقَ الصِّلَاتِ لِأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ وَالشَّرَفِ، وَالضُّعَفَاءِ الْمُجَاوِرِينَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِمَشْهَدَيْ عَلِيٍّ وَالْحُسَيْنِ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَسَكَّنَ النَّاسَ مِنَ الْفِتَنِ، وَأَجْرَى الْجِرَايَاتِ عَلَى الْفُقَهَاءِ، وَالْمُحَدِّثِينَ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْمُفَسِّرِينَ، وَالنُّحَاةِ، وَالشُّعَرَاءِ، وَالنَّسَّابِينَ، وَالْأَطِبَّاءِ، وَالْحُسَّابِ، وَالْمُهَنْدِسِينَ، وَأَذِنَ لِوَزِيرِهِ نَصْرِ بْنِ هَارُونَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، فِي عِمَارَةِ الْبِيَعِ وَالدِّيرَةِ، وَإِطْلَاقِ الْأَمْوَالِ لِفُقَرَائِهِمْ. ذِكْرُ وَفَاةِ حَسْنُوَيْهِ الْكُرْدِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ حَسْنُوَيْهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْكُرْدِيُّ الْبَرْزِيكَانِيُّ بِسَرْمَاجَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ مِنَ الْبَرْزِيكَانِ يُسَمَّوْنَ الْبَرْزِينِيَّةَ، وَكَانَ خَالَاهُ وَنْدَادٌ وَغَانِمٌ ابْنَا أَحْمَدَ أَمِيرَيْنِ

صِنْفٍ آخَرَ مِنْهُمْ يُسَمَّوْنَ الْعَيْشَانِيَّةَ، وَغَلَبَا عَلَى أَطْرَافِ نَوَاحِي الدِّينَوَرِ، وَهَمَذَانَ، وَنَهَاوَنْدَ، وَالصَّامَغَانِ، وَبَعْضِ أَطْرَافِ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى حَدِّ شَهْرَزُورَ نَحْوَ خَمْسِينَ سَنَةً. وَكَانَ يَقُودُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِدَّةَ أُلُوفٍ، فَتُوُفِّيَ غَانِمٌ سَنَةَ خَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَكَانَ ابْنُهُ أَبُو سَالِمٍ دَيْسَمُ بْنُ غَانِمٍ مَكَانَهُ بِقَلْعَتِهِ قِسَانٍ، إِلَى أَنْ أَزَالَهُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ الْعَمِيدِ، وَاسْتَصْفَى قِلَاعَهُ الْمُسَمَّاةَ قِسْنَانَ، وَغَانِمَ آبَاذَ وَغَيْرَهُمَا. وَتُوُفِّيَ وَنْدَادُ بْنُ أَحْمَدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، فَقَامَ مَقَامَهُ ابْنُهُ أَبُو الْغَنَائِمِ عَبْدُ الْوَهَّابِ إِلَى أَنْ أَسَرَهُ الشَّاذَنْخَانُ وَسَلَّمُوهُ إِلَى حَسْنُوَيْهِ، فَأَخَذَ قِلَاعَهُ وَأَمْلَاكَهُ. وَكَانَ حَسْنُوَيْهِ مَجْدُودًا، حَسَنَ السِّيَاسَةِ وَالسِّيرَةِ، ضَابِطًا لِأَمْرِهِ، وَمَنَعَ أَصْحَابَهُ مِنَ التَّلَصُّصِ، وَبَنَى قَلْعَةَ سِرْمَاجَ بِالصُّخُورِ الْمُهَنْدَمَةِ، وَبَنَى بِالدِّينَوَرِ جَامِعًا عَلَى هَذَا الْبِنَاءِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ بِالْحَرَمَيْنِ، إِلَى أَنْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَافْتَرَقَ أَوْلَادُهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَعْضُهُمُ انْحَازَ إِلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَهُمْ أَبُو الْعَلَاءِ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو النَّجْمِ بَدْرٌ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو عَدْنَانَ، وَبَخْتِيَارُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ. وَكَانَ بَخْتِيَارُ بِقَلْعَةِ سَرْمَاجَ وَمَعَهُ الْأَمْوَالُ وَالذَّخَائِرُ، فَكَاتَبَ عَضُدَ الدَّوْلَةِ وَرَغِبَ فِي طَاعَتِهِ، ثُمَّ تَلَوَّنَ عَنْهُ وَتَغَيَّرَ، فَسَيَّرَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِ جَيْشًا فَحَصَرَهُ وَأَخَذَ قَلْعَتَهُ، وَكَذَلِكَ قِلَاعُ غَيْرِهِ مِنْ إِخْوَتِهِ، وَاصْطَنَعَ مِنْ بَيْنِهِمْ أَبَا النَّجْمِ بَدْرَ بْنَ حَسْنُوَيْهِ، وَقَوَّاهُ بِالرِّجَالِ، فَضَبَطَ تِلْكَ النَّوَاحِي، وَكَفَّ عَادِيَّةَ مَنْ بِهَا مِنَ الْأَكْرَادِ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُهُ، وَكَانَ عَاقِلًا. ذِكْرُ قَصْدِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ أَخَاهُ فَخْرَ الدَّوْلَةِ وَأَخْذِ بِلَادِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ، فَاحْتَوَى عَلَيْهَا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَخْتِيَارَ بْنَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ كَانَ يُكَاتِبُ ابْنَ عَمِّهِ فَخْرَ الدَّوْلَةِ، بَعْدَ مَوْتِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى الِاتِّفَاقِ مَعَهُ عَلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَاتَّفَقَا. وَعَلِمَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بِهِ، فَكَتَمَ ذَلِكَ إِلَى الْآنَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَعْدَائِهِ كَأَبِي تَغْلِبَ، وَبَخْتَيِارَ، وَغَيْرِهِمَا، وَمَاتَ حَسْنُوَيْهِ بْنُ الْحُسَيْنِ، ظَنَّ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ يُصْلِحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخَوَيْهِ، فَرَاسَلَ أَخَوَيْهِ فَخْرَ الدَّوْلَةِ، وَمُؤَيَّدَ الدَّوْلَةِ، وَقَابُوسَ بْنَ وَشْمَكِيرَ.

فَأَمَّا رِسَالَتُهُ إِلَى أَخِيهِ مُؤَيَّدِ الدَّوْلَةِ، فَيَشْكُرُهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُطِيعًا لَهُ غَيْرَ مُخَالِفٍ. وَأَمَّا إِلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ، فَيُعَاتِبُهُ وَيَسْتَمِيلُهُ، وَيَذْكُرُ لَهُ مَا يَلْزَمُهُ بِهِ الْحُجَّةُ. وَأَمَّا إِلَى قَابُوسٍ، فَيُشِيرُ عَلَيْهِ بِحِفْظِ الْعُهُودِ الَّتِي بَيْنَهُمَا. فَأَجَابَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ جَوَابَ الْمُنَاظِرِ الْمُنَاوِئِ، وَنَسِيَ كِبَرَ السِّنِّ، وَسَعَةَ الْمُلْكِ وَعَهْدَ أَبِيهِ. وَأَمَّا قَابُوسٌ فَأَجَابَ جَوَابَ الْمُرَاقِبِ. وَكَانَ الرَّسُولُ خَوَاشَادَهْ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِهِ، فَاسْتَمَالَ أَصْحَابَ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، فَضَمِنَ لَهُ الْإِقْطَاعَاتِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعُهُودَ، فَلَمَّا عَادَ الرَّسُولُ بَرَزَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَاذَ عَلَى عَزْمِ الْمَسِيرِ إِلَى الْجَبَلِ وَإِصْلَاحِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَابْتَدَأَ فَقَدَّمَ الْعَسَاكِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا، مِنْهُمْ أَبُو الْوَفَاءِ عَلَى عَسْكَرٍ، وَخَوَاشَادَهْ عَلَى عَسْكَرٍ، وَأَبُو الْفَتْحِ الْمُظَفَّرُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي عَسْكَرٍ، فَسَارَتْ هَذِهِ الْعَسَاكِرُ، وَأَقَامَ هُوَ بِظَاهِرِ بَغْدَاذَ. ثُمَّ سَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ، فَلَقِيَتْهُ الْبَشَائِرُ بِدُخُولِ جُيُوشِهِ هَمَذَانَ، وَاسْتِئْمَانِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْ قُوَّادِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ وَرِجَالِ حَسْنُوَيْهِ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَوَيْهِ وَزِيرُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، (وَمَعَهُ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِهِ، فَانْحَلَّ أَمْرُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ) ، وَكَانَ بِهَمَذَانَ، فَخَافَ مِنْ أَخِيهِ، وَتَذَكَّرَ قَتْلَ ابْنِ عَمِّهِ بَخْتِيَارَ، فَخَرَجَ هَارِبًا، وَقَصَدَ بَلَدَ الدَّيْلَمِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى جُرْجَانَ، فَنَزَلَ عَلَى شَمْسِ الْمَعَالِي قَابُوسِ بْنِ وَشْمَكِيرَ، وَالْتَجَأَ إِلَيْهِ فَأَمَّنَهُ وَآوَاهُ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ فَوْقَ مَا حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ، وَشَرَكَهُ فِيمَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ مُلْكٍ وَغَيْرِهِ. وَمَلَكَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مَا كَانَ بِيَدِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ هَمَذَانَ، وَالرَّيَّ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْبِلَادِ (وَسَلَّمَهَا إِلَى أَخِيهِ مُؤَيَّدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهٍ، وَجَعَلَهُ خَلِيفَتَهُ وَنَائِبَهُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ) ، وَنَزَلَ الرَّيَّ، وَاسْتَوْلَى عَلَى تِلْكَ النَّوَاحِي. ثُمَّ عَرَجَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى وِلَايَةِ حَسْنُوَيْهِ الْكُرْدِيِّ، فَقَصَدَ نَهَاوَنْدَ، وَكَذَلِكَ الدِّينَوَرُ، وَقَلْعَةُ سَرْمَاجُ، وَأَخَذَ مَا فِيهَا مِنْ ذَخَائِرِ حَسْنُوَيْهِ، وَكَانَتْ جَلِيلَةَ الْمِقْدَارِ، وَمَلَكَ مَعَهَا عِدَّةً

مِنْ قِلَاعِ حَسْنُوَيْهِ، وَلَحِقَهُ فِي هَذِهِ السَّفْرَةِ صَرَعٌ، وَكَانَ هَذَا قَدْ أَخَذَهُ بِالْمَوْصِلِ، وَحَدَّثَ بِهِ فِيهَا، فَكَتَمَهُ، وَصَارَ كَثِيرَ النِّسْيَانِ لَا يَذْكُرُ الشَّيْءَ إِلَّا بَعْدَ جَهْدٍ، وَكَتَمَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَهَذَا دَأْبُ الدُّنْيَا لَا تَصْفُو لِأَحَدٍ. وَأَتَاهُ أَوْلَادُ حَسْنُوَيْهِ، فَقَبَضَ عَلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَأَبِي الْعَلَاءِ، وَأَبِي عَدْنَانَ، وَأَحْسَنَ إِلَى بَدْرِ بْنِ حَسْنُوَيْهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَوَلَّاهُ رِعَايَةَ الْأَكْرَادِ، (هَذَا آخِرُ مَا فِي " تَجَارِبِ الْأُمَمِ " تَأْلِيفُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مِسْكَوَيْهِ) . ذِكْرُ مُلْكِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بَلَدَ الْهَكَّارِيَّةِ (وَمَا مَعَهَا) فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ جَيْشًا إِلَى الْأَكْرَادِ الْهَكَّارِيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ وَحَصَرَ قِلَاعَهُمْ، وَطَالَ مُقَامُ الْجُنْدِ فِي حَصْرِهَا. وَكَانَ مَنْ بِالْحُصُونِ مِنَ الْأَكْرَادِ يَنْتَظِرُونَ نُزُولَ الثَّلْجِ لِتَرْحَلَ الْعَسَاكِرُ عَنْهُمْ، فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الثَّلْجَ تَأَخَّرَ نُزُولُهُ (فِي تِلْكَ السَّنَةِ) ، فَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، فَأُجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ، وَسَلَّمُوا قِلَاعَهُمْ، وَنَزَلُوا مَعَ الْعَسْكَرِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَلَمْ يُفَارِقُوا أَعْمَالَهُمْ غَيْرَ يَوْمٍ وَاحِدٍ حَتَّى نَزَلَ الثَّلْجُ. ثُمَّ إِنَّ مُقَدَّمَ الْجَيْشِ غَدَرَ بِهِمْ، وَصَلَبَهُمْ عَلَى جَانِبَيِ الطَّرِيقِ مِنْ مَعْلَثَايَا إِلَى الْمَوْصِلِ (نَحْوَ خَمْسَةِ فَرَاسِخَ) وَكَفَّ اللَّهُ شَرَّهُمْ عَنِ النَّاسِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ رَسُولُ الْعَزِيزِ بِاللَّهِ صَاحِبِ مِصْرَ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِرَسَائِلَ أَدَّاهَا.

وَفِيهَا قَبَضَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْعَلَوِيِّ وَأَنْفَذَهُ إِلَى فَارِسَ، وَكَانَ سَبَبُ قَبْضِهِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْمُطَهِّرُ فِي حَقِّهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْكُوفَةِ فَقَبَضَ أَمْوَالَهُ، فَوَجَدَ لَهُ مِنَ الْمَالِ وَالسِّلَاحِ وَالذَّخَائِرِ مَا لَا يُحْصَى، وَاصْطَنَعَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَخَاهُ أَبَا الْفَتْحِ أَحْمَدَ، وَوَلَّاهُ الْحَجَّ بِالنَّاسِ. وَفِيهَا تَجَدَّدَتْ وَصْلَةٌ بَيْنَ الطَّائِعِ لِلَّهِ وَبَيْنَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَتَزَوَّجَ الطَّائِعُ ابْنَتَهُ، وَكَانَ غَرَضُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ أَنْ تَلِدَ ابْنَتُهُ وَلَدًا ذَكَرًا فَيَجْعَلُهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ، فَتَكُونُ الْخِلَافَةُ فِي (وَلَدٍ لَهُمْ فِيهِ نَسَبٌ) ، وَكَانَ الصَّدَاقُ مِائَةَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَفِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ عَامَّةِ شِيرَازَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْمَجُوسِ، نُهِبَتْ فِيهَا دُورُ الْمَجُوسِ، وَضُرِبُوا، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، فَسَمِعَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ الْخَبَرَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ مَنْ جَمَعَ كُلَّ مَنْ لَهُ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ، وَضَرَبَهُمْ، وَبَالَغَ فِي تَأْدِيبِهِمْ وَزَجْرِهِمْ. وَفِيهَا أَرْسَلَ سِرِيَّةً إِلَى عَيْنِ التَّمْرِ، وَبِهَا ضَبَّةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَسَدِيُّ، وَكَانَ يَسْلُكُ سَبِيلَ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَالْعَسَاكِرُ مَعَهُ، فَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَنَجَا بِنَفْسِهِ فَرِيدًا، وَأُخِذَ مَالُهُ وَأَهْلُهُ، وَمُلِّكَتْ عَيْنُ التَّمْرِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ نَهَبَ مَشْهَدَ الْحُسَيْنِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَعُوقِبَ بِهَذَا. وَفِيهَا قَبَضَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى النَّقِيبِ أَبِي أَحْمَدَ الْحُسَيْنِ الْمُوسَوِيِّ، وَالِدِ الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ، وَعَلَى أَخِيهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى فَارِسَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى قَضَاءِ الْقُضَاةِ أَبَا سَعْدٍ بِشْرَ بْنَ الْحُسَيْنِ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَكَانَ مُقِيمًا بِفَارِسَ، وَاسْتَنَابَ عَلَى الْقَضَاءِ بِبَغْدَاذَ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَحْمَدَ (بْنِ مُحَمَّدِ) بْنِ عَطَاءٍ الرُّوذْبَارِيُّ، الصُّوفِيُّ، بِنَوَاحِي عَكَّا، وَكَانَ قَدِ انْتَقَلَ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى الشَّامِ. وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ الْجَلُودِيُّ الزَّاهِدُ، رَاوِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنِ ابْنِ سُفْيَانَ، وَدُفِنَ بِالْحِيرَةِ فِي نَيْسَابُورَ (وَلَهُ ثَمَانُونَ سَنَةً) . (الْجَلُودِيُّ: بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَقِيلَ بِضَمِّهَا، وَهُوَ قَلِيلٌ، وَالْحِيرَةُ: بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ مَحَلَّةٌ بِنَيْسَابُورَ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ، صَاحِبُ كِتَابِ " الْمُجْمَلِ " وَغَيْرِهِ، وَلَهُ شِعْرٌ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِيَوْمَيْنِ: يَا رَبِّ إِنَّ ذُنُوبِي [قَدْ] أَحَطْتَ بِهَا ... عِلْمًا، وَبِي وَبِإِعْلَانِي وَإِسْرَارِي أَنَا الْمُوَحِّدُ لَكِنِّي الْمُقِرُّ بِهَا ، فَهَبْ ذُنُوبِي لِتَوْحِيدِي وَإِقْرَارِي وَفِي شَوَّالٍ تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ ثَابِتُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَرَّانِيُّ الْمُتَطَبِّبُ، الصَّابِيُّ، وَمَوْلِدُهُ بِالرَّقَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ عَارِفًا حَاذِقًا فِي الطِّبِّ.

ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 370 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ إِقْطَاعِ مُؤَيَّدِ الدَّوْلَةِ هَمَذَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ الصَّاحِبُ أَبُو الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّادٍ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِهَمَذَانَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ أَخِيهِ مُؤَيَّدِ الدَّوْلَةِ يَبْذُلُ لَهُ الطَّاعَةَ وَالْمُوَافَقَةَ، فَالْتَقَاهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بِنَفْسِهِ، وَأَكْرَمَهُ، وَأَقْطَعُ أَخَاهُ مُؤَيَّدَ الدَّوْلَةِ هَمَذَانَ وَغَيْرَهَا، وَأَقَامَ عِنْدَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ إِلَى أَنْ عَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَرَدَّهُ إِلَى مُؤَيَّدِ الدَّوْلَةِ، فَأَقْطَعَهُ إِقْطَاعًا كَثِيرًا، وَسَيَّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا يَكُونُ عِنْدَ مُؤَيَّدِ الدَّوْلَةِ فِي خِدْمَتِهِ. ذِكْرُ قَتْلِ أَوْلَادِ حَسْنُوَيْهِ سِوَى بَدْرٍ لَمَّا خَلَعَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى بَدْرٍ وَأَخَوَيْهِ عَاصِمٍ وَعَبْدِ الْمَلِكِ، وَفَضَّلَ بَدْرًا عَلَيْهِمَا وَوَلَّاهُ الْأَكْرَادَ حَسَدَهُ أَخَوَاهُ، (فَشَقَّا الْعَصَا، وَخَرَجَا عَنِ الطَّاعَةِ، وَاسْتَمَالَ عَاصِمٌ جَمَاعَةَ الْأَكْرَادِ الْمُخَالِفِينَ) ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَسْكَرًا، فَأَوْقَعُوا بِعَاصِمٍ وَمَنْ مَعَهُ، فَانْهَزَمُوا، وَأُسِرَ عَاصِمٌ، وَأُدْخِلَ هَمَذَانُ عَلَى جَمَلٍ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ خَبَرٌ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقُتِلَ أَوْلَادُ حَسْنُوَيْهِ، إِلَّا بَدْرًا فَإِنَّهُ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ، وَأُقِرَّ عَلَى عَمَلِهِ، وَكَانَ عَاقِلًا، لَبِيبًا، حَازِمًا، كَرِيمًا، حَلِيمًا، وَسَيَرِدُ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا يُعْلَمُ بِهِ ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ذِكْرُ مُلْكِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ قَلْعَةَ سَنْدَهْ وَغَيْرَهَا وَفِيهَا اسْتَوْلَى عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى قِلَاعِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمُرِّيِّ بِنَوَاحِي الْجَبَلِ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ بِسَنْدَهْ، وَلَهُ فِيهَا مَسَاكِنُ نَفِيسَةٌ، وَكَانَ قَدِيمَ الْبَيْتِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَوْلَادِهِ وَاعْتَقَلَهُمْ، فَبَقَوْا كَذَلِكَ إِلَى أَنْ أَطْلَقَهُمُ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ فِيمَا بَعْدُ، وَاسْتَخْدَمَ ابْنَهُ أَبَا طَاهِرٍ، وَاسْتَكْتَبَهُ، وَكَانَ حَسَنَ الْخَطِّ وَاللَّفْظِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسْكَرِ الْعَزِيزِ وَابْنِ جَرَّاحٍ وَعَزْلِ قَسَّامٍ عَنْ دِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سُيِّرَتِ الْعَسَاكِرُ مِنْ مِصْرَ لِقِتَالِ الْمُفَرِّجِ بْنِ جَرَّاحٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ جَرَّاحٍ عَظُمَ شَأْنُهُ بِأَرْضِ فِلَسْطِينَ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَبَالَغَ هُوَ فِي الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ، وَتَخْرِيبِ الْبِلَادِ، فَجَهَّزَ الْعَزِيزُ بِاللَّهِ الْعَسَاكِرَ وَسَيَّرَهَا، وَجَعَلَ عَلَيْهَا الْقَائِدَ يَلْتَكِينَ التُّرْكِيَّ، فَسَارَ إِلَى الرَّمْلَةِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَرَبِ، مِنْ قَيْسٍ وَغَيْرِهَا، جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ مَعَ ابْنِ جَرَّاحٍ جَمْعٌ يَرْمُونَ بِالنُّشَّابِ، وَيُقَاتِلُونَ قِتَالَ التُّرْكِ، فَالْتَقَوْا وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمَا، وَجَعَلَ يَلْتَكِينُ كَمِينًا، فَخَرَجَ عَلَى عَسْكَرِ ابْنِ جَرَّاحٍ، مِنْ وَرَاءِ ظُهُورِهِمْ، عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَرْبِ، فَانْهَزَمُوا وَأَخَذَتْهُمْ سُيُوفُ الْمِصْرِيِّينَ، وَمَضَى ابْنُ جَرَّاحٍ مُنْهَزِمًا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، فَاسْتَجَارَ بِصَاحِبِهَا فَأَجَارَهُ، وَصَادَفَ خُرُوجَ مَلِكِ الرُّومِ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي عَسَاكِرَ عَظِيمَةٍ يُرِيدُ بِلَادَ الْإِسْلَامِ، فَخَافَ ابْنُ جَرَّاحٍ، وَكَاتَبَ بَكْجُورَ بِحِمْصَ وَالْتَجَأَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا عَسْكَرُ مِصْرَ فَإِنَّهُمْ نَازَلُوا دِمَشْقَ، مُخَادِعِينَ لِقَسَّامٍ، لَمْ يُظْهِرُوا لَهُ إِلَّا أَنَّهُمْ جَاءُوا لِإِصْلَاحِ الْبَلَدِ، وَكَفِّ الْأَيْدِي الْمُتَطَرِّقَةِ (إِلَى الْأَذَى) وَكَانَ الْقَائِدُ أَبُو مَحْمُودٍ قَدْ مَاتَ سَنَةَ سَبْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] وَهُوَ وَالِي الْبَلَدِ، وَلَا حُكْمَ لَهُ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ لِقَسَّامٍ، فَلَمَّا مَاتَ قَامَ بَعْدَهُ فِي الْوِلَايَةِ جَيْشُ بْنُ الصَّمْصَامَةِ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ أَبِي مَحْمُودٍ،

فَخَرَجَ إِلَى يَلْتَكِينَ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يُرِيدُ إِصْلَاحَ الْبَلَدِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ وَيَنْزِلُوا بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، فَفَعَلُوا. وَحَذَّرَ قَسَّامٌ، وَأَمَرَ مَنْ مَعَهُ بِمُبَاشَرَةِ الْحَرْبِ، فَقَاتَلُوا دَفْعَاتٍ عِدَّةً فَقَوِيَ عَسْكَرُ يَلْتَكِينَ، وَدَخَلُوا أَطْرَافَ الْبَلَدِ، وَمَلَكُوا الشَّاغُورَ، وَأَحْرَقُوا وَنَهَبُوا، فَاجْتَمَعَ مَشَايِخُ الْبَلَدِ عِنْدَ قَسَّامٍ، وَكَلَّمُوهُ فِي أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى يَلْتَكِينَ، وَيَأْخُذُوا أَمَانًا لَهُمْ وَلَهُ، فَانْخَذَلَ (وَذَلَّ، وَخَضَعَ بَعْدَ تَجَبُّرِهِ وَتَكَبُّرِهِ وَقَالَ: افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ. وَعَادَ أَصْحَابُ قَسَّامٍ) إِلَيْهِ، فَوَجَدُوهُ خَائِفًا، مُلْقِيًا بِيَدِهِ، فَأَخَذَ كُلٌّ لِنَفْسِهِ. وَخَرَجَ شُيُوخُ الْبَلَدِ إِلَى يَلْتَكِينَ، فَطَلَبُوا مِنْهُ الْأَمَانَ لَهُمْ وَلِقَسَّامٍ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ وَقَالَ: أُرِيدُ [أَنْ] أَتَسَلَّمَ الْبَلَدَ الْيَوْمَ فَقَالُوا: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ! فَأَرْسَلَ وَالِيًا يُقَالُ (لَهُ ابْنُ) خَطْلَخَ، وَمَعَهُ خَيْلٌ وَرَجْلٌ. وَكَانَ مَبْدَأُ هَذِهِ الْحَرْبِ وَالْحَصْرِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَ [ثَلَاثِمِائَةٍ] لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْهُ، وَالدُّخُولُ إِلَى الْبَلَدِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْهُ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِقَسَّامٍ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَقَامَ قَسَّامٌ فِي الْبَلَدِ يَوْمَيْنِ ثُمَّ اسْتَتَرَ، فَأَخَذَ كُلَّ مَا فِي دَارِهِ وَمَا حَوْلَهَا مِنْ دُورِ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْخِيَامِ، فَقَصَدَ حَاجِبَ يَلْتَكِينَ وَعَرَّفَهُ نَفْسَهُ، فَأَخَذَهُ وَحَمَلَهُ إِلَى يَلْتَكِينَ، فَحَمَلَهُ يَلْتَكِينُ إِلَى مِصْرَ، فَأَطْلَقَهُ الْعَزِيزُ، وَاسْتَرَاحَ النَّاسُ مِنْ تَحَكُّمِهِ عَلَيْهِمْ، وَتَغَلُّبِهِ بِمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْأَحْدَاثِ، مِنْ أَهْلِ الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَحْدَبُ الْمُزَوِّرُ، وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى خَطِّ كُلِّ وَاحِدٍ فَلَا

يَشُكُّ الْمَكْتُوبُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطُّهُ، وَكَانَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِذَا أَرَادَ الْإِيقَاعَ بَيْنَ الْمُلُوكِ أَمَرَهُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَى خَطِّ بَعْضِهِمْ إِلَيْهِ فِي الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ إِفْسَادَ الْحَالِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يَتَوَصَّلُ لِيَصِلَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ، فَيَفْسُدُ الْحَالُ. وَكَانَ هَذَا الْأَحْدَبُ رُبَّمَا خُتِمَتْ يَدُهُ لِهَذَا السَّبَبِ. وَفِيهَا زَادَتِ الْفُرَاتُ زِيَادَةً عَظِيمَةً جَاوَزَتِ الْمَأْلُوفَ، وَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنَ الْغَلَّاتِ، وَتَمَرَّدَتِ الصَّرَاةُ، وَخَرِبَتْ قَنَاطِرُهَا الْعَتِيقَةُ الْجَدِيدَةُ، وَأَشْفَى أَهْلُ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَاذَ عَلَى الْغَرَقِ، وَبَقِيَتِ الزِّيَادَةُ بِهَا وَبِدِجْلَةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ نَقَصَتْ. وَفِيهَا زُفَّتِ ابْنَةُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ إِلَى الْخَلِيفَةِ الطَّائِعِ، وَمَعَهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ شَيْءٌ لَا يُحْصَى. وَفِيهَا وَرَدَ عَلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ هَدِيَّةٌ مِنْ صَاحِبِ الْيَمَنِ فِيهَا قِطْعَةٌ وَاحِدَةٌ [مِنْ] عَنْبَرٍ وَزْنُهَا سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ، رِطْلًا وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو الْفَتْحِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ يَحْيَى الْعَلَوِيُّ، وَخَطَبَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِلْعَزِيزِ بِاللَّهِ صَاحِبِ مِصْرَ الْعَلَوِيِّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ (أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ) الرَّازِيُّ، إِمَامُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَطُلِبَ لِيَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، فَامْتَنَعَ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْكَرْخِيِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُوسَى أَبُو يَعْلَى الْبَغْدَاذِيُّ، سَمِعَ الْبَغَوِيَّ

وَابْنَ صَاعِدٍ، وَسَافَرَ إِلَى أَصْبَهَانَ وَخُرَاسَانَ وَأَذْرَبِيجَانَ وَغَيْرِهَا، وَسَمِعَ فِيهَا الْكَثِيرَ، وَتُوُفِّيَ بِالْمَوْصِلِ هَذِهِ السَّنَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو بَكْرٍ الْمُفِيدُ، الْمَعْرُوفُ بِغُنْدَرٍ، تُوُفِّيَ بِمَفَازَةِ بُخَارَى، وَأَبُو الْفَرَجِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ فَسَانْجِسَ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ الْآمِدِيُّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَائِدُ أَبُو مَحْمُودٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ وَالِي دِمَشْقَ لِلْعَزِيزِيِّ، وَقَامَ بَعْدَهُ جَيْشُ بْنُ الصَّمْصَامَةِ.

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 371 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ عَزْلِ ابْنِ سِيمْجُورَ عَنْ خُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سِيمْجُورَ عَنْ قِيَادَةِ جُيُوشِ خُرَاسَانَ، وَاسْتُعْمِلَ عِوَضَهُ حُسَامُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْعَبَّاسِ تَاشْ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمِيرَ نُوحَ بْنَ مَنْصُورٍ لَمَّا مَلَكَ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَهُوَ صَبِيٌّ، اسْتَوْزَرَ أَبَا الْحُسَيْنِ الْعُتْبِيَّ، فَقَامَ فِي حِفْظِ الدَّوْلَةِ الْقِيَامَ الْمَرْضِيَّ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيمْجُورَ قَدِ اسْتَوْطَنَ خُرَاسَانَ، وَطَالَتْ أَيَّامُهُ فِيهَا، فَلَا يُطِيعُ إِلَّا فِيمَا يُرِيدُ، فَعَزَلَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْعُتْبِيُّ عَنْهَا، وَاسْتَعْمَلَ مَكَانَهُ حُسَامُ الدَّوْلَةِ أَبَا الْعَبَّاسِ تَاشْ، وَسَيَّرَهُ مِنْ بُخَارَى إِلَى نَيْسَابُورَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَاسْتَقَرَّ بِهَا وَدَبَّرَ خُرَاسَانَ، وَنَظَرَ فِي أُمُورِهَا، وَأَطَاعَهُ جُنْدُهَا. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ عَلَى جُرْجَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، اسْتَوْلَى عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى بِلَادِ جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ، وَأَجْلَى عَنْهَا صَاحِبَهَا قَابُوسَ بْنَ وَشْمَكِيرَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَضُدَ الدَّوْلَةِ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِ أَخِيهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ انْهَزَمَ فَخْرُ

الدَّوْلَةِ، فَلَحِقَ بِقَابُوسٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عَضُدَ الدَّوْلَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَى قَابُوسٍ يَبْذُلُ لَهُ الرَّغَائِبَ مِنَ الْبِلَادِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْعُهُودِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِ أَخَاهُ فَخْرَ الدَّوْلَةِ، فَامْتَنَعَ قَابُوسٌ مِنْ ذَلِكَ،، وَلَمْ يُجِبْ إِلَيْهِ. فَجَهَّزَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَخَاهُ مُؤَيَّدَ الدَّوْلَةِ، وَسَيَّرَهُ، وَمَعَهُ الْعَسَاكِرُ، وَالْأَمْوَالُ، وَالْعُدَدُ، إِلَى جُرْجَانَ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ قَابُوسًا، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَلَقِيَهُ بِنُوَاحِي أَسْتَرَابَاذَ، فَاقْتَتَلُوا مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى الظُّهْرِ، فَانْهَزَمَ قَابُوسٌ وَأَصْحَابُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَقَصَدَ قَابُوسٌ بَعْضَ قِلَاعِهِ الَّتِي فِيهَا ذَخَائِرُهُ وَأَمْوَالُهُ، فَأَخَذَ مَا أَرَادَ وَسَارَ نَحْوَ نَيْسَابُورَ، فَلَمَّا وَرَدَهَا لَحِقَ بِهِ فَخْرُ الدَّوْلَةِ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِمَا مَنْ تَفَرَّقَ مِنْ أَصْحَابِهِمَا. وَكَانَ وُصُولُهُمَا إِلَيْهَا عِنْدَ وِلَايَةِ حُسَامِ الدَّوْلَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ تَاشْ خُرَاسَانَ، فَكَتَبَ حُسَامُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْأَمِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ نُوحِ بْنِ مَنْصُورٍ يُعَرِّفُهُ خَبَرَ وُصُولِهِمَا، وَكَتَبَا أَيْضًا إِلَى نُوحٍ يُعَرِّفَانِهِ حَالَهُمَا، وَيَسْتَنْصُرَانِهِ عَلَى مُؤَيَّدِ الدَّوْلَةِ. فَوَرَدَتْ كُتُبُ نُوحٍ عَلَى حُسَامِ الدَّوْلَةِ يَأْمُرُهُ بِإِجْلَالِ مَحَلِّهِمَا، وَإِكْرَامِهِمَا، وَجَمْعِ الْعَسَاكِرِ وَالْمَسِيرِ مَعَهُمَا، وَإِعَادَتِهِمَا إِلَى مُلْكِهِمَا، وَكَتَبَ وَزِيرُهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بِذَلِكَ أَيْضًا. ذِكْرُ مَسِيرِ حُسَامِ الدَّوْلَةِ وَقَابُوسٍ إِلَى جُرْجَانَ فَلَمَّا وَرَدَتِ الْكُتُبُ مِنَ الْأَمِيرِ نُوحٍ عَلَى حُسَامِ الدَّوْلَةِ بِالْمَسِيرِ بِعَسَاكِرِ خُرَاسَانَ جَمِيعِهَا مَعَ فَخْرِ الدَّوْلَةِ وَقَابُوسٍ، جَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَحَشَدَ، فَاجْتَمَعَ بِنَيْسَابُورَ عَسَاكِرٌ سَدَّتِ الْفَضَاءَ، وَسَارُوا نَحْوَ جُرْجَانَ فَنَازَلُوهَا وَحَصَرُوهَا، وَبِهَا مُؤَيَّدُ الدَّوْلَةِ، وَمَعَهُ مِنْ عَسَاكِرِهِ وَعَسَاكِرِ أَخِيهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يُقَارِبُونَ عَسَاكِرَ خُرَاسَانَ، فَحَصَرَهُمْ حُسَامُ الدَّوْلَةِ شَهْرَيْنِ يُغَادِيهِمُ الْقِتَالَ وَيُرَاوِحُهُمْ، وَضَاقَتِ الْمِيرَةُ عَلَى أَهْلِ جُرْجَانَ، حَتَّى كَانُوا يَأْكُلُونَ نُخَالَةَ الشَّعِيرِ مَعْجُونَةً بِالطِّينِ، فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ خَرَجُوا مِنْ جُرْجَانَ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، عَلَى عَزْمِ صِدْقِ الْقِتَالِ إِمَّا لَهُمْ وَإِمَّا عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا رَآهُمْ أَهْلُ خُرَاسَانَ ظَنُّوهَا كَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّفْعَاتِ، يَكُونُ قِتَالٌ، ثُمَّ تَحَاجُزٌ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَرَأَوُا الْأَمْرَ خِلَافَ [مَا] ظَنُّوهُ.

وَكَانَ مُؤَيَّدُ الدَّوْلَةِ قَدْ كَاتَبَ بَعْضَ قُوَّادِ خُرَاسَانَ، يُسَمَّى فَائِقَ الْخَاصَّةِ، وَأَطْمَعَهُ وَرَغَّبَهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى الِانْهِزَامِ عِنْدَ اللِّقَاءِ. وَسَيَرِدُ مِنْ أَخْبَارِ فَائِقٍ هَذَا مَا يُعْرَفُ بِهِ مَحَلُّهُ مِنَ الدَّوْلَةِ. فَلَمَّا خَرَجَ مُؤَيَّدُ الدَّوْلَةِ، هَذَا الْيَوْمَ، حَمَلَ عَسْكَرَهُ عَلَى فَائِقٍ وَأَصْحَابِهِ، فَانْهَزَمَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَتَبِعَهُ النَّاسُ، وَثَبَتَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ، وَحُسَامُ الدَّوْلَةِ فِي الْقَلْبِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، فَلَمَّا رَأَوْا تَلَاحُقَ النَّاسِ فِي الْهَزِيمَةِ لَحِقُوا بِهِمْ، وَغَنِمَ أَصْحَابُ مُؤَيَّدِ الدَّوْلَةِ مِنْهُمْ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَأَخَذُوا مِنَ الْأَقْوَاتِ شَيْئًا كَثِيرًا. وَعَادَ حُسَامُ الدَّوْلَةِ، وَفَخْرُ الدَّوْلَةِ، وَقَابُوسٌ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَكَتَبُوا إِلَى بُخَارَى بِالْخَبَرِ، فَأَتَاهُمُ الْجَوَابُ يُمَنِّيهِمْ، وَيَعِدُهُمْ بِإِنْفَاذِ الْعَسَاكِرِ وَالْعَوْدِ إِلَى جُرْجَانَ وَالرَّيِّ، وَأَمَرَ الْأَمِيرُ نُوحٌ سَائِرَ الْعَسَاكِرِ بِالْمَسِيرِ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَأَتَوْهَا مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَاجْتَمَعَ بِظَاهِرِ نَيْسَابُورَ مِنَ الْعَسَاكِرِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَحُسَامُ الدَّوْلَةِ يَنْتَظِرُ تَلَاحُقَ الْأَمْدَادِ لِيَسِيرَ بِهِمْ، فَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِقَتْلِ الْوَزِيرِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْعُتْبِيِّ، فَتَفَرَّقَ ذَلِكَ الْجَمْعُ، وَبَطَلَ ذَلِكَ التَّدْبِيرُ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ سِيمْجُورَ وَضَعَ جَمَاعَةً مِنَ الْمَمَالِيكِ عَلَى قَتْلِهِ، فَوَثَبُوا بِهِ فَقَتَلُوهُ، فَلَمَّا قُتِلَ كَتَبَ الرَّضِيُّ نُوحُ بْنُ مَنْصُورٍ إِلَى حُسَامِ الدَّوْلَةِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَى بُخَارَى لِيُدَبِّرَ دَوْلَتَهُ، وَيَجْمَعَ مَا انْتَشَرَ مِنْهَا بِقَتْلِ أَبِي الْحُسَيْنِ، فَسَارَ عَنْ نَيْسَابُورَ إِلَيْهَا، وَقَتَلَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْ قَتَلَةِ أَبِي الْحُسَيْنِ، وَكَانَ قَتْلُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . ذِكْرُ قَتْلِ الْأَمِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ أَمِيرِ صِقِلِّيَّةَ وَهَزِيمَةِ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، سَارَ الْأَمِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ، أَمِيرُ صِقِلِّيَّةَ، مِنَ الْمَدِينَةِ يُرِيدُ الْجِهَادَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ، يُقَالُ لَهُ بَرْدَوِيلُ، خَرَجَ فِي جُمُوعٍ كَثِيرَةٍ

مِنَ الْفِرِنْجِ إِلَى صِقِلِّيَّةَ، فَحَصَرَ قَلْعَةَ مَلْطَةَ، وَمَلَكَهَا، وَأَصَابَ سَرِيَّتَيْنِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَسَارَ الْأَمِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بِعَسَاكِرِهِ لِيُرَحِّلَهُ عَنِ الْقَلْعَةِ، فَلَمَّا قَارَبَهَا خَافَ وَجَبُنَ فَجَمَعَ وُجُوهَ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي رَاجِعٌ مِنْ مَكَانِي هَذَا فَلَا تَكْسِرُوا عَلَيَّ رَأْيِي. فَرَجَعَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ. وَكَانَ أُسْطُولُ الْكُفَّارِ يُسَايِرُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَحْرِ، فَلَمَّا رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ رَاجِعِينَ أَرْسَلُوا إِلَى بَرْدَوِيلَ، مَلِكِ الرُّومِ، يُعْلِمُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ خَائِفُونَ مِنْكَ، فَالْحَقْ بِهِمْ فَإِنَّكَ تَظْفَرُ. فَجَرَّدَ الْفِرِنْجِيُّ عَسْكَرَهُ مِنْ أَثْقَالِهِمْ، وَسَارَ جَرِيدَةً، وَجَدَّ فِي السَّيْرِ، فَأَدْرَكَهُمْ فِي الْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، فَتَعَبَّأَ الْمُسْلِمُونَ لِلْقِتَالِ، وَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، فَحَمَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْفِرِنْجِ عَلَى الْقَلْبِ وَالْأَعْلَامِ، فَشَقُّوا الْعَسْكَرَ وَوَصَلُوا إِلَيْهَا، وَقَدْ تَفَرَّقَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَمِيرِهِمْ، وَاخْتَلَّ نِظَامُهُمْ، فَوَصَلَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهِ، فَأَصَابَتْهُ ضَرْبَةٌ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَقُتِلَ، وَقُتِلَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ النَّاسِ وَشُجْعَانِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ الْمُنْهَزِمِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجَعُوا مُصَمِّمِينَ عَلَى الْقِتَالِ لِيَظْفَرُوا أَوْ يَمُوتُوا، وَاشْتَدَّ حِينَئِذٍ الْأَمْرُ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ نَحْوُ أَرْبَعَةِ آلَافِ قَتِيلٍ، وَأُسِرَ مِنْ بَطَارِقَتِهِمْ كَثِيرٌ وَتَبِعُوهُمْ إِلَى أَنْ أَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ، وَغَنِمُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ كَثِيرًا. وَأَفْلَتَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ هَارِبًا وَمَعَهُ رَجُلٌ يَهُودِيٌّ كَانَ خِصِّيصًا بِهِ، فَوَقَفَ فَرَسُ الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: ارْكَبْ فَرَسِي، فَإِنْ قُتِلْتُ فَأَنْتَ لِوَلَدِي فَرَكِبَهُ الْمَلِكُ وَقُتِلَ الْيَهُودِيُّ، فَنَجَا الْمَلِكُ إِلَى خِيَامِهِ وَبِهَا زَوْجَتُهُ وَأَصْحَابُهُ فَأَخَذَهُمْ وَعَادَ إِلَى رُومِيَّةَ. وَلَمَّا قُتِلَ الْأَمِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ كَانَ مَعَهُ ابْنُهُ جَابِرٌ، فَقَامَ مَقَامَ أَبِيهِ، وَرَحَلَ بِالْمُسْلِمِينَ لِوَقْتِهِمْ، وَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْ إِتْمَامِ الْغَنِيمَةِ، فَتَرَكُوا كَثِيرًا مِنْهَا، وَسَأَلَهُ أَصْحَابُهُ لِيُقِيمَ إِلَى أَنْ يَجْمَعَ السِّلَاحَ وَغَيْرَهُ وَيُعَمِّرَ بِهِ الْخَزَائِنَ، فَلَمْ يَفْعَلْ.

وَكَانَتْ وِلَايَةُ أَبِي الْقَاسِمِ عَلَى صِقِلِّيَّةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، كَثِيرَ الشَّفَقَةِ عَلَى رَعِيَّتِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، عَظِيمَ الصَّدَقَةِ، لَمْ يُخَلِّفْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَقَارًا، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ وَقَفَ جَمِيعَ أَمْلَاكِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَأَبْوَابِ الْبِرِّ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ حَرِيقٌ بِالْكَرْخِ بِبَغْدَاذَ فَاحْتَرَقَ [فِيهَا] مَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ هَلَكَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَبَقِيَ الْحَرِيقُ أُسْبُوعًا. وَفِيهَا قَبَضَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى الْقَاضِي أَبِي عَلِيٍّ الْمُحْسِنِ بْنِ عَلِيٍّ التَّنُوخِيِّ، وَأَلْزَمَهُ مَنْزِلَهُ، وَعَزَلَهُ عَنْ أَعْمَالِهِ الَّتِي كَانَ يَتَوَلَّاهَا، وَكَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ شَدِيدَ التَّعَصُّبِ عَلَى الشَّافِعِيِّ يُطْلِقُ لِسَانَهُ فِيهِ، قَاتَلَهُ اللَّهُ! . وَفِيهَا أَفْرَجَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هِلَالٍ الصَّابِيِّ الْكَاتِبِ. وَكَانَ الْقَبْضُ عَلَيْهِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . وَكَانَ سَبَبُ قَبْضِهِ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ عَنْ بَخْتِيَارَ كُتُبًا فِي مَعْنَى الْخُلْفِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَكَانَ يَنْصَحُ صَاحِبَهُ، فَمِمَّا كَتَبَهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ الطَّائِعِ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ فِي الْمَعْنَى، وَقَدْ لُقِّبَ عِزُّ الدَّوْلَةِ بِشَاهِنْشَاهْ، فَتَزَحْزَحَ لَهُ عَنْ سُنَنِ الْمُسَاوَاةِ، فَنَقَمَ عَلَيْهِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَعْظُمَ فِي عَيْنِهِ لِنُصْحِهِ لِصَاحِبِهِ، فَلَمَّا أَطْلَقَهُ أَمْرَهُ بِعَمَلِ كِتَابٍ يَتَضَمَّنُ أَخْبَارَهُمْ وَمَحَاسِنَهَا، فَعَمِلَ التَّاجِيُّ فِي دَوْلَةِ الدَّيْلَمِ. وَفِيهَا أَرْسَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الطَّيِّبِ الْأَشْعَرِيَّ الْمَعْرُوفَ

بِابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ فِي جَوَابِ رِسَالَةٍ وَرَدَتْ مِنْهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَلِكِ قِيلَ لَهُ لِيُقَبِّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَقِيلَ: لَا سَبِيلَ إِلَى الدُّخُولِ إِلَّا مَعَ تَقْبِيلِ الْأَرْضِ فَأَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَعَمِلَ الْمَلِكُ بَابًا صَغِيرًا يَدْخُلُ مِنْهُ الْقَاضِي مُنْحَنِيًا لِيُوهِمَ الْحَاضِرِينَ أَنَّهُ قَبَّلَ الْأَرْضَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَاضِي الْبَابَ عَلِمَ ذَلِكَ، فَاسْتَدْبَرَهُ وَدَخَلَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَازَهُ اسْتَقْبَلَ الْمَلِكَ وَهُوَ قَائِمٌ، فَعَظُمَ عِنْدَهُمْ مَحَلُّهُ. وَفِيهَا فُتِحَ الْمَارَسْتَانُ الْعَضُدِيُّ، غَرْبِيَّ بَغْدَاذَ، وَنُقِلَ إِلَيْهِ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْجُرْجَانِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ، وَالْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الزَّاهِدُ، يَرْوِي صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ (عَنِ الْفَرَبْرِيِّ) ، وَتُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ الشِّيرَازِيُّ، شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ فِي وَقْتِهِ، صَحِبَ الْجَرِيرِيَّ وَابْنَ عَطَاءٍ وَغَيْرَهُمَا. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْحُصْرِيِّ) .

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 372 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ وِلَايَةِ بَكْجُورَ دِمَشْقَ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] وِلَايَةَ بَكْجُورَ حِمْصَ لِأَبِي الْمَعَالِي بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَلَمَّا وَلِيَهَا عَمَّرَهَا وَكَانَ بَلَدُ دِمَشْقَ قَدْ خَرَّبَهُ الْعَرَبُ وَأَهْلُ الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ مُدَّةَ تَحَكُّمِ قَسَّامٍ عَلَيْهَا، وَانْتَقَلَ أَهْلُهُ إِلَى أَعْمَالِ حِمْصَ، فَعَمُرَتْ، وَكَثُرَ أَهْلُهَا وَالْغَلَّاتُ فِيهَا، وَوَقَعَ الْغَلَاءُ وَالْقَحْطُ بِدِمَشْقَ، فَحَمَلَ بَكْجُورُ الْأَقْوَاتَ مِنْ حِمْصَ إِلَيْهَا وَتَرَدَّدَ النَّاسُ فِي حَمْلِ الْغَلَّاتِ، وَحِفْظَ الطُّرُقَ وَحَمَاهَا. وَكَاتَبَ الْعَزِيزَ بِاللَّهِ بِمِصْرَ، وَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ، فَوَعَدَهُ وِلَايَةَ دِمَشْقَ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ. وَوَقَعَتْ وَحْشَةٌ بَيْنَ سَعْدِ الدَّوْلَةِ أَبِي الْمَعَالِي بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ بَكْجُورَ، فَأَرْسَلَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُفَارِقَ بَلَدَهُ، فَأَرْسَلَ بَكْجُورُ إِلَى الْعَزِيزِ بِاللَّهِ يَطْلُبُ نِجَازَ مَا وَعَدَهُ مِنْ إِمَارَةِ دِمَشْقَ. وَكَانَ الْوَزِيرُ ابْنُ كِلِّسٍ يَمْنَعُ الْعَزِيزَ مِنْ وِلَايَتِهِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ. وَكَانَ الْقَائِدُ يَلْتَكِينُ قَدْ وَلِيَ دِمَشْقَ بَعْدَ قَسَّامٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَهُوَ مُقِيمٌ بِهَا. فَاجْتَمَعَ الْمَغَارِبَةُ بِمِصْرَ عَلَى الْوُثُوبِ بِالْوَزِيرِ ابْنِ كِلِّسٍ وَقَتْلِهِ، فَدَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى أَنْ

يَسْتَحْضِرَ يَلْتَكِينَ مِنْ دِمَشْقَ، فَأَمَرَهُ الْعَزِيزُ بِإِحْضَارِهِ وَتَسْلِيمِ دِمَشْقَ إِلَى بَكْجُورَ. فَقَالَ: إِنَّ بَكْجُورَ إِنْ وَلِيَهَا عَصَى فِيهَا. فَلَمْ يُصْغِ إِلَى قَوْلِهِ وَأَرْسَلَ إِلَى يَلْتَكِينَ يَأْمُرُهُ بِقَصْدِ مِصْرَ، وَتَسْلِيمِ دِمَشْقَ إِلَى بَكْجُورَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَدَخَلَهَا فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَالِيًا عَلَيْهَا، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ إِلَى أَصْحَابِ الْوَزِيرِ ابْنِ كِلِّسٍ وَالْمُتَعَلِّقِينَ بِهِ، حَتَّى إِنَّهُ صَلَبَ بَعْضَهُمْ، وَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْبَلَدِ، وَظَلَمَ النَّاسَ، وَكَانَ لَا يَخْلُو مِنْ أَخْذِ مَالٍ، وَقَتْلٍ، وَصَلْبٍ، وَعُقُوبَةٍ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَنَذْكُرُ هُنَاكَ عَزْلَهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ وَفَاةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، اشْتَدَّتْ عِلَّةُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ مَا كَانَ يَعْتَادُهُ مِنَ الصَّرَعِ فَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ (عَنْ دَفْعِهِ) ، فَخَنَقَهُ، فَمَاتَ مِنْهُ ثَامِنَ شَوَّالٍ بِبَغْدَاذَ، وَحُمِلَ إِلَى مَشْهَدِ (أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ) عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدُفِنَ بِهِ. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ بِالْعِرَاقِ خَمْسَ سِنِينَ وَنِصْفًا. وَلَمَّا تُوُفِّيَ جَلَسَ ابْنُهُ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ أَبُو كَالِيجَارَ لِلْعَزَاءِ، فَأَتَاهُ الطَّائِعُ لِلَّهِ مُعَزِّيًا، وَكَانَ عُمْرُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَكَانَ قَدْ سَيَّرَ وَلَدَهُ شَرَفَ الدَّوْلَةِ أَبَا الْفَوَارِسِ إِلَى كَرْمَانَ مَالِكًا لَهَا، قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ مَرَضُهُ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ لَمْ يَنْطَلِقْ لِسَانُهُ إِلَّا بِتِلَاوَةِ {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ - هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29] . وَكَانَ عَاقِلًا، فَاضِلًا، حَسَنَ السِّيَاسَةِ، كَثِيرَ الْإِصَابَةِ، شَدِيدَ الْهَيْبَةِ، بَعِيدَ الْهِمَّةِ، ثَاقِبَ الرَّأْيِ، مُحِبًّا لِلْفَضَائِلِ وَأَهْلِهَا، بَاذِلًا فِي مَوَاضِعِ الْعَطَاءِ، مَانِعًا فِي أَمَاكِنِ الْحَزْمِ نَاظِرًا فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ.

قِيلَ: لَمَّا مَاتَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بَلَغَ خَبَرُهُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْفُضَلَاءِ، فَتَذَاكَرُوا الْكَلِمَاتِ الَّتِي قَالَهَا الْحُكَمَاءُ عِنْدَ مَوْتِ الْإِسْكَنْدَرِ، وَقَدْ ذَكَرْتُهَا فِي أَخْبَارِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ قُلْتُمْ أَنْتُمْ مِثْلَهَا لَكَانَ ذَلِكَ يُؤْثَرُ عَنْكُمْ. فَقَالَ أَحَدُهُمْ: لَقَدْ وَزَنَ هَذَا الشَّخْصُ الدُّنْيَا بِغَيْرِ مِثْقَالِهَا، وَأَعْطَاهَا فَوْقَ قِيمَتِهَا، وَطَلَبَ الرِّبْحَ فِيهَا فَخَسِرَ رُوحَهُ فِيهَا. وَقَالَ الثَّانِي: مَنِ اسْتَيْقَظَ لِلدُّنْيَا فَهَذَا نَوْمُهُ، وَمَنْ حَلَمَ فِيهَا فَهَذَا انْتِبَاهُهُ. وَقَالَ الثَّالِثُ: مَا رَأَيْتُ عَاقِلًا فِي عَقْلِهِ، وَلَا غَافِلًا فِي غَفْلَتِهِ مِثْلَهُ، لَقَدْ كَانَ يَنْقُضُ جَانِبًا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُبْرَمٌ، وَيَغْرَمُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ غَانِمٌ. وَقَالَ الرَّابِعُ: مَنْ جَدَّ لِلدُّنْيَا هَزَلَتْ بِهِ، وَمَنْ هَزَلَ رَاغِبًا عَنْهَا جَدَّتْ لَهُ. وَقَالَ الْخَامِسُ: تَرَكَ هَذَا الدُّنْيَا شَاغِرَةً، وَرَحَلَ عَنْهَا بِلَا زَادٍ وَلَا رَاحِلَةٍ. وَقَالَ السَّادِسُ: إِنَّ مَاءً أَطْفَأَ هَذِهِ النَّارَ لَعَظِيمٌ، وَإِنَّ رِيحًا زَعْزَعَتْ هَذَا الرُّكْنَ لَعَصُوفٌ. وَقَالَ السَّابِعُ: إِنَّمَا سَلَبَكَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْكَ. وَقَالَ الثَّامِنُ: أَمَا إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَبِرًا فِي حَيَاتِهِ لَمَا صَارَ عِبْرَةً فِي مَمَاتِهِ. وَقَالَ التَّاسِعُ: الصَّاعِدُ فِي دَرَجَاتِ الدُّنْيَا إِلَى اسْتِفَالٍ، وَالنَّازِلُ فِي دَرَجَاتِهَا إِلَى تَعَالٍ. وَقَالَ الْعَاشِرُ: كَيْفَ غَفَلْتَ عَنْ كَيْدِ هَذَا الْأَمْرِ حَتَّى نَفَذَ فِيكَ، وَهَلَّا اتَّخَذْتَ دُونَهُ جُنَّةً تَقِيكَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لِعِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَإِنَّكَ لَآيَةٌ لِلْمُسْتَبْصِرِينَ. وَبَنَى عَلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ، سُورًا. وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْ شِعْرِهِ لَمَّاَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ يَعْتَذِرُ مِنْ مُسَاعَدَتِهِ بَخْتِيَارَ، وَيَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَقَالَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ: أَأَفَاقَ حِينَ وَطِئْتُ ضَيْقَ خِنَاقِهِ ، يَبْغِي الْأَمَانَ وَكَانَ يَبْغِي صَارِمًا ... فَلْأَرْكَبَنَّ عَزِيمَةً عَضُدِيَّةً ، تَاجِيَّةً، تَدَعُ الْأُنُوفَ رَوَاغِمَا

وَقَالَ أَبْيَاتًا مِنْهَا بَيْتٌ لَمْ يُفْلِحْ بَعْدَهُ، (وَهِيَ هَذِهِ) : لَيْسَ شُرْبُ الْكَأْسِ إِلَّا ... فِي الْمَطَرْ، وَغِنَاءٌ مِنْ جِوَارٍ فِي السَّحَرْ غَانِيَّاتٍ، سَالِبَاتٍ ... لِلنُّهَى، نَاغِمَاتٍ فِي تَضَاعِيفِ الْوَتَرْ مُبْرِزَاتِ الْكَأْسِ مِنْ مَطْلَعِهَا ، سَاقِيَاتِ الرَّاحِ مَنْ فَاقَ الْبَشَرْ ... عَضُدَ الدَّوْلَةِ وَابْنَ رُكْنِهَا ، مَلِكَ الْأَمْلَاكِ غَلَّابَ الْقَدَرْ وَهَذَا الْبَيْتُ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي قَصْرِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْغِلْمَانِ يَحْمِلُ إِلَيْهِمْ مُشَاهَرَاتِهِمْ مِنَ الْخِزَانَةِ، فَأَمَرَ أَبَا نَصْرٍ خُوَاشَاذَهْ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى الْخَازِنِ بِأَنْ يُسَلِّمَ جَامَكِيَّةِ الْغِلْمَانِ إِلَى نَقِيبِهِمْ فِي شَهْرٍ قَدْ بَقِيَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. قَالَ أَبُو نَصْرٍ: فَأُنْسِيتُ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، فَسَأَلَنِي عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَنْ ذَلِكَ فَقُلْتُ: أُنْسِيتُهُ فَأَغْلَظَ لِي، فَقُلْتُ: أَمْسِ اسْتَهَلَّ الشَّهْرُ، وَالسَّاعَةَ نَحْمِلُ الْمَالَ، وَمَا هَاهُنَا مَا يُوجِبُ شَغْلَ الْقَلْبِ. فَقَالَ: الْمُصِيبَةُ بِمَا لَا تَعْلَمُهُ مِنَ الْغَلَطِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي التَّفْرِيطِ، أَلَا تَعْلَمُ أَنَّا إِذَا أَطْلَقْنَا لَهُمْ مَالَهُمْ قَبْلَ مَحَلِّهِ كَانَ الْفَضْلُ لَنَا عَلَيْهِمْ، فَإِذَا أَخَّرْنَا ذَلِكَ عَنْهُمْ، حَتَّى اسْتَهَلَّ الشَّهْرُ الْآخَرُ، حَضَرُوا عِنْدَ عَارِضِهِمْ وَطَالَبُوهُ، فَيَعِدُهُمْ فَيَحْضُرُونَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَيَعِدُهُمْ، ثُمَّ يَحْضُرُونَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، (وَيَبْسُطُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) ، فَتَضِيعُ الْمِنَّةُ، وَتَحْصُلُ الْجُرْأَةُ، وَنَكُونُ إِلَى الْخَسَارَةِ أَقْرَبَ مِنَّا إِلَى الرِّبْحِ. وَكَانَ لَا يُعَوِّلُ فِي الْأُمُورِ إِلَّا عَلَى الْكُفَاةِ، وَلَا يَجْعَلُ لِلشَّفَاعَاتِ طَرِيقًا إِلَى مُعَارَضَةِ مَنْ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الشَّافِعِ، وَلَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.

حُكِيَ عَنْهُ أَنَّ مُقَدَّمَ جَيْشِهِ أَسْفَارُ بْنُ كَرْدَوَيْهِ شَفَعَ فِي بَعْضِ أَبْنَاءِ الْعُدُولِ لِيَتَقَدَّمَ إِلَى الْقَاضِي لِيَسْمَعَ تَزْكِيَتَهُ وَيَعْدِلَهُ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ أَشْغَالِكَ، إِنَّمَا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِكَ الْخِطَابُ فِي زِيَادَةِ قَائِدٍ، وَنَقْلِ مَرْتَبَةِ جُنْدِيٍّ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ وَقَبُولُهَا فَهُوَ إِلَى الْقَاضِي وَلَيْسَ لَنَا وَلَا لَكَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَمَتَى عَرَفَ الْقُضَاةُ مِنْ إِنْسَانٍ مَا يَجُوزُ مَعَهُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ، فَعَلُوا ذَلِكَ بِغَيْرِ شَفَاعَةٍ. وَكَانَ يُخْرِجُ فِي ابْتِدَاءِ كُلِّ سَنَةٍ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ لِلصَّدَقَةِ وَالْبِرِّ فِي سَائِرِ بِلَادِهِ، وَيَأْمُرُ بِتَسْلِيمِ ذَلِكَ إِلَى الْقُضَاةِ وَوُجُوهِ النَّاسِ لِيَصْرِفُوهُ إِلَى مُسْتَحِقِّيهِ. وَكَانَ يُوصِلُ إِلَى الْعُمَّالِ الْمُتَعَطِّلِينَ مَا يَقُومُ بِهِمْ وَيُحَاسِبُهُمْ بِهِ إِذَا عَمِلُوا. وَكَانَ مُحِبًّا لِلْعُلُومِ وَأَهْلِهَا، مُقَرِّبًا لَهُمْ، مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ، وَكَانَ يَجْلِسُ مَعَهُمْ يُعَارِضُهُمْ فِي الْمَسَائِلِ، فَقَصَدَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ، وَصَنَّفُوا لَهُ الْكُتُبَ مِنْهَا " الْإِيضَاحُ " فِي النَّحْوِ، وَ " الْحُجَّةُ " فِي الْقِرَاءَاتِ، وَ " الْمَلَكِيُّ " فِي الطِّبِّ، وَ " التَّاجِيُّ " فِي التَّارِيخِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَعَمِلَ الْمَصَالِحَ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ كَالْبِيمَارِسْتَانَاتِ وَالْقَنَاطِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ أَحْدَثَ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ رُسُومًا جَائِرَةً فِي الْمِسَاحَةِ، وَالضَّرَائِبِ عَلَى بَيْعِ الدَّوَابِّ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمْتِعَةِ، وَزَادَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَمَنَعَ مِنْ عَمَلِ الثَّلْجِ، وَالْقَزِّ، وَجَعَلَهُمَا مَتْجَرًا لِلْخَاصِّ، وَكَانَ يَتَوَصَّلُ إِلَى أَخْذِ الْمَالِ بِكُلِّ طَرِيقٍ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ قَبَضَ عَلَى نَائِبِهِ أَبِي الرَّيَّانِ مِنَ الْغَدِ، فَأُخِذَ مِنْ كُمِّهِ رُقْعَةٌ فِيهَا: أَيَا وَاثِقًا بِالدَّهْرِ عِنْدَ انْصِرَافِهِ! ... رُوَيْدَكَ إِنِّي بِالزَّمَانِ أَخُو خُبْرِ وَيَا شَامِتًا مَهْلًا، فَكَمْ ذِي شَمَاتَةٍ ... تَكُونُ لَهُ الْعُقْبَى بِقَاصِمَةِ الظَّهْرِ

ذِكْرُ وِلَايَةِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ الْعِرَاقَ وَمُلْكِ أَخِيهِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ بِلَادَ فَارِسَ لَمَّا تُوُفِّيَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ اجْتَمَعَ الْقُوَّادُ وَالْأُمَرَاءُ عَلَى وَلَدِهِ أَبِي كَالِيجَارَ الْمَرْزُبَانِ، فَبَايَعُوهُ وَوَلَّوْهُ الْإِمَارَةَ، وَلَقَّبُوهُ صَمْصَامَ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا وَلِيَ خَلَعَ عَلَى أَخَوَيْهِ أَبِي الْحُسَيْنِ أَحْمَدَ، وَأَبِي طَاهِرٍ فَيْرُوزْشَاهْ، وَأَقْطَعَهُمَا فَارِسَ، وَأَمَرَهُمَا بِالْجِدِّ فِي السَّيْرِ لِيَسْبِقَا أَخَاهُمَا شَرَفَ الدَّوْلَةِ أَبَا الْفَوَارِسِ شِيرَزِيلَ إِلَى شِيرَازَ. فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى أَرَّجَانَ أَتَاهُمَا خَبَرُ وُصُولِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ إِلَى شِيرَازَ، فَعَادَا إِلَى الْأَهْوَازِ. وَكَانَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ بِكَرْمَانَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ وَفَاةِ أَبِيهِ سَارَ مُجِدًّا إِلَى فَارِسَ فَمَلَكَهَا، وَقَبَضَ عَلَى نَصْرِ بْنِ هَارُونَ النَّصْرَانِيِّ، وَزِيرِ أَبِيهِ، وَقَتَلَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يُسِيءُ صُحْبَتَهُ أَيَّامَ أَبِيهِ، وَأَصْلَحَ أَمْرَ الْبِلَادِ، وَأَطْلَقَ الشَّرِيفَ أَبَا الْحُسَيْنِ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَرَ الْعَلَوِيَّ وَالنَّقِيبَ أَبَا أَحْمَدَ الْمُوسَوِيَّ (وَالِدَ الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ) ، وَالْقَاضِيَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ مَعْرُوفٍ، وَأَبَا نَصْرٍ خُوَاشَاذَهْ، وَكَانَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ حَبَسَهُمْ، وَأَظْهَرَ مُشَاقَّةَ أَخِيهِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، وَقَطَعَ خُطْبَتَهُ، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ، وَتَلَقَّبَ بِتَاجِ الدَّوْلَةِ، وَفَرَّقَ الْأَمْوَالَ، وَجَمَعَ الرِّجَالَ، وَمَلَكَ الْبَصْرَةَ وَأَقْطَعَهَا أَخَاهُ أَبَا الْحُسَيْنِ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ إِلَى أَنْ قَبَضَ عَلَيْهِ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَلَمَّا سَمِعَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ بِمَا فَعَلَهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ سَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمُ الْأَمِيرَ (أَبَا الْحَسَنِ بْنَ دَبْعَشَ، حَاجِبَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَجَهَّزَ تَاجُ الدَّوْلَةِ عَسْكَرًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمُ الْأَمِيرَ) أَبَا الْأَعَزِّ دُبَيْسَ بْنَ عَفِيفٍ الْأَسَدِيَّ، فَالْتَقَيَا بِظَاهِرِ قُرْقُوبَ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، وَأُسِرَ دَبْعَشُ، فَاسْتَوْلَى حِينَئِذٍ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْأَهْوَازِ، وَأَخَذَ مَا فِيهَا وَفِي رَامَهُرْمُزَ، وَطَمِعَ فِي الْمُلْكِ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.

ذِكْرُ قَتْلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ، صَاحِبُ الْبَطِيحَةِ، قَتَلَهُ أَخُوهُ أَبُو الْفَرَجِ وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبَطِيحَةِ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ حَسَدَهُ عَلَى وِلَايَتِهِ وَمَحَبَّةِ النَّاسِ لَهُ، فَاتُّفِقَ أَنَّ أُخْتًا لَهُمَا مَرِضَتْ، فَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ لِأَخِيهِ الْحُسَيْنِ: إِنَّ أُخْتَنَا مُشْفِيَةً، فَلَوْ عُدْتَهَا فَفَعَلَ وَسَارَ إِلَيْهَا، وَرَتَّبَ أَبُو الْفَرَجِ فِي الدَّارِ نَفَرًا يُسَاعِدُونَهُ عَلَى قَتْلِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْحُسَيْنُ الدَّارَ تَخَلَّفَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَدَخَلَ أَبُو الْفَرَجِ مَعَهُ وَبِيَدِهِ سَيْفُهُ، فَلَمَّا خَلَا بِهِ قَتَلَهُ، وَوَقَعَتِ الصَّيْحَةُ، فَصَعِدَ إِلَى السَّطْحِ وَأَعْلَمَ الْعَسْكَرَ بِقَتْلِهِ، وَوَعَدَهُمُ الْإِحْسَانَ فَسَكَتُوا، وَبَذَلَ لَهُمُ الْمَالَ، فَأَقَرُّوهُ فِي الْأَمْرِ، وَكَتَبَ إِلَى بَغْدَاذَ يُظْهِرُ الطَّاعَةَ، وَيَطْلُبُ تَقْلِيدَهُ الْوِلَايَةَ، وَكَانَ مُتَهَوِّرًا جَاهِلًا. ذِكْرُ عَوْدِ ابْنِ سِيمْجُورَ إِلَى خُرَاسَانَ لَمَّا عُزِلَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ سِيمْجُورَ عَنْ قِيَادَةِ جُيُوشِ خُرَاسَانَ وَوَلِيَهَا أَبُو الْعَبَّاسِ سَارَ ابْنُ سِيمْجُورَ إِلَى سِجِسْتَانَ فَأَقَامَ بِهَا، فَلَمَّا انْهَزَمَ أَبُو الْعَبَّاسِ عَنْ جُرْجَانَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، رَأَى الْفِتْنَةَ قَدْ رَفَعَتْ رَأْسَهَا، سَارَ عَنْ سِجِسْتَانَ نَحْوَ خُرَاسَانَ، وَأَقَامَ بِقُهُسْتَانَ. فَلَمَّا سَارَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى بُخَارَى، وَخَلَتْ مِنْهُ خُرَاسَانُ، كَاتَبَ ابْنَ سِيمْجُورُ فَائِقًا يَطْلُبُ مُوَافَقَتَهُ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى خُرَاسَانَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَا بِنَيْسَابُورَ، وَاسْتَوْلَيَا عَلَى تِلْكَ النَّوَاحِي. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ فَسَارَ عَنْ بُخَارَى فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ إِلَى مَرْوَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ تَكُونَ نَيْسَابُورُ وَقِيَادَةُ الْجُيُوشِ لِابْنِ الْعَبَّاسِ، وَتَكُونَ بَلْخَ لِفَائِقٍ، وَتَكُونَ هَرَاةُ لِأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ سِيمْجُورَ، وَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ، وَقَصَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وِلَايَتَهُ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ أَبُو تَمَّامٍ الزَّيْنَبِيُّ، وَوَلِيَ النِّقَابَةَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْحَسَنِ، وَتُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَعْرُوفُ بِزَوْجِ الْحُرَّةِ فِي صَفَرَ بِبَغْدَاذَ، وَتُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مَنْصُورُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ الزَّاهِدُ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 373 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مَوْتِ مُؤَيَّدِ الدَّوْلَةِ وَعَوْدِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ إِلَى مَمْلَكَتِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، تُوُفِّيَ مُؤَيَّدُ الدَّوْلَةِ أَبُو مَنْصُورٍ بُوَيْهُ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بِجُرْجَانَ، وَكَانَتْ عِلَّتُهُ الْخَوَانِيقَ، وَقَالَ لَهُ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ: لَوْ عَهِدْتَ إِلَى أَحَدٍ فَقَالَ: أَنَا فِي شُغْلٍ عَنْ هَذَا، وَلَمْ يَعْهَدْ بِالْمُلْكِ إِلَى أَحَدٍ وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَجَلَسَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ لِلْعَزَاءِ بِبَغْدَاذَ، فَأَتَاهُ الطَّائِعُ لِلَّهِ مُعَزِّيًا، فَلَقِيَهُ فِي طَيَّارَةٍ. وَلَمَّا مَاتَ مُؤَيَّدُ الدَّوْلَةِ تَشَاوَرَ أَكَابِرُ دَوْلَتِهِ فِيمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَأَشَارَ الصَّاحِبُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّادٍ بِإِعَادَةِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ إِلَى مَمْلَكَتِهِ، إِذْ هُوَ كَبِيرُ الْبَيْتِ، وَمَالِكُ تِلْكَ الْبِلَادِ قَبْلَ مُؤَيَّدِ الدَّوْلَةِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ آيَاتِ الْإِمَارَةِ وَالْمُلْكِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ وَاسْتَدْعَاهُ، وَهُوَ بِنَيْسَابُورَ، وَأَرْسَلَ الصَّاحِبُ إِلَيْهِ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ لِنَفْسِهِ، وَأَقَامَ فِي الْوَقْتِ خُسْرُو فَيْرُوزَ بْنَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ لِيَسْكُنَ النَّاسُ إِلَى قُدُومِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ. فَلَمَّا وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ سَارَ إِلَى جُرْجَانَ، فَلَقِيَهُ الْعَسْكَرُ بِالطَّاعَةِ، وَجَلَسَ فِي دَسْتٍ مَلَكِيٍّ فِي رَمَضَانَ بِغَيْرِ مِنَّةٍ لِأَحَدٍ، فَسُبْحَانَ مَنْ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا كَانَ. وَلَمَّا عَادَ إِلَى مَمْلَكَتِهِ قَالَ لَهُ الصَّاحِبُ: يَا مَوْلَانَا قَدْ بَلَّغَكَ اللَّهُ، وَبَلَّغَنِي فِيكَ مَا أَمَّلْتَهُ، مِنْ حُقُوقِ خِدْمَتِي لَكَ إِجَابَتِي إِلَى تَرْكِ الْجُنْدِيَّةِ، وَمُلَازَمَةِ دَارِي وَالتَّوَفُّرِ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ. فَقَالَ: لَا تَقُلْ هَذَا، فَمَا أُرِيدُ الْمُلْكَ إِلَّا لَكَ، وَلَا يَسْتَقِيمُ لِي أَمْرٌ إِلَّا بِكَ، وَإِذَا كَرِهْتَ مُلَابَسَةَ الْأُمُورِ كَرِهْتُهَا أَنَا أَيْضًا وَانْصَرَفْتُ.

فَقَبَّلَ الْأَرْضَ، وَقَالَ: الْأَمْرُ لَكَ فَاسْتَوْزَرَهُ وَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ، وَصَدَرَ عَنْ رَأْيِهِ فِي جَلِيلِ الْأُمُورِ وَصَغِيرِهَا. وَسُيِّرَتِ الْخِلَعُ مِنَ الْخَلِيفَةِ إِلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ، وَالْعَهْدِ، وَاتَّفَقَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ وَصَمْصَامُ الدَّوْلَةِ فَصَارَا يَدًا وَاحِدَةً. ذِكْرُ عَزْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ خُرَاسَانَ وَوِلَايَةِ ابْنِ سِيمْجُورَ لَمَّا عَادَ أَبُو الْعَبَّاسِ عَنْ بُخَارَى إِلَى نَيْسَابُورَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ،، اسْتَوْزَرَ الْأَمِيرُ نُوحٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُزَيْرٍ، وَكَانَ ضِدًّا لِأَبِي الْحُسَيْنِ الْعُتْبِيِّ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْوِزَارَةَ بَدَأَ بِعَزْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ خُرَاسَانَ، وَإِعَادَةِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ سِيمْجُورَ إِلَيْهَا، فَكَتَبَ مَنْ بِخُرَاسَانَ مِنَ الْقُوَّادِ إِلَيْهِ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُقِرَّ أَبَا الْعَبَّاسِ عَلَى عَمَلِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَكَتَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهٍ يَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَدَّهُ بِمَالٍ كَثِيرٍ وَعَسْكَرٍ، فَأَقَامُوا بِنَيْسَابُورَ، وَأَتَاهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مُعَاضِدًا لَهُمْ عَلَى ابْنِ سِيمْجُورَ. وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ حِينَئِذٍ بِمَرْوَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ سِيمْجُورَ وَفَائِقٌ بِوُصُولِ عَسْكَرِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ إِلَى نَيْسَابُورَ قَصَدُوهُمْ، فَانْحَازَ عَسْكَرُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ وَابْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَأَقَامُوا يَنْتَظِرُونَ أَبَا الْعَبَّاسِ، وَنَزَلَ ابْنُ سِيمْجُورَ وَمَنْ مَعَهُ بِظَاهِرِ نَيْسَابُورَ، وَوَصَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِيمَنْ مَعَهُ وَاجْتَمَعَ بِعَسْكَرِ الدَّيْلَمِ، وَنَزَلَ بِالْجَانِبِ الْآخَرِ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَتَحَصَّنَ ابْنُ سِيمْجُورَ بِالْبَلَدِ، وَأَنْفَذَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ عَسْكَرًا آخَرَ، أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ فَارِسٍ، فَلَمَّا رَأَى ابْنُ سِيمْجُورَ قُوَّةَ أَبِي الْعَبَّاسِ انْحَازَ عَنْ نَيْسَابُورَ، فَسَارَ عَنْهَا لَيْلًا، وَتَبِعَهُ عَسْكَرُ أَبِي الْعَبَّاسِ، فَغَنِمُوا كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ، وَاسْتَوْلَى أَبُو الْعَبَّاسِ عَلَى نَيْسَابُورَ، وَرَاسَلَ الْأَمِيرَ نُوحَ بْنَ مَنْصُورٍ يَسْتَمِيلُهُ وَيَسْتَعْطِفُهُ، وَلَجَّ ابْنُ عُزَيْرٍ فِي عَزْلِهِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ وَالِدَةُ الْأَمِيرِ نُوحٍ، وَكَانَتْ تَحْكُمُ فِي دَوْلَةِ وَلَدِهَا، وَكَانُوا يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهَا، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَصْرِ فِي ذَلِكَ:

شَيْئَانِ يَعْجِزُ ذُو الرِّيَاضَةِ عَنْهُمَا ... رَأْيُ النِّسَاءِ، وَإِمْرَةُ الصِّبْيَانِ أَمَّا النِّسَاءُ فَمَيْلُهُنَّ إِلَى الْهَوَى ... وَأَخُو الصِّبَا يَجْرِي بِغَيْرِ عِنَانِ ذِكْرُ انْهِزَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ إِلَى جُرْجَانَ وَوَفَاتِهِ لَمَّا انْهَزَمَ ابْنُ سِيمْجُورَ أَقَامَ أَبُو الْعَبَّاسِ بِنَيْسَابُورَ يَسْتَعْطِفُ الْأَمِيرَ نُوحًا وَوَزِيرَهُ ابْنَ عُزَيْرٍ، وَتَرَكَ اتِّبَاعَ ابْنِ سِيمْجُورَ وَإِخْرَاجَهُ مِنْ خُرَاسَانَ، فَتَرَاجَعَ إِلَى ابْنِ سِيمْجُورَ أَصْحَابُهُ الْمُنْهَزِمُونَ، وَعَادَتْ قُوَّتُهُ، وَأَتَتْهُ الْأَمْدَادُ مِنْ بُخَارَى، وَكَاتَبَ شَرَفَ الدَّوْلَةِ أَبَا الْفَوَارِسِ بْنَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ بِفَارِسَ، يَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَدَّهُ بِأَلْفَيْ فَارِسٍ مُرَاغَمَةً لِعَمِّهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا كَثُفَ جَمْعُهُ قَصَدَ أَبَا الْعَبَّاسِ، (فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، فَانْهَزَمَ أَبُو الْعَبَّاسِ) وَأَصْحَابُهُ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ. وَقَصَدَ أَبُو الْعَبَّاسِ جُرْجَانَ، وَبِهَا فَخْرُ الدَّوْلَةِ، فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ، وَتَرَكَ لَهُ جُرْجَانَ وَدِهِسْتَانَ وَأَسْتَرَابَاذَ صَافِيَةً لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ، وَسَارَ عَنْهَا إِلَى الرَّيِّ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْآلَاتِ مَا يَجِلُّ عَنِ الْوَصْفِ. وَأَقَامَ أَبُو الْعَبَّاسِ بِجُرْجَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ نَحْوَ خُرَاسَانَ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا، وَعَادَ إِلَى جُرْجَانَ وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ وَقَعَ بِهَا وَبَاءٌ شَدِيدٌ مَاتَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ مَاتَ هُوَ أَيْضًا، وَكَانَ مَوْتُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ مَسْمُومًا. وَكَانَ أَصْحَابُهُ قَدْ أَسَاءُوا السِّيرَةَ مَعَ أَهْلِ جُرْجَانَ، فَلَمَّا مَاتَ ثَارَ بِهِمْ أَهْلُهَا وَنَهَبُوهُمْ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ أَجْلَتْ عَنْ هَزِيمَةِ الْجُرْجَانِيَّةِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُحْرِقَتْ دُورُهُمْ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَطَلَبَ مَشَايِخُهُمُ الْأَمَانَ، فَكَفُّوا عَنْهُمْ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، فَسَارَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى خُرَاسَانَ، وَاتَّصَلُوا بِأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ سِيمْجُورَ، وَكَانَ حِينَئِذٍ صَاحِبَ الْجَيْشِ مَكَانَ أَبِيهِ، وَكَانَ وَالِدُهُ قَدْ تُوُفِّيَ فَجْأَةً، وَهُوَ يُجَامِعُ بَعْضَ حَظَايَاهُ، فَمَاتَ عَلَى صَدْرِهَا، فَلَمَّا مَاتَ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو عَلِيٍّ،

وَاجْتَمَعَ إِخْوَتُهُ عَلَى طَاعَتِهِ، مِنْهُمْ أَخُوهُ أَبُو الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ، فَنَازَعَهُ فَائِقٌ الْوِلَايَةَ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] عِنْدَ مُلْكِ التُّرْكِ بُخَارَى، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي الْفَرَجِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ وَمُلْكِ أَبِي الْمَعَالِي ابْنِ أَخِيهِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ أَبُو الْفَرَجِ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ صَاحِبُ الْبَطِيحَةِ، وَوَلِيَ، أَبُو الْمَعَالِي ابْنُ أَخِيهِ الْحَسَنِ. وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ أَبَا الْفَرَجِ قَدَّمَ الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ سَاعَدُوهُ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ، وَوَضَعَ مِنْ حَالِ مُقَدَّمِي الْقُوَّادِ، فَجَمَعَهُمُ الْمُظَفَّرُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَاجِبُ، وَهُوَ أَكْبَرُ قُوَّادِ أَبِيهِ عِمْرَانَ وَأَخِيهِ الْحَسَنِ، وَحَذَّرَهُمْ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِ أَبِي الْفَرَجِ، فَقَتَلَهُ الْمُظَفَّرُ وَأَجْلَسَ أَبَا الْمَعَالِي مَكَانَهُ، وَتَوَلَّى تَدْبِيرَهُ بِنَفْسِهِ، وَقَتَلَ كُلَّ مَنْ كَانَ يَخَافُهُ مِنَ الْقُوَّادِ، وَلَمْ يَتْرُكْ مَعَهُ إِلَّا مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَكَانَ أَبُو الْمَعَالِي صَغِيرًا. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْمُظَفَّرِ عَلَى الْبَطِيحَةِ لَمَّا طَالَتْ أَيَّامُ عَلِيٍّ الْمُظَفَّرِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَاجِبِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، طَمِعَ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِأَمْرِ الْبَطِيحَةِ، فَوَضَعَ كِتَابًا عَنْ لِسَانِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِ يَتَضَمَّنُ التَّعْوِيلَ عَلَيْهِ فِي وِلَايَةِ الْبَطِيحَةِ، وَسَلَّمَهُ إِلَى رِكَابِيٍّ غَرِيبٍ، وَأَمْرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ إِذَا كَانَ الْقُوَّادُ وَالْأَجْنَادُ عِنْدَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَتَاهُ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْغُبَارِ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ، فَقَبَّلَهُ وَفَتَحَهُ، وَقَرَأَهُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الْأَجْنَادِ، وَأَجَابَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَعَزَلَ أَبَا الْمَعَالِي، وَجَعَلَهُ مَعَ وَالِدَتِهِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمَا جِرَايَةً، ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا إِلَى وَاسِطَ، وَكَانَ يَصِلُهُمَا بِمَا يُنْفِقَانِهِ، وَاسْتَبَدَّ بِالْأَمْرِ وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، وَعَدَلَ فِي النَّاسِ مُدَّةً. ثُمَّ إِنَّهُ عَهِدَ إِلَى ابْنِ أُخْتِهِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ الْمُلَقَّبِ بِمُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِينَئِذٍ بِالْأَمِيرِ الْمُخْتَارِ، وَبَعْدَهُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهِ الْأُخْرَى، وَانْقَرَضَ بَيْتُ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ، وَكَذَلِكَ الدُّنْيَا دُوَلٌ، وَمَا أَشْبَهَ حَالَهُ بِحَالِ بَاذٍ، فَإِنَّهُ مَلَكَ، وَانْتَقَلَ الْمُلْكُ إِلَى ابْنِ أُخْتِهِ مُمَهِّدِ الدَّوْلَةِ ابْنِ مَرْوَانَ.

ذِكْرُ عِصْيَانِ مُحَمَّدِ بْنِ غَانِمٍ وَفِيهَا عَصَى مُحَمَّدُ بْنُ غَانِمٍ الْبَرْزِيكَانِيُّ بِنَاحِيَةِ كُورَدْرَ، مِنْ أَعْمَالٍ قُمَّ، عَلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ، وَأَخَذَ بَعْضَ غَلَّاتِ السُّلْطَانِ، وَامْتَنَعَ بِحِصْنِ الْهَفْتَجَانِ، وَجَمَعَ الْبَرْزِيكَانِيَّ إِلَى نَفْسِهِ، فَسَارَتْ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرُ، فِي شَوَّالٍ، لِقِتَالِهِ، فَهَزَمَهَا، وَأُعِيدَتْ إِلَيْهِ مِنَ الرَّيِّ مَرَّةً أُخْرَى فَهَزَمَهَا. فَأَرْسَلَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ إِلَى أَبِي النَّجْمِ بَدْرِ بْنِ حَسْنُوَيْهِ يُنْكِرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَيَأْمُرُهُ بِإِصْلَاحِ الْحَالِ مَعَهُ، فَفَعَلَ، وَرَاسَلَهُ، فَاصْطَلَحُوا أَوَّلَ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] (وَبَقِيَ إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ) ، فَسَارَ إِلَيْهِ جَيْشٌ لِفَخْرِ الدَّوْلَةِ، فَقَاتَلَهُ، فَأَصَابَتْهُ طَعْنَةٌ، وَأُخِذَ أَسِيرًا، فَمَاتَ مِنْ طَعْنَتِهِ. ذِكْرُ انْتِقَالِ بَعْضِ صِنْهَاجَةَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ وَمَا فَعَلُوهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْتَقَلَ أَوْلَادُ زِيرِي بْنِ مَنَادٍ، وَهُمْ زَاوِي وَجَلَالَةُ وَمَاكْسَنُ إِخْوَةُ بُلُكِّينَ، إِلَى الْأَنْدَلُسِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَخِيهِمْ حَمَّادٍ حُرُوبٌ وَقِتَالٌ عَلَى بِلَادٍ بَيْنَهُمْ، فَغَلَبَهُمْ حَمَّادٌ، فَتَوَجَّهُوا إِلَى طَنْجَةَ وَمِنْهَا إِلَى قُرْطُبَةَ، فَأَنْزَلَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ وَسُرَّ بِهِمْ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ الْوَظَائِفَ وَأَكْرَمَهُمْ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ انْتِقَالِهِمْ، فَأَخْبَرُوهُ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّمَا اخْتَرْنَاكَ عَلَى غَيْرِكَ، وَأَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ مَعَكَ نُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَوَعَدَهُمْ وَوَصَلَهُمْ، فَأَقَامُوا أَيَّامًا. ثُمَّ دَخَلُوا عَلَيْهِ وَسَأَلُوهُ إِتْمَامَ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْغَزْوِ، فَقَالَ: انْظُرُوا مَا أَرَدْتُمْ مِنَ الْجُنْدِ نُعْطِكُمْ فَقَالُوا: مَا يَدْخُلُ مَعَنَا بِلَادَ الْعَدُوِّ غَيْرُنَا إِلَّا الَّذِينَ مَعَنَا مِنْ بَنِي عَمِّنَا، وَصِنْهَاجَةَ وَمَوَالِينَا فَأَعْطَاهُمُ الْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ وَالْأَمْوَالَ، وَبَعَثَ مَعَهُمْ دَلِيلًا، وَكَانَ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا، فَأَتَوْا أَرْضَ جِلِّيقِيَّةَ، فَدَخَلُوهَا لَيْلًا، وَكَمَنُوا فِي بُسْتَانٍ بِالْقُرْبِ مِنَ

الْمَدِينَةِ، وَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ بِهِ وَقَطَعُوا أَشْجَارَهُ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا خَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْبَلَدِ فَضَرَبُوا عَلَيْهِمْ وَأَخَذُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ جَمِيعَهُمْ وَرَجَعُوا. وَتَسَامَعَ الْعَدُوُّ، فَرَكِبُوا فِي أَثَرِهِمْ، فَلَمَّا أَحَسُّوا بِذَلِكَ كَمَنُوا وَرَاءَ رَبْوَةٍ، فَلَمَّا جَاوَزَهُمُ الْعَدُوُّ خَرَجُوا عَلَيْهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَضَرَبُوا فِي سَاقَتِهِمْ وَكَبَّرُوا، فَلَمَّا سَمِعَ الْعَدُوُّ تَكْبِيرَهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْعَدَدَ كَثِيرٌ، فَانْهَزَمُوا، وَتَبِعَهُمْ صِنْهَاجَةُ، فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمُوا دَوَابَّهُمْ وَسِلَاحَهُمْ وَعَادُوا إِلَى قُرْطُبَةَ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَامِرٍ، وَرَأَى مِنْ شَجَاعَتِهِمْ مَا لَمْ يَرَهُ مِنْ جُنْدِ الْأَنْدَلُسِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ بِطَانَتَهُ. ذِكْرُ غَزْوِ ابْنِ أَبِي عَامِرٍ إِلَى الْفِرِنْجِ بِالْأَنْدَلُسِ لَمَّا رَأَى أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ فِعْلَ صِنْهَاجَةَ حَسَدُوهُمْ، وَرَغِبُوا فِي الْجِهَادِ، وَقَالُوا لِلْمَنْصُورِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ: لَقَدْ نَشَّطْنَا هَؤُلَاءِ لِلْغَزْوِ. فَجَمَعَ الْجُيُوشَ الْكَثِيرَةَ مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ، وَخَرَجَ إِلَى الْجِهَادِ، وَكَانَ رَأَى فِي مَنَامِهِ، تِلْكَ اللَّيَالِيَ، كَأَنَّ رَجُلًا أَعْطَاهُ الْأَسْبَرَاجَ، فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ وَأَكَلَ مِنْهُ، فَعَبَرَهُ عَلَى ابْنِ أَبِي جُمْعَةَ، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ إِلَى بَلَدِ إَلْيُونَ فَإِنَّكَ سَتَفْتَحُهَا فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: لِأَنَّ الْأَسْبَرَاجَ يُقَالُ لَهُ فِي الْمَشْرِقِ الْهِلْيَوْنُ، فَمَلَكُ الرُّؤْيَا قَالَ لَكَ: هَا لِيُونُ. فَخَرَجَ إِلَيْهَا وَنَازَلَهَا، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَدَائِنِهِمْ، وَاسْتَمَدَّ أَهْلُهَا الْفِرِنْجَ، فَأَمَدُّوهُمْ بِجُيُوشٍ كَثِيرَةٍ، وَاقْتَتَلُوا لَيْلًا وَنَهَارًا، فَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَصَبَرَتْ صِنْهَاجَةُ صَبْرًا عَظِيمًا، ثُمَّ خَرَجَ قُومَصٌ كَبِيرٌ مِنَ الْفِرِنْجِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِثْلُهُ، فَجَالَ بَيْنَ الصُّفُوفِ وَطَلَبَ الْبَرَازَ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ جَلَالَةُ بْنُ زِيرِي الصِّنْهَاجِيُّ فَحَمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَطَعَنَهُ الْفِرِنْجِيُّ فَمَالَ عَنِ الطَّعْنَةِ وَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى عَاتِقِهِ فَأَبَانَ عَاتِقَهُ، فَسَقَطَ الْفِرِنْجِيُّ إِلَى الْأَرْضِ، وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى النَّصَارَى، فَانْهَزَمُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَا لَا يُحْصَى (وَمَلَكَ الْمَدِينَةَ) .

وَغَنِمَ ابْنُ أَبِي عَامِرٍ غَنِيمَةً عَظِيمَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَاجْتَمَعَ مِنَ السَّبْيِ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَأَمَرَ بِالْقَتْلَى فَنُضِّدَتْ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَأَمَرَ مُؤَذِّنًا أَذَّنَ فَوْقَ الْقَتْلَى الْمَغْرِبَ، وَخَرَّبَ مَدِينَةَ قَامُونَةَ، وَرَجَعَ سَالِمًا هُوَ وَعَسَاكِرُهُ. ذِكْرُ وَفَاةِ يُوسُفَ بُلُكِّينَ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ الْمَنْصُورِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ يُوسُفُ بُلُكِّينُ بْنُ زِيرِي صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ بِوَارْقَلِينَ. وَسَبَبُ مُضِيِّهِ إِلَيْهَا أَنَّ خَزَرُونَ الزَّنَاتِيَّ دَخَلَ سِجِلْمَاسَةَ، وَطَرَدَ عَنْهَا نَائِبَ يُوسُفَ بُلُكِّينَ، وَنَهَبَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْعُدَدِ، وَتَغَلَّبَ عَلَى فَاسَ زِيرِي بْنُ عَطِيَّةَ الزَّنَاتِيُّ، فَرَحَلَ يُوسُفُ إِلَيْهَا، فَاعْتَلَّ فِي الطَّرِيقِ بِقُولَنْجٍ، وَقِيلَ خَرَجَ فِي يَدِهِ بَثْرَةٌ فَمَاتَ مِنْهَا، فَأَوْصَى بِوِلَايَةِ ابْنِهِ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ الْمَنْصُورُ بِمَدِينَةِ أَشِيرَ، فَجَلَسَ لِلْعَزَاءِ بِأَبِيهِ، وَأَتَاهُ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ وَسَائِرِ الْبِلَادِ يُعَزُّونَهُ بِأَبِيهِ وَيُهَنُّونَهُ بِالْوِلَايَةِ، فَأَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبِي يُوسُفَ وَجَدِّي زِيرِي كَانَا يَأْخُذَانِ النَّاسَ بِالسَّيْفِ، وَأَنَا لَا آخُذُهُمْ إِلَّا بِالْإِحْسَانِ، وَلَسْتُ مِمَّنْ يُوَلَّى بِكِتَابٍ وَيُعْزَلُ بِكِتَابٍ، يَعْنِي أَنَّ الْخَلِيفَةَ بِمِصْرَ لَا يَقْدِرُ عَلَى عَزْلِهِ بِكِتَابٍ. ثُمَّ سَارَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، وَسَكَنَ بِرِقَّادَةَ، وَوَلِيَ الْأَعْمَالَ، وَاسْتَعْمَلَ الْأُمَرَاءَ وَأَرْسَلَ هَدِيَّةً عَظِيمَةً إِلَى الْعَزِيزِ بِاللَّهِ بِمِصْرَ، قِيلَ: كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَى أَشِيرَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى جِبَايَةِ الْأَمْوَالِ بِالْقَيْرَوَانِ، وَالْمَهْدِيَّةِ، وَجَمِيعِ إِفْرِيقِيَّةَ إِنْسَانًا يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْكَاتِبِ. ذِكْرُ أَمْرِ بَاذٍ الْكُرْدِيِّ خَالِ بَنِي مَرْوَانَ وَمُلْكِهِ الْمَوْصِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَوِيَ أَمْرُ بَاذٍ الْكُرْدِيِّ، وَاسْمُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ دُوسْتَكَ

وَهُوَ مِنَ الْأَكْرَادِ الْحُمَيْدِيَّةِ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَغْزُو بِثُغُورِ دِيَارِ بَكْرٍ كَثِيرًا، وَكَانَ عَظِيمَ الْخِلْقَةِ، لَهُ بَأْسٌ وَشِدَّةٌ، فَلَمَّا مَلَكَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ الْمَوْصِلَ حَضَرَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا رَأَى عَضُدَ الدَّوْلَةِ خَافَهُ وَقَالَ: مَا أَظُنُّهُ يُبْقِي عَلَيَّ فَهَرَبَ حِينَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَطَلَبَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بَعْدَ خُرُوجِهِ لِيَقْبِضَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَهُ بَأْسٌ وَشِدَّةٌ، وَفِيهِ شَرٌّ، وَيَجُوزُ الْإِبْقَاءُ عَلَى مِثْلِهِ فَأُخْبِرَ بِهَرَبِهِ فَكَفَّ عَنْ طَلَبِهِ. وَحَصَلَ بِثُغُورِ دِيَارِ بَكْرٍ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنِ اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ وَقَوِيَ، وَمَلَكَ مَيَّافَارِقِينَ وَكَثِيرًا مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ بَعْدَ مَوْتِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَوَصَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إِلَى نَصِيبِينَ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، فَجَهَّزَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرَ مَعَ أَبِي سَعْدٍ بَهْرَامَ بْنِ أَرْدَشِيَرَ، فَوَاقَعَهُ، فَانْهَزَمَ بَهْرَامُ وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَوِيَ أَمْرُ بَاذٍ، فَأَرْسَلَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِ أَبَا الْقَاسِمِ سَعْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْحَاجِبَ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ، فَالْتَقَوْا بِبَاجُلَايَا عَلَى خَابُورِ الْحُسَيْنِيَّةِ، مِنْ بَلَدِ كَوَاشَى، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ سَعْدٌ وَأَصْحَابُهُ، وَاسْتَوْلَى بَاذٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الدَّيْلَمِ، فَقَتَلَ وَأَسَرَ، ثُمَّ قَتَلَ الْأَسْرَى صَبْرًا. وَفِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ الْبَشْنَوِيُّ: بِبَاجُلَايَا جَلَوْنَا عَنْهُ غُمَّتَهُ ، وَنَحْنُ فِي الرَّوْعِ جَلَّاءُونَ لِلْكُرَبِ (يَعْنِي بَاذًا) ، (وَسَنَذْكُرُ سَبَبَهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا هَزَمَ بَاذٌ الدَّيْلَمَ وَسَعْدًا، وَفَعَلَ بِهِمْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، سَبَقَهُ سَعْدٌ فَدَخَلَ الْمَوْصِلَ، وَسَارَ بَاذٌ فِي أَثَرِهِ، فَثَارَ الْعَامَّةُ بِسَعْدٍ لِسُوءِ سِيرَةِ الدَّيْلَمِ فِيهِمْ، فَنَجَا مِنْهُمْ بِنَفْسِهِ، وَدَخَلَ بَاذٌ إِلَى الْمَوْصِلِ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِالتَّغَلُّبِ عَلَى بَغْدَاذَ وَإِزَالَةِ الدَّيْلَمِ عَنْهَا، وَخَرَجَ مِنْ حَدِّ الْمُتَطَرِّفِينَ، وَصَارَ فِي عِدَادِ أَصْحَابِ

الْأَطْرَافِ. فَخَافَهُ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ، وَأَهَمَّهُ أَمْرُهُ، وَشَغَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ لِيُسَيِّرَهَا إِلَيْهِ، فَانْقَضَتِ السَّنَةُ. وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْدِقَائِنَا مِنَ الْأَكْرَادِ الْحُمَيْدِيَّةِ مِمَّنْ يَعْتَنِي بِأَخْبَارِ بَاذٍ أَنَّ بَاذًا كُنْيَتُهُ أَبُو شُجَاعٍ، وَاسْمُهُ بَاذٍ، وَأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ دُوسْتَكَ، وَهُوَ أَخُو بَاذٍ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِ أَنَّهُ، كَانَ يَرْعَى الْغَنَمَ، وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا، وَكَانَ يَذْبَحُ الْغَنَمَ الَّتِي لَهُ وَيُطْعِمُ النَّاسَ، فَظَهَرَ عَنْهُ اسْمُ الْجُودِ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَصَارَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَكُلَّمَا حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ أَخْرَجَهُ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَصَارَ يَغْزُو، ثُمَّ إِنَّهُ دَخَلَ أَرْمِينِيَّةَ، فَمَلَكَ مَدِينَةَ أَرْجِيشَ، وَهِيَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ مَلَكَهَا، فَقَوِيَ بِهَا، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى دِيَارِ بَكْرٍ، فَمَلَكَ مَدِينَةَ آمِدَ، ثُمَّ مَلَكَ مَدِينَةَ مَيَّافَارِقِينَ وَغَيْرَهَا مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ، وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَمَلَكَهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ الْعَزِيزُ بِاللَّهِ (الْخَلِيفَةُ الْعَلَوِيُّ) عَلَى دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا بَكْجُورَ التُّرْكِيَّ مَوْلَى قَرْغَوَيْهِ أَحَدِ غِلْمَانِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَكَانَ لَهُ حِمْصُ، فَسَارَ مِنْهَا إِلَى دِمَشْقَ، وَظَلَمَ أَهْلَهَا، وَعَسَفَهُمْ وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِيهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] مُسْتَقْصًى. وَفِيهَا وَزَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ فَسَانْجِسَ لِشَرَفِ الدَّوْلَةِ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ أَضَاءَتْ لَهُ الدُّنْيَا، وَسُمِعَ لَهُ مِثْلُ دَوِيِّ الرَّعْدِ الشَّدِيدِ. وَفِيهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِالْعِرَاقِ وَمَا يُجَاوِرُهُ مِنَ الْبِلَادِ، وَعَدَمَتِ الْأَقْوَاتُ، فَمَاتَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ جُوعًا.

وَفِيهَا وَزَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعْدَانَ لِصَمْصَامِ الدَّوْلَةِ. وَفِيهَا وَرَدَ الْقَرَامِطَةُ إِلَى قُرَيْبِ بَغْدَاذَ، وَطَمِعُوا بِمَوْتِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَصُولِحُوا عَلَى مَالٍ أَخَذُوهُ وَعَادُوا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، (فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ) ، تُوُفِّيَ (سَعِيدُ بْنُ سَلَامٍ) أَبُو عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ بِنَيْسَابُورَ، وَمَوْلِدُهُ بِالْقَيْرَوَانِ، وَدَخَلَ الشَّامَ، فَصَحِبَ الشُّيُوخَ مِنْهُمْ أَبُو الْخَيْرِ الْأَقْطَعُ وَغَيْرُهُ، (وَكَانَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ) .

ثم دخلت سنة أربع وسبعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمَائَة] 374 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمَائَةٍ ذِكْرُ عَوْدِ الدَّيْلَمِ إِلَى الْمَوْصِلِ وَانْهِزَامِ بَاذٍ لَمَّا اسْتَوْلَى بَاذٌ الْكُرْدِيُّ عَلَى الْمَوْصِلِ اهْتَمَّ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ وَوَزِيرُهُ ابْنُ سَعْدَانَ بِأَمْرِهِ، فَوَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى إِنْفَاذِ زَيَّارِ بْنِ شَهْرَاكَوَيْهِ، وَهُوَ أَكْبَرُ قُوَّادِهِمْ، فَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى قِتَالِهِ، وَجَهَّزَهُ، وَبَالَغَ فِي أَمْرِهِ، وَأَكْثَرَ مَعَهُ الرِّجَالَ وَالْعُدَدَ وَالْأَمْوَالَ، وَسَارَ إِلَى بَاذٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، وَلَقِيَهُمْ فِي صَفَرَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَجْلَتِ الْوَقْعَةُ عَنْ هَزِيمَةِ بَاذٍ وَأَصْحَابِهِ وَأُسِرَ كَثِيرٌ مِنْ عَسْكَرِهِ وَأَهْلِهِ، وَحُمِلُوا إِلَى بَغْدَاذَ فَشُهِّرُوا بِهَا، وَمَلَكَ الدَّيْلَمُ الْمَوْصِلَ. وَأَرْسَلَ زَيَّارٌ عَسْكَرًا مَعَ سَعْدٍ الْحَاجِبِ فِي طَلَبِ بَاذٍ، فَسَلَكُوا عَلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَرْسَلَ عَسْكَرًا آخَرَ إِلَى نَصِيبِينَ، فَاخْتَلَفُوا عَلَى مُقَدَّمِيهِمْ، فَلَمْ يُطَاوِعُوهُمْ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَيْهِ، وَكَانَ بَاذٌ بِدِيَارِ بَكْرٍ قَدْ جَمَعَ خَلْقًا كَثِيرًا، فَكَتَبَ وَزِيرُ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ إِلَى سَعْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَبَذَلَ لَهُ تَسْلِيمَ دِيَارِ بَكْرٍ إِلَيْهِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا جَيْشًا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ بِأَصْحَابِ بَاذٍ، فَعَادُوا إِلَى حَلَبَ، وَكَانُوا قَدْ حَصَرُوا مَيَّافَارِقِينَ، فَلَمَّا شَاهَدَ سَعْدٌ ذَلِكَ مِنْ عَسْكَرِهِ أَعْمَلَ الْحِيلَةَ فِي قَتْلِ بَاذٍ، فَوَضَعَ رَجُلًا عَلَى ذَلِكَ فَدَخَلَ الرَّجُلُ خَيْمَةَ بَاذٍ لَيْلًا، وَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَضْرِبُ رَأْسَهُ، فَوَقَعَتِ الضَّرْبَةُ عَلَى سَاقِهِ، فَصَاحَ، وَهَرَبَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَمَرِضَ بَاذٌ مِنْ تِلْكَ الضَّرْبَةِ، فَأَشْفَى عَلَى الْمَوْتِ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ مَعَهُ مِنَ الرِّجَالِ خَلْقًا كَثِيرًا، فَرَاسَلَ زَيَّارًا وَسَعْدًا

يَطْلُبُ الصُّلْحَ، فَاسْتَقَرَّ الْحَالُ بَيْنَهُمْ، وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ تَكُونَ دِيَارُ بَكْرٍ لِبَاذٍ، وَالنِّصْفُ مِنْ طَوْرِ عَبْدِينَ أَيْضًا، وَانْحَدَرَ زَيَّارٌ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَقَامَ سَعْدٌ بِالْمَوْصِلِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُلِّدَ أَبُو طَرِيفٍ عِلْيَانُ بْنُ ثُمَالَ الْخَفَاجِيُّ حِمَايَةَ الْكُوفَةِ، وَهِيَ أَوَّلُ إِمَارَةِ بَنِي ثُمَالَ. وَفِيهَا خَطَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِالْأَهْوَازِ لِفَخْرِ الدَّوْلَةِ، وَخَطَبَ لَهُ أَبُو طَاهِرِ بْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِالْبَصْرَةِ، وَنَقْشَا اسْمَهُ عَلَى السِّكَّةِ. وَفِيهَا خُطِبَ لِصَمْصَامِ الدَّوْلَةِ بِعُمَانَ، وَكَانَتْ لِشَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَنَائِبُهُ بِهَا أُسْتَاذُ هُرْمُزَ، فَصَارَ مَعَ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَانْهَزَمَ أُسْتَاذُ هُرْمُزَ وَأُخِذَ أَسِيرًا، وَعَادَتْ عُمَانُ إِلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَحُبِسَ أُسْتَاذُ هُرْمُزَ فِي بَعْضِ الْقِلَاعِ وَطُولِبَ بِمَالٍ كَثِيرٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ كَامَةَ، مُقَدَّمُ عَسْكَرِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ. وَفِيهَا أَفْرَجَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ عَنْ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ صَالِحَانَ وَاسْتَوْزَرَهُ، وَقَبَضَ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ فَسَانْجِسَ. وَفِيهَا أَرْسَلَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ رَسُولًا إِلَى الْقَرَامِطَةِ، فَلَمَّا عَادَ قَالَ: إِنَّ الْقَرَامِطَةَ سَأَلُونِي عَنِ الْمَلِكِ فَأَخْبَرْتُهُمْ (بِحُسْنِ سِيرَتِهِ) فَقَالُوا: مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَوْزَرَ ثَلَاثَةً فِي سَنَةٍ لِغَيْرِ سَبَبٍ، فَلَمْ يُغَيِّرْ شَرَفُ الدَّوْلَةِ بَعْدَ هَذَا (عَلَى وَزِيرِهِ) أَبِي مَنْصُورِ بْنِ صَالِحَانَ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ الْمَوْصِلِيُّ، الْحَافِظُ الْمَشْهُورُ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ (تِسْعٍ وَسِتِّينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، وَكَانَ ضَعِيفًا فِي الْحَدِيثِ) .

ثم دخلت سنة خمس سبعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ سَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ] 375 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ سَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَرَتْ فِتْنَةٌ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ الدَّيْلَمِ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ أَسْفَارَ بْنَ كَرْدَوَيْهِ، وَهُوَ مَنْ أَكَابِرِ الْقُوَّادِ، اسْتُنْفِرَ مِنْ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، وَاسْتَمَالَ كَثِيرًا مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى طَاعَةِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يُوَلُّوا الْأَمِيرَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ أَبَا نَصْرِ بْنَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ (الْعِرَاقَ نِيَابَةً عَنْ أَخِيهِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ) . وَكَانَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ مَرِيضًا، فَتَمَكَّنَ أَسْفَارٌ مِنَ الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَ ذَلِكَ، وَتَأَخَّرَ عَنِ الدَّارِ، وَرَاسَلَهُ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ يَسْتَمِيلُهُ وَيُسَكِّنُهُ، فَمَا زَادَهُ إِلَّا تَمَادِيًا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْ حَالِهِ رَاسَلَ الطَّائِعَ يَطْلُبُ مِنْهُ الرُّكُوبَ مَعَهُ، وَكَانَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ قَدْ أَبَلَّ مِنْ مَرَضِهِ، فَامْتَنَعَ الطَّائِعُ مِنْ ذَلِكَ، فَشَرَعَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ، وَاسْتَمَالَ فُولَاذَ زَمَانْدَارَ، وَكَانَ مُوَافِقًا لِأَسْفَارَ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَأْنَفُ مِنْ مُتَابَعَتِهِ لِكِبَرِ شَأْنِهِ. فَلَمَّا رَاسَلَهُ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ أَجَابَهُ، وَاسْتَحْلَفَهُ عَلَى مَا أَرَادَ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَاتَلَ أَسْفَارَ، فَهَزَمَهُ فُولَاذٌ، وَأُخِذَ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرٍ أَسِيرًا، وَأُحْضِرَ عِنْدَ أَخِيهِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، فَرَقَّ لَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ، فَاعْتَقَلَهُ مُكَرَّمًا، وَكَانَ عُمْرُهُ حِينَئِذٍ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَثَبَتَ أَمْرُ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، وَسَعَى إِلَيْهِ بِابْنِ سَعْدَانَ الَّذِي كَانَ وَزِيرَهُ، فَعَزَلَهُ،

وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ هَوَاهُ مَعَهُمْ، فَقَتَلَ وَمَضَى أَسْفَارُ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَاتَّصَلَ بِالْأَمِيرِ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَخَدَمَهُ، وَسَارَ بَاقِي الْعَسْكَرِ إِلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ. ذِكْرُ أَخْبَارِ الْقَرَامِطَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ إِسْحَاقُ وَجَعْفَرٌ الْبَحْرِيَّانِ، وَهُمَا مِنَ السِّتَّةِ الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ يُلَقَّبُونَ بِالسَّادَةِ، فَمَلَكَا الْكُوفَةَ وَخَطَبَا لِشَرَفِ الدَّوْلَةِ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ لِمَا فِي النُّفُوسِ مِنْ هَيْبَتِهِمْ وَبَأْسِهِمْ وَكَانَ لَهُمْ مِنَ الْهَيْبَةِ مَا إِنَّ عَضُدَ الدَّوْلَةِ وَبَخْتِيَارُ أَقْطَعَاهُمُ الْكَثِيرَ. وَكَانَ نَائِبُهُمْ بِبَغْدَاذَ يُعْرَفُ بِأَبِي بَكْرِ بْنِ شَاهَوَيْهِ يَتَحَكَّمُ تَحَكُّمَ الْوُزَرَاءِ فَقَبَضَ عَلَيْهِ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا وَرَدَ الْقَرَامِطَةُ الْكُوفَةَ كَتَبَ إِلَيْهِمَا صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ يَتَلَطَّفُهُمَا وَيَسْأَلُهُمَا عَنْ سَبَبِ حَرَكَتِهِمَا، فَذَكَرَا أَنَّ قَبْضَ نَائِبِهِمْ هُوَ السَّبَبُ فِي قَصْدِهِمْ بِلَادَهُ، وَبَثَّا أَصْحَابَهُمَا وَجَبَيَا الْمَالَ. وَوَصَلَ أَبُو قَيْسٍ الْحَسَنُ بْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى الْجَامِعَيْنِ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِهِمْ، فَأَرْسَلَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ الْعَسَاكِرَ وَمَعَهُمُ الْعَرَبُ فَعَبَرُوا الْفُرَاتَ إِلَيْهِ وَقَاتَلُوهُ فَانْهَزَمَ عَنْهُمْ، وَأُسِرَ أَبُو قَيْسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِهِمْ فَقُتِلُوا فَعَادَ الْقَرَامِطَةُ وَسَيَّرُوا جَيْشًا آخَرَ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ وَعُدَّةٍ فَالْتَقَوْا هُمْ وَعَسَاكِرُ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ بِالْجَامِعَيْنِ أَيْضًا، فَأَجْلَتِ الْوَقْعَةُ عَنْ هَزِيمَةِ الْقَرَامِطَةِ، وَقُتِلَ مُقَدَّمُهُمْ وَغَيْرُهُ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ، وَنُهِبَ سَوَادُهُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى الْكُوفَةِ رَحَلَ الْقَرَامِطَةُ وَتَبِعَهُمُ الْعَسْكَرُ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ فَلَمْ يُدْرِكُوهُمْ وَزَالَ مِنْ حِينَئِذٍ نَامُوسُهُمْ. ذِكْرُ الْإِفْرَاجِ عَنْ وَرْدٍ الرُّومِيِّ وَمَا صَارَ أَمْرُهُ إِلَيْهِ وَدُخُولِ الرُّوسِ فِي النَّصْرَانِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَفْرَجَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ عَنْ وَرْدٍ الرُّومِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ حَبْسِهِ. فَلَمَّا كَانَ الْآنَ أَفْرَجَ عَنْهُ وَأَطْلَقَهُ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ إِطْلَاقَ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ،

وَأَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ سَبْعَةَ حُصُونٍ مِنْ بَلَدِ الرُّومِ بِرَسَاتِيقِهَا، وَأَنْ لَا يَقْصِدَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مَا عَاشَ، وَجَهَّزَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ، فَسَارَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَاسْتَمَالَ فِي طَرِيقِهِ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْبَوَادِي وَغَيْرِهِمْ، وَأَطْمَعَهُمْ فِي الْعَطَاءِ وَالْغَنِيمَةِ، وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بِمَلَطْيَةَ، فَتَسَلَّمَهَا، وَقَوِيَ بِهَا وَبِمَا فِيهَا مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ. وَقَصَدَ وَرْدِيسَ بْنَ لَاوَنَ، فَتَرَاسَلَا، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، وَمَا جَاوَرَهَا مِنْ شَمَالِيِّ الْخَلِيجِ، لِوَرْدِيسَ. وَهَذَا الْجَانِبُ مِنَ الْخَلِيجِ لِوَرْدٍ، وَتَحَالَفَا وَاجْتَمَعَا، فَقَبَضَ وَرْدِيسُ عَلَى وَرْدٍ وَحَبَسَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ نَدِمَ فَأَطْلَقَهُ عَنْ قَرِيبٍ، وَعَبَرَ وَرْدِيسُ الْخَلِيجَ، وَحَصَرَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَبِهَا الْمَلَكَانِ ابْنَا أَرْمَانُوسَ، وَهُمَا بَسِيلُ وَقُسْطَنْطِينُ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِمَا، فَرَاسَلَا مَلِكَ الرُّوسِيَّةِ، وَاسْتَنْجَدَاهُ وَزَوَّجَاهُ بِأُخْتٍ لَهُمَا، فَامْتَنَعَتْ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَى مَنْ يُخَالِفُهَا فِي الدِّينِ، فَتَنَصَّرَ، وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ النَّصْرَانِيَّةِ بِالرُّوسِ، وَتَزَوَّجَهَا وَسَارَ إِلَى لِقَاءِ وَرْدِيسَ، فَاقْتَتَلُوا وَتَحَارَبُوا فَقُتِلَ وَرْدِيسُ، وَاسْتَقَرَّ الْمَلِكَانِ فِي مُلْكِهِمَا، وَرَاسَلَا وَرْدًا وَأَقَرَّاهُ عَلَى مَا بِيَدِهِ، فَبَقِيَ مُدَيْدَةً وَمَاتَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ مَسْمُومًا. وَتَقَدَّمَ بَسِيلُ فِي الْمُلْكِ، وَكَانَ شُجَاعًا عَادِلًا، وَحَسَنَ الرَّأْيِ، وَدَامَ مُلْكُهُ، وَحَارَبَ الْبُلْغَارَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَظَفِرَ بِهِمْ، وَأَجْلَى كَثِيرًا مِنْهُمْ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَأَسْكَنَهَا الرُّومَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِمْ. ذِكْرُ مُلْكِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ الْأَهْوَازَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْفَوَارِسِ بْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ مِنْ فَارِسَ يَطْلُبُ الْأَهْوَازَ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ أَبِي الْحُسَيْنِ وَهُوَ بِهَا يُطَيِّبُ نَفْسَهُ، وَيَعِدُهُ الْإِحْسَانَ، وَأَنْ يُقِرَّهُ عَلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ مَقْصِدَهُ الْعِرَاقُ، وَتَخْلِيصُ أَخِيهِ الْأَمِيرِ أَبِي نَصْرٍ مِنْ مَحْبِسِهِ، فَلَمْ يُصْغِ أَبُو الْحُسَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ، وَعَزَمَ عَلَى مَنْعِهِ، وَتَجَهَّزَ لِذَلِكَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِوُصُولِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ إِلَى أَرَّجَانَ، ثُمَّ إِلَى رَامَهُرْمُزَ، فَتَسَلَّلَ أَجْنَادُهُ إِلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ وَنَادَوْا بِشِعَارِهِ، فَهَرَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ نَحْوَ الرَّيِّ إِلَى عَمِّهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، فَبَلَغَ أَصْبَهَانَ وَأَقَامَ بِهَا، وَاسْتَنْصَرَ عَمُّهُ فَأَطْلَقَ لَهُ مَالًا وَوَعَدَهُ بِنَصْرِهِ.

فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ قَصَدَ التَّغَلُّبَ عَلَى أَصْبَهَانَ وَنَادَى بِشِعَارِ أَخِيهِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، فَثَارَ بِهِ جُنْدُهَا وَأَخَذُوهُ أَسِيرًا وَسَيَّرُوهُ إِلَى الرَّيِّ، فَحَبَسَهُ عَمُّهُ، وَبَقِيَ مَحْبُوسًا إِلَى أَنْ مَرِضَ عَمُّهُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ مَرَضَ الْمَوْتِ، فَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ، وَكَانَ يَقُولُ شِعْرًا، فَمِنْ قَوْلِهِ: هَبِ الدَّهْرَ أَرْضَانِي وَأَعْتَبَ صَرْفُهُ ... وَأَعْقَبَ بِالْحُسْنَى، وَفَكَّ مِنَ الْأَسْرِ فَمَنْ لِي بِأَيَّامِ الشَّبَابِ الَّتِي مَضَتْ ... وَمَنْ لِي بِمَا قَدْ فَاتَ فِي الْحَبْسِ مِنْ عُمْرِي وَأَمَّا شَرَفُ الدَّوْلَةِ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ وَمَلَكَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَمَلَكَهَا، وَقَبَضَ عَلَى أَخِيهِ أَبِي طَاهِرٍ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، فَرَاسَلَهُ فِي الصُّلْحِ، فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ يَخْطُبَ لِشَرَفِ الدَّوْلَةِ بِالْعِرَاقِ قَبْلَ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، وَيَكُونُ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ نَائِبًا عَنْهُ، وَيُطْلِقُ أَخَاهُ الْأَمِيرَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ أَبَا نَصْرٍ، فَأَطْلَقَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَيْهِ، وَصَلُحَ الْحَالُ وَاسْتَقَامَ. وَكَانَ قُوَّادُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ يُحِبُّونَ الصُّلْحَ لِأَجْلِ الْعَوْدِ إِلَى أَوْطَانِهِمْ، وَخُطِبَ لِشَرَفِ الدَّوْلَةِ بِالْعِرَاقِ، وَسُيِّرَتْ إِلَيْهِ الْخِلَعُ وَالْأَلْقَابُ مِنَ الطَّائِعِ لِلَّهِ، فَإِلَى أَنْ عَادَتِ الرُّسُلُ إِلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ لِيُحَلِّفُوهُ أَلْقَتْ إِلَيْهِ الْبِلَادُ مَقَالِيدَهَا كَوَاسِطَ وَغَيْرِهَا، وَكَاتَبَهُ الْقَوَّادُ بِالطَّاعَةِ، فَعَادَ عَنِ الصُّلْحِ، وَعَزَمَ عَلَى قَصْدِ بَغْدَاذَ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمُلْكِ، وَلَمْ يَحْلِفْ لِأَخِيهِ. وَكَانَ مَعَهُ الشَّرِيفُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِقَصْدِ الْعِرَاقِ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ، وَيُطْمِعُهُ فِيهِ، فَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَسَنَذْكُرُ بَاقِيَ خَبَرِهِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ انْهِزَامِ عَسَاكِرِ الْمَنْصُورِ مِنْ صَاحِبِ سِجِلْمَاسَةَ قَدْ ذَكَرْنَا اسْتِيلَاءَ خَزَرُونَ وَزِيرِي الزَّنَاتِيَّيْنِ عَلَى سِجِلْمَاسَةَ وَفَاسَ، وَمَوْتَ يُوسُفَ بُلُكِّينَ لَمَّا قَصَدَهُمَا، فَلَمَّا مَاتَ تَمَكَّنَا مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمَنْصُورُ سَيَّرَ

جَيْشًا كَثِيفًا إِلَيْهِمَا لِيَرُدَّهُمَا إِلَى طَاعَتِهِ، فَلَمَّا صَارَ الْجَيْشُ قُرَيْبَ فَاسَ خَرَجَ إِلَيْهِمْ صَاحِبُهَا زِيرِي بْنُ عَطِيَّةَ الزَّنَاتِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالْقِرْطَاسِ، فِي عَسَاكِرِهِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْمَنْصُورِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَثَبَتَ قَدَمُهُ فِي وِلَايَتِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ بِعُمَانَ طَائِرٌ مِنَ الْبَحْرِ كَبِيرٌ، أَكْبَرُ مِنَ الْفِيلِ، وَوَقَفَ عَلَى تَلٍّ هُنَاكَ، وَصَاحَ بِصَوْتٍ عَالٍ، وَلِسَانٍ فَصِيحٍ: قَدْ قَرُبَ، قَدْ قَرُبَ، قَدْ قَرُبَ، ثَلَاثًا ثُمَّ غَاصَ فِي الْبَحْرِ، فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ غَابَ وَلَمْ يُرَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِيهَا جَدَّدَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَاذَ عَلَى الثِّيَابِ الْإِبْرِيسَمِ وَالْقُطْنِ الْمَبِيعَةِ ضَرِيبَةً مِقْدَارُهَا عُشْرُ الثَّمَنِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ، وَعَزَمُوا عَلَى قَطْعِ الصَّلَاةِ، وَكَادَ الْبَلَدُ يَفْتَتِنُ، فَأُعْفُوا مِنْ ذَلِكَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ ابْنُ مُؤَيَّدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهٍ، فَجَلَسَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ لِلْعَزَاءِ، فَأَتَاهُ الطَّائِعُ لِلَّهِ مُعَزِّيًا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْمَشْهُورُ، وَأَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدَّارَكِيُّ، وَكَانَ رَئِيسَ أَصْحَابِ

الشَّافِعِيِّ بِالْعِرَاقِ، وَتُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ وَلَهُ نَيِّفٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسُئِلَ أَنْ يَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ فَامْتَنَعَ. وَالْوَلِيدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَبُو الْعَبَّاسِ الزَّوَزَنِيُّ الصُّوفِيُّ الْمُحَدِّثُ، كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَقَائِقِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ.

ثم دخلت سنة ست وسبعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 376 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ الْعِرَاقَ وَقَبْضِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْفَوَارِسِ بْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْأَهْوَازَ إِلَى وَاسِطَ فَمَلَكَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ أَخَاهُ أَبَا نَصْرٍ يَسْتَعْطِفُهُ بِإِطْلَاقِهِ، وَكَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَهُ، فَلَمْ يَتَعَطَّفْ لَهُ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، وَشَغَبَ عَلَيْهِ جُنْدُهُ،، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي قَصْدِ أَخِيهِ وَالدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ، فَنَهَوْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّأْيُ أَنَّنَا نَصْعَدُ إِلَى عُكْبَرَا لِنَعْلَمَ بِذَلِكَ مَنْ هُوَ لَنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَيْنَا، فَإِنْ رَأَيْنَا عُدَّتَنَا كَثِيرَةً قَاتَلْنَاهُمْ وَأَخْرَجْنَا الْأَمْوَالَ، وَإِنْ عَجَزْنَا سِرْنَا إِلَى الْمَوْصِلِ، فَهِيَ وَسَائِرُ بِلَادِ الْجَبَلِ لَنَا، فَيَقْوَى أَمْرُنَا، وَلَا بُدَّ أَنَّ الدَّيْلَمَ وَالْأَتْرَاكَ تَجْرِي بَيْنَهُمْ مُنَافَسَةٌ وَمُحَاسَدَةٌ وَيَحْدُثُ اخْتِلَالٌ فَنَبْلُغُ الْغَرَضَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّأْيُ أَنَّنَا نَسِيرُ إِلَى قِرْمِيسِينَ تُكَاتِبُ عَمَّكَ فَخْرَ الدَّوْلَةِ وَتَسْتَنْجِدُهُ، وَتَسِيرُ عَلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ وَأَصْبَهَانَ إِلَى فَارِسَ، فَتَتَغَلَّبُ عَلَيْهَا، عَلَى خَزَائِنِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ وَذَخَائِرِهِ، فَمَا هُنَاكَ مُمَانِعٌ وَلَا مُدَافِعٌ، فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ لَا يَقْدِرُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ عَلَى الْمُقَامِ بِالْعِرَاقِ، فَيَعُودُ حِينَئِذٍ فَيَقَعُ الصُّلْحُ. فَأَعْرَضَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ عَنِ الْجَمِيعِ، وَسَارَ فِي طَيَّارٍ إِلَى أَخِيهِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ فِي خَوَاصِّهِ، فَوَصَلَ إِلَى أَخِيهِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، فَلَقِيَهُ وَطَيَّبَ قَلْبَهُ. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَبَضَ عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَغْدَاذَ مَنْ يَحْتَاطُ عَلَى دَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَسَارَ فَوَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ فِي شَهْرِ

رَمَضَانَ، فَنَزَلَ بِالشُّفَيْعِيِّ، وَأَخُوهُ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ مَعَهُ تَحْتَ الِاعْتِقَالِ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ بِالْعِرَاقِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَالدَّيْلَمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَرَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الدَّيْلَمِ وَالْأَتْرَاكِ الَّذِينَ مَعَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَاذَ. وَسَبَبُهَا أَنَّ الدَّيْلَمَ اجْتَمَعُوا مَعَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ بَلَغَتْ عُدَّتُهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ، وَكَانَ الْأَتْرَاكُ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَاسْتَطَالَ عَلَيْهِمُ الدَّيْلَمُ، فَجَرَتْ مُنَازَعَةٌ بَيْنَ بَعْضِهِمْ فِي دَارٍ وَإِصْطَبْلٍ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى الْمُحَارَبَةِ، فَاسْتَظْهَرَ الدَّيْلَمُ لِكَثْرَتِهِمْ، وَأَرَادُوا إِخْرَاجَ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ وَإِعَادَتَهُ إِلَى مُلْكِهِ. وَبَلَغَ شَرَفَ الدَّوْلَةِ الْخَبَرُ، فَوَكَّلَ بِصَمْصَامِ الدَّوْلَةِ مَنْ يَقْتُلُهُ إِنْ هَمَّ الدَّيْلَمُ بِإِخْرَاجِهِ. ثُمَّ إِنَّ الدَّيْلَمَ لَمَّا اسْتَظْهَرُوا عَلَى الْأَتْرَاكِ تَبِعُوهُمْ، فَتَشَوَّشَتْ صُفُوفُهُمْ، فَعَادَتِ الْأَتْرَاكُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمَامِهِمْ وَخَلْفِهِمْ، فَانْهَزَمُوا وَقُتِلَ مِنْهُمْ زِيَادَةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَدَخَلَ الْأَتْرَاكُ الْبَلَدَ، فَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوهُ مِنْهُمْ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ، وَتَفَرَّقَ الدَّيْلَمُ، فَبَعْضُهُمُ اعْتَصَمَ بِشَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَبَعْضُهُمْ سَارَ عَنْهُ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَخَلَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ بَغْدَاذَ، وَالدَّيْلَمُ الْمُعْتَصِمُونَ بِهِ مَعَهُ، فَخَرَجَ الطَّائِعُ لِلَّهِ وَلَقِيَهُ وَهَنَّأَهُ بِالسَّلَامَةِ، وَقَبَّلَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ الْأَرْضَ، وَأَخَذَ الدَّيْلَمُ يَذْكُرُونَ صَمْصَامَ الدَّوْلَةِ، فَقِيلَ لِشَرَفِ الدَّوْلَةِ: اقْتُلْهُ، وَإِلَّا مَلَّكُوهُ الْأَمْرَ. ثُمَّ إِنَّ شَرَفَ الدَّوْلَةِ أَصْلَحَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَحَلَفَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَحُمِلَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ إِلَى فَارِسَ، فَاعْتُقِلَ فِي قَلْعَةٍ هُنَاكَ، فَرَدَّ شَرَفُ الدَّوْلَةِ عَلَى الشَّرِيفِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ جَمِيعَ أَمْلَاكِهِ وَزَادَهُ عَلَيْهَا، وَكَانَ خَرَاجُ أَمْلَاكِهِ كُلَّ سَنَةٍ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَخَمْسَ مِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَرَدَّ عَلَى النَّقِيبِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوسَوِيِّ أَمْلَاكَهُ، وَأَقَرَّ النَّاسَ

عَلَى مَرَاتِبِهِمْ، وَمَنَعَ النَّاسَ مِنَ السِّعَايَاتِ وَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَأَمِنُوا وَسَكَنُوا وَوَزَرَ لَهُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ صَالِحَانَ. ذِكْرُ وِلَايَةِ مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ الْبَطِيحَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمُظَفَّرُ بْنُ عَلِيٍّ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُ أُخْتِهِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ بِالْعَهْدِ الْمَذْكُورِ، وَكَتَبَ إِلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ يَبْذُلُ لَهُ الطَّاعَةَ، وَيَطْلُبُ التَّقْلِيدَ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَلُقِّبَ بِمُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ، فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، وَبَذَلَ الْخَيْرَ وَالْإِحْسَانَ، فَقَصَدَهُ النَّاسُ، وَأَمِنَ عِنْدَهُ الْخَائِفُ. وَصَارَتِ الْبَطِيحَةُ مَعْقِلًا لِكُلِّ مَنْ قَصْدَهَا، وَاتَّخَذَهَا الْأَكَابِرُ وَطَنًا، وَبَنَوْا فِيهَا الدُّورَ الْحَسَنَةَ، وَوَسِعَهُمْ بِرُّهُ وَإِحْسَانُهُ، وَكَاتَبَ مُلُوكَ الْأَطْرَافِ وَكَاتَبُوهُ، وَزَوَّجَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ ابْنَتَهُ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ إِلَى أَنْ قَصَدَهُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ فَحَمَاهُ، وَبَقِيَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ أَتَتْهُ الْخِلَافَةُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو الْحُسَيْنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ الصُّوفِيُّ، الْمُنَجِّمُ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِالرَّيِّ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيهَا كَانَ بِالْمَوْصِلِ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ تَهَدَّمَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمَنَازِلِ، وَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. وَفِيهَا قَتَلَ الْمَنْصُورُ بْنُ يُوسُفَ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، عَبْدَ اللَّهِ الْكَاتِبَ، وَقَامَ عَلَى وِلَايَةِ الْأَعْمَالِ بِإِفْرِيقِيَّةَ عِوَضَهُ يُوسُفُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَكَانَ وَالِيَ قَفْصَةَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَفِيهَا كَانَ بِالْعِرَاقِ غَلَاءٌ شَدِيدٌ جَلَا لِشِدَّتِهِ أَكْثَرُ أَهْلِهِ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ الْبُهْلُولِ التَّنُوخِيُّ الْأَزْرَقُ، الْأَنْبَارِيُّ الْكَاتِبُ. وَأَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الطَّبَرِيِّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ، تَفَقَّهَ بِبَغْدَاذَ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَوَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِخُرَاسَانَ، وَمَاتَ فِي صَفَرَ وَكَانَ عَابِدًا مُحَدِّثًا ثِقَةً. وَإِسْحَاقُ بْنُ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالِدُ الْقَادِرِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْقَادِرُ وَهُوَ حِينَئِذٍ أَمِيرٌ. وَأَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ الْفَارِسِيُّ النَّحْوِيُّ، صَاحِبُ " الْإِيضَاحِ " قِيلَ: كَانَ مُعْتَزِلِيًّا. وَقَدْ جَاوَزَ تِسْعِينَ سَنَةً. وَأَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْغِطْرِيفِ الْجُرْجَانِيُّ، تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ، (وَهُوَ عَالِي الْإِسْنَادِ فِي الْحَدِيثِ) .

ثم دخلت سنة سبع وسبعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 377 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ بَدْرِ بْنِ حَسْنُوَيْهِ وَعَسْكَرِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ عَسْكَرًا كَثِيفًا مَعَ قُرَاتِكِينَ الْجَهْشِيَارِيِّ، وَهُوَ مُقَدَّمُ عَسْكَرِهِ وَكَبِيرُهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَدْرِ بْنِ حَسْنُوَيْهِ وَقِتَالِهِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ شَرَفَ الدَّوْلَةِ كَانَ مَغِيظًا حَنِقًا عَلَى بَدْرٍ لِانْحِرَافِهِ عَنْهُ، وَمَيْلِهِ إِلَى عَمِّهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مُلْكُهُ بِبَغْدَاذَ وَأَطَاعَهُ النَّاسُ شَرَعَ فِي أَمْرِ بَدْرٍ، وَكَانَ قُرَاتِكِينُ قَدْ جَاوَزَ الْحَدَّ فِي التَّحَكُّمِ وَالْإِدْلَالِ، وَحِمَايَةِ النَّاسِ عَلَى نُوَّابِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، فَرَأَى أَنْ يُخْرِجَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنْ ظَفِرَ بِبَدْرٍ شَفَى غَيْظَهُ مِنْهُ، وَإِنْ ظَفِرَ بِهِ بَدْرٌ اسْتَرَاحَ مِنْهُ. فَسَارُوا نَحْوَ بَدْرٍ، وَتَجَهَّزَ بَدْرٌ وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، وَتَلَاقَيَا عَلَى الْوَادِي بِقِرْمِيسِينَ، فَلَمَّا اقْتَتَلُوا انْهَزَمَ بَدْرٌ حَتَّى تَوَارَى عَنْهُ، وَظَنَّ قُرَاتِكِينُ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ مَضَى عَلَى وَجْهِهِ، فَنَزَلُوا عَنْ خُيُولِهِمْ وَتَفَرَّقُوا فِي خِيَامِهِمْ، فَلَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً حَتَّى كَرَّ بَدْرٌ رَاجِعًا إِلَيْهِمْ، وَأَكَبَّ عَلَيْهِمْ، وَأَعْجَلَهُمْ عَنِ الرُّكُوبِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَاحْتَوَى عَلَى جَمِيعِ مَا فِي عَسْكَرِهِمْ، وَنَجَا قُرَاتِكِينُ فِي نَفَرٍ مِنْ غِلْمَانِهِ، فَبَلَغَ جِسْرَ النَّهْرَوَانِ، وَأَقَامَ بِهِ حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْمُنْهَزِمُونَ، وَدَخَلَ بَغْدَاذَ. وَاسْتَوْلَى بَدْرٌ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَعْمَالِ الْجَبَلِ وَمَا وَالَاهَا، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ. وَأَمَّا قُرَاتِكِينُ فَإِنَّهُ لَمَّا عَادَ مِنَ الْهَزِيمَةِ زَادَ إِدْلَالُهُ وَتَجَنِّيهِ، وَأَغْرَى الْعَسْكَرَ

بِالشَّغَبِ، وَالتَّوَثُّبِ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ صَالِحَانَ، فَلَقُوهُ بِمَا يَكْرَهُ، فَلَاطَفَهُمْ وَدَفَعَهُمْ، وَأَصْلَحَ لِشَرَفِ الدَّوْلَةِ بَيْنَ الْوَزِيرِ وَبَيْنَ قُرَاتِكِينَ، (وَشَرَعَ فِي إِعْمَالِ الْحِيلَةِ عَلَى قُرَاتِكِينَ) ، فَلَمْ تَمْضِ غَيْرُ أَيَّامٍ حَتَّى قَبَضَ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَكُتَّابِهِ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، وَشَغَبَ الْجُنْدُ لِأَجْلِهِ، فَقَتَلَهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، فَسَكَنُوا، وَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ طُغَانَ الْحَاجِبَ، فَصَلُحَتْ طَاعَتُهُ. ذِكْرُ مَسِيرِ الْمَنْصُورِ بْنِ يُوسُفَ لِحَرْبِ كُتَامَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ الْمَنْصُورُ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَى كُتَامَةَ قَاصِدًا حَرْبَهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَزِيزَ بِاللَّهِ الْعَلَوِيَّ بِمِصْرَ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ دَاعِيًا لَهُ إِلَى كُتَامَةَ، يُقَالُ لَهُ أَبُو الْفَهْمِ، وَاسْمُهُ حَسَنُ بْنُ نَصْرٍ، يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، وَغَرَضُهُ أَنْ تَمِيلَ كُتَامَةُ إِلَيْهِ وَتُرْسِلَ إِلَيْهِ جُنْدًا يُقَاتِلُونَ الْمَنْصُورَ، وَيَأْخُذُونَ إِفْرِيقِيَّةَ مِنْهُ، لِمَا رَأَى مِنْ قُوَّتِهِ. فَدَعَاهُمْ أَبُو الْفَهْمِ، فَكَثُرَ تَبَعُهُ، وَقَادَ الْجُيُوشَ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَعَزَمَ الْمَنْصُورُ عَلَى قَصْدِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْعَزِيزِ بِمِصْرَ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، فَأَرْسَلَ الْعَزِيزُ رَسُولَيْنِ إِلَى الْمَنْصُورِ يَنْهَاهُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِأَبِي الْفَهْمِ وَكُتَامَةَ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَسِيرَا إِلَى كُتَامَةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ رِسَالَةِ الْمَنْصُورِ. فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى الْمَنْصُورِ وَأَبْلَغَاهُ رِسَالَةَ الْعَزِيزِ أَغْلَظَ الْقَوْلَ لَهُمَا وَلِلْعَزِيزِ أَيْضًا، وَأَغْلَظَا لَهُ، فَأَمَرَهُمَا بِالْمُقَامِ عِنْدَهُ بَقِيَّةَ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ، وَلَمْ يَتْرُكْهُمَا يَمْضِيَانِ إِلَى كُتَامَةَ، وَتَجَهَّزَ لِحَرْبِ كُتَامَةَ وَأَبِي الْفَهْمِ، وَسَارَ بَعْدَ عِيدِ الْأَضْحَى، فَقَصَدَ مَدِينَةَ مِيلَةَ، وَأَرَادَ قَتْلَ أَهْلِهَا وَسَبْيَ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ يَتَضَرَّعُونَ وَيَبْكُونَ فَعَفَا عَنْهُمْ، (وَخَرَّبَ سُورَهَا، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى كُتَامَةَ وَالرَّسُولَانِ مَعَهُ) . فَكَانَ لَا يَمُرُّ بِقَصْرٍ وَلَا مَنْزِلٍ إِلَّا هَدَمَهُ، حَتَّى بَلَغَ مَدِينَةَ سَطِيفَ، وَهِيَ كُرْسِيُّ

عِزِّهِمْ، فَاقْتَتَلُوا عِنْدَهَا قِتَالًا عَظِيمًا، فَانْهَزَمَتْ كُتَامَةُ، وَهَرَبَ أَبُو الْفَهْمِ إِلَى جَبَلٍ وَعْرٍ فِيهِ نَاسٌ مِنْ كُتَامَةَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْمَنْصُورُ يَتَهَدَّدُهُمْ إِنْ لَمْ يُسَلِّمُوهُ، فَقَالُوا: هُوَ ضَيْفُنَا وَلَا نُسَلِّمُهُ، وَلَكِنْ أَرْسِلْ أَنْتَ إِلَيْهِ فَخُذْهُ وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُهُ. فَأَرْسَلَ فَأَخَذَهُ، وَضَرَبَهُ ضَرْبًا شَدِيدًا، ثُمَّ قَتَلَهُ وَسَلَخَهُ، وَأَكَلَتْ صِنْهَاجَةُ وَعَبِيدُ الْمَنْصُورِ لَحْمَهُ، وَقَتَلَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنَ الدُّعَاةِ وَوُجُوهِ كُتَامَةَ، وَعَادَ (إِلَى أَشِيرَ) ، وَرَدَّ الرَّسُولَيْنِ إِلَى الْعَزِيزِ، فَأَخْبَرَاهُ بِمَا فَعَلَ بِأَبِي الْفَهْمِ، وَقَالَا: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ شَيَاطِينَ يَأْكُلُونَ النَّاسَ. فَأَرْسَلَ الْعَزِيزُ إِلَى الْمَنْصُورِ يُطَيِّبُ قَلْبَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ هَدِيَّةً، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ أَبَا الْفَهْمِ. ذِكْرُ مُعَاوَدَةِ بَاذٍ الْقِتَالَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَجَدَّدَ لِبَاذٍ الْكُرْدِيِّ طَمَعٌ فِي بِلَادِ الْمَوْصِلِ وَغَيْرِهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سَعْدًا الْحَاجِبَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ تُوُفِّيَ بِالْمَوْصِلِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا شَرَفُ الدَّوْلَةِ أَبَا نَصْرٍ خُوَاشَاذَهْ، وَجَهَّزَ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرَ، وَكَتَبَ يَسْتَمِدُّ مِنْ شَرَفِ الدَّوْلَةِ الْعَسَاكِرَ وَالْأَمْوَالَ، فَتَأَخَّرَتِ الْأَمْوَالُ عَنْهُ فَأَحْضَرَ الْعَرَبَ مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ وَأَقْطَعَهُمُ الْبِلَادَ لِيَمْنَعُوا عَنْهَا، وَانْحَدَرَ بَاذٌ فَاسْتَوْلَى عَلَى طَوْرِ عَبْدِينَ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّزُولِ إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَأَرْسَلَ أَخَاهُ فِي عَسْكَرٍ، فَقَاتَلُوا الْعَرَبَ، فَقُتِلَ أَخُوهُ وَانْهَزَمَ عَسْكَرُهُ، وَأَقَامَ بَعْضُهُمْ مُقَابِلَ بَعْضٍ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ أَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِمَوْتِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، فَعَادَ خُوَاشَاذَهْ إِلَى الْمَوْصِلِ وَأَظْهَرَ مَوْتَهُ، وَأَقَامَتِ الْعَرَبُ بِالصَّحْرَاءِ تَمْنَعُ بَاذًا مِنَ النُّزُولِ إِلَيْهَا، وَبَاذٌ بِالْجَبَلِ، وَكَانَ

خُوَاشَاذَهْ يُصْلِحُ أَمْرَهُ لِيُعَاوِدَ حَرْبَ بَاذٍ، فَأَتَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَأَبُو الْحَسَنِ ابْنَا نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَلَسَ الطَّائِعُ لِلَّهِ لِشَرَفِ الدَّوْلَةِ جُلُوسًا عَامًّا حَضَرَهُ أَعْيَانُ الدَّوْلَةِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ. وَفِيهَا وُلِدَ الْأَمِيرُ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ فِي رَجَبٍ. وَفِيهَا سَارَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ إِلَى طَبَرِسْتَانَ فَأَصْلَحَهَا، وَنَفَى الْمُتَغَلِّبِينَ عَنْهَا، وَفَتَحَ عِدَّةَ حُصُونٍ (مِنْهَا: حِصْنُ قُرَيْمٍ) ، وَعَادَ فِي سَنَتِهِ. وَفِيهَا عَصَى الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ كُورِيكَنْجَ، صَاحِبُ قَزْوِينَ، عَلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ، فَلَاطَفَهُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ، وَبَذَلَ لَهُ الْأَمَانَ وَالْإِحْسَانَ، فَعَادَ إِلَى طَاعَتِهِ. وَفِيهَا، فِي رَمَضَانَ، حَدَثَتْ فِتْنَةٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ الدَّيْلَمِ وَالْعَامَّةِ بِمَدِينَةِ الْمَوْصِلِ، قُتِلَ فِيهَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، ثُمَّ أُصْلِحَ الْحَالُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ. وَفِيهَا تَأَخَّرَ الْمَطَرُ حَتَّى انْتَصَفَ كَانُونُ الثَّانِي، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِالْعِرَاقِ وَمَا يُجَاوِرُهُ مِنَ الْبِلَادِ، وَاسْتَسْقَى النَّاسُ مَرَّتَيْنِ فَلَمْ يُسْقَوْا، حَتَّى جَاءَ الْمَطَرُ سَابِعَ عَشَرَ كَانُونَ الثَّانِي، وَزَالَ الْقُنُوطُ، وَتَتَابَعَتِ الْأَمْطَارُ.

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 378 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى شُكْرٍ الْخَادِمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ عَلَى شُكْرٍ الْخَادِمِ، وَكَانَ أَخَصَّ النَّاسِ عِنْدَ وَالِدِهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَأَقْرَبَهُمْ إِلَيْهِ، يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ وَيُعَوِّلُ عَلَيْهِ. وَكَانَ سَبَبُ قَبْضِهِ أَنَّهُ كَانَ أَيَّامَ وَالِدِهِ يَقْصِدُ شَرَفَ الدَّوْلَةِ وَيُؤْذِيهِ، وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى إِبْعَادَهُ إِلَى كَرْمَانَ مِنْ بَغْدَاذَ، وَقَامَ بِأَمْرِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، فَحَقَدَ عَلَيْهِ شَرَفُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ، فَلَمَّا مَلَكَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ الْعِرَاقَ اخْتَفَى شُكْرٌ، فَطَلَبَهُ أَشَدَّ الطَّلَبِ فَلَمْ يُوجَدْ، وَكَانَ لَهُ جَارِيَةٌ حَبَشِيَّةٌ قَدْ تَزَوَّجَهَا، فَطَلَبَهَا إِلَيْهِ، فَأَقَامَتْ عِنْدَهُ مُدَّةً تَخْدِمُهُ. وَكَانَ قَدْ عَلِقَ بِقَلْبِهَا غَيْرُهُ، فَصَارَتْ تَأْخُذُ الْمَأْكُولَ وَغَيْرَهُ وَتَحْمِلُهُ إِلَى حَيْثُ شَاءَتْ، فَأَحَسَّ بِهَا شُكْرٌ، فَلَمْ يَحْتَمِلْهَا، فَضَرَبَهَا، فَخَرَجَتْ غَضْبَى إِلَى بَابِ دَارِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، فَأَخْبَرَتْ بِحَالِ شُكْرٍ، فَأُخِذَ وَأُحْضِرَ عِنْدَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، فَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَشَفَعَ فِيهِ نِحْرِيرٌ الْخَادِمُ، فَوَهَبَهُ لَهُ، وَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْحَجِّ، فَأَذِنَ لَهُ، فَسَارَ إِلَى مَكَّةَ ثُمَّ مِنْهَا إِلَى مِصْرَ، فَنَالَ هُنَاكَ مَنْزِلَةً كَبِيرَةً، وَسَيَرِدُ خَبَرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عَزْلِ بَكْجُورَ عَنْ دِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ بَكْجُورُ عَنْ دِمَشْقَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَسَاءَ السِّيرَةَ فِي دِمَشْقَ، وَفَعَلَ الْأَعْمَالَ الذَّمِيمَةَ، وَكَانَ الْوَزِيرُ يَعْقُوبُ بْنُ كِلِّسٍ مُنْحَرِفًا عَنْهُ، يُسِيءُ الرَّأْيَ فِيهِ، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ بِأَصْحَابِهِ بِدِمَشْقَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. فَلَمَّا بَلَغَهُ فِعْلُهُ بِدِمَشْقَ تَحَرَّكَ فِي عَزْلِهِ، وَقَبُحَ ذِكْرُهُ عِنْدَ الْعَزِيزِ

بِاللَّهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَجُهِّزَتِ الْعَسَاكِرُ مِنْ مِصْرَ مَعَ الْقَائِدِ مُنِيرٍ الْخَادِمِ، فَسَارُوا إِلَى الشَّامِ. فَجَمَعَ بَكْجُورُ الْعَرَبَ وَغَيْرَهَا وَخَرَجَ، فَلَقِيَ الْعَسْكَرَ الْمِصْرِيَّ عِنْدَ دَارَيَّا، وَقَاتَلَهُمْ فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَانْهَزَمَ بَكْجُورُ وَعَسْكَرُهُ، وَخَافَ مِنْ وُصُولِ نَزَّالٍ وَالِي طَرَابُلُسَ، وَكَانَ قَدْ كُوتِبَ مِنْ مِصْرَ بِمُعَاضَدَةِ مُنِيرٍ، فَلَمَّا انْهَزَمَ بَكْجُورُ خَافَ أَنْ يَجِيءَ نَزَّالٌ فَيُؤْخَذُ، فَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ لِيُسَلِّمَ الْبَلَدَ إِلَيْهِمْ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَجَمَعَ مَالَهُ جَمِيعَهُ وَسَارَ، وَأَخْفَى أَثَرَهُ لِئَلَّا يَغْدِرَ الْمِصْرِيُّونَ بِهِ، وَتَوَجَّهَ إِلَى الرَّقَّةِ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَتَسَلَّمَ مُنِيرٌ الْبَلَدَ، فَفَرِحَ بِهِ أَهْلُهُ وَسَرَّهُمْ وِلَايَتُهُ، وَسَنَذْكُرُ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] بَاقِيَ أَخْبَارِهِ وَقَتْلَهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ ظَفَرِ الْأَصْفَرِ بِالْقَرَامِطَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ إِنْسَانٌ يُعْرَفُ بِالْأَصْفَرِ مِنْ بَنِي الْمُنْتَفِقِ جَمْعًا كَثِيرًا، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمْعٍ مِنَ الْقَرَامِطَةِ وَقْعَةٌ شَدِيدَةٌ قُتِلَ فِيهَا مُقَدَّمُ الْقَرَامِطَةِ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ، وَأُسِرَ كَثِيرٌ. وَسَارَ الْأَصْفَرُ إِلَى الْأَحْسَاءِ، فَتَحَصَّنَ مِنْهُ الْقَرَامِطَةُ، فَعَدَلَ إِلَى الْقَطِيفِ فَأَخَذَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ عَبِيدِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَسَارَ بِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ. ذِكْرُ نُكْتَةٍ حَسَنَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَهْدَى الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ، أَوَّلَ الْمُحَرَّمِ، إِلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ دِينَارًا وَزْنُهُ أَلْفُ مِثْقَالٍ، وَكَانَ عَلَى أَحَدِ جَانِبَيْهِ مَكْتُوبٌ: وَأَحْمَرَ يَحْكِي الشَّمْسَ شَكْلًا وَصُورَةً ... فَأَوْصَافُهُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ صِفَاتِهِ فَإِنْ قِيلَ دِينَارٌ فَقَدْ صَدَقَ اسْمُهُ ... وَإِنْ قِيلَ أَلْفٌ كَانَ بَعْضَ سِمَاتِهِ

بَدِيعٌ، وَلَمْ يُطْبَعْ عَلَى الدَّهْرِ مِثْلُهُ وَلَا ضُرِبَتْ أَضْرَابُهُ لِسُرَاتِهِ ... فَقَدْ أَبْرَزَتْهُ دَوْلَةٌ فَلَكِيَّةٌ أَقَامَ بِهَا الْإِقْبَالُ صَدْرَ قَنَاتِهِ ... وَصَارَ إِلَى شَاهَانْشَاهَ انْتِسَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَصْغِرٌ لِعُفَاتِهِ ... يُخَبِّرُ أَنْ يَبْقَى سِنِينَ كَوَزْنِهِ لِتَسْتَبْشِرَ الدُّنْيَا بِطُولِ حَيَاتِهِ ... تَأَنَّقَ فِيهِ عَبْدُهُ، وَابْنُ عَبْدِهِ وَغَرْسُ أَيَادِيهِ، وَكَافِي كُفَاتِهِ (وَكَانَ عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ، وَلَقَبُ الْخَلِيفَةِ الطَّائِعِ لِلَّهِ، وَلَقَبُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، وَاسْمُ جُرْجَانَ لِأَنَّهُ ضُرِبَ بِهَا. قَوْلُهُ: " دَوْلَةٌ فَلَكِيَّةٌ " يَعْنِي أَنَّ لَقَبَ فَخْرِ الدَّوْلَةِ كَانَ فَلَكَ الْأُمَّةِ. وَقَوْلُهُ: " وَكَافِي كُفَاتِهِ "، فَإِنَّ الصَّاحِبَ كَانَ لَقَبُهُ كَافِيَ الْكُفَاةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَتَابَعَتِ الْأَمْطَارُ، وَكَثُرَتِ الْبُرُوقُ وَالرُّعُودُ، وَالْبَرَدُ الْكِبَارُ، وَسَالَتْ مِنْهُ الْأَوْدِيَةُ، وَامْتَلَأَتِ الْأَنْهَارُ وَالْآبَارُ بِبِلَادِ الْجَبَلِ، وَخَرِبَتِ الْمَسَاكِنُ، وَامْتَلَأَتِ الْأَقْنَاءُ طِينًا وَحِجَارَةً، وَانْقَطَعَتِ الطُّرُقُ. وَفِيهَا عَصَى نَصْرُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْفَيْرَزَانِ بِالدَّامَغَانَ عَلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ، وَاجْتَازَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّبِيبِيُّ الْخُرَاسَانِيُّ مُقْبِلًا مِنَ الرَّيِّ وَمَعَهُ عَسْكَرٌ مِنَ الدَّيْلَمِ لِمُحَارَبَتِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْجِدَّ فِي أَمْرِهِ رَاسَلَ فَخْرَ الدَّوْلَةِ، وَعَاوَدَ طَاعَتَهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَقَرَّهُ عَلَى حَالِهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ فِي رَجَبٍ. وَفِيهَا وَقَعَ الْوَبَاءُ بِالْبَصْرَةِ وَالْبَطَائِحِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، فَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ حَتَّى امْتَلَأَتْ مِنْهُمُ الشَّوَارِعُ.

وَفِي شَعْبَانَ كَثُرَتِ الرِّيَاحُ الْعَوَاصِفُ، وَجَاءَتْ وَقْتَ الْعَصْرِ، خَامِسَ شَعْبَانَ، رِيحٌ عَظِيمَةٌ بِفَمِ الصِّلْحِ، فَهَدَمَتْ قِطْعَةً مِنَ الْجَامِعِ، وَأَهْلَكَتْ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ، وَغَرَّقَتْ كَثِيرًا مِنَ السُّفُنِ الْكِبَارِ الْمَمْلُوءَةِ، وَاحْتَمَلَتْ زَوْرَقًا مُنْحَدِرًا فِيهِ دَوَابُّ، وَعِدَّةً مِنَ السُّفُنِ، وَأَلْقَتِ الْجَمِيعَ عَلَى مَسَافَةٍ مِنْ مَوْضِعِهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْمُفِيدُ، كَانَ مُحَدِّثًا مُكْثِرًا، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَأَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَاكِمُ النَّيْسَابُورِيُّ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَهُوَ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ.

ثم دخلت سنة تسع وسبعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 379 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ سَمْلِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ كَانَ نِحْرِيرٌ الْخَادِمُ يُشِيرُ عَلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ بِقَتْلِ أَخِيهِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، وَشَرَفُ الدَّوْلَةِ يُعْرِضُ عَنْ كَلَامِهِ، فَلَمَّا اعْتَلَّ شَرَفُ الدَّوْلَةِ وَاشْتَدَّتْ عِلَّتُهُ أَلَحَّ عَلَيْهِ نِحْرِيرٌ وَقَالَ لَهُ: (الدَّوْلَةُ مَعَهُ عَلَى خَطَرٍ) ، فَإِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ فَاسْمُلْهُ. فَأَرْسَلَ فِي ذَلِكَ مُحَمَّدًا الشِّيرَازِيَّ الْفَرَّاشَ، فَمَاتَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْفَرَّاشُ إِلَى صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْفَرَّاشُ إِلَى الْقَلْعَةِ الَّتِي بِهَا صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى سَمْلِهِ، فَاسْتَشَارَ أَبَا الْقَاسِمِ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَسَنِ النَّاظِرَ هُنَاكَ، فَأَشَارَ بِذَلِكَ، فَسَمَلَهُ. وَكَانَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ يَقُولُ: مَا أَعْمَانِي إِلَّا الْعَلَاءُ لِأَنَّهُ أَمْضَى فِي حُكْمِ سُلْطَانٍ قَدْ مَاتَ. ذِكْرُ وَفَاةِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ وَمُلْكِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ الْمَلِكُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْفَوَارِسِ شِيرَزِيلُ بْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ مُسْتَسْقِيًا، وَحُمِلَ إِلَى مَشْهَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدُفِنَ بِهِ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ بِالْعِرَاقِ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ. وَلَمَّا اشْتَدَّتْ عِلَّتُهُ سَيَّرَ وَلَدَهُ أَبَا عَلِيٍّ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ، وَأَصْحَبَهُ الْخَزَائِنَ وَالْعُدَدَ وَجَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَلَمَّا أَيِسَ أَصْحَابُهُ مِنْهُ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَعْيَانُهُمْ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُمَلِّكَ أَحَدًا، فَقَالَ: أَنَا فِي شُغْلٍ عَمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ. فَقَالُوا لَهُ لِيَأْمُرَ أَخَاهُ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ أَبَا نَصْرٍ

أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ إِلَى أَنْ يُعَافَى لِيَحْفَظَ النَّاسَ لِئَلَّا تَثُورَ فِتْنَةٌ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَتَوَقَّفَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ ثُمَّ أَجَابَ إِلَيْهِ. فَلَمَّا مَاتَ جَلَسَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ فِي الْمَمْلَكَةِ، وَقَعَدَ لِلْعَزَاءِ، وَرَكِبَ الطَّائِعُ لِلَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْعَزَاءِ فِي الزَّبْزَبِ، فَتَلَقَّاهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَانْحَدَرَ الطَّائِعُ لِلَّهِ إِلَى دَارِهِ، وَخَلَعَ عَلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ خِلَعَ السَّلْطَنَةِ، وَأَقَرَّ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ أَبَا مَنْصُورِ بْنَ صَالِحَانَ عَلَى وِزَارَتِهِ. ذِكْرُ مَسِيرِ الْأَمِيرِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ إِلَى فَارِسَ وَمَا كَانَ مِنْهُ مَعَ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ لَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ جَهَّزَ وَلَدَهُ الْأَمِيرَ أَبَا عَلِيٍّ وَسَيَّرَهُ إِلَى فَارِسَ وَمَعَهُ وَالِدَتُهُ وَجَوَارِيهِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ وَالسِّلَاحِ أَكْثَرَهَا. فَلَمَّا بَلَغَ الْبَصْرَةَ أَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِمَوْتِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، فَسَيَّرَ مَا مَعَهُ فِي الْبَحْرِ إِلَى أَرَّجَانَ، وَسَارَ هُوَ مُجِدًّا إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَيْهَا، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ بِهَا مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَسَارُوا نَحْوَ شِيرَازَ، وَكَاتَبَهُمْ مُتَوَلِّيهَا وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَسَنِ بِالْوُصُولِ إِلَيْهَا لِيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِمْ، وَكَانَ الْمُرَتِّبُونَ فِي الْقَلْعَةِ الَّتِي بِهَا صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ وَأَخُوهُ أَبُو طَاهِرٍ قَدْ أَطْلَقُوهُمَا وَمَعَهُمَا فُولَاذٌ وَسَارُوا إِلَى سِيرَافَ. (وَاجْتَمَعَ عَلَى صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ كَثِيرٌ مِنَ الدَّيْلَمِ. وَسَارَ الْأَمِيرُ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى شِيرَازَ) ، وَوَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِهَا بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَالدَّيْلَمِ، وَخَرَجَ الْأَمِيرُ أَبُو عَلِيٍّ مِنْ دَارِهِ إِلَى مُعَسْكَرِ الْأَتْرَاكِ، فَنَزَلَ مَعَهُمْ، وَاجْتَمَعَ الدَّيْلَمُ وَقَصَدُوا لِيَأْخُذُوهُ وَيُسَلِّمُوهُ إِلَى صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، فَرَأَوْهُ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْأَتْرَاكِ، فَكَشَفُوا الْقِنَاعَ، وَنَابَذُوا الْأَتْرَاكَ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ قِتَالٌ عِدَّةَ أَيَّامٍ. ثُمَّ سَارَ أَبُو عَلِيٍّ وَالْأَتْرَاكُ إِلَى فَسَا، فَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا وَأَخَذُوا مَا بِهَا مِنَ الْمَالِ، وَقَتَلُوا مَنْ بِهَا مِنَ الدَّيْلَمِ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ وَسِلَاحَهُمْ فَقَوَوْا بِذَلِكَ.

وَسَارَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى أَرَّجَانَ، وَعَادَ الْأَتْرَاكُ إِلَى شِيرَازَ، فَقَاتَلُوا صَمْصَامَ الدَّوْلَةِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَنَهَبُوا الْبَلَدَ، وَعَادُوا إِلَى أَبِي عَلِيٍّ بِأَرَّجَانَ وَأَقَامُوا مَعَهُ مُدَيْدَةً. ثُمَّ وَصَلَ رَسُولٌ مِنْ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ وَأَدَّى الرِّسَالَةَ، وَطَيَّبَ قَلْبَهُ وَوَعَدَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ رَاسَلَ الْأَتْرَاكَ سِرًّا، وَاسْتَمَالَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ وَأَطْمَعَهُمْ، فَحَسَّنُوا لِأَبِي عَلِيٍّ الْمَسِيرَ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَلَقِيَهُ بِوَاسِطَ مُنْتَصَفَ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَأَنْزَلَهُ وَأَكْرَمَهُ، وَتَرَكَهُ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَقَبَضَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَسِيرٍ، وَتَجَهَّزَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ لِلْمَسِيرِ إِلَى الْأَهْوَازِ لِقَصْدِ بِلَادِ فَارِسَ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَالدَّيْلَمِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَالدَّيْلَمِ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، وَدَامَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَبَهَاءُ الدَّوْلَةِ فِي دَارِهِ يُرَاسِلُهُمْ فِي الصُّلْحِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَهُ، وَقُتِلَ بَعْضُ رُسُلِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ إِلَى الْأَتْرَاكِ، وَحَضَرَ الْقِتَالَ مَعَهُمْ، فَاشْتَدَّ حِينَئِذٍ الْأَمْرُ، وَعَظُمَ الشَّرُّ، ثُمَّ إِنَّهُ شَرَعَ فِي الصُّلْحِ، وَرَفَقَ بِالْأَتْرَاكِ، وَرَاسَلَ الدَّيْلَمَ، فَاسْتَقَرَّ الْحَالُ بَيْنَهُمْ، وَحَلَفَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ الْحَرْبِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا. ثُمَّ إِنَّ الدَّيْلَمَ تَفَرَّقُوا، فَمَضَى فَرِيقٌ بَعْدَ فَرِيقٍ، وَأُخْرِجَ بَعْضُهُمْ، وَقُبِضَ عَلَى الْبَعْضِ، فَضَعُفَ أَمْرُهُمْ، وَقَوِيَتْ شَوْكَةُ الْأَتْرَاكِ، وَاشْتَدَّتْ حَالُهُمْ. ذِكْرُ مَسِيرِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ إِلَى الْعِرَاقِ وَمَا كَانَ مِنْهُ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ مِنَ الرَّيِّ إِلَى هَمَذَانَ عَازِمًا عَلَى قَصْدِ الْعِرَاقِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا. وَكَانَ سَبَبُ حَرَكَتِهِ أَنَّ الصَّاحِبَ بْنَ عَبَّادٍ كَانَ يُحِبُّ الْعِرَاقَ لَا سِيَّمَا بَغْدَاذَ، وَيُؤْثِرُ

التَّقَدُّمَ بِهَا وَيَرْصُدُ أَوْقَاتَ الْفُرْصَةِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ عَلِمَ أَنَّ الْفُرْصَةَ قَدْ أَمْكَنَتْ، فَوَضَعَ عَلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ مَنْ يُعَظِّمُ عِنْدَهُ مُلْكَ الْعِرَاقِ وَيُسَهِّلُ أَمْرَهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُبَاشِرْ عَلَى ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ خَطَرِ الْعَاقِبَةِ، إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ: مَا عِنْدَكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ؟ فَأَحَالَ عَلَى أَنَّ سَعَادَتَهُ تُسَهِّلُ كُلَّ صَعْبٍ، وَعَظَّمَ الْبِلَادَ. فَتَجَهَّزَ وَسَارَ إِلَى هَمَذَانَ، وَأَتَاهُ بَدْرُ بْنُ حَسْنُوَيْهِ، وَقَصَدَهُ دُبَيْسُ بْنُ عَفِيفٍ الْأَسَدِيُّ، فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ يَسِيرَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ وَبَدْرٌ إِلَى الْعِرَاقِ عَلَى الْجَادَّةِ، وَيَسِيرَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ عَلَى خُوزِسْتَانَ، فَلَمَّا سَارَ الصَّاحِبُ حَذِرَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ مِنْ نَاحِيَتِهِ وَقِيلَ لَهُ: رُبَّمَا اسْتَمَالَهُ أَوْلَادُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ. فَاسْتَعَادَهُ إِلَيْهِ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى الْأَهْوَازِ فَمَلَكَهَا وَأَسَاءَ السِّيرَةَ مَعَ جُنْدِهَا وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَبْذُلِ الْمَالَ فَخَابَتْ ظُنُونُ النَّاسِ فِيهِ، وَاسْتَشْعَرَ مِنْهُ أَيْضًا عَسْكَرُهُ وَقَالُوا: هَكَذَا يَفْعَلُ بِنَا إِذَا تَمَكَّنَ مِنْ إِرَادَتِهِ فَتَخَاذَلُوا. وَكَانَ الصَّاحِبُ قَدْ أَمْسَكَ نَفْسَهُ تَأَثُّرًا بِمَا قِيلَ عَنْهُ مِنِ اتِّهَامِهِ، فَالْأُمُورُ بِسُكُوتِهِ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ، فَلَمَّا سَمِعَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بِوُصُولِهِمْ إِلَى الْأَهْوَازِ سَيَّرَ إِلَيْهِمُ الْعَسَاكِرَ، وَالْتَقَوْا هُمْ وَعَسَاكِرُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ. فَاتُّفِقَ أَنَّ دِجْلَةَ الْأَهْوَازِ زَادَتِ الْوَقْتَ زِيَادَةً عَظِيمَةً، وَانْفَتَحَتِ الْبُثُوقُ مِنْهَا فَظَنَّهَا عَسْكَرُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ مَكِيدَةً فَانْهَزَمُوا، فَقَلِقَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ، فَعَادَ حِينَئِذٍ إِلَى رَأْيِ الصَّاحِبِ، فَأَشَارَ لِبَذْلِ الْمَالِ وَاسْتِصْلَاحِ الْجُنْدِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الرَّأْيَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ إِخْرَاجُ الْمَالِ، وَتَرْكُ مُضَايَقَةِ الْجُنْدِ، فَإِنْ أَطْلَقْتَ الْمَالَ ضَمِنْتُ لَكَ حُصُولَ أَضْعَافِهِ بَعْدَ سَنَةٍ. فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ عَسْكَرِ الْأَهْوَازِ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَيْهِ وَضَاقَتِ الْأُمُورُ بِهِ، فَعَادَ إِلَى الرَّيِّ وَقَبَضَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْقُوَّادِ الرَّازِيِّينَ وَمَلَكَ أَصْحَابُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ الْأَهْوَازَ. ذِكْرُ هَرَبِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ إِلَى الْبَطِيحَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَرَبَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ مِنَ الطَّائِعِ لِلَّهِ إِلَى الْبَطِيحَةِ فَاحْتَمَى فِيهَا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ الْمُقْتَدِرِ وَالِدَ الْقَادِرِ لَمَّا تُوُفِّيَ جَرَى بَيْنَ الْقَادِرِ

وَبَيْنَ أُخْتٍ لَهُ مُنَازَعَةٌ فِي ضَيْعَةٍ طَالَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ إِنَّ الطَّائِعَ لِلَّهِ مَرِضَ مَرَضًا أَشْفَى مِنْهُ، ثُمَّ أَبَلَّ، فَسَعَتْ إِلَيْهِ بِأَخِيهِ الْقَادِرِ وَقَالَتْ لَهُ: إِنَّهُ شَرَعَ فِي طَلَبِ الْخِلَافَةِ عِنْدَ مَرَضِكَ فَتَغَيَّرَ رَأْيُهُ فِيهِ، فَأَنْفَذَ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ النُّعْمَانِ وَغَيْرَهُ لِلْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَكَانَ بِالْحَرِيمِ الطَّاهِرِيِّ، فَأَصْعَدُوا فِي الْمَاءِ إِلَيْهِ. وَكَانَ الْقَادِرُ قَدْ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ رَجُلًا يَقْرَأُ عَلَيْهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] فَهُوَ يَحْكِي هَذَا الْمَنَامَ لِأَهْلِهِ وَيَقُولُ: أَنَا خَائِفٌ مِنْ طَالِبٍ يَطْلُبُنِي وَوَصَلَ أَصْحَابُ الطَّائِعِ لِلَّهِ إِلَيْهِ وَاسْتَدْعَوْهُ، فَأَرَادَ لُبْسَ ثِيَابِهِ، فَلَمْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، فَأَخَذَهُ النِّسَاءُ مِنْهُمْ قَهْرًا، وَخَرَجَ عَنْ دَارِهِ وَاسْتَتَرَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْبَطِيحَةِ، فَنَزَلَ عَلَى مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ، فَأَكْرَمَ نُزُلَهُ، وَوَسَّعَ عَلَيْهِ، وَحَفِظَهُ، وَبَالَغَ فِي خِدْمَتِهِ، وَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ أَتَتْهُ الْخِلَافَةُ، فَلَمَّا وَلِيَهَا جَعَلَ عَلَامَتَهُ: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] . ذِكْرُ عَوْدِ بَنِي حَمْدَانَ إِلَى الْمَوْصِلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ أَبُو طَاهِرٍ إِبْرَاهِيمُ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ ابْنَا نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ الْمَوْصِلَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا كَانَا فِي خِدْمَةِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَاذَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَمَلَكَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ اسْتَأْذَنَا فِي الْإِصْعَادِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَأَذِنَ لَهُمَا، فَأَصْعَدَا، ثُمَّ عَلِمَ الْقُوَّادُ الْغَلَطَ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى خُوَاشَاذَهْ، وَهُوَ يَتَوَلَّى الْمَوْصِلَ، يَأْمُرُهُ بِدَفْعِهِمَا عَنْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا خُوَاشَاذَهْ يَأْمُرُهُمَا بِالْعَوْدِ عَنْهُ، فَأَعَادَا جَوَابًا جَمِيلًا، وَجَدَّا فِي السَّيْرِ حَتَّى نَزَلَا بِالدَّيْرِ الْأَعْلَى بِظَاهِرِ الْمَوْصِلِ.

وَثَارَ أَهْلُ الْمَوْصِلِ بِالدَّيْلَمِ وَالْأَتْرَاكِ، فَنَهَبُوهُمْ، وَخَرَجُوا إِلَى بَنِي حَمْدَانَ، وَخَرَجَ الدَّيْلَمُ إِلَى قِتَالِهِمْ، فَهَزَمَهُمُ الْمَوَاصِلَةُ وَبَنُو حَمْدَانَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَاعْتَصَمَ الْبَاقُونَ بِدَارِ الْإِمَارَةِ، وَعَزَمَ أَهْلُ الْمَوْصِلِ عَلَى قَتْلِهِمْ وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنْهُمْ، فَمَنَعَهُمْ بَنُو حَمْدَانَ عَنْ ذَلِكَ، وَسَيَّرُوا خُوَاشَاذَهْ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَقَامُوا بِالْمَوْصِلِ، وَكَثُرَ الْعَرَبُ عِنْدَهُمْ. ذِكْرُ خِلَافِ كُتَامَةَ عَلَى الْمَنْصُورِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ إِنْسَانٌ آخَرُ مِنْ كُتَامَةَ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْفَرَجِ، لَا يُعْرَفُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ هُوَ، وَزَعَمَ أَنَّ أَبَاهُ وَلَدُ الْقَائِمِ الْعَلَوِيِّ، جَدِّ الْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ، فَعَمِلَ أَكْثَرَ مِمَّا عَمِلَهُ أَبُو الْفَهْمِ، وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ كُتَامَةُ، وَاتَّخَذَ الْبُنُودَ وَالطُّبُولَ، وَضَرَبَ السِّكَّةَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَائِبِ الْمَنْصُورِ وَعَسَاكِرِهِ بِمَدِينَةِ مِيلَةَ وَسَطِيفَ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ وَوَقَعَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَسَارَ الْمَنْصُورُ إِلَيْهِ فِي عَسَاكِرِهِ، وَزَحَفَ هُوَ إِلَى الْمَنْصُورِ فِي عَسَاكِرِ كُتَامَةَ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا حَرْبٌ شَدِيدَةٌ، فَانْهَزَمَ أَبُو الْفَرَجِ وَكُتَامَةُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَاخْتَفَى أَبُو الْفَرَجِ فِي غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ غُلَامَانِ كَانَا لَهُ فَأَخَذَاهُ وَأَتَيَا بِهِ الْمَنْصُورَ، فَسَّرَهُ ذَلِكَ وَقَتَلَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ. وَشَحَنَ الْمَنْصُورُ بِلَادَ كُتَامَةَ بِالْعَسَاكِرِ، وَبَثَّ عُمَّالَهُ فِيهَا، وَلَمْ يَدْخُلْهَا عَامِلٌ قَبْلَ ذَلِكَ، فَجَبَوْا أَمْوَالَهَا وَضَيَّقُوا عَلَى أَهْلِهَا. وَرَجَعَ الْمَنْصُورُ إِلَى مَدِينَةِ أَشِيرَ، فَأَتَاهُ سَعِيدُ بْنُ خَزَرُونَ الزَّنَاتِيُّ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى سِجِلْمَاسَةَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَصَارَ فِي طَاعَةِ الْمَنْصُورِ، وَاخْتَصَّ بِهِ، وَعَلَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ يَوْمًا: يَا سَعِيدُ هَلْ تَعْرِفُ أَحَدًا أَكْرَمَ مِنِّي؟ وَكَانَ قَدْ وَصَلَهُ بِمَالٍ كَثِيرٍ، فَقَالَ: نَعَمْ! أَنَا أَكْرَمُ مِنْكَ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ جُدْتَ عَلَيَّ بِالْمَالِ، وَأَنَا جُدْتُ عَلَيْكَ بِنَفْسِي. فَاسْتَعْمَلَهُ الْمَنْصُورُ عَلَى طُبْنَةَ، وَزَوَّجَ ابْنَهُ بِبَعْضِ بَنَاتِ سَعِيدٍ. فَلَامَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِهِ، فَقَالَ: كَانَ أَبِي وَجَدِّي يَسْتَتْبِعَانِهِمْ بِالسَّيْفِ، [وَأَمَّا] أَنَا فَمَنْ رَمَانِي بِرُمْحِ رَمَيْتُهُ بِكِيسٍ، حَتَّى تَكُونَ مَوَدَّتُهُمْ طَبْعًا وَاخْتِيَارًا.

وَرَجَعَ سَعِيدٌ إِلَى أَهْلِهِ، وَبَقِيَ إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَنْصُورِ زَائِرًا، فَاعْتَلَّ سَعِيدٌ أَيَّامًا، وَتُوُفِّيَ أَوَّلَ رَجَبٍ. ثُمَّ قَدِمَ فُلْفُلُ بْنُ سَعِيدٍ عَلَى الْمَنْصُورِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ مَالًا كَثِيرًا، فَرَدَّهُ إِلَى طُبْنَةَ وِلَايَةِ أَبِيهِ. ذِكْرُ خِلَافِ عَمِّ الْمَنْصُورِ عَلَيْهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا خَالَفَ أَبُو الْبَهَارِ عَمُّ الْمَنْصُورِ بْنِ يُوسُفَ بُلُكِّينَ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، عَلَيْهِ لِشَيْءٍ جَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَنْصُورِ لَمْ يَحْمِلْهُ لَهُ لِعِزَّةِ نَفْسِهِ، فَسَارَ الْمَنْصُورُ إِلَيْهِ بِتَاهَرْتَ، فَفَارَقَهَا عَمُّهُ إِلَى الْغَرْبِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَدَخَلَ عَسْكَرُ الْمَنْصُورِ تَاهَرْتَ فَانْتَهَبُوهَا، ثُمَّ طَلَبَ أَهْلُهَا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، ثُمَّ سَارَ فِي طَلَبِ عَمِّهِ حَتَّى جَاوَزَ تَاهَرْتَ سَبْعَ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً، وَلَقِيَ الْعَسْكَرُ شِدَّةً. وَقَصَدَ عَمُّهُ زِيرِي بْنَ عَطِيَّةَ، صَاحِبَ فَاسَ، فَأَكْرَمَهُ، وَأَعْلَى مَحَلَّهُ، وَبَقِيَ جُنْدُهُ يُغِيرُونَ عَلَى نَوَاحِي الْمَنْصُورِ. وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ قَصَدُوا النَّوَاحِيَ الْمُجَاوِرَةَ لِفَاسَ، فَأَوْقَعُوا بِأَصْحَابِ الْمَنْصُورِ بِهَا وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا. ثُمَّ نَدِمَ أَبُو الْبَهَارِ، فَسَارَ إِلَى الْمَنْصُورِ مُعْتَذِرًا مِمَّا جَرَى مِنْهُ، فَقَبِلَهُ الْمَنْصُورُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَكْرَمَهُ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْعَلَوِيِّ الْكُوفِيِّ، وَكَانَ قَدْ عَظُمَ شَأْنُهُ مَعَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَاتَّسَعَ جَاهُهُ، وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُ، فَلَمَّا وَلِيَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ سَعَى بِهِ أَبُو الْحَسَنِ الْمُعَلِّمُ إِلَيْهِ، وَأَطْمَعَهُ فِي أَمْوَالِهِ وَمُلْكِهِ، وَعَظُمَ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَقَبَضَ عَلَيْهِ.

وَفِيهَا أَسْقَطَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ مَا كَانَ يُؤْخَذُ مِنَ الْمَرَاعِي مِنْ سَائِرِ السَّوَادِ. وَفِيهَا وُلِدَ الْأَمِيرُ أَبُو طَالِبٍ رُسْتَمُ بْنُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ. وَفِيهَا خَرَجَ ابْنُ الْجَرَّاحِ الطَّائِيُّ عَلَى الْحُجَّاجِ بَيْنَ سَمِيرَاءَ وَفَيْدَ وَنَازَلَهُمْ، فَصَالَحُوهُ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَشَيْءٍ مِنَ الثِّيَابِ، فَأَخَذَهَا وَانْصَرَفَ. وَفِيهَا بُنِيَ جَامِعُ الْقَطِيعَةِ بِبَغْدَاذَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَلَّادٍ أَبُو الْعَبَّاسِ السُّلَمِيُّ النَّقَّاشُ، كَانَ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْأَشْعَرِيَّةِ، وَعَنْهُ أَخَذَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ الْكَلَامَ، وَكَانَ ثِقَةً فِي الْحَدِيثِ.

ثم دخلت سنة ثمانين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 380 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ بَاذٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ بَاذٌ الْكُرْدِيُّ، صَاحِبُ دِيَارِ بَكْرٍ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ أَبَا طَاهِرٍ وَالْحُسَيْنَ ابْنَيْ حَمْدَانَ لَمَّا مَلَكَا الْمَوْصِلَ طَمِعَ فِيهَا بَاذٌ، وَجَمَعَ الْأَكْرَادَ فَأَكْثَرَ، وَمِمَّنْ أَطَاعَهُ الْأَكْرَادُ الْبَشْنَوِيَّةُ أَصْحَابُ قَلْعَةِ فَنَكَ، وَكَانُوا كَثِيرًا، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْحُسَيْنُ الْبَشْنَوِيُّ الشَّاعِرُ لِبَنِي مَرْوَانَ يَعْتَدُّ عَلَيْهِمْ بِنَجْدَتِهِمْ خَالَهُمْ بَاذًا مِنْ قَصِيدَةٍ: الْبَشْنَوِيَّةُ أَنْصَارٌ لِدَوْلَتِكُمْ وَلَيْسَ فِي ذَا ... خَفًا فِي الْعُجْمِ وَالْعَرَبِ أَنْصَارُ بَاذٍ بِأَرْجِيشَ وَشِيعَتِهِ ... بِظَاهِرِ الْمَوْصِلِ الْحَدْبَاءِ فِي الْعَطَبِ بِبَاجُلَايَا جَلَوْنَا عَنْهُ غُمَّتَهُ ... وَنَحْنُ فِي الرَّوْعِ جَلَّاءُونَ لِلْكُرَبِ وَكَاتَبَ أَهْلَ الْمَوْصِلِ فَاسْتَمَالَهُمْ، فَأَجَابَهُ بَعْضُهُمْ فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَنَزَلَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَضَعُفَا عَنْهُ، وَرَاسَلَا أَبَا الذَّوَّادِ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، أَمِيرَ بَنَى عُقَيْلٍ، وَاسْتَنْصَرَاهُ، فَطَلَبَ مِنْهُمَا جَزِيرَةَ ابْنِ عُمَرَ، وَنَصِيبِينَ، وَبَلَدًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَأَجَابَاهُ إِلَى مَا طَلَبَ، وَاتَّفَقُوا، وَسَارَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ وَأَقَامَ أَبُو طَاهِرٍ بِالْمَوْصِلِ يُحَارِبُ بَاذًا. فَلَمَّا اجْتَمَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو الذَّوَّادِ سَارَا إِلَى بَلَدٍ، وَعَبَرَا دِجْلَةَ، وَصَارَا مَعَ بَاذٍ

عَلَى أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِعُبُورِهِمَا وَقَدْ قَارَبَاهُ، فَأَرَادَ الِانْتِقَالَ إِلَى الْجَبَلِ لِئَلَّا يَأْتِيَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ خَلْفِهِ وَأَبُو طَاهِرٍ مِنْ أَمَامِهِ، فَاخْتَلَطَ أَصْحَابُهُ، وَأَدْرَكَهُ الْحَمْدَانِيَّةُ، فَنَاوَشُوهُمُ الْقِتَالَ، وَأَرَادَ بَاذٌ الِانْتِقَالَ مِنْ فَرَسٍ إِلَى آخَرَ، فَسَقَطَ وَانْدَقَّتْ تَرْقُوَتُهُ، فَأَتَاهُ ابْنُ أُخْتِهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مَرْوَانَ، وَأَرَادَهُ عَلَى الرُّكُوبِ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَتَرَكُوهُ وَانْصَرَفُوا وَاحْتَمَوْا بِالْجَبَلِ. وَوَقَعَ بَاذٌ بَيْنَ الْقَتْلَى فَعَرَفَهُ بَعْضُ الْعَرَبِ فَقَتَلَهُ وَحَمَلَ رَأَسَهُ إِلَى بَنِي حَمْدَانَ وَأَخَذَ جَائِزَةً سَنِيَّةً، وَصُلِبَتْ جُثَّتُهُ عَلَى دَارِ الْإِمَارَةِ، فَثَارَ الْعَامَّةُ وَقَالُوا: رَجُلٌ غَازٍ، وَلَا يَحِلُّ فِعْلُ هَذَا بِهِ. وَظَهَرَ مِنْهُمْ مَحَبَّةٌ كَثِيرَةٌ لَهُ، وَأَنْزَلُوهُ وَكَفَّنُوهُ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ وَدَفَنُوهُ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ دَوْلَةِ بَنِي مَرْوَانَ لَمَّا قُتِلَ بَاذٌ سَارَ ابْنُ أُخْتِهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مَرْوَانَ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ إِلَى حِصْنِ كِيفَا، وَهُوَ عَلَى دِجْلَةَ، وَهُوَ مِنْ أَحْصَنِ الْمَعَاقِلِ، وَكَانَ بِهِ امْرَأَةُ بَاذٍ وَأَهْلُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْحِصْنَ قَالَ لِزَوْجَةِ خَالِهِ: قَدْ أَنْفَذَنِي خَالِي إِلَيْكِ فِي مُهِمٍّ فَظَنَّتْهُ حَقًّا، فَلَمَّا صَعِدَ إِلَيْهَا أَعْلَمَهَا بِهَلَاكِهِ، وَأَطْمَعَهَا فِي التَّزَوُّجِ بِهَا، فَوَافَقَتْهُ عَلَى مُلْكِ الْحِصْنِ وَغَيْرِهِ، وَنَزَلَ وَقَصَدَ حِصْنًا حِصْنًا، حَتَّى مَلَكَ مَا كَانَ لِخَالِهِ، وَسَارَ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ وَسَارَ إِلَيْهِ أَبُو طَاهِرٍ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنَا حَمْدَانَ وَطَمِعَا فِيهِ، وَمَعَهُمَا رَأْسُ بَاذٍ، فَوَجَدَا أَبَا عَلِيٍّ قَدْ أَحْكَمَ أَمْرَهُ، فَتَصَافُّوا وَاقْتَتَلُوا، وَظَفِرَ أَبُو عَلِيٍّ وَأَسَرَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ حَمْدَانَ، فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ فَسَارَ إِلَى أَخِيهِ أَبِي طَاهِرٍ، وَهُوَ بِآمِدَ يَحْصُرُهَا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمُصَالَحَةِ ابْنِ مَرْوَانَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَاضْطَرَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِلَى مُوَافَقَتِهِ، وَسَارَا إِلَى ابْنِ مَرْوَانَ فَوَاقَعَاهُ، فَهَزَمَهُمَا، وَأَسَرَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا فَأَسَاءَ إِلَيْهِ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، إِلَى أَنْ كَاتَبَهُ صَاحِبُ مِصْرَ وَشَفَعَ فِيهِ فَأَطْلَقَهُ، وَمَضَى إِلَى مِصْرَ وَتَقَلَّدَ مِنْهَا وِلَايَةَ حَلَبَ، وَأَقَامَ بِتِلْكَ الدِّيَارِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ. وَأَمَّا أَبُو طَاهِرٍ فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى نَصِيبِينَ قَصَدَهُ أَبُو الذَّوَّادِ فَأَسَرَهُ وَعَلِيًّا ابْنَهُ، وَالْمُزَعْفَرَ أَمِيرَ بَنِي نُمَيْرٍ، وَقَتَلَهُمْ صَبْرًا.

وَأَقَامَ ابْنُ مَرْوَانَ بِدِيَارِ بَكْرٍ وَضَبَطَهَا، وَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا، وَأَلَانَ جَانِبَهُ لَهُمْ، فَطَمِعَ فِيهِ أَهْلُ مَيَّافَارِقِينَ، فَاسْتَطَالُوا عَلَى أَصْحَابِهِ، فَأَمْسَكَ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْعِيدِ، وَقَدْ خَرَجُوا إِلَى الْمُصَلَّى، فَلَمَّا تَكَامَلُوا فِي الصَّحْرَاءِ وَافَى إِلَى الْبَلَدِ، وَأَخَذَ أَبَا الصَّقْرِ شَيْخَ الْبَلَدِ فَأَلْقَاهُ مِنْ عَلَى السُّورِ، وَقَبَضَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ، وَأَخَذَ الْأَكْرَادُ ثِيَابَ النَّاسِ خَارِجَ الْبَلَدِ، وَأَغْلَقَ أَبْوَابَ الْبَلَدِ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَنْصَرِفُوا حَيْثُ شَاءُوا، وَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فَذَهَبُوا كُلَّ مَذْهَبٍ. وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ سِتَّ النَّاسِ بِنْتَ سَعْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَأَتَتْهُ مِنْ حَلَبَ، فَعَزَمَ عَلَى زِفَافِهَا بِآمِدَ، فَخَافَ شَيْخُ الْبَلَدِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْبَرِّ، أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ فِعْلِهِ بِأَهْلِ مَيَّافَارِقِينَ، فَأَحْضَرَ ثِقَاتَهُ وَحَلَّفَهُمْ عَلَى كِتْمَانِ سِرِّهِ، وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ صَحَّ عَزْمُ الْأَمِيرِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ بِكُمْ مِثْلَ فِعْلِهِ بِأَهْلِ مَيَّافَارِقِينَ، وَهُوَ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْمَاءِ وَيَخْرُجُ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، فَقِفُوا لَهُ فِي الدَّرَكَاهِ، وَانْثُرُوا عَلَيْهِ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ اعْتَمِدُوا بِهَا وَجْهَهُ، فَإِنَّهُ سَيُغَطِّيهِ بِكُمِّهِ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّكَاكِينِ فِي مَقْتَلِهِ فَفَعَلُوا. وَجَرَتِ الْحَالُ كَمَا وَصَفَ، وَتَوَلَّى قَتْلَهُ إِنْسَانٌ يُقَالُ [لَهُ] ابْنُ دِمْنَةَ كَانَ فِيهِ إِقْدَامٌ وَجُرْأَةٌ، فَاخْتَبَطَ النَّاسُ وَمَاجُوا، فَرَمَى بِرَأْسِهِ إِلَيْهِمْ، فَأَسْرَعُوا السَّيْرَ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ. وَحَدَّثَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكْرَادِ نُفُوسَهُمْ بِمُلْكِ الْبَلَدِ، فَاسْتَرَابَ بِهِمْ مُسْتَحْفِظُ مَيَّافَارِقِينَ لِإِسْرَاعِهِمْ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ الْأَمِيرُ حَيًّا فَادْخُلُوا مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ قُتِلَ فَأَخُوهُ مُسْتَحِقٌّ لِمَوْضِعِهِ. فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ وَصَلَ مُمَهِّدُ الدَّوْلَةِ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ مَرْوَانَ أَخُو أَبِي عَلِيٍّ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ، فَفُتِحَ لَهُ بَابُ الْبَلَدِ فَدَخَلَهُ وَمَلَكَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ إِلَّا السِّكَّةُ وَالْخُطْبَةُ لِمَا نَذْكُرُهُ. وَأَمَّا عَبْدُ الْبَرِّ فَاسْتَوْلَى عَلَى آمِدَ، وَزَوَّجَ ابْنَ دِمْنَةَ، الَّذِي قَتَلَ أَبَا عَلِيٍّ، ابْنَتَهُ فَعَمِلَ لَهُ ابْنُ دِمْنَةَ دَعْوَةً وَقَتَلَهُ، وَمَلَكَ آمِدَ، وَعَمَّرَ الْبَلَدَ وَبَنَى لِنَفْسِهِ قَصْرًا عِنْدَ السُّورِ، وَأَصْلَحَ أَمْرَهُ مَعَ مُمَهِّدِ الدَّوْلَةِ، وَهَادَى مَلِكَ الرُّومِ، وَصَاحِبَ مِصْرَ، وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْمُلُوكِ وَانْتَشَرَ ذِكْرُهُ.

وَأَمَا مُمَهِّدُ الدَّوْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَهُ إِنْسَانٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُسَمَّى شَرْوَةَ، حَاكِمًا فِي مَمْلَكَتِهِ، وَكَانَ لِشَرْوَةَ غُلَامٌ قَدْ وَلَّاهُ الشُّرْطَةَ، وَكَانَ مُمَهِّدُ الدَّوْلَةِ يُبْغِضُهُ، وَيُرِيدُ قَتْلَهُ، وَيَتْرُكُهُ احْتِرَامًا لِصَاحِبِهِ، فَفَطِنَ الْغُلَامُ لِذَلِكَ، فَأَفْسَدَ مَا بَيْنَهُمَا، فَعَمِلَ شَرْوَةُ طَعَامًا بِقَلْعَةِ الْهَتَّاخِ، وَهِيَ إِقْطَاعُهُ، وَدَعَا إِلَيْهَا مُمَهِّدَ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ قَتَلَهُ، وَذَلِكَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَخَرَجَ مِنَ الدَّارِ إِلَى بَنِي عَمِّ مُمَهِّدِ الدَّوْلَةِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ وَقَيَّدَهُمْ، وَأَظْهَرَ أَنَّ مُمَهِّدَ الدَّوْلَةِ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَمَضَى إِلَى مَيَّافَارِقِينَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْمَشَاعِلُ، فَفَتَحُوا لَهُ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ مُمَهِّدُ الدَّوْلَةِ، فَمَلَكَهَا، وَكَتَبَ إِلَى أَصْحَابِ الْقِلَاعِ يَسْتَدْعِيهِمْ، وَأَنْفَذَ إِنْسَانًا إِلَى أَرْزَنَ لِيُحْضِرَ مُتَوَلِّيَهَا، وَيُعْرَفُ بِخَوَاجَهْ أَبِي الْقَاسِمِ، فَسَارَ خَوَاجَهْ نَحْوَ مَيَّافَارِقِينَ، وَلَمْ يُسَلِّمِ الْقَلْعَةَ إِلَى الْقَاصِدِ إِلَيْهِ. فَلَمَّا تَوَسَّطَ الطَّرِيقَ سَمِعَ بِقَتْلِ مُمَهِّدِ الدَّوْلَةِ فَعَادَ إِلَى أَرْزَنَ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَسْعَرْدَ، فَأَحْضَرَ أَبَا نَصْرِ بْنَ مَرْوَانَ أَخَا مُمَهِّدِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ أَخُوهُ قَدْ (أَبْعَدَهُ عَنْهُ، وَكَانَ يُبْغِضُهُ لِمَنَامٍ رَآهُ، وَهُوَ أَنَّهُ رَأَى) كَأَنَّ الشَّمْسَ سَقَطَتْ فِي حِجْرِهِ، فَنَازَعَهُ أَبُو نَصْرٍ عَلَيْهَا وَأَخَذَهَا، فَأَبْعَدَهُ لِهَذَا، وَتَرَكَهُ بِأَسْعَرْدَ مُضَيَّقًا عَلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَدْعَاهُ خَوَاجَهْ قَالَ لَهُ دُبَيْرٌ: تَفْلَحُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَكَانَ شَرْوَةُ قَدْ أَنْفَذَ إِلَى أَبِي نَصْرٍ، فَوَجَدُوهُ قَدْ سَارَ إِلَى أَرْزَنَ، فَعَلِمَ حِينَئِذٍ انْتِقَاضَ أَمْرِهِ. وَكَانَ مَرْوَانُ وَالِدُ مُمَهِّدِ الدَّوْلَةِ قَدْ أَضَرَّ، وَهُوَ بِأَرْزَنَ، عِنْدَ قَبْرِ ابْنِهِ أَبِي عَلِيٍّ، وَهُوَ وَزَوْجَتُهُ، فَأَحْضَرَ خَوَاجَهْ أَبَا نَصْرٍ عِنْدَهُمَا، وَحَلَّفَهُ عَلَى الْقَبُولِ مِنْهُ، وَالْعَدْلِ، وَأَحْضَرَ الْقَاضِي وَالشُّهُودَ عَلَى الْيَمِينِ وَمَلَّكَهُ أَرْزَنَ، ثُمَّ مَلَكَ سَائِرَ بِلَادِ دِيَارِ بَكْرٍ، فَدَامَتْ أَيَّامُهُ، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، وَكَانَ مَقْصِدًا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ سَائِرِ الْآفَاقِ، وَكَثُرُوا بِبِلَادِهِ.

وَمِمَّنْ قَصَدَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَازَرُونِيُّ، وَعَنْهُ انْتَشَرَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ بِدِيَارِ بَكْرٍ، وَقَصَدَهُ الشُّعَرَاءُ وَأَكْثَرُوا مَدْحَهُ وَأَجْزَلَ جَوَائِزَهُمْ، وَبَقِيَ كَذَلِكَ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، فَتُوُفِّيَ فِيهَا وَكَانَ عُمْرُهُ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَكَانَتِ الثُّغُورُ مَعَهُ آمِنَةً، وَسِيرَتُهُ فِي رَعِيَّتِهِ أَحْسَنَ سِيرَةٍ، فَلَمَّا مَاتَ مَلَكَ بِلَادَهُ وَلَدُهُ. ذِكْرُ مُلْكِ آلِ الْمُسَيَّبِ الْمَوْصِلَ لَمَّا انْهَزَمَ أَبُو طَاهِرِ بْنُ حَمْدَانَ مِنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مَرْوَانَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، سَارَ إِلَى نَصِيبِينَ فِي قِلَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانُوا قَدْ تَفَرَّقُوا، فَطَمِعَ فِيهِ أَبُو الذَّوَّادِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَمِيرُ بَنِي عُقَيْلٍ، وَكَانَ صَاحِبَ نَصِيبِينَ حِينَئِذٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَثَارَ بِأَبِي طَاهِرٍ، فَأَسَرَهُ وَأَسَرَ وَلَدَهُ وَعُدَّةً مِنْ قُوَّادِهِمْ، وَقَتَلَهُمْ، وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَمَلَكَهَا وَأَعْمَالَهَا، وَكَاتَبَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ يَسْأَلُهُ أَنْ يُنْفِذَ إِلَيْهِ مَنْ يُقِيمُ عِنْدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ يَتَوَلَّى الْأُمُورَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ قَائِدًا مِنْ قُوَّادِهِ. وَكَانَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ قَدْ سَارَ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الْأَهْوَازِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَقَامَ نَائِبُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَلَا يَحْكُمُ إِلَّا فِيمَا يُرِيدُهُ أَبُو الذَّوَّادِ، وَسَيَرِدُ مِنْ ذِكْرِهِ وَذِكْرِ عَقِبِهِ مَا تَقِفُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مَسِيرِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ إِلَى الْأَهْوَازِ وَمَا كَانَ مِنْهُ وَمِنْ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى خُوزِسْتَانَ عَازِمًا عَلَى قَصْدِ فَارِسَ، وَاسْتَخْلَفَ بِبَغْدَاذَ أَبَا نَصْرٍ خُوَاشَاذَهْ، وَوَصَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَدَخَلَهَا، وَسَارَ عَنْهَا إِلَى خُوزِسْتَانَ، فَأَتَاهُ نَعْيُ أَخِيهِ أَبِي طَاهِرٍ، فَجَلَسَ لِلْعَزَاءِ بِهِ، وَدَخَلَ أَرَّجَانَ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَأَخَذَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، فَكَانَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ وَثَمَانِيَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمِنَ الثِّيَابِ وَالْجَوَاهِرِ وَمَا لَا يُحْصَى، فَلَمَّا عَلِمَ الْجُنْدُ بِذَلِكَ شَغَبُوا شَغَبًا مُتَتَابِعًا فَأُطْلِقَتْ تِلْكَ الْأَمْوَالُ كُلُّهَا لَهُمْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلُ. ثُمَّ سَارَتْ مُقَدَّمَتُهُ وَعَلَيْهَا أَبُو

الْعَلَاءِ بْنُ الْفَضْلِ إِلَى النَّوْبَنْدَجَانِ، وَبِهَا عَسَاكِرُ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، فَهَزَمَهُمْ، وَبَثَّ أَصْحَابَهُ فِي نَوَاحِي فَارِسَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ عَسْكَرًا وَعَلَيْهِمْ فُولَاذٌ زَمَانْدَارُ، فَوَاقَعَهُمْ، فَانْهَزَمَ أَبُو الْعَلَاءِ وَعَادَ مَهْزُومًا. وَكَانَ سَبَبُ الْهَزِيمَةِ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ وَادٍ عَلَيْهِ قَنْطَرَةٌ، وَكَانَ أَصْحَابُ أَبِي الْعَلَاءِ يَعْبُرُونَ الْقَنْطَرَةَ وَيُغِيرُونَ عَلَى أَثْقَالِ الدَّيْلَمِ، عَسْكَرِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، فَوَضَعَ فُولَاذٌ كَمِينًا عِنْدَ الْقَنْطَرَةِ، فَلَمَّا عَبَرَ أَصْحَابُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ خَرَجُوا عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ جَمِيعَهُمْ، وَرَاسَلَ فُولَاذٌ أَبَا الْعَلَاءِ وَخَدَعَهُ، ثُمَّ سَارَ إِلَيْهِ وَكَبَسَهُ، فَانْهَزَمَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَعَادَ إِلَى أَرَّجَانَ مَهْزُومًا، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِهَا. وَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ سَارَ عَنْ شِيرَازَ إِلَى فُولَاذٍ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ فِي الصُّلْحِ، فَتَمَّ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِصَمْصَامِ الدَّوْلَةِ بِلَادُ فَارِسَ وَأَرَّجَانَ، وَلِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ خُوزِسْتَانُ وَالْعِرَاقُ، وَأَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِقْطَاعٌ فِي بَلَدِ صَاحِبِهِ، وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَعَادَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْأَهْوَازِ. وَلَمَّا سَارَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَنْ بَغْدَاذَ ثَارَ الْعَيَّارُونَ بِجَانِبَيْ بَغْدَاذَ، وَوَقَعَتِ الْفِتَنُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ بَيْنَهُمْ، وَزَالَتِ الطَّاعَةُ، وَأُحْرِقَ عِدَّةُ مَحَالٍّ، وَنُهِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَأُخْرِبَتِ الْمَسَاكِنُ، وَدَامَ ذَلِكَ عِدَّةَ شُهُورٍ إِلَى أَنْ عَادَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ صَالِحَانَ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا نَصْرٍ سَابُورَ بْنَ أَرْدَشِيَرَ قَبْلَ مَسِيرِهِ إِلَى خُوزِسْتَانَ، وَكَانَ الْمُدَبِّرُ لِدَوْلَةِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ أَبَا الْحُسَيْنِ الْمُعَلِّمَ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْفَرَجِ يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ كِلِّسٍ، وَزِيرُ الْعَزِيزِ، صَاحِبُ مِصْرَ، وَكَانَ كَامِلَ الْأَوْصَافِ، مُتَمَكِّنًا مِنْ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا مَرِضَ عَادَهُ الْعَزِيزُ صَاحِبُ مِصْرَ، وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّكَ تُبَاعُ فَأَبْتَاعُكَ بِمُلْكِي، فَهَلْ مِنْ حَاجَةٍ تَرْضَى بِهَا؟ فَبَكىَ، وَقَبَّلَ يَدَهُ، وَوَضَعَهَا عَلَى عَيْنِهِ، وَقَالَ: أَمَّا فِيمَا يَخُصُّنِي فَإِنَّكَ أَرْعَى لِحَقِّي مِنْ أَنْ أُوصِيَكَ بِمُخَلَّفِي، وَلَكِنْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِدَوْلَتِكَ سَالِمِ الْحَمْدَانِيَّةَ مَا سَالَمُوكَ، وَاقْنَعْ مِنْهُمْ بِالدَّعَةِ، وَإِنْ ظَفِرْتَ بِالْمُفَرِّجِ فَلَا تُبْقِ عَلَيْهِ. فَلَمَّا مَاتَ حَزِنَ الْعَزِيزُ عَلَيْهِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَأَلْحَدَهُ بِيَدِهِ فِي قَصْرِهِ، وَأَغْلَقَ الدَّوَاوِينَ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَاسْتَوْزَرَ بَعْدَهُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَوْصِلِيَّ، ثُمَّ صَرَفَهُ، وَقَلَّدَ عِيسَى بْنَ نَسْطُورَسَ النَّصْرَانِيَّ، فَمَالَ إِلَى النَّصَارَى وَوَلَّاهُمْ، وَاسْتَنَابَ بِالشَّامِ يَهُودِيًّا يُعْرَفُ بِمَنْشَا، فَفَعَلَ مَعَ الْيَهُودِ مِثْلَ مَا فَعَلَ عِيسَى بِالنَّصَارَى، وَجَرَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَحَامُلٌ عَظِيمٌ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، قُلِّدَ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ وَالِدُ الرَّضِيِّ نِقَابَةَ الْعَلَوِيِّينَ وَالْمَظَالِمِ، وَإِمَارَةَ الْحَجِّ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ نِيَابَةً عَنِ النَّقِيبِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوسَوِيِّ.

[الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ عِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ بِالْأَنْدَلُسِ، وَالِدُ الْإِمَامِ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ) .

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 381 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى الطَّائِعِ لِلَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُبِضَ (الطَّائِعُ لِلَّهِ، قَبَضَهُ) بَهَاءُ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ الطَّائِعُ لِلَّهِ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْفَضْلِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمِيرَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ قَلَّتْ عِنْدَهُ الْأَمْوَالُ، فَكَثُرَ شَغَبُ الْجُنْدِ، فَقَبَضَ عَلَى وَزِيرِهِ سَابُورَ، فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ ذَلِكَ شَيْئًا. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُعَلِّمِ قَدْ غَلَبَ عَلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَحَكَمَ فِي مَمْلَكَتِهِ، فَحَسُنَ لَهُ الْقَبْضُ عَلَى الطَّائِعِ، وَأَطْمَعَهُ فِي مَالِهِ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَسَهَّلَهُ، فَأَقْدَمَ عَلَيْهِ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الطَّائِعِ وَسَأَلَهُ الْإِذْنَ فِي الْحُضُورِ فِي خِدْمَتِهِ لِيُجَدِّدَ الْعَهْدَ بِهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَجَلَسَ لَهُ كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ، فَدَخَلَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا دَخَلَ قَبَّلَ الْأَرْضَ، وَأُجْلِسَ عَلَى كُرْسِيٍّ، فَدَخَلَ بَعْضُ الدَّيْلَمِ كَأَنَّهُ يُرِيدُ [أَنْ] يُقَبِّلَ يَدَ الْخَلِيفَةِ فَجَذَبَهُ، فَأَنْزَلَهُ عَنْ سَرِيرِهِ، وَالْخَلِيفَةُ يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! وَهُوَ يَسْتَغِيثُ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَأُخِذَ مَا فِي دَارِ الْخَلِيفَةِ مِنَ الذَّخَائِرِ (فَمَشَوْا بِهِ [فِي] الْحَالِ) ، وَنَهَبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمُ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ فَبَادَرَ بِالْخُرُوجِ فَسَلِمَ وَقَالَ أَبْيَاتًا مِنْ جُمْلَتِهَا:

مِنْ بَعْدِ مَا كَانَ رَبُّ الْمُلْكِ مُبْتَسِمًا إِلَيَّ أَدْنُوهُ فِي النَّجْوَى وَيُدْنِينِي أَمْسَيْتُ أَرْحَمُ مَنْ قَدْ كُنْتُ أَغْبِطُهُ لَقَدْ تَقَارَبَ بَيْنَ الْعِزِّ وَالْهُونِ (وَمَنْظَرٌ كَانَ بِالسَّرَّاءِ يُضْحِكُنِي يَا قُرْبَ مَا عَادَ بِالضَّرَّاءِ يُبْكِينِي) هَيْهَاتَ أَغْتَرُّ بِالسُّلْطَانِ ثَانِيَةً قَدْ ضَلَّ وُلَّاجُ أَبْوَابِ السَّلَاطِينِ وَلَمَّا حُمِلَ الطَّائِعُ إِلَى دَارِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالْخَلْعِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ شُهُورٍ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ، وَحُمِلَ إِلَى الْقَادِرِ بِاللَّهِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ، فَبَقِيَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، لَيْلَةَ الْفِطْرِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْقَادِرُ بِاللَّهِ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ خَمْسًا. وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ أَبْيَضَ، مَرْبُوعًا، حَسَنَ الْجِسْمِ وَكَانَ أَنْفُهُ كَبِيرًا جِدًّا، وَكَانَ شَدِيدَ الْقُوَّةِ، كَثِيرَ الْإِقْدَامِ، اسْمُ أُمِّهِ عُتْبَ، وَعَاشَتْ إِلَى أَنْ أَدْرَكَتْ أَيَّامَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْحُكْمِ فِي وِلَايَتِهِ مَا يُعْرَفُ بِهِ حَالٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى سِيرَتِهِ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ لَمَّا قُبِضَ عَلَى الطَّائِعِ لِلَّهِ ذَكَرَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى الْقَادِرِ بِاللَّهِ وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْمُقْتَدِرِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا دِمْنَةُ، وَقِيلَ تُمْنَى، وَكَانَ بِالْبَطِيحَةِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ خَوَاصَّ أَصْحَابِهِ لِيُحْضِرُوهُ إِلَى بَغْدَاذَ لِيَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ، فَانْحَدَرُوا إِلَيْهِ، وَشَغَبَ الدَّيْلَمُ بِبَغْدَاذَ، وَمَنَعُوا مِنَ الْخُطْبَةِ، فَقِيلَ عَلَى الْمِنْبَرِ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ عَبْدَكَ وَخَلِيفَتَكَ الْقَادِرَ بِاللَّهِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا اسْمَهُ، وَأَرْضَاهُمْ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ.

وَلَمَّا وَصَلَ الرُّسُلُ إِلَى الْقَادِرِ بِاللَّهِ كَانَ تِلْكَ السَّاعَةَ يَحْكِي مَنَامًا رَآهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى كَاتِبُ مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ قَالَ: كُنْتُ أَحْضُرُ عِنْدَ الْقَادِرِ بِاللَّهِ كُلَّ أُسْبُوعٍ مَرَّتَيْنِ، فَكَانَ يُكْرِمُنِي، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا فَوَجَدْتُهُ قَدْ تَأَهَّبَ تَأَهُّبًا لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَتُهُ، وَلَمْ أَرَ مِنْهُ مِمَّا أَلِفْتُهُ مِنْ إِكْرَامِهِ، وَاخْتَلَفَتْ بِي الظُّنُونُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ لِزَلَّةٍ مِنِّي اعْتَذَرْتُ عَنْ نَفْسِي. فَقَالَ: بَلْ رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ فِي مَنَامِي كَأَنَّ نَهْرَكُمْ هَذَا، نَهْرَ الصَّلِيقِ، قَدِ اتَّسَعَ، فَصَارَ مِثْلَ دِجْلَةَ، دَفَعَاتٍ، فَسِرْتُ عَلَى حَافَّتِهِ مُتَعَجِّبًا مِنْهُ، وَرَأَيْتُ قَنْطَرَةً عَظِيمَةً، فَقُلْتُ: مَنْ قَدْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِعَمَلِ هَذِهِ الْقَنْطَرَةِ عَلَى هَذَا الْبَحْرِ الْعَظِيمِ؟ ثُمَّ صَعَدْتُهَا، وَهِيَ مُحْكَمَةٌ، فَبَيْنَمَا أَنَا عَلَيْهَا أَتَعَجَّبُ مِنْهَا إِذْ رَأَيْتُ شَخْصًا قَدْ تَأَمَّلَنِي مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، فَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَعْبُرَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ فَمَدَّ يَدَهُ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَيَّ، فَأَخَذَنِي وَعَبَّرَنِي، فَهَالَنِي وَتَعَاظَمَنِي فِعْلُهُ، قُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، هَذَا الْأَمْرُ صَائِرٌ إِلَيْكَ، وَيَطُولُ عُمْرُكَ فِيهِ، فَأَحْسِنْ إِلَى وَلَدِي، وَشِيعَتِي. فَمَا انْتَهَى الْقَادِرُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ حَتَّى سَمِعْنَا صِيَاحَ الْمَلَّاحِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَسَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ، وَإِذَا هُمُ الْوَارِدُونَ إِلَيْهِ لِإِصْعَادِهِ لِيَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ، فَخَاطَبْتُهُ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَايَعْتُهُ، وَقَامَ مُهَذَّبُ الدَّوْلَةِ بِخِدْمَتِهِ أَحْسَنَ قِيَامٍ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ مَا يَحْمِلُهُ كِبَارُ الْمُلُوكِ لِلْخُلَفَاءِ وَشَيَّعَهُ. فَسَارَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَمَّا دَخَلَ جَبُّلَ انْحَدَرَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ وَأَعْيَانُ النَّاسِ لِاسْتِقْبَالِهِ، وَسَارُوا فِي خِدْمَتِهِ، فَدَخَلَ دَارَ الْخِلَافَةِ ثَانِيَ عَشَرَ رَمَضَانَ، وَبَايَعَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ وَالنَّاسُ، وَخُطِبَ لَهُ ثَالِثَ عَشَرَ رَمَضَانَ، وَجَدَّدَ أَمْرَ الْخِلَافَةِ، وَعَظَّمَ نَامُوسَهَا، وَسَيَرِدُ مِنْ أَخْبَارِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، مَا يُعْلَمُ بِهِ ذَلِكَ، وَحُمِلَ إِلَيْهِ بَعْضُ مَا نُهِبَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُقَامِهِ فِي الْبَطِيحَةِ سَنَتَيْنِ وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، (وَلَمْ يُخْطَبْ لَهُ فِي جَمِيعِ خُرَاسَانَ، كَانَتِ الْخُطْبَةُ فِيهَا لِلطَّائِعِ لِلَّهِ) . ذِكْرُ مُلْكِ خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ كَرْمَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنْفَذَ خَلَفُ بْنُ أَحْمَدَ، صَاحِبُ سِجِسْتَانَ، وَهُوَ ابْنُ بَانُوَا بِنْتِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ الصَّفَّارِ، ابْنَهُ عَمْرًا إِلَى كَرْمَانَ فَمَلَكَهَا.

وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَمَّا قَوِيَ أَمْرُهُ، وَجَمَعَ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ، حَدَّثَ نَفْسَهُ بِمُلْكِ كَرْمَانَ، وَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ ذَلِكَ لِهُدْنَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ. فَلَمَّا مَاتَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ، وَمَلَكَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ وَانْتَظَمَ، وَأَمَّنَ مُلْكَهُ، وَلَمْ يَتَحَرَّكْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، وَاضْطَرَبَ مُلُوكُ بَنِي بُوَيْهٍ، وَوَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ وَبَهَاءِ الدَّوْلَةِ، قَوِيَ طَمَعُهُ، وَانْتَهَزَ الْفُرْصَةَ، وَجَهَّزَ وَلَدَهُ عَمْرًا، وَسَيَّرَهُ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ إِلَى كَرْمَانَ، وَبِهَا قَائِدٌ يُقَالُ لَهُ تَمَرْتَاشُ كَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، فَلَمْ يَشْعُرْ تَمَرْتَاشُ إِلَّا وَعَمْرٌو قَدْ قَارَبَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ حِيلَةٌ إِلَّا الدُّخُولُ إِلَى بَرْدَسِيرَ، وَحَمَلُوا مَا أَمْكَنَهُمْ حَمْلُهُ، وَغَنِمَ عَمْرٌو الْبَاقِيَ، وَمَلَكَ كَرْمَانَ مَا عَدَا بَرْدَسِيرَ، وَصَادَرَ النَّاسَ وَجَبَى الْأَمْوَالَ. فَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ صَاحِبُ فَارِسَ، جَهَّزَ الْعَسَاكِرَ وَسَيَّرَهَا إِلَى تَمَرْتَاشَ، وَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ قَائِدًا يُقَالُ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَمَرَهُ بِالْقَبْضِ عَلَى تَمَرْتَاشَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِهِ، لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ بِالْمَيْلِ إِلَى أَخِيهِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ. فَسَارَ أَبُو جَعْفَرٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِتَمَرْتَاشَ أَنْزَلَهُ عِنْدَهُ بِعِلَّةِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى مَا يَفْعَلَانِهِ، وَقَبَضَ عَلَيْهِ وَحَمَلَهُ إِلَى شِيرَازَ، فَسَارَ أَبُو جَعْفَرٍ بِالْعَسْكَرِ جَمِيعِهِ يَقْصِدُ عَمْرَو بْنَ خَلَفٍ لِيُحَارِبَهُ، فَالْتَقَوْا بِدَارَزِينَ وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالدَّيْلَمُ، وَعَادُوا عَلَى طَرِيقِ جِيرُفْتَ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ وَأَصْحَابِهِ، فَانْزَعَجُوا لِذَلِكَ، ثُمَّ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى إِنْفَاذِ الْعَبَّاسِ بْنِ أَحْمَدَ فِي عَسْكَرٍ أَكْثَرَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَسَيَّرُوهُ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ وَعُدَّةٍ ظَاهِرَةٍ، فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ عَمْرًا، فَالْتَقَوْا بِقُرْبِ السِّيرَجَانِ، وَاقْتَتَلُوا فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى عَمْرِو بْنِ خَلَفٍ وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَكَانَ هَذَا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، وَعَادَ عَمْرٌو إِلَى أَبِيهِ بِسِجِسْتَانَ مَهْزُومًا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ لَامَهُ وَوَبَّخَهُ، ثُمَّ حَبَسَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ قَتَلَهُ [بَيْنَ يَدَيْهِ] وَتَوَلَّى غَسْلَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَدَفَنَهُ فِي الْقَلْعَةِ. فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا كَانَ أَقْسَى قَلْبَ هَذَا الرَّجُلِ مَعَ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ! .

ثُمَّ إِنَّ صَمْصَامَ الدَّوْلَةِ عَزَلَ الْعَبَّاسَ عَنْ كَرْمَانَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أُسْتَاذَ هُرْمُزَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى كَرْمَانَ خَافَهُ خَلَفُ بْنُ أَحْمَدَ، فَكَاتَبَهُ فِي تَجْدِيدِ الصُّلْحِ، وَاعْتَذَرَ عَنْ فِعْلِهِ، فَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ، وَأَنْفَذَ خَلَفٌ قَاضِيًا كَانَ بِسِجِسْتَانَ يُعْرَفُ بِأَبِي يُوسُفَ وَكَانَ لَهُ قَبُولٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَوَضَعَ عَلَيْهِ إِنْسَانًا يَكُونُ مَعَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْقِيَهُ سُمًّا إِذَا صَارَ عِنْدَ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ وَيَعُودَ مُسْرِعًا وَيُشِيعَ بِأَنَّ أُسْتَاذَ هُرْمُزَ قَتَلَهُ. فَسَارَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى كَرْمَانَ، فَصَنَعَ لَهُ أُسْتَاذُ هُرْمُزَ طَعَامًا، فَحَضَرَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ سَقَاهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ سُمًّا فَمَاتَ مِنْهُ، وَرَكِبَ جَمَّازَةً وَسَارَ مُجِدًّا إِلَى خَلَفٍ، فَجَمَعَ لَهُ خَلَفٌ وُجُوهَ النَّاسِ لِيَسْمَعُوا لَهُ، فَذَكَرَ أَنَّ أُسْتَاذَ هُرْمُزَ قَتَلَ الْقَاضِيَ أَبَا يُوسُفَ، وَبَكَى خَلَفٌ وَأَظْهَرَ الْجَزَعَ عَلَيْهِ، وَنَادَى فِي النَّاسِ بِغَزْوِ كَرْمَانَ وَالْأَخْذِ بِثَأْرِ أَبِي يُوسُفَ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ وَاحْتَشَدُوا، فَسَيَّرَهُمْ مَعَ وَلَدِهِ طَاهِرٍ، فَوَصَلُوا إِلَى نَرْمَاسِيرَ، وَبِهَا عَسْكَرُ الدَّيْلَمِ، فَهَزَمُوهُمْ وَأَخَذُوا الْبَلَدَ مِنْهُمْ. وَلَحِقَ الدَّيْلَمُ بِجِيرُفْتَ، فَاجْتَمَعُوا بِهَا، وَجَعَلُوا بِبَرْدَسِيرَ مَنْ يَحْمِيهَا، وَهِيَ أَصْلُ بِلَادِ كَرْمَانَ وَمَصْرُهَا، فَقَصَدَهَا طَاهِرٌ وَحَصَرَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَضَاقَ بِأَهْلِهَا، وَكَتَبُوا إِلَى أُسْتَاذِ هُرْمُزَ يُعْلِمُونَهُ حَالَهُمْ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُدْرِكْهُمْ سَلَّمُوا الْبَلَدَ. فَرَكِبَ الْخَطَرَ وَسَارَ مُجِدًّا فِي مَضَايِقِ جِبَالٍ وَعْرَةٍ، حَتَّى أَتَى بَرْدَسِيرَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا رَحَلَ طَاهِرٌ وَمَنْ مَعَهُ عَنْهَا، وَعَادُوا إِلَى سِجِسْتَانَ، وَاسْتَقَرَّتْ كَرْمَانُ لِلدَّيْلَمِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ عِصْيَانِ بَكْجُورَ عَلَى سَعْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَقَتْلِهِ لَمَّا وَصَلَ بَكْجُورُ إِلَى الرَّقَّةِ مُنْهَزِمًا مِنْ عَسَاكِرِ مِصْرَ بِدِمَشْقَ وَأَقَامَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الرُّحْبَةِ وَمَا يُجَاوِرُ الرَّقَّةَ، وَرَاسَلَ الْمَلِكَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ بْنَ بُوَيْهٍ بِالِانْضِمَامِ إِلَيْهِ، وَكَاتَبَ أَيْضًا بَاذًا الْكُرْدِيَّ الْمُتَغَلِّبَ عَلَى دِيَارِ بَكْرٍ وَالْمَوْصِلِ بِالْمَسِيرِ

إِلَيْهِ، وَرَاسَلَ سَعْدَ الدَّوْلَةِ بْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، صَاحِبَ حَلَبَ، بِأَنْ يَعُودَ إِلَى طَاعَتِهِ عَلَى قَاعِدَتِهِ الْأُولَى، (وَيُقْطِعَهُ مِنْهُ) مَدِينَةَ حِمْصَ كَمَا كَانَتْ لَهُ، فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ أَجَابَهُ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا طَلَبَ، فَبَقِيَ فِي الرَّقَّةِ يُرَاسِلُ جَمَاعَةً رُفَقَاءَ مِنْ مَمَالِيكِ سَعْدِ الدَّوْلَةِ، وَيَسْتَمِيلُهُمْ، فَأَجَابُوهُ إِلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى قَصْدِ بَلَدِ سَعْدِ الدَّوْلَةِ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِلَذَّاتِهِ وَشَهَوَاتِهِ عَنْ تَدْبِيرِ الْمُلْكِ فَأَرْسَلَ حِينَئِذٍ بَكْجُورُ إِلَى الْعَزِيزِ بِاللَّهِ، صَاحِبِ مِصْرَ، يُطْمِعُهُ فِي حَلَبَ، وَيَقُولُ لَهُ إِنَّهَا دِهْلِيزُ الْعِرَاقِ، وَمَتَى أُخِذَتْ كَانَ مَا بَعْدَهَا أَسْهَلَ مِنْهَا، وَيَطْلُبُ الْإِنْجَادَ بِالْعَسَاكِرِ. فَأَجَابَهُ الْعَزِيزُ إِلَى ذَلِكَ وَأَرْسَلَ إِلَى نَزَّالٍ، وَالِي طَرَابُلُسَ، وَإِلَى وُلَاةِ غَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ يَأْمُرُهُمْ بِتَجْهِيزِ الْعَسَاكِرِ مَعَ نَزَّالٍ إِلَى بَكْجُورَ، وَالتَّصَرُّفِ عَلَى مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ قِتَالِ سَعْدِ الدَّوْلَةِ وَقَصْدِ بِلَادِهِ. وَكَتَبَ عِيسَى بْنُ نَسْطُورَسَ النَّصْرَانِيُّ، وَزِيرُ الْعَزِيزِ، إِلَى نَزَّالٍ يَأْمُرُهُ بِمُدَافَعَةِ بَكْجُورَ، وَإِطْمَاعِهِ فِي الْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَإِذَا تَوَرَّطَ فِي قَصْدِ سَعْدِ الدَّوْلَةِ تَخَلَّى عَنْهُ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي فِعْلِ عِيسَى هَذَا بِبَكْجُورَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَكْجُورَ عَدَاوَةٌ مُسْتَحْكَمَةٌ، وَوَلِيَ الْوِزَارَةَ بَعْدَ وَفَاةِ ابْنِ كِلِّسٍ، فَكَتَبَ إِلَى نَزَّالٍ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَلَمَّا وَصَلَ أَمْرُ الْعَزِيزِ إِلَى نَزَّالٍ بِإِنْجَادِ بَكْجُورَ كَتَبَ إِلَيْهِ يُعَرِّفُهُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ نَجْدَتِهِ بِنَفْسِهِ وَبِالْعَسَاكِرِ مَعَهُ، وَقَالَ لَهُ بَكْجُورُ: مَسِيرُكَ عَنِ الرَّقَّةِ يَوْمَ كَذَا، وَمَسِيرِي أَنَا عَنْ طَرَابُلُسَ يَوْمَ كَذَا، وَيَكُونُ اجْتِمَاعُنَا عَلَى حَلَبَ يَوْمَ كَذَا وَتَابَعَ رُسُلَهُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَسَارَ مُغْتَرًّا بِقَوْلِهِ إِلَى بَالِسَ، فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ، فَحَصَرَهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ فَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا فَسَارَ عَنْهَا. وَبَلَغَ الْخَبَرُ بِمَسِيرِ بَكْجُورَ إِلَى سَعْدِ الدَّوْلَةِ، فَسَارَ عَنْ حَلَبَ وَمَعَهُ لُؤْلُؤٌ الْكَبِيرُ، مَوْلَى أَبِيهِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، وَكَتَبَ إِلَى بَكْجُورَ يَسْتَمِيلُهُ وَيَدْعُوهُ إِلَى الْمُوَادَعَةِ، وَرِعَايَةِ حَقِّ الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَيَبْذُلُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ مِنَ الرَّقَّةِ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ.

وَكَانَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ قَدْ كَاتَبَ الْوَالِيَ بِأَنْطَاكِيَةَ لِمَلِكِ الرُّومِ يَسْتَنْجِدُهُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيرًا مِنَ الرُّومِ، وَكَاتَبَ أَيْضًا مَنْ مَعَ بَكْجُورَ مِنَ الْعَرَبِ يُرَغِّبُهُمْ فِي الْإِقْطَاعِ، وَالْعَطَاءِ الْكَثِيرِ، وَالْعَفْوِ عَنْ مُسَاعَدَتِهِمْ بَكْجُورَ، فَمَالُوا إِلَيْهِ، وَوَعَدُوهُ الْهَزِيمَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا الْتَقَى الْعَسْكَرَانِ اقْتَتَلُوا، (وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ) ، فَلَمَّا اخْتَلَطَ النَّاسُ فِي الْحَرْبِ وَشُغِلَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ عَطَفَ الْعَرَبُ عَلَى سَوَادِ بَكْجُورَ فَنَهَبُوهُ، وَاسْتَأْمَنُوا إِلَى سَعْدِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا رَأَى بَكْجُورُ ذَلِكَ اخْتَارَ مِنْ شُجْعَانِ أَصْحَابِهِ أَرْبَعَمِائَةِ رَجُلٍ، وَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَقْصِدَ مَوْقِفَ سَعْدِ الدَّوْلَةِ وَيُلْقِيَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَإِمَّا لَهُ وَإِمَّا عَلَيْهِ، فَهَرَبَ وَاحِدٌ مِمَّنْ حَضَرَ الْحَالَ إِلَى لُؤْلُؤٍ الْكَبِيرِ وَعَرَّفَهُ ذَلِكَ، فَطَلَبَ لُؤْلُؤٌ مِنْ سَعْدِ الدَّوْلَةِ أَنْ يَتَحَرَّكَ مِنْ مَوْقِفِهِ وَيَقِفَ مَكَانَهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ امْتِنَاعٍ. فَحَمَلَ بَكْجُورُ وَمَنْ مَعَهُ، فَوَصَلُوا إِلَى مَوْقِفِ لُؤْلُؤٍ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ عَجِبَ النَّاسُ مِنْهُ وَاسْتَعْظَمُوهُ كُلُّهُمْ، فَلَمَّا رَأَى لُؤْلُؤًا أَلْقَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَظُنُّهُ سَعْدَ الدَّوْلَةِ، فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، فَظَهَرَ حِينَئِذٍ سَعْدُ الدَّوْلَةِ وَعَادَ إِلَى مَوْقِفِهِ، فَفَرِحَ بِهِ أَصْحَابُهُ وَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَأَحَاطُوا بِبَكْجُورَ وَصَدَقُوهُ الْقِتَالَ فَمَضَى مُنْهَزِمًا هُوَ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ، وَتَفَرَّقُوا، وَبَقِيَ مِنْهُمْ مَعَهُ سَبْعَةُ أَنْفُسٍ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ فِي الْبَاقِينَ. وَلَمَّا طَالَ الشَّوْطُ بِبَكْجُورَ أَلْقَى سِلَاحَهُ وَسَارَ، فَوَقَفَ فَرَسُهُ، فَنَزَلَ عَنْهُ وَسَارَ رَاجِلًا، فَلَحِقَهُ نَفَرٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَخَذُوا مَا عَلَيْهِ، وَقَصَدَ بَعْضَ الْعَرَبِ فَنَزَلَ عَلَيْهِ وَعَرَّفَهُ نَفْسَهُ، وَضَمِنَ لَهُ حِمْلَ بَعِيرٍ ذَهَبًا لِيُوَصِّلَهُ إِلَى الرَّقَّةِ، فَلَمْ يُصَدِّقْهُ لِبُخْلِهِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ، فَتَرَكَهُ فِي بَيْتِهِ وَتَوَجَّهَ إِلَى سَعْدِ الدَّوْلَةِ (فَعَرَّفَهُ أَنَّ بَكْجُورَ عِنْدَهُ، فَحَكَّمَهُ سَعْدُ الدَّوْلَةِ) فِي مَطَالِبِهِ، فَطَلَبَ مِائَتَيْ فَدَّانٍ مِلْكًا، وَمِائَةَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَمِائَةَ جَمَلٍ تَحْمِلُ لَهُ حِنْطَةً، وَخَمْسِينَ قِطْعَةَ ثِيَابٍ، فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ أَجْمَعَ وَزِيَادَةً وَسَيَّرَ مَعَهُ سَرِيَّةً، فَتَسَلَّمُوا بَكْجُورَ وَأَحْضَرُوهُ عِنْدَ سَعْدِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا رَآهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ، وَلَقِيَ عَاقِبَةَ بَغْيِهِ وَكُفْرِهِ إِحْسَانَ مَوْلَاهُ. فَلَمَّا قَتَلَهُ سَعْدُ الدَّوْلَةِ سَارَ إِلَى الرَّقَّةِ فَنَازَلَهَا، وَبِهَا سَلَامَةُ الرَّشِيقِيُّ، وَمَعَهُ أَوْلَادُ بَكْجُورَ (وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْمَغْرِبِيُّ وَزِيرُ بَكْجُورَ، فَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ بِأَمَانٍ

وَعُهُودٍ أَكَّدُوهَا وَأَخَذُوهَا عَلَيْهِ لِأَوْلَادِ بَكْجُورَ وَأَمْوَالِهِمْ، وَلِلْوَزِيرِ الْمَغْرِبِيِّ، وَلِسَلَامَةَ الرَّشِيقِيِّ، وَلِأَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا خَرَجَ أَوْلَادُ بَكْجُورَ) بِأَمْوَالِهِمْ رَأَى سَعْدُ الدَّوْلَةِ مَا مَعَهُمْ، فَاسْتَعْظَمَهُ وَاسْتَكْثَرَهُ. وَكَانَ عِنْدَهُ الْقَاضِي ابْنُ أَبِي الْحِصْنِ، فَقَالَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ بَكْجُورَ يَمْلِكُ هَذَا جَمِيعَهُ، فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: لِمَ لَا تَأْخُذُهُ؟ فَهُوَ لَكَ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ وَلَا حِنْثَ. فَلَمَّا سَمِعَ هَذَا أَخَذَ الْمَالَ جَمِيعَهُ وَقَبَضَ عَلَيْهِمْ، وَهَرَبَ الْوَزِيرُ الْمَغْرِبِيُّ إِلَى مَشْهَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَتَبَ أَوْلَادُ بَكْجُورَ إِلَى الْعَزِيزِ يَسْأَلُونَهُ الشَّفَاعَةَ فِيهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يُشَفِّعُ فِيهِمْ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ إِلَى مِصْرَ وَيَتَهَدَّدُهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ. فَأَهَانَ الرَّسُولَ وَقَالَ لَهُ: قُلْ لِصَاحِبِكَ أَنَا سَائِرٌ إِلَيْكَ. وَسَيَّرَ مُقَدَّمَتَهُ إِلَى حِمْصَ لِيَلْحَقَهُمْ. ذِكْرُ وَفَاةِ سَعْدِ الدَّوْلَةِبْنِ حَمْدَانَ فَلَمَّا بَرَزَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ لِيَسِيرَ إِلَى دِمَشْقَ لَحِقَهُ قَوْلَنْجُ، فَعَادَ إِلَى حَلَبَ لِيَتَدَاوَى، فَزَالَ مَا بِهِ وَعُوفِيَ، وَعَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، وَحَضَرَ عِنْدَ إِحْدَى سَرَارِيهِ فَوَاقَعَهَا فَسَقَطَ عَنْهَا وَقَدْ فُلِجَ وَبَطَلَ نِصْفُهُ، فَاسْتَدْعَى الطَّبِيبَ، فَقَالَ لَهُ: أَعْطِنِي يَدَكَ لِآخُذَ مَجَسَّكَ فَأَعْطَاهُ الْيُسْرَى، فَقَالَ: أَعْطِنِي الْيَمِينَ فَقَالَ: لَا تُرِكَتْ لِيَ الْيَمِينُ يَمِينًا، يَعْنِي نَكْثَهُ بِأَوْلَادِ بَكْجُورَ هُوَ الَّذِي أَهْلَكَهُ، (وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ) ، وَنَدِمَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ تَنْفَعْهُ النَّدَامَةُ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَمَاتَ بَعْدَ أَنْ عَهِدَ إِلَى وَلَدِهِ أَبِي الْفَضَائِلِ، وَوَصَّى إِلَى لُؤْلُؤٍ بِهِ وَبِسَائِرِ أَهْلِهِ.

فَلَمَّا تُوُفِّيَ قَامَ أَبُو الْفَضَائِلِ، وَأَخَذَ لَهُ لُؤْلُؤٌ الْعَهْدَ عَلَى الْأَجْنَادِ، وَتَرَاجَعَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَى حَلَبَ. وَكَانَ الْوَزِيرُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَغْرِبِيُّ قَدْ سَارَ مِنْ مَشْهَدِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى الْعَزِيزِ بِمِصْرَ، وَأَطْمَعَهُ فِي حَلَبَ، فَسَيَّرَ جَيْشًا وَعَلَيْهِمْ مَنْجُوتِكِينُ أَحَدُ أُمَرَائِهِ (إِلَى حَلَبَ) ، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَحَصَرَهَا، وَبِهَا أَبُو الْفَضَائِلِ وَلُؤْلُؤٌ، فَكَتَبَا إِلَى بَسِيلَ مَلِكِ الرُّومِ يَسْتَنْجِدَانِهِ، وَهُوَ يُقَاتِلُ الْبُلْغَارَ، فَأَرْسَلَ بَسِيلُ إِلَى نَائِبِهِ بِأَنْطَاكِيَةَ يَأْمُرُهُ بِإِنْجَادِ أَبِي الْفَضَائِلِ، فَسَارَ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا، حَتَّى نَزَلَ عَلَى الْجِسْرِ الْجَدِيدِ بِالْعَاصِي، فَلَمَّا سَمِعَ مَنْجُوتِكِينُ الْخَبَرَ سَارَ إِلَى الرُّومِ لِيَلْقَاهُمْ قَبْلَ اجْتِمَاعِهِمْ بِأَبِي الْفَضَائِلِ، وَعَبَرَ إِلَيْهِمُ الْعَاصِيَ، وَأَوْقَعُوا بِالرُّومِ فَهَزَمُوهُمْ وَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ. وَسَارَ مَنْجُوتِكِينُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، فَنَهَبَ بَلَدَهَا وَقُرَاهَا وَأَحْرَقَهَا، وَأَنْفَذَ أَبُو الْفَضَائِلِ إِلَى بَلَدِ حَلَبَ، فَنَقَلَ مَا فِيهِ مِنَ الْغِلَالِ وَأَحْرَقَ الْبَاقِيَ إِضْرَارًا بِعَسَاكِرِ مِصْرَ، وَعَادَ مَنْجُوتِكِينُ إِلَى حَلَبَ فَحَصَرَهَا، فَأَرْسَلَ لُؤْلُؤٌ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الْمَغْرِبِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَبَذَلَ لَهُمْ مَالًا لِيَرُدَّا مَنْجُوتِكِينَ عَنْهُمْ، هَذِهِ السَّنَةَ، بِعِلَّةِ تَعَذُّرِ الْأَقْوَاتِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَكَانَ مَنْجُوتِكِينُ قَدْ ضَجِرَ مِنَ الْحَرْبِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ. وَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْعَزِيزِ غَضِبَ وَكَتَبَ بِعَوْدِ الْعَسْكَرِ إِلَى حَلَبَ، وَإِبْعَادِ الْمَغْرِبِيِّ، وَأَنْفَذَ الْأَقْوَاتَ مِنْ مِصْرَ فِي الْبَحْرِ إِلَى طَرَابُلُسَ، وَمِنْهَا إِلَى الْعَسْكَرِ، فَنَازَلَ الْعَسْكَرُ حَلَبَ، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، فَقَلَّتِ الْأَقْوَاتُ بِحَلَبَ. وَعَادَ [إِلَى] مُرَاسَلَةِ مَلِكِ الرُّومِ وَالِاعْتِضَادِ بِهِ، وَقَالَ لَهُ: مَتَى أُخِذَتْ حَلَبُ أُخِذَتْ أَنْطَاكِيَةُ وَعَظُمَ عَلَيْكَ الْخَطْبُ. وَكَانَ قَدْ تَوَسَّطَ بِلَادَ الْبُلْغَارِ، فَعَادَ وَجَدَّ فِي السَّيْرِ، وَكَانَ الزَّمَانُ رَبِيعًا، وَعَسَكَرُ مِصْرَ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى مَنْجُوتِكِينَ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، وَأَتَتْهُ جَوَاسِيسُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَأَخْرَبَ مَا كَانَ بَنَاهُ مِنْ سُوقٍ وَحَمَّامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَسَارَ

كَالْمُنْهَزِمِ عَنْ حَلَبَ، وَوَصَلَ مَلِكُ الرُّومِ فَنَزَلَ عَلَى بَابِ حَلَبَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو الْفَضَائِلِ وَلُؤْلُؤٌ، وَعَادَ إِلَى حَلَبَ، وَرَحَلَ بَسِيلُ إِلَى الشَّامِ، فَفَتَحَ حِمْصَ وَشَيْزَرَ وَنَهَبَهُمَا، وَسَارَ إِلَى طَرَابُلُسَ فَنَازَلَهَا، فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا أَيِسَ مِنْهَا عَادَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ. وَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْعَزِيزِ عَظُمَ عَلَيْهِ، وَنَادَى فِي النَّاسِ بِالنَّفِيرِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَبَرَزَ مِنَ الْقَاهِرَةِ، وَحَدَثَ بِهِ أَمْرَاضٌ مَنَعَتْهُ، وَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْمَنْصُورُ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، نَائِبَهُ فِي الْبِلَادِ يُوسُفَ، وَاسْتَعْمَلَ بَعْدَهُ (عَلَى الْبِلَادِ) أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي الْعَرَبِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَائِدُ جَوْهَرٌ، بَعْدَ عَزْلِهِ، وَجَوْهَرٌ هَذَا هُوَ الَّذِي فَتَحَ مِصْرَ لِلْمُعِزِّ الْعَلَوِيِّ. وَفِيهَا قَبَضَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي نَصْرٍ سَابُورَ بِالْأَهْوَازِ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا الْقَاسِمِ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ يُوسُفَ. (وَفِيهَا أَيْضًا قَبَضَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ) عَلَى أَبِي نَصْرٍ خُوَاشَاذَهْ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، بَعْدَ عَوْدِهِ مِنْ خُوزِسْتَانَ، وَكَانَ سَبَبُ قَبْضِهِمَا أَنَّ أَبَا نَصْرٍ كَانَ شَحِيحًا، فَلَمْ يُوَاصِلِ ابْنَ الْمُعَلِّمِ بِخَدَمِهِ وَهَدَايَاهُ، فَشَرَعَ فِي الْقَبْضِ عَلَيْهِ.

وَفِيهَا هَرَبَ فُولَاذٌ زَمَانْدَرُ مِنْ عِنْدِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ إِلَى الرَّيِّ، وَكَانَ سَبَبُ هَرَبِهِ أَنَّهُ تَحَكَّمَ عَلَى صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ تَحَكُّمًا عَظِيمًا أَنِفَ مِنْهُ، فَأَرَادَ الْقَبْضَ (عَلَيْهِ، فَعَلِمَ) بِهِ فَهَرَبَ مِنْهُ. وَفِيهَا كَتَبَ أَهْلُ الرُّحْبَةِ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ يَطْلُبُونَ إِنْفَاذَ مَنْ يُسَلِّمُونَ إِلَيْهِ الرُّحْبَةَ، فَأَنْفَذَ خُمَارْتِكِينَ الْحَفْصِيَّ إِلَى الرُّحْبَةِ فَتَسَلَّمَهَا، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى الرَّقَّةِ، وَبِهَا بَدْرٌ غُلَامُ سَعْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا وَقَعَاتٌ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا، وَبَلَغَهُ اخْتِلَافٌ بِبَغْدَاذَ، فَعَادَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعَرَبِ، فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا، ثُمَّ افْتَدَى مِنْهُمْ بِمَالٍ كَثِيرٍ. وَفِيهَا حَلَفَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ لِلْقَادِرِ بِاللَّهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْقِيَامِ بِشُرُوطِ الْبَيْعَةِ، وَحَلَفَ لَهُ الْقَادِرُ بِالْوَفَاءِ وَالْخُلُوصِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَلَّدَهُ مَا وَرَاءَ بَابِهِ. وَفِيهَا كَثُرَتِ الْفِتَنُ بَيْنَ الْعَامَّةِ بِبَغْدَاذَ، وَزَالَتْ هَيْبَةُ السَّلْطَنَةِ، وَتَكَرَّرَ الْحَرِيقُ فِي الْمَحَالِّ، وَاسْتَمَرَّ الْفَسَادُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَعْرُوفٍ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ فَاضِلًا، عَفِيفًا، نَزِيهًا، وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمِ بْنِ زَاذَانَ أَبُو بَكْرٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُقْرِي الْأَصْبَهَانِيُّ، وَلَهُ سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَهُوَ رَاوِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ عَنْهُ.

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 382 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ عَوْدِ الدَّيْلَمِ إِلَى الْمَوْصِلِ كَانَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ قَدْ أَنْفَذَ أَبَا جَعْفَرٍ الْحَجَّاجَ بْنَ هُرْمُزَ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَمَلَكَهَا آخِرَ سَنَةٍ إِحْدَى وَثَمَانِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، فَاجْتَمَعَتْ عُقَيْلٌ، وَأَمِيرُهُمْ أَبُو الذَّوَّادِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَلَى حَرْبِهِ، فَجَرَى بَيْنَهُمْ عِدَّةُ وَقَائِعَ ظَهَرَ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ فِيهَا بِأْسٌ شَدِيدٌ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَضَعُ لَهُ كُرْسِيًّا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَيَجْلِسُ عَلَيْهِ، فَهَابَهُ الْعَرَبُ، وَاسْتَمَدَّ مِنْ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ عَسْكَرًا، فَأَمَدَّهُ بِالْوَزِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، وَكَانَ مَسِيرُهُ أَوَّلَ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْعَسْكَرِ كَتَبَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَعَلِمَ أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّهُ إِنْ قَبَضَ عَلَيْهِ اخْتَلَفَ الْعَسْكَرُ، وَظَفِرَ بِهِ الْعَرَبُ، فَتَرَاجَعَ فِي أَمْرِهِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الْمُعَلِّمِ كَانَ عَدُوًّا لَهُ، فَسَعَى بِهِ عِنْدَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَأَمَرَ بِقَبْضِهِ، كَانَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ أُذُنًا يَسْمَعُ مَا يُقَالُ لَهُ وَيَفْعَلُ بِهِ، وَعَلِمَ الْوَزِيرُ الْخَبَرَ، فَشَرَعَ فِي صُلْحِ أَبِي الذُّوَّادِ وَأَخَذَ رَهَائِنَهُ وَالْعَوْدَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِاللَّحَاقِ بِأَبِي الذَّوَّادِ، فَلَمْ يَفْعَلْ أَنَفَةً، وَحُسْنَ عَهْدٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ رَأَى ابْنَ الْمُعَلِّمِ قَدْ قُبِضَ وَقُتِلَ وَكُفِيَ شَرَّهُ. وَلَمَّا أَتَاهُ خَبَرُ قَبْضِ ابْنِ الْمُعَلِّمِ وَقَتْلِهِ ظَهَرَ عَلَيْهِ الِانْكِسَارُ، فَقَالَ لَهُ خَوَاصُّهُ: مَا هَذَا الْهَمُّ وَقَدْ كُفِيتَ شَرَّ عَدُوِّكَ فَقَالَ: إِنَّ مَلِكًا قَرَّبَ رَجُلًا كَمَا قَرَّبَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ ابْنَ الْمُعَلِّمِ، ثُمَّ فَعَلَ بِهِ هَذَا، لَحَقِيقٌ بِأَنْ تُخَافَ مُلَابَسَتُهُ.

وَكَانَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ قَدْ أَرْسَلَ الشَّرِيفَ أَبَا أَحْمَدَ الْمُوسَوِيَّ رَسُولًا إِلَى أَبِي الذَّوَّادِ، فَأَسَرَهُ الْعَرَبُ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُ، فَوَرَدَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَانْحَدَرَ إِلَى بَغْدَاذَ. ذِكْرُ تَسْلِيمِ الطَّائِعِ إِلَى الْقَادِرِ وَمَا فَعَلَهُ مَعَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، سَلَّمَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ الطَّائِعَ لِلَّهِ إِلَى الْقَادِرِ بِاللَّهِ، فَأَنْزَلَهُ حُجْرَةً مِنْ خَاصِّ حُجَرِهِ، وَوَكَّلَ بِهِ مَنْ ثِقَاتِ خَدَمِهِ مَنْ يَقُومُ بِخِدْمَتِهِ، وَأَحْسَنَ ضِيَافَتَهُ، وَكَانَ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ فِي الْخِدْمَةِ كَمَا كَانَ أَيَّامَ الْخِلَافَةِ، فَيُؤْمَرُ لَهُ بِذَلِكَ. حُكِيَ عَنْهُ أَنَّ الْقَادِرَ بِاللَّهِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ طِيبًا فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَتَطَيَّبُ أَبُو الْعَبَّاسِ؟ يَعْنِي الْقَادِرَ، فَقَالُوا: نَعَمْ فَقَالَ: قُولُوا لَهُ عَنِّي: فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ كُنْدُوجٌ فِيهِ مِمَّا كُنْتُ أَسْتَعْمِلُهُ، فَلْيُرْسِلْ إِلَيَّ بَعْضَهُ وَيَأْخُذَ الْبَاقِيَ لِنَفْسِهِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ. وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَوْمًا الْقَادِرُ بِاللَّهِ عَدَسِيَّةً، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: عَدَسٌ وَسِلْقٌ، فَقَالَ: أَوَ قَدْ أَكَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ مِنْ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: قُولُوا لَهُ عَنِّي: لَمَّا أَرَدْتَ أَنْ تَأْكُلَ عَدَسِيَّةً لِمَ اخْتَفَيْتَ، فَمَا كَانَتِ الْعَدَسِيَّةُ تُعْوِزُكَ، وَلِمَ تَقَلَّدْتَ هَذَا الْأَمْرَ؟ فَأَمَرَ حِينَئِذٍ الْقَادِرُ أَنْ يُفْرَدَ لَهُ جَارِيَةٌ مِنْ طَبَّاخَاتِهِ تَطْبُخُ لَهُ مَا يَلْتَمِسُهُ كُلَّ يَوْمٍ، فَأَقَامَ عَلَى هَذَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى أَبَى الْحَسَنِ بْنِ الْمُعَلِّمِ، وَكَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَخَدَمَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، حَتَّى الْوُزَرَاءُ، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ مَعَ النَّاسِ، فَشَغَبَ الْجُنْدُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَشَكَوْا مِنْهُ، وَطَلَبُوا مِنْهُ تَسْلِيمَهُ إِلَيْهِمْ، فَرَاجَعَهُمْ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ، وَوَعَدَهُمْ كَفَّ يَدِهِ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ،

فَظَنَّ أَنَّ الْجُنْدَ يَرْجِعُونَ، فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ، فَسَقَوْهُ السُّمَّ مَرَّتَيْنِ، فَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ شَيْئًا، فَخَنَقُوهُ وَدَفَنُوهُ. وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ، تَجَدَّدَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَغَيْرِهِمْ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ، فَرَكِبَ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَاجِبُ، فَقَتَلَ وَصَلَبَ، فَسَكَنَ الْبَلَدَ. وَفِيهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَاذَ، فَبِيعَ رِطْلُ الْخُبْزِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. وَفِيهَا قَبَضَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْمَذْكُورِ، وَكَانَ سَبَبُ قَبْضِهِ أَنَّ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ اتَّهَمَهُ بِمُكَاتَبَةِ الْجُنْدِ فِي أَمْرِ ابْنِ الْمُعَلِّمِ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا نَصْرِ بْنَ سَابُورَ، وَأَبَا مَنْصُورِ بْنَ صَالِحَانَ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوِزَارَةِ. وَفِيهَا قَبَضَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي الْقَاسِمِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَسَنِ بِشِيرَازَ، وَكَانَ غَالِبًا عَلَى أَمْرِهِ، وَبَقِيَ مَحْبُوسًا إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، فَأَخْرَجَهُ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ وَاسْتَوْزَرَهُ، وَكَانَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مُدَّةَ حَبْسِهِ أَبُو الْقَاسِمِ الْمُدْلِجِيُّ. وَفِيهَا نَزَلَ مَلِكُ الرُّومِ بِأَرْمِينِيَّةَ، وَحَصَرَ خِلَاطَ، وَمَلَازْكُرْدَ، وَأَرْجِيشَ، فَضَعُفَتْ نُفُوسُ النَّاسِ عَنْهُ، ثُمَّ هَادَنَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ مَرْوَانَ مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ، وَعَادَ مُلْكُ الرُّومِ. وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ، وُلِدَ الْأَمِيرُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ الْقَادِرِ بِاللَّهِ. وَفِيهَا سَارَ بَغْرَاخَانُ أَيْلَكُ، مَلِكُ التُّرْكِ، بِعَسَاكِرِهِ إِلَى بُخَارَى، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ نُوحُ بْنُ مَنْصُورٍ جَيْشًا كَثِيرًا وَلَقِيَهُمُ أَيْلَكُ وَهَزَمَهُمْ، فَعَادُوا إِلَى بُخَارَى مَفْلُولِينَ، وَهُوَ

فِي أَثَرِهِمْ، فَخَرَجَ نُوحٌ بِنَفْسِهِ وَسَائِرِ عَسْكَرِهِ، وَلَقِيَهُ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَأَجْلَتِ الْمَعْرَكَةُ عَنْ هَزِيمَةِ أَيْلَكَ، فَعَادَ مُنْهَزِمًا إِلَى بَلَاسَاغُونَ، وَهِيَ كُرْسِيُّ مَمْلَكَتِهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ حَيَّوَيْهِ الْخَزَّازُ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ.

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 383 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ خُرُوجِ أَوْلَادِ بَخْتِيَارَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ أَوْلَادُ بَخْتِيَارَ مِنْ مَحْبِسِهِمْ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى الْقَلْعَةِ الَّتِي كَانُوا مُعْتَقَلِينَ بِهَا. وَكَانَ سَبَبُ حَبْسِهِمْ أَنَّ شَرَفَ الدَّوْلَةِ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، بَعْدَ وَالِدِهِ، وَأَطْلَقَهُمْ، وَأَنْزَلَهُمْ بِشِيرَازَ، وَأَقْطَعَهُمْ، فَلَمَّا مَاتَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ حُبِسُوا فِي قَلْعَةٍ بِبِلَادِ فَارِسَ، فَاسْتَمَالُوا مُسْتَحْفِظَهَا، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الدَّيْلَمِ، فَأَفْرَجُوا عَنْهُمْ، وَأَنْفَذُوا إِلَى أَهْلِ تِلْكَ النَّوَاحِي، وَأَكْثَرُهُمْ رَجَّالَةٌ، فَجَمَعُوهُمْ تَحْتَ الْقَلْعَةِ. وَعَرَفَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ الْحَالَ، فَسَيَّرَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ فِي عَسْكَرٍ، فَلَمَّا قَارَبَهُمْ تَفَرَّقَ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ الرَّجَّالَةِ، وَتَحَصَّنَ بَنُو بَخْتِيَارَ، وَكَانُوا سِتَّةً، وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الدَّيْلَمِ بِالْقَلْعَةِ، وَحَصَرَهُمْ أَبُو عَلِيٍّ، وَرَاسَلَ أَحَدَ وُجُوهِ الدَّيْلَمِ وَأَطْمَعَهُ فِي الْإِحْسَانِ، فَأَصْعَدَهُمْ إِلَى الْقَلْعَةِ سِرًّا، فَمَلَكُوهَا، وَأَخَذُوا أَوْلَادَ بَخْتِيَارَ أُسَرَاءَ، فَأَمَرَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ بِقَتْلِ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ وَحَبْسِ الْبَاقِينَ، فَفُعِلَ ذَلِكَ بِهِمْ. ذِكْرُ مُلْكِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ خُوزِسْتَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ خُوزِسْتَانَ. وَكَانَ سَبَبُ نَقْضِ الصُّلْحِ أَنَّ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ سَيَّرَ أَبَا الْعَلَاءِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْفَضْلِ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِقَصْدِ بِلَادِ فَارِسَ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ يُسَيِّرُ إِلَيْهِ

الْعَسَاكِرَ مُتَفَرِّقِينَ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ سَارَ بِهِمْ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ بَغْتَةً، فَلَا يَشْعُرُ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ إِلَّا وَهُمْ مَعَهُ فِي بِلَادِهِ. فَسَارَ أَبُو الْعَلَاءِ، وَلَمْ يَتَهَيَّأْ لِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ إِمْدَادُهُ بِالْعَسَاكِرِ، وَظَهَرَ الْخَبَرُ، فَجَهَّزَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ عَسْكَرَهُ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى خُوزِسْتَانَ، وَكَتَبَ أَبُو الْعَلَاءِ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بِالْخَبَرِ وَبِطَلَبِ إِمْدَادِهِ بِالْعَسَاكِرِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ عَسْكَرًا كَثِيرًا، وَوَصَلَتْ عَسَاكِرُ فَارِسَ، فَلَقِيَهُمْ أَبُو الْعَلَاءِ، فَانْهَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَأُخِذَ أَسِيرًا وَحُمِلَ إِلَى صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، فَأُلْبِسَ ثِيَابًا مُصْبَغَةً وَطِيفَ بِهِ، وَسَأَلَتْ فِيهِ وَالِدَةُ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، فَلَمْ يَقْتُلْهُ، وَاعْتَقَلَهُ. وَلَمَّا سَمِعَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بِذَلِكَ أَزْعَجَهُ وَأَقْلَقَهُ، وَكَانَتْ خِزَانَتُهُ قَدْ خَلَتْ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَأَرْسَلَ وَزِيرَهُ أَبَا نَصْرِ بْنَ سَابُورَ إِلَى وَاسِطَ لِيُحَصِّلَ مَا أَمْكَنَهُ، وَأَعْطَاهُ رُهُونًا مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْلَاقِ النَّفِيسَةِ لِيَقْتَرِضَ عَلَيْهَا مِنْ مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ، صَاحِبِ الْبَطِيحَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى وَاسِطَ تَقَرَّبَ مِنْهَا إِلَى مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ، وَتَرَكَ مَا مَعَهُ مِنَ الرُّهُونِ بِحَالِهِ، وَأَرْسَلَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ وَرَهَنَهَا وَاقْتَرَضَ عَلَيْهَا. ذِكْرُ مُلْكِ التُّرْكِ بُخَارَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ مَدِينَةَ بُخَارَى شِهَابُ الدَّوْلَةِ هَارُونُ بْنُ سُلَيْمَانَ أيْلَكَ الْمَعْرُوفُ بِبَغْرَاخَانَ التُّرْكِيِّ، وَكَانَ لَهُ كَاشْغَرُ وَبَلَاسَاغُونُ إِلَى حَدِّ الصِّينِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ سِيمْجُورَ لَمَّا مَاتَ وَوَلِيَ ابْنُهُ أَبُو عَلِيٍّ خُرَاسَانَ بَعْدَهُ، كَاتَبَ الْأَمِيرَ الرَّضِيَّ نُوحَ بْنَ مَنْصُورٍ يَطْلُبُ أَنْ يُقِرَّهُ عَلَى مَا كَانَ أَبُوهُ يَتَوَلَّاهُ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ الْخِلَعُ، وَهُوَ لَا يَشُكُّ أَنَّهَا لَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الرَّسُولُ طَرِيقَ هَرَاةَ عَدَلَ إِلَيْهَا، وَبِهَا فَائِقٌ، فَأَوْصَلَ الْخِلَعَ وَالْعَهْدَ بِخُرَاسَانَ إِلَيْهِ، فَعَلِمَ أَبُو عَلِيٍّ أَنَّهُمْ مَكَرُوا بِهِ، وَأَنَّ هَذَا دَلِيلُ سُوءٍ يُرِيدُونَهُ بِهِ، فَلَبِسَ فَائِقٌ الْخِلَعَ وَسَارَ عَنْ هَرَاةَ نَحْوَ أَبِي عَلِيٍّ فَبَلَّغَهُ الْخَبَرَ، فَسَارَ جَرِيدَةً فِي نُخْبَةِ أَصْحَابِهِ، وَطَوَى الْمَنَازِلَ حَتَّى سَبَقَ خَبَرَهُ، فَأَوْقَعَ بِفَائِقٍ فِيمَا بَيْنَ بُوشَنْجَ وَهَرَاةَ، فَهَزَمَ فَائِقًا وَأَصْحَابَهُ، وَقَصَدُوا مَرْوَ الرُّوذِ.

وَكَتَبَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ يُجَدِّدُ طَلَبَ وِلَايَةِ خُرَاسَانَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَجَمَعَ لَهُ وِلَايَةَ خُرَاسَانَ جَمِيعَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ هَرَاةُ لِفَائِقٍ، فَعَادَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى نَيْسَابُورَ ظَافِرًا، وَجَبَى أَمْوَالَ خُرَاسَانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ نُوحٌ يَسْتَنْزِلُهُ عَنْ بَعْضِهَا لِيَصْرِفَهُ فِي أَرْزَاقِ جُنْدِهِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَفْعَلْ، وَخَافَ عَاقِبَةَ الْمَنْعِ، فَكَتَبَ إِلَى بَغْرَاخَانَ الْمَذْكُورِ يَدْعُوهُ إِلَى أَنْ يَقْصِدَ بُخَارَى وَيَمْلِكَهَا عَلَى السَّامَانِيَّةِ، وَأَطْمَعَهُ فِيهِمْ، وَاسْتَقَرَّ الْحَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنْ يَمْلِكَ بَغْرَاخَانُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ كُلِّهِ، وَيَمْلِكُ أَبُو عَلِيٍّ خُرَاسَانَ، فَطَمِعَ بَغْرَاخَانُ فِي الْبِلَادِ، وَتَجَدَّدَ لَهُ إِلَيْهَا حَرَكَةٌ. وَأَمَّا فَائِقٌ فَإِنَّهُ أَقَامَ بِمَرْوَ الرُّوذِ حَتَّى انْجَبَرَ كَسْرُهُ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَسَارَ نَحْوَ بُخَارَى مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، فَارْتَابَ الْأَمِيرُ نُوحٌ بِهِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْجُيُوشَ وَأَمَرَهُمْ بِمَنْعِهِ، فَلَمَّا لَقَوْهُ قَاتَلُوهُ، فَانْهَزَمَ فَائِقٌ وَأَصْحَابُهُ، وَعَادَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَقَصَدَ تِرْمِذَ. فَكَتَبَ الْأَمِيرُ نُوحٌ إِلَى صَاحِبِ الْجُوزَجَانِ مِنْ قَبْلِهِ، وَهُوَ أَبُو الْحَرْثِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرِيغُونِيُّ، وَأَمَرَهُ بِقَصْدِ فَائِقٍ فَجَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا وَسَارَ نَحْوَهُ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ فَائِقٌ فَهَزَمَهُمْ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ. وَكَاتَبَ أَيْضًا بَغْرَاخَانَ يُطْمِعُهُ فِي الْبِلَادِ، فَسَارَ نَحْوَ بُخَارَى وَقَصَدَ بِلَادَ السَّامَانِيَّةِ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَسَيَّرَ إِلَيْهِ نُوحٌ جَيْشًا كَثِيرًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ قَائِدًا كَبِيرًا مِنْ قُوَّادِهِ اسْمُهُ انْجُ، فَلَقِيَهُمْ بَغْرَاخَانُ، فَهَزَمَهُمْ، وَأَسَرَ انْجَ وَجَمَاعَةً مِنَ الْقُوَّادِ، فَلَمَّا ظَفِرَ بِهِمْ قَوِيَ طَمَعُهُ فِي الْبِلَادِ، وَضَعُفَ نُوحٌ وَأَصْحَابُهُ، وَكَاتَبَ الْأَمِيرُ نُوحٌ أَبَا عَلِيِّ بْنَ سِيمْجُورَ يَسْتَنْصِرُهُ، وَيَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ إِلَيْهِ بِالْعَسَاكِرِ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا لَبَّى دَعْوَتَهُ، (وَقَوِيَ طَمَعُهُ) فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَى خُرَاسَانَ. وَسَارَ بَغْرَاخَانُ نَحْوَ بُخَارَى، فَلَقِيَهُ فَائِقٌ، وَاخْتَصَّ بِهِ، وَصَارَ فِي جُمْلَتِهِ وَنَازَلُوا بُخَارَى، فَاخْتَفَى الْأَمِيرُ نُوحٌ، وَمَلَكَهَا بَغْرَاخَانُ وَنَزَلَهَا، وَخَرَجَ نُوحٌ مِنْهَا مُسْتَخْفِيًا فَعَبَرَ النَّهْرَ إِلَى آمُلِ الشَّطِّ، وَأَقَامَ بِهَا وَلَحِقَ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَأَقَامُوا هُنَاكَ.

وَتَابَعَ نُوحٌ كُتُبَهُ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ وَرُسُلِهِ يَسْتَنْجِدُهُ وَيَخْضَعُ لَهُ، فَلَمْ يُصْغِ إِلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا فَائِقٌ فَإِنَّهُ اسْتَأْذَنَ بَغْرَاخَانَ فِي قَصْدِ بَلْخَ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَسَارَ نَحْوَهَا وَنَزَلَهَا. ذِكْرُ عَوْدِ نُوحٍ إِلَى بُخَارَى وَمَوْتِ بَغْرَاخَانَ لَمَّا نَزَلَ بَغْرَاخَانُ بُخَارَى وَأَقَامَ بِهَا اسْتَوْخَمَهَا، فَلَحِقَهُ مَرَضٌ ثَقِيلٌ، فَانْتَقَلَ عَنْهَا نَحْوَ بِلَادِ التُّرْكِ، فَلَمَّا فَارَقَهَا ثَارَ أَهْلُهَا بِسَاقَةِ عَسْكَرٍ فَفَتَكُوا بِهِمْ وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ، وَوَافَقَهُمُ الْأَتْرَاكُ الْغُزِّيَّةُ عَلَى النَّهْبِ وَالْقَتْلِ لِعَسْكَرِ بَغْرَاخَانَ. فَلَمَّا سَارَ بَغْرَاخَانُ عَنْ بُخَارَى (أَدْرَكَهُ أَجْلُهُ فَمَاتَ، وَلَمَّا سَمِعَ الْأَمِيرُ نُوحٌ بِمَسِيرِهِ عَنْ بُخَارَى) بَادَرَ إِلَيْهَا فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَدَخَلَهَا، وَعَادَ إِلَى دَارِ مُلْكِهِ وَمُلْكِ آبَائِهِ، وَفَرِحَ أَهْلُهَا بِهِ وَتَبَاشَرُوا بِقُدُومِهِ. وَأَمَّا بَغْرَاخَانُ فَإِنَّهُ لَمَّا مَاتَ عَادَ أَصْحَابُهُ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَكَانَ دَيِّنًا، خَيِّرًا، عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، مُحِبًّا لِلْعِلْمِ وَأَهْلِ الدِّينِ، مُكْرِمًا لَهُمْ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُكْتَبَ عَنْهُ: مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَلِيَ أَمْرَ التُّرْكِ بَعْدَهُ أَيْلَكُ خَانْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَ شَغَبُ الدَّيْلَمِ عَلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَنَهَبُوا دَارَ الْوَزِيرِ أَبِي نَصْرِ بْنِ سَابُورَ، وَاخْتَفَى مِنْهُمْ، وَاسْتَعْفَى ابْنُ صَالِحَانَ مِنَ الِانْفِرَادِ بِالْوِزَارَةِ فَأُعْفِيَ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا الْقَاسِمِ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ، ثُمَّ هَرَبَ، وَعَادَ سَابُورُ إِلَى الْوِزَارَةِ بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَ الدَّيْلَمَ.

وَفِيهَا جَلَسَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ لِأَهْلِ خُرَاسَانَ، بَعْدَ عَوْدِهِمْ مِنَ الْحَجِّ، وَقَالَ لَهُمْ. فِي مَعْنَى الْخُطْبَةِ لَهُ، وَحَمَلُوا رِسَالَةً وَكُتُبًا إِلَى صَاحِبِ خُرَاسَانَ فِي الْمَعْنَى. وَفِيهَا عُقِدَ النِّكَاحُ لِلْقَادِرِ عَلَى بِنْتِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بِصَدَاقٍ مَبْلَغُهُ مِائَةُ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ الْعَقْدُ بِحَضْرَتِهِ، وَالْوَلِيُّ النَّقِيبُ أَبُو أَحْمَدَ الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى، وَالِدُ الرَّضِيِّ، وَمَاتَتْ قَبْلَ النَّقْلَةِ. وَفِيهَا كَانَ بِالْعِرَاقِ غَلَاءٌ شَدِيدٌ فَبِيعَتْ كَارَّةُ الدَّقِيقِ بِمِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا، وَكُرُّ الْحِنْطَةِ بِسِتَّةِ آلَافٍ وَسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ غِيَاثِيَّةٍ. وَفِيهَا بَنَى أَبُو نَصْرٍ سَابُورُ بْنُ أَرْدَشِيَرَ بِبَغْدَاذَ دَارًا لِلْعِلْمِ، وَوَقَفَ فِيهَا كُتُبًا كَثِيرَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْمُنْتَفِعِينَ بِهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ الْمَاسَرْجِسِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، شَيْخُ أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ بِنَيْسَابُورَ (وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْخُوَارَزْمِيُّ الشَّاعِرُ، وَأَبُو طَالِبٍ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ الْحَسَنِ الْمَأْمُونِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَوْلَادِ الْمَأْمُونِ، وَكَانَ فَاضِلًا حَسَنَ الشِّعْرِ) .

ثم دخلت سنة أربع وثمانين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 384 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ وِلَايَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ خُرَاسَانَ وَإِجْلَاءِ أَبِي عَلِيٍّ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى الْأَمِيرُ نُوحٌ مَحْمُودَ بْنَ سُبُكْتِكِينَ خُرَاسَانَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ نُوحًا لَمَّا عَادَ إِلَى بُخَارَى، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، سُقِطَ فِي يَدِ أَبِي عَلِيٍّ، وَنَدِمَ عَلَى مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ تَرْكِ مَعُونَتِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ. وَأَمَّا فَائِقٌ فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ نُوحٌ بِبُخَارَى حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمِ فِي دَوْلَتِهِ، فَسَارَ عَنْ بَلْخَ إِلَى بُخَارَى. فَلَمَّا عَلِمَ نُوحٌ بِذَلِكَ سَيَّرَ إِلَيْهِ الْجُيُوشَ لِتَرُدَّهُ (عَنْ ذَلِكَ) ، فَلَقُوهُ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ فَائِقٌ وَأَصْحَابُهُ، وَلَحِقُوا بِأَبِي عَلِيٍّ، فَفَرِحَ بِهِمْ، وَقَوِيَ جَنَانُهُ بِقُرْبِهِمْ، وَاتَّفَقُوا عَلَى مُكَاشَفَةِ الْأَمِيرِ نُوحٍ بِالْعِصْيَانِ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ كَتَبَ الْأَمِيرُ نُوحٌ إِلَى سُبُكْتِكِينَ، وَهُوَ حِينَئِذٍ بِغَزْنَةَ، يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، وَيَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ لِيُنْجِدَهُ، وَوَلَّاهُ خُرَاسَانَ. وَكَانَ سُبُكْتِكِينُ فِي هَذِهِ الْفِتَنِ مَشْغُولًا بِالْغَزْوِ، غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ، فَلَمَّا أَتَاهُ كِتَابُ نُوحٍ وَرَسُولُهُ أَجَابَهُ إِلَى مَا أَرَادَ، وَسَارَ نَحْوَهُ جَرِيدَةً، وَاجْتَمَعَ بِهِ، وَقَرَّرَا بَيْنَهُمَا مَا يَفْعَلَانِهِ، وَعَادَ سُبُكْتِكِينُ فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَحَشَدَ، فَلَمَّا بَلَغَ أَبَا عَلِيٍّ وَفَائِقًا الْخَبَرُ جَمَعَا وَرَاسَلَا فَخْرَ الدَّوْلَةِ بْنَ بُوَيْهٍ يَسْتَنْجِدَانِهِ، وَيَطْلُبَانِ مِنْهُ عَسْكَرًا، فَأَجَابَهُمَا

إِلَى ذَلِكَ وَسَيَّرَ إِلَيْهِمَا عَسْكَرًا كَثِيرًا وَكَانَ وَزِيرُهُ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ هُوَ الَّذِي قَرَّرَ الْقَاعِدَةَ فِي ذَلِكَ. وَسَارَ سُبُكْتِكِينُ مِنْ غَزْنَةَ، وَمَعَهُ وَلَدُهُ مَحْمُودٌ نَحْوَ خُرَاسَانَ وَسَارَ نُوحٌ فَاجْتَمَعَ هُوَ وَسُبُكْتِكِينُ فَقَصَدُوا أَبَا عَلِيٍّ وَفَائِقًا، فَالْتَقَوْا بِنَوَاحِي هَرَاةَ. وَاقْتَتَلُوا، فَانْحَازَ دَارُ بْنُ قَابُوسِ بْنِ وَشْمَكِيرَ مِنْ عَسْكَرِ أَبِي عَلِيٍّ إِلَى نُوحٍ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ أَبِي عَلِيٍّ، وَرَكِبَهُمْ أَصْحَابُ سُبُكْتِكِينَ يَأْسِرُونَ وَيَقْتُلُونَ وَيَغْنَمُونَ، وَعَادَ أَبُو عَلِيٍّ وَفَائِقٌ نَحْوَ نَيْسَابُورَ، وَأَقَامَ سُبُكْتِكِينُ وَنُوحٌ بِظَاهِرِ هَرَاةَ حَتَّى اسْتَرَاحُوا وَسَارُوا نَحْوَ نَيْسَابُورَ، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ أَبُو عَلِيٍّ سَارَ هُوَ وَفَائِقٌ نَحْوَ جُرْجَانَ، (وَكَتَبَا إِلَى) فَخْرِ الدَّوْلَةِ بِخَبَرِهِمَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا الْهَدَايَا وَالتُّحَفَ وَالْأَمْوَالَ وَأَنْزَلَهُمَا بِجُرْجَانَ. وَاسْتَوْلَى نُوحٌ عَلَى نَيْسَابُورَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا وَعَلَى جُيُوشِ خُرَاسَانَ مَحْمُودَ بْنَ سُبُكْتِكِينَ (وَلَقَّبَهُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ وَلَقَّبَ أَبَاهُ سُبُكْتِكِينَ) نَاصِرَ الدَّوْلَةِ، فَأَحْسَنَا السِّيرَةَ، وَعَادَ نُوحٌ إِلَى بُخَارَى وَسُبُكْتِكِينُ إِلَى هَرَاةَ، وَأَقَامَ مَحْمُودٌ بِنَيْسَابُورَ. ذِكْرُ عَوْدِ الْأَهْوَازِ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ الْأَهْوَازَ. وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّهُ أَنْفَذَ عَسْكَرًا إِلَيْهَا عُدَّتُهُمْ سَبْعُمِائَةِ رَجُلٍ وَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ طُغَانَ التُّرْكِيَّ، فَلَمَّا بَلَغُوا السُّوسَ رَحَلَ عَنْهَا أَصْحَابُ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، فَدَخَلَهَا عَسْكَرُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَانْتَشَرُوا فِي أَعْمَالِ خُوزِسْتَانَ، وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنَ التُّرْكِ، فَعَلَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى الدَّيْلَمِ، وَتَوَجَّهَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْأَهْوَازِ وَمَعَهُ عَسْكَرُ الدَّيْلَمِ وَتَمِيمٍ وَأَسَدٍ، فَلَمَّا بَلَغَ تُسْتَرَ رَحَلَ لَيْلًا لِيَكْبِسَ الْأَتْرَاكَ مِنْ عَسْكَرِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَضَلَّ الْأَدِلَّاءُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَصْبَحَ عَلَى بُعْدٍ مِنْهُمْ، وَرَأَتْهُمْ طَلَائِعُ الْأَتْرَاكِ، فَعَادُوا بِالْخَبَرِ، فَحَذَّرُوا، وَاجْتَمَعُوا، وَاصْطَفُّوا، وَجَعَلَ مُقَدَّمَهُمْ، وَاسْمُهُ طَغَانُ، كَمِينًا، فَلَمَّا الْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا خَرَجَ الْكَمِينُ

عَلَى الدَّيْلَمِ، فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ، وَانْهَزَمَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَكَانُوا أُلُوفًا كَثِيرَةً، وَاسْتَأْمَنَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفَيْ رَجُلٍ، وَغَنِمَ الْأَتْرَاكُ مِنْ أَثْقَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا. وَضَرَبَ طَغَانُ لِلْمُسْتَأْمِنَةِ خِيَمًا يَسْكُنُونَهَا، فَلَمَّا نَزَلُوا اجْتَمَعَ الْأَتْرَاكُ وَتَشَاوَرُوا وَقَالُوا: هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ عُدَّتِنَا، وَنَحْنُ نَخَافُ أَنْ يَثُورُوا بِنَا، وَاسْتَقَرَّ رَأْيُهُمْ عَلَى قَتْلِهِمْ، فَلَمْ يَشْعُرِ الدَّيْلَمُ إِلَّا وَقَدْ أُلْقِيَتِ الْخِيَامُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَعَ الْأَتْرَاكُ فِيهِمْ بِالْعَمْدِ حَتَّى أَتَوْا عَلَيْهِمْ فَقُتِلُوا كُلُّهُمْ. وَوَرَدَ الْخَبَرُ عَلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ بِوَاسِطَ، قَدِ اقْتَرَضَ مَالًا مِنْ مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ سَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَكَانَ طَغَانُ وَالْأَتْرَاكُ قَدْ مَلَكُوهَا قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهَا. وَأَمَّا صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ فَإِنَّهُ لَبِسَ السَّوَادَ وَسَارَ إِلَى شِيرَازَ فَدَخَلَهَا، فَغَيَّرَتْ وَالِدَتُهُ مَا عَلَيْهِ مِنَ السَّوَادِ، وَأَقَامَ يَتَجَهَّزُ لِلْعَوْدِ إِلَى أَخِيهِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بِخُوزِسْتَانَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُقِدَ النِّكَاحُ لِمُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ عَلَى ابْنَةِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَلِلْأَمِيرِ أَبِي مَنْصُورٍ بُوَيْهِ بْنِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ عَلَى ابْنَةِ مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ وَكَانَ الصَّدَاقُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِائَةَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَفِيهَا قَبَضَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى أَبِي نَصْرٍ خُوَاشَاذَهْ. وَفِيهَا عَادَ الْحُجَّاجُ مِنَ الثَّعْلَبِيَّةِ، وَلَمْ يَحُجَّ مِنَ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ أَحَدٌ، وَسَبَبُ عَوْدِهِمْ أَنَّ الْأُصَيْفِرَ، أَمِيرَ الْعَرَبِ، اعْتَرَضَهُمْ وَقَالَ: إِنَّ الدَّرَاهِمَ الَّتِي أَرْسَلَهَا السُّلْطَانُ عَامَ أَوَّلَ كَانَتْ نُقْرَةً مَطْلِيَّةً، وَأُرِيدُ الْعِوَضَ فَطَالَتِ الْمُخَاطَبَةُ وَالْمُرَاسَلَةُ وَضَاقَ الْوَقْتُ عَلَى الْحُجَّاجِ فَرَجَعُوا.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ النَّقِيبُ الزَّيْنَبِيُّ، وَوَلِيَ النِّقَابَةَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْحَسَنِ. وَفِيهَا وَلِيَ نِقَابَةَ الطَّالِبِيِّينَ أَبُو الْحَسَنِ النَّهْرَسَابُسِيُّ، وَعُزِلَ عَنْهَا أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ، وَكَانَ يَنُوبُ عَنْهُ فِيهَا ابْنَاهُ الْمُرْتَضَى وَالرَّضِيُّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعِ بْنِ مُكْرِمٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْبُسْتِيُّ الزَّاهِدُ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ، حَجَّ مِنْ نَيْسَابُورَ مَاشِيًا، وَبَقِيَ سَبْعِينَ سَنَةً لَا يَسْتَنِدُ إِلَى حَائِطٍ وَلَا إِلَى مِخَدَّةٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمَوَيْهِ بْنِ زَيْدٍ أَبُو الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَحَدَّثَ، وَصَحِبَ أَبَا الْخَيْرِ الْأَقْطَعَ وَغَيْرَهُ، وَعَلِيُّ بْنُ عِيسَى (بْنِ عَلِيِّ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْحَسَنِ النَّحْوِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالرُّمَّانِيِّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، رَوَى عَنِ ابْنِ دُرَيْدٍ وَغَيْرِهِ، وَلَهُ " تَفْسِيرٌ " كَبِيرٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَزَّازِ أَبُو الْحَسَنِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَتَبَ الْكَثِيرَ، وَخَطُّهُ حُجَّةٌ فِي صِحَّةِ

النَّقْلِ وَجَوْدَةِ الضَّبْطِ، وَأَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ الْمَرْزُبَانِيُّ الْكَاتِبُ، وَالْمُحْسِنُ (بْنُ عَلِيِّ بْنِ) عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَهْمِ أَبُو عَلِيٍّ التَّنُوخِيُّ الْقَاضِي، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ فَاضِلًا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِلَالٍ الصَّابِيُّ، الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ، (وَكَانَ عُمْرُهُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ قَدْ زَمِنَ، وَضَاقَتْ بِهِ الْأُمُورُ، وَقَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَمْوَالُ) . وَفِيهَا اشْتَدَّ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ بِبَغْدَاذَ، وَوَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَأَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ، وَاحْتَرَقَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَحَالِّ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا.

ثم دخلت سنة خمس وثمانين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 385 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ عَوْدِ أَبِي عَلِيٍّ إِلَى خُرَاسَانَ. لَمَّا عَادَ الْأَمِيرُ نُوحٌ إِلَى بُخَارَى، وَسُبُكْتِكِينُ إِلَى هَرَاةَ، وَبَقِيَ مَحْمُودٌ بِنَيْسَابُورَ، طَمِعَ أَبُو عَلِيٍّ وَفَائِقٌ فِي خُرَاسَانَ، فَسَارَا عَنْ جُرْجَانَ إِلَى نَيْسَابُورَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا بَلَغَ مَحْمُودًا خَبَرُهُمَا كَتَبَ إِلَى أَبِيهِ بِذَلِكَ، وَبَرَزَ هُوَ فَنَزَلَ بِظَاهِرِ نَيْسَابُورَ وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ الْمَدَدَ، فَأَعْجَلَاهُ فَصَبَرَ لَهُمَا فَقَاتَلَاهُ، وَكَانَ فِي قِلَّةٍ مِنَ الرِّجَالِ فَانْهَزَمَ عَنْهُمَا نَحْوَ أَبِيهِ، وَغَنِمَ أَصْحَابُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَشَارَ أَصْحَابُ أَبِي عَلِيٍّ عَلَيْهِ بِاتِّبَاعِهِ وَإِعْجَالِهِ وَوَالِدِهِ عَنِ الْجَمْعِ وَالِاحْتِشَادِ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَقَامَ بِنَيْسَابُورَ وَكَاتَبَ الْأَمِيرَ نُوحًا يَسْتَمِيلُهُ وَيَسْتَقِيلُ مِنْ عَثْرَتِهِ وَزَلَّتِهِ، وَكَذَلِكَ كَاتَبَ سُبُكْتِكِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَأَحَالَ بِمَا جَرَى عَلَى فَائِقٍ فَلَمْ يُجِيبَاهُ إِلَى مَا أَرَادَ. وَجَمَعَ سُبُكْتِكِينُ الْعَسَاكِرَ فَأَتَوْهُ عَلَى كُلِّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ وَسَارَ نَحْوَ أَبِي عَلِيٍّ فَالْتَقَوْا بِطُوسَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فَاقْتَتَلُوا عَامَّةَ يَوْمِهِمْ، وَأَتَاهُمْ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ فِي عَسْكَرٍ ضَخْمٍ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَانْهَزَمُوا وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَنَجَا أَبُو عَلِيٍّ وَفَائِقٌ فَقَصَدَا أَبِيوَرْدَ، فَتَبِعَهُمْ سُبُكْتِكِينُ وَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ مَحْمُودًا بِنَيْسَابُورَ، فَقَصَدَا مَرْوَ ثُمَّ آمُلَ الشَّطِّ، وَرَاسَلَا الْأَمِيرَ نُوحًا يَسْتَعْطِفَانِهِ، فَأَجَابَ أَبَا عَلِيٍّ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْ قَبُولِ عُذْرِهِ إِنْ فَارَقَا فَائِقًا وَنَزَلَا بِالْجُرْجَانِيَّةِ فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَحَذَّرَهُ فَائِقٌ، وَخَوَّفَهُ مِنْ مَكِيدَتِهِمْ بِهِ وَمَكْرِهِمْ فَلَمْ يَلْتَفِتْ لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَفَارَقَ فَائِقًا

وَسَارَ نَحْوَ الْجُرْجَانِيَّةِ وَنَزَلَ بِقَرْيَةٍ بِقُرْبِ خُوَارَزْمَ تُسَمَّى هِزَارَ أَسْبَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ خُوَارَزْمُشَاهْ مَنْ أَقَامَ لَهُ ضِيَافَةً، وَوَعَدَهُ أَنْ يَقْصِدَهُ لِيَجْتَمِعَ بِهِ، فَسَكَنَ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ خُوَارَزْمُشَاهْ جَمْعًا مِنْ عَسْكَرِهِ فَأَحَاطُوا بِهِ وَأَخَذُوهُ أَسِيرًا فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَاعْتَقَلَهُ فِي بَعْضِ دُورِهِ، وَطَلَبَ أَصْحَابَهُ فَأَسَرَ أَعْيَانَهُمْ وَتَفَرَّقَ الْبَاقُونَ. وَأَمَّا فَائِقٌ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى أَيْلَكَ خَانْ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَوَعَدَهُ أَنْ يُعِيدَهُ إِلَى قَاعِدَتِهِ، وَكَتَبَ إِلَى نُوحٍ يَشْفَعُ فِي فَائِقٍ، وَأَنْ يُوَلَّى سَمَرْقَنْدَ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَأَقَامَ بِهَا. ذِكْرُ خَلَاصِ أَبِي عَلِيٍّ وَقَتْلِ خُوَارَزْمَشَاهْ لَمَّا أُسِرَ أَبُو عَلِيٍّ بَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى مَأْمُونِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَالِي الْجُرْجَانِيَّةِ، فَقَلِقَ لِذَلِكَ وَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ نَحْوَ خُوَارَزْمَشَاهْ، وَعَبَرَ إِلَى كَاثَ، وَهِيَ مَدِينَةُ خُوَارَزْمَشَاهْ، فَحَصَرُوهَا وَقَاتَلُوهَا، وَفَتَحُوهَا عَنْوَةً، وَأَسَرُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ خُوَارَزْمَشَاهْ، وَأَحْضَرُوا أَبَا عَلِيٍّ فَفَكُّوا عَنْهُ قَيْدَهُ وَأَخَذُوهُ وَعَادُوا إِلَى الْجُرْجَانِيَّةِ، وَاسْتَخْلَفَ مَأْمُونٌ بِخُوَارَزْمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، وَصَارَتْ [فِي] جُمْلَةِ مَا بِيَدِهِ، وَأَحْضَرَ خُوَارَزْمَشَاهْ وَقَتَلَهُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي عَلِيٍّ سِيمْجُورَ. ذِكْرُ قَبْضِ أَبِي عَلِيٍّ سِيمْجُورَ وَمَوْتِهِ لَمَّا حَصَلَ أَبُو عَلِيٍّ عِنْدَ مَأْمُونِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالْجُرْجَانِيَّةِ كَتَبَ إِلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ يَشْفَعُ فِيهِ، وَيَسْأَلُ الصَّفْحَ عَنْهُ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَ أَبَا عَلِيٍّ بِالْمَسِيرِ إِلَى بُخَارَى، فَسَارَ إِلَيْهَا فِيمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا بَلَغُوا بُخَارَى لَقِيَهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْعَسَاكِرُ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ أَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمْ.

وَبَلَغَ سُبُكْتِكِتِينَ أَنَّ ابْنَ عُزَيْرٍ، وَزِيرَ الْأَمِيرِ نُوحٍ، يَسْعَى فِي خَلَاصِ أَبِي عَلِيٍّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ (يَطْلُبُ أَبَا عَلِيٍّ إِلَيْهِ) ، فَحَبَسَهُ، فَمَاتَ فِي حَبْسِهِ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ خَاتِمَةَ أَمْرِهِ، (وَآخِرَ حَالِ) بَيْتِ سِيمْجُورَ جَزَاءً لِكُفْرَانِ إِحْسَانِ مَوْلَاهُمْ، فَتَبَارَكَ الْحَيُّ الدَّائِمُ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَزُولُ مُلْكُهُ. وَكَانَ ابْنُهُ أَبُو الْحَسَنِ قَدْ لَحِقَ بِفَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهٍ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَكْرَمَهُ، فَسَارَ عَنْهُ سِرًّا إِلَى خُرَاسَانَ لِهَوًى كَانَ لَهُ بِهَا، وَظَنَّ أَنَّ أَمْرَهُ يَخْفَى، فَظَهَرَ حَالُهُ، فَأُخِذَ أَسِيرًا وَسُجِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ. وَأَمَّا أَبُو الْقَاسِمِ أَخُو أَبِي عَلِيٍّ فَإِنَّهُ أَقَامَ فِي خِدْمَةِ سُبُكْتِكِينَ مُدَّةً يَسِيرَةً، ثُمَّ ظَهَرَ مِنْهُ خِلَافُ الطَّاعَةِ، وَقَصَدَ نَيْسَابُورَ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ مَا أَرَادَ، وَعَادَ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ إِلَيْهِ، فَهَرَبَ مِنْهُ وَقَصَدَ فَخْرَ الدَّوْلَةِ وَبَقِيَ عِنْدَهُ، وَسَيَرِدُ بَاقِي أَخْبَارِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ وَفَاةِ الصَّاحِبِ بْنِ عَبَّادٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الصَّاحِبُ أَبُو الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّادٍ، وَزِيرُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بِالرَّيِّ، وَكَانَ وَاحِدَ زَمَانِهِ عِلْمًا وَفَضْلًا، وَتَدْبِيرًا، وَجَوْدَةَ رَأْيٍ، وَكَرَمًا، عَالِمًا بِأَنْوَاعِ الْعُلُومِ، وَعَارِفًا بِالْكِتَابَةِ وَمَوَادِّهَا، وَرَسَائِلُهُ مَشْهُورَةٌ مُدَوَّنَةٌ، وَجَمَعَ مِنَ الْكُتُبِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ غَيْرُهُ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَحْتَاجُ فِي نَقْلِهَا إِلَى أَرْبَعِمِائَةِ جَمَلٍ. وَلَمَّا مَاتَ وَزَرَ بَعْدَهُ لِفَخْرِ الدَّوْلَةِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الضَّبِّيُّ الْمُلَقَّبُ بِالْكَافِي. وَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِفَخْرِ الدَّوْلَةِ: قَدْ خَدَمْتُكَ خِدْمَةً اسْتَفْرَغْتُ فِيهَا وُسْعِي

وَسِرْتُ سَيْرَةً جَلَبَتْ لَكَ حُسْنَ الذِّكْرِ، فَإِنْ أَجْرَيْتَ الْأُمُورَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ نُسِبَ ذَلِكَ الْجَمِيلُ إِلَيْكَ وَتُرِكْتُ أَنَا، وَإِنْ عَدَلْتَ عَنْهُ كُنْتُ أَنَا الْمَشْكُورُ وَنُسِبَتِ الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ إِلَيْكَ وَقَدَحَ ذَلِكَ فِي دَوْلَتِكَ. فَكَانَ هَذَا نُصْحَهُ لَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَنْفَذَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ مَنِ احْتَاطَ عَلَى مَالِهِ وَدَارِهِ، وَنَقَلَ جَمِيعَ مَا فِيهَا إِلَيْهِ، فَقَبَّحَ اللَّهُ خِدْمَةَ الْمُلُوكِ، هَذَا فِعْلُهُمْ مَعَ مَنْ نَصَحَ لَهُمْ، فَكَيْفَ مَعَ غَيْرِهِ. وَنُقِلَ الصَّاحِبُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَكَثِيرٌ مَا بَيْنَ فِعْلِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ مَعَ ابْنِ عَبَّادٍ وَبَيْنَ الْعَزِيزِ بِاللَّهِ الْعَلَوِيِّ مَعَ وَزِيرِهِ يَعْقُوبَ بْنِ كِلِّسٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَكَانَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ قَدْ أَحْسَنَ إِلَى الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُعْتَزِلِيِّ وَقَدَّمَهُ، وَوَلَّاهُ قَضَاءَ الرَّيِّ وَأَعْمَالَهَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: لَا أَرَى التَّرَحُّمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَاتَ عَنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ ظَهَرَتْ مِنْهُ، فَنُسِبَ عَبْدُ الْجَبَّارِ إِلَى قِلَّةِ الْوَفَاءِ. ثُمَّ إِنَّ فَخْرَ الدَّوْلَةِ قَبَضَ عَلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ وَصَادَرَهُ، فَبَاعَ فِي جُمْلَةِ مَا بَاعَ أَلْفَ طَيْلَسَانٍ، وَأَلْفَ ثَوْبٍ صُوفٍ رَفِيعٍ، فَلِمَ لَا نَظَرَ لِنَفْسِهِ، وَتَابَ عَنْ أَخْذِ مِثْلِ هَذَا وَاذِّخَارِهِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ؟ . ثُمَّ إِنَّ فَخْرَ الدَّوْلَةِ قَبَضَ عَلَى أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّادٍ وَأَبْطَلَ كُلَّ مُسَامَحَةٍ كَانَتْ مِنْهُ، وَقَرَّرَ هُوَ وَوُزَرَاؤُهُ الْمُصَادَرَاتِ فِي الْبِلَادِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنْهَا كَثِيرٌ، ثُمَّ تَمَزَّقَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي أَقْرَبِ مُدَّةٍ، وَحَصَلَ بِالْوِزْرِ وَسُوءِ الذِّكْرِ. ذِكْرُ إِيقَاعِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ بِالْأَتْرَاكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ بِقَتْلِ مَنْ بِفَارِسَ مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَهَرَبَ الْبَاقُونَ فَعَاثُوا فِي الْبِلَادِ وَانْصَرَفُوا إِلَى كَرْمَانَ ثُمَّ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ السِّنْدِ، وَاسْتَأْذَنُوا مَلِكَهَا فِي دُخُولِ بِلَادِهِ، فَأَذِنَ لَهُمْ وَخَرَجَ إِلَى تَلَقِّيهِمْ وَوَافَقَ

أَصْحَابُهُ عَلَى الْإِيقَاعِ بِهِمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ جَعَلَ أَصْحَابَهُ صَفَّيْنِ، فَلَمَّا حَصَلَ الْأَتْرَاكُ فِي وَسَطِهِمْ أَطْبَقُوا عَلَيْهِمْ وَقَتَلُوهُمْ فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا نَفَرٌ جَرْحَى وَقَعُوا بَيْنَ الْقَتْلَى وَهَرَبُوا تَحْتَ اللَّيْلِ ذِكْرُ وَفَاةِ خُوَاشَاذَهْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو نَصْرٍ خُوَاشَاذَهْ بِالْبَطَائِحِ، وَكَانَ قَدْ هَرَبَ إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ قُبِضَ، وَكَاتَبَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ، وَفَخْرُ الدَّوْلَةِ، وَصَمْصَامُ الدَّوْلَةِ، وَبَدْرُ بْنُ حَسْنُوَيْهِ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَسْتَدْعِيهِ، وَيَبْذُلُ لَهُ مَا يُرِيدُهُ، وَقَالَ لَهُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ: لَعَلَّكَ تُسِيءُ الظَّنَّ بِمَا قَدَّمْتَهُ فِي خِدْمَةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَمَا كُنَّا لِنُؤَاخِذَكَ بِطَاعَةِ مَنْ قَدَّمَكَ وَمُنَاصَحَتِهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا عَمِلْتُهُ مَعَ الصَّاحِبِ بْنِ عَبَّادٍ، وَتَرَكْنَا مَا فَعَلَهُ مَعَنَا. فَعَزَمَ عَلَى قَصْدِهِ، فَأَدْرَكَهُ أَجَلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَتُوُفِّيَ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ، قُوَّادِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ. ذِكْرُ عَوْدِ عَسْكَرِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ إِلَى الْأَهْوَازِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ عَسْكَرَهُ مِنَ الدَّيْلَمِ وَرَدَّهُمْ إِلَى الْأَهْوَازِ مَعَ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَسَنِ، وَاتُّفَقَ أَنَّ طُغَانَ، نَائِبَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بِالْأَهْوَازِ، تُوُفِّيَ، وَعَزَمَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَتْرَاكِ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَكَتَبَ مَنْ هُنَاكَ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بِالْخَبَرِ، فَأَقْلَقَهُ ذَلِكَ وَأَزْعَجَهُ، فَسَيَّرَ أَبَا كَالِيجَارَ الْمَرْزُبَانَ بْنَ شَهْفِيرُوزَ إِلَى الْأَهْوَازِ نَائِبًا عَنْهُ، وَأَنْفَذَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ مُكْرَمٍ إِلَى الْفَتْكِينِ، وَهُوَ بِرَامَهُرْمُزَ، قَدْ عَادَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ عَسْكَرِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ إِلَيْهَا، يَأْمُرُهُ بِالْمُقَامِ بِمَوْضِعِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَعَادَ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ مُكْرَمٍ بِالنَّظَرِ فِي الْأَعْمَالِ، وَسَارَ بَعْدَهُمْ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ نَحْوَ خُوزِسْتَانَ، فَكَاتَبَهُ الْعَلَاءُ، وَسَلَكَ طَرِيقَ اللِّينِ، وَالْخِدَاعِ. ثُمَّ سَارَ عَلَى نَهْرِ الْمَسْرُقَانِ إِلَى أَنْ حَصَلَ بِخَانِ طُوقَ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ مُكْرَمٍ وَالْفَتْكِينِ، وَزَحَفَ الدَّيْلَمُ بَيْنَ الْبَسَاتِينِ، حَتَّى دَخَلُوا الْبَلَدَ، وَانْزَاحَ عَنْهُ ابْنُ مُكْرَمٍ وَالْفَتْكِينُ، وَكَتَبَا إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ يُشِيرَانِ عَلَيْهِ بِالْعُبُورِ إِلَيْهَا فَتَوَقَّفَ عَنْ

ذَلِكَ وَوَعْدَهُمَا بِهِ وَسَيَّرَ إِلَيْهِمَا ثَمَانِينَ غُلَامًا مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَعَبَرُوا وَحَمَلُوا عَلَى الدَّيْلَمِ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَأَفْرَجَ لَهُمُ الدَّيْلَمُ، فَلَمَّا (تَوَسَّطُوا بَيْنَهُمْ) أَطْبَقُوا عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ. فَلَمَّا عَرَفَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ ضَعُفَتْ نَفْسُهُ وَعَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ، وَلَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِإِسْرَاجِ الْخَيْلِ وَحَمْلِ السِّلَاحِ فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَارَ نَحْوَ الْأَهْوَازِ يَسِيرًا، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا. فَلَمَّا عَرَفَ ابْنُ مُكْرَمٍ خَبَرَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ عَادَ إِلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ، وَتَبِعَهُمُ الْعَلَاءُ وَالدَّيْلَمُ فَأَجْلَوْهُمْ عَنْهَا، فَنَزَلُوا بِرَامِلَانَ بَيْنَ عَسْكَرِ مُكْرَمٍ وَتُسْتَرَ، وَتَكَرَّرَتِ الْوَقَائِعُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُدَّةً. وَكَانَ بِيَدِ الْأَتْرَاكِ، أَصْحَابِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ مِنْ تُسْتَرَ إِلَى رَامَهُرْمُزَ وَمَعَ الدَّيْلَمِ مِنْهَا إِلَى أَرَّجَانَ، وَأَقَامُوا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْأَهْوَازِ، ثُمَّ عَبَرَ بِهِمُ النَّهْرَ إِلَى الدَّيْلَمِ، وَاقْتَتَلُوا نَحْوَ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ رَحَلَ الْأَتْرَاكُ وَتَبِعَهُمُ الْعَلَاءُ، فَوَجَدَهُمْ قَدْ سَلَكُوا طَرِيقَ وَاسِطَ، فَكَفَّ عَنْهُمْ، وَأَقَامَ بِعَسْكَرِ مكْرَمٍ. ذِكْرُ حَادِثَةٍ غَرِيبَةٍ بِالْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ الْمَنْصُورُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ، أَمِيرُ الْأَنْدَلُسِ لِهِشَامٍ الْمُؤَيَّدِ عَسْكَرًا إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ لِلْغَزَاةِ، فَنَالُوا مِنْهُمْ وَغَنِمُوا، وَأَوْغَلُوا فِي دِيَارِهِمْ، وَأَسَرُوا غَرْسِيَّةَ، وَهُوَ مَلِكٌ لِلْفِرِنْجِ ابْنُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِهِمْ يُقَالُ لَهُ شَانْجَةُ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مُلُوكِهِمْ وَأَمْنَعِهِمْ، وَكَانَ مِنَ الْقَدَرِ أَنَّ شَاعِرًا لِلْمَنْصُورِ، يُقَالُ لَهُ أَبُو الْعَلَاءِ صَاعِدُ بْنُ الْحَسَنِ الرَّبَعِيُّ، قَدْ قَصَدَهُ مِنْ بِلَادِ الْمَوْصِلِ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ وَامْتَدَحَهُ قَبْلَ هَذَا التَّارِيخِ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ أَهْدَى أَبُو الْعَلَاءِ إِلَى الْمَنْصُورِ أُيَّلًا. وَكَتَبَ مَعَهُ أَبْيَاتًا مِنْهَا: يَا حِرْزَ كُلِّ مُخَوَّفٍ وَأَمَانَ كُلِّ ... مُشَرَّدٍ وَمُعِزَّ كُلِّ مُذَلَّلِ جَدْوَاكَ إِنْ تُخْصَصْ بِهِ فَلِأَهْلِهِ ... وَتَعُمُّ بِالْإِحْسَانِ كُلَّ مُؤَمِّلِ (يَقُولُ فِيهَا) :

مَوْلَايَ مُؤْنِسَ غُرْبَتِي، مُتَخَطِّفِي ... مِنْ ظُفْرِ أَيَّامِي، مُمَنِّعَ مَعْقِلِي عَبْدٌ رَفَعْتَ بِضَبْعِهِ، وَغَرَسْتَهُ ... فِي نِعْمَةٍ أَهْدَى إِلَيْكَ بِأَيَّلِ سَمَّيْتُهُ غَرْسِيَّةَ، وَبَعَثْتُهُ ... فِي حَبْلِهِ لِيُتَاحَ فِيهِ تَفَاؤُلِي فَلَئِنْ قَبِلْتَ، فَتِلْكَ أَسْنَى نِعْمَةٍ ... أَسْدَى بِهَا ذُو نِعْمَةٍ وَتَطَوُّلِ فَسَمَّى هَذَا الشَّاعِرُ الْأَيَّلَ غَرْسِيَّةَ تُفَاؤُلًا بِأَسَرِ ذَلِكَ غَرْسِيَّةَ، فَكَانَ أَسْرُهُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَهْدَى فِيهِ الْأَيَّلَ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الِاتِّفَاقِ مَا أَعْجَبَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْأَبَرْقُوهِيُّ مِنَ الْبَطِيحَةِ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، بَعْدَ عَوْدِهِ مِنْ خُوزِسْتَانَ وَكَانَ قَدِ الْتَجَأَ إِلَى مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ، فَأَرْسَلَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ يَطْلُبُهُ لِيَسْتَوْزِرَهُ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ، فَعَادَ إِلَى الْبَطِيحَةِ، وَكَانَ الْفَاضِلُ، وَزِيرُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، مَعَهُ بِوَاسِطَ، فَلَمَّا عَلِمَ الْحَالَ اسْتَأْذَنَ فِي الْإِصْعَادِ (إِلَى بَغْدَاذَ) ، فَأَذِنَ لَهُ فَأَصْعَدَ، فَعَادَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ وَطَلَبَهُ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَغَالَطَهُ وَلَمْ يَعُدْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ تُوُفِّيَ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ شَاهِينَ الْوَاعِظِ، مَوْلِدُهُ فِي صَفَرَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ مُكْثِرًا مِنَ الْحَدِيثِ ثِقَةً. وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، تُوُفِّيَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَهْدِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِالدَّارَقُطْنِيِّ الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ.

وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَكْرَةَ الْهَاشِمِيُّ مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ الْمَهْدِيِّ بِاللَّهِ، وَكَانَ مُنْحَرِفًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ خَبِيثَ اللِّسَانِ يُتَّقَى سَفَهُهُ، وَمِنْ جَيِّدِ شِعْرِهِ: فِي وَجْهِ إِنْسَانَةٍ كَلِفْتُ بِهَا ... أَرْبَعَةٌ مَا اجْتَمَعْنَ فِي أَحَدِ الْوَجْهُ بَدْرٌ، وَالصُّدْغُ غَالِيَةٌ ... وَالرِّيقُ خَمْرٌ، وَالثَّغْرُ مِنْ بَرَدِ وَفِيهَا تُوُفِّيَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَسْرُورٍ، أَبُو الْفَتْحِ الْقَوَّاسُ، الزَّاهِدُ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلَهُ خَمْسٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً.

ثم دخلت سنة ست وثمانين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 386 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ الْعَزِيزِ بِاللَّهِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ الْحَاكِمِ وَمَا كَانَ مِنَ الْحُرُوبِ إِلَى أَنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْعَزِيزُ أَبُو مَنْصُورٍ نِزَارُ بْنُ الْمُعِزِّ أَبِي تَمِيمٍ مَعَدٍّ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ مِصْرَ، لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَمَضَانَ، وَعُمْرُهُ اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ وَنِصْفٌ، بِمَدِينَةِ بُلْبَيْسَ، وَكَانَ بَرَزَ إِلَيْهَا لِغَزْوِ الرُّومِ، فَلَحِقَهُ عِدَّةُ أَمْرَاضٍ مِنْهَا النِّقْرِسُ وَالْحَصَا وَالْقُولَنْجُ، فَاتَّصَلَتْ بِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفًا، وَمَوْلِدُهُ بِالْمَهْدِيَّةِ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ. وَكَانَ أَسْمَرَ طَوِيلًا، أَصْهَبَ الشَّعْرِ، عَرِيضَ الْمَنْكِبَيْنِ، عَارِفًا بِالْخَيْلِ وَالْجَوْهَرِ، قِيلَ إِنَّهُ وَلَّى عِيسَى بْنَ نَسْطُورَسَ النَّصْرَانِيَّ كِتَابَتَهُ، وَاسْتَنَابَ بِالشَّامِ يَهُودِيًّا اسْمُهُ مَنْشَا، فَاعْتَزَّ بِهِمَا النَّصَارَى وَالْيَهُودُ، وَآذَوُا الْمُسْلِمِينَ، فَعَمَدَ أَهْلُ مِصْرَ وَكَتَبُوا قِصَّةً وَجَعَلُوهَا فِي يَدِ صُورَةٍ عَمِلُوهَا مِنْ قَرَاطِيسَ، فِيهَا: بِالَّذِي أَعَزَّ الْيَهُودَ بِمَنْشَا وَالنَّصَارَى بِعِيسَى بْنِ نَسْطُورَسَ، وَأَذَلَّ الْمُسْلِمِينَ بِكَ إِلَّا كَشَفْتَ ظُلَامَتِي، وَأَقْعَدُوا تِلْكَ الصُّورَةَ عَلَى طَرِيقِ الْعَزِيزِ، وَالرُّقْعَةُ بِيَدِهَا، فَلَمَّا رَآهَا أَمَرَ بِأَخْذِهَا، فَلَمَّا (قَرَأَ مَا فِيهَا) ،

وَرَأَى الصُّورَةَ مِنْ قَرَاطِيسَ، عَلِمَ مَا أُرِيدُ بِذَلِكَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمَا، وَأَخَذَ مِنْ عِيسَى ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمِنَ الْيَهُودِيِّ شَيْئًا كَثِيرًا. وَكَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ وَيَسْتَعْمِلُهُ، فَمِنْ حِلْمِهِ أَنَّهُ كَانَ بِمِصْرَ شَاعِرٌ اسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ الدِّمَشْقِيُّ، وَكَانَ كَثِيرَ الْهِجَاءِ، فَهَجَا يَعْقُوبَ بْنَ كِلِّسٍ وَزِيرَ الْعَزِيزِ وَكَاتِبَ الْإِنْشَاءِ مِنْ جِهَتِهِ أَبَا نَصْرٍ عَبْدَ اللَّهِ الْحُسَيْنَ الْقَيْرَوَانِيَّ، فَقَالَ: قُلْ لِأَبِي نَصْرٍ صَاحِبِ الْقَصْرِ ... وَالْمُتَأَتِّي لِنَقْضِ ذَا الْأَمْرِ انْقُضْ عُرَى الْمُلْكِ لِلْوَزِيرِ تَفُزْ ... مِنْهُ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ وَالذِّكْرِ وَأَعْطِ، وَامْنَعْ، وَلَا تَخَفْ أَحَدًا ... فَصَاحِبُ الْقَصْرِ لَيْسَ فِي الْقَصْرِ وَلَيْسَ يَدْرِي مَاذَا يُرَادُ بِهِ ... وَهُوَ إِذَا مَا دَرَى، فَمَا يَدْرِي فَشَكَاهُ ابْنُ كِلِّسٍ إِلَى الْعَزِيزِ، وَأَنْشَدَهُ الشِّعْرَ فَقَالَ لَهُ: هَذَا شَيْءٌ اشْتَرَكْنَا فِيهِ فِي الْهِجَاءِ فَشَارِكْنِي فِي الْعَفْوِ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ هَذَا الشَّاعِرُ أَيْضًا وَعَرَّضَ بِالْفَضْلِ الْقَائِدِ: تَنَصَّرْ، فَالتَّنَصُّرُ دِينُ حَقٍّ ... عَلَيْهِ زَمَانُنَا هَذَا يَدُلُّ وَقُلْ بِثَلَاثَةٍ عَزُّوا وَجَلُّوا ... وَعَطِّلْ مَا سِوَاهُمْ فَهُوَ عُطْلُ فَيَعْقُوبُ الْوَزِيرُ أَبٌ، وَهَذَا ... الْعَزِيزُ ابْنٌ، وَرُوحُ الْقُدُسِ فَضْلُ فَشَكَاهُ أَيْضًا إِلَى الْعَزِيزِ، فَامْتَعَضَ مِنْهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: اعْفُ عَنْهُ فَعَفَا عَنْهُ. ثُمَّ دَخَلَ الْوَزِيرُ عَلَى الْعَزِيزِ، فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ لِلْعَفْوِ عَنْ هَذَا مَعْنًى، وَفِيهِ غَضٌّ مِنَ السِّيَاسَةِ، وَنَقْضٌ لِهَيْبَةِ الْمُلْكِ، فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَكَ وَذَكَرَنِي وَذَكَرَ ابْنَ زَبَارِجَ نَدِيمَكَ، وَسَبَّكَ بِقَوْلِهِ: زَبَارِجِيٌّ نَدِيمٌ وَكِلِّسِيٌّ وَزِيرُ ... نَعَمْ عَلَى قَدْرِ الْكَلْبِ يَصْلُحُ السَّاجُورُ فَغَضِبَ الْعَزِيزُ، وَأَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ (لِوَقْتِهِ، ثُمَّ بَدَا لِلْعَزِيزِ إِطْلَاقُهُ) ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْتَدْعِيهِ، وَكَانَ لِلْوَزِيرِ عَيْنٌ فِي الْقَصْرِ، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ.

فَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ الْعَزِيزِ فِي طَلَبِهِ أَرَاهُ رَأْسَهُ مَقْطُوعًا، فَعَادَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ، فَاغْتَمَّ لَهُ. وَلَمَّا مَاتَ الْعَزِيزُ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو عَلِيٍّ الْمَنْصُورُ، وَلُقِّبَ الْحَاكِمَ بِأَمْرِ اللَّهِ، بِعَهْدٍ مِنْ أَبِيهِ، فَوَلِيَ وَعُمْرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً (وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ) ، وَأَوْصَى الْعَزِيزُ إِلَى أَرْجُوَانَ الْخَادِمِ، وَكَانَ يَتَوَلَّى أَمْرَ دَارِهِ، وَجَعَلَهُ مُدَبِّرَ دَوْلَةِ ابْنِهِ الْحَاكِمِ، فَقَامَ بِأَمْرِهِ، وَبَايَعَ لَهُ، وَأَخَذَ لَهُ الْبَيْعَةَ عَلَى النَّاسِ، وَتَقَدَّمَ الْحَسَنُ بْنُ عَمَّارٍ، شَيْخُ كُتَامَةَ وَسَيِّدُهَا، وَحَكَمَ فِي دَوْلَتِهِ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَتَلَقَّبَ بِأَمِينِ الدَّوْلَةِ، هُوَ أَوَّلُ مَنْ تَلَقَّبَ فِي دَوْلَةِ الْعَلَوِيِّينَ الْمِصْرِيِّينَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ ثِقَاتُهُ بِقَتْلِ الْحَاكِمِ، وَقَالُوا: لَا حَاجَةَ [بِنَا] إِلَى مَنْ يَتَعَبَّدُنَا، فَلَمْ يَفْعَلِ احْتِقَارًا لَهُ، وَاسْتِصْغَارًا لِسِنِّهِ. وَانْبَسَطَتْ كُتَامَةُ فِي الْبِلَادِ، وَحَكَمُوا فِيهَا، وَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَى أَمْوَالِ الرَّعِيَّةِ وَحَرِيمِهِمْ، وَأَرْجُوَانُ مُقِيمٌ مَعَ الْحَاكِمِ فِي الْقَصْرِ يَحْرُسُهُ، وَاتَّفَقَ مَعَهُ شُكْرٌ خَادِمُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْضَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِ وَمَسِيرَهُ إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا اتَّفَقَا، وَصَارَتْ كَلِمَتُهُمَا وَاحِدَةً، كَتَبَ أَرْجُوَانُ إِلَى مَنْجُوتِكِينَ يَشْكُو مَا (يَتِمُّ عَلَيْهِ) مِنِ ابْنِ عَمَّارٍ، فَتَجَهَّزَ وَسَارَ مِنْ دِمَشْقَ نَحْوَ مِصْرَ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى ابْنِ عَمَّارٍ، فَأَظْهَرُ أَنَّ مَنْجُوتِكِينَ قَدْ عَصَى عَلَى الْحَاكِمِ، وَنَدَبَ الْعَسَاكِرَ إِلَى قِتَالِهِ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيرًا، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ أَبَا تَمِيمٍ سُلَيْمَانَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ الْكُتَامِيَّ، فَسَارُوا إِلَيْهِ فَلَقُوهُ بِعَسْقَلَانَ، فَانْهَزَمَ مَنْجُوتِكِينُ وَأَصْحَابُهُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ أَلْفَا رَجُلٍ، وَأُسِرَ مَنْجُوتِكِينُ وَحُمِلَ إِلَى مِصْرَ، فَأَبْقَى عَلَيْهِ ابْنُ عَمَّارٍ، وَأَطْلَقَهُ اسْتِمَالَةً لِلْمَشَارِقَةِ بِذَلِكَ. وَاسْتَعْمَلَ ابْنُ عَمَّارٍ عَلَى الشَّامِ أَبَا تَمِيمٍ الْكُتَامِيَّ، وَاسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ جَعْفَرٍ، فَسَارَ إِلَى طَبَرِيَةَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَى دِمَشْقَ أَخَاهُ عَلِيًّا، فَامْتَنَعَ أَهْلُهَا عَلَيْهِ، فَكَاتَبَهُمْ أَبُو تَمِيمٍ

يَتَهَدَّدُهُمْ فَخَافُوا وَأَذْعَنُوا بِالطَّاعَةِ، وَاعْتَذَرُوا مِنْ فِعْلِ سُفَهَائِهِمْ، وَخَرَجُوا إِلَى عَلِيٍّ فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِمْ وَرَكِبَ وَدَخَلَ الْبَلَدَ فَأَحْرَقَ وَقَتَلَ وَعَادَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ. وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ أَبُو تَمِيمٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَمَّنَهُمْ، وَأَطْلَقَ الْمُحَبَّسِينَ وَنَظَرَ فِي أَمْرِ السَّاحِلِ، وَاسْتَعْمَلَ أَخَاهُ عَلِيًّا عَلَى طَرَابُلُسَ، وَعَزَلَ عَنْهَا جَيْشَ بْنَ الصَّمْصَامَةِ الْكُتَامِيَّ، فَمَضَى إِلَى مِصْرَ، وَاجْتَمَعَ مَعَ أَرْجُوَانَ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ عَمَّارٍ، فَانْتَهَزَ أَرْجُوَانُ الْفُرْصَةَ بِبُعْدِ كُتَامَةَ عَنْ مِصْرَ مَعَ أَبِي تَمِيمٍ، فَوَضَعَ الْمَشَارِقَةَ عَلَى الْفَتْكِ بِمَنْ بَقِيَ بِمِصْرَ مِنْهُمْ، وَبِابْنِ عَمَّارٍ مَعَهُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَمَّارٍ، فَعَمِلَ عَلَى الْإِيقَاعِ بِأَرْجُوَانَ وَشُكْرٍ الْعَضُدِيِّ فَأَخْبَرَهُمَا عُيُونٌ لَهُمَا عَلَى ابْنِ عَمَّارٍ بِذَلِكَ، فَاحْتَاطَا وَدَخَلَا قَصْرَ الْحَاكِمِ بَاكِينَ، وَثَارَتِ الْفِتْنَةُ، وَاجْتَمَعَتِ الْمَشَارِقَةُ، فَفَرَّقَ فِيهِمُ الْمَالَ، وَوَاقَعُوا ابْنَ عَمَّارٍ وَمَنْ مَعَهُ، فَانْهَزَمَ وَاخْتَفَى. فَلَمَّا ظَفِرَ أَرْجُوَانُ أَظْهَرَ الْحَاكِمَ، وَأَجْلَسَهُ، وَجَدَّدَ لَهُ الْبَيْعَةَ، وَكَتَبَ إِلَى وُجُوهِ الْقُوَّادِ وَالنَّاسِ بِدِمَشْقَ بِالْإِيقَاعِ بِأَبِي تَمِيمٍ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَقَدْ هَجَمُوا عَلَيْهِ وَنَهَبُوا خَزَائِنَهُ، فَخَرَجَ هَارِبًا، وَقَتَلُوا مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ كُتَامَةَ، وَعَادَتِ الْفِتْنَةُ بِدِمَشْقَ، وَاسْتَوْلَى الْأَحْدَاثُ. ثُمَّ إِنَّ أَرْجُوَانَ أَذِنَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَمَّارٍ فِي الْخُرُوجِ مِنِ اسْتِتَارِهِ، وَأَجْرَاهُ عَلَى إِقْطَاعِهِ، وَأَمَرَهُ بِإِغْلَاقِ بَابِهِ. وَعَصَى أَهْلُ صُورَ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا مَلَّاحًا يُعْرَفُ بِعِلَاقَةَ، وَعَصَى أَيْضًا الْمُفَرِّجُ بْنُ دَغْفَلِ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَنَزَلَ عَلَى الرَّمْلَةِ وَعَاثَ فِي الْبِلَادِ.

وَاتُّفِقَ أَنَّ الدُّوقَسَ، صَاحِبَ الرُّومِ، نَزَلَ عَلَى حِصْنِ أَفَامِيَةَ، فَأَخْرَجَ أَرْجُوَانُ جَيْشَ ابْنِ الصَّمْصَامَةِ فِي عَسْكَرٍ ضَخْمٍ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بِالرَّمْلَةِ، فَأَطَاعَهُ وَالِيهَا، وَظَفِرَ فِيهَا بِأَبِي تَمِيمٍ فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَسَيَّرَ عَسْكَرًا إِلَى صُورَ، وَعَلَيْهِمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَغَزَاهَا بَرًّا وَبَحْرًا. فَأَرْسَلَ عِلَاقَةُ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَسْتَنْجِدُهُ فَسَيَّرَ إِلَيْهِ عِدَّةَ مَرَاكِبَ مَشْحُونَةٍ بِالرِّجَالِ، فَالْتَقَوْا بِمَرَاكِبِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صُورَ فَاقْتَتَلُوا، وَظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ، وَانْهَزَمَ الرُّومُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمْعٌ، فَلَمَّا انْهَزَمُوا انْخَذَلَ أَهْلُ صُورَ، وَضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ، فَمَلَكَ الْبَلَدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ، وَنَهَبَهُ، وَأُخِذَتِ الْأَمْوَالُ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ جُنْدِهِ، وَكَانَ أَوَّلُ فَتْحٍ كَانَ عَلَى يَدِ أَرْجُوَانَ، وَأُخِذَ عِلَاقَةُ أَسِيرًا فَسَيَّرَهُ إِلَى مِصْرَ، فَسُلِخَ وَصُلِبَ بِهَا، وَأَقَامَ بِصُورَ، وَسَارَ جَيْشُ بْنِ الصَّمْصَامَةِ لِقَصْدِ الْمُفَرِّجِ بْنِ دَغْفَلٍ، فَهَرَبَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، (وَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الْعَفْوَ فَأَمَّنَهُ. وَسَارَ جَيْشٌ أَيْضًا إِلَى عَسْكَرِ الرُّومِ) ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ تَلَقَّاهُ أَهْلُهَا مُذْعِنِينَ، فَأَحْسَنَ إِلَى رُؤَسَاءِ الْأَحْدَاثِ، وَأَطْلَقَ الْمُؤَنَ، وَأَبَاحَ دَمَ كُلِّ مَغْرِبِيٍّ يَتَعَرَّضُ لِأَهْلِهَا، فَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ. وَسَارَ إِلَى أَفَامِيَةَ، فَصَافَّ الرُّومَ عِنْدَهَا، فَانْهَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، مَا عَدَا بِشَارَةَ الْإِخْشِيدِيَّ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ. وَنَزَلَ الرُّومُ إِلَى سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ يَغْنَمُونَ مَا فِيهِ، وَالدُّوقَسُ وَاقِفٌ عَلَى رَايَتِهِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَلَدُهُ وَعِدَّةُ غِلْمَانٍ، فَقَصَدَهُ كُرْدِيٌّ يُعْرَفُ بِأَحْمَدَ بْنِ الضَّحَّاكِ، مِنْ أَصْحَابِ بِشَارَةَ، وَمَعَهُ خَشَتٌ، فَظَنَّهُ الدُّوقَسُ مُسْتَأْمَنًا، فَلَمْ

يَحْتَرِزُ مِنْهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ حَمَلَ عَلَيْهِ وَضَرَبَهُ بِالْخَشَتِ فَقَتَلَهُ، فَصَاحَ الْمُسْلِمُونَ: قُتِلَ عَدُوُّ اللَّهِ! وَعَادُوا وَنَزَلَ النَّصْرُ عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَتِ الرُّومُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ. وَسَارَ جَيْشٌ إِلَى بَابِ أَنْطَاكِيَةَ يَغْنَمُ وَيَسْبِي وَيَحْرِقُ، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ فَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا، وَكَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً، فَسَأَلَهُ أَهْلُ دِمَشْقَ لِيَدْخُلَ الْبَلَدَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَنَزَلَ بِبَيْتِ لَهْيَا، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِ دِمَشْقَ، وَاسْتَخَصَّ رُؤَسَاءَ الْأَحْدَاثِ، وَاسْتَحْجَبَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ، وَجَعَلَ يَبْسُطُ الطَّعَامَ كُلَّ يَوْمٍ لَهُمْ وَلِمَنْ يَجِئُ مَعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، فَكَانَ يَحْضُرُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ فِي جَمْعٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَشْيَاعِهِ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ أَنْ (يَحْضُرُوا إِلَى) حُجْرَةٍ لَهُ يَغْسِلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهَا، فَعَبَرَ عَلَى ذَلِكَ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَانِ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْأَحْدَاثِ، إِذَا دَخَلُوا الْحُجْرَةَ لِغَسْلِ أَيْدِيهِمْ، أَنْ يُغْلِقُوا بَابَ الْحُجْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَيَضَعُوا السَّيْفَ فِي أَصْحَابِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ حَضَرُوا الطَّعَامَ، وَقَامَ الرُّؤَسَاءُ إِلَى الْحُجْرَةِ، فَأُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ عَلَيْهِمْ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ نَحْوُ ثَلَاثَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ فَطَافَهَا، فَاسْتَغَاثَ النَّاسُ وَسَأَلُوهُ الْعَفْوَ وَعَفَا عَنْهُمْ، وَأَحْضَرَ أَشْرَافَ أَهْلِهَا، وَقَتَلَ رُؤَسَاءَ الْأَحْدَاثِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَسَيَّرَ الْأَشْرَافَ إِلَى مِصْرَ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَنِعَمَهُمْ، ثُمَّ مَرِضَ بِالْبَوَاسِيرِ وَشِدَّةِ الضَّرَبَانِ فَمَاتَ. وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ هَذِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ إِنَّ أَرْجُوَانَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ رَاسَلَ بَسِيلَ مَلِكَ الرُّومِ وَهَادَنَهُ عَشْرَ سِنِينَ، وَاسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ عَلَى يَدِ أَرْجُوَانَ. وَسَيَّرَ أَيْضًا جَيْشًا إِلَى بَرْقَةَ، وَطَرَابُلُسَ الْغَرْبِ فَفَتَحَهَا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَنَسًا الصَّقْلَبِيَّ وَنَصَحَ الْحَاكِمَ، وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ، وَلَازَمَ خِدْمَتَهُ فَثَقُلَ مَكَانُهُ عَلَى الْحَاكِمِ، فَقَتَلَهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] .

وَكَانَ خَصِيًّا أَبْيَضَ، وَكَانَ لِأَرْجُوَانَ وَزِيرٌ نَصْرَانِيٌّ اسْمُهُ (فَهْدُ بْنُ) إِبْرَاهِيمَ، فَاسْتَوْزَرَهُ الْحَاكِمُ، ثُمَّ إِنَّ الْحَاكِمَ رَتَّبَ الْحُسَيْنَ بْنَ جَوْهَرٍ مَوْضِعَ أَرْجُوَانَ، وَلَقَّبَهُ قَائِدَ الْقُوَّادِ ثُمَّ قَتَلَ الْحَسَنَ بْنَ عَمَّارٍ، الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ، ثُمَّ قَتَلَ الْحُسَيْنَ بْنَ جَوْهَرٍ، وَلَمْ يَزَلْ يُقِيمُ الْوَزِيرَ بَعْدَ الْوَزِيرِ وَيَقْتُلُهُمْ. ثُمَّ جَهَّزَ يَارَخْتِكِينَ لِلْمَسِيرِ إِلَى حَلَبَ، وَحَصَرَهَا، وَسَيَّرَ مَعَهُ الْعَسَاكِرَ الْكَثِيرَةَ، فَسَارَ عَنْهَا، فَخَافَهُ حَسَّانُ بْنُ الْمُفَرِّجِ الطَّائِيُّ، فَلَمَّا رَحَلَ مِنْ غَزَّةَ إِلَى عَسْقَلَانَ كَمَنَ لَهُ حَسَّانٌ وَوَالِدُهُ، وَأَوْقَعَا بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ، وَأَسَرَاهُ وَقَتَلَاهُ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَتْلَى كَثِيرٌ، وَحَصَرَا الرَّمْلَةَ، وَنَهَبَا النَّوَاحِيَ، وَكَثُرَ جَمْعُهُمَا، وَمَلَكَا الرَّمْلَةَ وَمَا وَالَاهَا، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ، وَأَرْسَلَ يُعَاتِبُهُمَا، وَسَبَقَ السَّيْفُ الْعَذَلَ، فَأَرْسَلَا إِلَى الشَّرِيفِ أَبِي الْفُتُوحِ الْحَسَنِ بْنِ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيِّ الْحَسَنِيِّ، أَمِيرِ مَكَّةَ، وَخَاطَبَاهُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَطَلَبَاهُ إِلَيْهِمَا لِيُبَايِعَا لَهُ بِالْخِلَافَةِ، فَحَضَرَ، وَاسْتَنَابَ بِمَكَّةَ، وَخُوطِبَ بِالْخِلَافَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْحَاكِمَ رَاسَلَ حَسَّانًا وَأَبَاهُ، وَضَمِنَ لَهُمَا الْأَقْطَاعَ الْكَثِيرَةَ وَالْعَطَاءَ الْجَزِيلَ، وَاسْتَمَالَهُمَا، فَعَدَلَا عَنْ أَبِي الْفُتُوحِ، وَرَدَّاهُ إِلَى مَكَّةَ، وَعَادَا إِلَى طَاعَةِ الْحَاكِمِ. ثُمَّ إِنَّ الْحَاكِمَ جَهَّزَ عَسْكَرًا إِلَى الشَّامِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَلِيَّ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الرَّمْلَةِ أَزَاحَ حَسَّانَ بْنَ الْمُفَرِّجِ وَعَشِيرَتَهُ عَنْ تِلْكَ الْأَرْضِ، وَأَخَذَ مَا كَانَ لَهُ مِنَ الْحُصُونِ بِجَبَلِ الشَّرَّانِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أَمْوَالِهِ وَذَخَائِرِهِ، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ وَالِيًا عَلَيْهَا، فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.

وَأَمَّا حَسَّانٌ فَإِنَّهُ بَقِيَ شَرِيدًا نَحْوُ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ أَرْسَلَ وَالِدَهُ إِلَى الْحَاكِمِ فَأَمَّنَهُ وَأَقْطَعُهُ، فَسَارَ حَسَّانٌ إِلَيْهِ بِمِصْرَ، فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ الْمُفَرِّجُ وَالِدُ حَسَّانٍ قَدْ تُوُفِّيَ مَسْمُومًا، وَضَعَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مَنْ سَمَّهُ، فَبِمَوْتِهِ ضَعُفَ أَمْرُ حَسَّانٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ قَائِدٌ كَبِيرٌ مِنْ قُوَّادِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، اسْمُهُ لَشُكْرِسْتَانُ، إِلَى الْبَصْرَةِ، فَأَجْلَى عَنْهَا نُوَّابَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَتْرَاكَ لَمَّا عَادُوا عَنِ الْعَلَاءِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، كَانَ لَشُكْرِسْتَانُ هَذَا مَعَ الْعَلَاءِ، فَأَتَاهُمْ مِنَ الدَّيْلَمِ الَّذِينَ مَعَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ أَرْبَعُمِائَةِ رَجُلٍ مُسْتَأْمَنِينَ، فَأَخَذَهُمْ لَشُكْرِسْتَانُ، وَسَارَ بِهِمْ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ، فَنَزَلُوا قُرْبَ الْبَصْرَةِ بَيْنَ الْبَسَاتِينِ يُقَاتِلُونَ أَصْحَابَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَمَالَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَمُقَدَّمُهُمْ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْعَلَوِيُّ، وَكَانُوا يَحْمِلُونَ إِلَيْهِمُ الْمِيرَةَ. وَعَلِمَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بِذَلِكَ، فَأَنْفَذَ مَنْ يَقْبِضُ عَلَيْهِمْ، فَهَرَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى لَشُكْرِسْتَانَ، فَقَوِيَ بِهِمْ، وَجَمَعُوا السُّفُنَ وَحَمَلُوهُ فِيهَا، وَنَزَلُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَقَاتَلُوا أَصْحَابَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بِهَا، وَأَخْرَجُوهُمْ عَنْهَا، وَمَلَكَ لَشُكْرِسْتَانُ الْبَصْرَةَ، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا كَثِيرًا وَهَرَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَأَخَذَ كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ. فَكَتَبَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ، صَاحِبِ الْبَطِيحَةِ، يَقُولُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِالْبَصْرَةِ. فَسَيَّرَ إِلَيْهَا جَيْشًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْزُوقٍ، فَأَجْلَى لَشُكْرِسْتَانَ عَنِ الْبَصْرَةِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ سَارَ عَنِ الْبَصْرَةِ بِغَيْرِ حَرْبٍ وَدَخَلَهَا ابْنُ مَرْزُوقٍ. وَقِيلَ: إِنَّمَا فَارَقَهَا بَعْدَ أَنْ حَارَبَ فِيهَا، وَضَعُفَ عَنِ الْمُقَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَصَفَتِ الْبَصْرَةُ لِمُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ.

ثُمَّ إِنَّ لَشُكْرِسْتَانَ عَمِلَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَهَجَمَ عَلَيْهَا فِي السُّفُنِ، وَنَزَلَ أَصْحَابُهُ بِسُوقِ الطَّعَامِ، وَاقْتَتَلُوا، فَاسْتَظْهَرَ لَشُكْرِسْتَانُ، وَكَاتَبَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ يَطْلُبُ الْمُصَالَحَةَ، وَيَبْذُلُ الطَّاعَةَ، وَيَخْطُبُ لَهُ بِالْبَصْرَةِ، فَأَجَابَهُ مُهَذَّبُ الدَّوْلَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَأَخَذَ ابْنَهُ رَهِينَةً. وَكَانَ لَشُكْرِسْتَانُ يُظْهِرُ طَاعَةَ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ وَبَهَاءِ الدَّوْلَةِ وَمُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ، وَعَسَفَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ مُدَّةً، فَتَفَرَّقُوا، ثُمَّ إِنَّهُ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ (وَعَدَلَ فِيهِمْ) ، فَعَادُوا. ذِكْرُ وِلَايَةِ الْمُقَلِّدِ الْمَوْصِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الْمُقَلِّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَخَاهُ أَبَا الذَّوَّادِ تُوُفِّيَ هَذِهِ السُّنَّةَ، فَطَمِعَ الْمُقَلِّدُ فِي الْإِمَارَةِ، فَلَمْ تُسَاعِدْهُ عُقَيْلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَلَّدُوا أَخَاهُ عَلِيًّا لِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْهُ، فَأَسْرَعَ الْمُقَلِّدُ وَاسْتَمَالَ الدَّيْلَمَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ الْحَجَّاجِ بِالْمَوْصِلِ، فَمَالَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ يَضْمَنُ مِنْهُ الْبَلَدَ بِأَلْفَيْ أَلْفَ دِرْهَمٍ كُلَّ سَنَةٍ. ثُمَّ حَضَرَ عِنْدَ أَخِيهِ عَلِيٍّ، وَأَظْهَرَ لَهُ أَنَّ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ قَدْ وَلَّاهُ الْمَوْصِلَ، وَسَأَلَهُ مُسَاعَدَتَهُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ لِأَنَّهُ قَدْ مَنَعَهُ عَنْهَا، فَسَارُوا وَنَزَلُوا عَلَى الْمَوْصِلِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ كُلُّ مَنِ اسْتَمَالَهُ الْمُقَلِّدُ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَضَعُفَ الْحَجَّاجُ، وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنُوهُ، وَوَاعَدَهُمْ يَوْمًا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ فِيهِ. ثُمَّ إِنَّهُ انْحَدَرَ فِي السُّفُنِ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَلَمْ يَشْعُرُوا بِهِ إِلَّا بَعْدَ انْحِدَارِهِ، فَتَبِعُوهُ، فَلَمْ يَنَالُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَنَجَا بِمَالِهِ مِنْهُمْ، وَسَارَ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَدَخَلَ الْمُقَلِّدُ الْبَلَدَ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ عَلَى أَنْ يُخْطَبَ لَهُمَا، وَيُقَدَّمَ عَلِيٌّ لِكِبَرِهِ، وَيَكُونَ لَهُ

مَعَهُ نَائِبٌ يَجْبِي الْمَالَ، وَاشْتَرَكَا فِي الْبَلَدِ وَالْوِلَايَةِ، وَسَارَ عَلِيٌّ (إِلَى الْبَرِّ) ، وَأَقَامَ الْمُقَلِّدُ، وَجَرَى الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ مُدَيْدَةً، ثُمَّ تَشَاجَرُوا وَاخْتَصَمُوا وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَانَ الْمُقَلِّدُ يَتَوَلَّى حِمَايَةَ غَرْبِيَّ الْفُرَاتِ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، وَكَانَ لَهُ بِبَغْدَاذَ نَائِبٌ فِيهِ تَهَوُّرٌ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ (مُشَاجَرَةٌ، فَكَتَبَ إِلَى الْمُقَلِّدِ يَشْكُو، فَانْحَدَرَ مِنَ الْمَوْصِلِ فِي عَسَاكِرِهِ وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ) حَرْبٌ انْهَزَمُوا فِيهَا، وَكَتَبَ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ يَعْتَذِرُ، وَطَلَبَ إِنْفَاذَ مَنْ يَعْقِدُ عَلَيْهِ ضَمَانَ الْقَصْرِ وَغَيْرِهِ. وَكَانَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ مَشْغُولًا بِمَنْ يُقَاتِلُهُ مَنْ عَسْكَرِ أَخِيهِ فَاضْطَرَّ إِلَى الْمُغَالَطَةِ، وَمَدَّ الْمُقَلِّدُ يَدَهُ فَأَخَذَ الْأَمْوَالَ، فَبَرَزَ نَائِبُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَاذَ، وَهُوَ حِينَئِذٍ أَبُو عَلِيِّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَخَرَجَ إِلَى حَرْبِ الْمُقَلِّدِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَيْهِ، فَأَنْفَذَ أَصْحَابَهُ لَيْلًا، فَاقْتَتَلُوا، وَعَادُوا إِلَى الْمُقَلِّدِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بِمَجِئِ أَصْحَابِ الْمُقَلِّدِ إِلَى بَغْدَاذَ، أَنْفَذَ أَبَا جَعْفَرٍ الْحَجَّاجَ إِلَى بَغْدَاذَ، (أَمَرَهُ بِمُصَالَحَةِ الْمُقَلِّدِ وَالْقَبْضِ عَلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، فَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ) ، فِي آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا رَاسَلَهُ الْمُقَلِّدُ فِي الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَحْمِلَ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَلَا يَأْخُذُ مِنَ الْبِلَادِ إِلَّا رَسْمَ الْحِمَايَةِ، وَيَخْطُبُ لِأَبِي جَعْفَرٍ بَعْدَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَأَنْ يَخْلَعَ عَلَى الْمُقَلِّدِ الْخِلَعَ السُّلْطَانِيَّةَ، وَيُلَقَّبَ بِحُسَامِ الدَّوْلَةِ، وَيُقْطَعَ الْمَوْصِلَ، وَالْكُوفَةَ، وَالْقَصْرَ وَالْجَامِعَيْنِ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، وَجَلَسَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ لَهُ. وَلَمْ يَفِ الْمُقَلِّدُ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ إِلَّا بِحَمْلِ الْمَالِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ، وَمَدَّ يَدَهُ فِي الْمَالِ، وَقَصَدَهُ الْمُتَصَرِّفُونَ وَالْأَمَاثِلُ، وَعَظُمَ قَدْرُهُ، وَقَبَضَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَى أَبِي

عَلِيٍّ، ثُمَّ هَرَبَ أَبُو عَلِيٍّ، نَائِبُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَاسْتَتَرَ وَسَارَ إِلَى الْبَطِيحَةِ مُسْتَتِرًا، مُلْتَجِئًا إِلَى مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَنْصُورِ بْنِ يُوسُفَ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ بَادِيسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمَنْصُورُ بْنُ يُوسُفَ بُلُكِّينَ أَمِيرُ إِفْرِيقِيَّةَ، أَوَائِلَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، خَارِجَ صَبْرَةَ، وَدُفِنَ بِقَصْرِهِ. وَكَانَ مَلِكًا كَرِيمًا، شُجَاعًا، حَازِمًا، وَلَمْ يَزَلْ مُظَفَّرًا مَنْصُورًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، مُحِبًّا لِلْعَدْلِ وَالرَّعِيَّةِ، أَوْسَعَهُمْ عَدْلًا، وَأَسْقَطَ الْبَقَايَا عَنْ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَتْ مَالًا جَلِيلًا. وَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ بَادِيسُ، وَيُكَنَّى أَبَا مَنَادٍ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي الْأَمْرِ سَارَ إِلَى سَرْدَانِيَةَ، وَأَتَاهُ النَّاسُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ لِلتَّعْزِيَةِ وَالتَّهْنِئَةِ، وَأَرَادَ بَنُو زِيرِي أَعْمَامُ أَبِيهِ أَنْ يُخَالِفُوا عَلَيْهِ، فَمَنَعَهُمْ أَصْحَابُ أَبِيهِ وَأَصْحَابُهُ. وَكَانَ مَوْلِدُ بَادِيسَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَتَتْهُ الْخِلَعُ وَالْعَهْدُ بِالْوِلَايَةِ مِنَ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ مِنْ مِصْرَ، فَقُرِئَ الْعَهْدُ، وَبَايَعَ لِلْحَاكِمِ هُوَ وَجَمَاعَةُ بَنِي عَمِّهِ وَالْأَعْيَانُ مِنَ الْقُوَّادِ. وَفِيهَا ثَارَ عَلَى بَادِيسَ رَجُلٌ صِنْهَاجِيٌّ اسْمُهُ خَلِيفَةُ بْنُ مُبَارَكٍ، فَأُخِذَ وَحُمِلَ إِلَى بَادِيسَ، فَأُرْكِبَ حِمَارًا، وَجُعِلَ خَلْفَهُ رَجُلٌ أَسْوَدُ يَصْفَعُهُ، وَطِيفَ بِهِ، وَلَمْ يُقْتَلِ احْتِقَارًا لَهُ وَسُجِنَ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ بَادِيسُ عَمَّهُ حَمَّادَ بْنَ يُوسُفَ بُلُكِّينَ عَلَى أَشِيرَ، وَأَقْطَعَهُ إِيَّاهَا،

وَأَعْطَاهُ مِنَ الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ وَالْعُدَدِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَخَرَجَ إِلَيْهَا، وَحَمَّادٌ هَذَا هُوَ جَدُّ بَنِي حَمَّادٍ الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَالْقَلْعَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَيْهِمْ مَشْهُورَةٌ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَمِنْهُمْ أَخَذَهَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَلِيٍّ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى الْفَاضِلِ وَزِيرِهِ، وَأَخَذَ مَالَهُ، وَاسْتَوْزَرَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ سَابُورَ بْنَ أَرْدَشِيَرَ، فَأَقَامَ نَحْوَ شَهْرَيْنِ، وَفَرَّقَ الْأَمْوَالَ، وَوَقَّعَ بِهَا لِلْقُوَّادِ قَصْدًا لِيُضْعِفَ بِهَاءَ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ هَرَبَ إِلَى الْبَطِيحَةِ، وَبَقِيَ مَنْصِبُ الْوِزَارَةِ فَارِغًا، وَاسْتُوزِرَ أَبُو الْعَبَّاسِ (عِيسَى) بْنُ سَرْجِسَ. وَفِيهَا اسْتَكْتَبَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَاجِبِ النُّعْمَانِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَبُو حَامِدِ (بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ) الْمُزَكِّيُّ، النَّيْسَابُورِيُّ، فِي شَعْبَانَ، وَكَانَ إِمَامًا، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو إِسْحَاقَ الْحِمْيَرِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالسُّكَّرِيِّ، وَبِالْحَرْبِيِّ، وَبِالْكَيَّالِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْأَغَرِّ دُبَيْسُ بْنُ عَفِيفٍ الْأَسَدِيُّ بِخُوزِسْتَانَ، وَأَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَطِيَّةَ الْمَكِّيُّ، صَاحِبُ " قُوتِ الْقُلُوبِ "، رُوِيَ أَنَّهُ صَنَّفَ " قُوتَ الْقُلُوبِ " وَكَانَ قُوتُهُ عُرُوقَ الْبَرْدِيِّ.

ثم دخلت سنة سبع وثمانين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 387 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مَوْتِ الْأَمِيرِ نُوحِ بْنِ مَنْصُورٍ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ مَنْصُورٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ الرَّضِيُّ نُوحُ بْنُ مَنْصُورٍ السَّامَانِيُّ فِي رَجَبٍ، وَاخْتَلَّ بِمَوْتِهِ مُلْكُ آلِ سَامَانَ، وَضَعُفَ أَمْرُهُمْ ضَعْفًا ظَاهِرًا، وَطَمِعَ فِيهِمْ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ، فَزَالَ مُلْكُهُمْ بَعْدَ مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ قَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْحَرْثِ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ، وَبَايَعَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْقُوَّادُ وَسَائِرُ النَّاسِ، وَفَرَّقَ فِيهِمْ بَقَايَا الْأَمْوَالِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى طَاعَتِهِ. وَقَامَ بِأَمْرِ دَوْلَتِهِ وَتَدْبِيرِهَا بَكْتُوزُونُ. وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ مَوْتِهِ إِلَى أَيْلَكَ خَانْ سَارَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ فَائِقُ الْخَاصَّةِ، فَسَيَّرَهُ جَرِيدَةً إِلَى بُخَارَى، فَلَمَّا سَمِعَ بِمَسِيرِهِ الْأَمِيرُ مَنْصُورٌ تَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ، وَأَعْجَلَهُ عَنِ التَّجَهُّزِ، فَسَارَ عَنْ بُخَارَى، وَقَطَعَ النَّهْرَ، وَدَخَلَ فَائِقٌ بُخَارَى، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ الْمُقَامَ بِخِدْمَةِ الْأَمِيرِ مَنْصُورٍ، رِعَايَةً لِحَقِّ أَسْلَافِهِ عَلَيْهِ، إِذْ هُوَ مَوْلَاهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَشَايِخُ بُخَارَى وَمُقَدَّمُهُمْ فِي الْعَوْدِ إِلَى بَلَدِهِ وَمُلْكِهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ نَفْسِهِ مَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، فَعَادَ إِلَيْهَا وَدَخَلَهَا وَوَلِيَ فَائِقٌ أَمْرَهُ وَحَكَمَ فِي دَوْلَتِهِ، وَوَلِيَ بَكْتُوزُونُ إِمْرَةَ الْجُيُوشِ بِخُرَاسَانَ. وَكَانَ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ حِينَئِذٍ مَشْغُولًا بِمُحَارَبَةِ أَخِيهِ إِسْمَاعِيلَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَسَارَ بَكْتُوزُونُ إِلَى خُرَاسَانَ فَوَلِيَهَا، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَوَاعِدُ بِهَا.

ذِكْرُ مَوْتِ سُبُكْتِكِينَ وَمُلْكِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ سُبُكْتِكِينُ فِي شَعْبَانَ، وَكَانَ مُقَامُهُ بِبَلْخَ، وَقَدِ ابْتَنَى بِهَا دُورًا وَمَسَاكِنَ، فَمَرِضَ، وَطَالَ مَرَضُهُ، وَانْزَاحَ إِلَى هَوَاءِ غَزْنَةَ، فَسَارَ عَنْ بَلْخَ إِلَيْهَا، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَنُقِلَ مَيِّتًا إِلَى غَزْنَةَ وَدُفِنَ فِيهَا، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ نَحْوَ عِشْرِينَ سَنَةً. وَكَانَ عَادِلًا، خَيِّرًا، كَثِيرَ الْجِهَادِ، حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، ذَا مُرُوَّةٍ تَامَّةٍ، وَحُسْنِ عَهْدٍ وَوَفَاءٍ، لَا جَرَمَ بَارَكَ اللَّهُ فِي بَيْتِهِ، وَدَامَ مُلْكُهُمْ مُدَّةً طَوِيلَةً جَازَتْ مُدَّةَ مُلْكِ السَّامَانِيَّةِ وَالسَّلْجُوقِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ ابْنُهُ مَحْمُودٌ أَوَّلَ مَنْ لُقِّبَ بِالسُّلْطَانِ، لَمْ يُلَقَّبْ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ. وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عَهِدَ إِلَى وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ، فَلَمَّا مَاتَ بَايَعَ الْجُنْدُ لِإِسْمَاعِيلَ، وَحَلَفُوا لَهُ، وَأَطْلَقَ لَهُمُ الْأَمْوَالَ، وَكَانَ أَصْغَرَ مِنْ أَخِيهِ مَحْمُودٍ، فَاسْتَضْعَفَهُ الْجُنْدُ، فَاشْتَطُّوا فِي الطَّلَبِ حَتَّى أَفْنَى الْخَزَائِنَ الَّتِي خَلَّفَهَا أَبُوهُ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ أَخِيهِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ عَلَى الْمُلْكِ لَمَّا تُوُفِّيَ سُبُكْتِكِينُ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى وَلَدِهِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودٍ بِنَيْسَابُورَ، جَلَسَ لِلْعَزَاءِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ إِسْمَاعِيلَ يُعَزِّيهِ بِأَبِيهِ، وَيُعَرِّفُهُ أَنَّ أَبَاهُ إِنَّمَا عَهِدَ إِلَيْهِ لِبُعْدِهِ عَنْهُ، وَيُذَكِّرُهُ مَا يَتَعَيَّنُ مِنْ تَقْدِيمِ الْكَبِيرِ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ الْوِفَاقَ، وَإِنْفَاذَ مَا يَخُصُّهُ مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ. فَلَمْ يَفْعَلْ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا فَلَمْ تَسْتَقِرَّ الْقَاعِدَةُ فَسَارَ مَحْمُودٌ عَنْ نَيْسَابُورَ إِلَى هَرَاةَ عَازِمًا عَلَى قَصْدِ أَخِيهِ بِغَزْنَةَ، وَاجْتَمَعَ بِعَمِّهِ بَغْرَاجِقَ بِهَرَاةَ، فَسَاعَدَهُ عَلَى أَخِيهِ إِسْمَاعِيلَ، وَسَارَ نَحْوَ بُسْتَ، وَبِهَا أَخُوهُ نَصْرٌ، فَتَبِعَهُ وَأَعَانَهُ وَسَارَ مَعَهُ إِلَى غَزْنَةَ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ بِبَلْخَ، فَسَارَ عَنْهَا مُجِدًّا، فَسَبَقَ أَخَاهُ مَحْمُودًا

إِلَيْهَا، وَكَانَ الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ مَعَ إِسْمَاعِيلَ كَاتَبُوا أَخَاهُ مَحْمُودًا يَسْتَدْعُونَهُ، وَوَعَدُوهُ الْمَيْلَ إِلَيْهِ، فَجَدَّ فِي الْمَسِيرِ، وَالْتَقَى هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ بِظَاهِرِ غَزْنَةَ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ إِسْمَاعِيلُ وَصَعِدَ إِلَى قَلْعَةِ غَزْنَةَ فَاعْتَصَمَ بِهَا، فَحَصَرَهُ أَخُوهُ مَحْمُودٌ وَاسْتَنْزَلَهُ بِأَمَانٍ. فَلَمَّا نَزَلَ إِلَيْهِ أَكْرَمَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَعْلَى مَنْزِلَتَهُ، وَشَرَكَهُ فِي مُلْكِهِ وَعَادَ إِلَى بَلْخَ وَاسْتَقَامَتِ الْمَمَالِكُ لَهُ. وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِ إِسْمَاعِيلَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَهُوَ فَاضِلٌ، حَسَنُ الْمَعْرِفَةِ، لَهُ نَظْمٌ وَنَثْرٌ، وَخُطَبٌ فِي بَعْضِ الْجُمُعَاتِ، فَكَانَ يَقُولُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ لِلْخَلِيفَةِ: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] . ذِكْرُ وَفَاةِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهٍ وَمُلْكِ ابْنِهِ مَجْدِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ أَبِي عَلِيٍّ الْحَسَنِ بْنِ بُوَيْهٍ بِقَلْعَةِ طَبَرْقَ فِي شَعْبَانَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَكَلَ لَحْمًا مَشْوِيًّا، وَأَكَلَ بَعْدَهُ عِنَبًا، فَأَخَذَهُ الْمَغَصُ، ثُمَّ اشْتَدَّ مَرَضُهُ فَمَاتَ مِنْهُ. فَلَمَّا مَاتَ كَانَتْ مَفَاتِيحُ الْخَزَائِنِ بِالرَّيِّ عِنْدَ أُمِّ وَلَدِهِ مَجْدِ الدَّوْلَةِ، فَطَلَبُوا لَهُ كَفَنًا فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَتَعَذَّرَ النُّزُولُ إِلَى الْبَلَدِ لِشِدَّةِ شَغَبِ الدَّيْلَمِ، فَاشْتَرَوْا لَهُ مِنْ قَيِّمِ الْجَامِعِ ثَوْبًا كَفَّنُوهُ فِيهِ، وَزَادَ شَغَبُ الْجُنْدِ فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْنُهُ فَبَقِيَ حَتَّى أَنْتَنَ ثُمَّ دَفَنُوهُ. وَحِينَ تُوُفِّيَ قَامَ بِمُلْكِهِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ مَجْدُ الدَّوْلَةِ أَبُو طَالِبٍ رُسْتَمُ، وَعُمْرُهُ أَرْبَعُ سِنِينَ، أَجْلَسَهُ الْأُمَرَاءُ فِي الْمُلْكِ، وَجَعَلُوا أَخَاهُ شَمْسَ الدَّوْلَةِ بِهَمَذَانَ وَقِرْمِيسِينَ إِلَى حُدُودِ الْعِرَاقِ. وَكَانَ الْمَرْجِعُ إِلَى وَالِدَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي تَدَبُّرِ الْمُلْكِ، وَعَنْ رَأْيِهَا

يَصْدُرُونَ، وَبَيْنَ يَدَيْهَا، فِي مُبَاشَرَةِ الْأَعْمَالِ، أَبُو طَاهِرٍ صَاحِبُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الضَّبِّيُّ الْكَافِي. ذِكْرُ وَفَاةِ مَأْمُونِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ عَلِيٍّ وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَأْمُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ، صَاحِبُ خُوَارَزْمَ وَالْجُرْجَانِيَّةِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ اجْتَمَعَ أَصْحَابُهُ عَلَى وَلَدِهِ عَلِيٍّ وَبَايَعُوهُ، وَاسْتَقَرَّ لَهُ مَا كَانَ لِأَبِيهِ، وَرَاسَلَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودَ بْنَ سُبُكْتِكِينَ، وَخَطَبَ إِلَيْهِ أُخْتَهُ، فَزَوَّجَهُ، وَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمَا وَصَارَا يَدًا وَاحِدَةً إِلَى أَنْ مَاتَ عَلِيٌّ وَقَامَ بَعْدَهُ أَخُوهُ أَبُو الْعَبَّاسِ مَأْمُونُ بْنُ مَأْمُونٍ، وَاسْتَقَرَّ فِي الْمُلْكِ، فَأَرْسَلَ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ يَخْطُبُ أُخْتَهُ أَيْضًا، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَزَوَّجَهُ، فَدَامَا أَيْضًا عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاتِّحَادِ مُدَّةً. وَسَيَرِدُ مِنْ أَخْبَارِهِ مَعَهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا تَقِفُ عَلَيْهِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَسَنِ وَمَا كَانَ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَسَنِ نَائِبُ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ بِخُوزِسْتَانَ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِعَسْكَرِ مُكْرَمٍ، وَكَانَ شَهْمًا، شُجَاعًا، حَسَنَ التَّدْبِيرِ، فَأَنْفَذَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ أَبَا عَلِيِّ بْنَ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ، وَمَعَهُ الْمَالُ، فَفَرَّقَهُ فِي الدَّيْلَمِ، وَسَارَ إِلَى جُنْدِيسَابُورَ فَدَفَعَ أَصْحَابُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ عَنْهَا، وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُمْ وَقَائِعُ كَثِيرَةٌ كَانَ الظَّفَرُ فِيهَا لَهُ، وَأَزَاحَ الْأَتْرَاكَ عَنْ خُوزِسْتَانَ، وَعَادُوا إِلَى وَاسِطَ، وَخَلَتْ لِأَبِي عَلِيٍّ الْبِلَادُ، وَرَتَّبَ الْعُمَّالَ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ، وَكَاتَبَ أَتْرَاكَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ وَاسْتَمَالَهُمْ، فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَاسْتَمَرَّ حَالُ أَبِي عَلِيٍّ فِي أَعْمَالِ خُوزِسْتَانَ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ مُكْرَمٍ وَالْأَتْرَاكَ عَادُوا مِنْ وَاسِطَ، وَاسْتَعَدَّ أَبُو عَلِيٍّ لِلْحَرْبِ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ وَقَائِعُ. وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَتْرَاكِ قُوَّةٌ عَلَى الدَّيْلَمِ، فَعَزَمُوا عَلَى الْعَوْدِ إِلَى وَاسِطَ

ثَانِيًا، فَاتَّفَقَ مَسِيرُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْقَنْطَرَةِ الْبَيْضَاءِ، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ الْمُقَلِّدُ عَلَى أَخِيهِ عَلِيٍّ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ أَصْحَابِهِمَا بِالْمَوْصِلِ، وَاشْتَغَلَ الْمُقَلِّدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ بِالْعِرَاقِ، فَلَمَّا خَلَا وَجْهُهُ وَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ عَزَمَ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْ أَصْحَابِ أَخِيهِ، ثُمَّ خَافَهُ، فَأَعْمَلَ الْحِيلَةَ فِي قَبْضِ أَخِيهِ، فَأَحْضَرَ عَسْكَرَهُ مِنَ الدَّيْلَمِ وَالْأَكْرَادِ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ قَصْدَ دَقُوقَا، وَحَلَّفَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَكَانَتْ دَارُهُ مُلَاصِقَةً دَارَ أَخِيهِ، فَنَقَّبَ فِي الْحَائِطِ وَدَخَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ سَكْرَانُ، فَأَخَذَهُ وَأَدْخَلَهُ الْخِزَانَةَ، وَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى زَوْجَتِهِ يَأْمُرُهَا بِأَخْذِ وَلَدَيْهِ قِرْوَاشٍ وَبَدْرَانَ وَاللَّحَاقِ بَتَكْرِيتَ، قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ أَخُوهُ الْحَسَنُ الْخَبَرَ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، وَخَلَصَتْ، وَكَانَتْ فِي الْحُلَّةِ الَّتِي لَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مِنْ تَكْرِيتَ. وَسَمِعَ الْحَسَنُ الْخَبَرَ، فَبَادَرَ إِلَى الْحُلَّةِ لِيَقْبِضَ أَوْلَادَ أَخِيهِ، فَلَمْ يَجِدْهُمْ وَأَقَامَ الْمُقَلِّدُ بِالْمَوْصِلِ يَسْتَدْعِي رُؤَسَاءَ الْعَرَبِ وَيَخْلَعُ عَلَيْهِمْ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ زُهَاءُ أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَسَارَ الْحَسَنُ فِي حُلَلِ أَخِيهِ، وَمَعَهُ أَوْلَادُ أَخِيهِ عَلِيٍّ وَحُرَمُهُ، وَيَسْتَنْفِرُهُمْ عَلَى الْمُقَلِّدِ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُمْ نَحْوُ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَرَاسَلَ الْمُقَلِّدُ يُؤْذِنُهُ بِالْحَرْبِ، فَسَارَ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَبَقِيَ بَيْنَهُمْ مَنْزِلٌ وَاحِدٌ، وَنَزَلَ بِإِزَاءِ الْعَلْثِ، فَحَضَرَهُ وُجُوهُ الْعَرَبِ، وَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَشَارَ بِالْحَرْبِ وَمِنْهُمْ رَافِعُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُقْنٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَشَارَ بِالْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَمِنْهُمْ غَرِيبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُقْنٍ، وَتَنَازَعَ هُوَ وَأَخُوهُ. فَبَيْنَمَا هُمْ (فِي ذَلِكَ) قِيلَ لِمُقَلِّدٍ: إِنَّ أُخْتَكَ رُهَيْلَةَ بِنْتَ الْمُسَيَّبِ تُرِيدُ لِقَاءَكَ

وَقَدْ جَاءَتْكَ، فَرَكِبَ وَخَرَجَ إِلَيْهَا، فَلَمْ تَزَلْ مَعَهُ حَتَّى أَطْلَقَ أَخَاهُ عَلِيًّا، وَرَدَّ إِلَيْهِ مَالَهُ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، وَأَنْزَلَهُ فِي خِيَمٍ ضَرَبَهَا لَهُ. فَسُرَّ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَتَحَالَفَا، وَعَادَ عَلِيٌّ إِلَى حُلَّتِهِ. وَعَادَ الْمُقَلِّدُ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَتَجَهَّزَ لِلْمَسِيرِ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَزَيْدٍ الْأَسَدِيِّ لِأَنَّهُ تَعَصَّبَ لِأَخِيهِ عَلِيٍّ، وَقَصَدَ وِلَايَةَ الْمُقَلِّدِ بِالْأَذَى فَسَارَ إِلَيْهِ. وَلَمَّا خَرَجَ عَلِيٌّ مِنْ مَحْبِسِهِ اجْتَمَعَ الْعَرَبُ إِلَيْهِ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِقَصْدِ أَخِيهِ الْمُقَلِّدِ، فَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَبِهَا أَصْحَابُ الْمُقَلِّدِ، فَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ، فَافْتَتَحَهَا فَسَمِعَ الْمُقَلِّدُ بِذَلِكَ، فَعَادَ إِلَيْهِ، وَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ بِحُلَّةِ أَخِيهِ الْحَسَنِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَرَأَى كَثْرَةَ عَسْكَرِهِ، فَخَافَ عَلَى أَخِيهِ عَلِيٍّ مِنْهُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْوُقُوفِ لِيُصْلِحَ الْأَمْرَ، وَسَارَ إِلَى أَخِيهِ عَلِيٍّ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْأَعْوَرَ، يَعْنِي الْمُقَلِّدَ قَدْ أَتَاكَ بِحَدِّهِ وَحَدِيدِهِ وَأَنْتَ غَافِلٌ، وَأَمَرَهُ بِإِفْسَادِ عَسْكَرِ الْمُقَلِّدِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ، فَظَفِرَ الْمُقَلِّدُ بِالْكُتُبِ فَأَخَذَهَا وَسَارَ مُجِدًّا إِلَى الْمَوْصِلِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَخَوَاهُ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَصَالَحَاهُ، وَدَخَلَ الْمَوْصِلَ وَهُمَا مَعَهُ. ثُمَّ خَافَ عَلِيٌّ فَهَرَبَ مِنَ الْمَوْصِلِ لَيْلًا، وَتَبِعَهُ الْحَسَنُ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَدْخُلَ أَحَدُهُمَا الْبَلَدَ فِي غَيْبَةِ الْآخَرِ، وَبَقَوْا كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . وَمَاتَ عَلِيٌّ سَنَةَ تِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] وَقَامَ الْحَسَنُ مَقَامَهُ، فَقَصَدَهُ الْمُقَلِّدُ وَمَعَهُ بَنُو خَفَاجَةَ، فَهَرَبَ الْحَسَنُ إِلَى الْعِرَاقِ، وَتَبِعَهُ الْمُقَلِّدُ فَلَمْ يُدْرِكْهُ فَعَادَ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْمُقَلِّدِ، بَعْدَ أَخِيهِ عَلِيٍّ، سَارَ إِلَى بَلَدِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيِّ فَدَخَلَهُ ثَانِيَةً، وَالْتَجَأَ ابْنُ مَزْيَدٍ إِلَى مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ، فَتَوَسَّطَ مَا بَيَّنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَلِّدِ، وَأَصْلَحَ الْأَمْرَ مَعَهُ، وَسَارَ الْمُقَلِّدُ إِلَى دَقُوقَا فَمَلَكَهَا. ذِكْرُ مُلْكِ جُبْرَئِيلَ دَقُوقَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ جُبْرَئِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ دَقُوقَا. وَجُبْرَئِيلُ هَذَا كَانَ مِنَ الرَّجَّالَةِ

الْفُرْسِ بِبَغْدَاذَ، وَخَدَمَ مُهَذَّبَ الدَّوْلَةِ بِالْبَطِيحَةِ، فَهَمَّ بِالْغَزْوِ، وَجَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا، وَاشْتَرَى السِّلَاحَ وَسَارَ فَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ بِدَقُوقَا، فَوَجَدَ الْمُقَلِّدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُحَاصِرُهَا، فَاسْتَغَاثَ أَهْلُهَا بِجُبْرَئِيلَ فَحَمَاهُمْ وَمَنَعَ عَنْهُمْ. وَكَانَ بِدَقُوقَا رَجُلَانِ نَصْرَانِيَّانِ قَدْ تَمَكَّنَا فِي الْبَلَدِ، وَحَكَمَا فِيهِ، وَاسْتَعْبَدَا أَهْلَهُ، فَاجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى جُبْرَئِيلَ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّكَ تُرِيدُ الْغَزْوَ، وَلَسْتَ تَدْرِي أَتَبْلُغُ غَرَضًا أَمْ لَا، وَعِنْدَنَا مِنْ هَذَيْنِ النَّصْرَانِيَّيْنِ مَنْ قَدْ تَعَبَّدَنَا، وَحَكَمَ عَلَيْنَا، فَلَوْ أَقَمْتَ عِنْدَنَا، وَكَفَيْتَنَا أَمْرَهُمَا، سَاعَدْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ. فَأَقَامَ وَقَبَضَ عَلَيْهِمَا، وَأَخَذَ مَالَهُمَا، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، فَمَلَكَ الْبَلَدَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَثَبَتَ قَدَمُهُ، وَأَحْسَنَ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَعَدَلَ فِيهِمْ، وَبَقِيَ مُدَّةً عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ. ثُمَّ مَلَكَهَا الْمُقَلِّدُ، وَمَلَكَهَا بَعْدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عِنَازٍ، ثُمَّ أَخَذَهَا بَعْدَهُ قِرْوَاشٌ، ثُمَّ انْتَقَلَتْ إِلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ أَبِي غَالِبٍ، فَعَادَ جُبْرَئِيلُ هَذَا حِينَئِذٍ إِلَى دَقُوقَا، وَاجْتَمَعَ مَعَ أَمِيرٍ مِنَ الْأَكْرَادِ يُقَالُ لَهُ مُوصَكُ بْنُ جَكَوَيْهِ، وَدَفَعَا عُمَّالَ فَخْرِ الدَّوْلَةِ عَنْهَا وَأَخَذَاهَا، فَقَصَدَهَا بَدْرَانُ بْنُ الْمُقَلِّدِ وَغَلَبَهُمَا وَأَخَذَهَا مِنْهُمَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَزْيَدٍ عَنْ طَاعَةِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ عَسْكَرًا، فَهَرَبَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ إِلَى مَكَانٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ فِيهِ، ثُمَّ أَرْسَلَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ وَأَصْلَحَ حَالَهُ مَعَهُ وَعَادَ إِلَى طَاعَتِهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْوَفَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَنْدِسِيِّ الْحَاسِبُ. وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ

الْعُكْبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بَطَّةَ الْحَنْبَلِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ زَاهِدًا، عَابِدًا، عَالِمًا، ضَعِيفًا فِي الرِّوَايَةِ. وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، تُوُفِّيَ أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ سَمْعُونَ، الْوَاعِظُ، الزَّاهِدُ، لَهُ كَرَامَاتٌ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ. وَفِيهَا، تَاسِعَ ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ، الرَّاوِيَةُ، الْعَلَّامَةُ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ فِي الْأَدَبِ، وَاللُّغَةِ، وَالْأَمْثَالِ، وَغَيْرِهَا.

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 388 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ عَوْدِ أَبِي الْقَاسِمِ السِّيمْجُورِيُّ إِلَى نَيْسَابُورَ قَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ سِيمْجُورَ أَخِي أَبِي عَلِيٍّ إِلَى جُرْجَانَ وَمُقَامِهِ بِهَا. فَلَمَّا مَاتَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَقَامَ عِنْدَ وَلَدِهِ مَجْدِ الدَّوْلَةِ، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَخِيهِ. وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى شَمْسِ الْمَعَالِي يَسْتَدْعِيهِ مِنْ نَيْسَابُورَ لِيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ حَتَّى وَافَى جُرْجَانَ، فَلَمَّا بَلَغَهَا رَأَى أَبَا الْقَاسِمِ قَدْ سَارَ عَنْهَا، فَعَادَ شَمْسُ الْمَعَالِي إِلَى نَيْسَابُورَ. فَكَتَبَ فَائِقٌ مِنْ بُخَارَى إِلَى أَبِي الْقَاسِمِ يُغْرِيهِ بِبَكْتُوزُونَ، وَيَأْمُرُهُ بِقَصْدِ خُرَاسَانَ، وَإِخْرَاجِ بَكْتُوزُونَ عَنْهَا لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا. فَسَارَ أَبُو الْقَاسِمِ عَنْ جُرْجَانَ نَحْوَ نَيْسَابُورَ، وَسَيَّرَ سَرِيَّةً إِلَى أَسْفَرَايِينَ، وَبِهَا عَسْكَرٌ لِبَكْتُوزُونَ، فَقَاتَلُوهُمْ وَأَجْلَوْهُمْ عَنْ أَسْفَرَايِينَ، وَاسْتَوْلَى أَصْحَابُ أَبِي الْقَاسِمِ عَلَيْهَا، وَسَارَ أَبُو الْقَاسِمِ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَالْتَقَى هُوَ وَبَكْتُوزُونُ بِظَاهِرِهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ فَانْهَزَمَ أَبُو الْقَاسِمِ وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأُسِرَ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَسَارَ أَبُو الْقَاسِمِ إِلَى قُهُسْتَانَ وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ، وَسَارَ إِلَى بُوشَنْجَ وَاحْتَوَى عَلَيْهَا، وَتَصَرَّفَ فِيهَا، فَسَارَ إِلَيْهِ بَكْتُوزُونَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، حَتَّى اصْطَلَحَا وَتَصَاهَرَا، وَعَادَ بَكْتُوزُونُ إِلَى نَيْسَابُورَ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ عَلَى نَيْسَابُورَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا لَمَّا فَرَغَ مَحْمُودٌ مِنْ أَمْرِ أَخِيهِ، وَمَلَكَ غَزْنَةَ، وَعَادَ إِلَى بَلْخَ رَأَى بَكْتُوزُونَ قَدْ وَلِيَ خُرَاسَانَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحٍ يَذْكُرُ طَاعَتَهُ وَالْمُحَامَاةَ عَنْ دَوْلَتِهِ، وَيَطْلُبُ خُرَاسَانَ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ يَعْتَذِرُ عَنْ خُرَاسَانَ وَيَأْمُرُهُ بِأَخْذِ تِرْمِذَ وَبَلْخَ وَمَا وَرَاءَهَا مِنْ أَعْمَالِ بُسْتَ وَهَرَاةَ، فَلَمْ يَقْنَعْ بِذَلِكَ، وَأَعَادَ الطَّلَبَ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا تَيَقَّنَ الْمَنْعَ سَارَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَبِهَا بَكْتُوزُونُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ مَسِيرِهِ نَحْوَهُ رَحَلَ عَنْهَا، فَدَخَلَهَا مَحْمُودٌ وَمَلَكَهَا. فَلَمَّا سَمِعَ الْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ سَارَ عَنْ بُخَارَى نَحْوَ نَيْسَابُورَ، فَلَمَّا عَلِمَ مَحْمُودٌ بِذَلِكَ سَارَ عَنْ نَيْسَابُورَ إِلَى مَرْوَ الرُّوذِ، وَنَزَلَ عِنْدَ قَنْطَرَةِ رَاعُولَ يَنْتَظِرُ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ. ذِكْرُ عَوْدِ قَابُوسٍ إِلَى جُرْجَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ شَمْسُ الْمَعَالِي قَابُوسُ بْنُ وَشْمَكِيرَ إِلَى جُرْجَانَ وَمَلَكَهَا، وَلَمَّا مَلَكَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهٍ جُرْجَانَ وَالرَّيَّ أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ جُرْجَانَ إِلَى قَابُوسٍ، فَرَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ، وَعَظَّمَهَا فِي عَيْنِهِ، فَأَعْرَضَ عَنِ الَّذِي أَرَادَهُ، وَنَسِيَ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الصُّحْبَةِ بِخُرَاسَانَ، وَأَنَّهُ بِسَبَبِهِ خَرَجَتِ الْبِلَادُ عَنْ يَدِ قَابُوسٍ، وَالْمُلْكُ عَقِيمٌ. (وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفَ أُخِذَتْ مِنْهُ، وَمُقَامَهُ بِخُرَاسَانَ، وَإِنْفَاذَ مُلُوكِ السَّامَانِيَّةِ الْجُيُوشَ فِي نُصْرَتِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَلَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ تَعَالَى عَوْدَةَ الْمُلْكِ إِلَيْهِ) . وَلَمَّا وَلِيَ سُبُكْتِكِينُ خُرَاسَانَ اجْتَمَعَ بِهِ وَوَعَدَهُ أَنْ يُسَيِّرَ مَعَهُ الْجُيُوشَ لِيَرُدَّهُ إِلَى مَمْلَكَتِهِ، فَمَضَى إِلَى بَلْخَ وَمَرِضَ وَمَاتَ. فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ، بَعْدَ مَوْتِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، وَسَيَّرَ شَمْسُ الْمَعَالِي قَابُوسُ الْأَصْبَهْبَذَ شَهْرَيَارَ (بْنَ شَرْوِينَ إِلَى جَبَلِ شَهْرَيَارَ) ، وَعَلَيْهِ رُسْتَمُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ، خَالُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، فَاقْتَتَلَا، فَانْهَزَمَ رُسْتَمُ، وَاسْتَوْلَى الْأَصْبَهْبَذُ عَلَى الْجَبَلِ، وَخَطَبَ لِشَمْسِ الْمَعَالِي، وَكَانَ بَاتِي بْنُ سَعِيدٍ بِنَاحِيَةِ الاسْتِنْدَارِيَّةِ، وَلَهُ مَيْلٌ إِلَى

شَمْسِ الْمَعَالِي، فَسَارَ إِلَى آمُلَ، وَبِهَا عَسْكَرٌ لِمَجْدِ الدَّوْلَةِ، فَطَرَدَهُمْ عَنْهَا وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَخَطَبَ لِقَابُوسٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ جُرْجَانَ كَتَبُوا إِلَى قَابُوسٍ يَسْتَدْعُونَهُ، (فَسَارَ إِلَيْهِمْ مِنْ نَيْسَابُورَ) ، وَسَارَ الْأَصْبَهْبَذُ وَبَاتِي بْنُ سَعِيدٍ إِلَى جُرْجَانَ، وَبِهَا عَسْكَرٌ لِمَجْدِ الدَّوْلَةِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ إِلَى جُرْجَانَ، فَلَمَّا بَلَغُوهَا صَادَفُوا مُقَدَّمَةَ قَابُوسٍ قَدْ بَلَغَتْهَا، فَأَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ، وَانْهَزَمُوا مِنْ أَصْحَابِ قَابُوسٍ هَزِيمَةً ثَانِيَةً، وَكَانَتْ قَرْحًا عَلَى قَرْحٍ، وَدَخَلَ شَمْسُ الْمَعَالِي جُرْجَانَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَبَلَغَ الْمُنْهَزِمُونَ الرَّيَّ، فَجُهِّزَتِ الْعَسَاكِرُ مِنَ الرَّيِّ نَحْوَ جُرْجَانَ، فَسَارُوا وَحَصَرُوهَا، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِالْبَلَدِ، وَضَاقَتِ الْأُمُورُ بِالْعَسْكَرِ أَيْضًا، وَتَوَالَتْ عَلَيْهِمُ الْأَمْطَارُ وَالرِّيَاحُ، فَاضْطَرُّوا إِلَى الرَّحِيلِ، فَتَبِعَهُمْ شَمْسُ الْمَعَالِي فَلِحَقَهُمْ وَوَاقَعَهُمْ فَاقْتَتَلُوا، وَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الرَّيِّ وَأُسِرَ مِنْ أَعْيَانِهِمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَقُتِلَ (أَكْثَرُ مِنْهُمْ) ، فَأَطْلَقَ شَمْسُ الْمَعَالِي الْأَسْرَى، وَاسْتَوْلَى عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ مَا بَيْنَ جُرْجَانَ وَأَسْتَرَابَاذَ. ثُمَّ إِنَّ الْأَصْبَهْبَذَ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالِاسْتِقْلَالِ، وَالتَّفَرُّدِ عَنْ قَابُوسٍ، وَاغْتَرَّ بِمَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّخَائِرِ، فَسَارَتْ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرُ مِنَ الرَّيِّ، وَعَلَيْهَا الْمَرْزُبَانُ، خَالُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ، فَهَزَمُوا الْأَصْبَهْبَذَ وَأَسَرُوهُ، وَنَادَوْا بِشِعَارِ شَمْسِ الْمَعَالِي لِوَحْشَةٍ كَانَتْ عِنْدَ الْمَرْزُبَانِ مِنْ مَجْدِ الدَّوْلَةِ، وَكَتَبَ إِلَى شَمْسِ الْمَعَالِيَ بِذَلِكَ، وَانْضَافَتْ مَمْلَكَةُ الْجَبَلِ جَمِيعُهَا إِلَى مَمَالِكِ جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ، فَوَلَّاهَا شَمْسُ الْمَعَالِي وَلَدَهُ مَنُوجَهْرَ، فَفَتَحَ الرُّويَانَ وَسَالُوسَ، وَرَاسَلَ قَابُوسٌ يَمِينَ الدَّوْلَةِ مَحْمُودًا، وَهَادَاهُ، وَصَالَحَهُ، وَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ. ذِكْرُ مَسِيرِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطَ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ إِلَى طَاعَةِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ بِوَاسِطَ،

فَوَزَرَ لَهُ، وَدَبَّرَ أَمْرَهُ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ مُكْرَمٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنْدِ وَمُسَاعَدَتِهِمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَارَ عَلَى كُرْهٍ وَضِيقٍ، فَنَزَلَ بِالْقَنْطَرَةِ الْبَيْضَاءِ، وَثَبَّتَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ وَعَسْكَرُهُ، وَجَرَى لَهُمْ مَعَهُ وَقَائِعُ كَثِيرَةٌ. وَضَاقَ الْأَمْرُ بِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ الْأَقْوَاتُ، فَاسْتَمَدَّ بَدْرَ بْنَ حَسْنُوَيْهِ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ شَيْئًا قَامَ بِبَعْضِ مَا يُرِيدُهُ، وَأَشْرَفَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى الْخَطَرِ، وَسَعَى أَعْدَاءُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بِهِ حَتَّى كَادَ يَبْطِشُ بِهِ، فَتَجَدَّدَ مِنْ أَمْرِ ابْنَيْ بَخْتِيَارَ وَقَتْلِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ، وَأَتَاهُ الْفَرَجُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبْ، وَصَلُحَ أَمْرُ أَبِي عَلِيٍّ عِنْدَهُ، وَاجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ قَتْلِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، قُتِلَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ بْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنَ الدَّيْلَمِ اسْتَوْحَشُوا مِنْ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِعَرْضِهِمْ، وَإِسْقَاطِ مَنْ لَيْسَ بِصَحِيحِ النَّسَبِ، فَأَسْقَطَ مِنْهُمْ مِقْدَارَ أَلْفِ رَجُلٍ، فَبَقَوْا حَيَارَى لَا يَدْرُونَ مَا يَصْنَعُونَ. وَاتُّفِقَ أَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ وَأَبَا نَصْرٍ ابْنَيْ عِزِّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ كَانَا مَقْبُوضَيْنِ، فَخَدَعَا الْمُوَكَّلِينَ بِهِمَا فِي الْقَلْعَةِ، فَأَفْرَجُوا عَنْهُمَا فَجَمَعَا لَفِيفًا مِنَ الْأَكْرَادِ، وَاتَّصَلَ خَبَرُهُمَا بِالَّذِينِ أُسْقِطُوا مِنَ الدَّيْلَمِ، فَأَتَوْهُمْ، وَقَصَدُوا إِلَى أَرَّجَانَ، فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهَا الْعَسَاكِرُ، وَتَحَيَّرَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يُدَبِّرُهُ. وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ أُسْتَاذُ هُرْمُزَ مُقِيمًا بِفَسَا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ بِتَفْرِيقِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ فِي الرِّجَالِ، وَالْمَسِيرِ إِلَى صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، وَأَخَذَهُ إِلَى عَسْكَرِهِ

بِالْأَهْوَازِ وَخَوَّفَهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ. فَشَحَّ بِالْمَالِ، فَثَارَ بِهِ الْجُنْدُ وَنَهَبُوا دَارَهُ وَهَرَبُوا، فَاخْتَفَى، فَأُخِذَ وَأُتِيَ بِهِ إِلَى ابْنِي بَخْتِيَارَ، فَحُبِسَ، ثُمَّ احْتَالَ فَنَجَا. وَأَمَّا صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ فَإِنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِالصُّعُودِ إِلَى الْقَلْعَةِ الَّتِي عَلَى بَابِ شِيرَازَ وَالِامْتِنَاعِ بِهَا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ عَسْكَرُهُ وَمَنْ يَمْنَعُهُ، فَأَرَادَ الصُّعُودَ إِلَيْهَا، فَلَمْ يُمَكِّنْهُ الْمُسْتَحْفِظُ بِهَا، وَكَانَ مَعَهُ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ، فَقَالُوا لَهُ: الرَّأْيُ أَنَّنَا نَأْخُذُكَ وَوَالِدَتَكَ، وَنَسِيرُ إِلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ، وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِقَصْدِ الْأَكْرَادِ وَأَخْذِهِمْ وَالتَّقَوِّي بِهِمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ بِخَزَائِنِهِ وَأَمْوَالِهِ، فَنَهَبُوهُ، وَأَرَادُوا أَخْذَهُ فَهَرَبَ وَسَارَ إِلَى الدُّودَمَانِ، عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ شِيرَازَ. وَعَرَفَ أَبُو نَصْرِ بْنُ بَخْتِيَارَ الْخَبَرَ، فَبَادَرَ إِلَى شِيرَازَ، وَوَثَبَ رَئِيسُ الدُّودَمَانِ، وَاسْمُهُ طَاهِرٌ، بِصَمْصَامِ الدَّوْلَةِ فَأَخَذَهُ، وَأَتَاهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ بَخْتِيَارَ وَأَخَذَهُ مِنْهُ فَقَتَلَهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا حُمِلَ رَأْسُهُ إِلَيْهِ قَالَ: هَذِهِ سُنَّةٌ سَنَّهَا أَبُوكَ، يَعْنِي مَا كَانَ مِنْ قَتْلِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ. وَكَانَ عُمْرُ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَمُدَّةُ إِمَارَتِهِ بِفَارِسَ تِسْعَ سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ كَرِيمًا حَلِيمًا. وَأَمَّا وَالِدَتُهُ فَسُلِّمَتْ إِلَى بَعْضِ قُوَّادِ الدَّيْلَمِ، فَقَتَلَهَا وَبَنَى عَلَيْهَا دَكَّةً فِي دَارِهِ فَلَمَّا مَلَكَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ فَارِسَ أَخْرَجَهَا وَدَفَنَهَا فِي تُرْبَةِ بَنِي بُوَيْهٍ. ذِكْرُ هَرَبِ ابْنِ الْوَثَّابِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَرَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْوَثَّابِ مِنَ الِاعْتِقَالِ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ. وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ يَقْرُبُ بِالنَّسَبِ مِنَ الطَّائِعِ، فَلَمَّا خُلِعَ الطَّائِعُ هَرَبَ هَذَا وَصَارَ

عِنْدَ مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ، فَأَرْسَلَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ فِي أَمْرِهِ، فَأَخْرَجَهُ، فَسَارَ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَأَتَى خَبَرُهُ إِلَى الْقَادِرِ فَأَخَذَهُ وَحَبَسَهُ، فَهَرَبَ هَذِهِ السَّنَةَ، وَمَضَى إِلَى كِيلَانَ، وَادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الطَّائِعُ لِلَّهِ، وَذَكَرَ مِنْ أُمُورِ الْخِلَافَةِ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ، وَزَوَّجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، مُقَدَّمُ كِيلَانَ، وَشَدَّ مِنْهُ، وَأَقَامَ لَهُ الدَّعْوَةَ، وَأَطَاعَهُ أَهْلُ نَوَاحٍ أُخَرَ، وَأَدَّوْا إِلَيْهِ الْعُشْرَ عَلَى عَادَتِهِمْ. وَوَرَدَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ جَمَاعَةٌ يَحُجُّونَ، فَأَحْضَرَهُمُ الْقَادِرُ وَكَشَفَ لَهُمْ حَالَهُ، وَكَتَبَ عَلَى أَيْدِيهِمْ كُتُبًا فِي الْمَعْنَى، فَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِيهِ. وَكَانَ أَهْلُ كِيلَانَ يَرْجِعُونَ إِلَى الْقَاضِي أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ كَجٍّ، فَكُوتِبَ مِنْ بَغْدَاذَ فِي الْمَعْنَى، فَكَشَفَ لَهُمُ الْأَمْرَ، فَأَخْرَجُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَظُمَ أَمْرُ بَدْرِ بْنِ حَسْنُوَيْهِ، وَعَلَا شَأْنُهُ، وَلُقِّبَ، مِنْ دِيوَانِ الْخَلِيفَةِ، نَاصِرَ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ بِالْحَرَمَيْنِ، وَيُكْثِرُ الْخَرْجَ عَلَى الْعَرَبِ بِطَرِيقِ مَكَّةَ لِيَكُفُّوا عَنْ أَذَى الْحُجَّاجِ، وَمَنَعَ أَصْحَابَهُ مِنَ الْفَسَادِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، فَعَظُمَ مَحَلُّهُ وَسَارَ ذِكْرُهُ. وَفِيهَا نَظَرَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي الرَّيَّانِ فِي الْوِزَارَةِ بِوَاسِطَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يُوسُفَ الْجَكَّارُ.

ثم دخلت سنة تسع وثمانين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 389 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحٍ وَمُلْكِ أَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُبِضَ عَلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحِ بْنِ مَنْصُورٍ السَّامَانِيِّ، صَاحِبِ بُخَارَى وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَمَلَكَ أَخُوهُ عَبْدُ الْمَلِكِ. وَسَبَبُ قَبْضِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَصْدِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ بَكْتُوزُونَ بِخُرَاسَانَ، وَعَوْدِهِ عَنْ نَيْسَابُورَ إِلَى مَرْوَ الرُّوذِ، فَلَمَّا نَزَلَهَا سَارَ بَكْتُوزُونُ إِلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورٍ وَهُوَ بِسَرَخْسَ، فَاجْتَمَعَ بِهِ فَلَمْ يَرَ مِنْ إِكْرَامِهِ وَبِرِّهِ مَا كَانَ يُؤَمِّلُهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى فَائِقٍ فَقَابَلَهُ فَائِقٌ بِأَضْعَافِ شَكْوَاهُ، فَاتَّفَقَا عَلَى خَلْعِهِ مِنَ الْمُلْكِ، وَإِقَامَةِ أَخِيهِ مَقَامَهُ، وَأَجَابَهُمَا إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْعَسْكَرِ، فَاسْتَحْضَرَهُ بَكْتُوزُونُ بِعِلَّةِ الِاجْتِمَاعِ لِتَدَبُّرِ مَا هُمْ بِصَدَدِهِ مِنْ أَمْرِ مَحْمُودٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِهِ قَبَضُوا عَلَيْهِ، وَأَمَرَ بَكْتُوزُونُ مَنْ سَمَلَهُ فَأَعْمَاهُ، وَلَمْ يُرَاقِبِ اللَّهَ وَلَا إِحْسَانَ مَوَالِيهِ، وَأَقَامُوا أَخَاهُ عَبْدَ الْمَلِكِ مَقَامَهُ فِي الْمُلْكِ، وَهُوَ صَبِيٌّ صَغِيرٌ. وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَةِ مَنْصُورٍ سَنَةً وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ. وَمَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَأَرْسَلَ مَحْمُودٌ إِلَى فَائِقٍ وَبَكْتُوزُونَ يَلُومُهُمَا وَيُقَبِّحُ فِعْلَهُمَا، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ عَلَى لِقَائِهِمَا، وَطَمِعَ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِالْمُلْكِ، فَسَارَ نَحْوَهُمَا عَازِمًا عَلَى الْقِتَالِ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ عَلَى خُرَاسَانَ لَمَّا قُبِضَ الْأَمِيرُ مَنْصُورٌ سَارَ مَحْمُودٌ نَحْوَ فَائِقٍ وَبَكْتُوزُونَ، وَمَعَهُمَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نُوحٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِمَسِيرِهِ سَارُوا إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا بِمَرْوَ آخِرَ جُمَادَى الْأُولَى، وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ إِلَى اللَّيْلِ، فَانْهَزَمَ بَكْتُوزُونُ وَفَائِقٌ وَمَنْ مَعَهُمَا. فَأَمَّا عَبْدُ الْمَلِكِ وَفَائِقٌ فَإِنَّهُمَا لَحِقَا بِبُخَارَى، وَقَصَدَ بَكْتُوزُونُ نَيْسَابُورَ، وَقَصَدَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ سِيمْجُورُ قُهُسْتَانَ، فَرَأَى مَحْمُودٌ أَنْ يَقْصِدَ بَكْتُوزُونَ وَأَبَا الْقَاسِمِ، وَيُعَجِّلَهُمَا عَنِ الِاجْتِمَاعِ وَالِاحْتِشَادِ فَسَارَ إِلَى طُوسَ، فَهَرَبَ مِنْهُ بَكْتُوزُونُ إِلَى نَوَاحِي جُرْجَانَ، فَأَرْسَلَ مَحْمُودٌ خَلْفَهُ أَكْبَرَ قُوَّادِهِ وَأُمَرَائِهِ وَهُوَ أَرْسِلَانُ الْجَاذِبُ فِي عَسْكَرٍ جَرَّارٍ، فَاتَّبَعَهُ حَتَّى أَلْحَقَهُ بِجُرْجَانَ، وَعَادَ فَاسْتَخْلَفَهُ مَحْمُودٌ عَلَى طُوسَ، وَسَارَ إِلَى هَرَاةَ. فَلَمَّا عَلِمَ بَكْتُوزُونُ بِمَسِيرِ مَحْمُودٍ عَنْ نَيْسَابُورَ عَادَ إِلَيْهَا فَمَلَكَهَا، فَقَصَدَهُ مَحْمُودٌ، فَأَجْفَلَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ إِجْفَالَ الظَّلِيمِ، وَاجْتَازَ بِمَرْوَ فَنَهَبَهَا، وَسَارَ عَنْهَا إِلَى بُخَارَى، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ مَحْمُودٍ بِخُرَاسَانَ، فَأَزَالَ عَنْهَا اسْمَ السَّامَانِيَّةِ، وَخُطِبَ (فِيهَا لِلْقَادِرِ بِاللَّهِ، وَكَانَ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ لَا يُخْطَبُ لَهُ فِيهَا، إِنَّمَا كَانَ يُخْطَبُ) لِلطَّائِعِ لِلَّهِ، وَاسْتَقَلَّ بِمُلْكِهَا مُنْفَرِدًا، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ. وَوَلَّى مَحْمُودٌ قِيَادَةَ جُيُوشِ خُرَاسَانَ أَخَاهُ نَصْرًا، وَجَعَلَهُ بِنَيْسَابُورَ عَلَى مَا كَانَ يَلِيهِ آلُ سِيمْجُورَ لِلسَّامَانِيَّةِ، وَسَارَ هُوَ إِلَى بَلْخَ، مُسْتَقَرِّ وَالِدِهِ، فَاتَّخَذَهَا دَارَ مُلْكٍ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ بِخُرَاسَانَ عَلَى طَاعَتِهِ كَآلِ فَرِيغُونَ، أَصْحَابِ الْجُوزَجَانِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَالشَّارِ الشَّاهْ، صَاحِبِ غَرْشِسْتَانَ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَاهُنَا

أَخْبَارَ هَذَا الشَّارِ، فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا اللَّقَبَ هُوَ الشَّارُ، لَقَبُ كُلِّ مَنْ يَمْلِكُ بِلَادَ غَرْشِسْتَانَ، كَكِسْرَى لِلْفُرْسِ، وَقَيْصَرَ لِلرُّومِ، وَالنَّجَّاشِيِّ لِلْحَبَشَةِ، وَكَانَ الشَّارُ أَبُو نَصْرٍ قَدِ اعْتَزَلَ الْمُلْكَ وَسَلَّمَهُ إِلَى وَلَدِهِ الشَّاهْ، وَفِيهِ لُوثَةٌ وَهَوَجٌ، وَاشْتَغَلَ وَالِدُهُ أَبُو نَصْرٍ بِالْعُلُومِ وَمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ. وَلَمَّا عَصَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِيمْجُورَ عَلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ أَرْسَلَ إِلَى غَرْشِسْتَانَ مَنْ حَصَرَهَا، وَأَجْلَى عَنْهَا الشَّاهِ الشَّارَ وَوَالِدَهُ أَبَا نَصْرٍ، فَقَصَدَا حِصْنًا مَنِيعًا فِي آخِرِ وِلَايَتِهِمَا، فَتَحَصَّنَا بِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ سُبُكْتِكِينُ إِلَى نُصْرَةِ الْأَمِيرِ نُوحٍ، فَنَزَلَا إِلَيْهِ وَأَعَانَاهُ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ وَعَادَا إِلَى مُلْكِهِمَا. فَلَمَّا مَلَكَ الْآنَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودٌ خُرَاسَانَ أَطَاعَاهُ وَخَطَبَا لَهُ. ثُمَّ إِنَّ يَمِينَ الدَّوْلَةِ، بَعْدَ هَذَا، أَرَادَ الْغَزْوَةَ إِلَى الْهِنْدِ، فَجَمَعَ لَهَا وَتَجَهَّزَ، وَكَتَبَ إِلَى الشَّاهِ الشَّارِ يَسْتَدْعِيهِ لِيَشْهَدَ مَعَهُ غَزْوَتَهُ فَامْتَنَعَ وَعَصَى، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غَزْوَتِهِ، سَيَّرَ إِلَيْهِ الْجُيُوشَ لِيَمْلِكُوا بِلَادَهُ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْبِلَادَ طَلَبَ وَالِدُهُ أَبُو نَصْرٍ الْأَمَانَ، فَأُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ، وَحُمِلَ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ فَأَكْرَمَهُ، وَاعْتَذَرَ أَبُو نَصْرٍ بِعُقُوقِ وَلَدِهِ، وَخِلَافِهِ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ بِالْمُقَامِ بِهَرَاةَ مُتَوَسَّعًا عَلَيْهِ إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَأَمَّا وَلَدُهُ الشَّاهْ، فَإِنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ الْحِصْنَ الَّذِي احْتَمَى بِهِ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ، فَأَقَامَ بِهِ وَمَعَهُ أَمْوَالُهُ وَأَصْحَابُهُ، فَحَصَرَهُ عَسْكَرُ يَمِينِ الدَّوْلَةِ فِي حِصْنِهِ، وَنَصَبُوا عَلَيْهِ الْمَجَانِيقَ، وَأَلَحُّوا عَلَيْهِ بِالْقِتَالِ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَانْهَدَمَتْ أَسْوَارُ حِصْنِهِ، وَتَسَلَّقَ الْعَسْكَرُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَيْقَنَ بِالْعَطَبِ طَلَبَ الْأَمَانَ، وَالْعَسْكَرُ يُقَاتِلُهُ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى أُخِذَ أَسِيرًا، وَحُمِلَ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ، فَضُرِبَ تَأْدِيبًا لَهُ، ثُمَّ أُودِعَ السِّجْنَ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَكَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ مَوْتِ وَالِدِهِ. وَرَأَيْتُ عِدَّةَ مُجَلَّدَاتٍ مِنْ كِتَابِ " التَّهْذِيبِ " لِلْأَزْهَرِيِّ فِي اللُّغَةِ بِخَطِّهِ، وَعَلَيْهِ مَا

هَذِهِ نُسْخَتُهُ: " يَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْأَزْهَرِيِّ: قَرَأَ عَلَيَّ الشَّارُ أَبُو نَصْرٍ هَذَا الْجُزْءَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَكَتَبَهُ بِيَدِهِ صَحَّ ". فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِغَالِهِ وَعِلْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّ مَنْ يَصْحَبُ مِثْلَ الْأَزْهَرِيِّ، وَيَقْرَأُ كِتَابَهُ " التَّهْذِيبَ "، يَكُونُ فَاضِلًا. ذِكْرُ انْقِرَاضِ دَوْلَةِ السَّامَانِيَّةِ وَمُلْكِ التُّرْكِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْقَرَضَتْ دَوْلَةُ آلِ سَامَانَ عَلَى يَدِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، وَأَيْلَكَ الْخَانِ التُّرْكِيِّ، وَاسْمُهُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَلَقَبُهُ شَمْسُ الدَّوْلَةِ. فَأَمَّا مَحْمُودٌ فَإِنَّهُ مَلَكَ خُرَاسَانَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَبَقِيَ بِيَدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نُوحٍ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَلَمَّا انْهَزَمَ مِنْ مَحْمُودٍ قَصَدَ بُخَارَى وَاجْتَمَعَ بِهَا هُوَ وَفَائِقٌ وَبَكْتُوزُونُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَكَابِرِ، فَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَشَرَعُوا فِي جَمْعِ الْعَسَاكِرِ، وَعَزَمُوا عَلَى الْعَوْدِ إِلَى خُرَاسَانَ، فَاتُّفِقَ أَنْ مَاتَ فَائِقٌ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمَّا مَاتَ ضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ، وَوَهَنَتْ قُوَّتُهُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ هُوَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَكَانَ خَصِيًّا مِنْ مَوَالِي نُوحِ بْنِ نَصْرٍ. وَبَلَغَ خَبَرُهُمْ إِلَى أَيْلَكَ الْخَانِ، فَسَارَ فِي جَمْعِ الْأَتْرَاكِ إِلَى بُخَارَى، وَأَظْهَرَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ الْمَوَدَّةَ وَالْمُوَالَاةَ، وَالْحَمِيَّةَ لَهُ، فَظَنُّوهُ صَادِقًا، وَلَمْ يَحْتَرِسُوا مِنْهُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ بَكْتُوزُونُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْقُوَّادِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَبَضَ عَلَيْهِمْ، وَسَارَ حَتَّى دَخَلَ بُخَارَى يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرَ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمْ يَدْرِ عَبْدُ الْمَلِكِ مَا يَصْنَعُ لِقِلَّةِ عَدَدِهِ، فَاخْتَفَى وَنَزَلَ أَيْلَكُ الْخَانُ دَارَ الْإِمَارَةِ، وَبَثَّ الطَّلَبَ وَالْعُيُونَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، حَتَّى ظَفِرَ بِهِ، فَأَوْدَعَهُ بَافْكَنْدَ فَمَاتَ بِهَا، وَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ السَّامَانِيَّةِ، وَانْتَقَضَتْ دَوْلَتُهُمْ عَلَى يَدِهِ كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، كَدَأْبِ الدُّوَلِ قَبْلَهَا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ. وَحُبِسَ مَعَهُ أَخُوهُ أَبُو الْحَرْثِ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ الَّذِي كَانَ فِي الْمُلْكِ قَبْلَهُ، وَأَخَوَاهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ، وَأَبُو يَعْقُوبَ ابْنَا نُوحٍ، وَعَمَّاهُ أَبُو زَكَرِيَّاءَ وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ آلِ سَامَانَ، وَأَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حُجْرَةٍ.

وَكَانَتْ دَوْلَتُهُمْ قَدِ انْتَشَرَتْ وَطَبَّقَتْ كَثِيرًا مِنَ الْأَرْضِ مِنْ حُدُودِ حُلْوَانَ إِلَى بِلَادِ التُّرْكِ، بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الدُّوَلِ سِيرَةً وَعَدْلًا، وَعَبْدُ الْمَلِكِ هَذَا هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نُوحِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحِ بْنِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ كُلُّهُمْ مَلَكُوا، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ مَذْكُورًا فِي هَذَا النَّسَبِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نُوحِ بْنِ نَصْرٍ مَلَكَ قَبْلَ أَخِيهِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحٍ الْمَذْكُورِ، وَكَانَ مِنْهُمْ أَيْضًا مَنْصُورُ بْنُ نُوحِ بْنِ مَنْصُورٍ أَخُو عَبْدِ الْمَلِكِ هَذَا الْأَخِيرِ الَّذِي زَالَ الْمُلْكُ فِي وِلَايَتِهِ وَلِيَ قَبْلَهُ. ذِكْرُ مُلْكِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ فَارِسَ وَخُوزِسْتَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ الدَّيْلَمُ الَّذِينَ مَعَ أَبِي عَلِيِّ بْنُ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ بِالْأَهْوَازِ فِي طَاعَةِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَيْ بَخْتِيَارَ لَمَّا قَتَلَا صَمْصَامَ الدَّوْلَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَلَكَا بِلَادَ فَارِسَ، كَتَبَا إِلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ بِالْخَبَرِ، وَيَذْكُرَانِ تَعْوِيلَهُمَا عَلَيْهِ، وَاعْتِضَادَهُمَا بِهِ، وَيَأْمُرَانِهِ بِأَخْذِ الْيَمِينِ لَهُمَا عَلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَالْمُقَامِ بِمَكَانِهِ، وَالْجِدِّ بِمُحَارَبَةِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ. فَخَافَهُمَا أَبُو عَلِيٍّ لِمَا كَانَ أَسْلَفَهُ إِلَيْهِمَا مِنْ قِبَلِ أَخَوَيْهِمَا وَأَسْرِهِمَا، فَجَمَعَ الدَّيْلَمَ الَّذِي مَعَهُ وَأَخْبَرَهُمُ الْحَالَ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُ، فَأَشَارُوا بِطَاعَةِ ابْنَيْ بَخْتِيَارَ وَمُقَاتَلَةِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَرَأَى أَنْ يُرَاسِلَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ وَيَسْتَمِيلَهُ وَيُحَلِّفَهُ لَهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّا نَخَافُ الْأَتْرَاكَ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَسَكَتَ عَنْهُمْ وَتَفَرَّقُوا. وَرَاسَلَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ يَسْتَمِيلُهُ، وَيَبْذُلُ لَهُ وَلِلدَّيْلَمِ الْأَمَانَ وَالْإِحْسَانَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ، وَقَالَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ: إِنَّ ثَأْرِي وَثَأْرَكُمْ عِنْدَ مَنْ قَتَلَ أَخِي، فَلَا عُذْرَ لَكُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْأَخْذِ بِثَأْرِهِ، وَاسْتَمَالَ الدَّيْلَمَ فَأَجَابُوهُ إِلَى الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ، وَأَنْفَذُوا

جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِهِمْ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ فَحَلَّفُوهُ وَاسْتَوْثَقُوا مِنْهُ، وَكَتَبُوا إِلَى أَصْحَابِهِمُ الْمُقِيمِينَ بِالسُّوسِ بِصُورَةِ الْحَالِ. وَرَكِبَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْغَدِ إِلَى بَابِ السُّوسِ، رَجَاءَ أَنْ يَخْرُجَ مَنْ فِيهِ إِلَى طَاعَتِهِ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ فِي السِّلَاحِ، وَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يُقَاتِلُوا مِثْلَهُ، فَضَاقَ صَدْرُهُ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّ هَذِهِ عَادَةُ الدَّيْلَمِ أَنْ يَشْتَدَّ قِتَالُهُمْ عِنْدَ الصُّلْحِ، لِئَلَّا يُظَنَّ بِهِمْ، ثُمَّ كَفُّوا عَنِ الْقِتَالِ وَأَرْسَلُوا مَنْ يُحَلِّفُهُ لَهُمْ، وَنَزَلُوا إِلَى خِدْمَتِهِ، وَاخْتَلَطَ الْعَسْكَرَانِ، وَسَارُوا إِلَى الْأَهْوَازِ، فَقَرَّرَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أُمُورَهَا، وَقَسَّمَ الْإِقْطَاعَاتِ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَالدَّيْلَمِ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى رَامَهُرْمُزَ فَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا وَعَلَى أَرَّجَانَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ خُوزِسْتَانَ. وَسَارَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ إِلَى شِيرَازَ، فَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ ابْنَا بَخْتِيَارَ فِي أَصْحَابِهِمَا، فَحَارَبُوهُ، فَلَمَّا اشْتَدَّتِ الْحَرْبُ مَالَ بَعْضُ مَنْ مَعَهُمَا إِلَيْهِ، وَدَخَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْبَلَدَ، وَنَادَوْا بِشِعَارِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ النَّقِيبُ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ بِشِيرَازَ قَدْ وَرَدَهَا رَسُولًا مِنْ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ إِلَى صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا قُتِلَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ كَانَ بِشِيرَازَ، فَلَمَّا سَمِعَ النِّدَاءَ بِشِعَارِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ ظَنَّ أَنَّ الْفَتْحَ قَدْ تَمَّ، فَقَصَدَ الْجَامِعَ، وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَقَامَ الْخُطْبَةَ لِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ. ثُمَّ عَادَ ابْنَا بَخْتِيَارَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمَا أَصْحَابُهُمَا، فَخَافَ النَّقِيبُ، فَاخْتَفَى، وَحُمِلَ فِي سَلَّةٍ إِلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ ابْنَيْ بَخْتِيَارَ قَصَدُوا أَبَا عَلِيٍّ وَأَطَاعُوهُ، فَاسْتَوْلَى عَلَى شِيرَازَ، وَهَرَبَ ابْنَا بَخْتِيَارَ فَأَمَّا أَبُو نَصْرٍ فَإِنَّهُ لَحِقَ بِبِلَادِ الدَّيْلَمِ، وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ، فَلَحِقَ بِبَدْرِ بْنِ حَسْنُوَيْهِ ثُمَّ قَصَدَ الْبَطِيحَةَ. وَلَمَّا مَلَكَ أَبُو عَلِيٍّ شِيرَازَ كَتَبَ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بِالْفَتْحِ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَنَزَلَهَا، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِهَا أَمَرَ بِنَهْبِ قَرْيَةِ الدُّودَمَانِ وَإِحْرَاقِهَا، وَقَتْلِ كُلِّ مَنْ كَانَ بِهَا مِنْ أَهْلِهِمْ فَاسْتَأْصَلَهُمْ، وَأَخْرَجَ أَخَاهُ صَمْصَامَ الدَّوْلَةِ وَجَدَّدَ أَكْفَانَهُ، وَحُمِلَ إِلَى التُّرْبَةِ بِشِيرَازَ فَدُفِنَ

بِهَا، وَسَيَّرَ عَسْكَرًا مَعَ أَبِي الْفَتْحِ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ إِلَى كَرْمَانَ فَمَلَكَهَا وَأَقَامَ بِهَا نَائِبًا عَنْ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ. إِلَى هَاهُنَا آخِرُ مَا فِي " ذَيْلِ " الْوَزِيرِ أَبِي شُجَاعٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ. ذِكْرُ مَسِيرِ بَادِيسَ إِلَى زَنَاتَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، مُنْتَصَفَ صَفَرَ، أَمَرَ بَادِيسُ بْنُ الْمَنْصُورِ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، نَائِبَهُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي الْعَرَبِ بِالتَّجَهُّزِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْعَسَاكِرِ وَالْعُدَدِ، وَالْمَسِيرِ إِلَى زَنَاتَةَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَمَّهُ يَطُّوفَتَ كَتَبَ إِلَيْهِ يُعْلِمُهُ أَنَّ زِيرِيَ بْنَ عَطِيَّةَ الْمُلَقَّبَ بِالْقِرْطَاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، نَزَلَ عَلَيْهِ بِتَاهَرْتَ مُحَارِبًا، فَأَمَرَ مُحَمَّدًا بِالتَّجَهُّزِ إِلَيْهِ، فَسَارَ فِي عَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَشِيرَ، وَبِهَا حَمَّادُ بْنُ يُوسُفَ عَمُّ بَادِيسَ، كَانَ قَدْ أَقْطَعَهُ إِيَّاهَا بَادِيسُ، فَرَحَلَ حَمَّادٌ مَعَهُ، فَوَصَلَ إِلَى تَاهَرْتَ، وَاجْتَمَعَا بَيَطُّوفَتَ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ زِيرِي بْنِ عَطِيَّةَ مَرْحَلَتَانِ، فَزَحَفُوا إِلَيْهِ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ عَظِيمَةٌ. وَكَانَ أَكْثَرُ عَسْكَرِ حَمَّادٍ يَكْرَهُونَهُ لِقِلَّةِ عَطَائِهِ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَالُ انْهَزَمُوا، فَتَبِعَهُمْ جَمِيعُ الْعَسْكَرِ، فَأَرَادَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَرَبِ أَنْ يَرُدَّ النَّاسَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ، وَمَلَكَ زِيرِي بْنُ عَطِيَّةَ مَالَهُمْ وَعُدَدَهُمْ وَرَجَعَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَى أَشِيرَ. وَبَلَغَ خَبَرُ الْهَزِيمَةِ إِلَى بَادِيسَ، فَرَحَلَ، فَلَمَّا قَارَبَ طُبْنَةَ بَعَثَ فِي طَلَبِ فُلْفُلِ بْنِ سَعِيدٍ، فَخَافَ فَأَرْسَلَ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، وَطَلَبَ عَهْدًا بِإِقْطَاعِ مَدِينَةِ طُبْنَةَ، فَكَتَبَ لَهُ، وَسَارَ بَادِيسُ، فَلَمَّا أَبْعَدَ قَصَدَ فُلْفُلٌ مَدِينَةَ طُبْنَةَ، وَغَلَبَ عَلَى مَا حَوْلَهَا، وَقَصَدَ بَاغَايَةَ فَحَصَرَهَا، وَبَادِيسُ سَائِرٌ إِلَى أَشِيرَ. فَلَمَّا سَمِعَ زِيرِي بْنُ عَطِيَّةَ بِأَنَّهُ قَدْ قَرُبَ مِنْهُ رَحَلَ إِلَى تَاهَرْتَ، فَقَصَدَهُ بَادِيسُ، فَسَارَ زِيرِي إِلَى الْعَرَبِ. فَلَمَّا سَمِعَ بَادِيسُ بِرَحِيلِهِ اسْتَعْمَلَ عَمَّهُ يَطُّوفَتَ عَلَى أَشِيرَ، وَأَعْطَاهُ أَمْوَالًا وَعُدَدًا، وَعَادَ إِلَى أَشِيرَ، فَبَلَغَهُ مَا

فَعَلَ فُلْفُلُ بْنُ سَعِيدٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرَ، وَبَقِيَ يَطُّوفَتُ وَمَعَهُ أَعْمَامُهُ وَأَوْلَادُ أَعْمَامِهِ، فَلَمَّا أَبْعَدَ عَنْهُمْ بَادِيسُ عَصَوْا، وَخَالَفُوا عَلَيْهِ، مِنْهُمْ مَاكْسَنُ، وَزَاوِي وَغَيْرُهُمَا، وَقَبَضُوا عَلَى يَطُّوفَتَ، وَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَالِ، فَهَرَبَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَعَادَ إِلَى بَادِيسَ. وَأَمَّا فُلْفُلُ بْنُ سَعِيدٍ فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ الْعَسْكَرُ (الْمُسَيَّرُ إِلَى قِتَالِهِ لَقِيَهُمْ) وَقَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ، وَقَتَّلَ فِيهِمْ، وَسَارَ يَطْلُبُ الْقَيْرَوَانَ. فَسَارَ عِنْدَ ذَلِكَ بَادِيسُ إِلَى بَاغَايَةَ، فَلَقِيَهُ أَهْلُهَا، فَعَرَّفُوهُ مَا قَاسَوْهُ مِنْ قِتَالِ فُلْفُلٍ، وَأَنَّهُ حَصَرَهُمْ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَشَكَرَهُمْ، وَوَعَدَهُمُ الْإِحْسَانَ، وَسَارَ يَطْلُبُ فُلْفُلًا، فَوَصَلَ إِلَى مَرْمَجَنَّةَ، وَسَارَ فُلْفُلٌ إِلَيْهِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْبَرْبَرِ وَزَنَاتَةَ، وَمَعَهُ كُلُّ مَنْ فِي نَفْسِهِ حِقْدٌ عَلَى بَادِيسَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَالْتَقَوْا بِوَادِي أَغْلَانَ وَكَانَ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ عَظِيمَةٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، وَطَالَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى نَصْرَهُ عَلَى بَادِيسَ وَصِنْهَاجَةَ، وَانْهَزَمَ الْبَرْبَرُ وَزَنَاتَةُ هَزِيمَةً قَبِيحَةً، وَانْهَزَمَ فُلْفُلٌ فَأَبْعَدَ فِي الْهَزِيمَةِ، وَقُتِلَ مِنْ زُوَيْلَةَ تِسْعَةُ آلَافِ قَتِيلٍ سِوَى مَنْ قُتِلَ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَعَادَ بَادِيسُ إِلَى قَصْرِهِ، وَفَرِحَ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ لِأَنَّهُمْ خَافُوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ فُلْفُلٌ. ثُمَّ إِنَّ عُمُومَةَ بَادِيسَ اتَّصَلُوا بِفُلْفُلٍ، وَصَارُوا مَعَهُ عَلَى بَادِيسَ، فَلَمَّا سَمِعَ بَادِيسُ بِذَلِكَ سَارَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا وَصَلَ قَصْرَ الْإِفْرِيقِيِّ وَصَلَهُ أَنَّ عُمُومَتَهُ فَارَقُوا فُلْفُلًا، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى مَاكْسَنَ بْنِ زِيرِي، وَذَلِكَ أَوَّلُ سَنَةِ تِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ مُلْكِ الْحَاكِمِ طَرَابُلُسِ الْغَرْبِ وَعَوْدِهَا إِلَى بَادِيسَ كَانَ لِبَادِيسَ نَائِبٌ بِطَرَابُلُسِ الْغَرْبِ، فَكَاتَبَ الْحَاكِمَ بِأَمْرِ اللَّهِ بِمِصْرَ، وَطَلَبَ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ طَرَابُلُسَ وَيَلْتَحِقَ بِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْحَاكِمُ يَأْنَسَ الصِقِلِّيَّ، وَكَانَ خِصِّيصًا

بِالْحَاكِمِ، وَهُوَ الْمُتَوَلِّي لِبِلَادِ بَرْقَةَ، فَوَصَلَ يَأْنَسُ وَتَسَلَّمَ طَرَابُلُسَ وَأَقَامَ بِهَا، وَذَلِكَ سَنَةَ تِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . فَأَرْسَلَ بَادِيسُ إِلَى يَأْنَسَ يَسْأَلُهُ عَنْ سَبَبِ وُصُولِهِ إِلَى طَرَابُلُسَ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانَ الْحَاكِمُ اسْتَعْمَلَكَ عَلَيْهَا فَأَرْسِلِ الْعَهْدَ لِأَقِفَ عَلَيْهِ. فَقَالَ يَأْنَسُ: إِنَّمَا أَرْسَلَنِي مُعِينًا وَنَجْدَةً إِنِ احْتِيجَ إِلَيَّ، مِثْلِي لَا يُطْلَبُ مِنْهُ عَهْدٌ بِوِلَايَةٍ لِمَحَلِّي مِنْ دَوْلَةِ الْحَاكِمِ. فَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَلَقِيَهُمْ يَأْنَسُ خَارِجَ طَرَابُلُسَ فَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَدَخَلُوا طَرَابُلُسَ فَتَحَصَّنُوا بِهَا. وَكَانَ قَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ كَثِيرٌ، وَنَزَلَ عَلَيْهِمُ الْجَيْشُ وَحَصَرَهُمْ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الْحَاكِمِ يَسْتَمِدُّونَهُ، فَجَهَّزَ جَيْشًا عَلَيْهِمْ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْأَنْدَلُسِيُّ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى طَرَابُلُسَ، وَأَطْلَقَ لَهُمْ مَالًا عَلَى بَرْقَةَ، فَلَمْ يَجِدْ يَحْيَى فِيهَا مَالًا، فَاخْتَلَّتْ حَالُهُ، فَسَارَ إِلَى فُلْفُلٍ وَكَانَ قَدْ دَخَلَ إِلَى طَرَابُلُسَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، فَأَقَامَ مَعَهُ فِيهَا، وَاسْتَوْطَنَهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَسَنَذْكُرُ بَاقِيَ خَبَرِهِمْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . (وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَتِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] سَارَ مَاكْسَنُ بْنُ زِيرِي، عَمُّ أَبِي بَادِيسَ، إِلَى أَشِيرَ، وَبِهَا ابْنُ أَخِيهِ حَمَّادُ بْنُ يُوسُفَ بُلُكِّينَ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا حَرْبٌ شَدِيدَةٌ قُتِلَ فِيهَا مَاكْسَنُ وَأَوْلَادُهُ مُحْسِنٌ، وَبَادِيسُ، وَحَبَّاسَةُ، وَتُوُفِّيَ زِيرِي بْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ قَتْلِ مَاكْسَنَ بِتِسْعَةِ أَيَّامٍ) . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَاشِرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ ضَحْوَةَ نَهَارٍ. وَفِيهَا عَمِلَ أَهْلُ بَابِ الْبَصْرَةِ يَوْمَ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ زِينَةً عَظِيمَةً وَفَرَحًا كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ عَمِلُوا ثَامِنَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ الشِّيعَةُ فِي عَاشُورَاءَ،

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الشِّيعَةَ بِالْكَرْخِ كَانُوا يَنْصِبُونَ الْقِبَابَ، (وَتُعَلَّقُ الثِّيَابُ) لِلزِّينَةِ، الْيَوْمَ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ يَوْمُ الْغَدِيرِ، وَكَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنَ الْمَأْتَمِ، وَالنَّوْحِ، وَإِظْهَارِ الْحُزْنِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ، فَعَمِلَ أَهْلُ بَابِ الْبَصْرَةِ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ، بَعْدَ يَوْمِ الْغَدِيرِ بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، مِثْلُهُمْ قَالُوا: هُوَ يَوْمٌ دَخَلَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْغَارَ، وَعَمِلُوا بَعْدَ عَاشُورَاءَ بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِثْلَ مَا يَعْمَلُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَقَالُوا: هُوَ يَوْمٌ قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ. [الْوَفَيَاتُ] وَتُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ [زَاهِرُ بْنُ] أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى أَبُو مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ الْمُقْرِئُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَلَهُ رِوَايَةٌ لِلْحَدِيثِ أَيْضًا، وَكَانَ شَيْخَ خُرَاسَانَ فِي زَمَانِهِ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ، وَالْأَدَبَ عَلَى ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، وَمَاتَ وَلَهُ سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَزَّازُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ حَبَابَةَ، وَكَانَ شَيْخَ الْحَنَابِلَةِ فِي زَمَانِهِ.

ثم دخلت سنة تسعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 390 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ خُرُوجِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ نُوحٍ وَمَا جَرَى لَهُ بِخُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُوحٍ مِنْ مَحْبِسِهِ، وَكَانَ قَدْ حَبَسَهُ أَيْلَكُ الْخَانُ لَمَّا مَلَكَ بُخَارَى مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِهِ. وَسَبَبُ خَلَاصِهِ أَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِ جَارِيَةٌ تَخْدِمُهُ، وَتَتَعَرَّفُ أَحْوَالَهُ، فَلَبِسَ مَا كَانَ عَلَيْهَا وَخَرَجَ، فَظَنَّهُ الْمُوَكَّلُونَ الْجَارِيَةَ فَلَمَّا خَرَجَ اسْتَخْفَى عِنْدَ عَجُوزٍ مِنْ أَهْلِ بُخَارَى، فَلَمَّا سَكَنَ الطَّلَبُ عَنْهُ سَارَ مِنْ بُخَارَى إِلَى خُوَارَزْمَ، وَتَلَقَّبَ الْمُنْتَصِرَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ بَقَايَا الْقُوَّادِ السَّامَانِيَّةِ وَالْأَجْنَادِ، فَكَثُفَ جَمْعُهُ، وَسَيَّرَ قَائِدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي عَسْكَرٍ إِلَى بُخَارَى، فَبَيَّتَ مَنْ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ أَيْلَكَ الْخَانِ، فَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ، وَكَبَسَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِهِمْ، مِثْلِ جَعْفَرٍ تِكِينَ وَغَيْرِهِ، وَتَبِعَ الْمُنْهَزِمِينَ نَحْوَ أَيْلَكَ الْخَانِ إِلَى حُدُودِ سَمَرْقَنْدَ، فَلَقِيَ هُنَاكَ عَسْكَرًا جَرَّارًا جَعَلَهُمُ أَيْلَكُ الْخَانُ يَحْفَظُونَ سَمَرْقَنْدَ، فَانْضَافَ إِلَيْهِمُ الْمُنْهَزِمُونَ، وَلَقَوْا عَسْكَرَ الْمُنْتَصِرِ، فَانْهَزَمَ أَيْضًا عَسْكَرُ أَيْلَكَ الْخَانِ، وَتَبِعَهُمْ عَسْكَرُ الْمُنْتَصِرِ، فَغَنِمُوا أَثْقَالَهُمْ فَصَلُحَتْ أَحْوَالُهُمْ بِهَا، وَعَادُوا إِلَى بُخَارَى، فَاسْتَبْشَرَ أَهْلُهَا بِعَوْدِ السَّامَانِيَّةِ. ثُمَّ إِنَّ أَيْلَكَ جَمَعَ التُّرْكَ وَقَصَدَ بُخَارَى، فَانْحَازَ مَنْ بِهَا مِنَ السَّامَانِيَّةِ وَعَبَرُوا النَّهْرَ إِلَى آمُلِ الشَّطِّ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ، فَسَارُوا هُمْ وَالْمُنْتَصِرُ نَحْوَ أَبِيوَرْدَ فَمَلَكَهَا، وَجَبَوْا أَمْوَالَهَا، وَسَارُوا نَحْوَ نَيْسَابُورَ، وَبِهَا مَنْصُورُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ، نَائِبًا عَنْ أَخِيهِ مَحْمُودٍ، فَالْتَقَوْا قُرْبَ نَيْسَابُورَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ مَنْصُورٌ وَأَصْحَابُهُ، وَقَصَدُوا هَرَاةَ، وَمَلَكَ الْمُنْتَصِرُ نَيْسَابُورَ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ.

وَبَلَغَ يَمِينَ الدَّوْلَةِ الْخَبَرُ، (فَسَارَ مُجِدًّا نَحْوَ نَيْسَابُورَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا سَارَ) عَنْهَا الْمُنْتَصِرُ إِلَى أَسْفَرَايِينَ، فَلَمَّا أَزْعَجَهُ الطَّلَبُ سَارَ نَحْوَ شَمْسِ الْمَعَالِي قَابُوسِ بْنِ وَشْمَكِيرَ مُلْتَجِئًا إِلَيْهِ وَمُتَكَثِّرًا بِهِ، فَأَكْرَمَ مَوْرِدَهُ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَشَارَ عَلَى الْمُنْتَصِرِ بِقَصْدِ الرَّيِّ إِذْ كَانَتْ لَيْسَ بِهَا مَنْ يَذُبُّ عَنْهَا، لِاشْتِغَالِ أَصْحَابِهَا بِاخْتِلَافِهِمْ، وَوَعَدَهُ بِأَنْ يُنْجِدَهُ بِعَسْكَرٍ جَرَّارٍ مَعَ أَوْلَادِهِ، فَقَبِلَ مَشُورَتَهُ وَسَارَ نَحْوَ الرَّيِّ، فَنَازَلَهَا، فَضَعُفَ مَنْ بِهَا عَنْ مُقَاوَمَتِهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ حَفِظُوا الْبَلَدَ مِنْهُ، وَدَسُّوا إِلَى أَعْيَانِ عَسْكَرِهِ كَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ سِيمْجُورَ وَغَيْرِهِ، وَبَذَلُوا لَهُمُ الْأَمْوَالَ لِيَرُدُّوهُ عَنْهُمْ، فَفَعَلُوا، ذَلِكَ، وَصَغَّرُوا أَمْرَ الرَّيِّ عِنْدَهُ وَحَسَّنُوا لَهُ الْعَوْدَ إِلَى خُرَاسَانَ. فَسَارَ نَحْوَ الدَّامِغَانِ، وَعَادَ عَنْهُ عَسْكَرُ قَابُوسٍ. وَوَصَلَ الْمُنْتَصِرُ إِلَى نَيْسَابُورَ (فِي آخِرِ شَوَّالٍ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَجَبَى لَهُ الْأَمْوَالَ بِهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ) ، يَمِينُ الدَّوْلَةِ جَيْشًا فَلَقَوْهُ، فَانْهَزَمَ الْمُنْتَصِرُ وَسَارَ نَحْوَ أَبِيوَرْدَ، وَقَصَدَ جُرْجَانَ، فَرَدَّهُ شَمْسُ الْمَعَالِي عَنْهَا، فَقَصَدَ سَرَخْسَ وَجَبَى أَمْوَالَهَا وَسَكَنَهَا. فَسَارَ إِلَيْهِ مَنْصُورُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ مِنْ نَيْسَابُورَ، فَالْتَقَوْا بِظَاهِرِ سَرَخْسَ وَاقْتَتَلُوا فَانْهَزَمَ الْمُنْتَصِرُ وَأَصْحَابُهُ، وَأُسِرَ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيمْجُورَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ عَسْكَرِهِ، وَحُمِلُوا إِلَى الْمَنْصُورِ، فَسَيَّرَهُمْ إِلَى غَزْنَةَ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . وَسَارَ الْمُنْتَصِرُ تَائِهًا حَتَّى وَافَى الْأَتْرَاكَ الْغُزِّيَّةَ وَلَهُمْ مَيْلٌ إِلَى آلِ سَامَانَ، فَحَرَّكَتْهُمُ الْحَمِيَّةُ، وَاجْتَمَعُوا مَعَهُ، وَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ أَيْلَكَ الْخَانِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، فَلَقِيَهُمْ أَيْلَكُ بِنَوَاحِي سَمَرْقَنْدَ، فَهَزَمُوهُ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِهِ وَسَوَادِهِ، وَأَسَرُوا جَمَاعَةً مِنْ قُوَّادِهِ وَعَادُوا إِلَى أَوْطَانِهِمْ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى إِطْلَاقِ

الْأَسْرَى تَقُرُّبًا إِلَى أَيْلَكَ الْخَانِ بِذَلِكَ. فَعَلِمَ الْمُنْتَصِرُ، فَاخْتَارَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً يَثِقُ بِهِمْ، وَسَارَ بِهِمْ، فَعَبَرَ النَّهْرَ، وَنَزَلَ بِآمُلِ الشَّطِّ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ مَكَانٌ، وَكُلَّمَا قَصَدَ مَكَانًا رَدَّهُ أَهْلُهُ خَوْفًا مِنْ مَعَرَّتِهِ، فَعَادَ وَعَبَرَ النَّهْرَ إِلَى بُخَارَى، وَطَلَبَ وَالِيَهَا لِأَيْلَكَ الْخَانِ، فَلَقِيَهُ وَاقْتَتَلُوا فَانْهَزَمَ الْمُنْتَصِرُ إِلَى دَبُوسِيَةَ وَجَمَعَ بِهَا، ثُمَّ عَاوَدَهُمْ فَهَزَمَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ فِتْيَانِ سَمَرْقَنْدَ، وَصَارُوا فِي جُمْلَتِهِ، وَحَمَلَ لَهُ أَهْلُهَا الْمَالَ وَالْآلَاتِ وَالثِّيَابَ وَالدَّوَابَّ وَغَيْرَ ذَلِكَ. فَلَمَّا سَمِعَ أَيْلَكُ الْخَانُ بِحَالِهِ جَمَعَ الْأَتْرَاكَ وَسَارَ إِلَيْهِ فِي قَضِّهِ وَقَضِيضِهِ، وَالْتَقَوْا بِنَوَاحِي سَمَرْقَنْدَ، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، فَانْهَزَمَ أَيْلَكُ الْخَانُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُ وَدَوَابَّهُ. وَعَادَ أَيْلَكُ الْخَانُ إِلَى بِلَادِ التُّرْكِ، فَجَمَعَ وَحَشَدَ وَعَادَ إِلَى الْمُنْتَصِرِ، فَوَافَقَ عَوْدُهُ تَرَاجُعَ الْغُزِّيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الْمُنْتَصِرِ إِلَى أَوْطَانِهِمْ، وَقَدْ زَحَفَ جَمْعُهُ، فَاقْتَتَلُوا بِنُوَاحِي أَسْرُوشَنَةَ، فَانْهَزَمَ الْمُنْتَصِرُ، وَأَكْثَرَ التُّرْكُ فِي أَصْحَابِهِ الْقَتْلَ. وَسَارَ الْمُنْتَصِرُ مُنْهَزِمًا، حَتَّى عَبَرَ النَّهْرَ، وَسَارَ إِلَى الْجُوزَجَانَ فَنَهَبَ أَمْوَالَهَا، وَسَارَ يَطْلُبُ مَرْوَ، فَسَيَّرَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ الْعَسَاكِرَ، فَفَارَقَ مَكَانَهُ وَسَارَ وَهُمْ فِي أَثَرِهِ، حَتَّى أَتَى بِسْطَامٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قَابُوسٌ عَسْكَرًا أَزْعَجَهُ عَنْهَا، فَلَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَذَاهِبُ عَادَ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَعَبَرَ أَصْحَابُهُ وَقَدْ ضَجِرُوا وَسَئِمُوا مِنَ السَّهَرِ وَالتَّعَبِ وَالْخَوْفِ، فَفَارَقَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِ أَيْلَكَ الْخَانِ، فَأَعْلَمُوهُمْ بِمَكَانِهِ، فَلَمْ يَشْعُرِ الْمُنْتَصِرُ إِلَّا وَقَدْ أَحَاطَتِ الْخَيْلُ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَطَارَدَهُمْ سَاعَةً ثُمَّ وَلَّاهُمُ الدُّبُرَ وَسَارَ فَنَزَلَ بِحُلَّةٍ مِنَ الْعَرَبِ فِي طَاعَةِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ قَدْ أَوْصَاهُمْ بِطَلَبِهِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمْهَلُوهُ حَتَّى أَظْلَمَ اللَّيْلُ، ثُمَّ وَثَبُوا عَلَيْهِ فَأَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ، وَكَانَ ذَلِكَ خَاتِمَةَ أَمْرِهِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْتُ الْحَادِثَةَ هَذِهِ السَّنَةَ لِتَرِدَ مُتَتَابِعَةً، فَلَوْ تَفَرَّقَتْ فِي السِّنِينَ لَمْ تُعْلَمْ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ لِقِلَّتِهَا.

ذِكْرُ مُحَاصَرَةِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ سِجِسْتَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَى سِجِسْتَانَ، وَصَاحِبُهَا خَلَفُ بْنُ أَحْمَدَ، فَحَصَرَهُ بِهَا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ يَمِينَ الدَّوْلَةِ لَمَّا اشْتَغَلَ بِالْحُرُوبِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا سَيَّرَ خَلَفُ بْنُ أَحْمَدَ ابْنَهُ طَاهِرًا إِلَى قُهُسْتَانَ فَمَلَكَهَا، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى بُوشَنْجَ فَمَلَكَهَا، وَكَانَتْ هِيَ وَهَرَاةُ لِبَغْرَاجِقَ، عَمِّ يَمِينِ الدَّوْلَةِ، (فَلَمَّا فَرَغَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ) مِنْ تِلْكَ الْحُرُوبِ اسْتَأْذَنَهُ عَمُّهُ فِي إِخْرَاجِ طَاهِرِ بْنِ خَلَفٍ مِنْ وِلَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَلَقِيَهُ طَاهِرٌ بِنَوَاحِي بُوشَنْجَ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ طَاهِرٌ وَلَجَّ بَغْرَاجِقُ فِي طَلَبِهِ، فَعَطَفَ عَلَيْهِ طَاهِرٌ فَقَتَلَهُ وَنَزَلَ إِلَيْهِ وَأَخَذَ رَأْسَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ بِقَتْلِ عَمِّهِ عَظُمَ عَلَيْهِ، وَكَبُرَ لَدَيْهِ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ نَحْوَ خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ، فَتَحَصَّنَ مِنْهُ خَلَفٌ بِحِصْنِ أَصْبَهْبَذَ، وَهُوَ حِصْنٌ يُنَاطِحُ النُّجُومَ عُلُوًّا وَارْتِفَاعًا، فَحَصَرَهُ فِيهِ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَذَلَّ وَخَضَعَ، وَبَذَلَ أَمْوَالًا جَلِيلَةً لِيُنَفِّسَ عَنْ خُنَاقِهِ، فَأَجَابَهُ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَأَخَذَ رَهْنَهُ عَلَى الْمَالِ. ذِكْرُ قَتْلِ ابْنِ بَخْتِيَارَ بِكَرْمَانَ وَاسْتِيلَاءِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، قُتِلَ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ بَخْتِيَارَ، الَّذِي كَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِ فَارِسَ. وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا انْهَزَمَ مِنْ عَسْكَرِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بِشِيرَازَ سَارَ إِلَى بِلَادِ الدَّيْلَمِ، وَكَاتَبَ الدَّيْلَمَ بِفَارِسَ وَكَرْمَانَ مِنْ هُنَاكَ يَسْتَمِيلُهُمْ، وَكَاتَبُوهُ وَاسْتَدْعَوْهُ، فَسَارَ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الزُّطِّ، وَالدَّيْلَمِ، وَالْأَتْرَاكِ، وَتَرَدَّدَ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي. ثُمَّ سَارَ إِلَى كَرْمَانَ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ الدَّيْلَمُ الَّذِينَ بِهَا، وَكَانَ الْمُقَدَّمَ عَلَيْهِمْ أَبُو

جَعْفَرِ بْنُ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ، فَجَمَعَ وَقَصَدَ أَبَا جَعْفَرٍ، فَالْتَقَيَا، فَانْهَزَمَ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَى السِّيرَجَانِ، وَمَضَى ابْنُ بَخْتِيَارَ إِلَى جِيرُفْتَ فَمَلَكَهُ، وَمَلَكَ أَكْثَرَ كَرْمَانَ، فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْمُوَفَّقَ عَلِيَّ بْنَ إِسْمَاعِيلَ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ، وَسَارَ مُجِدًّا حَتَّى أَطَلَّ عَلَى جِيرُفْتَ، فَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ مَنْ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ بَخْتِيَارَ وَدَخَلَهَا. فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْقُوَّادِ سُرْعَةَ سَيْرِهِ، وَخَوَّفُوهُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ، فَلَمْ يُصْغِ إِلَيْهِمْ، وَسَأَلَ عَنْ حَالِ ابْنِ بَخْتِيَارَ، فَأُخْبِرَ أَنَّهُ عَلَى ثَمَانِيَةِ فَرَاسِخَ مِنْ جِيرُفْتَ، فَاخْتَارَ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ شُجْعَانِ أَصْحَابِهِ وَسَارَ بِهِمْ، وَتَرَكَ الْبَاقِينَ مَعَ السَّوَادِ بِجِيرُفْتَ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ لَمْ يَجِدْهُ وَدُلَّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَتْبَعُهُ مِنْ مَنْزِلٍ إِلَى مَنْزِلٍ، حَتَّى لَحِقَهُ بِدَارَزِينَ، فَسَارَ لَيْلًا، وَقُدِّرَ وُصُولُهُ إِلَيْهِ عِنْدَ الصُّبْحِ فَأَدْرَكَهُ. فَرَكِبَ ابْنُ بَخْتِيَارَ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَسَارَ الْمُوَفَّقُ فِي نَفَرٍ مِنْ غِلْمَانِهِ، فَأَتَى ابْنُ بَخْتِيَارَ مِنْ وَرَائِهِ، فَانْهَزَمَ ابْنُ بَخْتِيَارَ وَأَصْحَابُهُ، وَوُضِعَ فِيهِمُ السَّيْفُ، فَقُتِلَ مِنْهُمُ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ. فَغَدَرَ بِابْنِ بَخْتِيَارَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَضَرَبَهُ بِلِتُّ فَأَلْقَاهُ وَعَادَ إِلَى الْمُوَفَّقِ لِيُخْبِرَهُ بِقَتْلِهِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَرَآهُ وَقَدْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى الْمُوَفَّقِ. وَأَكْثَرَ الْمُوَفَّقُ الْقَتْلَ فِي أَصْحَابِ ابْنِ بَخْتِيَارَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِ كَرْمَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَبَا مُوسَى سَيَاهَجِيلَ، وَعَادَ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَلَقِيَهُ، وَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ ثُمَّ قَبَضَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَيَّامٍ. وَمِنْ أَعْجَبِ مَا يُذْكَرُ أَنَّ الْمُوَفَّقَ أَخْبَرَهُ مُنَجِّمٌ أَنَّهُ يَقْتُلُ ابْنَ بَخْتِيَارَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ الِاثْنَيْنِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ قَالَ لِلْمُنَجِّمِ: قَدْ بَقِيَ خَمْسَةُ أَيَّامٍ وَلَيْسَ لَنَا عِلْمٌ بِهِ. فَقَالَ لَهُ الْمُنَجِّمُ: إِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ فَاقْتُلْنِي عِوَضَهُ، وَإِلَّا فَأَحْسِنْ إِلَيَّ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ أَدْرَكَهُ وَقَتَلَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَى الْمُنَجِّمِ إِحْسَانًا كَثِيرًا.

ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى الْمُوَفَّقِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ قَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَهُ إِلَى قِتَالِ ابْنِ بَخْتِيَارَ، (وَقَتَلَهُ ابْنُ بَخْتِيَارَ) ، فَلَمَّا عَادَ أَكْرَمَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ وَلَقِيَهُ بِنَفْسِهِ، فَاسْتَعْفَى الْمُوَفَّقَ مِنَ الْخِدْمَةِ، فَلَمْ يُعْفِهِ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ، فَأَلَحَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَأَشَارَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مُكْرَمٍ عَلَى الْمُوَفَّقِ بِتَرْكِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْبَلْ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُ، وَكَتَبَ إِلَى وَزِيرِهِ سَابُورَ بِبَغْدَاذَ بِالْقَبْضِ عَلَى أَنْسَابِ الْمُوَفَّقِ، فَعَرَّفَهُمْ ذَلِكَ سِرًّا، فَاحْتَالُوا لِنُفُوسِهِمْ وَهَرَبُوا، وَاسْتَعْمَلَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ مُكْرَمٍ عَلَى عُمَانَ، ثُمَّ إِنَّ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ قَتَلَ الْمُوَفَّقَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ أَبَا عَلِيٍّ الْحَسَنَ بْنَ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ عَلَى خُوزِسْتَانَ، وَكَانَتْ قَدْ فَسَدَتْ أَحْوَالُهَا بِوِلَايَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الْحَجَّاجِ لَهَا، وَمُصَادَرَتِهِ لِأَهْلِهَا، فَعَمَّرَهَا أَبُو عَلِيٍّ، وَلَقَّبَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَمِيدَ الْجُيُوشِ، وَحَمَلَ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ مِنْهَا أَمْوَالًا جَلِيلَةً مَعَ حُسْنِ سِيرَةٍ فِي أَهْلِهَا وَعَدْلٍ. وَفِيهَا ظَهَرَ فِي سِجِسْتَانَ مَعْدِنُ الذَّهَبِ، فَكَانُوا يَحْفِرُونَ التُّرَابَ وَيُخْرِجُونَ مِنْهُ الذَّهَبَ الْأَحْمَرَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّرِيفُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْعَلَوِيَّ، وَدُفِنَ بِالْكَرْخِ،

وَعُمْرُهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْعَقَارِ، وَالْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ مَعْرُوفٍ، الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ طَرَارٍ الْجَرِيرِيِّ، بِفَتْحِ الْجِيمِ، مَنْسُوبٌ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَكَانَ عَالِمًا بِفُنُونِ الْعُلُومِ، كَثِيرَ الرِّوَايَةِ وَالتَّصْنِيفِ فِيهَا.

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 391 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ الْمُقَلِّدِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ قِرْوَاشٍ هَذِهِ السَّنَةُ قَتَلَ حُسَامُ الدَّوْلَةِ الْمُقَلِّدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ الْعُقَيْلِيَّ غِيلَةً، قَتَلَهُ مَمَالِيكُ لَهُ تُرْكٌ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانَ كَانُوا قَدْ هَرَبُوا مِنْهُ، فَتَبِعَهُمْ وَظَفِرَ بِهِمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ وَقَطَعَ، وَأَعَادَ الْبَاقِينَ، فَخَافُوهُ عَلَى نُفُوسِهِمْ، فَاغْتَنَمَ بَعْضُهُمْ غَفْلَتَهُ وَقَتَلَهُ بِالْأَنْبَارِ، وَكَانَ قَدْ عَظُمَ أَمْرُهُ، وَرَاسَلَ وُجُوهَ الْعَسَاكِرِ بِبَغْدَاذَ وَأَرَادَ التَّغَلُّبَ عَلَى الْمَلِكِ، فَأَتَاهُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ. وَلَمَّا قُتِلَ كَانَ وَلَدُهُ الْأَكْبَرُ قِرْوَاشٌ غَائِبًا، وَكَانَتْ أَمْوَالُهُ وَخَزَائِنُهُ بِالْأَنْبَارِ، فَخَافَ نَائِبُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَهْرَوَيْهِ بَادِرَةَ الْجُنْدِ، فَرَاسَلَ أَبَا مَنْصُورِ بْنَ قُرَادٍ اللَّدِيدَ، وَكَانَ بِالسِّنْدِيَّةِ، فَاسْتَدْعَاهُ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: أَنَا أَجْعَلُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ قِرْوَاشٍ عَهْدًا، وَأُزَوِّجُهُ ابْنَتَكَ وَأُقَاسِمُكَ عَلَى مَا خَلَّفَهُ أَبُوهُ، وَنُسَاعِدُهُ عَلَى عَمِّهِ الْحَسَنِ إِنْ قَصَدَهُ وَطَمِعَ فِيهِ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَحَمَى الْخَزَائِنَ وَالْبَلَدَ. وَأَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى قِرْوَاشٍ يَحُثُّهُ عَلَى الْوُصُولِ، فَوَصَلَ وَقَاسَمَهُ عَلَى الْمَالِ، وَأَقَامَ قُرَادٌ عِنْدَهُ. ثُمَّ إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ الْمُسَيَّبِ جَمَعَ مَشَايِخَ عُقَيْلٍ، وَشَكَا قِرْوَاشًا إِلَيْهِمْ وَمَا صَنَعَ مَعَ قُرَادٍ، فَقَالُوا لَهُ: خَوْفُهُ مِنْكَ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَبَذَلَ مِنْ نَفْسِهِ الْمُوَافَقَةَ لَهُ، وَالْوُقُوفَ

عِنْدَ رِضَاهُ، وَسَفَّرَ الْمَشَايِخَ بَيْنَهُمَا فَاصْطَلَحَا، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَسِيرَ الْحَسَنُ إِلَى قِرْوَاشٍ شِبْهَ الْمُحَارِبِ، وَيَخْرُجَ هُوَ وَقُرَادٌ لِقِتَالِهِ، فَإِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَادُوا جَمِيعًا عَلَى قُرَادٍ فَأَخَذُوهُ، فَسَارَ الْحَسَنُ وَخَرَجَ قِرْوَاشٌ وَقُرَادٌ لِقِتَالِهِ. فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ جَاءَ بَعْضُ أَصْحَابِ قُرَادٍ إِلَيْهِ فَأَعْلَمَهُ الْحَالَ، فَهَرَبَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، وَتَبِعَهُ قِرْوَاشٌ وَالْحَسَنُ فَلَمْ يُدْرِكَاهُ، وَعَادَ قِرْوَاشٌ إِلَى بَيْتِ قُرَادٍ فَأَخَذَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ قِرْوَاشٍ، وَهِيَ بِحَالِهَا، وَسَارَ قِرْوَاشٌ إِلَى الْكُوفَةِ، فَأَوْقَعَ بِخَفَاجَةَ عِنْدَهَا وَقْعَةً عَظِيمَةً، فَسَارُوا بَعْدَهَا إِلَى الشَّامِ، فَأَقَامُوا هُنَاكَ حَتَّى أَحْضَرَهُمْ (أَبُو جَعْفَرٍ) الْحَجَّاجُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ذِكْرُ الْبَيْعَةِ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، أَمَرَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ بِالْبَيْعَةِ لِوَلَدِهِ أَبِي الْفَضْلِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَأَحْضَرَ حُجَّاجَ خُرَاسَانَ وَأَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ، وَلَقَّبَهُ الْغَالِبَ بِاللَّهِ. وَكَانَ سَبَبُ الْبَيْعَةِ لَهُ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُثْمَانَ الْوَاثِقِيَّ، مِنْ وَلَدِ الْوَاثِقِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ، فَقَصَدَ بَغْدَاذَ، ثُمَّ سَارَ عَنْهَا إِلَى خُرَاسَانَ، وَعَبَرَ النَّهْرَ إِلَى هَارُونَ بْنِ أَيْلَكَ بَغْرَاخَاقَانَ، وَصَحِبَهُ الْفَقِيهُ أَبُو الْفَضْلِ التَّمِيمِيُّ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ الْخَلِيفَةِ إِلَى هَارُونَ يَأْمُرُهُ بِالْبَيْعَةِ لِهَذَا الْوَاثِقِيِّ، فَإِنَّهُ وَلِيُّ عَهْدٍ، فَأَجَابَهُ خَاقَانُ إِلَى ذَلِكَ، وَبَايَعَ لَهُ وَخَطَبَ لَهُ بِبِلَادِهِ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ الْقَادِرَ بِاللَّهِ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَرَاسَلَ خَاقَانَ فِي مَعْنَاهُ، فَلَمْ يُصْغِ إِلَى رِسَالَتِهِ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ هَارُونُ خَاقَانُ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ أَحْمَدُ قُرَّاخَاقَانُ، كَاتَبَهُ الْخَلِيفَةُ فِي مَعْنَاهُ، فَأَمَرَ بِإِبْعَادِهِ، فَحِينَئِذٍ بَايَعَ الْخَلِيفَةُ لِوَلَدِهِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ. وَأَمَّا الْوَاثِقِيُّ فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ أَحْمَدَ قُرَّاخَاقَانَ وَقَصَدَ بَغْدَاذَ فَعُرِفَ بِهَا وَطُلِبَ، فَهَرَبَ مِنْهَا إِلَى الْبَصْرَةِ، ثُمَّ إِلَى فَارِسَ وَكَرْمَانَ، ثُمَّ إِلَى بِلَادِ التُّرْكِ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ مَا

أَرَادَ، وَرَاسَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُلُوكَ يَطْلُبُهُ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ، وَسَارَ إِلَى خُوَارَزْمَ وَأَقَامَ بِهَا، ثُمَّ فَارَقَهَا، فَأَخَذَهُ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ فَحَبَسَهُ (فِي قَلْعَةٍ) إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بِهَا. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ طَاهِرِ بْنِ خَلَفٍ عَلَى كَرْمَانَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ طَاهِرُ بْنُ خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ، صَاحِبُ سِجِسْتَانَ، إِلَى كَرْمَانَ طَالِبًا مُلْكَهَا. وَكَانَ سَبَبُ مَسِيرِهِ إِلَيْهَا أَنَّهُ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ أَبِيهِ، وَجَرَى بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ كَانَ الظَّفَرُ فِيهَا لِأَبِيهِ، فَفَارَقَ سِجِسْتَانَ وَسَارَ إِلَى كَرْمَانَ، وَبِهَا عَسْكَرُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَهِيَ لَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَاجْتَمَعَ مَنْ بِهَا مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى الْمُقَدَّمِ عَلَيْهِمْ (وَمُتَوَلِّي أَمْرِ الْبِلَادِ، هُوَ أَبُو مُوسَى سَيَاهَجِيلُ) ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ وَصَلَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالرَّأْيُ أَنْ تُبَادِرَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْوَى أَمْرُهُ وَيَكْثُرَ جَمْعُهُ. فَلَمْ يَفْعَلْ وَاسْتَهَانَ بِهِ، فَكَثُرَ جَمْعُ طَاهِرٍ، وَصَعِدَ إِلَى الْجِبَالِ، وَبِهَا قَوْمٌ مِنَ الْعُصَاةِ عَلَى السُّلْطَانِ، فَاحْتَمَى بِهِمْ وَقَوِيَ، فَنَزَلَ إِلَى جِيرُفْتَ فَمَلَكَهَا وَمَلَكَ غَيْرَهَا، وَقَوِيَ طَمَعُهُ فِي الْبَاقِي. فَقَصَدَهُ أَبُو مُوسَى وَالدَّيْلَمُ، فَهَزَمَهُمْ، وَأَخَذَ بَعْضَ مَا بَقِيَ بِأَيْدِيهِمْ، فَكَاتَبُوا بَهَاءَ الدَّوْلَةِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا عَلَيْهِمْ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ، فَسَارَ إِلَى كَرْمَانَ، وَقَصَدَ بَمَّ، وَبِهَا طَاهِرٌ، فَجَرَى بَيْنَ طَلَائِعِ الْعَسْكَرَيْنِ حَرْبٌ، وَعَادَ طَاهِرٌ إِلَى سِجِسْتَانَ، وَفَارَقَ كَرْمَانَ، فَلَمَّا بَلَغَ سِجِسْتَانَ أَطْلَقَ الْمَأْسُورِينَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى قِتَالِ أَبِيهِ مَعَهُ، وَحَلَفَ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا نَصَرُوهُ وَقَاتَلُوا مَعَهُ أَطْلَقَهُمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَقَاتَلَ أَبَاهُ، فَهَزَمَهُ وَمَلَكَ طَاهِرٌ الْبِلَادَ وَدَخَلَ أَبُوهُ إِلَى حِصْنٍ لَهُ مَنِيعٍ فَاحْتَمَى بِهِ. وَأَحَبَّ النَّاسُ طَاهِرًا لِحُسْنِ سِيرَتِهِ، وَسُوءِ سِيرَةِ وَالِدِهِ، وَأَطْلَقَ طَاهِرٌ الدَّيْلَمَ، ثُمَّ

إِنَّ أَبَاهُ رَاسَلَ أَصْحَابَهُ لِيُفْسِدَهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا فَعَدَلَ إِلَى مُخَادَعَتِهِ، وَرَاسَلَهُ يُظْهِرُ لَهُ النَّدَمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَيَسْتَمِيلُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ غَيْرَهُ، وَأَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَمُوتَ فَيَمْلِكَ بِلَادَهُ غَيْرُ وَلَدِهِ. ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ إِلَيْهِ جَرِيدَةً لِيَجْتَمِعَ بِهِ وَيُعَرِّفَهُ أَحْوَالَهُ، فَتَوَاعَدَا تَحْتَ قَلْعَةِ خَلَفٍ، فَأَتَاهُ ابْنُهُ جَرِيدَةً، وَنَزَلَ هُوَ إِلَيْهِ كَذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ كَمَّنَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ كَمِينًا، فَلَمَّا لَقِيَهُ اعْتَنَقَهُ، وَبَكَى خَلَفٌ، وَصَاحَ فِي بُكَائِهِ، فَخَرَجَ الْكَمِينُ وَأَسَرُوا طَاهِرًا، فَقَتَلَهُ أَبَوْهُ بِيَدِهِ، وَغَسَلَهُ وَدَفَنَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ غَيْرَهُ. فَلَمَّا قُتِلَ طَمِعَ النَّاسُ فِي خَلَفٍ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخَافُونَ ابْنَهُ لِشَهَامَتِهِ، وَقَصَدَهُ حِينَئِذٍ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ، فَمَلَكَ بِلَادَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَأَمَّا الْعُتْبِيُّ فَذَكَرَ فِي سَبَبِ فَتْحِهَا غَيْرَ هَذَا، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَ الْأَتْرَاكُ بِبَغْدَاذَ بِنَائِبِ السُّلْطَانِ، وَهُوَ أَبُو نَصْرٍ سَابُورُ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ، وَوَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ الْعَامَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَرْخِ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى كَثِيرَةٌ، ثُمَّ إِنَّ السُّنَّةَ مِنْ أَهْلِ بَغْدَاذَ سَاعَدُوا الْأَتْرَاكَ عَلَى أَهْلِ الْكَرْخِ، فَضَعُفُوا عَنِ الْجَمِيعِ، فَسَعَى الْأَشْرَافُ فِي إِصْلَاحِ الْحَالِ فَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ. وَفِيهَا وُلِدَ الْأَمِيرُ أَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْقَادِرِ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ عِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، وَكَانَ فَاضِلًا [عَالِمًا] بِعُلُومِ الْإِسْلَامِ وَبِالْمَنْطِقِ، وَكَانَ يَجْلِسُ لِلتَّحْدِيثِ، وَرَوَى النَّاسُ عَنْهُ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الْجَوْزِيُّ، وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَكَانَ يَصْحَبُ عَضُدَ الدَّوْلَةِ قَدِيمًا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَجَّاجِ الشَّاعِرُ بِطَرِيقِ النِّيلِ، وَحُمِلَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَدِيوَانُهُ مَشْهُورٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ بَكْرَانُ بْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ خَالُ الْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ بِوَاسِطَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَعْفَرُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ جَعْفَرِ (بْنِ مُحَمَّدِ) بْنِ الْفُرَاتِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ حِنْزَابَةَ، الْوَزِيرِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ سَارَ إِلَى مِصْرَ فَوَلِيَ وِزَارَةَ كَافُورٍ وَرَوَى حَدِيثًا كَثِيرًا.

ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 392 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ وَقْعَةٍ لِيَمِينِ الدَّوْلَةِ بِالْهِنْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْقَعَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِجِيبَالَ مَلِكِ الْهِنْدِ وَقْعَةً عَظِيمَةً. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَغَلَ بِأَمْرِ خُرَاسَانَ وَمُلْكَهَا، وَفَرَغَ مِنْهَا وَمِنْ قِتَالِ خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ، وَخَلَا وَجْهُهُ مِنْ ذَلِكَ، أَحَبَّ أَنْ يَغْزُوَ الْهِنْدَ غَزْوَةً تَكُونُ كَفَّارَةً لِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَثَنَى عِنَانَهُ نَحْوَ تِلْكَ الْبِلَادِ، فَنَزَلَ عَلَى مَدِينَةِ بَرْشُورَ، فَأَتَاهُ عَدُوُّ اللَّهِ جِيبَالُ مَلِكُ الْهِنْدِ فِي عَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ، فَاخْتَارَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مِنْ عَسَاكِرِهِ وَالْمُطَّوَّعَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَسَارَ نَحْوَهُ، فَالْتَقَوْا فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَاقْتَتَلُوا، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ. فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ انْهَزَمَ الْهِنْدُ، وَقُتِلَ فِيهِمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأُسِرَ جِيبَالُ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَلِيلَةً، وَجَوَاهِرَ نَفِيسَةً، وَأُخِذَ مِنْ عُنُقِ (عَدُوِّ اللَّهِ) جِيبَالَ قِلَادَةٌ مِنَ الْجَوْهَرِ الْعَدِيمِ النَّظِيرِ قُوِّمَتْ بِمِائَتَيْ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأُصِيبَ أَمْثَالُهَا فِي أَعْنَاقِ مُقَدَّمِي الْأَسْرَى، وَغَنِمُوا خَمْسَمِائَةِ أَلْفَ رَأْسٍ مِنَ الْعَبِيدِ، وَفَتَحَ مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ بِلَادًا كَثِيرَةً، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غَزَوَاتِهِ أَحَبَّ أَنْ يُطْلِقَ جِيبَالَ لِيَرَاهُ الْهُنُودُ فِي شِعَارِ الذُّلِّ، فَأَطْلَقَهُ بِمَالٍ، قَرَّرَهُ عَلَيْهِ، فَأَدَّى الْمَالَ.

وَمِنْ عَادَةِ الْهِنْدِ أَنَّهُمْ مَنْ حَصَلَ مِنْهُمْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ أَسِيرًا لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ بَعْدَهَا رِئَاسَةٌ، فَلَمَّا رَأَى جِيبَالُ حَالَهُ بَعْدَ خَلَاصِهِ حَلَقَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّارِ، فَأُحْرِقَ بِنَارِ الدُّنْيَا قَبْلَ نَارِ الْآخِرَةِ. ذِكْرُ غَزْوَةٍ أُخْرَى إِلَى الْهِنْدِ أَيْضًا فَلَمَّا فَرَغَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مِنْ أَمْرِ جِيبَالَ رَأَى أَنْ يَغْزُوَ غَزْوَةً أُخْرَى، فَسَارَ نَحْوَ وَيْهَنْدَ، فَأَقَامَ عَلَيْهَا مُحَاصِرًا لَهَا، حَتَّى فَتَحَهَا قَهْرًا، وَبَلَغَهُ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْهِنْدِ قَدِ اجْتَمَعُوا بِشِعَابِ تِلْكَ الْجِبَالِ عَازِمِينَ عَلَى الْفَسَادِ وَالْعِنَادِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ الْفَرِيدُ، وَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ سَالِمًا ظَافِرًا. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ قِرْوَاشٍ وَعَسْكَرِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ قِرْوَاشُ بْنُ الْمُقَلِّدِ جَمْعًا مِنْ عُقَيْلٍ إِلَى الْمَدَائِنِ فَحَصَرُوهَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ أَبُو جَعْفَرٍ نَائِبُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ جَيْشًا فَأَزَالُوهُمْ عَنْهَا، فَاجْتَمَعَتْ عُقَيْلٌ وَأَبُو الْحَسَنِ مَزْيَدٌ فِي بَنِي أَسَدٍ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، فَخَرَجَ الْحَجَّاجُ إِلَيْهِمْ، وَاسْتَنْجَدَ خَفَاجَةَ، وَأَحْضَرَهُمْ مِنَ الشَّامِ، فَاجْتَمَعُوا مَعَهُ، وَاقْتَتَلُوا بِنَوَاحِي بَاكَرْمَ فِي رَمَضَانَ، فَانْهَزَمَتِ الدَّيْلَمُ وَالْأَتْرَاكُ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَاسْتُبِيحَ عَسْكَرُهُمْ. فَجَمَعَ أَبُو جَعْفَرٍ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ وَخَرَجَ إِلَى بَنِي عُقَيْلٍ وَابْنِ مَزْيَدٍ فَالْتَقَوْا بِنَوَاحِي الْكُوفَةِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَانْهَزَمَتْ عُقَيْلٌ وَابْنُ مَزْيَدٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُسِرَ مِثْلُهُمْ، وَسَارَ إِلَى حُلَلِ ابْنِ مَزْيَدٍ فَأَوْقَعَ بِمَنْ فِيهَا فَانْهَزَمُوا أَيْضًا، فَنُهِبَتِ الْحُلَلُ وَالْبُيُوتُ وَالْأَمْوَالُ، وَرَأَوْا فِيهَا مِنَ الْعَيْنِ وَالْمَصَاغِ وَالثِّيَابِ مَا لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ. وَلَمَّا سَارَ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ بَغْدَاذَ اخْتَلَتِ الْأَحْوَالُ بِهَا، وَعَادَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ فَظَهَرَ،

وَاشْتَدَّ الْفَسَادُ، وَقُتِلَتِ النُّفُوسُ، وَنُهِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَأُحْرِقَتِ الْمِسَاكِنُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ، فَسَيَّرَ إِلَى الْعِرَاقِ لِحِفْظِهِ أَبَا عَلِيِّ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَعْرُوفَ بِأُسْتَاذِ هُرْمُزَ، وَلَقَّبَهُ عَمِيدَ الْجُيُوشِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْحَجَّاجِ، وَطَيَّبَ قَلْبَهُ، وَوَصَلَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى بَغْدَاذَ فَأَقَامَ السِّيَاسَةَ، وَمَنَعَ الْمُفْسِدِينَ، فَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ وَأَمِنَ النَّاسُ. [الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو بَكْرٍ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الدَّقَّاقِ، صَاحِبُ الْأُصُولِ) .

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 393 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ سِجِسْتَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ سِجِسْتَانَ، وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ. قَالَ الْعُتْبِيُّ: وَكَانَ سَبَبُ أَخْذِهَا أَنَّ يَمِينَ الدَّوْلَةِ لَمَّا رَحَلَ عَنْ خَلَفٍ بَعْدَ أَنْ صَالَحَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ سَنَةَ تِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، عَهِدَ خَلَفٌ إِلَى وَلَدِهِ طَاهِرٍ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ مَمْلَكَتَهُ، وَانْعَكَفَ هُوَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ، وَكَانَ عَالِمًا، فَاضِلًا، مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ، وَكَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُوهِمَ يَمِينَ الدَّوْلَةِ أَنَّهُ تَرَكَ الْمُلْكَ وَأَقْبَلَ عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ لِيَقْطَعَ طَمَعَهُ عَنْ بِلَادِهِ. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ طَاهِرٌ فِي الْمُلْكِ عَقَّ أَبَاهُ وَأَهْمَلَ أَمْرَهُ، فَلَاطَفَهُ أَبُوهُ وَرَفَقَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَمَارَضَ فِي حِصْنِهِ الْمَذْكُورِ، وَاسْتَدْعَى وَلَدَهُ لِيُوصِيَ إِلَيْهِ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ غَيْرَ مُحْتَاطٍ، وَنَسِيَ إِسَاءَتَهُ، فَلَمَّا صَارَ عِنْدَهُ قَبَضَ عَلَيْهِ وَسَجَنَهُ، وَبَقِيَ فِي السِّجْنِ إِلَى أَنْ مَاتَ فِيهِ، وَأُظْهِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ. وَلَمَّا سَمِعَ عَسْكَرُ خَلَفٍ وَصَاحِبُ جَيْشِهِ بِذَلِكَ تَغَيَّرَتْ نِيَّاتُهُمْ فِي طَاعَتِهِ، وَكَرِهُوهُ، وَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ فِي مَدِينَتِهِ، (وَأَظْهَرُوا طَاعَةَ يَمِينِ الدَّوْلَةِ، وَخَطَبُوا لَهُ، وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَطْلُبُونَ مَنْ يَتَسَلَّمُ الْمَدِينَةَ) ، فَفَعَلَ وَمَلَكَهَا، وَاحْتَوَى عَلَيْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَعَزَمَ عَلَى قَصْدِ خَلَفٍ وَأَخْذِ مَا بِيَدِهِ وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنْ مَكْرِهِ. فَسَارَ إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي حِصْنِ

الطَّاقِ، وَلَهُ سَبْعَةُ أَسْوَارٍ مُحْكَمَةٍ، يُحِيطُ بِهَا خَنْدَقٌ عَمِيقٌ، عَرِيضٌ، لَا يُخَاضُ إِلَّا مِنْ طَرِيقٍ عَلَى جِسْرٍ يُرْفَعُ عِنْدَ الْخَوْفِ، فَنَازَلَهُ وَضَايَقَهُ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، فَأَمَرَ بِطَمِّ الْخَنْدَقِ لِيُمْكِنَ الْعُبُورُ إِلَيْهِ، فَقُطِعَتِ الْأَخْشَابُ وَطُمَّ بِهَا بِالتُّرَابِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَكَانًا يَعْبُرُونَ فِيهِ وَيُقَاتِلُونَ مِنْهُ. وَزَحَفَ النَّاسُ وَمَعَهُمُ الْفُيُولُ، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ، وَتَقَدَّمَ أَعْظَمُ الْفُيُولِ إِلَى بَابِ السُّورِ فَاقْتَلَعَهُ بِنَابَيْهِ وَأَلْقَاهُ، وَمَلَكَهُ أَصْحَابُ يَمِينِ الدَّوْلَةِ، وَتَأَخَّرَ أَصْحَابُ خَلَفٍ إِلَى السُّورِ الثَّانِي، فَلَمْ يَزَلْ أَصْحَابُ يَمِينِ الدَّوْلَةِ يَدْفَعُونَهُمْ عَنْ سُورٍ سُورٍ، فَلَمَّا رَأَى خَلَفٌ اشْتِدَادَ الْحَرْبِ، وَأَنَّ أَسْوَارَهُ تُمْلَكُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ قَدْ عَجَزُوا، وَأَنَّ الْفِيَلَةَ تُحَطِّمُ النَّاسَ طَارَ قَلْبُهُ خَوْفًا وَفَرَقًا، فَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَأَجَابَهُ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَى مَا طَلَبَ وَكَفَّ عَنْهُ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ أَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ، وَأَمَرَهُ بِالْمُقَامِ فِي أَيِّ الْبِلَادِ شَاءَ، فَاخْتَارَ أَرْضَ الْجُوزَجَانِ، فَسُيِّرَ إِلَيْهَا فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، فَأَقَامَ بِهَا نَحْوَ أَرْبَعِ سِنِينَ. وَنُقِلَ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ عَنْهُ أَنَّهُ يُرَاسِلُ أَيْلَكَ الْخَانَ يُغْرِيهِ بِقَصْدِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ، فَنَقَلَهُ إِلَى جَرْدِينَ، وَاحْتَاطَ عَلَيْهِ هُنَاكَ، إِلَى أَنْ أَدْرَكَهُ أَجَلُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، فَسَلَّمَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ جَمِيعَ مَا خَلَّفَهُ إِلَى وَلَدِهِ أَبِي حَفْصٍ. وَكَانَ خَلَفٌ مَشْهُورًا بِطَلَبِ الْعِلْمِ وَجَمْعِ الْعُلَمَاءِ، وَلَهُ كِتَابٌ صَنَّفَهُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مِنْ أَكْبَرِ الْكُتُبِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَمِيدِ الْجُيُوشِ أَبِي عَلِيٍّ وَبَيْنَ أَبِي جَعْفَرٍ الْحَجَّاجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ، وَبَيْنَ أَبِي جَعْفَرٍ الْحَجَّاجِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ كَانَ نَائِبًا عَنْ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بِالْعِرَاقِ، فَجَمَعَ وَغَزَا،

وَاسْتَنَابَ بَعْدَهُ عَمِيدَ الْجُيُوشِ أَبَا عَلِيٍّ، فَأَقَامَ أَبُو جَعْفَرٍ بِنَوَاحِي الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي عَلِيٍّ صُلْحٌ. وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ قَدْ جَمَعَ جَمْعًا مِنَ الدَّيْلَمِ وَالْأَتْرَاكِ وَخَفَاجَةَ فَجَمَعَ أَبُو عَلِيٍّ أَيْضًا جَمْعًا كَثِيرًا وَسَارَ إِلَيْهِ، وَالْتَقَوْا بِنَوَاحِي النُّعْمَانِيَّةِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا، وَأَرْسَلَ أَبُو عَلِيٍّ بَعْضَ عَسْكَرِهِ، فَأَتَوْا أَبَا جَعْفَرٍ مِنْ وَرَائِهِ، فَانْهَزَمَ أَبُو جَعْفَرٍ وَمَضَى مُنْهَزِمًا. فَلَمَّا أَمِنَ أَبُو عَلِيٍّ سَارَ مِنَ الْعِرَاقِ، بَعْدَ الْهَزِيمَةِ، إِلَى خُوزِسْتَانَ، وَبَلَغَ السُّوسَ، وَأَتَاهُ الْخَبَرُ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ قَدْ عَادَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَرَجَعَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَعْفَرٍ مُنَازَعَاتٌ وَمُرَاجَعَاتٌ إِلَى أَنْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْحَرْبِ فَاسْتَنْجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَنِي عُقَيْلٍ وَبَنِيَ خَفَاجَةَ وَبَنِي أَسَدٍ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ أَرْسَلَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى عَمِيدِ الْجُيُوشِ أَبِي عَلِيٍّ يَسْتَدْعِيهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ إِلَى خُوزِسْتَانَ لِأَجْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ وَاصِلٍ، صَاحِبِ الْبَطِيحَةِ. ذِكْرُ عِصْيَانِ سِجِسْتَانَ وَفَتْحِهَا ثَانِيَةً لَمَّا مَلَكَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ سِجِسْتَانَ عَادَ عَنْهَا وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا أَمِيرًا كَبِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ، يُعْرَفُ بِقَنْجَى الْحَاجِبِ، فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا. ثُمَّ إِنَّ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ قَدَّمُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا يَجْمَعُهُمْ، وَخَالَفُوا عَلَى السُّلْطَانِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ يَمِينُ الدَّوْلَةِ، وَحَصَرَهُمْ فِي حِصْنِ أَرَكَ، وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ، وَظَفِرَ بِهِمْ، وَمَلَكَ حِصْنَهُمْ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَانْهَزَمَ بَعْضُهُمْ فَسَيَّرَ فِي آثَارِهِمْ مَنْ يَطْلُبُهُمْ، فَأَدْرَكُوهُمْ، فَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهِمْ حَتَّى خَلَتْ سِجِسْتَانُ مِنْهُمْ وَصَفَتْ لَهُ وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهَا عَلَيْهِ، فَأَقْطَعَهَا أَخَاهُ نَصْرًا مُضَافَةً إِلَى نَيْسَابُورَ.

ذِكْرُ وَفَاةِ الطَّائِعِ لِلَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، (فِي شَوَّالٍ مِنْهَا) ،، تُوُفِّيَ الطَّائِعُ لِلَّهِ الْمَخْلُوعُ ابْنُ الْمُطِيعِ لِلَّهِ، وَحَضَرَ الْأَشْرَافُ وَالْقُضَاةُ وَغَيْرُهُمْ دَارَ الْخِلَافَةِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّعْزِيَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْقَادِرُ بِاللَّهِ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ خَمْسًا، وَتَكَلَّمَتِ الْعَامَّةُ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِمَّا يُفْعَلُ بِالْخُلَفَاءِ، وَشَيَّعَ جِنَازَتَهُ ابْنُ حَاجِبٍ النُّعْمَانُ، وَرَثَاهُ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ فَقَالَ: مَا بَعْدَ يَوْمِكَ مَا يَسْلُو بِهِ السَّالِي وَمِثْلُ يَوْمِكَ لَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالَى وَهِيَ طَوِيلَةٌ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَنْصُورِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو عَامِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الْمَعَافِرِيُّ، الْمُلَقَّبُ بِالْمَنْصُورِ، أَمِيرُ الْأَنْدَلُسِ مَعَ الْمُؤَيِّدِ هِشَامِ بْنِ الْحَاكِمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُؤَيِّدِ، وَكَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ مِنْ بَيْتٍ مَشْهُورٍ بِهَا، وَقَدِمَ قُرْطُبَةَ طَالِبًا لِلْعِلْمِ، وَكَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ، فَتَعَلَّقَ بِوَالِدَةِ الْمُؤَيَّدِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ الْمُسْتَنْصِرِ. فَلَمَّا وَلِيَ هِشَامٌ كَانَ صَغِيرًا، فَتَكَفَّلَ الْمَنْصُورُ لِوَالِدَتِهِ الْقِيَامَ بِأَمْرِهِ، وَإِخْمَادَ الْفِتَنِ الثَّائِرَةِ عَلَيْهِ، وَإِقْرَارَ الْمُلْكِ عَلَيْهِ، فَوَلَّتْهُ أَمْرَهُ وَكَانَ شَهْمًا، شُجَاعًا، قَوِيَّ النَّفْسِ، حَسَنَ التَّدَبُّرِ، فَاسْتَمَالَ الْعَسَاكِرَ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، فَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَتَلَقَّبَ بِالْمَنْصُورِ، وَتَابَعَ الْغَزَوَاتِ إِلَى الْفِرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ، وَسَكَنَتِ الْبِلَادُ مَعَهُ، فَلَمْ يَضْطَرِبْ مِنْهَا شَيْءٌ. وَكَانَ عَالِمًا، مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ، يُكْثِرُ مُجَالَسَتَهُمْ وَيُنَاظِرُهُمْ، وَقَدْ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءُ ذِكْرَ مَنَاقِبِهِ، وَصَنَّفُوا لَهَا تَصَانِيفَ كَثِيرَةً، وَلَمَّا مَرِضَ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْغَزْوِ، فَلَمْ يَرْجِعْ،

وَدَخَلَ بِلَادَ الْعَدُوِّ فَنَالَ مِنْهُمْ وَعَادَ وَهُوَ مُثْقَلٌ، فَتُوُفِّيَ بِمَدِينَةِ سَالِمٍ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ الْغُبَارَ الَّذِي وَقَعَ عَلَى دِرْعِهِ (فِي غَزَوَاتِهِ شَيْئًا صَالِحًا) ، فَأَمَرَ أَنْ يُجْعَلَ فِي كَفَنِهِ تَبَرُّكًا بِهِ. وَكَانَ حَسَنَ الِاعْتِقَادِ وَالسِّيرَةِ، عَادِلًا، كَانَتْ أَيَّامُهُ أَعْيَادًا لِنَضَارَتِهَا، وَأَمِنَ النَّاسُ فِيهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ تَمِيمِيَّةً، وَلَمَّا مَاتَ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْمُظَفَّرُ أَبُو مَرْوَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَجَرَى مَجْرَى أَبِيهِ. ذِكْرُ مُحَاصَرَةِ فُلْفُلٍ مَدِينَةَ قَابِسَ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْأَنْدَلُسِيُّ وَفُلْفُلٌ مِنْ طَرَابُلُسَ إِلَى مَدِينَةِ قَابِسَ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ، فَحَصَرُوهَا، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى طَرَابُلُسَ. وَلَمَّا رَأَى يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ قِلَّةِ الْمَالِ، وَاخْتِلَالِ حَالِهِ وَسُوءِ مُجَاوَرَةِ فُلْفُلٍ وَأَصْحَابِهِ لَهُ، رَجَعَ إِلَى مِصْرَ إِلَى الْحَاكِمِ، بَعْدَ أَنْ أَخَذَ فُلْفُلٌ وَأَصْحَابُهُ خُيُولَهُمْ، وَمَا اخْتَارُوهُ مِنْ عُدَدِهِمْ بَيْنَ الشِّرَاءِ وَالْغَصْبِ، فَأَرَادَا الْحَاكِمُ قَتْلَهُ ثُمَّ عَفَا عَنْهُ. وَأَقَامَ فُلْفُلٌ بِطَرَابُلُسَ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعِمِائَةٍ، فَمَرِضَ وَتُوُفِّيَ، وَوُلِيَ أَخُوهُ وَرُّو، فَأَطَاعَتْهُ زَنَاتَةُ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُهُ، فَرَحَلَ بَادِيسُ إِلَى طَرَابُلُسَ لِحَرْبِ زَنَاتَةَ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ رَحِيلُهُ فَارَقُوهَا وَمَلَكَهَا بَادِيسُ، فَفَرَّ أَهْلُهَا وَأَرْسَلَ وَرُّو أَخُو فُلْفُلٍ إِلَى بَادِيسَ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ زَنَاتَةَ فِي أَمَانِهِ، وَيَدْخُلُونَ فِي طَاعَتِهِ، وَيَجْعَلُهُمْ عُمَّالًا كَسَائِرِ عُمَّالِهِ، فَأَمَّنَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَعْطَاهُمْ نِفْزَاوَةَ وَقَسْطِيلَةَ عَلَى أَنْ يَرْحَلُوا مِنْ أَعْمَالِ طَرَابُلُسَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ خَزْرُونَ بْنَ سَعِيدٍ أَخَا وَرُّو جَاءَ إِلَى بَادِيسَ، وَدَخَلَ فِي طَاعَتِهِ، وَفَارَقَ

أَخَاهُ، فَأَكْرَمَهُ بَادِيسُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِنَّ أَخَاهُ خَالَفَ عَلَى بَادِيسَ، وَسَارَ إِلَى طَرَابُلُسَ فَحَصَرَهَا، وَسَارَ إِلَيْهِ خَزْرُونُ لِيَمْنَعَهُ عَنْ حِصَارِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَمَضَانَ، طَلَعَ كَوْكَبٌ كَبِيرٌ لَهُ ذُؤَابَةٌ، وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ انْقَضَّ كَوْكَبٌ كَبِيرٌ أَيْضًا كَضَوْءِ الْقَمَرِ عِنْدَ تَمَامِهِ، وَانْمَحَقَ نُورُهُ وَبَقِيَ جَرْمُهُ يَتَمَوَّجُ. وَفِيهَا اشْتَدَّتِ الْفِتْنَةُ بِبَغْدَاذَ، وَانْتَشَرَ الْعَيَّارُونَ وَالْمُفْسِدُونَ، فَبَعَثَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَمِيدَ الْجُيُوشِ أَبَا عَلِيِّ بْنَ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ إِلَى الْعِرَاقِ لِيُدَبِّرَ أَمْرَهُ، فَوَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَزُيِّنَتْ لَهُ، وَقَمَعَ الْمُفْسِدِينَ، وَمَنَعَ السُّنَّةَ وَالشِّيعَةَ مِنْ إِظْهَارِ مَذَاهِبِهِمْ، وَنَفَى، بَعْدَ ذَلِكَ، ابْنَ الْمُعَلِّمِ فَقِيهَ الْإِمَامِيَّةِ، فَاسْتَقَامَ الْبَلَدُ. وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، وُلِدَ الْأَمِيرُ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ الَّذِي مَلَكَ الْأَمْرَ، وَتَلَقَّبَ بِمُشْرِفِ الدَّوْلَةِ. وَفِيهَا هَرَبَ الْوَزِيرُ أَبُو الْعَبَّاسِ الضَّبِّيُّ، وَزِيرُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهٍ، مِنَ الرَّيِّ إِلَى بَدْرِ بْنِ حَسْنُوَيْهِ، فَأَكْرَمَهُ، وَقَامَ بِالْوِزَارَةِ بَعْدَهُ الْخُطَيْرُ أَبُو عَلِيٍّ. وَفِيهَا وَلَّى الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى دِمَشْقَ، وَقِيَادَةِ الْعَسَاكِرِ الشَّامِيَّةِ، أَبَا مُحَمَّدٍ الْأَسْوَدَ، وَاسْمُهُ تَمْصُولْتُ، فَقَدِمَ إِلَيْهَا، وَنَزَلَ فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَأَقَامَ وَالِيًا عَلَيْهَا

سَنَةً وَشَهْرَيْنِ وَمِنْ أَعْمَالِهِ فِيهَا أَنَّهُ أَطَافَ إِنْسَانًا مَغْرِبِيًّا، وَشَهَّرَهُ، وَنَادَى عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يُحِبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ! ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ جِنِّيٍّ النَّحْوِيُّ، مُصَنِّفُ " اللُّمَعِ " وَغَيْرِهَا، بِبَغْدَاذَ، وَلَهُ شِعْرٌ بَارِزٌ. وَالْقَاضِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجُرْجَانِيُّ بِالرَّيِّ، وَكَانَ إِمَامًا فَاضِلًا، ذَا فُنُونٍ كَثِيرَةٍ. وَالْوَلِيدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ مُخَلَّدٍ الْأَنْدَلُسِيُّ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، وَهُوَ مُحَدِّثٌ مَشْهُورٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَامِيُّ الشَّاعِرُ الْبَغْدَاذَيُّ وَمِنْ شِعْرِهِ يَصِفُ الدِّرْعَ، (وَهِيَ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ) : يَا رُبَّ سَابِغَةٍ حَبَتْنِي نِعْمَةً ... كَافَأْتُهَا بِالسُّوءِ غَيْرَ مُفَنَّدِ أَضْحَتْ تَصُونُ عَنِ الْمَنَايَا مُهْجَتِي ... وَظَلَلْتُ أَبْذُلُهَا لِكُلِّ مُهَنَّدِ وَلَهُ مِنْ أَحْسَنِ الْمَدِيحِ (فِي عَضُدِ الدَّوْلَةِ) : وَلِيتَ، وَعَزْمِي وَالظَّلَامُ وَصَارِمِي ... ثَلَاثَةُ أَشْبَاحٍ كَمَا اجْتَمَعَ النَّسْرُ

وَبَشَّرْتُ آمَالِي بِمُلْكٍ هُوَ الْوَرَى وَدَارٍ هِيَ الدُّنْيَا، وَيَوْمٍ هُوَ الدَّهْرُ (وَقَدِمَ الْمَوْصِلَ، فَاجْتَمَعَ بِالْخَالِدِيِّينَ مِنَ الشُّعَرَاءِ مِنْهُمْ أَبُو الْفَرَجِ الْبَبَّغَاءُ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ التَّلْعَفْرِيُّ، فَامْتَحَنُوهُ، وَكَانَ صَبِيًّا، فَبَرَزَ عِنْدَ الِامْتِحَانِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْخُوَارَزْمِيُّ الْأَدِيبُ الشَّاعِرُ، وَكَانَ فَاضِلًا، وَتُوُفِّيَ بِنَيْسَابُورَ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَكَرِيَّاءَ أَبُو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ الْمُحَدِّثُ الْمَشْهُورُ، وَأَوَّلُ سَمَاعِهِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.

ثم دخلت سنة أربع وتسعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 394 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَلَى الْبَطِيحَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، غَلَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ وَاصِلٍ عَلَى الْبَطِيحَةِ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا مُهَذَّبُ الدَّوْلَةِ. وَكَانَ ابْتِدَاءُ حَالِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّهُ كَانَ يَنُوبُ عَنْ طَاهِرِ بْنِ زِيرَكٍ الْحَاجِبِ فِي الْجَهْبَذَةِ، وَارْتَفَعَ مَعَهُ، ثُمَّ أَشْفَقَ مِنْهُ فَفَارَقَهُ وَسَارَ إِلَى شِيرَازَ، وَاتَّصَلَ بِخِدْمَةِ فُولَاذٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا قُبِضَ عَلَى فُولَاذٍ عَادَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى الْأَهْوَازِ بِحَالٍ سَيِّئَةٍ، فَخَدَمَ فِيهَا. ثُمَّ أُصْعِدَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ مِنْهَا، وَخَدَمَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ مُكْرَمٍ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى خِدْمَةِ مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ بِالْبَطِيحَةِ، فَجَرَّدَ مَعَهُ عَسْكَرًا، وَسَيَّرَهُ إِلَى حَرْبِ لَشْكُرِسْتَانَ حِينَ اسْتَوْلَى عَلَى الْبَصْرَةِ، وَمَضَى إِلَى سِيرَافَ وَأَخَذَ مَا بِهَا لِأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ مُكْرَمٍ مِنْ سُفُنٍ وَمَالٍ، وَأَتَى أَسَافِلَ دِجْلَةَ، فَغَلَبَ عَلَيْهَا، وَخَلَعَ طَاعَةَ مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُهَذَّبُ الدَّوْلَةِ مِائَةَ سُمَيْرِيَّةٍ فِيهَا مُقَاتِلَةٌ، فَغَرِقَ بَعْضُهَا، وَأَخَذَ أَبُو الْعَبَّاسِ مَا بَقِيَ مِنْهَا، وَعَدَلَ إِلَى الْأُبُلَّةِ، فَهَزَمَ أَبَا سَعْدِ بْنَ مَاكُولَا، وَهُوَ يَصْحَبُ لَشُكْرِسْتَانَ، فَانْهَزَمَ أَيْضًا لَشُكْرِسْتَانُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ وَاصِلٍ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَنَزَلَ دَارَ الْإِمَارَةِ، وَأَمِنَ الدَّيْلَمَ وَالْأَجْنَادَ.

وَقَصَدَ لَشُكْرِسْتَانُ مُهَذَّبَ الدَّوْلَةِ، فَأَعَادَهُ إِلَى قِتَالِ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي جَيْشٍ، فَلَقِيَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ وَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ لَشْكُرِسْتَانُ وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ رِجَالِهِ، وَاسْتَوْلَى أَبُو الْعَبَّاسِ عَلَى ثَقَلِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَأَصْعَدَ إِلَى الْبَطِيحَةِ، (وَأَرْسَلَ إِلَى) مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ يَقُولُ لَهُ: قَدْ هَزَمْتُ جُنْدَكَ، وَدَخَلْتُ بَلَدَكَ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ، فَسَارَ مُهَذَّبُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَشَامْنِي، وَصَارَ عِنْدَ أَبِي شُجَاعٍ فَارِسِ بْنِ مَرْدَانَ وَابْنِهِ صَدَقَةَ، فَغَدَرَا بِهِ وَأَخَذَا أَمْوَالَهُ، فَاضْطَرَّ إِلَى الْهَرَبِ، وَسَارَ إِلَى وَاسِطَ فَوَصَلَهَا عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا فَلَقَوْهُ وَأَصْعَدَتْ زَوْجَتُهُ ابْنَةُ الْمَلِكِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ وَأَصْعَدَ مُهَذَّبُ الدَّوْلَةِ إِلَيْهَا فَلَمْ يُمَكَّنْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا. وَأَمَّا ابْنُ وَاصِلٍ فَإِنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَى أَمْوَالِ مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ وَبِلَادِهِ، وَكَانَتْ عَظِيمَةً، وَوَكَّلَ بِدَارِ زَوْجَتِهِ ابْنَةِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ مَنْ يَحْرُسُهَا، ثُمَّ جَمَعَ كُلَّ مَا فِيهَا وَأَرْسَلَهُ إِلَى أَبِيهَا، وَاضْطَرَبَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَطَائِحِ وَاخْتَلَفُوا، فَسَيَّرَ سَبْعَمِائَةِ فَارِسٍ إِلَى الْجَازِرَةِ لِإِصْلَاحِهَا، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا، فَظَفِرُوا بِالْعَسْكَرِ، وَقَتَلُوا فِيهِمْ كَثِيرًا. وَانْتَشَرَ الْأَمْرُ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ وَاصِلٍ. فَعَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ خَوْفًا أَنْ يَنْتَشِرَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ بِهَا، وَتَرَكَ الْبَطَائِحَ شَاغِرَةً لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ يَحْفَظُهَا. وَلَمَّا سَمِعَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بِحَالِ أَبِي الْعَبَّاسِ وَقُوَّتِهِ خَافَهُ عَلَى الْبِلَادِ، فَسَارَ مِنْ فَارِسَ إِلَى الْأَهْوَازِ لِتَلَافِي أَمْرِهِ، وَأَحْضَرَ عِنْدَهُ عَمِيدَ الْجُيُوشِ مِنْ بَغْدَاذَ، وَجَهَّزَ مَعَهُ عَسْكَرًا كَثِيفًا وَسَيَّرَهُمْ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ، فَأَتَى إِلَى وَاسِطَ وَعَمِلَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ سُفُنٍ وَغَيْرِهَا، وَسَارَ إِلَى الْبَطَائِحِ، وَفَرَّقَ جُنْدَهُ فِي الْبِلَادِ لِتَقْرِيرِ قَوَاعِدِهَا. وَسَمِعَ أَبُو الْعَبَّاسِ بِمَسِيرِهِ إِلَيْهِ، فَأَصْعَدَ إِلَيْهِ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَأَرْسَلَ يَقُولُ لَهُ: مَا أَحْوَجَكَ تَتَكَلَّفُ الِانْحِدَارَ، وَقَدْ أَتَيْتُكَ فَخُذْ لِنَفْسِكَ.

وَوَصَلَ إِلَى عَمِيدِ الْجُيُوشِ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مِنْ (تَفَرُّقِ الْعَسْكَرِ عَنْهُ) ، فَلَقِيَهُ فِيمَنْ مَعَهُ بِالصَّلِيقِ، فَانْهَزَمَ عَمِيدُ الْجُيُوشِ، وَوَقَعَ مَنْ مَعَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَقِيَ عَمِيدُ الْجُيُوشِ شِدَّةً إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى وَاسِطَ، وَذَهَبَ ثَقَلُهُ وَخِيَامُهُ وَخَزَائِنُهُ، فَأَخْبَرَهُ خَازِنُهُ أَنَّهُ قَدْ دَفَنَ فِي الْخَيْمَةِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَأَنْفَذَ [مَنْ] أَحْضَرَهَا، فَقَوِيَ بِهَا. وَنَذْكُرُ بَاقِيَ خَبَرِ الْبَطَائِحِ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَلَّدَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ النَّقِيبَ أَبَا أَحْمَدَ الْمُوسَوِيَّ، (وَالِدَ الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ) ، نِقَابَةَ الْعَلَوِيِّينَ بِالْعِرَاقِ، وَقَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَالْحَجَّ، وَالْمَظَالِمَ، وَكَتَبَ عَهْدَهُ بِذَلِكَ مِنْ شِيرَازَ، وَلَقَّبَ الطَّاهِرَ ذَا الْمَنَاقِبِ، فَامْتَنَعَ الْخَلِيفَةُ مِنْ تَقْلِيدِهِ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَأَمْضَى مَا سِوَاهُ. وَفِيهَا خَرَجَ الْأُصَيْفِرُ الْمُنْتَفِقِي عَلَى الْحَاجِّ، وَحَصَرَهُمْ بِالْبَطَانِيَةِ، وَعَزَمَ عَلَى أَخْذِهِمْ وَكَانَ فِيهِمْ أَبُو الْحَسَنِ الرَّفَّاءُ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّجَاجِيُّ وَكَانَا يَقْرَآنِ الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتٍ لَمْ يُسْمَعْ مِثْلُهَا، فَحَضَرَا عِنْدَ الْأُصَيْفِرِ وَقَرَآ الْقُرْآنَ، فَتَرَكَ الْحُجَّاجَ وَعَادَ، وَقَالَ لَهُمَا: قَدْ تَرَكْتُ لَكُمَا أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ.

ثم دخلت سنة خمس وتسعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 395 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ عَوْدِ مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ إِلَى الْبَطِيحَةِ قَدْ ذَكَرْنَا انْهِزَامَ عَمِيدِ الْجُيُوشِ مِنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ وَاصِلٍ، فَلَمَّا انْهَزَمَ أَقَامَ بِوَاسِطَ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ عَازِمًا عَلَى الْعَوْدِ إِلَى الْبَطَائِحِ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ قَدْ تَرَكَ بِهَا نَائِبًا لَهُ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْمُقَامِ بِهَا، فَفَارَقَهَا إِلَى صَاحِبِهِ، فَأَرْسَلَ عَمِيدُ الْجُيُوشِ إِلَيْهَا نَائِبًا مِنْ أَهْلِ الْبَطَائِحِ، فَعَسَفَ النَّاسَ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى عَمِيدِ الْجُيُوشِ، فَأَرْسَلَ إِلَى بَغْدَاذَ وَأَحْضَرَ مُهَذَّبَ الدَّوْلَةِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ الْعَسَاكِرَ فِي السُّفُنِ إِلَى الْبَطِيحَةِ، فَلَمَّا وَصَلَهَا لَقِيَهُ أَهْلُ الْبِلَادِ، وَسُرُّوا بِقُدُومِهِ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ الْوِلَايَاتِ، وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ كُلَّ سَنَةٍ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ ابْنُ وَاصِلٍ، فَاشْتَغَلَ عَنْهُ (بِالتَّجْهِيزِ إِلَى) خُوزِسْتَانَ، وَحَفَرَ نَهْرًا إِلَى جَانِبِ النَّهْرِ الْعَضُدِيِّ، بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْأَهْوَازِ، وَكَثُرَ مَاؤُهُ، وَكَانَ قَدِ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الدَّيْلَمِ وَأَنْوَاعِ الْأَجْنَادِ. وَلَمَّا كَثُرَ مَالُهُ وَذَخَائِرُهُ، وَ [مَا] اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنَ الْبَطِيحَةِ، قَوِيَ طَمَعُهُ فِي الْمُلْكِ، وَسَارَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ إِلَى الْأَهْوَازِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَجَهَّزَ إِلَيْهَا بَهَاءُ الدَّوْلَةِ جَيْشًا فِي الْمَاءِ، فَالْتَقَوْا بِنَهْرِ السِّدْرَةِ، فَاقْتَتَلُوا، وَخَاتَلَهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَسَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ وَتَبِعَهُ مَنْ كَانَ قَدْ لَقِيَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَالْتَقَوْا بِظَاهِرِ الْأَهْوَازِ، وَانْضَافَ إِلَى عَسْكَرِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَسَاكِرُ الَّتِي بِالْأَهْوَازِ، فَاسْتَظْهَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ عَلَيْهِمْ.

وَرَحَلَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى قَنْطَرَةِ أَرْبُقَ، عَازِمًا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى فَارِسَ، وَدَخَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى دَارِ الْمَمْلَكَةِ وَأَخَذَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَثَاثِ الْمُتَخَلَّفِ عَنْ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ الْمُقَامُ لِأَنَّ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ كَانَ قَدْ جَهَّزَ عَسْكَرًا لِيَسِيرَ فِي الْبَحْرِ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَخَافَ أَبُو الْعَبَّاسِ مِنْ ذَلِكَ، وَرَاسَلَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ، وَصَالَحَهُ وَزَادَ فِي أَقْطَاعِهِ، وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَعَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَحَمَلَ مَعَهُ كُلَّ مَا أَخَذَهُ مِنْ دَارِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ وَدُورِ الْأَكَابِرِ وَالْقُوَّادِ وَالتُّجَّارِ. ذِكْرُ غَزْوَةِ بَهَاطِيَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا يَمِينُ الدَّوْلَةِ بَهَاطِيَةَ مِنْ أَعْمَالِ الْهِنْدِ، وَهِيَ وَرَاءَ الْمُولْتَانِ، وَصَاحِبُهَا يُعْرَفُ بِبَحِيرَا، وَهِيَ مَدِينَةٌ حَصِينَةٌ، عَالِيَةُ السُّورِ، يُحِيطُ بِهَا خَنْدَقٌ عَظِيمٌ، فَامْتَنَعَ صَاحِبُهَا بِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ إِلَى ظَاهِرِهَا، فَقَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ انْهَزَمَ فِي الرَّابِعِ، وَطَلَبَ الْمَدِينَةَ لِيَدْخُلَهَا، فَسَبَقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى بَابِ الْبَلَدِ فَمَلَكُوهُ عَلَيْهِمْ، وَأَخَذَتْهُمُ السُّيُوفُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، فَقُتِلَ الْمُقَاتِلَةُ وَسُبِيَتِ الذُّرِّيَّةُ وَأُخِذَتِ الْأَمْوَالُ. أَمَّا بَحِيرَا فَإِنَّهُ لَمَّا عَايَنَ الْهَلَاكَ أَخَذَ جَمَاعَةً مِنْ ثِقَاتِهِ وَسَارَ إِلَى رُءُوسِ تِلْكَ الْجِبَالِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ يَمِينُ الدَّوْلَةِ سَرِيَّةً، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ بَحِيرَا إِلَّا وَقَدْ أَحَاطُوا بِهِ، وَحَكَّمُوا السُّيُوفَ فِي أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَيْقَنَ بِالْعَطَبِ أَخَذَ خِنْجَرًا مَعَهُ فَقَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ، وَأَقَامَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ بِبَهَاطِيَةَ حَتَّى أَصْلَحَ أَمْرَهَا، وَرَتَّبَ قَوَاعِدَهَا، وَعَادَ عَنْهَا إِلَى غَزْنَةَ، وَاسْتَخْلَفَ بِهَا مَنْ يُعَلِّمُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِهَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَعَلُّمُهُ، وَلَقِيَ فِي عَوْدِهِ شِدَّةً شَدِيدَةً مِنَ الْأَمْطَارِ وَكَثْرَتِهَا، وَزِيَادَةِ الْأَنْهَارِ، فَغَرِقَ مِنْهُ مِنْ عَسْكَرِهِ عَظِيمٌ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ بِإِفْرِيقِيَّةَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِحَيْثُ تَعَطَّلَتِ الْمَخَابِزُ وَالْحَمَّامَاتُ، وَهَلَكَ النَّاسُ، وَذَهَبَتِ الْأَمْوَالُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَكَثُرَ الْوَبَاءُ، فَكَانَ يَمُوتُ كُلَّ يَوْمٍ مَا بَيْنَ خَمْسِمِائَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ. وَفِيهَا وَصَلَ قِرْوَاشٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْحَجَّاجُ إِلَى الْكُوفَةِ، فَقَبَضَا عَلَى أَبِي عَلِيٍّ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْعَلَوِيِّ، وَأَخَذَ مِنْهُ قِرْوَاشٌ مِائَةَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَحَمَلَهُ مَعَهُ إِلَى الْأَنْبَارِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نُوحٍ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُهَلَّبِيُّ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْعَلَوِيُّ الْهَمَذَانِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى) .

ثم دخلت سنة ست وتسعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 396 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ غَزْوَةِ الْمُولْتَانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا السُّلْطَانُ يَمِينُ الدَّوْلَةِ الْمُولْتَانَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ وَالِيَهَا أَبَا الْفُتُوحِ نُقِلَ عَنْهُ خُبْثُ اعْتِقَادِهِ، وَنُسِبَ إِلَى الْإِلْحَادِ، وَأَنَّهُ قَدْ دَعَا أَهْلَ وِلَايَتِهِ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ. فَرَأَى يَمِينُ الدَّوْلَةِ أَنْ يُجَاهِدَهُ وَيَسْتَنْزِلَهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ، فَسَارَ نَحْوَهُ، فَرَأَى الْأَنْهَارَ الَّتِي فِي طَرِيقِهِ كَثِيرَةَ الزِّيَادَةِ، عَظِيمَةَ الْمَدِّ، وَخَاصَّةً سَيْحُونَ، فَإِنَّهُ مَنَعَ جَانِبَهُ مِنَ الْعُبُورِ فَأَرْسَلَ إِلَى أَنْدِبَالَ يَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْعُبُورِ بِبِلَادِهِ إِلَى الْمُولْتَانِ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَابْتَدَأَ بِهِ قَبْلَ الْمُولْتَانِ، وَقَالَ: نَجْمَعُ بَيْنَ غَزْوَتَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا غَزْوَ إِلَّا التَّعْقِيبُ فَدَخَلَ بِلَادَهُ، وَجَاسَهَا، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهَا، وَالنَّهْبَ لِأَمْوَالِ أَهْلِهَا، وَالْإِحْرَاقَ لِأَبْنِيَتِهَا، فَفَرَّ أَنْدِبَالُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَهُوَ فِي أَثَرِهِ كَالشِّهَابِ فِي أَثَرِ الشَّيْطَانِ، مِنْ مَضِيقٍ إِلَى مَضِيقٍ، إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى قِشْمِيرَ. وَلَمَّا سَمِعَ أَبُو الْفُتُوحِ بِخَبَرِ إِقْبَالِهِ إِلَيْهِ عَلِمَ عَجْزَهُ عَنِ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْعِصْيَانِ عَلَيْهِ، فَنَقَلَ أَمْوَالَهُ إِلَى سَرَنْدِيبَ، وَأَخْلَى الْمُولْتَانَ، فَوَصَلَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَيْهَا وَنَازَلَهَا، فَإِذَا أَهْلُهَا فِي ضَلَالِهِمْ يَعْمَهُونَ، فَحَصَرَهُمْ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، وَتَابَعَ الْقِتَالَ حَتَّى افْتَتَحَهَا عَنْوَةً، وَأَلْزَمَ أَهْلَهَا عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ عُقُوبَةً لِعِصْيَانِهِمْ.

ذِكْرُ غَزْوَةِ كَوَاكِيرَ ثُمَّ سَارَ عَنْهَا إِلَى قَلْعَةِ كَوَاكِيرَ، وَكَانَ صَاحِبُهَا يُعْرَفُ بِبِيدَا، وَكَانَ بِهَا سِتُّمِائَةِ صَنَمٍ، فَافْتَتَحَهَا وَأَحْرَقَ الْأَصْنَامَ، فَهَرَبَ صَاحِبُهَا إِلَى قَلْعَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ بِكَالَنْجَارَ، فَسَارَ خَلْفَهُ إِلَيْهَا، وَهُوَ حِصْنٌ كَبِيرٌ يَسَعُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفَ إِنْسَانٍ، وَفِيهِ خَمْسُمِائَةِ فِيلٍ، وَعِشْرُونَ أَلْفَ دَابَّةٍ، وَفِي الْحِصْنِ مَا يَكْفِي الْجَمِيعَ مُدَّةً. فَلَمَّا قَارَبَهَا يَمِينُ الدَّوْلَةِ بَقِيَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةُ فَرَاسِخَ رَأَى مِنَ الْغِيَاضِ الْمَانِعَةِ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ مَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا، وَرَأَى فِي الطَّرِيقِ وَادِيًا عَظِيمَ الْعُمْقِ، بَعِيدَ الْقَعْرِ، فَأَمَرَ أَنْ يُطَمَّ مِنْهُ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ عِشْرِينَ فَارِسًا،، فَطَّمُوهُ بِالْجُلُودِ الْمَمْلُوءَةِ تُرَابًا، وَوَصَلَ إِلَى الْقَلْعَةِ فَحَصَرَهَا ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَرَاسَلَهُ صَاحِبُهَا فِي الصُّلْحِ فَلَمْ يُجِبْهُ. ثُمَّ بَلَغَهُ عَنْ خُرَاسَانَ اخْتِلَافٌ بِسَبَبِ قَصْدِ أَيْلَكَ الْخَانِ لَهَا، فَصَالَحَ مَلِكَ الْهِنْدِ عَلَى خَمْسِمِائَةِ فِيلٍ، وَثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ فِضَّةٍ، وَلَبِسَ خِلْعَةَ يَمِينِ الدَّوْلَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَعْفَى مِنْ شَدِّ الْمِنْطَقَةِ، فَإِنَّهُ اشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَى ذَلِكَ، فَشَدَّ الْمِنْطَقَةَ، وَقَطَعَ إِصْبَعَهُ الْخِنْصَرَ وَأَنْفَذَهَا إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ تَوْثِقَةً فِيمَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَعَادَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَى خُرَاسَانَ لِإِصْلَاحِ مَا اخْتُلِفَ فِيهَا، وَكَانَ عَازِمًا عَلَى الْوُغُولِ فِي بِلَادِ الْهِنْدِ. ذِكْرُ عُبُورِ عَسْكَرِ أَيْلَكَ الْخَانِ إِلَى خُرَاسَانَ كَانَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ لَمَّا اسْتَقَرَّ لَهُ مُلْكُ خُرَاسَانَ، وَمَلَكَ أَيْلِكُ الْخَانُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، قَدْ رَاسَلَهُ وَوَافَقَهُ، وَتَزَوَّجَ ابْنَتَهُ وَانْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا مُصَاهَرَةٌ وَمُصَالَحَةٌ، فَلَمْ تَزَلِ السَّعَادَةُ حَتَّى أَفْسَدُوا ذَاتَ بَيْنِهِمَا، وَكَتَمَ أَيْلَكُ الْخَانُ مَا فِي نَفْسِهِ، فَلَمَّا سَارَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْمُولْتَانِ اغْتَنَمَ أَيْلَكُ الْخَانُ خُلُوَّ خُرَاسَانَ، فَسَيَّرَ سَبَاشِي تِكِينَ، صَاحِبَ جَيْشِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، إِلَى خُرَاسَانَ فِي مُعْظَمِ جُنْدِهِ، وَسَيَّرَ أَخَاهُ جَعْفَرَ تِكِينَ إِلَى بَلْخَ فِي عِدَّةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ.

وَكَانَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ قَدْ جَعَلَ بِهَرَاةَ أَمِيرًا مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَائِهِ يُقَالُ لَهُ: أَرْسِلَانُ الْجَاذِبُ. فَأَمَرُهُ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مُخَالِفٌ أَنْ يَنْحَازَ إِلَى غَزْنَةَ. فَلَمَّا عَبَرَ سَبَاشِي تِكِينُ إِلَى خُرَاسَانَ سَارَ أَرْسِلَانُ إِلَى غَزْنَةَ، وَمَلَكَ سَبَاشِي هَرَاةَ وَأَقَامَ بِهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى نَيْسَابُورَ مَنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا. وَاتَّصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِيَمِينِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ بِالْهِنْدِ، فَرَجَعَ إِلَى غَزْنَةَ لَا يَلْوِي عَلَى دَارٍ، وَلَا يَرَكَنُ إِلَى قَرَارٍ، فَلَمَّا بَلَغَهَا فَرَّقَ فِي عَسَاكِرِهِ الْأَمْوَالَ، وَقَوَّاهُمْ، وَأَصْلَحَ مَا أَرَادَ إِصْلَاحَهُ، وَاسْتَمَدَّ الْأَتْرَاكَ الْخُلَّجِيَّةَ، فَجَاءَهُ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ بَلْخَ، وَبِهَا جَعْفَرٌ تِكِينُ أَخُو أَيْلَكَ الْخَانِ، فَعَبَرَ إِلَى تِرْمِذَ، وَنَزَلَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ بِبَلْخَ، وَسَيَّرَ الْعَسَاكِرَ إِلَى سَبَاشِي تِكِينَ بِهَرَاةَ، فَلَمَّا قَارَبُوهُ سَارَ نَحْوَ مَرْوَ لِيَعْبُرَ النَّهْرَ، فَلَقِيَهُ التُّرْكُمَانُ الْغُزِّيَّةُ، فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً. ثُمَّ سَارَ نَحْوَ أَبِيوَرْدَ لِتَعَذُّرِ الْعُبُورِ عَلَيْهِ، فَتَبِعَهُ عَسْكَرُ يَمِينِ الدَّوْلَةِ، كُلَّمَا رَحَلَ نَزَلُوا، حَتَّى سَاقَهُ الْخَوْفُ مِنَ الطَّلَبِ إِلَى جُرْجَانَ فَأُخْرِجَ عَنْهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَعَارَضَهُ يَمِينُ الدَّوْلَةِ، فَمَنَعَهُ عَنْ مَقْصِدِهِ، وَأُسِرَ أَخُو سَبَاشِي تِكِينَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ قُوَّادِهِ، وَنَجَا هُوَ فِي خُفٍّ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَعَبَرَ النَّهْرَ. وَكَانَ أَيْلَكُ الْخَانُ قَدْ عَبَّرَ أَخَاهُ جَعْفَرَ تِكِينَ إِلَى بَلْخَ لِيَلْفِتَ يَمِينَ الدَّوْلَةِ عَنْ طَلَبِ سَبَاشِي، فَلَمْ يَرْجِعْ، وَجَعَلَ دَأْبَهُ إِخْرَاجَ سَبَاشِي مِنْ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا أَخْرَجَهُ عَنْهَا عَادَ إِلَى بَلْخَ، فَانْهَزَمَ مَنْ كَانَ بِهَا مَعَ جَعْفَرٍ تِكِينَ، وَسُلِّمَتْ خُرَاسَانُ لِيَمِينِ الدَّوْلَةِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسْكَرِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ وَالْأَكْرَادِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ عَمِيدُ الْجُيُوشِ عَسْكَرًا إِلَى الْبَنْدَنِيجِينِ، وَجَعَلَ الْمُقَدَّمَ عَلَيْهِمْ قَائِدًا كَبِيرًا مِنَ الدَّيْلَمِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا سَارَ إِلَيْهِمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَكْرَادِ، فَاقْتَتَلُوا،

فَانْهَزَمَ الدَّيْلَمُ، وَغَنِمَ الْأَكْرَادُ رَحْلَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ، وَجَرَّدَ الْمُقَدَّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ ثِيَابِهِ، فَأَخَذَ قَمِيصًا مِنْ رَجُلٍ سَوَادِيٍّ، وَعَادَ رَاجِلًا حَافِيًا، وَلَمْ يَكُنْ مُقَامُهُمْ غَيْرَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُلِّدَ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ نِقَابَةَ الطَّالِبِيِّينَ بِالْعِرَاقِ، وَلُقِّبَ بِالرَّضِيِّ ذِي الْحَسَبَيْنِ، وَلُقِّبَ أَخُوهُ الْمُرْتَضَى ذَا الْمَجْدَيْنِ، فَعَلَ ذَلِكَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمَرْزُبَانِ الْأَصْبَهَانِيُّ، قَاضِي خُرَاسَانَ، وَكَانَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْبِيمَارِسْتَانِ بِبَغْدَاذَ. وَفِيهَا، مُسْتَهَلَّ شَعْبَانَ، طَلَعَ كَوْكَبٌ كَبِيرٌ يُشْبِهُ الزَّهْرَةَ عَنْ يَسْرَةِ قِبْلَةِ الْعِرَاقِ، لَهُ شُعَاعٌ عَلَى الْأَرْضِ كَشُعَاعِ الْقَمَرِ، وَبَقِيَ إِلَى مُنْتَصَفِ ذِي الْقَعْدَةِ وَغَابَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو سَعْدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، الْإِمَامُ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، بِجُرْجَانَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مَنْدَهْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ الْأَصْبَهَانِيُّ الْمَشْهُورُ، لَهُ التَّصَانِيفُ الْمَعْرُوفَةُ.

ثم دخلت سنة سبع وتسعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 397 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ هَزِيمَةِ أَيْلَكَ الْخَانِ لَمَّا أَخْرَجَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ عَسَاكِرَ أَيْلَكَ الْخَانِ مِنْ خُرَاسَانَ، رَاسَلَ أَيْلَكُ الْخَانُ قَدْرَ خَانَ بْنَ بَغْرَا خَانَ مَلِكَ الْخُتَنِ لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا، وَذَكَرَ لَهُ حَالَهُ، وَاسْتَعَانَ بِهِ وَاسْتَنْصَرَهُ، وَاسْتَنْفَرَ التُّرْكَ مِنْ أَقَاصِي بِلَادِهَا، وَسَارَ نَحْوَ خُرَاسَانَ، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَأَيْلَكُ الْخَانُ، فَعَبَرَا النَّهْرَ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ يَمِينَ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ بِطَخَارِسْتَانَ، فَسَارَ وَسَبَقَهُمَا إِلَى بَلْخَ، وَاسْتَعَدَّ لِلْحَرْبِ، وَجَمَعَ التُّرْكَ الْغُزِّيَّةَ وَالْخَلَجَ، وَالْهِنْدَ، وَالْأَفْغَانِيَّةَ وَالْغَزْنَوِيَّةَ، وَخَرَجَ عَنْ بَلْخَ، فَعَسْكَرَ عَلَى فَرْسَخَيْنِ بِمَكَانٍ فَسِيحٍ يَصْلُحُ لِلْحَرْبِ، وَتَقَدَّمَ أَيْلَكُ الْخَانُ، وَقَدْرُخَانُ فِي عَسْكَرِهِمَا، فَنَزَلُوا بِإِزَائِهِ، وَاقْتَتَلُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ إِلَى اللَّيْلِ. فَلَمَّا حَانَ الْغَدُ بَرَزَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَاقْتَتَلُوا، وَاعْتَزَلَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَى نَشَزٍ مُرْتَفِعٍ يَنْظُرُ إِلَى الْحَرْبِ، وَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَعَفَّرَ وَجْهَهُ عَلَى الصَّعِيدِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَسَأَلَهُ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ، ثُمَّ نَزَلَ وَحَمَلَ فِي فِيَلَتِهِ عَلَى قَلْبِ أَيْلَكَ الْخَانِ، فَأَزَالَهُ عَنْ مَكَانِهِ، وَوَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ فِيهِمْ، وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ يَمِينِ الدَّوْلَةِ يَقْتُلُونَ، وَيَأْسِرُونَ، وَيَغْنَمُونَ إِلَى أَنْ عَبَرُوا بِهِمُ النَّهْرَ، وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ تَهْنِئَةَ يَمِينِ الدَّوْلَةِ بِهَذَا الْفَتْحِ.

ذِكْرُ غَزْوِهِ إِلَى الْهِنْدِ فَلَمَّا فَرَغَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مِنَ التُّرْكِ سَارَ نَحْوَ الْهِنْدِ لِلْغَزَاةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ أَوْلَادِ مُلُوكِ الْهِنْدِ، يُعْرَفُ بِنُوَاسَهْ شَاهْ، كَانَ قَدْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ، وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى بَعْضِ مَا افْتَتَحَهُ مِنْ بِلَادِهِمْ. فَلَمَّا كَانَ الْآنَ بَلَغَهُ أَنَّهُ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَمَالَأَ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، فَسَارَ إِلَيْهِ مُجِدًّا، فَحِينَ قَارَبَهُ فَرَّ الْهِنْدِيُّ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَاسْتَعَادَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ تِلْكَ الْوِلَايَةَ، وَأَعَادَهَا إِلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا بَعْضَ أَصْحَابِهِ، وَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ. ذِكْرُ حَصْرِ أَبِي جَعْفَرٍ الْحَجَّاجِ بِغَدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ أَبُو جَعْفَرٍ الْحَجَّاجُ جَمْعًا كَثِيرًا، وَأَمَدَّهُ بَدْرُ بْنُ حَسَنَوَيْهِ بِجَيْشٍ كَثِيرٍ، فَسَارَ بِالْجَمِيعِ وَحَصَرَ بَغْدَاذَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ كَانَ نَازِلًا عَلَى قَلَجَ حَامِي طَرِيقِ خُرَاسَانَ، وَكَانَ قَلَجُ مُبَايِنًا لِعَمِيدِ الْجُيُوشِ، فَاجْتَمَعَا لِذَلِكَ. فَتُوُفِّيَ قَلَجُ هَذِهِ السَّنَةَ، فَجَعَلَ عَمِيدُ الْجُيُوشِ عَلَى حِمَايَةِ الطَّرِيقِ أَبَا الْفَتْحِ بْنَ عَنَّازٍ، وَكَانَ عَدُوًّا لِبَدْرِ بْنِ حَسَنَوَيْهِ، فَحَقَدَ ذَلِكَ بَدْرٌ، فَاسْتَدْعَى أَبَا جَعْفَرٍ الْحَجَّاجَ، وَجَمَعَ لَهُ جَمْعًا كَثِيرًا، مِنْهُمُ الْأَمِيرُ هِنْدِيُّ بْنُ سَعْدِيٍّ، وَأَبُو عِيسَى شَاذِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَوَرَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَغَيْرُهُمْ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ. وَكَانَ الْأَمِيرُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ قَدْ عَادَ مِنْ عِنْدِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بِخُوزِسْتَانَ مُغْضَبًا، فَاجْتَمَعَ مَعَهُمْ، فَزَادَتْ عِدَّتُهُمْ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ. وَكَانَ عَمِيدُ الْجُيُوشِ عِنْدَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ لِقِتَالِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ وَاصِلٍ، فَسَارَ أَبُو جَعْفَرٍ وَمَنِ اجْتَمَعَ مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَنَزَلُوا عَلَى فَرْسَخٍ مِنْهَا، وَأَقَامُوا شَهْرًا، وَبِبَغْدَاذَ جَمْعٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَمَعَهُمْ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ عَنَّازٍ، فَحَفِظُوا الْبَلَدَ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ أَتَاهُمْ خَبَرُ انْهِزَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ وَقُوَّةِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَفَتَّ ذَلِكَ فِي أَعْضَادِ أَبِي جَعْفَرٍ وَمَنْ

مَعَهُ، فَتَفَرَّقُوا، فَعَادَ ابْنُ مَزْيَدٍ إِلَى بَلَدِهِ، وَسَارَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو عِيسَى إِلَى حُلْوَانَ، وَرَاسَلَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي إِصْلَاحِ حَالِهِ مَعَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ بِتُسْتَرَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ لِئَلَّا يَسْتَوْحِشَ عَمِيدَ الْجُيُوشِ. ذِكْرُ قِصَّةِ بَدْرٍ وَوِلَايَةِ رَافِعِ بْنِ مَقْنٍ كَانَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ عَنَّازٍ الْتَجَأَ إِلَى رَافِعِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَقْنٍ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ، حِينَ أَخَذَ بَدْرُ بْنُ حَسَنَوَيْهِ مِنْهُ حُلْوَانَ وَقَرْمِيسِينَ، فَأَرْسَلَ بَدْرٌ إِلَى رَافِعٍ يَذْكُرُ مَوَدَّةَ أَبِيهِ، وَحُقُوقَهُ عَلَيْهِ، وَيَعْتِبُ عَلَيْهِ حَيْثُ آوَى خَصْمَهُ، وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يُبْعِدَهُ لِيَدُومَ لَهُ عَلَى الْعَهْدِ وَالْوُدِّ الْقَدِيمِ. فَلَمْ يَفْعَلْ رَافِعٌ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ بَدْرٌ جَيْشًا إِلَى أَعْمَالِ رَافِعٍ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ دِجْلَةَ فَنَهَبَهَا، وَقَصَدُوا دَارَهُ بِالْمَطِيرَةِ فَنَهَبُوهَا، وَأَحْرَقُوهَا وَسَارُوا إِلَى قَلْعَةِ الْبَرَدَانِ، وَهِيَ لِرَافِعٍ أَيْضًا، فَفَتَحُوهَا قَهْرًا، وَأَحْرَقُوا مَا كَانَ بِهَا مِنَ الْغَلَّاتِ، وَطَمُّوا بِئْرَهَا، فَسَارَ أَبُو الْفَتْحِ إِلَى عَمِيدِ الْجُيُوشِ بِبَغْدَاذَ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَكْرَمَهُ وَوَعَدَهُ نَصْرَهُ. ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ وَاصِلٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ وَاصِلٍ صَاحِبُ الْبَصْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ابْتِدَاءِ حَالِهِ، وَارْتِفَاعِهِ، وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى الْبَطِيحَةِ، وَمَا أَخَذَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَمَا هَزَمَ مِنْ جُيُوشِ السُّلْطَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعِهِ. فَلَمَّا عَظُمَ أَمْرُهُ سَارَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ مِنْ فَارِسَ إِلَى الْأَهْوَازِ لِيَحْفَظَ خُوزِسْتَانَ مِنْهُ، وَكَانَ فِي الْبَطَائِحِ مُقَابِلَ عَمِيدِ الْجُيُوشِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ سَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَبِهَا بَهَاءُ الدَّوْلَةِ، فَمَلَكَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، (وَعَادَ عَنْهَا عَلَى صُلْحٍ مَعَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ) أَيْضًا.

ثُمَّ تَجَدَّدَ مَا أَوْجَبَ عَوْدَهُ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَعَادَ إِلَيْهَا فِي جَيْشِهِ، وَبَهَاءُ الدَّوْلَةِ مُقِيمٌ بِهَا، فَلَمَّا قَارَبَهَا رَحَلَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَنْهَا لِقِلَّةِ عَسْكَرِهِ، وَتَفَرُّقِهِمْ: بَعْضُهُمْ بِفَارِسَ، وَبَعْضُهُمْ بِالْعِرَاقِ، وَقَطَعَ قَنْطَرَةَ أَرْبَقَ، وَبَقِيَ النَّهْرُ يَحْجُزُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَاسْتَوْلَى أَبُو الْعَبَّاسِ عَلَى الْأَهْوَازِ، وَأَتَاهُ مَدَدٌ مِنْ بَدْرِ بْنِ حَسَنَوَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافِ فَارِسٍ، فَقَوِيَ بِهِمْ. وَعَزَمَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى فَارِسَ، فَمَنَعَهُ أَصْحَابُهُ فَأَصْلَحَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَنْطَرَةَ، وَجَرَى بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ قِتَالٌ شَدِيدٌ دَامَ إِلَى السَّحَرِ، ثُمَّ عَبَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ عَلَى الْقَنْطَرَةِ بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَهَا، وَالْتَقَى الْعَسْكَرَانِ وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَانْهَزَمَ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ كَثِيرٌ، وَعَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ مَهْزُومًا مُنْتَصَفَ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. فَلَمَّا عَادَ مُنْهَزِمًا جَهَّزَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرَ مَعَ وَزِيرِهِ أَبِي غَالِبٍ، فَسَارَ إِلَيْهِ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ مُحَاصِرًا لَهُ، وَجَرَى بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ الْقِتَالُ، وَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى الْوَزِيرِ، وَقَلَّ الْمَالُ عِنْدَهُ، وَاسْتَمَدَّ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ فَلَمْ يَمُدَّهُ ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ جَمَعَ سُفُنَهُ وَعَسَاكِرَهُ، وَأَصْعَدَ إِلَى عَسْكَرِ الْوَزِيرِ، وَهَجَمَ عَلَيْهِ، فَانْهَزَمَ الْوَزِيرُ، وَكَادَ يُتِمُّ عَلَى الْهَزِيمَةِ، فَاسْتَوْقَفَهُ بَعْضُ الدَّيْلَمِ وَثَبَّتَهُ، وَحَمَلُوا عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ فَانْهَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَأَخَذَ الْوَزِيرُ سُفُنَهُ، فَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَمَضَى أَبُو الْعَبَّاسِ مُنْهَزِمًا، وَرَكِبَ مَعَ حَسَّانَ بْنِ ثِمَالٍ الْخَفَاجِيِّ هَارِبًا إِلَى الْكُوفَةِ، وَدَخَلَ الْوَزِيرُ الْبَصْرَةَ، وَكَتَبَ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بِالْفَتْحِ. ثُمَّ إِنَّ (أَبَا الْعَبَّاسِ) سَارَ مِنَ الْكُوفَةِ، وَقَطَعَ دِجْلَةَ، وَمَضَى عَازِمًا عَلَى اللَّحَاقِ بِبَدْرِ بْنِ حَسَنَوَيْهِ، فَبَلَغَ خَانِقِينَ، وَبِهَا جَعْفَرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي طَاعَةِ بَدْرٍ، فَأَنْزَلَهُ وَأَكْرَمَهُ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمَسِيرِ فِي وَقْتِهِ، وَحَذَّرَهُ الطَّلَبَ، فَاعْتَلَّ بِالتَّعَبِ، وَطَلَبَ الِاسْتِرَاحَةَ، وَنَامَ، وَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى أَبِي الْفَتْحِ بْنِ عَنَّازٍ، وَهُوَ فِي طَاعَةِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ بِخَانِقِينَ، وَهُوَ بِهَا، فَحَصَرَهُ وَأَخَذَهُ وَسَارَ بِهِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَسَيَّرَهُ عَمِيدُ الْجُيُوشِ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَلَقِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ قَاصِدٌ مِنْ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ يَأْمُرُ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَطِيفَ بِهِ بِخُوزِسْتَانَ وَفَارِسَ، وَكَانَ بِوَاسِطَ عَاشِرَ صَفَرٍ.

ذِكْرُ مَسِيرِ عَمِيدِ الْجُيُوشِ إِلَى حَرْبِ بَدْرٍ وَصُلْحِهِ مَعَهُ كَانَ فِي نَفْسِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ عَلَى بَدْرِ بْنِ حَسَنَوَيْهِ حِقْدٌ لِمَا اعْتَمَدَهُ فِي بِلَادِهِ لِاشْتِغَالِهِ عَنْهُ بِأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ وَاصِلٍ، فَلَمَّا قُتِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَمَرَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَمِيدَ الْجُيُوشِ بِالْمَسِيرِ إِلَى بِلَادِهِ، وَأَعْطَاهُ مَالًا أَنْفَقَهُ فِي الْجُنْدِ، فَجَمَعَ عَسْكَرًا وَسَارَ يُرِيدُ بِلَادَهُ، فَنَزَلَ جُنْدَيْسَابُورَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بَدْرٌ: إِنَّكَ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ مَا تَغَلَّبَ عَلَيْهِ بَنُو عُقَيْلٍ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَغْدَاذَ فَرْسَخٌ، حَتَّى صَالَحْتَهُمْ، فَكَيْفَ تَقْدِرُ عَلَى أَخْذِ بِلَادِي وَحُصُونِي مِنِّي، وَمَعِي مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَيْسَ مَعَكَ مِثْلُهَا؟ وَأَنَا مَعَكَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِنْ حَارَبْتُكَ، فَالْحَرْبُ سِجَالٌ، وَلَا نَعْلَمُ لِمَنِ الْعَاقِبَةُ، فَإِنِ انْهَزَمْتُ أَنَا لَمْ يَنْفَعْكَ ذَلِكَ لِأَنَّنِي أَحْتَمِي بِقِلَاعِي وَمَعَاقِلِي، وَأُنْفِقُ أَمْوَالِي، وَإِذَا عَجَزْتُ فَأَنَا رَجُلٌ صَحْرَاوِيٌّ، صَاحِبُ عَمَدٍ، أَبْعُدُ ثُمَّ أَقْرُبُ، وَإِنِ انْهَزَمْتَ أَنْتَ لَمْ تَجْتَمِعْ، وَتَلْقَى مِنْ صَاحِبِكَ الْعَتْبَ، وَالرَّأْيُ أَنْ أَحْمِلَ إِلَيْكَ مَالًا تُرْضِي بِهِ صَاحِبَكَ، وَنَصْطَلِحُ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَصَالَحَهُ، وَأَخَذَ مِنْهُ مَا كَانَ أَخْرَجَهُ عَلَى تَجْهِيزِ الْجَيْشِ وَعَادَ عَنْهُ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ قِرْوَاشٍ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ ثِمَالٍ الْخَفَاجِيِّ فِي الْمُحَرَّمِ جَرَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ مُعْتَمَدِ الدَّوْلَةِ أَبِي الْمَنِيعِ قِرْوَاشِ بْنِ الْمُقَلَّدِ الْعُقَيْلِيِّ، وَبَيْنَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ ثِمَالٍ الْخَفَاجِيِّ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ قِرْوَاشًا جَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا وَسَارَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَأَبُو عَلِيٍّ غَائِبٌ عَنْهَا، فَدَخَلَهَا وَنَزَلَ بِهَا، وَعَرَفَ أَبُو عَلِيٍّ الْخَبَرَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ قِرْوَاشٌ وَعَادَ إِلَى الْأَنْبَارِ مَفْلُولًا وَمَلَكَ أَبُو عَلِيٍّ الْكُوفَةَ، وَأَخَذَ أَصْحَابَ قِرْوَاشٍ فَصَادَرَهُمْ. ذِكْرُ خُرُوجِ أَبِي رَكْوَةَ عَلَى الْحَاكِمِ بِمِصْرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَفِرَ الْحَاكِمُ بِأَبِي رَكْوَةَ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَاهُنَا خَبَرَهُ أَجْمَعَ.

كَانَ أَبُو رَكْوَةَ اسْمُهُ الْوَلِيدُ وَإِنَّمَا كُنِّيَ أَبَا رَكْوَةَ لِرَكْوَةٍ كَانَ يَحْمِلُهَا فِي أَسْفَارِهِ، سُنَّةُ الصُّوفِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَيَقْرُبُ فِي النَّسَبِ مِنَ الْمُؤَيَّدِ هِشَامِ بْنِ الْحَاكِمِ الْأُمَوِيِّ، صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ، وَإِنَّ الْمَنْصُورَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى الْمُؤَيَّدِ وَأَخْفَاهُ عَنِ النَّاسِ، تَتَبَّعَ أَهْلَهُ وَمَنْ يَصْلُحُ مِنْهُمْ لِلْمُلْكِ، فَطَلَبَهُ، فَقُتِلَ الْبَعْضُ، وَهَرَبَ الْبَعْضُ. وَكَانَ أَبُو رَكْوَةَ مِمَّنْ هَرَبَ، وَعُمْرُهُ حِينَئِذٍ قَدْ زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَصَدَ مِصْرَ، وَكَتَبَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ وَالْيَمَنِ، (وَعَادَ إِلَى مِصْرَ وَدَعَا بِهَا) إِلَى الْقَائِمِ، فَأَجَابَهُ بَنُو قُرَّةَ وَغَيْرُهُمْ. وَسَبَبُ اسْتِجَابَتِهِمْ أَنَّ الْحَاكِمَ بِأَمْرِ اللَّهِ كَانَ قَدْ أَسْرَفَ فِي مِصْرَ فِي قَتْلِ الْقُوَّادِ، وَحَبْسِهِمْ، وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، وَسَائِرُ الْقَبَائِلِ مَعَهُ فِي ضَنْكٍ وَضِيقٍ، وَيَوَدُّونَ خُرُوجَ الْمُلْكِ عَنْ يَدِهِ، وَكَانَ الْحَاكِمُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي دَعَا أَبُو رَكْوَةَ بَنِي قُرَّةَ قَدْ آذَاهُمْ، وَحَبَسَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِهِمْ، وَقَتَلَ بَعْضَهُمْ، فَلَمَّا دَعَاهُمْ أَبُو رَكْوَةَ انْقَادُوا لَهُ. وَكَانَ بَيْنَ بَنِي قُرَّةَ وَبَيْنَ زِنَاتَةَ حُرُوبٌ وَدِمَاءٌ، فَاتَّفَقُوا عَلَى الصُّلْحِ، وَمَنْعِ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْحَاكِمِ، فَقَصَدَ بَنِي قُرَّةَ، وَفَتَحَ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ الْخَطَّ، وَتَظَاهَرَ بِالدِّينِ وَالنُّسُكِ، وَأَمَّهُمْ فِي صَلَوَاتِهِمْ، فَشَرَعَ فِي دَعْوَتِهِمْ إِلَى مَا يُرِيدُ، فَأَجَابُوهُ وَبَايَعُوهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَعَرَّفَهُمْ حِينَئِذٍ نَفْسَهُ، وَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ عِنْدَهُمْ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ يَمْلِكُ مِصْرَ وَغَيْرَهَا، وَوَعَدَهُمْ وَمَنَّاهُمْ، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا. فَاجْتَمَعَتْ بَنُو قُرَّةَ وَزِنَاتَةُ عَلَى بَيْعَتِهِ، وَخَاطَبُوهُ بِالْإِمَامَةِ، وَكَانُوا بِنَوَاحِي بَرْقَةَ. فَلَمَّا سَمِعَ الْوَالِي بِبَرْقَةَ خَبَرَهُ كَتَبَ إِلَى الْحَاكِمِ (يُنْهِيهِ إِلَيْهِ) ، وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي قَصْدِهِمْ وَإِصْلَاحِهِمْ، فَأَمَرَهُ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ وَاطِّرَاحِهِمْ.

ثُمَّ إِنَّ أَبَا رَكْوَةَ جَمَعَهُمْ وَسَارَ إِلَى بَرْقَةَ، وَاسْتَقَرَّ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ مِنَ الْغَنَائِمِ لَهُ، وَالثُّلُثَانِ لِبَنِي قُرَّةَ وَزِنَاتَةَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا خَرَجَ إِلَيْهِ وَالِيهَا، فَالْتَقَوْا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْحَاكِمِ، وَمَلَكَ أَبُو رَكْوَةَ بَرْقَةَ، وَقَوِيَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ بِمَا أَخَذُوا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِهِ، وَنَادَى بِالْكَفِّ عَنِ الرَّعِيَّةِ وَالنَّهْبِ، وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ وَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ. فَلَمَّا وَصَلَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى الْحَاكِمِ عَظُمَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَأَهَمَّتْهُ نَفْسُهُ وَمُلْكُهُ، وَعَاوَدَ الْإِحْسَانَ إِلَى النَّاسِ، وَالْكَفَّ عَنْ أَذَاهُمْ، وَنَدَبَ عَسْكَرًا نَحْوَ خَمْسَةِ آلَافِ فَارِسٍ وَسَيَّرَهُمْ، وَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ قَائِدًا يُعْرَفُ بِيَنَالَ الطَّوِيلِ، وَسَيَّرَهُ، فَبَلَغَ ذَاتَ الْحَمَّامِ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ بَرْقَةَ مَفَازَةٌ فِيهَا مَنْزِلَانِ، لَا يَلْقَى السَّالِكُ الْمَاءَ إِلَّا فِي آبَارٍ عَمِيقَةٍ بِصُعُوبَةٍ وَشِدَّةٍ. فَسَيَّرَ أَبُو رَكْوَةَ قَائِدًا فِي أَلْفِ فَارِسٍ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى يَنَالَ وَمَنْ مَعَهُ وَمُطَارَدَتِهِمْ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَنْزِلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا عَادُوا أَنْ يُغَوِّرُوا الْآبَارَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَعَادُوا، فَحِينَئِذٍ سَارَ أَبُو رَكْوَةَ فِي عَسَاكِرِهِ وَلَقِيَهُمْ وَقَدْ خَرَجُوا مِنَ الْمَفَازَةِ عَلَى ضَعْفٍ وَعَطَشٍ، فَقَاتَلَهُمْ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَحَمَلَ يَنَالُ عَلَى عَسْكَرِ أَبِي رَكْوَةَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَبُو رَكْوَةَ وَاقِفٌ لَمْ يَحْمِلْ هُوَ وَلَا عَسْكَرُهُ، فَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كُتَامَةَ لِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْأَذَى وَالْقَتْلِ مِنَ الْحَاكِمِ، وَأَخَذُوا الْأَمَانَ لِمَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، وَلَحِقَهُمُ الْبَاقُونَ، فَحَمَلَ حِينَئِذٍ بِهِمْ عَلَى عَسَاكِرِ الْحَاكِمِ، فَانْهَزَمَتْ وَأُسِرَ يَنَالُ وَقُتِلَ، وَأُسِرَ أَكْثَرُ عَسْكَرِهِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَعَادَ إِلَى بَرْقَةَ وَقَدِ امْتَلَأَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْغَنَائِمِ. وَانْتَشَرَ ذِكْرُهُ، وَعَظُمَتْ هَيْبَتُهُ، وَأَقَامَ بِبَرْقَةَ، وَتَرَدَّدَتْ سَرَايَاهُ إِلَى الصَّعِيدِ وَأَرْضِ مِصْرَ، وَقَامَ الْحَاكِمُ مِنْ ذَلِكَ وَقَعَدَ، وَسَقَطَ فِي يَدِهِ، وَنَدِمَ عَلَى مَا فَرَّطَ، وَفَرِحَ جُنْدُ مِصْرَ وَأَعْيَانُهَا، وَعَلِمَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ، فَاشْتَدَّ قَلَقُهُ، وَأَظْهَرَ الِاعْتِذَارَ عَنِ الَّذِي فَعَلَهُ. وَكَتَبَ النَّاسُ إِلَى أَبِي رَكْوَةَ يَسْتَدْعُونَهُ، وَمِمَّنْ كَتَبَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ بْنُ جَوْهَرٍ الْمَعْرُوفُ بِقَائِدِ الْقُوَّادِ، فَسَارَ حِينَئِذٍ عَنْ بَرْقَةَ إِلَى الصَّعِيدِ، وَعَلِمَ الْحَاكِمُ، فَاشْتَدَّ خَوْفُهُ، وَبَلَغَ الْأَمْرُ كُلَّ مَبْلَغٍ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَاسْتَشَارَهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى الشَّامِ يَسْتَدْعِي

الْعَسَاكِرَ فَجَاءَتْهُ، وَفَرَّقَ الْأَمْوَالَ، وَالدَّوَابَ، وَالسِّلَاحَ، وَسَيَّرَهُمْ وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ بَيْنَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، سِوَى الْعَرَبِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمُ الْفَضْلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ. فَلَمَّا قَارَبُوا أَبَا رَكْوَةَ لَقِيَهُمْ فِي عَسَاكِرِهِ، وَرَامَ مُنَاجَزَةَ الْمِصْرِيِّينَ، وَالْفَضْلُ يُحَاجِزُهُ وَيُدَافِعُ، وَيُرَاسِلُ أَصْحَابَ أَبِي رَكْوَةَ يَسْتَمِيلُهُمْ وَيَبْذُلُ لَهُمُ الرَّغَائِبَ، فَأَجَابَهُ قَائِدٌ كَبِيرٌ مِنْ بَنِي قُرَّةَ يُعْرَفُ بِالْمَاضِي، وَكَانَ يُطَالِعُهُ بِأَخْبَارِ الْقَوْمِ وَمَا هُمْ عَازِمُونَ، فَيُدَبِّرُ الْفَضْلُ أَمْرَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَعْلَمُهُ مِنْهُ. وَضَاقَتِ الْمِيرَةُ عَلَى الْعَسَاكِرِ فَاضْطُرَّ الْفَضْلُ إِلَى اللِّقَاءِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا بِكَوْمِ شَرِيكٍ، فَقُتِلَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ قَتْلَى كَثِيرَةٌ، وَرَأَى الْفَضْلُ مِنْ جَمْعِ أَبِي رَكْوَةَ مَا هَالَهُ، وَخَافَ الْمُنَاجَزَةَ فَعَادَ إِلَى عَسْكَرِهِ. وَرَاسَلَ بَنُو قُرَّةَ الْعَرَبَ الَّذِينَ فِي عَسْكَرِ الْحَاكِمِ يَسْتَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِمْ وَيُذَكِّرُونَهُمْ أَعْمَالَ الْحَاكِمِ بِهِمْ، فَأَجَابُوهُمْ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ أَنْ يَكُونَ الشَّامُ لِلْعَرَبِ وَيَصِيرَ لِأَبِي رَكْوَةَ وَمَنْ مَعَهُ مِصْرُ، وَتَوَاعَدُوا لَيْلَةً يَسِيرُ فِيهَا أَبُو رَكْوَةَ إِلَى الْفَضْلِ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ انْهَزَمَتِ الْعَرَبُ، وَلَا يَبْقَى دُونَ مِصْرَ مَانِعٌ. فَكَتَبَ الْمَاضِي إِلَى الْفَضْلِ بِذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْمِيعَادِ جَمَعَ الْفَضْلُ رُؤَسَاءَ الْعَرَبِ لِيُفْطِرُوا عِنْدَهُ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ صَائِمٌ، وَطَاوَلَهُمُ الْحَدِيثَ، وَتَرَكَهُمْ فِي خَيْمَةٍ وَاعْتَزَلَهُمْ، وَوَصَّى أَصْحَابَهُ بِالْحَذَرِ، وَرَامَ الْعَرَبُ الْعَوْدَ إِلَى خِيَامِهِمْ، فَعَلَّلَهُمْ وَطَاوَلَهُمْ، ثُمَّ أَحْضَرَ الطَّعَامَ وَأَحْضَرَهُمْ، فَأَكَلُوا وَتَحَدَّثُوا. وَسَيَّرَ الْفَضْلُ سَرِيَّةً إِلَى طَرِيقِ أَبِي رَكْوَةَ، فَلَقُوا الْعَسْكَرَ الْوَارِدَ مِنْ عِنْدِهِ، فَاقْتَتَلُوا، وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْعَسْكَرِ وَارْتَجَّ، وَأَرَادَ الْعَرَبُ الرُّكُوبَ، فَمَنَعَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ فَأَمَرَهُمْ بِالرُّكُوبِ وَالْقِتَالِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِمَا فَعَلَ رُؤَسَاؤُهُمْ، فَرَكِبُوا وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَرَأَى بَنُو قُرَّةَ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ مَا قَرَّرُوهُ. ثُمَّ رَكِبَ الْفَضْلُ وَمَعَهُ رُؤَسَاءُ الْعَرَبِ، وَقَدْ فَاتَهُمْ مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، فَبَاشَرُوا الْحَرْبَ وَغَاصُوا فِيهَا، وَوَرَدَ أَبُو رَكْوَةَ مَدَدًا لِأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَآهُ الْفَضْلُ رَدَّ أَصْحَابَهُ وَعَادَ إِلَى الْمُدَافَعَةِ.

وَجَهَّزَ الْحَاكِمُ عَسْكَرًا آخَرَ، أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَعَبَرُوا إِلَى الْجِيزَةِ، فَسَمِعَ أَبُو رَكْوَةَ بِهِمْ، فَسَارَ مُجِدًّا فِي عَسْكَرِهِ لِيُوَافِقَهُمْ عِنْدَ مِصْرَ، وَضَبَطَ الطُّرُقَ لِئَلَّا يَسْمَعَ الْفَضْلُ، وَلَمْ يَكُنِ الْمَاضِي يُكَاتِبُهُ، فَسَارُوا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّرِيقِ يُعَرِّفُهُ الْخَبَرَ، وَقَطَعَ أَبُو رَكْوَةَ مَسِيرَةَ خَمْسِ لَيَالٍ فِي لَيْلَتَيْنِ، وَكَبَسُوا عَسْكَرَ الْحَاكِمِ بِالْجِيزَةِ، وَقَتَلُوا نَحْوَ أَلْفِ فَارِسٍ، وَخَافَ أَهْلُ مِصْرَ، وَلَمْ يَبْرُزِ الْحَاكِمُ مِنْ قَصْرِهِ، وَأَمَرَ الْحَاكِمُ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ بِالْعُبُورِ إِلَى الْجِيزَةِ، وَرَجَعَ أَبُو رَكْوَةَ فَنَزَلَ عِنْدَ الْهَرَمَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ يَوْمِهِ، وَكَتَبَ الْحَاكِمُ إِلَى الْفَضْلِ كِتَابًا ظَاهِرًا يَقُولُ فِيهِ: إِنَّ أَبَا رَكْوَةَ انْهَزَمَ مِنْ عَسَاكِرِنَا، لِيَقْرَأَهُ عَلَى الْقُوَّادِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ سِرًّا يُعْلِمُهُ الْحَالَ. فَأَظْهَرَ الْفَضْلُ الْبِشَارَةَ بِانْهِزَامِ أَبِي رَكْوَةَ تَسْكِينًا لِلنَّاسِ. ثُمَّ سَارَ أَبُو رَكْوَةَ إِلَى مَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِالسَّبَخَةِ، كَثِيرِ الْأَشْجَارِ، وَتَبِعَهُ الْفَضْلُ، وَكَمَنَ أَبُو رَكْوَةَ بَيْنَ الْأَشْجَارِ، وَطَارَدَ عَسْكَرَ الْفَضْلِ، وَرَجَعَ عَسْكَرُهُ الْقَهْقَرَى لِيَسْتَجِرُّوا عَسْكَرَ الْفَضْلِ وَيَخْرُجَ الْكَمِينُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَى الْكُمَنَاءُ رُجُوعَ عَسْكَرِ أَبِي رَكْوَةَ ظَنُّوهَا الْهَزِيمَةَ لَا شَكَّ فِيهَا، فَوَلَّوْا يَتْبَعُونَهُمْ، وَرَكِبَهُمْ أَصْحَابُ الْفَضْلِ، وَعَلَوْهُمْ بِالسُّيُوفِ فَقُتِلَ مِنْهُمْ أُلُوفٌ كَثِيرَةٌ، وَانْهَزَمَ أَبُو رَكْوَةَ وَمَعَهُ بَنُو قُرَّةَ وَسَارُوا إِلَى حُلَلِهِمْ، فَلَمَّا بَلَغُوهَا ثَبَّطَهُمُ الْمَاضِي عَنْهُ فَقَالُوا لَهُ: قَدْ قَاتَلْنَا مَعَكَ، وَلَمْ يَبْقَ فِينَا قِتَالٌ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ وَانْجُ; فَسَارَ إِلَى بَلَدِ النُّوبَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى حِصْنٍ يُعْرَفُ بِحِصْنِ الْجَبَلِ لِلنُّوبَةِ أَظْهَرَ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ الْحَاكِمِ إِلَى مَلِكِهِمْ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْحِصْنِ: الْمَلِكُ عَلِيلٌ، وَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِخْرَاجِ أَمْرِهِ فِي مَسِيرِكَ إِلَيْهِ. وَبَلَغَ الْفَضْلَ الْخَبَرُ، فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ الْقَلْعَةِ بِالْخَبَرِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَوَكَّلَ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ بِالْحَالِ، وَكَانَ مَلِكُ النُّوبَةِ قَدْ تُوُفِّيَ وَمَلَكَ وَلَدُهُ فَأَمَرَ بِأَنْ يُسَلَّمَ إِلَى نَائِبِ الْحَاكِمِ، فَتَسَلَّمَهُ رَسُولُ الْفَضْلِ وَسَارَ بِهِ، فَلَقِيَهُ الْفَضْلُ وَأَكْرَمَهُ وَأَنْزَلَهُ فِي مَضَارِبِهِ، وَحَمَلَهُ إِلَى مِصْرَ فَأُشْهِرَ بِهَا، وَطِيفَ بِهِ. وَكَتَبَ أَبُو رَكْوَةَ إِلَى الْحَاكِمِ رُقْعَةً يَقُولُ فِيهَا: يَا مَوْلَانَا الذُّنُوبُ عَظِيمَةٌ، وَأَعْظَمُ

مِنْهَا عَفْوُكَ، وَالدِّمَاءُ حَرَامٌ مَا لَمْ يُحَلِّلْهَا سُخْطُكَ، وَقَدْ أَحْسَنْتَ وَأَسَأْتُ وَمَا ظَلَمْتُ إِلَّا نَفْسِي، وَسُوءُ عَمَلِي أَوْبَقَنِي، وَأَقُولُ: فَرَرْتُ فَلَمْ يُغْنِ الْفِرَارُ، وَمَنْ يَكُنْ ... مَعَ اللَّهِ لَمْ يُعْجِزْهُ فِي الْأَرْضِ هَارِبُ وَوَاللَّهِ مَا كَانَ الْفِرَارُ لِحَاجَةٍ ، سِوَى فَزَعِ الْمَوْتِ الَّذِي أَنَا شَارِبُ ... وَقَدْ قَادَنِي جُرْمِي إِلَيْكَ بِرُمَّتِي ، كَمَا خَرَّ مَيِّتٌ فِي رَحَا الْمَوْتِ سَارِبُ وَأَجْمَعَ كُلُّ النَّاسِ أَنَّكَ قَاتِلِي ، فَيَا رُبَّ ظَنٍّ رَبُّهُ فِيكَ كَاذِبُ ... وَمَا هُوَ إِلَّا الِانْتِقَامُ، وَيَنْتَهِي ، وَأَخْذُكَ مِنْهُ وَاجِبًا لَكَ وَاجِبُ وَلَمَّا طِيفَ بِهِ أُلْبِسَ طُرْطُورًا، وَجُعِلَ خَلْفَهُ قِرْدٌ يَصْفَعُهُ، كَانَ مُعَلَّمًا بِذَلِكَ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى ظَاهِرِ الْقَاهِرَةِ لِيُقْتَلَ وَيُصْلَبَ، فَتُوُفِّيَ قَبْلَ وُصُولِهِ، فَقُطِعَ رَأْسُهُ وَصُلِبَ، وَبَالَغَ الْحَاكِمُ فِي إِكْرَامِ الْفَضْلِ إِلَى حَدِّ أَنَّهُ عَادَهُ فِي مَرْضَةٍ مَرِضَهَا دَفْعَتَيْنِ، فَاسْتَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ عَمِلَ فِي قَتْلِ الْفَضْلِ لَمَّا عُوفِيَ فَقَتَلَهُ. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى مَجْدِ الدَّوْلَةِ وَعَوْدِهِ إِلَى مُلْكِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَتْ وَالِدَةُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، صَاحِبِ الرَّيِّ وَبَلَدِ الْجَبَلِ عَلَيْهِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ كَانَ إِلَيْهَا فِي جَمِيعِ أَعْمَالِ ابْنِهَا، فَلَمَّا وَزَرَ لَهُ

الْخَطِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْقَاسِمِ اسْتَمَالَ الْأُمَرَاءَ، وَوَضَعَهُمْ عَلَيْهَا، وَالشَّكْوَى عَلَيْهَا، وَخَوَّفَ ابْنَهَا مِنْهَا، فَصَارَ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ. فَخَرَجَتْ مِنَ الرَّيِّ إِلَى الْقَلْعَةِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا مَنْ يَحْفَظُهَا، فَعَمِلَتِ الْحِيلَةَ حَتَّى هَرَبَتْ إِلَى بَدْرِ بْنِ حَسَنَوَيْهِ، وَاسْتَعَانَتْ بِهِ فِي رَدِّهَا إِلَى الرَّيِّ. وَجَاءَهَا وَلَدُهَا شَمْسُ الدَّوْلَةِ، وَعَسَاكِرُ هَمَذَانَ، وَسَارَ مَعَهَا بَدْرٌ إِلَى الرَّيِّ فَحَصَرُوهَا، وَجَرَى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ قِتَالٌ كَثِيرٌ مُدَّةً، ثُمَّ اسْتَظْهَرَ بَدْرٌ، وَدَخَلَ الْبَلَدَ، وَأَسَرَ مَجْدَ الدَّوْلَةِ، فَقَيَّدَتْهُ وَالِدَتُهُ وَسَجَنَتْهُ بِالْقَلْعَةِ، وَأَجْلَسَتْ أَخَاهُ شَمْسَ الدَّوْلَةِ فِي الْمُلْكِ وَصَارَ الْأَمْرُ إِلَيْهَا. وَعَادَ بَدْرٌ إِلَى بَلَدِهِ، وَبَقِيَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ فِي الْمُلْكِ نَحْوَ سَنَةٍ، فَرَأَتْ وَالِدَتُهُ مِنْهُ تَنَكُّرًا وَتَغَيُّرًا، وَأَنَّ أَخَاهُ مَجْدَ الدَّوْلَةِ أَلْيَنُ عَرِيكَةً، وَأَسْلَمُ جَانِبًا، فَأَعَادَتْهُ إِلَى الْمُلْكِ، وَسَارَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ إِلَى هَمَذَانَ، وَكَرِهَ بَدْرٌ هَذِهِ الْحَالَةَ إِلَّا أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِوَلَدِهِ هِلَالٍ عَنِ الْحَرَكَةِ فِيهَا، وَصَارَتْ هِيَ تُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وَتَسْمَعُ رَسَائِلَ الْمُلُوكِ، وَتُعْطِي الْأَجْوِبَةَ. وَأَرْسَلَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَدْرٍ يَسْتَمِدُّهُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ جُنْدًا، فَأَخَذَهُمْ وَسَارَ بِهِمْ إِلَى قُمٍّ، فَحَصَرُوهَا، فَمَنَعَهَا أَهْلُهَا. ثُمَّ إِنَّ الْعَسَاكِرَ دَخَلُوا طَرَفًا مِنْهَا وَاشْتَغَلُوا بِالنَّهْبِ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِمُ الْعَامَّةُ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ نَحْوَ سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ، ثُمَّ قَبَضَ هِلَالُ بْنُ بَدْرٍ عَلَى أَبِيهِ، فَتَفَرَّقَ ذَلِكَ الْجَمْعُ كُلُّهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّ الْغَلَاءُ بِالْعِرَاقِ، فَضَجَّ الْعَامَّةُ، وَشَغَبَ الْجُنْدُ وَكَانَتْ فِتْنَةٌ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الصَّمَدِ الزَّاهِدُ، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ أَحْمَدَ، وَكَانَ غَايَةً فِي الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ. وَفِيهَا هَبَّ عَلَى الْحُجَّاجِ رِيحٌ سَوْدَاءُ بِالثَّعْلَبِيَّةِ أَظْلَمَتْ لَهَا الْأَرْضُ، وَلَمْ يَرَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَصَابَهُمْ عَطَشٌ شَدِيدٌ، وَمَنَعَهُمُ ابْنُ الْجَرَّاحِ الطَّائِيُّ مِنَ الْمَسِيرِ لِيَأْخُذَ مِنْهُمْ مَالًا، فَضَاقَ الْوَقْتُ عَلَيْهِمْ، فَعَادُوا وَلَمْ يَحُجُّوا. وَفِيهَا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ [عُمَرَ بْنِ] أَحْمَدَ أَبُو الْحَسَنِ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقَصَّارِ.

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَة] 398 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ذِكْرُ غَزْوَةِ بَهِيمِ نُغُرَ لَمَّا فَرَغَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْغَزْوَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ، وَاسْتَرَاحَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ، اسْتَعَدَّ لِغَزْوَةٍ أُخْرَى، فَسَارَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَانْتَهَى إِلَى شَاطِئِ نَهْرِ هِنْدَمَنْدَ، فَلَاقَاهُ هُنَاكَ إِبْرَهْمَنُ بَالُ بْنُ إِنْدِبَالَ فِي جُيُوشِ الْهِنْدِ، فَاقْتَتَلُوا مَلِيًّا مِنَ النَّهَارِ، وَكَادَتِ الْهِنْدُ تَظْفَرُ بِالْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَرَ عَلَيْهِمْ، فَظَفِرَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَانْهَزَمُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَأَخَذَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِالسَّيْفِ. وَتَبِعَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ أَثَرَ إِبْرَهْمَنَ بَالَ، حَتَّى بَلَغَ قَلْعَةَ بَهِيمِ نُغُرَ، وَهِيَ عَلَى جَبَلٍ عَالٍ كَانَ الْهِنْدُ قَدْ جَعَلُوهَا خِزَانَةً لِصَنَمِهِمُ الْأَعْظَمِ، فَيَنْقُلُونَ إِلَيْهَا أَنْوَاعَ الذَّخَائِرِ، قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَأَعْلَاقَ الْجَوَاهِرِ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ دِينًا وَعِبَادَةً، فَاجْتَمَعَ فِيهَا عَلَى طُولِ الْأَزْمَانِ مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، فَنَازَلَهُمْ يَمِينُ الدَّوْلَةِ وَحَصَرَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ. فَلَمَّا رَأَى الْهُنُودُ كَثْرَةَ جَمْعِهِ، وَحِرْصِهِمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَزَحْفِهِمْ إِلَيْهِمْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، خَافُوا وَجَبُنُوا، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ، وَفَتَحُوا بَابَ الْحِصْنِ، وَمَلَكَ الْمُسْلِمُونَ الْقَلْعَةَ، وَصَعِدَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَيْهَا فِي خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ وَثِقَاتِهِ، فَأَخَذَ مِنْهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ مَا لَا يُحَدُّ، وَمِنَ الدَّرَاهِمِ تِسْعِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ شَاهِيَّةٍ، وَمِنَ الْأَوَانِي الذَّهَبِيَّاتِ وَالْفِضِّيَّاتِ سَبْعَمِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ مَنٍّ، وَكَانَ فِيهَا بَيْتٌ مَمْلُوءٌ مِنْ فِضَّةٍ طُولُهُ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ. وَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ بِهَذِهِ

الْغَنَائِمِ، فَفَرَشَ تِلْكَ الْجَوَاهِرَ فِي صَحْنِ دَارِهِ، وَكَانَ قَدِ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ رُسُلُ الْمُلُوكِ، فَأَدْخَلَهُمْ إِلَيْهِ، فَرَأَوْا مَا لَمْ يَسْمَعُوا بِمِثْلِهِ. ذِكْرُ حَالِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ كَاكَوَيْهِ هُوَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ دَشْمَنَزْيَارَ، وَإِنَّمَا قِيلَ كَاكَوَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ ابْنَ خَالِ وَالِدَةِ مَجْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَكَاكَوَيْهِ هُوَ الْخَالُ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَكَانَتْ وَالِدَةُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ قَدِ اسْتَعْمَلَتْهُ عَلَى أَصْبَهَانَ، فَلَمَّا فَارَقَتْ وَلَدَهَا فَسَدَ حَالُهُ، فَقَصَدَ الْمَلِكَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ وَأَقَامَ عِنْدَهُ مُدَّةً، ثُمَّ عَادَتْ وَالِدَةُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ إِلَى ابْنِهَا بِالرَّيِّ فَهَرَبَ أَبُو جَعْفَرٍ وَسَارَ إِلَيْهَا، فَأَعَادَتْهُ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَاسْتَقَرَّ فِيهَا قَدَمُهُ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ وَسَيَأْتِي مِنْ أَخْبَارِهِ مَا يُعْلَمُ [بِهِ] صِحَّةُ ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي (رَبِيعٍ الْأَوَّلِ) وَقَعَ ثَلْجٌ كَثِيرٌ بِبَغْدَاذَ وَوَاسِطٍ وَالْكُوفَةِ، وَالْبَطَائِحِ إِلَى عَبَّادَانَ، وَكَانَ بِبَغْدَاذَ نَحْوَ ذِرَاعٍ، وَبَقِيَ فِي الطُّرُقِ نَحْوَ عِشْرِينَ يَوْمًا. وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِبَغْدَاذَ فِي رَجَبٍ، وَكَانَ أَوَّلُهَا أَنَّ بَعْضَ الْهَاشِمِيِّينَ مِنْ بَابِ الْبَصْرَةِ أَتَى ابْنَ الْمُعَلِّمِ فَقِيهَ الشِّيعَةِ فِي مَسْجِدِهِ بِالْكَرْخِ، فَآذَاهُ، وَنَالَ مِنْهُ، فَثَارَ بِهِ أَصْحَابُ ابْنِ الْمُعَلِّمِ، وَاسْتَنْفَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَصَدُوا أَبَا حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيَّ وَابْنَ الْأَكْفَانِيِّ فَسَبُّوهُمَا وَطَلَبُوا الْفُقَهَاءَ لِيُوقِعُوا بِهِمْ، فَهَرَبُوا، وَانْتَقَلَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِلَى دَارِ الْقُطْنِ، وَعَظُمَتِ الْفِتْنَةُ، ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ أَخَذَ جَمَاعَةً وَسَجَنَهُمْ، فَسَكَنُوا، وَعَادَ أَبُو حَامِدٍ إِلَى مَسْجِدِهِ، وَأَخْرَجَ ابْنَ الْمُعَلِّمِ مِنْ بَغْدَاذَ، فَشَفَعَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ مَزْيَدٍ فَأُعِيدَ.

وَفِيهَا (وَقَعَ الْغَلَاءُ بِمِصْرَ وَاشْتَدَّ) ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ، وَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ، ثُمَّ تَعَقَّبَهُ وَبَاءٌ كَثِيرٌ أَفْنَى كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا. وَفِيهَا زُلْزِلَتِ الدِّينَوَرُ زَلْزَلَةً شَدِيدَةً خَرَّبَتِ الْمَسَاكِنَ، وَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَكَانَ الَّذِينَ دُفِنُوا سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا سِوَى مَنْ بَقِيَ تَحْتَ الْهَدْمِ وَلَمْ يُشَاهَدْ. وَفِيهَا أَمَرَ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ، صَاحِبَ مِصْرَ، بِهَدْمِ بِيعَةِ قُمَامَةَ، وَهِيَ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَتُسَمِّيهَا الْعَامَّةُ الْقِيَامَةَ، وَفِيهَا الْمَوْضِعُ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ الْمَسِيحُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِيمَا يَزْعُمُهُ النَّصَارَى، وَإِلَيْهَا يَحُجُّونَ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَأَمَرَ بِهَدْمِ الْبِيَعِ فِي جَمِيعِ مَمْلَكَتِهِ، فَهُدِمَتْ، وَأَمَرَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى إِمَّا أَنْ يُسْلِمُوا، أَوْ يَسِيرُوا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ وَيَلْبَسُوا الْغِيَارَ، فَأَسْلَمَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِعِمَارَةِ الْبِيَعِ وَمَنِ اخْتَارَ الْعَوْدَ إِلَى دِينِهِ عَادَ، فَارْتَدَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّصَارَى. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الضَّبِّيُّ، وَزِيرُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ،

بِبَرُوجِرْدَ، وَكَانَ سَبَبُ مَجِيئِهِ إِلَيْهَا أَنَّ أُمَّ مَجْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ اتَّهَمَتْهُ أَنَّهُ سَمَّ أَخَاهُ فَمَاتَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَخُوهُ طَلَبَتْ مِنْهُ مِائَتَيْ دِينَارٍ لِتُنْفِقَهَا فِي مَأْتَمِهِ، فَلَمْ يُعْطِهَا، فَأَخْرَجَتْهُ، فَقَصَدَ بَرُوجِرْدَ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ بَدْرِ بْنِ حَسَنَوَيْهِ، فَبَذَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ لِيَعُودَ إِلَى عَمَلِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَأَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ بِمَشْهَدِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقِيلَ لِلشَّرِيفِ أَبِي أَحْمَدَ، وَالِدِ الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ، أَنْ يَبِيعَهُ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ مَوْضِعَ قَبْرِهِ، فَقَالَ: مَنْ يُرِيدُ جِوَارَ جَدِّي لَا يُبَاعُ؛ وَأَمَرَ أَنْ يُعْمَلَ لَهُ قَبْرٌ، وَسَيَّرَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ خَمْسِينَ رَجُلًا، فَدَفَنَهُ بِالْمَشْهَدِ. وَتُوُفِّيَ بَعْدَهُ بِيَسِيرٍ ابْنُهُ أَبُو الْقَاسِمِ سَعْدٌ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ الْحَنَفِيُّ بَعْدَ أَنْ فُلِجَ، وَأَبُو الْفَرَجِ (عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ نَصْرٍ الْمَعْرُوفُ بِالْبَبَّغَاءِ) الشَّاعِرِ، وَدِيوَانُهُ مَشْهُورٌ، وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ بِالْبَصْرَةِ، وَالْبَدِيعُ أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْهَمَذَانِيُّ، صَاحِبُ الْمَقَامَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَقَرَأَ الْأَدَبَ عَلَى أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ فَارِسٍ مُصَنِّفِ الْمُجْمَلِ. وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ لَالٍ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْهَمَذَانِيُّ بِنَوَاحِي عَكَّا بِالشَّامِ، وَكَانَ انْتَقَلَ إِلَى هُنَاكَ) .

ثم دخلت سنة تسع وتسعين وثلاثمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمَائَة] 399 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمَائَةٍ ذِكْرُ ابْتِدَاءِ حَالِ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ لَمَّا قَتَلَ عِيسَى بْنُ خَلَّاطٍ أَبَا عَلِيِّ بْنَ ثِمَالٍ بِالرَّحْبَةِ وَمَلَكَهَا، أَقَامَ فِيهَا مُدَّةً، ثُمَّ قَصَدَهُ بَدْرَانُ بْنُ الْمُقَلَّدُ الْعُقَيْلِيُّ، فَأَخَذَ الرَّحْبَةَ مِنْهُ وَبَقِيَتْ لِبَدْرَانَ. فَأَمَرَ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ نَائِبَهُ بِدِمَشْقَ لُؤْلُؤًا الْبَشَّارِيَّ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهَا، فَقَصَدَ الرِّقَّةَ أَوَّلًا وَمَلَكَهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى الرَّحْبَةِ وَمَلَكَهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ. وَكَانَ بِالرَّحْبَةِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِهَا يُعْرَفُ بِابْنِ مَحْكَانَ، فَمَلَكَ الْبَلَدَ، وَاحْتَاجَ إِلَى مَنْ يَجْعَلُهُ ظَهْرَهُ، وَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَنْ يَطْمَعُ فِيهِ، فَكَاتَبَ صَالِحَ بْنَ مِرْدَاسٍ الْكِلَابِيَّ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ وَأَقَامَ عِنْدَهُ مُدَّةً، ثُمَّ إِنَّ صَالِحًا تَغَيَّرَ عَنْ ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَى ابْنِ مَحْكَانَ وَقَاتَلَهُ عَلَى الْبَلَدِ، وَقَطَعَ الْأَشْجَارَ، ثُمَّ تَصَالَحَا، وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ ابْنِ مَحْكَانَ، وَدَخَلَ صَالِحٌ الْبَلَدَ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ أَكْثَرُ مُقَامِهِ بِالْحِلَّةِ. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ مَحْكَانَ رَاسَلَ أَهْلَ عَانَةَ فَأَطَاعُوهُ، وَنَقَلَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ إِلَيْهِمْ، وَأَخَذَ رَهَائِنَهُمْ، ثُمَّ خَرَجُوا عَنْ طَاعَتِهِ وَأَخَذُوا مَالَهُ، وَاسْتَعَادُوا رَهَائِنَهُمْ، وَرَدُّوا أَوْلَادَهُ، فَاجْتَمَعَ ابْنُ مَحْكَانَ وَصَالِحٌ عَلَى قَصْدِ عَانَةَ، فَسَارَا إِلَيْهَا، فَوَضَعَ صَالِحٌ عَلَى ابْنِ مَحْكَانَ مَنْ يَقْتُلُهُ، فَقُتِلَ غِيلَةً، وَسَارَ صَالَحٌ إِلَى الرَّحْبَةِ فَمَلَكَهَا، وَأَخَذَ أَمْوَالَ ابْنِ مَحْكَانَ وَأَحْسَنَ إِلَى الرَّعِيَّةِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الدَّعْوَةَ لِلْمِصْرِيِّينَ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ ثِمَالٍ الْخَفَاجِيُّ، وَكَانَ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ صَاحِبُ مِصْرَ، قَدْ وَلَّاهُ الرَّحْبَةَ، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عِيسَى بْنُ خَلَّاطٍ الْعُقَيْلِيُّ فَقَتَلَهُ وَمَلَكَ الرَّحْبَةَ، ثُمَّ مَلَكَهَا بَعْدَهُ غَيْرُهُ، فَصَارَ أَمْرُهَا إِلَى صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ الْكِلَابِيِّ صَاحِبِ حَلَبَ. وَفِيهَا صُرِفَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْهَاشِمِيُّ عَنْ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ قَدْ عَلَا إِسْنَادُهُ فِي رِوَايَةِ السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ، وَمِنْ طَرِيقِهِ سَمِعْنَاهُ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بَعْدَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، فَقَالَ الْعُصْفُرِيُّ الشَّاعِرُ: عِنْدِي حَدِيثٌ طَرِيفٌ بِمِثْلِهِ يُتَغَنَّى ... مِنْ قَاضِيَيْنِ يُعَزَّى هَذَا وَهَذَا يُهَنَّا فَذَا يَقُولُ أَكْرَهُونَا وَذَا يَقُولُ اسْتَرَحْنَا ... وَيَكْذِبَانِ وَنَهْذِي فَمَنْ يُصَدَّقُ مِنَّا [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو دَاوُدَ بْنُ سِيَامِرْدَ بْنِ بَاجَعْفَرٍ، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ النُّذُورِ بِنَهْرِ الْمُعَلَّى، وَقُبَّتُهُ مَشْهُورَةٌ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْبَافِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ الْقَائِلُ: يَا ذَا الَّذِي قَاسَمَنِي فِي الْبِلَى ، فَاخْتَارَ أَنْ يَسْكُنَهُ أَوَّلَا ... مَا وَطَّنْتُ نَفْسِي، وَلَكِنَّهَا تَسْرِي إِلَيْكُمْ مَنْزِلًا مَنْزِلَا

ثم دخلت سنة أربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِمِائَة] 400 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ وَقْعَةِ نَارَيْنَ بِالْهِنْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَجَهَّزَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْهِنْدِ عَازِمًا عَلَى غَزْوِهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا وَاخْتَرَقَهَا وَاسْتَبَاحَهَا وَنَكَّسَ أَصْنَامَهَا. فَلَمَّا رَأَى مَلِكُ الْهِنْدِ أَنَّهُ لَا قُوَّةَ لَهُ بِهِ رَاسَلَهُ فِي الصُّلْحِ وَالْهُدْنَةِ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ، وَخَمْسِينَ فِيلًا، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ فِي خِدْمَتِهِ أَلْفَا فَارِسٍ لَا يُزَالُونَ. فَقَبَضَ مِنْهُ مَا بَذَلَهُ وَعَادَ عَنْهُ إِلَى غَزْنَةَ. ذِكْرُ الْخُلْفِ بَيْنَ بَدْرِ بْنِ حَسَنَوَيْهِ وَابْنِهِ هِلَالٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حَرْبٌ بَيْنَ بَدْرِ بْنِ حَسَنَوَيْهِ الْكُرْدِيِّ وَبَيْنَ ابْنِهِ هِلَالٍ. وَكَانَ سَبَبُ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ أُمَّ هِلَالٍ كَانَتْ مِنَ الشَّاذَنْجَانَ، فَاعْتَزَلَهَا أَبُوهُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ، فَنَشَأَ هِلَالٌ مُبْعَدًا مِنْهُ لَا يَمِيلُ إِلَيْهِ، وَكَانَتْ نِعْمَةُ بَدْرٍ لِابْنِهِ الْآخَرِ أَبِي عِيسَى. فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ خَرَجَ هِلَالٌ مَعَ أَبِيهِ مُتَصَيِّدًا، فَرَأَيَا سَبُعًا، وَكَانَ بَدْرٌ إِذَا رَأَى سَبُعًا قَتَلَهُ بِيَدِهِ، فَتَقَدَّمَ هِلَالٌ إِلَى الْأَسَدِ بِغَيْرِ إِذَنْ أَبِيهِ فَقَتَلَهُ، فَاغْتَاظَ أَبُوهُ وَقَالَ: كَأَنَّكَ قَدْ فَتَحْتَ فَتْحًا، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ السَّبُعِ وَالْكَلْبِ؟ وَرَأَى إِبْعَادَهُ عَنْهُ لِشِدَّتِهِ، فَأَقْطَعَهُ الصَّامَغَانَ، وَسَهَّلَ ذَلِكَ عَلَى هِلَالٍ لِيَنْفَرِدَ بِنَفْسِهِ عَنْ أَبِيهِ، فَأَوَّلُ مَا فَعَلَهُ أَنَّهُ أَسَاءَ مُجَاوَرَةَ ابْنِ الْمَاضِي صَاحِبِ شَهْرَزُورَ، وَكَانَ مُوَافِقًا لِأَبِيهِ بَدْرٍ، فَنَهَى بَدْرٌ ابْنَهُ هِلَالًا عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَلَمْ يَسْمَعْ قَوْلَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ الْمَاضِي يَتَهَدَّدُهُ، فَأَعَادَ بَدْرٌ

مُرَاسَلَةَ ابْنِهِ فِي مَعْنَاهُ، وَتَهَدَّدَهُ إِنْ تَعَرَّضَ بِشَيْءٍ هُوَ لَهُ، فَكَانَ جَوَابُ نَهْيِهِ أَنَّهُ جَمَعَ عَسْكَرَهُ وَحَصَرَ شَهْرَزُورَ فَفَتَحَهَا، وَقَتَلَ ابْنَ الْمَاضِي وَأَهْلَهُ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ. فَوَرَدَ عَلَى بَدْرٍ مِنْ ذَلِكَ مَا أَزْعَجَهُ وَأَقْلَقَهُ، وَأَظْهَرَ السُّخْطَ عَلَى هِلَالٍ. وَشَرَعَ هِلَالٌ يُفْسِدُ جُنْدَ أَبِيهِ وَيَسْتَمِيلُهُمْ وَيَبْذُلُ لَهُمْ، فَكَثُرَ أَصْحَابُ هِلَالٍ لِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَبَذْلِهِ الْمَالَ لَهُمْ، وَأَعْرَضَ النَّاسُ عَنْ بَدْرٍ لِإِمْسَاكِهِ الْمَالَ، فَسَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، فَالْتَقَيَا عَلَى بَابِ الدِّينَوَرَ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ انْحَازَتِ الْأَكْرَادُ إِلَى هِلَالٍ، فَأُخِذَ بَدْرٌ أَسِيرًا، وَحُمِلَ إِلَى ابْنِهِ، فَأُشِيرَ عَلَى هِلَالٍ بِقَتْلِهِ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ تَسْتَبْقِيَهُ بَعْدَمَا أَوْحَشْتَهُ، فَقَالَ: مَا بَلَغَ مِنْ عُقُوقِي لَهُ أَنْ أَقْتُلَهُ، وَحَضَرَ عِنْدَ أَبِيهِ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الْأَمِيرُ، وَأَنَا مُدَبِّرُ جَيْشِكِ. فَخَادَعُهُ أَبُوهُ بِأَنْ قَالَ لَهُ: لَا يَسْمَعَنَّ هَذَا مِنْكَ أَحَدٌ فَيَكُونَ هَلَاكُنَا جَمِيعًا، وَهَذِهِ الْقَلْعَةُ لَكَ، وَالْعَلَامَةُ فِي تَسْلِيمِهَا كَذَا وَكَذَا، وَاحْفَظِ الْمَالَ الَّذِي بِهَا، فَإِنَّكَ الْأَمِيرُ مَا دَامَ النَّاسُ يَظُنُّونَ بَقَاءَهُ، وَأُرِيدُ أَنْ تُفْرِدَ لِي قَلْعَةً أَتَفَرَّغُ فِيهَا لِلْعِبَادَةِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَاهُ جُمْلَةً مِنَ الْمَالِ. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بَدْرٌ بِالْقَلْعَةِ عَمَّرَهَا وَحَصَّنَهَا، وَرَاسَلَ أَبَا الْفَتْحِ بْنَ عَنَّازٍ، وَأَبَا عِيسَى شَاذِي بْنَ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ بِأَسَادَابَاذَ، يَقُولُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِيَقْصِدَ أَعْمَالَ هِلَالٍ وَيُشَعِّثَهَا. فَسَارَ أَبُو الْفَتْحِ إِلَى قَرْمِيسِينَ فَمَلَكَهَا، وَسَارَ أَبُو عِيسَى إِلَى سَابُورَ خَوَاسْتَ، فَنَهَبَ حُلَلَ هِلَالٍ، وَمَضَى إِلَى نَهَاوَنْدَ، وَبِهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ رَافِعٍ، فَاتَّبَعَهُ هِلَالٌ إِلَيْهَا وَوَضَعَ السَّيْفَ فِي الدَّيْلَمِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَرْبَعَمِائَةِ نَفْسٍ، مِنْهُمْ تِسْعُونَ أَمِيرًا، وَأَسْلَمَ ابْنُ رَافِعٍ أَبَا عِيسَى إِلَى هِلَالٍ فَعَفَا عَنْهُ، وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ عَلَى فِعْلِهِ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ. وَأَرْسَلَ بَدْرٌ إِلَى الْمَلِكِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ يَسْتَنْجِدُهُ فَجَهَّزَ فَخْرَ الْمُلْكِ أَبَا غَالِبٍ فِي جَيْشٍ وَسَيَّرَهُ إِلَى بَدْرٍ، فَسَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى سَابُورَ خَوَاسْتَ فَقَالَ هِلَالٌ لِأَبِي عِيسَى شَاذِي: قَدْ جَاءَتْ عَسَاكِرُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: الرَّأْيُ أَنْ تَتَوَقَّفَ عَنْ لِقَائِهِمْ، وَتَبْذُلَ لِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ الطَّاعَةَ. وَتُرْضِيهِ بِالْمَالِ فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوكَ فَضَيِّقْ عَلَيْهِمْ، وَانْصَرِفْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْمُطَاوَلَةَ، وَلَا تَظُنَّ هَذَا الْعَسْكَرَ كَمَنْ لَقِيتَهُ بِبَابِ نَهَاوَنْدَ، فَإِنَّ أُولَئِكَ ذَلَّلَهُمْ أَبُوكَ عَلَى مَمَرِّ السِّنِينَ.

فَقَالَ: غَشَشْتَنِي وَلَمْ تَنْصَحْنِي، وَأَرَدْتَ بِالْمُطَاوَلَةِ أَنْ يَقْوَى أَبِي وَأَضْعُفَ أَنَا، وَقَتَلَهُ، وَسَارَ لِيَكْبِسَ الْعَسْكَرَ لَيْلًا. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ وَقَعَ الصَّوْتُ، فَرَكِبَ فَخْرُ الْمُلْكِ فِي الْعَسَاكِرِ، وَجَعَلَ عِنْدَ أَثْقَالِهِمْ مَنْ يَحْمِيهَا، وَتَقَدَّمَ إِلَى قِتَالِ هِلَالٍ، فَلَمَّا رَأَى هِلَالٌ صُعُوبَةَ الْأَمْرِ نَدِمَ، وَعَلِمَ أَنَّ أَبَا عِيسَى بْنَ شَاذِي نَصَحَهُ، فَنَدِمَ عَلَى قَتْلِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى فَخْرِ الْمُلْكِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّنِي مَا جِئْتُ لِقِتَالٍ وَحَرْبٍ، إِنَّمَا جِئْتُ لِأَكُونَ قَرِيبًا مِنْكَ وَأَنْزِلَ عَلَى حُكْمِكَ، فَتَرُدَّ الْعَسْكَرَ عَنِ الْحَرْبِ، فَإِنَّنِي أَدْخُلُ فِي الطَّاعَةِ. فَمَالَ فَخْرُ الْمُلْكِ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَأَرْسَلَ الرَّسُولَ إِلَى بَدْرٍ لِيُخْبِرَهُ بِمَا جَاءَ بِهِ. فَلَمَّا رَأَى بَدْرٌ الرَّسُولَ سَبَّهُ وَطَرَدَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى فَخْرِ الْمُلْكِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ هَذَا مَكْرٌ مِنْ هِلَالٍ، لَمَّا رَأَى ضَعْفَهُ، وَالرَّأْيُ أَنْ لَا تُنَفِّسَ خِنَاقَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ فَخْرُ الْمُلْكِ الْجَوَابَ قَوِيَتْ نَفْسُهُ، وَكَانَ يَتَّهِمُ بَدْرًا بِالْمَيْلِ إِلَى ابْنِهِ وَتَقَدَّمَ إِلَى الْجَيْشِ بِالْحَرْبِ، فَقَاتَلُوا، فَلَمْ يَكُنْ أَسْرَعَ مِنْ أَنْ أُتِيَ بِهِلَالٍ أَسِيرًا، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ، وَطَلَبَ أَنْ لَا يُسَلِّمَهُ إِلَى أَبِيهِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَطَلَبَ عَلَامَتَهُ بِتَسْلِيمِ الْقَلْعَةِ، فَأَعْطَاهُمُ الْعَلَامَةَ، فَامْتَنَعَتْ أُمُّهُ وَمَنْ بِالْقَلْعَةِ مِنَ التَّسْلِيمِ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ فَخْرُ الْمُلْكِ، وَصَعِدَ الْقَلْعَةَ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ نَزَلَ مِنْهَا وَسَلَّمَهَا إِلَى بَدْرٍ، وَأَخَذَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَتْ عَظِيمَةً، قِيلَ: كَانَ بِهَا أَرْبَعُونَ أَلْفَ بَدْرَةٍ دَرَاهِمَ، وَأَرْبَعُمِائَةِ بَدْرَةٍ ذَهَبًا، سِوَى الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ، وَالثِّيَابِ، وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ ذِكْرَ هَذَا، فَمِمَّنْ قَالَ مِهْيَارُ: فَظَنُّوكَ تَعِبًا بِحَمْلِ الْعِرَاقِ ، كَأَنْ لَمْ يَرَوْكَ حَمَلْتَ الْجِبَالَا ... وَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِي الْعُلُوِّ السَّمَاءُ لَمَا كَانَ غُنْمُكَ مِنْهَا هِلَالَا ... سَرَيْتَ إِلَيْهِ، فَكُنْتَ السِّرَارَ لَهُ، وَلِبَدْرٍ أَبِيهِ كَمَالَا وَهِيَ كَثِيرَةٌ. ذِكْرُ عَوْدِ الْمُؤَيَّدِ إِلَى إِمَارَةِ الْأَنْدَلُسِ وَمَا كَانَ مِنْهُ قَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ خَلْعِهِ وَحَبْسِهِ، فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ أُعِيدَ إِلَى خِلَافَتِهِ، وَاسْمُهُ هِشَامُ بْنُ الْحَاكِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ، وَكَانَ عَوْدُهُ تَاسِعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ الْحُكْمُ

فِي دَوْلَتِهِ هَذِهِ إِلَى وَاضِحٍ الْعَامِرِيِّ، وَأَدْخَلَ أَهْلَ قُرْطُبَةَ إِلَيْهِ، فَوَعَدَهُمْ وَمَنَّاهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى الْبَرْبَرِ الَّذِينَ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَاكِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَالْوَفَاءِ بِبَيْعَتِهِ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَجْنَادَهُ وَأَهْلَ قُرْطُبَةَ بِالْحَذَرِ وَالِاحْتِيَاطِ، فَأَحَبَّهُ النَّاسُ. ثُمَّ نُقِلَ إِلَيْهِ أَنْ نَفَرًا مِنَ الْأُمَوِيِّينَ بِقُرْطُبَةَ قَدْ كَاتَبُوا سُلَيْمَانَ، وَوَاعَدُوهُ لِيَكُونَ بِقُرْطُبَةَ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ الْبَلَدَ، فَأَخَذَهُمْ وَحَبَسَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْمِيعَادُ قَدِمَ الْبَرْبَرُ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَرَكِبَ الْجُنْدُ وَأَهْلُ قُرْطُبَةَ، وَخَرَجُوا إِلَيْهِمْ مَعَ الْمُؤَيَّدِ، فَعَادَ الْبَرْبَرُ وَتَبِعَتْهُمْ عَسَاكِرُهُ، فَلَمْ يَلْحَقُوهُمْ. وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى شَيْءٍ. ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ وَالْبَرْبَرَ رَاسَلُوا مَلِكَ الْفِرِنْجَ يَسْتَمِدُّونَهُ، وَبَذَلُوا لَهُ تَسْلِيمَ حُصُونٍ كَانَ الْمَنْصُورُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ قَدْ فَتَحَهَا مِنْهُمْ، فَأَرْسَلَ مَلِكُ الْفِرِنْجَ إِلَى الْمُؤَيَّدِ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ تَسْلِيمَ هَذِهِ الْحُصُونِ لِئَلَّا يَمُدَّ سُلَيْمَانَ بِالْعَسَاكِرِ. فَاسْتَشَارَ أَهْلَ قُرْطُبَةَ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارُوا بِتَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُنْجِدُوا سُلَيْمَانَ، وَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِمِائَةٍ. فَلَمَّا أَيِسَ الْبَرْبَرُ مِنْ إِنْجَادِ الْفِرِنْجَ رَحَلُوا، فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ قُرْطُبَةَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَجَعَلَتْ خَيْلُهُمْ تُغِيرُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَخَرَّبُوا الْبِلَادَ. وَعَمِلَ الْمُؤَيَّدُ وَوَاضِحٌ الْعَامِرِيُّ سُورًا وَخَنْدَقًا عَلَى قُرْطُبَةَ أَمَامَ السُّورِ الْكَبِيرِ، ثُمَّ نَزَلَ سُلَيْمَانُ قُرْطُبَةَ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلَمْ يَمْلِكْهَا، فَانْتَقَلَ إِلَى الزَّهْرَاءِ وَحَصَرَهَا، وَقَاتَلَ مَنْ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْمُوَكَّلِينَ بِحِفْظِهَا سَلَّمَ إِلَيْهِ الْبَابَ الَّذِي هُوَ مُوَكَّلٌ بِحِفْظِهِ، فَصَعِدَ الْبَرْبَرُ السُّورَ، وَقَاتَلُوا مَنْ عَلَيْهِ حَتَّى أَزَالُوهُمْ، وَمَلَكُوا الْبَلَدَ عَنْوَةً، وَقُتِلَ أَكْثَرُ مَنْ بِهِ مِنَ الْجُنْدِ، وَصَعِدَ أَهْلُ الْجَبَلِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ بِالْجَامِعِ، فَأَخَذَهُمُ الْبَرْبَرُ وَذَبَحُوهُمْ حَتَّى النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، وَأَلْقَوُا النَّارَ فِي الْجَامِعِ وَالْقَصْرِ وَالدِّيَارِ، فَاحْتَرَقَ أَكْثَرُ ذَلِكَ وَنُهِبَتِ الْأَمْوَالُ. ثُمَّ إِنَّ وَاضِحًا كَاتَبَ سُلَيْمَانَ يُعَرِّفُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الِانْتِقَالَ عَنْ قُرْطُبَةَ سِرًّا، وَيُشِيرُ عَلَيْهِ بِمُنَازَلَتِهَا بَعْدَ مَسِيرِهِ عَنْهَا، وَنَمَى الْخَبَرُ إِلَى الْمُؤَيَّدِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ

بِقُرْطُبَةَ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ، وَقَلَّتِ الْأَقْوَاتُ، وَكَثُرَ الْمَوْتُ، وَكَانَتِ الْأَقْوَاتُ عِنْدَ الْبَرْبَرِ أَقَلَّ مِنْهَا بِالْبَلَدِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ خَرَّبُوا الْبِلَادَ، وَجَلَا أَهْلُ قُرْطُبَةَ، وَقَتَلَ الْمُؤَيَّدُ كُلَّ مَنْ مَالَ إِلَى سُلَيْمَانَ. ثُمَّ إِنَّ الْبَرْبَرَ وَسُلَيْمَانَ لَازَمُوا الْحِصَارَ وَالْقِتَالَ لِأَهْلِ قُرْطُبَةَ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ، وَفِي مُدَّةِ هَذَا الْحِصَارِ ظَهَرَ بِطُلَيْطِلَةَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَبَايَعَهُ أَهْلُهَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمُ الْمُؤَيَّدُ جَيْشًا، فَحَصَرُوهُمْ، فَعَادُوا إِلَى الطَّاعَةِ، وَأُخِذَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَسِيرًا، وَقُتِلَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ قُرْطُبَةَ قَاتَلُوا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ الْبَرْبَرَ فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَغَرِقَ فِي النَّهْرِ مِثْلُهُمْ، فَرَحَلُوا عَنْهَا، وَسَارُوا إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ فَحَصَرُوهَا، فَأَرْسَلَ الْمُؤَيَّدُ إِلَيْهَا جَيْشًا فَحَمَاهَا وَمَنَعَ الْبَرْبَرَ عَنْهَا، وَرَاسَلَ سُلَيْمَانُ نَائِبَ الْمُؤَيَّدِ بِسَرَقُسْطَةَ وَغَيْرِهَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ وَأَطَاعُوهُ، فَسَارَ الْبَرْبَرُ وَسُلَيْمَانُ عَنْ إِشْبِيلِيَّةَ إِلَى قَلْعَةِ رَبَاحٍ فَمَلَكُوهَا وَغَنِمُوا مَا فِيهَا، وَاتَّخَذُوهَا دَارًا، ثُمَّ عَادُوا إِلَى قُرْطُبَةَ فَحَصَرُوهَا، وَقَدْ خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا وَعَسَاكِرِهَا مِنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ عَلَيْهَا، وَمَلَكَهَا سُلَيْمَانُ عَنْوَةً وَقَهْرًا، وَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوا فِي الطُّرُقِ، وَنَهَبُوا الْبَلَدَ وَأَحْرَقُوهُ، فَلَمْ تُحْصَ الْقَتْلَى لِكَثْرَتِهِمْ. وَنَزَلَ الْبَرْبَرُ فِي الدُّورِ الَّتِي لَمْ تُحْرَقْ، فَنَالَ أَهْلُ قُرْطُبَةَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَأُخْرِجَ الْمُؤَيَّدُ مِنَ الْقَصْرِ، وَحُمِلَ إِلَى سُلَيْمَانَ، وَدَخَلَ سُلَيْمَانُ قُرْطُبَةَ مُنْتَصَفَ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَبُويِعَ لَهُ بِهَا. ثُمَّ إِنَّ الْمُؤَيَّدَ جَرَى لَهُ مَعَ سُلَيْمَانَ أَقَاصِيصُ طَوِيلَةٌ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى شَرْقِ الْأَنْدَلُسِ (مِنْ عِنْدِهِ) . وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ فِي هَذَا الْحَصْرِ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ الْفَرَضِيِّ مَظْلُومًا رَحِمَهُ اللَّهُ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ مِنْ مِصْرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَفُتِحَ بَيْتُ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، وَأُخْرِجَ مِنْهُ مُصْحَفٌ وَسَيْفٌ وَكِسَاءٌ وَقَعْبٌ وَسَرِيرٌ. وَفِيهَا نَقَصَ الْمَاءُ بِدِجْلَةَ حَتَّى أُصْلِحَتْ مَا بَيْنَ أَوَانَا وَقَرِيبِ بَغْدَاذَ، حَتَّى جَرَتِ السُّفُنُ فِيهَا. وَفِيهَا مَرِضَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ سَهْلَانَ، فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَنَذَرَ إِنْ عُوفِيَ بَنَى سُورًا عَلَى مَشْهَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَعُوفِيَ، فَأَمَرَ بِبِنَاءِ سُورٍ عَلَيْهِ، فَبُنِيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، تَوَلَّى بِنَاءَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْأَرَّجَانِيُّ. وَفِيهَا وُلِدَ عَدْنَانُ بْنُ الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ النَّقِيبُ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ، وَالِدُ الرَّضِيِّ، بَعْدَ أَنْ أَضَرَّ، وَوَقَفَ بَعْضَ أَمْلَاكِهِ عَلَى الْبِرِّ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْأَكْبَرُ الْمُرْتَضَى، وَدُفِنَ بِدَارِهِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَيْضًا أَبُو جَعْفَرٍ الْحَجَّاجُ بْنُ هُرْمُزَ، بِالْأَهْوَازِ، وَعُمْدَةُ الدَّوْلَةِ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ بِمِصْرَ.

وَفِيهَا مَرِضَ الْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ، وَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَأُرْجِفَ عَلَيْهِ، فَجَلَسَ لِلنَّاسِ وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، فَقَالَ لِابْنِ حَاجِبٍ النُّعْمَانِ: اسْأَلْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقْرَأَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ لِيَسْمَعَ النَّاسُ قِرَاءَتَهُ، فَقَرَأَ: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب: 60] الْآيَاتِ الثَّلَاثَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْعَبَّاسِ النَّامِي الشَّاعِرُ. (وَأَبُو الْفَتْحِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبُسْتِيُّ الْكَاتِبُ الشَّاعِرُ، صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي التَّجْنِيسِ، فَمِنْ شِعْرِهِ: يَا أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ مَذْهَبِي ... لِيَقْتَدِي فِيهِ بِمِنْهَاجِي مِنْهَاجِيَ الْعَدْلُ. وَقَمْعُ الْهَوَى ، فَهَلْ لِمِنْهَاجِي مِنْ هَاجِي ) ؟

ثم دخلت سنة إحدى وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِمِائَة] ذِكْرُ غَزْوَةِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ بِلَادَ الْغَوْرِ وَغَيْرِهَا بِلَادُ الْغَوْرِ تُجَاوِرُ غَزْنَةَ، وَكَانَ الْغَوْرُ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، وَيُخِيفُونَ السَّبِيلَ، وَبِلَادُهُمْ جِبَالٌ وَعْرَةٌ، وَمَضَايِقُ غَلِقَةٌ، وَكَانُوا يَحْتَمُونَ بِهَا، وَيَعْتَصِمُونَ بِصُعُوبَةِ مَسْلَكِهَا، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَنِفَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ أَنَّ يَكُونَ مِثْلَ أُولَئِكَ الْمُفْسِدِينَ جِيرَانَهُ، وَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الْفَسَادِ وَالْكُفْرِ، فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ إِلَيْهِمْ وَعَلَى مُقَدَّمَتِهِ الْتُونْتَاشُ الْحَاجِبُ، صَاحِبُ هَرَاةَ، وَأَرْسَلَانُ الْجَاذِبُ، صَاحِبُ طُوسَ، وَهُمَا أَكْبَرُ أُمَرَائِهِ، فَسَارَا فَيِمَنْ مَعَهُمَا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مَضِيقٍ قَدْ شُحِنَ بِالْمُقَاتَلَةِ، فَتَنَاوَشُوا الْحَرْبَ، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ. فَسَمِعَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ الْحَالَ، فَجَدَّ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ، وَمَلَكَ عَلَيْهِمْ مَسَالِكَهُمْ، فَتَفَرَّقُوا، وَسَارُوا إِلَى عَظِيمِ الْغُورِيَّةِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ سُورَى، فَانْتَهَوْا إِلَى مَدِينَتِهِ الَّتِي تُدْعَى آهِنَكْرَانَ، فَبَرَزَ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى أَنِ انْتَصَفَ النَّهَارُ، فَرَأَوْا أَشْجَعَ النَّاسِ وَأَقْوَاهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، فَأَمَرَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ أَنْ يُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْرَاجِ، فَفَعَلُوا. فَلَمَّا رَأَى الْغَوْرِيَّةُ ذَلِكَ ظَنُّوهُ هَزِيمَةً، فَاتَّبَعُوهُمْ حَتَّى أَبْعَدُوا عَنْ مَدِينَتِهِمْ، فَحِينَئِذٍ عَطَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ وَوَضَعُوا السُّيُوفَ فِيهِمْ فَأَبَادُوهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا، وَكَانَ فِي الْأَسْرَى كَبِيرُهُمْ وَزَعِيمُهُمُ ابْنُ سُورَى، وَدَخَلَ

الْمُسْلِمُونَ الْمَدِينَةَ وَمَلَكُوهَا، وَغَنِمُوا مَا فِيهَا، وَفَتَحُوا تِلْكَ الْقِلَاعَ وَالْحُصُونَ الَّتِي لَهُمْ جَمِيعَهَا، فَلَمَّا عَايَنَ ابْنُ سُورَى مَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ شَرِبَ سُمًّا كَانَ مَعَهُ، فَمَاتَ وَخَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] . وَأَظْهَرَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ شِعَارَ الْإِسْلَامِ، وَجَعَلَ عِنْدَهُمْ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ شَرَائِعَهُ وَعَادَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنَ الْكُفَّارِ، فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ مَفَازَةً مِنْ رَمْلٍ، وَلَحِقَ عَسَاكِرَهُ عَطَشٌ شَدِيدٌ وَكَادُوا يَهْلِكُونَ، فَلَطَفَ اللَّهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بِهِمْ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مَطَرًا سَقَاهُمْ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِمُ السَّيْرَ فِي الرَّمْلِ، فَوَصَلَ إِلَى الْكُفَّارِ، وَهُمْ جَمْعٌ عَظِيمٌ، وَمَعَهُمْ سِتُّمِائَةِ فِيلٍ، فَقَاتَلَهُمْ أَشَدَّ قِتَالٍ صَبَرَ فِيهِ، (بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ) ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ نَصَرَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَزَمَ الْكُفَّارَ، وَأَخَذَ غَنَائِمَهُمْ، وَعَادَ سَالِمًا مُظَفَّرًا مَنْصُورًا. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ أَيْلَكَ الْخَانِ وَبَيْنَ أَخِيهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ أَيْلَكُ الْخَانُ فِي جُيُوشٍ قَاصِدًا قِتَالَ أَخِيهِ طُغَانَ خَانَ، فَلَمَّا بَلَغَ يَوْزَكَنْدَ سَقَطَ مِنَ الثَّلْجِ مَا مَنَعَهُمْ مِنْ سُلُوكِ الطُّرُقِ، فَعَادَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ. وَكَانَ سَبَبُ قَصْدِهِ أَنَّ أَخَاهُ أَرْسَلَ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ يَعْتَذِرُ، وَيَتَنَصَّلُ مِنْ قَصْدِ أَخِيهِ أَيْلَكَ الْخَانِ بِلَادَ خُرَاسَانَ، وَيَقُولُ: إِنَّنِي مَا رَضِيتُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيُلْزِمُ أَخَاهُ وَحْدَهُ الذَّنْبَ، وَتَبَرَّأَ هُوَ مِنْهُ، فَلَمَّا عَلِمَ أَخُوهُ أَيْلَكُ الْخَانُ ذَلِكَ سَاءَهُ وَحَمَلَهُ عَلَى قَصْدِهِ. ذِكْرُ الْخُطْبَةِ لِلْمِصْرِيِّينَ الْعَلَوِيِّينَ بِالْكُوفَةِ وَالْمَوْصِلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا خَطَبَ قِرْوَاشُ بْنُ الْمُقَلَّدِ أَمِيرُ بَنِي عُقَيْلٍ لِلْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ (الْعَلَوِيِّ، صَاحِبِ مِصْرَ) ، بِأَعْمَالِهِ كُلِّهَا، وَهِيَ: الْمَوْصِلُ، وَالْأَنْبَارُ، وَالْمَدَائِنُ،

وَالْكُوفَةُ وَغَيْرُهَا، وَكَانَ ابْتِدَاءُ الْخُطْبَةِ بِالْمَوْصِلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي انْجَلَتْ بِنُورِهِ غَمَرَاتُ الْغَضَبِ. وَانْهَدَّتْ بِقُدْرَتِهِ أَرْكَانُ النَّصْبِ. وَاطَّلَعَ بِنُورِهِ شَمْسُ الْحَقِّ مِنَ الْغَرْبِ. فَأَرْسَلَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْبَاقِلَّانِيِّ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْعَلَوِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ انْتَقَلُوا مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَكْرَمَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ، وَكَتَبَ إِلَى عَمِيدِ الْجُيُوشِ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى حَرْبِ قِرْوَاشٍ، وَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ يُنْفِقُهَا فِي الْعَسْكَرِ، وَخَلَعَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَوَلَّاهُ قَضَاءَ عُمَانَ وَالسَّوَاحِلِ. وَسَارَ عَمِيدُ الْجُيُوشِ إِلَى حَرْبِ قِرْوَاشٍ فَأَرْسَلَ يَعْتَذِرُ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ الْعَلَوِيِّينَ وَأَعَادَ خُطْبَةَ الْقَادِرِ بِاللَّهِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ بَنِي مَزْيَدٍ وَبَنِي دُبَيْسٍ كَانَ أَبُو الْغَنَائِمِ مُحَمَّدُ بْنُ مَزْيَدٍ مُقِيمًا عِنْدَ بَنِي دُبَيْسٍ فِي جَزِيرَتِهِمْ، بِنَوَاحِي خُوزِسْتَانَ، لِمُصَاهَرَةٍ بَيْنَهُمْ، فَقَتَلَ أَبُو الْغَنَائِمِ أَحَدَ وُجُوهِهِمْ، وَلَحِقَ بِأَخِيهِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ، فَتَبِعُوهُ فَلَمْ يُدْرِكُوهُ، وَانْحَدَرَ إِلَيْهِمْ سَنَدُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَزْيَدٍ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَاسْتَنْجَدَ عَمِيدُ الْجُيُوشِ، فَانْحَدَرَ إِلَيْهِ عَجِلًا فِي زَبْزَبَةٍ فِي ثَلَاثِينَ دَيْلَمِيًّا، وَسَارَ ابْنُ مَزْيَدٍ إِلَيْهِمْ فَلَقِيَهُمْ، وَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ أَبُو الْغَنَائِمِ، وَانْهَزَمَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَزْيَدٍ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ بِهَزِيمَتِهِ إِلَى عَمِيدِ الْجُيُوشِ وَهُوَ مُنْحَدِرٌ فَعَادَ. ذِكْرُ وَفَاةِ عَمِيدِ الْجُيُوشِ وَوِلَايَةِ فَخْرِ الْمُلْكِ الْعِرَاقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عَمِيدُ الْجُيُوشِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَسْتَاذِ هُرْمُزَ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَتْ

وِلَايَتُهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ عُمْرُهُ تِسْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَتَوَلَّى تَجْهِيزَهُ وَدَفْنَهُ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ، دَفَنَهُ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ، وَرَثَاهُ الرَّضِيُّ وَغَيْرُهُ. وَكَانَ أَبُوهُ، أَبُو جَعْفَرٍ أَسْتَاذُ هُرْمُزَ، مِنْ حُجَّابِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَجَعَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَمِيدَ الْجُيُوشِ فِي خِدْمَةِ ابْنِهِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا قُتِلَ اتَّصَلَ بِخِدْمَةِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ. فَلَمَّا اسْتَوْلَى الْخَرَابُ عَلَى بَغْدَاذَ، وَظَهَرَ الْعَيَّارُونَ، وَانْحَلَّتِ الْأُمُورُ بِهَا، أَرْسَلَهُ إِلَيْهَا، فَأَصْلَحَ الْأُمُورَ، وَقَمَعَ الْمُفْسِدِينَ وَقَتَلَهُمْ. فَلَمَّا مَاتَ اسْتَعْمَلَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ مَكَانَهُ بِالْعِرَاقِ فَخْرَ الْمُلْكِ أَبَا غَالِبٍ، فَأَصْعَدَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَقِيَهُ الْكُتَّابُ وَالْقُوَّادُ وَأَعْيَانُ النَّاسِ، وَزَيَّنُوا لَهُ الْبِلَادَ، وَوَصَلَ بَغْدَاذَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَمَدَحَهُ مِهْيَارُ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ. وَمِنْ مَحَاسِنِ أَعْمَالِ عَمِيدِ الْجُيُوشِ أَنَّهُ حُمِلَ إِلَيْهِ مَالٌ كَثِيرٌ قَدْ خَلَّفَهُ بَعْضُ التُّجَّارِ الْمِصْرِيِّينَ، وَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ فَقَالَ: لَا يَدْخُلُ خِزَانَةَ السُّلْطَانِ مَا لَيْسَ لَهَا، يُتْرَكُ إِلَى أَنْ يَصِحَّ خَبَرُهُ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ جَاءَ أَخٌ لِلْمَيِّتِ بِكِتَابٍ مِنْ مِصْرَ بِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلتَّرِكَةِ، فَقَصَدَ بَابَ عَمِيدِ الْجُيُوشِ لِيُوصِلَ الْكِتَابَ، فَرَآهُ يُصَلِّي عَلَى رَوْشَنِ دَارِهِ فَظَنَّهُ بَعْضَ الْحُجَّابِ، فَأَوْصَلَ الْكِتَابَ إِلَيْهِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، فَلَمَّا عَلِمَ التَّاجِرُ أَنَّ الَّذِي أَخَذَ الْكِتَابَ كَانَ عَمِيدَ الْجُيُوشِ عَظَّمَ الْأَمْرَ عِنْدَهُ، فَأَظْهَرَ ذَلِكَ فَاسْتَحْسَنَهُ النَّاسُ، وَلَمَّا وَصَلَ التَّاجِرُ إِلَى مِصْرَ أَظْهَرَ الدُّعَاءَ لَهُ، فَضَجَّ النَّاسُ بِالدُّعَاءِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَسَرَّهُ ذَلِكَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّ الْغَلَاءُ بِخُرَاسَانَ جَمِيعِهَا، وَعُدِمَ الْقُوتُ حَتَّى أَكَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَكَانَ الْإِنْسَانُ يَصِيحُ: الْخُبْزَ الْخُبْزَ وَيَمُوتُ، ثُمَّ تَبِعَهُ وَبَاءٌ عَظِيمٌ حَتَّى عَجِزَ النَّاسُ عَنْ دَفْنِ الْمَوْتَى.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَنَّازٍ بِحُلْوَانَ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَقَامَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الشَّوْكِ فَسُيِّرَتْ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرُ مِنْ بَغْدَاذَ لِقِتَالِهِ وَلَقِيَهُمْ أَبُو الشَّوْكِ وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَ أَبُو الشَّوْكِ إِلَى حُلْوَانَ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ أَصْلَحَ حَالَهُ مَعَ الْوَزِيرِ أَبِي غَالِبٍ لَمَّا قَدِمَ الْعِرَاقَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَقْنِ بْنِ مُقَلَّدِ بْنِ جَعْفَرِ (بْنِ عَمْرِو) بْنِ الْمُهَيَّا الْعُقَيْلِيُّ، وَفِي مُقَلَّدٍ يَجْتَمِعُ آلُ الْمُسَيَّبِ وَآلُ مَقْنٍ، وَكَانَ عُمُرُهُ مِائَةً وَعَشْرَ سِنِينَ، وَكَانَ بَخِيلًا شَدِيدَ الْبُخْلِ، وَشَهِدَ مَعَ الْقَرَامِطَةِ أَخْذَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَارِثِ مُحَمَّدِ بْنِ فَرِيغَوْنَ صَاحِبُ الْجُوزَجَانِ، وَكَانَ صِهْرَ يَمِينِ الدَّوْلَةِ عَلَى أُخْتِهِ، وَكَانَ هُوَ وَأَبُوهُ قَبْلَهُ يُحِبَّانِ الْعُلَمَاءَ وَيُحْسِنَانِ إِلَيْهِمْ. وَفِيهَا انْقَضَّ كَوْكَبٌ كَبِيرٌ لَمْ يُرَ أَكْبَرَ مِنْهُ. وَفِيهَا زَادَتْ دِجْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا، وَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْ بَغْدَاذَ وَالْعِرَاقِ، وَتَفَجَّرَتِ الْبُثُوقُ، وَلَمْ يَحُجَّ هَذِهِ السَّنَةَ مِنَ الْعِرَاقِ أَحَدٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ الْحَافِظُ، سَافَرَ

الْكَثِيرَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَلَهُ عِنَايَةٌ بِصَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. وَتُوُفِّيَ أَيْضًا خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمْدُونَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، كَانَ فَاضِلًا، وَلَهُ " أَطْرَافُ الصَّحِيحَيْنِ " أَيْضًا.

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَة] ذِكْرُ مُلْكِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ قُصْدَارَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى يَمِينُ الدَّوْلَةِ عَلَى قُصْدَارَ، وَمَلَكَهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَلِكَهَا كَانَ قَدْ صَالَحَهُ عَلَى قَطِيعَةٍ يُؤَدِّيهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَطَعَهَا اغْتِرَارًا بِحَصَانَةِ بَلَدِهِ، وَكَثْرَةِ الْمَضَايِقِ فِي الطَّرِيقِ، وَاحْتَمَى بِأَيْلَكَ الْخَانِ، وَكَانَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ يُرِيدُ قَصْدَهَا، فَيَتَّقِي نَاحِيَةَ أَيْلَكَ الْخَانِ. فَلَمَّا فَسَدَ ذَاتُ بَيْنِهِمَا صَمَّمَ الْعَزْمَ وَقَصَدَهَا وَتَجَهَّزَ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ هَرَاةَ. فَسَارَ مِنْ غَزْنَةَ فِي جُمَادَى الْأَوَّلِ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّ عَلَى الطَّرِيقِ سَارَ نَحْوَ قُصْدَارَ، فَسَبَقَ خَبَرُهُ، وَقَطَعَ تِلْكَ الْمَضَايِقَ وَالْجَبَلَ، فَلَمْ يَشْعُرْ صَاحِبُهَا إِلَّا وَعَسْكَرُ يَمِينِ الدَّوْلَةِ قَدْ أَحَاطَ بِهِ لَيْلًا، فَطَلَبَ الْأَمَانَ فَأَجَابَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ الْمَالَ الَّذِي كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ، وَأَقَرَّهُ عَلَى وِلَايَتِهِ وَعَادَ. ذِكْرُ أَسْرِ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ وَمُلْكِهِ حَلَبَ وَمُلْكِ أَوْلَادِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ أَبِي نَصْرِ بْنِ لُؤْلُؤٍ صَاحِبِ حَلَبَ، وَبَيْنَ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ، وَكَانَ ابْنُ لُؤْلُؤٍ مِنْ مَوَالِي سَعْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَقَوِيَ عَلَى وَلَدِ سَعْدِ الدَّوْلَةِ وَأَخَذَ الْبَلَدَ مِنْهُ، وَخَطَبَ لِلْحَاكِمِ صَاحِبِ مِصْرَ، وَلَقَّبَهُ الْحَاكِمُ مُرْتَضَى الدَّوْلَةِ.

ثُمَّ فَسَدَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَاكِمِ، فَطَمِعَ فِيهِ ابْنُ مِرْدَاسٍ، وَبَنُو كِلَابٍ، وَكَانُوا يُطَالِبُونَهُ بِالصِّلَاتِ وَالْخِلَعِ. ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا هَذِهِ السَّنَةَ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ، وَدَخَلُوا مَدِينَةَ حَلَبَ، فَأَمَرَ ابْنُ لُؤْلُؤٍ بِإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ وَالْقَبْضِ عَلَيْهِمْ، فَقَبَضَ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا، مِنْهُمْ صَالِحُ بْنُ مِرْدَاسٍ، وَحَبَسَهُمْ، وَقَتَلَ مِائَتَيْنِ، وَأَطْلَقَ مَنْ لَمْ يُفَكِّرْ بِهِ. وَكَانَ صَالِحٌ قَدْ تَزَوَّجَ بِابْنَةِ عَمٍّ لَهُ يُسَمَّى جَابِرًا، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، فَوُصِفَتْ لِابْنِ لُؤْلُؤٍ، فَخَطَبَهَا إِلَى إِخْوَتِهَا، وَكَانُوا فِي حَبْسِهِ، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ صَالِحًا قَدْ تَزَوَّجَهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، وَتَزَوَّجَهَا، ثُمَّ أَطْلَقَهُمْ، وَبَقِيَ صَالِحُ بْنُ مِرْدَاسٍ فِي الْحَبْسِ، فَتَوَصَّلَ حَتَّى صَعِدَ مِنَ السُّورِ وَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ أَعْلَى الْقَلْعَةِ إِلَى تَلِّهَا، وَاخْتَفَى فِي مَسِيلِ مَاءٍ. وَوَقَعَ الْخَبَرُ بِهَرَبِهِ، فَأَرْسَلَ ابْنُ لُؤْلُؤٍ الْخَيْلَ فِي طَلَبِهِ، فَعَادُوا وَلَمْ يَظْفَرُوا بِهِ. فَلَمَّا سَكَنَ عَنْهُ الطَّلَبُ سَارَ بِقَيْدِهِ وَلَبِنَةِ حَدِيدٍ فِي رِجْلَيْهِ، حَتَّى وَصَلَ قَرْيَةً تُعْرَفُ بِالْيَاسِرِيَّةِ، فَرَأَى نَاسًا مِنَ الْعَرَبِ فَعَرَفُوهُ وَحَمَلُوهُ إِلَى أَهْلِهِ بِمَرْجِ دَابِقٍ، فَجَمَعَ أَلْفَيْ فَارِسٍ فَقَصَدَ حَلَبَ وَحَاصَرَهَا اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ ابْنُ لُؤْلُؤٍ، (فَقَاتَلَهُ، فَهَزَمَهُمْ) صَالِحٌ وَأَسَرَ ابْنَ لُؤْلُؤٍ، وَقَيَّدَهُ بِقَيْدِهِ الَّذِي كَانَ فِي رِجْلِهِ وَلَبِنَتِهِ. وَكَانَ لِابْنِ لُؤْلُؤٍ أَخٌ فَنَجَا وَحَفِظَ مَدِينَةَ حَلَبَ. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ لُؤْلُؤٍ بَذَلَ لِابْنِ مِرْدَاسٍ مَالًا عَلَى أَنْ يُطْلِقَهُ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْحَالُ بَيْنَهُمَا أَخَذَ رَهَائِنَهُ وَأَطْلَقَهُ، فَقَالَتْ أَمُّ صَالِحٍ لِابْنِهَا: قَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ مَا لَا كُنْتَ تُؤَمِّلُهُ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُتِمَّ صَنِيعَكَ بِإِطْلَاقِ الرَّهَائِنِ فَهُوَ الْمَصْلَحَةُ، فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ الْغَدْرَ بِكَ لَا يَمْنَعُهُ مَنْ عِنْدَكَ؛ فَأَطْلَقَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْبَلَدَ حَمَلَ ابْنُ لُؤْلُؤٍ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا اسْتَقَرَّ، وَكَانَ قَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ مِائَتَا أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِائَةُ ثَوْبٍ، وَإِطْلَاقُ كُلِّ أَسِيرٍ عِنْدَهُ مِنْ بَنِي كِلَابٍ

فَلَمَّا انْفَصَلَ الْحَالُ وَرَحَلَ صَالِحٌ أَرَادَ ابْنُ لُؤْلُؤٍ قَبْضَ غُلَامِهِ فَتْحٍ، وَكَانَ دَزْدَارَ الْقَلْعَةِ، لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ بِالْمُمَالَأَةِ عَلَى الْهَزِيمَةِ، وَكَانَ خِلَافَ ظَنِّهِ، فَأَطْلَعَ عَلَى ذَلِكَ غُلَامًا لَهُ اسْمُهُ سُرُورٌ، وَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَكَانَ فَتْحٍ، فَأَعْلَمَ سُرُورٌ بَعْضَ أَصْدِقَائِهِ وَيُعْرَفُ بِابْنِ غَانِمٍ. وَسَبَبُ إِعْلَامِهِ أَنَّهُ حَضَرَ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَخَافُ ابْنَ لُؤْلُؤٍ لِكَثْرَةِ مَالِهِ، فَشَكَا إِلَى سُرُورٍ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: سَيَكُونُ أَمْرٌ تَأْمَنُ مَعَهُ; فَسَأَلَهُ، فَكَتَمَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَخْدَعُهُ حَتَّى أَعْلَمَهُ الْخَبَرَ. وَكَانَ بَيْنَ ابْنِ غَانِمٍ وَبَيْنَ فَتْحٍ مَوَدَّةٌ، فَصَعِدَ إِلَيْهِ بِالْقَلْعَةِ مُتَنَكِّرًا، فَأَعْلَمَهُ الْخَبَرَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمُكَاتَبَةِ الْحَاكِمِ صَاحِبِ مِصْرَ، وَأَمَرَ ابْنُ لُؤْلُؤٍ أَخَاهُ أَبَا الْجَيْشِ بِالصُّعُودِ إِلَى الْقَلْعَةِ بِحُجَّةِ افْتِقَادِ الْخَزَائِنِ، فَإِذَا صَارَ فِيهَا قَبَضَ عَلَى فَتْحٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى فَتْحٍ يُعْلِمُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ افْتِقَادَ الْخَزَائِنِ، وَيَأْمُرُهُ بِفَتْحِ الْأَبْوَابِ، فَقَالَ فَتْحٌ: إِنَّنِي قَدْ شَرِبْتُ الْيَوْمَ دَوَاءً، وَأَسْأَلُ تَأْخِيرَ الصُّعُودِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَإِنَّنِي لَا أَثِقُ فِي فَتْحِ الْأَبْوَابِ لِغَيْرِي ; وَقَالَ لِلرَّسُولِ: إِذَا لَقِيتَهُ فَارْدُدْهُ. فَلَمَّا عَلِمَ ابْنُ لُؤْلُؤٍ الْحَالَ، أَرْسَلَ وَالِدَتَهُ إِلَى فَتْحٍ لِيَعْلَمَ سَبَبَ ذَلِكَ، فَلَمَّا صَعِدَتْ إِلَيْهِ أَكْرَمَهَا، وَأَظْهَرَ لَهَا الطَّاعَةَ، فَعَادَتْ وَأَشَارَتْ عَلَى ابْنِهَا بِتَرْكِ مُحَاقَّتِهِ فَفَعَلَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَطْلُبُ جَوْهَرًا كَانَ لَهُ بِالْقَلْعَةِ، فَغَالَطَهُ فَتْحٌ وَلَمْ يُرْسِلْهُ، فَسَكَتَ عَلَى مَضَضٍ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْمُحَاقَّةَ لَا تُفِيدُ لِحَصَانَةِ الْقَلْعَةِ، وَأَشَارَتْ وَالِدَةُ ابْنِ لُؤْلُؤٍ عَلَيْهِ بِأَنْ يَتَمَارَضَ، وَيُظْهِرَ شِدَّةَ الْمَرَضِ، وَيَسْتَدْعِيَ الْفَتْحَ لِيَنْزِلَ إِلَيْهِ لِيَجْعَلَهُ وَصِيًّا، فَإِذَا حَضَرَ قَبَضَهُ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْزِلِ الْفَتْحُ، وَاعْتَذَرَ، وَكَاتَبَ الْحَاكِمَ، وَأَظْهَرَ طَاعَتَهُ، وَخَطَبَ لَهُ، وَأَظْهَرَ الْعِصْيَانَ عَلَى أُسْتَاذِهِ، وَأَخَذَ مِنَ الْحَاكِمِ صَيْدَا، وَبَيْرُوتَ، وَكُلَّ مَا فِي حَلَبَ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَخَرَجَ ابْنُ لُؤْلُؤٍ مِنْ حَلَبَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَبِهَا الرُّومُ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ. وَكَانَ صَالِحُ بْنُ مِرْدَاسٍ قَدْ مَالَأَ الْفَتْحَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا عَادَ عَنْ حَلَبَ اسْتَصْحَبَ مَعَهُ وَالِدَةَ ابْنِ لُؤْلُؤٍ وَنِسَاءَهُ، وَتَرَكَهُنَّ بِمَنْبِجَ، وَتَسَلَّمَ حَلَبَ نُوَّابُ الْحَاكِمِ، وَتَنَقَّلَتْ

بِأَيْدِيهِمْ حَتَّى صَارَتْ بِيَدِ إِنْسَانٍ مِنَ الْحَمْدَانِيَّةِ يُعْرَفُ بِعَزِيزِ الْمُلْكِ، فَقَدَّمَهُ الْحَاكِمُ وَاصْطَنَعَهُ وَوَلَّاهُ حَلَبَ، فَلَمَّا قُتِلَ الْحَاكِمُ وَوَلِيَ الظَّاهِرُ عَصَى عَلَيْهِ، فَوَضَعَتْ سِتُّ الْمَلِكِ أُخْتُ الْحَاكِمِ فَرَّاشًا لَهُ عَلَى قَتْلِهِ فَقَتَلَهُ. وَكَانَ لِلْمِصْرِيِّينَ بِالشَّامِ نَائِبٌ يُعْرَفُ بِأَنُوشْتِكِينَ الدِّزْبَرِيِّ، وَبِيَدِهِ دِمَشْقُ، وَالرَّمْلَةُ، وَعَسْقَلَانُ، وَغَيْرُهَا، فَاجْتَمَعَ حَسَّانُ أَمِيرُ بَنِي طَيٍّ، وَصَالِحُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَمِيرُ بَنِي كِلَابٍ، وَسِنَانُ بْنُ عُلَيَّانَ، وَتَحَالَفُوا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ حَلَبَ إِلَى عَانَةَ لِصَالِحٍ، وَمِنَ الرَّمْلَةِ إِلَى مِصْرَ لِحَسَّانَ، وَدِمَشْقُ لِسِنَانٍ، فَسَارَ حَسَّانُ إِلَى الرَّمْلَةِ فَحَصَرَهَا، وَبِهَا أَنُوشْتِكِينُ، فَسَارَ عَنْهَا إِلَى عَسْقَلَانَ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا حَسَّانُ وَنَهَبَهَا

وَقَتَلَ أَهْلَهَا، وَذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، أَيَّامَ الظَّاهِرِ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ خَلِيفَةِ مِصْرَ. وَقَصَدَ صَالِحٌ حَلَبَ، وَبِهَا إِنْسَانٌ يُعْرَفُ بِابْنِ ثُعْبَانٍ يَتَوَلَّى أَمْرَهَا لِلْمِصْرِيِّينَ، وَبِالْقَلْعَةِ خَادِمٌ يُعْرَفُ بِمَوْصُوفٍ، فَأَمَّا أَهْلُ الْبَلَدِ فَسَلَّمُوهُ إِلَى صَالِحٍ لِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَلِسُوءِ سِيرَةِ الْمِصْرِيِّينَ مَعَهُمْ، وَصَعِدَ ابْنُ ثُعْبَانٍ إِلَى الْقَلْعَةِ، فَحَصَرَهُ صَالِحٌ بِالْقَلْعَةِ، فَغَارَ الْمَاءُ الَّذِي بِهَا فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَا يَشْرَبُونَ، فَسَلَّمَ الْجُنْدُ الْقَلْعَةَ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَمَلَكَ مِنْ بَعْلَبَكَّ إِلَى عَانَةَ، وَأَقَامَ بِحَلَبَ سِتَّ سِنِينَ. فَلَمَّا كَانَ سَنَةُ عِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، جَهَّزَ الظَّاهِرُ صَاحِبُ مِصْرَ جَيْشًا، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الشَّامِ لِقِتَالِ صَالِحٍ وَحَسَّانَ، وَكَانَ مُقَدَّمُ الْعَسْكَرِ أَنُوشْتِكِينَ الدِّزْبَرِيَّ، فَاجْتَمَعَ صَالِحٌ وَحَسَّانُ عَلَى قِتَالِهِ، فَاقْتَتَلُوا بِالْأُقْحُوَانَةِ عَلَى الْأُرْدُنِّ، عِنْدَ طَبْرِيَّةَ، فَقُتِلَ صَالِحٌ وَوَلَدُهُ الْأَصْغَرُ، وَأُنْفِذَ رَأْسَاهُمَا إِلَى مِصْرَ، وَنَجَا وَلَدُهُ أَبُو كَامِلٍ نَصْرُ بْنُ صَالِحٍ، فَجَاءَ إِلَى حَلَبَ وَمَلَكَهَا، وَكَانَ لَقَبُهُ شِبْلَ الدَّوْلَةِ. فَلَمَّا عَلِمَتِ الرُّومُ بِأَنْطَاكِيَةَ الْحَالَ، تَجَهَّزُوا إِلَى حَلَبَ فِي عَالَمٍ كَثِيرٍ، فَخَرَجَ أَهْلُهَا فَحَارَبُوهُمْ فَهَزَمُوهُمْ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ، وَعَادُوا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَبَقِيَ شِبْلُ الدَّوْلَةِ مَالِكًا لِحَلَبَ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الدِّزْبَرِيُّ الْعَسَاكِرَ

الْمِصْرِيَّةَ، (وَصَاحِبُ مِصْرَ حِينَئِذٍ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ) ، فَلَقِيَهُمْ عِنْدَ حَمَاةَ، فَقُتِلَ فِي شَعْبَانَ وَمَلَكَ الدِّزْبَرِيُّ حَلَبَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَمَلَكَ الشَّامَ جَمِيعَهُ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ، وَكَثُرَ مَالُهُ، وَأَرْسَلَ يَسْتَدْعِي الْجُنْدَ الْأَتْرَاكَ مِنَ الْبِلَادِ، فَبَلَغَ الْمِصْرِيِّينَ عَنْهُ أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى الْعِصْيَانِ، فَتَقَدَّمُوا إِلَى أَهْلِ دِمَشْقَ بِالْخُرُوجِ عَنْ طَاعَتِهِ، فَفَعَلُوا، فَسَارَ عَنْهَا نَحْوَ حَلَبَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَتُوُفِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَهْرٍ وَاحِدٍ. وَكَانَ أَبُو عُلْوَانَ ثِمَالُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ الْمُلَقَّبُ بِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ بِالرَّحْبَةِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ الدِّزْبَرِيِّ جَاءَ إِلَى حَلَبَ فَمَلَكَهَا تَسْلِيمًا مِنْ أَهْلِهَا، وَحَاصَرَ امْرَأَةَ الدِّزْبَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ بِالْقَلْعَةِ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، وَمَلَكَهَا فِي صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] فَبَقِيَ فِيهَا إِلَى سَنَةِ أَرْبَعِينَ. فَأَنْفَذَ الْمِصْرِيُّونَ إِلَى مُحَارَبَتِهِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَخَرَجَ أَهْلُ حَلَبَ إِلَى حَرْبِهِ، فَهَزَمَهُمْ، وَاخْتَنَقَ مِنْهُمْ بِالْبَابِ جَمَاعَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُ رَحَلَ عَنْ حَلَبَ وَعَادَ إِلَى مِصْرَ، وَأَصَابَهُمْ سَيْلٌ ذَهَبَ بِكَثِيرٍ مِنْ دَوَابِّهِمْ وَأَثْقَالِهِمْ. فَأَنْفَذَ الْمِصْرِيُّونَ إِلَى قِتَالِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ خَادِمًا يُعْرَفُ بِرِفْقٍ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فِي أَهْلِ حَلَبَ فَقَاتَلُوهُ، فَانْهَزَمَ الْمِصْرِيُّونَ، وَأُسِرَ رِفْقٌ، وَمَاتَ عِنْدَهُمْ، وَكَانَ أَسْرُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. ثُمَّ إِنَّ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَ الْهَدَايَا إِلَى الْمِصْرِيِّينَ، وَأَصْلَحَ أَمْرَهُ مَعَهُمْ، وَنَزَلَ لَهُمْ عَنْ حَلَبَ، فَأَنْفَذُوا إِلَيْهَا أَبَا عَلِيٍّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مُلْهَمٍ، وَلَقَّبُوهُ مَكِينَ

الدَّوْلَةِ، فَتَسَلَّمَهَا مِنْ ثِمَالٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَسَارَ ثِمَالٌ إِلَى مِصْرَ فِي ذِي الْحِجَّةِ وَسَارَ أَخُوهُ (أَبُو ذُؤَابَةَ) عَطِيَّةُ بْنُ صَالِحٍ إِلَى الرَّحْبَةِ، وَأَقَامَ ابْنُ مُلْهَمٍ بِحَلَبَ، فَجَرَى بَيْنَ بَعْضِ السُّودَانِ وَأَحْدَاثِ حَلَبَ حَرْبٌ. وَسَمِعَ ابْنُ مُلْهَمٍ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ حَلَبَ قَدْ كَاتَبَ مَحْمُودَ بْنَ شِبْلِ الدَّوْلَةِ نَصْرِ بْنِ صَالِحٍ يَسْتَدْعُونَهُ لِيُسَلِّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ، فَقَبَضَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ مِنْهُمْ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِكَامِلِ بْنِ نُبَاتَةَ، فَخَافَ، فَجَلَسَ يَبْكِي، وَكَانَ يَقُولُ لِكُلِّ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ بُكَائِهِ: إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ أُخِذُوا قَدْ قُتِلُوا، وَأَخَافُ عَلَى الْبَاقِينَ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَاشْتَدُّوا، وَرَاسَلُوا مَحْمُودًا، وَهُوَ عَنْهُمْ مَسِيرَةَ يَوْمٍ، يَسْتَدْعُونَهُ، وَحَصَرُوا ابْنَ مُلْهَمٍ، وَجَاءَ مَحْمُودٌ وَحَصَرَهُ مَعَهُمْ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . وَوَصَلَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى مِصْرَ، فَسَيَّرُوا نَاصِرَ الدَّوْلَةِ أَبَا عَلِيِّ بْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ فِي عَسْكَرٍ، بَعْدَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ دُخُولِ مَحْمُودٍ حَلَبَ، فَلَمَّا قَارَبَ الْبَلَدَ خَرَجَ مَحْمُودٌ عَنْ حَلَبَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، وَاخْتَفَى الْأَحْدَاثُ جَمِيعُهُمْ، وَكَانَ عَطِيَّةُ بْنُ صَالِحٍ نَازِلًا بِقُرْبِ الْبَلَدِ، وَقَدْ كَرِهَ فِعْلَ مَحْمُودِ ابْنِ أَخِيهِ، فَقَبَضَ ابْنُ مُلْهَمٍ عَلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِنَ الْأَحْدَاثِ، وَنَهَبَ وَسَطَ الْبَلَدِ، وَأَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ. وَأَمَّا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ فَلَمْ يُمَكِّنْ أَصْحَابَهُ مِنْ دُخُولِ الْبَلَدِ وَنَهْبِهِ، وَسَارَ فِي طَلَبِ مَحْمُودٍ، فَالْتَقَيَا بِالْفُنَيْدِقِ فِي رَجَبٍ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ حَمْدَانَ، وَثَبَتَ هُوَ فَجُرِحَ، وَحُمِلَ إِلَى مَحْمُودٍ أَسِيرًا، فَأَخَذَهُ وَسَارَ إِلَى حَلَبَ فَمَلَكَهَا، وَمَلَكَ الْقَلْعَةَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَطْلَقَ ابْنَ حَمْدَانَ، فَسَارَ هُوَ وَابْنُ مُلْهَمٍ إِلَى مِصْرَ،

فَجَهَّزَ الْمِصْرِيُّونَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ ثِمَالَ بْنَ صَالِحٍ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ، فَحَصَرَهُ (فِي حَلَبَ) فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ، فَاسْتَنْجَدَ مَحْمُودٌ خَالَهُ مَنِيعَ بْنَ شَبِيبِ بْنِ وَثَّابٍ النُّمَيْرِيَّ، صَاحِبَ حَرَّانَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ ثِمَالًا مَجِيئُهُ سَارَ عَنْ حَلَبَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . وَعَادَ مَنِيعٌ إِلَى حَرَّانَ، فَعَادَ ثِمَالٌ إِلَى حَلَبَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ مَحْمُودُ ابْنُ أَخِيهِ، فَاقْتَتَلُوا، وَقَاتَلَ مَحْمُودٌ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْهَزَمَ مَحْمُودٌ فَمَضَى إِلَى أَخْوَالِهِ بَنِي نُمَيْرٍ بِحَرَّانَ، وَتَسَلَّمَ ثِمَالٌ حَلَبَ فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَخَرَجَ إِلَى الرُّومِ، فَغَزَاهُمْ، ثُمَّ تُوُفِّيَ بِحَلَبَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَكَانَ كَرِيمًا، وَحَلِيمًا، وَأَوْصَى بِحَلَبَ لِأَخِيهِ عَطِيَّةَ بْنِ صَالِحٍ فَمَلَكَهَا. وَنَزَلَ بِهِ قَوْمٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ مَعَ ابْنِ خَانَ التُّرْكُمَانِيِّ، فَقَوِيَ بِهِمْ، فَأَشَارَ أَصْحَابُهُ بِقَتْلِهِمْ، فَأَمَرَ أَهْلَ الْبَلَدِ بِذَلِكَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَنَجَا الْبَاقُونَ، فَقَصَدُوا مَحْمُودًا بِحَرَّانَ، وَاجْتَمَعُوا مَعَهُ عَلَى حِصَارِ حَلَبَ، فَحَصَرَهَا وَمَلَكَهَا فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . وَقَصَدَ عَمُّهُ عَطِيَّةُالرَّقَّةَ فَمَلَكَهَا، وَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى أَخَذَهَا مِنْهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَسَارَ عَطِيَّةُ إِلَى بَلَدِ الرُّومِ، فَمَاتَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ. وَأَرْسَلَ مَحْمُودٌ التُّرْكُمَانَ مَعَ أَمِيرِهِمُ ابْنِ خَانَ إِلَى أَرْتَاحَ، فَحَصَرَهَا وَأَخَذَهَا مِنَ الرُّومِ سَنَةَ سِتِّينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَسَارَ مَحْمُودٌ إِلَى طَرَابُلُسَ، فَحَصَرَهَا، وَأَخَذَ مِنْ أَهْلِهَا مَالًا وَعَادَ، وَأَرْسَلَهُ مَحْمُودٌ فِي رِسَالَةٍ إِلَى السُّلْطَانِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ، وَمَاتَ

مَحْمُودٌ فِي حَلَبَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَوَصَّى بِهَا بَعْدَهُ لِابْنِهِ شَيْبٍ، فَلَمْ يُنَفِّذْ أَصْحَابُهُ وَصِيتَهُ لِصِغَرِهِ، وَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَى وَلَدِهِ الْأَكْبَرِ، وَاسْمُهُ نَصْرٌ، وَجَدُّهُ لِأُمِّهِ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ بْنُ الْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ وَتَزَوَّجَهَا عِنْدَ دُخُولِهِمْ مِصْرَ لَمَّا مَلَكَ طُغْرُلْبَكَ الْعِرَاقَ. وَكَانَ نَصْرٌ يُدْمِنُ شُرْبَ الْخَمْرِ، فَحَمَلَهُ السُّكْرُ عَلَى أَنْ خَرَجَ إِلَى التُّرْكُمَانِ الَّذِينَ مَلَّكُوا أَبَاهُ الْبَلَدَ، وَهُمْ بِالْحَاضِرِ، يَوْمَ الْفِطْرِ، فَلَقُوهُ، وَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَسَبَّهُمْ وَأَرَادَ قَتْلَهُمْ، فَرَمَاهُ أَحَدُهُمْ بِنُشَّابَةٍ فَقَتَلَهُ، وَمَلَكَ أَخُوهُ سَابِقٌ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَبُوهُ أَوْصَى لَهُ بِحَلَبَ، فَلَمَّا صَعِدَ الْقَلْعَةَ اسْتَدْعَى أَحْمَدَ شَاهَ مُقَدَّمَ التُّرْكُمَانِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَبَقِيَ فِيهَا إِلَى سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، فَقَصَدَهُ تُتُشُ بْنُ أَلْبِ أَرْسَلَانَ، فَحَصَرَهُ بِحَلَبَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفًا، ثُمَّ رَحَلَ عَنْهُ، وَنَازَلَهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، فَأَخَذَ الْبَلَدَ مِنْهُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ; (فَهَذِهِ جَمِيعُ أَخْبَارِ بَنِي مِرْدَاسٍ أَتَيْتُ بِهَا مُتَتَابِعَةً لِئَلَّا تُجْهَلَ إِذَا تَفَرَّقَتْ) . ذِكْرُ قَتْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ خَفَاجَةَ لَمَّا (فَتَحَ) الْمَلِكُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ دَيْرَ الْعَاقُولِ أَتَاهُ سُلْطَانٌ، وَعُلْوَانُ، وَرَجَبٌ، أَوْلَادُ ثِمَالٍ الْخَفَاجِيِّ، وَمَعَهُمْ أَعْيَانُ عَشَائِرِهِمْ، وَضَمِنُوا حِمَايَةَ سَقْيِ الْفُرَاتِ، وَدَفْعِ عُقَيْلٍ عَنْهَا، وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَكْرَمَهُمْ وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ مَعَ ذِي السَّعَادَتَيْنِ الْحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ إِلَى الْأَنْبَارِ، فَسَارُوا، فَلَمَّا صَارُوا بِنَوَاحِي الْأَنْبَارِ أَفْسَدُوا

وَعَاثُوا، فَقَبَضَ ذُو السَّعَادَتَيْنِ عَلَى نَفَرٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَطْلَقَهُمْ وَاسْتَحْلَفَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْأَذَى، فَأَشَارَ كَاتِبٌ نَصْرَانِيٌّ مِنْ أَهْلِ دَقُوقَا عَلَى سُلْطَانِ بْنِ ثِمَالٍ بِالْقَبْضِ عَلَى ذِي السَّعَادَتَيْنِ، وَأَنْ يُظْهِرَ أَنَّ عُقَيْلًا قَدْ أَغَارُوا، فَإِذَا خَرَجَ عَسْكَرُ ذِي السَّعَادَتَيْنِ انْفَرَدَ بِهِ فَأَخَذَهُ. فَوَصَلَ إِلَى ذِي السَّعَادَتَيْنِ الْخَبَرُ. ثُمَّ إِنَّ سُلْطَانًا أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ إِنَّ عُقَيْلًا قَدْ قَارَبُوا الْأَنْبَارَ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ إِنْفَاذَ الْعَسْكَرِ، فَقَالَ ذُو السَّعَادَتَيْنِ: أَنَا أَرْكَبُ وَآخُذُ الْعَسَاكِرَ ثُمَّ دَافَعَهُ إِلَى أَنْ فَاتَ وَقْتُ السَّيْرِ، فَانْتَقَضَ عَلَى سُلْطَانٍ مَا دَبَّرَهُ، فَأَرْسَلَ يَقُولُ: قَدْ أَخَذْتُ جَمَاعَةً مِنْ عُقَيْلٍ، ثُمَّ إِنَّ ذَا السَّعَادَتَيْنِ صَنَعَ طَعَامًا كَثِيرًا، وَحَضَرَ عِنْدَهُ سُلْطَانٌ وَكَاتِبُهُ النَّصْرَانِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ خَفَاجَةَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِقَتْلِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَقَبَضَ عَلَى سُلْطَانٍ وَكَاتِبِهِ وَجَمَاعَتِهِ، وَنَهَبَ بُيُوتَهُمْ وَمَا فِيهَا، وَحَبَسَ سُلْطَانًا وَمَنْ مَعَهُ بِبَغْدَاذَ، حَتَّى شَفَعَ فِيهِمْ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَزْيَدٍ، وَبَذَلَ مَالًا عَنْهُمْ فَأُطْلِقُوا. وَذَكَرَ ابْنُ نُبَاتَةَ وَغَيْرُهُ هَذِهِ الْحَادِثَةَ. ذِكْرُ الْقَدْحِ فِي نَسَبِ الْعَلَوِيِّينَ الْمِصْرِيِّينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كُتِبَ بِبَغْدَاذَ مَحْضَرٌ يَتَضَمَّنُ الْقَدْحَ فِي نَسَبِ الْعَلَوِيِّينَ خُلَفَاءِ مِصْرَ، وَكَتَبَ فِيهِ الْمُرْتَضَى وَأَخُوهُ الرَّضِيُّ، وَابْنُ الْبَطْحَاوِيُّ الْعَلَوِيُّ، وَابْنُ الْأَزْرَقِ الْمُوسَوِيُّ، وَالزَّكِيُّ أَبُو يَعْلَى [مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي يَعْلَى] ، وَمِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ ابْنُ الْأَكْفَانِيِّ وَابْنُ الْخَرَزِيِّ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْأَبِيوَرْدِيُّ، وَأَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَالْكَشْفَلِيُّ، وَالْقُدُورِيُّ، وَالصَّيْمَرِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَأَبُو الْفَضْلِ النَّسَوِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ النُّعْمَانِ فَقِيهُ الشِّيعَةِ، وَغَيْرُهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِمْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ دَوْلَتِهِمْ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ

ذِكْرُ أَخْذِ بَنِي خَفَاجَةَ الْحُجَّاجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَتْ خَفَاجَةُ إِلَى وَاقِصَةَ، وَنَزَحُوا مَاءَ الْبَرْمَكِيِّ وَالرَّيَّانِ وَأَلْقَوْا فِيهِمَا الْحَنْظَلَ وَوَصَلَ الْحُجَّاجُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْعَقَبَةِ، فَلَقِيَهُمْ خَفَاجَةُ وَمَنَعُوهُمُ الْمَاءَ، ثُمَّ قَاتَلُوهُمْ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ امْتِنَاعٌ، فَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ، وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنَ الْحَاجِّ إِلَّا الْيَسِيرُ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ فَخْرَ الْمُلْكِ الْوَزِيرَ بِبَغْدَاذَ، فَسَيَّرَ الْعَسَاكِرَ فِي إِثْرِهِمْ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ (يَأْمُرُهُ بِطَلَبِ الْعَرَبِ، وَالْأَخْذِ مِنْهُمْ بِثَأْرِ الْحَاجِّ، وَالِانْتِقَامِ، فَسَارَ خَلْفَهُمْ فَلَحِقَهُمْ) وَقَدْ قَارَبُوا الْبَصْرَةَ، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ وَأَسَرَ جَمْعًا كَثِيرًا، وَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِ الْحَاجِّ مَا رَآهُ، وَكَانَ الْبَاقِي قَدْ أَخَذَهُ الْعَرَبُ وَتَفَرَّقُوا، وَأَرْسَلَ الْأَسْرَى وَمَا اسْتَرَدَّهُ مِنْ أَمْتِعَةِ الْحَاجِّ إِلَى الْوَزِيرِ، فَحَسُنَ مَوْقِعُهُ مِنْهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ اللَّبَّانِ الْفَرَضِيُّ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَتُوُفِّيَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عُثْمَانُ بْنُ (عِيسَى أَبُو عَمْرٍو) الْبَاقِلَّانِيُّ الْعَابِدُ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَة] 403 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ قَابُوسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ شَمْسُ الْمَعَالِي قَابُوسُ بْنُ وَشْمَكِيرَ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ كَثْرَةِ فَضَائِلِهِ وَمَنَاقِبِهِ، عَظِيمَ السِّيَاسَةِ، شَدِيدَ الْأَخْذِ، قَلِيلَ الْعَفْوِ، يَقْتُلُ عَلَى الذَّنْبِ الْيَسِيرِ، فَضَجِرَ أَصْحَابُهُ مِنْهُ، وَاسْتَطَالُوا أَيَّامَهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى خَلْعِهِ وَالْقَبْضِ عَلَيْهِ. وَكَانَ حِينَئِذٍ غَائِبًا عَنْ جُرْجَانَ، فَخَفِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، فَلَمْ يَشْعُرْ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِلَّا وَقَدْ أَحَاطَ الْعَسْكَرُ بِبَابِ الْقَلْعَةِ الَّتِي كَانَ بِهَا، وَانْتَهَبُوا أَمْوَالَهُ، وَدَوَابَّهُ، وَأَرَادُوا اسْتِنْزَالَهُ مِنَ الْحِصْنِ، فَقَاتَلَهُمْ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ خَوَاصِّهِ وَأَصْحَابِهِ، فَعَادُوا وَلَمْ يَظْفَرُوا بِهِ، وَدَخَلُوا جُرْجَانَ وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَعَصَوْا عَلَيْهِ بِهَا، وَبَعَثُوا إِلَى ابْنِهِ مُنُوجَهْرَ، وَهُوَ بِطَبَرِسْتَانَ، يُعَرِّفُونَهُ الْحَالَ، وَيَسْتَدْعُونَهُ لِيُوَلُّوهُ أَمْرَهُمْ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ نَحْوَهُمْ خَوْفًا مِنْ خُرُوجِ الْأَمْرِ عَنْهُ، فَالْتَقَوْا وَاتَّفَقُوا عَلَى طَاعَتِهِ إِنْ هُوَ خَلَعَ أَبَاهُ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ عَلَى كُرْهٍ. وَكَانَ أَبُوهُ شَمْسُ الْمَعَالِي قَدْ سَارَ نَحْوَ بِسْطَامَ عِنْدَ حُدُوثِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ لِيَنْظُرَ فِيمَا تُسْفِرُ عَنْهُ، فَأَخَذُوا مُنُوجَهْرَ مَعَهُمْ، عَازِمِينَ عَلَى قَصْدِ وَالِدِهِ وَإِزْعَاجِهِ مِنْ مَكَانِهِ، فَسَارَ مَعَهُمْ مُضْطَرًّا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى أَبِيهِ أَذِنَ لَهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُحَامِينَ عَنْهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ تَشَاكَيَا مَا هُمَا فِيهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ مُنُوجَهْرُ

أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي قِتَالِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ وَدَفْعِهِمْ وَإِنْ ذَهَبَتْ نَفْسُهُ. فَرَأَى شَمْسُ الْمَعَالِي ضِدَّ ذَلِكَ، وَسَهُلَ عَلَيْهِ حَيْثُ صَارَ الْمُلْكُ إِلَى وَلَدِهِ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ خَاتَمَ الْمُلْكِ، وَوَصَّاهُ بِمَا يَفْعَلُهُ، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَنْتَقِلَ هُوَ إِلَى قَلْعَةِ جَنَاشْكَ يَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ وَيَنْفَرِدَ مُنُوجَهْرُ بِتَدْبِيرِ الْمُلْكِ. وَسَارَ إِلَى الْقَلْعَةِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ مَنِ اخْتَارَهُ لِخِدْمَتِهِ، وَسَارَ مُنُوجَهْرُ إِلَى جُرْجَانَ، وَتَوَلَّى الْمُلْكَ وَضَبَطَهُ، وَدَارَى أُولَئِكَ الْأَجْنَادَ، وَهُمْ نَافِرُونَ خَائِفُونَ مِنْ شَمْسِ الْمَعَالِي مَا دَامَ حَيًّا، فَمَا زَالُوا يَحْتَالُونَ وَيُجِيلُونَ الرَّأْيَ حَتَّى دَخَلُوا إِلَى مُنُوجَهْرَ وَخَوَّفُوهُ مِنْ أَبِيهِ مِثْلَ مَا جَرَى لِهِلَالِ بْنِ بَدْرٍ مَعَ أَبِيهِ، وَقَالُوا لَهُ: مَهْمَا [كَانَ] وَالِدُكَ فِي الْحَيَاةِ لَا نَأْمَنُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ وَاسْتَأْذَنُوهُ فِي قَتْلِهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ جَوَابًا، فَمَضَوْا إِلَيْهِ إِلَى الدَّارِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَقَدْ دَخَلَ إِلَى الطَّهَارَةِ مُتَخَفِّفًا، فَأَخَذُوا مَا عِنْدَهُ مِنْ كِسْوَةٍ، وَكَانَ الزَّمَانُ شِتَاءًا، وَكَانَ يَسْتَغِيثُ: أَعْطُونِي وَلَوْ جُلَّ دَابَّةٍ فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَمَاتَ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَجَلَسَ وَلَدُهُ لِلْعَزَاءِ، وَلَقَّبَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ مُنُوجَهْرَ فَلَكَ الْمَعَالِي. ثُمَّ إِنَّ مُنُوجَهْرَ رَاسَلَ يَمِينَ الدَّوْلَةِ، وَدَخَلَ فِي طَاعَتِهِ، وَخَطَبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ بِلَادِهِ، وَخَطَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ بَعْضَ بَنَاتِهِ، فَفَعَلَ، فَقَوِيَ جَنَانُهُ، وَشَرَعَ فِي التَّدْبِيرِ عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَبَاهُ، فَأَبَادَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالتَّشْرِيدِ. وَكَانَ قَابُوسُ عَزِيزَ الْأَدَبِ، وَافِرَ الْعِلْمِ، لَهُ رَسَائِلُ وَشِعْرٌ حَسَنٌ، وَكَانَ عَالِمًا بِالنُّجُومِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُلُومِ، فَمِنْ شِعْرِهِ: قُلْ لِلَّذِي، بِصُرُوفِ الدَّهْرِ عَيَّرَنَا ... هَلْ عَانَدَ الدَّهْرَ إِلَّا مَنْ لَهُ خَطَرُ أَمَا تَرَى الْبَحْرَ يَطْفُو فَوْقَهُ جِيَفٌ ... وَتَسْتَقِرُّ بِأَقْصَى قَعْرِهِ الدُّرَرُ فَإِنْ تَكُنْ نَشَبَتْ أَيْدِي الْخُطُوبِ بِنَا وَمَسَّنَا مِنْ تَوَالِي صَرْفِهَا ضَرَرُ

فَفِي السَّمَاءِ نُجُومٌ (لَا عِدَادَ لَهَا) ... وَلَيْسَ يُكْسَفُ إِلَّا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ذِكْرُ مَوْتِ أَيْلَكَ الْخَانِ وَوِلَايَةِ أَخِيهِ طُغَانَ خَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَيْلَكُ الْخَانُ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ لِلْعَوْدِ إِلَى خُرَاسَانَ، لِيَأْخُذَ بِثَأْرِهِ مِنْ يَمِينِ الدَّوْلَةِ، وَكَاتَبَ قَدْرَ خَانَ وَطُغَانَ خَانَ لِيُسَاعِدَاهُ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِيَ بَعْدَهُ أَخُوهُ طُغَانَ، فَرَاسَلَ يَمِينَ الدَّوْلَةِ وَصَالَحَهُ، وَقَالَ لَهُ: الْمَصْلَحَةُ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنْ تَشْتَغِلَ أَنْتَ بِغَزْوِ الْهِنْدِ، وَأَشْتَغِلُ أَنَا بِغَزْوِ التُّرْكِ، وَأَنْ يَتْرُكَ بَعْضُنَا بَعْضًا، فَوَافَقَ ذَلِكَ هَوَاهُ، فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ، وَزَالَ الْخِلَافُ، وَاشْتَغَلَا بِغَزْوِ الْكُفَّارِ. وَكَانَ أَيْلَكُ الْخَانُ خَيِّرًا، عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، مُحِبًّا لِلدِّينِ وَأَهْلِهِ، مُعَظِّمًا لِلْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ. ذِكْرُ وَفَاةِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ وَمُلْكِ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، خَامِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ أَبُو نَصْرِ بْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَهُوَ الْمَلِكُ حِينَئِذٍ بِالْعِرَاقِ، وَكَانَ مَرَضُهُ تَتَابُعَ الصَّرَعِ مِثْلَ مَرَضِ أَبِيهِ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِأَرَّجَانَ، وَحُمِلَ إِلَى مَشْهَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدُفِنَ

عِنْدَ أَبِيهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ عُمْرُهُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفًا، وَمُلْكُهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِيَ الْمُلْكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ أَبُو شُجَاعٍ، وَسَارَ مِنْ أَرَّجَانَ إِلَى شِيرَازَ، وَوَلَّى أَخَاهُ جَلَالَ الدَّوْلَةِ أَبَا طَاهِرِ بْنَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ الْبَصْرَةَ، وَأَخَاهُ أَبَا الْفَوَارِسِ كِرْمَانَ. ذِكْرُ وِلَايَةِ سُلَيْمَانَ الْأَنْدَلُسَ، الدَّوْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرُ الْأُمَوِيُّ، وَلُقِّبَ الْمُسْتَعِينَ، وَهَذِهِ غُبْرُ وِلَايَتِهِ، مُنْتَصَفُ شَوَّالٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ وَخَرَجَ أَهْلُ قُرْطُبَةَ إِلَيْهِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، فَأَنْشَدَ مُتَمَثِّلًا: إِذَا مَا رَأَوْنِي طَالِعًا مِنْ ثَنِيِّةٍ ... يَقُولُونَ مَنْ هَذَا، وَقَدْ عَرَفُونِي يَقُولُونَ لِي أَهْلًا وَسَهْلًا وَمَرْحَبًا ... وَلَوْ ظَفِرُوا بِي سَاعَةً قَتَلُونِي وَكَانَ سُلَيْمَانُ أَدِيبًا شَاعِرًا بَلِيغًا، وَأُرِيقَ فِي أَيَّامِهِ دِمَاءٌ كَثِيرَةٌ لَا تُحَدُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ الْبَرْبَرُ هُمُ الْحَاكِمِينَ فِي دَوْلَتِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى خِلَافِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَامَّةَ جُنْدِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَامُوا مَعَهُ حَتَّى مَلَّكُوهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيِّ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ.

وَفِيهَا قُلِّدَ الرَّضِيُّ الْمُوسَوِيُّ، (صَاحِبُ الدِّيوَانِ الْمَشْهُورِ) ، نِقَابَةَ الْعَلَوِيِّينَ بِبَغْدَاذَ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ سَوَادٌ، وَهُوَ أَوَّلُ طَالِبِيٍّ خُلِعَ عَلَيْهِ السَّوَادُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ الْخَوَارِزْمِيُّ، وَاسْمُهُ (مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى) ، الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ، وَأَبُو الْحَارِثِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْعَلَوِيُّ، نَقِيبُ الْكُوفَةِ، وَكَانَ يَسِيرُ بِالْحَاجِّ عَشْرَ سِنِينَ، (وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ حَامِدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَرْوَانَ، الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي الْفِقْهِ) ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الْمُتَكَلِّمُ الْأَشْعَرِيُّ، وَكَانَ مَالِكِيَّ الْمَذْهَبِ، رَثَاهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: انْظُرْ إِلَى جَبَلٍ تَمْشِي الرِّجَالُ بِهِ ... وَانْظُرْ إِلَى الْقَبْرِ مَا يَحْوِي مِنَ الصَّلَفِ وَانْظُرْ إِلَى صَارِمِ الْإِسْلَامِ مُنْغَمِدًا ... وَانْظُرْ إِلَى دُرَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الصَّدَفِ (وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو الْوَلِيدِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْفَرَضِيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ، بِقُرْطُبَةَ، قَتَلَهُ الْبَرْبَرُ) .

ثم دخلت سنة أربع وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِمِائَة] 404 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ فَتْحِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ نَارْدِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْهِنْدِ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ وَحَشْدٍ كَثِيرٍ، وَقَصَدَ وَاسِطَةَ الْبِلَادِ مِنَ الْهِنْدِ، فَسَارَ شَهْرَيْنِ، حَتَّى قَارَبَ مَقْصِدَهُ، وَرَتَّبَ أَصْحَابَهُ وَعَسَاكِرَهُ، فَسَمِعَ عَظِيمُ الْهِنْدِ بِهِ، فَجَمَعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ قُوَّادِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَبَرَزَ إِلَى جَبَلٍ هُنَاكَ، صَعْبِ الْمُرْتَقَى، ضَيِّقِ الْمَسْلَكِ، فَاحْتَمَى بِهِ، وَطَاوَلَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَتَبَ إِلَى الْهُنُودِ يَسْتَدْعِيهِمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ كُلُّ مَنْ يَحْمِلُ سِلَاحًا، فَلَمَّا تَكَامَلَتْ عُدَّتُهُ نَزَلَ مِنَ الْجَبَلِ، وَتَصَافَّ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَعَظُمَ الْأَمْرُ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَحَ الْمُسْلِمِينَ أَكْتَافَهُمْ فَهَزَمُوهُمْ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَغَنِمُوا مَا مَعَهُمْ مِنْ مَالٍ، وَفِيلٍ، وَسِلَاحٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَوُجِدَ فِي بَيْتٍ بُدًّا عَظِيمًا حَجَرًا مَنْقُورًا دَلَّتْ كِتَابَتُهُ عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ مُنْذُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَعَجِبَ النَّاسُ لِقِلَّةِ عُقُولِهِمْ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غَزْوَتِهِ عَادَ إِلَى غَزْنَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْقَادِرِ بِاللَّهِ يَطْلُبُ مِنْهُ مَنْشُورًا وَعَهْدًا بِخُرَاسَانَ وَمَا بِيَدِهِ مِنَ الْمَمَالِكِ، فَكُتِبَ لَهُ ذَلِكَ، وَلُقِّبَ نِظَامَ الدِّينِ. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ خَفَاجَةُ دُفْعَةً أُخْرَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَاءَ سُلْطَانُ بْنُ ثِمَالٍ، وَاسْتَشْفَعَ بِأَبِي الْحَسَنِ بْنِ مَزْيَدٍ إِلَى فَخْرِ الْمُلْكِ لِيَرْضَى عَنْهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعُهُودَ بِلُزُومِ مَا يُحْمَدُ أَمْرُهُ، فَلَمَّا

خَرَجَ وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّهُمْ نَهَبُوا سَوَادَ الْكُوفَةِ، (وَقَتَلُوا طَائِفَةً مِنَ الْجُنْدِ، وَأَتَى أَهْلُ الْكُوفَةِ مُسْتَغِيثِينَ) ، فَسَيَّرَ فَخْرُ الْمُلْكِ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ مَزْيَدٍ وَغَيْرِهِ بِمُحَارَبَتِهِمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَأَوْقَعَ بِهِمْ بِنَهْرِ الرُّمَّانِ وَأَسَرَ مُحَمَّدَ بْنَ ثِمَالٍ وَجَمَاعَةً مَعَهُ، وَنَجَا سُلْطَانٌ، وَأُدْخِلَ الْأَسْرَى إِلَى بَغْدَاذَ مُشَهَّرِينَ وَحُبِسُوا. وَهَبَّ عَلَى الْمُنْهَزِمِينَ مِنْ بَنِي خَفَاجَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ حَارَّةٌ، فَقَتَلَتْ مِنْهُمْ نَحْوَ خَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ كَانُوا أُسِرُوا مِنَ الْحُجَّاجِ، وَكَانُوا يَرْعَوْنَ إِبِلَهُمْ وَغَنَمَهُمْ، فَعَادُوا إِلَى بَغْدَاذَ، فَوَجَدَ بَعْضُهُمْ نِسَاءَهُمْ قَدْ تَزَوَّجْنَ وَوَلَدْنَ، وَاقْتُسِمَتْ تَرِكَاتُهُمْ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ طَاهِرِ بْنِ هِلَالٍ عَلَى شَهْرَزُورَ قَدْ ذَكَرْنَا حَالَ شَهْرَزُورَ، وَأَنَّ بَدْرَ بْنَ حَسَنَوَيْهِ سَلَّمَهَا إِلَى عَمِيدِ الْجُيُوشِ، فَجَعَلَ فِيهَا نُوَّابَهُ. فَلَمَّا كَانَ الْآنَ سَارَ طَاهِرُ بْنُ هِلَالِ بْنِ بَدْرٍ إِلَى شَهْرَزُورَ، وَقَاتَلَ مَنْ بِهَا مِنْ عَسْكَرِ فَخْرِ الْمُلْكِ، وَأَخَذَهَا مِنْهُمْ فِي رَجَبٍ، فَلَمَّا سَمِعَ الْوَزِيرُ الْخَبَرَ أَرْسَلَ إِلَى طَاهِرٍ يُعَاتِبُهُ، وَيَأْمُرُهُ بِإِطْلَاقِ مَنْ أُسِرَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَفَعَلَ، وَلَمْ تَزَلْ شَهْرَزُورُ بِيَدِ طَاهِرٍ إِلَى أَنْ قَتَلَهُ أَبُو الشَّوْكِ، وَأَخَذَهَا مِنْهُ، وَجَعَلَهَا لِأَخِيهِ مُهَلْهِلٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ إِلَى أَبِي الشَّوْكِ عَلَى عَزْمِ مُحَارَبَتِهِ، فَاصْطَلَحَا مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ وَتَزَوَّجَ ابْنُهُ أَبُو الْأَغَرِّ دُبَيْسُ بْنُ عَلِيٍّ بِأُخْتِ أَبِي الشَّوْكِ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَهُوَ شَيْخٌ مِنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَشْهُورِيهِمْ، وَكَانَ عُمْرُهُ قَدْ زَادَ عَلَى ثَمَانِينَ سَنَةً، (وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْبَاطِنِيَّةِ) .

ثم دخلت سنة خمس وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِمِائَة] 405 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ غَزْوَةِ تَانِيشَرَ قَدْ ذُكِرَ لِيَمِينِ الدَّوْلَةِ أَنَّ بِنَاحِيَةِ تَانِيشَرَ فِيَلَةٌ مِنْ جِنْسِ فِيَلَةِ الصَّيْلَمَانِ الْمَوْصُوفَةِ فِي الْحَرْبِ، وَأَنَّ صَاحِبَهَا غَالٍ فِي الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَالْعِنَادِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَعَزَمَ عَلَى غَزْوِهِ (فِي عُقْرِ دَارِهِ، وَأَنْ يُذِيقَهُ شَرْبَةً مِنْ كَأْسِ قِتَالِهِ) ، فَسَارَ فِي الْجُنُودِ وَالْعَسَاكِرِ وَالْمُتَطَوِّعَةِ، فَلَقِيَ فِي طَرِيقِهِ أَوْدِيَةً بَعِيدَةَ الْقَعْرِ، وَعْرَةَ الْمَسَالِكِ، وَقِفَارًا فَسِيحَةَ الْأَقْطَارِ وَالْأَطْرَافِ، بَعِيدَةَ الْأَكْنَافِ، وَالْمَاءُ بِهَا قَلِيلٌ، فَلَقُوا شِدَّةً، وَقَاسَوْا مَشَقَّةً إِلَى أَنْ قَطَعُوهَا. فَلَمَّا قَارَبُوا مَقْصِدَهُمْ لَقُوا نَهْرًا شَدِيدَ الْجَرْيَةِ، صَعْبَ الْمَخَاضَةِ، وَقَدْ وَقَفَ صَاحِبُ تِلْكَ الْبِلَادِ عَلَى طَرَفِهِ، يَمْنَعُ مِنْ عُبُورِهِ، وَمَعَهُ عَسَاكِرُهُ وَفِيَلَتُهُ الَّتِي كَانَ يُدِلُّ بِهَا. فَأَمَرَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ شُجْعَانَ عَسْكَرِهِ بِعُبُورِ النَّهْرِ، وَإِشْغَالِ الْكَافِرِ بِالْقِتَالِ لِيَتَمَكَّنَ بَاقِي الْعَسْكَرِ مِنَ الْعُبُورِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَقَاتَلُوا الْهُنُودَ، وَشَغَلُوهُمْ عَنْ حِفْظِ النَّهْرِ، حَتَّى عَبَرَ سَائِرُ الْعَسْكَرِ فِي الْمَخَاضَاتِ، وَقَاتَلُوهُمْ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، فَانْهَزَمَ الْهِنْدُ، وَظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ، وَغَنِمُوا مَا مَعَهُمْ مِنْ أَمْوَالٍ وَفِيَلَةٍ، وَعَادُوا إِلَى غَزْنَةَ مَوْفِّرِينَ ظَافِرِينَ.

ذِكْرُ قَتْلِ بَدْرِ بْنِ حَسَنَوَيْهِ وَإِطْلَاقِ ابْنِهِ هِلَالٍ وَقَتْلِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ بَدْرُ بْنُ حَسَنَوَيْهِ أَمِيرُ الْجَبَلِ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ سَارَ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ مَسْعُودٍ الْكُرْدِيِّ لِيَمْلِكَ عَلَيْهِ بِلَادَهُ، فَحَصَرَهُ بِحِصْنِ كُوسَحْدَ، فَضَجِرَ أَصْحَابُ بَدْرٍ مِنْهُ لِهُجُومِ الشِّتَاءِ، فَعَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَأَتَاهُ بَعْضُ خَوَاصِّهِ وَعَرَّفَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: فَمَنْ هُمُ الْكِلَابُ حَتَّى يَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَأَبْعَدَهُمْ، فَعَادَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَقَالَ مِنْ وَرَاءِ الْخَرْكَاةِ: الَّذِي أَعْلَمْتُكَ قَدْ قَوِيَ الْعَزْمُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ. وَخَرَجَ فَجَلَسَ عَلَى تَلٍّ، فَثَارُوا بِهِ، فَقَتَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ تُسَمَّى الْجُورَقَانَ، وَنَهَبُوا عَسْكَرَهُ، وَتَرَكُوهُ وَسَارُوا. فَنَزَلَ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَرَآهُ مُلْقًى عَلَى الْأَرْضِ، فَأَمَرَ بِتَجْهِيزِهِ وَحَمْلِهِ إِلَى مَشْهَدِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيُدْفَنَ فِيهِ، فَفُعِلَ ذَلِكَ. وَكَانَ عَادِلًا، كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْمَعْرُوفِ، كَبِيرَ النَّفْسِ، عَظِيمَ الْهِمَّةِ. وَلَمَّا قُتِلَ هَرَبَ الْجُورَقَانُ إِلَى شَمْسِ الدَّوْلَةِ أَبِي طَاهِرِ بْنِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، فَدَخَلُوا فِي طَاعَتِهِ. وَكَانَ طَاهِرُ بْنُ هِلَالِ بْنِ بَدْرٍ هَارِبًا مِنْ جَدِّهِ بِنَوَاحِي شَهْرَزُورَ، فَلَمَّا عَرَفَ بِقَتْلِهِ بَادَرَ يَطْلُبُ مُلْكَهُ، فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَمْسِ الدَّوْلَةِ حَرْبٌ، فَأُسِرَ طَاهِرٌ وَحُبِسَ وَأُخِذَ مَا كَانَ قَدْ جَمَعَهُ بَعْدَ (أَنْ مَلَكَ نَائِبًا مِنْ أَبِيهِ) هِلَالٍ، وَكَانَ عَظِيمًا، وَحَمَلَهُ إِلَى هَمَذَانَ، وَسَارَ اللُّرِيَّةُ وَالشَّاذِنْجَانَ إِلَى أَبِي الشَّوْكِ فَدَخَلُوا فِي طَاعَتِهِ. وَحِينَ قُتِلَ كَانَ ابْنُهُ هِلَالٌ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْمَلِكِ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا قُتِلَ بَدْرٌ اسْتَوْلَى شَمْسُ الدَّوْلَةِ بْنُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ عَلَى بَعْضِ بِلَادِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ

سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ بِذَلِكَ أَطْلَقَ هِلَالًا وَجَهَّزَهُ وَسَيَّرَهُ وَمَعَهُ الْعَسَاكِرُ لِيَسْتَعِيدَ مَا مَلَكَهُ شَمْسُ الدَّوْلَةِ (مِنْ بِلَادِهِ. فَسَارَ إِلَى شَمْسِ الدَّوْلَةِ) ، فَالْتَقَيَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَاقْتَتَلَ الْعَسْكَرَانِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ هِلَالٍ، وَأُسِرَ هُوَ، فَقُتِلَ أَيْضًا، وَعَادَتِ الْعَسَاكِرُ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ عَلَى أَسْوَءِ حَالٍ. وَكَانَ مِمَّنْ أُسِرَ مَعَهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ أَنُوشْتِكِينُ الْأَعْرَابِيُّ، وَكَانَ فِي مَمْلَكَةِ بَدْرٍ سَابُورُ خَوَاسْتَ، وَالدِّينَوَرُ، وَبُرُوجِرْدُ، وَنَهَاوَنْدُ، وَأَسْدَابَاذُ، وَقِطْعَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْأَهْوَازِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْقِلَاعِ وَالْوِلَايَاتِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ وَبَيْنَ بَنِي دُبَيْسٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيِّ وَبَيْنَ مُضَرَ، وَنَبْهَانَ، وَحَسَّانَ، وَطِرَادُ بَنِي دُبَيْسٍ. وَسَبَبُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا أَبَا الْغَنَائِمِ بْنَ مَزْيَدٍ أَخَا أَبِي الْحَسَنِ فِي حَرْبٍ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَحَالَتِ الْأَيَّامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَخْذِ بِثَأْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ تَجَهَّزَ لِقَصْدِهِمْ، وَجَمَعَ الْعَرَبَ، وَالشَّاذِنْجَانَ، وَالْجَوَّانِيَّةَ، وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْأَكْرَادِ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُمْ خَرَجَتْ زَوْجَتُهُ ابْنَةُ دُبَيْسٍ وَقَصَدَتْ أَخَاهَا مُضَرَ بْنَ دُبَيْسٍ لَيْلًا، وَقَالَتْ لَهُ: قَدْ أَتَاكُنَّ ابْنُ مَزْيَدٍ فِيمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، وَهُوَ يَقْنَعُ مِنْكُمْ بِإِبْعَادِ نَبْهَانَ قَاتِلِ أَخِيهِ، فَأَبْعِدُوهُ، وَقَدْ تَفَرَّقَتْ هَذِهِ الْعَسَاكِرُ. فَأَجَابَهَا أَخُوهَا مُضَرُ إِلَى ذَلِكَ، وَامْتَنَعَ أَخُوهُ حَسَّانُ. فَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ مَزْيَدٍ بِمَا فَعَلَتْهُ زَوْجَتُهُ أَنْكَرَهُ، وَأَرَادَ طَلَاقَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: خِفْتُ أَنْ أَكُونَ فِي هَذِهِ الْحَرْبِ بَيْنَ فَقْدِ أَخٍ حَمِيمٍ، أَوْ زَوْجٍ كَرِيمٍ، فَفَعَلْتُ مَا فَعَلْتُ رَجَاءَ الصَّلَاحِ، فَزَالَ مَا عِنْدَهُ مِنْهَا، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ، وَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِ بِالْحُلَلِ وَالْبُيُوتِ، فَالْتَقَوْا

وَاقْتَتَلُوا، (وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ لِمَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الذُّحُولِ) ، فَظَفَرَ ابْنُ مَزْيَدٍ بِهِمْ، وَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ حَسَّانَ وَنَبْهَانَ ابْنَيْ دُبَيْسٍ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبُيُوتِ وَالْأَمْوَالِ، وَلَحِقَ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْهَزِيمَةِ بِالْحُوَيْزَةِ. وَلَمَّا ظَفِرَ بِهِمْ رَأَى عِنْدَهُمْ مُكَاتَبَاتِ فَخْرِ الْمُلْكِ يَأْمُرُهُمْ بِالْجِدِّ فِي أَمْرِهِ وَيَعِدُهُمُ النُّصْرَةَ، فَعَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَحَصَلَ بَيْنَهُمَا نُفْرَةٌ، وَدَعَتْ فَخْرَ الْمُلْكِ الضَّرُورَةُ إِلَى تَقْلِيدِ ابْنِ مَزْيَدٍ الْجَزِيرَةَ الدُّبَيْسِيَّةِ، وَاسْتَثْنَى مَوَاضِعَ مِنْهَا: الطَّيِّبَ وَقُرْقُوبَ وَغَيْرَهُمَا، وَبَقِيَ أَبُو الْحَسَنِ هُنَاكَ إِلَى جُمَادَى الْأُولَى. ثُمَّ إِنَّ مُضَرَ بْنَ دُبَيْسٍ جَمَعَ جَمْعًا، وَكَبَسَ أَبَا الْحَسَنِ لَيْلًا، فَهَرَبَ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، وَاسْتَوْلَى مُضَرُ عَلَى حُلَلِهِ (وَأَمْوَالِهِ، وَكُلِّ مَالِهِ) ، وَلَحِقَ أَبُو الْحَسَنِ بِبَلَدِ النِّيلِ مُنْهَزِمًا. ذِكْرُ مُلْكِ شَمْسِ الدَّوْلَةِ الرَّيَّ وَعَوْدِهِ عَنْهَا لَمَّا مَلَكَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ بْنُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ وِلَايَةَ بَدْرِ بْنِ حَسَنَوَيْهِ وَأَخَذَ مَا فِي قِلَاعِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ عَظُمَ شَأْنُهُ، وَاتَّسَعَ مُلْكُهُ، فَسَارَ إِلَى الرَّيِّ، وَبِهَا أَخُوهُ مَجْدُ الدَّوْلَةِ، فَرَحَلَ عَنِ الرَّيِّ وَمَعَهُ وَالِدَتُهُ إِلَى دُنْبَاوَنْدَ، وَخَرَجَتْ عَسَاكِرُ الرَّيِّ إِلَى شَمْسِ الدَّوْلَةِ مُذْعِنَةً بِالطَّاعَةِ، وَدَخَلَ الرَّيَّ وَمَلَكَهَا وَخَرَجَ مِنْهَا يَطْلُبُ أَخَاهُ وَوَالِدَتَهُ، فَشَغَبَ الْجُنْدُ عَلَيْهِ، وَزَادَ خَطْبُهُمْ، وَطَالَبُوهُ مُطَالَبَاتٍ اتَّسَعَ الْخَرْقُ بِهَا، فَعَادَ إِلَى هَمَذَانَ وَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ وَوَالِدَتِهِ يَأْمُرُهُمَا بِالْعَوْدِ إِلَى الرَّيِّ، فَعَادَا.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَتِّيُّ، الْكَاتِبُ الشَّاعِرُ، وَمِنْ شِعْرِهِ فِي تِكَّةٍ: لِمَ لَا أَتِيَهُ وَمَضْجَعِي بَيْنَ الرَّوَادِفِ وَالْخُصُورِ ... وَإِذَا نُسِجْتُ، فَإِنَّنِي بَيْنَ التَّرَائِبِ وَالنُّحُورِ وَلَقَدْ نَشَأْتُ صَغِيرَةً بِأَكُفِّ رَبَّاتِ الْخُدُورِ وَلَهُ نَوَادِرُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا أَنَّهُ شَرِبَ فُقَّاعًا فِي دَارِ فَخْرِ الْمُلْكِ، فَلَمْ يَسْتَطِبْهُ، فَجَلَسَ مُفَكِّرًا، فَقَالَ لَهُ الْفُقَّاعِيُّ: فِي أَيِّ شَيْءٍ تُفَكِّرُ؟ فَقَالَ: فِي دِقَّةِ صَنْعَتِكَ، كَيْفَ (أَمْكَنَكَ الْخِرَاءُ) فِي هَذِهِ الْكِيزَانِ الضَّيِّقَةِ كُلِّهَا؟ . وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا قُتِلَ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ كَجٍّ الْفَقِيهُ، وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ قَاضِيَ الدِّينَوَرِ، قَتَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ عَامَّتِهَا خَوْفًا مِنْهُ. وَتُوُفِّيَ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ نُبَاتَةَ السَّعْدِيُّ الشَّاعِرُ، وَالْقَاضِي أَبُو

مُحَمَّدِ بْنُ الْأَكْفَانِيِّ، قَاضِي بَغْدَاذَ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ قَضَاءَ الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ الْبَصْرِيُّ. وَتُوُفِّيَ أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ الْأَدِيبُ، وَأَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، كَاتِبُ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ بِالْبَطِيحَةِ، وَهُوَ مِنَ الْكُتَّابِ الْمُفْلِقِينَ، وَمُكَاتَبَاتُهُ مَشْهُورَةٌ، وَكَانَ مُمَدَّحًا، وَمِمَّنْ مَدَحَهُ ابْنُ الْحَجَّاجِ. وَتُوُفِّيَ أَيْضًا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ أَبُو سَعْدٍ الْإِدْرِيسِيُّ، الْإِسْتِرَابَاذِيُّ، الْحَافِظُ، نَزِيلُ سَمَرْقَنْدَ، وَهُوَ مُصَنِّفُ تَارِيخِ سَمَرْقَنْدَ. وَتُوُفِّيَ أَيْضًا الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْحَسَنَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ عِيَاضٍ، وَكَانَ يُلَقَّبُ النَّاصِرَ، وَكَانَ يَتَوَلَّى الْأَهْوَازَ، وَقَامَ وَلَدُهُ بِنَكِيرِ مَقَامِهِ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْكَانَ الْهَمَذَانِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ إِمَامًا عَالِمًا.

ثم دخلت سنة ست وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِمِائَة] 406 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ بَادِيسَ وَعَمِّهِ حَمَّادٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْأَمِيرِ بَادِيسَ صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَعَمِّهِ حَمَّادٍ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا إِلَى الْحَرْبِ الَّتِي لَا بُقْيَا بَعْدَهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَادِيسَ أُبْلِغَ عَنْ عَمِّهِ حَمَّادٍ قَوَارِصَ وَأُمُورًا أَنْكَرَهَا، فَأَغْضَى عَلَيْهَا، حَتَّى كَثُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ لِبَادِيسَ وَلَدٌ اسْمُهُ الْمَنْصُورُ أَرَادَ أَنْ يُقَدِّمَهُ وَيَجْعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَمِّهِ حَمَّادٍ يَقُولُ لَهُ بِأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضَ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَقْطَعَهُ إِلَى نَائِبِ ابْنِهِ الْمَنْصُورِ، وَهِيَ مَدِينَةُ تِيجَسَ، وَقَصْرُ الْإِفْرِيقِيِّ وَقُسَنْطِينَةُ، وَسَيَّرَ إِلَى تَسْلِيمِ ذَلِكَ هَاشِمَ بْنَ جَعْفَرٍ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ قُوَّادِهِمْ، وَسَيَّرَ مَعَهُ عَمَّهُ إِبْرَاهِيمَ لِيَمْنَعَ أَخَاهُ حَمَّادًا مِنْ أَمْرٍ إِنْ أَرَادَهُ. فَسَارَا إِلَى أَنْ قَارَبَا حَمَّادًا، فَفَارَقَ إِبْرَاهِيمُ هَاشِمًا، وَتَقَدَّمَ إِلَى أَخِيهِ حَمَّادٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ حَسَّنَ لَهُ الْخِلَافَ عَلَى بَادِيسَ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَخَلَعَا الطَّاعَةَ، وَأَظْهَرَا الْعِصْيَانَ، وَجَمَعَا الْجُمُوعَ الْكَثِيرَةَ، فَكَانُوا ثَلَاثِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ. فَبَلَغَ ذَلِكَ بَادِيسَ، فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَيْهِمَا، وَرَحَلَ حَمَّادٌ وَأَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ إِلَى هَاشِمِ بْنِ جَعْفَرٍ وَالْعَسْكَرُ الَّذِينَ مَعَهُ، وَهُوَ بِقَلْعَةِ شُقَنْبَارِيَّةَ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ انْهَزَمَ فِيهَا ابْنُ جَعْفَرٍ وَلَجَأَ إِلَى بَاجَةَ، وَغَنِمَ حَمَّادٌ مَالَهُ وَعُدَدَهُ، فَرَحَلَ بَادِيسُ إِلَى مَكَانٍ

يُسَمَّى قَبْرَ الشَّهِيدِ، فَأَتَاهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ عَسْكَرِ عَمِّهِ حَمَّادٍ، وَوَصَلَتْ كُتُبُ حَمَّادٍ وَإِبْرَاهِيمَ إِلَى بَادِيسَ أَنَّهُمَا مَا فَارَقَا الْجَمَاعَةَ، وَلَا خَرَجَا عَنِ الطَّاعَةِ، فَكَذَّبَهُمَا مَا ظَهَرَ مِنْ أَفْعَالِهِمَا مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَقَتْلِ الْأَطْفَالِ، وَإِحْرَاقِ الزُّرُوعِ وَالْمَسَاكِنِ، وَسَبْيِ النِّسَاءِ. وَوَصَلَ حَمَّادٌ إِلَى بَاجَةَ فَطَلَبَ أَهْلُهَا مِنْهُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ، وَاطْمَأَنُّوا إِلَى عَهْدِهِ، فَدَخَلَهَا يَقْتُلُ وَيَنْهَبُ وَيَحْرِقُ وَيَأْخُذُ الْأَمْوَالَ. وَتَقَدَّمَ بَادِيسُ إِلَيْهِ بِعَسَاكِرِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَصَلَ حَمَّادٌ إِلَى مَدِينَةِ أَشِيرَ، وَهِيَ لَهُ، فِيهَا نَائِبُهُ، وَاسْمُهُ خَلَفٌ الْحِمْيَرِيُّ، فَمَنَعَهُ خَلَفٌ مِنْ دُخُولِهَا، وَصَارَ فِي طَاعَةِ بَادِيسَ، فَسَقَطَ فِي يَدِ حَمَّادٍ، فَإِنَّهَا هِيَ كَانَتْ مُعَوَّلَهُ لِحَصَانَتِهَا وَقُوَّتِهَا. وَوَصَلَ بَادِيسُ إِلَى مَدِينَةِ الْمَسِيلَةِ، وَلَقِيَهُ أَهْلُهَا، وَفَرِحُوا بِهِ، وَسَيَّرَ جَيْشًا إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا حَمَّادٌ، فَخَرَّبُوهَا إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا مَالَ أَحَدٍ، وَهَرَبَ إِلَى بَادِيسَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ جُنْدِ الْقَلْعَةِ الَّتِي لَهُ، وَفِيهَا أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ، فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ أَبْنَاءَهُمْ، وَذَبَحَهُمْ عَلَى صُدُورِ أُمَّهَاتِهِمْ، فَقِيلَ إِنَّهُ ذَبَحَ بِيَدِهِ مِنْهُمْ سِتِّينَ طِفْلًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْأَطْفَالِ قَتَلَ الْأُمَّهَاتِ. وَتَقَارَبَ بَادِيسُ وَحَمَّادٌ، وَالْتَقَوْا مُسْتَهَلَّ جُمَادَى الْأُولَى، وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ وَأَعْظَمَهُ، وَوَطَّنَ أَصْحَابُ بَادِيسَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ أَوِ الْمَوْتِ لِمَا كَانَ حَمَّادٌ يَفْعَلُهُ لِمَنْ يَظْفَرُ بِهِ، وَاخْتَلَطَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ، ثُمَّ انْهَزَمَ حَمَّادٌ وَعَسْكَرُهُ لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ، وَغَنِمَ عَسْكَرُ بَادِيسَ أَثْقَالَهُ وَأَمْوَالَهُ، وَفِي جُمْلَةِ مَا غَنِمَ مِنْهُ عَشَرَةُ آلَافِ دَرَقَةٍ مُخْتَارَةٍ لَمْطٍ، وَلَوْلَا اشْتِغَالُ الْعَسْكَرِ بِالنَّهْبِ لَأُخِذَ حَمَّادٌ أَسِيرًا. وَسَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى قَلْعَتِهِ تَاسِعَ جُمَادَى الْأُولَى، وَجَاءَ إِلَى مَدِينَةِ دَكْمَةَ، فَتَجَنَّى عَلَى أَهْلِهَا، فَوَضَعَ السَّيْفَ فِيهِمْ، فَقَتَلَ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَقِيهٌ مِنْهَا وَقَالَ لَهُ: يَا حَمَّادُ إِذَا لَقِيتَ الْجُيُوشَ انْهَزَمْتَ، وَإِذَا قَاوَمَتْكَ الْجُمُوعُ فَرَرْتَ، وَإِنَّمَا قُدْرَتُكَ

وَسُلْطَانُكَ عَلَى أَسِيرٍ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْكَ؛ فَقَتَلَهُ وَحَمَلَ جَمِيعَ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ طَعَامٍ وَمِلْحٍ وَذَخِيرَةٍ إِلَى الْقَلْعَةِ الَّتِي لَهُ. وَسَارَ بَادِيسُ خَلْفَهُ، وَعَزَمَ عَلَى الْمُقَامِ بِنَاحِيَتِهِ، وَأَمَرَ بِالْبِنَاءِ، وَبَذَلَ الْأَمْوَالَ لِرِجَالِهِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى حَمَّادٍ، وَأَنْكَرَ رِجَالَهُ، وَضَعُفَتْ نَفْسُهُ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ. ثُمَّ مَاتَ وِرِّوُ بْنُ سَعِيدٍ الزِّنَاتِيُّ الْمُتَغَلِّبُ عَلَى نَاحِيَةِ طَرَابُلُسَ، وَاخْتَلَفَتْ كَلِمَةُ زِنَاتَةَ، فَمَالَتْ فِرْقَةٌ مَعَ أَخِيهِ خَزَرُونَ، وَفِرْقَةٌ مَعَ ابْنِ وِرِّوٍ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى حَمَّادٍ، وَكَانَ يَطْمَعُ أَنَّ زِنَاتَةَ تَغْلِبُ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ، فَيَضْطَرُّ بَادِيسُ إِلَى الْحَرَكَةِ إِلَيْهِمْ. ذِكْرُ وَفَاةِ بَادِيسَ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ الْمُعِزِّ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ، سَلْخُ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، أَمَرَ بَادِيسُ بِعَرْضِ الْعَسَاكِرِ، فَرَأَى مَا سَرَّهُ، وَرَكِبَ آخِرَ النَّهَارِ، وَنَزَلَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَفَارَقُوهُ إِلَى خِيَامِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ نِصْفُ اللَّيْلِ تُوُفِّيَ. وَخَرَجَ الْخَادِمُ فِي الْوَقْتِ إِلَى حَبِيبِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، وَبَادِيسَ بْنِ أَبِي حَمَامَةَ، وَأَيُّوبَ بْنِ يَطَّوَّفْتَ، وَهُمْ أَكْبَرُ قُوَّادِهِ، (فَأَعْلَمَهُمْ بِوَفَاتِهِ) . وَكَانَ بَيْنَ حَبِيبٍ وَبَادِيسَ بْنِ حَمَامَةَ عَدَاوَةٌ، فَخَرَجَ حَبِيبٌ مُسْرِعًا إِلَى بَادِيسَ وَخَرَجَ بَادِيسُ إِلَيْهِ أَيْضًا، فَالْتَقَيَا فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: قَدْ عَرَفْتَ الَّذِي بَيْنَنَا، وَالْأَوْلَى أَنَّ نَتَّفِقَ عَلَى إِصْلَاحِ هَذَا الْخَلَلِ، فَإِذَا انْقَضَى رَجَعْنَا إِلَى

الْمُنَافَسَةِ. فَاجْتَمَعَا مَعَ أَيُّوبَ وَقَالُوا: إِنَّ الْعَدُوَّ قَرِيبٌ مِنَّا، وَصَاحِبَنَا بَعِيدٌ عَنَّا، وَمَتَى لَمْ نُقَدِّمْ رَأْسًا نَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي أُمُورِنَا لَمْ نَأْمَنِ الْعَدُوَّ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ مَيْلَ صِنْهَاجَةَ إِلَى الْمُعِزِّ، وَغَيْرِهِمْ إِلَى كَرَامَتَ بْنِ الْمَنْصُورِ أَخِي بَادِيسَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى تَوْلِيَةِ كَرَامَتَ ظَاهِرًا، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى مَوْضِعِ الْأَمْنِ، وَلَّوُا الْمُعِزَّ بْنَ بَادِيسَ، وَيَنْقَطِعُ الشَّرُّ. فَأَحْضَرُوا كَرَامَتَ وَبَايَعُوهُ، وَوَلَّوْهُ فِي الْحَالِ، وَأَصْبَحُوا وَلَيْسَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعَسْكَرِ خَبْرٌ مِنْ ذَلِكَ، وَعَزَمُوا أَنْ يَقُولُوا لِلنَّاسِ بُكْرَةً إِنَّ بَادِيسَ قَدْ شَرِبَ دَوَاءً، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَغْلَقَ أَهْلُ مَدِينَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَبْوَابَهَا، وَكَأَنَّمَا نُودِيَ فِيهِمْ بِمَوْتِ بَادِيسَ، فَشَاعَ الْخَبَرُ، وَخَافَ النَّاسُ خَوْفًا عَظِيمًا، وَاضْطَرَبُوا لِمَوْتِهِ وَأَظْهَرُوا وِلَايَةَ كَرَامَتَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبِيدُ بَادِيسَ وَمَنْ مَعَهُمْ أَنْكَرُوهُ، فَخَلَا حَبِيبٌ بِأَكَابِرِهِمْ، وَعَرَّفَهُمُ الْحَالَ فَسَكَنُوا. وَمَضَى كَرَامَتُ إِلَى مَدِينَةِ أَشِيرَ لِيَجْمَعَ صِنْهَاجَةَ، وَتَلْكَاتَةَ، وَغَيْرَهُمْ، وَأَعْطَوْهُمْ مِنَ الْخَزَائِنِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ. وَأَمَّا الْمُعِزُّ فَإِنَّهُ كَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا تَقْرِيبًا، لِأَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ الْخَبَرُ بِمَوْتِ أَبِيهِ أَجْلَسَهُ مَنْ عِنْدَهُ لِلْعَزَاءِ، ثُمَّ رَكِبَ فِي الْمَوْكِبِ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ فَكَانَ يَرْكَبُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيُطْعِمُ النَّاسَ كُلَّ يَوْمٍ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَأَمَّا الْعَسَاكِرُ فَإِنَّهُمْ رَحَلُوا مِنْ مَدِينَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ إِلَى الْمُعِزِّ، وَجَعَلُوا بَادِيسَ فِي تَابُوتٍ بَيْنَ يَدَيِ الْعَسْكَرِ، وَالطُّبُولَ وَالْبُنُودَ عَلَى رَأْسِهِ، وَالْعَسَاكِرُ تَتْبَعُهُ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً، وَكَانَ وُصُولُهُمْ إِلَى الْمَنْصُورِيَّةِ رَابِعَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَوَصَلُوا إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، وَالْمُعِزُّ بِهَا ثَامِنَ الْمُحَرَّمِ، فَرَكِبَ الْمُعِزُّ وَوَقَفَ حَبِيبٌ يُعْلِمُهُ بِهِمْ، وَيَذْكُرُ لَهُ أَسْمَاءَهُمْ، وَيُعَرِّفُهُ بِقُوَّادِهِمْ وَأَكَابِرِهِمْ، فَرَحَلَ الْمُعِزُّ مِنَ الْمَهْدِيَّةِ فَوَصَلَ إِلَى الْمَنْصُورِيَّةِ مُنْتَصَفَ الْمُحَرَّمِ.

وَهَذَا الْمُعِزُّ أَوَّلُ مَنْ حَمَلَ النَّاسَ بِإِفْرِيقِيَّةَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَكَانَ الْأَغْلَبَ عَلَيْهِمْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا كَرَامَتُ فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى مَدِينَةَ أَشِيرَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ قَبَائِلُ صِنْهَاجَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَأَتَاهُ حَمَّادٌ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ كَرَامَتُ [فِي] سَبْعَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَرَجَعَ بَعْضُ أَصْحَابِ كَرَامَتَ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ فَانْتَهَبُوهُ وَهَرَبُوا، فَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، وَوَصَلَ إِلَى مَدِينَةِ أَشِيرَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ قَاضِيهَا وَأَعْيَانُ أَهْلِهَا بِالْمُقَامِ وَمَنْعِ حَمَّادٍ عَنْهَا، فَفَعَلَ، وَنَازَلَهُمْ حَمَّادٌ، وَطَلَبَ كَرَامَتَ لِيَجْتَمِعَ بِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَأَعْطَاهُ مَالًا، وَأَذِنَ لَهُ فِي الْمَسِيرِ إِلَى الْمُعِزِّ، وَقَتَلَ حَمَّادٌ مِنْ أَهْلِ أَشِيرَ كَثِيرًا حَيْثُ أَشَارُوا عَلَى كَرَامَتَ بِحِفْظِ الْبَلَدِ وَمَنْعِ حَمَّادٍ مِنْهُ، وَوَصَلَ كَرَامَتُ إِلَى الْمُعِزِّ فِي الْمُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةَ، فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ. وَفِي آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ سَيَّرَ الْحَاكِمُ الْخِلَعَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الْمُعِزِّ، وَلَقَّبَهُ شَرَفَ الدَّوْلَةِ، (وَلَمْ يَذْكُرْ مَا كَانَ مِنْهُ إِلَى الشِّيعَةِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ) ، وَسَارَ الْمُعِزُّ إِلَى حَمَّادٍ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ بِالْعَسَاكِرِ لِمَنْعِهِ عَنِ الْبِلَادِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحَاصِرُ بَاغَايَةَ وَغَيْرَهَا، فَلَمَّا قَارَبَهُ رَحَلَ عَنْ بَاغَايَةَ، وَالْتَقَوْا آخِرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَاقْتَتَلُوا، فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَةٌ حَتَّى انْهَزَمَ حَمَّادٌ وَأَصْحَابُهُ، وَوَضَعَ أَصْحَابُ الْمُعِزِّ فِيهِمُ السَّيْفَ، وَغَنِمُوا مَا لَهُمْ مِنْ عِدَدٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَنَادَى الْمُعِزُّ: مَنْ أَتَى بِرَأْسٍ فَلَهُ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، فَأُتِيَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، وَأُسِرَ إِبْرَاهِيمُ أَخُو حَمَّادٍ، وَنَجَا حَمَّادٌ وَقَدْ أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَرَجَعَ الْمُعِزُّ، وَوَرَدَ رَسُولٌ مِنْ حَمَّادٍ إِلَيْهِ يَعْتَذِرُ، وَيُقِرُّ بِالْخَطَإِ، وَيَسْأَلُ الْعَفْوَ، فَأَجَابَهُ الْمُعِزُّ: إِنْ كُنْتَ عَلَى مَا قُلْتَهُ فَأَرْسِلْ وَلَدَكَ الْقَائِدَ إِلَيْنَا. وَاسْتَعْمَلَ الْمُعِزُّ عَلَى جَمِيعِ الْعَرَبِ الْمُجَاوِرَةِ لِإِبْرَاهِيمَ عَمِّهِ كَرَامَتَ، فَعَادَ جَوَابُ حَمَّادٍ أَنَّهُ إِذَا وَصَلَهُ كِتَابُ أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ بِالْعَلَامَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ لَهُعَهْدَ

الْمُعِزِّ، بَعَثَ وَلَدَهُ الْقَائِدَ، أَوْ حَضَرَ هُوَ بِنَفْسِهِ. فَحَضَرَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْعُهُودَ عَلَى الْمُعِزِّ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ وَيَشْكُرُ الْمُعِزَّ عَلَى إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، وَوَصَلَ الْمُعِزُّ إِلَى قَصْرِهِ آخِرَ جُمَادَى الْأُولَى، وَلَمَّا وَصَلَ أَطْلَقَ عَمَّهُ إِبْرَاهِيمَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ الْأَمْوَالَ وَالدَّوَابَّ وَجَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ حَمَّادٌ ذَلِكَ أَرْسَلَ وَلَدَهُ الْقَائِدَ إِلَى الْمُعِزِّ، وَكَانَ وُصُولُهُ لِلنِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَأَكْرَمَهُ وَأَعْطَاهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَقْطَعَهُ الْمَسِيلَةَ وَطُبْنَةَ وَغَيْرَهُمَا، وَعَادَ إِلَى أَبِيهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَرَضِيَ الصُّلْحَ، وَحَلَفَ عَلَيْهِ، وَاسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ بَيْنَهُمَا، وَتَصَاهَرَا، وَزَوَّجَ الْمُعِزُّ أُخْتَهُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمَّادٍ، فَازْدَادُوا اتِّفَاقًا وَأَمْنًا. وَكَانَ بِإِفْرِيقِيَّةَ وَالْغَرْبِ غَلَاءٌ بِسَبَبِ الْجَرَادِ، وَاخْتِلَافِ الْمُلُوكِ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ وَالِاتِّفَاقُ سَيَّرَ الْمُعِزُّ الْجُيُوشَ إِلَى الْقَبَائِلِ مِنَ الْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ الْحُرُوبَ بَيْنَهُمْ كَانَتْ بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ كَثِيرَةً، وَالدِّمَاءُ مَسْفُوكَةً، فَلَمَّا رَأَوْا عَسَاكِرَ السُّلْطَانِ رَجَعُوا إِلَى السُّكُونِ وَتَرْكِ الْحَرْبِ، وَمَنْ أَبَى قُوتِلَ، فَقُتِلَ الْمُفْسِدُونَ، وَأُصْلِحَ مَا بَيْنَ الْقَبَائِلِ. وَوَصَلَ (مِنْ جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ) زَاوِي بْنُ زِيرِي بْنِ مُنَادٍ، عَمُّ أَبِي الْمُعِزِّ، وَأَهْلُهُ وَوَلَدُهُ وَحَشَمُهُ، وَكَانَ قَدْ أَقَامَ بِالْأَنْدَلُسِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ دُخُولِهِ الْأَنْدَلُسَ، وَمَلَكَ بِالْأَنْدَلُسِ غَرْنَاطَةَ وَقَاسَى حُرُوبًا كَثِيرَةً، وَوَصَلَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْعُدَدِ وَالْجَوَاهِرِ شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا يُحَدُّ، فَأَكْرَمَهُمُ الْمُعِزُّ، وَحَمَلَ لَهُمْ شَيْئًا عَظِيمًا، وَإِقَامَاتٍ زَائِدَةً، وَأَقَامُوا عِنْدَهُ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ وَفَاةُ بَادِيسَ وَمَا بَعْدَهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَإِنَّمَا أَتْبَعْنَا بَعْضَ أَخْبَارِهِمْ بَعْضًا.

ذِكْرُ غَزْوَةِ مَحْمُودٍ إِلَى الْهِنْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ الْهِنْدَ عَلَى عَادَتِهِ، فَضَلَّ أَدِلَّاؤُهُ الطَّرِيقَ، وَوَقَعَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ فِي مِيَاهٍ فَاضَتْ مِنَ الْبَحْرِ، فَغَرِقَ كَثِيرٌ مِمَّنْ مَعَهُ، وَخَاضَ الْمَاءَ بِنَفْسِهِ أَيَّامًا حَتَّى تَخَلَّصَ، وَعَادَ إِلَى خُرَاسَانَ. ذِكْرُ قَتْلِ فَخْرِ الْمُلْكِ وَوَزَارَةِ ابْنِ سَهْلَانَ وَفِيهَا قَبَضَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ (عَلَى نَائِبِهِ بِالْعِرَاقِ) وَوَزِيرِهِ فَخْرِ الْمُلْكِ أَبِي غَالِبٍ، وَقُتِلَ سَلْخَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ عُمْرُهُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ نَظَرُهُ بِالْعِرَاقِ خَمْسَ سِنِينَ وَأَرْبَعَةَ شُهُورٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ كَافِيًا حَسَنَ الْوِلَايَةِ وَالْآثَارِ، وَوُجِدَ لَهُ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ عَيْنًا سِوَى مَا نُهِبَ، وَسِوَى الْأَعْرَاضِ، وَكَانَ قَبْضُهُ بِالْأَهْوَازِ، وَلَمَّا مَاتَ نُقِلَ إِلَى مَشْهَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدُفِنَ هُنَاكَ. قِيلَ: كَانَ ابْنُ عَلْمَكَارَ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ قُوَّادِهِمْ، وَقَدْ قَتَلَ إِنْسَانًا بِبَغْدَاذَ، فَكَانَتْ زَوْجَتُهُ تَكْتُبُ إِلَى فَخْرِ الْمُلْكِ أَبِي غَالِبٍ تَتَظَلَّمُ مِنْهُ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَلَقِيَتْهُ يَوْمًا وَقَالَتْ لَهُ: تِلْكَ الرِّقَاعُ الَّتِي كُنْتُ أَكْتُبُهَا إِلَيْكَ صِرْتُ أَكْتُبُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَلَمْ يَمْضِ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ قَلِيلٍ حَتَّى قُبِضَ هُوَ وَابْنُ عَلْمَكَارَ، فَقَالَ لَهُ فَخْرُ الْمُلْكِ: قَدْ بَرَزَ جَوَابُ رِقَاعِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ. وَلَمَّا قُبِضَ فَخْرُ الْمُلْكِ اسْتَوْزَرَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ سَهْلَانَ فَلُقِّبَ عَمِيدَ أَصْحَابِ الْجُيُوشِ وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِرَامَهُرْمُزَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.

ذِكْرُ قَتْلِ طَاهِرِ بْنِ هِلَالِ بْنِ بَدْرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَطْلَقَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ بْنُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ طَاهِرَ بْنَ هِلَالِ بْنِ بَدْرٍ، وَاسْتَحْلَفَهُ عَلَى الطَّاعَةِ لَهُ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ طَوَائِفُ فَقَوِيَ بِهِمْ. وَحَارَبَ أَبَا الشَّوْكِ فَهَزَمَهُ، وَقُتِلَ سَعْدِيٌّ أَخُو أَبِي الشَّوْكِ ثُمَّ انْهَزَمَ أَبُو الشَّوْكِ مِنْهُ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَمَضَى مُنْهَزِمًا إِلَى حُلْوَانَ، وَبَذَلَ لَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ الْمُعَاوَنَةَ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مُعَاوَدَةُ الْحَرْبِ. وَأَقَامَ طَاهِرٌ بِالنَّهْرَوَانِ، وَصَالَحَ أَبَا الشَّوْكِ، وَتَزَوَّجَ أُخْتَهُ، فَلَمَّا أَمَّنَهُ طَاهِرٌ وَثَبَ عَلَيْهِ أَبُو الشَّوْكِ فَقَتَلَهُ بِثَأْرِ أَخِيهِ سَعْدِيٍّ، وَحَمَلَهُ وَأَصْحَابُهُ فَدَفَنُوهُ بِمَشْهَدِ بَابِ التِّبْنِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِيهَا تُوُفِّيَ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ (مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو الْحَسَنِ) ، صَاحِبُ الدِّيوَانِ الْمَشْهُورِ، وَشَهِدَ جِنَازَتَهُ النَّاسُ كَافَّةً، وَلَمْ يَشْهَدْهَا أَخُوهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جِنَازَتِهِ، فَأَقَامَ بِالْمَشْهَدِ إِلَى أَنْ أَعَادَهُ الْوَزِيرُ فَخْرُ الْمُلْكِ إِلَى دَارِهِ، وَرَثَاهُ كَثِيرٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ مِنْهُمْ أَخُوهُ الْمُرْتَضَى، فَقَالَ: يَا لِلرِّجَالِ لِفَجْعَةٍ جَذَمَتْ يَدِي ، وَوَدِدْتُهَا ذَهَبَتْ عَلَيَّ بِرَاسِي ... مَا زِلْتُ آبَى وِرْدَهَا، حَتَّى أَتَتْ فَحَسَوْتُهَا فِي بَعْضِ مَا أَنَا حَاسِي ... وَمَطَلْتُهَا زَمَنًا، فَلَمَّا صَمَّمَتْ لَمْ يَثْنِهَا مَطْلِي، وَطُولُ مِكَاسِي ... لَا تُنْكِرُوا مِنْ فَيْضِ دَمْعِي عَبْرَةً فَالدَّمْعُ خَيْرُ مُسَاعِدٍ وَمُؤَاسِ ... وَاهًا لِعُمْرِكَ مِنْ قَصِيرٍ طَاهِرٍ وَلَرُبَّ عُمْرٍ طَالَ بِالْأَرْجَاسِ وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ أَحْمَدُ بْنُ بَكْرٍ الْعَبْدِيُّ النَّحْوِيُّ، مُصَنِّفُ " شَرْحِ

الْإِيضَاحِ "، وَأَبُو أَحْمَدَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ الْفَرَضِيُّ، وَالْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ (أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ) الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِمَامُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ يَحْضُرُ دِرَاسَتَهُ أَرْبَعُمِائَةِ مُتَفَقِّهٍ، وَكَانَ يُدَرِّسُ بِمَسْجِدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ بِقَطِيعَةِ الْفُقَهَاءِ، وَكَانَ عُمْرُهُ إِحْدَى وَسِتِّينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو جَعْفَرٍ أُسْتَاذُ هُرْمُزَ بْنِ الْحَسَنِ وَالِدِ عَمِيدِ الْجُيُوشِ، بِشِيرَازَ، وَكَانَ عُمْرُهُ مِائَةً وَخَمْسَ سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ شِهَابُ الدَّوْلَةِ أَبُو دِرْعٍ رَافِعُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَقْنٍ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، مِنْهُ: وَمَا زِلْتُ أَبْكِي فِي الدِّيَارِ تَأَسُّفًا ... لِبَيْنِ خَلِيلٍ، أَوْ فِرَاقِ حَبِيبِ فَلَمَّا عَرَفْتُ الرَّبَعَ لَا شَكَّ أَنَّهُ ... هُوَ الرَّبَعُ فَاضَتْ مُقْلَتِي بِغُرُوبِ وَجَرَّبْتُ دَهْرِي نَاسِيًا، فَوَجَدْتُهُ ... أَخَا غِيَرٍ لَا تَنْقَضِي وَخُطُوبِ وَعَاشَرْتُ أَبْنَاءَ الزَّمَانِ، فَلَمْ أَجِدْ ... مِنَ النَّاسِ خِدْنًا حَافِظًا لِمَغِيبِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ حَافِظٌ لِذِمَامِهِ ... وَلَا نَاصِرٌ يَرْعَى جِوَارَ قَرِيبِ وَفِيهَا تُوُفِّيَ خَاشَاذَهُ أَبُو نَصْرٍ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ غَرْشِسَحْتَانَ مِنْ خُرَاسَانَ، فِي قَبْضِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ ذَلِكَ. [عِدَّةُ حَوَادِثَ] وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، قُلِّدَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى أَبُو الْقَاسِمِ أَخُو الرَّضِيِّ نِقَابَةَ الْعَلَوِيِّينَ، وَالْحَجِّ، وَالْمَظَالِمِ، بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ الرَّضِيِّ.

(وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَبَيْنَ أَهْلِ بَابِ الشَّعِيرِ، وَنَهَبُوا الْقَلَّائِينَ، فَأَنْكَرَ فَخْرُ الْمُلْكِ عَلَى أَهْلِ الْكَرْخِ، وَمُنِعُوا مِنَ النَّوْحِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَمِنْ تَعْلِيقِ الْمُسُوحِ. وَفِيهَا وَقَعَ بِالْبَصْرَةِ وَمَا جَاوَرَهَا وَبَاءٌ شَدِيدٌ عَجَزَ [مَعَهُ] الْحَفَّارُونَ عَنْ حَفْرِ الْقُبُورِ. وَفِيهَا، فِي حُزَيْرَانَ، جَاءَ مَطَرٌ شَدِيدٌ فِي بِلَادِ الْعِرَاقِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْبِلَادِ) .

ثم دخلت سنة سبع وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَة] 407 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ خُوَارَزْمَشَاهِ وَمُلْكِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ خُوَارَزْمَ وَتَسْلِيمِهَا إِلَى التُّونْتَاشِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ خُوَارَزْمَشَاهِ أَبُو الْعَبَّاسِ مَأْمُونُ بْنُ مَأْمُونٍ (وَمَلَكَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ خُوَارَزْمَ) . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ كَانَ قَدْ مَلَكَ خُوَارَزْمَ وَالْجُرْجَانِيَّةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَخَطَبَ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ، فَزَوَّجَهُ أُخْتَهُ، ثُمَّ إِنَّ يَمِينَ الدَّوْلَةِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَطْلُبُ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ بِلَادِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَحْضَرَ أُمَرَاءَ دَوْلَتِهِ وَاسْتَشَارَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَأَظْهَرُوا الِامْتِنَاعَ، وَنَهَوْهُ عَنْهُ، وَتَهَدَّدُوهُ بِالْقَتْلِ إِنْ فَعَلَهُ، فَعَادَ الرَّسُولُ وَحَكَى لِيَمِينِ الدَّوْلَةِ مَا شَاهَدَهُ. ثُمَّ إِنَّ الْأُمَرَاءَ خَافُوهُ حَيْثُ رَدُّوا أَمْرَهُ، فَقَتَلُوهُ غِيلَةً، وَلَمْ يُعْلَمْ قَاتِلُهُ، وَأَجْلَسُوا مَكَانَهُ أَحَدَ أَوْلَادِهِ، وَعَلِمُوا أَنَّ يَمِينَ الدَّوْلَةِ يَسُوءُهُ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا طَالَبَهُمْ بِثَأْرِهِ، فَتَعَاهَدُوا عَلَى مُقَاتَلَتِهِ وَمُقَارَعَتِهِ. وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِيَمِينِ الدَّوْلَةِ فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ نَحْوَهُمْ، فَلَمَّا قَارَبَهُمْ جَمَعَهُمْ صَاحِبُ جَيْشِهِمْ، وَيُعْرَفُ بِالْبَتْكِينِ الْبُخَارِيِّ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى لِقَاءِ مُقَدِّمَةِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ وَالْإِيقَاعِ بِمَنْ فِيهَا مِنَ الْأَجْنَادِ، فَسَارُوا مَعَهُ وَقَاتَلُوا مُقَدِّمَةِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ.

وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِيَمِينِ الدَّوْلَةِ، فَتَقَدَّمَ نَحْوَهُمْ فِي سَائِرِ جُيُوشِهِ، فَلَحِقَهُمْ وَهُمْ فِي الْحَرْبِ، فَثَبَتَ الْخُوَارَزْمِيَّةُ إِلَى أَنِ انْتَصَفَ النَّهَارُ، وَأَحْسَنُوا الْقِتَالَ، ثُمَّ إِنَّهُمُ انْهَزَمُوا، وَرَكِبَهُمْ أَصْحَابُ يَمِينِ الدَّوْلَةِ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَلَمْ يَسْلَمْ إِلَّا الْقَلِيلُ. ثُمَّ إِنَّ الْبَتْكِينَ رَكِبَ سَفِينَةً لِيَنْجُوَ فِيهَا، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ مَعَهُ مُنَافَرَةٌ، فَقَامُوا عَلَيْهِ وَأَوْثَقُوهُ، وَرَدُّوا السَّفِينَةَ إِلَى نَاحِيَةِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ وَسَلَّمُوهُ إِلَيْهِ، فَأَخَذَهُ وَسَائِرَ الْقُوَّادِ الْمَأْسُورِينَ مَعَهُ، وَصَلَبَهُمْ عِنْدَ قَبْرِ أَبِي الْعَبَّاسِ خُوَارَزْمَشَاهَ، وَأَخَذَ الْبَاقِينَ مِنَ الْأَسْرَى، فَسَيَّرَهُمْ إِلَى غَزْنَةَ، فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِهَا أَفْرَجَ عَنْهُمْ، وَأَجْرَى لَهُمُ الْأَرْزَاقَ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى أَطْرَافِ بِلَادِهِ مِنْ أَرْضِ الْهِنْدِ يَحْمُونَهَا مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَيَحْفَظُونَهَا مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ، وَأَخَذَ خُوَارَزْمَ وَاسْتَنَابَ بِهَا حَاجِبَهُ التُّونْتَاشَ. ذِكْرُ غَزْوَةِ قِشْمِيرَ وَقَنُّوجَ وَغَيْرِهِمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا يَمِينُ الدَّوْلَةِ بِلَادَ الْهِنْدِ، بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ خُوَارَزْمَ، فَسَارَ مِنْهَا إِلَى غَزْنَةَ (وَمِنْهَا إِلَى الْهِنْدِ) عَازِمًا عَلَى غَزْوِ قِشْمِيرَ، إِذْ كَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِ الْهِنْدِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِشْمِيرَ، وَأَتَاهُ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ نَحْوُ عِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ مِنْ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَغَيْرِهِ مِنِ الْبِلَادِ، وَسَارَ إِلَيْهَا مِنْ غَزْنَةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ سَيْرًا دَائِمًا، وَعَبَرَ نَهْرَ سَيْحُونَ، وَجِيلُومَ، وَهُمَا نَهْرَانِ عَمِيقَانِ شَدِيدَا الْجَرْيَةِ، فَوَطِئَ أَرْضَ الْهِنْدِ، وَأَتَاهُ رُسُلُ مُلُوكِهَا بِالطَّاعَةِ وَبَذْلِ الْإِتَاوَةِ. فَلَمَّا بَلَغَ دَرْبَ قِشْمِيرَ أَتَاهُ صَاحِبُهَا وَأَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ، وَسَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى مَقْصِدِهِ، فَبَلَغَ مَاجُونَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَفَتَحَ مَا حَوْلَهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ الْفَسِيحَةِ (وَالْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ) ، حَتَّى بَلَغَ حِصْنَ هُودَبَ، وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِ الْهِنْدِ، فَنَظَرَ هُودَبُ

مِنْ أَعْلَى حِصْنِهِ، فَرَأَى مِنَ الْعَسَاكِرِ مَا هَالَهُ وَرَعَبَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُنْجِيهِ إِلَّا الْإِسْلَامُ، فَخَرَجَ فِي نَحْوِ عَشَرَةِ آلَافٍ يُنَادُونَ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، طَلَبًا لِلْخَلَاصِ فَقَبِلَهُ يَمِينُ الدَّوْلَةِ، وَسَارَ عَنْهُ إِلَى قَلْعَةِ كُلْجُنَدَ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الْهِنْدِ وَشَيَاطِينِهِمْ، وَكَانَ عَلَى طَرِيقِهِ غِيَاضٌ مُلْتَفَّةٌ لَا يَقْدِرُ السَّالِكُ عَلَى قَطْعِهَا إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، فَسَيَّرَ كُلْجُنْدُ عَسَاكِرَهُ وَفُيُولَهُ إِلَى أَطْرَافِ تِلْكَ الْغِيَاضِ يَمْنَعُونَ مِنْ سُلُوكِهَا، فَتَرَكَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِمْ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ، وَسَلَكَ طَرِيقًا مُخْتَصَرَةً إِلَى الْحِصْنِ، فَلَمْ يَشْعُرُوا بِهِ إِلَّا وَهُوَ مَعَهُمْ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَلَمْ يُطِيقُوا الصَّبْرَ عَلَى حَدِّ السُّيُوفِ، فَانْهَزَمُوا، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَلَقُوا نَهْرًا عَمِيقًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَاقْتَحَمُوهُ، فَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ وَكَانَ الْقَتْلَى وَالْغَرْقَى قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَعَمَدَ كُلْجُنْدُ إِلَى زَوْجَتِهِ فَقَتَلَهَا ثُمَّ قَتَلَ نَفْسَهُ بَعْدَهَا، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ أَمْوَالَهُ وَمَلَكُوا حُصُونَهُ. ثُمَّ سَارَ نَحْوَ بَيْتٍ مُتَعَبَّدٍ لَهُمْ، وَهُوَ مَهَرَةُ الْهِنْدِ، وَهُوَ مِنْ أَحْصَنِ الْأَبْنِيَةِ عَلَى نَهْرٍ، وَلَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ كَثِيرٌ، مِنْهَا خَمْسَةُ أَصْنَامٍ مِنَ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ الْمُرَصَّعِ بِالْجَوَاهِرِ، وَكَانَ فِيهَا مِنَ الذَّهَبِ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَتِسْعُونَ أَلْفًا وَثَلَاثُمِائَةِ مِثْقَالٍ، وَكَانَ بِهَا مِنَ الْأَصْنَامِ الْمَصُوغَةِ مِنَ النُّقْرَةِ نَحْوُ مِائَتَيْ صَنَمٍ، فَأَخَذَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ جَمِيعَهُ، وَأَحْرَقَ الْبَاقِيَ، وَسَارَ نَحْوَ قَنُّوجَ، (وَصَاحِبُهَا رَاجِيَالُ) ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي شَعْبَانَ، فَرَأَى صَاحِبَهَا قَدْ فَارَقَهَا: وَعَبَرَ الْمَاءَ الْمُسَمَّى كَنْكُ، وَهُوَ مَاءٌ شَرِيفٌ عِنْدَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ مَنْ غَرَّقَ نَفْسَهُ فِيهِ طُهِّرَ مِنَ الْآثَامِ، فَأَخَذَهَا يَمِينُ الدَّوْلَةِ، وَأَخَذَ قِلَاعَهَا وَأَعْمَالَهَا، وَهِيَ سَبْعٌ عَلَى الْمَاءِ الْمَذْكُورِ، وَفِيهَا قَرِيبٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ بَيْتِ صَنَمٍ، يَذْكُرُونَ أَنَّهَا عُمِلَتْ مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ سَنَةٍ إِلَى ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ كَذِبًا مِنْهُمْ وَزُورًا، وَلَمَّا فَتَحَهَا أَبَاحَهَا عَسْكَرُهُ. ثُمَّ سَارَ إِلَى قَلْعَةِ الْبَرَاهِمَةِ، فَقَاتَلُوهُ وَثَبَتُوا، فَلَمَّا عَضَّهُمُ السِّلَاحُ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ، فَاسْتَسْلَمُوا لِلسَّيْفِ فَقُتِلُوا، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ.

ثُمَّ سَارَ نَحْوَ قَلْعَةِ آسِي، وَصَاحَبِهَا جُنْدُ بَالَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا هَرَبَ جُنْدُ بَالَ، وَأَخَذَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ حِصْنَهُ وَمَا فِيهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى قَلْعَةِ شَرْوَةَ، وَصَاحِبُهَا جُنْدُرَآيِ، فَلَمَّا قَارَبَهُ نَقَلَ مَالَهُ وَفُيُولَهُ نَحْوَ جِبَالٍ هُنَاكَ مَنِيعَةٍ يَحْتَمِي بِهَا، وَعَمِيَ خَبَرُهُ فَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ هُوَ، فَنَازَلَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ حِصْنَهُ فَافْتَتَحَهُ وَغَنِمَ مَا فِيهِ، وَسَارَ فِي طَلَبِ جُنْدُرَآيِ جَرِيدَةً، (وَقَدْ بَلَغَهُ خَبَرُهُ) ، فَلَحِقَ بِهِ فِي آخِرِ شَعْبَانَ فَقَاتَلَهُ، فَقَتَلَ أَكْثَرَ جُنْدِ جَنْدُرَآيِ، وَأَسَرَ أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وَغَنِمَ مَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ وَفِيَلٍ، وَهَرَبَ جَنْدُرَآيُ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَنَجَا. وَكَانَ السَّبْيُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَثِيرًا حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يُبَاعُ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى غَزْنَةَ ظَافِرًا، وَلَمَّا عَادَ مِنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَمَرَ بِبِنَاءِ جَامِعِ غَزْنَةَ، فَبُنِيَ بِنَاءً لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَوَسَّعَ فِيهِ، وَكَانَ جَامِعُهَا الْقَدِيمُ صَغِيرًا، وَأَنْفَقَ مَا غَنِمَهُ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ فِي بِنَائِهِ. ذِكْرُ حَالِ ابْنِ فُولَاذٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَظُمَتْ شَوْكَةُ ابْنِ فُولَاذٍ وَكَبُرَ شَأْنُهُ. وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ وَضِيعًا، فَنَجَمَ فِي دَوْلَةِ بَنِي بُوَيْهِ، وَعَلَا صِيتُهُ، وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الرِّجَالُ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ طَلَبَ مِنْ مَجْدِ الدَّوْلَةِ وَوَالِدَتِهِ أَنْ يُقْطِعَاهُ قَزْوِينَ لِتَكُونَ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ (مِنَ الرِّجَالِ) ، فَلَمْ يَفْعَلَا، وَاعْتَذَرَا إِلَيْهِ، فَقَصَدَ أَطْرَافَ وِلَايَةِ الرَّيِّ، وَأَظْهَرَ الْعِصْيَانَ، وَجَعَلَ يُفْسِدُ وَيُغِيرُ، وَيَقْطَعُ السُّبُلَ، وَمَلَكَ مَا يَلِيهِ مِنَ الْقُرَى، فَعَجَزَا عَنْهُ، فَاسْتَعَانَا بِإِصْبَهْبَذَ الْمُقِيمِ بِفِرِيمَ، فَأَتَاهُمَا فِي رِجَالِ الْجِيلِ،

وَجَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ابْنِ فُولَاذٍ (عِدَّةُ حُرُوبِ، وَجُرِحَ ابْنُ فُولَاذٍ، وَوَلَّى) مُنْهَزِمًا حَتَّى بَلَغَ الدَّامَغَانَ، فَأَقَامَ حَتَّى عَادَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهِ وَرَجَعَ إِصْبَهْبَذُ إِلَى بِلَادِهِ. وَكَتَبَ ابْنُ فُولَاذٍ إِلَى مُنُوجَهْرَ بْنِ قَابُوسَ يَطْلُبُ أَنْ يُنْفِذَ لَهُ عَسْكَرًا لِيَمْلِكَ الْبِلَادَ، وَيُقِيمَ لَهُ الْخُطْبَةَ فِيهَا، وَيَحْمِلَ إِلَيْهِ الْمَالَ، فَأَنْفَذَ لَهُ أَلْفَيْ رَجُلٍ، فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِظَاهِرِ الرَّيِّ، وَأَعَادَ الْإِغَارَةَ، وَمَنَعَ الْمِيرَةَ عَنْهَا، فَضَاقَتِ الْأَقْوَاتُ بِهَا، فَاضْطَرَّ مَجْدُ الدَّوْلَةِ وَوَالِدَتُهُ إِلَى مُدَارَاتِهِ وَإِعْطَائِهِ مَا يَلْتَمِسُهُ، فَاسْتَقَرَّ بَيْنَهُمْ أَنْ يُسَلِّمَا إِلَيْهِ مَدِينَةَ أَصْبَهَانَ، فَسَارَ إِلَيْهَا، وَأَعَادَ عَسْكَرَ مُنُوجَهْرَ إِلَيْهِ، وَزَالَ الْفَسَادُ، وَعَادَ إِلَى طَاعَةِ مَجْدِ الدَّوْلَةِ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَلَوِيَّةِ بِالْأَنْدَلُسِ وَقَتْلِ سُلَيْمَانَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلِيَ الْأَنْدَلُسَ عَلِيُّ بْنُ حَمُّودِ بْنِ أَبِي الْعَيْشِ بْنِ مَيْمُونِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ إِدْرِيسَ بْنِ إِدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ فِي نَسَبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ (مَعَ اتِّفَاقٍ عَلَى صِحَّةِ نَسَبِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ) . وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَتَى خَيْرَانَ الْعَامِرِيَّ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِوِلَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَاكِمِ الْأُمَوِيِّ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُؤَيَّدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، فَلَمَّا مَلَكَ سُلَيْمَانُ قُرْطُبَةَ انْهَزَمَ خَيْرَانُ فِي جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْفِتْيَانِ الْعَامِرِيِّينَ، فَتَبِعَهُمُ الْبَرْبَرُ وَوَاقَعَهُمْ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَجُرِحَ خَيْرَانُ عِدَّةَ جِرَاحَاتٍ وَتُرِكَ عَلَى أَنَّهُ مَيِّتٌ، فَلَمَّا فَارَقُوهُ قَامَ يَمْشِي، فَأَخَذَهُ رَجُلٌ مِنَ الْبَرْبَرِ إِلَى دَارِهِ بِقُرْطُبَةَ وَعَالَجَهُ فَبَرِأَ وَأَعْطَاهُ مَالًا، وَخَرَجَ مِنْهَا سِرًّا إِلَى شَرْقِ الْأَنْدَلُسِ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ، وَقَاتَلَ مَنْ هُنَاكَ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَمَلَكَ الْمَرِيَّةَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْأَجْنَادُ، وَأَزَالَ الْبَرْبَرَ عَنِ الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُ، فَغَلُظَ أَمْرُهُ وَعَظُمَ شَأْنُهُ.

وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ حَمُّودٍ بِمَدِينَةِ سَبْتَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْدَلُسِ عُدْوَةُ الْمَجَازِ مَالِكًا لَهَا، وَكَانَ أَخُوهُ الْقَاسِمُ بْنُ حَمُّودٍ بِالْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهَا، وَبَيْنَهُمَا الْمَجَازُ، وَسَبَبُ مُلْكِهِمَا أَنَّهُمَا كَانَا مِنْ جُمْلَةِ أَصْحَابِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَاكِمِ، فَقَوَّدَهُمَا عَلَى الْمَغَارِبَةِ، ثُمَّ وَلَّاهُمَا هَذِهِ الْبِلَادَ، وَكَانَ خَيْرَانُ يَمِيلُ إِلَى دَوْلَةِ الْمُؤَيَّدِ، وَيَرْغَبُ فِيهَا، وَيَخْطُبُ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ بِلَادِهِ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا لِأَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ حَيَاتَهُ حَيْثُ فُقِدَ مِنَ الْقَصْرِ، فَحَدَثَ لِعَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ طَمَعٌ فِي مُلْكِ الْأَنْدَلُسِ لِمَا رَأَى مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَكَتَبَ إِلَى خَيْرَانَ يَذْكُرُ لَهُ أَنَّ الْمُؤَيَّدَ كَانَ كَتَبَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ وَالْأَخْذِ بِثَأْرِهِ إِنْ هُوَ قُتِلَ فَدَعَا لِعَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ. وَكَانَ خَيْرَانُ يُكَاتِبُ النَّاسَ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْخُرُوجِ عَلَى سُلَيْمَانَ، فَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَامِرُ بْنُ فَتُّوحٍ وَزِيرُ الْمُؤَيَّدِ، وَهُوَ بِمَالِقَةَ، وَكَاتَبُوا عَلِيَّ بْنَ حَمُّودٍ، وَهُوَ بِسَبْتَةَ، لِيَعْبَرَ إِلَيْهِمْ وَلِيَقُومُوا مَعَهُ وَيَسِيرُوا إِلَى قُرْطُبَةَ، فَعَبَرَ إِلَى مَالِقَةَ فِي سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَخَرَجَ عَنْهَا عَامِرُ بْنُ فَتُّوحٍ، وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، وَدَعَا لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَسَارَ خَيْرَانُ وَمَنْ أَجَابَهُ إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا بِالْمَنْكِبِ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْمَرِيَّةِ وَمَالِقَةَ، سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَرَّرُوا مَا يَفْعَلُونَهُ، وَعَادُوا يَتَجَهَّزُونَ لِقَصْدِ قُرْطُبَةَ، فَتَجَهَّزُوا وَجَمَعُوا مَنْ وَافَقَهُمْ، وَسَارُوا إِلَى قُرْطُبَةَ وَبَايَعُوا عَلِيًّا عَلَى طَاعَةِ الْمُؤَيَّدِ الْأُمَوِيِّ. فَلَمَّا بَلَغُوا غَرْنَاطَةَ (وَافَقَهُمْ أَمِيرُهَا، وَسَارَ مَعَهُمْ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ وَالْبَرْبَرُ إِلَيْهِمْ، فَالْتَقَوْا) وَاقْتَتَلُوا عَلَى عَشَرَةِ فَرَاسِخَ مِنْ قُرْطُبَةَ، وَنَشَبَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَانْهَزَمَ سُلَيْمَانُ وَالْبَرْبَرُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُخِذَ سُلَيْمَانُ أَسِيرًا فَحُمِلَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ وَمَعَهُ أَخُوهُ وَأَبُوهُ الْحَاكِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ، وَدَخَلَ عَلِيُّ بْنُ حَمُّودٍ قُرْطُبَةَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَدَخَلَ خَيْرَانُ وَغَيْرُهُ إِلَى الْقَصْرِ طَمَعًا فِي أَنْ يَجِدُوا الْمُؤَيَّدَ حَيًّا فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَرَأَوْا شَخْصًا مَدْفُونًا فَنَبَشُوهُ، وَجَمَعُوا لَهُ النَّاسَ، وَأَحْضَرُوا بَعْضَ فِتْيَانِهِ الَّذِينَ رَبَّاهُمْ وَعَرَضُوهُ عَلَيْهِ، فَفَتَّشَهُ، وَفَتَّشَ أَسْنَانَهُ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ سِنٌّ سَوْدَاءُ وَكَانَ يَعْرِفُهَا ذَلِكَ الْفَتَى، فَأَجْمَعَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ الْمُؤَيَّدُ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ عَلِيٍّ فَأَخْبَرُوا خَيْرَانَ أَنَّهُ الْمُؤَيَّدُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَعْلَمُ أَنَّ

الْمُؤَيَّدَ حَيٌّ، فَأَخَذَ عَلِيُّ بْنُ حَمُّودٍ سُلَيْمَانَ وَقَتَلَهُ سَابِعَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَقَتَلَ أَبَاهُ وَأَخَاهُ. وَلَمَّا حَضَرَ أَبُوهُ بَيْنَ يَدَيْ عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ قَالَ لَهُ: يَا شَيْخُ قَتَلْتُمُ الْمُؤَيَّدَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، وَإِنَّهُ لَحَيٌّ فَحِينَئِذٍ أَسْرَعَ فِي قَتْلِهِ، وَكَانَ شَيْخًا صَالِحًا مُنْقَبِضًا لَمْ يَتَدَنَّسْ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ ابْنِهِ، وَاسْتَوْلَى عَلِيُّ بْنُ حَمُّودٍ عَلَى قُرْطُبَةَ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى بَيْعَتِهِ، فَبُويِعَ، وَاجْتَمَعَ لَهُ الْمُلْكُ، وَلُقِّبَ الْمُتَوَكِّلَ عَلَى اللَّهِ. ثُمَّ إِنَّ خَيْرَانَ أَظْهَرَ الْخِلَافَ عَلَيْهِ لِأَشْيَاءَ مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ طَامِعًا أَنْ يَجِدَ الْمُؤَيَّدَ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ نُقِلَ إِلَيْهِ أَنَّ عَلِيًّا يُرِيدُ قَتْلَهُ فَخَرَجَ عَنْ قُرْطُبَةَ وَأَظْهَرَ الْخِلَافَ عَلَيْهِ. ذِكْرُ ظُهُورِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ لَمَّا خَالَفَ خَيْرَانُ عَلَيًّا أَرْسَلَ يَسْأَلُ عَنْ بَنِي أُمَيَّةَ، فَدُلَّ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الْأُمَوِيِّ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْ قُرْطُبَةَ مُسْتَخْفِيًا، وَنَزَلَ بِجَيَّانَ، وَكَانَ أَصْلَحَ مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، فَبَايَعَهُ خَيْرَانُ وَغَيْرُهُ، وَلَقَّبُوهُ الْمُرْتَضَى، وَرَاسَلَ خَيْرَانُ مُنْذِرَ بْنَ يَحْيَى التُّجِيبِيَّ أَمِيرَ سَرَقُسْطَةَ وَالثَّغْرِ الْأَعْلَى، وَرَاسَلَ أَهْلَ شَاطِبَةَ، وَبَلَنْسِيَةَ، وَطَرْطُوشَةَ، وَالْبُنْتَ، فَأَجَابُوا كُلُّهُمْ إِلَى بَيْعَتِهِ، وَالْخِلَافِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ، فَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَنْدَلُسِ، وَاجْتَمَعُوا بِمَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِالرَّيَاحِينِ فِي الْأَضْحَى سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَمَعَهُمُ الْفُقَهَاءُ، وَالشُّيُوخُ، وَجَعَلُوا الْخِلَافَةَ شُورَى، وَأَصْفَقُوا عَلَى بَيْعَتِهِ، وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى صِنْهَاجَةَ وَالنُّزُولِ عَلَى غَرْنَاطَةَ. وَأَقْبَلَ الْمُرْتَضَى عَلَى أَهْلِ بَلَنْسِيَةَ، وَشَاطِبَةَ، وَأَظْهَرَ الْجَفَاءَ لِمُنْذِرِ بْنِ يَحْيَى التُّجِيبِيِّ، وَلِخَيْرَانَ، وَلَمْ يُقْبِلْ عَلَيْهِمَا، فَنَدِمَا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمَا، وَسَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى غَرْنَاطَةَ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا، وَنَزَلَ عَلَيْهَا، وَقَاتَلُوا أَيَّامًا قِتَالًا شَدِيدًا، فَغَلَبَهُمْ أَهْلُ غَرْنَاطَةَ وَأَمِيرُهُمْ زَاوِي بْنُ زِيرِي الصِّنْهَاجِيُّ، وَانْهَزَمَ الْمُرْتَضَى وَعَسْكَرُهُ، وَاتَّبَعَتْهُمْ صِنْهَاجَةُ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَقُتِلَ الْمُرْتَضَى فِي هَذِهِ الْهَزِيمَةِ وَعُمْرُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَهُوَ أَصْغَرُ

مِنْ أَخِيهِ هِشَامٍ، وَسَارَ أَخُوهُ هِشَامٌ إِلَى الْبُنْتِ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ خُوطِبَ بِالْخِلَافَةِ، وَلَمْ يَزَلْ عَلِيُّ بْنُ حَمُّودٍ بَعْدَ هَذِهِ الْهَزِيمَةِ يَقْصِدُ بِلَادَ خَيْرَانَ وَالْعَامِرِيِّينَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. ذِكْرُ قَتْلِ عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ الْعَلَوِيِّ فَلَمَّا كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، تَجَهَّزَ (عَلِيُّ بْنُ حَمُّودٍ) ، لِلْمَسِيرِ إِلَى جَيَّانَ لِقِتَالِ مَنْ بِهَا مِنْ عَسْكَرِ خَيْرَانَ، فَلَمَّا كَانَ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ مِنْهُ بَرَزَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَى ظَاهِرِ قُرْطُبَةَ بِالْبُنُودِ وَالطُّبُولِ، وَوَقَفُوا يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ، فَدَخَلَ الْحَمَّامَ وَمَعَهُ غِلْمَانُهُ، فَقَتَلُوهُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَى النَّاسِ انْتِظَارُهُ بَحَثُوا عَنْ أَمْرِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَرَأَوْهُ مَقْتُولًا، فَعَادَ الْعَسْكَرُ إِلَى الْبَلَدِ. وَكَانَ لَقَبُهُ الْمُتَوَكِّلَ عَلَى اللَّهِ، وَقِيلَ النَّاصِرَ لِدِينِ اللَّهِ، كَانَ أَسْمَرَ، أَعْيَنَ، أَكْحَلَ، خَفِيفَ الْجِسْمِ، طَوِيلَ الْقَامَةِ، حَازِمًا، عَازِمًا، عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يُعِيدَ إِلَى أَهْلِ قُرْطُبَةَ أَمْوَالَهُمُ الَّتِي أَخَذَهَا الْبَرْبَرُ، فَلَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ، وَكَانَ يُحِبُّ الْمَدْحَ، وَيُجْزِلُ الْعَطَاءَ عَلَيْهِ. ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ أَخُوهُ الْقَاسِمُ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ عَلِيٍّ بِعِدَّةِ أَعْوَامٍ، وَكَانَ عُمْرُ عَلِيٍّ ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، بَنُوهُ يَحْيَى وَإِدْرِيسُ، وَأُمُّهُ قُرَشِيَّةٌ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْحَسَنِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَنَةً وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ.

ذِكْرُ وِلَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ حَمُّودٍ الْعَلَوِيِّ بِقُرْطُبَةَ قَدْ ذَكَرْنَا (قَتْلَ أَخِيهِ عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ) سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَلَمَّا قُتِلَ بَايَعَ النَّاسُ أَخَاهُ الْقَاسِمَ، وَلُقِّبَ الْمَأْمُونَ، فَلَمَّا وَلِيَ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ، كَاتَبَ الْعَامِرِيِّينَ وَاسْتَمَالَهُمْ وَأَقْطَعَ زُهَيْرًا جَيَّانَ، وَقَلْعَةَ رَبَاحٍ، وَبَيَّاسَةَ، وَكَاتَبَ خَيْرَانَ وَاسْتَعْطَفَهُ، فَلَجَأَ إِلَيْهِ وَاجْتَمَعَ بِهِ، ثُمَّ عَادَ عَنْهُ إِلَى الْمَرِيَّةَ، وَبَقِيَ الْقَاسِمُ مَالِكًا لِقُرْطُبَةَ وَغَيْرِهَا إِلَى سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَكَانَ وَادِعًا، لَيِّنًا، يُحِبُّ الْعَافِيَةَ، فَأَمِنَ النَّاسُ مَعَهُ، وَكَانَ يَتَشَيَّعُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَسَارَ عَنْ قُرْطُبَةَ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ، فَخَالَفَهُ يَحْيَى ابْنُ أَخِيهِ فِيهَا. ذِكْرُ دَوْلَةِ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ وَمَا كَانَ مِنْهُ وَمِنْ عَمِّهِ لَمَّا سَارَ الْقَاسِمُ بْنُ حَمُّودٍ عَنْ قُرْطُبَةَ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ سَارَ ابْنُ أَخِيهِ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ مِنْ مَالِقَةَ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَدَخَلَهَا بِغَيْرِ مَانِعٍ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ بِقُرْطُبَةَ دَعَا النَّاسَ إِلَى بَيْعَتِهِ فَأَجَابُوهُ، فَكَانَتِ الْبَيْعَةُ مُسْتَهَلَّ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَلُقِّبَ بِالْمُعْتَلِي، وَبَقِيَ بِقُرْطُبَةَ يُدْعَى لَهُ بِالْخِلَافَةِ وَعَمُّهُ الْقَاسِمُ بِإِشْبِيلِيَّةَ يُدْعَى لَهُ بِالْخِلَافَةِ، إِلَى ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. فَسَارَ يَحْيَى عَنْ قُرْطُبَةَ إِلَى مَالِقَةَ. وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى عَمِّهِ، فَرَكِبَ وَجَدَّ فِي السَّيْرِ لَيْلًا وَنَهَارًا إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى قُرْطُبَةَ فَدَخَلَهَا ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَكَانَ مُدَّةُ مُقَامِهِ بِإِشْبِيلِيَّةَ، قَدِ اسْتَمَالَ الْعَسَاكِرَ مِنَ الْبَرْبَرِ وَقَوِيَ بِهِمْ، وَبَقِيَ الْقَاسِمُ بِقُرْطُبَةَ شُهُورًا، ثُمَّ اضْطَرَبَ أَمْرُهُ بِهَا، وَسَارَ ابْنُ أَخِيهِ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ إِلَى الْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ، وَغَلَبَ عَلَيْهَا

وَبِهَا أَهْلُ عَمِّهِ وَمَالِهِ، وَغُلِبَ أَخُوهُ إِدْرِيسُ بْنُ عَلِيٍّ، صَاحِبُ سَبْتَةَ، عَلَى طَنْجَةَ، وَهِيَ كَانَتْ عِدَّةَ الْقَاسِمِ الَّتِي يَلْجَأُ إِلَيْهَا إِنْ رَأَى مَا يَخَافُ بِالْأَنْدَلُسِ، فَلَمَّا مَلَكَ ابْنَا أَخِيهِ بِلَادَهُ طَمِعَ فِيهِ النَّاسُ، وَتَسَلَّطَ الْبَرْبَرُ عَلَى قُرْطُبَةَ فَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُهَا وَبَرَزُوا إِلَى قِتَالِهِ عَاشِرَ جُمَادَى الْأُولَى إِلَى سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ سَكَنَتِ الْحَرْبُ، وَأَمِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى مُنْتَصَفِ جُمَادَى الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ، وَالْقَاسِمُ بِالْقَصْرِ يُظْهِرُ التَّوَدُّدَ لِأَهْلِ قُرْطُبَةَ، وَأَنَّهُ مَعَهُمْ، وَبَاطِنُهُ مَعَ الْبَرْبَرِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مُنْتَصَفَ جُمَادَى الْآخِرَةِ صَلَّى النَّاسُ الْجُمُعَةَ، فَلَمَّا فَرَغُوا تَنَادَوْا: السِّلَاحَ! السِّلَاحَ! فَاجْتَمَعُوا وَلَبِسُوا السِّلَاحَ، وَحَفِظُوا الْبَلَدَ، وَدَخَلُوا قَصْرَ الْإِمَارَةِ، فَخَرَجَ عَنْهَا الْقَاسِمُ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ الْبَرْبَرُ، وَقَاتَلُوا أَهْلَ الْبَلَدِ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَهْلِهِ، فَبَقُوا كَذَلِكَ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَالْقِتَالُ مُتَّصِلٌ، فَخَافَ أَهْلُ قُرْطُبَةَ، وَسَأَلُوا الْبَرْبَرَ فِي أَنْ يَفْتَحُوا لَهُمُ الطَّرِيقَ وَيُؤَمِّنُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَقْتُلُوهُمْ، فَصَبَرُوا حِينَئِذٍ عَلَى الْقِتَالِ، وَخَرَجُوا مِنَ الْبَلَدِ ثَانِيَ عَشَرَ شَعْبَانَ، وَقَاتَلُوهُمْ قِتَالَ مُسْتَقْتِلٍ، فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْبَرْبَرِ، {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: 60] ، وَانْهَزَمَ الْبَرْبَرُ هَزِيمَةً عَظِيمَةً، وَلَحِقَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ بِبَلَدٍ فَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْقَاسِمُ بْنُ حَمُّودٍ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ، وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِهَا فِي إِخْلَاءِ أَلْفِ دَارٍ لِيَسْكُنَهَا الْبَرْبَرُ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ بِهَا ابْنَا مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنِ، فَثَارَ بِهِمَا أَهْلُهَا، فَأَخْرَجُوهُمَا عَنْهُمْ وَمَنْ مَعَهُمَا، وَضَبَطُوا الْبَلَدَ، وَقَدَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ثَلَاثَةً مِنْ شُيُوخِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ وَهُمْ: الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبَّادٍ اللَّخْمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَرِيمَ الْأَلْهَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الزُّبَيْدِيُّ، وَكَانُوا يُدَبِّرُونَ أَمْرَ الْبَلَدِ وَالنَّاسِ ثُمَّ اجْتَمَعَ ابْنُ يَرِيمَ وَالزُّبَيْدِيُّ، وَسَأَلُوا ابْنَ عَبَّادٍ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَدْبِيرِ أُمُورِهِمْ، فَامْتَنَعَ

وَأَلَحُّوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا خَافَ عَلَى الْبَلَدِ بِامْتِنَاعِهِ أَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَانْفَرَدَ بِالتَّدْبِيرِ وَحِفْظِ الْبَلَدِ. فَلَمَّا رَأَى الْقَاسِمُ ذَلِكَ سَارَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَزَلَ بِشَرِيشَ، فَزَحَفَ إِلَيْهِ يَحْيَى ابْنُ أَخِيهِ عَلِيٍّ، وَمَعَهُ جَمْعٌ مِنَ الْبَرْبَرِ فَحَصَرُوهُ ثُمَّ أَخَذُوهُ أَسِيرًا، فَحَبَسَهُ يَحْيَى فَبَقِيَ فِي حَبْسِهِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ يَحْيَى وَمَلَكَ أَخُوهُ إِدْرِيسُ، فَلَمَّا مَلَكَ قَتَلَهُ، وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَحُمِلَ إِلَى ابْنِهِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ بِالْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ فَدَفَنَهُ. وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَةِ الْقَاسِمِ بِقُرْطُبَةَ، مُذْ تَسَمَّى بِالْخِلَافَةِ إِلَى أَنْ أَسَرَهُ ابْنُ أَخِيهِ، سِتَّةَ أَعْوَامٍ، وَبَقِيَ مَحْبُوسًا سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَى أَنْ قُتِلَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ لَهُ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَلَهُ مِنَ الْوَلَدِ مُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ، وَأُمُّهُمَا أَمِيرَةُ بِنْتُ الْحَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ الْمَعْرُوفِ بِقَتُّونَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ إِدْرِيسَ بْنِ إِدْرِيسَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ أَسْمَرَ، أَعْيَنَ، أَكْحَلَ، مُصْفَرَّ اللَّوْنِ، طَوِيلًا، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ. ذِكْرُ عَوْدِ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَى قُرْطُبَةَ وَوِلَايَةِ الْمُسْتَظْهِرِ لَمَّا انْهَزَمَ الْبَرْبَرُ وَالْقَاسِمُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ أَهْلِ قُرْطُبَةَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، اتَّفَقَ رَأْيُ أَهْلِ قُرْطُبَةَ عَلَى رَدِّ بَنِي أُمَيَّةَ، فَاخْتَارُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الْأُمَوِيَّ، فَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ ثَالِثَ عَشَرَ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَعُمْرُهُ حِينَئِذٍ اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَتَلَقَّبَ بِالْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ شَهْرًا وَاحِدًا وَسَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقُتِلَ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ أَخَذَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ قُرْطُبَةَ فَسَجَنَهُمْ لِمَيْلِهِمْ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُرْتَضَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، فَسَعَوْا عَلَيْهِ مِنَ السِّجْنِ، وَأَلَّبُوا النَّاسَ، فَأَجَابَهُمْ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ وَغَيْرُهُ، وَاجْتَمَعُوا وَقَصَدُوا السِّجْنَ فَأَخْرَجُوا مَنْ فِيهِ.

وَكَانَ مِمَّنْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ (بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْأُمَوِيُّ فِي جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ، فَظَفِرُوا بِالْمُسْتَظْهِرِ، فَقَتَلُوهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَلَمْ يُعْقِبْ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْمُطَرِّفِ، وَأُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ، وَكَانَ أَبْيَضَ أَشْقَرَ، أَعْيَنَ، شَثْنَ الْكَفَّيْنِ، رَحْبَ الصَّدْرِ، وَكَانَ أَدِيبًا، خَطِيبًا، بَلِيغًا، رَقِيقَ الطَّبْعِ وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، وَكَانَ وَزِيرُهُ أَبَا مُحَمَّدٍ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُرْتَضَى قَدْ مَاتَ قَبْلَ قَتْلِهِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ. ذِكْرُ وِلَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَمَّا قُتِلَ الْمُسْتَظْهِرُ بَايَعَ النَّاسُ بِقُرْطُبَةَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ النَّاصِرِ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَخَطَبُوا لَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَلَقَّبُوهُ الْمُسْتَكْفِيَ بِاللَّهِ، وَكَانَ هَمُّهُ لَا يَعْدُو فَرْجَهُ وَبَطْنَهُ، وَلَيْسَ لَهُ هَمٌّ وَلَا فِكْرٌ فِي سِوَاهُمَا، وَبَقِيَ بِهَا سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا وَأَيَّامًا، وَثَارَ عَلَيْهِ أَهْلُ قُرْطُبَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَخَلَعُوهُ وَخَرَجَ عَنْ قُرْطُبَةَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى صَارَ إِلَى أَعْمَالِ مَدِينَةِ سَالِمٍ فَضَجِرَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَشَوَى لَهُ دَجَاجَةً، وَعَمِلَ فِيهَا شَيْئًا مِنَ الْبِيشِ، فَأَكَلَهَا فَمَاتَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَ فِي غَايَةِ التَّخَلُّفِ، وَلَهُ أَخْبَارٌ يَقْبُحُ ذِكْرُهَا، وَكَانَ رَبْعَةً، أَشْقَرَ، أَزْرَقَ، مُدَوَّرَ الْوَجْهِ، ضَخْمَ الْجِسْمِ، وَكَانَ عُمْرُهُ نَحْوَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَعَادَ أَهْلُ قُرْطُبَةَ دَعْوَةَ الْمُعْتَلِي بِاللَّهِ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ الْعَلَوِيِّ بِهَا.

ذِكْرُ عَوْدِ يَحْيَى الْعَلَوِيِّ إِلَى قُرْطُبَةَ وَقَتْلِهِ لَمَّا مَاتَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ، وَصَحَّ عِنْدَ أَهْلِ قُرْطُبَةَ خَبَرُ مَوْتِهِ، سَعَى مَعَهُمْ بَعْضُ أَهْلِهَا لِيَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ الْعَلَوِيِّ لِيُعِيدُوهُ إِلَى الْخِلَافَةِ، وَكَانَ بِمَالِقَةَ يَخْطُبُ لِنَفْسِهِ بِالْخِلَافَةِ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِ وَخَاطَبُوهُ بِالْخِلَافَةِ، وَخَطَبُوا لَهُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَطَّافٍ الْيَفُرَنِيَّ وَالِيًا عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَحْضُرْ هُوَ بِاخْتِيَارِهِ، فَبَقِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِيهَا إِلَى مُحَرَّمٍ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَسَارَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ، وَخَيْرَانُ الْعَامِرِيَّانِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ، فَلَمَّا قَارَبُوا قُرْطُبَةَ ثَارَ أَهْلُهَا بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَأَخْرَجُوهُ، وَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً، وَنَجَا الْبَاقُونَ. وَأَقَامَ خَيْرَانُ وَمُجَاهِدٌ بِهَا نَحْوَ شَهْرٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَخَافَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَعَادَ خَيْرَانُ عَنْ قُرْطُبَةَ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنَ السَّنَةِ إِلَى الْمَرِيَّةِ، وَبَقِيَ بِهَا إِلَى سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَتُوُفِّيَ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَصَارَتِ الْمَرِيَّةُ بَعْدَهُ لِصَاحِبِهِ زُهَيْرٍ الْعَامِرِيِّ، فَخَالَفَ حَبُّوسُ بْنُ مَاكِسَنَ الصِّنْهَاجِيُّ الْبَرْبَرِيُّ وَأَخُوهُ عَلَى طَاعَةِ يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ الْعَلَوِيِّ، وَبَقِيَ مُجَاهِدٌ مُدَّةً ثُمَّ سَارَ إِلَى دَانِيَةَ، وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ يَحْيَى مِنْهَا، وَأُعِيدَتْ خُطْبَةُ الْأُمَوِيِّينَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبَقِيَ يَتَرَدَّدُ عَلَيْهَا بِالْعَسَاكِرِ، وَاتَّفَقَ الْبَرْبَرُ عَلَى طَاعَتِهِ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْحُصُونِ وَالْمُدُنِ، فَقَوِيَ وَعَظُمَ شَأْنُهُ وَبَقِيَ كَذَلِكَ مُدَّةً. ثُمَّ سَارَ إِلَى قَرْمُونَةَ، فَأَقَامَ بِهَا مُحَاصِرًا لِإِشْبِيلِيَّةَ، طَامِعًا فِي أَخْذِهَا، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ يَوْمًا أَنَّ خَيْلًا لِأَهْلِ إِشْبِيلِيَّةَ قَدْ أَخْرَجَهَا الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبَّادٍ إِلَى نَوَاحِي قَرْمُونَةَ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ وَلَقِيَهُمْ، وَقَدْ كَمَنُوا لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ قُتِلَ، وَذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَخَلَّفَ مِنَ الْوَلَدِ الْحَسَنَ وَإِدْرِيسَ لِأُمَّيْ وَلَدٍ، وَكَانَ أَسْمَرَ

أَعْيَنَ، أَكْحَلَ، طَوِيلَ الظَّهْرِ، قَصِيرَ السَّاقَيْنِ، وَقُورًا، هَيِّنًا، لَيِّنًا، وَكَانَ عُمْرُهُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأُمُّهُ بَرْبَرِيَّةٌ. ذِكْرُ أَخْبَارِ أَوْلَادِ يَحْيَى وَأَوْلَادِ أَخِيهِ وَغَيْرِهِمْ وَقَتْلِ ابْنِ عَمَّارٍ نَذْكُرُ هَاهُنَا مَا كَانَ مِنْ أَخْبَارِ أَوْلَادِهِ، وَأَوْلَادِ أَخِيهِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ، مُتَتَابِعًا لِئَلَّا يَنْقَطِعَ الْكَلَامُ، وَلِيَأْخُذَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وَلَمَّا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ رَجَعَ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي مُوسَى الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بَقِيَّةَ، وَنَجَا الْخَادِمُ الصَّقْلَبِيُّ، وَهُمَا مُدَبِّرَا دَوْلَةِ الْعَلَوِيِّينَ، فَأَتَيَا مَالِقَةَ، وَهِيَ دَارُ مَمْلَكَتِهِمْ، فَخَاطَبَا أَخَاهُ إِدْرِيسَ بْنَ عَلِيٍّ، وَكَانَ لَهُ سَبْتَةُ وَطَنْجَةُ، وَطَلَبَاهُ فَأَتَى إِلَى مَالِقَةَ، وَبَايَعَاهُ بِالْخِلَافَةِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ حَسَنَ بْنَ يَحْيَى الْمَقْتُولَ مَكَانَهُ بِسَبْتَةَ، فَأَجَابَهُمَا إِلَى ذَلِكَ، فَبَايَعَاهُ، وَسَارَ حَسَنُ بْنُ يَحْيَى، وَنَجَا إِلَى سَبْتَةَ وَطَنْجَةَ، وَتَلَقَّبَ إِدْرِيسُ بِالْمُتَأَيِّدِ بِاللَّهِ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثِينَ، أَوْ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. فَسَيَّرَ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبَّادٍ وَلَدَهُ إِسْمَاعِيلَ فِي عَسْكَرٍ لِيَتَغَلَّبَ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ، فَأَخَذَ قَرْمُونَةَ، وَأَخَذَ أَيْضًا أُشْبُونَةَ، وَإِسْتَجَةَ، فَأَرْسَلَ صَاحِبُهَا إِلَى إِدْرِيسَ، وَإِلَى بَادِيسَ بْنِ حَبُّوسٍ، صَاحِبِ صِنْهَاجَةَ، فَأَتَاهُ صَاحِبُ صِنْهَاجَةَ بِنَفْسِهِ، وَأَمَدَّهُ إِدْرِيسُ بِعَسْكَرٍ يَقُودُهُ ابْنُ بَقِيَّةَ مُدَبِّرُ دَوْلَتِهِ، فَلَمْ يَجْسُرُوا عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبَّادٍ، فَعَادُوا عَنْهُ، فَسَارَ إِسْمَاعِيلُ مُجِدًّا لِيَأْخُذَ عَلَى صِنْهَاجَةَ الطَّرِيقَ، فَأَدْرَكَهُمْ وَقَدْ فَارَقَهُمْ عَسْكَرُ إِدْرِيسَ قَبْلَ ذَلِكَ بِسَاعَةٍ، فَأَرْسَلَتْ صِنْهَاجَةُ مَنْ رَدَّهُمْ فَعَادُوا، وَقَاتَلُوا إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَبَّادٍ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَصْحَابُهُ أَنِ انْهَزَمُوا وَأَسْلَمُوهُ، فَقُتِلَ وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى إِدْرِيسَ.

وَكَانَ إِدْرِيسُ قَدْ أَيْقَنَ بِالْهَلَاكِ، وَانْتَقَلَ عَنْ مَالِقَةَ إِلَى جَبَلٍ يَحْتَمِي بِهِ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّأْسُ عَاشَ بَعْدَهُ يَوْمَيْنِ، وَمَاتَ وَتَرَكَ مِنَ الْوَلَدِ يَحْيَى، وَمُحَمَّدًا، وَحَسَنًا، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمَقْتُولُ قَدْ حَبَسَ ابْنَيْ عَمِّهِ مُحَمَّدًا وَالْحَسَنَ ابْنَيِ الْقَاسِمِ بْنِ حَمُّودٍ بِالْجَزِيرَةِ، فَلَمَّا مَاتَ إِدْرِيسُ أَخْرَجَهُمَا الْمُوكَّلُ بِهِمَا، وَدَعَا النَّاسَ إِلَيْهِمَا، فَبَايَعَهُمَا السُّودَانُ خَاصَّةً قَبْلَ النَّاسِ لِمَيْلِ أَبِيهِمَا إِلَيْهِمْ فَمَلَكَ مُحَمَّدٌ الْجَزِيرَةَ، وَلَمْ يَتَّسِمْ بِالْخِلَافَةِ. وَأَمَّا الْحَسَنُ بْنُ الْقَاسِمِ فَإِنَّهُ تَنَسَّكَ وَتَرَكَ الدُّنْيَا وَحَجَّ، وَكَانَ ابْنُ بَقِيَّةَ قَدْ أَقَامَ يَحْيَى بْنَ إِدْرِيسَ بَعْدَ مَوْتِ وَالِدِهِ بِمَالِقَةَ، فَسَارَ إِلَيْهَا نَجَا الصَّقْلَبِيُّ مِنْ سَبْتَةَ هُوَ وَالْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، فَهَرَبَ ابْنُ بَقِيَّةَ، (وَدَخَلَهَا الْحَسَنُ وَنَجَا، فَاسْتَمَالَا ابْنَ بَقِيَّةَ) حَتَّى حَضَرَ، فَقَتَلَهُ الْحَسَنُ وَقَتَلَ ابْنَ عَمِّهِ يَحْيَى بْنَ إِدْرِيسَ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ بِالْخِلَافَةِ، وَلُقِّبَ بِالْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ، وَرَجَعَ نَجَا إِلَى سَبْتَةَ، وَتَرَكَ مَعَ الْحَسَنِ الْمُسْتَنْصِرِ نَائِبًا لَهُ يُعْرَفُ بِالشَّطِيفِيِّ، فَبَقِيَ حَسَنٌ كَذَلِكَ نَحْوًا مِنْ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَقِيلَ إِنَّ زَوْجَتَهُ ابْنَةَ عَمِّهِ إِدْرِيسَ سَمَّتْهُ أَسَفًا عَلَى أَخِيهَا يَحْيَى، فَلَمَّا مَاتَ الْمُسْتَنْصِرُ، اعْتَقَلَ الشَّطِيفِيُّ إِدْرِيسَ بْنَ يَحْيَى، وَسَارَ نَجَا مِنْ سَبْتَةَ إِلَى مَالِقَةَ، (وَعَزَمَ عَلَى مَحْوِ أَمْرِ الْعَلَوِيِّينَ، وَأَنْ يَضْبُطَ الْبِلَادَ لِنَفْسِهِ، وَأَظْهَرَ) الْبَرْبَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَعَظُمَ عِنْدَهُمْ، فَقَتَلُوهُ، وَقَتَلُوا الشَّطِيفِيَّ) وَأَخْرَجُوا إِدْرِيسَ بْنَ يَحْيَى، وَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ، وَتَسَمَّى بِالْعَالِي، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ يَتَصَدَّقُ كُلَّ جُمُعَةٍ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ، وَرَدَّ كُلَّ مَطْرُودٍ عَنْ وَطَنِهِ وَأَعَادَ عَلَيْهِمْ أَمْلَاكَهُمْ. وَكَانَ مُتَأَدِّبًا، حَسَنَ اللِّقَاءِ، لَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَصْحَبُ الْأَرْذَالَ وَلَا يَحْجُبُ نِسَاءَهُ عَنْهُمْ، وَكُلُّ مَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ حِصْنًا مِنْ بِلَادِهِ أَعْطَاهُ، فَأَخَذَ مِنْهُ صِنْهَاجَةُ

عِدَّةَ حُصُونٍ، وَطَلَبُوا وَزِيرَهُ وَمُدَبِّرَ أَمْرِهِ صَاحِبَ أَبِيهِ مُوسَى بْنَ عَفَّانَ لِيَقْتُلُوهُ، فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ قَدِ اعْتَقَلَ ابْنَيْ عَمِّهِ مُحَمَّدًا وَالْحَسَنَ ابْنَيْ إِدْرِيسَ بْنِ عَلِيٍّ (فِي حِصْنِ أَيْرَشَ، فَلَمَّا رَأَى ثِقَتَهُ بِأَيْرَشَ اضْطِرَابَ آرَائِهِ خَالَفَ عَلَيْهِ وَبَايَعَهُ ابْنُ عَمِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ عَلِيٍّ) ، وَثَارَ بِإِدْرِيسَ بْنِ يَحْيَى مَنْ عِنْدَهُ مِنَ السُّودَانِ، وَطَلَبُوا مُحَمَّدًا فَجَاءَ إِلَيْهِمْ فَسَلَّمَ إِلَيْهِ إِدْرِيسُ الْأَمْرَ، وَبَايَعَ لَهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَاعْتَقَلَهُ مُحَمَّدٌ، وَتَلَقَّبَ بِالْمَهْدِيِّ، وَوَلَّى أَخَاهُ الْحَسَنَ عَهْدَهُ، وَلَقَّبَهُ السَّامِي. وَظَهَرَتْ مِنَ الْمَهْدِيِّ شَجَاعَةٌ وَجُرْأَةٌ، فَهَابَهُ الْبَرْبَرُ وَخَافُوهُ، فَرَاسَلُوا الْمُوَكَّلَ بِإِدْرِيسَ بْنِ يَحْيَى، فَأَجَابَهُمْ إِلَى إِخْرَاجِهِ، وَأَخْرَجَهُ وَبَايَعَ لَهُ، وَخَطَبَ لَهُ بِسَبْتَةَ وَطَنْجَةَ بِالْخِلَافَةِ، وَبَقِيَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . ثُمَّ إِنَّ الْمَهْدِيَّ رَأَى مِنْ أَخِيهِ السَّامِي مَا أَنْكَرَهُ، فَنَفَاهُ عَنْهُ، فَسَارَ إِلَى الْعُدْوَةِ إِلَى جِبَالِ غَمَارَةَ، وَأَهْلُهَا يَنْقَادُونَ لِلْعَلَوِيِّينَ وَيُعَظِّمُونَهُمْ، فَبَايَعُوهُ، ثُمَّ إِنَّ الْبَرْبَرَ خَاطَبُوا مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ بِالْجَزِيرَةِ، وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ، وَتَسَمَّى بِالْمَهْدِيِّ أَيْضًا، فَصَارَ الْأَمْرُ فِي غَايَةِ الْأُخْلُوقَةِ وَالْفَضِيحَةِ، أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ يُسَمَّى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي رُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مِقْدَارُهَا ثَلَاثُونَ فَرْسَخًا، فَرَجَعَتِ الْبَرَابِرُ عَنْهُ، عَادَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، فَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ، فَوَلِيَ الْجَزِيرَةَ ابْنُهُ الْقَاسِمُ، وَلَمْ يَتَّسِمْ بِالْخِلَافَةِ، وَبَقِيَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بِمَالِقَةَ إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَكَانَ إِدْرِيسُ بْنُ يَحْيَى الْمَعْرُوفُ بِالْعَالِي عِنْدَ بَنِي يَفُرَنَ بِتَاكُرُنَّا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ عَلِيٍّ قَصَدَ إِدْرِيسُ بْنُ يَحْيَى مَالِقَةَ فَمَلَكَهَا، ثُمَّ انْتَقَلَتْ إِلَى صِنْهَاجَةَ.

ذِكْرُ وِلَايَةِ هِشَامٍ الْأُمَوِيِّ قُرْطُبَةَ لَمَّا قُطِعَتْ دَعْوَةُ يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ الْعَلَوِيِّ عَنْ قُرْطُبَةَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، أَجْمَعَ أَهْلُهَا عَلَى خَلْعِ الْعَلَوِيِّينَ لِمَيْلِهِمْ إِلَى الْبَرْبَرِ، وَإِعَادَةِ الْخِلَافَةِ بِالْأَنْدَلُسِ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ رَأْسُهُمْ فِي ذَلِكَ أَبَا الْحَزْمِ جَهْوَرَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جَهْوَرٍ، فَرَاسَلُوا أَهْلَ الثُّغُورِ وَالْمُتَغَلِّبِينَ هُنَاكَ فِي هَذَا، فَاتَّفَقُوا مَعَهُمْ، فَبَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ هِشَامَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الْأُمَوِيَّ، وَكَانَ مُقِيمًا بِالْبُنْتِ مُذْ قُتِلَ أَخُوهُ الْمُرْتَضَى، فَبَايَعُوهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، وَتَلَقَّبَ بِالْمُعْتَدِّ بِاللَّهِ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنَ الْمُرْتَضَى، وَنَهَضَ إِلَى الثُّغُورِ فَتَرَدَّدَ فِيهَا، وَجَرَى لَهُ هُنَاكَ فِتَنٌ وَاضْطِرَابٌ شَدِيدٌ مِنَ الرُّؤَسَاءِ إِلَى أَنِ اتَّفَقَ أَمْرُهُمْ عَلَى أَنْ يَسِيرَ إِلَى قُرْطُبَةَ دَارِ الْمُلْكِ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَدَخَلَهَا ثَامِنَ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ عِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَبَقِيَ بِهَا حَتَّى خُلِعَ ثَانِيَ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ. وَكَانَ سَبَبُ خَلْعِهِ أَنَّ وَزِيرَهُ أَبَا عَاصِي بْنَ سَعِيدٍ الْقَزَّازَ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدِيمُ رِئَاسَةٍ، وَكَانَ يُخَالِفُ الْوُزَرَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَيَتَسَبَّبُ إِلَى أَخْذِ أَمْوَالِ التُّجَّارِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ يَصِلُ الْبَرْبَرَ، وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُقَرِّبُهُمْ، فَنَفَرَ عَنْهُ أَهْلُ قُرْطُبَةَ، فَوَضَعُوا عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ، فَلَمَّا قَتَلُوهُ اسْتَوْحَشُوا مِنْ هِشَامٍ فَخَلَعُوهُ بِسَبَبِهِ، فَلَمَّا خُلِعَ هِشَامٌ قَامَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ النَّاصِرِ، وَتَسَوَّرَ الْقَصْرَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَحْدَاثِ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَبَايَعَهُ مِنْ سَوَادِ النَّاسِ كَثِيرٌ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَهْلِ قُرْطُبَةَ: نَخْشَى عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّ السَّعَادَةَ قَدْ وَلَّتْ عَنْكُمْ فَقَالَ: بَايِعُونِي الْيَوْمَ وَاقْتُلُونِي غَدًا. فَأَنْفَذَ أَهْلَ قُرْطُبَةَ وَأَعْيَانَهُمْ إِلَيْهِ وَإِلَى الْمُعْتَدِّ بِاللَّهِ يَأْمُرُونَهُمَا بِالْخُرُوجِ عَنْ قُرْطُبَةَ

فَوَدَّعَ الْمُعْتَدُّ أَهْلَهُ وَخَرَجَ إِلَى حِصْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الشَّوْرِ بِجَبَلِ قُرْطُبَةَ، فَبَقِيَ مَعَهُ إِلَى أَنْ غَدَرَ أَهْلُ الْحِصْنِ بِمُحَمَّدِ بْنِ الشَّوْرِ (فَقَتَلُوهُ، وَأَخْرَجُوا الْمُعْتَدَّ إِلَى حِصْنٍ آخَرَ حَبَسُوهُ فِيهِ، فَاحْتَالَ فِي) الْخُرُوجِ مِنْهُ لَيْلًا، وَسَارَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ هُودٍ الْجُذَامِيِّ، فَأَكْرَمَهُ وَبَقِيَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَدُفِنَ بِنَاحِيَةِ لَارِدَةَ، وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِ بَنِي أُمَيَّةَ بِالْأَنْدَلُسِ. وَأَمَّا أُمَيَّةُ فَإِنَّهُ اخْتَفَى بِقُرْطُبَةَ، فَنَادَى أَهْلُ قُرْطُبَةَ بِالْأَسْوَاقِ وَالْأَرْبَاضِ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بِهَا، وَلَا يَتْرُكُهُمْ عِنْدَهُ أَحَدٌ، فَخَرَجَ أُمَيَّةُ فِيمَنْ خَرَجَ، وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ مُدَّةً، ثُمَّ أَرَادَ الْعَوْدَ إِلَيْهَا، فَعَادَ طَمَعًا فِي أَنْ يَسْكُنَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ شُيُوخُ قُرْطُبَةَ مَنْ مَنَعَهُ عَنْهَا، وَقِيلَ قُتِلَ وَغُيِّبَ، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، ثُمَّ انْحَلَّ عِقْدُ الْجَمَاعَةِ وَانْتَشَرَ وَافْتَرَقَتِ الْبِلَادُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ تَفَرُّقِ مَمَالِكِ الْأَنْدَلُسِ ثُمَّ إِنَّ الْأَنْدَلُسَ اقْتَسَمَهُ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ وَالرُّؤَسَاءُ، فَتَغَلَّبَ كُلُّ إِنْسَانٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، فَصَارُوا مِثْلَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَضَرَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَطَمِعَ بِسَبَبِهِ الْعَدُوُّ الْكَافِرُ، خَذَلَهُ اللَّهُ، فِيهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ اجْتِمَاعٌ إِلَى أَنْ مَلَكَهُ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ بْنِ تَاشِفِينَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَأَمَّا قُرْطُبَةُ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا أَبُو الْحَزْمِ جَهْوَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَهْوَرٍ، الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ، وَكَانَ مِنْ وَزَارَةِ الدَّوْلَةِ الْعَامِرِيَّةِ، قَدِيمَ الرِّئَاسَةِ، مَوْصُوفًا بِالدَّهَاءِ وَالْعَقْلِ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفِتَنِ قَبْلَ هَذَا (بَلْ كَانَ يَتَصَاوَنُ عَنْهَا) فَلَمَّا خَلَا لَهُ الْجَوُّ

وَأَمْكَنَتْهُ الْفُرْصَةُ، وَثَبَ عَلَيْهَا فَتَوَلَّى أَمْرَهَا وَقَامَ بِحِمَايَتِهَا، وَلَمْ يَتَنَقَّلْ إِلَى رُتْبَةِ الْإِمَارَةِ ظَاهِرًا، بَلْ دَبَّرَهَا تَدْبِيرًا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ حَامٍ لِلْبَلَدِ إِلَى أَنْ يَجِيءَ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ، وَيَتَّفِقُ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَيُسَلِّمُهُ إِلَيْهِ، وَرَتَّبَ الْبَوَّابِينَ وَالْحَشَمَ عَلَى أَبْوَابِ قُصُورِ الْإِمَارَةِ، وَلَمْ يَتَحَوَّلْ هُوَ عَنْ دَارِهِ إِلَيْهَا، وَجَعَلَ مَا يَرْتَفِعُ مِنَ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ بِأَيْدِي رِجَالٍ رَتَّبَهُمْ لِذَلِكَ، وَهُوَ الْمُشْرِفُ عَلَيْهِمْ، وَصَيَّرَ أَهْلَ الْأَسْوَاقِ جُنْدًا، وَجَعَلَ أَرْزَاقَهُمْ رِبْحَ أَمْوَالٍ تَكُونُ بِأَيْدِيهِمْ دَيْنًا عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ الرِّبْحُ لَهُمْ، وَرَأْسُ الْمَالِ بَاقِيًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ يَتَعَهَّدُهُمْ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ لِيَنْظُرَ كَيْفَ حِفْظُهُمْ لَهَا، وَفَرَّقَ السِّلَاحَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ لَا يُفَارِقُهُ سِلَاحُهُ حَتَّى يُعَجِّلَ حُضُورَهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ. وَكَانَ جَهْوَرٌ يَشْهَدُ الْجَنَائِزَ، وَيَعُودُ الْمَرْضَى، وَيَحْضُرُ الْأَفْرَاحَ عَلَى طَرِيقَةِ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ تَدْبِيرَ الْمُلُوكِ، وَكَانَ مَأْمُونَ الْجَانِبِ، وَأَمِنَ النَّاسُ فِي أَيَّامِهِ، وَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَامَ بِأَمْرِهَا بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْوَلِيدِ مُحَمَّدُ بْنُ جَهْوَرٍ عَلَى هَذَا التَّدْبِيرِ إِلَى أَنْ مَاتَ، فَغَلَبَ عَلَيْهَا الْأَمِيرُ الْمُلَقَّبُ بِالْمَأْمُونِ، صَاحِبُ طُلَيْطِلَةَ، فَدَبَّرَهَا إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا. [خَبَرُ إِشْبِيلِيَّةَ] وَأَمَّا إِشْبِيلِيَّةُ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبَّادٍ اللَّخْمِيُّ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ ذَلِكَ فِي دَوْلَةِ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ قَبْلَ هَذَا. وَفِي هَذَا الْوَقْتِ ظَهَرَ أَمْرُ الْمُؤَيَّدِ هِشَامِ بْنِ الْحَاكِمِ، وَكَانَ قَدِ اخْتَفَى وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ، وَكَانَ ظُهُورُهُ بِمَالِقَةَ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى الْمَرِيَّةِ، فَخَافَهُ صَاحِبُهَا زُهَيْرٌ الْعَامِرِيُّ فَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فَقَصَدَ قَلْعَةَ رَبَاحٍ، فَأَطَاعَهُ أَهْلُهَا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ صَاحِبُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ ذِي النُّونِ وَحَارَبَهُمْ، فَضَعُفُوا عَنْ مُقَاوَمَتِهِ، فَأَخْرَجُوهُ، فَاسْتَدْعَاهُ

الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ (بْنُ إِسْمَاعِيلَ) بْنِ عَبَّادٍ إِلَيْهِ بِإِشْبِيلِيَّةَ، وَأَذَاعَ أَمْرَهُ، وَقَامَ بِنَصْرِهِ، وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْأَنْدَلُسِ فِي طَاعَتِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ بَلَنْسِيَةَ وَنَوَاحِيهَا، وَصَاحِبُ قُرْطُبَةَ، وَصَاحِبُ دَانِيَةَ وَالْجَزَائِرِ، وَصَاحِبُ طُرْطُوشَةَ، وَأَقَرُّوا بِخِلَافَتِهِ وَخَطَبُوا لَهُ، وَجُدِّدَتْ بَيْعَتُهُ بِقُرْطُبَةَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ عَبَّادٍ سَيَّرَ جَيْشًا إِلَى زُهَيْرٍ الْعَامِرِيِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْطُبْ لِلْمُؤَيَّدِ، فَاسْتَنْجَدَ زُهَيْرٌ حَبُّوسَ بْنَ مَاكِسَنَ الصِّنْهَاجِيَّ صَاحِبَ غَرْنَاطَةَ، فَسَارَ إِلَيْهِ بِجَيْشِهِ، فَعَادَتْ عَسَاكِرُ ابْنِ عَبَّادٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ قِتَالٌ، وَأَقَامَ زُهَيْرٌ فِي بَيَّاسَةَ، وَعَادَ حَبُّوسٌ إِلَى مَالِقَةَ، فَمَاتَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ بَادِيسُ، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَزُهَيْرٌ لِيَتَّفِقَا كَمَا كَانَ زُهَيْرٌ وَحَبُّوسٌ، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ بَيْنَهُمَا قَاعِدَةٌ، وَاقْتَتَلَا، فَقُتِلَ زُهَيْرٌ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوَاخِرَ سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . ثُمَّ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] الْتَقَى عَسْكَرُ ابْنِ عَبَّادٍ وَعَلَيْهِمُ ابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ مَعَ بَادِيسَ بْنِ حَبُّوسٍ وَعَسْكَرِ إِدْرِيسَ الْعَلَوِيِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ أَخْبَارِ الْعَلَوِيِّينَ فِيمَا تَقَدَّمَ، إِلَّا أَنَّهُمُ اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ إِسْمَاعِيلُ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَهُ أَبُوهُ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو عَمْرٍو عَبَّادُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَلُقِّبَ بِالْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ فَضَبَطَ مَا وَلِيَ، وَأَظْهَرَ مَوْتَ الْمُؤَيَّدِ. هَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي الْفَيَّاضِ فِي الْمُؤَيَّدِ، وَقَالَ غَيْرُهُ إِنَّ الْمُؤَيَّدَ لَمْ يَظْهَرْ خَبَرُهُ مُنْذُ عُدِمَ مِنْ قُرْطُبَةَ عَنْ دُخُولِ عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ إِلَيْهَا، وَقَتَلَهُ سُلَيْمَانُ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْ

تَمْوِيهَاتِ ابْنِ عَبَّادٍ وَحِيَلِهِ وَمَكْرِهِ، وَأَعْجَبُ مِنِ اخْتِفَاءِ حَالِ الْمُؤَيَّدِ، ثُمَّ تَصْدِيقِ النَّاسِ ابْنَ عَبَّادٍ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ حَيَاتِهِ، أَنَّ إِنْسَانًا حَضَرِيًّا ظَهَرَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُؤَيَّدِ بِعِشْرِينَ سَنَةً وَادَّعَى أَنَّهُ (الْمُؤَيَّدُ، فَبُويِعَ) بِالْخِلَافَةِ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ جَمِيعِ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَسُفِكَتِ الدِّمَاءُ بِسَبَبِهِ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ فِي أَمْرِهِ. وَلَمَّا أَظْهَرَ ابْنُ عَبَّادٍ مَوْتَ هِشَامٍ الْمُؤَيَّدِ، وَاسْتَقَلَّ بِأَمْرِ إِشْبِيلِيَّةَ وَمَا انْضَافَ إِلَيْهَا، بَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَاتَ (مِنْ ذُبَحَةٍ لَحِقَتْهُ) لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ ابْنِ الْقَاضِي أَبِي الْقَاسِمِ، وَلُقِّبَ بِالْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ، فَاتَّسَعَ مُلْكُهُ، وَشَمَخَ سُلْطَانُهُ، وَمَلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْدَلُسِ، وَمَلَكَ قُرْطُبَةَ أَيْضًا، وَوَلَّى عَلَيْهَا ابْنَهُ الظَّافِرَ بِاللَّهِ، فَبَلَغَ خَبَرُ مُلْكِهِ لَهَا إِلَى يَحْيَى بْنِ ذِي النُّونِ، صَاحِبِ طُلَيْطِلَةَ، فَحَسَدَهُ عَلَيْهَا، فَضَمِنَ لَهُ جَرِيرُ بْنُ عُكَّاشٍ أَنْ يَجْعَلَ مُلْكَهَا لَهُ، وَسَارَ إِلَى قُرْطُبَةَ، وَأَقَامَ بِهَا يَسْعَى فِي ذَلِكَ وَهُوَ يَنْتَهِزُ الْفُرْصَةَ. فَاتَّفَقَ أَنَّ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي جَاءَ مَطَرٌ عَظِيمٌ وَمَعَهُ رِيحٌ شَدِيدٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، فَثَارَ جَرِيرٌ فِيمَنْ مَعَهُ، وَوَصَلَ إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُمَانِعُهُ، فَدَخَلَ صَاحِبُ الْبَابِ إِلَى الظَّافِرِ وَأَعْلَمَهُ، فَخَرَجَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْحَرَسِ، وَكَانَ صَغِيرَ السِّنِّ، وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، وَدَفَعَهُمْ عَنِ الْبَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَثَرَ فِي بَعْضِ كَرَّاتِهِ فَسَقَطَ، فَوَثَبَ بَعْضُ مَنْ يُقَاتِلُهُ وَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْخَبَرُ إِلَى الْأَجْنَادِ وَأَهْلِ الْبَلَدِ إِلَّا وَالْقَصْرُ قَدْ مُلِكَ، وَتَلَاحَقَ بِجَرِيرٍ أَصْحَابُهُ وَأَشْيَاعُهُ، وَتُرِكَ الظَّافِرُ مُلْقًى عَلَى الْأَرْضِ عُرْيَانًا، فَمَرَّ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ قُرْطُبَةَ، فَأَبْصَرَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَنَزَعَ رِدَاءَهُ وَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَبُوهُ إِذَا ذَكَرَهُ يَتَمَثَّلُ: وَلَمْ أَدْرِ مَنْ أَلْقَى عَلَيْهِ رِدَاءَهُ ... عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُلَّ عَنْ مَاجِدٍ مَحْضِ وَلَمْ يَزَلِ الْمُعْتَمِدُ يَسْعَى فِي أَخْذِهَا، حَتَّى عَادَ مَلَكَهَا، وَتَرَكَ وَلَدَهُ الْمَأْمُونَ

فِيهَا، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى أَخَذَهَا جَيْشُ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ يُوسُفَ بْنِ تَاشِفِينَ، وَقُتِلَ فِيهَا بَعْدَ حُرُوبٍ كَثِيرَةٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . وَأُخِذَتْ إِشْبِيلِيَّةُ مِنْ أَبِيهِ الْمُعْتَمِدِ فِي السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَبَقِيَ مَحْبُوسًا فِي أَغْمَاتَ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ جَمِيعُهُمُ الرَّشِيدُ، وَالْمَأْمُونُ. وَالرَّاضِي، وَالْمُعْتَمِدُ، وَأَبُوهُ، وَجَدُّهُ عُلَمَاءَ فُضَلَاءَ شُعَرَاءَ. [خَبَرُ بَطْلَيُوسَ] وَأَمَّا بَطْلَيُوسُ فَقَامَ بِهَا سَابُورُ الْفَتَى الْعَامِرِيُّ وَتَلَقَّبَ بِالْمَنْصُورِ، ثُمَّ انْتَقَلَتْ بَعْدَهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ، الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الْأَفْطَسِ، أَصْلُهُ مِنْ بَرْبَرِ مِكْنَاسَةَ، لَكِنَّهُ وُلِدَ أَبُوهُ بِالْأَنْدَلُسِ، وَنَشَأُوا بِهَا، وَتَخَلَّقُوا تَخَلُّقَ أَهْلِهَا، وَانْتَسَبُوا إِلَى تُجِيبَ، وَشَاكَلَهُمُ الْمُلْكُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ صَارَتْ بَعْدَهُ إِلَى ابْنِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَاتَّسَعَ مُلْكُهُ إِلَى أَقْصَى الْمَغْرِبِ، وَقُتِلَ صَبْرًا مَعَ (وَلَدَيْنِ لَهُ) عِنْدَ تَغَلُّبِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ (عَلَى الْأَنْدَلُسِ) . [خَبَرُ طُلَيْطِلَةَ] وَأَمَّا طُلَيْطِلَةُ فَقَامَ بِأَمْرِهَا ابْنُ يَعِيشَ، فَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ، وَصَارَتْ رِئَاسَتُهُ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَامِرِ بْنِ مُطَرِّفِ بْنِ ذِي النُّونِ، وَلَقَبُهُ الظَّافِرُ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَرْبَرِ وَوُلِدَ بِالْأَنْدَلُسِ، تَأَدَّبَ بِآدَابِ أَهْلِهَا، وَكَانَ مَوْلِدُ إِسْمَاعِيلَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَدَبِ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي الْآدَابِ وَالْأَخْبَارِ.

وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ يَحْيَى فَاشْتَغَلَ، بِالْخَلَاعَةِ وَالْمُجُونِ، وَأَكْثَرَ مُهَادَاةَ الْفِرِنْجِ وَمُصَانَعَتَهُمْ لِيَتَلَذَّذَ بِاللَّعِبِ، وَامْتَدَّتْ يَدُهُ إِلَى أَمْوَالِ الرَّعِيَّةِ، وَلَمْ تَزَلِ الْفِرِنْجُ تَأْخُذُ حُصُونَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، حَتَّى أَخَذَتْ طُلَيْطِلَةَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَصَارَ هُوَ بِبَلَنْسِيَةَ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ قَتَلَهُ الْقَاضِي ابْنُ جَحَّافٍ الْأَحْنَفُ، وَفِيهِ يَقُولُ الرَّئِيسُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ: أَيُّهَا الْأَحْنَفُ مَهْلًا ... فَلَقَدْ جِئْتَ عَوِيصَا إِذَا قَتَلْتَ الْمَلِكَ يَحْيَى ... وَتَقَمَّصْتَ الْقَمِيصَا رُبَّ يَوْمٍ فِيهِ تَجْرِي ... إِنْ تَجِدْ فِيهِ مَحِيصَا [خَبَرُ سَرَقُسْطَةَ] وَأَمَّا سَرَقُسْطَةُ وَالثَّغْرُ الْأَعْلَى فَكَانَ بِيَدِ مُنْذِرِ بْنِ يَحْيَى التُّجِيبِيِّ، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ يَحْيَى، ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَهُ لِسُلَيْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ هُودٍ الْجُذَامِيِّ وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالْمُسْتَعِينِ بِاللَّهِ، وَكَانَ مِنْ قُوَّادِ مُنْذِرٍ عَلَى مَدِينَةِ لَارِدَةَ، وَلَهُ وَقْعَةٌ مَشْهُورَةٌ بِالْفِرِنْجِ بِطُلَيْطِلَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ (الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ، وَوَلِيَ) بَعْدَهُ ابْنُهُ يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُؤْتَمَنُ، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَحْمَدُ الْمُسْتَعِينُ بِاللَّهِ عَلَى لَقَبِ جَدِّهِ، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ عِمَادُ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ

الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ، وَعَلَيْهِ انْقَرَضَتْ دَوْلَتُهُمْ عَلَى رَأْسِ الْخَمْسِمِائَةِ، فَصَارَتْ بِلَادُهُمْ جَمِيعًا (لِابْنِ تَاشِفِينَ) . وَرَأَيْتُ بَعْضَ أَوْلَادِهِمْ بِدِمَشْقَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَهُوَ فَقِيرٌ جِدًّا، وَهُوَ قَيِّمُ الرَّبْوَةِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَزُولُ، وَلَا تُغَيِّرُهُ الدُّهُورُ. [خَبَرُ طُرْطُوشَةَ] وَأَمَّا طُرْطُوشَةُ فَوَلِيَهَا (لَبِيبٌ الْفَتَى) الْعَامِرِيُّ. [خَبَرُ بَلَنْسِيَةَ] وَأَمَّا بَلَنْسِيَةُ فَكَانَ بِهَا الْمَنْصُورُ أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَنْصُورِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْمَعَافِرِيُّ. ثُمَّ انْضَافَ إِلَيْهِ الْمَرِيَّةُ وَمَا كَانَ إِلَيْهَا، وَبَعْدَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، وَدَامَ فِيهَا إِلَى أَنْ غَدَرَ بِهِ صِهْرُهُ الْمَأْمُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ ذِي النُّونِ وَأَخَذَ مِنْهُ رِئَاسَةَ بَلَنْسِيَةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَانْتَزَحَ إِلَى الْمَرِيَّةِ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ خُلِعَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [خَبَرُ السَّهْلَةِ] وَأَمَّا السَّهْلَةُ فَمَلَكَهَا عَبُّودُ بْنُ رَزِينٍ، وَأَصْلُهُ بَرْبَرِيٌّ، وَمَوْلِدُهُ بِالْأَنْدَلُسِ، فَلَمَّا

هَلَكَ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَكَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عِزُّ الدَّوْلَةِ، وَمِنْهُ مَلَكَهَا الْمُلَثَّمُونَ. [خَبَرُ دَانِيَةَ وَالْجَزَائِرِ] وَأَمَّا دَانِيَةُ وَالْجَزَائِرُ فَكَانَتْ بِيَدِ الْمُوَفَّقِ أَبِي الْحَسَنِ مُجَاهِدٍ الْعَامِرِيِّ، وَسَارَ إِلَيْهِ مِنْ قُرْطُبَةَ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ الْمُعَيْطِيُّ وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأَقَامَهُ مُجَاهِدٌ شِبْهَ خَلِيفَةٍ يَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِ، وَبَايَعَهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَأَقَامَ الْمُعَيْطِيُّ بِدَانِيَةَ مَعَ مُجَاهِدٍ وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ نَحْوَ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ سَارَ هُوَ وَمُجَاهِدٌ فِي الْبَحْرِ إِلَى الْجَزَائِرِ الَّتِي فِي الْبَحْرِ، وَهِيَ مَيُورْقَةُ بِالْيَاءِ، وَمَنُورْقَةُ بِالنُّونِ، وَيَابِسَةُ. ثُمَّ بَعَثَ الْمُعَيْطِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ مُجَاهِدًا إِلَى سَرْدَانِيَةَ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مَرْكَبًا بَيْنَ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ وَمَعَهُ أَلْفُ فَارِسٍ، فَفَتَحَهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَتَلَ بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ النَّصَارَى، وَسَبَى مِثْلَهُمْ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْفِرِنْجُ وَالرُّومُ مِنَ الْبَرِّ فِي آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا، وَرَجَعَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ وَالْمُعَيْطِيُّ قَدْ تُوُفِّيَ، فَغَاصَ مُجَاهِدٌ فِي تِلْكَ الْفِتَنِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، وَكَانَا جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَحَبَّةِ لِأَهْلِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَجَلَبَاهُمْ مِنْ أَقَاصِي الْبِلَادِ وَأَدَانِيهَا، ثُمَّ مَاتَ ابْنُهُ عَلِيٌّ فَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو عَامِرٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِثْلَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، ثُمَّ إِنَّ دَانِيَةَ وَسَائِرَ بِلَادِ بَنِي مُجَاهِدٍ صَارَتْ إِلَى الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ هُودٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.

[خَبَرُ مُرْسِيَةَ] وَأَمَّا مُرْسِيَةُ فَوَلِيَهَا بَنُو طَاهِرٍ، وَاسْتَقَامَتْ رِئَاسَتُهَا لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْهُمْ، الْمَدْعُوُّ بِالرَّئِيسِ، وَدَامَتْ رِئَاسَتُهُ إِلَى أَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ الْمُعْتَمِدُ بْنُ عَبَّادٍ عَلَى يَدِ وَزِيرِهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَهْرِيِّ، فَلَمَّا مَلَكَهَا عَصَى عَلَى الْمُعْتَمِدِ فِيهَا، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ عَسْكَرًا مُقَدَّمُهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَشِيقٍ الْقُشَيْرِيُّ، (فَحَصَرُوهُ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ حَتَّى هَرَبَ مِنْهَا، فَلَمَّا دَخَلَهَا الْقُشَيْرِيُّ عَصَى فِيهَا أَيْضًا عَلَى الْمُعْتَمِدِ) ، إِلَى أَنْ دَخَلَ فِي طَاعَةِ الْمُلَثَّمِينَ، وَبَقِيَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ طَاهِرٍ بِمَدِينَةِ بَلَنْسِيَةَ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَدُفِنَ بِمُرْسِيَةَ، وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى تِسْعِينَ سَنَةً. [خَبَرُ الْمَرِيَّةِ] وَأَمَّا الْمَرِيَّةُ فَمَلَكَهَا خَيْرَانُ الْعَامِرِيُّ، وَتُوُفِّيَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَوَلِيَهَا بَعْدَهُ زُهَيْرٌ الْعَامِرِيُّ، وَاتَّسَعَ مُلْكُهُ إِلَى شَاطِبَةَ، إِلَى مَا يُجَاوِرُ عَمَلَ طُلَيْطِلَةَ، وَدَامَ إِلَى أَنْ قُتِلَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَصَارَتْ مَمْلَكَتُهُ إِلَى الْمَنْصُورِ أَبِي الْحَسَنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمَنْصُورِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بِبَلَنْسِيَةَ أَقَامَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ بِالْمَرِيَّةِ، وَهُوَ يُدَبِّرُ بَلَنْسِيَةَ، فَانْتَهَزَ الْفُرْصَةَ فِيهَا الْمَأْمُونُ يَحْيَى بْنُ ذِي النُّونِ وَأَخَذَهَا مِنْهُ، وَبَقِيَ بِالْمَرِيَّةِ إِلَى أَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ صِهْرُهُ ذُو الْوَزَارَتَيْنِ أَبُو الْأَحْوَصِ الْمُعْتَصِمُ مَعْنُ (بْنُ مُحَمَّدِ) بْنِ صُمَادِحٍ التُّجِيبِيُّ، وَدَانَتْ لَهُ لُورَقَةُ، وَبَيَّاسَةُ، وَجَيَّانُ، وَغَيْرُهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو يَحْيَى

مُحَمَّدُ بْنُ مَعْنٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَكَفَلَهُ عَمُّهُ أَبُو عُتْبَةَ بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، فَبَقِيَ أَبُو يَحْيَى مُسْتَضْعَفًا لِصِغَرِهِ، وَأُخِذَتْ بِلَادُهُ الْبَعِيدَةُ عَنْهُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ غَيْرُ الْمَرِيَّةِ وَمَا يُجَاوِرُهَا. فَلَمَّا كَبِرَ أَخَذَ نَفْسَهُ بِالْعُلُومِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَامْتَدَّ صِيتُهُ، وَاشْتَهَرَ ذِكْرُهُ، وَعَظُمَ سُلْطَانُهُ، وَالْتَحَقَ بِأَكَابِرِ الْمُلُوكِ، وَدَامَ بِهَا إِلَى أَنْ نَازَلَهُ جَيْشُ الْمُلَثَّمِينَ، فَمَرِضَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ، وَكَانَ الْقِتَالُ تَحْتَ قَصْرِهِ، فَسَمِعَ يَوْمًا صِيَاحًا وَجَلَبَةً، فَقَالَ: نُغِّصَ عَلَيْنَا كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْمَوْتُ! وَتُوُفِّيَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَدَخَلَ أَوْلَادُهُ وَأَهْلُهُ الْبَحْرَ فِي مَرْكَبٍ إِلَى بِجَايَةَ قَاعِدَةِ مَمْلَكَةِ بَنِي حَمَّادٍ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ، وَمَلَكَ الْمُلَثَّمُونَ الْمَرِيَّةَ وَمَا مَعَهَا. [خَبَرُ مَالِقَةَ] وَأَمَّا مَالِقَةُ فَمَلَكَهَا بَنُو عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ، فَلَمْ تَزَلْ فِي مَمْلَكَةِ الْعَلَوِيِّينَ يُخْطَبُ لَهُمْ فِيهَا إِلَى أَنْ أَخَذَهَا مِنْهُمْ بَادِيسُ بْنُ حَبُّوسٍ صَاحِبُ غَرْنَاطَةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَانْقَضَى أَمْرُ الْعَلَوِيِّينَ بِالْأَنْدَلُسِ. [خَبَرُ غَرْنَاطَةَ] وَأَمَّا غَرْنَاطَةُ فَمَلَكَهَا حَبُّوسُ بْنُ مَاكِسَنَ الصِّنْهَاجِيُّ ثُمَّ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ

وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ بَادِيسُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُ أَخِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُلَكِّينَ، وَبَقِيَ إِلَى أَنْ مَلَكَهَا مِنْهُ الْمُلَثَّمُونَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَانْقَرَضَتْ دُوَلُ جَمِيعِهِمْ، وَصَارَتِ الْأَنْدَلُسُ جَمِيعُهَا لِلْمُلَثَّمِينَ، وَمَلَكَهُمْ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ يُوسُفُ بْنُ تَاشِفِينَ وَاتَّصَلَتْ مَمْلَكَتُهُ مِنَ الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى إِلَى آخِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَنْدَلُسِ (نَعُودُ إِلَى سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ) . ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ وَأَخِيهِ أَبِي الْفَوَارِسِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَلِكَ سُلْطَانَ الدَّوْلَةِ لَمَّا مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ وَلَّى أَخَاهُ أَبَا الْفَوَارِسِ بْنَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ كِرْمَانَ، فَلَمَّا وَلِيَهَا، اجْتَمَعَ إِلَيْهِ الدَّيْلَمُ، وَحَسَّنُوا لَهُ مُحَارَبَةَ أَخِيهِ وَأَخْذَ الْبِلَادِ مِنْهُ، فَتَجَهَّزَ وَتَوَجَّهَ إِلَى شِيرَازَ، فَلَمْ يَشْعُرْ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ حَتَّى دَخَلَ أَبُو الْفَوَارِسِ إِلَى شِيرَازَ، فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ، وَسَارَ إِلَيْهِ فَحَارَبَهُ فَانْهَزَمَ أَبُو الْفَوَارِسِ، وَعَادَ إِلَى كِرْمَانَ، فَتَبِعَهُ إِلَيْهَا فَخَرَجَ مِنْهَا هَارِبًا إِلَى خُرَاسَانَ، وَقَصَدَ يَمِينَ الدَّوْلَةِ مَحْمُودَ بْنَ سُبُكْتِكِينَ وَهُوَ بِبُسْتَ فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَحَمَلَ إِلَيْهِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَجْلَسَهُ فَوْقَ دَارَا بْنِ قَابُوسَ بْنِ وَشْمَكِيرَ فَقَالَ دَارَا: نَحْنُ أَعْظَمُ مَحَلًّا مِنْهُمْ لِأَنَّ أَبَاهُ وَأَعْمَامَهُ خَدَمُوا آبَائِي، فَقَالَ مَحْمُودٌ: لَكِنَّهُمْ أَخَذُوا الْمُلْكَ بِالسَّيْفِ، أَرَادَ بِهَذَا نُصْرَةَ نَفْسِهِ حَيْثُ أَخَذَ خُرَاسَانَ مِنَ السَّامَانِيَّةِ (وَوَعَدَ مَحْمُودٌ أَنْ يَنْصُرَهُ. ثُمَّ إِنَّ) أَبَا الْفَوَارِسِ بَاعَ جَوْهَرَتَيْنِ كَانَتَا عَلَى جَبْهَةِ فَرَسِهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ فَاشْتَرَاهُمَا مَحْمُودٌ وَحَمَلَهُمَا إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: مِنْ غَلَطِكُمْ تَتْرُكُونَ هَذَا عَلَى جَبْهَةِ الْفَرَسِ وَقِيمَتُهَا سِتُّونَ أَلْفَ دِينَارٍ. ثُمَّ إِنَّ مَحْمُودًا سَيَّرَ جَيْشًا مَعَ أَبِي الْفَوَارِسِ إِلَى كِرْمَانَ، مُقَدَّمُهُمْ أَبُو سَعْدٍ الطَّائِيُّ وَهُوَ مِنْ أَعْيَنِ قُوَّادِهِ، فَسَارَ إِلَى كِرْمَانَ فَمَلَكَهَا وَقَصَدَ بِلَادَ فَارِسَ وَقَدْ فَارَقَهَا سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَدَخَلَ شِيرَازَ. فَلَمَّا سَمِعَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ عَادَ إِلَى فَارِسَ فَالْتَقَوْا هُنَاكَ وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ أَبُو

الْفَوَارِسِ وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَادَ بِأَسْوَإِ حَالٍ، وَمَلَكَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ بِلَادَ فَارِسَ، وَهَرَبَ أَبُو الْفَوَارِسِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى كِرْمَانَ، فَسَيَّرَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ الْجُيُوشَ فِي أَثَرِهِ، فَأَخَذُوا كِرْمَانَ مِنْهُ، فَلَحِقَ بِشَمْسِ الدَّوْلَةِ بْنِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، صَاحِبِ هَمَذَانَ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْعَوْدُ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ، لِأَنَّهُ أَسَاءَ السِّيرَةَ مَعَ أَبِي سَعْدٍ الطَّائِيِّ. ثُمَّ فَارَقَ شَمْسَ الدَّوْلَةِ، وَلَحِقَ بِمُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، صَاحِبِ الْبَطِيحَةِ، فَأَكْرَمَهُ وَأَنْزَلَهُ دَارَهُ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ أَخُوهُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْبَصْرَةِ مَالًا وَثِيَابًا، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الِانْحِدَارَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْهُ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، فَأَعَادَ (إِلَيْهِ كِرْمَانَ) ، وَسُيِّرَتْ إِلَيْهِ الْخِلَعُ (وَالتَّقْلِيدُ بِذَلِكَ، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ) الْأَمْوَالُ، فَعَادَ إِلَيْهَا. ذِكْرُ قَتْلِ الشِّيعَةِ بِإِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي مُحَرَّمٍ، قُتِلَتِ الشِّيعَةُ بِجَمِيعِ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعِزَّ بْنَ بَادِيسَ رَكِبَ وَمَشَى فِي الْقَيْرَوَانِ وَالنَّاسُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيَدْعُونَ لَهُ، فَاجْتَازَ بِجَمَاعَةٍ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ، فَقِيلَ: هَؤُلَاءِ رَافِضَةٌ يَسُبُّونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ! فَانْصَرَفَتِ الْعَامَّةُ مِنْ فَوْرِهَا إِلَى دَرْبِ الْمُعَلَّى مِنَ الْقَيْرَوَانِ، وَهُوَ [مَكَانٌ] تَجْتَمِعُ بِهِ الشِّيعَةُ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ شَهْوَةَ الْعَسْكَرِ وَأَتْبَاعِهِمْ، طَمَعًا فِي النَّهْبِ، وَانْبَسَطَتْ أَيْدِي الْعَامَّةِ فِي الشِّيعَةِ، وَأَغْرَاهُمْ عَامِلُ الْقَيْرَوَانِ وَحَرَّضَهُمْ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَصْلَحَ أُمُورَ الْبَلَدِ، فَبَلَغَهُ أَنَّ الْمُعِزَّ بْنَ بَادِيسَ يُرِيدُ عَزْلَهُ

فَأَرَادَ فَسَادَهُ، فَقُتِلَ مِنَ الشِّيعَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُحْرِقُوا بِالنَّارِ وَنُهِبَتْ دِيَارُهُمْ، وَقُتِلُوا فِي جَمِيعِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَاجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى قَصْرِ الْمَنْصُورِ قَرِيبِ الْقَيْرَوَانِ فَتَحَصَّنُوا بِهِ فَحَصَرَهُمُ الْعَامَّةُ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْجُوعُ، فَأَقْبَلُوا يَخْرُجُونَ وَالنَّاسُ يَقْتُلُونَهُمْ حَتَّى قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَجَأَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ بِالْمَهْدِيَّةِ إِلَى الْجَامِعِ فَقُتِلُوا كُلُّهُمْ، وَكَانَتِ الشِّيعَةُ تُسَمَّى بِالْمَغْرِبِ الْمَشَارِقَةَ نِسْبَةً إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ، وَكَانَ مِنَ الْمَشْرِقِ، وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ ذِكْرَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ فَمِنْ فَرِحٍ مَسْرُورٍ وَمِنْ بَاكٍ حَزِينٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، احْتَرَقَتْ قُبَّةُ مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ وَالْأَرْوِقَةِ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّهُمْ أَشْعَلُوا شَمْعَتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ، فَسَقَطَتَا فِي اللَّيْلِ عَلَى التَّأْزِيرِ، فَاحْتَرَقَ، وَتَعَدَّتِ النَّارُ، وَفِيهِ أَيْضًا احْتَرَقَ نَهْرُ طَابِقٍ وَدَارُ الْقُطْنِ، وَكَثِيرٌ مِنْ بَابِ الْبَصْرَةِ وَاحْتَرَقَ جَامِعُ سُرَّ مَنْ رَأَى. وَفِيهَا تَشَعَّثَ الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ مِنَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَسَقَطَ حَائِطٌ بَيْنَ يَدَيْ حُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقَعَتِ الْقُبَّةُ الْكَبِيرَةُ عَلَى الصَّخْرَةِ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ. وَفِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ بِوَاسِطٍ، فَانْتَصَرَ السُّنَّةُ وَهَرَبَ وُجُوهُ الشِّيعَةِ وَالْعَلَوِيِّينَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ فَاسْتَنْصَرُوهُ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو الْحُسَيْنِ الضَّبِّيُّ الْقَاضِي الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمَحَامِلِيِّ وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَكِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ أَبُو عُمَرُ الْبِسْطَامِيُّ، الْوَاعِظُ، الْفَقِيهُ، الشَّافِعِيُّ وَلِيَ قَضَاءَ نَيْسَابُورَ.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَة] 408 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ خُرُوجِ التُّرْكِ مِنَ الصِّينِ وَمَوْتِ طُغَانَ خَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ التُّرْكُ مِنَ الصِّينِ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ يَزِيدُونَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ خَرْكَاةٍ مِنْ أَجْنَاسِ التُّرْكِ، مِنْهُمُ الْخِطَائِيَّةُ الَّذِينَ مَلَكُوا مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَسَيَرِدُ خَبَرُ مُلْكِهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِمْ أَنَّ طُغَانَ خَانَ لَمَّا مَلَكَ تُرْكِسْتَانَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا، وَطَالَ بِهِ الْمَرَضُ فَطَمِعُوا فِي الْبِلَادِ لِذَلِكَ، فَسَارُوا إِلَيْهَا وَمَلَكُوا بَعْضَهَا وَغَنِمُوا وَسَبَوْا وَبَقِيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَلَاسَاغُونَ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ كَانَ بِهَا مَرِيضًا، فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعَافِيَهُ لِيَنْتَقِمَ مِنَ الْكَفَرَةِ، وَيَحْمِيَ الْبِلَادَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَفْعَلَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَرَادَ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَشَفَاهُ، فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، وَكَتَبَ إِلَى سَائِرِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ يَسْتَنْفِرُ النَّاسَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ مِائَةُ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، فَلَمَّا بَلَغَ التُّرْكَ خَبَرُ عَافِيَتِهِ وَجَمْعِهِ الْعَسَاكِرَ وَكَثْرَةِ مَنْ مَعَهُ عَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَسَارَ خَلْفَهُمْ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ حَتَّى أَدْرَكَهُمْ وَهُمْ آمِنُونَ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ، فَكَبَسَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ زِيَادَةً عَلَى مِائَتَيْ أَلْفِ رَجُلٍ، وَأَسَرَ نَحْوَ مِائَةِ أَلْفٍ، وَغَنِمَ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْخَرْكَاهَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوَانِي الذَّهَبِيَّةِ وَالْفِضِّيَّةِ وَمَعْمُولِ الصِّينِ مَا لَا عَهْدَ لِأَحَدٍ بِمِثْلِهِ، وَعَادَ إِلَى بَلَاسَاغُونَ، فَلَمَّا بَلَغَهَا، عَاوَدَهُ مَرَضُهُ فَمَاتَ مِنْهُ.

وَكَانَ عَادِلًا، خَيِّرًا، دَيِّنًا، يُحِبُّ الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ، وَيَمِيلُ إِلَى أَهْلِ الدِّينِ، وَيَصِلُهُمْ وَيُقَرِّبُهُمْ، وَمَا أَشْبَهَ قِصَّتَهُ بِقِصَّةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَقِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ مَعَ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ قَرَاخَانَ، أَخِي طُغَانَ خَانَ، وَإِنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ مُلْكِ أَخِيهِ أَرْسَلَانَ خَانَ لَمَّا مَاتَ طُغَانُ خَانَ مَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ أَرْسَلَانُ خَانَ، وَلَقَبُهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، فَخَالَفَ عَلَيْهِ قَدْرُ خَانَ يُوسُفُ بْنُ بَغْرَا خَانَ هَارُونَ بْنِ سُلَيْمَانَ الَّذِي مَلَكَ بُخَارَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَانَ يَنُوبُ عَنْ طُغَانَ خَانَ بِسَمَرْقَنْدَ، فَكَاتَبَ يَمِينَ الدَّوْلَةِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى أَرْسَلَانَ خَانَ، فَعَقَدَ عَلَى جَيْحُونَ جِسْرًا مِنَ السُّفُنِ، وَضَبَطَهُ بِالسَّلَاسِلِ، فَعَبَرَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ هُنَاكَ قَبْلَ هَذَا، وَأَعَانَهُ عَلَى أَرْسَلَانَ خَانَ. ثُمَّ إِنَّ يَمِينَ الدَّوْلَةِ خَافَهُ، فَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ، فَاصْطَلَحَ قَدْرُ خَانَ وَأَرْسَلَانُ خَانَ عَلَى قَصْدِ بِلَادِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ وَاقْتِسَامِهَا، وَسَارَا إِلَى بَلْخَ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ، فَقَصَدَهُمَا، وَاقْتَتَلُوا، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ انْهَزَمَ التُّرْكُ وَعَبَرُوا جَيْحُونَ، فَكَانَ مَنْ غَرِقَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِمَّنْ نَجَا. وَوَرَدَ رَسُولُ مُتَوَلِّي خُوَارَزْمَ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ يُهَنِّئُهُ بِالْفَتْحِ عَقِيبَ الْوَقْعَةِ، فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتُمْ؟ فَقَالَ: مِنْ كَثْرَةِ الْقَلَانِسِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى الْمَاءِ، وَعَبَرَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ، فَشَكَا أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ إِلَى قَدْرَ خَانَ مَا يَلْقَوْنَ مِنْ عَسْكَرِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ، فَقَالَ: قَدْ قَرُبَ الْأَمْرُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَدُوِّنَا، فَإِنْ ظَفِرْنَا مَنَعْنَا عَنْكُمْ، وَإِنْ ظَفِرَ عَدُوُّنَا فَقَدِ اسْتَرَحْتُمْ مِنَّا. ثُمَّ اجْتَمَعَ هُوَ وَقَدْرُ خَانَ، وَأَكَلَا طَعَامًا، وَكَانَ قَدْرُ خَانَ عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، كَثِيرَ الْجِهَادِ، فَمِنْ فُتُوحِهِ خُتَنُ، وَهِيَ بِلَادٌ بَيْنَ الصِّينِ وَتُرْكُسْتَانَ وَهِيَ كَثِيرَةُ الْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، وَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَتُوُفِّيَ فِيهَا، وَكَانَ يُدِيمُ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ.

وَلَمَّا تُوُفِّيَ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ [مِنْهُمْ] أَبُو شُجَاعٍ أَرْسَلَانُ خَانَ، وَكَانَ لَهُ كَاشْغَرُ، وَخُتَنُ، وَبَلَاسَاغُونُ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِهَا، وَكَانَ لَقَبُهُ شَرَفَ الدَّوْلَةِ، وَلَمْ يَشْرَبِ الْخَمْرَ قَطُّ، وَكَانَ دَيِّنًا، مُكْرِمًا لِلْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ، فَقَصَدُوهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَوَصَلَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَخَلَّفَ أَيْضًا بَغْرَا خَانَ بْنَ قَدْرَ خَانَ، وَكَانَ لَهُ طِرَازٌ وَإِسْبِيجَابُ، (فَقَدِمَ أَخُوهُ) أَرْسَلَانُ وَأَخَذَ مَمْلَكَتَهُ، فَتَحَارَبَا، فَانْهَزَمَ أَرْسَلَانُ خَانَ وَأُخِذَ أَسِيرًا، فَأَوْدَعُوهُ الْحَبْسَ، وَمَلَكَ بِلَادَهُ. ثُمَّ إِنَّ بَغْرَا خَانَ عَهِدَ بِالْمُلْكِ لِوَلَدِهِ الْأَكْبَرِ، وَاسْمُهُ حُسَيْنُ جَغْرِي تِكِينَ، وَجَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ، وَكَانَ لِبَغْرَا خَانَ امْرَأَةٌ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ صَغِيرٌ، فَغَاظَهَا ذَلِكَ، فَعَمَدَتْ إِلَيْهِ وَسَمَّتْهُ فَمَاتَ هُوَ وَعِدَّةٌ مِنْ أَهْلِهِ، وَخَنَقَتْ أَخَاهُ أَرْسَلَانَ خَانَ بْنَ قَدْرَ خَانَ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَتَلَتْ وُجُوهَ أَصْحَابِهِ، وَمَلَّكَتِ ابْنَهُ، وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ، وَسَيَّرَتْهُ فِي جَيْشٍ إِلَى مَدِينَةٍ تُعْرَفُ بِبَرْسُخَانَ، وَصَاحِبُهَا يُعْرَفُ بِيَنَالْتَكِينَ، فَظَفِرَ بِهِ يَنَالْتَكِينُ وَقَتَلَهُ، وَانْهَزَمَ عَسْكَرُهُ إِلَى أُمِّهِ، وَاخْتَلَفَ أَوْلَادُ بَغْرَا خَانَ، فَقَصَدَهُمْ طُفْغَاجُ خَانَ صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ. ذِكْرُ مُلْكِ طُفْغَاجَ خَانَ وَوَلَدِهِ وَكَانَ طُفْغَاجُ خَانَ أَبُو الْمُظَفَّرِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَصْرِ أَيْلَكَ يُلَقَّبُ عِمَادَ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ بِيَدِهِ سَمَرْقَنْدُ وَفَرْغَانَةُ، وَكَانَ أَبُوهُ زَاهِدًا وَمُتَعَبِّدًا، وَهُوَ الَّذِي مَلَكَ سَمَرْقَنْدَ، فَلَمَّا مَاتَ وَرِثَهُ ابْنُهُ طُفْغَاجُ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ، وَكَانَ طُفْغَاجُ مُتَدَيِّنًا لَا يَأْخُذُ مَالًا حَتَّى يَسْتَفْتِيَ الْفُقَهَاءَ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ أَبُو شُجَاعٍ الْعَلَوِيُّ الْوَاعِظُ، وَكَانَ زَاهِدًا، فَوَعَظَهُ وَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ لَا تَصْلُحُ لِلْمُلْكِ. فَأَغْلَقَ طُفْغَاجُ بَابَهُ، وَعَزَمَ عَلَى تَرْكِ الْمُلْكِ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَلَدِ

وَقَالُوا: قَدْ أَخْطَأَ هَذَا، وَالْقِيَامُ بِأُمُورِنَا مُتَعَيَّنٌ عَلَيْهِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ فَتَحَ بَابَهُ، وَمَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَكَانَ السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ قَدْ قَصَدَ بِلَادَهُ وَنَهَبَهَا أَيَّامَ عَمِّهِ طُغْرُلْبَكَ، فَلَمْ يُقَابِلِ الشَّرَّ بِمِثْلِهِ، وَأَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] يُهَنِّئُهُ بِعَوْدِهِ إِلَى مُسْتَقَرِّهِ، وَيَسْأَلُ التَّقَدُّمَ إِلَى أَلْبِ أَرْسَلَانَ بِالْكَفِّ عَنْ بِلَادِهِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخِلَعَ وَالْأَلْقَابَ، ثُمَّ فُلِجَ سَنَةَ سِتِّينَ. وَكَانَ فِي حَيَاتِهِ قَدْ جَعَلَ الْمُلْكَ فِي وَلَدِهِ شَمْسِ الْمُلْكِ، فَقَصَدَهُ أَخُوهُ طُغَانُ خَانَ بْنُ طُفْغَاجَ، وَحَصَرَهُ بِسَمَرْقَنْدَ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُهَا إِلَى شَمْسِ الْمُلْكِ، وَقَالُوا لَهُ: قَدْ خَرَّبَ أَخُوكَ ضَيَاعَنَا وَأَفْسَدَهَا، وَلَوْ كَانَ غَيْرَهُ لَسَاعَدْنَاكَ، وَلَكِنَّهُ أَخُوكَ فَلَا نَدْخُلُ بَيْنَكُمَا فَوَعَدَهُمُ الْمُنَاجَزَةَ، وَخَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ نِصْفَ اللَّيْلِ فِي خَمْسِمِائَةِ غُلَامٍ مُعَدِّينَ، وَكَبَسَ أَخَاهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاطٍ، فَظَفِرَ بِهِ، فَهَزَمَهُ، وَكَانَ هَذَا وَأَبُوهُمَا حَيٌّ. ثُمَّ قَصَدَهُ هَارُونُ بَغْرَا خَانَ بْنُ يُوسُفَ قَدْرَ خَانَ، وَطُغْرُلُ قَرَا خَانَ، وَكَانَ طُفْغَاجُ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى مَمَالِكِهِمَا، وَقَارَبَا سَمَرْقَنْدَ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِشَمْسِ الْمُلْكِ، فَصَالَحَاهُ وَعَادَا فَصَارَتِ الْأَعْمَالُ الْمُتَاخِمَةُ لِجَيْحُونَ لِشَمْسِ الْمُلْكِ، وَأَعْمَالِ الْخَاهِرَ فِي أَيْدِيهِمَا، وَالْحَدُّ بَيْنَهُمَا خُجَنْدَةُ. وَكَانَ السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ قَدْ تَزَوَّجَ ابْنَةَ قَدْرَ خَانَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، وَتَزَوَّجَ شَمْسُ الْمُلْكِ ابْنَةَ أَلْبِ أَرْسَلَانَ، وَزَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ عِيسَى خَانَ مِنَ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَهُوَ خَاتُونُ الْجَلَالِيَّةُ أَمُّ الْمَلِكِ مَحْمُودٍ الَّذِي وَلِيَ السَّلْطَنَةَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَلْبُ أَرْسَلَانَ وَشَمْسُ الْمُلْكِ، وَسَنَذْكُرُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] عِنْدَ قَتْلِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ، ثُمَّ مَاتَ شَمْسُ الْمُلْكِ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ أَخُوهُ خِضْرُ خَانَ ثُمَّ مَاتَ فَوَلِيَ ابْنُهُ أَحْمَدُ خَانَ وَهُوَ الَّذِي قَبَضَ عَلَيْهِ مَلِكْشَاهْ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى وِلَايَتِهِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، وَسَنَذْكُرُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ إِنَّ جُنْدَهُ ثَارُوا بِهِ فَقَتَلُوهُ وَمَلَكَ بَعْدَهُ مَحْمُودُ خَانَ، وَكَانَ جَدُّهُ مِنْ مُلُوكِهِمْ، وَكَانَ أَصَمَّ، فَقَصَدَهُ طُغَانُ خَانَ بْنُ قَرَا خَانَ، صَاحِبُ طِرَازَ، فَقَتَلَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَى الْمُلْكِ، وَاسْتَنَابَ بِسَمَرْقَنْدَ أَبَا الْمَعَالِي مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدٍ الْعَلَوِيَّ الْبَغْدَاذِيَّ، فَوَلِيَ ثَلَاثَ سِنِينَ ثُمَّ عَصَى عَلَيْهِ، فَحَاصَرَهُ طُغَانُ خَانَ وَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مَعَهُ. ثُمَّ خَرَجَ طُغَانُ خَانَ إِلَى تِرْمِذَ يُرِيدُ خُرَاسَانَ، فَلَقِيَهُ السُّلْطَانُ سِنْجَرُ وَظَفِرَ بِهِ وَقَتَلَهُ وَصَارَتْ أَعْمَالُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ لَهُ، فَاسْتَنَابَ بِهَا مُحَمَّدَ خَانَ بْنَ كَمَشْتَكِينَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طُفْغَاجَ خَانَ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ عُمَرُ خَانَ، وَمَلَكَ سَمَرْقَنْدَ، ثُمَّ هَرَبَ مِنْ جُنْدِهِ وَقَصَدَ خُوَارَزْمَ فَظَفِرَ بِهِ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ فَقَتَلَهُ وَوَلِيَ سَمَرْقَنْدَ مُحَمَّدُ خَانَ وَوَلِيَ بُخَارَى مُحَمَّدُ تِكِينَ بْنُ طُغَانْتِكِينَ. ذِكْرُ كَاشْغَرَ وَتُرْكُسْتَانَ وَأَمَّا كَاشْغَرُ، وَهِيَ مَدِينَةُ تُرْكُسْتَانَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ لِأَرْسَلَانَ خَانَ بْنِ يُوسُفَ قَدْرَ خَانَ، كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَهُ لِمَحْمُودِ بَغْرَا خَانَ، صَاحِبِ طِرَازَ وَالشَّاشَ، خَمْسَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ مَاتَ فَوَلِيَ بَعْدَهُ طُغْرُلُ خَانَ بْنُ يُوسُفَ قَدْرَ خَانَ فَاسْتَوْلَى عَلَى الْمُلْكِ، وَمَلَكَ بَلَاسَاغُونَ، وَكَانَ مُلْكُهُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ. وَمَلَكَ ابْنُهُ طُغْرُلْتِكِينُ، وَأَقَامَ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ أَتَى هَارُونُ بَغْرَا خَانَ أَخُو يُوسُفَ طُغْرُلْخَانَ بْنِ طُفْغَاجَ بَغْرَا خَانَ، وَعَبَرَ كَاشْغَرَ، وَقَبَضَ عَلَى هَارُونَ، وَأَطَاعَهُ عَسْكَرُهُ، وَمَلَكَ كَاشْغَرَ، وَخُتَنَ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهِمَا إِلَى بَلَاسَاغُونَ، وَأَقَامَ مَالِكًا تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَوَلِيَ ابْنُهُ أَحْمَدُ بْنُ أَرْسَلَانَ خَانَ، وَأَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الْخِلَعَ وَالْأَلْقَابَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَا طَلَبَ، وَلَقَّبَهُ نُورَ الدَّوْلَةِ.

ذِكْرُ وَفَاةِ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ وَحَالِ الْبَطِيحَةِ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، تُوُفِّيَ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ الْقَادِرُ بِاللَّهِ. وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ افْتَصَدَ، فَانْتَفَخَ سَاعِدُهُ، وَمَرِضَ مِنْهُ، وَاشْتَدَّ مَرَضُهُ فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَحَدَّثَ الْجُنْدُ بِإِقَامَةِ وَلَدِهِ أَبِي الْحُسَيْنِ أَحْمَدَ مَقَامَهُ، فَبَلَغَ ابْنَ أُخْتِ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَنِّي، فَاسْتَدْعَى الدَّيْلَمَ وَالْأَتْرَاكَ، وَرَغَّبَهُمْ وَوَعَدَهُمْ، وَاسْتَحْلَفَهُمْ لِنَفْسِهِ، وَقَرَّرَ مَعَهُمُ الْقَبْضَ عَلَى أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ وَتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ، فَمَضَوْا إِلَيْهِ لَيْلًا وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ وَلَدُ الْأَمِيرِ، وَوَارِثُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَوْ قُمْتَ مَعَنَا إِلَى دَارِ الْإِمَارَةِ لِيَظْهَرَ أَمْرُكَ وَتَجْتَمِعَ الْكَلِمَةُ عَلَيْكَ لَكَانَ حَسَنًا. فَخَرَجَ مِنْ دَارِهِ مَعَهُمْ، فَلَمَّا فَارَقَهَا قَبَضُوا عَلَيْهِ وَحَمَلُوهُ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ، فَسَمِعَتْ وَالِدَتُهُ، فَدَخَلَتْ إِلَى مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمٍ، فَأَعْلَمَتْهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَقْدِرُ أَعْمَلُ وَأَنَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟ وَتُوُفِّيَ فِي الْغَدِ، وَوَلِيَ الْأَمْرَ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَتَسَلَّمَ الْأَمْوَالَ وَالْبَلَدَ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، فَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا تُوُفِّيَ مِنْهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَوْتِ أَبِيهِ. وَبَقِيَ أَبُو مُحَمَّدٍ أَمِيرًا إِلَى مُنْتَصَفِ شَعْبَانَ، وَتُوُفِّيَ بِالذُّبَحَةِ، وَكَانَ قَدْ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ: رَأَيْتُ مُهَذِّبَ الدَّوْلَةِ فِي الْمَنَامِ وَقَدْ مَسَكَ حَلْقِي لِيَخْنُقَنِي، وَيَقُولُ: قَتَلْتَ ابْنِي أَحْمَدَ، وَقَابَلْتَ نِعْمَتِي عَلَيْكَ بِذَاكَ. فَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ، فَكَانَ مُلْكُهُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ اتَّفَقَ الْجَمَاعَةُ عَلَى تَأْمِيرِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ بَكْرٍ الشَّرَابِيِّ، وَكَانَ مِنْ خَوَاصِّ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ فَصَارَ أَمِيرَ الْبَطِيحَةِ، وَبَذَلَ لِلْمَلِكِ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ بُذُولًا، فَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا، وَبَقِيَ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ بْنَ فَارِسٍ

الْمَازِيَارِيَّ، فَمَلَكَ الْبَطِيحَةَ، وَأَسَرَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الشَّرَابِيَّ، فَبَقِيَ عِنْدَهُ أَسِيرًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ صَدَقَةُ وَخُلِّصَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ وَفَاةِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ وَإِمَارَةِ ابْنِهِ دُبَيْسٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ، وَقَامَ بَعْدَهُ ابْنُهُ نُورُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْأَغَرِّ دُبَيْسٌ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ جَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ سُلْطَانَ الدَّوْلَةِ، وَأَذِنَ فِي وِلَايَتِهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَالِدُهُ اخْتَلَفَتِ الْعَشِيرَةُ عَلَى دُبَيْسٍ، فَطَلَبَ أَخُوهُ الْمُقَلَّدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيٍّ الْإِمَارَةَ، وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ وَبَذَلَ لِلْأَتْرَاكِ بُذُولًا كَثِيرَةً لِيُعَاضِدُوهُ، فَسَارَ مَعَهُ مِنْهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَكَبَسُوا دُبَيْسًا بِالنُّعْمَانِيَّةِ وَنَهَبُوا حُلَّتَهُ، فَانْهَزَمَ إِلَى نَوَاحِي وَاسِطٍ، وَعَادَ الْأَتْرَاكُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَقَامَ الْأَثِيرُ الْخَادِمُ بِأَمْرِ دُبَيْسٍ حَتَّى ثَبَتَ قَدَمُهُ، وَمَضَى الْمُقَلَّدُ أَخُوهُ إِلَى بَنِي عُقَيْلٍ وَنَذْكُرُ بَاقِيَ أَخْبَارِهِ مَوْضِعَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ضَعُفَ أَمْرُ الدَّيْلَمِ بِبَغْدَاذَ، وَطَمِعَ فِيهِمُ الْعَامَّةُ، فَانْحَدَرُوا إِلَى وَاسِطٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَامَّتُهَا وَأَتْرَاكُهَا فَقَاتَلُوهُمْ، فَدَفَعَ الدَّيْلَمُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَتَلُوا مِنْ أَتْرَاكِ وَاسِطٍ وَعَامَّتِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَعَظُمَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ بِبَغْدَاذَ، فَأَفْسَدُوا وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَاجِبُ أَبُو طَاهِرٍ شَبَاشِيُّ الْمُشَطَّبِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ.

وَأَبُو الْحَسَنِ الْهُمَانِيُّ وَكَانَ مُتَوَلِّيَ الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ الَّذِي مَدَحَهُ مِهْيَارُ بِقَوْلِهِ: أَسْتَنْجِدُ الصَّبْرَ فِيكُمْ، وَهُوَ مَغْلُوبٌ [ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ] وَفِيهَا قَدِمَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ بَغْدَاذَ، وَضُرِبَ الطَّبْلُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ، إِنَّمَا كَانَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي أَوْقَاتِ ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ. وَفِيهَا هَرَبَ ابْنُ سَهْلَانَ مِنْ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ إِلَى هِيتَ وَأَقَامَ عِنْدَ قِرْوَاشٍ، وَوَلَّى سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ مَوْضِعَهُ أَبَا الْقَاسِمِ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ فَسَانْجِسَ، وَمَوْلِدُهُ بِبَغْدَاذَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. (وَفِيهَا كَانَتْ بِبَغْدَاذَ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ مِنَ الشِّيعَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنَ السُّنَّةِ اشْتَدَّتْ. وَفِيهَا اسْتَنَابَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ الْمُعْتَزِلَةَ وَالشِّيعَةَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ أَرْبَابِ الْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَنَهَى مِنَ الْمُنَاظَرَةِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ نُكِّلَ بِهِ وَعُوقِبَ) .

ثم دخلت سنة تسع وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِمِائَة] 409 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ وِلَايَةِ ابْنِ سَهْلَانَ الْعِرَاقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَرَضَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ عَلَى الرُّخَّجِيِّ وِلَايَةَ الْعِرَاقِ، فَقَالَ: وِلَايَةُ الْعِرَاقِ تَحْتَاجُ إِلَى مَنْ فِيهِ عَسْفٌ وَخَرَقٌ، وَلَيْسَ غَيْرُ ابْنِ سَهْلَانَ، وَأَنَا أَخْلُفُهُ هَاهُنَا. فَوَلَّاهُ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ الْعِرَاقَ فِي الْمُحَرَّمِ، فَسَارَ مِنْ عِنْدِ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ تَرَكَ ثَقَلَهُ، وَالْكُتَّابَ، وَأَصْحَابَهُ، وَسَارَ جَرِيدَةً فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ مَعَ طَرَّادِ بْنِ دُبَيْسٍ الْأَسَدِيِّ يَطْلُبُ مُهَارِشَ وَمُضَرًا ابْنَيْ دُبَيْسٍ، وَكَانَ مُضَرُ قَدْ قُبِضَ قَدِيمًا عَلَيْهِ بِأَمْرِ فَخْرِ الْمُلْكِ، فَكَانَ يَبْغَضُهُ لِذَلِكَ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ جَزِيرَةَ بَنِي أَسَدٍ مِنْهُ وَيُسَلِّمُهَا إِلَى طَرَّادٍ. فَلَمَّا عَلِمَ مُضِرُ وَمُهَارِشُ قَصْدَهُ لَهُمَا سَارَا عَنِ الْمَذَارِ، فَتَبِعَهُمَا، وَالْحَرُّ شَدِيدٌ، فَكَادَ يَهْلِكُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ عَطَشًا فَكَانَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ أَنَّ بَنِي أَسَدٍ اشْتَغَلُوا بِجَمْعِ أَمْوَالِهِمْ وَإِبْعَادِهَا، وَبَقِيَ الْحَسَنُ بْنُ دُبَيْسٍ فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الدَّيْلَمِ وَالْأَتْرَاكِ، ثُمَّ انْهَزَمُوا وَنَهَبَ ابْنُ سَهْلَانَ أَمْوَالَهُمْ، وَصَانَ حُرَمَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَ فِي خَيْمَتِهِ قَالَ: الْآنَ وَلَدَتْنِي أُمِّي، وَبَذَلَ الْأَمَانَ لِمُهَارِشَ وَمُضَرَ وَأَهْلِهِمَا، وَأَشْرَكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ طَرَّادٍ فِي الْجَزِيرَةِ وَرَحَلَ. وَأَنْكَرَ عَلَى سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ فِعْلَهُ ذَلِكَ، وَوَصَلَ إِلَى وَاسِطٍ وَالْفِتَنُ بِهَا قَائِمَةٌ، فَأَصْلَحَهَا، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِهَا.

وَوَرَدَ عَلَيْهِ الْخَبَرُ بِاشْتِدَادِ الْفِتَنِ (بِبَغْدَاذَ، فَسَارَ إِلَيْهَا) ، فَدَخَلَهَا أَوَاخِرَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَهَرَبَ مِنْهُ الْعَيَّارُونَ، وَنَفَى جَمَاعَةً مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ وَغَيْرَهُمْ، وَنَفَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ النُّعْمَانِ فَقِيهَ الشِّيعَةِ، وَأَنْزَلَ الدَّيْلَمَ أَطْرَافَ الْكَرْخِ وَبَابَ الْبَصْرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَفَعَلُوا مِنَ الْفَسَادِ مَا لَمْ يُشَاهَدْ مِثْلُهُ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمَسْتُورِينَ أَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ خَوْفًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَرَآهُمْ عَلَى حَالٍ عَظِيمٍ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالْفَسَادِ، فَأَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى بَيْتِهِ، فَأَكْرَهُوهُ عَلَى الدُّخُولِ مَعَهُمْ إِلَى دَارٍ نَزَلُوهَا، وَأَلْزَمُوهُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فَامْتَنَعَ فَصَبُّوهَا فِي فِيهِ قَهْرًا، وَقَالُوا لَهُ: قُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَافْعَلْ بِهَا، فَامْتَنَعَ فَأَلْزَمُوهُ فَدَخَلَ مَعَهَا إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ، وَأَعْطَاهَا دَرَاهِمَ، وَقَالَ: هَذَا أَوَّلُ يَوْمٍ فِي رَمَضَانَ، وَالْمَعْصِيَةُ فِيهِ تَتَضَاعَفُ، وَأُحِبُّ أَنْ تُخْبِرِيهِمْ أَنَّنِي قَدْ فَعَلْتُ. فَقَالَتْ: لَا كَرَامَةَ وَلَا عَزَازَةَ، أَنْتَ تَصُونُ دِينَكَ عَنِ الزِّنَاءِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَصُونَ أَمَانَتِي فِي هَذَا الشَّهْرِ عَنِ الْكَذِبِ! فَصَارَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ سَائِرَةً فِي بَغْدَاذَ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ سَهْلَانَ أَفْسَدَ الْأَتْرَاكَ وَالْعَامَّةَ، فَانْحَدَرَ الْأَتْرَاكُ إِلَى وَاسِطٍ، فَلَقُوا بِهَا سُلْطَانَ الدَّوْلَةِ، فَشَكَوْا إِلَيْهِ فَسَكَّنَهُمْ وَوَعَدَهُمُ الْإِصْعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ وَإِصْلَاحَ الْحَالِ. وَاسْتَحْضَرَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ ابْنَ سَهْلَانَ، فَخَافَهُ وَمَضَى إِلَى بَنِي خَفَاجَةَ ثُمَّ أَصْعَدَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً، ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى الْأَنْبَارِ وَمِنْهَا إِلَى الْبَطِيحَةِ. فَأَرْسَلَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْبَطِيحَةِ رَسُولًا مِنَ الشَّرَابِيِّ، فَلَمْ يُسَلِّمْهُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا عَسْكَرًا فَانْهَزَمَ الشَّرَابِيُّ، وَانْحَدَرَ ابْنُ سَهْلَانَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَاتَّصَلَ بِالْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ الرُّخَّجِيُّ قَدْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ سَهْلَانَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَفَارَقَهُ بِهَا، وَأَصْلَحَ حَالَهُ مَعَ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ وَعَادَ إِلَيْهِ.

ذِكْرُ غَزْوَةِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ إِلَى الْهِنْدِ وَالْأَفْغَانِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْهِنْدِ غَازِيًا، وَاحْتَشَدَ وَجَمَعَ، وَاسْتَعَدَّ وَأَعَدَّ أَكْثَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَسَبَبُ هَذَا الِاهْتِمَامِ أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ قَنُّوجَ، وَهَرَبَ صَاحِبُهَا مِنْهُ، وَيُلَقَّبُ رَآي قَنُّوجَ، وَمَعْنَى رَآي هُوَ لَقَبُ الْمَلِكِ كَقَيْصَرَ وَكِسْرَى، فَلَمَّا عَادَ إِلَى غَزْنَةَ أَرْسَلَ بِيدَا اللَّعِينُ، وَهُوَ أَعْظَمُ مُلُوكِ الْهِنْدِ مَمْلَكَةً، وَأَكْثَرُهُمْ جَيْشًا، وَتُسَمَّى مَمْلَكَتُهُ كَجُورَاهَةَ، رُسُلًا إِلَى رَآي قَنُّوجَ، وَاسْمُهُ رَاجِيبَالُ، يُوَبِّخُهُ عَلَى انْهِزَامِهِ، وَإِسْلَامِ بِلَادِهِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَطَالَ الْكَلَامُ بَيْنَهُمَا، وَآلَ أَمْرُهُمَا إِلَى الِاخْتِلَافِ. وَتَأَهَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَسَارَ إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ رَاجِيبَالُ، وَأَتَى الْقَتْلُ عَلَى أَكْثَرِ جُنُودِهِ، فَازْدَادَ بِيدَا بِمَا اتَّفَقَ لَهُ شَرًّا وَعُتُوًّا، وَبُعْدَ صِيتٍ فِي الْهِنْدِ، وَعُلُوًّا، وَقَصَدَهُ بَعْضُ مُلُوكِ الْهِنْدِ الَّذِي مَلَكَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ بِلَادَهُ، وَهَزَمَهُ وَأَبَادَ أَجْنَادَهُ، وَصَارَ فِي جُمْلَتِهِ وَخِدْمَتِهِ وَالْتَجَأَ إِلَيْهِ، فَوَعَدَهُ بِإِعَادَةِ مُلْكِهِ إِلَيْهِ، وَحِفْظِ ضَالَّتِهِ عَلَيْهِ، وَاعْتَذَرَ بِهُجُومِ الشِّتَاءِ وَتَتَابُعِ الْأَنْدَاءِ. فَنَمَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ فَأَزْعَجَتْهُ وَتَجَهَّزَ لِلْغَزْوِ، وَقَصَدَ بِيدَا، وَأَخَذَ مُلْكَهُ مِنْهُ، وَسَارَ عَنْ غَزْنَةَ، وَابْتَدَأَ فِي طَرِيقِهِ بِالْأَفْغَانِيَّةِ، وَهُمْ كُفَّارٌ يَسْكُنُونَ الْجِبَالَ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَيَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ بَيْنَ غَزْنَةَ وَبَيْنَهُ، فَقَصَدَ بِلَادَهُمْ، وَسَلَكَ مَضَايِقَهَا، وَفَتَحَ مَغَالِقَهَا، وَخَرَّبَ عَامِرَهَا، وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْأَسْرَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْكَثِيرَ. ثُمَّ اسْتَقَلَّ عَلَى الْمَسِيرِ، وَبَلَغَ إِلَى مَكَانٍ لَمْ يَبْلُغْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ غَزَوَاتِهِ، وَعَبَرَ نَهْرَ

كُنْكَ، وَلَمْ يَعْبُرْهُ قَبْلَهَا، فَلَمَّا جَازَهُ رَأَى قَفَلًا قَدْ بَلَغَتْ عِدَّةُ أَحْمَالِهِمْ أَلْفَ عَدَدٍ، فَغَنِمَهَا، وَهِيَ مِنَ الْعُودِ، وَالْأَمْتِعَةِ الْفَائِقَةِ، وَجَدَّ بِهِ السَّيْرُ، فَأَتَاهُ فِي الطَّرِيقِ خَبَرُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْهِنْدِ يُقَالُ لَهُ تُرُوجِنْبَالُ، قَدْ سَارَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مُلْتَجِئًا إِلَى بِيدَا لِيَحْتَمِيَ بِهِ عَلَيْهِ، فَطَوَى الْمَرَاحِلَ، فَلَحِقَ تُرُوجِنْبَالَ وَمَنْ مَعَهُ، رَابِعَ عَشَرَ شَعْبَانَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهُنُودِ نَهْرٌ عَمِيقٌ فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَشَغَلَهُمْ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ عَبَرَ هُوَ وَبَاقِي الْعَسْكَرِ إِلَيْهِمْ، فَاقْتَتَلُوا عَامَّةَ نَهَارِهِمْ وَانْهَزَمَ تُرُوجِنْبَالُ وَمَنْ مَعَهُ، وَكَثُرَ فِيهِ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ، وَأَسْلَمُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَغَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَأَخَذُوا مِنْهُمُ الْكَثِيرَ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَأُخِذَ مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَتَيْ فِيلٍ، وَسَارَ الْمُسْلِمُونَ يَقْتَصُّونَ آثَارَهُمْ، وَانْهَزَمَ مَلِكُهُمْ جَرِيحًا وَتَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ يَطْلُبُ الْأَمَانَ فَلَمْ يُؤَمِّنْهُ، وَلَمْ يَقْنَعْ مِنْهُ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَقُتِلَ مِنْ عَسَاكِرِهِ مَا لَا يُحْصَى. وَسَارَ تُرُوجِنْبَالُ لِيَلْحَقَ بِبِيدَا، فَانْفَرَدَ [بِهِ] بَعْضُ الْهُنُودِ فَقَتَلَهُ. فَلَمَّا رَأَى مُلُوكُ الْهِنْدِ ذَلِكَ تَابَعُوا رُسُلَهُمْ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ يَبْذُلُونَ لَهُ الطَّاعَةَ وَالْإِتَاوَةَ، وَسَارَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ بَعْدَ الْوَقْعَةِ إِلَى مَدِينَةِ بَارِي، وَهِيَ مِنْ أَحْصَنِ الْقِلَاعِ وَالْبِلَادِ وَأَقْوَاهَا، فَرَآهَا مِنْ سُكَّانِهَا خَالِيَةً، وَعَلَى عُرُوشِهَا خَاوِيَةً، فَأَمَرَ بِهَدْمِهَا وَتَخْرِيبِهَا وَعَشْرِ قِلَاعٍ مَعَهَا مُتَنَاهِيَةِ الْحَصَانَةِ، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَارَ يَطْلُبُ بِيدَا الْمَلِكَ فَلَحِقَهُ وَقَدْ نَزَلَ إِلَى جَانِبِ نَهْرٍ، وَأَجْرَى الْمَاءَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَصَارَ وَحْلًا، وَتَرَكَ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ طَرِيقًا يَبَسًا يُقَاتِلُ مِنْهُ إِذَا أَرَادَ الْقِتَالَ، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ مَعَهُ سِتَّةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَمِائَةَ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ أَلْفَ رَاجِلٍ، وَسَبْعَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَأَرْبَعِينَ فِيلًا. فَأَرْسَلَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ

طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ لِلْقِتَالِ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِمْ بِيدَا مِثْلَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ كُلُّ عَسْكَرٍ يَمُدُّ أَصْحَابَهُ، حَتَّى كَثُرَ الْجَمْعَانِ، وَاشْتَدَّ الضَّرْبُ وَالطِّعَانُ، فَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ وَحَجَزَ بَيْنَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ بَكَّرَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى الدِّيَارَ مِنْهُمْ بَلَاقِعَ، وَرَكِبَ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَرِيقًا مُخَالِفًا لِطَرِيقِ الْأُخْرَى. وَوَجَدَ خَزَائِنَ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ بِحَالِهَا، فَغَنِمُوا الْجَمِيعَ، وَاقْتَفَى آثَارَ الْمُنْهَزِمِينَ، فَلَحِقُوهُمْ فِي الْغِيَاضِ وَالْآجَامِ، وَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ، وَنَجَا بِيدَا فَرِيدًا وَحِيدًا، وَعَادَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَى غَزْنَةَ مَنْصُورًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ عَلَى وَزِيرِهِ ابْنِ فَسَانْجَسَ وَإِخْوَتِهِ، وَوَلَّى وَزَارَتَهُ ذَا السَّعَادَتَيْنِ أَبَا غَالِبٍ الْحَسَنَ بْنَ مَنْصُورٍ، وَمَوْلِدُهُ بِسِيرَافَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْغَالِبُ بِاللَّهِ وَلِيُّ عَهْدِ أَبِيهِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَتُوُفِّيَ أَيْضًا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَلَّانَ، قَاضِي الْأَهْوَازِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَلَهُ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ، وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ الْحَافِظُ الْمِصْرِيُّ، صَاحِبُ " الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ "، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.

وَتُوُفِّيَ رَجَاءُ بْنُ عِيسَى بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَنْصِنَاوِيُّ، وَأَنْصِنَا مِنْ قُرَى مِصْرَ، وَهُوَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَسَمِعَ (الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ) .

ثم دخلت سنة عشر وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَة] 410 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ [ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى الْوَزِيرِ ابْنِ مَاكُولَا] فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَبُو طَاهِرِ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي سَعْدٍ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَاكُولَا، وَكَانَ ابْنُ عَمِّهِ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ كَاتِبًا فَاضِلًا، وَكَانَ يَعْرِضُ الدَّيْلَمَ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَلِأَبِي سَعْدٍ شِعْرٌ مِنْهُ: وَإِنَّ لِقَائِي لِلشُّجَاعِ لَهَيِّنٌ ... وَلَكِنَّ حَمْلَ الضَّيْمِ مِنْهُ شَدِيدُ إِذَا كَانَ قَلْبُ الْقِرْنِ يَنْبُو عَنِ الْوَغَى ... فَإِنَّ جَنَانِي جَلْمَدٌ وَحَدِيدُ [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ وَثَّابُ بْنُ سَابِقٍ النُّمَيْرِيُّ، صَاحِبُ حَرَّانَ، وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَسَدٍ الْكَاتِبُ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْهَاشِمِيُّ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ، وَأَبُو الْفَضْلِ (عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) التَّمِيمِيُّ، (الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الْبَغْدَاذِيُّ) ، عَمُّ أَبِي مُحَمَّدٍ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ الْقَصَّابِ الصُّوفِيَّ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَجَمَاعَةٌ إِلَى الْبَيْمَارِسْتَانِ بِبَغْدَاذَ، فَرَأَيْنَا شَابًّا مَجْنُونًا شَدِيدَ الْهَوَسِ فَوَلِعْنَا بِهِ، فَرَدَّ بِفَصَاحَةٍ وَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى شُعُورٍ مُطَرَّرَةٍ. وَأَجْسَادٍ مُعَطَّرَةٍ. . . وَقَدْ جَعَلُوا اللَّهْوَ صِنَاعَةً.

وَاللَّعِبَ بِضَاعَةً. وَجَانَبُوا الْعِلْمَ رَأْسًا. فَقُلْتُ: أَتَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ فَنَسْأَلُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنَّ عِنْدِي عِلْمًا جَمًّا، فَاسْأَلُونِي. فَقَالَ بَعْضُنَا: مَنِ الْكَرِيمُ فِي الْحَقِيقَةِ؟ قَالَ: مَنْ رُزِقَ أَمْثَالُكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تُسَاوُونَ ثُومَةً. فَأَضْحَكَنَا. فَقَالَ آخَرُ: مَنْ أَقَلُّ النَّاسِ شُكْرًا؟ فَقَالَ: مَنْ عُوفِيَ مِنْ بَلِيَّةٍ ثُمَّ رَآهَا فِي غَيْرِهِ فَتَرَكَ الِاعْتِبَارَ، فَإِنَّ الشُّكْرَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ. فَأَبْكَانَا بَعْدَ أَنْ أَضْحَكَنَا. فَقُلْنَا: مَا الظُّرْفُ؟ قَالَ: خِلَافُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ لَمْ تَرُدَّ عَقْلِي، فَرُدَّ يَدِي لِأَصْفَعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَفْعَةً! فَتَرَكْنَاهُ وَانْصَرَفْنَا. وَفِيهَا مَاتَ الْأُصَيْفِرُ الْمُنْتَفِقِيُّ الَّذِي كَانَ يُؤْذِي الْحَاجَّ فِي طَرِيقِهِمْ، وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ مَرْدَوَيْهِ الْحَافِظُ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ بَابَكَ (أَبُو الْقَاسِمِ) الشَّاعِرُ، قَدِمَ عَلَى الصَّاحِبِ بْنِ عَبَّادٍ فَقَالَ: أَنْتَ ابْنُ بَابَكَ فَقَالَ: أَنَا ابْنُ بَابِكَ، فَاسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ.

ثم دخلت سنة إحدى عشرة وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 411 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ الْحَاكِمِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ الظَّاهِرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ، فُقِدَ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو عَلِيٍّ الْمَنْصُورُ بْنُ الْعَزِيزِ بِاللَّهِ نِزَارِ بْنِ الْمُعِزِّ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ مِصْرَ بِهَا، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ خَبَرٌ. وَكَانَ سَبَبُ فَقْدِهِ أَنَّهُ خَرَجَ يَطُوفُ لَيْلَةً عَلَى رَسْمِهِ، وَأَصْبَحَ عِنْدَ قَبْرِ الْفُقَّاعِيِّ، وَتَوَجَّهَ إِلَى شَرْقَيْ حُلْوَانَ وَمَعَهُ رِكَابِيَّانِ، فَأَعَادَ أَحَدَهُمَا مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِجَائِزَةٍ ثُمَّ عَادَ الرِّكَابِيُّ الْآخَرُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَّفَهُ عِنْدَ الْعَيْنِ وَالْمَقْصَبَةِ. وَبَقِيَ النَّاسُ عَلَى رَسْمِهِمْ يَخْرُجُونَ كُلَّ يَوْمٍ يَلْتَمِسُونَ رُجُوعَهُ إِلَى سَلْخِ شَوَّالٍ، فَلَمَّا كَانَ ثَالِثُ ذِي الْقَعْدَةِ خَرَجَ مُظَفَّرٌ الصَّقْلَبِيُّ، صَاحِبُ الْمِظَلَّةِ وَغَيْرُهُ مِنْ خَوَاصِّ الْحَاكِمِ، وَمَعَهُمُ الْقَاضِي، فَبَلَغُوا سُلْوَانَ، وَدَخَلُوا فِي الْجَبَلِ، فَبَصُرُوا بِالْحِمَارِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَاكِبًا، وَقَدْ ضُرِبَتْ يَدَاهُ بِسَيْفٍ فَأَثَّرَ فِيهِمَا، وَعَلَيْهِ سَرْجُهُ وَلِجَامُهُ، فَاتَّبَعُوا الْأَثَرَ، فَانْتَهَوْا بِهِ إِلَى الْبِرْكَةِ الَّتِي شَرْقَيْ حُلْوَانَ، فَرَأَوْا ثِيَابَهُ، وَهِيَ سَبْعُ قِطَعٍ

صُوفٍ، وَهِيَ مُزَرَّرَةٌ بِحَالِهَا، لَمْ تُحَلَّ وَفِيهَا أَثَرُ السَّكَاكِينِ، فَعَادُوا وَلَمْ يَشُكُّوا فِي قَتْلِهِ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ أَهْلَ مِصْرَ كَانُوا يَكْرَهُونَهُ لِمَا يَظْهَرُ مِنْهُ مِنْ سُوءِ أَفْعَالِهِ، فَكَانُوا يَكْتُبُونَ إِلَيْهِ الرِّقَاعَ فِيهَا سَبُّهُ، وَسَبُّ أَسْلَافِهِ، وَالدُّعَاءُ عَلَيْهِ، حَتَّى إِنَّهُمْ عَمِلُوا مِنْ قَرَاطِيسَ صُورَةَ امْرَأَةٍ وَبِيَدِهَا رُقْعَةٌ، فَلَمَّا رَآهَا ظَنَّ أَنَّهَا امْرَأَةٌ تَشْتَكِي، (فَأَمَرَ بِأَخْذِ) الرُّقْعَةِ مِنْهَا، فَقَرَأَهَا، وَفِيهَا كُلُّ لَعْنٍ وَشَتِيمَةٍ قَبِيحَةٍ، وَذِكْرِ حُرَمِهِ بِمَا يَكْرَهُ، فَأَمَرَ بِطَلَبِ الْمَرْأَةِ، فَقِيلَ إِنَّهَا مِنْ قَرَاطِيسَ، فَأَمَرَ بِإِحْرَاقِ مِصْرَ وَنَهْبِهَا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَقَاتَلَ أَهْلُهَا أَشَدَّ قِتَالٍ، وَانْضَافَ إِلَيْهِمْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ الْأَتْرَاكُ وَالْمَشَارِقَةُ، فَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ وَأَرْسَلُوا إِلَى الْحَاكِمِ يَسْأَلُونَهُ الصَّفْحَ وَيَعْتَذِرُونَ، فَلَمْ يَقْبَلْ، فَصَارُوا إِلَى التَّهْدِيدِ، فَلَمَّا رَأَى قُوَّتَهُمْ أَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَقَدْ أَحْرَقَ بَعْضَ مِصْرَ وَنَهَبَ بَعْضَهَا، وَتَتَبَّعَ الْمِصْرِيُّونَ مَنْ أَخَذَ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، فَابْتَاعُوا ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ فَضَحُوهُنَّ، فَازْدَادَ غَيْظُهُمْ مِنْهُ وَحُنْقُهُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ أَوْحَشَ أُخْتَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا مُرَاسَلَاتٍ قَبِيحَةً يَقُولُ فِيهَا: بَلَغَنِي أَنَّ الرِّجَالَ يُدْخِلُونَ إِلَيْكِ، وَتَهَدَّدَهَا بِالْقَتْلِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى قَائِدٍ كَبِيرٍ مِنْ قُوَّادِ الْحَاكِمِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ دَوَّاسٍ، وَكَانَ أَيْضًا يَخَافُ الْحَاكِمَ، تَقُولُ لَهُ: إِنَّنِي أُرِيدُ أَنْ أَلْقَاكَ فَحَضَرَتْ عِنْدَهُ وَقَالَتْ لَهُ: قَدْ جِئْتُ إِلَيْكَ فِي أَمْرٍ تَحْفَظُ فِيهِ نَفْسَكَ وَنَفْسِي، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا يَعْتَقِدُهُ أَخِي فِيكَ، وَأَنَّهُ مَتَى تَمَكَّنَ مِنْكَ لَا يُبْقِي عَلَيْكَ، وَأَنَا كَذَلِكَ، وَقَدِ انْضَافَ إِلَى هَذَا مَا تَظَاهَرَ بِهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَا يَصْبِرُونَ عَلَيْهِ، وَأَخَافُ أَنْ يَثُورُوا بِهِ فَيَهْلِكَ هُوَ وَنَحْنُ مَعَهُ، وَتَنْقَلِعَ هَذِهِ الدَّوْلَةُ، فَأَجَابَهَا إِلَى مَا تُرِيدُ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ يَصْعَدُ إِلَى هَذَا الْجَبَلِ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَهُ غُلَامٌ إِلَّا الرِّكَابِيُّ وَصَبِيٌّ، وَيَنْفَرِدُ بِنَفْسِهِ، فَتُقِيمُ رَجُلَيْنِ تَثِقُ بِهِمَا

يَقْتُلَانِهِ، وَيَقْتُلَانِ الصَّبِيَّ، وَتُقِيمُ وَلَدَهُ بَعْدَهُ، وَتَكُونُ أَنْتَ مُدَبِّرَ الدَّوْلَةِ، وَأَزِيدُ فِي إِقْطَاعِكَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ. فَأَقَامَ رَجُلَيْنِ، وَأَعْطَتْهُمَا هِيَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَضَيَا إِلَى الْجَبَلِ، وَرَكِبَ الْحَاكِمُ عَلَى عَادَتِهِ، وَسَارَ مُنْفَرِدًا إِلَيْهِ، فَقَتَلَاهُ، وَكَانَ عُمْرُهُ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَوِلَايَتُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ جَوَّادًا بِالْمَالِ، سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ، قَتَلَ عَدَدًا كَثِيرًا مِنْ أَمَاثِلِ دَوْلَتِهِ وَغَيْرِهِمْ، فَكَانَتْ سِيرَتُهُ عَجِيبَةً. مِنْهَا: أَنَّهُ أَمَرَ فِي صَدْرِ خِلَافَتِهِ بِسَبِّ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، (وَأَنْ تُكْتَبَ) عَلَى حِيطَانِ الْجَوَامِعِ وَالْأَسْوَاقِ، وَكَتَبَ إِلَى سَائِرِ عُمَّالِهِ بِذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ بِالْكَفِّ عَنِ السَّبِّ، وَتَأْدِيبِ مَنْ يَسُبُّهُمْ، أَوْ يَذْكُرُهُمْ بِسُوءٍ، ثُمَّ أَمَرَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] بِتَرْكِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ بِالْجَامِعِ الْعَتِيقِ وَصَلَّى بِهِمْ إِمَامٌ جَمِيعَ رَمَضَانَ، فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ، وَلَمْ يُصَلِّ أَحَدٌ التَّرَاوِيحَ إِلَى سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِإِقَامَتِهَا عَلَى الْعَادَةِ. وَبَنَى الْجَامِعَ بِرَاشِدَةَ، وَأَخْرَجَ إِلَى الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ مِنَ الْآلَاتِ

وَالْمَصَاحِفِ، وَالسُّتُورِ، وَالْحُصْرِ، مَا لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ، وَحَمَلَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، أَوِ الْمَسِيرِ إِلَى مَأْمَنِهِمْ أَوْ لُبْسِ الْغِيَارِ، فَأَسْلَمَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْقَاهُ فَيَقُولُ لَهُ: إِنَّنِي أُرِيدُ الْعَوْدَةَ إِلَى دِينِي، فَيَأْذَنُ لَهُ، وَمَنَعَ النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَقَتَلَ مَنْ خَرَجَ مِنْهُنَّ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ مَنْ لَا قَيِّمَ لَهَا يَقُومُ بِأَمْرِهَا، فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَحْمِلُوا كُلَّ مَا يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ إِلَى الدُّرُوبِ وَيَبِيعُوهُ (عَلَى النِّسَاءِ) ، وَأَمَرَ مَنْ يَبِيعُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شِبْهُ الْمِغْرَفَةِ بِسَاعِدٍ طَوِيلٍ يَمُدُّهُ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، وَفِيهِ مَا تَشْتَرِيهِ، فَإِذَا رَضِيَتْ وَضَعَتِ الثَّمَنَ فِي الْمِغْرَفَةِ، وَأَخَذَتْ مَا فِيهَا لِئَلَّا يَرَاهَا، فَنَالَ النَّاسَ مِنْ ذَلِكَ شِدَّةٌ عَظِيمَةٌ. (وَلَمَّا فُقِدَ الْحَاكِمُ وَلِيَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ، وَلُقِّبَ الظَّاهِرَ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ، وَأُخِذَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ، وَرَدَّ النَّظَرَ فِي الْأُمُورِ جَمِيعِهَا إِلَى الْوَزِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْجَرْجَرَائِيِّ) . ذِكْرُ مُلْكِ مُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ الْعِرَاقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، عَظُمَ أَمْرُ أَبِي عَلِيٍّ مُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ بْنِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَخُوطِبَ بِأَمِيرِ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ مَلِكِ الْعِرَاقِ، وَأَزَالَ عَنْهُ أَخَاهُ سُلْطَانَ الدَّوْلَةِ. وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ الْجُنْدَ شَغَبُوا عَلَى سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، وَمَنَعُوهُ مِنَ الْحَرَكَةِ، وَأَرَادَ تَرْتِيبَ أَخِيهِ مُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ فِي الْمُلْكِ، فَأُشِيرَ عَلَى سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، وَأَرَادَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ الِانْحِدَارَ إِلَى وَاسِطٍ، فَقَالَ الْجُنْدُ: إِمَّا أَنْ تَجْعَلَ

عِنْدَنَا وَلَدَكَ أَوْ أَخَاكَ مُشَرِّفَ الدَّوْلَةِ. فَرَاسَلَ أَخَاهُ بِذَلِكَ، فَامْتَنَعَ، ثُمَّ أَجَابَ بَعْدَ مُعَاوَدَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُمَا اتَّفَقَا، وَاجْتَمَعَا بِبَغْدَاذَ، وَاسْتَقَرَّ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا لَا يَسْتَخْدِمَانِ ابْنَ سَهْلَانَ، وَفَارَقَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ بَغْدَاذَ، وَقَصَدَ الْأَهْوَازَ وَاسْتَخْلَفَ أَخَاهُ مُشَرِّفَ الدَّوْلَةِ عَلَى الْعِرَاقِ. فَلَمَّا انْحَدَرَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ وَوَصَلَ إِلَى تُسْتَرَ اسْتَوْزَرَ ابْنَ سَهْلَانَ، فَاسْتَوْحَشَ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ، فَأَنْفَذَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ وَزِيرَهُ ابْنَ سَهْلَانَ لِيُخْرِجَ أَخَاهُ مُشَرِّفَ الدَّوْلَةِ مِنَ الْعِرَاقِ، فَجَمَعَ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ عَسْكَرًا كَثِيرًا مِنْهُمْ أَتْرَاكُ وَاسِطٍ، وَأَبُو الْأَغَرِّ دُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ، وَلَقِيَ ابْنَ سَهْلَانَ عِنْدَ وَاسِطٍ، فَانْهَزَمَ ابْنُ سَهْلَانَ وَتَحَصَّنَ بِوَاسِطٍ، وَحَاصَرَهُ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ حَتَّى بَلَغَ الْكُرُّ مِنَ الطَّعَامِ أَلْفَ دِينَارٍ قَاسَانِيَّةٍ، وَأَكَلَ النَّاسُ الدَّوَابَّ، حَتَّى الْكِلَابَ، فَلَمَّا رَأَى ابْنُ سَهْلَانَ إِدْبَارَ أُمُورِهِ سَلَّمَ الْبَلَدَ، وَاسْتَحْلَفَ مُشَرِّفَ الدَّوْلَةِ وَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَخُوطِبَ حِينَئِذٍ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ بِشَاهِنْشَاهْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَمَضَتِ الدَّيْلَمُ الَّذِينَ كَانُوا بِوَاسِطٍ فِي خِدْمَتِهِ، وَسَارُوا مَعَهُ، فَحَلَفَ لَهُمْ وَأَقْطَعَهُمْ، وَاتَّفَقَ هُوَ وَأَخُوهُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَبُو طَاهِرٍ، فَلَمَّا سَمِعَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ سَارَ عَنِ الْأَهْوَازِ إِلَى أَرَّجَانَ، وَقُطِعَتْ خُطْبَتُهُ مِنَ الْعِرَاقِ، وَخُطِبَ لِأَخِيهِ بِبَغْدَاذَ آخِرَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقُبِضَ عَلَى ابْنِ سَهْلَانَ وَكُحِّلَ. وَلَمَّا سَمِعَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ بِذَلِكَ ضَعُفَتْ نَفْسُهُ، وَسَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ فِي أَرْبَعِمِائَةِ فَارِسٍ، فَقَلَّتْ عَلَيْهِمُ الْمِيرَةُ، فَنَهَبُوا السَّوَادَ فِي طَرِيقِهِمْ، فَاجْتَمَعَ الْأَتْرَاكُ الَّذِينَ بِالْأَهْوَازِ، (وَقَاتَلُوا أَصْحَابَ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ) ، وَنَادَوْا بِشِعَارِ مُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ وَسَارُوا مِنْهَا، فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَافِلَةٍ وَأَخَذُوهَا وَانْصَرَفُوا. ذِكْرُ وِلَايَةِ الظَّاهِرِ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ لَمَّا قُتِلَ الْحَاكِمُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، بَقِيَ الْجُنْدُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ اجْتَمَعُوا إِلَى أُخْتِهِ

وَاسْمُهَا سِتُّ الْمُلْكِ، وَقَالُوا: قَدْ تَأَخَّرَ مَوْلَانَا وَلَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِذَلِكَ. فَقَالَتْ: قَدْ جَاءَتْنِي رُقْعَتُهُ بِأَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَ غَدٍ. فَتَفَرَّقُوا، وَبَعَثَتْ بِالْأَمْوَالِ إِلَى الْقُوَّادِ عَلَى يَدِ ابْنِ دَوَّاسٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ أَلْبَسَتْ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيًّا ابْنَ أَخِيهَا الْحَاكِمِ أَفْخَرَ الْمَلَابِسِ، وَكَانَ الْجُنْدُ قَدْ حَضَرُوا لِلْمِيعَادِ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا وَقَدْ أُخْرِجَ أَبُو الْحَسَنِ، وَهُوَ صَبِيٌّ، وَالْوَزِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَصَاحَ: يَا عَبِيدَ الدَّوْلَةِ، مَوْلَاتُنَا تَقُولُ لَكُمْ: هَذَا مَوْلَاكُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَسَلِّمُوا عَلَيْهِ! فَقَبَّلَ ابْنُ دَوَّاسٍ الْأَرْضَ، وَالْقُوَّادُ الَّذِينَ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمُ الْأَمْوَالَ، وَدَعَوْا لَهُ، فَتَبِعَهُمُ الْبَاقُونَ وَمَشَوْا مَعَهُ، وَلَمْ يَزَلْ رَاكِبًا إِلَى الظُّهْرِ، فَنَزَلَ وَدَعَا النَّاسَ مِنَ الْغَدِ فَبَايَعُوا لَهُ، وَلُقِّبَ الظَّاهِرَ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ، وَكُتِبَتِ الْكُتُبُ إِلَى الْبِلَادِ بِمِصْرَ وَالشَّامِ بِأَخْذِ الْبَيْعَةِ لَهُ. وَجَمَعَتْ أُخْتُ الْحَاكِمِ النَّاسَ، وَوَعَدَتْهُمْ، وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهِمْ، وَرَتَّبَتِ الْأَمْرَ تَرْتِيبًا حَسَنًا، وَجَعَلَتِ الْأَمْرَ بِيَدِ ابْنِ دَوَّاسٍ، وَقَالَتْ لَهُ: إِنَّنَا نُرِيدُ أَنْ نَرُدَّ جَمِيعَ أَحْوَالِ الْمَمْلَكَةِ إِلَيْكَ، وَنَزِيدُ فِي إِقْطَاعِكَ، وَنُشَرِّفُكَ بِالْخِلَعِ، فَاخْتَرْ يَوْمًا يَكُونُ ذَلِكَ. فَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَدَعَا، وَظَهَرَ الْخَبَرُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ أَحْضَرَتْهُ، وَأَحْضَرَتِ الْقُوَّادَ مَعَهُ، وَأَغْلَقَتْ أَبْوَابَ الْقَصْرِ، وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ خَادِمًا وَقَالَتْ لَهُ: قُلْ لِلْقُوَّادِ إِنَّ هَذَا قَتَلَ سَيِّدَكُمْ، وَاضْرِبْهُ بِالسَّيْفِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَقَتَلَهُ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ رَجُلَانِ، وَبَاشَرَتِ الْأُمُورَ بِنَفْسِهَا، وَقَامَتْ هَيْبَتُهَا عِنْدَ النَّاسِ، وَاسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ، وَعَاشَتْ بَعْدَ الْحَاكِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ وَمَاتَتْ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَالْأَكْرَادِ بِهَمَذَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ زَادَ شَغَبُ الْأَتْرَاكِ بِهَمَذَانَ عَلَى صَاحِبِهِمْ شَمْسِ الدَّوْلَةِ بْنِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَهُوَ يَحْلُمُ عَنْهُمْ بَلْ يَعْجِزُ، فَقَوِيَ طَمَعُهُمْ

فَزَادُوا فِي التَّوَثُّبِ وَالشَّغَبِ، وَأَرَادُوا إِخْرَاجَ الْقُوَّادِ الْقُوهِيَّةِ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَعَزَمُوا عَلَى الْإِيقَاعِ بِهِمْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَاعْتَزَلَ الْأَكْرَادُ مَعَ وَزِيرِهِ تَاجِ الْمُلْكِ أَبِي نَصْرِ بْنِ بَهْرَامَ إِلَى قَلْعَةِ بَرْجِينَ، فَسَارَ الْأَتْرَاكُ إِلَيْهِمْ فَحَصَرُوهُمْ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى شَمْسِ الدَّوْلَةِ فَكَتَبَ الْوَزِيرُ إِلَى أَبِي جَعْفَرِ بْنِ كَاكَوَيْهِ صَاحِبِ أَصْبَهَانَ، يَسْتَنْجِدُهُ، وَعَيَّنَ لَهُ لَيْلَةً يَكُونُ قُدُومُ الْعَسَاكِرِ إِلَيْهِ فِيهَا بَغْتَةً، لِيَخْرُجَ هُوَ أَيْضًا تِلْكَ اللَّيْلَةَ لِيَكْبِسُوا الْأَتْرَاكَ. (فَفَعَلَ أَبُو) جَعْفَرٍ ذَلِكَ، وَسَيَّرَ أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَضَبَطُوا الطُّرُقَ لِئَلَّا يَسْبِقَهُمُ الْخَبَرُ، وَكَبَسُوا الْأَتْرَاكَ سَحَرًا عَلَى غَفْلَةٍ، وَنَزَلَ الْوَزِيرُ وَالْقُوهِيَّةُ مِنَ الْقَلْعَةِ، فَوَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ، فَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ، وَأَخَذُوا الْمَالَ، وَمَنْ سَلِمَ مِنَ الْأَتْرَاكِ نَجَا فَقِيرًا. وَفَعَلَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ بِمَنْ عِنْدَهُ فِي هَمَذَانَ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُمْ، فَمَضَى ثَلَاثُمِائَةٍ مِنْهُمْ إِلَى كِرْمَانَ، وَخَدَمُوا أَبَا الْفَوَارِسِ بْنَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ صَاحِبَهَا. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيِّ وَابْنِ فَهْدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ مُعْتَمَدُ الدَّوْلَةِ قِرْوَاشُ بْنُ الْمُقَلَّدِ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيِّ، وَعَلَى أَبِي الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ بْنِ فَهْدٍ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَ ابْنُ فَهْدٍ يَكْتُبُ فِي حَدَاثَتِهِ بَيْنَ يَدَيِ الصَّابِي، وَخَدَمَ الْمُقَلَّدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَأَصْعَدَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَاقْتَنَى بِهَا ضِيَاعًا، وَنَظَرَ فِيهَا لِقِرْوَاشٍ، فَظَلَمَ أَهْلَهَا وَصَادَرَهُمْ، ثُمَّ سَخِطَ قِرْوَاشٌ عَلَيْهِمَا فَحَبَسَهُمَا، وَطُولِبَ سُلَيْمَانُ بِالْمَالِ، فَادَّعَى الْفَقْرَ فَقُتِلَ. وَأَمَّا الْمَغْرِبِيُّ فَإِنَّهُ خَدَعَ قِرْوَاشًا، وَوَعَدَهُ بِمَالٍ لَهُ فِي الْكُوفَةِ وَبَغْدَاذَ، فَأَمَرَ بِحَمْلِهِ وَتُرِكَ. وَفِي قِرْوَاشٍ وَابْنِ فَهْدٍ يَقُولُ الشَّاعِرُ، وَهُوَ ابْنُ الزَّمَكْدَمِ: وَلَيْلٍ كَوَجْهِ الْبَرْقَعِيدِيِّ ظُلْمَةً ... وَبَرْدِ أَغَانِيهِ، وَطُولِ قُرُونِهِ سَرَّيْتُ، وَنَوْمِي فِيهِ نَوْمٌ مُشَرَّدٌ ... كَعَقْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ فَهْدٍ وَدِينِهِ

عَلَى أَوْلَقٍ فِيهِ الْتِفَاتٌ كَأَنَّهُ أَبُو جَابِرٍ فِي خَطْبِهِ وَجُنُونِهِ ... إِلَى أَنْ بَدَا ضَوْءُ الصَّبَاحِ كَأَنَّهُ سَنَا وَجْهِ قِرْوَاشٍ وَضَوْءَ جَبِينِهِ وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ قَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْبَيَانِ عَلَى أَنَّهَا غَايَةٌ فِي الْجَوْدَةِ لَمْ يُقَلْ خَيْرٌ مِنْهَا فِي مَعْنَاهَا. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ قِرْوَاشٍ وَغَرِيبِ بْنِ مَقْنٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، اجْتَمَعَ غَرِيبُ بْنُ مَقْنٍ، وَنُورُ الدَّوْلَةِ دُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ، وَأَتَاهُمْ عَسْكَرٌ مِنْ بَغْدَاذَ، فَقَاتَلُوا قِرْوَاشًا، وَمَعَهُ رَافِعُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عِنْدَ كَرْخِ سُرَّ مَنْ رَأَى، فَانْهَزَمَ قِرْوَاشٌ وَمَنْ مَعَهُ، وَأُسِرَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَنُهِبَتْ خَزَائِنَهُ وَأَثْقَالُهُ، وَاسْتَجَارَ رَافِعٌ بِغَرِيبٍ، وَفَتَحُوا تَكْرِيتَ عَنْوَةً، وَعَادَ عَسْكَرُ بَغْدَاذَ إِلَيْهَا بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ. ثُمَّ إِنَّ قِرْوَاشًا خَلَصَ، وَقَصَدَ سُلْطَانَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ ثِمَالٍ، أَمِيرَ خَفَاجَةَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَعَادَ قِرْوَاشٌ وَانْهَزَمَ ثَانِيًا هُوَ وَسُلْطَانٌ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ بَيْنَهُمْ غَرْبَيِ الْفُرَاتِ. وَلَمَّا انْهَزَمَ قِرْوَاشٌ مَدَّ نُوَّابُ السُّلْطَانِ أَيْدِيَهُمْ إِلَى أَعْمَالِهِ، فَأَرْسَلَ يَسْأَلُ الصَّفْحَ عَنْهُ، وَيَبْذُلُ الطَّاعَةَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا أَغَارَتْ زِنَاتَةُ بِإِفْرِيقِيَّةَ عَلَى دَوَابِّ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، صَاحِبِ الْبِلَادِ لِيَأْخُذُوهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَامِلُ مَدِينَةِ قَابِسٍ فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، نَشَأَتْ سَحَابَةٌ بِإِفْرِيقِيَّةَ أَيْضًا شَدِيدَةُ الْبَرْقِ وَالرَّعْدِ

فَأَمْطَرَتْ حِجَارَةً كَثِيرَةً مَا رَأَى النَّاسُ أَكْبَرَ مِنْهَا، فَهَلَكَ كُلُّ مَنْ أَصَابَهُ (شَيْءٌ مِنْهَا) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْعَنْبَرِيُّ الشَّاعِرُ، وَدِيوَانُهُ مَشْهُورٌ، وَمِنْ قَوْلِهِ: ذَنْبِي إِلَى الدَّهْرِ أَنِّي لَمْ أَمُدَّ يَدِي ... فِي الرَّاغِبِينَ، وَلَمْ أَطْلُبْ وَلَمْ أَسَلِ وَأَنَّنِي كُلَّمَا نَابَتْ نَوَائِبُهُ ... أَلْفَيْتَنِي بِالرَّزَايَا غَيْرَ مُحْتَفِلِ

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَة] 412 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ الْخُطْبَةِ لِمُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَاذَ وَقَتْلِ وَزِيرِهِ أَبِي غَالِبٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، قُطِعَتْ خُطْبَةُ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْعِرَاقِ، وَخُطِبَ لِمُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ، فَطَلَبَ الدَّيْلَمُ مِنْ مُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ أَنْ يَنْحَدِرُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ بِخُوزِسْتَانَ، فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَمَرَ وَزِيرَهُ أَبَا غَالِبٍ بِالِانْحِدَارِ مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي إِنْ فَعَلْتُ خَاطَرْتُ بِنَفْسِي، وَلَكِنْ أَبْذُلُهَا فِي خِدْمَتِكَ. ثُمَّ انْحَدَرَ فِي الْعَسَاكِرِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْأَهْوَازِ نَادَى الدَّيْلَمُ بِشِعَارِ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، وَهَجَمُوا عَلَى أَبِي غَالِبٍ فَقَتَلُوهُ، فَسَارَ الْأَتْرَاكُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ إِلَى طَرَّادِ بْنِ دُبَيْسٍ الْأَسَدِيِّ بِالْجَزِيرَةِ الَّتِي لِبَنِي دُبْيَسٍ، وَلَمْ يَقْدِرُوا [أَنْ] يَدْفَعُوا عَنْهُ، فَكَانَتْ وَزَارَتُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَعُمْرُهُ سِتِّينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ، فَأُخِذَ وَلَدُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَصُودِرَ عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. فَلَمَّا بَلَغَ سُلْطَانَ الدَّوْلَةِ قَتْلُهُ اطْمَأَنَّ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ، وَكَانَ قَدْ خَافَهُ، وَأَنْفَذَ ابْنَهُ أَبَا كَالِيجَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ فَمَلَكَهَا. ذِكْرُ وَفَاةِ صَدَقَةَ صَاحِبِ الْبَطِيحَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرِضَ صَدَقَةُ صَاحِبُ الْبَطِيحَةِ، فَقَصَدَهَا أَبُو الْهَيْجَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ، فِي صَفَرٍ، لِيَمْلِكَهَا، وَكَانَ أَبُو الْهَيْجَاءِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ قَدْ تَمَزَّقَ فِي الْبِلَادِ ; تَارَةً بِمِصْرَ، وَتَارَةً عِنْدَ بَدْرِ بْنِ حَسَنَوَيْهِ، وَتَارَةً بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا وَلِيَ الْوَزِيرُ أَبُو غَالِبٍ أَنْفَقَ عَلَيْهِ لِأَدَبٍ كَانَ فِيهِ، فَكَاتَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْبَطِيحَةِ لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ فَسَارَ إِلَيْهِمْ

فَسَمِعَ بِهِ صَدَقَةُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمَيْنِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا فَقَاتَلُوهُ فَانْهَزَمَ أَبُو الْهَيْجَاءِ وَأُخِذَ أَسِيرًا فَأَرَادَ اسْتِبْقَاءَهُ فَمَنَعَهُ سَابُورُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ بْنِ مَرْوَانَ وَقَتَلَهُ بِيَدِهِ. ثُمَّ تُوُفِّيَ صَدَقَةُ، بَعْدَ قَتْلِهِ، فِي صَفَرٍ فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْبَطِيحَةِ عَلَى وِلَايَةِ سَابُورَ بْنِ الْمَرْزُبَانِ فَوَلِيَهُمْ وَكَتَبَ إِلَى مُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ يَطْلُبُ أَنْ يُقَرِّرَ عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَى صَدَقَةَ مِنَ الْحَمْلِ، وَيَسْتَعْمِلَ عَلَى الْبَطِيحَةِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَزَادَ فِي الْقَرَارِ عَلَيْهِ وَاسْتَقَرَّ فِي الْأَمْرِ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا نَصْرٍ شِيرَازَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ مَرْوَانَ زَادَ فِي الْمُقَاطَعَةِ، فَلَمْ يَدْخُلْ سَابُورُ فِي الزِّيَادَةِ، فَوَلِيَ أَبُو نَصْرٍ الْبَطِيحَةَ، وَسَارَ إِلَيْهَا وَفَارَقَهَا سَابُورُ إِلَى جَزِيرَةِ بَنِي دُبَيْسٍ، وَاسْتَقَرَّ أَبُو نَصْرٍ فِي الْوِلَايَةِ، وَأَمِنَتْ بِهِ الطُّرُقُ. [ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ هِلَالٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَوَّابِ، الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ، وَإِلَيْهِ انْتَهَى الْخَطُّ، وَدُفِنَ بِجِوَارِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَكَانَ يَقُصُّ بِجَامِعِ بَغْدَاذَ، وَرَثَاهُ الْمُرْتَضَى، وَقِيلَ كَانَ مَوْتُهُ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَفِيهَا حَجَّ النَّاسُ مِنَ الْعِرَاقِ، وَكَانَ قَدِ انْقَطَعَ سَنَةَ عَشْرٍ وَسَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ قَصَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ خُرَاسَانَ السُّلْطَانَ مَحْمُودَ بْنَ سُبُكْتِكِينَ وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ أَعْظَمُ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ، وَأَثَرُكَ فِي الْجِهَادِ مَشْهُورٌ، وَالْحَجُّ قَدِ انْقَطَعَ كَمَا تَرَى، وَالتَّشَاغُلُ بِهِ وَاجِبٌ، وَقَدْ كَانَ بَدْرُ بْنُ حَسَنَوَيْهِ، وَفِي أَصْحَابِكَ كَثِيرٌ أَعْظَمُ مِنْهُ، يَسِيرُ الْحَاجُّ بِتَدْبِيرِهِ، وَمَا لَهُ عِشْرُونَ، فَاجْعَلْ لِهَذَا الْأَمْرِ حَظًّا مِنِ اهْتِمَامِكَ. فَتَقَدَّمَ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ النَّاصِحِيِّ قَاضِي قُضَاةِ بِلَادِهِ بِأَنْ يَسِيرَ بِالْحَاجِّ، وَأَعْطَاهُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ يُعْطِيهَا لِلْعَرَبِ وَسِوَى النَّفَقَةِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَنَادَى فِي خُرَاسَانَ بِالتَّأَهُّبِ لِلْحَجِّ، فَاجْتَمَعَ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَسَارُوا، وَحَجَّ بِهِمْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَقْسَاسِيُّ، فَلَمَّا

بَلَغُوا فَيْدَ حَصَرَهُمُ الْعَرَبُ، فَبَذَلَ لَهُمُ النَّاصِحِيُّ خَمْسَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَلَمْ يَقْنَعُوا، وَصَمَّمُوا الْعَزْمَ عَلَى أَخْذِ الْحَاجِّ، وَكَانَ مُقَدَّمَهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ حِمَارُ بْنُ عُدَيٍّ، بِضَمِّ الْعَيْنِ، مِنْ بَنِي نَبْهَانَ فَرَكِبَ فَرَسَهُ، وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ وَسِلَاحُهُ، وَجَالَ جَوْلَةً يُرْهِبُ بِهَا، وَكَانَ مِنْ سَمَرْقَنْدَ شَابٌّ يُوصَفُ بِجَوْدَةِ الرَّمْيِ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، وَسَلِمَ الْحَاجُّ فَحَجُّوا، وَعَادُوا سَالِمِينَ. وَفِيهَا قَلَّدَ أَبُو جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيُّ الْحِسْبَةَ، وَالْمَوَارِيثَ، بِبَغْدَاذَ، وَالْمَوْتَى. [الْوَفَيَاتُ] وَتُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ أَبُو سَعْدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَالِينِيُّ الصُّوفِيُّ بِمِصْرَ، فِي شَوَّالٍ، وَهُوَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ فِي الْحَدِيثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ رِزْقٍ الْبَزَّازُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَزْقَوَيْهِ، شَيْخُ الْخَطِيبِ أَبِي بَكْرٍ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ فَقِيهًا شَافِعِيًّا، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ السُّلَمِيُّ الصُّوفِيُّ، النَّيْسَابُورِيُّ، صَاحِبُ " طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ "، وَأَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ النَّيْسَابُورِيُّ، الصُّوفِيُّ، شَيْخُ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ (وَأَبُو الْفَتْحِ بْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ) .

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَة] 413 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ الصُّلْحِ بَيْنَ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ وَمُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اصْطَلَحَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ وَأَخُوهُ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَكَانَ الصُّلْحُ بِسَعْيٍ مِنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ مُكْرَمٍ، وَمُؤَيِّدِ الْمُلْكِ الرُّخَّجِيِّ وَزِيرِ مُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعِرَاقُ جَمِيعُهُ لِمُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ، وَفَارِسُ وَكِرْمَانُ لِسُلْطَانِ الدَّوْلَةِ. ذِكْرُ قَتْلِ الْمُعِزِّ وَزِيرَهُ وَصَاحِبَ جَيْشِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ الْمُعِزُّ بْنُ بَادِيسَ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَزِيرَهُ وَصَاحِبَ جَيْشِهِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَقَامَ سَبْعَ سِنِينَ لَمْ يَحْمِلْ إِلَى الْمُعِزِّ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا بَلْ يَجْبِيهَا وَيَرْفَعُهَا عِنْدَهُ، وَطَمِعَ طَمَعًا عَظِيمًا، لَا يُصْبَرُ عَلَى مِثْلِهِ، بِكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ، وَلِأَنَّ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بِطَرَابُلُسَ الْغَرْبِ مُجَاوِرٌ لِزِنَاتَةَ، وَهُمْ أَعْدَاءُ دَوْلَتِهِ، فَصَارَ الْمُعِزُّ لَا يُكَاتِبُ مَلِكًا، وَلَا يُرَاسِلُهُ، إِلَّا وَيَكْتُبُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُعِزِّ وَقَتَلَهُ. يُحْكَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: سَهِرْتُ لَيْلَةً أُفَكِّرُ فِي شَيْءٍ أُحْدِثُهُ فِي النَّاسِ وَأُخْرِجُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَدَمِ الَّتِي الْتَزَمْتُهَا، فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْكَاتِبَ، وَكَانَ

وَزِيرًا لِبَادِيسَ، وَالِدِ هَذَا الْمُعِزِّ، وَكَانَ عَظِيمَ الْقَدْرِ وَالْمَحَلِّ، وَهُوَ يَقُولُ لِي: اتَّقِ اللَّهَ، أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فِي النَّاسِ كَافَّةً، وَفِي نَفْسِكَ خَاصَّةً، فَقَدْ أَسَهَرْتَ عَيْنَيْكَ، وَأَبْرَمْتَ حَافِظَيْكَ، وَقَدْ بَدَا لِي مِنْكَ مَا خَفِيَ عَلَيْكَ، وَعَنْ قَلِيلٍ تَرِدُ عَلَى مَا وَرَدْنَا، وَتُقْدِمُ عَلَى مَا قَدِمْنَا. فَاكْتُبْ عَنِّي مَا أَقُولُ فَإِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا. فَأَمْلَى عَلَيَّ (هَذِهِ الْأَبْيَاتَ) : وُلِّيتَ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَصِيرَ قَوْمٍ ... هُمْ كَانُوا السَّمَاءَ وَكُنْتَ أَرْضَا سَمَوْا دَرَجَ الْعُلَى حَتَّى اطْمَأَنُّوا ... وَهَدَّ بِهِمْ، فَعَادَ الرَّفْعُ خَفْضَا وَأَعْظَمُ أُسْوَةٍ لَكَ بِي لِأَنِّي ... مَلَكْتُ وَلَمْ أَعِشْ طُولًا وَعَرْضَا فَلَا تَغْتَرَّ بِالدُّنْيَا وَأَقْصِرْ ... فَإِنَّ أَوَانَ أَمْرِكَ قَدْ تَقَضَّى قَالَ: فَانْتَبَهْتُ مَرْعُوبًا، وَرَسَخَتِ الْأَبْيَاتُ فِي حِفْظِي، فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا الْمَنَامِ غَيْرُ شَهْرَيْنِ حَتَّى قُتِلَ. وَلَمَّا وَصَلَ خَبَرُ قَتْلِهِ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بِطَرَابُلُسَ بَعَثَ إِلَى زِنَاتَةَ فَعَاهَدَهُمْ، وَأَدْخَلَهُمْ مَدِينَةَ طَرَابُلُسَ، فَقَتَلُوا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ صِنْهَاجَةَ وَسَائِرِ الْجَيْشِ، وَأَخَذُوا الْمَدِينَةَ. فَلَمَّا سَمِعَ الْمُعِزُّ ذَلِكَ أَخَذَ أَوْلَادَ عَبْدِ اللَّهِ وَنَفَرًا مِنْ أَهْلِهِمْ فَحَبَسَهُمْ، ثُمَّ قَتَلَهُمْ بَعْدَ أَيَّامٍ، لِأَنَّ نِسَاءَ الْمَقْتُولِينَ بِطَرَابُلُسَ اسْتَغَثْنَ إِلَى الْمُعِزِّ فِي قَتْلِهِمْ فَقَتَلَهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا كَانَ بِإِفْرِيقِيَّةَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ، وَمَجَاعَةٌ عَظِيمَةٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهَا فِي تَعَذُّرِ الْأَقْوَاتِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ فِيهَا أَحَدٌ بِسَبَبِ الْجُوعِ، وَلَمْ يَجِدِ النَّاسُ كَبِيرَ مَشَقَّةٍ. وَفِيهَا، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ اسْتَوْزَرَ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ أَبَا الْحُسَيْنِ بْنَ الْحَسَنِ الرُّخَّجِيَّ

وَلُقِّبَ مُؤَيِّدَ الْمُلْكِ، وَامْتَدَحَهُ مِهْيَارُ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ وَبَنَى مَارَسْتَانًا بِوَاسِطٍ، وَأَكْثَرَ فِيهِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَشْرِبَةِ، وَرَتَّبَ لَهُ الْخُزَّانَ وَالْأَطِبَّاءَ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ الْوُقُوفَ الْكَثِيرَةَ، وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْوَزَارَةَ فَيَأْبَاهَا، فَلَمَّا قُتِلَ أَبُو غَالِبٍ أَلْزَمَهُ بِهَا مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِامْتِنَاعِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى السُّكَّرِيُّ شَاعِرُ السُّنَّةِ، وَمَوْلِدُهُ بِبَغْدَاذَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْكَلَامَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ، (وَإِنَّمَا سُمِّيَ شَاعِرَ السُّنَّةِ لِأَنَّهُ أَكْثَرَ مَدْحَ الصَّحَابَةِ، وَمُنَاقَضَاتِ شُعَرَاءِ الشِّيعَةِ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيٍّ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْعَلَوِيُّ، وَأَخَذَ السُّلْطَانُ مَالَهُ جَمِيعَهُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُعَلِّمِ، فَقِيهُ الْإِمَامِيَّةِ، وَرَثَاهُ الْمُرْتَضَى.

ثم دخلت سنة أربع عشرة وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَة] 414 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ عَلَى هَمَذَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى أَبُو جَعْفَرِ بْنُ كَاكَوَيْهِ عَلَى هَمَذَانَ وَمَلَكَهَا وَكَذَلِكَ غَيْرَهَا مِمَّا يُقَارِبُهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ فَرْهَاذَ بْنَ مَرْدَاوِيجَ الدَّيْلَمِيَّ، مُقْطَعُ بُرُوجِرْدَ، قَصَدَهُ سَمَاءُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ شَمْسِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، صَاحِبُ هَمَذَانَ، وَحَصَرَهُ فَالْتَجَأَ فَرْهَاذُ إِلَى عَلَاءِ الدَّوْلَةِ، فَحَمَاهُ وَمَنَعَ عَنْهُ، وَسَارَا جَمِيعًا إِلَى هَمَذَانَ فَحَصَرَاهَا وَقَطَعَا الْمِيرَةَ عَنْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا مَنْ بِهَا مِنَ الْعَسْكَرِ، فَاقْتَتَلُوا فَرَحَلَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى جَرَبَاذَقَانَ، فَهَلَكَ مِنْ عَسْكَرِهِ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ. فَسَارَ إِلَيْهِ تَاجُ الْمُلْكِ الْقُوهِيُّ، مُقَدَّمُ عَسْكَرِ هَمَذَانَ، فَحَصَرَهُ بِهَا، فَصَانَعَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ الْأَكْرَادَ الَّذِينَ مَعَ تَاجِ الْمُلْكِ، فَرَحَلُوا عَنْهُ، فَخَلَصَ مِنَ الْحِصَارِ، وَشَرَعَ بِالتَّجَهُّزِ لِيُعَاوِدَ حِصَارَ هَمَذَانَ، فَأَكْثَرَ مِنَ الْجُمُوعِ، وَسَارَ إِلَيْهَا. فَلَقِيَهُ سَمَاءُ الدَّوْلَةِ فِي عَسَاكِرِهِ وَمَعَهُ تَاجُ الْمُلْكِ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ هَمَذَانَ، وَمَضَى تَاجُ الْمُلْكِ إِلَى قَلْعَةٍ فَاحْتَمَى بِهَا، وَتَقَدَّمَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى سَمَاءِ الدَّوْلَةِ، فَتَرَجَّلَ لَهُ وَخَدَمَهُ، وَأَخَذَهُ وَأَنْزَلَهُ فِي خَيْمَتِهِ وَحَمَلَ إِلَيْهِ الْمَالَ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَسَارَ وَهُوَ مَعَهُ إِلَى الْقَلْعَةِ الَّتِي بِهَا تَاجُ الْمُلْكِ، فَحَصَرَهُ وَقَطَعَ الْمَاءَ عَنِ الْقَلْعَةِ، فَطَلَبَ تَاجُ الْمُلْكِ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ فَنَزَلَ إِلَيْهِ، وَدَخَلَ مَعَهُ هَمَذَانَ.

وَلَمَّا مَلَكَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ هَمَذَانَ سَارَ إِلَى الدِّينَوَرِ فَمَلَكَهَا، ثُمَّ إِلَى سَابُورَ خُوَاسْتَ فَمَلَكَهَا أَيْضًا، وَجَمَعَ تِلْكَ الْأَعْمَالَ، وَقَبَضَ عَلَى أُمَرَاءِ الدَّيْلَمِ (الَّذِينَ بِهَمَذَانَ) ، وَسَجَنَهُمْ بِقَلْعَةٍ عِنْدَ أَصْبَهَانَ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَأَقْطَاعَهُمْ، وَأَبْعَدَ كُلَّ مَنْ فِيهِ شَرٌّ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَتَرَكَ عِنْدَهُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا شَرَّ فِيهِ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ، فَقَامَتْ هَيْبَتُهُ، وَخَافَهُ النَّاسُ، وَضَبَطَ الْمَمْلَكَةَ. وَقَصَدَ حُسَامَ الدَّوْلَةِ أَبَا الشَّوْكِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ يَشْفَعُ فِيهِ، فَعَادَ عَنْهُ. ذِكْرُ وَزَارَةِ أَبِي الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيِّ لِمُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ عَلَى وَزِيرِهِ مُؤَيِّدِ الْمُلْكِ الرُّخَّجِيِّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانَتْ وَزَارَتُهُ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ أَنَّ الْأَثِيرَ الْخَادِمَ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَادِرَ ابْنَ شَعْيَا الْيَهُودِيَّ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ مُتَعَلِّقًا عَلَى الْأَثِيرِ، فَسَعَى وَعَزَلَهُ، وَاسْتَوْزَرَ بَعْدَهُ أَبَا الْقَاسِمِ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْمَغْرِبِيَّ، وَمَوْلِدُهُ بِمِصْرَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَصْحَابِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ فِي هَمَذَانَ، فَسَارَ إِلَى مِصْرَ، فَتَوَلَّى بِهَا، فَقَتَلَهُ الْحَاكِمُ، فَهَرَبَ وَلَدُهُ أَبُو الْقَاسِمِ إِلَى الشَّامِ، وَقَصَدَ حَسَّانَ بْنَ الْفَرَجِ بْنِ الْجَرَّاحِ الطَّائِيَّ، وَحَمَلَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْحَاكِمِ وَالْخُرُوجِ عَنْ طَاعَتِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَحَسَّنَ لَهُ أَنْ يُبَايِعَ أَبَا الْفُتُوحِ الْحَسَنَ بْنَ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيَّ، أَمِيرَ مَكَّةَ، فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ، وَاسْتَقْدَمَهُ إِلَى الرَّمْلَةِ، وَخُوطِبَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَنْفَذَ الْحَاكِمُ إِلَى حَسَّانَ مَالًا جَلِيلًا، وَأَفْسَدَ مَعَهُ حَالَ أَبِي الْفُتُوحِ، فَأَعَادَهُ حَسَّانُ إِلَى وَادِي الْقُرَى، وَسَارَ أَبُو الْفُتُوحِ مِنْهُ إِلَى مَكَّةَ. ثُمَّ قَصَدَ أَبُو الْقَاسِمِ الْعِرَاقَ

وَاتَّصَلَ بِفَخْرِ الْمُلْكِ، فَاتَّهَمَهُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ مِنْ مِصْرَ، فَأَبْعَدَهُ فَخْرُ الْمُلْكِ، فَقَصَدَ قِرْوَاشًا بِالْمَوْصِلِ، فَكَتَبَ لَهُ، ثُمَّ عَادَ عَنْهُ وَتَنَقَّلَتْ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ وَزَرَ بَعْدَ مُؤَيِّدِ الْمُلْكِ الرُّخَّجِيِّ. وَكَانَ خَبِيثًا، مُحْتَالًا، حَسُودًا، إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ ذُو فَضِيلَةٍ سَأَلَهُ عَنْ غَيْرِهَا لِيُظْهِرَ لِلنَّاسِ جَهْلَهُ. وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، قَدِمَ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَلَقِيَهُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ فِي الطَّيَّارِ، وَعَلَيْهِ السَّوَادُ، وَلَمْ يَلْقَ قَبْلَهُ أَحَدًا مِنْ مُلُوكِ بَنِي بُوَيْهِ. وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ سَهْلَانَ، قَتَلَهُ نَبْكِيرُ بْنُ عِيَاضٍ عِنْدَ إِيذَجَ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِمَكَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ مِصْرَ، بِإِحْدَى يَدَيْهِ سَيْفٌ مَسْلُولٌ، وَفِي الْأُخْرَى دَبُّوسٌ، بَعْدَمَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَصَدَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ كَأَنَّهُ يَسْتَلِمُهُ، فَضَرَبَ الْحَجَرَ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ بِالدَّبُّوسِ، وَقَالَ: إِلَى مَتَى يُعْبَدُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَمُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ؟ فَلْيَمْنَعْنِي مَانِعٌ مِنْ هَذَا، فَإِنِّي أُرِيدُ [أَنْ] أَهْدِمَ الْبَيْتَ. فَخَافَ أَكْثَرُ الْحَاضِرِينَ وَتَرَاجَعُوا عَنْهُ، وَكَادَ يُفْلِتُ فَثَارَ بِهِ رَجُلٌ فَضَرَبَهُ بِخِنْجَرٍ فَقَتَلَهُ، وَقَطَّعَهُ النَّاسُ وَأَحْرَقُوهُ، وَقُتِلَ مِمَّنِ اتُّهِمَ بِمُصَاحَبَتِهِ جَمَاعَةٌ وَأُحْرِقُوا، وَثَارَتِ الْفِتْنَةُ، وَكَانَ الظَّاهِرُ مِنَ الْقَتْلَى أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ رَجُلًا غَيْرَ مَنِ اخْتَفَى مِنْهُمْ. وَأَلَحَّ النَّاسُ، ذَلِكَ الْيَوْمَ، عَلَى الْمَغَارِبَةِ وَالْمِصْرِيِّينَ بِالنَّهْبِ وَالسَّلْبِ، وَعَلَى

غَيْرِهِمْ فِي طَرِيقِ مِنًى إِلَى الْبَلَدِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مَاجَ النَّاسُ وَاضْطَرَبُوا، وَأَخَذُوا أَرْبَعَةً مِنْ أَصْحَابِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَقَالُوا: نَحْنُ مِائَةُ رَجُلٍ فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَتَقَشَّرَ بَعْضُ وَجْهِ الْحَجَرِ مِنَ الضَّرَبَاتِ، فَأُخِذَ ذَلِكَ الْفُتَاتُ وَعُجِنَ بِلَكٍّ وَأُعِيدَ إِلَى مَوْضِعِهِ. ذِكْرُ فَتْحِ (قَلْعَةٍ مِنَ) الْهِنْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْغَلَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ فِي بِلَادِ الْهِنْدِ، فَغَنِمَ وَقَتَلَ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى قَلْعَةٍ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ مَنِيعٍ، وَلَيْسَ لَهُ مِصْعَدٌ إِلَّا مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ كَبِيرَةٌ تَسَعُ خَلْقًا، وَبِهَا خَمْسُمِائَةِ فِيلٍ، وَفِي رَأْسِ الْجَبَلِ مِنَ الْغَلَّاتِ، وَالْمِيَاهِ، وَجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَحَصَرَهُمْ يَمِينُ الدَّوْلَةِ، وَأَدَامَ الْحِصَارَ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَمَرَّ الْقِتَالُ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ. فَلَمَّا رَأَوْا مَا حَلَّ بِهِمْ أَذْعَنُوا لَهُ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ وَأَقَرَّ مَلِكَهُمْ فِيهَا عَلَى خَرَاجٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُ، وَأَهْدَى لَهُ هَدَايَا كَثِيرَةً، مِنْهَا طَائِرٌ عَلَى هَيْئَةِ الْقُمْرِيِّ مِنْ خَاصِّيَّتِهِ إِذَا أُحْضِرَ الطَّعَامُ وَفِيهِ سُمٌّ دَمَعَتْ عَيْنَا هَذَا الطَّائِرِ وَجَرَى مِنْهُمَا مَاءٌ وَتَحَجَّرَ، فَإِذَا حُكَّ وَجُعِلَ عَلَى الْجِرَاحَاتِ الْوَاسِعَةِ أَلْحَمَهَا.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُعْتَزِلِيُّ الرَّازِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِمَدِينَةِ الرَّيِّ، وَقَدْ جَاوَزَ تِسْعِينَ سَنَةً، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَشْفُلِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ. وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ النَّسَفِيُّ، وَكَانَ زَاهِدًا مُصَنِّفًا (وَهِلَالُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو الْفَتْحِ الْحَفَّارُ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ، عَالِيَ الْإِسْنَادِ) .

ثم دخلت سنة خمس عشرة وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَة] 415 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ الْخُلْفِ بَيْنَ مُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ وَالْأَتْرَاكِ وَعَزْلِ الْوَزِيرِ الْمَغْرِبِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَأَكَّدَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ الْأَثِيرِ عَنْبَرٍ الْخَادِمِ، وَمَعَهُ الْوَزِيرُ ابْنُ الْمَغْرِبِيِّ، وَبَيْنَ الْأَتْرَاكِ، فَاسْتَأْذَنَ الْأَثِيرُ وَالْوَزِيرُ ابْنُ الْمَغْرِبِيِّ الْمَلِكَ مُشَرِّفَ الدَّوْلَةِ فِي الِانْتِزَاحِ إِلَى بَلَدٍ يَأْمَنَانِ فِيهِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا، فَقَالَ: أَنَا أَسِيرُ مَعَكُمَا. فَسَارُوا جَمِيعًا وَمَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ مُقَدَّمِي الدَّيْلَمِ إِلَى السِّنْدِيَّةِ، وَبِهَا قِرْوَاشٌ، فَأَنْزَلَهُمْ، ثُمَّ سَارُوا كُلُّهُمْ إِلَى أَوَانَا. فَلَمَّا عَلِمَ الْأَتْرَاكُ ذَلِكَ عَظُمَ عَلَيْهِمْ، وَانْزَعَجُوا مِنْهُ، وَأَرْسَلُوا الْمُرْتَضَى وَأَبَا الْحَسَنِ الزَّيْنَبِيَّ وَجَمَاعَةً مِنْ قُوَّادِ الْأَتْرَاكِ يَعْتَذِرُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْعَبِيدُ فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَبُو الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيُّ: إِنَّنِي تَأَمَّلْتُ مَا لَكَمَ مِنَ الْجَامَكِيَّاتِ، فَإِذَا هِيَ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعَمِلْتُ دَخْلَ بَغْدَاذَ، فَإِذَا هُوَ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَإِنْ أَسْقَطْتُمْ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ تَحَمَّلْتُ بِالْبَاقِي فَقَالُوا: نَحْنُ نُسْقِطُهَا، فَاسْتَشْعَرَ مِنْهُمْ أَبُو الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيُّ، فَهَرَبَ إِلَى قِرْوَاشٍ، فَكَانَتْ وَزَارَتُهُ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا أَبْعَدَ خَرَجَ الْأَتْرَاكُ فَسَأَلُوا الْمَلِكَ وَالْأَثِيرَ الِانْحِدَارَ مَعَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ (وَانْحَدَرُوا جَمِيعُهُمْ) . ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِالْكُوفَةِ وَوَزَارَةِ أَبِي الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيِّ لِابْنِ مَرْوَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِالْكُوفَةِ بَيْنَ الْعَلَوِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ.

وَسَبَبُهَا أَنَّ الْمُخْتَارَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيَّ وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّكِيِّ أَبِي عَلِيٍّ النَّهْرَسَابُسِيِّ، وَبَيْنَ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ بْنِ عُمَرَ مُبَايَنَةٌ، فَاعْتَضَدَ، الْمُخْتَارُ بِالْعَبَّاسِيِّينَ، فَسَارُوا إِلَى بَغْدَاذَ، وَشَكَوْا مَا يَفْعَلُ بِهِمُ النَّهْرَسَابُسِيُّ، فَتَقَدَّمَ الْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ مُرَاعَاةً لِأَبِي الْقَاسِمِ الْوَزِيرِ الْمَغْرِبِيِّ لِأَنَّ النَّهْرَسَابُسِيَّ كَانَ صَدِيقَهُ، وَابْنُ أَبِي طَالِبٍ كَانَ صِهْرَهُ، فَعَادُوا، وَاسْتَعَانَ كُلُّ فَرِيقٍ بِخَفَاجَةَ، فَأَعَانَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنَ الْكُوفِيِّينَ طَائِفَةٌ مِنْ خَفَاجَةَ، فَجَرَى بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، فَظَهَرَ الْعَلَوِيُّونَ، وَقُتِلَ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ سِتَّةُ نَفَرٍ، وَأُحْرِقَتْ دُورُهُمْ وَنُهِبَتْ، فَعَادُوا إِلَى بَغْدَاذَ وَمُنِعُوا مِنَ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَثَارُوا، وَقَتَلُوا ابْنَ أَبِي الْعَبَّاسِ الْعَلَوِيَّ وَقَالُوا: إِنَّ أَخَاهُ كَانَ فِي جُمْلَةِ الْفَتَكَةِ بِالْكُوفَةِ. فَبَرَزَ أَمْرُ الْخَلِيفَةِ إِلَى الْمُرْتَضَى يَأْمُرُهُ بِصَرْفِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ نِقَابَةِ الْكُوفَةِ وَرَدِّهَا إِلَى الْمُخْتَارِ، فَأَنْكَرَ الْوَزِيرُ الْمَغْرِبِيُّ مَا يَجْرِي عَلَى صِهْرِهِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْعَزْلِ وَكَانَ عِنْدَ قِرْوَاشٍ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، فَاعْتَرَضَ أَرْحَاءً كَانَتْ لِلْخَلِيفَةِ بِدَرْزِيجَانَ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْقَاضِيَ أَبَا جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيَّ فِي رِسَالَةٍ إِلَى قِرْوَاشٍ يَأْمُرُهُ بِإِبْعَادِ الْمَغْرِبِيِّ عَنْهُ فَفَعَلَ، فَسَارَ الْمَغْرِبِيُّ إِلَى ابْنِ مَرْوَانَ بِدِيَارِ بَكْرٍ، وَغَضِبَ الْخَلِيفَةُ عَلَى النَّهْرَسَابُسِيِّ، وَبَقِيَ تَحْتَ السُّخْطِ إِلَى سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَشَفَعَ فِيهِ الْأَتْرَاكُ وَغَيْرُهُمْ، فَرَضِيَ عَنْهُ، وَحَلَّفَهُ عَلَى الطَّاعَةِ فَحَلَفَ. ذِكْرُ وَفَاةِ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ وَمُلْكِ وَلَدِهِ أَبِي كَالِيجَارَ وَقَتْلِ ابْنِ مُكْرَمٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، تُوُفِّيَ الْمَلِكُ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ (أَبُو شُجَاعِ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ أَبِي نَصْرِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ) بِشِيرَازَ، وَكَانَ عُمْرُهُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ.

وَكَانَ ابْنُهُ أَبُو كَالِيجَارَ بِالْأَهْوَازِ، فَطَلَبَهُ الْأَوْحَدُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مُكْرَمٍ لِيَمْلِكَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَكَانَ هَوَاهُ مَعَهُ، وَكَانَ الْأَتْرَاكُ يُرِيدُونَ عَمَّهُ أَبَا الْفَوَارِسِ بْنَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، صَاحِبَ كِرْمَانَ، فَكَاتَبُوهُ يَطْلُبُونَهُ إِلَيْهِمْ أَيْضًا، فَتَأَخَّرَ أَبُو كَالِيجَارَ عَنْهَا، فَسَبَقَهُ عَمُّهُ أَبُو الْفَوَارِسِ إِلَيْهَا فَمَلَكَهَا. وَكَانَ أَبُو الْمَكَارِمِ بْنُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ مُكْرَمٍ قَدْ أَشَارَ عَلَى أَبِيهِ، لَمَّا رَأَى الِاخْتِلَافَ، أَنْ يَسِيرَ إِلَى مَكَانٍ يَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ، فَسَارَ وَتَرَكَهُ وَقَصَدَ الْبَصْرَةَ فَنَدِمَ أَبُوهُ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ الْعَادِلُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ مَافَنَّةَ: الْمَصْلَحَةُ أَنْ تَقْصِدَ سِيرَافَ، وَتَكُونَ مَالِكَ أَمْرِكَ، وَابْنُكَ أَبُو الْقَاسِمِ بِعُمَانَ، فَتَحْتَاجُ الْمُلُوكُ إِلَيْكَ. فَرَكِبَ سَفِينَةً لِيَمْضِيَ إِلَيْهَا، فَأَصَابَهُ بَرْدٌ، فَبَطَلَ عَنِ الْحَرَكَةِ، وَأَرْسَلَ الْعَادِلَ بْنَ مَافَنَّةَ إِلَى كِرْمَانَ لِإِحْضَارِ أَبِي الْفَوَارِسِ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْعَادِلُ، وَأَبْلَغَهُ رِسَالَةَ ابْنِ مُكْرَمٍ بِاسْتِدْعَائِهِ، فَسَارَ مُجِدًّا وَمَعَهُ الْعَادِلُ، فَوَصَلُوا إِلَى فَارِسَ، وَخَرَجَ ابْنُ مُكْرَمٍ يَلْتَقِي أَبَا الْفَوَارِسِ وَمَعَهُ النَّاسُ، فَطَالَبَهُ الْأَجْنَادُ بِحَقِّ الْبَيْعَةِ، فَأَحَالَهُمْ عَلَى ابْنِ مُكْرَمٍ، فَتَضَجَّرَ ابْنُ مُكْرَمٍ، فَقَالَ لَهُ الْعَادِلُ: الرَّأْيُ أَنْ تَبْذُلَ مَالَكَ وَأَمْوَالَنَا حَتَّى تَمْشِيَ الْأُمُورُ، فَانْتَهَرَهُ فَسَكَتَ، وَتَلَوَّمَ ابْنُ مُكْرَمٍ بِإِيصَالِ الْمَالِ إِلَى الْأَجْنَادِ، فَشَكَوْهُ إِلَى أَبِي الْفَوَارِسِ فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعَادِلِ بْنِ مَافَنَّةَ، ثُمَّ قَتَلَ ابْنَ مُكْرَمٍ وَاسْتَبْقَى ابْنَ مَافَنَّةَ. فَلَمَّا سَمِعَ ابْنُهُ أَبُو الْقَاسِمِ بِقَتْلِهِ صَارَ مَعَ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ وَأَطَاعَهُ، وَتَجَهَّزَ أَبُو كَالِيجَارَ، وَقَامَ بِأَمْرِهِ أَبُو مُزَاحِمٍ صَنْدَلٌ الْخَادِمُ، وَكَانَ مُرَبِّيهِ، وَسَارُوا بِالْعَسَاكِرِ إِلَى فَارِسَ، فَسَيَّرَ عَمُّهُ أَبُو الْفَوَارِسِ عَسْكَرًا مَعَ وَزِيرِهِ أَبِي مَنْصُورٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْفَسَوِيِّ لِقِتَالِهِ، فَوَصَلَ أَبُو كَالِيجَارَ وَالْوَزِيرُ مُتَهَاوِنٌ بِهِ لِكَثْرَةِ عَسْكَرِهِ، فَأَتَوْهُ وَهُوَ نَائِمٌ، وَقَدْ تَفَرَّقَ عَسْكَرُهُ فِي الْبَلَدِ يَبْتَاعُونَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ جَاهِلًا بِالْحَرْبِ، فَلَمَّا شَاهَدُوا أَعْلَامَ أَبِي كَالِيجَارَ شَرَعَ الْوَزِيرُ يُرَتِّبُ الْعَسْكَرَ، وَقَدْ دَاخَلَهُمُ الرُّعْبُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو كَالِيجَارَ وَهُمْ عَلَى اضْطِرَابٍ، فَانْهَزَمُوا، وَغَنِمَ أَبُو كَالِيجَارَ وَعَسْكَرُهُ

أَمْوَالَهُمْ، وَدَوَابَّهُمْ وَكُلَّ مَا لَهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَى خَبَرُ الْهَزِيمَةِ إِلَى عَمِّهِ أَبِي الْفَوَارِسِ سَارَ إِلَى كِرْمَانَ، وَمَلَكَ أَبُو كَالِيجَارَ بِلَادَ فَارِسَ وَدَخَلَ شِيرَازَ. ذِكْرُ عَوْدِ أَبِي الْفَوَارِسِ إِلَى فَارِسَ وَإِخْرَاجِهِ عَنْهَا وَلَمَّا مَلَكُ أَبُو كَالِيجَارَ بِلَادَ فَارِسَ دَخَلَ شِيرَازَ جَرَى عَلَى الدَّيْلَمِ الشِّيرَازِيَّةِ مِنْ عَسْكَرِهِ مَا أَخْرَجَهُمْ عَنْ طَاعَتِهِ وَتَمَنَّوْا مَعَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا قُتِلُوا مَعَ عَمِّهِ. وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الدَّيْلَمِ بِمَدِينَةِ فَسَا فِي طَاعَةِ أَبِي الْفَوَارِسِ، وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُصْلِحُوا حَالَهُمْ مَعَ أَبِي كَالِيجَارَ وَيَصِيرُوا مَعَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الدَّيْلَمُ الَّذِينَ بِشِيرَازَ يُعَرِّفُونَهُمْ مَا يَلْقَوْنَ مِنَ الْأَذَى، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِالتَّمَسُّكِ بِطَاعَةِ أَبِي الْفَوَارِسِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ عَسْكَرَ أَبِي كَالِيجَارَ طَالَبُوهُ بِالْمَالِ، وَشَغَبُوا عَلَيْهِ، فَأَظْهَرَ الدَّيْلَمُ الشِّيرَازِيَّةُ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْحِقْدِ، فَعَجَزَ عَنِ الْمُقَامِ مَعَهُمْ، فَسَارَ عَنْ شِيرَازَ إِلَى النُّوبَنْدَجَانَ، وَلَقِيَ شِدَّةً فِي طَرِيقِهِ، ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهَا لِشِدَّةِ حَرِّهَا، وَوَخَامَةِ هَوَائِهَا، وَمَرِضَ أَصْحَابُهُ، فَأَتَى شِعْبَ بَوَّانَ فَأَقَامَ بِهِ. فَلَمَّا سَارَ عَنْ شِيرَازَ أَرْسَلَ الدَّيْلَمُ الشِّيرَازِيَّةُ إِلَى عَمِّهِ أَبِي الْفَوَارِسِ يَحُثُّونَهُ عَلَى الْمَجِيءِ إِلَيْهِمْ، وَيُعَرِّفُونَهُ بُعْدَ أَبِي كَالِيجَارَ عَنْهُمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَسَلَّمُوا إِلَيْهِ شِيرَازَ، وَقَصَدَ إِلَى أَبِي كَالِيجَارَ بِشِعْبِ بَوَّانَ لِيُحَارِبَهُ وَيُخْرِجَهُ عَنِ الْبِلَادِ، فَاخْتَارَ الْعَسْكَرَانِ الصُّلْحَ، فَسَفَرُوا فِيهِ، فَاسْتَقَرَّ لِأَبِي الْفَوَارِسِ كِرْمَانُ وَفَارِسُ، وَلِأَبِي كَالْيَجَارَ خُوزِسْتَانُ، وَعَادَ أَبُو الْفَوَارِسِ إِلَى شِيرَازَ، وَسَارَ أَبُو كَالْيَجَارَ إِلَى أَرْجَانَ. ثُمَّ إِنَّ وَزِيرَ أَبِي الْفَوَارِسِ خَبَّطَ النَّاسَ، وَأَفْسَدَ قُلُوبَهُمْ، وَصَادَرَهُمْ، وَجَازَ بِهِ مَالَ لِأَبِي كَالِيجَارَ وَالدَّيْلَمِ الَّذِينَ مَعَهُ، فَأَخَذَهُ، فَحِينَئِذٍ حَثَّ الْعَادِلُ بْنُ مَافَنَّةَ صَنْدَلًا الْخَادِمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى شِيرَازَ، وَكَانَ قَدْ فَارَقَ بِهَا نِعْمَةً عَظِيمَةً، وَصَارَ مَعَ أَبِي كَالِيجَارَ، وَكَانَ الدَّيْلَمُ يُطِيعُونَهُ، فَعَادَتِ الْحَالُ إِلَى أَشَدَّ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ، فَسَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَبِي

كَالِيجَارَ وَعَمِّهِ أَبِي الْفَوَارِسِ إِلَى صَاحِبِهِ وَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ أَبُو الْفَوَارِسِ إِلَى دَارَابْجِرْدَ وَمَلَكَ أَبُو كَالِيجَارَ فَارِسَ، وَعَادَ أَبُو الْفَوَارِسِ فَجَمَعَ الْأَكْرَادَ فَأَكْثَرَ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ مِنْهُمْ نَحْوُ عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَالْتَقَوْا بَيْنَ الْبَيْضَاءِ وَإِصْطَخْرَ فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ مِنَ الْقِتَالِ الْأَوَّلِ، فَعَاوَدَ أَبُو الْفَوَارِسِ الْهَزِيمَةُ، فَسَارَ إِلَى كِرْمَانَ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ أَبِي كَالِيجَارَ بِفَارِسَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ أَهْلُ شِيرَازَ يَكْرَهُونَهُ. ذِكْرُ خُرُوجِ زِنَاتَةَ وَالظَّفَرِ بِهِمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ بِإِفْرِيقِيَّةَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ زِنَاتَةَ، فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ، وَأَفْسَدُوا بِقَسْطِيلِيَةَ وَنِفْزَاوَةَ، وَأَغَارُوا وَغَنِمُوا، وَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُمْ، وَكَثُرَ جَمْعُهُمْ. فَسَيَّرَ إِلَيْهِمُ الْمُعِزُّ بْنُ بَادِيسَ جَيْشًا جَرِيدَةً، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجِدُّوا السَّيْرَ وَيَسْبِقُوا أَخْبَارَهُمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَكَتَمُوا خَبَرَهُمْ، وَطَوَوُا الْمَرَاحِلَ حَتَّى أَدْرَكُوهُمْ وَهُمْ آمِنُونَ مِنَ الطَّلَبِ، فَوَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَعُلِّقَ خَمْسُمِائَةِ رَأْسٍ فِي أَعْنَاقِ الْخُيُولِ وَسُيِّرَتْ إِلَى الْمُعِزِّ، وَكَانَ يَوْمُ دُخُولِهَا يَوْمًا مَشْهُودًا. ذِكْرُ عَوْدِ الْحَاجِّ عَلَى الشَّامِ وَمَا كَانَ مِنَ الظَّاهِرِ إِلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ الْحُجَّاجُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْعِرَاقِ عَلَى الشَّامِ لِصُعُوبَةِ الطَّرِيقِ الْمُعْتَادِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى مَكَّةَ بَذَلَ لَهُمُ الظَّاهِرُ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ مِصْرَ، أَمْوَالًا جَلِيلَةً وَخِلَعًا نَفِيسَةً، وَتَكَلَّفَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَعْطَى لِكُلِّ رَجُلٍ فِي الصُّحْبَةِ جُمْلَةً مِنَ الْمَالِ لِيُظْهِرَ لِأَهْلِ خُرَاسَانَ ذَلِكَ. وَكَانَ عَلَى تَسْيِيرِ الْحُجَّاجِ الشَّرِيفُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَقْسَاسِيُّ، وَعَلَى حُجَّاجِ خُرَاسَانَ حَسَنَكُ نَائِبُ يَمِينِ الدَّوْلَةِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، فَعَظُمَ مَا جَرَى عَلَى الْخَلِيفَةِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ، وَعَبَرَ حَسَنَكُ دِجْلَةَ عِنْدَ أَوَانَا، وَسَارَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَتَهَدَّدَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ ابْنَ الْأَقْسَاسِيِّ، فَمَرِضَ فَمَاتَ، وَرَثَاهُ الْمُرْتَضَى وَغَيْرُهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ فِي الْمَعْنَى، فَسَيَّرَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ الْخِلَعَ الَّتِي خُلِعَتْ عَلَى صَاحِبِهِ حَسَنَكَ إِلَى بَغْدَاذَ فَأُحْرِقَتْ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ السُّلْطَانُ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ بِابْنَةِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَاكَوَيْهِ، وَكَانَ الصَّدَاقُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَتَوَلَّى الْعَقْدَ الْمُرْتَضَى. وَفِيهَا قُلِّدَ الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيُّ قَضَاءَ الرُّصَافَةِ وَبَابِ الطَّاقِ. [الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ السِّمْسِمِيُّ الْأَدِيبُ، وَابْنُ الدَّقِيقِيِّ النَّحْوِيُّ) ، أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بِشْرَانَ الْمُحَدِّثُ، وَعُمْرُهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَالْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُّوذِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ بِهَا، وَأَبُو الْفَرَجِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمَسْلَمَةِ، الشَّاهِدِ، وَهُوَ جَدُّ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ أَبُو الْحَسَنِ الْمَحَامِلِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي حَامِدٍ، وَصَنَّفَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمَشْهُورَةَ (وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْرَسِ أَبُو الْقَاسِمِ الْمُقْرِئُ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ) .

ثم دخلت سنة ست عشرة وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَة] 416 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ فَتْحِ سُومَنَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ فِي بِلَادِ الْهِنْدِ عِدَّةَ حُصُونٍ وَمُدُنٍ، وَأَخَذَ الصَّنَمَ الْمَعْرُوفَ بِسُومَنَاتَ، وَهَذَا الصَّنَمُ كَانَ أَعْظَمَ أَصْنَامِ الْهِنْدِ، وَهُمْ يَحُجُّونَ إِلَيْهِ كُلَّ لَيْلَةِ خُسُوفٍ، فَيَجْتَمِعُ عِنْدَهُ مَا يَنِيفُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ، وَتَزْعُمُ الْهُنُودُ أَنَّ الْأَرْوَاحَ إِذَا فَارَقَتِ الْأَجْسَامَ (اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ) عَلَى مَذْهَبِ التَّنَاسُخِ، فَيُنْشِئُهَا فِيمَنْ شَاءَ، وَأَنَّ الْمَدَّ وَالْجَزْرَ الَّذِي عِنْدَهُ إِنَّمَا هُوَ عِبَادَةُ الْبَحْرِ عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ. وَكَانُوا يَحْمِلُونَ إِلَيْهِ كُلَّ عِلْقٍ نَفِيسٍ، وَيُعْطُونَ سَدَنَتَهُ كُلَّ مَالٍ جَزِيلٍ، وَلَهُ مِنَ الْمَوْقُوفِ مَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ قَرْيَةٍ، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ نَفِيسِ الْجَوْهَرِ مَا لَا تُحْصَى قِيمَتُهُ. وَلِأَهْلِ الْهِنْدِ نَهْرٌ كَبِيرٌ يُسَمَّى كُنْكَ يُعَظِّمُونَهُ غَايَةَ التَّعْظِيمِ، وَيُلْقُونَ فِيهِ عِظَامَ مَنْ يَمُوتُ مِنْ كُبَرَائِهِمْ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تُسَاقُ إِلَى جَنَّةِ النَّعِيمِ. وَبَيْنَ هَذَا النَّهْرِ وَبَيْنَ سُومَنَاتَ نَحْوُ مِائَتَيْ فَرْسَخٍ، وَكَانَ يُحْمَلُ مِنْ مَائِهِ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى سُومَنَاتَ مَا يُغْسَلُ بِهِ، وَيَكُونُ عِنْدَهُ مِنَ الْبَرَهْمِيِّينَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفُ رَجُلٍ لِعِبَادَتِهِ

وَتَقْدِيمِ الْوُفُودِ إِلَيْهِ، وَثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ يَحْلِقُونَ رُءُوسَ زُوَّارِهِ وَلِحَاهُمْ، وَثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ وَخَمْسُمِائَةِ أَمَةٍ يُغَنُّونَ وَيَرْقُصُونَ عَلَى بَابِ الصَّنَمِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْءٌ مَعْلُومٌ كُلَّ يَوْمٍ. وَكَانَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ كُلَّمَا فَتَحَ مِنَ الْهِنْدِ فَتْحًا، وَكَسَرَ صَنَمًا يَقُولُ الْهُنُودُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ قَدْ سَخِطَ عَلَيْهَا سُومَنَاتُ، وَلَوْ أَنَّهُ رَاضٍ عَنْهَا لَأَهْلَكَ مَنْ تَقَصَّدَهَا بِسُوءٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ يَمِينَ الدَّوْلَةِ عَزَمَ عَلَى غَزْوِهِ وَإِهْلَاكِهِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْهُنُودَ إِذَا فَقَدُوهُ، وَرَأَوْا كَذِبَ ادِّعَائِهِمُ الْبَاطِلِ، دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ فَاسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى وَسَارَ عَنْ غَزْنَةَ عَاشِرَ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ فَارِسٍ مِنْ عَسَاكِرِهِ سِوَى الْمُتَطَوِّعَةِ، وَسَلَكَ سَبِيلَ الْمُلْتَانِ، فَوَصَلَهَا مُنْتَصَفَ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَفِي طَرِيقِهِ إِلَى الْهِنْدِ بَرِيَّةُ قَفْرٍ، لَا سَاكِنَ فِيهَا، وَلَا مَاءَ، وَلَا مِيرَةَ. فَتَجَهَّزَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ عَلَى قَدْرِهَا، ثُمَّ زَادَ بَعْدَ الْحَاجَةِ عِشْرِينَ أَلْفَ جَمَلٍ تَحْمِلُ الْمَاءَ وَالْمِيرَةَ، وَقَصَدَ أَنْهَلْوَارَةَ، فَلَمَّا قَطَعَ الْمَفَازَةَ رَأَى فِي طَرَفِهَا حُصُونًا مَشْحُونَةً بِالرِّجَالِ، وَعِنْدَهَا آبَارٌ قَدْ غَوَّرُوهَا لِيَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ حَصْرُهَا، فَيَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى فَتْحَهَا عِنْدَ قُرْبِهِ مِنْهَا بِالرُّعْبِ الَّذِي قَذَفَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَسَلَّمَهَا، وَقَتَلَ سُكَّانَهَا وَأَهْلَكَ أَوْثَانَهَا، وَامْتَارُوا مِنْهَا الْمَاءَ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. وَسَارَ إِلَى أَنْهَلْوَارَةَ فَوَصَلَهَا مُسْتَهَلَّ ذِي الْقَعْدَةِ، فَرَأَى صَاحِبَهَا الْمَدْعُوَّ بَهِيمَ قَدْ أَجْفَلَ عَنْهَا وَتَرَكَهَا وَأَمْعَنَ فِي الْهَرَبِ، وَقَصَدَ حِصْنًا لَهُ يَحْتَمِي بِهِ فَاسْتَوْلَى يَمِينُ الدَّوْلَةِ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَسَارَ إِلَى سُومَنَاتَ، فَلَقِيَ فِي طَرِيقِهِ عِدَّةَ حُصُونٍ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأَوْثَانِ شِبْهَ الْحُجَّابِ وَالنُّقَبَاءِ لِسُومَنَاتَ، عَلَى مَا سَوَّلَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ، فَقَاتَلَ مَنْ بِهَا، وَفَتَحَهَا وَخَرَّبَهَا، وَكَسَرَ أَصْنَامَهَا، وَسَارَ إِلَى سُومَنَاتَ فِي مَفَازَةٍ قَفْرَةٍ قَلِيلَةِ الْمَاءِ، فَلَقِيَ فِيهَا عِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ مِنْ سُكَّانِهَا لَمْ يَدِينُوا لِلْمَلِكِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ السَّرَايَا، فَقَاتَلُوهُمْ

فَهَزَمُوهُمْ وَغَنِمُوا مَالَهُمْ، وَامْتَارُوا مِنْ عِنْدِهِمْ، وَسَارُوا حَتَّى بَلَغُوا دَبُولْوَارَةَ، وَهِيَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ سُومَنَاتَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَهْلُهَا لَهُ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ سُومَنَاتَ يَمْنَعُهُمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَشَلَّ رِجَالَهَا، وَغَنِمَ أَمْوَالَهَا، وَسَارَ عَنْهَا إِلَى سُومَنَاتَ، فَوَصَلَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ مُنْتَصَفَ ذِي الْقَعْدَةِ فَرَأَى حِصْنًا حَصِينًا مَبْنِيًّا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ بِحَيْثُ تَبْلُغُهُ أَمْوَاجُهُ، وَأَهْلُهُ عَلَى الْأَسْوَارِ يَتَفَرَّجُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاثِقِينَ أَنَّ مَعْبُودَهُمْ يَقْطَعُ دَابِرَهُمْ وَيُهْلِكُهُمْ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، هُوَ الْجُمُعَةُ، زَحَفَ وَقَاتَلَ مَنْ بِهِ، فَرَأَى الْهُنُودُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قِتَالًا لَمْ يَعْهَدُوا مِثْلَهُ، فَفَارَقُوا السُّورَ فَنَصَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ السَّلَالِمَ، وَصَعِدُوا إِلَيْهِ وَأَعْلَنُوا بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَأَظْهَرُوا شِعَارَ الْإِسْلَامِ، فَحِينَئِذٍ اشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ وَتَقَدَّمَ جَمَاعَةُ الْهُنُودِ إِلَى سُومَنَاتَ، فَعَفَّرُوا لَهُ خُدُودَهُمْ، وَسَأَلُوهُ النَّصْرَ، وَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ فَكَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ بَكَّرَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ وَقَاتَلُوهُمْ، فَأَكْثَرُوا فِي الْهُنُودِ الْقَتْلَ، وَأَجْلُوهُمْ عَنِ الْمَدِينَةِ إِلَى بَيْتِ صَنَمِهِمْ سُومَنَاتَ، فَقَاتَلُوا عَلَى بَابِهِ أَشَدَّ قِتَالٍ، وَكَانَ الْفَرِيقُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْفَرِيقِ يَدْخُلُونَ إِلَى سُومَنَاتَ فَيَعْتَنِقُونَهُ وَيَبْكُونَ، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ، وَيَخْرُجُونَ فَيُقَاتِلُونَ إِلَى أَنْ يُقْتَلُوا، حَتَّى كَادَ الْفَنَاءُ يَسْتَوْعِبُهُمْ، فَبَقِيَ مِنْهُمُ الْقَلِيلُ، فَدَخَلُوا الْبَحْرَ إِلَى مَرْكَبَيْنِ لَهُمْ لِيَنْجُوا فِيهِمَا، فَأَدْرَكَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوا بَعْضًا وَغَرِقَ بَعْضٌ. وَأَمَّا الْبَيْتُ الَّذِي فِيهِ سُومَنَاتُ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى سِتٍّ وَخَمْسِينَ سَارِيَةً مِنَ السَّاجِ الْمُصَفَّحِ بِالرَّصَاصِ، وَسُومَنَاتُ مِنْ حَجَرٍ طُولُهُ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ: ثَلَاثَةٌ مُدَوَّرَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَذِرَاعَانِ فِي الْبِنَاءِ، وَلَيْسَ بِصُورَةٍ مُصَوَّرَةٍ، فَأَخَذَهُ يَمِينُ الدَّوْلَةِ فَكَسَرَهُ، وَأَحْرَقَ بَعْضَهُ، وَأَخَذَ بَعْضَهُ مَعَهُ إِلَى غَزْنَةَ، فَجَعَلَهُ عَتَبَةَ الْجَامِعِ. وَكَانَ بَيْتُ الصَّنَمِ مُظْلِمًا، وَإِنَّمَا الضَّوْءُ الَّذِي عِنْدَهُ مِنْ قَنَادِيلِ الْجَوْهَرِ الْفَائِقِ، وَكَانَ عِنْدَهُ سِلْسِلَةُ ذَهَبٍ فِيهَا جَرَسٌ، وَوَزْنُهَا مِائَتَا مَنٍّ، كُلَّمَا مَضَى طَائِفَةٌ مَعْلُومَةٌ مِنَ

اللَّيْلِ حُرِّكَتِ السِّلْسِلَةُ فَيُصَوِّتُ الْجَرَسُ فَيَقُومُ طَائِفَةٌ مِنَ الْبَرَهْمِيِّينَ إِلَى عِبَادَتِهِمْ، وَعِنْدَهُ خِزَانَةٌ فِيهَا عَدَدٌ مِنَ الْأَصْنَامِ الذَّهَبِيَّةِ وَالْفِضِّيَّةِ، وَعَلَيْهَا السُّتُورُ الْمُعَلَّقَةُ الْمُرَصَّعَةُ بِالْجَوْهَرِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَنْسُوبٌ إِلَى عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَائِهِمْ، وَقِيمَةُ مَا فِي الْبُيُوتِ تَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأُخِذَ الْجَمِيعُ، وَكَانَتْ عَدَدُ الْقَتْلَى تَزِيدُ عَلَى خَمْسِينَ أَلْفَ قَتِيلٍ. ثُمَّ إِنَّ يَمِينَ الدَّوْلَةِ وَرَدَ عَلَيْهِ الْخَبَرُ أَنَّ بَهِيمَ صَاحِبَ أَنْهَلْوَارَةَ قَدْ قَصَدَ قَلْعَةً تُسَمَّى كَنَدْهَةَ فِي الْبَحْرِ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَرِّ مِنْ جِهَةِ سُومَنَاتَ أَرْبَعُونَ فَرْسَخًا، فَسَارَ إِلَيْهَا يَمِينُ الدَّوْلَةِ مِنْ سُومَنَاتَ، فَلَمَّا حَاذَى الْقَلْعَةَ رَأَى رَجُلَيْنِ مِنَ الصَّيَّادِينَ، فَسَأَلَهُمَا عَنْ خَوْضِ الْبَحْرِ هُنَاكَ، فَعَرَّفَاهُ أَنَّهُ يُمْكِنُ خَوْضُهُ لَكِنْ إِنْ تَحَرَّكَ الْهَوَاءُ يَسِيرًا غَرِقَ مَنْ فِيهِ. فَاسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى، وَخَاضَهُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ فَخَرَجُوا سَالِمِينَ، فَرَأَوْا بَهِيمَ وَقَدْ فَارَقَ قَلْعَتَهُ وَأَخْلَاهَا فَعَادَ عَنْهَا، وَقَصَدَ الْمَنْصُورَةَ، وَكَانَ صَاحِبُهَا قَدِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ مَجِيءِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ فَارَقَهَا وَاحْتَمَى بِغِيَاضِ أَشِبَةَ، فَقَصَدَهُ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مِنْ مَوْضِعَيْنِ، فَأَحَاطَ بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ، فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَغَرِقَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ. ثُمَّ سَارَ إِلَى بَهَاطِيَةَ، فَأَطَاعَهُ أَهْلُهَا، وَدَانُوا لَهُ، فَرَحَلَ إِلَى غَزْنَةَ، فَوَصَلَهَا عَاشِرَ صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ وَفَاةِ مُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ وَمُلْكِ أَخِيهِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ الْمَلِكُ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ بَهَاءِ

الدَّوْلَةِ بِمَرَضٍ حَادٍّ، وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَمُلْكُهُ خَمْسَ سِنِينَ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَكَانَ كَثِيرَ الْخَيْرِ، قَلِيلَ الشَّرِّ، عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، وَكَانَتْ وَالِدَتُهُ فِي الْحَيَاةِ، وَتُوُفِّيَتْ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . وَلَمَّا تُوُفِّيَ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ خُطِبَ بِبَغْدَاذَ، بَعْدَ مَوْتِهِ، لِأَخِيهِ أَبِي ظَاهِرٍ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ، وَطُلِبَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَمْ يَصْعَدْ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا بَلَغَ إِلَى وَاسِطٍ، وَأَقَامَ بِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَقُطِعَتْ خُطْبَتُهُ، وَخُطِبَ لِابْنِ أَخِيهِ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ بْنِ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ بْنِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ فِي شَوَّالٍ، وَهُوَ حِينَئِذٍ صَاحِبُ خُوزِسْتَانَ، وَالْحَرْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمِّهِ أَبِي الْفَوَارِسِ، صَاحِبِ كِرْمَانَ، بِفَارِسَ، فَلَمَّا سَمِعَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ بِذَلِكَ أَصْعَدَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَانْحَدَرَ عَسْكَرُهَا لِيَرُدُّوهُ عَنْهَا، فَلَقُوهُ بِالسَّيِّبِ مِنْ أَعْمَالِ النَّهْرَوَانِ، فَرَدُّوهُ فَلَمْ يَرْجِعْ، فَرَمَوْهُ بِالنِّشَابِ، وَنَهَبُوا بَعْضَ خَزَائِنِهِ، فَعَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ لِيَصْعَدَ إِلَى بَغْدَاذَ لِيُمَلِّكُوهُ فَوَعَدَهُمُ الْإِصْعَادَ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ لِأَجْلِ صَاحِبِ كِرْمَانَ وَلَمَّا أُصْعِدَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ كَانَ وَزِيرُهُ أَبَا سَعْدِ بْنِ مَاكُولَا. ذِكْرُ مُلْكِ نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ مَدِينَةَ الرُّهَا وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ نَصْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ مَرْوَانَ، صَاحِبُ دِيَارِ بَكْرٍ، مَدِينَةَ الرُّهَا. وَكَانَ سَبَبُ مُلْكِهَا أَنَّ الرُّهَا كَانَتْ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي نُمَيْرٍ يُسَمَّى عُطَيْرًا، وَفِيهِ شَرٌّ وَجَهْلٌ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا نَائِبًا لَهُ اسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، وَعَدَلَ فِي الرَّعِيَّةِ، فَمَالُوا إِلَيْهِ. وَكَانَ عُطَيْرٌ يُقِيمُ بِحُلَّتِهِ، وَيَدْخُلُ الْبَلَدَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ، فَرَأَى أَنَّ نَائِبَهُ

يَحَكُمُ فِي الْبَلَدِ، وَيَأْمُرُ وَيَنْهَى، فَحَسَدَهُ، فَقَالَ لَهُ يَوْمًا: قَدْ أَكَلْتَ مَالِي، وَاسْتَوْلَيْتَ عَلَى بَلَدِي، وَصِرْتَ الْأَمِيرَ وَأَنَا النَّائِبُ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ وَقَتَلَهُ. فَأَنْكَرَتِ الرَّعِيَّةُ قَتْلَهُ، وَغَضِبُوا عَلَى عُطَيْرٍ، وَكَاتَبُوا نَصْرَ الدَّوْلَةِ بْنَ مَرْوَانَ لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ الْبَلَدَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ نَائِبًا كَانَ لَهُ بِآمِدَ يُسَمَّى زَنْكَ، فَتَسَلَّمَهَا وَأَقَامَ بِهَا وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَجْنَادِ، وَمَضَى عُطَيْرٌ إِلَى صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ، وَسَأَلَهُ الشَّفَاعَةَ لَهُ إِلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ، فَشَفَعَ فِيهِ، فَأَعْطَاهُ نِصْفَ الْبَلَدِ، وَدَخَلَ عُطَيْرٌ إِلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ بِمَيَّافَارِقِينَ، فَأَشَارَ أَصْحَابُ نَصْرِ الدَّوْلَةِ بِقَبْضِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَالَ: لَا أَغْدِرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ أَفْسَدَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُفَّ شَرَّهُ بِالْوَفَاءِ. وَتَسَلَّمَ عُطَيْرٌ نِصْفَ الْبَلَدِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَقَامَ فِيهِ مَعَ نَائِبِ نَصْرِ الدَّوْلَةِ. ثُمَّ إِنَّ نَائِبَ نَصْرِ الدَّوْلَةِ عَمِلَ طَعَامًا وَدَعَاهُ فَأَكَلَ وَشَرِبَ، وَاسْتَدْعَى وَلَدًا كَانَ لِأَحْمَدَ الَّذِي قَتَلَهُ عُطَيْرٌ، وَقَالَ: تُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ بِثَأْرِ أَبِيكَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: هَذَا عُطَيْرٌ عِنْدِي فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَإِذَا خَرَجَ فَتَعَلَّقْ بِهِ فِي السُّوقِ وَقُلْ لَهُ: يَا ظَالِمُ قَتَلْتَ أَبِي فَإِنَّهُ سَيُجَرِّدُ سَيْفَهُ عَلَيْكَ، فَإِذَا فَعَلَ فَاسْتَنْفِرِ النَّاسَ عَلَيْهِ وَاقْتُلْهُ وَأَنَا مِنْ وَرَائِكَ. فَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ، وَقَتَلَ عُطَيْرًا وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنَ الْعَرَبِ. فَاجْتَمَعَ بَنُو نُمَيْرٍ وَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ زَنْكَ، وَلَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَسْكُتَ عَنْ ثَأْرِنَا، وَلَئِنْ لَمْ نَقْتُلْهُ لَيُخْرِجُنَا مِنْ بِلَادِنَا. فَاجْتَمَعَتْ نُمَيْرٌ، وَكَمَنُوا لَهُ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ كَمِينًا، وَقَصَدَ فَرِيقٌ مِنْهُمُ الْبَلَدَ، فَأَغَارُوا عَلَى مَا يُقَارِبُهُ. فَسَمِعَ زَنْكُ الْخَبَرَ، فَخَرَجَ فِيمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَطَلَبَ الْقَوْمَ، فَلَمَّا جَاوَزَ الْكُمَنَاءَ خَرَجُوا عَلَيْهِ، فَقَاتَلَهُمْ، فَأَصَابَهُ حَجَرُ مِقْلَاعٍ فَسَقَطَ وَقُتِلَ، وَكَانَ قَتْلُهُ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فِي أَوَّلِهَا، وَخَلَصَتِ الْمَدِينَةُ لِنَصْرِ الدَّوْلَةِ. ثُمَّ إِنَّ صَالِحَ بْنَ مِرْدَاسٍ شَفَعَ فِي ابْنِ عُطَيْرٍ وَابْنِ شِبْلٍ النُّمَيْرِيَّيْنِ لِيَرُدَّ الرُّهَا إِلَيْهِمَا، فَشَفَّعَهُ وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِمَا، وَكَانَ فِيهَا بُرْجَانِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ، فَأَخَذَ ابْنُ عُطَيْرٍ الْبُرْجَ الْكَبِيرَ، وَأَخَذَ ابْنُ شِبْلٍ الْبُرْجَ الصَّغِيرَ، وَأَقَامَا فِي الْبَلَدِ، إِلَى أَنْ بَاعَهُ ابْنُ عُطَيْرٍ مِنَ الرُّومِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ غَرَقِ الْأُسْطُولِ بِجَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الرُّومُ إِلَى جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَمَلَكُوا مَا كَانَ

لِلْمُسْلِمِينَ فِي جَزِيرَةِ قِلَّوْرِيَةَ، وَهِيَ مُجَاوِرَةٌ لِجَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ، وَشَرَعُوا فِي بِنَاءِ الْمَسَاكِنِ يَنْتَظِرُونَ وُصُولَ مَرَاكِبِهِمْ وَجُمُوعِهِمْ مَعَ ابْنِ أُخْتِ الْمَلِكِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُعِزَّ بْنَ بَادِيسَ، فَجَهَّزَ أُسْطُولًا كَبِيرًا: أَرْبَعَمِائَةِ قِطْعَةٍ، وَحَشَدَ فِيهَا، وَجَمَعَ خَلْقًا كَثِيرًا وَتَطَوَّعَ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِالْجِهَادِ، رَغْبَةً فِي الْأَجْرِ، فَسَارَ الْأُسْطُولُ فِي كَانُونَ الثَّانِي، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ جَزِيرَةِ قَوْصَرَةَ، وَهِيَ قَرِيبٌ مِنْ بَرِّ إِفْرِيقِيَّةَ، خَرَجَ عَلَيْهِمْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، وَنَوْءٌ عَظِيمٌ، فَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا الْيَسِيرُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ بِبَغْدَاذَ وَعَظُمَ شَرُّهُمْ، فَقَتَلُوا النُّفُوسَ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَفَعَلُوا مَا أَرَادُوا، وَأَحْرَقُوا الْكَرْخَ، وَغَلَا السِّعْرُ بِهَا حَتَّى بِيعَ كُرُّ الْحِنْطَةِ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ قَاسَانِيَّةٍ. وَفِيهَا قَبَضَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي سَعْدِ بْنِ مَاكُولَا، وَاسْتَوْزَرَ ابْنَ عَمِّهِ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مَاكُولَا. وَفِيهَا أَرْسَلَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ الْقَاضِيَ أَبَا جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيَّ إِلَى قِرْوَاشٍ يَأْمُرُهُ بِإِبْعَادِ الْوَزِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيِّ وَكَانَ عِنْدَهُ، فَأَبْعَدَهُ، فَقَصَدَ نَصْرَ الدَّوْلَةِ بْنَ مَرْوَانَ بِمَيَّافَارِقِينَ (وَقَدْ تَقَدَّمَ السَّبَبُ فِيهِ) . وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْوَزِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحَانِ، وَزِيرُ مُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ أَبِي الْفَوَارِسِ، وَعُمْرُهُ سِتٌّ وَسَبْعُونَ سَنَةً.

وَقَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، وَمَوْلِدُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَكَانَ عَفِيفًا نَزِهًا، وَقِيلَ تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَبَسِيلُ مَلِكُ الرُّومِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ قُسْطَنْطِينُ. وَفِيهَا وَرَدَ رَسُولُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ إِلَى الْقَادِرِ بِاللَّهِ وَمَعَهُ خِلَعٌ قَدْ سَيَّرَهَا لَهُ الظَّاهِرُ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ مِصْرَ، وَيَقُولُ: أَنَا الْخَادِمُ الَّذِي أَرَى الطَّاعَةَ مَرَضًا، وَيَذْكُرُ إِرْسَالَ هَذِهِ الْخَالِعِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ سَيَّرَهَا إِلَى الدِّيوَانِ لِيَرْسِمَ فِيهَا بِمَا يَرَى، فَأُحْرِقَتْ عَلَى بَابِ النُّوبِيِّ، فَخَرَجَ مِنْهَا ذَهَبٌ كَثِيرٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى ضُعَفَاءِ بَنِي هَاشِمٍ. [تَابِعُ الْوَفَيَاتِ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَابُورُ بْنُ أَرْدَشِيرَ، وَزِيرُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ وَكَانَ كَاتِبًا سَدِيدًا، وَعَمِلَ دَارَ الْكُتُبِ بِبَغْدَادَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَجَعَلَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ مُجَلَّدٍ، وَبَقِيَتْ إِلَى أَنِ احْتَرَقَتْ عِنْدَ مَجِيءِ طُغْرُلْبَكَ إِلَى بَغْدَاذَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ الْخَرْكُوشِيُّ، الْوَاعِظُ النَّيْسَابُورِيُّ، وَكَانَ صَالِحًا، خَيِّرًا، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ يَقُومُ وَيَلْتَقِيهِ، وَكَانَ مَحْمُودٌ قَدْ قَسَّطَ عَلَى نَيْسَابُورَ مَالًا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ الْخَرْكُوشِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّكَ (تُكَدِّي النَّاسَ، وَضَاقَ صَدْرِي، فَقَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ) تَأْخُذُ أَمْوَالَ الضُّعَفَاءِ، وَهَذِهِ كُدْيَةٌ. فَتَرَكَ الْقِسْطَ وَأَطْلَقَهُ. وَفِيهَا بَطَلَ الْحَجُّ مِنَ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ.

ثم دخلت سنة سبع عشرة وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَة] 417 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسْكَرِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ وَالْجُوزَقَانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ عَسَاكِرِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَاكَوَيْهِ وَبَيْنَ الْأَكْرَادِ الْجُوزَقَانِ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ عَلَاءَ الدَّوْلَةِ اسْتَعْمَلَ أَبَا جَعْفَرٍ ابْنَ عَمِّهِ عَلَى سَابُورَ خُوَاسْتَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي، فَضَمَّ إِلَيْهِ الْأَكْرَادَ الْجُوزَقَانَ، وَجَعَلَ مَعَهُ عَلَى الْأَكْرَادِ أَبَا الْفَرَجِ الْبَابُونِيَّ، مَنْسُوبٌ إِلَى بَطْنٍ مِنْهُمْ، فَجَرَى بَيْنَ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي الْفَرَجِ مُشَاجَرَةٌ أَدَّتْ إِلَى الْمُنَافَرَةِ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا عَلَاءُ الدَّوْلَةِ، وَأَعَادَهُمَا إِلَى عَمَلِهِمَا. فَلَمْ يَزَلِ الْحِقْدُ يَقْوَى، وَالشَّرُّ يَتَجَدَّدُ، فَضَرَبَ أَبُو جَعْفَرٍ أَبَا الْفَرَجِ بِلُتٍّ كَانَ فِي يَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَنَفَرَ الْجُوزَقَانُ بِأَسْرِهِمْ، وَنَهَبُوا وَأَفْسَدُوا، فَطَلَبَهُمْ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ، وَسَيَّرَ عَسْكَرًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ أَبَا مَنْصُورٍ ابْنَ عَمِّهِ أَخَا أَبِي جَعْفَرٍ الْأَكْبَرِ، وَجَعَلَ مَعَهُ فَرْهَاذَ بْنَ مَرْدَاوَيْجَ، وَعَلِيَّ بْنَ عِمْرَانَ. فَلَمَّا عَلِمَ الْجُوزَقَانُ ذَلِكَ أَرْسَلُوا عَلِيَّ بْنَ عِمْرَانَ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُصْلِحَ حَالَهُمْ مَعَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ، وَقَصَدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، فَشَرَعَ فِي الْإِصْلَاحِ فَطَالَبَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَفَرْهَاذُ بِالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ قَصَدُوهُ لِيُسَلِّمَهُمْ إِلَيْهِمَا، وَأَرَادَا أَخْذَهُمْ مِنْهُ قَهْرًا، فَانْتَقَلَ إِلَى الْجُوزَقَانِ، وَاحْتَمَى كُلٌّ مِنْهُمْ بِصَاحِبِهِ، وَجَرَى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ قِتَالٌ غَيْرَ مَرَّةٍ كَانَ فِي

آخِرِهِ لِعَلِيِّ بْنِ عِمْرَانَ وَالْجُوزَقَانِ فَانْهَزَمَ فَرْهَاذُ، وَأُسِرَ أَبُو مَنْصُورٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ، ابْنَا عَمِّ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ. فَأَمَّا أَبُو جَعْفَرٍ فَقُتِلَ (قِصَاصًا بِأَبِي الْفَرَجِ) وَأَمَّا أَبُو مَنْصُورٍ فَسُجِنَ. فَلَمَّا قُتِلَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلِمَ عَلِيُّ بْنُ عِمْرَانَ أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ فَسَدَ مَعَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ وَلَا يُمْكِنُ إِصْلَاحُهُ، فَشَرَعَ فِي الِاحْتِيَاطِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ قِرْوَاشٍ وَبَنِي أَسَدٍ وَخَفَاجَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَ دُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ وَأَبُو الْفِتْيَانِ مَنِيعُ بْنُ حَسَّانَ، أَمِيرُ بَنِي خَفَاجَةَ، وَجَمَعَا عَشَائِرَهُمَا وَغَيْرَهُمْ، وَانْضَافَ إِلَيْهِمَا عَسْكَرُ بَغْدَاذَ عَلَى قِتَالِ قِرْوَاشِ بْنِ الْمُقَلَّدِ الْعُقَيْلِيِّ. وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ خَفَاجَةَ تَعَرَّضُوا إِلَى السَّوَادِ وَمَا بِيَدِ قِرْوَاشٍ مِنْهُ، فَانْحَدَرَ مِنَ الْمَوْصِلِ لِدَفْعِهِمْ فَاسْتَعَانُوا بِدُبَيْسٍ فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَاجْتَمَعُوا، فَأَتَاهُمْ عَسْكَرُ بَغْدَاذَ فَالْتَقَوْا بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ، وَهِيَ لِقِرْوَاشٍ، فَجَرَى بَيْنَ مُقَدَّمَتِهِ وَمُقَدَّمَتِهِمَا مُنَاوَشَةٌ. وَعَلِمَ قِرْوَاشٌ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمْ، فَسَارَ لَيْلًا جَرِيدَةً فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، وَعَلِمَ أَصْحَابُهُ بِذَلِكَ، فَتَبِعُوهُ مُنْهَزِمِينَ، فَوَصَلُوا إِلَى الْأَنْبَارِ، وَسَارَتْ أَسَدٌ وَخَفَاجَةُ خَلْفَهُمْ، فَلَمَّا قَارَبُوا الْأَنْبَارَ فَارَقَهَا قِرْوَاشٌ إِلَى حُلَلِهِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى الْأَنْبَارِ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبَغْدَاذَ وَطَمَعِ الْأَتْرَاكِ وَالْعَيَّارِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَ تَسَلُّطُ الْأَتْرَاكِ بِبَغْدَاذَ، فَأَكْثَرُوا مُصَادَرَاتِ النَّاسِ، وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ حَتَّى إِنَّهُمْ قَسَّطُوا عَلَى الْكَرْخِ خَاصَّةً مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ، وَزَادَ الشَّرُّ وَأُحْرِقَتِ الْمَنَازِلُ، وَالدُّرُوبُ، وَالْأَسْوَاقُ، وَدَخَلَ فِي الطَّمَعِ الْعَامَّةُ وَالْعَيَّارُونَ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى الرَّجُلِ فَيُطَالِبُونَهُ بِذَخَائِرِهِ، كَمَا يَفْعَلُ السُّلْطَانُ بِمَنْ يُصَادِرُهُ، فَعَمِلَ النَّاسُ الْأَبْوَابَ عَلَى الدُّرُوبِ، فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْجُنْدِ وَالْعَامَّةِ، فَظَفِرَ الْجُنْدُ، وَنَهَبُوا الْكَرْخَ وَغَيْرَهُ، فَأُخِذَ مِنْهُ مَالٌ جَلِيلٌ، وَهَلَكَ أَهْلُ السِّتْرِ وَالْخَيْرِ. فَلَمَّا رَأَى الْقُوَّادُ وَعُقَلَاءُ الْجُنْدِ أَنَّ الْمَلِكَ أَبَا كَالِيجَارَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّ الْبِلَادَ

قَدْ خَرِبَتْ، وَطَمِعَ فِيهِمُ الْمُجَاوِرُونَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْأَكْرَادِ، رَاسَلُوا جَلَالَ الدَّوْلَةِ فِي الْحُضُورِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَحَضَرَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ إِصْعَادِ الْأَثِيرِ إِلَى الْمَوْصِلِ وَالْحَرْبِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ بَنِي عُقَيْلٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَصْعَدَ الْأَثِيرُ عَنْبَرٌ إِلَى الْمَوْصِلِ مِنْ بَغْدَاذَ. وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ الْأَثِيرَ كَانَ حَاكِمًا فِي الدَّوْلَةِ الْبُوَيْهِيَّةِ، مَاضِيَ الْحُكْمِ، نَافِذَ الْأَمْرِ، وَالْجُنْدُ مِنْ أَطْوَعِ النَّاسِ لَهُ، وَأَسْمَعِهِمْ لِقَوْلِهِ. فَلَمَّا كَانَ الْآنَ زَالَ ذَلِكَ، وَخَالَفَهُ الْجُنْدُ، فَزَالَتْ طَاعَتُهُ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، فَخَافَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، فَسَارَ إِلَى قِرْوَاشٍ، فَنَدِمَ الْجُنْدُ عَلَى ذَلِكَ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَعُودَ فَلَمْ يَفْعَلْ وَأَصْعَدَ إِلَى الْمَوْصِلِ مَعَ قِرْوَاشٍ فَأَخَذَ مُلْكَهُ وَإِقْطَاعَهُ بِالْعِرَاقِ. ثُمَّ إِنَّ نَجْدَةَ الدَّوْلَةِ بْنَ قُرَادٍ وَرَافِعَ بْنَ الْحُسَيْنِ جَمَعَا جَمْعًا كَثِيرًا مِنْ عُقَيْلٍ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِمْ بَدْرَانُ أَخُو قِرْوَاشٍ وَسَارُوا يُرِيدُونَ حَرْبَ قِرْوَاشٍ، وَكَانَ قِرْوَاشٌ لَمَّا سَمِعَ خَبَرَهُمْ قَدِ اجْتَمَعَ هُوَ وَغَرِيبُ بْنُ مَقْنٍ، وَالْأَثِيرُ عَنْبَرٌ، وَأَتَاهُ مَدَدٌ مِنِ ابْنِ مَرْوَانَ فَاجْتَمَعَ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ فَالْتَقَوْا عِنْدَ بَلَدٍ وَاقْتَتَلُوا، وَثَبَتَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ، فَفَعَلَ ثَرْوَانُ بْنُ قُرَادٍ فِعْلًا جَمِيلًا، وَذَاكَ أَنَّهُ قَصَدَ غَرِيبًا فِي وَسَطِ الْمَصَافِّ وَاعْتَنَقَهُ وَصَالَحَهُ، وَفَعَلَ أَبُو الْفَضْلِ بَدْرَانُ بْنُ الْمُقَلَّدِ بِأَخِيهِ قِرْوَاشٍ كَذَلِكَ، فَاصْطَلَحَ الْجَمِيعُ، وَأَعَادَ قِرْوَاشٌ إِلَى أَخِيهِ بَدْرَانَ مَدِينَةَ نَصِيبِينَ.

ذِكْرُ إِحْرَاقِ خَفَاجَةَ الْأَنْبَارَ وَطَاعَتِهِمْ لِأَبِي كَالِيجَارَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مَنِيعُ بْنُ حَسَّانَ أَمِيرُ خَفَاجَةَ إِلَى الْجَامِعَيْنِ، وَهِيَ لِنُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسٍ، فَنَهَبَهَا، فَسَارَ دُبَيْسٌ فِي طَلَبِهِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَفَارَقَهَا وَقَصَدَ الْأَنْبَارَ، وَهِيَ لِقِرْوَاشٍ كَانَ اسْتَعَادَهَا بَعْدَ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. فَلَمَّا نَازَلَهَا مَنِيعٌ قَاتَلَهُ أَهْلُهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِخَفَاجَةَ طَاقَةٌ، فَدَخَلَ خَفَاجَةُ الْأَنْبَارَ وَنَهَبُوهَا، وَأَحْرَقُوا أَسْوَاقَهَا، فَانْحَدَرَ قِرْوَاشٌ إِلَيْهِمْ لِيَمْنَعَهُمْ، وَكَانَ مَرِيضًا، وَمَعَهُ غَرِيبٌ وَالْأَثِيرُ عَنْبَرٌ، إِلَى الْأَنْبَارِ ثُمَّ تَرَكَهَا وَمَضَى إِلَى الْقَصْرِ، فَاشْتَدَّ طَمَعُ خَفَاجَةَ، وَعَادُوا إِلَى الْأَنْبَارِ فَأَحْرَقُوهَا مَرَّةً ثَانِيَةً. وَسَارَ قِرْوَاشٌ إِلَى الْجَامِعَيْنِ، فَاجْتَمَعَ هُوَ وَنُورُ الدَّوْلَةِ دُبَيْسُ بْنُ مَزْيَدٍ فِي عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، (وَكَانَتْ خَفَاجَةُ فِي أَلْفٍ) ، فَلَمْ يُقْدِمْ قِرْوَاشٌ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ الْعَظِيمِ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ، وَشَرَعَ أَهْلُ الْأَنْبَارِ فِي بِنَاءِ سُورٍ عَلَى الْبَلَدِ وَأَعَانَهُمْ قِرْوَاشٌ وَأَقَامَ عِنْدَهُمُ الشِّتَاءَ. ثُمَّ إِنَّ مَنِيعَ بْنَ حَسَّانَ سَارَ إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، فَأَطَاعَهُ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ، (وَأَتَى مَنِيعٌ الْخَفَاجِيُّ إِلَى الْكُوفَةِ فَخَطَبَ فِيهَا لِأَبِي كَالِيجَارَ) ، وَأَزَالَ حُكْمَ عُقَيْلٍ عَنْ سَقْيِ الْفُرَاتِ. ذِكْرُ الصُّلْحِ بِإِفْرِيقِيَّةَ بَيْنَ كُتَامَةَ وَزِنَاتَةَ وَبَيْنَ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَتْ رُسُلُ زِنَاتَةَ وَكُتَامَةَ إِلَى الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، يَطْلُبُونَ مِنْهُ الصُّلْحَ، وَأَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمُ الطَّاعَةَ وَالدُّخُولَ تَحْتَ حُكْمِهِ، وَشَرَطُوا أَنَّهُمْ يَحْفَظُونَ الطَّرِيقَ، وَأَعْطَوْا عَلَى ذَلِكَ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا، وَجَاءَتْ مَشْيَخَةُ زِنَاتَةَ وَكُتَامَةَ إِلَيْهِ، فَقَبِلَهُمْ وَأَنْزَلَهُمْ وَوَصَلَهُمْ، وَبَذَلَ لَهُمْ أَمْوَالًا جَلِيلَةً. ذِكْرُ وَفَاةِ حَمَّادِ بْنِ الْمَنْصُورِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ الْقَائِدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ حَمَّادُ بْنُ بُلَكِّينَ، عَمُّ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ

وَكَانَ خَرَجَ مِنْ قَلْعَتِهِ مُتَنَزِّهًا، فَمَرِضَ وَمَاتَ وَحُمِلَ إِلَى الْقَلْعَةِ فَدُفِنَ بِهَا، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْقَائِدُ، وَعَظُمَ عَلَى الْمُعِزِّ مَوْتُهُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بَيْنَهُمَا كَانَ قَدْ صَلُحَ، وَاسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ لِلْمُعِزِّ بَعْدَهُ، وَأَذْعَنَ لَهُ أَوْلَادُ عَمِّهِ حَمَّادٍ بِالطَّاعَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ بِالْعِرَاقِ بَرْدٌ شَدِيدٌ جَمَدَ فِيهِ الْمَاءُ فِي دِجْلَةَ وَالْأَنْهَارِ الْكَبِيرَةِ، فَأَمَّا السَّوَاقِي فَإِنَّهَا جَمَدَتْ كُلُّهَا، وَتَأَخَّرَ الْمَطَرُ وَزِيَادَةُ دِجْلَةَ، فَلَمْ يُزْرَعْ فِي السَّوَادِ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَفِيهَا بَطَلَ الْحَجُّ مِنْ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ. (وَفِيهَا انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ اسْتَنَارَتْ لَهُ الْأَرْضُ، فَسُمِعَ لَهُ دَوِيٌّ عَظِيمٌ، كَانَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو سَعْدِ بْنُ مَاكُولَا، وَزِيرُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، فِي مَحْبِسِهِ. وَأَبُو حَازِمٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْعَبْدَوِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ الْحَافِظُ، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ خَطِيبِ بَغْدَاذَ.

وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْحَمَّامِيُّ الْمُقْرِئُ، مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.

ثم دخلت سنة ثماني عشرة وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَة] 418 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ وَإِصْبَهْبَذَ وَمَنْ مَعَهُ وَمَا تَبِعَ ذَلِكَ مِنَ الْفِتَنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، كَانَتْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَاكَوَيْهِ وَبَيْنَ الْإِصْبَهْبَذِ وَمَنْ مَعَهُ. وَكَانَ سَبَبُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ خُرُوجِ عَلِيِّ بْنِ عِمْرَانَ عَنْ طَاعَةِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ. فَلَمَّا فَارَقَهُ اشْتَدَّ خَوْفُهُ مِنْ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ، فَكَاتَبَ إِصْبَهْبَذَ صَاحِبَ طَبَرِسْتَانَ. وَكَانَ مُقِيمًا بِالرَّيِّ مَعَ وَلْكِينَ بْنِ وَنَدْرِينَ، وَحَثَّهُ عَلَى قَصْدِ بِلَادِ الْجَبَلِ، وَكَاتَبَ أَيْضًا مُنُوجَهْرَ بْنَ قَابُوسَ بْنِ وَشْمَكِيرَ، وَاسْتَمَدَّهُ، وَأَوْهَمَ الْجَمِيعَ أَنَّ الْبِلَادَ فِي يَدِهِ لَا دَافِعَ لَهُ عَنْهَا. وَكَانَ إِصْبَهْبَذُ مُعَادِيًا لِعَلَاءِ الدَّوْلَةِ، فَسَارَ هُوَ وَوَلْكِينَ إِلَى هَمَذَانَ، فَمَلَكَاهَا وَمَلَكَا أَعْمَالَ الْجَبَلِ، وَأَجْلَيَا عَنْهَا عُمَّالَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ، وَأَتَاهُمْ عَسْكَرُ مُنُوجَهْرَ وَعَلِيِّ بْنِ عِمْرَانَ، فَازْدَادُوا قُوَّةً، وَسَارُوا كُلُّهُمْ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَتَحَصَّنَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ بِهَا، وَأَخْرَجَ الْأَمْوَالَ فَحَصَرُوهُ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ قِتَالٌ اسْتَظْهَرَ فِيهِ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ، وَقَصَدَهُ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَسْكَرِ، وَهُوَ يَبْذُلُ لِمَنْ يَجِيءُ إِلَيْهِ الْمَالَ الْجَزِيلَ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، فَأَقَامُوا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْمِيرَةُ، فَعَادُوا عَنْهَا. وَتَبِعَهُمْ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ، وَاسْتَمَالَ الْجُوزَقَانَ، فَمَالَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَتَبِعَهُمْ إِلَى نَهَاوَنْدَ، فَالْتَقَوْا عِنْدَهَا، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا كَثُرَ فِيهِ الْقَتْلَى وَالْأَسْرَى فَظَفِرَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ

وَقَتَلَ ابْنَيْنِ لِوَلْكِينَ فِي الْمَعْرَكَةِ. وَأُسِرَ الْإِصْبَهْبَذُ وَابْنَانِ لَهُ وَوَزِيرُهُ، وَمَضَى وَلْكِينُ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ إِلَى جُرْجَانَ. وَقَصَدَ عَلِيُّ بْنُ عِمْرَانَ قَلْعَةَ كِنْكَوَرَ، فَتَحَصَّنَ بِهَا، فَسَارَ إِلَيْهِ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ فَحَصَرَهُ بِهَا، وَبَقِيَ إِصْبَهْبَذُ مَحْبُوسًا عِنْدَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ثُمَّ إِنَّ وَلْكِينَ بْنَ وَنَدْرِينَ سَارَ بَعْدَ خَلَاصِهِ مِنَ الْوَقْعَةِ إِلَى مُنُوجَهْرَ بْنِ قَابُوسَ، وَأَطْمَعَهُ فِي الرَّيِّ وَمُلْكِهَا، وَهَوَّنَ عَلَيْهِ أَمْرَ الْبِلَادِ لَا سِيَّمَا مَعَ اشْتِغَالِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بِمُحَاصَرَةِ عَلِيِّ بْنِ عِمْرَانَ، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ وَلَدَ وَلْكِينَ، كَانَ صِهْرَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ عَلَى ابْنَتِهِ، وَقَدْ أَقْطَعَهُ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ مَدِينَةَ قُمٍّ، فَعَصَى عَلَيْهِ وَصَارَ مَعَ أَبِيهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَحُثُّهُ عَلَى قَصْدِ الْبِلَادِ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَمَعَهُ عَسْكَرُهُ، وَعَسَاكِرُ مُنُوجَهْرَ، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الرَّيِّ، وَقَاتَلُوا مَجْدَ الدَّوْلَةِ بْنَ بُوَيْهِ وَمَنْ مَعَهُ، وَجَرَى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَقَائِعُ اسْتَظْهَرَ فِيهَا أَهْلُ الرَّيِّ. فَلَمَّا رَأَى عَلَاءُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ صَالَحَ عَلِيَّ بْنَ عِمْرَانَ. فَلَمَّا بَلَغَ وَلْكِينَ الصُّلْحُ بَيْنَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ وَعَلِيِّ بْنِ عِمْرَانَ رَحَلَ عَنِ الرَّيِّ مِنْ غَيْرِ بُلُوغِ غَرَضٍ، فَتَوَجَّهَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى الرَّيِّ، وَرَاسَلَ مُنُوجَهْرَ، وَوَبَّخَهُ وَتَهَدَّدَهُ، وَأَظْهَرَ قَصْدَ بِلَادِهِ، فَسَمِعَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ عِمْرَانَ قَدْ كَاتَبَ مُنُوجَهْرَ، وَأَطْمَعَهُ وَوَعَدَهُ النُّصْرَةَ، وَحَثَّهُ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى الرَّيِّ، فَعَادَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ عَنْ قَصْدِ بِلَادِ مُنُوجَهْرَ، وَتَجَهَّزَ لِقَصْدِ عَلِيِّ بْنِ عِمْرَانَ، فَأَرْسَلَ ابْنُ عِمْرَانَ إِلَى مُنُوجَهْرَ يَسْتَمِدُّهُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ سِتَّمِائَةِ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ مَعَ قَائِدٍ مِنْ قُوَّادِهِ وَتَحَصَّنَ ابْنُ عِمْرَانَ، وَجَمَعَ عِنْدَهُ الذَّخَائِرَ بِكِنْكَوَرَ، وَقَصَدَهُ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ وَحَصَرَهُ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَفَنِيَ مَا عِنْدَهُ، فَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الصُّلْحَ، فَاشْتَرَطَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ أَنْ يُسَلِّمَ قَلْعَةَ كِنْكَوَرَ وَالَّذِينَ قَتَلُوا أَبَا جَعْفَرٍ ابْنَ عَمِّهِ، وَالْقَائِدَ الَّذِي سَيَّرَهُ إِلَيْهِ مُنُوجَهْرُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَسَيَّرَهُمْ إِلَيْهِ (فَقَتَلَ قَتَلَةَ) ابْنِ عَمِّهِ، وَسَجَنَ الْقَائِدَ، وَتَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ، وَأَقْطَعَ عَلِيًّا عِوَضًا عَنْهَا مَدِينَةَ الدِّينَوَرِ، وَأَرْسَلَ مُنُوجَهْرُ إِلَى عَلَاءِ الدَّوْلَةِ فَصَالَحَهُ، فَأَطْلَقَ صَاحِبَهُ.

ذِكْرُ عِصْيَانِ الْبَطِيحَةِ عَلَى أَبِي كَالِيجَارَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى أَهْلُ الْبَطِيحَةِ عَلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَمُقَدَّمُهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ بَكْرٍ الشَّرَابِيُّ، الَّذِي كَانَ قَدِيمًا صَاحِبَ الْبَطِيحَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خَبَرُهُ. وَكَانَ سَبَبُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ الْمَلِكَ أَبَا كَالِيجَارَ سَيَّرَ وَزِيرَهُ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ بَابَشَاذَ إِلَى الْبَطِيحَةِ، فَعَسَفَ النَّاسَ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، وَأَمَرَ الشَّرَابِيَّ فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ دَارٍ بِالصَّلِيقِ قِسْطًا، وَكَانَ فِي صُحْبَتِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، وَفَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ، فَعَزَمَ مَنْ بَقِيَ عَلَى أَنْ يَسْتَدْعُوا مَنْ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِمْ فِي الْعِصْيَانِ عَلَى أَبِي كَالِيجَارَ، وَقَتْلِ الشَّرَابِيِّ، وَكَانُوا يَنْسُبُونَ كُلَّ مَا يَجْرِي (عَلَيْهِمْ إِلَى الشَّرَابِيِّ) . فَعَلِمَ الشَّرَابِيُّ بِذَلِكَ، فَحَضَرَ عِنْدَهُمْ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، وَبَذَلَ مِنْ نَفْسِهِ مُسَاعَدَتَهُمْ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ، (فَرَضُوا بِهِ) ، وَحَلَفُوا لَهُ، وَحَلَفَ لَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِكِتْمَانِ الْحَالِ. وَعَادَ إِلَى الْوَزِيرِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِإِرْسَالِ أَصْحَابِهِ إِلَى جِهَاتٍ ذَكَرَهَا لِيُحَصِّلُوا الْأَمْوَالَ، فَقَبِلَ مِنْهُ، ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِ بِإِحْضَارِ سُفُنِهِ إِلَى مَكَانٍ ذَكَرَهُ لِيُصْلِحَ مَا فَسَدَ مِنْهَا، فَفَعَلَ. فَلَمَّا تَمَّ لَهُ ذَلِكَ وَثَبَ هُوَ وَأَهْلُ الْبَطِيحَةِ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ عَسْكَرِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ فِي الْحَبْسِ، فَأَخْرَجُوهُمْ، وَاسْتَعَانُوا بِهِمْ، وَاتَّفَقُوا مَعَهُمْ، وَفَتَحُوا السَّوَاقِيَ، وَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ أَيَّامَ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، وَقَاتَلُوا كُلَّ مَنْ قَصَدَهُمْ، وَامْتَنَعُوا فَتَمَّ لَهُمْ ذَلِكَ. ثُمَّ قَصَدَهُ ابْنُ الْمَعْبَرَانِيِّ فَاسْتَوْلَى عَلَى الْبَطِيحَةِ، وَفَارَقَهَا الشَّرَابِيُّ إِلَى دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ مُكَرَّمًا. ذِكْرُ صُلْحِ أَبِي كَالِيجَارَ مَعَ عَمِّهِ صَاحِبِ كِرْمَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَ أَبِي كَالِيجَارَ وَبَيْنَ عَمِّهِ أَبِي الْفَوَارِسِ، صَاحِبِ

كِرْمَانَ، وَكَانَ أَبُو كَالِيجَارَ قَدْ سَارَ إِلَى كِرْمَانَ لِقِتَالِ عَمِّهِ وَأَخْذِ كِرْمَانَ مِنْهُ، فَاحْتَمَى مِنْهُ بِالْجِبَالِ، وَحَمِيَ الْحَرُّ عَلَى أَبِي كَالِيجَارَ وَعَسْكَرِهِ، فَكَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ، فَتَرَاسَلَا فِي الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ تَكُونَ كِرْمَانُ لِأَبِي الْفَوَارِسِ، وَبِلَادُ فَارِسَ لِأَبِي كَالِيجَارَ، وَيَحْمِلُ إِلَى عَمِّهِ كُلَّ سَنَةٍ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَلَمَّا عَادَ أَبُو كَالِيجَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ جَعَلَ أُمُورَ دَوْلَتِهِ إِلَى الْعَادِلِ بْنِ مَافَنَّةَ، فَأَجَابَهُ بَعْدَ امْتِنَاعٍ، وَكَانَ مَوْلِدُ الْعَادِلِ بِكَازَرُونَ سَنَةَ سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَشَرَطَ الْعَادِلُ أَنْ لَا يُعَارَضَ فِي الَّذِي يَفْعَلُهُ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ. ذِكْرُ الْخُطْبَةِ لِجَلَالِ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَاذَ وَإِصْعَادِهِ إِلَيْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، (خُطِبَ لِلْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ) أَبِي طَاهِرِ بْنِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَاذَ، وَأَصْعَدَ إِلَيْهَا مِنَ الْبَصْرَةِ فَدَخَلَهَا ثَالِثَ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَتْرَاكَ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْبِلَادَ تُخَرَّبُ، وَأَنَّ الْعَامَّةَ وَالْعَرَبَ وَالْأَكْرَادَ قَدْ طَمِعُوا، وَأَنَّهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ سُلْطَانٌ يَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ، قَصَدُوا دَارَ الْخِلَافَةِ، وَأَرْسَلُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَى الْخَلِيفَةِ مِنِ انْفِرَادِهِمْ بِالْخُطْبَةِ لِجَلَالِ الدَّوْلَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ بَرَدِّهِ ثَانِيًا، وَبِالْخُطْبَةِ لِأَبِي كَالِيجَارَ، وَيَشْكُرُونَ الْخَلِيفَةَ حَيْثُ لَمْ يُخَالِفْهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صَاحِبُ الْأَمْرِ، وَنَحْنُ الْعَبِيدُ، وَقَدْ أَخْطَأْنَا وَنَسْأَلُ الْعَفْوَ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا الْآنَ مَنْ يَجْمَعُ كَلِمَتَنَا، وَنَسْأَلُ أَنْ تُرْسِلَ إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ لِيَصْعَدَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَيَمْلِكَ الْأَمْرَ، وَيَجْمَعَ الْكَلِمَةَ، وَيُخْطُبَ لَهُ فِيهَا، وَيَسْأَلُونَ أَنْ يُحَلِّفَهُ الرَّسُولُ السَّائِرُ لِإِحْضَارِهِ لَهُمْ. فَأَجَابَهُمُ الْخَلِيفَةُ إِلَى مَا سَأَلُوا، وَرَاسَلَهُ هُوَ وَقُوَّادُ الْجُنْدِ فِي الْإِصْعَادِ وَالْيَمِينِ لِلْخَلِيفَةِ وَالْأَتْرَاكِ، فَحَلَفَ لَهُمْ، وَأَصْعَدَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَانْحَدَرَ الْأَتْرَاكُ إِلَيْهِ، فَلَقُوهُ فِي الطَّرِيقِ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ الْقَاضِيَ أَبَا جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيَّ، فَأَعَادَ تَجْدِيدَ الْعَهْدِ عَلَيْهِ لِلْخَلِيفَةِ وَالْأَتْرَاكِ، فَفَعَلَ. وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ نَزَلَ النَّجْمِيُّ، فَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ فِي الطَّيَّارِ وَانْحَدَرَ يَلْتَقِيهِ

فَلَمَّا رَآهُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ قَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَكِبَ فِي زَبْزَبِهِ، وَوَقَفَ قَائِمًا، فَأَمَرَهُ الْخَلِيفَةُ بِالْجُلُوسِ، فَخَدَمَ وَجَلَسَ وَدَخَلَ إِلَى دَارِ الْمَمْلَكَةِ بَعْدَ أَنْ مَضَى إِلَى مَشْهَدِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ فَزَارَ، وَقَصَدَ الدَّارَ فَدَخَلَهَا، وَأَمَرَ بِضَرْبِ الطَّبْلِ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَرَاسَلَهُ الْخَلِيفَةُ فِي مَنْعِهِ، فَقَطَعَهُ غَضَبًا، حَتَّى أَذِنَ لَهُ فِي إِعَادَتِهِ فَفَعَلَ. وَأَرْسَلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ مُؤَيِّدَ الْمُلْكِ أَبَا عَالِي الرُّخَّجِيَّ إِلَى الْأَثِيرِ عَنْبَرٍ الْخَادِمِ. وَهُوَ عِنْدَ قِرْوَاشٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ، يُعَرِّفُهُ اعْتِضَادَهُ بِهِ، وَاعْتِمَادَهُ عَلَيْهِ، وَمَحَبَّتَهُ لَهُ، وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِ عَنِ الْأَتْرَاكِ، فَعَذَرَهُمْ وَقَالَ: هُمْ أَوْلَادٌ وَإِخْوَةٌ. ذِكْرُ وَفَاةِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْمَغْرِبِيِّ وَأَبِي الْخَطَّابِ أَمَّا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْمَغْرِبِيِّ فَتُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ بِمَيَّافَارِقِينَ، وَكَانَ عُمْرُهُ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَمَّا أَحَسَّ بِالْمَوْتِ كَتَبَ كُتُبًا عَنْ نَفْسِهِ إِلَى كُلِّ مَنْ يَعْرِفُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُوفَةِ، وَيُعَرِّفُهُمْ أَنَّ حَظِيَّةً لَهُ تُوُفِّيَتْ، وَأَنَّهُ قَدْ سَيَّرَ تَابُوتَهَا إِلَى مَشْهَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَخَاطَبَهُمْ فِي الْمُرَاعَاةِ لِمَنْ فِي صُحْبَتِهِ. وَكَانَ قَصْدُهُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ أَحَدٌ لِتَابُوتِهِ بِمَنْعٍ، وَيَنْطَوِي خَبَرُهُ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ سَارَ بِهِ أَصْحَابُهُ، كَمَا أَمَرَهُمْ، وَأَوْصَلُوا الْكُتُبَ، فَلَمْ يَعْرِضْ أَحَدٌ إِلَيْهِ فَدُفِنَ بِالْمَشْهَدِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ دَفْنِهِ. وَلِأَبِي الْقَاسِمِ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ (هَذِهِ الْأَبْيَاتُ) : وَمَا ظَبْيَةٌ أَدْمَاءُ تَحْنُو عَلَى طَلًا ، تَرَى الْإِنْسَ وَحْشًا وَهِيَ تَأْنَسُ بِالْوَحْشِ ... غَدَتْ فَارْتَعَتْ ثُمَّ انْثَنَتْ لِرَضَاعِهِ ، فَلَمْ تُلْفِ شَيْئًا مِنْ قَوَائِمِهِ الْحُمْشِ

فَطَافَتْ بِذَاكَ الْقَاعِ وَلْهَى ، فَصَادَفَتْ سِبَاعَ الْفَلَا يَنْهَشْنَهُ أَيَّمَا نَهْشِ بِأَوْجَعَ مِنِّي يَوْمَ ظَلَّتْ أَنَامِلٌ ... تُوَدِّعُنِي بِالدُّرِّ مِنْ شَبَكِ النَّقْشِ وَأَجْمَالُهُمْ تُحْدَى وَقَدْ خَيَّلَ الْهَوَى ... كَأَنَّ مَطَايَاهُمْ عَلَى نَاظِرَيْ تَمْشِي وَأَعْجَبُ مَا فِي الْأَمْرِ أَنْ عِشْتُ بَعْدَهُمْ ... عَلَى أَنَّهُمْ مَا خَلَّفُوا لِي مِنْ بَطْشِ وَأَمَّا أَبُو الْخَطَّابِ حَمْزَةُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ مَاتَ بِكَرْخِ سَامَرَّا مَفْلُوجًا، غَرِيبًا، قَدْ زَالَ عَنْهُ أَمْرُهُ وَجَاهُهُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَرَثَاهُ الْمُرْتَضَى، وَكَانَ سَبَبُ اتِّصَالِهِ بِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ مَعْرِفَةَ النُّجُومِ، وَبَلَغَ مِنْهُ مَنْزِلَةً لَمْ يَبْلُغْهَا أَمْثَالُهُ، فَكَانَ الْوُزَرَاءُ يَخْدُمُونَهُ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ فَخْرُ الْمُلْكِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ فَاسْتَقَلَّهَا، وَصَارَ أَمْرُهُ إِلَى مَا صَارَ مِنَ الضِّيقِ وَالْفَقْرِ وَالْغُرْبَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَقَطَ فِي الْعِرَاقِ جَمِيعِهِ بَرَدٌ كِبَارٌ (يَكُونُ فِي) الْوَاحِدَةِ رِطْلٌ أَوْ رِطْلَانِ، وَأَصْغَرُهُ كَالْبَيْضَةِ، فَأَهْلَكَ الْغَلَّاتِ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلُ. وَفِيهَا آخِرَ تِشْرِينَ الثَّانِي هَبَّتْ رِيحٌ بَارِدَةٌ بِالْعِرَاقِ جَمَدَ مِنْهَا الْمَاءُ وَالْخَلُّ، وَبَطَلَ دَوَرَانُ الدَّوَالِيبِ عَلَى دِجْلَةَ. وَفِيهَا انْقَطَعَ الْحَجُّ مِنْ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ.

وَفِيهَا نُقِضَتِ الدَّارُ الْمُعِزِّيَةُ، وَكَانَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ بَنَاهَا وَعَظَّمَهَا، وَغَرِمَ عَلَيْهَا أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَوَّلُ مَنْ شَرَعَ فِي تَخْرِيبِهَا بَهَاءُ الدَّوْلَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا عَمَّرَ دَارَهُ بِسُوقِ الثُّلَاثَاءِ نَقَلَ إِلَيْهَا مِنْ أَنْقَاضِهَا، وَأَخَذَ سَقْفًا مِنْهَا وَأَرَادَ أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى شِيرَازَ، فَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ، فَبَذَلَ فِيهِ مَنْ يَحُكُّ ذَهَبَهُ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَنُقِضَتِ الْآنَ، وَبِيعَ أَنْقَاضُهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالْكَائِيُّ الرَّازِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَصَنَّفَ كُتُبًا. وَأَبُو الْقَاسِمِ طَبَاطَبَا الشَّرِيفُ الْعَلَوِيُّ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، فَمِنْهُ أَنَّ صَدِيقًا لَهُ كَتَبَ إِلَيْهِ رُقْعَةً، فَأَجَابَهُ عَلَى ظَهْرِهَا (هَذِهِ الْأَبْيَاتِ) : وَقَرَأْتُ الَّذِي كَتَبْتَ، وَمَا ... زَا لَ نَجِيِّي وَمُؤْنِسِي وَسَمِيرِي وَغَدَا الْفَأْلُ بِامْتِزَاجِ السُّطُورِ ... حَاكِمًا بِامْتِزَاجِ مَا فِي الضَّمِيرِ وَاقْتِرَانُ الْكَلَامِ لَفْظًا وَخَطًّا ... شَاهِدًا بِاقْتِرَانِ وُدِّ الصُّدُورِ وَتَبَرَّكْتُ بِاجْتِمَاعِ الْكَلَامَيْ ... نِ رَجَاءَ اجْتِمَاعِنَا فِي سُرُورِ وَتَفَاءَلْتُ بِالظُّهُورِ عَلَى الْوَا شِيِ ، فَصَارَتْ إِجَابَتِي فِي الصُّدُورِ

ثم دخلت سنة تسع عشرة وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَة] 419 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ بَدْرَانَ وَعَسْكَرِ نَصْرِ الدَّوْلَةِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، سَارَ بَدْرَانُ بْنُ الْمُقَلَّدُ الْعُقَيْلِيُّ فِي جَمْعٍ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى نَصِيبِينَ وَحَصَرَهَا، وَكَانَتْ لِنَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَسْكَرُ نَصْرِ الدَّوْلَةِ الَّذِينَ بِهَا، وَقَاتَلُوهُ، فَهَزَمَهُمْ، وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِمْ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ وَالْعَسْكَرِ، فَسَيَّرَ نَصْرُ الدَّوْلَةِ عَسْكَرًا آخَرَ نَجْدَةً لِمَنْ بِنَصِيبِينَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ بَدْرَانُ عَسْكَرًا، فَلَقُوهُمْ، فَقَاتَلُوهُمْ وَهَزَمُوهُمْ، وَقَتَلُوا أَكْثَرَهُمْ. فَأَزْعَجَ ذَلِكَ ابْنَ مَرْوَانَ، وَأَقْلَقَهُ فَسَيَّرَ عَسْكَرًا آخَرَ ثَلَاثَةَ آلَافِ فَارِسٍ، فَدَخَلُوا نَصِيبِينَ، وَاجْتَمَعُوا بِمَنْ فِيهَا، وَخَرَجُوا إِلَى بَدْرَانَ فَاقْتَتَلُوا فَانْهَزَمَ بَدْرَانُ وَمَنْ مَعَهُ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ، وَقْتَ الظُّهْرِ، وَتَبِعَهُمْ عَسْكَرُ ابْنِ مَرْوَانَ. ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِمْ بَدْرَانُ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَثْبُتُوا لَهُ، فَأَكْثَرَ فِيهِمُ الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ، وَغَنِمَ الْأَمْوَالَ، فَعَادَ عَسْكَرُ ابْنِ مَرْوَانَ مَفْلُولِينَ، فَدَخَلُوا نَصِيبِينَ، فَاجْتَمَعُوا بِهَا وَاقْتَتَلُوا مَرَّةً أُخْرَى، وَكَانُوا عَلَى السَّوَاءِ، ثُمَّ سَمِعَ بَدْرَانُ بِأَنَّ أَخَاهُ قِرْوَاشًا قَدْ وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَرَحَلَ خَوْفًا مِنْهُ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ. ذِكْرُ شَغَبِ الْأَتْرَاكِ بِبَغْدَاذَ عَلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَ الْأَتْرَاكُ بِبَغْدَاذَ عَلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَشَغَبُوا، وَطَالَبُوا الْوَزِيرَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مَاكُولَا بِمَا لَهُمْ مِنَ الْعَلُوفَةِ وَالْإِدْرَارِ، وَنَهَبُوا دَارَهُ، وَدُورَ كُتَّابِ الْمَلِكِ

وَحَوَاشِيهِ، حَتَّى الْمُغَنِّينَ وَالْمُخَنَّثِينَ، وَنَهَبُوا صِيَاغَاتٍ أَخْرَجَهَا جَلَالُ الدَّوْلَةِ لِتُضْرَبَ دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ، وَتُفَرَّقَ فِيهِمْ وَحَصَرُوا جَلَالَ الدَّوْلَةِ فِي دَارِهِ، وَمَنَعُوهُ الطَّعَامَ وَالْمَاءَ حَتَّى شَرِبَ أَهْلُهُ مَاءَ الْبِئْرِ، وَأَكَلُوا ثَمَرَةَ الْبُسْتَانِ. فَسَأَلَهُمْ أَنْ يُمَكِّنُوهُ مِنَ الِانْحِدَارِ، فَاسْتَأْجَرُوا لَهُ وَلِأَهْلِهِ وَأَثْقَالِهِ سُفُنًا، فَجَعَلَ بَيْنَ الدَّارِ وَالسُّفُنِ سُرَادِقًا لِتَجْتَازَ حُرَمُهُ فِيهِ، لِئَلَّا يَرَاهُمُ الْعَامَّةُ وَالْأَجْنَادُ فَقَصَدَ بَعْضُ الْأَتْرَاكِ السُّرَادِقَ، فَظَنَّ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْحُرَمَ، فَصَاحَ بِهِمْ يَقُولُ لَهُمْ: بَلَغَ أَمْرُكُمْ إِلَى الْحُرَمِ! وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ، وَبِيَدِهِ طَبَرٌ، فَصَاحَ صِغَارُ الْغِلْمَانِ وَالْعَامَّةِ: جَلَالُ الدَّوْلَةِ يَا مَنْصُورُ، وَنَزَلَ أَحَدُهُمْ عَنْ فَرَسِهِ وَأَرْكَبَهُ إِيَّاهُ، وَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَلَمَّا رَأَى قُوَّادُ الْأَتْرَاكِ ذَلِكَ هَرَبُوا إِلَى خِيَامِهِمْ بِالرَّمْلَةِ، وَخَافُوا عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَكَانَ فِي الْخِزَانَةِ سِلَاحٌ كَثِيرٌ، فَأَعْطَاهُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَصَاغِرَ الْغِلْمَانِ وَجَعَلَهُمْ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ لِيُصْلِحَ الْأَمْرَ مَعَ أُولَئِكَ الْقُوَّادِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَحَلَفُوا، فَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، فَلَمْ يَمْضِ غَيْرُ أَيَّامٍ حَتَّى عَادُوا إِلَى الشَّغَبِ، فَبَاعَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ فَرْشَهُ وَثِيَابَهُ وَخِيَمَهُ وَفَرَّقَ ثَمَنَهُ فِيهِمْ حَتَّى سَكَنُوا. ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الدَّيْلَمِ وَالْأَتْرَاكِ بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلِيَ النَّفِيسُ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ أَرْدَشِيرَ الْبَصْرَةَ، اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهَا جَلَالُ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَشَانِ مُنْحَدِرًا إِلَيْهَا وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّيْلَمِ الَّذِينَ بِالْمَشَانِ وَقْعَةٌ فَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ. وَكَانَتِ الْفِتَنُ بِالْبَصْرَةِ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَالدَّيْلَمِ، وَبِهَا الْمَلِكُ الْعَزِيزُ أَبُو مَنْصُورِ [بْنُ] جَلَالِ الدَّوْلَةِ، فَقَوِيَ الْأَتْرَاكُ بِهَا فَأَخْرَجُوا الدَّيْلَمَ، فَمَضُوا إِلَى الْأُبُلَّةِ، وَصَارُوا مَعَ بَخْتَيَارَ بْنِ عَلِيٍّ، فَسَارَ إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ بِالْأُبُلَّةِ لِيُعِيدَهُمْ وَيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَتْرَاكِ

فَكَاشَفُوهُ وَحَمَلُوا عَلَيْهِ، وَنَادَوْا بِشِعَارِ أَبِي كَالِيجَارَ، فَعَادَ مُنْهَزِمًا فِي الْمَاءِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَنَهَبَ بَخْتَيَارُ نَهْرَ الدَّيْرِ وَالْأُبُلَّةِ وَغَيْرَهُمَا مِنَ السَّوَادِ، وَأَعَانَهُ الدَّيْلَمُ، وَنَهَبَ الْأَتْرَاكُ أَيْضًا، وَارْتَكَبُوا الْمَحْظُورَ، وَنَهَبُوا دَارَ بِنْتِ الْأَوْحَدِ بْنِ مُكْرَمٍ زَوْجَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ أَبِي كَالِيجَارَ عَلَى الْبَصْرَةِ لَمَّا بَلَغَ الْمَلِكَ أَبَا كَالِيجَارَ مَا كَانَ بِالْبَصْرَةِ سَيَّرَ جَيْشًا إِلَى بَخْتَيَارَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ الْبَصْرَةَ فَيَأْخُذَهَا. فَسَارُوا إِلَيْهَا، وَبِهَا الْمَلِكُ الْعَزِيزُ بْنُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ فَقَاتَلَهُمْ لِيَمْنَعَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِمْ قُوَّةٌ، فَانْهَزَمَ مِنْهُمْ، وَفَارَقَ الْبَصْرَةَ، وَكَادَ يَهْلِكُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ عَطَشًا، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَطَرٍ جُودٍ، فَشَرِبُوا مِنْهُ، وَأَصْعَدُوا إِلَى وَاسِطٍ. وَمَلَكَ عَسْكَرُ أَبِي كَالِيجَارَ الْبَصْرَةَ، وَنَهَبَ الدَّيْلَمُ أَسْوَاقَهَا، وَسَلِمَ مِنْهَا الْبَعْضُ بِمَالٍ بَذَلُوهُ لِمَنْ يَحْمِيهِمْ، وَتَتَبَّعُوا أَمْوَالَ أَصْحَابِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَغَيْرِهِمْ. فَلَمَّا بَلَغَ جَلَالَ الدَّوْلَةِ الْخَبَرُ أَرَادَ الِانْحِدَارَ إِلَى وَاسِطٍ، فَلَمْ يُوَافِقْهُ الْجُنْدُ، وَطَلَبُوا مِنْهُ مَالًا يُفَرَّقُ فِيهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، فَمَدَّ يَدَهُ فِي مُصَادَرَاتِ النَّاسِ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ لَا سِيَّمَا أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ، فَصَادَرَ جَمَاعَةً. ذِكْرُ وَفَاةِ صَاحِبِ كِرْمَانَ وَاسْتِيلَاءِ أَبِي كَالِيجَارَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، تُوُفِّيَ قِوَامُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْفَوَارِسِ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، صَاحِبُ كِرْمَانَ، وَكَانَ قَدْ تَجَهَّزَ لِقَصْدِ بِلَادِ فَارِسَ، وَجَمَعَ عَسْكَرًا كَثِيرًا، فَأَدْرَكَهُ أَجَلُهُ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ نَادَى أَصْحَابُهُ بِشِعَارِ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَطْلُبُونَهُ إِلَيْهِمْ، فَسَارَ مُجِدًّا، وَمَلَكَ الْبِلَادَ بِغَيْرِ حَرْبٍ وَلَا قِتَالٍ، وَأَمِنَ النَّاسُ مَعَهُ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ عَمَّهُ أَبَا الْفَوَارِسِ لِظُلْمِهِ وَسُوءِ سِيرَتِهِ، وَكَانَ إِذَا شَرِبَ ضَرَبَ أَصْحَابَهُ، وَضَرَبَ وَزِيرَهُ يَوْمًا مِائَتَيْ مِقْرَعَةٍ، وَحَلَّفَهُ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَتَأَوَّهُ، وَلَا يُخْبِرُ بِذَلِكَ أَحَدًا، فَقِيلَ إِنَّهُمْ سَمُّوهُ فَمَاتَ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مَنْصُورِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَلَى الْجَزِيرَةِ الدُّبَيْسِيَّةِ كَانَ مَنْصُورُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَسَدِيُّ قَدْ مَلَكَ الْجَزِيرَةَ الدُّبَيْسِيَّةَ، وَهِيَ تُجَاوِرُ خُوزِسْتَانَ، وَنَادَى بِشِعَارِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَأَخْرَجَ صَاحِبَهَا طَرَّادَ بْنَ دُبَيْسٍ الْأَسَدِيَّ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَمَاتَ طَرَّادٌ عَنْ قَرِيبٍ، فَلَمَّا مَاتَ طَرَّادٌ سَارَ ابْنُهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ إِلَى بَغْدَاذَ يَسْأَلُ أَنْ يُرْسِلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ مَعَهُ عَسْكَرًا إِلَى بَلَدِهِلِيُخْرِجَ مَنْصُورًا مِنْهُ وَيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ مَنْصُورٌ قَدْ قَطَعَ خُطْبَةَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَخَطَبَ لِلْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، فَسَيَّرَ مَعَهُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ طَائِفَةً مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى وَاسِطٍ لَمْ يَقِفْ عَلِيُّ بْنُ طَرَّادٍ حَتَّى تَجْتَمِعَ مَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ عَسْكَرِ وَاسِطٍ، وَسَارَ عَجِلًا. وَاتَّفَقَ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ كُورَكِيرَ كَانَ قَدْ هَرَبَ مِنْ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَهُوَ يُرِيدُ اللَّحَاقَ بِأَبِي كَالِيجَارَ، فَسَمِعَ هَذَا الْخَبَرَ، فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: الْمَصْلَحَةُ أَنَّنَا نُعِينُ مَنْصُورًا، وَلَا نُمَكِّنُ عَسْكَرَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ مِنْ إِخْرَاجِهِ، وَنَتَّخِذُ بِهَذَا الْفِعْلِ يَدًا عِنْدَ أَبِي كَالِيجَارَ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَى مَنْصُورٍ وَاجْتَمَعَ مَعَهُ، وَالْتَقَوْا هُمْ وَعَسْكَرُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ الَّذِينَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ طَرَّادٍ بِيَسْبَرُوذَ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَقَتَلَ عَلِيُّ بْنُ طَرَّادٍ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ بِالْعَطَشِ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ مَنْصُورٍ بِهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الدِّزْبَرِيُّ وَعَسَاكِرُ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، فَأَوْقَعُوا بِصَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ وَابْنِ الْجَرَّاحِ الطَّائِيِّ، فَهَزَمَهُمَا، وَقَتَلَ صَالِحًا وَابْنَهُ الْأَصْغَرَ، وَمَلَكَ جَمِيعَ الشَّامِ، (وَقِيلَ سَنَةَ عِشْرِينَ) [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] .

وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ أَمُّ مَجْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَهِيَ الَّتِي تُدَبِّرُ الْمَمْلَكَةَ وَتُرَتِّبُ الْأُمُورُ. وَفِيهَا عُزِلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مَاكُولَا مِنْ وَزَارَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَوَلِيَ الْوَزَارَةَ بَعْدَهُ أَبُو طَاهِرٍ الْمُحْسِنُ بْنُ طَاهِرٍ ثُمَّ عُزِلَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَوَلِيَ بَعْدَهُ أَبُو سَعْدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ قُسْطَنْطِينُ مَلِكُ الرُّومِ، وَانْتَقَلَ الْمُلْكُ إِلَى بِنْتٍ لَهُ، وَقَامَ بِتَدَبُّرِ الْمُلْكِ وَالْجُيُوشِ زَوْجُهَا، وَهُوَ ابْنُ خَالِهَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَسَانْجَسَ بَأَرْبَقَ. وَفِيهَا عُدِمَتِ الْأَرْطَابُ بِالْعِرَاقِلِلْبَرْدِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي السَّنَةِ قَبْلَهَا، وَكَانَ يُحْمَلُ مِنَ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ مِنْهُ. وَفِيهَا انْقَطَعَ الْحَجُّ مِنَ الْعِرَاقِ، فَمَضَى حُجَّاجُ خُرَاسَانَ إِلَى كِرْمَانَ، وَرَكِبُوا فِي الْبَحْرِ إِلَى جُدَّةَ، وَحَجُّوا. [الْوَفَيَاتُ] وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَخْلَدٍ أَبُو الْحَسَنِ التَّاجِرُ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الرَّزَّازِ وَعُمَرَ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَسَافَرَ إِلَى مِصْرَ خَوْفَ الْمُصَادَرَةِ، فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأُخِذَ مَالُهُ فِي التَّقْسِيطِ عَلَى الْكَرْخِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَافْتَقَرَ، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ، فَأَرْسَلَ لَهُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ.

ثم دخلت سنة عشرين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 420 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ الرَّيَّ وَبَلَدَ الْجَبَلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ نَحْوَ الرَّيِّ، فَانْصَرَفَ مُنُوجَهْرُ بْنُ قَابُوسَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَهُوَ صَاحِبُ جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَنْزَالًا كَثِيرَةً. وَكَانَ مَجْدُ الدَّوْلَةِ بْنُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، صَاحِبُ الرَّيِّ، قَدْ كَاتَبَهُ يَشْكُو إِلَيْهِ جُنْدَهُ وَكَانَ مُتَشَاغِلًا بِالنِّسَاءِ، وَمُطَالَعَةِ الْكُتُبِ وَنَسْخِهَا، وَكَانَتْ وَالِدَتُهُ تُدَبِّرُ مَمْلَكَتَهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ طَمِعَ جُنْدُهُ فِيهِ. وَاخْتَلَّتْ أَحْوَالُهُ، فَحِينَ وَصَلَتْ كُتُبُهُ إِلَى مَحْمُودٍ سَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا، وَجَعَلَ مُقَدَّمَهُمْ حَاجِبَهُ، وَأَمَرَهَ أَنْ يَقْبِضَ عَلَى مَجْدِ الدَّوْلَةِ. فَلَمَّا وَصَلَ الْعَسْكَرُ إِلَى الرَّيِّ رَكِبَ مَجْدُ الدَّوْلَةِ يَلْتَقِيهِمْ. فَقَبَضُوا عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِي دُلَفَ وَلَدِهِ. فَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ سَارَ إِلَى الرَّيِّ، فَوَصَلَهَا فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدَخَلَهَا، وَأَخَذَ مِنَ الْأَمْوَالِ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الْجَوَاهِرِ مَا قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الثِّيَابِ سِتَّةَ آلَافِ ثَوْبٍ، وَمِنَ الْآلَاتِ وَغَيْرِهَا مَا لَا يُحْصَى، وَأَحْضَرَ مَجْدَ الدَّوْلَةِ، وَقَالَ لَهُ: أَمَا قَرَأْتَ شَاهْنَامَهْ، وَهُوَ تَارِيخُ الْفُرْسِ، وَتَارِيخُ الطَّبَرِيِّ، وَهُوَ تَارِيخُ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: بَلَى! قَالَ: مَا حَالُكَ مَنْ قَرَأَهَا. أَمَا لَعِبْتَ بِالشَّطْرَنْجِ؟ قَالَ: بَلَى! قَالَ: فَهَلْ رَأَيْتَ شَاهًا يَدْخُلُ عَلَى شَاهٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ سَلَّمْتَ نَفْسَكَ إِلَى مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْكَ؟ ثُمَّ سَيَّرَهُ إِلَى خُرَاسَانَ مَقْبُوضًا، ثُمَّ مَلَكَ قَزْوِينَ

وَقِلَاعَهَا. وَمَدِينَةَ سَاوَةَ وَآبَهَ، وَيَافَتَ، وَقَبَضَ عَلَى صَاحِبِهَا وَلْكِينَ بْنِ وَنَدْرِينَ، وَسَيَّرَهُ إِلَى خُرَاسَانَ. وَلَمَّا مَلَكَ مَحْمُودٌ الرَّيَّ كَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ يَذْكُرُ أَنَّهُ وَجَدَ لِمَجْدِ الدَّوْلَةِ مِنَ النِّسَاءِ الْحَرَائِرِ مَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسِينَ امْرَأَةً وَلَدْنَ لَهُ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ وَلَدًا، وَلَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: هَذِهِ عَادَةُ سَلَفِي. وَصُلِبَ مِنْ أَصْحَابِهِ الْبَاطِنِيَّةِ خَلْقًا كَثِيرًا. وَنَفَى الْمُعْتَزِلَةَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَأَحْرَقَ كُتُبَ الْفَلْسَفَةِ وَمَذَاهِبِ الِاعْتِزَالِ وَالنُّجُومِ، وَأَخَذَ مِنَ الْكُتُبِ مَا سِوَى ذَلِكَ مِائَةَ حِمْلٍ. وَتَحَصَّنَ مِنْهُ مُنُوجَهْرُ بْنُ قَابُوسَ بْنِ وَشْمَكِيرَ بِجِبَالٍ حَصِينَةٍ، وَعْرَةِ الْمَسَالِكِ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَقَدْ أَطَلَّ عَلَيْهِ يَمِينُ الدَّوْلَةِ، فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى غِيَاضٍ حَصِينَةٍ، وَبَذَلَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ لِيُصْلِحَهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ الْمَالَ إِلَيْهِ، فَسَارَ عَنْهُ إِلَى نَيْسَابُورَ. ثُمَّ تُوُفِّيَ مُنُوجَهْرُ عَقِيبَ ذَلِكَ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَنُوشَرْوَانُ، فَأَقَرَّهُ مَحْمُودٌ عَلَى وِلَايَتِهِ. وَقَرَّرَ عَلَيْهِ خَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ دِينَارٍ أُخْرَى، وَخُطِبَ لِمَحْمُودٍ فِي أَكْثَرِ بِلَادِ الْجَبَلِ إِلَى حُدُودِ أَرْمِينِيَّةَ، وَافْتَتَحَ ابْنُهُ مَسْعُودٌ زَنْجَانَ وَأَبْهَرَ، وَخَطَبَ لَهُ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ بَأَصْبَهَانَ، وَعَادَ مَحْمُودٌ إِلَى خُرَاسَانَ وَاسْتَخْلَفَ بِالرَّيِّ ابْنَهُ مَسْعُودًا، فَقَصَدَ أَصْبَهَانَ، وَمَلَكَهَا مِنْ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ، وَعَادَ عَنْهَا، وَاسْتَخْلَفَ بِهَا بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَثَارَ بِهِ أَهْلُهَا فَقَتَلُوهُ، فَعَادَ إِلَيْهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً نَحْوَ خَمْسَةِ آلَافِ قَتِيلٍ. وَسَارَ إِلَى الرَّيِّ فَأَقَامَ بِهَا. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ السَّالَارُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ بَعْدَ عَوْدِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ عَنِ الرَّيِّ هَذَا السَّالَارُ هُوَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرْزُبَانُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ وَهْسُوذَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسَافِرٍ الدَّيْلَمِيُّ، وَكَانَ لَهُ مِنْ بِلَادِ سَرْجَهَانَ، وَزَنْجَانَ، وَأَبْهَرَ، وَشَهْرَزُورَ، وَغَيْرِهَا، وَهِيَ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا بَعْدَ وَفَاةِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ. فَلَمَّا مَلَكَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودُ بْنُ

سُبُكْتِكِينَ الرَّيَّ سَيَّرَ الْمَرْزُبَانَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ خَرَامِيلَ، وَهُمْ مِنْ أَوْلَادِ مُلُوكِ الدَّيْلَمِ، وَكَانَ قَدِ الْتَجَأَ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ، فَسَيَّرَهُ إِلَى بِلَادِ السَّالَارِ إِبْرَاهِيمَ لِيَمْلِكَهَا فَقَصَدَهَا وَاسْتَمَالَ الدَّيْلَمَ فَمَالَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ. وَاتَّفَقَ عَوْدُ يَمِينِ الدَّوْلَةِ إِلَى خُرَاسَانَ، فَسَارَ السَّالَارُ إِبْرَاهِيمُ إِلَى قَزْوِينَ، وَبِهَا عَسْكَرُ يَمِينِ الدَّوْلَةِ فَقَاتَلَهُمْ، فَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ. وَهَرَبَ الْبَاقُونَ، وَأَعَانَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَسَارَ السَّالَارُ أَيْضًا إِلَى مَكَانٍ بِقُرْبِ سَرْجَهَانَ تُطِيفُ بِهِ الْأَنْهَارُ وَالْجِبَالُ، فَتَحَصَّنَ بِهِ. فَسَمِعَ مَسْعُودُ بْنُ يَمِينِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ بِالرَّيِّ، بِمَا فَعَلَ فَسَارَ مُجِدًّا إِلَى السَّالَارِ فَجَرَى بَيْنَهُمَا وَقَائِعُ كَانَ الِاسْتِظْهَارُ فِيهَا لِلسَّالَارِ. ثُمَّ إِنَّ مَسْعُودًا رَاسَلَ طَائِفَةً مِنْ جُنْدِ السَّالَارِ وَاسْتَمَالَهُمْ، وَأَعْطَاهُمُ الْأَمْوَالَ فَمَالُوا إِلَيْهِ. وَدَلُّوهُ عَلَى عَوْرَةِ السَّالَارِ. وَحَمَلُوا طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ فِي طَرِيقٍ غَامِضَةٍ، حَتَّى جَعَلُوهُ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَكَبَسُوا السَّالَارَ أَوَّلَ رَمَضَانَ وَقَاتَلَهُ مَسْعُودٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَأُولَئِكَ مِنْ خَلْفِهِ فَاضْطَرَبَ السَّالَارُ وَمَنْ مَعَهُ، وَانْهَزَمُوا وَطَلَبَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَهْرَبًا، وَاخْتَفَى السَّالَارُ فِي مَكَانٍ، فَدَلَّتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ سَوَادِيَّةٌ، فَأَخَذَهُ مَسْعُودٌ وَحَمَلَهُ إِلَى سَرْجَهَانَ، وَبِهَا وَلَدُهُ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُسَلِّمَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ، فَعَادَ عَنْهَا وَتَسَلَّمَ بَاقِيَ قِلَاعِهِ وَبِلَادِهِ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُ، وَقَرَّرَ عَلَى ابْنِهِ الْمُقِيمِ بِسَرْجَهَانَ مَالًا، وَعَلَى كُلِّ مَنْ جَاوَرَهُ مِنْ مُقَدَّمِي الْأَكْرَادِ. وَعَادَ إِلَى الرَّيِّ. ذِكْرُ مُلْكِ أَبِي كَالِيجَارَ مَدِينَةَ وَاسِطٍ وَمَسِيرِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ إِلَى الْأَهْوَازِ وَنَهْبِهَا (وَعَوْدِ وَاسِطٍ إِلَيْهِ) فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَصْعَدَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ إِلَى مَدِينَةَ وَاسِطٍ فَمَلَكَهَا، وَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ أَنَّ نُورَ الدَّوْلَةِ دُبَيْسَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ، صَاحِبَ الْحِلَّةِ وَالنِّيلِ، وَلَمْ تَكُنِ الْحِلَّةُ بُنِيَتْ ذَلِكَ الْوَقْتَ، خُطِبَ لِأَبِي كَالِيجَارَ فِي أَعْمَالِهِ. وَسَبَبُهُ أَنَّ أَبَا حَسَّانَ الْمُقَلَّدَ بْنَ أَبِي الْأَغَرِّ الْحَسَنِ بْنِ مَزْيَدٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُورِ الدَّوْلَةِ عَدَاوَةٌ، فَاجْتَمَعَ، هُوَ وَمَنِيعٌ أَمِيرُ بَنِي خَفَاجَةَ، وَأَرْسَلَا إِلَى بَغْدَاذَ يَبْذُلَانِ مَالًا

يَتَجَهَّزُ بِهِ الْعَسْكَرُ لِقِتَالِ نُورِ الدَّوْلَةِ، فَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى نُورِ الدَّوْلَةِ، فَخَطَبَ لِأَبِي كَالِيجَارَ بِهِ وَرَاسَلَهُ يُطْمِعُهُ فِي الْبِلَادِ. ثُمَّ اتَّفَقَ أَنَّهُ مَلَكَ الْبَصْرَةَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَقَوِيَ طَمَعُهُ، فَسَارَ مِنَ الْأَهْوَازِ إِلَى وَاسِطٍ، وَبِهَا الْمَلِكُ الْعَزِيزُ بْنُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَمَعَهُ جَمْعٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ. فَفَارَقَهَا الْعَزِيزُ، وَقَصَدَ النُّعْمَانِيَّةَ، فَفَجَّرَ عَلَيْهِ نُورُ الدَّوْلَةِ الْبُثُوقَ مِنْ بَلَدِهِ، فَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنْ أَثْقَالِهِمْ، وَغَرِقَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، وَخُطِبَ فِي الْبَطِيحَةِ لِأَبِي كَالِيجَارَ، وَوَرَدَ إِلَيْهِ نُورُ الدَّوْلَةِ. وَأَرْسَلَ أَبُو كَالِيجَارَ إِلَى قِرْوَاشٍ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَعِنْدَهُ الْأَثِيرُ عَنْبَرٌ، يَطْلُبُ (مِنْهُ أَنْ يَنْحَدِرَ) إِلَى الْعِرَاقِ لِيَبْقَى جَلَالُ الدَّوْلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. فَانْحَدَرَ إِلَى الْكُحَيْلِ، فَمَاتَ بِهِ الْأَثِيرُ عَنْبَرٌ، وَلَمْ يَنْحَدِرْ مَعَهُ قِرْوَاشٌ، وَجَمَعَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ عَسَاكِرَهُ، وَاسْتَنْجَدَ أَبَا الشَّوْكِ وَغَيْرَهُ، وَانْحَدَرَ إِلَى وَاسِطٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ قِتَالٌ، وَتَتَابَعَتِ الْأَمْطَارُ حَتَّى هَلَكُوا. وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ لِفَقْرِهِ وَقِلَّةِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهِ عِنْدَهُ، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِيمَا يَفْعَلُ، فَأَشَارُوا أَنْ يَقْصِدُوا الْأَهْوَازَ وَيَنْهَبَهَا، وَيَأْخُذَ مَا بِهَا مِنْ أَمْوَالِ أَبِي كَالِيجَارَ وَعَسْكَرِهِ. فَسَمِعَ أَبُو كَالِيجَارَ ذَلِكَ فَاسْتَشَارَ أَيْضًا أَصْحَابَهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا عَدَلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ عَنِ الْقَتْلِ إِلَّا لِضَعْفٍ فِيهِ، وَالرَّأْيُ أَنْ تَسِيرَ إِلَى الْعِرَاقِ فَتَأْخُذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِبَغْدَاذَ أَضْعَافَ مَا يَأْخُذُونَ مِنَّا، فَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ فَأَتَاهُمْ جَاسُوسٌ مِنْ أَبِي الشَّوْكِ يُخْبِرُ بِمَجِيءِ عَسَاكِرِ مَحْمُودِ بْنَ سُبُكْتِكِينَ إِلَى (طَخْرٍ، وَأَنَّهُمْ) يُرِيدُونَ الْعِرَاقَ، وَيُشِيرُ بِالصُّلْحِ، وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ عَلَى دَفْعِهِمْ عَنِ الْبِلَادِ. فَأَنْفَذَ أَبُو كَالِيجَارَ الْكِتَابَ إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَقَدْ سَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ الْجَوَابَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ جَلَالَ الدَّوْلَةِ يَعُودُ بِالْكِتَابِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ جَلَالُ الدَّوْلَةِ وَمَضَى إِلَى الْأَهْوَازِ فَنَهَبَهَا، وَأَخَذَ مِنْ دَارِ الْإِمَارَةِ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَخَذُوا مَا لَا يُحْصَى، وَدَخَلَ الْأَكْرَادُ وَالْأَعْرَابُ وَغَيْرُهُمْ إِلَى الْبَلَدِ، فَأَهْلَكُوا النَّاسَ بِالنَّهْبِ وَالسَّبْيِ، وَأُخِذَتْ وَالِدَةُ أَبِي

كَالِيجَارَ وَابْنَتُهُ وَأُمُّ وَلَدِهِ وَزَوْجَتُهُ، فَمَاتَتْ أُمُّهُ، وَحُمِلَ مَنْ عَدَاهَا إِلَى بَغْدَاذَ. وَلَمَّا سَمِعَ أَبُو كَالِيجَارَ الْخَبَرَ سَارَ لِيَلْقَى جَلَالَ الدَّوْلَةِ فَتَخَلَّفَ عَنْهُ دُبَيْسُ بْنُ مَزْيَدٍ، خَوْفًا عَلَى أَهْلِهِ وَحُلَلِهِ مِنْ خَفَاجَةَ، وَالْتَقَى أَبُو كَالِيجَارَ، وَجَلَالُ الدَّوْلَةِ آخِرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، فَاقْتَتَلُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَانْهَزَمَ أَبُو كَالِيجَارَ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَلْفَا رَجُلٍ، وَوَصَلَ إِلَى الْأَهْوَازِ بِأَسْوَأِ حَالٍ، فَأَتَاهُ الْعَادِلُ بْنُ مَافَنَّةَ بِمَالٍ، فَحَسُنَتْ حَالُهُ. وَأَمَّا جَلَالُ الدَّوْلَةِ فَإِنَّهُ عَادَ وَاسْتَوْلَى عَلَى وَاسِطٍ، وَجَعَلَ ابْنَهُ الْعَزِيزَ بِهَا، وَأَصْعَدَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَمَدَحَهُ الْمُرْتَضَى وَمِهْيَارُ وَغَيْرُهُمَا، وَهَنَّأُوهُ بِالظَّفَرِ. ذِكْرُ حَالِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ لَمَّا عَادَ دُبَيْسُ بْنُ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ، وَفَارَقَ أَبَا كَالِيجَارَ، وَصَلَ إِلَى بَلَدِهِ، وَكَانَ قَدْ خَالَفَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ بَنِي عَمِّهِ، وَنَزَلُوا الْجَامِعَيْنِ، وَأَتَاهُمْ وَقَاتَلَهُمْ، فَظَفِرَ بِهِمْ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً مِنْهُمْ شَبِيبٌ، وَسَرَايَا، وَوَهْبٌ، بَنُو حَمَّادِ بْنِ مَزْيَدٍ، (وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْغَنَائِمِ بْنِ مَزْيَدٍ، وَحَمَلَهُمْ إِلَى الْجَوْسَقِ. ثُمَّ إِنَّ الْمُقَلَّدَ بْنَ أَبِي الْأَعَزِّ بْنِ مَزْيَدٍ) وَغَيْرَهُ اجْتَمَعُوا وَمَعَهُمْ عَسْكَرٌ مِنْ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَقَصَدُوا دُبَيْسًا وَقَاتَلُوهُ، فَانْهَزَمَ مِنْهُمْ، وَأُسِرَ مِنْ بَنِي عَمِّهِ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَنَزَلَ الْمُعْتَقَلُونَ بِالْجَوْسَقِ، وَهُمْ شَبِيبٌ وَأَصْحَابُهُ، إِلَى حُلَلِهِ فَحَرَسُوهَا، وَسَارَ دُبَيْسٌ مُنْهَزِمًا إِلَى السِّنْدِيَّةِ، إِلَى نَجْدَةِ الدَّوْلَةِ أَبِي مَنْصُورٍ كَامِلِ بْنِ قُرَادٍ فَاصْطَحَبَهُ إِلَى أَبِي سِنَانٍ غَرِيبِ بْنِ مَقْنٍ، حَتَّى أَصْلَحَ أَمْرَهُ مَعَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَعَسْكَرِهِ، وَتَكَفَّلَ بِهِ، وَضَمِنَ عَنْهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ سَابُورِيَّةٍ إِذَا أُعِيدَ إِلَى وِلَايَتِهِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ. فَعَرَفَ الْمُقَلَّدُ الْحَالَ وَمَعَهُ جَمْعٌ مِنْ خَفَاجَةَ فَنَهَبُوا مَطِيرَابَاذَ، وَالنِّيلَ، وَسُورًا، أَقْبَحَ نَهْبٍ، وَاسْتَاقُوا مَوَاشِيَهَا، وَأَحْرَقُوا مَنَازِلَهَا، وَعَبَرَ الْمُقَلَّدُ دِجْلَةَ إِلَى أَبِي الشَّوْكِ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ أَحْكَمَ أَمْرَهُ.

ذِكْرُ عِصْيَانِ زِنَاتَةَ وَمُحَارَبَتِهِمْ بِإِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَجَمَّعَتْ زِنَاتَةُ وَعَاوَدَتِ الْخِلَافَ عَلَى الْمُعِزِّ بِإِفْرِيقِيَّةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُعِزَّ، فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ، فَالْتَقَوْا بِمَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِحَمْدِيسِ الصَّابُونِ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَانْهَزَمَتْ زِنَاتَةُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَأُسَرِ مِثْلُهُمْ، وَعَادَ الْمُعِزُّ ظَافِرًا غَانِمًا. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ يَمِينُ الدَّوْلَةِ وَوَلَدُهُ بَعْدَهُ بِالْغُزِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْقَعَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ بِالْأَتْرَاكِ الْغُزِّيَّةِ، وَفَرَّقَهُمْ فِي بِلَادِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَفْسَدُوا فِيهَا، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَصْحَابَ أَرْسَلَانَ بْنِ سَلْجُوقَ التُّرْكِيِّ، وَكَانُوا بِمَفَازَةِ بُخَارَى، فَلَمَّا عَبَرَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ النَّهْرَ إِلَى بُخَارَى هَرَبَ عَلَيُّ تِكِينَ صَاحِبُهَا مِنْهُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَحَضَرَ أَرْسَلَانُ بْنُ سَلْجُوقَ عِنْدَ يَمِينِ الدَّوْلَةِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَسَجَنَهُ بِبِلَادِ الْهِنْدِ، وَأَسْرَى إِلَى خَرْكَاهَاتِهِ، فَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَسَلِمَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَهَرَبُوا مِنْهُ وَلَحِقُوا بِخُرَاسَانَ فَأَفْسَدُوا فِيهَا، وَنَهَبُوا هَذِهِ السَّنَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَسَبَوْهُمْ وَأَجْلَوْهُمْ عَنْ خُرَاسَانَ، فَسَارَ مِنْهُمْ أَهْلُ أَلْفَيْ خَرْكَاةَ، فَلَحِقُوا بِأَصْبَهَانَ، فَكَتَبَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَى عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بِإِنْفَاذِهِمْ، أَوْ إِنْفَاذِ رُءُوسِهِمْ فَأَمَرَ نَائِبَهُ أَنْ يَعْمَلَ طَعَامًا وَيَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ وَيَقْتُلَهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ إِثْبَاتَ أَسْمَائِهِمْ لِيَسْتَخْدِمَهُمْ، وَكَمَنَ الدَّيْلَمُ فِي الْبَسَاتِينِ فَحَضَرَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَلَقِيَهُمْ مَمْلُوكٌ تُرْكِيٌّ لِعَلَاءِ الدَّوْلَةِ، فَأَعْلَمَهُمُ الْحَالَ، فَعَادُوا، فَأَرَادَ نَائِبُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنَ الْعَوْدِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، فَحَمَلَ دَيْلَمِيُّ مِنْ قُوَّادِ الدَّيْلَمِ عَلَى إِنْسَانٍ مِنْهُمْ، فَرَمَاهُ التُّرْكِيُّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ. وَوَقَعَ الصَّوْتُ بِذَلِكَ، فَخَرَجَتِ الدَّيْلَمُ وَانْضَافَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْبَلَدِ، فَجَرَى بَيْنَهُمْ حَرْبٌ، فَهَزَمُوهُمْ، فَقَلَعَ التُّرْكُ خَرْكَاهَاتِهِمْ وَسَارُوا، وَلَمْ يَجْتَازُوا عَلَى قَرْيَةٍ إِلَّا نَهَبُوهَا إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَى وَهْسُوذَانَ بِأَذْرَبِيجَانَ، فَرَاعَاهُمْ وَتَفَقَّدَهُمْ. وَبَقِيَ بِخُرَاسَانَ أَكْثَرُ مِمَّنْ قَصَدَ أَصْبَهَانَ، فَأَتَوْا جَبَلَ بَلْجَانَ وَهُوَ الَّذِي عِنْدَهُ

خُوَارَزْمُ الْقَدِيمَةُ، فَنَزَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مِنَ الْجَبَلِ إِلَى الْبِلَادِ فَنَهَبُوا، وَأَخْرَبُوا وَقَتَلُوا، فَجَرَّدَ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ إِلَيْهِمْ أَرْسَلَانَ الْجَاذِبَ، أَمِيرَ طُوسَ فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَزَلْ يَتْبَعُهُمْ نَحْوَ سَنَتَيْنِ فِي جُمُوعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعَسَاكِرِ، فَاضْطَرَّ مَحْمُودٌ إِلَى قَصْدِ خُرَاسَانَ بِسَبَبِهِمْ، فَسَارَ يَطْلُبُهُمْ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى دِهِسْتَانَ، فَسَارُوا إِلَى جُرْجَانَ، ثُمَّ عَادَ عَنْهُمْ، وَجَعَلَ ابْنَهُ مَسْعُودًا بِالرَّيِّ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَاسْتَخْدَمَ بَعْضَهُمْ وَمُقَدَّمُهُمْ يَغْمُرُ. فَلَمَّا مَاتَ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ سَارَ مَسْعُودٌ ابْنُهُ إِلَى خُرَاسَانَ وَهُمْ مَعَهُ، فَلَمَّا مَلَكَ غَزْنَةَ سَأَلُوهُ فِيمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بِجَبَلِ بَلْجَانَ، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْعَوْدِ عَلَى شَرْطِ الطَّاعَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ. ثُمَّ إِنَّ مَسْعُودًا قَصَدَ بِلَادَ الْهِنْدِ عِنْدَ عِصْيَانِ أَحْمَدَ يَنَالْتِكِينَ، فَعَاوَدُوا الْفَسَادَ، فَسَيَّرَ تَاشَ فِرَاشَ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ إِلَى الرَّيِّ لِأَخْذِهَا مِنْ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ فَلَمَّا بَلَغَ نَيْسَابُورَ، وَرَأَى سُوءَ فِعْلِهِمْ، دَعَا مُقَدَّمِيهِمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ رَجُلًا، فِيهِمْ يَغْمُرُ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَسَارُوا إِلَى الرَّيِّ. وَبَلَغَ مَسْعُودًا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، فَأَخَذَ حُلَلَهُمْ، وَسَيَّرَهَا إِلَى الْهِنْدِ، وَقَطَعَ أَيْدِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَأَرْجُلِهِمْ وَصَلَبَهُمْ. هَذِهِ أَخْبَارُ عَشِيرَةِ أَرْسَلَانِ بْنِ سَلْجُوقَ، وَأَمَّا أَخْبَارُ طُغْرُلْبَكَ، وَدَاوُدَ، وَأَخِيهِمَا بِيغُو، فَإِنَّهُمْ كَانُوا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا نَذْكُرُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُلُوكًا تَجِيءُ أَخْبَارُهُمْ عَلَى السِّنِينَ. وَلَمَّا أَوْقَعَ تَاشُ فِرَاشُ حَاجِبُ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ بِالْغُزِّ سَارُوا إِلَى الرَّيِّ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَذْرَبِيجَانَ، وَاللَّحَاقَ بِمَنْ مَضَى مِنْهُمْ أَوَّلًا إِلَى هُنَاكَ، وَيُسَمَّوْنَ الْعِرَاقِيَّةَ، وَكَانَ اسْمُ أُمَرَاءِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ كُوكْتَاشَ، وَبُوقَا، وَقَزَلَ، وَيَغْمُرَ، وَنَاصِغْلِي، فَوَصَلُوا إِلَى الدَّامَغَانِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرُهَا وَأَهْلُ الْبَلَدِ لِيَمْنَعُوهُمْ عَنْهُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا، فَصَعِدُوا

الْجَبَلَ وَتَحَصَّنُوا بِهِ وَدَخَلَ الْغُزُّ الْبَلَدَ وَنَهَبُوا، وَانْتَقَلُوا إِلَى سِمْنَانَ فَفَعَلُوا فِيهَا مِثْلَ ذَلِكَ، وَدَخَلُوا خُوَارَ الرَّيِّ فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، وَنَهَبُوا إِسْحَاقَ آبَاذَ وَمَا يُجَاوِرُهَا مِنَ الْقُرَى، وَسَارُوا إِلَى مُشْكُوَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ الرَّيِّ فَنَهَبُوهَا. وَتَجَهَّزَ أَبُو سَهْلٍ الْحَمْدُونِيُّ، وَتَاشُ فِرَاشَ، وَكَاتَبَا الْمَلِكَ مَسْعُودًا، وَصَاحِبَ جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ بِالْحَالِ، وَطَلَبَا النَّجْدَةَ، وَأَخَذَ تَاشُ ثَلَاثَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَمَا عِنْدَهُ مِنَ الْفِيَلَةِ وَالسِّلَاحِ وَسَارَ إِلَى الْغُزِّ لِيُوَاقِعَهُمْ، وَبَلَغَهُمْ خَبَرُهُ،، فَتَرَكُوا نِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَمَا غَنِمُوا مِنْ خُرَاسَانَ وَهَذِهِ الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ، وَسَارُوا جَرِيدَةً، فَالْتَقَوْا فَرَكِبَ تَاشُ الْفِيلَ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَكَانَتْ أَوَّلًا لِتَاشَ، ثُمَّ إِنَّ الْغُزَّ أَسَرُوا مُقَدَّمَ الْأَكْرَادِ الَّذِينَ مَعَ تَاشَ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: اسْتَبْقُونِي حَتَّى آمُرَ الْأَكْرَادَ (الَّذِينَ مَعَ تَاشَ) بِتَرْكِ قِتَالِهِمْ، فَتَرَكُوهُ، وَعَاهَدُوهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَكْرَادِ يَقُولُ لَهُمْ: إِنْ قَاتَلَهُمْ قُتِلْتُ ; فَفَتَرُوا فِي الْقِتَالِ. وَحَمَلَتِ الْغُزُّ، وَكَانُوا خَمْسَةَ آلَافٍ، عَلَى تَاشَ فِرَاشَ وَعَسْكَرِهِ، فَانْهَزَمَ الْأَكْرَادُ، وَثَبَتَ تَاشُ، وَأَصْحَابُهُ، فَقَتَلَ الْغُزُّ الْفِيلَ الَّذِي تَحْتَهُ فَسَقَطَ فَقَتَلُوهُ وَقَطَّعُوهُ أَخْذًا بِثَأْرِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَقُتِلَ مَعَهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ وَأَكَابِرِ الْقُوَّادِ وَغَنِمُوا بَقِيَّةَ الْفِيَلَةِ وَأَثْقَالِ الْعَسْكَرِ، وَسَارُوا إِلَى الرَّيِّ فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَأَبُو سَهْلٍ الْحَمْدُونِيُّ. وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنْدِ وَأَهْلِ الْبَلَدِ فَصَعِدَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ قَلْعَةَ طَبَرَكَ، وَدَخَلَ الْغُزُّ الْبَلَدَ، وَنَهَبُوا عِدَّةَ مَحَالٍّ نَهْبًا اجْتَاحُوا [بِهِ] الْأَمْوَالَ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا هُمْ وَأَبُو سَهْلٍ، فَأَسَرَ مِنْهُمُ ابْنَ أُخْتٍ لِيَغْمُرَ أَمِيرِ الْغُزِّ وَقَائِدًا كَبِيرًا مِنْ قُوَّادِهِمْ، فَبَذَلُوا فِيهِمَا إِعَادَةَ مَا أَخَذُوا مِنْ عَسْكَرِ تَاشَ، وَإِطْلَاقَ الْأَسْرَى، وَحَمْلَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ إِلَّا بِأَمْرِ السُّلْطَانِ. وَخَرَجَ الْغُزُّ عَنِ الْبَلَدِ، وَوَصَلَ عَسْكَرٌ مِنْ جُرْجَانَ، فَلَمَّا قَرَبُوا مِنَ الرَّيِّ سَارَ إِلَيْهِمُ الْغُزُّ فَكَبَسُوهُمْ، وَأَسَرُوا مُقَدَّمَهُمْ، وَأَسَرُوا مَعَهُ نَحْوَ أَلْفَيْ رَجُلٍ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ وَعَادُوا، وَكَانَ هَذَا سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.

ذِكْرُ وُصُولِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ إِلَى الرَّيِّ وَاتِّفَاقِهِ مَعَ الْغُزِّ وَعَوْدِهِمْ إِلَى الْخِلَافِ عَلَيْهِ لَمَّا فَارَقَ الْغُزُّ الرَّيَّ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ عَلِمَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَيْهَا، وَدَخَلَهَا وَهُوَ يُظْهِرُ طَاعَةَ السُّلْطَانِ مَسْعُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي سَهْلٍ الْحَمْدُونِيِّ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُقَرِّرَ الَّذِي عَلَيْهِ بِمَالٍ يُؤَدِّيهِ فَامْتَنَعَ مِنْ إِجَابَتِهِ مَخَافَةَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ فَأَرْسَلَ إِلَى الْغُزِّ يَسْتَدْعِيهِمْ لِيُعْطِيَهُمُ الْأَقْطَاعَ، وَيَتَقَوَّى بِهِمْ عَلَى الْحَمْدُونِيِّ، فَعَادَ مِنْهُمْ نَحْوُ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، مُقَدَّمُهُمْ قَزَلُ، وَسَارَ الْبَاقُونَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ. فَلَمَّا وَصَلَ الْغُزُّ إِلَى عَلَاءِ الدَّوْلَةِ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَتَمَسَّكَ بِهِمْ، وَأَقَامُوا عِنْدَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى بَعْضِ الْقُوَّادِ الْخُرَاسَانِيَّةِ الَّذِينَ عِنْدَهُ أَنَّهُ دَعَا الْغُزَّ إِلَى مُوَافَقَتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ عَلَيْهِ وَالْعِصْيَانِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ وَأَحْضَرَهُ وَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَسَجَنَهُ فِي قَلْعَةِ طَبَرَكَ، فَاسْتَوْحَشَ الْغُزُّ لِذَلِكَ وَنَفَرُوا فَاجْتَهَدَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ فِي تَسْكِينِهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا وَعَاوَدُوا الْفَسَادَ وَالنَّهْبَ وَقَطْعَ الطَّرِيقِ، وَعَادَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ فَرَاسَلَ أَبَا سَهْلٍ الْحَمْدُونِيَّ، وَهُوَ بِطَبَرِسْتَانَ، وَقَرَّرَ مَعَهُ أَمْرَ الرَّيِّ لِيَكُونَ فِي طَاعَةِ مَسْعُودٍ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى نَيْسَابُورَ وَبَقِيَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ بِالرَّيِّ. ذِكْرُ مَا كَانَ مِنَ الْغُزِّ الَّذِينَ بِأَذْرَبِيجَانَ وَمُفَارَقَتِهَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْغُزِّ وَصَلُوا إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، فَأَكْرَمَهُمْ وَهْسُوذَانُ، وَصَاهَرَهُمْ، رَجَاءَ نَصْرِهِمْ وَكَفِّ شَرِّهِمْ. وَكَانَ أَسْمَاءُ مُقَدَّمِيهِمْ: بُوقَا، وَكُوكَتَاشُ، وَمَنْصُورٌ، وَدَانَا، وَكَانَ مَا أَمَّلَهُ بَعِيدًا فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا الشَّرَّ وَالْفَسَادَ، وَالْقَتْلَ وَالنَّهْبَ، وَسَارُوا إِلَى مَرَاغَةَ، فَدَخَلُوهَا سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَأَحْرَقُوا جَامِعَهَا، وَقَتَلُوا مِنْ عَوَامِّهَا مَقْتَلَةً كَثِيرَةً، وَمِنَ الْأَكْرَادِ الْهُذْبَانِيَّةِ كَذَلِكَ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ، وَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ. فَلَمَّا رَأَى الْأَكْرَادُ مَا حَلَّ بِهِمْ وَبِأَهْلِ الْبِلَادِ شَرَعُوا فِي الصُّلْحِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى دَفْعِ

شَرِّهِمْ، فَاصْطَلَحَ أَبُو الْهَيْجَاءِ بْنُ رَبِيبِ الدَّوْلَةِ وَوَهْسُوذَانُ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ وَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمَا، وَاجْتَمَعَ مَعَهُمَا أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ، فَانْتَصَفُوا مِنَ الْغُزِّ.، فَلَمَّا رَأَوُا اجْتِمَاعَ أَهْلِ الْبِلَادِ عَلَى حَرْبِهِمُ انْصَرَفُوا عَنْ أَذْرَبِيجَانَ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمُ الْمُقَامُ بِهَا، ثُمَّ إِنَّهُمُ افْتَرَقُوا، فَسَارَ طَائِفَةٌ إِلَى (الَّذِينَ عَلَى) الرَّيِّ، وَمُقَدَّمُهُمْ بُوقَا، وَسَارَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وَمُقَدَّمُهُمْ مَنْصُورٌ وَكُوكَتَاشُ إِلَى هَمَذَانَ فَحَصَرُوهَا، وَبِهَا أَبُو كَالِيجَارَ بْنُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَاكَوَيْهِ، فَاتَّفَقَ هُوَ وَأَهْلُ الْبِلَادِ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَدَفْعِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَبَلَدِهِمْ فَقُتِلَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَطَالَ مُقَامُهُمْ عَلَى هَمَذَانَ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو كَالِيجَارَ بْنُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ، وَضَعْفَهُ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ، رَاسَلَ كُوكَتَاشَ وَصَالَحَهُ وَصَاهَرَهُ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَصَدُوا الرَّيَّ فَإِنَّهُمْ حَصَرُوهَا، وَبِهَا عَلَاءُ الدَّوْلَةِ بْنُ كَاكَوَيْهِ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُمْ فَنَّاخَسْرُو بْنُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ، وَكَامْرُو الدَّيْلَمِيُّ، صَاحِبُ سَاوَةَ، فَكَثُرَ جَمْعُهُمْ، وَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُمْ. فَلَمَّا رَأَى عَلَاءُ الدَّوْلَةِ أَنَّهُمْ كُلَّمَا جَاءَ أَمْرُهُمُ ازْدَادُوا قُوَّةً، وَضَعُفَ هُوَ، خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، وَفَارَقَ الْبَلَدَ فِي رَجَبٍ لَيْلًا، وَمَضَى هَارِبًا إِلَى أَصْبَهَانَ، وَأَجْفَلَ أَهْلُ الْبَلَدِ وَتَمَزَّقُوا، وَعَدَلُوا عَنِ الْقِتَالِ إِلَى الِاحْتِيَالِ لِلْهَرَبِ، وَغَادَاهُمُ الْغُزُّ مِنَ الْغَدِ الْقِتَالَ، فَلَمْ يَثْبُتُوا لَهُمْ، وَدَخَلُوا الْبَلَدَ، وَنَهَبُوا نَهْبًا فَاحِشًا، وَسَبَوُا النِّسَاءَ، وَبَقُوا كَذَلِكَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، حَتَّى لَجَأَ الْحُرَمُ إِلَى الْجَامِعِ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ وَمَهْرَبٍ، وَكَانَ السَّعِيدُ مَنْ نَجَا بِنَفْسِهِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ بَعْدَ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا مُسْتَأْصِلَةً، حَتَّى قِيلَ إِنَّ بَعْضَ الْجُمَعِ لَمْ يَكُنْ بِالْجَامِعِ إِلَّا خَمْسُونَ نَفْسًا. وَلَمَّا فَارَقَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ الرَّيَّ تَبِعَهُ جَمْعٌ مِنَ الْغُزِّ فَلَمْ يُدْرِكُوهُ فَعَدَلُوا إِلَى كَرَجَ فَنَهَبُوهَا، وَفَعَلُوا فِيهَا الْأَفَاعِيلَ الْقَبِيحَةَ. وَمَضَى طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَمُقَدَّمُهُمْ نَاصُغْلِي، إِلَى قَزْوِينَ، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا، ثُمَّ صَالَحُوهُمْ عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَصَارُوا فِي طَاعَتِهِ. وَكَانَ بِأُرْمِيَةَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَسَارُوا إِلَى بَلَدِ الْأَرْمَنِ، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ وَأَثْخَنُو فِيهِمْ

وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ، وَغَنِمُوا وَسَبَوْا، وَعَادُوا إِلَى أُرْمِيَةَ وَأَعْمَالِ أَبِي الْهَيْجَاءِ الْهُذْبَانِيِّ، فَقَاتَلَهُمْ أَكْرَادُهَا لِمَا أَنْكَرُوهُ مِنْ سُوءِ مُجَاوَرَتِهِمْ، فَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَنَهَبَ الْغُزُّ سَوَادَ الْبِلَادِ هُنَاكَ، وَقَتَلُوا مِنَ الْأَكْرَادِ كَثِيرًا. ذِكْرُ مُلْكِ الْغُزِّ هَمَذَانَ قَدْ ذَكَرْنَا حِصَارَ الْغُزِّ هَمَذَانَ وَصُلْحَهُمْ مَعَ صَاحِبِهَا أَبِي كَالِيجَارَ بْنِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَاكَوَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ، وَمَلَكَ الْغُزُّ الرَّيَّ، عَاوَدُوا حِصَارَ هَمَذَانَ، وَسَارُوا إِلَيْهَا مِنَ الرَّيِّ، مَا عَدَا قَزَلَ وَجَمَاعَتَهُ، وَاجْتَمَعُوا مَعَ مَنْ بِهَا مِنَ الْغُزِّ. فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو كَالِيجَارَ بِهِمْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ، فَسَارَ عَنْهَا وَمَعَهُ وُجُوهُ التُّجَّارِ وَأَعْيَانُ الْبَلَدِ، وَتَحَصَّنَ بِكِنْكِوَرَ. وَدَخَلَ الْغُزُّ هَمَذَانَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهَا مِنْ مُقَدَّمِيهِمْ: كُوكَتَاشُ، (وَبُوقَا، وَقَزَلُ) ، وَمَعَهُمْ فَنَّاخَسْرُو بْنُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ فِي عُدَّةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الدَّيْلَمِ، فَلَمَّا دَخَلُوهَا نَهَبُوهَا نَهْبًا مُنْكَرًا لَمْ يَفْعَلُوهُ بِغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، غَيْظًا مِنْهُمْ، وَحُنْقًا عَلَيْهِمْ، حَيْثُ قَاتَلُوهُمْ أَوَّلًا وَأَخَذُوا الْحُرَمَ، وَضُرِبَتْ سَرَايَاهُمْ إِلَى أَسَدَابَاذَ وَقُرَى الدِّينَوَرِ، وَاسْتَبَاحُوا تِلْكَ النَّوَاحِي، وَكَانَ الدَّيْلَمُ أَشَدَّهُمْ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ أَبِي الشَّوْكِ،، صَاحِبُ الدِّينَوَرِ، فَوَاقَعَهُمْ، وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِمْ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً فَرَاسَلَهُ أُمَرَاؤُهُمْ فِي إِطْلَاقِهِمْ، فَامْتَنَعَ إِلَّا عَلَى صُلْحٍ وَعُهُودٍ، فَأَجَابُوهُ وَصَالَحُوهُ فَأَطْلَقَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ الْغُزَّ بِهَمَذَانَ رَاسَلُوا أَبَا كَالِيجَارَ عَلَاءَ الدَّوْلَةِ وَصَالَحُوهُ، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَنْزِلَ إِلَيْهِمْ لِيُدَبِّرَ أَمْرَهُمْ، وَيَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ، وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ زَوْجَتَهُ الَّتِي تَزَوَّجَهَا مِنْهُمْ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا صَارَ مَعَهُمْ وَثَبُوا عَلَيْهِ فَانْهَزَمَ، وَنَهَبُوا مَالَهُ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ دَوَابَّ وَغَيْرِهَا. فَسَمِعَ أَبُوهُ فَخَرَجَ مِنْ أَصْبَهَانَ إِلَى أَعْمَالِهِ بِالْجَبَلِ لِيُشَاهِدَهَا، فَوَقَعَ بِطَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْغُزِّ، فَظَفِرَ بِهِمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ فَأَكْثَرَ، وَأَسَرَ مِثْلَهُمْ، وَدَخَلَ أَصْبَهَانَ مَنْصُورًا.

ذِكْرُ قَتْلِ الْغُزِّ بِمَدِينَةِ تَبْرِيزَ وَفِرَاقِهِمْ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى الْهَكَّارِيَةِ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] قَتَلَ وَهْسُوذَانُ بْنُ مَهْلَانَ جَمْعًا كَثِيرًا مِنَ الْغُزِّ بِمَدِينَةِ تَبْرِيزَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ دَعَا جَمْعًا كَثِيرًا مِنْهُمْ إِلَى طَعَامٍ صَنَعَهُ لَهُمْ، فَلَمَّا طَعِمُوا وَشَرِبُوا قَبَضَ عَلَى ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ مِنْ مُقَدَّمِيهِمْ، فَضَعُفَ الْبَاقُونَ، فَأَكْثَرَ فِيهِمُ الْقَتْلَ، فَاجْتَمَعَ الْغُزُّ الْمُقِيمُونَ بِأُرْمِيَةَ وَسَارُوا نَحْوَ بِلَادِ الْهَكَّارِيَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ فَقَاتَلُهُمْ أَكْرَادُهَا، وَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا عَظِيمًا، فَانْهَزَمَ الْأَكْرَادُ وَمَلَكَ الْغُزُّ حُلَلَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَنِسَائَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، وَتَعَلَّقَ الْأَكْرَادُ بِالْجِبَالِ وَالْمَضَايِقِ. وَسَارَ الْغُزُّ فِي أَثَرِهِمْ فَوَاقَعُوهُمْ فَظَفِرَ بِهِمُ الْأَكْرَادُ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَسَرُوا جَمْعًا فِيهِ سَبْعَةٌ مِنْ أُمَرَائِهِمْ، وَمِائَةُ نَفْسٍ مِنْ وُجُوهِهِمْ، وَغَنِمُوا سِلَاحَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ وَمَا مَعَهُمْ مِنْ غَنِيمَةٍ اسْتَرَدُّوهَا، وَسَلَكَ الْغُزُّ طَرِيقَ الْجِبَالِ فَتَمَزَّقُوا وَتَفَرَّقُوا، وَسَمِعَ ابْنُ رَبِيبِ الدَّوْلَةِ الْخَبَرَ، فَسَيَّرَ فِي آثَارِهِمْ مَنْ يُفْنِي بَاقِيهِمْ. ثُمَّ تُوُفِّيَ قَزَلُ أَمِيرُ الْغُزِّ الْمُقِيمُ بِالرَّيِّ، وَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ يَنَالَ أَخُو السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَكَ إِلَى الرَّيِّ. فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ الْمُقِيمُونَ بِهَا أَجْفَلُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَفَارَقُوا بِلَادَ الْجَبَلِ خَوْفًا مِنْهُ وَقَصَدُوا دِيَارَ بَكْرٍ وَالْمَوْصِلَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . ذِكْرُ دُخُولِ الْغُزِّ دِيَارَ بَكْرٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] فَارَقَ الْغُزُّ أَذْرَبِيجَانَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَنَالَ، وَهُوَ أَخُو طُغْرُلْبَكَ، سَارَ إِلَى الرَّيِّ، فَلَمَّا سَمِعَ الْغُزُّ الَّذِينَ بِهَا خَبَرَهُ أَجْفَلُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَفَارَقُوا بِلَادَ الْجَبَلِ خَوْفًا وَقَصَدُوا

أَذْرَبِيجَانَ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْمُقَامُ بِهَا لِمَا فَعَلُوا بِأَهْلِهَا، وَلِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَنَالَ وَرَاءَهُمْ، وَكَانُوا يَخَافُونَهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَهُ وَلِأَخَوَيْهِ طُغْرُلْبَكَ وَدَاوُدَ رَعِيَّةً، فَأَخَذُوا بَعْضَ الْأَكْرَادِ، وَعَرَّفَهُمُ الطَّرِيقَ، فَأَخَذَ بِهِمْ فِي جِبَالٍ وَعْرَةٍ عَلَى الزَّوَزَانِ، وَخَرَجُوا إِلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، فَسَارَ بُوقَا وَنَاصْغُلِي وَغَيْرُهُمَا إِلَى دِيَارِ بَكْرٍ، وَنَهَبُوا قَرَدَى، وَبَازْبَدَى، وَالْحَسَنِيَّةَ، وَفِيشَابُورَ وَبَقِيَ مَنْصُورُ بْنُ غَزْغَلِي بِالْجَزِيرَةِ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ. فَرَاسَلَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ الْمُقِيمُ بِالْجَزِيرَةِ فِي الْمُصَالَحَةِ وَالْمُقَامِ بِأَعْمَالِ الْجَزِيرَةِ إِلَى أَنْ يَنْكَشِفَ الشِّتَاءُ، وَيَسِيرَ مَعَ بَاقِي الْغُزِّ إِلَى الشَّامِ، فَتَصَالَحَا وَتَحَالَفَا، وَأَضْمَرَ سُلَيْمَانُ الْغَدْرَ بِهِ، فَعَمِلَ لَهُ طَعَامًا احْتَفَلَ فِيهِ وَدَعَاهُ، فَلَمَّا دَخَلَ الْجَزِيرَةَ قَبَضَ عَلَيْهِ وَحَبَسَهُ، وَانْصَرَفَ أَصْحَابُهُ مُتَفَرِّقِينَ فِي كُلِّ جِهَةٍ. فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ قِرْوَاشٌ سَيَّرَ جَيْشًا كَثِيفًا إِلَيْهِمْ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُمُ الْأَكْرَادُ الْبَشْنَوِيَّةُ، أَصْحَابُ فَنَكَ وَعَسْكَرُ نَصْرِ الدَّوْلَةِ فَتَبِعُوا الْغُزَّ، فَلَحِقُوهُمْ وَقَاتَلُوهُمْ، فَبَذَلَ الْغُزُّ جَمِيعَ مَا غَنِمُوهُ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنُوهُمْ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَقَاتَلُوا قِتَالَ مَنْ [لَا] يَخَافُ الْمَوْتَ، فَجَرَحُوا مِنَ الْعَرَبِ كَثِيرًا، وَافْتَرَقُوا. وَكَانَ بَعْضُ الْغُزِّ قَدْ قَصَدَ نَصِيبِينَ وَسِنْجَارَ لِلْغَارَةِ، فَعَادُوا إِلَى الْجَزِيرَةِ وَحَصَرُوهَا، وَتَوَجَّهَتِ الْعَرَبُ إِلَى الْعِرَاقِ لِيَشْتُوا بِهِ، فَأَخْرَبَتِ الْغُزُّ دِيَارَ بَكْرٍ، وَنَهَبُوا وَقَتَلُوا، فَأَخَذَ نَصْرُ الدَّوْلَةِ مَنْصُورًا (أَمِيرَ الْغُزِّ) مِنِ ابْنِهِ سُلَيْمَانَ وَرَاسَلَ الْغُزَّ، وَبَذَلَ لَهُمْ مَالًا، وَإِطْلَاقَ مَنْصُورٍ لِيُفَارِقُوا عَمَلَهُ، فَأَجَابُوهُ، فَأَطْلَقَ مَنْصُورًا، وَأَرْسَلَ بَعْضَ الْمَالِ فَغَدَرُوا، وَزَادُوا فِي الشَّرِّ، وَسَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَصِيبِينَ وَسِنْجَارَ وَالْخَابُورِ، فَنَهَبُوا وَعَادُوا وَسَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى جُهَيْنَةَ وَأَعْمَالِ الْفَرَجِ فَنَهَبُوهَا، فَدَخَلَ قِرْوَاشٌ الْمَوْصِلَ خَوْفًا مِنْهُمْ. ذِكْرُ مُلْكِ الْغُزِّ مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ

مَرْوَانَ، سَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى دِيَارِ بَكْرٍ مَعَ أُمَرَائِهِمُ الْمَذْكُورِينَ، وَسَارَ الْبَاقُونَ إِلَى الْبَقْعَاءِ، وَنَزَلُوا بَرْقَعِيدَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ قِرْوَاشٌ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ مَنْ يَنْظُرُ فِيهِمْ، وَيَغِيرُ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ تَقَدَّمُوا إِلَى الْمَوْصِلِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْتَعْطِفُهُمْ وَيَلِينُ لَهُمْ، وَبَذَلَ لَهُمْ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ فَلَمْ يَقْبَلُوا فَأَعَادَ مُرَاسَلَتَهُمْ ثَانِيَةً، فَطَلَبُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَالْتَزَمَهَا، وَأَحْضَرَ أَهْلَ الْبَلَدِ وَأَعْلَمَهُمُ الْحَالَ. فَبَيْنَمَا هُمْ بِجَمْعِ الْمَالِ وَصَلَ الْغُزُّ إِلَى الْمَوْصِلِ وَنَزَلُوا بِالْحَصْبَاءِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ قِرْوَاشٌ وَأَجْنَادُهُ وَالْعَامَّةُ فَقَاتَلُوهُمْ عَامَّةَ نَهَارِهِمْ وَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ فَافْتَرَقُوا فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ عَادُوا إِلَى الْقِتَالِ فَانْهَزَمَتِ الْعَرَبُ وَأَهْلُ الْبَلَدِ، وَهَرَبَ قِرْوَاشٌ فِي سَفِينَةٍ نَزَلَهَا مِنْ دَارِهِ، وَخَرَجَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ إِلَّا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ، وَدَخَلَ الْغُزُّ الْبَلَدَ فَنَهَبُوا كَثِيرًا مِنْهُ، وَنَهَبُوا جَمِيعَ مَا لِقِرْوَاشٍ مِنْ مَالٍ وَجَوْهَرٍ وَحُلِيٍّ وَثِيَابٍ وَأَثَاثٍ، وَنَجَا قِرْوَاشٌ فِي السَّفِينَةِ وَمَعَهُ نَفَرٌ، فَوَصَلَ إِلَى السِّنِّ وَأَقَامَ بِهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، وَيَطْلُبُ النَّجْدَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ وَغَيْرِهِ مَنْ أُمَرَاءِ الْعَرَبِ وَالْأَكْرَادِ يَسْتَمِدُّهُمْ وَيَشْكُو مَا نَزَلَ بِهِ. وَعَمِلَ الْغُزُّ بِأَهْلِ الْمَوْصِلِ الْأَعْمَالَ الشَّنِيعَةَ مِنَ الْفَتْكِ وَهَتْكِ الْحَرِيمِ وَنَهْبِ الْمَالِ، وَسَلِمَ عِدَّةُ مَحَالٍّ مِنْهَا سِكَّةُ أَبِي نَجِيحٍ، وَالْجَصَّاصَةُ، وَجَارَسُوكَ، وَشَاطِئُ نَهْرٍ، وَبَابُ الْقَصَّابِينَ عَلَى مَالٍ ضَمِنُوهُ، فَكَفُّوا عَنْهُمْ. ذِكْرُ وُثُوبِ أَهْلِ الْمَوْصِلِ بِالْغُزِّ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ قَدْ ذَكَرْنَا مُلْكَ الْغُزِّ الْمَوْصِلَ، فَلَمَّا اسْتَقَرُّوا فِيهَا قَسَّطُوا عَلَى أَهْلِهَا عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَأَخَذُوهَا، ثُمَّ تَتَبَّعُوا النَّاسَ وَأَخَذُوا كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِحُجَّةِ أَمْوَالِ الْعَرَبِ، ثُمَّ

قَسَّطُوا أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ أُخْرَى، فَحَضَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْغُزِّ عِنْدَ ابْنِ فَرْغَانَ الْمَوْصِلِيِّ، وَطَالَبُوا إِنْسَانًا بِحَضْرَتِهِ، وَأَسَاءُوا الْأَدَبَ وَالْقَوْلَ. وَجَرَى بَيْنَ بَعْضِ الْغُزِّ وَبَعْضِ الْمَوَاصِلِةِ مُشَاجَرَةٌ، فَجَرَحَهُ الْغُزِّيُّ وَقَطَعَ شَعْرَهُ، وَكَانَ لِلْمَوْصِلِيِّ وَالِدَةٌ سَلِيطَةٌ فَلَطَّخَتْ وَجْهَهَا بِالدَّمِ، وَأَخَذَتِ الشَّعْرَ بِيَدِهَا وَصَاحَتْ: الْمُسْتَغَاثُ بِاللَّهِ وَبِالْمُسْلِمِينَ، قَدْ قُتِلَ لِي ابْنٌ وَهَذَا دَمُهُ، وَابْنَةٌ وَهَذَا شَعْرُهَا! وَطَافَتْ فِي الْأَسْوَاقِ، فَثَارَ النَّاسُ وَجَاءُوا إِلَى ابْنِ فَرْغَانَ، فَقَتَلُوا مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْغُزِّ وَقَتَلُوا مَنْ ظَفِرُوا بِهِ مِنْهُمْ ثُمَّ حَصَرُوهُمْ فِي دَارٍ، فَقَاتَلُوا مَنْ بِسَطْحِهَا فَنَقَبَ النَّاسُ عَلَيْهِمُ الدَّارَ وَقَتَلُوهُمْ جَمِيعَهُمْ، غَيْرَ سَبْعَةِ أَنْفُسٍ مِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ وَمَنْصُورٌ، فَخَرَجَ مَنْصُورٌ إِلَى الْحَصْبَاءِ، وَلَحِقَ بِهِ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ. وَكَانَ كُوكَتَاشُ قَدْ فَارَقَ الْمَوْصِلَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يُعْلِمُونَهُ الْحَالَ، فَعَادَ إِلَيْهِمْ، وَدَخَلَ الْبَلَدِ عَنْوَةً فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِي أَهْلِهِ، وَأَسَرُوا كَثِيرًا، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا يَقْتُلُونَ وَيَنْهَبُونَ، وَسَلِمَتْ سِكَّةُ أَبِي نَجِيحٍ، فَإِنَّ أَهْلَهَا أَحْسَنُوا إِلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورٍ، فَرَعَى لَهُمْ ذَلِكَ، وَالْتَجَأَ مَنْ سَلِمَ إِلَيْهَا، وَبَقِيَ الْقَتْلَى فِي الطَّرِيقِ، فَأَنْتَنُوا لِعَدَمِ مَنْ يُوَارِيهِمْ، ثُمَّ طَرَحُوا بَعْدَ ذَلِكَ كُلَّ جَمَاعَةٍ فِي حَفِيرَةٍ. وَكَانُوا يَخْطُبُونَ لِلْخَلِيفَةِ، ثُمَّ لِطُغْرُلْبَكَ. لَمَّا طَالَ مُقَامُهُمْ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، وَجَرَى مِنْهُمْ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، كَتَبَ الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ إِلَى طُغْرُلْبَكَ يُعَرِّفُهُ مَا يَجْرِي مِنْهُمْ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ نَصْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ مَرْوَانَ يَشْكُو مِنْهُمْ، فَكَتَبَ إِلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ يَقُولُ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّ عَبِيدَنَا قَصَدُوا بِلَادَكَ، وَأَنَّكَ صَانَعْتَهُمْ بِمَالٍ بَذَلْتَهُ لَهُمْ، وَأَنْتَ صَاحِبُ ثَغْرٍ يَنْبَغِي أَنْ تُعْطَى مَا تَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ، وَيَعِدُهُ أَنَّهُ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ يُرَحِّلُهُمْ مِنْ بَلَدِهِ. وَكَانُوا يَقْصِدُونَ بِلَادَ الْأَرْمَنِ، وَيَنْهَبُونَ وَيَسْبُونَ، حَتَّى إِنَّ الْجَارِيَةَ الْحَسْنَاءَ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا خَمْسَةَ دَنَانِيرَ، وَأَمَّا الْغِلْمَانُ فَلَا يُرَادُونَ. فَأَمَّا كِتَابُ طُغْرُلْبَكَ إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ

فَيَعْتَذِرُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ التُّرْكُمَانَ كَانُوا لَنَا عَبِيدًا، وَخَدَمًا، وَرَعَايَا، وَتَبَعًا، يَمْتَثِلُونَ الْأَمْرَ، وَيَخْدِمُونَ الْبَابَ، وَلَمَّا نَهَضْنَا لِتَدْبِيرِ خُطَبِ آلِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ وَانْتُدِبْنَا لِكِفَايَةِ أَمْرِ خُوَارَزْمَ، انْحَازُوا إِلَى الرَّيِّ فَعَاثُوا فِيهَا، وَأَفْسَدُوا، فَزَحَفْنَا بِجُنُودِنَا مِنْ خُرَاسَانَ إِلَيْهِمْ مُقَدِّرِينَ أَنَّهُمْ يَلْجَأُونَ إِلَى الْأَمَانِ، وَيَلُوذُونَ بِالْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ، فَمَلَكَتْهُمُ الْهَيْبَةُ، وَزَحْزَحَتْهُمُ الْحِشْمَةُ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ نَرُدَّهُمْ إِلَى رَايَاتِنَا خَاضِعِينَ، وَنُذِيقَهُمْ مِنْ بَأْسِنَا جَزَاءَ الْمُتَمَرِّدِينَ، قَرُبُوا أَمْ بَعُدُوا، أَغَارُوا أَمْ أَنْجَدُوا. ذِكْرُ ظَفْرِ قِرْوَاشٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ بِالْغُزِّ قَدْ ذَكَرْنَا انْحِدَارَ قِرْوَاشٍ إِلَى السِّنِّ وَمُرَاسَلَتَهُ سَائِرَ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ فِي طَلَبِ النَّجْدَةِ مِنْهُمْ، فَأَمَّا الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ فَلَمْ يُنْجِدْهُ لِزَوَالِ طَاعَتِهِ عَنْ جُنْدِهِ الْأَتْرَاكِ أَمَّا دُبَيْسُ بْنُ مَزْيَدٍ فَسَارَ إِلَيْهِ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ عُقَيْلٌ كَافَّةً، وَأَتَتْهُ أَمْدَادُ أَبِي الشَّوْكِ وَابْنِ وَرَّامٍ، وَغَيْرِهِمَا، فَلَمْ يُدْرِكُوا الْوَقْعَةَ، فَإِنَّ قِرْوَاشًا لَمَّا اجْتَمَعَتْ عُقَيْلٌ وَدُبْيَسٌ عِنْدَهُ سَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْغُزِّ فَتَأَخَّرُوا إِلَى تَلَعْفَرَ، وَبُومَارِيَةَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي، وَرَاسَلُوا الْغُزَّ الَّذِينَ كَانُوا بِدِيَارِ بَكْرٍ، وَمُقَدَّمُهُمْ نَاصُغْلِي وَبُوقَا، وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْمُسَاعَدَةَ عَلَى الْعَرَبِ، فَسَارُوا إِلَيْهِمْ. وَسَمِعَ قِرْوَاشٌ بِوُصُولِهِمْ فَلَمْ يُعْلِمْ أَصْحَابَهُ لِئَلَّا يَفْشَلُوا وَيَجْبُنُوا، وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى الْعَجَاجِ، وَسَارَتِ الْغُزُّ فَنَزَلُوا بِرَأْسِ الْأَيَّلِ مِنَ الْفَرْجِ، وَبَيْنَهُمَا نَحْوُ فَرْسَخَيْنِ، وَقَدْ طَمِعَ الْغُزُّ فِي الْعَرَبِ، فَتَقَدَّمُوا حَتَّى شَارَفُوا حُلَلَ الْعَرَبِ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، فَاسْتَظْهَرَتِ الْغُزُّ، وَانْهَزَمَتِ الْعَرَبُ حَتَّى صَارَ الْقِتَالُ عِنْدَ حُلَلِهِمْ، وَنِسَاؤُهُمْ يُشَاهِدْنَ الْقِتَالَ، فَلَمْ يَزَلِ الظَّفَرُ لِلْغُزِّ إِلَى الظُّهْرِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى الْعَرَبِ وَانْهَزَمَتِ الْغُزُّ، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ وَتَفَرَّقُوا وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، فَقُتِلَ ثَلَاثَةٌ مِنْ مُقَدَّمِيهِمْ، وَمَلَكَ الْعَرَبُ حُلَلَ الْغُزِّ وَخَرْكَاهَاتِهِمْ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ، فَعَمَّتْهُمُ الْغَنِيمَةُ، وَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ. وَسَيَّرَ قِرْوَاشٌ رُءُوسَ كَثِيرٍ مِنَ الْقَتْلَى فِي سَفِينَةٍ إِلَى بَغْدَاذَ. فَلَمَّا قَارَبَتْهَا أَخَذَهَا

الْأَتْرَاكُ وَدَفَنُوهَا، وَلَمْ يَتْرُكُوهَا تَصِلُ أَنَفَةً وَحَمِيَّةً لِلْجِنْسِ، وَكَفَى اللَّهُ أَهْلَ الْمَوْصِلِ شَرَّهُمْ، وَتَبِعَهُمْ قِرْوَاشٌ إِلَى نَصِيبِينَ، وَعَادَ عَنْهُمْ فَقَصَدُوا دِيَارَ بَكْرٍ فَنَهَبُوهَا، ثُمَّ مَالُوا عَلَى الْأَرْمَنِ وَالرُّومِ فَنَهَبُوهُمْ ثُمَّ قَصَدُوا بِلَادَ أَذْرَبِيجَانَ، وَكَتَبَ قِرْوَاشٌ إِلَى الْأَطْرَافِ يُبَشِّرُ بِالظَّفَرِ بِهِمْ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ رَبِيبِ الدَّوْلَةِ، صَاحِبِ أُرْمِيَةَ، يَذْكُرُ لَهُ أَنَّهُ قَتَلَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ آلَافِ رَجُلٍ فَقَالَ لِلرَّسُولِ: هَذَا عَجَبٌ! فَإِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا اجْتَازُوا بِبِلَادِي أَقَمْتُ عَلَى قَنْطَرَةٍ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ عُبُورِهَا مِنْ عَدِّهِمْ، فَكَانُوا نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ أَلْفًا مَعَ لِفِيفِهِمْ، فَلَمَّا عَادُوا بَعْدَ هَزِيمَتِهِمْ لَمْ يَبْلُغُوا خَمْسَةَ آلَافِ رَجُلٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا قُتِلُوا أَوْ هَلَكُوا. وَمَدَحَ الشُّعَرَاءُ قِرْوَاشًا بِهَذَا الْفَتْحِ، وَمِمَّنْ مَدَحَهُ ابْنُ شِبْلٍ بِقَصِيدَةٍ مِنْهَا: بِأَبِي الَّذِي أَرْسَتْ نِزَارٌ بَيْتَهَا ... فِي شَامِخٍ مِنْ عِزِّهِ الْمُتَخَيَّرِ وَهِيَ طَوِيلَةٌ. هَذِهِ أَخْبَارُ الْغُزِّ الْعِرَاقِيِّينَ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهَا مُتَتَابِعَةً لِأَنَّ دَوْلَتَهُمْ لَمْ تَطُلْ حَتَّى نَذْكُرَ حَوَادِثَهَا فِي السِّنِينَ وَإِنَّمَا كَانَتْ سَحَابَةَ صَيْفٍ تَقَشَّعَتْ عَنْ قَرِيبٍ. وَأَمَّا السَّلْجُوقِيَّةُ فَنَحْنُ نَذْكُرُ حَوَادِثَهُمْ فِي السِّنِينَ وَنَذْكُرُ ابْتِدَاءَ أَمْرِهِمْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ (وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ الظَّاهِرُ جَيْشًا مِنْ مِصْرَ، مُقَدَّمُهُمْ أَنُوشْتِكِينُ الْبَرِيدِيُّ، فَقَتَلَ صَالِحَ بْنَ مِرْدَاسٍ، وَمَلَكَ نَصْرُ بْنُ صَالِحٍ مَدِينَةَ حَلَبَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَةٍ) . وَفِيهَا سَقَطَ فِي الْبِلَادِ بَرَدٌ عَظِيمٌ، وَكَانَ أَكْثَرُهُ بِالْعِرَاقِ، وَارْتَفَعَتْ بَعْدَهُ رِيحٌ شَدِيدَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَلَعَتْ كَثِيرًا مِنَ الْأَشْجَارِ بِالْعِرَاقِ، فَقَلَعَتْ شَجَرًا كِبَارًا مِنَ الزَّيْتُونِ مِنْ شَرْقَيِ النَّهْرَوَانِ وَأَلْقَتْهُ عَلَى بُعْدٍ مِنْ غَرْبِيِّهَا، وَقَلَعَتْ نَخْلَةً مِنْ أَصْلِهَا وَحَمَلَتْهَا إِلَى دَارٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَوْضِعِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ ثَلَاثُ دُورٍ، وَقَلَعَتْ سَقْفَ مَسْجِدِ الْجَامِعِ بِبَعْضِ الْقُرَى.

وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ تَوَلَّى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَاكُولَا قَضَاءَ الْقُضَاةِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الرَبَعِيُّ النَّحْوِيُّ عَنْ نَيِّفٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَأَخَذَ النَّحْوَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَأَبِي سَعِيدٍ السِّيرَافِيِّ، وَكَانَ فَكِهًا، كَثِيرَ الدُّعَابَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ بِبَغْدَاذَ، وَالْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ، (وَالْمُرْتَضَى وَالرَّضِيُّ كِلَاهُمَا) فِي سُمَيْرِيَّةٍ، وَمَعَهُمَا عُثْمَانُ بْنُ جِنِّي النَّحْوِيُّ، فَنَادَاهُ الرَبَعِيُّ: أَيُّهَا الْمَلِكُ مَا أَنْتَ صَادِقٌ فِي تَشَيُّعِكَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، يَكُونُ عُثْمَانُ إِلَى جَانِبِكَ، وَعَلِيٌّ، يَعْنِي نَفْسَهُ، هَاهُنَا! فَأَمَرَ بِالسُّمَيْرِيَّةِ فَقُرِّبَتْ إِلَى الشَّاطِئِ وَحَمَلَهُ مَعَهُ. وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ لِلشَّرِيفِ الرَّضِيِّ وَأَخِيهِ الْمُرْتَضَى، وَمَعَهُمَا عُثْمَانُ بْنُ جِنِّي، فَقَالَ: مَا أَعْجَبَ أَحْوَالَ الشَّرِيفَيْنِ! يَكُونُ عُثْمَانُ مَعَهُمَا، وَعَلِيٌّ يَمْشِي عَلَى الشَّطِّ. وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ أَبُو الْمِسْكِ عَنْبَرٌ، الْمُلَقَّبُ بِالْأَثِيرِ، وَكَانَ قَدْ أَصْعَدَ إِلَى الْمَوْصِلِ مُغَاضِبًا لِجَلَالِ الدَّوْلَةِ، فَلَقِيَهُ قِرْوَاشٌ وَأَهْلُهُ، وَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ، وَكَانَ خَصِّيًّا لِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ مَبْلَغًا عَظِيمًا، لَمْ يَخْلُ أَمِيرٌ وَلَا وَزِيرٌ فِي دَوْلَةِ بَنِي بُوَيْهِ مِنْ تَقْبِيلِ يَدِهِ وَالْأَرْضِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ قَدِ اسْتَقَرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِرْوَاشٍ وَأَبِي كَالِيجَارَ قَاعِدَةٌ أَنْ يَصْعَدَ أَبُو كَالِيجَارَ مِنْ وَاسِطٍ، وَيَنْحَدِرَ الْأَثِيرُ وَقِرْوَاشٌ مِنَ الْمَوْصِلِ لِقَصْدِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ الْأَثِيرُ قَدِ انْحَدَرَ مِنَ الْمَوْصِلِ، فَلَمَّا وَصَلَ مَشْهَدَ الْكُحَيْلِ تُوُفِّيَ فِيهِ. وَفِيهَا انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ، فِي رَجَبٍ، أَضَاءَتْ مِنْهُ الْأَرْضُ، وَسُمِعَ لَهُ صَوْتٌ عَظِيمٌ كَالرَّعْدِ، وَتَقَطَّعَ أَرْبَعَ قِطَعٍ، وَانْقَضَّ بَعْدَهُ بِلَيْلَتَيْنِ كَوْكَبٌ آخَرُ دُونَهُ، وَانْقَضَّ

بَعْدَهُمَا كَوْكَبٌ أَكْبَرُ مِنْهُمَا وَأَكْثَرُ ضَوْءًا. وَفِيهَا كَانَتْ بِبَغْدَاذَ فِتْنَةٌ قَوِيَ فِيهَا أَمْرُ الْعَيَّارِينَ وَاللُّصُوصِ، فَكَانُوا يَأْخُذُونَ الْعَمَلَاتِ ظَاهِرًا. وَفِيهَا قُطِعَتِ الْجُمُعَةُ مِنْ جَامِعِ بِرَاثَا، وَسَبَبُهَا أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ فِيهَا إِنْسَانٌ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَخِيهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، مُكَلِّمِ الْجُمْجُمَةِ، وَمُحْيِيهَا الْبَشَرِيِّ الْإِلَهِيِّ، مُكَلِّمِ الْفِتْيَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ (مِنَ الْغُلُوِّ) ، الْمُبْتَدَعِ، فَأَقَامَ الْخَلِيفَةُ خَطِيبًا، فَرَجَمَهُ الْعَامَّةُ، فَانْقَطَعَتِ الصَّلَاةُ فِيهِ فَاجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْكَرْخِ مَعَ الْمُرْتَضَى، وَاعْتَذَرُوا إِلَى الْخَلِيفَةِ بِأَنَّ سُفَهَاءَ لَا يَعْرِفُونَ فَعَلُوا ذَلِكَ، وَسَأَلُوا إِعَادَةَ الْخُطْبَةِ، فَأُجِيبُوا إِلَى مَا طَلَبُوا، وَأُعِيدَتِ الصَّلَاةُ وَالْخُطْبَةُ فِيهِ. [تَابِعُ الْوَفَيَاتِ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ ابْنُ أَبِي الْهُبَيْشِ الزَّاهِدُ الْمُقِيمُ بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ مِنْ أَرْبَابِ الطَّبَقَاتِ الْغَالِيَةِ فِي الزُّهْدِ، وَقَبْرُهُ يُزَارُ إِلَى الْآنِ وَقَدْ زُرْتُهُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُنُوجَهْرُ بْنُ قَابُوسَ بْنِ وَشْمَكِيرَ، وَمَلَكَ ابْنُهُ أَنُوشَرْوَانُ.

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَة] 421 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ هَمَذَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ مَسْعُودُ بْنُ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودٍ جَيْشًا إِلَى هَمَذَانَ، فَمَلَكُوهَا، وَأَخْرَجُوا نُوَّابَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَاكَوَيْهِ عَنْهَا، وَسَارَ هُوَ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا فَارَقَهَا عَلَاءُ الدَّوْلَةِ، فَغَنِمَ مَسْعُودٌ مَا كَانَ لَهُ بِهَا مِنْ دَوَابَّ وَسِلَاحٍ وَذَخَائِرَ، فَإِنَّ عَلَاءَ الدَّوْلَةِ أَعْجَلَ عَنْ أَخْذِهِ فَلَمْ يَأْخُذْ إِلَّا بَعْضَهُ، وَسَارَ إِلَى خُوزِسْتَانَ، فَبَلَغَ إِلَى تُسْتَرَ لِيَطْلُبَ مِنَ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ نَجْدَةً، وَمِنَ الْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَيَعُودَ إِلَى بِلَادِهِ يَسْتَنْقِذُهَا فَبَقِيَ عِنْدَ أَبِي كَالِيجَارَ مُدَّةً، وَهُوَ عَقِيبَ انْهِزَامِهِ مِنْ جَلَالِ الدَّوْلَةِ (ضَعِيفٌ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ يَعِدُهُ النُّصْرَةَ وَتَسْيِيرَ الْعَسَاكِرِ، إِذَا اصْطَلَحَ هُوَ وَجَلَالُ الدَّوْلَةِ) . فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَهُ إِذْ أَتَاهُ خَبَرُ وَفَاةِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودٍ، وَمَسِيرِ مَسْعُودٍ إِلَى خُرَاسَانَ، فَسَارَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى بِلَادِهِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ غَزْوَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى الْهِنْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا أَحْمَدُ بْنُ يَنَالْتَكِينَ، النَّائِبُ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ بِبِلَادِ الْهِنْدِ، مَدِينَةً لِلْهُنُودِ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ مُدُنِهِمْ، يُقَالُ لَهَا نَرْسَى، وَمَعَ أَحْمَدَ نَحْوُ مِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، وَشَنَّ الْغَارَةَ عَلَى الْبِلَادِ، وَنَهَبَ، وَسَبَى، وَخَرَّبَ الْأَعْمَالَ

وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ دَخَلَ مِنْ أَحَدِ جَوَانِبِهَا وَنَهَبَ الْمُسْلِمُونَ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ يَوْمًا مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، وَلَمْ يَفْرَغُوا مِنْ نَهْبِ سُوقِ الْعَطَّارِينَ وَالْجَوْهَرِيِّينَ، حَسْبُ، وَبَاقِي أَهْلِ الْبَلَدِ لَمْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ، لِأَنَّ طُولَهُ مَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِ الْهُنُودِ وَعَرْضَهُ مِثْلُهُ، فَلَمَّا جَاءَ الْمَسَاءُ لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ عَلَى الْمَبِيتِ فِيهِ لِكَثْرَةِ أَهْلِهِ، فَخَرَجَ مِنْهُ لِيَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَسْكَرِهِ. وَبَلَغَ مِنْ كَثْرَةِ مَا نَهَبَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمُ اقْتَسَمُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ كَيْلًا، وَلَمْ يَصِلْ إِلَى هَذِهِ الْمَدِينَةِ عَسْكَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَلَمَّا فَارَقَهُ أَرَادَ الْعَوْدَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، مَنَعَهُ أَهْلُهُ عَنْهُ. ذِكْرُ مُلْكِ بَدْرَانَ بْنِ الْمُقَلَّدِ نَصِيبِينَ قَدْ ذَكَرْنَا مُحَاصَرَةَ بَدْرَانَ نَصِيبِينَ وَأَنَّهُ رَحَلَ عَنْهَا خَوْفًا مِنْ قِرْوَاشٍ، (فَلَمَّا رَحَلَ، شَرَعَ فِي إِصْلَاحِ الْحَالِ مَعَهُ فَاصْطَلَحَا. ثُمَّ جَرَى بَيْنَ قِرْوَاشٍ) وَنَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ نَفْرَةٌ كَانَ سَبَبُهَا أَنَّ نَصْرَ الدَّوْلَةِ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ ابْنَةَ قِرْوَاشٍ فَآثَرَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا. فَأَرْسَلَتْ إِلَى أَبِيهَا تَشْكُو مِنْهُ، فَأَرْسَلَ يَطْلُبُهَا إِلَيْهِ، فَسَيَّرَهَا فَأَقَامَتْ بِالْمَوْصِلِ. ثُمَّ إِنَّ وَلَدَ مُسْتَحْفِظِ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ وَهِيَ لِابْنِ مَرْوَانَ هَرَبَ إِلَى قِرْوَاشٍ فِي الْجَزِيرَةِ فَأَرْسَلَ إِلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ صَدَاقَ ابْنَتِهِ وَهُوَ عِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَيَطْلُبُ الْجَزِيرَةَ لِنَفَقَتِهَا، وَيَطْلُبُ نَصِيبِينَ لِأَخِيهِ بَدْرَانَ وَيَحْتَجُّ بِمَا أُخْرِجَ بِسَبَبِهَا عَامَ أَوَّلٍ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَسْتَقِرَّ حَالٌ، فَسَيَّرَ جَيْشًا لِمُحَاصَرَةِ الْجَزِيرَةِ وَجَيْشًا مَعَ أَخِيهِ بَدْرَانَ إِلَى نَصِيبِينَ، فَحَصَرَهَا بَدْرَانُ وَأَتَاهُ قِرْوَاشٌ فَحَصَرَهَا مَعَهُ فَلَمْ يُمْلَكْ وَاحِدٌ مِنَ الْبَلَدَيْنِ وَتَفَرَّقَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْأَكْرَادِ. فَلَمَّا رَأَى بَدْرَانُ تَفَرُّقَ النَّاسِ عَنْ أَخِيهِ سَارَ إِلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ بِمَيَّافَارِقِينَ يَطْلُبُ مِنْهُ نَصِيبِينَ، فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ وَأَرْسَلَ مِنْ صَدَاقِ ابْنَةِ قِرْوَاشٍ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ وَاصْطَلَحَا.

ذِكْرُ مُلْكِ أَبِي الشَّوْكِ دَقُوقَا وَفِيهَا حَصَرَ أَبُو الشَّوْكِ دَقُوقَا، وَبِهَا مَالِكُ بْنُ بَدْرَانَ بْنِ الْمُقَلَّدِ الْعُقَيْلِيُّ، فَطَالَ حِصَارُهُ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَدِينَةَ كَانَتْ لِأَبِي.، وَلَا بُدَّ لِي مِنْهَا، وَالصَّوَابُ أَنْ تَنْصَرِفَ عَنْهَا. فَامْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهَا، فَحَصَرَهُ بِهَا، ثُمَّ اسْتَظْهَرَ، وَمَلَكَ الْبَلَدَ، فَطَلَبَ مِنْهُ مَالِكٌ الْأَمَانَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَأَمَّنَهُ عَلَى نَفْسِهِ حَسْبُ، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِ مَالِكٌ قَالَ لَهُ أَبُو الشَّوْكِ: قَدْ كُنْتُ سَأَلْتُكَ أَنْ تُسَلِّمَ الْبَلَدَ طَوْعًا، وَتَحْقِنَ دَمَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ تَفْعَلْ. فَقَالَ: لَوْ فَعَلْتُ لَعَيَّرَتْنِي الْعَرَبُ، وَأَمَّا الْآنَ فَلَا عَارَ عَلَيَّ. فَقَالَ أَبُو الشَّوْكِ: إِنَّ مِنْ إِتْمَامِ الصَّنِيعَةِ تَسْلِيمَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِكَ إِلَيْكَ ; فَأَعْطَاهُ مَا كَانَ لَهُ أَجْمَعَ، فَأَخَذَهُ وَعَادَ سَالِمًا. ذِكْرُ وَفَاةِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ وَمُلْكِ وَلَدِهِ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، تُوُفِّيَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ، وَمَوْلِدُهُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ (وَقِيلَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ أَحَدَ عَشَرَ صَفَرٍ) ، وَكَانَ مَرَضُهُ سُوءَ مِزَاجٍ وَإِسْهَالًا، وَبَقِيَ كَذَلِكَ نَحْوَ سَنَتَيْنِ، وَكَانَ قَوِيَّ النَّفْسِ لَمْ يَضَعْ جَنْبَهُ فِي مَرَضِهِ بَلْ كَانَ يَسْتَنِدُ إِلَى مِخَدَّتِهِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ بِالرَّاحَةِ، كَانَ يَجْلِسُ لِلنَّاسِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ أَعْتَزِلَ الْإِمَارَةَ؟ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى تُوُفِّيَ قَاعِدًا. فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بِالْمُلْكِ لِابْنِهِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ بِبَلْخَ، وَكَانَ أَصْغَرَ مِنْ مَسْعُودٍ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مُعْرِضًا عَنْ مَسْعُودٍ لِأَنَّ أَمْرَهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نَافِذًا، وَسَعَى بَيْنَهُمَا أَصْحَابُ الْأَغْرَاضِ، فَزَادُوا أَبَاهُ نُفُورًا عَنْهُ فَلَمَّا وَصَّى بِالْمُلْكِ لِوَلَدِهِ مُحَمَّدٍ تُوُفِّيَ، فَخُطِبَ لِمُحَمَّدٍ مِنْ أَقَاصِي الْهِنْدِ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَكَانَ لَقَبُهُ جَلَالَ الدَّوْلَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَعْيَانُ دَوْلَةِ أَبِيهِ يُخْبِرُونَهُ بِمَوْتِ أَبِيهِ وَوَصِيَّتِهِ لَهُ بِالْمُلْكِ، وَيَسْتَدْعُونَهُ، وَيَحُثُّونَهُ عَلَى

السُّرْعَةِ، وَيُخَوِّفُونَهُ مِنْ أَخِيهِ مَسْعُودٍ، فَحِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ سَارَ إِلَى غَزْنَةَ، فَوَصَلَهَا بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ عَلَى طَاعَتِهِ، وَفَرَّقَ فِيهِمُ الْأَمْوَالَ وَالْخِلَعَ النَّفِيسَةَ، فَأَسْرَفَ فِي ذَلِكَ. ذِكْرُ مُلْكِ مَسْعُودٍ وَخَلْعِ مُحَمَّدٍ لَمَّا تُوُفِّيَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ كَانَ ابْنُهُ مَسْعُودٌ بِأَصْبَهَانَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ سَارَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَاسْتَخْلَفَ بِأَصْبَهَانَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَحِينَ فَارَقَهَا ثَارَ أَهْلُهَا بِالْوَالِي عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ فَقَتَلُوهُ، وَقَتَلُوا مَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنْدِ. وَأَتَى مَسْعُودًا الْخَبَرُ، فَعَادَ إِلَيْهَا وَحَصَرَهَا وَفَتَحَهَا عَنْوَةً، وَقَتَلَ فِيهَا فَأَكْثَرَ، وَنَهَبَ الْأَمْوَالَ، وَاسْتَخْلَفَ فِيهَا رَجُلًا كَافِيًا، وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي وَصَّى لَهُ أَبُوهُ بِهَا شَيْئًا، وَأَنَّهُ يَكْتَفِي بِمَا فَتَحَهُ مِنْ بِلَادِ طَبَرِسْتَانَ، وَبَلَدِ الْجَبَلِ، وَأَصْبَهَانَ، وَغَيْرِهَا، وَيَطْلُبُ مِنْهُ الْمُوَافَقَةَ، وَأَنْ يُقَدِّمَهُ فِي الْخُطْبَةِ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَجَابَهُ مُحَمَّدٌ جَوَابَ مُغَالِطٍ. وَكَانَ مَسْعُودٌ قَدْ وَصَلَ إِلَى الرَّيِّ، فَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى نَيْسَابُورَ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَإِنَّهُ أَخَذَ عَلَى عَسْكَرِهِ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ عَلَى الْمُنَاصَحَةِ لَهُ، وَالشَّدِّ مِنْهُ، وَسَارَ فِي عَسَاكِرِهِ إِلَى أَخِيهِ مَسْعُودٍ مُحَارِبًا لَهُ، وَكَانَ بَعْضُ عَسَاكِرِهِ يَمِيلُ إِلَى أَخِيهِ مَسْعُودٍ لِكِبَرِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَلِأَنَّهُ قَدِ اعْتَادَ التَّقَدُّمَ عَلَى الْجُيُوشِ وَفَتْحَ الْبِلَادِ، وَبَعْضُهَا يَخَافُهُ لِقُوَّةِ نَفْسِهِ. وَكَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ جَعَلَ مُقَدَّمَ جَيْشِهِ عَمَّهُ يُوسُفَ بْنَ سُبُكْتِكِينَ، فَلَمَّا هَمَّ الرُّكُوبَ، فِي دَارِهِ بِغَزْنَةَ، لِيَسِيرَ سَقَطَتْ قَلَنْسُوَتُهُ مِنْ رَأْسِهِ، فَتَطَيَّرَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَلْتُونَتَاشُ، صَاحِبُ خُوَارَزْمَ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ أَبِيهِ مَحْمُودٍ، يُشِيرُ عَلَيْهِ بِمُوَافَقَةِ أَخِيهِ وَتَرْكِ مُخَالَفَتِهِ، فَلَمْ يُصْغِ إِلَى قَوْلِهِ، وَسَارَ فَوَصَلَ إِلَى تَكْنَابَاذَ أَوَّلَ يَوْمِ

رَمَضَانَ، وَأَقَامَ إِلَى الْعِيدِ، فَعَيَّدَ هُنَاكَ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الثُّلَاثَاءِ، ثَالِثُ شَوَّالٍ، ثَارَ بِهِ جُنْدُهُ، فَأَخَذُوهُ وَقَيَّدُوهُ وَحَبَسُوهُ، وَكَانَ مَشْغُولًا بِالشُّرْبِ وَاللَّعِبِ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ، وَالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْجُنْدِ وَالرَّعَايَا. وَكَانَ الَّذِي سَعَى فِي (خِذْلَانِهِ عَلِيٌّ) خُوَيْشَاوَنْدَ، صَاحِبُ أَبِيهِ، وَأَعَانَهُ عَلَى ذَلِكَ عَمُّهُ يُوسُفُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ. فَلَمَّا قَبَضُوا عَلَيْهِ نَادَوْا بِشِعَارِ أَخِيهِ مَسْعُودٍ، وَرَفَعُوا مُحَمَّدًا إِلَى قَلْعَةِ تَكْنَابَاذَ، وَكَتَبُوا إِلَى مَسْعُودٍ بِالْحَالِ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى هَرَاةَ لَقِيَتُهُ الْعَسَاكِرُ مَعَ الْحَاجِبِ عَلِيٍّ خُوَيْشَاوَنْدَ، فَلَمَّا لَقِيَهُ الْحَاجِبُ عَلِيٌّ قَبَضَ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ، وَقَبَضَ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى عَمِّهِ يُوسُفَ، وَهَذِهِ عَاقِبَةُ الْغَدْرِ، وَهُمَا سَعَيَا لَهُ فِي رَدِّ الْمُلْكِ إِلَيْهِ، وَقَبَضَ أَيْضًا عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْقُوَّادِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَكَانَ اجْتِمَاعُ الْمُلْكِ لَهُ وَاتِّفَاقُ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَأَخْرَجَ الْوَزِيرَ أَبَا الْقَاسِمِ أَحْمَدَ بْنَ الْحَسَنِ الْمِيمَنْدِيَّ الَّذِي كَانَ وَزِيرَ أَبِيهِ مِنْ مَحْبِسِهِ، وَاسْتَوْزَرَهُ، وَرَدَّ الْأَمْرَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ قَبَضَ عَلَيْهِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ لِأُمُورٍ أَنْكَرَهَا، وَقِيلَ شَرِهَ فِي مَالِهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ (لَمَّا قَبَضَ عَلَيْهِ) مَالًا وَأَعْرَاضًا بِقِيمَةِ خَمْسَةِ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَ وُصُولُ مَسْعُودٍ إِلَى غَزْنَةَ ثَامِنَ جُمَادَى الْآخِرَةِ (مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ) ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا وَثَبَتَ مُلْكُهُ بِهَا أَتَتْهُ رُسُلُ الْمُلُوكِ مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ إِلَى بَابِهِ، وَاجْتَمَعَ لَهُ مُلْكُ خُرَاسَانَ، وَغَزْنَةَ، وَبِلَادِ الْهِنْدِ وَالسِّنْدِ، وَسِجِسْتَانَ، وَكِرْمَانَ، وَمُكْرَانَ، وَالرَّيِّ، وَأَصْبَهَانَ، وَبَلَدِ الْجَبَلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَظُمَ سُلْطَانُهُ، وَخِيفَ جَانِبُهُ.

ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَةِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ كَانَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ عَاقِلًا، دَيِّنًا، خَيِّرًا، عِنْدَهُ عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ، وَصُنِّفَ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْكُتُبِ فِي فُنُونِ الْعُلُومِ، وَقَصَدَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَقْطَارِ الْبِلَادِ، وَكَانَ يُكْرِمُهُمْ، وَيُقْبِلُ عَلَيْهِمْ، وَيُعَظِّمُهُمْ، وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ عَادِلًا، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى رَعِيَّتِهِ وَالرِّفْقِ بِهِمْ، كَثِيرَ الْغَزَوَاتِ، مُلَازِمًا لِلْجِهَادِ، وَفُتُوحُهُ مَشْهُورَةٌ مَذْكُورَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا مَا وَصَلَ إِلَيْنَا عَلَى بُعْدِ الدَّهْرِ، وَفِيهِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى بَذْلِ نَفْسِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَاهْتِمَامِهِ بِالْجِهَادِ. وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يُعَابُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَتَوَصَّلُ إِلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ إِنْسَانًا مِنْ نَيْسَابُورَ كَثِيرُ الْمَالِ، عَظِيمُ الْغِنَى، فَأَحْضَرَهُ إِلَى غَزْنَةَ وَقَالَ لَهُ: بَلَغَنَا أَنَّكَ قِرْمِطِيٌّ، فَقَالَ: لَسْتُ بِقِرْمِطِيٍّ، وَلِي مَالٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا يُرَادُ وَأُعْفَى مِنْ هَذَا الِاسْمِ، فَأَخَذَ مِنْهُ مَالًا، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا بِصِحَّةِ اعْتِقَادِهِ. وَجَدَّدَ عِمَارَةَ الْمَشْهَدِ بِطُوسَ الَّذِي فِيهِ قَبْرُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا، وَالرَّشِيدِ، وَأَحْسَنَ عِمَارَتَهُ، وَكَانَ أَبُوهُ سُبُكْتِكِينُ أَخْرَبَهُ، وَكَانَ أَهْلُ طُوسَ يُؤْذُونَ مَنْ يَزُورُهُ، فَمَنَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَكَانَ سَبَبُ فِعْلِهِ أَنَّهُ رَأَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: إِلَى مَتَى هَذَا؟ فَعَلِمَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَمْرَ الْمَشْهَدِ، فَأَمَرَ بِعِمَارَتِهِ. وَكَانَ رَبْعَةً مَلِيحَ اللَّوْنِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، صَغِيرَ الْعَيْنَيْنِ، أَحْمَرَ الشَّعْرِ، وَكَانَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ يُشْبِهُهُ، وَكَانَ ابْنُهُ مَسْعُودٌ مُمْتَلِئَ الْبَدَنِ، طَوِيلًا. ذِكْرُ عَوْدِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ إِلَى أَصْبَهَانَ وَغَيْرِهَا وَمَا كَانَ مِنْهُ لَمَّا مَاتَ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ طَمِعَ فَنَّاخَسْرُو بْنُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ فِي الرَّيِّ، وَكَانَ قَدْ هَرَبَ مِنْهَا لَمَّا مَلَكَهَا عَسْكَرُ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودٍ. فَقَصَدَ قَصْرَانَ، وَهِيَ حَصِينَةٌ، فَامْتَنَعَ بِهَا. فَلَمَّا تُوُفِّيَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ وَعَادَ ابْنُهُ مَسْعُودٌ إِلَى خُرَاسَانَ جَمَعَ فَنَّاخَسْرُو هَذَا جَمْعًا مِنَ الدَّيْلَمِ وَالْأَكْرَادِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَصَدُوا الرَّيَّ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ نَائِبُ

مَسْعُودٍ بِهَا وَمَنْ مَعَهُ (مِنَ الْعَسْكَرِ) ، فَقَاتَلُوهُ، فَانْهَزَمَ مِنْهُمْ وَعَادَ إِلَى بَلَدِهِ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ عَسْكَرِهِ. ثُمَّ إِنَّ عَلَاءَ الدَّوْلَةِ بْنَ كَاكَوَيْهِ، لَمَّا بَلَغَهُ وَفَاةُ يَمِينِ الدَّوْلَةِ كَانَ بِخُوزِسْتَانَ عِنْدَ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ أَيِسَ مِنْ نَصْرِهِ، وَتَفَرَّقَ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ عَسْكَرِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَالْبَاقُونَ عَلَى عَزْمِ مُفَارَقَتِهِ وَهُوَ خَائِفٌ مِنْ مَسْعُودٍ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِ مِنْ أَصْبَهَانَ فَلَا يَقْوَى هُوَ وَأَبُو كَالِيجَارَ بِهِ، فَأَتَاهُ مِنَ الْفَرَجِ بِمَوْتِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِ فَلَمَّا سَمِعَ الْخَبَرَ سَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ فَمَلَكَهَا، وَمَلَكَ هَمَذَانَ، وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْبِلَادِ، وَسَارَ إِلَى الرَّيِّ فَمَلَكَهَا، وَامْتَدَّ إِلَى أَعْمَالِ أَنُوشَرْوَانَ بْنِ مُنُوجَهْرَ بْنِ قَابُوسَ فَأَخَذَ مِنْهُ خُوَارَ الرَّيِّ وَدُنْبَاوَنْدَ. فَكَتَبَ أَنُوشَرْوَانُ إِلَى مَسْعُودٍ يُهَنِّئُهُ بِالْمُلْكِ، وَسَأَلَهُ تَقْرِيرَ الَّذِي عَلَيْهِ بِمَالٍ يَحْمِلُهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ عَسْكَرًا مِنْ خُرَاسَانَ، فَسَارُوا إِلَى دُنْبَاوَنْدَ فَاسْتَعَادُوهَا، وَسَارُوا نَحْوَ الرَّيِّ، فَأَتَاهُمُ الْمَدَدُ وَالْعَسَاكِرُ، وَمِمَّنْ أَتَاهُمْ عَلِيُّ بْنُ عِمْرَانَ، فَكَثُرَ جَمْعُهُمْ فَحَصَرُوا الرَّيَّ، وَبِهَا عَلَاءُ الدَّوْلَةِ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، فَدَخَلَ الْعَسْكَرُ الرَّيَّ قَهْرًا، وَالْفِيَلَةُ مَعَهُمْ، فَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ وَالدَّيْلَمِ، وَنُهِبَتِ الْمَدِينَةُ، وَانْهَزَمَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ، وَتَبِعَهُ بَعْضُ الْعَسْكَرِ وَجَرَحَهُ فِي رَأْسِهِ وَكَتِفِهِ، فَأَلْقَى لَهُمْ دَنَانِيرَ كَانَتْ مَعَهُ، فَاشْتَغَلُوا بِهَا عَنْهُ، فَنَجَا، وَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ فَرْدَجَانَ، عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا مِنْ هَمَذَانَ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ بَرِأَ مِنْ جِرَاحَتِهِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا نَذَكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَخُطِبَ بِالرَّيِّ وَأَعْمَالِ أَنُوشَرْوَانَ لِمَسْعُودٍ، فَعَظُمَ شَأْنُهُ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسْكَرِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَأَبِي كَالِيجَارَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، سَيَّرَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ عَسْكَرًا إِلَى الْمَذَارِ، وَبِهَا عَسْكَرُ أَبِي كَالِيجَارَ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ أَبِي كَالِيجَارَ، وَاسْتَوْلَى أَصْحَابُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْمَذَارَ، وَعَمِلُوا بِأَهْلِهَا كُلَّ مَحْظُورٍ. فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو كَالِيجَارَ الْخَبَرَ سَيَّرَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا كَثِيفًا، فَاقْتَتَلُوا بِظَاهِرِ الْبَلَدِ

فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَثَارَ أَهْلُ الْبَلَدِ بِغِلْمَانِهِمْ فَقَتَلُوهُمْ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ لِقَبِيحِ سِيرَتِهِمْ مَعَهُمْ، وَعَادَ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ إِلَى وَاسِطٍ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ قِرْوَاشٍ وَغَرِيبِ بْنِ مَقْنٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، اخْتَلَفَ قِرْوَاشٌ وَغَرِيبُ بْنُ مَقْنٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ غَرِيبًا جَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا مِنَ الْعَرَبِ وَالْأَكْرَادِ، وَاسْتَمَدَّ جَلَالَ الدَّوْلَةِ، فَأَمَدَّهُ بِجُمْلَةٍ صَالِحَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَسَارَ إِلَى تَكْرِيتَ فَحَصَرَهَا، وَهِيَ لِأَبِي الْمُسَيَّبِ رَافِعِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَكَانَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَسَأَلَ قِرْوَاشًا النَّجْدَةَ، فَجَمَعَا وَحَشَدَا وَسَارَا مُنْحَدِرَيْنِ فِيمَنْ مَعَهُمَا، فَبَلَغَا الدِّكَّةِ، وَغَرِيبٌ يُحَاصِرُ تَكْرِيتَ، وَقَدْ ضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهَا، وَأَهْلُهَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمَانَ، فَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ، فَحَفِظُوا نُفُوسَهُمْ وَقَاتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ. فَلَمَّا بَلَغَهُ وُصُولُ قِرْوَاشٍ وَرَافِعٍ سَارَ إِلَيْهِمْ، فَالْتَقَوْا بِالدِّكَّةِ وَاقْتَتَلُوا، فَغَدَرَ بِغَرِيبٍ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ، وَنَهَبُوا سَوَادَهُ وَسَوَادَ الْأَجْنَادِ الْجَلَالِيَّةِ، فَانْهَزَمَ، وَتَبِعَهُمْ قِرْوَاشٌ وَرَافِعٌ، ثُمَّ كَفُّوا عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا إِلَى حُلَّتِهِ وَمَا لَهُ فِيهَا، وَحَفِظُوا ذَلِكَ أَجْمَعَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَرَاسَلُوا وَاصْطَلَحُوا وَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْوِفَاقِ. ذِكْرُ خُرُوجِ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى الشَّامِ وَانْهِزَامِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ مَلِكُ الرُّومِ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ إِلَى الشَّامِ، (فَلَمْ يَزَلْ [يَسِيرُ] بِعَسَاكِرِهِ) حَتَّى بَلَغُوا قَرِيبَ حَلَبَ، (وَصَاحِبُهَا شِبْلُ الدَّوْلَةِ نَصْرُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ) ، فَنَزَلُوا عَلَى يَوْمٍ مِنْهَا، فَلَحِقَهُمْ عَطَشٌ شَدِيدٌ، وَكَانَ الزَّمَانُ صَيْفًا، وَكَانَ أَصْحَابُهُ مُخْتَلِفِينَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْسُدُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُهُ. وَمِمَّنْ كَانَ مَعَهُ ابْنُ الدَّوْقَسِ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِهِمْ، وَكَانَ يُرِيدُ هَلَاكَ الْمَلِكِ لِيَمْلِكَ

بَعْدَهُ، فَقَالَ الْمَلِكُ: الرَّأْيُ أَنْ نُقِيمَ حَتَّى تَجِيءَ الْأَمْطَارُ وَتَكْثُرَ الْمِيَاهُ. فَقَبَّحَ ابْنُ الدَّوْقَسِ هَذَا الرَّأْيَ، وَأَشَارَ بِالْإِسْرَاعِ قَصْدًا لِشَرٍّ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ، وَلِتَدْبِيرٍ كَانَ قَدْ دَبَّرَهُ عَلَيْهِ. فَسَارَ، فَفَارَقَهُ ابْنُ الدَّوْقَسِ، وَابْنُ لُؤْلُؤٍ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَسَلَكُوا طَرِيقًا آخَرَ، فَخَلَا بِالْمَلِكِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ ابْنَ الدَّوْقَسِ وَابْنَ لُؤْلُؤٍ قَدْ حَالَفَا أَرْبَعِينَ رَجُلًا، هُوَ أَحَدُهُمْ، عَلَى الْفَتْكِ بِهِ، وَاسْتَشْعَرَ مِنْ ذَلِكَ وَخَافَ، وَرَحَلَ مِنْ يَوْمِهِ رَاجِعًا. وَلَحِقَهُ ابْنُ الدَّوْقَسِ، وَسَأَلَهُ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي أَوْجَبَ عَوْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: قَدِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْنَا الْعَرَبُ وَقَرُبُوا مِنَّا وَقَبَضَ فِي الْحَالِ عَلَى ابْنِ الدَّوْقَسِ وَابْنِ لُؤْلُؤٍ وَجَمَاعَةٍ مَعَهُمَا، فَاضْطَرَبَ النَّاسُ وَاخْتَلَفُوا، وَرَحَلَ الْمَلِكُ، وَتَبِعَهُمُ الْعَرَبُ وَأَهْلُ السَّوَادِ حَتَّى الْأَرْمَنُ يَقْتُلُونَ وَيَنْهَبُونَ، وَأَخَذُوا مِنَ الْمَلِكِ أَرْبَعَمِائَةِ بَغْلٍ مُحَمَّلَةٍ مَالًا وَثِيَابًا، وَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ الرُّومِ عَطَشًا، وَنَجَا الْمَلِكُ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَسْلَمْ مَعَهُ مِنْ أَمْوَالِهِ وَخَزَائِنِهِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا. وَقِيلَ فِي عَوْدِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْعَرَبِ لَيْسَ بِالْكَثِيرِ عَبَرَ عَلَى عَسْكَرِهِ، وَظَنَّ الرُّومُ أَنَّهَا كَبْسَةٌ، فَلَمْ يَدْرُوا مَا يَفْعَلُونَ، حَتَّى إِنَّ مَلِكَهُمْ لَبِسَ خُفًّا أَسْوَدَ، وَعَادَةُ مُلُوكِهِمْ لُبْسُ الْخُفِّ الْأَحْمَرِ، فَتَرَكَهُ وَلَبِسَ الْأَسْوَدَ لِيَعْمَى خَبَرُهُ عَلَى مَنْ يُرِيدُهُ، وَانْهَزَمُوا، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهُمْ. ذِكْرُ مَسِيرِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مَاكُولَا إِلَى الْبَصْرَةِ وَقَتْلِهِ لَمَّا اسْتَوْلَى الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ عَلَى وَاسِطٍ، وَجَعَلَ وَلَدَهُ فِيهَا سَيَّرَ وَزِيرَهُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مَاكُولَا إِلَى الْبَطَائِحِ وَالْبَصْرَةِ لِيَمْلِكَهَا، فَمَلَكَ الْبَطَائِحَ، وَسَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي

الْمَاءِ، وَأَكْثَرَ مِنَ السُّفُنِ وَالرِّجَالِ. وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ أَبُو مَنْصُورٍ بَخْتَيَارُ بْنُ عَلِيٍّ نَائِبًا لِأَبِي كَالِيجَارَ، فَجَهَّزَ جَيْشًا فِي أَرْبَعِمِائَةِ سَفِينَةٍ وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الشَّرَابِيَّ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْبَطِيحَةِ، وَسَيَّرَهُ، فَالْتَقَى هُوَ وَالْوَزِيرُ أَبُو عَلِيٍّ، فَعِنْدَ اللِّقَاءِ وَالْقِتَالِ هَبَّتْ رِيحُ شَمَالٍ كَانَتْ عَلَى الْبَصْرِيِّينَ وَمَعُونَةً لِلْوَزِيرِ، فَانْهَزَمَ الْبَصْرِيُّونَ وَعَادُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَعَزَمَ بَخْتَيَارُ عَلَى الْهَرَبِ إِلَى عَبَّادَانِ، فَمَنَعَهُ مَنْ سَلِمَ عِنْدَهُ مِنْ عَسْكَرِهِ، فَأَقَامَ مُتَجَلِّدًا. وَأَشَارَ جَمَاعَةٌ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي عَلِيٍّ أَنْ يُعَجِّلَ الِانْحِدَارَ، وَيَغْتَنِمَ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ بَخْتَيَارُ يَجْمَعُ. فَلَمَّا قَارَبَهُمْ، وَهُوَ فِي أَلْفٍ وَثَلَاثِمَائَةِ عَدَدٍ مِنَ السُّفُنِ سَيَّرَ بَخْتَيَارُ مَا عِنْدَهُ مِنَ السُّفُنِ، وَهِيَ نَحْوُ ثَلَاثِينَ قِطْعَةً، وَفِيهَا الْمُقَاتِلَةُ، وَكَانَ قَدْ سَيَّرَ عَسْكَرًا آخَرَ فِي الْبَرِّ، وَكَانَ لَهُ فِي فَمِ نَهْرِ أَبِي الْخَصِيبِ نَحْوُ خَمْسِمِائَةِ قِطْعَةٍ فِيهَا مَالُهُ وَلِجَمِيعِ عَسْكَرِهِ مِنَ الْمَالِ وَالْأَثَاثِ وَالْأَهْلِ، فَلَمَّا تَقَدَّمَتْ سُفُنُهُ صَاحَ مَنْ فِيهَا، وَأَجَابَهُ مَنْ فِي السُّفُنِ الَّتِي فِيهَا أَهْلُوهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَوَرَدَ عَلَيْهِمُ الْعَسْكَرُ الَّذِينَ فِي الْبَرِّ، فَقَالَ الْوَزِيرُ لِمَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِمُعَاجَلَةِ بَخْتَيَارَ: أَلَسْتُمْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ فِي خُفٍّ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَأَنَّ مُعَاجَلَتَهُ أَوْلَى، وَأَرَى الدُّنْيَا مَمْلُوئَةً عَسَاكِرَ؟ فَهَوَّنُوا عَلَيْهِ الْأَمْرَ، فَغَضِبَ، وَأَمَرَ بِإِعَادَةِ السُّفُنِ إِلَى الشَّاطِئِ، إِلَى الْغَدِ، وَيَعُودُ إِلَى الْقِتَالِ. فَلَمَّا أَعَادَ سُفُنَهُ ظَنَّ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ قَدِ انْهَزَمَ، فَصَاحُوا: الْهَزِيمَةُ! فَكَانَتْ هِيَ. وَقِيلَ: " بَلْ لَمَّا أَعَادَ سُفُنَهُ لَحِقَهُمْ مَنْ فِي سُفُنِ بَخْتَيَارَ، وَصَاحُوا: الْهَزِيمَةُ! الْهَزِيمَةُ! وَأَجَابَهُمْ مَنْ فِي الْبَرِّ مِنْ عَسْكَرِ بَخْتَيَارَ، وَمَنْ فِي سُفُنِهِمُ الَّتِي فِيهَا أَمْوَالُهُمْ، فَانْهَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ حَقًّا، وَتَبِعَهُ أَصْحَابُ بَخْتَيَارَ وَأَهْلُ السَّوَادِ، وَنَزَلَ بَخْتَيَارُ فِي الْمَاءِ، وَاسْتَصْرَخَ النَّاسُ، وَسَارَ فِي آثَارِهِمْ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ، وَهُمْ يَغْرَقُونَ، فَلَمْ يَسْلَمْ مِنَ السُّفُنِ كُلِّهَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِينَ قِطْعَةً. وَسَارَ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيٍّ مُنْهَزِمًا، فَأُخِذَ أَسِيرًا، وَأُحْضِرَ عِنْدَ بَخْتَيَارَ فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ، وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي تَشْتَهِي أَنْ أَفْعَلَ مَعَكَ قَالَ: تُرْسِلُنِي إِلَى الْمَلِكِ

أَبِي كَالِيجَارَ. فَأَرْسَلَهُ إِلَيْهِ فَأَطْلَقَهُ، فَاتَّفَقَ أَنَّ غُلَامًا لَهُ وَجَارِيَةً اجْتَمَعَا عَلَى فَسَادٍ، فَعَلِمَ بِهِمَا، وَعَرَفَا أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ حَالَهُمَا، فَقَتَلَاهُ بَعْدَ أَسْرِهِ بِنَحْوٍ مِنْ شَهْرٍ. وَكَانَ قَدْ أَحْدَثَ فِي وِلَايَتِهِ رُسُومًا جَائِرَةً وَسَنَّ سُنُنًا سَيِّئَةً مِنْهَا جِبَايَةُ سُوقِ الدَّقِيقِ، وَمَقَالِي الْبَاذِنْجَانِ، وَسُمَيْرِيَّاتِ الْمَشَارِعِ، وَدِلَالَةِ مَا يُبَاعُ مِنَ الْأَمْتِعَةِ، وَأُجَرِ الْحَمَّالِينَ الَّذِينَ يَرْفَعُونَ التُّمُورَ إِلَى السُّفُنِ، وَبِمَا يُعْطِيهِ الذَّبَّاحُونَ لِلْيَهُودِ، فَجَرَى فِي ذَلِكَ مُنَاوَشَةٌ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَالْجُنْدِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ عَسْكَرِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْبَصْرَةِ وَأَخْذِهَا مِنْهُمْ لَمَّا انْحَدَرَ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مَاكُولَا إِلَى الْبَصْرَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَسْتَصْحِبْ مَعَهُ الْأَجْنَادَ الْبَصْرِيِّينَ الَّذِينَ مَعَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، تَأْنِيسًا لِلدَّيْلَمِ الَّذِينَ بِالْبَصْرَةِ فَلَمَّا أُصِيبَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا، تَجَهَّزَ هَؤُلَاءِ الْبَصْرِيُّونَ وَانْحَدَرُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَوَصَلُوا إِلَيْهَا، وَقَاتَلُوا مَنْ بِهَا مِنْ عَسْكَرِ أَبِي كَالِيجَارَ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ أَبِي كَالِيجَارَ، وَدَخَلَ عَسْكَرُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ الْبَصْرَةَ فِي شَعْبَانَ. وَاجْتَمَعَ عَسْكَرُ أَبِي كَالِيجَارَ بِالْأُبُلَّةِ مَعَ بَخْتَيَارَ، فَأَقَامُوا بِهَا يَسْتَعِدُّونَ لِلْعَوْدِ وَكَتَبُوا إِلَى أَبِي كَالِيجَارَ يَسْتَمِدُّونَهُ فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا كَثِيرًا مَعَ وَزِيرِهِ ذِي السَّعَادَاتِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ فَسَانْجَسَ، فَقَدِمُوا إِلَى الْأُبُلَّةِ، وَاجْتَمَعُوا مَعَ بَخْتَيَارَ، وَوَقَعَ الشُّرُوعُ فِي قِتَالِ مَنْ بِالْبَصْرَةِ مِنْ أَصْحَابِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ فَسَيَّرَ بَخْتَيَارُ جَمْعًا كَثِيرًا فِي عِدَّةٍ مِنَ السُّفُنِ فَقَاتَلُوهُمْ. فَنُصِرَ أَصْحَابُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِمْ وَهَزَمُوهُمْ، فَوَبَّخَهُمْ بَخْتَيَارُ، وَسَارَ مِنْ وَقْتِهِ فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ، وَالسُّفُنِ الْكَثِيرَةِ، فَاقْتَتَلُوا. وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَانْهَزَمَ بَخْتَيَارُ وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ وَأُخِذَ هُوَ فَقُتِلَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِقَتْلِهِ. وَأَخَذُوا كَثِيرًا مِنْ سُفُنِهِ وَعَادَ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى مَوْضِعِهِ. وَعَزَمَ الْأَتْرَاكُ مِنْ أَصْحَابِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ عَلَى مُبَاكَرَةِ الْحَرْبِ، وَإِتْمَامِ الْهَزِيمَةِ، وَطَالَبُوا الْعَامِلَ الَّذِي عَلَى الْبَصْرَةِ بِالْمَالِ، وَاخْتَلَفُوا، وَتَنَازَعُوا فِي الْإِقْطَاعَاتِ، فَأَصْعَدَ ابْنُ الْمَعْبَرَانِيِّ، صَاحِبُ الْبَطِيحَةِ، فَسَارَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ الْوَاسِطِيِّينَ

لِيَرُدُّوهُ، فَلَمْ يَرْجِعْ، فَتَبِعُوهُ، وَخَافَ مَنْ بَقِيَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَنْ لَا يُنَاصِحُوهُمْ، وَيُسْلِمُوهُمْ عِنْدَ الْحَرْبِ، فَتَفَرَّقُوا، وَاسْتَأْمَنَ بَعْضُهُمْ إِلَى ذِي السَّعَادَاتِ، وَقَدْ كَانَ خَائِفًا مِنْهُمْ، فَجَاءَهُ مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ مِنَ الظَّفَرِ، وَنَادَى مَنْ بَقِيَ بِالْبَصْرَةِ بِشِعَارِ أَبِي كَالِيجَارَ، فَدَخَلَهَا عَسْكَرُهُ، وَأَرَادُوا نَهْبَهَا، فَمَنَعَهُمْ ذُو السَّعَادَاتِ. ذِكْرُ غَزْوِ فَضْلُونِ الْكُرْدِيِّ الْخَزَرَ وَمَا كَانَ مِنْهُ كَانَ فَضْلُونُ الْكُرْدِيُّ هَذَا بِيَدِهِ قِطْعَةٌ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَمَلَكَهَا.، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ غَزَا الْخَزَرَ، هَذِهِ السَّنَةَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ، وَسَبَى، وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا، فَلَمَّا عَادَ إِلَى بَلَدِهِ أَبْطَأَ فِي سَيْرِهِ وَأَمَّلَ الِاسْتِظْهَارَ فِي أَمْرِهِ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ دَوَّخَهُمْ وَشَغَلَهُمْ بِمَا عَمِلَهُ بِهِمْ، فَاتَّبَعُوهُ مُجِدِّينَ، وَكَبَسُوهُ، وَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ وَالْمُطَّوِّعَةِ الَّذِينَ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ قَتِيلٍ، وَاسْتَرَدُّوا الْغَنَائِمَ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَ الْعَسَاكِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَعَادُوا. ذِكْرُ الْبَيْعَةِ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرِضَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ، وَأُرْجِفَ بِمَوْتِهِ، فَجَلَسَ جَلُوسًا عَامًّا وَأَذِنَ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فَوَصَلُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ الصَّاحِبُ أَبُو الْغَنَائِمِ فَقَالَ: خَدَمُ مَوْلَانَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ دَاعُونَ لَهُ بِإِطَالَةِ الْبَقَاءِ، وَشَاكِرُونَ لِمَا بَلَغَهُمْ مِنْ نَظَرِهِ لَهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ بِاخْتِيَارِ الْأَمِيرِ أَبِي جَعْفَرٍ لِوِلَايَةِ الْعَهْدِ. فَقَالَ الْخَلِيفَةُ لِلنَّاسِ: قَدْ أَذِنَّا فِي الْعَهْدِ لَهُ، وَكَانَ أَرَادَ أَنْ يُبَايِعَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَثَنَاهُ عَنْهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ حَاجِبٍ النُّعْمَانُ. فَلَمَّا عُهِدَ إِلَيْهِ أُلْقِيَتِ السِّتَارَةُ. وَقَعَدَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَى السَّرِيرِ الَّذِي كَانَ قَائِمًا عَلَيْهِ، وَخَدَمَهُ الْحَاضِرُونَ وَهَنَّأُوهُ. وَتَقَدَّمَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ حَاجِبٍ النُّعْمَانُ فَقَبَّلَ يَدَهُ وَهَنَّأَهُ، فَقَالَ: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] يُعَرِّضُ لَهُ بِإِفْسَادِهِ رَأْيَ الْخَلِيفَةِ فِيهِ، فَأَكَبَّ عَلَى تَقْبِيلِ قَدَمِهِ. وَتَعْفِيرِ خَدِّهِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالِاعْتِذَارِ. فَقَبِلَ عُذْرَهُ وَدُعِيَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ

لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْزَرَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَبَا سَعْدِ بْنَ عَبْدِ الرَّحِيمِ بَعْدَ ابْنِ مَاكُولَا، وَلَقَّبَهُ عَمِيدَ الدَّوْلَةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ حَاجِبٍ النُّعْمَانُ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَكَانَ خِصِّيصًا بِالْقَادِرِ بِاللَّهِ، حَاكِمًا فِي دَوْلَتِهِ كُلِّهَا، وَكَتَبَ لَهُ وَلِلطَّائِعِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَفِيهَا ظَهَرَ مُتَلَصِّصَةٌ بِبَغْدَاذَ مِنَ الْأَكْرَادِ، فَكَانُوا يَسْرِقُونَ دَوَابَّ الْأَتْرَاكِ، فَنَقَلَ الْأَتْرَاكُ خَيْلَهُمْ إِلَى دُورِهِمْ، وَنَقَلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ دَوَابَّهُ إِلَى بَيْتٍ فِي دَارِ الْمَمْلَكَةِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ الْفَسَوِيُّ، النَّحْوِيُّ، بِفَسَا، وَهُوَ نَسِيبُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى الْعَلَوِيُّ، النَّهْرَسَابُسِيُّ، الْمُلَقَّبُ بِالْكَافِي، وَكَانَ مَوْتُهُ بِالْكُوفَةِ.

وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، جَاءَ فِي غَزْنَةَ سَيْلٌ عَظِيمٌ أَهْلَكَ الزَّرْعَ وَالضَّرْعَ، وَغَرَّقَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يُحْصَوْنَ، وَخَرَّبَ الْجِسْرَ الَّذِي بَنَاهُ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ، وَكَانَ هَذَا الْحَادِثُ عَظِيمًا. وَفِيهَا، فِي رَمَضَانَ، تَصَدَّقَ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، فِي غَزْنَةَ، بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَدَرَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالرَّعَايَا إِدْرَارَاتٍ كَثِيرَةً.

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَة] 422 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ التِّيزَ وَمُكْرَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ السُّلْطَانُ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ عَسْكَرًا إِلَى التِّيزِ، فَمَلَكَهَا وَمَا جَاوَرَهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهَا مَعْدَانَ تُوُفِّيَ، وَخَلَّفَ وَلَدَيْنِ أَبَا الْعَسَاكِرِ وَعِيسَى، فَاسْتَبَدَّ عِيسَى بِالْوِلَايَةِ وَالْمَالِ، فَسَارَ أَبُو الْعَسَاكِرِ إِلَى خُرَاسَانَ، وَطَلَبَ مِنْ مَسْعُودٍ النَّجْدَةَ، فَسَيَّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا، وَأَمَرَهُمْ بِأَخْذِ الْبِلَادِ مِنْ عِيسَى، أَوِ الِاتِّفَاقِ مَعَ أَخِيهِ عَلَى طَاعَتِهِ، فَوَصَلُوا إِلَيْهَا، وَدَعَوْا عِيسَى إِلَى الطَّاعَةِ وَالْمُوَافَقَةِ، فَأَبَى وَجَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا بَلَغُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ، فَالْتَقَوْا، فَاسْتَأْمَنَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى إِلَى أَخِيهِ أَبِي الْعَسَاكِرِ، فَانْهَزَمَ عِيسَى ثُمَّ عَادَ وَحَمَلَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَتَوَسَّطَ الْمَعْرَكَةَ فَقُتِلَ، وَاسْتَوْلَى أَبُو الْعَسَاكِرِ عَلَى الْبِلَادِ، وَنَهَبَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَأَجْحَفَ بِأَهْلِهَا. ذِكْرُ مُلْكِ الرُّومِ مَدِينَةَ الرُّهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الرُّومُ مَدِينَةَ الرُّهَا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الرُّهَا كَانَتْ بِيَدِ نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا قُتِلَ عُطَيْرٌ الَّذِي كَانَ صَاحِبَهَا، شَفَعَ صَالِحُ بْنُ مِرْدَاسٍ، صَاحِبُ حَلَبَ، إِلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ لِيُعِيدَ الرُّهَا إِلَى ابْنِ عُطَيْرٍ، وَإِلَى ابْنِ شِبْلٍ، بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَقَبِلَ شَفَاعَتَهُ، وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِمَا.

وَكَانَ لَهُ فِي الرُّهَا بُرْجَانِ حَصِينَانِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ، فَتَسَلَّمَ ابْنُ عُطَيْرٍ الْكَبِيرَ، وَابْنُ شِبْلٍ الصَّغِيرَ، وَبَقِيَتِ الْمَدِينَةُ مَعَهُمَا إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، فَرَاسَلَ ابْنُ عُطَيْرٍ أَرْمَانُوسَ مَلِكَ الرُّومَ، وَبَاعَهُ حِصَّتَهُ مِنَ الرُّهَا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعِدَّةِ قَرَايَا مِنْ جُمْلَتِهَا قَرْيَةٌ تُعْرَفُ إِلَى الْآنِ بِسِنِّ ابْنِ عُطَيْرٍ، وَتَسَلَّمُوا الْبُرْجَ الَّذِي لَهُ، وَدَخَلُوا الْبَلَدَ فَمَلَكُوهُ، وَهَرَبَ مِنْهُ أَصْحَابُ ابْنِ شِبْلٍ، وَقَتَلَ الرُّومُ الْمُسْلِمِينَ، وَخَرَّبُوا الْمَسَاجِدَ. وَسَمِعَ نَصْرُ الدَّوْلَةِ الْخَبَرَ، فَسَيَّرَ جَيْشًا إِلَى الرُّهَا، فَحَصَرُوهَا وَفَتَحُوهَا عَنْوَةً، وَاعْتَصَمَ مَنْ بِهَا مِنَ الرُّومِ بِالْبُرْجَيْنِ، وَاحْتَمَى النَّصَارَى بِالْبِيعَةِ الَّتِي لَهُمْ، وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْبِيَعِ وَأَحْسَنِهَا عِمَارَةً، فَحَصَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِهَا، وَأَخْرَجُوهُمْ، وَقَتَلُوا أَكْثَرَهُمْ، وَنَهَبُوا الْبَلَدَ، وَبَقِيَ الرُّومُ فِي الْبُرْجَيْنِ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا نَحْوَ عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ مَرْوَانَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَدَخَلُوا الْبَلَدَ وَمَا جَاوَرَهُمْ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَصَالَحَهُمُ ابْنُ وَثَّابٍ النُّمَيْرِيُّ عَلَى حَرَّانَ وَسَرُوجَ وَحَمَلَ إِلَيْهِمْ خَرَاجًا. ذِكْرُ مُلْكِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودٍ كِرْمَانَ وَعَوْدِ عَسْكَرِهِ عَنْهَا وَفِيهَا سَارَتْ عَسَاكِرُ خُرَاسَانَ إِلَى كِرْمَانَ فَمَلَكُوهَا، وَكَانَتْ لِلْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، فَاحْتَمَى عَسْكَرُهُ بِمَدِينَةِ بَرْدَسِيرَ، وَحَصَرَهُمُ الْخُرَاسَانِيُّونَ فِيهَا، وَجَرَى بَيْنَهُمْ عِدَّةُ وَقَائِعَ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ يَطْلُبُونَ الْمَدَدَ فَسَيَّرَ إِلَيْهِمُ الْعَادِلَ بَهْرَامَ بْنَ مَافَنَّةَ فِي عَسْكَرٍ كَثِيفٍ، ثُمَّ إِنَّ الَّذِينَ بِبَرْدَسِيرَ خَرَجُوا إِلَى الْخُرَاسَانِيَّةِ فَوَاقَعُوهُمْ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَصَبَرُوا لَهُمْ، فَأَجْلَتِ الْوَقْعَةُ عَنْ هَزِيمَةِ الْخُرَاسَانِيَّةِ، وَتَبِعَهُمُ الدَّيْلَمُ حَتَّى أَبْعَدُوا، ثُمَّ عَادُوا إِلَى بَرْدَسِيرَ. وَوَصَلَ الْعَادِلُ عَقِيبَ ذَلِكَ إِلَى جِيرَفْتَ، وَسَيَّرَ عَسْكَرَهُ إِلَى الْخُرَاسَانِيَّةِ وَهُمْ

بِأَطْرَافِ الْبِلَادِ، فَوَاقَعُوهُمْ، فَانْهَزَمَ الْخُرَاسَانِيَّةُ، وَدَخَلُوا الْمَفَازَةَ عَائِدِينَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَأَقَامَ الْعَادِلُ بِكِرْمَانَ إِلَى أَنْ أَصْلَحَ أُمُورَهَا وَعَادَ إِلَى فَارِسَ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ وَشَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ وَخِلَافَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ الْإِمَامُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَعُمْرُهُ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَعَشَرَةُ أَشْهُرٍ، وَخِلَافَتُهُ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَكَانَتِ الْخِلَافَةُ قَبْلَهُ قَدْ طَمِعَ فِيهَا الدَّيْلَمُ وَالْأَتْرَاكُ، فَلَمَّا وَلِيَهَا الْقَادِرُ بِاللَّهِ أَعَادَ جِدَّتَهَا، وَجَدَّدَ نَامُوسَهَا، وَأَلْقَى اللَّهُ هَيْبَتَهُ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ فَأَطَاعُوهُ أَحْسَنَ طَاعَةٍ وَأَتَمَّهَا. وَكَانَ حَلِيمًا، كَرِيمًا، خَيِّرًا يُحِبُّ الْخَيْرَ وَأَهْلَهُ، وَيَأْمُرُ بِهِ، وَيَنْهَى عَنِ الشَّرِّ وَيَبْغَضُ أَهْلَهُ، وَكَانَ حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، صَنَّفَ فِيهِ كِتَابًا عَلَى مَذْهَبِ السُّنَّةِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ صَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَانَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ، كَثَّ اللِّحْيَةِ، طَوِيلَهَا، يَخْضِبُ، وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ فِي زِيِّ الْعَامَّةِ وَيَزُورُ قُبُورَ الصَّالِحِينَ، كَقَبْرِ مَعْرُوفٍ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ حَالٌ أَمَرَ فِيهِ بِالْحَقِّ. قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ بْنُ هَارُونَ: كَانَ بِالْكَرْخِ مِلْكٌ لِيَتِيمٍ وَكَانَ لَهُ فِيهِ قِيمَةٌ جَيِّدَةٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ ابْنُ حَاجِبٍ النُّعْمَانُ، وَهُوَ حَاجِبُ الْقَادِرِ. يَأْمُرُنِي أَنْ أَفُكَّ عَنْهُ

الْحَجْرَ لِيَشْتَرِيَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ ذَلِكَ الْمِلْكَ، فَلَمْ أَفْعَلْ فَأَرْسَلَ يَسْتَدْعِينِي، فَقُلْتُ لِغُلَامِهِ: تَقَدَّمْنِي حَتَّى أَلْحَقَكَ، وَخِفْتُهُ. فَقَصَدْتُ قَبْرَ مَعْرُوفٍ فَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَكْفِيَنِيَ شَرَّهُ، وَهُنَاكَ شَيْخٌ، فَقَالَ لِي: عَلَى مَنْ تَدْعُو؟ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، وَوَصَلْتُ إِلَى ابْنِ حَاجِبٍ النُّعْمَانِ، فَأَغْلَظَ لِي فِي الْقَوْلِ، وَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرِي، فَأَتَاهُ خَادِمٌ بِرُقْعَةٍ فَفَتَحَهَا وَقَرَأَهَا وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، (وَنَزَلَ مِنَ) الشِّدَّةِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيَّ ثُمَّ قَالَ: كَتَبْتَ إِلَى الْخَلِيفَةِ قِصَّةً؟ فَقُلْتُ: لَا. وَعَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْخَ كَانَ الْخَلِيفَةَ. وَقِيلَ: كَانَ يُقَسِّمُ إِفْطَارَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: فَقِسْمٌ كَانَ يَتْرُكُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقِسْمٌ يُرْسِلُهُ إِلَى جَامِعِ الرُّصَافَةِ، وَقِسْمٌ يُرْسِلُهُ إِلَى جَامِعِ الْمَدِينَةِ، يُفَرَّقُ عَلَى الْمُقِيمِينَ فِيهِمَا، فَاتَّفَقَ أَنَّ الْفَرَّاشَ حَمَلَ لَيْلَةً الطَّعَامَ إِلَى جَامِعِ الْمَدِينَةِ، فَفَرَّقَهُ عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَأَخَذُوا، إِلَّا شَابًّا فَإِنَّهُ رَدَّهُ. فَلَمَّا صَلَّوُا الْمَغْرِبَ خَرَجَ الشَّابُّ، وَتَبِعَهُ الْفَرَّاشُ، فَوَقَفَ عَلَى بَابٍ فَاسْتَطْعَمَ فَأَطْعَمُوهُ كُسَيْرَاتٍ فَأَخَذَهَا وَعَادَ إِلَى الْجَامِعِ، فَقَالَ لَهُ الْفَرَّاشُ: وَيْحَكَ أَلَا تَسْتَحِي يُنْفِذُ إِلَيْكَ خَلِيفَةُ اللَّهِ بِطَعَامٍ حَلَالٍ فَتَرُدَّهُ وَتَخْرُجَ (وَتَأْخُذَ مِنَ) الْأَبْوَابِ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَدَدْتُهُ إِلَّا لِأَنَّكَ عَرَضْتَهُ عَلَيَّ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَكُنْتُ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، فَلَمَّا احْتَجْتُ طَلَبْتُ، فَعَادَ الْفَرَّاشُ فَأَخْبَرَ الْخَلِيفَةَ بِذَلِكَ فَبَكَى وَقَالَ لَهُ: رَاعِ مِثْلَ هَذَا، وَاغْتَنِمْ أَخْذَهُ، وَأَقِمْ إِلَى وَقْتِ الْإِفْطَارِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَبْهَرِيُّ: أَرْسَلَنِي بَهَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْقَادِرِ بِاللَّهِ فِي رِسَالَةٍ، فَسَمِعْتُهُ يُنْشِدُ: سَبَقَ الْقَضَاءُ بِكُلِّ مَا هُوَ كَائِنٌ ... وَاللَّهُ يَا هَذَا لِرِزْقِكَ ضَامِنُ

تُعْنَى بِمَا يَفْنَى، وَتَتْرُكُ مَا بِهِ تَغْنَى، كَأَنَّكَ لِلْحَوَادِثِ آمِنُ ... أَوَمَا تَرَى الدُّنْيَا وَمَصْرَعَ أَهْلِهَا فَاعْمَلْ لِيَوْمِ فِرَاقِهَا، يَا حَائِنُ ... وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ لَا أَبَا لَكَ فِي الَّذِي أَصْبَحْتَ تَجْمَعُهُ لِغَيْرِكَ خَازِنُ ... يَا عَامِرَ الدُّنْيَا أَتَعْمُرُ مَنْزِلًا لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَعَ الْمَنِيَّةِ سَاكِنُ ... الْمَوْتُ شَيْءٌ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ، وَأَنْتَ بِذِكْرِهِ مُتَهَاوِنُ ... إِنَّ الْمَنِيَّةَ لَا تُؤَآمِرُ مَنْ أَتَتْ فِي نَفْسِهِ يَوْمًا وَلَا تَسْتَأْذِنُ فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِإِنْشَادِ مِثْلِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ. فَقَالَ: بَلْ لِلَّهِ الْمِنَّةُ إِذْ أَلْزَمَنَا بِذِكْرِهِ، وَوَفَّقَنَا لِشُكْرِهِ. أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي أَهْلِ الْمَعَاصِي: هَانُوا عَلَيْهِ فَعَصَوْهُ، وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ، وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ لَمَّا مَاتَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ جَلَسَ فِي الْخِلَافَةِ ابْنُهُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ، أَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ، وَجُدِّدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ بَايَعَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَاسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ لَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ بَايَعَهُ الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ الْمُرْتَضَى، وَأَنْشَدَهُ: فَإِمَّا مَضَى جَبَلٌ وَانْقَضَى ... فَمِنْكَ لَنَا جَبَلٌ قَدْ رَسَا وَإِمَّا فُجِعْنَا بِبَدْرِ التَّمَامِ فَقَدْ ... بَقِيَتْ مِنْهُ شَمْسُ الضُّحَى لَنَا حَزَنٌ فِي مَحَلِّ السُّرُورِ ... وَكَمْ ضَحِكَ فِي خِلَالِ الْبُكَا

فَيَا صَارِمٌ أَغْمَدَتْهُ يَدٌ لَنَا بَعْدَكَ الصَّارِمُ الْمُنْتَضَى وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا. وَأَرْسَلَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ قَاضِيَ الْقُضَاةِ أَبَا الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيَّ إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ لِيَأْخُذَ عَلَيْهِ الْبَيْعَةَ، وَيَخْطُبَ لَهُ فِي بِلَادِهِ، فَأَجَابَ وَبَايَعَ، وَخَطَبَ لَهُ فِي بِلَادِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ هَدَايَا جَلِيلَةً وَأَمْوَالًا كَثِيرَةً. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تَجَدَّدَتِ الْفِتْنَةُ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُلَقَّبَ بِالْمَذْكُورِ أَظْهَرَ الْعَزْمَ عَلَى الْغَزَاةِ وَاسْتَأْذَنَ الْخَلِيفَةَ فِي ذَلِكَ، فَأَذِنَ لَهُ، وَكُتِبَ لَهُ مَنْشُورٌ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَأُعْطِيَ عَلَمًا، فَاجْتَمَعَ لَهُ لَفِيفٌ كَثِيرٌ، فَسَارَ وَاجْتَازَ بِبَابِ الشَّعِيرِ، وَطَاقِ الْحَرَّانِيِّ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الرِّجَالُ بِالسِّلَاحِ فَصَاحُوا بِذِكْرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَالُوا: هَذَا يَوْمُ مُعَاوِيَةَ، فَنَافَرَهُمْ أَهْلُ الْكَرْخِ وَرَمَوْهُمْ، وَثَارَتِ الْفِتْنَةُ وَنُهِبَتْ دُورُ الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ قِيلَ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ أَعَانُوا أَهْلَ الْكَرْخِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعَ السُّنَّةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَمَعَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَقَصَدُوا الْكَرْخِ، فَأَحْرَقُوا وَهَدَمُوا الْأَسْوَاقَ، وَأَشْرَفَ أَهْلُ الْكَرْخِ عَلَى خُطَّةٍ عَظِيمَةٍ. وَأَنْكَرَ الْخَلِيفَةُ ذَلِكَ إِنْكَارًا شَدِيدًا، وَنُسِبَ إِلَيْهِمْ تَخْرِيقُ عَلَامَتِهِ الَّتِي مَعَ الْغَزَاةِ، فَرَكِبَ الْوَزِيرُ، فَوَقَعَتْ فِي صَدْرِهِ آجُرَّةٌ، فَسَقَطَتْ عِمَامَتُهُ، وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْكَرْخِ جَمَاعَةٌ، وَأُحْرِقَ وَخَرِّبَ فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ سُوقُ الْعَرُوسِ، وَسُوقُ الصَّفَّارِينَ، وَسُوقُ الْأَنْمَاطِ، وَسُوقُ الدَّقَّاقِينَ، وَغَيْرُهَا، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، فَقَتَلَ الْعَامَّةُ الْكَلَالِكِيَّ، وَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْمَعُونَةِ، وَأَحْرَقُوهُ.

وَوَقَعَ الْقِتَالُ فِي أَصْقَاعِ الْبَلَدِ مِنْ جَانِبَيْهِ، وَاقْتَتَلَ أَهْلُ الْكَرْخِ، وَنَهْرِ طَابَقٍ، وَالْقَلَّائِينَ، وَبَابِ الْبَصْرَةِ، وَفِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ أَهْلُ سُوقِ الثُّلَاثَاءِ، وَسُوقِ يَحْيَى، وَبَابِ الطَّاقِ، وَالْأَسَاكِفَةِ، وَالرَّهَادِرَةِ، وَدَرْبِ سُلَيْمَانَ، فَقُطِعَ الْجِسْرُ لِيُفَرَّقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَدَخَلَ الْعَيَّارُونَ الْبَلَدَ، وَكَثُرَ الِاسْتِقْفَاءُ بِهَا وَالْعَمَلَاتُ لَيْلًا وَنَهَارًا. وَأَظْهَرَ الْجُنْدُ كَرَاهَةَ الْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَأَرَادُوا قَطْعَ خُطْبَتِهِ، فَفَرَّقَ فِيهِمْ مَالًا وَحَلَفَ لَهُمْ فَسَكَنُوا، ثُمَّ عَاوَدُوا الشَّكْوَى إِلَى الْخَلِيفَةِ مِنْهُ، وَطَلَبُوا أَنْ يَأْمُرَ بِقَطْعِ خُطْبَتِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ فَامْتَنَعَ حِينَئِذٍ جَلَالُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْجُلُوسِ، وَضَرَبَهُ النُّوبَةُ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ، وَانْصَرَفَ الطَّبَّالُونَ لِانْقِطَاعِ الْجَارِي لَهُمْ، وَدَامَتْ هَذِهِ الْحَالُ إِلَى عِيدِ الْفِطْرِ، فَلَمْ يُضْرَبْ بُوقٌ، وَلَا طَبْلٌ، وَلَا أُظْهِرَتِ الزِّينَةُ، وَزَادَ الِاخْتِلَاطُ. ثُمَّ حَدَثَ فِي شَوَّالٍ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَصْحَابِ الْأَكْسِيَةِ وَأَصْحَابِ الْخِلْعَانِ، وَهُمَا شِيعَةٌ، وَزَادَ الشَّرُّ، وَدَامَ إِلَى ذِي الْحِجَّةِ، فَنُودِيَ فِي الْكَرْخِ بِإِخْرَاجِ الْعَيَّارِينَ، فَخَرَجُوا، وَاعْتَرَضَ أَهْلُ بَابِ الْبَصْرَةِ قَوْمًا (مِنْ قُمٍّ) أَرَادُوا زِيَارَةَ مَشْهَدِ عَلِيٍّ وَالْحُسَيْنِ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ، وَامْتَنَعَتْ زِيَارَةُ مَشْهَدِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ. ذِكْرُ مُلْكِ الرُّومِ قَلْعَةَ أَفَامِيَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الرُّومُ قَلْعَةَ أَفَامِيَةَ بِالشَّامِ. وَسَبَبُ مُلْكِهَا أَنَّ الظَّاهِرَ خَلِيفَةَ مِصْرَ سَيَّرَ إِلَى الشَّامِ الدِّزْبَرِيَّ، وَزِيرَهُ، فَمَلَكَهُ، وَقَصَدَ حَسَّانَ بْنَ الْمُفَرِّجِ الطَّائِيَّ، فَأَلَحَّ فِي طَلَبِهِ، فَهَرَبَ مِنْهُ، وَدَخَلَ بَلَدَ الرُّومِ، وَلَبِسَ خِلْعَةَ مَلِكِهِمْ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَعَلَى رَأْسِهِ عَلَمٌ فِيهِ صَلِيبٌ، وَمَعَهُ عَسْكَرٌ كَثِيرٌ، فَسَارَ إِلَى أَفَامِيَةَ فَكَبَسَهَا، وَغَنِمَ مَا فِيهَا، وَسَبَى أَهْلَهَا، وَأَسَرَهُمْ، وَسَيَّرَ الدِّزْبَرِيِّ إِلَى الْبِلَادِ يَسْتَنْفِرُ النَّاسَ لِلْغَزْوِ.

ذِكْرُ الْوَحْشَةِ بَيْنَ بَارَسْطُغَانَ وَجَلَالِ الدَّوْلَةِ اجْتَمَعَ أَصَاغِرُ الْغِلْمَانِ هَذِهِ السَّنَةَ إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَقَالُوا لَهُ: قَدْ هَلَكْنَا فَقْرًا وَجُوعًا، وَقَدِ اسْتَبَدَّ الْقُوَّادُ بِالدَّوْلَةِ وَالْأَمْوَالِ عَلَيْكَ وَعَلَيْنَا، وَهَذَا بَارَسْطُغَانُ وَيَلْدَرَكُ قَدْ أَفْقَرَانَا وَأَفْقَرَاكَ أَيْضًا. فَلَمَّا بَلَغَهُمَا ذَلِكَ امْتَنَعَا مِنَ الرُّكُوبِ إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَاسْتَوْحَشَا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا الْغِلْمَانُ يُطَالِبُونَهُمَا بِمَعْلُومِهِمْ، فَاعْتَذَرَا بِضِيقِ أَيْدِيهِمَا عَنْ ذَلِكَ، وَسَارَا إِلَى الْمَدَائِنِ. فَنَدِمَ الْأَتْرَاكُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا جَلَالُ الدَّوْلَةِ مُؤَيِّدَ الْمُلْكِ الرُّخَّجِيَّ وَالْمُرْتَضَى وَغَيْرَهُمَا، فَرَجَعَا، وَزَادَ تَسَحُّبُ الْغِلْمَانِ عَلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ إِلَى أَنْ نَهَبُوا مِنْ دَارِهِ فُرُشًا، وَآلَاتٍ، وَدَوَابًّا، وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَرَكِبَ وَقْتَ الْهَاجِرَةِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، وَمَعَهُ نَفَرٌ قَلِيلٌ مِنَ الرِّكَابِيَّةِ وَالْغِلْمَانِ وَجَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْعَامَّةِ وَهُوَ سَكْرَانُ، فَانْزَعَجَ الْخَلِيفَةُ مِنْ حُضُورِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ الْحَالَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى دَارِهِ، وَيُطَيِّبُ قَلْبَهُ، فَقَبَّلَ قَرَبُوسَ سَرْجِهِ وَمَسَحَ حَائِطَ الدَّارِ بِيَدِهِ وَأَمَرَّهَا عَلَى وَجْهِهِ، وَعَادَ إِلَى دَارِهِ وَالْعَامَّةُ مَعَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبِلَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَاكُولَا شَهَادَةَ أَبِي الْفَضْلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْهَادِي، وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُهْتَدِي، وَشَهِدَ عِنْدَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بِشْرَانَ، وَكَانَ قَدْ تَرَكَ الشَّهَادَةَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَفِيهَا فَوَّضَ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ إِمَارَةَ الرَّيِّ، وَهَمَذَانَ، وَالْجِبَالِ إِلَى تَاشَ فَرَّاشَ، وَكَتَبَ لَهُ إِلَى عَامِلِ نَيْسَابُورَ بِإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ عَلَى حَشَمِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَسَارَ إِلَى عَمَلِهِ، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِيهِ.

وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، أَخْرَجَ الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ دَوَابَّهُ مِنَ الْإِصْطَبْلِ، وَهِيَ خَمْسَ عَشْرَةَ دَابَّةً، وَسَيَّبَهَا فِي الْمَيْدَانِ بِغَيْرِ سَائِسٍ، وَلَا حَافِظٍ، وَلَا عَلَفٍ، فَعَلَ ذَلِكَ لِسَبَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ الْعَلْفِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْأَتْرَاكَ كَانُوا يَلْتَمِسُونَ دَوَابَّهُ وَيَطْلُبُونَهَا كَثِيرًا، فَضَجِرَ مِنْهُمْ، فَأَخْرَجَهَا وَقَالَ: هَذِهِ دَوَابِّي مِنْهَا: خَمْسٌ لِمَرْكُوبِي، وَالْبَاقِي لِأَصْحَابِي، ثُمَّ صَرَفَ حَوَاشِيَهُ، وَفَرَّاشِيهِ، وَأَتْبَاعَهُ، وَأَغْلَقَ بَابَ دَارِهِ لِانْقِطَاعِ الْجَارِي لَهُ، فَثَارَتْ لِذَلِكَ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَالْجُنْدِ وَعَظُمَ الْأَمْرُ، وَظَهَرَ الْعَيَّارُونَ. وَفِيهَا عُزِلَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ وَزِيرُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ أَرْدَشِيرَ، فَبَقِيَ أَيَّامًا، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ، فَعُزِلَ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ، (وَهُوَ ابْنُ أَخِي أَبِي الْحُسَيْنِ) السَّهْلِيُّ، وَزِيرُ مَأْمُونٍ صَاحِبِ خُوَارَزْمَ، فَبَقِيَ فِي الْوَزَارَةِ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَهَرَبَ. [الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ أَبُو نَصْرٍ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ بِمِصْرَ، وَكَانَ بِبَغْدَاذَ فَفَارَقَهَا إِلَى مِصْرَ عَنْ ضَائِقَةٍ، فَأَغْنَاهُ الْمَغَارِبَةُ) .

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَة] 423 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ وُثُوبِ الْأَجْنَادِ بِجَلَالِ الدَّوْلَةِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ بَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تَجَدَّدَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ الْأَتْرَاكِ، فَأَغْلَقَ بَابَهُ فَجَاءَتِ الْأَتْرَاكُ وَنَهَبُوا دَارَهُ، وَسَلَبُوا الْكُتَّابَ وَأَرْبَابَ الدِّيوَانِ ثِيَابَهُمْ، وَطَلَبُوا الْوَزِيرَ أَبَا إِسْحَاقَ السَّهْلِيَّ، فَهَرَبَ إِلَى حُلَّةِ كَمَالِ الدَّوْلَةِ غَرِيبِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَخَرَجَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ إِلَى عُكْبَرَا فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَخَطَبَ الْأَتْرَاكُ بِبَغْدَاذَ لِلْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَطْلُبُونَهُ وَهُوَ بِالْأَهْوَازِ. فَمَنَعَهُ الْعَادِلُ بْنُ مَافَنَّةَ عَنِ الْإِصْعَادِ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ بَعْضُ قُوَّادِهِمْ. فَلَمَّا رَأَوُا امْتِنَاعَهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، أَعَادُوا خُطْبَةَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَسَارُوا إِلَيْهِ، وَسَأَلُوهُ الْعَوْدَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَاعْتَذَرُوا، فَعَادَ إِلَيْهَا بَعْدَ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَوَزَرَ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَاكُولَا، ثُمَّ عُزِلَ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ أَبُو سَعْدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، فَبَقِيَ وَزِيرًا أَيَّامًا ثُمَّ اسْتَتَرَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ جَلَالَ الدَّوْلَةِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِالْقَبْضِ عَلَى أَبِي الْمُعَمَّرِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَسَّامِيِّ طَمَعًا فِي مَالِهِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ فِي دَارِهِ. فَثَارَ الْأَتْرَاكُ، وَأَرَادُوا مَنْعَهُ، وَقَصَدُوا دَارَ الْوَزِيرِ، وَأَخَذُوهُ وَضَرَبُوهُ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ دَارِهِ حَافِيًا، وَمَزَّقُوا ثِيَابَهُ، وَأَخَذُوا عِمَامَتَهُ وَقَطَعُوهَا، وَأَخَذُوا خَوَاتِيمَهُ مِنْ يَدِهِ فَدَمِيَتْ أَصَابِعُهُ، وَكَانَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ فِي الْحَمَّامِ، فَخَرَجَ مُرْتَاعًا، فَرَكِبَ وَظَهَرَ لِيَنْظُرَ مَا الْخَبَرُ، فَأَكَبَّ الْوَزِيرُ يُقَبِّلُ الْأَرْضَ، وَيَذْكُرُ مَا فُعِلَ بِهِ، فَقَالَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ: أَنَا ابْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَقَدْ فُعِلَ بِي أَكْثَرُ مِنْ هَذَا ; ثُمَّ أَخَذَ مِنَ الْبَسَّامِيِّ أَلْفَ دِينَارٍ وَأَطْلَقَهُ، وَاخْتَفَى الْوَزِيرُ.

ذِكْرُ انْهِزَامِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَاكَوَيْهِ مِنْ عَسْكَرِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ قَدْ ذَكَرْنَا انْهِزَامَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ أَبِي جَعْفَرٍ مِنَ الرَّيِّ وَمَسِيرَهُ عَنْهَا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قَلْعَةِ فَرْدَجَانَ أَقَامَ بِهَا لِتَنْدَمِلَ جِرَاحُهُ، وَمَعَهُ فَرْهَاذُ بْنُ مَرْدَاوِيجَ، كَانَ قَدْ جَاءَهُ مَدَدًا لَهُ، وَتَوَجَّهُوا مِنْهَا إِلَى بَرُوجِرْدَ فَسَيَّرَ تَاشُ فَرَّاشَ مُقَدَّمَ عَسْكَرِ خُرَاسَانَ جَيْشًا إِلَى عَلَاءِ الدَّوْلَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَلِيَّ بْنَ عِمْرَانَ، فَسَارَ يَقُصُّ أَثَرَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ فَلَمَّا قَارَبَ بَرُوجِرْدَ صَعِدَ فَرْهَاذُ إِلَى قَلْعَةِ سَلِيمُوهْ، وَمَضَى أَبُو جَعْفَرٍ إِلَى سَابُورَ خُوَاسْتَ، وَنَزَلَ عِنْدَ الْأَكْرَادِ الْجُوزَقَانِ. وَمَلَكَ عَسْكَرُ خُرَاسَانَ بَرُوجِرْدَ، وَرَاسَلَ فَرْهَاذُ الْأَكْرَادَ الَّذِينَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ عِمْرَانَ، وَاسْتَمَالَهُمْ، فَصَارُوا مَعَهُ، وَأَرَادُوا أَنْ يَفْتِكُوا بِعَلِيٍّ، وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَرَكِبَ لَيْلًا فِي خَاصَّتِهِ وَسَارَ نَحْوَ هَمَذَانَ، وَنَزَلَ فِي الطَّرِيقِ بِقَرْيَةٍ تُعْرَفُ (بِكَسْبَ، وَهِيَ مَنِيعَةٌ) ، فَاسْتَرَاحَ فِيهَا، فَلَحِقُهُ فَرْهَاذُ وَعَسْكَرُهُ وَالْأَكْرَادُ الَّذِينَ صَارُوا مَعَهُ، وَحَصَرُوهُ فِي الْقَرْيَةِ، فَاسْتَسْلَمَ وَأَيْقَنَ بِالْهَلَاكِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْيَوْمَ مَطَرًا وَثَلْجًا، فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْمُقَامُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا جَرِيدَةً بِغَيْرِ خِيَامٍ وَلَا آلَةِ شِتَاءٍ، فَرَحَلُوا عَنْهُ، وَرَاسَلَ عَلِيُّ بْنُ عِمْرَانَ الْأَمِيرَ تَاشَ فَرَّاشَ يَسْتَنْجِدُهُ وَيَطْلُبُ الْعَسْكَرَ إِلَى هَمَذَانَ. ثُمَّ اجْتَمَعَ فَرْهَاذُ وَعَلَاءُ الدَّوْلَةِ بِبَرُوجِرْدَ، وَاتَّفَقَا عَلَى قَصْدِ هَمَذَانَ، وَسَيَّرَ عَلَاءَ الدَّوْلَةِ إِلَى أَصْبَهَانَ وَبِهَا ابْنُ أَخِيهِ، يَطْلُبُهُ، وَأَمَرَهُ بِإِحْضَارِ السِّلَاحِ وَالْمَالِ، فَفَعَلَ وَسَارَ. فَبَلَغَ خَبَرُهُ عَلِيَّ بْنَ عِمْرَانَ، فَسَارَ إِلَيْهِ مِنْ هَمَذَانَ جَرِيدَةً، فَكَبَسَهُ بِجَرْبَاذَقَانَ، وَأَسَرَهُ وَأَسَرَ كَثِيرًا مِنْ عَسْكَرِهِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ، وَغَنِمَ مَا مَعَهُ مِنْ سِلَاحٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَمَّا سَارَ عَلِيٌّ عَنْ هَمَذَانَ دَخَلَهَا عَلَاءُ الدَّوْلَةِ، وَمَلَكَهَا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ عَلِيًّا سَارَ مُنْهَزِمًا، وَسَارَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ مِنْ هَمَذَانَ إِلَى كَرَجَ، فَأَتَاهُ خَبَرُ ابْنِ أَخِيهِ فَفَتَّ فِي عَضُدِهِ.

وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ عِمْرَانَ قَدْ سَارَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ إِلَى أَصْبَهَانَ طَامِعًا فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، وَعَلَى مَالِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ وَأَهْلِهِ، فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَمَنَعَهُ أَهْلُهَا وَالْعَسْكَرُ الَّذِي فِيهَا، فَعَادَ عَنْهَا، فَلَقِيَهُ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ وَفَرْهَاذُ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ مِنْهُمَا، وَأَخَذَا مَا مَعَهُ مِنَ الْأَسْرَى، إِلَّا أَبَا مَنْصُورٍ ابْنَ أَخِي عَلَاءِ الدَّوْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَيَّرَهُ إِلَى تَاشَ فَرَّاشَ، وَسَارَ عَلِيٌّ مِنَ الْمَعْرَكَةِ مُنْهَزِمًا نَحْوَ تَاشَ فَرَّاشَ، فَلَقِيَهُ بِكَرَجَ فَعَاتَبَهُ عَلَى تَأَخُّرِهِ عَنْهُ، وَاتَّفَقَا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى عَلَاءِ الدَّوْلَةِ وَفَرْهَاذَ، وَكَانَ قَدْ نَزَلَ بِجَبَلٍ عِنْدَ بَرُوجِرْدَ مُتَحَصِّنًا فِيهِ، فَافْتَرَقَ تَاشُ وَعَلِيٌّ (وَقَصَدَاهُ مِنْ) جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا مِنْ خَلْفِهِ، وَالْأُخْرَى مِنَ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَقَدْ خَالَطَهُ الْعَسْكَرُ فَانْهَزَمَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ وَفَرْهَاذُ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ رِجَالِهِمَا. فَمَضَى عَلَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَصَعِدَ فَرْهَاذُ إِلَى قَلْعَةِ سَلِيمُوهْ فَتَحَصَّنَ بِهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ قَدْرُ خَانَ مَلِكُ التُّرْكِ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ. وَفِيهَا وَرَدَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُنْكَدِرِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ رَسُولًا مِنْ مَسْعُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ إِلَى الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ مُعَزِّيًا لَهُ بِالْقَادِرِ بِاللَّهِ. وَفِيهَا نُقِلَ تَابُوتُ الْقَادِرِ بِاللَّهِ إِلَى الْمَقْبَرَةِ بِالرُّصَافَةِ، وَشَهِدَهُ الْخَلْقُ الْعَظِيمُ، وَحُجَّاجُ خُرَاسَانَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَفِيهَا كَانَ بِالْبِلَادِ غَلَاءٌ شَدِيدٌ، وَاسْتَسْقَى النَّاسُ فَلَمْ يُسْقَوْا، وَتَبِعَهُ وَبَاءٌ عَظِيمٌ، وَكَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ بِالْعِرَاقِ، وَالْمَوْصِلِ، وَالشَّامِ، وَبَلَدِ الْجَبَلِ، وَخُرَاسَانَ، وَغَزْنَةَ، وَالْهِنْدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَثُرَ الْمَوْتُ، فَدُفِنَ فِي أَصْبَهَانَ، فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ، أَرْبَعُونَ أَلْفَ مَيِّتٍ وَكَثُرَ الْجُدَرِيُّ فِي النَّاسِ فَأُحْصِيَ بِالْمَوْصِلِ أَنَّهُ مَاتَ بِهِ أَرْبَعَةُ آلَافِ صَبِيٍّ، وَلَمْ تَخْلُ دَارٌ مِنْ مُصِيبَةٍ لِعُمُومِ الْمَصَائِبِ، وَكَثْرَةِ الْمَوْتِ، وَمِمَّنْ جُدِرَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَسَلِمَ.

وَفِيهَا جَمَعَ نَائِبُ نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ بِالْجَزِيرَةِ جَمْعًا يَنِيفُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَغَزَا مَنْ يُقَارِبُهُ مِنَ الْأَرْمَنِ، وَأَوْقَعَ بِهِمْ، وَأَثْخَنَ فِيهِمْ، وَغَنِمَ وَسَبَى كَثِيرًا، وَعَادَ ظَافِرًا مَنْصُورًا. وَفِيهَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ تُونِسَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ خُلْفٌ، فَسَارَ الْمُعِزُّ بْنُ بَادِيسَ إِلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، وَسَكَّنَ الْفِتْنَةَ وَعَادَ. وَفِيهَا اجْتَمَعَ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنَ الشِّيعَةِ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَسَارُوا إِلَى أَعْمَالِ نَفْطَةَ، فَاسْتَوْلَوْا عَلَى بَلَدٍ مِنْهَا وَسَكَنُوهُ فَجَرَّدَ إِلَيْهِمُ الْمُعِزُّ عَسْكَرًا، فَدَخَلُوا الْبِلَادَ وَحَارَبُوا الشِّيعَةَ وَقَتَلُوهُمْ أَجْمَعِينَ. (وَفِيهَا خَرَجَتِ الْعَرَبُ عَلَى حَاجِّ الْبَصْرَةِ وَنَهَبُوهُمْ، وَحَجَّ النَّاسُ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ إِلَّا مِنَ الْعِرَاقِ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ رُضْوَانَ الْمِصْرِيُّ، النَّحْوِيُّ، فِي رَجَبٍ. وَفِيهَا قَتَلَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ صَنْدَلًا الْخَصِيَّ، وَكَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى الْمَمْلَكَةِ، وَلَيْسَ لِأَبِي كَالِيجَارَ مَعَهُ غَيْرُ الِاسْمِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نُعَيْمٍ أَبُو الْحَسَنِ النُّعَيْمِيُّ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَكَانَ حَافِظًا، شَاعِرًا، فَقِيهًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.

ثم دخلت سنة أربع وعشرين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَة] 424 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ عَوْدِ مَسْعُودٍ إِلَى غَزْنَةَ وَالْفِتَنِ بِالرَّيِّ وَبَلَدِ الْجَبَلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، عَادَ الْمَلِكُ مَسْعُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى غَزْنَةَ وَبِلَادِ الْهِنْدِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَدِ اسْتَقَرَّ لَهُ الْمُلْكُ بَعْدَ أَبِيهِ أَقَرَّ بِمَا كَانَ قَدْ فَتَحَهُ أَبُوهُ مِنَ الْهِنْدِ نَائِبًا يُسَمَّى أَحْمَدَ يَنَالْتِكِينَ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ مَحْمُودٌ اسْتَنَابَهُ بِهَا ثِقَةً بِجَلَدِهِ وَنَهْضَتِهِ، فَرَسَتْ قَدَمُهُ فِيهَا، وَظَهَرَتْ كِفَايَتُهُ. ثُمَّ إِنَّ مَسْعُودًا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ تَقْرِيرِ قَوَاعِدِ الْمُلْكِ، وَالْقَبْضِ عَلَى عَمِّهِ يُوسُفَ وَالْمُخَالِفِينَ لَهُ، سَارَ إِلَى خُرَاسَانَ عَازِمًا عَلَى قَصْدِ الْعِرَاقِ، فَلَمَّا أَبْعَدَ عَصَى ذَلِكَ النَّائِبُ بِالْهِنْدِ، فَاضْطَرَّ مَسْعُودٌ إِلَى الْعَوْدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَاكَوَيْهِ وَأَمَّرَهُ عَلَى أَصْبَهَانَ بِقَرَارٍ يُؤَدِّيهِ كُلَّ سَنَةٍ، وَكَانَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ قَدْ أَرْسَلَ يَطْلُبُ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ، وَأَقَرَّ ابْنَ قَابُوسَ بْنِ وَشْمَكِيرَ عَلَى جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ، وَسَيَّرَ أَبَا سَهْلٍ الْحَمْدُونِيَّ إِلَى الرَّيِّ لِلنَّظَرِ فِي أُمُورِ هَذِهِ الْبِلَادِ الْجَبَلِيَّةِ، وَالْقِيَامِ بِحِفْظِهَا، وَعَادَ إِلَى الْهِنْدِ، فَأَصْلَحَ الْفَاسِدَ، وَأَعَادَ الْمُخَالِفَ إِلَى طَاعَتِهِ، وَفَتَحَ قَلْعَةً حَصِينَةً تُسَمَّى سُرْسَتَى، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ حَصَرَهَا غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ فَتْحُهَا. وَلَمَّا سَارَ أَبُو سَهْلٍ إِلَى الرَّيِّ أَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ، وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ، فَأَزَالَ الْأَقْسَاطَ وَالْمُصَادَرَاتِ.

وَكَانَ تَاشُ فَرَّاشَ قَدْ مَلَأَ الْبِلَادَ ظُلْمًا وَجَوْرًا، حَتَّى تَمَنَّى النَّاسُ الْخَلَاصَ مِنْهُمْ وَمِنْ دَوْلَتِهِمْ، وَخُرِّبَتِ الْبِلَادُ، وَتَفَرَّقَ أَهْلُهَا، فَلَمَّا وَلِيَ الْحَمْدُونِيُّ، وَأَحْسَنَ، وَعَدَلَ، عَادَتِ الْبِلَادُ فَعُمِّرَتْ، وَالرَّعِيَّةُ أَمِنَتْ، وَكَانَ الْإِرْجَافُ شَدِيدًا بِالْعِرَاقِ لَمَّا كَانَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ بِنَيْسَابُورَ، فَلَمَّا عَادَ سَكَنَ النَّاسُ وَاطْمَأَنُّوا. ذِكْرُ ظَفَرِ مَسْعُودٍ بِصَاحِبِ سَاوَةَ وَقَتْلِهِ فِيهَا قَبَضَ عَسْكَرُ السُّلْطَانِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودٍ عَلَى شَهْرَيُوشَ بْنِ وَلْكِينَ، فَأَمَرَ بِهِ مَسْعُودٌ فَقُتِلَ وَصُلِبَ عَلَى سُورِ سَاوَةَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ شَهْرَيُوشَ كَانَ صَاحِبَ سَاوَةَ وَقُمٍّ وَتِلْكَ النَّوَاحِي، فَلَمَّا اشْتَغَلَ مَسْعُودٌ بِأَخِيهِ مُحَمَّدٍ بَعْدَ مَوْتِ وَالِدِهِ جَمَعَ شَهْرَيُوشُ جَمْعًا وَسَارَ إِلَى الرَّيِّ مُحَاصِرًا لَهَا، فَلَمْ يَتِمَّ مَا أَرَادَهُ، وَجَاءَتِ الْعَسَاكِرُ فَعَادَ عَنْهَا. ثُمَّ [فِي] هَذِهِ السَّنَةِ اعْتَرَضَ الْحُجَّاجَ الْوَارِدِينَ مِنْ خُرَاسَانَ، وَعَمَّهُمْ أَذَاهُ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ، وَأَسَاءَ إِلَيْهِمْ، وَبَلَغَ ذَلِكَ إِلَى مَسْعُودٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَى تَاشَ فَرَّاشَ، وَإِلَى أَبِي الطَّيِّبِ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خَلِيفَتِهِ مَعَهُ، يَطْلُبُ شَهْرَيُوشَ وَقَصْدَهُ أَيْنَ كَانَ، وَاسْتِنْفَادَ الْوُسْعِ فِي قِتَالِهِ، فَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ فِي أَثَرِهِ، فَاحْتَمَى بِقَلْعَةٍ تُقَارِبُ قُمًّا تُسَمَّى فُسْتُقَ، وَهِيَ حَصِينَةٌ، عَالِيَةُ الْمَكَانِ، وَثِيقَةُ الْبُنْيَانِ، فَأَحَاطُوا بِهِ وَأَخَذُوهُ، وَكَتَبُوا إِلَى مَسْعُودٍ فِي أَمْرِهِ، فَأَمَرَهُمْ بِصَلْبِهِ عَلَى سُورِ سَاوَةَ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْبَصْرَةِ وَخُرُوجِهَا عَنْ طَاعَتِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَتْ عَسَاكِرُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ مَعَ وَلَدِهِ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ فَدَخَلُوا الْبَصْرَةَ فِي جُمَادَى الْأُولَى. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَخْتَيَارَ مُتَوَلِّي الْبَصْرَةِ تُوُفِّيَ، فَقَامَ بَعْدَهُ ظُهَيْرُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ خَالُ وَلَدِهِ لِجَلَدٍ كَانَ فِيهِ، وَكِفَايَةٍ، وَهُوَ فِي طَاعَةِ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَدَامَ كَذَلِكَ، فَقِيلَ لِأَبِي كَالِيجَارَ: إِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ لَيْسَ لَكَ مِنْ طَاعَتِهِ غَيْرُ الِاسْمِ، وَلَوْ رُمْتَ عَزْلَهُ لَتَعَذَّرَ عَلَيْكَ. وَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا الْقَاسِمِ، فَاسْتَعَدَّ لِلِامْتِنَاعِ وَأَرْسَلَ أَبُو كَالِيجَارَ إِلَيْهِ يَعْزِلُهُ فَامْتَنَعَ، وَأَظْهَرَ طَاعَةَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ. وَخَطَبَ لَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِهِ، وَهُوَ بِوَاسِطٍ، يَطْلُبُهُ، فَانْحَدَرَ إِلَيْهِ فِي عَسَاكِرِ أَبِيهِ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ بِوَاسِطٍ وَدَخَلُوا الْبَصْرَةَ وَأَقَامُوا بِهَا، وَأَخْرَجُوا عَسَاكِرَ أَبِي كَالِيجَارَ مِنْهَا. وَبَقِيَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ بِالْبَصْرَةِ مَعَ أَبِي الْقَاسِمِ إِلَى أَنْ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَلَيْسَ لَهُ مَعَهُ أَمْرٌ، وَالْحُكْمُ إِلَى أَبِي الْقَاسِمِ. ثُمَّ إِنَّهُ أَرَادَ الْقَبْضَ عَلَى بَعْضِ الدَّيْلَمِ، فَهَرَبَ وَدَخَلَ دَارَ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ مُسْتَجِيرًا، فَاجْتَمَعَ الدَّيْلَمُ إِلَيْهِ، وَشَكَوْا مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ، فَصَادَفَتْ شَكْوَاهُمْ صَدْرًا مُوغَرًا حَنِقًا عَلَيْهِ لِسُوءِ صُحْبَتِهِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا أَرَادُوهُ مِنْ إِخْرَاجِهِ عَنِ الْبَصْرَةِ، وَاجْتَمَعُوا، وَعَلِمَ أَبُو الْقَاسِمِ بِذَلِكَ فَامْتَنَعَ بِالْأُبُلَّةِ، وَجَمَعَ أَصْحَابَهُ وَجَرَى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ أَجْلَتْ عَنْ خُرُوجِ الْعَزِيزِ عَنِ الْبَصْرَةِ وَعَوْدِهِ إِلَى وَاسِطٍ، وَعَوْدِ أَبِي الْقَاسِمِ إِلَى طَاعَةِ أَبِي كَالِيجَارَ. ذِكْرُ إِخْرَاجِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ مِنْ دَارِ الْمَمْلَكَةِ وَإِعَادَتِهِ إِلَيْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَمَضَانَ، شَغَبَ الْجُنْدُ عَلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَقَبَضُوا عَلَيْهِ ثُمَّ أَخْرَجُوهُ مِنْ دَارِهِ، ثُمَّ سَأَلُوهُ لِيَعُودَ إِلَيْهَا فَعَادَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَقْدَمَ الْوَزِيرَ أَبَا الْقَاسِمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمُوا، فَلَمَّا قَدِمَ ظَنُّوا

أَنَّهُ إِنَّمَا وَرَدَ لِلتَّعَرُّضِ إِلَى أَمْوَالِهِمْ وَنَعَمِهِمْ فَاسْتَوْحَشُوا وَاجْتَمَعُوا إِلَى دَارِهِ وَهَجَمُوا عَلَيْهِ، وَأَخْرَجُوهُ إِلَى مَسْجِدٍ هُنَاكَ فَوَكَّلُوا بِهِ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَسْمَعُوهُ مَا يَكْرَهُ، وَنَهَبُوا بَعْضَ مَا فِي دَارِهِ، فَلَمَّا وَكَّلُوا بِهِ جَاءَ بَعْضُ الْقُوَّادِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْجُنْدِ، وَمَنِ انْضَافَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَامَّةِ وَالْعَيَّارِينَ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَأَعَادَهُ إِلَى دَارِهِ، فَنَقَلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ وَلَدَهُ وَحُرَمَهُ وَمَا بَقِيَ لَهُ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَعَبَرَ هُوَ فِي اللَّيْلِ إِلَى الْكَرْخِ فَلَقِيَهُ أَهْلُ الْكَرْخِ بِالدُّعَاءِ، فَنَزَلَ بِدَارِ الْمُرْتَضَى، وَعَبَرَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ مَعَهُ. ثُمَّ إِنَّ الْجُنْدَ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُخْرِجُهُ مِنْ بِلَادِنَا وَنُمَلِّكُ غَيْرَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ مِنْ بَنِي بُوَيْهِ غَيْرُهُ وَغَيْرُ أَبِي كَالِيجَارَ، وَذَلِكَ قَدْ عَادَ إِلَى بِلَادِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُدَارَاةِ هَذَا. فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَقُولُونَ لَهُ: نُرِيدُ أَنْ تَنْحَدِرَ عَنَّا إِلَى وَاسِطٍ، وَأَنْتَ مَلِكُنَا، وَتَتْرُكَ عِنْدَنَا بَعْضَ أَوْلَادِكَ الْأَصَاغِرِ. فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ سِرًّا إِلَى الْغِلْمَانِ الْأَصَاغِرِ فَاسْتَمَالَهُمْ، وَإِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَكَابِرِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَثِقُ بِكَ، وَأَسْكُنُ إِلَيْكَ وَاسْتَمَالَهُمْ أَيْضًا، فَعَبَرُوا إِلَيْهِ، وَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَأَلُوهُ الْعَوْدَ إِلَى دَارِ الْمُلْكِ، فَعَادَ، وَحَلَفَ لَهُمْ عَلَى إِخْلَاصِ النِّيَّةِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَحَلَفُوا لَهُ عَلَى الْمُنَاصَحَةِ، وَاسْتَقَرَّ فِي دَارِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْوَزِيرُ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِيمَنْدِيُّ، وَزِيرُ مَسْعُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَكَانَ وَزِيرَ هَارُونَ أَلْتُونَتَاشَ، صَاحِبِ خُوَارَزْمَ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ لِهَارُونَ ابْنُهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ. وَفِيهَا ثَارَ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَاذَ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَ النَّاسِ ظَاهِرًا، وَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَطَمِعَ الْمُفْسِدُونَ إِلَى حَدِّ أَنَّ بَعْضَ الْقُوَّادِ الْكِبَارِ أَخَذَ أَرْبَعَةً مِنَ الْعَيَّارِينَ، فَجَاءَ عَقِيدُهُمْ وَأَخَذَ مِنْ أَصْحَابِ الْقَائِدِ أَرْبَعَةً، وَحَضَرَ بَابَ دَارِهِ وَدَقَّ عَلَيْهِ الْبَابَ، فَكَلَّمَهُ مِنْ دَاخِلٍ، فَقَالَ الْعَقِيدُ: قَدْ أَخَذْتُ مِنْ أَصْحَابِكَ أَرْبَعَةً فَإِنْ أَطْلَقْتَ مَنْ عِنْدَكَ أَطْلَقْتُ أَنَا

مَنْ عِنْدِي، وَإِلَّا قَتَلْتُهُمْ، وَأَحْرَقْتُ دَارَكَ فَأَطْلَقَهُمُ الْقَائِدُ. وَفِيهَا تَأَخَّرَ الْحَاجُّ مِنْ خُرَاسَانَ. وَفِيهَا خَرَجَ حُجَّاجُ الْبَصْرَةِ بِخَفِيرٍ فَغَدَرَ بِهِمْ وَنَهَبَهُمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى، تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْبَيْضَاوِيِّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ نَيِّفٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ، تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ السَّمَّاكِ الْقَاضِي عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.

ثم دخلت سنة خمس وعشرين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَة] 425 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ فَتْحِ قَلْعَةِ سَرَسْتَى وَغَيْرِهَا مِنْ بَلَدِ الْهِنْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ السُّلْطَانُ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ قَلْعَةَ سَرَسْتَى وَمَا جَاوَرَهَا مِنْ بَلَدِ الْهِنْدِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْ عِصْيَانِ نَائِبِهِ بِالْهِنْدِ أَحْمَدَ يَنَالْتِكِينَ عَلَيْهِ وَمَسِيرِهِ إِلَيْهِ. فَلَمَّا عَادَ أَحْمَدُ إِلَى طَاعَتِهِ، أَقَامَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ طَوِيلًا حَتَّى أَمِنَتْ وَاسْتَقَرَّتْ، وَقَصَدَ قَلْعَةَ سَرَسْتَى، وَهِيَ مِنْ أَمْنَعِ حُصُونِ الْهِنْدِ وَأَحْصَنِهَا، فَحَصَرَهَا، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ حَصَرَهَا غَيْرَ مَرَّةٍ، فَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ فَتْحُهَا، فَلَمَّا حَصَرَهَا مَسْعُودٌ رَاسَلَهُ صَاحِبُهَا، وَبَذَلَ لَهُ مَالًا عَلَى الصُّلْحِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ. وَكَانَ فِيهَا قَوْمٌ مِنَ التُّجَّارِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَزَمَ صَاحِبُهَا عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَحَمْلِهَا إِلَى مَسْعُودٍ مِنْ جُمْلَةِ الْقَرَارِ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ التُّجَّارُ رُقْعَةً فِي نُشَّابَةٍ، وَرَمَوْا بِهَا إِلَيْهِ يُعَرِّفُونَهُ فِيهَا ضَعْفَ الْهُنُودِ بِهَا، وَأَنَّهُ إِنْ صَابَرَهُمْ مَلَكَهَا، فَرَجَعَ عَنِ الصُّلْحِ إِلَى الْحَرْبِ وَطَمَّ خَنْدَقَهَا بِالشَّجَرِ وَقَصَبِ السُّكَّرِ وَغَيْرِهِ، وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَتَلَ كُلَّ مَنْ فِيهَا، وَسَبَى ذَرَارِيِّهِمْ، وَأَخَذَ مَا جَاوَرَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَ عَازِمًا عَلَى طُولِ الْمُقَامِ وَالْجِهَادِ، فَأَتَاهُ مِنْ خُرَاسَانَ خَبَرُ الْغُزِّ، فَعَادَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ذِكْرُ حَصْرِ قَلْعَةٍ بِالْهِنْدِ أَيْضًا لَمَّا مَلَكَ مَسْعُودٌ قَلْعَةَ سَرَسْتَى رَحَلَ عَنْهَا إِلَى قَلْعَةِ نَغْسَى، فَوَصَلَ إِلَيْهَا عَاشِرَ صَفَرٍ، وَحَصَرَهَا فَرَآهَا عَالِيَةً لَا تُرَامُ، يَرْتَدُّ الْبَصَرُ دُونَهَا وَهُوَ حَسِيرٌ، إِلَّا أَنَّهُ أَقَامَ عَلَيْهَا يَحْصُرُهَا، فَخَرَجَتْ عَجُوزٌ سَاحِرَةٌ، فَتَكَلَّمَتْ بِاللِّسَانِ الْهِنْدِيِّ طَوِيلًا، وَأَخَذَتْ مِكْنَسَةً فَبَلَّتْهَا بِالْمَاءِ وَرَشَّتْهُ مِنْهَا إِلَى جِهَةِ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَرِضَ وَأَصْبَحَ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ ضَعْفًا شَدِيدًا، فَرَحَلَ عَنِ الْقَلْعَةِ لِشِدَّةِ الْمَرَضِ، فَحِينَ فَارَقَهَا زَالَ مَا كَانَ بِهِ، وَأَقْبَلَتِ الصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ إِلَيْهِ، وَسَارَ نَحْوَ غَزْنَةَ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِنَيْسَابُورَ لَمَّا اشْتَدَّ أَمْرُ الْأَتْرَاكِ بِخُرَاسَانَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، تَجَمَّعَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَأَهْلِ الْعَيْثِ وَالشَّرِّ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَثَارَ الشَّرَّ أَهْلُ أَبِيوَرْدَ وَطُوسَ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَسَارُوا إِلَى نَيْسَابُورَ لِيَنْهَبُوهَا، وَكَانَ الْوَالِي عَلَيْهَا قَدْ سَارَ عَنْهَا إِلَى الْمَلِكِ مَسْعُودٍ فَخَافَهُمْ خَوْفًا عَظِيمًا، وَأَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ. فَبَيْنَمَا هُمْ يَتَرَقَّبُونَ الْبَوَارَ وَالِاسْتِئْصَالَ، وَذَهَابَ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ، إِذْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُ كِرْمَانَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ، قَدِمَ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَسْعُودٍ أَيْضًا، فَاسْتَغَاثَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُمْ لِيَكُفَّ عَنْهُمُ الْأَذَى، فَأَقَامَ عَلَيْهِمْ، وَقَاتَلَ مَعَهُمْ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، وَكَانَ الظَّفَرُ لَهُ وَلِأَهْلِ نَيْسَابُورَ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ طُوسَ وَأَبِيوَرْدَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَأَخَذَتْهُمُ السُّيُوفُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَعَمِلَ بِهِمْ أَمِيرُ كِرْمَانَ أَعْمَالًا عَظِيمَةً، وَأَثْخَنَ فِيهِمْ، وَأَسَرَ كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَصَلَبَهُمْ عَلَى الْأَشْجَارِ فِي الطُّرُقِ، فَقِيلَ إِنَّهُ عُدِمَ مِنْ أَهْلِ طُوسَ عِشْرُونَ أَلْفَ رَجُلٍ. ثُمَّ إِنَّ أَمِيرَ كِرْمَانَ أَحْضَرَ زُعَمَاءَ قُرَى طُوسَ، وَأَخَذَ أَوْلَادَهُمْ وَإِخْوَانَهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِيهِمْ رَهَائِنَ، فَأَوْدَعَهُمُ السُّجُونَ، وَقَالَ: إِنِ اعْتَرَضَ مِنْكُمْ وَاحِدٌ إِلَى أَهْلِ نَيْسَابُورَ أَوْ غَيْرِهِمْ، أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا، فَأَوْلَادُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَرَهَائِنُكُمْ مَأْخُوذُونَ بِجِنَايَاتِكُمْ. فَسَكَنَ النَّاسُ، وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ وَعَسْكَرِ خُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ بْنُ كَاكَوَيْهِ وَفَرْهَاذُ بْنُ مَرْدَاوِيجَ، وَاتَّفَقَا عَلَى قِتَالِ عَسْكَرِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، وَكَانَتِ الْعَسَاكِرُ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ خُرَاسَانَ مَعَ أَبِي سَهْلٍ الْحَمْدُونِيِّ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا صَبَرَ فِيهِ الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ انْهَزَمَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ، وَقُتِلَ فَرْهَاذُ، وَاحْتَمَى عَلَاءُ الدَّوْلَةِ بِجِبَالٍ بَيْنَ أَصْبَهَانَ وَجَرْبَاذَقَانَ، وَنَزَلَ عَسْكَرُ مَسْعُودٍ بِكَرَجَ. وَأَرْسَلَ (أَبُو سَهْلٍ) إِلَى عَلَاءِ الدَّوْلَةِ يَقُولُ لَهُ لِيَبْذُلَ الْمَالَ، وَيُرَاجِعَ الطَّاعَةَ لِيُقِرَّهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الْبِلَادِ. وَيُصْلِحَ حَالَهُ مَعَ مَسْعُودٍ. فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ بَيْنَهُمْ أَمْرٌ، فَسَارَ أَبُو سَهْلٍ إِلَى أَصْبَهَانَ فَمَلَكَهَا، وَانْهَزَمَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ لَمَّا خَافَ الطَّلَبَ إِلَى إِيذَجَ، وَهِيَ لِلْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ. وَلَمَّا اسْتَوْلَى أَبُو سَهْلٍ عَلَى أَصْبَهَانَ نَهَبَ خَزَائِنَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ (وَأَمْوَالَهُ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا فِي خِدْمَةِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ) فَأُخِذَتْ كُتُبُهُ وَحُمِلَتْ إِلَى غَزْنَةَ فَجُعِلَتْ فِي خَزَائِنِ كُتُبِهَا إِلَى أَنْ أَحْرَقَهَا عَسَاكِرُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْغُورِيِّ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسٍ وَأَخِيهِ ثَابِتٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ وَأَخِيهِ أَبِي قَوَّامٍ ثَابِتِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ ثَابِتًا كَانَ يَعْتَضِدُ بِالْبَسَاسِيرِيِّ وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ سَارَ الْبَسَاسِيرِيُّ مَعَهُ إِلَى قِتَالِ أَخِيهِ دُبَيْسٍ، فَدَخَلُوا النِّيلَ وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ وَعَلَى أَعْمَالِ نُورِ الدَّوْلَةِ فَسَيَّرَ نُورُ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِمْ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ. فَقَاتَلُوهُمْ فَانْهَزَمُوا فَلَمَّا رَأَى دُبَيْسٌ هَزِيمَةَ أَصْحَابِهِ سَارَ عَنْ بَلَدِهِ، وَبَقِيَ ثَابِتٌ فِيهِ إِلَى الْآنِ

فَاجْتَمَعَ دُبَيْسٌ وَأَبُو الْمَغْرَا عَنَّازُ بْنُ الْمَغْرَا، وَبَنُو أَسَدٍ وَخَفَاجَةَ، وَأَعَانَهُ أَبُو كَامِلٍ مَنْصُورُ بْنُ قُرَادٍ، وَسَارُوا جَرِيدَةً لِإِعَادَةِ دُبَيْسٍ إِلَى بَلَدِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَتَرَكُوا حُلَلَهُمْ بَيْنَ خُصَّا وَحَرْبَى. فَلَمَّا سَارُوا لَقِيَهُمْ ثَابِتٌ عِنْدَ جَرْجَرَايَا، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ قُتِلَ فِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ تَرَاسَلُوا وَاصْطَلَحُوا لِيَعُودَ دُبَيْسٌ إِلَى أَعْمَالِهِ، وَيُقْطِعَ أَخَاهُ ثَابِتًا إِقْطَاعًا، وَتَحَالَفُوا عَلَى ذَلِكَ، وَسَارَ الْبَسَاسِيرِيُّ نَجْدَةً لِثَابِتٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى النُّعْمَانِيَّةِ سَمِعَ بِصُلْحِهِمْ، فَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ. ذِكْرُ مُلْكِ الرُّومِ قَلْعَةَ بِرْكَوِي هَذِهِ قَلْعَةٌ مُتَاخِمَةٌ لِلْأَرْمَنِ فِي يَدِ أَبِي الْهَيْجَاءِ بْنِ رَبِيبِ الدَّوْلَةِ، ابْنِ أُخْتِ وَهْسُوذَانَ بْنِ مُمِلَّانَ، فَتَنَافَرَ هُوَ وَخَالُهُ، فَأَرْسَلَ خَالُهُ إِلَى الرُّومِ فَأَطْمَعَهُمْ فِيهَا، فَسَيَّرَ الْمَلِكُ إِلَيْهَا جَمْعًا كَثِيرًا فَمَلَكُوهَا، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ وَخَالِهِ مَنْ يُصْلِحُ بَيْنَهُمَا لِيَتَّفِقَا عَلَى اسْتِعَادَةِ الْقَلْعَةِ، فَاصْطَلَحَا، وَلَمْ يَتَمَكَّنَا مِنِ اسْتَعَادَتِهَا، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ لِثَبَاتِ قَدَمِ الرُّومِ بِهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْزَرَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ عَمِيدَ الدَّوْلَةِ أَبَا سَعْدِ بْنَ عَبْدِ الرَّحِيمِ، (وَهِيَ الْوَزَارَةُ الْخَامِسَةُ، وَكَانَ قَبْلَهُ) فِي الْوَزَارَةِ ابْنُ مَاكُولَا، فَفَارَقَهَا وَسَارَ إِلَى عُكْبَرَا، فَرَدَّهُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْوَزَارَةِ، وَعَزَلَ أَبَا سَعْدٍ. فَبَقِيَ أَيَّامًا، ثُمَّ فَارَقَهَا إِلَى أَوَانَا. وَفِيهَا اسْتُخْلِفَ الْبَسَاسِيرِيُّ، فِي حِمَايَةِ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ بِبَغْدَاذَ لِأَنَّ الْعَيَّارِينَ اشْتَدَّ

أَمْرُهُمْ وَعَظُمَ فَسَادُهُمْ، وَعَجَزَ عَنْهُمْ نُوَّابُ السُّلْطَانِ، فَاسْتَعْمَلُوا الْبَسَاسِيرِيَّ لِكِفَايَتِهِ وَنَهْضَتِهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو سِنَانٍ غَرِيبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَقْنٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، فِي كَرْخِ سَامَرَّا، وَكَانَ يُلَقَّبُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ قَدْ ضَرَبَ دَرَاهِمَ سَمَّاهَا السَّيْفِيَّةَ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الرَّيَّانِ، وَخَلَّفَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَمَرَ فَنُودِيَ: قَدْ أَحْلَلْتُ كُلَّ مَنْ لِي عِنْدَهُ شَيْءٌ فَحَلِّلُونِي كَذَلِكَ، فَحَلَّلُوهُ، وَكَانَ عُمْرُهُ سَبْعِينَ سَنَةً. وَفِيهَا تُوُفِّيَ بَدْرَانُ بْنُ الْمُقَلَّدِ، وَقَصَدَ وَلَدُهُ عَمَّهُ قِرْوَاشًا، فَأَقَرَّ عَلَيْهِ حَالَهُ وَمَالَهُ وَوِلَايَةَ نَصِيبِينَ، وَكَانَ بَنُو نُمَيْرٍ قَدْ طَمِعُوا فِيهَا وَحَصَرُوهَا، فَسَارَ إِلَيْهِمُ ابْنُ بَدْرَانَ فَدَفَعَهُمْ عَنْهَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَرْمَانُوسُ مَلِكُ الرُّومِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ رَجُلٌ صَيْرَفِيٌّ لَيْسَ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ، وَإِنَّمَا بِنْتُ قُسْطَنْطِينَ اخْتَارَتْهُ. [تَابِعُ عِدَّةِ حَوَادِثَ] وَفِيهَا كَثُرَتِ الزَّلَازِلُ بِمِصْرَ وَالشَّامِ، وَكَانَ أَكْثَرُهَا بِالرَّمْلَةِ، فَإِنَّ أَهْلَهَا فَارَقُوا مَنَازِلَهُمْ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَانْهَدَمَ مِنْهَا نَحْوُ ثُلُثِهَا، وَهَلَكَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَفِيهَا كَانَ بِإِفْرِيقِيَّةَ مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ وَغَلَاءٌ. وَفِيهَا قَبَضَ قِرْوَاشٌ عَلَى الْبُرْجُمِيِّ الْعَيَّارِ وَغَرَّقَهُ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قِرْوَاشًا قَبَضَ عَلَى ابْنِ الْقَلَعِيِّ عَامَلِ عُكْبَرَا، فَحَضَرَ الْبُرْجُمِيُّ الْعَيَّارُ عِنْدَ قِرْوَاشٍ مُخَاطِبًا

فِي أَمْرِهِ لِمَوَدَّةٍ بَيْنَهُمَا، فَأَخَذَهُ قِرْوَاشٌ وَقَبَضَ عَلَيْهِ، فَبَذَلَ مَالًا كَثِيرًا لِيُطْلِقَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَغَرَّقَهُ، وَكَانَ هَذَا الْبُرْجُمِيُّ قَدْ عَظُمَ شَأْنُهُ وَزَادَ شَرُّهُ، وَكَبَسَ عِدَّةَ مَخَازِنَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَكَبَسَ دَارَ الْمُرْتَضَى، وَدَارَ ابْنِ عُدَيْسَةَ، وَهِيَ مُجَاوِرَةُ دَارِ الْوَزِيرِ، وَثَارَ الْعَامَّةُ بِالْخَطِيبِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالُوا: إِمَّا أَنْ تَخْطُبَ لِلْبُرْجُمِيِّ، وَإِلَّا فَلَا تَخْطُبْ لِسُلْطَانٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَهْلَكَ النَّاسَ بِبَغْدَاذَ، وَحِكَايَاتُهُ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ مَعَ هَذَا فِيهِ فُتُوَّةٌ، وَلَهُ مُرُوءَةٌ، لَمْ يَعْرِضْ إِلَى امْرَأَةٍ، وَلَا إِلَى مَنْ يَسْتَسْلِمُ إِلَيْهِ. وَفِيهَا هَبَّتْ رِيحٌ سُودٌ بِنَصِيبِينَ فَقَلَعَتْ مِنْ بَسَاتِينِهَا كَثِيرًا مِنَ الْأَشْجَارِ، وَكَانَ فِي بَعْضِ الْبَسَاتِينِ قَصْرٌ مَبْنِيٌّ بِجَصٍّ وَآجُرٍّ وَكِلْسٍ، فَقَلَعَتْهُ مِنْ أَصْلِهِ. وَفِيهَا كَثُرَ الْمَوْتُ بِالْخَوَانِيقِ فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ، وَالشَّامِ، وَالْمَوْصِلِ، وَخُوزِسْتَانَ، وَغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتِ الدَّارُ يُسَدُّ بَابُهَا لِمَوْتِ أَهْلِهَا. (وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، انْقَضَّ كَوْكَبٌ هَالَ مَنْظَرُهُ النَّاسَ، وَبَعْدَهُ بِلَيْلَتَيْنِ انْقَضَّ شِهَابٌ آخَرُ أَعْظَمُ مِنْهُ كَأَنَّهُ الْبَرْقُ مُلَاصِقُ الْأَرْضِ، وَغَلَبَ عَلَى ضَوْءِ الْمَشَاعِلِ، وَمَكَثَ طَوِيلًا حَتَّى غَابَ أَثَرُهُ) . [تَابِعُ الْوَفَيَاتِ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَبِيوَرْدِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَأَبُو بَكْرٍ

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ (بْنِ غَالِبٍ) الْبَرْقَانِيُّ، الْمُحَدِّثُ، الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ. وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ. وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ أَبُو الْفَرَجِ التَّمِيمِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ.

ثم دخلت سنة ست وعشرين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَة] 426 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ حَالِ الْخِلَافَةِ وَالسَّلْطَنَةِ بِبَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْحَلَّ أَمْرُ الْخِلَافَةِ وَالسَّلْطَنَةِ بِبَغْدَاذَ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْجُنْدِ خَرَجُوا إِلَى قَرْيَةِ يَحْيَى، فَلَقِيَهُمْ أَكْرَادٌ، فَأَخَذُوا دَوَابَّهُمْ، فَعَادُوا إِلَى قِرَاحِ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَنَهَبُوا شَيْئًا مِنْ ثَمَرَتِهِ، وَقَالُوا لِلْعُمَّالِينَ فِيهِ: أَنْتُمْ عَرَفْتُمْ حَالَ الْأَكْرَادِ وَلَمْ تُعْلِمُونَا. فَسَمِعَ الْخَلِيفَةُ الْحَالَ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْدِرْ جَلَالُ الدَّوْلَةِ عَلَى أَخْذِ أُولَئِكَ الْأَكْرَادِ لِعَجْزِهِ وَوَهَنِهِ، وَاجْتَهَدَ فِي تَسْلِيمِ الْجُنْدِ إِلَى نَائِبِ الْخَلِيفَةِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، فَتَقَدَّمَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْقُضَاةِ (بِتَرْكِ الْقَضَاءِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْهُ) ، وَإِلَى الشُّهُودِ بِتَرْكِ الشَّهَادَةِ، وَإِلَى الْفُقَهَاءِ بِتَرْكِ الْفَتْوَى. فَلَمَّا رَأَى جَلَالُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ سَأَلَ أُولَئِكَ الْأَجْنَادَ لِيُجِيبُوهُ إِلَى أَنْ يَحْمِلَهُمْ إِلَى دِيوَانِ الْخِلَافَةِ، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ أُطْلِقُوا، وَعَظُمَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ، وَصَارُوا يَأْخُذُونَ الْأَمْوَالَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلَا مَانِعَ لَهُمْ لِأَنَّ الْجُنْدَ يَحْمُونَهُمْ عَلَى السُّلْطَانِ وَنُوَّابِهِ، وَالسُّلْطَانُ عَاجِزٌ عَنْ قَهْرِهِمْ، وَانْتَشَرَ الْعَرَبُ فِي الْبِلَادِ فَنَهَبُوا النَّوَاحِيَ، وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ، وَبَلَغُوا إِلَى أَطْرَافِ بَغْدَاذَ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى جَامِعِ الْمَنْصُورِ، وَأَخَذُوا ثِيَابَ النِّسَاءِ فِي الْمَقَابِرِ.

ذِكْرُ إِظْهَارِ أَحْمَدَ يَنَالْتِكِينَ الْعِصْيَانَ وَقَتْلِهِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] عَادَ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودٍ مِنَ الْهِنْدِ لِقِتَالِ الْغُزِّ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَعَادَ أَحْمَدُ يَنَالْتِكِينَ إِلَى إِظْهَارِ الْعِصْيَانِ بِبِلَادِ الْهِنْدِ، وَجَمَعَ الْجُمُوعَ، وَقَصَدَ الْبِلَادَ بِالْأَذَى، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ مَسْعُودٌ جَيْشًا كَثِيفًا، وَكَانَتْ مُلُوكُ الْهِنْدِ تَمْنَعُهُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَسَدَّ مَنَافِذَ هَرَبِهِ. وَلَمَّا وَصَلَ الْجَيْشُ الْمُنْفَذُ إِلَيْهِ قَاتَلَهُمْ، فَانْهَزَمَ وَمَضَى هَارِبًا إِلَى الْمُلْتَانِ، وَقَصَدَ بَعْضَ مُلُوكِ الْهِنْدِ بِمَدِينَةِ بَهَاطِيةَ وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ عَسَاكِرِهِ الَّذِينَ سَلِمُوا، فَلَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الْمَلِكِ قُدْرَةٌ عَلَى مَنْعِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ سُفُنًا لِيَعْبُرَ نَهْرَ السِّنْدِ، فَأَحْضَرَ لَهُ السُّفُنَ. وَكَانَ فِي وَسَطِ النَّهْرِ جَزِيرَةٌ ظَنَّهَا أَحْمَدُ وَمَنْ مَعَهُ مُتَّصِلَةً بِالْبَرِّ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْمَاءَ مُحِيطٌ بِهَا، فَتَقَدَّمَ مَلِكُ الْهِنْدِ إِلَى أَصْحَابِ السُّفُنِ بِإِنْزَالِهِمْ فِي الْجَزِيرَةِ وَالْعَوْدِ عَنْهُمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَبَقِيَ أَحْمَدُ وَمَنْ مَعَهُ فِيهَا وَلَيْسَ مَعَهُمْ طَعَامٌ (إِلَّا مَا مَعَهُمْ) ، فَبَقُوا بِهَا تِسْعَةَ أَيَّامٍ، فَفَنِيَ زَادُهُمْ، وَأَكَلُوا دَوَابَّهُمْ، وَضَعُفَتْ قُوَاهُمْ، فَأَرَادُوا خَوْضَ الْمَاءِ فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْهُ لِعُمْقِهِ وَشِدَّةِ الْوَحْلِ فِيهِ، فَعَبَّرَ الْهِنْدُ إِلَيْهِمْ عَسْكَرَهُمْ فِي السُّفُنِ، وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ وَقَتَلُوا أَكْثَرَهُمْ، وَأَخَذُوا وَلَدًا لِأَحْمَدَ أَسِيرًا، فَلَمَّا رَآهُ أَحْمَدُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَاسْتَوْعَبَ أَصْحَابَهُ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ وَالْغَرَقُ. ذِكْرُ مُلْكِ مَسْعُودٍ جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ كَانَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ قَدْ أَقَرَّ دَارَا بْنَ مُنُوجَهْرَ بْنِ قَابُوسَ عَلَى جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ وَتَزَوَّجَ أَيْضًا بِابْنَةِ أَبِي كَالِيجَارَ الْقُوهِيِّ، مُقَدَّمِ جَيْشِ دَارَا، وَالْقَيِّمِ بِتَدْبِيرِ أَمْرِهِ اسْتِمَالَةً. فَلَمَّا سَارَ إِلَى الْهِنْدِ مَنَعُوا مَا كَانَ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَالِ، وَرَاسَلُوا عَلَاءَ الدَّوْلَةِ بْنَ كَاكَوَيْهِ وَفَرْهَاذَ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الْعِصْيَانِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَقَوَّى عَزْمَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا بَلَغَهُمْ (مِنْ خُرُوجِ الْغُزِّ بِخُرَاسَانَ) .

فَلَمَّا عَادَ مَسْعُودٌ مِنَ الْهِنْدِ وَأَجْلَى الْغُزَّ وَهَزَمَهُمْ سَارَ إِلَى جُرْجَانَ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَمَلَكَهَا، وَسَارَ إِلَى آمُلِ طَبَرِسْتَانَ، وَقَدْ فَارَقَهَا أَصْحَابُهَا، وَاجْتَمَعُوا بِالْغِيَاضِ وَالْأَشْجَارِ الْمُلْتَفَّةِ، الضَّيِّقَةِ الْمَدْخَلِ، الْوَعْرَةِ الْمَسْلَكِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَاقْتَحَمَهَا عَلَيْهِمْ فَهَزَمَهُمْ وَأَسَرَ مِنْهُمْ وَقَتَلَ، ثُمَّ رَاسَلَهُ دَارَا وَأَبُو كَالِيجَارَ وَطَلَبُوا مِنْهُ الْعَفْوَ وَتَقْرِيرَ الْبِلَادِ عَلَيْهِمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَحَمَلُوا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا كَانَ عَلَيْهِمْ، وَعَادَ إِلَى خُرَاسَانَ. ذِكْرُ مَسِيرِ ابْنِ وَثَّابٍ وَالرُّومِ إِلَى بَلَدِ ابْنِ مَرْوَانَ فِيهَا جَمَعَ ابْنُ وَثَّابٍ النُّمَيْرِيُّ جَمْعًا كَثِيرًا مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَنْجَدَ مَنْ بِالرُّهَا مِنَ الرُّومِ، فَسَارَ مَعَهُ مِنْهُمْ جَيْشٌ كَثِيفٌ، وَقَصَدَ بَلَدَ نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ، وَنَهَبَ وَأَخْرَبَ. فَجَمَعَ ابْنُ مَرْوَانَ جُمُوعَهُ وَعَسَاكِرَهُ وَاسْتَمَدَّ قِرْوَاشًا وَغَيْرَهُ، وَأَتَتْهُ الْجُنُودُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَلَمَّا رَأَى ابْنُ وَثَّابٍ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ لَهُ غَرَضٌ عَادَ عَنْ بِلَادِهِ. وَأَرْسَلَ ابْنُ مَرْوَانَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يُعَاتِبُهُ عَلَى نَقْضِ الْهُدْنَةِ، وَفَسْخِ الصُّلْحِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا، وَرَاسَلَ أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ يَسْتَنْجِدُهُمْ لِلْغَزَاةِ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ مِنَ الْجُنْدِ وَالْمُتَطَوِّعَةِ، وَعَزَمَ عَلَى قَصْدِ الرُّهَا وَمُحَاصَرَتِهَا، فَوَرَدَتْ رُسُلُ مَلِكِ الرُّومِ يَعْتَذِرُ، وَيَحْلِفُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا كَانَ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَسْكَرِهِ الَّذِينَ بِالرُّهَا وَالْمُقَدَّمِ عَلَيْهِمْ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَأَهْدَى إِلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ هَدِيَّةً سَنِيَّةً، فَتَرَكَ مَا كَانَ عَازِمًا عَلَيْهِ مِنَ الْغَزْوِ، وَفَرَّقَ الْعَسَاكِرَ الْمُجْتَمِعَةَ عِنْدَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا خَرَجَ أَبُو سَعْدٍ، وَزِيرُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، إِلَى أَبِي الشَّوْكِ مُفَارِقًا لِلْوَزَارَةِ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ أَبُو الْقَاسِمِ، وَكَثُرَتْ (مُطَالَبَاتُ الْجُنْدِ) ، فَهَرَبَ، فَأُخْرِجَ وَحُمِلَ إِلَى دَارِ الْمَمْلَكَةِ

مَكْشُوفَ الرَّأْسِ فِي قَمِيصٍ خَفِيفٍ، وَكَانَتْ وَزَارَتُهُ هَذِهِ شَهْرَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَعَادَ أَبُو سَعْدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ إِلَى الْوَزَارَةِ. وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَثَبَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْبَرَكَاتِ بْنِ ثِمَالٍ الْخَفَاجِيُّ بِعَمِّهِ عَلِيِّ بْنِ ثِمَالٍ أَمِيرِ بَنِي خَفَاجَةَ، فَقَتَلَهُ، وَقَامَ بِإِمَارَةِ بَنِي خَفَاجَةَ. وَفِيهَا جَمَعَتِ الرُّومُ وَسَارَتْ إِلَى وِلَايَةِ حَلَبَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ صَاحِبُهَا شِبْلُ الدَّوْلَةِ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ، فَتَصَافُّوا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَتِ الرُّومُ، وَتَبِعَهُمْ إِلَى عَزَازَ، وَغَنِمَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً وَعَادَ سَالِمًا. وَفِيهَا قَصَدَتْ خَفَاجَةُ الْكُوفَةَ، وَمُقَدَّمُهُمُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْبَرَكَاتِ بْنِ ثِمَالٍ، فَنَهَبُوهَا، وَأَرَادُوا تَخْرِيبَهَا، وَمَنَعُوا النَّخْلَ مِنَ الْمَاءِ فَهَلَكَ أَكْثَرُهُ. وَفِيهَا هَرَبَ الزَّكِيُّ أَبُو عَلِيٍّ النَّهْرَسَابُسِيُّ مِنْ مَحْبِسِهِ، وَكَانَ قِرْوَاشٌ قَدِ اعْتَقَلَهُ بِالْمَوْصِلِ، فَبَقِيَ سَنَتَيْنِ إِلَى الْآنَ، وَلَمْ يَحُجَّ هَذِهِ السَّنَةَ مِنِ الْعِرَاقِ أَحَدٌ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ كُلَيْبٍ، الْأَدِيبُ، الشَّاعِرُ الْأَنْدَلُسِيُّ، وَحَدِيثُهُ مَعَ أَسْلَمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ مَشْهُورٌ، وَكَانَ يَهْوَاهُ، فَقَالَ فِيهِ:

أَسْلَمَنِي فِي هَوَاهُ ... أَسْلَمُ هَذَا الرَّشَا غَزَالٌ لَهُ مُقْلَةٌ ... يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَا وَشَى بَيْنَنَا حَاسِدٌ ... سَيُسْأَلُ عَمَّا وَشَى وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَرْتَشِيَ ... عَلَى الْوَصْلِ رُوحِي ارْتَشَى وَمَاتَ كَمَدًا مِنْ هَوَاهُ. وَتُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ (بْنِ أَحْمَدَ) بْنِ شَهِيدٍ الْأَدِيبُ الْأَنْدَلُسِيُّ، وَمِنْ شِعْرِهِ: ( إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا نَالَتْهُ مَخْمَصَةٌ ... أَبْدَى إِلَى النَّاسِ شَبَعًا، وَهُوَ طَيَّانُ يَحْنِي الضُّلُوعَ عَلَى مِثْلِ اللَّظَى حُرْقًا ... وَالْوَجْهُ غَمْرٌ بِمَاءِ الْبِشْرِ مَلْآنُ ) وَلَهُ أَيْضًا: كَتَبْتُ لَهَا أَنَّنِي عَاشِقٌ ... عَلَى مُهْرَقِ اللَّثْمِ بِالنَّاظِرِ فَرَدَّتْ عَلَيَّ جَوَابَ الْهَوَى ... بِأَحْوَرَ عَنْ مَائِهِ حَائِرِ مُنَعَّمَةٌ نَطَقَتْ بِالْجُفُونِ ، فَدَلَّتْ عَلَى دِقَّةِ الْخَاطِرِ ... كَأَنَّ فُؤَادِي، إِذَا أَعْرَضَتْ ، تَعَلَّقَ فِي مِخْلَبَيْ طَائِرِ وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْمَعَالِي بْنُ سَخْطَةَ الْعَلَوِيُّ النَّقِيبُ بِالْبَصْرَةِ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مَعِيَّةَ

الْعَلَوِيُّ بِهَا أَيْضًا. وَأَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَاذَانَ، الْمُحَدِّثُ الْأَشْعَرِيُّ مَذْهَبًا، وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِبَغْدَاذَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمَائِةٍ. (وَحَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ الْجُرْجَانِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ) .

ثم دخلت سنة سبع وعشرين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَة] 427 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ وُثُوبِ الْجُنْدِ بِجَلَالِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَ الْجُنْدُ بِبَغْدَاذَ بِجَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَأَرَادُوا إِخْرَاجَهُ مِنْهَا، فَاسْتَنْظَرَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ يُنْظِرُوهُ، وَرَمَوْهُ بِالْآجُرِّ، فَأَصَابَهُ بَعْضُهُمْ، وَاجْتَمَعَ الْغِلْمَانُ فَرَدُّوهُمْ عَنْهُ، فَخَرَجَ مِنْ بَابٍ لَطِيفٍ فِي سُمَيْرِيَّةٍ مُتَنَكِّرًا، وَصَعِدَ رَاجِلًا مِنْهَا إِلَى دَارِ الْمُرْتَضَى بِالْكَرْخِ، وَخَرَجَ مِنْ دَارِ الْمُرْتَضَى، وَسَارَ إِلَى رَافِعِ (بْنِ الْحُسَيْنِ) بْنِ مَقْنٍ بِتَكْرِيتَ، وَكَسَرَ الْأَتْرَاكُ أَبْوَابَ دَارِهِ وَدَخَلُوهَا وَنَهَبُوهَا، وَقَلَعُوا كَثِيرًا مِنْ سَاجِهَا وَأَبْوَابِهَا، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ، وَقَرَّرَ أَمْرَ الْجُنْدِ وَأَعَادَهُ إِلَى بَغْدَاذَ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ أَبِي سَهْلٍ الْحَمْدُونِيِّ وَعَلَاءِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْخُرَاسَانِيَّةِ الَّتِي مَعَ الْوَزِيرِ أَبِي سَهْلٍ الْحَمْدُونِيِّ بِأَصْبَهَانَ يَطْلُبُونَ الْمِيرَةَ، فَوَضَعَ عَلَيْهِمْ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ مَنْ أَطْمَعَهُمْ فِي الِامْتِيَارِ مِنَ النَّوَاحِي الْقَرِيبَةِ مِنْهُ، فَسَارُوا إِلَيْهَا، وَلَا يَعْلَمُونَ قُرْبَهُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا أَتَاهُ خَبَرُهُمْ (خَرَجَ إِلَيْهِمْ) وَأَوْقَعَ بِهِمْ وَغَنِمَ مَا مَعَهُمْ. وَقَوِيَ طَمَعُهُ بِذَلِكَ، فَجَمَعَ جَمْعًا مِنَ الدَّيْلَمِ وَغَيْرِهِمْ وَسَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَبِهَا

أَبُو سَهْلٍ فِي عَسَاكِرِ مَسْعُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ وَقَاتَلُوهُ، فَغَدَرَ الْأَتْرَاكُ بِعَلَاءِ الدَّوْلَةِ، فَانْهَزَمَ وَنُهِبَ سَوَادُهُ فَسَارَ إِلَى بَرُوجِرْدَ، وَمِنْهَا إِلَى الطِّرْمِ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ ابْنُ السَّلَّارِ، وَقَالَ: لَا قُدْرَةَ لِي عَلَى مُبَايَنَةِ الْخُرَاسَانِيَّةِ فَتَرَكَهُ وَسَارَ عَنْهُ. ذِكْرُ وَفَاةِ الظَّاهِرِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ الْمُسْتَنْصِرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي مُنْتَصَفِ شَعْبَانَ، تُوُفِّيَ الظَّاهِرُ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْمَنْصُورُ الْحَاكِمُ الْخَلِيفَةُ الْعَلَوِيُّ، بِمِصْرَ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ لَهُ مِصْرُ، وَالشَّامُ، وَالْخُطْبَةُ لَهُ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَ جَمِيلَ السِّيرَةِ، حَسَنَ السِّيَاسَةِ، مُنْصِفًا لِلرَّعِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِلَذَّاتِهِ مُحِبٌّ لِلدَّعَةِ وَالرَّاحَةِ، قَدْ فَوَّضَ الْأُمُورَ إِلَى وَزِيرِهِ أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْجَرْجَرَائِيِّ ; لِمَعْرِفَتِهِ بِكِفَايَتِهِ وَأَمَانَتِهِ. وَلَمَّا مَاتَ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو تَمِيمٍ مَعَدٌّ، وَلُقِّبَ الْمُسْتَنْصِرَ بِاللَّهِ، وَمَوْلِدُهُ بِالْقَاهِرَةِ سَنَةَ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَفِي أَيَّامِهِ كَانَتْ قِصَّةُ الْبَسَاسِيرِيِّ، وَخُطِبَ لَهُ بِبَغْدَاذَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَكَانَ الْحَاكِمُ فِي دَوْلَتِهِ بَدْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْجَمَالِيَّ الْمُلَقَّبَ بِالْأَفْضَلِ، أَمِيرِ الْجُيُوشِ، وَكَانَ عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ. وَفِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَصَلَ الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي زِيِّ تَاجِرٍ إِلَى الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ، وَخَاطَبَهُ فِي إِقَامَتِهِ الدَّعْوَةَ لَهُ بِخُرَاسَانَ وَبِلَادِ الْعَجَمِ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَعَادَ وَدَعَا إِلَيْهِ سِرًّا، وَقَالَ لِلْمُسْتَنْصِرِ: مَنْ إِمَامِي بَعْدُ؟ فَقَالَ: ابْنِي نِزَارٌ. وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةُ يَعْتَقِدُونَ إِمَامَةَ نِزَارٍ، وَسَيَرِدُ كَيْفَ صُرِفَ الْأَمْرُ عَنْهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ذِكْرُ فَتْحِ السُّوَيْدَاءِ وَرَبَضِ الرُّهَا فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَ ابْنُ وَثَّابٍ وَابْنُ عُطَيْرٍ، وَتَصَاهَرَا، وَجَمَعَا، وَأَمَدَّهُمَا نَصْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ مَرْوَانَ بِعَسْكَرٍ كَثِيفٍ، فَسَارُوا جَمِيعَهُمْ إِلَى السُّوَيْدَاءِ، وَكَانَ الرُّومُ قَدْ أَحْدَثُوا عِمَارَتَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهَا أَهْلُ الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ لَهَا، فَحَصَرَهَا الْمُسْلِمُونَ وَفَتَحُوهَا عَنْوَةً، وَقَتَلُوا فِيهَا ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَخَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ، وَغَنِمُوا مَا فِيهَا، وَسَبَوْا خَلْقًا كَثِيرًا، وَقَصَدُوا الرُّهَا فَحَصَرُوهَا، وَقَطَعُوا الْمِيرَةَ عَنْهَا، حَتَّى بَلَغَ مَكُّوكُ الْحِنْطَةِ دِينَارًا، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، فَخَرَجَ الْبِطْرِيقُ الَّذِي فِيهَا مُتَخَفِّيًا، وَلَحِقَ بِمَلِكِ الرُّومِ، وَعَرَّفَهُ الْحَالَ، فَسَيَّرَ مَعَهُ خَمْسَةَ آلَافِ فَارِسٍ، فَعَادَ بِهِمْ. فَعَرَفَ ابْنُ وَثَّابٍ وَمُقَدَّمُ عَسَاكِرِ نَصْرِ الدَّوْلَةِ الْحَالَ، فَكَمَنَا لَهُمْ، فَلَمَّا قَارَبُوهُمْ خَرَجَ الْكَمِينُ عَلَيْهِمْ، فَقُتِلَ مِنَ الرُّومِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُسِرَ مِثْلُهُمْ، وَأُسِرَ الْبِطْرِيقُ وَحُمِلَ إِلَى بَابِ الرُّهَا، وَقَالُوا لِمَنْ فِيهَا: إِمَّا أَنْ تَفْتَحُوا الْبَلَدَ لَنَا، وَإِمَّا قَتَلْنَا الْبِطْرِيقَ وَالْأَسْرَى الَّذِينَ مَعَهُ! فَفَتَحُوا الْبَلَدَ لِلْعَجْزِ عَنْ حِفْظِهِ، وَتَحَصَّنَ أَجْنَادُ الرُّومِ بِالْقَلْعَةِ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْمَدِينَةَ، وَغَنِمُوا مَا فِيهَا، وَامْتَلَأَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْغَنَائِمِ وَالسَّبْيِ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ، (وَأَرْسَلَ ابْنُ وَثَّابٍ إِلَى آمِدَ مِائَةً وَسِتِّينَ رَاحِلَةً عَلَيْهَا رُءُوسُ الْقَتْلَى) وَأَقَامَ مُحَاصِرًا لِلْقَلْعَةِ. ثُمَّ إِنَّ حَسَّانَ بْنَ الْجَرَّاحِ الطَّائِيَّ سَارَ فِي خَمْسَةِ آلَافِ فَارِسٍ مِنَ الْعَرَبِ وَالرُّومِ نَجْدَةً لِمَنْ بِالرُّهَا فَسَمِعَ ابْنُ وَثَّابٍ بِقُرْبِهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ مُجِدًّا لِيَلْقَاهُ قَبْلَ وُصُولِهِ، فَخَرَجَ مِنَ الرُّهَا مِنَ الرُّومِ إِلَى حَرَّانَ فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا، وَسَمِعَ ابْنُ وَثَّابٍ الْخَبَرَ فَعَادَ مُسْرِعًا، فَوَقَعَ عَلَى الرُّومِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ كَثِيرًا، وَعَادَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى الرُّهَا. ذِكْرُ غَدْرِ السَّنَاسِنَةِ وَأَخْذِ الْحَاجِّ وَإِعَادَةِ مَا أَخَذُوهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ وَخُرَاسَانَ، وَطَبَرِسْتَانَ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ يُرِيدُونَ الْحَجَّ، وَجَعَلُوا طَرِيقَهُمْ عَلَى أَرْمِينِيَّةَ وَخِلَاطَ، فَوَرَدُوا إِلَى آنِي وَوَسْطَانَ

فَثَارَ بِهِمُ الْأَرْمَنُ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَأَعَانَهُمُ السَّنَاسِنَةُ، وَهُمْ مِنَ الْأَرْمَنِ أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُمْ لَهُمْ حُصُونٌ مَنِيعَةٌ تُجَاوِرُ خِلَاطَ، وَهُمْ صُلْحٌ مَعَ صَاحِبِ خِلَاطَ. (وَلَمْ تَزَلْ هَذِهِ الْحُصُونُ بِأَيْدِيهِمْ مُنْفَرِدِينَ بِهَا) ، إِلَّا أَنَّهُمْ مُتَعَاهِدُونَ إِلَى سَنَةِ ثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَمَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ، وَأَزَالُوهُمْ عَنْهَا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَلَمَّا اتَّفَقُوا مَعَ الْأَرْمَنِ مِنْ رَعِيَّةِ الْبِلَادِ أَخَذُوا الْحَاجَّ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ كَثِيرًا، وَأَسَرُوا، وَسَبَوْا، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَحَمَلُوا ذَلِكَ أَجْمَعَ إِلَى الرُّومِ، وَطَمِعَ الْأَرْمَنُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، فَسَمِعَ نَصْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ مَرْوَانَ الْخَبَرَ، فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَعَزَمَ عَلَى غَزْوِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ، وَرَأَوْا جِدَّهُ فِيهِ رَاسَلَهُ مَلِكُ السَّنَاسِنَةِ، وَبَذَلَ إِعَادَةَ جَمِيعِ مَا أَخَذَ أَصْحَابُهُ، وَإِطْلَاقَ الْأَسْرَى وَالسَّبْيِ فَأَجَابَهُمْ إِلَى الصُّلْحِ، وَعَادَ عَنْهُمْ لِحَصَانَةِ قِلَاعِهِمْ، وَكَثْرَةِ الْمَضَايِقِ فِي بِلَادِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ بِالْقُرْبِ مِنَ الرُّومِ، فَخَافَ أَنْ يَسْتَنْجِدُوهُمْ وَيَمْتَنِعُوا بِهِمْ، فَصَالَحَهُمْ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُعِزِّ وَزِنَاتَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَتْ زِنَاتَةُ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَزَحَفَتْ فِي خَيْلِهَا وَرَجْلِهَا يُرِيدُونَ مَدِينَةَ الْمَنْصُورَةِ، فَلَقِيَهُمْ جُيُوشُ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، صَاحِبِهَا، بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْجَفْنَةُ قَرِيبٌ مِنَ الْقَيْرَوَانِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَتْ عَسَاكِرُ الْمُعِزِّ، فَفَارَقَتِ الْمَعْرَكَةَ، وَهُمْ عَلَى حَامِيَةٍ، ثُمَّ عَاوَدُوا الْقِتَالَ، وَحَرَّضَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَصَبَرَتْ صِنْهَاجَةُ، وَانْهَزَمَتْ زِنَاتَةُ هَزِيمَةً قَبِيحَةً، وَقُتِلَ مِنْهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَأُسِرَ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَتُعْرَفُ هَذِهِ الْوَقْعَةُ بِوَقْعَةِ الْجَفْنَةِ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ لِعِظَمِهَا عِنْدَهُمْ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ غَلَبَ نُورُهُ عَلَى نُورِ الشَّمْسِ، وَشُوهِدَ فِي آخِرِهَا مِثْلُ التِّنِّينِ يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ، وَبَقِيَ سَاعَةً وَذَهَبَ. وَفِيهَا كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَظِيمَةٌ اشْتَدَّتْ حَتَّى إِنَّ إِنْسَانًا كَانَ لَا يُبْصِرُ جَلِيسَهُ، وَأُخِذَ بِأَنْفَاسِ الْخَلْقِ، فَلَوْ تَأَخَّرَ انْكِشَافُهَا لَهَلَكَ أَكْثَرُهُمْ. وَفِيهَا قُبِضَ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، وَزِيرِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَهِيَ الْوَزَارَةُ السَّادِسَةُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي رَمَضَانَ، تُوُفِّيَ رَافِعُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مَقْنٍ، وَكَانَ حَازِمًا، شُجَاعًا، وَخَلَّفَ بِتَكْرِيتَ مَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَمَلَكَهَا ابْنُ أَخِيهِ خَمِيسُ بْنُ ثَعْلَبٍ، وَكَانَ طَرِيدًا فِي أَيَّامِ عَمِّهِ. وَحَمَلَ إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَأَصْلَحَ بِهَا الْجُنْدَ، وَكَانَتْ يَدُهُ قَدْ قُطِعَتْ [لِأَنَّ] بَعْضَ عَبِيدِ بَنِي عَمِّهِ كَانَ يَشْرَبُ مَعَهُ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرٍ خُصُومَةٌ، فَجَرَّدَا سَيْفَيْهِمَا فَقَامَ رَافِعٌ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا، فَضَرَبَ الْعَبْدُ يَدَهُ فَقَطَعَهَا غَلَطًا، وَلِرَافِعٍ فِيهَا شِعْرٌ، وَلَمْ تَمْنَعْهُ مِنْ قِتَالٍ [فَقَدَ] عَمِلَ لَهُ كَفًّا أُخْرَى يُمْسِكُ بِهَا الْعِنَانَ وَيُقَاتِلُ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: لَهَا رِيقَةٌ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، إِنَّهَا ... أَلَذُّ وَأَشْهَى فِي النُّفُوسِ مِنَ الْخَمْرِ وَصَارِمُ طَرْفٍ لَا يُزَايِلُ جَفْنَهُ ، وَلَمْ أَرَ سَيْفًا قَطُّ فِي جَفْنِهِ يَفْرِي ... فَقُلْتُ لَهَا، وَالْعِيسُ تُحْدَجُ بِالضُّحَى : أَعِدِّي لِفَقْدِي مَا اسْتَطَعْتِ مِنَ الصَّبْرِ

سَأُنْفِقُ رَيْعَانَ الشَّبِيبَةِ آنِفًا عَلَى طَلَبِ الْعَلْيَاءِ أَوْ طَلَبِ الْأَجْرِ (أَلَيْسَ مِنَ الْخُسْرَانِ أَنَّ لَيَالِيًا تَمُرُّ بِلَا نَفْعٍ وَتُحْسَبُ مِنْ عُمْرِي ) (وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، أَمَرَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ بِتَرْكِ التَّعَامُلِ بِالدَّنَانِيرِ الْمَغْرِبِيَّةِ، وَأَمَرَ الشُّهُودَ أَنْ لَا يَشْهَدُوا فِي كِتَابِ ابْتِيَاعٍ وَلَا غَيْرِهِ يُذْكَرُ فِيهِ هَذَا الصِّنْفُ مِنَ الذَّهَبِ، فَعَدَلَ النَّاسُ إِلَى الْقَادِرِيَّةِ، وَالسَّابُورِيَّةِ، وَالْقَاسَانِيَّةِ) .

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَة] 428 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنِ بَارَسْطُغَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ بَارَسْطُغَانَ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَيُلَقَّبُ حَاجِبَ الْحُجَّابِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ جَلَالَ الدَّوْلَةِ نَسَبَهُ إِلَى فَسَادِ الْأَتْرَاكِ، وَالْأَتْرَاكَ نَسَبُوهُ إِلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ، فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَالْتَجَأَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ فِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الْخَالِيَةِ. وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَالْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ، فَدَافَعَ الْخَلِيفَةُ عَنْهُ، وَبَارَسْطُغَانُ يُرَاسِلُ الْمَلِكَ أَبَا كَالِيجَارَ، فَأَرْسَلَ أَبُو كَالِيجَارَ جَيْشًا، فَوَصَلُوا إِلَى وَاسِطٍ وَاتَّفَقَ مَعَهُمْ عَسْكَرُ وَاسِطٍ، وَأَخْرَجُوا الْمَلِكَ الْعَزِيزَ بْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، فَأَصْعَدَ إِلَى أَبِيهِ، وَكَشَفَ بَارَسْطُغَانُ الْقِنَاعَ، فَاسْتَتْبَعَ أَصَاغِرَ الْمَمَالِيكِ وَنَادَوْا بِشِعَارِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَأَخْرَجُوا جَلَالَ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَاذَ، فَسَارَ إِلَى أَوَانَا وَمَعَهُ الْبَسَاسِيرِيُّ، وَأَخْرَجَ بَارَسْطُغَانُ الْوَزِيرَ أَبَا الْفَضْلِ الْعَبَّاسَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ فَسَانْجَسَ، فَنَظَرَ فِي الْأُمُورِ نِيَابَةً عَنِ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَأَرْسَلَ بَارَسْطُغَانُ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ الْخُطْبَةَ لِأَبِي كَالِيجَارَ فَاحْتَجَّ بِعُهُودِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، فَأَكْرَهَ الْخُطَبَاءَ عَلَى الْخُطْبَةِ لِأَبِي كَالِيجَارَ فَفَعَلُوا. وَجَرَى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُنَاوَشَاتٌ، وَسَارَ الْأَجْنَادُ الْوَاسِطِيُّونَ إِلَى بَارَسْطُغَانَ (بِبَغْدَاذَ فَكَانُوا مَعَهُ، وَتَنَقَّلَتِ الْحَالُ بَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَبَارَسْطُغَانَ) ، فَعَادَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَنَزَلَ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَمَعَهُ قِرْوَاشُ بْنُ الْمُقَلَّدِ الْعُقَيْلِيُّ، وَدُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ

الْأَسَدِيُّ، وَخُطِبَ لِجَلَالِ الدَّوْلَةِ بِهِ، وَبِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ لِأَبِي كَالِيجَارَ، وَأَعَانَ أَبُو الشَّوْكِ، وَأَبُو الْفَوَارِسِ مَنْصُورُ بْنُ الْحُسَيْنِ بَارَسْطُغَانَ عَلَى طَاعَةِ أَبِي كَالِيجَارَ. ثُمَّ سَارَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْأَنْبَارِ، وَسَارَ قِرْوَاشٌ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَقَبَضَ بَارَسْطُغَانُ عَلَى ابْنِ فَسَانْجَسَ، فَعَادَ مَنْصُورُ بْنُ الْحُسَيْنِ إِلَى بَلَدِهِ، وَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى بَارَسْطُغَانَ بِعَوْدِ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ إِلَى فَارِسَ، فَفَارَقَهُ الدَّيْلَمُ الَّذِينَ جَاءُوا نَجْدَةً لَهُ، فَضَعُفَ أَمْرُهُ، (فَدَفَعَ مَالَهُ) وَحُرَمَهُ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، وَانْحَدَرَ إِلَى وَاسِطٍ، وَعَادَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَرْسَلَ الْبَسَاسِيرِيَّ وَالْمُرْشِدَ وَبَنِي خَفَاجَةَ فِي أَثَرِهِ فَتَبِعَهُمْ جَلَالُ الدَّوْلَةِ وَدُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ، فَلَحِقُوهُ بِالْخَيْزُرَانِيَّةِ، فَقَاتَلُوهُ فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَأُخِذَ أَسِيرًا وَحُمِلَ إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ، فَقَتَلَهُ وَحَمَلَ رَأْسَهُ، وَكَانَ عُمْرُهُ نَحْوَ سَبْعِينَ سَنَةً. (وَسَارَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطٍ فَمَلَكَهَا، وَأَصْعَدَ إِلَى بَغْدَاذَ) ، فَضَعُفَ أَمْرُ الْأَتْرَاكِ، وَطَمِعَ فِيهِمُ الْأَعْرَابُ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى إِقْطَاعَاتِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى كَفِّ أَيْدِيهِمْ عَنْهَا، وَكَانَتْ مُدَّةُ بَارَسْطُغَانَ مِنْ حِينِ كَاشَفَ جَلَالَ الدَّوْلَةِ إِلَى أَنْ قُتِلَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ. ذِكْرُ الصُّلْحِ بَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَأَبِي كَالِيجَارَ وَالْمُصَاهَرَةِ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَابْنِ أَخِيهِ أَبِي كَالِيجَارَ، سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، فِي الصُّلْحِ وَالِاتِّفَاقِ، وَزَوَالِ الْخُلْفِ، وَكَانَ الرُّسُلُ (أَقْضَى الْقُضَاةِ) أَبَا الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيَّ، وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْدُوسْتِيَّ، وَغَيْرَهُمَا، فَاتَّفَقَا عَلَى الصُّلْحِ. وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلِكَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ إِلَى أَبِي كَالِيجَارَ الْخِلَعَ

النَّفِيسَةَ، وَوَقَعَ الْعَقْدُ لِأَبِي مَنْصُورِ بْنِ أَبِي كَالِيجَارَ عَلَى ابْنَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ الصَّدَاقُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ قَاسَانِيَّةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُكْرَمٍ صَاحِبُ عُمَانَ، وَكَانَ جَوَّادًا، مُمَدَّحًا، وَقَامَ ابْنُهُ مَقَامَهُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ سَلَامَةَ، أَمِيرُ تِهَامَةَ، بِالْيَمَنِ، وَوَلِيَ ابْنُهُ بَعْدَهُ، فَعَصَى عَلَيْهِ خَادِمٌ كَانَ لِوَالِدِهِ. وَأَرَادَ أَنْ يَمْلِكَ فَجَرَى بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ تَمَادَتْ أَيَّامُهَا، فَفَارَقَ أَهْلُ تِهَامَةَ أَوْطَانَهُمْ إِلَى غَيْرِ مَمْلَكَةِ وَلَدِ الْحُسَيْنِ هَرَبًا مِنَ الشَّرِّ وَتَفَاقُمِ الْأَمْرِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِهْيَارُ الشَّاعِرُ، وَكَانَ مَجُوسِيًّا، فَأَسْلَمَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَصَحِبَ الشَّرِيفَ الرَّضِيَّ، وَقَالَ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بُرْهَانَ: يَا مِهْيَارُ قَدِ انْتَقَلْتَ بِإِسْلَامِكَ فِي النَّارِ مِنْ زَاوِيَةٍ إِلَى زَاوِيَةٍ! قَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ كُنْتَ مَجُوسِيًّا، فَصِرْتَ تَسُبُّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي شِعْرِكَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ، وَالْحَاجِبُ أَبُو الْحُسَيْنِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أُخْتِ الْفَاضِلِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَبِ وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي الرَّيَّانِ بِمَطِيرَابَاذَ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَدْ مَدَحَهُ الرَّضِيُّ وَابْنُ نُبَاتَةَ وَغَيْرُهُمَا.

وَفِيهَا عَاوَدَ الْمُعِزُّ بْنُ بَادِيسَ حَرْبَ زِنَاتَةَ بِإِفْرِيقِيَّةَ، فَهَزَمَهُمْ وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَخَرَّبَ مَسَاكِنَهُمْ وَقُصُورَهُمْ. وَفِي شَعْبَانَ تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا الْحَكِيمُ، الْفَيْلَسُوفُ الْمَشْهُورُ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ السَّائِرَةِ عَلَى مَذَاهِبِ الْفَلَاسِفَةِ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِأَصْبَهَانَ، وَكَانَ يَخْدُمُ عَلَاءَ الدَّوْلَةِ أَبَا جَعْفَرِ بْنِ كَاكَوَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ كَانَ فَاسِدَ الِاعْتِقَادِ، فَلِهَذَا أَقْدَمَ ابْنُ سِينَا عَلَى تَصَانِيفِهِ فِي الْإِلْحَادِ، وَالرَّدِّ عَلَى الشَّرَائِعِ (فِي بَلَدِهِ) .

ثم دخلت سنة تسع وعشرين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَة] 429 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ مُحَاصَرَةِ الْأَبْخَازِ تَفْلِيسَ وَعَوْدِهِمْ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ مَلِكُ الْأَبْخَازِ مَدِينَةَ تَفْلِيسَ، وَامْتَنَعَ أَهْلُهَا عَلَيْهِ، فَأَقَامَ عَلَيْهِمْ مُحَاصِرًا وَمُضَيِّقًا، فَنَفِدَتِ الْأَقْوَاتُ، وَانْقَطَعَتِ الْمِيرَةُ، فَأَنْفَذَ أَهْلُهَا إِلَى أَذْرَبِيجَانَ يَسْتَنْفِرُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْأَلُونَهُمْ إِعَانَتَهُمْ، فَلَمَّا وَصَلَ الْغُزُّ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَسَمِعَ الْأَبْخَازُ بِقُرْبِهِمْ، وَبِمَا فَعَلُوا بِالْأَرْمَنِ، رَحَلُوا عَنْ تَفْلِيسَ مُجْفِلِينَ خَوْفًا. وَلَمَّا رَأَى وَهْسُوذَانُ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ قُوَّةَ الْغُزِّ، وَأَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمْ، لَاطَفَهُمْ وَصَاهَرَهُمْ وَاسْتَعَانَ بِهِمْ، (وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ) . ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ طُغْرُلْبَكُ بِخُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ رُكْنُ الدِّينِ أَبُو طَالِبٍ طُغْرُلْبَكُ مُحَمَّدُ بْنُ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ مَدِينَةَ نَيْسَابُورَ مَالِكًا لَهَا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْغُزَّ السُّلْجُقِيَّةَ لَمَّا ظَهَرُوا بِخُرَاسَانَ أَفْسَدُوا، وَنَهَبُوا، وَخَرَّبُوا الْبِلَادَ، وَسَبَوْا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَسَمِعَ الْمَلِكُ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ الْخَبَرَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ حَاجِبَهُ سَبَاشِيَ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ مِنْ غَزْنَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ خُرَاسَانَ ثَقُلَ عَلَى مَا سَلِمَ مِنَ الْبِلَادِ بِالْإِقَامَاتِ فَخَرَّبَ السَّالِمَ مِنْ تَخْرِيبِ الْغُزِّ، فَأَقَامَ مُدَّةَ سَنَةٍ عَلَى الْمُدَافَعَةِ وَالْمُطَاوَلَةِ، لَكِنَّهُ كَانَ يَتْبَعُ أَثَرَهُمْ إِذَا بَعُدُوا، وَيَرْجِعُ عَنْهُمْ إِذَا أَقْبَلُوا اسْتِعْمَالًا لِلْمُحَاجَزَةِ، وَإِشْفَاقًا مِنَ الْمُحَارَبَةِ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ

وَهُوَ بِقَرْيَةٍ بِظَاهِرِ سَرَخْسَ، وَالْغُزُّ بِظَاهِرِ مَرْوٍ مَعَ طُغْرُلْبَكَ، وَقَدْ بَلَغَهُمْ خَبَرُهُ، أَسْرَوْا إِلَيْهِ وَقَاتَلُوهُ يَوْمَ وَصَلُوا فَلَمَّا جَنَّهُمُ اللَّيْلُ أَخَذَ سَبَاشِي مَا خَفَّ مِنْ مَالٍ وَهَرَبَ فِي خَوَاصِّهِ، وَتَرَكَ خِيَمَهُ وَنِيرَانَهُ عَلَى حَالِهَا، قِيلَ فَعَلَ ذَلِكَ مُوَاطَأَةً لِلْغُزِّ عَلَى الْهَزِيمَةِ، فَلَمَّا أَسْفَرَ الصُّبْحُ عَرَفَ الْبَاقُونَ مِنْ عَسْكَرِهِ خَبَرَهُ، فَانْهَزَمُوا، وَاسْتَوْلَى الْغُزُّ عَلَى مَا وَجَدُوهُ فِي مُعَسْكَرِهِمْ مِنْ سَوَادِهِمْ، وَقَتَلُوا مِنَ الْهُنُودِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا مَقْتَلَةً عَظِيمَةً. وَأَسْرَى دَاوُدُ أَخُو طُغْرُلْبَكَ، وَهُوَ وَالِدُ السُّلْطَانِ أَلْبِ أَرْسِلَانَ، إِلَى نَيْسَابُورَ، وَسَمِعَ أَبُو سَهْلٍ الْحَمْدُونِيُّ وَمَنْ مَعَهُ بِهَا، فَفَارَقُوهَا، وَوَصَلَ دَاوُدُ وَمَنْ مَعَهُ إِلَيْهَا، فَدَخَلُوهَا بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَلَمْ يُغَيِّرُوا شَيْئًا مِنْ أُمُورِهَا، وَوَصَلَ بَعْدَهُمْ طُغْرُلْبَكُ ثُمَّ وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى الَّذِينَ بِالرَّيِّ وَهَمَذَانَ وَبَلَدِ الْجَبَلِ يَنْهَاهُمْ عَنِ النَّهْبِ وَالْقَتْلِ وَالْإِخْرَابِ، وَيَعِظُهُمْ، فَأَكْرَمُوا الرُّسُلَ، وَعَظَّمُوهُمْ، وَخَدَمُوهُمْ. وَخَاطَبَ دَاوُدُ طُغْرُلْبَكَ فِي نَهْبِ الْبَلَدِ فَمَنَعَهُ فَامْتَنَعَ وَاحْتَجَّ بِشَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا انْسَلَخَ رَمَضَانُ صَمَّمَ دَاوُدُ عَلَى نَهْبِهِ، فَمَنَعَهُ طُغْرُلْبَكُ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِرُسُلِ الْخَلِيفَةِ وَكِتَابِهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ دَاوُدُ إِلَيْهِ، وَقَوِيَ عَزْمُهُ عَلَى النَّهْبِ، فَأَخْرَجَ طُغْرُلْبَكُ سِكِّينًا وَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لَئِنْ نَهَبْتَ شَيْئًا لَأَقْتُلَنَّ نَفْسِي! فَكَفَّ عَنْ ذَلِكَ، وَعَدَلَ إِلَى التَّقْسِيطِ، فَقَسَّطَ عَلَى أَهْلِ نَيْسَابُورَ نَحْوَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَفَرَّقَهَا فِي أَصْحَابِهِ. وَأَقَامَ طُغْرُلْبَكُ بِدَارِ الْإِمَارَةِ، وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ، وَصَارَ يَقْعُدُ لِلْمَظَالِمِ يَوْمَيْنِ فِي الْأُسْبُوعِ عَلَى قَاعِدَةِ وُلَاةِ خُرَاسَانَ (وَسَيَّرَ أَخَاهُ دَاوُدَ إِلَى سَرَخْسَ فَمَلَكَهَا، ثُمَّ اسْتَوْلَوْا عَلَى سَائِرِ بِلَادِ خُرَاسَانَ سِوَى بَلْخَ، وَكَانُوا يَخْطُبُونَ لِلْمَلِكِ مَسْعُودٍ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَطَةِ. وَكَانُوا ثَلَاثَةَ إِخْوَةٍ: طُغْرُلْبَكَ، وَدَاوُدَ، وَبِيغُو، وَكَانَ يَنَالُ، وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ أَخَا طُغْرُلْبَكَ وَدَاوُدَ لِأُمِّهِمَا، ثُمَّ خَرَجَ مَسْعُودٌ مِنْ غَزْنَةَ وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ذِكْرُ مُخَاطَبَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ بِمَلِكِ الْمُلُوكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَأَلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ الْخَلِيفَةَ الْقَائِمَ بِأَمْرِ اللَّهِ لِيُخَاطَبَ بِمَلِكِ الْمُلُوكِ، فَامْتَنَعَ، ثُمَّ أَجَابَ إِلَيْهِ إِذَا أَفْتَى الْفُقَهَاءُ بِجَوَازِهِ، فَكَتَبَ فَتْوَى إِلَى الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ فَأَفْتَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ، وَالْقَاضِي ابْنُ الْبَيْضَاوِيِّ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الْكَرْخِيُّ بِجَوَازِهِ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ أَفْتَى بِجَوَازِهِ مُرَاجَعَاتٌ وَخُطِبَ لِجَلَالِ الدَّوْلَةِ بِمَلِكِ الْمُلُوكِ. وَكَانَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ أَخَصِّ النَّاسِ بِجَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى دَارِ الْمَمْلَكَةِ كُلَّ يَوْمٍ، فَلَمَّا أَفْتَى بِهَذِهِ الْفُتْيَا انْقَطَعَ وَلَزِمَ بَيْتَهُ خَائِفًا، فَأَقَامَ مُنْقَطِعًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى يَوْمِ عِيدِ النَّحْرِ، فَاسْتَدْعَاهُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ، فَحَضَرَ خَائِفًا فَأَدْخَلَهُ وَحْدَهُ وَقَالَ لَهُ: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّكَ مِنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مَالًا وَجَاهًا وَقُرْبًا مِنَّا وَقَدْ خَالَفْتَهُمْ فِيمَا خَالَفَ هَوَايَ، وَلَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا لِعَدَمِ الْمُحَابَاةِ مِنْكَ، وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَقَدْ بَانَ لِي مَوْضِعُكَ مِنَ الدِّينِ، وَمَكَانُكَ مِنَ الْعِلْمِ. وَجَعَلْتُ جَزَاءَ ذَلِكَ إِكْرَامَكَ بِأَنْ أَدْخَلْتُكَ إِلَيَّ وَحْدَكَ، وَجَعَلْتُ إِذْنَ الْحَاضِرِينَ إِلَيْكَ، لِيَتَحَقَّقُوا عَوْدِي إِلَى مَا تُحِبُّ. فَشَكَرَهُ وَدَعَا لَهُ، وَأَذِنَ لِكُلِّ مَنْ حَضَرَ بِالْخِدْمَةِ وَالِانْصِرَافِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ شِبْلُ الدَّوْلَةِ نَصْرُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ، صَاحِبُ حَلَبَ، قَتَلَهُ الدِّزْبَرِيُّ وَعَسَاكِرُ مِصْرَ، وَمَلَكُوا حَلَبَ. وَفِيهَا أَنْكَرَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيِّ مَا ضَمَّنَهُ كِتَابَهُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الْمُشْعِرَةِ بِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ التَّجَسُّمَ، وَحَضَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَزْوِينِيُّ الزَّاهِدُ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، وَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

وَفِيهَا صَالَحَ ابْنُ وَثَّابٍ النُّمَيْرِيُّ صَاحِبُ حَرَّانَ، الرُّومَ الَّذِينَ بِالرُّهَا لِعَجْزِهِ عَنْهُمْ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ رَبَضَ الرُّهَا، وَكَانَ تَسَلُّمُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، فَنَزَلُوا مِنَ الْحِصْنِ الَّذِي لِلْبَلَدِ إِلَيْهِ، وَكَثُرَ الرُّومُ بِهَا، وَخَافَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حَرَّانَ مِنْهُمْ، وَعَمَّرَ الرُّومُ الرُّهَا الْعِمَارَةَ الْحَسَنَةَ وَحَصَّنُوهَا. وَفِيهَا هَادَنَ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ الْخَلِيفَةُ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ مِصْرَ، مَلِكَ الرُّومِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ إِطْلَاقَ خَمْسَةِ آلَافِ أَسِيرٍ، وَشَرَطَ الرُّومُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَمِّرُوا بِيعَةَ قُمَامَةَ، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ إِلَيْهَا مَنْ عَمَّرَهَا، وَأَخْرَجَ عَلَيْهَا مَالًا جَلِيلًا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَتْ عَسَاكِرُ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، بِإِفْرِيقِيَّةَ إِلَى بَلَدِ الزَّابِّ، فَفَتَحُوا مَدِينَةً تُسَمَّى بُورَسَ، وَقَتَلُوا مِنَ الْبَرْبَرِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَفَتَحَ مِنْ بِلَادِ زِنَاتَةَ قَلْعَةً تُسَمَّى كُرُومَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَخْلَدٍ أَبُو الْفَضْلِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَاقَرْحِيِّ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ.

ثم دخلت سنة ثلاثين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَة] 430 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ وُصُولِ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ مِنْ غَزْنَةَ إِلَى خُرَاسَانَ وَإِجْلَاءِ السُّلْجُقِيَّةِ عَنْهَا فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ إِلَى بَلْخَ مِنْ غَزْنَةَ وَزَوَّجَ (ابْنَهُ مِنْ) ابْنَةِ بَعْضِ مُلُوكِ الْخَانِيَّةِ، كَانَ يَتَّقِي جَانِبَهُ، وَأَقْطَعَ خُوَارَزْمَ لِشَاهْ مَلِكَ الْجُنْدِيِّ، فَسَارَ إِلَيْهَا، وَبِهَا خُوَارَزْمَشَاهْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَلْتُونْتَاشَ، فَجَمَعَ أَصْحَابَهُ، وَلَقِيَ شَاهْ مَلِكَ وَقَاتَلَهُ، وَدَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمَا مُدَّةَ شَهْرٍ، وَانْهَزَمَ إِسْمَاعِيلُ وَالْتَجَأَ إِلَى طُغْرُلْبَكَ وَأَخِيهِ دَاوُدَ السُّلْجُقِيَّةِ، وَمَلَكَ شَاهْ مَلِكَ خُوَارَزْمَ. وَكَانَ مَسِيرُ مَسْعُودٍ مِنْ غَزْنَةَ أَوَّلَ سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ; وَسَبَبُ خُرُوجِهِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ أَخْبَارِ الْغُزِّ، وَمَا فَعَلُوهُ بِالْبِلَادِ وَأَهْلِهَا مِنَ الْإِخْرَابِ وَالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالِاسْتِيلَاءِ، وَأَقَامَ بِبَلْخَ حَتَّى أَرَاحَ وَاسْتَرَاحَ، وَفَرَغَ مِنْ أَمْرِ خَوَارَزْمَ وَالْخَانِيَّةِ ثُمَّ أَمَدَّ سَبَاشِيَ الْحَاجِبَ بِعَسْكَرٍ لِيَتَقَوَّى بِهِمْ وَيَهْتَمَّ بِأَمْرِ الْغُزِّ وَاسْتِئْصَالِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الْكِفَايَةِ مَا يَقْهَرُهُمْ بَلْ أَخْلَدَ إِلَى الْمُطَاوَلَةِ الَّتِي هِيَ عَادَتُهُ. وَسَارَ مَسْعُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ مِنْ بَلْخَ بِنَفْسِهِ، وَقَصَدَ سَرَخْسَ، فَتَجَنَّبَ الْغُزُّ لِقَاءَهُ، وَعَدَلُوا إِلَى الْمُرَاوَغَةِ وَالْمُخَاتَلَةِ، وَأَظْهَرُوا الْعَزْمَ عَلَى دُخُولِ الْمَفَازَةِ الَّتِي بَيْنَ مَرْوَ وَخَوَارَزْمَ، فَبَيْنَمَا عَسَاكِرُ مَسْعُودٍ تَتْبَعُهُمْ وَتَطْلُبُهُمْ إِذْ لَقُوا طَائِفَةً مِنْهُمْ فَقَاتَلُوهُمْ وَظَفِرُوا بِهِمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ.

ثُمَّ إِنَّهُ وَاقَعَهُمْ بِنَفْسِهِ، فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقْعَةً اسْتَظْهَرَ [فِيهَا] عَلَيْهِمْ، فَأَبْعَدُوا عَنْهُ، ثُمَّ عَاوَدُوا الْقُرْبَ مِنْهُ بِنَوَاحِي مَرْوَ، فَوَاقَعَهُمْ وَقْعَةً أُخْرَى قَتَلَ مِنْهُمْ [فِيهَا] نَحْوَ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ قَتِيلٍ، وَهَرَبَ الْبَاقُونَ فَدَخَلُوا الْبَرِّيَّةَ الَّتِي يَحْتَمُونَ بِهَا. وَثَارَ أَهْلُ نَيْسَابُورَ بِمَنْ عِنْدَهُمْ مِنْهُمْ، فَقَتَلُوا بَعْضًا وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ بِالْبَرِّيَّةِ. وَعَدَلَ مَسْعُودٌ إِلَى هَرَاةَ لِيَتَأَهَّبَ فِي الْعَسَاكِرِ لِلْمَسِيرِ خَلْفَهُمْ وَطَلَبِهِمْ أَيْنَ كَانُوا، فَعَادَ طُغْرُلْبَكُ إِلَى الْأَطْرَافِ النَّائِيَةِ عَنْ مَسْعُودٍ. فَنَهَبَهَا وَأَثْخَنَ فِيهَا، وَكَانَ النَّاسُ قَدْ تَرَاجَعُوا فَمَلَئُوا أَيْدِيَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ، فَحِينَئِذٍ سَارَ مَسْعُودٌ يَطْلُبُهُ، فَلَمَّا قَارَبَهُ انْزَاحَ طُغْرُلْبَكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ إِلَى أُسْتُوَا وَأَقَامَ بِهَا، وَكَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الثَّلْجَ وَالْبَرَدَ يَمْنَعُ عَنْهُ، فَطَلَبَهُ مَسْعُودٌ إِلَيْهَا فَفَارَقَهُ طُغْرُلْبَكُ وَسَلَكَ الطَّرِيقَ عَلَى طُوسَ، وَاحْتَمَى بِجِبَالٍ مَنِيعَةٍ، وَمَضَايِقَ صَعْبَةِ الْمَسْلَكِ، فَسَيَّرَ مَسْعُودٌ فِي طَلَبِهِ وَزِيرَهُ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ فِي عَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ، فَطَوَى الْمَرَاحِلَ إِلَيْهِ جَرِيدَةً، فَلَمَّا رَأَى طُغْرُلْبَكُ قُرْبَهُ مِنْهُ فَارَقَ مَكَانَهُ إِلَى نَوَاحِي أَبِيوَرْدَ. وَكَانَ مَسْعُودٌ قَدْ سَارَ لِيَقْطَعَهُ عَنْ جِهَةٍ إِنْ أَرَادَهَا فَلَقِيَ طُغْرُلْبَكُ مُقَدَّمَتَهُ فَوَاقَعَهُمْ فَانْتَصَرُوا عَلَيْهِ، وَاسْتَأْمَنَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً، وَرَأَى الطَّلَبَ لَهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَعَاوَدَ دُخُولَ الْمَفَازَةِ إِلَى خُوَارَزْمَ وَأَوْغَلَ فِيهَا. فَلَمَّا فَارَقَ الْغُزُّ خُرَاسَانَ قَصَدَ مَسْعُودٌ جَبَلًا مِنْ جِبَالِ طُوسَ مَنِيعًا لَا يُرَامُ، وَكَانَ أَهْلُهُ قَدْ وَافَقُوا الْغُزَّ وَأَفْسَدُوا مَعَهُمْ، فَلَمَّا فَارَقَ الْغُزُّ تِلْكَ الْبِلَادَ تَحَصَّنَ هَؤُلَاءِ بِجَبَلِهِمْ ثِقَةً مِنْهُمْ بِحَصَانَتِهِ وَامْتِنَاعِهِ، فَسَرَى مَسْعُودٌ إِلَيْهِمْ جَرِيدَةً، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا وَقَدْ خَالَطَهُمْ، فَتَرَكُوا أَهْلَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَصَعِدُوا إِلَى قُلَّةِ الْجَبَلِ وَاعْتَصَمُوا بِهَا وَامْتَنَعُوا، وَغَنِمَ عَسْكَرُ مَسْعُودٍ أَمْوَالَهُمْ وَمَا ادَّخَرُوهُ. ثُمَّ أَمَرَ مَسْعُودٌ أَصْحَابَهُ أَنْ يَزْحَفُوا إِلَيْهِمْ فِي قُلَّةِ الْجَبَلِ، وَبَاشَرَ هُوَ الْقِتَالَ بِنَفْسِهِ، فَزَحَفَ النَّاسُ إِلَيْهِمْ، وَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ، وَكَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً، وَالثَّلْجُ

عَلَى الْجَبَلِ كَثِيرًا، فَهَلَكَ مِنَ الْعَسْكَرِ فِي مَخَارِمِ الْجَبَلِ وَشِعَابِهِ كَثِيرٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ ظَفِرُوا بِأَهْلِهِ وَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ وَفَرَغُوا مِنْهُمْ، وَأَرَاحُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِمْ. وَسَارَ مَسْعُودٌ إِلَى نَيْسَابُورَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، لِيُرِيحَ وَيَسْتَرِيحَ، وَيَنْتَظِرَ الرَّبِيعَ لِيَسِيرَ خَلْفَ الْغُزِّ، وَيَطْلُبَهُمْ فِي الْمَفَاوِزِ الَّتِي احْتَمَوْا بِهَا. وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ، إِجْلَاءُ الْغُزِّ عَنْ خُرَاسَانَ، سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مُلْكِ أَبِي الشَّوْكِ مَدِينَةَ خُولَنْجَانَ كَانَ حُسَامُ الدَّوْلَةِ أَبُو الشَّوْكِ قَدْ فَتَحَ قَرْمِيسِينَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَبَلِ، وَقَبَضَ عَلَى صَاحِبِهَا، وَهُوَ مِنَ الْأَكْرَادِ الْقُوهِيَّةِ، فَسَارَ أَخُوهُ إِلَى قَلْعَةِ أَرْنَبَةَ، فَاعْتَصَمَ بِهَا مِنْ أَبِي الشَّوْكِ، وَجَعَلَ أَصْحَابَهُ فِي مَدِينَةِ خُولَنْجَانَ يَحْفَظُونَهَا مِنْهُ أَيْضًا. فَلَمَّا كَانَ الْآنَ سَيَّرَ أَبُو الشَّوْكِ عَسْكَرًا إِلَى خُولَنْجَانَ فَحَصَرُوهَا، فَلَمْ يَظْفَرُوا مِنْهَا بِشَيْءٍ، فَأَمَرَ الْعَسْكَرَ فَعَادَ فَأَمِنَ مَنْ فِي الْبَلَدِ بِعَوْدِ الْعَسْكَرِ عَنْهُ. ثُمَّ جَهَّزَ عَسْكَرًا آخَرَ جَرِيدَةً لَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ أَحَدٌ، وَسَيَّرَهُمْ لِيَوْمِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِنَهْبِ رَبَضِ قَلْعَةِ أَرْنَبَةَ، وَقَتْلِ مَنْ ظَفِرُوا بِهِ وَالْإِتْمَامِ لِوَقْتِهِمْ إِلَى خُولَنْجَانَ لِيَسْبِقُوا خَبَرَهُمْ إِلَيْهَا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَوَصَلُوا إِلَيْهَا وَمَنْ بِهَا غَيْرُ مُتَأَهِّبِينَ فَاقْتَتَلُوا شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ، ثُمَّ اسْتَسْلَمَ مَنْ بِالْمَدِينَةِ إِلَيْهِمْ فَتَسَلَّمُوهَا، وَتَحَصَّنَ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْأَجْنَادِ فِي قَلْعَةٍ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ، فَحَصَرَهَا أَصْحَابُ أَبِي الشَّوْكِ، فَمَلَكُوهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. ذِكْرُ الْخُطْبَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ بِحَرَّانَ وَالرَّقَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَطَبَ شَبِيبُ بْنُ وَثَّابٍ النُّمَيْرِيُّ، صَاحِبُ حَرَّانَ وَالرَّقَّةِ، لِلْإِمَامِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ الْعَلَوِيِّ.

وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ نَصْرَ الدَّوْلَةِ بْنَ مَرْوَانَ كَانَ قَدْ بَلَغَهُ عَنِ الدِّزْبَرِيِّ نَائِبِ الْعَلَوِيِّينَ بِالشَّامِ أَنَّهُ يَتَهَدَّدُهُ وَيُرِيدُ قَصْدَ بِلَادِهِ، فَرَاسَلَ قِرْوَاشًا، صَاحِبَ الْمَوْصِلِ، وَطَلَبَ مِنْهُ عَسْكَرًا (وَرَاسَلَ شَبِيبًا النُّمَيْرِيَّ يَدْعُوهُ) إِلَى الْمُوَافَقَةِ، وَيُحَذِّرُهُ مِنَ الْمَغَارِبَةِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَطَعَ الْخُطْبَةَ الْعَلَوِيَّةَ، وَأَقَامَ الْخُطْبَةَ الْعَبَّاسِيَّةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الدِّزْبَرِيُّ يَتَهَدَّدُهُ، ثُمَّ أَعَادَ الْخُطْبَةَ الْعَلَوِيَّةَ بِحَرَّانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِيهَا تُوُفِّيَ مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الرُّخَّجِيُّ، وَكَانَ وَزِيرًا لِمُلُوكِ بَنِي بُوَيْهِ ثُمَّ تَرَكَ الْوَزَارَةَ، وَكَانَ فِي عُطْلَتِهِ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْوُزَرَاءِ. وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ أَبُو الْفُتُوحِ الْحَسَنُ بْنُ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيُّ أَمِيرُ مَكَّةَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَاكُولَا مَحْبُوسًا بِهِيتَ، (وَكَانَ مُقَامُهُ فِي الْحَبْسِ سَنَتَيْنِ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ) وَكَانَ وَزِيرَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ وَالِدُ الْأَمِيرِ أَبِي نَصْرٍ، مُصَنِّفِ كِتَابِ " الْإِكْمَالِ فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ " وَكَانَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ سَلَّمَهُ إِلَى قِرْوَاشٍ فَحَبَسَهُ بِهِيت َ. وَفِيهَا سَقَطَ الثَّلْجُ بِبَغْدَاذَ لَسِتٍّ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَارْتَفَعَ عَلَى الْأَرْضِ شِبْرًا وَرَمَاهُ النَّاسُ عَنْ (السُّطُوحِ إِلَى الشَّوَارِعِ) وَجَمَدَ الْمَاءُ سِتَّةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ، وَكَانَ أَوَّلُ ذَلِكَ الثَّاِثَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ كَانُونَ الثَّانِي.

[تَابِعُ الْوَفَيَاتِ] وَتُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ (أَحْمَدَ بْنِ) إِسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِيُّ الْحَافِظُ، وَأَبُو الرِّضَا الْفَضْلُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ الظَّرِيفِ الْفَارِقِيُّ، الْأَمِيرُ الشَّاعِرُ، لَهُ دِيوَانٌ حَسَنٌ، وَشِعْرٌ جَيِّدٌ فَمِنْهُ: وَمُخْطَفِ الْخَصْرِ مَطْبُوعٍ عَلَى صَلَفٍ ... عَشِقْتُهُ وَدَوَاعِي الْبَيْنِ تَعْشَقُهُ وَقَدْ تَسَامَحَ قَلْبِي فِي مُوَاصَلَةٍ ... وَكُلَّ يَوْمٍ لَنَا شَمْلٌ يُفَرِّقُهُ وَقَدْ تَسَامَحَ قَلْبِي فِي مُوَاصَلَتِي ... عَلَى السُّلُوِّ وَلَكِنْ مَنْ يُصَدِّقُهُ أَهَابَهُ وَهُوَ طَلْقُ الْوَجْهِ مُبْتَسِمٌ ... وَكَيْفَ يُطْمِعُنِي فِي السَّيْفِ رَوْنَقُهُ

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 431 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ الْمَلِكُ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ قَلْعَةً بِخُرَاسَانَ كَانَتْ بِيَدِ الْغُزِّ، وَقَتَلَ فِيهَا جَمَاعَةً مِنْهُمْ، وَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَقَعَاتٌ أَجْلَتْ عَنْ فِرَاقِهِمْ خُرَاسَانَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ ثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . ذِكْرُ مُلْكِ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ الْبَصْرَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ عَسَاكِرَهُ مَعَ الْعَادِلِ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ مَافَنَّةَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَمَلَكَهَا فِي صَفَرٍ، وَكَانَتْ بِيَدِ الظَّهِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ وَلِيَهَا بَعْدَ بَخْتَيَارَ، وَأَنَّهُ عَصَى عَلَى أَبِي كَالِيجَارَ مَرَّةً، وَصَارَ فِي طَاعَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ فَارَقَ طَاعَتَهُ وَعَادَ إِلَى طَاعَةِ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَكَانَ يَتْرُكُ مُحَاقَّتَهُ وَمُعَارَضَتَهُ فِيمَا يَفْعَلُهُ، وَيَضْمَنُ الظَّهِيرُ أَنْ يَحْمِلَ إِلَى أَبِي كَالِيجَارَ كُلَّ سَنَةٍ سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُ وَدَامَتْ أَيَّامُهُ وَثَبَتَ قَدَمُهُ وَطَارَ اسْمُهُ. وَاتَّفَقَ أَنَّهُ تَعَرَّضَ إِلَى أَمْلَاكِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مُكْرَمٍ، صَاحِبِ عُمَانَ، وَأَمْوَالِهِ، وَكَاتَبَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَلِكَ أَبَا كَالِيجَارَ، وَبَذَلَ لَهُ زِيَادَةً ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي ضَمَانِ الْبَصْرَةِ كُلَّ سَنَةٍ، وَجَرَى الْحَدِيثُ فِي قَصْدِ الْبَصْرَةِ، فَصَادَفَ قَلْبًا مُوغَرًا مِنَ الظَّهِيرِ، فَحَصَلَتِ الْإِجَابَةُ، وَجَهَّزَ الْمَلِكُ الْعَسَاكِرَ مَعَ الْعَادِلِ أَبِي مَنْصُورٍ فَسَارَ إِلَيْهَا وَحَصَرَهَا. وَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ مِنْ عُمَانَ أَيْضًا فِي الْبَحْرِ وَحُصِرَتِ الْبَصْرَةُ وَمُلِكَتْ، وَأُخِذَ الظَّهِيرُ وَقُبِضَ عَلَيْهِ، وَأُخِذَ جَمِيعُ مَالِهِ، وَقُرِّرَ عَلَيْهِ مِائَةُ أَلْفٍ وَعَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ

يَحْمِلُهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، بَعْدَ تِسْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ أُخِذَتْ مِنْهُ قَبْلَهَا، وَوَصَلَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَأَقَامَ بِهَا ثُمَّ عَادَ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَجَعَلَ وَلَدَهُ عِزَّ الْمُلُوكِ فِيهَا، وَمَعَهُ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ فَسَانْجَسَ، وَلَمَّا سَارَ أَبُو كَالِيجَارَ عَنِ الْبَصْرَةِ أَخَذَ مَعَهُ الظَّهِيرَ إِلَى الْأَهْوَازِ. ذِكْرُ مَا جَرَى بِعُمَانَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مُكْرَمٍ لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مُكْرَمٍ خَلَّفَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ: أَبُو الْجَيْشِ، وَالْمُهَذَّبُ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ، وَآخَرُ صَغِيرٌ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْجَيْشِ، وَأَقَرَّ عَلِيَّ بْنَ هَطَّالٍ الْمَنُوجَانِيَّ، صَاحِبجَيْشِ أَبِيهِ، عَلَى قَاعِدَتِهِ، وَأَكْرَمَهُ وَبَالَغَ فِي احْتِرَامِهِ، فَكَانَ إِذَا جَاءَ إِلَيْهِ قَامَ لَهُ، فَأَنْكَرَ هَذِهِ الْحَالَ عَلَيْهِ أَخُوهُ الْمُهَذَّبُ، فَطَعَنَ عَلَى ابْنِ هَطَّالٍ، وَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَأَضْمَرَ لَهُ سُوءًا، وَاسْتَأْذَنَ أَبَا الْجَيْشِ فِي أَنْ يَحْضُرَ أَخَاهُ الْمُهَذَّبَ لِدَعْوَةٍ عَمِلَهَا لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا حَضَرَ الْمُهَذَّبُ عِنْدَهُ خَدَمَهُ وَبَالَغَ فِي خِدْمَتِهِ، فَلَمَّا أَكَلَ وَشَرِبَ وَانْتَشَى وَعَمِلَ السُّكْرُ فِيهِ قَالَ لَهُ ابْنُ هَطَّالٍ: إِنَّ أَخَاكَ أَبَا الْجَيْشِ فِيهِ ضَعْفٌ وَعَجْزٌ عَنِ الْأَمْرِ، وَالرَّأْيُ أَنَّنَا نَقُومُ مَعَكَ، وَتَصِيرُ أَنْتَ الْأَمِيرَ، وَخَدَعَهُ، فَمَالَ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ، فَأَخَذَ ابْنُ هَطَّالٍ خَطَّهُ بِمَا فَوَّضُ إِلَيْهِ، وَبِمَا يُعْطِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ إِذَا عَمِلَ مَعَهُ هَذَا الْأَمْرَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ حَضَرَ ابْنُ هَطَّالٍ عِنْدَ أَبِي الْجَيْشِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَخَاكَ كَانَ قَدْ أَفْسَدَ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَيْكَ تَحَدَّثَ مَعِي، وَاسْتَمَالَنِي فَلَمْ أُوَافِقْهُ، فَلِهَذَا كَانَ يَذُمُّنِي، وَيَقَعُ فِيَّ، وَهَذَا خَطُّهُ بِمَا اسْتَقَرَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ. فَلَمَّا رَأَى خَطَّ أَخِيهِ أَمَرَهُ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَاعْتَقَلَهُ، ثُمَّ وَضَعَ عَلَيْهِ مَنْ خَنَقَهُ وَأَلْقَى جُثَّتَهُ إِلَى مُنْخَفَضٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ سَقَطَ فَمَاتَ. ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو الْجَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَسِيرٍ، وَأَرَادَ ابْنُ هَطَّالٍ أَنْ يَأْخُذَ أَخَاهُ أَبَا مُحَمَّدٍ فَيُوَلِّيَهُ عُمَانَ ثُمَّ يَقْتُلَهُ، فَلَمْ تُخْرِجْهُ إِلَيْهِ وَالِدَتُهُ، وَقَالَتْ لَهُ: أَنْتَ تَتَوَلَّى الْأُمُورَ، هَذَا صَغِيرٌ لَا يَصْلُحُ لَهَا. فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ، وَصَادَرَ التُّجَّارَ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ.

وَبَلَغَ مَا كَانَ مِنْهُ مَعَ بَنِي مُكْرَمٍ إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَالْعَادِلِ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ مَافَنَّةَ، فَأَعْظَمَا الْأَمْرَ وَاسْتَكْبَرَاهُ، وَشَدَّ الْعَادِلُ فِي الْأَمْرِ، وَكَاتَبَ نَائِبًا كَانَ لِأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مُكْرَمٍ بِجِبَالِ عُمَانَ يُقَالُ لَهُ الْمُرْتَضَى، وَأَمَرَهُ بِقَصْدِ ابْنِ هَطَّالٍ، وَجَهَّزَ الْعَسَاكِرَ مِنَ الْبَصْرَةِ لِتَسِيرَ إِلَى مُسَاعَدَةِ الْمُرْتَضَى، فَجَمَعَ الْمُرْتَضَى الْخَلْقَ، وَتَسَارَعُوا إِلَيْهِ، وَخَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ ابْنِ هَطَّالٍ، وَضَعُفَ أَمْرُهُ، وَاسْتَوْلَى الْمُرْتَضَى عَلَى أَكْثَرِ الْبِلَادِ، ثُمَّ وَضَعُوا خَادِمًا كَانَ لِابْنِ مُكْرَمٍ، وَقَدِ الْتَحَقَ بِابْنِ هَطَّالٍ عَلَى قَتْلِهِ، وَسَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ فَرَّاشٌ كَانَ لَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ الْعَادِلُ بِقَتْلِهِ سَيَّرَ إِلَى عُمَانَ مَنْ أَخْرَجَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ مُكْرَمٍ، وَرَتَّبَهُ فِي الْإِمَارَةِ، وَكَانَ قَدِ اسْتَقَرَّ أَنَّ الْأَمْرَ لِأَبِي مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ أَبِي الشَّوْكِ وَبَيْنَ عَمِّهِ مُهَلْهِلٍ (فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ بَيْنَ أَبِي الشَّوْكِ وَبَيْنَ عَمِّهِ مُهَلْهِلٍ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ) . وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْفَتْحِ كَانَ نَائِبًا عَنْ وَالِدِهِ فِي الدِّينَوَرِ، وَقَدْ عَظُمَ مَحَلُّهُ، وَافْتَتَحَ عِدَّةَ قِلَاعٍ، وَحَمَى أَعْمَالَهُ مِنَ الْغُزِّ، وَقَتَلَ فِيهِمْ، فَأُعْجِبَ بِنَفْسِهِ، وَصَارَ لَا يَقْبَلُ أَمْرَ وَالِدِهِ. فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ، فِي شَعْبَانَ، سَارَ إِلَى قَلْعَةِ بُلْوَارَ لِيَفْتَحَهَا، وَكَانَ فِيهَا زَوْجَةُ صَاحِبِهَا، وَكَانَ مِنَ الْأَكْرَادِ، فَعَلِمَتْ أَنَّهَا تَعْجَزُ عَنْ حِفْظِهَا، فَرَاسَلَتْ مُهَلْهِلَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَنَّازٍ، وَهُوَ بِحُلَلِهِ فِي نَوَاحِي الصَّامَغَانِ، وَاسْتَدْعَتْهُ لِتُسَلِّمَ إِلَيْهِ الْقَلْعَةَ، فَسَأَلَ الرَّسُولَ عَنْ أَبِي الْفَتْحِ: هُوَ هُوَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْقَلْعَةِ أَمْ عَسْكَرُهُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ عَادَ عَنْهَا وَبَقِيَ عَسَرُهُ، فَسَارَ مُهَلْهِلٌ إِلَيْهَا، فَلَمَّا وَصَلَ رَأَى أَبَا الْفَتْحِ قَدْ عَادَ إِلَى الْقَلْعَةِ، فَقَصَدَ مَوْضِعًا يُوهِمُ أَبَا الْفَتْحِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ هَذِهِ الْقَلْعَةَ، ثُمَّ رَجَعَ عَائِدًا، وَتَبِعَهُ أَبُو الْفَتْحِ وَلَحِقَهُ وَتَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ، فَعَادَ مُهَلْهِلٌ إِلَيْهِ، فَاقْتَتَلُوا، فَرَأَى أَبُو الْفَتْحِ مِنْ أَصْحَابِهِ تَغَيُّرًا

فَخَافَهُمْ، فَوَلَّى مُنْهَزِمًا، وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ فِي الْهَزِيمَةِ، وَقَتَلَ عَسْكَرُ مُهَلْهِلٍ مَنْ كَانَ فِي عَسْكَرِ أَبِي الْفَتْحِ مِنَ الرَّجَّالَةِ، وَسَارُوا فِي أَثَرِ الْمُنْهَزِمِينَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَوَقَفَ فَرَسُ أَبِي الْفَتْحِ بِهِ فَأُسِرَ وَأُحْضِرَ عِنْدَ عَمِّهِ مُهَلْهِلٍ، فَضَرَبَهُ عِدَّةَ مَقَارِعَ، وَقَيَّدَهُ، وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ وَعَادَ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا الشَّوْكِ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَى شَهْرَزُورَ وَحَصَرَهَا، وَقَصَدَ بِلَادَ أَخِيهِ لِيُخَلِّصَ ابْنَهُ أَبَا الْفَتْحَ، فَطَالَ الْأَمْرُ وَلَمْ يُخَلِّصِ ابْنَهُ، وَحَمَلَ مُهَلْهِلٌ اللَّجَاجَ عَلَى أَنِ اسْتَدْعَى عَلَاءَ الدَّوْلَةِ بْنَ كَاكَوَيْهِ إِلَى بَلَدِ أَبِي الْفَتْحِ، فَدَخَلَ الدِّينَوَرَ وَقَرْمِيسِينَ، وَأَسَاءَ إِلَى أَهْلِهَا وَظَلَمَهُمْ وَمَلَكَهَا، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائِةٍ. ذِكْرُ شَغَبِ الْأَتْرَاكِ عَلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ شَغَبَ الْأَتْرَاكُ عَلَى الْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَاذَ، وَأَخْرَجُوا خِيَامَهُمْ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، ثُمَّ أَوْقَعُوا النَّهْبَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، فَخَافَهُمْ جَلَالُ الدَّوْلَةِ، فَعَبَّرَ خِيَامَهُ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ فِي الصُّلْحِ، وَأَرَادَ الرَّحِيلَ عَنْ بَغْدَاذَ، فَمَنَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَرَاسَلَ دُبَيْسَ بْنَ مَزْيَدٍ، وَقِرْوَاشًا، صَاحِبَ الْمَوْصِلِ، وَغَيْرَهُمَا، وَجَمَعَ عِنْدَهُ الْعَسَاكِرَ، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَوَاعِدُ بَيْنَهُمْ، وَعَادَ إِلَى دَارِهِ، وَطَمِعَ الْأَتْرَاكُ، وَآذَوُا النَّاسَ، وَنَهَبُوا وَقَتَلُوا، وَفَسَدَتِ الْأُمُورُ بِالْكُلِّيَّةِ (إِلَى حَدٍّ لَا يُرْجَى صَلَاحُهُ) . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وُلِدَ لِلْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَلَدُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَهُوَ ذَخِيرُ الدِّين ِ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ شَبِيبُ بْنُ وَثَّابٍ النُّمَيْرِيُّ، صَاحِبُ الرَّقَّةِ وَسَرُوجَ وَحَرَّانَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو نَصْرِ بْنُ مُشْكَانَ، كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ لِمَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ وَلِوَلَدِهِ مَسْعُودٍ، وَكَانَ مِنَ الْكُتَّابِ الْمُفْلِقِينَ، (رَأَيْتُ لَهُ كِتَابَةً فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ) .

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 432 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ ابْتِدَاءِ الدَّوْلَةِ السَّلْجُوقِيَّةِ وَسِيَاقَةُ أَخْبَارِهِمْ مُتَتَابِعَةً فِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّ مُلْكُ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك مُحَمَّدٍ وَأَخِيهِ جَغْرِي بِكْ دَاوُدَ ابْنَيْ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ بْنِ تَقَّاقٍ، فَنَذْكُرُ أَوَّلًا حَالَ آبَائِهِ، ثُمَّ نَذْكُرُ حَالَهُ كَيْفَ تَنَقَّلَتْ حَتَّى صَارَ سُلْطَانًا، عَلَى أَنَّنِي قَدْ ذَكَرْتُ أَكْثَرَ أَخْبَارِهِمْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى السِّنِينَ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهَا هَاهُنَا مَجْمُوعَةً لِتَرِدَ سِيَاقًا وَاحِدًا، فَهِيَ أَحْسَنُ، فَأَقُولُ: فَأَمَّا تَقَّاقٌ فَمَعْنَاهُ الْقَوْسُ الْجَدِيدُ، وَكَانَ شَهْمًا ذَا رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ، وَكَانَ مُقَدَّمَ الْأَتْرَاكِ الْغُزِّ، وَمَرْجِعُهُمْ إِلَيْهِ، لَا يُخَالِفُونَ لَهُ قَوْلًا، وَلَا يَتَعَدَّوْنَ أَمْرًا. فَاتَّفَقَ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ أَنَّ مَلِكَ التُّرْكِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بَيْغُو جَمَعَ عَسَاكِرَهُ، وَأَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَنَهَاهُ تَقَّاقٌ عَنْ ذَلِكَ، وَطَالَ الْخِطَابُ بَيْنَهُمَا فِيهِ، فَأَغْلَظَ لَهُ مَلِكُ التُّرْكِ الْكَلَامَ، فَلَطَمَهُ تَقَّاقٌ فَشَجَّ رَأْسَهُ، فَأَحَاطَ بِهِ خَدَمُ مَلِكِ التُّرْكِ، وَأَرَادُوا أَخْذَهُ، فَمَانَعَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ مَنَعَهُ، فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ، ثُمَّ صَلُحَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا، وَأَقَامَ تَقَّاقٌ عِنْدَهُ، وَوُلِدَ لَهُ سَلْجُوقُ. وَأَمَّا سَلْجُوقُ فَإِنَّهُ لَمَّا كَبِرَ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ أَمَارَاتُ النَّجَابَةِ وَمَخَايِلُ التَّقَدُّمِ، فَقَرَّبَهُ

مَلِكُ التُّرْكِ وَقَدَّمَهُ، وَلَقَّبَهُ سُبَاشِيَ، وَمَعْنَاهُ قَائِدُ الْجَيْشِ، وَكَانَتِ امْرَأَةُ الْمَلِكِ تُخَوِّفُهُ مِنْ سَلْجُوقَ لِمَا تَرَى مِنْ تَقَدُّمِهِ، وَطَاعَةِ النَّاسِ لَهُ، وَالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ، وَأَغْرَتْهُ بِقَتْلِهِ وَبَالَغَتْ فِي ذَلِكَ. وَسَمِعَ سَلْجُوقُ الْخَبَرَ، فَسَارَ بِجَمَاعَتِهِ كُلِّهِمْ وَمَنْ يُطِيعُهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دِيَارِ الْإِسْلَامِ، وَسَعِدَ بِالْإِيمَانِ وَمُجَاوَرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَازْدَادَ حَالُهُ عُلُوًّا، (وَإِمْرَةً، وَطَاعَةً) ، وَأَقَامَ بِنَوَاحِي جَنَدَ، وَأَدَامَ غَزْوَ كُفَّارِ التُّرْكِ، وَكَانَ مَلِكُهُمْ يَأْخُذُ الْخَرَاجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ، وَطَرَدَ سَلْجُوقُ عُمَّالَهُ مِنْهَا، وَصَفَتْ لِلْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ مُلُوكِ السَّامَانِيَّةِ كَانَ هَارُونُ بْنُ أَيْلَكِ الْخَانُ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى بَعْضِ أَطْرَافِ بِلَادِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى سَلْجُوقَ يَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَدَّهُ بِابْنِهِ أَرْسِلَانَ فِي جَمْعٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَوِيَ بِهِمُ السَّامَانِيُّ عَلَى هَارُونَ، وَاسْتَرَدَّ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ، وَعَادَ أَرْسِلَانُ إِلَى أَبِيهِ. وَكَانَ لِسَلْجُوقَ مِنَ الْأَوْلَادِ: أَرْسِلَانُ، وَمِيكَائِيلُ، وَمُوسَى، وَتُوُفِّيَ سَلْجُوقُ بِجَنَدَ، وَكَانَ عُمُرُهُ مِائَةَ سَنَةٍ وَسَبْعَ سِنِينَ، وَدُفِنَ هُنَاكَ، وَبَقِيَ أَوْلَادُهُ، فَغَزَا مِيكَائِيلُ بَعْضَ بِلَادِ الْكُفَّارِالْأَتْرَاكِ، فَقَاتَلَ وَبَاشَرَ الْقِتَالَ بِنَفْسِهِ، فَاسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَخَلَفَ مِنَ الْأَوْلَادِ: بَيْغُو، وَطُغْرُلْبَك مُحَمَّدًا، وَجَغْرِي بِكْ دَاوُدَ، فَأَطَاعَهُمْ عَشَائِرُهُمْ، وَوَقَفُوا عِنْدَ أَمْرِهِمْ وَنَهْيِمْ، وَنَزَلُوا بِالْقُرْبِ مِنْ بُخَارَى عَلَى عِشْرِينَ فَرْسَخًا مِنْهَا، فَخَافَهُمْ أَمِيرُ بُخَارَى فَأَسَاءَ جِوَارَهُمْ، وَأَرَادَ إِهْلَاكَهُمْ وَالْإِيقَاعَ بِهِمْ، فَالْتَجَئُوا إِلَى بُغْرَاخَانْ مَلِكِ تُرْكِسْتَانَ، وَأَقَامُوا فِي بِلَادِهِ، وَاحْتَمَوْا بِهِ وَامْتَنَعُوا، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَ

طُغْرُلْبَك وَأَخِيهِ دَاوُدَ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَ بُغْرَاخَانْ، إِنَّمَا يَحْضُرُ عِنْدَهُ أَحَدُهُمَا، وَيُقِيمُ الْآخَرُ فِي أَهْلِهِ خَوْفًا مِنْ مَكْرٍ يَمْكُرُهُ بِهِمْ، فَبَقَوْا كَذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ بُغْرَاخَانِ اجْتَهَدَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا عِنْدَهُ، فَلَمْ يَفْعَلَا، فَقَبَضَ عَلَى طُغْرُلْبَك وَأَسَرَهُ، فَثَارَ دَاوُدُ فِي عَشَائِرِهِ وَمَنْ يَتْبَعُهُ، وَقَصَدَ بُغْرَاخَانْ لِيُخَلِّصَ أَخَاهُ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ بُغْرَاخَانْ عَسْكَرًا، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ بُغْرَاخَانْ وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَخَلَّصَ أَخَاهُ مِنَ الْأَسْرِ، وَانْصَرَفُوا إِلَى جَنَدَ، وَهِيَ قَرِيبُ بُخَارَى، فَأَقَامُوا هُنَاكَ. فَلَمَّا انْقَرَضَتْ دَوْلَةُ السَّامَانِيَّةِ، وَمَلَكَ أَيْلَكُ الْخَانُ بُخَارَى عَظُمَ مَحِلُّ أَرْسِلَانَ بْنِ سَلْجُوقَ عَمِّ دَاوُدَ وَطُغْرُلْبَك بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَكَانَ عَلِيُّ تِكِينُ فِي حَبْسِ أَرْسِلَانَ خَانْ، فَهَرَبَ، (وَهُوَ أَخُو أَيْلَكَ الْخَانْ) وَلَحِقَ بِبُخَارَى وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَاتَّفَقَ مَعَ أَرْسِلَانَ بْنِ سَلْجُوقَ فَامْتَنَعَا، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمَا، وَقَصَدَهُمَا أَيْلَكُ أَخُو أَرْسِلَانَ خَانْ وَقَاتَلَهُمَا، فَهَزَمَاهُ وَبَقِيَا بِبُخَارَى وَكَانَ عَلِيُّ تِكِينُ يُكْثِرُ مُعَارَضَةَ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ فِيمَا يُجَاوِرُهُ فِي بِلَادِهِ، وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى رُسُلِهِ الْمُتَرَدِّدِينَ إِلَى مُلُوكِ التُّرْكِ، فَلَمَّا عَبَرَ مَحْمُودُ جَيْحُونَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، هَرَبَ عَلِيُّ تِكِينُ مِنْ بُخَارَى، وَأَمَّا أَرْسِلَانُ بْنُ سَلْجُوقَ وَجَمَاعَتُهُ فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا الْمَفَازَةَ وَالرَّمْلَ، فَاحْتَمَوْا مِنْ مَحْمُودٍ، فَرَأَى مَحْمُودٌ قُوَّةَ السَّلْجُوقِيَّةِ وَمَا لَهُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ، فَكَاتَبَ أَرْسِلَانَ بْنَ سَلْجُوقَ وَاسْتَمَالَهُ وَرَغَّبَهُ، فَوَرَدَ إِلَيْهِ، فَقَبَضَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَمْ يُمْهِلْهُ، وَسَجَنَهُ فِي قَلْعَةٍ وَنَهَبَ خَرْكَاهَاتِهِ، وَاسْتَشَارَ فِيمَا يَفْعَلُ بِأَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ، فَأَشَارَ أَرْسِلَانُ الْجَاذِبُ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ خَوَاصِّ مَحْمُودٍ، بِأَنْ يُقْطَعَ أَبَاهِمُهُمْ لِئَلَّا يَرْمُوا بِالنُّشَّابِ، أَوْ يُغَرَّقُوا فِي جَيْحُونَ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَنْتَ إِلَّا قَاسِي الْقَلِ! ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَعَبَرُوا نَهْرَ جَيْحُونَ، فَفَرَّقَهُمْ فِي نَوَاحِي خُرَاسَانَ، وَوَضَعَ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجَ، فَجَارَ الْعُمَّالُ عَلَيْهِمْ، وَامْتَدَّتِ

الْأَيْدِي إِلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، انْفَصَلَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفَيْ رَجُلٍ، وَسَارُوا إِلَى كِرْمَانَ، وَمِنْهَا إِلَى أَصْبَهَانَ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَاحِبِهَا عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَاكَوَيْهِ حَرْبٌ، قَدْ ذَكَرْنَاهَا، فَسَارُوا مِنْ أَصْبَهَانَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَهَؤُلَاءِ جَمَاعَةُ أَرْسِلَانَ. فَأَمَّا أَوْلَادُ إِخْوَتِهِ فَإِنَّ عَلِيَّ تِكِينَ صَاحِبَ بُخَارَى أَعْمَلَ الْحِيَلَ فِي الظَّفَرِ بِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ مُوسَى بْنِ سَلْجُوقَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ طُغْرُلْبَك مُحَمَّدٍ وَجَغْرِي بِكْ دَاوُدَ، وَوَعَدَهُ الْإِحْسَانَ، وَبَالَغَ فِي اسْتِمَالَتِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْحُضُورَ عِنْدَهُ، فَفَعَلَ، فَفَوَّضَ إِلَيْهِ عَلِيُّ تِكِينُ التَّقَدُّمَ عَلَى جَمِيعِ الْأَتْرَاكِ الَّذِينَ فِي وِلَايَتِهِ، وَأَقْطَعَهُ أَقْطَاعًا كَثِيرَةً، وَلُقِّبَ بِالْأَمِيرِ إِينَانْجَ بَيْغُو. وَكَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ بِهِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِ وَبِعَشِيرَتِهِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى طُغْرُلْبَك وَدَاوُدَ ابْنَيْ عَمِّهِ، وَيُفَرِّقَ كَلِمَتَهُمْ، وَيَضْرِبَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، فَعَلِمُوا مُرَادَهُ، فَلَمْ يُطِعْهُ يُوسُفُ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا أَرَادَهُ مِنْهُ، فَلَمَّا رَأَى عَلِيُّ تِكِينُ أَنَّ مَكْرَهُ لَمْ يَعْمَلْ فِي يُوسُفَ، وَلَمْ يَبْلُغْ بِهِ غَرَضًا، أَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ يُوسُفُ، تَوَلَّى قَتْلَهُ أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ عَلِيِّ تِكِينَ اسْمُهُ أَلْبُ قُرَّا. فَلَمَّا قُتِلَ عَظُمَ ذَلِكَ عَلَى طُغْرُلْبَك وَأَخِيهِ دَاوُدَ وَجَمِيعِ عَشَائِرِهِمَا، وَلَبِسُوا ثِيَابَ الْحِدَادِ، وَجَمَعَا مِنَ الْأَتْرَاكِ مَنْ قَدَرَا عَلَى جَمْعِهِ لِلْأَخْذِ بِثَأْرِهِ، وَجَمَعَ عَلِيُّ تِكِينُ أَيْضًا جُيُوشَهُ، وَسَيَّرَهَا إِلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ عَلِيِّ تِكِينَ، وَكَانَ قَدْ وُلِدَ السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسِلَانَ بْنُ دَاوُدَ أَوَّلَ مُحَرَّمٍ سَنَةَ عِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ قَبْلَ الْحَرْبِ، فَتَبَرَّكُوا بِهِ، وَتَيَمَّنُوا بِطَلْعَتِهِ، وَقِيلَ فِي مَوْلِدِهِ غَيْرُ ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] قَصَدَ طُغْرُلْبَك وَدَاوُدُ أَلْبَ قُرَّا الَّذِي قَتَلَ يُوسُفَ ابْنَ عَمِّهِمَا، فَقَتَلَاهُ وَأَوْقَعَا بِطَائِفَةٍ مِنْ عَسْكَرِ عَلِيِّ تِكِينَ، فَقَتَلَا مِنْهَا نَحْوَ أَلْفِ رَجُلٍ، فَجَمَعَ عَلِيُّ تِكِينُ عَسْكَرَهُ وَقَصَدَهُمْ هُوَ وَأَوْلَادُهُ وَمَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَتَبِعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَقَصَدُوهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَأَوْقَعُوا بِهِمْ وَقْعَةً عَظِيمَةً قُتِلَ [فِيهَا] كَثِيرٌ مِنْ عَسَاكِرِ السَّلْجُوقِيَّةِ، وَأَخُذِتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ، وَسَبَوْا كَثِيرًا مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، فَأَلْجَأَتْهُمُ الضَّرُورَةُ إِلَى الْعُبُورِ إِلَى خُرَاسَانَ.

فَلَمَّا عَبَرُوا جَيْحُونَ كَتَبَ إِلَيْهِمْ خُوَارَزْمُشَاهْ هَارُونُ بْنُ التُّونْتَاشِ يَسْتَدْعِيهِمْ لِيَتَّفِقُوا مَعَهُ، وَتَكُونَ أَيْدِيهِمْ وَاحِدَةً. فَسَارَ طُغْرُلْبَك وَأَخَوَاهُ دَاوُدُ وَبَيْغُو إِلَيْهِ، وَخَيَّمُوا بِظَاهِرِ خُوَارزْمَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَوَثِقُوا بِهِ، وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ، فَغَدَرَ بِهِمْ، فَوَضَعَ عَلَيْهِمُ الْأَمِيرَ شَاهْمَلَكْ، فَكَبَسَهُمْ وَمَعَهُ عَسْكَرٌ مِنْ هَارُونَ، فَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالنَّهْبَ وَالسَّبْيَ، وَارْتَكَبَ مِنَ الْغَدْرِ خُطَّةً شَنِيعَةً، فَسَارُوا عَنْ خُوَارَزْمَ بِجُمُوعِهِمْ إِلَى مَفَازَةِ نَسَا، وَقَصَدُوا مَرْوَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِأَحَدٍ بِشَرٍّ، وَبَقِيَ أَوْلَادُهُمْ وَذَرَارِيُّهِمْ فِي الْأَسْرِ. وَكَانَ الْمَلِكُ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ هَذِهِ السَّنَةَ بِطَبَرِسْتَانَ قَدْ مَلَكَهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَرَاسَلُوهُ وَطَلَبُوا مِنْهُ الْأَمَانَ، وَضَمِنُوا أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الطَّائِفَةَ الَّتِي تُفْسِدُ فِي بِلَادِهِ، وَيَدْفَعُونَهُمْ عَنْهَا وَيُقَاتِلُونَهُمْ، وَيَكُونُونَ مِنْ أَعْظَمِ أَعْوَانِهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ. فَقَبَضَ عَلَى الرُّسُلِ، وَجَهَّزَ عَسْكَرًا جَرَّارًا إِلَيْهِمْ مَعَ إِيلْتُغْدِي حَاجِبِهِ، وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْأَكَبِرِ، فَسَارُوا إِلَيْهِمْ، وَالْتَقَوْا عِنْدَ نَسَا فِي شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ، وَاقْتَتَلُوا وَعَظُمَ الْأَمْرُ، وَانْهَزَمَ السَّلْجُوقِيَّةُ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ، فَجَرَى بَيْنَ عَسْكَرِ مَسْعُودٍ مُنَازَعَةٌ فِي الْغَنِيمَةِ أَدَّتْ إِلَى الْقِتَالِ. وَاتَّفَقَ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنَّ السَّلْجُوقِيَّةَ لَمَّا انْهَزَمُوا قَالَ لَهُمْ دَاوُدُ: إِنَّ الْعَسْكَرَ الْآنَ قَدْ نَزَلُوا وَاطْمَأَنُّوا وَأَمِنُوا الطَّلَبَ، وَالرَّأْيُ أَنْ نَقْصِدَهُمْ لَعَلَّنَا نَبْلُغُ مِنْهُمْ غَرَضًا. فَعَادُوا فَوَصَلُوا إِلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَقِتَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَأَسَرُوا، وَاسْتَرَدُّوا مَا أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَرِجَالِهِمْ، وَعَادَ الْمُنْهَزِمُونَ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى الْمَلِكِ مَسْعُودٍ وَهُوَ بِنَيْسَابُورَ، فَنَدِمَ عَلَى رَدِّهِ طَاعَتَهُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ هَيْبَتَهُمْ قَدْ تَمَكَّنَتْ مِنْ قُلُوبِ عَسَاكِرِهِ، وَأَنَّهُمْ قَدْ طَمِعُوا بِهَذِهِ الْهَزِيمَةِ، وَتَجَرَّءُوا عَلَى قِتَالِ الْعَسَاكِرِ السُّلْطَانِيَّةِ بَعْدَ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ، وَخَافَ مِنْ أَخَوَاتِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَتَهَدَّدُهُمْ وَيَتَوَعَّدُهُمْ، فَقَالَ طُغْرُلْبَك لِإِمَامِ صَلَاتِهِ: اكْتُبْ إِلَى السُّلْطَانِ قُلِ اللَّهُمَّ مَا الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَلَا تَزِدْ عَلَى هَذَا.

فَكَتَبَ مَا قَالَ، فَلَمَّا وَرَدَ الْكِتَابُ عَلَى مَسْعُودٍ أَمَرَ فَكُتِبَ إِلَيْهِمْ كِتَابٌ مَمْلُوءٌ مِنَ الْمَوَاعِيدِ الْجَمِيلَةِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ الْخِلَعَ النَّفِيسَةَ، وَأَمَرَهُمْ بِالرَّحِيلِ إِلَى آمُلِ الشَّطِّ، وَهِيَ مَدِينَةٌ عَلَى جَيْحُونَ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، وَأَقْطَعَ دِهِسْتَانَ لِدَاوُدَ، وَنَسَا لِطُغْرُلْبَك، وَفَرَاوَةَ لِبَيْغُو، وَلَقَّبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالدِّهْقَانِ. فَاسْتَخَفُّوا بِالرَّسُولِ وَالْخِلَعَ وَقَالُوا لِلرَّسُولِ: لَوْ عَلِمْنَا أَنَّ السُّلْطَانَ يُبْقِي عَلَيْنَا إِذَا قَدَرَ، لَأَطَعْنَاهُ، وَلَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَتَى ظَفِرَ بِنَا أَهْلَكَنَا لِمَا عَمِلْنَاهُ وَأَسْلَفْنَاهُ، فَنَحْنُ لَ نُطِيعُهُ، وَلَا نَثِقُ بِهِ. وَأَفْسَدُوا، ثُمَّ كَفُّوا وَتَرَكُوا ذَلِكَ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ لَنَا قُدْرَةٌ عَلَى الِانْتِصَافِ مِنَ السُّلْطَانِ، وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى إِهْلَاكِ الْعَالَمِ وَنَهْبِ أَمْوَالِهِمْ، وَأَرْسَلُوا إِلَى مَسْعُودٍ يُخَادِعُونَهُ إِظْهَارِ الطَّاعَةِ لَهُ، وَالْكَفِّ عَنِ الشَّرِّ، وَيَسْأَلُونَهُ أَنْ يُطْلِقَ عَمَّهُمْ أَرْسِلَانَ بْنَ سَلْجُوقَ مِنَ الْحَبْسِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ بِبَلْخَ، وَأَمَرَهُ بِمُرَاسَلَةِ بَنِي أَخِيهِ بَيْغُو وَطُغْرُلْبَك وَدَاوُدَ يَأْمُرُهُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ، وَالْكَفِّ عَنِ الشَّرِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ إِشْفَى، وَأَمَرَهُ بِتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا وَصَلَ الرَّسُولُ وَأَدَّى الرِّسَالَةَ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمُ الْإِشْفَى نَفَرُوا وَاسْتَوْحَشُوا، وَعَادُوا إِلَى أَمْرِهِمُ الْأَوَّلِ فِي الْغَارَةِ وَالشَّرِّ، فَأَعَادَهُ مَسْعُودٌ إِلَى مَحْبِسِهِ، وَسَارَ إِلَى غَزْنَةَ، فَقَصَدَ السَّلْجُوقِيَّةُ بَلْخَ وَنَيْسَابُورَ وَطُوسَ وَجُوزْجَانَ، (عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) . وَأَقَامَ دَاوُدُ بِمَدِينَةِ مَرْوَ، وَانْهَزَمَتْ عَسَاكِرُ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَاسْتَوْلَى الرُّعْبُ عَلَى أَصْحَابِهِ، لَاسِيَّمَا مَعَ بُعْدِهِ إِلَى غَزْنَةَ، فَتَوَالَتْ كُتُبُ نُوَّابِهِ وَعُمَّالِهِ إِلَيْهِ يَسْتَغِيثُونَ بِهِ وَيَشْكُونَ إِلَيْهِ، وَيَذْكُرُونَ مَا يَفْعَلُ السَّلْجُوقِيَّةُ فِي الْبِلَادِ، وَهُوَ لَا يُجِيبُهُمْ وَلَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ، وَأَعْرَضَ عَنْ خُرَاسَانَ وَالسَّلْجُوقِيَّةِ، وَاشْتَغَلَ بِأُمُورِ بِلَادِ الْهِنْدِ. فَلَمَّا اشْتَدَّ أَمْرُهُمْ بِخُرَاسَانَ وَعَظُمَتْ حَالُهُمُ اجْتَمَعَ وُزَرَاءُ مَسْعُودٍ وَأَرْبَابُ الرَّأْيِ فِي دَوْلَتِهِ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ قِلَّةَ الْمُبَالَاةِ بِخُرَاسَانَ مِنْ أَعْظَمِ سَعَادَةِ السَّلْجُوقِيَّةِ، وَبِهَا يَمْلِكُو الْبِلَادَ، وَيَسْتَقِيمُ لَهُمُ الْمُلْكُ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ، وَكُلُّ عَاقِلٍ، أَنَّهُمْ إِذَا تُرِكُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ اسْتَوْلَوْا عَلَى خُرَاسَانَ سَرِيعًا، ثُمَّ سَارُوا مِنْهَا إِلَى غَزْنَةَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَنْفَعُنَا

حَرَكَاتُنَا وَلَا نَتَمَكَّنُ مِنَ الْبِطَالَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَالطَّرَبِ. فَاسْتَيْقَظَ مِنْ رَقْدَتِهِ، وَأَبْصَرَ رُشْدَهُ بَعْدَ غَفْلَتِهِ، وَجَهَّزَ الْعَسَاكِرَ الْكَثِيرَةَ مَعَ أَكْبَرِ أَمِيرٍ عِنْدَهُ يُعْرَفُ بِسُبَاشِي، وَكَانَ حَاجِبَهُ، وَقَدْ سَيَّرَهُ قَبْلُ إِلَى الْغُزِّ الْعِرَاقِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَسَيَّرَ مَعَهُ أَمِيرًا كَبِيرًا اسْمُهُ مَرْدَاوَيْجُ بْنُ بِشُّو. وَكَانَ سُبَاشِي جَبَانًا، فَأَقَامَ بِهَرَاةَ وَنَيْسَابُورَ، ثُمَّ أَغَارَ بَغْتَةً عَلَى مَرْوَ وَبِهَا دَاوُدُ، فَسَارَ مُجِدًّا، فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَأَصَابَ جُيُوشَهُ وَدَوَابَّهُ التَّعَبُ وَالْكَلَالُ، فَانْهَزَمَ دَاوُدُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَحِقَهُ الْعَسْكَرُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ صَاحِبُ جُوزَجَانَ، فَقَاتَلَهُ دَاوُدُ، فَقُتِلَ صَاحِبُ جُوزَجَانَ وَانْهَزَمَتْ عَسَاكِرُهُ، فَعَظُمَ قَتْلُهُ عَلَى سُبَاشِي وَكُلِّ مَنْ مَعَهُ، وَوَقَعَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، وَقَوِيَتْ نُفُوسُ السَّلْجُوقِيَّةِ وَزَادَ طَمَعُهُمْ. وَعَادَ دَاوُدُ إِلَى مَرْوَ، فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا، وَخُطِبَ لَهُ فِيهَا أَوَّلُ جُمُعَةٍ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَلُقِّبَ فِي الْخُطْبَةِ بِمَلِكِ الْمُلُوكِ. وَسُبَاشِي يُمَادِي الْأَيَّامَ، وَيَرْحَلُ مِنْ مَنْزِلٍ إِلَى مَنْزِلٍ، وَالسَّلْجُوقِيَّةُ يُرَاوِغُونَهُ مُرَاوَغَةَ الثَّعْلَبِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ جُبْنًا وَخَوَرًا، وَقِيلَ: بَلْ رَاسَلَهُ السَّلْجُوقِيَّةُ وَاسْتَمَالُوهُ وَرَغَّبُوهُ، فَنَفَّسَ عَنْهُمْ، وَتَرَاخَى فِي تَتَبُّعِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا طَالَ مُقَامُ سُبَاشِي وَعَسَاكِرِهِ وَالسَّلْجُوقِيَّةِ بِخُرَاسَانَ، وَالْبِلَادُ مَنْهُوبَةٌ، وَالدِّمَاءُ مَسْفُوكَةٌ، قَلَّتِ الْمِيرَةُ وَالْأَقْوَاتُ عَلَى الْعَسَاكِرِ خَاصَّة ً. فَأَمَّا السَّلْجُوقِيَّةُ فَلَا يُبَالُونَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَقْنَعُونَ بِالْقَلِيلِ، فَاضْطَرَّ سُبَاشِي إِلَى مُبَاشَرَةِ الْحَرْبِ وَتَرْكِ الْمُحَاجَزَةِ، فَسَارَ إِلَى دَاوُدَ، وَتَقَدَّمَ دَاوُدُ إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] عَلَى بَابِ سَرَخْسَ. وَلِدَاوُدُ مُنَجِّمٌ يُقَالُ لَهُ الصَّوْمَعِيُّ، فَأَشَارَ عَلَى دَاوُدَ بِالْقِتَالِ، وَضَمِنَ لَهُ الظَّفَرَ، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ إِنْ أَخْطَأَ فَدَمُهُ مُبَاحٌ لَهُ فَاقْتَتَلَ الْعَسْكَرَانِ، فَلَمْ يَثْبُتْ عَسْكَرُ سُبَاشِي وَانْهَزَمُوا أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَسَارُوا أَخْزَى مَسِيرٍ إِلَى هَرَاةَ، فَتَبِعَهُمْ دَاوُدُ وَعَسْكَرُهُ إِلَى طُوسٍ يَأْخُذُونَهُمْ بِالْيَدِ، وَكَفُّوا عَنِ الْقَتْلِ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ هِيَ الَّتِي مَلَكَ السَّلْجُوقِيَّةُ بَعْدَهَا خُرَاسَانَ، وَدَخَلُوا قَصَبَاتِ الْبِلَادِ، فَدَخَلَ طُغْرُلْبَك نَيْسَابُورَ،

وَسَكَنَ الشَّاذِيَاخَ، وَخُطِبَ لَهُ فِيهَا فِي شَعْبَانَ بِالسُّلْطَانِ الْمُعَظَّمِ، وَفَرَّقُوا النُّوَّابَ فِي النَّوَاحِي. وَسَارَ دَاوُدُ إِلَى هَرَاةَ، فَفَارَقَهَا سُبَاشِي وَمَضَى إِلَى غَزْنَةَ، فَعَاتَبَهُ مَسْعُودٌ وَحَجَبَهُ، وَقَالَ لَهُ: ضَيَّعْتَ الْعَسَاكِرَ، وَطَاوَلْتَ الْأَيَّامَ حَتَّى قَوِيَ أَمْرُ الْعَدُوِّ وَصَفَا لَهُمْ مَشْرَبُهُمْ، وَتَمَكَّنُ مِنَ الْبِلَادِ مَا أَرَادُوا. فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ الْقَوْمَ تَفَرَّقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ، كُلَّمَا تَبِعْتُ فِرْقَةً سَارَتْ بَيْنَ يَدَيَّ، وَخَلْفِي الْفَرِيقَانِ فِي الْبِلَادِ يَفْعَلُونَ مَا أَرَادُوا، فَاضْطَرَّ مَسْعُودٌ إِلَى الْمَسِيرِ إِلَى خُرَاسَانَ، فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَفَرَّقَ فِيهِمُ الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ، وَسَارَ عَنْ غَزْنَةَ فِي جُيُوشٍ يَضِيقُ بِهَا الْفَضَاءُ وَمَعَهُ مِنَ الْفِيَلَةِ عَدَدٌ كَثِيرٌ، فَوَصَلَ إِلَى بَلْخَ، وَقَصَدَهُ دَاوُدُ إِلَيْهَا أَيْضًا، وَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْهَا، فَدَخَلَهَا يَوْمًا جَرِيدَةً (فِي طَائِفَةٍ يَسِيرَةٍ) عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنَ الْعَسَاكِرِ، فَأَخَذَ الْفِيلَ الْكَبِيرَ الَّذِي عَلَى بَابِ دَارِ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ، وَأَخَذَ مَعَهُ عِدَّةَ جَنَائِبَ، فَعَظُمَ قَدْرُهُ فِي النُّفُوسِ، وَازْدَادَ الْعَسْكَرُ هَيْبَةً لَهُ. ثُمَّ سَارَ مَسْعُودٌ مِنْ بَلْخَ أَوَّلَ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَمَعَهُ مِائَةُ أَلْفِ فَارِسٍ سِوَى الْأَتْبَاعِ، وَسَارَ عَلَى جُوزَجَانَ، فَأَخَذَ وَالِيَهَا الَّذِي كَانَ بِهَا لِلسَّلْجُوقِيَّةِ، فَصَلَبَهُ، وَسَارَ مِنْهَا فَوَصَلَ إِلَى مَرْوِ الشَّاهِجَانِ، وَسَارَ دَاوُدُ إِلَى سَرَخْسَ، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَأَخَوَاهُ طُغْرُلْبَك وَبَيْغُو، فَأَرْسَلَ مَسْعُودٌ إِلَيْهِمْ رُسُلًا فِي الصُّلْحِ، فَسَارَ فِي الْجَوَابِ بَيْغُو، فَأَكْرَمَهُ مَسْعُودٌ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَضْمُونُ رِسَالَتِهِ: إِنَّا لَا نَثِقُ بِمُصَالَحَتِكَ بَعْدَ مَا فَعَلْنَا هَذِهِ الْأَفْعَالَ الَّتِي سَخِطْتَهَا، كُلُّ فِعْلٍ مِنْهَا مُوبِقٌ مُهْلِكٌ. وَآيَسُوهُ مِنَ الصُّلْحِ، فَسَارَ مَسْعُودٌ مِنْ مَرْوَ إِلَى هَراةَ، وَقَصَدَ دَاوُدُ مَرْوَ، فَامْتَنَعَ أَهْلُهَا عَلَيْهِ، فَحَصَرَهَا سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ وَأَلَحَّ فِي قِتَالِهِمْ، فَمَلَكَهَا. فَلَمَّا سَمِعَ مَسْعُودٌ هَذَا الْخَبَرَ سُقِطَ فِي يَدِهِ، وَسَارَ مِنْ هَرَاةَ إِلَى نَيْسَابُورَ، ثُمَّ مِنْهَا

إِلَى سَرَخْسَ، وَكُلَّمَا تَبِعَ السَّلْجُوقِيَّةَ إِلَى مَكَانٍ سَارُوا مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَأَدْرَكَهُمُ الشِّتَاءُ، فَأَقَامُوا بِنَيْسَابُورَ يَنْتَظِرُونَ الرَّبِيعَ، فَلَمَّا جَاءَ الرَّبِيعُ كَانَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ مَشْغُولًا بِلَهْوِهِ وَشُرْبِهِ، فَتَقَضَّى الرَّبِيعُ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَ الصَّيْفُ عَاتَبَهُ وُزَرَاؤُهُ وَخَوَاصُّهُ عَلَى إِهْمَالِهِ أَمْرَ عَدُوِّهِ، فَسَارَ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى مَرْوَ يَطْلُبُ السَّلْجُوقِيَّةَ، فَدَخَلُوا الْبَرِّيَّةَ، فَدَخَلَهَا وَرَاءَهُمْ مَرْحَلَتَيْنِ وَالْعَسْكَرُ الَّذِي لَهُ قَدْ ضَجِرُوا مِنْ طُولِ سَفَرِهِمْ وَبِيكَارِهِمْ، وَسَئِمُوا الشَّدَّ وَالتَّرَحُّلَ، فَإِنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ فِي السَّفَرِ نَحْوُ ثَلَاثِ سِنِينَ، بَعْضُهَا مَعَ سُبَاشِي، وَبَعْضُهَا مَعَ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْبَرِّيَّةَ نَزَلَ مَنْزِلًا قَلِيلَ الْمَاءِ، وَالْحَرُّ شَدِيدٌ، فَلَمْ يَكْفِ الْمَاءُ لِلسُّلْطَانِ وَحَوَاشِيهِ. وَكَانَ دَاوُدُ فِي مُعْظَمِ السَّلْجُوقِيَّةِ بِإِزَائِهِ، وَغَيْرُهُ مِنْ عَشِيرَتِهِ مُقَابِلَ سَاقَةِ عَسَاكِرِهِ، يَتَخَطَّفُونَ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ. فَاتَّفَقَ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّ حَوَاشِيَ مَسْعُودٍ اخْتَصَمُوا هُمْ جَمْعٌ مِنَ الْعَسْكَرِ عَلَى الْمَاءِ وَازْدَحَمُوا، وَجَرَى بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ، حَتَّى صَارَ بَعْضُهُمْ يُقَاتِلُ بَعْضًا، (وَبَعْضُهُمْ نَهَبَ بَعْضًا) فَاسْتَوْحَشَ لِذَلِكَ أَمْرُ الْعَسْكَرِ، وَمَشَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فِي التَّخَلِّي عَنْ مَسْعُودٍ، فَعَلِمَ دَاوُدُ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي ذَلِكَ التَّنَازُعِ وَالْقِتَالِ وَالنَّهْبِ، فَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ لَا يَلْوِي أَوَّلٌ عَلَى آخَرَ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَالسُّلْطَانُ مَسْعُودٌ وَوَزِيرُهُ يُنَادِيَانِهِمْ، وَيَأْمُرَانِهِمْ بِالْعَوْدِ فَلَا يَرْجِعُونَ، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْعَسْكَرِ، وَثَبَتَ مَسْعُودٌ فَقِيلَ لَهُ: مَا تَنْتَظِرُ؟ قَدْ فَارَقَكَ أَصْحَابُكَ، وَأَنْتَ فِي بَرِّيَّةٍمُهْلِكَةٍ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ عَدُوٌّ، وَخَلْفَكَ عَدُوٌّ، وَلَا وَجْهَ لِلْمُقَامِ. فَمَضَى مُنْهَزِمًا وَمَعَهُ نَحْوُ مِائَةِ فَارِسٍ، فَتَبِعَهُ فَارِسٌ مِنَ السَّلْجُوقِيَّةِ فَعَطَفَ عَلَيْهِ مَسْعُودٌ فَقَتَلَهُ، وَصَارَ لَا يَقِفُ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى أَتَى غَرْشِسْتَانَ. وَأَمَّا السَّلْجُوقِيَّةُ فَإِنَّهُمْ غَنِمُوا مِنَ الْعَسْكَرِ الْمَسْعُودِيِّ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِحْصَاءِ، وَقَسَّمَهُ دَاوُدُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَآثَرَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، وَنَزَلَ فِي سُرَادِقِ مَسْعُودٍ وَقَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَسْكَرُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَنْ ظُهُورِ دَوَابِّهِمْ، لَا يُفَارِقُونَهَا إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُمْ

مِنْهُ، مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، خَوْفًا مِنْ عَوْدِ الْعَسْكَرِ، وَأَطْلَقَ الْأَسْرَى، وَأَطْلَقَ خَرَاجَ سَنَةٍ كَامِلَةٍ. وَسَارَ طُغْرُلْبَك إِلَى نَيْسَابُورَ فَمَلَكَهَا، وَدَخَلَ إِلَيْهَا آخِرَ سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] (وَأَوَّلَ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ) وَنَهَبَ أَصْحَابُهُ النَّاسَ، فَقِيلَ عَنْهُ: إِنَّهُ رَأَى لَوْزِينَجًا فَأَكَلَهُ وَقَالَ: هَذَا قَطْمَاجٌ طَيِّبٌ إِلَّا أَنَّهُ لَا ثُومَ فِيهِ. وَرَأَى الْغُزُّ الْكَافُورَ (فَظَنُّوهُ مِلْحًا) وَقَالُوا: هَذَا مِلْحٌ مُرٌّ، وَنُقِلَ عَنْهُمْ أَشْيَاءُ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ. وَكَانَ الْعَيَّارُونَ قَدْ عَظُمَ ضَرَرُهُمْ، وَاشْتَدَّ أَمْرُهُمْ، وَزَادَتِ الْبَلِيَّةُ بِهِمْ عَلَى أَهْلِ نَيْسَابُورَ، فَهُمْ يَنْهَبُونَ الْأَمْوَالَ، وَيَقْتُلُونَ النُّفُوسَ، وَيَرْتَكِبُونَ الْفُرُوجَ الْحَرَامَ، وَيَفْعَلُونَ كُلَّ مَايُرِيدُونَهُ، لَا يَرْدَعُهُمْ عَنْ ذَلِكَ رَادِعٌ، وَلَا يَزْجُرُهُمْ زَاجِرٌ، فَلَمَّا دَخَلَ طُغْرُلْبَك الْبَلَدَ خَافَهُ الْعَيَّارُونَ، وَكَفُّوا عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَسَكَنَ النَّاسُ وَاطْمَأَنُّوا. وَاسْتَوْلَى السَّلْجُوقِيَّةُ حِينَئِذٍ عَلَى جَمِيعِ الْبِلَادِ، فَسَارَ بَيْغُو إِلَى هَرَاةَ فَدَخَلَهَا، وَسَارَ دَاوُدُ إِلَى بَلْخَ وَبِهَا أَلْتُونْتَاقُ الْحَاجِبُ وَالِيًا عَلَيْهَا لِمَسْعُودٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ دَاوُدُ يَطْلُبُ مِنْهُ تَسْلِيمَ الْبَلَدِ إِلَيْهِ، وَيُعَرِّفُهُ عَجْزَ صَاحِبِهِ عَنْ نُصْرَتِهِ، فَسَجَنَ أَلْتُونْتَاقُ الرُّسُلَ، فَنَازَلَهُ دَاوُدُ وَحَصَرَ الْمَدِينَةَ، فَأَرْسَلَ أَلْتُونْتَاقُ إِلَى مَسْعُودٍ وَهُوَ بِغَزْنَةَ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْحِصَارِ، فَجَهَّزَ مَسْعُودٌ الْعَسَاكِرَ الْكَثِيرَةَ وَسَيَّرَهَا، فَجَاءَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى الرُّخَّجِ وَبِهَا جَمْعٌ مِنَ السَّلْجُوقِيَّةِ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَ السَّلْجُوقِيَّةُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ، وَأُسِرَ كَثِيرٌ، وَخَلَا ذَلِكَ الصُّقْعُ مِنْهُمْ. وَسَارَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى هَرَاةَ وَبِهَا بَيْغُو، فَقَاتَلُوهُ وَدَفَعُوهُ عَنْهَا، ثُمَّ إِنَّ مَسْعُودًا سَيَّرَ وَلَدَهُ مَوْدُودًا فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ مَدَدًا لِهَذِهِ الْعَسَاكِرِ، فَقُتِلَ مَسْعُودٌ وَهُوَ بِخُرَاسَانَ

عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - فَسَارُوا عَنْ غَزْنَةَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَلَمَّا قَارَبُوا بَلْخَ سَيَّرَ دَاوُدُ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ، فَأَوْقَعُوا بِطَلَائِعِ مَوْدُودٍ، وَانْهَزَمَتِ الطَّلَائِعُ وَتَبِعَهُمْ عَسْكَرُ دَاوُدَ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِ عَسْكَرُ مَوْدُودٍ رَجَعُوا إِلَى وَرَائِهِمْ وَأَقَامُوا، فَلَمَّا سَمِعَ أَلْتُونْتَاقُ صَاحِبُ بَلْخَ الْخَبَرَ أَطَاعَ دَاوُدَ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْبَلَدَ، وَوَطِئَ بُسَاطَهُ. ذِكْرُ قَبْضِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَقَتْلِهِ وَمُلْكِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ قَدْ ذَكَرْنَا عَوْدَ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ إِلَى غَزْنَةَ مِنْ خُرَاسَانَ، فَوَصَلَهَا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَبَضَ عَلَى سُبَاشِي وَغَيْرِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، (وَأَثْبَتَ غَيْرَهُمْ) وَسَيَّرَ وَلَدَهُ مَوْدُودًا إِلَى خُرَاسَانَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ لِيَمْنَعَ السَّلْجُوقِيَّةَ عَنْهَا، فَسَارَ مَوْدُودٌ إِلَى بَلْخَ لِيَرُدَّ عَنْهَا دَاوُدَ أَخَا طُغْرُلْبَك، وَجَعَلَ أَبُوهُ مَسْعُودٌ مَعَهُ وَزِيرَهُ أَبَا نَصْرٍ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ يُدَبِّرُ الْأُمُورَ، وَكَانَ مَسِيرُهُمْ (مِنْ غَزْنَةَ) فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. وَسَارَ مَسْعُودٌ بَعْدَهُمْ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ يُرِيدُ بِلَادَ الْهِنْدِ لِيَشْتُوَ بِهَا عَلَى عَادَةِ وَالِدِهِ، فَلَمَّا سَارَ أَخَذَ مَعَهُ أَخَاهُ مُحَمَّدًا مَسْمُولًا، وَاسْتَصْحَبَ الْخَزَائِنَ، وَكَانَ عَازِمًا عَلَى الِاسْتِنْجَادِ بِالْهِنْدِ عَلَى قِتَالِ السَّلْجُوقِيَّةِ ثِقَةً بِعُهُودِهِمْ. فَلَمَّا عَبَرَ سَيْحُونَ وَهُوَ نَهْرٌ كَبِيرٌ نَحْوَ دِجْلَةَ، وَعَبَّرَ بَعْضَ الْخَزَائِنِ - اجْتَمَعَ أَنُّوشْ تِكِينُ الْبَلْخِيُّ وَجَمْعٌ مِنَ الْغِلْمَانِ الدَّارِيَةِ، وَنَهَبُوا مَا خَلَّفَ مِنَ الْخِزَانَةِ، وَأَقَامُوا أَخَاهُ مُحَمَّدًا ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْإِمَارَةِ، فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ، فَتَهَدَّدُوهُ وَأَكْرَهُوهُ، فَأَجَابَ، وَبَقِيَ مَسْعُودٌ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ وَحَفِظَ نَفْسَهُ، فَالْتَقَى الْجَمْعَانِ مُنْتَصَفَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَاقْتَتَلُوا، وَعَظُمَ الْخَطْبُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، ثُمَّ انْهَزَمَ عَسْكَرُ مَسْعُودٍ، وَتَحَصَّنَ هُوَ فِي رِبَاطِ مَارِيكْلَةَ،

فَحَصَرَهُ أَخُوهُ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: إِنَّ مَكَانَكَ لَا يَعْصِمُكَ، وَلَأَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ بِعَهْدٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَأْخُذُوكَ قَهْرًا. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَبَضُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ مُحَمَّدٌ: وَّهِ لَا قَابَلْتُكَ عَلَى فِعْلِكَ بِي، وَلَا عَامَلْتُكَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ، فَانْظُرْ أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ تُقِيمَ حَتَّى أَحْمِلَكَ إِلَيْهِ وَمَعَكَ أَوْلَادُكَ وَحُرَمُكَ. فَاخْتَارَ قَلْعَةَ كَيْكِي، فَأَنْفَذَهُ إِلَيْهَا مَحْفُوظًا، وَأَمَ بِإِكْرَامِهِ وَصِيَانَتِهِ. وَأَرْسَلَ مَسْعُودٌ إِلَى أَخِيهِ يَطْلُبُ مِنْهُ مَالًا يُنْفِقُهُ، فَأَنْفَذَ لَهُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَبَكَى مَسْعُودٌ وَقَال َ: كَانَ بِالْأَمْسِ حُكْمِي عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ حِمْلٍ مِنَ الْخَزَائِنِ، وَالْيَوْمَ لَا أَمْلِكُ الدِّرْهَمالْفَرْدَ. فَأَعْطَاهُ الرَّسُولُ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ دِينَارٍ فَقَبِلَهَا، وَكَانَتْ سَبَبَ سَعَادَةِ الرَّسُولِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ مَوْدُودُ بْنُ مَسْعُودٍ بَالَغَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدًا فَوَّضَ أَمْرَ دَوْلَتِهِ إِلَى وَلَدِهِ أَحْمَدَ، وَكَانَ فِيهِ خَبْطٌ وَهَوَجٌ، فَاتَّفَقَ هُوَ وَابْنُ عَمِّهِ يُوسُفُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ وَابْنُ عَلِيٍّ خُويْشَاوَنْدُ عَلَى قَتْلِ مَسْعُودٍ، لِيَصْفُوَ الْمُلْكُ لَهُ وَلِوَالِدِهِ، فَدَخَلَ إِلَى أَبِيهِ فَطَلَبَ خَاتَمَهُ لِيَخْتِمَ بِهِ بَعْضَ الْخَزَائِنِ، فَأَعْطَاهُ، فَسَارَ بِهِ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَأَعْطَوُا الْخَاتَمَ لِمُسْتَحْفِظِهَا وَقَالُوا: مَعَنَا رِسَالَةٌ إِلَى مَسْعُودٍ، فَأَدْخَلَهُمْ إِلَيْهِ فَقَلُوهُ، فَلَمَّا عَلِمَ مُحَمَّدٌ بِذَلِكَ سَاءَهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ وَأَنْكَرَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ مَسْعُودًا لَمَّا حُبِسَ دَخَلَ عَلَيْهِ وَلَدُ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ، وَاسْمُ أَحَدِهِمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَالْآخَرِ عَبْدُ الرَّحِيمِ، فَمَدَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَدَهُ فَأَخَذَ الْقَلَنْسُوَةَ مِنْ رَأْسِ عَمِّهِ مَسْعُودٍ، فَمَدَّ عَبْدُ الرَّحِيمِ يَدَهُ وَأَخَذَ الْقَلَنْسُوَةَ مِنْ أَخِيهِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَسَبَّهُ وَقَبَّلَهَا، وَتَرَكَهَا عَلَى رَأْسِ عَمِّهِ، فَنَجَا بِذَلِكَ عَبْدُ الرَّحِيمِ مِنَ الْأَسْرِ لَمَّا مَلَكَ مَوْدُودُ بْنُ مَسْعُودٍ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدًا أَغْرَاهُ وَلَدُهُ أَحْمَدُ بِقَتْلِ عَمِّهِ مَسْعُودٍ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ

قَتَلَهُ، وَأَلْقَاهُ فِي بِئْرٍ وَسَدَّ رَأْسَهَا، وَقِيلَ: بَلَى أُلْقِيَ فِي بِئْرٍ حَيًّا وَسُدَّ رَأْسُهَا فَمَاتَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا مَاتَ كَتَبَ مُحَمَّدٌ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ مَوْدُودٍ وَهُوَ بِخُرَاسَانَ يَقُولُ: إِنَّ وَالِدَكَ قُتِلَ قِصَاصًا، قَتَلَهُ أَوْلَادُ أَحْمَدَ يَنَّالَ تِكِينَ بِلَا رِضًا مِنِّي. فَأَجَابَ مَوْدُودٌ يَقُولُ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ الْأِيرِ الْعَمِّ، وَرَزَقَ وَلَدَهُ الْمَعْتُوهَ أَحْمَدَ عَقْلًا يَعِيشُ بِهِ، فَقَدْ رَكِبَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَأَقْدَمَ عَلَى إِرَاقَةِ دَمِ مَلِكٍ مِثْلِ وَالِدِي الَّذِي لَقَّبَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ سَيِّدَ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ، وَسَتَعْلَمُونَ فِي أَيِّ حَتْفٍ تَوَرَّطْتُمْ، وَأَيِّ شَرٍّ تَأَبَّطْتُمْ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. نُفَلِّقُ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ عَلَيْنَا، وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا وَطَمِعَ جُنْدُ مُحَمَّدٍ فِيهِ، وَزَالَتْ عَنْهُمْ هَيْبَتُهُ، فَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَى أَمْوَالِ الرَّعَايَا فَنَهَبُوهَا، فَخَرِبَتِ الْبِلَادُ وَجَلَا أَهْلُهَا، لَاسِيَّمَا مَدِينَةُ بَرْشَاوُورَ، فَإِنَّهَا هَلَكَ أَهْلُهَا، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَكَانَ الْمَمْلُوكُ بِهَا يُبَاعُ بِدِينَارٍ، وَتُبَاعُ الْخَمْرُ كُلُّ مَنًا بِدِينَارٍ، ثُمَّ رَحَلَ مُحَمَّدٌ عَنْهَا لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَجَبٍ، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ شُجَاعًا كَرِيمًا، ذَا فَضَائِلَ كَثِيرَةٍ، مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَالتَّقَرُّبِ لَهُمْ، صَنَّفُوا لَهُ التَّصَانِيفَ الْكَثِيرَةَ فِي فُنُونِ الْعُلُومِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ، تَصَدَّقَ مَرَّةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَكْثَرَ الْإِدْرَارَاتِ وَالصِّلَاتِ، وَعَمَرَ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَاجِدِ فِي مَمَالِكِهِ، وَكَانَتْ صَنَائِعُهُ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً تَسِيرُ بِهَا الرُّكْبَانُ، مَعَ عِفَّةٍ عَنْ أَمْوَالِ رَعَايَاهُ، وَأَجَازَ الشُّعَرَاءَ بِجَوَائِزَ عَظِيمَةٍ، أَعْطَى شَامِرًا عَلَى قَصِيدَةٍ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَعْطَى آخَرَ بِكُلِّ بَيْتٍ أَلْفَ

دِرْهَمٍ، وَكَانَ يَكْتُبُ خَطًّا حَسَنًا، وَكَانَ مُلْكُهُ عَظِيمًا، فَسِيحًا، مَلَكَ أَصْبَهَانَ وَالرَّيَّ وَهَمَذَانَ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَمَلَكَ طَبَرِسْتَانَ، وَجُرْجَانَ، وَخُرَاسَانَ، وَخُوَارَزْمَ، وَبِلَادَ الرَّوَانِ، وَكِرْمَانَ، وَسِجِسْتَانَ، وَالسِّنْدَ، وَالرُّخَّجَ، وَغَزْنَةَ، وَبِلَادَ الْغَوْرِ، وَالْهِنْدَ، وَمَلَكَ كَثِيرًا مِنْهَا، وَأَطَاعَهُ أَهْلُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ صُنِّفَتْ فِيهَا التَّصَانِيفُ الْمَشْهُورَةُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِطَالَةِ بِذِكْرِهَا. ذِكْرُ مُلْكِ مَوْدُودِ بْنِ مَسْعُودٍ وَقَتْلِهِ عَمَّهُ مُحَمَّدًا لَمَّا قُتِلَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى ابْنِهِ مَوْدُودٍ وَهُوَ بِخُرَاسَانَ، فَعَادَ مُجِدًّا فِي عَسَاكِرِهِ إِلَى غَزْنَةَ، فَتَصَافَّ هُوَ وَعَمُّهُ مُحَمَّدٌ فِي ثَالِثِ شَعْبَانَ، فَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ وَعَسْكَرُهُ، وَقَبَضَ عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ أَحْمَدَ، وَأَنُّوشْتِكِينَ الْخَصِيِّ الْبَلْخِيِّ، وَابْنِ عَلِيٍّ خُويْشَاوَنْدَ، فَقَتَلَهُمْ، وَقَتَلَ أَوْلَادَ عَمِّهِ جَمِيعَهُمْ، إِلَّا عَبْدَ الرَّحِيمِ لِإِنْكَارِهِ عَلَى أَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا فَعَلَهُ بِعَمِّهِ مَسْعُودٍ، وَبَنَى مَوْضِعَ الْوَقْعَةِ قَرْيَةً وَرِبَاطًا، وَسَمَّاهَا فَتْحَ آبَاذَ، وَقَتَلَ كُلَّ مَنْ لَهُ فِي الْقَبْضِ عَلَى وَالِدِهِ صُنْعٌ، وَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ فَدَخَلَهَا فِي ثَالِثٍ وَعِشْرِينَ شَعْبَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَاسْتَوْزَرَ أَبَا نَصْرٍ وَزِيرَ أَبِيهِ، وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ وَحُسْنَ السِّيرَةِ، وَسَلَكَ سِيرَةَ جَدِّهِ مَحْمُودٍ. وَكَانَ دَاوُدُ أَخُو طُغْرُلْبَك قَدْ مَلَكَ مَدِينَةَ بَلْخَ وَاسْتَبَاحَهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَوْدُودٌ

مُقَابِلُهُ، فَتَجَدَّدَ قَتْلُ مَسْعُودٍ، فَعَادَ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا، فَلَمَّا تَجَدَّدَ هَذَا الظَّفَرُ لِمَوْدُودٍ ثَارَ أَهْلُ هَرَاةَ بِمَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْغُزِّ السَّلْجُوقِيَّةِ، فَأَخْرَجُوهُمْ وَحَفِظُوهَا لِمَوْدُودٍ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِمَوْدُودٍ بِغَزْنَةَ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ هَمٌّ إِلَّا أَمْرُ أَخِيهِ مَجْدُودٍ، فَإِنَّ أَبَاهُ قَدْ سَيَّرَهُ إِلَى الْهِنْدِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] فَخَافَ أَنْ يُخَالَفَ عَلَيْهِ، فَأَتَاهُ خَبَرُهُ أَنَّهُ قَصَدَ لَهَاوُورَ وَمُلْتَانَ، فَمَلَكَهُمَا، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ وَجَمَعَ بِهَا الْعَسَاكِرَ، وَأَظْهَرَ الْخِلَافَ عَلَى أَخِيهِ، فَنَدَبَ إِلَيْهِ مَوْدُودٌ جَيْشًا لِيَمْنَعُوهُ وَيُقَاتِلُوهُ، وَعَرَضَ مَجْدُودٌ عَسْكَرَهَ لِلْمَسِيرِ، وَحَضَرَ عِيدُ الْأَضْحَى، فَبَقِيَ بَعْدَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَصْبَحَ مَيِّتًا بِلَهَاوُورَ لَا يُدْرَى كَيْفَ كَانَ مَوْتُهُ، وَأَطَاعَتِ الْبِلَادُ بِأَسْرِهَا مَوْدُودًا، وَرَسَتْ قَدَمُهُ، وَثَبَتَ مُلْكُهُ، وَلَمَّا سَمِعَتِ الْغُزُّ السَّلْجُوقِيَّةُ ذَلِكَ خَافُوهُ، وَاسْتَشْعَرُوا مِنْهُ، وَرَاسَلَهُ مَلِكُ التُّرْكِ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ بِالِانْقِيَادِ وَالُمْتَابَعَةِ. ذِكْرُ الْخُلْفِ بَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَقِرْوَاشٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اخْتَلَفَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ مَلِكُ الْعِرَاقِ وَقِرْوَاشُ بْنُ الْمُقَلَّدِ الْعُقَيْلِيُّ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قِرْوَاشًا كَانَ قَدْ أَنْفَذَ عَسْكَرًا سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] فَحَصَرُوا خَمِيسَ بْنَ ثَعْلَبٍ بِتَكْرِيتَ، وَجَرَى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا، فَأَرْسَلَ خَمِيسٌ وَلَدَهُ إِلَى الْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَبَذَلَ بَذُولًا كَثِيرَةً لِيَكُفَّ عَنْهُ قِرْوَاشًا، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَى قِرْوَاشٍ يَأْمُرُهُ بِالْكَفِّ عَنْهُ، فَغَالَطَ وَلَمْ يَفْعَلْ، وَسَارَ بِنَفْسِهِ وَنَزَلَ عَلَيْهِ يُحَاصِرُهُ، فَتَأَثَّرَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ كُتُبًا إِلَى الْأَتْرَاكِ بِبَغْدَادَ يُفْسِدُهُمْ، وَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِالشَّغَبِ عَلَى الْمَلِكِ وَإِثَارَةِ الْفِتْنَةِ مَعَهُ، فَوَصَلَ خَبَرُهَا إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَانَتْ هَذِهِ هِيَ

الْأَصْلَ، فَأَرْسَلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَبَا الْحَارِثِ أَرْسِلَانَ الْبَسَاسِيرِيَّ فِي صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ لِيَقْبِضَ عَلَى نَائِبِ قِرْوَاشٍ بِالسِّنْدِيَّةِ، فَسَارَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ، (وَتَبِعَهُ جَمْعٌ مِنَ الْعَرَبِ) فَرَأَى فِي طَرِيقِهِ جِمَالًا لِبَنِي عِيسَى، فَتَسَرَّعَ إِلَيْهَا الْأَتْرَاكُ وَالْعَرَبُ فَأَخَذُوا مِنْهَا قِطْعَةً، وَأَوْغَلَ الْأَتْرَاكُ فِي الطَّلَبِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْعَرَبِ، وَرَكِبُوا وَتَبِعُوا الْأَتْرَاكَ، وَجَرَى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ حَرْبٌ انْهَزَمَ فِيهَا الْأَتْرَاكُ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَعَادَ الْمُنْهَزِمُونَ فَأَخْبَرُوا الْبَسَاسِيرِيَّ بِكَثْرَةِ الْعَرَبِ، فَعَادَ وَلَمْ يَصِلْ إِلَى مَقْصِدِهِ. وَسَارَ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي عِيسَى، فَكَمَنُوا بَيْنَ صَرْصَرٍ وَبَغْدَاذَ لِيُفْسِدُوا فِي السَّوَادِ، فَاتَّفَقَ أَنْ وَصَلَ بَعْضُ أَكَابِرِ الْقُوَّادِ الْأَتْرَاكِ، فَخَرَجُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَجَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَحُمِلُوا إِلَى بَغْدَاذَ، فَارْتَجَّ الْبَلَدُ وَاسْتُحْكِمَتِ الْوَحْشَةُ مَعَ مُعْتَمَدِ الدَّوْلَةِ قِرْوَاشٍ، فَجَمَعَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ إِلَى الْأَنْبَارِ، وَهِيَ لِقِرْوَاشٍ، عَلَى عَزْمِ أَخْذِهَا مِنْهُ وَغَيْرِهَا مِنْ أَقْطَاعِهِ بِالْعِرَاقِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْأَنْبَارِ أُغْلِقَتْ، وَقَاتَلَهُمْ أَصْحَابُ قِرْوَاشٍ، وَسَارَ قِرْوَاشٌ مِنْ تَكْرِيتَ إِلَى خُصَّةَ عَلَى عَزْمِ الْقِتَالِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ عَلَى الْأَنْبَارِ قَلَّتْ عَلَيْهِمُ الْعَلُوفَةُ، فَسَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ وَالْعَرَبِ إِلَى الْحَدِيثَةِ لِيَمْتَارُوا مِنْهَا، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ عِنْدَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ، فَانْهَزَمَ بَعْضُهُمْ وَعَادُوا إِلَى الْعَسْكَرِ، وَنَهَبَتِ الْعَرَبُ مَا مَعَهُمْ مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي تَحْمِلُ الْمِيرَةَ، وَبَقِيَ الْمُرْشِدُ أَبُو الْوَفَاءِ وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْعَسْكَرِ الَّذِينَ سَارُوا لِإِحْضَارِ الْمِيرَةِ، وَثَبَتَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ. وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ أَنَّ الْمُرْشِدَ أَبَا الْوَفَاءِ (يُقَاتِلُ، وَأُخْبِرَ سَلَامَتُهُ وَصَبْرُهُ لِلْعَرَبِ) وَأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَهُ وَهُوَ يَطْلُبُ النَّجْدَةَ، فَسَارَ الْمَلِكُ إِلَيْهِ بِعَسْكَرٍ، فَوَصَلُوا وَقَدْ عَجَزَ الْعَرَبُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَعَادُوا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ حَمَلُوا عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ

مَعَهُ عِدَّةَ حَمَلَاتٍ صَبَرَ لَهَا فِي قِلَّةِ مَنْ مَعَهُ. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ عُقَيْلُ عَلَى قِرْوَاشٍ، فَرَاسَلَ جلَالَ الدَّوْلَةِ وَطَلَبَ رِضَاهُ، وَبَذَلَ لَهُ بَذْلًا أَصْلَحَهُ بِهِ، وَعَادَ إِلَى طَاعَتِهِ، فَتَحَالَفَا وَعَادَ كُلٌّ إِلَى مَكَانِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ أَبِي الشَّوْكِ دَقُوقَا كَانَتْ دَقُوقَا لِأَبِي الْمَاجِدِ الْمُهَلْهِلِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِنَّازٍ، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا أَخُوهُ حُسَامُ الدَّوْلَةِ أَبُو الشَّوْكِ وَلَدَهُ سَعْدِي، فَحَصَرَهَا، فَقَاتَلَهُ مَنْ بِهَا. ثُمَّ سَارَ أَبُو الشَّوْكِ إِلَيْهَا فَجَدَّ فِي حِصَارِهَا، وَنَقَبَ سُورَهَا، وَدَخَلَهَا عَنْوَةً، وَنَهَبَ أَصْحَابُهُ بَعْضَ الْبَلَدِ، وَأَخَذُوا سِلَاحَ الْأَكْرَادِ وَثِيَابَهُمْ، وَأَقَامَ حُسَامُ الدَّوْلَةِ بِالْبَلَدِ لَيْلَةً، وَعَادَ خَوْفًا عَلَى الْبَنْدَنِيجَيْنِ وَحُلْوَانَ، فَإِنَّ أَخَاهُ سُرْخَابَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عِنَّازٍ كَانَ قَدْ أَغَارَ عَلَى عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ وِلَايَتِهِ، وَحَالَفَ أَبَا الْفَتْحِ بْنَ وَرَّامٍ وَالْجَاوَانِيَّةَ عَلَيْهِ، فَأَشْفَقَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ نَجْدَةً، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ عَسْكَرًا امْتَنَعَ بِهِمْ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسْكَرِ مِصْرَ وَالرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الْوَقْعَةُ بَيْنَ عَسْكَرِ الْمِصْرِيِّينَ (سَيَّرَهُ الدُّزْبَرِيُّ) وَبَيْنَ الرُّومِ، فَظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ قَدْ هَادَنَهُ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ الْعَلَوِيُّ صَاحِبُ مِصْرَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. فَلَمَّا كَانَ الْآنَ شَرَعَ يُرَاسِلُ ابْنَ صَالِحِ بْنَ مِرْدَاسٍ وَيَسْتَمِيلُهُ، وَرَاسَلَهُ قَبْلَهُ صَالِحٌلِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الدُّزْبَرِيِّ، خَوْفًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الرَّقَّةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الدُّزْبَرِيَّ، فَتَهَدَّدَ ابْنَ صَالِحٍ، فَاعْتَذَرَ وَجَحَدَ. ثُمَّ إِنَّ جَمْعًا مِنْ بَنِي جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ دَخَلُوا وِلَايَةَ أَفَامِيَةَ، فَعَاثُوا فِيهَا وَنَهَبُوا

عِدَّةَ قُرَى، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ جَمْعٌ مِنَ الرُّومِ فَقَاتَلَهُمْ وَأَوْقَعُوا بِهِمْ، وَنَكُّوا فِيهِمْ، وَأَزَالُوهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ. وَبَلَغَ ذَلِكَ النَّاظِرَ بِحَلَبَ، فَأَخْرَجَ مَنْ بِهَا مِنْ تُجَّارِ الْفِرِنْجِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُتَوَلِّي بِأَنْطَاكِيَةَ يَأْمُرُهُ بِإِخْرَاجِ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَغْلَظَ لِلرَّسُولِ وَأَرَادَ قَتْلَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ، فَأَرْسَلَ النَّاظِرُ بِحَلَبَ إِلَى الدُّزْبَرِيِّ يُعَرِّفُهُ الْحَالُ، وَأَنَّ الْقَوْمَ عَلَى التَّجَهُّزِ لِقَصْدِ الْبِلَادِ، فَجَهَّزَ الدُّزْبَرِيُّ جَيْشًا وَسَيَّرَهُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُمْ لَقَوْا جَيْشًا لِلرُّومِ وَقَدْ خَرَجُوا لِمِثْلِ مَا خَرَجَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ، وَالْتَقَى الْفَرِيقَانِ بَيْنَ مَدِينَةِ حَمَاةَ وَأَفْامِيَةَ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ نَصَرَ الْمُسْلِمِينَ وَأَذَلَّ الْكَافِرِينَ، فَانْهَزَمُوا وَقُتِلَ مِنْهُمْ عِدَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَأُسِرَ ابْنُ عَمٍّ لِلْمَلِكِ، بَذَلُوا فِي فِدَائِهِ مَالًا جَزِيلًا وَعِدَّةً وَافِرَةً مِنْ أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَانْكَفَّ الرُّومُ عَنِ الْأَذَى بَعْدَهَا. ذِكْرُ الْخُلْفِ بَيْنَ الْمُعِزِّ وَبَنِي حَمَّادٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ أَوْلَادُ حَمَّادٍ عَلَى الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعِصْيَانِ وَالْخِلَافِ عَلَيْهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْمُعِزُّ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَحَشَدَهَا، وَحَصَرَ قَلْعَتَهُمُ الْمَعْرُوفَةَ بِقَلْعَةِ حَمَّادٍ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ نَحْوَ سَنَتَيْنِ. ذِكْرُ صُلْحِ أَبِي الشَّوْكِ وَعَلَاءِ الدَّوْلَةِ وَفِيهَا سَارَ مُهَلْهِلٌ أَخُو أَبِي الشَّوْكِ إِلَى عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَاكَوَيْهِ وَاسْتَصْرَخَهُ، وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى أَخِيهِ أَبِي الشَّوْكِ، فَسَارَ مَعَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ قِرْمِيسِينَ رَجَعَ أَبُو الشَّوْكِ إِلَى

حُلْوَانَ، فَعَرَفَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ رُجُوعَهُ، فَسَارَ يَتْبَعُهُ حَتَّى بَلَغَ الْمَرْجَ، وَقَرُبَ مِنْ أَبِي الشَّوْكِ، فَعَزَمَ أَبُو الشَّوْكِ عَلَى قَصْدِ قَلْعَةِ السِّيرَوَانِ وَالتَّحَصُّنِ بِهَا، ثُمَّ تَجَلَّدَ وَأَرْسَلَ إِلَى عَلَاءِ الدَّوْلَةِ: إِنَّنِي لَمْ أَنْصَرِفْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ إِلَّا مُرَاقَبَةً لَكَ، وَإِعْظَامًا لِقَدْرِكَ، وَاسْتِعْطَافًا لَكَ، فَإِذَا اضْطَرَرْتَنِي إِلَى مَا لَا أَجِدُ بُدًّا مِنْهُ كَانَ الْعُذْرُ قَائِمًا لِي فِيهِ، فَإِنْ ظَفِرْتُ بكَ طَمِعَ فِيكَ الْأَعْدَاءُ، وَإِنْ ظَفِرْتَ بِي سَلَّمْتُ قِلَاعِي وَبِلَادِي إِلَى الْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ. فَأَجَابَهُ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ الدِّينَوَرُ، وَعَادَ فَلَحِقَهُ الْمَرَضُ فِي طَرِيقِهِ وَتُفِّيَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ بِإِفْرِيقِيَّةَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ، وَسَبَبُهُ عَدَمُ الْأَمْطَارِ، فَسُمِّيَتْ سَنَةَ الْغُبَارِ، وَدَامَ ذَلِكَ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] فَخَرَجَ النَّاسُ فَاسْتَسْقَوْا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ قُزُلُ أَمِيرُ الْغُزِّ الْعِرَاقِيَّةِ بِالرَّيِّ، وَدُفِنَ بِنَاحِيَةٍ مِنْ أَعْمَالِهَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَاعِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو الْعَلَاءِ النَّيْسَابُورِيُّ ثُمَّ الْأُسْتُوَائِيُّ، قَاضِي نَيْسَابُورَ، وَكَانَ عَالِمًا فَقِيهًا حَنَفِيًّا، انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِئَاسَةُ الْحَنَفِيَّةِ بِخُرَاسَانَ.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 433 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَاكَوَيْهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ تُوُفِّيَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ دِشْمِنْزِيَارَ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ كَاكَوَيْهِ، بَعْدَ عَوْدِهِ مِنْ بَلَدِ أَبِي الشَّوْكِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ كَاكَوَيْهِ لِأَنَّهُ ابْنُ خَالِ مَجْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَالْخَالُ بِلُغَتِهِمْ كَاكَوَيْهِ، وَقَامَ بِأَصْبَهَانَ ابْنُهُ ظُهَيْرُ الدِّينِ أَبُو مَنْصُورٍ فِرَامَرْزُ مَقَامَهُ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ، وَأَطَاعَهُ الْجُنْدُ بِهَا، فَسَارَ وَلَدُهُ أَبُو كَالِيجَارَ كُرْشَاسُفُ إِلَى نَهَاوَنْدَ، فَأَقَامَ بِهَا وَحَفِظَهَا، وَضَبَطَ أَعْمَالَ الْجَبَلِ، وَأَخْذَهَا لِنَفْسِهِ، فَأَمْسَكَ عَنْهُ أَخُوهُ أَبُو مَنْصُورٍ فِرَامَرْزُ. ثُمَّ إِنَّ مُسْتَحْفِظًا لِعَلَاءِ الدَّوْلَةِ بِقَلْعَةِ نَطْنَزَ أَرْسَلَ أَبُو مَنْصُورٍ إِلَيْهِ يَطْلُبُ شَيْئًا مِمَّا عِنْدَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّخَائِرِ، فَامْتَنَعَ وَأَظْهَرَ الْعِصْيَانَ، فَسَارَ إِلَيْهِ أَبُو مَنْصُورٍ وَأَخُوهُ الْأَصْغَرُ أَبُو حَرْبٍ، لِيَأْخُذَا الْقَلْعَةَ مِنْهُ كَيْفَ أَمْكَنَ، فَصَعِدَ أَبُو حَرْبٍ إِلَيْهَا، وَوَافَقَ الْمُسْتَحْفِظَ عَلَى الْعِصْيَانِ، فَعَادَ أَبُو مَنْصُورٍ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَأَرْسَلَ أَبُو حَرْبٍ إِلَى الْغُزِّ السَّلْجُوقِيَّةِ بِالرَّيِّ يَسْتَنْجِدُهُمْ، فَسَارَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى قَاجَانَ، فَدَخَلُوهَا وَنَهَبُوهَا وَسَلَّمُوهَا إِلَى أَبِي حَرْبٍ، وَعَادُوا إِلَى الرَّيِّ، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا أَبُو مَنْصُورٍ عَسْكَرًا لِيَسْتَنْقِذَهَا مِنْ أَخِيهِ، فَجَمَعَ أَبُو حَرْبٍ الْأَكْرَادَ وَغَيْرَهُمْ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ صَاحِبًا لَهُ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى أَصْبَهَانَ لِيَمْلِكُوهَا بِزَعْمِهِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ أَخُوهُ أَبُو مَنْصُورٍ عَسْكَرًا، فَالْتَقَوْا، وَانْهَزَمَ عَسْكَرُ أَبِي حَرْبٍ وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ. وَتَقَدَّمَ أَصْحَابُ أَبِي مَنْصُورٍ فَحَصَرُوا أَبَا حَرْبٍ، فَلَمَّا رَأَى الْحَالَ وَخَافَ، نَزَلَ

مِنْهَا مُتَخَفِّيًا، وَسَارَ إِلَى شِيرَازَ إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، صَاحِبِ فَارِسَ وَالْعِرَاقِ، فَحَسَّنَ لَهُ قَصْدَ أَصْبَهَانَ وَأَخْذَهَا مِنْ أَخِيهِ، فَسَارَ الْمَلِكُ إِلَيْهَا وَحَصَرَهَا، وَبِهَا الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، وَجَرَى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عِدَّةُ وَقَائِعَ، وَكَانَ آخِرَ الْأَمْرِ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَبْقَى أَبُو مَنْصُورٍ بِأَصْبَهَانَ، وَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ مَالٌ، وَعَادَ أَبُو حَرْبٍ إِلَى قَلْعَةِ نَطْنَزَ، وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ يَطْلُبُ الْمُصَالَحَةَ، فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَ أَخَاهُ بَعْضَ مَا فِي الْقَلْعَةِ، وَيَبْقَى بِهَا عَلَى حَالِه ِ. ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ خَرَجَ إِلَى الرَّيِّ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي مَنْصُورٍ فِرَامَرْزَ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُوَادَعَةَ، فَلَمْ يُجِبْهُ، وَسَارَ فِرَامَرْزُ إِلَى هَمَذَانَ وَبُرُجِرْدَ فَمَلَكَهُمَا، ثُمَّ اصْطَلَحَ هُوَ وَأَخُوهُ كِرْشَاسُفُ، وَأَقْطَعَهُ هَمَذَانَ، وَخُطِبَ لِأَبِي مَنْصُورٍ عَلَى مَنَابِرِ بِلَادِ كِرْشَاسُفَ، وَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمَا، وَكَانَ الْمُدَبِّرَ لِأَمْرِهِمَا الْكِيَا أَبُو الْفَتْحِ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي سَعَى فِي جَمْعِ كَلِمَتِهِمَا. ذِكْرُ مُلْكِ طُغْرُلْبَك جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ طُغْرُلْبَك جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَنُّوشَرْوَانَ بْنَ مَنُّوجَهْرَ بْنِ قَابُوسِ بْنِ وَشْمِكِيرَ صَاحِبَهَا قَبَضَ عَلَى أَبِي كَالِيجَارِ بْنِ وَيْهَانَ الْقُوهِيِّ، صَاحِبِ جَيْشِهِ وَزَوْجِ أُمِّهِ، بِمُسَاعَدَةِ أُمِّهِ عَلَيْهِ، فَعَلِمَ حِينَئِذٍ طُغْرُلْبَك أَنَّ الْبِلَادَ لَا مَانِعَ لَهُ عَنْهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا وَقَصَدَ جُرْجَانَ وَمَعَهُ مَرْدَاوَيْجُ بْنُ بَسُّو، فَلَمَّا نَازَلَهَا فَتَحَ لَهُ الْمُقِيمُ بِهَا فَدَخَلَهَا، وَقَرَّرَ عَلَى أَهْلِهَا مِائَةَ أَلْفَ دِينَارٍ صُلْحًا، وَسَلَّمَهَا إِلَى مَرْدَاوَيْجَ بْنِ بَسُّو، وَقَرَّرَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ كُلَّ سَنَةٍ عَنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَعَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ. وَقَصَدَ مَرْدَاوَيْجُ أَنُّوشَرْوَانَ بِسَارِيَةٍ، وَكَانَ بِهَا، فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ ضَمِنَ أَنُّوشَرْوَانَ لَهُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأُقِيمَتِ الْخُطْبَةُ لِطُغْرُلْبَك فِي الْبِلَادِ كُلِّهَا، وَتَزَوَّجَ مَرْدَاوَيْجُ بِوَالِدَةِ أَنُّوشَرْوَانَ، وَبَقِيَ أَنُّوشَرْوَانَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ مَرْدَاوَيْجَ لَا يُخَالِفُهُ فِي شَيْءٍ الْبَتَّةَ.

ذِكْرُ أَحْوَالِ مُلُوكِ الرُّومِ نَذْكُرُ هَاهُنَا أَحْوَالَ الرُّومِ مِنْ عَهْدِ بَسِيلَ إِلَى الْآنَ، فَنَقُول ُ: مِنْ عَادَةِ مُلُوكِ الرُّومِ أَنْ يَرْكَبُوا أَيَّامَ الْأَعْيَادِ إِلَى الْبِيعَةِ الْمَخْصُوصَةِ بِذَلِكَ الْعِيدِ، فَإِذَا اجْتَازَ الْمَلِكُ بِالْأَسْوَاقِ شَاهَهُ النَّاسُ وَبِأَيْدِيهِمُ الْمَدَاخِنُ يُبَخِّرُونَ فِيهَا، فَرَكِبَ وَالِدُ بَسِيلَ وَقُسْطَنْطِينَ فِي بَعْضِ الْأَعْيَادِ، وَكَانَ لِبَعْضِ أَكَابِرِ الرُّومِ بِنْتٌ جَمِيلَةٌ، فَخَرَجَتْ تُشَاهِدُ الْمَلِكَ، فَلَمَّا مَرَّ بِهَا اسْتَحْسَنَهَا، فَأَمَرَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْهَا، فَلَمَّا عَرَفَهَا خَطَبَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَأَحَبَّهَا، وَوَلَدَتْ مِنْهُ بَسِيلَ وَقُسْطَنْطِينَ، وَتُوُفِّيَ وَهُمَا صَغِيرَانِ، فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ نِقْفُورَ، فَكَرِهَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَعَمِلَتْ عَلَى قَتْلِهِ، فَرَاسَلَتِ الشَّمْشَقِيقَ فِي ذَلِكَ، فَقَصَدَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ مُتَخَفِّيًا، فَأَدْخَلَتْهُ إِلَى دَارِ الْمَلِكِ، وَاتَّفَقَا وَقَتَلَاهُ لَيْلًا، وَأَحْضَرَتِ الْبَطَارِقَةَ مُتَفَرِّقِينَ وَأَعْطَتْهُمُ الْأَمْوَالَ وَدَعَتْهُمْ إِلَى تَمْلِيكِ الشَّمْشَقِيقِ، فَفَعَلُوا، وَلَمْ يُصْبِحْ وَقَدْ فَرَغَتْ مِمَّا تُرِيدُ، وَلَمْ يَجْرِ خُلْفٌ. وَتَزَوَّجَتِ الشَّمْشَقِيقَ وَأَقَامَتْ مَعَهُ سَنَةً، فَخَافَهَا وَاحْتَالَ عَلَيْهَا، وَأَخْرَجَهَا إِلَى دَيْرٍ بَعِيدٍ، وَحَمَلَ وَلَدَيْهَا مَعَهَا، فَأَقَامَتْ فِيهِ سَنَةً، ثُمَّ أَحْضَرَتْ رَاهِبًا، وَوَهَبَتْهُ مَالًا، وَأَمَرَتْهُ بِقَصْدِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ وَالْمُقَامِ بِكَنِيسَةِ الْمَلِكِ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى قَدْرِ الْقُوتِ، فَإِذَا وَثِقَ بِهِ الْمَلِكُ، وَأَرَادَ الْقُرْبَانَ مِنْ يَدِهِ لَيْلَةَ الْعِيدِ سَقَاهُ سُمًّا، فَفَعَلَ الرَّاهِبُ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْعِيدِ سَارَتْ وَمَعَهَا وَلَدَاهَا، وَوَصَلَتْ قُسْطَنْطِينِيَّةَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ الشَّمْشَقِيقُ، فَمَلَكَ وَلَدُهَا بَسِيلُ، وَدَبَّرَتْ هِيَ الْأَمْرَ لِصِغَرِهِ، فَلَمَّا كَبِرَ بَسِيلُ قَصَدَ بَلَدَ الْبُلْغَارِ، وَتُوُفِّيَتْ وَهُوَ هُنَاكَ، فَبَلَغَهُ وَفَاتُهَا، فَأَمَرَ خَادِمًا لَهُ أَنْ يُدَبِّرَ الْأُمُورَ فِي غَيْبَتِهِ. وَدَامَ قِتَالُهُ لِبُلْغَارَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَظَفِرُوا بِهِ، فَعَادَ مَهْزُومًا وَأَقَامَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ يَتَجَهَّزُ لِلْعَوْدِ، فَعَادَ إِلَيْهِمْ، فَظَفِرَ بِهِمْ وَقَتَلَ مَلِكَهُمْ، وَسَبَى أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ، وَمَلَكَ بِلَادَهُ، وَنَقَلَ أَهْلَهَا إِلَى الرُّومِ، وَأَسْكَنَ الْبِلَادَ طَائِفَةً مِنَ الرُّومِ، وَهَؤُلَاءِ الْبُلْغَارُ غَيْرُ الطَّائِفَةِ الْمُسْلِمَةِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَقْرَبُ إِلَى بَلَدِ الرُّومِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِنَحْوِ شَهْرَيْنِ، وَكِلَاهُمَا يُسَمَّى بُلْغَارَ.

وَكَانَ بَسِيلُ عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، وَدَامَ مُلْكُهُ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ وَلَمْ يُخَلِّفْ وَلَدًا، فَمَلَكَ أَخُوهُ قُسْطَنْطِينُ، وَبَقِيَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَلَمْ يُخَلِّفْ غَيْرَ ثَلَاثِ بَنَاتٍ، فَمَلَكَتِ الْكُبْرَى وَتَزَوَّجَتْ أَرْمَانُوسَ، وَهُوَ مِنْ أَقَارِبِ الْمَلِكِ، وَمَلَّكَتْهُ فَبَقِيَ مُدَّةً، وَهُوَ الَّذِي مَلَكَ الرُّهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ لِأَرْمَانُوسَ صَاحِبٌ لَهُ يَخْدِمُهُ قَبْلَ مُلْكِهِ، مِنْ أَوْلَادِ بَعْضِ الصَّيَارِفِ، اسْمُهُ مِيخَائِيلُ، فَلَمَّا مَلَكَ حَكَّمَهُ فِي دَارِهِ، فَمَالَتْ زَوْجَةُ قُسْطَنْطِينَ إِلَيْهِ، وَعَمِلَا الْحِيلَةَ فِي قَتْلِ أَرْمَانُوسَ، فَمَرِضَ أَرْمَانُوسُ فَأَدْخَلَاهُ إِلَى الْحَمَّامِ كَارِهًا وَخَنَقَاهُ، وَأَظْهَرَا أَنَّهُ مَاتَ فِي الْحَمَّامِ، وَمَلَّكَتْ زَوْجَتُهُ مِيخَائِيلَ، وَتَزَوَّجَتْهُ عَلَى كُرْهٍ مِنَ الرُّومِ. وَعَرَضَ لِمِيخَائِيلَ صَرَعٌ لَازَمَهُ وَشَوَّهَ صُورَتَهُ، فَعُهِدَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ إِلَى ابْنِ أُخْتٍ لَهُ اسْمُهُ مِيخَائِيلُ أَيْضًا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ ابْنُ أُخْتِهِ وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، وَقَبَضَ عَلَى أَهْلِ خَالِهِ وَإِخْوَتِهِ، وَهُمْ أَخْوَالُهُ، وَضَرَبَ الدَّنَانِيرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهِيَ [سَنَةُ] ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ أَحْضَرَ زَوْجَتَهُ بِنْتَ الْمَلِكِ، وَطَلَبَ مِنْهَا أَنْ تَتَرَهَّبَ وَتَنْزِعَ نَفْسَهَا عَنِ الْمُلْكِ، فَأَبَتْ، فَضَرَبَهَا وَسَيَّرَهَا إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الْقَبْضِ عَلَى الْبِطَرْكِ وَالِاسْتِرَاحَةِ مَنْ تَحَكُّمِهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ لَهُ طَعَامًا فِي دَيْرٍ ذَكَرَهُ بِظَاهِرِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَخَرَجَ إِلَى الدَّيْرِ لِيَعْمَلَ مَا قَالَ الْمَلِكُ، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ جَمَاعَةً مِنَ الرُّوسِ وَالْبُلْغَارِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى قَتْلِهِ سِرًّا، فَقَصَدُوهُ لَيْلًا وَحَصَرُوهُ فِي الدَّيْرِ، فَبَذَلَ لَهُمْ مَالًا كَثِيرًا، وَخَرَجَ مُتَخَفِّيًا، وَقَصَدَ الْبِيعَةَ الَّتِي يَسْكُنُهَا، وَضَرَبَ النَّاقُوسَ، فَاجْتَمَعَ الرُّومُ عَلَيْهِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى عَزْلِ الْمَلِكِ فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَحَصَرُوا الْمَلِكَ فِي دَارٍ، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ إِلَى زَوْجَتِهِ وَأَحْضَرَهَا مِنَ الْجَزِيرَةِ الَّتِي نَفَاهَا إِلَيْهَا، وَرَغِبَ فِي أَنْ تَرُدَّ عَنْهُ فَلَمْ تَفْعَلْ، وَأَخْرَجَتْهُ إِلَى بِيعَةٍ يَتَرَهَّبُ فِيهَا. ثُمَّ إِنَّ الْبِطَرْكَ وَالرُّومَ نَزَعُوا زَوْجَتَهُ مِنَ الْمُلْكِ، وَمَلَّكُوا أُخْتًا لَهَا صَغِيرَةً، وَاسْمُهَا تَذُورَةُ، وَجَعَلُوا مَعَهَا خَدَمَ أَبِيهَا يُدَبِّرُونَ الْمُلْكَ، وَكَحَّلُوا مِيخَائِيلَ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ

بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ بَيْنَ مَنْ يَتَعَصَّبُ لَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَتَعَصَّبُ لِتَذُورَةَ وَالْبِطَرْكِ، فَظَفِرَ أَصْحَابُ تَذُورَةَ بِهِمْ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ الرُّومَ افْتَقَرُوا إِلَى مَلِكٍ يُدَبِّرُهُمْ، فَكَتَبُوا أَسْمَاءَ جَمَاعَةٍ يَصْلُحُونَ لِلْمُلْكِ فِي رِقَاعٍ، وَوَضَعُوهَا فِي بَنَادِقَ طِينٍ، وَأَمَرُوا مَنْ يُخْرِجُ مِنْهَا بُنْدُقَةً، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ بِاسْمِ مَنْ فِيهَا، فَخَرَجَ اسْمُ قُسْطَنْطِينَ، فَمَلَّكُوهُ وَتَزَوَّجَتْهُ الْمَلِكَةُ الْكَبِيرَةُ، وَاسْتَنْزَلَتْ أُخْتَهَا الصَّغِيرَةَ تَذُورَةُ عَنِ الْمُلْكِ بِمَالٍ بَذَلَتْهُ لَهَا، وَاسْتَقَرَّ فِي الْمُلْكِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] فَخَرَجَ عَلَيْهِ فِيهَا خَارِجِيٌّ مِنَ الرُّومِ اسْمُهُ أَرْمِينَاسُ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ حَتَّى زَادُوا عَلَى عِشْرِينَ أَلْفًا، فَأَهَمَّ قُسْطَنْطِينَ أَمْرُهُ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا، فَظَفِرُوا بِالْخَارِجِيِّ وَقَتَلُوهُ، وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَأُسِرَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ مِائَةُ رَجُلٍ، فَشُهِّرُوا فِي الْبَلَدِ، ثُمَّ أُطْلِقُوا وَأُعْطُوا نَفَقَةً، وَأُمِرُوا بِالِانْصِرَافِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ أَرَادُوا. ذِكْرُ فَسَادِ حَالِ الدَّزْبَرِيِّ بِالشَّامِ وَمَا صَارَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ بِالْبِلَادِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَسَدَ أَمْرُ أَنُّوشْتِكِينَ الدَّزْبَرِيِّ نَائِبِ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ صَاحِبِ مِصْرَ بِالشَّامِ، وَقَدْ كَانَ كَبِيرًا عَلَى مَخْدُومِهِ بِمَا يَرَاهُ مَنْ تَعْظِيمِ الْمُلُوكِ لَهُ، وَهَيْبَةِ الرُّومِ مِنْهُ. وَكَانَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ الْجَرْجَرَائِيُّ يَقْصِدُهُ وَيَحْسُدُهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجِدُ طَرِيقًا إِلَى الْوَقِيعَةِ فِيهِ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَنَّهُ سُعِيَ بِكَاتِبٍ لِلدَّزْبَرِيِّ اسْمُهُ أَبُو سَعْدٍ، وَقِيلَ عَنْهُ: إِنَّهُ يَسْتَمِيلُ صَاحِبَهُ إِلَى غَيْرِ جِهَةِ الْمِصْرِيِّينَ، فَكُوتِبَ الدَّزْبَرِيُّ بِإِبْعَادِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَاسْتَوْحَشُوا مِنْهُ، وَوَضَعَ الْجَرْجَرَائِيُّ حَاجِبَ الدَّزْبَرِيِّ وَغَيْرَهُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ. ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْأَجْنَادِ قَصَدُوا مِصْرَ، وَشَكَوْا إِلَى الْجَرْجَرَائِيِّ مِنْهُ، فَعَرَّفَهُمْ سُوءَ رَأْيِهِ فِيهِ، وَأَعَادَهُمْ إِلَى دِمَشْقَ، وَأَمَرَهُمْ بِإِفْسَادِ الْجُنْدِ عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ.

وَأَحَسَّ الدَّزْبَرِيُّ بِمَا يَجْرِي، فَأَظْهَرَ مَا فِي نَفْسِهِ، وَأَحْضَرَ نَائِبَ الْجَرْجَرَائِيِّ عِنْدَهُ، وَأَمَرَ بِإِهَانَتِهِ وَضَرْبِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَطْلَقَ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ يَلْزَمُونَ خِدْمَتَهُ أَرْزَاقَهُمْ، وَمَنَعَ الْبَاقِينَ، فَحَرَّكَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ، وَقَوَّى طَمَعَهُمْ فِيهِ بِمَا كُوتِبُوا بِهِ مِنْ مِصْرَ، فَأَظْهَرُوا الشَّغَبَ عَلَيْهِ وَقَصَدُوا قَصْرَهُ، وَهُوَ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَتَبِعَهُمْ مِنَ الْعَامَّةِ مَنْ يُرِيدُ النَّهْبَ، فَاقْتَتَلُوا، فَعَلِمَ الدَّزْبَرِيُّ ضَعْفَهُ وَعَجْزَهُ عَنْهُمْ، فَفَارَقَ مَكَانَهُ، وَاسْتَصْحَبَ أَرْبَعِينَ غُلَامًا لَهُ وَمَا أَمْكَنَهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَثَاثِ وَالْأَمْوَالِ، وَنَهَبَ الْبَاقِي، وَسَارَ إِلَى بَعْلَبَكَّ فَمَنَعَهُ مُسْتَحْفِظُهَا، وَأَخَذَ مَا أَمْكَنَهُ أَخْذُهُ مِنْ مَالِ الدَّزْبَرِيِّ، وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْجُنْدِ يَقْفُونَ أَثَرَهُ، وَيَنْهَبُونَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ. وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ حَمَاةَ فَمُنِعَ عَنْهَا وَقُوتِلَ، وَكَاتَبَ الْمُقَلَّدَ بْنَ مُنْقِذٍ الْكِنَانِيَّ الْكَفَرْطَابِيَّ وَاسْتَدْعَاهُ، فَأَجَابَهُ وَحَضَرَ عِنْدَهُ فِي نَحْوِ أَلْفَيْ رَجُلٍ مَنْ كَفَرْطَابَ وَغَيْرِهَا، فَاحْتَمَى بِهِ، وَسَارَ إِلَى حَلَبَ وَدَخَلَهَا، وَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً، وَتُوُفِّيَ فِي مُنْتَصَفِ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ فَسَدَ أَمْرُ بِلَادِ الشَّامِ، وَانْتَشَرَتِ الْأُمُورُ بِهَا، وَزَالَ النِّظَامُ، وَطَمِعَتِ الْعَرَبُ، وَخَرَجُوا فِي نَوَاحِيهِ، فَخَرَجَ حَسَّانُ بْنُ الْمُفَرِّجِ الطَّائِيُّ بِفِلَسْطِينَ، وَخَرَجَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ صَالِحٍ الْكِلَابِيُّ بِحَلَبَ، وَقَصَدَهَا وَحَصَرَهَا، وَمَلَكَ الْمَدِينَةَ، وَامْتَنَعَ أَصْحَابُ الدَّزْبَرِيِّ بِالْقَلْعَةِ، وَكَتَبُوا إِلَى مِصْرَ يَطْلُبُونَ النَّجْدَةَ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَاشْتَغَلَ عَسَاكِرُ دِمَشْقَ وَمُقَدَّمُهُمُ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الَّذِي وَلِيَ أَمْرَ دِمَشْقَ بَعْدَ الدَّزْبَرِيِّ بِحَرْبِ حَسَّانَ، وَوَقَعَ الْمَوْتُ فِي الَّذِينَ فِي الْقَلْعَةِ، فَسَلَّمُوهَا إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بِالْأَمَان ِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ مِنْ فَارِسَ عَسْكَرًا فِي الْبَحْرِ إِلَى عَمَّانَ،

وَكَانَ قَدْ عَصَى مَنْ بِهَا، فَوَصَلَ الْعَسْكَرُ إِلَى صَحَارِ مَدِينَةِ عُمَّانَ فَمَلَكُوهَا، وَاسْتَعَادُوا الْخَارِجِينَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَاسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ بِهَا، وَعَادَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَى فَارِسَ. وَفِيهَا قَصَدَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْهَيْثَمِ الصَّلِيقَ مِنَ الْبَطَائِحِ، فَمَلَكَهَا وَنَهَبَهَا، ثُمَّ اسْتَقَرَّ أَمْرُهَا عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مَنْصُورٍ بَهْرَامُ بْنُ مَافَنَّةَ، وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِالْعَادِلِ، وَزِيرُ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، وَبَنَى دَارَ الْكُتُبِ بِفَيْرُوزَابَاذَ، وَجَعَلَ فِيهَا سَبْعَةَ آلَافِ مُجَلَّدٍ، فَلَمَّا مَاتَ وَزَرَ بَعْدَهُ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ أَبُو مَنْصُورٍ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْفَسَوِي ُّ. وَفِيهَا وَصَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْبُلْغَارِ إِلَى بَغْدَاذَ يُرِيدُونَ الْحَجَّ، فَأُقِيمَ لَهُمْ مِنَ الدِّيوَانِ الْإِقَامَاتُ الْوَافِرَةُ، فَسُئِلَ بَعْضُهُمْ: مِنْ أَيِّ الْأُمَمِ هُمُ الْبُلْغَارُ؟ فَقَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَوَلَّدُوا بَيْنَ اَّرْكِ وَالصَّقَالِبَةِ، وَبَلَدُهُمْ فِي أَقْصَى التُّرْكِ، وَكَانُوا كُفَّارًا، فَأَسْلَمُوا عَنْ قَرِيبٍ، وَهُمْ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِيخَائِيلُ مَلِكُ الرُّومِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُ أَخِيهِ مِيخَائِيلُ أَيْضًا. وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْجَهْرَمِيُّ الشَّاعِرُ، وَهُوَ الْقَائِلُ:

يَا وَيْحَ قَلْبِي مِنْ تَقَلُّبِهِ ... أَبَدًا يَحِنُّ إِلَى مُعَذِّبِهِ قَالُوا كَتَمْتَ هَوَاهُ عَنْ جَلَدٍ ... لَوْ أَنَّ لِي رَمَقًا لَبُحْتُ بِهِ بِأَبِي حَبِيبًا غَيْرَ مُكْتَرِثٍ ... عَنِّي وَيُكْثِرُ مِنْ تَعَتُّبِهِ حَسْبِي رِضَاهُ مِنَ الْحَيَاةِ ... وَمَا قَلَقِي وَمَوْتِي مِنْ تَغَضُّبِهِ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُطَرِّزِ مُهَاجَاةٌ.

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 434 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ طُغْرُلْبَك مَدِينَةَ خُوَارَزْمَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ خُوَارَزْمَ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ مَمْلَكَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مَسْعُودٌ كَانَتْ لَهُ، وَكَانَ فِيهَا أَلْتُونْتَاشُ حَاجِبُ أَبِيهِ مَحْمُودٍ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَائِهِ، يَتَوَلَّاهَا لِمَحْمُودٍ وَمَسْعُودٍ بَعْدَهُ، وَلَمَّا كَانَ مَسْعُودٌ مَشْغُولًا بِقَصْدِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ لَأَخْذِ الْمُلْكِ، قَصَدَ الْأَمِيرُ عَلِيُّ تِكِينُ صَاحِبُ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ أَطْرَافَ بِلَادِهِ وَشَعَّثَهَا، فَلَمَّا فَرَغَ مَسْعُودٌ مِنْ أَمْرِ أَخِيهِ وَاسْتَقَرَّ الْمُلْكُ لَهُ كَاتَبَ أَلْتُونْتَاشَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ بِقَصْدِ أَعْمَالِ عَلِيِّ تِكِينَ، وَأَخْذِ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ، وَأَمَدَّهُ بِجَيْشٍ كَثِيفٍ، فَعَبَرَ جَيْحُونَ، وَفَتَحَ مِنْ بِلَادِ عَلِيِّ تِكِينَ مَا أَرَادَ، وَانْحَازَ عَلِيُّ تِكِينُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ. وَأَقَامَ أَلْتُونْتَاشُ بِالْبِلَادِ الَّتِي فَتَحَهَا، فَرَأَى دَخْلَهَا لَا يَفِي بِمَا تَحْتَاجُ عَسَاكِرُهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ [أَنْ] يَكُونَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ يَمْتَنِعُ بِهِمْ عَلَى التُّرْكِ، فَكَاتَبَ مَسْعُودًا فِي ذَلِكَ وَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْعَوْدِ إِلَى خُوَارَزْمَ، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا عَادَ لَحِقَهُ عَلِيُّ تِكِينُ عَلَى غِرَّةٍ وَكَبَسَهُ، فَانْهَزَمَ عَلِيُّ تِكِينُ، وَصَعِدَ إِلَى قَلْعَةِ دَبُّوسِيَّةَ، فَحَصَرَهُ أَلْتُونْتَاشُ وَكَادَ يَأْخُذُهُ! فَرَاسَلَهُ لِيُّ تِكِينُ وَاسْتَعْطَفَهُ وَضَرَعَ إِلَيْهِ، فَرَحَلَ عَنْهُ وَعَادَ إِلَى خُوَارَزْمَ. وَأَصَابَ أَلْتُونْتَاشَ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ جِرَاحَةٌ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى خُوَارَزْمَ مَرِضَ مِنْهَا وَتُوُفِّيَ، وَخَلَّفَ مِنَ الْأَوْلَادِ ثَلَاثَةَ بَنِينٍ: هَارُونَ، وَرَشِيدٍ، وَإِسْمَاعِيلَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ ضَبَطَ الْبَلَدَ وَزِيهُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَحَفِظَ الْخَزَائِنَ وَغَيْرَهَا، وَأَعْلَمَ مَسْعُودًا، فَوَلَّى ابْنَهُ الْكَبِيرَ هَارُونَ خُوَارَزْمَ، وَسَيَّرَهُ إِلَيْهَا، وَكَانَ عِنْدَه ُ.

وَاتَّفَقَ أَنَّ الْمَيْمَنْدِيَّ وَزِيرَ مَسْعُودٍ تُوُفِّيَ، فَاسْتَحْضَرَ أَبَا نَصْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ وَاسْتَوْزَرَهُ، فَاسْتَنَابَ أَبُو نَصْرٍ عِنْدَ هَارُونَ ابْنَهُ عَبْدَ الْجَبَّارِ، وَجَعَلَهُ وَزِيرَهُ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَارُونَ مُنَافَرَةٌ أَسَرَّهَا هَارُونُ فِي نَفْسِهِ، وَحَسَّنَ لَهُ أَصْحَابُهُ الْقَبْضَ عَلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَالْعِصْيَانَ عَلَى مَسْعُودٍ، فَأَظْهَرَ الْعِصْيَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَأَرَادَ قَتْلَ عَبْدِ الْجَبَّارِ فَاخْتَفَى مِنْهُ، فَقَالَ أَعْدَاءُ أَبِيهِ لِلْمَلِكِ مَسْعُود ٍ: إِنَّ أَبَا نَصْرٍ وَاطَأَ هَارُونَ عَلَى الْعِصْيَانِ، وَإِنَّمَا اخْتَفَى ابْنُهُ حِيلَةً وَمَكْرًا، فَاسْتَوْحَشَ مِنْهُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ لَهُ. وَعَزَمَ مَسْعُودٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ غَزْنَةَ إِلَى خُوَارَزْمَ، فَسَارَ عَنْ غَزْنَةَ وَالزَّمَانُ شِتَاءٌ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ قَصْدَ خُوَارَزْمَ، فَسَارَ إِلَى جُرْجَانَ طَالِبًا أَنُّوشَرْوَانَ بْنَ مَنُّوجَهْرَ، لِيُقَابِلَهُ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْهُ عِنْدَ اشْتِغَالِ مَسْعُودٍ بِقِتَالِ أَحْمَدَ يَنَّالَ تِكِينَ بِبِلَادِ الْهِنْدِ. فَلَمَّا كَانَ بِبِلَادِ جُرْجَانَ أَتَاهُ كِتَابُ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَبِي نَصْرٍ بِقَتْلِ هَارُونَ، وَإِعَادَةِ الْبَلَدِ إِلَى طَاعَتِهِ، وَكَانَ عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي بَدْءِ اسْتِتَارِهِ يَعْمَلُ عَلَى قَتْلِ هَارُونَ، وَوَضَعَ جَمَاعَةً عَلَى الْفَتْكِ بِهِ، فَقَتَلُوهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ إِلَى الصَّيْدِ، وَقَامَ عَبْدُ الْجَبَّارِ بِحِفْظِ الْبَلَدِ. فَلَمَّا وَقَفَ مَسْعُودٌ عَلَى كِتَابِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي قِيلَ عَنْ أَبِيهِ كَانَ بَاطِلًا، فَعَادَ إِلَى الثِّقَةِ بِهِ، وَبَقِيَ عَبْدُ الْجَبَّارِ أَيَّامًا يَسِيرَةً، فَوَثَبَ بِهِ غِلْمَانُ هَارُونَ فَقَتَلُوهُ، وَوَلَّوُا الْبَلَدَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَلْتُونْتَاشَ، وَقَامَ بِأَمْرِهِ شُكْرٌ خَادِمُ أَبِيهِ، وَعَصَوْا عَلَى مَسْعُودٍ. فَكَتَبَ مَسْعُودٌ إِلَى شَاهْمَلِكَ بْنِ عَلِيٍّ، أَحَدِ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ بِنَوَاحِي خُوَارَزْمَ، بِقَصْدِ خُوَارَزْمَ وَأَخْذِهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَقَاتَلَهُ شُكْرٌ وَإِسْمَاعِيلُ وَمَنَعَاهُ عَنِ الْبَلَدِ، فَهَزَمَهُمَا وَمَلَكَ الْبَلَدَ، فَسَارَا إِلَى طُغْرُلْبَك وَدَاوُدَ السَّلْجُقِيَّيْنِ وَالْتَجَآ إِلَيْهِمَا، وَطَلَبَا الْمَعُونَةَ مِنْهُمَا، فَسَارَ دَاوُدُ مَعَهُمَا إِلَى خُوَارَزْمَ، فَلَقِيَهُمْ شَاهْمَلِكُ وَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ، وَلَمَّا جَرَى عَلَى مَسْعُودٍ مِنَ الْقَتْلِ مَا جَرَى وَمَلَكَ مَوْدُودٌ، دَخَلَ شَاهْمَلِكُ فِي طَاعَتِهِ وَصَافَاهُ، وَتَمَسَّكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِه ِ. ثُمَّ إِنَّ طُغْرُلْبَك سَارَ إِلَى خُوَارَزْمَ فَحَصَرَهَا وَمَلَكَهَا وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَانْهَزَمَ شَاهْمَلِكُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَصْحَبَ أَمْوَالَهُ وَذَخَائِرَهُ وَمَضَى فِي الْمَفَازَةِ إِلَى دِهِسْتَانَ، ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهَا إِلَى طَبَسَ، ثُمَّ إِلَى أَطْرَافِ كِرْمَانَ، ثُمَّ إِلَى أَعْمَالِ التِّيزِ وَمَكْرَانَ، فَلَمَّا وَصَلَ

إِلَى هُنَاكَ عَلِمَ خَلَاصَهُ بِبُعْدِهِ، وَأَمِنَ فِي نَفْسِهِ، فَعَرَفَ خَبَرَهُ أَرْتَاشُ أَخُو إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ طُغْرُلْبَك، فَقَصَدَهُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافَ فَارِسٍ، فَأَوْقَعَ بِهِ وَأَسَرَهُ وَأَخَذَ مَا مَعَهُ، ثُمَّ عَادَ بِهِ فَسَلَّمَهُ إِلَى دَاوُدَ، وَحَصَلَ هُوَ بِمَا غَنِمَ مِنْ أَمْوَالِهِ، وَعَادَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى بَاذَغِيسَ الْمُقَارِبَةِ لِهَرَاةَ، وَأَقَامَ عَلَى مُحَاصَرَةِ هَرَاةَ، لِأَنَّهُمْ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ كَانُوا مُقِيمِينَ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالِاعْتِصَامِ بِبَلَدِهِمْ وَالثَّبَاتِ عَلَى طَاعَةِ مَوْدُودِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ هَرَاةَ، وَحَفِظُوا بَلَدَهُمْ مَعَ خَرَابِ سَوَادِهِمْ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَرْبُ، خَوْفًا مِنَ الْغُز ِّ. ذِكْرُ قَصْدِ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ هَمَذَانَ وَمَا كَانَ مِنْهُ قَدْ ذَكَرْنَا خُرُوجَ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الرَّيِّ وَاسْتِيلَاءَهُ عَلَيْهَا. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُهَا سَارَ عَنْهَا، وَمَلَكَ الْبِلَادَ الْمُجَاوِرَةَ لَهَا، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى بُرُجِرْدَ فَمَلَكَهَا، ثُمَّ قَصَدهَمَذَانَ، وَكَانَ بِهَا أَبُو كَالِيجَارَ كُرْشَاسُفُ بْنُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ صَاحِبُهَا، فَفَارَقَهَا إِلَى سَابُورَ خُوَاسْتَ، وَنَزَلَ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالُ عَلَى هَمَذَانَ وَأَرَادَ دُخُولَهَا، فَقَالَ لَهُ أَهْلُهَا: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الَاعَةَ وَمَا يَطْلُبُهُ السُّلْطَانُ مِنَ الرَّعِيَّةِ، فَنَحْنُ بَاذِلُوهُ، وَدَاخِلُونَ تَحْتَهُ، فَاطْلُبْ أَوَّلًا هَذَا الْمُخَالِفَ عَلَيْكَ الَّذِي كَانَ عِنْدَنَا - يَعْنُونَ كُرْشَاسُفَ - فَإِنَّا لَا نَأْمَنُ عَوْدَهُ إِلَيْنَا، فَإِذَا مَلَكْتَهُ أَوْ دَفَعْتَهُ كُنَّا لَكَ. فَكَفَّ عَنْهُمْ وَسَارَ إِلَى كُرْشَاسُفَ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ مَالًا، فَلَمَّا قَارَبَ سَابُورَ خُوَاسْتَ صَعِدَ كُرْشَاسُفُ إِلَى الْقَلْعَةِ فَتَحَصَّنَ بِهَا، وَحَصَرَ إِبْرَاهِيمُ الْبَلَدَ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهُ خَوْفًا مِنَ الْغُزِّ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ عَلَى دَفْعِهِمْ، فَمَلَكَ الْبَلَدَ قَهْرًا، وَنَهَبَ الْغُزُّ أَهْلَهُ، وَفَعَلُوا الْأَفَاعِيلَ الْقَبِيحَةَ بِهِمْ، ثُمَّ عَادُوا بِمَا غَنِمُوهُ إِلَى الرَّيِّ، فَرَأَوْا طُغْرُلْبَك قَدْ وَرَدَهَا، وَلَمَّا فَارَقَ إِبْرَاهِيمُ وَالْغُزُّ هَمَذَانَ نَزَلَ كُرْشَاسُفُ إِلَيْهَا، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ وَصَلَ طُغْرُلْبَك إِلَى الرَّيِّ، فَسَارَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ، عَلَى مَا نَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ خُرُوجِ طُغْرُلْبَك إِلَى الرَّيِّ وَمُلْكِ بَلَدِ الْجَبَلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ طُغْرُلْبَك مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الرَّيِّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ خُوَارَزْمَ، وَجُرْجَانَ، وَطَبَرِسْتَانَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالُ بِقُدُومِهِ سَارَ إِلَيْهِ فَلَقِيَهُ، وَتَسَلَّمَ

طُغْرُلْبَك الرَّيَّ مِنْهُ، وَتَسَلَّمَ غَيْرَهَا مِنْ بَلَدِ الْجَبَلِ، وَسَارَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى سِجِسْتَانَ، وَأَخَذَ طُغْرُلْبَك أَيْضًا قَلْعَةَ طَبَرَكَ مِنْ مَجْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ مُكْرَمًا، وَأَمَرَ طُغْرُلْبَك بِعِمَارَةِ الرَّيِّ، وَكَانَتْ قَدْ خُرِّبَتْ، فَوَجَدَ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ مَرَاكِبَ ذَهَبٍ مُجَوْهَرَةً وَبَرْنِيَّتَيْ صِينِيٍّ مَمْلُوءَتَيْنِ جَوْهَرًا وَمَالًا كَثِيرًا، وَغَيْرَ ذَلِك َ. وَكَانَ كَامَرُّو يُهَادِي طُغْرُلْبَك وَهُوَ بِخُرَاسَانَ وَيَخْدِمُهُ، وَخَدَمَ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا كَانَ بِالرَّيِّ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ أَهْدَى لَهُ هَدَايَا كَثِيرَةً مِنْ أَنْوَاعٍ شَتَّى، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ طُغْرُلْبَك يَزِيدُ فِي إِقْطَاعِهِ، وَيَرْعَى لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ خِدْمَتِهِ لَهُ، فَخَابَ ظَنُّهُ، وَقَرَّرَ عَلَى مَا بِيَدِهِ كُلَّ سَنَةٍ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. ثُمَّ سَارَ إِلَى قَزْوِينَ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا، فَزَحَفَ إِلَيْهِمْ وَرَمَاهُمْ بِالسِّهَامِ وَالْحِجَارَةِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقِفُوا عَلَى السُّورِ، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ بَرْشَقَ، وَأَخَذَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، فَلَمَّا رَأَى كَامَرُّو وَمَرْدَاوَيْجُ بْنُ بَسُّو ذَلِكَ خَافُوا أَنْ يَمْلِكَ الْبَلَدَ عَنْوَةً وَيَنْهَبَ، فَمَنَعُوا النَّاسَ مِنَ الْقِتَالِ، وَأَصْلَحُوا الْحَالَ عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَصَارَ صَاحِبُهَا فِي طَاعَتِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى كُوكْتَاشَ وَبُوقَا وَغَيْرَهُمَا مِنْ أُمَرَاءِ الْغُزِّ الَّذِينَ تَقَدَّمَ خُرُوجُهُمْ - يُمَنِّيهِمْ وَيَدَعُوهُمْ إِلَى الْحُضُورِ فِي خِدْمَتِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ سَارُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى نَهْرٍ بِنَوَاحِي زِنْجَانَ، ثُمَّ أَعَادُوا رَسُولَهُ، وَقَالُوا لَهُ: قُلْ لَهُ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ غَرَضَكَ أَنْ تَجْمَعَنَا لِتَقْبِضَ عَلَيْنَا، وَالْخَوْفُ مِنْكَ أَبْعَدَنَا عَنْكَ، وَقَدْ نَزَلْنَا هَاهُنَا، فَإِنْ أَرَدْتَنَا قَصَدْنَا خُرَاسَاَ أَوِ الرُّومَ، وَلَا نَجْتَمِعُ بِكَ أَبَدًا. وَأَرْسَلَ طُغْرُلْبَك إِلَى مَلِكِ الدَّيْلَمِ يَدْعُوهُ إِلَى الطَّاعَةِ وَيَطْلُبُ مِنْهُ مَالًا، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ مَالًا وَعُرُوضًا، وَأَرْسَلَ أَيْضًا إِلَى سَلَّارِ الطِّرْمِ يَدْعُوهُ إِلَى خِدْمَتِهِ،

وَيُطَالِبُهُ بِحَمْلِ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، فَاسْتَقَرَّ الْحَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى الطَّاعَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الْمَالِ. وَأَرْسَلَ سَرِيَّةً إِلَى أَصْبَهَانَ وَبِهَا أَبُو مَنْصُورٍ فِرَامَرْزُ بْنُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ، فَأَغَارَتْ عَلَى أَمَالِهَا وَعَادَتْ سَالِمَةً. وَخَرَجَ طُغْرُلْبَك مِنَ الرَّيِّ، وَأَظْهَرَ قَصْدَ أَصْبَهَانَ، فَرَاسَلَهُ فِرَامَرْزُ وَصَانَعَهُ بِمَالٍ، فَعَادَ عَنْهُ، وَسَارَ إِلَى هَمَذَانَ فَمَلَكَهَا مِنْ صَاحِبِهَا كُرْشَاسُفَ بْنِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ قَدْ نَزَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِالرَّيِّ بَعْدَ أَنْ رَاسَلَهُ طُغْرُلْبَك غَيْرَ مَرَّةٍ، وَسَارَ مَعَهُ مِنَ الرَّيِّ إِلَى أَبْهُرُوزَنْجَانَ، فَأَخَذَ مِنْهُ هَمَذَانَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ، وَطَلَبَ مِنْهُ طُغْرُلْبَك تَسْلِيمَ قَلْعَةِ كِنْكِوَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ بِهَا بِالتَّسْلِيمِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا وَقَالُوا لِرُسُلِ طُغْرُلْبَكْ: قُلْ لِصَاحِبِكَ وَاللَّهِ لَوْ قَطَّعْتَهُ قِطَعًا مَا سَلَّمْنَاهَا إِلَيْكَ. فَقَالَ لَهُ طُغْرُلْبَكْ: مَا امْتَنَعُوا إِلَّا بِأَمْرِكَ وَرَأْيِكَ، فَاص إِلَيْهِمْ وَأَقِمْ مَعَهُمْ، وَلَا تُفَارِقْ مَوْضِعَكَ حَتَّى آذَنَ لَكَ. ثُمَّ عَادَ إِلَى الرَّيِّ، وَاسْتَنَابَ بِهَمَذَانَ نَاصِرًا الْعَلَوِيَّ، وَكَانَ كُرْشَاسُفُ قَدْ قَبَضَ عَلَيْهِ، فَأَخْرَجَهُ طُغْرُلْبَك وَوَلَّاهُ الرَّيَّ، وَأَمَرَهُ بِمُسَاعَدَةِ مَنْ يَجْعَلُهُ فِي الْبَلَدِ، وَكَانَ مَعَهُ مَرْدَاوَيْجُ بْنُ بَسُّو نَائِبُهُ فِي جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ، فَمَاتَ، وَقَامَ وَلَدُهُ جَسْتَانُ مُقَامَهُ، فَسَارَ طُغْرُلْبَك إِلَى جُرْجَانَ، فَعَزَلَ جَسْتَانَ عَنْهَا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى جُرْجَانَ أَسْفَارَ، وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ مَنُّوجَهْرَ بْنِ قَابُوسَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَمْرُ جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ سَارَ إِلَى دِهِسْتَانَ فَحَصَرَهَا، وَبِهَا صَاحِبُهَا كَامْيَارُ مُعْتَصِمًا بِهَا لِحَصَانَتِهَا. ذِكْرُ مَسِيرِ عَسَاكِرِ طُغْرُلْبَك إِلَى كِرْمَانَ وَسَيَّرَ طُغْرُلْبَك طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى كِرْمَانَ مَعَ أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ الرَّيَّ، وَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَقْصِدْ كِرْمَانَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ سِجِسْتَانَ، وَكَانَ مُقَدَّمُ الْعَسَاكِرِ الَّتِي سَارَتْ إِلَى كِرْمَانَ غَيْرَهُ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى أَطْرَافِ كِرْمَانَ نَهَبُوا، وَلَمْ يُقْدِمُوا عَلَى التَّوَغُّلِ فِيهَا، فَلَمْ يَرَوْا مِنَ الْعَسَاكِرِ مَنْ يَكُفُّهُمْ، فَتَوَسَّطُوهَا وَمَلَكُوا عِدَّةَ مَوَاضِعَ مِنْهَا، وَنَهَبُوهَا. فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ صَاحِبِهَا، فَسَيَّرَ وَزِيرَهُ مُهَذِّبَ الدَّوْلَةِ فِي

الْعَسَاكِرِ الْكَثِيرَةِ، وَأَمَرَهُ بِالْجِدِّ فِي الْمَسِيرِ لِيُدْرِكَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكُوا جِيرُفْتَ، وَكَانُوا يُحَاصِرُونَهَا، فَطَوَى الْمَرَاحِلَ حَتَّى قَارَبَهُمْ، فَرَحَلُوا عَنْ جِيرُفْتَ وَنَزَلُوا عَلَى سِتَّةِ فَرَاسِخَ مِنْهَا. وَجَاءَ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ فَنَزَلَهَا، وَأَرْسَلَ لِيَحْمِلَ الْمِيرَةَ إِلَى الْعَسْكَرِ، فَخَرَجَتِ الْغُزُّ إِلَى الْجِمَالِ وَالْبِغَالِ وَالْمِيرَةِ لِيَأْخُذُوهَا، وَسَمِعَ مُهَذَّبُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ فَسَيَّرَ طَائِفَةً مِنَ الْعَسْكَرِ لِمَنْعِهِمْ، فَتَوَاقَعُوا وَاقْتَتَلُوا، وَتَكَاثَرَ الْغُزُّ فَسَمِعَ مُهَذَّبُ الدَّوْلَةِ الْخَبَرَ، فَسَارَ فِي الْعَسَاكِرِ إِلَى الْمَعْرَكَةِ وَهُمْ يَقْتَتِلُونَ، وَقَدْ ثَبَتَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ لِصَاحِبَتِهَا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ إِلَى حَدِّ أَنَّ بَعْضَ الْغُزِّ رَمَى فَرَسَ بَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي كَالِيجَارَ بِسَهْمٍ، فَوَقَعَ فِيهِ، وَطَعَنَهُ صَاحِبُ الْفَرَسِ بِرُمْحٍ، فَأَصَابَ فَرَسَ الْغُزِّيِّ، وَحَمَلَ الْغُزِّيُّ عَلَى صَاحِبِ الْفَرَسِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً قَطَعَتْ يَدَهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْفَرَسِ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَقَطَعَهُ قِطْعَتَيْنِ، وَسَقَطَا إِلَى الْأَرْضِ قَتِيلَيْنِ، وَالْفَرَسَانِ قَتِيلَانِ، وَهَذِهِ حَالَةٌ لَمْ يُدَوَّنْ عَنْ مُقَدَّمِي الشُّجْعَانِ أَحْسَنُ مِنْهَا. فَلَمَّا وَصَلَ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْمَعْرَكَةِ انْهَزَمَ الْغُزُّ وَتَرَكُوا مَا كَانُوا يَنْهَبُونَهُ، وَدَخَلُوا الْمَفَازَةَ، وَتَبِعَهُمُ الدَّيْلَمُ إِلَى رَأْسِ الْحَدِّ، وَعَادُوا إِلَى كِرْمَانَ فَأَصْلَحُوا مَا فَسَدَ مِنْهَا. 0 ذِكْرُ الْوَحْشَةِ بَيْنَ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَجَلَالِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ افْتُتِحَتِ الْجَوَالِي فِي الْمُحَرَّمِ بِبَغْدَاذَ، فَأَنْفَذَ الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ فَأَخَذَ مَا تَحَصَّلَ مِنْهَا، وَكَانَتِ الْعَادَةُ أَنْ يُحْمَلَ مَا يُحَصَّلُ مِنْهَا إِلَى الْخُلَفَاءِ لَا تُعَارِضُهُمْ فِيهَا الْمُلُوكُ، فَلَمَّا فَعَلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ عَظُمَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَ مَعَ أَقَضَى الْقُضَاةِ أَبِي الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيِّ فِي ذَلِكَ، وَتَكَرَّرَتِ الرَّسَائِلُ،

فَلَمْ يُصْغِ جَلَالُ الدَّوْلَةِ لِذَلِكَ، وَأَخَذَ الْجَوَالِيَ، فَجَمَعَ الْخَلِيفَةُ الْهَاشِمِيِّينَ بِالدَّارِ وَالرَّجَّالَةَ، وَتَقَدَّمَ بِإِصْلَاحِ الطَّيَّارِ وَالزَّبَازَبِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ وَالْقُضَاةِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَ الْعَزْمَ عَلَى مُفَارَقَةِ بَغْدَاذَ، فَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ، وَحَدَثَ وَحْشَةٌ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، فَاقْتَضَتِ الْحَالُ أَنَّ الْمَلِكَ يَتْرُكُ مُعَارَضَةَ النُّوَّابِ الْإِمَامِيَّةِ فِيهَا فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ. ذِكْرُ مُحَاصِرَةِ شَهْرَزُورَ وَغَيْرِهَا (فِي هَذِهِ السَّنَةِ) سَارَ أَبُو الشَّوْكِ إِلَى شَهْرَزُورَ، فَحَصَرَهَا وَنَهَبَهَا وَأَحْرَقَهَا، وَخَرَّبَ قُرَاهَا وَسَوَادَهَا، وَحَصَرَ قَلْعَةَ تِبْرَانْشَاهْ، فَدَفَعَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عِيَاضٍ عَنْهَا، وَوَعَدَهُ أَنْ يُخَلِّصَ وَلَدَهُ أَبَا الْفَتْحِ مِنْ أَخِيهِ مُهَلْهِلٍ، وَأَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمَا. وَكَانَ مُهَلْهَلٌ قَدْ سَارَ مِنْ شَهْرَزُورَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أَخَاهُ أَبَا الشَّوْكِ يُرِيدُ قَصْدَهَا، وَقَصَدَ نَوَاحِيَ سِنْدَةَ وَغَيْرَهَا مِنْ وِلَايَاتِ أَبِي الشَّوْكِ، فَنَهَبَهَا وَأَحْرَقَهَا، وَهَلَكَتِ الرَّعِيَّةُ فِي الْجِهَتَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا الشَّوْكِ رَاسَلَ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ عِيَاضٍ يَسْتَنْجِزُهُ مَا وَعَدَهُ بِهِ مِنْ تَخْلِيصِ وَلَدِهِ، وَالشُّرُوطَ الَّتِي تَقَرَّرَتْ بَيْنَهُمَا، فَأَجَابَهُ بِأَنَّ مُهَلْهِلًا غَيْرُ مُجِيبٍ إِلَيْهِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ سَارَ أبُو الشَّوْكِ مِنْ حُلْوَانَ إِلَى الصَّامِغَانِ وَنَهَبَهَا، وَنَهَبَ الْوِلَايَةَ الَّتِي لِمُهَلْهِلٍ جَمِيعَهَا، فَانْزَاحَ مُهَلْهِلٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، فَاصْطَلَحَا عَلَى دَغَلٍ وَدَخَلٍ، وَعَادَ أَبُو الشَّوْكِ. ذِكْرُ خُرُوجِ سُكَيْنٍ بِمِصْرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَجَبٍ خَرَجَ بِمِصْرَ إِنْسَانٌ اسْمُهُ سُكَيْنٌ، كَانَ يُشْبِهُ الْحَاكِمَ

صَاحِبَ مِصْرَ، فَادَّعَى أَنَّهُ الْحَاكِمُ، وَقَدْ رَجَعَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَاتَّبَعَهُ جَمْعٌ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ رَجْعَةَ الْحَاكِمِ، فَاغْتَنَمُوا خُلُوَّ دَارَ الْخَلِيفَةِ بِمِصْرَ مِنَ الْجُنْدِ وَقَصَدُوهَا مَعَ سُكَيْنٍ نِصْفَ النَّهَارِ، فَدَخَلُوا الدِّهْلِيزَ، فَوَثَبَ مَنْ هُنَاكَ مِنَ الْجُنْدِ، فَقَالَ لَهُمْ أَصْحَابُهُ: إِنَّهُ الْحَاكِمُ، فَارْتَاعوا لِذَلِكَ، ثُمَّ ارْتَابُوا بِهِ، فَقَبَضُوا عَلَى سُكَيْنٍ وَوَقَعَ الصَّوْتُ، وَاقْتَتَلُوا، فَتَرَاجَعَ الْجُنْدُ إِلَى الْقَصْرِ، وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةٌ، وَأُسِرَ الْبَاقُونَ وَصُلِبُوا أَحْيَاءً، وَرَمَاهُمُ الْجُنْدُ بِالنُّشَّابِ حَتَّى مَاتُوا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِمَدِينَةِ تَبْرِيزَ، هَدَمَتْ قَلْعَتَهَا وَسُورَهَا وَدُورَهَا وَأَسْوَاقَهَا وَأَكْثَرَ دَارِ الْإِمَارَةِ، وَسَلِمَ الْأَمِيرُ لِأَنَّهُ كَانَ فِي بَعْضِ الْبَسَاتِينِ، فَأُحْصِيَ مَنْ هَلَكَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَكَانُوا قُرْبًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَلَبِسَ الْأَمِيرُ السَّوَادَ وَالْمُسُوحَ لِعَظَمِ الْمُصِيبَةِ، وَعَزَمَ عَلَى الصُّعُودِ إِلَى بَعْضِ قِلَاعِهِ، خَوْفًا مِنْ تَوَجُّهِ الْغُزِّ السَّلْجُوقِيَّةِ إِلَيْهِ، وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الرَّقِّيِّ الْعَلَوِيُّ النَّقِيبُ بِالْمَوْصِلِ. وَفِيهَا قَتَلَ قِرْوَاشٌ كَاتِبَهُ أَبَا الْفَتْحِ بْنَ الْمُفَرَّجِ صَبْرًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ الْحَافِظُ، أَقَامَ بِمَكَّةَ، وَتَزَوَّجَ مِنَ

الْعَرَبِ، وَأَقَامَ بِالسَّرَوَاتِ، وَكَانَ يَحُجُّ كُلَّ سَنَةٍ، يُحَدِّثُ فِي الْمَوْسِمِ وَيَعُودُ إِلَى أَهْلِهِ، وَصَحِبَ (الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيَّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الزُّهْرِيُّ مِنْ وَلَدِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَكَانَ فَقِيهًا شَافِعِيًّا) .

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 435 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ إِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى وَالْغُرَبَاءِ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخْرَجَ مَلِكُ الرُّومِ الْغُرَبَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى وَسَائِرَ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ الْخَبَرُ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أَنَّ قُسْطَنْطِينَ قَتَلَ ابْنَتَيِ الْمَلِكِ الْمُتَقَدِّمِ اللَّتَيْنِ قَدْ صَارَ الْمُلْكُ فِيهِمَا الْآنَ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْبَلَدِ وَأَثَارُوا الْفِتْنَةَ، وَطَمِعُوا فِي النَّهْبِ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قُسْطَنْطِينُ، وَسَأَلَهُمْ عَنِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا: قَتَلْتَ الْمَلِكَتَيْنِ وَأَفْسَدْتَ الْمُلْكَ. فَقَالَ: مَا قَتَلْتُهُمَا. وَأَخْرَجَهُمَا حَتَّى رَآهُمَا النَّاسُ، فَسَكَنُوا. ثُمَّ إِنَّهُ سَأَلَ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ فِعْلُ الْغُرَبَاءِ. وَأَشَارُوا بِإِبْعَادِهِمْ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ أَنْ لَا يُقِيمَ أَحَدٌ وَرَدَ الْبَلَدَ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَنْ أَقَامَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كُحِلَ، فخَرَجَ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ، وَلَمْ يَبْقَ بِهَا أَكْثَرُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ نَفَسًا ضَمِنَهُمُ الرُّومُ، فَتَرَكَهُمْ. ذِكْرُ وَفَاةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَمُلْكِ أَبِي كَالِيجَارَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي سَادِسِ شَعْبَانَ تُوُفِّيَ الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَبُو طَاهِرِ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ مَرَضُهُ وَرَمًا فِي كَبِدِهِ، وَبَقِيَ عِدَّةَ أَيَّامٍ مَرِيضًا وَتُوُفِّيَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَمُلْكُهُ بِبَغْدَادَ سِتَّ عَشْرَةَ

سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، وَدُفِنَ بِدَارِهِ، وَمَنْ عَلِمَ سِيرَتَهُ وَضَعْفَهُ وَاسْتِيلَاءَ الْجُنْدِ وَالنُّوَّابِ عَلَيْهِ وَدَوَامَ مُلْكِهِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ - عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ. وَكَانَ يَزُورُ الصَّالِحِينَ وَيَقْرَبُ مِنْهُمْ، وَزَارَ مَرَّةً مَشْهَدَيْ عَلِيٍّ وَالْحُسَيْنِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَكَانَ يَمْشِي حَافِيًا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى كُلِّ مَشْهَدٍ مِنْهُمَا نَحْوَ فَرْسَخٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ تَدَيُّنًا. وَلَمَّا تُوُفِّيَ انْتَقَلَ الْوَزِيرُ كَمَالُ الْمُلْكِ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ وَأَصْحَابُ الْمَلِكِ الْأَكَابِرُ إِلَى بَابِ الْمَرَاتِبِ، وَحَرِيمِ دَارِ الْخِلَافَةِ، خَوْفًا مِنْ نَهْبِ الْأَتْرَاكِ وَالْعَامَّةِ دُورَهُمْ، فَاجْتَمَعَ قُوَّادُ الْعَسْكَرِ تَحْتَ دَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَمَنَعُوا النَّاسَ مِنْ نَهْبِهَا. وَلَمَّا تُوُفِّيَ كَانَ وَلَدُهُ الْأَكْبَرُ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ أَبُو مَنْصُورٍ بِوَاسِطٍ عَلَى عَادَتِهِ، فَكَاتَبَهُ الْأَجْنَادُ بِالطَّاعَةِ، وَشَرَطُوا عَلَيْهِ تَعْجِيلَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ حَقِّ الْبَيْعَةِ، فَتَرَدَّدَتِ الْمُرَاسَلَاتُ بَيْنَهُمْ فِي مِقْدَارِهِ (وَتَأْخِيرِهِ لِفَقْدِهِ) . وَبَلَغَ مَوْتُهُ إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ بْنِ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ بْنِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَكَاتَبَ الْقُوَّادَ وَالْأَجْنَادَ، وَرَغَّبَهُمْ فِي الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ وَتَعْجِيلِهِ، فَمَالُوا إِلَيْهِ، وَعَدَلُوا عَنِ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ. وَأَمَّا الْمَلِكُ الْعَزِيزُ فَإِنَّهُ أُصْعِدَ (إِلَى بَغْدَاذَ لَمَّا) قَرُبَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ مِنْهَا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] عَازِمًا عَلَى قَصْدِ بَغْدَاذَ وَمَعَهُ

عَسْكَرُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ النُّعْمَانِيَّةَ غَدَرَ بِهِ عَسْكَرُهُ وَرَجَعُوا إِلَى وَاسِطٍ، وَخَطَبُوا لِأَبِي كَالِيجَارَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مَضَى إِلَى نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ، لِأَنَّهُ بَلَغَهُ مَيْلُ جُنْدِ بَغْدَاذَ إِلَى أَبِي كَالِيجَارَ، وَسَارَ مِنْ عِنْدِ دُبَيْسٍ إِلَى قِرْوَاشِ بْنِ الْمُقَلِّدِ، فَاجْتَمَعَ بِهِ بِقَرْيَةِ خُصَّةَ مِنْ أَعْمَالِ بَغْدَاذَ، وَسَارَ مَعَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، ثُمَّ فَارَقَهُ وَقَصَدَ أَبَا الشَّوْكِ لِأَنَّهُ حَمُوهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى أَبِي الشَّوْكِ غَدَرَ بِهِ، وَأَلْزَمَهُ بِطَلَاقِ ابْنَتِهِ، فَفَعَلَ، وَسَارَ عَنْهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ أَخِي طُغْرُلْبَك، وَتَنَقَّلَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ حَتَّى قَدِمَ بَغْدَاذَ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ عَازِمًا عَلَى اسْتِمَالَةِ الْعَسْكَرِ وَأَخْذِ الْمُلْكِ، فَثَارَ بِهِ أَصْحَابُ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، فَقُتِلَ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ، وَسَارَ هُوَ مُتَخَفِّيًا، فَقَصَدَ نَصْرَ الدَّوْلَةِ بْنَ مَرْوَانَ، فَتُوُفِّيَ عِنْدَهُ بِمَيَّافَارِقِينَ، وَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ، وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ، فِي مَشْهَدِ بَابِ التِّبْنِ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ آخِرُ مُلُوكِ بَنِي بُوَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ مَلَكَ بَعْدَهُ أَبُو كَالِيجَارَ، ثُمَّ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ بْنُ أَبِي كَالِيجَارَ، وَهُوَ آخِرُهُمْ عَلَى مَا تَرَاهُ. وَأَمَّا الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ فَلَمْ تَزَلِ الرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَسْكَرِ بَغْدَاذَ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لَهُ، وَحَلَفُوا، وَخَطَبُوا لَهُ بِبَغْدَاذَ فِي صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ حَالِ أَبِي الْفَتْحِ مَوْدُودِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ الْمَلِكُ أَبُو الْفَتْحِ مَوْدُودُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ عَسْكَرًا مَعَ حَاجِبٍ لَهُ إِلَى نَوَاحِي خُرَاسَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ دَاوُدُ أَخُو طُغْرُلْبَك، وَهُوَ صَاحِبُ خُرَاسَانَ - وَلَدَهُ أَلْبَ أَرْسِلَانَ فِي عَسْكَرٍ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَكَانَ الظَّفَرُ لِلْمَلِكِ أَلْبِ أَرْسِلَانَ، وَعَادَ عَسْكَرُ غَزْنَةَ مُنْهَزِمًا. وَفِيهَا أَيْضًا فِي صَفَرٍ سَارَ جَمْعٌ مِنَ الْغُزِّ إِلَى نَوَاحِي بُسْتَ، وَفَعَلُوا مَا عُرِفَ مِنْهُمْ مِنَ النَّهْبِ وَالشَّرِّ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ أَبُو الْفَتْحِ مَوْدُودٌ عَسْكَرًا، فَالْتَقَوْا بِوِلَايَةِ بُسْتَ،

وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، انْهَزَمَ الْغُزُّ فِيهِ، وَظَفِرَ عَسْكَرُ مَوْدُودٍ، وَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ. ذِكْرُ مُلْكِ مَوْدُودٍ عِدَّةَ حُصُونٍ مِنْ بَلَدِ الْهِنْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَ ثَلَاثَةُ مُلُوكٍ مِنْ مُلُوكِ الْهِنْدِ، وَقَصَدُوا لَهَاوُورَ وَحَصَرُوهَا، فَجَمَعَ مُقَدَّمُ الْعَسَاكِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِتِلْكَ الدِّيَارِ مَنْ عِنْدَهُ مِنْهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِهِ مَوْدُودٍ يَسْتَنْجِدُهُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرَ. فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ أُولَئِكَ الْمُلُوكِ فَارَقَهُمْ وَعَادَ إِلَى طَاعَةِ مَوْدُودٍ، فَرَحَلَ الْمَلِكَانِ الْآخَرَانِ إِلَى بِلَادِهِمَا، فَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَيُعْرَفُ بِدُوبَالَ هَرْبَاتَهْ، فَانْهَزَمَ مِنْهُمْ، وَصَعِدَ إِلَى قَلْعَةٍ لَهُ مَنِيعَةٍ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ، فَاحْتَمَوْا بِهَا، وَكَانُوا خَمْسَةَ آلَافِ فَارِسٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ رَاجِلٍ، وَحَصَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهِمْ، فَطَلَبَ الْهُنُودُ الْأَمَانَ عَلَى تَسْلِيمِ الْحِصْنِ، فَامْتَنَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ إِجَابَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُضِيفُوا إِلَيْهِ بَاقِيَ حُصُونِ ذَلِكَ الْمَلِكِ الَّذِي لَهُمْ، فَحَمَلَهُمُ الْخَوْفُ وَعَدَمُ الْأَقْوَاتِ عَلَى إِجَابَتِهِمْ إِلَى مَا طَلَبُوا، وَتَسَلَّمُوا الْجَمِيعَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْوَالَ، وَأَطْلَقُوا مَا فِي الْحُصُونِ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلَافِ نَفَرٍ. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ قَصَدُوا وِلَايَةَ الْمَلِكِ الثَّانِي، وَاسْمُهُ تَابَتُ، بِالرَّيِّ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ وَلَقِيَهُمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَتِ الْهُنُودُ، وَأَجْلَتِ الْمَعْرَكَةُ عَنْ قَتْلِ مَلِكِهِمْ وَخَمْسَةِ آلَافِ قَتِيلٍ، وَجُرِحَ وَأُسِرَ ضَعْفَاهُمْ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ أَمْوَالَهُمْ وَسِلَاحَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ. فَلَمَّا رَأَى بَاقِي الْمُلُوكِ مِنَ الْهِنْدِ مَا لَقِيَ هَؤُلَاءِ أَذْعَنُوا بِالطَّاعَةِ، وَحَمَلُوا الْأَمْوَالَ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ وَالْإِقْرَارَ عَلَى بِلَادِهِمْ، فَأُجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ.

ذِكْرُ الْخُلْفِ بَيْنَ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ وَفِرَامَرْزَ بْنِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نَكَثَ الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ فِرَامَرْزُ بْنُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَاكَوَيْهِ صَاحِبُ أَصْبَهَانَ - الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَسَيَّرَ عَسْكَرًا إِلَى نَوَاحِي كِرْمَانَ، فَمَلَكُوا مِنْهَا حِصْنَيْنِ، وَغَنِمُوا مَا فِيهِمَا. فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ إِلَيْهِ فِي إِعَادَتِهِمَا وَإِزَالَةِ الِاعْتِرَاضِ عَنْهُمَا، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَجَهَّزَ عَسْكَرًا وَسَيَّرَهُ إِلَى أَبَرْقُوهَ فَحَصَرَهَا وَمَلَكَهَا، فَانْزَعَجَ فِرَامَرْزُ لِذَلِكَ، وَجَهَّزَ عَسْكَرًا كَثِيرًا وَسَيَّرَهُ إِلَيْهِمْ، فَسَمِعَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ بِذَلِكَ، فَسَيَّرَ عَسْكَرًا ثَانِيًا مَدَدًا لِعَسْكَرِهِ الْأَوَّلِ، وَالْتَقَى الْعَسْكَرَانِ فَاقْتَتَلُوا وَصَبَرُوا، ثُمَّ انْهَزَمَ عَسْكَرُ أَصْبَهَانَ، وَأُسِرَ مُقَدَّمُهُمُ الْأَمِيرُ إِسْحَاقُ بْنُ يَنَّالَ، وَاسْتَرَدَّ نُوَّابُ أَبِي كَالِيجَارَ مَا كَانُوا أَخَذُوهُ مِنْ كِرْمَانَ. ذِكْرُ أَخْبَارِ التُّرْكِ بِمَا وَرَاءِ النَّهْرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرٍ أَسْلَمَ مِنْ كُفَّارِ التُّرْكِ الَّذِينَ كَانُوا يَطْرُقُونَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بِنُوَاحِي بَلَاسَاغُونَ وَكَاشْغَرَ، وَيُغِيرُونَ وَيَعِيثُونَ - عَشْرَةُ آلَافِ خَرْكَاةٍ، وَضَحَّوْا يَوْمَ عِيدِ الْأَضْحَى بِعِشْرِينَ أَلْفَ رَأْسِ غَنَمٍ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُمْ. وَكَانُوا يُصَيِّفُونَ بِنُوَاحِي بُلْغَارَ، وَيُشَتُّونَ بِنُوَاحِي بَلَاسَاغُونَ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، فَكَانَ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ أَلْفُ خَرْكَاةٍ وَأَقَلُّ وَأَكْثَرُ، لِأَمْنِهِمْ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَجْتَمِعُونَ لِيَحْمِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَقِيَ مِنَ الْأَتْرَاكِ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ تَتَرٌ وَخَطَا، وَهُمْ بِنُوَاحِي الصِّينِ. وَكَانَ صَاحِبُ بَلَاسَاغُونَ وَبِلَادِ التُّرْكِ شَرَفَ الدَّوْلَةِ، وَفِيهِ دِينٌ، وَقَدْ أَقْنَعَ مِنْ إِخْوَتِهِ وَأَقَارِبِهِ بِالطَّاعَةِ، وَقَسَمَ الْبِلَادَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْطَى (أَخَاهُ أُصْلَانَ تِكِينَ كَثِيرًا مِنْ بِلَادِ التُّرْكِ، وَأَعْطَى أَخَاهُ بُغْرَاخَانْ طِرَازَ وَأَسْبِيجَابَ، وَأَعْطَى عَمَّهُ طُغَاخَانْ فَرْغَانَةَ بِأَسْرِهَا) ، وَأَعْطَى ابْنَ عَلِيِّ تِكِينَ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ وَغَيْرَهُمَا، وَقَنِعَ هُوَ بِبَلَاسَاغُونَ وَكَاشْغَرَ.

ذِكْرُ أَخْبَارِ الرُّومِ وَالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرٍ أَيْضًا وَرَدَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنَ الرُّوسِ فِي الْبَحْرِ، وَرَاسَلُوا قُسْطَنْطِينَ مَلِكَ الرُّومِ بِمَا لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَتُهُمْ، فَاجْتَمَعَتِ الرُّومُ عَلَى حَرْبِهِمْ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ فَارَقَ الْمَرَاكِبَ إِلَى الْبَرِّ، وَبَعْضُهُمْ فِيهَا، فَأَلْقَى الرُّومُ فِي مَرَاكِبِهِمُ النَّارَ، فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى إِطْفَائِهَا، فَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالْحَرْقِ وَالْغَرَقِ، وَأَمَّا الَّذِينَ عَلَى الْبَرِّ فَقَاتَلُوا وَأَبْلَوْا، وَصَبَرُوا ثُمَّ انْهَزَمُوا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَلْجَأٌ، فَمَنِ اسْتَسْلَمَ أَوَّلًا اسْتُرِقَّ وَسَلِمَ، وَمَنِ امْتَنَعَ حَتَّى أُخِذَ قَهْرًا قَطَعَ الرُّومُ أَيْمَانَهُمْ، وَطِيفَ بِهِمْ فِي الْبَلَدِ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْيَسِيرُ مَعَ ابْنِ مَلَكِ الرُّوسِيَّةِ، وَكُفِيَ الرُّومُ شَرَّهُمْ. ذِكْرُ طَاعَةِ الْمُعِزِّ بِإِفْرِيقِيَّةَ لِلْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَظْهَرَ الْمُعِزُّ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ الدُّعَاءَ لِلدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَخُطِبَ لِلْإِمَامِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَرَدَتْ عَلَيْهِ الْخِلَعُ وَالتَّقْلِيدُ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ وَجَمِيعِ مَا يَفْتَحُهُ، وَفِي أَوَّلِ الْكِتَابِ الَّذِي مَعَ الرُّسُل ِ: " مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَوَلِيِّهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْمَلِكِ الْأَوْحَدِ ثِقَةِ الْإِسْلَامِ، وَشَرَفِ الْإِمَامِ، وَعُمَةِ الْأَنَامِ، نَاصِرِ دِينِ اللَّهِ، قَاهِرِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَمُؤَيِّدِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبِي تَمِيمٍ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ بْنِ الْمَنْصُورِ وَلِيِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِوِلَايَةِ جَمِيعِ الْمَغْرِبِ وَمَا افْتَتَحَهُ بِسَيْفِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ". وَهُوَ طَوِيل ٌ. وَأُرْسِلَ إِلَيْهِ سَيْفٌ وَفَرَسٌ وَأَعْلَامٌ عَلَى طَرِيقِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَوَصَلَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَدُخِلَ بِهِ إِلَى الْجَامِعِ وَالْخَطِيبُ ابْنُ الْفَاكَاةِ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ الْخُطْبَةَ الثَّانِيَةَ، فَدَخَلَتِ الْأَعْلَامُ فَقَال َ: هَذَا لِوَاءُ الْحَمْدِ يَجْمَعُكُم ْ، وَهَذَا مُعِزُّ الدِّينِ يَسْمَعُكُم ْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُم ْ. وَقُطِعَتِ الْخُطْبَةُ لِلْعَلَوِيِّينَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأُحْرِقَتْ أَعْلَامُهُم ْ

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَرَتْ حَرْبٌ بَيْنَ ابْنِ الْهَيْثَمِ صَاحِبِ الْبَطِيحَةِ، وَبَيْنَ الْأَجْنَادِ مِنَ الْغُزِّ وَالدَّيْلَمِ، فَأَحْرَقَ الْجَامِدَةَ وَغَيْرَهَا، وَخَطَبَ الْجُنْدُ لِلْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ. وَفِيهَا أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَقَضَى الْقُضَاةِ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ الْمَاوَرْدِيَّ الْفَقِيهَ الشَّافِعِيَّ - إِلَى السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك قَبْلَ وَفَاةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَرِّرَ الصُّلْحَ بَيْنَ طُغْرُلْبَك وَالْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَأَبِي كَالِيجَارَ، فَسَارَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِجُرْجَانَ، فَلَقِيَهُ طُغْرُلْبَك عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ إِجْلَالًا لِرِسَالَةِ الْخَلِيفَةِ، وَعَادَ الْمَاوَرْدِيُّ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَأَخْبَرَ عَنْ طَاعَةِ طُغْرُلْبَك لِلْخَلِيفَةِ، وَتَعْظِيمِهِ لِأَوَامِرِهِ، وَوُقُوفِهِ عِنْدَه ُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْفَرَجِ بْنِ الْأَزْهَرِ أَبُو الْقَاسِمِ (بْنِ أَبِي الْفَتْحِ) الْأَزْهَرِيُّ (الصَّيْرَفِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّوَادِيِّ، شَيْخُ الْخُطَبَاءِ أَبِي بَكْرٍ) وَكَانَ إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ، وَمِنْ تَلَامِذَتِهِ الْخَطِيبُ الْبَغْدَاذِي ُّ.

ثم دخلت سنة ست وثلاثين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 436 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْقَعَ بُغْرَاخَانْ صَاحِبُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ بِجَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّة ِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ نَفَرًا مِنْهُمْ قَصَدُوا مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَدَعَوْا إِلَى طَاعَةِ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ الْعَلَوِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ، فَتَبِعَهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَأَظْهَرُوا مَذَاهِبَ أَنْكَرَهَا أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَاد ِ. وَسَمِعَ مَلِكُهَا بُغْرَاخَانْ خَبَرَهُمْ، وَأَرَادَ الْإِيقَاعَ بِهِمْ، فَخَافَ أَنْ يُسْلِمَ مِنْهُ بَعْضُ مَنْ أَجَابَهُمْ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ، فَأَظْهَرَ لِبَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَمِيلُ إِلَيْهِمْ، وَيُرِيدُ الدُّخُولَ فِي مَذَاهِبِهِمْ، وَأَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ، وَأَحْضَرَهُمْ مَجَالِسَهُ، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى عَلِمَ جَمِيعَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَى مَقَالَتِهِمْ، فَحِينَئِذٍ قَتَلَ مَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنْهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى سَائِرِ الْبِلَادِ بِقَتْلِ مَنْ فِيهَا، فَفُعِلَ بِهِمْ مَا أَمَرَ، وَسَلِمَتْ تِلْكَ الْبِلَادُ مِنْهُمْ. ذِكْرُ الْخِطْبَةِ لِلْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ وَإِصْعَادِهِ إِلَى بَغْدَاذَ قَدْ ذَكَرْنَا لَمَّا تُوُفِّيَ الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ مَا كَانَ مِنْ مُرَاسَلَةِ الْجُنْدِ الْمَلِكَ أَبَا كَالِيجَارَ وَالْخُطْبَةِ لَه ُ. فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْقَوَاعِدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَرْسَلَ أَمْوَالًا فُرِّقَتْ عَلَى الْجُنْدِ بَغْدَاذَ، وَعَلَى أَوْلَادِهِمْ، وَأَرْسَلَ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ لِلْخَلِيفَةِ وَمَعَهَا هَدَايَا كَثِيرَةٌ، فَخُطِبَ لَهُ بِبَغْدَاذَ فِي صَفَرٍ، وَخَطَبَ لَهُ أَيْضًا أَبُو الشَّوْكِ فِي بِلَادِهِ، وَدُبَيْسُ بْنُ مَزْيَدٍ بِبِلَادِهِ،

وَنَصْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ مَرْوَانَ بِدِيَارِ بَكْرٍ، وَلَقَّبَهُ الْخَلِيفَةُ مُحْيِي الدِّينِ، وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ فِي مِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لِئَلَّا تَخَافَهُ الْأَتْرَاك ُ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى النُّعْمَانِيَّةِ لَقِيَهُ دُبَيْسُ بْنُ مَزْيَدٍ، وَمَضَى إِلَى زِيَارَةِ الْمَشْهَدَيْنِ بِالْكُوفَةِ وَكَرْبَلَاءَ، وَدَخَلَ إِلَى بَغْدَاذَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَمَعَهُ وَزِيرُهُ ذُو السَّعَادَاتِ أَبُو الْفَرَجِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ فَسَانْجِسَ، وَوَعَدَهُ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ، فَاسْتَعْفَى مِنْ ذَلِكَ، وَأَخْرَجَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ (أَبَا سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ وَأَخَاهُ كَمَالَ الْمُلْكِ وَزِيرَيْ جَلَالِ الدَّوْلَةِ) مِنْ بَغْدَاذَ، فَمَضَى أَبُو سَعْدٍ إِلَى تَكْرِيتَ، وَزُيِّنَتْ بَغْدَاذُ لِقُدُومِهِ، وَأَمَرَ فَخُلِعَ عَلَى أَصْحَابِ الْجُيُوشِ، وَهُمُ: الْبَسَاسِيرِيُّ، وَالنَّشَّاوُورِيُّ، وَالْهُمَامُ أَبُو اللِّقَاءِ، وَجَرَى مِنْ ولَاةِ الْعَرْضِ تَقْدِيمٌ لِبَعْضِ الْجُنْدِ وَتَأْخِيرٌ، فَشَغَبَ بَعْضُهُمْ وَقَتَلُوا وَاحِدًا مِنْ وُلَاةِ الْعَرْضِ بِمَرْأَى مِنَ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، فَنَزَلَ فِي سُمَيْرِيَّةَ بِكِنْكِوَرَ، وَانْحَدَرَ خَوْفًا مِنِ انْخِرَاقِ الْهَيْبَةِ، وَأَصْعَدَ بِفَمِ الصِّلْحِ. [وَفَاةُ الْجَرْجَرَائِيِّ] وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْجَرْجَرَائِيُّ وَزِيرُ الظَّاهِرِ وَالْمُسْتَنْصِرِ الْخَلِيفَتَيْنِ، وَكَانَ فِيهِ كِفَايَةٌ وَشَهَامَةٌ وَأَمَانَةٌ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نَزَلَ الْأَمِيرُ أَبُو كَالِيجَارَ كُرْشَاسُفُ بْنُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ مِنْ كِنْكِوَرَ، وَقَصَدَ هَمَذَانَ فَمَلَكَهَا، وَأَزَاحَ عَنْهَا نُوَّابَ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك، وَخَطَبَ لِلْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَصَارَ فِي طَاعَتِه ِ.

وَفِيهَا أَمَرَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ بِبِنَاءِ سُورِ مَدِينَةِ شِيرَازَ، فَبُنِيَ وَأُحْكِمَ بِنَاؤُهُ، وَكَانَ دُورُهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهُ ثَمَانِيَةَ أَذْرُعٍ، وَلَهُ أَحَدَ عَشَرَ بَابًا، وَفُرِغَ مِنْهُ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَة ٍ. وَفِيهَا نُقِلَ تَابُوتُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ مِنْ دَارِهِ إِلَى مَشْهَدِ بَابِ التِّبْنِ إِلَى تُرْبَةٍ لَهُ هُنَاك َ. وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَك وَزِيرَهُ أَبَا الْقَاسِمِ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْجُوَيْنِيَّ، وَهُوَ أَوَّلُ وَزِيرٍ وَزَرَ لَهُ، ثُمَّ وَزَرَ لَهُ بَعْدَهُ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مِيكَائِيلَ، ثُمَّ وَزَرَ لَهُ بَعْدَهُ نِظَامُ الْمُلْكِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّهِسْتَانِيُّ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ نِظَامَ الْمُلْكِ، ثُمَّ وَزَرَ لَهُ بَعْدَهُ عَمِيدُ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيُّ، وَهُوَ أَشْهَرُهُمْ، وَإِنَّمَا اشْتَهَرَ لِأَنَّ طُغْرُلْبَك فِي أَيَّامِهِ عَظُمَتْ دَوْلَتُهُ، وَوَصَلَ إِلَى الْعِرَاقِ وَخَطَبَ لَهُ بِالسَّلْطَنَةِ، وَسَيَرِدُ فِي أَخْبَارِهِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهَا هَاهُنَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيٌّ أَخُو الرَّضِيِّ فِي آخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَوَلِيَ نِقَابَةَ الْعَلَوِيِّينَ بَعْدَهُ أَبُو أَحْمَدَ عَدْنَانُ ابْنُ أَخِيهِ الرَّضِي ِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ) الصَّيْمَرِيُّ، وَهُوَ شَيْخُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي زَمَانِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ تَلَامِذَتِهِ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ

الدَّامَغَانِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ قَضَاءَ الْكَرْخِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ مِنَ الْقَضَاءِ بِبَابِ الطَّاق ِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ الْمُشْتَرِي قَاضِي خُوزِسْتَانَ وَفَارِسَ، وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَب ِ. وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَصْرِيُّ، الْمُتَكَلِّمُ الْمُعْتَزِلِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَة ِ.

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 437 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ وُصُولِ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ إِلَى هَمَذَانَ وَبَلَدِ الْجَبَلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَك أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ بِالْخُرُوجِ إِلَى بَلَدِ الْجَبَلِ وَمُلْكِهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا مِنْ كِرْمَانَ، وَقَصَدَ هَمَذَانَ وَبِهَا كُرْشَاسُفُ بْنُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ، فَفَارَقَهَا خَوْفًا، وَدَخَلَهَا يَنَّالُ فَمَلَكَهَا، وَالْتَحَقَ كُرْشَاسُفُ بِالْأَكْرَادِ الْجَوْزَقَانِ. وَكَانَ أَبُو الشَّوْكِ حِينَئِذٍ بِالدِّينَوَرِ، فَسَارَ عَنْهَا إِلَى قِرْمِسِينَ خَوْفًا وَإِشْفَاقًا مِنْ يَنَّالَ، فَقَوِيَ طَمَعُ يَنَّالَ حِينَئِذٍ فِي الْبِلَادِ، وَسَارَ إِلَى الدِّينَوَرِ فَمَلَكَهَا وَرَتَّبَ أُمُورَهَا، وَسَارَ مِنْهَا يَطْلُبُ قِرْمِسِينَ. (فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو الشَّوْكِ بِهِ سَارَ إِلَى حُلْوَانَ وَتَرَكَ بِقِرْمِسِينَ) مَنْ فِي عَسْكَرِهِ مِنَ الدَّيْلَمِ وَالْأَكْرَادِ الشَّاذِنْجَانِ لِيَمْنَعُوهَا وَيَحْفَظُوهَا، وَوَافَاهُمْ يَنَّالُ جَرِيدَةً، فَقَاتَلُوهُ، فَدَفَعُوهُ عَنْهَا، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ وَعَادَ بِخَرْكَاهَاتِهِ وَحُلَلِهِ، فَقَاتَلُوهُ فَضَعُفُوا عَنْهُ وَعَجَزُوا عَنْ مَنْعِهِ، فَمَلَكَ الْبَلَدَ فِي رَجَبٍ عَنْوَةً، وَقَتَلَ مِنَ الْعَسَاكِرِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً، وَأَخَذَ أَمْوَالَ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْقَتْلِ وَسِلَاحَهُمْ، وَطَرَدَهُمْ، وَلَحِقُوا بِأَبِي الشَّوْكِ، وَنَهَبَ الْبَلَدَ، وَقَتَلَ وَسَبَى كَثِيرًا مِنْ أَهْلِه ِ. وَلَمَّا سَمِعَ أَبُو الشَّوْكِ ذَلِكَ سَيَّرَ أَهْلَهُ وَأَمْوَالَهُ وَسِلَاحَهُ مِنْ حُلْوَانَ إِلَى قَلْعَةِ السِّيرَوَانِ، وَأَقَامَ جَرِيدَةً فِي عَسْكَرِهِ، ثُمَّ إِنَّ يَنَّالَ سَارَ إِلَى الصَّيْمَرَةِ فِي شَعْبَانَ فَمَلَكَهَا وَنَهَبَهَا، وَأَوْقَعَ بِالْأَكْرَادِ الْمُجَاوِرِينَ لَهَا مِنَ الْجَوْزَقَانِ، فَانْهَزَمُوا، وَكَانَ كُرْشَاسُفُ بْنُ

عَلَاءِ الدَّوْلَةِ نَازِلًا عِنْدَهُمْ، فَسَارَ هُوَ وَهُمْ إِلَى بَلَدِ شِهَابِ الدَّوْلَةِ أَبِي الْفَوَارِسِ مَنْصُورِ بْنِ الْحُسَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ سَارَ إِلَى حُلْوَانَ وَقَدْ فَارَقَهَا أَبُو الشَّوْكِ، وَلَحِقَ بِقَلْعَةِ السِّيرَوَانِ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ آخِرَ شَعْبَانَ وَقَدْ جَلَا أَهْلُهَا عَنْهَا وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، فَنَهَبَهَا وَأَحْرَقَهَا، وَأَحْرَقَ دَارَ أَبِي الشَّوْكِ، وَانْصَرَفَ بَعْدَ أَنِ اجْتَاحَهَا وَدَرَسَهَا. وَتَوَجَّهَ طَائِفَةٌ مِنَ الْغُزِّ إِلَى خَانِقِينَ فِي أَثَرِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ حُلْوَانَ كَانُوا سَارُوا بِأَهْلِيهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَأَدْرَكُوهُمْ وَظَفِرُوا بِهِمْ وَغَنِمُوا مَا مَعَهُمْ، وَانْتَشَرَ الْغُزُّ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، فَبَلَغُوا مَايَدَشْتَ وَمَا يَلِيهَا، فَنَهَبُوهَا وَأَغَارُوا عَلَيْهَا. فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ أَزْعَجَتْهُ وَأَقْلَقَتْهُ، وَكَانَ بِخُوزِسْتَانَ، فَعَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ، وَدَفْعِ يَنَّالَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْغُزِّ عَنِ الْبِلَادِ، فَأَمَرَ عَسَاكِرَهُ بِالتَّجَهُّزِ لِلسَّفَرِ إِلَيْهِمْ، فَعَجَزُوا عَنِ الْحَرَكَةِ لِكَثْرَةِ مَا مَاتَ مِنْ دَوَابِّهِمْ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ ذَلِكَ سَارَ نَحْوَ بِلَادِ فَارِسَ، فَحَمَلَ الْعَسْكَرُ أَثْقَالَهُمْ عَلَى الْحَمِيرِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ خُطِبَ لِلْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ بِأَصْبَهَانَ وَأَعْمَالِهَا، وَعَادَ الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ إِلَى طَاعَتِه ِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا عَصَى عَلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَقَصَدَ كِرْمَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْتَجَأَ إِلَى طَاعَةِ طُغْرُلْبَك - لَمْ يَبْلُغْ مَا كَانَ يُؤَمِّلُهُ مِنْ طُغْرُلْبَك، فَلَمَّا عَادَ طُغْرُلْبَك إِلَى خُرَاسَانَ خَافَ أَبُو مَنْصُورٍ مِنَ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، فَرَاسَلَهُ فِي الْعَوْدِ إِلَى طَاعَتِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَاصْطَلَحَا. وَفِيهَا اصْطَلَحَ أَبُو الشَّوْكِ وَأَخُوهُ مُهَلْهِلٌ، وَكَانَا مُتَقَاطِعَيْنِ مِنْ حِينِ أَسَرَ مُهَلْهِلٌ أَبَا الْفَتْحِ بْنَ أَبِي الشَّوْكِ وَمَوْتِ أَبِي الْفَتْحِ فِي سِجْنِه ِ. فَلَمَّا كَانَ الْآنَ وَخَافَا مِنَ الْغُزِّ تَرَاسَلَا فِي الُلْحِ، وَاعْتَذَرَ مُهَلْهِلٌ، وَأَرْسَلَ وَلَدَهُ أَبَا الْغَنَائِمِ إِلَى أَبِي الشَّوْكِ، وَحَلَفَ لَهُ أَنَّ أَبَا الْفَتْحِ تُوُفِّيَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ، وَقَالَ: هَذَا وَلَدِي تَقْتُلُهُ عِوَضَهُ. فَرَضِيَ أَبُو الشَّوْكِ وَحْسَنَ إِلَى أَبِي الْغَنَائِمِ، وَرَدَّهُ إِلَى أَبِيهِ، وَاصْطَلَحَا وَاتَّفَقَا.

وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى خَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْمَسْلَمَةِ وَاسْتَوْزَرَهُ، وَلَقَّبَهُ رَئِيسَ الرُّؤَسَاءِ، وَهُوَ ابْتِدَاءُ حَالِه ِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ ذَا السَّعَادَاتِ بْنَ فَسَانْجِسَ وَزِيرَ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ - كَانَ يُسِيءُ الرَّأْيَ فِي عَمِيدِ الرُّؤَسَاءِ وَزِيرِ الْخَلِيفَةِ، فَطَلَبَ مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يَعْزِلَهُ فَعَزَلَهُ، وَاسْتَوْزَرَ رَئِيسَ الرُّؤَسَاءِ نِيَابَةً، ثُمَّ خَلَعَ عَلَيْهِ وَجَلَسَ فِي الدَّسْت ِ. وَفِيهَا فِي شَعْبَانَ سَارَ سُرْخَابُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِنَّازٍ أَخُو أَبِي الشَّوْكِ إِلَى الْبَنْدَنِيجِينَ، وَبِهَا سَعْدِي بْنُ أَبِي الشَّوْكِ، فَفَارَقَهَا سَعْدِي وَلَحِقَ بِأَبِيهِ، وَنَهَبَ سُرْخَابٌ بَعْضَهَا، وَكَانَ أَبُو الشَّوْكِ قَدْ أَخَذَ بَلَدَ سُرْخَابٍ مَا عَدَا دَزْدِيلُويَةَ، وَهُمَا مُتَبَايِنَانِ لِذَلِك َ. وَفِيهَا فِي آخِرِ رَمَضَانَ تُوُفِّيَ أَبُو الشَّوْكِ فَارِسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِنَّازٍ بِقَلْعَةِ السِّيرَوَانِ، وَكَانَ مَرِضَ لَمَّا سَارَ إِلَى السِّيرَوَانِ (مِنْ حُلْوَانَ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ غَدَرَ الْأَكْرَادُ بِابْنِهِ) سَعْدِي، وَصَارُوا مَعَ عَمِّهِ مُهَلْهِلٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ مَضَى سَعْدِي إِلَى إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ وَأَتَى بِالْغُزِّ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهَا قُتِلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى الْهَذْبَانِيُّ صَاحِبُ إِرْبِلَ، وَكَانَ خَرَجَ إِلَى الصَّيْدِ، فَقَتَلَهُ ابْنَا أَخٍ لَهُ، وَسَارَا إِلَى قَلْعَةِ إِرْبِلَ فَمَلَكَاهَا، وَكَانَ سَلَّارُ بْنُ مُوسَى أَخُو الْمَقْتُولِ نَازِلًا عَلَى قِرْوَاشِ بْنِ الْمُقَلِّدِ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، لِنُفْرَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ، فَلَمَّا قُتِلَ سَارَ قِرْوَاشٌ مَعَ السَّلَّارِ إِلَى إِرْبِلَ فَمَلَكَهَا وَسَلَّمَهَا إِلَى السَّلَّارِ، وَعَادَ قِرْوَاشٌ إِلَى الْمَوْصِل ِ. وَفِيهَا كَانَتْ بِبَغْدَاذَ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَبَابِ الْبَصْرَةِ، وَقِتَالٌ اشْتَدَّ قُتِلَ فِيهِ جَمَاعَةٌ. (وَفِيهَا وَقَعَ الْبَلَاءُ وَالْوَبَاءُ فِي الْخَيْلِ، فَهَلَكَ مِنْ عَسْكَرِ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ اثْنَا

عَشَرَ أَلْفَ فَرَسٍ، وَعَمَّ ذَلِكَ الْبِلَادَ) . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ أَبُو الْحَسَنِ الْكَاتِبُ بِوَاسِطٍ، صَاحِبُ الرَّسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ.

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 438 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ مُهَلْهِلٍ قِرْمِسِينَ وَالدِّينَوَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ مُهَلْهِلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِنَّازٍ مَدِينَةَ قِرْمِسِينَ وَالدِّينَوَرَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ كَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَ عِنْدَ عَوْدِهِ مِنْ حُلْوَانَ عَلَى قِرْمِسِينَ بَدْرَ بْنَ طَاهِرِ بْنِ هِلَالٍ، فَلَمَّا مَلَكَ مُهَلْهِلٌ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ أَبِي الشَّوْكِ سَارَ إِلَى مَايَدَشْتَ، وَنَزَلَ (بِهَا، ثُمَّ تَوَجَّهَ نَحْوَ قِرْمِسِينَ، فَانْصَرَفَ عَنْهَا بَدْرٌ، فَمَلَكَهَا) مُهَلْهِلٌ، وَسَيَّرَ ابْنَهُ مُحَمَّدًا إِلَى الدِّينَوَرَ وَبِهَا عَسَاكِرُ يَنَّالَ، فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ يَنَّالَ، وَمَلَكَ مُحَمَّدٌ الْبَلَد َ. ذِكْرُ اتِّصَالِ سَعْدِي بْنِ أَبِي الشَّوْكِ بِإِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَارَقَ سَعْدِي بْنُ أَبِي الشَّوْكِ عَمَّهُ مُهَلْهِلًا، وَلَحِقَ بِإِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ فَصَارَ مَعَهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَمَّهُ تَزَوَّجَ أَمَّهُ وَأَهْمَلَ جَانِبَهُ وَاحْتَقَرَهُ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَصَّرَ فِي مُرَاعَاةِ الْأَكْرَادِ الشَّاذِنْجِانِ، فَرَاسَلَ سَعْدِي إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ فِي اللَّحَاقِ بِهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَوَعَدَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ مَا كَانَ لِأَبِيهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَكْرَادِ الشَّاذِنْجَانِ، فَقَوِيَ بِهِمْ، فَأَكْرَمَهُ يَنَّالُ، وَضَمَّ إِلَيْهِ جَمْعًا مِنَ الْغُزِّ، وَسَيَّرَهُ إِلَى حُلْوَانَ فَمَلَكَهَا،

(وَخَطَبَ فِيهَا لِإِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، وَرَجَعَ إِلَى مَايَدَشْتَ، فَسَارَ عَمُّهُ مُهَلْهِلٌ إِلَى حُلْوَانَ فَمَلَكَهَا) ، وَقَطَعَ مِنْهَا خُطْبَةَ يَنَّالَ. فَلَمَّا سَمِعَ سَعْدِي بِذَلِكَ سَارَ إِلَى حُلْوَانَ، فَفَارَقَهَا عَمُّهُ مُهَلْهِلٌ إِلَى نَاحِيَةِ بَلُّوطَةَ، وَمَلَكَ سَعْدِي حُلْوَانَ وَسَارَ إِلَى عَمِّهِ سُرْخَابٍ فَكَبَسَهُ وَنَهَبَ مَا كَانَ مَعَهُ، وَسَيَّرَ جَمْعًا إِلَى الْبَنْدَنِيجَيْنِ، فَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا وَقَبَضُوا عَلَى نَائِبِ سُرْخَابٍ بِهَا، وَنَهَبُوا بَعْضَهَا، وَانْهَزَمَ سُرْخَابٌ فَصَعِدَ إِلَى قَلْعَةِ دَزْدِيلُويَةَ، ثُمَّ عَادَ سَعْدِي إِلَى قِرْمِسِينَ، فَسَيَّرَ عَمُّهُ مُهَلْهِلٌ ابْنَهُ بَدْرًا إِلَى حُلْوَانَ فَمَلَكَهَا، فَجَمَعَ سَعْدِي وَأَكْثَرَ وَعَادَ إِلَى حُلْوَانَ، فَفَارَقَهَا مَنْ كَانَ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ عَمِّهِ إِلَّا مَنْ كَانَ بِالْقَلْعَةِ، وَمَلَكَهَا سَعْدِي، وَكَانَ قَدْ صَحِبَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْغُزِّ، فَسَارَ بِهِمْ مِنْهَا إِلَى عَمِّهِ مُهَلْهِلٍ، وَتَرَكَ بِهَا مَنْ يَحْفَظُهَا، فَلَمَّا عَلِمَ عَمُّهُ بِقُرْبِهِ مِنْهُ سَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى قَلْعَةِ تِيرَانْشَاهْ بِقُرْبِ شَهْرَزُورَ، فَاحْتَمَى بِهَا، وَمَلَكَ الْغُزُّ كَثِيرًا مِنَ النَّوَاحِي وَالْمَوَاشِي، وَغَنِمُوا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالدَّوَاب ِّ. فَلَمَّا رَأَى سَعْدِي تَحَصُّنَ عَمِّهِ مِنْهُ خَافَ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ بِحُلْوَانَ، فَعَادَ عَازِمًا عَلَى مُحَاصَرَةِ الْقَلْعَةِ فَمَضَى وَحَصَرَهَا، وَقَاتَلَهُ مَنْ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ عَمِّهِ، وَنَهَبَ الْغُزُّ حُلْوَانَ وَفَتَكُوا فِيهَا وَافْتَضُّوا الْأَبْكَارَ، وَأَحْرَقُوا الْمَسَاكِنَ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، وَفَعَلُوا فِي تِلْكَ النَّوَاحِي جَمِيعِهَا أَقْبَحَ فِعْلٍ. وَلَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ وَوَزِيرُهُ هَذِهِ الْأَخْبَارَ نَدَبُوا الْعَسَاكِرَ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى مُهَلْهِلٍ وَمُسَاعَدَتِهِ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ، وَدَفْعِهِ عَنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا. ثُمَّ إِنَّ سَعْدِي أَقْطَعَ أَبَا الْفَتْحِ بْنَ وَرَّامٍ الْبَنْدَنِيجَيْنَ وَاتَّفَقَا، وَاجْتَمَعَا عَلَى قَصْدِ عَمِّهِ سُرْخَابِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِنَّازٍ وَحَصْرِهِ بِقَلْعَةِ دَزْدِيلَوِيَّةَ، فَسَارَا فِيمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْعَسَاكِرِ، فَلَمَّا قَارَبُوا الْقَلْعَةَ دَخَلُوا فِي مَضِيقٍ هُنَاكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلُوا لَهُمْ طَلِيعَةً، طَمَعًا فِيهِ وَإِدْلَالًا بِقُوَّتِهِمْ، وَكَانَ سُرْخَابٌ قَدْ جَعَلَ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ عَلَى فَمِ الْمَضِيقِ جَمْعًا مِنَ الْأَكْرَادِ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْمَضِيقَ لَقِيَهُمْ سُرْخَابٌ، وَكَانَ قَدْ نَزَلَ مِنَ الْقَلْعَةِ

فَاقْتَتَلُوا، وَعَادُوا لِيَخْرُجُوا مِنَ الْمَضِيقِ فَتَقَطَّرَتْ بِهِمْ خَيْلُهُمْ، فَسَقَطُوا عَنْهَا وَرَمَاهُمُ الْأَكْرَادُ الَّذِينَ عَلَى الْجَبَلِ، فَوَهَنُوا، وَأُسِرَ سَعْدِي وَأَبُو الْفَتْحِ بْنُ وَرَّامٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الرُّءُوسِ، وَتَفَرَّقَ الْغُزُّ وَالْأَكْرَادُ مِنْ تِلْكَ النَّوَاحِي، بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَدْ تَوَطَّنُوهَا وَمَلَكُوهَا. ذِكْرُ حِصَارِ طُغْرُلْبَك أَصْبَهَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ طُغْرُلْبَك مَدِينَةَ أَصْبَهَانَ، وَبِهَا صَاحِبُهَا أَبُو مَنْصُورٍ فِرَامَرْزُ بْنُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ، فَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَظْفَرْ مِنَ الْبَلَدِ بِطَائِلٍ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ فِرَامَرْزُ بْنُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ لِطُغْرُلْبَك، وَخُطِبَ لَهُ بِأَصْبَهَانَ وَأَعْمَالِهَا. ذِكْرُ عِدَّةِا حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ مِنَ التَّرْكِ مِنْ بَلَدِ التُّبَّتِ خَلْقٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، فَرَاسَلُوا أَرْسِلَانَ خَانْ صَاحِبَ بَلَاسَاغُونَ، يَشْكُرُونَهُ عَلَى حُسْنِ سِيرَتِهِ فِي رَعِيَّتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ تَعَرُّضٌ إِلَى مَمْلَكَتِهِ، وَلَكِنَّهُمْ أَقَامُوا بِهَا، وَرَاسَلَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُجِيبُوا، وَلَمْ يَنْفِرُوا مِنْه ُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ الْخَيْشِيُّ النَّحْوِيُّ (فِي ذِي الْحِجَّةِ) وَلَهُ نَيِّفٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً.

وَفِيهَا انْحَدَرَ عَلَاءُ الدِّينِ أَبُو الْغَنَائِمِ ابْنُ الْوَزِيرِ ذِي السَّعَادَاتِ إِلَى الْبَطَائِحِ، وَحَصَرَهَا وَبِهَا صَاحِبُهَا أَبُو نَصْرِ بْنُ الْهَيْثَمِ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَاجْتَمَعَ مَعَ جَمْعٍ كَثِيرٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ، وَالِدُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي، وَكَانَ إِمَامًا فِي الشَّافِعِيَّةِ، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الطِّيبِ سَهْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصُّعْلُوكِيِّ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَدَبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ، (وَهُوَ مِنْ بَنِي سِنْبِسٍ، بَطْنٍ مِنْ طَيِّئٍ) .

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 439 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ صُلْحِ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ وَالسُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ إِلَى السُّلْطَانِ رُكْنِ الدِّينِ طُغْرُلْبَك فِي الصُّلْحِ، فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ وَاصْطَلَحَا، وَكَتَبَ طُغْرُلْبَك إِلَى أَخِيهِ يَنَّالَ يَأْمُرُهُ بِالْكَفِّ عَمَّا وَرَاءَ مَا بِيَدِهِ، وَاسْتَقَرَّ الْحَالُ بَيْنَهُمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ طُغْرُلْبَك بِابْنَةِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَيَتَزَوَّجَ الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ أَبِي كَالِيجَارَ بِابْنَةِ الْمَلِكِ دَاوُدَ أَخِي طُغْرُلْبَك، وَجَرَى الْعَقْدُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى سُرْخَابٍ أَخِي أَبِي الشَّوْكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ الْأَكْرَادُ اللُّرِّيَّةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ عَسْكَرِ سُرْخَابٍ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ أَسَاءَ السِّيرَةَ مَعَهُمْ وَوَتَرَهُمْ، فَقَبَضُوا عَلَيْهِ وَحَمَلُوهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ، فَقَلَعَ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، وَطَالَبَهُ بِإِطْلَاقِ سَعْدِي بْنِ أَبِي الشَّوْكِ، فَلَمْ يَفْعَلْ. وَكَانَ أَبُو الْعَسْكَرِ بْنُ سُرْخَابٍ قَدْ غَاضَبَهُ لَمَّا قُبِضَ عَلَى سَعْدِي، وَاعْتَزَلَهُ كَرَاهِيَةً لِفِعْلِهِ، فَلَمَّا أُسِرَ أَبُوهُ سُرْخَابٌ سَارَ إِلَى الْقَلْعَةِ وَأَخْرَجَ سَعْدِي ابْنَ عَمِّهِ، وَفَكَّ قُيُودَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَطْلَقَهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ بِطَرْحِ مَا مَضَى، وَالسَّعْيِ فِي خَلَاصِ وَالِدِهِ سُرْخَابٍ، فَسَارَ سَعْدِي، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَكْرَادِ، وَوَصَلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ، فَلَمْ يَجِدْ

عِنْدَهُ الَّذِي أَرَادَ، فَفَارَقَهُ وَعَادَ إِلَى الدَّسْكَرَةِ، وَكَاتَبَ الْخَلِيفَةَ وَنُوَّابَ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ بِالْعَوْدِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَأَقَامَ بِهَا. ذِكْرُ مُلْكِ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ قَلْعَةَ كِنْكِوَرَ وَغَيْرَهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالُ إِلَى قَلْعَةِ كِنْكِوَرَ وَبِهَا عُكْبَرُ بْنُ فَارِسٍ صَاحِبُ كُرْشَاسُفَ بْنِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ يَحْفَظُهَا لَهُ، فَامْتَنَعَ عُكْبَرٌ بِهَا إِلَى أَنْ فَنِيَتْ ذَخَائِرُهُ، وَكَانَتْ قَلِيلَةً، فَلَمَّا نَفِدَتِ الذَّخَائِرُ عَمَدَ إِلَى بُيُوتِ الطَّعَامِ الَّتِي فِي الْقَلْعَةِ وَمَلَأَهَا تُرَابًا وَحِجَارَةً، وَسَدَّ أَبْوَابَهَا، وَنَثَرَ مِنْ دَاخِلِ الْأَبْوَابِ شَيْئًا مِنْ طَعَامٍ، وَعَلَى رَأْسِ التُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ كَذَلِكَ أَيْضًا، وَرَاسَلَ إِبْرَاهِيمَ فِي تَسْلِيمِ الْقَلْعَةِ إِلَيْهِ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنَهُ عَلَى مَنْ بِهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَمَا بِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْمَالِ، فَأَخَذَ عُكْبَرٌ رَسُولَ إِبْرَاهِيمَ فَطَوَّفَهُ عَلَى الْبُيُوتِ الَّتِي فِيهَا الطَّعَامُ، وَفَتَحَ مَوَاضِعَ مِنَ الْمَسْدُودِ، فَرَآهَا مَمْلُوءَةً فَظَنَّهَا طَعَامًا، وَقَالَ لَهُ عُكْبَرٌ: مَا رَاسَلْتُ صَاحِبَكَ خَوْفًا مِنَ الْمُطَاوَلَةِ، وَلَا إِشْفَاقًا مِنْ نَادِ الْمِيرَةِ، لَكِنَّنِي أَحْبَبْتُ الدُّخُولَ فِي طَاعَتِهِ، فَإِنْ بَذَلَ لِيَ الْأَمَانَ عَلَى مَا طَلَبْتُهُ لِي وَلِلْأَمِيرِ كُرْشَاسُفَ وَأَمْوَالِهِ وَلِمَنْ بِالْقَلْعَةِ - سَلَّمْتُ إِلَيْهِ، وَكَفَيْتُهُ مَؤُونَةَ الْمُقَامِ. فَلَمَّا عَادَ الرَّسُولُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَخْبَرَهُ أَجَابَهُ إِلَى مَا طَلَبَ، وَنَزَلَ عُكْبَرٌ وَتَسَلَّمَهَا إِبْرَاهِيمُ، فَلَمَّا صَعِدَ إِلَى الْقَلْعَةِ انْكَشَفَتِ الْحِيلَةُ، وَسَارَ عُكْبَرٌ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى قَلْعَةِ سَرْمَاجَ، وَصَعِدَ إِلَيْهَا. وَلَمَّا مَلَكَ يَنَّالُ كِنْكِوَرَ عَادَ إِلَى هَمَذَانَ، فَسَيَّرَ جَيْشًا لِأَخْذِ قِلَاعِ سُرْخَابٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ نَسِيبًا لَهُ اسْمُهُ أَحْمَدُ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ سُرْخَابًا لِيَفْتَحَ بِهِ قِلَاعَهُ، فَسَارَ بِهِ إِلَى قَلْعَةِ كَلْكَانَ، فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ، فَسَارُوا إِلَى قَلْعَةِ دَزْدِيلُويَةَ فَحَصَرُوهَا، وَامْتَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى الْبَنْدَنِيجَيْنِ فَنَهَبُوهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَفَعَلُوا الْأَفَاعِيلَ الْقَبِيحَةَ مِنَ النَّهْبِ وَالْقَتْلِ وَافْتِرَاشِ النِّسَاءِ وَالْعُقُوبَةِ عَلَى تَخْلِيصِ الْأَمْوَالِ، فَمَاتَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ لِشِدَّةِ الضَّرْبِ.

وَسَارَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَبِي الْفَتْحِ بْنِ وَرَّامٍ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ خَوْفًا مِنْهُمْ، وَتَرَكَ حُلَلَهُ بِحَالِهَا، وَقَصَدَ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِنَهْبِ حُلَلِهِ فَيَعُودَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُعَرِّجُوا عَلَى النَّهْبِ وَتَبِعُوهُ، فَلِشِدَّةِ خَوْفِهِ أَنْ يَظْفَرُوا بِهِ وَيَأْخُذُوهُ قَاتَلَهُمْ، فَظَفِرَ بِهِمْ، وَقَتَلَ وَأَسَرَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ، وَغَنِمَ مَا مَعَهُمْ، وَرَجَعَ الْبَاقُونَ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَغْدَاذَ يَطْلُبُ نَجْدَةً خَوْفًا مِنْ عَوْدِهِمْ، فَلَمْ يُنْجِدُوهُ لِعَدَمِ الْهَيْبَةِ وَقِلَّةِ إِمْسَاكِ الْأَمْرِ، فَعَبَرَ بَنُو وَرَّامٍ دِجْلَةَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ. ثُمَّ إِنَّ الْغُزَّ أَسَرُّوا إِلَى سَعْدِي بْنِ أَبِي الشَّوْكِ فِي رَجَبٍ وَهُوَ نَازِلٌ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ بَاجِسْرَى، وَكَبَسُوهُ فَانْهَزَمَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ لَا يَلْوِي الْآخَرُ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا الْوَالِدُ عَلَى وَلَدِهِ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَغَنِمَ الْغُزُّ أَمْوَالَهُمْ، وَنَهَبُوا تِلْكَ الْأَعْمَالَ، وَكَانَ سَعْدِي قَدْ أَنْزَلَ مَالًا مِنْ قَلْعَةِ السِّيرَوَانِ، فَوَصَلَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَغَنِمَهُ الْغُزُّ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ سَلِمَ مَعَهُ، وَنَجَا سَعْدِي مِنَ الْوَقْعَةِ بِجُرَيْعَةِ الذَّقَنِ، وَنَهَبَ الْغُزُّ الدَّسْكَرَةَ، وَبَاجِسْرَى، وَالْهَارُونِيَّةَ، وَقَصْرَ سَابُورَ، وَجَمِيعَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ. وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَاذَ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ عَازِمٌ عَلَى قَصْدِ بَغْدَاذَ، فَارْتَاعَ النَّاسُ، وَاجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ وَالْقُوَّادُ إِلَى الْأَمِيرِ أَبِي مَنْصُورٍ ابْنِ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ لِيَجْتَمِعُوا وَيَسِيرُوا إِلَيْهِ وَيَمْنَعُوهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَخْرُجْ غَيْرُ خِيَمِ الْأَمِيرِ أَبِي مَنْصُورٍ وَالْوَزِيرِ وَنَفَرٍ يَسِيرٍ، وَتَخَلَّفَ الْبَاقُونَ، وَهَلَكَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّوَاحِي الْمَنْهُوبَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ غَرِقَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَتَلَهُ الْبَرْدُ. وَوَصَلَ سَعْدِي إِلَى دَيَالَى، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى أَبِي الْأَغَرِّ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ فَأَقَامَ عِنْدَه ُ. ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ سَارَ إِلَى السِّيرَوَانِ، فَحَصَرَ الْقَلْعَةَ، وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهَا، وَأَرْسَلَ سَرِيةً نَهَبَتِ الْبِلَادَ، وَانْتَهَتْ إِلَى مَكَانٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَكْرِيتَ عَشَرَةُ فَرَاسِخَ، وَدَخَلَ بَغْدَاذَ مِنْ أَهْلِ طَرِيقِ خُرَاسَانَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَذَكَرُوا مِنْ حَالِهِمْ مَا أَبْكَى الْعُيُونَ، ثُمَّ سَلَّمَهَا إِلَيْهِ مُسْتَحْفِظُهَا، بَعْدَ أَنْ أَمَّنَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَأَخَذَ مِنْهَا يَنَّالُ مِنْ بَقَايَا مَا خَلَّفَهُ سَعْدِي شَيْئًا كَثِيرًا، وَلَمَّا فَتَحَهَا اسْتَخْلَفَ فِيهَا مُقَدَّمًا كَبِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ

سَخْتُ كُمَانُ، وَانْصَرَفَ إِلَى حُلْوَانَ، وَعَادَ مِنْهَا إِلَى هَمَذَانَ، وَمَعَهُ بَدْرٌ وَمَالِكٌ ابْنَا مُهَلْهِلٍ، فَأَكْرَمَهُمَا. ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ قَلْعَةِ سَرْمَاجَ تُوُفِّيَ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ بَدْرِ بْنِ حَسَنْوَيْهِ، وَسُلِّمَتِ الْقَلْعَةُ بَعْدَهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ، وَسَيَّرَ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالُ وَزِيرَهُ إِلَى شَهْرَزُورَ، فَأَخَذَهَا وَمَلَكَهَا، فَهَرَبَ مِنْهُ مُهَلْهِلٌ، فَأَبْعَدَ فِي الْهَرَب ِ. ثُمَّ نَزَلَ أَحْمَدُ عَلَى قَلْعَةِ تِيرَانْشَاهْ وَحَاصَرَهَا، وَنَقَبَ عَلَيْهَا عِدَّةَ نُقُوبٍ، ثُمَّ إِنَّ مُهَلْهِلًا رَاسَلَ أَهْلَ شَهْرَزُورَ يَعِدُهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْوُثُوبِ بِمَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْغُزِّ، فَفَعَلُوا وَقَتَلُوا مِنْهُمْ، وَسَمِعَ أَحْمَدُ بْنُ طَاهِرٍ فَعَادَ إِلَيْهِمْ وَأَوْقَعَ بِهِمْ وَنَهَبَهُمْ، وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّ الْغُزَّ الْمُقِيمِينَ بِالْبَنْدَنِيجَيْنِ وَمَنْ مَعَهُمْ سَارُوا إِلَى بَرَازِ الرُّوزِ، وَتَقَدَّمُوا إِلَى نَهْرِ السَّلِيلِ، فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَأَبُو دُلَفَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَاوَانِيُّ قِتَالًا شَدِيدًا ظَفِرَ فِيهِ أَبُو دُلَفَ، وَانْهَزَمَ الْغُزُّ وَأُخِذَ مَا مَعَهُمْ. وَسَارَ فِي ذِي الْحِجَّةِ جَمْعٌ مِنَ الْغُزِّ إِلَى بَلَدِ عَلِيِّ بْنِ الْقَاسِمِ الْكُرْدِيِّ، فَأَغَارُوا وَعَاثَوْا، فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمَضِيقَ، وَأَوْقَعَ بِهِمْ وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَارْتَجَعَ مَا غَنِمُوهُ مِنْ بَلَدِهِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ أَبِي كَالِيجَارَ عَلَى الْبَطِيحَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّ الْحِصَارُ مِنْ عَسْكَرِ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ عَلَى أَبِي نَصْرِ بْنِ الْهَيْثَمِ صَاحِبِ الْبَطِيحَةِ، فَجَنَحَ إِلَى الصُّلْحِ، فَاشْتَطَّ عَلَيْهِ أَبُو الْغَنَائِمِ ابْنُ الْوَزِيرِ ذِي السَّعَادَاتِ، ثُمَّ اسْتَأْمَنَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي نَصْرٍ وَمَلَّاحِيهِ إِلَى أَبِي الْغَنَائِمِ، وَأَخْبَرُوهُ بِضَعْفِ أَبِي نَصْرٍ، وَعَزْمِهِ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ مَكَانِهِ، فَحَفِظَ الطُّرُقَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ خَامِسُ صَفَرٍ جَرَتْ وَقْعَةٌ كَبِيرَةٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَظَفِرَ أَبُو الْغَنَائِمِ، وَقُتِلَ مِنَ الْبَطَائِحِيِّينَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَغَرِقَ مِنْهُمْ سُفُنٌ كَثِيرَةٌ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْآجَامِ، وَمَضَى ابْنُ الْهَيْثَمِ نَاجِيًا بِنَفْسِهِ فِي زَبْزَبٍ، وَمُلِكَتْ دَارُهُ وَنُهِبَ مَا فِيهَا.

ذِكْرُ ظُهُورِ الْأَصْفَرِ وَأَسْرِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ الْأَصْفَرُ التَّغْلَبِيُّ بِرَأْسِ عَيْنٍ، وَادَّعَى أَنَّهُ مِنَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْكُتُبِ، وَاسْتَغْوَى قَوْمًا بِمَخَارِيقَ وَضَعَهَا، وَجَمَعَ جَمْعًا وَغَزَا نَوَاحِيَ الرُّومِ، فَظَفِرَ وَغَنِمَ وَعَادَ، وَظَهَرَ حَدِيثُهُ، وَقَوِيَ نَامُوسُهُ، وَعَاوَدُوا الْغَزْوَ فِي عَدَدٍ أَكْثَرَ مِنَ الْعَدَدِ الْأَوَّلِ، وَدَخَلَ نَوَاحِيَ الرُّومِ وَأَوْغَلَ، وَغَنِمَ أَضْعَافَ مَا غَنِمَهُ أَوَّلًا، حَتَّى بِيعَتِ الْجَارِيَةُ الْجَمِيلَةُ بِالثَّمَنِ الْبَخْسِ. وَتَسَامَعَ النَّاسُ بِهِ فَقَصَدُوهُ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُ، وَثَقُلَتْ عَلَى الرُّومِ وَطْأَتُهُ، فَأَرْسَلَ مِلْكُ الرُّومِ إِلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ عَالِمٌ بِمَا بَيْنَنَا مِنَ الْمُوَادعَةِ وَقَدْ فَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ، فَإِنْ كُنْتَ قَدْ رَجَعْتَ عَنِ الْمُهَادَنَةِ فَعَرِّفْنَا لِنُدَبِّرَ أَمْرَنَا بِحَسْبِهِ. وَاتَّفَقَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْ وَصْلَ رَسُولٌ مِنَ الْأَصْفَرِ إِلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ أَيْضًا، يُنْكِرُ عَلَيْهِ تَرْكَ الْغَزْوِ وَالْمَيْلِ إِلَى الدَّعَةِ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَاسْتَدْعَى قَوْمًا مِنْ بَنِي نُمَيْرٍ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَثَارَ الرُّومَ عَلَيْنَا، وَلَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَيْهِمْ. وَبَذَلَ لَهُمْ مَالًا عَلَى الْفَتْكِ بِهِ، فَسَارُوا إِلَيْهِ، فَقَرَّبَهُمْ وَلَازَمُوهُ، فَرَكِبَ يَوْمًا غَيْرَ مُتَحَرِّزٍ، فَأَبْعَدَ وَهُمْ مَعَهُ، فَعَطَفُوا عَلَيْهِ وَأَخَذُوهُ، وَحَمَلُوهُ إِلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ فَاعْتَقَلَهُ، وَتَلَافَى أَمْرَ الرُّومِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَجَدَّدَتِ الْهُدْنَةُ بَيْنَ صَاحِبِ مِصْرَ وَبَيْنَ الرُّومِ، وَحَمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ هَدِيَّةً عَظِيمَة ً. وَفِيهَا كَانَ بِبَغْدَاذَ وَالْمَوْصِلَ وَسَائِرِ الْبِلَادِ الْعِرَاقِيَّةِ وَالْجَزَرِيَّةِ (غَلَاءٌ عَظِيمٌ، حَتَّى أَكَلَ النَّاسُ الْمَيْتَةَ، وَتَبِعَهُ) وَبَاءٌ شَدِيدٌ مَاتَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى خَلَتِ

الْأَسْوَاقُ، وَزَادَتْ أَثْمَانُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَرْضَى، حَتَّى بِيعَ الْمَنُ مِنَ الشَّرَابِ بِنِصْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ اللَّوْزِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا، وَالرُّمَّانَةُ بِقِيرَاطَيْنِ، وَالْخِيَارَةُ بِقِيرَاطٍ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. وَفِيهَا جَمَعَ الْأَمِيرُ أَبُو كَالِيجَارَ فَنَّاخُسْرُو بْنُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ جَمْعًا، وَسَارَ إِلَى آمِدَ فَدَخَلَهَا، وَسَاعَدَهُ أَهْلُهَا، وَأَوْقَعَ بِمَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ أَصْحَابِ طُغْرُلْبَك، فَقَتَلَ وَأَسَرَ، وَعَرَفَ طُغْرُلْبَك ذَلِكَ، فَسَارَ عَنِ الرَّيِّ قَاصِدًا إِلَيْهِ، وَمُتَوَجِّهًا إِلَى قِتَالِهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بِجَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَوَزَرَ لِجَلَالِ الدَّوْلَةِ عِدَّةَ دَفْعَات ٍ. وَفِيهَا سَيَّرَ الْمُعِزُّ بْنُ بَادِيسَ صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ أُسْطُولًا إِلَى جَزَائِرِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَظَفِرَ وَغَنِمَ وَعَادَ. وَفِيهَا اقْتَتَلَتْ طَوَائِفُ مِنْ تَلْكَاتَةَ، قَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانَ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ صَبَرُوا فِيهَا، فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَفِيهَا قَبَضَ الْمَلِكُ أَبِي كَالِيجَارَ عَلَى وَزِيرِهِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْفَرَجِ الْمُلَقَّبِ بِذِي السِّعَادَاتِ بْنِ فَسَانْجَسَ، وَسَجَنَهُ، وَهَرَبَ وَلَدُهُ أَبُو الْغَنَائِمِ، وَبَقِيَ الْوَزِيرُ مَسْجُونًا إِلَى أَنْ مَاتَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَقِيلَ: أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو كَالِيجَارَ مَنْ قَتَلَهُ، وَعُمُرُهُ إِحْدَى وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَلِلْوَزِيرِ ذِي السِّعَادَاتِ مُكَاتَبَاتٌ حَسَنَةٌ، وَشِعْرٌ جَيِّدٌ، مِنْهُ:

أُوَدِّعُكُمْ وَإِنِّي ذُو اكْتِئَابِ ... وَأَرْحَلُ عَنْكُمُ وَالْقَلْبُ آبِي وَإِنَّ فِرَاقَكُمْ فِي كُلِّ حَالٍ ... لَأَوْجَعُ مِنْ مُفَارَقَةِ الشَّبَابِ أَسِيرُ وَمَا ذَمَمْتُ لَكُمْ جِوَارًا ... وَلَا مَلَّتْ مَنَازِلَكُمْ رِكَابِي وَأَشْكُرُ كُلَّمَا أَوْطَنْتُ دَارًا ... لَيَالِينَا الْقِصَارَ بِلَا اجْتِنَابِ وَأَذْكُرُكُمْ إِذَا هَبَّتْ جَنُوبٌ ... فَتُذْكِرُنِي غَرَارَاتُ التَّصَابِي لَكُمْ مِنِّي الْمَوَدَّةُ فِي اغْتِرَابٍ ... وَأَنْتُمْ إِلْفُ نَفْسِي فِي اقْتِرَابِي. وَهُوَ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا. وَلَمَّا قُبِضَ ذُو السَّعَادَاتِ اسْتَوْزَرَ أَبُو كَالِيجَارَ كَمَالَ الْمُلْكِ أَبَا الْمَعَالِي بْنَ عَبْدِ الرَّحِيمِ. [الْوَفَيَاتُ] فِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ الْمَعْرُوفُ بِالْمُطَرِّزِ الشَّاعِرُ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، فَمِنْ قَوْلِهِ فِي الزُّهْدِ: يَا عَبْدُ كَمْ لَكَ مِنْ ذَنْبٍ وَمَعْصِيَةٍ ... إِنْ كُنْتَ نَاسِيَهَا فَاللَّهُ أَحْصَاهَا لَا بُدَّ يَا عَبْدُ مِنْ يَوْمٍ تَقُومُ بِهِ ... وَوَقْفَةٍ لَكَ يُدْمِي الْقَلْبَ ذِكْرَاهَا إِذَا عَرَضْتُ عَلَى قَلْبِي تَذَكُّرَهَا ... وَسَاءَ ظَنِّي فَقَلْتُ اسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْخَطَّابِ الْجَبَلِيُّ الشَّاعِرُ، وَمَضَى إِلَى الشَّامِ، وَلَقِيَ الْمَعَرِّيَّ، وَعَادَ ضَرِيرًا، وَلَهُ شِعْرٌ، مِنْهُ قَوْلُهُ:

مَا حَكَمَ الْحُبُّ فَهْوَ مُمْتَثَلُ ... وَمَا جَنَاهُ الْحَبِيبُ مُحْتَمَلُ تَهْوَى وَتَشْكُو الضَّنَى وَكُلُّ هَوًى ... لَا يُنْحِلُ الْجِسْمَ فَهُوَ مُنْتَحَلُ وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْخَلَّالُ الْحَافِظُ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ الْقَطِيعِيَّ وَغَيْرَهُ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ. وَفِيهَا قُتِلَ الْفَقِيهُ أَحْمَدُ الْوَلْوَالِجِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ الْوَقِيعَةَ فِي الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ، وَسَلَكَ طَرِيقَ الرِّيَاضَةِ، وَفَسَدَ دِمَاغُهُ، فَقُتِلَ بَيْنَ مَرْوَ وَسَرَخْسَ (فِي ذِي الْحِجَّةِ) .

ثم دخلت سنة أربعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 440 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ رَحِيلِ عَسْكَرِ يَنَّالَ عَنْ تِيرَانْشَاهْ وَعَوْدِ مُهَلْهِلٍ إِلَى شَهْرَزُورَ قَدْ ذَكَرْنَا فِي السَّنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ اسْتِيلَاءَ أَحْمَدَ بْنِ طَاهِرٍ وَزِيرِ يَنَّالَ عَلَى شَهْرَزُورَ وَمُحَاصَرَتَهُ قَلْعَةَ تِيرَانْشَاهْ، وَلَمْ يَزَلْ يُحَاصِرُهَا إِلَى الْآنَ، فَوَقَعَ فِي عَسْكَرِهِ الْوَبَاءُ وَكَثُرَ الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِهِ يَنَّالَ يَسْتَمِدُّهُ وَيَطْلُبُ إِنْجَادَهُ، وَيُعَرِّفُهُ كَثْرَةَ الْوَبَاءِ عِنْدَهُ، فَأَمَرَهُ بِالرَّحِيلِ عَنْهَا، فَسَارَ إِلَى مَايَدَشْتَ. فَلَمَّا سَمِعَ مُهَلْهِلٌ ذَلِكَ سَيَّرَ أَحَدَ أَوْلَادِهِ إِلَى شَهْرزُورَ فَمَلَكَهَا، وَانْزَعَجَ الْغُزُّ الَّذِينَ بِالسِّيرَوَانِ وَخَافُوا. ثُمَّ سَارَ جَمْعٌ مِنْ عَسْكَرِ بَغْدَاذَ إِلَى حُلْوَانَ، وَحَصَرُوا قَلْعَتَهَا، فَلَمْ يَظْفَرُوا بِهَا، فَنَهَبُوا تِلْكَ الْأَعْمَالَ وَأَتَوْا عَلَى مَا تَخَلَّفَ مِنَ الْغُزِّ، فَخُرِّبَتِ الْأَعْمَالُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَسَارَ مُهَلْهِلٌ وَمَعَهُ أَهْلُهُ وَأَمْوَالُهُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَنْزَلَهُمْ بِبَابِ الْمَرَاتِبِ، بِدَارِ الْخِلَافَةِ، خَوْفًا مِنَ الْغُزِّ، وَعَادَ إِلَى حُلَلِهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ بَغْدَاذَ سِتَّةُ فَرَاسِخَ، وَسَارَ جَمْعٌ مِنْ عَسْكَرِ بَغْدَاذَ إِلَى الْبَنْدَنِيجَيْنِ، وَبِهَا جَمْعٌ مِنَ الْغُزِّ مَعَ عُكْبَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيَاضٍ، فَتَوَاقَعُوا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ بَغْدَاذَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ قُتِلُوا أَيْضًا صَبْرًا. ذِكْرُ غَزْوِ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ الرُّومَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا إِبْرَاهِيمُ يَنَّالُ الرُّومَ، فَظَفِرَ بِهِمْ وَغَنِمَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْغُزِّ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ قَدِمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: بِلَادِي تَضِيقُ عَنْ مُقَامِكُمْ وَالْقِيَامِ بِمَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَالرَّأْيُ أَنْ تَمْضُوا إِلَى غَزْوِ الرُّومِ،

وَتُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَغْنَمُوا، وَأَنَا سَائِرٌ عَلَى أَثَرِكُمْ، وَمُسَاعِدٌ لَكُمْ عَلَى أَمْرِكُم ْ. فَفَعَلُوا. وَسَارُوا بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَبِعَهُمْ، فَوَصَلُوا إِلَى مَلَازْكِرْدَ، وَأَرْزَنِ الرُّومِ، وَقَالِيقَلَا، وَبَلَغُوا طَرَابْزُونَ وَتِلْكَ النَّوَاحِيَ كُلَّهَا، وَلَقِيَهُمْ عَسْكَرٌ عَظِيمٌ لِلرُّومِ وَالْأَبْخَازِ يَبْلُغُونَ خَمْسِينَ أَلْفًا، فَاقْتَتَلُوا وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ عِدَّةُ وَقَائِعَ تَارَةً يَظْفَرُ هَؤُلَاءِ وَتَارَةً هَؤُلَاءِ، وَكَانَ آخِرَ الْأَمْرِ الظَّفَرُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِي الرُّومِ وَهَزَمُوهُمْ، وَأَسَرُوا جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ بَطَارِقَتِهِمْ، وَمِمَّنْ أُسِرَ قَارِيطُ مَلِكُ الْأَبْخَازِ، فَبَذَلَ فِي نَفْسِهِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَهَدَايَا بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَزَلْ يَجُوسُ تِلْكَ الْبِلَادَ وَيَنْهَبُهَا إِلَى أَنْ بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَاسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ النَّوَاحِي فَنَهَبُوهَا، وَغَنِمُوا مَا فِيهَا، وَسَبَوْا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ رَأْسٍ، وَأَخَذُوا مِنَ الدَّوَابِّ وَالْبِغَالِ وَالْغَنَائِمِ وَالْأَمْوَالِ مَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِحْصَاءُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْغَنَائِمَ حُمِلَتْ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ عَجَلَةٍ، وَإِنَّ فِي جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِرْع ٍ. وَكَانَ قَدْ دَخَلَ بَلَدَ الرُّومِ جَمْعٌ مِنَ الْغُزِّ يَقْدُمُهُمْ إِنْسَانٌ نَسِيبُ طُغْرُلْبَك، فَلَمْ يُؤَثِّرْ كَبِيرَ أَثَرٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةٌ وَعَادَ، وَدَخَلَ بَعْدَهُ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالَ فَفَعَلَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. ذِكْرُ مَوْتِ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ وَمُلْكِ ابْنِهِ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ الْمَرْزُبَانُ بْنُ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ بْنِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، رَابِعَ جُمَادَى الْأُولَى، بِمَدِينَةِ جَنَابٍ مِنْ كِرْمَانَ. وَكَانَ سَبَبُ مَسِيرِهِ إِلَيْهَا أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَوَّلَ فِي وِلَايَةِ كِرْمَانَ حَرْبًا وَخَرَابًا عَلَى بَهْرَامَ بْنِ لَشْكَرِسْتَانَ الدَّيْلَمِيِّ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِ مَالًا، فَتَرَاخَى بَهْرَامُ فِي تَحْرِيرِ الْأَمْرِ،

وَأَحَالَهُ إِلَى الْمُغَالَظَةِ وَالْمُدَافَعَةِ، فَشَرَعَ حِينَئِذٍ أَبُو كَالِيجَارَ فِي إِعْمَالِ الْحِيلَةِ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ قَلْعَةَ بَرَدْسِيرَ مِنْ يَدِهِ، وَهِيَ مَعْقِلُهُ الَّذِي يَحْتَمِي بِهِ وَيُعَوِّلُ عَلَيْهِ، فَرَاسَلَ بَعْضَ مَنْ بِهَا مِنَ الْأَجْنَادِ وَأَفْسَدَهُمْ، فَعَلِمَ بِهِمْ بَهْرَامُ فَقَتَلَهُمْ، وَزَادَ نُفُورُهُ وَاسْتِشْعَارُهُ، وَأَظْهَرَ ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَبَلَغَ قَصْرَ مُجَاشِعٍ فَوَجَدَ فِي حَلْقِهِ خُشُونَةً، فَلَمْ يُبَالِ بِهَا، وَشَرِبَ وَتَصَيَّدَ وَأَكَلَ مِنْ كَبِدِ غَزَالٍ مَشْوِيٍّ، وَاشْتَدَّتْ عِلَّتُهُ وَلَحِقَهُ حُمَّى، وَضَعُفَ عَنِ الرُّكُوبِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْمُقَامُ لِعَدَمِ الْمِيرَةِ بِذَلِكَ الْمَنْزِلِ، فَحُمِلَ فِي مِحَفَّةٍ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ إِلَى مَدِينَةِ جَنَابٍ، فَتُوُفِّيَ بِهَا، وَكَانَ عُمُرُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَشُهُورًا، وَكَانَ مُلْكُهُ بِالْعِرَاقِ بَعْدَ وَفَاةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ أَرْبَعَ سِنِينَ وَشَهْرَيْنِ وَنَيِّفًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَلَمَّا تُوُفِّيَ نَهَبَ الْأَتْرَاكُ مِنَ الْعَسْكَرِ الْخَزَائِنَ وَالسِّلَاحَ وَالدَّوَابَّ، وَانْتَقَلَ وَلَدُهُ أَبُو مَنْصُورٍ فَلَاسْتُونُ إِلَى مُخَيَّمِ الْوَزِيرِ أَبِي مَنْصُورٍ، وَكَانَتْ مُنْفَرِدَةً عَنِ الْعَسْكَرِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ، وَأَرَادَ الْأَتْرَاكُ نَهْبَ الْوَزِيرِ وَالْأَمِيرِ، فَمَنَعَهُمُ الدَّيْلَمُ، وَعَادُوا إِلَى شِيرَازَ، فَمَلَكَهَا الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَاسْتَشْعَرَ الْوَزِيرُ، فَصَعِدَ إِلَى قَلْعَةِ خُرْمَةَ فَامْتَنَعَ بِهَا. فَلَمَّا وَصَلَ خَبَرُ وَفَاتِهِ إِلَى بَغْدَاذَ وَبِهَا وَلَدُهُ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ أَبُو نَصْرٍ خُرَّةُ فَيْرُوزُ أَحْضَرَ الْجُنْدَ وَاسْتَحْلَفَهُمْ، وَرَاسَلَ الْخَلِيفَةَ الْقَائِمَ بِأَمْرِ اللَّهِ فِي مَعْنَى الْخُطْبَةِ لَهُ وَتَلْقِيبِهِ بِالْمَلِكِ الرَّحِيمِ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ أُجِيبَ إِلَى مُلْتَمَسِهِ سِوَى الْمَلِكِ الرَّحِيمِ، فَإِنَّ الْخَلِيفَةَ امْتَنَعَ مِنْ إِجَابَتِهِ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَقَّبَ بِأَخَصِّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ بِالْعِرَاقِ، وَخُوزِسْتَانَ، وَالْبَصْرَةِ، وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ أَخُوهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي كَالِيجَارَ. وَخَلَّفَ أَبُو كَالِيجَارَ مِنَ الْأَوْلَاد ِ: الْمَلِكَ الرَّحِيمَ، وَالْأَمِيرَ أَبَا مَنْصُورٍ فَلَاسَ، وَأَبَا طَالِبٍ كَامِرُّو، وَأَبَا الْمُظَفَّرِ بَهْرَامَ، وَأَبَا عَلِيٍّ كِيخُسْرُو، وَأَبَا سَعْدٍ خُسْرُوشَاهْ، وَثَلَاثَةَ بَنِينَ أَصَاغِرَ، فَاسْتَوْلَى ابْنُهُ أَبُو مَنْصُورٍ عَلَى شِيرَازَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ أَخَاهُ أَبَا سَعْدٍ فِي عَسْكَرٍ، فَمَلَكُوا شِيرَازَ وَخَطَبُوا لِلْمَلِكِ الرَّحِيمِ، وَقَبَضُوا عَلَى الْأَمِيرِ أَبِي مَنْصُورٍ وَوَالِدَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَوَّال ٍ. ذِكْرُ مُحَاصِرَةِ الْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ مَدِينَةَ حَلَبَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ وَصَلَتْ عَسَاكِرُ مِصْرَ إِلَى حَلَبَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ فَحَصَرُوهَا وَبِهَا مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلْوَانَ ثَمَالُ بْنُ صَالِحٍ الْكِلَابِيُّ، فَجَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا بَلَغُوا خَمْسَةَ آلَافِ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَلَمَّا نَزَلُوا عَلَى حَلَبَ خَرَجَ إِلَيْهِمْ ثَمَالُ، وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا صَبَرَ فِيهِ لَهُمْ إِلَى اللَّيْلِ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَلَدَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ اقْتَتَلُوا إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، وَصَبَرَ أَيْضًا ثَمَالُ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا الْيَوْمَ الثَّالِثَ. فَلَمَّا رَأَى الْمِصْرِيُّونَ صَبْرَ ثَمَالَ، وَكَانُوا ظَنُّوا أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُومُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، رَحَلُوا عَنِ الْبَلَدِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ جَاءَ مَطَرٌ عَظِيمٌ لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ، فَجَاءَتِ الْمُدُودُ إِلَى مَنْزِلِهِمْ، فَبَلَغَ الْمَاءُ مَا يُقَارِبُ قَامَتَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَرْحَلُوا لَغَرِقُوا، ثُمَّ رَحَلُوا إِلَى الشَّامِ الْأَعْلَى. ذِكْرُ الْخُلْفِ بَيْنَ قِرْوَاشٍ وَالْأَكْرَادِ الْحُمَيْدِيَّةِ وَالْهَذْبَانِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اخْتَلَفَ قِرْوَاشٌ وَالْأَكْرَادُ الْحُمَيْدِيَّةُ وَالْهَذْبَانِيَّةُ، وَكَانَ لِلْحُمَيْدِيَّةِ عِدَّةُ حُصُونٍ تُجَاوِرُ الْمَوْصِلَ، مِنْهَا الْعُقْرُ وَمَا قَارَبَهَا، وَلِلْهَذْبَانِيَّةِ قَلْعَةُ إِرْبِلَ وَأَعْمَالُهَا، وَكَانَ صَاحِبُ الْعُقْرِ حِينَئِذٍ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ عَيْسَكَانَ الْحُمَيْدِيَّ، وَصَاحِبُ إِرْبِلَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مُوسَكَ الْهَذْبَانِيُّ، وَلَهُ أَخٌ اسْمُهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُوسَكَ، فَأَعَانَهُ الْحُمَيْدِيُّ عَلَى أَخْذِ إِرْبِلَ

مِنْ أَخِيهِ أَبِي الْحَسَنِ فَمَلَكَهَا مِنْهُ، وَأَخَذَ صَاحِبَهَا أَبَا الْحَسَنِ أَسِيرًا. وَكَانَ قِرْوَاشٌ وَأَخُوهُ زَعِيمُ الدَّوْلَةِ أَبُو كَامِلٍ بِالْعِرَاقِ مَشْغُولَيْنِ، فَلَمَّا عَادَا إِلَى الْمَوْصِلِ وَقَدْ سَخِطَا هَذِهِ الْحَالَةَ لَمْ يُظْهِرَاهَا، وَأَرْسَلَ قِرْوَاشٌ يَطْلُبُ مِنَ الْحُمَيْدِيِّ وَالْهَذْبَانِيِّ نَجْدَةً لَهُ عَلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَان َ. فَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ الْحُمَيْدِيُّ فَسَارَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا أَبُو عَلِيٍّ الْهَذْبَانِيُّ فَأَرْسَلَ أَخَاهُ، وَاصْطَلَحَ قِرْوَاشٌ وَنَصْرُ الدَّوْلَةِ، وَقَبَضَ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الْحُمَيْدِيِّ، ثُمَّ صَانَعَهُ عَلَى إِطْلَاقِ أَبِي الْحَسَنِ الْهَذْبَانِيِّ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ إِرْبِلَ، وَأَخَذَ إِرْبِلَ مِنْ أَخِيهِ أَبِي عَلِيٍّ وَتَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ أَبُو عَلِيٍّ كَانَ عَوْنًا عَلَيْهِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، وَرَهَنَ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ وَثَلَاثَ قِلَاعٍ مِنْ حُصُونِهِ إِلَى أَنْ يَتَسَلَّمَ إِرْبِلَ، وَأُطْلِقَ مِنَ (الْحَبْسِ) . وَكَانَ أَخٌ لَهُ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى قِلَاعِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهَا وَأَخَذَهَا مِنْهُ، وَعَادَ إِلَى قِرْوَاشٍ وَأَخِيهِ زَعِيمِ الدَّوْلَةِ، فَوَثِقَا بِهِ، وَأَطْلَقَا أَهْلَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ رَاسَلَ أَبَا عَلِيٍّ صَاحِبَ إِرْبِلَ فِي تَسْلِيمِهَا، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، وَحَضَرَ بِالْمَوْصِلِ لِيُسَلِّمَ إِرْبِلَ إِلَى أَخِيهِ أَبِي الْحَسَنِ فَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ لِقِرْوَاش ٍ: إِنَّنِي قَدْ وَفَّيْتُ بِعَهْدِي، فَتُسَلِّمَانِ إِلَيَّ حُصُونِي. فَسَلَّمَا إِلَيْهِ قِلَاعَهُ، وَسَارَ هَ وَأَبُو الْحَسَنِ وَأَبُو عَلِيٍّ الْهَذْبَانِيُّ إِلَى إِرْبِلَ لِيُسَلِّمَاهَا إِلَى أَبِي الْحَسَنِ، فَغَدَرَا بِهِ فِي الطَّرِيقِ، وَكَانَ قَدْ أَحَسَّ بِالشَّرِّ فَتَخَلَّفَ عَنْهُمَا، وَسَيَّرَ مَعَهُمَا أَصْحَابَهُ لِيَتَسَلَّمُوا إِرْبِلَ، فَقَبَضَا عَلَى أَصْحَابِهِ وَطَلَبُوهُ لِيَقْبِضُوهُ، فَهَرَبَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَتَأَكَّدَتِ الْوَحْشَةُ حِينَئِذٍ بَيْنَ الْأَكْرَادِ وَقِرْوَاشٍ وَأَخِيهِ، وَتَقَاطَعُوا، وَأَضْمَرَ كُلٌّ مِنْهُمُ الشَّرَّ لِصَاحِبِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى خُوزِسْتَانَ، فَلَقِيَهُ مَنْ بِهَا مِنَ الْجُنْدِ وَأَطَاعُوهُ، وَفِيهِمْ كُرْشَاسُفُ بْنُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ هَمَذَانَ وَكِنْكِوَرَ، فَإِنَّهُ كَانَ انْتَقَلَ إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ بَعْدَ أَنِ اسْتَوْلَى يَنَّالُ عَلَى أَعْمَالِهِ، وَلَمَّا مَاتَ أَبُو كَالِيجَارَ سَارَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ ابْنُ الْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ طَمَعًا فِي مُلْكِهَا،

فَلَقِيَهُ مَنْ بِهَا مِنَ الْجُنْدِ وَقَاتَلُوهُ وَهَزَمُوهُ، فَعَادَ عَنْهَا، وَكَانَ قَبْلُ ذَلِكَ عِنْدَ قِرْوَاشٍ ثُمَّ عِنْدَ يَنَّالَ، وَلَمَّا سَمِعَ بِاسْتِقَامَةِ الْأُمُورِ لِلْمَلِكِ الرَّحِيمِ انْقَطَعَ أَمَلُهُ، وَلَمَّا سَارَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ عَنْ بَغْدَاذَ كَثُرَتِ الْفِتَنُ بِهَا، وَدَامَتْ بَيْنَ أَهْلِ بَابِ الْأَزَجِّ وَالْأَسَاكِفَةِ، (وَهُمُ السُّنَّةُ) فَأَحْرَقُوا عَقَارًا كَثِيرًا. وَفِيهَا سَارَ سَعْدِي بْنُ أَبِي الشَّوْكِ مِنْ حُلَّةِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ إِلَى إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ بَعْدَ أَنْ رَاسَلَهُ وَتَوَثَّقَ مِنْهُ، وَتَقَرَّرَ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ كُلُّ مَا يَمْلِكُهُ سَعْدِي مِمَّا لَيْسَ بِيَدِ يَنَّالَ وَنُوَّابِهِ فَهُوَ لَهُ، فَسَارَ سَعْدِي إِلَى الدَّسْكَرَةِ، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ بِهَا مِنْ عَسْكَرِ بَغْدَاذَ (حَرْبٌ انْهَزَمُوا [فِيهَا] مِنْهُ، وَمَلَكَهَا وَمَا يَلِيهَا، فَسُيِّرَ إِلَيْهَا عَسْكَرٌ ثَانٍ مِنْ بَغْدَاذَ، فَقَتَلَ مُقَدَّمَهُمْ وَهَزَمَهُمْ، وَسَارَ مِنَ الدَّسْكَرَةِ وَتَوَسَّطَ تِلْكَ الْأَعْمَالَ بِالْقُرْبِ مِنْ بَعْقُوبَا، وَنَهَبَ أَصْحَابُهُ الْبِلَادَ، وَخَطَبُوا لِإِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ. وَفِيهَا كَانَ ابْتِدَاءُ الْوَحْشَةِ بَيْنَ مُعْتَمَدِ الدَّوْلَةِ قِرْوَاشِ بْنِ الْمُقَلِّدِ وَبَيْنَ أَخِيهِ زَعِيمِ الدَّوْلَةِ أَبِي كَامِلِ بْنِ الْمُقَلِّدِ، فَانْضَافَ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ بْنِ الْمُقَلِّدِ إِلَى عَمِّهِ قِرْوَاشٍ، وَجَمَعَ جَمْعًا، وَقَاتَلَ عَمَّهُ أَبَا كَامِلٍ فَظَفِرَ وَنُصِرَ وَانْهَزَمَ أَبُو كَامِلٍ، وَلَمْ يَزَلْ قُرَيْشٌ يُغْرِي قِرْوَاشًا بِأَخِيهِ حَتَّى تَأَكَّدَتِ الْوَحْشَةُ، وَتَفَاقَمَ الشَّرُّ بَيْنَهُمَا. وَفِيهَا خُطِبَ لِلْأَمِيرِ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَلُقِّبَ ذَخِيرَةَ الدِّينِ وَوَلِيَّ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِيهَا فِي رَمَضَانَ قُتِلَ الْأَمِيرُ أَقْسُنْقُرُ بِهَمَذَانَ، قَتَلَهُ الْبَاطِنِيَّةُ لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْغَزْوِ إِلَيْهِمْ، وَالْقَتْلِ فِيهِمْ، وَالنَّهْبِ لِأَمْوَالِهِمْ، وَالتَّخْرِيبِ لِبِلَادِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ قَصَدَ إِنْسَانًا مِنَ الزُّهَّادِ لِيَزُورَهُ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ فَقَتَلُوه ُ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى بْنِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَرُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَأَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ بِجِوَارِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَأَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَيْلَانَ الْبَزَّازُ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَتُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ، وَهُوَ رَاوِي الْأَحَادِيثِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْغَيْلَانِيَّاتِ الَّتِي خَرَّجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ لَهُ، وَهِيَ مِنْ أَعْلَى الْحَدِيثِ وَأَحْسَنِهِ. وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الْوَاعِظُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ شَاهِينَ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَة ٍ. وَفِيهَا كَانَ الْغَلَاءُ وَالْوَبَاءُ عَامًّا فِي الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، بِمَكَّةَ، وَالْعِرَاقِ، وَالْمَوْصِلِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَالشَّامِ، وَمِصْرَ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَاد ِ. وَفِيهَا قُبِضَ بِمِصْرَ عَلَى الْوَزِيرِ فَخْرِ الْمُلْكِ صَدَقَةَ بْنِ يُوسُفَ وَقُتِلَ، وَكَانَ أَوَّلَ أَمْرِهِ يَهُودِيًّا، فَأَسْلَمَ وَاتَّصَلَ بِالدَّزْبَرِيِّ، وَخَدَمَهُ بِالشَّامِ، ثُمَّ خَافَهُ فَعَادَ إِلَى مِصْرَ وَخَدَمَ الْجَرْجَرَائِيَّ الْوَزِيرَ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْجَرْجَرَائِيُّ اسْتَوْزَرَهُ الْمُسْتَنْصِرُ إِلَى الْآنَ، ثُمَّ قَتَلَهُ وَاسْتَوْزَرَ الْقَاضِيَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْيَازُورِيَّ فِي ذِي الْقَعْدَة ِ.

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 441 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ ظُهُورِ الْخُلْفِ بَيْنَ قِرْوَاشٍ وَأَخِيهِ أَبِي كَامِلٍ وَصُلْحِهِمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ الْخُلْفُ بَيْنَ مُعْتَمَدِ الدَّوْلَةِ قِرْوَاشٍ وَبَيْنَ أَخِيهِ زَعِيمِ الدَّوْلَةِ أَبِي كَامِلٍ ظُهُورًا آلَ إِلَى الْمُحَارَبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَبَبُ ذَلِك َ. فَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ وَفَسَدَ الْحَالُ فَسَادًا لَا يُمْكِنُ إِصْلَاحُهُ - جَمَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَمْعًا لِمُحَارَبَةِ صَاحِبِهِ، وَسَارَ قِرْوَاشٌ فِي الْمُحَرَّمِ وَعَبَرَ دِجْلَةَ بِنَوَاحِي بَلَدَ، وَجَاءَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَيْسَكَانَ الْحُمَيْدِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَكْرَادِ، وَسَارُوا إِلَى مَعْلَثَايَا فَأَخْرَبُوا الْمَدِينَةَ وَنَهَبُوهَا، وَنَزَلُوا بِالْمُغِيثَةِ، وَجَاءَ أَبُو كَامِلٍ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَرَبِ وَآلِ الْمُسَيَّبِ، فَنَزَلُوا بِمَرَجِ بَابَنِيثَا، وَبَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ نَحْوُ فَرْسَخٍ، وَاقْتَتَلُوا يَوْمَ السَّبْتِ ثَانِيَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَافْتَرَقُوا مِنْ غَيْرِ ظَفَرٍ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا يَوْمَ الْأَحَدِ كَذَلِكَ، وَلَمْ يُلَابِسِ الْحَرْبَ سُلَيْمَانُ بْنُ مَرْوَانَ، بَلْ كَانَ نَاحِيَةً، وَوَافَقَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْحُمَيْدِيُّ، وَسَارُوا عَنْ قِرْوَاشٍ، وَفَارَقَهُ جَمْعٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَقَصَدُوا أَخَاهُ، فَضَعُفَ أَمْرُ قِرْوَاشٍ، وَبَقِيَ فِي حُلَّتِهِ وَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ، فَرَكِبَتِ الْعَرَبُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي كَامِلٍ لِقَصْدِهِ، فَمَنَعَهُمْ، وَأَسْفَرَ الصُّبْحُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَقَدْ تَسَرَّعَ بَعْضُهُمْ وَنَهَبَ بَعْضًا مِنْ عَرَبِ قِرْوَاشٍ، وَجَاءَ أَبُو كَامِلٍ إِلَى قِرْوَاشٍ وَاجْتَمَعَ بِهِ، وَنَقَلَهُ إِلَى حُلَّتِهِ، وَأَحْسَنَ عِشْرَتَهُ، ثُمَّ أَنْفَذَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَجَعَلَ مَعَهُ بَعْضَ زَوْجَاتِهِ فِي دَارٍ. وَكَانَ مِمَّا فَتَّ فِي عَضُدِ قِرْوَاشٍ وَأَضْعَفَ نَفْسَهُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ قَبَضَ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الصَّيَّادِينَ بِالْأَنْبَارِ لِسُوءِ طَرِيقِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، فَهَرَبَ الْبَاقُونَ مِنْهُمْ، وَبَقِيَ بَعْضُهُمْ

بِالسِّنْدِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ سَارَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى الْأَنْبَارِ، وَتَسَلَّقُوا السُّورَ لَيْلَةَ خَامِسِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَتَلُوا حَارِسًا، وَفَتَحُوا الْبَابَ وَنَادَوْا بِشِعَارِ أَبِي كَامِلٍ، فَانْضَافَ إِلَيْهِمْ أَهْلُوهُمْ وَأَصْدِقَاؤُهُمْ وَمَنْ لَهُ هَوًى فِي أَبِي كَامِلٍ، فَكَثُرُوا، وَثَارَ بِهِمْ أَصْحَابُ قِرْوَاشٍ فَاقْتَتَلُوا، فَظَفِرُوا وَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِ مُعْتَمِدِ الدَّوْلَةِ قِرْوَاشٍ جَمَاعَةً، وَهَرَبَ الْبَاقُونَ، فَبَلَغَهُ خَبَرُ اسْتِيلَاءِ أَخِيهِ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ عَوْدُ أَصْحَابِه ِ. ثُمَّ إِنَّ الْمُسَيَّبَ وَأُمَرَاءَ الْعَرَبِ كَلَّفُوا أَبَا كَامِلٍ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ، وَاشْتَطُّوا عَلَيْهِ، فَخَافَ أَنْ يَؤُولَ الْأَمْرُ بِهِمْ إِلَى طَاعَةِ قِرْوَاشٍ وَإِعَادَتِهِ إِلَى مَمْلَكَتِهِ، فَبَادَرَهُمْ إِلَيْهِ وَقَبَّلَ يَدَهُ وَقَالَ لَه ُ: إِنَّنِي وَإِنْ كُنْتُ أَخَاكَ فَإِنَّنِي عَبْدُكَ، وَمَا جَرَى هَذَا إِلَّا بِسَبَبِ مَنْ أَفْسَدَ رَأْيَكَ فِيَّ، وَأَشْعَرَكَ الْوَحْشَةَ مِنِّي، وَالْآنَ فَأَنْتَ الْأَمِيرُ، وَأَنَا الطَّائِعُ لِأَمْرِكَ وَالتَّابِعُ لَكَ. فَقَا لَهُ قِرْوَاش ٌ: بَلْ أَنْتَ الْأَخُ، وَالْأَمْرُ لَكَ مُسَلَّمٌ، وَأَنْتَ أَقْوَمُ بِهِ مِنِّي. وَصَلَحَ الْحَالُ بَيْنَهُمَا، وَعَادَ قِرْوَاشٌ إِلَى التَّصَرُّفِ عَلَى حُكْمِ اخْتِيَارِه ِ. وَكَانَ أَبُو كَامِلٍ قَدْ أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ غَرِيبِ بْنِ مُقْنٍ حَرْبَى وَأَوَانَا، فَلَمَّا اصْطَلَحَ أَبُو كَامِلٍ وَقِرْوَاشٌ أَرْسَلَا إِلَى حَرْبَى مَنْ مَنَعَ بِلَالًا عَنْهَا، فَتَظَاهَرَ بِلَالٌ (بِالْخِلَافِ عَلَيْهِمَا) وَجَمَعَ إِلَى نَفْسِهِ جَمْعًا وَقَاتَلَ أَصْحَابَ قِرْوَاشٍ، وَأَخَذَ حَرْبَى وَأَوَانَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمَا، فَانْحَدَرَ قِرْوَاشٌ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَيْهِمَا وَحَصَرَهُمَا وَأَخَذَهُمَا. ذِكْرُ مَسِيرِ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ إِلَى شِيرَازَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ سَارَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ مِنَ الْأَهْوَازِ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ، فَوَصَلَهَا، وَخَرَجَ عَسْكَرُ شِيرَازَ إِلَى خِدْمَتِهِ، وَنَزَلَ بِالْقُرْبِ مِنْ شِيرَازَ لِيَدْخُلَ الْبَلَد َ. ثُمَّ إِنَّ الْأَتْرَاكَ الشِّيرَازِيِّينَ وَالْبَغْدَاذِيِّينَ اخْتَلَفُوا، وَجَرَى بَيْنَهُمْ مُنَاوَشَةٌ اسْتَظْهَرَ فِيهَا الْبَغْدَاذِيُّونَ، وَعَادُوا إِلَى الْعِرَاقِ، فَاضْطَرَّ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ إِلَى الْمَسِيرِ مَعَهُمْ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَثِقُ بِالْأَتْرَاكِ الشِّيرَازِيَّة ِ. وَكَانَ دَيْلَمُ بِلَادِ فَارِسَ قَدْ مَالُوا إِلَى أَخِيهِ فُولَاسْتُونَ، وَهُوَ بِقَلْعَةِ إِصْطَخْرَ، فَهُوَ

أَيْضًا مُنْحَرِفٌ عَنْهُمْ، فَاضْطَرَّ إِلَى صُحْبَةِ الْبَغْدَاذِيِّينَ، فَعَادَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَأَقَامَ بِهَا، وَاسْتَخْلَفَ بِأَرَّجَانَ أَخَوَيْهِ أَبَا سَعْدٍ وَأَبَا طَالِبٍ، وَوَقَعَ الْخُلْفُ بِفَارِسَ، فَإِنَّ الْأَمِيرَ أَبَا مَنْصُورٍ فُولَاسْتُونَ، وَكَانَ قَدْ خَلُصَ وَصَارَ بِقَلْعَةِ إِصْطَخْرَ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْعَسْكَرِ الْفَارِسِيِّ، فَلَمَّا عَادَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ إِلَى الْأَهْوَازِ انْبَسَطَ فِي الْبِلَادِ، وَقَصَدَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِ فَارِسَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى أَرَّجَانَ عَازِمًا عَلَى قَصْدِ الْأَهْوَازِ وَأَخْذِهَا. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْبَسَاسِيرِيِّ وَعُقَيْلٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ جَمْعٌ مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ إِلَى بَلَدِ الْعَجَمِ مِنْ أَعْمَالِ الْعِرَاقِ وَبَادُورْيَا، فَنَهَبُوهُمَا وَأَخَذُوا مِنَ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَ، وَكَانَا فِي إِقْطَاعِ الْبَسَاسِيرِيِّ، فَسَارَ مِنْ بَغْدَاذَ بَعْدَ عَوْدِهِ مِنْ فَارِسَ إِلَيْهِمْ، فَالْتَقَوْا هُمْ وَزَعِيمُ الدَّوْلَةِ أَبُو كَامِلِ بْنُ الْمُقَلِّدِ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أَبْلَى الْفَرِيقَانِ فِيهِ بَلَاءً حَسَنًا، (وَصَبَرَا صَبْرًا جَمِيلًا، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفَرِيقَ‍يْنِ) . ذِكْرُ الْوَحْشَةِ بَيْنَ طُغْرُلْبَك وَأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْحَشَ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالُ مِنْ أَخِيهِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَكْ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ طُغْرُلْبَك طَلَبَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ مَدِينَةَ هَمَذَانَ (وَالْقِلَاعَ الَّتِي بِيَدِهِ مِنْ بَلَدِ الْجَبَلِ) فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَاتَّهَمَ وَزِيرَهُ أَبَا عَلِيٍّ بِالسَّعْيِ بَيْنَهُمَا فِي الْفَسَادِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَمَلَ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، وَقَطَعَ شَفَتَيْهِ، وَسَارَ عَنْ طُغْرُلْبَك، وَجَمَعَ جَمْعًا مِنْ عَسْكَرِهِ، وَالْتَقَيَا، وَكَانَ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ قِتَالٌ شَدِيدٌ انْهَزَمَ [فِيهِ] يَنَّالُ وَعَادَ مُنْهَزِمًا، فَسَارَ طُغْرُلْبَك فِي أَثَرِهِ، فَمَلَكَ قِلَاعَهُ وَبِلَادَهُ جَمِيعَهُا.

وَتَحَصَّنَ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالُ بِقَلْعَةِ سَرْمَاجَ، وَامْتَنَعَ عَلَى أَخِيهِ، فَحَصَرَهُ طُغْرُلْبَك فِيهَا، وَكَانَتْ عَسَاكِرُهُ قَدْ بَلَغَتْ مِائَةَ أَلْفٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَسْكَرِ، وَقَاتَلَهُ فَمَلَكَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَهِيَ مِنْ أَحْصَنِ الْقِلَاعِ وَأَمْنَعِهَا، وَاسْتُنْزِلَ يَنَّالُ مِنْهَا مَقْهُورًا، وَأَرْسَلَ إِلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ يَطْلُبُ مِنْهُ إِقَامَةَ الْخُطْبَةِ لَهُ فِي بِلَادِهِ، فَأَطَاعَهُ وَخَطَبَ لَهُ فِي سَائِرِ دِيَارِ بَكْرٍ، وَرَاسَلَ مَلِكَ الرُّومِ طُغْرُلْبَك، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ هَدِيَّةً عَظِيمَةً، وَطَلَبَ مِنْهُ الْمُعَاهَدَةَ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك َ. وَأَرْسَلَ مِلْكُ الرُّومِ إِلَى ابْنِ مَرْوَانَ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْعَى فِي فِدَاءِ مَلِكِ الْأَبْخَازِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ، فَأَرْسَلَ نَصْرُ الدَّوْلَةِ شَيْخَ الْإِسْلَامِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ مَرْوَانَ فِي الْمَعْنَى إِلَى السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك، فَأَطْلَقَهُ بِغَيْرِ فِدَاءٍ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مِلْكِ الرُّومِ، وَأَرْسَلَ عِوَضَهُ مِنَ الْهَدَايَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَعَمَرُوا مَسْجِدَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَأَقَامُوا فِيهِ الصَّلَاةَ وَالْخُطْبَةَ لِطُغْرُلْبَك، وَدَانَ حِينَئِذٍ النَّاسُ كُلُّهُمْ لَهُ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَتَمَكَّنَ مُلْكُهُ وَثَبَت َ. وَلَمَّا نَزَلَ يَنَّالُ إِلَى طُغْرُلْبَك أَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ كَثِيرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْهُ، وَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يُقْطِعَهُ بِلَادًا يَسِيرُ إِلَيْهَا وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ مَعَهُ، فَاخْتَارَ الْمُقَامَ مَعَه ُ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ وَعَسْكَرِ وَاسِطٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ وَبَيْنَ الْأَتْرَاكِ الْوَاسِطِيِّينَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ الرَّحِيمَ أَقْطَعُ نُورَ الدَّوْلَةِ حِمَايَةَ نَهْرِ الصِّلَةِ وَنَهْرِ الْفَضْلِ، وَهُمَا مِنْ إِقْطَاعِ الْوَاسِطِيِّينَ، فَسَارَ إِلَيْهِمَا وَوَلِيَهُمَا، فَسَمِعَ عَسْكَرُ وَاسِطٍ ذَلِكَ فَسَخِطُوهُ، وَاجْتَمَعُوا وَسَارُوا إِلَى نُورِ الدَّوْلَةِ لِيُقَاتِلُوهُ وَيَدْفَعُوهُ عَنْهُمَا، وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَتَهَدَّدُونَهُ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ يَقُول ُ: إِنَّ الْمَلِكَ أَقْطَعَنِي هَذَا، فَنُرْسِلُ إِلَيْهِ أَنَا وَأَنْتُمْ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَمَرَ رَضَا بِه ِ. فَسَبَوْهُ، وَسَارُوا مُجِدِّينَ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى طَرِيقِهِمْ طَائِفَةً مِنْ

عَسْكَرِهِ، فَلَقُوهُمْ، وَكَمَنَ لَهُمْ، فَلَمَّا الْتَقَوُا اسْتَجَرَّهُمُ الْعَرَبُ إِلَى أَنْ جَاوَزُوا الْكَمِينَ، وَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الْكَمِينُ) فَأَوْقَعُوا بِهِمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً كَثِيرَةً، وَأَسَرُوا كَثِيرًا، وَجُرِحَ مِثْلُهُمْ، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْوَاسِطِيِّينَ، وَغَنِمَ نُورُ الدَّوْلَةِ أَمْوَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ، وَسَارُوا إِلَى وَاسِطٍ فَنَزَلُوا بِالْقُرْبِ مِنْهَا. وَأَرْسَلَ الْوَاسِطِيُّونَ إِلَى بَغْدَاذَ يَسْتَنْجِدُونَ جُنْدَهَا، وَيَبْذُلُونَ لِلْبَسَاسِيرِيِّ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُمْ نُورَ الدَّوْلَةِ، وَيَأْخُذَ نَهْرَ الصِّلَةِ وَنَهْرَ الْفَضْلِ لِنَفْسِه ِ. ذِكْرُ وَفَاةِ مَوْدُودِ بْنِ مَسْعُودٍ وَمُلْكِ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّشِيدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ تُوُفِّيَ أَبُو الْفَتْحِ مَوْدُودُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، صَاحِبُ غَزْنَةَ، وَعُمُرُهُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَمُلْكُهُ تِسْعُ سِنِينَ وَعَشَرَةُ أَشْهُرٍ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِغَزْنَةَ، وَكَانَ قَدْ كَاتَبَ أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى نُصْرَتِهِ وَإِمْدَادِهِ بِالْعَسَاكِرِ، وَبَذَلَ لَهُمُ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ، وَتَفْوِيضُ أَعْمَالِ خُرَاسَانَ وَنَوَاحِيهَا إِلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مَرَاتِبِهِمْ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ، مِنْهُمْ أَبُو كَالِيجَارَ صَاحِبُ أَصْبَهَانَ، فَإِنَّهُ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ فِي الْمَفَازَةِ، فَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنْ عَسْكَرِهِ، وَمَرِضَ وَعَاد َ. وَمِنْهُمْ خَاقَانُ مَلِكُ التُّرْكِ، فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى تِرْمِذَ، وَنَهَبَ وَخَرَّبَ، وَصَادَرَ أَهْلَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَسَارَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِمَّا وَرَاءَ النَّهْرِ إِلَى خُوَارَزْم َ. وَسَارَ مَوْدُودٌ مِنْ غَزْنَةَ فَلَمْ يَسْرِ غَيْرَ مَرْحَلَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى عَارَضَهُ قُولَنْجٌ اشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ مَرِيضًا، وَسَيَّرَ وَزِيرَهُ أَبَا الْفَتْحِ عَبْدَ الرَّزَّاقِ بْنَ أَحْمَدَ الْمِيمَنْدِيَّ إِلَى سِجِسْتَانَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ لِأَخْذِهَا مِنَ الْغُزِّ، وَاشْتَدَّتِ الْعِلَّةُ بِمَوْدُودٍ فَتُوُفِّيَ، وَقَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ، فَبَقِيَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ عَدَلَ النَّاسُ عَنْهُ إِلَى عَمِّهِ عَلِيِّ بْنِ مَسْعُودٍ.

وَكَانَ مَوْدُودٌ لَمَّا مَلَكَ قَبَضَ عَلَى عَمِّهِ عَبْدِ الرَّشِيدِ بْنِ مَحْمُودٍ وَسَجَنَهُ فِي قَلْعَةِ مَيْدَيْنَ بِطَرِيقِ بُسْتَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ كَانَ وَزِيرُهُ قَدْ قَارَبَ هَذِهِ الْقَلْعَةَ، فَنَزَلَ عَبْدُ الرَّشِيدِ إِلَى الْعَسْكَرِ وَدَعَاهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، فَأَجَابُوهُ وَعَادُوا مَعَهُ إِلَى غَزْنَةَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا هَرَبَ عَنْهَا عَلِيُّ بْنُ مَسْعُودٍ، وَمَلَكَ عَبْدُ الرَّشِيدِ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لَهُ، وَلُقِّبَ شَمْسَ دِينِ اللَّهِ سَيْفَ الدَّوْلَةِ، وَقِيلَ جَمَالَ الدَّوْلَةِ، وَدَفَعَ اللَّهُ شَرَّ مَوْدُودٍ عَنْ دَاوُدَ، وَهَذِهِ السَّعَادَةُ الَّتِي تَقْتُلُ الْأَعْدَاءَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ وَلَا أَجْنَادٍ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْبَسَاسِيرِيِّ عَلَى الْأَنْبَارِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا فِي ذِي الْقَعْدَةِ مَلَكَ الْبَسَاسِيرِيُّ الْأَنْبَارَ، وَدَخَلَهَا أَصْحَابُه ُ. وَكَانَ سَبَبُ مُلْكِهَا أَنَّ قِرْوَاشًا أَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا، وَمَدَّ يَدَهُ إِلَى أَمْوَالِهِمْ، فَسَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهَا إِلَى الْبَسَاسِيرِيِّ بِبَغْدَاذَ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُنْفِذَ مَعَهُمْ عَسْكَرًا يُسَلِّمُونَ إِلَيْهِ الْأَنْبَارَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَسَيَّرَ مَعَهُمْ جَيْشًا، فَتَسَلَّمُوا الْأَنْبَارَ، وَلَحِقَهُمُ الْبَسَاسِيرِيُّ وَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا وَعَدَلَ فِيهِمْ، وَلَمْ يُمَكِّنْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَأْخُذَ رِطْلَ الْخُبْزِ بِغَيْرِ ثَمَنِهِ، وَأَقَامَ فِيهَا إِلَى أَنْ أَصْلَحَ حَالَهَا وَقَرَّرَ قَوَاعِدَهَا، وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ. ذِكْرُ انْهِزَامِ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ مِنْ عَسْكَرِ فَارِسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ مِنَ الْأَهْوَازِ إِلَى رَامَهُرْمُزَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى وَادِي الْمِلْحِ لَقِيَهُ عَسْكَرُ فَارِسَ، وَاقْتَتَلُوا (قِتَالًا شَدِيدًا، فَغَدَرَ بِالْمَلِكِ الرَّحِيمِ بَعْضُ عَسْكَرِهِ) وَانْهَزَمَ هُوَ وَجَمِيعُ الْعَسْكَرِ، وَوَصَلَ إِلَى بَصَنَّى وَمَعَهُ أَخَوَاهُ أَبُو سَعْدٍ وَأَبُو طَالِبٍ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى وَاسِطٍ، وَسَارَ عَسْكَرُ فَارِسَ إِلَى الْأَهْوَازِ فَمَلَكُوهَا وَخَيَّمُوا بِظَاهِرِهَا.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا وَصَلَ عَسْكَرٌ مِنْ مِصْرَ إِلَى حَلَبَ وَبِهَا صَاحِبُهَا ثَمَالُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ، فَخَافَهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ فَانْصَرَفَ عَنْهَا، فَمَلَكَهَا الْمِصْرِيُّون َ. وَفِيهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ ارْتَفَعَتْ سَحَابَةٌ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ لَيْلًا، فَزَادَتْ ظُلْمَتُهَا عَلَى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظَهَرَ فِي جَوَانِبِ السَّمَاءِ كَالنَّارِ الْمُضْطَرِمَةِ، (وَهَبَّتْ مَعَهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ قَلَعَتْ رَوَاشِنَ دَارِالْخَلِيفَةِ) ، وَشَاهَدَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَزْعَجَهُمْ وَخَوَّفَهُمْ، فَلَزِمُوا الدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ، فَانْكَشَفَتْ فِي بَاقِي اللَّيْل ِ. وَفِيهَا فِي شَعْبَانَ سَارَ الْبَسَاسِيرِيُّ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ، وَقَصَدَ نَاحِيَةَ الدَّزْدَارَ وَمَلَكَهَا وَغَنِمَ مَا فِيهَا، وَكَانَ سَعْدِي بْنُ أَبِي الشَّوْكِ قَدْ مَلَكَهَا، وَقَدْ عَمِلَ لَهَا سُورًا وَحَصَّنَهَا، وَجَعَلَهَا مَعْقِلًا يَتَحَصَّنُ فِيهِ، وَيَدَّخِرُ بِهَا كُلَّ مَا يَغْنَمُهُ، فَأَخَذَهُ الْبَسَاسِيرِيُّ جَمِيعَه ُ. وَفِيهَا مُنِعَ أَهْلُ الْكَرْخِ مِنَ النَّوْحِ وَفِعْلِ مَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِفِعْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَجَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السُّنَّةِ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ قُتِلَ فِيهَا وَجُرِحَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَنْفَصِلِ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ حَتَّى عَبَرَ الْأَتْرَاكُ وَضَرَبُوا خِيَامَهُمْ عِنْدَهُمْ، فَكَفَّوْا حِينَئِذٍ، ثُمَّ شَرَعَ أَهْلُ الْكَرْخِ فِي بِنَاءِ سُورٍ عَلَى الْكَرْخِ، فَلَمَّا رَآهُمُ السُّنَّةُ مِنَ الْقَلَّائِينَ وَمَنْ يَجْرِي مُجْرَاهُمْ شَرَعُوا فِي بِنَاءِ سُورٍ عَلَى سُوقِ الْقَلَّائِينَ، وَأَخْرَجَ الطَّائِفَتَانِ فِي الْعِمَارَةِ مَالًا جَلِيلًا، وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا فِتَنٌ كَثِيرَةٌ، وَبَطَلَتِ الْأَسْوَاقُ وَزَادَ الشَّرُّ، حَتَّى انْتَقَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ فَأَقَامُوا بِهِ، وَتَقَدَّمَ الْخَلِيفَةُ إِلَى أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ النَّسَوِيِّ بِالْعُبُورِ وَإِصْلَاحِ الْحَالِ وَكَفِّ الشَّرِّ، فَسَمِعَ أَهْلُ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ

ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ السُّنَّةُ وَالشِّيعَةُ (عَلَى الْمَنْعِ) مِنْهُ، وَأَذَّنُوا فِي الْقَلَّائِينَ وَغَيْرِهَا بِحَيِّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَأَذَّنُوا فِي الْكَرْخ ِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، وَأَظْهَرُوا التَّرَحُّمَ عَلَى الصَّحَابَةِ، فَطَلَ عُبُورُه ُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيُّ الْحَافِظُ، كَانَ إِمَامًا صَحِبَ عَبْدَ الْغَنِيِّ بْنَ سَعِيدٍ وَتَخَرَّجَ بِهِ، وَمِنْ تَلَامِذَتِهِ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْر ٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَنَقُّلَ الْأَحْوَالِ بِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَن ٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو الْحَسَنِ الْعَتِيقِيُّ، نُسِبَ إِلَى جَدٍّ لَهُ يُسَمَّى عَتِيقًا، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمَائَة ٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْفَائِزِ عَبْدُ الْوَهَّابِ ابْنُ أَقْضَى الْقُضَاةِ أَبِي الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيِّ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَبِلَهَا الْقَاضِي فِي بَيْتِ النُّوبَةِ، وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مَعَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ مَعَهُ هَذَا احْتِرَامًا لِأَبِيه ِ.

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 442 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ طُغْرُلْبَك أَصْبَهَانَ كَانَ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ صَاحِبُ أَصْبَهَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك، كَانَ يُكْثِرُ التَّلَوُّنَ مَعَهُ، تَارَةً يُطِيعُهُ وَيَنْحَازُ إِلَيْهِ، وَتَارَةً يَنْحَرِفُ عَنْهُ وَيُطِيعُ الْمَلِكَ الرَّحِيمَ، فَأَضْمَرَ لَهُ طُغْرُلْبَك سُوءًا، فَلَمَّا عَادَ هَذِهِ الدَّفْعَةَ مِنْ خُرَاسَانَ لِأَخْذِ الْبِلَادِ الْجَبَلِيَّةِ مِنْ أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ - عَدَلَ إِلَى أَصْبَهَانَ عَازِمًا عَلَى أَخْذِهَا مِنْ أَبِي مَنْصُورٍ، فَسَمِعَ ذَلِكَ، فَتَحَصَّنَ بِبَلَدِهِ وَاحْتَمَى بِأَسْوَارِهِ، وَنَازَلَهُ طُغْرُلْبَك فِي الْمُحَرَّمِ، وَأَقَامَ عَلَى مُحَاصَرَتِهِ نَحْوَ سَنَةٍ، وَكَثُرَتِ الْحُرُوبُ بَيْنَهُمَا، إِلَّا أَنْ طُغْرُلْبَك قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى سَوَادِ الْبَلَدِ، وَأَرْسَلَ سَرِيَّةً مِنْ عَسْكَرِهِ نَحْوَ فَارِسَ، فَبَلَغُوا إِلَى الْبَيْضَاءِ، فَأَغَارُوا عَلَى السَّوَادِ هُنَاكَ وَعَادُوا غَانِمِينَ. وَلَمَّا طَالَ الْحِصَارُ عَلَى أَصْبَهَانَ، وَأَخْرَبَ أَعْمَالَهَا - ضَاقَ الْأَمْرُ بِصَاحِبِهَا وَأَهْلِهَا، وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَبْذُلُونَ لَهُ الطَّاعَةَ وَالْمَالَ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْنَعْ مِنْهُمْ إِلَّا بِتَسْلِيمِ الْبَلَدِ، فَصَبَرُوا حَتَّى نَفِدَتِ الْأَقْوَاتُ، وَامْتَنَعَ الصَّبْرُ، وَانْقَطَعَتِ الْمَوَادُّ، وَاضْطَرَّ النَّاسُ حَتَّى نَقَضُوا الْجَامِعَ، وَأَخَذُوا أَخْشَابَهُ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى الْحَطَبِ، فَحَيْثُ بَلَغَ بِهِمُ الْحَالُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ خَضَعُوا لَهُ وَاسْتَكَانُوا، وَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ، فَدَخَلَهُ وَأَخْرَجَ أَجْنَادَهُ مِنْهُ وَأَقْطَعَهُمْ فِي بِلَادِ الْجَبَلِ، وَأَحْسَنَ إِلَى الرَّعِيَّةِ، وَأَقْطَعَ صَاحِبَهَا أَبَا مَنْصُورٍ نَاحِيَتَيْ يَزْدَ وَأَبَرْقُويَةَ، وَتَمَكَّنَ مِنْ أَصْبَهَانَ وَدَخَلَهَا فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَاسْتَطَابَهَا، وَنَقَلَ مَا كَانَ لَهُ بِالرَّيِّ مِنْ مَالٍ وَذَخَائِرَ وَسِلَاحٍ إِلَيْهَا، وَجَعَلَهَا

دَارَ مُقَامِهِ، وَخَرَّبَ قِطْعَةً مِنْ سُورِهَا، وَقَالَ: وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى الْأَسْوَارِ مَنْ تَضْعُفُ قُوَّتُهُ، فَأَمَّا مَنْ حِصْنُهُ عَسَاكِرُهُ وَسَيْفُهُ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهَا. ذِكْرُ عَوْدِ عَسَاكِرِ فَارِسَ مِنَ الْأَهْوَازِ وَعَوْدِ الرَّحِيمِ إِلَيْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ عَادَتْ عَسَاكِرُ فَارِسَ الَّتِي مَعَ الْأَمِيرِ أَبِي مَنْصُورٍ صَاحِبِهَا عَنِ الْأَهْوَازِ إِلَى فَارِسَ. وَسَبَبُ هَذَا الْعَوْدِ أَنَّ الْأَجْنَادَ اخْتَلَفُوا وَشَغَبُوا وَاسْتَطَالُوا، وَعَادَ بَعْضُهُمْ إِلَى فَارِسَ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِمْ، وَأَقَامَ بَعْضُهُمْ مَعَهُ، وَسَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَلِكِ الرَّحِيمِ وَهُوَ بِالْأَهْوَازِ، يَطْلُبُونَهُ لِيَعُودَ إِلَيْهِمْ، فَعَادَ فِيمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَغْدَاذَ يَأْمُرُ الْعَسَاكِرَ الَّتِي فِيهَا بِالْحُضُورِ عِنْدَهُ لِيَسِيرَ بِهِمْ إِلَى فَارِسَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْأَهْوَازِ لَقِيَهُ الْعَسَاكِرُ مُقِرِّينَ بِالطَّاعَةِ، وَأَخْبَرُوهُ بِطَاعَةِ عَسَاكِرِ فَارِسَ، وَأَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ قُدُومَهُ، فَدَخَلَ الْأَهْوَازَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَتَوَقَّفَ بِالْأَهْوَازِ يَنْتَظِرُ عَسَاكِرَ بَغْدَاذَ، ثُمَّ سَارَ عَنْهَا إِلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ فَمَلَكَهَا وَأَقَامَ بِهَا. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ زَعِيمِ الدَّوْلَةِ عَلَى مَمْلَكَةِ أَخِيهِ قِرْوَاشٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى الْأُولَى اسْتَوْلَى زَعِيمُ الدَّوْلَةِ أَبُو كَامِلٍ بَرَكَةُ بْنُ الْمُقَلَّدِ عَلَى أَخِيهِ قِرْوَاشٍ وَحَجَرَ عَلَيْهِ، وَمَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ عَلَى اخْتِيَارِه ِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قِرْوَاشًا كَانَ قَدْ أَنِفَ مِنْ تَحَكُّمِ أَخِيهِ فِي الْبِلَادِ، وَأَنَّهُ قَدْ صَارَ لَا حُكْمَ لَهُ، فَعَمِلَ عَلَى الِانْحِدَارِ إِلَى بَغْدَاذَ وَمُفَارَقَةِ أَخِيهِ، وَسَارَ عَنِ الْمَوْصِلِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى بَرَكَةَ وَعَظُمَ عِنْدَه ُ.

ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ نَفَرًا مِنْ أَعْيَانٍ يُشِيرُونَ عَلَيْهِ بِالْعَوْدِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَيُحَذِّرُونَهُ مِنَ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ، فَلَمَّا بَلَّغُوهُ ذَلِكَ امْتَنَعَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: أَنْتَ مَمْنُوعٌ عَنْ فِعْلِكَ وَالرَّأْيُ لَكَ الْقَبُولُ وَالْعَوْدُ مَا دَامَتِ الرَّغْبَةُ إِلَيْكَ. فَعَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يُمْنَعُ قَهْرًا، فَأَجَابَ إِلَى الْعَوْدِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَسْكُنَ دَارَ الْإِمَارَةِ بِالْمَوْصِلِ، وَسَارَ مَعَهُمْ، فَلَمَّا قَارَبَ حِلَّةَ أَخِيهِ زَعِيمِ الدَّوْلَةِ لَقِيَهُ وَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ، فَهَرَبَ أَصْحَابُهُ وَأَهْلُهُ خَوْفًا، فَأَمَنَّهُمْ زَعِيمُ الدَّوْلَةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ وَخَدَمَهُ وَأَظْهَرَ لَهُ الْخِدْمَةَ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ مَنْ يَمْنَعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ عَلَى اخْتِيَارِهِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْغُزِّ عَلَى مَدِينَةِ فَسَا وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى سَارَ الْمَلِكُ أَلْبُ أَرْسِلَانَ بْنُ دَاوُدَ أَخِي طُغْرُلْبَك مِنْ مَدِينَةِ مَرْوَ بِخُرَاسَانَ، وَقَصَدَ بِلَادَ فَارِسَ فِي الْمَفَازَةِ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ، وَلَا أَعْلَمَ عَمَّهُ طُغْرُلْبَك، فَوَصَلَ إِلَى مَدِينَةِ فَسَا، فَانْصَرَفَ النَّائِبُ بِهَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَدَخَلَهَا أَلْبُ أَرْسِلَانَ، فَقَتَلَ مِنَ الدَّيْلَمِ بِهَا أَلْفَ رَجُلٍ وَعَدَدًا كَثِيرًا مِنَ الْعَامَّةِ، وَنَهَبُوا مَا قَدْرُهُ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَسَرُوا ثَلَاثَةَ آلَافِ إِنْسَانٍ، وَكَانَ الْأَمْرُ عَظِيمًا. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ عَادُوا إِلَى خُرَاسَانَ، وَلَمْ يَلْبَثُوا خَوْفًا مِنْ طُغْرُلْبَك أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَيَأْخُذَ مَا غَنِمُوهُ مِنْهُم ْ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْخَوَارِجِ عَلَى عُمَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى الْخَوَارِجُ الْمُقِيمُونَ بِجِبَالِ عُمَانَ عَلَى مَدِينَةِ تِلْكَ الْوِلَايَة ِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهَا الْأَمِيرَ أَبَا الْمُظَفَّرِ ابْنَ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ كَانَ مُقِيمًا بِهَا، وَمَعَهُ خَادِمٌ لَهُ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى (الْأُمُورِ، وَحَكَمَ عَلَى) الْبِلَادِ، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا، فَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، فَنَفَرُوا مِنْهُ وَأَبْغَضُوه ُ. وَعَرَفَ إِنْسَانٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ رَاشِدٍ الْحَالَ، فَجَمَعَ مَنْ عِنْدِهِ مِنْهُمْ، فَقَصَدَ الْمَدِينَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ أَبُو الْمُظَفَّرِ فِي عَسَاكِرِهِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَتِ الْخَوَارِجُ، وَعَادُوا إِلَى مَوْضِعِهِمْ.

وَأَقَامَ ابْنُ رَاشِدٍ مُدَّةً يَجْمَعُ وَيَحْتَشِدُ، ثُمَّ سَارَ ثَانِيًا، وَقَاتَلَهُ الدَّيْلَمُ، فَأَعَانَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ لِسُوءِ سِيرَةِ الدَّيْلَمِ فِيهِمْ، فَانْهَزَمَ الدَّيْلَمُ، وَمَلَكَ ابْنُ رَاشِدٍ الْبَلَدَ، وَقَتَلَ الْخَادِمَ وَكَثِيرًا مِنَ الدَّيْلَمِ، وَقَبَضَ عَلَى الْأَمِيرِ أَبِي الْمُظَفَّرِ وَسَيَّرَهُ إِلَى جِبَالِهِ مُسْتَظْهِرًا عَلَيْهِ، وَسَجَنَ مَعَهُ كُلَّ مَنْ خَطَّ بِقَلَمٍ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَأَصْحَابَ الْأَعْمَالِ، وَأَخْرَبَ دَارَ الْإِمَارَةِ وَقَال َ: هَذِهِ أَحَقُّ دَارٍ بِالْخَرَابِ! وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ، وَأَسْقَطَ الْمُكُوسَ، وَاقْتَصَرَ عَلَى رَفْعِ عُشْرِ مَا يَرِدُ إِلَيْهِمْ، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ، وَتَلَقَّبَ بِالرَّاشِدِ بِاللَّهِ، وَلَبِسَ الصُّوفَ، وَبَنَى مَوْضِعًا عَلَى شَكْلِ مْجِدٍ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ تَحَرَّكَ أَيْضًا أَيَّامَ أَبِي الْقَاسِمِ (بْنِ مُكْرَمٍ) ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ أَبُو الْقَاسِمِ مَنْ مَنَعَهُ وَحَصَرَهُ وَأَزَالَ طَمَعَه ُ. ذِكْرُ دُخُولِ الْعَرَبِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَتِ الْعَرَبُ إِلَى إِفْرِيقِيَّة َ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعِزَّ بْنَ بَادِيسَ كَانَ خَطَبَ لِلْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ الْمُسْتَنْصِرِ الْعَلَوِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ كَتَبَ إِلَيْهِ الْمُسْتَنْصِرُ الْعَلَوِيُّ يَتَهَدَّدُهُ، فَأَغْلَظَ الْمُعِزُّ فِي الْجَوَاب ِ. ثُمَّ إِنَّ الْمُسْتَنْصِرَ اسْتَوْزَرَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ الْيَازُورِيَّ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْوِزَارَةِ، إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَهْلِ التِّنَايَةِ وَالْفِلَاحَةِ، فَلَمْ يُخَاطِبْهُ الْمُعِزُّ كَمَا كَانَ يُخَاطِبُ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْوُزَرَاءِ، كَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِعَبْدِهِ، فَخَاطَبَ الْيَازُورِيَّ بِصَنِيعَتِهِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَعَاتَبَهُ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى مَا يُحِبُّ، فَأَكْثَرَ الْوَقِيعَةَ فِي الْمُعِزِّ، وَأَغْرَى بِهِ الْمُسْتَنْصِرَ، وَشَرَعُوا فِي إِرْسَالِ الْعَرَبِ إِلَى الْغَرْبِ، فَأَصْلَحُوا بَنِي زُغْبَةَ وَرِيَاحٍ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ وَحُقُودٌ، وَأَعْطَوْهُمْ مَالًا، وَأَمَرُوهُمْ بِقَصْدِ بِلَادِ الْقَيْرَوَانِ، وَمَلَّكُوهُمْ كُلَّ مَا يَفْتَحُونَهُ،

وَوَعَدُوهُمْ بِالْمَدَدِ وَالْعُدَد ِ. فَدَخَلَتِ الْعَرَبُ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَتَبَ الْيَازُورِيُّ إِلَى الْمُعِز ِّ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ خُيُولًا فُحُولًا، وَحَمَلْنَا عَلَيْهَا رِجَالًا كُهُولًا، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا. فا حَلُّوا أَرْضَ بَرْقَةَ وَمَا وَالَاهَا وَجَدُوا بِلَادًا كَثِيرَةَ الْمَرْعَى خَالِيَةً مِنَ الْأَهْلِ ; لِأَنَّ زِنَاتَةَ كَانُوا أَهْلَهَا فَأَبَادَهُمُ الْمُعِزُّ، فَأَقَامَتِ الْعَرَبُ بِهَا وَاسْتَوْطَنَتْهَا، وَعَاثُوا فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ. وَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُعِزَّ فَاحْتَقَرَهُمْ. وَكَانَ الْمُعِزُّ لَمَّا رَأَى تَقَاعُدَ صِنْهَاجَةَ عَنْ قِتَالِ زِنَاتَةَ اشْتَرَى الْعَبِيدَ، وَأَوْسَعَ لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ مَمْلُوكٍ. وَكَانَتْ عَرَبُ زُغْبَةَ قَدْ مَلَكَتْ مَدِينَةَ طَرَابُلُسَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، فَتَتَابَعَتْ رِيَاحٌ وَالْأَثْبَجُ وَبَنُو عَدِيٍّ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَقَطَعُوا السَّبِيلَ وَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ، وَأَرَادُوا الْوُصُولَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَقَالَ مُؤْنِسُ بْنُ يَحْيَى الْمِرْدَاسِيُّ: لَيْسَ الْمُبَادَرَةُ عِنْدِي بِرَأْيٍ. فَقَالُوا: كَيْفَ تُحِبُّ أَنْ تَصْنَعَ؟ فَأَخَذَ بِسَاطًا فَبَسَطَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُم ْ: مَنْ يَدْخُلُ إِلَى وَسَطِ الْب مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْشِيَ عَلَيْهِ؟ قَالُوا: لَا نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ! قَال َ: فَهَكَذَا الْقَيْرَوَانُ، خُذُوا شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا الْقَيْرَوَانُ، فَخُذُوهَا حِينَئِذٍ. فَقَالُوا: إِنَّكَ لَشَيْخُ اوَأَمِيرُهَا، وَأَنْتَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْنَا، وَلَسْنَا نَقْطَعُ أَمْرًا دُونَك َ. ثُمَّ قَدِمَ أُمَرَاءُ الْعَرَبِ إِلَى الْمُعِزِّ فَأَكْرَمَهُمْ وَبَذَلَ لَهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ لَمْ يُجَازُوهُ بِمَا فَعَلَ مِنَ الْإِحْسَانِ، بَلْ شَنُّوا الْغَارَاتِ، وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ، وَأَفْسَدُوا الزُّرُوعَ، وَقَطَعُوا الثِّمَارَ، وَحَاصَرُوا الْمُدُنَ، فَضَاقَ بِالنَّاسِ الْأَمْرُ وَسَاءَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَانْقَطَعَتْ أَسْفَارُهُمْ، وَنَزَلَ بِإِفْرِيقِيَّةَ بَلَاءٌ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا مِثْلُهُ قَطُّ، فَحِينَئِذٍ احْتَفَلَ الْمُعِزُّ وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ، فَكَانُوا ثَلَاثِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَمِثْلُهَا رَجَّالَةٌ، وَسَارَ حَتَّى أَتَى جَنْدِرَانَ، وَهُوَ جَبَلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَيْرَوَانِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَكَانَتْ عُدَّةُ الْعَرَبِ ثَلَاثَةَ آلَافِ فَارِسٍ، فَلَمَّا

رَأَتِ الْعَرَبُ عَسَاكِرَ صِنْهَاجَةَ وَالْعَبِيدَ مَعَ الْمُعِزِّ هَالَهُمْ ذَلِكَ، وَعَظُمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ مُؤْنِسُ بْنُ يَحْيَى: مَا هَذَا يَوْمُ فِرَارٍ. فَقَالُوا: أَيْنَ نَطْعَنُ هَؤُلَاءِ وَقَدْ لَبِسُوا الْكُزَادَاتِ وَالْمَغَافِرَ؟ قَال َ: فِي أَعْيُنِهِمْ. فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْعَيْنِ. وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، فَاتَّفَقَتْ صِنْهَاجَةُ عَلَى الْهَزِيمَةِ وَتَرْكِ الْمُعِزِّ مَعَ الْعَبِيدِ حَتَّى يَرَى فِعْلَهُمْ، وَيُقْتَلَ أَكْثَرُهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْجِعُونَ عَلَى الْعَرَبِ، فَانْهَزَمَتْ صِنْهَاجَةُ وَثَبَتَ الْعَبِيدُ مَعَ الْمُعِزِّ، فَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأَرَادَتْ صِنْهَاجَةُ الرُّجُوعَ عَلَى الْعَرَبِ فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّتِ الْهَزِيمَةُ، وَقُتِلَ مِنْ صِنْهَاجَةَ أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَدَخَلَ الْمُعِزُّ الْقَيْرَوَانَ مَهْزُومًا، عَلَى كَثْرَةِ مَنْ مَعَهُ، وَأَخَذَتِ الْعَرَبُ الْخَيْلَ وَالْخِيَامَ وَمَا فِيهَا مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ يَقُولُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَإِنَّ ابْنَ بَادِيسٍ لَأَفْضَلُ مَالِكٍ ... وَلَكِنْ لَعَمْرِي مَا لَدَيْهِ رِجَالُ ثَلَاثُونَ أَلْفًا مِنْهُمُ غَلَبَتْهُمُ ... ثَلَاثَةُ أَلْفٍ إِنَّ ذَا لَمُحَالُ وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ الْمُعِزُّ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَسَارَ إِلَى الْعَرَبِ جَرِيدَةً، وَسَبَقَ خَبَرَهُ، وَهَجَمَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، فَرَكِبَتِ الْعَرَبُ خُيُولَهُمْ وَحَمَلَتْ، فَانْهَزَمَتْ صِنْهَاجَةُ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ عَالَمٌ كَثِيرٌ. ثُمَّ جَمَعَ الْمُعِزُّ وَخَرَجَ بِنَفْسِهِ فِي صِنْهَاجَةَ وَزِنَاتَةَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى بُيُوتِ الْعَرَبِ، وَهُوَ قِبْلِيُّ جَبَلِ جَنْدِرَانَ - (انْتَشَبَ الْقِتَالُ) ، وَاشْتَعَلَتْ نِيرَانُ الْحَرْبِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ سَبْعَةَ آلَافِ فَارِسٍ، فَانْهَزَمَتْ (صِنْهَاجَةُ، وَوَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَانْهَزَمَتْ) زِنَاتَةُ، وَثَبَتَ الْمُعِزُّ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ عَبِيدِهِ ثَبَاتًا عَظِيمًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ

انْهَزَمَ وَعَادَ إِلَى الْمَنْصُورِيَّةِ. وَأُحْصِيَ مَنْ قُتِلَ مِنْ صِنْهَاجَةَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَكَانُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَثَلَاثَمَائَة ٍ. ثُمَّ أَقْبَلَتِ الْعَرَبُ حَتَّى نَزَلَتْ بِمُصَلَّى الْقَيْرَوَانِ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ، فَقُتِلَ مِنَ الْمَنْصُورِيَّةِ وَرَقَّادَةَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمُعِزُّ أَبَاحَهُمْ دُخُولَ الْقَيْرَوَانِ لِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ، فَلَمَّا دَخَلُوا اسْتَطَالَتْ عَلَيْهِمُ الْعَامَّةُ، وَوَقَعَتْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ كَانَ سَبَبُهَا فِتْنَةً بَيْنَ إِنْسَانٍ عَرَبِيٍّ وَآخَرَ عَامِيٍّ، وَكَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْعَرَبِ. وَفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] بُنِيَ سُورُ زُوَيْلَةَ وَالْقَيْرَوَانِ، وَفِي سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ حَاصَرَتِ الْعَرَبُ الْقَيْرَوَانَ، وَمَلَكَ مُؤْنِسُ بْنُ يَحْيَى مَدِينَةَ بَاجَةَ، وَأَشَارَ الْمُعِزُّ عَلَى الرَّعِيَّةِ بِالِانْتِقَالِ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ لِعَجْزِهِ عَنْ حِمَايَتِهِمْ مِنَ الْعَرَب ِ. وَشَرَعَتِ الْعَرَبُ فِي هَدْمِ الْحُصُونِ وَالْقُصُورِ، وَقَطَّعُوا الثِّمَارَ وَخَرَّبُوا الْأَنْهَارَ، وَأَقَامَ الْمُعِزُّ وَالنَّاسُ يَنْتَقِلُونَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ، فَعِنْدَهَا انْتَقَلَ الْمُعِزُّ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ فِي شَعْبَانَ، فَتَلَقَّاهُ ابْنُهُ تَمِيمٌ، وَمَشَى بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ وَلَّاهُ الْمَهْدِيَّةَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ قَدِمَ أَبُوهُ الْآن َ. وَفِي رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ نَهَبَتِ الْعَرَبُ الْقَيْرَوَان َ. وَفِي سَنَةِ خَمْسِينَ خَرَجَ بُلُكِّينُ وَمَعَهُ الْعَرَبُ لِحَرْبِ زِنَاتَةَ، فَقَاتَلَهُمْ، فَانْهَزَمَتْ زِنَاتَةُ وَقُتِلَ مِنْهَا عَدَدٌ كَثِيرٌ. وَفِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ (وَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْعَرَبِ وَهَوَّارَةَ، فَانْهَزَمَتْ هَوَّارَةُ وَقُتِلَ مِنْهَا الْكَثِيرُ. وَفِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ) قَتَلَ أَهْلُ تَقْيُوسَ مِنَ الْعَرَبِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا،

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ دَخَلَتِ الْمَدِينَةَ مُتَسَوِّقَةً، فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ رَجُلًا مُتَقَدِّمًا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، لِأَنَّهُ سَمِعَهُ يُثْنِي عَلَى الْمُعِزِّ وَيَدْعُو لَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ ثَارَ أَهْلُ الْبَلَدِ بِالْعَرَبِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمُ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَدَثَ فِيهَا، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ مُتَتَابِعًا لِيَكُونَ أَحْسَنَ لِسِيَاقَتِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ وَتَخَلَّلَتْهُ الْحَوَادِثُ فِي السِّنِينَ لَمْ يُفْهَم ْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا سَارَ الْمُهَلْهِلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِنَّازٍ أَخُو أَبِي الشَّوْكِ إِلَى السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَقَرَّهُ عَلَى إِقْطَاعِهِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ السِّيرَوَانُ، وَدَقُوقَا، وَشَهْرَزُورُ، وَالصَّامَغَانُ، وَشَفَّعَهُ فِي أَخِيهِ سُرْخَابٍ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِنَّازٍ، وَكَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ طُغْرُلْبَك، وَسَارَ سُرْخَابٌ إِلَى قَلْعَةِ الْمَاهَكِيِّ، وَهِيَ لَهُ، وَأَقْطَعَ سَعْدِي بْنَ أَبِي الشَّوْكِ الرَّاوَنْدَيْنِ. وَفِيهَا قَبَضَ الْمُسْتَنْصِرُ بِمِصْرَ عَلَى أَبِي الْبَرَكَاتِ عَمِّ أَبِي الْقَاسِمِ الْجَرْجَرَائِيِّ، وَاسْتَوْزَرَ الْقَاضِيَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْيَازُورِيَّ، وَيَازُورُ: مِنْ أَعْمَالِ الرَّمْلَةِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَة ٍ. وَفِيهَا فِي شَعْبَانَ تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْقَزْوِينِيُّ الزَّاهِدُ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ، رَوَى الْحَدِيثَ وَالْحِكَايَاتِ وَالْأَشْعَارَ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ نُبَاتَةَ شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ نُبَاتَة َ:

وَإِذَا عَجَزْتَ عَنِ الْعَدُوِّ فَدَارِهِ ... وَامْزُجْ لَهُ إِنَّ الْمَزْجَ وِفَاقُ فَالنَّارُ بِالْمَاءِ الَّذِي هُوَ ضِدُّهَا ... تُعْطِي النِّضَاجَ وَطَبْعُهَا الْإِحْرَاقُ وَفِيهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ عُمَرُ بْنُ ثَابِتٍ النَّحْوِيُّ الضَّرِيرُ، الْمَعْرُوفُ بِالثَّمَانِينِيِّ.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 443 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ نَهْبِ سُرَّقَ وَالْحَرْبِ الْكَائِنَةِ عِنْدَهَا، وَمُلْكِ الرَّحِيمِ رَامَهُرْمُزَ وَفِيهَا فِي الْمُحَرَّمِ اجْتَمَعَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ وَالْأَكْرَادِ، وَقَصَدُوا سُرَّقَ (مِنْ خُوزِسْتَانَ) وَنَهَبُوهَا، وَنَهَبُوا دُورَقَ، وَمُقَدَّمُهُمْ مُطَارِدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَمَذْكُورُ بْنُ نِزَارٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ جَيْشًا، وَلَقُوهُمْ بَيْنَ سُرَّقَ وَدُورَقَ، فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ مُطَارِدُ وَأُسِرَ وَلَدُهُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَاسْتَنْقَذُوا مَا نَهَبُوهُ، وَنَجَا الْبَاقُونَ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ مِنَ الْجِرَاحِ وَالنَّهْبِ، فَلَمَّا تَمَّ هَذَا الْفَتْحُ لِلْمَلِكِ الرَّحِيمِ انْتَقَلَ مِنْ عَسْكَرِ مُكْرَمٍ مُتَقَدِّمًا إِلَى قَنْطَرَةِ أَرْبُقَ، وَمَعَهُ دُبَيْسُ بْنُ مَزْيَدٍ وَالْبَسَاسِيرِيُّ وَغَيْرُهُمَا. ثُمَّ إِنَّ (الْأَمِيرَ أَبَا مَنْصُورٍ صَاحِبَ فَارِسَ) وَهَزَارَسْبَ بْنَ بُنْكِيرَ، وَمَنْصُورَ بْنَ الْحُسَيْنِ الْأَسَدِيَّ، وَمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الدَّيْلَمِ وَالْأَتْرَاكِ - سَارُوا مِنْ أَرَّجَانَ يَطْلُبُونَ تُسْتَرَ، فَسَابَقَهُمُ الرَّحِيمُ إِلَيْهَا، وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا، وَالْتَقَتِ الطَّلَائِعُ، فَكَانَ الظَّفَرُ لِعَسْكَرِ الرَّحِيمِ. ثُمَّ إِنَّ الْإِرْجَافَ وَقَعَ فِي عَسْكَرِ هَزَارَسْبَ بِوَفَاةِ الْأَمِيرِ أَبِي مَنْصُورٍ ابْنِ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ بِمَدِينَةِ شِيرَازَ، فَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَعَادُوا، وَقَصَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمُ الْمَلِكَ الرَّحِيمَ فَصَارُوا مَعَهُ، فَسَيَّرَ قِطْعَةً مِنَ الْجَيْشِ إِلَى رَامَهُرْمُزَ وَبِهَا أَصْحَابُ هَزَارَسْبَ، وَقَدْ أَفْسَدُوا فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا عَسْكَرُ الرَّحِيمِ خَرَجَ أُولَئِكَ إِلَى قِتَالِهِمْ،

فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أُكْثِرَ فِيهِ الْقَتْلُ وَالْجِرَاحُ، (ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ هَزَارَسْبَ فَدَخَلُوا الْبَلَدَ وَحُصِرُوا فِيهِ) ، ثُمَّ مَلَكَ الْبَلَدَ عَنْوَةً، وَنَهَبَ وَأَسَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْعَسَاكِرِ الَّتِي فِيهِ، وَهَرَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى هَزَارَسْبَ وَهُوَ بِأَيْذَجَ، وَمَلَكَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ الْبَلَدَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. ذِكْرُ مُلْكِ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ إِصْطَخْرَ وَشِيرَازَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ أَخَاهُ الْأَمِيرَ أَبَا سَعْدٍ فِي جَيْشٍ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُقِيمَ فِي قَلْعَةِ إِصْطَخْرَ، وَهُوَ أَبُو نَصْرِ بْنُ خُسْرُو، كَانَ لَهُ أَخَوَانِ قَبَضَ عَلَيْهَا هَزَارَسْبُ بْنُ بُنْكِيرَ بِأَمْرِ الْأَمِيرِ أَبِي مَنْصُورٍ، فَكَتَبَ إِلَى الْمَلِكِ الرَّحِيمِ يَبْذُلُ لَهُ الطَّاعَةَ وَالْمُسَاعَدَةَ، وَيَطْلُبُ أَنْ يُسَيِّرَ إِلَيْهِ أَخَاهُ لِيُمَلِّكَهُ بِلَادَ فَارِسَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ أَخَاهُ أَبَا سَعْدٍ فِي جَيْشٍ، فَوَسَلَ إِلَى دَوْلَتَابَاذَ، فَأَتَاهُ كَثِيرٌ مِنْ عَسَاكِرِ فَارِسَ الدَّيْلَمِ، وَالتُّرْكِ، وَالْعَرَبِ، وَالْأَكْرَادِ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى قَلْعَةِ إِصْطَخْرَ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ صَاحِبُهَا أَبُو نَصْرٍ، فَلَقِيَهُ وَأَصْعَدَهُ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَحَمَلَ لَهُ وَلِلْعَسَاكِرِ الَّتِي مَعَهُ الْإِقَامَاتِ وَالْخِلَعَ وَغَيْرَهَا. ثُمَّ سَارُوا مِنْهَا إِلَى قَلْعَةِ بَهَنْدَرَ فَحَصَرُوهَا، (وَأَتَاهُ كُتُبُ) (بَعْضِ مُسْتَحْفِظِي الْبِلَادِ الْفَارِسِيَّةِ بِالطَّاعَةِ، مِنْهَا مُسْتَحْفِظُ دَرَابْجِرْدَ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى شِيرَازَ فَمَلَكَهَا فِي رَمَضَانَ) فَلَمَّا سَمِعَ (أَخُوهُ الْأَمِيرُ) أَبُو مَنْصُورٍ، وَهَزَارَسْبُ، وَمَنْصُورُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَسَدِيُّ ذَلِكَ - سَارُوا فِي عَسْكَرِهِمْ إِلَى الْمَلِكِ الرَّحِيمِ فَهَزَمُوهُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَفَارَقَ الْأَهْوَازَ إِلَى وَاسِطٍ، ثُمَّ عَطَفُوا مِنَ الْأَهْوَازِ إِلَى شِيرَازَ لِإِجْلَاءِ الْأَمِيرِ أَبِي سَعْدٍ عَنْهَا، فَلَمَّا قَارَبُوهَا لَقِيَهُمْ أَبُو سَعْدٍ وَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ، فَالْتَجَأُوا إِلَى جَبَلِ قَلْعَةِ بَهَنْدَرَ، وَتَكَرَّرَتِ الْحُرُوبُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى مُنْتَصَفِ شَوَّالٍ، فَتَقَدَّمَتْ طَائِفَةٌ مِنْ

عَسْكَرِ أَبِي سَعْدٍ، فَاقْتَتَلُوا عَامَّةَ النَّهَارِ ثُمَّ عَادُوا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ الْتَقَى الْعَسْكَرَانِ جَمِيعًا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْأَمِيرِ أَبِي مَنْصُورٍ، وَظَفِرَ أَبُو سَعْدٍ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَصَعِدَ أَبُو مَنْصُورٍ إِلَى قَلْعَةِ بَهَنْدَرَ وَاحْتَمَى بِهَا، وَأَقَامَ إِلَى أَنْ عَادَ إِلَى مُلْكِهِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا فَارَقَ الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ الْأَهْوَازَ أُعِيدَتِ الْخُطْبَةُ لِلْمَلِكِ الرَّحِيمِ، وَأَرْسَلَ مَنْ بِهَا مِنَ الْجُنْدِ يَسْتَدْعُونَهُ إِلَيْهِم ْ. ذِكْرُ انْهِزَامِ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ بِالْأَهْوَازِ لَمَّا انْصَرَفَ الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَهَزَارَسْبُ، وَمَنْ مَعَهُمَا مِنْ مَنْزِلِهِمْ قَرِيبَ تُسْتَرَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، مَضَوْا إِلَى أَيْذَجَ وَأَقَامُوا فِيهَا، وَخَافُوا الْمَلِكَ الرَّحِيمَ، وَاسْتَضْعَفُوا نُفُوسَهُمْ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ رَاسَلُوا السُّلْطَانَ طُغْرُلْبَك، وَبَذَلُوا لَهُ الطَّاعَةَ، وَطَلَبُوا مِنْهُ الْمُسَاعَدَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا كَثِيرًا، وَكَانَ قَدْ مَلَكَ أَصْبَهَانَ وَفَرَغَ بَالُهُ مِنْهَا. وَعَرَفَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ ذَلِكَ وَقَدْ فَارَقَهُ كَثِيرٌ مِنْ عَسْكَرِهِ، مِنْهُم ُ: الْبَسَاسِيرِيُّ، وَنُورُ الدَّوْلَةِ دُبَيْسُ بْنُ مَزْيَدٍ، وَالْعَرَبُ وَالْأَكْرَادُ، وَبَقِيَ فِي الدَّيْلَمِ الْأَهْوَازِيَّةُ وَطَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِ الْأَتْرَاكِ الْبَغْدَاذِيِّينَ كَانُوا وَصَلُوا إِلَيْهِ أَخِيرًا، فَقَرَّرَ رَأْيَهُ عَلَى أَنْ عَادَ مِنْ عَسْكَرِ مُكْرَمٍ إِلَى الْأَهْوَازِ لِأَنَّهَا أَحْصَنُ، وَيَنْتَظِرُ بِالْمُقَامِ فِيهَا وُصُولَ الْعَسَاكِرِ، وَرَأَى أَنْ يُرْسِلَ أَخَاهُ الْأَمِيرَ أَبَا سَعْدٍ إِلَى فَارِسَ، حَيْثُ طَلَبَ إِلَى إِصْطَخْرَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَسَيَّرَ مَعَهُ جَمْعًا صَالِحًا مِنَ الْعَسَاكِرِ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ أَخَاهُ إِذَا وَصَلَ إِلَى فَارِسَ وَمُلِكَتْ قَلْعَةُ إِصْطَخْرَ - انْزَعَجَ الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ وَهَزَارَسْبُ وَمَنْ مَعَهُمَا، وَاشْتَغَلُوا بِتِلْكَ النَّوَاحِي عَنْهُ، فَازْدَادَ قَلَقًا وَضَعْفًا، فَلَمْ يَلْتَفِتْ أُولَئِكَ إِلَى الْأَمِيرِ أَبِي سَعْدٍ بَلْ سَارُوا مُجِدِّينَ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَوَصَلُوهَا أَوَاخِرَ رَبِيعٍ الْآخِر ِ. وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ كَثُرَ فِيهِمَا الْقِتَالُ وَاشْتَدَّ، فَانْهَزَمَ

الْمَلِكُ الرَّحِيمُ، وَسَارَ فِي نَفَرٍ قَلِيلٍ إِلَى وَاسِطٍ، وَلَقِيَ فِي طَرِيقِهِ مَشَقَّةً، وَسَلِمَ وَاسْتَقَرَّ بِوَاسِطٍ فِيمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ، وَنُهِبَتِ الْأَهْوَازُ، وَأُحْرِقَ فِيهَا عِدَّةُ مَحَالٍّ، وَفُقِدَ فِي الْوَقْعَةِ الْوَزِيرُ كَمَالُ الْمُلْكِ أَبُو الْمَعَالِي بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، (وَزِيرُ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ) ، فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ خَبَرٌ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْعَامَّةِ بِبَغْدَاذَ وَإِحْرَاقِ الْمَشْهَدِ - عَلَى سَاكِنِيهِ السَّلَامُ - فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرٍ تَجَدَّدَتِ الْفِتْنَةُ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ، وَعَظُمَتْ أَضْعَافَ مَا كَانَتْ قَدِيمًا، فَكَانَ الِاتِّفَاقُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ غَيْرَ مَأْمُونِ الِانْتِقَاضِ، لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الْإِحَن ِ. وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ الْفِتْنَةِ أَنَّ أَهْلَ الْكَرْخِ شَرَعُوا فِي عَمَلِ بَابِ السَّمَّاكِينَ، وَأَهْلَ الْقَلَّائِينَ فِي عَمَلِ مَا بَقِيَ مِنْ بَابِ مَسْعُودٍ، فَفَرَغَ أَهْلُ الْكَرْخِ، وَعَمِلُوا أَبْرَاجًا كَتَبُوا عَلَيْهَا بِالذَّهَبِ: محَمَّدٌ وَعَلِيٌّ خَيْرُ الْبَشَرِ. وَأَنْكَرَ السُّنَّةُ ذَلِكَ وَادَّعَوْا أَنَّ الْمَكْتُوبَ: مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ خَيْرُ الْبَشَرِ، فَمَنْ رَضِيَ فَقَدْ شَكَرَ، وَمَنْ أَبَى فَقَدْ كَفَرَ. وَأَنْكَرَ أَهْلُ الْكَرْخِ الزِّيَادَةَ وَقَالُوا: اتَجَاوَزْنَا مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُنَا فِيمَا نَكْتُبُهُ عَلَى مَسَاجِدِنَا. فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبَا تَمَامٍ نَقِيبَ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَنَقِيبَ الْعَلَوِيِّينَ وَهُوَ عَدْنَانُ بْنُ الرَّضِيِّ، لِكَشْفِ الْحَرْبِ وَإِنْهَائِهِ، فَكَتَبَا بِتَصْدِيقِ قَوْلِ الْكَرْخِيِّينَ، فَأَمَرَ حِينَئِذٍ الْخَلِيفَةُ وَنُوَّابُ الرَّحِيمِ بِكَفِّ الْقِتَالِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَانْتَدَبَ ابْنُ الْمُذْهِبِ الْقَاضِي وَالزُّهَيْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَصْحَابِ عَبْدِ الصَّمَدِ [أَنْ] يَحْمِلَ الْعَامَّةَ عَلَى الْإِغْرَاقِ فِي الْفِتْنَةِ، فَأَمْسَكَ نُوَّابُ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ عَنْ كَفِّهِمْ غَيْظًا مِنْ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ لِمَيْلِهِ إِلَى الْحَنَابِلَةِ، وَمَنْعِ هَؤُلَاءِ السُّنَّةِ مِنْ حَمْلِ الْمَاءِ مِنْ دِجْلَةَ إِلَى الْكَرْخِ، وَكَانَ نَهْرُ عِيسَى قَدِ انْفَتَحَ

بَثْقُهُ، فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَانْتُدِبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ وَقَصَدُوا دِجْلَةَ وَحَمَلُوا الْمَاءَ وَجَعَلُوهُ فِي الظُّرُوفِ، وَصَبُّوا عَلَيْهِ مَاءَ الْوَرْدِ، وَنَادَوْا: الْمَاءُ لِلسَّبِيلِ. فَأَغْرَوْا بِهِمُ السُّنَّة َ. وَتَشَدَّدَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ عَلَى الشِّيعَةِ، فَمَحَوْا: خَيْرَ الْبَشَرِ، وَكَتَبُوا: عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَقَالَتِ السُّنَّة ُ: لَا نَرْضَى إِلَّا أَنْ يُقْلَعَ الْآجُرُّ الَّذِي عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ، وَأَنْ لَا يُؤَذَّن حَيِّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ. وَامْتَنَعَ الشِّيعَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَدَامَ الْقِتَالُ إِلَى ثَالِثِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقُتِلَ فِيهِ رَجُلٌ هَاشِمِيٌّ مِنَ السُّنَّةِ، فَحَمَلَهُ أَهْلُهُ عَلَى نَعْشٍ، وَطَافُوا بِهِ فِي الْحَرْبِيَّةِ وَبَابِ الْبَصْرَةِ وَسَائِرِ مَحَالِّ السُّنَّةِ، وَاسْتَنْفَرُوا النَّاسَ لِلْأَخْذِ بِثَأْرِهِ، ثُمَّ دَفَنُوهُ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ أَضْعَافَ مَا تَقَدَّمَ. فَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ دَفْنِهِ قَصَدُوا مَشْهَدَ بَابِ التِّبْنِ فَأُغْلِقَ بَابُهُ، فَنَقَّبُوا فِي سُورِهِ وَتَهَدَّدُوا الْبَوَّابَ، فَخَافَهُمْ وَفَتَحَ الْبَابَ، فَدَخَلُوا وَنَهَبُوا مَا فِي الْمَشْهَدِ مِنْ قَنَادِيلَ وَمَحَارِيبَ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَسُتُورٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَهَبُوا مَا (فِي التُّرْبِ وَالدُّورِ) وَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ فَعَادُوا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ كَثُرَ الْجَمْعُ، فَقَصَدُوا الْمَشْهَدَ، وَأَحْرَقُوا جَمِيعَ التُّرْبِ وَالْآزَاجِ، وَاحْتَرَقَ ضَرِيحُ مُوسَى، وَضَرِيحُ ابْنِ ابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالْجِوَارُ، وَالْقُبَّتَانِ السَّاجُ اللَّتَانِ عَلَيْهِمَا، وَاحْتَرَقَ مَا يُقَابِلُهُمَا وَيُجَاوِرُهُمَا مِنْ قُبُورِ مُلُوكِ بَنِي بُوَيْهِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَجَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَمِنْ قُبُورِ الْوُزَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَقَبْرُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمَنْصُورِ، وَقَبْرُ الْأَمِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ الرَّشِيدِ، وَقَبْرُ أُمِّهِ زُبَيْدَةَ، وَجَرَى مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ مَا لَمْ يَجْرِ فِي الدُّنْيَا مِثْلُه ُ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ خَامِسُ الشَّهْرِ عَادُوا وَحَفَرُوا قَبْرَ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، لِيَنْقُلُوهُمَا إِلَى مَقْبَرَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَحَالَ الْهَدْمُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَةِ الْقَبْرِ، فَجَاءَ الْحَفْرُ إِلَى جَانِبِهِ. وَسَمِعَ أَبُو تَمَامٍ نَقِيبُ الْعَبَّاسِيِّينَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ السُّنَّةِ الْخَبَرَ، فَجَاءُوا وَمَنَعُوا عَنْ ذَلِكَ، وَقَصَدَ أَهْلُ الْكَرْخِ إِلَى خَانِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيِّينَ فَنَهَبُوهُ، وَقَتَلُوا مُدَرِّسَ

الْحَنَفِيَّةِ أَبَا سَعْدٍ السَرَخْسَيَّ، وَأَحْرَقُوا الْخَانَ وَدُورَ الْفُقَهَاءِ) ، وَتَعَدَّتِ الْفِتْنَةُ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَاقْتَتَلَ أَهْلُ بَابِ الطَّاقِ وَسُوقِ بَجٍّ وَالْأَسَاكِفَةُ وَغَيْرُهُم ْ. وَلَمَّا انْتَهَى خَبَرُ إِحْرَاقِ الْمَشْهَدِ إِلَى نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ عَظُمَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ وَبَلَغَ مِنْهُ كُلَّ مَبْلَغٍ، لِأَنَّهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَسَائِرَ أَعْمَالِهِ مِنَ النِّيلِ وَتِلْكَ الْوِلَايَةَ كُلُّهُمْ شِيعَةٌ، فَقُطِعَتْ فِي أَعْمَالِهِ خُطْبَةُ الْإِمَامِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَرُوسِلَ فِي ذَلِكَ وَعُوتِبَ، فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ أَهْلَ وِلَايَتِهِ شِيعَةٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَشُقَّ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَنَّ الْخَلِيفَةَ لَمْ يُمْكِنْهُ كَفُّ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ فَعَلُوا بِالْمَشْهَدِ مَا فَعَلُوا، وَأَعَادَ الْخُطْبَةَ إِلَى حَالِهَا. ذِكْرُ عِصْيَانِ بَنِي قُرَّةَ عَلَى الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ بِمِصْرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ عَصَى بَنُو قُرَّةَ بِمِصْرَ عَلَى الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ الْخَلِيفَةِ الْعَلَوِي ِّ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ الْمُقَرَّبُ، وَقَدَّمَهُ، فَنَفَرُوا مِنْ ذَلِكَ وَكَرِهُوهُ وَاسْتَعْفَوْا مِنْهُ، فَلَمْ يَعْزِلْهُ عَنْهُمْ، فَكَاشَفُوا بِالْخِلَافِ وَالْعِصْيَانِ، وَأَقَامُوا بِالْبُحَيْرَةِ مُقَابِلَ مِصْرَ، وَتَظَاهَرُوا بِالْفَسَادِ، فَعَبَّرَ إِلَيْهِمُ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ جَيْشًا يُقَاتِلُهُمْ وَيَكُفُّهُمْ، فَقَاتَلَهُمْ بَنُو قُرَّةَ فَانْهَزَمَ الْجَيْشُ وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، فَانْتَقَلَ بَنُو قُرَّةَ إِلَى طَرَفِ الْبَرِّ، فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ، وَجَمَعَ الْعَرَبَ مِنْ طَيِّئٍ وَكَلْبٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَسَيَّرَهُمْ فِي أَثَرِ بَنِي قُرَّةَ، فَأَدْرَكُوهُمْ بِالْبُحَيْرَةِ، فَوَاقَعُوهُمْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي بَنِي قُرَّةَ، وَانْهَزَمُوا، وَعَادَ الْعَسْكَرُ إِلَى مِصْرَ،

وَتَرَكُوا فِي مُقَابِلِ بَنِي قُرَّةَ طَائِفَةً مِنْهُمْ لِتَرُدَّ بَنِي قُرَّةَ إِنْ أَرَادُوا التَّعَرُّضَ إِلَى الْبِلَادِ، وَكَفَى اللَّهُ شَرَّهُم ْ. ذِكْرُ وَفَاةِ زَعِيمِ الدَّوْلَةِ وَإِمَارَةِ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تُوُفِّيَ زَعِيمُ الدَّوْلَةِ أَبُو كَامِلٍ بَرَكَةُ بْنُ الْمُقَلِّدِ بِتَكْرِيتَ، وَكَانَ انْحَدَرَ إِلَيْهَا فِي حُلَلِهِ قَاصِدًا نَحْوَ الْعِرَاقِ لِيُنَازِعَ النُّوَّابَ بِهِ عَنِ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ، وَيَنْهَبَ الْبِلَادَ، فَلَمَّا بَلَغَهَا انْتَقَضَ عَلَيْهِ جُرْحٌ كَانَ أَصَابَهُ مِنَ الْغُزِّ لَمَّا مَلَكُوا الْمَوْصِلَ، فَتُوُفِّيَ، وَدُفِنَ بِمَشْهَدِ الْخَضِرِ بِتَكْرِيتَ. وَاجْتَمَعَتِ (الْعَرَبُ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى تَأْمِيرِ عَلَمِ الدِّينِ أَبِي الْمَعَالِي قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ بْنِ الْمُقَلِّدِ، فَعَادَ بِالْحُلَلِ) وَالْعَرَبِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَمِّهِ قِرْوَاشٍ وَهُوَ تَحْتَ الِاعْتِقَالِ، يُعْلِمُهُ بِوَفَاةِ زَعِيمِ الدَّوْلَةِ، وَقِيَامِهِ (بِالْإِمَارَةِ، وَأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَيَقُومُ) بِالْأَمْرِ نِيَابَةً عَنْه ُ. فَلَمَّا وَصَلَ قُرَيْشٌ إِلَى الْمَوْصِلِ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمِّهِ قِرْوَاشٍ مُنَازَعَةٌ ضَعُفَ فِيهَا قِرْوَاشٌ وَقَوِيَ ابْنُ أَخِيهِ، وَمَالَتِ الْعَرَبُ إِلَيْهِ وَاسْتَقَرَّتِ الْإِمَارَةُ لَهُ، وَعَادَ عَمُّهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الِاعْتِقَالِ الْجَمِيلِ، وَالِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى قَلِيلٍ مِنَ الْحَاشِيَةِ وَالنِّسَاءِ وَالنَّفَقَةِ، ثُمَّ نَقَلَهُ إِلَى قَلْعَةِ الْجَرَّاحِيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ فَاعْتُقِلَ بِهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ ظَهَرَ بِبَغْدَاذَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ صَفَرٍ وَقْتِ الْعَصْرِ - كَوْكَبٌ غَلَبَ نُورُهُ عَلَى نُورِ الشَّمْسِ، لَهُ ذُؤَابَةٌ نَحْوُ ذِرَاعَيْنِ، وَسَارَ سَيْرًا بَطِيئًا ثُمَّ انْقَضَّ، وَالنَّاسُ يُشَاهِدُونَه ُ.

وَفِيهَا فِي رَمَضَانَ وَرَدَ رُسُلُ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك إِلَى الْخَلِيفَةِ جَوَابًا عَنْ رِسَالَةِ الْخَلِيفَةِ إِلَيْهِ، وَشُكْرًا لِإِنْعَامِ الْخَلِيفَةِ عَلَيْهِ بِالْخِلَعِ وَالْأَلْقَابِ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ طُغْرُلْبَك إِلَى الْخَلِيفَةِ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ عَيْنًا، وَأَعْلَاقًا نَفِيسَةً مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالثِّيَابِ وَالطِّيبِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ خَمْسَةَ آلَافِ دِينَارٍ لِلْحَاشِيَةِ، وَأَلْفَيْ دِينَارٍ لِرَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَأَنْزَلَ الْخَلِيفَةُ الرُّسُلَ بِبَابِ الْمَرَاتِبِ، وَأَمَرَ بِإِكْرَامِهِمْ، وَلَمَّا جَاءَ الْعِيدُ أَظْهَرَ أَجْنَادُ بَغْدَاذَ الزِّينَةَ الرَّائِقَةَ، وَالْخُيُولَ النَّفِيسَةَ، (وَالتَّجَافِيفَ الْحَسَنَةَ) ، وَأَرَادُوا إِظْهَارَ قُوَّتِهِمْ عِنْدَ الرُّسُل ِ. وَفِيهَا عَادَ الْغُزُّ أَصْحَابُ الْمَلِكِ دَاوُدَ أَخِي طُغْرُلْبَك عَنْ كِرْمَانَ، وَسَبَبُ عَوْدِهِمْ أَنَّ عَبْدَ الرَّشِيدِ بْنَ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ صَاحِبَ غَزْنَةَ - سَارَ عَنْهَا إِلَى خُرَاسَانَ، فَالْتَقَى هُوَ وَالْمَلِكُ دَاوُدُ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ دَاوُدُ، فَاقْتَضَى الْحَالُ عَوْدَ أَصْحَابِهِ عَنْ كِرْمَانَ. وَفِيهَا أَيْضًا عَادَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَك عَنْ أَصْبَهَانَ إِلَى الرَّيِّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو كَالِيجَارَ كُرْشَاسُفُ بْنُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَاكَوَيْهِ بِالْأَهْوَازِ، وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ بِهَا الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ عِنْدَ عَوْدِهِ عَنْهَا إِلَى شِيرَازَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ خُطِبَ لِلْمَلِكِ الرَّحِيمِ بِالْأَهْوَاز ِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْمُرْتَضَى الْمُوسَوِي ُّ. وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْبُصْرَوِيُّ (الشَّاعِرُ، وَهُوَ) مَنْسُوبٌ إِلَى قَرْيَةٍ تُسَمَّى بُصْرَى قُرَيْبَ عُكْبَرَا، وَكَانَ صَاحِبَ نَادِرَةٍ، قَالَ لَهُ رَجُل ٌ: شَرِبْتُ الْبَارِحَ مَاءً كَثِيرًا، فَاحْتَجْتُ إِلَى الْقِيَامِ كُلَّ سَاعَةٍ كَأَنِّي جَدْيٌ. فَقَالَ لَه ُ: لِمَ تُصَغِّرْ نَفْسَكَ؟ وَمِنْ شِعْرِه ِ:

تَرَى الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَصْبُو ... وَمَا يَخْلُو مِنَ الشَّهَوَاتِ قَلْبُ فُضُولُ الْعَيْشِ أَكْثَرُهَا هُمُومٌ ... وَأَكْثَرُ مَا يَضُرُّكَ مَا تُحِبُّ فَلَا يَغْرُرْكَ زُخْرُفُ مَا تَرَاهُ ... وَعَيْشٌ لَيِّنُ الْأَعْطَافِ رَطْبُ إِذَا مَا بُلْغَةٌ جَاءَتْكَ عَفْوًا ... فَخُذْهَا، فَالْغِنَى مَرْعَى وَشُرْبُ إِذَا اتَّفَقَ الْقَلِيلُ وَفِيهِ سِلْمٌ ... فَلَا تَرِدِ الْكَثِيرَ وَفِيهِ حَرْبُ

ثم دخلت سنة أربع وأربعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 444 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ عَبْدِ الرَّشِيدِ صَاحِبِ غَزْنَةَ وَمُلْكِ فَرَّخْ زَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ عَبْدُ الرَّشِيدِ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ صَاحِبُ غَزْنَةَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حَاجِبًا لَمَوْدُودٍ ابْنِ أَخِيهِ مَسْعُودٍ، اسْمُهُ طُغْرُلُ، وَكَانَ مَوْدُودٌ قَدْ قَدَّمَهُ وَنَوَّهَ بِاسْمِهِ، وَزَوَّجَهُ أُخْتَهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ مَوْدُودٌ وَمَلَكَ عَبْدُ الرَّشِيدِ أَجْرَى طُغْرُلَ عَلَى عَادَتِهِ فِي تَقَدُّمِهِ، وَجَعَلَهُ حَاجِبَ حُجَّابِهِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ طُغْرُلُ بِقَصْدِ الْغُزِّ وَإِجْلَائِهِمْ مِنْ خُرَاسَانَ، فَتَوَقَّفَ اسْتِبْعَادًا لِذَلِكَ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ طُغْرُلُ، فَسَيَّرَهُ فِي أَلْفِ فَارِسٍ، فَسَارَ نَحْوَ سِجِسْتَانَ وَبِهَا أَبُو الْفَضْلِ نَائِبًا عَنْ بَيْغُو، فَأَقَامَ طُغْرُلُ عَلَى حِصَارِ قَلْعَةِ طَاقَ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي الْفَضْلِ يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَةِ عَبْدِ الرَّشِيدِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّنِي نَائِبٌ عَنْ بَيْغُو، وَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ وَلْمُرُوءَةِ خِيَانَتُهُ، فَاقْصُدْهُ، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْهُ سَلَّمْتُ إِلَيْك َ. فَقَامَ عَلَى حِصَارِ طَاقَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ فَتْحُهَا، وَكَتَبَ أَبُو الْفَضْلِ إِلَى بَيْغُو يُعَرِّفُهُ حَالَ طُغْرُلَ، فَسَارَ إِلَسِجِسْتَانَ لِيَمْنَعَ عَنْهَا طُغْرُلَ. ثُمَّ إِنَّ طُغْرُلَ ضَجِرَ مِنْ مُقَامِهِ عَلَى حِصَارِ طَاقَ، فَسَارَ نَحْوَ مَدِينَةِ سِجِسْتَانَ، فَلَمَّا كَانَ عَلَى نَحْوِ فَرْسَخٍ مِنْهَا كَمَنَ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، (لِعِلَّةٍ يَجِدُهَا، وَفُرْصَةٍ يَنْتَهِزُهَا) فَسَمِعَ أَصْوَاتَ دَبَادِبَ وَبُوقَاتٍ، فَخَرَجَ وَسَأَلَ بَعْضَ مَنْ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ بَيْغُو قَدْ وَصَلَ، فَعَادَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَأَخْبَرَهُمْ، وَقَالَ لَهُم ْ: لَيْسَ لَنَا إِلَّا أَنْ نَلْتَقِيَ الْقَوْمَ، وَنَمُوتَ

تَحْتَ السُّيُوفِ أَعِزَّةً، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَنَا إِلَى الْهَرَبِ، لِكَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتِنَا. فَخَرَجُوا مِنْ مَكْمَنِهِمْ فَلَمَّا رَآهُمْ بَيْغُو سَأَلَ أَبَا الْفَضْلِ عَنْهُمْ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ طُغْرُلُ، فَاسْتَقَلَّ مَنْ مَعَهُ وَسَيَّرَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ لِقِتَالِهِمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ طُغْرُلُ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِمْ، بَلْ أَقْحَمَ فَرَسَهُ نَهْرًا هُنَاكَ فَعَبَرَهُ، وَقَصَدَ بَيْغُو وَمَنْ مَعَهُ فَقَاتَلَهُمْ، وَهَزَمَهُمْ طُغْرُلُ وَغَنِمَ مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ، فَصَنَعَ بِهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأُمُّ بَيْغُو وَأَبُو الْفَضْلُ نَحْوَ هَرَاةَ، وَتَبِعَهُمْ طُغْرُلُ نَحْوَ فَرْسَخَيْنِ، وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَلَكَهَا، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الرَّشِيدِ بِمَا كَانَ مِنْهُ، وَيَطْلُبُ الْإِمْدَادَ لِيَسِيرَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَأَمَدَّهُ بِعُدَّةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْفُرْسَانِ، فَوَصَلُوا إِلَيْهِ، فَاشْتَدَّ بِهِمْ وَأَقَامَ مُدَيْدَةً. ثُمَّ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْعَوْدِ إِلَى غَزْنَةَ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، فَأَعْلَمَ أَصْحَابَهُ ذَلِكَ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَاسْتَوْثَقَ مِنْهُمْ، وَرَحَلَ إِلَى غَزْنَةَ طَاوِيًا لِلْمَرَاحِلِ كَاتِمًا أَمْرَهُ، فَلَمَّا صَارَ عَلَى خَمْسَةِ فَرَاسِخَ مِنْ غَزْنَةَ أَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ الرَّشِيدِ مُخَادِعًا لَهُ يُعْلِمُهُ أَنَّ الْعَسْكَرَ خَالَفُوا عَلَيْهِ وَطَلَبُوا الزِّيَادَةَ فِي الْعَطَاءِ، وَأَنَّهُمْ عَادُوا بِقُلُوبٍ مُتَغَيِّرَةٍ مُسْتَوْحِشَةٍ. فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ أَصْحَابَهُ وَأَهْلَ ثِقَتِهِ وَأَعْلَمَهُمُ الْخَبَرَ، فَحَذَّرُوهُ مِنْهُ وَقَالُوا لَه ُ: إِنَّ الْأَمْرَ قَدْ أُعْجِلَ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ، وَلَيْسَ غَيْرُ الصُّعُودِ إِلَى الْقَلْعَةِ وَالتَّحَصُّنُ بِهَا. فَصَعِدَ إِلَى قَلْعَةِ غَةَ وَامْتَنَعَ بِهَا. وَوَافَى طُغْرُلُ مِنَ الْغَدِ إِلَى الْبَلَدِ، وَنَزَلَ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ، وَرَاسَلَ الْمُقِيمِينَ بِالْقَلْعَةِ فِي تَسْلِيمِ عَبْدِ الرَّشِيدِ، وَوَعَدَهُمْ وَرَغَّبَهُمْ إِنْ فَعَلُوا، وَتَهَدَّدَهُمْ إِنِ امْتَنَعُوا. فَسَلَّمُوهُ إِلَيِ، فَأَخَذَهُ طُغْرُلُ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبَلَدِ وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ مَسْعُودٍ كَرْهًا. وَكَانَ فِي الْأَعْمَالِ الْهِنْدِيَّةِ أَمِيرٌ يُسَمَّى خِرْخِيزَ وَمَعَهُ عَسْكَرٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا قَتَلَ طُغْرُلُ عَبْدَ الرَّشِيدِ وَاسْتَوْلَى عَلَى الْأَمْرِ - كَتَبَ إِلَيْهِ وَدَعَاهُ إِلَى الْمُوَافَقَةِ وَالْمُسَاعَدَةِ عَلَى ارْتِجَاعِ الْأَعْمَالِ مِنْ أَيْدِي الْغُزِّ، وَوَعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَبَذَلَ الْبَذُولَ الْكَثِيرَةَ، فَلَمْ يَرْضَ

فِعْلَهُ، وَأَنْكَرَهُ وَامْتَعَضَ مِنْهُ، وَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْجَوَابِ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنَةِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودٍ زَوْجَةِ طُغْرُلَ وَوُجُوهِ الْقُوَّادِ، يُنْكِرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَيُوَبِّخُهُمْ عَلَى إِغْضَائِهِمْ وَصَبْرِهِمْ عَلَى مَا فَعَلَهُ طُغْرُلُ مِنْ قَتْلِ مَلِكِهِمْ وَابْنِ مَلِكِهِمْ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِه ِ. فَلَمَّا وَفُوا عَلَى كُتُبِهِ عَرَفُوا غَلْطَتَهُمْ، وَدَخَلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَلَى طُغْرُلَ، وَوَقَفُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ بِسَيْفِهِ وَتَبِعَهُ الْبَاقُونَ، فَقَتَلَه ُ. وَوَرَدَ خِرْخِيزُ الْحَاجِبُ بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَأَظْهَرَ الْحُزْنَ عَلَى عَبْدِ الرَّشِيدِ، وَذَمَّ طُغْرُلَ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى فِعْلِهِ، وَجَمَعَ وَجُوهَ الْقُوَّادِ وَأَعْيَانَ أَهْلِ الْبَلَدِ وَقَالَ لَهُم ْ: قَدْ عَرَفْتُمْ مَا جَى مِمَّا خُولِفَتْ بِهِ الدِّيَانَةُ وَالْأَمَانَةُ، وَأَنَا تَابِعٌ، وَلَا بُدَّ لِلْأَمْرِ مِنْ سَائِسٍ، فَاذْكُرُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ ذَلِك َ. فَأَشَارُوا بِوِلَايَةِ فَرَّخْ زَادَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودٍ وَكَانَ مَحْبُوسًا فِي بَعْضِ الْقلَاعِ، فَأُحْضِرَ وَأُجْلِسَ بِدَارِ الْإِمَارَةِ، وَأَقَامَ خِرْخِيزُ بَيْنَ يَدَيْهِ يُدَبِّرُ الْأُمُورَ، وَأَخَذَ مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ عَبْدِ الرَّشِيدِ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ دَاوُدُ أَخُو طُغْرُلْبَك صَاحِبُ خُرَاسَانَ بِقَتْلِ عَبْدِ الرَّشِيدِ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَى غَزْنَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ خِرْخِيزُ وَمَنَعَهُ وَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ دَاوُدُ وَغَنِمَ مَا كَانَ مَعَه ُ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّ مُلْكُ فَرَّخْ زَادَ، وَثَبَتَ قَدَمُهُ - جَهَّزَ جَيْشًا جَرَّارًا إِلَى خُرَاسَانَ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ الْأَمِيرُ كُلْسَارُغُ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمَرَاءِ، فَقَاتَلَهُمْ وَصَبَرَ لَهُمْ، فَظَفِرُوا بِهِ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ، وَأُخِذَ أَسِيرًا، وَأُسِرَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنْ عَسْكَرِ خُرَاسَانَ وَوُجُوهِهِمْ وَأُمَرَائِهِم ْ. فَجَمَعَ أَلْبُ أَرْسِلَانَ عَسْكَرًا كَثِيرًا، وَسَيَّرَ وَالِدَهُ دَاوُدَ فِي ذَلِكَ الْعَسْكَرِ إِلَى الْجَيْشِ الَّذِي أَسَرَ كُلْسَارُغَ، فَقَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ، وَأَسَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ الْعَسْكَرِ، فَأَطْلَقَ فَرَّخْ زَادَ الْأَسْرَى، وَخَلَعَ عَلَى كُلْسَارُغَ وَأَطْلَقَه ُ.

ذِكْرُ وَصُولِ الْغُزِّ إِلَى فَارِسَ وَانْهِزَامِهِمْ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ أَصْحَابُ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك إِلَى فَارِسَ، وَبَلَغُوا إِلَى شِيرَازَ، وَنَزَلُوا بِالْبَيْضَاءِ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُمُ الْعَادِلُ أَبُو مَنْصُورٍ الَّذِي كَانَ وَزِيرَ الْأَمِيرِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَدَبَّرَ أَمْرَهُمْ، فَقَبَضُوا عَلَيْهِ وَأَخَذُوا مِنْهُ ثَلَاثَ قِلَاعٍ، وَهِيَ: قَلْعَةُ كَبْزَةَ، وَقَلْعَةُ جُوَيْمٍ، وَقَلْعَةُ بَهَنْدَرَ، فَأَقَامُوا بِهَا، وَسَارَ مِنَ الْغُزِّ نَحْوُ مِائَتَيْ رَجُلٍ إِلَى الْأَمِيرِ أَبِي سَدٍ أَخِي الْمَلِكِ الرَّحِيمِ، وَصَارُوا مَعَهُ، وَرَاسَلَ أَبُو سَعْدٍ الَّذِي بِالْقِلَاعِ الْمَذْكُورَةِ، فَاسْتَمَالَهُمْ، فَأَطَاعُوهُ وَسَلَّمُوا الْقِلَاعَ إِلَيْهِ، وَصَارُوا فِي خِدْمَتِه ِ. وَاجْتَمَعَ الْعَسْكَرُ الشِّيرَازِيُّ وَعَلَيْهِمُ الظَّهِيرُ أَبُو نَصْرٍ، وَأَوْقَعُوا بِالْغُزِّ بِبَابِ شِيرَازَ، فَانْهَزَمَ الْغُزُّ، وَأُسِرَ تَاجُ الدِّينِ نَصْرُ بْنُ هِبَةَ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، وَكَانَ مِنَ الْمُقَدَّمِينَ عِنْدَ الْغُزِّ، فَلَمَّا انْهَزَمَ الْغُزُّ سَارَ الْعَسْكَرُ الشِّيرَازِيُّ إِلَى فَسَا، وَكَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا بَعْضُ السَّفِلِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ لِاشْتِغَالِ الْعَسَاكِرِ بِالْغُزِّ، فَأَزَالُوا الْمُتَغَلِّبَ عَلَيْهَا وَاسْتَعَادُوهَا. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَأَخِيهِ الْمُقَلِّدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَرَى خُلْفٌ بَيْنَ عَلَمِ الدِّينِ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْمُقَلِّدِ، وَكَانَ قُرَيْشٌ قَدْ نَقَلَ عَمَّهُ قِرْوَاشًا إِلَى قَلْعَةِ الْجَرَّاحِيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ، وَسَجَنَهُ بِهَا، وَارْتَحَلَ يَطْلُبُ الْعِرَاقَ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْمُقَلِّدِ مُنَازَعَةٌ أَدَّتْ إِلَى الِاخْتِلَاف ِ. فَسَارَ الْمُقَلِّدُ إِلَى نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ مُلْتَجِئًا إِلَيْهِ، فَحَمَلَ أَخَاهُ الْغَيْظُ مِنْهُ عَلَى أَنْ نَهَبَ لَّتَهُ وَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَاخْتَلَّتْ أَحْوَالُهُ، وَاخْتَلَفَتِ الْعَرَبُ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَ نُوَّابُ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ بِبَغْدَاذَ إِلَى مَا كَانَ بِيَدِ قُرَيْشٍ مِنَ الْعِرَاقِ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ عُكْبَرَا وَالْعَلْثِ وَغَيْرِهِمَا، مَنْ قَبَضَ غَلَّتَهُ، وَسَلَّمَ الْجَانِبَ الْغَرْبِيَّ مِنْ أَوَانَا وَنَهْرِ بَيْطَرٍ إِلَى أَبِي الْهِنْدِيِّ بِلَالِ بْنِ غَرِيب ٍ. ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا اسْتَمَالَ الْعَرَبَ وَأَصْلَحَهُمْ، فَأَذْعَنُوا لَهُ بَعْدَ وَفَاةِ عَمِّهِ قِرْوَاشٍ، فَإِنَّهُ

تُوُفِّيَ هَذِهِ الْأَيَّامَ، وَانْحَدَرَ إِلَى الْعِرَاقِ لِيَسْتَعِيدَ مَا أُخِذَ مِنْهُ، فَوَصَلَ إِلَى الصَّالِحِيَّةِ، وَسَيَّرَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ إِلَى نَاحِيَةِ الْحَظِيرَةِ وَمَا وَالَاهَا، فَنَهَبُوا مَا هُنَاكَ وَعَادُوا، فَلَقُوا كَامِلَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ صَاحِبَ الْحَظِيرَةِ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ وَقَاتَلَهُمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَى قُرَيْشٍ يُعَرِّفُونَهُ الْحَالَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي عُدَّةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعَرَبِ وَالْأَكْرَاد ِ، فَانْهَزَمَ كَامِلٌ وَتَبِعَهُ قُرَيْشٌ فَلَمْ يَلْحَقْهُ، فَقَصَدَ حُلَلَ بِلَالِ بْنِ غَرِيبٍ وَهِيَ خَالِيَةٌ مِنَ الرِّجَالِ، فَنَهَبَها، وَقَاتَلَهُ بِلَالٌ وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا، فَجُرِحَ ثُمَّ انْهَزَمَ، وَرَاسَلَ قُرَيْشٌ نُوَّابَ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ يَبْذُلُ الطَّاعَةَ، وَيَطْلُبُ تَقْرِيرَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ عَلَى كُرْهٍ لِقُوَّتِهِ وَضَعْفِهِمْ، وَاشْتِغَالِ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ بِخُوزِسْتَانَ عَنْهُمْ، فَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ وَقَوِيَ شَأْنُه ُ. ذِكْرُ وَفَاةِ قِرْوَاشٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُسْتَهَلَّ رَجَبٍ تُوُفِّيَ مُعْتَمَدُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْمَنِيعِ قِرْوَاشُ بْنُ الْمُقَلِّدِ الْعُقَيْلِيُّ، الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْمَوْصِلِ - مَحْبُوسًا بِقَلْعَةِ الْجَرَّاحِيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، وَحُمِلَ مَيِّتًا إِلَى الْمَوْصِلِ، وَدُفِنَ بِتَلِّ تَوْبَةَ مِنْ مَدِينَةِ نِينَوَى شَرْقِيِّ الْمَوْصِلِ. وَكَانَ مِنْ رِجَالِ الْعَرَبِ وَذَوِي الْعَقْلِ مِنْهُمْ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْبَاخَرْزِيُّ فِي " دُمْيَةِ الْقَصْرِ " مِنْ شِعْرِه ِ: لِلَّهِ دَرُّ النَّائِبَاتِ فَإِنَّهَا ... صَدَأُ النُّفُوسِ وَصَيْقَلُ الْأَحْرَارِ مَا كُنْتُ إِلَّا زُبْرَةً فَطَبَعْنَنِي ... سَيْفًا، وَأُطْلِقَ شَفْرَتِي وَغِرَارِي وَذُكِرَ لَهُ أَيْضًا:

مَنْ كَانَ يَحْمَدُ أَوْ يَذُمُّ مُوَرِّثًا ... لِلْمَالِ مِنْ آبَائِهِ وَجُدُودِهِ إِنِّي امْرُؤٌ لِلَّهِ شُكْرٌ وَحْدَهُ ... شُكْرًا كَثِيرًا جَالِبًا لِمَزِيدِهِ لِي أَشْقَرٌ سَمْحُ الْعِنَانِ مُغَاوِرٌ ... يُعْطِيكَ مَا يُرْضِيكَ مِنْ مَجْهُودِهِ وَمُهَنَّدٌ عَضْبٌ إِذَا جَرَّدْتُهُ ... خَلَتِ الْبُرُوقَ تَمُوجُ فِي تَجْرِيدِهِ وَمُثَقَّفٌ لَدُنُ السِّنَانِ كَأَنَّمَا ... أُمُّ الْمَنَايَا رُكِّبَتْ فِي عُودِهِ وَبِذَا حَوَيْتُ الْمَالَ إِلَّا أَنَّنِي ... سَلَّطْتُ جُودَ يَدِي عَلَى تَبْدِيدِهِ قِيلَ: إِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ فِي نِكَاحِهِ، فَقِيلَ لَه ُ: إِنَّ الشَّرِيعَةَ تُحَرِّمُ هَذَا. فَقَالَ: وَأَيَّ شَيْءٍ عِنْدَنَا تُجِيزُهُ الشَّرِيعَةُ؟ وَقَالَ مَرَّةً: مَا فِي رَقَبَتِي غَيْرُ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ مِنَ الْبَاةِ قَتَلْتُهُمْ، وَأَمَّا الْحَاضِرَةُ فَلَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِم ْ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ عَلَى الْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ سَيَّرَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ جَيْشًا مَعَ الْوَزِيرِ وَالْبَسَاسِيرِيِّ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَبِهَا أَخُوهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي كَالِيجَارَ، فَحَصَرُوهُ بِهَا، فَأَخْرَجَ عَسْكَرَهُ فِي السُّفُنِ لِقِتَالِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا عِدَّةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ انْهَزَمَ الْبَصْرِيُّونَ فِي الْمَاءِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَاسْتَوْلَى عَسْكَرُ الرَّحِيمِ عَلَى دِجْلَةَ وَالْأَنْهُرِ جَمِيعًا، وَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ عَلَى الْبَرِّ مِنَ الْمَنْزِلَةِ بِمَطَارَا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَلَمَّا قَارَبُوهَا لَقِيَهُمْ رُسُلُ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ بَذَلُوا الْأَمَانَ لِسَائِرِ أَهْلِهَا، وَدَخَلَهَا الْمَلِكُ الرَّحِيمُ، فَسُّرَ بِهِ أَهْلُهَا، وَبَذَلَ لَهُمُ الْإِحْسَانَ. فَلَمَّا دَخَلَ الْبَصْرَةَ وَرَدَتْ إِلَيْهِ رُسُلُ الدَّيْلَمِ بِخُوزِسْتَانَ يَبْذُلُونَ الطَّاعَةَ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ مَا زَالُوا عَلَيْهَا. فَشَكَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَقَامَ بِالْبَصْرَةِ لِيُصْلِحَ أَمْرَهَا. وَأَمَّا أَخُوهُ أَبُو عَلِيٍّ صَاحِبُ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُ مَضَى إِلَى شَطِّ عُثْمَانَ فَتَحَصَّنَ بِهِ

وَحَفَرَ الْخَنْدَقَ، فَمَضَى الْمَلِكُ الرَّحِيمُ إِلَيْهِ وَقَاتَلَهُمْ، فَمَلَكَ الْمَوْضِعَ وَمَضَى أَبُو عَلِيٍّ وَوَالِدَتُهُ إِلَى عَبَّادَانَ، وَرَكِبُوا الْبَحْرَ إِلَى مَهْرُوبَانَ، وَخَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ وَاكْتَرَوْا دَوَابَّ، وَسَارُوا إِلَى أَرَّجَانَ عَازِمِينَ عَلَى قَصْدِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك، وَأَخْرَجَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ كُلَّ مَنْ بِالْبَصْرَةِ مِنَ الدَّيْلَمِ أَجْنَادِ أَخِيهِ، وَأَقَامَ غَيْرَهُم ْ. ثُمَّ إِنَّ الْأَمِيرَ أَبَا عَلِيٍّ وَصَلَ إِلَى السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك وَهُوَ بِأَصْبَهَانَ، فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ مَالًا، وَزَوَّجَهُ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِهِ، وَأَقْطَعُهُ إِقْطَاعًا مِنْ أَعْمَالِ جَرْبَاذَقَانَ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ قَلْعَتَيْنِ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَيْضًا. وَسَلَّمَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ الْبَصْرَةَ إِلَى الْبَسَاسِيرِيِّ وَمَضَى إِلَى الْأَهْوَازِ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْصُورِ بْنِ الْحُسَيْنِ وَهَزَارَسْبَ حَتَّى اصْطَلَحُوا، وَصَارَتْ أَرَّجَانُ وَتُسْتَرُ لِلْمَلِكِ الرَّحِيم ِ. ذِكْرُ وُرُودِ سَعْدِي الْعِرَاقَ وَفِيهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَرَدَ سَعْدِي بْنُ أَبِي الشَّوْكِ فِي جَيْشٍ مِنْ عِنْدِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك إِلَى نَوَاحِي الْعِرَاقِ، فَنَزَلَ مَايَدَشْتَ، وَسَارَ مِنْهَا جَرِيدَةً فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْغُزِّ إِلَى أَبِي دُلَفَ الْجَاوَانِيِّ، فَنَذِرَ بِهِ أَبُو دُلَفَ وَانْصَرَفَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَحِقَهُ سَعْدِي فَنَهَبَهُ وَأَخَذَ مَالَهُ، وَأَفْلَتَ أَبُو دُلَفَ بِحُشَاشَةِ نَفْسِهِ، وَنَهَبَ أَصْحَابُ سَعْدِي الْبِلَادَ حَتَّى بَلَغُوا النُّعْمَانِيَّةَ، فَأَسْرَفُوا فِي النَّهْبِ وَالْغَارَةِ، وَفَتَكُوا فِي الْبِلَادِ، وَافْتَضُّوا الْأَبْكَارَ، فَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَثَاثَ فَلَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا، وَقَصَدَ الْبَنْدَنِيجَيْنَ. وَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى خَالِهِ خَالِدِ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ نَازِلٌ عَلَى الزَّرِيرِ وَمَطَرٍ ابْنَيْ عَلِيِّ بْنِ مُقْنٍ الْعُقَيْلِيَّيْنِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَلَدَهُ مَعَ أَوْلَادِ الزَّرِيرِ وَمَطَرٍ يَشْكُونَ إِلَيْهِ مَا عَامَلَهُمْ بِهِ عَمُّهُ مُهَلْهِلٌ، وَقُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ، فَلَحِقُوهُ بِحُلْوَانَ وَشَكَوْا إِلَيْهِ حَالَهُمْ، فَوَعَدَهُمُ الْمَسِيرَ إِلَيْهِمْ، وَالْأَخْذَ لَهُمْ مِمَّنْ قَصَدَهَم ْ. فَعَادُوا مِنْ عِنْدِهِ، فَلَقِيَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ مُهَلْهِلٍ فَوَاقَعهُمْ، فَظَفِرَ بِهِمُ الْعُقَيْلِيُّونَ وَأَسَرُوهُم ْ.

وَبَلَغَ الْخَبَرُ مُهَلْهِلًا، فَسَارَ إِلَى حُلَلِ الزَّرِيرِ وَمَطَرٍ فِي نَحْوِ خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ عَلَى تَلِّ عُكْبَرَا وَنَهَبَهُمْ، وَانْهَزَمَ الرِّجَالُ، فَلَقِيَ خَالِدٌ وَمَطَرٌ وَالزَّرِيرُ سَعْدِي بْنَ أَبِي الشَّوْكِ عَلَى تَامَرَّا، فَأَعْلَمُوهُ الْحَالَ وَحَمَلُوهُ عَلَى قِتَالِ عَمِّهِ، فَتَقَدَّمَ إِلَى طَرِيقِهِ وَالْتَقَى الْقَوْمَ، وَكَانَ سَعْدِي فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَظَفِرَ بِعَمِّهِ وَأَسَرَهُ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ فِي كُلِّ جِهَةٍ، وَأُسِرَ أَيْضًا مَالِكٌ ابْنُ عَمِّهِ مُهَلْهِلٍ، وَأَعَادَ الْغَنَائِمَ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُمْ عَلَى أَصْحَابِهَا، وَعَادَ إِلَى حُلْوَان َ. وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَاذَ فَارْتَجَّ النَّاسُ بِهَا وَخَافُوا، وَبَرَزَ عَسْكَرُ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ لِيَقْصِدُوا حُلْوَانَ لِمُحَارَبَةِ سَعْدِي، وَوَصَلَ إِلَيْهِمْ أَبُو الْأَغَرِّ دُبَيْسُ بْنُ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ، وَلَمْ يَصْنَعُوا شَيْئًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ عِيسَى بْنُ خَمِيسِ بْنِ مُقْنٍ عَلَى أَخِيهِ أَبِي غَشَّامٍ صَاحِبِ تَكْرِيتَ بِهَا، وَسَجَنَهُ فِي سِرْدَابٍ بِالْقَلْعَةِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى تَكْرِيتَ. وَفِيهَا زُلْزِلَتْ خُوزِسْتَانُ وَأَرَّجَانُ وَأَيْذَجُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْبِلَادِ زَلَازِلَ كَثِيرَةً، وَكَانَ مُعْظَمُهَا بِأَرَّجَانَ، فَخُرِّبَ كَثِيرٌ مِنْ بِلَادِهَا وَدِيَارِهَا، وَانْفَرَجَ جَبَلٌ كَبِيرٌ قَرِيبٌ مِنْ أَرَّجَانَ وَانْصَدَعَ، فَظَهَرَ فِي وَسَطِهِ دَرَجَةٌ مَبْنِيَّةٌ بِالْآجُرِّ وَالْجِصِّ قَدْ خَفِيَتْ فِي الْجَبَلِ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِك َ. وَكَانَ بِخُرَاسَانَ أَيْضًا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ خَرَّبَتْ كَثِيرًا، وَهَلَكَ بِسَبَبِهَا كَثِيرٌ، وَكَانَ أَشَدُّهَا بِمَدِينَةِ بَيْهَقَ فَأَتَى الْخَرَابُ عَلَيْهَا، وَخَرَّبَ سُورَهَا وَمَسَاجِدَهَا، وَلَمْ يَزَلْ سُورَهَا خَرَابًا إِلَى سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَأَمَرَ نِظَامُ الْمُلْكِ بِبِنَائِهِ فَبُنِيَ، ثُمَّ خَرَّبَهُ أَرْسِلَانُ

أَرْغُو بَعْدَ مَوْتِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ عَمَّرَهُ مَجْدُ الْمُلْكِ الْبَلَاسَانِيُّ. وَفِيهَا عُمِلَ مَحْضَرٌ بِبَغْدَاذَ يَتَضَمَّنُ الْقَدْحَ فِي نَسَبِ الْعَلَوِيِّينَ أَصْحَابِ مِصْرَ، وَأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي ادِّعَائِهِمُ النَّسَبَ إِلَى عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَزَوْهُمْ فِيهِ إِلَى الدَّيْصَانِيَّةِ مِنَ الْمَجُوسِ، وَالْقَدَّاحِيَّةِ مِنَ الْيَهُودِ، وَكُتِبَ فِيهِ الْعَلَوِيُّونَ وَالْعَبَّاسِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ وَالْقُضَاةُ وَالشُّهُودُ، وَعُمِلَ بِهِ عِدَّةُ نُسَخٍ، وَسُيِّرَ فِي الْبِلَادِ، وَشُيِّعَ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي. وَفِيهَا شَهِدَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ السَّيِّدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الصَّبَّاغِ مُصَنِّفُ الشَّامِلِ - عِنْدَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَاكُولَا. وَفِيهَا حَدَثَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ بِبَغْدَاذَ، وَامْتَنَعَ الضَّبْطُ، وَانْتَشَرَ الْعَيَّارُونَ وَتَسَلَّطُوا، وَجَبَوُا الْأَسْوَاقَ، وَأَخَذُوا مَا كَانَ يَأْخُذُهُ أَرْبَابُ الْأَعْمَالِ، وَكَانَ مُقَدَّمَهُمُ الطِّقْطِقِيُّ وَالزَّيْبَقُ، وَأَعَادَ الشِّيعَةُ الْأَذَانَ بِحَيِّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَكَتَبُوا عَلَى مَسَاجِدِهِم ْ: مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ خَيْرُ الْبَشَرِ، وَجَرَى الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ وَعَظُمَ الشَّر ُّ. وَفِيهَا زَوَّجَ نُورُ الدَّوْلَةِ دُبَيْسُ بْنُ مَزْيَدٍ ابْنَهُ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ مَنْصُورًا بِابْنَةِ أَبِي الْبَرَكَاتِ بْنِ الْبَسَاسِيرِيِّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيُّ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَ

إِمَامًا فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأُصُولِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِه ِ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ تُوُفِّيَ أَيْضًا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُذْهِبِ الْوَاعِظُ، وَهُوَ رَاوِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.

ثم دخلت سنة خمس وأربعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 445 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ بِبَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ زَادَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السُّنَّةِ، وَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا أَوَاخِرَ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . فَلَمَّا كَانَ الْآنَ عَظُمَ الشَّرُّ، وَاطَّرَحَتِ الْمُرَاقَبَةُ لِلسُّلْطَانِ، وَاخْتَلَطَ بِالْفَرِيقَيْنِ طَوَائِفُ مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ اجْتَمَعَ الْقُوَّادُ وَاتَّفَقُوا عَلَى الرُّكُوبِ إِلَى الْمَحَالِّ، وَإِقَامَةِ السِّيَاسَةِ بِأَهْلِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، وَأَخَذُوا مِنَ الْكَرْخِ إِنْسَانًا عَلَوِيًّا وَقَتَلُوهُ، فَثَارَ نِسَاؤُهُ وَنَشَرْنَ شُعُورَهُنَّ وَاسْتَغَثْنَ، فَتَبِعَهُنَّ الْعَامَّةُ مِنْ أَهْلِ الْكَرْخِ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُوَّادِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْعَامَّةِ قِتَالٌ شَدِيدٌ، وَطَرَحَ الْأَتْرَاكُ النَّارَ فِي أَسْوَاقِ الْكَرْخِ، فَاحْتَرَقَ كَثِيرٌ مِنْهَا، وَأَلْحَقَتْهَا بِالْأَرْضِ، وَانْتَقَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْكَرْخِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمَحَال ِّ. وَنَدِمَ الْقُوَّادُ عَلَى مَا فَعَلُوهُ، وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ ذَلِكَ، وَصَلُحَ الْحَالُ، وَعَادَ النَّاسُ إِلَى الْكَرْخِ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بِالدِّيوَانِ بِكَفِّ الْأَتْرَاكِ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُم ْ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ عَلَى أَرَّجَانَ وَنَوَاحِيهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى الْأُولَى اسْتَوْلَى الْمَلِكُ الرَّحِيمُ عَلَى مَدِينَةِ أَرَّجَانَ، وَأَطَاعَهُ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْجُنْدِ، وَكَانَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ فُولَاذَ بْنَ خُسْرُو الدَّيْلَمِي َّ. وَكَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى مَا جَاوَرَهَا مِنَ الْبِلَادِ إِنْسَانٌ مُتَغَلِّبٌ يُسَمَّى خُشْنَامُ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ فُولَاذٌ جَيْشًا فَأَوْقَعُوا بِهِ وَأَجْلَوْهُ عَنْ تِلْكَ النَّوَاحِي، وَاسْتَضَافُوا إِلَى طَاعَةِ الرَّحِيم ِ.

وَخَافَ هَزَارَسْبُ بْنُ بِنْكِيرَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَايِنًا لِلْمَلِكِ الرَّحِيمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَرْسَلَ يَتَضَرَّعُ وَيَتَقَرَّبُ، وَيَسْأَلُ التَّقَدُّمَ إِلَى فُولَاذٍ بِإِحْسَانِ مُجَاوَرَتِهِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِك َ. 0 ذِكْرُ مَرَضِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَك إِلَى أَصْبَهَانَ مَرِيضًا، وَقَوِيَ الْإِرْجَافُ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ عُوفِيَ وَوَصَلَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ أَبُو عَلِيٍّ ابْنُ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْبَصْرَةِ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ أَيْضًا هَزَارَسْبُ بْنُ بِنْكِيرَ بْنِ عِيَاضٍ صَاحِبُ أَيْذَجَ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ خَافَ الْمَلِكَ الرَّحِيمَ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى الْبَصْرَةِ وَأَرَّجَانَ. فَأَكْرَمَهُمَا طُغْرُلْبَك وَأَحْسَنَ ضِيَافَتَهُمَا، وَوَعَدَهُمَالنُّصْرَةَ وَالْمَعُونَة َ. ذِكْرُ عَوْدِ سَعْدِي بْنِ أَبِي الشَّوْكِ إِلَى طَاعَةِ الرَّحِيمِ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وُصُولَ سَعْدِي إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَسْرِهِ عَمَّهُ، فَلَمَّا أَسَرَهُ سَارَ وَلَدُهُ بَدْرُ بْنُ الْمُهَلْهِلِ إِلَى السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك، وَتَحَدَّثَ مَعَهُ فِي مُرَاسَلَةِ سَعْدِي لِيُطْلِقَ أَبَاهُ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ طُغْرُلْبَك وَلَدًا كَانَ لِسَعْدِي عِنْدَهُ رَهِينَةً، وَأَرْسَلَ مَعَهُ رَسُولًا يَقُولُ فِيه ِ: إِنْ أَرَدْتَ فِدْيَةً عَنْ أَسِيرِكَ فَهَذَا وَلَدُكَ قَدْ رَدَدْتُهُ عَلَيْكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا الْمَالَفَةَ وَمُفَارَقَةَ الْجَمَاعَةِ قَابَلْنَاكَ عَلَى فِعْلِك َ. فَلَمَّا وَصَلَ بَدْرٌ وَالرَّسُولُ إِلَى هَمَذَانَ تَخَلَّفَ بَدْرٌ، وَسَارَ الرَّسُولُ إِلَيْهِ، فَامْتَعَضَ مِنْ قَوْلِهِ، وَخَالَفَ طُغْرُلْبَك، وَسَارَ إِلَى حُلْوَانَ وَأَرَادَ أَخْذَهَا، فَلَمْ يُمْكِنْهُ، وَتَرَدَّدَ بَيْنَ رُوشَنْقِبَاذَ وَالْبَرَدَانِ، وَكَاتَبَ الْمَلِكَ الرَّحِيمَ، وَصَارَ فِي طَاعَتِهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ وَسُخْتُ كَمَانُ، وَهُمَا مِنْ أَعْيَانِ عَسْكَرِ طُغْرُلْبَك، فِي عَسْكَرٍ مَعَ بَدْرِ بْنِ الْمُهَلْهِلِ، فَأَوْقَعُوا بِهِ، فَانْهَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَعَادَ الْغُزُّ عَنْهُمْ إِلَى حُلْوَانَ، وَسَارَ بَدْرٌ إِلَى شَهْرَزُورَ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْغُزِّ، وَمَضَى سَعْدِي إِلَى قَلْعَةِ رُوشَنْقِبَاذَ.

ذِكْرُ عَوْدِ الْأَمِيرِ أَبِي مَنْصُورٍ إِلَى شِيرَازَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالٍ عَادَ الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ فُولَاسْتُونُ ابْنُ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ إِلَى شِيرَازَ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهَا، وَفَارَقَهَا أَخُوهُ الْأَمِيرُ أَبُو سَعْد ٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمِيرَ أَبَا سَعْدٍ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ مَعَهُ فِي دَوْلَتِهِ إِنْسَانٌ يُعْرَفُ بِعَمِيدِ الدِّينِ أَبِي نَصْرِ بْنِ الظَّهِيرِ، فَتَحَكَّمُ مَعَهُ، وَاطَّرَحَ الْأَجْنَادَ وَاسْتَخَفَّ بِهِمْ، وَأَوْحَشَ أَبَا نَصْرِ بْنَ خُسْرُو صَاحِبَ قَلْعَةِ إِصْطَخْرَ، الَّذِي كَانَ قَدِ اسْتَدْعَى الْأَمِيرَ أَبَا سَعْدٍ وَمَلَّكَه ُ. فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ اجْتَمَعُوا عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَتَأَلَّبُوا عَلَيْهِ، وَأَحْضَرَ أَبُو نَصْرِ بْنُ خُسْرُو الْأَمِيرَ أَبَا مَنْصُورِ بْنَ أَبِي كَالِيجَارَ إِلَيْه ِ، وَسَعَى فِي اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ، فَأَجَابَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَنَادِ لِكَرَاهَتِهِمْ لِعَمِيدِ الدِّينِ، فَقَبَضُوا عَلَيْهِ، وَنَادَوْا بِشِعَارِ الْأَمِيرِ أَبِي مَنْصُورٍ، وَأَظْهَرُوا طَاعَتَهُ، وَأَخْرَجُوا الْأَمِيرَ أَبَا سَعْدٍ عَنْهُمْ، فَعَادَ إِلَى الْأَهْوَازِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، وَدَخَلَ الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ إِلَى شِيرَازَ مَالِكًا لَهَا، مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهَا، وَخَطَبَ فِيهَا لِطُغْرُلْبَك وَلِلْمَلِكِ الرَّحِيمِ وَلِنَفْسِهِ بَعْدَهُمُا. ذِكْرُ إِيقَاعِ الْبَسَاسِيرِيِّ بِالْأَكْرَادِ وَالْأَعْرَابِ وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَاذَ بِأَنَّ جَمْعًا مِنَ الْأَكْرَادِ وَجَمْعًا مِنَ الْأَعْرَابِ قَدْ أَفْسَدُوا فِي الْبِلَادِ، وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ، وَنَهَبُوا الْقُرَى، طَمَعًا فِي السَّلْطَنَةِ بِسَبَبِ الْغُزِّ، فَسَارَ إِلَيْهِمُ الْبَسَاسِيرِيُّ جَرِيدَةً، وَتَبِعَهُمْ إِلَى الْبَوَازِيجِ، فَأَوْقَعَ بِطَوَائِفَ كَثِيرَةٍ مِنْهُمْ، وَقَتَلَ فِيهِمْ، وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ، وَانْهَزَمَ بَعْضُهُمْ فَعَبَرُوا الزَّابَ عِنْدَ الْبَوَازِيجِ، فَلَمْ يُدْرِكْهُمْ، وَأَرَادَ الْعُبُورَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ بِالْجَانِبِ الْآخَرِ، وَكَانَ الْمَاءُ زَائِدًا، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ عُبُورِهِ، فَنَجَوْا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الشَّرِيفُ أَبُو تَمَّامٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّيْنَبِيُّ، نَقِيبُ النُّقَبَاءِ، وَقَامَ بَعْدَهُ فِي النِّقَابَةِ ابْنُهُ أَبُو عَلِي ٍّ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ الْبَرْمَكِيُّ، وَكَانَ مُكْثِرًا مِنَ الْحَدِيثِ، سَمِعَ ابْنَ مَالِكٍ الْقَطِيعِيَّ وَغَيْرَهُ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْبَرْمَكِيُّ لِأَنَّهُ سَكَنَ مَحَلَّةً بِبَغْدَاذَ تُعْرَفُ بِالْبَرَامِكَةِ، وَقِيلَ: كَانَ مِنْ قَرْيَةٍ عِنْدَ الْبَصْرَةِ تُعْرَفُ بِالْبَرْمَكِيَّة ِ.

ثم دخلت سنة ست وأربعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 446 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ فِتْنَةِ الْأَتْرَاكِ بِبَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ كَانَتْ فِتْنَةُ الْأَتْرَاكِ بِبَغْدَاذَ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّهُمْ تَخَلَّفَ لَهُمْ عَلَى الْوَزِيرِ الَّذِي لِلْمَلِكِ الرَّحِيمِ مَبْلَغٌ كَثِيرٌ مِنْ رُسُومِهِمْ، فَطَالَبُوهُ وَأَلَحُّوا عَلَيْهِ، فَاخْتَفَى فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، فَحَضَرَ الْأَتْرَاكُ بِالدِّيوَانِ وَطَالَبُوهُ، وَشَكَوْا مَا يَلْقَوْنَهُ مِنْهُ مِنَ الْمِطَالِ بِمَالِهِمْ، فَلَمْ يُجَابُوا إِلَى إِظْهَارِهِ، فَعَدَلُوا عَنِ الشَّكْوَى مِنْهُ إِلَى الشَّكْوَى مِنَ الدِّيوَانِ، وَقَالُوا: إِنَّ أَرْبَابَ الْمُعَامَلَاتِ قَدْ سَكَنُوا بِالْحَرِيمِ، وَأَخَذُوا اأَمْوَالَ، وَإِذَا طَلَبْنَاهُمْ بِهَا يَمْتَنِعُونَ بِالْمُقَامِ بِالْحَرِيمِ، وَانْتَصَبَ الْوَزِيرُ وَالْخَلِيفَةُ لِمَنْعِنَا عَنْهُمْ، وَقَدْ هَلَكْنَا. فَتَرَدَّدَ الْخِطَابُ مِنْهُمْ وَالْجَوَابُ عَنْهُ، فَقَامُوا نَافِرِينَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ ظَهَرَ الْخَبَرُ أَنَّهُمْ عَلَى عَزْمِ حَصْرِ دَارِ الْخِلَافَةِ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَأَخْفَوْا أَمْوَالَهُمْ، وَحَضَرَ الْبَسَاسِيرِيُّ دَارَ الْخِلَافَةِ، وَتَوَصَّلَ إِلَى مَعْرِفَةِ خَبَرِ الْوَزِيرِ، فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ عَلَى خَبَرٍ، فَطُلِبَ مِنْ دَارِهِ وَدُورِ مَنْ يُتَّهَمُ بِهِ، وَكُبِسَتِ الدُّورُ فَلَمْ يَظْهَرُوا لَهُ عَلَى خَبَرٍ. وَرَكِبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ إِلَى دَارِ الرُّومِ فَنَهَبُوهَا، وَأَحْرَقُوا الْبِيَعَ وَالْقَلَّايَاتِ، وَنَهَبُوا فِيهَا دَارَ أَبِي الْحَسَنِ بْنَ عُبَيْدٍ وَزِيرَ الْبَسَاسِيرِيِّ. وَقَامَ أَهْلُ نَهْرِ الْمُعَلَّى وَبَابِ الْأَزَجِّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمَحَالِّ فِي مَنَافِذِ الدُّرُوبِ - لِمَنْعِ الْأَتْرَاكِ، وَانْخَرَقَ الْأَمْرُ، وَنَهَبَ الْأَتْرَاكُ كُلَّ مَنْ وَرَدَ إِلَى بَغْدَاذَ، (فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ) ،

وَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْخَلِيفَةُ يَنْهَاهُمْ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الِانْتِقَالَ عَنْ بَغْدَاذَ، فَلَمْ يُزْجَرُوا. هَذَا جَمِيعُهُ وَالْبَسَاسِيرِيُّ غَيْرُ رَاضٍ بِفِعْلِهِمْ، وَهُوَ مُقِيمٌ بِدَارِ الْخَلِيفَةِ. وَتَرَدَّدَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ ظَهَرَ الْوَزِيرُ، وَقَامَ لَهُمْ بِالْبَاقِي مِنْ مَالِهِمْ مِنْ مَالِهِ وَأَثْمَانِ دَوَابِّهِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ زَالُوا فِي خَبْطٍ وَعَسَفٍ، فَعَادَ طَمَعُ الْأَكْرَادِ وَالْأَعْرَابِ أَشَدَّ مِنْهُ أَوَّلًا، وَعَاوَدُوا الْغَارَةَ وَالنَّهْبَ وَالْقَتْلَ، فَخُرِّبَتِ الْبِلَادُ وَتَفَرَّقَ أَهْلُهَا. وَانْحَدَرَ أَصْحَابُ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ مِنَ الْمَوْصِلِ طَامِعِينَ، فَكَبَسُوا حُلَلَ كَامِلِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَهِيَ بِالْبَرَدَانِ، فَنَهَبُوهَا، وَبِهَا دَوَابُّ وَجِمَالٌ بَخَاتِيٌّ لِلْبَسَاسِيرِيِّ، فَأَخَذُوا الْجَمِيعَ، وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَازْدَادَ خَوْفُ النَّاسِ مِنَ الْعَامَّةِ وَالْأَتْرَاكِ، وَعَظُمَ انْحِلَالُ أَمْرِ السَّلْطَنَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا مِنْ ضَرَرِ الْخِلَاف ِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ طُغْرُلْبَك عَلَى أَذْرَبِيجَانَ وَغَزْوِ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ طُغْرُلْبَك إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، فَقَصَدَ تَبْرِيزَ، وَصَاحِبُهَا الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ وَهْسُوذَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرُّوَّادِيُّ، فَأَطَاعَهُ وَخَطَبَ لَهُ وَحَمَلَ إِلَيْهِ مَا أَرْضَاهُ بِهِ، وَأَعْطَاهُ وَلَدَهُ رَهِينَةً، فَسَارَ طُغْرُلْبَك عَنْهُ إِلَى الْأَمِيرِ أَبِي الْأَسْوَارِ صَاحِبِ جَنْزَةَ، فَأَطَاعَهُ أَيْضًا وَخَطَبَ لَهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ تِلْكَ النَّوَاحِي أَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَبْذُلُونَ الطَّاعَةَ وَالْخُطْبَة َ. وَانْقَادَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَيْهِ، فَأَبْقَى بِلَادَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَأَخَذَ رَهَائِنَهُمْ، وَسَارَ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ، وَقَصَدَ مَلَازْكِرْدَ، وَهِيَ لِلرُّومِ، فَحَصَرَهَا وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا، وَنَهَبَ مَا جَاوَرَهَا مِنَ الْبِلَادِ وَأَخْرَبَهَا، وَهِيَ مَدِينَةٌ حَصِينَةٌ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ نَصْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ مَرْاوَنَ صَاحِبُ دِيَارِ بَكْرٍ الْهَدَايَا الْكَثِيرَةَ وَالْعَسَاكِرَ، وَقَدْ كَانَ خَطَبَ لَهُ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ وَأَطَاعَهُ، وَأَثَّرَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَك فِي غَزْوِ الرُّومِ آثَارًا عَظِيمَةً، وَنَالَ مِنْهُمْ مِنَ النَّهْبِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ شَيْئًا كَثِيرًا.

وَبَلَغَ فِي غَزْوَتِهِ هَذِهِ إِلَى أَرْزَنَ الرُّومِ، وَعَادَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ لَمَّا هَجَمَ الشِّتَاءُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْلِكَ مَلَازْكِرْدَ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُقِيمُ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ الشِّتَاءُ، وَيَعُودَ يُتِمَّ غَزَاتِهِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى الرَّيِّ فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَعَادَ نَحْوَ الْعِرَاقِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مُحَارَبَةِ بَنِي خَفَاجَةَ وَهَزِيمَتِهِمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَجَبٍ قَصَدَ بَنُو خَفَاجَةَ الْجَامِعَيْنِ وَأَعْمَالَ نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسٍ، وَنَهَبُوا وَفَتَكُوا فِي أَهْلِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَكَانَ نُورُ الدَّوْلَةِ شَرْقِيَّ الْفُرَاتِ، وَخَفَاجَةُ غَرْبِيَّهَا، فَأَرْسَلَ نُورُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْبَسَاسِيرِيِّ يَسْتَنْجِدُهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَصَلَ عَبَرَ الْفُرَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَقَاتَلَ خَفَاجَةَ وَأَجْلَاهُمْ عَنِ الْجَامِعَيْنِ، فَانْهَزَمُوا مِنْهُ وَدَخَلُوا الْبَرَّ، فَلَمْ يَتْبَعْهُمْ وَعَادَ عَنْهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى الْفَسَادِ، فَاسْتَعَدَّ لِسُلُوكِ الْبَرِّ خَلْفَهُمْ أَيْنَ قَصَدُوا، وَعَطَفَ نَحْوَهُمْ قَاصِدًا حَرْبَهُمْ، فَدَخَلُوا الْبَرَّ أَيْضًا، فَتَبِعَهُمْ فَلَحِقَهُمْ بِخَفَّانَ، وَهُوَ حِصْنٌ بِالْبَرِّ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ، (وَقَتَلَ مِنْهُمْ) وَنَهَبَ أَمْوَالَهُمْ وَجِمَالَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ وَإِمَاءَهُمْ، وَشَرَّدَهُمْ كُلَّ مُشَرَّدٍ، وَحَصَرَ خَفَّانَ فَفَتَحَهُ وَخَرَّبَهُ، وَأَرَادَ تَخْرِيبَ الْقَائِمِ بِهِ، وَهُوَ بِنَاءٌ مِنْ آجُرٍّ وَكِلْسٍ، وَصَانَعَ عَنْهُ صَاحِبَهُ رَبِيعَةَ بْنَ مُطَاعٍ بِمَالٍ بَذَلَهُ، فَتَرَكَهُ وَعَادَ إِلَى الْبِلَاد ِ. وَهَذَا الْقَائِمُ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ عَلَمًا يَهْتَدِي بِهِ السُّفُنُ لَمَّا كَانَ الْبَحْرُ يَجِيءُ إِلَى النَّجَفِ. وَدَخَلَ بَغْدَاذَ وَمَعَهُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا مِنْ خَفَاجَةَ عَلَيْهِمُ الْبَرَانِسُ، وَقَدْ شَدَّهُمْ بِالْحِبَالِ إِلَى الْجِمَالِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَصَلَبَ جَمَاعَةً، وَتَوَجَّهَ إِلَى حَرْبَى فَحَصَرَهَا، وَقَرَّرَ عَلَى أَهْلِهَا تِسْعَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَأَمَّنَهُم ْ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ عَلَى الْأَنْبَارِ وَالْخُطْبَةِ لِطُغْرُلْبَك بِأَعْمَالِهِ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ الْأَمِيرُ أَبُو الْمَعَالِي قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ مَدِينَةَ الْأَنْبَارِ وَفَتَحَهَا، وَخَطَبَ لِطُغْرُلْبَك فِيهَا وَفِي سَائِرِ أَعْمَالِهِ، وَنَهَبَ مَا كَانَ فِيهَا لِلْبَسَاسِيرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَنَهَبَ حُلَلَ أَصْحَابِهِ بِالْخَالِصِ، وَفَتَحُوا بُثُوقَهْ، فَامْتَعَضَ الْبَسَاسِيرِيُّ مِنْ ذَلِكَ، وَجَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً وَقَصَدَ الْأَنْبَارَ وَحَرْبَى، فَاسْتَعَادَهُمَا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ وَفَاةِ الْقَائِدِ بْنِ حَمَّادٍ وَمَا كَانَ مِنْ أَهْلِهِ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَجَبٍ تُوُفِّيَ الْقَائِدُ ابْنُ حَمَّادٍ، وَأَوْصَى إِلَى وَلَدِهِ مُحَسَّنٍ، وَأَوْصَاهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى عُمُومَتِهِ، فَلَمَّا مَاتَ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَأَرَادَ عَزْلَ جَمِيعِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ عَمُّهُ يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ خَالَفَهُ، وَجَمَعَ جَمْعًا عَظِيمًا وَبَنَى قَلْعَةً فِي جَبَلٍ مَنِيعٍ، وَسَمَّاهَا الطَّيَّارَةَ. ثُمَّ إِنَّ مُحَسَّنًا قَتَلَ مِنْ عُمُومَتِهِ أَرْبَعَةً، فَازْدَادَ يُوسُفُ، نُفُورًا وَكَانَ ابْنُ عَمِّهِ بُلُكِّينُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي بَلَدِهِ أَفْرُيُونَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُحَسَّنٌ يَسْتَدْعِيهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ أَمَرَ مُحَسَّنٌ رِجَالًا مِنَ الْعَرَبِ أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ لَهُمْ أَمِيرُهُمْ خَلِيفَةُ بْنُ مَكَنَ: إِنَّ بُلُكِّينَ لَمْ يَزَلْ مُحْسِنًا إِلَيْنَا، فَكَيْفَ نَقْتُلُهُ؟ فَأَعْلَمُوهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مُحَسَّنٌ، فَخَافَ، فَقَالَ لَهُ خَلِيفَةُ: لَا تَخَفْ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلَ مُحَسَّنٍ فَأَنَا أَقْتُلُهُ لَكَ. فَاسْتَعَدَّ بُلُكِّينُ لِقِتَالِهِ، وَسَارَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا عَلِمَ مُحَسَّنٌ بِذَلِكَ وَكَانَ قَدْ فَارَقَ الْقَلْعَةَ عَادَ هَارِبًا إِلَيْهَا، فَأَدْرَكَهُ بُلُكِّينُ فَقَتَلَهُ، وَمَلَكَ الْقَلْعَةَ وَوَلِيَ الْأَمْرَ، وَكَانَ مُلْكُهُ الْقَلْعَةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ الْوَحْشَةِ بَيْنَ الْبَسَاسِيرِيِّ وَالْخَلِيفَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ابْتَدَأَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالْبَسَاسِيرِيِّ.

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْغَنَائِمِ وَأَبَا سَعْدٍ ابْنَيِ الْمُحْلِبَانِ صَاحِبَيْ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ، وَصَلَا إِلَى بَغْدَاذَ سِرًّا، فَامْتَعَضَ الْبَسَاسِيرِيُّ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ وَصَاحِبُهُمْ كَبَسُوا حُلَلَ أَصْحَابِي، وَنَهَبُوا، وَفَتَحُوا الْبُثُوقَ، وَأَسْرَفُوا فِي إِهْلَاكِ النَّاسِ. وَأَرَادَ أَخْذَهُمْ فَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْهُمْ، فَمَضَى إِلَى حَرْبَى وَعَادَ وَلَمْ يَقْصِدْ دَارَ الْخِلَافَةِ عَلَى عَادَتِهِ، فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ. وَاجْتَازَتْ بِهِ سَفِينَةٌ لِبَعْضِ أَقَارِبِ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، فَمَنَعَهَا وَطَالَبَ بِالضَّرِيبَةِ الَّتِي عَلَيْهَا، وَأَسْقَطَ مُشَاهَرَاتِ الْخَلِيفَةِ مِنْ دَارِ الضَّرْبِ، وَكَذَلِكَ مُشَاهَرَاتِ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَحَوَاشِيَ الدَّارِ، وَأَرَادَ هَدْمَ دُورِ بَنِي الْمُحْلِبَانِ، فَمُنِعَ مِنْهُ، فَقَالَ: مَا أَشْكُو إِلَّا مِنْ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ الَّذِي قَدْ خَرَّبَ الْبِلَادَ، وَأَطْمَعَ الْغُزَّ وَكَاتَبَهُمْ. وَدَامَ ذَلِكَ إِلَى ذِي الْحِجَّةِ، فَسَارَ الْبَسَاسِيرِيُّ إِلَى الْأَنْبَارِ، وَأَحْرَقَ نَاحِيَتَيْ دُمَّا، وَالْفَلُّوجَةَ، وَكَانَ أَبُو الْغَنَائِمِ بْنُ الْمُحْلِبَانِ بِالْأَنْبَارِ قَدْ أَتَاهَا مِنْ بَغْدَاذَ، وَوَرَدَ نُورُ الدَّوْلَةِ دُبَيْسٌ إِلَى الْبَسَاسِيرِيِّ، مُعَاوِنًا لَهُ عَلَى حَصْرِهَا، وَنَصَبَ الْبَسَاسِيرِيُّ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، فَهَدَمَ بُرْجًا، وَرَمَاهُمْ بِالنِّفْطِ، فَأَحْرَقَ أَشْيَاءَ كَانَ قَدْ أَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَلَدِ لِقِتَالِهِ، وَدَخَلَهَا قَهْرًا، فَأَسَرَ مِائَةَ نَفْسٍ مِنْ بَنِي خَفَاجَةَ، وَأَسَرَ أَبَا الْغَنَائِمِ بْنَ الْمُحْلِبَانِ، فَأُخِذَ وَقَدْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْفُرَاتِ، وَنَهَبَ الْأَنْبَارَ، وَأَسَرَ مِنْ أَهْلِهَا خَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ أَبُو الْغَنَائِمِ عَلَى جَمَلٍ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ أَحْمَرُ، وَعَلَى رَأْسِهِ بُرْنُسٌ، وَفِي رِجْلَيْهِ قَيْدٌ، وَأَرَادَ صَلْبَهُ وَصَلْبَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَسْرَى، فَسَأَلَهُ نُورُ الدَّوْلَةِ أَنْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ حَتَّى يَعُودَ، وَأَتَى الْبَسَاسِيرِيُّ إِلَى مُقَابِلِ التَّاجِ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ، وَعَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَتَرَكَ أَبَا الْغَنَائِمِ لَمْ يَصْلُبْهُ، وَصَلَبَ جَمَاعَةً مِنَ الْأَسْرَى، فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ الْوَحْشَةِ. ذِكْرُ وَصُولِ الْغُزِّ إِلَى الدَّسْكَرَةِ وَغَيْرِهَا فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْغُزِّيَّةِ

السَّلْجُوقِيَّةِ، إِلَى الدَّسْكَرَةِ، وَكَانَ مُقِيمًا بِحُلْوَانَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا قَاتَلَهُ أَهْلُهَا ثُمَّ ضَعُفُوا وَعَجَزُوا وَهَرَبُوا مُتَفَرِّقِينَ، وَدَخَلَ الْغُزُّ الْبَلَدَ فَنَهَبُوهُ أَقْبَحَ نَهْبٍ، وَضَرَبُوا النِّسَاءَ وَأَوْلَادَهُنَّ، فَاسْتَخْرَجُوا بِذَلِكَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَسَارُوا إِلَى رُوشَنْقِبَاذَ لِفَتْحِهَا، وَهِيَ بِيَدِ سَعْدِي، وَأَمْوَالُهُ فِيهَا وَفِي قَلْعَةِ الْبَرَدَانِ. وَكَانَ سَعْدِي قَدْ فَارَقَ طَاعَةَ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمْ يَفْتَحْهَا، وَأَجْلَى أَهْلَ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَخُرِّبَتِ الْقُرَى، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُ أَهْلِهَا. وَسَارَ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنَ الْغُزِّ إِلَى نَوَاحِي الْأَهْوَازِ وَأَعْمَالِهَا، فَنَهَبُوهَا وَاجْتَاحُوا أَهْلَهَا، وَقَوِيَ طَمَعُ الْغُزِّ فِي الْبِلَادِ، وَانْخَذَلَ الدَّيْلَمُ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ. ثُمَّ سَيَّرَ طُغْرُلْبَك الْأَمِيرَ أَبَا عَلِيٍّ ابْنَ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْبَصْرَةِ، فِي جَيْشٍ مِنَ الْغُزِّ إِلَى خُوزِسْتَانَ لِيَمْلِكَهَا، فَوَصَلَ سَابُورَ خُوَاسْتَ، وَكَاتَبَ الدَّيْلَمَ الَّذِينَ بِالْأَهْوَازِ يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَعِدُهُمُ الْإِحْسَانَ إِنْ أَجَابُوا، وَالْعُقُوبَةَ إِنِ امْتَنَعُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَطَاعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَالَفَ، فَسَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَمَلَكَهَا وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَلَمْ يَعْرِضْ لِأَحَدٍ فِي مَالٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَلَمْ يُوَافِقْهُ الْغُزُّ عَلَى ذَلِكَ، وَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَى النَّهْبِ وَالْغَارَةِ وَالْمُصَادَرَةِ، وَلَقِيَ النَّاسُ مِنْهُمْ عَنَتًا وَشِدَّةً. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَتِ الصَّرَاصِرُ بِبَغْدَاذَ، حَتَّى كَانَ يُسْمَعُ لَهَا بِاللَّيْلِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ الْجَرَادِ إِذَا طَارَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ تُوُفِّيَ أَبُو حَسَّانٍ الْمُقَلِّدُ بْنُ بَدْرَانَ أَخُو قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ.

وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ تُوُفِّيَ قُسْطَنْطِينُ مَلِكُ الرُّومِ، زَوْجُ تَذُورَةَ بِنْتِ قُسْطَنْطِينَ، الْمَوْسُومَةِ بِالْمُلْكِ، وَإِنَّمَا مَلَكَ قُسْطَنْطِينُ هَذَا حَيْثُ تَزَوَّجَهَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَصْبَهَانَيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ اللَّبَّانِ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ الْمُقْرِي وَالْمُخْلِصِ وَغَيْرِهِمَا. وَتُوُفِّيَ فِيهَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ رَوْحٍ أَبُو الْحُسَيْنِ النَّهْرَوَانِيُّ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، فَمِنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَتَغَنَّى وَهُوَ يَقُولُ: وَمَا طَلَبُوا سِوَى قَتْلِي ... فَهَانَ عَلِيَّ مَا طَلَبُوا فَاسْتَوْقَفَهُ وَقَالَ لَهُ: أَضِفْ إِلَيْهِ: ( عَلَى قَلْبِي الْأَحِبَّةُ بِا ... لتَّمَادِي فِي الْهَوَى غَلَبُوا ) وَبِالْهِجْرَانِ مِنْ عَيْنَيَّ ... طِيبَ النَّوْمِ قَدْ سَلَبُوا وَمَا طَلَبُوا سِوَى قَتْلِي ... فَهَانَ عَلِيَّ مَا طَلَبُوا

ثم دخلت سنة سبع وأربعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَة] 447 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ عَلَى شِيرَازَ وَقَطْعِ خُطْبَةِ طُغْرُلْبَك فِيهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ سَارَ قَائِدٌ كَبِيرٌ مِنَ الدَّيْلَمِ، يُسَمَّى فُولَاذَ، وَهُوَ صَاحِبُ قَلْعَةِ إِصْطَخْرَ، إِلَى شِيرَازَ، فَدَخَلَهَا وَأَخْرَجَ عَنْهَا الْأَمِيرَ أَبَا مَنْصُورٍ فُولَاسْتُونَ ابْنَ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، فَقَصَدَ فَيْرُوزَابَاذَ وَأَقَامَ بِهَا. وَقَطَعَ فُولَاذُ خُطْبَةَ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك فِي شِيرَازَ، وَخَطَبَ لِلْمَلِكِ الرَّحِيمِ، وَلِأَخِيهِ أَبِي سَعْدٍ، وَكَاتَبَهُمَا يُظْهِرُ لَهُمَا الطَّاعَةَ، (فَعَلِمَا أَنَّهُ) يَخْدَعُهُمَا بِذَلِكَ، فَسَارَ إِلَيْهِ أَبُو سَعْدٍ، وَكَانَ بِأَرَّجَانَ، وَمَعَهُ عَسَاكِرُ كَثِيرَةٌ، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَأَخُوهُ الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ عَلَى قَصْدِ شِيرَازَ وَمُحَاصَرَتِهَا عَلَى قَاعِدَةٍ اسْتَقَرَّتْ بَيْنَهُمَا مِنْ طَاعَةِ أَخِيهِمَا الْمَلِكِ الرَّحِيمِ، فَتَوَجَّهَا نَحْوَهَا فِيمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَحَصَرَا فُولَاذَ فِيهَا. وَطَالَ الْحِصَارُ إِلَى أَنْ عَدِمَ الْقُوتُ فِيهَا، وَبَلَغَ السِّعْرُ سَبْعَةُ أَرْطَالِ حِنْطَةٍ بِدِينَارٍ، وَمَاتَ أَهْلُهَا جُوعًا، وَكَانَ مَنْ بَقِيَ فِيهَا نَحْوَ أَلْفِ إِنْسَانٍ، وَتَعَذَّرَ الْمُقَامُ فِي الْبَلَدِ عَلَى فُولَاذَ، فَفَرَّ هَارِبًا مَعَ مَنْ فِي صُحْبَتِهِ مِنَ الدَّيْلَمِ إِلَى نَوَاحِي الْبَيْضَاءِ وَقَلْعَةِ إِصْطَخْرَ، وَدَخَلَ الْأَمِيرُ أَبُو سَعْدٍ، وَالْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ شِيرَازَ، وَعَسَاكِرُهُمَا، وَمَلَكُوهَا وَأَقَامُوا بِهَا.

ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي حَرْبِ بْنِ مَرْوَانَ صَاحِبِ الْجَزِيرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الْأَمِيرُ أَبُو حَرْبٍ سُلَيْمَانُ بْنُ نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ، وَكَانَ وَالِدُهُ قَدْ سَلَّمَ إِلَيْهِ الْجَزِيرَةَ وَتِلْكَ النَّوَاحِيَ لِيُقِيمَ بِهَا وَيَحْفَظَهَا، وَكَانَ شُجَاعًا مِقْدَامًا، فَاسْتَبَدَّ بِالْأَمْرِ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمِيرِ مُوسَكَ بْنِ الْمُجَلِّي ابْنِ زَعِيمِ الْأَكْرَادِ الْبُخْتِيَّةِ، وَلَهُ حُصُونٌ مَنِيعَةٌ شَرْقِيَّ الْجَزِيرَةِ - نَفْرَةٌ. ثُمَّ رَاسَلَهُ أَبُو حَرْبٍ وَاسْتَمَالَهُ، وَسَعَى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَةَ الْأَمِيرِ أَبِي طَاهِرٍ الْبَشْنَوِيِّ، صَاحِبِ قَلْعَةِ فَنَكَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحُصُونِ، وَكَانَ أَبُو طَاهِرٍ هَذَا ابْنَ أُخْتِ نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ، فَلَمْ يُخَالِفْ أَبُو طَاهِرٍ صَاحِبُ فَنَكَ أَبَا حَرْبٍ فِي الَّذِي أَشَارَ بِهِ مِنْ تَزْوِيجِ الْأَمِيرِ مُوسَكَ، فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ وَنَقَلَهَا إِلَيْهِ، فَاطْمَأَنَّ حِينَئِذٍ مُوسَكُ، وَسَارَ إِلَى سُلَيْمَانَ، فَغَدَرَ بِهِ وَقَبَضَ عَلَيْهِ وَحَبَسَهُ. وَوَصَلَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَك إِلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ لَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى غَزْوِ الرُّومِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ يَشْفَعُ فِي مُوسَكَ، فَأَظْهَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى حَمِيهِ أَبِي طَاهِرٍ الْبَشْنَوِيِّ، وَأَرْسَلَ إِلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ وَابْنِهِ سُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهُمَا: حَيْثُ أَرَدْتُمَا قَتْلَهُ، فَلِمَ جَعَلْتُمَا ابْنَتِي طَرِيقًا إِلَى ذَلِكَ، وَقَلَّدْتُمُونِيَ الْعَارَ؟ وَتَنَكَّرَ لَهُمَا وَخَافَهُ أَبُو حَرْبٍ، فَوَضَعَ عَلَيْهِ مَنْ سَقَاهُ سُمًّا، فَقَتَلَهُ. وَوُلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، فَأَظْهَرَ لَهُ أَبُو حَرْبٍ الْمَوَدَّةَ اسْتِصْلَاحًا لَهُ، وَتَبَرُّؤًا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَا قِيلَ عَنْهُ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ وَتَجْدِيدِ الْأَيْمَانِ، فَنَزَلُوا مِنْ فَنَكَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَبُو حَرْبٍ مِنَ الْجَزِيرَةِ فِي نَفَرٍ قَلِيلٍ، فَقَتَلُوهُ. وَعَرَفَ وَالِدُهُ ذَلِكَ، فَأَقْلَقَهُ وَأَزْعَجَهُ، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ نَصْرًا إِلَى الْجَزِيرَةِ لِيَحْفَظَ تِلْكَ النَّوَاحِيَ، وَيَأْخُذَ بِثَأْرِ أَخِيهِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ جَيْشًا كَثِيفًا. وَكَانَ الْأَمِيرُ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، لَمَّا سَمِعَ قَتْلَ أَبِي حَرْبٍ انْتَهَزَ الْفُرْصَةَ، وَسَارَ إِلَى الْجَزِيرَةِ لِيَمْلِكَهَا، وَكَاتَبَ الْبُخْتِيَّةَ وَالْبَشْنَوِيَّةَ، وَاسْتَمَالَهُمْ، فَنَزَلُوا إِلَيْهِ وَاجْتَمَعُوا مَعَهُ عَلَى قِتَالِ نَصْرِ بْنِ مَرْوَانَ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا كَثُرَ فِيهِ الْقَتْلَى، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، فَكَانَتِ الْغَلَبَةُ أَخِيرًا لِابْنِ مَرْوَانَ، وَجُرِحَ قُرَيْشٌ جِرَاحَةً قَوِيَّةً

بِزُوبِينٍ رُمِيَ بِهِ، وَعَادَ عَنْهُ، وَثَبَتَ أَمْرُ ابْنِ مَرْوَانَ بِالْجَزِيرَةِ، وَعَاوَدَ مُرَاسَلَةَ الْبَشْنَوِيَّةِ وَالْبُخْتِيَّةِ، وَاسْتَمَالَهُمْ لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهِمْ طَمَعًا، فَلَمْ يُطِيعُوهُ. ذِكْرُ وُثُوبِ الْأَتْرَاكِ بِبَغْدَاذَ بِأَهْلِ الْبَسَاسِيرِيِّ وَالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَنَهْبِ دُورِهِ وَأَمْلَاكِهِ وَتَأَكُّدِ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَتْ فِتْنَةٌ بِبَغْدَاذَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ بَيْنَ الْعَامَّةِ، وَثَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَظْهَرُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَحَضَرُوا الدِّيوَانَ، وَطَلَبُوا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنْ يُتَقَدَّمَ إِلَى أَصْحَابِ الدِّيوَانِ بِمُسَاعَدَتِهِمْ، فَأُجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ، وَحَدَثَ مِنْ ذَلِكَ شَرٌّ كَثِيرٌ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا سَعْدٍ النَّصْرَانِيَّ، صَاحِبَ الْبَسَاسِيرِيِّ، حَمَلَ فِي سَفِينَةٍ سِتَّمِائَةِ جَرَّةٍ خَمْرًا لِيَحْدِرَهَا إِلَى الْبَسَاسِيرِيِّ بِوَاسِطٍ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَحَضَرَ ابْنُ سُكَّرَةَ الْهَاشِمِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَعْيَانِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَتَبِعَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَحَاجِبُ بَابِ الْمَرَاتِبِ مِنْ قِبَلِ الدِّيوَانِ، وَقَصَدُوا السَّفِينَةَ، وَكَسَرُوا جِرَارَ الْخَمْرِ وَأَرَاقُوهَا. وَبَلَغَ ذَلِكَ الْبَسَاسِيرِيَّ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَنَسَبَهُ إِلَى رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَتَجَدَّدَتِ الْوَحْشَةُ، فَكَتَبَ فَتَاوَى أَخَذَ فِيهَا خُطُوطَ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الَّذِي فُعِلَ مِنْ كَسْرِ الْجِرَارِ [وَإِرَاقَةِ الْخَمْرِ] تَعَدٍّ غَيْرُ وَاجِبٍ، (وَهِيَ مِلْكُ رَجُلٍ نَصْرَانِيٍّ، لَا يَجُوزُ، وَتَرَدَّدَ الْقَوْلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى) ، فَتَأَكَّدَتِ الْوَحْشَةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَوَضَعَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ الْأَتْرَاكَ الْبَغْدَاذِيِّينَ عَلَى ثَلْبِ الْبَسَاسِيرِيِّ وَالذَّمِّ لَهُ، وَنَسْبِ كُلِّ مَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْ نَقْضٍ إِلَيْهِ، فَطَمِعُوا فِيهِ، وَسَلَكُوا فِي هَذَا الْمَعْنَى زِيَادَةً عَلَى مَا أَرَادَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ، وَتَمَادَتِ الْأَيَّامُ إِلَى رَمَضَانَ، فَحَضَرُوا دَارَ الْخَلِيفَةِ، وَاسْتَأْذَنُوا فِي قَصْدِ دُورِ الْبَسَاسِيرِيِّ وَنَهْبِهَا، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَصَدُوهَا وَنَهَبُوهَا وَأَحْرَقُوهَا، وَنَكَّلُوا بِنِسَائِهِ وَأَهْلِهِ وَنُوَّابِهِ، وَنَهَبُوا دَوَابَّهُ وَجَمِيعَ مَا يَمْلِكُهُ بِبَغْدَاذَ.

وَأَطْلَقَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ لِسَانَهُ فِي الْبَسَاسِيرِيِّ وَذَمَّهُ، وَنَسَبَهُ إِلَى مُكَاتَبَةِ الْمُسْتَنْصِرِ، صَاحِبِ مِصْرَ، وَأَفْسَدَ الْحَالَ مَعَ الْخَلِيفَةِ إِلَى حَدٍّ لَا يُرْجَى صَلَاحُهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ الرَّحِيمِ يَأْمُرُهُ بِإِبْعَادِ الْبَسَاسِيرِيِّ، فَأَبْعَدَهُ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي مُلْكِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك الْعِرَاقَ، وَقَبْضِ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ، وَسَيَرِدُ مِنْ ذَلِكَ مَا تَرَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ وَصُولِ طُغْرُلْبَك إِلَى بَغْدَاذَ وَالْخُطْبَةِ لَهُ بِهَا قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ مَسِيرِ طُغْرُلْبَك إِلَى الرَّيِّ، وَبَعْدَ عَوْدِهِ مِنْ غَزْوِ الرُّومِ، لِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ الطَّرَفِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الرَّيِّ عَادَ إِلَى هَمَذَانَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْحَجَّ وَإِصْلَاحَ طَرِيقِ مَكَّةَ، وَالْمَسِيرَ إِلَى الشَّامِ وَمِصْرَ، وَإِزَالَةَ الْمُسْتَنْصِرِ الْعَلَوِيِّ صَاحِبِهَا. وَكَاتَبَ أَصْحَابَهُ بِالدِّينَوَرَ وَقِرْمِسِينَ وَحُلْوَانَ وَغَيْرِهَا، فَأَمَرَهُمْ بِإِعْدَادِ الْأَقْوَاتِ وَالْعُلُوفَاتِ. فَعَظُمَ الْإِرْجَافُ بِبَغْدَاذَ، وَفُتَّ فِي أَعْضَادِ النَّاسِ، وَشَغَبَ الْأَتْرَاكُ بِبَغْدَاذَ، وَقَصَدُوا دِيوَانَ الْخِلَافَةِ. وَوَصَلَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَك إِلَى حُلْوَانَ، وَانْتَشَرَ أَصْحَابُهُ فِي طَرِيقِ خُرَاسَانَ، فَأَجْفَلَ النَّاسُ غَرْبِيَّ بَغْدَاذَ، وَأَخْرَجَ الْأَتْرَاكُ خِيَامَهُمْ إِلَى ظَاهِرِ بَغْدَاذَ. وَسَمِعَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ بِقُرْبِ طُغْرُلْبَك مِنْ بَغْدَاذَ، فَأَصْعَدَ مِنْ وَاسِطٍ إِلَيْهَا، وَفَارَقَهُ الْبَسَاسِيرِيُّ فِي الطَّرِيقِ لِمُرَاسَلَةٍ وَرَدَتْ مِنَ الْقَائِمِ فِي مَعْنَاهُ إِلَى الْمَلِكِ الرَّحِيمِ أَنَّ الْبَسَاسِيرِيَّ خَلَعَ الطَّاعَةَ، وَكَاتَبَ الْأَعْدَاءَ، يَعْنِي الْمِصْرِيِّينَ، وَأَنَّ الْخَلِيفَةَ لَهُ عَلَى الْمَلِكِ عُهُودٌ، وَلَهُ عَلَى الْخَلِيفَةِ مِثْلُهَا، فَإِنْ آثَرَهُ فَقَدْ قَطَعَ مَا بَيْنَهُمَا، وَإِنْ أَبْعَدَهُ وَأَصْعَدَ إِلَى بَغْدَاذَ تَوَلَّى الدِّيوَانُ تَدْبِيرَ أَمْرِهِ، فَقَالَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ وَمَنْ مَعَهُ: نَحْنُ لِأَوَامِرِ الدِّيوَانِ مُتَّبِعُونَ، وَعَنْهُ مُنْفَصِلُونَ.

وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذُكِرَ. وَسَارَ الْبَسَاسِيرِيُّ إِلَى بَلَدِ نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ لِمُصَاهَرَةٍ بَيْنَهُمَا، وَأَصْعَدَ الْمَلِكَ الرَّحِيمَ إِلَى بَغْدَاذَ. وَأَرْسَلَ طُغْرُلْبَك رَسُولًا إِلَى الْخَلِيفَةِ يُبَالِغُ فِي إِظْهَارِ الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَإِلَى الْأَتْرَاكِ الْبَغْدَاذِيِّينَ يَعِدُهُمُ الْجَمِيلَ وَالْإِحْسَانَ، فَأَنْكَرَ الْأَتْرَاكُ ذَلِكَ، وَرَاسَلُوا الْخَلِيفَةَ فِي الْمَعْنَى، وَقَالُوا: إِنَّنَا فَعَلْنَا بِالْبَسَاسِيرِيِّ مَا فَعَلْنَا، وَهُوَ كَبِيرُنَا، وَمُقَدَّمُنَا، بِتَقَدُّمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَعَدَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِإِبْعَادِ هَذَا الْخَصْمِ عَنَّا، وَنَرَاهُ قَدْ قَرُبَ مِنَّا، وَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْمَجِيءِ. وَسَأَلُوا التَّقَدُّمَ عَلَيْهِ (فِي الْعَوْدِ) ، فَغُولِطُوا فِي الْجَوَابِ، وَكَانَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ يُؤْثِرُ مَجِيئَهُ، وَيَخْتَارُ انْقِرَاضَ الدَّوْلَةِ الدَّيْلَمِيَّةِ. ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ الرَّحِيمَ وَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ مُنْتَصَفَ رَمَضَانَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُظْهِرُ لَهُ الْعُبُودِيَّةَ، وَأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ لِيَفْعَلَ مَا تَقْتَضِيهِ الْعَوَاطِفُ مَعَهُ فِي تَقْرِيرِ الْقَوَاعِدِ مَعَ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك، وَكَذَلِكَ قَالَ مَنْ مَعَ الرَّحِيمِ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَأُجِيبُوا بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ أَنْ يُدْخِلَ الْأَجْنَادُ خِيَامَهُمْ مِنْ ظَاهِرِ بَغْدَاذَ، وَيَنْصِبُوهَا بِالْحَرِيمِ، وَيُرْسِلُوا رَسُولًا إِلَى طُغْرُلْبَك يَبْذُلُونَ لَهُ الطَّاعَةَ وَالْخُطْبَةَ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ وَفَعَلُوهُ، وَأَرْسَلُوا رُسُلًا إِلَيْهِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا، وَوَعَدَهُمُ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْخُطَبَاءِ بِالْخُطْبَةِ لِطُغْرُلْبَك بِجَوَامِعِ بَغْدَاذَ، فَخُطِبَ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ. وَأَرْسَلَ طُغْرُلْبَك يَسْتَأْذِنُ الْخَلِيفَةَ فِي دُخُولِ بَغْدَاذَ، فَأَذِنَ لَهُ، فَوَصَلَ إِلَى النَّهْرَوَانِ، وَخَرَجَ الْوَزِيرُ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ إِلَى لِقَائِهِ فِي مَوْكِبٍ عَظِيمٍ مِنَ الْقُضَاةِ، وَالنُّقَبَاءِ، وَالْأَشْرَافِ، وَالشُّهُودِ، وَالْخَدَمِ، وَأَعْيَانِ الدَّوْلَةِ، وَصَحِبَهُ أَعْيَانُ الْأُمَرَاءِ مِنْ عَسْكَرِ الرَّحِيمِ. فَلَمَّا عَلِمَ طُغْرُلْبَك بِهِمْ أَرْسَلَ إِلَى طَرِيقِهِمُ الْأُمَرَاءَ وَوَزِيرَهُ أَبَا نَصْرٍ الْكُنْدُرِيَّ، فَلَمَّا وَصَلَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ (إِلَى السُّلْطَانِ) أَبْلَغَهُ رِسَالَةَ الْخَلِيفَةِ، وَاسْتَحْلَفَهُ لِلْخَلِيفَةِ، وَلِلْمَلِكِ الرَّحِيمِ، وَأُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، وَسَارَ طُغْرُلْبَك وَدَخَلَ بَغْدَاذَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ، وَنَزَلَ بِبَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ

قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ فِي طَاعَتِهِ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. ذِكْرُ وُثُوبِ الْعَامَّةِ بِبَغْدَاذَ بِعَسْكَرِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك وَقَبْضِ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ لَمَّا وَصَلَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَك بَغْدَاذَ دَخَلَ عَسْكَرُهُ الْبَلَدَ لِلِامْتِيَارِ وَشِرَاءِ مَا يُرِيدُونَهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَأَحْسَنُوا مُعَامَلَتَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، وَهُوَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ، جَاءَ بَعْضُ الْعَسْكَرِ إِلَى بَابِ الْأَزَجِّ، وَأَخَذَ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِهِ لِيَطْلُبَ مِنْهُ تِبْنًا، وَهُوَ لَا يَفْهَمُ مَا يُرِيدُونَ، فَاسْتَغَاثَ عَلَيْهِمْ، وَصَاحَ الْعَامَّةُ بِهِمْ، وَرَجَمُوهُمْ، وَهَاجُوا عَلَيْهِمْ. وَسَمِعَ النَّاسُ الصِّيَاحَ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمَلِكَ الرَّحِيمَ وَعَسْكَرَهُ قَدْ عَزَمُوا عَلَى قِتَالِ طُغْرُلْبَك، فَارْتَجَّ الْبَلَدُ مِنْ أَقْطَارِهِ، وَأَقْبَلُوا مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، يَقْتُلُونَ مِنَ الْغُزِّ مَنْ وُجِدَ فِي مَحَالِّ بَغْدَاذَ، إِلَّا أَهْلَ الْكَرْخِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا إِلَى الْغُزِّ، بَلْ جَمَعُوهُمْ وَحَفِظُوهُمْ. وَبَلَغَ السُّلْطَانَ طُغْرُلْبَك مَا فَعَلَهُ أَهْلُ الْكَرْخِ مِنْ حِمَايَةِ أَصْحَابِهِ، فَأَمَرَ بِإِحْسَانِ مُعَامَلَتِهِمْ. فَأَرْسَلَ عَمِيدُ الْمَلِكِ الْوَزِيرُ، إِلَى عَدْنَانَ بْنِ الرَّضِيِّ، نَقِيبِ الْعَلَوِيِّينَ، يَأْمُرُهُ بِالْحُضُورِ، فَحَضَرَ، فَشَكَرَهُ عَنِ السُّلْطَانِ، وَتَرَكَ عِنْدَهُ خَيْلًا بِأَمْرِ السُّلْطَانِ تَحْرُسُهُ وَتَحْرُسُ الْمَحَلَّةَ. وَأَمَّا عَامَّةُ بَغْدَاذَ، فَلَمْ يَقْنَعُوا بِمَا عَمِلُوا، حَتَّى خَرَجُوا وَمَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى ظَاهِرِ بَغْدَاذَ، يَقْصِدُونَ الْعَسْكَرَ السُّلْطَانِيَّ، فَلَوْ تَبِعَهُمُ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ وَعَسْكَرُهُ لَبَلَغُوا مَا أَرَادُوا، لَكِنْ تَخَلَّفُوا، وَدَخَلَ أَعْيَانُ أَصْحَابِهِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، وَأَقَامُوا بِهَا نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُمْ. وَأَمَّا عَسْكَرُ طُغْرُلْبَك فَلَمَّا رَأَوْا فِعْلَ الْعَامَّةِ وَظُهُورَهُمْ مِنَ الْبَلَدِ قَاتَلُوهُمْ، فَقُتِلَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَانْهَزَمَتِ الْعَامَّةُ، وَجُرِحَ فِيهِمْ وَأُسِرَ كَثِيرٌ، وَنَهَبَ الْغُزُّ دَرْبَ يَحْيَى، وَدَرْبَ سُلَيْمٍ، وَبِهِ دُورُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ وَدُورُ أَهْلِهِ، فَنُهِبَ الْجَمِيعُ، وَنُهِبَتِ الرُّصَافَةُ، وَتُرَبُ الْخُلَفَاءِ، وَأُخِذَ مِنْهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصَى، لِأَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْأَصْقَاعِ

نَقَلُوا إِلَيْهَا أَمْوَالَهُمُ اعْتِقَادًا مِنْهُمْ أَنَّهَا مُحْتَرَمَةٌ. وَوَصَلَ النَّهْبُ إِلَى أَطْرَافِ نَهْرِ الْمُعَلَّى، وَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَى النَّاسِ وَعَظُمَ الْخَوْفُ، وَنَقَلَ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ إِلَى بَابِ النُّوبِيِّ، وَبَابِ الْعَامَّةِ، وَجَامِعِ الْقَصْرِ، فَتَعَطَّلَتِ الْجُمُعَاتُ لِكَثْرَةِ الزَّحْمَةِ. وَأَرْسَلَ طُغْرُلْبَك مِنَ الْغَدِ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَعْتِبُ، وَيَنْسُبُ مَا جَرَى إِلَى الْمَلِكِ الرَّحِيمِ وَأَجْنَادِهِ، وَيَقُولُ: إِنْ حَضَرُوا بَرِئَتْ سَاحَتُهُمْ، وَإِنْ تَأَخَّرُوا عَنِ الْحُضُورِ أَيْقَنْتُ أَنَّ مَا جَرَى إِنَّمَا كَانَ بِوَضْعٍ مِنْهُمْ. وَأَرْسَلَ لِلْمَلِكِ الرَّحِيمِ وَأَعْيَانِ أَصْحَابِهِ أَمَانًا لَهُمْ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمُ الْخَلِيفَةُ بِقَصْدِهِ، فَرَكِبُوا إِلَيْهِ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ مَعَهُمْ رَسُولًا يُبْرِئُهُمْ مِمَّا خَامَرَ خَاطِرَ السُّلْطَانِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى خِيَامِهِ نَهَبَهُمُ الْغُزُّ، وَنَهَبُوا رُسُلَ الْخَلِيفَةِ مَعَهُمْ، وَأَخَذُوا دَوَابَّهُمْ وَثِيَابَهُمْ. وَلَمَّا دَخَلَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ إِلَى خَيْمَةِ السُّلْطَانِ أُمِرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ، فَقُبِضُوا كُلُّهُمْ آخِرَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحُبِسُوا، ثُمَّ حُمِلَ الرَّحِيمُ إِلَى قَلْعَةِ السِّيرَوَانِ، وَكَانَتْ وِلَايَةُ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ عَلَى بَغْدَاذَ سِتَّ سِنِينَ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَنُهِبَ أَيْضًا قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَرَبِ، وَنَجَا مَسْلُوبًا، فَاحْتَمَى بِخَيْمَةِ بَدْرِ بْنِ الْمُهَلْهِلِ، فَأَلْقَوْا عَلَيْهِ الزَّلَالِيَّ حَتَّى أَخْفَوْهُ بِهَا عَنِ الْغُزِّ. ثُمَّ عَلِمَ السُّلْطَانُ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ بِالْعَوْدِ إِلَى أَصْحَابِهِ وَحُلَلِهِ تَسْكِينًا لَهُ. وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى السُّلْطَانِ يُنْكِرُ مَا جَرَى مِنْ قَبْضِ الرَّحِيمِ وَأَصْحَابِهِ، وَنَهْبِ بَغْدَاذَ، وَيَقُولُ: إِنَّهُمْ إِنَّمَا خَرَجُوا إِلَيْكَ بِأَمْرِي وَأَمَانِي، فَإِنْ أَطْلَقْتَهُمْ، وَإِلَّا فَأَنَا أُفَارِقُ بَغْدَاذَ، فَإِنِّي إِنَّمَا اخْتَرْتُكَ وَاسْتَدْعَيْتُكَ اعْتِقَادًا مِنِّي أَنَّ تَعْظِيمَ الْأَوَامِرِ الشَّرِيفَةِ يَزْدَادُ، وَحُرْمَةَ الْحَرِيمِ تُعَظَّمُ، وَأَرَى الْأَمْرَ بِالضِّدِّ. فَأَطْلَقَ بَعْضَهُمْ، وَأَخَذَ جَمِيعَ إِقْطَاعَاتِ

عَسْكَرِ الرَّحِيمِ، وَأَمَرَهُمْ بِالسَّعْيِ فِي أَرْزَاقٍ يُحَصِّلُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ. فَتَوَجَّهَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الْبَسَاسِيرِيِّ وَلَزِمُوهُ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ وَنَفَقَ سُوقُهُ. وَأَمَرَ طُغْرُلْبَك بِأَخْذِ أَمْوَالِ الْأَتْرَاكِ الْبَغْدَاذِيِّينَ، وَأَرْسَلَ إِلَى نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسٍ يَأْمُرُهُ بِإِبْعَادِ الْبَسَاسِيرِيِّ عَنْهُ، فَفَعَلَ، فَسَارَ إِلَى رَحْبَةِ مَالِكٍ بِالشَّامِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَكَاتَبَ الْمُسْتَنْصِرَ صَاحِبَ مِصْرَ بِالدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ. وَخَطَبَ نُورُ الدَّوْلَةِ لِطُغْرُلْبَك فِي بِلَادِهِ، وَانْتَشَرَ الْغُزُّ السَّلْجُوقِيَّةُ فِي سَوَادِ بَغْدَاذَ، فَنَهَبُوا مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ تَكْرِيتَ إِلَى النِّيلِ وَمِنَ الشَّرْقِيِّ إِلَى النَّهْرَوَانِ وَأَسَافِلِ الْأَعْمَالِ، وَأَسْرَفُوا فِي النَّهْبِ، حَتَّى بَلَغَ ثَمَنُ الثَّوْرِ بِبَغْدَاذَ خَمْسَةَ قَرَارِيطَ إِلَى عَشْرَةٍ، وَالْحِمَارِ بِقِيرَاطَيْنِ إِلَى خَمْسَةٍ، وَخُرِّبَ السَّوَادُ، وَأُجْلِيَ أَهْلُهُ عَنْهُ. وَضَمِنَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَك الْبَصْرَةَ وَالْأَهْوَازَ مِنْ هَزَارَسْبَ بْنِ بُنْكِيرَ بْنِ عِيَاضٍ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفَ وَسِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَقْطَعَهُ أَرَّجَانَ، وَأَمْرَهُ أَنْ يَخْطُبَ لِنَفْسِهِ بِالْأَهْوَازِ، دُونَ الْأَعْمَالِ الَّتِي ضَمِنَهَا، وَأَقْطَعَ الْأَمِيرَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ أَبِي كَالِيجَارَ الْمَلِكَ قِرْمِسِينَ وَأَعْمَالَهَا، وَأَمَرَ أَهْلَ الْكَرْخِ أَنْ يُؤَذِّنُوا فِي مَسَاجِدِهِمْ سَحَرًا: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ دَارِ الْمَمْلَكَةِ، فَعُمِّرَتْ وَزِيدَ فِيهَا، وَانْتَقَلَ إِلَيْهَا فِي شَوَّالٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِبَغْدَاذَ، وَمُقَدَّمُ الْحَنَابِلَةِ أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ، وَابْنُ التَّمِيمِيِّ، وَتَبِعَهُمْ مِنَ الْعَامَّةِ الْجَمُّ الْغَفِيرُ، وَأَنْكَرُوا الْجَهْرَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَمَنَعُوا مِنَ التَّرْجِيعِ فِي الْأَذَانِ، وَالْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ، وَوَصَلُوا إِلَى دِيوَانِ الْخَلِيفَةِ، وَلَمْ يَنْفَصِلْ حَالٌ، وَأَتَى الْحَنَابِلَةُ إِلَى مَسْجِدٍ بِبَابِ الشَّعِيرِ، فَنَهَوْا إِمَامَهُ عَنِ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، فَأَخْرَجَ مُصْحَفًا وَقَالَ: أَزِيلُوهَا مِنَ الْمُصْحَفِ حَتَّى لَا أَتْلُوَهَا.

وَفِيهَا كَانَ بِمَكَّةَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ، وَبَلَغَ الْخُبْزُ عَشْرَةُ أَرْطَالٍ بِدِينَارٍ مَغْرِبِيٍّ، ثُمَّ تَعَذَّرَ وُجُودُهُ، فَأَشْرَفَ النَّاسُ وَالْحُجَّاجُ عَلَى الْهَلَاكِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْجَرَادِ مَا مَلَأَ الْأَرْضَ، فَتَعَوَّضَ النَّاسُ بِهِ، ثُمَّ عَادَ الْحَاجُّ فَسَهُلَ الْأَمْرُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ سَبَبُ هَذَا الْغَلَاءِ عَدَمَ زِيَادَةِ النِّيلِ بِمِصْرَ عَنِ الْعَادَةِ، فَلَمْ يُحْمَلْ مِنْهَا الطَّعَامُ إِلَى مَكَّةَ. وَفِيهَا ظَهَرَ بِالْيَمَنِ إِنْسَانٌ يُعْرَفُ بِأَبِي كَامِلٍ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الصُّلَيْحِيِّ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْيَمَنِ، وَكَانَ مُعَلِّمًا، فَجَمَعَ إِلَى نَفْسِهِ جَمْعًا، وَانْتَمَى إِلَى صَاحِبِ مِصْرَ، وَتَظَاهَرَ بِطَاعَتِهِ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ وَتَبِعُهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ، وَقَوِيَ عَلَى ابْنِ سَادِلٍ وَابْنِ الْكُرَيْدِيِّ الْمُقِيمَيْنِ بِهَا عَلَى طَاعَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَانَ يَتَظَاهَرُ بِمَذْهَبِ الْبَاطِنِيَّةِ. وَفِيهَا خَطَبَ مَحْمُودٌ الْخَفَاجِيُّ لِلْمُسْتَنْصِرِ الْعَلَوِيِّ، صَاحِبِ مِصْرَ، بِشَفَاثَا وَالْعَيْنِ، وَصَارَ فِي طَاعَتِهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَاكُولَا، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَبَقِيَ فِي الْقَضَاءِ سَبْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ شَافِعِيًّا، وَرِعًا، نَزِهًا، أَمِينًا، وَوَلِيَ بَعْدَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الدَّامَغَانِيِّ الْحَنَفِيُّ. وَفِيهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ ذَخِيرَةُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدٌ ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَوْلِدُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.

وَفِيهَا قَبَضَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ (قَبْلَ وُصُولِ طُغْرُلْبَك إِلَى بَغْدَاذَ) عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، وَطُرِحَ فِي بِئْرٍ فِي دَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَطُمَّ عَلَيْهِ، وَكَانَ وَزِيرًا مُتَحَكِّمًا فِي دَوْلَتِهِ. وَفِيهَا فِي الْمُحَرَّمِ تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْمُحَسَّنِ بْنِ عَلِيٍّ التَّنُوخِيُّ، وَمَوْلِدُهُ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَخَلَّفَ وَلَدًا صَغِيرًا، وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَانْقَرَضَ بَيْتُهُ بِمَوْتِهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الدَّامَغَانِيِّ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ، فَأَخْرَجَ إِلَيَّ وَلَدَهُ هَذَا مِنْ جَارِيَتِهِ وَبَكَى، فَقُلْتُ: يَعِيشُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَتُرَبِّيهِ. فَقَالَ: هَيْهَاتَ! وَاللَّهِ مَا يَتَرَبَّى إِلَّا يَتِيمًا، وَأَنْشَدَ: أَرَى وَلَدَ الْفَتَى كَلًّا عَلَيْهِ ... لَقَدْ سَعِدَ الَّذِي أَمْسَى عَقِيمًا فَإِمَّا أَنْ تُرَبِّيَهُ عَدُوًّا ... وَإِمَّا أَنْ تُخَلِّفَهُ يَتِيمًا فَتَرَبَّى يَتِيمًا كَمَا قَالَ.

وَفِي جُمَادَى الْأُولَى تُوُفِّيَ (أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ رَجَاءٍ الدَّهَّانُ اللُّغَوِيُّ. وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فِيهَا تُوُفِّيَ) أَبُو الْقَاسِمِ مَنْصُورُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ الْكَرْخِيُّ (مِنْ كَرْخِ جُدَّانَ) ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ. (وَفِي رَجَبٍ تُوُفِّيَ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّابِتِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ) ، وَهُمَا مِنْ شُيُوخِ أَصْحَابِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ. وَفِي شَعْبَانَ تُوُفِّيَ أَبُو الْبَرَكَاتِ حُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرَّبَعِيُّ النَّحْوِيُّ، وَكَانَ يَنُوبُ عَنِ الْوُزَرَاءِ بِبَغْدَاذَ.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَة] 448 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ نِكَاحِ الْخَلِيفَةِ ابْنَةَ دَاوُدَ أَخِي طُغْرُلْبَك فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ جَلَسَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ جُلُوسًا عَامًّا، وَحَضَرَ عَمِيدُ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيُّ، وَزِيرُ طُغْرُلْبَك، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، مِنْهُمْ: أَبُو عَلِيٍّ ابْنُ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَهَزَارَسْبُ بْنُ بُنْكِيرَ بْنِ عِيَاضٍ الْكُرْدِيُّ، وَابْنُ أَبِي الشَّوْكِ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْأَتْرَاكِ مِنْ عَسْكَرِ طُغْرُلْبَك. وَقَامَ عَمِيدُ الْمُلْكِ، وَزِيرُ طُغْرُلْبَك، وَبِيَدِهِ دَبُّوسٌ، ثُمَّ خَطَبَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ، وَعَقَدَ الْعَقْدَ عَلَى أَرْسِلَانَ خَاتُونَ، وَاسْمُهَا خَدِيجَةُ ابْنَةُ دَاوُدَ أَخِي السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك، وَقَبِلَ الْخَلِيفَةُ بِنَفْسِهِ النِّكَاحَ، وَحَضَرَ الْعَقْدَ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي تَمَّامٍ، وَعَدْنَانُ بْنُ الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ، نَقِيبُ الْعَلَوِيِّينَ، وَأَقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَأُهْدِيَتْ خَاتُونُ إِلَى الْخَلِيفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا فِي شَعْبَانَ، وَكَانَتْ وَالِدَةُ الْخَلِيفَةِ قَدْ سَارَتْ لَيْلًا وَتَسَلَّمَتْهَا وَأَحْضَرَتْهَا إِلَى الدَّارِ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَبِيدِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ وَعَبِيدِ ابْنِهِ تَمِيمٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ عَبِيدِ الْمُعِزِّ، الْمُقِيمِينَ بِالْمَهْدِيَّةِ، وَعَبِيدِ ابْنِهِ تَمِيمٍ، بِسَبَبِ مُنَازَعَةٍ أَدَّتْ إِلَى الْمُقَاتَلَةِ، فَقَامَتْ عَامَّةُ زَوِيلَةَ وَسَائِرُ مَنْ بِهَا مِنْ رِجَالِ الْأُسْطُولِ مَعَ عَبِيدِ تَمِيمٍ، فَأَخْرَجُوا عَبِيدَ الْمُعِزِّ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، وَمَضَى الْبَاقُونَ مِنْهُمْ يُرِيدُونَ الْمَسِيرَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَوَضَعَ عَلَيْهِمْ تَمِيمٌ الْعَرَبَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمْعًا غَفِيرًا، وَهَذِهِ النَّوْبَةُ هِيَ سَبَبُ قَتْلِ تَمِيمٍ مَنْ قَتَلَ مِنْ عَبِيدِ أَبِيهِ لَمَّا مَلَكَ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ دَوْلَةِ الْمُلَثَّمِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِ الْمُلَثَّمِينَ، وَهُمْ عِدَّةُ قَبَائِلَ يُنْسَبُونَ إِلَى حِمْيَرَ، أَشْهَرُهَا: لَمْتُونَةُ، وَمِنْهَا أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ، وَجَدَّالَةُ، وَلَمْطَةُ. وَكَانَ أَوَّلُ مَسِيرِهِمْ مِنَ الْيَمَنِ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَيَّرَهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَانْتَقَلُوا إِلَى مِصْرَ، وَدَخَلُوا الْمَغْرِبَ مَعَ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ، وَتَوَجَّهُوا مَعَ طَارِقٍ إِلَى طَنْجَةَ، فَأَحَبُّوا الِانْفِرَادَ، فَدَخَلُوا الصَّحْرَاءَ وَاسْتَوْطَنُوهَا إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ. فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ تَوَجَّهَ رَجُلٌ مِنْهُمُ، اسْمُهُ الْجَوْهَرُ، مِنْ قَبِيلَةِ جَدَّالَةَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، طَالِبًا لِلْحَجِّ، وَكَانَ مُحِبًّا لِلدِّينِ وَأَهْلِهِ، فَمَرَّ بِفَقِيهٍ بِالْقَيْرَوَانِ، وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ يَتَفَقَّهُونَ، قِيلَ: هُوَ أَبُو عِمْرَانَ الْفَاسِيُّ فِي غَالِبِ الظَّنِّ، فَأَصْغَى الْجَوْهَرُ إِلَيْهِ، وَأَعْجَبَهُ حَالُهُمْ. فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الْحَجِّ قَالَ لِلْفَقِيهِ: مَا عِنْدَنَا فِي الصَّحْرَاءِ مِنْ هَذَا شَيْءٌ غَيْرَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الْخَاصَّةِ، فَابْعَثْ مَعِي مَنْ يُعَلِّمُهُمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَاسِينَ الْكُزُولِيُّ، وَكَانَ فَقِيهًا، صَالِحًا، شَهْمًا، فَسَارَ مَعَهُ حَتَّى أَتَيَا قَبِيلَةَ لَمْتُونَةَ، فَنَزَلَ الْجَوْهَرُ عَنْ جَمَلِهِ، وَأَخَذَ بِزِمَامِ جَمَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَاسِينَ، تَعْظِيمًا لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، فَأَقْبَلُوا إِلَى الْجَوْهَرِ يُهَنِّئُونَهُ بِالسَّلَامَةِ، وَسَأَلُوهُ عَنِ

الْفَقِيهِ فَقَالَ: هَذَا حَامِلٌ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جَاءَ يُعَلِّمُكُمْ مَا يَلْزَمُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ. فَرَحَّبُوا بِهِمَا وَأَنْزَلُوهُمَا، وَقَالُوا: تَذْكُرُ لَنَا شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ. فَعَرَّفَهُمْ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ وَفَرَائِضَهُ، فَقَالُوا: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَهُوَ قَرِيبٌ، وَأَمَّا قَوْلُكَ: مَنْ قَتَلَ يُقْتَلُ، وَمَنْ سَرَقَ يُقْطَعُ، وَمَنْ زَنَى يُجْلَدُ أَوْ يُرْجَمُ - فَأَمْرٌ لَا نَلْتَزِمُهُ، اذْهَبْ إِلَى غَيْرِنَا. فَرَحَلَا عَنْهُمْ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَقَالَ: لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْجَمَلِ فِي هَذِهِ الصَّحْرَاءِ شَأْنٌ يُذْكَرُ فِي الْعَالَمِ. فَانْتَهَى الْجَوْهَرُ وَالْفَقِيهُ إِلَى جَدَّالَةَ، قَبِيلِ الْجَوْهَرِ، فَدَعَاهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَاسِينَ وَالْقَبَائِلَ الَّذِينَ يُجَاوِرُونَهُمْ إِلَى حُكْمِ الشَّرِيعَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَطَاعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَضَ وَعَصَى. ثُمَّ إِنَّ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ تَحَيَّزُوا وَتَجَمَّعُوا، فَقَالَ ابْنُ يَاسِينَ لِلَّذِينِ أَطَاعُوا: قَدْ وَجَبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُقَاتِلُوا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَالَفُوا الْحَقَّ، وَأَنْكَرُوا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَعَدُّوا لِقِتَالِكُمْ، فَأَقِيمُوا لَكُمْ رَايَةً، وَقَدِّمُوا عَلَيْكُمْ أَمِيرًا. فَقَالَ لَهُ الْجَوْهَرُ: أَنْتَ الْأَمِيرُ. فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا أَنَا حَامِلُ أَمَانَةِ الشَّرِيعَةِ، وَلَكِنْ أَنْتَ الْأَمِيرُ. فَقَالَ الْجَوْهَرُ: لَوْ فَعَلْتُ هَذَا تَسَلَّطَ قَبِيلِي عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونُ وِزْرُ ذَلِكَ عَلَيَّ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ يَاسِينَ: الرَّأْيُ أَنْ نُوَلِّيَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عُمَرَ، رَأْسَ لَمْتُونَةَ وَكَبِيرَهَا، وَهُوَ رَجُلٌ سَيِّدٌ، مَشْكُورُ الطَّرِيقِ، مُطَاعٌ فِي قَوْمِهِ، فَهُوَ يَسْتَجِيبُ لَنَا لِحُبِّ الرِّئَاسَةِ، وَتَتْبَعُهُ قَبِيلَتُهُ، فَنَتَقَوَّى بِهِمْ. فَأَتَيَا أَبَا بَكْرِ بْنَ عُمَرَ، وَعَرَضَا ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَأَجَابَ، فَعَقَدُوا لَهُ الْبَيْعَةَ، وَسَمَّاهُ ابْنُ يَاسِينَ أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَادُوا إِلَى جَدَّالَةَ، وَجَمَعُوا إِلَيْهِمْ مَنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَحَرَّضَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَاسِينَ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَسَمَّاهُمْ مُرَابِطِينَ، وَتَجَمَّعَ عَلَيْهِمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، فَلَمْ يُقَاتِلْهُمُ الْمُرَابِطُونَ، بَلِ اسْتَعَانَ ابْنُ يَاسِينَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ عَلَى أُولَئِكَ

الْأَشْرَارِ بِالْمُصْلِحِينَ مِنْ قَبَائِلِهِمْ، فَاسْتَمَالُوهُمْ وَقَرَّبُوهُمْ حَتَّى حَصَّلُوا مِنْهُمْ نَحْوَ أَلْفَيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ، فَتَرَكُوهُمْ فِي مَكَانٍ، وَخَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ وَحَفِظُوهُمْ، ثُمَّ أَخْرَجُوهُمْ قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ، فَقَتَلُوهُمْ، فَحِينَئِذٍ دَانَتْ لَهُمْ أَكْثَرُ قَبَائِلِ الصَّحْرَاءِ، وَهَابُوهُمْ، فَقَوِيَتْ شَوْكَةُ الْمُرَابِطِينَ. هَذَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَاسِينَ مُشْتَغِلٌ بِالْعِلْمِ، وَقَدْ صَارَ عِنْدَهُ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ يَتَفَقَّهُونَ، وَلَمَّا اسْتَبَدَّ بِالْأَمْرِ هُوَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ عَنِ الْجَوْهَرِ الْجَدَّالِيِّ، وَبَقِيَ لَا حُكْمَ لَهُ - تَدَاخَلَهُ الْحَسَدُ، وَشَرَعَ سِرًّا فِي فَسَادِ الْأَمْرِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ مِنْهُ، وَعُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ، وَثَبَتَ عَلَيْهِ مَا نُقِلَ عَنْهُ، فَحُكِمَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ لِأَنَّهُ نَكَثَ الْبَيْعَةَ وَشَقَّ الْعَصَا، وَأَرَادَ مُحَارَبَةَ أَهْلِ الْحَقِّ، فَقُتِلَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَأَظْهَرَ السُّرُورَ بِالْقَتْلِ طَلَبًا لِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. فَاجْتَمَعَتِ الْقَبَائِلُ عَلَى طَاعَتِهِمْ، وَمَنْ خَالَفَهُمْ قَتَلُوهُ. فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ قَحَطَتْ بِلَادُهُمْ، (فَأَمَرَ ابْنُ يَاسِينَ ضُعَفَاءَهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى السُّوسِ وَأَخْذِ الزَّكَاةِ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ نَحْوُ تِسْعِمِائَةِ رَجُلٍ، فَقَدِمُوا سِجِلْمَاسَةَ، وَطَلَبُوا الزَّكَاةَ، فَجَمَعُوا لَهُمْ شَيْئًا لَهُ قَدْرٌ وَعَادُوا. ثُمَّ إِنَّ الصَّحْرَاءَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ، وَأَرَادُوا إِظْهَارَ كَلِمَةِ الْحَقِّ، وَالْعُبُورَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ لِيُجَاهِدُوا الْكُفَّارَ، فَخَرَجُوا إِلَى السُّوسِ الْأَقْصَى، فَجَمَعَ لَهُمْ أَهْلُ السُّوسِ وَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَ الْمُرَابِطُونَ، وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَاسِينَ الْفَقِيهُ، فَعَادَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ فَجَمَعَ جَيْشًا وَخَرَجَ إِلَى السُّوسِ فِي أَلْفَيْ رَاكِبٍ، فَاجْتَمَعَ مِنْ بِلَادِ السُّوسِ وَزِنَاتَةَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: افْتَحُوا لَنَا الطَّرِيقَ لِنَجُوزَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ وَنُجَاهِدَ أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ. فَأَبَوْا ذَلِكَ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ، وَدَعَا اللَّهَ - تَعَالَى - وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنَّا عَلَى الْحَقِّ فَانْصُرْنَا، وَإِلَّا فَأَرِحْنَا مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا. ثُمَّ قَاتَلَهُمْ وَصَدَقَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْقِتَالَ، فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَهَزَمَ أَهْلَ السُّوسِ وَمَنْ مَعَهُمْ وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَغَنِمَ الْمُرَابِطُونَ أَمْوَالَهُمْ وَأَسْلَابَهُمْ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ وَنُفُوسُ أَصْحَابِهِ، وَسَارُوا إِلَى سِجِلْمَاسَةَ فَنَزَلُوا عَلَيْهَا، وَطَلَبُوا مِنْ أَهْلِهَا الزَّكَاةَ، فَامْتَنَعُوا عَلَيْهِمْ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ صَاحِبُ سِجِلْمَاسَةَ فَقَاتَلَهُمْ، فَهَزَمُوهُ

وَقَتَلُوهُ، وَدَخَلُوا سِجِلْمَاسَةَ وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ وِلَايَةِ يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ لَمَّا مَلَكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ سِجِلْمَاسَةَ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا يُوسُفَ بْنَ تَاشَفِينَ اللَّمْتُونِيَّ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَمِّهِ الْأَقْرَبِينَ، وَرَجَعَ إِلَى الصَّحْرَاءِ، فَأَحْسَنَ يُوسُفُ السِّيرَةَ فِي الرَّعِيَّةِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمْ سِوَى الزَّكَاةِ، فَأَقَامَ بِالصَّحْرَاءِ مُدَّةً، ثُمَّ عَادَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ إِلَى سِجِلْمَاسَةَ، فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً، وَالْخُطْبَةُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَهُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا ابْنَ أَخِيهِ أَبَا بَكْرِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، وَجَهَّزَ مَعَ يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ جَيْشًا مِنَ الْمُرَابِطِينَ إِلَى السُّوسِ، فَفُتِحَ عَلَى يَدَيْهِ. وَكَانَ يُوسُفُ رَجُلًا دَيِّنًا، خَيِّرًا، حَازِمًا، دَاهِيَةً، مُجَرِّبًا، وَبَقُوا كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ بِالصَّحْرَاءِ، فَاجْتَمَعَتْ طَوَائِفُ الْمُرَابِطِينَ عَلَى يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ، وَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ، وَلَقَّبُوهُ أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتِ الدَّوْلَةُ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ لِزِنَاتَةَ الَّذِينَ ثَارُوا فِي أَيَّامِ الْفِتَنِ، وَهِيَ دَوْلَةٌ رَدِيَّةٌ مَذْمُومَةٌ، سَيِّئَةُ السِّيرَةِ، لَا سِيَاسَةَ وَلَا دِيَانَةَ، (وَكَانَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ وَطَائِفَتُهُ عَلَى نَهْجِ السُّنَّةِ، وَاتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ) ، فَاسْتَغَاثَ بِهِ أَهْلُ الْمَغْرِبِ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَافْتَتَحَهَا حِصْنًا حِصْنًا، وَبَلَدًا بَلَدًا بِأَيْسَرِ سَعْيٍ، فَأَحَبَّهُ الرَّعَايَا، وَصَلُحَتْ أَحْوَالُهُمْ. ثُمَّ إِنَّهُ قَصَدَ مَوْضِعَ مَدِينَةِ مَرَّاكُشَ، وَهُوَ قَاعٌ صَفْصَفٌ، لَا عِمَارَةَ فِيهِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مُتَوَسِّطٌ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ كَالْقَيْرَوَانِ فِي إِفْرِيقِيَّةَ، وَمَرَّاكُشُ تَحْتَ جِبَالِ الْمَصَامِدَةِ الَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ أَهْلِ الْمَغْرِبِ قُوَّةً، وَأَمْنَعُهُمْ مَعْقِلًا، فَاخْتَطَّ هُنَاكَ مَدِينَةَ مَرَّاكُشَ لِيَقْوَى عَلَى قَمْعِ أَهْلِ تِلْكَ الْجِبَالِ إِنْ هَمُّوا بِفِتْنَةٍ، وَاتَّخَذَهَا مَقَرًّا، فَلَمْ يَتَحَرَّكْ أَحَدٌ بِفِتْنَةٍ، وَمَلَكَ الْبِلَادَ الْمُتَّصِلَةَ بِالْمَجَازِ مِثْلَ سَبْتَةَ، وَطَنْجَةَ، وَسَلَا، وَغَيْرِهَا، وَكَثُرَتْ عَسَاكِرُهُ. وَخَرَجَتْ جَمَاعَةُ قَبِيلَةِ لَمْتُونَةَ وَغَيْرُهُمْ، وَضَيَّقُوا حِينَئِذٍ لِثَامَهُمْ، وَكَانُوا قَبْلَ أَنْ

يَمْلِكُوا يَتَلَثَّمُونَ فِي الصَّحْرَاءِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ كَمَا يَفْعَلُ الْعَرَبُ، وَالْغَالِبُ عَلَى أَلْوَانِهِمُ السُّمْرَةُ، فَلَمَّا مَلَكُوا الْبِلَادَ ضَيَّقُوا اللِّثَامَ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ اللِّثَامِ لَهُمْ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ لَمْتُونَةَ خَرَجُوا مُغِيرِينَ عَلَى عَدُوٍّ لَهُمْ، فَخَالَفَهُمُ الْعَدُوُّ إِلَى بُيُوتِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ بِهَا إِلَّا الْمَشَايِخُ وَالصِّبْيَانُ وَالنِّسَاءُ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْمَشَايِخُ أَنَّهُ الْعَدُوُّ أَمَرُوا النِّسَاءَ أَنْ يَلْبِسْنَ ثِيَابَ الرِّجَالِ، وَيَتَلَثَّمْنَ، وَيُضَيِّقْنَهُ، حَتَّى لَا يُعْرَفْنَ، وَيَلْبَسْنَ السِّلَاحَ. فَفَعَلْنَ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ الْمَشَايِخُ وَالصِّبْيَانُ أَمَامَهُنَّ، وَاسْتَدَارَ النِّسَاءُ بِالْبُيُوتِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ الْعَدُوُّ رَأَى جَمْعًا عَظِيمًا، فَظَنَّهُ رِجَالًا، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ عِنْدَ حُرَمِهِمْ يُقَاتِلُونَ عَنْهُنَّ قِتَالَ الْمَوْتِ، وَالرَّأْيُ أَنْ نَسُوقَ النَّعَمَ وَنَمْضِيَ، فَإِنِ اتَّبَعُونَا قَاتَلْنَاهُمْ خَارِجًا عَنْ حَرِيمِهِمْ. فَبَيْنَمَا هُمْ فِي جَمْعِ النَّعَمِ مِنَ الْمَرَاعِي إِذْ قَدْ أَقْبَلَ رِجَالُ الْحَيِّ، فَبَقِيَ الْعَدُوُّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النِّسَاءِ، فَقَتَلُوا مِنَ الْعَدُوِّ فَأَكْثَرُوا، وَكَانَ مَنْ قَتَلَ النِّسَاءُ أَكْثَرَ، فَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ جَعَلُوا اللِّثَامَ سُنَّةً يُلَازِمُونَهُ، فَلَا يُعْرَفُ الشَّيْخُ مِنَ الشَّابِّ، فَلَا يُزِيلُونَهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَمِمَّا قِيلَ فِي اللِّثَامِ: قَوْمٌ لَهُمْ دَرَكُ الْعُلَى فِي حِمْيَرٍ ... وَإِنِ انْتَمَوْا صِنْهَاجَةً فَهُمُ هُمُ لَمَّا حَوَوْا إِحْرَازَ كُلِّ فَضِيلَةٍ ... غَلَبَ الْحَيَاءُ عَلَيْهِمُ فَتَلَثَّمُوا وَنَذْكُرُ بَاقِيَ أَخْبَارِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَوَاضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ تَبْيِيضِ أَبِي الْغَنَائِمِ بْنِ الْمُحْلِبَانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَيَّضَ عَلَاءُ الدِّينِ أَبُو الْغَنَائِمِ بْنُ الْمُحْلِبَانِ بِوَاسِطٍ، وَخَطَبَ فِيهَا لِلْعَلَوِيِّينَ الْمِصْرِيِّينَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ رَئِيسَ الرُّؤَسَاءِ سَعَى لَهُ فِي النَّظَرِ عَلَى وَاسِطٍ وَأَعْمَالِهَا،

فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، فَانْحَدَرَ إِلَيْهَا، (فَصَارَ عِنْدَهُ) جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِهَا، وَجَنَّدَ جَمَاعَةً عَظِيمَةً، وَتَقَوَّى بِالْبَطَائِحِيِّينَ، وَحَفَرَ عَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ وَاسِطٍ خَنْدَقًا، وَبَنَى عَلَيْهِ سُورًا، وَأَخَذَ ضَرِيبَةً مِنْ سُفُنٍ أُصْعِدَتْ لِلْخَلِيفَةِ، فَسَيَّرَ لِحَرْبِهِ عَمِيدَ الْعِرَاقِ أَبُو نَصْرٍ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ ابْنُ الْمُحْلِبَانِ، وَأُسِرَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَوَصَلَ أَبُو نَصْرٍ إِلَى السُّورِ، فَقَاتَلَهُ الْعَامَّةُ مِنْ عَلَى السُّورِ. ثُمَّ تَسَلَّمَ الْبَلَدَ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ بِطَمِّ الْخَنْدَقِ، وَتَخْرِيبِ السُّورِ، ثُمَّ أَصْعَدَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَمَّا فَارَقَهَا (عَادَ إِلَيْهَا) ابْنُ فَسَانْجِسَ، وَنَهَبَ قَرْيَةَ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَتَلَ كُلَّ أَعْمَى رَآهُ بِوَاسِطٍ، وَأَعَادَ خُطْبَةَ الْمِصْرِيِّينَ، وَأَمَرَ أَهْلَ كُلِّ مَحَلَّةٍ بِعِمَارَةِ مَا يَلِيهِمْ مِنَ السُّورِ. وَمَضَى مَنْصُورُ بْنُ الْحُسَيْنِ إِلَى الْمَدَارِ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَغْدَاذَ يَطْلُبُ الْمَدَدَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمِيدُ الْعِرَاقِ وَرَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ يَأْمُرَانِهِ أَنْ يَقْصِدَ وَاسِطًا هُوَ وَابْنُ الْهَيْثَمِ، وَأَنْ يُحَاصِرَاهَا، فَأَقْبَلَا إِلَيْهَا فِيمَنْ مَعَهُمَا وَحَصَرُوهَا فِي الْمَاءِ وَالْبَرِّ، وَكَانَ هَذَا الْحِصَارُ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، فَاشْتَدَّ فِيهَا الْغَلَاءُ حَتَّى بِيعَ التَّمْرُ وَالْخُبْزُ وَكُرُوشُ الْبَقَرِ، كُلُّ خَمْسَةِ أَرْطَالٍ بِدِينَارٍ، وَإِذَا وُجِدَ الْخُبَّازَى بَاعُوهُ كُلَّ عِشْرِينَ رِطْلًا بِدِينَارٍ. ثُمَّ ضَعُفُوا وَضَجِرُوا مِنَ الْحِصَارِ، فَخَرَجَ ابْنُ فَسَانْجِسَ لِيُقَاتِلَ، فَلَمْ يَثْبُتْ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَانْهَزَمُوا إِلَى سُورِ الْبَلَدِ، وَاسْتَأْمَنَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْوَاسِطِيِّينَ إِلَى مَنْصُورِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَفَارَقَ ابْنُ فَسَانْجِسَ وَاسِطًا، وَمَضَى إِلَى قَصْرِ ابْنِ أَخْضَرَ، وَسَارَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ لِيُقَاتِلُوهُ، فَأَدْرَكُوهُ بِقُرْبِ النِّيلِ، فَأُسِرَ هُوَ وَأَهْلُهُ، وَحُمِلَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَدَخَلَهَا فِي صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَشُهِّرَ عَلَى جَمَلٍ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ أَحْمَرُ، وَعَلَى رَأْسِهِ طُرْطُورٌ بِوَدَعٍ، وَصُلِبَ. ذِكْرُ الْوَقْعَةِ بَيْنَ الْبَسَاسِيرِيِّ وَقُرَيْشٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَلْخَ شَوَّالٍ كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ الْبَسَاسِيرِيِّ وَمَعَهُ نُورُ الدَّوْلَةِ

دُبَيْسُ بْنُ مَزْيَدٍ، وَبَيْنَ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَمَعَهُ قُتْلُمُشُ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك، وَهُوَ جَدُّ هَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ أَوْلَادِ قِلْجِ أَرْسِلَانَ، وَمَعَهُ أَيْضًا سَهْمُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَتِ الْحَرْبُ عِنْدَ سِنْجَارَ، فَاقْتَتَلُوا، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَانْهَزَمَ قُرَيْشٌ وَقُتْلُمُشُ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِمَا الْكَثِيرُ. وَلَقِيَ قُتْلُمُشُ مِنْ أَهْلِ سِنْجَارَ الْعَنَتَ، وَبَالَغُوا فِي أَذَاهُ وَأَذَى أَصْحَابِهِ، وَجُرِحَ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ، وَأَتَى إِلَى نُورِ الدَّوْلَةِ جَرِيحًا، فَأَعْطَاهُ خِلْعَةً كَانَتْ قَدْ نُفِّذَتْ مِنْ مِصْرَ، فَلَبِسَهَا وَصَارَ فِي جُمْلَتِهِمْ، وَسَارُوا إِلَى الْمَوْصِلِ، وَخَطَبُوا لِخَلِيفَةِ مِصْرَ بِهَا، وَهُوَ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ، وَكَانُوا قَدْ كَاتَبُوا الْخَلِيفَةَ الْمِصْرِيَّ بِطَاعَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْخِلَعَ مِنْ مِصْرَ لِلْبَسَاسِيرِيِّ، وَلِنُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ، وَلِجَابِرِ بْنِ نَاشِبٍ، وَلِمُقْبِلِ بْنِ بَدْرَانَ أَخِي قُرَيْشٍ، وَلِأَبِي الْفَتْحِ بْنِ وَرَّامٍ، وَنُصَيْرِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ حَمَّادٍ، وَانْضَافَ إِلَيْهِمْ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ. ذِكْرُ مَسِيرِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك إِلَى الْمَوْصِلِ لَمَّا طَالَ مُقَامُ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك بِبَغْدَاذَ، وَعَمَّ الْخَلْقَ ضَرَرُ عَسْكَرِهِ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ مَسَاكِنُهُمْ، فَإِنَّ الْعَسَاكِرَ نَزَلُوا فِيهَا، وَغَلَبُوهُمْ عَلَى أَقْوَاتِهِمْ، وَارْتَكَبُوا مِنْهُمْ كُلَّ مَحْظُورٍ، أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَزِيرَهُ رَئِيسَ الرُّؤَسَاءِ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى عَمِيدِ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيِّ، وَزِيرِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك، يَسْتَحْضِرُهُ، فَإِذَا حَضَرَ قَالَ لَهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ لِيَعْرِفَ السُّلْطَانُ مَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَيَعِظُهُ وَيُذَكِّرُهُ، فَإِنْ أَزَالَ ذَلِكَ، وَفَعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَإِلَّا فَيُسَاعِدُ الْخَلِيفَةَ عَلَى الِانْتِزَاحِ عَنْ بَغْدَاذَ لِيَبْعُدَ عَنِ الْمُنْكَرَاتِ. فَكَتَبَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ إِلَى الْكُنْدُرِيِّ يَسْتَدْعِيهِ، فَحَضَرَ، فَأَبْلَغَهُ مَا أَمَرَ بِهِ الْخَلِيفَةُ، وَخَرَجَ تَوْقِيعٌ مِنَ الْخَلِيفَةِ إِلَى السُّلْطَانِ فِيهِ مَوَاعِظُ، فَمَضَى إِلَى السُّلْطَانِ وَعَرَّفَهُ الْحَالَ، فَاعْتَذَرَ بِكَثْرَةِ الْعَسَاكِرِ، وَعَجْزِهِ عَنْ تَهْذِيبِهِمْ وَضَبْطِهِمْ، وَأَمَرَ عَمِيدَ الْمُلْكِ أَنْ يُبَكِّرَ بِالْجَوَابِ إِلَى رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَيَعْتَذِرَ بِمَا ذَكَرَهُ.

فَلَمَّا كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةُ رَأَى السُّلْطَانُ فِي مَنَامِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَكَأَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: يُحَكِّمُكَ اللَّهُ فِي بِلَادِهِ وَعِبَادِهِ، فَلَا تُرَاقِبُهُ فِيهِمْ، وَلَا تَسْتَحْيِي مِنْ جَلَالِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي سُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ، وَتَغْتَرَّ بِإِهْمَالِهِ عِنْدَ الْجَوْرِ عَلَيْهِمْ! فَاسْتَيْقَظَ فَزِعًا، وَأَحْضَرَ عَمِيدَ الْمُلْكِ، وَحَدَّثَهُ مَا رَأَى، وَأَرْسَلَهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعَرِّفُهُ أَنَّهُ يُقَابِلُ مَا رَسَمَ بِهِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَأَخْرَجَ الْجُنْدَ مِنْ دُورِ الْعَامَّةِ، وَأَمَرَ أَنْ يَظْهَرَ مَنْ كَانَ مُخْتَفِيًا، وَأَزَالَ التَّوْكِيلَ عَمَّنْ كَانَ وَكَّلَ بِهِ. فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ عَنْ بَغْدَاذَ لِلتَّخْفِيفِ عَنْ أَهْلِهَا، وَهُوَ يَتَرَدَّدُ فِيهِ، إِذْ أَتَاهُ الْخَبَرُ بِهَذِهِ الْوَقْعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَتَجَهَّزَ وَسَارَ عَنْ بَغْدَاذَ عَاشِرَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَمَعَهُ خَزَائِنُ السِّلَاحِ، وَالْمَنْجَنِيقَاتُ، وَكَانَ مُقَامُهُ بِبَغْدَاذَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَأَيَّامًا، لَمْ يَلْقَ الْخَلِيفَةَ فِيهَا، فَلَمَّا بَلَغُوا أَوَانَا نَهَبَهَا الْعَسْكَرُ، وَنَهَبُوا عُكْبَرَا وَغَيْرَهُمَا. وَوَصَلَ إِلَى تَكْرِيتَ فَحَصَرَهَا، وَبِهَا صَاحِبُهَا نَصْرُ بْنُ (عَلِيِّ بْنِ خَمِيسٍ) فَنَصَبَ عَلَى الْقَلْعَةِ عَلَمًا أَسْوَدَ، وَبَذَلَ مَالًا، فَقَبِلَهُ السُّلْطَانُ. وَرَحَلَ عَنْهُ إِلَى الْبَوَازِيجِ يَنْتَظِرُ جَمْعَ الْعَسَاكِرِ لِيَسِيرَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَلَمَّا رَحَلَ عَنْ تَكْرِيتَ تُوُفِّيَ صَاحِبُهَا، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَمِيرَةَ بِنْتِ غَرِيبِ بْنِ مَقْنٍ، فَخَافَتْ أَنْ يَمْلِكَ الْبَلْدَةَ أَخُوهُ أَبُو الْغِشَّامِ، فَقَتَلَتْهُ وَسَارَتْ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَنَزَلَتْ عَلَى دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ، فَتَزَوَّجَهَا قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ، وَلَمَّا رَحَلَتْ عَنْ تَكْرِيتَ اسْتَخْلَفَتْ بِهَا أَبَا الْغَنَائِمِ ابْنَ الْمُحْلِبَانِ، فَرَاسَلَ رَئِيسَ الرُّؤَسَاءِ وَاسْتَعْطَفَهُ، فَصَلُحَ مَا بَيْنَهُمَا، وَسَلَّمَ تَكْرِيتَ إِلَى السُّلْطَانِ وَرَحَلَ إِلَى بَغْدَاذَ. وَأَقَامَ السُّلْطَانُ بِالْبَوَازِيجِ إِلَى أَنْ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] فَأَتَاهُ أَخُوهُ يَاقُوتِيٌّ فِي الْعَسَاكِرِ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَأَقْطَعَ مَدِينَةَ بَلَدَ لِهَزَارَسْبَ بْنِ بُنْكِيرَ، فَأَجْفَلَ أَهْلُ الْبِلَادِ إِلَى بَلَدَ، (فَأَرَادَ الْعَسْكَرُ نَهْبَهُمْ، فَمَنَعَهُمُ السُّلْطَانُ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ

تَعَرَّضُوا إِلَى بَلَدِ) هَزَارَسْبَ. فَلَجُّوا وَقَالُوا: نُرِيدُ الْإِقَامَةَ. (فَقَالَ السُّلْطَانُ لِهَزَارَسْبَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدِ احْتَجُّوا بِالْإِقَامَةِ) ، فَأَخْرِجْ أَهْلَ الْبَلَدِ إِلَى مُعَسْكَرِكَ لِتَحَفْظَ نُفُوسَهُمْ. فَفَعَلَ ذَلِكَ وَأَخْرَجَهُمْ إِلَيْهِ، فَصَارَ الْبَلَدُ بَعْدَ سَاعَةٍ قَفْرًا، وَفَرَّقَ فِيهِمْ هَزَارَسْبُ مَالًا، وَأَرْكَبَ مَنْ يَعْجِزُ عَنِ الْمَشْيِ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الْمَوْصِلِ لِيَأْمَنُوا. وَتَوَجَّهَ السُّلْطَانُ إِلَى نَصِيبِينَ، فَقَالَ لَهُ هَزَارَسْبُ: قَدْ تَمَادَتِ الْأَيَّامُ، وَأَرَى أَنْ أَخْتَارَ مِنَ الْعَسْكَرِ أَلْفَ فَارِسٍ أَسِيرُ بِهِمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَلَعَلِّي أَنَالُ مِنَ الْعَرَبِ غَرَضًا، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا قَارَبَهُمْ كَمَّنَ لَهُمْ كَمِينَيْنِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْحِلَلِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَاتَلُوهُ، فَصَبَرَ لَهُمْ سَاعَةً، ثُمَّ انْزَاحَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كَالْمُنْهَزِمِ، فَتَبِعُوهُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الْكَمِينَانِ، فَانْهَزَمَتِ الْعَرَبُ، وَكَثُرَ فِيهِمُ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ، وَكَانَ قَدِ انْضَافَ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي نُمَيْرٍ أَصْحَابِ حَرَّانَ وَالرَّقَّةِ وَتِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَحَمَلَ الْأَسْرَى إِلَى السُّلْطَانِ، فَلَمَّا أُحْضِرُوا بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُمْ: هَلْ وَطِئْتُ لَكُمْ أَرْضًا، وَأَخَذْتُ لَكُمْ بَلَدًا. قَالُوا: لَا! قَالَ: فَلِمَ أَتَيْتُمْ لِحَرْبِي؟ وَأَحْضَرَ الْفِيلَ فَقَتَلَهُمْ، إِلَّا صَبِيًّا أَمْرَدَ، فَلَمَّا امْتَنَعَ الْفِيلُ مِنْ قَتْلِهِ عَفَا عَنْهُ السُّلْطَانُ. ذِكْرُ عَوْدِ نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ وَقُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ إِلَى طَاعَةِ طُغْرُلْبَك لَمَّا ظَفِرَ هَزَارَسْبُ بِالْعَرَبِ وَعَادَ إِلَى السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك أَرْسَلَ إِلَيْهِ نُورُ الدَّوْلَةِ وَقُرَيْشٌ يَسْأَلَانِهِ أَنْ يَتَوَسَّطَ حَالَهُمَا عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَيُصْلِحَ أَمْرَهُمَا مَعَهُ، فَسَعَى فِي ذَلِكَ، وَاسْتَعْطَفَ السُّلْطَانَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: أَمَّا هُمَا فَقَدْ عَفَوْتُ عَنْهُمَا، وَأَمَّا الْبَسَاسِيرِيُّ فَذَنْبُهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ أَمْرَ الْخَلِيفَةِ فِيهِ، فَرَحَلَ الْبَسَاسِيرِيُّ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى الرَّحْبَةِ، وَتَبِعَهُ الْأَتْرَاكُ الْبَغْدَاذِيُّونَ، وَمُقْبِلُ بْنُ الْمُقَلِّدِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ عُقَيْلٍ. وَطَلَبَ دُبَيْسٌ وَقُرَيْشٌ أَنْ يُرْسِلَ طُغْرُلْبَك إِلَيْهِمَا أَبَا الْفَتْحِ بْنَ وَرَّامٍ، فَأَرْسَلَهُ، فَعَادَ

مِنْ عِنْدِهِمَا، وَأَخْبَرَ بِطَاعَتِهِمَا، وَأَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ أَنْ يَمْضِيَ هَزَارَسْبُ إِلَيْهِمَا لِيُحَلِّفَهُمَا. فَأَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِالْمُضِيِّ إِلَيْهِمَا، فَسَارَ وَاجْتَمَعَ بِهِمَا، وَأَشَارَ عَلَيْهِمَا بِالْحُضُورِ عِنْدَ السُّلْطَانِ، فَخَافَا وَامْتَنَعَا، فَأَنْفَذَ قُرَيْشٌ أَبَا السَّدَادِ هِبَةَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ. وَأَنْفَذَ دُبَيْسٌ ابْنَهُ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ مَنْصُورًا، فَأَنْزَلَهُمَا السُّلْطَانُ وَأَكْرَمَهُمَا وَكَتَبَ لَهُمَا بِأَعْمَالِهِمَا، وَكَانَ لِقُرَيْشٍ نَهْرُ الْمَلِكِ، وَبَادُورْيَا، وَالْأَنْبَارُ، وَهِيتُ، وَدُجَيْلٌ، وَنَهْرُ بَيْطَرَ، وَعُكْبَرَا، وَأَوَانَا، وَتَكْرِيتُ، وَالْمَوْصِلُ، وَنَصِيبِينُ، وَأَعَادَ الرُّسُلَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ. ذِكْرُ قَصْدِ السُّلْطَانِ دِيَارَ بَكْرٍ وَمَا فَعَلَهُ بِسِنْجَارَ لَمَّا فَرَغَ طُغْرُلْبَك مِنَ الْعَرَبِ سَارَ إِلَى دِيَارِ بِكْرٍ الَّتِي هِيَ لِابْنِ مَرْوَانَ، وَكَانَ ابْنُ مَرْوَانَ يُرْسِلُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ الْهَدَايَا وَالثَّلْجَ، فَسَارَ السُّلْطَانُ إِلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ فَحَصَرَهَا، وَهِيَ لِابْنِ مَرْوَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ مَرْوَانَ يَبْذُلُ لَهُ مَالًا يُصْلِحُ حَالَهُ بِهِ، وَيَذْكُرُ لَهُ مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنْ حِفْظِ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا يُعَانِيهِ مِنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ، وَلَمَّا كَانَ السُّلْطَانُ يُحَاصِرُ الْجَزِيرَةَ سَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ إِلَى عُمْرَ أَكْمُنَ، وَفِيهِ أَرْبَعُمِائَةِ رَاهِبٍ، فَذَبَحُوا مِنْهُمْ مِائَةً وَعِشْرِينَ رَاهِبًا، وَافْتَدَى الْبَاقُونَ أَنْفُسَهُمْ بِسِتَّةِ مَكَاكِيكَ ذَهَبًا وَفِضَّةً. وَوَصَلَ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالُ أَخُو السُّلْطَانِ إِلَيْهِ، فَلَقِيَهُ الْأُمَرَاءُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ، وَحَمَلُوا إِلَيْهِ الْهَدَايَا. وَقَالَ لِعَمِيدِ الْمُلْكِ الْوَزِيرِ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْعَرَبُ حَتَّى تَجْعَلَهُمْ نُظَرَاءَ السُّلْطَانِ، وَتُصْلِحَ بَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: مَعَ حُضُورِكَ يَكُونُ مَا تُرِيدُ، فَأَنْتَ نَائِبُ السُّلْطَانِ. وَلَمَّا وَصَلَ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالُ أَرْسَلَ هَزَارَسْبُ إِلَى نُورِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَزْيَدٍ وَقُرَيْشٍ يُعَرِّفُهُمَا وُصُولَهُ، وَيُحَذِّرُهُمَا مِنْهُ، فَسَارَا مِنْ جَبَلِ سِنْجَارَ إِلَى الرَّحْبَةِ، فَلَمْ يَلْتَفِتِ الْبَسَاسِيرِيُّ إِلَيْهِمَا، فَانْحَدَرَ نُورُ الدَّوْلَةِ إِلَى (بَلَدِهِ بِالْعِرَاقِ) ، وَأَقَامَ قُرَيْشٌ عِنْدَ الْبَسَاسِيرِيِّ بِالرَّحْبَةِ مَعَهُ ابْنُهُ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشٍ.

وَشَكَا قُتْلُمُشُ ابْنُ عَمِّ السُّلْطَانِ إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ أَهْلِ سِنْجَارَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي لَمَّا انْهَزَمَ، وَأَنَّهُمْ قَتَلُوا رِجَالًا، فَسَيَّرَ الْعَسَاكِرَ إِلَيْهِمْ فَأَحَاطَتْ بِهِمْ، وَصَعِدَ أَهْلُهَا عَلَى السُّورِ وَسَبَوْا، وَأَخْرَجُوا جَمَاجِمَ مَنْ كَانُوا قُتِلُوا وَقَلَانِسَهُمْ، وَتَرَكُوهَا عَلَى رُءُوسِ الْقَصَبِ، فَفَتَحَهَا السُّلْطَانُ عَنْوَةً، وَقَتَلَ أَمِيرَهَا مُجْلَى بْنَ مُرَجَّا وَخَلْقًا كَثِيرًا مِنْ رِجَالِهَا، وَسَبَى نِسَاءَهُمْ، وَخُرِّبَتْ، وَسَأَلَ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالُ فِي الْبَاقِينَ فَتَرَكَهُمْ، فَسَلَّمَهَا هِيَ وَالْمَوْصِلَ وَالْبِلَادَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ، وَنَادَى فِي عَسْكَرِهِ: مَنْ تَعَرَّضَ لِنَهْبٍ صَلَبْتُهُ. فَكَفَّوْا عَنْهُمْ. وَعَادَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَذْكُرَ هَذِهِ الْحَادِثَةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا هَذِهِ السَّنَةَ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِهَا كَانَ فِيهَا، فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهَا بَعْضًا، وَذَكَرْنَا أَنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْقَطَعَتِ الطُّرُقُ عَنِ الْعِرَاقِ لِخَوْفِ النَّهْبِ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ، وَكَثُرَ الْغَلَاءُ، وَتَعَذَّرَتِ الْأَقْوَاتُ وَغَيْرُهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَكَلَ النَّاسُ الْمَيْتَةَ، وَلَحِقَهُمْ وَبَاءٌ عَظِيمٌ، فَكَثُرَ الْمَوْتُ حَتَّى دُفِنَ الْمَوْتَى بِغَيْرِ غُسْلٍ وَلَا تَكْفِينٍ، فَبِيعَ رِطْلُ لَحْمٍ بِقِيرَاطٍ، (وَأَرْبَعُ دَجَاجَاتٍ بِدِينَارٍ، وَرِطْلُ شَرَابٍ بِدِينَارٍ، وَسَفَرْجَلَةٌ بَدِينَارٍ) ، وَرُمَّانَةٌ بِدِينَارٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ كَذَلِكَ. وَكَانَ بِمِصْرَ أَيْضًا وَبَاءٌ شَدِيدٌ، فَكَانَ يَمُوتُ فِي الْيَوْمِ أَلْفُ نَفْسٍ، ثُمَّ عَمَّ ذَلِكَ

سَائِرَ الْبِلَادِ مِنَ الشَّامِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَالْمَوْصِلِ، وَالْحِجَازِ، وَالْيَمَنِ وَغَيْرِهَا. وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى وَلَدَتْ جَارِيَةُ ذَخِيرَةِ الدِّينِ بْنِ الْخَلِيفَةِ، الَّذِي ذَكَرْنَا وَفَاتَهُ قَبْلُ، وَلَدًا ذَكَرًا، وَيُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ، وَكُنِّيَ أَبَا الْقَاسِمِ، وَهُوَ الْمُقْتَدِي. وَفِيهَا فِي الْعَشْرِ الثَّانِي مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، ظَهَرَ وَقْتَ السَّحَرِ فِي السَّمَاءِ ذُؤَابَةٌ بَيْضَاءُ طُولُهُا نَحْوُ عَشْرَةِ أَذْرُعٍ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ، وَعَرْضُهَا ذِرَاعٌ، وَبَقِيَتْ كَذَلِكَ إِلَى نِصْفِ رَجَبٍ، وَاضْمَحَلَّتْ. وَفِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِأَنْ يُؤَذَّنَ بِالْكَرْخِ وَالْمَشْهَدِ وَغَيْرِهِمَا: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، وَأَنْ يَتْرُكُوا: حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ. فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ خَوْفَ السَّلْطَنَةِ وَقُوَّتِهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو الْحَسَنِ الْمُؤَدِّبُ، الْمَعْرُوفُ بِالْفَالِيِّ، مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ فَالَةَ بِالْقُرْبِ مِنْ إِيذَجَ، رَوَى الْحَدِيثَ وَالْأَدَبَ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ: تَصَدَّرَ لِلتَّدْرِيسِ كُلُّ مُهَوَّسٍ ... بَلِيدٍ تَسَمَّى بِالْفَقِيهِ الْمُدَرِّسِ فَحَقٌّ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَتَمَثَّلُوا ... بِبَيْتٍ قَدِيمٍ شَاعَ فِي كُلِّ مَجْلِسِ لَقَدْ هَزَلَتْ حَتَّى بَدَا مِنْ هُزَالِهَا ... كُلَاهَا وَحَتَّى سَامَهَا كُلُّ مُفْلِسِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّرِيِّ أَبُو الْحَسَنِ الْبَزَّازُ

الْمَوْصِلِيُّ، وُلِدَ بِالْمَوْصِلِ، وَنَشَأَ بِبَغْدَاذَ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ حَيُّوَيْهِ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَابْنِ بَطَّةَ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِمِصْرَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَمِيرَكُ الْكَاتِبُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شَوَّالٍ، وَكَانَ مِنْ رِجَالِ الدُّنْيَا. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْمَيْمُونِ الدَّارِمِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ.

ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَة] 449 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ عَوْدِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك إِلَى بَغْدَاذَ لَمَّا سَلَّمَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَك الْمَوْصِلَ وَأَعْمَالَهَا إِلَى أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ - عَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْقُفْصِ خَرَجَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ إِلَى لِقَائِهِ، فَلَمَّا قَارَبَ الْقُفْصَ لَقِيَهُ عَمِيدُ الْمُلْكِ، وَزِيرُ السُّلْطَانِ، فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَجَاءَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ إِلَى السُّلْطَانِ فَأَبْلَغَهُ سَلَامَ الْخَلِيفَةِ وَاسْتِيحَاشَهُ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ، وَقَدَّمَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ جَامًا مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ جَوَاهِرُ، وَأَلْبِسَةً فَرْجِيَّةً جَاءَتْ مَعَهُ مِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ، وَوَضَعَ الْعِمَامَةَ عَلَى مِخَدَّتِهِ، فَخَدَمَ السُّلْطَانَ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ، (وَوَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ) وَلَمْ يُمَكِّنْ أَحَدًا مِنَ النُّزُولِ فِي دُورِ النَّاسِ، وَطَلَبَ السُّلْطَانُ الِاجْتِمَاعَ بِالْخَلِيفَةِ، فَأُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَجَلَسَ الْخَلِيفَةُ يَوْمَ السَّبْتِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ جُلُوسًا عَامًّا، وَحَضَرَ وُجُوهُ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ وَأَعْيَانُ بَغْدَاذَ، وَحَضَرَ السُّلْطَانُ فِي الْمَاءِ، وَأَصْحَابُهُ حَوْلَهُ فِي السُّمَيْرِيَّاتِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ السُّمَيْرِيَّةِ أُرْكِبَ فَرَسًا مِنْ مَرَاكِبِ الْخَلِيفَةِ، فَحَضَرَ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ، وَالْخَلِيفَةُ عَلَى سَرِيرٍ عَالٍ مِنَ الْأَرْضِ نَحْوَ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، وَعَلَيْهِ بُرْدَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ الْخَيْزُرَانُ، فَقَبَّلَ السُّلْطَانُ الْأَرْضَ، وَقَبَّلَ يَدَهُ، وَأُجْلِسَ عَلَى كُرْسِيٍّ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ لِرَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ: قُلْ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَاكِرٌ لِسَعْيِكَ، حَامِدٌ لِفِعْلِكَ مُسْتَأْنِسٌ بِقُرْبِكَ، وَقَدْ وَلَّاكَ جَمِيعَ مَا وَلَّاهُ اللَّهُ مِنْ بِلَادِهِ، وَرَدَّ عَلَيْكَ مُرَاعَاةَ عِبَادِهِ، فَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا وَلَّاكَ، وَاعْرِفْ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، وَاجْتَهِدْ فِي نَشْرِ الْعَدْلِ وَكَفِّ الظُّلْمِ، وَإِصْلَاحِ الرَّعِيَّةِ.

فَقَبَّلَ الْأَرْضَ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِفَاضَةِ الْخِلَعِ عَلَيْهِ، فَقَامَ إِلَى مَوْضِعٍ لَبِسَهَا فِيهِ وَعَادَ، وَقَبَّلَ يَدَ الْخَلِيفَةِ وَوَضَعَهَا عَلَى عَيْنَيْهِ، وَخَاطَبَهُ الْخَلِيفَةُ بِمَلِكِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَأُعْطِيَ الْعَهْدَ، وَخَرَجَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ خِدْمَةً كَثِيرَةً، مِنْهَا خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَخَمْسُونَ مَمْلُوكًا أَتْرَاكًا مِنْ أَجْوَدِ مَا يَكُونُ، وَمَعَهُمْ خُيُولُهُمْ وَسِلَاحُهُمْ، وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ هَزَارَسْبَ وَفُولَاذٍ كَانَ السُّلْطَانُ قَدْ ضَمَّنَ هَزَارَسْبَ بْنَ بُنْكِيرَ بْنِ عِيَاضٍ الْبَصْرَةَ، وَأَرَّجَانَ، وَخُوزِسْتَانَ، وَشِيرَازَ، فَتَجَرَّدَ رَسُولْتِكِينُ ابْنُ عَمِّ السُّلْطَانِ وَمَعَهُ فُولَاذٌ لِهَزَارَسْبَ، وَقَصَدَا أَرَّجَانَ وَنَهَبَاهَا. وَكَانَ هَزَارَسْبُ مَعَ طُغْرُلْبَك بِالْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ، فَلَمَّا فَرَغَ السُّلْطَانُ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ رَدَّ هَزَارَسْبَ إِلَى بِلَادِهِ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ رَسُولْتِكِينَ وَفُولَاذٍ، فَسَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَصَادَرَ بِهَا تَاجَ الدِّينِ بْنَ سَخْطَةَ الْعَلَوِيَّ وَابْنَ سَمْحَا الْيَهُودِيَّ بِمِائَةِ أَلْفٍوَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى قِتَالِ فُولَاذٍ وَرَسُولْتِكِينَ فَلَقِيَهُمَا، وَقَاتَلَهُمَا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ فُولَاذٌ، وَأُسِرَ رَسُولْتِكِينُ ابْنُ عَمِّ السُّلْطَانِ، فَأَبْقَى عَلَيْهِ هَزَارَسْبُ، فَسَأَلَ رَسُولْتِكِينُ هَزَارَسْبَ لِيُرْسِلَهُ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ لِيُشَفِّعَ فِيهِ الْخَلِيفَةَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. وَوَصَلَ بَغْدَاذَ مَعَ أَصْحَابِ هَزَارَسْبَ، فَاجْتَازَ بِدَارِ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، فَهَجَمَ وَدَخَلَهَا، وَاسْتَدْعَى طَعَامًا إِيجَازًا لِلْحُرْمَةِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِحْضَارِ عَمِيدِ الْمُلْكِ (وَإِعْلَامِهِ بِحَالِ رَسُولْتِكِينَ لِيُخَاطِبَ السُّلْطَانَ فِي أَمْرِهِ، فَلَمَّا حَضَرَ عَمِيدُ الْمُلْكِ) وَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّ السُّلْطَانَ يَقُولُ إِنَّ هَذَا لَا حُرْمَةَ لَهُ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْمُرَاعَاةَ، وَقَدْ قَابَلَ إِحْسَانِي بِالْعِصْيَانِ، وَيَجِبُ تَسْلِيمُهُ لِيَتَحَقَّقَ النَّاسُ مَنْزِلَتِي، وَتَتَضَاعَفَ هَيْبَتِي. فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَعْدَ مُرَاجَعَةٍ عَلَى أَنْ يُقَيِّدَهُ، وَخَرَجَ تَوْقِيعُ الْخَلِيفَةِ: إِنَّ مَنْزِلَةَ رُكْنِ الدِّينِ - يَعْنِي طُغْرُلْبَك -

عِنْدَنَا اقْتَضَتْ مَا لَمْ نَفْعَلْهُ مَعَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِتَقْيِيدِ أَحَدٍ فِي الدَّارِ الْعَزِيزَةِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الرِّضَا فِي جَوَابِ مَا فَعَلَ. فَرَاسَلَهُ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ حَتَّى رَضِيَ. وَقَدْ كَانَتْ دَارُ الْخِلَافَةِ أَيَّامَ بَنِي بُوَيْهٍ مَلْجَأً لِكُلِّ خَائِفٍ مِنْهُمْ، مِنْ وَزِيرٍ وَعَمِيدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَفِي الْأَيَّامِ السَّلْجُوقِيَّةِ سُلِكَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ فَعَلُوهُ هَذَا. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى الْوَزِيرِ الْيَازُورِيِّ بِمِصْرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، قُبِضَ بِمِصْرَ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْيَازُورِيِّ، وَقُرِّرَ عَلَيْهِ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ مِنْهُ وَمِنْ أَصْحَابِهِ، وَوُجِدَ لَهُ مُكَاتَبَاتٌ إِلَى بَغْدَاذَ. وَكَانَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ قَدْ حَجَّ، فَلَمَّا قَضَى حَجَّهُ أَتَى الْمَدِينَةَ، وَزَارَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَقَطَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ قِطْعَةٌ مِنَ الْخَلُوقِ الَّذِي عَلَى حَائِطِ الْحُجْرَةِ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُ الْقُوَّامِ: أَيُّهَا الشَّيْخُ إِنِّي أُبَشِّرُكَ، وَلِي الْحِبَاءُ وَالْكَرَامَةُ إِذْ بَلَغْتَهُ، أَنَّكَ تَلِي وِلَايَةً عَظِيمَةً، وَهَذَا الْخَلُوقُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ حَتَّى وَلِيَ الْوِزَارَةَ، وَأَحْسَنَ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ وَرَعَاهُ. وَكَانَ يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ قَاضِيًا بِالرَّمْلَةِ، يُكْرِمُ الْعُلَمَاءَ، وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُجَالِسُهُمْ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِ كَابْتِدَاءِ أَمْرِ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ: الشَّهَادَةُ، وَالْقَضَاءُ، وَكَانَتْ سَعَادَتُهُمَا مُتَّفِقَةً، وَنِهَايَتُهُمَا مُتَقَارِبَةً. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ زَادَ الْغَلَاءُ بِبَغْدَاذَ وَالْعِرَاقِ حَتَّى بِيعَتْ كَارَةُ الدَّقِيقِ السَّمِيدِ بِثَلَاثَةَ

عَشَرَ دِينَارًا، وَالْكَارَةُ مِنَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ بِثَمَانِيَةِ دَنَانِيرَ، وَأَكَلَ النَّاسُ الْمَيْتَةَ وَالْكِلَابَ وَغَيْرَهَا، وَكَثُرَ الْوَبَاءُ حَتَّى عَجَزَ النَّاسُ عَنْ دَفْنِ الْمَوْتَى، فَكَانُوا يَجْعَلُونَ الْجَمَاعَةَ فِي الْحُفَيْرَةِ. [وَفَاةُ أَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ] وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ أَبُو الْعَلَاءِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَعَرِّيُّ، الْأَدِيبُ، وَلَهُ نَحْوُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَعِلْمُهُ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَرْمُونَهُ بِالزَّنْدَقَةِ، وَفِي شِعْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، حُكِيَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا لِأَبِي يُوسُفَ الْقَزْوِينِيِّ: مَا هَجَوْتُ أَحَدًا. فَقَالَ لَهُ الْقَزْوِينِيُّ: هَجَوْتَ الْأَنْبِيَاءَ. فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَقَالَ: مَا أَخَافُ أَحَدًا سِوَاكَ. وَحَكَى عَنْهُ الْقَزْوِينِيُّ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شِعْرًا فِي مَرْثِيَّةِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ يُسَاوِي أَنْ يُحْفَظَ. فَقَالَ الْقَزْوِينِيُّ: بَلَى، قَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ سَوَادِنَا: رَأْسُ ابْنِ بِنْتِ مُحَمَّدٍ وَوَصِيِّهِ ... لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى قَنَاةٍ يُرْفَعُ وَالْمُسْلِمُونَ بِمَنْظَرٍ وَبِمَسْمَعٍ ، لَا جَازِعٌ مِنْهُمْ، وَلَا مُتَفَجِّعُ ... أَيْقَظْتَ أَجْفَانًا وَكُنْتَ لَهَا كَرًى ، وَأَنَمْتَ عَيْنًا لَمْ تَكُنْ بِكَ تَهْجَعُ كُحِلَتْ بِمَصْرَعِكَ الْعُيُونُ عَمَايَةً ، وَأَصَمَّ نَعْيُكَ كُلَّ أُذْنٍ تَسْمَعُ ... مَا رَوْضَةٌ إِلَّا تَمَنَّتْ أَنَّهَا لَكَ مَضْجَعٌ وَلِخَطِّ قَبْرِكَ مَوْضِعُ وَفِيهَا أَصْلَحَ دُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ وَمَحْمُودُ بْنُ الْأَخْرَمِ الْخَفَاجِيُّ حَالَهُمَا مَعَ السُّلْطَانِ، فَعَادَ دُبَيْسٌ إِلَى بِلَادِهِ فَوَجَدَهَا خَرَابًا لِكَثْرَةِ مَنْ مَاتَ بِهَا مِنَ الْوَبَاءِ الْجَارِفِ، لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ.

وَفِيهَا كَثُرَ الْوَبَاءُ بِبُخَارَى حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ إِنْسَانٍ مِنْ أَعْمَالِ بُخَارَى، وَهَلَكَ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ فِي مُدَّةِ الْوَبَاءِ أَلْفُ أَلْفٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفًا، وَكَانَ بِسَمَرْقَنْدَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَوُجِدَ مَيِّتٌ، وَقَدْ دَخَلَ تُرْكِيٌّ يَأْخُذُ لِحَافًا عَلَيْهِ، فَمَاتَ التُّرْكِيُّ وَطَرْفُ اللِّحَافِ بِيَدِهِ، وَبَقِيَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ سَائِبَةً. وَفِيهَا نُهِبَتْ دَارُ أَبِي جَعْفَرٍ الطُّوسِيِّ بِالْكَرْخِ، وَهُوَ فَقِيهُ الْإِمَامِيَّةِ، وَأُخِذَ مَا فِيهَا، وَكَانَ قَدْ فَارَقَهَا إِلَى الْمَشْهَدِ الْغَرْبِيِّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، تُوُفِّيَ أَبُو عُثْمَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّابُونِيُّ، مُقَدَّمُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِخُرَاسَانَ، وَكَانَ فَقِيهًا، خَطِيبًا، إِمَامًا فِي عِدَّةِ عُلُومٍ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ إِيَازُ بْنُ أَيْمَاقَ أَبُو النَّجْمِ غُلَامُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، وَأَخْبَارُهُ مَعَهُ مَشْهُورَةٌ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو أَحْمَدَ عَدْنَانُ ابْنُ الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ نَقِيبِ الْعَلَوِيِّينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحُسَيْنِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ الْغَسَّانِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجُنْدِيِّ.

ثم دخلت سنة خمسين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَة] 450 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ مُفَارَقَةِ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ الْمَوْصِلَ وَاسْتِيلَاءِ الْبَسَاسِيرِيِّ عَلَيْهَا وَأَخْذِهَا مِنْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَارَقَ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالُ الْمَوْصِلَ نَحْوَ بِلَادِ الْجَبَلِ، فَنَسَبَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَك رَحِيلَهُ إِلَى الْعِصْيَانِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا يَسْتَدْعِيهِ وَصُحْبَتَهُ الْفُرْجِيَّةَ الَّتِي خَلَعَهَا عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ، وَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ أَيْضًا كِتَابًا فِي الْمَعْنَى، فَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَهُوَ بِبَغْدَاذَ، فَخَرَجَ الْوَزِيرُ الْكُنْدُرِيُّ لِاسْتِقْبَالِهِ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ الْخِلَعَ. وَلَمَّا فَارَقَ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلَ قَصَدَهَا الْبَسَاسِيرِيُّ وَقُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ، وَحَاصَرَاهَا، فَمَلَكَا الْبَلَدَ لِيَوْمِهِ، وَبَقِيَتِ الْقَلْعَةُ، وَبِهَا الْخَازِنُ وَأَرْدَمُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَحَاصَرَاهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى أَكَلَ مَنْ فِيهَا دَوَابَّهُمْ، فَخَاطَبَ ابْنُ مُوسَكَ صَاحِبُ إِرْبِلَ قُرَيْشًا حَتَّى أَمَّنَهُمْ فَخَرَجُوا، فَهَدَمَ الْبَسَاسِيرِيُّ الْقَلْعَةَ، وَعَفَّى أَثَرَهَا. وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ فَرَّقَ عَسْكَرَهُ فِي النَّوْرُوزِ، وَبَقِيَ جَرِيدَةً فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَلَمْ يَجِدْ بِهَا أَحَدًا، وَكَانَ قُرَيْشٌ وَالْبَسَاسِيرِيُّ قَدْ فَارَقَاهَا، فَسَارَ السُّلْطَانُ إِلَى نَصِيبِينَ لِيَتَتَبَّعَ آثَارَهُمْ وَيُخْرِجَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ، فَفَارَقَهُ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالُ، وَسَارَ نَحْوَ هَمَذَانَ، فَوَصَلَهَا فِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَكَانَ قَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمِصْرِيِّينَ كَاتَبُوهُ، وَالْبَسَاسِيرِيُّ قَدِ اسْتَمَالَهُ وَأَطْمَعَهُ فِي السَّلْطَنَةِ وَالْبِلَادِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى هَمَذَانَ سَارَ السُّلْطَانُ فِي أَثَرِهِ.

ذِكْرُ الْخِطْبَةِ بِالْعِرَاقِ لِلْعَلَوِيِّ الْمِصْرِيِّ وَمَا كَانَ إِلَى قَتْلِ الْبَسَاسِيرِيِّ لَمَّا عَادَ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالُ إِلَى هَمَذَانَ (سَارَ طُغْرُلْبَك خَلْفَهُ) ، وَرَدَّ وَزِيرَهُ عَمِيدَ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيَّ وَزَوْجَتَهُ إِلَى بَغْدَاذَ. وَكَانَ مَسِيرُهُ مِنْ نَصِيبِينَ مُنْتَصَفَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَوَصَلَ إِلَى هَمَذَانَ، وَتَحَصَّنَ بِالْبَلَدِ، وَقَاتَلَ أَهْلُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَاتُونِ زَوْجَتِهِ وَعَمِيدِ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيِّ يَأْمُرُهُمَا بِاللَّحَاقِ بِهِ، فَمَنَعَهُمَا الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ تَمَسُّكًا بِهِمَا، وَفَرَّقَ غِلَالًا كَثِيرَةً فِي النَّاسِ، وَسَارَ مَنْ كَانَ بِبَغْدَاذَ مِنَ الْأَتْرَاكِ إِلَى السُّلْطَانِ بِهَمَذَانَ، وَسَارَ عَمِيدُ الْمُلْكِ إِلَى دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ فَاحْتَرَمَهُ وَعَظَّمَهُ، ثُمَّ سَارَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى هَزَارَسْبَ وَسَارَتْ خَاتُونُ إِلَى السُّلْطَانِ بِهَمَذَانَ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ يَأْمُرُهُ بِالْوُصُولِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَوَرَدَ إِلَيْهَا فِي مِائَةِ فَارِسٍ، وَنَزَلَ فِي النَّجْمِيِّ ثُمَّ عَبَرَ إِلَى الْأَتَانِينَ. وَقَوِيَ الْإِرْجَافُ بِوُصُولِ الْبَسَاسِيرِيِّ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْخَلِيفَةُ وُصُولَهُ إِلَى هِيتَ أَمَرَ النَّاسَ بِالْعُبُورِ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَأَرْسَلَ دُبَيْسُ بْنُ مَزْيَدٍ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَإِلَى رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ يَقُولُ: الرَّأْيُ عِنْدِي خُرُوجُكُمَا مِنَ الْبَلَدِ مَعِي، فَإِنَّنِي أَجْتَمِعُ أَنَا وَهَزَارَسْبُ - فَإِنَّهُ بِوَاسِطٍ - عَلَى دَفْعِ عَدُوِّكُمَا. فَأُجِيبَ ابْنُ مَزْيَدٍ بِأَنْ يُقِيمَ حَتَّى يَقَعَ الْفِكْرُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: الْعَرَبُ لَا تُطِيعُنِي عَلَى الْمُقَامِ، وَأَنَا أَتَقَدَّمُ إِلَى دَيَالَى، فَإِذَا انْحَدَرْتُمْ سِرْتُ فِي خِدْمَتِكُمْ. وَسَارَ وَأَقَامَ بِدَيَالَى يَنْتَظِرُهُمَا، فَلَمْ يَرَ لِذَلِكَ أَثَرًا، فَسَارَ إِلَى بِلَادِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْبَسَاسِيرِيَّ وَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَامِنَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَمَعَهُ أَرْبَعُمِائَةِ غُلَامٍ عَلَى غَايَةِ الضُّرِّ وَالْفَقْرِ، وَكَانَ مَعَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْوَزِيرُ، فَنَزَلَ الْبَسَاسِيرِيُّ بِمَشْرَعَةِ الرَّوَايَا، وَنَزَلَ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ، وَهُوَ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، عِنْدَ مَشْرَعَةِ بَابِ الْبَصْرَةِ، وَرَكِبَ عَمِيدُ الْعِرَاقِ وَمَعَهُ الْعَسْكَرُ وَالْعَوَامُّ، وَأَقَامُوا بِإِزَاءِ عَسْكَرِ

الْبَسَاسِيرِيِّ وَعَادُوا، وَخَطَبَ الْبَسَاسِيرِيُّ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ لِلْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ الْعَلَوِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ، وَأَمَرَ فَأُذِّنَ بِحَيِّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَعَقَدَ الْجِسْرَ، وَعَبَرَ عَسْكَرُهُ إِلَى الزَّاهِرِ وَخَيَّمُوا فِيهِ، وَخَطَبَ فِي الْجُمُعَةِ مِنْ وُصُولِهِ (بِجَامِعِ الرُّصَافَةِ) لِلْمِصْرِيِّ، وَجَرَى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ حُرُوبٌ فِي أَثْنَاءِ الْأُسْبُوعِ. وَكَانَ عَمِيدُ الْعِرَاقِ يُشِيرُ عَلَى رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ بِالتَّوَقُّفِ عَنِ الْمُنَاجَزَةِ، وَيَرَى الْمُحَاجَزَةَ وَمُطَاوَلَةَ الْأَيَّامِ انْتِظَارًا لِمَا يَكُونُ مِنَ السُّلْطَانِ، وَلِمَا يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ بِسَبَبِ مَيْلِ الْعَامَّةِ إِلَى الْبَسَاسِيرِيِّ، أَمَّا الشِّيعَةُ فَلِلْمَذْهَبِ، وَأَمَّا السَّنَةُ فَلِمَا فَعَلَ بِهِمُ الْأَتْرَاكُ. وَكَانَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِالْحَرْبِ وَلِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْبَسَاسِيرِيِّ يَرَى الْمُبَادَرَةَ إِلَى الْحَرْبِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ حَضَرَ الْقَاضِي الْهَمَذَانِيُّ عِنْدَ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْحَرْبِ، وَضَمِنَ لَهُ قَتْلَ الْبَسَاسِيرِيِّ، فَأَذِنَ لَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ عَمِيدِ الْعِرَاقِ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ الْخَدَمُ وَالْهَاشِمِيُّونَ وَالْعَجَمُ وَالْعَوَّامُ إِلَى الْحَلْبَةِ، وَأَبْعَدُوا، وَالْبَسَاسِيرِيُّ يَسْتَجِرُّهُمْ، فَلَمَّا أَبْعَدُوا حَمَلَ عَلَيْهِمْ فَعَادُوا مُنْهَزِمِينَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَمَاتَ فِي الزَّحْمَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ، وَنُهِبَ بَابُ الْأَزَجِّ، وَكَانَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ وَاقِفًا دُونَ الْبَابِ، فَدَخَلَ الدَّارَ، وَهَرَبَ كُلُّ مَنْ فِي الْحَرِيمِ. وَلَمَّا بَلَغَ عَمِيدَ الْعِرَاقِ فِعْلُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ لَطَمَ عَلَى وَجْهِهِ كَيْفَ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ وَلَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْحَرْبِ. وَرَجَعَ الْبَسَاسِيرِيُّ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، وَاسْتَدْعَى الْخَلِيفَةُ عَمِيدَ الْعِرَاقِ وَأَمَرَهُ بِالْقِتَالِ عَلَى سُورِ الْحَرِيمِ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا الزَّعْقَاتُ، وَقَدْ نُهِبَ الْحَرِيمُ، وَقَدْ دَخَلُوا بِبَابِ النُّوبِيِّ، فَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ لَابِسًا لِلسَّوَادِ، وَعَلَى كَتِفِهِ الْبُرْدَةُ، وَبِيَدِهِ السَّيْفُ، وَعَلَى رَأْسِهِ اللِّوَاءُ، وَحَوْلَهُ زُمْرَةٌ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ وَالْخَدَمِ بِالسُّيُوفِ الْمَسْلُولَةِ، فَرَأَى النَّهْبَ قَدْ وَصَلَ إِلَى بَابِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ دَارِهِ، فَرَجَعَ إِلَى وَرَائِهِ، وَمَضَى نَحْوَ عَمِيدِ الْعِرَاقِ فَوَجَدَهُ قَدِ اسْتَأْمَنَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَعَادَ وَصَعِدَ الْمَنْظَرَةَ، وَصَاحَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ: يَا عَلَمَ الدِّينِ - يَعْنِي قُرَيْشًا - أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَدْنِيكَ. فَدَنَا مِنْهُ. فَقَالَ لَهُ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ: قَدْ أَنَالَكَ اللَّهُ مَنْزِلَةً لَمْ يَنَلْهَا أَمْثَالُكَ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَذِمُّ مِنْكَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ بِذِمَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَذِمَامِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذِمَامِ الْعَرَبِيَّةِ.

فَقَالَ: قَدْ أَذَمَّ اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ. قَالَ: وَلِي وَلِمَنْ مَعَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَخَلَعَ قَلَنْسُوَتَهُ فَأَعْطَاهَا الْخَلِيفَةَ، وَأَعْطَى مَخْصَرَتُهُ رَئِيسَ الرُّؤَسَاءِ ذِمَامًا، فَنَزَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ وَرَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ مِنَ الْبَابِ الْمُقَابِلِ لِبَابِ الْحَلْبَةِ، وَصَارَا مَعَهُ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْبَسَاسِيرِيُّ: أَتُخَالِفُ مَا اسْتَقَرَّ بَيْنَنَا، وَتَنْقُضُ مَا تَعَاهَدْنَا عَلَيْهِ؟ فَقَالَ قُرَيْشٌ: لَا. وَكَانَا قَدْ تَعَاهَدَا عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي الَّذِي يَحْصُلُ لَهُمَا، وَأَنْ لَا يَسْتَبِدَّ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ بِشَيْءٍ، فَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ قُرَيْشٌ رَئِيسَ الرُّؤَسَاءِ إِلَى الْبَسَاسِيرِيِّ ; لِأَنَّهُ عَدُوُّهُ، وَيَتْرُكَ الْخَلِيفَةَ عِنْدَهُ، فَأَرْسَلَ قُرَيْشٌ رَئِيسَ الرُّؤَسَاءِ إِلَى الْبَسَاسِيرِيِّ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: مَرْحَبًا بِمُهْلِكِ الدُّوَلِ، وَمُخَرِّبِ الْبِلَادِ! فَقَالَ: الْعَفْوَ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ. فَقَالَ الْبَسَاسِيرِيُّ: فَقَدْ قَدَرْتَ فَمَا عَفَوْتَ، وَأَنْتَ صَاحِبُ طَيْلَسَانَ، وَرَكِبْتَ الْأَفْعَالَ الشَّنِيعَةَ مَعَ حُرَمِي وَأَطْفَالِي، فَكَيْفَ أَعْفُو أَنَا، وَأَنَا صَاحِبُ السَّيْفِ؟ وَأَمَّا الْخَلِيفَةُ فَإِنَّهُ حَمَلَهُ قُرَيْشٌ رَاكِبًا إِلَى مُعَسْكَرِهِ وَعَلَيْهِ السَّوَادُ وَالْبُرْدَةُ، وَبِيَدِهِ السَّيْفُ، وَعَلَى رَأْسِهِ اللِّوَاءُ، وَأَنْزَلَهُ فِي خَيْمَةٍ، وَأَخَذَ أَرْسِلَانَ خَاتُونَ، (زَوْجَةَ الْخَلِيفَةِ، وَهِيَ) ابْنَةُ أَخِي السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك، فَسَلَّمَهَا إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرْدَةَ لِيَقُومَ بِخِدْمَتِهَا. وَنُهِبَتْ دَارُ الْخِلَافَةِ وَحَرِيمُهَا أَيَّامًا، وَسَلَّمَ قُرَيْشٌ الْخَلِيفَةَ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ مُهَارِشَ بْنِ الْمُجَلِّي، وَهُوَ رَجُلٌ فِيهِ دِينٌ، وَلَهُ مُرُوءَةٌ. فَحَمَلَهُ فِي هَوْدَجٍ وَسَارَ بِهِ إِلَى حَدِيثَةِ عَانَةَ، فَتَرَكَهُ بِهَا، وَسَارَ مَنْ كَانَ مَعَ الْخَلِيفَةِ مِنْ خَدَمِهِ وَأَصْحَابِهِ إِلَى السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك مُسْتَنْفِرِينَ. فَلَمَّا وُصَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْأَنْبَارِ شَكَا الْبَرْدَ، فَأَنْفَذَ إِلَى مُقَدَّمِهَا يَطْلُبُ مِنْهُ مَا يَلْبَسُهُ، فَأَرْسَلَ لَهُ جُبَّةً فِيهَا قُطْنٌ وَلِحَافًا. وَأَمَّا الْبَسَاسِيرِيُّ فَإِنَّهُ رَكِبَ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ، وَعَبَرَ إِلَى الْمُصَلَّى بِالْجَانِبِ

الشَّرْقِيِّ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْأَلْوِيَةُ الْمِصْرِيَّةُ، فَأَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ، وَأَجْرَى الْجِرَايَاتِ عَلَى الْمُتَفَقِّهَةِ، وَلَمْ يَتَعَصَّبْ لِمَذْهَبٍ، وَأَفْرَدَ لِوَالِدَةِ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ دَارًا، وَكَانَتْ قَدْ قَارَبَتْ تِسْعِينَ سَنَةً، وَأَعْطَاهَا جَارِيَتَيْنِ مِنْ جَوَارِيهَا لِلْخِدْمَةِ، وَأَجْرَى لَهَا الْجِرَايَةَ، وَأَخْرَجَ مَحْمُودَ بْنَ الْأَخْرَمِ إِلَى الْكُوفَةِ، وَسُقِّيَ الْفُرَاتُ أَمِيرًا. وَأَمَّا رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ فَأَخْرَجَهُ الْبَسَاسِيرِيُّ آخِرَ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ مَحْبِسِهِ بِالْحَرِيمِ الطَّاهِرِيِّ، مُقَيَّدًا وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ صُوفٌ، وَطُرْطُورٌ مِنْ لِبْدٍ أَحْمَرَ، وَفِي رَقَبَتِهِ مِخْنَقَةُ جُلُودِ بَعِيرٍ، وَهُوَ يَقْرَأُ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] الْآيَةَ. وَبَصَقَ أَهْلُ الْكَرْخِ فِي وَجْهِهِ عِنْدَ اجْتِيَازِهِ بِهِمْ، لِأَنَّهُ كَانَ يَتَعَصَّبُ عَلَيْهِمْ، وَشُهِّرَ إِلَى حَدِّ النَّجْمِيِّ، وَأُعِيدَ إِلَى مُعَسْكَرِ الْبَسَاسِيرِيِّ، وَقَدْ نُصِبَتْ لَهُ خَشَبَةٌ، وَأُنْزِلَ عَنِ الْجَمَلِ، وَأُلْبِسَ جِلْدَ ثَوْرٍ، وَجُعِلَتْ قُرُونُهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَجُعِلَ فِي فَكَّيْهِ كُلَّابَانِ مِنْ حَدِيدٍ، وَصُلِبَ، فَبَقِيَ يَضْطَرِبُ إِلَى آخَرِ النَّهَارِ، وَمَاتَ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ عِنْدَ ابْنِ مَاكُولَا سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ حَسَنَ التِّلَاوَةِ لِلْقُرْآنِ، جَيِّدَ الْمَعْرِفَةِ بِالنَّحْوِ. وَأَمَّا عَمِيدُ الْعِرَاقِ فَقَتَلَهُ الْبَسَاسِيرِيُّ، وَكَانَ فِيهِ شَجَاعَةٌ وَلَهُ فُتُوَّةٌ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى رِبَاطَ شَيْخِ الشُّيُوخِ. وَلَمَّا خَطَبَ الْبَسَاسِيرِيُّ لِلْمُسْتَنْصِرِ الْعَلَوِيِّ بِالْعِرَاقِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِمِصْرَ يُعَرِّفُهُ مَا فَعَلَ، وَكَانَ الْوَزِيرُ هُنَاكَ أَبَا الْفَرَجِ ابْنَ أَخِي أَبِي الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيِّ، وَهُوَ مِمَّنْ هَرَبَ مِنَ الْبَسَاسِيرِيِّ وَفِي نَفْسِهِ مَا فِيهَا، فَوَقَعَ فِيهِ، وَبَرَّدَ فِعْلَهُ، وَخَوَّفَ عَاقِبَتَهُ، فَتُرِكَتْ أَجْوِبَتُهُ مُدَّةً، ثُمَّ عَادَتْ بِغَيْرِ الَّذِي أَمَّلَهُ وَرَجَاهُ.

وَسَارَ الْبَسَاسِيرِيُّ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى وَاسِطٍ وَالْبَصْرَةِ، فَمَلَكَهُمَا، وَأَرَادَ قَصْدَ الْأَهْوَازِ، فَأَنْفَذَ صَاحِبُهَا هَزَارَسْبُ بْنُ بُنْكِيرَ إِلَى دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُصْلِحَ الْأَمْرَ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يُجِبِ الْبَسَاسِيرِيُّ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا بُدَّ مِنَ الْخُطْبَةِ لِلْمُسْتَنْصِرِ، وَالسِّكَّةِ بِاسْمِهِ. فَلَمْ يَفْعَلْ هَزَارَسْبُ ذَلِكَ، وَرَأَى الْبَسَاسِيرِيُّ أَنَّ طُغْرُلْبَك يَمُدُّ هَزَارَسْبَ بِالْعَسَاكِرِ، فَصَالَحَهُ، وَأَصْعَدَ إِلَى وَاسِطٍ فِي مُسْتَهَلِّ شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَفَارَقَهُ صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ الْحَسَنِ الْأَسَدِيُّ، وَلَحِقَ بِهَزَارَسْبَ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَ بَعْدَ أَبِيهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَأَمَّا أَحْوَالُ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك وَإِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ كَانَ فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَحَلَفَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يُصَالِحُ أَخَاهُ طُغْرُلْبَك، وَلَا يُكَلِّفُهُمُ الْمَسِيرَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَهُ لِطُولِ مُقَامِهِمْ، وَكَثْرَةِ إِخْرَاجَاتِهِمْ، فَلَمْ يَقْوَ بِهِ طُغْرُلْبَك، وَأَتَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ ابْنَا أَخِيهِ أَرْتَاشَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ، فَازْدَادَ بِهِمْ قُوَّةً، وَازْدَادَ طُغْرُلْبَك ضَعْفًا، فَانْزَاحَ (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) إِلَى الرَّيِّ، وَكَاتَبَ أَلْبَ أَرْسِلَانَ، وَيَاقُوتِيَّ، وَقَاوَرْتَ بِكْ، أَوْلَادَ أَخِيهِ دَاوُدَ، وَكَانَ دَاوُدُ قَدْ مَاتَ، (عَلَى مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَلَكَ خُرَاسَانَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَلْبُ أَرْسِلَانُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ طُغْرُلْبَك يَسْتَدْعِيهِمْ إِلَيْهِ، فَجَاءُوا بِالْعَسَاكِرِ الْكَثِيرَةِ، فَلَقِيَ إِبْرَاهِيمَ بِالْقُرْبِ مِنَ الرَّيِّ، فَانْهَزَمَ إِبْرَاهِيمُ وَمَنْ مَعَهُ، وَأُخِذَ أَسِيرًا هُوَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَلَدَا أَخِيهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَخُنِقَ بِوَتَرِ قَوْسِهِ تَاسِعَ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَقُتِلَ وَلَدَا أَخِيهِ مَعَهُ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ خَرَجَ عَلَى طُغْرُلْبَك مِرَارًا، فَعَفَا عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ فِي هَذِهِ الدَّفْعَةِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ جَمِيعَ مَا جَرَى عَلَى الْخَلِيفَةِ كَانَ بِسَبَبِهِ، فَلِهَذَا لَمْ يَعْفُ عَنْهُ.

وَلَمَّا قُتِلَ إِبْرَاهِيمُ أَرْسَلَ طُغْرُلْبَك إِلَى هَزَارَسْبَ بِالْأَهْوَازِ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، وَعِنْدَهُ عَمِيدُ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيُّ، فَسَارَ إِلَى السُّلْطَانِ، فَجَهَّزَهُ هَزَارَسْبُ تَجْهِيزَ مِثْلِهِ. ذِكْرُ عَوْدِ الْخَلِيفَةِ إِلَى بَغْدَاذَ لَمَّا فَرَغَ السُّلْطَانُ مِنْ أَمْرِ أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ عَادَ يَطْلُبُ الْعِرَاقَ، لَيْسَ لَهُ هَمٌّ إِلَّا إِعَادَةَ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ إِلَى دَارِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْبَسَاسِيرِيِّ وَقُرَيْشٍ فِي إِعَادَةِ الْخَلِيفَةِ إِلَى دَارِهِ عَلَى أَنْ لَا يَدْخُلَ طُغْرُلْبَك الْعِرَاقَ، وَيَقْنَعَ بِالْخُطْبَةِ وَالسِّكَّةِ، فَلَمْ يُجِبِ الْبَسَاسِيرِيُّ إِلَى ذَلِكَ، فَرَحَلَ طُغْرُلْبَك إِلَى الْعِرَاقِ، فَوَصَلَتْ مُقَدَّمَتُهُ إِلَى قَصْرِ شِيرِينَ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَانْحَدَرَ حُرَمُ الْبَسَاسِيرِيِّ وَأَوْلَادُهُ، وَرَحَلَ أَهْلُ الْكَرْخِ بِنِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ فِي دِجْلَةَ وَعَلَى الظَّهْرِ، وَنَهَبَ بَنُو شَيْبَانَ النَّاسَ، وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَكَانَ دُخُولُ الْبَسَاسِيرِيِّ وَأَوْلَادِهِ بَغْدَاذَ سَادِسَ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ خَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَخَرَجُوا مِنْهَا سَادِسَ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَثَارَ أَهْلُ بَابِ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكَرْخِ، فَنَهَبُوهُ، وَأَحْرَقُوا دَرْبَ الزَّعْفَرَانِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الدُّرُوبِ وَأَعْمَرِهَا، وَوَصَلَ طُغْرُلْبَك إِلَى بَغْدَاذَ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ مِنَ الطَّرِيقِ الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ فُورَكَ، إِلَى قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ يَشْكُرُهُ عَلَى فِعْلِهِ بِالْخَلِيفَةِ، وَحِفْظِهِ عَلَى صِيَانَتِهِ ابْنَةَ أَخِيهِ امْرَأَةَ الْخَلِيفَةِ، وَيُعَرِّفُهُ أَنَّهُ قَدْ أَرْسَلَ أَبَا بَكْرِ بْنَ فُورَكَ لِلْقِيَامِ بِخِدْمَةِ الْخَلِيفَةِ وَإِحْضَارِهِ وَإِحْضَارِ أَرْسِلَانَ خَاتُونَ ابْنَةِ أَخِيهِ امْرَأَةِ الْخَلِيفَةِ. وَلَمَّا سَمِعَ قُرَيْشٌ بِقَصْدِ طُغْرُلْبَك الْعِرَاقَ أَرْسَلَ إِلَى مُهَارِشَ يَقُولُ لَهُ: أَوْدَعْنَا الْخَلِيفَةَ عِنْدَكَ ثِقَةً بِأَمَانَتِكَ، لِيَنْكَفَّ بَلَاءُ الْغُزِّ عَنَّا، وَالْآنَ فَقَدْ عَادُوا وَهُمْ عَازِمُونَ عَلَى قَصْدِكَ، فَارْحَلْ أَنْتَ وَأَهْلُكَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ الْخَلِيفَةَ عِنْدَنَا فِي

الْبَرِّيَّةِ لَمْ يَقْصِدُوا الْعِرَاقَ، وَنَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِمَا نُرِيدُ، فَقَالَ مُهَارِشٌ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْبَسَاسِيرِيِّ عُهُودٌ وَمَوَاثِيقُ نَقَضَهَا، وَإِنَّ الْخَلِيفَةَ قَدِ اسْتَحْلَفَنِي بِعُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ لَا مَخْلَصَ مِنْهَا. وَسَارَ مُهَارِشٌ وَمَعَهُ الْخَلِيفَةُ حَادِيَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ (سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى الْعِرَاقِ، وَجَعَلَا طَرِيقَهُمَا عَلَى بَلَدِ بَدْرِ بْنِ مُهَلْهِلٍ لِيَأْمَنَا مَنْ يَقْصِدُهُمَا، وَوَصَلَ ابْنُ فُورَكَ إِلَى حُلَّةِ بَدْرِ بْنِ مُهَلْهِلٍ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُوَصِّلَهُ إِلَى مُهَارِشٍ، فَجَاءَ إِنْسَانٌ سَوَادِيٌّ إِلَى بَدْرٍ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى الْخَلِيفَةَ وَمُهَارِشًا بِتَلِّ عُكْبُرَا، فَسُرَّ بِذَلِكَ بَدْرٌ، وَرَحَلَ ابْنُ فُورَكَ، وَخَدَمَاهُ، وَحَمَلَ لَهُ بَدْرٌ شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَوْصَلَ إِلَيْهِ ابْنُ فُورَكَ رِسَالَةَ طُغْرُلْبِكْ، وَهَدَايَا كَثِيرَةً أَرْسَلَهَا مَعَهُ. وَلَمَّا سَمِعَ طُغْرُلْبِكْ بِوُصُولِ الْخَلِيفَةِ إِلَى بَلَدِ بِدْرٍ أَرْسَلَ وَزِيرَهُ الْكُنْدُرِيَّ، وَالْأُمَرَاءَ، وَالْحُجَّابَ، وَأَصْحَبَهُمُ الْخِيَامَ الْعَظِيمَةَ، وَالسُّرَادِقَاتِ، وَالتُّحَفَ (مِنَ الْخَيْلِ بِالْمَرَاكِبِ الذَّهَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَوَصَلُوا إِلَى الْخَلِيفَةِ وَخَدَمُوهُ وَرَحَلُوا، وَوَصَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى النَّهْرَوَانِ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَخَرَجَ السُّلْطَانُ إِلَى خِدْمَتِهِ، فَاجْتَمَعَ بِهِ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَنَّأَهُ بِالسَّلَامَةِ، وَأَظْهَرَ الْفَرَحَ بِسَلَامَتِهِ، وَاعْتَذَرَ مِنْ تَأَخُّرِهِ بِعِصْيَانِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُ قَتَلَهُ عُقُوبَةً لِمَا جَرَى مِنْهُ مِنَ الْوَهَنِ عَلَى الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَبِوَفَاةِ أَخِيهِ دَاوُدَ بِخُرَاسَانَ، وَأَنَّهُ اضْطُرَّ إِلَى التَّرَيُّثِ حَتَّى يُرَتِّبَ أَوْلَادَهُ بَعْدَهُ فِي الْمَمْلَكَةِ، وَقَالَ: أَنَا أَمْضِي خَلْفَ هَذَا الْكَلْبِ، يَعْنِي الْبَسَاسِيرِيَّ، وَأَقْصِدُ الشَّامَ، وَأَفْعَلُ فِي حَقِّ صَاحِبِ مِصْرَ مَا أُجَازِي بِهِ فِعْلَهُ! وَقَلَّدَهُ الْخَلِيفَةُ بِيَدِهِ سَيْفًا، وَقَالَ: لَمْ يَبْقَ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي دَارِهِ سِوَاهُ، وَقَدْ تَبَرَّكَ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَشَفَ غِشَاءَ الْخِرْكَاةِ حَتَّى رَآهُ الْأُمَرَاءُ، فَخَدَمُوا وَانْصَرَفُوا.

وَلَمْ يَبْقَ بِبَغْدَاذَ مِنْ أَعْيَانِهَا مَنْ يَسْتَقْبِلُ الْخَلِيفَةَ غَيْرَ الْقَاضِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيِّ، وَثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنَ الشُّهُودِ. وَتَقَدَّمَ السُّلْطَانُ فِي الْمَسِيرِ، فَوَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَجَلَسَ فِي بَابِ النُّوبِيِّ مَكَانَ الْحَاجِبِ، وَوَصَلَ الْخَلِيفَةُ فَقَامَ طُغْرُلْبِكْ، وَأَخَذَ بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ، حَتَّى صَارَ عَلَى بَابِ حُجْرَتِهِ، وَكَانَ وُصُولُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَعَبَرَ السُّلْطَانُ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، وَكَانَتِ السَّنَةُ مُجْدِبَةً، وَلَمْ يَرَ النَّاسُ فِيهَا مَطَرًا، فَجَاءَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَهَنَّأَ الشُّعَرَاءُ الْخَلِيفَةَ وَالسُّلْطَانَ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَدَامَ الْبَرْدُ بَعْدَ قُدُومِ الْخَلِيفَةِ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَمَاتَ بِالْجُوعِ وَالْعُقُوبَةِ عَدَدٌ لَا يُحْصَى، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ شِبْلٍ مِمَّنْ هَرَبَ مِنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْغَرِّ، فَوَقَعَ بِهِ غَيْرُهُمْ فَأَخَذُوا مَالَهُ فَقَالَ: خَرَجْنَا مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ خَوْفًا فَكَانَ فِرَارُنَا مِنْهُ إِلَيْهِ وَأَشْقَى النَّاسِ ذُو عَزْمٍ تَوَالَتْ مَصَائِبُهُ عَلَيْهِ مِنْ يَدَيْهِ تَضِيقُ عَلَيْهِ طُرُقُ الْعُذْرِ مِنْهَا وَيَقْسُو قَلْبُ رَاحِمِهِ عَلَيْهِ ذِكْرُ قَتْلِ الْبَسَاسِيرِيِّ أَنْفَذَ السُّلْطَانُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخَلِيفَةِ فِي دَارِهِ جَيْشًا عَلَيْهِمْ خُمَارَتِكِين الطُّغْرَائِيُّ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ نَحْوَ الْكُوفَةِ، فَأَضَافَ إِلَيْهِمْ سَرَايَا ابْنِ مَنِيعٍ الْخَفَاجِيِّ، وَكَانَ قَدْ قَالَ لِلسُّلْطَانِ: أَرْسِلْ مَعِي هَذِهِ الْعُدَّةَ حَتَّى أَمْضِيَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَأَمْنَعَ الْبَسَاسِيرِيَّ مِنَ الْإِصْعَادِ إِلَى الشَّامِ. وَسَارَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبِكْ فِي أَثَرِهِمْ، فَلَمْ يَشْعُرْ دُبَيْسُ بْنُ مَزْيَدٍ وَالْبَسَاسِيرِيُّ إِلَّا وَالسَّرِيَّةُ قَدْ وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ ثَامِنَ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ طَرِيقِ الْكُوفَةِ، بَعْدَ أَنْ نَهَبُوهَا، وَأَخَذَ نُورُ الدَّوْلَةِ دُبَيْسٌ رَحْلَهُ جَمِيعَهُ، وَأَحْدَرَهُ إِلَى الْبِطِّيخَةِ، وَجَعَلَ أَصْحَابُ نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسٍ يَرْحَلُونَ بِأَهْلِيهِمْ فَيَمْنَعُهُمُ الْأَتْرَاكُ، فَتَقَدَّمَ نُورُ الدَّوْلَةِ لِيَرُدَّ الْعَرَبَ إِلَى الْقِتَالِ، فَلَمْ يَرْجِعُوا فَمَضَى.

وَوَقَفَ الْبَسَاسِيرِيُّ فِي جَمَاعَتِهِ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ الْجَيْشُ، فَأُسِرَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ وَرَّامَ، وَأُسِرَ مَنْصُورٌ وَبَدْرَانُ وَحَمَّادٌ، بَنُو نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسٌ، وَضُرِبَ فَرَسُ الْبَسَاسِيرِيِّ بِنَشَّابَةٍ، وَأَرَادَ قَطْعَ تَجْفَافِهِ لِتَسْهُلَ عَلَيْهِ النَّجَاةُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ، وَسَقَطَ عَنِ الْفَرَسِ، وَوَقَعَ فِي وَجْهِهِ ضَرْبَةٌ وَدَلَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْجَرْحَى، فَأَخَذَهُ كُمُشْتَكِينُ دَوَاتِي عَمِيدِ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيُّ وَقَتَلَهُ، وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى السُّلْطَانِ وَدَخَلَ الْجُنْدُ فِي الظَّعْنِ، فَسَاقُوهُ جَمِيعَهُ وَأُخِذَتْ أَمْوَالُ أَهْلِ بَغْدَاذَ وَأَمْوَالُ الْبَسَاسِيرِيِّ مَعَ نِسَائِهِ وَأَوْلَادِهِ. وَهَلَكَ مِنَ النَّاسِ الْخَلْقُ الْعَظِيمُ، وَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِحَمْلِ رَأْسِ الْبَسَاسِيرِيِّ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَحُمِلَ إِلَيْهَا وَوَصَلَ مُنْتَصَفَ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَنُظِّفَ وَغُسِّلَ وَجُعِلَ عَلَى قَنَاةٍ وَطِيفَ بِهِ. وَصُلِبَ قُبَالَةَ بَابِ النَّوْبِيِّ. وَكَانَ فِي أَسْرِ الْبَسَاسِيرِيِّ جَمَاعَةٌ مِنَ النِّسَاءِ الْمُتَعَلِّقَاتِ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، فَأُخِذْنَ، وَأُكْرِمْنَ وَحُمِلْنَ إِلَى بَغْدَاذَ. وَمَضَى نُورُ الدَّوْلَةِ دُبَيْسٌ إِلَى الْبَطِيحَةِ وَمَعَهُ زَعِيمُ الْمُلْكِ أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحِيمِ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ هَذِهِ الْحَوَادِثِ الْمُتَأَخِّرَةِ أَنْ تُذْكَرَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا هَاهُنَا لِأَنَّهَا كَالْحَادِثَةِ الْوَاحِدَةِ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا. وَكَانَ الْبَسَاسِيرِيُّ مَمْلُوكًا تُرْكِيًّا مِنْ مَمَالِيكَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ تَقَلَّبَتْ بِهِ الْأُمُورُ حَتَّى بَلَغَ هَذَا الْمَقَامَ الْمَشْهُورَ، وَاسْمُهُ أَرْسَلَانُ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْحَارِثِ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى بَسَا مَدِينَةٌ بِفَارِسَ وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ عِوَضَ الْبَاءِ فَاءً فَتَقُولُ فَسَا، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا فَسَاوِيٌّ، وَمِنْهَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ النَّحْوِيُّ، وَكَانَ سَيِّدُ هَذَا الْمَمْلُوكِ أَوَّلًا مِنْ بَسَا، فَقِيلَ لَهُ الْبَسَاسِيرِيُّ لِذَلِكَ، وَجَعَلَ الْعَرَبُ الْبَاءَ فَاءً فَقِيلَ فَسَاسِيرِيٌّ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَقَرَّ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبِكْ حِمْلَانَ بْنَ وَهْسُوذَانَ بْنِ مُمْلَانَ عَلَى وِلَايَةِ أَبِيهِ بِأَذَرْبِيجَانَ. وَفِيهَا مَاتَ شِهَابُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْفَوَارِسِ مَنْصُورُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَسَدِيُّ، صَاحِبُ الْجَزِيرَةِ (عِنْدَ خُوزِسْتَانَ) ، وَاجْتَمَعَتْ عَشِيرَتُهُ عَلَى وَلَدِهِ صَدَقَةَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ، آخَرُ مُلُوكِ بُنِيَ بُوَيْهِ بِقَلْعَةِ الرَّيِّ، وَكَانَ طُغْرُلْبِكْ سَجَنَهُ أَوَّلًا بِقَلْعَةِ السِّيرَوَانِ، ثُمَّ نَقَلَهُ إِلَى قَلْعَةِ الرَّيِّ فَتُوُفِّيَ بِهَا. وَفِيهَا عَصَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْجَبْرِ بِالْبَطَائِحِ، وَكَانَ مُتَقَدِّمَ بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ طُغْرُلْبِكْ جَيْشًا مَعَ عَمِيدِ الْعِرَاقِ أَبِي النَّصْرِ، فَهَزَمَهُمْ أَبُو عَلِيٍّ. وَفِيهَا يَوْمُ النَّوْرُوزِ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ مَعَ وَزِيرِهِ عَمِيدِ الْمُلْكِ إِلَى الْخَلِيفَةِ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ سِوَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهَا مِنَ الْأَعْلَاقِ النَّفِيسَةِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، تُوُفِّيَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ شَيْطَا الْقَارِيُّ، الشَّاهِدُ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَفِيهَا، فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ الطَّبَرِيُّ، الْفَقِيهُ

الشَّافِعِيُّ، وَلَهُ مِائَةُ سَنَةٍ وَسَنَتَانِ وَكَانَ صَحِيحَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، سَلِيمَ الْأَعْضَاءِ، يُنَاظِرُ وَيُفْتِي وَيَسْتَدْرِكُ عَلَى الْفُقَهَاءِ، وَحَضَرَ عَمِيدُ الْمُلْكِ جِنَازَتَهُ، (وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ أَحْمَدَ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ. وَفِي سَلْخِهِ تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحُسَيْنِ) عَلِيُّ (بْنُ مُحَمَّدِ) بْنِ حَبِيبٍ الْمَاوَرْدِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ وَكَانَ إِمَامًا وَلَهُ تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: الْحَاوِي وَغَيْرُهُ فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ سِتًّا وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَفِي آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّفَّا، الضَّرِيرُ الْفَرَضِيُّ، وَكَانَ إِمَامًا فِيهَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ، كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالْعِرَاقِ، وَالْمَوْصِلِ، وَوَصَلَتْ إِلَى هَمْدَانَ، وَلَبِثَتْ سَاعَةً، فَخَرَّبَتْ كَثِيرًا مِنَ الدُّورِ، وَهَلَكَ فِيهَا الْجَمُّ الْغَفِيرُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيَاضٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي عَقِيلٍ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ الْحَدِيثِ وَرَوَاهُ. وَتُوُفِّيَ أَيْضًا الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ هِنْدِيٍّ قَاضِي حِمْصَ، وَكَانَ وَافِرَ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ.

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 451 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ وَفَاةِ فَرَّخَ زَادَ صَاحِبِ غَزْنَةَ وَمُلْكِ أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، تُوُفِّيَ الْمَلِكُ فَرَّخَ زَادَ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، صَاحِبُ غَزْنَةَ، وَكَانَ قَدْ ثَارَ بِهِ مَمَالِيكُهُ سَنَةَ خَمْسِينَ وَاتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَقَصَدُوهُ وَهُوَ فِي الْحَمَّامِ، وَكَانَ مَعَهُ سَيْفٌ، فَأَخَذَهُ وَقَاتَلَهُمْ وَمَنَعَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى أَدْرَكَهُ أَصْحَابُهُ وَخَلَّصُوهُ، وَقَتَلُوا أُولَئِكَ الْغِلْمَانَ. وَصَارَ بَعْدَ أَنْ نَجَا مِنْ هَذِهِ الْحَادِثَةِ يُكْثِرُ ذِكْرَ الْمَوْتِ وَيَحْتَقِرُ الدُّنْيَا وَيَزْدَرِيهَا، وَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَصَابَهُ قُولَنْجٌ فَمَاتَ مِنْهُ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودٍ، فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، فَاسْتَعَدَّ لِجِهَادِ الْهِنْدِ، فَفَتَحَ حُصُونًا امْتَنَعَتْ عَلَى أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وَكَانَ يَصُومُ رَجَبًا وَشَعْبَانَ وَرَمَضَانَ. ذِكْرُ الصُّلْحِ بَيْنَ الْمَلِكِ إِبْرَاهِيمَ وَجُغْرِي بِكْ دَاوُدَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَ الْمَلِكِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ وَبَيْنَ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ، صَاحِبِ خُرَاسَانَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى مَا بِيَدِهِ، وَيَتْرُكَ مُنَازَعَةَ الْآخَرِ فِي مُلْكِهِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُقَلَاءَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ نَظَرُوا فَرَأَوْا أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلِكَيْنِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِ مَا بِيَدِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ يَحْصُلُ غَيْرُ إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ وَإِتْعَابِ الْعَسَاكِرِ،

وَنَهْبِ الْبِلَادِ، وَقَتْلِ النُّفُوسِ، فَسَعَوْا فِي الصُّلْحِ، فَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ وَالْيَمِينُ، وَكُتِبَتِ النُّسَخُ بِذَلِكَ، فَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ وَسَرَّهُمْ لِمَا أَشْرَفُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَافِيَةِ. ذِكْرُ وَفَاةِ دَاوُدَ وَمُلْكِ ابْنِهِ أَلْب أَرْسَلَانَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، تُوُفِّيَ جُغْرِي بِكْ دَاوُدُ بْنُ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ، أَخُو السُّلْطَانِ طُغْرُلْبِكْ، وَقِيلَ كَانَ مَوْتُهُ فِي صَفَرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَعُمْرُهُ نَحْوَ سَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ صَاحِبَ خُرَاسَانَ، وَهُوَ مُقَابِلُ آلِ سُبُكْتِكِينَ وَمُقَاتِلُهُمْ وَمَانِعُهُمْ عَنْ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ بَعْدَهُ خُرَاسَانَ ابْنُهُ السُّلْطَانُ أَلْب أَرْسَلَانَ (وَخَلَفَ دَاوُدُ عِدَّةَ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ مِنْهُمْ: السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرَسْلَانَ) وَيَاقُوتِيٌّ وَسُلَيْمَانُ، وَقَارُوتُ بِكْ، فَتَزَوَّجَ أُمَّ سُلَيْمَانَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبِكْ، بَعْدَ أَخِيهِ دَاوُدَ وَوَصَّى لَهُ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا نَذْكُرُهُ. وَكَانَ خَيِّرًا، عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، مُعْتَرِفًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، شَاكِرًا عَلَيْهَا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ طُغْرُلْبِكْ مَعَ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَاضِي سَرَخْسَ يَقُولُ لَهُ: بَلَغَنِي إِخْرَابُكَ الْبِلَادَ الَّتِي فَتَحْتَهَا وَمَلَكْتَهَا، وَجَلَا أَهْلِهَا عَنْهَا وَهَذَا مَا لَا خَفَاءَ بِهِ مُخَالَفَةُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِيهِ مِنْ سُوءِ السُّمْعَةِ وَإِيحَاشِ الرَّعِيَّةِ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّنَا لَقِينَا أَعْدَاءَنَا وَنَحْنُ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَهُمْ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ فَغَلَبْنَاهُمْ، وَكُنَّا فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُمْ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَغَلَبْنَاهُمْ، وَكُنَّا فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَهُمْ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَدَفَعْنَاهُمْ، وَقَاتَلْنَا بِالْأَمْسِ شَاهَ مُلْكٍ، وَهُوَ فِي أَعْدَادٍ كَثِيرَةٍ مُتَوَافِرَةٍ، فَقَهَرْنَاهُ، وَأَخَذْنَا مَمْلَكَتَهُ بِخُوَارِزْمَ، وَهَرَبَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا إِلَى خَمْسِمِائَةِ فَرْسَخٍ مِنْ مَوْضِعِهِ، فَظَفِرْنَا بِهِ وَأَسَرْنَاهُ وَقَتَلْنَاهُ، وَاسْتَوْلَيْنَا عَلَى مَمَالِكِ خُرَاسَانَ وَطَبَرِسْتَانَ

وَسِجِسْتَانَ، وَصِرْنَا مُلُوكًا مَتْبُوعِينَ، بَعْدَ أَنْ كُنَّا أَصَاغِرَ تَابِعِينَ، وَمَا تَقْتَضِي نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْنَا أَنْ نُقَابِلَهَا هَذِهِ الْمُقَابَلَةَ. فَقَالَ طُغْرُلْبِكْ: قُلْ لَهُ فِي الْجَوَابِ: يَا أَخِي أَنْتِ مَلَكْتَ خُرَاسَانَ وَهِيَ بِلَادٌ عَامِرَةٌ، فَخَرَّبْتَهَا، وَوَجَبَ عَلَيْكَ مَعَ اسْتِقْرَارِ قَدَمِكَ عِمَارَتُهَا، وَأَنَا وَرَدْتُ بِلَادًا خَرَّبَهَا مَنْ تَقَدَّمَنِي، وَاجْتَاحَهَا مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَمَا أَتَمَكَّنُ مِنْ عِمَارَتِهَا وَالْأَعْدَاءُ مُحِيطَةٌ بِهَا، وَالضَّرُورَةُ تَقُودُ إِلَى طَرْقِهَا بِالْعَسَاكِرِ، وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ مَضَرَّتِهَا عَنْهَا. وَلَهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ تَرَكْنَاهَا خَوْفَ التَّطْوِيلِ. ذِكْرُ حَرِيقِ بَغْدَاذَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ احْتَرَقَتْ بَغْدَاذُ: الْكَرْخُ وَغَيْرُهُ، وَبَيْنَ السُّورَيْنِ، وَاحْتَرَقَتْ فِيهِ خِزَانَةُ الْكُتُبِ الَّتِي وَقَفَهَا أَرْدَشِيرُ الْوَزِيرُ وَنُهِبَتْ بَعْضُ كُتُبِهَا، وَجَاءَ عَمِيدُ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيُّ، فَاخْتَارَ مِنَ الْكُتُبِ خَيْرَهَا، وَكَانَ بِهَا عَشَرَةُ آلَافِ مُجَلَّدٍ وَأَرْبَعُمِائَةِ مُجَلَّدٍ مِنْ أَصْنَافِ الْعُلُومِ مِنْهَا: مِائَةُ مُصْحَفٍ بِخُطُوطِ بَنِي مُقْلَةَ، وَكَانَ الْعَامَّةُ قَدْ نَهَبُوا بَعْضَهَا لَمَّا وَقَعَ الْحَرِيقُ، فَأَزَالَهُمْ عَمِيدُ الْمُلْكِ، وَقَعَدَ يَخْتَارُهَا، فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى سُوءِ سِيرَتِهِ، وَفَسَادِ اخْتِيَارِهِ، وَشَتَّانَ بَيْنِ فِعْلِهِ وَفِعْلِ نِظَامِ الْمُلْكِ الَّذِي عَمَّرَ الْمَدَارِسَ، وَدَوَّنَ الْعِلْمَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ جَمِيعِهَا، وَوَقَفَ الْكُتُبَ وَغَيْرَهَا. ذِكْرُ انْحِدَارِ السُّلْطَانِ إِلَى وَاسِطَ وَمَا فَعَلَ الْعَسْكَرُ وَإِصْلَاحُ دُبَيْسٍ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْحَدَرَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبِكْ إِلَى وَاسِطَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ أَمْرِ بَغْدَاذَ فَرَآهَا قَدْ نُهِبَتْ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ هَزَارَسِبُ بْنُ بِنْكِيرَ، وَأَصْلَحَ مَعَهُ حَالَ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ، وَأَحْضَرَهُ مَعَهُ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ، وَأَصْعَدَ فِي صُحْبَتِهِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَضَمِنَ وَاسِطًا أَبُو عَلِيِّ بْنُ فَضْلَانَ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ وَضَمِنَ الْبَصْرَةَ الْأَغَرُّ أَبُو سَعْدٍ سَابُورُ بْنُ الْمُظَفَّرِ، وَعَبَرَ السُّلْطَانُ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ دِجْلَةَ، وَسَارَ إِلَى

قُرْبِ الْبَطَائِحِ، فَنَهَبَ الْعَسْكَرُ مَا بَيْنَ وَاسِطَ وَالْبَصْرَةِ وَالْأَهْوَازِ. وَأَصْعَدَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ فِي صَفَرٍ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَمَعَهُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ وَرَّامٍ، وَهَزَارُسِبْ بْنُ بِنْكِيرَ بْنِ عِيَاضٍ، وَدُبَيْسُ بْنُ مَزْيَدٍ، وَأَبُو عَلِيِّ ابْنُ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَصَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ الْحُسَيْنِ وَغَيْرُهُمْ، وَاجْتَمَعَ السُّلْطَانُ بِالْخَلِيفَةِ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِعَمَلِ طَعَامٍ كَثِيرٍ حَضَرَهُ السُّلْطَانُ وَالْأُمَرَاءُ وَأَصْحَابُهُمْ، وَعَمِلَ السُّلْطَانُ أَيْضًا سِمَاطًا أَحْضَرَ فِي الْجَمَاعَةِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ وَسَارَ إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَجَعَلَ بِبَغْدَاذَ شِحْنَةَ الْأَمِيرِ بُرْسُقَ، وَضَمِنَهَا أَبُو الْفَتْحِ الْمُظَفَّرُ بْنُ الْحُسَيْنِ ثَلَاثَ سِنِينَ بِأَرْبَعِ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُهْتَدِي مِنَ الْخَطَابَةِ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ لِأَنَّهُ خَطَبَ لِلْعَلَوِيِّ بِبَغْدَاذَ فِي الْفِتْنَةِ، وَأُقِيمُ مَقَامَهُ بِهَاءُ الشَّرَفِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْوَدُودِ بْنِ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ مَحْمُودِ (بْنِ إِبْرَاهِيمَ) الزَّوْزَنِيُّ أَبُو الْحَسَنِ صَحِبَ أَبَا الْحَسَنِ الْحُصَرِيَّ، وَرَوَى عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَهُوَ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ رِبَاطُ الزَّوْزَنِيِّ الْمُقَابِلُ لِجَامِعِ الْمَنْصُورِ. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو طَالِبٍ الْعُشَارِيُّ، وَمَوْلِدُهُ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الدَّارَقُطْنِيَّ وَغَيْرَهُ.

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 452 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ عَوْدِ وَلِيِّ الْعَهْدِ إِلَى بَغْدَاذَ مَعَ أَبِي الْغَنَائِمِ بْنِ الْمَحْلَبَانِ. فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ وَرَدَ عُدَّةُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلِيُّ الْعَهْدِ، وَمَعَهُ جَدَّتُهُ أُمُّ الْخَلِيفَةِ، وَخَرَجَ النَّاسُ لِاسْتِقْبَالِهِ، وَجَلَسَ فِي الزَّبْزَبِ عَلَى رَأْسِهِ أَبُو الْغَنَائِمِ بْنُ الْمَحْلَبَانِ، وَقُدِّمَ لَهُ بِبَابِ الْغُرْبَةِ فَرَسٌ، فَحَمَلَهُ ابْنُ الْمَحْلَبَانِ عَلَى كَتِفِهِ وَأَرْكَبَهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى مَجْلِسِ الْخَلِيفَةِ، فَشَكَرَهُ، وَخَرَجَ ابْنُ الْمَحْلَبَانِ فَرَكِبَ فِي الزَّبْزَبِ، وَانْحَدَرَ إِلَى دَارٍ أُفْرِدَتْ لَهُ بِبَابِ الْمَرَاتِبِ، وَدَخَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَاجْتَمَعَ بِهِ. وَكَانَ سَبَبُ مَصِيرِ وَلِيِّ الْعَهْدِ مَعَ ابْنِ الْمَحْلَبَانِ أَنَّهُ دَخَلَ دَارَهُ، فَوَجَدَ زَوْجَةَ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ وَأَوْلَادَهُ بِهَا، وَهُمْ مُطْلُوبُونَ مِنَ الْبَسَاسِيرِيِّ، فَعَرَّفُوهُ أَنَّ رَئِيسَ الرُّؤَسَاءِ أَمَرَهُمْ بِقَصْدِهِ، فَأَدْخَلَهُمْ إِلَى أَهْلِهِ، وَأَقَامَ لَهُمْ مَنْ حَمَلَهُمْ إِلَى مَيَافَارِقِينَ، فَسَارُوا مَعَ قِرْوَاشَ لَمَّا أَصْعَدَ مِنْ بَغْدَاذَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ. ثُمَّ لَقِيَهُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرٍ الْوَكِيلُ، وَعَرَّفَهُ مَا عَلَيْهِ وَلِيُّ الْعَهْدِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ إِيثَارِ الْخُرُوجِ مِنْ بَغْدَاذَ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَنَاقُصِ الْحَالِ، فَبَعَثَ ابْنُ الْمَحْلَبَانِ زَوْجَتَهُ، فَأَتَتْهُ بِهِمْ سِرًّا، فَتَرَكَهُمْ عِنْدَهُ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ يَحْضُرُ ابْنَ الْبَسَاسِيرِيِّ وَأَصْحَابَهُ، وَيَعْمَلُ لَهُمُ الدَّعَوَاتِ، وَوَلِيُّ الْعَهْدِ وَمَنْ مَعَهُ مُسْتَتِرُونَ عِنْدَهُ يَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ أُولَئِكَ فِيهِمْ. ثُمَّ اكْتَرَى لَهُمْ، وَسَارَ هُوَ فِي صُحْبَتِهِمْ إِلَى قَرِيبِ سِنْجَارَ، ثُمَّ حَمَلُوا إِلَى حَرَّانَ،

وَسَارَ مَعَ صَاحِبِهَا أَبِي الزِّمَامِ مَنِيعِ بْنِ وَثَّابٍ النُّمَيْرِيِّ، حِينَ قَصَدَ الرَّحْبَةَ، وَفَتَحَ قِرْقِيسِيَا، وَعَقَدَ لِعُدَّةِ الدِّينِ عَلَى بِنْتِ مَنِيعٍ، وَانْحَدَرُوا إِلَى بَغْدَاذَ. ذِكْرُ مُلْكِ مَحْمُودِ بْنِ شِبْلِ الدَّوْلَةِ حَلَبَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، (فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ) ، حَصَرَ مَحْمُودُ بْنُ شِبْلِ الدَّوْلَةِ بْنِ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ الْكِلَابِيُّ مَدِينَةَ حَلَبَ، وَضَيَّقَ عَلَيْهَا، وَاجْتَمَعَ مَعَ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَقَامَ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَتَسَهَّلْ لَهُ فَتْحُهَا، فَرَحَلَ عَنْهَا، ثُمَّ عَاوَدَهَا فَحَصَرَهَا، فَمَلَكَ الْمَدِينَةَ عَنْوَةً فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، بَعْدَ أَنْ حَصَرَهَا، وَامْتَنَعَتِ الْقَلْعَةُ عَلَيْهِ. وَأَرْسَلَ مَنْ بِهَا إِلَى الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ صَاحِبِ مِصْرَ وَدِمَشْقَ، يَسْتَنْجِدُونَهُ، فَأَمَرَ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ حَمْدَانَ، الْأَمِيرَ بِدِمَشْقَ، أَنْ يَسِيرَ بِمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ إِلَى حَلَبَ يَمْنَعُهَا مِنْ مَحْمُودٍ، فَسَارَ إِلَى حَلَبَ فَلَمَّا سَمِعَ مَحْمُودٌ بِقُرْبِهِ مِنْهُ خَرَجَ مِنْ حَلَبَ، وَدَخَلَهَا عَسْكَرُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ فَنَهَبُوهَا. ثُمَّ إِنَّ الْحَرْبَ وَقَعَتْ بَيْنَ مَحْمُودٍ وَنَاصِرِ الدَّوْلَةِ بِظَاهِرِ حَلَبَ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَانْهَزَمَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ وَعَادَ مَقْهُورًا إِلَى مِصْرَ، وَمَلَكَ مَحْمُودٌ حَلَبَ، وَقَتَلَ عَمَّهُ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُهُ بِهَا، وَهَذِهِ الْوَقْعَةُ تُعْرَفُ بِوَقْعَةِ الْفُنَيْدِقِ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبِكْ عَلَى مَحْمُودِ بْنِ الْأَخْرَمِ الْخَفَاجِيِّ، وَرُدَّتْ

إِلَيْهِ إِمَارَةُ بَنِي خَفَاجَةَ، وَوِلَايَةُ الْكُوفَةِ، وَسُقْيَ الْفُرَاتِ، وَضَمِنَ خَوَاصَّ السُّلْطَانِ هُنَاكَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ كُلَّ سَنَةٍ، وَصَرَفَ عَنْهَا رَجَبَ بْنَ مَنِيعٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ النَّسَوِيُّ، صَاحِبُ الشُّرْطَةِ بِبَغْدَاذَ، وَقَدْ جَاوَزَ ثَمَانِينَ سَنَةً. وَفِيهَا سَدَّ بَنُو وَرَّامٍ بَثْقَ النَّهْرَوَانَاتِ، وَشَرَعَ الْعَمِيدُ أَبُو الْفَتْحِ فِي عِمَارَةِ بُثُوقِ الْكَرْخِ. وَفِيهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، تُوُفِّيَتْ خَاتُونَ زَوْجَةُ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبِكْ بِزَنْجَانَ، فَوَجَدَ فِيهَا وَجْدًا شَدِيدًا، وَحَمَلَ تَابُوتَهَا إِلَى الرَّيِّ فَدُفِنَتْ بِهَا. وَفِيهَا، ثَالِثُ جُمَادَى الْآخِرَةِ، انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ إِلَى نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ، فَطَالَ لَبْثُهُ. وَفِيهَا جَمَعَ عَطِيَّةُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ جَمْعًا وَحَصَرَ الرَّحْبَةَ، وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا، فَمَلَكَهَا فِي صَفْرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ وَالِدَةُ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَاسْمُهَا قَطْرُ النَّدَى، وَقِيلَ بَدْرُ الدُّجَى، وَقِيلَ عَلَمٌ، وَهِيَ جَارِيَةٌ أَرْمِينِيَّةٌ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِالْجَازِرِيِّ النَّهْرَوَانِيِّ، وَكَانَ مُكْثِرًا مِنَ الرِّوَايَةِ، الْجَازِرِيُّ بِالْجِيمِ وَبَعْدَ الْأَلْفِ زَايٌ ثُمَّ رَاءٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ بَايُ أَبُو مَنْصُورٍ الْفَقِيهُ الْجِيلِيُّ، بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبَعْدَ الْأَلْفِ يَاءٌ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي الْفَضْلِ، الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 453 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ وِزَارَةِ ابْنِ دَارَسَتْ لِلْخَلِيفَةِ. لَمَّا عَادَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَاذَ اسْتَخْدَمَ أَبَا تُرَابٍ الْأَثِيرِيَّ فِي الْإِنْهَاءِ، وَحُضُورِ الْمَوَاكِبِ، وَلَقَّبَهُ حَاجِبَ الْحُجَّابِ، وَكَانَ قَدْ خَدَمَهُ بِالْحَدِيثِ، وَقَرُبَ مِنْهُ، فَخَاطَبَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ يُوسُفَ فِي وِزَارَةِ أَبِي الْفَتْحِ مَنْصُورِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ دَارَسَتْ، وَقَالَ إِنَّهُ يَخْدِمُ بِغَيْرِ إِقْطَاعٍ، وَيَحْمِلُ مَالًا، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، فَأُحْضِرَ مِنَ الْأَهْوَازِ إِلَى بَغْدَاذَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خُلْعَةَ الْوِزَارَةِ مُنْتَصَفَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَجَلَسَ فِي مَنْصِبِهِ، وَمَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ، فَمِمَّنْ مَدَحَهُ وَهَنَّأَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْخَبَّازُ بِقَصِيدَةٍ مِنْهَا: أَمِنَ الْمُلْكُ بِالْأَمِينِ أَبِي الْفَتْ ... حِ وَصُدَّتْ عَنْ صَفْوَةِ الْأَقْذَاءُ دَوْلَةٌ أَصْبَحَتْ وَأَنْتَ وَلِيُّ ... الرَّأْيِ فِيهَا، لَدَوْلَةٌ غَرَّاءُ. وَهِيَ طَوِيلَةٌ. وَكَانَ ابْنُ دَارَسَتْ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ تَاجِرًا لِلْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ. ذِكْرُ مَوْتِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ تَمِيمٍ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمُعِزُّ بْنُ بَادِيسَ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَةَ، مِنْ مَرَضٍ أَصَابَهُ، وَهُوَ

ضَعْفُ الْكَبِدِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ عُمْرُهُ لَمَّا مَلَكَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَمَانِي سِنِينَ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَكَانَ رَقِيقَ الْقَلْبِ، خَاشِعًا، مُتَجَنِّبًا لِسَفْكِ الدِّمَاءِ إِلَّا فِي حَدٍّ، حَلِيمًا، يَتَجَاوَزُ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، (حَسَنَ الصُّحْبَةِ مَعَ عَبِيدِهِ وَأَصْحَابِهِ، مُكْرِمًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ، كَثِيرَ الْعَطَاءِ لَهُمْ) ، كَرِيمًا، وَهَبَ مَرَّةً مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ لِلْمُسْتَنْصِرِ الزَّنَاتِيِّ وَكَانَ عِنْدَهُ وَقَدْ جَاءَهُ هَذَا الْمَالُ، فَاسْتَكْثَرَهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُفْرِغَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ وَهَبَهُ لَهُ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ أَمَرْتَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ أَوْعِيَتِهِ؟ قَالَ: لِئَلَّا يُقَالُ لَوْ رَآهُ مَا سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِهِ، وَكَانَ لَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ. وَلَمَّا مَاتَ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ، فَمِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ رَشِيقٍ فَقَالَ: لَكُلُّ حَيٍّ وَإِنْ طَالَ الْمَدَى هُلُكُ ... لَا عِزُّ مَمْلَكَةٍ يَبْقَى، وَلَا مُلْكُ وَلَّى الْمُعِزُّ عَلَى أَعْقَابِهِ فَرَمَى ... أَوْ كَادَ يَنْهَدُ مِنْ أَرْكَانِهِ الْفَلَكُ مَضَى فَقِيدًا، وَأَبْقَى فِي خَزَائِنِهِ ... هَامَ الْمُلُوكِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا مَلَكُوا مَا كَانَ إِلَّا حُسَامًا سَلَّهُ قَدَرٌ ... عَلَى الَّذِينَ بَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَانْهَمَكُوا كَأَنَّهُ لَمْ يَخُضْ لِلْمَوْتِ بَحْرَ وَغًى ... ، خُضْرِ الْبِحَارِ، إِذَا قِيسَتْ بِهِ، بِرَكُ وَلَمْ يَجُدْ بِقَنَاطِيرَ مُقَنْطَرَةٍ ... قَدْ أَرَّخَتْ بِاسْمِهِ إِبْرِيزَهَا السِّكَكُ رُوحُ الْمُعِزِّ وَرُوحُ الشَّمْسِ قَدْ قُبِضَا ... فَانْظُرْ بِأَيِّ ضِيَاءٍ يَصْعَدُ الْفَلَكُ وَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ تَمِيمٌ، وَكَانَ مَوْلِدُ تَمِيمٍ بِالْمَنْصُورِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَقَرُّهُ، مُنْتَصَفَ رَجَبٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَوَلَّاهُ الْمَهْدِيَّةَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ وَافَاهُ أَبُو الْمُعِزِّ، لَمَّا انْتَزَحَ عَنِ الْقَيْرَوَانِ مِنَ الْعَرَبِ، وَقَامَ بِخِدْمَةِ أَبِيهِ، وَأَظْهَرَ مِنْ طَاعَتِهِ وَبِرِّهِ مَا بَانَ بِهِ كَذِبُ مَا كَانَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ.

وَلَمَّا اسْتَبَدَّ بِالْمُلْكِ بَعْدَ أَبِيهِ سَلَكَ طَرِيقَهُ فِي حُسْنِ السِّيرَةِ، وَمَحَبَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ أَصْحَابُ الْبِلَادِ قَدْ طَمِعُوا بِسَبَبِ الْعَرَبِ، وَزَالَتِ الْهَيْبَةُ وَالطَّاعَةُ عَنْهُمْ فِي أَيَّامِ الْمُعِزِّ، فَلَمَّا مَاتَ ازْدَادَ طَمَعُهُمْ، وَأَظْهَرَ كَثِيرٌ مِنْهُمُ الْخِلَافَ، فَمِمَّنْ أَظْهَرَ الْخِلَافَ الْقَائِدُ حَمُّو بْنُ مَلِيكٍ، صَاحِبُ سَفَاقُسَ، وَاسْتَعَانَ بِالْعَرَبِ، وَقَصَدَ الْمَهْدِيَّةَ لِيُحَاصِرَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ تَمِيمٌ وَصَافَّهُ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ حَمُّو وَأَصْحَابُهُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَمَضَى حَمُّو وَنَجَا بِنَفْسِهِ، وَتَفَرَّقَتْ خَيْلُهُ وَرِجَالُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . (وَسَارَ تَمِيمٌ) إِلَى سُوسَةَ، وَكَانَ أَهْلُهَا قَدْ خَافُوا أَبَاهُ الْمُعِزَّ وَعَصَوْا عَلَيْهِ، فَمَلَكَهَا وَعَفَا عَنْ أَهْلِهَا. ذِكْرُ وَفَاةِ قُرَيْشٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ وَإِمَارَةِ ابْنِهِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ وَنَصِيبِينَ، أَصَابَهُ خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ فِيهِ وَأَنْفِهِ وَعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ، فَحَمَلَهُ ابْنُهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ إِلَى نَصِيبِينَ، حَتَّى حَفِظَ خِزَانَتَهُ بِهَا، وَتُوُفِّيَ هُنَاكَ. وَسَمِعَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَهِيرٍ حَالَهُ، فَسَارَ مِنْ دَارَا إِلَى نَصِيبِينَ، وَجَمَعَ بَنِي عَقِيلٍ عَلَى أَنْ يُؤَمِّرُوا ابْنَهُ أَبَا الْمَكَارِمِ مُسْلِمَ بْنَ قُرَيْشٍ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الْقَائِمُ بِأَمْرِهِ جَابِرُ بْنُ نَاشِبٍ، فَزَوَّجَهُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بِأُخْتِ مُسْلِمٍ، وَزَوَّجَ مُسْلِمًا بِابْنَةِ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ. ذِكْرُ وَفَاةِ نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ نَصْرُ الدَّوْلَةِ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ الْكُرْدِيُّ، صَاحِبُ دِيَارِ بَكْرٍ، وَلَقَبُهُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ نَصْرُ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ عُمْرُهُ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَإِمَارَتُهُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ

سَنَةً، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْأُمُورِ بِبِلَادِهِ اسْتِيلَاءً تَامًّا، وَعَمَّرَ الثُّغُورَ وَضَبَطَهَا، وَتَنَعَّمَ تَنَعُّمًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ. وَمَلَكَ مِنَ الْجَوَارِي الْمُغَنِّيَاتِ مَا اشْتَرَى بَعْضَهُمْ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَلَكَ خَمْسَمِائَةِ سَرِيَّةٍ سِوَى تَوَابِعِهِنَّ، وَخَمْسَمِائَةِ خَادِمٍ. وَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ مِنَ الْآلَاتِ مَا تَزِيدُ قِيمَتُهُ عَلَى مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَتَزَوَّجَ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ جُمْلَةً، وَأَرْسَلَ طَبَّاخِينَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَغَرَمَ عَلَى إِرْسَالِهِمْ جُمْلَةً وَافِرَةً حَتَّى تَعَلَّمُوا الطَّبْخَ مِنْ هُنَاكَ. وَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ طُغْرُلْبِكْ هَدَايَا عَظِيمَةً، مِنْ جُمْلَتِهَا الْجَبَلُ الْيَاقُوتُ الَّذِي كَانَ لِبَنِي بُوَيْهِ، اشْتَرَاهُ مِنَ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ سِوَى ذَلِكَ. وَوَزَرَ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْمَغْرِبِيِّ، وَفَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ، وَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ فِي أَيَّامِهِ، وَتَظَاهَرَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ، وَوَفَدَ إِلَيْهِ الشُّعَرَاءُ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ الْعُلَمَاءُ وَالزُّهَّادُ. وَبَلَغَهُ أَنَّ الطُّيُورَ فِي الشِّتَاءِ تَخْرُجُ مِنَ الْجِبَالِ إِلَى الْقُرَى فَتُصَادُ، فَأَمَرَ أَنْ يُطْرَحَ لَهَا الْحَبُّ مِنَ الْأَهْرَاءِ الَّتِي لَهُ، فَكَانَتْ فِي ضِيَافَتِهِ طُولَ عُمْرِهِ. وَلَمَّا مَاتَ اتَّفَقَ وَزِيرُهُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ وَابْنُهُ نَصْرٌ، فَرَتَّبَ نَصْرًا فِي الْمُلْكِ بَعْدَ أَبِيهِ، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ سَعِيدٍ حُرُوبٌ شَدِيدَةٌ كَانَ الظَّفَرُ فِي آخِرِهَا لِنَصْرٍ، فَاسْتَقَرَّ فِي الْإِمَارَةِ بِمَيَافَارِقِينَ وَغَيْرِهَا، وَمَلَكَ أَخُوهُ سَعِيدٌ آمِدَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي رَجَبٍ خُلِعَ عَلَى الْكَامِلِ أَبِي الْفَوَارِسِ طِرَادِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيِّ، وَقُلِّدَ نِقَابَةَ النُّقَبَاءِ، وَلُقِّبَ الْكَامِلُ ذَا الشَّرَفَيْنِ.

وَفِيهَا تَوَلَّى شَمْسُ الدِّينِ أُسَامَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ تَوَلَّى نِقَابَةَ الْعَلَوِيِّينَ بِبَغْدَاذَ، وَلُقِّبَ الْمُرْتَضَى. (وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ جَمِيعُهَا، فَظَهَرَتِ الْكَوَاكِبُ، وَأَظْلَمَتِ الدُّنْيَا، وَسَقَطَتِ الطُّيُورُ الطَّائِرَةُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، تُوُفِّيَ شُكْرٌ الْعَلَوِيُّ الْحُسَيْنِيُّ، أَمِيرُ مَكَّةَ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ: قَوِّضْ خِيَامَكَ عَنْ أَرْضٍ تُضَامُ بِهَا ... ، وَجَانِبِ الذُّلَّ، إِنَّ الذُّلَّ مُجْتَنَبُ وَارْحَلْ إِذَا كَانَ فِي الْأَوْطَانِ مَنْقَصَةٌ ... فَالْمَنْدَلُ الرَّطْبُ فِي أَوْطَانِهِ حَطَبُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْسُمَيْسَاطِيُّ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْهَنْدَسَةِ وَالرِّيَاضِيَّاتِ مِنْ عُلُومِ الْفَلَاسِفَةِ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ الرِّبَاطُ الَّذِي عِنْدَ جَامِعِ دِمَشْقَ.

ثم دخلت سنة أربع وخمسين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 454 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ نِكَاحِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبِكِ ابْنَةَ الْخَلِيفَةِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُقِدَ لِلسُّلْطَانِ طُغْرُلْبِكْ عَلَى ابْنَةِ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَانَتِ الْخِطْبَةُ تَقَدَّمَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ مَعَ أَبِي سَعْدٍ قَاضِي الرَّيِّ، فَانْزَعَجَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ فِي الْجَوَابِ أَبَا مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَعْفِيَ، فَإِنْ أُعْفِيَ، وَإِلَّا تَمَّمَ الْأَمْرَ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ السُّلْطَانُ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَيُسَلِّمَ وَاسِطًا وَأَعْمَالَهَا. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى السُّلْطَانِ ذَكَرَ لِعَمِيدِ الْمُلْكِ الْوَزِيرِ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الِاسْتِعْفَاءِ، فَقَالَ: لَا يَحْسُنُ أَنْ يُرَدَّ السُّلْطَانُ، وَقَدْ سَأَلَ وَتَضَرَّعَ، وَلَا يَجُوزُ مُقَابَلَتُهُ أَيْضًا بِطَلَبِ الْأَمْوَالِ وَالْبِلَادِ، فَهُوَ يَفْعَلُ أَضْعَافَ مَا طُلِبَ مِنْهُ. فَقَالَ التَّمِيمِيُّ: الْأَمْرُ لَكَ، وَمَهْمَا فَعَلْتَهُ فَهُوَ الصَّوَابُ، فَبَنَى الْوَزِيرُ الْأَمْرَ عَلَى الْإِجَابَةِ، وَطَالَعَ بِهِ السُّلْطَانَ، فَسُرَّ بِهِ، وَجَمَعَ النَّاسَ وَعَرَّفَهُمْ أَنَّ هِمَّتَهُ سَمَتْ بِهِ إِلَى الِاتِّصَالِ بِهَذِهِ الْجِهَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَبَلَغَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ سِوَاهُ مِنَ الْمُلُوكِ. وَتَقَدَّمَ إِلَى عَمِيدِ الْمُلْكِ الْوَزِيرِ أَنْ يَسِيرَ وَمَعَهُ أَرْسَلَانُ خَاتُونُ، زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ، وَأَنْ يَصْحَبَهَا مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ بِرَسْمِ الْحَمَلِ، وَمَا شَاكَلَهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ وَغَيْرِهَا، وَوَجَّهَ مَعَهُ فِرَامِرْزَ بْنَ كَاكَوَيْهِ، وَغَيْرَهُ مِنْ وُجُوهِ الْأُمَرَاءِ وَأَعْيَانِ الرَّيِّ.

فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْإِمَامِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَوْصَلَ خَاتُونَ زَوْجَةَ الْخَلِيفَةِ إِلَى دَارِهَا، وَأَنْهَى حُضُورَهُ وَحُضُورَ مِنْ مَعَهُ، ذَكَرَ حَالَ الْوَصْلَةِ، فَامْتَنَعَ الْخَلِيفَةُ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَيْهَا وَقَالَ: إِنْ أُعْفِينَا، وَإِلَّا خَرَجْنَا مِنْ بَغْدَاذَ. فَقَالَ عَمِيدُ الْمُلْكِ: كَانَ الْوَاجِبُ الِامْتِنَاعَ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَاحٍ، وَعِنْدَ الْإِجَابَةِ إِلَى مَا طَلَبَ، فَالِامْتِنَاعُ سَعْيٌ عَلَى دَمِي، وَأَخْرَجَ خِيَامَهُ إِلَى النَّهْرَوَانِ، فَاسْتَوْقَفَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ، وَالشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ يُوسُفَ، وَأَنْهَيَا إِلَى الْخَلِيفَةِ عَاقِبَةَ انْصِرَافِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَصَنَعَ لَهُ ابْنُ دَارَسَتْ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ (دَعْوَةً فَحَضَرَ عِنْدَهُ) ، فَرَأَى عَلَى مَسْجِدٍ مَكْتُوبًا: مُعَاوِيَةُ خَالُ عَلِيٍّ، فَأَمَرَ بِحَكِّهِ. وَكَتَبَ مِنَ الدِّيوَانِ إِلَى خُمَارَتِكِينَ الطُّغْرَائِيِّ كِتَابًا يَتَضَمَّنُ الشَّكْوَى مِنْ عَمِيدِ الْمُلْكِ، فَوَرَدَ الْجَوَابُ عَلَيْهِ بِالرِّفْقِ، وَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى عَمِيدِ الْمُلْكِ: نَحْنُ نَرُدُّ الْأَمْرَ إِلَى رَأْيِكَ، وَنُعَوِّلُ عَلَى أَمَانَتِكَ وَدِينِكَ. فَحَضَرَ يَوْمًا عِنْدَ الْخَلِيفَةِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَالْحُجَّابِ، وَالْقُضَاةِ وَالشُّهُودِ، فَأَخَذَ الْمَجْلِسَ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ سِوَاهُ، وَقَالَ لِلْخَلِيفَةِ: أَسْأَلُ مَوْلَانَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ التَّطَوُّلَ بِذِكْرِ مَا شَرُفَ بِهِ الْعَبْدُ الْمُخْلِصُ شَاهِنْشَاهْ، رُكْنُ الدِّينِ، فِيمَا رَغِبَ فِيهِ لِيَعْرِفَهُ الْجَمَاعَةُ. فَغَالَطَهُ، وَقَالَ: قَدْ سُطِّرَ فِي الْمَعْنَى مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. فَانْصَرَفَ عَمِيدُ الْمُلْكِ مَغِيظًا، وَرَحَلَ فِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَأَخَذَ الْمَالَ مَعَهُ إِلَى هَمَذَانَ، وَعَرَفَ السُّلْطَانُ أَنَّ السَّبَبَ فِي اتِّفَاقِ الْحَالِ مِنْ خُمَارَتِكِينَ الطُّغْرَائِيِّ، فَتَغَيَّرَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ، فَهَرَبَ فِي سِتَّةِ غِلْمَانٍ. وَكَتَبَ السُّلْطَانُ إِلَى قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ يُوسُفَ يَعْتِبُ وَيَقُولُ: هَذَا جَزَاءٌ مِنَ الْخَلِيفَةِ الَّذِي قَتَلْتُ أَخِي فِي خِدْمَتِهِ، وَأَنْفَقْتُ أَمْوَالِي فِي نُصْرَتِهِ، وَأَهْلَكْتُ خَوَاصِّي فِي مَحَبَّتِهِ. وَأَطَالَ الْعِتَابَ، وَعَادَ الْجَوَابُ إِلَيْهِ بِالِاعْتِذَارِ.

وَأَمَّا الطُّغْرَائِيُّ فَإِنَّهُ أُدْرِكَ بِبَرُوجِرْدَ فَقَالَ أَوْلَادُ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ لِلسُّلْطَانِ: إِنَّ هَذَا قَتَلَ أَبَانَا، وَنَسْأَلُ أَنْ نُمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ، وَأَعَانَهُمْ عَمِيدُ الْمُلْكِ، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي قَتْلِهِ، فَسَارُوا إِلَى طَرِيقِهِ وَقَتَلُوهُ، وَجَعَلَ مَكَانَهُ سَاوَتِكِينَ، وَبَسَطَ الْكُنْدُرِيُّ لِسَانَهُ. وَطَلَبَ طُغْرُلْبِكِ ابْنَةَ أَخِيهِ، زَوْجَةَ الْخَلِيفَةِ، لِتُعَادَ إِلَيْهِ، وَجَرَى مَا كَادَ يَقْضِي إِلَى الْفَسَادِ الْكُلِّيِّ. فَلَمَّا رَأَى الْخَلِيفَةُ شِدَّةَ الْأَمْرِ أَذِنَ فِي ذَلِكَ، وَكَتَبَ الْوِكَالَةَ بِاسْمِ عَمِيدِ الْمُلْكِ، وَسُيِّرَتِ الْكُتُبُ مَعَ أَبِي الْغَنَائِمِ بْنِ الْمَحْلَبَانِ، وَكَانَ الْعَقْدُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ بِظَاهِرِ تِبْرِيزَ، وَهَذَا مَا لَمْ يُجْرَ لِلْخُلَفَاءِ مِثْلُهُ، فَإِنَّ بَنِي بُوَيْهِ مَعَ تَحَكُّمِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ لِعَقَائِدِ الْخُلَفَاءِ لَمْ يَطْمَعُوا فِي مِثْلِ هَذَا وَلَا سَامُوهُمْ فِعْلَهُ. وَحَمَلَ السُّلْطَانُ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَجَوَاهِرَ نَفِيسَةً لِلْخَلِيفَةِ، وَلِوَلِيِّ الْعَهْدِ، وَلِلْجِهَةِ الْمَطْلُوبَةِ، وَلِوَالِدَتِهَا، وَغَيْرِهِمْ، وَجَعَلَ بَعْقُوبَا وَمَا كَانَ بِالْعِرَاقِ لَلْخَاتُونَ زَوْجَةِ السُّلْطَانِ الَّتِي تُوُفِّيَتْ لِلسَّيِّدَةِ ابْنَةِ الْخَلِيفَةِ. ذِكْرُ عَزْلِ ابْنِ دَارَسَتْ وَوِزَارَةِ ابْنِ جَهِيرٍ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ دَارَسَتْ مِنْ وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ. وَسَبَبُهُ أَنَّهُ وَصَلَ مَعَهُ إِنْسَانٌ يَهُودِيٌّ يُقَالُ لَهُ ابْنُ عَلَّانَ، فَضَمِنَ أَعْمَالَ الْوُكَلَاءِ الَّتِي لِخَاصِّ الْخَلِيفَةِ بِسِتَّةِ آلَافِ كُرٍّ غَلَّةً، وَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَصَحَّ مِنْهَا أَلْفَا كُرٍّ، وَثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَانْكَسَرَ الْبَاقِي، فَظَهَرَ عَجْزُ ابْنِ دَارَسَتْ وَوَهَنُهُ، فَعُزِلَ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَتُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . وَكَانَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَبُو نَصْرِ بْنُ جَهِيرٍ، وَزِيرُ نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ، قَدْ أَرْسَلَ

يَخْطُبُ الْوِزَارَةَ، وَبَذَلَ فِيهَا بُذُولًا كَثِيرَةً، فَأُجِيبَ إِلَيْهَا، وَأُرْسِلَ كَامِلٌ طِرَادٌ الزَّيْنَبِيُّ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ كَأَنَّهُ رَسُولٌ، فَلَمَّا عَادَ سَارَ مَعَهُ ابْنُ جَهِيرٍ كَالْمُوَدِّعِ لَهُ، فَتَمَّمَ السِّيَرَ مَعَهُ. وَخَرَجَ ابْنُ مَرْوَانَ فِي أَثَرِهِ، فَلَمْ يُدْرِكْهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ خَرَجَ النَّاسُ إِلَى اسْتِقْبَالِهِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ خِلَعُ الْوِزَارَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَلُقِّبَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ، وَاسْتَقَرَّ فِي الْوِزَارَةِ، وَمَدَحَهُ وَهَنَّأَهُ ابْنُ الْفَضْلِ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَمَّ الرُّخْصُ جَمِيعَ الْأَصْقَاعِ، فَبِيعَ بِالْبَصْرَةِ أَلْفُ رِطْلٍ مِنَ التَّمْرِ بِثَمَانِيَةِ قَرَارِيطَ. وَفَاةُ الْقُضَاعِيِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ جَعْفَرٍ الْقُضَاعِيُّ بِمِصْرَ. وَفِيهَا سَارَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبِكْ إِلَى قَلْعَةِ الطِّرْمِ مِنْ بِلَادِ الدَّيْلَمِ، وَقَرَّرَ عَلَى مُسَافِرٍ مَلِكَهَا مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَلْفَ ثَوْبٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو عُلْوَانَ ثِمَالُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ الْمُلَقَّبُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِحَلَبَ، وَقَامَ أَخُوهُ عَطِيَّةُ مَقَامَهُ.

وَتُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُكْثِرِينَ مِنْ سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَرِوَايَتِهِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْقَطِيعِيِّ، وَالْأَبْهَرِيِّ، وَابْنِ شَاذَانَ، وَغَيْرِهِمْ.

ثم دخلت سنة خمس وخمسين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 455 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ وُرُودِ السُّلْطَانِ بَغْدَاذَ وَدُخُولِهِ بِابْنَةِ الْخَلِيفَةِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، تَوَجَّهُ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبِكْ مِنْ أَرْمِينِيَّةَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَرَادَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ، فَاسْتَعْفَاهُ مِنْ ذَلِكَ، وَخَرَجَ الْوَزِيرُ ابْنُ جَهِيرٍ فَاسْتَقْبَلَهُ. وَكَانَ مَعَ السُّلْطَانِ مِنَ الْأُمَرَاءِ: أَبُو عَلِيٍّ ابْنُ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَسُرْخَابُ ابْنُ بَدْرٍ، وَهَزَارْسِبْ، وَأَبُو مَنْصُورٍ فِرَامَرْزُ بْنُ كَاكَوَيْهِ، فَنَزَلَ عَسْكَرُهُ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَزَادَ بِهِمْ أَذًى. وَوَصَلَ عَمِيدُ الْمُلْكِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَطَالَبَ بِالْجِهَةِ، وَبَاتَ بِالدَّارِ، فَقِيلَ لَهُ: خَطُّكَ مَوْجُودٌ بِالشَّرْطِ، وَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْوَصْلَةِ الشَّرَفُ لَا الِاجْتِمَاعُ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَتْ مُشَاهَدَةٌ فَتَكُونُ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، فَقَالَ السُّلْطَانُ: نَفْعَلُ هَذَا، وَلَكِنْ نُفْرِدُ لَهُ مِنَ الدُّورِ وَالْمَسَاكِنِ مَا يَكْفِيهِ، وَمَعَهُ خَوَاصُّهُ، وَحُجَّابُهُ، وَمَمَالِيكُهُ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مُفَارَقَتُهُمْ، فَحِينَئِذٍ نُقِلَتْ إِلَى دَارِ الْمَمْلَكَةِ فِي مُنْتَصَفِ صَفَرٍ، فَجَلَسَتْ عَلَى سَرِيرٍ مُلَبَّسٍ بِالذَّهَبِ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَيْهَا، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَخَدَمَهَا، وَلَمْ تَكْشِفِ الْخِمَارَ عَنْ وَجْهِهَا، وَلَا قَامَتْ هِيَ لَهُ، وَحَمَلَ لَهَا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْجَوَاهِرِ وَغَيْرِهَا، وَبَقِيَ كَذَلِكَ يَحْضُرُ كُلَّ يَوْمٍ يَخْدِمُ وَيَنْصَرِفُ. وَخَلَعَ عَلَى عَمِيدِ الْمُلْكِ وَعَمِلَ السِّمَاطَ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَخَلَعَ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَرَاءِ، وَظَهَرَ عَيْلَهِ سُرُورٌ عَظِيمٌ، وَعَقَدَ ضَمَانَ بَغْدَاذَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْقَايِنِيِّ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَأَعَادَ مَا كَانَ أَطْلَقَهُ رَئِيسُ الْعِرَاقِيِّنَ مِنَ الْمَوَارِيثِ وَالْمُكُوسِ، وَقَبَضَ عَلَى

الْأَعْرَابِيِّ سَعْدٍ، ضَامِنِ الْبَصْرَةِ، وَعَقَدَ ضَمَانَ وَاسِطَ عَلَى أَبِي جَعْفَرِ ابْنِ صَقَالِبَ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ. ذِكْرُ وَفَاةِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبِكْ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ السُّلْطَانُ مِنْ بَغْدَاذَ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ إِلَى بَلَدِ الْجَبَلِ، فَوَصَلَ إِلَى الرَّيِّ وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ أَرْسَلَانَ خَاتُونَ ابْنَةَ أَخِيهِ، زَوْجَةَ الْخَلِيفَةِ، لِأَنَّهَا شَكَتِ اطِّرَاحَ الْخَلِيفَةِ لَهَا، فَأَخَذَهَا مَعَهُ، فَمَرِضَ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَامِنَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَانَ عُمْرُهُ سَبْعِينَ سَنَةً تَقْرِيبًا، وَكَانَ عَقِيمًا لَمْ يَلِدْ وَلَدًا. وَكَانَ وَزِيرُهُ الْكُنْدُرِيُّ عَلَى سَبْعِينَ فَرْسَخًا، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ، فَسَارَ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ فِي يَوْمَيْنِ وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يُدْفَنْ فَدَفَنَهُ. وَجَلَسَ لَهُ الْوَزِيرُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ بِبَغْدَاذَ لِلْعَزَاءِ. حَكَى عَنْهُ الْكُنْدُرِيُّ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ، وَأَنَا بِخُرَاسَانَ، فِي الْمَنَامِ كَأَنَّنِي رُفِعْتُ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنَا فِي ضَبَابٍ لَا أُبْصِرُ مَعَهُ شَيْئًا، غَيْرَ أَنِّي أَشُمُّ رَائِحَةً طَيِّبَةً، وَأَنَّنِي أُنَادَى: إِنَّكَ قَرِيبٌ مِنَ الْبَارِي، جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، فَاسْأَلْ حَاجَتَكَ لِتُقْضَى، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَسْأَلُ طُولَ الْعُمْرِ، فَقِيلَ: لَكَ سَبْعُونَ سَنَةً، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ مَا يَكْفِينِي، فَقِيلَ: لَكَ سَبْعُونَ سَنَةً، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ لَا يَكْفِينِي، فَقِيلَ: لَكَ سَبْعُونَ سَنَةً. فَلَمَّا مَاتَ حَسَبَ عَمِيدُ الْمُلْكِ عُمْرَهُ، عَلَى التَّقْرِيبِ، فَكَانَ سَبْعِينَ سَنَةً. وَكَانَتْ مَمْلَكَتُهُ، بِحَضْرَةِ الْخِلَافَةِ، سَبْعَ سِنِينَ وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا وَاثْنَى عَشَرَ يَوْمًا. وَأَمَّا الْأَحْوَالُ بِالْعِرَاقِ، بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِنَّهُ كَتَبَ مِنْ دِيوَانِ الْخِلَافَةِ إِلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمِ بْنِ قُرَيْشٍ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَإِلَى نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ، وَإِلَى هَزَارَسِبْ، وَإِلَى بَنِي وَرَّامَ، وَإِلَى بَدْرِ بْنِ الْمُهَلْهِلِ، بِالِاسْتِدْعَاءِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأُرْسِلَ لِشَرَفِ الدَّوْلَةِ تَشْرِيفٌ، وَعَمِلَ أَبُو سَعِيدٍ الْقَايِنِيُّ، ضَامِنُ بَغْدَاذَ، سُورًا عَلَى قَصْرِ عِيسَى، وَجَمَعَ

الْغَلَّاتِ. فَانْحَدَرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ إِلَى أَوَانَا، وَتَسَلَّمَ أَصْحَابُهُ الْأَنْبَارَ، وَانْتَشَرَتِ الْبَادِيَةُ فِي الْبِلَادِ، وَقَطَعُوا الطُّرُقَاتِ. وَقَدِمَ إِلَى بَغْدَاذَ دُبَيْسُ بْنُ مَزْيَدٍ، وَخَرَجَ الْوَزِيرُ ابْنُ جَهِيرٍ لِاسْتِقْبَالِهِ، وَقَدِمَ أَيْضًا وَرَّامُ، وَتُوُفِّيَ بِبَغْدَاذَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ وَرَّامَ، مُقَدَّمُ الْأَكْرَادِ الْجَاوَانِيَّةِ، فَحُمِلَ إِلَى جَرْجَرَايَا، وَفَارَقَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمٌ بَغْدَاذَ، وَنَهَبَ النَّوَاحِي، فَسَارَ نُورُ الدَّوْلَةِ، وَالْأَكْرَادُ، وَبَنُو خَفَاجَةَ إِلَى قِتَالِهِ. ثُمَّ أُرْسِلَ إِلَيْهِ مِنْ دِيوَانِ الْخِلَافَةِ رَسُولٌ مَعَهُ خُلْعَةٌ لَهُ، وَكُوتِبَ بِالرِّضَاءِ عَنْهُ، وَانْحَدَرَ إِلَيْهِ نُورُ الدَّوْلَةِ دُبَيْسٌ، فَعَمِلَ لَهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ سِمَاطًا كَثِيرًا، وَكَانَ فِي الْجَمَاعَةِ الْأَشْرَفُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَخْرِ الْمُلْكِ أَبِي غَالِبِ بْنِ خَلَفٍ، كَانَ قَصْدُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْتَجْدِيًا، فَمَضَغَ لُقْمَةً، فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَحَكَى عَنْهُ بَعْضُ مَنْ صَحِبَهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اقْبِضْنِي، فَقَدْ ضَجِرْتُ مِنَ الْإِضَاقَةِ! فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَرُفِعَ مِنَ السِّمَاطِ خَافَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ أَنْ يَظُنَّ مَنْ حَضَرَ أَنَّهُ تَنَاوَلَ طَعَامًا مَسْمُومًا قُصِدَ بِهِ غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَا بَرِحَ مِنْكُمْ أَحَدٌ، وَنَهَضَ وَجَلَسَ مَكَانَ ابْنِ فَخْرِ الْمُلْكِ الْمُتَوَفَّى، وَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَحْسَنَ الْجَمَاعَةُ فِعْلَهُ، وَعَادُوا عَنْهُ وَخَلَعَ عَلَى دُبَيْسٍ وَوَلَدُهُ مَنْصُورٌ وَعَادَ إِلَى حُلَّتِهِ. وَلَمَّا رَأَى النَّاسُ بِبَغْدَاذَ انْتِشَارَ الْأَعْرَابِ فِي الْبِلَادِ وَنَهْبِهَا، حَمَلُوا السِّلَاحَ لِقِتَالِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَثْرَةِ الْعَيَّارِينَ وَانْتِشَارِ الْمُفْسِدِينَ. ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ. كَانَ عَاقِلًا حَلِيمًا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ احْتِمَالًا، وَأَكْثَرِهِمْ كِتْمَانًا لِسِرِّهِ، ظَفِرَ بِمُلَطِّفَاتٍ كَتَبَهَا بَعْضُ خَوَاصِّهِ إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، فَلَمْ يُطْلِعْهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا تَغَيَّرَ عَلَيْهِ، حَتَّى أَظْهَرَهُ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ لِغَيْرِهِ. وَحَكَى عَنْهُ أَقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ: لَمَّا أَرْسَلَنِي الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ إِلَيْهِ سَنَةَ

ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] كَتَبْتُ كِتَابًا إِلَى بَغْدَاذَ أَذْكُرُ فِيهِ سِيرَتَهُ وَخَرَابَ بِلَادِهِ، وَأَطَعْنَ عَلَيْهِ بِكُلِّ وَجْهٍ، فَوَقَعَ الْكِتَابُ مِنْ غُلَامِي، فَحُمِلَ إِلَيْهِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَكَتَمَهُ، وَلَمْ يُحَدِّثْنِي فِيهِ بِشَيْءٍ، وَلَا تَغَيَّرَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ إِكْرَامِي. وَكَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَيَصُومُ الِاثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسَ، وَكَانَ لِبْسُهُ الثِّيَابَ الْبِيَاضَ، وَكَانَ ظَلُومًا، غَشُومًا، قَاسِيًا، وَكَانَ عَسْكَرُهُ يَغْصِبُونَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ، وَأَيْدِيهُمْ مُطْلَقَةٌ فِي ذَلِكَ نَهَارًا وَلَيْلًا. وَكَانَ كَرِيمًا، فَمِنْ كَرَمِهِ أَنَّ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ أَسَرَ مِنَ الرُّومِ، لَمَّا غَزَاهُمْ، بَعْضَ مُلُوكِهِمْ فَبَذَلَ فِي نَفْسِهِ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمْ يَقْبَلْ إِبْرَاهِيمُ مِنْهُ وَحَمَلَهُ إِلَى طُغْرُلْبِكْ، فَأَرْسَلَ مِلْكُ الرُّومِ إِلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ حَتَّى خَاطَبَ طُغْرُلْبِكْ فِي فِكَاكِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ طُغْرُلْبِكْ رِسَالَتَهُ أَرْسَلَ الرُّومِيَّ إِلَى ابْنِ مَرْوَانَ بِغَيْرِ فِدَاءٍ، وَسَيَّرَ مَعَهُ رَجُلًا عَلَوِيًّا، فَأَنْفَذَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى طُغْرُلْبِكْ مَا لَمْ يُحْمَلْ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ أَلْفُ ثَوْبٍ دِيبَاجٍ، وَخَمْسُمِائَةِ ثَوْبٍ أَصْنَافٍ، وَخَمْسُمِائَةِ رَأْسٍ مِنَ الْكُرَاعِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنْفَذَ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِائَةَ لَبِنَةٍ فِضَّةً، وَثَلَاثَمِائَةِ شَهْرِيٍّ، وَثَلَاثَمِائَةِ حِمَارٍ مِصْرِيَّةٍ، وَأَلْفَ عَنْزٍ بَيْضِ الشُّعُورِ، سُودِ الْعُيُونِ وَالْقُرُونِ، وَأَنْفَذَ إِلَى ابْنِ مَرْوَانَ عَشَرَةَ أُمَنَاءَ مِسْكًا، وَعَمَّرَ مَلِكُ الرُّومِ الْجَامِعَ الَّذِي بَنَاهُ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَعَمَّرَ مَنَارَتَهُ، وَعَلَّقَ فِيهِ الْقَنَادِيلَ، وَجَعَلَ فِي مِحْرَابِهِ قَوْسًا وَنَشَّابَةً، وَأَشَاعَ الْمُهَادَنَةَ. ذِكْرُ مُلْكِ السُّلْطَانِ أَلْب أَرْسَلَانَ. لَمَّا مَاتَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبِكْ عَمِيدُ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيُّ فِي السَّلْطَنَةِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ جُغْرِي بِكْ، أَخِي السُّلْطَانِ طُغْرُلْبِكْ، وَكَانَ طُغْرُلْبِكْ قَدْ عَهِدَ إِلَيْهِ بِالْمُلْكِ، وَكَانَتْ وَالِدَةُ سُلَيْمَانَ عِنْدَ طُغْرُلْبِكْ، فَلَمَّا خُطِبَ لَهُ بِالسَّلْطَنَةِ اخْتَلَفَ الْأُمَرَاءُ، فَمَضَى بَاغِي سِيَانَ وَأَرْدَمُ إِلَى قَزْوِينَ، وَخَطَبَا لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ أَلْب أَرْسَلَانَ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ جُغْرِي بِكْ، وَهُوَ حِينَئِذٍ صَاحِبُ خُرَاسَانَ، وَمَعَهُ نِظَامُ الْمُلْكِ وَزِيرُهُ، وَالنَّاسُ مَائِلُونَ إِلَيْهِ. فَلَمَّا رَأَى عَمِيدُ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيُّ انْعِكَاسَ الْحَالِ عَلَيْهِ أَمَرَ بِالْخُطْبَةِ بِالرَّيِّ لِلسُّلْطَانِ أَلْب أَرْسَلَانَ، وَبَعْدَهُ لِأَخِيهِ سُلَيْمَانَ.

ذِكْرُ خُرُوجِ حَمُّو عَنْ طَاعَةِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بِإِفْرِيقِيَّةَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ حَمُّو بْنُ مَلِيكٍ، صَاحِبَ مَدِينَةٍ سَفَاقُسَ بِإِفْرِيقِيَّةَ، عَلَى الْأَمِيرِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، فَجَمَعَ أَصْحَابَهُ، وَاسْتَعَانَ بِالْعَرَبِ، وَسَارَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، فَسَمِعَ تَمِيمٌ الْخَبَرَ، فَسَارَ إِلَيْهِ بِعَسَاكِرَ وَمَعَهُ أَيْضًا طَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ زُغْبَةَ، وَرِيَاحٍ، وَوَصَلَ حَمُّو إِلَى سَلَقْطَةَ، وَالْتَقَى الْفَرِيقَانِ بِهَا، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا حَرْبٌ شَدِيدَةٌ فَانْهَزَمَ حَمُّو وَمَنْ مَعَهُ، وَأَخَذَتْهُمُ السُّيُوفُ، فَقُتِلَ أَكْثَرُ حُمَاتِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَنَجَا بِنَفْسِهِ، وَتَفَرَّقَتْ رِجَالُهُ، وَعَادَ تَمِيمٌ مُظَفَّرًا مَنْصُورًا. ثُمَّ قَصَدَ، بَعْدَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ، مَدِينَةَ سُوسَةَ، وَكَانَ أَهْلُهَا قَدْ خَالَفُوا عَلَيْهِ، فَمَلَكَهَا، وَعَفَا عَنْهُمْ وَحَقَنَ دِمَاءَهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، (فِي الْمُحَرَّمِ) ، قُبِضَ بِمِصْرَ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْمَغْرِبِيِّ. وَفِيهَا دَخَلَ الصُّلَيْحِيُّ، صَاحِبُ الْيَمَنِ، إِلَى مَكَّةَ مَالِكًا لَهَا، فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِيهَا، وَجَلَبَ إِلَيْهَا الْأَقْوَاتَ، وَرَفَعَ جَوْرَ مَنْ تَقَدَّمَ، وَظَهَرَتْ مِنْهُ أَفْعَالٌ جَمِيلَةٌ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعِ الْآخَرِ، انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ، وَكَانَ لَهُ ضَوْءٌ كَثِيرٌ.

وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، كَانَ بِالشَّامِ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ خُرِّبَ مِنْهَا كَثِيرٌ مِنَ الْبِلَادِ، وَانْهَدَمَ سُورُ طَرَابُلُسَ. وَفِيهَا مَلَكَ أَمِيرُ الْجُيُوشِ بَدْرٌ دِمَشْقَ لِلْمُسْتَنْصِرِ، صَاحِبِ مِصْرَ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَأَقَامَ بِهَا، وَاخْتَلَفَ هُوَ وَالْجُنْدُ، فَثَارُوا بِهِ، وَوَافَقَهُمُ الْعَامَّةُ، فَضَعُفَ عَنْهُمْ، فَفَارَقَهَا فِي رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَعِيدُ بْنُ نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ، صَاحِبُ آمِدَ، مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ. وَزُهَيْرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو نَصْرٍ الْجُذَامِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَرَوَاهُ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِسَرَخْسَ.

ثم دخلت سنة ست وخمسين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 456 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى عَمِيدِ الْمُلْكِ وَقَتْلِهِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرُسُلَانَ عَلَى الْوَزِيرِ عَمِيدِ الْمُلْكِ أَبِي نَصْرٍ (مَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدٍ) الْكُنْدُرِيِّ وَزِيرِ طُغْرُلْبِكْ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَمِيدَ الْمُلْكِ قَصَدَ خِدْمَةَ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَزِيرِ أَلْب أَرْسَلَانَ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، وَاعْتَذَرَ، وَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِهِ، فَسَارَ أَكْثَرُ النَّاسِ مَعَهُ، فَخُوِّفَ السُّلْطَانُ مِنْ غَائِلَةِ ذَلِكَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَأَنْفَذَهُ إِلَى مَرْوِ الرُّوذِ، وَأَتَتْ عَلَيْهِ سَنَةٌ فِي الِاعْتِقَالِ، ثُمَّ نَفَذَ إِلَيْهِ غُلَامَيْنِ فَدَخَلَا عَلَيْهِ وَهُوَ مَحْمُومٌ، فَقَالَا لَهُ: تُبْ مِمَّا أَنْتَ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ، وَدَخَلَ فَوَدَّعَ أَهْلَهُ، وَخَرَجَ إِلَى مَسْجِدٍ هُنَاكَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَأَرَادَ الْغُلَامَانِ خَنْقَهُ، فَقَالَ: لَسْتُ بِلِصٍّ! وَخَرَقَ خِرْقَةً مِنْ طَرَفِ كُمِّهِ وَعَصَبَ عَيْنَيْهِ، فَضَرَبُوهُ بِالسَّيْفِ، وَكَانَ قَتْلُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَلُفَّ فِي قَمِيصٍ دَبِيقِيٍّ مِنْ مَلَابِسِ الْخَلِيفَةِ، وَخِرْقَةٍ كَانَتِ الْبُرْدَةُ الَّتِي عِنْدَ الْخُلَفَاءِ فِيهَا، وَحُمِلَتْ جُثَّتُهُ إِلَى كُنْدُرَ، فَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ قُتِلَ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَكَانَ سَبَبُ اتِّصَالِهِ بِالسُّلْطَانِ طُغْرُلْبِكْ أَنَّ السُّلْطَانَ لَمَّا وَرَدَ نَيْسَابُورَ طَلَبَ رَجُلًا يَكْتُبُ لَهُ، وَيَكُونُ فَصِيحًا بِالْعَرَبِيَّةِ، فَدَلَّ عَلَيْهِ الْمُوَفَّقُ، وَالِدُ أَبِي سَهْلٍ، وَأَعْطَتْهُ

السَّعَادَةُ، وَكَانَ فَصِيحًا، فَاضِلًا، وَانْتَشَرَ مِنْ شِعْرِهِ مَا قَالَهُ فِي غُلَامٍ تُرْكِيٍّ صَغِيرِ السِّنِّ كَانَ وَاقِفًا عَلَى رَأْسِهِ يَقْطَعُ بِالسِّكِّينِ قَصَبَةً، فَقَالَ عَمِيدُ الْمُلْكِ فِيهِ: أَنَا مَشْغُولٌ بِحُبِّهْ، وَهُوَ مَشْغُولٌ بِلَعِبِهْ ... لَوْ رَدَّ اللَّهُ خَيِّرًا، وَصَلَاحًا لِمُحِبِّهْ نُقِلَتْ رِقَّةُ خَدَّيْ هِ إِلَى قَسْوَةِ قَلْبِهْ ... صَانَهُ اللَّهُ فَمَا أَكْ ثَرَ إِعْجَابِي بِعُجْبِهْ. وَمِنْ شِعْرِهِ:. إِذَا كَانَ بِالنَّاسِ ضِيقٌ عَلَى مُنَاقَشَتِي ... فَالْمَوْتُ قَدْ وَسِعَ الدُّنْيَا عَلَى النَّاسِ مَضَيْتُ، وَالشَّامِتُ الْمَغْبُونُ يَتْبَعُنِي ... ، كُلٌّ لِكَأْسِ الْمَنَايَا شَارِبٌ حَاسِي وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْبَاخَرْزِيُّ يُخَاطِبُ أَلْبَ أَرُسُلَانَ عِنْدَ قَتْلِ الْكُنْدُرِيِّ: وَعَمُّكَ أَدْنَاهُ، وَأَعْلَى مَحِلَّهُ ... ، وَبَوَّأَهُ مِنْ مُلْكِهِ كَنَفًا رَحْبَا قَضَى كُلُّ مَوْلًى مِنْكُمَا حَقَّ عَبْدِهِ ... فَخَوَّلَهُ الدُّنْيَا، وَخَوَّلَتْهُ الْعُقْبَى وَكَانَ عَمِيدُ الْمُلْكِ خَصِيًّا، قَدْ خَصَاهُ طُغْرُلْبِكْ لِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ يَخْطُبُ عَلَيْهِ امْرَأَةً لِيَتَزَوَّجَهَا، فَتَزَوَّجَهَا هُوَ، وَعَصَى عَلَيْهِ، فَظَفِرَ بِهِ وَخَصَاهُ، وَأَقَرَّهُ عَلَى خِدْمَتِهِ. وَقِيلَ بَلْ أَعْدَاؤُهُ أَشَاعُوا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَخَصَى نَفْسَهُ لِيَخْلُصَ مِنْ سِيَاسَةِ السَّلْطَنَةِ، فَقَالَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْبَاخَرْزِيُّ: قَالُوا: مَحَا السُّلْطَانُ عَنْهُ بِعِزَّةٍ ... سِمَةَ الْفُحُولِ، وَكَانَ قَرْمًا صَائِلَا قُلْتُ، اسْكُتُوا، فَالْآنَ زَادَ فُحُولَةً ... لَمَّا اغْتَدَى عَنْ أُنْثَيَيْهِ عَاطِلَا فَالْفَحْلُ يَأْنَفُ أَنْ يُسَمَّى بَعْضُهُ ... أُنْثَى، لِذَلِكَ جَذَّهُ مُسْتَأْصِلَا.

يَعْنِي بِالْأُنْثَى وَاحِدَةَ الْأُنْثَيَيْنِ. وَكَانَ شَدِيدَ التَّعَصُّبِ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ، كَثِيرَ الْوَقِيعَةِ فِي الشَّافِعِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَلَغَ مِنْ تَعَصُّبِهِ أَنَّهُ خَاطَبَ السُّلْطَانَ فِي لَعْنِ الرَّافِضَةِ عَلَى مَنَابِرِ خُرَاسَانَ، فَأَذِنَ فِي ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِلَعْنِهِمْ، وَأَضَافَ إِلَيْهِمُ الْأَشْعَرِيَّةَ، فَأَنِفَ مِنْ ذَلِكَ أَئِمَّةُ خُرَاسَانَ، مِنْهُمْ: الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ، وَالْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، فَفَارَقُوا خُرَاسَانَ، وَأَقَامَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِمَكَّةَ أَرْبَعَ سِنِينَ إِلَى أَنِ انْقَضَتْ دَوْلَتُهُ، يَدْرُسُ، وَيُفْتِي، فَلِهَذَا لُقِبَّ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، فَلَمَّا جَاءَتِ الدَّوْلَةُ النِّظَامِيَّةُ، أَحْضَرَ مَنِ انْتَزَحَ مِنْهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ إِنَّهُ تَابَ مِنَ الْوَقِيعَةِ فِي الشَّافِعِيِّ، فَإِنْ صَحَّ فَقَدْ أَفْلَحَ، وَإِلَّا فَعَلَى نَفْسِهَا بَرَاقِشُ تَجْنِي. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ ذَكَرَهُ دُفِنَ بِخُوَارِزْمَ لَمَّا خُصِيَ، وَدَمُهُ مَسْفُوحٍ بِمَرْوَ، وَجَسَدُهُ مَدْفُونٌ بِكُنْدُرَ، وَرَأْسُهُ مَا عَدَا قِحْفَهُ مَدْفُونٌ بِنَيْسَابُورَ، وَنُقِلَ قِحْفُهُ إِلَى كَرْمَانَ لِأَنَّ نِظَامَ الْمُلْكِ كَانَ هُنَاكَ، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ. وَلَمَّا قُرِّبَ لِلْقَتْلِ قَالَ الْقَاصِدُ إِلَيْهِ: قُلْ لِنِظَامِ الْمُلْكِ: بِئْسَ مَا عَوَّدْتَ الْأَتْرَاكَ قَتْلَ الْوُزَرَاءِ، وَأَصْحَابَ الدِّيوَانِ، وَمَنْ حَفَرَ قَلِيبًا وَقَعَ فِيهِ، وَلَمْ يُخَلِّفْ عَمِيدُ الْمُلْكِ غَيْرَ بِنْتٍ. ذِكْرُ مُلْكِ أَلْب أَرْسَلَانَ خَتْلَانَ وَهَرَاةَ وَصَغَانِيَانَ. لَمَّا تُوُفِّيَ طُغْرُلْبِكْ وَمَلَكَ أَلْب أَرْسَلَانَ عَصَى عَلَيْهِ أَمِيرُ خَتْلَانَ بِقَلْعَتِهِ وَمَنَعَ الْخَرَاجَ، فَقَصَدَهُ السُّلْطَانُ، فَرَأَى الْحِصْنَ مَنِيعًا عَلَى شَاهِقٍ، فَأَقَامَ عَلَيْهِ وَقَاتَلَهُ، فَلَمْ يَصِلْ مِنْهُ إِلَى مُرَادِهِ. فَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ بَاشَرَ أَلْب أَرْسَلَانَ الْقِتَالَ بِنَفْسِهِ، وَتَرَجَّلَ، وَصَعِدَ فِي الْجَبَلِ،

فَتَبِعَهُ الْخَلْقُ وَتَقَدَّمُوا عَلَيْهِ فِي الْمَوْقِفِ، وَأَلَحُّوا فِي الزَّحْفِ وَالْقِتَالِ، وَكَانَ صَاحِبُ الْقَلْعَةِ عَلَى شُرْفَةٍ مِنْ سُورِهَا يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ، فَأَتَتْهُ نَشَّابَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ فَقَتَلَهُ، وَتَسَلَّمَ أَلْب أَرْسَلَانَ الْقَلْعَةَ وَصَارَتْ فِي جُمْلَةِ مَمَالِكِهِ. وَكَانَ عَمُّهُ فَخْرُ الْمُلِكِ بَيْغُو بْنُ مِيكَائِيلَ فِي هَرَاةَ، فَعَصَى أَيْضًا عَلَيْهِ، وَطَمِعَ فِي الْمُلْكِ لِنَفْسِهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ أَلْب أَرْسَلَانَ فِي الْعَسَاكِرِ الْعَظِيمَةِ، فَحَصَرَهُ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَأَدَامَ الْقِتَالَ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَتَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَخَرَجَ عَمُّهُ إِلَيْهِ، فَأَبْقَى عَلَيْهِ وَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ صُحْبَتَهُ. وَسَارَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى صَغَانِيَانَ، وَأَمِيرُهَا اسْمُهُ مُوسَى، وَكَانَ قَدْ عَصَى عَلَيْهِ. فَلَمَّا قَارَبَهُ أَلْب أَرْسَلَانَ صَعِدَ مُوسَى إِلَى قَلْعَةٍ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ شَاهِقٍ، وَمَعَهُ مِنَ الرِّجَالِ الْكُمَاةِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، فَوَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَيْهِ، وَبَاشَرَ الْحَرْبَ لِوَقْتِهِ، فَلَمْ يَنْتَصِفِ النَّهَارُ حَتَّى صَعِدَ الْعَسْكَرُ الْجَبَلَ، وَمَلَكُوا الْقَلْعَةَ قَهْرًا، وَأُخِذَ مُوسَى أَسِيرًا، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَبَذَلَ فِي نَفْسِهِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، فَقَالَ السُّلْطَانُ: لَيْسَ هَذَا أَسِيرًا، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَبَذَلَ فِي نَفْسِهِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، فَقَالَ السُّلْطَانُ: لَيْسَ هَذَا أَوَانُ تِجَارَةٍ، وَاسْتَوْلَى عَلَى تِلْكَ الْوِلَايَةِ بِأَسْرِهَا، وَعَادَ إِلَى مَرْوَ، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى نَيْسَابُورَ. ذِكْرُ عَوْدِ ابْنَةِ الْخَلِيفَةِ إِلَى بَغْدَاذَ وَالْخِطْبَةِ لِلسُّلْطَانِ أَلْبَ أَرَسْلَانَ بِبَغْدَاذَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ السُّلْطَانُ أَلْب أَرْسَلَانَ السَّيِّدَةَ ابْنَةَ الْخَلِيفَةِ بِالْعَوْدِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَعْلَمَهَا أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ عَلَى عَمِيدِ الْمُلْكِ إِلَّا لِمَا اعْتَمَدَهُ مِنْ نَقْلِهَا مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى الرَّيِّ بِغَيْرِ رِضَاءِ الْخَلِيفَةِ، وَأَمَرَ الْأَمِيرَ أَيْتَكِينَ السُّلَيْمَانِيَّ بِالْمَسِيرِ فِي خِدْمَتِهَا إِلَى بَغْدَاذَ، وَالْمُقَامَ بِهَا شِحْنَةً، وَأَنْفَذَ أَبَا سَهْلٍ مُحَمَّدَ بْنَ هِبَةِ اللَّهِ، الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْمُوَفَّقِ، لِلْمَسِيرِ فِي الصُّحْبَةِ، وَأَمَرَهُ بِالْمُخَاطَبَةِ فِي إِقَامَةِ الْخِطْبَةِ لَهُ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ مُجَدَّرًا.

وَهَذَا أَبُو سَهْلٍ مِنْ رُؤَسَاءِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ يَحْضُرُ طَعَامَهُ فِي رَمَضَانَ، كُلَّ لَيْلَةٍ، أَرْبَعُ مِائَةِ مُتَفَقِّهٍ، وَيَصِلُهُمْ لَيْلَةَ الْعِيدِ بِكُسْوَةِ وَدَنَانِيرَ تَعُمُّهُمْ، فَلَمَّا سَمِعَ بِمَوْتِهِ أَرْسَلَ الْعَمِيدَ أَبَا الْفَتْحِ الْمُظَفَّرَ بْنَ الْحُسَيْنِ فَمَاتَ أَيْضًا فِي الطَّرِيقِ، فَأَلْزَمَ السُّلْطَانُ رَئِيسَ الْعِرَاقِيِّنَ بِالْمَسِيرِ، فَوَصَلُوا بَغْدَاذَ مُنْتَصَفَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَخَرَجَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ ابْنُ الْوَزِيرِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ لِتَلَقِّيهِمْ، وَاقْتَرَحَ السُّلْطَانُ أَنْ يُخَاطِبَ بِالْوَلَدِ الْمُؤَيِّدِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَلُقِّبَ ضِيَاءُ الدَّوْلَةِ عَضُدَ الدَّوْلَةِ. وَجَلَسَ الْخَلِيفَةُ جُلُوسًا عَامًّا سَابِعَ جُمَادَى الْأُولَى، وَشَافَّهُ الرُّسُلُ بِتَقْلِيدِ أَلْبَ أَرَسْلَانَ لِلسَّلْطَنَةِ، وَسُلِّمَتِ الْخِلَعُ بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مِنَ الدِّيوَانِ لِأَخْذِ الْبَيْعَةِ النَّقِيبَ طِرَادًا الزَّيْنَبِيَّ، فَوَصَلُوا إِلَيْهِ وَهُوَ بِنَقْجُوَانَ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ، فَلَبِسَ الْخِلَعَ، وَبَايَعَ الْخَلِيفَةَ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ أَلْبَ أَرَسْلَانَ وَقُتُلْمِشْ. سَمِعَ أَلْب أَرْسَلَانَ أَنَّ شِهَابَ الدَّوْلَةِ قُتُلْمِشْ، وَهُوَ مِنَ السَّلْجُوقِيَّةِ أَيْضًا، وَهُوَ جَدُّ الْمُلُوكِ أَصْحَابِ قُونِيَّةَ، وَقَيْصَرِيَّةَ، وَأَقْصَرَا، وَمَلَطْيَةَ، يَوْمَنَا هَذَا، قَدْ عَصَى عَلَيْهِ، وَجَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَقَصَدَ الرَّيَّ لِيَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا، فَجَهَّزَ أَلْب أَرْسَلَانَ جَيْشًا عَظِيمًا وَسَيَّرَهُمْ عَلَى الْمَفَازَةِ إِلَى الرَّيِّ، فَسَبَقُوا قُتُلْمِشْ إِلَيْهَا. وَسَارَ أَلْب أَرْسَلَانَ مِنْ نَيْسَابُورَ أَوَّلَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى دَامَغَانَ أَرْسَلَ إِلَى قُتُلْمِشْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ فِعْلَهُ، وَيَنْهَاهُ عَنِ ارْتِكَابِ هَذِهِ الْحَالِ، وَيَأْمُرُهُ بِتَرْكِهَا، فَإِنَّهُ يَرَى لَهُ الْقَرَابَةَ وَالرَّحِمَ، فَأَجَابَ قُتُلْمِشْ جَوَابَ مُغْتَرٍّ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُمُوعِ، وَنَهَبَ قُرَى الرَّيِّ، وَأَجْرَى الْمَاءَ عَلَى وَادِي الْمِلْحِ، وَهِيَ سَبْخَةٌ، فَتَعَذَّرَ سُلُوكُهَا، فَقَالَ نِظَامُ الْمُلْكِ: قَدْ جَعَلْتَ لَكَ مِنْ خُرَاسَانَ جُنْدًا يَنْصُرُونَكَ وَلَا

يَخْذُلُونَكَ، وَيَرْمُونَ دُونَكَ بِسِهَامٍ لَا تُخْطِئُ، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ وَالزُّهَّادُ، فَقَدْ جَعَلْتَهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ مِنْ أَعْظَمَ أَعْوَانِكَ. وَقَرُبَ السُّلْطَانُ مِنْ قُتُلْمِشْ، فَلَبِسَ نِظَامُ الْمُلْكِ السِّلَاحَ، وَعَبَّأَ الْكَتَائِبَ، وَاصْطَفَّ الْعَسْكَرَانِ. وَكَانَ قُتُلْمِشْ يَعْلَمُ عِلْمَ النُّجُومِ، فَوَقَفَ وَنَظَرَ، فَرَأَى أَنَّ طَالِعَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قَدْ قَارَنَهُ نُحُوسٌ لَا يَرَى مَعَهَا ظَفَرًا، فَقَصَدَ الْمُحَاجَزَةَ، وَجَعَلَ السَّبْخَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَلْب أَرْسَلَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنَ اللِّقَاءِ. فَسَلَكَ أَلْب أَرْسَلَانَ طَرِيقًا فِي الْمَاءِ، وَخَاضَ غَمْرَتَهُ، وَتَبِعَهُ الْعَسْكَرُ، فَطَلَعَ مِنْهُ سَالِمًا هُوَ وَعَسْكَرُهُ، فَصَارُوا مَعَ قُتُلْمِشْ وَاقْتَتَلُوا، فَلَمْ يَثْبُتْ عَسْكَرُ قُتُلْمِشْ لِعَسْكَرِ السُّلْطَانِ، وَانْهَزَمُوا لِسَاعَتِهِمْ، وَمَضَى مُنْهَزِمًا إِلَى قَلْعَةِ كَرْدَكُوهَ، وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ حُصُونِهِ وَمَعَاقِلِهِ، وَاسْتَوْلَى الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ عَلَى عَسْكَرِهِ، فَأَرَادَ السُّلْطَانُ قَتْلَ الْأَسْرَى، فَشَفَعَ فِيهِمْ نِظَامُ الْمُلْكِ فَعَفَا عَنْهُمْ وَأَطْلَقَهُمْ. وَلَمَّا سَكَنَ الْغُبَارُ، وَنَزَلَ الْعَسْكَرُ، وُجِدَ قُتُلْمِشْ مَيِّتًا مُلْقًى عَلَى الْأَرْضِ لَا يُدْرَى كَيْفَ كَانَ مَوْتُهُ، قِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ مِنَ الْخَوْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَبَكَى السُّلْطَانُ لِمَوْتِهِ، وَقَعَدَ لِعَزَائِهِ، وَعَظُمَ عَلَيْهِ فَقْدُهُ، فَسَلَّاهُ نِظَامُ الْمُلْكِ، وَدَخَلَ أَلْب أَرْسَلَانَ إِلَى مَدِينَةِ الرَّيِّ آخِرَ الْمُحَرَّمِ مِنَ السَّنَةِ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ قُتُلْمِشْ هَذَا كَانَ يَعْلَمُ عِلْمَ النُّجُومِ، قَدْ أَتْقَنَهُ، مَعَ أَنَّهُ تُرْكِيٌّ، وَيَعْلَمُ غَيْرَهُ مِنْ عُلُومِ الْقَوْمِ، ثُمَّ إِنَّ أَوْلَادَهُ مِنْ بَعْدِهِ لَمْ يَزَالُوا يَطْلُبُونَ هَذِهِ الْعُلُومَ الْأَوَّلِيَّةَ، وَيُقَرِّبُونَ أَهْلَهَا، فَنَالَهُمْ بِهَذَا غَضَاضَةٌ فِي دِينِهِمْ، وَسَيَرِدُ مِنْ أَخْبَارِهِمْ مَا يُعْلَمُ (مِنْهُ ذَلِكَ) وَغَيْرُهُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ.

ذِكْرُ فَتْحِ أَلْب أَرْسَلَانَ مَدِينَةَ آنِي وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ النَّصْرَانِيَّةِ. ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ مِنَ الرَّيِّ أَوَّلَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَسَارَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، فَوَصَلَ إِلَى مَرَنْدَ عَازِمًا عَلَى قِتَالِ الرُّومِ وَغَزْوِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ بِمَرَنْدَ أَتَاهُ أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ التُّرْكُمَانَ، كَانَ يُكْثِرُ غَزْوَ الرُّومِ، اسْمُهُ طُغْدَكِينَ، وَمَعَهُ مِنْ عَشِيرَتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، قَدْ أَلِفُوا الْجِهَادَ، وَعَرَفُوا تِلْكَ الْبِلَادَ، وَحَثَّهُ عَلَى قَصْدِ بِلَادِهِمْ، وَضَمِنَ لَهُ سُلُوكَ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَيْهَا، فَسَارَ مَعَهُ، فَسَلَكَ بِالْعَسَاكِرِ فِي مَضَايِقِ تِلْكَ الْأَرْضِ وَمَخَارِمِهَا، فَوَصَلَ إِلَى نَقْجُوَانَ، فَأَمَرَ بِعَمَلِ السُّفُنِ لِعُبُورِ نَهْرِ أَرَسَ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّ سُكَّانَ خُوَيَّ، وَسَلَمَاسَ، مِنْ أَذْرَبِيجَانَ، لَمْ يَقُومُوا بِوَاجِبِ الطَّاعَةِ، وَإِنَّهُمْ قَدِ امْتَنَعُوا بِبِلَادِهِمْ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ عَمِيدَ خُرَاسَانَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، وَتَهَدَّدَهُمْ إِنِ امْتَنَعُوا، فَأَطَاعُوا، وَصَارُوا مِنْ جُمْلَةِ حِزْبِهِ وَجُنْدِهِ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ هُنَاكَ مِنَ الْمُلُوكِ وَالْعَسَاكِرِ مَا لَا يُحْصَى. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ جَمْعِ الْعَسَاكِرِ وَالسُّفُنِ سَارَ إِلَى بِلَادِ الْكُرْجِ، وَجَعَلَ مَكَانَهُ فِي عَسْكَرِهِ وَلَدَهُ مَلِكْشَاهْ، وَنِظَامَ الْمُلْكِ وَزِيرَهُ، فَسَارَ مَلِكْشَاهْ وَنِظَامُ الْمُلْكِ إِلَى قَلْعَةٍ فِيهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الرُّومِ، فَنَزَلَ أَهْلُهَا مِنْهَا، وَتَخَطَّفُوا مِنَ الْعَسْكَرِ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ فِئَةً كَثِيرَةً، فَنَزَلَ نِظَامُ الْمُلْكِ وَمَلِكْشَاهْ، وَقَاتَلُوا مَنْ بِالْقَلْعَةِ، وَزَحَفُوا إِلَيْهِمْ، فَقُتِلَ أَمِيرُ الْقَلْعَةِ، وَمَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَسَارُوا مِنْهَا إِلَى قَلْعَةِ سُرْمَارِي، وَهِيَ قَلْعَةٌ فِيهَا الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ وَالْبَسَاتِينُ، فَقَاتَلُوهَا وَمَلَكُوهَا، وَأَنْزَلُوا مِنْهَا أَهْلَهَا، وَكَانَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا قَلْعَةٌ أُخْرَى، فَفَتَحَهَا مَلِكْشَاهْ، وَأَرَادَ تَخْرِيبَهَا، فَنَهَاهُ نِظَامُ الْمُلْكِ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: هِيَ ثَغْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَشَحَنَهَا بِالرِّجَالِ وَالذَّخَائِرِ وَالْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ، وَسَلَّمَ هَذِهِ الْقِلَاعَ إِلَى أَمِيرِ نَقْجُوَانَ.

وَسَارَ مَلِكْشَاهْ وَنِظَامُ الْمُلْكِ إِلَى مَدِينَةِ مَرْيَمَ نَشِينَ، وَفِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ وَمُلُوكِ النَّصَارَى وَعَامَّتِهِمْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى أَهْلِ هَذِهِ الْبَلْدَةِ، وَهِيَ مَدِينَةٌ حَصِينَةٌ، سُورُهَا مِنَ الْأَحْجَارِ الْكِبَارِ الصُّلْبَةِ، الْمَشْدُودَةِ بِالرَّصَاصِ وَالْحَدِيدِ، وَعِنْدَهَا نَهْرٌ كَبِيرٌ، فَأَعَدَّ نِظَامُ الْمُلْكِ لِقِتَالِهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ السُّفُنِ وَغَيْرِهَا، وَقَاتَلَهَا، وَوَاصَلَ قِتَالَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَجَعَلَ الْعَسَاكِرَ عَلَيْهَا يُقَاتِلُونَ بِالنَّوْبَةِ، فَضَجِرَ الْكُفَّارُ، وَأَخَذَهُمُ الْإِعْيَاءُ وَالْكَلَالُ، فَوَصَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى سُورِهَا، وَنَصَبُوا عَلَيْهِ السَّلَالِيمَ، وَصَعِدُوا إِلَى أَعْلَاهُ، لِأَنَّ الْمَعَاوِلَ كَلَّتْ عَنْ نَقْبِهِ لِقُوَّةِ حَجَرِهِ. فَلَمَّا رَأَى أَهْلُهَا الْمُسْلِمِينَ عَلَى السُّورِ فَتَّ ذَلِكَ فِي أَعَضَادِهِمْ، وَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَدَخَلَ مَلِكْشَاهْ الْبَلَدَ، وَنِظَامُ الْمُلْكِ، وَأَحْرَقُوا الْبِيَعَ، وَخَرَّبُوهَا، وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، وَأَسْلَمَ كَثِيرٌ فَنَجَوْا مِنَ الْقَتْلِ. وَاسْتَدْعَى أَلْب أَرْسَلَانَ إِلَيْهِ ابْنَهُ، وَنِظَامَ الْمُلْكِ، وَفَرِحَ بِمَا يَسَّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْفَتْحِ عَلَى يَدِ وَلَدِهِ، وَفَتَحَ مَلِكْشَاهْ فِي طَرِيقِهِ عِدَّةً مِنَ الْقِلَاعِ وَالْحُصُونِ، وَأَسَرَ مِنَ النَّصَارَى مَا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَسَارُوا إِلَى سُبِيذَ شَهْرَ، فَجَرَى بَيْنَ أَهْلِهَا وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حُرُوبٌ شَدِيدَةٌ اسْتُشْهِدَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسَّرَ فَتْحَهَا فَمَلَكَهَا أَلْب أَرْسَلَانَ. وَسَارَ مِنْهَا إِلَى مَدِينَةِ أَعَآلَ لَآلَ، وَهِيَ حَصِينَةٌ، عَالِيَةُ الْأَسْوَارِ، شَاهِقَةُ الْبُنْيَانِ، وَهِيَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ عَلَى جَبَلٍ عَالٍ، وَعَلَى الْجَبَلِ عِدَّةٌ مِنَ الْحُصُونِ، وَمِنَ الْجَانِبَيْنِ الْآخَرَيْنِ نَهْرٌ كَبِيرٌ لَا يُخَاضُ، فَلَمَّا رَآهَا الْمُسْلِمُونَ عَلِمُوا عَجْزَهُمْ عَنْ فَتْحِهَا وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، وَكَانَ مَلِكُهَا مِنَ الْكُرْجِ، وَهَكَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي ذَكَرْنَا فَتْحَهَا، وَعَقَدَ السُّلْطَانُ جِسْرًا عَلَى النَّهْرِ عَرِيضًا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَعَظُمَ الْخَطْبُ، فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ رَجُلَانِ يَسْتَغِيثَانِ، وَيَطْلُبَانِ الْأَمَانَ، وَالْتَمَسَا مِنَ السُّلْطَانِ أَنْ يُرْسِلَ

مَعَهُمَا طَائِفَةً مِنَ الْعَسْكَرِ، فَسَيَّرَ جَمْعًا صَالِحًا، فَلَمَّا جَاوَزُوا الْفَصِيلَ أَحَاطَ بِهِمُ الْكُرْجُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَاتَلُوهُمْ فَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْهَزِيمَةِ لِضِيقِ الْمَسْلَكِ. وَخَرَجَ الْكُرْجُ مِنَ الْبَلَدِ وَقَصَدُوا الْعَسْكَرَ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَكَانَ السُّلْطَانُ، ذَلِكَ الْوَقْتَ، يُصَلِّي، فَأَتَاهُ الصَّرِيخُ، فَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ، وَرَكِبَ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْكُفَّارِ، فَقَاتَلَهُمْ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، فَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، فَدَخَلُوا الْبَلَدَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُمْ، وَدَخَلَهَا السُّلْطَانُ وَمَلَكَهَا، وَاعْتَصَمَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهَا فِي بُرْجٍ مِنْ أَبْرَاجِ الْمَدِينَةِ، فَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِإِلْقَاءِ الْحَطَبِ حَوْلَ الْبُرْجِ وَإِحْرَاقِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَحْرَقَ الْبُرْجَ وَمَنْ فِيهِ، وَعَادَ السُّلْطَانُ إِلَى خِيَامِهِ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمَدِينَةِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُحْصَى. وَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ عَصَفَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ. وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ تِلْكَ النَّارِ الَّتِي أَحْرَقَ بِهَا الْبُرْجَ بَقِيَّةٌ كَثِيرَةٌ، فَأَطَارَتْهَا الرِّيحُ، فَاحْتَرَقَتِ الْمَدِينَةُ بِأَسْرِهَا، وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَمَلَكَ السُّلْطَانُ قَلْعَةً حَصِينَةً كَانَتْ إِلَى جَانِبِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، وَأَخَذَهَا. وَسَارَ مِنْهَا إِلَى نَاحِيَةِ قَرْسَ وَمَدِينَةِ آنِي بِالْقُرْبِ مِنْهَا نَاحِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا سَيْلُ وَرْدَهْ. وَنُورَةُ، فَخَرَجَ أَهْلُهَا مُذْعِنِينَ بِالْإِسْلَامِ، وَخَرَّبُوا الْبِيَعَ، وَبَنَوُا الْمَسَاجِدَ. وَسَارَ مِنْهَا إِلَى مَدِينَةِ آنِي فَوَصَلَ إِلَيْهَا فَرَآهَا مَدِينَةً حَصِينَةً، شَدِيدَةَ الِامْتِنَاعِ، لَا تُرَامُ، ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا عَلَى نَهْرِ أَرْسَ، وَالرُّبْعُ الْآخَرُ نَهْرٌ عَمِيقٌ شَدِيدُ الْجَرْيَةِ، لَوْ طُرِحَتْ فِيهِ الْحِجَارَةُ الْكِبَارُ لَدَحَاهَا وَحَمَلَهَا، وَالطَّرِيقُ إِلَيْهَا عَلَى خَنْدَقٍ عَلَيْهِ سُورٌ مِنَ الْحِجَارَةِ الصُّمِّ، وَهِيَ بَلْدَةٌ كَبِيرَةٌ، عَامِرَةٌ، كَثِيرَةُ الْأَهْلِ، فِيهَا مَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسِمِائَةِ بَيْعَةٍ، فَحَصَرَهَا وَضَيَّقَ عَلَيْهَا، إِلَّا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَيِسُوا مِنْ فَتْحِهَا لِمَا رَأَوْا مِنْ حَصَانَتِهَا، فَعَمِلَ السُّلْطَانُ بُرْجًا مِنْ خَشَبٍ، وَشَحَنَهُ بِالْمُقَاتِلَةِ. وَنَصَبَ عَلَيْهِ الْمَنْجَنِيقَ، وَرُمَاةَ النِّشَابِ، فَكَشَفُوا الرُّومَ عَنِ السُّورِ، وَتَقَدَّمَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِ لِيَنْقُبُوهُ، فَأَتَاهُمْ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ، فَانْهَدَمَ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ السُّورِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا مَا لَا يُحْصَى بِحَيْثُ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَجَزُوا عَنْ دُخُولِ الْبَلَدِ مِنْ كَثْرَةِ الْقَتْلَى، وَأَسَرُوا نَحْوًا مِمَّا قَتَلُوا.

وَسَارَتِ الْبُشْرَى بِهَذِهِ الْفُتُوحِ فِي الْبِلَادِ، فَسُرَّ الْمُسْلِمُونَ، وَقُرِئَ كِتَابُ الْفَتْحِ بِبَغْدَاذَ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، فَبَرَزَ خَطُّ الْخَلِيفَةِ بِالثَّنَاءِ عَلَى أَلْب أَرْسَلَانَ وَالدُّعَاءِ لَهُ. وَرَتَّبَ السُّلْطَانُ فِيهَا أَمِيرًا فِي عَسْكَرٍ جَرَّارٍ، وَعَادَ عَنْهَا، وَقَدْ رَاسَلَهُ مَلِكُ الْكُرْجِ فِي الْهُدْنَةِ، فَصَالَحَهُ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ كُلَّ سَنَةٍ، فَقَبِلَ ذَلِكَ. وَلَمَّا رَحَلَ السُّلْطَانُ عَائِدًا قَصَدَ أَصْبَهَانَ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى كَرْمَانَ، فَاسْتَقْبَلَهُ أَخُوهُ قَاوَرْتُ بِكْ بْنُ جُغْرِي بِكْ دَاوُدَ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى مَرْوَ، فَزَوَّجَ ابْنَهُ مَلِكْشَاهْ بِابْنَةِ خَاقَانَ، مَلِكِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَزُفَّتْ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَزَوَّجَ ابْنَهُ أَرْسَلَانْشَاهْ بِابْنَةِ صَاحِبِ غَزْنَةَ، وَاتَّحَدَ الْبَيْتَانِ الْبَيْتُ السَّلْجُوقِيُّ، وَالْبَيْتُ الْمَحْمُودِيُّ، وَاتَّفَقَتِ الْكَلِمَةُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، ظَهَرَ بِالْعِرَاقِ وَخُوزِسْتَانَ وَكَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكْرَادِ، خَرَجُوا يَتَصَيَّدُونَ، فَرَأَوْا فِي الْبَرِّيَّةِ خِيَمًا سُودًا، وَسَمِعُوا مِنْهَا لَطْمًا شَدِيدًا وَعَوِيلًا كَثِيرًا، وَقَائِلًا يَقُولُ: قَدْ مَاتَ سَيِّدُوكُ مَلِكُ الْجِنِّ، وَأَيُّ بَلَدٍ لَمْ يَلْطُمْ أَهْلُهُ عَلَيْهِ وَيَعْمَلُوا لَهُ الْعَزَاءَ قُلِعَ أَصْلُهُ، وَأُهْلِكَ أَهْلُهُ، فَخَرَجَ كَثِيرٌ مِنَ النِّسَاءِ إِلَى الْمَقَابِرِ يَلْطُمْنَ، وَيَنُحْنَ، وَيَنْشُرْنَ شُعُورَهُنَّ، وَخَرَجَ رِجَالٌ مِنْ سِفْلَةِ النَّاسِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ ضِحْكَةً عَظِيمَةً.

وَلَقَدْ جَرَى فِي أَيَّامِنَا نَحْنُ فِي الْمَوْصِلِ، وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْبِلَادِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَغَيْرِهَا، نَحْوُ هَذَا، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ سَنَةَ سِتِّمِائَةٍ أَصَابَهُمْ وَجَعٌ كَثِيرٌ فِي حُلُوقِهِمْ، مَاتَ مِنْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَظَهَرَ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْجِنِّ يُقَالُ لَهَا أُمُّ عُنْقُودٍ، مَاتَ ابْنُهَا عُنْقُودٌ، وَكُلُّ مَنْ لَا يَعْمَلُ لَهُ مَأْتَمًا أَصَابَهُ هَذَا الْمَرَضُ، فَكَثُرَ فِعْلُ ذَلِكَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: يَا أُمَّ عُنْقُودٍ اعْذُرِينَا قَدْ مَاتَ عُنْقُودٌ مَا دَرِينَا وَكَانَ النِّسَاءُ يَلْطُمْنَ، وَكَذَلِكَ الْأَوْبَاشُ. وَفِيهَا وَلِيَ أَبُو الْغَنَائِمِ الْمَعْمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ نِقَابَةَ الْعَلَوِيِّينَ بِبَغْدَاذَ، وَإِمَارَةَ الْمَوْسِمِ، وَلُقِّبَ بِالطَّاهِرِ ذِي الْمَنَاقِبِ، وَكَانَ الْمُرْتَضَى أَبُو الْفَتْحِ أُسَامَةُ قَدِ اسْتَعْفَى مِنَ النِّقَابَةِ، وَصَاهَرَ بَنِي خَفَاجَةَ، وَانْتَقَلَ مَعَهُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، وَتُوُفِّيَ أُسَامَةُ بِمَشْهَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي رَجَبٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بُرْهَانَ الْأَسَدِيُّ النَّحْوِيُّ الْمُتَكَلِّمُ، وَكَانَ لَهُ اخْتِيَارٌ فِي الْفِقْهِ، وَكَانَ عَالِمًا بِالنَّسَبِ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ.

وَقَدْ جَاوَزَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى مَذْهَبِ مُرْجِئَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ. وَفِيهَا انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ، وَكَثُرَ نُورُهُ فَصَارَ أَكْثَرُ نُورِهِ مِنْ نُورِ الْقَمَرِ. وَسُمِعَ لَهُ دَوِيٌّ عَظِيمٌ، ثُمَّ غَابَ.

ثم دخلت سنة سبع وخمسين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 457 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ بَنِي حَمَّادٍ وَالْعَرَبِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حَرْبٌ بَيْنَ النَّاصِرِ بْنِ عَلْنَاسَ بْنِ حَمَّادٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ رِجَالِ الْمَغَارِبَةِ مِنْ صِنْهَاجَةَ وَمِنْ زَنَاتَةَ، وَمِنَ الْعَرَبِ: عَدِيٌّ وَالْأَثْبَجِ، وَبَيْنَ رِيَاحٍ وَزُغْبَةَ، وَسُلَيْمٍ، وَمَعَ هَؤُلَاءِ الْمُعِزُّ بْنُ زِيرِي الزَّنَاتِيُّ، عَلَى مَدِينَةِ سَبْتَةَ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ حَمَّادَ بْنَ بُلَكِّينْ جَدَّ النَّاصِرِ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَادِيسَ بْنِ الْمَنْصُورِ مِنَ الْخُلْفِ، وَمَوْتِ بَادِيسَ مُحَاصِرًا قَلْعَةَ حَمَّادٍ، مَا هُوَ مَذْكُورٌ، وَلَوْلَا تِلْكَ الْقَلْعَةُ لِأُخِذَ سَرِيعًا، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ بِهَا بَعْدَهُ، وَهِيَ مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ، وَكَذَلِكَ مَا اسْتَمَرَّ بَيْنَ حَمَّادٍ وَالْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، وَدُخُولُ حَمَّادٍ فِي طَاعَتِهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَا كَانَ بَيْنَ الْقَائِدِ بْنِ حَمَّادٍ وَبَيْنَ الْمُعِزِّ، وَكَانَ الْقَائِدُ يُضْمِرُ الْغَدْرَ وَخَلْعَ طَاعَةِ الْمُعِزِّ، وَالْعَجْزُ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَائِدُ قُوَّةَ الْعَرَبِ، وَمَا نَالَ الْمُعِزَّ مِنْهُمْ، خَلَعَ الطَّاعَةَ، وَاسْتَبَدَّ بِالْبِلَادِ، وَبَعْدَهُ وَلَدُهُ مُحْسِنٌ، وَبَعْدَهُ ابْنُ عَمِّهِ بُلَكِّين بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمَّادٍ، وَبَعْدَهُ ابْنُ عَمِّهِ النَّاصِرُ بْنُ عَلْنَاسَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمَّادٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ مُتَحَصِّنٌ بِالْقَلْعَةِ، وَقَدْ جَعَلُوهَا دَارَ مُلْكِهِمْ. فَلَمَّا رَحَلَ الْمُعِزُّ مِنَ الْقَيْرَوَانِ وَصَبْرَةَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ تَمَكَّنَتِ الْعَرَبُ، وَنَهَبَتِ النَّاسَ، وَخَرَّبَتِ الْبِلَادَ، فَانْتَقَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا إِلَى بِلَادِ بَنِي حَمَّادٍ لِكَوْنِهَا جِبَالًا وَعِرَةً يُمْكِنُ الِامْتِنَاعُ بِهَا مِنَ الْعَرَبِ، فَعُمِّرَتْ بِلَادُهُمْ، وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَفِي نُفُوسِهِمُ الضَّغَائِنُ وَالْحُقُودُ مِنْ بَادِيسَ، وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَوْلَادِهِمْ، يَرِثُهُ صَغِيرٌ عَنْ كَبِيرٍ.

وَوَلِيَ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ بَعْدَ أَبِيهِ، فَاسْتَبَدَّ كُلُّ مَنْ هُوَ بِبَلَدٍ وَقَلْعَةٍ بِمَكَانِهِ وَتَمِيمٌ صَابِرٌ يُدَارِي وَيَتَجَلَّدُ. وَاتَّصَلَ بِتَمِيمٍ أَنَّ النَّاصِرَ بْنَ عَلْنَاسَ يَقَعُ فِي مَجْلِسِهِ وَيَذُمُّهُ، وَأَنَّهُ عَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَيْهِ لِيُحَاصِرَهُ بِالْمَهْدِيَّةِ، وَأَنَّهُ قَدْ حَالَفَ بَعْضَ صَنْهَاجَةَ، وَزَنَاتَةَ، وَبَنِي هِلَالٍ لِيُعِينُوهُ عَلَى حِصَارِ الْمَهْدِيَّةِ. فَلَمَّا صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ بَنِي رَبَاحٍ، فَأَحْضَرَهُمْ إِلَيْهِ وَقَالَ: أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَهْدِيَّةَ حِصْنٌ مَنِيعٌ، أَكْثَرُهُ فِي الْبَحْرِ، لَا يُقَاتِلُ مِنْهُ فِي الْبَرِّ غَيْرُ أَرْبَعَةِ أَبْرَاجٍ يَحْمِيهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا، وَإِنَّمَا جَمَعَ النَّاصِرُ هَذِهِ الْعَسَاكِرَ إِلَيْكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: الَّذِي تَقُولُهُ حَقٌّ، وَنُحِبُّ مِنْكَ الْمَعُونَةَ، فَأَعْطَاهُمُ الْمَالَ، وَالسِّلَاحَ مِنَ الرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ وَالدُّرُوعِ وَالدَّرَقِ، فَجَمَعُوا قَوْمَهُمْ، وَتَحَالَفُوا، وَاتَّفَقُوا عَلَى لِقَاءِ النَّاصِرِ. وَأَرْسَلُوا إِلَى مَنْ مَعَ النَّاصِرِ مِنْ بَنِي هِلَالٍ يُقَبِّحُونَ عِنْدَهُمْ مُسَاعَدَتَهُمْ لِلنَّاصِرِ وَيُخَوِّفُونَهُمْ مِنْهُ إِنْ قَوِيَ، وَأَنَّهُ يُهْلِكُهُمْ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ زَنَاتَةَ وَصِنْهَاجَةَ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَسْتَمِرُّ لَهُمُ الْمُقَامُ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْبِلَادِ، إِذَا تَمَّ الْخُلْفُ وَضَعُفَ السُّلْطَانُ، فَأَجَابَهُمْ بَنُو هِلَالٍ إِلَى الْمُوَافَقَةِ، وَقَالُوا: اجْعَلُوا أَوَّلَ حَمْلَةٍ تَحْمِلُونَهَا عَلَيْنَا، فَنَحْنُ نَنْهَزِمُ بِالنَّاسِ، وَنَعُودُ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ لَنَا ثُلْثُ الْغَنِيمَةِ، فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ. وَأَرْسَلَ الْمُعِزُّ بْنُ زِيرِي الزَّنَاتِيُّ إِلَى مَنْ مَعَ النَّاصِرِ مِنْ زَنَاتَةَ بِنَحْوِ ذَلِكَ، فَوَعَدُوهُ أَيْضًا أَنْ يَنْهَزِمُوا، فَحِينَئِذٍ رَحَلَتْ رِيَاحٌ وَزَنَاتَةُ جَمِيعُهَا، وَسَارَ إِلَيْهِمُ النَّاصِرُ بِصَنْهَاجَةَ، وَزَنَاتَةَ، وَبَنِي هِلَالٍ، فَالْتَقَتِ الْعَسَاكِرُ بِمَدِينَةِ سَبْتَةَ، فَحَمَلَتْ رِيَاحٌ عَلَى بَنِي هِلَالٍ، وَحَمَلَ الْمُعِزُّ عَلَى زَنَاتَةَ، فَانْهَزَمَتِ الطَّائِفَتَانِ، وَتَبِعَهُمْ عَسَاكِرُ النَّاصِرِ مُنْهَزِمِينَ، وَوَقَعَ فِيهِمُ الْقَتْلُ، فَقُتِلَ فِيمَنْ قُتِلَ الْقَاسِمُ بْنُ عَلْنَاسَ، أَخُو النَّاصِرِ، وَكَانَ مَبْلَغُ مَنْ قُتِلَ مِنْ صَنْهَاجَةَ وَزَنَاتَةَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَسَلِمَ النَّاصِرُ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، وَغَنِمَتِ الْعَرَبُ جَمِيعَ مَا كَانَ فِي الْعَسْكَرِ مِنْ مَالٍ وَسِلَاحٍ وَدَوَابَّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَاقْتَسَمُوهَا عَلَى مَا

اسْتَقَرَّ بَيْنَهُمْ، وَبِهَذِهِ الْوَقْعَةِ تَمَّ لِلْعَرَبِ مُلْكُ الْبِلَادِ، فَإِنَّهُمْ قَدِمُوهَا فِي ضِيقٍ وَفَقْرٍ وَقِلَّةِ دَوَابَّ فَاسْتَغْنَوْا، وَكَثُرَتْ دَوَابُّهُمْ وَسِلَاحُهُمْ، وَقَلَّ الْمُحَامِي عَنِ الْبِلَادِ، وَأَرْسَلُوا الْأَلْوِيَةَ وَالطُّبُولَ وَخَيَّمَ النَّاصِرُ بِدَوَابِّهَا إِلَى تَمِيمٍ، فَرَدَّهَا وَقَالَ: يَقْبُحُ بِي أَنْ آخُذَ سَلَبَ ابْنَ عَمِّي! فَأَرْضَى الْعَرَبَ بِذَلِكَ. ذِكْرُ بِنَاءِ مَدِينَةِ بِجَايَةَ. لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ بَيْنَ بَنِي حَمَّادٍ وَالْعَرَبِ، (وَقَوِيَتِ الْعَرَبُ) ، اهْتَمَّ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ لِذَلِكَ، وَأَصَابَهُ حُزْنٌ شَدِيدٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّاصِرَ، وَكَانَ لَهُ وَزِيرٌ اسْمُهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْفُتُوحِ، وَكَانَ رَجُلًا جَيِّدًا يُحِبُّ الِاتِّفَاقَ بَيْنَهُمْ، وَيَهْوَى دَوْلَةَ تَمِيمٍ، فَقَالَ لِلنَّاصِرِ: أَلَمْ أُشِرْ عَلَيْكَ أَنْ لَا تَقْصِدَ ابْنَ عَمِّكَ، وَأَنْ تَتَّفِقَا عَلَى الْعَرَبِ، فَإِنَّكُمَا لَوِ اتَّفَقْتُمَا لَأَخْرَجْتُمَا الْعَرَبَ. فَقَالَ النَّاصِرُ: لَقَدْ صَدَقْتَ، وَلَكِنْ لَا مَرَدَّ لِمَا قُدِّرَ، فَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، فَأَرْسَلَ الْوَزِيرُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِهِ إِلَى تَمِيمٍ يَعْتَذِرُ، وَيَرْغَبُ فِي الْإِصْلَاحِ، فَقَبِلَ تَمِيمٌ قَوْلَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يُرْسَلَ رَسُولًا إِلَى النَّاصِرِ، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْبَعْبَعِ. وَقَالُوا لَهُ: هَذَا رَجُلٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ، وَحَصَلَ لَهُ مِنْكَ الْأَمْوَالُ وَالْأَمْلَاكُ، فَأَحْضَرَهُ، وَأَعْطَاهُ مَالًا وَدَوَابَّ وَعَبِيدًا وَأَرْسَلَهُ، فَسَارَ مَعَ الرَّسُولِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى بِجَايَةَ، وَكَانَتْ حِينَئِذٍ مَنْزِلًا فِيهِ رَعِيَّةٌ مِنَ الْبَرْبَرِ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْبَعْبَعِ، وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: إِنَّ هَذَا الْمَكَانَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بِهِ مَرْسَى وَمَدِينَةٌ، وَسَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى النَّاصِرِ، فَلَمَّا أَوْصَلَ الْكِتَابَ وَأَدَّى الرِّسَالَةَ قَالَ لِلنَّاصِرِ: مَعِي وَصِيَّةٌ إِلَيْكَ، وَأُحِبُّ أَنْ تُخَلِّيَ الْمَجْلِسَ، فَقَالَ النَّاصِرُ: أَنَا لَا أُخْفِي عَنْ وَزِيرِي شَيْئًا، فَقَالَ: بِهَذَا أَمَرَنِي الْأَمِيرُ تَمِيمٌ، فَقَامَ الْوَزِيرُ أَبُو بَكْرٍ وَانْصَرَفَ فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ الرَّسُولُ: يَا مَوْلَايَ إِنَّ الْوَزِيرَ مُخَامِرٌ عَلَيْكَ، هَوَاهُ مَعَ الْأَمِيرِ تَمِيمٍ، لَا يُخْفِي عَنْهُ مِنْ أُمُورِكَ شَيْئًا، وَتَمِيمٌ مَشْغُولٌ مَعَ

عَبِيدِهِ قَدِ اسْتَبَدَّ بِهِمْ، وَاطَّرَحَ صِنْهَاجَةَ وَغَيْرَ هَؤُلَاءِ، وَلَوْ وَصَلْتَ بِعَسْكَرِكَ مَا بِتَّ إِلَّا فِيهَا لِبُغْضِ الْجُنْدِ وَالرَّعِيَّةِ لِتَمِيمٍ، وَأَنَا أُشِيرُ عَلَيْكَ بِمَا تَمْلِكُ بِهِ الْمَهْدِيَّةَ وَغَيْرَهَا. وَذَكَرَ لَهُ عِمَارَةَ بِجَايَةَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّخِذَهَا دَارَ مُلْكٍ، وَيَقْرُبَ مِنْ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَقَالَ لَهُ: أَنَا أَنْتَقِلُ إِلَيْكَ بِأَهْلِي، وَأُدَبِّرُ دَوْلَتَكَ، فَأَجَابَهُ النَّاصِرُ إِلَى ذَلِكَ، وَارْتَابَ بِوَزِيرِهِ، وَسَارَ مَعَ الرَّسُولِ إِلَى بِجَايَةَ، وَتَرَكَ الْوَزِيرَ بِالْقَلْعَةِ. فَلَمَّا وَصَلَ النَّاصِرُ وَالرَّسُولُ إِلَى بِجَايَةَ أَرَاهُ مَوْضِعَ الْمِينَاءِ وَالْبَلَدِ وَالدَّارِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ النَّاصِرُ مِنْ سَاعَتِهِ بِالْبِنَاءِ وَالْعَمَلِ، وَسُرَّ بِذَلِكَ، وَشَكَرَهُ، وَعَاهَدَهُ عَلَى وِزَارَتِهِ إِذَا عَادَ إِلَيْهِ، وَرَجَعَا إِلَى الْقَلْعَةِ فَقَالَ النَّاصِرُ لِوَزِيرِهِ: إِنَّ هَذَا الرَّسُولَ مُحِبٌّ لَنَا، وَقَدْ أَشَارَ بِبِنَاءِ بِجَايَةَ، وَيُرِيدُ الِانْتِقَالَ إِلَيْنَا، فَاكْتُبْ لَهُ جَوَابَ كُتُبِهِ، فَفَعَلَ. وَسَارَ الرَّسُولُ، وَقَدِ ارْتَابَ بِهِ تَمِيمٌ، حَيْثُ تَجَدَّدَ بِنَاءُ بِجَايَةَ عُقَيْبَ مَسِيرِهِ إِلَيْهِمْ، وَحُضُورِهِ مَعَ النَّاصِرِ فِيهَا، وَكَانَ الرَّسُولُ قَدْ طَلَبَ مِنَ النَّاصِرِ أَنْ يُرْسِلَ مَعَ بَعْضِ ثِقَاتِهِ لِيُشَاهِدَ الْأَخْبَارَ وَيَعُودَ بِهَا، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَسُولًا يَثِقُ بِهِ، فَكَتَبَ مَعَهُ: إِنَّنِي لَمَّا اجْتَمَعْتُ بِتَمِيمٍ لَمْ يَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ قَبْلَ سُؤَالِهِ عَنْ بِنَاءِ بِجَايَةَ، وَقَدْ عَظُمَ أَمْرُهَا عَلَيْهِ، وَاتَّهَمَنِي، فَانْظُرْ إِلَى مَنْ تَثِقُ بِهِ مِنَ الْعَرَبِ تُرْسِلُهُمْ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا، فَإِنِّي سَائِرٌ إِلَيْهِمْ مُسْرِعًا، وَقَدْ أَخَذْتُ عُهُودَ زُوَيْلَةَ وَغَيْرِهَا عَلَى طَاعَتِكَ. وَسَيَّرَ الْكِتَابَ، فَلَمَّا رَآهُ النَّاصِرُ سَلَّمَهُ إِلَى الْوَزِيرِ، فَاسْتَحْسَنَ الْوَزِيرُ ذَلِكَ، وَشَكَرَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَقَدْ نَصَحَ وَبَالَغَ فِي الْخِدْمَةِ، فَلَا تُؤَخِّرْ عَنْهُ إِنْفَاذَ الْعَرَبِ لِيَحْضُرَ مَعَهُمْ. وَمَضَى الْوَزِيرُ إِلَى دَارِهِ، وَكَتَبَ نُسْخَةً مِنَ الْكِتَابِ، وَأَرْسَلَ الْكِتَابَ الَّذِي بِخَطِّ الرَّسُولِ إِلَى تَمِيمٍ، وَكِتَابًا مِنْهُ يَذْكُرُ الْحَالَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ. فَلَمَّا وَقَفَ تَمِيمٌ عَلَى الْكِتَابِ عَجِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَبَقِيَ يَتَوَقَّعُ لَهُ سَبَبًا يَأْخُذُهُ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ عَلَيْهِ مَنْ يَحْرُسُهُ

فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، فَأَتَى بَعْضُ أُولَئِكَ الْحَرَسِ إِلَى تَمِيمٍ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ الرَّسُولَ صَنَعَ طَعَامًا، وَأَحْضَرَ عِنْدَهُ الشَّرِيفَ الْفِهْرِيَّ، وَكَانَ هَذَا الشَّرِيفُ مِنْ رِجَالِ تَمِيمٍ وَخَوَاصِّهِ، فَأَحْضَرَهُ تَمِيمٌ، فَقَالَ: كُنْتُ وَاصِلًا إِلَيْكَ، وَحَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ الْبَعْبَعِ الرَّسُولَ دَعَانِي، فَلَمَّا حَضَرْتُ عِنْدَهُ قَالَ: أَنَا فِي ذِمَامِكَ، أُحِبُّ أَنْ تُعَرِّفَنِي مَعَ مَنْ أَخْرُجُ مِنَ الْمَهْدِيَّةِ، فَمَنَعْتُهُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ خَائِفٌ، فَأَوْقَفَهُ تَمِيمٌ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي بِخَطِّهِ، وَأَمَرَهُ بِإِحْضَارِهِ، فَأَحْضَرَهُ الشَّرِيفُ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَابِ السُّلْطَانِ لَقِيَهُ رَجُلٌ بِكِتَابِ الْعَرَبِ الَّذِينَ سَيَّرَهُمُ النَّاصِرُ، وَمَعَهُمْ كِتَابُ النَّاصِرِ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْحُضُورِ عِنْدَهُ، فَأَخَذَ الْكِتَابَ وَخَرَجَ الْأَمِيرُ تَمِيمٌ، فَلَمَّا رَآهُ ابْنُ الْبَعْبَعِ سَقَطَتِ الْكُتُبُ مِنْهُ، فَإِذَا عُنْوَانُ أَحَدِهَا: مِنَ النَّاصِرِ بْنِ عَلْنَاسَ إِلَى فُلَانٍ، فَقَالَ لَهُ تَمِيمٌ: مِنْ أَيْنَ هَذِهِ الْكُتُبُ؟ فَأَخَذَهَا وَقَرَأَهَا، فَقَالَ الرَّسُولُ ابْنُ الْبَعْبَعِ: الْعَفْوُ يَا مَوْلَانَا! فَقَالَ: لَا عَفَا اللَّهُ عَنْكَ! وَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ وَغُرِّقَتْ جُثَّتُهُ. ذِكْرُ مُلْكِ أَلْب أَرْسَلَانَ جُنْدَ وَصَبْرَانَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبَرَ أَلْب أَرْسَلَانَ جَيْحُونَ، وَسَارَ إِلَى جُنْدٍ وَصَبْرَانَ، وَهُمَا عِنْدَ بُخَارَى، وَقَبْرُ جَدِّهِ سَلْجُوقَ بِجُنْدٍ، فَلَمَّا عَبَرَ النَّهْرَ اسْتَقْبَلَهُ مَلِكُ جُنْدٍ وَأَطَاعَهُ، وَأَهْدَى لَهُ هَدَايَا جَلِيلَةً، فَلَمْ يُغَيِّرْ أَلْبُ أَرَسْلَانَ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَأَقَرَّهُ عَلَى مَا بِيَدِهِ، وَعَادَ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَكْرَمَهُ، وَوَصَلَ إِلَى كُرْكَانْجَ خُوَارِزْمَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى مَرْوَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ ابْتُدِئَ بِعِمَارَةِ الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَاذَ.

وَفِيهَا انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ، وَصَارَ لَهُ شُعَاعٌ كَثِيرٌ أَكْثَرُ مِنْ شُعَاعِ الْقَمَرِ، وَسُمِعَ لَهُ صَوْتٌ مُفْزِعٌ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْآبَنُوسِيُّ، رَوَى عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِ.

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 458 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ عَهْدِ أَلْب أَرْسَلَانَ بِالسَّلْطَنَةِ لِابْنِهِ مَلِكْشَاهْ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ أَلْب أَرْسَلَانَ مِنْ مَرْوَ إِلَى رَايْكَانَ، فَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا، وَمَعَهُ جَمَاعَةُ أُمَرَاءِ دَوْلَتِهِ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعُقُودَ وَالْمَوَاثِيقَ لِوَلَدِهِ مَلِكْشَاهْ بِأَنَّهُ السُّلْطَانُ بَعْدَهُ، وَأَرْكَبَهُ، وَمَشَى بَيْنَ يَدَيْهِ يَحْمِلُ الْغَاشِيَةَ. وَخَلَعَ السُّلْطَانُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَرَاءِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُطْبَةِ لَهُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ الَّتِي يَحْكُمُ عَلَيْهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَقْطَعَ الْبِلَادَ، فَأَقْطَعَ مَازَنْدَرَانَ لِلْأَمِيرِ إِينَانْجَ بَيْغُو، وَبَلْخَ لِأَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ جُغْرِي بِكْ، وَخُوَارِزْمَ لِأَخِيهِ أَرْسَلَانَ أَرْغُو، وَمَرْوَ لِابْنِهِ الْآخَرِ أَرْسَلَانْ شَاهْ، وَصَغَانِيَانَ وَطَخَارِسْتَانَ لِأَخِيهِ إِلْيَاسَ، وَوِلَايَةَ بَغْشُورَ وَنَوَاحِيهَا لِمَسْعُودِ بْنِ أَرْتَاشَ، وَهُوَ مِنْ أَقَارِبِ السُّلْطَانِ، وَوِلَايَةَ أَسْفَرَارَ لِمَوْدُودِ بْنِ أَرْتَاشَ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ تَمِيمٍ عَلَى مَدِينَةِ تُونُسَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ تَمِيمٌ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَةَ، عَسْكَرًا كَثِيفًا إِلَى مَدِينَةِ تُونُسَ، وَبِهَا أَحْمَدُ بْنُ خُرَاسَانَ قَدْ أَظْهَرُ عَلَيْهِ الْخِلَافَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعِزَّ بْنَ بَادِيسَ، أَبَا تَمِيمٍ، لَمَّا فَارَقَ الْقَيْرَوَانَ وَالْمَنْصُورِيَّةَ وَرَحَلَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، اسْتَخْلَفَ عَلَى الْقَيْرَوَانِ وَعَلَى قَابِسَ قَائِدَ بْنَ مَيْمُونٍ الصِّنْهَاجِيَّ، وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ غَلَبَتْهُ هَوَارَةُ عَلَيْهَا، فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِمْ وَخَرَجَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْمُلْكَ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ بَعْدَ أَبِيهِ رَدَّهُ إِلَيْهَا، وَأَقَامَ عَلَيْهَا إِلَى الْآنِ، ثُمَّ أَظْهَرَ الْخِلَافَ عَلَى تَمِيمٍ وَالْتَجَأَ إِلَى طَاعَةِ النَّاصِرِ بْنِ عَلْنَاسَ بْنِ حَمَّادٍ، فَسَيَّرَ

إِلَيْهِ تَمِيمٌ الْآنَ عَسْكَرًا كَثِيرًا، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ قَائِدُ بْنُ مَيْمُونٍ عَلِمَ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمْ، فَتَرَكَ الْقَيْرَوَانَ وَسَارَ إِلَى النَّاصِرِ، فَدَخَلَ عَسْكَرُ تَمِيمٍ الْقَيْرَوَانَ، وَخَرَّبُوا دُورَ الْقَائِدِ، وَسَارَ الْعَسْكَرُ إِلَى قَابِسَ، وَبِهَا ابْنُ خُرَاسَانَ، فَحَصَرُوهُ بِهَا سَنَةً وَشَهْرَيْنِ، ثُمَّ أَطَاعَ ابْنَ خُرَاسَانَ تَمِيمًا وَصَالَحَهُ. وَأَمَّا قَائِدٌ فَإِنَّهُ أَقَامَ عِنْدَ النَّاصِرِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الْعَرَبِ، فَاشْتَرَى مِنْهُمْ إِمَارَةَ الْقَيْرَوَانِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَعَادَ إِلَيْهَا فَبَنَى سُورَهَا وَحِصْنَهَا. ذِكْرُ مُلْكِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ الْأَنْبَارَ وَهَيْتَ وَغَيْرَهُمَا. فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، إِلَى السُّلْطَانِ أَلْب أَرْسَلَانَ، فَأَقْطَعَهُ الْأَنْبَارَ، وَهَيْتَ، وَحَرْبَى، وَالسِّنَّ، وَالْبَوَازِيجَ، وَوَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ فَخَرَجَ الْوَزِيرُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ فِي الْمَوْكِبِ، فَلَقِيَهُ، وَنَزَلَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ بِالْحَرِيمِ الطَّاهِرِيِّ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي (الْعَشْرِ الْأُوَلِ) مِنْ جُمَادَى الْأُولَى ظَهَرَ كَوْكَبٌ كَبِيرٌ لَهُ ذُؤَابَةٌ طَوِيلَةٌ بِنَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ عَرْضُهَا نَحْوَ ثَلَاثِ أَذْرُعِ، وَهِيَ مُمْتَدَّةٌ إِلَى وَسَطِ السَّمَاءِ، وَبَقِيَ إِلَى السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ وَغَابَ، ثُمَّ ظَهَرَ أَيْضًا آخِرَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ كَوْكَبٌ قَدِ اسْتَدَارَ نُورُهُ عَلَيْهِ كَالْقَمَرِ، فَارْتَاعَ النَّاسُ وَانْزَعَجُوا، وَلَمَّا أَظْلَمَ اللَّيْلُ صَارَ لَهُ ذَوَائِبَ نَحْوَ الْجَنُوبِ، وَبَقِيَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ اضْمَحَلَّ.

وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، كَانَتْ بِخُرَاسَانَ وَالْجِبَالِ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ، بَقِيَتْ تَتَرَدَّدُ أَيَّامًا، تَصَدَّعَتْ مِنْهَا الْجِبَالُ، وَأَهْلَكَتْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَانْخَسَفَ مِنْهَا عِدَّةٌ وَخَرَجَ النَّاسُ إِلَى الصَّحْرَاءِ فَأَقَامُوا هُنَاكَ. (وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَقَعَ حَرِيقٌ بِنَهْرِ مُعَلَّى، فَاحْتَرَقَ مِنْ بَابِ الْجَرِيدِ إِلَى آخِرِ السُّوقِ الْجَدِيدِ، مِنَ الْجَانِبَيْنِ) . وَفِيهَا وَلَدَتْ صَبِيَّةٌ بِبَابِ الْأَزَجِّ وَلَدًا بِرَأْسَيْنِ، وَرَقَبَتَيْنِ وَوَجْهَيْنِ وَأَرْبَعِ أَيْدٍ عَلَى بَدَنٍ وَاحِدٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ تُوُفِّيَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَيْهَقِيُّ وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَلَهُ فِيهِ مُصَنَّفَاتٌ أَحَدُهَا: " السُّنَنُ الْكَبِيرُ "، عَشَرَةُ مُجَلَّدَاتٍ، وَغَيْرُهُ مِنَ التَّصَانِيفِ الْحَسَنَةِ وَكَانَ عَفِيفًا، زَاهِدًا، وَمَاتَ بِنَيْسَابُورَ. وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيُّ،

وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَعَنْهُ انْتَشَرَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ إِلَيْهِ قَضَاءُ الْحَرِيمِ بِبَغْدَاذَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَهُوَ مُصَنِّفُ كِتَابِ " الصِّفَاتِ " أَتَى فِيهِ بِكُلِّ عَجِيبَةٍ، وَتَرْتِيبُ أَبْوَابِهِ يَدُلُّ عَلَى التَّجْسِيمِ الْمَحْضِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ ابْنُ تَمِيمِيٍّ الْحَنْبَلِيُّ يَقُولُ: لَقَدْ خَرِئَ أَبُو يَعْلَى الْفَرَّاءُ عَلَى الْحَنَابِلَةِ خِرْيَةً لَا يَغْسِلُهَا الْمَاءُ.

ثم دخلت سنة تسع وخمسين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 459 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ عِصْيَانِ مَلِكِ كَرْمَانَ عَلَى أَلْب أَرْسَلَانَ وَعَوْدِهِ إِلَى طَاعَتِهِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى مَلِكُ كَرْمَانَ وَهُوَ قُرَا أَرْسَلَانَ عَلَى السُّلْطَانِ أَلْب أَرْسَلَانَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ وَزِيرٌ جَاهِلٌ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ الِاسْتِبْدَادَ بِالْبِلَادِ عَنِ السُّلْطَانِ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ إِذَا عَصَى، احْتَاجَ إِلَى التَّمَسُّكِ بِهِ، فَحَسُنَ لِصَاحِبِهِ الْخِلَافُ عَلَى السُّلْطَانِ فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، وَخَلَعَ الطَّاعَةَ، وَقَطَعَ الْخُطْبَةَ. فَسَمِعَ أَلْب أَرْسَلَانَ، فَسَارَ إِلَى كَرْمَانَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا وَقَعَتْ طَلِيعَتُهُ عَلَى طَلِيعَةِ قُرَا أَرْسَلَانَ بَعْدَ قِتَالٍ، فَلَمَّا سَمِعَ قُرَا أَرْسَلَانَ وَعَسْكَرُهُ بِانْهِزَامِ طَلِيعَتِهِمْ، خَافُوا وَتَحَيَّرُوا، فَانْهَزَمُوا لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى آخَرَ، فَدَخَلَ قُرَا أَرْسَلَانَ إِلَى جِيرَفْتَ وَامْتَنَعَ بِهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ أَلْب أَرْسَلَانَ يُظْهِرُ الطَّاعَةَ وَيَسْأَلُ الْعَفْوَ عَنْ زَلَّتِهِ، فَعَفَا عَنْهُ، وَحَضَرَ عِنْدَ السُّلْطَانِ فَأَكْرَمَهُ، وَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ عِنْدَهُ، فَأَعَادَهُ إِلَى مَمْلَكَتِهِ، وَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ حَالِهِ، فَقَالَ لِلسُّلْطَانِ: إِنَّ لِي بَنَاتٍ تَجْهِيزُهُنَّ إِلَيْكَ، وَأُمُورُهُنَّ إِلَيْكَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ سِوَى الثِّيَابِ وَالْإِقْطَاعَاتِ. ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى فَارِسَ فَوَصَلَ إِلَى إِصْطَخْرَ، وَفَتَحَ قَلْعَتَهَا، وَاسْتَنْزَلَ وَالِيهَا،

فَحَمَلَ إِلَيْهِ الْوَالِي هَدَايَا عَظِيمَةً جَلِيلَةَ الْمِقْدَارِ، مِنْ جُمْلَتِهَا قَدَحُ فَيْرُوزَجَ، فِيهِ مَنَوَانِ مِنَ الْمِسْكِ، مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ اسْمُ جَمْشِيدَ الْمَلِكِ، وَأَطَاعَهُ جَمِيعُ حُصُونِ فَارِسَ، وَبَقِيَ قَلْعَتُهُ يُقَالُ لَهَا بَهَنْزَادَ، فَسَارَ نِظَامُ الْمُلْكِ إِلَيْهَا، وَحَصَرَهَا تَحْتَ جَبَلِهَا، وَأَعْطَى كُلَّ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ وَأَصَابَ قَبْضَةً مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَمَنْ رَمَى حَجَرًا ثَوْبًا نَفِيسًا، فَفَتَحَ الْقَلْعَةَ فِي الْيَوْمِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ نُزُولِهِ، وَوَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْفَتْحِ، فَعَظُمَ مَحَلُّ نِظَامِ الْمُلْكِ عِنْدَهُ، فَأَعْلَى مَنْزِلَتَهُ، وَزَادَ فِي تَحْكِيمِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْأَغَرُّ أَبُو سَعْدٍ، ضَامِنُ الْبَصْرَةِ، عَلَى بَابِ السُّلْطَانِ بِالرَّيِّ، وَعُقِدَتِ الْبَصْرَةُ وَوَاسِطُ عَلَى هَزَارَسِبْ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا وَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ شَرَفُ الْمُلْكِ أَبُو سَعْدٍ الْمُسْتَوْفِي، وَبَنَى عَلَى مَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَدْرَسَةً لِأَصْحَابِهِ، وَكَتَبَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْبَيَاضِيِّ عَلَى الْقُبَّةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعِلْمَ كَانَ مُشَتَّتًا ... فَجَمَّعَهُ هَذَا الْمُغَيَّبُ فِي اللَّحْدِ كَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ مَيِّتَةً ، فَأَنْشَرَهَا فَضْلُ الْعَمِيدِ أَبِي سَعْدِ وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَصَلَتْ أَرْسَلَانُ خَاتُونَ، أُخْتُ السُّلْطَانِ أَلْب أَرْسَلَانَ، وَهِيَ زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ، إِلَى بَغْدَاذَ، وَاسْتَقْبَلَهَا فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ الْوَزِيرُ عَلَى فَرَاسِخَ.

وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، احْتَرَقَتْ تُرْبَةُ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَسَبَبُ حَرِيقِهَا أَنَّ قَيِّمَهَا كَانَ مَرِيضًا، فَطَبَخَ لِنَفْسِهِ مَاءَ الشَّعِيرِ، فَاتَّصَلَتِ النَّارُ بِخَشَبٍ وَبَوَارِي كَانَتْ هُنَاكَ، فَأَحْرَقَتْهُ وَاتَّصَلَ الْحَرِيقُ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَبَا سَعْدٍ الصُّوفِيَّ، شَيْخَ الشُّيُوخِ، بِعِمَارَتِهَا. وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَرَغَتْ عِمَارَةُ الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، وَتَقَرَّرَ التَّدْرِيسُ بِهَا لِلشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ لِحُضُورِ الدَّرْسِ، وَانْتَظَرُوا مَجِيئَهُ، تَأَخَّرَ، فَطُلِبَ، فَلَمْ يُوجَدْ. وَكَانَ سَبَبُ تَأَخُّرِهِ أَنَّهُ لَقِيَهُ صَبِيٌّ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تُدَرِّسُ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ؟ فَتَغَيَّرَتْ نِيَّتُهُ عَنِ التَّدْرِيسِ بِهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ، وَأُيِسَ مِنْ حُضُورِهِ، أَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ يُوسُفَ بِأَبِي نَصْرٍ الصَّبَّاغِ، صَاحِبِ كِتَابِ الشَّامِلِ، وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَصِلَ هَذَا الْجَمْعُ إِلَّا عَنْ مُدَرِّسٍ، وَلَمْ يَبْقَ بِبَغْدَاذَ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ غَيْرَ الْوَزِيرِ، فَجَلَسَ أَبُو نَصْرٍ لِلدَّرْسِ، وَظَهَرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمَّا بَلَغَ نِظَامَ الْمُلْكِ الْخَبَرُ أَقَامَ الْقِيَامَةَ عَلَى الْعَمِيدِ أَبِي سَعْدٍ، وَلَمْ يَزَلْ يَرْفُقُ بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ حَتَّى دَرَّسَ بِالْمَدْرَسَةِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ تَدْرِيسِ ابْنِ الصَّبَّاغِ عِشْرِينَ يَوْمًا. وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، قُتِلَ الصُّلَيْحِيُّ، أَمِيرُ الْيَمَنِ، بِمَدِينَةِ الْمَهْجَمِ، قَتَلَهُ أَحَدُ أُمَرَائِهَا وَأُقِيمَتِ الدَّعْوَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ هُنَاكَ، وَكَانَ قَدْ مَلَكَ مَكَّةَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَمِنَ الْحُجَّاجُ فِي أَيَّامِهِ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا، وَكَسَا الْبَيْتَ بِالْحَرِيرِ الْأَبْيَضِ الصِّينِيِّ، وَرَدَّ حُلِّيَ الْبَيْتِ إِلَيْهِ، وَكَانَ بَنُو حَسَنٍ قَدْ أَخَذُوهُ وَحَمَلُوهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَابْتَاعَهُ الصُّلَيْحِيُّ مِنْهُمْ.

[الْوَفَيَاتُ] (وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو عَلِيٍّ الطُّوسِيُّ، قَاضِيهَا، وَكَانَ يُلَقَّبُ الْعِرَاقِيَّ لِطُولِ مُقَامِهِ بِبَغْدَاذَ، وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي طَاهِرٍ الْإِسْفِرَايِينِيِّ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ الشَّاشِيِّ وَغَيْرِهِمَا.

ثم دخلت سنة ستين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 460 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حَرْبٌ بَيْنَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ بْنِ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ بَنِي كِلَابٍ بِالرَّحْبَةِ، وَهُمْ فِي طَاعَةِ الْعَلَوِيِّ الْمِصْرِيِّ، فَكَسَرَهُمْ شَرِيفُ الدَّوْلَةِ، وَأَخَذَ أَسَلَابَهُمْ، وَأَرْسَلَ أَعْلَامًا كَانَتْ مَعَهُمْ، عَلَيْهَا سِمَاتُ الْمِصْرِيِّ، إِلَى بَغْدَاذَ، وَكُسِرَتْ، وَطِيفَ بِهَا فِي الْبَلَدِ، وَأُرْسِلَتِ الْخِلَعُ إِلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، كَانَتْ بِفِلَسْطِينَ وَمِصْرَ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ خَرَّبَتِ الرَّمْلَةَ، وَطَلَعَ الْمَاءُ مِنْ رُءُوسِ الْآبَارِ، وَهَلَكَ مِنْ أَهْلِهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نَسَمَةٍ، وَانْشَقَّتِ الصَّخْرَةُ بِالْبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَعَادَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَادَ الْبَحْرُ مِنَ السَّاحِلِ مَسِيرَةَ يَوْمٍ، فَنَزَلَ النَّاسُ إِلَى أَرْضِهِ يَلْتَقِطُونَ مِنْهُ، فَرَجَعَ الْمَاءُ عَلَيْهِمْ فَأَهْلَكُ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا. وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، وَرَدَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْخَوَافِيُّ بَغْدَاذَ عَمِيدًا مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ. وَفِيهَا عُزِلَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ مِنْ وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ، فَخَرَجَ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى

نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ بِالْفَلُّوجَةِ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى أَبِي يَعْلَى وَالِدِ الْوَزِيرِ أَبِي شُجَاعٍ يَسْتَحْضِرُهُ لِيُوَلِّيَهُ الْوِزَارَةَ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِهَزَارْسِبْ بْنِ بِنَكِيرَ، فَسَارَ، فَأَدْرَكَهُ أَجَلُهُ فِي الطَّرِيقِ فَمَاتَ، ثُمَّ شَفَعَ نُورُ الدَّوْلَةِ فِي فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ، فَأُعِيدَ إِلَى الْوِزَارَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فِي صَفَرٍ. وَفِيهَا كَانَ بِمِصْرَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ، وَانْقَضَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَفِيهَا حَاصَرَ النَّاصِرُ بْنُ عَلْنَاسَ مَدِينَةَ الْأُرْبُسَ بِإِفْرِيقِيَّةَ فَفَتَحَهَا وَأَمَّنَ أَهْلَهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يُوسُفَ، وَرَثَاهُ ابْنُ الْفَضْلِ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ، وَعَمَّ مُصَابُهُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ الزَّمَانِ، فَمِنْ أَفْعَالِهِ أَنَّهُ تَسَلَّمَ الْمَارِسْتَانَ الْعَضُدِيَّ، وَكَانَ قَدْ دَثَرَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْخَرَابُ، فَجَدَّ فِي عِمَارَتِهِ، وَجَعَلَ فِيهِ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ طَبِيبًا، وَثَلَاثَةً مِنَ الْخُزَّانِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَاشْتَرَى لَهُ الْأَمْلَاكَ النَّفِيسَةَ، بَعْدَ أَنْ كَانَ لَيْسَ بِهِ طَبِيبٌ وَلَا دَوَاءٌ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ وَالصِّلَاتِ وَالْخَيْرِ، وَلَمْ يَكُنْ يُلَقَّبُ فِي زَمَانِهِ أَحَدٌ بِالشَّيْخِ الْأَجَلِّ سِوَاهُ. وَفِي الْمُحَرَّمِ أَيْضًا تُوُفِّيَ أَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ، فَقِيهُ الْإِمَامِيَّةِ، بِمَشْهَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.

ثم دخلت سنة إحدى وستين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 461 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، أُعِيدَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ إِلَى وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا عَادَ مَدَحَهُ ابْنُ الْفَضْلِ فَقَالَ: قَدْ رَجَعَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ ... وَأَنْتَ مِنْ كُلِّ الْوَرَى أَوْلَى بِهِ. مَا كُنْتَ إِلَّا السَّيْفَ سَلَّتْهُ يَدٌ ثُمَّ أَعَادَتْهُ إِلَى قِرَابِهِ. وَهِيَ طَوِيلَةٌ. وَفِي شَعْبَانَ احْتَرَقَ جَامِعُ دِمَشْقَ. وَكَانَ سَبَبُ احْتِرَاقِهِ أَنَّهُ وَقَعَ بِدِمَشْقَ حَرْبٌ بَيْنَ الْمَغَارِبَةِ أَصْحَابِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْمَشَارِقَةِ، فَضَرَبُوا دَارًا مُجَاوِرَةً لِلْجَامِعِ بِالنَّارِ فَاحْتَرَقَتْ، وَاتَّصَلَتْ بِالْجَامِعِ، (وَكَانَتِ الْعَامَّةُ تُعِينُ الْمَغَارِبَةَ، فَتَرَكُوا الْقِتَالَ وَاشْتَغَلُوا بِإِطْفَاءِ النَّارِ مِنَ الْجَامِعِ) فَعَظُمَ الْخَطْبُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، وَأَتَى الْحَرِيقُ عَلَى الْجَامِعِ، فَدَثَرَتْ مَحَاسِنُهُ، وَزَالَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ النَّفِيسَةِ.

ثم دخلت سنة اثنتين وستين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 462 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَقْبَلَ مَلِكُ الرُّومِ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي عَسْكَرٍ كَثِيفٍ إِلَى الشَّامِ، وَنَزَلَ عَلَى مَدِينَةِ مَنْبِجَ وَنَهَبَهَا وَقَتَلَ أَهْلَهَا، وَهَزَمَ مَحْمُودَ بْنَ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ، وَبَنِي كِلَابٍ، وَابْنَ حَسَّانٍ الطَّائِيَّ، وَمَنْ مَعَهُمَا مِنْ جُمُوعِ الْعَرَبِ، ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ الرُّومِ ارْتَحَلَ وَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ، وَلَمْ يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ لِشِدَّةِ الْجُوعِ. وَفِيهَا سَارَ أَمِيرُ الْجُيُوشِ بَدْرٌ مِنْ مِصْرَ فِي عَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ إِلَى مَدِينَةِ صُورَ وَحَصَرَهَا، وَكَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا الْقَاضِي عَيْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ أَبِي عَقِيلٍ، فَلَمَّا حَصَرَهُ أَرْسَلَ الْقَاضِي إِلَى الْأَمِيرِ قَرْلُوا، مُقَدِّمِ الْأَتْرَاكِ الْمُقِيمِينَ بِالشَّامِ يَسْتَنْجِدُهُ، فَسَارَ فِي اثْنَيْ [عَشَرَ] أَلْفَ فَارِسٍ، فَحَصَرَ مَدِينَةَ صَيْدَا، وَهِيَ لِأَمِيرِ الْجُيُوشِ بِدْرٌ، فَرَحَلَ حِينَئِذٍ بِدْرٌ فَعَادَ الْأَتْرَاكُ، فَعَاوَدَ بَدْرٌ حَصْرَ صُورَ بَرًّا وَبَحْرًا سَنَةً، وَضَيِّقَ عَلَى أَهْلِهَا حَتَّى أَكَلُوا الْخُبْزَ كُلَّ رِطْلٍ بِنِصْفِ دِينَارٍ وَلَمْ يَبْلُغْ غَرَضَهُ فَرَحَلَ عَنْهَا.

وَفِيهَا صَارَتْ دَارُ ضَرْبِ الدَّنَانِيرِ بِبَغْدَاذَ فِي يَدِ وُكَلَاءِ الْخَلِيفَةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَهْرَجَ كَثُرَ فِي أَيْدِي النَّاسِ عَلَى السِّكَكِ السُّلْطَانِيَّةِ وَضُرِبَ اسْمُ وَلِيِّ الْعَهْدِ عَلَى الدِّينَارِ وَسُمِّيَ الْأَمِيرِيَّ وَمُنِعَ مِنَ التَّعَامُلِ بِسِوَاهُ. وَفِيهَا وَرَدَ رَسُولُ صَاحِبِ مَكَّةَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ، وَمَعَهُ وَلَدُهُ، إِلَى السُّلْطَانِ أَلْب أَرْسَلَانَ، يُخْبِرُهُ بِإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ لِلْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَلِلسُّلْطَانِ بِمَكَّةَ، وَإِسْقَاطِ خُطْبَةِ الْعَلَوِيِّ، صَاحِبِ مِصْرَ، وَتَرْكِ الْأَذَانِ بِحَيِّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ فَأَعْطَاهُ السُّلْطَانُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَخِلَعًا نَفِيسَةً، وَأَجْرَى لَهُ كُلَّ سَنَةٍ عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَقَالَ: إِذَا فَعَلَ أَمِيرُ (الْمَدِينَةِ مُهَنَّأٌ) كَذَلِكَ، أَعْطَيْنَاهُ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكُلَّ سَنَةٍ خَمْسَةَ آلَافِ دِينَارٍ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ بِابْنَةِ نِظَامِ الْمُلْكِ بِالرَّيِّ وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَفِيهَا، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، تُوُفِّيَ تَاجُ الْمُلُوكِ هَزَارْسِبْ بْنُ بِنَكِيرَ بْنِ عِيَاضٍ بِأَصْبَهَانَ وَهُوَ عَائِدٌ مِنْ عِنْدِ السُّلْطَانِ إِلَى خُوزِسْتَانَ، وَكَانَ قَدْ عَلَا أَمْرُهُ، وَتَزَوَّجَ بِأُخْتِ السُّلْطَانِ، وَبَغَى عَلَى نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ، وَأَغْرَى السُّلْطَانُ بِهِ لِيَأْخُذَ بِلَادَهُ فَلَمَّا مَاتَ سَارَ دُبَيْسٌ إِلَى السُّلْطَانِ، وَمَعَهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمٌ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ فَخَرَجَ نِظَامُ الْمُلْكِ فَلَقِيَهُمَا، وَتَزَوَّجَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ بِأُخْتِ السُّلْطَانِ الَّتِي كَانَتِ امْرَأَةَ هَزَارْسَبْ، وَعَادَا إِلَى بِلَادِهِمَا مِنْ هَمَذَانَ. وَفِيهَا كَانَ بِمِصْرَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ، وَمَجَاعَةٌ عَظِيمَةٌ، حَتَّى أَكَلَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ

بَعْضًا، وَفَارَقُوا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَوَرَدَ بَغْدَاذَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ هَرَبًا مِنَ الْجُوعِ، وَوَرَدَ التُّجَّارُ، وَمَعَهُمْ ثِيَابُ صَاحِبِ مِصْرَ وَآلَاتِهِ، نُهِبَتْ مِنَ الْجُوعِ، وَكَانَ فِيهَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ نُهِبَتْ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ وَقْتَ الْقَبْضِ عَلَى الطَّائِعِ لِلَّهِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَمِمَّا نُهِبَ أَيْضًا فِي فِتْنَةِ الْبَسَاسِيرِيِّ وَخَرَجَ مِنْ خَزَائِنِهِمْ ثَمَانُونَ أَلْفَ قِطْعَةٍ بِلَّوْرٍ كِبَارٍ، وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفَ قِطْعَةٍ مِنَ الدِّيبَاجِ الْقَدِيمِ، وَأَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ كُزَاغَنْدَ، وَعِشْرُونَ أَلْفَ سَيْفٍ مُحَلَّى. وَقَالَ ابْنُ الْفَضْلِ يَمْدَحُ الْقَائِمَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَيَذْكُرُ الْحَالَ بِقَصِيدَةٍ فِيهَا: قَدْ عَلِمَ الْمِصْرِيُّ أَنَّ جُنُودَهُ سِنُو ... يُوسُفَ مِنْهَا وَطَاعُونُ عَمَوَاسِ أَقَامَتْ بِهِ حَتَّى اسْتَرَابَ بِنَفْسِهِ ، وَأَوْجَسَ مِنْهُ خِيفَةً أَيَّ إِيجَاسِ فِي أَبْيَاتٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْجَوَائِزِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، كَانَ أَدِيبًا، شَاعِرًا، حَسَنَ الْقَوْلِ، فَمِنْ قَوْلِهِ: وَاحَسْرَتِي مِنْ قَوْلِهَا : خَانَ عُهُودِي وَلَهَا

وَحَقِّ مَنْ صَيَّرَنِي ... وَقْفًا عَلَيْهَا وَلَهَا مَا خَطَرَتْ بِخَاطِرِي ، إِلَّا كَسَتْنِي وَلَهَا وَتُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو غَالِبِ بْنُ بِشْرَانَ الْوَاسِطِيُّ الْأَدِيبُ، وَانْتَهَتِ الرِّحْلَةُ إِلَيْهِ فِي الْأَدَبِ وَلَهُ شِعْرٌ، فَمِنْهُ فِي الزُّهْدِ: يَا شَائِدًا لِلْقُصُورِ كَهْلًا أَقْصِرْ ، فَقَصْرُ الْفَتَى الْمَمَاتُ ... لَمْ يَجْتَمِعْ شَمْلُ أَهْلِ قَصْرٍ ، إِلَّا قُصَارَاهُمُ الشَّتَاتُ وَإِنَّمَا الْعَيْشُ مِثْلُ ظِلٍّ ... مُنْتَقِلٍ مَا لَهُ ثَبَاتُ وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَذْلَمٍ، قَاضِي دِمَشْقَ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبِي الْعَجَائِزِ، الْخَطِيبُ بِدِمَشْقَ.

ثم دخلت سنة ثلاث وستين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 463 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ الْخُطْبَةِ لِلْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَالسُّلْطَانِ بِحَلَبَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَطَبَ مَحْمُودُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ بِحَلَبَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلِلسُّلْطَانِ أَلْب أَرْسَلَانَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى إِقْبَالَ دَوْلَةِ السُّلْطَانِ وَقُوَّتَهَا، وَانْتِشَارَ دَعْوَتِهَا، فَجَمَعَ أَهْلَ حَلَبَ وَقَالَ: هَذِهِ دَوْلَةٌ جَدِيدَةٌ، وَمَمْلَكَةٌ شَدِيدَةٌ، وَنَحْنُ تَحْتَ الْخَوْفِ مِنْهُمْ، وَهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَكُمْ لِأَجْلِ مَذَاهِبِكُمْ، وَالرَّأْيُ أَنْ نُقِيمَ الْخُطْبَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ وَقْتٌ لَا يَنْفَعُنَا فِيهِ قَوْلٌ وَلَا بَذْلٌ، فَأَجَابَ الْمَشَايِخُ [إِلَى] ذَلِكَ وَلَبِسَ الْمُؤَذِّنُونَ السَّوَادَ، وَخَطَبُوا لِلْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَالسُّلْطَانِ، فَأَخَذَتِ الْعَامَّةُ حُصْرَ الْجَامِعِ، وَقَالُوا: هَذِهِ حُصْرُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَلْيَأْتِ أَبُو بَكْرٍ بِحُصْرٍ يُصَلِّي عَلَيْهَا بِالنَّاسِ. وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى مَحْمُودٍ الْخِلَعَ مَعَ نَقِيبِ النُّقَبَاءِ طِرَادِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيِّ، فَلَبِسَهَا، وَمَدَحَهُ ابْنُ سِنَانٍ الْخَفَاجِيُّ، وَأَبُو الْفِتْيَانِ بْنُ حَيُّوسٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهُ بْنُ عَطِيَّةَ يَمْدَحُ الْقَائِمَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَيَذْكُرُ الْخُطْبَةَ بِحَلَبَ وَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ: كَمْ طَائِعٍ لَكَ لَمْ تَجْلِبْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ تَعْرِفْ لِطَاعَتِهِ غَيْرَ التُّقَى سَبَبَا ... هَذَا الْبَشِيرُ بِإِذْعَانِ الْحِجَازِ ، وَذَا دَاعِي دِمَشْقَ وَذَا الْمَبْعُوثُ مِنْ حَلَبَا

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ السُّلْطَانِ أَلْب أَرْسَلَانَ عَلَى حَلَبَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ السُّلْطَانُ أَلْب أَرْسَلَانَ إِلَى حَلَبَ، وَجَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى دِيَارِ بَكْرٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ صَاحِبُهَا، نَصْرُ بْنُ مَرْوَانَ، وَخَدَمُهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ إِقَامَةً عَرَفَ السُّلْطَانُ أَنَّهُ قَسَّطَهَا عَلَى الْبِلَادِ، فَأَمَرَ بِرَدِّهَا. وَوَصَلَ إِلَى آمِدَ فَرَآهَا ثَغْرًا مَنِيعًا، فَتَبَرَّكَ بِهِ، وَجَعَلَ يُمِرُّ يَدَهُ عَلَى السُّورِ وَيَمْسَحُ بِهَا صَدْرَهُ. وَسَارَ إِلَى الرُّهَا فَحَصَرَهَا فَلَمْ يَظْفَرْ مِنْهَا بِطَائِلٍ، فَسَارَ إِلَى حَلَبَ وَقَدْ وَصَلَهَا نَقِيبُ النُّقَبَاءِ أَبُو الْفَوَارِسِ طِرَادٌ بِالرِّسَالَةِ الْقَائِمِيَّةِ، وَالْخِلَعِ، فَقَالَ لَهُ مَحْمُودٌ، صَاحِبُ حَلَبَ: أَسْأَلُكَ الْخُرُوجَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَالِاسْتِعْفَاءَ لِي مِنَ الْحُضُورِ عِنْدَهُ، فَخَرَجَ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ، وَأَخْبَرَ السُّلْطَانَ بِأَنَّهُ قَدْ لَبِسَ الْخِلَعَ الْقَائِمِيَّةِ وَخَطَبَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ تُسَاوِي خُطْبَتُهُمْ وَهُمْ يُؤَذِّنُونَ: حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ؟ وَلَا بُدَّ مِنَ الْحُضُورِ، وَدَوْسِ بِسَاطِي، فَامْتَنَعَ مَحْمُودٌ مِنْ ذَلِكَ. فَاشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَى الْبَلَدِ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ، وَعَظُمَ الْقِتَالُ، وَزَحَفَ السُّلْطَانُ يَوْمًا وَقَرُبَ مِنَ الْبَلَدِ، فَوَقَعَ حَجَرُ مِنْجَنِيقٍ فِي فَرَسِهِ، فَلَمَّا عَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى مَحْمُودٍ خَرَجَ لَيْلًا، وَمَعَهُ وَالِدَتُهُ مَنِيعَةُ بِنْتُ وَثَّابٍ النُّمَيْرِيِّ، فَدَخَلَا عَلَى السُّلْطَانِ وَقَالَتْ لَهُ: فَافْعَلْ بِهِ مَا تُحِبُّ. فَتَلَقَّاهَا بِالْجَمِيلِ، وَخَلَعَ عَلَى مَحْمُودٍ وَأَعَادَهُ إِلَى بَلَدِهِ، فَأَنْفَذَ إِلَى السُّلْطَانِ مَالًا جَزِيلًا.

ذِكْرُ خُرُوجِ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى خِلَاطٍ وَأَسْرِهِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ أَرْمَانُوسُ مَلِكُ الرُّومِ فِي مِائَتَيْ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ، وَالْفِرِنْجِ، وَالْغَرْبِ، وَالرُّوسِ، وَالْبُجْنَاكِ، وَالْكُرْجِ، وَغَيْرِهِمْ، مِنْ طَوَائِفِ تِلْكَ الْبِلَادِ، فَجَاءُوا فِي تَجَمُّلٍ كَثِيرٍ، وَزِيٍّ عَظِيمٍ، وَقَصَدَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ، فَوَصَلَ إِلَى مَلَازْكَرْدَ مِنْ أَعْمَالِ خِلَاطٍ. فَبَلَغَ السُّلْطَانَ أَلْب أَرْسَلَانَ الْخَبَرُ. وَهُوَ بِمَدِينَةِ خُوَيَّ مِنْ أَذَرْبِيجَانَ، قَدْ عَادَ مِنْ حَلَبَ. وَسَمِعَ مَا هُوَ مَلِكُ الرُّومِ فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ الْجُمُوعِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ جَمْعِ الْعَسَاكِرِ لِبُعْدِهَا وَقُرْبِ الْعَدُوِّ، فَسَيَّرَ الْأَثْقَالَ مَعَ زَوْجَتِهِ وَنِظَامِ الْمُلْكِ إِلَى هَمَذَانَ، وَسَارَ هُوَ فِيمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ. وَجَدَّ فِي السَّيْرِ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّنِي أُقَاتِلُ مُحْتَسِبًا صَابِرًا، فَإِنْ سَلِمْتُ فَنِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فَإِنَّ ابْنِي مَلِكْشَاهْ وَلِيُّ عَهْدِي، وَسَارُوا. فَلَمَّا قَارَبَ الْعَدُوَّ جَعَلَ لَهُ مُقَدِّمَةً، فَصَادَفَتْ مُقَدِّمَتُهُ، عِنْدَ خِلَاطٍ، مُقَدِّمَ الرُّوسِيَّةِ فِي نَحْوِ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ الرُّومِ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَتِ الرُّوسِيَّةُ، وَأُسِرَ مُقَدِّمُهُمْ، وَحُمِلَ إِلَى السُّلْطَانِ، فَجَدَعَ أَنْفَهُ، وَأَنْفَذَ بِالسَّلَبِ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُرْسِلَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَمَّا تَقَارَبَ الْعَسْكَرَانِ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُهَادَنَةَ، فَقَالَ: لَا هُدْنَةَ إِلَّا بِالرَّيِّ، فَانْزَعَجَ السُّلْطَانُ لِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ إِمَامُهُ وَفَقِيهُهُ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْبُخَارِيُّ، الْحَنَفِيُّ: إِنَّكَ تُقَاتِلُ عَنْ دِينٍ وَعَدَ اللَّهُ بِنَصْرِهِ وَإِظْهَارِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ كَتَبَ بِاسْمِكَ هَذَا الْفَتْحَ، فَالْقَهُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، بَعْدَ الزَّوَالِ، فِي السَّاعَةِ الَّتِي تَكُونُ الْخُطَبَاءُ عَلَى الْمَنَابِرِ، فَإِنَّهُمْ يَدْعُونَ لِلْمُجَاهِدِينَ بِالنَّصْرِ، وَالدُّعَاءُ مَقْرُونٌ بِالْإِجَابَةِ.

فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ صَلَّى بِهِمْ، وَبَكَى السُّلْطَانُ، فَبَكَى النَّاسُ لِبُكَائِهِ، وَدَعَا وَدَعَوْا مَعَهُ وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَرَادَ الِانْصِرَافَ فَلْيَنْصَرِفْ، فَمَا هَاهُنَا سُلْطَانٌ يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَأَلْقَى الْقَوْسَ وَالنِّشَابَ، وَأَخَذَ السَّيْفَ وَالدَّبُّوسَ، وَعَقَدَ ذَنَبَ فَرَسِهِ بِيَدِهِ، وَفَعَلَ عَسْكَرُهُ مِثْلَهُ، وَلَبِسَ الْبَيَاضَ، وَتَحَنَّطَ، وَقَالَ: إِنْ قُتِلْتُ فَهَذَا كَفَنِي. وَزَحَفَ إِلَى الرُّومِ وَزَحَفُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَارَبَهُمْ تَرَجَّلَ وَعَفَّرَ وَجْهَهُ عَلَى التُّرَابِ، وَبَكَى، وَأَكْثَرَ الدُّعَاءَ، ثُمَّ رَكِبَ وَحَمَلَ، وَحَمَلَتِ الْعَسَاكِرُ مَعَهُ، فَحَصَلَ الْمُسْلِمُونَ فِي وَسَطِهِمْ وَحَجَزَ الْغُبَارُ بَيْنَهُمْ، فَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمْ كَيْفَ شَاءُوا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَ الرُّومُ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَا لَا يُحْصَى، حَتَّى امْتَلَأَتِ الْأَرْضُ بِجُثَثِ الْقَتْلَى، وَأُسَرِ مَلِكُ الرُّومِ، أَسَرَهُ بَعْضُ غِلْمَانِ كُوهَرَائِينَ، أَرَادَ قَتْلَهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَقَالَ لَهُ خَادِمٌ مَعَ الْمَلِكِ: لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنَّهُ الْمَلِكُ. وَكَانَ هَذَا الْغُلَامُ قَدْ عَرَضَهُ كُوهَرَائِينُ عَلَى نِظَامِ الْمُلْكِ، فَرَدَّهُ اسْتِحْقَارًا لَهُ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ كُوهَرَائِينُ، فَقَالَ نِظَامُ الْمُلْكِ: عَسَى أَنْ يَأْتِيَنَا بِمَلِكِ الرُّومِ أَسِيرًا، فَكَانَ كَذَلِكَ. فَلَمَّا أَسَرَ الْغُلَامُ الْمَلِكَ أَحْضَرَهُ عِنْدَ كُوهَرَائِينَ، فَقَصَدَ السُّلْطَانَ وَأَخْبَرَهُ بِأَسْرِ الْمَلِكِ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَلَمَّا أُحْضِرَ ضَرَبَهُ السُّلْطَانُ أَلْب أَرْسَلَانَ ثَلَاثَ مَقَارِعَ بِيَدِهِ وَقَالَ لَهُ: أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ فِي الْهُدْنَةِ فَأَبَيْتَ؟ فَقَالَ: دَعْنِي مِنَ التَّوْبِيخِ، وَافْعَلْ مَا تُرِيدُ! فَقَالَ السُّلْطَانُ: مَا عَزَمْتَ أَنْ تَفْعَلَ بِي إِنْ أَسَرْتَنِي؟ فَقَالَ: أَفْعَلُ الْقَبِيحَ. قَالَ لَهُ: فَمَا تَظُنُّ أَنَّنِي أَفْعَلُ بِكَ؟ قَالَ: إِمَّا أَنْ تَقْتُلَنِي، وَإِمَّا أَنْ تُشْهِرَنِي فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَالْأُخْرَى بَعِيدَةٌ، وَهِيَ الْعَفْوُ، وَقَبُولُ الْأَمْوَالِ، وَاصْطِنَاعِي نَائِبًا عَنْكَ. قَالَ: مَا عَزَمْتُ عَلَى غَيْرِ هَذَا. فَفَدَاهُ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسِ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ عَسَاكِرَ الرُّومِ أَيْ وَقْتَ طَلَبِهَا، وَأَنْ يُطْلِقَ كُلَّ أَسِيرٍ فِي بِلَادِ الرُّومِ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْزَلَهُ فِي خَيْمَةٍ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ يَتَجَهَّزُ بِهَا، فَأَطْلَقَ لَهُ جَمَاعَةً مِنَ الْبَطَارِقَةِ،

وَخَلَعَ عَلَيْهِ (مِنَ الْغَدِ) ، فَقَالَ مَلِكُ الرُّومِ: أَيْنَ جِهَةُ الْخَلِيفَةِ؟ فَقَامَ وَكَشَفَ رَأَسَهُ وَأَوْمَأَ إِلَى الْأَرْضِ بِالْخِدْمَةِ، وَهَادَنَهُ السُّلْطَانُ خَمْسِينَ سَنَةً، وَسَيَّرَهُ إِلَى بِلَادِهِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا أَوْصَلُوهُ إِلَى مَأْمَنِهِ، وَشَيَّعَهُ السُّلْطَانُ فَرْسَخًا. وَأَمَّا الرُّومُ فَلَمَّا بَلَغَهُمْ خَبَرُ الْوَقْعَةِ وَثَبَ مِيخَائِيلُ عَلَى الْمَمْلَكَةِ فَمَلَكَ الْبِلَادَ، فَلَمَّا وَصَلَ أَرْمَانُوسُ الْمَلِكُ إِلَى قَلْعَةِ دُوقِيَّةَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَلَبِسَ الصُّوفَ وَأَظْهَرَ الزُّهْدَ، وَأَرْسَلَ إِلَى مِيخَائِيلَ يُعَرِّفُهُ مَا تَقَرَّرَ مِنَ السُّلْطَانِ، وَقَالَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَفْعَلَ مَا اسْتَقَرَّ، وَإِنْ شِئْتَ أَمْسَكْتَ، فَأَجَابَهُ مِيخَائِيلُ بِإِيثَارِ مَا اسْتَقَرَّ، وَطَلَبَ وَسَاطَتَهُ، وَسُؤَالَ السُّلْطَانِ فِي ذَلِكَ. وَجَمَعَ أَرْمَانُوسُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ فَكَانَ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَطَبَقَ ذَهَبٍ عَلَيْهِ جَوَاهِرُ بِتِسْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَحَلَفَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ أَرْمَانُوسُ اسْتَوْلَى عَلَى أَعْمَالِ الْأَرْمَنِ وَبِلَادِهِمْ. وَمَدَحَ الشُّعَرَاءُ السُّلْطَانَ، وَذَكَرُوا هَذَا الْفَتْحَ، فَأَكْثَرُوا.

ذِكْرُ مُلْكِ أَتْسِزَ الرَّمْلَةَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَصَدَ أَتْسِزُ بْنُ أُوقَ الْخُوَارِزْمِيُّ، وَهُوَ مِنْ أُمَرَاءِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، بَلَدَ الشَّامِ، فَجَمَعَ الْأَتْرَاكَ وَسَارَ إِلَى فِلَسْطِينَ، فَفَتَحَ مَدِينَةَ الرَّمْلَةِ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ وَحَصَرَهُ، وَفِيهِ عَسَاكِرُ الْمِصْرِيِّينَ، فَفَتَحَهُ، وَمَلَكَ مَا يُجَاوِرُهُمَا مِنَ الْبِلَادِ، مَا عَدَا عَسْقَلَانَ، وَقَصَدَ دِمَشْقَ فَحَصَرَهَا، وَتَابَعَ النَّهْبَ لِأَعْمَالِهَا حَتَّى خَرَّبَهَا، وَقَطَعَ الْمِيرَةَ عَنْهَا، فَضَاقَ الْأَمْرُ بِالنَّاسِ، فَصَبَرُوا، وَلَمْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ مُلْكِ الْبَلَدِ، فَعَادَ عَنْهُ، وَأَدَامَ قَصْدَ أَعْمَالِهِ وَتَخْرِيبِهَا حَتَّى قَلَّتِ الْأَقْوَاتُ عِنْدَهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فُورَانَ الْفُورَانِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، مُصَنِّفُ كِتَابِ " الْإِبَانَةِ " وَغَيْرِهِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ

بْنِ ثَابِتٍ الْبَغْدَاذِيُّ، صَاحِبُ " التَّارِيخِ " وَالْمُصَنَّفَاتِ الْكَثِيرَةِ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ إِمَامَ الدُّنْيَا فِي زَمَانِهِ، وَمِمَّنْ حَمَلَ جِنَازَتَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ. وَتُوُفِّيَ أَيْضًا فِيهَا، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، أَبُو يَعْلَى حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ حَمْزَةَ الْجَعْفَرِيُّ، فَقِيهُ الْإِمَامِيَّةِ، وَحَسَّانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَسَّانِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنِيعِيُّ الْمَخْزُومِيُّ مِنْ أَهْلِ مَرْوِ الرُّوذِ، كَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْعِبَادَةِ، وَالْقُنُوعِ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْقُوتِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَبَهْجَتِهَا، وَكَانَ السَّلَاطِينُ يَزُورُونَهُ وَيَتَبَرَّكُونَ بِهِ، وَأَكْثَرَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْخَانْقَاهَاتِ وَالْقَنَاطِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَتُوُفِّيَتْ أَيْضًا كَرِيمَةُ بِنْتُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيَّةُ، وَهِيَ الَّتِي تَرْوِي " صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ "، تُوُفِّيَتْ بِمَكَّةَ، وَإِلَيْهَا انْتَهَى عُلُوُّ الْإِسْنَادِ لِلصَّحِيحِ إِلَى أَنْ جَاءَ أَبُو الْوَقْتِ.

ثم دخلت سنة أربع وستين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 464 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ وِلَايَةَ سَعْدِ الدَّوْلَةِ كُوهَرَائِينَ شِحْنَكِيَّةِ بَغْدَاذَ. فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ إِيتِكِينُ السُّلَيْمَانِيُّ شِحْنَةَ بَغْدَاذَ مِنْ عِنْدِ السُّلْطَانِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَقَصَدَ دَارَ الْخِلَافَةِ، وَسَأَلَ الْعَفْوَ عَنْهُ، وَأَقَامَ أَيَّامًا، فَلَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ. وَكَانَ سَبَبُ غَضَبِ الْخَلِيفَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدِ اسْتَخْلَفَ ابْنَهُ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَجَعَلَ شِحْنَةً بِبَغْدَادَ، فَقَتَلَ أَحَدَ الْمَمَالِيكِ الدَّارِيَّةِ، فَأَنْفَذَ قَمِيصَهُ مِنَ الدِّيوَانِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَوَقَعَ الْخِطَابُ فِي عَزْلِهِ. وَكَانَ نِظَامُ الْمُلْكِ يُعْنَى بِالسُّلَيْمَانِيِّ، فَأَضَافَ إِلَى إِقْطَاعِهِ تِكْرِيتَ، فَكُوتِبَ وَالِيهَا، مِنْ دِيوَانِ الْخِلَافَةِ، بِالتَّوَقُّفِ عَنْ تَسْلِيمِهَا، فَلَمَّا رَأَى نِظَامُ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانُ إِصْرَارَ الْخَلِيفَةِ عَلَى الِاسْتِقَالَةِ مِنْ وِلَايَتِهِ شِحْنَكِيَّةِ بَغْدَاذَ، سَيَّرَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوهَرَائِينُ إِلَى بَغْدَاذَ شِحْنَةً، وَعَزَلَ السُّلَيْمَانِيَّ عَنْهَا، اتِّبَاعًا لِمَا أَمَرَ بِهِ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلَمَّا وَرَدَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ خَرَجَ النَّاسُ لِتَلَقِّيهِ، وَجَلَسَ لَهُ الْخَلِيفَةُ. ذِكْرُ تَزْوِيجِ وَلِيِّ الْعَهْدِ بِابْنَةِ السُّلْطَانِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ الْإِمَامُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ عَمِيدَ الدَّوْلَةِ بْنَ جَهِيرٍ، وَمَعَهُ الْخِلَعُ لِلسُّلْطَانِ وَلِوَلَدِهِ مَلِكْشَاهْ، وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ أَرْسَلَ يَطْلُبُ مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يَأْذَنَ فِي أَنْ يَجْعَلَ وَلَدَهُ مَلِكْشَاهْ وَلِيَّ عَهْدِهِ، فَأَذِنَ، وَسُيِّرَتْ لَهُ الْخِلَعُ مَعَ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ، وَأَمَرَ عَمِيدَ الدَّوْلَةِ أَنْ يَخْطُبَ ابْنَةَ السُّلْطَانِ أَلْب أَرْسَلَانَ مِنْ سَفَرِي خَاتُونَ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَ السُّلْطَانِ خَطَبَ ابْنَتَهُ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ.

وَعُقِدَ النِّكَاحُ بِظَاهِرِ نَيْسَابُورَ، وَكَانَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ الْوَكِيلَ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ، وَنِظَامُ الْمُلْكِ الْوَكِيلَ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ فِي الْعَقْدِ، وَكَانَ النِّثَارُ جَوَاهِرَ، وَعَادَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ مِنْ عِنْدِ السُّلْطَانِ إِلَى مَلِكْشَاهْ، وَكَانَ بِبِلَادِ فَارِسَ، فَلَقِيَهُ بِأَصْبَهَانَ، فَأَفَاضَ عَلَيْهِ الْخِلَعَ، فَلَبِسَهَا وَسَارَ إِلَى وَالِدِهِ، وَعَادَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَدَخَلَهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ. ذِكْرُ وِلَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ عَمَّارٍ طَرَابُلُسَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو طَالِبِ بْنُ عَمَّارٍ، قَاضِي طَرَابُلُسَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَاسْتَبَدَّ بِالْأَمْرِ فِيهَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ قَامَ مَكَانَهُ ابْنُ أَخِيهِ جَلَالُ الْمُلْكِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَمَّارٍ، فَضَبَطَ الْبَلَدَ أَحْسَنَ ضَبْطٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِفَقْدِ عَمِّهِ أَثَرٌ لِكِفَايَتِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ السُّلْطَانِ أَلْب أَرْسَلَانَ قَلْعَةَ فَضْلُونَ بِفَارِسَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ السُّلْطَانُ أَلْب أَرْسَلَانَ وَزِيرَهُ نِظَامَ الْمُلْكِ فِي عَسْكَرٍ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ، وَكَانَ بِهَا حِصْنٌ مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ وَالْمَعَاقِلِ، وَفِيهِ صَاحِبُهُ فَضْلُونُ، وَهُوَ لَا يُعْطِي الطَّاعَةَ، فَنَازَلَهُ وَحَصَرَهُ، وَدَعَاهُ إِلَى طَاعَةِ السُّلْطَانِ فَامْتَنَعَ، فَقَاتَلَهُ فَلَمْ يَبْلُغْ بِقِتَالِهِ غَرَضًا لِعُلُوِّ الْحِصْنِ وَارْتِفَاعِهِ، فَلَمْ يَطُلْ مُقَامُهُمْ عَلَيْهِ حَتَّى نَادَى أَهْلُ الْقَلْعَةِ الْأَمَانَ لِيُسَلِّمُوا الْحِصْنَ إِلَيْهِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ جَمِيعَ الْآبَارِ الَّتِي بِالْقَلْعَةِ غَارَتْ مِيَاهُهَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَادَتْهُمْ ضَرُورَةُ الْعَطَشِ إِلَى التَّسْلِيمِ، فَلَمَّا طَلَبُوا الْأَمَانَ أَمَّنَهُمْ نِظَامُ الْمُلْكِ، وَتَسَلَّمَ

الْحِصْنَ، وَالْتَجَأَ فَضْلُونُ إِلَى قُلَّةِ الْقَلْعَةِ، وَهِيَ أَعْلَى مَوْضِعٍ فِيهَا، وَفِيهِ بِنَاءٌ مُرْتَفِعٌ، فَاحْتَمَى فِيهَا، فَسَيَّرَ نِظَامُ الْمُلْكِ طَائِفَةً مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ أَهْلُ فَضْلُونَ وَأَقَارِبُهُ لِيَحْمِلُوهُمْ إِلَيْهِ وَيَنْهَبُوا مَالَهُمْ، فَسَمِعَ فَضْلُونُ الْخَبَرَ، فَفَارَقَ مَوْضِعَهُ مُسْتَخْفِيًا فَيَمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْجُنْدِ، وَسَارَ لِيَمْنَعَ عَنْ أَهْلِهِ، فَاسْتَقْبَلَتْهُ طَلَائِعُ نِظَامِ الْمُلْكِ، فَخَافَهُمْ، فَتَفَرَّقَ مَنْ مَعَهُ، وَاخْتَفَى فِي نَبَاتِ الْأَرْضِ، فَوَقَعَ فِيهِ بَعْضُ الْعَسْكَرِ، فَأَخَذَهُ أَسِيرًا، وَحَمَلَهُ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ، فَأَخَذَهُ وَسَارَ بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ فَأَمَّنَهُ وَأَطْلَقَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ الْخَطِيبُ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ قَدْ أَضَرَّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ إِلَيْهِ قَضَاءُ وَاسِطَ، وَخَلِيفَتُهُ عَلَيْهَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ السَّمَّانِ.

ثم دخلت سنة خمس وستين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 465 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ قَتْلِ السُّلْطَانِ أَلْب أَرْسَلَانَ. فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ قَصَدَ السُّلْطَانُ أَلْب أَرْسَلَانَ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَإِنَّمَا غَلَبَ عَلَيْهِ أَلْب أَرْسَلَانَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَصَاحِبُهُ شَمْسُ الْمُلْكِ تِكِينَ، فَعَقَدَ عَلَى جَيْحُونَ جِسْرًا وَعَبَرَ عَلَيْهِ فِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَعَسْكَرُهُ يَزِيدُ عَلَى مِائَتَيْ أَلْفِ فَارِسٍ، فَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ بِمُسْتَحْفِظِ قَلْعَةٍ يُعْرَفُ بِيُوسُفَ الْخُوَارِزْمِيِّ، فِي سَادِسِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَحُمِلَ إِلَى قُرْبِ سَرِيرِهِ مَعَ غُلَامَيْنِ، فَتَقَدَّمَ أَنْ تُضْرَبَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْتَادٍ وَتُشَدَّ أَطْرَافُهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ يُوسُفُ: يَا مُخَنَّثُ! مِثْلِي يُقْتَلُ هَذِهِ الْقِتْلَةَ؟ فَغَضِبَ السُّلْطَانُ أَلْب أَرْسَلَانَ، وَأَخَذَ الْقَوْسَ وَالنِّشَابَ، وَقَالَ لِلْغُلَامَيْنِ: خَلِّيَاهُ! وَرَمَاهُ السُّلْطَانُ بِسَهْمٍ فَأَخْطَأَهُ، وَلَمْ يَكُنْ يُخْطِئُ سَهْمُهُ، فَوَثَبَ يُوسُفُ يُرِيدُهُ، وَالسُّلْطَانُ عَلَى سُدَّةٍ، فَلَمَّا رَأَى يُوسُفَ يَقْصِدُهُ قَامَ عَنِ السُّدَّةِ وَنَزَلَ عَنْهَا، فَعَثَرَ، فَوَقَعَ عَلَى وَجْهِهِ، فَبَرَكَ عَلَيْهِ يُوسُفُ وَضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ كَانَتْ مَعَهُ فِي خَاصِرَتِهِ، وَكَانَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ وَاقِفًا، فَجَرَحَهُ يُوسُفُ أَيْضًا جِرَاحَاتٍ، وَنَهَضَ السُّلْطَانُ إِلَى خَيْمَةٍ أُخْرَى، وَضَرَبَ بَعْضُ الْفَرَّاشِينَ يُوسُفَ بِمِرْزَبَةٍ عَلَى رَأْسِهِ فَقَتَلَهُ، وَقَطَّعَهُ الْأَتْرَاكُ. وَكَانَ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ لَمَّا بَلَغَهُمْ عُبُورُ السُّلْطَانِ النَّهْرَ، وَمَا فَعَلَ عَسْكَرُهُ بِتِلْكَ الْبِلَادِ لَا سِيَّمَا بُخَارَى، اجْتَمَعُوا، وَخَتَمُوا خَتَمَاتٍ، وَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَكْفِيَهُمْ أَمْرَهُ، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ. وَلَمَّا جُرِحَ السُّلْطَانُ قَالَ: مَا مِنْ وَجْهٍ قَصَدْتُهُ، وَعَدُوٍّ أَرَدْتُهُ، إِلَّا اسْتَعَنْتُ بِاللَّهِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ أَمْسُ صَعِدْتُ عَلَى تَلٍّ، فَارْتَجَّتِ الْأَرْضُ تَحْتِي مِنْ عِظَمِ الْجَيْشِ وَكَثْرَةِ الْعَسْكَرِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَنَا مَلِكُ الدُّنْيَا، وَمَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَيَّ،

فَعَجَّزَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِأَضْعَفِ خَلْقِهِ، وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى، وَأَسْتَقِيلُهُ مِنْ ذَلِكَ الْخَاطِرِ. فَتُوُفِّيَ عَاشِرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ، فَحُمِلَ إِلَى مَرْوَ وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ. وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَبَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَشُهُورًا، وَقِيلَ كَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ عِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ مُنْذُ خُطِبَ لَهُ بِالسَّلْطَنَةِ إِلَى أَنْ قُتِلَ تِسْعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَلَمَّا وَصَلَ خَبَرُ مَوْتِهِ إِلَى بَغْدَاذَ جَلَسَ الْوَزِيرُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ لِلْعَزَاءِ بِهِ فِي صَحْنِ السَّلَامِ. ذِكْرُ نَسَبِ أَلْب أَرْسَلَانَ وَبَعْضِ سِيرَتِهِ. هُوَ أَلْب أَرْسَلَانَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ جُغْرِي بِكْ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ، وَكَانَ كَرِيمًا، عَادِلًا، عَاقِلًا، يَسْمَعُ السِّعَايَاتِ، وَاتَّسَعَ مُلْكُهُ جِدًّا، وَدَانَ لَهُ الْعَالَمُ، وَبِحَقٍّ قِيلَ لَهُ سُلْطَانُ الْعَالَمِ. وَكَانَ رَحِيمَ الْقَلْبِ رَفِيقًا بِالْفُقَرَاءِ، كَثِيرَ الدُّعَاءِ بِدَوَامِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ. اجْتَازَ يَوْمًا بِمَرْوَ عَلَى فُقَرَاءِ الْخَرَّائِينَ، فَبَكَى، وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُغْنِيَهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَكَانَ يُكْثِرُ الصَّدَقَةَ، فَيَتَصَدَّقُ فِي رَمَضَانَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ فِي دِيوَانِهِ أَسْمَاءُ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَرَاءِ فِي جَمِيعِ مَمَالِكِهِ، عَلَيْهِمُ الْإِدْرَارَاتُ وَالصِّلَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي جَمِيعِ بِلَادِهِ جِنَايَةٌ وَلَا مُصَادَرَةٌ، قَدْ قَنَعَ مِنَ الرَّعَايَا بِالْخَرَاجِ الْأَصْلِيِّ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كُلَّ سَنَةٍ دَفْعَتَيْنِ رِفْقًا بِهِمْ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ السُّعَاةِ سِعَايَةً فِي نِظَامِ الْمُلْكِ وَزِيرِهِ، وَذَكَرَ مَا لَهُ فِي مَمَالِكِهِ مِنَ الرُّسُومِ وَالْأَمْوَالِ، وَتُرِكَتْ عَلَى مُصَلَّاهُ، فَأَخَذَهَا فَقَرَأَهَا، ثُمَّ سَلَّمَهَا إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ

وَقَالَ لَهُ: خُذْ هَذَا الْكِتَابَ، فَإِنْ صَدَقُوا فِي الَّذِي كَتَبُوهُ فَهَذِّبْ أَخْلَاقَكَ، وَأَصْلِحْ أَحْوَالَكَ، وَإِنْ كَذَبُوا فَاغْفِرْ لَهُمْ زَلَّتَهُمْ وَاشْغَلْهُمْ بِمُهِمٍّ يَشْتَغِلُونَ بِهِ عَنِ السِّعَايَةِ بِالنَّاسِ. وَهَذِهِ حَالَةٌ لَا يُذْكَرُ عَنْ أَحَدِ الْمُلُوكِ أَحْسَنَ مِنْهَا. وَكَانَ كَثِيرًا مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ تَوَارِيخُ الْمُلُوكِ وَآدَابُهُمْ، وَأَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ، وَلَمَّا اشْتُهِرَ بَيْنَ الْمُلُوكِ حُسْنُ سِيرَتِهِ، وَمُحَافَظَتُهُ عَلَى عُهُودِهِ أَذْعَنُوا لَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْمُوَافَقَةِ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ، وَحَضَرُوا عِنْدَهُ مِنْ أَقَاصِي مَا وَرَاءَ النَّهْرِ إِلَى أَقْصَى الشَّامِ. وَكَانَ شَدِيدَ الْعِنَايَةِ بِكَفِّ الْجُنْدِ عَنْ أَمْوَالِ الرَّعِيَّةِ، بَلَغَهُ أَنَّ بَعْضَ خَوَاصِّ مَمَالِيكِهِ سَلَبَ مِنْ بَعْضِ الرِّسْتَاقِيَّةِ إِزَارًا، فَأَخَذَ الْمَمْلُوكَ وَصَلَبَهُ، فَارْتَدَعَ النَّاسُ عَنِ التَّعَرُّضِ إِلَى مَالِ غَيْرِهِمْ. وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ مِنْهَا. وَخَلَّفَ أَلْب أَرْسَلَانَ مِنَ الْأَوْلَادِ: مَلِكْشَاهْ، وَهُوَ صَارَ السُّلْطَانَ بَعْدَهُ، وَإِيَازُ، وَتُكَشُ، وَبُورِي بَرْشَ، وَتُتْشُ، وَأَرْسَلَانَ أَرَغُو، وَسَارَةُ، وَعَائِشَةُ، وَبِنْتًا أُخْرَى. ذِكْرُ مُلْكِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ. لَمَّا جُرِحَ السُّلْطَانُ أَلْب أَرْسَلَانَ أَوْصَى بِالسَّلْطَنَةِ لِابْنِهِ مَلِكْشَاهْ، وَكَانَ مَعَهُ، وَأَمَرَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ الْعَسْكَرُ، فَحَلَفُوا جَمِيعُهُمْ، وَكَانَ الْمُتَوَلِّي لِلْأَمْرِ فِي ذَلِكَ نِظَامُ الْمُلْكِ، وَأَرْسَلَ مَلِكْشَاهْ إِلَى بَغْدَاذَ يَطْلُبُ الْخُطْبَةَ لَهُ، فَخَطَبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِهَا، وَأَوْصَى أَلْب

أَرَسْلَانَ ابْنَهُ مَلِكْشَاهْ أَيْضًا أَنْ يُعْطِيَ أَخَاهُ قَاوَرْتَ بِكْ بْنَ دَاوُدَ أَعْمَالَ فَارِسَ وَكَرْمَانَ، وَشَيْئًا عَيَّنَهُ مِنَ الْمَالِ، وَأَنْ يُزَوَّجَ بِزَوْجَتِهِ، وَكَانَ قَاوَرْتُ بِكْ بِكَرْمَانَ، وَأَوْصَى أَنْ يُعْطَى ابْنُهُ إِيَازَ بْنَ أَلْب أَرْسَلَانَ مَا كَانَ لِأَبِيهِ دَاوُدَ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ: كُلُّ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِمَا أَوْصَيْتُ لَهُ فَقَاتِلُوهُ، وَاسْتَعِينُوا بِمَا جَعَلْتَهُ لَهُ عَلَى حَرْبِهِ. وَعَادَ مَلِكْشَاهْ مِنْ بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَعَبَرَ الْعَسْكَرِ الَّذِي قَطَعَ النَّهْرَ فِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَامَ بِوِزَارَةِ مَلِكْشَاهْ نِظَامُ الْمُلْكِ، وَزَادَ الْأَجْنَادُ فِي مَعَايِشِهِمْ سَبْعَ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعَادُوا إِلَى خُرَاسَانَ، وَقَصَدُوا نَيْسَابُورَ، وَرَاسَلَ مَلِكْشَاهْ جَمَاعَةَ الْمُلُوكِ أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْخُطْبَةِ لَهُ وَالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ، وَأَقَامَ إِيَازُ أَرْسَلَانَ بِبَلْخَ وَسَارَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ فِي عَسَاكِرِهِ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى الرَّيِّ. ذِكْرُ مُلْكِ صَاحِبِ سَمَرْقَنْدَ مَدِينَةَ تِرْمِذَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، مَلَكَ أَلْتَكِينُ صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ مَدِينَةَ تِرْمِذَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ وَفَاةُ أَلْب أَرْسَلَانَ، وَعَوْدُ ابْنِهِ مَلِكْشَاهْ عَنْ خُرَاسَانَ، طَمِعَ فِي الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُ، فَقَصَدَ تِرْمِذَ أَوَّلَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَفَتَحَهَا، وَنَقَلَ مَا فِيهَا مِنْ ذَخَائِرَ وَغَيْرِهَا إِلَى سَمَرْقَنْدَ. وَكَانَ إِيَازُ بْنُ أَلْب أَرْسَلَانَ قَدْ سَارَ عَنْ بَلْخَ إِلَى الْجُوزَجَانِ، فَخَافَ أَهْلُ بَلْخَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى أَلْتَكِينَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ، فَخَطَبُوا لَهُ فِيهَا، وَوَرَدَ إِلَيْهَا، فَنَهَبَ عَسْكَرُهُ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَعَادَ إِلَى تِرْمِذَ، فَثَارَ أَوْبَاشُ بَلْخَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَتَلُوهُمْ، فَعَادَ إِلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِإِحْرَاقِ الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَعْيَانُ أَهْلِهَا وَسَأَلُوهُ

الصَّفْحَ، وَاعْتَذَرُوا، فَعَفَا عَنْهُمْ، لَكِنَّهُ أَخَذَ أَمْوَالَ التُّجَّارِ فَغَنِمَ شَيْئًا عَظِيمًا. فَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى إِيَازَ عَادَ مِنَ الْجُوزَجَانِ إِلَى بَلْخَ، فَوَصَلَ غُرَّةَ جُمَادَى الْأُولَى، فَأَطَاعَهُ أَهْلُهَا، وَسَارَ عَنْهَا إِلَى تِرْمِذَ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَلَقِيَهُمْ عَسْكَرُ أَلْتَكِينَ، فَانْهَزَمَ إِيَازُ، فَغَرِقَ مِنْ عَسْكَرِهِ فِي جَيْحُونَ أَكْثَرُهُمْ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا الْقَلِيلُ. ذِكْرُ قَصْدِ صَاحِبِ غَزْنَةَ سَكْلَكَنْدَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَرَدَتْ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ عَسْكَرِ غَزْنَةَ إِلَى سَكْلَكَنْدَ، وَبِهَا عُثْمَانُ عَمُّ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَيُلَقَّبُ بِأَمِيرِ الْأُمَرَاءِ، فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا، وَعَادُوا بِهِ إِلَى غَزْنَةَ مَعَ خَزَائِنِهِ وَحَشَمِهِ، فَسَمِعَ الْأَمِيرُ كُمُشْتَكِينُ بُلْكَابِكْ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، فَتَبِعَ آثَارَهُمْ، وَكَانَ مَعَهُ أَنُوشْتِكِينُ جَدُّ مُلُوكِ خُوَارِزْمَ فِي زَمَانِنَا، فَنَهَبُوا مَدِينَةَ سَكْلَكَنْدَ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ وَعَمِّهِ قَاوَرْتَ بِكْ. لَمَّا بَلَغَ قَاوَرْتُ بِكْ، وَهُوَ بِكَرْمَانَ، وَفَاةُ أَخِيهِ أَلْب أَرْسَلَانَ سَارَ طَلَبًا لِلرَّيِّ يُرِيدُ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الْمَمَالِكِ، فَسَبَقَهُ إِلَيْهَا السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ وَنِظَامُ الْمُلْكِ، وَسَارَا (مِنْهَا إِلَيْهِ) ، فَالْتَقَوْا بِالْقُرْبِ مِنْ هَمَذَانَ فِي شَعْبَانَ، وَكَانَ الْعَسْكَرُ يَمِيلُونَ إِلَى قَاوَرْتَ بِكْ، فَحَمَلَتْ مَيْسَرَةُ قَاوَرْتَ عَلَى مَيْمَنَةِ مَلِكْشَاهْ، فَهَزَمُوهَا، وَحَمَلَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشٍ، وَبَهَاءُ الدَّوْلَةِ مَنْصُورُ بْنُ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ، وَهُمَا مَعَ مَلِكْشَاهْ، وَمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْعَرَبِ وَالْأَكْرَادِ، عَلَى مَيْمَنَةِ قَاوَرْتُ بِكْ فَهَزَمُوهَا، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى

أَصْحَابِ قَاوَرْتَ بِكْ، وَمَضَى الْمُنْهَزِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ إِلَى حُلَلِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَبَهَاءِ الدَّوْلَةِ فَنَهَبُوهَا غَيْظًا مِنْهُمْ، حَيْثُ هَزَمُوا عَسْكَرَ قَاوَرْتَ بِكْ، وَنَهَبُوا أَيْضًا مَا كَانَ لِنَقِيبِ النُّقَبَاءِ طِرَادِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيِّ رَسُولِ الْخَلِيفَةِ. وَجَاءَ رَجُلٌ سَوَادِيٌّ إِلَى السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَمَّهُ قَاوَرْتَ بِكْ فِي بَعْضِ الْقُرَى، فَأَرْسَلَ مَنْ أَخَذَهُ وَأَحْضَرَهُ، فَأَمَرَ سَعْدَ الدَّوْلَةِ كُوهَرَائِينَ فَخَنَقَهُ، وَأَقَرَّ كَرْمَانَ بِيَدِ أَوْلَادِهِ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِمُ الْخِلَعَ، وَأَقْطَعَ الْعَرَبَ وَالْأَكْرَادَ إِقْطَاعَاتٍ كَثِيرَةً لِمَا فَعَلُوهُ فِي الْوَقْعَةِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي حُضُورِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ وَبَهَاءِ الدَّوْلَةِ عِنْدَ مَلِكْشَاهْ أَنَّ السُّلْطَانَ أَلْب أَرْسَلَانَ كَانَ سَاخِطًا عَلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ نَقِيبَ النُّقَبَاءِ طِرَادَ بْنَ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيَّ إِلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ بِالْمَوْصِلِ، فَأَخَذَهُ وَسَارَ بِهِ إِلَى أَلْب أَرْسَلَانَ لِيَشْفَعَ فِيهِ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ الزَّابَ وَقَفَ عَلَى مُلَطِّفَاتٍ كَتَبَهَا وَزِيرُهُ أَبُو جَابِرِ بْنُ صِقْلَابَ، فَأَخَذَهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ فَغَرَّقَهُ، وَسَارَ مَعَ طِرَادٍ، فَبَلَغَهُمَا الْخَبَرُ بِوَفَاةِ أَلْب أَرْسَلَانَ وَمَصِيرِ ابْنِهِ مَلِكْشَاهْ، فَتَمَّمَا إِلَيْهِ. وَأَمَّا بَهَاءُ الدَّوْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَارَ بِمَالٍ أَرْسَلَهُ بِهِ أَبُوهُ إِلَى السُّلْطَانِ، فَحَضَرَ الْحَرْبَ بِهَذَا السَّبَبِ. ذِكْرُ تَفْوِيضِ الْأُمُورِ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ. ثُمَّ إِنَّ عَسْكَرَ مَلِكْشَاهْ بَسَطُوا وَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَمْوَالِ الرَّعِيَّةِ، وَقَالُوا: مَا يَمْنَعُ السُّلْطَانَ أَنْ يُعْطِيَنَا الْأَمْوَالَ إِلَّا نِظَامُ الْمُلْكِ فَنَالَ الرَّعِيَّةَ أَذًى شَدِيدٌ فَذَكَرَ ذَلِكَ نِظَامُ الْمُلْكِ لِلسُّلْطَانِ، فَبَيَّنَ لَهُ مَا فِي هَذَا الْفِعْلِ مِنَ الْوَهْنِ، وَخَرَابِ الْبِلَادِ وَذَهَابِ السِّيَاسَةِ، فَقَالَ لَهُ: افْعَلْ فِي هَذَا مَا تَرَاهُ مَصْلَحَةً! فَقَالَ لَهُ نِظَامُ الْمُلْكِ: مَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَفْعَلَ إِلَّا بِأَمْرِكَ.

فَقَالَ السُّلْطَانُ: قَدْ رَدَدْتُ الْأَمْوَالَ كُلَّهَا كَبِيرَهَا وَصَغِيرَهَا إِلَيْكَ، فَأَنْتَ الْوَالِدُ، وَحَلَفَ لَهُ، وَأَقْطَعَهُ إِقْطَاعًا زَائِدًا عَلَى مَا كَانَ، مَنْ جُمْلَتِهِ طُوسُ مَدِينَةُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَلَقَبَّهَ أَلْقَابًا مِنْ جُمْلَتِهَا: أَتَابِكُ، وَمَعْنَاهُ الْأَمِيرُ الْوَالِدُ، فَظَهَرَ فِي كِفَايَتِهِ، وَشَجَاعَتِهِ، وَحُسْنِ سِيرَتِهِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ امْرَأَةً ضَعِيفَةً اسْتَغَاثَتْ بِهِ، فَوَقَفَ يُكَلِّمُهَا وَتُكَلِّمُهُ، فَدَفَعَهَا بَعْضُ حُجَّابِهِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّمَا اسْتَخْدَمْتُكَ لِأَمْثَالِ هَذِهِ، فَإِنَّ الْأُمَرَاءَ وَالْأَعْيَانَ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَيْكَ، ثُمَّ صَرَفَهُ عَنْ حِجَابَتِهِ. ذِكْرُ قَتْلِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ حَمْدَانَ، وَهُوَ مِنْ أَوْلَادِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، بِمِصْرَ، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ فِيهَا تَقَدُّمًا عَظِيمًا. وَنَذْكُرُ هَاهُنَا الْأَسْبَابَ الْمُوجِبَةَ لِقَتْلِهِ، فَإِنَّهَا تَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَفِي حُرُوبٍ وَتَجَارِبَ، وَكَانَ أَوَّلَ ذَلِكَ انْحِلَالُ أَمْرِ الْخِلَافَةِ، وَفَسَادُ أَحْوَالِ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ الْعَلَوِيِّ، صَاحِبِهَا، وَسَبَبُهُ أَنَّ وَالِدَتَهُ كَانَتْ غَالِبَةً عَلَى أَمْرِهِ، وَقَدِ اصْطَنَعَتْ أَبَا سَعِيدٍ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيَّ الْيَهُودِيَّ، وَصَارَ وَزِيرًا لَهَا، فَأَشَارَ عَلَيْهَا بِوِزَارَةِ أَبِي نَصْرٍ الْفَلَّاحِيِّ، فَوَلَّتْهُ الْوِزَارَةَ، وَاتَّفَقَا مُدَّةً، ثُمَّ صَارَ الْفَلَّاحِيُّ يَنْفَرِدُ بِالتَّدْبِيرِ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا وَحْشَةٌ، فَخَافَهُ الْفَلَّاحِيُّ أَنْ يُفْسِدَ أَمْرَهُ مَعَ أُمِّ الْمُسْتَنْصِرِ فَاصْطَنَعَ الْغِلْمَانُ الْأَتْرَاكَ، وَاسْتَمَالَهُمْ، وَزَادَ فِي أَرْزَاقِهِمْ، فَلَمَّا وَثِقَ بِهِمْ وَضَعَهُمْ عَلَى قَتْلِ الْيَهُودِيِّ، فَقَتَلُوهُ، فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى أُمِّ الْمُسْتَنْصِرِ، وَأَغْرَتْ بِهِ وَلَدَهَا، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَأَرْسَلَتْ مَنْ قَتَلَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَتْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ. وَوَزَرَ بَعْدَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَوَضَعَهُ عَلَى الْغِلْمَانِ الْأَتْرَاكِ فَأَفْسَدَ

أَحْوَالَهُمْ، وَشَرَعَ يَشْتَرِي الْعَبِيدَ لِلْمُسْتَنْصِرِ، وَاسْتَكْثَرَ مِنْهُمْ، فَوَضَعَتْهُ أُمُّ الْمُسْتَنْصِرِ لِيُغْرِيَ الْعَبِيدَ الْمُجَرَّدِينَ بِالْأَتْرَاكِ، فَخَافَ عَاقِبَةَ ذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ يُورِثُ شَرًّا وَفَسَادًا، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَتَنَكَّرَتْ لَهُ، وَعَزَلَتْهُ عَنِ الْوِزَارَةِ. وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْوِزَارَةَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْيَازُورِيُّ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الرَّمْلَةِ اسْمُهَا يَازُورُ، فَأَمَرَتْهُ أَيْضًا بِذَلِكَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَصْلَحَ الْأُمُورَ إِلَى أَنْ قُتِلَ. وَوَزَرَ بَعْدَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ الْبَابِلِيِّ، فَأَمَرَتْهُ بِمَا أَمَرَتْ بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْوُزَرَاءِ مِنْ إِغْرَاءِ الْعَبِيدِ بِالْأَتْرَاكِ، فَفَعَلَ، فَتَغَيَّرَتْ نِيَّاتُهُمْ. ثُمَّ إِنِ الْمُسْتَنْصِرَ رَكِبَ لِيُشَيِّعَ الْحُجَّاجَ، فَأَجْرَى بَعْضُ الْأَتْرَاكِ فَرَسَهُ، فَوَصَلَ بِهِ إِلَى جَمَاعَةِ الْعَبِيدِ الْمُحْدَثِينَ، وَكَانُوا يُحِيطُونَ بِالْمُسْتَنْصِرِ، فَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ فَجَرَحَهُ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْأَتْرَاكِ وَنَشِبَتْ بَيْنَهُمُ الْحَرْبُ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى تَسْلِيمِ الْجَارِحِ إِلَيْهِمْ وَاسْتَحْكَمَتِ الْعَدَاوَةُ، فَقَالَ الْوَزِيرُ لِلْعَبِيدِ: خُذُوا حِذْرَكُمْ، فَاجْتَمَعُوا فِي مَحِلَّتِهِمْ. وَعَرَفَ الْأَتْرَاكُ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعُوا إِلَى مُقَدِّمِيهِمْ، وَقَصَدُوا نَاصِرَ الدَّوْلَةِ بْنَ حَمْدَانَ، وَهُوَ أَكْبَرُ قَائِدٍ بِمِصْرَ، وَشَكَوْا إِلَيْهِ، وَاسْتَمَالُوا الْمَصَامِدَةَ، وَكُتَامَةَ، وَتَعَاهَدُوا، وَتَعَاقَدُوا، فَقَوِيَ الْأَتْرَاكُ، وَضَعُفَ الْعَبِيدُ الْمُحْدَثُونَ، فَخَرَجُوا مِنَ الْقَاهِرَةِ إِلَى الصَّعِيدِ لِيَجْتَمِعُوا هُنَاكَ، فَانْضَافَ إِلَيْهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ يَزِيدُونَ عَلَى خَمْسِينَ أَلْفَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَخَافَ الْأَتْرَاكُ وَشَكَوْا إِلَى الْمُسْتَنْصِرِ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا فَعَلَ الْعَبِيدُ، وَأَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، فَظَنُّوا قَوْلَهُ حِيلَةً عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَرُبَ الْخَبَرُ بِقُرْبِ الْعَبِيدِ مِنْهُمْ بِكَثْرَتِهِمْ، فَأَجْفَلَ الْأَتْرَاكُ وَكُتَامَةُ وَالْمَصَامِدَةُ، وَكَانَتْ عُدَّتُهُمْ سِتَّةَ آلَافٍ، فَالْتَقَوْا بِمَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِكَوْمِ الرِّيشِ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الْأَتْرَاكُ وَمَنْ مَعَهُمْ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ كَمَنَ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ، فَلَمَّا انْهَزَمَ الْأَتْرَاكُ خَرَجَ الْكَمِينُ عَلَى سَاقَةِ الْعَبِيدِ وَمَنْ مَعَهُمْ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ

حَمْلَةً مُنْكَرَةً، وَضُرِبَتِ الْبُوقَاتُ، فَارْتَاعَ الْعَبِيدُ، وَظَنُّوهَا مَكِيدَةً مِنَ الْمُسْتَنْصِرِ، وَأَنَّهُ قَدْ رَكِبَ بَاقِي الْعَسْكَرِ، فَانْهَزَمُوا، وَعَادَ عَلَيْهِمُ الْأَتْرَاكُ وَحَكَّمُوا فِيهِمُ السُّيُوفَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ وَغَرِقَ نَحْوُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَقَوِيَتْ نُفُوسُ الْأَتْرَاكِ، وَعَرَفُوا حُسْنَ رَأْيِ الْمُسْتَنْصِرِ فِيهِمْ، وَتَجَمَّعُوا، وَحَشَدُوا، فَتَضَاعَفَ عُدَّتُهُمْ، وَزَادَتْ وَاجِبَاتُهُمْ لِلْإِنْفَاقِ فِيهِمْ، فَخَلَتِ الْخَزَائِنُ، وَاضْطَرَبَتِ الْأُمُورُ، وَتَجَمَّعَ بَاقِي الْعَسْكَرِ مِنَ الشَّامِ وَغَيْرِهِ إِلَى الصَّعِيدِ، فَاجْتَمَعُوا مَعَ الْعَبِيدِ، فَصَارُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، وَسَارُوا إِلَى الْجِيزَةِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الْأَتْرَاكُ وَمَنْ مَعَهُمْ، وَاقْتَتَلُوا فِي الْمَاءِ عِدَّةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ عَبَرَ الْأَتْرَاكُ النِّيلَ إِلَيْهِمْ مَعَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الْعَبِيدُ إِلَى الصَّعِيدِ، وَعَادَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ وَالْأَتْرَاكُ مَنْصُورِينَ. ثُمَّ إِنَّ الْعَبِيدَ اجْتَمَعُوا بِالصَّعِيدِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَقَلِقَ الْأَتْرَاكُ لِذَلِكَ، فَحَضَرَ مُقَدَّمُوهُمْ دَارَ الْمُسْتَنْصِرِ لِشَكْوَى حَالِهِمْ، فَأَمَرَتْ أُمُّ الْمُسْتَنْصِرِ مَنْ عِنْدِهَا مِنَ الْعَبِيدِ بِالْهُجُومِ عَلَى الْمُقَدَّمِينَ وَالْفَتْكِ بِهِمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَسَمِعَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ الْخَبَرَ، فَهَرَبَ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَاجْتَمَعَ الْأَتْرَاكُ إِلَيْهِ وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَبِيدِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ مِصْرَ، وَالْقَاهِرَةِ، وَحَلَفَ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ عَنْ فَرَسِهِ وَلَا يَذُوقُ طَعَامًا حَتَّى يَنْفَصِلَ الْحَالُ بَيْنَهُمْ، فَبَقِيَتِ الْحَرْبُ ثَلَاثَ أَيَّامٍ، ثُمَّ ظَفِرَ بِهِمْ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَمَنْ سَلِمَ هَرَبَ، وَزَالَتْ دَوْلَتُهُمْ مِنَ الْقَاهِرَةِ. وَكَانَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْعَبِيدِ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ طَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأُمِّنُوا وَأُخِذَتْ مِنْهُمُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ، وَبَقِيَ الْعَبِيدُ الَّذِينَ بِالصَّعِيدِ.

فَلَمَّا خَلَتِ الدَّوْلَةُ لِلْأَتْرَاكِ طَمِعُوا فِي الْمُسْتَنْصِرِ، وَقَلَّ نَامُوسُهُ عِنْدَهُمْ، وَطَلَبُوا الْأَمْوَالَ، فَخَلَتِ الْخَزَائِنُ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَاخْتَلَّ ارْتِفَاعُ الْأَعْمَالِ، وَهُمْ يُطَالِبُونَ، وَاعْتَذَرَ الْمُسْتَنْصِرُ بِعَدَمِ الْأَمْوَالِ عِنْدَهُ، فَطَلَبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ الْعُرُوضَ، فَأُخْرِجَتْ إِلَيْهِمْ، وَقُوِّمَتْ بِالثَّمَنِ الْبَخْسِ، وَصُرِفَتْ إِلَى الْجُنْدِ، قِيلَ إِنَّ وَاجِبَ الْأَتْرَاكِ كَانَ فِي الشَّهْرِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَصَارَ الْآنَ فِي الشَّهْرِ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَأَمَّا الْعَبِيدُ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُمْ أَفْسَدُوا، وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ، وَأَخَافُوا السَّبِيلَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ، فَمَضَى الْعَبِيدُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ إِلَى الصَّعِيدِ الْأَعْلَى، فَأَدْرَكَهُمْ، فَقَاتَلَهُمْ، وَقَاتَلُوهُ، فَانْهَزَمَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ مِنْهُمْ وَعَادَ إِلَى الْجِيزَةِ بِمِصْرَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ سَلِمَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَشَغَبُوا عَلَى الْمُسْتَنْصِرِ. وَاتَّهَمُوهُ بِتَقْوِيَةِ الْعَبِيدِ وَالْمِيلِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ جَهَّزُوا جَيْشًا وَسَيَّرُوهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْعَبِيدِ، فَوَهَنَ الْبَاقُونَ، وَزَالَتْ دَوْلَتُهُمْ. وَعَظُمَ أَمْرُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَتَفَرَّدَ بِالْأَمْرِ دُونَ الْأَتْرَاكِ، فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَعَظُمَ عَلَيْهِمْ، وَفَسَدَتْ نِيَّاتُهُمْ لَهُ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى الْوَزِيرِ، وَقَالُوا: كُلَّمَا خَرَجَ مِنَ الْخَلِيفَةِ مَالٌ أَخَذَ أَكْثَرَهُ لَهُ وَلِحَاشِيَتِهِ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْنَا مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ. فَقَالَ الْوَزِيرُ: إِنَّمَا وَصَلَ إِلَى هَذَا وَغَيْرِهِ بِكُمْ، فَلَوْ فَارَقْتُمُوهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ أَمْرٌ. فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى مُفَارَقَةِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَإِخْرَاجِهِ مِنْ مِصْرَ، فَاجْتَمَعُوا، وَشَكَوْا إِلَى الْمُسْتَنْصِرِ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهُمْ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ، وَيَتَهَدَّدُهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَخَرَجَ مِنَ الْقَاهِرَةِ إِلَى الْجِيزَةِ، وَنُهِبَتْ دَارُهُ وَدُورُ حَوَاشِيهِ وَأَصْحَابِهِ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ دَخَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ مُسْتَخْفِيًا إِلَى الْقَائِدِ الْمَعْرُوفِ بِتَاجِ الْمُلُوكِ شَاذِي، فَقَبَّلَ رِجْلَهُ، وَقَالَ: اصْطَنِعْنِي! فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَحَالَفَهُ عَلَى قَتْلِ مُقَدَّمٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ اسْمُهُ إِلْدِكْز، وَالْوَزِيرُ الْخَطِيرُ، وَقَالَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ لِشَاذِي: تَرْكَبُ فِي أَصْحَابِكَ، وَتَسِيرُ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ، فَإِذَا أَمْكَنَتْكَ فِيهِمَا فَاقْتُلْهُمَا.

وَعَادَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى مَوْضِعِهِ إِلَى الْجِيزَةِ. وَفَعَلَ شَاذِي مَا أَمَرَهُ، فَرَكِبَ إِلْدِكْز إِلَى الْقَصْرِ، فَرَأَى شَاذِي فِي جَمْعِهِ، فَأَنْكَرَهُ وَأَسْرَعَ فَدَخَلَ الْقَصْرَ، فَفَاتَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ الْوَزِيرُ فِي مَوْكِبِهِ، فَقَتَلَهُ شَاذِي، وَأَرْسَلَ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ يَأْمُرُهُ بِالرُّكُوبِ، فَرَكِبَ إِلَى بَابِ الْقَاهِرَةِ، فَقَالَ إِلْدِكْز لِلْمُسْتَنْصِرِ: إِنْ لَمْ تَرْكَبْ، وَإِلَّا هَلَكْتَ أَنْتَ وَنَحْنُ. فَرَكِبَ، وَلَبِسَ سِلَاحَهُ، وَتَبِعَهُ خَلْقٌ عَظِيمٌ مِنَ الْعَامَّةِ وَالْجُنْدِ، وَاصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ، فَحَمَلَ الْأَتْرَاكُ عَلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ فَانْهَزَمَ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَمَضَى مُنْهَزِمًا عَلَى وَجْهِهِ لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ، وَتَبِعَهُ فَلُّ أَصْحَابِهِ، وَمَضَى إِلَى بَنِي سِنْبِسٍ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ وَصَاهَرَهُمْ فَقَوِيَ بِهِمْ. وَتَجَهَّزَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَيْهِ لِيُبْعِدُوهُ، فَسَارُوا حَتَّى قَرُبُوا مِنْهُ، وَكَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ، فَأَرَادَ أَحَدُ الْمُقَدَّمِينَ أَنْ يَفُوزَ بِالظَّفَرِ وَحْدَهُ دُونَ أَصْحَابِهِ، فَعَبَرَ فِيمَنْ مَعَهُ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ فَقَاتَلَهُ، فَظَفِرَ بِهِ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، فَأَخَذَهُ أَسِيرًا، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِي أَصْحَابِهِ، وَعَبَرَ الْعَسْكَرُ الثَّانِي، وَلَمْ يَشْعُرُوا بِمَا جَرَى عَلَى أَصْحَابِهِمْ، فَحَمَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِمْ، وَرَفَعَ رُءُوسَ الْقَتْلَى عَلَى الرِّمَاحِ، فَوَقَعَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَانْهَزَمُوا وَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَقَوِيَتْ نَفْسُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ. وَعَبَرَ الْعَسْكَرُ الثَّالِثُ، فَهَزَمَهُ وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَأَسَرَ مُقَدِّمَهُمْ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ، وَنَهَبَ الرِّيفَ فَأَقْطَعَهُ، وَقَطَعَ الْمِيرَةَ عَنْ مِصْرَ بَرًّا وَبَحْرًا، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِهَا، وَكَثُرَ الْمَوْتُ بِالْجُوعِ، وَامْتَدَّتْ أَيْدِي الْجُنْدِ بِالْقَاهِرَةِ إِلَى النَّهْبِ وَالْقَتْلِ، وَعَظُمَ الْوَبَاءُ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ الْوَاحِدِ كَانُوا يَمُوتُونَ كُلُّهُمْ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَاشْتَدَّ الْغَلَاءُ حَتَّى حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً أَكَلَتْ رَغِيفًا بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَاسْتُبْعِدَ ذَلِكَ، فَقِيلَ: إِنَّهَا بَاعَتْ عُرُوضًا قِيمَتُهَا أَلْفُ دِينَارٍ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، وَاشْتَرَتْ بِهَا حِنْطَةٌ وَحَمَلَهَا الْحَمَّالُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَنُهِبَتِ الْحِنْطَةُ فِي الطَّرِيقِ، فَنَهَبَتْ هِيَ مَعَ النَّاسِ، فَكَانَ الَّذِي حَصَلَ لَهَا مَا عَمِلَتْهُ رَغِيفًا وَاحِدًا. وَقَطَعَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ الطَّرِيقَ بَرًّا وَبَحْرًا، فَهَلَكَ الْعَالَمُ، وَمَاتَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ

الْمُسْتَنْصِرِ، وَتَفَرَّقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَرَاسَلَ الْأَتْرَاكُ مِنَ الْقَاهِرَةِ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ فِي الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ تَاجُ الْمُلُوكِ شَاذِي نَائِبًا عَنْ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بِالْقَاهِرَةِ، يَحْمِلُ الْمَالَ إِلَيْهِ، وَلَا يَبْقَى مَعَهُ لِأَحَدٍ حُكْمٌ. فَلَمَّا دَخَلَ تَاجُ الْمُلُوكِ إِلَى الْقَاهِرَةِ تَغَيَّرَ عَنِ الْقَاعِدَةِ، وَاسْتَبَدَّ بِالْأَمْوَالِ دُونَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ وَلَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِ مِنْهَا شَيْئًا، فَسَارَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْجِيزَةِ، وَاسْتَدْعَى إِلَيْهِ شَاذِي وَغَيْرَهُ مِنْ مُقَدِّمِي الْأَتْرَاكِ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ إِلَّا أَقَلَّهُمْ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ، وَنَهَبَ نَاحِيَتَيْ مِصْرَ، وَأَحْرَقَ كَثِيرًا مِنْهُمَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْمُسْتَنْصِرُ عَسْكَرًا فَكَبَسُوهُ فَانْهَزَمَ مِنْهُمْ وَمَضَى هَارِبًا، فَجَمَعَ جَمْعًا وَعَادَ إِلَيْهِمْ فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ الْمُسْتَنْصِرِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَدِمْيَاطَ، وَكَانَا مَعَهُ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الرِّيفِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَاذَ يَطْلُبُ خِلَعًا لِيَخْطُبَ لَهُ بِمِصْرَ. وَاضْمَحَلَّ أَمْرُ الْمُسْتَنْصِرِ، وَبَطَلَ ذِكْرُهُ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ مِنَ الْقَاهِرَةِ وَأَرْسَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِ أَيْضًا يَطْلُبُ الْمَالَ، فَرَآهُ الرَّسُولُ جَالِسًا عَلَى حَصِيرٍ، وَلَيْسَ حَوْلَهُ غَيْرُ ثَلَاثَةِ خَدَمٍ، وَلَمْ يَرَ الرَّسُولُ شَيْئًا مِنْ آثَارِ الْمَمْلَكَةِ، فَلَمَّا أَدَّى الرِّسَالَةَ قَالَ: أَمَا يَكْفِي نَاصِرَ الدَّوْلَةِ أَنْ أَجْلِسَ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَيْتِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَصِيرِ؟ فَبَكَى الرَّسُولُ وَعَادَ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَأَجْرَى لَهُ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ دِينَارٍ، وَعَادَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَحَكَمَ فِيهَا، وَأَذَلَّ السُّلْطَانَ وَأَصْحَابَهُ. وَكَانَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ التَّسَنُّنَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ، وَيَعِيبُ الْمُسْتَنْصِرَ، وَكَانَ الْمَغَارِبَةُ كَذَلِكَ فَأَعَانُوهُ عَلَى مَا أَرَادَ، وَقَبَضَ عَلَى أُمِّ الْمُسْتَنْصِرِ، وَصَادَرَهَا بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَتَفَرَّقَ عَنِ الْمُسْتَنْصِرِ أَوْلَادُهُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهِ إِلَى الْغَرْبِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْبِلَادِ، فَمَاتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ جُوعًا.

وَانْقَضَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ [وَأَرْبَعُمِائَةٍ] وَمَا قَبْلَهَا بِالْفِتَنِ. وَانْحَطَّ السِّعْرُ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ، وَبَالَغَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ فِي إِهَانَةِ الْمُسْتَنْصِرِ، وَفَرَّقَ عَنْهُ عَامَّةَ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: إِنَّنِي أُرِيدُ أَنْ أُوَلِّيَكَ عَمَلَ كَذَا، فَيَسِيرُ إِلَيْهِ فَلَا يُمَكِّنُهُ مِنَ الْعَمَلِ وَيَمْنَعُهُ مِنَ الْعَوْدِ، وَكَانَ غَرَضُهُ بِذَلِكَ (أَنْ يَخْطُبَ) لِلْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ مَعَ وُجُودِهِمْ، فَفَطِنَ لِفِعْلِهِ قَائِدٌ كَبِيرٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ اسْمُهُ إِلْدِكْز، وَعَلِمَ أَنَّهُ مَتَى مَا تَمَّ مَا أَرَادَ تَمَكَّنَ مِنْهُ وَمِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَطْلَعَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَهُ مِنْ قُوَّادِ الْأَتْرَاكِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، (وَكَانَ قَدْ أَمِنَ لِقُوَّتِهِ، وَعَدَمِ عَدُوِّهِ) ، فَتَوَاعَدُوا لَيْلَةً عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ سَحَرُ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَوَاعَدُوا فِيهَا عَلَى قَتْلِهِ جَاءُوا إِلَى بَابِ دَارِهِ، وَهِيَ (الَّتِي تُعْرَفُ بِمَنَازِلِ الْعِزِّ، وَهِيَ) عَلَى النِّيلِ، فَدَخَلُوا، مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ إِلَى صَحْنِ دَارِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ فِي رِدَاءٍ لِأَنَّهُ كَانَ آمِنًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ ضَرَبُوهُ بِالسُّيُوفِ، فَسَبَّهُمْ، وَهَرَبَ مِنْهُمْ، يُرِيدُ الْحَرَمَ، فَلَحِقُوهُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا رَأْسَهُ. وَمَضَى رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُعْرَفُ بِكَوْكَبِ الدَّوْلَةِ، إِلَى فَخْرِ الْعَرَبِ، أَخِي نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ فَخْرُ الْعَرَبِ كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِلْحَاجِبِ: اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى فَخْرِ الْعَرَبِ، وَقُلْ صَنِيعَتُكَ فُلَانٌ عَلَى الْبَابِ، فَاسْتَأْذَنَ لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ وَقَالَ: لَعَلَّهُ قَدْ دَهَمَهُ أَمْرٌ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَسْرَعَ نَحْوَهُ كَأَنَّهُ يُرِيدُ السَّلَامَ عَلَيْهِ، وَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى كَتِفِهِ، فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، فَقَطَعَ رَأْسَهُ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ، وَكَانَ ذَا قِيمَةٍ وَافِرَةٍ، وَأَخَذَ جَارِيَةً لَهُ أَرْدَفَهَا خَلْفَهُ، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَقُتِلَ أَخُوهُمَا تَاجُ الْمَعَالِي، وَانْقَطَعَ ذِكْرُ الْحَمْدَانِيَّةِ بِمِصْرَ بِالْكُلِّيَّةِ. فَلَمَّا كَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَلِيَ الْأَمْرَ بِمِصْرَ بَدْرٌ الْجَمَّالِيُّ، أَمِيرُ

الْجُيُوشِ، وَقَتَلَ إِلْدِكْزَ وَالْوَزِيرَ ابْنَ كُدَيْنَةَ، وَجَمَاعَةً مِنَ الْمَسْلَحِيَّةِ، وَتَمَكَّنَ مِنَ الدَّوْلَةِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْأَفْضَلُ وَسَيَرِدُ ذِكْرُهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عَدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ أُقِيمَتِ الدَّعْوَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ لَيْثُ بْنُ مَنْصُورٍ صَدَقَةَ بْنِ الْحُسَيْنِ بِالدَّامَغَانِ، وَالشَّرِيفُ أَبُو الْغَنَائِمِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَأْمُونِ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي شَوَّالٍ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ عَالِيَ الْإِسْنَادِ فِي الْحَدِيثِ. وَفِيهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ الشَّرِيفُ أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ [مُحَمَّدِ بْنِ] (عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ) عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ

الْغَرِيقِ، وَكَانَ يُسَمَّى رَاهِبَ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَابْنِ شَاهِينَ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ مَوْتُهُ بِبَغْدَاذَ. وَفِيهَا قُتِلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ بِمِصْرَ، قَتَلَهُ إِلْدِكْزُ التُّرْكِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ الْقُشَيْرِيُّ، النَّيْسَابُورِيُّ، مُصَنِّفُ " الرِّسَالَةِ " وَغَيْرِهَا، وَكَانَ إِمَامًا، فَقِيهًا، أُصُولِيًّا، مُفَسِّرًا، كَاتِبًا، ذَا فَضَائِلَ جَمَّةٍ، وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ قَدْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ، فَرَكِبَهُ نَحْوَ عِشْرِينَ سَنَةً، فَلَمَّا مَاتَ الشَّيْخُ لَمْ يَأْكُلِ الْفَرَسُ شَيْئًا فَعَاشَ أُسْبُوعًا وَمَاتَ. وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْفَضْلِ أَبُو مَنْصُورٍ، الْكَاتِبُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ صُرَّبَعْرَ، وَكَانَ نِظَامُ الْمُلْكِ قَالَ لَهُ أَنْتَ ابْنُ صُرَّدُرَّ لَا صُرَّبَعْرَ، فَبَقِيَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمُجِيدِينَ، وَهَجَاهُ ابْنُ الْبَيَاضِيِّ فَقَالَ: لَئِنْ نَبَزَ النَّاسُ قِدَمًا أَبَاكَ ... فَسَمَّوْهُ مِنْ شَعْرِهِ صُرَّ بَعْرَا فَإِنَّكَ تُنْظِمُ مَا صَرَّهُ عُقُوقًا ... لَهُ، وَتُسَمِّيهِ شِعْرَا وَهَذَا ظُلْمٌ مِنِ ابْنِ الْبَيَاضِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ شَاعِرًا مُحْسِنًا، وَمِنْ شِعْرِ ابْنِ صُرَّدُرَّ قَوْلُهُ: تَزَاوَرْنَ عَنْ أَذَرِعَاتٍ يَمِينًا ... نَوَاشِزَ لَيْسَ يُطِقْنَ الْبُرِينَا

كَلِفْنَ بِنَجْدٍ، كَأَنَّ الرِّيَاضَ أَخَذْنَ لِنَجْدٍ عَلَيْهَا يَمِينًا ... وَأَقْسَمْنَ يَحْمِلْنَ إِلَّا نَحِيلًا إِلَيْهِ وَيُبْلِغْنَ إِلَّا حَزِينًا ... فَلَمَّا اسْتَمَعْنَ زَفِيرَ الْمَشُوقِ ، وَنَوْحَ الْحَمَامِ، تَرَكْنَ الْحَنِينَا إِذَا جِئْتُمَا بَانَةَ الْوَادِيَيْنِ ، فَأَرْخُوا النُّسُوعَ، وَحُلُّوا الْوَضِينَا ... فَثَمَّ عَلَائِقُ مِنْ أَجْلِهِنَّ ، مُلَاءُ الدُّجَى وَالضُّحَى قَدْ طُوِينَا وَقَدْ أَنْبَأَتْهُمْ مِيَاهُ الْجُفُونِ ... بِأَنَّ بِقَلْبِكِ دَاءً دَفِينَا.

ثم دخلت سنة ست وستين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 466 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ تَقْلِيدِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ السَّلْطَنَةَ وَالْخَلْعِ عَلَيْهِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، وَرَدَ كُوهَرَائِينُ إِلَى بَغْدَاذَ مِنْ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ، وَجَلَسَ لَهُ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَوَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ وَلِيُّ الْعَهْدِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، وَسَلَّمَ الْخَلِيفَةُ إِلَى كُوهَرَائِينَ عَهْدَ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ بِالسَّلْطَنَةِ، وَقَرَأَ الْوَزِيرُ أَوَّلَهُ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ أَيْضًا لِوَاءً عَقَدَهُ الْخَلِيفَةُ بِيَدِهِ، وَلَمْ يُمْنَعْ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَامْتَلَأَ صَحْنُ السَّلَامِ بِالْعَامَّةِ، حَتَّى كَانَ الْإِنْسَانُ تُهِمُّهُ نَفْسُهُ لِيَتَخَلَّصَ، وَهَنَّأَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامَةِ. ذِكْرُ غَرْقِ بَغْدَاذَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَرِقَ الْجَانِبُ الشَّرْقِيُّ وَبَعْضُ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَاذَ. وَسَبَبُهُ أَنَّ دِجْلَةَ زَادَتْ زِيَادَةً عَظِيمَةً، وَانْفَتَحَ الْقَوْرَجُ عِنْدَ الْمُسَنَّاةِ الْمُعِزِّيَّةِ، وَجَاءَ فِي اللَّيْلِ سَيْلٌ عَظِيمٌ، وَطَفَحَ الْمَاءُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ مَعَ رِيحٍ شَدِيدَةٍ، وَجَاءَ الْمَاءُ إِلَى الْمَنَازِلِ مِنْ فَوْقَ، وَنَبَعَ مِنَ الْبَلَالِيعِ وَالْآبَارِ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ تَحْتَ الْهَدْمِ، وَشُدَّتِ الزَّوَارِيقُ تَحْتَ التَّاجِ خَوْفَ الْغَرَقِ. وَقَامَ الْخَلِيفَةُ يَتَضَرَّعُ وَيُصَلِّي، وَعَلَيْهِ الْبُرْدَةُ، وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، وَأَتَى أَيْتِكِينُ السُّلَيْمَانِيُّ مِنْ عُكْبَرَا، فَقَالَ لِلْوَزِيرِ: إِنَّ الْمَلَّاحِينَ يُؤْذُونَ النَّاسَ فِي الْمَعَابِرِ، فَأَحْضَرَهُمْ، وَتَهَدَّدَهُمْ بِالْقَتْلِ، وَأَمَرَ بِأَخْذِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. وَجَمَعَ النَّاسَ، وَأُقِيمَتِ الْخُطْبَةُ لِلْجُمُعَةِ فِي الطَّيَّارِ مَرَّتَيْنِ، وَغَرِقَ مِنَ الْجَانِبِ

الْغَرْبِيِّ مَقْبَرَةُ أَحْمَدَ، وَمَشْهَدُ بَابِ التِّبْنِ، وَتَهَدَّمَ سُورُهُ، فَأَطْلَقَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ أَلْفَ دِينَارٍ تُصْرَفُ فِي عِمَارَتِهِ، وَدَخَلَ الْمَاءُ مِنْ شَبَابِيكِ الْبِيمَارِسْتَانِ الْعَضُدِيِّ. وَمِنْ عَجِيبِ مَا يُحْكَى فِي هَذَا الْغَرَقِ أَنَّ النَّاسَ، فِي الْعَامِ الْمَاضِي، كَانُوا قَدْ أَنْكَرُوا كَثْرَةَ الْمُغَنِّيَاتِ وَالْخُمُورِ، فَقَطَعَ بَعْضُهُمْ أَوْتَارَ عُودِ مُغَنِّيَةٍ كَانَتْ عِنْدَ جُنْدِيٍّ، فَثَارَ بِهِ الْجُنْدِيُّ الَّذِي كَانَتْ عِنْدَهُ، فَضَرَبَهُ فَاجْتَمَعَتِ الْعَامَّةُ وَمَعَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَاسْتَغَاثُوا بِالْخَلِيفَةِ وَطَلَبُوا هَدْمَ الْمَوَاخِيرِ وَالْحَانَاتِ وَتَبْطِيلَهَا، فَوَعَدَهُمْ أَنْ يُكَاتِبَ السُّلْطَانَ فِي ذَلِكَ، فَسَكَنُوا وَتَفَرَّقُوا. وَلَازَمَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّالِحِينَ الدُّعَاءَ بِكَشْفِهِ، فَاتَّفَقَ أَنْ غَرِقَتْ بَغْدَاذُ، وَنَالَ الْخَلِيفَةُ وَالْجُنْدُ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَعَمَّتْ مُصِيبَتُهُ النَّاسَ كَافَّةً، فَرَأَى الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي مُوسَى بَعْضَ الْحُجَّابِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: نَحْنُ نُكَاتِبُ السُّلْطَانَ، وَنَسْعَى فِي تَفْرِيقِ النَّاسِ، وَيَقُولُ: اسْكُنُوا إِلَى أَنْ يَرِدَ الْجَوَابُ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ كَتَبْنَا، وَكَتَبْتُمْ، فَجَاءَ جَوَابُنَا قَبْلَ جَوَابِكُمْ، يَعْنِي أَنَّهُمْ شَكَوْا مَا حَلَّ بِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَجَابَهُمْ بِالْغَرَقِ، قَبْلَ وُرُودِ جَوَابِ السُّلْطَانِ. ذِكْرُ مُلْكِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ تِرْمِذَ وَالْهُدْنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ سَمَرْقَنْدَ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ خَاقَانَ أَلْتَكِينَ صَاحِبَ سَمَرْقَنْدَ مَلَكَ تِرْمِذَ بَعْدَ قَتْلِ السُّلْطَانِ أَلْب أَرْسَلَانَ، فَلَمَّا اسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ لِلسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ سَارَ إِلَى تِرْمِذَ وَحَصَرَهَا، وَطَمَّ

الْعَسْكَرُ خَنْدَقَهَا، وَرَمَاهَا بِالْمَجَانِيقِ، فَخَافَ مَنْ بِهَا، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَخَرَجُوا مِنْهَا وَسَلَّمُوهَا. وَكَانَ بِهَا أَخٌ لِخَاقَانَ أَلْتَكِينَ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ (وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ) وَأَطْلَقَهُ، وَسَلَّمَ قَلْعَةَ تِرْمِذَ إِلَى الْأَمِيرِ سَاوْتَكِينَ، وَأَمَرَهُ بِعَمَارَتِهَا وَتَحْصِينِهَا وَعِمَارَةِ سُورِهَا بِالْحَجَرِ الْمُحْكَمِ، وَحَفْرِ خَنْدَقِهَا وَتَعْمِيقِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. وَسَارَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ يُرِيدُ سَمَرْقَنْدَ، فَفَارَقَهَا صَاحِبُهَا، وَأَنْفَذَ يَطْلُبُ الْمُصَالَحَةَ، وَيَضْرَعُ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ فِي إِجَابَتِهِ إِلَى ذَلِكَ، وَيَعْتَذِرُ مِنْ تَعَرُّضِهِ إِلَى تِرْمِذَ، فَأُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ، وَاصْطَلَحُوا، وَعَادَ مَلِكْشَاهْ عَنْهُ إِلَى خُرَاسَانَ، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى الرَّيِّ، وَأَقْطَعَ بَلْخَ وَطَخَارِسْتَانَ لِأَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ تُكَشَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. [الْوَفَيَاتُ] فِيهَا تُوُفِّيَ زَعِيمُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ بِالنِّيلِ فَجْأَةً، وَلَهُ سَبْعُونَ سَنَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِيَازُ أَخُو السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَكُفِيَ شَرُّهُ كَمَا كُفِيَ شَرُّ عَمِّهِ قَاوَرْتَ بِكْ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيُّ

حَمُو قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيِّ، وَوَلِيَ ابْنُهُ أَبُو الْحَسَنِ مَا كَانَ إِلَيْهِ مِنَ الْقَضَاءِ بِالْعِرَاقِ وَالْمَوْصِلِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ بِسِمْنَانَ، وَكَانَ هُوَ وَأَبُوهُ مِنَ الْمُغَالِينَ فِي مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ، وَلِأَبِيهِ فِيهِ تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ، وَهَذَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ أَنْ يَكُونَ حَنَفِيٌّ أَشْعَرِيًّا. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ عَبْدُ الْعَزِيزِ [بْنُ] أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْكَتَّانِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، الْحَافِظُ وَكَانَ مُكْثِرًا فِي الْحَدِيثِ، ثِقَةً، وَمِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَاذِيُّ.

ثم دخلت سنة سبع وستين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 467 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، لَيْلَةَ الْخَمِيسِ ثَالِثَ عَشَرَ شَعْبَانَ، تُوُفِّيَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَادِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَمِيرِ إِسْحَاقَ بْنِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ. وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُ شَرَى، فَافْتَصَدَ، وَنَامَ مُنْفَرِدًا، فَانْفَجَرَ فَصَادُهُ، وَخَرَجَ مِنْهُ دَمٌ كَثِيرٌ وَلَمْ يَشْعُرْ، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ضَعُفَ وَسَقَطَتْ قُوَّتُهُ، فَأَيْقَنَ بِالْمَوْتِ، فَأَحْضَرَ وَلِيَّ الْعَهْدِ، وَوَصَّاهُ بِوَصَايَا، وَأَحْضَرَ النَّقِيبَيْنِ وَقَاضِيَ الْقُضَاةِ وَغَيْرَهُمْ مَعَ الْوَزِيرِ ابْنِ جَهِيرٍ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ جَعَلَ ابْنَ ابْنِهِ أَبَا الْقَاسِمِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَلِيَّ عَهْدِهِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ غَسَّلَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيُّ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ. وَكَانَ عُمْرُهُ سِتًّا وَسَبْعِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَخِلَافَتُهُ أَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَقِيلَ كَانَ مَوْلِدُهُ ثَامِنَ عَشَرَ ذِي

الْحِجَّةِ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، (وَعَلَى هَذَا يَكُونُ عُمْرُهُ سِتًّا وَسَبْعِينَ سَنَةً وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ تُسَمَّى قَطْرَ النَّدَى، أَرْمَنِيَّةٌ، وَقِيلَ رُومِيَّةٌ، أَدْرَكَتْ خِلَافَتَهُ، وَقِيلَ اسْمُهَا عَلَمُ. وَمَاتَتْ فِي رَجَبٍ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَكَانَ الْقَائِمُ جَمِيلًا، مَلِيحَ الْوَجْهِ، أَبْيَضَ، مُشْرَبًا حُمْرَةً، حَسَنَ الْجِسْمِ، وَرِعًا، دَيِّنًا، زَاهِدًا، عَالِمًا قَوِيَّ الْيَقِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، كَثِيرَ الصَّبْرِ، وَكَانَ لِلْقَائِمِ عِنَايَةٌ بِالْأَدَبِ، وَمَعْرِفَةٌ حَسَنَةٌ بِالْكِتَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَرْتَضِي أَكْثَرَ مَا يُكْتَبُ مِنَ الدِّيوَانِ، فَكَانَ يُصْلِحُ فِيهِ أَشْيَاءَ، وَكَانَ مُؤْثِرًا لِلْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ يُرِيدُ قَضَاءَ حَوَائِجِ النَّاسِ، لَا يَرَى الْمَنْعَ مِنْ شَيْءٍ يُطْلَبُ مِنْهُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَامِرٍ الْوَكِيلُ: دَخَلْتُ يَوْمًا إِلَى الْمَخْزَنِ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا أَعْطَانِي قَصَّةً، فَامْتَلَأَتْ أَكْمَامِي مِنْهَا، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ كَانَ الْخَلِيفَةُ أَخِي لَأَعْرَضَ عَنْ هَذِهِ كُلِّهَا، فَأَلْقَيْتُهَا فِي بِرْكَةٍ، وَالْقَائِمُ يَنْظُرُ وَلَا أَشْعُرُ، فَلَمَّا دَخَلْتُ إِلَيْهِ أَمَرَ الْخَدَمِ بِإِخْرَاجِ الرِّقَاعِ مِنَ الْبِرْكَةِ، فَأُخْرِجَتْ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا، وَوَقَعَ فِيهَا بِأَغْرَاضِ أَصْحَابِهَا، ثُمَّ قَالَ لِي: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقُلْتُ: خَوْفَ الضَّجَرِ مِنْهَا، فَقَالَ: لَا تَعُدْ إِلَى مِثْلِهَا! فَإِنَّا مَا أَعْطَيْنَاهُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا شَيْئًا، إِنَّمَا نَحْنُ وُكَلَاءُ. وَوَزَرَ لِلْقَائِمِ أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، وَأَبُو الْفَتْحِ بْنُ دَارَسَتْ، وَرَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ، وَأَبُو نَصْرِ بْنُ جَهِيرٍ، وَكَانَ قَاضِيَهُ ابْنُ مَاكُولَا، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيُّ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ. لَمَّا تُوُفِّيَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ بُويِعَ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَائِمِ بِالْخِلَافَةِ، وَحَضَرَ مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَالْوَزِيرُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ وَابْنُهُ

عَمِيدُ الدَّوْلَةِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ، وَنَقِيبُ النُّقَبَاءِ طِرَادٌ، وَالنَّقِيبُ الطَّاهِرُ الْمُعَمِّرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيُّ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَمَاثِلِ، فَبَايَعُوهُ. وَقِيلَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ بَايَعَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيُّ، فَإِنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ غَسْلِ الْقَائِمِ بَايَعَهُ، وَأَنْشَدَهُ: إِذَا سَيِّدٌ مِنَّا مَضَى قَامَ سَيِّدٌ ثُمَّ أُرْتِجَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْمُقْتَدِي: قَئُولٌ بِمَا قَالَ الْكِرَامُ فَعُولُ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الْبَيْعَةِ صَلَّى بِهِمُ الْعَصْرَ. وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَائِمِ مِنْ أَعْقَابِهِ ذَكَرٌ سِوَاهُ، فَإِنَّ الذَّخِيرَةَ أَبَا الْعَبَّاسِ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَائِمِ تُوُفِّيَ أَيَّامَ أَبِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُ، فَأَيْقَنَ النَّاسُ بِانْقِرَاضِ نَسْلِهِ، وَانْتِقَالِ الْخِلَافَةِ مِنَ الْبَيْتِ الْقَادِرِيِّ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَمْ يَشُكُّوا فِي اخْتِلَالِ الْأَحْوَالِ بَعْدَ الْقَائِمِ، لِأَنَّ مَنْ عَدَا الْبَيْتِ الْقَادِرِيِّ كَانُوا يُخَالِطُونَ الْعَامَّةَ فِي الْبَلَدِ، وَيَجْرُونَ مَجْرَى السُّوقَةِ، فَلَوِ اضْطَرَّ النَّاسُ إِلَى خِلَافَةِ أَحَدِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ الْقَبُولُ، وَلَا تِلْكَ الْهَيْبَةُ، فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الذَّخِيرَةَ أَبَا الْعَبَّاسِ كَانَ لَهُ جَارِيَةً اسْمُهَا أُرْجُوَانُ، وَكَانَ يُلِمُّ بِهَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَرَأَتْ مَا نَالَ الْقَائِمَ مِنَ الْمُصِيبَةِ وَاسْتَعْظَمَهُ مِنِ انْقِرَاضِ عَقِبِهِ، ذَكَرَتْ أَنَّهَا حَامِلٌ، فَتَعَلَّقَتِ النُّفُوسُ بِذَلِكَ، فَوَلَدَتْ بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ الْمُقْتَدِي، فَاشْتَدَّ فَرَحُ الْقَائِمِ، وَعَظُمَ سُرُورُهُ وَبَالَغَ [فِي] الْإِشْفَاقِ عَلَيْهِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ. فَلَمَّا كَانَتْ حَادِثَةُ الْبَسَاسِيرِيِّ كَانَ لِلْمُقْتَدِي قَرِيبُ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَأَخْفَاهُ أَهْلُهُ، وَحَمْلَهُ أَبُو الْغَنَائِمِ بْنُ الْمَحْلَبَانِ إِلَى حَرَّانَ، كَمَا ذَكَرْنَا وَلَمَّا عَادَ الْقَائِمُ إِلَى بَغْدَاذَ أُعِيدَ الْمُقْتَدِي إِلَيْهِ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحُلُمَ جَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدٍ، وَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ أَقَرَّ فَخْرَ الدَّوْلَةِ

بْنَ جَهِيرٍ عَلَى وِزَارَتِهِ بِوَصِيَّةٍ مِنَ الْقَائِمِ بِذَلِكَ، وَسَيَّرَ عَمِيدَ الدَّوْلَةِ بْنَ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ إِلَى السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ لِأَخْذِ الْبَيْعَةِ، وَكَانَ مَسِيرُهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْهَدَايَا مَا يَجِلُّ عَنِ الْوَصْفِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، وَقَعَتْ نَارٌ بِبَغْدَاذَ فِي دُكَّانِ خَبَّازٍ بِنَهْرِ الْمُعَلَّى، فَاحْتَرَقَتْ مِنَ السُّوقِ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ دُكَّانًا سِوَى الدُّورِ، ثُمَّ وَقَعَتْ نَارٌ فِي الْمَأْمُونِيَّةِ، ثُمَّ فِي الظَّفَرِيَّةِ، ثُمَّ فِي دَرْبِ الْمَطْبَخِ، ثُمَّ فِي دَارِ الْخَلِيفَةِ، ثُمَّ فِي حَمَّامِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، ثُمَّ فِي بَابِ الْأَزَجِ وَدَرْبِ خُرَاسَانَ، ثُمَّ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ فِي نَهْرِ طَابِقٍ، وَنَهْرِ الْقَلَّائِينَ، وَالْقَطِيعَةِ، وَبَابِ الْبَصْرَةِ، وَاحْتَرَقَ مَا لَا يُحْصَى. وَفِيهَا أَرْسَلَ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ مِصْرَ، إِلَى صَاحِبِ مَكَّةَ ابْنِ أَبِي هَاشِمٍ رِسَالَةً وَهَدِيَّةً جَلِيَّةً، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعِيدَ الْخُطْبَةَ بِمَكَّةَ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ: إِنَّ أَيْمَانَكَ وَعُهُودَكَ كَانَتْ لِلْقَائِمِ، وَلِلسُّلْطَانِ أَلْب أَرْسَلَانَ، وَقَدْ مَاتَا، فَخَطَبَ لَهُ بِمَكَّةَ وَقَطَعَ خُطْبَةَ الْمُقْتَدِي، وَكَانَتْ مُدَّةُ الْخُطْبَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ بِمَكَّةَ أَرْبَعَ سِنِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ أُعِيدَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] .

وَفِيهَا كَانَتِ الْحَرْبُ شَدِيدَةٌ بَيْنَ بَنِي رِيَاحٍ وَزُغْبَةَ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَقَوِيَتْ بَنُو رِيَاحٍ عَلَى زُغْبَةَ فَهَزَمُوهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ عَنِ الْبِلَادِ. وَفِيهَا جَمَعَ نِظَامُ الْمُلْكِ، وَالسُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ، جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ الْمُنَجِّمِينَ، وَجَعَلُوا النَّيْرُوزَ أَوَّلَ نُقْطَةٍ مِنَ الْحَمَلِ، وَكَانَ النَّيْرُوزُ قَبْلَ ذَلِكَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّمْسِ نِصْفَ الْحُوتِ. وَصَارَ مَا فَعَلَهُ السُّلْطَانُ مَبْدَأَ التَّقَاوِيمِ. وَفِيهَا أَيْضًا عُمِلَ الرَّصْدُ لِلسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَاجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْمُنَجِّمِينَ فِي عَمَلِهِ مِنْهُمْ: عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْخَيَّامِيُّ، وَأَبُو الْمُظَفَّرِ الْإِسْفَزَارِيُّ وَمَيْمُونُ بْنُ النَّجِيبِ الْوَاسِطِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَخَرَجَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، وَبَقِيَ الرَّصْدُ دَائِرًا إِلَى أَنْ مَاتَ السُّلْطَانُ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَبَطَلَ (بَعْدَ مَوْتِهِ) .

ثم دخلت سنة ثمان وستين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 468 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ مِلْكِ أَقْسِيسْ دِمَشْقَ. قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] مِلْكَ أَقْسِيسَ الرَّمْلَةَ، وَالْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، وَحَصْرَهُ مَدِينَةَ دِمَشْقَ، فَلَمَّا عَادَ عَنْهَا جَعَلَ يَقْصِدُ أَعْمَالَهَا كُلَّ سَنَةٍ عِنْدَ إِدْرَاكِ الْغَلَّاتِ فَيَأْخُذُهَا، فَيَقْوَى هُوَ وَعَسْكَرُهُ، وَيَضْعُفُ أَهْلُ دِمَشْقَ وَجُنْدُهَا، فَلَمَّا كَانَ رَمَضَانُ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ فَحَصَرَهَا. وَأَمِيرُهَا الْمُعَلَّى بْنُ حَيْدَرَةَ مِنْ قِبَلِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْصِرِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفَ عَنْهَا فِي شَوَّالٍ، فَهَرَبَ أَمِيرُهَا الْمُعَلَّى فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَكَانَ سَبَبُ هَرَبِهِ أَنَّهُ أَسَاءَ السِّيرَةَ مَعَ الْجُنْدِ وَالرَّعِيَّةِ وَظَلَمَهُمْ، فَكَثُرَ الدُّعَاءُ عَلَيْهِ، وَثَارَ بِهِ الْعَسْكَرُ، وَأَعَانَهُمُ الْعَامَّةُ، فَهَرَبَ مِنْهَا إِلَى بَانْيَاسَ، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى صُورَ، ثُمَّ أُخِذَ إِلَى مِصْرَ فَحُبِسَ بِهَا، فَمَاتَ مَحْبُوسًا. فَلَمَّا هَرَبَ مِنْ دِمَشْقَ اجْتَمَعَتِ الْمَصَامِدَةُ، وَوَلَّوْا عَلَيْهِمُ انْتِصَارَ بْنَ يَحْيَى الْمَصْمُودِيَّ، الْمَعْرُوفُ بِرَزِينِ الدَّوْلَةِ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِهَا حَتَّى أَكَلَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا. وَوَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ الْمَصَامِدَةِ وَأَحْدَاثِ الْبَلَدِ، وَعَرَفَ أَقْسِيسْ ذَلِكَ، فَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَحَصَرَهَا، فَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ، فَبِيعَتِ الْغِرَارَةُ، إِذَا وُجِدَتْ، بِأَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا، فَسَلَّمُوهَا إِلَيْهِ بِأَمَانٍ، (وَعُوِّضَ انْتِصَارٌ عَنْهَا بِقَلْعَةِ بَانْيَاسَ، وَمَدِينَةِ يَافَا مِنَ السَّاحِلِ) ، وَدَخَلَهَا هُوَ وَعَسْكَرُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ،

وَخَطَبَ بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، لِلْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ الْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ، وَكَانَ آخِرُ مَا خُطِبَ فِيهَا لِلْعَلَوِيِّينَ الْمِصْرِيِّينَ، وَتَغَلَّبَ عَلَى أَكْثَرِ الشَّامِ، وَمَنَعَ الْأَذَانَ بِحَيِّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، فَفَرِحَ أَهْلُهَا فَرَحًا عَظِيمًا، وَظَلَمَ أَهْلَهَا، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِيهِمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ نَصْرُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مِرْدَاسٍ مَدِينَةَ مَنْبِجَ وَأَخَذَهَا مِنَ الرُّومِ. وَفِيهَا قَدِمَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوهَرَائِينْ شِحْنَةً إِلَى بَغْدَاذَ مِنْ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ، وَمَعَهُ الْعَمِيدُ أَبُو نَصْرٍ نَاظِرًا فِي أَعْمَالِ بَغْدَاذَ. وَفِيهَا وَثَبَ الْجُنْدُ بِالْبَطِيحَةِ عَلَى أَمِيرِهَا أَبِي نَصْرِ بْنِ الْهَيْثَمِ، وَخَالَفُوا عَلَيْهِ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ، وَخَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ وَالذَّخَائِرِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي جَمَعَهَا فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، وَلَمْ يَصْحَبْهُ مِنْ ذَلِكَ جَمِيعِهِ شَيْءٌ، وَصَارَ نَزِيلًا عَلَى كُوهَرَائِينَ شِحْنَةِ الْعِرَاقِ. وَفِيهَا انْفَجَرَ الْبُثُوقُ بِالْفَلُّوجَةِ، وَانْقَطَعَ الْمَاءُ مِنَ النِّيلِ وَغَيْرِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ بِلَادِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ، فَجَلَا أَهْلُ الْبِلَادِ، وَوَقَعَ الْوَبَاءُ فِيهِمْ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ سَدَّهُ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَقْرِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِغُلَامِ الْهَرَّاسِ الْوَاسِطِيُّ، بِهَا، وَكَانَ مُحَدِّثًا عَلَّامَةً فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ.

وَفِي شَعْبَانَ تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْبَيْضَاوِيِّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ يُدَرِّسُ الْفِقْهَ بِدَرْبِ السَّلُولِيِّ بِالْكَرْخِ، وَهُوَ زَوْجُ ابْنَةِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الدَّاوُدِيُّ. رَاوِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ لِلشَّافِعِيِّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ، وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَصَحِبَ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ، وَأَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ، وَكَانَ عَابِدًا خَيِّرًا، فَقَصَدَهُ نِظَامُ الْمُلْكِ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَوَعَظَهُ، وَكَانَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّطَكَ عَلَى عِبَادِهِ فَانْظُرْ كَيْفَ تُجِيبُهُ إِذَا سَأَلَكَ عَنْهُمْ، فَبَكَى. وَكَانَ مَوْتُهُ بِبُوشَنْجَ. (وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَتُّوَيْهِ الْوَاحِدِيُّ الْمُفَسِّرُ، مُصَنِّفُ " الْوَسِيطِ "، " وَالْبَسِيطِ "، " وَالْوَجِيزِ "، فِي التَّفْسِيرِ، وَهُوَ نَيْسَابُورِيٌّ، إِمَامٌ) مَشْهُورٌ، وَأَبُو الْفَتْحِ مَنْصُورُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ دَارَسَتْ، وَزِيرُ الْقَائِمِ، تُوُفِّيَ بِالْأَهْوَازِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدُوسٍ أَبُو بَكْرٍ الصَّفَّارُ النَّيْسَابُورِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ، وَسَمِعَ مِنَ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ وَغَيْرِهِمَا.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَسْعُودُ بْنُ الْمُحْسِنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَيَاضِيُّ الشَّاعِرُ، لَهُ شِعْرٌ مَطْبُوعٌ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ: يَا مَنْ لَبِسْتُ لِبُعْدِهِ ثَوْبَ الضَّنَى ... حَتَّى خَفِيتُ بِهِ عَنِ الْعُوَّادِ وَأَنِسْتُ بِالسَّهَرِ الطَّوِيلِ، فَأُنْسِيَتْ ... أَجْفَانُ عَيْنِي كَيْفَ كَانَ رُقَادِي إِنْ كَانَ يُوسُفُ بِالْجَمَالِ مُقَطِّعَ الْ ... أَيْدِي، فَأَنْتَ مُفَتِّتُ الْأَكْبَادِ

ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 469 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ حَصْرِ أَقْسِيسْ مِصْرَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا. فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ أَقْسِيسْ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى مِصْرَ، وَحَصَرَهَا، وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا، وَلَمْ يَبْقَ غَيْرَ أَنْ يَمْلِكَهَا، فَاجْتَمَعَ أَهْلُهَا مَعَ ابْنِ الْجَوْهَرِيِّ الْوَاعِظِ فِي الْجَامِعِ، وَبَكَوْا وَتَضَرَّعُوا وَدَعَوْا، فَقَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَهُمْ، فَانْهَزَمَ أَقْسِيسْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَعَادَ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ بِغَيْرِ سَبَبٍ، فَوَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ تَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، فَرَأَى أَهْلَهَا قَدْ صَانُوا مُخَلَّفِيهِ وَأَمْوَالَهُ، فَشَكَرَهُمْ، وَرَفَعَ عَنْهُمُ الْخَرَاجَ تِلْكَ السَّنَةِ. وَأَتَى الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، فَرَأَى أَهْلَهُ قَدْ قَبَّحُوا عَلَى أَصْحَابِهِ وَمُخَلَّفِيهِ، وَحَصَرُوهُمْ فِي مِحْرَابِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا قَارَبَ الْبَلَدَ تَحَصَّنَ أَهْلُهُ مِنْهُ وَسَبُّوهُ، فَقَاتَلَهُمْ، فَفَتَحَ الْبِلَادَ عَنْوَةً وَنَهَبَهُ، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهِ فَأَكْثَرَ حَتَّى قَتَلَ مَنِ الْتَجَأَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَكَفَّ عَمَّنْ كَانَ عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَحْدَهَا. هَكَذَا يَذْكُرُ الشَّامِيُّونَ (هَذَا الِاسْمَ) أَقْسِيسْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَتْسِزْ، وَهُوَ اسْمٌ تُرْكِيٌّ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مُؤَرِّخِي الشَّامِ أَنَّ أَتْسِزْ لَمَّا وَصَلَ إِلَى مِصْرَ جَمَعَ أَمِيرُ الْجُيُوشِ بَدْرٌ الْعَسَاكِرَ، وَاسْتَمَدَّ الْعَرَبَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ أَتْسِزْ، وَقُتِلَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَقُتِلَ أَخٌ لَهُ، وَقُطِعَتْ يَدُ أَخٍ آخَرَ، وَعَادَ

مُنْهَزِمًا إِلَى الشَّامِ فِي نَفَرٍ قَلِيلٍ مِنْ عَسْكَرِهِ، فَوَصَلَ إِلَى الرَّمْلَةِ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى دِمَشْقَ. وَحَكَى لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ فُضَلَاءِ مِصْرَ: أَنَّ أَتْسِزْ لَمَّا وَصَلَ إِلَى مِصْرَ وَنَزَلَ بِظَاهِرِ الْقَاهِرَةِ أَسَاءَ أَصْحَابُهُ السِّيرَةَ فِي النَّاسِ، وَظَلَمُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، وَفَعَلُوا الْأَفَاعِيلَ الْقَبِيحَةَ، فَأَرْسَلَ رُؤَسَاءُ الْقُرَى وَمُقَدِّمُوهَا إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ الْعَلَوِيِّ يَشْكُونَ إِلَيْهِ مَا نَزَلَ بِهِمْ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ دَفْعِ هَذَا الْعَدُوِّ، فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ نُرْسِلُ إِلَيْكَ مَنْ عِنْدِنَا مِنَ الرِّجَالِ الْمُقَاتَلَةِ يَكُونُونَ مَعَكَ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ سِلَاحٌ تُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِكَ سِلَاحًا، وَعَسْكَرُ هَذَا الْعَدُوِّ قَدْ أَمِنُوا، وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، فَنَثُورُ بِهِمْ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَنَقْتُلُهُمْ، وَتَخْرُجُ أَنْتَ إِلَيْهِ فِيمَنِ اجْتَمَعَ عِنْدَكَ مِنَ الرِّجَالِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ بِكَ قُوَّةٌ. فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ. وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ الرِّجَالَ، وَثَارُوا كُلُّهُمْ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِمَنْ عِنْدَهُمْ، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ، وَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فِي عَسْكَرِهِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ الْعَسْكَرُ الَّذِي عِنْدَ الْمُسْتَنْصِرِ بِالْقَاهِرَةِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الثَّبَاتِ لَهُمْ، فَوَلَّى مُنْهَزِمًا، وَعَادَ إِلَى الشَّامِ، وَكُفِيَ أَهْلُ مِصْرَ شَرَّهُ وَظُلْمَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ بَغْدَاذَ أَبُو نَصْرِ ابْنُ الْأُسْتَاذِ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ حَاجًّا وَجَلَسَ فِي الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ يَعِظُ النَّاسَ، وَفِي رِبَاطِ شَيْخِ الشُّيُوخِ وَجَرَى لَهُ مَعَ الْحَنَابِلَةِ فِتَنٌ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ، وَنَصَرَهُ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ وَالْمُتَعَصِّبُونَ لَهُ، وَقَصَدَ خُصُومُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، سُوقَ الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ وَقَتَلُوا جَمَاعَةً.

وَكَانَ مِنَ الْمُتَعَصِّبِينَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَشَيْخُ الشُّيُوخِ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَعْيَانِ، وَجَرَتْ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ الْأَمِيرُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ فِرَامَرْزَ بْنِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ كَاكَوَيْهِ أَرْسَلَانَ خَاتُونَ بِنْتَ دَاوُدَ عَمَّةَ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهَ الَّتِي كَانَتْ زَوْجَةَ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ. وَفِيهَا كَانَ بِالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَبَاءٌ عَظِيمٌ، وَمَوْتٌ كَثِيرٌ حَتَّى بَقِيَ كَثِيرٌ [مِنَ] الْغَلَّاتِ لَيْسَ لَهَا مَنْ يَعْمَلُهَا لِكَثْرَةِ الْمَوْتِ فِي النَّاسِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ مَحْمُودُ بْنُ مِرْدَاسٍ، صَاحِبُ حَلَبَ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ نَصْرٌ، فَمَدَحَهُ ابْنُ حَيُّوسٍ بِقَصِيدَةٍ يَقُولُ فِيهَا: ثَمَانِيَةٌ لَمْ تَفْتَرِقْ مُذْ جَمَعْتَهَا ... فَلَا افْتَرَقَتْ مَا ذَبَّ عَنْ نَاظِرٍ شَعْرُ ضَمِيرُكَ وَالتَّقْوَى وَجُودُكَ وَالْغِنَى ... وَلَفْظُكَ وَالْمَعْنَى وَعَزْمُكَ وَالنَّصْرُ وَكَانَ لِمَحْمُودِ بْنِ نَصْرٍ سَجِيَّةٌ ... وَغَالِبُ ظَنِّي أَنْ سَيُخْلِفُهَا نَصْرُ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ قَالَ سَيُضْعِفُهَا نَصْرٌ لَأَضْعَفْتُهَا لَهُ. وَأَمَرَ لَهُ بِمَا كَانَ يُعْطِيهِ أَبُوهُ، وَهُوَ أَلْفُ دِينَارٍ، فِي طَبَقِ فِضَّةٍ.

وَكَانَ عَلَى بَابِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَى بَابِكَ الْمَعْمُورِ مِنَّا عِصَابَةٌ ... مَفَالِيسُ فَانْظُرْ فِي أُمُورِ الْمَفَالِيسِ وَقَدْ قَنِعَتْ مِنْكَ الْعِصَابَةُ كُلُّهَا ... بِعُشْرِ الَّذِي أَعْطَيْتَهُ لِابْنِ حَيُّوسِ وَمَا بَيْنَنَا هَذَا التَّقَارُبُ كُلُّهُ ، وَلَكِنْ سَعِيدٌ لَا يُقَاسُ بِمَنْحُوسِ فَقَالَ لَوْ قَالَ: بِمِثْلِ الَّذِي أَعْطَيْتَهُ، لَأَعْطَيْتُهُمْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِمِثْلِ نِصْفِهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَسْبَهْدُوَسْت بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو مَنْصُورٍ الدَّيْلَمِيُّ الشَّاعِرُ، وَكَانَ قَدْ لَقِيَ ابْنَ الْحَجَّاجِ، وَابْنَ نُبَاتَةَ وَغَيْرَهُمَا وَكَانَ يَتَشَيَّعُ، وَتَرَكَهُ وَقَالَ فِي ذَلِكَ: وَإِذَا سُئِلُتُ عَنِ اعْتِقَادِي قُلْتُ : مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مَذَاهِبُ الْأَبْرَارِ ... وَأَقُولُ: خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صِدِّيقُهُ وَأَنِيسُهُ فِي الْغَارِ وَفِيهَا تُوُفِّيَ رَئِيسُ الْعِرَاقَيْنِ أَبُو أَحْمَدَ النَّهَاوَنْدِيُّ الَّذِي كَانَ عَمِيدَ بَغْدَاذَ، وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وَرِزْقُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو سَعْدٍ الْأَنْبَارِيُّ الْخَطِيبُ، الْفَقِيهُ، الْحَنَفِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا، وَطَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَابَشَاذَ النَّحْوِيُّ، الْمِصْرِيُّ، تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ،

سَقَطَ مِنْ سَطْحِ جَامِعِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِمِصْرَ فَمَاتَ لِوَقْتِهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ هَزَارَمَرْدَ، الصَّرِيفِينِيُّ، رَاوِيَةُ أَحَادِيثِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَاهَا وَكَانَ ثِقَةً، صَالِحًا، وَمِنْ طَرِيقِهِ سَمِعْنَاهَا.

ثم دخلت سنة سبعين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 470 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ إِلَى بَغْدَاذَ مِنَ الْعَسْكَرِ. وَفِيهَا اصْطَلَحَ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَةَ. مَعَ النَّاصِرِ بْنِ عَلْنَاسَ، وَهُوَ مِنْ بَنِي حَمَّادٍ عَمِّ جَدِّهِ، وَزَوَّجَهُ تَمِيمٌ ابْنَتَهُ بَلَارَةَ، وَسَيَّرَهَا إِلَيْهِ مِنَ الْمَهْدِيَّةِ فِي عَسْكَرٍ، وَأَصْحَبَهَا مِنَ الْحُلِيِّ وَالْجِهَازِ مَا لَا يُحَدُّ وَحَمَلَ النَّاصِرُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَأَخَذَ مِنْهَا تَمِيمٌ دِينَارًا وَاحِدًا وَرَدَّ الْبَاقِي. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ تَمِيمٌ ابْنَهُ مُقَلِّدًا عَلَى مَدِينَةِ طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ. وَكَانَ بِبَغْدَاذَ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ سُوقِ الْمَدْرَسَةِ وَسُوقِ الثُّلَاثَاءِ بِسَبَبِ الِاعْتِقَادِ، فَنَهَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانَ مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ بِبَغْدَادَ بِالدَّارِ الَّتِي عِنْدَ الْمَدْرَسَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْعَمِيدِ وَالشِّحْنَةِ فَحَضَرَا وَمَعَهُمَا الْجُنْدُ فَضَرَبُوا النَّاسَ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ جَمَاعَةٌ وَانْفَصَلُوا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ (بْنِ مُحَمَّدِ) بْنِ الْبَيْضَاوِيِّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ جَدَّهُ لِأُمِّهِ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النَّقُّورِ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَزَّازُ فِي رَجَبٍ، وَكَانَ مُكْثِرًا مِنَ الْحَدِيثِ، ثِقَةً فِي الرِّوَايَةِ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو صَالِحٍ الْمُؤَذِّنُ النَّيْسَابُورِيُّ، كَانَ يَعِظُ وَيُؤَذِّنُ، وَكَانَ كَثِيرَ الرِّوَايَةِ - حَافِظًا، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مَنْدَهْ الْأَصْبَهَانِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، لَهُ تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: تَارِيخُ أَصْبَهَانَ، وَلَهُ طَائِفَةٌ يَنْتَمُونَ إِلَيْهِ فِي الِاعْتِقَادِ مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ، يُقَالُ لَهُمُ الْعَبْدُ رَحْمَانِيَّةِ. وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا تُوُفِّيَتِ ابْنَةُ نِظَامِ الْمُلْكِ، زَوْجَةُ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ، نُفَسَاءَ بِوَلَدٍ مَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، وَدُفِنَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَلَمْ تَجْرِ بِذَلِكَ عَادَةٌ لِأَحَدٍ، فَعَلَ ذَلِكَ إِكْرَامًا لِأَبِيهَا، وَجَلَسَ الْوَزِيرُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ، وَابْنُهُ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ زَوْجُهَا، لِلْعَزَاءِ فِي دَارِ بَابِ الْعَامَّةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 471 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ عَزْلِ ابْنِ جَهِيرٍ مِنْ وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَبُو نَصْرِ بْنُ جَهِيرٍ مِنْ وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ أَبُو شُجَاعٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَبَا نَصْرِ بْنَ الْقُشَيْرِيِّ وَرَدَ إِلَى بَغْدَاذَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَجَرَى لَهُ الْفِتَنُ مَعَ الْحَنَابِلَةِ، لَمَّا ذَكَرَ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَنَصَرَهُ، وَعَابَ مَنْ سِوَاهُمْ، وَفَعَلَتِ الْحَنَابِلَةُ وَمَنْ مَعَهُمْ مَا ذَكَرْنَاهُ، نَسَبَ أَصْحَابُ نِظَامِ الْمُلْكِ مَا جَرَى إِلَى الْوَزِيرِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، وَإِلَى الْخَدَمِ، وَكَتَبَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الصَّقْرِ الْوَاسِطِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ: يَا نِظَامَ الْمُلْكِ قَدْ حُلَّ ... بِبَغْدَاذَ النِّظَامُ وَابْنُكَ الْقَاطِنُ فِيهَا ... مُسْتَهَانٌ مُسْتَضَامُ وَبِهَا أَوْدَى لَهُ قَتْ ... لَى غُلَامٌ، وَغُلَامُ وَالَّذِي مِنْهُمْ تَبَقَّى ... سَالِمًا فِيهِ سِهَامُ يَا قِوَامَ الدِّينِ لَمْ يَبْ ... قَ بِبَغْدَاذَ مُقَامُ عَظُمَ الْخَطْبُ وَلِلْحَرْ ... بِ اتِّصَالٌ، وَدَوَامُ فَمَتَى لَمْ تَحْسِمِ الدَّا ... ءَ أَيَادِيكَ الْحُسَامُ وَيَكُفُّ الْقَوْمُ فِي بَغْ ... دَاذَ قَتْلٌ، وَانْتِقَامُ فَعَلَى مَدْرَسَةٍ فِي ... هَا، وَمَنْ فِيهَا السَّلَامُ 2 - وَاعْتِصَامٌ بِحَرِيمٍ ... لَكَ مِنْ بَعْدُ حَرَامُ

فَلَمَّا سَمِعَ نِظَامُ الْمُلْكِ مَا جَرَى مِنَ الْفِتَنِ، وَقَصْدِ مَدْرَسَتِهِ، وَالْقَتْلِ بِجِوَارِهَا، مَعَ أَنَّ ابْنَهُ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ فِيهَا، عَظُمَ عَلَيْهِ، فَأَعَادَ كُوهَرَائِينَ إِلَى شِحْنَكِيَّةِ الْعِرَاقِ، وَحَمَّلَهُ رِسَالَةً إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ تَتَضَمَّنُ الشَّكْوَى مِنْ بَنِي جَهِيرٍ، وَسَأَلَ عَزْلَ فَخْرِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْوِزَارَةِ، وَأَمَرَ كُوهَرَائِينَ بِأَخْذِ أَصْحَابِ بَنِي جَهِيرٍ، وَإِيصَالِ الْمَكْرُوهِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى حَوَاشِيهِمْ. فَسَمِعَ بَنُو جَهِيرٍ الْخَبَرَ، فَسَارَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْمُعَسْكَرِ يُرِيدُ نِظَامَ الْمُلْكِ لِيَسْتَعْطِفَهُ، وَتَجَنَّبَ الطَّرِيقَ، وَسَلَكَ الْجِبَالَ خَوْفًا أَنْ يَلْقَاهُ كُوهَرَائِينُ وَيَنَالَهُ فِيهَا أَذًى، فَلَمَّا وَصَلَ كُوهَرَائِينُ إِلَى بَغْدَاذَ اجْتَمَعَ بِالْخَلِيفَةِ وَأَبْلَغَهُ رِسَالَةَ نِظَامِ الْمُلْكِ، فَأَمَرَ فَخْرَ الدَّوْلَةِ بِلُزُومِ مَنْزِلِهِ. وَوَصَلَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْمُعَسْكَرِ السُّلْطَانِيِّ، وَلَمْ يَزَلْ يَسْتَصْلِحُ نِظَامَ الْمُلْكِ حَتَّى عَادَ إِلَى مَا أَلِفَهُ مِنْهُ، وَزَوَّجَهُ بِابْنَةِ بِنْتٍ لَهُ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، فَلَمْ يَرُدَّ الْخَلِيفَةُ أَبَاهُ إِلَى وِزَارَتِهِ، وَأَمَرَهُمَا بِمُلَازَمَةِ مَنَازِلِهِمَا، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا شُجَاعٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ نِظَامَ الْمُلْكِ رَاسَلَ الْخَلِيفَةَ فِي إِعَادَةِ بَنِي جَهِيرٍ إِلَى الْوِزَارَةِ، وَشَفَعَ فِي ذَلِكَ، فَأُعِيدَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْوِزَارَةِ، وَأُذِنَ لِأَبِيهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ فِي فَتْحِ بَابِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ تُتُشْ عَلَى دِمَشْقَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُش بْنُ أَلْب أَرْسَلَانَ دِمَشْقَ.

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَخَاهُ السُّلْطَانَ مَلِكْشَاهْ أَقْطَعَهُ الشَّامَ، وَمَا يَفْتَحُهُ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، سَنَةَ سَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَأَتَى حَلَبَ وَحَصَرَهَا، وَلَحِقَ أَهْلَهَا مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ مَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ أَقْسِيسْ، صَاحِبَ دِمَشْقَ، يَسْتَنْجِدُهُ، وَيُعَرِّفُهُ أَنَّ عَسَاكِرَ مِصْرَ قَدْ حَصَرَتْهُ بِدِمَشْقَ. وَكَانَ أَمِيرُ الْجُيُوشِ بَدْرٌ قَدْ سَيَّرَ عَسْكَرًا مِنْ مِصْرَ، وَمُقَدِّمُهُمْ قَائِدٌ يَعْرِفُ بِنَصْرِ الدَّوْلَةِ، فَحَصَرَ دِمَشْقَ، فَأَرْسَلَ أَقْسِيسْ إِلَى تَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشْ يَسْتَنْصِرُهُ، فَسَارَ إِلَى نُصْرَةِ أَقْسِيسْ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمِصْرِيُّونَ بِقُرْبِهِ أَجْفَلُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ شِبْهَ الْمُنْهَزِمِينَ، وَخَرَجَ أَقْسِيسْ إِلَيْهِ يَلْتَقِيهِ عِنْدَ سُورِ الْبَلَدِ، فَاغْتَاظَ مِنْهُ تُتُشْ حَيْثُ لَمْ يَبْعُدُ فِي تَلَقِّيهِ، وَعَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَاعْتَذَرَ بِأُمُورٍ لَمْ يَقْبَلْهَا تُتُشْ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَقَتَلَهُ مِنْ سَاعَتِهِ، وَمَلَكَ الْبَلَدَ، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهِ، وَعَدَلَ فِيهِمْ. قَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْهَمَذَانِيِّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّ مُلْكَ تُتُشْ دِمَشْقَ كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ، وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيُّ فِي كِتَابِ " تَارِيخِ دِمَشْقَ " أَنَّ مُلْكَهُ إِيَّاهَا كَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ الْمَلِكُ بِرْكِيَارُق ابْنُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ.

وَفِيهَا فِي الْمُحَرَّمِ، وَصَلَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوهَرَائِينُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَضَرَبَ الطَّبْلَ عَلَى بَابِ دَارِهِ، أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ، وَكَانَ قَدْ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ، فَلَمْ يُجَبْ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ أَبُو النَّجْمِ بَدْرُ بْنُ وَرَّامَ الْكُرْدِيُّ، الْجَاوَانِيُّ، فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ بِطَسْفُونَجْ. وَفِي رَجَبٍ تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْبَنَّا الْمَقْرِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَسُلَيْمٌ الْجَوْرِيُّ بِنَاحِيَةِ جَوْرٍ مِنْ دُجَيْلٍ، وَكَانَ زَاهِدًا، يَعْمَلُ، وَيَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَلَمْ يُكَلِّفْ أَحَدًا حَاجَةً، وَأَقَامَ بِطَنْزَةَ مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ، وَهِيَ كَثِيرَةُ الْفَوَاكِهِ، فَلَمْ يَأْكُلْ بِهَا فَاكِهَةً الْبَتَّةَ.

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 472 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ فُتُوحِ إِبْرَاهِيمَ صَاحِبِ غَزْنَةَ فِي بِلَادِ الْهِنْدِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الْمَلِكُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ الْهِنْدِ، فَحَصَرَ قَلْعَةَ أَجْوَدَ، وَهِيَ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَرْسَخًا مِنْ لَهَاوُورَ، وَهِيَ قَلْعَةٌ حَصِينَةٌ، فِي غَايَةِ الْحَصَانَةِ، كَبِيرَةٌ، تَحْوِي عَشَرَةَ آلَافِ رَجُلٍ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، فَقَاتَلُوهُ، وَصَبَرُوا تَحْتَ الْحَصْرِ، وَزَحَفَ إِلَيْهِمْ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَرَأَوْا مِنْ شِدَّةِ حَرْبِهِ مَا مَلَأَ قُلُوبَهُمْ خَوْفًا وَرُعْبًا، فَسَلَّمُوا الْقَلْعَةَ (إِلَيْهِ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَ فِي نَوَاحِي الْهِنْدِ قَلْعَةٌ) يُقَالُ لَهَا قَلْعَةُ رُوبَالَ، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ شَاهِقٍ، وَتَحْتَهَا غِيَاضٌ أَشِبَةٌ، وَخَلْفَهَا الْبَحْرُ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا قِتَالٌ إِلَّا مِنْ مَكَانٍ ضَيِّقٍ، وَهُوَ مَمْلُوءٌ بِالْفِيَلَةِ الْمُقَاتِلَةِ، وَبِهَا مِنْ رِجَالِ الْحَرْبِ أُلُوفٌ كَثِيرَةٌ، فَتَابَعَ عَلَيْهِمُ الْوَقَائِعَ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِمْ بِالْقِتَالِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَرْبِ، وَمَلَكَ الْقَلْعَةَ، وَاسْتَنْزَلَهُمْ مِنْهَا. وَفِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ دُرَّهْ نُورَهْ أَقْوَامٌ مِنْ أَوْلَادِ الْخُرَاسَانِيِّينَ، الَّذِينَ جَعَلَ أَجْدَادَهُمْ فِيهَا أَفْرَاسِيَابُ التُّرْكِيُّ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُلُوكِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوَّلًا، فَامْتَنَعُوا مِنْ إِجَابَتِهِ، وَقَاتَلُوهُ، فَظَفِرَ بِهِمْ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَتَفَرَّقَ مَنْ سَلِمَ فِي الْبِلَادِ، وَسَبَى وَاسْتَرَقَّ مِنَ النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ

مِائَةَ أَلْفٍ. وَفِي هَذِهِ الْقَلْعَةِ حَوْضٌ لِلْمَاءِ يَكُونُ قُطْرُهُ نَحْوَ نِصْفِ فَرْسَخٍ لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ، يَشْرَبُ مِنْهُ أَهْلُ الْقَلْعَةِ وَجَمِيعُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ دَابَّةٍ، وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ نَقْصٌ. وَفِي بِلَادِ الْهِنْدِ مَوْضِعٌ يُقَالُ لَهُ وَرَّهْ، وَهُوَ بَرٌّ بَيْنَ خَلِيجَيْنِ، فَقَصَدَهُ الْمَلِكُ إِبْرَاهِيمُ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَفِي طَرِيقِهِ عَقَبَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَفِيهَا أَشْجَارٌ مُلْتَفَّةٌ، فَأَقَامَ هُنَاكَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَلَقِيَ النَّاسَ مِنَ الشِّتَاءِ شِدَّةٌ، وَلَمْ يُفَارِقِ الْغَزْوَةَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَذُلَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ سَالِمًا مُظَفَّرًا. هَذِهِ الْغَزَوَاتُ لَمْ أَعْرِفْ تَارِيخَهَا، (وَأَمَّا الْأُولَى فَكَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ) ، فَلِهَذَا أَوْرَدْتُهَا مُتَتَابِعَةً فِي هَذِهِ السَّنَةِ. ذِكْرُ مُلْكِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمٌ مَدِينَةَ حَلَبَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشٍ الْعُقَيْلِيُّ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، مَدِينَةَ حَلَبَ. (وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ تَاجَ الدَّوْلَةِ تُتُش بْنَ أَلْب أَرْسَلَانَ) حَصَرَهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَاشْتَدَّ الْحِصَارُ بِأَهْلِهَا، وَكَانَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ يُوَاصِلِهُمْ بِالْغَلَّاتِ وَغَيْرِهَا. ثُمَّ إِنَّ تُتُشْ حَصَرَهَا هَذِهِ السَّنَةَ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا أَيَّامًا وَرَحَلَ عَنْهَا وَمَلَكَ بُزَاغَةَ وَالْبِيرَةَ، وَأَحْرَقَ رَبَضَ عَزَازَ، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ. فَلَمَّا رَحَلَ عَنْهَا تَاجُ الدَّوْلَةِ اسْتَدْعَى أَهْلُهَا شَرَفَ الدَّوْلَةِ لِيُسَلِّمُوهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا

قَارَبَهَا امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ مُقَدِّمُهُمْ يُعْرَفُ بِابْنِ الْحُتَيْتِيِّ الْعَبَّاسِيِّ، فَاتَّفَقَ أَنَّ وَلَدَهُ خَرَجَ يَتَصَيَّدُ بِضَيْعَةٍ لَهُ، فَأَسَرَهُ أَحَدُ التُّرْكُمَانِ وَهُوَ صَاحِبُ حِصْنٍ بِنَوَاحِي حَلَبَ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ، فَقَرَّرَ مَعَهُ أَنْ يُسَلِّمَ الْبَلَدَ إِلَيْهِ إِذَا أَطْلَقَهُ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، فَأَطْلَقَهُ، فَعَادَ إِلَى حَلَبَ، وَاجْتَمَعَ بِأَبِيهِ، وَعَرَّفَهُ مَا اسْتَقَرَّ، فَأَذْعَنَ إِلَى تَسْلِيمِ الْبَلَدِ، وَنَادَى بِشِعَارِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَسَلَّمَ الْبَلَدَ إِلَيْهِ، فَدَخَلَهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَحَصَرَ الْقَلْعَةَ، وَاسْتَنْزَلَ مِنْهَا سَابِقًا وَوَثَّابًا ابْنَيْ مَحْمُودِ بْنِ مِرْدَاسٍ، فَلَمَّا مَلَكَ الْبَلَدَ أَرْسَلَ وَلَدَهُ، وَهُوَ ابْنُ عَمَّةِ السُّلْطَانِ، إِلَى السُّلْطَانِ يُخْبِرُهُ بِمِلْكِ الْبَلَدِ، وَأَنْفَذَ مَعَهُ شَهَادَةً فِيهَا خُطُوطُ الْمُعَدَّلِينَ بِحَلَبَ بِضَمَانِهَا، وَسَأَلَ أَنْ يُقَرِّرَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ، فَأَجَابَهُ السُّلْطَانُ إِلَى مَا طَلَبَ، وَأَقْطَعَ ابْنَ عَمَّتِهِ مَدِينَةَ بَالِسَ. ذِكْرُ مَسِيرِ مَلِكْشَاهْ إِلَى كَرْمَانَ. فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ إِلَى بِلَادِ كَرْمَانَ، فَلَمَّا سَمِعَ صَاحِبُهَا سُلْطَانْشَاهْ بْنُ قَاوَرْتَ بِكْ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ السُّلْطَانِ، بِوُصُولِهِ إِلَيْهَا خَرَجَ إِلَى طَرِيقِهِ وَلَقِيَهُ وَحَمَلَ لَهُ الْهَدَايَا الْكَثِيرَةَ، وَخَدَمَهُ، وَبَالَغَ فِي الْخِدْمَةِ، فَأَقَرَّهُ السُّلْطَانُ عَلَى الْبِلَادِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَعَادَ عَنْهُ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] إِلَى أَصْبَهَانَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ لِلْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَدٌ سَمَّاهُ مُوسَى، وَكَنَّاهُ أَبَا جَعْفَرٍ، وَزُيِّنَتْ بَغْدَاذُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَفِيهَا وَصَلَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ إِلَى خُوزِسْتَانَ مُتَصَيِّدًا، فَوَصَلَ مَعَهُ خُمَارَتِكِين

وَكُوهَرَائِينْ [وَكَانَا يَسْعَيَانِ] فِي قَتْلِ ابْنِ عَلَّانَ الْيَهُودِيِّ، ضَامِنِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ مُلْتَجِئًا إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ، وَكَانَ بَيْنَ نِظَامِ الْمُلْكِ وَخُمَارَتِكِينَ الشَّرَابِيِّ وَكُوهَرَائِينْ عَدَاوَةٌ، فَسَعَيَا بِالْيَهُودِيِّ لِذَلِكَ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِتَغْرِيقِهِ فَغُرِّقَ، وَانْقَطَعَ نِظَامُ الْمُلْكِ عَنِ الرُّكُوبِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَغْلَقَ بَابَهُ، ثُمَّ أُشِيرَ عَلَيْهِ بِالرُّكُوبِ فَرَكِبَ، وَعَمِلَ لِلسُّلْطَانِ دَعْوَةً عَظِيمَةً قَدَّمَ فِيهَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَعَاتَبَهُ عَلَى فِعْلِهِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ. وَكَانَ أَمْرُ (الْيَهُودِيِّ قَدْ عَظُمَ) إِلَى حَدِّ أَنَّ زَوْجَتَهُ تُوُفِّيَتْ، فَمَشَى خَلْفَ جِنَازَتِهَا كُلُّ مَنْ فِي الْبَصْرَةِ، إِلَّا الْقَاضِي، وَكَانَ لَهُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، فَأَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَضَمِنَ خُمَارَتِكِين الْبَصْرَةَ كُلَّ سَنَةٍ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَمِائَةِ فَرَسٍ. وَفِيهَا زَادَتْ [مِيَاهُ] الْفُرَاتِ تِسْعَ أَذْرُعٍ، فَخَرَّبَتْ بَعْضَ دَوَالِيبِ هَيْتَ، وَخَرَّبَتْ فُوَّهَةَ نَهْرِ عِيسَى، وَزَادَتْ تَامَرَّا نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، وَعَلَا عَلَى قَنْطَرَتَيْ طَرَاسْتَانَ وَخَانِقِينَ الْكِسْرَوِيَّتَيْنِ فَقَطَعَهُمَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ نَصْرُ بْنُ مَرْوَانَ، صَاحِبُ دِيَارِ بَكْرٍ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مَنْصُورٌ، وَدَبَّرَ دَوْلَتَهَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُكْبَرِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُوَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْمَعْرُوفِينَ، وَكَانَ صَدُوقًا. وَمُحَمَّدُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرِيُّ

اللَّالَكَائِيُّ وَوُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَحَدَّثَ عَنْ هِلَالٍ الْحَفَّارِ وَغَيْرِهِ، وَتُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْفِتْيَانِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلْطَانَ بْنِ حَيُّوسٍ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، وَحَدَّثَ عَنْ جَدِّهِ لِأُمِّهِ الْقَاضِي أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ بْنِ الْجُنْدِيِّ.

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 473 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ تُكَشُ عَلَى بَعْضِ خُرَاسَانَ وَأَخْذِهَا مِنْهُ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، سَارَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ إِلَى الرَّيِّ، وَعَرَضَ الْعَسْكَرَ، فَأَسْقَطَ مِنْهُمْ سَبْعَةَ آلَافِ رَجُلٍ لَمْ يَرْضَ حَالَهُمْ، فَمَضَوْا إِلَى أَخِيهِ تُكَشَ، وَهُوَ بِبُوشَنْجَ، فَقَوِيَ بِهِمْ، وَأَظْهَرَ الْعِصْيَانَ عَلَى أَخِيهِ مَلِكْشَاهْ، وَاسْتَوْلَى عَلَى مَرْوِ الرُّوذِ، وَمَرْوِ الشَّاهِجَانِ، وَتِرْمِذَ، وَغَيْرِهَا، وَسَارَ إِلَى نَيْسَابُورَ طَامِعًا فِي مُلْكِ خُرَاسَانَ. وَقِيلَ: إِنَّ نِظَامَ الْمُلْكِ قَالَ لِلسُّلْطَانِ لَمَّا أَمَرَ بِإِسْقَاطِهِمْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسَ فِيهِمْ كَاتِبٌ، وَلَا تَاجِرٌ، وَلَا خَيَّاطٌ، وَلَا مَنْ لَهُ صَنْعَةٌ غَيْرَ الْجُنْدِيَّةِ، فَإِذَا أُسْقِطُوا لَا نَأْمَنُ أَنْ يُقِيمُوا مِنْهُمْ رَجُلًا وَيَقُولُوا هَذَا السُّلْطَانُ، فَيَكُونُ لَنَا مِنْهُمْ شُغْلٌ، وَيَخْرُجُ عَنْ أَيْدِينَا أَضْعَافُ مَا لَهُمْ مِنَ الْجَارِي إِلَى أَنْ نَظْفَرَ بِهِمْ. فَلَمْ يَقْبَلِ السُّلْطَانُ قَوْلَهُ، فَلَمَّا مَضَوْا إِلَى أَخِيهِ وَأَظْهَرَ الْعِصْيَانَ نَدِمَ عَلَى مُخَالَفَةِ وَزِيرِهِ حَيْثُ لَمْ يَنْفَعِ النَّدَمُ. وَاتَّصَلَ خَبَرُهُ بِالسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، فَسَارَ مُجِدًّا إِلَى خُرَاسَانَ، فَوَصَلَ إِلَى نَيْسَابُورَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ تُكَشُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا سَمِعَ تُكَشُ بِقُرْبِهِ مِنْهَا سَارَ عَنْهَا، وَتَحَصَّنَ بِتِرْمِذَ، وَقَصَدَهُ السُّلْطَانُ، فَحَصَرَهُ بِهَا، وَكَانَ تُكَشُ قَدْ أَسَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ، فَأَطْلَقَهُمْ، وَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا، وَنَزَلَ تُكَشُ إِلَى أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَنَزَلَ عَنْ تِرْمِذَ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَسَلَّمَ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ تِكْرِيتَ مِنْ صَاحِبِهَا الْمَهْرَبَاط. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ شِبْلٍ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، وَمِنْ شِعْرِهِ فِي الزُّهْدِ: أَهُمُّ بِتَرْكِ الذَّنْبِ ثُمَّ يَرُدُّنِي ... طُمُوحُ شَبَابٍ بِالْغَرَامِ مُوَكَّلُ فَمَنْ لِي إِذَا أَخَّرْتُ ذَا الْيَوْمَ تَوْبَةً ... بِأَنَّ الْمَنَايَا لِي إِلَى الشَّيْبِ تُمْهِلُ أَأَعْجَزُ ضُعْفًا عَنْ أَدَا حَقِّ خَالِقِي ، وَأَحْمِلُ وِزْرًا فَوْقَ مَا يُتَحَمَّلُ وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ الْعَمِيدُ أَبُو مَنْصُورٍ بِالْبَصْرَةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو الْفَتْحِ الصُّوفِيُّ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، سَافَرَ الْكَثِيرَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ بِالْعِرَاقِ، وَالشَّامِ، وَمِصْرَ، وَأَصْبَهَانَ وَغَيْرِهَا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِفَارِسَ، وَيُوسُفُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو الْهَيْثَمِ التَّفَكُّرِيُّ، الزَّنْجَانِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ مِنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْحَافِظِ وَغَيْرِهِ، وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَأَدْرَكَ أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ، وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِبَادَةِ.

ثم دخلت سنة أربع وسبعين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 474 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ خُطْبَةِ الْخَلِيفَةِ ابْنَةَ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْوَزِيرَ فَخْرَ الدَّوْلَةِ أَبَا نَصْرِ بْنَ جَهِيرٍ إِلَى السُّلْطَانِ يَخْطُبُ ابْنَتَهُ لِنَفْسِهِ، فَسَارَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ إِلَى أَصْبَهَانَ، إِلَى السُّلْطَانِ يَخْطُبُ ابْنَتَهُ، فَأَمَرَ نِظَامُ الْمُلْكِ أَنْ يَمْضِيَ مَعَهُ إِلَى خَاتُونَ زَوْجَةِ السُّلْطَانِ فِي الْمَعْنَى، فَمَضَيَا إِلَيْهَا فَخَاطَبَاهَا، فَقَالَتْ: إِنَّ مَلِكَ غَزْنَةَ وَمُلُوكَ الْخَانِيَةِ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ طَلَبُوهَا، وَخَطَبُوهَا لِأَوْلَادِهِمْ، وَبَذَلُوا أَرْبَعَ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَإِنْ حَمَلَ الْخَلِيفَةُ هَذَا الْمَالَ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْهُمْ، فَعَرَّفَتْهَا أَرْسَلَان خَاتُونْ الَّتِي كَانَتْ زَوْجَةَ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ مَا يَحْصُلُ لَهَا مِنَ الشَّرَفِ وَالْفَخْرِ بِالِاتِّصَالِ بِالْخَلِيفَةِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ عَبِيدُهُ وَخَدَمُهُ، وَمِثْلُ الْخَلِيفَةِ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ الْمَالُ، فَأَجَابَتْ إِلَى ذَلِكَ، وَشَرَطَتْ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ الْمُعَجَّلُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَنَّهُ لَا يُبْقِي لَهُ سُرِّيَّةً وَلَا زَوْجَةً غَيْرَهَا، وَلَا يَكُونُ مَبِيتُهُ إِلَّا عِنْدَهَا، فَأُجِيبَتْ إِلَى ذَلِكَ، فَأَعْطَى السُّلْطَانُ يَدَهُ، وَعَادَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ. ذِكْرُ وَفَاةِ نُورِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَزْيَدٍ وَإِمَارَةِ وَلَدِهِ مَنْصُورٍ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، تُوُفِّيَ نُورُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْأَغَرِّ دُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ بِمَطِيرَابَاذَ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَإِمَارَتُهُ سَبْعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمَا زَالَ مُمَدَّحًا فِي كُلِّ زَمَانٍ مَذْكُورًا بِالتَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ، وَرَثَاهُ الشُّعَرَاءُ فَأَكْثَرُوا، وَوَلِيَ بَعْدَهُ مَا كَانَ إِلَيْهِ ابْنُهُ أَبُو كَامِلٍ مَنْصُورٌ، وَلَقَبُهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ، فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، وَاعْتَمَدَ الْجَمِيلَ،

وَسَارَ إِلَى السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَاسْتَقَرَّ لَهُ الْأَمْرُ، وَعَادَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ أَيْضًا عَلَيْهِ. ذِكْرُ مُحَاصَرَةِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ مَدِينَةَ قَابِسَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ الْأَمِيرُ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، مَدِينَةَ قَابِسَ حِصَارًا شَدِيدًا، وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا، وَعَاثَ عَسَاكِرُهُ فِي بَسَاتِينِهَا الْمَعْرُوفَةِ بِالْغَابَةِ، فَأَفْسَدُوهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ تُتُشْ، بَعْدَ عَوْدِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ عَنْ دِمَشْقَ، وَقَصَدَ السَّاحِلَ الشَّامِيَّ، فَافْتَتَحَ أَنْطَرْطُوسَ، وَبَعْضًا مِنَ الْحُصُونِ، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ. وَفِيهَا مَلَكَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، مَدِينَةَ حَرَّانَ، وَأَخَذَهَا مِنْ بَنِي وَثَّابٍ النُّمَيْرِيِّينَ، وَصَالَحَهُ صَاحِبُ الرُّهَا، وَنَقَشَ السِّكَّةَ بِاسْمِهِ. وَفِيهَا سَدَّ ظَفَرٌ الْقَائِمِيُّ بَثْقَ نَهْرِ عِيسَى، وَكَانَ خَرَابًا مُنْذُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَسُدَّ مِرَارًا، وَتَخَرَّبَ إِلَى أَنْ سَدَّهُ ظَفَرٌ. وَفِيهَا أَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ لِيَخْرُجَ الْوَزِيرُ أَبُو شُجَاعٍ الَّذِي وَزَرَ لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَ بَنِي جَهِيرٍ، فَأَرْسَلَهُ الْخَلِيفَةُ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ رَسُولًا، وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى نِظَامِ

الْمُلْكِ كِتَابًا بِخَطِّهِ، يَأْمُرُهُ بِالرِّضَا عَنْ أَبِي شُجَاعٍ، فَرَضِيَ عَنْهُ وَأَعَادَهُ إِلَى بَغْدَاذَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ ابْنُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَاسْمُهُ دَاوُدُ، فَجَزِعَ عَلَيْهِ جَزَعًا شَدِيدًا، وَحَزِنَ حُزْنًا عَظِيمًا، وَمَنَعَ مِنْ أَخْذِهِ وَغَسْلِهِ، حَتَّى تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ، وَأَرَادَ قَتْلَ نَفْسِهِ مَرَّاتٍ، فَمَنَعَهُ خَوَاصُّهُ، وَلَمَّا دُفِنَ لَمْ يُطِقِ الْمُقَامَ، فَخَرَجَ يَتَصَيَّدُ، وَأَمَرَ بِالنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ فِي الْبَلَدِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ، وَجَلَسَ لَهُ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ فِي الْعَزَاءِ بِبَغْدَاذَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رِضْوَانَ أَبُو الْقَاسِمِ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِ بَغْدَاذَ وَكَانَ مَرَضُهُ شَقِيقَةً، وَبَقِيَ ثَلَاثَ سِنِينَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ لَا يَقْدِرُ يَسْمَعُ صَوْتًا وَلَا يُبْصِرُ ضَوْءًا. وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ الْمُحَدِّثُ، وَكَانَ صَالِحًا، يُقْرِئُ الْقُرْآنَ بِمَسْجِدِهِ بِنَهْرِ الْقَلَّائِينَ. وَتُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو الْقَاسِمِ الْبُسْرِيُّ الْبُنْدَارُ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، سَمِعَ الْمُخَلِّصَ وَغَيْرَهُ، وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُقَيْلِ بْنِ حَبَشٍ الْقُرَشِيُّ النَّحْوِيُّ.

ثم دخلت سنة خمس وسبعين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 475 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ وَفَاةِ جَمَالِ الْمُلْكِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، تُوُفِّيَ جَمَالُ الْمُلْكِ [أَبُو] مَنْصُورِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِوَفَاتِهِ إِلَى بَغْدَاذَ فِي شَعْبَانَ، فَجَلَسَ أَخُوهُ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ لِلْعَزَاءِ، وَحَضَرَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ، وَابْنُهُ عَمِيدُ الْمُلْكِ، مُعَزِّيَيْنِ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَأَقَامَهُ مِنَ الْعَزَاءِ. وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّ مَسَخَرَةً كَانَ لِلسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ يُعْرَفُ بَجْعَفَرِكْ يُحَاكِي نِظَامَ الْمُلْكِ، وَيَذْكُرُهُ فِي خَلَوَاتِهِ مَعَ السُّلْطَانِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ جَمَالَ الْمُلْكِ، وَكَانَ يَتَوَلَّى مَدِينَةَ بَلْخَ وَأَعْمَالَهَا، فَسَارَ مِنْ وَقْتِهِ يَطْوِي الْمَرَاحِلَ إِلَى وَالِدِهِ وَالسُّلْطَانِ، وَهَمَا بِأَصْبَهَانَ، فَاسْتَقْبَلَهُ أَخَوَاهُ، فَخْرُ الْمُلْكِ وَمُؤَيِّدُ الْمُلْكِ، فَأَغْلَظَ لَهُمَا الْقَوْلَ فِي إِغْضَائِهِمَا عَلَى مَا بَلَغَهُ عَنْ جَعْفَرِكْ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى حَضْرَةِ السُّلْطَانَ رَأَى جَعْفَرِكْ يُسَارُّهُ، فَانْتَهَرَهُ وَقَالَ: مِثْلُكَ يَقِفُ هَذَا الْمَوْقِفَ، وَيَنْبَسِطُ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ فِي هَذَا الْجَمْعِ! فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِ السُّلْطَانِ أَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَى جَعْفَرِكْ، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ لِسَانِهِ مِنْ قَفَاهُ وَقَطْعِهِ فَمَاتَ. ثُمَّ سَارَ مَعَ السُّلْطَانِ وَأَبِيهِ إِلَى خُرَاسَانَ، وَأَقَامُوا بِنَيْسَابُورَ مُدَّةً، ثُمَّ أَرَادُوا الْعَوْدَ إِلَى أَصْبَهَانَ وَتَقَدَّمَهُمْ نِظَامُ الْمُلْكِ، فَأَحْضَرَ السُّلْطَانُ عَمِيدَ خُرَاسَانَ، وَقَالَ لَهُ: أَيُّمَا أَحَبُّ لَكَ رَأْسُكَ أَمْ رَأْسُ جَمَالِ الْمُلْكِ؟ فَقَالَ: بَلْ رَأْسِي. فَقَالَ: لَئِنْ لَمْ تَعْمَلْ فِي

قَتْلِهِ لَأَقْتُلَنَّكَ، فَاجْتَمَعَ بِخَادِمٍ يَخْتَصُّ بِخِدْمَةِ جَمَالِ الْمُلْكِ، وَقَالَ لَهُ سِرًّا: الْأَوْلَى أَنْ تَحْفَظُوا نِعْمَتَكُمْ، وَمَنَاصِبَكُمْ، وَتُدَبِّرَ فِي قَتْلِ جِمَالِ الْمُلْكِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَقْتُلَهُ، وَلَأَنْ تَقْتُلُوهُ أَنْتُمْ سِرًّا أَصْلَحُ لَكُمْ مِنْ أَنْ يَقْتُلَهُ السُّلْطَانُ ظَاهِرًا. فَظَنَّ الْخَادِمُ أَنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ، فَجَعَلَ لَهُ سُمًّا فِي كُوزِ فُقَّاعٍ، فَطَلَبَ جَمَالُ الْمُلْكِ فُقَّاعًا، فَأَعْطَاهُ الْخَادِمُ ذَلِكَ الْكُوزَ، فَشَرِبَهُ فَمَاتَ، فَلَمَّا عَلِمَ السُّلْطَانُ بِمَوْتِهِ سَارَ مُجِدًّا، حَتَّى لَحِقَ نِظَامَ الْمُلْكِ، فَأَعْلَمَهُ بِمَوْتِ ابْنِهِ، وَعَزَّاهُ، وَقَالَ: أَنَا ابْنُكَ، وَأَنْتَ أَوْلَى مَنْ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَرَدَ إِلَى بَغْدَاذَ هَذِهِ السَّنَةَ الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَكْرِيُّ، الْمَغْرِبِيُّ، الْوَاعِظُ، وَكَانَ أَشْعَرِيُّ الْمَذْهَبِ، وَكَانَ قَدْ قَصَدَ نِظَامَ الْمُلْكِ، فَأَحَبَّهُ وَمَالَ إِلَيْهِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ الْجِرَايَةَ الْوَافِرَةَ، فَوَعَظَ بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، وَكَانَ يَذْكُرُ الْحَنَابِلَةَ وَيَعِيبُهُمْ، وَيَقُولُ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102] ، وَاللَّهِ مَا كَفَرَ أَحْمَدُ وَلَكِنَّ أَصْحَابَهُ كَفَرُوا. ثُمَّ إِنَّهُ قَصَدَ يَوْمًا دَارَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيِّ بِنَهْرِ الْقَلَّائِينَ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مُشَاجَرَةٌ أَدَّتْ إِلَى الْفِتْنَةِ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، فَكَبَسَ دُورَ بَنِي الْفَرَّاءِ، وَأَخَذَ كُتُبَهُمْ، وَأَخَذَ مِنْهَا كِتَابَ الصِّفَاتِ (لِأَبِي يَعْلَى) فَكَانَ يُقْرَأُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْكُرْسِيِّ لِلْوَعْظِ، فَيُشَنِّعُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَجَرَى لَهُ مَعَهُمْ خُصُومَاتٌ وَفِتَنٌ، وَلُقِّبَ الْبَكْرِيُّ مِنَ الدِّيوَانِ بِعَلَمِ السُّنَّةِ، وَمَاتَ بِبَغْدَاذَ، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ.

ذِكْرُ مَسِيرِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ إِلَى السُّلْطَانِ فِي رِسَالَةٍ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، أَوْصَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ إِلَى حَضْرَتِهِ، وَحَمَّلَهُ رِسَالَةً إِلَى السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَنِظَامِ الْمُلْكِ، تَتَضَمَّنُ الشَّكْوَى مِنَ الْعَمِيدِ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ أَبِي اللَّيْثِ، عَمِيدِ الْعِرَاقِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُنْهِيَ مَا يَجْرِي عَلَى الْبِلَادِ مِنَ النُّظَّارِ. فَسَارَ فَكَانَ كُلَّمَا وَصَلَ إِلَى مَدِينَةٍ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ يَخْرُجُ أَهْلُهَا بِنِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ يَتَمَسَّحُونَ بِرِكَابِهِ، وَيَأْخُذُونَ تُرَابَ بِغْلَتِهِ لِلْبَرَكَةِ. وَكَانَ فِي صُحْبَتِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ بَغْدَاذَ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ وَغَيْرُهُ. وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى سَاوَةَ خَرَجَ جَمِيعُ أَهْلِهَا، وَسَأَلَهُ فُقَهَاؤُهَا كُلٌّ مِنْهُمْ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَلَقِيَهُ أَصْحَابُ الصِّنَاعَاتِ، وَمَعَهُمْ مَا يَنْثُرُونَهُ عَلَى مِحَفَّتِهِ، فَخَرَجَ الْخَبَّازُونَ يَنْثُرُونَ الْخُبْزَ، وَهُوَ يَنْهَاهُمْ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الْفَاكِهَةِ، وَالْحَلْوَاءِ، وَغَيْرُهُمْ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ الْأَسَاكِفَةُ، وَقَدْ عَمِلُوا مُدَاسَاتٍ لِطَافًا تَصْلُحُ لِأَرْجُلِ الْأَطْفَالِ، وَنَثَرُوهَا، فَكَانَتْ تَسْقُطُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، فَكَانَ الشَّيْخُ يَتَعَجَّبُ، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ، وَيَقُولُ: مَا كَانَ حَظُّكُمْ مِنْ ذَلِكَ النِّثَارِ؟ فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: مَا كَانَ حَظُّ سَيِّدِنَا مِنْهُ، فَقَالَ: [أَمَّا] أَنَا فَغُطِّيتُ بِالْمِحَفَّةِ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ وَنِظَامُ الْمُلْكِ، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ مُنَاظَرَةٌ بِحَضْرَةِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَأُجِيبَ إِلَى جَمِيعِ مَا الْتَمَسَهُ، وَلَمَّا عَادَ أُهِينَ الْعَمِيدُ (وَكُسِرَ عَمَّا كَانَ يَعْتَمِدُهُ) ، وَرُفِعَتْ يَدُهُ عَنْ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَوَاشِي الْخَلِيفَةِ. وَلَمَّا وَصَلَ الشَّيْخُ إِلَى بِسِطَامٍ خَرَجَ إِلَيْهِ السَّهْلَكِيُّ، شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ بِهَا، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَلَمَّا سَمِعَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ بِوُصُولِهِ خَرَجَ إِلَيْهِ مَاشِيًا، فَلَمَّا رَآهُ السَّهْلَكِيُّ أَلْقَى

نَفْسَهُ مِنْ دَابَّةٍ كَانَ عَلَيْهَا، وَقَبَّلَ يَدَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، فَقَبَّلَ أَبُو إِسْحَاقَ رِجْلَهُ، وَأَقْعَدَهُ مَوْضِعَهُ، وَجَلَسَ أَبُو إِسْحَاقَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَظْهَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ تَعْظِيمِ صَاحَبِهِ كَثِيرًا، وَأَعْطَاهُ شَيْئًا مِنْ حِنْطَةٍ ذُكِرَ أَنَّهَا مِنْ عَهْدِ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ، فَفَرِحَ بِهَا أَبُو إِسْحَاقَ. ذِكْرُ حَصَرِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ دِمَشْقَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا. فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشْ جَمْعًا كَثِيرًا، وَسَارَ عَنْ بَغْدَاذَ، وَقَصَدَ بِلَادَ الرُّومِ: (أَنْطَاكِيَةَ وَمَا جَاوَرَهَا) ، فَسَمِعَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، صَاحِبُ حَلَبَ، الْخَبَرَ، فَخَافَهُ، فَجَمَعَ أَيْضًا الْعَرَبَ مِنْ عُقَيْلٍ، وَالْأَكْرَادَ، وَغَيْرَهُمْ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَرَاسَلَ الْخَلِيفَةَ بِمِصْرَ يَطْلُبُ مِنْهُ إِرْسَالَ نَجْدَةٍ إِلَيْهِ لِيَحْصُرَ دِمَشْقَ، فَوَعَدَهُ ذَلِكَ فَسَارَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا سَمِعَ تُتُش الْخَبَرَ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ، فَوَصَلَهَا أَوَّلَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَوَصَلَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ أَوَاخِرَ الْمُحَرَّمِ، وَحَصَرَ الْمَدِينَةَ وَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا. وَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ خَرَجَ إِلَيْهِ عَسْكَرُ دِمَشْقَ وَقَاتَلُوهُ، وَحَمَلُوا عَلَى عَسْكَرِهِ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَانْكَشَفُوا وَتَضَعْضَعُوا، وَانْهَزَمْتِ الْعَرَبُ، وَثَبَتَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، وَأَشْرَفَ عَلَى الْأَسْرِ وَتَرَاجَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ، فَلَمَّا رَأَى شَرَفُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ، وَرَأَى أَيْضًا أَنَّ مِصْرَ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ مِنْهَا عَسْكَرٌ، وَأَتَاهُ عَنْ بِلَادِهِ (الْخَبَرُ أَنَّ أَهْلَ حَرَّانَ عَصَوْا عَلَيْهِ) رَحَلَ عَنْ دِمَشْقَ إِلَى بِلَادِهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْبِلَادَ بِفَلَسْطِينَ، فَرَحَلَ أَوَّلًا إِلَى مَرْجِ الصُّفَّرِ، فَارْتَاعَ أَهْلُ دِمَشْقَ وَتُتُش وَاضْطَرَبُوا، ثُمَّ إِنَّهُ رَحَلَ مِنْ مَرْجِ الصُّفَّرِ مُشَرِّقًا فِي الْبَرِّيَّةِ

(وَجَدَّ فِي مَسِيرِهِ) ، فَهَلَكَ مِنَ الْمَوَاشِي الْكَثِيرُ مَعَ عَسْكَرِهِ، وَمِنَ الدَّوَابِّ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَانْقَطَعَ خَلْقٌ كَثِيرٌ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ إِلَى بَغْدَاذَ مِنْ أَصْبَهَانَ، فَخَرَجَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ إِلَى لِقَائِهِ، وَنَزَلَ بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، وَضَرَبَ عَلَى بَابِهِ الطُّبُولَ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ الثَّلَاثِ، فَأُعْطِيَ مَالًا جَلِيلًا حَتَّى قَطَعَهُ، وَأَرْسَلَ الطُّبُولَ إِلَى تِكْرِيتَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْدَهْ الْأَصْبِهَانِيُّ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، بِأَصْبَهَانَ، وَكَانَ حَافِظًا فَاضِلًا، وَالْأَمِيرُ أَبُو نَصْرٍ عَلِيُّ ابْنُ الْوَزِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مَاكُولَا، مُصَنِّفُ كِتَابِ " الْإِكْمَالِ "، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ عِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ فَاضِلًا حَافِظًا، قَتَلَهُ مَمَالِيكُهُ الْأَتْرَاكُ بِكَرْمَانَ، وَأَخَذُوا مَالَهُ.

ثم دخلت سنة ست وسبعين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 476 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ عَزْلِ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ عَنْ وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ وَمَسِيرِ وَالِدِهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ إِلَى دِيَارِ بَكْرٍ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، عُزِلَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ عَنْ وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ، وَوَصَلَ يَوْمَ عُزِلَ رَسُولٌ مِنَ السُّلْطَانِ، وَنِظَامِ الْمُلْكِ، إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبَانِ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمَا بَنُو جَهِيرٍ، فَأَذِنَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَسَارُوا بِجَمِيعِ أَهْلِهِمْ وَنِسَائِهِمْ إِلَى السُّلْطَانِ، فَصَادَفُوا مِنْهُ، وَمِنْ نِظَامِ الْمُلْكِ الْإِكْرَامَ وَالِاحْتِرَامَ، وَعَقَدَ السُّلْطَانُ عَلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ دِيَارَ بَكْرٍ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ الْكُوسَاتِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ الْعَسَاكِرَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَهَا وَيَأْخُذَهَا مِنْ بَنِي مَرْوَانَ، وَأَنْ يَخْطُبَ لِنَفْسِهِ، وَيَذْكُرَ اسْمَهُ عَلَى السِّكَّةِ، فَسَارَ إِلَيْهَا. وَلَمَّا فَارَقَ بَنُو جَهِيرٍ بَغْدَاذَ رَتَّبَ فِي الدِّيوَانِ أَبُو الْفَتْحِ الْمُظَفَّرُ ابْنُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى أَبْنِيَةِ الدَّارِ وَغَيْرِهَا. ذِكْرُ عِصْيَانِ أَهْلِ حَرَّانَ عَلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ وَفَتْحِهَا. فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى أَهْلُ حَرَّانَ عَلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمِ بْنِ قُرَيْشٍ، وَأَطَاعُوا قَاضِيَهُمُ ابْنَ جَلَبَةَ، (وَأَرَادُوا هُمْ) وَابْنُ عُطَيْرٍ النُّمَيْرِيُّ تَسْلِيمَ الْبَلَدِ إِلَى

جُبْنَقْ أَمِيرِ التُّرْكُمَانِ، وَكَانَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ عَلَى دِمَشْقَ، يُحَاصِرُ تَاجَ الدَّوْلَةِ تُتُشْ بِهَا، فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَعَادَ إِلَى حَرَّانَ وَصَالَحَ ابْنَ مُلَاعِبٍ، صَاحِبَ حِمْصَ، وَأَعْطَاهُ سَلَمِيَّةَ وَرَفَنِيَّةَ، وَبَادَرَ بِالْمَسِيرِ إِلَى حَرَّانَ، فَحَصَرَهَا، وَرَمَاهَا بِالْمَنْجَنِيقِ، فَخَرَّبَ مِنْ سُورِهَا بَدَنَةً، وَفَتَحَ الْبَلَدَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَأَخَذَ الْقَاضِيَ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ، فَصَلَبَهُمْ عَلَى السُّورِ. ذِكْرُ وِزَارَةِ أَبِي شُجَاعٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ لِلْخَلِيفَةِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْخَلِيفَةُ أَبَا الْفَتْحِ ابْنَ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ مِنَ النِّيَابَةِ فِي الدِّيوَانِ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا شُجَاعٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلَعَ الْوِزَارَةِ فِي شَعْبَانَ، وَلَقَّبَهُ ظَهِيرَ الدِّينِ، وَمَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ فَأَكْثَرُوا، فَمِمَّنْ مَدَحَهُ وَهَنَّأَهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْأَبِيوَرْدِيُّ بِالْقَصِيدَةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا: هَا إِنَّهَا مُقَلُ الظِّبَاءِ الْعِينِ ... فَتَكَتْ بِسِرِّ فُؤَادِيَ الْمَكْنُونِ وَمِنْهَا: فَانْهَلَّ أَسْرَابُ الدُّمُوعِ كَأَنَّهَا ... مِنَحٌ يُتَابِعُهَا ظَهِيرُ الدِّينِ ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي الْمَحَاسِنِ بْنِ أَبِي الرِّضَا. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، (فِي شَوَّالٍ) ، قُتِلَ سَيِّدُ الرُّؤَسَاءِ أَبُو الْمَحَاسِنِ بْنُ كَمَالِ الْمُلْكِ أَبِي الرِّضَا، وَكَانَ قَدْ قَرُبَ مِنَ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ قُرْبًا عَظِيمًا، وَكَانَ أَبُوهُ يَكْتُبُ الطُّغْرَاءَ

فَقَالَ أَبُو الْمَحَاسِنِ لِلسُّلْطَانِ: سَلِّمْ إِلَيَّ نِظَامَ الْمُلْكِ وَأَصْحَابَهُ، وَأَنَا أُسَلِّمُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ أَلْفَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الْأَمْوَالَ، وَيَقْتَطِعُونَ الْأَعْمَالَ، وَعَظَّمَ عِنْدَهُ ذَخَائِرَهُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ نِظَامَ الْمُلْكِ، فَعَمِلَ سِمَاطًا عَظِيمًا، وَأَقَامَ عَلَيْهِ مَمَالِيكَهُ، وَهُمْ أُلُوفٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَأَقَامَ خَيْلَهُمْ وَسِلَاحَهُمْ عَلَى حِيَالِهِمْ، فَلَمَّا حَضَرَ السُّلْطَانُ قَالَ لَهُ: إِنَّنِي قَدْ خَدَمْتُكَ، وَخَدَمْتُ أَبَاكَ وَجَدَّكَ، وَلِي حَقُّ خِدْمَةٍ، وَقَدْ بَلَغَكَ أَخْذِي لِعُشْرِ أَمْوَالِكَ، وَصَدَقَ هَذَا، أَنَا آخُذُهُ وَأَصْرِفُهُ إِلَى هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانِ الَّذِينَ جَمَعْتُهُمْ لَكَ، وَأَصْرِفُهُ أَيْضًا إِلَى الصَّدَقَاتِ، وَالصِّلَاتِ، وَالْوُقُوفِ الَّتِي أَعْظَمُ ذِكْرِهَا وَشُكْرِهَا وَأَجْرِهَا لَكَ، وَأَمْوَالِي وَجَمِيعُ مَا أَمْلِكُهُ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَأَنَا أَقْنَعُ بِمُرَقَّعَةٍ وَزَاوِيَةٍ. فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِالْقَبْضِ عَلَى أَبِي الْمَحَاسِنِ وَأَنْ تُسْمَلَ عَيْنَاهُ، وَأَنْفَذَهُ إِلَى قَلْعَةِ سَاوَةَ. وَسَمِعَ أَبُوهُ كَمَالُ الْمُلْكِ الْخَبَرَ، فَاسْتَجَارَ بِدَارِ نِظَامِ الْمُلْكِ، فَسَلِمَ، وَبَذَلَ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ وَعُزِلَ عَنِ الطُّغْرَاءِ، وَرَتَّبَ مَكَانَهُ مُؤَيَّدَ الْمُلْكِ بْنَ نِظَامِ الْمُلْكِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مَالِكِ بْنِ عَلَوِيٍّ عَلَى الْقَيْرَوَانِ وَأَخْذِهَا مِنْهُ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ مَالِكُ بْنُ عَلَوِيٍّ الصَّخْرِيُّ الْعَرَبَ فَأَكْثَرَ، وَسَارَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ فَحَصَرَهَا، فَقَامَ الْأَمِيرُ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ قِيَامًا تَامًّا، وَرَحَلَّهُ عَنْهَا، وَلَمْ يَظْفَرْ مِنْهَا بِشَيْءٍ، فَسَارَ مَالِكٌ مِنْهَا إِلَى الْقَيْرَوَانِ فَحَصَرَهَا وَمَلَكَهَا، فَجَرَّدَ إِلَيْهِ تَمِيمٌ الْعَسَاكِرَ الْعَظِيمَةَ، فَحَصَرُوهُ بِهَا، فَلَمَّا رَأَى مَالِكٌ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِتَمِيمٍ خَرَجَ عَنْهَا وَتَرَكَهَا، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا عَسْكَرُ تَمِيمٍ وَعَادَتْ إِلَى مُلْكِهِ كَمَا كَانَتْ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَمَّ الرُّخْصُ جَمِيعَ الْبِلَادِ فَبَلَغَ كُرُّ الْحِنْطَةِ الْجَيِّدَةِ بِبَغْدَاذَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مَرَاثِيَهُ، فَمِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْخَبَّازُ، وَالْبَنْدَنِيجِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَكَانَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَاحِدَ عَصْرِهِ عِلْمًا وَزُهْدًا وَعِبَادَةً وَسَخَاءً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ فِي جَامِعِ الْقَصْرِ، وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ لِلْعَزَاءِ فِي الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ عَنِ الْعَزَاءِ. وَكَانَ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ بِبَغْدَاذَ، فَرَتَّبَ فِي التَّدْرِيسِ أَبَا سَعْدٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْمَأْمُونِ الْمُتَوَلِّي، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ نِظَامَ الْمُلْكِ أَنْكَرَهُ، وَقَالَ: كَانَ يَجِبُ أَنْ تُغْلِقَ الْمَدْرَسَةَ بَعْدَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِبَابِ الْفِرْدَوْسِ، وَهَذَا لَمْ يُفْعَلْ عَلَى غَيْرِهِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَبُو الْفَتْحِ ابْنُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَهُوَ يَنُوبُ فِي الْوِزَارَةِ، ثُمَّ صُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ الْقَصْرِ، وَدُفِنَ بِبَابِ أَبْرَزَ.

ثم دخلت سنة سبع وسبعين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 477 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ وَابْنِ مَرْوَانَ وَشَرَفِ الدَّوْلَةِ. قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَسِيرِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ فِي الْعَسَاكِرِ السُّلْطَانِيَّةِ إِلَى دِيَارِ بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ سَيَّرَ السُّلْطَانُ إِلَيْهِ أَيْضًا جَيْشًا فِيهِمُ الْأَمِيرُ أُرْتُقُ بْنُ أَكْسَبَ، وَأَمَرَهُمْ بِمُسَاعَدَتِهِ. وَكَانَ ابْنُ مَرْوَانَ قَدْ مَضَى إِلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ وَسَأَلَهُ نُصْرَتَهُ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ آمِدَ، وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَرَى أَنَّ صَاحِبَهُ كَاذِبٌ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَدَاوَةِ الْمُسْتَحْكِمَةِ، وَاجْتَمَعَا عَلَى حَرْبِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، وَسَارَا إِلَى آمِدَ، وَقَدْ نَزَلَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بِنَوَاحِيهَا، فَلَمَّا رَأَى فَخْرُ الدَّوْلَةِ اجْتِمَاعَهُمَا مَالَ إِلَى الصُّلْحِ، وَقَالَ: لَا أُوثِرُ أَنْ يَحِلَّ بِالْعَرَبِ بَلَاءٌ عَلَى يَدِي. فَعَرَفَ التُّرْكُمَانُ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ، فَرَكِبُوا لَيْلًا وَأَتَوْا إِلَى الْعَرَبِ وَأَحَاطُوا بِهِمْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ وَاشْتَدَّ، فَانْهَزَمَتِ الْعَرَبُ، وَلَمْ يَحْضُرْ هَذِهِ الْوَقْعَةَ الْوَزِيرُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ، وَلَا أُرْتُقُ، وَغَنِمَ التُّرْكُمَانُ حُلَلَ الْعَرَبُ وَدَوَابَّهُمْ، وَانْهَزَمَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، وَحَمَى نَفْسَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى فَصِيلِ آمِدَ، وَحَصَرَهُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ وَمَنْ مَعَهُ. فَلَمَّا رَأَى شَرَفُ الدَّوْلَةِ أَنَّهُ مَحْصُورٌ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَرَاسَلَ الْأَمِيرَ أُرْتُقَ، وَبَذَلَ لَهُ مَالًا، وَسَأَلَهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَيُمَكِّنَهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ آمِدَ، وَكَانَ هُوَ عَلَى حِفْظِ الطُّرُقِ وَالْحِصَارِ، فَلَمَّا سَمِعَ أُرْتُقُ مَا بَذَلَ لَهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ أَذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ، فَخَرَجَ مِنْهَا فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقَصَدَ الرَّقَّةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُرْتُقَ بِمَا كَانَ

وَعَدَهُ بِهِ، وَسَارَ ابْنُ جَهِيرٍ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ وَمَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ مَنْصُورُ بْنُ مَزْيَدٍ، وَابْنُهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ، فَفَارَقُوهُ وَعَادُوا إِلَى الْعِرَاقِ، وَسَارَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ إِلَى خِلَاطَ. وَلَمَّا اسْتَوْلَى الْعَسْكَرُ السُّلْطَانِيُّ عَلَى حُلَلِ الْعَرَبِ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ، وَسَبَوْا حَرِيمَهُمْ، بَذَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَمْوَالَ، وَافَتَكَّ أَسْرَى بَنِي عُقَيْلٍ وَنِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ وَجَهَّزَهُمْ جَمِيعَهُمْ وَرَدَّهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَفَعَلَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَأَسْدَى مَكْرُمَةً شَرِيفَةً، وَمَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ فِي ذَلِكَ فَأَكْثَرُوا، فَمِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ خَلِيفَةَ السِّنْبِسِيُّ يَذْكُرُ ذَلِكَ فِي قَصِيدَةٍ: كَمَا أَحْرَزْتَ شُكْرَ بَنِي عُقَيْلٍ ... بِآمِدَ يَوْمَ كَظَّهُمُ الْحِذَارُ غَدَاةَ رَمَتْهُمُ الْأَتْرَاكُ طُرًّا ... بِشُهُبٍ فِي حَوَافِلِهَا ازْوِرَارُ فَمَا جَبُنُوا، وَلَكِنْ فَاضَ بَحْرٌ ... عَظِيمٌ لَا تُقَاوِمُهُ الْبِحَارُ فَحِينَ تَنَازَلُوا تَحْتَ الْمَنَايَا ... وَفِيهِنَّ الرَّزِيَّةُ وَالدَّمَارُ مَنَنْتَ عَلَيْهِمُ، وَفَكَكْتَ عَنْهُمْ ... وَفِي أَثْنَاءِ حَبْلِهُمُ انْتِشَارُ وَلَوْلَا أَنْتَ لَمْ يَنْفَكَّ مِنْهُمْ ... أَسِيرٌ حِينَ أَعْلَقَهُ الْإِسَارُ. فِي أَبْيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَذَكَرَهَا أَيْضًا الْبَنْدَنِيجِيُّ فَأَحْسَنَ، وَلَوْلَا خَوْفُ التَّطْوِيلِ لَذَكَرْتُ أَبْيَاتِهِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْمَوْصِلِ. لَمَّا بَلَغَ السُّلْطَانَ أَنَّ شَرَفَ الدَّوْلَةِ انْهَزَمَ وَحُصِرَ بِآمِدَ لَمْ يَشُكَّ فِي أَسْرِهِ فَخَلَعَ عَلَى عَمِيدِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ، وَسَيَّرَهُ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَكَاتَبَ أُمَرَاءَ التُّرْكُمَانِ بِطَاعَتِهِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ آقْسَنْقَرْ، قَسِيمَ الدَّوْلَةِ جَدَّ مُلُوكِنَا أَصْحَابِ الْمَوْصِلِ، وَهُوَ الَّذِي أَقْطَعَهُ السُّلْطَانُ بَعْدَ ذَلِكَ حَلَبَ.

وَكَانَ الْأَمِيرُ أُرْتُقْ قَدْ قَصَدَ السُّلْطَانَ، فَعَادَ صُحْبَةَ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ مِنَ الطَّرِيقِ فَسَارَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَهْلِهَا يُشِيرُ عَلَيْهِمْ بِطَاعَةِ السُّلْطَانِ وَتَرْكِ عِصْيَانِهِ، فَفَتَحُوا لَهُ الْبَلَدَ وَسَلَّمُوهُ إِلَيْهِ، وَسَارَ السُّلْطَانُ بِنَفْسِهِ وَعَسَاكِرِهِ إِلَى بِلَادِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ لِيَمْلِكَهَا، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِخُرُوجِ أَخِيهِ تُكَشْ بِخُرَاسَانَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَرَأَى شَرَفَ الدَّوْلَةِ قَدْ خَلَصَ مِنَ الْحَصْرِ، فَأَرْسَلَ مُؤَيَّدَ الْمُلْكِ بْنَ نِظَامِ الْمُلْكِ إِلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ مُقَابِلَ الرَّحْبَةِ، فَأَعْطَاهُ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ، وَأَحْضَرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَهُوَ بِالْبَوَازِيجِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ آخِرَ رَجَبٍ، وَكَانَتْ أَمْوَالُهُ قَدْ ذَهَبَتْ، فَاقْتَرَضَ مَا خَدَمَ بِهِ، وَحَمَلَ لِلسُّلْطَانِ خَيْلًا رَائِقَةً، مِنْ جُمْلَتِهَا فَرَسُهُ بَشَّارٌ وَهُوَ فَرَسُهُ الْمَشْهُورُ الَّذِي نَجَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَعْرَكَةِ، وَمِنْ آمِدَ أَيْضًا، وَكَانَ سَابِقًا لَا يُجَارَى، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِأَنْ يُسَابِقَ بِهِ الْخَيْلَ، فَجَاءَ سَابِقًا، فَقَامَ السُّلْطَانُ قَائِمًا لِمَا تَدَاخَلَهُ مِنَ الْعَجَبِ. وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ النَّقِيبَ طِرَادًا الزَّيْنَبِيَّ فِي لِقَاءِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، فَلَقِيَهُ بِالْمَوْصِلِ فَزَادَ أَمْرُ الدَّوْلَةِ قُوَّةً، وَصَالَحَهُ السُّلْطَانُ، وَأَقَرَّهُ عَلَى بِلَادِهِ، وَعَادَ إِلَى خُرَاسَانَ لِحَرْبِ أَخِيهِ. ذِكْرُ عِصْيَانِ تُكَشْ عَلَى أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ. قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَذِكْرُ مُصَالَحَتِهِ لِلسُّلْطَانِ، فَلَمَّا كَانَ الْآنُ، وَرَأَى بُعْدَ السُّلْطَانِ عَنْهُ عَاوَدَ الْعِصْيَانَ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُؤْثِرُونَ الِاخْتِلَاطَ، فَحَسَّنُوا لَهُ مُفَارَقَةَ طَاعَةِ أَخِيهِ، فَأَجَابَهُمْ، وَسَارَ مَعَهُمْ، فَمَلَكَ مَرْوَ الرُّوذِ وَغَيْرَهَا إِلَى قَلْعَةٍ تُقَارِبُ سَرْخَسَ، وَهِيَ

لِمَسْعُودِ ابْنِ الْأَمِيرِ يَاخَزْ، وَقَدْ حَصَّنَهَا جُهْدَهُ، فَحَصَرُوهُ بِهَا، وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ أَخْذِهَا مِنْهُ. فَاتَّفَقَ أَبُو الْفُتُوحِ الطُّوسِيُّ، صَاحِبُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَهُوَ بِنَيْسَابُورَ، وَعَمِيدُ خُرَاسَانَ، وَهُوَ أَبُو عَلِيٍّ، عَلَى أَنْ يَكْتُبَ أَبُو الْفُتُوحِ مُلَطِّفًا إِلَى مَسْعُودِ بْنِ يَاخَزْ، وَكَانَ خَطُّ أَبِي الْفُتُوحِ أَشْبَهَ شَيْءٍ بِخَطِّ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَيَقُولُ فِيهِ: كَتَبْتُ هَذِهِ الرُّقْعَةَ مِنَ الرَّيِّ يَوْمَ كَذَا، وَنَحْنُ سَائِرُونَ مِنَ الْغَدِ نَحْوَكَ، فَاحْفَظِ الْقَلْعَةَ، وَنَحْنُ نَكْبِسُ الْعَدُوَّ فِي لَيْلَةِ كَذَا. وَاسْتَدْعَيَا فَيْجًا يَثِقُونَ بِهِ، وَأَعْطَيَاهُ دَنَانِيرَ صَالِحَةً وَقَالَا: سِرْ نَحْوَ مَسْعُودٍ، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَى الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ فَأَقِمْ بِهِ وَنَمْ وَأَخْفِ هَذَا الْمُلَطِّفَ فِي بَعْضِ حِيطَانِهِ فَسَتَأْخُذُكَ طَلَائِعُ تُكَشْ، فَلَا تَعْتَرِفُ لَهُمْ حَتَّى يَضْرِبُوكَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ وَبَالَغُوا فَأَخْرِجْهُ لَهُمْ، وَقُلْ إِنَّكَ فَارَقْتَ السُّلْطَانَ بِالرَّيِّ، وَلَكَ مِنَّا الْحِبَاءُ وَالْكَرَامَةُ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَجَرَى الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفَا، وَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْ تُكَشْ وَضُرِبَ، وَعُرِضَ عَلَى الْقَتْلِ، فَأَظْهَرَ الْمُلَطِّفَ وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ فَارَقَ السُّلْطَانَ وَنِظَامَ الْمُلْكِ بِالرَّيِّ فِي الْعَسَاكِرِ، وَهُوَ سَائِرٌ، فَلَمَّا وَقَفُوا عَلَى الْمُلَطِّفِ، وَسَمِعُوا كَلَامَ الرَّجُلِ، سَارُوا مِنْ وَقْتِهِمْ، وَتَرَكُوا خِيَامَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ، وَالْقُدُورَ عَلَى النَّارِ، فَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى مَا فِيهَا، وَعَادُوا إِلَى قَلْعَةِ وَنَجَ. وَكَانَ هَذَا مِنَ الْفَرَجِ الْعَجِيبِ. فَنَزَلَ مَسْعُودٌ وَأَخَذَ مَا فِي الْمُعَسْكَرِ. وَوَرَدَ السُّلْطَانُ إِلَى خُرَاسَانَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَلَوْلَا هَذَا الْفِعْلُ لَنَهَبَ تُكَشْ إِلَى بَابِ الرَّيِّ. وَلَمَّا وَصَلَ السُّلْطَانُ قَصَدَ تُكَشْ وَأَخَذَهُ وَكَانَ قَدْ حَلَفَ لَهُ بِالْأَيْمَانِ أَنَّهُ لَا يُؤْذِيهِ، وَلَا يَنَالُهُ مِنْهُ مَكْرُوهٌ، فَأَفْتَاهُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ بِأَنْ يَجْعَلَ الْأَمْرَ إِلَى وَلَدِهِ أَحْمَدَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَحْمَدُ بِكَحْلِهِ، فَكُحِلَ وَسُجِنَ.

ذِكْرُ فَتْحِ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشْ أَنْطَاكِيَةَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ قُتُلْمِشْ صَاحِبُ قُونِيَةَ وَأَقْصَرَا وَأَعْمَالِهَا مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، إِلَى الشَّامِ، فَمَلَكَ مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَكَانَتْ بِيَدِ الرُّومِ مِنْ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَسَبَبُ مُلْكِ سُلَيْمَانَ أَنَّ صَاحِبَهَا الْفِرْدَوْسَ الرُّومِيَّ كَانَ قَدْ سَارَ عَنْهَا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ وَرَتَّبَ بِهَا شِحْنَةً، وَكَانَ الْفِرْدَوْسُ مُسِيئًا إِلَى أَهْلِهَا. وَإِلَى جُنْدِهِ أَيْضًا، حَتَّى إِنَّهُ حَبَسَ ابْنَهُ، فَاتَّفَقَ ابْنُهُ وَالشِّحْنَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَلَدِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشْ، وَكَاتَبُوهُ يَسْتَدْعُونَهُ، فَرَكِبَ الْبَحْرَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ وَكَثِيرٍ مِنَ الرَّجَّالَةِ وَخَرَجَ مِنْهُ، وَسَارَ فِي جِبَالٍ وَعِرَةٍ، وَمَضَايِقَ شَدِيدَةٍ، حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهَا لِلْمَوْعِدِ، فَنَصَبَ السَّلَالِيمَ، بِاتِّفَاقٍ مِنَ الشِّحْنَةِ وَمَنْ مَعَهُ، وَصَعِدَ السُّورَ، وَاجْتَمَعَ بِالشِّحْنَةِ وَأَخَذَ الْبَلَدَ فِي شَعْبَانَ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ، فَهَزَمَهُمْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ عَفَا عَنْهُمْ وَتَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ الْمَعْرُوفَةَ بِالْقُسْيَانِ، وَأُخِذَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا يُجَاوِزُ الْإِحْصَاءَ، وَأَحْسَنَ إِلَى الرَّعِيَّةِ، وَعَدَلَ فِيهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِعِمَارَةِ مَا خَرِبَ، وَمَنَعَ أَصْحَابَهُ مِنَ النُّزُولِ فِي دُورِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ. وَلَمَّا مَلَكَ سُلَيْمَانُ أَنْطَاكِيَةَ أَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ يُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ، وَيَنْسُبُ هَذَا الْفَتْحَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَمِمَّنْ يَتَوَلَّى طَاعَتَهُ، فَأَظْهَرَ مَلِكْشَاهْ الْبِشَارَةَ بِهِ وَهَنَّأَهُ النَّاسُ، فَمِمَّنْ قَالَ فِيهِ الْأَبِيوَرْدِيُّ مِنْ قَصِيدَةٍ مَطْلَعُهَا: لَمَعَتْ كَنَاصِيَةِ الْحِصَانِ الْأَشْقَرِ ... نَارٌ بِمُعْتَلِجِ الْكَثِيبِ الْأَعْفَرِ وَفَتَحْتَ أَنْطَاكِيَّةَ الرُّومِ الَّتِي ... نَشَرَتْ مَعَاقِلَهَا عَلَى الْإِسْكَنْدَرِ وَطِئَتْ مَنَاكِبَهَا جِيَادُكَ فَانْثَنَتْ ... تُلْقِي أَجِنَّتَهَا بَنَاتُ الْأَصْفَرِ. وَهِيَ طَوِيلَةٌ.

ذِكْرُ قَتْلِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ وَمُلْكِ أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ. قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مُلْكِ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشْ مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ، فَلَمَّا مَلَكَهَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشٍ ; يَطْلُبُ مِنْهُ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ الْفِرْدَوْسُ مِنَ الْمَالِ، وَيُخَوِّفُهُ مَعْصِيَةَ السُّلْطَانِ، فَأَجَابَهُ: أَمَّا طَاعَةُ السُّلْطَانِ، فَهِيَ شِعَارِي، وَدِثَارِي وَالْخُطْبَةُ لَهُ، وَالسِّكَّةُ فِي بِلَادِي، وَقَدْ كَاتَبْتُهُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيَّ بِسَعَادَتِهِ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ، وَأَعْمَالِ الْكُفَّارِ. وَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ قَبْلِي، فَهُوَ كَانَ كَافِرًا، وَكَانَ يَحْمِلُ جِزْيَةَ رَأْسِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَأَنَا بِحَمْدِ اللَّهِ مُؤْمِنٌ، وَلَا أَحْمِلُ شَيْئًا، فَنَهَبَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ بَلَدَ أَنْطَاكِيَةَ، فَنَهَبَ سُلَيْمَانُ أَيْضًا بَلَدَ حَلَبَ، فَلَقِيَهُ أَهْلُ السَّوَادِ يَشْكُونَ إِلَيْهِ نَهْبَ عَسْكَرِهِ، فَقَالَ: أَنَا كُنْتُ أَشَدَّ كَرَاهِيَةً لِمَا يَجْرِي، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ أَحْوَجَنِي إِلَى مَا فَعَلْتُ وَلَمْ تَجْرِ عَادَتِي بِنَهْبِ مَالِ مُسْلِمٍ، وَلَا أَخْذِ مَا حَرَّمَتْهُ الشَّرِيعَةُ. وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِإِعَادَةِ مَا أَخَذُوهُ مِنْهُمْ فَأَعَادَهُ. ثُمَّ إِنَّ شَرَفَ الدَّوْلَةِ جَمَعَ الْجُمُوعَ مِنَ الْعَرَبِ وَالتُّرْكُمَانِ وَكَانَ مِمَّنْ مَعَهُ جُبُقْ أَمِيرُ التُّرْكُمَانِ فِي أَصْحَابِهِ، وَسَارَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ لِيَحْصُرَهَا. فَلَمَّا سَمِعَ سُلَيْمَانُ الْخَبَرَ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَيْهِ، فَالْتَقَيَا فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فِي طَرَفٍ مِنْ أَعْمَالِ أَنْطَاكِيَةَ، وَاقْتَتَلُوا، فَمَالَ تَرْكُمَانُ جُبُقْ إِلَى سُلَيْمَانَ، فَانْهَزَمَتِ الْعَرَبُ وَتَبِعَهُمْ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُنْهَزِمًا، فَقُتِلَ بَعْدَ أَنْ صَبَرَ، وَقُتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَرْبَعُمِائَةِ غُلَامٍ مِنْ أَحْدَاثِ حَلَبَ، وَكَانَ قَتْلُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الرَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَذَكَرْتُهُ هَاهُنَا لِتَتْبَعَ الْحَادِثَةُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَكَانَ أَحْوَلَ، وَكَانَ قَدْ مَلَكَ مِنَ السَّنْدِيَّةِ الَّتِي عَلَى نَهْرِ عِيسَى إِلَى مَنْبِجَ مِنَ

الشَّامِ، وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَ فِي يَدِهِ دِيَارُ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ وَحَلَبَ، وَمَا كَانَ لِأَبِيهِ وَعَمِّهِ قِرْوَاشَ، وَكَانَ عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، وَالْأَمْنُ فِي بِلَادِهِ عَامٌّ، وَالرُّخْصُ شَامِلٌ، وَكَانَ يَسُوسُ بِلَادَهُ سِيَاسَةً عَظِيمَةً بِحَيْثُ يَسِيرُ الرَّاكِبُ وَالرَّاكِبَانِ فَلَا يَخَافَانِ شَيْئًا. وَكَانَ لَهُ فِي كُلِّ بَلَدٍ وَقَرْيَةٍ عَامِلٌ، وَقَاضٍ، وَصَاحِبُ خَبَرٍ، بِحَيْثُ لَا يَتَعَدَّى أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. وَلَمَّا قُتِلَ قَصَدَ بَنُو عُقَيْلٍ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ قُرَيْشٍ، وَهُوَ مَحْبُوسٌ، فَأَخْرَجُوهُ وَمَلَّكُوهُ أَمْرَهُمْ، وَكَانَ قَدْ مَكَثَ فِي الْحَبْسِ سِنِينَ كَثِيرَةً بِحَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ الْمَشْيُ وَالْحَرَكَةُ لَمَّا أُخْرِجَ، وَلَمَّا قُتِلَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ سَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ قُتُلْمِشْ إِلَى حَلَبَ فَحَصَرَهَا مُسْتَهَلَّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، فَأَقَامَ عَلَيْهَا إِلَى خَامِسِ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنَ السَّنَةِ، فَلَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا غَرَضًا، فَرَحَلَ عَنْهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، انْقَضَّ كَوْكَبٌ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، كَانَ حَجْمُهُ كَالْقَمَرِ وَضَوْءُهُ كَضَوْئِهِ، وَسَارَ مَدًى بَعِيدًا عَلَى مَهَلٍ وَتُؤَدَةٍ فِي نَحْوِ سَاعَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَبِيهٌ مِنَ الْكَوَاكِبِ. وَفِيهَا وُلِدَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ بْنُ مَلِكْشَاهْ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، بِمَدِينَةٍ سِنْجَارَ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ مُقَارِبَ الْمَوْصِلِ بَيْنَهُمَا يَوْمَانِ، عِنْدَ نُزُولِ السُّلْطَانِ بِهَا، وَسَمَّاهُ أَحْمَدَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ سَنْجَرْ بَاسِمِ الْمَدِينَةِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ السَّيِّدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الصَّبَّاغِ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، صَاحِبُ الشَّامِلِ وَالْكَامِلِ، وَكِفَايَةِ الْمَسَائِلِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّصَانِيفِ، بَعْدَ أَنْ أَضَرَّ عِدَّةَ سِنِينَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ. وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَغْدَاذِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَقَّالِ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ إِلَيْهِ الْقَضَاءُ بِبَابِ الْأَزْجِ، وَحَجَّ لَمَّا انْقَطَعَ الْحَجُّ عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ. وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعَدَةَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو الْقَاسِمِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، الْجُرْجَانِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ إِمَامًا فَقِيهًا شَافِعِيًّا، مُحَدِّثًا، أَدِيبًا، وَدَارُهُ مَجْمَعُ الْعُلَمَاءِ.

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 478 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْفِرِنْجِ عَلَى مَدِينَةِ طُلَيْطُلَةَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى الْفِرِنْجُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، عَلَى مَدِينَةِ طُلَيْطُلَةَ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَأَخَذُوهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْبِلَادِ وَأَحْصَنِهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَذْفُونْش، مَلِكَ الْفِرِنْجِ بِالْأَنْدَلُسِ، كَانَ قَدْ قَوِيَ شَأْنُهُ، وَعَظُمَ مُلْكُهُ وَكَثُرَتْ عَسَاكِرُهُ، مُذْ تَفَرَّقَتْ بِلَادُ الْأَنْدَلُسِ، وَصَارَ كُلُّ بَلَدٍ بِيَدِ مَلِكٍ، فَصَارُوا مِثْلَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، فَحِينَئِذٍ طَمِعَ الْفِرِنْجُ فِيهِمْ، وَأَخَذُوا كَثِيرًا مِنْ ثُغُورِهِمْ. وَكَانَ قَدْ خَدَمَ قَبْلَ ذَلِكَ صَاحِبَهَا الْقَادِرَ بِاللَّهِ بْنَ الْمَأْمُونِ بْنِ يَحْيَى بْنِ ذِي النُّونِ، وَعَرَفَ مِنْ أَيْنَ يُؤْتَى الْبَلَدُ، وَكَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى مُلْكِهِ. فَلَمَّا كَانَ الْآنُ جَمَعَ الْأَذْفُونْشْ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ طُلَيْطُلَةَ فَحَصَرَهَا سَبْعَ سِنِينَ، وَأَخَذَهَا مِنَ الْقَادِرِ، فَازْدَادَ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِهِ. وَكَانَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ أَعْظَمَ مُلُوكِ الْأَنْدَلُسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ يَمْلِكُ أَكْثَرَ الْبِلَادِ مِثْلَ قُرْطُبَةَ وَإِشْبِيلِيَّةَ، وَكَانَ يُؤَدِّي إِلَى الْأَذْفُونْشْ ضَرِيبَةً كُلَّ سَنَةٍ. فَلَمَّا مَلَكَ الْأَذْفُونْشْ طُلَيْطُلَةَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُعْتَمِدُ الضَّرِيبَةَ عَلَى عَادَتِهِ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ أَنَّهُ يَسِيرُ إِلَى مَدِينَةَ قُرْطُبَةَ وَيَتَمَلَّكُهَا إِلَّا أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ جَمِيعَ الْحُصُونِ الَّتِي فِي الْجَبَلِ، وَيُبْقِيَ السَّهْلَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ الرَّسُولُ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ كَانُوا خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَنْزَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ عَلَى قُوَّادِ عَسْكَرِهِ، ثُمَّ أَمَرَ كُلَّ مَنْ عِنْدَهُ مِنْهُمْ رَجُلٌ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَأَحْضَرَ الرَّسُولَ وَصَفَعَهُ حَتَّى خَرَجَتْ عَيْنَاهُ، وَسَلِمَ مِنَ الْجَمَاعَةِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَعَادُوا إِلَى الْأَذْفُونْشْ

فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ وَكَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى قُرْطُبَةَ لِيُحَاصِرَهَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ عَادَ إِلَى طُلَيْطُلَةَ لِيَجْمَعَ آلَاتِ الْحِصَارِ، وَرَحَلَ الْمُعْتَمِدُ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ ابْنِ جَهِيرٍ عَلَى آمِدَ. فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ ابْنُ جَهِيرٍ آمِدَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ فَخْرَ الدَّوْلَةِ بْنَ جَهِيرٍ كَانَ قَدْ أَنْفَذَ إِلَيْهَا وَلَدَهُ زَعِيمَ الرُّؤَسَاءِ أَبَا الْقَاسِمِ، وَمَعَهُ جَنَاحُ الدَّوْلَةِ، الْمَعْرُوفُ بِالْمُقَدَّمِ السَّالَارِ، وَأَرَادُوا قَلْعَ كُرُومِهَا وَبَسَاتِينِهَا، وَلَمْ يَطْمَعْ مَعَ ذَلِكَ فِي فَتْحِهَا لِحَصَانَتِهَا، فَعَمَّ أَهْلَهَا الْجُوعُ وَتَعَذَّرَتِ الْأَقْوَاتُ، وَكَادُوا يَهْلِكُونَ وَهُمْ صَابِرُونَ عَلَى الْحِصَارِ، غَيْرُ مُكْتَرِثِينَ لَهُ. فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ الْجُنْدِ نَزَلَ مِنَ السُّورِ لِحَاجَةٍ لَهُمْ، وَتَرَكُوا أَسْلِحَتَهُمْ مَكَانَهَا، فَصَعِدَ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ عَدَدٌ مِنَ الْعَامَّةِ تَقَدَّمَهُمْ رَجُلٌ مِنَ السَّوَادِ يُعْرَفُ بِأَبِي الْحَسَنِ فَلَبِسَ السِّلَاحَ، وَوَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَنَادَى بِشِعَارِ السُّلْطَانِ وَفَعَلَ مَنْ مَعَهُ كَفِعْلِهِ، وَطَلَبُوا زَعِيمَ الرُّؤَسَاءِ فَأَتَاهُمْ وَمَلَكَ الْبَلَدَ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى نَهْبِ بُيُوتِ النَّصَارَى لِمَا كَانُوا يَلْقَوْنَ مِنْ نُوَّابِ بَنِي مَرْوَانَ مِنَ الْجَوْرِ وَالْحُكْمِ، وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ نَصَارَى، فَانْتَقَمُوا مِنْهُمْ. ذِكْرُ مِلْكِهِ أَيْضًا مَيَّافَارِقِينَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا، فِي سَادِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، مَلَكَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ مَيَّافَارِقِينَ، وَكَانَ مُقِيمًا عَلَى حِصَارِهَا، فَوَصَلَ إِلَيْهِ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوهَرَائِينْ فِي عَسْكَرِهِ نَجْدَةً لَهُ

فَجَدَّ فِي الْقِتَالِ فَسَقَطَ مِنْ سُورِهَا قِطْعَةٌ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُهَا ذَلِكَ نَادَوْا بِشِعَارِ مَلِكْشَاهْ، وَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي مَرْوَانَ وَأَنْفَذَهُ إِلَى السُّلْطَانِ مَعَ ابْنِهِ زَعِيمِ الرُّؤَسَاءِ، فَانْحَدَرَ هُوَ وَكُوهَرَائِينْ إِلَى بَغْدَاذَ، وَسَارَ زَعِيمُ الرُّؤَسَاءِ مِنْهَا إِلَى أَصْبَهَانَ، فَوَصَلَهَا فِي شَوَّالٍ، وَأَوْصَلَ مَا مَعَهُ إِلَى السُّلْطَانِ. ذِكْرُ مُلْكِ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ جَيْشًا إِلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَهِيَ لِبَنِي مَرْوَانَ أَيْضًا، فَحَصَرُوهَا، فَثَارَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ أَهْلِهَا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو وَهْبَانَ، وَهُمْ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِهَا، وَقَصَدُوا بَابًا لِلْبَلَدِ صَغِيرًا يُقَالُ لَهُ بَابُ الْبُوَيْبَةِ لَا يَسْلُكُهُ إِلَّا الرَّجَّالَةُ لِأَنَّهُ يُصْعَدُ إِلَيْهِ مِنْ ظَاهِرِ الْبَلَدِ بِدَرَجٍ، فَكَسَرُوهُ، وَأَدْخَلُوا الْعَسْكَرَ، فَمَلَكَهُ، وَانْقَرَضَتْ دَوْلَةُ بَنِي مَرْوَانَ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ. وَهَؤُلَاءِ بَنُو وَهْبَانَ، إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، كُلَّمَا جَاءَ إِلَى الْجَزِيرَةِ مَنْ يَحْصُرُهَا يَخْرُجُونَ مِنَ الْبَلَدِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ، وَلَا مَنْزِلَةٌ يَفْعَلُ بِهَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا بِتِلْكَ الْحَرَكَةِ يُؤْخَذُونَ إِلَى الْآنِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، (فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ) ، وَصَلَ أَمِيرُ الْجُيُوشِ فِي عَسَاكِرِ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، فَحَصَرَ دِمَشْقَ، وَبِهَا صَاحِبُهَا تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشْ، فَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَقَاتَلَهُ، فَلَمْ يَظْفَرْ مِنْهَا بِشَيْءٍ، فَرَحَلَ عَنْهَا عَائِدًا إِلَى مِصْرَ.

وَفِيهَا كَانَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَسَائِرِ الْمَحَالِّ مِنْ بَغْدَاذَ، وَأَحْرَقُوا مِنْ نَهْرِ الدَّجَاجِ دَرْبَ الْآجُرِّ وَمَا قَارَبَهُ، وَأَرْسَلَ الْوَزِيرُ أَبُو شُجَاعٍ جَمَاعَةً مِنَ الْجُنْدِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ تَحَرُّجًا مِنَ الْإِثْمِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ تَلَافِي الْخَطْبِ فَعَظُمَ. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ بِخُوزِسْتَانَ وَفَارِسَ، وَكَانَ أَشَدُّهَا بِأَرَّجَانَ، فَسَقَطَتِ الدُّورُ، وَهَلَكَ تَحْتَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، هَاجَتْ رِيحٌ عَظِيمَةٌ سَوْدَاءُ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَكَثُرَ الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ، وَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ رَمْلٌ أَحْمَرُ وَتُرَابٌ كَثِيرٌ، وَكَانَتِ النِّيرَانُ تَضْطَرِمُ فِي أَطْرَافِ السَّمَاءِ، وَكَانَ أَكْثَرُهَا بِالْعِرَاقِ وَبِلَادِ الْمَوْصِلِ، فَأَلْقَتِ النَّخِيلَ وَالْأَشْجَارَ وَسَقَطَ مَعَهَا صَوَاعِقُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ، حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ ثُمَّ انْجَلَى ذَلِكَ نِصْفَ اللَّيْلِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، تُوُفِّيَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَبُو الْمَعَالِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ فِي الْفِقْهِ وَالْأُصُولَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعُلُومِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيِّ وَغَيْرِهِ.

وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ أَبُو عَلِيٍّ الْمُتَكَلِّمُ، كَانَ أَحَدَ رُؤَسَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَئِمَّتِهِمْ، وَلَزِمَ بَيْتَهُ خَمْسِينَ سَنَةً لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ مِنْ عَامَّةِ بَغْدَاذَ، وَأَخَذَ الْكَلَامَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ الْهَمَذَانِيِّ الْقَاضِي، وَمِنْ جُمْلَةِ تَلَامِيذِهِ ابْنُ بُرْهَانَ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ هِبَةُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ السِّيبِيِّ، قَاضِي الْحَرِيمِ، بِنَهْرِ مُعَلَّى، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ يُذَاكِرُ الْإِمَامَ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، وَوَلِيَ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بَيْنَ يَدَيْ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ الدَّامَغَانِيِّ. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، تُوُفِّيَ أَبُو الْعِزِّ بْنُ صَدَقَةَ، وَزِيرُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ قَدْ قَبَضَ عَلَيْهِ شَرَفُ الدَّوْلَةِ وَسَجَنَهُ بِالرَّحْبَةِ، فَهَرَبَ مِنْهَا إِلَى بَغْدَاذَ، فَمَاتَ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى مَأْمَنِهِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ كَرِيمًا مُتَوَاضِعًا لَمْ تُغَيِّرْهُ الْوِلَايَةُ عَنْ إِخْوَانِهِ. وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الدَّامَغَانِيِّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَدَخَلَ بَغْدَاذَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ قَدْ صَحِبَ الْقَاضِي أَبَا الْعَلَاءِ بْنَ صَاعِدٍ، وَحَضَرَ بِبَغْدَاذَ مَجْلِسَ أَبِي الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيُّ، وَوَلِيَهُ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بَعْدَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُظَفَّرِ بْنِ بَكْرَانَ الشَّامِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَأْمُونِ بْنِ عَلِيٍّ) أَبُو سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ وَتَمَّمَ كِتَابَ " الْإِبَانَةِ ".

ثم دخلت سنة تسع وسبعين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 479 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ قَتْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشْ. لَمَّا قَتَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ قُتُلْمِشْ شَرَفَ الدَّوْلَةِ مُسْلِمَ بْنَ قُرَيْشٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ الْحُتَيْتِيِّ الْعَبَّاسِيِّ، مُقَدِّمِ أَهْلِ حَلَبَ، يَطْلُبُ مِنْهُ تَسْلِيمَهَا إِلَيْهِ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ، وَاسْتَمْهَلَهُ إِلَى أَنْ يُكَاتِبَ السُّلْطَانَ مَلِكْشَاهْ، وَأَرْسَلَ ابْنُ الْحُتَيْتِيِّ إِلَى تُتُشْ، صَاحِبِ دِمَشْقَ، يَعِدُهُ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ حَلَبَ، فَسَارَ تُتُشْ طَالِبًا لِحَلَبَ، فَعَلِمَ سُلَيْمَانُ بِذَلِكَ، فَسَارَ نَحْوَهُ مُجِدًّا، فَوَصَلَ إِلَى تُتُشْ وَقْتَ السَّحَرِ عَلَى غَيْرِ تَعْبِئَةٍ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى قَرُبَ مِنْهُ، فَعَبَّأَ أَصْحَابَهُ. وَكَانَ الْأَمِيرُ أُرْتُقُ بْنُ أَكْسَبَ مَعَ تُتُشْ، وَكَانَ مَنْصُورًا لَمْ يَشْهَدْ حَرْبًا إِلَّا وَكَانَ الظَّفَرُ لَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ حُضُورَهُ مَعَ ابْنِ جَهِيرٍ عَلَى آمِدَ، وَإِطْلَاقِهِ شَرَفَ الدَّوْلَةِ مِنْ آمِدَ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ خَافَ أَنْ يُنْهِيَ ابْنُ جَهِيرٍ ذَلِكَ إِلَى السُّلْطَانِ، فَفَارَقَ خِدْمَتَهُ، وَلَحِقَ بِتَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشْ، فَأَقْطَعَهَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، وَحَضَرَ مَعَهُ هَذِهِ الْحَرْبَ، فَأَبْلَى فِيهَا بَلَاءً حَسَنًا، وَحَرَّضَ الْعَرَبَ عَلَى الْقِتَالِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ، وَثَبَتَ وَهُوَ فِي الْقَلْبِ، فَلَمَّا رَأَى انْهِزَامَ عَسَاكِرِهِ أَخْرَجَ سِكِّينًا مَعَهُ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، وَقِيلَ بَلْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَاسْتَوْلَى تُتُشْ عَلَى عَسْكَرِهِ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ قُتُلْمِشْ، فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ (فِي صَفَرٍ) ، قَدْ أَنْفَذَ جُثَّةَ شَرَفِ

الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ عَلَى بَغْلٍ مَلْفُوفَةً فِي إِزَارٍ، وَطَلَبَ مِنْ أَهْلِهَا أَنْ يُسَلِّمُوهَا إِلَيْهِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، أَرْسَلَ تُتُشْ جُثَّةَ سُلَيْمَانَ فِي إِزَارٍ لِيُسَلِّمُوهَا إِلَيْهِ، فَأَجَابَهُ ابْنُ الْحُتَيْتِيِّ أَنَّهُ يُكَاتِبُ السُّلْطَانَ، وَمَهْمَا أَمَرَهُ فَعَلَ، فَحَصَرَ تُتُش الْبَلَدَ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ، وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهِ. وَكَانَ ابْنُ الْحُتَيْتِيِّ قَدْ سَلَّمَ كُلَّ بُرْجٍ مِنْ أَبْرَاجِهَا إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ لِيَحْفَظَهُ، وَسَلَّمَ بُرْجًا فِيهَا إِلَى إِنْسَانٍ يُعَرَفُ بِابْنِ الرَّعَوِيِّ. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْحُتَيْتِيِّ أَوْحَشَهُ بِكَلَامٍ أَغْلَظَ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ شَدِيدَ الْقُوَّةِ، وَرَأَى مَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ، فَدَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ أَرْسَلَ إِلَى تُتُشْ يَسْتَدْعِيهِ، وَوَاعَدَهُ لَيْلَةً يَرْفَعُ الرِّجَالُ إِلَى السُّورِ فِي الْحِبَالِ، فَأَتَى تُتُشْ لِلْمِيعَادِ الَّذِي ذَكَرَهُ، فَأَصْعَدَ الرِّجَالَ فِي الْحِبَالِ وَالسَّلَالِيمِ، وَمَلَكَ تُتُش الْمَدِينَةَ، وَاسْتَجَارَ ابْنُ الْحُتَيْتِيِّ بِالْأَمِيرِ أُرْتُقُ فَشَفَعَ فِيهِ، وَأَمَّا الْقَلْعَةُ فَكَانَ بِهَا سَالِمُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بَدْرَانَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمِ بْنِ قُرَيْشٍ، فَأَقَامَ تُتُشْ يَحْصُرُ الْقَلْعَةَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ بِوُصُولِ مُقَدِّمَةِ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، فَرَحَلَ عَنْهَا. ذِكْرُ مُلْكِ السُّلْطَانِ حَلَبَ وَغَيْرِهَا. كَانَ ابْنُ الْحُتَيْتِيِّ قَدْ كَاتَبَ السُّلْطَانَ مَلِكْشَاهْ يَسْتَدْعِيهِ لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِ حَلَبَ، لَمَّا خَافَ تَاجَ الدَّوْلَةِ تُتُشْ، فَسَارَ إِلَيْهِ مِنْ أَصْبَهَانَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَجَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ الْأَمِيرَ بُرْسُقَ، وَبُوزَانَ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَجَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى الْمَوْصِلِ، فَوَصَلَهَا فِي رَجَبٍ، وَسَارَ مِنْهَا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى حَرَّانَ سَلَّمَهَا إِلَيْهِ ابْنُ الشَّاطِرِ، فَأَقْطَعَهَا السُّلْطَانُ لِمُحَمَّدِ بْنِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَسَارَ إِلَى الرُّهَا، وَهِيَ بَيَدِ الرُّومِ، فَحَصَرَهَا وَمَلَكَهَا، وَكَانُوا قَدِ اشْتَرَوْهَا مِنِ ابْنِ عُطَيْرٍ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ جَعْبَرٍ، فَحَصَرَهَا يَوْمًا

وَلَيْلَةً وَمَلَكَهَا، وَقَتَلَ مَنْ بِهَا مَنْ بَنِي قُشَيْرٍ، وَأَخَذَ جَعْبَرَ مِنْ صَاحَبِهَا، وَهُوَ شَيْخٌ أَعْمَى، وَوَلَدَيْنِ لَهُ، وَكَانَتِ الْأَذِيَّةُ بِهِمْ عَظِيمَةٌ يَقْطَعُونَ الطُّرُقَ وَيَلْجَئُونَ إِلَيْهَا. ثُمَّ عَبَرَ الْفُرَاتَ إِلَى مَدِينَةِ حَلَبَ، فَمَلَكَ فِي طَرِيقِهِ مَدِينَةَ مَنْبِجَ، فَلَمَّا قَارَبَ حَلَبَ رَحَلَ عَنْهَا أَخُوهُ تُتُشْ، وَكَانَ قَدْ مَلَكَ الْمَدِينَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَسَارَ عَنْهَا يَسْلُكُ الْبَرِّيَّةَ، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ أُرْتُقُ، فَأَشَارَ بِكَبْسِ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ، وَقَالَ: إِنَّهُمْ قَدْ وَصَلُوا، وَبِهِمْ وَبِدَوَابِّهِمْ مِنَ التَّعَبِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَعَهُ امْتِنَاعٌ، وَلَوْ فَعَلَ لَظَفِرَ بِهِمْ. فَقَالَ تُتُشْ: لَا أَكْسِرُ جَاهَ أَخِي الَّذِي أَنَا مُسْتَظِلٌّ بِظِلِّهِ، فَإِنَّهُ يَعُودُ بِالْوَهَنِ عَلَيَّ أَوَّلًا. وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ، وَلَمَّا وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى حَلَبَ تَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ سَالِمُ بْنُ مَالِكٍ الْقَلْعَةَ عَلَى أَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْهَا قَلْعَةَ جَعْبَرٍ، وَكَانَ سَالِمٌ قَدِ امْتَنَعَ بِهَا أَوَّلًا، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ أَنْ يُرْمَى إِلَيْهِ رَشْقًا وَاحِدًا بِالسِّهَامِ، فَرَمَى الْجَيْشُ، فَكَادَتِ الشَّمْسُ تَحْتَجِبُ لِكَثْرَةِ السِّهَامِ، فَصَانَعَ عَنْهَا بِقَلْعَةِ جَعْبَرٍ وَسَلَّمَهَا، وَسَلَّمَ السُّلْطَانُ إِلَيْهِ قَلْعَةَ جَعْبَرٍ، فَبَقِيَتْ بِيَدِهِ وَبِيَدِ أَوْلَادِهِ إِلَى أَنْ أَخَذَهَا مِنْهُمْ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ نَصْرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُنْقِذٍ الْكِنَانِيُّ، صَاحِبُ شَيْزَرَ، فَدَخَلَ فِي طَاعَتِهِ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ اللَّاذِقِيَّةَ، وَكَفَرْطَابَ، وَأَفَامِيَةَ، فَأَجَابَهُ إِلَى الْمُسَالَمَةِ، وَتَرَكَ قَصْدَهُ، وَأَقَرَّ عَلَيْهِ شَيْزَرَ. وَلَمَّا مَلَكَ السُّلْطَانُ حَلَبَ سَلَّمَهَا إِلَى قَسِيمِ الدَّوْلَةِ آقْسَنْقَرَ، فَعَمَّرَهَا، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِيهَا.

وَأَمَّا ابْنُ الْحُتَيْتِيِّ فَإِنَّهُ كَانَ وَاثِقًا بِإِحْسَانِ السُّلْطَانِ وَنِظَامِ الْمُلْكِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ اسْتَدْعَاهُمَا، فَلَمَّا مَلَكَ السُّلْطَانُ الْبَلَدَ طَلَبَ أَهْلُهُ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنِ ابْنِ الْحُتَيْتِيِّ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى دِيَارِ بَكْرٍ، فَافْتَقَرَ، وَتُوُفِّيَ بِهَا عَلَى حَالٍ شَدِيدَةٍ مِنَ الْفَقْرِ، وَقُتِلَ وَلَدُهُ بِأَنْطَاكِيَةَ، قَتَلَهُ الْفِرِنْجُ لَمَّا مَلَكُوهَا. ذِكْرُ وَفَاةِ بِهَاءِ الدَّوْلَةِ مَنْصُورِ بْنِ مَزْيَدٍ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ صَدَقَةَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ بِهَاءُ الدَّوْلَةِ أَبُو كَامِلٍ مَنْصُورُ بْنُ دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ، صَاحِبِ الْحُلَّةِ، وَالنِّيلِ، وَغَيْرِهِمَا (مِمَّا يُجَاوِرُهَا) ، وَلَمَّا سَمِعَ نِظَامُ الْمُلْكِ خَبَرَ وَفَاتِهِ قَالَ: مَاتَ أَجَلُّ صَاحِبِ عِمَامَةٍ، وَكَانَ فَاضِلًا قَرَأَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ بُرْهَانَ، فَبَرَعَ بِذَكَائِهِ فِي الَّذِي اسْتَفَادَ مِنْهُ وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ: فَإِنْ أَنَا لَمْ أَحْمِلْ عَظِيمًا وَلَمْ أَقُدْ ... لُهَامًا وَلَمْ أَصْبِرْ عَلَى فِعْلِ مُعَظْمِ وَلَمْ أُجِرِ الْجَانِي، وَأَمْنَعَ حَوْزَهُ ... غَدَاةَ أُنَادِي لِلْفَخَارِ وَأَنْتَمِي. وَلَهُ فِي صَاحِبٍ لَهُ يُكَنَّى أَبَا مَالِكٍ يَرْثِيهِ: فَإِنْ كَانَ أَوْدَى خِدْنُنَا، وَنَدِيمُنَا ... أَبُو مَالِكٍ، فَالنَّائِبَاتُ تَنُوبُ فَكُلُّ ابْنِ أُنْثَى لَا مَحَالَةَ مَيِّتٌ ... وَفِي كُلِّ حَيٍّ لِلْمَنُونِ نَصِيبُ وَلَوْ رَدَّ حُزْنٌ، أَوْ بُكَاءٌ لِهَالِكٍ ... بَكَيْنَاهُ مَا هَبَّتْ صَبًا وَجَنُوبُ.

وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى وَلَدِهِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ نَقِيبَ الْعَلَوِيِّينَ أَبَا الْغَنَائِمِ يُعَزِّيهِ، وَسَارَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَوَلَّاهُ مَا كَانَ لِأَبِيهِ، وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مَرَاثِي بَهَاءِ الدَّوْلَةِ. ذِكْرُ وَقْعَةِ الزَّلَّاقَةِ بِالْأَنْدَلُسِ وَهَزِيمَةِ الْفِرِنْجِ. قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ طُلَيْطُلَةَ، وَمَا فَعَلَهُ الْمُعْتَمِدُ بْنُ عَبَّادٍ بِرَسُولِ الْأَذْفُونْشِ، مَلِكِ الْفِرِنْجِ، وَعَوْدِ الْمُعْتَمِدِ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ. فَلَمَّا عَادَ إِلَيْهَا، وَسَمِعَ مَشَايِخُ قُرْطُبَةَ بِمَا جَرَى، وَرَأَوْا قُوَّةَ الْفِرِنْجِ، وَضَعْفَ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِعَانَةَ بَعْضِ مُلُوكِهِمْ بِالْفِرِنْجِ عَلَى بَعْضٍ، اجْتَمَعُوا وَقَالُوا: هَذِهِ بِلَادُ الْأَنْدَلُسِ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهَا الْفِرِنْجُ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلُ، وَإِنِ اسْتَمَرَّتِ الْأَحْوَالُ عَلَى مَا نَرَى عَادَتْ نَصْرَانِيَّةً كَمَا كَانَتْ. وَسَارُوا إِلَى الْقَاضِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَدْهَمَ، فَقَالُوا لَهُ: أَلَا تَنْظُرُ إِلَى مَا فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ، وَعَطَائِهِمُ الْجِزْيَةَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَأْخُذُونَهَا، وَقَدَ رَأَيْنَا رَأْيًا نَعْرِضُهُ عَلَيْكَ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالُوا: نَكْتُبُ إِلَى غَرْبِ إِفْرِيقِيَّةَ وَنَبْذُلُ لَهُمْ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَيْنَا قَاسَمْنَاهُمْ أَمْوَالَنَا، وَخَرْجَنَا مَعَهُمْ مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: نَخَافُ، إِذَا وَصَلُوا إِلَيْنَا، يُخَرِّبُونَ بِلَادَنَا، كَمَا فَعَلُوا بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَيَتْرُكُونَ الْفِرِنْجَ وَيَبْدَءُونَ بِكُمْ، وَالْمُرَابِطُونَ أَصْلَحُ مِنْهُمْ وَأَقْرَبُ إِلَيْنَا. قَالُوا لَهُ: فَكَاتِبْ أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ، وَارْغَبْ إِلَيْهِ لِيَعْبُرَ إِلَيْنَا، وَيُرْسِلَ بَعْضَ قُوَّادِهِ. وَقَدِمَ عَلَيْهِمُ الْمُعْتَمِدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي ابْنُ أَدْهَمَ مَا كَانُوا فِيهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّادٍ: أَنْتَ رَسُولِي إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَامْتَنَعَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَ نَفْسَهُ مِنْ تُهْمَةٍ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ الْمُعْتَمِدُ، فَسَارَ إِلَى أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ (يُوسُفَ بْنِ تَاشْفِينَ) ، فَأَبْلَغَهُ الرِّسَالَةَ، وَأَعْلَمَهُ مَا فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ الْأَذْفُونْشِ. وَكَانَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ بِمَدِينَةِ سَبْتَةَ، فَفِي الْحَالِ أَمَرَ بِعُبُورِ الْعَسَاكِرِ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَرَّاكُشَ فِي طَلَبِ مَنْ بَقِيَ مِنْ عَسَاكِرِهِ، فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ تَتْلُو بَعْضَهَا بَعْضًا، فَلَمَّا تَكَامَلَتْ عِنْدَهُ عَبَرَ الْبَحْرَ وَسَارَ، فَاجْتَمَعَ بِالْمُعْتَمِدِ بْنِ عَبَّادٍ بِإِشْبِيلِيَّةَ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ

عَسَاكِرَهُ أَيْضًا، وَخَرَجَ مِنْ أَهْلِ قُرْطُبَةَ عَسْكَرٌ كَثِيرٌ، وَقَصَدَهُ الْمُتَطَوِّعَةُ مِنْ سَائِرِ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ. وَوَصَلَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى الْأَذْفُونْشِ، فَجَمَعَ فُرْسَانَهُ وَسَارَ مِنْ طُلَيْطُلَةَ، وَكَتَبَ إِلَى أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ كِتَابًا كَتَبَهُ لَهُ بَعْضُ أُدَبَاءِ الْمُسْلِمِينَ، يُغْلِظُ لَهُ الْقَوْلُ، وَيَصِفُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، وَبَالَغَ الْكَاتِبُ فِي الْكِتَابِ. فَأَمَرَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْقَصِيرَةِ أَنْ يُجِيبَهُ، وَكَانَ كَاتِبًا مُفْلِقًا، فَكَتَبَ فَأَجَادَ، فَلَمَّا قَرَأَهُ عَلَى أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: هَذَا كِتَابٌ طَوِيلٌ، أَحْضِرْ كِتَابَ الْأَذْفُونْشِ وَاكْتُبْ فِي ظَهْرِهِ الَّذِي يَكُونُ سَتْرًا لَهُ. فَلَمَّا عَادَ الْكِتَابُ إِلَى الْأَذْفُونْشِ ارْتَاعَ لِذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ بُلِيَ بِرَجُلٍ لَهُ عَزْمٌ وَحَزْمٌ، فَازْدَادَ اسْتِعْدَادًا، فَرَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّهُ رَاكِبُ فِيلٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ طَبْلٌ صَغِيرٌ، وَهُوَ يَنْقُرُ فِيهِ، فَقَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى الْقِسِّيسِينَ، فَلَمْ يَعْرِفُوا تَأْوِيلَهَا فَأَحْضَرَ رَجُلًا مُسْلِمًا، عَالِمًا بِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، فَقَصَّهَا عَلَيْهِ، فَاسْتَعْفَاهُ مِنْ تَعْبِيرِهَا، فَلَمْ يُعْفِهِ، فَقَالَ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الرُّؤْيَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ - فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ - عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 8 - 10] ، وَيَقْتَضِي هَلَاكَ هَذَا الْجَيْشِ الَّذِي تَجْمَعُهُ. فَلَمَّا اجْتَمَعَ جَيْشُهُ رَأَى كَثْرَتَهُ فَأَعْجَبَتْهُ، فَأَحْضَرَ ذَلِكَ الْمُعَبِّرَ، وَقَالَ لَهُ: بِهَذَا الْجَيْشِ أَلْقَى إِلَهَ مُحَمَّدٍ، صَاحِبِ كِتَابِكُمْ، فَانْصَرَفَ الْمُعَبِّرُ، وَقَالَ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ: هَذَا الْمَلِكُ هَالِكٌ وَكُلُّ مَنْ مَعَهُ، وَذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ» " الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: " «وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» ". وَسَارَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُعْتَمِدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَتَّى أَتَوْا أَرْضًا يُقَالُ لَهَا الزَّلَّاقَةُ، مِنْ بَلَدِ بَطَلْيُوسَ، وَأَتَى الْأَذْفُونْشَ فَنَزَلَ مَوْضِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا، فَقِيلَ لِأَمِيرِ

الْمُسْلِمِينَ: إِنَّ ابْنَ عَبَّادٍ رُبَّمَا لَمْ يَنْصَحْ، وَلَا يَبْذُلُ نَفْسَهُ دُونَكَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُقَدِّمَةِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَارَ، وَقَدْ ضَرَبَ الْأَذْفُونْشَ خِيَامَهُ فِي لَحْفِ جَبَلٍ، وَالْمُعْتَمِدُ فِي سَفْحِ جَبَلٍ آخَرَ، يَتَرَاءَوْنَ، وَيَنْزِلُ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ وَرَاءَ الْجَبَلِ الَّذِي عِنْدَهُ الْمُعْتَمِدُ، وَظَنَّ الْأَذْفُونْشُ أَنَّ عَسَاكِرَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ إِلَّا الَّذِي يَرَاهُ. وَكَانَ الْفِرِنْجُ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا، فَتَيَقَّنُوا الْغَلَبَ، وَأَرْسَلَ الْأَذْفُونْشُ إِلَى الْمُعْتَمِدِ فِي مِيقَاتِ الْقِتَالِ، وَقَصَدَهُ الْمَلِكُ، فَقَالَ: غَدًا الْجُمُعَةُ، وَبَعْدَهُ الْأَحَدُ، فَيَكُونُ اللِّقَاءُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، فَقَدْ وَصَلْنَا عَلَى حَالِ تَعَبٍ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا، وَرَكِبَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ سَحَرًا، وَصَبَّحَ بِجَيْشِهِ جَيْشَ الْمُعْتَمِدِ بُكْرَةَ الْجُمُعَةِ، غَدْرًا، وَظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ الْمُخَيَّمَ هُوَ جَمِيعُ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، فَوَقَعَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَصَبَرَ الْمُسْلِمُونَ، فَأَشْرَفُوا عَلَى الْهَزِيمَةِ. وَكَانَ الْمُعْتَمِدُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ يُعْلِمُهُ بِمَجِيءِ الْفِرِنْجِ لِلْحَرْبِ، فَقَالَ: احْمِلُونِي إِلَى خِيَامِ الْفِرِنْجِ، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي الْقِتَالِ وَصَلَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى خِيَامِ الْفِرِنْجِ، فَنَهَبَهَا، وَقَتَلَ مَنْ فِيهَا، فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ ذَلِكَ لَمْ يَتَمَالَكُوا أَنِ انْهَزَمُوا، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ، وَتَبِعَهُمُ الْمُعْتَمِدُ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَلَقِيَهُمْ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَوَضَعَ فِيهِمُ السَّيْفَ، فَلَمْ يَفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَنَجَا الْأَذْفُونْشُ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رُءُوسِ الْقَتْلَى كُوَمًا كَثِيرَةً، فَكَانُوا يُؤَذِّنُونَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ جِيفَتْ فَأَحْرَقُوهَا: وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَأَصَابَ الْمُعْتَمِدُ جِرَاحَاتٍ فِي وَجْهِهِ، وَظَهَرَتْ ذَلِكَ الْيَوْمَ شَجَاعَتُهُ. وَلَمْ يَرْجِعْ مِنَ الْفِرِنْجِ إِلَى بِلَادِهِمْ غَيْرُ ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ كُلَّ مَا لَهُمْ مِنْ مَالٍ وَسِلَاحٍ وَدَوَابٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَعَادَ ابْنُ عَبَّادٍ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ، وَرَجَعَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ، وَعَبَرَ إِلَى سَبْتَةَ، وَسَارَ إِلَى مَرَّاكُشَ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَعَادَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَحَضَرَ

مَعَهُ الْمُعْتَمِدُ بْنُ عَبَّادٍ فِي عَسْكَرِهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُلَكِّين الصَّنْهَاجِيُّ، صَاحِبُ غَرْنَاطَةَ، فِي عَسْكَرِهِ، وَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى لِيطٍ، وَهُوَ حِصْنٌ مَنِيعٌ بِيَدِ الْفِرِنْجِ، فَحَصَرُوهُ حَصْرًا شَدِيدًا فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى فَتْحِهِ، فَرَحَلُوا عَنْهُ بَعْدَ مُدَّةٍ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْفِرِنْجِ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، فَعَادَ ابْنُ عَبَّادٍ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ، وَعَادَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى غَرْنَاطَةَ، وَهِيَ طَرِيقُهُ، وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُلَكِّينْ، فَغَدَرَ بِهِ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَخَذَ غَرْنَاطَةَ مِنْهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا، فَرَأَى فِي قُصُورِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّخَائِرِ مَا لَمْ يَحْوِهِ مَلِكٌ قَبْلَهُ بِالْأَنْدَلُسِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا وَجَدَهُ سُبْحَةٌ فِيهَا أَرْبَعُمِائَةِ جَوْهَرَةٍ، قُوِّمَتْ كُلُّ جَوْهَرَةٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَمِنَ الْجَوَاهِرِ مَا لَهُ قِيمَةٌ جَلِيلَةٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الثِّيَابِ وَالْعُدَدِ وَغَيْرِهَا، وَأَخَذَ مَعَهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَأَخَاهُ تَمِيمًا ابْنِي بُلَكِّينْ إِلَى مَرَّاكُشَ، فَكَانَتْ غَرْنَاطَةُ أَوَّلَ مَا مَلَكَهُ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ سَبَبَ دُخُولِ صَنْهَاجَةَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَعَوْدِ مَنْ عَادَ مِنْهُمْ إِلَى الْمُعِزِّ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بِالْأَنْدَلُسِ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا، وَأُخِذَتْ مَدِينَتُهُ، وَرَحَلَ إِلَى الْعُدْوَةِ. وَلَمَّا رَجَعَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مُرَّاكِشَ أَطَاعَهُ مَنْ كَانَ لَمْ يُطِعْهُ مِنْ بِلَادِ السُّوسِ، وَوَرْغَةَ، وَقَلْعَةِ مَهْدِيٍّ، وَقَالَ لَهُ عُلَمَاءُ الْأَنْدَلُسِ إِنَّهُ لَيْسَتْ طَاعَتُهُ بِوَاجِبَةٍ حَتَّى يَخْطُبَ لِلْخَلِيفَةِ، وَيَأْتِيَهُ تَقْلِيدٌ مِنْهُ بِالْبِلَادِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ بِبَغْدَاذَ، فَأَتَاهُ الْخِلَعُ، وَالْأَعْلَامُ، وَالتَّقْلِيدُ، وَلُقِّبَ بِأَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، وَنَاصِرِ الدِّينِ. ذِكْرُ دُخُولِ السُّلْطَانِ إِلَى بَغْدَاذَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ بَغْدَاذَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، بَعْدَ أَنْ فَتَحَ حَلَبَ وَغَيْرَهَا مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَهِيَ أَوَّلُ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا، وَنَزَلَ بِدَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَرَكِبَ

مِنَ الْغَدِ إِلَى الْحَلْبَةِ، وَلَعِبَ بِالْجَوْكَانِ وَالْكُرَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ هَدَايَا كَثِيرَةً، فَقَبِلَهَا الْخَلِيفَةُ، وَمِنَ الْغَدِ أَرْسَلَ نِظَامُ الْمُلْكِ إِلَى الْخَلِيفَةِ خِدْمَةً كَثِيرَةً، فَقَبِلَهَا، وَزَارَ السُّلْطَانُ وَنِظَامُ الْمُلْكِ مَشْهَدَ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، وَقَبْرَ مَعْرُوفٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْقُبُورِ الْمَعْرُوفَةِ، فَقَالَ ابْنُ زِكْرَوَيْهِ الْوَاسِطِيُّ يُهَنِّئُ نِظَامَ الْمُلْكِ بِقَصِيدَةٍ مِنْهَا: زُرْتَ الْمُشَاهِدَ زَوْرَةً مَشْهُودَةً ، أَرْضَتْ مَضَاجِعَ مَنْ بِهَا مَدْفُونُ ... فَكَأَنَّكَ الْغَيْثُ اسْتَهَلَّ بِتُرْبِهَا ، وَكَأَنَّهَا بِكَ رَوْضَةٌ وَمَعِينُ فَازَتْ قِدَاحُكَ بِالثَّوَابِ وَأَنْجَحَتْ ... وَلَكَ الْإِلَهُ عَلَى النَّجَاحِ ضَمِينُ. وَهِيَ مَشْهُورَةٌ. وَطُلِبَ نِظَامُ الْمُلْكِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ لَيْلًا، فَمَضَى فِي الزَّبْزَبِ، وَعَادَ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَمَضَى السُّلْطَانُ وَنِظَامُ الْمُلْكِ إِلَى الصَّيْدِ فِي الْبَرِّيَّةِ، فَزَارَا الْمَشْهَدَيْنِ: مَشْهَدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، وَمَشْهَدَ الْحُسَيْنِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ الْبَرَّ، فَاصْطَادَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْغِزْلَانِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ مَنَارَةِ الْقُرُونِ بِالسُّبَيْعِيِّ، وَعَادَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَدَخَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخِلَعَ السُّلْطَانِيَّةَ. وَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ لَمْ يَزَلْ نِظَامُ الْمُلْكِ قَائِمًا يُقَدِّمُ أَمِيرًا أَمِيرًا إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَكُلَّمَا قَدَّمَ أَمِيرًا يَقُولُ: هَذَا الْعَبْدُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَأَقْطَاعُهُ كَذَا وَكَذَا، وَعِدَّةُ عَسْكَرِهِ كَذَا وَكَذَا، إِلَى أَنْ أَتَى عَلَى آخِرِ الْأُمَرَاءِ، وَفَوَّضَ الْخَلِيفَةُ إِلَى السُّلْطَانِ أَمْرَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَأَمَرَهُ بِالْعَدْلِ فِيهِمْ، وَطَلَبَ السُّلْطَانُ أَنْ يُقَبِّلَ يَدَ الْخَلِيفَةِ، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَسَأَلَ أَنْ يُقَبِّلَ خَاتَمَهُ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ فَقَبَّلَهُ، وَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنِهِ، وَأَمْرَهُ الْخَلِيفَةُ بِالْعَوْدِ فَعَادَ. وَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ أَيْضًا عَلَى نِظَامِ الْمُلْكِ، وَدَخَلَ نِظَامُ الْمُلْكِ إِلَى الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، وَجَلَسَ فِي خِزَانَةِ الْكُتُبِ، وَطَالَعَ فِيهَا كُتُبًا، وَسَمِعَ النَّاسُ عَلَيْهِ بِالْمَدْرَسَةِ جُزْءَ

حَدِيثٍ، وَأَمْلَى جُزْءًا آخَرَ. وَأَقَامَ السُّلْطَانُ بِبَغْدَاذَ إِلَى صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى أَصْبَهَانَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، جَرَى بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَأَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ فِتْنَةٌ قُتِلَ فِيهَا جَمَاعَةٌ، مِنْ جُمْلَتِهِمُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْغَرِيقِ الْهَاشِمِيُّ، الْخَطِيبُ، أَصَابَهُ سَهْمٌ فَمَاتَ مِنْهُ، وَلَمَّا قُتِلَ تَوَلَّى ابْنُهُ الشَّرِيفُ أَبُو تَمَّامٍ مَا كَانَ إِلَيْهِ مِنَ الْخَطَابَةِ، وَكَانَ الْعَمِيدُ كَمَالُ الْمُلْكِ الدِّهِسْتَانِيُّ بِبَغْدَاذَ، فَسَارَ بِخَيْلِهِ وَرَجْلِهِ إِلَى الْقَنْطَرَةِ الْعَتِيقَةِ وَأَعَانَ أَهْلَ الْكَرْخِ، ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ ثَانِيَةٌ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، فَأَعَانَ الْحُجَّاجَ عَلَى أَهْلِ الْكَرْخِ فَانْهَزَمُوا، وَبَلَغَ النَّاسُ إِلَى دَرْبِ اللُّؤْلُؤِ، وَكَادَ أَهْلُ الْكَرْخِ يِهْلَكُونَ، فَخَرَجَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بُرْغُوثٍ الْعَلَوِيُّ إِلَى مُقَدَّمِ الْأَحْدَاثِ مِنَ السُّنَّةِ، فَسَأَلَهُ الْعَفْوَ، فَعَادَ عَنْهُمْ وَرَدَّ النَّاسَ. (وَفِيهَا زَادَ الْمَاءُ بِدِجْلَةَ تَاسِعَ عَشَرَ حُزَيْرَانَ، وَجَاءَ الْمَطَرُ يَوْمَيْنِ بِبَغْدَادَ) وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، أَرْسَلَ الْعَمِيدُ كَمَالَ الْمُلْكِ إِلَى الْأَنْبَارِ، فَتَسَلَّمَهَا مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ، وَخَرَجَتْ مِنْ أَيْدِيهِمْ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَرَغَتِ الْمَنَارَةُ بِجَامِعِ الْقَصْرِ وَأُذِّنَ فِيهَا. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَرَدَ الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي يَعْلَى الْحَسَنِيُّ الدَّبُّوسِيُّ إِلَى بَغْدَاذَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، لَمْ يُرَ مِثْلُهُ لِفَقِيهٍ، وَرُتِّبَ مُدَرِّسًا بِالنِّظَامِيَّةِ بَعْدَ أَبِي سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي.

فِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ أَنْ يُزَادَ فِي إِقْطَاعِ وُكَلَاءِ الْخَلِيفَةِ نَهْرَ بُرْزَى مِنْ طَرِيقِ خُرَاسَانَ، وَعَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ مِنْ مُعَامَلَةِ بَغْدَاذَ. وَفِيهَا أَقْطَعَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ مُحَمَّدَ بْنَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمٍ مَدِينَةَ الرَّحْبَةِ وَأَعْمَالَهَا، وَحَرَّانَ، وَسَرُوجَ، وَالرَّقَّةِ، وَالْخَابُورِ، وَزَوَّجَهُ بِأُخْتِهِ زُلَيْخَا خَاتُونَ، فَتَسَلَّمَ الْبِلَادَ جَمِيعَهَا مَا عَدَا حَرَّانَ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الشَّاطِرِ امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهَا، فَلَمَّا وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى الشَّامِ نَزَلَ عَنْهَا ابْنُ الشَّاطِرِ، فَسَلَّمَهَا السُّلْطَانُ إِلَى مُحَمَّدٍ. وَفِيهَا وَقَعَ بِبَغْدَاذَ صَاعِقَتَانِ، فَكَسَرَتْ إِحْدَاهُمَا أُسْطُوَانَتَيْنِ، وَأَحْرَقَتْ قُطْنًا فِي صَنَادِيقَ، وَلَمْ تَحْتَرِقِ الصَّنَادِيقُ، وَقَتَلَتِ الثَّانِيَةُ رَجُلًا. وَفِيهَا كَانَتْ زَلَازِلُ بِالْعِرَاقِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَالشَّامِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ، فَخَرَّبَتْ كَثِيرًا مِنَ الْبِلَادِ، وَفَارَقَ النَّاسُ مَسَاكِنَهُمْ إِلَى الصَّحْرَاءِ، فَلَمَّا سَكَنَتْ عَادُوا. وَفِيهَا عُزِلَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ عَنْ دِيَارِ بَكْرٍ، وَسَلَّمَهَا السُّلْطَانُ إِلَى الْعَمِيدِ أَبِي عَلِيٍّ الْبَلْخِيِّ، وَجَعَلَهُ عَامِلًا عَلَيْهَا. وَفِيهَا أُسْقِطَ اسْمُ الْخَلِيفَةِ الْمِصْرِيِّ مِنَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَذُكِرَ اسْمُ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ. وَفِيهَا أَسْقَطَ السُّلْطَانُ الْمُكُوسَ وَالِاجْتِيَازَاتِ بِالْعِرَاقِ.

وَفِيهَا حَصَرَ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، مَدِينَتَيْ قَابِسَ وَسَفَاقُسَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِمَا الْعَسَاكِرَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ فَضَّالٍ الْمُجَاشِعِيُّ، النَّحْوِيُّ، الْمُقْرِئُ. وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ تُوُفِّيَ شَيْخُ الشُّيُوخِ أَبُو سَعْدٍ الصُّوفِيُّ، النَّيْسَابُورِيُّ، وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى بِنَاءَ الرِّبَاطِ بِنَهْرِ الْمُعَلَّى، وَبَنَى وُقُوفَهُ، وَهُوَ رِبَاطُ شَيْخِ الشُّيُوخِ الْآنَ، وَبَنَى وُقُوفَ الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، وَكَانَ عَالِيَ الْهِمَّةِ، كَثِيرَ التَّعَصُّبِ لِمَنْ يَلْتَجِئُ إِلَيْهِ، وَجَدَّدَ تُرْبَةَ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ بَعْدَ أَنِ احْتَرَقَتْ، وَكَانَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ كَبِيرَةٌ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَكَانَ يُقَالُ: نَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي أَخْرَجَ رَأْسَ أَبِي سَعْدٍ مِنْ مُرَقَّعَةٍ وَلَوْ أَخْرَجَهُ مِنْ قِبَاءٍ لَهَلَكْنَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيٍّ (عَلِيُّ) بْنُ أَحْمَدَ التُّسْتَرِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَكَانَ خَيِّرًا، حَافِظًا لِلْقُرْآنِ، ذَا مَالٍ كَثِيرٍ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ عَنْ أَبِي عُمَرَ الْهَاشِمِيِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّرِيفُ أَبُو نَصْرٍ الزَّيْنَبِيُّ، الْعَبَّاسِيُّ، نَقِيبُ الْهَاشِمِيِّينَ، وَهُوَ مُحَدِّثٌ مَشْهُورٌ عَالِي الْإِسْنَادِ.

ثم دخلت سنة ثمانين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 480 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ زِفَافِ ابْنَةِ السُّلْطَانِ إِلَى الْخَلِيفَةِ. فِي الْمُحَرَّمِ نُقِلَ جِهَازُ ابْنَةِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ عَلَى مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ جَمَلًا مُجَلَّلَةً بِالدِّيبَاجِ الرُّومِيِّ، وَكَانَ أَكْثَرَ الْأَحْمَالِ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَثَلَاثُ عِمَارِيَّاتٍ، وَعَلَى أَرْبَعَةٍ وَسَبْعِينَ بَغْلًا مُجَلَّلَةً بِأَنْوَاعِ الدِّيبَاجِ الْمَلَكِيِّ، وَأَجْرَاسُهَا وَقَلَائِدُهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَكَانَ عَلَى سِتَّةٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ صُنْدُوقًا مِنَ الذَّهَبِ لَا يُقَدَّرُ مَا فِيهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْحُلِيِّ، وَبَيْنَ يَدَيِ الْبِغَالِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ فَرَسًا مِنَ الْخَيْلِ الرَّائِقَةِ، عَلَيْهَا مَرَاكِبُ الذَّهَبِ مُرَصَّعَةٌ بِأَنْوَاعِ الْجَوْهَرِ، وَمَهْدٌ عَظِيمٌ كَثِيرُ الذَّهَبِ. وَسَارَ بَيْنَ يَدَيِ الْجِهَازِ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوهَرَائِينُ، وَالْأَمِيرُ بُرْسُقُ، وَغَيْرُهُمَا، وَنَثَرَ أَهْلُ نَهْرِ مُعَلًّى عَلَيْهِمُ الدَّنَانِيرُ وَالثِّيَابُ، وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ خَرَجَ عَنْ بَغْدَاذَ مُتَصَيِّدًا، ثُمَّ أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْوَزِيرَ أَبَا شُجَاعٍ إِلَى تُرْكَانَ خَاتُونَ، زَوْجَةِ السُّلْطَانِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ نَحْوُ ثَلَاثِمِائَةِ مَوْكِبِيَّةٍ، وَمِثْلُهَا مَشَاعِلُ، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْحَرِيمِ دُكَّانٌ إِلَّا وَقَدْ أُشْعِلَ فِيهَا الشَّمْعَةُ وَالِاثْنَتَانِ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ مَعَ ظُفَرٍ خَادِمِهِ مِحَفَّةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا حُسْنًا، وَقَالَ الْوَزِيرُ لِتُرْكَانَ خَاتُونَ: سَيِّدُنَا وَمَوْلَانَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وَقَدْ أَذِنَ فِي نَقْلِ الْوَدِيعَةِ إِلَى دَارِهِ. فَأَجَابَتْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَحَضَرَ نِظَامُ الْمُلْكِ فَمَنْ دُونَهُ مِنْ أَعْيَانِ دَوْلَةِ السُّلْطَانِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ مَعَهُ مِنَ الشَّمْعِ وَالْمَشَاعِلِ

الْكَثِيرُ، وَجَاءَ نِسَاءُ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ وَمَنْ دُونَهُمْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مُنْفَرِدَةٌ فِي جَمَاعَتِهَا وَتَجَمُّلِهَا، وَبَيْنَ أَيْدِيهِنَّ الشَّمْعُ الْمُوكَبَيَّاتُ وَالْمَشَاعِلُ يَحْمِلُ ذَلِكَ جَمِيعَهُ الْفُرْسَانُ. ثُمَّ جَاءَتِ الْخَاتُونُ ابْنَةُ السُّلْطَانِ، بَعْدَ الْجَمِيعِ، فِي مِحَفَّةٍ مُجَلَّلَةٍ، عَلَيْهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ أَكْثَرُ شَيْءٍ، وَقَدْ أَحَاطَ بِالْمِحَفَّةِ مِائَتَا جَارِيَةٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ بِالْمَرَاكِبِ الْعَجِيبَةِ، وَسَارَتْ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، وَكَانَتْ لَيْلَةً مَشْهُودَةً لَمْ يُرَ بِبَغْدَاذَ مِثْلَهَا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ أُمَرَاءَ السُّلْطَانِ لِسِمَاطٍ أَمَرَ بِعَمَلِهِ حُكِيَ أَنَّ فِيهِ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنَّا مِنَ السُّكَّرِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ كُلُّهُمْ، وَعَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْعَسْكَرِ، وَأَرْسَلَ الْخِلَعَ إِلَى الْخَاتُونِ زَوْجَةِ السُّلْطَانِ، وَإِلَى جَمِيعِ الْخَوَاتِينِ، وَعَادَ السُّلْطَانُ مِنَ الصَّيْدِ بَعْدَ ذَلِكَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ لِلسُّلْطَانِ ابْنٌ مِنْ تُرَكَانَ خَاتُونَ، وَسَمَّاهُ مَحْمُودًا، وَهُوَ الَّذِي خُطِبَ لَهُ بِالْمَمْلَكَةِ بَعْدُ. وَفِيهَا سَلَّمَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ مَدِينَةَ حَلَبَ وَالْقَلْعَةَ إِلَى مَمْلُوكِهِ آقْسَنْقَرَ، فَوَلِيَهَا، وَأَظْهَرَ فِيهَا الْعَدْلَ وَحُسْنَ السِّيرَةِ وَكَانَ زَوْجَ دَايَةِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَهِيَ الَّتِي تَحْضُنُهُ وَتُرَبِّيهِ، وَمَاتَتْ بِحَلَبَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . وَفِيهَا اسْتَبَقَ سَاعِيَانِ أَحَدُهُمَا لِلسُّلْطَانِ فَضْلِيٍّ، وَالْآخِرُ لِلْأَمِيرِ قِمَاجِ مَرْعُوشِيٍّ، فَسَبَقَ سَاعِي السُّلْطَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْفَضْلِيِّ وَالْمَرْعُوشِيِّ أَيَّامَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ.

وَفِيهَا جَعَلَ السُّلْطَانُ وَلِيَّ عَهْدِهِ وَلَدَهُ أَبَا شُجَاعٍ أَحْمَدَ، وَلَقَّبَهُ مَلِكَ الْمُلُوكِ، عَضُدَ الدَّوْلَةِ، وَتَاجَ الْمِلَّةِ، عُدَّةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بَعْدَ مَسِيرهِ مِنْ بَغْدَاذَ، لِيَخْطُبَ لَهُ بِبَغْدَاذَ بِذَلِكَ، فَخَطَبَ لَهُ فِي شَعْبَانَ، وَنَثَرَ الذَّهَبَ عَلَى الْخُطَبَاءِ. وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، انْحَدَرَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوهَرَائِينُ إِلَى وَاسِطَ لِمُحَارَبَةِ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ بْنِ أَبِي الْجَبْرِ، صَاحِبِ الْبَطَائِحِ، وَلَمَّا فَارَقَ بَغْدَاذَ كَثُرَتْ فِيهَا الْفِتَنُ. وَفِيهَا، فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وُلِدَ لِلْخَلِيفَةِ مِنِ ابْنَةِ السُّلْطَانِ وَلَدٌ سَمَّاهُ جَعْفَرًا، وَكَنَّاهُ أَبَا الْفَضْلِ، وَزَيَّنَ الْبَلَدَ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَفِيهَا اسْتَوْلَى الْعَمِيدُ (كَمَالُ الْمُلْكِ) أَبُو الْفَتْحِ الدِّهِسْتَانِيُّ، عَمِيدُ الْعِرَاقِ، عَلَى مَدِينَةِ هَيْتَ، أَخَذَهَا صُلْحًا وَمَضَى إِلَيْهَا، وَعَادَ عَنْهَا فِي ذِي الْقِعْدَةِ. وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْكَرْخِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَحَالِّ، قُتِلَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. وَفِيهَا كَسَفَتِ الشَّمْسُ كُسُوفًا كُلِّيًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ قَتْلَغْ أَمِيرُ الْحَاجِّ، وَحَجَّ أَمِيرًا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ لَهُ فِي الْعَرَبِ عِدَّةُ وَقَعَاتٍ، وَكَانُوا يَخَافُونَهُ، وَلَمَّا مَاتَ قَالَ نِظَامُ الْمُلْكِ: مَاتَ الْيَوْمَ أَلْفُ رَجُلٍ، وَوَلِيَ إِمَارَةَ الْحَاجِّ نَجْمُ الدَّوْلَةِ خُمَارَتِكِينْ. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، تُوُفِّيَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بْنِ سَعْدٍ أَبُو

الْقَاسِمِ السَّاوِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ الصَّيْرَفِيِّ وَغَيْرِهِ، وَرَوَى عَنْهُ النَّاسُ، وَكَانَ ثِقَةً، وَطَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ أَبُو الْوَفَا الْبَنْدَنِيجِيُّ، الْهَمَذَانِيُّ، كَانَ شَاعِرًا، أَدِيبًا وَكَانَ يَمْدَحُ لَا لِعَرَضِ الدُّنْيَا، وَمَدَحَ نِظَامَ الْمُلْكِ بِقَصِيدَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعِينَ بَيْتًا، إِحْدَاهُمَا لَيْسَ فِيهَا نُقْطَةٌ، وَالْأُخْرَى جَمِيعُ حُرُوفِهَا مَنْقُوطَةٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَلِيٍّ الْمُؤَدِّبِ، الْمَعْرُوفَةُ بِبِنْتِ الْأَقْرَعِ، الْكَاتِبَةُ، كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خَطًّا عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ الْبَوَّابِ، وَسَمِعَتِ الْحَدِيثَ وَأَسْمَعَتْهُ. وَفِيهَا، فِي ذِي الْقِعْدَةِ، تُوُفِّيَ غَرْسُ النِّعْمَةِ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّابِي، صَاحِبُ التَّارِيخِ، وَظَهَرَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ لَهُ مَعْرُوفٌ وَصَدَقَةٌ.

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.] 481 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبَغْدَاذَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، شَرَعَ أَهْلُ بَابِ الْبَصْرَةِ فِي بِنَاءِ الْقَنْطَرَةِ الْجَدِيدَةِ، وَنَقَلُوا الْآجُرَّ فِي أَطْبَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمُ الدَّبَادِبُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْمَحَالِّ، وَكَثُرَ عِنْدَهُمْ أَهْلُ بَابِ الْأَزَجِ فِي خَلْقٍ لَا يُحْصَى. وَاتَّفَقَ أَنَّ كُوهَرَائِينَ سَارَ فِي سُمَيْرِيَّةَ، وَأَصْحَابُهُ يَسِيرُونَ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ بِسَيْرِهِ، فَوَقَفَ أَهْلُ بَابِ الْأَزَجِ عَلَى امْرَأَةٍ كَانَتْ تَسْقِي النَّاسَ مِنْ مُزَمَّلَةٍ لَهَا عَلَى دِجْلَةَ، فَحَمَلُوا عَلَيْهَا، عَلَى عَادَةٍ لَهُمْ، وَجَعَلُوا يَكْسِرُونَ الْجِرَارَ، وَيَقُولُونَ: الْمَاءُ لِلسَّبِيلِ! فَلَمَّا رَأَتْ سَعْدَ الدَّوْلَةِ كُوهَرَائِينَ اسْتَغَاثَتْ بِهِ، فَأَمَرَ بِإِبْعَادِهِمْ عَنْهَا، فَضَرَبَهُمُ الْأَتْرَاكُ بِالْمَقَارِعِ، فَسَلَّ الْعَامَّةُ سُيُوفَهُمْ وَضَرَبُوا وَجْهَ فَرَسِ حَاجِبِهِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ أَخَصُّ أَصْحَابِهِ، فَسَقَطَ عَنِ الْفَرَسِ، فَحَمَلَ كُوهَرَائِينَ الْحَنَقُ عَلَى أَنْ خَرَجَ مِنَ السُّمَيْرِيَّةِ إِلَيْهِمْ رَاجِلًا، فَحَمَلَ أَحَدُهُمْ عَلَيْهِ، فَطَعَنَهُ بِأَسْفَلِ رُمْحِهِ، فَأَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، فَحَمَلَ أَصْحَابُهُ عَلَى الْعَامَّةِ، فَقَاتَلُوهُمْ، وَحَرَصُوا (عَلَى الظَّفَرِ بِالَّذِي) طَعَنَهُ، فَلَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ، (وَأَخَذَ ثَمَانِيَةَ نَفَرٍ) ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمْ، وَقَطَعَ أَعْصَابَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ، وَأَرْسَلَ

قِبَاءَهُ إِلَى الدِّيوَانِ وَفِيهِ أَثَرُ الطَّعْنَةِ وَالطِّينِ يَسْتَنْفِرُ عَلَى أَهْلِ بَابِ الْأَزَجِ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْكَرْخِ عَقَدُوا لِأَنْفُسِهِمْ طَاقًا آخَرَ عَلَى بَابِ طَاقِ الْحَرَّانِيِّ، وَفَعَلُوا كَفِعْلِ أَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ. ذِكْرُ إِخْرَاجِ الْأَتْرَاكِ مِنْ حَرِيمِ الْخِلَافَةِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، أَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِخْرَاجِ الْأَتْرَاكِ الَّذِينَ مَعَ الْخَاتُونِ زَوْجَتِهِ ابْنَةِ السُّلْطَانِ مِنْ حَرِيمِ دَارِ الْخِلَافَةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ تُرْكِيًّا مِنْهُمُ اشْتَرَى مِنْ طَوَّافِ فَاكِهَةٍ، فَتَمَاسَكَا، فَشَتَمَ الطَّوَّافُ التُّرْكِيَّ، فَأَخَذَ التُّرْكِيُّ صَنْجَةً مِنَ الْمِيزَانِ وَضَرَبَ بِهَا رَأْسَ الطَّوَّافِ فَشَجَّهُ، فَاجْتَمَعَتِ الْعَامَّةُ، وَكَادَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَتْرَاكِ شَرٌّ، وَاسْتَغَاثُوا، وَشَنَّعُوا، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِخْرَاجِ الْأَتْرَاكِ، فَأُخْرِجُوا عَنْ آخِرِهِمْ، فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ، وَقْتَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. ذِكْرُ مِلْكِ الرُّومِ مَدِينَةَ زَوِيلَةَ وَعَوْدِهِمْ عَنْهَا. فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ الرُّومِ مَدِينَةَ زَوِيلَةَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ، وَهِيَ بِقُرْبِ الْمَهْدِيَّةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمِيرَ تَمِيمَ بْنَ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، صَاحِبَهَا، أَكْثَرَ غَزْوِ بِلَادِهِمْ فِي الْبَحْرِ، فَخَرَّبَهَا، وَشَتَّتَ أَهْلَهَا، فَاجْتَمَعُوا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى إِنْشَاءِ الشَّوَانِي لِغَزْوِ الْمَهْدِيَّةِ، وَدَخَلَ مَعَهُمُ الْبَيْشَانِيُّونَ، وَالْجَنَوِيُّونَ، وَهُمَا مِنَ الْفِرِنْجِ، فَأَقَامُوا يَعْمُرُونَ الْأُسْطُولَ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَاجْتَمَعُوا بِجَزِيرَةِ قَوْصَرَةَ فِي أَرْبَعِ مِائَةِ قِطْعَةٍ، فَكَتَبَ أَهْلُ قَوْصَرَةَ كِتَابًا عَلَى جَنَاحِ طَائِرٍ يَذْكُرُونَ وُصُولَهُمْ وَعَدَدَهُمْ وَحُكْمَهُمْ عَلَى الْجَزِيرَةِ، فَأَرَادَ تَمِيمٌ أَنْ يُسَيِّرَ عُثْمَانَ بْنَ سَعِيدٍ الْمَعْرُوفُ بِالْمُهْرِ، مُقَدِّمَ الْأُسْطُولِ الَّذِي لَهُ،

لِيَمْنَعَهُمْ مِنَ النُّزُولِ، فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ قُوَّادِهِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَنْكُوتٍ، لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَهْرِ، فَجَاءَتِ الرُّومُ، وَأَرْسَلُوا، وَطَلَعُوا إِلَى الْبَرِّ، وَنَهَبُوا، وَخَرَّبُوا وَأَحْرَقُوا، وَدَخَلُوا زَوِيلَةَ وَنَهَبُوهَا، وَكَانَتْ عَسَاكِرُ تَمِيمٍ غَائِبَةً فِي قِتَالِ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ. ثُمَّ صَالَحَ تَمِيمٌ الرُّومَ عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَرَدِّ جَمِيعِ مَا حَوُوهُ مِنَ السَّبْيِ، وَكَانَ تَمِيمٌ يَبْذُلُ الْمَالَ الْكَثِيرَ فِي الْغَرَضِ الْحَقِيرِ، فَكَيْفَ فِي الْغَرَضِ الْكَبِيرِ، حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ بَذَلَ لِلْعَرَبِ لَمَّا اسْتَوْلَوْا عَلَى حِصْنٍ لَهُ يُسَمَّى قَنَاطَةَ لَيْسَ بِالْعَظِيمِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ حَتَّى هَدَمَهُ، فَقِيلَ لَهُ: هَذَا سَرَفٌ فِي الْمَالِ؛ فَقَالَ: هُوَ شَرَفٌ فِي الْحَالِ. ذِكْرُ وَفَاةِ النَّاصِرِ بْنِ عَلْنَاسَ وَوِلَايَةِ وَلَدِهِ الْمَنْصُورِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ النَّاصِرُ بْنُ عَلْنَاسَ بْنِ حَمَّادٍ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْمَنْصُورُ، فَاقْتَفَى آثَارَ أَبِيهِ فِي الْحَزْمِ وَالْعَزْمِ وَالرِّئَاسَةِ، وَوَصَلَهُ كُتُبُ الْمُلُوكِ وَرُسُلُهُمْ بِالتَّعْزِيَةِ بِأَبِيهِ وَالتَّهْنِئَةِ بِالْمُلْكِ مِنْهُمْ: يُوسُفُ بْنُ تَاشَفِينَ، وَتَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ، وَغَيْرُهُمَا. ذِكْرُ وَفَاةِ إِبْرَاهِيمَ مَلِكِ غَزْنَةَ وَمُلْكِ ابْنِهِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الْمُؤَيِّدُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، صَاحِبُ غَزْنَةَ، وَكَانَ عَادِلًا، كَرِيمًا، مُجَاهِدًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ فُتُوحِهِ مَا وَصَلَ إِلَيْنَا، وَكَانَ عَاقِلًا، ذَا رَأْيٍ مَتِينٍ، فَمِنْ آرَائِهِ أَنَّ السُّلْطَانَ مَلِكْشَاهِ بْنَ أَلْب أَرْسِلَانَ السَّلْجُوقِيَّ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ يُرِيدُ غَزْنَةَ، وَنَزَلَ بِأَسْفَرَارَ، فَكَتَبَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَسْعُودٍ كِتَابًا إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ أُمَرَاءِ مَلِكْشَاهْ يَشْكُرُهُمْ، وَيَعْتَدُّ لَهُمْ بِمَا فَعَلُوا مِنْ تَحْسِينِ قَصْدِ مَلِكْشَاهْ بِلَادَهُ لِيُتِمَّ لَنَا مَا اسْتَقَرَّ بَيْنَنَا مِنَ الظَّفَرِ بِهِ، وَتَخْلِيصِهِمْ مِنْ يَدِهِ، وَيَعِدُهُمُ الْإِحْسَانَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَ الْقَاصِدَ بِالْكُتُبِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمَلِكْشَاهْ فِي الصَّيْدِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَأُخِذَ، وَأُحْضِرَ عِنْدَ السُّلْطَانِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ، فَأَنْكَرَهُ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِجَلْدِهِ، فَجُلِدَ،

فَدَفَعَ الْكُتُبَ إِلَيْهِ بَعْدَ جُهْدٍ وَمَشَقَّةٍ، فَلَمَّا وَقَفَ مَلِكْشَاهْ عَلَيْهَا تَحَيَّلَ مِنْ أُمَرَائِهِ وَعَادَ، وَلَمْ يَقُلْ لِأَحَدٍ مِنْ أُمَرَائِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ شَيْئًا خَوْفًا أَنْ يَسْتَوْحِشُوا مِنْهُ. وَكَانَ يَكْتُبُ بِخَطِّهِ، كُلَّ سَنَةٍ، مُصْحَفًا، وَيَبْعَثُهُ مَعَ الصَّدَقَاتِ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ كُنْتُ مَوْضِعَ أَبِي مَسْعُودٍ بَعْدَ وَفَاةِ جَدِّي مَحْمُودٍ، لَمَا انْفَصَمَتْ عُرَى مَمْلَكَتِنَا، وَلَكِنِّي الْآنَ عَاجِزٌ عَنْ [أَنْ] أَسْتَرِدَّ مَا أَخَذُوهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ مُلُوكٌ قَدِ اتَّسَعَتْ مَمْلَكَتُهُمْ، وَعَظُمَتْ عَسَاكِرُهُمْ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مَسْعُودٌ، وَلَقَبُهُ جَلَالُ الدِّينِ، وَكَانَ قَدْ زَوَّجَهُ أَبُوهُ بِابْنَةِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَأَخْرَجَ نِظَامُ الْمُلْكِ فِي هَذَا الْإِمْلَاكِ وَالزِّفَافِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ الْوَزِيرُ أَبُو شُجَاعٍ، وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، وَاسْتَنَابَ ابْنَهُ رَبِيبَ الدَّوْلَةِ أَبَا مَنْصُورٍ، وَنَقِيبَ النُّقَبَاءِ طَرَّادَ بْنَ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيَّ. وَفِيهَا أَسْقَطَ السُّلْطَانُ مَا كَانَ يُؤْخَذُ مِنَ الْحُجَّاجِ مِنَ الْخِفَارَةِ. وَفِيهَا جَمَعَ آقْسَنْقَرَ، صَاحِبُ حَلَبَ، عَسْكَرَهُ وَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ شَيْزَرَ فَحَصَرَهَا، وَصَاحِبَهَا ابْنَ مُنْقِذٍ، وَضَيَّقَ عَلَيْهَا، وَنَهَبَ رَبَضَهَا، ثُمَّ صَالَحَهُ صَاحِبُهَا وَعَادَ إِلَى حَلَبَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الْغُورَجِيُّ،

الْهَرَوِيُّ، وَالْقَاضِي مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ أَبُو عَامِرٍ الْأَزْدِيُّ، الْمُهَلَّبِيُّ، رَاوِيَا جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيِّ، رَوَاهُ عَنْهُمَا أَبُو الْفَتْحِ الْكَرُّوخِيُّ. وَتُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ (أَبُو إِسْمَاعِيلَ) ، الْأَنْصَارِيُّ، الْهَرَوِيُّ، شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ شَدِيدَ التَّعَصُّبِ فِي الْمَذَاهِبِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُخَلَّدٍ الْبَاقَرْحِيُّ، وَمَوْلِدُهُ فِي شَعْبَانَ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالرِّوَايَةِ. وَفِي الْمُحَرَّمِ تُوُفِّيَتِ ابْنَةُ الْغَالِبِ بِاللَّهِ بْنِ الْقَادِرِ وَدُفِنَتْ عِنْدَ قَبْرِ أَحْمَدَ، وَكَانَتْ تَرْجِعُ إِلَى دِينٍ، وَمَعْرُوفٍ كَثِيرٍ، لَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ مَا بَلَغَتْ. وَفِي شَعْبَانَ تُوُفِّيَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الصَّحْرَاوِيُّ الزَّاهِدُ. وَفِيهَا تُوَفِّي الْمَلِكُ أَحْمَدُ ابْنُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ بِمَرْوَ، وَكَانَ (وَلِيَّ عَهْدِ أَبِيهِ فِي السَّلْطَنَةِ، وَكَانَ) عُمْرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَجَلَسَ النَّاسُ بِبَغْدَاذَ لِلْعَزَاءِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، وَلَمْ يَرْكَبْ أَحَدٌ فَرَسًا، وَخَرَجَ النِّسَاءُ يَنُحْنَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَاجْتَمَعَ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ فِي الْكَرْخِ لِلتَّفَرُّجِ وَالْمَنَاحَاتِ، وَسَوَّدَ أَهْلُ الْكَرْخِ أَبْوَابَ عُقُودِهِمْ إِظْهَارًا لِلْحُزْنِ عَلَيْهِ.

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتِ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 482 - ثُمَّ دَخَلَتِ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ الْعَامَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرَ، كَبَسَ أَهْلُ بَابِ الْبَصْرَةِ الْكَرْخَ، فَقَتَلُوا رَجُلًا، وَجَرَحُوا آخَرَ، فَأَغْلَقَ أَهْلُ الْكَرْخِ الْأَسْوَاقَ، وَرَفَعُوا الْمَصَاحِفَ، (وَحَمَلُوا ثِيَابَ الرَّجُلَيْنِ وَهِيَ بِالدَّمِ) ، وَمَضَوْا إِلَى دَارِ الْعَمِيدِ كَمَالِ الْمُلْكِ أَبِي الْفَتْحِ الدِّهِسْتَانِيِّ مُسْتَغِيثِينَ، فَأَرْسَلَ إِلَى النَّقِيبِ طَرَّادِ بْنِ مُحَمَّدٍ يَطْلُبُ مِنْهُ إِحْضَارَ الْقَاتِلِينَ، فَقَصَدَ طَرَّادُ دَارَ الْأَمِيرِ بُوزَانَ بِقَصْرِ ابْنِ الْمَأْمُونِ، فَطَالَبَهُ بُوزَانُ بِهِمْ، (وَوَكَّلَ بِهِ) ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بُوزَانَ يُعَرِّفُهُ حَالَ النَّقِيبِ طَرَّادٍ، وَمَحِلَّهُ، وَمَنْزِلَتَهُ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَسَكَّنَ الْعَمِيدُ كَمَالُ الْمُلْكِ الْفِتْنَةَ وَكَفَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ، فَعَادَ النَّاسُ إِلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَنْقَضِ يَوْمٌ إِلَّا عَنْ قَتْلَى وَجَرْحَى. ذِكْرُ مُلْكِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سَمَرْقَنْدَ كَانَ قَدْ مَلَكَهَا أَحْمَدُ خَانُ بْنُ خَضِرِ خَانَ، أَخُوهُ شَمْسُ

الْمُلْكِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي تُرْكَانَ خَاتُونَ، زَوْجَةُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَكَانَ صَبِيًّا ظَالِمًا، قَبِيحَ السِّيرَةِ، يُكْثِرُ مُصَادَرَةَ الرَّعِيَّةِ، فَنَفَرُوا مِنْهُ وَكَتَبُوا إِلَى السُّلْطَانِ سِرًّا يَسْتَغِيثُونَ بِهِ، وَيَسْأَلُونَهُ الْقُدُومَ عَلَيْهِمْ لِيَمْلِكَ بِلَادَهُمْ، وَحَضَرَ الْفَقِيهُ أَبُو طَاهِرِ بْنُ عَلَّكٍ الشَّافِعِيُّ عِنْدَ السُّلْطَانِ شَاكِيًا، وَكَانَ يَخَافُ مِنْ أَحْمَدَ خَانِ لِكَثْرَةِ مَالِهِ، فَأَظْهَرَ السَّفَرَ لِلتِّجَارَةِ وَالْحَجِّ، فَاجْتَمَعَ بِالسُّلْطَانِ، وَشَكَا إِلَيْهِ، وَأَطْمَعَهُ فِي الْبِلَادِ. فَتَحَرَّكَتْ دَوَاعِي السُّلْطَانِ إِلَى مَلْكِهَا، فَسَارَ مِنْ أَصْبَهَانَ. وَكَانَ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ فِيهَا، رَسُولُ مَلِكِ الرُّومِ، وَمَعَهُ الْخَرَاجُ الْمُقَرَّرُ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ نِظَامُ الْمُلْكِ مَعَهُمْ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَحَضَرَ فَتْحَ الْبِلَادِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى كَاشْغَرَ أَذِنَ لَهُ نِظَامُ الْمُلْكِ فِي الْعَوْدِ إِلَى بِلَادِهِ، وَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ يُذْكَرَ عَنَّا فِي التَّوَارِيخِ (أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ) حَمَلَ الْجِزْيَةَ وَأَوْصَلَهَا إِلَى بَابِ كَاشْغَرَ لِيُنْهِيَ إِلَى صَاحِبِهِ سَعَةَ مُلْكِ السُّلْطَانِ لِيَعْظُمَ خَوْفُهُ مِنْهُ، وَلَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِخِلَافِ الطَّاعَةِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى هِمَّةٍ عَالِيَةٍ تَعْلُو عَلَى الْعَيُّوقِ. وَلَمَّا سَارَ السُّلْطَانُ مِنْ أَصْبَهَانَ إِلَى خُرَاسَانَ جَمَعَ الْعَسَاكِرَ مِنَ الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، فَعَبَرَ النَّهْرَ بِجُيُوشٍ لَا يَحْصُرُهَا دِيوَانٌ، وَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْإِحْصَاءِ، فَلَمَّا قَطَعَ النَّهْرَ قَصَدَ بُخَارَى، وَأَخَذَ مَا عَلَى طَرِيقِهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَيْهَا وَمَلَكَهَا وَمَا جَاوَرَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَقَصَدَ سَمَرْقَنْدَ وَنَازَلَهَا، وَكَانَتِ الْمُلَطِّفَاتُ قَدْ قَدَّمَهَا إِلَى أَهْلِ الْبَلَدِ يَعِدُهُمُ النَّصْرَ، وَالْخَلَاصَ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ، وَحَصَرَ الْبَلَدَ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ وَأَعَانَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ بِالْإِقَامَاتِ، وَفَرَّقَ أَحْمَدُ خَانُ، صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ، أَبْرَاجَ السُّورِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَمَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَسَلَّمَ بُرْجًا يُقَالُ لَهُ بُرْجُ الْعَيَّارِ إِلَى رَجُلٍ عَلَوِيٍّ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِ، فَنَصَحَ فِي الْقِتَالِ. فَاتَّفَقَ أَنَّ وَلَدًا لِهَذَا الْعَلَوِيِّ أُخِذَ أَسِيرًا بِبُخَارَى، فَهُدِّدَ الْأَبُ بِقَتْلِهِ، فَتَرَاخَى عَنِ

الْقِتَالِ، فَسَهُلَ الْأَمْرُ عَلَى السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَرَمَى مِنَ السُّورِ عُدَّةَ ثُلَمٍ بِالْمِنْجِنَيْقَاتِ، وَأَخَذَ ذَلِكَ الْبُرْجَ، فَلَمَّا صَعَدَ عَسْكَرُ السُّلْطَانِ إِلَى السُّورِ هَرَبَ أَحْمَدُ خَانَ، وَاخْتَفَى فِي بُيُوتِ بَعْضِ الْعَامَّةِ فَغُمِزَ عَلَيْهِ وَأُخِذَ وَحُمِلَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَفِي رَقَبَتِهِ حَبْلٌ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ، وَأَطْلَقَهُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَمَعَهُ مَنْ يَحْفَظُهُ، وَرَتَّبَ بِسَمَرْقَنْدَ الْأَمِيرَ الْعَمِيدَ أَبَا طَاهِرٍ عَمِيدَ خَوَارِزْمَ. وَسَارَ السُّلْطَانُ قَاصِدًا إِلَى كَاشْغَرَ، فَبَلَغَ إِلَى يُوزْكَنْدَ، وَهُوَ بَلَدٌ يَجْرِي عَلَى بَابِهِ نَهْرٌ، وَأَرْسَلَ مِنْهَا رُسُلًا إِلَى مَلِكِ كَاشْغَرَ يَأْمُرُهُ بِإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ، وَضَرْبِ السِّكَّةِ بِاسْمِهِ، وَيَتَوَعَّدُهُ إِنْ خَالَفَ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ وَأَطَاعَ، وَحَضَرَ عِنْدَ السُّلْطَانِ، فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ، وَتَابَعَ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِ، وَأَعَادَهُ إِلَى بَلَدِهِ. وَرَجَعَ السُّلْطَانُ إِلَى خُرَاسَانَ، فَلَمَّا أَبْعَدَ عَنْ سَمَرْقَنْدَ لَمْ يَتَّفِقْ أَهْلُهَا وَعَسْكَرُهَا الْمَعْرُوفُونَ بِالْجَكَلِيَّةِ مَعَ الْعَمِيدِ أَبِي طَاهِرٍ، نَائِبِ السُّلْطَانِ عِنْدَهُمْ، حَتَّى كَادُوا يَثِبُونَ عَلَيْهِ، فَاحْتَالَ حَتَّى خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَمَضَى إِلَى خُوَارِزْمَ. ذِكْرُ عِصْيَانِ سَمَرْقَنْدَ كَانَ مُقَدِّمُ الْعَسْكَرِ الْمَعْرُوفُ بِالْجَكَلِيَّةِ، وَاسْمُهُ عَيْنُ الدَّوْلَةِ، قَدْ خَافَ السُّلْطَانَ لِهَذَا الْحَادِثِ، فَكَاتَبَ يَعْقُوبَ تِكِينَ أَخَا مَلِكِ كَاشْغَرَ، وَمَمْلَكَتُهُ تُعْرَفُ بِآبَ نَبَّاشِي، وَبِيَدِهِ قَلْعَتُهَا، وَاسْتَحْضَرَهُ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ بِسَمَرْقَنْدَ، وَاتَّفَقَا، ثُمَّ إِنَّ يَعْقُوبَ عَلِمَ أَنَّ أَمْرَهُ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَهُ، فَوَضَعَ عَلَيْهِ الرَّعِيَّةَ الَّذِينَ كَانَ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ، حَتَّى ادَّعَوْا عَلَيْهِ دِمَاءَ قَوْمٍ كَانَ قَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ الْفَتَاوَى عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، وَاتَّصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِالسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ بِذَلِكَ، فَعَادَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ.

ذِكْرُ فَتْحِ سَمَرْقَنْدَ الْفَتْحَ الثَّانِيَ لَمَّا اتَّصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِعِصْيَانِ سَمَرْقَنْدَ بِالسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَقَتْلِ عَيْنِ الدَّوْلَةِ، مُقَدِّمِ الْجَكَلِيَّةِ، عَادَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بُخَارَى هَرَبَ يَعْقُوبُ الْمُسْتَوْلِي عَلَى سَمَرْقَنْدَ، وَمَضَى إِلَى فَرْغَانَةَ، وَلَحِقَ بِوِلَايَتِهِ. وَوَصَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ عَسْكَرِهِ إِلَى السُّلْطَانِ مُسْتَأْمَنِينَ، فَلَقَوْهُ بِقَرْيَةٍ تُعْرَفُ بِالطَّوَاوِيسِ، وَلَمَّا وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى سَمَرْقَنْدَ مَلَكَهَا، وَرَتَّبَ بِهَا الْأَمِيرَ أَبَرَ، وَسَارَ فِي أَثَرِ يَعْقُوبَ حَتَّى نَزَلَ بِيُوزْكَنْدَ، وَأَرْسَلَ الْعَسَاكِرَ إِلَى سَائِرِ الْأَكْنَافِ فِي طَلَبِهِ. وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى مَلِكِ كَاشْغَرَ، وَهُوَ أَخُو يَعْقُوبَ، لِيَجِدَّ فِي أَمْرِهِ، وَيُرْسِلَهُ إِلَيْهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ عَسْكَرَ يَعْقُوبَ شَغَبُوا عَلَيْهِ، وَنَهَبُوا خَزَائِنَهُ، وَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَنْ هَرَبَ عَلَى فَرَسِهِ، وَدَخَلَ إِلَى أَخِيهِ بِكَاشْغَرَ مُسْتَجِيرًا بِهِ. فَسَمِعَ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلِكِ كَاشْغَرَ يَتَوَعَّدُهُ، إِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ إِلَيْهِ، أَنْ يَقْصِدَ بِلَادَهُ، وَيَصِيرَ هُوَ الْعَدُوَّ، فَخَافَ أَنْ يَمْنَعَ السُّلْطَانَ، وَأَنِفَ أَنْ يُسَلِّمَ أَخَاهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَجَارَ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ قَدِيمَةٌ، وَمُنَافِسَةٌ فِي الْمُلْكِ عَظِيمَةٌ، لِمَا يَلْزَمُهُ فِيهِ الْعَارُ، فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنْ قَبَضَ عَلَى أَخِيهِ يَعْقُوبَ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي طَلَبِهِ فَظَفَرَ بِهِ، وَسَيَّرَهُ مَعَ وَلَدِهِ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَّلَهُمْ بِيَعْقُوبَ، وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ هَدَايَا كَثِيرَةً لِلسُّلْطَانِ، وَأَمَرَ وَلَدَهُ أَنَّهُ إِذَا وَصَلَ إِلَى قَلْعَةٍ بِقُرْبِ السُّلْطَانِ أَنْ يَسْمَلَ يَعْقُوبَ وَيَتْرُكَهُ، فَإِنْ رَضِيَ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ، وَإِلَّا سَلَّمَهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى قَلْعَةٍ عَزَمَ ابْنُ مَلِكِ كَاشْغَرَ أَنْ يَسْمَلَ عَمَّهُ، وَيُنَفِّذَ فِيهِ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَبُوهُ، فَتَقَدَّمَ بِكَتْفِهِ وَإِلْقَائِهِ عَلَى الْأَرْضِ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَقَدْ أَحْمَوُا الْمَيْلَ لِيَسْمَلُوهُ، إِذْ سَمِعُوا ضَجَّةً عَظِيمَةً، فَتَرَكُوهُ، وَتَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْ، وَظَهَرَ عَلَيْهِمُ انْكِسَارٌ، ثُمَّ أَرَادُوا (بَعْدَ ذَلِكَ) سَمْلَهُ، وَمَنَعَ مِنْهُ بَعْضٌ، فَقَالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ: أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِكُمْ، وَمَا يَفُوتُكُمُ الَّذِي تُرِيدُونَهُ مِنِّي، وَإِذَا فَعَلْتُمْ بِي شَيْئًا رُبَّمَا نَدِمْتُمْ عَلَيْهِ.

فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ طُغْرُلَ بْنَ يَنَالَ أَسْرَى مِنْ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا فِي عَشَرَاتِ أُلُوفٍ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَكَبَسَ أَخَاكَ بِكَاشْغَرَ، فَأَخَذَهُ أَسِيرًا، وَنَهَبَ عَسْكَرَهُ، وَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا الَّذِي تُرِيدُونَ تَفْعَلُونَهُ بِي لَيْسَ مِمَّا تَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَفْعَلُونَهُ اتِّبَاعًا لِأَمْرِ أَخِي، وَقَدْ زَالَ أَمْرُهُ، وَوَعَدَهُمُ الْإِحْسَانَ فَأَطْلَقُوهُ. فَلَمَّا رَأَى السُّلْطَانُ ذَلِكَ وَرَأَى طَمَعَ طُغْرُلَ بْنِ يَنَالَ، وَمَسِيرِهِ إِلَى كَاشْغَرَ، وَقَبْضِ صَاحِبِهَا، وَمَلْكِهِ لَهَا مَعَ قُرْبِهِ مِنْهُ، خَافَ أَنْ يَنْحَلَّ بَعْضُ أَمْرِهِ وَتَزُولَ هَيْبَتُهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مَتَى قَصَدَ طُغْرُلَ سَارَ مِنْ يَدَيْهِ، فَإِنْ عَادَ عَنْهُ رَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ، وَكَذَلِكَ يَعْقُوبُ (أَخُو صَاحِبِ كَاشْغَرَ) ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ لِسَعَةِ الْبِلَادِ وَرَاءَهُ وَخَوْفِ الْمَوْتِ بِهَا، فَوَضَعَ تَاجَ الْمُلْكِ عَلَى أَنْ يَسْعَى فِي إِصْلَاحِ أَمْرِ يَعْقُوبَ مَعَهُ، فَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ السُّلْطَانُ، فَاتَّفَقَ هُوَ وَيَعْقُوبُ، وَعَادَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَجَعَلَ يَعْقُوبُ مُقَابِلَ طُغْرُلَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْقُوَّةِ، وَمَلْكِ الْبِلَادِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَقُومُ فِي وَجْهِ الْآخَرِ. ذِكْرُ عَوْدَ ابْنَةِ السُّلْطَانِ زَوْجَةِ الْخَلِيفَةِ إِلَى أَبِيهَا وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ ابْنَتَهُ طَلَبًا لَا بُدَّ مِنْهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهَا أَرْسَلَتْ تَشْكُو مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَتَذْكُرُ أَنَّهُ كَثِيرُ الِاطِّرَاحِ لَهَا، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، فَأَذِنَ لَهَا فِي الْمَسِيرِ، فَسَارَتْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَسَارَ مَعَهَا ابْنُهَا (مِنَ الْخَلِيفَةِ) أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، وَمَعَهُمَا سَائِرُ أَرْبَابِ الدَّوْلَةِ، وَمَشَى مَعَ مَحَفَّتِهَا سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوهَرَائِينُ، وَخَدَمُ دَارِ الْخِلَافَةِ الْأَكَابِرُ، وَخَرَجَ الْوَزِيرُ وَشَيَّعَهُمْ إِلَى النَّهْرَوَانِ وَعَادَ. وَسَارَتِ الْخَاتُونُ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَأَقَامَتْ بِهَا إِلَى ذِي الْقَعْدَةِ، وَتُوُفِّيَتْ، وَجَلَسَ

الْوَزِيرُ بِبَغْدَاذَ لِلْعَزَاءِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مَرَاثِيَهَا بِبَغْدَاذَ، وَبِعَسْكَرِ السُّلْطَانِ. ذِكْرُ فَتْحِ عَسْكَرِ مِصْرَ عَكَّا وَغَيْرَهَا مِنَ الشَّامِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَتْ عَسَاكِرُ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُقَدِّمِينَ، فَحَصَرُوا مَدِينَةَ صُورَ، وَكَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا الْقَاضِي عَيْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ أَبِي عَقِيلٍ، وَامْتَنَعَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ تُوُفِّيَ، وَوَلِيَهَا أَوْلَادُهُ، فَحَصَرَهُمُ الْعَسْكَرُ الْمِصْرِيُّ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يَمْتَنِعُونَ بِهَا، فَسَلَّمُوهَا إِلَيْهِمْ. ثُمَّ سَارَ الْعَسْكَرُ عَنْهَا إِلَى مَدِينَةِ صَيْدَا، فَفَعَلُوا بِهَا كَذَلِكَ. ثُمَّ سَارُوا إِلَى مَدِينَةٍ عَكَّا، فَحَصَرُوهَا، وَضَيَّقُوا عَلَى أَهْلِهَا، فَافْتَتَحُوهَا.

وَقَصَدُوا مَدِينَةَ جُبَيْلٍ، فَمَلَكُوهَا أَيْضًا. وَأَصْلَحُوا أَحْوَالَ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَقَرَّرُوا قَوَاعِدَهَا، وَسَارُوا عَنْهَا إِلَى مِصْرَ عَائِدِينَ، وَاسْتَعْمَلَ أَمِيرُ الْجُيُوشِ عَلَى الْبِلَادِ الْأُمَرَاءَ وَالْعُمَّالَ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ أَهْلِ بَغْدَاذَ ثَانِيَةً وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، كَثُرَتِ الْفِتَنُ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَحَالِّ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَاسْتَوْلَى أَهْلُ الْمَحَالِّ عَلَى قِطْعَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ نَهْرِ الدَّجَاجِ، فَنَهَبُوهَا، وَأَحْرَقُوهَا، فَنَزَلَ شِحْنَةُ بَغْدَاذَ، وَهُوَ خِمَارْتِكِينَ النَّائِبُ عَنْ كُوهَرَائِينَ، عَلَى دِجْلَةَ فِي خَيْلِهِ وَرَجْلِهِ، لِيَكُفَّ النَّاسَ عَنِ الْفِتْنَةِ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَكَانَ أَهْلُ الْكَرْخِ يُجْرُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ الْجِرَايَاتِ وَالْإِقَامَاتِ. وَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ وَصَلَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِلَى سُوَيْقَةِ غَالِبٍ فَخَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْكَرْخِ مَنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِالْقِتَالِ، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى كَشَفُوهُمْ. فَرَكِبَ خَدَمُ الْخَلِيفَةِ وَالْحُجَّابُ وَالنُّقَبَاءُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَعْيَانِ الْحَنَابِلَةِ، كَابْنِ عَقِيلٍ، وَالْكَلْوَذَانِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، إِلَى الشِّحْنَةِ، وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى أَهْلِ الْكَرْخِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ مِثَالًا مِنَ الْخَلِيفَةِ يَأْمُرُهُمْ بِالْكَفِّ، وَمُعَاوَدَةِ السُّكُونِ، وَحُضُورِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمْعَةِ، وَالتَّدَيُّنِ بِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَأَجَابُوا إِلَى الطَّاعَةِ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ أَتَاهُمُ الصَّارِخُ مِنْ نَهْرِ الدَّجَاجِ بِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ قَصَدُوهُمْ، وَالْقِتَالُ عِنْدَهُمْ، فَمَضَوْا مَعَ الشِّحْنَةِ، وَمُنِعُوا مِنَ الْفِتْنَةِ، وَسَكَنَ النَّاسُ وَكَتَبَ أَهْلُ الْكَرْخِ عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِهِمْ: خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِّيٌ، وَمِنْ عِنْدَ هَذَا الْيَوْمِ ثَارَ أَهْلُ الْكَرْخِ، وَقَصَدُوا شَارِعَ ابْنِ أَبِي عَوْفٍ وَنَهَبُوهُ. وَفِي جُمْلَةِ مَا نَهَبُوا دَارُ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ خَيْرُونَ الْمُعَدَّلِ، فَقَصَدَ الدِّيوَانَ مُسْتَنْفِرًا، وَمَعَهُ

النَّاسُ، وَرَفَعَ الْعَامَّةُ الصُّلْبَانَ وَهَجَمُوا عَلَى الْوَزِيرِ فِي هِجْرَتِهِ، وَأَكْثَرُوا مِنَ الْكَلَامِ الشَّنِيعِ، وَقُتِلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ رَجُلٌ هَاشِمِيٌّ مِنْ أَهْلِ بَابِ الْأَزَجِّ بِسَهْمٍ أَصَابَهُ، فَثَارَ الْعَامَّةُ هُنَاكَ بِعَلَوِيٍّ كَانَ مُقِيمًا بَيْنَهُمْ. فَقَتَلُوهُ وَحَرَقُوهُ، وَجَرَى مِنَ النَّهْبِ، وَالْقَتْلِ، وَالْفَسَادِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ بْنَ مَزْيَدٍ، فَأَرْسَلَ عَسْكَرًا إِلَى بَغْدَاذَ، فَطَلَبُوا الْمُفْسِدِينَ وَالْعَيَّارِينَ، فَهَرَبُوا مِنْهُمْ، فَهُدِمَتْ دُورُهُمْ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ وَنُفِيَ وَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ، وَأَمِنَ النَّاسُ. ذِكْرُ حِيلَةٍ لِأَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ ظَهَرَتْ ظُهُورًا غَرِيبًا كَانَ بِالْمَغْرِبِ إِنْسَانٌ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكَزُولِيُّ، سَيِّدُ قَبِيلَةِ كَزُولَةَ وَمَالِكُ جَبَلِهَا، وَهُوَ جَبَلٌ شَامِخٌ، وَهِيَ قَبِيلَةٌ كَثِيرَةٌ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ يُوسُفُ بْنُ تَاشَفِينَ مَوَدَّةٌ وَاجْتِمَاعٌ، فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ أَرْسَلَ يُوسُفُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ يَطْلُبُ الِاجْتِمَاعَ بِهِ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا قَارَبَهُ خَافَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَعَادَ إِلَى جَبَلِهِ، وَاحْتَاطَ لِنَفْسِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يُوسُفُ، وَحَلِفَ لَهُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ إِلَّا الْخَيْرَ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَدْرٍ، فَلَمْ يَرْكَنْ مُحَمَّدٌ إِلَيْهِ. فَدَعَا يُوسُفُ حَجَّامًا، وَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِينَارٍ، وَضَمِنَ لَهُ مِائَةَ دِينَارٍ أُخْرَى، إِنْ هُوَ سَارَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَاحْتَالَ عَلَى قَتْلِهِ. فَسَارَ الْحَجَّامُ، وَمَعَهُ مَشَارِيطُ مَسْمُومَةٌ، فَصَعِدَ الْجَبَلَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ خَرَجَ يُنَادِي لِصِنَاعَتِهِ بِالْقُرْبِ مِنْ مَسَاكِنِ مُحَمَّدٍ، فَسَمِعَ مُحَمَّدٌ الصَّوْتَ، فَقَالَ: هَذَا الْحَجَّامُ مِنْ بَلَدِنَا؟ فَقِيلَ: إِنَّهُ غَرِيبٌ، فَقَالَ أَرَاهُ يُكْثِرُ الصِّيَاحَ، وَقَدِ ارْتَبْتُ بِذَلِكَ، ائْتُونِي بِهِ. فَأُحْضِرَ عِنْدَهُ، فَاسْتَدْعَى حَجَّامًا آخَرَ وَأَمَرَهُ

أَنْ يَحْجِمَهُ بِمَشَارِيطِهِ الَّتِي مَعَهُ، فَامْتَنَعَ الْحَجَّامُ الْغَرِيبُ، فَأُمْسِكَ وَحُجِمَ فَمَاتَ، وَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ فِطْنَتِهِ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ يُوسُفَ ازْدَادَ غَيْظُهُ وَلَجَّ فِي السَّعْيِ فِي أَذًى يُوصِلُهُ إِلَيْهِ، فَاسْتَمَالَ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَمَالُوا إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ جِرَارًا مِنْ عَسَلٍ مَسْمُومٍ، فَحَضَرُوا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقَالُوا: قَدْ وَصَلَ إِلَيْنَا قَوْمٌ مَعَهُمْ جِرَارٌ مِنْ عَسَلٍ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ، وَأَرَدْنَا إِتْحَافَكَ بِهِ، وَأَحْضَرُوهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ أَمَرَ بِإِحْضَارِ خُبْزٍ، وَأَمَرَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَهْدَوْا إِلَيْهِ الْعَسَلَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ، فَامْتَنَعُوا. وَاسْتَعْفُوهُ مِنْ أَكْلِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَأْكُلْ قُتِلَ بِالسَّيْفِ، فَأَكَلُوا فَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ. فَكَتَبَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ: إِنَّكَ قَدْ أَرَدْتَ قَتْلِي بِكُلِّ وَجْهٍ، فَلَمْ يُظْفِرْكَ اللَّهُ بِذَلِكَ، فَكُفَّ عَنْ شَرِّكَ، فَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ الْمَغْرِبَ بِأَسْرِهِ، وَلَمْ يُعْطِنِي غَيْرَ هَذَا الْجَبَلِ، وَهُوَ فِي بِلَادِكَ كَالشَّامَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، فَلَمْ تَقْنَعْ بِمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، - عَزَّ وَجَلَّ -. فَلَمَّا رَأَى يُوسُفُ أَنَّ سِرَّهُ قَدِ انْكَشَفَ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ فِي أَمْرِهِ شَيْءٌ لِحَصَانَةِ جَبَلِهِ أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَرَكَهُ. ذِكْرُ مُلْكِ الْعَرَبِ مَدِينَةَ سُوسَةَ وَأَخْذِهَا مِنْهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نَقَضَ ابْنُ عَلَوِيٍّ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ أَمِيرِ إِفْرِيقِيَّةَ مِنَ الْعَهْدِ، وَسَارَ فِي جَمْعٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ الْعَرَبِ، فَوَصَلَ إِلَى مَدِينَةِ سُوسَةَ مِنْ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَأَهْلُهَا غَارُّونَ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ، فَدَخَلَهَا عَنْوَةً، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ بِهَا مِنَ الْعَسْكَرِ وَالْعَامَّةِ قِتَالٌ، فَقُتِلَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ جَمَاعَةٌ وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي أَصْحَابِهِ وَالْأَسْرُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ لَهُ مَعَ تَمِيمٍ حَالٌ، فَفَارَقَهَا، وَخَرَجَ مِنْهَا إِلَى حِلَّتَهُ مِنَ الصَّحْرَاءِ. وَكَانَ بِإِفْرِيقِيَّةَ هَذِهِ السَّنَةَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ، وَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَصَلُحَتْ أَحْوَالُ أَهْلِهَا، وَأَخْصَبَتِ الْبِلَادُ، وَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ وَأَكْثَرَ أَهْلُهَا الزَّرْعَ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَطَعَتِ الْحَرَامِيَّةُ الطَّرِيقَ عَلَى قَفْلٍ كَبِيرٍ بِوِلَايَةِ حَلَبَ، فَرَكِبَ آقْسَنْقَرُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ عَسْكَرِهِ وَتَبِعَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى أَخَذَهُمْ وَقَتَلَهُمْ، فَأَمِنَتِ الطُّرُقُ بِوِلَايَتِهِ. وَفِيهَا وَرَدَ الْعَمِيدُ الْأَغَرُّ أَبُو الْمَحَاسِنِ عَبْدُ الْجَلِيلِ بْنُ عَلِيٍّ الدِّهِسْتَانِيُّ إِلَى بَغْدَاذَ عَمِيدًا، وَعُزِلَ أَخُوهُ كَمَالُ الْمُلْكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَفِيهَا دَرَّسَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ فِي الْمَدْرَسَةِ الَّتِي بَنَاهَا تَاجُ الْمُلْكِ مُسْتَوْفِي السُّلْطَانِ بِبَابِ إِبْرَزَ مِنْ بَغْدَاذَ، وَهِيَ الْمَدْرَسَةُ التَّاجِيَّةُ الْمَشْهُورَةُ. وَفِيهَا عُمِّرَتْ مَنَارَةُ جَامِعِ حَلَبَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْخَطِيبُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي الْحَدِيدِ السُّلَمِيُّ، خَطِيبُ دِمَشْقَ، فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ صَاعِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو نَصْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ رَئِيسُهَا، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ،

وَعَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ الْعَاصِمِيُّ الْبُغْدَاذِيُّ مِنْ أَهْلِ الْكَرْخِ، كَانَ ظَرِيفًا كَيِّسًا، لَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ: مَاذَا عَلَى مُتَلَوِّنِ الْأَخْلَاقِ لَوْ زَارَنِي فَأَبُثُّهُ أَشْوَاقِي وَأَبُوحُ بِالشَّكْوَى إِلَيْهِ تَذَلُّلًا، وَأَفُضُّ خَتْمَ الدَّمْعِ مِنْ آمَاقِي فَعَسَاهُ يَسْمَحُ بِالْوِصَالِ لِمُدْنَفٍ ذِي لَوْعَةٍ وَصَبَابَةٍ مُشْتَاقِ أَسَرَ الْفُؤَادَ وَلَمْ يَرِقَّ لِمَوْثِقٍ مَا ضَرَّهُ لَوْ جَادَ بِالْإِطْلَاقِ إِنْ كَانَ قَدْ لَسَبَتْ عَقَارِبُ صُدْغِهِ قَلْبِي فَإِنَّ رُضَابَهُ دِرْيَاقِي وَقَالَ أَيْضًا: فَدَيْتُ مَنْ ذُبْتُ شَوْقًا مِنْ مَحَبَّتِهِ ، وَصِرْتُ مِنْ هَجْرِهِ فَوْقَ الْفِرَاشِ لَقَا ... سَمِعْتُهُ يَتَغَنَّى وَهُوَ مُصْطَبِحٌ أَفْدِيهِ مُصْطَبِحًا مِنْهُ وَمُغْتَبِقَا ... وَأَخْلَفَتْكَ ابْنَةُ الْبِكْرِيِّ مَا وَعَدَتْ وَأَصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْهَا وَاهِيًا خَلَقَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ الْعَلَوِيُّ، الدَّبُّوسِيُّ، الْمُدَرِّسُ بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ فَاضِلًا فَصِيحًا.

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 483 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ أَبِي نَصْرِ بْنِ جَهِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَهِيرٍ الَّذِي كَانَ وَزِيرَ الْخَلِيفَةِ بِمَدِينَةِ الْمَوْصِلِ، وَمَوْلِدُهُ بِهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتَزَوُّجَ إِلَى أَبِي الْعَقَارِبِ شَيْخِهَا، وَنَظَرَ فِي أَمْلَاكِ جَارِيَةِ قِرْوَاشٍ، الْمَعْرُوفَةُ بِسَرْهَنْكَ، ثُمَّ خَدَمَ بَرَكَةَ بْنَ الْمُقَلِّدِ، حَتَّى قَبَضَ عَلَى أَخِيهِ قِرْوَاشٌ وَحَبَسَهُ، وَمَضَى بِهَدَايَا إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، فَاجْتَمَعَ هُوَ وَرَسُولُ نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ، فَتَقَدَّمَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِ، فَنَازَعَهُ رَسُولُ ابْنِ مَرْوَانَ، فَقَالَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ لِمَلِكِ الرُّومِ: أَنَا أَسْتَحِقُّ التَّقَدُّمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُؤَدِّي الْخَرَاجَ إِلَى صَاحِبِي. فَلَمَّا عَادَ إِلَى قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ أَرَادَ الْقَبْضَ عَلَيْهِ، فَاسْتَجَارَ بِأَبِي الشَّدَّادِ، وَكَانَتْ عُقَيْلٌ تُجِيرُ عَلَى أُمَرَائِهَا، وَسَارَ إِلَى حَلَبَ، فَوَزَرَ لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ أَبِي ثَمَالِ بْنِ صَالِحٍ. ثُمَّ مَضَى إِلَى مَلَطْيَةَ، وَمِنْهَا إِلَى ابْنِ مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ أَمِنْتَنِي وَقَدْ فَعَلْتَ بِرَسُولِي مَا فَعَلْتَ عِنْدَ مَلِكِ الرُّومِ؟ فَقَالَ: حَمَلَنِي عَلَى ذَلِكَ نُصْحُ صَاحِبِي. فَاسْتَوْزَرَهُ، فَعَمَرَ بِلَادَهُ. وَوَزَرَ بَعْدَ نَصْرِ الدَّوْلَةِ لِوَلَدِهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَوَلِيَ وِزَارَةَ الْخَلِيفَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَتَوَلَّى أَخْذَ دِيَارِ بِكْرٍ مِنْ بَنِي مَرْوَانَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْهُ السُّلْطَانُ، فَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَتُوُفِّيَ بِهَا.

ذِكْرُ نَهْبِ الْعَرَبِ الْبَصْرَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى نَهَبَ الْعَرَبُ الْبَصْرَةَ نَهْبًا قَبِيحًا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ إِلَى بَغْدَاذَ، فِي بَعْضِ السِّنِينَ، رَجُلٌ أَشْقَرُ مِنْ سَوَادِ النِّيلِ يَدَّعِي الْأَدَبَ، وَالنُّجُومَ، وَيَسْتَجْرِي النَّاسَ، فَلَقَّبَهُ أَهْلُ بَغْدَاذَ تَلْيَا، وَكَانَ نَازِلًا فِي بَعْضِ الْخَانَاتِ، فَسَرَقَ ثِيَابًا مِنَ الدِّيبَاجِ وَغَيْرِهِ، وَأَخْفَاهَا (فِي خَلَفًا) ، وَسَارَ بِهَا، فَرَآهَا الَّذِينَ يَحْفَظُونَ الطَّرِيقَ، فَمَنَعُوهُ مِنَ السَّفَرِ (اتِّهَامًا لَهُ) ، وَحَمَلُوهُ إِلَى الْمُقَدَّمِ عَلَيْهِمْ، فَأَطْلَقَهُ لِحُرْمَةِ الْعِلْمِ. فَسَارَ إِلَى أَمِيرٍ مِنْ أُمَرَاءِ الْعَرَبِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَبِلَادُهُ مُتَاخِمَةٌ الْأَحْسَاءَ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ تَمْلِكُ الْأَرْضَ، وَقَدْ فَعَلَ أَجْدَادُكَ بِالْحَاجِّ كَذَا وَكَذَا، وَأَفْعَالُهُمْ مَشْهُورَةٌ، مَذْكُورَةٌ فِي التَّوَارِيخِ، وَحَسَّنَ لَهُ نَهْبَ الْبَصْرَةِ، وَأَخْذَهَا، فَجَمَعَ مِنَ الْعَرَبِ مَا يَزِيدُ عَلَى عَشْرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَقَصَدَ الْبَصْرَةَ، وَبِهَا الْعَمِيدُ عِصْمَةُ، وَلَيْسَ مَعَهُ مِنَ الْجُنْدِ إِلَّا الْيَسِيرَ، لَكَوْنِ الدُّنْيَا آمِنَةً مِنْ ذَاعِرٍ، وَلِأَنَّ النَّاسَ فِي جِنَّةٍ مِنْ هَيْبَةِ السُّلْطَانِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي أَصْحَابِهِ، وَحَارَبَهُمْ، وَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْ دُخُولِ الْبَلَدِ، فَأَتَاهُ مَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ يُرِيدُونَ أَنْ يُسَلِّمُوهُ إِلَى الْعَرَبِ، فَخَافَ، فَفَارَقَهُمْ، وَقَصَدَ الْجَزِيرَةَ الَّتِي هِيَ مَكَانُ الْقَلْعَةِ بِنَهْرِ مَعْقِلٍ. فَلَمَّا عَلِمَ أَهْلُ الْبَلَدِ بِذَلِكَ فَارَقُوا دِيَارَهُمْ وَانْصَرَفُوا، وَدَخَلَ الْعَرَبُ حِينَئِذٍ الْبَصْرَةَ، وَقَدْ قَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَمَلَكُوهَا، وَنَهَبُوا مَا فِيهَا نَهْبًا شَنِيعًا، فَكَانُوا يَنْهَبُونَ نَهَارًا، وَأَصْحَابُ الْعَمِيدِ عِصْمَةَ يَنْهَبُونَ لَيْلًا، وَأَحْرَقُوا مَوَاضِعَ عِدَّةً، وَفِي جُمْلَةِ مَا أَحْرَقُوا دَارَانِ لِلْكُتُبِ إِحْدَاهُمَا وُقِفَتْ قَبْلَ أَيَّامِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ ابْنِ بُوَيْهٍ، فَقَالَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ: هَذِهِ مَكْرُمَةٌ سُبِقْنَا إِلَيْهَا، وَهِيَ أَوَّلُ دَارٍ وُقِفَتْ فِي الْإِسْلَامِ. وَالْأُخْرَى وَقَفَهَا

الْوَزِيرُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ شَاهْ مَرِدَانَ، وَكَانَ بِهَا نَفَائِسُ الْكُتُبِ وَأَعْيَانُهَا، وَأَحْرَقُوا أَيْضًا النَّحَّاسِينَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ. وَخُرِّبَتْ وُقُوفُ الْبَصْرَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ لَهَا نَظِيرٌ، مِنْ جُمْلَتِهَا: وُقُوفٌ عَلَى الْحِمَالِ الدَّائِرَةِ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، وَعَلَى الدَّوَالِيبِ الَّتِي تَحْمِلُ الْمَاءَ وَتُرَقِّيهِ إِلَى قِنَى الرَّصَاصِ الْجَارِيَةِ إِلَى الْمَصَانِعِ، وَهِيَ عَلَى فَرَاسِخَ مِنَ الْبَلَدِ، وَهِيَ مِنْ عَمَلِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْهَاشِمِيِّ وَغَيْرِهِ. وَكَانَ فِعْلُ الْعَرَبِ بِالْبَصْرَةِ أَوَّلَ خَرْقٍ جَرَى فِي أَيَّامِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ. فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَاذَ انْحَدَرَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوهَرَائِينُ، وَسَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَزْيَدٍ إِلَى الْبَصْرَةِ لِإِصْلَاحِ أُمُورِهَا، فَوَجَدُوا الْعَرَبَ قَدْ فَارَقُوهَا. ثُمَّ إِنْ تَلْيَا أُخِذَ بِالْبَحْرَيْنِ، وَأَرْسَلُوا إِلَى السُّلْطَانِ، فَشَهَّرَهُ بِبَغْدَاذَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] عَلَى جَمَلٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ طُرْطُورٌ، وَهُوَ يُصْفَعُ بِالدِّرَّةِ، وَالنَّاسُ يَشْتُمُونَهُ، وَيَسُبُّهُمْ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَصُلِبَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ بَغْدَاذَ، فِي الْمُحَرَّمِ، بِمَنْشُورٍ مِنْ نِظَامِ الْمُلْكِ بِتَوْلِيَتِهِ تَدْرِيسَ الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، ثُمَّ وَرَدَ بَعْدَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنَ السَّنَةِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ الشِّيرَازِيُّ، وَهُوَ أَيْضًا مَعَهُ مَنْشُورٌ بِالتَّدْرِيسِ، فَاسْتَقَرَّ أَنْ يُدَرِّسَ يَوْمًا، وَالطَّبَرِيُّ يَوْمًا.

ثم دخلت سنة أربع وثمانين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 484 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ عَزْلِ الْوَزِيرِ أَبِي شُجَاعٍ وَوِزَارَةِ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، عُزِلَ الْوَزِيرُ أَبُو شُجَاعٍ مِنْ وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ. وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ أَنَّ إِنْسَانًا يَهُودِيًّا بِبَغْدَاذَ يُقَالُ لَهُ أَبُو سَعْدِ بْنِ سَمْحَا كَانَ وَكِيلَ السُّلْطَانِ وَنِظَامَ الْمُلْكِ، فَلَقِيَهُ إِنْسَانٌ يَبِيعُ الْحُصْرَ، فَصَفَعَهُ صَفْعَةً أَزَالَتْ عِمَامَتَهُ، (عَنْ رَأْسِهِ) فَأُخِذَ الرَّجُلُ، وَحُمِلَ إِلَى الدِّيوَانِ، وَسُئِلَ عَنِ السَّبَبِ فِي فِعْلِهِ، فَقَالَ: هُوَ وَضَعَنِي عَلَى نَفْسِهِ، فَسَارَ كُوهَرَائِينُ وَمَعَهُ ابْنُ سَمْحَا الْيَهُودِيُّ إِلَى الْعَسْكَرِ يَشْكُوَانِ، وَكَانَا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى الشِّكَايَةِ مِنَ الْوَزِيرِ أَبِي شُجَاعٍ. فَلَمَّا سَارَا خَرَجَ تَوْقِيعُ الْخَلِيفَةِ بِإِلْزَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْغِيَارِ، وَلُبْسِ مَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَهَرَبُوا كُلَّ مَهْرَبٍ، أَسْلَمَ بَعْضُهُمْ، فَمِمَّنْ أَسْلَمَ أَبُو الْعَلَاءِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ وَهَبِ بْنِ مُوصِلَايَا الْكَاتِبُ، وَابْنُ أَخِيهِ أَبُو نَصْرٍ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ صَاحِبُ الْخَبَرِ، أَسْلَمَا عَلَى يَدَيِ الْخَلِيفَةِ. وَنُقِلَ أَيْضًا عَنْهُ إِلَى السُّلْطَانِ وَنِظَامِ الْمُلْكِ أَنَّهُ يَكْسِرُ أَغْرَاضَهُمْ وَيُقَبِّحُ أَفْعَالَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا وَرَدَ الْخَبَرُ بِفَتْحِ السُّلْطَانِ سَمَرْقَنْدَ قَالَ: وَمَا هَذَا مِمَّا يُبَشَّرُ بِهِ، كَأَنَّهُ قَدْ فَتَحَ

بِلَادَ الرُّومِ، هَلْ أَتَى إِلَّا إِلَى قَوْمٍ مُسْلِمِينَ مُوَحِّدِينَ، فَاسْتَبَاحَ مِنْهُمْ مَا لَا يُسْتَبَاحُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ! فَلَمَّا وَصَلَ كُوهَرَائِينُ وَابْنُ سَمْحَا إِلَى الْعَسْكَرِ وَشَكَوَا مِنَ الْوَزِيرِ إِلَى السُّلْطَانِ وَنِظَامِ الْمُلْكِ، وَأَخْبَرَاهُمَا بِجَمِيعِ مَا يَقُولُ عَنْهُمَا، وَيَكْسِرُ مِنْ أَغْرَاضِهِمَا، أَرْسَلَا إِلَى الْخَلِيفَةِ فِي عَزْلِهِ، فَعَزَلَهُ، وَأَمَرَهُ بِلُزُومِ بَيْتِهِ، وَكَانَ عَزْلُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَلَمَّا أُمِرَ بِذَلِكَ أَنْشَدَ: تَوَلَّاهَا وَلَيْسَ لَهُ عَدُوٌّ ... وَفَارَقَهَا وَلَيْسَ لَهُ صَدِيقُ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، يَوْمُ الْجُمْعَةِ، خَرَجَ مِنْ دَارِهِ إِلَى الْجَامِعِ رَاجِلًا، وَاجْتَمَعَ الْخَلْقُ الْعَظِيمُ عَلَيْهِ، فَأُمِرَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ، وَلَمَّا عُزِلَ اسْتُنِيبَ فِي الْوِزَارَةِ أَبُو سَعِدِ بْنُ مُوصِلَايَا، كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى السُّلْطَانِ وَنِظَامِ الْمُلْكِ يَسْتَدْعِي عَمِيدَ الدَّوْلَةِ بْنَ جَهِيرٍ لِيَسْتَوْزِرَهُ، فَسُيِّرَ إِلَيْهِ، فَاسْتَوْزَرَهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَرَكِبَ إِلَيْهِ نِظَامُ الْمُلْكِ، فَهَنَّأَهُ بِالْوِزَارَةِ فِي دَارِهِ، وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ تَهْنِئَتَهُ بِالْعَوْدِ إِلَى الْوِزَارَةِ. ذِكْرُ مُلْكِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ الَّتِي لِلْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، مَلَكَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ يُوسُفُ بْنُ تَاشَفِينَ، صَاحِبُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ مَا هُوَ بَيْدَ الْمُسْلِمِينَ: قُرْطُبَةَ وَإِشْبِيلِيَّةَ، وَقَبَضَ عَلَى الْمُعْتَمِدِ بْنِ عَبَّادٍ صَاحِبِهَا، وَمَلَكَ غَيْرَهَا مِنَ الْأَنْدَلُسِ. وَلَقَدْ جَرَى لِلرَّشِيدِ بْنِ الْمُعْتَمِدِ حَادِثَةٌ شَبِيهَةٌ بِحَادِثَةِ الْأَمِينِ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ عِيسَى بْنُ اللُّبَانَةِ الدَّانِيُّ، مِنْ مَدِينَةِ دَانِيَةَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ الرَّشِيدِ بْنِ الْمُعْتَمِدِ فِي مَجْلِسِ أُنْسِهِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَجَرَى ذِكْرُ غَرْنَاطَةَ، وَمَلْكِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَخْذَهَا فِي وَقْعَةِ الزَّلَّاقَةِ، فَلَمَّا ذَكَرْنَاهَا تَفَجَّعَ، وَتَلَهَّفَ،

وَاسْتَرْجَعَ، وَذَكَرَ قَصْرَهَا، فَدَعَوْنَا لِقَصْرِهِ بِالدَّوَامِ، وَلِمُلْكِهِ بِتَرَاخِي الْأَيَّامِ فَأَمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ الْإِشْبِيلِيَّ بِالْغِنَاءِ فَغَنَّى: يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَبَدِ فَاسْتَحَالَتْ مَسَرَّتُهُ، وَتَجَهَّمَتْ أَسِرَّتُهُ. ثُمَّ أَمَرَ بِالْغِنَاءِ مِنْ سِتَارَتِهِ فَغُنِّيَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ لَا تَرَى صَبْرًا لِمُصْطَبِرٍ ... فَانْظُرْ إِلَى أَيِّ حَالٍ أَصْبَحَ الطَّلَلُ فَتَأَكَّدَ تَطَيُّرُهُ، وَاشْتَدَّ ارْبِدَادُ وَجْهِهِ وَتَغَيُّرُهُ، وَأَمَرَ مُغَنِّيَةً أُخْرَى بِالْغِنَاءِ، فَغَنَّتْ: يَا لَهَفَ نَفْسِي عَلَى مَالٍ أُفَرِّقُهُ ... عَلَى الْمُقِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوءَاتِ إِنَّ اعْتِذَارِي إِلَى مَنْ جَاءَ يَسْأَلُنِي ... مَا لَيْسَ عِنْدِي مِنْ إِحْدَى الْمُصِيبَاتِ قَالَ ابْنُ اللُّبَانَةِ: فَتَلَافَيْتُ الْحَالَ بِأَنْ قُمْتُ فَقُلْتُ: مَحَلُّ مَكْرُمَةٍ لَا هُدَّ مَبْنَاهُ ... وَشَمْلُ مَأْثُرَةٍ لَا شَتَّهُ اللَّهُ الْبَيْتُ كَالْبَيْتِ لَكِنْ زَادَ ذَا ... شَرَفًا إِنَّ الرَّشِيدَ مَعَ الْمُعْتَدِّ رُكْنَاهُ ثَاوٍ عَلَى أَنْجُمِ الْجَوْزَاءِ مَقْعَدُهُ ... وَرَاحِلٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَثْوَاهُ حَتْمٌ عَلَى الْمَلْكِ أَنْ يَقْوَى وَقَدْ ... وُصِلَتْ بِالشَّرْقِ وَالْغَرْبِ يُمْنَاهُ وَيُسْرَاهُ بَأْسٌ تَوَقَّدَ فَاحْمَرَّتْ لَوَاحِظُهُ ... وَنَائِلٌ شَبَّ فَاخْضَرَّتْ عِذَارَاهُ فَلَعَمْرِي قَدْ بَسَطْتُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَعَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ أُنْسِهِ، عَلَى أَنِّي وَقَعْتُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الْكُلُّ بِقَوْلِي: الْبَيْتُ كَالْبَيْتِ. وَأَمَرَ إِثْرَ ذَلِكَ بِالْغِنَاءِ فَغُنِّيَ: وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنَى كُلَّ حَاجَةٍ ... وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُزَمَّ الرَّكَائِبُ فَأَيْقَنَّا أَنَّ هَذِهِ الطِّيَرَ، تُعْقِبُ الْغِيَرَ. فَلَمَّا أَرَادَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ مَلْكَ الْأَنْدَلُسِ سَارَ مِنْ مُرَّاكِشَ إِلَى سَبْتَةَ، وَأَقَامَ بِهَا، وَسَيَّرَ الْعَسَاكِرَ مَعَ سِيرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ إِلَى

الْأَنْدَلُسِ، فَعَبَرُوا الْخَلِيجَ فَأَتَوْا مَدِينَةَ مُرْسِيَةَ، فَمَلَكُوهَا وَأَعْمَالَهَا، وَأَخْرَجُوا صَاحِبَهَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنَ طَاهِرٍ مِنْهَا، وَسَارُوا إِلَى مَدِينَةِ شَاطِبَةَ وَمَدِينَةِ دَانِيَةَ فَمَلَكُوهَا. وَكَانَتْ بَلَنْسِيَةُ قَدْ مَلَكَهَا الْفِرِنْجُ قَدِيمًا، بَعْدَ أَنْ حَصَرُوهَا سَبْعَ سِنِينَ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِوَقْعَةِ الزَّلَّاقَةِ فَارَقُوهَا، فَمَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا، وَعَمَّرُوهَا وَسَكَنُوهَا، فَصَارَتِ الْآنَ لِلْمُرَابِطِينَ. وَكَانُوا قَدْ مَلَكُوا غَرْنَاطَةَ نَوْبَةَ الزَّلَّاقَةِ، فَقَصَدُوا مَدِينَةَ إِشْبِيلِيَّةَ، وَبِهَا صَاحِبُهَا الْمُعْتَمِدُ بْنُ عِبَادٍ، فَحَصَرُوهُ بِهَا، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ، فَقَاتَلَ أَهْلُهَا قِتَالًا شَدِيدًا، (وَظَهَرَ مِنْ شَجَاعَةِ) الْمُعْتَمِدِ، وَشِدَّةِ بَأْسِهِ، وَحُسْنِ دِفَاعِهِ عَنْ بَلَدِهِ مَا لَمْ يُشَاهَدْ مِنْ غَيْرِهِ مَا يُقَارِبُهُ، فَكَانَ يُلْقِي نَفْسَهُ فِي الْمَوَاقِفِ الَّتِي لَا يُرْجَى خَلَاصُهُ مِنْهَا، فَيَسْلَمَ بِشَجَاعَتِهِ، وَشِدَّةِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ إِذَا نَفَدَتِ الْمُدَّةُ، لَمْ تُغْنِ الْعُدَّةُ. وَكَانَتِ الْفِرِنْجُ قَدْ سَمِعُوا بِقَصْدِ عَسَاكِرِ الْمُرَابِطِينَ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ، فَخَافُوا أَنْ يَمْلِكُوهَا ثُمَّ يَقْصِدُوا بِلَادَهُمْ، فَجَمَعُوا فَأَكْثَرُوا، وَسَارُوا لِيُسَاعِدُوا الْمُعْتَمِدَ، وَيُعِينُوهُ عَلَى الْمُرَابِطِينَ، فَسَمِعَ سِيرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، مُقَدِّمَ الْمُرَابِطِينَ بِمَسِيرِهِمْ، فَفَارَقَ إِشْبِيلِيَّةَ وَتَوَجَّهَ إِلَى لِقَاءِ الْفِرِنْجِ، فَلَقِيَهُمْ، وَقَاتَلَهُمْ، وَهَزَمَهُمْ، وَعَادَ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ فَحَصَرَهَا، وَلَمْ يَزَلِ الْحِصَارُ دَائِمًا، وَالْقِتَالُ مُسْتَمِرًّا إِلَى الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَعَظُمَ الْحَرْبُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَدَخَلَهُ الْمُرَابِطُونَ مِنْ وَادِيهِ، وَنُهِبَ جَمِيعُ مَا فِيهِ، وَلَمْ يُبْقُوا عَلَى سَبَدٍ وَلَا لَبَدٍ، وَسَلَبُوا النَّاسَ ثِيَابَهُمْ، فَخَرَجُوا مِنْ مَسَاكِنِهِمْ يَسْتُرُونَ عَوْرَاتِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، وَسُبِيَتِ الْمُخَدَّارَتُ، وَانْتُهِكَتِ الْحُرُمَاتُ، فَأُخِذَ الْمُعْتَمِدُ أَسِيرًا، وَمَعَهُ أَوْلَادُهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، بَعْدَ أَنِ اسْتَأْصَلُوا جَمِيعَ مَالِهِمْ، فَلَمْ يَصْحَبْهُمْ مِنْ مُلْكِهِمْ بُلْغَةُ زَادٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُعْتَمِدَ سَلَّمَ الْبَلَدَ بِأَمَانٍ، وَكَتَبَ نُسْخَةَ الْأَمَانِ وَالْعَهْدِ، وَاسْتَحْلَفَهُمْ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَأَهْلِهِ، وَمَالِهِ، وَعَبِيدِهِ، وَجَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ إِلَيْهِمْ إِشْبِيلِيَّةَ لَمْ يَفُوا لَهُ، وَأَخَذُوهُمْ أُسَرَاءَ، وَمَالَهُمْ غَنِيمَةً، وَسُيِّرَ الْمُعْتَمِدُ وَأَهْلُهُ إِلَى مَدِينَةِ أَغْمَاتَ،

فَحُبِسُوا فِيهَا، وَفَعَلَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ أَفْعَالًا لَمْ يَسْلُكْهَا أَحَدٌ مِمَّنْ قَبْلَهُ، وَلَا يَفْعَلُهَا أَحَدٌ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُ، إِلَّا مَنْ رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِهَذِهِ الرَّذِيلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَجَنَهُمْ فَلَمْ يُجْرِ عَلَيْهِمْ مَا يَقُومُ بِهِمْ، حَتَّى كَانَتْ بَنَاتُ الْمُعْتَمِدِ يَغْزِلْنَ لِلنَّاسِ بِأُجْرَةٍ يُنْفِقُونَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَذَكَرَ ذَلِكَ الْمُعْتَمِدُ فِي أَبْيَاتٍ تَرِدُ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ، فَأَبَانَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْفِعْلِ عَنْ صِغَرِ نَفْسٍ وَلُؤْمِ قُدْرَةٍ. وَأَغْمَاتُ هَذِهِ مَدِينَةٌ فِي سَفْحِ جَبَلٍ بِالْقُرْبِ مِنْ مُرَّاكِشَ، وَسَيَرِدُ مِنْ ذِكْرِ الْمُعْتَمِدِ عِنْدَ مَوْتِهِ، سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، مَا يُعْرَفُ بِهِ مَحَلُّهُ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ اللُّبَانَةِ: زُرْتُ الْمُعْتَمِدَ بَعْدَ أَسْرِهِ بِأَغْمَاتَ، وَقُلْتُ أَبْيَاتًا، عِنْدَ دُخُولِي إِلَيْهِ، مِنْهَا: لَمْ أَقُلْ فِي الثِّقَافِ كَانَ ثِقَافًا ... كُنْتَ قَلْبًا بِهِ وَكَانَ شَغَافًا يَمْكُثُ الزَّهْرُ فِي الْكِمَامِ ... وَلَكِنْ بَعْدَ مَكْثِ الْكِمَامِ يَدْنُو قِطَافَا وَإِذَا مَا الْهِلَالُ غَابَ بِغَيْمٍ ... لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَغِيبُ انْكِسَافَا إِنَّمَا أَنْتَ دُرَّةٌ لِلْمَعَالِي رَكِبَ ... الدَّهْرُ فَوْقَهَا أَصْدَافَا حَجَبَ الْبَيْتُ مِنْكَ شَخْصًا ... كَرِيمًا مِثْلَمَا تَحْجُبُ الدِّنَانُ السُّلَافَا أَنْتَ لِلْفَضْلِ كَعْبَةٌ وَلَوْ ... أَنِّي كُنْتُ أَسْطِيعُ لَالْتَزَمْتُ الطَّوَافَا قَالَ: وَجَرَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مُخَاطَبَاتٌ أَلَذُّ مِنْ غَفَلَاتِ الرَّقِيبِ، وَأَشْهَى مِنْ رَشَفَاتِ الْحَبِيبِ، وَأَدَلُّ عَلَى السَّمَاحِ مِنْ فَجْرٍ عَلَى صَبَاحٍ. وَلَمَّا أُخِذَ الْمُعْتَمِدُ وَأَهْلُهُ قُتِلَ وَلَدَاهُ الْفَتْحُ وَيَزِيدُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا، فَقَالَ فِي ذَلِكَ:

يَقُولُونَ صَبْرًا لَا سَبِيلَ إِلَى الصَّبْرِ ... سَأَبْكِي وَأُبْكِي مَا تَطَاوَلَ مِنْ عُمْرِي أَفْتَحٌ لَقَدْ فَتَّحْتَ لِي بَابَ رَحْمَةٍ ... كَمَا بِيَزِيدَ اللَّهُ قَدْ زَادَ فِي أَجْرِي هَوَى بِكُمَا الْمِقْدَارُ عَنِّي وَلَمْ ... أَمُتْ فَأُدْعَى وَفِّيًا قَدْ نَكَصْتُ إِلَى الْغَدْرِ وَلَوْ عُدْتُمَا لَاخْتَرْتُمَا الْعَوْدَ فِي ... الثَّرَى إِذَا أَنْتُمَا أَبْصَرْتُمَانِي فِي الْأَسْرِ أَبَا خَالِدٍ أَوْرَثْتَنِي الْبَثَّ خَالِدًا أَبَا ... نَصَرَ مُذْ وَدَّعْتَ وَدَّعَنِي نَصْرِي وَكَانَ الْمُعْتَمِدُ يُكَاتِبُهُ فُضَلَاءُ الْبَلَادِ، وَهُوَ مَحْبُوسٌ، بِالنَّثْرِ وَالنَّظْمِ، يَتَوَجَّعُونَ لَهُ، وَيَذُمُّونَ الزَّمَانَ وَأَهْلَهُ، حَيْثُ مِثْلُهُ مَنْكُوبٌ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَمْدِيسَ، (وَكَتَبَهُ إِلَيْهِ) يَذْكُرُ مَسِيرَهُمْ عَنْ إِشْبِيلِيَّةَ إِلَى أَغْمَاتَ: جَرَى لَكَ جَدٌّ بِالْكِرَامِ عَثُورُ ... وَجَارَ زَمَانٌ كُنْتَ مِنْهُ تُجِيرُ لَقَدْ أَصْبَحَتْ بِيضُ الظُّبَى فِي ... غُمُودِهَا إِنَاثًا لِتَرْكِ الضَّرْبِ وَهِيَ ذُكُورُ وَلَمَّا رَحَلْتُمْ بِالنَّدَى فِي أَكُفِّكُمْ ... وَقُلْقِلَ رَضْوَى مِنْكُمُ وَثَبِيرُ رَفَعْتُ لِسَانِي بِالْقِيَامَةِ قَدْ أَتَتْ ... أَلَا (فَانْظُرُوا كَيْفَ الْجِبَالُ تَسِيرُ ) وَقَالَ شَاعِرُهُ ابْنُ اللُّبَانَةِ فِي حَادِثَتِهِ أَيْضًا: تَبْكِي السَّمَاءُ بِدَمْعٍ رَائِحٍ غَادِي ... عَلَى الْبَهَالِيلِ مِنْ أَبْنَاءِ عَبَّادِ عَلَى الْجِبَالِ الَّتِي هُدَّتْ قَوَاعِدُهَا ... وَكَانَتِ الْأَرْضُ مِنْهَا تَحْتَ أَوْتَادِ عِرِّيسَةٍ دَخَلَتْهَا النَّائِبَاتُ عَلَى ... أَسَاوِدَ مِنْهُمْ فِيهَا وَآسَادِ وَكَعْبَةٍ كَانَتِ الْآمَالُ تَعْمُرُهَا فَالْيَوْمَ لَا عَاكِفٌ فِيهَا وَلَا بَادِ وَلَمَّا اسْتَقْصَى عَسْكَرُ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ مُلُوكَ الْأَنْدَلُسِ، وَأَخَذَ بِلَادَهُمْ، جَمَعَ

مُلُوكَهُمْ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى بِلَادٍ بِالْغَرْبِ، وَفَرَّقَهُمْ فِيهَا، {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: 34] . وَلَمَّا فَرَغَ سِيرُ مِنْ إِشْبِيلِيَّةَ سَارَ إِلَى الْمَرِيَّةَ فَنَازَلَهَا، وَكَانَ صَاحِبُهَا مُحَمَّدَ بْنَ (مَعْنِ بْنِ صُمَادِحَ) ، فَقَالَ لِوَلَدِهِ: مَا دَامَ الْمُعْتَمِدُ بِإِشْبِيلِيَّةَ فَلَا نُبَالِي بِالْمُرَابِطِينَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِمَلْكِهِمْ لَهَا، وَمَا جَرَى لِلْمُعْتَمِدِ، مَاتَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ غَمًّا وَكَمَدًا، فَلَمَّا مَاتَ سَارَ وَلَدُهُ الْحَاجِبُ وَأَهْلُهُ فِي مَرَاكِبَ، وَمَعَهُمْ كُلُّ مَالِهِمْ، وَقَصَدُوا بِلَادَ بَنِي حَمَّادٍ، فَأَحْسَنُوا إِلَيْهِمْ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْأَفْطَسِ، صَاحِبُ بَطْلَيْمُوسَ، مِمَّنْ أَعَانَ سِيرَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، فَلَمَّا فُتِحَتْ إِشْبِيلِيَّةُ رَجَعَ ابْنُ الْأَفْطَسِ إِلَى بَلَدِهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ سِيرُ، وَحَارَبَهُ، فَغَلَبَهُ، وَأَخَذَ بَلَدَهُ مِنْهُ، وَأَخَذَهُ أَسِيرًا هُوَ وَوَلَدُهُ الْفَضْلُ، فَقَتَلَهُمَا، فَقَالَ عُمَرُ حِينَ أَرَادُوا قَتْلَهُ: قَدِّمُوا وَلَدِي قَبْلِي لِلْقَتْلِ لِيَكُونَ فِي صَحِيفَتِي! فَقُتِلَ وَلَدُهُ قَبْلَهُ، وَقُتِلَ هُوَ بَعْدَهُ، وَاحْتَوَى سِيرُ عَلَى ذَخَائِرِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْ مُلُوكِ الْأَنْدَلُسِ سِوَى بَنِي هُودٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِلَادَهُمْ، وَهِيَ شَرْقُ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ صَاحِبُهَا حِينَئِذٍ الْمُسْتَعِينَ بِاللَّهِ بْنَ هُودٍ، وَهُوَ مِنَ الشُّجْعَانِ الَّذِينَ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِهِمْ، وَكَانَ قَدْ أَعَدَّ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْحِصَارِ، وَتَرَكَ عِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ عِدَّةَ سِنِينَ بِمَدِينَةِ رُوطَةَ، وَكَانَتْ قَلْعَةً حَصِينَةً، وَكَانَتْ رَعِيَّتُهُ تَخَافُهُ، وَلَمْ يَزَلْ يُهَادِي أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ، قَبْلَ أَنْ يَقْصِدَ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ وَيَمْلِكَهَا. وَيُوَاصِلُهُ، وَيُكْثِرُ مُرَاسَلَتَهُ، فَرَعَى لَهُ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّهُ أَوْصَى ابْنَهُ عَلِيَّ بْنَ يُوسُفَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ

لِبِلَادِ بَنِي هُودٍ، وَقَالَ: اتْرُكْهُمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ، فَإِنَّهُمْ شُجْعَانُ. ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ جَزِيرَةَ صِقِلِّيَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى الْفِرِنْجُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، عَلَى جَمِيعِ جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ، أَعَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ صِقِلِّيَةَ كَانَ الْأَمِيرُ عَلَيْهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ أَبَا الْفُتُوحِ يُوسُفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ، وَلَّاهُ عَلَيْهَا الْعَزِيزُ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ مِصْرَ وَإِفْرِيقِيَةَ، فَأَصَابَهُ هَذِهِ السَّنَةَ فَالِجٌ، فَتَعَطَّلَ جَانِبُهُ الْأَيْسَرُ، وَضَعُفَ الْجَانِبُ الْأَيْمَنُ، فَاسْتَنَابَ ابْنَهُ جَعْفَرًا، فَبَقِيَ كَذَلِكَ ضَابِطًا لِلْبِلَادِ، حَسَنَ السِّيرَةِ فِي أَهْلِهَا إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَخَالَفَ عَلَيْهِ أَخُوهُ عَلِيٌّ، وَأَعَانَهُ جَمْعٌ مِنَ الْبَرْبَرِ وَالْعَبِيدِ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ أَخُوهُ جَعْفَرٌ جُنْدًا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَاقْتَتَلُوا سَابِعَ شَعْبَانَ، وَقُتِلَ مِنَ الْبَرْبَرِ وَالْعَبِيدِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَهَرَبَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ وَأُخِذَ عَلِيٌّ أَسِيرًا، فَقَتَلَهُ أَخُوهُ جَعْفَرٌ، وَعَظُمَ قَتْلُهُ عَلَى أَبِيهِ، فَكَانَ بَيْنَ خُرُوجِهِ وَقَتْلِهِ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ. وَأَمَرَ جَعْفَرٌ حِينَئِذٍ أَنْ يُنْفَى كُلُّ بَرْبَرِيٍّ بِالْجَزِيرَةِ، فَنُفُوا إِلَى إِفْرِيقِيَةَ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ الْعَبِيدِ، فَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ وَجَعَلَ جُنْدَهُ كُلَّهُمْ مِنْ أَهْلِ صِقِلِّيَةَ. فَقَلَّ الْعَسْكَرُ بِالْجَزِيرَةِ، وَطَمِعَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ فِي الْأُمَرَاءِ، فَلَمْ يَمْضِ إِلَّا يَسِيرٌ حَتَّى ثَارَ بِهِ أَهْلُ صِقِلِّيَةَ، وَأَخْرَجُوهُ، وَخَلَعُوهُ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ وَلَّى عَلَيْهِمْ إِنْسَانًا صَادَرَهُمْ، وَأَخَذَ الْأَعْشَارَ مِنْ غَلَّاتِهِمْ، وَاسْتَخَفَّ بِقُوَّادِهِمْ وَشُيُوخِ الْبَلَدِ، وَقَهَرَ جَعْفَرٌ إِخْوَتَهُ، وَاسْتَطَالَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَقَدْ زَحَفَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْبَلَدِ كَبِيرُهُمْ وَصَغِيرُهُمْ، فَحَصَرُوهُ فِي قَصْرِهِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَشْرَفُوا عَلَى أَخْذِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَبُوهُ يُوسُفُ فِي مِحَفَّةٍ، وَكَانُوا لَهُ مُحِبِّينَ، فَلَطَفَ بِهِمْ وَرَفَقَ، فَبَكَوْا رَحْمَةً لَهُ مِنْ مَرَضِهِ، وَذَكَرُوا لَهُ مَا أَحْدَثَ ابْنُهُ عَلَيْهِمْ، وَطَلَبُوا أَنْ يَسْتَعْمِلَ ابْنَهُ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفَ بِالْأَكْحَلِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ.

وَخَافَ يُوسُفُ عَلَى ابْنِهِ جَعْفَرٍ مِنْهُمْ، فَسَيَّرَهُ فِي مَرْكِبٍ إِلَى مِصْرَ، وَسَارَ أَبُوهُ يُوسُفُ بَعْدَهُ، وَمَعَهُمَا مِنَ الْأَمْوَالِ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَكَانَ لِيُوسُفَ مِنَ الدَّوَابِّ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ حِجْرَةٍ، سِوَى الْبِغَالِ وَغَيْرِهَا، وَمَاتَ بِمِصْرَ وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا دَابَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَمَّا وَلِيَ الْأَكْحَلُ أَخَذَ أَمْرَهُ بِالْحَزْمِ وَالِاجْتِهَادِ، وَجَمَعَ الْمُقَاتِلَةَ، وَبَثَّ سَرَايَاهُ فِي بِلَادِ الْكَفَرَةِ، فَكَانُوا يَحْرِقُونَ، وَيَغْنِمُونَ، وَيَسْبُونَ، وَيُخَرِّبُونَ الْبِلَادَ، وَأَطَاعَهُ جَمِيعُ قِلَاعِ صِقِلِّيَةَ الَّتِي لِلْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ لِلْأَكْحَلِ ابْنٌ اسْمُهُ جَعْفَرٌ كَانَ يَسْتَنِيبُهُ إِذَا سَافَرَ، فَخَالَفَ سِيرَةَ أَبِيهِ، ثُمَّ (إِنَّ الْأَكْحَلَ) جَمَعَ أَهْلَ صِقِلِّيَةَ وَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ أُشْلِيكُمْ عَلَى الْإِفْرِيقِيِّنَ الَّذِينَ قَدْ شَارَكُوكُمْ فِي بِلَادِكُمْ، وَالرَّأْيُ إِخْرَاجُهُمْ، فَقَالُوا: قَدْ صَاهَرْنَاهُمْ وَصِرْنَا شَيْئًا وَاحِدًا، فَصَرَفَهُمْ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الْإِفْرِيقِيِّينَ، فَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى مَا أَرَادَ، فَجَمَعَهُمْ حَوْلَهُ، فَكَانَ يَحْمِي أَمْلَاكَهُمْ، وَيَأْخُذُ الْخَرَاجَ مِنْ أَمْلَاكِ أَهْلِ صِقِلِّيَةَ، فَسَارَ مِنْ أَهْلِ صِقِلِّيَةَ جَمَاعَةٌ إِلَى الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، وَشَكَوْا إِلَيْهِ مَا حَلَّ بِهِمْ، وَقَالُوا: نُحِبُّ أَنْ نَكُونَ فِي طَاعَتِكَ، وَإِلَّا سَلَّمْنَا الْبِلَادَ إِلَى الرُّومِ، وَذَلِكَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَسَيَّرَ مَعَهُمْ وَلَدَهُ عَبْدَ اللَّهِ فِي عَسْكَرٍ، فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَحَصَرَ الْأَكْحَلَ فِي الْخُلَاصَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ صِقِلِّيَةَ، وَأَرَادَ بَعْضُهُمْ نُصْرَةَ الْأَكْحَلِ، فَقَتَلَهُ الَّذِينَ أَحْضَرُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُعِزِّ. ثُمَّ إِنَّ الصِّقِلِّيِّينَ رَجَعَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقَالُوا: أَدْخَلْتُمْ غَيْرَكُمْ عَلَيْكُمْ، وَاللَّهِ لَا كَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِكُمْ فِيهِ إِلَى خَيْرٍ! فَعَزَمُوا عَلَى حَرْبِ عَسْكَرِ الْمُعِزِّ، فَاجْتَمَعُوا وَزَحَفُوا إِلَيْهِمْ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْمُعِزِّ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ، وَرَجَعُوا فِي الْمَرَاكِبِ إِلَى إِفْرِيقِيَةَ، وَوَلَّى أَهْلُ الْجَزِيرَةِ عَلَيْهِمْ حَسَنًا الصَّمْصَامَ، أَخَا الْأَكْحَلِ، فَاضْطَرَبَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَاسْتَوْلَى الْأَرَاذِلُ، وَانْفَرَدَ كُلُّ إِنْسَانٍ بِبَلَدٍ، وَأَخْرَجُوا الصَّمْصَامَ،

فَانْفَرَدَ الْقَائِدُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَنْكُوتٍ بِمَازَرَ وَطَرَابُنُشَ وَغَيْرِهِمَا، وَانْفَرَدَ الْقَائِدُ عَلِيُّ بْنُ نِعْمَةَ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَوَّاسِ، بِقَصْرِيَانَةَ وَجُرْجِنْتَ وَغَيْرِهِمَا، وَانْفَرَدَ ابْنُ الثِّمْنَةِ بِمَدِينَةِ سَرَقُوسَةَ، وَقَطَانِيَّةَ، وَتَزَوُّجَ بِأُخْتِ ابْنِ الْحَوَّاسِ. ثُمَّ إِنَّهُ جَرَى (بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا) كَلَامٌ فَأَغْلَظَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَهُوَ سَكْرَانٌ، فَأَمَرَ ابْنُ الثِّمْنَةِ بِفَصْدِهَا فِي عَضُدَيْهَا، وَتَرْكِهَا لِتَمُوتَ، فَسَمِعَ وَلَدُهُ إِبْرَاهِيمُ، فَحَضَرَ، وَأَحْضَرَ الْأَطِبَّاءَ، وَعَالَجَهَا إِلَى أَنْ عَادَتْ قُوَّتُهَا، وَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُوهُ نَدِمَ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهَا بِالسُّكْرِ، فَأَظْهَرَتْ قَبُولَ عُذْرِهِ. ثُمَّ إِنَّهَا طَلَبَتْ مِنْهُ بَعْدَ مُدَّةٍ أَنْ تَزُورَ أَخَاهَا، فَأَذِنَ لَهَا، وَسَيَّرَ مَعَهَا التُّحَفَ وَالْهَدَايَا، فَلَمَّا وَصَلَتْ ذَكَرَتْ لِأَخِيهَا مَا فَعَلَ بِهَا، فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يُعِيدُهَا إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ ابْنُ الثِّمْنَةِ يَطْلُبُهَا، فَلَمْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ، فَجَمَعَ ابْنُ الثِّمْنَةِ عَسْكَرَهُ، وَكَانَ قَدْ اسْتَوْلَى عَلَى أَكْثَرِ الْجَزِيرَةِ، وَخُطِبَ لَهُ بِالْمَدِينَةِ، وَسَارَ، وَحَصَرَ ابْنَ الْحَوَّاسِ بِقَصْرِيَانَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ ابْنُ الثِّمْنَةِ، وَتَبِعَهُ إِلَى قُرْبِ مَدِينَتِهِ قَطَانِيَّةَ، وَعَادَ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَكْثَرَ. فَلَمَّا رَأَى ابْنُ الثِّمْنَةِ أَنَّ عَسَاكِرَهُ قَدْ تَمَزَّقَتْ، سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ الِانْتِصَارَ بِالْكُفَّارِ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ مَالْطَةَ، وَهِيَ بِيَدِ الْفِرِنْجِ قَدْ مَلَكُوهَا لَمَّا خَرَجَ بَرْدَوِيلُ الْفِرِنْجِيُّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَاسْتَوْطَنَهَا الْفِرِنْجُ

إِلَى الْآنَ، وَكَانَ مَلِكَهَا حِينَئِذٍ رُجَّارُ الْفِرِنْجِيُّ فِي جَمْعٍ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِمُ ابْنُ الثِّمْنَةِ وَقَالَ: أَنَا أُمَلِّكُكُمُ الْجَزِيرَةَ! فَقَالُوا: إِنَّ فِيهَا جُنْدًا كَثِيرًا، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ، وَأَكْثَرُهُمْ يَسْمَعُ قَوْلِي، وَلَا يُخَالِفُونَ أَمْرِي، فَسَارُوا مَعَهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَلَمْ يَلْقَوْا مَنْ يُدَافِعُهُمْ، فَاسْتَوْلَوْا عَلَى مَا مَرُّوا بِهِ فِي طَرِيقِهِمْ، وَقَصَدَ بِهِمْ إِلَى قَصْرِيَانَةَ فَحَصَرُوهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ ابْنُ الْحَوَّاسِ، فَقَاتَلَهُمْ، فَهَزَمَهُ الْفِرِنْجُ، فَرَجَعَ إِلَى الْحِصْنِ، فَرَحَلُوا عَنْهُ، وَسَارُوا فِي الْجَزِيرَةِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَفَارَقَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَسَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ صِقِلِّيَةَ إِلَى الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، وَذَكَرُوا لَهُ مَا النَّاسُ فِيهِ بِالْجَزِيرَةِ مِنَ الْخُلْفِ، وَغَلَبَةِ الْفِرِنْجِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهَا، فَعَمَّرَ أُسْطُولًا كَبِيرًا، وَشَحَنَهُ بِالرِّجَالِ وَالْعُدَدِ، وَكَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً، فَسَارُوا إِلَى قَوْصَرَةَ، فَهَاجَ عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ، فَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ، وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَكَانَ ذَهَابُ هَذَا الْأُسْطُولِ مِمَّا أَضْعَفَ الْمُعِزَّ، وَقَوَّى عَلَيْهِ الْعَرَبَ، حَتَّى أَخَذُوا الْبِلَادَ مِنْهُ، فَمَلَكَ حِينَئِذٍ الْفِرِنْجُ أَكْثَرَ الْبِلَادِ عَلَى مَهْلٍ وَتُؤَدَةٍ، لَا يَمْنَعُهُمْ أَحَدٌ، وَاشْتَغَلَ صَاحِبُ إِفْرِيقِيَةَ بِمَا دَهَمَهُ مِنَ الْعَرَبِ، وَمَاتَ الْمُعِزُّ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَوَلِيَ ابْنُهُ تَمِيمٌ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أُسْطُولًا وَعَسْكَرًا إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَلَدَيْهِ أَيُّوبَ وَعَلِيًّا، فَوَصَلُوا إِلَى صِقِلِّيَةَ، فَنَزَلَ أَيُّوبُ وَالْعَسْكَرُ الْمَدِينَةَ، وَنَزَلَ عَلِيٌّ جُرْجَنْتَ، ثُمَّ انْتَقَلَ أَيُّوبُ إِلَى جُرْجَنْتَ، فَأَمَرَ عَلِيٌّ ابْنَ الْحَوَّاسِ أَنْ يَنْزِلَ فِي قَصْرِهِ، وَأَرْسَلَ هَدِيَّةً كَثِيرَةً. فَلَمَّا أَقَامَ أَيُّوبُ فِيهَا أَحَبَّهُ أَهْلُهَا، فَحَسَدَهُ ابْنُ الْحَوَّاسِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ لِيُخْرِجُوهُ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي عَسْكَرِهِ، وَقَاتَلَهُ، فَشَدَّ أَهْلُ جُرْجَنْتَ مِنْ أَيُّوبَ، وَقَاتَلُوا مَعَهُ، فَبَيْنَمَا ابْنُ الْحَوَّاسِ يُقَاتِلُ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرَبٌ فَقَتَلَهُ، فَمَلَّكَ الْعَسْكَرُ عَلَيْهِمْ أَيُّوبَ. ثُمَّ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَيْنَ عَبِيدِ تَمِيمٍ فِتْنَةٌ أَدَّتْ إِلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ زَادَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ، فَاجْتَمَعَ أَيُّوبُ وَعَلِيٌّ أَخُوهُ، وَرَجَعَا فِي الْأُسْطُولِ إِلَى إِفْرِيقِيَةَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَصَحِبَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ صِقِلِّيَةَ وَالْأُسْطُولِيَّةَ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْفِرِنْجِ

مُمَانِعٌ، فَاسْتَوْلَوْا عَلَى الْجَزِيرَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ غَيْرُ قَصْرِيَانَةَ وَجُرْجَنْتَ، فَحَصَرَهُمَا الْفِرِنْجُ، وَضَيَّقُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِهِمَا، فَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى أَهْلِهِمَا، حَتَّى أَكَلُوا الْمِيتَةَ، وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مَا يَأْكُلُونَهُ فَأَمَّا أَهْلُ جُرْجَنْتَ فَسَلَّمُوهَا إِلَى الْفِرِنْجِ، وَبَقِيَتْ قَصْرُيَانَةُ بَعْدَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ أَذْعَنُوا إِلَى التَّسْلِيمِ، فَتَسَلَّمَهَا الْفِرِنْجُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَمَلَكَ رُجَّارُ جَمِيعَ الْجَزِيرَةِ وَأَسْكَنَهَا الرُّومَ وَالْفِرِنْجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَتْرُكْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا حَمَّامًا، وَلَا دُكَّانًا، وَلَا طَاحُونًا. وَمَاتَ رُجَّارُ، بَعْدَ ذَلِكَ، قَبْلَ التِّسْعِينَ وَالْأَرْبَعِمِائَةِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ رُجَّارُ، فَسَلَكَ طَرِيقَ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجَنَائِبِ، وَالْحُجَّابِ، وَالسِّلَاحِيَّةِ، وَالْجَانْدَارِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَخَالَفَ عَادَةَ الْفِرِنْجِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْهُ، وَجَعَلَ لَهُ دِيوَانَ الْمَظَالِمِ تُرْفَعُ إِلَيْهِ شَكْوَى الْمَظْلُومِينَ، فَيُنْصِفُهُمْ، وَلَوْ مِنْ وَلَدِهِ، وَأَكْرَمَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَرَّبَهُمْ، وَمَنَعَ عَنْهُمُ الْفِرِنْجَ، فَأَحَبُّوهُ، وَعَمَّرَ أُسْطُولًا كَبِيرًا، وَمَلَكَ الْجَزَائِرَ الَّتِي بَيْنَ الْمَهْدِيَّةِ وَصِقِلِّيَةَ، مِثْلَ مَالِطَةَ، وَقَوْصَرَةَ، وَجَرْبَةَ، وَقَرْقَنَّةَ، وَتَطَاوَلَ إِلَى سَوَاحِلِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَكَانَ مِنْهُ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ذِكْرُ وُصُولِ السُّلْطَانِ إِلَى بَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَهِيَ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ، وَنَزَلَ بِدَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَنَزَلَ أَصْحَابُهُ مُتَفَرِّقِينَ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ أَخُوهُ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشْ، وَقَسِيمُ الدَّوْلَةِ آقْسَنْقَرُ، صَاحِبُ حَلَبَ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ زُعَمَاءِ الْأَطْرَافِ، وَعُمِلَ الْمِيلَادُ بِبَغْدَاذَ، وَتَأَنَّقُوا فِي عَمَلِهِ، فَذَكَرَ النَّاسُ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا بِبَغْدَاذَ مِثْلَهُ أَبَدًا، وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ وَصْفَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَمِمَّنْ قَالَ الْمُطَرَّزُ:

وَكُلُّ نَارٍ عَلَى الْعُشَّاقِ مُضْرَمَةٍ ... مِنْ نَارِ قَلْبِي أَوْ مِنْ لَيْلَةِ الصَّدَقِ نَارٌ تَجَلَّتْ بِهَا الظَّلْمَاءُ وَاشْتَبَهَتْ ... بِسُدْفَةِ اللَّيْلِ فِيهِ غُرَّةُ الْفَلَقِ وَزَارَتِ الشَّمْسُ فِيهَا الْبَدْرَ وَاصْطَلَحَا ... عَلَى الْكَوَاكِبِ بَعْدَ الْغَيْظِ وَالْحَنَقِ مَدَّتْ عَلَى الْأَرْضِ بُسْطًا مِنْ ... جَوَاهِرِهَا مَا بَيْنَ مُجْتَمَعٍ وَارٍ وَمُفْتَرَقِ مِثْلَ الْمَصَابِيحِ إِلَّا أَنَّهَا نَزَلَتْ ... مِنَ السَّمَاءِ بِلَا رَجْمٍ وَلَا حَرَقِ اعْجَبْ بِنَارٍ وَرِضْوَانٌ يُسَعِّرُهَا ... وَمَالِكٌ قَائِمٌ مِنْهَا عَلَى فَرَقِ فِي مَجْلِسٍ ضَحِكَتْ رَوْضُ الْجِنَانِ ... لَهُ لَمَّا جَلَا ثَغْرُهُ عَنْ وَاضِحٍ يَقَقِ وَلِلشُّمُوعِ عُيُونٌ كُلَّمَا نَظَرَتْ ... تَظَلَّمَتْ مِنْ يَدَيْهَا أَنْجُمُ الْغَسَقِ مِنْ كُلِّ مُرْهَفَةِ الْأَعْطَافِ ... كَالْغُصُنِ الْمَيَّادِ لَكِنَّهُ عَارٍ مِنَ الْوَرَقِ إِنِّي لَأَعْجَبُ مِنْهَا وَهِيَ وَادِعَةٌ ... تَبْكِي وَعِيشَتُهَا مِنْ ضَرْبَةِ الْعُنُقِ وَفِي هَذِهِ الْمَرَّةِ أَمَرَ بِعِمَارَةِ جَامِعِ السُّلْطَانِ، فَابْتُدِئَ فِي عِمَارَتِهِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَعَمِلَ قَبْلَتَهُ بِهْرَامٌ مُنَجِّمُهُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الرَّصْدِ، وَابْتَدَأَ بَعْدَهُ نِظَامُ الْمُلْكِ، وَتَاجُ الْمُلُوكِ، وَالْأُمَرَاءُ الْكِبَارُ بِعَمَلِ دُورٍ لَهُمْ يَسْكُنُونَهَا إِذَا قَدِمُوا بَغْدَاذَ، فَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُمْ بَعْدَهَا، وَتَفَرَّقَ شَمْلُهُمْ بِالْمَوْتِ، وَالْقَتْلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي بَاقِي سَنَتِهِمْ، وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ عَسَاكِرُهُمْ وَمَا جَمَعُوا شَيْئًا، فَسُبْحَانَ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَزُولُ أَمْرُهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ ابْنُ أَبِي هَاشِمٍ مِنْ مَكَّةَ مُسْتَغِيثًا مِنَ التُّرْكُمَانِ.

وَفِي آخِرِهَا مَرِضَ نِظَامُ الْمُلْكِ بِبَغْدَاذَ، فَعَالَجَ نَفْسَهُ بِالصَّدَقَةِ، فَكَانَ يَجْتَمِعُ بِمَدْرَسَتِهِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مَنْ لَا يُحْصَى، وَتَصَدَّقَ عَنْهُ الْأَعْيَانُ، وَالْأُمَرَاءُ مِنْ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ، فَعُوفِيَ، وَأَرْسَلَ [لَهُ] الْخَلِيفَةُ خِلَعًا نَفِيسَةً. وَفِيهَا، فِي تَاسِعِ شَعْبَانَ، كَانَ بِالشَّامِ، وَكَثِيرٍ مِنِ الْبِلَادِ، زَلَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ أَكْثَرُهَا بِالشَّامِ، فَفَارَقَ النَّاسُ مَسَاكِنَهُمْ، وَانْهَدَمَ بِأَنْطَاكِيَةَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسَاكِنِ، وَهَلَكَ تَحْتَهُ عَالَمٌ كَثِيرٌ، وَخَرِبَ مِنْ سُورِهَا تِسْعُونَ بُرْجًا، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ بِعِمَارَتِهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ، تُوُفِّيَ أَبُو طَاهِرٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلَّكٍ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ مِنْ رُؤَسَاءِ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي فَتْحِ سَمَرْقَنْدَ، وَمَشَى أَرْبَابُ الدَّوْلَةِ السُّلْطَانِيَّةِ كُلُّهُمْ فِي جِنَازَتِهِ، إِلَّا نِظَامَ الْمُلْكِ، فَإِنَّهُ اعْتَذَرَ بِعُلُوِّ السِّنِّ، وَأَكْثَرَ الْبُكَاءَ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ (بِبَابِ أَبْرَزَ) ، وَزَارَ السُّلْطَانُ قَبْرَهُ. وَتُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ أَبُو بَكْرٍ النَّاصِحُ الْحَنَفِيُّ، قَاضِي الرَّيِّ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ يَمِيلُ إِلَى الِاعْتِزَالِ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي رَجَبٍ. وَفِيهَا فِي شَعْبَانَ تُوفِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ طَاوُسٍ الْمُقْرِي بِمَدِينَةِ صُورَ.

ثم دخلت سنة خمس وثمانين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 485 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْفِرِنْجِ بِجَيَّانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ أَذْفُونْشُ عَسَاكِرَهُ، وَجُمُوعَهُ، وَغَزَا بِلَادَ جَيَّانَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، فَلَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ وَقَاتَلُوهُ، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ أَوَّلًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ لَهُمُ الْكَرَّةَ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَهَزَمُوهُمْ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا الْأَذْفُونْشُ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ مِنْ أَشْهَرِ الْوَقَائِعِ، بَعْدَ الزَّلَّاقَةِ، وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ ذِكْرَهَا فِي أَشْعَارِهِمْ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ تُتُشْ عَلَى حِمْصَ، وَغَيْرِهَا مِنْ سَاحِلِ الشَّامِ لَمَّا كَانَ السُّلْطَانُ بِبَغْدَاذَ قَدِمَ إِلَيْهِ أَخُوهُ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشْ مِنْ دِمَشْقَ، وَقَسِيمُ الدَّوْلَةِ آقْسَنْقَرُ مِنْ حَلَبَ، وَبُوزَانُ مِنَ الرُّهَا، فَلَمَّا أَذِنَ لَهُمُ السُّلْطَانُ فِي الْعَوْدِ إِلَى بِلَادِهِمْ أَمَرَ قَسِيمَ الدَّوْلَةِ وَبُوزَانَ أَنْ يَسِيرَا مَعَ عَسَاكِرِهِمَا فِي خِدْمَةِ أَخِيهِ تَاجِ الدَّوْلَةِ، حَتَّى يَسْتَوْلِيَ عَلَى مَا لِلْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْصِرِ الْعَلَوِيِّ، بِسَاحِلِ الشَّامِ، مِنَ الْبِلَادِ، وَيَسِيرُ، وَهُمْ مَعَهُ، إِلَى مِصْرَ لِيَمْلِكَهَا. فَسَارُوا أَجْمَعُونَ إِلَى الشَّامِ، وَنَزَلَ عَلَى حِمْصَ، وَبِهَا ابْنُ مُلَاعِبٍ صَاحِبُهَا،

وَكَانَ الضَّرَرُ بِهِ، وَبِأَوْلَادِهِ عَظِيمًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَحَصَرُوا الْبَلَدَ، وَضَيَّقُوا عَلَى مَنْ بِهِ، فَمَلَكَهُ تَاجُ الدَّوْلَةِ، وَأَخَذَ ابْنَ مُلَاعِبٍ وَوَلَدَيْهِ، وَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ عِرْقَةَ فَمَلَكَهَا عَنْوَةً، وَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ أَفَامِيَةَ فَمَلَكَهَا أَيْضًا، وَكَانَ بِهَا خَادِمٌ لِلْمِصْرِيِّ، فَنَزَلَ بِالْأَمَانِ فَأَمَّنَهُ، ثُمَّ سَارَ إِلَى طَرَابُلُسَ فَنَازَلَهَا، فَرَأَى صَاحِبُهَا جَلَالُ الْمُلْكِ بْنُ عَمَّارٍ جَيْشًا لَا يُدْفَعُ إِلَّا بِحِيلَةٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَ تَاجِ الدَّوْلَةِ، وَأَطْمَعَهُمْ لِيُصْلِحُوا حَالَهُ، فَلَمْ يَرَ فِيهِمْ مَطْمَعًا. وَكَانَ مَعَ قَسِيمِ الدَّوْلَةِ آقْسَنْقَرَ وَزِيرٌ لَهُ اسْمُهُ زَرِينُ كَمَرْ، فَرَاسَلَهُ ابْنُ عَمَّارٍ فَرَأَى عِنْدَهُ لِينًا، فَأَتْحَفَهُ، وَأَعْطَاهُ، فَسَعَى مَعَ صَاحِبِهِ قَسِيمَ الدَّوْلَةِ فِي إِصْلَاحِ حَالِهِ لِيَدْفَعَ عَنْهُ، وَحَمَلَ لَهُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَتُحَفًا بِمِثْلِهَا، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْمَنَاشِيرَ الَّتِي بِيَدِهِ مِنَ السُّلْطَانِ بِالْبَلَدِ، وَالتَّقَدُّمَ إِلَى النُّوَّابِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ بِمُسَاعَدَتِهِ، وَالشَّدَّ مَعَهُ، وَالتَّحْذِيرَ مِنْ مُحَارَبَتِهِ، فَقَالَ آقْسَنْقَرُ لِتَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشْ: لَا أُقَاتِلُ مَنْ هَذِهِ الْمَنَاشِيرُ بِيَدِهِ، فَأَغْلَظَ لَهُ تَاجُ الدَّوْلَةِ، وَقَالَ: هَلْ أَنْتَ إِلَّا تَابِعٌ لِي؟ فَقَالَ آقْسَنْقَرُ: أَنَا أُتَابِعُكَ إِلَّا فِي مَعْصِيَةِ السُّلْطَانِ، وَرَحَلَ مِنَ الْغَدِ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَاضْطَرَّ تَاجُ الدَّوْلَةِ إِلَى الرَّحِيلِ، فَرَحَلَ غَضْبَانَ، وَعَادَ بُوزَانُ أَيْضًا إِلَى بِلَادِهِ، فَانْتَقَضَ هَذَا الْأَمْرَ. ذِكْرُ مَلْكِ السُّلْطَانِ الْيَمَنَ وَكَانَ مِمَّنْ حَضَرَ أَيْضًا عِنْدَ السُّلْطَانِ بِبَغْدَاذَ جَبَقُ أَمِيرُ التُّرْكُمَانِ، وَهُوَ صَاحِبُ قِرْمِيسِينَ وَغَيْرِهَا، فَأَمَرَهُ السُّلْطَانُ أَنْ يَسِيرَ هُوَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءَ السُّلْطَانِ

ذَكَرَهُمْ إِلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ، وَيَكُونُ أَمْرُهُمْ إِلَى سَعْدِ الدَّوْلَةِ كُوهَرَائِينَ، لِيَفْتَحُوا الْبِلَادَ هُنَاكَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ سَعْدُ الدَّوْلَةِ أَمِيرًا اسْمُهُ تَرَشْكُ، فَسَارُوا حَتَّى وَرَدُوا الْيَمَنَ، فَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَأَسَاءُوا السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا، وَلَمْ يَتْرُكُوا فَاحِشَةً وَلَا سَيِّئَةَ إِلَّا ارْتَكَبُوهَا، وَمَلَكُوا عَدَنَ، وَظَهَرَ عَلَى تَرَشْكَ الْجُدَرِيُّ، فَتُوُفِّيَ فِي سَابِعِ يَوْمٍ مِنْ وُصُولِهِ إِلَيْهَا، وَكَانَ عُمُرُهُ سَبْعِينَ سَنَةً، فَعَادَ أَصْحَابُهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَحَمَلُوهُ، فَدَفَنُوهُ عِنْدَ قَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - ذِكْرُ مَقْتَلِ نِظَامِ الْمُلْكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَاشِرِ رَمَضَانَ، قُتِلَ نِظَامُ الْمُلْكِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ الْوَزِيرُ بِالْقُرْبِ مِنْ نَهَاوَنْدَ، وَكَانَ هُوَ وَالسُّلْطَانُ فِي أَصْبَهَانَ، وَقَدْ عَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَمَّا كَانَ بِهَذَا الْمَكَانِ، بَعْدَ أَنْ فَرِغَ مِنْ إِفْطَارِهِ، وَخَرَجَ فِي مِحَفَّتِهِ إِلَى خَيْمَةِ حَرَمِهِ، أَتَاهُ صَبِيٌّ دَيْلَمِيٌّ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ، فِي صُورَةِ مُسْتَمِيحٍ، أَوْ مُسْتَغِيثٍ فَضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ كَانَتْ مَعَهُ، فَقَضَى عَلَيْهِ، وَهَرَبَ، فَعَثَرَ بِطُنُبِ خَيْمَةٍ، فَأَدْرَكُوهُ فَقَتَلُوهُ، وَرَكِبَ السُّلْطَانُ إِلَى خِيَمِهِ، فَسَكَنَ عَسْكَرُهُ، وَأَصْحَابُهُ. وَبَقِيَ وَزِيرُ السُّلْطَانِ ثَلَاثِينَ سَنَةً سِوَى مَا وَزَرَ لِلسُّلْطَانِ أَلْب أَرْسِلَانَ، صَاحِبِ خُرَاسَانَ، أَيَّامَ عَمِّهِ طُغْرُلْبُكَ، قَبْلَ أَنْ يَتَوَلَّى السَّلْطَنَةَ، وَكَانَ عَلَتْ سِنُّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ جَمَالِ الْمُلْكِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ كَانَ قَدْ وَلَّاهُ جَدُّهُ نِظَامُ الْمُلْكِ رِئَاسَةَ مَرْوٍ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَيْهَا شِحْنَةً يُقَالُ لَهُ قَوْدَنُ، وَهُوَ مَنْ أَكْبَرِ مَمَالِيكِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْأُمَرَاءِ فِي دَوْلَتِهِ، فَجَرَى بَيْنَهُ، وَبَيْنَ عُثْمَانَ مُنَازَعَةٌ فِي شَيْءٍ، فَحَمَلَتْ عُثْمَانَ حَدَاثَةُ سِنِّهِ، وَتَمَكُّنُهُ، وَطَمَعُهُ بِجَدِّهِ، عَلَى أَنْ قَبَضَ عَلَيْهِ، وَأَخْرَقَ بِهِ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ، فَقَصَدَ السُّلْطَانَ مُسْتَغِيثًا شَاكِيًا، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ رِسَالَةً (مَعَ

تَاجِ الدَّوْلَةِ) وَمَجْدِ الْمُلْكِ الْبَلَاسَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَرْبَابِ دَوْلَتِهِ يَقُولُ لَهُ: إِنْ كُنْتَ شَرِيكِي فِي الْمُلْكِ، وَيَدُكَ مَعَ يَدِي فِي السَّلْطَنَةِ، فَلِذَلِكَ حُكْمٌ، وَإِنْ كُنْتَ نَائِبِي، وَبِحُكْمِي، فَيَجِبُ أَنْ تَلْزَمَ حَدَّ التَّبَعِيَّةِ وَالنِّيَابَةِ، وَهَؤُلَاءِ أَوْلَادُكَ قَدِ اسْتَوْلَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى كَوْرَةٍ عَظِيمَةٍ، وَوَلِيَ وِلَايَةَ كَبِيرَةً، وَلَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ، حَتَّى تَجَاوَزُوا أَمْرَ السِّيَاسَةِ وَطَمِعُوا إِلَى أَنْ فَعَلُوا كَذَا وَكَذَا، وَأَطَالَ الْقَوْلَ، وَأَرْسَلَ مَعَهُمُ الْأَمِيرَ يَلْبُرَدْ، وَكَانَ مِنْ خَوَاصِّهِ وَثِقَاتِهِ، وَقَالَ لَهُ: تُعَرِّفُنِي مَا يَقُولُ، فَرُبَّمَا كَتَمَ هَؤُلَاءِ شَيْئًا. فَحَضَرُوا عِنْدَ نِظَامِ الْمُلْكِ وَأَوْرَدُوا عَلَيْهِ الرِّسَالَةَ، فَقَالَ لَهُمْ: قُولُوا لِلسُّلْطَانِ إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتَ أَنِّي شَرِيكُكَ فِي الْمُلْكِ فَاعْلَمْ، فَإِنَّكَ مَا نِلْتَ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا بِتَدْبِيرِي وَرَأْيِي، أَمَا يَذْكُرُ حِينَ قُتِلَ أَبُوهُ فَقُمْتُ بِتَدْبِيرِ أَمْرِهِ، وَقَمَعْتُ الْخَوَارِجَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ، وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمْ: فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَذَكَرَ جَمَاعَةَ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ، وَهُوَ ذَلِكَ الْوَقْتَ يَتَمَسَّكُ بِي وَيَلْزَمُنِي، وَلَا يُخَالِفُنِي، فَلَمَّا قُدْتُ الْأُمُورَ إِلَيْهِ، وَجَمَعْتُ الْكَلِمَةَ عَلَيْهِ، وَفَتَحْتُ لَهُ الْأَمْصَارَ الْقَرِيبَةَ، وَالْبَعِيدَةَ، وَأَطَاعَهُ الْقَاصِي، وَالدَّانِي، أَقْبَلَ يَتَجَنَّى لِي الذُّنُوبَ، وَيَسْمَعُ فِي السِّعَايَاتِ؟ قُولُوا لَهُ عَنِّي: إِنَّ ثَبَاتَ تِلْكَ الْقَلَنْسُوَةِ مَعْذُوقٌ بِهَذِهِ الدَّوَاةِ، وَإِنَّ اتِّفَاقَهُمَا رِبَاطُ كُلِّ رَغِيبَةٍ وَسَبَبُ كُلِّ غَنِيمَةٍ، وَمَتَى أَطْبَقْتُ هَذِهِ زَالَتْ تِلْكَ، فَإِنْ عَزَمَ عَلَى تَغْيِيرٍ فَلْيَتَزَوَّدْ لِلِاحْتِيَاطِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَلِيَأْخُذِ الْحَذَرَ مِنَ الْحَادِثِ أَمَامَ طُرُوقِهِ، وَأَطَالَ فِيمَا هَذَا سَبِيلُهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: قُولُوا لِلسُّلْطَانِ عَنِّي مَهْمَا أَرَدْتُمْ، فَقَدْ أَهَمَّنِي مَا لَحِقَنِي مِنْ تَوْبِيخِهِ، وَفَتَّ فِي عَضُدِي. فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ اتَّفَقُوا عَلَى كِتْمَانِ مَا جَرَى عَنِ السُّلْطَانِ، وَأَنْ يَقُولُوا لَهُ مَا مَضْمُونُهُ الْعُبُودِيَّةُ وَالتَّنَصُّلُ، وَمَضَوْا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَكَانَ اللَّيْلُ قَدِ انْتَصَفَ، وَمَضَى يِلْبَرْدُ إِلَى السُّلْطَانِ فَأَعْلَمَهُ مَا جَرَى، وَبَكَّرَ الْجَمَاعَةُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَهُوَ يَنْتَظِرُهُمْ، فَقَالُوا لَهُ

مِنَ الِاعْتِذَارِ وَالْعُبُودِيَّةِ مَا كَانُوا اتَّفِقُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمُ السُّلْطَانُ: إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَذَا، وَإِنَّمَا قَالَ كِيتْ، وَكِيتْ، فَأَشَارُوا حِينَئِذٍ بِكِتْمَانِ ذَلِكَ رِعَايَةً لِحَقِّ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَسَابِقَتِهِ، فَوَقَعَ التَّدْبِيرُ عَلَيْهِ، حَتَّى تَمَّ عَلَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ مَا تَمَّ. وَمَاتَ السُّلْطَانُ بَعْدَهُ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَانْحَلَّتِ الدَّوْلَةُ، وَوَقَعَ السَّيْفُ، وَكَانَ قَوْلُ نِظَامِ الْمُلْكِ شِبْهَ الْكَرَامَةِ لَهُ، وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مَرَاثِيَهُ، فَمِنْ جَيِّدِ مَا قِيلَ فِيهِ قَوْلُ شِبْلِ الدَّوْلَةِ مُقَاتِلِ بْنِ عَطِيَّةَ: كَانَ الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ لُؤْلُؤَةً ... يَتِيمَةً صَاغَهَا الرَّحْمَنُ مِنْ شَرَفٍ عَزَّتْ فَلَمْ تَعْرِفِ الْأَيَّامُ قِيمَتَهَا ... فَرَدَّهَا غَيْرَةً مِنْهُ إِلَى الصَّدَفِ وَرَأَى بَعْضُهُمْ نِظَامَ الْمُلْكِ بَعْدَ قَتْلِهِ فِي الْمَنَامِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَ: كَانَ يُعْرَضُ عَلَيَّ جَمِيعُ عَمَلِي لَوْلَا الْحَدِيدَةُ الَّتِي أُصِبْتُ بِهَا، يَعْنِي: الْقَتْلَ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ حَالِهِ وَشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِهِ أَمَّا ابْتِدَاءُ حَالِهِ، فَكَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الدَّهَاقِينِ بِطُوسَ، فَزَالَ مَا كَانَ لِأَبِيهِ مِنْ مَالٍ، وَمُلْكٍ، وَتُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ رَضِيعٌ، فَكَانَ أَبُوهُ يَطُوفُ بِهِ عَلَى الْمُرْضِعَاتِ فَيُرْضِعْنَهُ حِسْبَةً، حَتَّى شَبَّ، وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ، وَسِرُّ اللَّهِ فِيهِ يَدْعُوهُ إِلَى عُلُوِّ الْهِمَّةِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ، فَتَفَقَّهَ، وَصَارَ فَاضِلًا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالْأَعْمَالِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَلَمْ يَزَلِ الدَّهْرُ يَعْلُو بِهِ، وَيَخْفِضُ حَضَرًا، وَسَفَرًا. وَكَانَ يَطُوفُ بِلَادَ خُرَاسَانَ، وَوَصَلَ إِلَى غَزْنَةَ فِي صُحْبَةِ بَعْضِ الْمُتَصَرِّفِينَ، ثُمَّ لَزِمَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ شَاذَانَ مُتَوَلِّي الْأُمُورِ بِبَلْخَ لِدَاوُدَ وَالِدِ السُّلْطَانِ أَلْب أَرْسِلَانَ، فَحَسُنَتْ حَالُهُ مَعَهُ، وَظَهَرَتْ كِفَايَتُهُ وَأَمَانَتُهُ، وَصَارَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ، فَلَمَّا حَضَرَتْ أَبَا عَلِيِّ بْنَ شَاذَانَ الْوَفَاةُ أَوْصَى الْمَلِكُ أَلْب أَرْسِلَانَ بِهِ، وَعَرَّفَهُ حَالَهُ، فَوَلَّاهُ شَغْلَهُ، ثُمَّ

صَارَ وَزِيرًا لَهُ إِلَى أَنْ وَلِيَ السَّلْطَنَةَ بَعْدَ عَمِّهِ طُغْرُلْبُكَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْوِزَارَةِ لِأَنَّهُ ظَهَرَتْ مِنْهُ كِفَايَةٌ عَظِيمَةٌ، وَآرَاءٌ سَدِيدَةٌ قَادَتِ السَّلْطَنَةَ إِلَى أَلْب أَرْسِلَانَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَلْب أَرْسِلَانَ قَامَ بِأَمْرِ ابْنِهِ مَلِكْشَاهْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الْجُمَلِ مُسْتَوْفًى مَشْرُوحًا. وَقِيلَ: إِنَّ ابْتِدَاءَ أَمْرِهِ (أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ لِلْأَمِيرِ تَاجِرٍ، صَاحِبِ بَلْخَ، وَكَانَ الْأَمِيرُ) يُصَادِرُهُ فِي رَأْسِ كُلِّ سَنَةٍ، وَيَأْخُذُ مَا مَعَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: قَدْ سَمِنْتَ يَا حَسَنُ! وَيَدْفَعُ إِلَيْهِ فَرَسًا وَمِقْرَعَةً وَيَقُولُ: هَذَا يَكْفِيكَ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَخْفَى وَلَدَيْهِ فَخْرَ الْمُلْكِ، وَمُؤَيِّدَ الْمُلْكِ، وَهَرَبَ إِلَى جَغْرِي بِكْ دَاوُدَ، وَالِدِ أَلْب أَرْسِلَانَ، فَوَقَفَ فَرَسُهُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فَرَسًا تُخَلِّصُنِي عَلَيْهِ! فَسَارَ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَلَقِيَهُ تِرْكُمَانِيٌّ، وَتَحْتَهُ فَرَسٌ جَوَادٌ، فَقَالَ لِنِظَامِ الْمُلْكِ: انْزِلْ عَنْ فَرَسِكَ، فَنَزَلَ عَنْهُ، فَأَخَذَهُ التِّرْكُمَانِيُّ وَأَعْطَاهُ فَرَسَهُ، فَرَكِبَهُ، وَقَالَ لَهُ: لَا تَنْسَنِي يَا حَسَنُ، قَالَ نِظَامُ الْمُلْكِ: فَقَوِيَتْ نَفْسِي بِذَلِكَ، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ سَعَادَةٍ. فَسَارَ نِظَامُ الْمُلْكِ إِلَى مَرْوَ، وَدَخَلَ عَلَى دَاوُدَ، فَلَمَّا رَآهُ أَخَذَ بِيَدِهِ، وَسَلَّمَهُ إِلَى وَلَدِهِ أَلْب أَرْسِلَانَ، وَقَالَ لَهُ: هَذَا حَسَنٌ الطُّوسِيُّ، فَتَسَلَّمْهُ، وَاتَّخِذْهُ وَالِدًا لَا تُخَالِفُهُ. وَكَانَ الْأَمِيرُ تَاجِرُ لَمَّا سَمِعَ بِهَرَبِ نِظَامِ الْمُلْكِ سَارَ فِي أَثَرِهِ إِلَى مَرْوَ، فَقَالَ لِدَاوُدَ: هَذَا كَاتِبِي وَنَائِبِي قَدْ أَخَذَ أَمْوَالِي، فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: حَدِيثُكَ مَعَ مُحَمَّدٍ، يَعْنِي أَلْب أَرْسِلَانَ، (فَكَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا) ، فَلَمْ يَتَجَاسَرْ تَاجِرٌ عَلَى خِطَابِهِ، فَتَرَكَهُ وَعَادَ. وَأَمَّا أَخْبَارُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ عَالِمًا، دَيِّنًا، جَوَادًا عَادِلًا، حَلِيمًا كَثِيرَ الصَّفْحِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ، طَوِيلَ الصَّمْتِ، كَانَ مَجْلِسُهُ عَامِرًا بِالْقُرَّاءِ، وَالْفُقَهَاءِ، وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَدَارِسِ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ وَالْبِلَادِ، وَأَجْرَى لَهَا الْجِرَايَاتِ الْعَظِيمَةَ، وَأَمْلَى الْحَدِيثَ بِالْبِلَادِ: بِبَغْدَاذَ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ يَقُولُ:

إِنِّي لَسْتُ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ - لَمَّا تَوَلَّاهُ - وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَجْعَلَ نَفْسِي عَلَى قِطَارِ نَقَلَةِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَانَ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَمْسَكَ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ فِيهِ وَتَجَنَّبَهُ، فَإِذَا فَرَغَ لَا يَبْدَأُ بِشَيْءٍ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَكَانَ إِذَا غَفَلَ الْمُؤَذِّنُ، وَدَخَلَ الْوَقْتُ يَأْمُرُهُ بِالْأَذَانِ، وَهَذَا غَايَةُ حَالِ الْمُنْقَطِعِينَ إِلَى الْعِبَادَةِ فِي حِفْظِ الْأَوْقَاتِ، وَلُزُومِ الصَّلَوَاتِ. وَأَسْقَطَ الْمُكُوسَ، وَالضَّرَائِبَ، وَأَزَالَ لَعْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ مِنَ الْمَنَابِرِ، وَكَانَ الْوَزِيرُ عَمِيدُ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيُّ قَدْ حَسَّنَ لِلسُّلْطَانِ طُغْرُلْبُكَ التَّقَدُّمَ بِلَعْنِ الرَّافِضَةِ، فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَأَضَافَ إِلَيْهِمُ الْأَشْعَرِيَّةَ، وَلَعَنَ الْجَمِيعَ، فَلِهَذَا فَارَقَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِلَادَهُمْ، مِثْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَأَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، فَلَمَّا وَلِيَ أَلْب أَرْسِلَانَ السَّلْطَنَةَ أَسْقَطَ نِظَامُ الْمُلْكِ ذَلِكَ جَمِيعَهُ، وَأَعَادَ الْعُلَمَاءَ إِلَى أَوْطَانِهِمْ. وَكَانَ نِظَامُ الْمُلْكِ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ، وَالْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ، يَقُومُ لَهُمَا، وَيَجْلِسُ فِي مُسْنَدِهِ، كَمَا هُوَ، وَإِذَا دَخَلَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارْمَذِيُّ يَقُومُ (إِلَيْهِ، وَيُجْلِسُهُ فِي مَكَانِهِ) ، وَيَجْلِسُ هُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ وَأَمْثَالَهُمَا إِذَا دَخَلُوا عَلَيَّ يَقُولُونَ لِي: أَنْتَ كَذَا وَكَذَا، يُثْنُونَ عَلَيَّ بِمَا (لَيْسَ فِيَّ) ، فَيَزِيدُنِي كَلَامُهُمْ عُجْبًا وَتِيهًا، وَهَذَا الشَّيْخُ يَذْكُرُ لِي عُيُوبَ نَفْسِي، وَمَا أَنَا فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ، فَتَنْكَسِرُ نَفْسِي لِذَلِكَ، وَأَرْجِعُ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا أَنَا فِيهِ. وَقَالَ نِظَامُ الْمُلْكِ: كُنْتُ أَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لِي قَرْيَةٌ خَالِصَةٌ، وَمَسْجِدٌ أَنْفَرِدُ فِيهِ لِعِبَادَةِ رَبِّي، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَمَنَّيْتُ أَنْ يَكُونَ لِي قِطْعَةُ أَرْضٍ أَتَقَوَّتُ بِرِيعِهَا، (وَمَسْجِدٌ

أَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ) ، وَأَمَّا الْآنَ فَأَنَا أَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لِي رَغِيفٌ كُلَّ يَوْمٍ، وَمَسْجِدٌ أَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ. وَقِيلَ: كَانَ لَيْلَةً يَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَبِجَانِبِهِ أَخُوهُ أَبُو الْقَاسِمِ، وَبِالْجَانِبِ الْآخَرِ عَمِيدُ خُرَاسَانَ، وَإِلَى جَانِبِ الْعَمِيدِ إِنْسَانٌ فَقِيرٌ، مَقْطُوعُ الْيَدِ، فَنَظَرَ نِظَامُ الْمُلْكِ، فَرَأَى الْعَمِيدَ يَتَجَنَّبُ الْأَكْلَ مَعَ الْمَقْطُوعِ، فَأَمَرَهُ بِالِانْتِقَالِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَقَرَّبَ الْمَقْطُوعَ إِلَيْهِ فَأَكَلَ مَعَهُ. وَكَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَحْضُرَ الْفُقَرَاءُ طَعَامَهُ، وَيُقَرِّبَهُمْ إِلَيْهِ، وَيُدْنِيَهُمْ. وَأَخْبَارُهُ مَشْهُورَةٌ كَثِيرَةٌ، قَدْ جُمِعَتْ لَهَا الْمَجَامِيعُ السَّائِرَةُ فِي الْبِلَادِ. ذِكْرُ وَفَاةِ السُّلْطَانِ، وَذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ سَارَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ، بَعْدَ قَتْلِ نِظَامِ الْمُلْكِ، إِلَى بَغْدَاذَ، وَدَخَلَهَا فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَقِيَهُ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ، وَظَهَرَتْ مِنْ تَاجِ الْمُلْكِ كِفَايَةٌ عَظِيمَةٌ، وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ أَمَرَ أَنْ تُفَصَّلَ خِلَعُ الْوِزَارَةِ لِتَاجِ الْمُلْكِ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي سَعَى بِنِظَامِ الْمُلْكِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْخِلَعِ، وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ لَبْسِهَا، وَالْجُلُوسِ فِي الدَّسْتِ، اتَّفَقَ أَنَّ السُّلْطَانَ خَرَجَ إِلَى الصَّيْدِ، وَعَادَ ثَالِثَ شَوَّالَ مَرِيضًا، وَأَنْشَبَ الْمَوْتُ أَظْفَاِرَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ سَعَةَ مُلْكِهِ، وَكَثْرَةَ عَسَاكِرِهِ. وَكَانَ سَبَبُ مَرَضِهِ أَنَّهُ أَكَلَ لَحْمَ صَيْدٍ فَحُمَّ وَافْتُصِدَ، وَلَمْ يُسْتَوْفَ إِخْرَاجُ الدَّمِ، فَثَقُلَ مَرَضُهُ، وَكَانَتْ حُمَّى مُحْرِقَةً، فَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ، النِّصْفَ مِنْ شَوَّالَ. وَلَمَّا ثَقُلَ نَقَلَ أَرْبَابُ دَوْلَتِهِ أَمْوَالَهُمْ إِلَى حَرِيمِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ سَتَرَتْ زَوْجَتُهُ تُرْكَانُ خَاتُونَ - الْمَعْرُوفَةُ بِخَاتُونَ الْجَلَالِيَّةِ - مَوْتَهُ، وَكَتَمَتْهُ، وَأَعَادَتْ جَعْفَرًا

ابْنَ الْخَلِيفَةِ مِنِ ابْنَةِ السُّلْطَانِ إِلَى أَبِيهِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، وَسَارَتْ مِنْ بَغْدَاذَ، وَالسُّلْطَانُ مَعَهَا مَحْمُولًا، وَبَذَلَتِ الْأَمْوَالَ لِلْأُمَرَاءِ سِرًّا، وَاسْتَحْلَفَتْهُمْ لِابْنِهَا مَحْمُودٍ، وَكَانَ تَاجُ الْمُلْكِ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهَا، وَأَرْسَلَتْ قَوَامَ الدَّوْلَةِ كَرْبُوقَا الَّذِي صَارَ صَاحِبَ الْمَوْصِلِ إِلَى أَصْبَهَانَ بِخَاتَمِ السُّلْطَانِ، فَاسْتَنْزَلَ مُسْتَحْفِظَ الْقَلْعَةِ، وَتَسَلَّمَهَا، وَأَظْهَرَ أَنَّ السُّلْطَانَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُسْمَعْ بِسُلْطَانٍ مِثْلِهِ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلَمْ يُلْطَمْ عَلَيْهِ وَجْهٌ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صُورَةً، وَمَعْنًى، وَخُطِبَ لَهُ مِنْ حُدُودِ الصِّينِ إِلَى آخَرِ الشَّامِ، وَمِنَ أَقَاصِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي الشَّمَالِ إِلَى آخَرِ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ مُلُوكُ الرُّومِ الْجِزْيَةَ، وَلَمْ يَفُتْهُ مَطْلَبٌ، وَانْقَضَتْ أَيَّامُهُ عَلَى أَمْنٍ عَامٍ، وَسُكُونٍ شَامِلٍ، وَعَدْلٍ مُطَّرِدٍ. وَمِنْ أَفْعَالِهِ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِ أَخُوهُ تُكَشْ بِخُرَاسَانَ اجْتَازَ بِمَشْهَدِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا بِطُوسٍ، فَزَارَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ لِنِظَامِ الْمُلْكِ: بِأَيِّ شَيْءٍ دَعَوْتَ؟ قَالَ: دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَنْصُرَكَ، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَدَعُ بِهَذَا بَلْ قُلْتُ: اللَّهُمَّ انْصُرْ أَصْلَحَنَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنْفَعَنَا لِلرَّعِيَّةِ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّ سَوَادِيًّا لَقِيَهُ وَهُوَ يَبْكِي، فَاسْتَغَاثَ بِهِ، وَقَالَ: كُنْتُ ابْتَعْتُ بِطِّيخًا بِدُرَيْهِمَاتٍ لَا أَمْلِكُ سِوَاهَا، فَغَلَبَنِي عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَأَخَذُوهُ مِنِّي، فَقَالَ السُّلْطَانُ لَهُ: اقْعُدْ! ثُمَّ أَحْضَرَ فَرَّاشًا وَقَالَ: اشْتَهَيْتُ بِطِّيخًا، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ أَوَّلِ اسْتِوَائِهِ، وَأَمَرَ بِطَلَبِهِ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَغَابَ ثُمَّ عَادَ وَمَعَهُ الْبِطِّيخُ فَأَمَرَهُ بِإِحْضَارِ مَنْ وَجَدَهُ عِنْدَهُ، فَأَحْضَرُهُ، فَسَأَلَهُ السُّلْطَانُ مِنْ أَيْنَ لَهُ ذَلِكَ الْبِطِّيخُ؟ فَقَالَ: غِلْمَانِي جَاءُونِي بِهِ، فَأَمَرَ أَنْ يَجِيءَ بِهِمْ إِلَيْهِمْ، فَمَضَى، وَأَمَرَهُمْ بِالْهَرَبِ، وَعَادَ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْهُمْ، فَقَالَ لِلسَّوَادِيُّ: خُذْ مَمْلُوكِي هَذَا قَدْ وَهَبْتُهُ لَكَ عِوَضًا عَنْ بِطِّيخِكَ، وَيُحْضِرَ الَّذِينَ أَخَذُوهُ، وَاللَّهِ لَئِنْ أَطْلَقْتَهُ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ. فَأَخَذَهُ السَّوَادِيُّ، فَاشْتَرَى الْغُلَامُ نَفْسَهُ مِنْهُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، فَعَادَ السَّوَادِيُّ إِلَى السُّلْطَانِ، وَقَالَ: قَدْ بِعْتُهُ نَفْسَهُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ: أَرَضِيتَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: امْضِ مُصَاحَبًا.

وَقَالَ عَبْدُ السَّمِيعِ بْنُ دَاوُدَ الْعَبَّاسِيُّ: شَاهَدْتُ مَلِكْشَاهْ، وَقَدْ أَتَاهُ رَجُلَانِ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ السُّفْلَى، مِنْ قَرْيَةِ الْحَدَّادِيَّةِ، يُعْرَفَانِ بِابْنَيْ غَزَالٍ، فَلَقِيَاهُ، فَوَقَفَ لَهَا، فَقَالَا: إِنَّ مُقْطِعَنَا الْأَمِيرَ خُمَارَتِكِينَ قَدْ صَادَرَنَا بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَدْ كَسَرَ ثَنِيَّتَيْ أَحَدِنَا، وَأَرَاهُمَا السُّلْطَانَ، وَقَدْ قَصَدْنَاكَ لِتَقْتَصَّ لَنَا مِنْهُ، فَإِنْ أَخَذَتْ بِحَقِّنَا كَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَإِلَّا فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَنَا. قَالَ: فَرَأَيْتُ السُّلْطَانَ وَقَدْ نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَقَالَ: لِيُمْسِكْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا بِطَرَفِ كُمَّيَّ، وَاسْحَبَانِي إِلَى خُوَاجِهْ حَسَنَ، يَعْنِي نِظَامَ الْمُلْكِ، فَامْتَنَعَا مِنْ ذَلِكَ، وَاعْتَذَرَا، فَأَقْسَمَ عَلَيْهِمَا إِلَّا فَعَلَا، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكُمٍّ مِنْ كُمَّيْهِ وَمَشَى مَعَهُمَا إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ، فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَخَرَجَ مُسْرِعًا، فَلَقِيَهُ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ، وَقَالَ: يَا سُلْطَانَ الْعَالَمِ! مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ حَالِي غَدًا عِنْدَ اللَّهِ إِذَا طُولِبْتُ بِحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَلَّدْتُكَ هَذَا الْأَمْرَ لِتَكْفِينِي مِثْلَ هَذَا الْمَوْقِفِ، فَإِنْ نَالَ الرَّعِيَّةَ أَذًى فَأَنْتَ الْمُطَالَبُ، فَانْظُرْ لِي وَلِنَفْسِكَ. فَقَبَّلَ الْأَرْضَ، وَمَشَى فِي خِدْمَتِهِ، وَعَادَ مِنْ وَقْتِهِ، وَكَتَبَ بِعَزْلِ الْأَمِيرِ خُمَارَتِكِينَ عَنْ إِقْطَاعِهِ، وَرَدِّ الْمَالِ عَلَيْهِمَا، وَأَعْطَاهُمَا مِائَةَ دِينَارٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَمْرَهُمَا بِإِثْبَاتِ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُ قَلَعَ ثَنِيَّتَيْهِ لِيَقْلَعَ ثَنِيَّتَيْهِ عِوَضَهُمَا، فَرَضِيَا، وَانْصَرَفَا. وَقِيلَ إِنَّهُ وَرَدَ بَغْدَاذَ ثَلَاثُ دُفُعَاتٍ، فَخَافَهُ النَّاسُ مِنْ غَلَاءِ الْأَسْعَارِ، وَتَعَدِّي الْجُنْدِ، فَكَانَتِ الْأَسْعَارُ أَرْخَصَ مِنْهَا قَبْلَ قُدُومِهِ، وَكَانَ النَّاسُ يَخْتَرِقُونَ عَسَاكِرَهُ لَيْلًا، وَنَهَارًا، فَلَا يَخَافُونَ أَحَدًا، وَلَمْ يَتْعَدِ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ، وَأَسْقَطَ الْمُكُوسَ، وَالْمُؤَنَ مِنْ جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَعَمَّرَ الطُّرُقَ، وَالْقَنَاطِرَ، وَالرُّبُطَ الَّتِي فِي الْمَفَاوِزِ، وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ الْخِرَابَ، وَعَمَّرَ الْجَامِعَ بِبَغْدَاذَ، وَعَمِلَ الْمَصَانِعَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَبَنَى الْبَلَدَ بِأَصْبَهَانَ،

وَبَنَى مَنَارَةَ الْقُرُونِ بِالسُّبَيْعِيِّ بِطُرُقِ مَكَّةَ، وَبَنَى مِثْلَهَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ. وَاصْطَادَ مَرَّةً صَيْدًا كَثِيرًا، فَأَمَرَ بِعَدِّهِ، فَكَانَ عَشَرَةَ آلَافِ رَأْسٍ، فَأَمَرَ بِصَدَقَةٍ عَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَقَالَ: إِنَّنِي خَائِفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ أَزْهَقْتُ أَرْوَاحَ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَا مَأْكَلَةٍ، وَفَرَّقَ مِنَ الثِّيَابِ وَالْأَمْوَالِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مَا لَا يُحْصَى، وَصَارَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلَّمَا صَادَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِعَدَدِهِ دَنَانِيرَ، وَهَذَا فِعْلُ مَنْ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ، وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مَرَاثِيَهُ أَيْضًا. وَقِيلَ إِنَّ بَعْضَ أُمَرَاءَ السُّلْطَانِ كَانَ نَازِلًا بِهَرَاَةَ مَعَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي دَارِهِ، فَقَالَ يَوْمًا ذَلِكَ الْأَمِيرُ لِلسُّلْطَانِ، وَهُوَ سَكْرَانُ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَعْبُدُ الْأَصْنَامَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُحَلِّلُ الْحَرَامَ، فَلَمْ يَجُبْهُ مَلِكْشَاهْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ صَحَا ذَلِكَ الْأَمِيرُ، فَأَخَذَ السُّلْطَانُ السَّيْفَ، وَقَالَ لَهُ: اصْدُقْنِي عَنْ فُلَانٍ، وَإِلَّا قَتَلْتُكَ! فَطَلَبَ مِنْهُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُ، فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَهُ دَارٌ حَسْنَاءُ، وَزَوْجَةٌ جَمِيلَةٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ تَقْتُلَهُ فَأَفُوزَ بِدَارِهِ وَزَوْجَتِهِ، فَأَبْعَدَهُ السُّلْطَانُ، وَشَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى التَّوَقُّفِ عَنْ قَبُولِ سِعَايَتِهِ، وَتَصَدَّقَ بِأَمْوَالٍ جَلِيلَةِ الْمِقْدَارِ. ذِكْرُ مُلْكِ ابْنِهِ الْمَلِكِ مَحْمُودٍ وَمَا كَانَ مِنْ حَالِ ابْنِهِ الْأَكْبَرِ بَرْكِيَارُقَ إِلَى أَنْ مَلَكَ لَمَّا مَاتَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ كَتَمَتْ زَوْجَتُهُ تُرْكَانُ خَاتُونَ مَوْتَهُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَرْسَلَتْ إِلَى الْأُمَرَاءِ سِرًّا فَأَرْضَتْهُمْ، وَاسْتَحْلَفَتْهُمْ لِوَلَدِهَا مَحْمُودٍ، وَعُمُرُهُ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَشُهُورٍ، وَأَرْسَلَتْ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي فِي الْخُطْبَةِ لِوَلَدِهَا أَيْضًا. فَأَجَابَهَا، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ السَّلْطَنَةِ لِوَلَدِهَا، وَالْخُطْبَةُ لَهُ، وَيَكُونَ الْمُدَبِّرُ لِزَعَامَةِ الْجُيُوشِ، وَرِعَايَةِ الْبَلَدِ - هُوَ الْأَمِيرَ أُنَرْ، وَيَصْدُرُ عَنْ رَأْيِ تَاجِ الْمُلْكِ، وَيَكُونَ تَرْتِيبُ

الْعُمَّالِ، وَجِبَايَةُ الْأَمْوَالِ إِلَى تَاجِ الْمُلْكِ أَيْضًا، وَكَانَ تَاجُ الْمُلْكِ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ بَيْنَ يَدَيْ خَاتُونَ. فَلَمَّا جَاءَتْ رِسَالَةُ الْخَلِيفَةِ إِلَى خَاتُونَ بِذَلِكَ امْتَنَعَتْ مِنْ قَبُولِهِ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّ وَلَدَكِ صَغِيرٌ، وَلَا يُجِيزُ الشَّرْعُ وِلَايَتَهُ، وَكَانَ الْمُخَاطِبَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْغَزَالِيُّ، فَأَذْعَنَتْ لَهُ، وَأَجَابَتْ إِلَيْهِ، فَخُطِبَ لِوَلَدِهَا، وَلُقِّبَ نَاصِرَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ الثَّانِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ، وَخُطِبَ لَهُ بِالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ. وَلَمَّا مَاتَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ أَرْسَلَتْ تُرْكَانُ خَاتُونَ إِلَى أَصْبَهَانَ فِي الْقَبْضِ عَلَى بَرْكِيَارُقَ ابْنِ السُّلْطَانِ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ، خَافَتْهُ أَنْ يُنَازِعَ وَلَدَهَا فِي السَّلْطَنَةِ، فَقُبِضَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا ظَهَرَ مَوْتُ مَلِكْشَاهْ وَثَبَ الْمَمَالِيكُ النِّظَامِيَّةُ عَلَى سِلَاحٍ كَانَ لِنِظَامِ الْمُلْكِ بِأَصْبَهَانَ، فَأَخَذُوهُ وَثَارُوا فِي الْبَلَدِ، وَأَخْرَجُوا بَرْكِيَارُقَ مِنَ الْحَبْسِ، وَخَطَبُوا لَهُ بِأَصْبَهَانَ وَمَلَّكُوهُ، وَكَانَتْ وَالِدَةُ بَرْكِيَارُقَ زُبَيْدَةَ ابْنَةَ يَاقُوتِيِّ بْنِ دَاوُدَ، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّ مَلِكْشَاهْ - خَائِفَةً عَلَى وَلَدِهَا مِنْ خَاتُونَ أُمِّ مَحْمُودٍ، فَأَتَاهَا الْفَرَجُ بِالْمَمَالِيكِ النِّظَامِيَّةِ. وَسَارَتْ تُرْكَانُ خَاتُونَ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَطَالَبَ الْعَسْكَرُ تَاجَ الْمُلْكِ بِالْأَمْوَالِ، فَوَعَدَهُمْ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى قَلْعَةِ بُرْجَيْنِ صَعِدَ إِلَيْهَا لِيُنْزِلَ الْأَمْوَالَ مِنْهَا، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِيهَا عَصَى عَلَى خَاتُونَ، وَلَمْ يَنْزِلْ خَوْفًا مِنَ الْعَسْكَرِ، فَسَارُوا عَنْهُ، وَنَهَبُوا خَزَائِنَهُ، فَلَمْ يَجِدُوا بِهَا شَيْئًا، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ عَلِمَ مَا جَرَى، فَاسْتَظْهَرَ وَأَخْفَاهُ. وَلَمَّا وَصَلَتْ تُرْكَانُ خَاتُونَ إِلَى أَصْبَهَانَ لَحِقَهَا تَاجُ الْمُلْكِ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ مُسْتَحْفِظَ الْقَلْعَةِ حَبَسَهُ، وَأَنَّهُ هَرَبَ مِنْهُ إِلَيْهَا، فَقَبِلَتْ عُذْرَهُ. وَأَمَّا بَرْكِيَارُقُ فَإِنَّهُ لَمَّا قَارَبَتْ خَاتُونُ، وَابْنُهَا مَحْمُودٌ أَصْبَهَانَ خَرَجَ مِنْهَا هُوَ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النِّظَامِيَّةِ، وَسَارُوا نَحْوَ الرَّيِّ، فَلَقِيَهُمْ أَرَغْشُ النِّظَامِيُّ فِي عَسَاكِرِهِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَصَارُوا يَدًا وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا حَمَلَ النِّظَامِيَّةَ عَلَى الْمَيْلِ إِلَى بَرْكِيَارُقَ كَرَاهَتُهُمْ لِتَاجِ الْمُلْكِ لِأَنَّهُ كَانَ عَدُوَّ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَالْمُتَّهَمَ بِقَتْلِهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا حَصَرُوا قَلْعَةَ طَبْرَكَ وَأَخَذُوهَا عَنْوَةً، فَسَيَّرَتْ خَاتُونُ الْعَسَاكِرَ إِلَى قِتَالِ بَرْكِيَارُقَ،

فَالْتَقَى الْعَسْكَرَانِ بِالْقُرْبِ مِنْ بَرُوجِرْدَ، فَانْحَازَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ فِي عَسْكَرِ خَاتُونَ إِلَى بَرْكِيَارُقَ، مِنْهُمُ: الْأَمِيرُ يَلْبُرَدُ وَكَمُشْتَكِينُ الْجَانْدَارُ، وَغَيْرُهُمَا، فَقَوِيَ بِهِمْ، وَجَرَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ أَوَاخِرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ خَاتُونَ وَعَادُوا إِلَى أَصْبَهَانَ، وَسَارَ بَرْكِيَارُقُ فِي أَثَرِهِمْ فَحَصَرَهُمْ بِأَصْبَهَانَ. ذِكْرُ قَتْلِ تَاجِ الْمُلْكِ كَانَ تَاجُ الْمُلْكِ مَعَ عَسْكَرِ خَاتُونَ، وَشَهِدَ الْوَقْعَةَ، فَهَرَبَ إِلَى نُوَاحِي بَرُوجِرْدَ، فَأُخِذَ وَحُمِلَ إِلَى عَسْكَرِ بَرْكِيَارُقَ، وَهُوَ يُحَاصِرُ أَصْبَهَانَ، وَكَانَ يَعْرِفُ كِفَايَتَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَوْزِرَهُ، فَشَرَعَ تَاجُ الْمُلْكِ فِي إِصْلَاحِ كِبَارِ النِّظَامِيَّةِ، وَفَرَّقَ فِيهِمْ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ سِوَى الْعُرُوضِ، فَزَالَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ. فَلَمَّا بَلَغَ عُثْمَانَ نَائِبَ نِظَامِ الْمُلْكِ الْخَبَرُ سَاءَهُ، فَوَضَعَ الْغِلْمَانَ الْأَصَاغِرَ عَلَى الِاسْتِغَاثَةِ، وَأَنْ لَا يَقْنَعُوا إِلَّا بِقَتْلِ قَاتِلِ صَاحِبِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَانْفَسَخَ مَا دَبَّرَهُ تَاجُ الْمُلْكِ، وَهَجَمَ النِّظَامِيَّةُ عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَفَصَلُوهُ أَجْزَاءً، وَكَانَ قَتْلُهُ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَحُمِلَتْ إِلَى بَغْدَاذَ إِحْدَى أَصَابِعِهِ. وَكَانَ كَثِيرَ الْفَضَائِلِ، جَمَّ الْمَنَاقِبِ، وَإِنَّمَا غَطَّى جَمِيعَ مَحَاسِنِهِ مُمَالَأَتُهُ عَلَى قَتْلِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى تُرْبَةَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَعَمِلَ الْمَدْرَسَةَ الَّتِي إِلَى جَانِبِهَا، وَرَتَّبَ بِهَا الشَّيْخَ أَبَا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ، وَكَانَ عُمُرُهُ حِينَ قُتِلَ سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.

ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ الْعَرَبُ بِالْحُجَّاجِ وَالْكُوفَةِ سَارَ الْحُجَّاجُ هَذِهِ السَّنَةَ مِنْ بَغْدَاذَ، فَقَدِمُوا الْكُوفَةَ، وَرَحَلُوا مِنْهَا فَخَرَجَتْ عَلَيْهِمْ خَفَاجَةُ، وَقَدْ طَمِعُوا بِمَوْتِ السُّلْطَانِ، وَبُعْدِ الْعَسْكَرِ، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ، وَقَتَلُوا أَكْثَرَ الْجُنْدِ الَّذِينَ مَعَهُمْ، وَانْهَزَمَ بَاقِيهِمْ، وَنَهَبُوا الْحُجَّاجَ، وَقَصَدُوا الْكُوفَةَ فَدَخَلُوهَا، وَأَغَارُوا عَلَيْهَا، وَقَتَلُوا فِي أَهْلِهَا، فَرَمَاهُمُ النَّاسُ بِالنُّشَّابِ، فَخَرَجُوا بَعْدَ أَنْ نَهَبُوا، وَأَخَذُوا ثِيَابَ مَنْ لَقُوهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَسُيِّرَتِ الْعَسَاكِرُ مِنْهَا، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ بَنُو خَفَاجَةَ انْهَزَمُوا، فَأَدْرَكَهُمُ الْعَسْكَرُ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَضَعُفَتْ خَفَاجَةُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، عَادَ السُّلْطَانُ مَنْ بَغْدَاذَ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَأَخَذَ مَعَهُ الْأَمِيرَ أَبَا الْفَضْلِ جَعْفَرَ ابْنَ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ مِنِ ابْنَةِ السُّلْطَانِ، وَتَفَرَّقَ الْأُمَرَاءُ إِلَى بِلَادِهِمْ، (ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَتُوُفِّيَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ) . وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، احْتَرَقَ نَهْرُ الْمُعَلَّى، فَاحْتَرَقَ عَقْدُ الْحَدِيدِ إِلَى خَرِبَةِ الْهَرَّاسِ، إِلَى بَابِ دَارِ الضَّرْبِ، وَاحْتَرَقَ سُوقُ الصَّاغَةِ وَالصَّيَارِفِ، وَالْمُخَلِّطِينَ، وَالرَّيْحَانِيِّينَ، وَكَانَ الْحَرِيقُ مِنَ الظَّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ، فَاحْتَرَقَ مِنْهَا الْأَمْرُ الْعَظِيمُ فِي الزَّمَانِ الْقَلِيلِ، وَاحْتَرَقَ مِنَ النَّاسِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ رَكِبَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ، وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، وَجَمَعَ السَّقَّائِينَ، وَلَمْ يَزَلْ رَاكِبًا حَتَّى طُفِئَتِ النَّارُ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ نَاقِيَا الشَّاعِرُ الْبَغْدَاذِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ يُتَّهَمُ بِأَنَّهُ يَطْعَنُ عَلَى الشَّرَائِعِ، فَلَمَّا مَاتَ كَانَتْ يَدُهُ مَقْبُوضَةً، فَلَمْ يُطِقِ الْغَاسِلُ فَتْحَهَا، فَبَعْدَ جُهْدٍ فُتِحَتْ فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ: نَزَلْتُ بِجَارٍ لَا يُخَيِّبُ ضَيْفَهُ ... أُرَجِّي نَجَاتِي مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمِ وَإِنِّي عَلَى خَوْفِي مِنَ اللَّهِ وَاثِقٌ ... بِإِنْعَامِهِ وَاللَّهُ أَكْرَمُ مُنْعِمِ وَفِيهَا تُوُفِّيَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو الْقَاسِمِ الشِّيرَازِيُّ الْحَافِظُ، أَحَدُ الرَّحَّالِينَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَقَدِمَ الْمَوْصِلَ مِنَ الْعِرَاقِ، وَهُوَ الَّذِي أَظْهَرَ سَمَاعَ " الْجَعْدِيَّاتِ " لِأَبِي مُحَمَّدٍ الصَّرْيَفِينِيُّ، وَلَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ ذَلِكَ.

ثم دخلت سنة ست وثمانين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 486 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ وِزَارَةِ عِزِّ الْمُلْكِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ لِبَرْكِيَارُقَ كَانَ عِزُّ الْمُلْكِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ مُقِيمًا بِخَوَارِزْمَ، حَاكِمًا فِيهَا، وَفِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، إِلَيْهِ الْمَرْجِعُ فِي كُلِّ أُمُورِهَا السُّلْطَانِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ أَبُوهُ حَضَرَ عِنْدَهُ خِدْمَةً لَهُ وَلِلسُّلْطَانِ، فَقُتِلَ أَبُوهُ، وَمَاتَ السُّلْطَانُ، فَأَقَامَ بِأَصْبَهَانَ إِلَى الْآنَ. فَلَمَّا حَصَرَهَا بَرْكِيَارُقُ، وَكَانَ أَكْثَرَ عَسْكَرِهِ النِّظَامِيَّةِ، خَرَجَ مِنْ أَصْبَهَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ إِخْوَتِهِ، فَلَمَّا اتَّصَلَ بِبَرْكِيَارُقَ احْتَرَمَهُ، وَأَكْرَمَهُ، وَفَوَّضَ أُمُورَ دَوْلَتِهِ إِلَيْهِ، وَجَعَلَهُ وَزِيرًا لَهُ. ذِكْرُ حَالِ تُتُشِ بْنِ أَلْبِ أَرَسْلَانَ كَانَ تُتُشِ بْنُ أَلْب أَرْسِلَانَ صَاحِبَ دِمَشْقَ، وَمَا جَاوَرَهَا مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ مَوْتِ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، سَارَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَيْهِ بِبَغْدَاذَ، فَلَمَّا كَانَ بِهَيْتَ بَلَغَهُ مَوْتُهُ، فَأَخَذَ هَيْتَ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ يَتَجَهَّزُ لِطَلَبِ السَّلْطَنَةِ، فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، وَأَخْرَجَ الْأَمْوَالَ، وَسَارَ نَحْوَ حَلَبَ، وَبِهَا قَسِيمُ الدَّوْلَةِ آقْسَنْقَرَ، فَرَأَى قَسِيمُ الدَّوْلَةِ اخْتِلَافَ أَوْلَادِ صَاحِبِهِ مَلِكْشَاهْ، وَصِغَرَهُمْ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَطِيقُ دَفْعَ تُتُشْ،

فَصَالَحَهُ، وَصَارَ مَعَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى يَاغِي سِيَانَ، صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ، وَإِلَى بُوزَانَ، صَاحِبِ الرُّهَا وَحَرَّانَ، يُشِيرُ عَلَيْهِمَا بِطَاعَةِ تَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشْ حَتَّى يَرَوْا مَا يَكُونُ مِنْ أَوْلَادِ مَلِكْشَاهْ، فَفَعَلُوا، وَصَارُوا مَعَهُ، وَخَطَبُوا لَهُ فِي بِلَادِهِمْ، وَقَصَدُوا الرَّحْبَةَ، فَحَصَرُوهَا، وَمَلَكُوهَا فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ بِالسَّلْطَنَةِ. ثُمَّ سَارَ إِلَى نَصِيبِينَ، فَحَصَرُوهَا، فَسَبَّ أَهْلُهَا تَاجَ الدَّوْلَةِ، فَفَتَحَهَا عَنْوَةً وَقَهَرًا، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَنُهِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَفُعِلَ فِيهَا الْأَفْعَالُ الْقَبِيحَةُ، ثُمَّ سَلَّمَهَا إِلَى الْأَمِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ الْعُقَيْلِيِّ، وَسَارَ يُرِيدُ الْمَوْصِلَ، وَأَتَاهُ الْكَافِي بْنُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ، وَكَانَ فِي جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، فَأَكْرَمَهُ، وَاسْتَوْزَرَهُ. ذِكْرُ وَقْعَةِ الْمُضَيَّعِ، وَأَخْذِ الْمَوْصِلِ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ، أَمِيرُ بُنِيَ عُقَيْلٍ، قَدِ اسْتَدْعَاهُ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ لِيُحَاسِبَهُ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ اعْتَقَلَهُ، وَأَنْفَذَ فَخْرَ الدَّوْلَةِ بْنَ جَهِيرٍ إِلَى الْبِلَادِ، فَمَلَكَ الْمَوْصِلَ وَغَيْرَهَا، وَبَقِيَ إِبْرَاهِيمُ مَعَ مَلِكْشَاهْ، وَسَارَ مَعَهُ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَمَّا مَاتَ مَلِكْشَاهْ أَطْلَقَتْهُ تُرْكَانُ خَاتُّونَ مِنَ الِاعْتِقَالِ، فَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ. وَكَانَ مَلِكْشَاهْ قَدْ أَقْطَعَ عَمَّتَهُ صَفِيَّةَ مَدِينَةَ بَلَدَ، وَكَانَتْ زَوْجَةُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَلَهَا مِنْهُ ابْنُهَا عَلِيٌّ، وَكَانَتْ قَدْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ بِأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا مَاتَ مَلِكْشَاهْ قَصَدَتِ الْمَوْصِلَ، وَمَعَهَا ابْنُهَا عَلِيٌّ، فَقَصَدَهَا مُحَمَّدُ بْنُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَأَرَادَ أَخْذَ الْمَوْصِلِ، فَافْتَرَقَتِ الْعَرَبُ فِرْقَتَيْنِ: فَرِقَةً مَعَهُ، وَأُخْرَى مَعَ صَفِيَّةَ وَابْنِهَا عَلِيٍّ، وَاقْتَتَلُوا بِالْمَوْصِلِ عِنْدَ الْكُنَاسَةِ، فَظَفِرَ عَلِيٌّ، وَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ، وَمَلِكَ عَلِيٌّ الْمَوْصِلَ. فَلَمَّا وَصَلَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى جُهَيْنَةَ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْصِلِ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، سَمِعَ أَنَّ

الْأَمِيرَ عَلِيًّا ابْنَ أَخِيهِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ قَدْ مَلَكَهَا، وَمَعَهُ أُمُّهُ صَفِيَّةُ، عَمَّةُ مَلِكْشَاهْ، فَأَقَامَ مَكَانَهُ، وَرَاسَلَ صَفِيَّةَ خَاتُونَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ، فَسَلَّمَتِ الْبَلَدَ إِلَيْهِ، فَأَقَامَ بِهِ. فَلَمَّا مَلَكَ تُتُشْ نَصِيبِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَخْطُبَ لَهُ بِالسَّلْطَنَةِ، وَيُعْطِيَهِ طَرِيقًا إِلَى بَغْدَاذَ لِيَنْحَدِرَ، وَيَطْلُبَ الْخُطْبَةَ بِالسَّلْطَنَةِ، فَامْتَنَعَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ ذَلِكَ، فَسَارَ تُتُشْ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ أَيْضًا نَحْوَهُ، فَالْتَقَوْا بِالْمُضَيَّعِ، مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَكَانَ تُتُشْ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، وَكَانَ آقْسَنْقَرُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ، وَبُوزَانُ عَلَى مَيْسَرَتِهِ، فَحَمَلَ الْعَرَبُ عَلَى بُوزَانَ فَانْهَزَمَ، وَحَمَلَ آقْسَنْقَرُ عَلَى الْعَرَبِ فَهَزَمَهُمْ، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَالْعَرَبِ، وَأُخِذَ إِبْرَاهِيمُ أَسِيرًا، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْعَرَبِ، فَقُتِلُوا صَبْرًا، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُ الْعَرَبِ، وَمَا مَعَهُمْ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْغَنَمِ، وَالْخَيْلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَتَلَ كَثِيرٌ مِنَ النِّسَاءِ الْعَرَبِ أَنْفُسَهُنَّ خَوْفًا مِنَ السَّبْيِ وَالْفَضِيحَةِ. وَمَلِكَ تُتُشْ بِلَادَهُمُ الْمَوْصِلَ، وَغَيْرَهَا، وَاسْتَنَابَ عَلِيَّ بْنَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمٍ، وَأُمُّهُ صَفِيَّةُ عَمَّةُ تُتُشْ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَغْدَاذَ يَطْلُبُ الْخُطْبَةَ، وَسَاعَدَهُ كُوهَرَائِينُ عَلَى ذَلِكَ، فَقِيلَ لِرَسُولِهِ: إِنَّا نَنْتَظِرُ وُصُولَ الرُّسُلِ مِنَ الْعَسْكَرِ فَعَادَ إِلَى تُتُشْ بِالْجَوَابِ. ذِكْرُ مُلْكِ تُتُشْ دِيَارَ بَكْرٍ وَأَذْرَبِيجَانَ وَعَوْدِهِ إِلَى الشَّامِ فَلَمَّا فَرَغَ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشْ مِنْ أَمْرِ الْعَرَبِ، وَمَلَكَ الْمَوْصِلَ وَغَيْرَهَا مِنْ بِلَادِهِمْ، سَارَ إِلَى دِيَارِ بَكْرٍ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَمَلَكَ مِيَافَارِقِينَ وَسَائِرَ دِيَارِ بَكْرَ مِنِ ابْنِ مَرَوَانَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى أَذْرَبِيجَانَ. فَانْتَهَى خَبَرُهُ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ رُكْنِ الدِّينِ بَرْكِيَارُقَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ، مِنْهَا: الرَّيُّ، وَهَمَذَانُ، وَمَا بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْحَالُ سَارَ فِي عَسَاكِرِهِ لِيَمْنَعَ عَمَّهُ عَنِ الْبِلَادِ، فَلَمَّا تَقَارَبَ الْعَسْكَرَانِ قَالَ قَسِيمُ الدَّوْلَةِ آقْسَنْقَرُ

لَبُوزَانَ: إِنَّمَا أَطَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ لِنَنْظُرَ مَا يَكُونُ مِنْ أَوْلَادِ صَاحِبِنَا، وَالْآنَ فَقَدْ ظَهَرَ ابْنُهُ، وَنُرِيدُ أَنْ نَكُونَ مَعَهُ. فَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ وَفَارَقَا تُتُشْ، وَصَارَا مَعَ بَرْكِيَارُقَ. فَلَمَّا رَأَى تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشْ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا قُوَّةَ لَهُ بِهِمْ، فَعَادَ إِلَى الشَّامِ، وَاسْتَقَامَتِ الْبِلَادُ لِبَرْكِيَارُقَ، فَلَمَّا قَوِيَ أَمْرُهُ سَارَ كُوهَرَائِينُ إِلَى الْعَسْكَرِ يَعْتَذِرُ مِنْ مُسَاعَدَتِهِ لِتَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشْ وَأَعَانَهُ بِرْسَقُ، وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِ كَمُشْتِكِينُ الْجَانْدَارُ، فَأُخِذَ إِقْطَاعُهُ، وَأُعْطِيَ الْأَمِيرُ يَلْبُرَدُ زِيَادَةً، وَوَلِيَ شَحْنَكِيَّةَ بَغْدَاذَ عِوَضَ كُوهَرَائِينَ، وَتَفَرَّقَ عَنْ كُوهَرَائِينَ أَصْحَابُهُ، فَكَانَ مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ حَصْرِ عَسْكَرِ مِصْرَ صُورَ وَمَلْكِهِمْ لَهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، مَلَكَ عَسْكَرُ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ الْعَلَوِيِّ، صَاحِبِ مِصْرَ، مَدِينَةَ صُورَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ: أَنَّ أَمِيرَ الْجُيُوشِ بَدْرًا، وَزِيرَ الْمُسْتَنْصِرِ، سَيَّرَ الْعَسَاكِرَ إِلَى مَدِينَةِ صُورَ، وَغَيْرِهَا، مِنْ سَاحِلِ الشَّامِ، وَكَانَ مَنْ بِهَا قَدِ امْتَنَعَ مِنْ طَاعَتِهِمْ، فَمَلَكَهَا، وَقَرَّرَ أُمُورَهَا، وَجَعَلَ فِيهَا الْأُمَرَاءَ. وَكَانَ قَدْ وَلَّى مَدِينَةَ صُورَ الْأَمِيرَ الَّذِي يُعْرَفُ بِمُنِيرِ الدَّوْلَةِ الْجُيُوشِيِّ، فَعَصَى عَلَى الْمُسْتَنْصِرِ وَأَمِيرِ الْجُيُوشِ، وَامْتَنَعَ بِصُورَ، فَسُيِّرَتِ الْعَسَاكِرُ مِنْ مِصْرَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَهْلُ صُورٍ قَدْ أَنْكَرُوا عَلَى مُنِيرِ الدَّوْلَةِ عِصْيَانَهُ عَلَى سُلْطَانِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْعَسْكَرُ

الْمِصْرِيُّ إِلَى صُورَ وَحَصَرُوهَا وَقَاتَلُوهَا ثَارَ أَهْلُهَا، وَنَادَوْا بِشِعَارِ الْمُسْتَنْصِرِ، وَأَمِيرِ الْجُيُوشِ، وَسَلَّمُوا الْبَلَدَ، وَهَجَمَ الْعَسْكَرُ الْمِصْرِيُّ بِغَيْرِ مَانِعٍ، وَلَا مُدَافِعٍ، وَنُهِبَ مِنَ الْبَلَدِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَأُسِرَ مُنِيرُ الدَّوْلَةِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَحُمِلُوا إِلَى مِصْرَ، وَقُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ سِتُّونَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَأَجْحَفَتْ بِهِمْ. وَلَمَّا وَصَلَ مُنِيرُ الدَّوْلَةِ إِلَى مِصْرَ، وَمَعَهُ الْأَسْرَى قُتِلُوا جَمِيعُهُمْ، وَلَمْ يُعْفَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. ذِكْرُ قَتْلِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَاقُوتِيٍّ خَالِ بَرْكِيَارُقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، قُتِلَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَاقُوتِيِّ بْنِ دَاوُدَ، وَهُوَ خَالُ بَرْكِيَارُقَ، وَابْنُ عَمِّ مَلِكْشَاهْ. وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ كَانَ بِأَذْرَبِيجَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُرْكَانُ خَاتُونَ، زَوْجَةُ مَلِكْشَاهْ، تُطْمِعُهُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ، وَتَدْعُوهُ إِلَى مُحَارَبَةِ بَرْكِيَارُقَ، فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ، وَجَمَعَ خَلْقًا مِنَ التُّرْكُمَانِ وَغَيْرِهِمْ، وَصَارَ أَصْحَابُ سِرْهَنِكَ سَاوْتِكِينَ فِي خَيْلِهِ، وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُرْكَانُ خَاتُونَ كَرْبُوقَا، وَغَيْرَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ مَدَدًا لَهُ، فَجَمَعَ بَرْكِيَارُقُ عَسَاكِرَهُ، وَسَارَ إِلَى حَرْبِ خَالِهِ إِسْمَاعِيلَ، فَالْتَقَوْا عِنْدَ الْكَرَجِ، فَانْحَازَ الْأَمِيرُ يَلْبُرَدُ إِلَى بَرْكِيَارُقَ، وَصَارَ مَعَهُ، فَانْهَزَمَ إِسْمَاعِيلُ وَعَسْكَرُهُ، وَتَوَجَّهَ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَأَكْرَمَتْهُ تُرْكَانُ خَاتُونَ، وَخَطَبَتْ لَهُ، وَضَرَبَتِ اسْمَهُ عَلَى الدِّينَارِ بَعْدَ ابْنِهَا مَحْمُودِ بْنِ مَلِكْشَاهْ. وَكَادَ الْأَمْرُ فِي الْوَصْلَةِ يَتِمُّ بَيْنَهُمَا، فَامْتَنَعَ الْأُمَرَاءُ مِنْ ذَلِكَ لَا سِيَّمَا الْأَمِيرِ أُنَرْ،

وَهُوَ مُدَبِّرُ الْأَمْرِ، وَصَاحِبُ الْجَيْشِ، وَآثَرُوا خُرُوجَ إِسْمَاعِيلَ عَنْهُمْ، وَخَافُوهُ، وَخَافَ هُوَ أَيْضًا مِنْهُمْ، فَفَارَقَهُمْ، وَرَاسَلَ أُخْتَهُ زُبَيْدَةَ وَالِدَةَ بَرْكِيَارُقَ فِي اللَّحَاقِ بِهِمْ، فَأَذِنَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَوَصَلَ إِلَيْهِمْ، وَأَقَامَ عِنْدَهُمْ أَيَّامًا يَسِيرَةً، فَخَلَا بِهِ كَمُشْتِكِينُ الْجَانْدَارُ، وَآقْسِنْقَرُ، وَبُوزَانُ، وَبَسَطُوهُ فِي الْقَوْلِ، فَأَطْلَعَهُمْ عَلَى سِرِّهِ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ السَّلْطَنَةَ، وَقَتْلَ بَرْكِيَارُقَ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَأَعْلَمُوا أُخْتَهُ خَبَرَهُ فَسَكَتَتْ عَنْهُ. ذِكْرُ أَخْذِ الْحُجَّاجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْقَطَعَ الْحَجُّ مِنَ الْعِرَاقِ لِأَسْبَابٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ، وَسَارَ الْحَاجُّ مِنْ دِمَشْقَ مَعَ أَمِيرٍ أَقَامَهُ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشْ صَاحِبُهَا، فَلَمَّا قَضَوْا حَجَّهُمْ وَعَادُوا سَائِرِينَ سَيَّرَ أَمِيرُ مَكَّةَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَاشِمٍ، عَسْكَرًا فَلَحِقُوهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْ مَكَّةَ، وَنَهَبُوا كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَجِمَالِهِمْ، فَعَادُوا إِلَيْهِ، وَلَقُوهُ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ، وَشَكَوْا إِلَيْهِ بُعْدَ دِيَارِهِمْ، فَأَعَادَ بَعْضَ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا أَيِسُوا مِنْهُ سَارُوا مِنْ مَكَّةَ عَائِدَيْنِ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ، فَلَمَّا أَبْعَدُوا عَنْهَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ جُمُوعٌ مِنَ الْعَرَبِ فِي عِدَّةِ جِهَاتٍ، فَصَانَعُوهُمْ عَلَى مَالٍ أَخَذُوهُ مِنَ الْحَاجِّ، بَعْدَ أَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَافِرَةٌ، وَهَلَكَ فِيهِ كَثِيرُونَ بِالضَّعْفِ وَالِانْقِطَاعِ، وَعَادَ السَّالِمُ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، قَدِمَ إِلَى بَغْدَاذَ أَرْدِشِيرِينُ بْنُ مَنْصُورٍ أَبُو الْحُسَيْنِ الْوَاعِظُ، الْعَبَّادِيُّ، وَأَكْثَرَ الْوَعْظَ بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، وَهُوَ مَرْوَزِيٌّ، وَقَدِمَ بَغْدَاذَ قَاصِدًا لِلْحَجِّ، وَكَانَ لَهُ قَبُولٌ عَظِيمٌ، بِحَيْثُ إِنَّ الْغَزَالِيَّ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ الْكِبَارِ يَحْضُرُونَ مَجْلِسَهُ، وَذُرِعَ فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا الرِّجَالُ،

فَكَانَ طُولُهَا مِائَةً وَخَمْسَةً وَسَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَعَرَضُهَا مِائَةً وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا، وَكَانُوا يَزْدَحِمُونَ ازْدِحَامًا كَثِيرًا، وَكَانَ النِّسَاءُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ لَهُ كَرَامَاتٌ ظَاهِرَةٌ، وَعِبَادَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَكَانَ سَبَبُ مَنْعِهِ مِنَ الْوَعْظِ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَتَعَامَلَ النَّاسُ بِبَيْعِ الْقُرَاضَةِ بِالصَّحِيحِ، وَقَالَ: هُوَ رِبَا، فَمُنِعَ مِنَ الْوَعْظِ، وَأُخْرِجَ مِنَ الْبَلَدِ. وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ الْعَامَّةِ، وَقَصَدَ كُلُّ فَرِيقٍ الْفَرِيقَ الْآخَرَ، وَقَطَعُوا الطُّرُقَاتِ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَقَتَلَ أَهْلُ النَّصْرِيَّةِ مُصْلَحِيًّا، فَأَرْسَلَ كُوهَرَائِينُ فَأَحْرَقَهَا، وَاتَّصَلَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَبَابِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ لِلْعَمِيدِ الْأَغَرِّ أَبِي الْمَحَاسِنِ الدِّهِسْتَانِيِّ فِي إِطْفَاءِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ أَثَرٌ حَسَنٌ. وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، سَارَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَزْيَدٍ إِلَى السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَلَقِيَهُ بِنَصِيبِينَ، وَسَارَ مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَوَصَلَهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَمَعَهُ وَزِيرُهُ عِزُّ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَخَرَجَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ وَالنَّاسُ إِلَى لِقَائِهِ مِنْ عَقْرَقُوفَ. وَفِيهَا وُلِدَ لِلْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ وَلَدٌ سُمِّيَ الْفَضْلَ، وَكُنِّيَ أَبَا مَنْصُورٍ، وَلُقِّبَ عُمْدَةَ الدِّينِ، وَهُوَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ. وَفِيهَا، فِي رَمَضَانَ، قُتِلَ الْأَمِيرُ يَلْبُرَدُ، قَتَلَهُ بَرْكِيَارُقُ، وَكَانَ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ مَعَ أَبِيهِ، فَزَادَهُ بِرْكِيَارُقُ إِقْطَاعَ كُوهَرَائِينَ، وَشَحْنَكِيَّةَ بَغْدَاذَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى دَقُوقَا أُعِيدَ مِنْهَا لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِوَالِدَةِ السُّلْطَانِ بِرْكِيَارُقَ، بِكَلَامٍ شَنِيعٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ أَصْبَحَ مَقْتُولًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا (فِي الْمُحَرَّمِ) تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ أَبُو الْحَسَنِ الْقُرَشِيُّ،

الْهَكَّارِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ فَاضِلًا، عَابِدًا، كَثِيرَ السَّمَاعِ، إِلَّا أَنَّ الْغَرَائِبَ فِي حَدِيثِهِ كَثِيرَةٌ لَا يُدْرَى مَا سَبَبُهَا. (وَالْأَمِيرُ أَبُو نَصْرٍ عَلِيُّ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ الْعِجْلِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مَاكُولَا، مُصَنِّفِ كِتَابِ " الْإِكْمَالِ "، قَتَلَهُ غِلْمَانُهُ الْأَتْرَاكُ بِكَرْمَانَ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ حَافِظًا) . وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَامِرٌ الضَّرِيرُ، وَكَانَ فَقِيهًا شَافِعِيًّا، مُقْرِئًا، نَحْوِيًّا، وَكَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ بِالْإِمَامِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ. وَفِي جُمَادَى الْأُولَى تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ الْمُقْتَدِي، وَأُمُّهُ ابْنَةُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ " الْجَعْفَرِيَّاتُ ". وَفِي رَجَبٍ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُحْسِنِ الْوَكِيلُ بِالْمَخْزَنِ، وَكَانَ فَقِيهًا شَافِعِيًّا، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَانَ مَحْمُودًا فِي وِلَايَتِهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ كَمَالُ الْمُلْكِ الدِّهِسْتَانِيُّ الَّذِي كَانَ عَمِيدَ بَغْدَاذَ. وَفِي رَمَضَانَ تُوُفِّيَ الْمُشَطَّبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَنَفِيُّ بِالْكُحَيْلِ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ قَدْ أَرْسَلَهُ إِلَى بَرْكِيَارُقَ، وَكَانَ بِالْمَوْصِلِ، وَمَعَهُ تَاجُ الرُّؤَسَاءِ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْمُوصِلَايَا، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا عَالِمًا، مُكَرَّمًا عِنْدَ الْمُلُوكِ، وَحُمِلَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ

وَفِيهِ تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَرْزَبِينِيُّ، قَاضِي بَابِ الْأَزْجِ، وَوُلِّيَ مَكَانَهُ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي عَزِيزِي، وَكَانَ أَبُو الْمَعَالِي شَافِعِيًّا، أَشْعَرِيًّا، مُغَالِيًا، وَلَهُ مَعَ أَهْلِ بَابِ الْأَزْجِ أَقَاصِيصُ وَحِكَايَاتٌ عَجِيبَةٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ نَصْرُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ أَبُو اللَّيْثِ، وَأَبُو الْفَتْحِ التُّنْكُتِيُّ، لَهُ كُنْيَتَانِ، سَافَرَ [فِي] الْبِلَادِ شَرْقًا وَغَرْبًا، رَوَى صَحِيحَ مُسْلِمٍ وَغَيْرَهُ، وَكَانَ ثِقَةً، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنْبَلِيُّ، الْفَقِيهُ، وَكَانَ وَافِرَ الْعِلْمِ، غَزِيرَ الدِّينِ، حَسَنَ الْوَعْظِ وَالسَّمْتِ.

ثم دخلت سنة سبع وثمانين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 487 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ الْخُطْبَةِ لِلسُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، يَوْمَ الْجُمْعَةِ رَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، خُطِبَ بِبَغْدَاذَ لِلسُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ بْنِ مَلِكْشَاهْ، وَكَانَ قَدِمَهَا أَوَاخِرَ سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ يَطْلُبُ الْخُطْبَةَ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَخُطِبَ لَهُ، وَلُقِّبَ رُكْنَ الدِّينِ. وَحَمَلَ الْوَزِيرُ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ الْخِلَعَ إِلَى بَرْكِيَارُقَ، فَلَبِسَهَا، وَعُرِضَ التَّقْلِيدُ عَلَى الْخَلِيفَةِ لِيُعَلِّمَ عَلَيْهِ، فَعَلَّمَ فِيهِ، وَتُوُفِّيَ فَجْأَةً عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَوُلِّيَ ابْنُهُ الْإِمَامُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ الْخِلَافَةَ، فَأَرْسَلَ الْخِلَعَ وَالتَّقْلِيدَ إِلَى السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَأَقَامَ بِبَغْدَاذَ إِلَى رَبِيعٍ مِنَ السَّنَةِ، وَسَارَ عَنْهَا إِلَى الْمَوْصِلِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، يَوْمَ السَّبْتِ خَامِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ الْإِمَامُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الذَّخِيرَةِ بْنِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَجْأَةً، وَكَانَ قَدْ أُحْضِرَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ لِيُعَلِّمَ فِيهِ، فَقَرَأَهُ، وَتَدَبَّرَهُ، وَعَلَّمَ فِيهِ، ثُمَّ قُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ،

فَأَكَلَ مِنْهُ، وَغَسَلَ يَدَيْهِ، وَعِنْدَهُ قَهْرَمَانَتُهُ شَمْسُ النَّهَارِ، فَقَالَ لَهَا: مَا هَذِهِ الْأَشْخَاصُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيَّ بِغَيْرِ إِذْنٍ؟ قَالَتْ: فَالْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَرَأَيْتُهُ قَدْ تَغَيَّرَتْ حَالَتُهُ، وَاسْتَرْخَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، وَانْحَلَّتْ قُوَّتُهُ، وَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، فَظَنَنْتُهَا غَشْيَةً قَدْ لَحِقَتْهُ، فَحَلَلْتُ أَزْرَارَ ثَوْبِهِ، فَوَجَدْتُهُ وَقَدْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ أَمَارَاتُ الْمَوْتِ، وَمَاتَ لِوَقْتِهِ، قَالَتْ: فَتَمَاسَكْتُ، وَقُلْتُ لِجَارِيَةٍ عِنْدِي: لَيْسَ هَذَا وَقْتَ إِظْهَارِ الْجَزَعِ وَالْبُكَاءِ، فَإِنْ صِحْتِ قَتَلْتُكِ، وَأَحْضَرْتُ الْوَزِيرَ فَأَعْلَمْتُهُ الْحَالَ، فَشَرَعُوا فِي الْبَيْعَةِ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ، وَجَهَّزُوا الْمُقْتَدِيَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ، وَدَفَنُوهُ. وَكَانَ عُمُرُهُ ثَمَانِيًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ غَيْرَ يَوْمَيْنِ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدِ أَرْمَنِيَّةٌ تُسَمَّى أُرْجُوَانَ، وَتُدْعَى قُرَّةَ الْعَيْنِ، أَدْرَكَتْ خِلَافَتَهُ، وَخِلَافَةَ ابْنِهِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، وَخِلَافَةَ ابْنِ ابْنِهِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ. وَوَزَرَ لَهُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَبُو نَصْرِ بْنُ جَهِيرٍ، ثُمَّ أَبُو شُجَاعٍ، ثُمَّ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ جَهِيرٍ. وَقُضَاتُهُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيُّ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ الشَّامِيُّ. وَكَانَتْ أَيَّامُهُ كَثِيرَةَ الْخَيْرِ، وَاسِعَةَ الرِّزْقِ، وَعَظُمَتِ الْخِلَافَةُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ مِنْ قَبْلِهِ، وَانْعَمَرَتْ بِبَغْدَاذَ عِدَّةُ مَحَالٍّ فِي خِلَافَتِهِ مِنْهَا: الْبَصَلِيَّةُ، وَالْقَطِيعَةُ، وَالْحُلْبَةُ، وَالْمُقْتَدِّيَةُ، وَالْأَجَمَةُ، وَدَرْبُ الْقِيَارِ، وَخَرِبَةُ ابْنِ جَرْدَةَ، وَخَرِبَةُ الْهَرَّاسِ، وَالْخَاتُونِيَّتَيْنِ.

وَأَمَرَ بِنَفْيِ الْمُغَنِّيَاتِ، وَالْمُفْسِدَاتِ مِنْ بَغْدَاذَ، وَبَيْعِ دُورِهِنَّ، فَنُفِينَ، وَمَنَعَ النَّاسَ أَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْحَمَّامَ إِلَّا بِمِئْزَرٍ، وَقَلَعَ الْهَرَادِيَّ، وَالْأَبْرَاجَ الَّتِي لِلطُّيُورِ، وَمَنَعَ مِنَ اللَّعِبِ بِهَا لِأَجْلِ الِاطِّلَاعِ عَلَى حُرَمِ النَّاسِ، وَمَنَعَ مِنْ إِجْرَاءِ مَاءِ الْحَمَّامَاتِ إِلَى دِجْلَةَ، وَأَلْزَمَ أَرْبَابَهَا بِحَفْرِ آبَارٍ لِلْمِيَاهِ، وَأَمْرَ أَنَّ مَنْ يَغْسِلُ السَّمَكَ الْمَالِحَ يَعْبُرُ إِلَى النَّجْمِيِّ فَيَغْسِلُهُ هُنَاكَ، وَمَنَعَ الْمَلَّاحِينَ أَنْ يَحْمِلُوا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ مُجْتَمِعِينَ، وَكَانَ قَوِيَّ النَّفْسِ، عَظِيمَ الْهِمَّةِ مِنْ رِجَالِ بَنِي الْعَبَّاسِ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ لَمَّا تُوُفِّيَ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، أُحْضِرَ وَلَدُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ، وَأُعْلِمَ بِمَوْتِهِ، وَحَضَرَ الْوَزِيرُ فَبَايَعَهُ، وَرَكِبَ إِلَى السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَأَعْلَمَهُ الْحَالَ، وَأَخَذَ بَيْعَتَهُ لِلْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ مِنْ مَوْتِ الْمُقْتَدِي أَظْهَرَ ذَلِكَ، وَحَضَرَ عِزُّ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ وَزِيرُ بَرْكِيَارُقَ، وَأَخُوهُ بَهَاءُ الْمُلْكِ، وَأُمَرَاءُ السُّلْطَانِ، وَجَمِيعُ أَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ: النَّقِيبَانِ طَرَّادٌ الْعَبَّاسِيُّ، وَالْمُعَمَّرُ الْعَلَوِيُّ فِي أَصْحَابِهِمَا، وَقَاضِي الْقُضَاةِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالشَّاشِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَجَلَسُوا فِي الْعَزَاءِ، وَبَايَعُوا، وَكَانَ لِلْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ لَمَّا بُويِعَ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرَانِ. ذِكْرُ قَتْلِ قَسِيمِ الدَّوْلَةِ آقْسَنْقَرَ، وَمَلْكِ تُتُشْ حَلَبَ وَالْجَزِيرَةَ وَدِيَارَ بَكْرٍ، وَأَذْرَبِيجَانَ وَهَمَذَانَ، وَالْخُطْبَةِ لَهُ بِبَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، قُتِلَ قَسِيمُ الدَّوْلَةِ آقْسَنْقَرُ، جَدُّ مُلُوكِنَا بِالْمَوْصِلِ الْآنَ، أَوْلَادُ الشَّهِيدِ زِنْكِيِّ بْنِ آقْسَنْقَرَ.

وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ تَاجَ الدَّوْلَةِ تُتُشْ لَمَّا عَادَ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ مُنْهَزِمًا لَمْ يَزَلْ يَجْمَعُ الْعَسَاكِرَ، فَكَثُرَتْ جُمُوعُهُ، وَعَظُمَ حَشْدُهُ، فَسَارَ فِي هَذَا التَّارِيخِ عَنْ دِمَشْقَ نَحْوَ حَلَبَ لِيَطْلُبَ السَّلْطَنَةَ، فَاجْتَمَعَ قَسِيمُ الدَّوْلَةِ آقْسَنْقَرُ، وَبُوزَانُ، وَأَمَدَّهُمَا رُكْنُ الدِّينِ بَرْكِيَارُقُ بِالْأَمِيرِ كَرْبُوقَا الَّذِي صَارَ بَعْدُ صَاحِبَ الْمَوْصِلِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا سَارُوا إِلَى طَرِيقِهِ، فَلَقُوهُ عِنْدَ نَهْرِ سَبْعِينَ قَرِيبًا مِنْ تَلِّ السُّلْطَانِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَلَبَ سِتَّةُ فَرَاسِخَ، وَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَخَامَرَ بَعْضُ الْعَسْكَرِ الَّذِينَ مَعَ آقْسَنْقَرَ، فَانْهَزَمُوا، وَتَبِعَهُمُ الْبَاقُونَ، فَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ، وَثَبَتَ آقْسَنْقَرُ، فَأُخِذَ أَسِيرًا، وَأُحْضِرَ عِنْدَ تُتُشْ، فَقَالَ لَهُ: لَوْ ظَفِرْتَ بِي مَا كُنْتَ صَنَعْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقْتُلُكَ! فَقَالَ لَهُ: أَنَا أَحْكُمُ عَلَيْكَ بِمَا كُنْتَ تَحْكُمُ عَلَيَّ، فَقَتَلَهُ صَبْرًا. وَسَارَ نَحْوَ حَلَبَ، وَكَانَ قَدْ دَخَلَ إِلَيْهَا كَرْبُوقَا، وَبُوزَانُ، فَحَفِظَاهَا مِنْهُ، وَحَصَرَهَا تُتُشْ وَلَجَّ فِي قِتَالِهَا حَتَّى مَلَكَهَا، (سَلَّمَهَا إِلَيْهِ الْمُقِيمُ بِقَلْعَةِ الشَّرِيفِ، وَمِنْهَا دَخَلَ الْبَلَدَ، وَأَخَذَهُمَا أَسِيرَيْنِ، وَأَرْسَلَ إِلَى حَرَّانَ وَالرُّهَا لِيُسَلِّمُوهُ مَنْ بِهِمَا - وَكَانَتَا لَبُوزَانَ - فَامْتَنَعُوا مِنَ التَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، فَقَتَلَ بُوزَانَ، وَأَرْسَلَ رَأْسَهُ إِلَيْهِمْ) وَتَسَلَّمَ الْبَلَدَيْنِ. وَأَمَّا كَرْبُوقَا فَإِنَّهُ أَرْسَلَهُ إِلَى حِمْصَ، فَسَجَنَهُ بِهَا إِلَى أَنْ أَخْرَجَهُ الْمَلِكُ رَضْوَانُ بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِ تُتُشْ. وَكَانَ قَسِيمُ الدَّوْلَةِ أَحْسَنَ الْأُمَرَاءِ سِيَاسَةً لِرَعِيَّتِهِ، وَحِفْظًا لَهُمْ، وَكَانَتْ بِلَادُهُ بَيْنَ رُخْصٍ عَامٍّ، وَعَدْلٍ شَامِلٍ، وَأَمْنٍ وَاسِعٍ، وَكَانَ قَدْ شَرَطَ عَلَى أَهْلِ كُلِّ قَرْيَةٍ مِنْ بِلَادِهِ، مَتَى أُخِذَ عِنْدَهُمْ قَفْلٌ، أَوْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، غَرِمَ أَهْلُهَا جَمِيعَ مَا يُؤْخَذُ مِنَ

الْأَمْوَالِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، فَكَانَتِ السَّيَّارَةُ، إِذَا بَلَغُوا قَرْيَةً مِنْ بِلَادِهِ، أَلْقَوْا رِحَالَهُمْ وَنَامُوا، وَحَرَسَهُمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ إِلَى أَنْ يَرْحَلُوا، فَأَمِنَتِ الطُّرُقُ. وَأَمَّا وَفَاؤُهُ، وَحُسْنُ عَهْدِهِ، فَيَكْفِيهِ فَخْرًا أَنَّهُ قُتِلَ فِي حِفْظِ بَيْتِ صَاحِبِهِ وَوَلِيِّ نِعْمَتِهِ. فَلَمَّا مَلَكَ تُتُشْ حَرَّانَ وَالرُّهَا سَارَ إِلَى الدِّيَارِ الْجَزَرِيَّةِ فَمَلَكَهَا جَمِيعَهَا، ثُمَّ مَلَكَ دِيَارَ بَكْرٍ وَخِلَاطٍ، وَسَارَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ فَمَلَكَ بِلَادَهَا كُلَّهَا، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى هَمَذَانَ فَمَلَكَهَا، وَرَأَى بِهَا فَخْرَ الْمُلْكِ بْنَ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَكَانَ بِخُرَاسَانَ، فَسَارَ مِنْهَا إِلَى السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ لِيَخْدِمَهُ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ الْأَمِيرُ قِمَاجُ، وَهُوَ مِنْ عَسْكَرِ مَحْمُودِ ابْنِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ بِأَصْبَهَانَ، فَنَهَبَ فَخْرَ الْمُلْكِ، فَهَرَبَ مِنْهُ وَنَجَا بِنَفْسِهِ، فَجَاءَ إِلَى هَمَذَانَ فَصَادَفَهُ تُتُشْ بِهَا، فَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَشَفَعَ فِيهِ يَاغِي سِيَانَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْزِرَهُ لِمَيْلِ النَّاسِ إِلَى بَيْتِهِ، فَاسْتَوْزَرَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَغْدَاذَ يَطْلُبُ الْخُطْبَةَ مِنَ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، وَكَانَ شِحْنَتُهُ بِبَغْدَاذَ أَيْتَكِينَ جَبَّ، فَلَازَمَ الْخِدْمَةَ بِالدِّيوَانِ، وَأَلَحَّ فِي طَلَبِهَا، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ سَمِعُوا أَنَّ بَرْكِيَارُقَ قَدِ انْهَزَمَ مِنْ عَسْكَرِ عَمِّهِ تُتُشْ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ انْهِزَامِ بَرْكِيَارُقَ مِنْ عَمِّهِ تُتُشْ وَمَلْكِهِ أَصْبَهَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، انْهَزَمَ بَرْكِيَارُقُ مِنْ عَسْكَرِ عَمِّهِ تُتُشْ. وَكَانَ بَرْكِيَارُقُ بِنَصِيبِينَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِمَسِيرِ عَمِّهِ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، سَارَ هُوَ مِنْ نَصِيبِينَ، وَعَبَرَ دِجْلَةَ مِنْ بَلَدٍ فَوْقَ الْمَوْصِلِ، وَسَارَ إِلَى إِرْبِلَ، وَمِنْهَا إِلَى بَلَدِ سُرْخَابَ بْنِ بَدْرٍ إِلَى أَنْ بَقِيَ

بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمِّهِ تِسْعَةُ فَرَاسِخَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُ أَلْفِ رَجُلٍ، وَكَانَ عَمُّهُ فِي خَمْسِينَ أَلْفَ رَجُلٍ، فَسَارَ الْأَمِيرُ يَعْقُوبُ بْنُ آبِقٍ مِنْ عَسْكَرِ عَمِّهِ، فَكَبَسَهُ، وَهَزَمَهُ، وَنَهَبَ سَوَادَهُ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا بَرْسَقُ، وَكَمُشْتِكِينُ الْجَانْدَارُ، وَالْيَارِقُ، وَهُمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ، فَسَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ. وَكَانَتْ خَاتُونُ أُمُّ أَخِيهِ مَحْمُودٍ قَدْ مَاتَتْ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، فَمَنَعَهُ مَنْ بِهَا مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهَا، ثُمَّ أَذِنُوا لَهُ خَدِيعَةً مِنْهُمْ لِيَقْبِضُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَارَبَهَا خَرَجَ أَخُوهُ الْمَلِكُ مَحْمُودٌ فَلَقِيَهُ، وَدَخْلَ الْبَلَدَ، وَاحْتَاطُوا عَلَيْهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ أَخَاهُ مَحْمُودًا حُمَّ وَجُدِرَ، فَأَرَادَ الْأُمَرَاءُ أَنْ يَكْحَلُوا بَرْكِيَارُقَ، فَقَالَ لَهُمْ أَمِينُ الدَّوْلَةِ بْنُ التِّلْمِيذِ الطَّبِيبُ: إِنَّ الْمَلِكَ مَحْمُودًا قَدْ جُدِرَ، وَمَا كَأَنَّهُ يَسْلَمُ مِنْهُ، وَأَرَاكُمْ تَكْرَهُونَ أَنْ يَلِيَكُمْ، وَيَمْلِكَ الْبِلَادَ تَاجُ الدَّوْلَةِ، فَلَا تَعْجَلُوا عَلَى بَرْكِيَارُقَ، فَإِنْ مَاتَ مَحْمُودٌ أَقِيمُوهُ مَلِكًا، وَإِنْ سَلِمَ مَحْمُودٌ فَأَنْتُمْ تَقْدِرُونَ عَلَى كَحْلِهِ. فَمَاتَ مَحْمُودٌ سَلْخَ شَوَّالٍ، فَكَانَ هَذَا مِنَ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، وَجَلَسَ بَرْكِيَارُقُ لِلْعَزَاءِ بِأَخِيهِ. وَكَانَ مَوْلِدُ مَحْمُودٍ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَصَدَهُ مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، فَاسْتَوْزَرَهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ أَخُوهُ عِزُّ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ قَدْ مَاتَ لَمَّا كَانَ مَعَ بَرْكِيَارُقَ بِالْمَوْصِلِ، وَحُمِلَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَدُفِنَ بِالنِّظَامِيَّةِ وَكَانَ أَصْبَحَ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا وَسِيرَةً، وَكَانَ قَدْ أَجْرَى النَّاسَ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ تَوْقِيعَاتِ أَبِيهِ فِي الْإِطْلَاقَاتِ مِنْ خَاصَّتِهِ، مِنْهَا بِبَغْدَاذَ مِائَتَا كُرِّ غَلَّةٍ، وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ أَمِيرِيٍّ. ثُمَّ إِنَّ بَرْكِيَارُقَ جُدِرَ، بَعْدَ أَخِيهِ، وَعُوفِيَ وَسَلِمَ، فَلَمَّا عُوفِيَ كَاتَبَ مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ وَزِيرُهُ الْأُمَرَاءَ الْعِرَاقِيِّينَ، وَالْخُرَاسَانِيِّينَ، وَاسْتَمَالَهُمْ، فَعَادُوا كُلُّهُمْ إِلَى بَرْكِيَارُقَ، فَعَظُمَ شَأْنُهُ وَكَثُرَ عَسْكَرُهُ.

ذِكْرُ وَفَاةِ أَمِيرِ الْجُيُوشِ بِمِصْرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، (فِي ذِي الْقَعْدَةِ) ، تُوُفِّيَ أَمِيرُ الْجُيُوشِ بَدْرٌ الْجَمَالِيُّ، صَاحِبُ الْجَيْشِ بِمِصْرَ، وَقَدْ جَاوَزَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَكَانَ هُوَ الْحَاكِمَ فِي دَوْلَةِ الْمُسْتَنْصِرِ، وَالْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ. وَكَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الشَّامِ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّعِيَّةِ وَالْجُنْدِ بِدِمَشْقَ مَا خَافَ [مِنْهُ] عَلَى نَفْسِهِ، فَخَرَجَ عَنْهَا هَارِبًا، وَجَمَعَ وَحَشَدَ، وَقَدِمَ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِأَسْرِهِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ خَالَفَهُ أَهْلُ دِمَشْقَ مَرَّةً أُخْرَى، فَهَرَبَ مِنْهُمْ سَنَةَ سِتِّينَ، وَخَرَّبَ الْعَامَّةُ وَالْجُنْدُ قَصْرَ الْإِمَارَةِ، ثُمَّ مَضَى أَمِيرُ الْجُيُوشِ إِلَى مِصْرَ، وَتَقَدَّمَ بِهَا، وَصَارَ صَاحِبَ الْأَمْرِ. قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ (عَبْدِ الرَّزَّاقِ) الْعُلَيْمِيُّ: قَصَدْتُ بَدْرًا الْجَمَالِيَّ بِمِصْرَ، فَرَأَيْتُ أَشْرَافَ النَّاسِ، وَكُبَرَاءَهُمْ، وَشُعَرَاءَهُمْ عَلَى بَابِهِ، قَدْ طَالَ مَقَامُهُمْ، وَلَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ، قَالَ: فَبَيَّنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ بَدْرٌ يُرِيدُ الصَّيْدَ، فَخَرَجَ عَلْقَمَةُ فِي أَثَرِهِ، وَأَقَامَ إِلَى أَنْ رَجَعَ مِنْ صَيْدِهِ، فَلَمَّا قَارَبَهُ وَقَفَ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَأَوْمَأَ بِرُقْعَةٍ فِي يَدِهِ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ: نَحْنُ التِّجَارُ وَهَذِهِ أَعْلَاقُنَا ... دُرٌّ وَجَوْدُ يَمِينِكَ الْمُبْتَاعُ قَلِّبْ وَفَتِّشْهَا بِسَمْعِكَ إِنَّمَا ... هِيَ جَوْهَرٌ تَخْتَارُهُ الْأَسْمَاعُ كَسَدَتْ عَلَيْنَا بِالشَّآمِ وَكُلَّمَا ... قَلَّ النَّفَاقُ تَعَطَّلَ الصُّنَّاعُ فَأَتَاكَ يَحْمِلُهَا إِلَيْكَ تِجَارُهَا ... وَمَطِيُّهَا الْآمَالُ وَالْأَطْمَاعُ حَتَّى أَنَاخُوهَا بِبَابِكَ وَالرَّجَا ... مِنْ دُونِكَ السِّمْسَارُ وَالْبَيَّاعُ فَوَهَبْتَ مَا لَمْ يُعْطِهِ فِي دَهْرِهِ ... هِرَمٌ وَلَا كَعْبٌ وَلَا الْقَعْقَاعُ وَسَبَقْتَ هَذَا النَّاسَ فِي طَلَبِ الْعُلَى ... فَالنَّاسُ بَعْدَكَ كُلُّهُمْ أَتْبَاعُ يَا بَدْرُ أَقْسِمُ لَوْ بِكَ اعْتَصَمَ الْوَرَى ... وَلَجُوا إِلَيْكَ جَمِيعُهُمْ مَا ضَاعُوا

وَكَانَ عَلَى يَدِ بَدْرٍ بَازِيٌّ فَأَلْقَاهُ وَانْفَرَدَ عَنِ الْجَيْشِ، وَجَعَلَ يَسْتَرِدُّ الْأَبْيَاتَ وَهُوَ يُنْشِدُهَا إِلَى أَنِ اسْتَقَرَّ فِي مَجْلِسِهِ، ثُمَّ قَالَ لِجَمَاعَةِ غِلْمَانِهِ وَخَاصَّتِهِ: مَنْ أَحَبَّنِي فَلْيَخْلَعْ عَلَى هَذَا الشَّاعِرِ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَمَعَهُ سَبْعُونَ بَغْلًا، يَحْمِلُ الْخِلَعَ وَالتُّحَفَ، وَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَفَرَّقَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى الشُّعَرَاءِ، وَلَمَّا مَاتَ بَدْرٌ قَامَ بِمَا كَانَ إِلَيْهِ ابْنُهُ الْأَفْضَلُ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُسْتَنْصِرِ، وَوِلَايَةِ ابْنِهِ الْمُسْتَعْلِي فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ أَبُو تَمِيمٍ مَعَدُّ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ مِصْرَ وَالشَّامِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سِتِّينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ سَبْعًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَهُوَ الَّذِي خَطَبَ لَهُ الْبَسَاسِيرِيُّ بِبَغْدَاذَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ. وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَاحِ، رَئِيسَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، قَدْ قَصَدَهُ فِي زِيِّ تَاجِرٍ، وَاجْتَمَعَ بِهِ، وَخَاطَبَهُ فِي إِقَامَةِ الدَّعْوَةِ لَهُ بِبِلَادِ الْعَجَمِ، فَعَادَ وَدَعَا النَّاسَ إِلَيْهِ سِرًّا، ثُمَّ أَظْهَرَهَا، وَمَلَكَ الْقِلَاعَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَالَ لِلْمُسْتَنْصِرِ: مَنْ إِمَامِي بَعْدَكَ؟ فَقَالَ: ابْنِي نِزَارٌ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا يَقُولُونَ بِإِمَامَةِ نِزَارٍ. وَلَقِيَ الْمُسْتَنْصِرُ شَدَائِدَ وَأَهْوَالًا، وَانْفَتَقَتْ عَلَيْهِ الْفُتُوقُ بِدِيَارِ مِصْرَ، أَخْرَجَ فِيهَا أَمْوَالَهُ وَذَخَائِرَهُ إِلَى أَنْ بَقِيَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ سَجَّادَتِهِ الَّتِي يَجْلِسُ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَعَ هَذَا صَابِرٌ غَيْرُ خَاشِعٍ، وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْرِ هَذَا سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَغَيْرِهَا. وَلَمَّا مَاتَ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْقَاسِمِ أَحْمَدُ الْمُسْتَعْلِي بِاللَّهِ، وَمَوْلِدُهُ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ قَدْ عَهِدَ فِي حَيَاتِهِ بِالْخِلَافَةِ لِابْنِهِ نِزَارٍ، فَخَلَعَهُ الْأَفْضَلُ وَبَايَعَ الْمُسْتَعْلِي بِاللَّهِ. وَسَبَبُ خَلْعِهِ أَنَّ الْأَفْضَلَ رَكِبَ مَرَّةً، أَيَّامَ الْمُسْتَنْصِرِ، وَدَخَلَ دِهْلِيزَ الْقَصْرِ مِنْ

بَابِ الذَّهَبِ رَاكِبًا، وَنِزَارٌ خَارِجٌ، وَالْمَجَازُ مُظْلِمٌ، فَلَمْ يَرَهُ الْأَفْضَلُ، فَصَاحَ بِهِ نِزَارٌ: انْزِلْ، يَا أَرْمَنِيُّ، كَلْبٌ، عَنِ الْفَرَسِ، مَا أَقَلَّ أَدَبَكَ فَحَقَدَهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا مَاتَ الْمُسْتَنْصِرُ خَلَعَهُ خَوْفًا مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَبَايَعَ الْمُسْتَعْلِيَ، فَهَرَبَ نِزَارٌ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَبِهَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَفْتَكِينُ، فَبَايَعَهُ أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَسَمَّوْهُ الْمُصْطَفَى لِدِينِ اللَّهِ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَلَعَنَ الْأَفْضَلَ، وَأَعَانَهُ أَيْضًا الْقَاضِي جَلَالُ الدَّوْلَةِ بْنُ عَمَّارٍ، قَاضِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْأَفْضَلُ، وَحَاصَرَهُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَعَادَ عَنْهُ مَقْهُورًا، ثُمَّ ازْدَادَ عَسْكَرًا، وَسَارَ إِلَيْهِ فَحَصَرَهُ وَأَخَذَهُ، وَأَخَذَ أَفْتَكِينَ فَقَتَلَهُ، وَتَسَلَّمَ الْمُسْتَعْلِي نِزَارًا فَبَنَى عَلَيْهِ حَائِطًا فَمَاتَ، وَقَتَلَ الْقَاضِي جَلَالَ الدَّوْلَةِ بْنَ عَمَّارٍ وَمَنْ أَعَانَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، رَأَى بَعْضُ الْيَهُودِ بِالْغَرْبِ رُؤْيَا أَنَّهُمْ سَيَطِيرُونَ، فَأَخْبَرَ الْيَهُودَ بِذَلِكَ، فَوَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ وَذَخَائِرَهُمْ، وَجَعَلُوا يَنْتَظِرُونَ الطَّيَرَانَ، فَلَمْ يَطِيرُوا، وَصَارُوا ضُحَكَةً بَيْنَ الْأُمَمِ. وَفِي هَذِهِ الشَّهْرِ كَانَتْ بِالشَّامِ زَلَازِلُ كَثِيرَةٌ مُتَتَابِعَةٌ يَطُولُ مُكْثُهَا، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْهَدْمُ كَثِيرًا.

وَفِيهَا كَانَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ أَهْلِ نَهْرِ طَابَقٍ وَأَهْلِ بَابِ الْأَرْجَا، فَاحْتَرَقَتْ نَهْرُ طَابَقٍ، وَصَارَتْ تُلُولًا، فَلَمَّا احْتَرَقَتْ عَبَرَ يُمْنٌ، صَاحِبُ الشُّرْطَةِ، فَقَتَلَ رَجُلًا مَسْتُورًا، فَنَفَرَ النَّاسُ مِنْهُ، وَعُزِلَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَاشِمٍ الْحُسَيْنِيُّ، أَمِيرُ مَكَّةَ، وَقَدْ جَاوَزَ سَبْعِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُمْدَحُ بِهِ، وَكَانَ قَدْ نَهَبَ بَعْضَ الْحُجَّاجِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، قَتَلَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ عَمَّهُ تُكُشْ وَغَرَّقَهُ، وَقَتَلَ وَلَدَهُ مَعَهُ، وَكَانَ مَلِكْشَاهْ قَدْ أَخَذَهُ، لَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِ، وَكَحَلَهُ، وَحَبَسَهُ بِقَلْعَةِ تِكْرِيتَ، فَلَمَّا مَلَكَ بَرْكِيَارُقُ أَحْضَرَهُ إِلَيْهِ بِبَغْدَاذَ، وَسَارَ بِمَسِيرِهِ، فَظَفِرَ بِمُلَطِّفَاتٍ إِلَيْهِ مِنْ أَخِيهِ تُتُشْ يَحُثُّهُ عَلَى اللَّحَاقِ بِهِ، وَقِيلَ إِنَّهُ أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى بَلْخٍ لِأَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا يُرِيدُونَهُ، فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا غَرِقَ بَقِيَ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، فَحُمِلَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ الْأَمِيرِ أُنِرْ وَتُورَانْشَاهْ، ابْنِ قَاوَرْتِ بِكْ، وَكَانَتْ تُرْكَانُ خَاتُونَ الْجَلَالِيَّةُ، وَالِدَةُ مَحْمُودِ بْنِ مَلِكْشَاهْ، قَدْ أَرْسَلَتْهُ فِي عَسْكَرٍ لِيَأْخُذَ بِلَادَ فَارِسٍ مِنْ تُورَانْشَاهْ، وَلَمْ يُحْسِنِ الْأَمِيرُ أُنِرْ تَدْبِيرَ بِلَادِ فَارِسَ، فَاسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْأَجْنَادُ، وَاجْتَمَعُوا مَعَ تُورَانْشَاهْ، وَهَزَمُوا أُنِرْ، وَمَاتَ تُورَانْشَاهْ، بَعْدَ الْكَسْرَةِ (بِشَهْرٍ مِنْ سَهْمٍ) أَصَابَهُ فِيهَا. وَفِيهَا اسْتَوْلَى أَصْبَهْبَذُ بْنُ سَاوَتِكِينَ عَلَى مَكَّةَ، حَرَسَهَا اللَّهُ، عَنْوَةً، وَهَرَبَ مِنْهَا الْأَمِيرُ قَاسِمُ بْنُ أَبِي هَاشِمٍ الْعَلَوِيُّ صَاحِبُهَا، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى شَوَّالٍ، وَجَمَعَ الْأَمِيرَ قَاسِمَ،

وَكَبَسَهُ بِعَسَفَانَ، وَجَرَى بَيْنَهُمَا حَرْبٌ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَانْهَزَمَ أَصْبَهْبَذُ، وَدَخَلَ قَاسِمٌ إِلَى مَكَّةَ، وَمَضَى أَصْبَهْبَذُ إِلَى الشَّامِ، وَقَدِمَ إِلَى بَغْدَاذَ. وَفِيهَا فِي رَجَبٍ، أَحْرَقَ شِحْنَةَ بَغْدَاذَ، وَهُوَ أَيْتَكِينُ، جَبَّ بَابَ الْبَصْرَةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ النَّقِيبَ طَرَّادًا الزَّيْنَبِيَّ كَانَ لَهُ كَاتِبٌ يُعْرَفُ بِابْنِ سِنَانٍ، فَقُتِلَ، فَأَنْفَذَ النَّقِيبُ إِلَى الشِّحْنَةِ يَسْتَدْعِي مِنْهُ مَنْ يُقِيمُ السِّيَاسَةَ، فَأَنْفَذَ حَاجِبَهُ مُحَمَّدًا، فَرَجَمَهُ أَهْلُ بَابِ الْبَصْرَةِ، وَأَدْمَوْهُ، فَرَجَعَ إِلَى صَاحِبِهِ فَشَكَا إِلَيْهِ مِنْهُمْ، فَأَمَرَ أَخَاهُ بِقَصْدِهِمْ، وَمُعَاقَبَتِهِمْ عَلَى فِعْلِهِمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ، وَتَبِعَهُمْ أَهْلُ الْكَرْخِ، فَأَحْرَقُوا وَنَهَبُوا، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الشِّحْنَةِ يَأْمُرُهُ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ فَكَفَّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي رَمَضَانَ، تُوُفِّيَتْ تُرْكَانُ خَاتُونَ الْجَلَالِيَّةُ بِأَصْبَهَانَ، وَهِيَ ابْنَةُ طَفْغَاجْ خَانْ، وَهُوَ مِنْ نَسْلِ إِفْرَاسِيَابَ التُّرْكِيِّ، وَكَانَتْ قَدْ بَرَزَتْ مِنْ أَصْبَهَانَ لِتَسِيرَ إِلَى تَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشْ لِتَتَّصِلَ بِهِ، فَمَرِضَتْ وَعَادَتْ وَمَاتَتْ، وَأَوْصَتْ إِلَى الْأَمِيرِ أُنَرْ وَإِلَى الْأَمِيرِ سَرْمَزَ شِحْنَةَ أَصْبَهَانَ بِحِفْظِ الْمَمْلَكَةِ عَلَى ابْنِهَا مَحْمُودٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ بِيَدِهَا سِوَى قَصَبَةِ أَصْبَهَانَ، وَمَعَهَا عَشَرَةُ آلَافِ فَارِسٍ أَتْرَاكٍ. وَفِيهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ بْنِ الْمُوصِلَايَا، كَاتِبُ دِيوَانِ الزِّمَامِ بِبَغْدَاذَ.

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 488 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ دُخُولِ جَمْعٍ مِنَ التُّرْكِ إِفْرِيقِيَّةَ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَدَرَ شَاهْمُلْكِ التُّرْكِيُّ بِيَحْيَى بْنِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، وَقَبَضَ عَلَيْهِ. وَكَانَ شَاهْمُلْكِ هَذَا مِنْ أَوْلَادِ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ الْأَتْرَاكِ بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ، فَنَالَهُ فِي بَلَدِهِ أَمْرٌ اقْتَضَى خُرُوجَهُ مِنْهُ، فَسَارَ إِلَى مِصْرَ فِي مِائَةِ فَارِسٍ، فَأَكْرَمَهُ الْأَفْضَلُ أَمِيرُ الْجُيُوشِ، وَأَعْطَاهُ إِقْطَاعًا وَمَالًا، ثُمَّ بَلَغَهُ عَنْهُ أَسْبَابٌ أَوْجَبَتْ إِخْرَاجَهُ مِنْ مِصْرَ، فَخَرَجَ هُوَ، وَأَصْحَابُهُ هَارِبِينَ، فَاحْتَالُوا حَتَّى أَخَذُوا سِلَاحًا، وَخَيْلًا، وَتَوَجَّهُوا إِلَى الْمَغْرِبِ، فَوَصَلُوا إِلَى طَرَابُلُسَ الْغَرْبَ، وَأَهْلُ الْبَلَدِ كَارِهُونَ لِوَالِيهَا، فَأَدْخَلُوهُمُ الْبَلَدَ، وَأَخْرَجُوا الْوَالِيَ، وَصَارَ شَاهْمُلْكِ أَمِيرَ الْبَلَدِ. فَسَمِعَ تَمِيمٌ الْخَبَرَ، فَأَرْسَلَ الْعَسَاكِرَ إِلَيْهَا، فَحَصَرُوهَا، وَضَيَّقُوا عَلَى التُّرْكِ فَفَتَحُوهَا، وَوَصَلَ شَاهْمُلْكِ مَعَهُمْ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، فَسُّرَ بِهِ تَمِيمٌ وَبِمَنْ مَعَهُ، وَقَالَ: وُلِدَ لِي مِائَةُ وَلَدٍ أَنْتَفِعُ بِهِمْ، وَكَانُوا لَا يُخْطِئُ لَهُمْ سَهْمٌ. فَلَمْ تَطُلِ الْأَيَّامُ حَتَّى جَرَى مِنْهُمْ أَمْرٌ غَيَّرَ تَمِيمًا عَلَيْهِمْ، فَعَلِمَ شَاهْمُلْكِ ذَلِكَ، وَكَانَ دَاهِيًا، خَبِيثًا، فَخَرَجَ يَحْيَى بْنُ تَمِيمٍ إِلَى الصَّيْدِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ نَحْوَ مِائَةِ فَارِسٍ، وَمَعَهُ شَاهْمُلْكِ، وَكَانَ أَبُوهُ تَمِيمٌ قَدْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَنْ لَا يَقْرَبَ شَاهْمُلْكِ، فَلَمْ يَقْبَلْ. فَلَمَّا أَبْعَدُوا فِي طَلَبِ الصَّيْدِ غَدَرَ بِهِ شَاهْمُلْكِ فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَسَارَ بِهِ، وَبِمَنْ أُخِذَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى مَدِينَةِ سَفَاقُسَ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ تَمِيمًا، فَرَكِبَ، وَسَيَّرَ الْعَسَاكِرَ فِي أَثَرِهِمْ، فَلَمْ يُدْرِكُوهُمْ، وَوَصَلَ

شَاهْمُلْكِ بِيَحْيَى بْنِ تَمِيمٍ إِلَى سَفَاقُسَ، فَرَكِبَ صَاحِبُهَا، وَاسْمُهُ حُمُّو، وَكَانَ قَدْ خَالَفَ عَلَى تَمِيمٍ، وَلَقِيَ يَحْيَى، وَمَشَى فِي رِكَابِهِ رَاجِلًا، وَقَبَّلَ يَدَهُ، وَعَظَّمَهُ، وَاعْتَرَفَ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ أَيَّامًا، وَلَمْ يَذْكُرُهُ أَبُوهُ بِكَلِمَةٍ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ، فَلَمَّا أُخِذَ أَقَامَ أَبُوهُ مَقَامَهُ ابْنًا لَهُ آخَرَ اسْمُهُ الْمُثَنَّى. ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ سَفَاقُسَ خَافَ يَحْيَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَثُورَ مَعَهُ الْجُنْدُ، وَأَهْلُ الْبَلَدِ، وَيُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى تَمِيمٍ كِتَابًا يَسْأَلُهُ فِي إِنْفَاذِ الْأَتْرَاكِ، وَأَوْلَادِهِمْ إِلَيْهِ لِيُرْسِلَ ابْنَهُ يَحْيَى، فَفَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ امْتِنَاعٍ، وَقَدِمَ يَحْيَى، فَحَجَبَهُ أَبُوهُ عَنْهُ مُدَّةً، ثُمَّ أَعَادَهُ إِلَى حَالِهِ، وَرَضِيَ عَنْهُ، ثُمَّ جَهَّزَ تَمِيمٌ عَسْكَرًا إِلَى سَفَاقُسَ، وَيَحْيَى مَعَهُمْ، فَسَارُوا إِلَيْهَا، وَحَصَرُوهَا، بَرًّا وَبَحْرًا، وَضَيَّقُوا عَلَى الْأَتْرَاكِ بِهَا، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا شَهْرَيْنِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، (وَفَارَقَهَا الْأَتْرَاكُ إِلَى قَابِسَ) . وَكَانَ تَمِيمٌ لَمَّا رَضِيَ عَنِ ابْنِهِ يَحْيَى عَظُمَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِهِ الْآخَرِ الْمُثَنَّى، وَدَاخَلَهُ الْحَسَدُ، فَلَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ، فَنَقَلَ عَنْهُ إِلَى أَبِيهِ مَا غَيَّرَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَهْدِيَّةِ بِأَهْلِهِ، وَأَصْحَابِهِ، فَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ وَمَضَى إِلَى سَفَاقُسَ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُ عَامِلُهُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهَا، وَقَصَدَ مَدِينَةَ قَابِسَ، وَبِهَا أَمِيرٌ يُقَالُ لَهُ مَكِينُ بْنُ كَامِلٍ الدِّهْسَمَانِيُّ، فَأَنْزَلَهُ، وَأَكْرَمَهُ، فَحَسَّنَ لَهُ الْمُثَنَّى الْخُرُوجَ مَعَهُ إِلَى سَفَاقُسَ، وَالْمَهْدِيَّةِ، وَأَطْمَعَهُ فِيهِمَا، وَضَمِنَ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْجُنْدِ مِنْ مَالِهِ، فَجَمَعَ مَكِينٌ مَنْ يُمْكِنُهُ جَمْعُهُ، وَسَارَ إِلَى سَفَاقُسَ، وَمَعَهُمَا شَاهْمُلْكِ التُّرْكِيُّ وَأَصْحَابُهُ، فَنَزَلُوا عَلَى سَفَاقُسَ وَقَاتَلُوهَا. وَسَمِعَ تَمِيمٌ، فَجَرَّدَ إِلَيْهَا جُنْدًا، فَلَمَّا عَلِمَ الْمُثَنَّى وَمَنْ مَعَهُ أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهَا سَارُوا عَنْهَا إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، فَنَزَلُوا عَلَيْهَا، وَقَاتَلُوهَا، وَكَانَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْقِتَالَ فِي الْمَهْدِيَّةِ يَحْيَى بْنُ تَمِيمٍ، وَظَهَرَتْ مِنْهُ شَهَامَةٌ، وَشَجَاعَةٌ، وَحَزْمٌ، وَحُسْنُ تَدْبِيرٍ، فَلَمْ يَبْلُغْ أُولَئِكَ مِنْهَا غَرَضًا، فَعَادُوا خَائِبِينَ، وَقَدْ تَلَفَ مَا كَانَ مَعَ الْمُثَنَّى مِنْ مَالٍ، وَغَيْرِهِ، وَعَظُمَ أَمْرُ يَحْيَى، وَصَارَ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ.

ذِكْرُ قَتْلِ أَحْمَدَ خَانْ صَاحِبِ سَمَرْقَنْدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، قُتِلَ أَحْمَدُ خَانْ، صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ، وَكَانَ قَدْ كَرِهَهُ عَسْكَرُهُ وَاتَّهَمُوهُ بِفَسَادِ الِاعْتِقَادِ، وَقَالُوا: هُوَ زِنْدِيقٌ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ مَلِكْشَاهْ، لَمَّا فَتَحَ سَمَرْقَنْدَ وَأَسَرَ أَحْمَدَ خَانْ هَذَا، قَدْ وَكَّلَ بِهِ جَمَاعَةً مِنَ الدَّيْلَمِ، فَحَسَّنُوا لَهُ مُعْتَقَدَهُمْ، وَأَخْرَجُوهُ إِلَى الْإِبَاحَةِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ كَانَ يَظْهَرُ مِنْهُ أَشْيَاءُ تَدُلُّ عَلَى انْحِلَالِهِ مِنَ الدِّينِ، فَلَمَّا كَرِهَهُ أَصْحَابُهُ، وَعَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ، قَالُوا لِمُسْتَحْفِظِ قَلْعَةِ كَاسَانَ، وَهُوَ طُغْرُلُ يَنَالْ بِكْ، لِيُظْهِرَ الْعِصْيَانَ لِيَسِيرَ أَحْمَدُ خَانْ مَعَهُمْ مِنْ سَمَرْقَنْدَ إِلَى قِتَالِهِ، فَيَتَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِهِ، فَعَصَى طُغْرُلُ يَنَالْ بِكْ، فَسَارَ أَحْمَدُ خَانْ وَالْعَسْكَرُ إِلَى قِتَالِهِ، فَلَمَّا نَازَلَ الْقَلْعَةَ تَمَكَّنَ الْعَسْكَرُ مِنْهُ، وَقَبَضُوا عَلَيْهِ، وَعَادُوا إِلَى سَمَرْقَنْدَ، وَأَحْضَرُوا الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ، وَأَقَامُوا خُصُومًا ادَّعَوْا عَلَيْهِ الزَّنْدَقَةَ، فَجَحَدَ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ بِذَلِكَ، فَأَفْتَى الْفُقَهَاءُ بِقَتْلِهِ، فَخَنَقُوهُ، وَأَجْلَسُوا ابْنَ عَمِّهِ مَسْعُودًا مَكَانَهُ وَأَطَاعُوهُ. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ بْنُ آبِقٍ بِبَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرَ، سَيَّرَ الْمَلِكُ تُتُشْ يُوسُفَ بْنَ آبِقٍ التُّرْكُمَانِيَّ شِحْنَةً لِبَغْدَاذَ، وَمَعَهُ جَمْعٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ، فَمُنِعَ مِنْ دُخُولِ بَغْدَاذَ، وَوَرَدَ إِلَيْهِ صَدَقَةُ بْنُ مَزْيَدٍ صَاحِبُ الْحِلَّةِ، وَكَانَ يَكْرَهُ تُتُشْ، وَلَمْ يَخْطُبْ لَهُ فِي بِلَادِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ آبِقٍ بِوُصُولِهِ عَادَ إِلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ وَنَهَبَ بَاجِسْرَا، وَقَاتَلَهُ الْعَسْكَرُ بِبَعْقُوبَا، فَهَزَمَهُمْ وَنَهَبَهُمْ أَفْحَشَ نَهْبٍ وَأَكْثَرَ مَعَهُ مِنَ التُّرْكُمَانِ وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ.

وَكَانَ صَدَقَةُ قَدْ رَجَعَ إِلَى الْحِلَّةِ، فَدَخَلَ يُوسُفُ بْنُ آبِقٍ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَرَادَ نَهْبَهَا وَالْإِيقَاعَ بِأَهْلِهَا، فَمَنَعَهُ أَمِيرٌ كَانَ مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ وَصَلَ إِلَيْهِ الْخَبَرُ بِقَتْلِ تُتُشْ، فَرَحَلَ عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَسَارَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى حَلَبَ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ بَرْكِيَارُقَ، وَتُتُشْ، وَقَتْلِ تُتُشْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرَ، قُتِلَ تُتُشْ بْنُ أَلْب أَرْسِلَانَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا هُزِمَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، سَارَ مِنْ مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ إِلَى هَمَذَانَ، وَقَدْ تَحَصَّنَ بِهَا أَمِيرٌ آخَرُ، فَرَحَلَ تُتُشْ عَنْهَا، فَتَبِعَهُ أَمِيرٌ آخَرُ لِأَجْلِ أَثْقَالِهِ، فَعَادَ عَلَيْهِ تُتُشْ فَكَسَرَهُ، فَعَادَ إِلَى هَمَذَانَ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ، وَصَارَ مَعَهُ. وَبَلَغَ تُتُشْ مَرَضَ بَرْكِيَارُقَ، فَسَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَاسْتَأْذَنَهُ أَمِيرٌ آخَرُ فِي قَصْدِ جِرْبَاذَقَانَ لِإِقَامَةِ الضِّيَافَةِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَسَارَ إِلَيْهَا، وَمِنْهَا إِلَى أَصْبَهَانَ، وَعَرَّفَهُمْ خَبَرَ تُتُشْ. وَعَلِمَ تُتُشْ خَبَرَهُ، فَنَهَبَ جِرْبَاذَقَانَ، وَسَارَ إِلَى الرَّيِّ، وَرَاسَلَ الْأُمَرَاءَ الَّذِينَ بِأَصْبَهَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَبْذُلُ لَهُمُ الْبَذُولَ الْكَثِيرَةَ، وَكَانَ بَرْكِيَارُقُ مَرِيضًا بِالْجُدَرِيِّ، فَأَجَابُوهُ يَعِدُونَهُ بِالِانْحِيَازِ إِلَيْهِ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ مَا يَكُونُ مِنْ بَرْكِيَارُقَ، فَلَمَّا عُوفِيَ أَرْسَلُوا إِلَى تُتُشْ: لَيْسَ بَيْنَنَا غَيْرُ السَّيْفِ، وَسَارُوا مَعَ بَرْكِيَارُقَ مِنْ أَصْبَهَانَ، وَهُمْ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَلَمَّا بَلَغُوا جِرْبَاذَقَانَ أَقْبَلَتْ إِلَيْهِمُ الْعَسَاكِرُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، حَتَّى صَارُوا فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَالْتَقَوْا بِمَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنَ الرَّيِّ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ تُتُشْ، وَثَبَتَ هُوَ، فَقُتِلَ، قِيلَ قَتَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ آقْسَنْقَرَ، صَاحِبِ حَلَبَ، أَخْذًا بِثَأْرِ صَاحِبِهِ. وَكَانَ قَدْ قُبِضَ عَلَى فَخْرِ الْمُلْكِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَهُوَ مَعَهُ، فَأُطْلِقَ، وَاسْتَقَامَ الْأَمْرُ وَالسَّلْطَنَةُ لِبَرْكِيَارُقَ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ، بِالْأَمْسِ يَنْهَزِمُ مِنْ عَمِّهِ تُتُشْ، وَيَصِلُ إِلَى أَصْبَهَانَ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَلَا يَتْبَعُهُ أَحَدٌ، وَلَوْ تَبِعَهُ عِشْرُونَ فَارِسًا لَأَخَذُوهُ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى بَابِ أَصْبَهَانَ عِدَّةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ لَمَّا دَخَلَهَا أَرَادَ الْأُمَرَاءُ كَلْحَهُ، فَاتَّفَقَ أَنَّ أَخَاهُ حُمَّ ثَانِيَ يَوْمِ وُصُولِهِ، وَجُدِرَ، فَمَاتَ، فَقَامَ فِي الْمُلْكِ مَقَامَهُ، ثُمَّ جُدِرَ هُوَ، وَأَصَابَهُ مَعَهُ

سِرْسَامٌ، فَعُوفِيَ، وَبَقِيَ مُذْ كَسَرَهُ عَمُّهُ إِلَى أَنْ عُوفِيَ وَسَارَ عَنْ أَصْبَهَانَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَمْ يَتَحَرَّكْ عَمُّهُ، وَلَا عَمِلَ شَيْئًا، وَلَوْ قَصَدَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ وَقْتَ مَرَضِ أَخِيهِ لَمَلَكَ الْبِلَادَ: وَلِلَّهِ سِرٌّ فِي عُلَاكَ وَإِنَّمَا ... كَلَامُ الْعِدَا ضَرْبٌ مِنَ الْهَذَيَانِ ذِكْرُ حَالِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ وَأَخِيهِ دُقَاقٍ بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِمَا كَانَ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشْ قَدْ أَوْصَى أَصْحَابَهُ بِطَاعَةِ ابْنِهِ الْمَلِكِ رِضْوَانٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ مِنْ بَلَدِ الْجَبَلِ، قَبْلَ الْمَصَافِّ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَيُقِيمَ بِدَارِ الْمَمْلَكَةِ، فَسَارَ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْهُمْ: إِيلَغَازِي بْنُ أَرْتِقَ، وَكَانَ قَدْ سَارَ إِلَى تُتُشْ، فَتَرَكَهُ عِنْدَ ابْنِهِ رِضْوَانٍ، وَمِنْهُمُ: الْأَمِيرُ وَثَّابُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ، وَغَيْرُهُمَا، فَلَمَّا قَارَبَ هَيْتَ بَلَغَهُ قَتْلُ أَبِيهِ، فَعَادَ إِلَى حَلَبَ، وَمَعَهُ وَالِدَتُهُ، فَمَلَكَهَا، وَكَانَ بِهَا أَبُو الْقَاسِمِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَوَارِزْمِيُّ، قَدْ سَلَّمَهَا إِلَيْهِ تُتُشْ وَحَكَّمَهُ فِي الْبَلَدِ وَالْقَلْعَةِ. وَلَحِقَ بِرِضْوَانَ - زَوْجُ أُمِّهِ جَنَاحُ الدَّوْلَةِ الْحُسَيْنُ بْنُ أَيْتَكِينَ، وَكَانَ مَعَ تُتُشْ، فَسَلِمَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ، وَكَانَ مَعَ رِضْوَانَ أَيْضًا أَخَوَاهُ الصَّغِيرَانِ: أَبُو طَالِبٍ وَبِهْرَامُ، وَكَانُوا كُلُّهُمْ مَعَ أَبِي الْقَاسِمِ كَالْأَضْيَافِ لِتَحَكُّمِهِ فِي الْبَلَدِ، وَاسْتَمَالَ جَنَاحُ الدَّوْلَةِ الْمَغَارِبَةَ، وَكَانُوا أَكْثَرَ جُنْدِ الْقَلْعَةِ، فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ نَادَوْا بِشِعَارِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ، وَاحْتَاطُوا عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رِضْوَانٌ يُطَيِّبُ قَلْبَهُ، فَاعْتَذَرَ، فَقَبِلَ عُذْرَهُ، وَخُطِبَ لِرِضْوَانٍ عَلَى مَنَابِرِ حَلَبَ وَأَعْمَاِلِهَا، وَلَمْ يَكُنْ يُخْطَبُ لَهُ بَلْ كَانَتِ الْخُطْبَةُ لِأَبِيهِ، بَعْدَ قَتْلِهِ، نَحْوَ شَهْرَيْنِ. وَسَارَ جَنَاحُ الدَّوْلَةِ فِي تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ سِيرَةً حَسَنَةً، وَخَالَفَ عَلَيْهِمُ الْأَمِيرَ يَاغِي

سِيَّانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَلْبَ التُّرْكُمَانِيَّ، صَاحِبَ أَنْطَاكِيَّةَ، ثُمَّ صَالَحَهُمْ، وَأَشَارَ عَلَى الْمَلِكِ رِضْوَانٍ بِقَصْدِ دِيَارِ بَكْرٍ، لِخُلُوِّهَا مِنْ وَالٍ يَحْفَظُهَا، فَسَارُوا جَمِيعًا، وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ أُمَرَاءُ الْأَطْرَافِ الَّذِينَ كَانَ تُتُشْ رَتَّبَهُمْ فِيهَا، وَقَصَدُوا سَرُوجَ فَسَبَقَهُمْ إِلَيْهَا الْأَمِيرُ سُقْمَانُ بْنُ أُرْتُقَ جَدُّ أَصْحَابِ الْحِصْنِ الْيَوْمَ، وَأَخَذَهَا، وَمَنَعَهُمْ عَنْهَا، وَأَمَرَ أَهْلَ الْبَلَدِ فَخَرَجُوا إِلَى رِضْوَانَ، وَتَظَلَّمُوا إِلَيْهِ مِنْ عَسَاكِرِهِ، وَمَا يُفْسِدُونَ مِنْ غَلَّاتِهِمْ، وَيَسْأَلُونَهُ الرَّحِيلَ، فَرَحَلَ عَنْهُمْ إِلَى الرُّهَا. وَكَانَ بِهَا رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ يُقَالُ لَهُ الْفَارَقْلِيطُ، وَكَانَ يَضْمَنُ الْبَلَدَ مِنْ بُوزَانَ، فَقَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْ مَعَهُ، وَاحْتَمَى بِالْقَلْعَةِ، وَشَاهَدُوا مِنْ شَجَاعَتِهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَظُنُّونَهُ، ثُمَّ مَلَكَهَا رِضْوَانُ، وَطَلَبَ يَاغِي سِيَانَ الْقَلْعَةَ مِنْ رُضْوَانَ، فَوَهَبَهَا لَهُ، فَتَسَلَّمَهَا وَحَصَّنَهَا، وَرَتَّبَ رِجَالَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ حَرَّانَ يَطْلُبُونَهُمْ لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ حَرَّانَ، فَسَمِعَ ذَلِكَ قَرَاجَةُ أَمِيرُهَا، فَاتَّهَمَ ابْنَ الْمُفْتِي، وَكَانَ ابْنُ الْمُفْتِي هَذَا قَدِ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ تُتُشْ فِي حِفْظِ الْبَلَدِ، فَأَخَذَهُ، وَأَخَذَ مَعَهُ بَنِي أَخِيهِ، فَصَلَبَهُمْ. وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى رِضْوَانَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ جَنَاحُ الدَّوْلَةِ، وَيَاغِي سِيَانَ، وَأَضْمَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْغَدْرَ بِصَاحِبِهِ، فَهَرَبَ جَنَاحُ الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ، فَدَخَلَهَا، وَاجْتَمَعَ بِزَوْجَتِهِ أُمِّ الْمَلِكِ رِضْوَانَ، وَسَارَ رِضْوَانٌ، وَيَاغِي سِيَانَ، فَعَبَرَا الْفُرَاتَ إِلَى حَلَبَ، فَسَمِعَا بِدُخُولِ جَنَاحِ الدَّوْلَةِ إِلَيْهَا، فَفَارَقَ يَاغِي سِيَانَ الْمَلِكَ رِضْوَانَ، وَسَارَ إِلَى أَنْطَاكِيَّةَ، وَمَعَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْخَوَارِزْمِيُّ، وَسَارَ رِضْوَانُ إِلَى حَلَبَ. وَأَمَّا دُقَاقُ بْنُ تُتُشْ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَيَّرَهُ أَبُوهُ إِلَى عَمِّهِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ بِبَغْدَاذَ، وَخَطَبَ لَهُ ابْنَةَ السُّلْطَانِ، وَسَارَ بَعْدَ وَفَاةِ السُّلْطَانِ مَعَ خَاتُونَ الْجَلَالِيَّةِ وَابْنِهَا مَحْمُودٍ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَخَرَجَ إِلَى السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ سِرًّا، وَصَارَ مَعَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِأَبِيهِ، وَحَضَرَ مَعَهُ الْوَقْعَةَ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا.

فَلَمَّا قُتِلَ أَبُوهُ أَخَذَهُ غُلَامٌ لِأَبِيهِ اسْمُهُ أَيْتَكِينُ الْحَلَبِيُّ، وَسَارَ بِهِ إِلَى حَلَبَ، وَأَقَامَ عِنْدَ أَخِيهِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ، فَرَاسَلَهُ الْأَمِيرُ سَاوَتَكِينُ الْخَادِمُ الْوَالِي بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ سِرًّا، يَدْعُوهُ لِيُمَلِّكَهُ دِمَشْقَ، فَهَرَبَ مِنْ حَلَبَ سِرًّا، وَجَدَّ فِي السَّيْرِ، فَأَرْسَلَ أَخُوهُ رِضْوَانُ عِدَّةً مِنَ الْخَيَّالَةِ، فَلَمْ يُدْرِكُوهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ فَرِحَ بِهِ الْخَادِمُ، وَأَظْهَرَ الِاسْتِبْشَارَ، وَلَقِيَهُ، فَلَمَّا دَخَلَهَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَاغِي سِيَانَ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِالتَّفَرُّدِ بِمُلْكِ دِمَشْقَ عَنْ أَخِيهِ رِضْوَانَ. وَاتَّفَقَ وُصُولُ مُعْتَمِدِ الدَّوْلَةِ طَغْدَكِينَ إِلَى دِمَشْقَ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ خَوَاصِّ تُتُشْ وَعَسْكَرِهِ، وَقَدْ سَلِمُوا، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ شَهِدَ الْحَرْبَ مَعَ صَاحِبِهِ، وَأُسِرَ، فَبَقِيَ إِلَى الْآنَ، وَخَلُصَ مِنَ الْأَسْرِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ لَقِيَهُ الْمَلِكُ دُقَاقُ وَأَرْبَابُ دَوْلَتِهِ، وَبَالَغُوا فِي إِكْرَامِهِ، وَكَانَ زَوْجَ وَالِدَةِ دُقَاقٍ فَمَالَ إِلَيْهِ لِذَلِكَ، وَحَكَّمَهُ فِي بِلَادِهِ، وَعَمِلُوا عَلَى قَتْلِ الْخَادِمِ سَاوَتَكِينَ، فَقَتَلُوهُ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ يَاغِي سِيَانَ مِنْ أَنْطَاكِيَّةَ، وَمَعَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْخَوَارِزْمِيُّ، فَجَعَلَهُ وَزِيرًا لِدُقَاقٍ، وَحَكَّمَهُ فِي دَوْلَتِهِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُعْتَمِدِ بْنِ عَبَّادٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمُعْتَمِدُ بْنُ عَبَّادٍ، الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْأَنْدَلُسِ، مَسْجُونًا بِأَغْمَاتَ، مِنْ بَلَدِ الْمَغْرِبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفَ أُخِذَتْ بِلَادُهُ مِنْهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَبَقِيَ مَسْجُونًا إِلَى الْآنَ، وَتُوُفِّيَ، وَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الدُّنْيَا كَرَمًا، وَعِلْمًا، وَشَجَاعَةً، وَرِئَاسَةً تَامَّةً، وَأَخْبَارُهُ مَشْهُورَةٌ، وَآثَارُهُ مُدَوَّنَةٌ. وَلَهُ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ، فَمِنْهَا مَا قَالَهُ لَمَّا أُخِذَ مُلْكُهُ وَحُبِسَ: سَلَّتْ عَلَيَّ يَدُ الْخُطُوبِ سُيُوفَهَا ... فَجَذَذْنَ مِنْ جَسَدِي الْحَصِيفِ الْأَمْتَنَا

ضَرَبَتْ بِهَا أَيْدِي الْخُطُوبِ وَإِنَّمَا ضَرَبَتْ رِقَابَ الْآمِلِينَ بِهَا الْمُنَى ... يَا آمِلِي الْعَادَاتِ مِنْ نَفَحَاتِنَا كُفُّوا فَإِنَّ الدَّهْرَ كَفَّ أَكُفَّنَا وَلَهُ مِنْ قَصِيدَةٍ يَصِفُ الْقَيْدَ فِي رِجْلِهِ: تَعَطَّفَ فِي سَاقِي تَعَطُّفَ أَرْقَمٍ ... يُسَاوِرُهَا عَضًّا بِأَنْيَابِ ضَيْغَمِ وَإِنِّي مَنْ كَانَ الرِّجَالُ بِسَيْبِهِ ... وَمِنْ سَيْفِهِ فِي جَنَّةِ وَجَهَنَّمِ وَقَالَ فِي يَوْمِ عِيدٍ: فِيمَا مَضَى كُنْتُ بِالْأَعْيَادِ مَسْرُورًا ... فَسَاءَكَ الْعِيدُ فِي أَغْمَاتَ مَأْسُورَا قَدْ كَانَ دَهْرُكَ إِنْ تَأْمُرْهُ مُمْتَثِلًا ... فَرَدَّكَ الدَّهْرُ مَنْهِيًّا وَمَأْمُورَا مَنْ بَاتَ بَعْدَكَ فِي مُلْكٍ يُسَرُّ بِهِ ... فَإِنَّمَا بَاتَ بِالْأَحْلَامِ مَسْرُورَا وَكَانَ شَاعِرُهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ اللُّبَانَةِ يَأْتِيهِ وَهُوَ مَسْجُونٌ، فَيَمْدَحُهُ لَا لِجَدْوًى يَنَالُهَا مِنْهُ، بَلْ رِعَايَةً لِحَقِّهِ وَإِحْسَانِهِ الْقَدِيمِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَتَاهُ، فَوَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ، يَوْمَ عِيدٍ، وَالنَّاسُ عِنْدَ قُبُورِ أَهْلِيهِمْ، وَأَنْشَدَ بِصَوْتٍ عَالٍ: مَلِكَ الْمُلُوكِ أَسَامِعٌ فَأُنَادِي ... أَمْ قَدْ عَدَاكَ عَنِ الْجَوَابِ عَوَادِي لَمَّا خَلَتْ مِنْكَ الْقُصُورُ وَلَمْ تَكُنْ ... فِيهَا كَمَا قَدْ كُنْتَ فِي الْأَعْيَادِ فَمَثُلْتُ فِي هَذَا الثَّرَى لَكَ خَاضِعًا ... وَتَخِذْتُ قَبْرَكَ مَوْضِعَ الْإِنْشَادِ

وَأَخَذَ فِي إِتْمَامِ الْقَصِيدَةِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَيْهِ يَبْكُونَ. وَلَوْ أَخَذْنَا فِي تَفْصِيلِ مَنَاقِبِهِ وَمَحَاسِنِهِ لَطَالَ الْأَمْرُ، فَلْنَقِفْ عِنْدَ هَذَا. ذِكْرُ وَفَاةِ الْوَزِيرِ أَبِي شُجَاعٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْوَزِيرُ أَبُو شُجَاعٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَأَصْلُهُ مِنْ رُوذَرَاوَرَ، وَوَلُدِ بِالْأَهْوَازِ، وَقَرَأَ الْفِقْهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ مِنْهَا: ذَيَلُ تَجَارِبِ الْأُمَمِ، وَكَانَ عَفِيفًا، عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، كَثِيرَ الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِمَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَ مُجَاوِرًا فِيهَا. وَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَمَرَ فَحُمِلَ إِلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَوَقَفَ بِالْحَضْرَةِ وَبَكَى، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ اللَّهُ، - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] ، وَقَدْ جِئْتُ مُعْتَرِفًا بِذُنُوبِي، وَجَرَائِمِي أَرْجُو شَفَاعَتَكَ. وَبَكَى فَأَكْثَرَ، وَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِنَيْسَابُورَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، جَمَعَ أَمِيرٌ كَبِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ خُرَاسَانَ جَمْعًا كَثِيرًا، وَسَارَ بِهِمْ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَحَصَرَهَا، فَاجْتَمَعَ أَهْلُهَا وَقَاتَلُوهُ أَشَدَّ قِتَالٍ، وَلَازَمَ حِصَارَهُمْ نَحْوَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا لَمْ يَجِدُ لَهُ مَطْمَعًا فِيهَا سَارَ عَنْهَا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَلَمَّا فَارَقَهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِهَا بَيْنَ الْكَرَامِيَّةِ وَسَائِرِ الطَّوَائِفِ مِنْ أَهْلِهَا، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى كَثِيرَةٌ.

وَكَانَ مُقَدَّمُ الشَّافِعِيَّةِ أَبَا الْقَاسِمِ ابْنَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ، وَمُقَدَّمُ الْحَنَفِيَّةِ الْقَاضِيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ صَاعِدٍ، وَهُمَا مُتَّفِقَانِ عَلَى الْكَرَامِيَّةِ، وَمُقَدَّمُ الْكَرَامِيَّةِ مُحَمَّشَادْ، فَكَانَ الظَّفَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ عَلَى الْكَرَامِيَّةِ، فَخَرِبَتْ مَدَارِسُهُمْ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعِ الْآخِرِ، شَرَعَ الْخَلِيفَةُ فِي عَمَلِ سُورٍ عَلَى الْحَرِيمِ، وَأَذِنَ الْوَزِيرُ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ لِلْعَامَّةِ فِي التَّفَرُّجِ وَالْعَمَلِ، فَزَيَّنُوا الْبَلَدَ، وَعَمِلُوا الْقِبَابَ، وَجَدُّوا فِي عِمَارَتِهِ. وَفِيهَا، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، جُرِحَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ، جَرَحَهُ إِنْسَانٌ سِتْرِيٌّ لَهُ، مِنْ أَهْلِ سِجِسْتَانَ، فِي عَضُدِهِ، ثُمَّ أُخِذَ الرَّجُلُ، وَأَعَانَهُ رَجُلَانِ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ سِجِسْتَانَ، فَلَمَّا ضُرِبَ الرَّجُلُ الْجَارِحُ اعْتَرَفَ أَنَّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَضَعَاهُ، وَاعْتَرَفَا بِذَلِكَ، فَضُرِبَا الضَّرْبَ الشَّدِيدَ، لِيُقِرَّا عَلَى مَنْ أَمَرَهُمَا بِذَلِكَ، فَلَمْ يُقِرَّا، فَقُرِّبَا إِلَى الْفِيلِ لِيُجْعَلَا تَحْتَ قَوَائِمِهِ، وَقُدِّمَ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: اتْرُكُونِي وَأَنَا أُعَرِّفُكُمْ، فَتَرَكُوهُ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: يَا أَخِي لَا بُدَّ مِنْ هَذِهِ الْقِتْلَةِ، فَلَا تَفْضَحْ أَهْلَ سِجِسْتَانَ بِإِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ، فَقُتِلَا. وَفِيهَا تَوَجَّهَ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ إِلَى الشَّامِ، وَزَارَ الْقُدْسَ، وَتَرَكَ التَّدْرِيسَ فِي النِّظَامِيَّةِ، وَاسْتَنَابَ أَخَاهُ، وَتَزَهَّدَ، وَلَبِسَ الْخَشِنَ، وَأَكَلَ الدُّونَ، وَفِي هَذِهِ السَّفْرَةِ صَنَّفَ " إِحْيَاءَ عُلُومِ الدِّينِ "، وَسَمِعَهُ مِنْهُ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ بِدِمَشْقَ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ بَعْدَمَا حَجَّ فِي السَّنَةِ التَّالِيَةِ، وَسَارَ إِلَى خُرَاسَانَ.

(وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، خُطِبَ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ أَبِي الْفَضْلِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ) . وَفِيهَا عَزَلَ بَرْكِيَارُقُ وَزِيرَهُ مُؤَيِّدَ الْمُلْكِ بْنَ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَاسْتَوْزَرَ أَخَاهُ فَخْرَ الْمُلْكِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَرْكِيَارُقَ لَمَّا هَزَمَ عَمَّهُ تُتُشْ، وَقَتَلَهُ، أَرْسَلَ خَادِمًا لِيُحْضِرَ وَالِدَتَهُ زُبَيْدَةَ خَاتُونَ مِنْ أَصْبَهَانَ، فَاتَّفَقَ مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِتَرْكِهَا، فَقَالَ: لَا أُرِيدُ الْمُلْكَ إِلَّا لَهَا، وَبِوُجُودِهَا عِنْدِي، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ وَعَلِمَتِ الْحَالَ تَنَكَّرَتْ عَلَى مُؤَيِّدِ الْمُلْكِ، وَكَانَ مَجْدُ الْمُلْكِ أَبُو الْفَضْلِ الْبِلَاسَانِيُّ قَدْ صَحِبَهَا فِي طَرِيقِهَا، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ لَهُ أَمْرٌ مَعَ مُؤَيِّدِ الْمُلْكِ، وَكَانَ بَيْنَ مُؤَيِّدِ الْمُلْكِ وَأَخِيهِ فَخْرِ الْمُلْكِ (تَبَاعُدٌ) بِسَبَبِ جَوَاهِرَ خَلَّفَهَا أَبُوهُمْ نِظَامُ الْمُلْكِ، فَلَمَّا عَلِمَ فَخْرُ الْمُلْكِ تَنَكُّرَ أُمِّ السُّلْطَانِ عَلَى أَخِيهِ مُؤَيِّدِ الْمُلْكِ أَرْسَلَ وَبَذَلَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً فِي الْوِزَارَةِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَعُزِلَ أَخُوهُ، وَوُلِيَ هُوَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ رِزْقُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ التَّمِيمِيُّ، الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ، وَكَانَ عَارِفًا بِعِدَّةِ عُلُومٍ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنَ السَّلَاطِينِ.

وَفِيهَا، فِي رَجَبَ، تُوُفِّيَ أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خَيْرُونَ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَفِيهَا فِي شَعْبَانَ، تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ الشَّامِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا، وَأَقَرَّ الْحَقَّ مَقَرَّهُ، وَلَمْ يُحَابِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، ادَّعَى عِنْدَهُ بَعْضُ الْأَتْرَاكِ عَلَى رَجُلٍ شَيْئًا، فَقَالَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ! فُلَانٌ، وَالْمُشَطَّبُ الْفَقِيهُ الْفَرْغَانِيُّ، فَقَالَ: لَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْمُشَطَّبِ لِأَنَّهُ يَلْبَسُ الْحَرِيرَ، فَقَالَ (التُّرْكِيُّ: فَالسُّلْطَانُ وَنِظَامُ الْمُلْكِ يَلْبَسَانِ الْحَرِيرَ، فَقَالَ) : لَوْ شَهِدَا عِنْدِي عَلَى بَاقَةِ بَقْلٍ لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَتَهُمَا، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بَعْدَهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ الدَّامَغَانِيُّ. وَفِيهَا مَاتَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَزْوِينِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ مُغَالِيًا فِي الِاعْتِزَالِ، وَقِيلَ كَانَ زَيْدِيَّ الْمَذْهَبِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الرَّطْبِيِّ، قَاضِي دُجَيْلٍ، وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ أَخُوهُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو الْفَضْلِ الْحَدَّادُ

الْأَصْبَهَانِيُّ، صَاحِبُ أَبِي نُعَيْمٍ الْحَافِظِ، رَوَى عَنْهُ " حَلِيلَةَ الْأَوْلِيَاءِ "، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَخِيهِ أَبِي الْمَعَالِي، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ فَتُّوحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَيْدٍ الْحَمِيدِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ، وُلِدَ قَبْلَ الْعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ بِبَلَدِهِ، وَمِصْرَ، وَالْحِجَازِ، وَالْعِرَاقِ، وَهُوَ مُصَنِّفُ " الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ "، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا، وَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَوَقَفَ كُتُبَهُ فَانْتَفَعَ بِهَا النَّاسُ.

ثم دخلت سنة تسع وثمانين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 489 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ يُوسُفَ بْنِ آبِقَ وَالْمِجَنِّ الْحَلَبِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، قُتِلَ يُوسُفُ بْنُ آبِقَ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ سَيَّرَهُ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشْ إِلَى بَغْدَاذَ، وَنَهَبَ سَوَادَهَا. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ كَانَ بِحَلَبَ، بَعْدَ قَتْلِ تَاجِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ بِحَلَبَ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ الْمِجَنُّ، وَهُوَ رَئِيسُ الْأَحْدَاثِ بِهَا، وَلَهُ أَتْبَاعٌ كَثِيرُونَ، فَحَضَرَ عِنْدَ جَنَاحِ الدَّوْلَةِ حُسَيْنٍ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ يُوسُفَ بْنَ آبِقَ يُكَاتِبُ يَاغِي سِيَانَ، وَهُوَ عَلَى عَزْمِ الْفَسَادِ، وَاسْتَأْذَنَهُ فِي قَتْلِهِ، فَأَذِنَ لَهُ، وَطَلَبَ أَنْ يُعِينَهُ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأَجْنَادِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَقَصَدَ الْمِجَنُّ الدَّارَ الَّتِي بِهَا يُوسُفُ، فَكَبَسَهَا مِنَ الْبَابِ وَالسَّطْحِ، وَأَخَذَ يُوسُفَ فَقَتَلَهُ، وَنَهَبَ كُلَّ مَا كَانَ فِي دَارِهِ، وَبَقِيَ بِحَلَبَ حَاكِمًا، فَحَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِالتَّفَرُّدِ بِالْحُكْمِ عَنِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ، فَقَالَ لِجَنَاحِ الدَّوْلَةِ: إِنَّ الْمَلِكَ رِضْوَانَ أَمَرَنِي بِقَتْلِكَ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ، فَهَرَبَ جَنَاحُ الدَّوْلَةِ إِلَى حِمْصَ، وَكَانَتْ لَهُ، فَلَمَّا انْفَرَدَ الْمِجَنُّ بِالْحُكْمِ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ رِضْوَانُ، وَأَرَادَ مِنْهُ أَنْ يُفَارِقَ الْبَلَدَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَرَكِبَ فِي أَصْحَابِهِ، (فَلَوْ هَمَّ) بِالْمُحَارِبَةِ لَفَعَلَ، ثُمَّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَنْهَبُوا مَالَهُ، وَأَثَاثَهُ، وَدَوَابَّهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَاخْتَفَى، فَطُلِبَ فَوُجِدَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَأُخِذَ وَعُوقِبَ وَعُذِّبَ، ثُمَّ قُتِلَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ، وَكَانَ مِنَ السَّوَادِ يَشُقُّ الْخَشَبَ، ثُمَّ بَلَغَ هَذِهِ الْحَالَةَ.

ذِكْرُ وَفَاةِ مَنْصُورِ بْنِ مَرْوَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوَفِّي مَنْصُورُ بْنُ نِظَامِ الدِّينِ بْنِ نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ، صَاحِبُ دِيَارِ بَكْرٍ، وَهُوَ الَّذِي انْقَرَضَ أَمْرُ بَنِي مَرْوَانَ عَلَى يَدِهِ، حِينَ حَارَبَهُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ، وَكَانَ جَكَرْمَشُ قَدْ قُبِضَ عَلَيْهِ بِالْجَزِيرَةِ، وَتَرَكَهُ عِنْدَ رَجُلٍ يَهُودِيٍّ، فَمَاتَ فِي دَارِهِ، وَحَمْلَتْهُ زَوْجَتُهُ إِلَى تُرْبَةِ (آبَائِهِ، فَدَفَنَتْهُ ثُمَّ حَجَّتْ، وَعَادَتْ إِلَى بَلَدِ الْبَشْنَوِيَّةِ، فَابْتَاعَتْ دِيرًا مِنْ بَلَدِ فَنَكَ بِقُرْبِ) جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَقَامَتْ فِيهِ تَعْبُدُ اللَّهَ. وَكَانَ مَنْصُورٌ شُجَاعًا، شَدِيدَ الْبُخْلِ، لَهُ فِي الْبُخْلِ حِكَايَاتٌ عَجِيبَةٌ، فَتَعْسًا لِطَالِبِ الدُّنْيَا، الْمُعْرِضِ عَنِ الْآخِرَةِ، أَلَا يَنْظُرَ إِلَى فِعْلِهَا بِأَبْنَائِهَا، بَيْنَمَا مَنْصُورٌ هَذَا مَلِكٌ مِنْ بَيْتِ مَلِكٍ آلَ أَمْرُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي بَيْتِ يَهُودِيٍّ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُحْسِنَ أَعْمَالَنَا، وَيُصْلِحَ عَاقِبَةَ أَمْرِنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ تَمِيمٍ مَدِينَةَ قَابِسَ أَيْضًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ مَدِينَةَ قَابِسَ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا أَخَاهُ عُمَرًا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهَا كَانَ بِهَا إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ (قَاضِي بْنُ) إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَلْمُونَهْ فَمَاتَ، فَوَلَّى أَهْلُهَا عَلَيْهِمْ عَمْرَو بْنَ الْمُعِزِّ، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ، وَكَانَ قَاضِي بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَاصِيًا عَلَى تَمِيمٍ، وَتَمِيمٌ يُعْرِضُ عَنْهُ، فَسَلَكَ عَمْرٌو طَرِيقَهُ فِي ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ تَمِيمٌ

الْعَسَاكِرَ إِلَى أَخِيهِ عَمْرٍو لِيَأْخُذَ الْمَدِينَةَ مِنْهُ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَا مَوْلَانَا لَمَّا كَانَ فِيهَا قَاضِي تَوَانَيْتَ) عَنْهُ وَتَرَكْتَهُ، فَلَمَّا وَلِيَهَا أَخُوكَ جَرَرْتَ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرَ، فَقَالَ: لَمَّا كَانَ فِيهَا غُلَامٌ مِنْ عَبِيدِنَا كَانَ زَوَالُهُ سَهْلًا عَلَيْنَا، وَأَمَّا الْيَوْمَ، وَابْنُ الْمُعِزِّ بِالْمَهْدِيَّةِ، وَابْنُ الْمُعِزِّ بِقَابِسَ، فَهَذَا مَا لَا يُمْكِنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ. وَفِي فَتْحِهَا يَقُولُ ابْنُ خَطِيبِ سُوسَةَ الْقَصِيدَةَ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي أَوَّلُهَا: ضَحِكَ الزَّمَانُ وَكَانَ يُلْقَى عَابِسًا ... لَمَّا فَتَحْتَ بِحَدِّ سَيْفِكَ قَابِسَا اللَّهُ يَعْلَمُ مَا حَوَيْتَ ثِمَارَهَا ... إِلَّا وَكَانَ أَبُوكَ قَبْلُ الْغَارِسَا مَنْ كَانَ فِي زُرْقِ الْأَسِنَّةِ خَاطِبًا ... كَانَتْ لَهُ قُلَلُ الْبِلَادِ عَرَائِسَا فَابْشِرْ تَمِيمَ بْنَ الْمُعِزِّ بِفَتْكَةٍ ... تَرَكَتْكَ مِنْ أَكْنَافِ قَابِسَ قَابِسَا وَلَّوْا فَكَمْ تَرَكُوا هُنَاكَ مَصَانِعًا ... وَمَقَاصِرًا وَمَخَالِدًا وَمَجَالِسَا فَكَأَنَّهَا قَلْبٌ وَهُنَّ وَسَاوِسٌ ... جَاءَ الْيَقِينُ فَذَادَ عَنْهُ وَسَاوِسَا ذِكْرُ مَلْكِ كَرْبُوقَا الْمَوْصِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، مَلَكَ قِوَامُ الدَّوْلَةِ أَبُو سَعِيدٍ كَرْبُوقَا مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ تَاجَ الدَّوْلَةِ تُتُشْ أَسَرَهُ لَمَّا قَتَلَ آقْسَنْقَرَ وَبُوزَانَ، فَلَمَّا أَسَرَهُ أَبْقَى عَلَيْهِ، طَمَعًا فِي اسْتِصْلَاحِ حَمِيهِ الْأَمِيرِ أُنَرْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَلَدٌ يَمْلِكُهُ إِذَا قَتَلَهُ، كَمَا فَعَلَ بِالْأَمِيرِ بُوزَانَ، فَإِنَّهُ قَتَلَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِهِ الرُّهَا وَحَرَّانَ. وَلَمْ يَزَلْ قِوَامُ الدَّوْلَةِ مَحْبُوسًا بِحَلَبَ إِلَى أَنْ قُتِلَ تُتُشْ، وَمَلَكَ ابْنُهُ الْمَلِكُ رِضْوَانُ حَلَبَ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ رَسُولًا يَأْمُرُهُ بِإِطْلَاقِ أَخِيهِ الْتُونْتَاشِ،

فَلَمَّا أُطْلِقَا سَارَا وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمَا كَثِيرٌ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْبَطَّالِينَ، فَأَتَيَا حَرَّانَ فَتَسَلَّمَاهَا، وَكَاتَبَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمِ بْنِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ بِنَصِيبِينَ، وَمَعَهُ ثَرْوَانُ بْنُ وَهِيبٍ، وَأَبُو الْهَيْجَاءِ الْكُرْدِيُّ، يَسْتَنْصِرُونَ بِهِمَا عَلَى الْأَمِيرِ عَلِيِّ بْنِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ بِالْمَوْصِلِ قَدْ جَعَلَهُ بِهَا تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشْ بَعْدَ وَقْعَةِ الْمُضَيَّعِ. فَسَارَ كَرْبُوقَا إِلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُ مُحَمَّدُ بْنُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ نَصِيبِينَ، وَاسْتَخْلَفَهُمَا لِنَفْسِهِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ كَرْبُوقَا بَعْدَ الْيَمِينِ، وَحَمَلَهُ مَعَهُ، وَأَتَى نَصِيبِينَ، فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ، فَحَصَرَهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَتَسَلَّمَهَا، وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَحَصَرَهَا، فَلَمْ يَظْفَرْ مِنْهَا بِشَيْءٍ، فَسَارَ عَنْهَا إِلَى بَلَدٍ، وَقَتَلَ بِهَا مُحَمَّدَ بْنَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَغَرَّقَهُ، وَعَادَ إِلَى حِصَارِ الْمَوْصِلِ، وَنَزَلَ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْهَا بِقَرْيَةٍ بَاحَلَافَةَ، وَتَرَكَ الْتُونْتَاشَ شَرْقِيَّ الْمَوْصِلِ، فَاسْتَنْجَدَ عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ صَاحِبُهَا بِالْأَمِيرِ جَكَرْمَشَ، صَاحِبِ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، فَسَارَ إِلَيْهِ نَجْدَةً لَهُ، فَلَمَّا عَلِمَ الْتُونْتَاشُ بِذَلِكَ سَارَ إِلَى طَرِيقِهِ، فَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ جَكَرْمَشُ، وَعَادَ إِلَى الْجَزِيرَةِ مُنْهَزِمًا، وَصَارَ فِي طَاعَةِ كَرْبُوقَا، وَأَعَانَهُ عَلَى حَصْرِ الْمَوْصِلِ، وَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ بِهَا، وَكُلُّ شَيْءٍ، حَتَّى مَا يُوقِدُونَهُ، فَأَوْقَدُوا الْقِيرَ، وَحَبَّ الْقُطْنِ. فَلَمَّا ضَاقَ بِصَاحِبِهَا عَلِيٍّ الْأَمْرُ فَارَقَهَا وَسَارَ إِلَى صَدَقَةَ بْنِ مَزْيَدٍ بِالْحِلَّةِ، وَتَسَلَّمَ كَرْبُوقَا الْبَلَدَ بَعْدَ أَنْ حَصَرَهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَخَافَهُ أَهْلُهُ لِأَنَّهُمْ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْتُونْتَاشَ يُرِيدُ نَهْبَهُمْ، وَأَنَّ كَرْبُوقَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، فَاشْتَغَلَ الْتُونَتَاشُ بِالْقَبْضِ عَلَى أَعْيَانِ الْبَلَدِ، وَمُطَالَبَتِهِمْ بِوَدَائِعِ الْبَلَدِ، وَاسْتَطَالَ عَلَى كَرْبُوقَا، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَأَمِنَ النَّاسُ شَرَّهُ، وَأَحْسَنَ كَرْبُوقَا السِّيرَةَ فِيهِمْ، وَسَارَ نَحْوَ الرَّحْبَةِ، فَمُنِعَ عَنْهَا، فَمَلَكَهَا وَنَهَبَهَا وَاسْتَنَابَ بِهَا وَعَادَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَ سِتَّةُ كَوَاكِبَ فِي بُرْجِ الْحُوتِ، وَهِيَ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ،

وَالْمُشْتَرَى، وَالزَّهْرَةُ، وَالْمَرِّيخُ، وَعُطَارِدُ، فَحَكَمَ الْمُنَجِّمُونَ بِطُوفَانٍ يَكُونُ فِي النَّاسِ يُقَارِبُ طُوفَانَ نُوحٍ، فَأَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ ابْنَ عَيْسُونَ الْمُنَجِّمَ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: إِنَّ طُوفَانَ نُوحٍ اجْتَمَعَتِ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ فِي بُرْجِ الْحُوتِ، وَالْآنَ فَقَدِ اجْتَمَعَ سِتَّةٌ مِنْهَا، وَلَيْسَ مِنْهَا زُحَلُ، فَلَوْ كَانَ مَعَهَا لَكَانَ مِثْلَ طُوفَانِ نُوحٍ، وَلَكِنْ أَقُولُ إِنَّ مَدِينَةً، أَوْ بُقْعَةً مِنَ الْأَرْضِ يَجْتَمِعُ فِيهَا عَالَمٌ كَثِيرٌ مِنْ بِلَادٍ كَثِيرَةٍ، فَيَغْرَقُونَ، فَخَافُوا عَلَى بَغْدَاذَ، لِكَثْرَةِ مَنْ يَجْتَمِعُ فِيهَا مِنَ الْبِلَادِ، فَأُحْكِمَتِ الْمُسَنِّيَاتُ، وَالْمَوَاضِعُ الَّتِي يُخْشَى مِنْهَا الِانْفِجَارُ وَالْغَرَقُ. فَاتُّفِقَ أَنَّ الْحُجَّاجَ نَزَلُوا بِوَادِي الْمَيَاقِتِ، بَعْدَ نَخْلَةَ، فَأَتَاهُمْ سَيْلٌ عَظِيمٌ فَأَغْرَقَ أَكْثَرَهُمْ، وَنَجَا مَنْ تَعَلَّقَ بِالْجِبَالِ، وَذَهَبَ الْمَالُ، وَالدَّوَابُّ، وَالْأَزْوَادُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْمُنَجِّمِ. وَفِيهَا، فِي صَفَرَ، دَرَّسَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَاذَ، رَتَّبَهُ فِيهَا فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَزِيرُ بَرْكِيَارُقَ. وَفِيهَا أَغَارَتْ خَفَاجَةُ عَلَى بَلَدِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ بْنِ مَزْيَدٍ، فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِهِمْ عَسْكَرًا، مُقَدِّمُهُ ابْنُ عَمِّهِ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ بْنِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ، فَأَسَرَتْهُ خَفَاجَةُ، وَأَطْلَقُوهُ، وَقَصَدُوا مَشْهَدَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَتَظَاهَرُوا فِيهِ بِالْفَسَادِ وَالْمُنْكَرِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ صَدَقَةُ جَيْشًا، فَكَبَسُوهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا فِي الْمَشْهَدِ، حَتَّى عِنْدَ الضَّرِيحِ، وَأَلْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ نَفْسَهُ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ مِنْ عَلَى السُّورِ، فَسَلِمَ هُوَ وَالْفَرَسُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرَ، تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو مُسْلِمٍ وَادِعُ بْنُ

سُلَيْمَانَ قَاضِي مَعَرَّةِ النُّعْمَانِ وَالْمُسْتَوْلِي عَلَى أُمُورِهَا، وَكَانَ (رَجُلَ زَمَانِهِ هِمَّةً) ، وَعِلْمًا. (وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوفِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَاضِبَةِ، الْمُحَدِّثُ، وَكَانَ عَالِمًا. وَفِيهَا، فِي رَمَضَانَ، تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ السَّمَرْقَنْدِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَفِيهَا، فِي رَمَضَانَ، تُوُفِّيَ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْهَمَذَانِيِّ، وَكَانَ عَالِمًا فِي عِدَّةِ عُلُومٍ، وَقَدْ قَارَبَ ثَمَانِينَ سَنَةً) .

ثم دخلت سنة تسعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 490 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ أَرْسِلَانَ أَرْغُوَنَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، قُتِلَ أَرْسَلَانُ (أَرْغُوَنُ بْنُ أَلْبٍ، أَخُو السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، بِمَرْوَ، وَكَانَ قَدْ مَلَكَ خُرَاسَانَ) . وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ كَانَ شَدِيدًا عَلَى غِلْمَانِهِ، كَثِيرَ الْإِهَانَةِ لَهُمْ وَالْعُقُوبَةِ، وَكَانُوا يَخَافُونَهُ خَوْفًا عَظِيمًا، فَاتُّفِقَ أَنَّهُ الْآنَ طَلَبَ غُلَامًا لَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ تَأَخُّرَهُ عَنِ الْخِدْمَةِ، فَاعْتَذَرَ، فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ، وَضَرَبَهُ، فَأَخْرَجَ الْغُلَامُ سِكِّينًا مَعَهُ، وَقَتَلَهُ، وَأُخِذَ الْغُلَامُ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: لِأُرِيحَ النَّاسَ مِنْ ظُلْمِهِ. وَكَانَ سَبَبُ مَلْكِهِ خُرَاسَانَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ، أَيَّامَ أَخِيهِ مَلِكْشَاهْ، مِنَ الْإِقْطَاعِ مَا مِقْدَارُهُ سَبْعَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَكَانَ مَعَهُ بِبَغْدَاذَ لَمَّا مَاتَ، فَسَارَ إِلَى هَمَذَانَ فِي سَبْعَةِ غِلْمَانَ، وَاتَّصَلَ بِهِ جَمَاعَةٌ، فَسَارَ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا مَطْعَمًا، فَتَمَّمَ إِلَى مَرْوَ، وَكَانَ شِحْنَةُ مُرْوٍ أَمِيرٌ اسْمُهُ قُودَنُ مِنْ مَمَالِيكَ مَلِكْشَاهْ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ تَنَكُّرِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ عَلَى نِظَامِ الْمُلْكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَتْلِ نِظَامِ الْمُلْكِ، فَمَالَ إِلَى أَرْسِلَانَ أَرْغُوَنَ، وَسَلَّمَ الْبَلَدَ إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَيْهِ، وَقَصَدَ بَلْخَ، وَبِهَا فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، فَسَارَ عَنْهَا، وَوَزَرَ لِتَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشْ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَمَلَكَ أَرْسَلَانُ أَرْغُوَنَ بَلْخَ، وَتِرْمِذَ، وَنَيْسَابُورَ، وَعَامَّةَ خُرَاسَانَ، وَأَرْسَلَ إِلَى

السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ وَإِلَى وَزِيرِهِ مُؤَيِّدِ الْمُلْكِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ يَطْلُبُ أَنْ يُقِرَّ عَلَيْهِ خُرَاسَانَ. كَمَا كَانَتْ لِجَدِّهِ دَاوُدَ، مَا عَدَا نَيْسَابُورَ، وَيَبْذُلُ الْأَمْوَالَ وَلَا يُنَازِعُ فِي السَّلْطَنَةِ، فَسَكَتَ عَنْهُ بَرْكِيَارُقُ لِاشْتِغَالِهِ بِأَخِيهِ مَحْمُودٍ وَعَمِّهِ تُتُشْ، فَلَمَّا عَزَلَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ مُؤَيِّدَ الْمُلْكِ عَنْ وِزَارَتِهِ، وَوَلِيَهَا أَخُوهُ فَخْرُ الْمُلْكِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْأُمُورِ مَجْدُ الْمُلْكِ الْبَلَاسَانِيُّ، قَطَعَ أَرْسَلَانُ أَرْغُونَ مُرَاسَلَةَ بَرْكِيَارُقَ، وَقَالَ: لَا أَرْضَى لِنَفْسِي مُخَاطَبَةَ الْبَلَاسَانِيِّ، فَنَدَبَ بَرْكِيَارُقُ حِينَئِذٍ عَمَّهُ بُورْبُرُسِ بْنَ أَلْب أَرْسِلَانَ، وَسَيَّرَهُ فِي الْعَسَاكِرِ لِقِتَالِهِ. وَكَانَ قَدِ اتَّصَلَ بِأَرْسِلَانَ عِمَادُ الْمُلْكِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَوَزَرَ لَهُ، فَلَمَّا وَصَلَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَى خُرَاسَانَ لَقِيَهُمْ أَرْسَلَانُ أَرْغُوَنَ، وَقَاتَلَهُمْ، وَانْهَزَمَ مِنْهُمْ، وَسَارَ مُنْهَزِمًا إِلَى بَلْخَ، وَأَقَامَ بُورْبُرُسُ وَالْعَسَاكِرُ الَّتِي مَعَهُ بِهَرَاةَ. ثُمَّ جَمَعَ أَرْغُونُ عَسَاكِرَ جَمَّةً وَسَارَ إِلَى مَرْوَ، فَحَصَرَهَا أَيَّامًا، وَفَتَحَهَا عَنْوَةً، وَقَتَلَ فِيهَا وَأَكْثَرَ، وَقَلَعَ أَبْوَابَ سُورِهَا وَهَدَمَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ بُورْبُرُسُ مِنْ هَرَاةَ فَالْتَقَيَا وَتَصَافَّا، فَانْهَزَمَ بُورْبُرُسُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . وَسَبَبُ هَزِيمَتِهِ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَسَاكِرِ الَّتِي سَيَّرَهَا مَعَهُ بَرْكِيَارُقُ أَمِيرٌ آخَرُ مَلِكْشَاهْ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَالْأَمِيرُ مَسْعُودُ بْنُ تَاجَرَ، وَكَانَ أَبُوهُ مُقَدَّمَ عَسْكَرِ دَاوُدَ، جَدِّ مَلِكْشَاهْ، وَلِمَسْعُودٍ مَنْزِلَةٌ كَبِيرَةٌ، وَمَحَلٌّ عَظِيمٌ، عِنْدَ النَّاسِ كَافَّةً، وَكَانَ بَيْنَ أَمِيرٍ آخَرَ وَبَيْنَ أَرْسِلَانَ مَوَدَّةٌ قَدِيمَةٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَرْسَلَانُ أَرْغُوَنَ يَسْتَمِيلُهُ، وَيَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ مَسْعُودَ بْنَ تَاجَرَ قَصَدَ أَمِيرَ آخَرَ زَائِرًا لَهُ، وَمَعَهُ وَلَدُهُ، فَأَخَذَهُمَا وَقَتَلَهُمَا، فَضَعُفَ أَمْرُ بُورْبُرُسَ، وَانْهَزَمَ مِنْ أَرْسِلَانَ أَرْغُوَنَ، وَتَفَرَّقَ عَسْكَرُهُ، وَأُسِرَ، وَحُمِلَ إِلَى أَرْسِلَانَ أَرْغُوَنَ، وَهُوَ أَخُوهُ، فَحَبَسَهُ بِتَرْمِذَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَخُنِقَ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ حَبْسِهِ، وَقَتَلَ

أَكَابِرَ عَسْكَرِ خُرَاسَانَ مِمَّنْ كَانَ يَخَافُهُ، وَيَخْشَى تَحَكُّمَهُ عَلَيْهِ، وَصَادَرَ وَزِيرَهُ عِمَادَ الْمُلْكِ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَتَلَهُ، وَخَرَّبَ أَسْوَارَ مُدُنِ خُرَاسَانَ، وَمِنْهَا: سُورُ سِبْزَوَارَ، وَسُورُ مَرْوَ الشَّاهِجَانَ، وَقَلْعَةُ سَرْخَسَ، وَقَهَنْدَزُ نَيْسَابُورَ، وَسُورُ شَهْرَسْتَانَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، خَرَّبَهُ جَمِيعَهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، ثُمَّ إِنَّهُ قُتِلَ هَذِهِ السَّنَةَ كَمَا ذَكَرْنَا. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ عَسْكَرِ مِصْرَ عَلَى مَدِينَةِ صُورَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَصَلَ عَسْكَرٌ كَثِيرٌ مِنْ مِصْرَ إِلَى ثَغْرِ صُورَ، بِسَاحِلِ الشَّامِ، فَحَصَرَهَا وَمَلِكَهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَالِيَ بِهَا، وَيُعْرَفُ بِكُتَيْلَةَ، أَظْهَرَ الْعِصْيَانَ عَلَى الْمُسْتَعْلِي، صَاحِبِ مِصْرَ، وَالْخُرُوجَ عَنْ طَاعَتِهِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَحَصَرُوهُ بِهَا، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ مَعَهُ مِنْ جُنْدِيٍّ، وَعَامِّيٍّ، ثُمَّ افْتَتَحَهَا عَنْوَةً بِالسَّيْفِ، وَقُتِلَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَنُهِبَ مِنْهَا الْمَالُ الْجَزِيلُ، وَأُخِذَ الْوَالِي أَسِيرًا بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَحُمِلَ إِلَى مِصْرَ فَقُتِلَ بِهَا. ذِكْرُ مَلْكِ بَرْكِيَارُقَ خُرَاسَانَ وَتَسْلِيمِهَا إِلَى أَخِيهِ سَنْجَرَ كَانَ بَرْكِيَارُقُ قَدْ جَهَّزَ الْعَسَاكِرَ مَعَ أَخِيهِ الْمَلِكِ سَنْجَرَ، وَسَيَّرَهَا إِلَى خُرَاسَانَ لِقِتَالِ عَمِّهِ أَرْسِلَانَ أَرْغُوَنَ، وَجَعَلَ الْأَمِيرَ قَمَاجَ أَتَابِكَ سَنْجَرَ، وَرَتَّبَ فِي وِزَارَتِهِ أَبَا الْفَتْحِ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ الطُّغْرَائِيَّ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الدَّامَغَانِ بَلَغَهُمْ خَبَرُ قَتْلِهِ، فَأَقَامُوا، حَتَّى لَحِقَهُمُ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ، وَسَارُوا إِلَى نَيْسَابُورَ فَوَصَلَ إِلَيْهِمْ خَامِسَ جُمَادَى الْأُولَى مِنَ السَّنَةِ وَمَلَكَهَا بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْبِلَادِ الْخُرَاسَانِيَّةِ، وَسَارُوا إِلَى بَلْخَ.

وَكَانَ عَسْكَرُ أَرْسِلَانَ أَرْغُوَنَ قَدْ مَلَّكُوا بَعْدَ قَتْلِهِ ابْنًا لَهُ صَغِيرًا، عُمْرُهُ سَبْعُ سِنِينَ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِوُصُولِ السُّلْطَانِ أَبْعَدُوا إِلَى جِبَالِ طَخَارِسْتَانَ، وَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَعَادُوا وَمَعَهُمُ ابْنُ أَرْسِلَانَ أَرْغُوَنَ، فَأَحْسَنَ السُّلْطَانُ لِقَاءَهُ، وَأَعْطَاهُ مَا كَانَ لِأَبِيهِ مِنَ الْإِقْطَاعِ أَيَّامَ مَلِكْشَاهْ، وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَى السُّلْطَانِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ، فَمَا انْقَضَى يَوْمُهُمْ حَتَّى فَارَقُوهُ، وَاتَّصَلَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ بِأَمِيرٍ تَخْدِمُهُ، وَبَقِيَ وَحْدَهُ مَعَ خَادِمٍ لِأَبِيهِ، فَأَخَذَتْهُ وَالِدَهُ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ إِلَيْهَا، وَأَقَامَتْ لَهُ مَنْ يَتَوَلَّى خِدْمَتَهُ، وَتَرْبِيَتَهُ. وَسَارَ بَرْكِيَارُقُ إِلَى تِرْمِذَ فَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ، وَأَقَامَ عِنْدَ بَلْخَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَأُرْسِلَ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَأُقِيمَتْ لَهُ الْخُطْبَةُ بِسَمَرْقَنْدَ وَغَيْرِهَا، وَدَانَتْ لَهُ الْبِلَادُ. ذِكْرُ خُرُوجِ أَمِيرِ أَمِيرَانَ بِخُرَاسَانَ مُخَالِفًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ لِمَا كَانَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ بِخُرَاسَانَ خَالَفَ عَلَيْهِ أَمِيرٌ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَيُعْرَفُ بِأَمِيرِ أَمِيرَانَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ مَلِكْشَاهْ، (وَتَوَجَّهَ إِلَى بَلْخَ) ، وَاسْتَمَدَّ مِنْ صَاحِبِ غَزْنَةَ، فَأَمَدَّهُ بِجَيْشٍ كَثِيرٍ، وَفِيَلَةٍ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَخْطُبَ لَهُ فِي جَمِيعِ مَا يَفْتَحُهُ مِنْ خُرَاسَانَ، فَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَمَدَّ يَدَهُ فِي الْبِلَادِ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ سَنْجَرُ بْنُ مَلِكْشَاهْ جَرِيدَةُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَمِيرُ أَمِيرَانَ، فَكَبَسَهُ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا قِتَالُ سَاعَةٍ، ثُمَّ أُسِرَ، وَحُمِلَ إِلَى بَيْنَ يَدَيْ سَنْجَرَ، فَأَمَرَ بِهِ فَكُحِلَ. ذِكْرُ عِصْيَانِ الْأَمِيرِ قُودَنَ وَيَارْقَطَاشَ عَلَى السُّلْطَانِ وَاسْتِعْمَالِ حَبَشِيٍّ عَلَى خُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى يَارْقَطَاشُ وَقُودَنُ عَلَى السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمِيرَ قُودَنَ كَانَ قَدْ صَارَ فِي جُمْلَةِ الْأَمِيرِ قَمَاجَ، فَتُوُفِّيَ

وَالسُّلْطَانُ بِمَرْوَ، فَاسْتَوْحَشَ قُودَنُ، وَأَظْهَرَ الْمَرَضَ، وَتَأَخَّرَ بِمَرْوَ بَعْدَ مَسِيرِ السُّلْطَانِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أُمَرَاءِ السُّلْطَانِ أَمِيرٌ اسْمُهُ إِكِنْجِي، وَقَدْ وَلَّاهُ السُّلْطَانُ خُوَارِزْمَ، وَلَقَّبَهُ خُوَارِزْمَشَاهْ، فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ فِي عَشْرَةِ آلَافِ فَارِسٍ لِيَلْحَقَ السُّلْطَانَ، فَسَبَقَ الْعَسْكَرَ إِلَى مَرْوَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ، وَتَشَاغَلَ بِالشُّرْبِ، فَاتَّفَقَ قُودَنُ، وَأَمِيرٌ آخَرُ اسْمُهُ يَارْقَطَاشُ عَلَى قَتْلِهِ، فَجَمَعَا خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ وَكَبَسُوهُ وَقَتَلُوهُ، وَسَارُوا إِلَى خَوَارِزْمَ، وَأَظْهَرُوا أَنَّ السُّلْطَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَهُمَا عَلَيْهَا فَتَسَلَّمَاهَا. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى السُّلْطَانِ، فَتَمَّ الْمَسِيرُ إِلَى الْعِرَاقِ، لَمَّا بَلَغَهُ مِنْ خُرُوجِ الْأَمِيرِ أُنَرْ وَمُؤَيِّدِ الْمُلْكِ عَنْ طَاعَتِهِ، وَأَعَادَ (أَمِيرُ دَاذَ حَبَشِيُّ) بْنُ التُّونْتَاقِ فِي جَيْشٍ إِلَى خُرَاسَانَ لِقِتَالِهِمَا، فَسَارَ إِلَى هَرَاةَ، وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ اجْتِمَاعَ الْعَسَاكِرِ مَعَهُ، فَعَاجَلَاهُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَعَلِمَ أَمِيرُ دَاذَ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمَا، فَعَبَرَ جَيْحُونَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ يَارْقَطَاشُ لِيَلْحَقَهُ قُودَنُ، فَعَاجَلَهُ يَارْقَطَاشُ وَحْدَهُ، وَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ يَارْقَطَاشُ وَأُخِذَ أَسِيرًا. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى قُودَنَ، فَثَارَ بِهِ عَسْكَرُهُ، وَنَهَبُوا خَزَائِنَهُ وَمَا مَعَهُ، فَبَقِيَ فِي سَبْعَةِ نَفَرٍ، فَهَرَبَ إِلَى بُخَارَى، فَقَبَضَ عَلَيْهِ صَاحِبُهَا، ثُمَّ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَبَقِيَ عِنْدَهُ، وَسَارَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْمَلِكِ سَنْجَرَ بِبَلْخَ، فَقَبِلَهُ أَحْسَنَ قَبُولٍ وَبَذَلَ لَهُ قُودَنُ أَنْ يَكْفِيَهُ أُمُورَهُ، وَيَقُومَ بِجَمْعِ الْعَسَاكِرِ عَلَى طَاعَتِهِ، فَقُدِّرَ أَنَّهُ مَاتَ عَنْ قَرِيبٍ، وَأَمَّا يَارْقَطَاشُ فَبَقِيَ أَسِيرًا إِلَى أَنْ قُتِلَ أَمِيرُ دَاذَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ دَوْلَةِ مُحَمَّدِ بْنِ خُوَارِزْمِشَاهْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَّرَ بَرْكِيَارُقُ الْأَمِيرَ حَبَشِيَّ بْنَ أَلْتُونْتَاقَ عَلَى خُرَاسَانَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا صَفَتْ لَهُ، وَقُتِلَ قُودَنُ، كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ، وَلِيَ خُوَارِزْمَ الْأَمِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ أَنُوشْتِكِينَ، وَكَانَ أَبُوهُ أَنُوشْتِكِينُ مَمْلُوكَ أَمِيرٍ مِنَ السُّلْجُوقِيَّةِ، اسْمُهُ بَلْكَبَاكُ، قَدِ اشْتَرَاهُ مِنْ رَجُلٍ

مِنْ غَرْشِسْتَانَ فَقِيلَ لَهُ أَنُوشْتِكِينُ غَرْشَحَهُ، فَكَبَّرَ، وَعَلَا أَمْرُهُ، وَكَانَ حَسَنَ الطَّرِيقَةِ، كَامِلَ الْأَوْصَافِ، وَكَانَ مُقَدَّمًا، وَمَرْجُوعًا إِلَيْهِ، وَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ سَمَّاهُ مُحَمَّدًا، وَهُوَ هَذَا، وَعَلَّمَهُ، وَخَرَّجَهُ، وَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ، وَتَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ، وَبِالْعِنَايَةِ الْأَزَلِيَّةِ. فَلَمَّا وَلِيَ أَمِيرُ دَاذَ حَبَشِيُّ خُرَاسَانَ كَانَ خُوَارِزْمُشَاهْ إِكَنْجِي قَدْ قُتِلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَنَظَرَ الْأَمِيرُ حَبَشِيٌّ فِيمَنْ يُوَلِّيهِ خُوَارِزْمَ، فَوَقَعَ اخْتِيَارُهُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَنُوشْتِكِينَ، فَوَلَّاهُ خُوَارِزْمَ، وَلَقَّبَهُ خُوارِزْمَشَاهْ، فَقَصَرَ أَوْقَاتَهُ عَلَى مَعْدَلَةٍ يَنْشُرُهَا، وَمَكْرُمَةٍ يَفْعَلُهَا، وَقَرَّبَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، فَازْدَادَ ذِكْرُهُ حُسْنًا، وَمَحَلَّهُ عُلُوًّا. وَلَمَّا مَلَكَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ خُرَاسَانَ أَقَرَّ مُحَمَّدًا خُوَارِزْمَشَاهْ عَلَى خُوَارِزْمَ وَأَعْمَالِهَا، فَظَهَرَتْ كِفَايَتُهُ وَشَهَامَتُهُ، فَعَظَّمَ سَنْجَرُ مَحِلَّهُ وَقَدْرَهُ. ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ مُلُوكِ الْأَتْرَاكِ جَمَعَ جُمُوعًا، وَقَصْدَ خُوَارِزْمَ، وَمُحَمَّدٌ غَائِبٌ عَنْهَا، وَكَانَ طُغْرُلْتِكِينَ بْنُ إِكَنْجِي، الَّذِي كَانَ أَبُوهُ خُوَارِزْمُشَاهْ، قُبِلَ عِنْدَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، فَهَرَبَ مِنْهُ، وَالْتَحَقَ بِالْأَتْرَاكِ فَلَمَّا سَمِعَ خُوَارِزْمُشَاهْ مُحَمَّدٌ الْخَبَرَ بَادَرَ إِلَى خُوَارِزْمَ، وَأَرْسَلَ إِلَى سَنْجَرَ يَسْتَمِدُّهُ، وَكَانَ بِنَيْسَابُورَ، فَسَارَ فِي الْعَسَاكِرِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَنْتَظِرْهُ مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا قَارَبَ خُوَارِزْمَ هَرَبَ الْأَتْرَاكُ إِلَى مَنْقَشَلَاغَ، وَطُغْرُلْتِكِينَ أَيْضًا رَحَلَ إِلَى حَنْدَخَانَ، وَكُفِيَ خُوَارِزْمُشَاهْ شَرَّهُمْ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ خُوَارِزْمُشَاهْ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ إِتْسِزُ، فَمَدَّ ظِلَالَ الْأَمْنِ، وَأَفَاضَ الْعَدْلَ، وَكَانَ قَدْ قَادَ الْجُيُوشَ أَيَّامَ أَبِيهِ، وَقَصَدَ بِلَادَ الْأَعْدَاءِ، وَبَاشَرَ الْحُرُوبَ، فَمَلَكَ مَدِينَةَ مَنْقَشَلَاغَ. وَلَمَّا وَلِيَ بَعْدَ أَبِيهِ قَرَّبَهُ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ، وَعَظَّمَهُ، وَاعْتَضَدَ بِهِ، وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ فِي أَسْفَارِهِ وَحُرُوبِهِ، فَظَهَرَتْ مِنْهُ الْكِفَايَةُ وَالشَّهَامَةُ، فَزَادَهُ تَقَدُّمًا وَعُلُوًّا، وَهُوَ ابْتِدَاءُ مُلْكِ بَيْتِ خُوَارِزْمَشَاهْ تُكُشْ، وَابْنِهِ مُحَمَّدٍ الَّذِي ظَهَرَتِ التَّتَرُ عَلَيْهِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) .

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ رِضْوَانَ وَأَخِيهِ دُقَاقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْمَلِكُ رِضْوَانُ إِلَى دِمَشْقَ، وَبِهَا أَخُوهُ دُقَاقُ، عَازِمًا عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُ، فَلَمَّا قَارَبَهَا، وَرَأَى حَصَانَتَهَا وَامْتِنَاعَهَا، عَلِمَ عَجْزَهُ عَنْهَا، فَرَحَلَ إِلَى نَابُلُسَ، وَسَارَ إِلَى الْقُدْسِ لِيَأْخُذَهُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ، وَانْقَطَعَتِ الْعَسَاكِرُ عَنْهُ، فَعَادَ وَمَعَهُ يَاغِي سِيَانَ، صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، وَجَنَاحُ الدَّوْلَةِ. ثُمَّ إِنَّ يَاغِي سِيَانَ فَارَقَ رِضْوَانَ، وَقَصَدَ دُقَاقَ، وَحَسَّنَ لَهُ مُحَاصَرَةَ أَخِيهِ بِحَلَبَ، جَزَاءً لِمَا فَعَلَهُ، فَجَمَعَ عَسَاكِرَ كَثِيرَةً وَسَارَ وَمَعَهُ يَاغِي سِيَانَ، فَأَرْسَلَ رِضْوَانُ رَسُولًا إِلَى سُقْمَانَ بْنِ أُرْتُقَ، وَهُوَ بِسَرُوجَ، يَسْتَنْجِدُهُ، فَأَتَاهُ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنَ التُّرْكُمَانِ، فَسَارَ نَحْوَ أَخِيهِ، فَالْتَقَيَا بِقِنَّسْرِينَ، فَاقْتَتَلَا، فَانْهَزَمَ دُقَاقُ وَعَسْكَرُهُ، وَنُهِبَتْ خِيَامُهُمْ وَجَمِيعُ مَالِهِمْ، وَعَادَ رِضْوَانُ إِلَى حَلَبَ، ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُخْطَبَ لِرِضْوَانَ بِدِمَشْقَ قَبْلَ دُقَاقَ، وَبِأَنْطَاكِيَةَ، وَقِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] . ذِكْرُ الْخُطْبَةِ لِلْعَلَوِيِّ الْمِصْرِيِّ بِوِلَايَةِ رِضْوَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَطَبَ الْمَلِكُ رِضْوَانُ فِي كَثِيرٍ مِنْ وِلَايَتِهِ لِلْمُسْتَعْلِي بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ، صَاحِبِ مِصْرَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ الْأَمِيرُ جَنَاحُ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ زَوْجُ أُمِّهِ، فَرَأَى مِنْ رِضْوَانَ تَغَيُّرًا، فَسَارَ إِلَى حِمْصَ، وَهِيَ لَهُ، فَلَمَّا رَأَى يَاغِي سِيَانَ بُعْدَهُ عَنْ رِضْوَانَ صَالَحَهُ، وَقَدِمَ إِلَيْهِ بِحَلَبَ، وَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا. وَكَانَ لِرِضْوَانَ مُنَجِّمٌ يُقَالُ لَهُ: الْحَكِيمُ أَسْعَدُ، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَيْهِ، فَقَدَّمَهُ بَعْدَ مَسِيرِ جَنَاحِ الدَّوْلَةِ، فَحَسَّنَ لَهُ مَذَاهِبَ الْعَلَوِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ، وَأَتَتْهُ رُسُلُ الْمِصْرِيِّينَ يَدْعُونَهُ إِلَى طَاعَتِهِمْ، وَيَبْذُلُونَ لَهُ الْمَالَ، وَإِنْفَاذَ الْعَسَاكِرِ إِلَيْهِ لِيَمْلِكَ دِمَشْقَ، فَخَطَبَ لَهُمْ بِشَيْزَرَ

وَجَمِيعِ الْأَعْمَالِ سِوَى أَنْطَاكِيَةَ، وَحَلَبَ، وَالْمَعَرَّةَ، أَرْبَعَ جُمَعٍ، ثُمَّ حَضَرَ عِنْدَهُ سُقْمَانُ بْنُ أُرْتُقَ، وَيَاغِي سِيَانَ، صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَاسْتَعْظَمَاهُ، فَأَعَادَ الْخُطْبَةَ الْعَبَّاسِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَغْدَاذَ يَعْتَذِرُ مِمَّا كَانَ مِنْهُ. وَسَارَ يَاغِي سِيَانَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، فَلَمْ يُقِمْ بِهَا غَيْرَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ حَتَّى وَصَلَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهَا وَحَصَرُوهَا، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِخُرَاسَانَ بَيْنَ أَهْلِ سَبْزَوَارَ وَأَهْلِ خُسْرُوجِرْدَ، وَقِتَالٌ عَظِيمٌ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَانْهَزَمَ أَهْلُ خُسْرُوجِرْدَ. وَفِيهَا قُتِلَ عُثْمَانُ، وَكِيلُ دَارِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ كَانَ كَاتَبَ صَاحِبَ غَزْنَةَ بِالْأَخْبَارِ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ، فَأُخِذَ وَحُبِسَ بِتِرْمِذَ مُدَّةً، ثُمَّ اطُّلِعَ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي الْحَبْسِ، أَنَّهُ كَانَ يُكَاتِبُهُ أَيْضًا فَقُتِلَ. وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا قُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّمِيرِمِيُّ، وَزِيرُ أُمِّ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، قَتَلَهُ بَاطِنِيٌّ غِيلَةً، وَقُتِلَ الْبَاطِنِيُّ بَعْدَهُ. وَفِيهَا فِي شَعْبَانَ، ظَهَرَ كَوْكَبٌ كَبِيرٌ لَهُ ذُؤَابَةٌ، وَأَقَامَ يَطْلُعُ عِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ غَابَ وَلَمْ يَظْهَرْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ النَّقِيبُ الطَّاهِرُ أَبُو الْغَنَائِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ دَيِّنًا

سَخِيًّا، كَرِيمًا، مُتَعَصِّبًا، حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ، وَوَلِيَ النِّقَابَةَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ أَبُو الْفُتُوحِ حَيْدَرَةُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ يَحْيَى بْنُ أَحْمَدَ السَّيْبِيُّ وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَسَنَتَيْنِ، وَهُوَ صَحِيحُ الْحَوَاسِّ، وَكَانَ مُقْرِئًا، مُحَدِّثًا، حَاضِرَ الْقَلْبِ. وَفِيهَا قُتِلَ أَرَغَشُ النِّظَامِيُّ، مَمْلُوكُ نِظَامِ الْمُلْكِ، بِالرَّيِّ وَكَانَ قَدْ بَلَغَ مَبْلَغًا عَظِيمًا بِحَيْثُ إِنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةَ يَاقُوتِيِّ عَمِّ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، قَتَلَهُ بَاطِنِيٌّ، وَقُتِلَ قَاتِلُهُ. وَقُتِلَ بُرْسُقُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، قَتَلَهُ بَاطِنِيٌّ، وَكَانَ بُرْسُقُ مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبُكَ، وَهُوَ أَوَّلُ شِحْنَةٍ كَانَ بِبَغْدَاذَ.

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 491 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ كَانَ ابْتِدَاءُ ظُهُورِ دَوْلَةِ الْفِرِنْجِ، وَاشْتِدَادِ أَمْرِهِمْ، وَخُرُوجِهِمْ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى بَعْضِهَا، سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَمَلَكُوا مَدِينَةَ طُلَيْطِلَةَ وَغَيْرَهَا مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ. ثُمَّ قَصَدُوا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ جَزِيرَةَ صِقِلِّيَةَ وَمَلَكُوهَا، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ أَيْضًا، وَتَطَرَّقُوا إِلَى أَطْرَافِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَمَلَكُوا مِنْهَا شَيْئًا وَأُخِذَ مِنْهُمْ، ثُمَّ مَلَكُوا غَيْرَهُ عَلَى مَا نَرَاهُ. فَلَمَّا كَانَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ خَرَجُوا إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِمْ أَنَّ مَلِكَهُمْ بَرْدَوِيلَ جَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا مِنَ الْفِرِنْجِ، وَكَانَ نَسِيبَ رُجَّارَ الْفِرِنْجِيِّ الَّذِي مَلَكَ صِقِلِّيَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَى رُجَّارَ يَقُولُ لَهُ: قَدْ جَمَعْتُ جَمْعًا كَثِيرًا، وَأَنَا وَاصِلٌ إِلَيْكَ، وَسَائِرٌ مِنْ عِنْدِكَ إِلَى إِفْرِيقِيَةَ أَفْتَحُهَا، وَأَكُونُ مُجَاوِرًا لَكَ. فَجَمَعَ رُجَّارُ أَصْحَابَهُ، وَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا: وَحَقِّ الْإِنْجِيلِ هَذَا جِيدٌ لَنَا وَلَهُمْ، وَتُصْبِحُ الْبِلَادُ بِلَادَ النَّصْرَانِيَّةِ. فَرَفَعَ رِجْلَهُ وَحَبَقَ حَبْقَةً عَظِيمَةً وَقَالَ: وَحَقِّ دِينِي، هَذِهِ خَيْرٌ مِنْ كَلَامِكُمْ! قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِذَا وَصَلُوا إِلَيَّ أَحْتَاجُ إِلَى كُلْفَةٍ كَثِيرَةٍ، وَمَرَاكِبَ تَحْمِلُهُمْ إِلَى إِفْرِيقِيَةَ، وَعَسَاكِرَ مِنْ عِنْدِي أَيْضًا، فَإِنْ فَتَحُوا الْبِلَادَ كَانَتْ لَهُمْ، وَصَارَتِ الْمَئُونَةُ لَهُمْ مِنْ صِقِلِّيَةَ وَيَنْقَطِعُ عَنِّي مَا يَصِلُ مِنَ الْمَالِ مِنْ ثَمَنِ الْغَلَّاتِ كُلَّ سَنَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُفْلِحُوا رَجَعُوا إِلَى بِلَادِي، وَتَأَذَّيْتُ بِهِمْ، وَيَقُولُ تَمِيمٌ: غَدَرْتَ بِي، وَنَقَضْتَ عَهْدِي، وَتَنْقَطِعُ الْوَصْلَةُ وَالْأَسْفَارُ بَيْنَنَا، وَبِلَادُ إِفْرِيقِيَّةَ بَاقِيَةٌ لَنَا، مَتَى وَجَدْنَا قُوَّةً أَخَذْنَاهَا.

وَأَحْضَرَ رَسُولَهُ، وَقَالَ لَهُ: إِذَا عَزَمْتُمْ عَلَى جِهَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَفْضَلُ ذَلِكَ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، تُخَلِّصُونَهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَيَكُونُ لَكُمُ الْفَخْرُ، وَأَمَّا إِفْرِيقِيَّةُ فَبَيْنِي وَبَيْنَ أَهْلِهَا أَيْمَانٌ وَعُهُودٌ. فَتَجَهَّزُوا، وَخَرَجُوا إِلَى الشَّامِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَصْحَابَ مِصْرَ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ، لَمَّا رَأَوْا قُوَّةَ الدَّوْلَةِ السُّلْجُوقِيَّةِ، وَتَمَكُّنَهَا وَاسْتِيلَاءَهَا عَلَى بِلَادِ الشَّامِ إِلَى غَزَّةَ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مِصْرَ وِلَايَةٌ أُخْرَى تَمَنَعُهُمْ، وَدُخُولَ أَقْسِيسَ إِلَى مِصْرَ وَحَصْرَهَا؛ خَافُوا، وَأَرْسَلُوا إِلَى الْفِرِنْجِ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى الشَّامِ لِيَمْلِكُوهُ، وَيَكُونُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) . فَلَمَّا عَزَمَ الْفِرِنْجُ عَلَى قَصْدِ الشَّامِ، وَسَارُوا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ لِيَعْبُرُوا الْمَجَازَ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسِيرُوا فِي الْبَرِّ، فَيَكُونَ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا مَنَعَهُمْ مَلِكُ الرُّومِ مِنَ الِاجْتِيَازِ بِبِلَادِهِ، وَقَالَ: لَا أُمَكِّنُكُمْ مِنَ الْعُبُورِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ حَتَّى تَحْلِفُوا لِي أَنَّكُمْ تُسَلِّمُونَ إِلَيَّ أَنْطَاكِيَةَ، وَكَانَ قَصْدُهُ [أَنْ] يَحُثَّهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمْ أَتْرَاكٌ لَا يُبْقُونَ مِنْهُمْ أَحَدًا، لِمَا رَأَى مِنْ صَرَامَتِهِمْ وَمَلْكِهُمُ الْبِلَادَ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَعَبَرُوا الْخَلِيجَ عِنْدَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ سَنَةَ تِسْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَوَصَلُوا إِلَى بِلَادِ قِلِيجَ أَرْسِلَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشَ، وَهِيَ قُونِيَةُ وَغَيْرُهَا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا لَقِيَهُمْ قِلِيجُ أَرَسْلَانُ فِي جُمُوعِهِ، وَمَنَعَهُمْ، فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمُوهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَاجْتَازُوا فِي بِلَادِهِ إِلَى بِلَادِ ابْنِ الْأَرْمَنِيِّ، فَسَلَكُوهَا، وَخَرَجُوا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ فَحَصَرُوهَا. وَلَمَّا سَمِعَ صَاحِبُهَا يَاغِي سِيَّانِ بِتَوَجُّهِهِمْ إِلَيْهَا، خَافَ مِنَ النَّصَارَى الَّذِينَ بِهَا، فَأَخْرَجَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِهَا، لَيْسَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنَ الْغَدِ النَّصَارَى لِعَمَلِ الْخَنْدَقِ أَيْضًا، لَيْسَ مَعَهُمْ مُسْلِمٌ، فَعَمِلُوا فِيهِ إِلَى الْعَصْرِ، فَلَمَّا

أَرَادُوا دُخُولَ الْبَلَدِ مَنَعَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: أَنْطَاكِيَةُ لَكُمْ تَهَبُونَهَا لِي حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَكُونُ مِنَّا وَمِنَ الْفَرِنْجِ، فَقَالُوا لَهُ: مَنْ يَحْفَظُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا؟ فَقَالَ: أَنَا أَخْلُفُكُمْ فِيهِمْ، فَأَمْسَكُوا، وَأَقَامُوا فِي عَسْكَرِ الْفِرِنْجِ، فَحَصَرُوهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَظَهَرَ مِنْ شَجَاعَةِ يَاغِي سِيَانَ، وَجَوْدَةِ رَأْيِهِ، وَحَزْمِهِ، وَاحْتِيَاطِهِ مَا لَمْ يُشَاهَدْ مِنْ غَيْرِهِ، فَهَلَكَ أَكْثَرُ الْفِرِنْجِ (مَوْتًا، وَلَوْ بَقَوْا عَلَى كَثْرَتِهِمُ الَّتِي خَرَجُوا فِيهَا لَطَبَّقُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ) ، وَحَفِظَ يَاغِي سِيَانُ أَهْلَ نَصَارَى أَنْطَاكِيَةَ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمْ، وَكَفَّ الْأَيْدِيَ الْمُتَطَرِّقَةَ إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا طَالَ مُقَامُ الْفِرِنْجِ عَلَى أَنْطَاكِيَةَ رَاسَلُوا أَحَدَ الْمُسْتَحْفِظِينَ لِلْأَبْرَاجِ، وَهُوَ زَرَّادٌ يُعْرَفُ بِرُوزَبَةَ، وَبَذَلُوا لَهُ مَالًا وَأَقْطَاعًا، وَكَانَ يَتَوَلَّى حِفْظَ بُرْجٍ يَلِي الْوَادِيَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى شُبَّاكٍ فِي الْوَادِي، فَلَمَّا تَقَرَّرَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَذَا الْمَلْعُونِ الزَّرَّادِ، جَاءُوا إِلَى الشُّبَّاكِ فَفَتَحُوهُ، وَدَخَلُوا مِنْهُ، وَصَعِدَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ بِالْجِبَالِ، فَلَمَّا زَادَتْ عِدَّتُهُمْ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ ضَرَبُوا الْبُوقَ، وَذَلِكَ عِنْدَ السَّحَرِ، وَقَدْ تَعِبَ النَّاسُ مِنْ كَثْرَةِ السَّهَرِ وَالْحِرَاسَةِ، فَاسْتَيْقَظَ يَاغِي سِيَانُ، فَسَأَلَ عَنِ الْحَالِ، فَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْبُوقَ مِنَ الْقَلْعَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا قَدْ مُلِكَتْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْقَلْعَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْبُرْجِ، فَدَخَلَهُ الرُّعْبُ، وَفَتَحَ بَابَ الْبَلَدِ، وَخَرَجَ هَارِبًا فِي ثَلَاثِينَ غُلَامًا عَلَى وَجْهِهِ، فَجَاءَ نَائِبُهُ فِي حِفْظِ الْبَلَدِ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ إِنَّهُ هَرَبَ، فَخَرَجَ مِنْ بَابٍ آخَرَ هَارِبًا، وَكَانَ ذَلِكَ مَعُونَةً للْفِرِنْجِ، وَلَوْ ثَبَتَ سَاعَةً لَهَلَكُوا. ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ دَخَلُوا الْبَلَدَ مِنَ الْبَابِ، وَنَهَبُوهُ، وَقَتَلُوا مَنْ فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْأُولَى. وَأَمَّا يَاغِي سِيَانُ فَإِنَّهُ لَمَّا طَلَعَ عَلَيْهِ النَّهَارُ رَجَعَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ، وَكَانَ كَالْوَلْهَانِ، فَرَأَى نَفْسَهُ وَقَدْ قَطَعَ عِدَّةَ فَرَاسِخَ، فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: أَيْنَ أَنَا؟ فَقِيلَ: عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ، فَنَدِمَ كَيْفَ خَلَصَ سَالِمًا، وَلَمْ يُقَاتِلْ حَتَّى يُزِيلَهُمْ عَنِ الْبَلَدِ أَوْ يُقْتَلَ، وَجَعَلَ يَتَلَهَّفُ، وَيَسْتَرْجِعُ عَلَى تَرْكِ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَلِشِدَّةِ مَا لَحِقَهُ سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ أَرَادَ أَصْحَابُهُ أَنْ يُرْكِبُوهُ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْكَةٌ [فَإِنَّهُ

كَانَ] قَدْ قَارَبَ الْمَوْتَ فَتَرَكُوهُ وَسَارُوا عَنْهُ، وَاجْتَازَ بِهِ إِنْسَانٌ أَرْمَنِيٌّ كَانَ يَقْطَعُ الْحَطَبَ، وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ، فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ رَأْسَهُ وَحَمَلَهُ إِلَى الْفِرِنْجِ بِأَنْطَاكِيَةَ. وَكَانَ الْفِرِنْجُ قَدْ كَاتَبُوا صَاحِبَ حَلَبَ، وَدِمَشْقَ، بِأَنَّنَا لَا نَقْصِدُ غَيْرَ الْبِلَادِ الَّتِي كَانَتْ بِيَدِ الرُّومِ، لَا نَطْلُبُ سِوَاهَا، مَكْرًا مِنْهُمْ وَخَدِيعَةً، حَتَّى لَا يُسَاعِدُوا صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ. ذِكْرُ مَسِيرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْفِرِنْجِ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ لَمَّا سَمِعَ قِوَامُ الدَّوْلَةِ كَرْبُوقَا بِحَالِ الْفِرِنْجِ، وَمُلْكِهِمْ أَنْطَاكِيَةَ، جَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ إِلَى الشَّامِ، وَأَقَامَ بِمَرْجِ دَابِقَ، وَاجْتَمَعَتْ مَعَهُ عَسَاكِرُ الشَّامِ، تُرْكُهَا وَعَرَبُهَا سِوَى مَنْ كَانَ بِحَلَبَ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ دُقَاقُ بْنُ تُتُشَ وطُغْتِكِينُ أَتَابِكُ، وَجَنَاحُ الدَّوْلَةِ، وَصَاحِبُ حِمْصَ، وَأَرْسِلَانُ تَاشْ، صَاحِبُ سِنْجَارَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ أُرْتُقَ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُمْ، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْفِرِنْجُ عَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ عَلَيْهِمْ، وَخَافُوا لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْوَهَنِ، وَقِلَّةِ الْأَقْوَاتِ عِنْدَهُمْ، وَسَارَ الْمُسْلِمُونَ، فَنَازَلُوهُمْ عَلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَأَسَاءَ كَرْبُوقَا السِّيرَةَ، فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَغْضَبَ الْأُمَرَاءَ وَتَكَبَّرَ عَلَيْهِمْ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ مَعَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَأَغْضَبَهُمْ ذَلِكَ، وَأَضْمَرُوا لَهُ فِي أَنْفُسِهِمُ الْغَدْرَ، إِذَا كَانَ قِتَالٌ، وَعَزَمُوا عَلَى إِسْلَامِهِ عِنْدَ الْمَصْدُوقَةِ. وَأَقَامَ الْفِرِنْجُ بِأَنْطَاكِيَةَ، بَعْدَ أَنْ مَلَكُوهَا، اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا لَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَهُ، وَتَقَوَّتَ الْأَقْوِيَاءُ بِدَوَابِّهِمْ، وَالضُّعَفَاءُ بِالْمَيْتَةِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ أَرْسَلُوا إِلَى

كَرْبُوقَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمَانَ لِيَخْرُجُوا مِنَ الْبَلَدِ، فَلَمْ يُعْطِهِمْ مَا طَلَبُوهُ، وَقَالَ: لَا تَخْرُجُونَ إِلَّا بِالسَّيْفِ. وَكَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْمُلُوكِ بَرْدُوِيلُ، وَصَنْجِيلُ، وَكُنْدُفْرِي، وَالْقُمَّصُ، صَاحِبُ الرُّهَا وَبَيْمُنْتُ، صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ مَعَهُمْ رَاهِبٌ مُطَاعٌ فِيهِمْ، وَكَانَ دَاهِيَةً مِنَ الرِّجَالِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْمَسِيحَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ لَهُ حَرْبَةٌ مَدْفُونَةٌ بِالقِسْيَانِ الَّذِي بِأَنْطَاكِيَةَ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهَا فَإِنَّكُمْ تَظْفَرُونَ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوهَا فَالْهَلَاكُ مُتَحَقِّقٌ. وَكَانَ قَدْ دَفَنَ قَبْلَ ذَلِكَ حَرْبَةً فِي مَكَانٍ فِيهِ، وَعَفَّى أَثَرَهَا، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّوْمِ وَالتَّوْبَةِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ أَدْخَلَهُمُ الْمَوْضِعَ جَمِيعَهُمْ، وَمَعَهُمْ عَامَّتُهُمْ، وَالصُّنَّاعُ مِنْهُمْ، وَحَفَرُوا فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ فَوَجَدُوهَا كَمَا ذَكَرَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَبْشِرُوا بِالظَّفَرِ، فَخَرَجُوا فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ مِنَ الْبَابِ مُتَفَرِّقِينَ مِنْ خَمْسَةٍ، وَسِتَّةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ لِكَرْبُوقَا: يَنْبَغِي أَنْ تَقِفَ عَلَى الْبَابِ، فَتَقْتُلَ كُلَّ مَنْ يَخْرُجُ، فَإِنَّ أَمْرَهُمُ الْآنَ، وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ، سَهْلٌ فَقَالَ لَا تَفْعَلُوا! أَمْهِلُوهُمْ حَتَّى يَتَكَامَلَ خُرُوجُهُمْ فَنَقْتُلَهُمْ، وَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْ مُعَاجَلَتِهِمْ، فَقَتَلَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَمَاعَةً مِنَ الْخَارِجِينَ، فَجَاءَ إِلَيْهِمْ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَمَنَعَهُمْ، وَنَهَاهُمْ. فَلَمَّا تَكَامَلَ خُرُوجُ الْفِرِنْجِ، وَلَمْ يَبْقَ بِأَنْطَاكِيَةَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، ضَرَبُوا مَصَافًّا عَظِيمًا، فَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُنْهَزِمِينَ، لِمَا عَامَلَهُمْ بِهِ كَرْبُوقَا أَوَّلًا مِنَ الِاسْتِهَانَةِ بِهِمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَثَانِيًا مِنْ مَنْعِهِمْ عَنْ قَتْلِ الْفِرِنْجِ، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَضْرِبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِسَيْفٍ، وَلَا طَعَنَ بِرُمْحٍ، وَلَا رَمَى بِسَهْمٍ، وَآخِرُ مَنِ انْهَزَمَ سُقْمَانُ بْنُ أُرْتُقَ، وَجَنَاحُ الدَّوْلَةِ، لِأَنَّهُمَا كَانَا فِي الْكَمِينِ، وَانْهَزَمَ كَرْبُوقَا مَعَهُمْ. فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ ذَلِكَ ظَنُّوهُ مَكِيدَةً، إِذْ لَمْ يَجْرِ قِتَالٌ يُنْهَزَمُ مِنْ مِثْلِهِ، وَخَافُوا أَنْ يَتْبَعُوهُمْ، وَثَبَتَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ، وَقَاتَلُوا حِسْبَةً، وَطَلَبًا لِلشَّهَادَةِ، فَقَتَلَ الْفِرِنْجُ مِنْهُمْ أُلُوفًا، وَغَنِمُوا مَا فِي

الْعَسْكَرِ مِنَ الْأَقْوَاتِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَثَاثِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَسْلِحَةِ، فَصَلُحَتْ حَالُهُمْ، وَعَادَتْ إِلَيْهِمْ قُوَّتُهُمْ. ذِكْرُ مَلْكِ الْفِرِنْجِ مَعَرَّةَ النُّعْمَانِ لَمَّا فَعَلَ الْفِرِنْجُ بِالْمُسْلِمِينَ مَا فَعَلُوا سَارُوا إِلَى مَعَرَّةِ النُّعْمَانِ، فَنَازَلُوهَا، وَحَصَرُوهَا، وَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَرَأَى الْفِرِنْجُ مِنْهُمْ شِدَّةً وَنِكَايَةً، وَلَقُوا مِنْهُمُ الْجِدَّ فِي حَرْبِهِمْ، وَالِاجْتِهَادَ فِي قِتَالِهِمْ، فَعَمِلُوا عِنْدَ ذَلِكَ بُرْجًا مِنْ خَشَبٍ يُوَازِي سُورَ الْمَدِينَةِ، وَوَقَعَ الْقِتَالُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَضُرَّ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ خَافَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَدَاخَلَهُمُ الْفَشَلُ وَالْهَلَعُ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِذَا تَحَصَّنُوا بِبَعْضِ الدُّورِ الْكِبَارِ امْتَنَعُوا بِهَا، فَنَزَلُوا مِنَ السُّورِ وَأَخْلَوُا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانُوا يَحْفَظُونَهُ، فَرَآهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى، فَفَعَلُوا كَفِعْلِهِمْ، فَخَلَا مَكَانُهُمْ أَيْضًا مِنَ السُّورِ. (وَلَمْ تَزَلْ تَتْبَعُ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الَّتِي تَلِيهَا فِي النُّزُولِ، حَتَّى خَلَا السُّورُ، فَصَعِدَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهِ عَلَى السَّلَالِيمِ، فَلَمَّا عَلَوْهُ تَحَيَّرَ الْمُسْلِمُونَ) ، وَدَخَلُوا دُورَهُمْ، فَوَضَعَ الْفِرِنْجُ فِيهِمُ السَّيْفَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَتَلُوا مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ، وَسَبَوُا السَّبْيَ الْكَثِيرَ، وَمَلَكُوهُ، وَأَقَامُوا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَسَارُوا إِلَى عِرْقَةَ فَحَصَرُوهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَنَقَبُوا سُورَهَا عِدَّةَ نُقُوبٍ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا، وَرَاسَلَهُمْ مُنْقِذٌ، صَاحِبُ شَيْزَرَ، فَصَالَحَهُمْ عَلَيْهَا، وَسَارُوا إِلَى حِمْصَ وَحَصَرُوهَا، فَصَالَحَهُمْ صَاحِبُهَا جَنَاحُ الدَّوْلَةِ، وَخَرَجُوا عَلَى طَرِيقِ النَّوَاقِيرِ إِلَى عَكَّا، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمَلِكِ سَنْجَرَ وَدَوْلَتْشَاهْ كَانَ دَوْلَتْشَاهْ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ السَّلْجُوقِيَّةِ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ جَمْعٌ مِنْ عَسَاكِرِ بَيْغُوا

أَخِي طُغْرُلْبَكَ، وَكَانُوا بِطَخَارِسْتَانَ، فَأَخَذُوا وَلْوَالِجَ وَكَمَنْجَ، فَسَارَ إِلَيْهِمُ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ وَعَسَاكِرُهُ، فَوَصَلَ إِلَى بَلْخٍ، فَدَخَلَهَا فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَخَرَجَ مِنْهَا لِقِتَالِ دَوْلَتْشَاهْ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْجُمُوعِ مَا ثَبَتَ مُقَابِلَ عَسْكَرِ سَنْجَرَ، فَقَاتَلُوا شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ، وَانْهَزَمُوا، وَأَخَذُوا دَوْلَتْشَاهْ أَسِيرًا، وَأُحْضِرَ عِنْدَ سَنْجَرَ، فَعَفَا عَنْهُ مِنَ الْقَتْلِ، وَحَبَسَهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَحَلَهُ، وَسَيَّرَ سَنْجَرُ جَيْشًا إِلَى مَدِينَةِ تِرْمِذَ، فَمَلَكُوهَا، وَسَلَّمَهَا إِلَى طُغْرُلْتِكِينَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، جَزِيرَةَ جَرْبَةَ وَجَزِيرَةَ قَرْقَنَّةَ، وَمَدِينَةَ تُونُسَ، وَكَانَ بِإِفْرِيقِيَّةَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ هَلَكَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. وَفِيهَا أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ رَسُولًا إِلَى السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ مُسْتَنْفِرًا عَلَى الْفِرِنْجِ، وَمُبَالِغًا فِي تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَتَدَارُكِهِ قَبْلَ أَنْ يَزْدَادَ قُوَّةً. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، تُوُفِّيَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ فَاضِلًا فِي الْحَدِيثِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وَكَانَ فَاضِلًا، فَصِيحًا. وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ، تُوُفِّيَ طِرَادُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ، وَهُوَ عَالِي الْإِسْنَادِ فِي الْحَدِيثِ، وَوَلِيَ نِقَابَةَ الْعَبَّاسِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُهُ شَرَفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ طِرَادٍ.

وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، تُوُفِّيَ أَبُو الْفَتْحِ الْمُظَفَّرُ بْنُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْمُسْلِمَةِ، وَكَانَ بَيْتُهُ مَجْمَعَ الْفُضَلَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْفَرَجِ سَهْلُ بْنُ بِشْرِ بْنِ أَحْمَدَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الْمُحَدِّثِينَ.

ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَة] 492 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ عِصْيَانِ الْأَمِيرِ أُنَرَ وَقَتْلِهِ لَمَّا سَارَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ إِلَى خُرَاسَانَ وَلَّى الْأَمِيرَ أُنَرَ بِلَادَ فَارِسَ جَمِيعَهَا، وَكَانَتْ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا الشُّوَانَكَارَةُ عَلَى اخْتِلَافِ بُطُونِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، وَاسْتَعَانُوا بِصَاحِبِ كَرْمَانَ إِيرَانْ شَاهْ بْنِ قَاوَرْتَ، فَاجْتَمَعُوا، وَصَافُّوا الْأَمِيرَ أُنَرَ، وَكَسَرُوهُ، وَعَادَ مَفْلُولًا إِلَى أَصْبَهَانَ، وَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي اللَّحَاقِ بِهِ إِلَى خُرَاسَانَ، فَأَمَرَهُ بِالْمُقَامِ بِبَلَدِ الْجِبَالِ، وَوَلَّاهُ إِمَارَةَ الْعِرَاقِ، وَكَاتَبَ الْعَسَاكِرَ الْمُجَاوِرَةَ لَهُ بِطَاعَتِهِ. فَأَقَامَ بِأَصْبَهَانَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى أَقْطَاعِهِ بِأَذْرَبِيجَانَ، وَعَادَ وَقَدِ انْتَشَرَ أَمْرُ الْبَاطِنِيَّةِ بِأَصْبَهَانَ، فَنَدَبَ نَفْسَهُ لِقِتَالِهِمْ، وَحَصَرَ قَلْعَةً عَلَى جَبَلِ أَصْبَهَانَ. وَاتَّصَلَ بِهِ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَكَانَ بِبَغْدَاذَ، فَسَارَ مِنْهَا إِلَى الْحِلَّةِ، فَأَكْرَمَهُ صَدَقَةُ، وَسَارَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى الْأَمِيرِ أُنَرَ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِالْأَمِيرِ أُنَرَ خَوَّفَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، وَأَعْظَمُوا عَلَيْهِ الِاجْتِمَاعَ بِهِ، وَحَسَّنُوا لَهُ الْبُعْدَ عَنْهُ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِمُكَاتَبَةِ غِيَاثِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ بِكَنْجَةَ، فَعَزَمَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ لِلسُّلْطَانِ، وَتَحَدَّثَ فِيهِ، فَظَهَرَ ذَلِكَ، فَزَادَ خَوْفُهُ مِنَ السُّلْطَانِ، فَجَمَعَ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْمَعْرُوفِينَ بِالشَّجَاعَةِ نَحْوَ عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَسَارَ مِنْ أَصْبَهَانَ إِلَى الرَّيِّ، وَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ يَقُولُ: إِنَّهُ مَمْلُوكٌ، وَمُطِيعٌ، إِنْ سَلَّمَ إِلَيْهِ مَجْدَ الْمُلْكِ الْبَلَاسَانِيَّ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ إِلَيْهِ فَهُوَ عَاصٍ خَارِجٌ عَنِ الطَّاعَةِ.

فَبَيْنَمَا هُوَ يُفْطِرُ، وَكَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَصُومَ أَيَّامًا مِنَ الْأُسْبُوعِ، فَلَمَّا قَارَبَ الْفَرَاغَ مِنَ الْإِفْطَارِ هَجَمَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ الْمُوَلَّدِينِ بِخُوَارِزْمَ، وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ خَيْلِهِ، فَصَدَمَ أَحَدُهُمُ الْمَشْعَلَ فَأَلْقَاهُ، وَصَدَمَ الْآخَرُ الشَّمْعَةَ فَأَطْفَأَهَا، وَضَرَبَهُ الثَّالِثُ بِالسِّكِّينِ فَقَتَلَهُ، وَقُتِلَ مَعَهُ جَانْدَارِهْ، وَاخْتَلَطَ النَّاسُ فِي الظُّلْمَةِ، وَنَهَبُوا خَزَائِنَهُ، وَتَفَرَّقَ عَسْكَرُهُ، وَبَقِيَ مُلْقًى فَلَمْ يُوجَدْ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى دَارِهِ بِأَصْبَهَانَ، وَدُفِنَ بِهَا. وَوَصَلَ خَبَرُ قَتْلِهِ إِلَى السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، وَهُوَ بِخُوَارِ الرَّيِّ، قَدْ خَرَجَ مِنْ خُرَاسَانَ عَازِمًا عَلَى قَتْلِهِ وَهُوَ عَلَى غَايَةِ الْحَذَرِ مِنْ قِتَالِهِ وَعَاقِبَةِ أَمْرِهِ، وَفَرِحَ مَجْدُ الْمُلْكِ الْبَلَاسَانِيُّ بِقَتْلِهِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ يَوْمِهِ عَنْ قَرِيبٍ، وَكَانَ عُمُرُ أُنَرَ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْخَيْرِ وَالْمَحَبَّةِ لِلصَّالِحِينَ. ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ كَانَ الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ لِتَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشَ، وَأَقْطَعَهُ لِلْأَمِيرِ سُقْمَانَ بْنِ أُرْتُقَ التُّرْكُمَانِيِّ، فَلَمَّا ظَفِرَ الْفِرِنْجُ بِالْأَتْرَاكِ عَلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَقَتَّلُوا فِيهِمْ، ضَعُفُوا، وَتَفَرَّقُوا، فَلَمَّا رَأَى الْمِصْرِيُّونَ ضَعْفَ الْأَتْرَاكِ سَارُوا إِلَيْهِ، وَمُقَدَّمُهُمُ الْأَفْضَلُ بْنُ بَدْرٍ الْجَمَالِيُّ، وَحَصَرُوهُ، وَبِهِ الْأَمِيرُ سُقْمَانُ، وَإِيلْغَازِي ابْنَا أُرْتُقَ، وَابْنُ عَمِّهِمَا سُونُجُ، وَابْنُ أَخِيهِمَا يَاقُوتِي، وَنَصَبُوا عَلَيْهِ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ مَنْجَنِيقًا، فَهَدَمُوا مَوَاضِعَ مِنْ سُورِهِ، وَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ، فَدَامَ الْقِتَالُ وَالْحِصَارُ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَمَلَكُوهُ بِالْأَمَانِ فِي شَعْبَانَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَأَحْسَنَ الْأَفْضَلُ إِلَى سُقْمَانَ وَإِيلْغَازِي وَمَنْ مَعَهُمَا، وَأَجْزَلَ لَهُمُ الْعَطَاءَ، وَسَيَّرَهُمْ فَسَارُوا إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ عَبَرُوا الْفُرَاتَ، فَأَقَامَ سُقْمَانُ بِبَلَدِ الرُّهَا وَسَارَ إِيلْغَازِي إِلَى الْعِرَاقِ، وَاسْتَنَابَ الْمِصْرِيُّونَ فِيهِ رَجُلًا يُعْرَفُ بِافْتِخَارِ الدَّوْلَةِ، وَبَقِيَ فِيهِ إِلَى الْآنِ، فَقَصَدَهُ

الْفِرِنْجُ، بَعْدَ أَنْ حَصَرُوا عَكَّا، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ حَصَرُوهُ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَنَصَبُوا عَلَيْهِ بُرْجَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ نَاحِيَةِ صِهْيَوْنَ، وَأَحْرَقَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ بِهِ. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ إِحْرَاقِهِ أَتَاهُمُ الْمُسْتَغِيثُ بِأَنَّ الْمَدِينَةَ قَدْ مُلِكَتْ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَمَلَكُوهَا مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ مِنْهُ ضَحْوَةَ نَهَارِ الْجُمُعَةِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَرَكِبَ النَّاسُ السَّيْفَ، وَلَبِثَ الْفِرِنْجُ فِي الْبَلْدَةِ أُسْبُوعًا يَقْتُلُونَ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ، وَاحْتَمَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمِحْرَابِ دَاوُدَ، فَاعْتَصَمُوا بِهِ، وَقَاتَلُوا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَبَذَلَ لَهُمُ الْفِرِنْجُ الْأَمَانَ، فَسَلَّمُوهُ إِلَيْهِمْ، وَوَفَّى لَهُمُ الْفِرِنْجُ، وَخَرَجُوا لَيْلًا إِلَى عَسْقَلَانَ فَأَقَامُوا بِهَا. وَقَتَلَ الْفِرِنْجُ، بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، مَا يَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ أَلْفًا، مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُلَمَائِهِمْ، وَعُبَّادِهِمْ، وَزُهَّادِهِمْ، مِمَّنْ فَارَقَ الْأَوْطَانَ وَجَاوَرَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ الشَّرِيفِ، وَأَخَذُوا مِنْ عِنْدِ الصَّخْرَةِ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ قِنْدِيلًا مِنَ الْفِضَّةِ، وَزْنُ كُلِّ قِنْدِيلٍ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخَذُوا مِنَ الْقَنَادِيلِ الصِّغَارِ مِائَةً وَخَمْسِينَ قِنْدِيلًا نُقْرَةً، وَمِنَ الذَّهَبِ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ قِنْدِيلًا، وَغَنِمُوا مِنْهُ مَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِحْصَاءُ. وَوَرَدَ الْمُسْتَنْفِرُونَ مِنَ الشَّامِ، فِي رَمَضَانَ، إِلَى بَغَدَاذَ صُحْبَةُ الْقَاضِي أَبِي سَعْدٍ الْهَرَوِيِّ، فَأَوْرَدُوا فِي الدِّيوَانِ كَلَامًا أَبْكَى الْعُيُونَ، وَأَوْجَعَ الْقُلُوبَ، وَقَامُوا بِالْجَامِعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَاسْتَغَاثُوا، وَبَكَوْا وَأَبْكَوْا، وَذُكِرَ مَا دَهَمَ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ الْبَلَدِ الشَّرِيفِ الْمُعَظَّمِ مِنْ قَتْلِ الرِّجَالِ، وَسَبْيِ الْحَرِيمِ وَالْأَوْلَادِ، وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ، فَلِشِدَّةِ مَا أَصَابَهُمْ أَفْطَرُوا، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَسِيرَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّامَغَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الزَّنْجَانِيُّ، وَأَبُو الْوَفَا بْنُ عَقِيلٍ، وَأَبُو سَعْدٍ الْحُلْوَانِيُّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ سِمَاكٍ، فَسَارُوا إِلَى حُلْوَانَ، فَبَلَغَهُمْ قَتْلُ مَجْدِ الْمُلْكِ الْبَلَاسَانِيِّ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، فَعَادُوا مِنْ

غَيْرِ بُلُوغِ أَرَبٍ، وَلَا قَضَاءِ حَاجَةٍ. وَاخْتَلَفَ السَّلَاطِينُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، فَتَمَكَّنَ الْفِرِنْجُ مِنِ الْبِلَادِ، فَقَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ الْآبِيوَرْدِيُّ، فِي هَذَا الْمَعْنَى، أَبْيَاتًا مِنْهَا: مَزَجْنَا دِمَاءً بِالدُّمُوعِ السَّوَاجِمِ ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَّا عُرْضَةٌ لِلْمَرَاحِمِ ... وَشَرُّ سِلَاحِ الْمَرْءِ دَمْعٌ يُفِيضُهُ إِذَا الْحَرْبُ شَبَّتْ نَارُهَا بِالصَّوَارِمِ ... فَإِيهًا، بَنِي الْإِسْلَامِ، إِنَّ وَرَاءَكُمْ وَقَائِعَ يُلْحِقْنَ الذُّرَى بِالْمَنَاسِمِ ... أَتَهْوِيمَةٌ فِي ظِلِّ أَمْنٍ وَغِبْطَةٍ ، وَعَيْشٍ كَنُوَّارِ الْخَمِيلَةِ نَاعِمِ وَكَيْفَ تَنَامُ الْعَيْنُ مِلْءَ جُفُونِهَا ، عَلَى هَفَوَاتٍ أَيْقَظَتْ كُلَّ نَائِمِ ... وَإِخْوَانُكُمْ بِالشَّامِ يُضْحِي مَقِيلُهُمْ ظُهُورَ الْمَذَاكِي، أَوْ بُطُونَ الْقَشَاعِمِ ... تَسُومُهُمُ الرُّومُ الْهَوَانَ، وَأَنْتُمُ تَجُرُّونَ ذَيْلَ الْخَفْضِ فِعْلَ الْمُسَالِمِ ... وَكَمْ مِنْ دِمَاءٍ قَدْ أُبِيحَتْ، وَمِنْ دُمًى تَوَارَى حَيَاءً حُسْنُهَا بِالْمَعَاصِمِ ... بِحَيْثُ السُّيُوفُ الْبِيضُ مُحْمَرَّةُ الظُّبَى وَسُمْرُ الْعَوَالِي دَامِيَاتُ اللَّهَاذِمِ ... وَبَيْنَ اخْتِلَاسِ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَقْفَةٌ تَظَلُّ لَهَا الْوِلْدَانُ شِيبَ الْقَوَادِمِ ... وَتِلْكَ حُرُوبٌ مَنْ يَغِبْ عَنْ غِمَارِهَا لِيَسْلَمَ، يَقْرَعْ بَعْدَهَا سَنَّ نَادِمِ ... سَلَلْنَ بِأَيْدِي الْمُشْرِكِينَ قَوَاضِبًا ، سَتُغْمَدُ مِنْهُمْ فِي الطُّلَى وَالْجَمَاجِمِ يَكَادُ لَهُنَّ الْمُسْتَجِنُّ بِطِيبَةٍ يُنَادِي ... بِأَعْلَى الصَّوْتِ يَا آلَ هَاشِمِ

أَرَى أُمَّتِي لَا يَشْرَعُونَ إِلَى الْعِدَى رِمَاحَهُمْ، وَالدِّينُ وَاهِي الدَّعَائِمِ ... وَيَجْتَنِبُونَ النَّارَ خَوْفًا مِنَ الرَّدَى ، وَلَا يَحْسَبُونَ الْعَارَ ضَرْبَةَ لَازِمِ أَتَرْضَى صَنَادِيدُ الْأَعَارِيبِ بِالْأَذَى ، وَيُغْضِي عَلَى ذُلٍّ كُمَاةُ الْأَعَاجِمِ وَمِنْهَا: فَلَيْتَهُمْ، إِذْ لَمْ يَذُودُوا حَمِيَّةً ... عَنِ الدِّينِ، ضَنُّوا غَيْرَةً بِالْمَحَارِمِ وَإِنْ زَهِدُوا فِي الْأَجْرِ، إِذْ حَمِسَ الْوَغَى ، فَهَلَّا أَتَوْهُ رَغْبَةً فِي الْغَنَائِمِ ... لَئِنْ أَذْعَنَتْ تِلْكَ الْخَيَاشِيمُ لِلْبُرَى ، فَلَا عَطَسُوا إِلَّا بِأَجْدَعَ رَاغِمِ ... دَعَوْنَاكُمُ، وَالْحَرْبُ تَرْنُو مُلِحَّةً إِلَيْنَا، بِأَلْحَاظِ النُّسُورِ الْقَشَاعِمِ ... تُرَاقِبُ فِينَا غَارَةً عَرَبِيَّةً ، تُطِيلُ عَلَيْهَا الرُّومُ عَضَّ الْأَبَاهِمِ ... فَإِنْ أَنْتُمُ لَمْ تَغْضَبُوا بَعْدَ هَذِهِ ، رَمَيْنَا إِلَى أَعْدَائِنَا بِالْجَرَائِمِ ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمِصْرِيِّينَ والْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَمَضَانَ، كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ الْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ والْفِرِنْجِ وَسَبَبُهَا أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَا تَمَّ عَلَى أَهْلِ الْقُدْسِ، جَمَعَ الْأَفْضَلُ أَمِيرُ الْجُيُوشِ الْعَسَاكِرَ، وَحَشَدَ، وَسَارَ إِلَى عَسْقَلَانَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْفِرِنْجِ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مَا فَعَلُوا، وَيَتَهَدَّدُهُمْ، فَأَعَادُوا الرَّسُولَ بِالْجَوَابِ وَرَحَلُوا عَلَى أَثَرِهِ. وَطَلَعُوا عَلَى الْمِصْرِيِّينَ، عَقِيبَ وُصُولِ الرَّسُولِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمِصْرِيِّينَ خَبَرٌ مِنْ وُصُولِهِمْ، وَلَا مِنْ حَرَكَتِهِمْ، وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى أُهْبَةِ الْقِتَالِ، فَنَادَوْا إِلَى رُكُوبِ خُيُولِهِمْ، وَلَبِسُوا أَسْلِحَتَهُمْ، وَأَعْجَلَهُمُ الْفِرِنْجُ، فَهَزَمُوهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ، وَغَنِمُوا مَا فِي الْمُعَسْكَرِ مَنْ مَالٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَانْهَزَمَ الْأَفْضَلُ، فَدَخَلَ عَسْقَلَانَ، وَمَضَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ فَاسْتَتَرُوا بِشَجَرِ

الْجُمَّيْزِ، وَكَانَ هُنَاكَ كَثِيرًا، فَأَحْرَقَ الْفِرِنْجُ بَعْضَ الشَّجَرِ، حَتَّى هَلَكَ مَنْ فِيهِ، وَقَتَلُوا مَنْ خَرَجَ مِنْهُ، وَعَادَ الْأَفْضَلُ فِي خَوَاصِّهِ إِلَى مِصْرَ وَنَازَلَ الْفِرِنْجُ عَسْقَلَانَ، وَضَايَقُوهَا، فَبَذَلَ لَهُمْ أَهْلُهَا قَطِيعَةَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقِيلَ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى الْقُدْسِ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ ظُهُورِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ كَانَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ وَسَنْجَرُ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ وَأَبٍ، أُمُّهُمَا أُمُّ وَلَدٍ، وَلَمَّا مَاتَ أَبُوهُ مَلِكْشَاهْ كَانَ مُحَمَّدٌ مَعَهُ بِبَغْدَاذَ، فَسَارَ مَعَ أَخِيهِ مَحْمُودٍ، وَتَرْكَانْ خَاتُونْ زَوْجَةِ وَالِدِهِ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَلَمَّا حَصَرَ بَرْكِيَارُقُ أَصْبَهَانَ خَرَجَ مُحَمَّدٌ مُتَخَفِّيًا، وَمَضَى إِلَى وَالِدَتِهِ، وَهِيَ فِي عَسْكَرِ أَخِيهِ بَرْكِيَارُقَ، وَقَصَدَ أَخَاهُ السُّلْطَانَ بَرْكِيَارُقَ، وَسَارَ مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَقْطَعُهُ بَرْكِيَارُقُ كَنْجَةَ وَأَعْمَالَهَا، وَجَعَلَ مَعَهُ أَتَابِكًا لَهُ الْأَمِيرَ قَتْلَغْ تِكِينَ، فَلَمَّا قَوِيَ مُحَمَّدٌ قَتَلَهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ أَرَّانَ الَّذِي مِنْ جُمْلَتِهِ كَنْجَةُ، فَعُرِفَ ذَلِكَ الْوَقْتَ شَهَامَةُ مُحَمَّدٍ. وَكَانَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ قَدْ أَخَذَ تِلْكَ الْبِلَادَ مِنْ فَضْلُونَ بْنِ أَبِي الْأَسْوَارِ الرَّوَّادِيِّ، وَسَلَّمَهَا إِلَى سَرْهَنْكَ سَاوْتِكِينَ الْخَادِمِ، وَأَقْطَعَ فَضْلُونَ أَسْتَرَابَاذَ، وَعَادَ فَضلُونُ ضِمْنَ بِلَادِهِ، ثُمَّ عَصَى فِيهَا لَمَّا قَوِيَ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَيْهِ الْأَمِيرَ بُوزَانَ، فَحَارَبَهُ وَأَسَرَهُ، وَأَقْطَعَ بِلَادَهُ لِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ: يَاغِي سِيَانُ، صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، وَلَمَّا مَاتَ يَاغِي سِيَانُ عَادَ وَلَدُهُ إِلَى وِلَايَةِ أَبِيهِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، وَتُوُفِّيَ فَضْلُونُ بِبَغْدَاذَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَهُوَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْإِضَاقَةِ فِي مَسْجِدٍ عَلَى دِجْلَةَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ تَنَقُّلَ الْأَحْوَالِ بِمُؤَيَّدِ الْمُلْكِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْأَمِيرِ أُنَرَ، فَحَسَّنَ لَهُ عِصْيَانَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَلَمَّا قُتِلَ أُنَرُ سَارَ إِلَى الْمَلِكِ مُحَمَّدٍ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمُخَالَفَةِ أَخِيهِ، وَالسَّعْيِ فِي طَلَبِ السَّلْطَنَةِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ بَرْكِيَارُقَ مِنْ بِلَادِهِ، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ بِالسَّلْطَنَةِ وَاسْتَوْزَرَ مُؤَيَّدَ الْمُلْكِ.

وَاتَّفَقَ قَتْلُ مَجْدِ الْمُلْكِ الْبَلَاسَانِيِّ، وَاسْتِيحَاشَ الْعَسْكَرِ مِنَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، وَفَارَقُوهُ وَسَارُوا نَحْوَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَلَقَوْهُ بِخُرَّقَانَ، فَصَارُوا مَعَهُ، وَسَارُوا نَحْوَ الرَّيِّ. وَكَانَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ لَمَّا فَارَقَهُ عَسْكَرُهُ سَارَ مُجِدًّا إِلَى الرَّيِّ، فَأَتَاهُ بِهَا الْأَمِيرُ يَنَّالُ بْنُ أَنُوشْتَكِينَ الْحُسَامِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ أَيْضًا عِزُّ الْمُلْكِ مَنْصُورُ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَأُمُّهُ ابْنَةُ مَلِكِ الْأَبْخَازِ، وَمَعَهُ عَسَاكِرُ جَمَّةٌ، فَبَلَغَهُ مَسِيرُ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ إِلَيْهِ فِي الْعَسَاكِرِ، فَسَارَ مِنَ الرَّيِّ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَلَمْ يَفْتَحْ أَهْلُهَا لَهُ الْأَبْوَابَ، فَسَارَ إِلَى خُوزِسْتَانَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَوَرَدَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ إِلَى الرَّيِّ ثَانِيَ ذِي الْقَعْدَةِ، فَوَجَدَ زُبَيْدَةَ خَاتُونْ وَالِدَةَ أَخِيهِ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ قَدْ تَخَلَّفَتْ بَعْدَ ابْنِهَا، فَأَخَذَهَا مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ وَسَجَنَهَا فِي الْقَلْعَةِ، وَأَخَذَ خَطَّهَا بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَأَرَادَ قَتْلَهَا، وَأَشَارَ عَلَيْهِ ثِقَاتُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، وَقَالُوا لَهُ: الْعَسْكَرُ مُحِبُّونَ لِوَلَدِهَا، وَإِنَّمَا اسْتَوْحَشُوا مِنْهُ لِأَجْلِهَا، وَمَتَى قُتِلَتْ عَدَلُوا عَلَيْهِ، فَلَا تَغْتَرَّ بِهَؤُلَاءِ الْجُنْدِ، فَإِنَّهُمْ غَدَرُوا بِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ أَوْثَقَ مَا كَانَ بِهِمْ، فَلَمْ يُصْغِ إِلَى قَوْلِهِمْ، وَرَفَعَهَا إِلَى الْقَلْعَةِ، وَخُنِقَتْ، وَكَانَ عُمْرُهَا اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا أَسَرَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ مُؤَيَّدَ الْمُلْكِ رَأَى خَطَّهُ فِي تَذْكِرَتِهِ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَكَانَ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ فِي قَتْلِهِ. ذِكْرُ الْخُطْبَةِ بِبَغْدَاذَ لِلْمَلِكِ مُحَمَّدٍ لَمَّا قَوِيَ أَمْرُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ سَارَ إِلَيْهِ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوهْرَائِينُ مِنْ بَغْدَاذَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَوْحَشَ مِنَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَاجْتَمَعَ هُوَ وَكَرْبُوقَا، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ وَجَكَرْمِشُ، صَاحِبُ الْجَزِيرَةِ، وَسُرْخَابُ بْنُ بَدْرٍ، صَاحِبُ كِنْكَوَرَ، وَغَيْرِهَا، فَسَارُوا إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَلَقَوْهُ بِقُمَّ، فَرَدَّ سَعْدَ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَسَارَ كَرْبُوقَا وَجَكَرْمِشُ فِي خِدْمَتِهِ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَلَمَّا وَصَلَ كُوهْرَائِينُ إِلَى بَغْدَاذَ خَاطَبَ الْخَلِيفَةَ فِي الْخُطْبَةِ لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، وَخَطَبَ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَابِعَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ،

وَلُقِّبَ " غِيَاثَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ ". ذِكْرُ قَتْلِ مَجْدِ الْمُلْكِ الْبَلَاسَانِيِّ قَدْ ذَكَرْنَا تَحَكُّمَ مَجْدِ الْمُلْكِ أَبِي الْفَضْلِ أَسْعَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي دَوْلَةِ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، وَتَمَكُّنَهُ مِنْهَا. فَلَمَّا بَلَغَ الْغَايَةَ الَّتِي لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا جَاءَتْهُ نَكَبَاتُ الدُّنْيَا وَمَصَائِبُهَا مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. وَأَمَّا سَبَبُ قَتْلِهِ، فَإِنَّ الْبَاطِنِيَّةَ لَمَّا تَوَالَى مِنْهُمْ قَتْلُ الْأُمَرَاءِ الْأَكَابِرِ مِنَ الدَّوْلَةِ السُّلْطَانِيَّةِ، نَسَبُوا ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَضَعَهُمْ عَلَى قَتْلِ مَنْ قَتَلُوهُ، وَعَظَّمَ ذَلِكَ قَتْلُ الْأَمِيرِ بُرْسُقَ، فَاتَّهَمَ أَوْلَادُهُ زَنْكِيُّ وَاقْبُورِي وَغَيْرُهُمَا، مَجْدَ الْمُلْكِ بِقَتْلِهِ، وَفَارَقُوا السُّلْطَانَ. وَسَارَ السُّلْطَانُ إِلَى زَنْجَانَ لِأَنَّهُ بَلَغَهُ خُرُوجُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَطَمِعَ حِينَئِذٍ الْأُمَرَاءُ، فَأَرْسَلَ أَمِيرٌ آخَرُ، وَبَلْكَابِكُ، وَطُغَايَرْكُ بْنُ الْيَزَنِ، وَغَيْرُهُمْ، إِلَى الْأُمَرَاءِ بَنِي بُرْسُقَ يَسْتَحَضِرُونَهُمْ إِلَيْهِمْ لِيَتَّفِقُوا مَعَهُمْ عَلَى مُطَالَبَةِ السُّلْطَانِ بِتَسْلِيمِ مَجْدِ الْمُلْكِ إِلَيْهِمْ لِيَقْتُلُوهُ، فَحَضَرُوا عِنْدَهُمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَى السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، وَهُمْ بِسِجَاسَ، مَدِينَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ هَمَذَانَ، يَلْتَمِسُونَ تَسْلِيمَهُ إِلَيْهِمْ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْعَسْكَرُ جَمِيعُهُ، وَقَالُوا: إِنْ سُلِّمَ إِلَيْنَا فَنَحْنُ الْعَبِيدُ الْمُلَازِمُونَ لِلْخِدْمَةِ، وَإِنْ مُنِعْنَا فَارَقْنَا، وَأَخَذْنَاهُ قَهْرًا. فَمَنَعَ السُّلْطَانُ مِنْهُ، فَأَرْسَلَ مَجْدُ الْمُلْكِ إِلَى السُّلْطَانِ يَقُولُ لَهُ: الْمَصْلَحَةُ أَنْ تَحْفَظَ أُمَرَاءَ دَوْلَتِكَ، وَتَقْتُلَنِي أَنْتَ لِئَلَّا يَقْتُلَنِي الْقَوْمُ فَيَكُونَ فِيهِ وَهَنٌ عَلَى دَوْلَتِكَ. فَلَمْ تَطِبْ نَفْسُ السُّلْطَانِ بِقَتْلِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْتَخْلِفُهُمْ عَلَى حِفْظِ نَفْسِهِ، وَحَبْسِهِ فِي بَعْضِ الْقِلَاعِ، فَلَمَّا حَلَفُوا سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ، فَقَتَلَهُ الْغِلْمَانُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ فَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُفَارِقُهُ كَفَنُهُ سَفْرًا وَحَضَرًا، فَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ فَتَحَ خَازِنُهُ صُنْدُوقًا، فَرَأَى الْكَفَنَ، فَقَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِهَذَا؟ إِنَّ أَمْرِي لَا يَئُولُ إِلَى كَفَنٍ، وَاللَّهِ مَا أَبْقَى إِلَّا طَرِيحًا عَلَى الْأَرْضِ. فَكَانَ كَذَلِكَ، وَرُبَّ كَلِمَةٍ تَقُولُ لِقَائِلِهَا دَعْنِي. وَلَمَّا قُتِلَ حُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ. وَكَانَ مَجْدُ الْمُلْكِ خَيِّرًا،

كَثِيرَ الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ، كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، وَلَاسِيَّمَا عَلَى الْعَلَوِيِّينَ وَأَرْبَابِ الْبُيُوتِ، وَكَانَ يَكْرَهُ سَفْكَ الدِّمَاءِ، وَكَانَ يَتَشَيَّعُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ الصَّحَابَةَ ذِكْرًا حَسَنًا، وَيَلْعَنُ مَنْ يَسُبُّهُمْ، وَلَمَّا قُتِلَ أَرْسَلَ الْأُمَرَاءُ يَقُولُونَ لِلسُّلْطَانِ: الْمَصْلَحَةُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الرَّيِّ، وَنَحْنُ نَمْضِي إِلَى أَخِيكَ فَنُقَاتِلُهُ وَنَقْضِي هَذَا الْمُهِمَّ. فَسَارَ بَعْدَ امْتِنَاعٍ، وَتَبِعَهُ مِائَتَا فَارِسٍ لَا غَيْرَ، وَنَهَبَ الْعَسْكَرُ سُرَادِقَ السُّلْطَانِ وَوَالِدَتِهِ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ، وَعَادَ إِلَى الرَّيِّ، وَسَارَ الْعَسْكَرُ إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، وَصَلَ إِلْكَيَّا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْهَرَّاسِ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَقَبُهُ عِمَادُ الدِّينِ شَمْسُ الْإِسْلَامِ، بِرِسَالَةٍ مِنَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ، وَمَوْلِدُهُ خَمْسِينَ وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَاعْتَنَى بِأَمْرِهِ مَجْدُ الْمُلْكِ الْبَلَاسَانِيُّ، وَقَامَ لَهُ الْوَزِيرُ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ. وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ خَطِيبَهَا، وَاتَّهَمَ الْعَامَّةُ أَبَا الْبَرَكَاتِ الثَّعْلَبِيَّ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَعَى فِي قَتْلِهِ، فَوَثَبُوا بِهِ فَقَتَلُوهُ وَأَكَلُوا لَحْمَهُ. وَفِيهَا كَانَ بِخُرَاسَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ، تَعَذَّرَتْ فِيهِ الْأَقْوَاتُ، وَدَامَ سَنَتَيْنِ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ الْبَرْدَ أَهْلَكَ الزُّرُوعَ جَمِيعَهَا، وَلَحِقَ النَّاسَ بَعْدَهُ وَبَاءٌ جَارِفٌ، فَمَاتَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ عَجَزُوا عَنْ دَفْنِهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، تُوُفِّيَ أَبُو الْغَنَائِمِ الْفَارِقِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، بِجَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَانَ إِمَامًا فَاضِلًا زَاهِدًا.

وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، تُوُفِّيَ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ طَلْحَةَ النِّعَالِيُّ، وَعُمْرُهُ نَحْوُ تِسْعِينَ سَنَةً وَكَانَ عَالِيَ الْإِسْنَادِ فِي الْحَدِيثِ، وَقِيلَ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، تُوُفِّيَ أَبُو غَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الصَّبَّاغِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهُ عَلَى ابْنِ عَمَّةِ أَبِي نَصْرٍ، وَكَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ، مُتَوَاضِعًا.

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 493 - ذِكْرُ إِعَادَةِ خُطْبَةِ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ بِبَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أُعِيدَتِ الْخُطْبَةُ لِلسُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ بِبَغْدَاذَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَرْكِيَارُقَ سَارَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي مِنَ الرَّيِّ إِلَى خُوزِسْتَانَ، فَدَخَلَهَا وَجَمِيعُ مَنْ مَعَهُ عَلَى حَالٍ سَيِّئَةٍ وَكَانَ أَمِيرُ عَسْكَرِهِ حِينَئِذٍ يَنَّالُ بْنُ أَنُوشْتِكِينَ الْحُسَامِيُّ، وَأَتَاهُ غَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَسَارَ إِلَى وَاسِطَ، فَظَلَمَ عَسْكَرُهُ النَّاسَ، وَنَهَبُوا الْبِلَادَ، وَاتَّصَلَ بِهِ الْأَمِيرُ صَدَقَةُ بْنُ مَزِيدٍ، صَاحِبُ الْحِلَّةِ، وَوَثَبَ عَلَى السُّلْطَانِ قَوْمٌ لِيَقْتُلُوهُ، فَأُخِذُوا وَأُحْضِرُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاعْتَرَفُوا أَنَّ الْأَمِيرَ سُرْمُزَ، شِحْنَةَ أَصْبَهَانَ، وَضَعَهُمْ عَلَى قَتْلِهِ، فَقُتِلَ أَحَدُهُمْ وَحُبِسَ الْبَاقُونَ، وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَدَخَلَهَا سَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ، وَخُطِبَ لَهُ بِبَغْدَاذَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُنْتَصَفَ صَفَرٍ قَبْلَ وُصُولِهِ بِيَوْمَيْنِ. وَكَانَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوهْرَائِينُ بِالشَّفِيعِيِّ، وَهُوَ فِي طَاعَةِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَسَارَ إِلَى دَايِ مَرْجٍ، وَمَعَهُ إِيلْغَازِي بْنُ أُرْتُقَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمُؤَيَّدِ، وَالسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ يَسْتَحِثُّهُمَا عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَا إِلَيْهِ كَرْبُوقَا، صَاحِبَ الْمَوْصِلِ، وَجَكَرْمَشَ، صَاحِبَ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، فَأَمَّا جَكَرْمِشُ فَاسْتَأْذَنَ كُوهْرَائِينَ فِي الْعَوْدِ إِلَى بَلَدِهِ، وَقَالَ إِنَّهُ قَدِ اخْتَلَّتِ الْأَحْوَالُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَبَقِيَ مَعَ كُوهْرَائِينَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَصْدُرُوا عَنْ رَأْيٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُونَ، ثُمَّ اتَّفَقَتْ آرَاؤُهُمْ عَلَى أَنْ كَتَبُوا إِلَى السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ يَقُولُونَ لَهُ: اخْرُجْ إِلَيْنَا، فَمَا فِينَا مَنْ يُقَاتِلُكَ.

وَكَانَ الَّذِي أَشَارَ بِذَا كَرْبُوقَا، وَقَالَ لِكُوهْرَائِينَ: إِنَّنَا لَمْ نَظْفَرْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَمُؤَيَّدٍ، بِطَائِلٍ، وَكَانَ مُنْحَرِفًا عَنْ مُؤَيَّدٍ،. فَسَارَ بَرْكِيَارُقُ إِلَيْهِمْ، فَتَرَجَّلُوا، وَقَبَّلُوا الْأَرْضَ، وَعَادُوا مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَعَادَ إِلَى كُوهْرَائِينَ جَمِيعَ مَا كَانَ أَخَذَ لَهُ مِنْ سِلَاحٍ وَدَوَابَّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاسْتَوْزَرَ بَرْكِيَارُقُ بِبَغْدَاذَ الْأَعَزَّ أَبَا الْمَحَاسِنِ عَبْدَ الْجَلِيلِ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الدِّهِسْتَانِيَّ، وَقَبَضَ عَلَى عَمِيدِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ أَبُو بَكْرٍ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، وَطَالَبَهُ بِالْحَاصِلِ مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ وَالْمَوْصِلِ لَمَّا تَوَلَّاهَا هُوَ وَأَبُوهُ أَيَّامَ مَلِكْشَاهْ، فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَسِتِّينَ أَلْفِ دِينَارٍ يَحْمِلُهَا إِلَيْهِ، وَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ. ذِكْرُ الْوَقْعَةِ بَيْنَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ وَمُحَمَّدٍ وَإِعَادَةِ خُطْبَةِ مُحَمَّدٍ بِبَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ بَرْكِيَارُقُ مِنْ بَغْدَاذَ عَلَى شَهْرَزُورَ، فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالْتَحَقَ بِهِ عَالَمٌ كَثِيرٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ وَغَيْرِهِمْ، فَسَارَ نَحْوَ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ لِيُحَارِبَهُ، فَكَاتَبَهُ رَئِيسُ هَمَذَانَ لِيَسِيرَ إِلَيْهَا وَيَأْخُذَ أَقْطَاعَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَ أَخِيهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَسَارَ نَحْوَ أَخِيهِ فَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ رَابِعَ رَجَبٍ، وَهُوَ الْمَصَافُّ الْأَوَّلُ بَيْنَ بَرْكِيَارُقَ وَأَخِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ بِإِسْبِيذْرُوذَ، وَمَعْنَاهُ النَّهْرُ الْأَبْيَضُ، وَهُوَ عَلَى عِدَّةِ فَرَاسِخَ مِنْ هَمَذَانَ. وَكَانَ مَعَ مُحَمَّدٍ نَحْوُ عِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ فِي الْقَلْبِ، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ سُرْمُزُ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ أَمِيرٌ آخَرُ، وَابْنُهُ إِيَازُ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ، وَالنِّظَامِيَّةُ، وَكَانَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ فِي الْقَلْبِ، وَوَزِيرُهُ الْأَعَزُّ أَبُو الْمَحَاسِنِ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ كُوهْرَائِينُ وَعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ صَدَقَةَ بْنِ مَزِيدٍ، وَسُرْخَابُ بْنُ بَدْرٍ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ كَرْبُوقَا وَغَيْرُهُ، فَحَمَلَ كُوهْرَائِينُ مِنْ مَيْمَنَةِ بَرْكِيَارُقَ عَلَى مَيْسَرَةِ مُحَمَّدٍ، وَبِهَا مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ، وَالنِّظَامِيَّةُ، فَانْهَزَمُوا، وَدَخَلَ عَسْكَرُ بَرْكِيَارُقَ فِي خِيَامِهِمْ، فَنَهَبُوهُمْ، وَحَمَلَتْ مَيْمَنَةُ مُحَمَّدٍ عَلَى مَيْسَرَةِ بَرْكِيَارُقَ، فَانْهَزَمَتِ الْمُيَسَّرَةُ، وَانْضَافَتْ مَيْمَنَةُ مُحَمَّدٍ إِلَيْهِ فِي الْقَلْبِ عَلَى بَرْكِيَارُقَ وَمَنْ مَعَهُ، فَانْهَزَمَ بَرْكِيَارُقُ، وَوَقَفَ مُحَمَّدٌ مَكَانَهُ، وَعَادَ كُوهْرَائِينُ مِنْ طَلَبِ الْمُنْهَزِمِينَ الَّذِينَ انْهَزَمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَبَا بِهِ فَرَسُهُ، فَأَتَاهُ خُرَاسَانِيٌّ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ رَأْسَهُ، وَتَفَرَّقَتْ عَسَاكِرُ بَرْكِيَارُقَ، وَبَقِيَ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا.

وَأَمَّا وَزِيرُهُ الْأَعَزُّ أَبُو الْمَحَاسِنِ فَإِنَّهُ أُخِذَ أَسِيرًا، فَأَكْرَمَهُ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَنَصَبَ لَهُ خِيَمًا وَخَرْكَاةَ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ الْفُرُشَ وَالْكِسْوَةَ، وَضَمَّنَهُ عِمَادَةَ بَغْدَاذَ، وَأَعَادَهُ إِلَيْهَا، وَأَمَرَهُ بِالْمُخَاطَبَةِ فِي إِعَادَةِ الْخُطْبَةِ لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ بِبَغْدَاذَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا خَاطَبَ فِي ذَلِكَ، فَأُجِيبُ إِلَيْهِ، وَخُطِبَ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ. ذِكْرُ قَتْلِ سَعْدِ الدَّوْلَةِ كُوهْرَائِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، قُتِلَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوهْرَائِينُ فِي الْحَرْبِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ خَادِمًا لِلْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ بْنِ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهَ، انْتَقَلَ إِلَيْهِ (مِنَ امْرَأَةٍ) مِنْ قُرْقُوبَ بِخُوزِسْتَانَ، وَكَانَ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الْأَهْوَازِ حَضَرَ عِنْدَهَا، وَاسْتَعْرَضَ حَوَائِجَهَا، وَأَصَابَ أَهْلُهَا مِنْهُ خَيْرًا كَثِيرًا، فَأَرْسَلَهُ أَبُو كَالِيجَارَ مَعَ ابْنِهِ أَبِي نَصْرٍ إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَمَّا قَبَضَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكْ مَضَى مَعَهُ إِلَى قَلْعَةِ طَبَرَكَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو نَصْرٍ انْتَقَلَ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ أَلْبَ أَرْسِلَانَ، وَوَقَاهُ بِنَفْسِهِ لَمَّا جَرَحَهُ يُوسُفُ الْخُوَارِزْمِيُّ. وَكَانَ أَلْبُ أَرْسِلَانُ قَدْ أَقْطَعَهُ وَاسِطَ، وَجَعَلَهُ شِحْنَةً لِبَغْدَاذَ، فَلَمَّا قُتِلَ أَلْبُ أَرْسِلَانُ أَرْسَلَهُ ابْنُهُ مَلِكْشَاهْ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَحْضَرَ لَهُ الْخِلَعَ وَالتَّقْلِيدَ، وَرَأَى مَا لَمْ يَرَهُ خَادِمٌ قَبْلَهُ مِنْ نُفُوذِ الْأَمْرِ، وَتَمَامِ الْقُدْرَةِ، وَطَاعَةِ أَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ، وَخِدْمَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَكَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، لَمْ يُصَادِرْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِهِ، وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ. ذِكْرُ حَالِ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ وَانْهِزَامِهِ مِنْ أَخِيهِ سَنْجَرَ أَيْضًا وَقَتْلِ أَمِيرِ دَاذَ حَبَشِيٍّ لَمَّا انْهَزَمَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ مِنْ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ سَارَ قَلِيلًا، وَهُوَ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا، وَنَزَلَ عُتُمَةَ، وَاسْتَرَاحَ، وَقَصَدَ الرَّيَّ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُهُ، وَيُؤْثِرُ دَوْلَتَهُ، فَاسْتَدْعَاهُ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ جَمْعٌ صَالِحٌ، فَسَارَ إِلَى إِسْفَرَايِينَ، وَكَاتَبَ أَمِيرَ دَاذَ حَبَشِيَّ بْنَ أَلْتُونْتَاقَ، وَهُوَ بِدَامَغَانَ، يَسْتَدْعِيهِ، فَأَجَابَهُ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِالْمُقَامِ بِنَيْسَابُورَ حَتَّى يَأْتِيَهُ، وَكَانَ بِيَدِهِ حِينَئِذٍ أَكْثَرُ خُرَاسَانَ وَطَبَرِسِتَانَ وَجُرْجَانَ، فَلَمَّا وَصَلَ بَرْكِيَارُقُ إِلَى

نَيْسَابُورَ قَبَضَ عَلَى رُؤَسَائِهَا، وَخَرَجَ بِهِمْ، وَأَطْلَقُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَمَسَّكَ بِعَمِيدِ خُرَاسَانَ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ. فَأَمَّا أَبُو الْقَاسِمِ فَمَاتَ مَسْمُومًا فِي قَبْضِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ قُتِلَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَعَادَ بَرْكِيَارُقُ فَاسْتَدْعَى أَمِيرَ دَاذَ فَاعْتَذَرَ بِقَصْدِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ بِلَادَهُ فِي عَسَاكِرِ بَلْخَ، وَيَسْأَلُ السُّلْطَانَ بَرْكِيَارُقَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ عَلَى الْمَلِكِ سَنْجَرَ، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي أَلْفِ فَارِسٍ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِقُدُومِهِ إِلَّا الْأُمَرَاءُ الْكِبَارُ مِنْ أَصْحَابِ سَنْجَرَ وَلَمْ يُعْلِمُوا الْأَصَاغِرَ لِئَلَّا يَنْهَزِمُوا. وَكَانَ مَعَ أَمِيرِ دَاذَ عِشْرُونَ أَلْفَ فَارِسٍ، فِيهِمْ مِنْ رَجَّالَةِ الْبَاطِنِيَّةِ خَمْسَةُ آلَافٍ، وَوَقَعَ الْمَصَافُّ بَيْنَ بَرْكِيَارُقَ وَأَخِيهِ سَنْجَرَ خَارِجَ النُّوشَجَانِ، وَكَانَ الْأَمِيرُ بَزْغَشُ فِي مَيْمَنَةِ سَنْجَرَ، وَالْأَمِيرُ كُنْدَكَزُ فِي مَيْسَرَتِهِ، وَالْأَمِيرُ رُسْتُمُ فِي الْقَلْبِ، وَاشْتَغَلَ الْعَسْكَرُ بِالنَّهْبِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ بَزْغَشُ وكُنْدَكَزُ، فَقَتَلَا الْمُنْهَزِمِينَ، وَانْهَزَمَ الرَّجَّالَةُ إِلَى مَضِيقٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ فَأَهْلَكَهُمْ، وَوَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى أَصْحَابِ بَرْكِيَارُقَ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَ وَالِدَةَ أَخِيهِ سَنْجَرَ لَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ أَوَّلًا، فَخَافَتْ أَنْ يَقْتُلَهَا بِأُمِّهِ، فَأَحْضَرَهَا وَطَيَّبَ قَلْبَهَا، وَقَالَ: إِنَّمَا أَخَذْتُكِ حَتَّى يُطْلِقَ أَخِي سَنْجَرُ مِنْ عِنْدِهِ مِنَ الْأَسْرَى، وَلَسْتِ كُفْؤًا لِوَالِدَتِي حَتَّى أَقْتُلَكِ. فَلَمَّا أَطْلَقَ سَنْجَرُ الْأَسْرَى أَطْلَقَهَا بَرْكِيَارُقُ. وَهَرَبَ أَمِيرُ دَاذَ إِلَى بَعْضِ الْقُرَى، وَأَخَذَ بَعْضَ التُّرْكُمَانِ، فَأَعْطَاهُ فِي نَفْسِهِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمْ يُطْلِقْهُ، وَحَمَلَهُ إِلَى بَزْغَشَ فَقَتَلَهُ. وَسَارَ بَرْكِيَارُقُ إِلَى جُرْجَانَ ثُمَّ إِلَى دَامَغَانَ، وَسَارَ فِي الْبَرِّيَّةِ، ورُؤِيَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَمَعَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ فَارِسًا، وَجَمَّازَةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ كَثُرَ جَمْعُهُ، وَصَارَ مَعَهُ ثَلَاثَةُ آلَفِ فَارِسٍ، مِنْهُمْ: جَاوُلِي سَقَاوُوا، وَغَيْرُهُ، وَسَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ بِمُكَاتَبَةٍ مِنْ أَهْلِهَا، فَسَمِعَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ، فَسَبَقَهُ إِلَيْهَا، فَعَادَ إِلَى سُمَيْرَمَ. ذِكْرُ فَتْحِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ مَدِينَةَ سَفَاقُسَ

فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ مَدِينَةَ سَفَاقُسَ، وَكَانَ صَاحِبُهَا حَمُّو قَدْ عَادَ فَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا، وَاشْتَدَّ أَمْرُهُ بِوَزِيرٍ كَانَ عِنْدَهُ قَدْ قَصَدَهُ، وَهُوَ مِنْ كُتَّابِ الْمُعِزِّ، كَانَ حَسَنَ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ، فَاسْتَقَامَتْ بِهِ دَوْلَتُهُ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ تَمِيمٌ يَطْلُبُهُ لِيَسْتَخْدِمَهُ، وَوَعَدَهُ، وَبَالَغَ فِي اسْتِمَالَتِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، فَسَيَّرَ تَمِيمٌ جَيْشًا إِلَى حِصَارِ سَفَاقُسَ، وَأَمَرَ الْأَمِيرَ الَّذِي جَعَلَهُ مُقَدَّمَ الْجَيْشِ أَنْ يَهْدِمَ مَا حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَيُحْرِقَهُ، وَيَقْطَعَ الْأَشْجَارَ سِوَى مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْوَزِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ، وَيُبَالِغُ فِي صِيَانَتِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى حَمُّو مَا فُعِلَ بِأَمْلَاكِ النَّاسِ، مَا عَدَا الْوَزِيرَ، اتَّهَمَهُ، فَقَتَلَهُ، فَانْحَلَّ نِظَامُ دَوْلَتِهِ، وَتَسَلَّمَ عَسْكَرُ تَمِيمٍ الْمَدِينَةَ، وَخَرَجَ حَمُّو مِنْهَا، وَقَصَدَ مَكْنَ بْنَ كَامِلٍ الدَّهْمَانِيَّ فَأَقَامَ عِنْدَهُ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى مَاتَ. ذِكْرُ عَزْلِ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ مِنْ وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ وَوَفَاتِهِ لَمَّا أَطْلَقَ مُؤَيَّدُ الدَّوْلَةِ، وَزِيرُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، الْأَعَزَّ أَبَا الْمَحَاسِنِ، وَزِيرَ بَرْكِيَارُقَ، وَضَمَّنَهُ عِمَادَةَ بَغْدَاذَ، أَمَرَ أَنْ يُخَاطِبَ الْخَلِيفَةَ بِعَزْلِ وَزِيرِهِ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ، فَسَارَ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَسَمِعَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ الْخَبَرَ، فَأَمَرَ أَصْبَهْبَذَ صَبَاوَةَ بْنَ خُمَارْتِكِينْ بِالْخُرُوجِ إِلَى طَرِيقِ الْأَعَزِّ وَقَتْلِهِ. وَكَانَ أَصْبَهْبَذُ قَدْ حَضَرَ الْحَرْبَ مَعَ بَرْكِيَارُقَ، وَلَمَّا انْهَزَمَ الْعَسْكَرُ قَصَدَ بَغْدَاذَ، فَخَرَجَ إِلَى طَرِيقِ الْأَعَزِّ أَبِي الْمَحَاسِنِ، فَلَقِيَهُ قَرِيبًا مِنْ بَعْقُوبَا، فَأَوْقَعَ بِمَنْ مَعَهُ، وَالْتَجَأَ الْأَعَزُّ إِلَى الْقَرْيَةِ وَاحْتَمَى، فَلَمَّا رَأَى أَصْبَهْبَذُ صَبَاوَةُ ذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ وَزِيرُ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، وَأَنَا مَمْلُوكُهُ، فَإِنْ كُنْتَ عَلَى خِدْمَتِهِ فَاخْرُجْ إِلَيْنَا حَتَّى نَسِيرَ إِلَى بَغْدَاذَ وَنُقِيمَ الْخُطْبَةَ لِلسُّلْطَانِ، وَأَنْتَ الصَّاحِبُ الَّذِي لَا يُخَالَفُ، وَإِنْ لَمْ تُجِبْ إِلَى هَذَا، فَمَا بَيْنَنَا غَيْرُ السَّيْفِ. فَأَجَابَهُ الْأَعَزُّ إِلَى ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَا، فَعَرَّفَهُ صَبَاوَةُ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ مِنْ قَتْلِهِ، وَبَاتَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَأَرْسَلَ الْأَعَزُّ إِلَى الْأَمِيرِ إِيلْغَازِي بْنِ أُرْتُقَ، وَكَانَ قَدْ

وَرَدَ فِي صُحْبَتِهِ، وَفَارَقَهُ نَحْوَ الرَّاذَنِ، فَحَضَرَ فِي اللَّيْلِ، فَانْقَطَعَ حِينَئِذٍ أَمَلُ صَبَاوَةَ مِنْهُ، وَفَارَقَهُ. وَسَارَ الْأَعَزُّ إِلَى بَغْدَاذَ وَخَاطَبَ فِي عَزْلِ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ، فَعُزِلَ فِي رَمَضَانَ، وَأُخِذَ مِنْ مَالِهِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقُبِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى إِخْوَتِهِ، وَبَقِيَ مَعْزُولًا إِلَى سَادِسَ عَشَرَ شَوَّالٍ، فَتُوُفِّيَ مَحْبُوسًا فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، وَمَوْلِدُهُ فِي مُحَرَّمٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ عَاقِلًا، كَرِيمًا، حَلِيمًا، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَظِيمَ الْكِبْرِ، يَكَادُ يَعُدُّ كَلَامَهُ عَدًّا، وَكَانَ إِذَا كَلَّمَ إِنْسَانًا كَلِمَاتٍ يَسِيرَةً هُنِّئَ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِكَلَامِهِ. ذِكْرُ ظَفَرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْفِرِنْجِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ لَقِيَ كُمُشْتِكِينْ بْنُ الدَّانِشْمَنْدِ طَايْلُو، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ ابْنُ الدَّانِشْمَنْدِ لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مُعَلِّمًا لِلتُّرْكُمَانِ وَتَقَلَّبَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ، حَتَّى مَلَكَ، وَهُوَ صَاحِبُ مَلَطْيَةَ وَسِيوَاسَ وَغَيْرِهِمَا، بِيمُنْدُ الْفِرِنْجِيُّ، وَهُوَ مِنْ مُقَدَّمِي الْفِرِنْجِ، قَرِيبَ مَلَطْيَةَ، وَكَانَ صَاحِبُهَا قَدْ كَاتَبَهُ، وَاسْتَقْدَمَهُ إِلَيْهِ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، فَلَقِيَهُمُ ابْنُ الدَّانِشْمَنْدِ، فَانْهَزَمَ بِيمُنْدُ وَأُسِرَ. ثُمَّ وَصَلَ مِنَ الْبَحْرِ سَبْعَةُ قَمَامِصَةٍ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَأَرَادُوا تَخْلِيصَ بِيمُنْدَ، فَأَتَوْا إِلَى قَلْعَةٍ تُسَمَّى أَنْكُورِيَّةَ، فَأَخَذُوهَا وَقَتَلُوا مَنْ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَارُوا إِلَى قَلْعَةٍ أُخْرَى فِيهَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الدَّانِشْمَنْدِ، وَحَصَرُوهَا، فَجَمَعَ ابْنُ الدَّانِشْمَنْدِ جَمْعًا كَثِيرًا، وَلَقِيَ الْفِرِنْجَ، وَجَعَلَ لَهُ كَمِينًا، وَقَاتَلَهُمْ، وَخَرَجَ الْكَمِينُ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ أَحَدٌ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ، غَيْرَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ هَرَبُوا لَيْلًا وَأَفْلَتُوا مَجْرُوحِينَ. وَسَارَ الدَّانِشْمَنْدِ إِلَى مَلَطْيَةَ، فَمَلَكَهَا وَأَسَرَ صَاحِبَهَا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِ عَسْكَرُ الْفِرِنْجِ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ، فَلَقِيَهُمْ وَكَسَرَهُمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقَائِعُ فِي شُهُورٍ قَرِيبَةٍ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ زَادَ أَمْرُ الْعَيَّارِينِ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَاذَ، فِي شَعْبَانَ، وَعَظُمَ ضَرَرُهُمْ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ كَمَالَ الدَّوْلَةِ يُمْنَ بِتَهْذِيبِ الْبَلَدِ، فَأَخَذَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِهِمْ، وَطَلَبَ الْبَاقِينَ فَهَرَبُوا. وَفِيهَا أَيْضًا انْحَلَّتِ الْأَسْعَارُ بِالْعِرَاقِ، وَكَانَ الْحِنْطَةُ قَدْ بَلَغَ سَبْعِينَ دِينَارًا، وَرُبَّمَا زَادَ كَثِيرًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَانْقَطَعَتِ الْأَمْطَارُ، وَيَبِسَتِ الْأَنْهَارُ، وَكَثُرَ الْمَوْتُ، حَتَّى عَجَزُوا عَنْ دَفْنِ الْمَوْتَى، فَحُمِلَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ سِتَّةُ أَمْوَاتٍ عَلَى نَعْشٍ وَاحِدٍ، وَعُدِمَتِ الْأَدْوِيَةُ وَالْعَقَاقِيرُ. وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، سَارَ بِيمُنْدُ الْفِرِنْجِيُّ، صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، إِلَى قَلْعَةِ أَفَامِيَةَ، فَحَصَرُوهَا، وَقَاتَلَ أَهْلَهَا أَيَّامًا، وَأَفْسَدَ زُرُوعَهَا ثُمَّ رَحَلَ عَنْهَا. وَفِيهَا، فِي آخِرِ رَمَضَانَ، قُتِلَ الْأَمِيرُ بَلْكَابِكْ سُرْمُزُ بِأَصْبَهَانَ،، بِدَارِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الِاحْتِيَاطِ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ لَا يُفَارِقُهُ لُبْسُ الدِّرْعِ وَمَنْ يَمْنَعُ عَنْهُ، فَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمْ يَلْبَسْ دِرْعًا، وَدَخَلَ دَارَ السُّلْطَانِ فِي قِلَّةٍ، فَقَتَلَهُ الْبَاطِنِيَّةُ، فَقُتِلَ وَاحِدٌ وَنَجَا آخَرُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ الْبِسْطَامِيُّ الصُّوفِيُّ، وَرِبَاطُهُ مَشْهُورٌ عَلَى دِجْلَةَ غَرْبِيَّ بَغْدَاذَ، بَنَاهُ أَبُو الْغَنَائِمِ بْنُ الْمَحْلَبَانِ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو نَصْرِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرْدَةَ، وَأَصْلُهُ مِنْ عُكْبَرَا، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ مَسْجِدُ ابْنِ جَرْدَةَ، وَخَرَابَةُ ابْنِ جَرْدَةَ بِبَغْدَاذَ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو يَحْيَى بْنُ جَزْلَةَ الطَّبِيبُ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَهُوَ مُصَنِّفُ كِتَابِ الْمِنْهَاجِ. وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ، تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصُّوفِيُّ، الْغَزْنَوِيُّ، الْمُقِيمُ بِرِبَاطِ عَتَّابٍ، وَحَجَّ عِدَّةَ حَجَّاتٍ عَلَى التَّجْرِيدِ، وَلَمْ يُخَلِّفْ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ، فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ: إِذَا مِتَّ افْتَضَحْنَا، قَالَ: لَمَ نَفْتَضِحُ؟ قَالَتْ: لِأَنَّكَ لَيْسَ لَكَ مَا تُكَفَّنُ فِيهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَفْتَضِحُ إِذَا خَلَّفْتُ مَا أُكَفَّنُ فِيهِ. وَفِيهَا، فِي رَمَضَانَ، تُوُفِّيَ عِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو الْمَكَارِمِ مُحَمَّدُ بْنُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ بْنِ مَزْيَدٍ.

ثم دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 494 - ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ السُّلْطَانَيْنِ بَرْكِيَارُقَ وَمُحَمَّدٍ وَقَتْلِ مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَالِثَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، كَانَ الْمَصَافُّ الثَّانِي بَيْنَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ وَالسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] انْهِزَامَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ مِنْ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَتَنَقُّلَهُ فِي الْبِلَادِ، إِلَى أَصْبَهَانَ. وَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى خُوزِسْتَانَ، وَأَتَى عَسْكَرَ مُكْرَمٍ، فَأَتَاهُ الْأَمِيرَانِ زَنْكِي وَأَلْبَكْي ابْنَا بُرْسُقَ، وَصَارَا مَعَهُ، وَأَقَامَ بِهَا شَهْرَيْنِ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى هَمَذَانَ، فَاتَّصَلَ بِهِ الْأَمِيرُ إِيَازُ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَمِيرَ آخُرَ قَدْ مَاتَ مُذْ قَرِيبٍ، فَاتَّهَمَ إِيَازُ مُؤَيَّدَ الْمُلْكِ بِأَنَّهُ سَقَاهُ السُّمَّ، وَقَوَّى ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّ وَزِيرَ أَمِيرِ آخُرَ هَرَبَ عَقِيبَ مَوْتِهِ، فَازْدَادَ ظَنُّ إِيَازَ بِاتِّهَامِهِ، فَظَفِرَ بِالْوَزِيرِ فَقَتَلَهُ. وَكَانَ إِيَازُ قَدِ اتَّخَذَهُ أَمِيرُ آخُرَ وَلَدًا، وَاتَّصَلَ بِهِ الْعَسْكَرُ، وَوَصَّى لَهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ، فَحِينَ اسْتَوْحَشَ لِهَذَا السَّبَبِ كَاتَبَ السُّلْطَانَ بَرْكِيَارُقَ، وَاتَّصَلَ بِهِ، وَمَعَهُ خَمْسَةُ آلَافِ فَارِسٍ، وَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ عَسْكَرِهِ. وَسَارَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ إِلَى لِقَاءِ أَخِيهِ، فَلَمَّا تَقَارَبَ الْعَسْكَرَانِ اسْتَأْمَنَ الْأَمِيرُ سُرْخَابُ بْنُ كِيخِسْرُو، صَاحِبَ آوَةَ، إِلَى السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَأَكْرَمَهُ، وَوَقَعَ الْمَصَافُّ ثَالِثَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ مَعَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ خَمْسُونَ أَلْفًا، وَمَعَ أَخِيهِ السُّلْطَانِ

مُحَمَّدٍ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَالْتَقَوْا، فَاقْتَتَلُوا يَوْمَهُمْ أَجْمَعَ، وَكَانَ النَّفَرُ يَسْتَأْمِنُونَ مِنْ عَسْكَرِ مُحَمَّدٍ إِلَى بَرْكِيَارُقَ، فَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ. وَمِنَ الْعَجَبِ الدَّالِّ عَلَى الظَّفَرِ أَنَّ رَجَّالَةَ بَرْكِيَارُقَ احْتَاجُوا إِلَى تِرَاسٍ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ يَوْمُ الْمَصَافِّ بُكْرَةً اثْنَا عَشْرَةَ حِمْلًا مِنْ هَمَذَانَ مِنْهَا ثَمَانِيَةُ أَحْمَالِ تِرَاسٍ، فَفُرِّقَتْ فِيهِمْ، فَلَمَّا وَصَلَتْ نَزَلَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَمْ يَزَلِ الْقِتَالُ إِلَى آخَرِ النَّهَارِ، فَانْهَزَمَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ وَعَسْكَرُهُ وَأُسِرَ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ، أَسَرَهُ غُلَامٌ لِمَجْدِ الْمُلْكِ الْبَلَاسَانِيِّ وَأُحْضِرَ عِنْدَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَسَبَّهُ، وَأَوْقَفَهُ عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ مَعَهُ مِنْ سَبِّ وَالِدَتِهِ مَرَّةً، وَنِسْبَتِهِ إِلَى مَذْهَبِ الْبَاطِنِيَّةِ أُخْرَى، وَمِنْ حَمْلِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ عَلَى عِصْيَانِهِ، وَالْخُرُوجِ عَنْ طَاعَتِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَمُؤَيَّدُ الْمُلْكِ سَاكِتٌ لَا يُعِيدُ كَلِمَةً، فَقَتَلَهُ بَرْكِيَارُقُ بِيَدِهِ، وَأُلْقِيَ عَلَى الْأَرْضِ عِدَّةَ أَيَّامٍ حَتَّى سَأَلَ الْأَمِيرُ إِيَازُ فِي دَفْنِهِ، فَأَذِنَ فِيهِ، فَحُمِلَ إِلَى تُرْبَةِ أَبِيهِ بِأَصْبَهَانَ فَدُفِنَ مَعَهُ. وَكَانَ بَخِيلًا، سَيِّئَ السِّيرَةِ مَعَ الْأُمَرَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْمَكْرِ وَالْحِيَلِ فِي إِصْلَاحِ أَمْرِ الْمُلْكِ، وَكَانَ عُمْرُهُ لَمَّا قُتِلَ نَحْوَ خَمْسِينَ سَنَةً. وَكَانَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ قَدِ اسْتَوْزَرَ فِي صَفَرٍ الْأَعَزَّ أَبَا الْمَحَاسِنِ عَبْدَ الْجَلِيلِ بْنَ الدِّهِسْتَانِيِّ، فَلَمَّا قُتِلَ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ أَرْسَلَ الْوَزِيرُ أَبُو الْمَحَاسِنِ رَسُولًا إِلَى بَغْدَاذَ، وَهُوَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْأَسْدَابَاذِي، لِأَخْذِ أَمْوَالِ مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ، فَنَزَلَ بِبَغْدَاذَ بِدَارِ مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ، وَسُلِّمَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ الشَّرَابِيُّ، وَهُوَ ابْنُ خَالَةِ مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ، فَأُخِذَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ وَالْجَوَاهِرُ بَعْدَ مَكْرُوهٍ أَصَابَهُ، وَعَذَابٍ نَالَهُ، وَأُخِذَ لَهُ ذَخَائِرُ مِنْ مَوَاضِعَ أُخَرَ بِبِلَادِ الْعَجَمِ مِنْهَا: قِطْعَةُ بَلَخْشٍ، وَزْنُهَا وَاحِدٌ وَأَرْبَعُونَ مِثْقَالًا. وَلَمَّا فَرَغَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ مِنْ هَذِهِ الْوَقْعَةِ سَارَ إِلَى الرَّيِّ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ هُنَاكَ قِوَامُ الدَّوْلَةِ كَرْبُوقَا، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، وَنُورُ الدَّوْلَةِ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ بْنِ مَزْيَدٍ.

ذِكْرُحَالِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ وَاجْتِمَاعِهِ بِأَخِيهِ الْمَلِكِ سَنْجَرَ لَمَّا انْهَزَمَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ، سَارَ طَالِبًا خُرَاسَانَ إِلَى أَخِيهِ سَنْجَرَ، وَهُمَا لِأُمٍّ وَاحِدَةٍ، فَأَقَامَ بِجُرْجَانَ، وَرَاسَلَ أَخَاهُ يَطْلُبُ مِنْهُ مَالًا وَكُسْوَةً، وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ مَا طَلَبَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، حَتَّى تَحَالَفَا وَاتَّفَقَا. وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مَعَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ غَيْرُ أَمِيرَيْنِ فِي نَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْقَوَاعِدُ بَيْنَهُمَا سَارَ الْمَلِكُ سَنْجَرُ مِنْ خُرَاسَانَ فِي عَسَاكِرِهِ نَحْوَ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَاجْتَمَعَا بِجُرْجَانَ، وَسَارَا مِنْهَا إِلَى دَامَغَانَ، فَخَرَّبَهَا الْعَسْكَرُ الْخُرَاسَانِيُّ، وَمَضَى أَهْلُهَا هَارِبِينَ إِلَى قَلْعَةِ كَرَدْكُوهَ، وَخَرَّبَ الْعَسْكَرُ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ، وَعَمَّ الْغَلَاءُ تِلْكَ الْأَصْقَاعَ، حَتَّى أَكْلَ النَّاسُ الْمَيْتَةَ وَالْكِلَابَ، وَأَكَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَسَارَا إِلَى الرَّيِّ فَلَمَّا وَصَلَا إِلَيْهَا انْضَمَّ إِلَيْهِمَا النِّظَامِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ، فَكَثُرَ جَمْعُهُمَا، وَعَظُمَتْ شَوْكَتُهُمَا، وَتَمَكَّنَتْ مِنَ الْقُلُوبِ هَيْبَتُهُمَا. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ وَدُخُولِهِ بَغْدَاذَ لَمَّا كَانَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ بِالرَّيِّ، بَعْدَ انْهِزَامِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ، اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ الْكَثِيرَةُ، فَصَارَ مَعَهُ نَحْوُ مِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ، ثُمَّ إِنَّهُمْ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْمِيرَةُ فَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ، فَعَادَ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ إِلَى أَبِيهِ، وَخَرَجَ الْمَلِكُ مَوْدُودُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَاقُوتِي بِأَذْرَبِيجَانَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ قِوَامَ الدَّوْلَةِ كَرْبُوقَا فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَاسْتَأْذَنَ الْأَمِيرُ إِيَازُ فِي أَنْ يَقْصِدَ دَارَهُ بِهَمَذَانَ يَصُومُ بِهَا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَيَعُودُ بَعْدَ الْفِطْرِ، فَأَذِنَ لَهُ، وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ لِمِثْلِ ذَلِكَ، وَبَقِيَ فِي الْعَدَدِ الْقَلِيلِ. فَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أَخَوَيْهِ قَدْ جَمَعَا الْجُمُوعَ، وَحَشَدَا الْجُنُودَ، وَأَنَّهُمَا لَمَّا بَلَغَهُمَا قِلَّةُ مَنْ مَعَهُ جَدَّا فِي السَّيْرِ إِلَيْهِ، وَطَوَيَا الْمَنَازِلَ لِيُعَاجِلَاهُ، قَبْلَ أَنْ يَجْمَعَ جُمُوعَهُ وَعَسَاكِرَهُ، فَلَمَّا قَارَبَاهُ سَارَ مِنْ مَكَانِهِ، وَقَدْ طَمِعَ فِيهِ مَنْ كَانَ يَهَابُهُ، وَأَيِسَ مِنْهُ مَنْ كَانَ يَرْجُوهُ، فَقَصَدَ نَحْوَ هَمَذَانَ لِيَجْتَمِعَ هُوَ وَإِيَازُ، فَبَلَغَهُ أَنَّ إِيَازَ قَدْ رَاسَلَ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا لِيَكُونَ

مَعَهُ وَمِنْ جُمْلَةِ أَعْوَانِهِ، خَوْفًا عَلَى وِلَايَتِهِ، وَهِيَ هَمَذَانُ وَغَيْرُهَا، فَلَمَّا سَمِعَ عَنْهَا، وَقَصَدَ خُوزِسْتَانَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ تُسْتَرَ كَاتَبَ الْأُمَرَاءَ بَنِي بُرْسُقَ يَسْتَدْعِيهِمْ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَحْضُرُوا لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ إِيَازَ لَمْ يَحْضُرْ، وَلِلْخَوْفِ مِنَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ فَسَارَ نَحْوَ الْعِرَاقِ، فَلَمَّا بَلَغَ حُلْوَانَ أَتَاهُ رَسُولُ الْأَمِيرِ إِيَازَ يَسْأَلُ التَّوَقُّفَ لِيَصِلَ إِلَيْهِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ إِيَازَ رَاسَلَ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا فِي الِانْضِمَامِ إِلَيْهِ وَالْمَصِيرِ فِي جُمْلَةِ عَسْكَرِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ، وَسَيَّرَ الْعَسَاكِرَ إِلَى هَمَذَانَ، فَفَارَقَهَا مُنْهَزِمًا، وَلَحِقَ بِالسُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَأَقَامَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ بِحُلْوَانَ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ إِيَازُ، وَسَارُوا جَمِيعُهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ. وَأَخَذَ عَسْكَرُ مُحَمَّدٍ مَا تَخَلَّفَ لِلْأَمِيرِ إِيَازَ بِهَمَذَانَ مِنْ مَالٍ وَدَوَابَّ، وَبَرْكٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ أُعْجِلَ عَنْهُ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهِ خَمْسُمِائَةِ حِصَانٍ عَرَبِيَّةٍ، قِيلَ كَانَ يُسَاوِي كُلُّ حِصَانٍ مِنْهَا مَا بَيْنَ ثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ إِلَى خَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ، وَنَهَبُوا دَارَهُ، وَصَادَرُوا جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَصُودِرَ رَئِيسُ هَمَذَانَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَلَمَّا وَصَلَ إِيَازُ إِلَى بَرْكِيَارُقَ تَكَامَلَتْ عِدَّتُهُمْ خَمْسَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَقَدْ ذَهَبَتْ خِيَامُهُمْ وَثَقَلُهُمْ وَوَصَلَ بَرْكِيَارُقُ إِلَى بَغْدَاذَ سَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى طَرِيقِهِ يِلْتَقِيهِ أَمِينَ الدَّوْلَةِ بْنَ مُوصْلَايَا فِي الْمَوْكِبِ، وَلَمَّا كَانَ عِيدُ الْأَضْحَى نَفَّذَ الْخَلِيفَةُ مِنْبَرًا إِلَى دَارِ السُّلْطَانِ، وَخَطَبَ عَلَيْهِ الشَّرِيفُ أَبُو الْكَرَمِ، وَصَلَّى صَلَاةَ الْعِيدِ، وَلَمْ يَحْضُرْ بَرْكِيَارُقُ لِأَنَّهُ كَانَ مَرِيضًا. وَضَاقَتِ الْأَمْوَالُ عَلَى بَرْكِيَارُقَ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُخْرِجُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى عَسَاكِرِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَشْكُو الضَّائِقَةَ وَقِلَّةَ الْمَالِ، وَيَطْلُبُ أَنْ يُعَانَ بِمَا يُخْرِجُهُ، فَتَقَرَّرَ الْأَمْرُ بَعْدَ الْمُرَاجَعَاتِ عَلَى خَمْسِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، حَمَلَهَا الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ، وَمَدَّ بَرْكِيَارُقُ وَأَصْحَابُهُ أَيْدِيَهُمْ إِلَى أَمْوَالِ النَّاسِ، فَعَمَّ ضَرَرُهُمْ، وَتَمَنَّى أَهْلُ الْبِلَادِ زَوَالَهُمْ عَنْهُمْ، وَدَعَتْهُمُ الضَّرُورَةُ إِلَى أَنِ ارْتَكَبُوا خُطَّةً شَنْعَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَبُو مُحَمَّدٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ

مَنْصُورٍ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ صُلَيْحَةَ، قَاضِي جَبَلَةَ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ وَصَاحِبُهَا، مُنْهَزِمًا مِنَ الْفِرِنْجِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَمَعَهُ أَمْوَالٌ جَلِيلَةُ الْمِقْدَارِ، فَأَخَذُوهَا مِنْهُ. ذِكْرُ خِلَافِ صَدَقَةَ بْنِ مَزْيَدٍ عَلَى بَرْكِيَارُقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْأَمِيرُ صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ، صَاحِبُ الْحِلَّةِ، عَنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، وَقَطَعَ خُطْبَتَهُ مِنْ بِلَادِهِ، وَخَطَبَ فِيهَا لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَزِيرَ الْأَعَزَّ أَبَا الْمَحَاسِنِ الدِّهِسْتَانِيَّ، وَزِيرَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، أَرْسَلَ إِلَى صَدَقَةَ يَقُولُ لَهُ: قَدْ تَخَلَّفَ عِنْدَكَ لِخِزَانَةِ السُّلْطَانِ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَذَا وَكَذَا دِينَارًا لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ، فَإِنْ أَرْسَلْتَهَا، وَإِلَّا سَيَّرْنَا الْعَسَاكِرَ إِلَى بِلَادِكَ وَأَخَذْنَاهَا مِنْكَ. فَلَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الرِّسَالَةَ قَطَعَ الْخُطْبَةَ، وَخَطَبَ لِمُحَمَّدٍ. فَلَمَّا وَصَلَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ إِلَى بَغْدَاذَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ يَدْعُوهُ إِلَى الْحُضُورِ عِنْدَهُ، فَلَمْ يُجِبْ إِلَى ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْأَمِيرَ إِيَازَ يُشِيرُ بِقَصْدِ خِدْمَةِ السُّلْطَانِ، وَيَضْمَنُ لَهُ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ، فَقَالَ: لَا أَحْضُرُ، وَلَا أُطِيعُ السُّلْطَانَ، إِلَّا إِذَا سَلَّمَ وَزِيرَهُ أَبَا الْمَحَاسِنِ إِلَيَّ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا يَتَصَوَّرُ مِنِّي الْحُضُورَ عِنْدَهُ أَبَدًا، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مَا يَكُونُ، فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَيَّ، فَأَنَا الْعَبْدُ الْمُخْلِصُ فِي الْعُبُودِيَّةِ بِالْحُسْنِ وَالطَّاعَةِ، فَلَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ، فَتَمَّ عَلَى مُقَاطَعَتِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَطَرَدَ عَنْهَا النَّائِبَ بِهَا عَنِ السُّلْطَانِ وَاسْتَضَافَهَا إِلَيْهِ. ذِكْرُ وُصُولِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ إِلَى بَغْدَاذَ وَرَحِيلِ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقُ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ [مِنْ] ذِي الْحِجَّةِ، وَصَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ وَسَنْجَرُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَكَانَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى هَمَذَانَ وَغَيْرِهَا سَارَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى حُلْوَانَ سَارَ إِلَيْهِ إِيلْغَازِي بْنُ أُرْتُقَ فِي عَسَاكِرِهِ، وَخَدَمَهُ، وَأَحْسَنَ فِي الْخِدْمَةِ، وَكَانَ عَسْكَرُ مُحَمَّدٍ يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ سِوَى الْأَتْبَاعِ.

فَلَمَّا وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ كَانَ بَرْكِيَارُقُ عَلَى شِدَّةٍ مِنَ الْمَرَضِ، يُرْجِفُ عَلَيْهِ خَوَاصُّهُ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فَمَاجَ أَصْحَابُهُ، وَخَافُوا، وَاضْطَرَبُوا، وَحَارُوا، وَعَبَرُوا بِهِ فِي مَحَفَّةٍ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَنَزَلُوا بِالرَّمْلَةِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي بَرْكِيَارُقَ غَيْرُ رُوحٍ يَتَرَدَّدُ، وَتَيَقَّنَ أَصْحَابُهُ مَوْتَهُ، وَتَشَاوَرُوا فِي كَفَنِهِ، وَمَوْضِعِ دَفْنِهِ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي أَجِدُ نَفْسِي قَدْ قَوِيتُ، وَحَرَكَتِي قَدْ تَزَايَدَتْ، فَطَابَتْ نُفُوسُهُمْ، وَسَارُوا، وَقَدْ وَصَلَ الْعَسْكَرُ الْآخَرُ فَتَرَاءَى الْجَمْعَانِ بَيْنَهُمَا دِجْلَةُ، وَجَرَى بَيْنَهُمَا مُرَامَاةٌ وَسِبَابٌ، وَكَانَ أَكْثَرُ مَا يَسُبُّهُمْ عَسْكَرُ مُحَمَّدٍ يَا بَاطِنِيَّةُ، يُعَيِّرُونَهُمْ بِذَلِكَ، وَنَهَبُوا الْبِلَادَ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَى وَاسِطَ. وَوَصَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ إِلَى بَغْدَاذَ، فَنَزَلَ بِدَارِ الْمَمْلَكَةِ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ تَوْقِيعُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ يَتَضَمَّنُ الِامْتِعَاضَ مِنْ سُوءِ سِيرَةِ بَرْكِيَارُقَ وَمَنْ مَعَهُ، وَالِاسْتِبْشَارَ بِقُدُومِهِ، وَخَطَبَ لَهُ بِالدِّيوَانِ، وَنَزَلَ الْمَلِكُ سَنْجَرُ بِدَارِ كُوهْرَائِينَ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ قَدِ اسْتَوْزَرَ بَعْدَ مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ خَطِيرَ الْمُلْكِ أَبَا مَنْصُورٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ، وَقَدِمَ إِلَيْهِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ، وَخَرَجَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ إِلَى لِقَائِهِ. ذِكْرُ حَالِ قَاضِيَ جَبَلَةَ هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مَنْصُورٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ صُلَيْحَةَ، وَكَانَ وَالِدُهُ رَئِيسَهَا أَيَّامَ كَانَ الرُّومُ مَالِكِينَ لَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَقْضِي بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا ضَعُفَ أَمْرُ الرُّومِ، وَمَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَصَارَتْ تَحْتَ حُكْمِ جَلَالِ الْمُلْكِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عَمَّارٍ، صَاحِبِ طَرَابُلُسَ كَانَ مَنْصُورٌ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْحُكْمِ فِيهَا. فَلَمَّا تُوُفِّيَ مَنْصُورٌ قَامَ ابْنُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَقَامَهُ، وَأَحَبَّ الْجُنْدِيَّةَ، وَاخْتَارَ الْجُنْدَ، فَظَهَرَتْ شَهَامَتُهُ، فَأَرَادَ ابْنُ عَمَّارٍ أَنْ يَقْبِضَ عَلَيْهِ، فَاسْتَشْعَرَ مِنْهُ، وَعَصَى عَلَيْهِ، وَأَقَامَ الْخُطْبَةَ الْعَبَّاسِيَّةَ، فَبَذَلَ ابْنُ عَمَّارٍ لِدُقَاقِ بْنِ تُتُشَ مَالًا لِيَقْصِدَهُ وَيَحْصُرَهُ، فَفَعَلَ، وَحَصَرَهُ، فَلَمْ يَظْفَرْ مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَأُصِيبَ صَاحِبُهُ أَتَابِكُ طُغْتِكِينُ بِنُشَّابَةٍ فِي رُكْبَتَيْهِ وَبَقِيَ أَثَرُهَا.

وَبَقِيَ أَبُو مُحَمَّدٍ بِهَا مُطَاعًا إِلَى أَنْ جَاءَ الْفِرِنْجُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، فَحَصَرُوهَا، فَأَظْهَرَ أَنَّ السُّلْطَانَ بَرْكِيَارُقَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الشَّامِ، وَشَاعَ هَذَا، فَرَحَلَ الْفِرِنْجُ، فَلَمَّا تَحَقَّقُوا اشْتِغَالَ السُّلْطَانِ عَنْهُمْ عَاوَدُوا حِصَارَهُ، فَأَظْهَرَ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ قَدْ تَوَجَّهُوا لِحَرْبِهِمْ، فَرَحَلُوا ثَانِيًا، ثُمَّ عَادُوا، فَقَرَّرَ مَعَ النَّصَارَى الَّذِينَ بِهَا أَنْ يُرَاسِلُوا الْفِرِنْجَ، وَيُوَاعِدُوهُمْ إِلَى بُرْجٍ مِنْ أَبْرَاجِ الْبَلَدِ لِيُسَلِّمُوهُ إِلَيْهِمْ وَيَمْلِكُوا الْبَلَدَ، فَلَمَّا أَتَتْهُمُ الرِّسَالَةُ جَهَّزُوا نَحْوَ ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ أَعْيَانِهِمْ وَشُجْعَانِهِمْ، فَتَقَدَّمُوا إِلَى ذَلِكَ الْبُرْجِ فَلَمْ يَزَالُوا يَرْقَوْنَ فِي الْجِبَالِ، وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَكُلَّمَا صَارَ عِنْدَ ابْنِ صُلَيْحَةَ، وَهُوَ عَلَى السُّورِ، رَجُلٌ مِنْهُمْ قَتَلَهُ إِلَى أَنْ قَتَلَهُمْ أَجْمَعِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا رَمَى الرُّءُوسَ إِلَيْهِمْ فَرَحَلُوا عَنْهُ. وَحَصَرُوهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَنَصَبُوا عَلَى الْبَلَدِ بُرْجَ خَشَبٍ، وَهَدَمُوا بُرْجًا مِنْ أَبْرَاجِهِ، وَأَصْبَحُوا وَقَدْ بَنَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ، ثُمَّ نَقَّبَ فِي السُّورِ نُقُوبًا، وَخَرَجَ مِنَ الْبَابِ وَقَاتَلَهُمْ، فَانْهَزَمَ مِنْهُمْ، وَتَبِعُوهُ، فَخَرَجَ أَصْحَابُهُ مِنْ تِلْكَ النُّقُوبِ، فَأَتَوُا الْفِرِنْجَ مِنْ ظُهُورِهِمْ، فَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ وَأُسِرَ مُقَدَّمُهُمُ الْمَعْرُوفُ بِكُنْدِ اصْطَبْلْ، فَافْتَدَى نَفْسَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ. ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَقْعُدُونَ عَنْ طَلَبِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَمْنَعُهُمْ عَنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى طُغْتِكِينَ أَتَابِكْ يَلْتَمِسُ مِنْهُ إِنْفَاذَ مَنْ يَثِقُ بِهِ لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِ ثَغْرَ جَبَلَةَ، وَيَحْمِيَهُ لِيَصِلَ هُوَ إِلَى دِمَشْقَ بِمَالِهِ وَأَهْلِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى مَا الْتَمَسَ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ وَلَدَهُ تَاجَ الْمُلُوكِ بُورِي، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْبَلَدَ، وَرَحَلَ إِلَى دِمَشْقَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُسَيِّرَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَفَعَلَ، وَسَيَّرَهُ وَمَعَهُ مَنْ يَحْمِيهِ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى الْأَنْبَارِ. وَلَمَّا صَارَ بِدِمَشْقَ أَرْسَلَ ابْنُ عَمَّارٍ صَاحِبُ طَرَابُلُسَ إِلَى الْمَلِكِ دُقَاقٍ، وَقَالَ: سَلِّمْ إِلَيَّ ابْنَ صُلَيْحَةَ عُرْيَانًا، وَخُذْ مَالَهُ أَجْمَعَ، وَأَنَا أُعْطِيكَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمْ يَفْعَلْ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْأَنْبَارِ أَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَبِهَا السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ، فَلَمَّا وَصَلَ أَحْضَرَهُ الْوَزِيرُ الْأَعَزُّ أَبُو الْمَحَاسِنِ عِنْدَهُ، وَقَالَ لَهُ السُّلْطَانُ مُحْتَاجٌ، وَالْعَسَاكِرُ

يُطَالِبُونَهُ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَنُرِيدُ مِنْكَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَتَكُونُ لَهُ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ، تَسْتَحِقُّ بِهَا الْمُكَافَأَةَ وَالشُّكْرَ. فَقَالَ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، وَلَمْ يَطْلُبْ أَنْ يَحُطَّ شَيْئًا، وَقَالَ: إِنَّ رَحْلِي وَمَالِي فِي الْأَنْبَارِ بِالدَّارِ الَّتِي نَزَلْتُهَا، فَأَرْسَلَ الْوَزِيرُ إِلَيْهَا جَمَاعَةً، فَوَجَدُوا فِيهَا مَالًا كَثِيرًا، وَأَعْلَاقًا نَفِيسَةً، فَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَلْفٌ وَمِائَةُ قِطْعَةِ مَصَاغٍ عَجِيبِ الصَّنْعَةِ، وَمِنَ الْمَلَابِسِ وَالْعَمَائِمِ الَّتِي لَا يُوجَدُ مِثْلُهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَذْكُرَ هَذِهِ الْحَوَادِثَ الَّتِي بَعْدَ انْهِزَامِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ إِلَى هَاهُنَا، بَعْدَ قَتْلِ الْبَاطِنِيَّةِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ أَوَاخِرَ السَّنَةِ، وَكَانَ قَتْلُهُمْ فِي شَعْبَانَ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَاهَا لِنُتْبِعَ بَعْضَ الْحَادِثَةِ بَعْضًا لَا يَفْصِلُ بَيْنَهَا شَيْءٌ. وَأَمَّا تَاجُ الْمُلُوكِ بُورِي، فَإِنَّهُ لَمَّا مَلَكَ جَبَلَةَ، وَتَمَكَّنَ مِنْهَا، أَسَاءَ السِّيرَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مَعَ أَهْلِهَا، وَفَعَلُوا بِهِمْ أَفْعَالًا أَنْكَرُوهَا، فَرَاسَلُوا الْقَاضِيَ فَخْرَ الْمُلْكِ أَبَا عَلِيٍّ عَمَّارَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ، صَاحِبَ طَرَابُلُسَ، وَشَكَوْا إِلَيْهِ مَا يَفْعَلُ بِهِمْ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بَعْضَ أَصْحَابِهِ لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ الْبَلَدَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا، فَدَخَلُوا جَبَلَةَ، وَاجْتَمَعُوا بِأَهْلِهَا، وَقَاتَلُوا تَاجَ الْمُلُوكِ وَمَنْ مَعَهُ، فَانْهَزَمَ الْأَتْرَاكُ، وَمَلَكَ عَسْكَرُ ابْنِ عَمَّارٍ جَبَلَةَ، وَأَخَذُوا تَاجَ الْمُلُوكِ أَسِيرًا، وَحَمَلُوهُ إِلَى طَرَابُلُسَ، فَأَكْرَمَهُ ابْنُ عَمَّارٍ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى أَبِيهِ بِدِمَشْقَ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، وَعَرَّفَهُ صُورَةَ الْحَالِ، وَأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَمْلِكَ الْفِرِنْجُ جَبَلَةَ. ذِكْرُ قَتْلِ الْبَاطِنِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، أَمَرَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ بِقَتْلِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَهُمُ الْإِسْمَاعِلِيَّةُ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا قَدِيمًا يُسَمَّوْنَ قَرَامِطَةَ، وَنَحْنُ نَبْتَدِئُ بِأَوَّلِ أَمْرِهِمُ الْآنَ ثُمَّ بِسَبَبِ قَتْلِهِمْ.

فَأَوَّلُ مَا عُرِفَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، أَعْنِي هَذِهِ الدَّعْوَةَ الْأَخِيرَةَ الَّتِي اشْتَهَرَتْ بِالْبَاطِنِيَّةِ، وَالْإِسْمَاعِلِيَّةِ، فِي أَيَّامِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَصَلُّوا صَلَاةَ الْعِيدِ فِي سَاوَةَ، فَفَطِنَ بِهِمُ الشِّحْنَةُ، فَأَخَذَهُمْ وَحَبَسَهُمْ، ثُمَّ سُئِلَ فِيهِمْ فَأَطْلَقَهُمْ، فَهَذَا أَوَّلُ اجْتِمَاعٍ كَانَ لَهُمْ. ثُمَّ إِنَّهُمْ دَعَوْا مُؤَذِّنًا مِنْ أَهْلِ سَاوَةَ كَانَ مُقِيمًا بِأَصْبَهَانَ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى دَعْوَتِهِمْ فَخَافُوهُ أَنْ يَنِمَّ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلُوهُ، فَهُوَ أَوَّلُ قَتِيلٍ لَهُمْ، وَأَوَّلُ دَمٍ أَرَاقُوهُ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ، فَأَمَرَ بِأَخْذِ مَنْ يُتَّهَمُ بِقَتْلِهِ، فَوَقَعَتِ التُّهْمَةُ عَلَى نَجَّارٍ اسْمُهُ طَاهِرٌ، فَقُتِلَ، وَمُثِّلَ بِهِ، وَجَرُّوا بِرِجْلِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، فَهُوَ أَوَّلُ قَتِيلٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ وَالِدُهُ وَاعِظًا، وَقَدِمَ إِلَى بَغْدَاذَ مَعَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] فَحَظِيَ مِنْهُ، ثُمَّ قَصَدَ الْبَصْرَةَ فَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِهَا، ثُمَّ تَوَجَّهَ فِي رِسَالَةٍ إِلَى كِرْمَانَ، فَقَتَلَهُ الْعَامَّةُ فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي جَرَتْ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ بَاطِنِيٌّ. ثُمَّ إِنَّ الْبَاطِنِيَّةَ قَتَلُوا نِظَامَ الْمُلْكِ، وَهِيَ أَوَّلُ فَتْكَةٍ مَشْهُورَةٍ كَانَتْ لَهُمْ وَقَالُوا: قَتَلَ نَجَّارًا فَقَتَلْنَاهُ بِهِ. وَأَوَّلُ مَوْضِعٍ غَلَبُوا وَتَحَصَّنُوا بِهِ بَلَدٌ عِنْدَ قَايِنَ، كَانَ مُتَقَدِّمُهُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ، وَقَوَوْا بِهِ، فَاجْتَازَتْ بِهِمْ قَافِلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ كِرْمَانَ إِلَى قَايِنَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ وَالْبَاطِنِيَّةُ، فَقَتَلَ أَهْلَ الْقَفَلِ أَجْمَعِينَ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ غَيْرُ رَجُلٍ تُرْكُمَانِيٌّ، فَوَصَلَ إِلَى قَايِنَ فَأَخْبَرَ بِالْقِصَّةِ، فَتَسَارَعَ أَهْلُهَا مَعَ الْقَاضِي الْكِرْمَانِيِّ إِلَى جِهَادِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قُتِلَ نِظَامُ الْمُلْكِ، وَمَاتَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ، فَعَظُمَ أَمْرُهُمْ، وَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُمْ، وَقَوِيَتْ أَطْمَاعُهُمْ.

وَكَانَ سَبَبُ قُوَّتِهِمْ بِأَصْبَهَانَ، أَنَّ السُّلْطَانَ بَرْكِيَارُقَ لَمَّا حَصَرَ أَصْبَهَانَ، وَبِهَا أَخُوهُ مَحْمُودٌ، وَأُمُّهُ خَاتُونَ الْجَلَالِيَّةُ، وَعَادَ عَنْهُمْ ظَهَرَتْ مَقَالَةُ الْبَاطِنِيَّةِ بِهَا، وَانْتَشَرَتْ، وَكَانُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي الْمَحَالِّ، فَاجْتَمَعُوا، وَصَارُوا يَسْرِقُونَ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ مُخَالِفِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ، فَعَلُوا هَذَا بِخَلْقٍ كَثِيرٍ، وَزَادَ الْأَمْرُ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ كَانَ إِذَا تَأَخَّرَ عَنْ بَيْتِهِ عَنِ الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ تَيَقَّنُوا قَتْلَهُ، وَقَعَدُوا لِلْعَزَاءِ بِهِ، فَحَذِرَ النَّاسُ، وَصَارُوا لَا يَنْفَرِدُ أَحَدٌ، وَأَخَذُوا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ مُؤَذِّنًا، أَخَذَهُ جَارٌ لَهُ بَاطِنِيٌّ، فَقَامَ أَهْلُهُ لِلنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ، فَأَصْعَدَهُ الْبَاطِنِيَّةُ إِلَى سَطْحِ دَارِهِ وَأَرَوْهُ أَهْلَهُ كَيْفَ يَلْطِمُونَ وَيَبْكُونَ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ خَوْفًا مِنْهُمْ. ذِكْرُ مَا فَعَلَ بِهِمُ الْعَامَّةُ بِأَصْبَهَانَ لَمَّا عَمَّتْ هَذِهِ الْمُصِيبَةُ النَّاسَ بِأَصْبَهَانَ، أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَتْكِ أَسْتَارِهِمْ، وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، فَاتَّفَقَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ دَارَ صَدِيقٍ لَهُ، فَرَأَى فِيهَا ثِيَابًا، وَمَدَاسَاتٍ وَمَلَابِسَ لَمْ يَعْهَدْهَا، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَتَحَدَّثَ بِمَا كَانَ، فَكَشَفَ النَّاسُ عَنْهَا، فَعَلِمُوا أَنَّهَا مِنَ الْمَقْتُولِينَ. وَثَارَ النَّاسُ كَافَّةً يَبْحَثُونَ عَمَّنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَيَسْتَكْشِفُونَ، فَظَهَرُوا عَلَى الدُّرُوبِ الَّتِي هُمْ فِيهَا، وَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اجْتَازَ بِهِمْ إِنْسَانٌ أَخَذُوهُ إِلَى دَارٍ مِنْهُمْ وَقَتَلُوهُ وَأَلْقَوْهُ فِي بِئْرٍ فِي الدَّارِ قَدْ صُنِعَتْ لِذَلِكَ. وَكَانَ عَلَى بَابِ دَرْبٍ مِنْهَا رَجُلٌ ضَرِيرٌ، فَإِذَا اجْتَازَ بِهِ إِنْسَانٌ يَسْأَلُهُ أَنْ يَقُودَهُ خُطُوَاتٍ إِلَى بَابِ الدَّرْبِ، فَيَفْعَلُ ذَلِكَ، فَإِذَا دَخَلَ الدَّرْبَ أُخِذَ وَقُتِلَ، فَتَجَرَّدَ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ أَبُو الْقَاسِمِ مَسْعُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُجَنْدِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَجَمَعَ الْجَمَّ الْغَفِيرَ بِالْأَسْلِحَةِ، وَأَمَرَ بِحَفْرِ أَخَادِيدَ، وَأَوْقَدَ فِيهَا النِّيرَانَ، وَجَعَلَ الْعَامَّةُ يَأْتُونَ بِالْبَاطِنِيَّةِ أَفْوَاجًا وَمُنْفَرِدِينَ، فَيُلْقَوْنَ فِي النَّارِ، وَجَعَلُوا إِنْسَانًا عَلَى أَخَادِيدِ النِّيرَانِ، وَسَمَّوْهُ مَالِكًا، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا.

ذِكْرُ قِلَاعِهِمُ الَّتِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا بِبِلَادِ الْعَجَمِ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى عِدَّةِ حُصُونٍ مِنْهَا قَلْعَةُ أَصْبَهَانَ، وَهَذِهِ الْقَلْعَةُ لَمْ تَكُنْ قَدِيمًا، وَإِنَّمَا بَنَاهَا السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ. وَسَبَبُ بِنَائِهَا أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ مُقَدَّمِي الرُّومِ، فَأَسْلَمَ وَصَارَ مَعَهُ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ سَارَ يَوْمًا إِلَى الصَّيْدِ، فَهَرَبَ مِنْهُ كَلْبٌ حَسَنُ الصَّيْدِ، وَصَعِدَ هَذَا الْجَبَلَ، فَتَبِعَهُ السُّلْطَانُ وَالرُّومِيُّ مَعَهُ، فَوَجَدَهُ مَوْضِعَ الْقَلْعَةِ فَقَالَ لَهُ الرُّومِيُّ: لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا مِثْلَ هَذَا الْجَبَلِ لَجَعَلْنَا عَلَيْهِ حِصْنًا نَنْتَفِعُ بِهِ، فَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْقَلْعَةِ، وَمَنَعَ مِنْهَا نِظَامُ الْمُلْكِ، فَلَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ، فَلَمَّا فَرَغَتْ جَعَلَ فِيهَا دَزْدَارًا. فَلَمَّا انْقَضَتْ أَيَّامُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَصَارَتْ أَصْبَهَانُ بِيَدِ خَاتُونَ أَزَالَتِ الدَّزْدَارَ، وَجَعَلَتْ غَيْرَهُ فِيهَا وَهُوَ إِنْسَانٌ دَيْلَمِيٌّ اسْمُهُ زِيَارُ، فَمَاتَ، وَصَارَ بِالْقَلْعَةِ إِنْسَانٌ خُوزِيٌّ، فَاتَّصَلَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ عَطَّاشٍ، وَكَانَ الْبَاطِنِيَّةُ قَدْ أَلْبَسُوهُ تَاجًا، وَجَمَعُوا لَهُ مَالًا، وَقَدَّمُوهُ عَلَيْهِمْ مَعَ جَهْلِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَبُوهُ مُقَدَّمًا فِيهِمْ، فَلَمَّا اتَّصَلَ بِالدَّزْدَارِ بَقِيَ مَعَهُ، وَوَثِقَ بِهِ وَقَلَّدَهُ الْأُمُورَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الدَّزْدَارُ اسْتَوْلَى أَحْمَدُ بْنُ عَطَّاشٍ عَلَيْهَا، وَنَالَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ ضَرَرٌ عَظِيمٌ مِنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ النُّفُوسِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالْخَوْفِ الدَّائِمِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ قَلْعَةً يَدُلُّ عَلَيْهَا كَلْبٌ، وَيُشِيرُ بِهَا كَافِرٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خَاتِمَةُ أَمْرِهَا الشَّرَّ. وَمِنْهَا أَلَمُوتُ، وَهِيَ مِنْ نَوَاحِي قَزْوِينَ، قِيلَ إِنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الدَّيْلَمِ كَانَ كَثِيرَ التَّصَيُّدِ، فَأَرْسَلَ يَوْمًا عُقَابًا، وَتَبِعَهُ، فَرَآهُ قَدْ سَقَطَ عَلَى مَوْضِعِ هَذِهِ الْقَلْعَةِ، فَوَجَدَهُ مَوْضِعًا حَصِينًا، فَأَمَرَ بِبِنَاءِ قَلْعَةٍ عَلَيْهِ، فَسَمَّاهَا أَلُهْ مُوتَ، وَمَعْنَاهُ بِلِسَانِ الدَّيْلَمِ: تَعْلِيمُ الْعُقَابِ، وَيُقَالُ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَمَا يُجَاوِرُهُ طَالْقَانَ. وَفِيهَا قِلَاعٌ حَصِينَةٌ أَشْهَرُهَا أَلَمُوتُ، وَكَانَتْ هَذِهِ النَّوَاحِي فِي ضَمَانِ شَرَفْشَاهْ الْجَعْفَرِيِّ، وَقَدِ اسْتَنَابَ فِيهَا رَجُلًا عَلَوِيًّا، فِيهِ بَلَهٌ وَسَلَامَةُ صَدْرٍ. وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ رَجُلًا شَهْمًا، كَافِيًا، عَالِمًا بِالْهَنْدَسَةِ، وَالْحِسَابِ، وَالنُّجُومِ، وَالسِّحْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ رَئِيسَ الرَّيِّ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ صِهْرُ نِظَامِ الْمُلْكِ، فَاتَّهَمَ الْحَسَنَ بْنَ الصَّبَّاحِ بِدُخُولِ جَمَاعَةٍ مِنْ دُعَاةِ الْمِصْرِيِّينَ عَلَيْهِ، فَخَافَهُ

ابْنُ الصَّبَّاحِ، وَكَانَ نِظَامُ الْمُلْكِ يُكْرِمُهُ، وَقَالَ لَهُ يَوْمًا مِنْ طَرِيقِ الْفِرَاسَةِ: عَنْ قَرِيبٍ يُضِلُّ هَذَا الرَّجُلُ ضُعَفَاءَ الْعَوَامِّ، فَلَمَّا هَرَبَ الْحَسَنُ مِنْ أَبِي مُسْلِمٍ طَلَبَهُ فَلَمْ يُدْرِكْهُ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ تَلَامِيذِهِ ابْنُ عَطَّاشٍ، الطَّبِيبُ الَّذِي مَلَكَ قَلْعَةَ أَصْبَهَانَ، وَمَضَى ابْنُ الصَّبَّاحِ فَطَافَ الْبِلَادَ، وَوَصَلَ إِلَى مِصْرَ، وَدَخَلَ عَلَى الْمُسْتَنْصِرِ صَاحِبِهَا، فَأَكْرَمَهُ، وَأَعْطَاهُ مَالًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى إِمَامَتِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: فَمَنِ الْإِمَامُ بَعْدَكَ؟ فَأَشَارَ إِلَى ابْنِهِ نِزَارٍ، وَعَادَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَدِيَارِ بَكْرٍ، وَالرُّومِ، وَرَجَعَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَدَخَلَ كَاشْغَرَ، وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، يَطُوفُ عَلَى قَوْمٍ يُضِلُّهُمْ، فَلَمَّا رَأَى قَلْعَةَ أَلَمُوتَ، وَاخْتَبَرَ أَهْلَ تِلْكَ النَّوَاحِي، أَقَامَ عِنْدَهُمْ، وَطَمِعَ فِي إِغْوَائِهِمْ، وَدَعَاهُمْ فِي السِّرِّ، وَأَظْهَرَ الزُّهْدَ، وَلَبِسَ الْمِسْحَ، فَتَبِعَهُ أَكْثَرُهُمْ، وَالْعَلَوِيُّ صَاحِبُ الْقَلْعَةِ حَسَنُ الظَّنِّ فِيهِ، يَجْلِسُ إِلَيْهِ يَتَبَرَّكُ بِهِ، فَلَمَّا أَحْكَمَ الْحَسَنُ أَمْرَهُ، دَخَلَ يَوْمًا عَلَى الْعَلَوِيِّ بِالْقَلْعَةِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الصَّبَّاحِ: اخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الْقَلْعَةِ، فَتَبَسَّمَ الْعَلَوِيُّ، وَظَنَّهُ يَمْزَحُ، فَأَمَرَ ابْنُ الصَّبَّاحِ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِإِخْرَاجِ الْعَلَوِيِّ، فَأَخْرَجُوهُ إِلَى دَامَغَانَ، وَأَعْطَاهُ مَالَهُ وَمَلَكَ الْقَلْعَةَ. وَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ بَعَثَ عَسْكَرًا إِلَى قَلْعَةِ أَلَمُوتَ، فَحَصَرُوهُ فِيهَا، وَأَخَذُوا عَلَيْهِ الطُّرُقَ، فَضَاقَ ذَرْعُهُ بِالْحَصْرِ، فَأَرْسَلَ مَنْ قَتَلَ نِظَامَ الْمُلْكِ، فَلَمَّا قُتِلَ رَجَعَ الْعَسْكَرُ عَنْهَا. ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدَ بْنَ مَلِكْشَاهْ جَهَّزَ نَحْوَهَا الْعَسَاكِرَ، فَحَصَرَهَا، وَسَيَرِدُ ذِكْرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا طَبَسُ، وَبَعْضُ قُهِسْتَانَ، وَكَانَ سَبَبُ مُلْكِهِمْ لَهَا أَنَّ قُهِسْتَانَ كَانَ قَدْ بَقِيَ فِيهَا بَقَايَا مِنْ بَنِي سِيمْجُورَ، أُمَرَاءِ خُرَاسَانَ، أَيَّامَ السَّامَانِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ نَسْلِهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْمُنَوَّرُ، وَكَانَ رَئِيسًا مُطَاعًا عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، فَلَمَّا وَلِيَ كَلْسَارِغُ قُهِسْتَانَ ظَلَمَ النَّاسَ وَعَسَفَهُمْ، وَأَرَادَ أُخْتًا لِلْمُنَوَّرِ بِغَيْرِ حِلٍّ، فَحَمَلَ ذَلِكَ الْمُنَوَّرَ عَلَى أَنِ الْتَجَأَ إِلَى الْإِسْمَاعِلِيَّةِ، وَصَارَ مَعَهُمْ، فَعَظُمَ حَالُهُمْ فِي قُهِسْتَانَ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا خَوْرُ، وَخُوسَفُ، وَزَوْزَنُ، وَقَايِنُ، وُتُونُ وَتِلْكَ الْأَطْرَافُ الْمُجَاوِرَةُ لَهَا.

وَمِنْهَا قَلْعَةُ وَسْنَمْكُوهُ، مَلَكُوهَا، وَهِيَ بِقُرْبِ أَبْهَرَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَتَأَذَّى بِهِمُ النَّاسُ، لَا سِيَّمَا أَهْلُ أَبْهَرَ، فَاسْتَغَاثُوا بِالسُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَجَعَلَ عَلَيْهَا مَنْ يُحَاصِرُهَا، فَحُوصِرَتْ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَأُخِذَتْ مِنْهُمْ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَقُتِلَ كُلُّ مَنْ بِهَا عَنْ آخِرِهِمْ. وَمِنْهَا قَلْعَةُ خَالِنْجَانَ عَلَى خَمْسَةِ فَرَاسِخَ مِنْ أَصْبَهَانَ، كَانَتْ لِمُؤَيَّدِ الْمُلْكِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَانْتَقَلَتْ إِلَى جَاوْلِي سَقَاوُوا، فَجَعَلَ بِهَا إِنْسَانًا تُرْكِيًّا، فَصَادَقَهُ نَجَّارٌ بَاطِنِيٌّ، وَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً جَمِيلَةً، وَلَزِمَهُ حَتَّى وَثِقَ بِهِ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ مَفَاتِيحَ الْقَلْعَةِ، فَعَمِلَ دَعْوَةً لِلتُّرْكِيِّ وَأَصْحَابِهِ، فَسَقَاهُمُ الْخَمْرَ، فَأَسْكَرَهُمْ، وَاسْتَدْعَى ابْنَ عَطَّاشٍ، فَجَاءَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِمُ الْقَلْعَةَ، فَقَتَلُوا مَنْ بِهَا سِوَى التُّرْكِيِّ فَإِنَّهُ هَرَبَ، وَقَوِيَ ابْنُ عَطَّاشٍ بِهَا، وَصَارَ لَهُ عَلَى أَهْلِ أَصْبَهَانَ الْقَطَائِعُ الْكَثِيرَةُ. وَمِنْ قِلَاعِهِمُ الْمَذْكُورَةِ أُسْتُونَاوَنْدُ، وَهِيَ بَيْنَ الرَّيِّ وَآمُلَ، مَلَكُوهَا بَعْدَ مَلِكْشَاهْ، نَزَلَ مِنْهَا صَاحِبُهَا، فَقُتِلَ وَأُخِذَتْ مِنْهُ. وَمِنْهَا أَرْدَهْنُ، وَمَلَكَهَا أَبُو الْفُتُوحِ ابْنُ أُخْتِ الْحَسَنِ الصَّبَّاحِ. وَمِنْهَا كُرْدِكُوهُ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ. وَمِنْهَا قَلْعَةُ النَّاظِرِ بِخُوزِسْتَانَ، وَقَلْعَةُ الطُّنْبُورِ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرَّجَانَ فَرْسَخَانِ أَخَذَهَا أَبُو حَمْزَةَ الْإِسْكَافُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَرَّجَانَ، سَافَرَ إِلَى مِصْرَ، وَعَادَ دَاعِيَةً لَهُمْ. وَقَلْعَةُ خَلَادْخَانَ وَهِيَ بَيْنَ فَارِسٍ وَخُوزِسْتَانَ، وَأَقَامَ بِهَا الْمُفْسِدُونَ نَحْوَ مِائَتَيْ سَنَةٍ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ حَتَّى فَتَحَهَا عَضُدُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ، وَقَتَلَ مَنْ بِهَا. فَلَمَّا صَارَتِ الدَّوْلَةُ لِمَلِكْشَاهْ أَقْطَعَهَا الْأَمِيرَ أُنَرَ، فَجَعَلَ بِهَا دَزْدَارًا، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ الْبَاطِنِيَّةُ الَّذِينَ بِأَرَّجَانَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ بَيْعَهَا فَأَبَى، فَقَالُوا لَهُ: نُرْسِلُ إِلَيْكَ مَنْ يُنَاظِرُكَ

حَتَّى يَظْهَرَ لَكَ الْحَقُّ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ إِنْسَانًا دَيْلَمِيًّا يُنَاظِرُهُ، وَكَانَ لِلدَّزْدَارِ مَمْلُوكٌ قَدْ رَبَّاهُ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ مَفَاتِيحَ الْقَلْعَةِ، فَاسْتَمَالَهُ الْبَاطِنِيُّ، فَأَجَابَهُ إِلَى الْقَبْضِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَتَسْلِيمِ الْقَلْعَةِ إِلَيْهِمْ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ، وَاسْتَوْلَوْا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى عِدَّةِ قِلَاعٍ هَذِهِ أَشْهَرُهَا. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ جَاوْلِي سَقَاوُوا بِالْبَاطِنِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ جَاوْلِي سَقَاوُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْهُمْ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْأَمِيرَ كَانَتْ وِلَايَتُهُ الْبِلَادَ الَّتِي بَيْنَ رَامَهُرْمُزَ وَأَرَّجَانَ. فَلَمَّا مَلَكَ الْبَاطِنِيَّةُ الْقِلَاعَ الْمَذْكُورَةَ بِخُوزِسْتَانَ وَفَارِسٍ، وَعَظُمَ شَرُّهُمْ، وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَاقَفَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى أَظْهَرُوا الشَّغَبَ عَلَيْهِ، وَفَارَقُوهُ، وَقَصَدُوا الْبَاطِنِيَّةَ، وَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ مَعَهُمْ، وَعَلَى رَأْيِهِمْ، فَأَقَامُوا عِنْدَهُمْ حَتَّى وَثِقُوا بِهِمْ. ثُمَّ أَظْهَرَ جَاوْلِي أَنَّ الْأُمَرَاءَ بَنِي بُرْسُقَ يُرِيدُونَ قَصْدَهُ وَأَخْذَ بِلَادِهِ، وَأَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى مُفَارَقَتِهَا لِعَجْزِهِ عَنْهُمْ، وَالْمَسِيرِ إِلَى هَمَذَانَ، فَلَمَّا ظَهَرَ ذَلِكَ وَسَارَ قَالَ مَنْ عِنْدَ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ لَهُمُ الرَّأْيُ: إِنَّنَا نَخْرُجُ إِلَى طَرِيقِهِ وَنَأْخُذُهُ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَسَارُوا إِلَيْهِ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ أَعْيَانِهِمْ وَصَنَادِيدِهِمْ، فَلَمَّا الْتَقَوْا صَارَ مَنْ مَعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ جَاوْلِي عَلَيْهِمْ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيهِمْ فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ سِوَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ، صَعِدُوا إِلَى الْجَبَلِ وَهَرَبُوا، وَغَنِمَ جَاوْلِي مَا مَعَهُمْ مِنْ دَوَابَّ، وَسِلَاحٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. ذِكْرُ قَتْلِ صَاحِبِ كِرْمَانَ الْبَاطِنِيِّ (وَمُلْكِ غَيْرِهِ) كَانَ تِيرَانْشَاهْ بْنُ تُورَانْشَاهْ بْنُ قَاوَرْتَ بِكْ هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْأَتْرَاكَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةَ، وَلَيْسُوا مَنْسُوبِينِ إِلَى هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْبَاطِنِيَّةِ، إِنَّمَا نُسِبُوا إِلَى أَمِيرٍ اسْمُهُ

إِسْمَاعِيلُ، وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، قَتَلَ مِنْهُمْ أَلْفَيْ رَجُلٍ صَبْرًا، وَقَطَعَ أَيْدِي أَلْفَيْنِ، وَوَفَدَ عَلَيْهِ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو زُرْعَةَ، كَانَ كَاتِبًا بِخُوزِسْتَانَ، فَحَسَّنَ لَهُ مَذْهَبَ الْبَاطِنِيَّةِ، فَأَجَابَ إِلَيْهِ. وَكَانَ عِنْدَهُ فَقِيهٌ حَنَفِيٌّ يُقَالُ لَهُ: أَحْمَدُ بْنُ حُسَيْنٍ الْبَلْخِيُّ، كَانَ مُطَاعًا فِي النَّاسِ، فَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ لَيْلًا، وَأَطَالَ الْجُلُوسَ مَعَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ أَتْبَعَهُ بِمَنْ قَتَلَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ دَخَلُوا عَلَيْهِ، وَفِيهِمْ صَاحِبُ جَيْشِهِ، فَقَالَ لِتِيرَانْشَاهْ: أَيُّهَا الْمَلِكُ مَنْ قَتَلَ هَذَا الْفَقِيهَ؟ فَقَالَ: أَنْتَ شِحْنَةُ الْبَلَدِ، تَسْأَلُنِي مَنْ قَتَلَهُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْرِفُ قَاتِلَهُ! وَنَهَضَ مِنْ عِنْدِهِ، فَفَارَقَهُ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ، وَسَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ، (فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِهِ أَلْفَيْ فَارِسٍ لِيَرُدُّوهُ، فَقَاتَلَهُمْ، وَهَزَمَهُمْ، وَسَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ) ، وَبِهَا السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ وَمُؤَيَّدُ الْمُلْكِ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ، وَقَالَ: أَنْتَ وَالِدُ الْمُلُوكِ. وَامْتَعَضَ عَسْكَرُ كِرْمَانَ بَعْدَ مَسِيرِهِ، وَاجْتَمَعُوا، وَقَاتَلُوا تِيرَانْشَاهْ، وَأَخْرَجُوهُ عَنْ مَدِينَةِ بَرْدَسِيرَ (الَّتِي هِيَ كِرْمَانَ) ، فَلَمَّا فَارَقَهَا اتَّفَقَ الْقَاضِي وَالْجُنْدُ، وَأَقَامُوا أَرْسِلَانْشَاهْ بْنَ كِرْمَانْشَاهْ بْنِ قَاوَرْتَ بِكْ، وَسَارَ تِيرَانْشَاهْ إِلَى مَدِينَةِ بُمَّ مِنْ كِرْمَانَ، فَحَارَبَهُ أَهْلُهَا وَمَنَعُوهُ مِنْهَا، وَفِيهَا أَمِيرٌ يُعْرَفُ بِمُحَمَّدٍ بَهِسْتُونَ، فَأَرْسَلَ أَرْسِلَانْشَاهْ جَيْشًا حَصَرُوا الْقَلْعَةَ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ بَهِسْتُونَ لِتِيرَانْشَاهْ: انْصَرِفْ عَنِّي، فَلَسْتُ أَرَى الْغَدْرَ بِكَ، وَأَنَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، وَمَقَامُكَ عِنْدِي يُؤْذِينِي، وَأُتَّهَمُ بِكَ فِي دِينِي. فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ أَرْسَلَ مُحَمَّدٌ بَهِسْتُونَ إِلَى مُقَدَّمِ الْجَيْشِ الَّذِينَ يُحَاصِرُونَهُمْ يُعْلِمُهُ بِمَسِيرِ تِيرَانْشَاهْ، فَجَرَّدَ عَسْكَرًا إِلَى طَرِيقِهِ، فَخَرَجُوا عَلَيْهِ، وَأَخَذُوهُ وَمَا مَعَهُ، وَأَخَذُوا أَيْضًا أَبَا زُرْعَةَ، فَأَرْسَلَ أَرْسِلَانْشَاهْ فَقَتَلَهُمَا، وَتَسَلَّمَ جَمِيعَ بِلَادِ كِرْمَانَ. ذِكْرُ السَّبَبِ فِي قَتْلِ بَرْكِيَارُقَ الْبَاطِنِيَّةَ لَمَّا اشْتَدَّ أَمْرُ الْبَاطِنِيَّةِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَكَثُرَ عَدَدُهُمْ، صَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِمْ ذُحُولٌ وَإِحَنٌ، فَلَمَّا قَتَلُوا جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ الْأَكَابِرِ، وَكَانَ أَكْثَرُ مَنْ قَتَلُوا مَنْ هُوَ فِي طَاعَةِ مُحَمَّدٍ، مُخَالِفٌ لِلسُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، مِثْلُ شِحْنَةِ أَصْبَهَانَ سَرْمُزَ، وَأَرْغَشَ، وَكَمْشَ النِّظَامِيِّينَ، وَصَهْرِهِ، وَغَيْرِهِمْ، نَسَبَ أَعْدَاءُ بَرْكِيَارُقَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَاتَّهَمُوهُ بِالْمَيْلِ إِلَيْهِمْ.

فَلَمَّا ظَفِرَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ، وَهَزَمَ أَخَاهُ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا، وَقَتَلَ مُؤَيَّدَ الْمُلْكِ وَزِيرُهُ، انْبَسَطَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فِي الْعَسْكَرِ، وَاسْتَغْوَوْا كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَأَدْخَلُوهُمْ فِي مَذْهَبِهِمْ، وَكَادُوا يَظْهَرُونَ بِالْكَثْرَةِ وَالْقُوَّةِ، وَحَصَلَ بِالْعَسْكَرِ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ وُجُوهِهِمْ، وَزَادَ أَمْرُهُمْ، فَصَارُوا يَتَهَدَّدُونَ مَنْ لَا يُوَافِقُهُمْ بِالْقَتْلِ، فَصَارَ يَخَافُهُمْ مَنْ يُخَالِفُهُمْ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَمْ يَتَجَاسَرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، لَا أَمِيرٌ وَلَا مُتَقَدِّمٌ، عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ حَاسِرًا بَلْ يَلْبَسُ تَحْتَ ثِيَابِهِ دِرْعًا، حَتَّى إِنَّ الْوَزِيرَ الْأَعَزَّ أَبَا الْمَحَاسِنِ كَانَ يَلْبَسُ زَرَدِيَّةً تَحْتَ ثِيَابِهِ، وَاسْتَأْذَنَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ خَوَاصَّهَ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ بِسِلَاحِهِمْ، وَعَرَّفُوهُ خَوْفَهُمْ مِمَّنْ يُقَاتِلُهُمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَأَشَارُوا عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَفْتِكَ بِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ تَلَافِي أَمْرِهِمْ، وَأَعْلَمُوهُ مَا يَتَّهِمُهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى مَذْهَبِهِمْ، حَتَّى إِنَّ عَسْكَرَ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ يُشَنِّعُونَ بِذَلِكَ، وَكَانُوا فِي الْمَصَافِّ يُكَبِّرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُونَ يَا بَاطِنِيَّةُ. فَاجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْبَوَاعِثُ كُلُّهَا، فَأَذِنَ السُّلْطَانُ فِي قَتْلِهِمْ، وَالْفَتْكِ بِهِمْ، وَرَكِبَ هُوَ وَالْعَسْكَرُ مَعَهُ، وَطَلَبُوهُمْ، وَأَخَذُوا جَمَاعَةً مِنْ خِيَامِهِمْ وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ لَمْ يُعْرَفْ. وَكَانَ مِمَّنِ اتُّهِمَ بِأَنَّهُ مُقَدَّمُهُمُ الْأَمِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ دَشْمَنَزْيَارَ بْنِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ كَاكَوَيْهِ، صَاحِبُ يَزْدَ، فَهَرَبَ، وَسَارَ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي وُجِدَ فِي الْعَسْكَرِ قَدْ ضَلَّ الطَّرِيقَ وَلَا يَشْعُرُ، فَقُتِلَ، وَهَذَا مَوْضِعُ الْمَثَلِ: أَتَتْكَ بِخَائِنٍ رِجْلَاهُ، وَنُهِبَتْ خِيَامُهُ، فَوُجِدَ عِنْدَهُ السِّلَاحُ الْمُعَدُّ، وَأُخْرِجَ الْجَمَاعَةُ الْمُتَّهَمُونَ إِلَى الْمَيْدَانِ فَقُتِلُوا، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ بَرَاءٌ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ سَعَى بِهِمْ أَعْدَاؤُهُمْ، وَفِيمَنْ قُتِلَ وَلَدُ كَيْقُبَاذَ، مُسْتَحْفِظُ تِكْرِيتَ، فَلَمْ يُغَيِّرْ وَالِدُهُ خُطْبَةَ بَرْكِيَارُقَ، وَلَكِنْ شَرَعَ فِي تَحْصِينِ الْقَلْعَةِ وَعِمَارَتِهَا، وَنَقْضِ جَامِعِ الْبَلَدِ، وَكَانَ يُقَارِبُهَا، لِئَلَّا يُؤْتَى مِنْهُ، وَجَعَلَ بِيعَةً فِي الْبَلَدِ جَامِعًا، وَصَلَّى النَّاسُ فِيهِ. وَكَتَبَ إِلَى بَغْدَاذَ بِالْقَبْضِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ الْأَسَدَابَاذِيِّ الَّذِي كَانَ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهَا رَسُولًا مِنْ بَرْكِيَارُقَ لِيَأْخُذَ مَالَ مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِهِمْ وَرُءُوسِهِمْ، فَأُخِذَ وَحُبِسَ، فَلَمَّا أَرَادُوا قَتْلَهُ قَالَ: هَبُوا أَنَّكُمْ قَتَلْتُمُونِي، أَتَقْدِرُونَ عَلَى قَتْلِ مَنْ بِالْقِلَاعِ وَالْمُدُنِ؟ فَقُتِلَ، وَلَمْ يُصَلِّ أَحَدٌ عَلَيْهِ، وَأُلْقِيَ خَارِجَ السُّورِ، وَكَانَ لَهُ وَلَدٌ كَبِيرٌ قُتِلَ بِالْعَسْكَرِ مَعَهُمْ. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ عَانَةَ نُسِبُوا إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ قَدِيمًا، فَأُنْهِيَ حَالُهُمْ إِلَى الْوَزِيرِ أَبِي

شُجَاعٍ أَيَّامَ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، فَأَحْضَرَهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ، فَسَأَلَ مَشَايِخَهُمْ عَلَى الَّذِي يُقَالُ فِيهِمْ، فَأَنْكَرُوا وَجَحَدُوا، فَأَطْلَقَهُمْ. وَاتُّهِمَ أَيْضًا إِلْكَيَّا الْهَرَّاسُ، الْمُدَرِّسُ بِالنِّظَامِيَّةِ، بِأَنَّهُ بَاطِنِيٌّ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَأَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ مَنِ اسْتَخْلَصَهُ، وَشَهِدَ لَهُ بِصِحَّةِ الِاعْتِقَادِ، وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ فِي الْعِلْمِ، فَأُطْلِقَ. ذِكْرُ حَصْرِ الْأَمِيرِ بَزْغَشَ قُهِسْتَانَ وَطَبَسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ الْأَمِيرُ بَزْغَشُ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَمِيرٍ مَعَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَقَوَّاهُمْ بِالْمَالِ وَالسِّلَاحِ، وَسَارَ إِلَى بَلَدِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَنَهَبَهُ، وَخَرَّبَهُ، وَقَتَلَ فِيهِمْ فَأَكْثَرَ، وَحَصَرَ طَبَسَ، وَضَيَّقَ عَلَيْهَا، وَرَمَاهَا بِالْمَنْجَنِيقِ، فَخَرَّبَ كَثِيرًا مِنْ سُورِهَا، وَضَعُفَ مَنْ بِهَا، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَخْذُهَا، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ الرِّشَا الْكَثِيرَةَ، وَاسْتَنْزَلُوهُ عَمَّا كَانَ يُرِيدُهُ مِنْهُمْ، فَرَحَلَ عَنْهُمْ وَتَرَكَهُمْ، فَعَاوَدُوا عِمَارَةَ مَا انْهَدَمَ مِنْ سُورِهَا، وَمَلَأُوهَا ذَخَائِرَ مِنْ سِلَاحٍ وَأَقْوَاتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ عَاوَدَهُمْ بَزْغَشُ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مَا مَلِكَ الْفِرِنْجُ مِنَ الشَّامِ فِيهَا سَارَ كُنْدُفْرِي، مَلِكُ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، إِلَى مَدِينَةِ عَكَّا، بِسَاحِلِ الشَّامِ، فَحَصَرَهَا، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ قَدْ عَمَّرَ مَدِينَةَ يَافَا وَسَلَّمَهَا إِلَى قُمَّصٍ مِنَ الْفِرِنْجِ اسْمُهُ: طَنْكِرِي، فَلَمَّا قُتِلَ كُنْدُفْرِي سَارَ أَخُوهُ بَغْدَوِينُ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَبَلَغَ الْمَلِكَ دُقَاقَ، صَاحِبَ دِمَشْقَ، خَبَرُهُ، فَنَهَضَ إِلَيْهِ فِي عَسْكَرِهِ، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ جَنَاحُ الدَّوْلَةِ فِي جُمُوعِهِ، فَقَاتَلَهُ، فَنُصِرَ عَلَى الْفِرِنْجِ.

وَفِيهَا مَلَكَ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ سَرُوجٍ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ كَانُوا قَدْ مَلَكُوا مَدِينَةَ الرُّهَا بِمُكَاتَبَةٍ مِنْ أَهْلِهَا لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ أَرْمَنٌ، وَلَيْسَ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَلَمَّا كَانَ الْآنُ جَمَعَ سُقْمَانُ بِسَرُوجٍ جَمْعًا كَثِيرًا مِنَ التُّرْكُمَانِ، وَزَحَفَ إِلَيْهِمْ، فَلَقَوْهُ وَقَاتَلُوهُ، فَهَزَمُوهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا تَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَارَ الْفِرِنْجُ إِلَى سَرُوجٍ، فَحَصَرُوهَا وَتَسَلَّمُوهَا، وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا وَسَبَوْا حَرِيمَهُمْ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ، وَلَمْ يَسْلَمْ إِلَّا مَنْ مَضَى مُنْهَزِمًا. وَفِيهَا مَلَكَ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ حَيْفًا، وَهِيَ بِالْقُرْبِ مِنْ عَكَّةَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، مَلَكُوهَا عَنْوَةً، وَمَلَكُوا أَرْسُوفَ بِالْأَمَانِ، وَأَخْرَجُوا أَهْلَهَا مِنْهَا. وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، مَلَكُوا مَدِينَةَ قَيْسَارِيَّةَ بِالسَّيْفِ، وَقَتَلُوا أَهْلَهَا، وَنَهَبُوا مَا فِيهَا. ذِكْرُ عِدَّةَ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، تَقَدَّمَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ بِفَتْحِ جَامِعِ الْقَصْرِ، وَأَنْ يُصَلَّى فِيهِ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ، وَلَمْ تَكُنْ جَرَتْ بِذَلِكَ عَادَةٌ، وَأَمَرَ بِالْجَهْرِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَهَذَا أَيْضًا لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ، وَإِنَّمَا تُرِكَ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ فِي جَوَامِعِ بَغْدَاذَ لِأَنَّ الْعَلَوِيِّينَ أَصْحَابَ مِصْرَ كَانُوا يَجْهَرُونَ بِهَا، فَتُرِكَ ذَلِكَ مُخَالَفَةً لَهُمْ لَا اتِّبَاعًا لِمَذْهَبِ أَحْمَدَ الْإِمَامِ، وَأَمَرَ أَيْضًا بِالْقُنُوتِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ خُتِمَ فِي جَامِعِ الْقَصْرِ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ عِنْدَهُ، وَكَانَ زَعِيمُ الرُّؤَسَاءِ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ أَخُو عَمِيدِ الدَّوْلَةِ قَدْ أُطْلِقَ مِنَ الِاعْتِقَالِ، فَاخْتَلَطَ بِالنَّاسِ، وَخَرَجَ إِلَى ظَاهِرِ بَغْدَاذَ مِنْ ثُلْمَةٍ فِي السُّورِ، وَسَارَ إِلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ بْنِ مَزْيَدٍ، فَاسْتَقْبَلَهُ وَأَنْزَلَهُ وَأَكْرَمَهُ.

الْوَفَيَاتُ وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ جَمَالُ الدَّوْلَةِ أَبُو نَصْرِ بْنُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ بْنِ الْمُسْلِمَةِ، وَهُوَ أُسْتَاذُ دَارِ الْخَلِيفَةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ الصَّبَّاغِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَخَذَ الْفِقْهَ عَنِ ابْنِ عَمِّهِ الشَّيْخِ أَبِي نَصْرِ بْنِ الصَّبَّاغِ، وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَفِيهِ تُوُفِّيَ شَرَفُ الْمُلْكِ أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْمُسْتَوْفِي، الْخُوَارِزْمِيُّ، بِأَصْبَهَانَ، وَكَانَ مُسْتَوْفِيًا فِي دِيوَانِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، فَبَذَلَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ حَتَّى تَرَكَ الِاسْتِيفَاءَ، وَبَنَى مَشْهَدًا عَلَى قَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَمَدْرَسَةً بِبَابِ الطَّاقِ، وَمَدْرَسَةً بِمَرْوَ جَمِيعُهَا لِلْحَنَفِيِّينَ. وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي عُزَيْزِيٌّ، وَكَانَ شَافِعِيًّا، أَشْعَرِيًّا، وَهُوَ مِنْ جِيلَانَ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ وَرِعًا، وَلَهُ مَعَ أَهْلِ بَابِ الْأَزَجِ أَخْبَارٌ ظَرِيفَةٌ، وَكَانَ قَاضِيًا عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا يُبْغِضُونَهُ (وَيُبْغِضُهُمْ) . وَتُوُفِّيَ أَسْعَدُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْعُتْبِيُّ مِنْ وَلَدِ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ نَيْسَابُورِيٌّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَرَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحِيرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَتُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَوْقٍ أَبُو الْفَضَائِلِ الرَّبَعِيُّ الْمَوْصِلَيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا.

وَتُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَدْعَانَ أَبُو نَصْرٍ الْقَاضِي الْمَوْصِليُّ، وَهُوَ صَاحِبُ الْأَرْبَعِينَ الْوَدْعَانِيَّةِ وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهَا، فَقِيلَ إِنَّهُ سَرَقَهَا، وَكَانَتْ تَصْنِيفَ زَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ الْهَاشِمِيِّ، وَالْغَالِبُ عَلَى حَدِيثِهِ الْمَنَاكِيرُ. وَتُوُفِّيَ فِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْبَطِرِ الْقَارِي أَبُو الْخَطَّابِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، سَمِعَ ابْنَ رِزْقَوَيْهِ وَغَيْرَهُ، وَصَارَتْ إِلَيْهِ الرِّحْلَةُ لِعُلُوِّ إِسْنَادِهِ، وَكَانَ سَمَاعُهُ صَحِيحًا.

ثم دخلت سنة خمس وتسعين وأربعمائة -

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ -] 495 - ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُسْتَعْلِي بِاللَّهِ وَوِلَايَةِ الْآمِرِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمُسْتَعْلِي بِاللَّهِ أَبُو الْقَاسِمِ أَحْمَدُ بْنُ مَعَدٍّ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ الْعَلَوِيُّ، الْخَلِيفَةُ الْمِصْرِيُّ، لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَبْعَ سِنِينَ وَقَرِيبَ شَهْرَيْنِ، وَكَانَ الْمُدَبِّرُ لِدَوْلَتِهِ الْأَفْضَلَ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو عَلِيٍّ الْمَنْصُورُ، وَمَوْلِدُهُ ثَالِثَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَبُوهُ، وَلَهُ خَمْسُ سِنِينَ وَشَهْرٌ وَأَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، وَلُقِّبَ الْآمِرُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ مَنْ تَسَمَّى بِالْخِلَافَةِ قَطُّ أَصْغَرُ مِنْهُ وَمِنَ الْمُسْتَنْصِرِ، وَكَانَ الْمُسْتَنْصِرُ أَكْبَرَ مِنْ هَذَا، وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَرْكَبَ وَحْدَهُ عَلَى الْفَرَسِ لِصِغَرِ سِنِّهِ، وَقَامَ بِتَدْبِيرِ دَوْلَتِهِ الْأَفْضَلُ بْنُ أَمِيرِ الْجُيُوشِ أَحْسَنَ قِيَامٍ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ إِلَى أَنْ قُتِلَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ وَالسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ وَالصُّلْحِ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، كَانَ الْمَصَافُّ الثَّالِثُ بَيْنَ السُّلْطَانَيْنِ بَرْكِيَارُقَ وَمُحَمَّدٍ. قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ قُدُومَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ إِلَى بَغْدَاذَ، وَرَحِيلَ

السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ عَنْهَا إِلَى وَاسِطَ مَرِيضًا، فَأَقَامَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ بِبَغْدَاذَ إِلَى سَابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَسَارَ عَنْهَا هُوَ وَأَخُوهُ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ عَائِدَيْنِ إِلَى بِلَادِهِمَا، وَسَنْجَرُ يَقْصِدُ خُرَاسَانَ، وَالسُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ يَقْصِدُ هَمَذَانَ. فَلَمَّا سَارَ مُحَمَّدٌ عَنْ بَغْدَاذَ وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ أَنَّ بَرْكِيَارُقَ قَدِ اعْتَرَضَ خَاصَّ الْخَلِيفَةِ بِوَاسِطَ وَسُمِعَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْخَلِيفَةِ مَا يَقْبُحُ نَقْلُهُ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ وَأَعَادَ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا إِلَى بَغْدَاذَ، وَذَكَرَ لَهُ مَا نُقِلَ إِلَيْهِ، وَعَزَمَ عَلَى الْحَرَكَةِ مَعَ مُحَمَّدٍ إِلَى قِتَالِ بَرْكِيَارُقَ، فَقَالَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ: لَا حَاجَةَ إِلَى حَرَكَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي أَقُومُ فِي هَذَا الْقِيَامَ الْمَرْضِيَّ. وَسَارَ عَائِدًا، وَرَتَّبَ بِبَغْدَاذَ أَبَا الْمَعَالِي الْمُفَضَّلَ بْنَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي جِبَايَةِ الْأَمْوَالِ وَإِيلْغَازِي شِحْنَةً. وَكَانَ لَمَّا دَخَلَ بَغْدَاذَ قَدْ خَلَّفَ عَسْكَرَهُ بِطَرِيقِ خُرَاسَانَ، فَنَهَبُوا الْبِلَادَ وَخَرَّبُوهَا، فَأَخَذَهُمُ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ مَعَهُ، وَجَدَّ السَّيْرَ إِلَى رُوذْرَاوَرَ. وَأَمَّا السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ فَقَدْ تَقَدَّمَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ أَنَّهُ سَارَ مِنْ بَغْدَاذَ عِنْدَ وُصُولِ مُحَمَّدٍ إِلَيْهَا قَاصِدًا إِلَى وَاسِطَ، فَلَمَّا سَمِعَ عَسْكَرُ وَاسِطَ بِقُرْبِهِ مِنْهُمْ، خَافُوا مِنْهُ، وَأَخَذُوا نِسَاءَهُمْ، وَأَوْلَادَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، وَجَمَعُوا السُّفُنَ جَمِيعَهَا، وَانْحَدَرُوا إِلَى الزُّبَيْدِيَّةِ، فَأَقَامُوا هُنَاكَ. وَوَصَلَ السُّلْطَانُ، وَهُوَ شَدِيدُ الْمَرَضِ، يُحْمَلُ فِي مَحَفَّةٍ، وَقَدْ هَلَكَ مِنْ دَوَابِّ عَسْكَرِهِ وَمَتَاعِهِمُ الْكَثِيرُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُّونَ السَّيْرَ خَوْفًا أَنْ يَتْبَعَهُمُ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ، أَوِ الْأَمِيرُ صَدَقَةُ، صَاحِبُ الْحِلَّةِ، فَكَانُوا كُلَّمَا جَازَوْا قَنْطَرَةً هَدَمُوهَا، لِيَمْتَنِعَ مَنْ يَجْتَازُ بِهَا مِنَ اتِّبَاعِهِمْ. وَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى وَاسِطَ عُوفِيَ بَرْكِيَارُقُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ هِمَّةٌ غَيْرَ الْعُبُورِ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَلَمْ يَجِدْ هُنَاكَ سَفِينَةً، وَكَانَ الزَّمَانُ شَاتِيًا، شَدِيدَ الْبَرْدِ، وَالْمَاءُ زَائِدًا، وَكَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ قَدْ خَافُوهُمْ، فَلَزِمُوا الْجَامِعَ وَبُيُوتَهُمْ، فَخَلَتِ الطُّرُقُ وَالْأَسْوَاقُ مِنْ مُجْتَازٍ فِيهَا، فَخَرَجَ الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيُّ إِلَى الْعَسْكَرِ،

وَاجْتَمَعَ بِالْأَمِيرِ إِيَازَ، وَالْوَزِيرِ، وَاسْتَعْطَفَهُمَا لِلْخَلْقِ، وَطَلَبَ إِنْفَاذَ شِحْنَةً لِتَطْمَئِنَّ الْقُلُوبُ، فَأَجَابُوهُ إِلَى مُلْتَمَسِهِ، وَقَالُوا لَهُ: نُرِيدُ أَنْ تَجْمَعَ لَنَا مَنْ يُعَبِّرُ دَوَابَّنَا فِي الْمَاءِ، وَنَسْبَحُ مَعَهَا، فَجَمَعَ لَهُمْ مِنْ شَبَابِ وَاسِطَ، وَأَعْطَاهُمُ الْأُجْرَةَ الْوَافِرَةَ، فَعَبَّرُوا دَوَابَّهُمْ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْجِمَالِ، وَكَانَ الْأَمِيرُ إِيَازُ بِنَفْسِهِ يَسُوقُ الدَّوَابَّ، وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ الْغِلْمَانُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ غَيْرُ سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ انْحَدَرَتْ مَعَ السُّلْطَانِ مِنْ بَغْدَاذَ، فَعَبَّرُوا أَمْوَالَهُمْ وَرِحَالَهُمْ فِيهَا. فَلَمَّا صَارُوا فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ اطْمَأَنُّوا، وَنَهَبَ الْعَسْكَرُ الْبَلَدَ، فَرَجَعَ الْقَاضِي وَجَدَّدَ الْخِطَابَ فِي الْكَفِّ عَنْهُمْ، فَأُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ، فَأُرْسِلَ مَعَهُ مَنْ يَمْنَعُ مِنَ النَّهْبِ. ثُمَّ إِنَّ عَسْكَرَ وَاسِطَ أَرْسَلُوا إِلَى السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ لِيَحْضُرُوا الْخِدْمَةَ فَأَمَّنَهُمْ، فَحَضَرَ أَكْثَرُهُمْ عِنْدَهُ، وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى بِلَادِ بَنِي بُرْسُقَ، فَحَضَرُوا أَيْضًا عِنْدَهُ وَخَدَمُوهُ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ عَلَيْهِ. وَبَلَغَهُ مَسِيرُ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ عَنْ بَغْدَاذَ، فَسَارَ يَتْبَعُهُ عَلَى نَهَاوَنْدَ، فَأَدْرَكَهُ بُرُوذْرَاوَرُ، وَكَانَ الْعَسْكَرَانِ مُتَقَارِبَيْنِ فِي الْعُدَّةِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةُ آلَافِ فَارِسٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَتَصَافُّوا، أَوَّلَ يَوْمٍ جَمِيعَ النَّهَارِ، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمْ قِتَالُ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ، وَعَادُوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، ثُمَّ تَوَاقَفُوا كَذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِ الصَّفَّيْنِ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ مَنْ يُقَاتِلُهُ، فَإِذَا تَقَارَبَا اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحَبَهُ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَيَعُودُ عَنْهُ. ثُمَّ خَرَجَ الْأَمِيرُ بَلَدْجِي وَغَيْرُهُ مِنْ عَسْكَرِ مُحَمَّدٍ إِلَى الْأَمِيرِ إِيَازَ وَالْوَزِيرِ الْأَعَزِّ، فَاجْتَمَعُوا، وَاتَّفَقُوا عَلَى الصُّلْحِ، لِمَا قَدْ عَمَّ النَّاسَ مِنَ الضَّرَرِ، وَالْمَلَلِ، وَالْوَهَنِ، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ أَنْ يَكُونَ بَرْكِيَارُقُ السُّلْطَانَ، وَمُحَمَّدٌ الْمَلِكَ، وَيُضْرَبُ لَهُ ثَلَاثُ نُوَبٍ، وَيَكُونُ لَهُ مِنِ الْبِلَادِ جَنْزَةُ وَأَعْمَالُهَا، وَأَذْرَبِيجَانُ، وَدِيَارُ بَكْرٍ، وَالْجَزِيرَةُ، وَالْمَوْصِلُ، وَأَنْ يُمِدَّهُ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ بِالْعَسَاكِرِ، حَتَّى يَفْتَحَ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَانْصَرَفَ الْفَرِيقَانِ مِنَ الْمَصَافِّ رَابِعَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَسَارَ بَرْكِيَارُقُ إِلَى مَرْجِ

قُرَاتِكِينَ قَاصِدًا سَاوَةَ، وَالسُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ إِلَى أَسَدَابَاذَ، وَتَفَرَّقَ الْعَسْكَرَانِ وَقَصَدَ كُلُّ أَمِيرٍ أَقْطَاعَهُ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ وَمُحَمَّدٍ وَانْفِسَاخِ الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، كَانَ الْمَصَافُّ الرَّابِعُ بَيْنَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ وَأَخِيهِ مُحَمَّدٍ. وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا سَارَ مِنْ رُوذْرَاوَرَ، مِنَ الْوَقْعَةِ الْمَذْكُورَةِ، إِلَى أَسَدَابَاذَ، وَمِنْهَا إِلَى قَزْوِينَ، وَنَسَبَ الْأُمَرَاءَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي ذَلِكَ الصُّلْحِ إِلَى الْمُخَامَرَةِ عَلَيْهِ، وَالتَّقَاعُدِ بِهِ، فَوَضَعَ رَئِيسُ قَزْوِينَ أَنْ يَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِأُولَئِكَ الْأُمَرَاءِ لِيَحْضُرَ دَعْوَتَهُ، فَاسْتَشْفَعَ الرَّئِيسُ بِهِمْ إِلَى السُّلْطَانِ، فَحَضَرَ دَعْوَتَهُ، بَعْدَ أَنِ امْتَنَعَ، وَوَصَّى خَوَاصَّهُ بِحَمْلِ السِّلَاحِ تَحْتَ أَقْبِيَتِهِمْ، وَحَضَرَ الدَّعْوَةَ وَمَعَهُ الْأَمِيرُ أَيْتِكِينُ، وَبَسْمَلُ، فَقَتَلَ الْأَمِيرَ بَسْمَلَ، (وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ) ، وَكَحَلَ الْأَمِيرَ أَيْتِكِينَ. وَكَانَ الْأَمِيرُ يَنَّالُ بْنُ أَنُوشْتِكِينَ الْحُسَامِيُّ قَدْ فَارَقَ بَرْكِيَارُقَ، وَأَقَامَ مُجَاهِدًا لِلْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ فِي الْقِلَاعِ وَالْجِبَالِ، فَقَصَدَ الْآنَ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا، وَسَارَ مَعَهُ إِلَى الرَّيِّ يَضْرِبُ النُّوَبَ الْخَمْسَ، وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرُ، وَأَقَامَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَوَافَاهُ أَخُوهُ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ، وَوَقَعَ بَيْنَهُمَا الْمَصَافُّ عِنْدَ الرَّيِّ، وَكَانَتْ عِدَّةُ الْعَسْكَرَيْنِ مُتَقَارِبَةً كُلُّ عَسْكَرٍ مِنْهُمَا عَشَرَةُ آلَافِ فَارِسٍ، فَلَمَّا اصْطَفُّوا حَمَلَ الْأَمِيرُ سُرْخَابُ بْنُ كِيخِسْرُو الدَّيْلَمِيُّ، صَاحِبُ أُبَّةَ، عَلَى الْأَمِيرِ يَنَّالُ، فَهَزَمَهُ، وَتَبِعَهُ فِي الْهَزِيمَةِ جَمِيعُ عَسْكَرِ مُحَمَّدٍ، وَتَفَرَّقُوا، وَمَضَى مُعْظَمُهُمْ نَحْوَ طَبَرِسْتَانَ، وَلَمْ يُقْتَلْ فِي هَذَا الْمَصَافِّ غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ قُتِلَ صَبْرًا.

وَمَضَى قِطْعَةٌ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ نَحْوَ قَزْوِينَ، وَنُهِبَتْ خَزَائِنُ مُحَمَّدٍ، وَمَضَى فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَحَمَلَ هُوَ عَلَمَهُ بِيَدِهِ لِيَتْبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَسَارَ فِي طَلَبِهِ الْأَمِيرُ أَلْبَكْي بْنُ بُرْسُقَ، وَالْأَمِيرُ إِيَازُ إِلَى قُمَّ، وَتَتَبَّعَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ فِي أَصْحَابِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ. ذِكْرُ حِصَارِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ بِأَصْبَهَانَ لَمَّا انْهَزَمَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ مِنَ الْوَقْعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِالرَّيِّ، مَضَى إِلَى أَصْبَهَانَ فِي سَبْعِينَ فَارِسًا، وَالْبَلَدُ فِي حُكْمِهِ، وَفِيهِ نَائِبُهُ، وَمَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْأَمِيرُ يَنَّالُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ مَا تَشَعَّثَ مِنَ السُّورِ، وَهَذَا السُّورُ هُوَ الَّذِي بَنَاهُ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ بْنُ كَاكَوَيْهِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، عِنْدَ خَوْفِهِ مِنْ طُغْرُلْبَكْ، وَأَمَرَ مُحَمَّدٌ بِتَعْمِيقِ الْخَنْدَقِ حَتَّى صَعِدَ الْمَاءُ فِيهِ، وَسَلَّمَ إِلَى كُلِّ أَمِيرٍ بَابًا،، وَكَانَ مَعَهُ فِي الْبَلَدِ أَلْفٌ وَمِائَةُ فَارِسٍ وَخَمْسُمِائَةِ رَاجِلٍ، وَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ. وَلَمَّا عَلِمَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ بِمَسِيرِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ إِلَى أَصْبَهَانَ سَارَ يَتْبَعُهُ، فَوَصَلَهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَعَسَاكِرُهُ كَثِيرَةٌ، تَزِيدُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَمَعَهَا مِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الْحَوَاشِي، وَأَقَامَ يُحَاصِرُ الْبَلَدَ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ. وَكَانَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ يَدُورُ كُلَّ لَيْلَةٍ عَلَى سُورِ الْبَلَدِ ثَلَاثَ دُفْعَاتٍ، فَلَمَّا زَادَ الْأَمْرُ فِي الْحِصَارِ، أَخْرَجَ الضُّعَفَاءَ وَالْفُقَرَاءَ مِنَ الْبَلَدِ حَتَّى خَلَتِ الْمَحَالُّ، وَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ، وَأَكَلَ النَّاسُ الْخَيْلَ، وَالْجِمَالَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَقَلَّتِ الْأَمْوَالُ فَاضْطُرَّ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ إِلَى أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ فَأَخَذَ مَالًا عَظِيمًا، ثُمَّ عَاوَدَ الْجُنْدُ الطَّلَبَ، فَقَسَّطَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ شَيْئًا آخَرَ، وَأَخَذَهُ مِنْهُمْ بِالشِّدَّةِ وَالْعُنْفِ، فَلَمْ تَزَلِ الْأَسْعَارُ تَغْلُو، حَتَّى بَلَغَ عَشْرَةُ أَمْنَانٍ مِنَ الْحِنْطَةِ بِدِينَارٍ، وَأَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ لَحْمًا بِدِينَارٍ، وَكُلُّ مِائَةِ رَطْلٍ تِبْنًا بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، وَرَخَصَتِ الْأَمْتِعَةُ وَهَانَتْ لِعَدَمِ الطَّالِبِ. وَكَانَتِ الْأَسْعَارُ، فِي عَسْكَرِ بَرْكِيَارُقَ، رَخِيصَةً، فَبَقِيَ الْحِصَارُ عَلَى الْبَلَدِ إِلَى عَاشِرِ

ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا رَأَى السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الدَّفْعِ عَنِ الْبَلَدِ، وَكُلَّمَا جَاءَ أَمْرُهُ يَضْعُفُ، قَوَّى عَزْمَهُ عَلَى مُفَارَقَتِهِ وَقَصْدِ جِهَةٍ أُخْرَى، يَجْمَعُ فِيهَا الْعَسَاكِرَ، وَيَعُودُ يَدْفَعُ الْخَصْمَ عَنِ الْحِصَارِ، فَسَارَ عَنِ الْبَلَدِ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَارِسًا، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ يَنَّالُ، وَاسْتَخْلَفَ بِالْبَلَدِ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ فِي بَاقِي الْعَسْكَرِ، فَلَمَّا فَارَقَ الْعَسْكَرَ وَالْبَلَدَ لَمْ يَكُنْ فِي دَوَابِّهِمْ مَا يَدُومُ عَلَى السَّيْرِ لِقِلَّةِ الْعَلَفِ فِي الْحِصَارِ، فَنَزَلَ عَلَى سِتَّةِ فَرَاسِخَ. فَلَمَّا سَمِعَ بَرْكِيَارُقُ بِمَسِيرِهِ سَيَّرَ وَرَاءَهُ الْأَمِيرَ إِيَازَ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ، وَأَمَرَهُ بِالْجِدِّ فِي السَّيْرِ فِي طَلَبِهِ، فَقِيلَ: إِنَّ مُحَمَّدًا سَبَقَهُمْ، فَلَمْ يُدْرِكُوهُ، فَرَجَعُوا، وَقِيلَ: بَلْ أَدْرَكُوهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَمِيرِ إِيَازَ يَقُولُ: أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّنِي لِي فِي رَقَبَتِكَ عُهُودٌ وَأَيْمَانٌ مَا نُقِضَتْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنِّي إِلَيْكَ مَا تُبَالِغُ فِي أَذَايَ. فَعَادَ عَنْهُ، وَأَرْسَلَ لَهُ خَيْلًا، وَأَخَذَ عَلَمَهُ، والْجَتَرَ، وَثَلَاثَةَ أَحْمَالٍ دَنَانِيرَ، وَعَادَ إِلَى بَرْكِيَارُقَ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ، وَأَعْلَامُ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ مَنْكُوسَةً، فَأَنْكَرَ بَرْكِيَارُقُ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ قَدْ أَسَاءَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَمِدَ مَعَهُ هَذَا، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ. فَلَمَّا فَارَقَ مُحَمَّدٌ أَصْبَهَانَ اجْتَمَعَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَالسَّوَادِيَّةِ، وَمَنْ يُرِيدُ النَّهْبَ، مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ نَفْسٍ، وَزَحَفُوا إِلَى الْبَلَدِ بِالسَّلَالِيمِ، وَالدَّبَّابَاتِ، وَطَمُّوا الْخَنْدَقَ بِالتِّبْنِ، وَالْتَصَقُوا بِالسُّورِ، وَصَعِدَ النَّاسُ فِي السَّلَالِيمِ فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ قِتَالَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَحْمِيَ حَرِيمَهُ وَمَالَهُ، فَعَادُوا خَائِبِينَ، فَحِينَئِذٍ أَشَارَ الْأُمَرَاءُ عَلَى بَرْكِيَارُقَ بِالرَّحِيلِ، فَرَحَلَ ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَلَدِ الْقَدِيمِ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ شَهْرِسْتَانُ، تَرْشُكَ الصَّوَابِيَّ فِي أَلْفِ فَارِسٍ مَعَ ابْنِهِ مَلِكْشَاهْ، وَسَارَ إِلَى هَمَذَانَ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْجَبِ مَا سُطِرَ أَنَّ سُلْطَانًا مَحْصُورًا قَدْ تَقَطَّعَتْ مَوَادُّهُ، وَهُوَ يُخْطَبُ لَهُ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ، ثُمَّ يَخْلُصُ مِنَ الْحَصْرِ الشَّدِيدِ، وَيَنْجُو مِنَ الْعَسَاكِرِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي كُلُّهَا قَدْ شَرَعَ إِلَيْهِ وَفَوَّقَ إِلَيْهِ سَهْمَهُ.

ذِكْرُ قَتْلِ الْوَزِيرِ الْأَعَزِّ وَوِزَارَةِ الْخَطِيرِ أَبِي مَنْصُورٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَانِيَ عَشَرَ صَفَرٍ، قُتِلَ الْوَزِيرُ الْأَعَزُّ أَبُو الْمَحَاسِنِ عَبْدُ الْجَلِيلِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّهِسْتَانِيُّ، وَزِيرُ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ عَلَى أَصْبَهَانَ، وَكَانَ مَعَ بَرْكِيَارُقَ مُحَاصِرًا لَهَا، فَرَكِبَ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ خَيْمَتِهِ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ، فَجَاءَ شَابٌّ أَشْقَرُ، قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ غِلْمَانِ أَبِي سَعِيدٍ الْحَدَّادِ، وَكَانَ الْوَزِيرُ قَتَلَهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، فَانْتَهَزَ الْفُرْصَةَ فِيهِ، وَقِيلَ: كَانَ بَاطِنِيًّا، فَجَرَحَهُ عِدَّةَ جِرَاحَاتٍ، (فَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ، ثُمَّ عَادُوا إِلَيْهِ، فَجُرِحَ أَقْرَبُهُمْ مِنْهُ جِرَاحَاتٍ) أَثْخَنَتْهُ، وَعَادَ إِلَى الْوَزِيرِ فَتَرَكَهُ بِآخِرِ رَمَقٍ. وَكَانَ كَرِيمًا، وَاسِعَ الصَّدْرِ، حَسَنَ الْخُلُقِ، كَثِيرَ الْعِمَارَةِ، وَنَفَرَ النَّاسُ مِنْهُ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْوِزَارَةِ، وَقَدْ تَغَيَّرَتِ الْقَوَانِينُ، وَلَمْ يَبْقَ دَخْلٌ وَلَا مَالٌ، فَفَعَلَ لِلضَّرُورَةِ مَا خَافَهُ النَّاسُ بِسَبَبِهِ. وَكَانَ حَسَنَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ التُّجَّارِ، فَاسْتَغْنَى بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَكَانُوا يَسْأَلُونَهُ لِيُعَامِلَهُمْ، فَلَمَّا قُتِلَ ضَاعَ مِنْهُمْ مَالٌ كَثِيرٌ. حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ التُّجَّارِ بَاعَهُ مَتَاعًا بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ لَهُ: خُذْ بِهَا حِنْطَةً مِنَ الرَّاذَانِ خَمْسِينَ كَرًّا، كُلُّ كَرٍّ بِعِشْرِينَ دِينَارًا، فَامْتَنَعَ التَّاجِرُ مِنْ أَخْذِهَا، وَقَالَ: لَا أُرِيدُ غَيْرَ الدَّنَانِيرِ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ دَخَلَ إِلَيْهِ التَّاجِرُ، فَقَالَ لَهُ: يُهَنِّئُكَ، يَا فُلَانُ فَقَالَ وَمَا هُوَ؟ قَالَ: خَبَرُ حِنْطَتِكَ، فَقَالَ: مَا لِي حِنْطَةٌ، وَلَا أُرِيدُهَا، قَالَ: بَلَى، وَقَدْ بِيعَتْ كُلُّ كَرٍّ بِخَمْسِينَ دِينَارًا، فَقَالَ: أَنَا لَمْ أَتَقَبَّلْ بِهَا فَقَالَ الْوَزِيرُ: مَا كُنْتُ أَفْسَخُ عَقْدًا عَقَدْتُهُ. قَالَ: فَخَرَجْتُ وَأَخَذْتُ ثَمَنَ الْحِنْطَةِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، وَأَضَفْتُ إِلَيْهَا مِثْلَهَا وَعَامَلْتُهُ، فَقُتِلَ فَضَاعَ الْجَمِيعُ. وَكَانَ قَدْ نَفَقَ عَلَيْهِ عَمَلُ الْكِيمْيَاءُ، وَاخْتَصَّ بِهِ إِنْسَانٌ كِيمْيَائِيٌّ، فَكَانَ يَعِدُهُ الشَّهْرَ بَعْدَ الشَّهْرِ، وَالْحَوْلَ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ أَحَالَهُ عَلَيْهِ بِكَرِّ حِنْطَةٍ، فَاسْتَزَادَهُ: لَوْ كَانَ صَادِقًا فِي عَمَلِهِ، لَمَا كَانَ يَسْتَزِيدُ مِنَ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ، وَقُتِلَ وَلَمْ يَصِحَّ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَلَمَّا قُتِلَ الْأَعَزُّ أَبُو الْمَحَاسِنِ وَزَرَ بَعْدَهُ الْوَزِيرُ الْخَطِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَيْبُذِيُّ الَّذِي كَانَ وَزِيرَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ.

وَكَانَ سَبَبُ فِرَاقِهِ لِوِزَارَةِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ بِأَصْبَهَانَ، وبَرْكِيَارُقُ يُحَاصِرُهُ، وَقَدْ سَلَّمَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا لِيَحْفَظَهَا، فَقَالَ لَهُ الْأَمِيرُ يَنَّالُ بْنُ أَنُوشْتِكِينَ: كُنْتَ قَدْ كَلَّفْتَنَا، وَنَحْنُ بِالرَّيِّ، لِنَقْصِدَ هَمَذَانَ، وَقُلْتَ: أَنَا أُقِيمُ بِالْعَسْكَرِ مِنْ مَالِي، وَأُحَصِّلُ لَهُمْ مَا يَقُومُ بِهِمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ الْخَطِيرُ: أَنَا أَفْعَلُ ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ فَارَقَ الْبَلَدَ، وَخَرَجَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي كَانَ مُسَلَّمًا إِلَيْهِ وَقَصَدَ بَلَدَهُ مَيْبُذَ، وَأَقَامَ بِقَلْعَتِهَا مُتَحَصِّنًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ وَحَصَرَهُ، فَنَزَلَ مِنْهَا مُسْتَأْمِنًا، فَحُمِلَ عَلَى بَغْلٍ بِإِكَافٍ إِلَى الْعَسْكَرِ، فَوَصَلَهُ فِي طَرِيقِهِ قَتْلُ الْوَزِيرِ الْأَعَزِّ، وَكِتَابُ السُّلْطَانِ لَهُ بِالْأَمَانِ، وَطَيَّبَ قَلْبَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْعَسْكَرِ خَلَعَ عَلَيْهِ وَاسْتَوْزَرَهُ. حَادِثَةٌ يُعْتَبَرُ بِهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] بِيعَ رَحْلُ بَنِي جَهِيرٍ وَدُورُهُمْ بِبَابِ الْعَامَّةِ، وَوَصَلَ ثَمَنُ ذَلِكَ إِلَى مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ، ثُمَّ قُتِلَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ وَبِيعَ مَالُهُ وَبَرْكُهُ، وَأُخِذَ الْجَمِيعُ وَحُمِلَ إِلَى الْوَزِيرِ الْأَعَزِّ، وَقُتِلَ الْوَزِيرُ الْأَعَزُّ، هَذِهِ السَّنَةَ، وَبِيعَ رَحْلُهُ، وَاقْتُسِمَتْ أَمْوَالُهُ، وَأَخَذَ السُّلْطَانُ وَمَنْ وَلِيَ بَعْدَهُ أَكْثَرَهَا، وَتَفَرَّقَتْ أَيْدِي سَبَا، وَهَذَا عَاقِبَةُ خِدْمَةِ الْمُلُوكِ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ إِيلْغَازِي وَعَامَّةِ بَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، كَانَتْ فِتْنَةٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ عَسْكَرِ الْأَمِيرِ إِيلْغَازِي بْنِ أُرْتُقَ، شِحْنَةِ بَغْدَاذَ، وَبَيْنَ عَامَّتِهَا. وَسَبَبُهَا أَنَّ إِيلْغَازِي كَانَ بِطَرِيقِ خُرَاسَانَ، فَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، لَمَّا وَصَلَ أَتَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى دِجْلَةَ، فَنَادَوْا مَلَّاحًا لِيَعْبُرَ بِهِمْ، فَتَأَخَّرَ، فَرَمَاهُ أَحَدُهُمْ بِنُشَّابَةٍ، فَوَقَعَتْ فِي مَشْعَرِهِ فَمَاتَ، فَأَخَذَ الْعَامَّةُ الْقَاتِلَ، وَقَصَدُوا بَابَ النُّوبِيِّ، فَلَقِيَهُمْ وَلَدُ إِيلْغَازِي مَعَ جَمَاعَةٍ، فَاسْتَنْقَذُوهُ، وَرَجَمَهُمُ الْعَامَّةُ بِسُوقِ الثُّلَاثَاءِ، فَمَضَى إِلَى أَبِيهِ مُسْتَغِيثًا، فَأَخَذَ حَاجِبُ الْبَابِ مَنْ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ عَمَلٌ فَلَمْ يُقْنِعْ إِيلْغَازِي ذَلِكَ، فَعَبَرَ بِأَصْحَابِهِ إِلَى مَحَلَّةِ الْمَلَّاحِينَ، الْمَعْرُوفَةِ بِمُرَبَّعَةِ الْقَطَّانِينَ، وَيَتْبَعُهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَنَهَبُوا مَا وَجَدُوا وَقَدَرُوا عَلَيْهِ، فَعَطَفَ عَلَيْهِمُ الْعَيَّارُونَ فَقَتَلُوا أَكْثَرَهُمْ. وَنَزَلَ مَنْ سَلِمَ فِي السُّفُنِ لِيَعْبُرُوا دِجْلَةَ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوهَا أَلْقَى الْمَلَّاحُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي

الْمَاءِ وَتَرَكُوهُمْ فَغَرِقُوا، فَكَانَ الْغَرِيقُ أَكْثَرَ مِنَ الْقَتِيلِ، وَجَمَعَ إِيلْغَازِي التُّرْكُمَانَ، وَأَرَادَ نَهْبَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ قَاضِي الْقُضَاةِ، وَإِلْكَيَّا الْهَرَّاسَ، الْمُدَرِّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ، فَمَنَعَاهُ مِنْ ذَلِكَ، فَامْتَنَعَ. ذِكْرُ قَصْدِ صَاحِبِ الْبَصْرَةِ مَدِينَةَ وَاسِطَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، قَصَدَ الْأَمِيرُ إِسْمَاعِيلُ، صَاحِبُ الْبَصْرَةِ، مَدِينَةَ وَاسِطَ لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا. وَنَحْنُ نَبْتَدِئُ بِذِكْرِ إِسْمَاعِيلَ، وَتَنَقُّلِ الْأَحْوَالِ بِهِ إِلَى أَنَّ مَلَكَ الْبَصْرَةَ، وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَلَانْجِقَ، وَكَانَ إِلَيْهِ فِي أَيَّامِ مَلِكْشَاهْ شِحْنَكِيَّةُ الرَّيِّ، وَلَمَّا وَلِيَهَا كَانَ أَهْلُ الرَّيِّ وَالرُّسْتَاقِيَّةُ قَدْ أَعْيَوْا مَنْ وَلِيَهُمْ، وَعَجَزَ الْوُلَاةُ عَنْهُمْ، فَسَلَكَ مَعَهُمْ طَرِيقًا أَصْلَحَهُمْ بِهَا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً فَتَهَذَّبُوا بِهَا، وَأَرْسَلَ مِنْ شُعُورِهِمْ إِلَى السُّلْطَانِ مَا عَمِلَ مِنْهُ مَقَاوِدَ وَشُكُلًا لِلدَّوَابِّ، ثُمَّ عُزِلَ عَنْهَا. ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ بَرْكِيَارُقَ أَقْطَعَ الْبَصْرَةَ لِلْأَمِيرِ قُمَاجَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا هَذَا الْأَمِيرُ إِسْمَاعِيلَ نَائِبًا عَنْهُ فَلَمَّا فَارَقَ قُمَاجُ بَرْكِيَارُقَ، وَانْتَقَلَ إِلَى خُرَاسَانَ، حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِالتَّغَلُّبِ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَالِاسْتِبْدَادِ، فَانْحَدَرَ مُهَذَّبُ الدَّوْلَةِ بْنُ أَبِي الْجَبْرِ مِنَ الْبَطِيحَةِ إِلَيْهِ لِيُحَارِبَهُ، وَمَعَهُ مَعْقِلُ بْنُ صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَسَدِيُّ، صَاحِبُ الْجَزِيرَةِ الدُّبَيْسِيَّةِ، فَأَقْبَلَا فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ السُّفُنِ وَالْخَيْلِ، وَوَصَلُوا إِلَى مَطَارَا. فَبَيْنَمَا مَعْقِلٌ يُقَاتِلُ قَرِيبًا مِنَ الْقَلْعَةِ الَّتِي بَنَاهَا يَنَّالُ بِمَطَارَا، وَجَدَّدَهَا إِسْمَاعِيلُ وَأَحْكَمَهَا، أَتَاهُ سَهْمٌ غَرِبٌ فَقَتَلَهُ، فَعَادَ ابْنُ أَبِي الْجَبْرِ إِلَى الْبَطِيحَةِ، وَأَخَذَ إِسْمَاعِيلُ سُفُنَهُ، وَذَلِكَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، فَاسْتَمَدَّ ابْنُ أَبِي الْجَبْرِ كُوهْرَائِينَ، فَأَمَدَّهُ بِأَبِي الْحَسَنِ الْهَرَوِيِّ، وَعَبَّاسِ بْنِ أَبِي الْجَبْرِ، فَلَقِيَاهُ، فَكَسَرَهُمَا وَأَسَرَهُمَا، وَأَطْلَقَ عَبَّاسًا عَلَى مَالٍ أَرْسَلَهُ أَبُوهُ، وَاصْطَلَحَا. وَأَمَّا الْهَرَوِيُّ فَبَقِيَ فِي حَبْسِهِ مُدَّةً، ثُمَّ أَطْلَقَهُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَلَمْ يَصِحَّ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ. وَقَوِيَ حَالُ إِسْمَاعِيلَ، فَبَنَى قَلْعَةً بِالْأُبُلَّةِ، وَقَلْعَةً بِالشَّاطِئِ مُقَابِلَ مَطَارَا، وَصَارَ

مَخُوفَ الْجَانِبِ وَأَمِنَ الْبَصْرِيُّونَ بِهِ، وَأَسْقَطَ شَيْئًا مِنَ الْمُكُوسِ، وَاتَّسَعَتْ إِمَارَتُهُ بِاشْتِغَالِ السَّلَاطِينِ، وَمَلَكَ الْمَشَانَ، وَاسْتَضَافَهَا إِلَى مَا بِيَدِهِ. فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ كَاتَبَهُ بَعْضُ عَسْكَرِ وَاسِطَ بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، فَقَوِيَ طَمَعُهُ فِي وَاسِطَ، فَأَصْعَدَ فِي السُّفُنِ إِلَى نَهْرَابَانَ، وَرَاسَلَهُمْ فِي التَّسْلِيمِ، فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: رَاسَلْنَاكَ، وَقَدْ رَأَيْنَا غَيْرَ ذَلِكَ الرَّأْيِ. فَأَصْعَدَ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَخَيَّمَ تَحْتَ النَّخِيلِ، وَسُفُنُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَخَيَّمَ جُنْدُ وَاسِطَ حِذَاءَهُ، وَرَاسَلَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ، وَهُمْ لَا يُجِيبُونَهُ. وَاتَّفَقَتِ الْعَامَّةُ مَعَ الْجُنْدِ، وَشَتَمُوهُ أَقْبَحَ شَتْمٍ، فَلَمَّا أَيِسَ مِنْهُمْ عَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَسَارُوا بِإِزَائِهِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَوَصَلَ إِلَى الْعَمَرِ، وَعَبَّرَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ فَوْقَ الْبَلَدِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْبَلَدَ خَالٍ، وَأَنَّ النَّاسَ قَدْ خَرَجُوا مِنْهُ لِمَا رَأَى كَثْرَةَ مَنْ بِإِزَائِهِ، فَيُوقِعُ الْحَرِيقَ فِي الْبَلَدِ، فَإِذَا رَجَعَ الْأَتْرَاكُ عَادَ هُوَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَكَانَ ظَنُّهُ خَائِبًا لِأَنَّ الْعَامَّةَ كَانُوا عَلَى دِجْلَةَ، وَأَوَّلُهُمْ فِي الْبَلَدِ، وَآخِرُهُمْ مَعَ الْأَتْرَاكِ بِإِزَائِهِ. فَلَمَّا عَبَرَ أَصْحَابُهُ عَادَ الْأَتْرَاكُ عَلَيْهِمْ وَمَعَهُمُ الْعَامَّةُ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَأَسَرُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَلْقَى الْبَاقُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ، فَأَتَاهُ مِنْ ذَلِكَ مُصِيبَةٌ لم يَظُنَّهَا، وَصَارَ أَعْيَانُ أَصْحَابِهِ مَأْسُورِينَ، وَعَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَكَانَ عَوْدُهُ مِنْ سَعَادَتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ قَصَدَ الْأَمِيرُ أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُضَرَ بْنِ مَحْمُودٍ (الْبَصْرَةَ ذَلِكَ الْوَقْتَ) ، وَلَهُ أَعْمَالٌ وَاسِعَةٌ، مِنْهَا: نِصْفُ عُمَانَ، وَجَنَّابَةُ، وَسِيرَافُ، وَجَزِيرَةُ بَنِي نَفِيسٍ. وَكَانَ سَبَبُ قَصْدِهِ إِيَّاهَا أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَارَ مَعَ إِسْمَاعِيلَ إِنْسَانٌ يُعْرَفُ بِجَعْفَرْكَ، وَآخِرٌ اسْمُهُ زَنْجَوَيْهِ، وَالثَّالِثُ بِأَبِي الْفَضْلِ الْأُبُلِّيِّ، فَأَطْمَعُوهُ فِي أَنْ يَعْمَلَ مَرَاكِبَ يُرْسِلُ فِيهَا مُقَاتِلَةً فِي الْبَحْرِ إِلَى أَبِي سَعْدٍ هَذَا وَغَيْرِهِ، فَعَمِلَ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ قِطْعَةً، فَلَمَّا عَلِمَ أَبُو سَعْدٍ الْحَالَ أَرْسَلَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ أَصْحَابِهِ فِي نَحْوِ خَمْسِينَ قِطْعَةً، فَأَتَوْا إِلَى دِجْلَةَ الْبَصْرَةِ وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْخَالِيَةِ، فَأَقَامُوا بِهَا مُحَارِبِينَ، وَظَفِرُوا بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ إِسْمَاعِيلَ،

وَقَتَلُوا صَاحِبَ قَلْعَةِ الْأُبُلَّةِ، وَكَاتَبُوا بَنِي بُرْسُقَ بِخُوزِسْتَانَ يَطْلُبُونَ أَنْ يُرْسِلُوا عَسْكَرًا لِيُسَاعِدُوهُمْ عَلَى أَخْذِ الْبَصْرَةِ، فَتَمَادَى الْجَوَابُ، وَرَكَنَ الطَّائِفَتَانِ إِلَى الصُّلْحِ، عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ إِسْمَاعِيلُ جَعْفَرْكَ وَرَفِيقَهُ، وَيُقْطِعَهُمْ مَوَاضِعَ ذَكَرُوهَا مِنْ أَعْمَالِ الْبَصْرَةِ. فَلَمَّا رَجَعُوا لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَأَخَذَ مَرْكَبَيْنِ لِقَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي سَعْدٍ، فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ سَارَ بِنَفْسِهِ فِي قِطَعٍ كَثِيرَةٍ تَزِيدُ عَلَى مِائَةِ قِطْعَةٍ بَيْنَ كَبِيرَةٍ وَصَغِيرَةٍ، وَوَصَلَ إِلَى فُوَّهَةِ نَهْرِ الْأُبُلَّةِ. وَخَرَجَ عَسْكَرُ إِسْمَاعِيلَ فِي عِدَّةِ مَرَاكِبَ، وَوَقَعَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ الْبَحْرِيُّونَ فِي نَحْوِ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَإِسْمَاعِيلُ فِي سَبْعِمِائَةٍ، وَأَصْعَدَ الْبَحْرِيُّونَ فِي دِجْلَةَ، فَأَحْرَقُوا عِدَّةَ مَوَاضِعَ، وَتَفَرَّقَ عَسْكَرُ إِسْمَاعِيلَ، فَبَعْضُهُ بِالْأُبُلَّةِ، وَبَعْضُهُ بِنَهْرِ الدَّيْرِ، وَبَعْضُهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. فَلَمَّا ضَعُفَ إِسْمَاعِيلُ عَنْ مُقَاوَمَةِ أَبِي سَعْدٍ طَلَبَ مِنْ وَكِيلِ الْخَلِيفَةِ، عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِدِيوَانِهِ مِنَ الْبِلَادِ، أَنْ يَسْعَى فِي الصُّلْحِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ يَذْكُرُ قُبْحَ مَا عَامَلَهُ بِهِ إِسْمَاعِيلُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَتَكَرَّرَتِ الرَّسَائِلُ بَيْنَهُمْ، فَأَجَابَ إِلَى الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحَا، وَاجْتَمَعَا، وَعَادَ أَبُو سَعْدٍ إِلَى بِلَادِهِ، وَحَمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ هَدِيَّةً جَمِيلَةً. ذِكْرُ وَفَاةِ كَرْبُوقَا وَمُلْكِ مُوسَى التُّرْكُمَانِيِّ الْمَوْصِلَ وَجَكَرْمَشَ بَعْدَهُ وَمُلْكِ سُقْمَانَ الْحِصْنَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، تُوُفِّيَ قِوَامُ الدَّوْلَةِ كَرْبُوقَا، عِنْدَ مَدِينَةِ خُوَيٍّ، وَكَانَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ قَدْ أَرْسَلَهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَاسْتَوْلَى عَلَى أَكْثَرِهَا وَأَتَى إِلَى خُوَيٍّ، فَمَرِضَ بِهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ مَعَهُ أَصْبَهْبَذُ صَبَاوَةُ بْنُ خُمَارَتِكِينَ، وَسُنْقُرْجَهْ، فَوَصَّى إِلَى سُنْقُرْجَهْ، وَأَمَرَ الْأَتْرَاكَ بِطَاعَتِهِ، وَأَخَذَ لَهُ عَلَى عَسْكَرِهِ الْعَهْدَ، وَمَاتَ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مِنْ خُوَيٍّ، وَلُفَّ فِي زَلِيَّةٍ لِعَدَمِ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ وَدُفِنَ بِخُوَيٍّ. وَسَارَ سُنْقُرْجَهْ وَأَكْثَرُ الْعَسْكَرِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَتَسَلَّمَهَا، فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ

أَعْيَانُ الْمَوْصِلِ قَدْ كَاتَبُوا مُوسَى التُّرْكُمَانِيَّ، وَهُوَ بِحِصْنِ كِيفَا يَنُوبُ عَنْ كَرْبُوقَا فِيهَا، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُبَادِرَ إِلَيْهِمْ لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ الْبَلَدَ، فَسَارَ مُجِدًّا، فَسَمِعَ سُنْقُرْجَهْ بِوُصُولِهِ، فَظَنَّ أَنَّهُ جَاءَ إِلَيْهِ خِدْمَةً لَهُ، فَخَرَجَ لِيَسْتَقْبِلَهُ فِي أَهْلِ الْبَلَدِ، فَلَمَّا تَقَارَبَا نَزَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ عَنْ فَرَسِهِ، وَاعْتَنَقَهُ، وَبَكَيَا عَلَى قِوَامِ الدَّوْلَةِ، فَتَسَايَرَا. فَقَالَ سُنْقُرْجَهْ لِمُوسَى فِي جُمْلَةِ حَدِيثِهِ: أَنَا مَقْصُودِي مِنْ جَمِيعِ مَا كَانَ لِصَاحِبِنَا الْمِخَدَّةُ، وَالْمَنْصِبُ، وَالْأَمْوَالُ، وَالْوِلَايَاتُ لَكُمْ وَبِحُكْمِكُمْ. فَقَالَ مُوسَى: مَنْ نَحْنُ حَتَّى يَكُونَ لَنَا مَنَاصِبُ وَدُسُوتٌ؟ الْأَمْرُ فِي هَذَا إِلَى السُّلْطَانِ يُرَتِّبُ فِيهِ مَنْ يُرِيدُ، وَيُوَلِّي مَنْ يَخْتَارُ. وَجَرَى بَيْنَهُمَا مُحَاوَرَاتٌ، فَجَذَبَ سُنْقُرْجَهْ سَيْفَهَ وَضَرَبَهُ صَفْحًا عَلَى رَأْسِهِ فَجَرَحَهُ، فَأَلْقَى مُوسَى نَفْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَجَذَبَ سُنْقُرْجَهْ فَأَلْقَاهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ مَعَ مُوسَى وَلَدُ مَنْصُورِ بْنِ مَرْوَانَ الَّذِي كَانَ أَبُوهُ صَاحِبَ دِيَارِ بَكْرٍ، فَجَذَبَ سِكِّينًا وَضَرَبَ بِهَا رَأَسَ سُنْقُرْجَهْ فَأَبَانَهُ، وَدَخَلَ مُوسَى الْبَلَدَ، وَخَلَعَ عَلَى أَصْحَابِ سُنْقُرْجَهْ، وَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ فَصَارَتِ الْوِلَايَةُ لَهُ. وَلَمَّا سَمِعَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ جَكَرْمِشُ، صَاحِبُ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، الْخَبَرَ قَصَدَ نَصِيبِينَ وَتَسَلَّمَهَا، وَسَارَ مُوسَى قَاصِدًا الْجَزِيرَةَ، فَلَمَّا قَارَبَ جَكَرْمِشَ غَدَرَ بِمُوسَى عَسْكَرُهُ، وَصَارُوا مَعَ جَكَرْمِشَ، فَعَادَ مُوسَى إِلَى الْمَوْصِلِ، وَقَصَدَهُ جَكَرْمِشُ، وَحَصَرَهُ مُدَّةً طَوِيلَةً، فَاسْتَعَانَ مُوسَى بِالْأَمِيرِ سُقْمَانَ بْنَ أُرْتُقَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِدِيَارِ بَكْرٍ، وَأَعْطَاهُ حِصْنَ كِيفَا وَعَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَسَارَ سُقْمَانَ إِلَيْهِ، فَرَحَلَ جَكَرْمِشُ عَنْهُ. وَخَرَجَ مُوسَى لِاسْتِقْبَالِ سُقْمَانَ، فَلَمَّا كَانَ مُوسَى عِنْدَ قَرْيَةٍ تُسَمَّى كَرَاثَا، وَثَبَ عَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنَ الْغِلْمَانِ الْقِوَامِيَّةِ، فَقَتَلُوهُ: رَمَاهُ أَحَدُهُمْ بِنُشَّابَةٍ فَقَتَلَهُ، فَعَادَ أَصْحَابُهُ مُنْهَزِمِينَ، وَدُفِنَ عَلَى تَلٍّ هُنَاكَ يُعْرَفُ الْآنَ بِتَلِّ مُوسَى، وَرَجَعَ الْأَمِيرُ سُقْمَانُ إِلَى الْحِصْنِ، فَمَلَكَهَا وَهِيَ بِيَدِ أَوْلَادِهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، سَنَةَ عِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَصَاحِبُهَا حِينَئِذٍ غَازِي بْنُ قُرَا أَرْسِلَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ سُقْمَانَ بْنِ أُرْتُقَ.

وَقَصَدَ جَكَرْمِشُ الْمَوْصِلَ وَحَصَرَهَا أَيَّامًا، ثُمَّ تَسَلَّمَهَا صُلْحًا، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِيهَا، وَأَخَذَ الْقِوَامِيَّةَ الَّذِينَ قَتَلُوا مُوسَى، فَقَتَلَهُمْ وَاسْتَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْخَابُورِ، وَمَلَكَ الْعَرَبَ وَالْأَكْرَادَ، فَأَطَاعُوهُ. ذِكْرُ حَالِ صَنْجِيلَ الْفِرِنْجِيِّ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي حِصَارِ طَرَابُلُسَ كَانَ صَنْجِيلُ الْفِرِنْجِيُّ، لَعَنَهُ اللَّهُ، قَدْ لَقِيَ قِلْجَ أَرْسِلَانَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشَ، صَاحِبَ قُونِيَةَ، وَكَانَ صَنْجِيلُ فِي مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ قِلْجُ أَرْسِلَانَ فِي عَدَدٍ قَلِيلٍ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، وَأُسِرَ كَثِيرٌ وَعَادَ قِلْجُ أَرْسِلَانَ بِالْغَنَائِمِ، وَالظَّفَرِ الَّذِي لَمْ يَحْسَبُهُ. وَمَضَى صَنْجِيلُ مَهْزُومًا فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، فَوَصَلَ إِلَى الشَّامِ، فَأَرْسَلَ فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ عَمَّارٍ، صَاحِبُ طَرَابُلُسَ، إِلَى الْأَمِيرِ يَاخِزَ، خَلِيفَةِ جَنَاحِ الدَّوْلَةِ عَلَى حِمْصَ، فَإِلَى الْمَلِكِ دُقَاقَ بْنِ تُتُشٍ، يَقُولُ: مِنَ الصَّوَابِ أَنْ يُعَاجَلَ صَنْجِيلُ إِذْ هُوَ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ الْقَرِيبَةِ، فَخَرَجَ الْأَمِيرُ يَاخِزُ بِنَفْسِهِ، وَسَيَّرَ دُقَاقُ أَلْفَيْ مُقَاتِلٍ، وَأَتَتْهُمُ الْأَمْدَادُ مِنْ طَرَابُلُسَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى بَابِ طَرَابُلُسَ، وَصَافُّوا صَنْجِيلُ هُنَاكَ، فَأَخْرَجَ مِائَةً مِنْ عَسْكَرِهِ إِلَى أَهْلِ طَرَابُلُسَ، وَمِائَةً إِلَى عَسْكَرِ دِمَشْقَ، وَخَمْسِينَ إِلَى عَسْكَرِ حَمْصَ، وَبَقِيَ هُوَ فِي خَمْسِينَ. فَأَمَّا عَسْكَرُ حِمْصَ فَإِنَّهُمُ انْكَسَرُوا عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ، وَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، وَتَبِعَهُمْ عَسْكَرُ دِمَشْقَ. وَأَمَّا أَهْلُ طَرَابُلُسَ فَإِنَّهُمْ قَاتَلُوا الْمِائَةَ الَّذِينَ قَاتَلُوهُمْ فَلَمَّا شَاهَدَ ذَلِكَ صَنْجِيلُ حَمَلَ فِي الْمِائَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ، فَكَسَرُوا أَهْلَ طَرَابُلُسَ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعَةَ آلَافِ رَجُلٍ، وَنَازَلَ صَنْجِيلُ طَرَابُلُسَ وَحَصَرَهَا.

وَأَتَاهُ أَهْلُ الْجَبَلِ فَأَعَانُوهُ عَلَى حِصَارِهَا، وَكَذَلِكَ أَهْلُ السَّوَادِ، وَأَكْثَرُهُمْ نَصَارَى، فَقَاتَلَ مَنْ بِهَا أَشَدَّ قِتَالٍ، فَقُتِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ ثَلَاثُمِائَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ هَادَنَهُمْ عَلَى مَالٍ وَخَيْلٍ، فَرَحَلَ عَنْهُمْ إِلَى مَدِينَةِ أَنْطَرْسُوسَ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ طَرَابُلُسَ، فَحَصَرَهَا، وَفَتَحَهَا، وَقَتَلَ مَنْ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَحَلَ إِلَى حِصْنِ الطُّوبَانِ وَهُوَ يُقَارِبُ رَفَنِيَّةَ، وَمُقَدَّمُهُ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَرِيضِ، فَقَاتَلَهُمْ، فَنُصِرَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحِصْنِ، وَأَسَرَ ابْنُ الْعَرِيضِ مِنْهُ فَارِسًا مِنْ أَكَابِرِ فُرْسَانِهِ، فَبَذَلَ صَنْجِيلُ فِي فِدَائِهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ وَأَلْفَ أَسِيرٍ، فَلَمْ يُجِبْهُ ابْنُ الْعَرِيضِ إِلَى ذَلِكَ.

ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ الْفِرِنْجُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَطْلَقَ الدَّانِشْمَنْدُ بِيمُنْدَ الْفِرِنْجِيَّ، صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ، وَكَانَ قَدْ أَسَرَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ إِطْلَاقَ ابْنَةِ يَاغِي سِيَانَ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ، وَكَانَتْ فِي أَسْرِهِ. وَلَمَّا خَلُصَ بِيمُنْدُ مِنْ أَسْرِهِ عَادَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، فَقَوِيَتْ نُفُوسُ أَهْلِهَا بِهِ، وَلَمْ يَسْتَقِرْ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ الْعَوَاصِمِ وَقِنَّسْرِينَ وَمَا جَاوَرَهَا يُطَالِبُهُمْ بِالْإِتَاوَةِ، فَوَرَدَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ مَا طَمَسَ الْمَعَالِمَ الَّتِي بَنَاهَا الدَّانِشْمَنْدُ. وَفِيهَا سَارَ صَنْجِيلُ إِلَى حِصْنِ الْأَكْرَادِ فَحَصَرَهُ، فَجَمَعَ جَنَاحُ الدَّوْلَةِ عَسْكَرَهُ لِيَسِيرَ إِلَيْهِ وَيَكْبِسَهُ، فَقَتَلَهُ بَاطِنِيٌّ بِالْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَقِيلَ: إِنَّ الْمَلِكَ رِضْوَانَ رَبِيبَهُ وَضَعَ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ صَبَّحَ صَنْجِيلُ حِمْصَ مِنَ الْغَدِ، وَنَازَلَهَا، وَحَصَرَ أَهْلَهَا، وَمَلَكَ أَعْمَالَهَا. وَنَزَلَ الْقُمَّصُ عَلَى عَكَّةَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَضَيَّقَ عَلَيْهَا، وَكَادَ يَأْخُذُهَا، وَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَنْجَنِيقَاتِ وَالْأَبْرَاجَ، وَكَانَ لَهُ فِي الْبَحْرِ سِتَّ عَشْرَةَ قِطْعَةً، فَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ سَائِرِ السَّوَاحِلِ، وَأَتَوْا إِلَى مَنْجَنِيقَاتِهِمْ، وَأَبْرَاجِهِمْ، فَأَحْرَقُوهَا، وَأَحْرَقُوا سُفُنَهُمْ أَيْضًا، وَكَانَ ذَلِكَ نَصْرًا عَجِيبًا أَذَلَّ اللَّهُ بِهِ الْكُفَّارَ. وَفِيهَا صَارَ الْقُمَّصُ الْفِرِنْجِيُّ، صَاحِبُ الرُّهَا إِلَى بَيْرُوتَ مِنْ سَاحِلِ الشَّامِ، وَحَصَرَهَا وَضَايَقَهَا، وَأَطَالَ الْمُقَامَ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَرَ فِيهَا طَمَعًا فَرَحَلَ عَنْهَا. وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، خَرَجَتْ عَسَاكِرُ مِصْرَ إِلَى عَسْقَلَانَ لِيَمْنَعُوا الْفِرِنْجَ عَمَّا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، فَسَمِعَ بِهِمْ بَرْدَوِيلُ، صَاحِبُ الْقُدْسِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي سَبْعِمِائَةِ فَارِسٍ، وَقَاتَلَهُمْ، فَنَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ، وَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَانْهَزَمَ بَرْدَوِيلُ، فَاخْتَفَى فِي أَجَمَةِ قَصَبٍ، فَأُحْرِقَتْ تِلْكَ الْأَجَمَةُ، وَلَحِقَتِ النَّارُ بَعْضَ جَسَدِهِ، وَنَجَا مِنْهَا إِلَى الرَّمْلَةِ، فَتَبِعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَحَاطُوا بِهِ فَتَنَكَّرَ، وَخَرَجَ مِنْهَا إِلَى يَافَا، وَكَثُرَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ فِي أَصْحَابِهِ.

ذِكْرُ عَوْدِ قَلْعَةِ خُفْتِيذْكَانْ إِلَى سُرْخَابَ بْنِ بَدْرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَتْ قَلْعَةُ خُفْتِيذْكَانْ إِلَى الْأَمِيرِ سُرْخَابَ بْنِ بَدْرِ بْنِ مُهَلْهَلٍ. وَكَانَ سَبَبُ أَخْذِهَا مِنْهُ أَنَّ الْقُرَّابُلِيَّ، وَهُوَ مِنْ (قَبِيلٍ مِنَ) التُّرْكُمَانِ يُقَالُ لَهُمْ سَلْغُرُ، وَكَانَ قَدْ أَتَى إِلَى بَلَدِ سُرْخَابَ، فَمَنَعَهُ مِنَ الْمَرَاعِي، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَمَضَى قُرَّابُلِيُّ إِلَى التُّرْكُمَانِ، وَاسْتَجَاشَ بِهِمْ، وَجَاءَ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ، فَلَقِيَهُ سُرْخَابُ وَقَاتَلَهُ، فَقَتَلَ قُرَّابُلِيُّ مِنْ أَصْحَابِهِ الْأَكْرَادِ قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْ رَجُلٍ، وَانْهَزَمَ سُرْخَابُ إِلَى بَعْضِ جِبَالِهِ فِي عِشْرِينَ رَجُلًا. فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْتَحْفِظَانِ بِقَلْعَةِ خُفْتِيذْكَانَ ذَلِكَ، وَكَانَا رَجُلَيْنِ حَدَّثَتْهُمَا أَنْفُسُهُمَا بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، وَكَانَ بِهَا ذَخَائِرُهُ، وَأَمْوَالُهُ، وَقَدْرُهَا يَزِيدُ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، فَتَمَلَّكَاهَا، وَاجْتَازَ بِهَا السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ، فَأَنْفَذَا إِلَيْهِ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَوْلَى التُّرْكُمَانُ عَلَى جَمِيعِ بِلَادِ سُرْخَابَ بْنِ بَدْرٍ، سِوَى دَقُوقَا وشَهْرَزُورَ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَقْتُ قَتَلَ أَحَدُ الْمُسْتَحْفِظِينَ الْآخَرَ، وَأَرْسَلَ إِلَى سُرْخَابَ يَطْلُبُ مِنْهُ الْأَمَانَ لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِ الْقَلْعَةَ، فَأَمَّنَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى مَا حَصَلَ بِيَدِهِ مِنْ أَمْوَالِهَا، فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ وَوَفَّى لَهُ. ذِكْرُ قَتْلِ قَدَرْخَانَ صَاحِبِ سَمَرْقَنْدَ قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ قُدُومَ الْمَلِكِ سَنْجَرَ مَعَ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ إِلَى بَغْدَاذَ وَعَوْدَهُ إِلَى خُرَاسَانَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى نَيْسَابُورَ خَطَبَ لِأَخِيهِ مُحَمَّدٍ بِخُرَاسَانَ جَمِيعِهَا، وَلَمَّا كَانَ بِبَغْدَاذَ طَمَعَ قَدَرْخَانُ جِبْرِيلُ بْنُ عُمَرَ، صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ، فِي خُرَاسَانَ لِبُعْدِهِ عَنْهَا، وَجَمَعَ عَسَاكِرَ تَمْلَأُ الْأَرْضَ، قِيلَ: كَانُوا مِائَةَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ فِيهِمْ مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ، وَقَصَدَ بِلَادَ سَنْجَرَ. وَكَانَ أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ سَنْجَرَ، اسْمُهُ كُنْدُغْدِي، قَدْ كَاتَبَ قَدَرْخَانَ بِالْأَخْبَارِ، وَأَعْلَمَهُ مَرَضَ سَنْجَرَ، بَعْدَ عَوْدِهِ إِلَى بِلَادِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ أَشَفَى عَلَى الْهَلَاكِ، وَقَوَّى طَمَعَهُ بِالِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ السُّلْطَانَيْنِ بَرْكِيَارُقَ وَمُحَمَّدٍ، وَبِشِدَّةِ عَدَاوَةِ بَرْكِيَارُقَ لِسَنْجَرَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ

بِالسُّرْعَةِ مَهْمَا الِاخْتِلَافُ وَاقِعٌ وَأَنَّهُ مَتَى أَسْرَعَ مَلَكَ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقَ. فَبَادَرَ قَدَرْخَانُ وَأَقْدَمَ، وَقَصَدَ الْبِلَادَ، فَبَلَغَ السُّلْطَانَ سَنْجَرَ الْخَبَرُ، وَكَانَ قَدْ عُوفِيَ، فَبَادَرَ وَسَارَ نَحْوَهُ قَاصِدًا قِتَالَهُ وَمَنْعَهُ عَنِ الْبِلَادِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ مَعَهُ كُنْدُغْدِي الْمَذْكُورُ، وَهُوَ لَا يَتَّهِمُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا فَعَلَ، فَوَصَلَ إِلَى بَلْخٍ فِي سِتَّةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَبَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَدَرْخَانَ نَحْوُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ، فَهَرَبَ كُنْدُغْدِي إِلَى قَدَرْخَانَ، وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالْمُنَاصَحَةِ، وَسَارَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى تِرْمِذَ، فَمَلَكَهَا، وَكَانَ الْبَاعِثُ لِلْكُنْدُغْدِي عَلَى مَا فَعَلَ (حَسَدَهُ لِلْأَمِيرِ) بَزْغَشَ عَلَى مَنْزِلَتِهِ. ثُمَّ تَقَدَّمَ قَدَرْخَانُ، لَمَّا تَدَانَى الْعَسْكَرَانِ أَرْسَلَ سَنْجَرُ يُذَكِّرُ قَدَرْخَانَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ الْقَدِيمَةَ، فَلَمْ يُصْغِ إِلَى قَوْلِهِ، وَأَذْكَى سَنْجَرُ الْعُيُونَ وَالْجَوَاسِيسَ عَلَى قَدَرْخَانَ، فَكَانَ لَا يَخْفَى عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ خَبَرِهِ، فَأَتَاهُ مَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ نَزَلَ بِالْقُرْبِ مِنْ بَلْخٍ، وَأَنَّهُ خَرَجَ مُتَصَيِّدًا فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ، فَنَدَبَ سَنْجَرُ، عِنْدَ ذَلِكَ، الْأَمِيرَ بَزْغَشَ لِقَصْدِهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَلَحِقَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقَاتَلَهُ، فَلَمْ يَصْبِرْ مَنْ مَعَ قَدَرْخَانَ، فَانْهَزَمُوا، وَأَسَرَ كُنْدُغْدِي وقَدَرْخَانَ، وَأَحْضَرَهُمَا عِنْدَ سَنْجَرَ، فَأَمَّا قَدَرْخَانُ فَإِنَّهُ قَبَّلَ الْأَرْضَ وَاعْتَذَرَ، فَقَالَ لَهُ سَنْجَرُ: إِنْ خَدَمْتَنَا، أَوْ لَمْ تَخْدِمْنَا، فَمَا جَزَاؤُكَ إِلَّا السَّيْفُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. فَلَمَّا سَمِعَ كُنْدُغْدِي الْخَبَرَ نَجَا بِنَفْسِهِ، وَنَزَلَ فِي قَنَاةٍ، وَمَشَى فِيهَا فَرْسَخَيْنِ تَحْتَ الْأَرْضِ، عَلَى مَا بِهِ مِنَ النِّقْرِسِ، وَقَتَلَ فِيهَا حَيَّتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ، وَسَبَقَ أَصْحَابَهُ إِلَى مَخْرَجِهَا، وَسَارَ مِنْهَا فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ إِلَى غَزْنَةَ. وَقِيلَ: بَلْ جَمَعَ سَنْجَرُ عَسَاكِرَ كَثِيرَةً، وَالْتَقَى هُوَ وقَدَرْخَانُ، (وَجَرَى بَيْنَهُمَا مَصَافٌّ، وَقِتَالٌ عَظِيمٌ، أَكْثَرَ فِيهِ الْقَتْلَ فِيهِمْ، فَانْهَزَمَ قَدَرْخَانُ) وَعَسْكَرُهُ، وَحُمِلَ أَسِيرًا إِلَى سَنْجَرَ، فَقَتَلَهُ، وَحَصَرَ تِرْمِذَ، وَبِهَا كُنْدُغْدِي، فَطَلَبَ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُ سَنْجَرُ، وَنَزَلَ إِلَيْهِ، وَسَلَّمَ تِرْمِذَ، فَأَمَرَهُ سَنْجَرُ بِمُفَارَقَةِ بِلَادِهِ، فَسَارَ إِلَى غَزْنَةَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا أَكْرَمَهُ صَاحِبُهَا عَلَاءُ الدَّوْلَةِ، وَحَلَّ عِنْدَهُ الْمَحَلَّ الْكَبِيرَ.

وَاتَّفَقَ أَنَّ صَاحِبَ غَزْنَةَ عَزَمَ عَلَى قَصْدِ أَوَتَانَ، وَهِيَ جِبَالٌ مَنِيعَةٌ، عَلَى أَرْبَعِينَ فَرْسَخًا مِنْ غَزْنَةَ، وَقَدْ عَصَى عَلَيْهِ فِيهَا قَوْمٌ، وَتَحَصَّنُوا بِمَعَاقِلِهَا، وَوُعُورِ مَسَالِكِهَا، فَقَاتَلَهُمْ عَسْكَرُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ، فَلَمْ يَظْفَرُوا مِنْهُمْ بِطَائِلٍ، فَتَقَدَّمَ كُنْدُغْدِي مُنْفَرِدًا عَنْهُمْ فَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا، وَنُصِرَ عَلَيْهِمْ، وَأَخَذَ غَنَائِمَهُمْ، وَحَمَلَهَا إِلَى عَلَاءِ الدَّوْلَةِ، فَلَمْ يَقْبَلُ مِنْهَا شَيْئًا، وَوَفَّرَهَا عَلَيْهِ، فَغَضِبَ الْعَسْكَرُ، وَحَسَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى قُرْبِهِ مِنْ صَاحِبِهِمْ، وَنِفَاقِهِ عَلَيْهِ، فَأَشَارُوا بِقَبْضِهِ، وَقَالُوا: إِنَّا لَا نَأْمَنُ أَنْ يَقْصِدَ بَعْضَ الْأَمَاكِنِ فَيَفْعَلُ فِي أَمْرِ الدَّوْلَةِ مَا لَا يُمْكِنُ تَلَافِيهِ. فَقَالَ: قَدْ تَحَقَّقْتُ قَصْدَكُمْ، وَلَكِنْ بِمَنْ أَقْبِضُ عَلَيْهِ؟ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ آمُرَكُمْ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَيَنَالَكُمْ مِنْهُ مَا تَفْتَضِحُونَ بِهِ، فَقَالُوا: الصَّوَابُ أَنْ تُوَلِّيَهُ وِلَايَةً وَيُقْبَضُ عَلَيْهِ إِذَا سَارَ إِلَيْهَا. فَوَلَّاهُ حِصْنَيْنِ جَرَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَسْجُنَ فِيهِمَا مَنْ يَخَافُ جَانِبَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِمَا. فَلَمَّا قَارَبَهُمَا عَرِفَ مَا يُرَادُ مِنْهُ، فَأَحْرَقَ جَمِيعَ مَالِهِ، وَنَحْوَ جِمَالِهِ، وَسَارَ جَرِيدَةً، وَكَانَ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ بِغَزْنَةَ يَسْأَلُ عَنِ الطُّرُقِ وَتَشَّعُّبِهَا، فَإِنَّهُ نَدِمَ عَلَى قَصْدِ تِلْكَ الْجِهَةِ، فَلَمَّا سَارَ سَأَلَ رَاعِيًا عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي يُرِيدُهَا، فَدَلَّهُ، فَأَخَذَهُ مَعَهُ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ قَدْ غَرَّهُ، وَلَمْ يَزَلْ سَائِرًا إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى قَرِيبِ هَرَاةَ، فَمَاتَ هُنَاكَ، وَهُوَ مِنْ مَمَالِيكِ تُتُشَ بْنِ أَلْبِ أَرْسِلَانَ الَّذِي كَحَلَهُ أَخُوهُ مَلِكْشَاهْ، وَسَجَنَهُ بِتِكْرِيتَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ حَادِثَتِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ مُحَمَّدْ خَانْ سَمَرْقَنْدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحْضَرَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ مُحَمَّدًا أَرْسَلَانَ خَانْ بْنَ سُلَيْمَانَ دَاوُدَ بُغْرَاخَانْ، مِنْ مَرْوَ، وَمَلَّكَهُ سَمَرْقَنْدَ، بَعْدَ قَتْلِ قَدَرْخَانْ، وَكَانَ مُحَمَّدْ خَانْ مِنْ أَوْلَادِ الْخَانِيَّةِ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَأُمُّهُ ابْنَةُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، فَدَفَعَ عَنْ مُلْكِ آبَائِهِ، فَقَصَدَ مُرْوَ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى الْآنِ.

فَلَمَّا قُتِلَ قَدَرْخَانُ وَلَّاهُ سَنْجَرُ أَعْمَالَهُ، وَسَيَّرَ مَعَهُ الْعَسَاكِرَ الْكَثِيرَةَ، فَعَبَرُوا النَّهْرَ، فَأَطَاعَهُ الْعَسَاكِرُ بِتِلْكَ الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، وَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَكَثُرَتْ جُمُوعُهُ، إِلَّا أَنَّهُ انْتَصَبَ لَهُ أَمِيرٌ اسْمُهُ هَاغُوبَكُ، وَزَاحَمَهُ فِي الْمُلْكِ، فَطَمَعَ فِيهِ فَجَرَى لَهُ مَعَهُ حُرُوبٌ احْتَاجَ فِي بَعْضِهَا إِلَى الِاسْتِنْجَادِ بِعَسَاكِرِ سَنْجَرَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا مَلَكَ مُحَمَّدْ خَانْ الْبِلَادَ أَحْسَنَ إِلَى الرَّعَايَا بِوَصِيَّةٍ مِنْ سَنْجَرَ، وَحَقَنَ الدِّمَاءَ، وَصَارَ بَابُهُ مَقْصِدًا، وَجُنَابُهُ مَلْجَأً. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، خَرَجَ تَاجُ الرُّؤَسَاءِ ابْنُ أُخْتِ أَمِينِ الدَّوْلَةِ أَبِي سَعْدِ بْنِ الْمُوصَلَايَا إِلَى الْحِلَّةِ السَّيْفِيَّةِ، مُسْتَجِيرًا بِسَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَزِيرَ الْأَعَزَّ وَزِيرَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ كَانَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُمِيلُ جَانِبَ الْخَلِيفَةِ إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَسَارَ خَائِفًا، وَاعْتَزَلَ خَالُهُ أَمِينُ الدَّوْلَةِ الدِّيوَانَ، وَجَلَسَ فِي دَارِهِ، فَلَمَّا قُتِلَ الْوَزِيرُ الْأَعَزُّ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا، عَادَ تَاجُ الرُّؤَسَاءِ مِنَ الْحِلَّةِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَعَادَ خَالُهُ إِلَى مَنْصِبِهِ. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَيْضًا وَرَدَ الْعَمِيدُ الْمُهَذَّبُ أَبُو الْمَجْدِ، أَخُو الْوَزِيرِ الْأَعَزِّ، إِلَى بَغْدَاذَ، نَائِبًا عَنْ أَخِيهِ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ إِيلْغَازِي لَا يُخَالِفُهُمْ، حَيْثُ كَانَ بَرْكِيَارُقُ وَمُحَمَّدٌ قَدِ اتَّفَقَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ إِيلْغَازِي، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ طَاعَةِ مُحَمَّدٍ. وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَرَدَ إِلَى بَغْدَاذَ ابْنُ تُكُشَ بْنِ أَلْبِ أَرْسِلَانَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى الْمَوْصِلِ، فَخَدَعَهُ مَنْ كَانَ بِهَا، حَتَّى سَارَ عَنْهَا إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا زَوَّجَهُ إِيلْغَازِي بْنُ أُرْتُقَ ابْنَتَهُ. وَفِيهَا، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، اسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ سَدِيدَ الْمُلْكِ أَبَا الْمَعَالِي بْنَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَلُقِّبَ عَضُدَ الدِّينِ. وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، قَتَلَ الرَّبَعِيُّونَ بِهَيْتَ قَاضِيَ الْبَلَدِ أَبَا عَلِيِّ بْنَ الْمُثَنَّى، وَكَانَ وَرِعًا، فَقِيهًا، حَنَفِيًّا، مِنْ أَصْحَابِ الْقَاضِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيِّ، وَكَانَ هَذَا الْقَاضِي

عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْقُضَاةِ هُنَاكَ مِنَ الدُّخُولِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ، فَنَسَبُوهُ فِي ذَلِكَ إِلَى التَّحَامُلِ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَهُ أَحَدُهُمْ، فَنَدِمَ الْبَاقُونَ عَلَى قَتْلِهِ وَقَدْ فَاتَ الْأَمْرُ. وَفِيهَا بَنَى سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَزْيَدٍ الْحِلَّةَ بِالْجَامِعَيْنِ، وَسَكَنَهَا، وَإِنَّمَا كَانَ يَسْكُنُ هُوَ وَآبَاؤُهُ قَبْلَهُ فِي الْبُيُوتِ الْعَرَبِيَّةِ. وَفِي جُمَادَى الْأُولَى قُتِلَ الْمُؤَيَّدُ بْنُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشٍ أَمِيرُ بَنِي عُقَيْلٍ، قَتَلَهُ بَنُو نُمَيْرٍ عِنْدَ هَيْتَ قِصَاصًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي الْبَنْدَنِيجِيُّ الضَّرِيرُ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، انْتَقَلَ إِلَى مَكَّةَ، فَجَاوَرَ بِهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً يُدَرِّسُ الْفِقْهَ، وَيُسْمِعُ الْحَدِيثَ، وَيَشْتَغِلُ بِالْعِبَادَةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ بِأَصْبَهَانَ، وَكَانَ يُدَرِّسُ فِقْهَ الشَّافِعِيِّ بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، وَقَدْ جَاوَزَ تِسْعِينَ سَنَةً، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي إِسْحَاقَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ مَنْظُورُ بْنُ عِمَارَةَ الْحُسَيْنِيُّ، أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، عَلَى سَاكِنِهَا السَّلَامُ، وَقَامَ وَلَدُهُ مَقَامَهُ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ الْمُهَنَّا، وَقَدْ كَانَ قَتَلَ الْمِعْمَارَ الَّذِي أَنْفَذَهُ مَجْدُ الْمُلْكِ الْبَلَاسَانِيُّ لِعِمَارَةِ الْقُبَّةِ الَّتِي عَلَى قَبْرِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ قُمَّ، فَلَمَّا قُتِلَ الْبَلَاسَانِيُّ قَتَلَهُ مَنْظُورٌ بَعْدَ أَنْ أَمَّنَهُ، وَكَانَ قَدْ هَرَبَ مِنْهُ إِلَى مَكَّةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِأَمَانِهِ.

ثم دخلت سنة ست وتسعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 496 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ يَنَّالُ عَلَى الرَّيِّ وَأَخْذِهَا مِنْهُ وَوُصُولِهُ إِلَى بَغْدَاذَ كَانَتِ الْخُطْبَةُ بِالرَّيِّ لِلسُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَلَمَّا خَرَجَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَصْبَهَانَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَعَهُ يَنَّالُ بْنُ أَنُوشْتِكِينَ الْحُسَامِيُّ، اسْتَأْذَنَهُ فِي قَصْدِ الرَّيِّ وَإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ لَهُ بِهَا، فَأَذِنَ لَهُ، فَسَارَ هُوَ وَأَخُوهُ عَلِيُّ بْنُ أَنُوشْتِكِينَ، فَوَصَلَا إِلَيْهَا فِي صَفَرٍ، فَأَطَاعَ مَنْ بِهَا مِنْ نُوَّابِ بَرْكِيَارُقَ، وَخُطِبَ لِمُحَمَّدٍ بِالرَّيِّ، وَاسْتَوْلَى يَنَّالُ عَلَى الْبَلَدِ، وَعَسَفَ أَهْلَهُ، وَصَادَرَهُمْ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى النِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَوَرَدَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ بُرْسُقُ مِنْ عِنْدِ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَوَقَعَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى بَابِ الرَّيِّ، فَانْهَزَمَ يَنَّالُ وَأَخُوهُ عَلِيٌّ. فَأَمَّا عَلِيٌّ فَعَادَ إِلَى وِلَايَتِهِ قَزْوِينَ، وَسَلَكَ يَنَّالُ الْجِبَالَ، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ كَثِيرٌ، وَتَشَتَّتُوا، فَأَتَى إِلَى بَغْدَاذَ فِي سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ، فَأَكْرَمَهُ الْخَلِيفَةُ، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَإِيلْغَازِي وَسُقْمَانُ ابْنَا أُرْتُقَ بِمَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَحَالَفُوا عَلَى مُنَاصَحَةِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَسَارُوا إِلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ، فَحَلَفَ لَهُمْ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ، وَعَادُوا. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ يَنَّالُ بِالْعِرَاقِ قَدْ ذَكَرْنَا وُصُولَ يَنَّالُ بْنُ أَنُوشْتِكِينَ إِلَى بَغْدَاذَ قَبْلُ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِبَغْدَاذَ ظَلَمَ النَّاسَ

بِالْبِلَادِ جَمِيعًا، وَصَادَرَهُمْ، وَاسْتَطَالَ أَصْحَابُهُ عَلَى الْعَامَّةِ بِالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَالتَّقْسِيطِ، وَصَادَرَ الْعُمَّالَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ أَبَا الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيَّ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَيُقَبِّحُ عِنْدَهُ مَا يَرْتَكِبُهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَتَرَدَّدَ أَيْضًا إِلَى إِيلْغَازِي، وَكَانَ يَنَّالُ قَدْ تَزَوَّجَ هَذِهِ الْأَيَّامَ بِأُخْتِهِ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ زَوْجَةَ تَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشَ، حَتَّى تَوَسَّطَ الْأَمْرُ مَعَهُ فَمَضَوْا إِلَيْهِ، وَحَلَّفُوهُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَتَرْكِ ظُلْمِ الرَّعِيَّةِ، وَكَفِّ أَصْحَابِهِ، وَمَنْعِهِمْ، فَحَلَفَ، وَلَمْ يَقِفْ عَلَى الْيَمِينِ، وَنَكَثَ وَدَامَ عَلَى الظُّلْمِ وَسُوءِ السِّيرَةِ. فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ، وَعَرَّفَهُ مَا يَفْعَلُهُ يَنَّالُ مِنْ نَهْبِ الْأَمْوَالِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ لِيَكُفَّ يَنَّالَ، فَسَارَ مِنْ حِلَّتِهِ فِي رَمَضَانَ، وَوَصَلَ بَغْدَاذَ رَابِعَ شَوَّالٍ، وَضَرَبَ خِيَامَهُ بِالنَّجْمِيِّ، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَيَنَّالُ، إِيلْغَازِي، وَنُوَّابُ دِيوَانِ الْخَلِيفَةِ، وَتَقَرَّرَتِ الْقَوَاعِدُ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ وَيَرْحَلُ عَنِ الْعِرَاقِ، فَطَلَبَ يَنَّالُ الْمُهْلَةَ، فَعَادَ صَدَقَةُ عَاشِرَ شَوَّالٍ إِلَى حِلَّتِهِ، وَتَرَكَ وَلَدَهُ دُبَيْسًا بِبَغْدَاذَ لِمَنْعِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي عَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، فَبَقِيَ يَنَّالُ إِلَى مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ، وَسَارَ إِلَى أَوَانَا، فَنَهَبَ، وَقَطَعَ الطَّرِيقَ، وَعَسَفَ النَّاسَ، وَبَالَغَ فِي الْفِعْلِ الْقَبِيحِ، وَأَقْطَعَ الْقُرَى لِأَصْحَابِهِ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى صَدَقَةَ فِي ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَسَارُوا إِلَيْهِ وَمَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْخَلِيفَةِ، وَإِيلْغَازِي، شِحْنَةِ بَغْدَاذَ، فَلَمَّا سَمِعَ يَنَّالُ بِقُرْبِهِمْ مِنْهُ عَبَرَ دِجْلَةَ، وَسَارَ إِلَى بَاجِسْرَى وَشَعَّثَهَا وَقَصَدَ شَهْرَابَانَ، فَمَنَعَهُ أَهْلُهَا، فَقَاتَلَهُمْ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى، وَرَحَلَ عَنْهُمْ، وَسَارَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ قَاصِدًا إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَعَادَ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ، وَإِيلْغَازِي، شِحْنَةُ بَغْدَاذَ، إِلَى مَوَاضِعِهِمْ. ذِكْرُ وَصُولِ كُمُشْتِكِينُ الْقَيْصَرِيُّ شِحْنَةً إِلَى بَغْدَاذَ وَالْفِتْنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِيلْغَازِي وَسُقْمَانَ وَصَدَقَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، مُنْتَصَفَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَرَدَ كُمُشْتِكِينُ الْقَيْصَرِيُّ إِلَى بَغْدَاذَ، شِحْنَةً، أَرْسَلَهُ إِلَيْهَا السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي السَّنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ رَحِيلَ بَرْكِيَارُقَ مِنْ

أَصْبَهَانَ إِلَى هَمَذَانَ، فَلَمَّا وَصَلَهَا أَرْسَلَ إِلَى بَغْدَاذَ كُمُشْتِكِينَ شِحْنَةً فَلَمَّا سَمِعَ إِيلْغَازِي، وَهُوَ شِحْنَةٌ بِبَغْدَاذَ، لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، أَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ سُقْمَانَ بْنِ أُرْتُقَ، صَاحِبِ حِصْنِ كِيفَا، يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ لِيَعْتَضِدَ بِهِ عَلَى مَنْعِهِ، وَسَارَ إِلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ بِالْحِلَّةِ، وَاجْتَمَعَ بِهِ، وَسَأَلَهُ تَجْدِيدَ عَهْدٍ فِي دَفْعِ مَنْ يَقْصِدُهُ مِنْ جِهَةِ بَرْكِيَارُقَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَحَلَفَ لَهُ، فَعَادَ إِيلْغَازِي. وَوَرَدَ سُقْمَانُ فِي عَسَاكِرَ، وَنَهَبَ فِي طَرِيقِهِ تِكْرِيتَ، وَسَبَبُ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا أَنَّهُ أَرْسَلَ جَمَاعَةً مِنَ التُّرْكُمَانِ إِلَى تِكْرِيتَ، وَمَعَهُمْ أَحْمَالُ جُبْنٍ، وَسَمْنٍ وَعَسَلٍ، فَبَاعُوا مَا مَعَهُمْ، وَأَظْهَرُوا أَنَّ سُقْمَانَ قَدْ عَادَ عَنْ الِانْحِدَارِ، فَاطْمَأَنَّ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَوَثَبَ التُّرْكُمَانُ، تِلْكَ اللَّيْلَةَ، عَلَى الْحُرَّاسِ فَقَتَلُوهُمْ، وَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ، وَوَرَدَ إِلَيْهَا سُقْمَانُ، وَدَخَلَهَا وَنَهَبَهَا، وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ نَزَلَ بِالرَّمَلَةِ. وَأَمَّا كُمُشْتِكِينَ فَوَصَلَ، أَوَّلَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، إِلَى قَرْمِيسِينَ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ لَهُ هَوًى مَعَ بَرْكِيَارُقَ، وَأَعْلَمَهُمْ بِقُرْبِهِ مِنْهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، فَلَقَوْهُ بِالْبَنْدَنِيجَيْنِ، وَأَعْلَمُوهُ الْأَحْوَالَ، وَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْمُعَاجَلَةِ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ، فَوَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ مُنْتَصَفَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَفَارَقَ إِيلْغَازِي دَارَهُ، وَاجْتَمَعَ بِأَخِيهِ سُقْمَانَ، وَأَصْعَدَا مِنَ الرَّمْلَةِ، وَنَهَبَا بَعْضَ قُرَى دُجَيْلٍ، فَسَارَ طَائِفَةٌ مِنْ عَسْكَرِ كُمُشْتِكِينَ وَرَاءَهُمَا، ثُمَّ عَادُوا عَنْهُمَا، وَخُطِبَ لِلسُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ بِبَغْدَاذَ فَأَرْسَلَ كُمُشْتِكِينُ الْقَيْصَرِيُّ إِلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ، وَمَعَهُ حَاجِبٌ مِنْ دِيوَانِ الْخَلِيفَةِ، فِي طَاعَةِ بَرْكِيَارُقَ، فَلَمْ يُجِبْ إِلَى ذَلِكَ، وَكَشَفَ الْقِنَاعَ بِبَغْدَاذَ فِي مُخَالَفَتِهِ، وَسَارَ مِنَ الْحِلَّةِ إِلَى جِسْرِ صَرْصَرٍ، فَقُطِعَتْ خُطْبَةُ بَرْكِيَارُقَ بِبَغْدَاذَ، وَلَمْ يُذْكَرْ عَلَى مَنَابِرِهَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَاطِينِ، وَاقْتَصَرَ الْخُطَبَاءُ عَلَى الدُّعَاءِ لِلْخَلِيفَةِ لَا غَيْرَ. وَلَمَّا وَصَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى صَرْصَرٍ أَرْسَلَ إِلَى إِيلْغَازِي وَسُقْمَانَ، وَكَانَا بِحَرْبَى، يُعَرِّفُهُمَا أَنَّهُ قَدْ أَتَى لِنُصْرَتِهِمَا، فَعَادَا وَنَهَبَهَا دُجَيْلًا، وَلَمْ يُبْقِيَا عَلَى قَرْيَةٍ كَبِيرَةٍ وَلَا صَغِيرَةٍ، وَأُخِذَتِ الْأَمْوَالُ، وَافْتُضَّتِ الْأَبْكَارُ، وَنَهَبَ الْعَرَبُ وَالْأَكْرَادُ الَّذِينَ مَعَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِنَهْرِ مَلِكٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ مِثْلُ التُّرْكُمَانِ مِنْ أَخْذِ النِّسَاءِ وَالْفَسَادِ مَعَهُنَّ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَقْصَوْا فِي أَخْذِ الْأَمْوَالِ بِالضَّرْبِ وَالْإِحْرَاقِ، وَبَطَلَتْ مَعَايِشُ النَّاسِ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ، فَكَانَ الْخُبْزُ يُسَاوِي عَشَرَةُ أَرْطَالٍ بِقِيرَاطٍ، فَصَارَ ثَلَاثَةُ أَرْطَالٍ بِقِيرَاطٍ، وَجَمِيعُ الْأَشْيَاءِ كَذَلِكَ.

فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ فِي الْإِصْلَاحِ، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ قَاعِدَةٌ، وَعَادَ إِيلْغَازِي وَسُقْمَانُ وَمَعَهُمَا دُبَيْسُ بْنُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ مِنْ دُجَيْلٍ، فَخَيَّمُوا بِالرَّمَلَةِ، فَقَصَدَهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْعَامَّةِ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَقُتِلَ مِنَ الْعَامَّةِ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ، وَأُخِذَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، فَأُطْلِقُوا بَعْدَ أَنْ أُخِذَتْ أَسْلِحَتُهُمْ وَازْدَادَ الْأَمْرُ شِدَّةً عَلَى النَّاسِ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ الدَّامَغَانِيِّ، وَتَاجَ الرُّؤَسَاءِ بْنَ الْمَوْصَلَايَا إِلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ يَأْمُرُهُ بِالْكَفِّ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ مَلَابِسُهُ، وَيُعَرِّفُهُ مَا النَّاسُ فِيهِ، وَيُعَظِّمُ الْأَمْرَ عَلَيْهِ، فَأَظْهَرَ طَاعَةَ الْخَلِيفَةِ إِنْ أَخْرَجَ الْقَيْصَرِيَّ مِنْ بَغْدَاذَ، وَإِلَّا فَلَيْسَ غَيْرُ السَّيْفِ، وَأَرْعَدَ وَأَبْرَقَ. فَلَمَّا عَادَ الرَّسُولُ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى إِخْرَاجِ الْقَيْصَرِيِّ مِنْ بَغْدَاذَ، فَفَارَقَهَا ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَسَارَ إِلَى النَّهْرَوَانِ، وَعَادَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَلَدِهِ، وَأُعِيدَتْ خُطْبَةُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ بِبَغْدَاذَ، وَسَارَ الْقَيْصَرِيُّ إِلَى وَاسِطَ، فَخَافَ النَّاسُ مِنْهُ، وَأَرَادُوا الِانْحِدَارَ مِنْهَا لِيَأْمَنُوا، فَمَنَعَهُمُ الْقَيْصَرِيُّ، وَخَطَبَ لبَرْكِيَارُقَ بِوَاسِطَ، وَنَهَبُوا كَثِيرًا مِنْ سَوَادِهَا. فَلَمَّا سَمِعَ صَدَقَةُ ذَلِكَ سَارَ إِلَى وَاسِطَ، فَدَخَلَهَا، وَعَدَلَ فِي أَهْلِهَا، وَكَفَّ عَسْكَرَهُ عَنْ أَذَاهُمْ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ إِيلْغَازِي بِوَاسِطَ، وَفَارَقَهَا الْقَيْصَرِيُّ، وَنَزَلَ مُتَحَصِّنًا بِدِجْلَةَ، فَقِيلَ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ: إِنَّ هُنَاكَ مَخَاضَةً، فَسَارَ إِلَيْهَا بِعَسْكَرِهِ وَقَدْ لَبِسُوا السِّلَاحَ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَسْكَرُ الْقَيْصَرِيِّ تَفَرَّقُوا عَنْهُ، وَبَقِيَ فِي خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ، فَطَلَبَ الْأَمَانَ مِنْ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَأَمَّنَهُ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، فَأَكْرَمَهُ، وَقَالَ لَهُ: قَدْ سَمِنْتَ، قَالَ: وَتَرَكْتَنَا نَسْمَنُ؟ أَخْرَجْتَنَا مِنْ بَغْدَاذَ، ثُمَّ مِنْ وَاسِطَ، وَنَحْنُ لَا نَعْقِلُ. ثُمَّ بَذَلَ صَدَقَةُ الْأَمَانَ لِجَمِيعِ عَسْكَرِ وَاسِطَ، وَمَنْ كَانَ مَعَ الْقَيْصَرِيِّ، سِوَى رَجُلَيْنِ، فَعَادَا إِلَيْهِ فَأَمَّنَهُمَا، وَعَادَ الْقَيْصَرِيُّ إِلَى بَرْكِيَارُقَ، وَأُعِيدَتْ خُطْبَةُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ بِوَاسِطَ، وَخُطِبَ بَعْدَهُ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ وإِيلْغَازِي، وَاسْتَنَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا وَلَدَهُ، وَعَادُوا عَنْهَا فِي الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَأَمِنَ أَهْلُ وَاسِطَ مِمَّا كَانُوا يَخَافُونَهُ. فَأَمَّا إِيلْغَازِي فَإِنَّهُ أَصْعَدَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَمَّا سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ فَإِنَّهُ عَادَ إِلَى الْحِلَّةِ، وَأَرْسَلَ وَلَدَهُ الْأَصْغَرَ مَنْصُورًا مَعَ إِيلْغَازِي إِلَى الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ يَسْأَلُهُ الرِّضَا عَنْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَخِطَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ، فَوَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ وَخَاطَبَ فِي ذَلِكَ، فَأُجِيبُ إِلَيْهِ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ صَدَقَةَ عَلَى هَيْتَ كَانَتْ مَدِينَةُ هَيْتَ لِشَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمِ بْنِ قُرَيْشٍ، أَقْطَعَهُ إِيَّاهَا السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسِلَانُ، وَلَمْ تَزَلْ مَعَهُ حَتَّى قُتِلَ، فَنَظَرَ فِيهَا عُمَدَاءُ بَغْدَاذَ إِلَى أَنْ مَاتَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ، ثُمَّ أَخَذَهَا أَخُوهُ تُتُشُ بْنُ أَلْبِ أَرْسِلَانَ. فَلَمَّا اسْتَوْلَى السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ أَقْطَعَهَا لِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ ثَرْوَانَ بْنِ وَهْبِ بْنِ وُهَيْبَةَ، وَأَقَامَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ عِنْدَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ، وَكَانَا مُتَصَافِيَيْنِ، وَكَانَ صَدَقَةُ يَزُورُهُ كَثِيرًا ثُمَّ تَنَافَرَا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ صَدَقَةَ زَوَّجَ بِنْتًا لَهُ مِنِ ابْنِ عَمِّهِ، وَكَانَ ثَرْوَانُ قَدْ خَطَبَهَا، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَتَحَالَفَتْ عُقَيْلٌ، وَهُمْ فِي حِلَّةِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، أَنْ يَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَيْهِ، فَأَنْكَرَ صَدَقَةُ ذَلِكَ، وَحَجَّ ثَرْوَانُ عَقِيبَ ذَلِكَ وَعَادَ مَرِيضًا، فَوُكِّلَ بِهِ صَدَقَةُ، وَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ هَيْتَ، فَأَرْسَلَ ثَرْوَانُ حَاجِبَهُ، وَكَتَبَ خَطَّهُ بِتَسْلِيمِ الْبَلَدِ إِلَيْهِ. وَكَانَ بِهَيْتَ حِينَئِذٍ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعِ بْنِ رِفَاعِ بْنِ ضُبَيْعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ مُقَلَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَأَرْسَلَ صَدَقَةُ ابْنَهُ دُبَيْسًا مَعَ الْحَاجِبِ لِيَتَسَلَّمَهَا فَلَمْ يُسَلِّمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ، فَعَادَ دُبَيْسٌ إِلَى أَبِيهِ، فَلَمَّا أَخَذَ صَدَقَةُ وَاسِطًا، هَذِهِ النَّوْبَةَ، أَصْعَدَ فِي عَسْكَرِهِ إِلَى هَيْتَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ مَنْصُورُ بْنُ كَثِيرٍ ابْنُ أَخِي ثَرْوَانَ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَقُوا سَيْفَ الدَّوْلَةِ، وَحَارَبُوهُ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ. ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الرَّبَعِيِّينَ فَتَحُوا لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ الْبَلَدَ، فَدَخَلَهُ أَصْحَابُهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مَنْصُورٌ وَمَنْ مَعَهُ سَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ، فَمَلَكَهُ يَوْمَ نُزُولِهِ، وَخَلَعَ عَلَى مَنْصُورٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، وَعَادَ إِلَى حِلَّتِهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِ ابْنَ عَمِّهِ ثَابِتَ بْنَ كَامِلٍ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ بَرْكِيَارُقَ وَمُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَامِنَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، كَانَ الْمَصَافُّ الْخَامِسُ بَيْنَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ وَالسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ.

وَكَانَتْ كَنْجَةُ وَبِلَادُ أَرَّانَ جَمِيعُهَا لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَبِهَا عَسْكَرُهُ، وَمُقَدَّمُهُمُ الْأَمِيرُ غَزْغَلِي، فَلَمَّا طَالَ مُقَامُ مُحَمَّدٍ بِأَصْبَهَانَ مَحْصُورًا تَوَجَّهَ غَزْغَلِي وَالْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ وَابْنُ أَخِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ قَاصِدِينَ لِنُصْرَتِهِ، لِيَرَاهُمْ بِعَيْنِ الطَّاعَةِ. وَكَانَ آخِرُ مَا تُقَامُ فِيهِ الْخُطْبَةُ لِمُحَمَّدٍ زَنْجَانَ مِمَّا يَلِي أَذَرْبِيجَانَ، فَوَصَلُوا إِلَى الرَّيِّ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَفَارَقَهُ عَسْكَرُ بَرْكِيَارُقَ، وَدَخَلُوهُ وَأَقَامُوا بِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَوَصَلَهُمُ الْخَبَرُ بِخُرُوجِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ مِنْ أَصْبَهَانَ، وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى سَاوَةَ، فَسَارُوا إِلَيْهِ، وَلَحِقُوهُ بِهَمَذَانَ وَمَعَهُ يَنَّالُ وَعَلِيٌّ ابْنَا أَنُوشْتِكِينَ الْحُسَامِيِّ، فَبَلَغَ عَدَدُهُمْ سِتَّةَ آلَافِ فَارِسٍ، فَأَقَامُوا بِهَا إِلَى أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ، فَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِأَنَّ السُّلْطَانَ بَرْكِيَارُقَ قَدْ أَتَاهُمْ، فَتَلَوَّنُوا فِي رَأْيِهِمْ، فَسَارَ يَنَّالُ وَعَلِيٌّ ابْنَا أَنُوشْتِكِينَ إِلَى الرَّيِّ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَزَمَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى شَرْوَانَ، فَوَصَلَ إِلَى أَرْدَبِيلَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ مَوْدُودُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَاقُوتِي، صَاحِبُ بَعْضِ أَذْرَبِيجَانَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ لِأَبِيهِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَاقُوتِي، وَهُوَ خَالُ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، وَكَانَتْ أُخْتُهُ زَوْجَةَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ مُطَالِبُ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ بِثَأْرِ أَبِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَقْتَلُهُ أَوَّلَ دَوْلَةِ بَرْكِيَارُقَ، وَقَالَ لَهُ: يَنْبَغِي أَنْ تَقْدَمَ إِلَيْنَا لِتَجْتَمِعَ كَلِمَتُنَا عَلَى طَاعَتِكَ، وَقِتَالِ خَصْمِنَا، فَسَارَ إِلَيْهِ مُجِدًّا، وَتَصَيَّدَ فِي طَرِيقِهِ بَيْنَ أَرْدَبِيلَ وَبَيْلَقَانَ، وَانْفَرَدَ عَنْ عَسْكَرِهِ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ نَمِرٌ، وَهُوَ غَافِلٌ، فَجَرَحَ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا فِي عَضُدِهِ، فَأَخَذَ سِكِّينًا وَشَقَّ بِهَا جَوْفَ النَّمِرِ فَأَلْقَاهُ عَنْ فَرَسِهِ وَنَجَا. ثُمَّ إِنَّ مَوْدُودَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ تُوُفِّيَ فِي النِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَعُمْرُهُ اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَلَمَّا بَلَغَ بَرْكِيَارُقَ اجْتِمَاعُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ وَالْمَلِكِ مَوْدُودٍ سَارَ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ، فَوَصَلَ بَعْدَ مَوْتِ مَوْدُودٍ، وَكَانَ عَسْكَرُ مَوْدُودٍ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى طَاعَةِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَحَلَفُوا لَهُ، وَفِيهِمْ سُكْمَانُ الْقِبْطِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَاغِي سِيَانَ، الَّذِي كَانَ

أَبُوهُ صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ، وَقُزْلُ أَرْسَلَانُ بْنُ السَّبْعِ الْأَحْمَرِ، فَلَمَّا وَصَلَ بَرْكِيَارُقُ وَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمَا عَلَى بَابِ خُوَيٍّ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَدَامَتْ إِلَى الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. فَاتَّفَقَ أَنَّ الْأَمِيرَ إِيَازَ أَخَذَ مَعَهُ خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ مُسْتَرِيحِينَ، وَحَمَلَ بِهِمْ، وَقَدْ أَعْيَا الْعَسْكَرُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، عَلَى عَسْكَرِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَكَسَرَهُمْ وَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. فَأَمَّا السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ فَإِنَّهُ قَصَدَ جَبَلًا بَيْنَ مَرَاغَةَ وَتِبْرِيزَ، كَثِيرَ الْعُشْبِ وَالْمَاءِ، فَأَقَامَ بِهِ أَيَّامًا، وَسَارَ إِلَى زَنْجَانَ. وَأَمَّا السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ فَإِنَّهُ سَارَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أَرْجِيشَ، مِنْ بِلَادِ أَرْمِينِيَّةَ، عَلَى أَرْبَعِينَ فَرْسَخًا مِنَ الْوَقْعَةِ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ خِلَاطٍ، مِنْ جُمْلَةِ أَقْطَاعِ الْأَمِيرِ سُكْمَانَ الْقِبْطِيِّ، وَسَارَ مِنْهُ إِلَى خِلَاطٍ، وَاتَّصَلَ بِهِ الْأَمِيرُ عَلِيٌّ صَاحِبُ أَرْزَنِ الرُّومِ، وَتَوَجَّهَ إِلَى آنَى، وَصَاحِبُهَا مِنُوجِهْرُ أَخُو فَضْلُونَ الرَّوَّادِيِّ، وَمِنْهَا سَارَ إِلَى تِبْرِيزَ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ. وَسَنَذْكُرُ بَاقِيَ أَخْبَارِهِمْ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ عِنْدَ صُلْحِهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَانَ الْأَمِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ مَعَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ، فَمَرَّ مُنْهَزِمًا، وَدَخَلَ دِيَارَ بَكْرٍ، وَانْحَدَرَ مِنْهَا إِلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى بَغْدَاذَ، وَكَانَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ يُقِيمُ بِبَغْدَاذَ فِي سُوقِ الْمَدْرَسَةِ، فَاتَّصَلَتِ الشَّكَاوَى مِنْهُ إِلَى أَبِيهِ، فَكَتَبَ إِلَى كُوهْرَائِينَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَاسْتَجَارَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَتَوَجَّهَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى مَجْدِ الْمُلْكِ الْبَلَاسَانِيِّ، وَوَالِدُهُ حِينَئِذٍ بِكَنْجَةَ عِنْدَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ لِنَفْسِهِ بِالسَّلْطَنَةِ، وَتَوَجَّهَ بَعْدَ قَتْلِ مَجْدِ الْمُلْكِ إِلَى وَالِدِهِ، وَقَدْ صَارَ وَزِيرَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَخَطَبَ لِمُحَمَّدٍ بِالسَّلْطَنَةِ، وَبَقِيَ بَعْدَ قَتْلِ وَالِدِهِ، وَاتَّصَلَ بِالسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَحَضَرَ مَعَهُ هَذِهِ الْحَرْبَ فَانْهَزَمَ.

ذِكْرُ عَزْلِ سَدِيدِ الْمُلْكِ وَزِيرِ الْخَلِيفَةِ وَنَظَرِ أَبِي سَعْدِ بْنِ الْمُوصَلَايَا فِي الْوِزَارَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، مُنْتَصَفَ رَجَبٍ، قُبِضَ عَلَى الْوَزِيرِ سَدِيدِ الْمُلْكِ أَبِي الْمَعَالِي، وَزِيرِ الْخَلِيفَةِ، وَحُبِسَ فِي دَارٍ بِدَارِ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ أَهْلُهُ قَدْ وَرَدُوا عَلَيْهِ مِنْ أَصْبَهَانَ، فَنُقِلُوا إِلَيْهِ، وَكَانَ مَحْبَسُهُ جَمِيلًا. وَسَبَبُ عَزْلِهِ جَهْلُهُ بِقَوَاعِدِ دِيوَانِ الْخِلَافَةِ، فَإِنَّهُ قَضَى عُمْرَهُ فِي أَعْمَالِ السَّلَاطِينِ، وَلَيْسَ لَهُمْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ، وَلَمَّا قُبِضَ عَادَ أَمِينُ الدَّوْلَةِ بْنُ الْمُوصْلَايَا إِلَى النَّظَرِ فِي الدِّيوَانِ. وَمِنْ عَجَبٍ مَا جَرَى مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي وَقَعَ بَعْدَ أَيَّامٍ أَنَّ سَدِيدَ الْمُلْكِ كَانَ يَسْكُنُ فِي دَارِ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ، وَجَلَسَ فِيهَا مَجْلِسًا عَامًّا يَحْضُرُهُ النَّاسُ لِوَعْظِ الْمُؤَيَّدِ عِيسَى الْغَزْنَوِيِّ، فَأَنْشَدُوا أَبْيَاتًا ارْتَجَلَهَا: سَدِيدُ الْمُلْكِ سُدْتَ، وَخُضْتَ بَحْرًا ... عَمِيقَ اللُّجِّ، فَاحْفَظْ فِيهِ رُوحَكْ وَأَحْيِ مَعَالِمَ الْخَيْرَاتِ، وَاجْعَلْ ... لِسَانَ الصِّدْقِ فِي الدُّنْيَا فُتُوحَكْ وَفِي الْمَاضِينَ مُعْتَبَرٌ، فَأَسْرِجْ ... مَرُوحَكَ فِي السَّلَامَةِ، أَوْ جَمُوحَكْ ثُمَّ قَالَ سَدِيدُ الْمُلْكِ: مَنْ شَرِبَ مِنْ مَرْقَةِ السُّلْطَانِ احْتَرَقَتْ شَفَتَاهُ، وَلَوْ بَعْدَ زَمَانٍ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الدَّارِ وَقَرَأَ: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45] ، فَقُبِضَ عَلَى الْوَزِيرِ بَعْدَ أَيَّامٍ. ذِكْرُ مُلْكِ الْمَلِكِ دُقَاقَ مَدِينَةَ الرَّحْبَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، مَلَكَ الْمَلِكُ دِقَاقُ بْنُ تُتُشَ، صَاحِبُ دِمَشْقَ، مَدِينَةَ الرَّحْبَةِ، وَكَانَتْ بِيَدِ إِنْسَانٍ اسْمُهُ قَايُمَازُ مِنْ مَمَالِيكِ السُّلْطَانِ أَلْبِ أَرْسِلَانَ، فَلَمَّا قُتِلَ كَرْبُوقَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا، فَسَارَ دُقَاقُ وَطُغْتِكِينُ أَتَابِكُهُ إِلَيْهِ، وَحَصَرَاهُ بِهَا، ثُمَّ رَحَلَ عَنْهُ.

وَتُوُفِّيَ قَايُمَازُ هَذِهِ السَّنَةَ فِي صَفَرٍ، وَقَامَ مَقَامَهُ غُلَامٌ تُرْكِيٌّ اسْمُهُ حَسَنٌ، فَأَبْعَدَ عَنْهُ كَثِيرًا مِنْ جُنْدِهِ، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ، وَخَافَ مِنْ دُقَاقَ، فَاسْتَظْهَرَ، وَأَخَذَ جَمَاعَةً مِنَ السَّالَارِيَّةِ الَّذِينَ يَخَافُهُمْ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ، وَحَبَسَ آخَرِينَ وَصَادَرَهُمْ. فَتَوَجَّهَ دُقَاقُ إِلَيْهِ وَحَصَرَهُ، فَسَلَّمَ الْعَامَّةُ الْبَلَدَ إِلَيْهِ، وَاعْتَصَمَ حَسَنٌ بِالْقَلْعَةِ، فَأَمَّنَهُ دُقَاقُ، فَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ إِلَيْهِ، فَأَقْطَعَهُ إِقْطَاعًا كَثِيرًا بِالشَّامِ، وَقَرَّرَ أَمْرَ الرَّحْبَةِ، وَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا، وَجَعَلَ فِيهَا مَنْ يَحْفَظُهَا، وَرَحَلَ عَنْهَا إِلَى دِمَشْقَ. ذِكْرُ أَخْبَارِ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ كَانَ الْأَفْضَلُ أَمِيرُ الْجُيُوشِ بِمِصْرَ قَدْ أَنْفَذَ مَمْلُوكًا لِأَبِيهِ، لَقَبُهُ سَعْدُ الدَّوْلَةِ، وَيُعْرَفُ بِالطَّوَاشِيِّ، إِلَى الشَّامِ لِحَرْبِ الْفِرِنْجِ، فَلَقِيَهُمْ بَيْنَ الرَّمْلَةِ وَيَافَا، وَمُقَدَّمُ الْفِرِنْجِ يُعْرَفُ بِبَغْدَوِينَ، لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَصَافُّوا وَاقْتَتَلُوا، فَحَمَلَتِ الْفِرِنْجُ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ. وَكَانَ الْمُنَجِّمُونَ يَقُولُونَ لِسَعْدِ الدَّوْلَةِ: إِنَّكَ تَمُوتُ مُتَرَدِّيًا، فَكَانَ يَحْذَرُ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ، حَتَّى إِنَّهُ وَلِيَ بَيْرُوتَ وَأَرْضُهَا مَفْرُوشَةٌ بِالْبَلَاطِ، فَقَلَعَهُ خَوْفًا أَنْ يَزْلَقَ بِهِ فَرَسُهُ، أَوْ يَعْثُرَ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ الْحَذَرُ عِنْدَ نُزُولِ الْقَدَرِ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ انْهَزَمَ، فَتَرَدَّى بِهِ فَرَسُهُ، فَسَقَطَ مَيِّتًا، وَمَلَكَ الْفِرِنْجُ خِيَمَهُ وَجَمِيعَ مَا لِلْمُسْلِمِينَ. فَأَرْسَلَ الْأَفْضَلُ بَعْدَهُ ابْنَهُ شَرَفَ الْمَعَالِي فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَالْتَقَوْا هُمْ والْفِرِنْجُ بِيَازُوزَ، بِقُرْبِ الرَّمْلَةِ، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَعَادَ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ مَغْلُولِينِ، فَلَمَّا رَأَى بَغْدَوِينُ شِدَّةَ الْأَمْرِ، وَخَافَ الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ، أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْحَشِيشِ وَاخْتَفَى فِيهِ، فَلَمَّا أَبْعَدَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ مِنْهُ إِلَى الرَّمْلَةِ. وَسَارَ شَرَفُ الْمَعَالِي بْنُ الْأَفْضَلِ مِنَ الْمَعْرَكَةِ، وَنَزَلَ عَلَى قَصْرٍ بِالرَّمْلَةِ، وَبِهِ سَبْعُمِائَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْفِرِنْجِ، وَفِيهِمْ بَغْدَوِينُ، فَخَرَجَ مُتَخَفِّيًا إِلَى يَافَا، وَقَاتَلَ ابْنُ الْأَفْضَلِ مَنْ بَقِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ أَخَذَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَرْبَعَمِائَةٍ صَبْرًا، وَأَسَرَ ثَلَاثَمِائَةٍ إِلَى مِصْرَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَقْصِدِهِمْ، فَقَالَ قَوْمٌ: نَقْصِدُ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ وَنَتَمَلَّكُهُ، وَقَالَ قَوْمٌ: نَقْصِدُ يَافَا وَنَمْلِكُهَا.

فَبَيْنَمَا هُمْ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ، إِذْ وَصَلَ إِلَى الْفِرِنْجِ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي الْبَحْرِ، قَاصِدِينَ زِيَارَةِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَنَدَبَهُمْ بَغْدَوِينُ لِلْغَزْوِ مَعَهُ، فَسَارُوا إِلَى عَسْقَلَانَ، وَبِهَا شَرَفُ الْمَعَالِي، فَلَمْ يَكُنْ يَقْوَى بِحَرْبِهِمْ، فَلَطَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُسْلِمِينَ، فَرَأَى الْفِرِنْجُ الْبَحَرِيَّةُ حَصَانَةَ عَسْقَلَانَ، وَخَافُوا الْبَيَاتَ، فَرَحَلُوا إِلَى يَافَا، وَعَادَ وَلَدُ الْأَفْضَلِ إِلَى أَبِيهِ، فَسَيَّرَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ تَاجُ الْعَجَمِ فِي الْبَرِّ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ مَمَالِيكِ أَبِيهِ، وَجَهَّزَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَسَيَّرَ فِي الْبَحْرِ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ الْقَاضِي ابْنُ قَادُوسَ، فِي الْأُسْطُولِ، فَنَزَلَ الْأُسْطُولُ عَلَى يَافَا، وَنَزَلَ تَاجُ الْعَجَمِ عَلَى عَسْقَلَانَ، فَاسْتَدْعَاهُ ابْنُ قَادُوسٍ إِلَيْهِ لِيَتَّفِقَا عَلَى حَرْبِ الْفِرِنْجِ، فَقَالَ تَاجُ الْعَجَمِ: مَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَنْزِلَ إِلَيْكَ إِلَّا بِأَمْرِ الْأَفْضَلِ، وَلَمْ يَحْضُرْ عِنْدَهُ، وَلَا أَعَانَهُ، فَأَرْسَلَ الْقَادُوسِيُّ إِلَى قَاضِي عَسْقَلَانَ، وَشُهُودِهَا، وَأَعْيَانِهَا، وَأَخَذَ خُطُوطَهُمْ بِأَنَّهُ أَقَامَ عَلَى يَافَا عِشْرِينَ يَوْمًا، وَاسْتَدْعَى تَاجَ الْعَجَمِ، فَلَمْ يَأْتِهِ، وَلَا أَرْسَلَ رَجُلًا، فَلَمَّا وَقَفَ الْأَفْضَلُ عَلَى الْحَالِ أَرْسَلَ مَنْ قَبَضَ عَلَى تَاجِ الْعَجَمِ، وَأَرْسَلَ رَجُلًا، لَقَبُهُ جَمَالُ الْمُلْكِ، فَأَسْكَنَهُ عَسْقَلَانَ، وَجَعَلَهُ مُتَقَدَّمَ الْعَسَاكِرِ الشَّامِيَّةِ. وَخَرَجَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَبِيَدِ الْفِرِنْجِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ، وَفِلَسْطِينُ، مَا عَدَا عَسْقَلَانَ، وَلَهُمْ أَيْضًا يَافَا، وَأَرْسُوفُ، وقَيْسَارِيَّةُ، وَحَيْفَا، وَطَبَرِيَّةُ، وَاللَّاذِقِيَّةُ، وَأَنْطَاكِيَةُ، وَلَهُمْ بِالْجَزِيرَةِ الرُّهَا، وَسَرُوجٌ. وَكَانَ صَنْجِيلُ يُحَاصِرُ مَدِينَةَ طَرَابُلُسَ الشَّامِ، وَالْمَوَادُّ تَأْتِيهَا، وَبِهَا فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ عَمَّارٍ، وَكَانَ يُرْسِلُ أَصْحَابَهُ فِي الْمَرَاكِبِ يُغِيرُونَ عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي بِيَدِ الْفِرِنْجِ، وَيَقْتُلُونَ مَنْ وَجَدُوا، وَقَصَدَ بِذَلِكَ أَنْ يَخْلُوَ السَّوَادُ مِمَّنْ يَزْرَعُ لِتَقِلَّ الْمَوَادُّ مِنَ الْفِرِنْجِ فَيَرْحَلُوا عَنْهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، سَادِسَ الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَتْ بِنْتُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، الَّتِي كَانَتْ زَوْجَةَ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَكْ، وَكَانَتْ مَوْصُوفَةً بِالدِّينِ، وَكَثْرَةِ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ قَدْ أَلْزَمَهَا بَيْتَهَا، لِأَنَّهُ أُبْلِغَ عَنْهَا أَنَّهَا تَسْعَى فِي إِزَالَةِ دَوْلَتِهِ.

وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ أَيْضًا، اسْتَوْزَرَ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ زَعِيمَ الرُّؤَسَاءِ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ جَهِيرٍ، وَاسْتَقْدَمَهُ مِنَ الْحِلَّةِ مِنْ عِنْدِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ،، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي السَّنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ سَبَبَ مَسِيرِهِ إِلَيْهَا، فَلَمَّا قَدِمَ إِلَى بَغْدَاذَ خَرَجَ كُلُّ أَرْبَابِ الدَّوْلَةِ فَاسْتَقْبَلُوهُ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ الْخِلَعُ التَّامَّةُ، وَأُجْلِسَ فِي الدِّيوَانِ وَلُقِّبَ قِوَامُ الدِّينِ. وَفِيهِ أَيْضًا قُتِلَ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ الْخُجَنْدِيِّ بِالرَّيِّ، وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَلَوِيٌّ حِينَ نَزَلَ مِنْ كُرْسِيِّهِ، وَقُتِلَ الْعَلَوِيُّ وَدُفِنَ الْخُجَنْدِيُّ بِالْجَامِعِ، وَأَصْلُ بَيْتِ الْخُجَنْدِيِّ مِنْ مَدِينَةِ خُجَنْدَةَ، بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَيُنْسَبُونَ إِلَى الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ، وَكَانَ نِظَامُ الْمُلْكِ قَدْ سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ ثَابِتٍ الْخُجَنْدِيَّ يَعِظُ بِمَرْوَ، فَأَعْجَبَهُ كَلَامُهُ، وَعَرِفَ مَحَلَّهُ مِنَ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ، فَحَمَلَهُ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَصَارَ مُدَرِّسًا بِمَدْرَسَتِهِ بِهَا، فَنَالَ جَاهًا عَرِيضًا، وَدُنْيَا وَاسِعَةً، وَكَانَ نِظَامُ الْمُلْكِ يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ وَيَزُورُهُ. وَفِيهَا جَمَعَ سَاغَرُبَكْ، بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَهُوَ مِنْ أَوْلَادِ الْخَانِيَّةِ، وَقَصَدَ مُحَمَّدْ خَانْ الَّذِي مَلَّكَهُ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ سَمَرْقَنْدَ، وَنَازَعَهُ فِي مُلْكِهَا، فَضَعُفَ، مُحَمَّدْ خَانْ عَنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ يَسْتَنْجِدُهُ، فَسَارَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، فَأَبْعَدَ عَنْهُ سَاغَرُبَكْ، وَخَافَهُ، وَاحْتَمَى مِنْهُ، وَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ مِنْ سَنْجَرَ، وَالْعَفْوَ، فَأَجَابَهُ إِلَى مَا طَلَبَ، وَحَضَرَ سَاغَرْبَكُ عِنْدَهُ، وَقَرَّرَ الصُّلْحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدْ خَانْ، وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَعَادَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَوَصَلَ إِلَى مَرْوَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْمَعَالِي [الرَّجُلُ] الصَّالِحُ، سَاكِنُ بَابِ الطَّاقِ، وَكَانَ مُقِلًّا مِنَ الدُّنْيَا، لَهُ كَرَامَاتٌ ظَاهِرَةٌ.

ثم دخلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 497 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ بَلْكَ بْنِ بَهْرَامَ بْنِ أُرْتُقَ مَدِينَةَ عَانَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، اسْتَوْلَى بَلْكُ بْنُ بَهْرَامَ بْنِ أُرْتُقَ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي إِيلْغَازِي بْنِ أُرْتُقَ، عَلَى مَدِينَةِ عَانَةَ، وَالْحَدِيثَةِ، وَكَانَ لَهُ مَدِينَةُ سَرُوجٍ، فَأَخَذَهَا الْفِرِنْجُ مِنْهُ، فَسَارَ عَنْهَا إِلَى عَانَةَ وَأَخَذَهَا مِنْ بَنِي يَعِيشَ بْنِ عِيسَى بْنِ خِلَاطٍ، فَقَصَدَ بَنُو يَعِيشَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ بْنَ مَزْيَدٍ، وَمَعَهُمْ مَشَايِخُهُمْ، فَسَأَلُوهُ الْإِصْعَادَ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَتَسَلَّمَهَا مِنْهُمْ، فَفَعَلَ وَأَصْعَدَ مَعَهُمْ. فَرَحَلَ التُّرْكُمَانُ وَبَهْرَامُ عَنْهَا، وَأَخَذَ صَدَقَةُ رَهَائِنَهُمْ، وَعَادَ إِلَى حِلَّتِهِ، فَرَجَعَ بَلْكُ إِلَيْهَا وَمَعَهُ أَلْفَا رَجُلٍ مِنَ التُّرْكُمَانِ، فَمَانَعَهُ أَصْحَابُهُ قَلِيلًا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْمَخَاضَةِ إِلَيْهَا، فَخَاضَهَا وَعَبَرَ، وَمَلَكَهُمْ وَنَهَبَهُمْ، وَسَبَى جَمِيعَ حَرَمِهِمْ وَانْحَدَرَ طَالِبًا هَيْتَ مِنَ الْجَانِبِ الشَّامِيِّ، فَبَلَغَ إِلَى قَرِيبٍ مِنْهَا، ثُمَّ رَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ، وَلَمَّا سَمِعَ صَدَقَةُ جَهَّزَ الْعَسَاكِرَ، ثُمَّ أَعَادَهُمْ عِنْدَ عَوْدِ بَلْكَ. ذِكْرُ غَارَةِ الْفِرِنْجِ عَلَى الرَّقَّةِ وَقَلْعَةِ جَعْبَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، أَغَارَ الْفِرِنْجُ مِنَ الرُّهَا عَلَى مَرْجِ الرَّقَّةِ وَقَلْعَةِ جَعْبَرَ، وَكَانُوا لَمَّا خَرَجُوا مِنَ الرُّهَا افْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ، وَأَبْعَدُوا يَوْمًا وَاحِدًا تَكُونُ الْغَارَةُ عَلَى الْبَلَدَيْنِ فِيهِ، فَفَعَلُوا مَا اسْتَقَرَّ بَيْنَهُمْ، وَأَغَارُوا، وَاسْتَاقُوا الْمَوَاشِيَ، وَأَسَرُوا مَنْ وَقَعَ بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَتِ الْقَلْعَةُ وَالرَّقَّةُ لِسَالِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ بَدْرَانَ بْنِ الْمُقَلَّدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ سَلَّمَهَا إِلَيْهِ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيهَا.

ذِكْرُ الصُّلْحِ بَيْنَ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ وَمُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَ السُّلْطَانَيْنِ بَرْكِيَارُقَ وَمُحَمَّدٍ ابْنَيْ مَلِكْشَاهْ. وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ الْحُرُوبَ تَطَاوَلَتْ بَيْنَهُمَا، وَعَمَّ الْفَسَادُ، فَصَارَتِ الْأَمْوَالُ مَنْهُوبَةً، وَالدِّمَاءُ مَسْفُوكَةً، وَالْبِلَادُ مُخَرَّبَةً، وَالْقُرَى مُحَرَّقَةً، وَالسَّلْطَنَةُ مَطْمُوعًا فِيهَا، مَحْكُومًا عَلَيْهَا، وَأَصْبَحَ الْمُلُوكُ مَقْهُورِينَ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَاهِرِينَ، وَكَانَ الْأُمَرَاءُ الْأَكَابِرُ يُؤْثِرُونَ ذَلِكَ وَيَخْتَارُونَهُ لِيَدُومَ تَحَكَّمُهُمْ، وَانْبِسَاطُهُمْ، وَإِدْلَالُهُمْ. وَكَانَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ حِينَئِذٍ بِالرَّيِّ وَالْخُطْبَةُ لَهُ بِهَا، وَبِالْجَبَلِ، وَطَبَرِسْتَانَ، وَخُوزِسْتَانَ، وَفَارِسَ، وَدِيَارِ بَكْرٍ، وَالْجَزِيرَةِ، وَبِالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ. وَكَانَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ بِأَذْرَبِيجَانَ، وَالْخُطْبَةُ لَهُ فِيهَا، وَبِبِلَادِ أَرَانِيَّةَ، وَأَرْمِينِيَّةَ، وأَصْبَهَانَ، وَالْعِرَاقِ، كُلِّهَا مَا عَدَا تِكْرِيتَ. وَأَمَّا أَعْمَالُ الْبَطَائِحِ فَيُخْطَبُ بِبَعْضِهَا لبَرْكِيَارُقَ، وَبِبَعْضِهَا لِمُحَمَّدٍ. وَأَمَّا الْبَصْرَةُ فَكَانَ يُخْطَبُ فِيهَا لَهُمَا جَمِيعًا. وَأَمَّا خُرَاسَانُ فَإِنَّ السُّلْطَانَ سَنْجَرَ كَانَ يُخْطَبُ لَهُ فِي جَمِيعِهَا، وَهِيَ مِنْ حُدُودِ جُرْجَانَ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَلِأَخِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ. فَلَمَّا رَأَى السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ الْمَالَ عِنْدَهُ مَعْدُومًا، وَالطَّمَعَ مِنَ الْعَسْكَرِ زَائِدًا، أَرْسَلَ الْقَاضِيَ أَبَا الْمُظَفَّرِ الْجُرْجَانِيَّ الْحَنَفِيَّ، وَأَبَا الْفَرَجِ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الْغَفَّارِ الْهَمَذَانِيَّ، الْمَعْرُوفَ بِصَاحِبِ قُرَاتِكِينَ، إِلَى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ فِي تَقْرِيرِ قَوَاعِدِ الصُّلْحِ، فَسَارَ إِلَيْهِ، وَهُوَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَرَاغَةَ، فَذَكَرَا لَهُ مَا أُرْسِلَا فِيهِ، وَرَغَّبَاهُ فِي الصُّلْحِ وَفَضِيلَتِهِ، وَمَا شَمِلَ الْبِلَادَ مِنَ الْخَرَابِ، وَطَمَعِ عَدُوِّ الْإِسْلَامِ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ فِيهِ رُسُلًا، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ، وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَتَقَرَّرَتِ الْقَاعِدَةُ: أَنَّ السُّلْطَانَ بَرْكِيَارُقَ لَا يَعْتَرِضُ أَخَاهُ مُحَمَّدًا فِي الطَّبْلِ، وَأَنْ لَا يُذْكَرَ مَعَهُ عَلَى سَائِرِ الْبِلَادِ الَّتِي صَارَتْ لَهُ، وَأَنْ لَا يُكَاتِبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بَلْ تَكُونُ الْمُكَاتَبَةُ مِنَ الْوَزِيرَيْنِ، وَلَا يُعَارَضُ أَحَدٌ مِنَ الْعَسْكَرِ فِي قَصْدِ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَأَنْ يَكُونَ لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ مِنَ النَّهْرِ الْمَعْرُوفِ

بِإِسْبِيذَرُوذَ، إِلَى بَابِ الْأَبْوَابِ، وَدِيَارِ بَكْرٍ، وَالْجَزِيرَةِ، وَالْمَوْصِلِ، وَالشَّامِ، وَيَكُونَ لَهُ مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ بِلَادُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ. فَأَجَابَ بَرْكِيَارُقُ إِلَى هَذَا، وَزَالَ الْخُلْفُ، وَالشَّغْبُ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ إِلَى أَصْحَابِهِ بأَصْبَهَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالِانْصِرَافِ عَنِ الْبَلَدِ، وَتَسْلِيمِهِ إِلَى أَصْحَابِ أَخِيهِ، وَسَارَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَلَمَّا سَلَّمَهَا إِلَيْهِ أَصْحَابُ أَخِيهِ دَعَاهُمْ إِلَى أَنْ يَكُونُوا مَعَهُ، وَفِي خِدْمَتِهِ، فَامْتَنَعُوا، وَرَأَوْا لُزُومَ خِدْمَةِ صَاحِبِهِمْ، فَسَمَّاهُمْ أَهْلُ الْعَسْكَرَيْنِ جَمِيعًا: أَهْلَ الْوَفَاءِ، وَتَوَجَّهُوا مِنْ أَصْبَهَانَ، وَمَعَهُمْ حَرِيمُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، إِلَيْهِ، وَأَكْرَمَهُمْ بَرْكِيَارُقُ، وَحَمَّلَ لِأَهْلِ أَخِيهِ الْمَالَ الْكَثِيرَ، وَمِنَ الدَّوَابِّ ثَلَاثَمِائَةِ جَمَلٍ، وَمِائَةً وَعِشْرِينَ بَغْلًا، تَحْمِلُ الثَّقَلَ، وَسَيَّرَ مَعَهُمُ الْعَسَاكِرَ يَخْدِمُونَهُمْ. وَلَمَّا وَصَلَتْ رُسُلُ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ بِالصُّلْحِ، وَمَا اسْتَقَرَّتِ الْقَوَاعِدُ عَلَيْهِ، حَضَرَ إِيلْغَازِي بِالدِّيوَانِ، وَسَأَلَ فِي إِقَامَةِ الْخُطْبَةِ لبَرْكِيَارُقَ، فَأُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ، وَخُطِبَ لَهُ بِالدِّيوَانِ يَوْمَ الْخَمِيسَ تَاسِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى، وَخُطِبَ لَهُ، مِنَ الْغَدِ، بِالْجَوَامِعِ، وَخُطِبَ لَهُ أَيْضًا بِوَاسِطَ. وَلَمَّا خَطَبَ إِيلْغَازِي بِبَغْدَاذَ لبَرْكِيَارُقَ، وَصَارَ فِي جُمْلَتِهِ، أَرْسَلَ الْأَمِيرُ صَدَقَةُ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَقُولُ: كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَنْسُبُ إِلَيَّ كُلَّ مَا يَتَجَدَّدُ مِنْ إِيلْغَازِي مِنْ إِخْلَالٍ بِوَاجِبِ الْخِدْمَةِ، وَشَرْطِ الطَّاعَةِ، وَمِنَ اطِّرَاحِ الْمُرَاقَبَةِ، وَالْآنَ، فَقَدْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلسُّلْطَانِ الَّذِي اسْتَنَابَهُ، وَأَنَا غَيْرُ صَابِرٍ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ أَسِيرُ لِإِخْرَاجِهِ عَنْ بَغْدَاذَ. فَلَمَّا سَمِعَ إِيلْغَازِي ذَلِكَ شَرَعَ فِي جَمْعِ التُّرْكُمَانِ، وَوَرَدَ صَدَقَةُ بَغْدَاذَ، فَنَزَلَ مُقَابِلَ التَّاجِ، وَقَبَّلَ الْأَرْضِ، وَنَزَلَ فِي مُخَيَّمِهِ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَفَارَقَ إِيلْغَازِي بَغْدَاذَ إِلَى بَعْقُوبَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَدَقَةَ يَعْتَذِرُ عَنْ طَاعَتِهِ لبَرْكِيَارُقَ بِالصُّلْحِ الْوَاقِعِ، وَأَنَّ إِقْطَاعَهُ حُلْوَانَ وَغَيْرَهَا فِي جُمْلَةِ بِلَادِهِ، وَأَنَّ بَغْدَاذَ الَّتِي هُوَ شِحْنَةٌ فِيهَا قَدْ صَارَتْ لَهُ، فَذَلِكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي طَاعَتِهِ. فَرَضِيَ عَنْهُ صَدَقَةُ، وَعَادَ إِلَى الْحِلَّةِ.

وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ سُيِّرَتِ الْخِلَعُ مِنَ الْخَلِيفَةِ لِلسُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، وَلِلْأَمِيرِ إِيَازَ، وَلِوَزِيرِ بَرْكِيَارُقَ، وَهُوَ الْخَطِيرُ، وَالْعَهْدُ بِالسَّلْطَنَةِ، وَحَلَفُوا جَمِيعُهُمْ لِلْخَلِيفَةِ وَعَادُوا. ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ جُبَيْلًا وَعَكَّا مِنَ الشَّامِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَتْ مَرَاكِبُ مِنْ بِلَادِ الْفِرِنْجِ إِلَى مَدِينَةِ اللَّاذِقِيَّةِ، وَفِيهَا التُّجَّارُ، وَالْأَجْنَادُ، وَالْحُجَّاجُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَاسْتَعَانَ بِهِمْ صَنْجِيلُ الْفِرِنْجيُّ عَلَى حِصَارِ طَرَابُلُسَ، فَحَصَرُوهَا مَعَهُ بَرًّا وَبَحْرًا، وَضَايَقُوهَا، وَقَاتَلُوهَا أَيَّامًا، فَلَمْ يَرَوْا فِيهَا مَطْمَعًا، فَرَحَلُوا عَنْهَا إِلَى مَدِينَةِ جُبَيْلٍ، فَحَصَرُوهَا، وَقَاتَلُوا عَلَيْهَا قِتَالًا شَدِيدًا، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُهَا عَجْزَهُمْ عَنِ الْفِرِنْجِ أَخَذُوا أَمَانًا، وَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ تَفِ الْفِرِنْجُ لَهُمْ بِالْأَمَانِ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، وَاسْتَنْقَذُوهَا بِالْعُقُوبَاتِ وَأَنْوَاعِ الْعَذَابِ. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ جُبَيْلٍ سَارُوا إِلَى مَدِينَةِ عَكَّا، اسْتَنْجَدَهُمُ الْمَلِكُ بَغْدَوِينُ، مَلِكُ الْفِرِنْجِ، صَاحِبُ الْقُدْسِ عَلَى حِصَارِهَا، فَنَازَلُوهَا، وَحَصَرُوهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَكَانَ الْوَالِي بِهَا اسْمُهُ بَنَا، وَيُعْرَفُ بِزَهْرِ الدَّوْلَةِ الْجُيُوشِيِّ، نِسْبَةً إِلَى مَلِكِ الْجُيُوشِ الْأَفْضَلِ، فَقَاتَلَهُمْ أَشَدَّ قِتَالٍ، فَزَحَفُوا إِلَيْهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَعَجَزَ عَنْ حِفْظِ الْبَلَدِ، فَخَرَجَ مِنْهُ، وَمَلَكَ الْفِرِنْجُ الْبَلَدَ بِالسَّيْفِ قَهْرًا، وَفَعَلُوا بِأَهْلِهِ الْأَفْعَالَ الشَّنِيعَةَ، وَسَارَ الْوَالِي بِهِ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَقَامَ بِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ، وَاعْتَذَرَ إِلَى الْأَفْضَلِ فَقَبِلَ عُذْرَهُ.

ذِكْرُ غَزْوِ سُقْمَانَ وَجَكَرْمَشَ الْفِرِنْجَ لَمَّا اسْتَطَالَ الْفِرِنْجُ، خَذَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، بِمَا مَلَكُوهُ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَاتَّفَقَ لَهُمُ اشْتِغَالُ عَسَاكِرِ الْإِسْلَامِ وَمُلُوكِهِ، بِقِتَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، تَفَرَّقَتْ حِينَئِذٍ بِالْمُسْلِمِينَ الْآرَاءُ، وَاخْتَلَفَتِ الْأَهْوَاءُ، وَتَمَزَّقَتِ الْأَمْوَالُ. وَكَانَتْ حَرَّانُ لِمَمْلُوكٍ مِنْ مَمَالِيكِ مَلِكْشَاهْ اسْمُهُ قُرَاجَهْ، فَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا إِنْسَانًا يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَخَرَجَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، فَعَصَى الْأَصْبَهَانَيُّ عَلَى قُرَاجَهْ، وَأَعَانَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ لِظُلْمِ قُرَاجَهْ. وَكَانَ الْأَصْبَهَانِيُّ جَلْدًا، شَهْمًا، فَلَمْ يَتْرُكْ بِحَرَّانَ مِنْ أَصْحَابِ قُرَاجَهْ سِوَى غُلَامٍ تُرْكِيٍّ يُعْرَفُ بِجَاوْلِي، وَجَعَلَهُ أَصْفَهْسَلَارَ الْعَسْكَرِ، وَأَنِسَ بِهِ، فَجَلَسَ مَعَهُ يَوْمًا لِلشُّرْبِ، فَاتَّفَقَ جَاوْلِي مَعَ خَادِمٍ لَهُ عَلَى قَتْلِهِ فَقَتَلَاهُ وَهُوَ سَكْرَانٌ. فَعِنْدَ ذَلِكَ سَارَ الْفِرِنْجُ إِلَى حَرَّانَ وَحَصَرُوهَا. فَلَمَّا سَمِعَ مُعِينُ الدَّوْلَةِ سُقْمَانُ، وَشَمْسُ الدَّوْلَةِ جَكَرْمِشُ ذَلِكَ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا حَرْبٌ، وَسُقْمَانُ يُطَالِبُ بِقَتْلِ ابْنِ أَخِيهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَعِدُّ لِلِقَاءِ صَاحِبِهِ، وَأَنَا أَذْكُرُ سَبَبَ قَتْلِ جَكَرْمِشَ لَهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَرْسَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ يَدْعُوهُ إِلَى الِاجْتِمَاعِ مَعَهُ لِتَلَافِي أَمْرِ حَرَّانَ، وَيُعْلِمُهُ أَنَّهُ قَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَثَوَابِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجَابَ صَاحِبَهُ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ، وَسَارَا فَاجْتَمَعَا عَلَى الْخَابُورِ، وَتَحَالَفَا، وَسَارَا إِلَى لِقَاءِ الْفِرِنْجِ. وَكَانَ مَعَ سُقْمَانُ سَبْعَةُ آلَافِ فَارِسٍ مَعَ التُّرْكُمَانِ، وَمَعَ جَكَرْمِشَ ثَلَاثَةُ آلَافِ فَارِسٍ مِنَ التُّرْكِ، وَالْعَرَبِ، وَالْأَكْرَادِ، فَالْتَقَوْا عَلَى نَهْرِ الْبَلِيخِ، وَكَانَ الْمَصَافُّ بَيْنَهُمْ هُنَاكَ، فَاقْتَتَلُوا، فَأَظْهَرَ الْمُسْلِمُونَ الِانْهِزَامَ، فَتَبِعَهُمُ الْفِرِنْجُ نَحْوَ فَرْسَخَيْنِ، فَعَادَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوهُمْ كَيْفَ شَاءُوا، وَامْتَلَأَتْ أَيْدِي التُّرْكُمَانِ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَوَصَلُوا إِلَى الْأَمْوَالِ

الْعَظِيمَةِ، لِأَنَّ سَوَادَ الْفِرِنْجِ كَانَ قَرِيبًا، وَكَانَ بِيمُنْدُ، صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، وَطَنْكِرِي، صَاحِبُ السَّاحِلِ، قَدِ انْفَرَدَا وَرَاءَ جَبَلٍ لِيَأْتِيَا الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَاءِ ظُهُورِهِمْ، إِذَا اشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، فَلَمَّا خَرَجَا رَأَيَا الْفِرِنْجَ مُنْهَزِمِينَ، وَسَوَادَهُمْ مَنْهُوبًا، فَأَقَامَا بِاللَّيْلِ، وَهَرَبَا، فَتَبِعَهُمَا الْمُسْلِمُونَ، وَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِمَا كَثِيرًا، وَأَسَرُوا كَذَلِكَ، وَأَفْلَتَا فِي سِتَّةِ فُرْسَانٍ. وَكَانَ الْقُمَّصُ بَرْدَوِيلُ، صَاحِبُ الرُّهَا، قَدِ انْهَزَمَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قَمَامِصَتِهِمْ، وَخَاضُوا نَهْرَ الْبَلِيخِ، فَوَحِلَتْ خُيُولُهُمْ، فَجَاءَ التُّرْكُمَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِ سُقْمَانَ فَأَخَذَهُمْ، وَحَمَلَ بَرْدَوِيلَ إِلَى خِيَمِ صَاحِبِهِ، وَقَدْ سَارَ فِيمَنْ مَعَهُ لِاتِّبَاعِ بِيمُنْدَ، فَرَأَى أَصْحَابُ جَكَرْمِشَ أَنَّ أَصْحَابَ سُقْمَانَ قَدِ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالِ الْفِرِنْجِ، وَيَرْجِعُونَ هُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِغَيْرِ طَائِلٍ، فَقَالُوا لِجَكَرْمَشَ: أَيُّ مَنْزِلَةٍ تَكُونُ لَنَا عِنْدَ النَّاسِ، وَعِنْدَ التُّرْكُمَانِ إِذَا انْصَرَفُوا بِالْغَنَائِمِ دُونَنَا؟ وَحَسَّنُوا لَهُ أَخْذَ الْقُمَّصِ، فَأَنْفَذَ فَأَخَذَ الْقُمَّصَ مِنْ خِيَمِ سُقْمَانَ، فَلَمَّا عَادَ سُقْمَانُ شَقَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَرَكَبَ أَصْحَابُهُ لِلْقِتَالِ، فَرَدَّهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: لَا يَقُومُ فَرَحُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ بِغَمِّهِمْ بِاخْتِلَافِنَا، وَلَا أُؤْثِرُ شِفَاءَ غَيْظِي بِشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ بِالْمُسْلِمِينَ. وَرَحَلَ لِوَقْتِهِ، وَأَخَذَ سِلَاحَ الْفِرِنْجِ، وَرَايَاتِهِمْ، وَأَلْبَسَ أَصْحَابَهُ لُبْسَهُمْ، وَأَرْكَبَهُمْ خَيْلَهُمْ، وَجَعَلَ يَأْتِي حُصُونَ شَيْحَانَ، وَبِهَا الْفِرِنْجُ، فَيَخْرُجُونَ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ أَصْحَابَهُمْ نُصِرُوا، فَيَقْتُلُهُمْ وَيَأْخُذُ الْحِصْنَ مِنْهُمْ، فَعَلَ ذَلِكَ بِعِدَّةِ حُصُونٍ. وَأَمَّا جَكَرْمِشُ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى حَرَّانِ، فَتَسَلَّمَهَا، وَاسْتَخْلَفَ بِهَا صَاحِبَهُ. وَسَارَ إِلَى الرُّهَا، فَحَصَرَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَمَعَهُ الْقُمَّصُ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ خِيَامِ سُقْمَانَ، فَفَادَاهُ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ دِينَارًا، وَمِائَةٍ وَسِتِّينَ أَسِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ عِدَّةُ الْقَتْلَى مِنَ الْفِرِنْجِ يُقَارِبُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ قَتِيلٍ.

ذِكْرُ وَفَاةِ دُقَاقَ وَمُلْكِ وَلَدِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، تُوُفِّيَ الْمَلِكُ دُقَاقُ بْنُ تُتُشَ بْنِ أَلْبِ أَرْسِلَانَ، صَاحِبُ دِمَشْقَ، وَخَطَبَ أَتَابِكُهُ طُغْتِكِينُ لِوَلَدٍ لَهُ صَغِيرٍ، لَهُ سَنَةٌ وَاحِدَةٌ، وَجَعَلَ اسْمَ الْمَمْلَكَةِ فِيهِ، ثُمَّ قَطَعَ خُطْبَتَهُ وَخَطَبَ لِبُكْتَاشَ بْنِ تُتُشَ، عَمِّ هَذَا الطِّفْلِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً. ثُمَّ إِنَّ طُغْتِكِينَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِقَصْدِ الرَّحْبَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهَا فَمَلَكَهَا وَعَادَ، فَمَنَعَهُ طُغْتِكِينُ مِنْ دُخُولِ الْبَلَدِ، فَمَضَى إِلَى حُصُونٍ لَهُ، وَأَعَادَ طُغْتِكِينُ خُطْبَةَ الطِّفْلِ وَلَدِ دُقَاقَ. وَقِيلَ إِنَّ سَبَبَ اسْتِيحَاشِ بُكْتَاشَ مِنْ طُغْتِكِينَ أَنَّ وَالِدَتَهُ خَوَّفَتْهُ مِنْهُ، وَقَالَتْ: إِنَّهُ زَوْجُ وَالِدَةِ دُقَاقَ، وَهِيَ لَا تَتْرُكُهُ حَتَّى تَقْتُلَكَ وَيَسْتَقِيمَ الْمُلْكُ لِوَلَدِهَا، فَخَافَ، ثُمَّ إِنَّهُ حَسَّنَ لَهُ مَنْ كَانَ يَحْسُدُ طُغْتِكِينَ مُفَارَقَةَ دِمَشْقَ، وَقَصْدَ بَعْلَبَكَّ، وَجَمْعَ الرِّجَالِ، وَالِاسْتِنْجَادَ بالْفِرِنْجِ، وَالْعَوْدَ إِلَى دِمَشْقَ، وَأَخْذِهَا مِنْ طُغْتِكِينَ، فَخَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ سِرًّا فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَلَحِقَهُ الْأَمِيرُ أَيْتِكِينُ الْحَلَبِيُّ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَرَّرَ مَعَ بُكْتَاشَ ذَلِكَ، وَهُوَ صَاحِبُ بُصْرَى، فَعَاثَا فِي نُوَاحِي حَوْرَانَ، وَلَحِقَ بِهِمَا مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْفَسَادَ، وَرَاسَلَا بَغْدَوِينَ مَلِكَ الْفِرِنْجِ يَسْتَنْجِدَانِهِ، فَأَجَابَهُمَا إِلَى ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَيْهِمَا فَاجْتَمَعَا بِهِ، وَقَرَّرَا الْقَوَاعِدَ مَعَهُ، وَأَقَامَا عِنْدَهُ مُدَّةً، فَلَمْ يَرَيَا مِنْهُ غَيْرَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْإِفْسَادِ فِي أَعْمَالِ دِمَشْقَ، وَتَخْرِيبِهَا، فَلَمَّا يَئِسَا مِنْ نَصْرِهِ عَادَا مِنْ عِنْدِهِ، وَتَوَجَّهَا فِي الْبَرِّيَّةِ إِلَى الرَّحْبَةِ، فَمَلَكَهَا بُكْتَاشُ وَعَادَ عَنْهَا. وَاسْتَقَامَ أَمْرُ طُغْتِكِينَ بِدِمَشْقَ وَاسْتَبَدَّ بِالْأَمْرِ، وَأَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ، وَبَثَّ فِيهِمُ الْعَدْلَ، فَسُرُّوا بِهِ سُرُورًا كَثِيرًا.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ صَدَقَةَ عَلَى وَاسِطَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، انْحَدَرَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَزْيَدٍ مِنَ الْحِلَّةِ إِلَى وَاسِطَ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ بِهَا فِي الْأَتْرَاكِ: مَنْ أَقَامَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، فَسَارَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى بَرْكِيَارُقَ، وَجَمَاعَةٌ إِلَى بَغْدَاذَ، وَصَارَ مَعَ صَدَقَةَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ أَحْضَرَ مُهَذَّبَ الدَّوْلَةِ بْنَ أَبِي الْجَبْرِ، صَاحِبَ الْبَطِيحَةِ، فَضَمَّنَهُ الْبَلَدَ لِمُدَّةٍ، آخِرُهَا آخِرُ السَّنَةِ، بِخَمْسِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعَادَ إِلَى الْحِلَّةِ، فَأَقَامَ مُهَذَّبُ الدَّوْلَةِ بِوَاسِطَ إِلَى سَادِسِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَانْحَدَرَ إِلَى بَلَدِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، أُطْلِقَ سَدِيدُ الْمُلْكِ أَبُو الْمَعَالِي مِنَ الِاعْتِقَالِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ وَزِيرَ الْخَلِيفَةِ، وَلَمَّا أُطْلِقَ هَرَبَ إِلَى الْحِلَّةِ السَّيْفِيَّةِ، وَمِنْهَا إِلَى السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَوَلَّاهُ الْإِشْرَافَ عَلَى مَمَالِكِهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَمِينُ الدَّوْلَةِ أَبُو سَعْدٍ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْمُوصَلَايَا، فَجْأَةً، وَكَانَ قَدْ أُضِرَّ، وَكَانَ بَلِيغًا فَصِيحًا، وَكَانَ ابْتِدَاءُ خِدْمَتِهِ لِلْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، خَدَمَ الْخُلَفَاءَ خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً، كُلُّ يَوْمٍ تَزْدَادُ مَنْزِلَتُهُ، حَتَّى تَابَ عَنِ الْوِزَارَةِ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، فَأَسْلَمَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، جَمِيلَ الْمَحْضَرِ، صَالِحَ النِّيَّةِ، وَوَقَفَ أَمْلَاكَهُ عَلَى أَبْوَابِ الْبِرِّ، وَمُكَاتَبَاتُهُ مَشْهُورَةٌ حَسَنَةٌ، وَلَمَّا مَاتَ خَلَعَ عَلَى ابنِ أُخْتِهِ أَبِي نَصْرٍ، وَلُقِّبَ " نِظَامَ الْحَضْرَتَيْنِ "، وَقُلِّدَ دِيوَانَ الْإِنْشَاءِ. وَفِيهَا كَانَتْ ببَغْدَاذَ بَيْنَ الْعَامَّةِ فِتَنٌ كَثِيرَةٌ، وَانْتَشَرَ الْعَيَّارُونَ. وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو نُعَيْمِ بْنُ سَاوَةَ الطَّبِيبُ الْوَاسِطِيُّ، وَكَانَ مِنَ الْحُذَّاقِ فِي الطِّبِّ، وَلَهُ فِيهَا إِصَابَاتٌ حَسَنَةٌ.

وَفِيهَا عَزَلَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ وَزِيرَهُ الْمُجِيرَ أَبَا الْفَتْحِ الطُّغَرَائِيَّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمِيرَ بَزْغَشَ، وَهُوَ أَصْفَهْسَلَارُ الْعَسْكَرِ السَّنْجَرِيُّ، أُلْقِيَ إِلَيْهِ مُلَطَّفٌ فِيهِ: لَا يَتِمُّ لَكَ أَمْرٌ مَعَ هَذَا السُّلْطَانِ، وَوَقَعَ إِلَى سَنْجَرَ، لَا يَتِمُّ لَكَ أَمْرٌ مَعَ الْأَمِيرِ بَزْغَشَ، مَعَ كَثْرَةِ جُمُوعِهِ، فَجَمَعَ بَزْغَشُ أَصْحَابَ الْعَمَائِمِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْمُلَطَّفَيْنِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى كَاتِبِ الطُّغَرَائِيِّ، وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ فَقُتِلَ، وَقَبَضَ سَنْجَرُ عَلَى الطُّغَرَائِيِّ، وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَمَنَعَهُ بَزْغَشُ، وَقَالَ لَهُ: حَقُّ خِدْمَةٍ، فَأَبْعَدَهُ إِلَى غَزْنَةَ، وَفِيهَا جَمَعَ بَزْغَشُ كَثِيرًا مِنْ عَسَاكِرِ خُرَاسَانَ، وَأَتَاهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ، وَسَارَ إِلَى قِتَالِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَقَصَدَ طَبَسَ، وَهِيَ لَهُمْ، فَخَرَّبَهَا وَمَا جَاوَرَهَا مِنَ الْقِلَاعِ وَالْقُرَى، وَأَكْثَرَ فِيهِمُ الْقَتْلَ، وَالنَّهْبَ، وَالسَّبْيَ، وَفَعَلَ بِهِمُ الْأَفْعَالَ الْعَظِيمَةَ، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ سَنْجَرَ أَشَارُوا بِأَنْ يُؤَمَّنُوا، وَيُشْرَطُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَبْنُونَ حِصْنًا، وَلَا يَشْتَرُونَ سِلَاحًا، وَلَا يَدْعُونَ أَحَدًا إِلَى عَقَائِدِهِمْ، فَسَخِطَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ هَذَا الْأَمَانَ، وَهَذَا الصُّلْحَ، وَنَقَمُوهُ عَلَى سَنْجَرَ، ثُمَّ إِنَّ بَزْغَشَ، بَعْدَ عَوْدَتِهِ مِنْ هَذِهِ الْغَزَاةِ، تُوُفِّيَ، وَكَانَتْ خَاتِمَةُ أَمْرِهِ الْجِهَادَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ زَكَرِيَّاءَ الطُّرَيْثِيثِيُّ، وَكَانَ صُوفِيًّا مُحَدِّثًا مَشْهُورًا. وَفِي رَجَبٍ تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، قَاضِي الْكُوفَةِ، وَمَوْلِدُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ تَلَامِيذِ الْقَاضِي الدَّامَغَانِيِّ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ.

وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْبُسْرِيِّ الْبُنْدَارُ، الْمُحَدِّثُ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 498 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَانِيَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ بْنُ مَلِكْشَاهْ، وَكَانَ قَدْ مَرِضَ بأَصْبَهَانَ بِالسُّلِّ، وَالْبَوَاسِيرِ، فَسَارَ مِنْهَا فِي مَحَفَّةٍ طَالِبًا بَغْدَاذَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَرُوجَرْدَ ضَعُفَ عَنِ الْحَرَكَةِ، فَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ نَفْسِهِ خَلَعَ عَلَى وَلَدِهِ مَلِكْشَاهْ، وَعُمُرُهُ حِينَئِذٍ أَرْبَعُ سِنِينَ وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وَخَلَعَ عَلَى الْأَمِيرِ إِيَازَ، وَأَحْضَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَ ابْنَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ فِي السَّلْطَنَةِ، وَجَعَلَ الْأَمِيرَ إِيَازَ أَتَابِكَهُ، وَأَمَرَهُمْ بِالطَّاعَةِ لَهُمَا، وَمُسَاعَدَتِهِمَا عَلَى حِفْظِ السَّلْطَنَةِ لِوَلَدِهِ، وَالذَّبِّ عَنْهَا، فَأَجَابُوا كُلُّهُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُمَا، وَبَذْلِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فِي حِفْظِ وَلَدِهِ وَسَلْطَنَتِهِ عَلَيْهِ، وَاسْتَحْلَفَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَحَلَفُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَسَارُوا، فَلَمَّا كَانُوا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ فَرْسَخًا مِنْ بَرُوجَرْدَ وَصَلَهُمْ خَبَرُ وَفَاتِهِ، وَكَانَ بَرْكِيَارُقُ قَدْ تَخَلَّفَ عَلَى عَزْمِ الْعَوْدِ إِلَى أَصْبَهَانَ فَعَاجَلَتْهُ مَنِيَّتُهُ. فَلَمَّا سَمِعَ الْأَمِيرُ إِيَازُ بِمَوْتِهِ أَمَرَ وَزِيرَهُ الْخَطِيرَ الْمَبْيَذِيَّ وَغَيْرَهُ بِأَنْ يَسِيرُوا مَعَ تَابُوتِهِ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَحُمِلَ إِلَيْهَا، وَدُفِنَ فِي تُرْبَةٍ جَدَّدَتْهَا لَهُ سُرِّيَّتُهُ، ثُمَّ مَاتَتْ بَعْدَ أَيَّامٍ، فَدُفِنَتْ بِإِزَائِهِ، وَأَحْضَرَ إِيَازُ السُّرَادِقَاتِ، وَالْخِيَامَ، وَالْجَتَرَ، وَالشِّمْسَةَ، وَجَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ، فَجَعَلَهُ بِرَسْمِ وَلَدِهِ مَلِكْشَاهْ. ذِكْرُ عُمُرِهِ وَشَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ لَمَّا تُوُفِّيَ بَرْكِيَارُقُ كَانَ عُمُرُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ وُقُوعِ اسْمِ السَّلْطَنَةِ

عَلَيْهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَقَاسَى مِنَ الْحُرُوبِ وَاخْتِلَافِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُقَاسِهِ أَحَدٌ، وَاخْتَلَفَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ بَيْنَ رَخَاءٍ وَشِدَّةٍ، وَمُلْكٍ وَزَوَالِهِ، وَأَشْرَفَ فِي عِدَّةِ نُوَبٍ بَعْدَ إِسْلَامِ النِّعْمَةِ عَلَى ذَهَابِ الْمُهْجَةِ. وَلَمَّا قَوِيَ أَمْرُهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَأَطَاعَهُ الْمُخَالِفُونَ، وَانْقَادُوا لَهُ، أَدْرَكَتْهُ مَنِيَّتُهُ، وَلَمْ يُهْزَمْ فِي حُرُوبِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَانَ أُمَرَاؤُهُ قَدْ طَمِعُوا فِيهِ لِلِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ، حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ نُوَّابَهُ لِيَقْتُلُوهُمْ، فَلَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ عَنْهُمْ، وَكَانَ مَتَى خُطِبَ لَهُ بِبَغْدَاذَ وَقَعَ الْغَلَاءُ، وَوَقَفَتِ الْمَعَايِشُ وَالْمَكَاسِبُ، وَكَانَ أَهْلُهَا مَعَ ذَلِكَ يُحِبُّونَهُ، وَيَخْتَارُونَ سُلْطَانَهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ تَغَلُّبِ الْأَحْوَالِ بِهِ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَعْجَبِهَا دُخُولُهُ أَصْبَهَانَ هَارِبًا مِنْ عَمِّهِ تُتُشَ، فَمَكَّنَهُ عَسْكَرُ أَخِيهِ مَحْمُودٍ صَاحِبِهَا مِنْ دُخُولِهَا لِيَقْبِضُوا عَلَيْهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ أَخَاهُ مَحْمُودًا مَاتَ، فَاضْطَرُّوا إِلَى أَنْ يُمَلِّكُوهُ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ. وَكَانَ حَلِيمًا، كَرِيمًا، صَبُورًا، عَاقِلًا، كَثِيرَ الْمُدَارَاةِ، حَسَنَ الْقُدْرَةِ، لَا يُبَالِغُ فِي الْعُقُوبَةِ، وَكَانَ عَفْوُهُ أَكْثَرَ مِنْ عُقُوبَتِهِ. ذِكْرُ الْخُطْبَةِ لِمَلِكْشَاهْ بْنِ بَرْكِيَارُقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خُطِبَ لِمَلِكْشَاهْ بْنِ بَرْكِيَارُقَ بِالدِّيوَانِ يَوْمَ الْخَمِيسِ سَلْخَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَخُطِبَ لَهُ بِجَوَامِعِ بَغْدَاذَ مِنَ الْغَدِ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ إِيلْغَازِي، شِحْنَةَ بَغْدَاذَ، سَارَ فِي الْمُحَرَّمِ إِلَى السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، وَهُوَ بِأَصْبَهَانَ، يَحُثُّهُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَرَحَلَ مَعَ بَرْكِيَارُقَ، فَلَمَّا مَاتَ بَرْكِيَارُقُ سَارَ مَعَ وَلَدِهِ مَلِكْشَاهْ وَالْأَمِيرِ إِيَازَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَوَصَلُوهَا سَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَلَقَوْا فِي طَرِيقِهِمْ بَرْدًا شَدِيدًا لَمْ يُشَاهِدُوا مِثْلَهُ، بِحَيْثُ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْمَاءِ لِجُمُودِهِ.

وَخَرَجَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ جَهِيرٍ، فَلَقِيَهُمْ مِنْ دَيَالَى، وَكَانُوا خَمْسَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَحَضَرَ إِيلْغَازِي، وَالْأَمِيرُ طَغَايَرْكُ، بِالدِّيوَانِ، وَخَاطَبُوا فِي إِقَامَةِ الْخُطْبَةِ لِمَلِكْشَاهْ بْنِ بَرْكِيَارُقَ، فَأُجِيبَ إِلَيْهَا، وَخُطِبَ لَهُ، وَلُقِّبَ بِأَلْقَابِ جَدِّهِ مَلِكْشَاهْ، وَهِيَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَلْقَابِ، وَنُثِرَتِ الدَّنَانِيرُ عِنْدَ الْخُطْبَةِ لَهُ. ذِكْرُ حَصْرِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ جَكَرْمِشَ بِالْمَوْصِلِ لَمَّا اصْطَلَحَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ وَالسُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي السَّنَةِ الْخَالِيَةِ، وَسَلَّمَ مُحَمَّدٌ مَدِينَةَ أَصْبَهَانَ إِلَى بَرْكِيَارُقَ، وَسَارَ إِلَيْهَا، وَأَقَامَ مُحَمَّدٌ بِتِبْرِيزَ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى أَنْ وَصَلَ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ بِأَصْبَهَانَ، فَلَمَّا وَصَلُوا اسْتَوْزَرَ سَعْدَ الْمُلْكِ أَبَا الْمَحَاسِنِ لِحُسْنِ أَثَرِهِ الَّذِي كَانَ فِي حِفْظِ أَصْبَهَانَ، وَأَقَامَ إِلَى صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَسَارَ إِلَى مَرَاغَةَ، ثُمَّ إِلَى أَرْبِلَ يُرِيدُ قَصْدَ جَكَرْمِشَ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، لِيَأْخُذَ بِلَادَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ جَكَرْمِشُ بِمَسِيرِهِ إِلَيْهِ جَدَّدَ سُورَ الْمَوْصِلِ، وَرَمَّ مَا احْتَاجَ إِلَى إِصْلَاحٍ، وَأَمَرَ أَهْلَ السَّوَادِ بِدُخُولِ الْبَلَدِ، وَأَذِنَ لِأَصْحَابِهِ فِي نَهْبِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ. وَحَصَرَ مُحَمَّدٌ الْمَدِينَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى جَكَرْمِشَ يَذْكُرُ لَهُ الصُّلْحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَأَنَّ فِي جُمْلَةِ مَا اسْتَقَرَّ أَنْ تَكُونَ الْمَوْصِلُ وَبِلَادُ الْجَزِيرَةِ لَهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْكُتُبَ مِنْ بَرْكِيَارُقَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَالْأَيْمَانَ عَلَى تَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ أَطَعْتَ فَأَنَا لَا آخُذُهَا مِنْكَ بَلْ أُقِرُّهَا بِيَدِكَ، وَتَكُونُ الْخُطْبَةُ لِي بِهَا، فَقَالَ جَكَرْمِشُ: إِنَّ كُتُبَ السُّلْطَانِ وَرَدَتْ إِلَيَّ، بَعْدَ الصُّلْحِ، تَأْمُرُنِي أَنْ لَا أُسَلِّمَ الْبَلَدَ إِلَى غَيْرِهِ. فَلَمَّا رَأَى مُحَمَّدٌ امْتِنَاعَهُ بَاكَرَهُ الْقِتَالَ، وَزَحَفَ إِلَيْهِ بِالنَّقَّابِينِ، وَالدَّبَّابَاتِ، وَقَاتَلَ أَهْلُ الْبَلَدِ أَشَدَّ قِتَالٍ، وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا لِمَحَبَّتِهِمْ لِجَكَرْمِشَ لِحُسْنِ سِيرَتِهِ فِيهِمْ، فَأَمَرَ جَكَرْمِشُ فَفُتِحَ فِي السُّورِ أَبْوَابٌ لِطَافٌ يَخْرُجُ مِنْهَا الرَّجَّالَةُ يُقَاتِلُونَ، فَكَانُوا يُكْثِرُونَ الْقَتْلَ فِي الْعَسْكَرِ، ثُمَّ زَحَفَ مُحَمَّدٌ مَرَّةً، فَنَقَّبَ فِي السُّورِ أَصْحَابُهُ، وَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ عَمَّرَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَشَحَنُوهُ بِالْمُقَاتِلَةِ، وَكَانَتِ الْأَسْعَارُ عِنْدَهُمْ رَخِيصَةً فِي الْحِصَارِ: كَانَتِ الْحِنْطَةُ تُسَاوِي كُلُّ ثَلَاثِينَ مَكُّوكًا بِدِينَارٍ، وَالشَّعِيرُ كُلُّ خَمْسِينَ مَكُّوكًا بِدِينَارٍ. وَكَانَ بَعْضُ عَسْكَرِ جَكَرْمِشَ قَدِ اجْتَمَعُوا بِتَلِّ يَعْفَرَ، فَكَانُوا يُغِيرُونَ عَلَى أَطْرَافِ

الْعَسْكَرِ، وَيَمْنَعُونَ الْمِيرَةَ عَنْهُمْ، فَدَامَ الْقِتَالُ عَلَيْهِمْ إِلَى عَاشِرِ جُمَادَى الْأُولَى، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى جَكَرْمِشَ بِوَفَاةِ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَأَحْضَرَ أَهْلَ الْبَلَدِ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ مَوْتِ السُّلْطَانِ، فَقَالُوا: أَمْوَالُنَا وَأَرْوَاحُنَا بَيْنَ يَدَيْكَ، وَأَنْتَ أَعْرَفُ بِشَأْنِكَ، فَاسْتَشِرِ الْجُنْدَ، فَهُمْ أَعْرَفُ بِذَلِكَ. فَاسْتَشَارَ أُمَرَاءَهُ، فَقَالُوا: لَمَّا كَانَ السُّلْطَانُ حَيًّا قَدْ كُنَّا عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ طُرُوقِ بَلَدِنَا، وَحَيْثُ تُوُفِّيَ فَلَيْسَ لِلنَّاسِ الْيَوْمَ سُلْطَانٌ غَيْرَ هَذَا، وَالدُّخُولُ تَحْتَ طَاعَتِهِ أَوْلَى. فَأَرْسَلَ إِلَى مُحَمَّدٍ يَبْذُلُ الطَّاعَةَ، وَيَطْلُبُ وَزِيرَهُ سَعْدَ الْمُلْكِ لِيَدْخُلَ إِلَيْهِ، فَحَضَرَ الْوَزِيرُ عِنْدَهُ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: الْمَصْلَحَةُ أَنْ تَحْضُرَ السَّاعَةَ عِنْدَ السُّلْطَانِ، فَإِنَّهُ لَا يُخَالِفُكَ فِي جَمِيعِ مَا تَلْتَمِسُهُ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ وَقَامَ، فَسَارَ مَعَهُ جَكَرْمِشُ، فَلَمَّا رَآهُ أَهْلُ الْمَوْصِلِ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى السُّلْطَانِ، جَعَلُوا يَبْكُونَ، وَيَضِجُّونَ، وَيَحْثُونَ التُّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَأَكْرَمَهُ، وَعَانَقَهُ، وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنَ الْجُلُوسِ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ قُلُوبَهُمْ إِلَيْكَ، وَهُمْ مُتَطَلِّعُونَ إِلَى عَوْدِكَ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَعَادَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ خَوَاصِّ السُّلْطَانِ، وَسَأَلَ السُّلْطَانَ مِنَ الْغَدِ أَنْ يَدْخُلَ الْبَلَدَ لِيُزَيَّنَ لَهُ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَعَمِلَ سِمَاطًا، بِظَاهِرِ الْمَوْصِلِ، عَظِيمًا، وَحُمِلَ إِلَى السُّلْطَانِ مِنَ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ وَلِوَزِيرِهِ أَشْيَاءَ جَلِيلَةَ الْمِقْدَارِ. ذِكْرُ وُصُولِ السُّلْطَانِ إِلَى بَغْدَاذَ وَصُلْحِهِ مَعَ ابْنِ أَخِيهِ وَالْأَمِيرِ إِيَازَ لَمَّا وَصَلَ خَبَرُ وَفَاةِ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ إِلَى أَخِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ يُحَاصِرُ الْمَوْصِلَ، جَلَسَ لِلْعَزَاءِ، وَأَصْلَحَ جَكَرْمِشَ، صَاحِبَ الْمَوْصِلِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ وَمَعَهُ سُكْمَانُ الْقُطْبِيُّ، وَهُوَ يُنْسَبُ إِلَى قُطْبِ الدَّوْلَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَاقُوتِي بْنِ دَاوُدَ، وَإِسْمَاعِيلُ ابْنُ عَمِّ مَلِكْشَاهْ، وَسَارَ مَعَهُ جَكَرْمِشُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأُمَرَاءِ. وَكَانَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ، صَاحِبُ الْحِلَّةِ، قَدْ جَمَعَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْعَسَاكِرِ، فَبَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَعَشَرَةَ آلَافِ رَاجِلٍ، وَأَرْسَلَ وَلَدَيْهِ بَدْرَانَ وَدُبَيْسًا إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ يَسْتَحِثُّهُ عَلَى الْمَجِيءِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَاسْتَصْحَبَهُمَا مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ.

فَلَمَّا سَمِعَ الْأَمِيرُ إِيَازُ بِمَسِيرِهِ إِلَيْهِ خَرَجَ هُوَ وَالْعَسْكَرُ الَّذِي مَعَهُ مِنَ الدُّورِ، وَنَصَبُوا الْخِيَامَ بِالزَّاهِرِ، خَارِجَ بَغْدَاذَ، وَجَمَعَ الْأُمَرَاءَ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُهُ، فَبَذَلُوا لَهُ الطَّاعَةَ وَالْيَمِينَ عَلَى قِتَالِهِ وَحَرْبِهِ، وَمَنْعِهِ عَنِ السَّلْطَنَةِ، وَالِاتِّفَاقِ مَعَهُ عَلَى طَاعَةِ مَلِكْشَاهْ بْنِ بَرْكِيَارُقَ. وَكَانَ أَشَدَّهُمْ فِي ذَلِكَ يَنَّالُ وَصَبَاوَةُ، فَإِنَّهُمَا بَالَغَا فِي الْإِطْمَاعِ فِي السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَالْمَنْعِ لَهُ عَنِ السَّلْطَنَةِ، فَلَمَّا تَفَرَّقُوا قَالَ لَهُ وَزِيرُهُ الصَّفِيُّ أَبُو الْمَحَاسِنِ: يَا مَوْلَانَا إِنَّ حَيَاتِي مَقْرُونَةٌ بِثَبَاتِ نِعْمَتِكَ وَدَوْلَتِكَ، وَأَنَا أَكْثَرُ الْتِزَامًا بِكَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَلَيْسَ الرَّأْيُ مَا أَشَارُوا بِهِ، فَإِنَّ كَلَامَهُمْ يَقْصِدُ أَنْ يَسْلُكَ طَرِيقًا، وَأَنْ يُقِيمَ سُوقًا لِنَفْسِهِ بِكَ، وَأَكْثَرُهُمْ يُنَاوِئُكَ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَإِنَّمَا يَقْعُدُ بِهِمْ عَنْ مُنَازَعَتِكَ قِلَّةُ الْعَدَدِ وَالْمَالِ، وَالصَّوَابُ مُصَالَحَةُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ وَطَاعَتُهُ، وَهُوَ يُقِرُّكَ عَلَى إِقْطَاعِكَ، وَيَزِيدُكَ عَلَيْهِ مَهْمَا أَرَدْتَ. فَتَرَدَّدَ رَأْيُ الْأَمِيرِ إِيَازَ بَيْنَ الصُّلْحِ وَالْمُبَايَنَةِ، إِلَّا أَنَّ حَرَكَتَهُ فِي الْمُبَايَنَةِ ظَاهِرَةٌ، وَجَمَعَ السُّفُنَ الَّتِي بِبَغْدَاذَ عِنْدَهُ، وَضَبَطَ الْمَشَارِعَ مِنْ مُتَطَرِّقٍ إِلَى عَسْكَرِهِ وَإِلَى الْبَلَدِ. وَوَصَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ إِلَى بَغْدَاذَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَنَزَلَ عِنْدَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ بِأَعْلَى بَغْدَاذَ، وَخُطِبَ لَهُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَلِمَلِكْشَاهْ بْنِ بَرْكِيَارُقَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَأَمَّا جَامِعُ الْمَنْصُورِ فَإِنَّ الْخَطِيبَ قَالَ فِيهِ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ سُلْطَانَ الْعَالَمِ! وَسَكَتَ. وَخَافَ النَّاسُ مِنِ امْتِدَادِ الشَّرِّ وَالنَّهْبِ، فَرَكِبَ إِيَازُ فِي عَسْكَرِهِ، وَهُمْ عَازِمُونَ عَلَى الْحَرْبِ، وَسَارَ إِلَى أَنْ أَشْرَفَ عَلَى عَسْكَرِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَعَادَ إِلَى مُخَيَّمِهِ، فَدَعَا الْأُمَرَاءَ إِلَى الْيَمِينِ مَرَّةً ثَانِيَةً عَلَى الْمُخَالَصَةِ لِمَلِكْشَاهْ، فَأَجَابَ الْبَعْضُ، وَتَوَقَّفَ الْبَعْضُ، وَقَالُوا: قَدْ حَلَفْنَا مَرَّةً، وَلَا فَائِدَةَ فِي إِعَادَةِ الْيَمِينِ، لِأَنَّنَا إِنْ وَفَّيْنَا بِالْأُولَى وَفَّيْنَا بِالثَّانِيَةِ، وَإِنْ لَمْ نَفِ بِالْأُولَى فَلَا نَفِي بِالثَّانِيَةِ. فَأَمَرَ إِيَازُ حِينَئِذٍ وَزِيرَهُ الصَّفِيَّ أَبَا الْمَحَاسِنِ بِالْعُبُورِ إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ فِي الصُّلْحِ،

وَتَسْلِيمِ السَّلْطَنَةِ إِلَيْهِ، وَتَرْكِ مُنَازَعَتِهِ فِيهَا، فَعَبَرَ يَوْمَ السَّبْتِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ إِلَى عَسْكَرِ مُحَمَّدٍ، وَاجْتَمَعَ بِوَزِيرِهِ سَعْدِ الْمُلْكِ أَبِي الْمَحَاسِنِ سَعْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَعَرَّفَهُ مَا جَاءَ فِيهِ، فَحَضَرَا عِنْدَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَأَدَّى الصَّفِيُّ رِسَالَةَ صَاحِبِهِ إِيَازَ، وَاعْتِذَارَهُ عَمَّا كَانَ مِنْهُ أَيَّامَ بَرْكِيَارُقَ، فَأَجَابَهُ مُحَمَّدٌ جَوَابًا لَطِيفًا سَكَّنَ بِهِ قَلْبَهُ وَطَيَّبَ نَفْسَهُ، وَأَجَابَ إِلَى مَا الْتُمِسَ مِنْهُ مِنَ الْيَمِينِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ حَضَرَ قَاضِي الْقُضَاةِ، وَالنَّقِيبَانِ، وَالصَّفِيُّ وَزِيرُ إِيَازَ، عِنْدَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ وَزِيرُهُ سَعْدُ الْمُلْكِ: إِنَّ إِيَازَ يَخَافُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْهُ، وَهُوَ يَطْلُبُ الْعَهْدَ لِمَلِكْشَاهْ ابْنِ أَخِيكَ، وَلِنَفْسِهِ، وَلِلْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ. فَقَالَ السُّلْطَانُ: أَمَّا مَلِكْشَاهْ فَإِنَّهُ وَلَدِي، وَلَا فَرْقَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَخِي، وَأَمَّا إِيَازُ وَالْأُمَرَاءُ فَأَحْلِفُ لَهُمْ، إِلَّا يَنَّالَ الْحُسَامِيَّ وَصَبَاوَةَ، فَاسْتَحْلَفَهُ إِلْكَيَّا الْهَرَّاسُ، مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ، عَلَى ذَلِكَ، وَحَضَرَ الْجَمَاعَةُ الْيَمِينَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ حَضَرَ الْأَمِيرُ إِيَازُ عِنْدَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَلَقِيَهُ وَزِيرُ السُّلْطَانِ، وَالنَّاسُ كَافَّةً، وَوَصَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ، ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَدَخَلَا جَمِيعًا إِلَى السُّلْطَانِ، فَأَكْرَمَهُمَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمَا، وَقِيلَ بَلْ رَكِبَ السُّلْطَانُ وَلَقِيَهُمَا، وَوَقَفَ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ، وَأَقَامَ السُّلْطَانُ بِبَغْدَاذَ إِلَى شَعْبَانَ، وَسَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَفَعَلَ فِيهَا مَا سَنَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ قَتْلِ الْأَمِيرِ إِيَازَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، قُتِلَ الْأَمِيرُ إِيَازُ، قَتَلَهُ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ إِيَازَ لَمَّا سَلَّمَ السَّلْطَنَةَ إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ صَارَ فِي جُمْلَتِهِ، وَاسْتَخْلَفَهُ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا كَانَ ثَامِنَ جُمَادَى الْآخِرَةِ عَمِلَ دَعْوَةً عَظِيمَةً فِي دَارِهِ، وَهِيَ دَارُ كُرَاهْرَائِينَ، وَدَعَا السُّلْطَانَ إِلَيْهَا، وَقَدَّمَ لَهُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ جُمْلَتِهِ الْحَبْلُ الْبُلْخُشُ الَّذِي أُخِذَ مِنْ تَرِكَةِ مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَحَضَرَ مَعَ السُّلْطَانِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَزْيَدٍ.

وَكَانَ مِنْ الِاتِّفَاقِ الرَّدِيءِ أَنَّ إِيَازَ تَقَدَّمَ إِلَى غِلْمَانِهِ لِيَلْبَسُوا السِّلَاحَ مِنْ خِزَانَتِهِ، لِيَعْرِضَهُمْ عَلَى السُّلْطَانِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ أَبْهَرَ يَتَطَايَبُ مَعَهُمْ، وَيَضْحَكُونَ مِنْهُ، مَعَ كَوْنِهِ يَتَصَوَّفُ، فَقَالُوا لَهُ: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ نُلْبِسَكَ دِرْعًا وَنَعْرِضَكَ، فَأَلْبَسُوهُ الدِّرْعَ تَحْتَ قَمِيصِهِ، وَتَنَاوَلُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَهُوَ يَسْأَلُهُمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَلِشِدَّةِ مَا فَعَلُوا بِهِ هَرَبَ مِنْهُمْ، وَدَخَلَ بَيْنَ خَوَاصِّ السُّلْطَانِ مُعْتَصِمًا بِهِمْ، فَرَآهُ السُّلْطَانُ مَذْعُورًا، وَعَلَيْهِ لِبَاسٌ عَظِيمٌ، فَاسْتَرَابَ بِهِ، فَقَالَ لِغُلَامٍ لَهُ بِالتُّرْكِيَّةِ لِيَلْمِسَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ، فَفَعَلَ، فَرَأَى الدِّرْعَ تَحْتَ قَمِيصِهِ، فَأَعْلَمَ السُّلْطَانَ بِذَلِكَ، فَاسْتَشْعَرَ، وَقَالَ: إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْعَمَائِمِ قَدْ لَبِسُوا السِّلَاحَ، فَكَيْفَ الْأَجْنَادُ! وَقَوِيَ اسْتِشْعَارُهُ لِكَوْنِهِ فِي دَارِهِ، وَفِي قَبْضَتِهِ، فَنَهَضَ وَفَارَقَ الدَّارَ وَعَادَ إِلَى دَارِهِ. فَلَمَّا كَانَ ثَالِثَ عَشَرَ الشَّهْرِ اسْتَدْعَى السُّلْطَانُ الْأَمِيرَ صَدَقَةَ، وَإِيَازَ، وَجَكَرْمَشَ، وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَلَمَّا حَضَرُوا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: إِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ قِلْجَ أَرْسِلَانَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشَ قَصَدَ دِيَارَ بَكْرٍ لِيَتَمَلَّكَهَا، وَسَيَّرَ مِنْهَا إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَجْتَمِعَ آرَاؤُهُمْ عَلَى مَنْ يَسِيرُ إِلَيْهِ لِيَمْنَعَهُ وَيُقَاتِلَهُ، فَقَالَ: الْجَمَاعَةُ: لَيْسَ لِهَذَا غَيْرُ الْأَمِيرِ إِيَازَ، فَقَالَ إِيَازُ: يَنْبَغِي أَنْ نَجْتَمِعَ أَنَا وَسَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَزْيَدٍ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ، وَالدَّفْعِ لِهَذَا الْقَاصِدِ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ يَسْتَدْعِي إِيَازَ، وَصَدَقَةَ، وَالْوَزِيرَ سَعْدَ الْمُلْكِ لِيُحَرَّرَ الْأَمْرُ فِي حَضْرَتِهِ، فَنَهَضُوا لِيَدْخُلُوا إِلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ أَعَدَّ جَمَاعَةً مِنْ خَوَاصِّهِ لِيَقْتُلُوا إِيَازَ إِذَا دَخَلَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلُوا ضَرَبَ أَحَدُهُمْ رَأْسَهُ فَأَبَانَهُ. فَأَمَّا صَدَقَةُ فَغَطَّى وَجْهَهُ بِكُمِّهِ، وَأَمَّا الْوَزِيرُ فَإِنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ، وَلُفَّ إِيَازُ فِي مِسْحٍ وَأُلْقِيَ عَلَى الطَّرِيقِ عِنْدَ دَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَرَكِبَ عَسْكَرُ إِيَازَ، فَنَهَبُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ دَارِهِ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ مَنْ حَمَاهَا مِنَ النَّهْبِ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ مِنْ يَوْمِهِمْ، وَكَانَ زَوَالُ تِلْكَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالدَّوْلَةِ الْكَبِيرَةِ، فِي لَحْظَةٍ، بِسَبَبِ هَزْلٍ وَمِزَاحٍ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ كَفَّنَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ، وَدَفَنُوهُ فِي الْمَقَابِرِ الْمُجَاوِرَةِ لِقَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ عُمْرُهُ قَدْ جَاوَزَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَمَالِيكِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، ثُمَّ صَارَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي جُمْلَةِ أَمِيرِ آخُرَ، فَاتَّخَذَهُ وَلَدًا، وَكَانَ غَزِيرَ الْمُرُوَّةِ، شُجَاعًا، حَسَنَ الرَّأْيِ فِي الْحَرْبِ.

وَأَمَّا وَزِيرُهُ الصَّفِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَفَى، ثُمَّ أُخِذَ وَحُمِلَ إِلَى دَارِ الْوَزِيرِ سَعْدِ الْمُلْكِ، ثُمَّ قُتِلَ فِي رَمَضَانَ وَعُمْرُهُ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ بَيْتِ رِئَاسَةٍ بِهَمَذَانَ. ذِكْرُ وَفَاةِ سُقْمَانَ بْنِ أُرْتُقَ كَانَ فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ عَمَّارٍ، صَاحِبُ طَرَابُلُسَ، قَدْ كَاتَبَ سُقْمَانَ يَسْتَدْعِيهِ إِلَى نُصْرَتِهِ عَلَى الْفِرِنْجِ، وَبَذَلَ لَهُ الْمَعُونَةَ بِالْمَالِ وَالرِّجَالِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَتَجَهَّزُ لِلْمَسِيرِ أَتَاهُ كِتَابُ طُغْتِكِينَ، صَاحِبِ دِمَشْقَ، يُخْبِرُهُ أَنَّهُ مَرِيضٌ قَدْ أَشَفَى عَلَى الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ يَخَافُ إِنْ مَاتَ، وَلَيْسَ بِدِمَشْقَ مَنْ يَحْمِيهَا، أَنْ يَمْلِكَهَا الْفِرِنْجُ، وَيَسْتَدْعِيهُ لِيُوصِيَ إِلَيْهِ، وَبِمَا يَعْتَمِدُهُ فِي حِفْظِ الْبَلَدِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَسْرَعَ فِي السَّيْرِ عَازِمًا عَلَى أَخْذِ دِمَشْقَ، وَقَصْدِ الْفِرِنْجِ فِي طَرَابُلُسَ، وَإِبْعَادِهِمْ عَنْهَا، فَوَصَلَ إِلَى الْقَرْيَتَيْنِ. وَاتَّصَلَ خَبَرُهُ بِطُغْتِكِينَ، فَخَافَ عَاقِبَةَ مَا صَنَعَ، وَلِقُوَّةِ فَكْرِهِ زَادَ مَرَضُهُ، وَلَامَهُ أَصْحَابُهُ عَلَى مَا فَرَّطَ فِي تَدْبِيرِهِ، وَخَوَّفُوهُ عَاقِبَةَ مَا فَعَلَ، وَقَالُوا لَهُ: قَدْ رَأَيْتَ سَيِّدَكَ تَاجَ الدَّوْلَةِ لَمَّا اسْتَدْعَاهُ إِلَى دِمَشْقَ لِيَمْنَعَهُ كَيْفَ قَتَلَهُ حِينَ وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَيْهِ. فَبَيْنَمَا هُمْ يُدِيرُونَ الرَّأْيَ بِأَيِّ حِيلَةٍ يَرُدُّونَهُ أَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ وَصَلَ الْقَرْيَتَيْنِ، وَمَاتَ، وَحَمَلَهُ أَصْحَابُهُ وَعَادُوا بِهِ، فَأَتَاهُمْ فَرَجٌ لَمْ يَحْسِبُوهُ، وَكَانَ مَرَضُهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْخَوَانِيقَ، يَعْتَرِيهِ دَائِمًا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى حِصْنِ كِيفَا، فَامْتَنَعَ، وَقَالَ: بَلْ أَسِيرُ، فَإِنْ عُوفِيتُ تَمَّمْتُ مَا عَزَمْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَرَانِي اللَّهُ تَثَاقَلْتُ عَنْ قِتَالِ الْكُفَّارِ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ، وَإِنْ أَدْرَكَنِي أَجْلِي كُنْتُ شَهِيدًا سَائِرًا فِي جِهَادٍ. فَسَارُوا، فَاعْتُقِلَ لِسَانُهُ يَوْمَيْنِ، وَمَاتَ فِي صَفَرٍ، وَبَقِيَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ فِي أَصْحَابِهِ، وَجُعِلَ فِي تَابُوتٍ وَحُمِلَ إِلَى الْحِصْنِ، وَكَانَ حَازِمًا دَاهِيًا، ذَا رَأْيٍ، كَثِيرَ الْخَبَرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ أَخْذِهِ لِحِصْنِ كِيفَا.

وَأَمَّا مُلْكُهُ مَارْدِينَ، فَإِنَّ كَرْبُوقَا خَرَجَ مِنَ الْمَوْصِلِ، فَقَصَدَ آمِدَ، وَحَارَبَ صَاحِبَهَا، فَاسْتَنْجَدَ صَاحِبُهَا وَهُوَ تُرْكُمَانِيٌّ، بِسُقْمَانَ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَصَافَّ كَرْبُوقَا. وَكَانَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بْنُ آقَسَنْقَرَ، حِينَئِذٍ، صَبِيًّا قَدْ حَضَرَ مَعَ كَرْبُوقَا، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِيهِ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَالُ ظَهَرَ سُقْمَانُ، فَأَلْقَى أَصْحَابُ آقَسَنْقَرَ زِنْكِي وَلَدَ صَاحِبِهِمْ بَيْنَ أَرْجُلِ الْخَيْلِ، وَقَالُوا: قَاتِلُوا عَنِ ابْنِ صَاحِبِكُمْ! فَقَاتَلُوا حِينَئِذٍ قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ سُقْمَانُ، وَأَسَرُوا ابْنَ أَخِيهِ يَاقُوتِي بْنَ أُرْتُقَ، فَسَجَنَهُ كَرْبُوقَا بِقَلْعَةِ مَارْدِينَ، وَكَانَ صَاحِبُهَا إِنْسَانًا مُغَنِيًّا لِلسُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَطَلَبَ مِنْهُ مَارْدِينَ وَأَعْمَالَهَا، فَأَقْطَعُهُ إِيَّاهَا، فَبَقِيَ يَاقُوتِي فِي حَبْسِهِ مُدَّةً، فَمَضَتْ زَوْجَةُ أُرْتُقَ إِلَى كَرْبُوقَا وَسَأَلَتْهُ إِطْلَاقَهُ، فَأَطْلَقَهُ، فَنَزَلَ عِنْدَ مَارْدِينَ، وَكَانَتْ قَدْ أَعْجَبَتْهُ، فَأَقَامَ لِيَعْمَلَ فِي تَمَلُّكِهَا، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا. وَكَانَ مَنْ عِنْدَ مَارْدِينَ مِنَ الْأَكْرَادِ قَدْ طَمِعُوا فِي صَاحِبِهَا الْمُغَنِيِّ، وَأَغَارُوا عَلَى أَعْمَالِ مَارْدِينَ عِدَّةَ دُفْعَاتٍ، فَرَاسَلَهُ يَاقُوتِي يَقُولُ: قَدْ صَارَ بَيْنَنَا مَوَدَّةٌ وَصَدَاقَةٌ، وَأُرِيدُ أَنْ أُعَمِّرَ بَلَدَكَ بِأَنْ أَمْنَعَ عَنْهُ الْأَكْرَادَ، وَأُغِيرَ عَلَى الْأَمَاكِنِ، وَآخُذَ الْأَمْوَالَ أُنْفِقُهَا فِي بَلَدِكَ وَأُقِيمُ فِي الرَّبَضِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَجَعَلَ يُغِيرُ مِنْ بَابِ خِلَاطٍ إِلَى بَغْدَاذَ، فَصَارَ يَنْزِلُ مَعَهُ بَعْضُ أَجْنَادِ الْقَلْعَةِ، طَلَبًا لِلْكَسْبِ. وَهُوَ يُكْرِمُهُمْ، وَلَا يَعْتَرِضُهُمْ، فَأَمِنُوا إِلَيْهِ. فَاتَّفَقَ أَنَّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ نَزَلَ مَعَهُ أَكْثَرُهُمْ، فَلَمَّا عَادُوا مِنَ الْغَارَةِ أَمَرَ بِقَبْضِهِمْ وَتَقْيِيدِهِمْ، وَسَبَقَهُمْ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَنَادَى مَنْ بِهَا مِنْ أَهْلِيهِمْ: إِنْ فَتَحْتُمُ الْبَابَ، وَإِلَّا ضَرَبْتُ أَعْنَاقَهُمْ، فَامْتَنَعُوا، فَقَتَلَ إِنْسَانًا مِنْهُمْ، فَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ مَنْ بِهَا إِلَيْهِ وَبَقِيَ بِهَا. ثُمَّ إِنَّهُ جَمَعَ جَمَعًا وَسَارَ إِلَى نَصِيبِينَ، وَأَغَارَ عَلَى بَلَدِ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَهِيَ لِجَكَرْمَشَ، فَلَمَّا عَادَ أَصْحَابُهُ بِالْغَنِيمَةِ أَتَاهُمْ جَكَرْمِشُ، وَكَانَ يَاقُوتِي قَدْ أَصَابَهُ مَرَضٌ عَجَزَ مَعَهُ عَنْ لُبْسِ السِّلَاحِ، وَرُكُوبِ الْخَيْلِ، فَحُمِلَ إِلَى فَرَسِهِ فَرَكِبَهُ، وَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَسَقَطَ مِنْهُ، فَأَتَاهُ جَكَرْمِشُ، وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَبَكَى عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى

مَا صَنَعْتَ يَا يَاقُوتِي؟ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَمَاتَ، وَمَضَتْ زَوْجَةُ أُرْتُقَ إِلَى ابْنِهَا سُقْمَانَ، وَجَمَعَتِ التُّرْكُمَانَ، وَطَلَبَتْ بِثَأْرِ ابْنِ ابْنِهَا، وَحَصَرَ سُقْمَانُ نَصِيبِينَ، وَهِيَ لِجَكَرْمَشَ، فَسَيَّرَ جَكَرْمِشُ إِلَى سُقْمَانَ مَالًا كَثِيرًا سِرًّا، فَأَخَذَهُ وَرَضِيَ، وَقَالَ: إِنَّهُ قُتِلَ فِي الْحَرْبِ، وَلَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ. وَمَلَكَ مَارْدِينَ بَعْدَ يَاقُوتِي أَخُوهُ عَلِيٌّ، وَصَارَ فِي طَاعَةِ جَكَرْمِشَ، وَاسْتَخْلَفَ بِهَا أَمِيرًا اسْمُهُ عَلِيٌّ أَيْضًا، فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ الْوَالِي بِمَارْدِينَ إِلَى سُقْمَانَ يَقُولُ لَهُ: ابْنُ أَخِيكَ يُرِيدُ أَنْ يُسَلِّمَ مَارْدِينَ إِلَى جَكَرْمِشَ، فَسَارَ سُقْمَانُ بِنَفْسِهِ وَتَسَلَّمَهَا، فَجَاءَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ ابْنُ أَخِيهِ وَطَلَبَ إِعَادَةَ الْقَلْعَةِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَخَذْتُهَا لِئَلَّا يُخَرَّبَ الْبَيْتُ، فَأَقْطَعَهُ جَبَلَ جُورٍ، وَنَقَلَهُ إِلَيْهِ. وَكَانَ جَكَرْمِشُ يُعْطِي عَلِيًّا كُلَّ سَنَةٍ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا أَخَذَ عَمُّهُ سُقْمَانُ مَارْدِينَ مِنْهُ، أَرْسَلَ إِلَى جَكَرْمِشَ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمَالَ، فَقَالَ: إِنَّمَا كُنْتُ أَعْطَيْتُكَ احْتِرَامًا لِمَارْدِينَ، وَخَوْفًا مِنْ مُجَاوَرَتِكَ، وَالْآنَ فَاصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ، فَلَا قُدْرَةَ لَكَ عَلَيَّ. ذِكْرُ حَالِ الْبَاطِنِيَّةِ هَذِهِ السَّنَةَ بِخُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ مِنْ طُرَيْثِيثَ، عَنْ بَعْضِ أَعْمَالِ بَيْهَقَ، وَشَاعَتِ الْغَارَةُ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِي أَهْلِهَا، وَالنَّهْبَ لِأَمْوَالِهِمْ، وَالسَّبْيَ لِنِسَائِهِمْ، وَلَمْ يَقِفُوا عَلَى الْهُدْنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّ أَمْرُهُمْ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَلَمْ يَكَفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَمَّنْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، لِاشْتِغَالِ السَّلَاطِينِ عَنْهُمْ، فَمِنْ جُمْلَةِ فِعْلِهِمْ: أَنَّ قَفَلَ الْحَاجِّ تَجَمَّعَ، هَذِهِ السَّنَةَ، مِمَّا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَخُرَاسَانَ، وَالْهِنْدِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، فَوَصَلُوا إِلَى خُوَارِ الرَّيِّ، فَأَتَاهُمُ الْبَاطِنِيَّةُ وَقْتَ السَّحَرِ، فَوَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ، وَقَتَلُوهُمْ كَيْفَ شَاءُوا، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ، وَلَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا. وَقَتَلُوا هَذِهِ السَّنَةَ أَبَا جَعْفَرِ بْنَ الْمَشَّاطِ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الشَّافِعِيَّةِ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنِ الْخُجَنْدِيِّ، وَكَانَ يُدَرِّسُ بِالرَّيِّ، وَيَعِظُ النَّاسَ، فَلَمَّا نَزَلَ مِنْ كُرْسِيِّهِ أَتَاهُ بَاطِنِيٌّ فَقَتَلَهُ.

ذِكْرُ حَالِ الْفِرِنْجِ هَذِهِ السَّنَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ طَنْكِرِي الْفِرِنْجيِّ، صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ، وَبَيْنَ الْمَلِكِ رِضْوَانَ، صَاحِبِ حَلَبَ، انْهَزَمَ فِيهَا رِضْوَانُ. وَسَبَبُهَا أَنَّ طَنْكِرِي حَصَرَ حِصْنَ أَرْتَاحَ، وَبِهِ نَائِبُ الْمَلِكِ رِضْوَانَ، فَضَيَّقَ الْفِرِنْجُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَرْسَلَ النَّائِبُ بِالْحِصْنِ إِلَى رِضْوَانَ يُعَرِّفُهُ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْحَصْرِ الَّذِي أَضْعَفَ نَفْسَهُ وَيَطْلُبُ النَّجْدَةَ، فَسَارَ رِضْوَانُ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيَّالَةِ، وَسَبْعَةِ آلَافٍ مِنَ الرَّجَّالَةِ، مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ، فَسَارُوا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى قِنَّسْرِينَ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفِرِنْجِ قَلِيلٌ، فَلَمَّا رَأَى طَنْكِرِي كَثْرَةَ الْمُسْلِمِينَ أَرْسَلَ إِلَى رِضْوَانَ يَطْلُبُ الصُّلْحَ، فَأَرَادَ أَنْ يُجِيبَ، فَمَنَعَهُ أَصْبَهْبَذْ صَبَاوَةُ، وَكَانَ قَدْ قَصَدَهُ، وَصَارَ مَعَهُ بَعْدَ قَتْلِ إِيَازَ، فَامْتَنَعَ مِنَ الصُّلْحِ، وَاصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ، فَانْهَزَمَتِ الْفِرِنْجُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، ثُمَّ قَالُوا: نَعُودُ وَنَحْمِلُ عَلَيْهِمْ حَمْلَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ كَانَتْ لَنَا، وَإِلَّا انْهَزَمْنَا، فَحَمَلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَثْبُتُوا، وَانْهَزَمُوا، وَقُتِلَ مِنْهُمْ وَأُسِرَ كَثِيرٌ. وَأَمَّا الرَّجَّالَةُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا مُعَسْكَرَ الْفِرِنْجِ لَمَّا انْهَزَمُوا، فَاشْتَغَلُوا بِالنَّهْبِ، فَقَتَلَهُمُ الْفِرِنْجُ، وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا الشَّرِيدُ فَأُخِذَ أَسِيرًا، وَهَرَبَ مَنْ فِي أَرْتَاحُ إِلَى حَلَبَ، وَمَلَكَهُ الْفِرِنْجُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَرَبَ أَصْبَهْبَذْ صَبَاوَةُ إِلَى طُغْتِكِينَ أَتَابِكَ بِدِمَشْقَ، فَصَارَ مَعَهُ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ. ذِكْرُ حَرْبِ الْفِرِنْجِ وَالْمِصْرِيِّينَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ الْفِرِنْجِ وَالْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ. وَسَبَبُهَا أَنَّ الْأَفْضَلَ، وَزِيرَ صَاحِبِ مِصْرَ، كَانَ قَدْ سَيَّرَ وَلَدَهُ شَرَفَ الْمَعَالِي فِي

السَّنَةِ الْخَالِيَةِ إِلَى الْفِرِنْجِ، فَقَهَرَهُمْ، وَأَخَذَ الرَّمْلَةَ مِنْهُمْ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمِصْرِيُّونَ وَالْعَرَبُ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ الْفَتْحَ لَهُ، فَأَتَاهُمْ سَرِيَّةُ الْفِرِنْجِ، فَتَقَاعَدَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِالْآخَرِ، حَتَّى كَادَ الْفِرِنْجُ يَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، فَرَحَلَ عِنْدَ ذَلِكَ شَرَفُ الْمَعَالِي إِلَى أَبِيهِ بِمِصْرَ، فَنَفَّذَ وَلَدَهُ الْآخَرَ، وَهُوَ سَنَاءُ الْمُلْكِ حُسَيْنٌ، فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْهُمْ جَمَالُ الْمُلْكِ، النَّائِبُ بِعَسْقَلَانَ لِلْمِصْرِيِّينَ، وَأَرْسَلُوا إِلَى طُغْتِكِينَ أَتَابِكَ بِدِمَشْقَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ عَسْكَرًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَصْبَهْبَذْ صَبَاوَةُ وَمَعَهُ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ فَارِسٍ. وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، وَقَصَدَهُمْ بَغْدَوِينُ الْفِرِنْجيُّ، صَاحِبُ الْقُدْسِ، وَعَكَّةَ، وَيَافَا، فِي أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ، وَثَمَانِيَةِ آلَافِ رَاجِلٍ، فَوَقَعَ الْمَصَافُّ بَيْنَهُمْ بَيْنَ عَسْقَلَانَ وَيَافَا، فَلَمْ تَظْهَرْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، فَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ، وَمِنَ الْفِرِنْجِ مِثْلُهُمْ، وَقُتِلَ جِمَالُ الْمُلْكِ، أَمِيرُ عَسْقَلَانَ. فَلَمَّا رَأْي الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ قَدْ تَكَافَأُوا فِي النِّكَايَةِ قَطَعُوا الْحَرْبَ وَعَادُوا إِلَى عَسْقَلَانَ، وَعَادَ صَبَاوَةُ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَانَ مَعَ الْفِرِنْجِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ بَكْتَاشُ بْنُ تُتُشَ، وَكَانَ طُغْتِكِينُ قَدْ عَدَلَ فِي الْمُلْكِ إِلَى وَلَدِ أَخِيهِ دُقَاقَ، وَهُوَ طِفْلٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، فَدَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى قَصْدِ الْفِرِنْجِ، وَالْكَوْنِ مَعَهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَظُمَ فَسَادُ التُّرْكُمَانَ بِطَرِيقِ خُرَاسَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْعِرَاقِ، وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَنْهَبُونَ الْأَمْوَالَ، وَيَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، إِلَّا أَنَّهُمْ عِنْدَهُمْ مُرَاقَبَةٌ. فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ اطَّرَحُوا الْمُرَاقَبَةَ، وَعَمِلُوا الْأَعْمَالَ الشَّنِيعَةَ، فَاسْتَعْمَلَ إِيلْغَازِي بْنُ أُرْتُقَ، وَهُوَ شِحْنَةُ الْعِرَاقِ، عَلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ ابْنَ أَخِيهِ بَلْكَ بْنَ بَهْرَامَ بْنِ أُرْتُقَ، وَأَمَرَهُ بِحِفْظِهِ وَحِيَاطَتِهِ، وَمَنْعِ الْفَسَادِ عَنْهُ، فَقَامَ فِي ذَلِكَ الْقِيَامَ الْمُرْضِيَ، وَحَمَى الْبِلَادَ، وَكَفَّ الْأَيْدِيَ الْمُتَطَاوِلَةَ، وَسَارَ بَلْكُ إِلَى حِصْنِ خَانِيجَارَ، وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ سُرْخَابَ بْنِ بَدْرٍ، فَحَصَرَهُ وَمَلَكَهُ. وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، جَعَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ قَسِيمَ الدَّوْلَةِ سَنْقَرَ الْبُرْسُقِيَّ شِحْنَةً

بِالْعِرَاقِ، وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالْخَيْرِ، وَالدِّينِ، وَحُسْنِ الْعَهْدِ، لَمْ يُفَارِقْ مُحَمَّدًا فِي حُرُوبِهِ كُلِّهَا. وَفِيهَا أَقْطَعَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ الْكُوفَةَ لِلْأَمِيرِ قَايُمَازَ، وَأَوْصَى صَدَقَةَ أَنْ يَحْمِيَ أَصْحَابَهُ مِنْ خَفَاجَةَ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ. وَفِيهَا، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَصَلَ السُّلْطَانَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَأَمَّنَ أَهْلَهَا وَوَثَقُوا بِزَوَالِ مَا كَانَ يَشْمَلُهُمْ مِنَ الْخَبْطِ، وَالْعَسْفِ، وَالْمُصَادَرَةِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ خُرُوجِهِ مِنْهَا هَارِبًا مُتَخَفِّيًا، وَعَوْدِهِ إِلَيْهَا مُتَمَكِّنًا، وَعَدَلَ فِي أَهْلِهَا، وَأَزَالَ عَنْهُمْ مَا يَكْرَهُونَ، وَكَفَّ الْأَيْدِيَ الْمُتَطَرِّقَةَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ، فَصَارَتْ كَلِمَةُ الْعَامِّيِّ أَقْوَى مِنْ كَلِمَةِ الْجُنْدِيِّ، وَيَدُ الْجُنْدِيِّ قَاصِرَةً عَنِ الْعَامِّيِّ مِنْ هَيْبَةِ السُّلْطَانِ وَعَدْلِهِ. وَفِيهَا كَثُرَ الْجُدَرِيُّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبُلْدَانِ، وَلَا سِيَّمَا الْعِرَاقُ، فَإِنَّهُ كَانَ بِهِ كُلِّهِ، وَمَاتَ بِهِ مِنَ الصِّبْيَانِ مَا لَا يُحْصَى، وَتَبِعَهُ وَبَاءٌ كَثِيرٌ، وَمَوْتٌ عَظِيمٌ. وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَرَدَانِيُّ، الْحَافِظُ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، سَمِعَ ابْنَ غَيْلَانَ، وَالْبَرْمَكِيَّ، وَالْعُشَارِيَّ وَغَيْرَهُمْ. وَتُوُفِّيَ أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَقَّالُ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ الْبَرْقَانِيَّ، وَأَبَا عَلِيِّ بْنَ شَاذَانَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.

وَفِي رَابِعِ جُمَادَى الْأُولَى تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الصَّقْرِ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ أَدِيبًا، شَاعِرًا، فَمِنْ قَوْلِهِ: مَنْ قَالَ لِي جَاهٌ، وَلِي حِشْمَةٌ ، وَلِي قَبُولٌ عِنْدَ مَوْلَانَا ... وَلَمْ يَعُدْ ذَاكَ بِنَفْعٍ عَلَى صَدِيقِهِ، لَا كَانَ مَنْ كَانَا وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ أَبُو نَصْرٍ ابْنُ أُخْتِ ابْنِ الْمُوصَلَايَا، وَكَانَ كَاتِبًا لِلْخَلِيفَةِ جَيِّدَ الْكِتَابَةِ، وَكَانَ عُمْرُهُ سَبْعِينَ سَنَةً، وَلَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا لِأَنَّهُ أَسْلَمَ، وَأَهْلُهُ نَصَارَى، فَلَمْ يَرِثُوهُ، وَكَانَ يَبْخَلُ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، وَأَبُو الْمُؤَيَّدِ عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ الْغَزْنَوِيُّ، كَانَ وَاعِظًا، شَاعِرًا، كَاتِبًا، قَدِمَ بَغْدَاذَ، وَوَعَظَ بِهَا، وَنَصَرَ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ، وَكَانَ لَهُ قَبُولٌ عَظِيمٌ، وَخَرَجَ مِنْهَا، فَمَاتَ بِإِسْفَرَايِينَ.

ثم دخلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ] 499 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ذِكْرُ خُرُوجِ مَنْكُبْرُسَ عَلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي مُحَرَّمٍ، أَظْهَرَ مَنْكُبْرُسُ ابْنُ الْمَلِكِ بُورْبَرْسَ بْنِ أَلْبِ أَرْسِلَانَ، وَهُوَ عَمُّ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، الْعِصْيَانَ لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ وَالْخِلَافَ عَلَيْهِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا بِأَصْبَهَانَ، فَلَحِقَتْهُ ضَائِقَةٌ شَدِيدَةٌ، وَانْقَطَعَتِ الْمَوَادُّ عَنْهُ، فَخَرَجَ مِنْهَا وَسَارَ إِلَى نَهَاوَنْدَ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَظَاهَرَهُ عَلَى أَمْرِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَتَغَلَّبَ عَلَى نَهَاوَنْدَ، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ بِهَا، وَكَاتَبَ الْأُمَرَاءَ بَنِي بُرْسُقَ يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَنُصْرَتِهِ. وَكَانَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ قَدْ قَبَضَ عَلَى زَنْكِي بْنِ بُرْسُقَ، فَكَاتَبَ زِنْكِي إِخْوَتَهُ، وَحَذَّرَهُمْ مِنَ طَّاعَةِ مَنْكُبْرُسَ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَذَى وَالْخَطَرِ، وَأَمَرَهُمْ بِتَدْبِيرِ الْأَمْرِ فِي الْقَبْضِ عَلَيْهِ. فَلَمَّا أَتَاهُمْ كِتَابُ أَخِيهِمْ بِذَلِكَ أَرْسَلُوا إِلَى مَنْكُبْرُسَ يَبْذُلُونَ لَهُ الطَّاعَةَ وَالْمُوَافَقَةَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَسَارُوا إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا بِهِ، وَقَبَضُوا عَلَيْهِ بِالْقُرْبِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَهِيَ بَلَدُ خُوزِسْتَانَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، أَخَذُوا مَنْكُبْرُسَ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَاعْتَقَلَهُ السُّلْطَانُ مَعَ بَنِي عَمِّهِ تُكُشَ، وَأَخْرَجَ زِنْكِي بْنَ بُرْسُقَ، وَأَعَادَهُ إِلَى مَرْتَبَتِهِ، وَاسْتَنْزَلَهُ وَإِخْوَتَهِ عَنْ أَقْطَاعِهِمْ، وَهِيَ لِيشْتَرُ، وَسَابُورُ خُوَاسْتَ وَغَيْرُهُمَا، مَا بَيْنَ الْأَهْوَازِ وَهَمَذَانَ، وَأَقْطَعَهُمْ عِوَضَهَا الدِّينَوَرَ وَغَيْرَهَا.

وَاتَّفَقَ أَنْ ظَهَرَ بِنَهَاوَنْدَ أَيْضًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَجُلٌ مِنَ السَّوَادِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، فَأَطَاعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ السَّوَادِيَّةِ، اتَّبَعُوهُ، وَبَاعُوا أَمْلَاكَهُمْ وَدَفَعُوا إِلَيْهِ أَثْمَانَهَا، فَكَانَ يَخْرُجُ ذَلِكَ جَمِيعَهُ، وَسَمَّى أَرْبَعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ: أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا، وَقُتِلَ بِنَهَاوَنْدَ، فَكَانَ أَهْلُهَا يَقُولُونَ: ظَهَرَ عِنْدَنَا، فِي مُدَّةِ شَهْرَيْنِ، اثْنَانِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا النُّبُوَّةَ، وَالْآخَرُ الْمَمْلَكَةَ، فَلَمْ يَتِمَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرُهُ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ طُغْتِكِينَ والْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ طُغْتِكِينَ أَتَابِكَ، صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَبَيْنَ قُمَّصٍ كَبِيرٍ مَنْ قَمَامِصَةِ الْفِرِنْجِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُ تَكَرَّرَتِ الْحُرُوبُ، وَالْمُغَاوَرَاتُ، بَيْنَ عَسْكَرِ دِمَشْقَ وَبَغْدَوِينَ، فَتَارَةً لِهَؤُلَاءِ وَتَارَةً لَهُ، فَفِي آخِرِ الْأَمْرِ بَنَى بَغْدَوِينُ حِصْنًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ دِمَشْقَ نَحْوَ يَوْمَيْنِ، فَخَافَ طُغْتِكِينُ مِنْ عَاقِبَةِ ذَلِكَ، وَمَا يَحْدُثُ بِهِ مِنَ الضَّرَرِ فَجَمَعَ عَسْكَرَهُ وَخَرَجَ إِلَى مُقَاتَلَتِهِمْ، فَسَارَ بَغْدَوِينُ مَلِكُ الْقُدْسِ، وَعَكَّا، وَغَيْرِهِمَا، إِلَى هَذَا الْقُمَّصِ لِيُعَاضِدَهُ، وَيُسَاعِدَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَعَرَّفَهُ الْقُمَّصُ غِنَاهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مُقَارَعَةِ الْمُسْلِمِينَ إِنْ قَاتَلُوهُ، فَعَادَ بَغْدَوِينُ إِلَى عَكَّا. وَتَقَدَّمَ طُغْتِكِينُ إِلَى الْفِرِنْجِ، وَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَانْهَزَمَ أَمِيرَانِ مِنْ عَسْكَرِ دِمَشْقَ، فَتَبِعَهُمَا طُغْتِكِينُ وَقَتَلَهُمَا، وَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ إِلَى حِصْنِهِمْ، فَاحْتَمَوْا بِهِ، فَقَالَ طُغْتِكِينُ: مَنْ أَحْسَنَ قِتَالَهُمْ وَطَلَبَ مِنِّي أَمْرًا فَعَلْتُهُ مَعَهُ، وَمَنْ أَتَانِي بِحَجَرٍ مِنْ حِجَارَةِ الْحِصْنِ أَعْطَيْتُهُ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ. فَبَذَلَ الرَّجَّالَةُ نُفُوسَهُمْ، وَصَعِدُوا إِلَى الْحِصْنِ وَخَرَّبُوهُ، وَحَمَلُوا حِجَارَتَهُ إِلَى طُغْتِكِينَ، فَوَفَّى لَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ، وَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ الْحِجَارَةِ

فِي الْوَادِي، وَأَسَرُوا مَنْ بِالْحِصْنِ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا كُلُّهُمْ، وَاسْتَبْقَى الْفُرْسَانَ أُسَرَاءَ، وَكَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَلَمْ يَنْجُ مِمَّنْ كَانَ فِي الْحِصْنِ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَعَادَ طُغْتِكِينُ إِلَى دِمَشْقَ مَنْصُورًا، فَزُيِّنَ الْبَلَدُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ. وَخَرَجَ مِنْهَا إِلَى رَفَنِيَةَ، وَهُوَ مِنْ حُصُونِ الشَّامِ، وَقَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ الْفِرِنْجُ، وَصَاحِبُهُ ابْنُ أُخْتِ صَنْجِيلَ الْمُقِيمِ عَلَى حِصَارِ طَرَابُلُسَ، فَحَصَرَهُ طُغْتِكِينُ، وَمَلَكَهُ، وَقَتَلَ بِهِ خَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْفِرِنْجِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عُبَادَةَ وَخَفَاجَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ عُبَادَةَ وَخَفَاجَةَ. وَسَبَبُهَا: أَنَّ رَجُلًا مِنْ عُبَادَةَ أَخَذَ مِنْهُ جَمَاعَةُ خَفَاجَةَ جَمَلَيْنِ، فَجَاءَ إِلَيْهِمْ وَطَالَبَهُمْ بِهِمَا، فَلَمْ يُعْطُوهُ شَيْئًا، فَأَخَذَ مِنْهُمْ غَارَةً أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا، فَلَحِقَتْهُ خَفَاجَةُ، وَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ رَجُلًا، وَقَطَعُوا يَدَ آخَرَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِالْمَوْقِفِ مِنَ الْحِلَّةِ السَّيْفِيَّةِ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ أَهْلُهَا. فَسَمِعَتْ عُبَادَةُ الْخَبَرَ، فَتَوَاعَدَتْ، وَانْحَدَرَتْ إِلَى الْعِرَاقِ لِلْأَخْذِ بِثَأْرِهَا، وَسَارُوا مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أُمَرَائِهِمْ، فَبَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ سَبْعَمِائَةِ فَارِسٍ، وَكَانَتْ خَفَاجَةُ دُونَ هَذِهِ الْعِدَّةِ، فَرَاسَلَتْهُمْ خَفَاجَةُ يَبْذُلُونَ الدِّيَةَ وَيَصْطَلِحُونَ، فَلَمْ تُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ عُبَادَةُ، وَأَشَارَ بِهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ، فَلَمْ تَقْبَلْ عُبَادَةُ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا بِالْقُرْبِ مِنَ الْكُوفَةِ، وَمَعَ عُبَادَةَ الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ بَيْنَ الْبُيُوتِ، فَكَمَّنَتْ لَهُمْ خَفَاجَةُ ثَلَاثَمِائَةِ فَارِسٍ، وَقَاتَلُوهُمْ مُطَارَدَةً مِنْ غَيْرِ جِدٍّ فِي الْقِتَالِ، فَدَامُوا كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ إِنَّهُمُ اشْتَدَّ بَيْنَهُمُ الْقِتَالُ، وَاخْتَلَطُوا، حَتَّى تَرَكُوا الرِّمَاحَ، وَتَضَارَبُوا بِالسُّيُوفِ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَعْيَا الْفَرِيقَانِ، إِذْ طَلَعَ كَمِينُ خَفَاجَةَ، وَهُمْ مُسْتَرِيحُونَ، فَانْهَزَمَتْ عُبَادَةُ، وَانْتَصَرَتْ عَلَيْهِمْ خَفَاجَةُ، وَقُتِلَ مِنْ وُجُوهِ عُبَادَةَ

اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَمِنْ خَفَاجَةَ جَمَاعَةٌ، وَغَنِمَتْ خَفَاجَةُ الْأَمْوَالَ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْأَبِلِ، وَالْغَنَمِ، وَالْعَبِيدِ، وَالْإِمَاءِ. وَكَانَ الْأَمِيرُ صَدَقَةُ بْنُ مَزْيَدٍ قَدْ أَعَانَ خَفَاجَةَ سِرًّا، فَلَمَّا وَصَلَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَيْهِ هَنَّأَهُمْ صَدَقَةُ بِالسَّلَامَةِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: مَازِلْتُ أُقَاتِلُ، وَأُضَارِبُ،، أَنَا طَامِعٌ فِي الظَّفَرِ بِهِمْ، حَتَّى رَأَيْتُ فَرَسَكَ الشَّقْرَاءَ تَحْتَ أَحَدِهِمْ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُمْ أَجْلَبُوا عَلَيْنَا بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكِ، وَأَنَّنَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ، فَنُصِرُوا عَلَيْنَا بِمَعُونَتِكَ، وَفَلُّونَا بِحَدِّكَ. فَلَمْ يُجِبْهُ صَدَقَةُ. ذِكْرُ مُلْكِ صَدَقَةَ الْبَصْرَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، انْحَدَرَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْحِلَّةِ إِلَى الْبَصْرَةِ فَمَلَكَهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ تَمَكُّنَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَرْسِلَانَجِقْ مِنَ الْبَصْرَةِ وَنَوَاحِيهَا، وَأَقَامَ بِهَا عَشْرَ سِنِينَ نَافِذَ الْأَمْرِ، وَازْدَادَ قُوَّةً وَتَمَكُّنًا بِالِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ السَّلَاطِينِ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ السُّلْطَانِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ رَاسَلَ صَدَقَةَ، وَأَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ فِي طَاعَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ أَرَادَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَى الْبَصْرَةِ مُقْطَعًا يَأْخُذُهَا مِنْ إِسْمَاعِيلَ، فَخَاطَبَ صَدَقَةُ فِي مَعْنَاهُ، حَتَّى أُقِرَّتِ الْبَصْرَةُ عَلَيْهِ، فَأَنْفَذَ السُّلْطَانَ عَمِيدًا إِلَيْهَا لِيَتَوَلَّى مَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّلْطَانِ هُنَاكَ، فَمَنَعَهُ إِسْمَاعِيلُ، وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ عَمَلِهِ، وَفَعَلَ مَا خَرَجَ بِهِ عَنْ حَدِّ الْمُجَامَلَةِ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ صَدَقَةَ بِقَصْدِهِ، وَأَخْذِ الْبَصْرَةِ مِنْهُ، فَتَحَرَّكَ لِذَلِكَ. فَاتَّفَقَ ظُهُورُ مَنْكُبْرُسَ، وَخِلَافُهُ عَلَى السُّلْطَانِ، وَأَنَّهُ عَلَى قَصْدِ وَاسِطَ، فَسُرَّ إِسْمَاعِيلُ بِذَلِكَ، وَزَادَ انْبِسَاطُهُ، وَأَرْسَلَ صَدَقَةُ حَاجِبًا لَهُ، وَكَانَ قَبْلَهُ قَدْ خَدَمَ أَبَاهُ وَجَدَّهُ، إِلَى إِسْمَاعِيلَ يَأْمُرُهُ بِتَسْلِيمِ الشُّرْطَةِ وَأَعْمَالِهَا إِلَى مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ بْنِ أَبِي الْجَبْرِ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي ضَمَانِهِ، فَوَصَلَ إِلَى الشُّرْطَةِ، وَأَخَذَ مِنْهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، فَأَحْضَرَهُ إِسْمَاعِيلُ وَحَبَسَهُ، وَأَخَذَ الدَّنَانِيرَ مِنْهُ، فَلَمَّا رَأَى صَدَقَةُ مُكَاشَفَتَهُ سَارَ مِنْ حِلَّتِهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ قَصْدَ الرَّحْبَةِ، ثُمَّ جَدَّ السَّيْرَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِسْمَاعِيلُ إِلَّا بِقُرْبِهِ مِنْهُ، فَفَرَّقَ

أَصْحَابَهُ فِي الْقِلَاعِ الَّتِي اسْتَجَدَّهَا بِمَطَارَا وَنَهْرِ مَعْقِلٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَاعْتَقَلَ وُجُوهَ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَالْعَلَوِيِّينَ، وَقَاضِيَ الْبَصْرَةِ، وَمُدَرَّسَهَا، وَأَعْيَانَ أَهْلِهَا. وَنَازَلَهُمْ صَدَقَةُ، فَجَرَى قِتَالٌ بَيْنَ طَائِفَةٍ مِنْ عَسْكَرِهِ، وَطَائِفَةٍ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ، قُتِلَ فِيهِ أَبُو النَّجْمِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْوَرَّامِيُّ، وَهُوَ ابْنُ خَالِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ، فَمِمَّا مُدِحَ بِهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، وِرُثِيَ بِهِ أَبُو النَّجْمِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، قَوْلُ بَعْضِهِمْ: تَهَنَّ، يَا خَيْرَ مَنْ يَحْمِي حَرِيمَ حِمًى ، فَتْحًا أَغَثْتَ بِهِ الدُّنْيَا مَعَ الدِّينِ ... رَكِبْتَ لِلْبَصْرَةِ الْغَرَّاءِ فِي نُخَبٍ غُرٍّ، كَجَيْشِ عَلِيٍّ يَوْمَ صِفِّينِ ... هَوَى أَبُو النَّجْمِ كَالنَّجْمِ الْمُنِيرِ بِهَا لَكِنَّهُ كَانَ رَجْمًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَقَامَ صَدَقَةُ مُحَاصِرًا لِإِسْمَاعِيلَ بِالْبَصْرَةِ، فَأَشَارَ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِالْعَوْدِ عَنْهَا، وَأَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَظْفَرُونَ بِطَائِلٍ، فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِالْمُقَامِ، وَقَالُوا: إِنَ رَحَلْنَا كَانَتْ كَسْرَةً، وَكَانَ رَأْيُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ الْمُقَامَ، وَقَالَ: إِنْ تَعَذَّرَ عَلَيَّ فَتْحُ الْبَصْرَةِ لَمْ يُطِعْنِي أَحَدٌ، وَاسْتَعْجَزَنِي النَّاسُ. ثُمَّ إِنَّ إِسْمَاعِيلَ خَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ، وَقَاتَلَ صَدَقَةَ، فَسَارَ بَعْضُ أَصْحَابِ صَدَقَةَ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ مِنَ الْبَلَدِ، وَدَخَلُوهُ، وَقَتَلُوا مِنَ السَّوَادِيَّةِ، الَّذِينَ جَمَعَهُمْ إِسْمَاعِيلُ، خَلْقًا كَثِيرًا، وَانْهَزَمَ إِسْمَاعِيلُ إِلَى قَلْعَتِهِ بِالْجَزِيرَةِ، فَأَدْرَكَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَفَدَاهُ أَحَدُ غِلْمَانِهِ بِنَفْسِهِ، فَوَقَعَتِ الضَّرْبَةُ فِيهِ فَأَثْخَنَتْهُ، فَنُهِبَتِ الْبَصْرَةُ، وَغَنِمَ مَنْ مَعَهُ مِنْ عَرَبِ الْبَرِّ، وَغَيْرِهِمْ مَا فِيهَا، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْمَحَلَّةُ الْمُجَاوِرَةُ لِقَبْرِ طَلْحَةَ وَالْمِرْبَدُ، فَإِنَّ الْعَبَّاسِيِّينَ دَخَلُوا الْمَدْرَسَةَ النِّظَامِيَّةَ وَامْتَنَعُوا بِهَا، وَحَمَوُا الْمِرْبَدَ، وَعَمَّتِ الْمُصِيبَةُ لِأَهْلِ الْبَلَدِ، سِوَى مَنْ ذَكَرْنَا، وَامْتَنَعَ إِسْمَاعِيلُ بِقَلْعَتِهِ. فَاتَّفَقَ أَنَّ الْمُهَذَّبَ بْنَ أَبِي الْجَبْرِ انْحَدَرَ فِي سُفُنٍ كَثِيرَةٍ، وَأَخَذَ الْقَلْعَةَ الَّتِي لِإِسْمَاعِيلَ بِمَطَارَا، وَقَتَلَ بِهَا خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِ إِسْمَاعِيلَ، وَحَمَلَ إِلَى صَدَقَةَ كَثِيرًا فَأَطْلَقَهُمْ. فَلَمَّا عَلِمَ إِسْمَاعِيلُ بِذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَى صَدَقَةَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَهْلِهِ، وَأَمْوَالِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَجَّلَهُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فَأَخَذَ كُلَّ مَا يُمْكِنُهُ حَمْلُهُ مِمَّا يَعُزُّ عَلَيْهِ،

وَمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَمْلِهِ أَهْلَكَهُ بِالْمَاءِ وَغَيْرِهِ، وَنَزَلَ إِلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَأَمَّنَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ أَهْلَ الْبَصْرَةِ مِنْ كُلِّ أَذًى، وَرَتَّبَ عِنْدَهُمْ شِحْنَةً، وَعَادَ إِلَى الْحِلَّةِ ثَالِثَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ مَقَامُهُ بِالْبَصْرَةِ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ لَمَّا سَارَ صَدَقَةُ إِلَى الْحِلَّةِ قَصَدَ هُوَ الْبَاسِيَانَ إِلَى أَنْ وَصَلَهُ مَالُهُ فِي الْمَرَاكِبِ، وَسَارَ نَحْوَ فَارِسَ، وَصَارَ يَتَعَنَّتُ أَصْحَابَهُ، وَزَوْجَتَهُ، وَقُبِضَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ خَوَاصِّهِ وَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ سَقَيْتُمْ وَلَدِي أَفْرَاسِيَابَ السُّمَّ حَتَّى مَاتَ! وَكَانَ قَدْ مَاتَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَفَارَقَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، حَتَّى زَوْجَتُهُ فَارَقَتْهُ وَسَارَتْ إِلَى بَغْدَاذَ. وَأَخَذَتْهُ الْحُمَّى، وَقَوِيَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ رَامَهُرْمُزَ انْفَرَدَ فِي خَيْمَتِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِأَصْحَابِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَظَهَرَ لَهُمْ مَوْتُهُ، فَنَهَبُوا مَالَهُ وَتَفَرَّقُوا، فَأَرْسَلَ الْأَمِيرُ بِرَامَهُرْمُزَ فَرَدَّهُمْ وَأَخَذَ مَا مَعَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِ، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ إِيذَاجَ، وَكَانَ عُمْرُهُ قَدْ جَاوَزَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ سِيرَتُهُ قَدْ حَسُنَتْ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَخِيرًا. ذِكْرُ حَصْرِ رِضْوَانَ نَصِيبِينَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، حَصَرَ الْمَلِكُ رِضْوَانُ بْنُ تُتُشَ نَصِيبِينَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُ عَزَمَ عَلَى حَرْبِ الْفِرِنْجِ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ: إِيلْغَازِي بْنُ أُرْتُقَ، الَّذِي كَانَ شِحْنَةَ بَغْدَاذَ، وَأَصْبَهْبَذ صَبَاوَةُ، وَأَلْبِي بْنُ أَرْسَلَانَ تَاشْ، صَاحِبُ سِنْجَارَ، وَهُوَ صِهْرُ جَكَرْمِشَ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَقَالَ إِيلْغَازِي: الرَّأْيُ أَنَّنَا نَقْصِدُ بِلَادَ جَكَرْمِشَ، وَمَا وَالَاهَا، فَنَمْلِكُهَا، وَنَتَكَثَّرُ بِعَسْكَرِهَا وَالْأَمْوَالِ. وَوَافَقَهُ أَلْبِي، فَسَارَ إِلَى نَصِيبِينَ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، مُسْتَهَلَّ رَمَضَانَ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ فِيهَا أَمِيرَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي عَسْكَرٍ، فَتَحَصَّنُوا بِالْبَلَدِ، وَقَاتَلُوا مِنْ وَرَاءِ السُّورِ، فَرُمِيَ أَلْبِي بْنُ أَرْسِلَانَ تَاشْ بِنُشَّابَةٍ، فَجُرِحَ جَرْحًا شَدِيدًا، فَعَادَ إِلَى سِنْجَارَ. وَأَمَّا جَكَرْمِشُ فَإِنَّهُ بَلَغَهُ الْخَبَرُ بِنُزُولِهِمْ عَلَى نَصِيبِينَ، وَهُوَ بِالْحَامَّةِ، الَّتِي بِالْقُرْبِ مِنْ طَنْزَةَ، يَتَدَاوَى بِمَائِهَا مِنْ مَرَضِهِ، فَرَحَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَقَدْ أَجَفَلَ إِلَيْهَا أَهْلُ السَّوَادِ، فَخَيَّمَ عَلَى بَابِ الْبَلَدِ، عَازِمًا عَلَى حَرْبِ رِضْوَانَ، وَاسْتَعْمَلَ الْمُخَادِعَةَ،

فَكَاتَبَ أَعْيَانَ عَسْكَرِ رِضْوَانَ، وَرَغَّبَهُمْ، حَتَّى أَفْسَدَ نِيَّاتِهِمْ، وَتَقَدَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ بِنَصِيبِينَ بِخِدْمَةِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ، وَبِإِخْرَاجِ الْإِقَامَاتِ إِلَيْهِ مَعَ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى رِضْوَانَ يَبْذُلُ لَهُ خِدْمَتَهُ، وَالدُّخُولَ فِي طَاعَتِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا قَدْ حَصَرَنِي، وَلَمْ يَبْلُغْ مِنِّي غَرَضًا، فَتَرَحَّلَ عَنْ صُلْحٍ، وَإِنْ قَبَضْتَ عَلَى إِيلْغَازِي الَّذِي قَدْ عَرَفْتَ أَنْتَ وَغَيْرُكَ فَسَادَهُ وَشَرَّهُ فَأَنَا مَعَكَ، وَمُعِينُكَ بِالرِّجَالِ وَالْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ. فَاتَّفَقَ هَذَا، وَرِضْوَانُ قَدْ تَغَيَّرَتْ نِيَّتُهُ مَعَ إِيلْغَازِي، فَازْدَادَ تَغَيُّرًا، وَعَزَمَ عَلَى قَبْضِهِ، فَاسْتَدْعَاهُ يَوْمًا، وَقَالَ لَهُ: هَذِهِ بِلَادٌ مُمْتَنِعَةٌ، وَرُبَّمَا اسْتَوْلَى الْفِرِنْجُ عَلَى حَلَبَ، وَالْمَصْلَحَةُ مُصَالَحَةُ جَكَرْمِشَ، وَاسْتِصْحَابُهُ مَعَنَا، فَإِنَّهُ يَسِيرُ بِعَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ ظَاهِرَةِ التَّجَمُّلِ، وَنَعُودُ إِلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَعُودُ بِاجْتِمَاعِ شَمْلِ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ لَهُ إِيلْغَازِي: إِنَّكَ جِئْتَ بِحُكْمِكَ، وَأَنْتَ الْآنُ بِحُكْمِي لَا أُمَكِّنُكَ مِنَ الْمَسِيرِ بِدُونِ أَخْذِ هَذِهِ الْبِلَادِ، فَإِنْ أَقَمْتَ، وَإِلَّا بَدَأْتُ بِقِتَالِكَ. وَكَانَ إِيلْغَازِي قَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ بِكَثْرَةِ مَنِ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنَ التُّرْكُمَانِ، وَكَانَ الْمَلِكُ رِضْوَانُ قَدْ وَاعَدَ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِهِ لِيَقْبِضُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا جَرَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَمَرَهُمْ رِضْوَانُ فَقَبَضُوا عَلَيْهِ وَقَيَّدُوهُ، فَلَمَّا سَمِعَ التُّرْكُمَانُ الْحَالَ أَظْهَرُوا الْخِلَافَ وَالِامْتِعَاضَ، فَفَارَقُوا رِضْوَانَ وَالْتَجَأُوا إِلَى سُورِ الْمَدِينَةِ، وَأَصْعَدَ إِيلْغَازِي إِلَى قَلْعَتِهَا، وَخَرَجَ مَنْ بِنَصِيبِينَ مِنَ الْعَسْكَرِ فَأَعَانُوهُ، فَلَمَّا رَأَى التُّرْكُمَانُ ذَلِكَ تَفَرَّقُوا، وَنَهَبُوا مَا قَدَرُوا مِنَ الْمَوَاشِي وَغَيْرِهَا، وَرَحَلَ رِضْوَانُ مِنْ وَقْتِهِ وَسَارَ إِلَى حَلَبَ. وَكَانَ جَكَرْمِشُ قَدْ رَحَلَ مِنَ الْمَوْصِلِ قَاصِدًا لِحَرْبِ الْقَوْمِ، فَلَمَّا بَلَغَ تَلَّ يَعْفَرَ أَتَاهُ الْمُبَشِّرُونَ بِانْصِرَافِ رِضْوَانِ عَلَى اخْتِلَافٍ وَافْتِرَاقٍ، فَرَحَلَ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى سِنْجَارَ، وَوَصَلَتْ إِلَيْهِ رُسُلُ رِضْوَانَ تَسْتَدْعِي مِنْهُ النَّجْدَةَ، وَيَعْتَدُّ عَلَيْهِ مَا فَعَلَ بإِيلْغَازِي، فَأَجَابَهُ مُغَالَطَةً، وَلَمْ يَفِ لَهُ بِمَا وَعَدَهُ، وَنَازَلَ سِنْجَارَ لِيَشْفِيَ غَيْظَهُ مِنْ صِهْرِهِ أَلْبِي بْنِ أَرْسِلَانَ تَاشْ بِمَا اعْتَمَدَهُ مِنْ مُعَادَاتِهِ، وَمُظَاهَرَةِ أَعْدَائِهِ، وَكَانَ أَلْبِي عَلَى شِدَّةٍ مِنَ الْمَرَضِ بِالسَّهْمِ الَّذِي أَصَابَهُ عَلَى نَصِيبِينَ، فَلَمَّا نَزَلَ جَكَرْمِشُ عَلَيْهَا أَمَرَ أَلْبِي أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْمِلُوهُ إِلَيْهِ، فَحَمَلُوهُ فِي مِحَفَّةٍ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَأَخَذَ يَعْتَذِرُ مِمَّا كَانَ مِنْهُ، قَالَ: جِئْتُ

مُذْنِبًا، فَافْعَلْ بِي مَا تَرَاهُ. فَرَقَّ لَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى بَلَدِهِ، فَلَمَّا عَادَ قَضَى نَحْبَهُ، فَلَمَّا مَاتَ عَصَى عَلَى جَكَرْمِشُ مَنْ كَانَ بِسِنْجَارَ، وَتَمَسَّكُوا بِالْبَلَدِ، فَقَاتَلَهُمْ بَقِيَّةَ رَمَضَانَ، وَشَوَّالًا، وَلَمْ يَظْفَرْ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ، فَجَاءَ تُمَيْرَكُ أَخُو أَرْسِلَانَ تَاشْ، عَمُّ أَلْبِي، فَأَصْلَحَ حَالَهُ مَعَ جَكَرْمِشَ، وَبَذَلَ لَهُ الْخِدْمَةَ، فَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ. ذِكْرُ مُلْكِ طُغْتِكِينَ بُصْرَى قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ حَالَ بُكْتَاشَ بْنِ تُتُشَ، وَخُرُوجَهُ مِنْ دِمَشْقَ، وَاتِّصَالَهُ بالْفِرِنْجِ، وَمَعَهُ أَيْتِكِينُ الْحَلَبِيُّ، صَاحِبُ بُصْرَى، وَسَيْرَهُمَا إِلَى الرَّحْبَةِ، وَعَوْدَهُمَا عَنْهَا، فَلَمَّا ضَعُفَتْ أَحْوَالُهُمْ سَارَ طُغْتِكِينُ إِلَى بُصْرَى فَحَصَرَهَا، وَبِهَا أَصْحَابُ أَيْتِكِينَ، فَرَاسَلُوا طُغْتِكِينَ، وَبَذَلُوا لَهُ التَّسْلِيمَ إِلَيْهِ، بَعْدَ أَجَلٍ قَرَّرَهُ بَيْنَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَرَحَلَ عَنْهُمْ إِلَى دِمَشْقَ، فَلَمَّا انْقَضَى الْأَجَلُ، هَذِهِ السَّنَةَ، تَسَلَّمَهَا، وَأَحْسَنَ إِلَى مَنْ بِهَا، وَوَفَّى لَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ، وَبَالَغَ فِي إِكْرَامِهِمْ، وَكَثُرَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ، وَالدُّعَاءُ لَهُ، وَمَالَتِ النُّفُوسُ إِلَيْهِ، وَأَحَبُّوهُ. ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ حِصْنَ أَفَامِيَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الْفِرِنْجُ حِصْنَ أَفَامِيَةَ مِنْ بَلَدِ الشَّامِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ خَلَفَ بْنَ مُلَاعِبٍ الْكِلَابِيَّ كَانَ مُتَغَلِّبًا عَلَى حِمْصَ، وَكَانَ الضَّرَرُ بِهِ عَظِيمًا، وَرِجَالُهُ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، فَكَثُرَ الْحَرَامِيَّةُ عِنْدَهُ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ تُتُشُ بْنُ أَلْبِ أَرْسِلَانَ وَأَبْعَدَهُ عَنْهَا، فَتَقَلَّبَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ إِلَى أَنْ دَخَلَ إِلَى مِصْرَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ مَنْ بِهَا، فَأَقَامَ بِهَا. وَاتَّفَقَ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِأَفَامِيَةَ مِنْ جِهَةِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ أَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ مِصْرَ، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى مَذْهَبِهِمْ، يَسْتَدْعِي مِنْهُمْ مَنْ يُسَلِّمُ إِلَيْهِ الْحِصْنَ، وَهُوَ مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ، وَطَلَبَ ابْنُ مُلَاعِبٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُقِيمُ بِهِ، وَقَالَ: إِنَّنِي أَرْغَبُ فِي قِتَالِ الْفِرِنْجِ، وَأُوثِرُ الْجِهَادَ. فَسَلَّمُوهُ إِلَيْهِ، وَأَخَذُوا رَهَائِنَهُ، فَلَمَّا مَلَكَهُ خَلَعَ طَاعَتَهُمْ وَلَمْ يَرْعَ حَقَّهُمْ

فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَتَهَدَّدُونَهُ بِمَا يَفْعَلُونَهُ بِوَلَدِهِ الَّذِي عِنْدَهُمْ. فَأَعَادَ الْجَوَابَ: إِنَّنِي لَا أَنْزِلُ مِنْ مَكَانِي، وَابْعَثُوا إِلَيَّ بِبَعْضِ أَعْضَاءِ وَلَدِي حَتَّى آكُلَهُ، فَأَيِسُوا مِنْ رُجُوعِهِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَأَقَامَ بِأَفَامِيَةَ يُخِيفُ السَّبِيلَ، وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُ. ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ مَلَكُوا سَرْمِينَ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ حَلَبَ، وَأَهْلُهَا غُلَاةٌ فِي التَّشَيُّعِ، فَلَمَّا مَلَكَهَا الْفِرِنْجُ تَفَرَّقَ أَهْلُهَا، فَتَوَجَّهَ الْقَاضِي الَّذِي بِهَا إِلَى ابْنِ مُلَاعِبٍ وَأَقَامَ عِنْدَهُ، فَأَكْرَمَهُ، وَأَحَبَّهُ، وَوَثِقَ بِهِ، فَأَعْمَلَ الْقَاضِي الْحِيلَةَ عَلَيْهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي طَاهِرٍ، الْمَعْرُوفِ بِالصَّائِغِ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ وَوُجُوهِ الْبَاطِنِيَّةِ وَدُعَاتِهِمْ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى الْفَتْكِ بِابْنِ مُلَاعِبٍ، وَأَنْ يُسَلِّمَ أَفَامِيَةَ إِلَى الْمَلِكِ رِضْوَانَ، فَظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، فَأَتَى ابْنُ مُلَاعِبٍ أَوْلَادَهُ، وَكَانُوا قَدْ تَسَلَّلُوا مِنْ مِصْرَ، وَقَالُوا لَهُ: قَدْ بَلَغَنَا عَنْ هَذَا الْقَاضِي كَذَا وَكَذَا، وَالرَّأْيُ أَنْ تُعَاجِلَهُ، وَتَحْتَاطَ لِنَفْسِكَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ قَدِ اشْتَهَرَ وَظَهَرَ. فَأَحْضَرَهُ ابْنُ مُلَاعِبٍ، فَأَتَاهُ فِي كُمِّهِ مُصْحَفٌ، لِأَنَّهُ رَأَى أَمَارَاتِ الشَّرِّ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُلَاعِبٍ مَا بَلَغَهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنِّي أَتَيْتُكَ خَائِفًا جَائِعًا، فَأَمَّنْتَنِي، وَأَغْنَيْتَنِي، وَعَزَّزْتَنِي، فَصِرْتُ ذَا مَالٍ وَجَاهٍ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَنْ حَسَدَنِي عَلَى مَنْزِلَتِي مِنْكَ، وَمَا غَمَرَنِي مِنْ نِعْمَتِكَ سَعَى بِي إِلَيْكَ، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تَأْخُذَ جَمِيعَ مَا مَعِي، وَأَخْرُجُ كَمَا جِئْتُ. وَحَلَفَ لَهُ عَلَى الْوَفَاءِ وَالنُّصْحِ، فَقَبِلَ عُذْرَهُ وَأَمَّنُهُ. وَعَاوَدَ الْقَاضِيَ مُكَاتَبَةَ أَبِي طَاهِرِ بْنِ الصَّائِغِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَافِقَ رِضْوَانَ عَلَى إِنْفَاذِ ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ سَرْمِينَ، وَيُنْفِذُ مَعَهُمْ خَيْلًا مِنْ خُيُولِ الْفِرِنْجِ، وَسِلَاحًا مِنْ أَسْلِحَتِهِمْ، وَرُءُوسًا مِنْ رُءُوسِ الْفِرِنْجِ، يَأْتُوا إِلَى ابْنِ مُلَاعِبٍ وَيُظْهِرُوا أَنَّهُمْ غُزَاةً وَيَشْكُوا مِنْ سُوءِ مُعَامَلَةِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ وَأَصْحَابِهِ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ فَارَقُوهُ، فَلَقِيَهُمْ طَائِفَةٌ

مِنَ الْفِرِنْجِ، فَظَفِرُوا بِهِمْ، وَيَحْمِلُوا جَمِيعَ مَا مَعَهُمْ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُمْ فِي الْمُقَامِ اتَّفَقَتْ آرَاؤُهُمْ عَلَى إِعْمَالِ الْحِيلَةِ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ ابْنُ الصَّائِغِ ذَلِكَ، وَوَصَلَ الْقَوْمُ إِلَى أَفَامِيَةَ، وَقَدِمُوا إِلَى ابْنِ مُلَاعِبٍ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمُقَامِ عِنْدَهُ، وَأَنْزَلَهُمْ فِي رَبَضِ أَفَامِيَةَ. فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي نَامَ الْحُرَّاسُ بِالْقَلْعَةِ، فَقَامَ الْقَاضِي وَمَنْ بِالْحِصْنِ مِنْ أَهْلِ سَرْمِينَ، وَدَلُّوا الْحِبَالَ وَأَصْعَدُوا أُولَئِكَ الْقَادِمِينَ جَمِيعَهُمْ، وَقَصَدُوا أَوْلَادَ ابْنِ مُلَاعِبٍ، وَبَنِي عَمِّهِ، وَأَصْحَابَهُ، فَقَتَلُوهُمْ، وَأَتَى الْقَاضِي وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ إِلَى ابْنِ مُلَاعِبٍ، وَهُوَ مَعَ امْرَأَتِهِ، فَأَحَسَّ بِهِمْ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مَلَكُ الْمَوْتِ جِئْتُ لِقَبْضِ رُوحِكَ! فَنَاشَدَهُ اللَّهَ، فَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ، وَجَرَحَهُ، وَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ، وَهَرَبَ ابْنَاهُ، فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا، وَالْتَحَقَ الْآخَرُ بِأَبِي الْحَسَنِ بْنِ مُنْقِذٍ، صَاحِبِ شَيْزَرَ، فَحَفِظَهُ لِعَهْدٍ كَانَ بَيْنَهُمَا. وَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ الصَّائِغِ خَبَرَ أَفَامِيَةَ سَارَ إِلَيْهَا، وَهُوَ يَشُكُّ أَنَّهَا لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: إِنْ وَافَقْتَنِي، وَأَقَمْتَ مَعِي، فَبِالرَّحْبِ وَالسَّعَةِ، وَنَحْنُ بِحُكْمِكَ، وَإِلَّا فَارْجِعْ مِنْ حَيْثُ جِئْتَ. فَأَيِسَ ابْنُ الصَّائِغِ مِنْهُ، وَكَانَ أَحَدُ أَوْلَادِ ابْنِ مُلَاعِبٍ بِدِمَشْقَ عِنْدَ طُغْتِكِينَ، غَضْبَانُ عَلَى أَبِيهِ، فَوَلَّاهُ طُغْتِكِينُ حِصْنًا، وَضَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ حِفْظَ الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَطَعَ الطَّرِيقَ، وَأَخَذَ الْقَوَافِلَ، فَاسْتَغَاثُوا إِلَى طُغْتِكِينَ مِنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ طَلَبَهُ، فَهَرَبَ إِلَى الْفِرِنْجِ، وَاسْتَدْعَاهُمْ إِلَى حِصْنِ أَفَامِيَةَ، وَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ غَيْرُ قُوتِ شَهْرٍ، فَأَقَامُوا عَلَيْهِ يُحَاصِرُونَهُ، فَجَاعَ أَهْلُهُ، وَمَلَكَهُ الْفِرِنْجُ، وَقَتَلُوا الْقَاضِيَ الْمُتَغَلِّبَ عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا الصَّائِغَ فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَظْهَرَ مَذْهَبَ الْبَاطِنِيَّةِ بِالشَّامِ. هَكَذَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَبَا طَاهِرٍ الصَّائِغَ قَتَلَهُ الْفِرِنْجُ بِأَفَامِيَةَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ ابْنَ بَدِيعٍ، رَئِيسَ حَلَبَ، قَتَلَهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، بَعْدَ وَفَاةِ رِضْوَانَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرُ نَهْبِ الْعَرَبِ الْبَصْرَةَ قَدْ ذَكَرْنَا اسْتِلَاءَ الْأَمِيرِ صَدَقَةَ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَأَنَّهُ اسْتَنَابَ بِهَا مَمْلُوكًا كَانَ لِجَدِّهِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ، اسْمُهُ أَلْتُونْتَاشُ، وَجَعَلَ مَعَهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ فَارِسًا. فَاجْتَمَعَتْ رَبِيعَةُ والْمُنْتَفَقُ وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا مِنَ الْعَرَبِ، وَقَصَدُوا الْبَصْرَةَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَقَاتَلَهُمْ أَلْتُونْتَاشُ، فَأَسَرُوهُ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ يَقْدِرْ مَنْ بِهَا عَلَى حِفْظِهَا، فَدَخَلُوا بِالسَّيْفِ أَوَاخِرَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَأَحْرَقُوا الْأَسْوَاقَ، وَالدُّورَ الْحِسَانَ، وَنَهَبُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَأَقَامُوا يَنْهَبُونَ وَيُحْرِقُونَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَتَشَرَّدَ أَهْلُهَا فِي السَّوَادِ، وَنُهِبَتْ خِزَانَةُ كُتُبٍ كَانَتْ مَوْقُوفَةً، وَقَفَهَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ بْنُ أَبِي الْبَقَاءِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ صَدَقَةَ، فَأَرْسَلَ عَسْكَرًا، فَوَصَلُوا وَقَدْ فَارَقَهَا الْعَرَبُ. ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا أَرْسَلَ شِحْنَةً وَعَمِيدًا إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَخَذَهَا مِنْ صَدَقَةَ، وَعَادَ أَهْلُهَا إِلَيْهَا وَشَرَعُوا فِي عِمَارَتِهَا. ذِكْرُ حَالِ طَرَابُلُسَ الشَّامِ مَعَ الْفِرِنْجِ كَانَ صَنْجِيلُ الْفِرِنْجِيُّ، لَعَنَهُ اللَّهُ، قَدْ مَلَكَ مَدِينَةَ جَبَلَةَ، وَأَقَامَ عَلَى طَرَابُلُسَ يَحْصُرُهَا، فَحَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَمْلِكَهَا، بَنَى بِالْقُرْبِ مِنْهَا حِصْنًا، وَبَنَى تَحْتَهُ رَبَضًا، وَأَقَامَ مُرَاصِدًا لَهَا، وَمُنْتَظِرًا وُجُودَ فُرْصَةٍ فِيهَا، فَخَرَجَ فَخْرُ الْمُلْكِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ عَمَّارٍ، صَاحِبُ طَرَابُلُسَ، فَأَحْرَقَ رَبَضَهُ، وَوَقَفَ صَنْجِيلُ عَلَى بَعْضِ سُقُوفِهِ الْمُتَحَرِّقَةِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقَمَامِصَةِ وَالْفُرْسَانِ، فَانْخَسَفَ بِهِمْ، فَمَرِضَ صَنْجِيلُ مِنْ ذَلِكَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ وَمَاتَ، وَحُمِلَ إِلَى الْقُدْسِ فَدُفِنَ فِيهِ. ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ الرُّومِ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِاللَّاذِقِيَّةِ لِيَحْمِلُوا الْمِيرَةَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْفِرِنْجِ الَّذِينَ عَلَى طَرَابُلُسَ، فَحَمَلُوهَا فِي الْبَحْرِ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهَا فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ عَمَّارٍ أُسْطُولًا، فَجَرَى

بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّومِ قِتَالٌ شَدِيدٌ، فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ بِقِطْعَةٍ مِنَ الرُّومِ، فَأَخَذُوهَا، وَأَسَرُوا مَنْ كَانَ بِهَا وَعَادُوا. وَلَمْ تَزَلِ الْحَرْبُ بَيْنَ أَهْلِ طَرَابُلُسَ والْفِرِنْجِ خَمْسَ سِنِينَ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ، فَعَدِمَتِ الْأَقْوَاتُ بِهِ، وَخَافَ أَهْلُهُ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَحَرَمِهِمْ، فَجَلَا الْفُقَرَاءُ، وَافْتَقَرَ الْأَغْنِيَاءُ، وَظَهَرَ مِنَ ابْنِ عَمَّارٍ صَبْرٌ عَظِيمٌ، وَشُجَاعَةٌ، وَرَأْيٌ سَدِيدٌ. وَمِمَّا أَضَرَّ بِالْمُسْلِمِينَ فِيهَا أَنَّ صَاحِبَهَا اسْتَنْجَدَ سُقْمَانَ بْنَ أُرْتُقَ فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ إِلَيْهِ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ. وَأَجْرَى ابْنُ عَمَّارٍ الْجِرَايَاتِ عَلَى الْجُنْدِ وَالضَّعْفَى، فَلَمَّا قَلَّتِ الْأَمْوَالُ عِنْدَهُ شَرَعَ يُقَسِّطُ عَلَى النَّاسِ مَا يُخْرِجُهُ فِي بَابِ الْجِهَادِ، فَأَخَذَ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ مَالًا مَعَ غَيْرِهِمَا، فَخَرَجَ الرَّجُلَانِ إِلَى الْفِرِنْجِ وَقَالَا: إِنَّ صَاحِبَنَا صَادَرَنَا، فَخَرَجْنَا إِلَيْكُمْ لِنَكُونَ مَعَكُمْ، وَذَكَرَا لَهُمْ أَنَّهُ تَأْتِيهِ الْمِيرَةُ مِنْ عَرَقَةَ وَالْجَبَلِ، فَجَعَلَ الْفِرِنْجُ جَمْعًا عَلَى ذَلِكَ الْجَانِبِ يَحْفَظُهُ مِنْ دُخُولِ شَيْءٍ إِلَى الْبَلَدِ، فَأَرْسَلَ ابْنُ عَمَّارٍ وَبَذَلَ لِلْفِرِنْجِ مَالَا كَثِيرًا لِيُسَلِّمُوا الرَّجُلَيْنِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا فَوَضَعَ عَلَيْهِمَا مَنْ قَتَلَهُمَا غِيلَةً، وَكَانَتْ طَرَابُلُسُ مِنْ أَعْظَمِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَأَكْثَرِهَا تَجَمُّلًا وَثَرْوَةً، فَبَاعَ أَهْلُهَا مِنَ الْحُلَى، وَالْأَوَانِي الْغَرْبِيَّةِ، مَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ، حَتَّى بِيعَ كُلُّ مِائَةِ دِرْهَمٍ نُقْرَةً بِدِينَارٍ. وَشَتَّانَ بَيْنَ هَذِهِ الْحَالَةِ وَبَيْنَ حَالِ الرُّومِ أَيَّامَ السُّلْطَانِ أَلْبِ أَرْسِلَانَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ ظَفَرَهُ بِهِمْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ كُمُشْتَكِينُ دَوَاتِي عَمِيدُ الْمُلْكِ، هَرَبَ مِنْهُ خَوْفًا لَمَّا قَبَضَ عَلَى صَاحِبِهِ عَمِيدِ الْمُلْكِ، وَسَارَ إِلَى الرَّقَّةِ فَمَلَكَهَا، وَصَارَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ، فِيهِمْ: الْأَفْشِينُ، وَأَحْمَدُ شَاهْ، فَقَتَلَاهُ، وَأَرْسَلَا أَمْوَالَهُ إِلَى أَلْبِ أَرْسِلَانَ، وَدَخَلَ الْأَفْشِينُ بِلَادَ الرُّومِ، وَقَاتَلَ الْفِرْدَوْسَ، صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ، فَهَزَمَهُ، وَقَتَلَ مِنَ الرُّومِ خَلْقًا كَثِيرًا. وَسَارَ مَلِكُ الرُّومِ مِنَ الْقُسْطَنْطِيَّةِ إِلَى مَلَطْيَةَ، فَدَخَلَ الْأَفْشِينُ بِلَادَهُ وَوَصَلَ إِلَى عَمُّورِيَةَ، وَقَتَلَ فِي غَزَاتِهِ مِائَةَ أَلْفِ آدَمِيٍّ، وَلَمَّا عَادَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَتَفَرَّقَ مَنْ مَعَهُ عَلَيْهِ خَرَجَ عَسْكَرُ الرُّهَا، وَهِيَ حِينَئِذٍ لِلرُّومِ، وَمَعَهُمْ بَنُو نُمَيْرٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَاتَلَهُمْ، وَمَعَهُ مِائَتَا فَارِسٍ، فَهَزَمَهُمْ وَنَهَبَهُمْ، وَنَهَبَ بِلَادَ الرُّومِ، فَأَرْسَلَ مَلِكُ الرُّومِ رَسُولًا إِلَى الْقَائِمِ

بِأَمْرِ اللَّهِ يَسْأَلُهُ الصُّلْحَ فَأَرْسَلَ إِلَى أَلْبِ أَرْسِلَانَ فِي ذَلِكَ، فَصَالَحَ الرُّومَ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَرْبَعَةِ آلَافِ ثَوْبٍ أَصْنَافًا، وَثَلَاثِمِائَةِ رَأْسٍ بِغَالًا. فَشَتَّانَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ. وَأَقُولُ شَتَّانَ بَيْنَ حَالِ أُولَئِكَ الْمَرْذُولِينِ الَّذِينَ اسْتَعْجَزَهُمْ، وَبَيْنَ حَالِ النَّاسِ فِي زَمَانِنَا هَذَا، وَهُوَ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ مَعَ الْفِرِنْجِ أَيْضًا والتَّتَرِ، وَسَتَرَى ذَلِكَ مَشْرُوحًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لِتَعْلَمَ الْفَرْقَ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُيَسِّرَ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ قَائِمًا يَقُومُ بِنَصْرِهِمْ، وَأَنْ يَدْفَعَ عَنْهُمْ بِمَنْ أَحَبَّ مِنْ خَلْقِهِ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ إِلَى بَغْدَاذَ إِنْسَانٌ مِنَ الْمُلَثَّمِينَ، مُلُوكِ الْغَرْبِ، قَاصِدًا إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَأُكْرِمَ، وَكَانَ مَعَهُ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ الْفَقِيهُ، مِنَ الْمُلَثَّمِينَ أَيْضًا، فَوَعَظَهُ الْفَقِيهُ فِي جَامِعِ الْقَصْرِ، وَاجْتَمَعَ لَهُ الْعَالَمُ الْعَظِيمُ، وَكَانَ يَعِظُ وَهُوَ مُتَلَثِّمٌ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ غَيْرُ عَيْنَيْهِ، وَكَانَ هَذَا الْمُلَثَّمُ قَدْ حَضَرَ مَعَ ابْنِ الْأَفْضَلِ، أَمِيرِ الْجُيُوشِ، وَقْعَتَهُ مَعَ الْفِرِنْجِ، وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا. وَكَانَ سَبَبُ مَجِيئِهِ إِلَى بَغْدَاذَ: أَنَّ الْمَغَارِبَةَ يَعْتَقِدُونَ فِي الْعَلَوِيِّينَ، أَصْحَابِ مِصْرَ، الِاعْتِقَادَ الْقَبِيحَ، فَكَانُوا، إِذَا أَرَادُوا الْحَجَّ، يَعْدِلُونَ عَنْ مِصْرَ وَكَانَ أَمِيرُ الْجُيُوشِ بَدْرٌ وَالِدُ الْأَفْضَلِ أَرَادَ إِصْلَاحَهُمْ، فَلَمْ يَمِيلُوا إِلَيْهِ، وَلَا قَارَبُوهُ. فَأَمَرَ بِقَتْلِ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ، فَلَمَّا وَصَلَ ابْنُهُ الْأَفْضَلُ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَاسْتَعَانَ بِمَنْ قَارَبَهُ مِنْهُمْ عَلَى حَرْبِ الْفِرِنْجِ، وَكَانَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَاتَلَ مَعَهُ، فَلَمَّا خَالَطَ الْمِصْرِيِّينَ خَافَ الْعَوْدَ إِلَى بِلَادِهِ، فَقَدِمَ بَغْدَاذَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمِصْرِيِّينَ حَرْبٌ مَعَ الْفِرِنْجِ إِلَّا وَشَهِدَهَا، فَقُتِلَ فِي بَعْضِهَا شَهِيدًا، وَكَانَ شُجَاعًا فَتَّاكًا مِقْدَامًا. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، ظَهْرَ كَوْكَبٌ فِي السَّمَاءِ لَهُ ذُؤَابَةٌ، كَقَوْسِ قُزَحَ، آخِذَةً مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى وَسَطِ السَّمَاءِ، وَكَانَ يُرَى قَرِيبًا مِنَ الشَّمْسِ قَبْلَ ظُهُورِهِ لَيْلًا، وَبَقِيَ يَظْهَرُ عِدَّةَ لَيَالٍ، ثُمَّ غَابَ.

وَفِيهَا وَصَلَ الْمَلِكُ قِلْجُ أَرْسِلَانَ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشَ، صَاحِبُ بِلَادِ الرُّومِ، إِلَى الرُّهَا لِيَحْصُرَهَا، وَبِهَا الْفِرِنْجُ، فَرَاسَلَهُ أَصْحَابُ جَكَرْمِشَ الْمُقِيمُونَ بَحَرَّانَ لِيُسَلِّمُوهَا إِلَيْهِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَتَسَلَّمَ الْبَلَدَ، وَفَرِحَ بِهِ النَّاسُ لِأَجْلِ جِهَادِ الْفِرِنْجِ، فَأَقَامَ بَحَرَّانَ أَيَّامًا، وَمَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا، أَوْجَبَ عَوْدَهُ إِلَى مَلَطْيَةَ، فَعَادَ مَرِيضًا، وَبَقِيَ أَصْحَابُهُ بَحَرَّانَ. [الَوَفِيَّاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو مَنْصُورٍ الْخَيَّاطُ الْمُقْرِي، إِمَامُ مَسْجِدِ ابْنِ جَرْدَةَ، وَكَانَ خَيِّرًا صَالِحًا. وَفِيهَا قُتِلَ الْقَاضِي أَبُو الْعَلَاءِ صَاعِدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ الْحَنَفِيُّ بِجَامِعِ أَصْبَهَانَ، قَتَلَهُ بَاطِنِيٌّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْفَوَارِسِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْخَازِنِ، صَاحِبُ الْخَطِّ الْجَيِّدِ، وَعُمْرُهُ سَبْعُونَ سَنَةً، قِيلَ إِنَّهُ كَتَبَ خَمْسَمِائَةِ خَتْمَةٍ. وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَلَهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ الْمَشْهُورِينَ، تَفَقَّهَ عَلَى الْمَاوَرْدِيِّ، وَأَبِي إِسْحَاقَ، وَأَخَذَ النَّحْوَ عَنِ الرَّقِيِّ، وَالدَّهَّانِ، وَابْنِ بُرْهَانَ، وَكَانَ عَفِيفًا، مُقَدَّمًا عِنْدَ الْخُلَفَاءِ وَالسَّلَاطِينِ. وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ سَهْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَرْغِيَانِيُّ، أَبُو الْفَتْحِ الْحَاكِمُ، تَفَقَّهَ عَلَى الْجُوَيْنِيِّ، وَبَرَزَ، ثُمَّ تَرَكَ الْمُنَاظَرَةَ، وَبَنَى رِبَاطًا، وَاشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.

وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ مُهَارِشُ بْنُ مُجَلِّي، وَلَهُ نَحْوُ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَهُوَ الَّذِي كَانَ الْخَلِيفَةَ الْقَائِمَ عِنْدَهُ بِالْحَدِيثَةِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، يُحِبُّ الْخَيْرَ وَأَهْلَهُ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ الْحَدِيثَةَ بَعْدَهُ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ.

ثم دخلت سنة خمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِمِائَةٍ] 500 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ وَمُلْكِ ابْنِهِ عَلِيٍّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ يُوسُفُ بْنُ تَاشَفِينَ، مَلِكُ الْغَرْبِ وَالْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، خَيِّرًا، عَادِلًا، يَمِيلُ إِلَى أَهْلِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَيُكْرِمُهُمْ، وَيَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِمْ، وَلَمَّا مَلَكَ الْأَنْدَلُسَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، جَمَعَ الْفُقَهَاءَ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ وِلَايَتُكَ مِنَ الْخَلِيفَةِ لِتَجِبَ طَاعَتُكَ عَلَى الْكُوفَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، رَسُولًا وَمَعَهُ هَدِيَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا يَذْكُرُ مَا فَتَحَ اللَّهُ مِنْ بِلَادِ الْفِرِنْجِ، وَمَا اعْتَمَدَهُ مِنْ نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَيَطْلُبُ تَقْلِيدًا بِوِلَايَةِ الْبِلَادِ، فَكُتِبَ لَهُ تَقْلِيدٌ مِنْ دِيوَانِ الْخَلِيفَةِ بِمَا أَرَادَ، وَلُقِّبَ أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ، وَسُيِّرَتْ إِلَيْهِ الْخِلَعُ، فَسُرَّ بِذَلِكَ سُرُورًا كَثِيرًا، وَهُوَ الَّذِي بَنَى مَدِينَةَ مُرَّاكِشَ لِلْمُرَابِطِينَ، وَبَقِيَ عَلَى مُلْكِهِ إِلَى سَنَةِ خَمْسِمِائَةٍ، فَتُوُفِّيَ وَمَلَكَ بَعْدَهُ الْبِلَادَ وَلَدُهُ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ، وَتَلَقَّبَ أَيْضًا أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ، فَازْدَادَ فِي إِكْرَامِ الْعُلَمَاءِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ إِشَارَتِهِمْ، وَكَانَ إِذَا وَعَظَهُ أَحَدُهُمْ خَشَعَ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْمَوْعِظَةِ، وَلَانَ قَلْبُهُ لَهَا، وَظَهَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَكَانَ يُوسُفُ بْنُ تَاشَفِينَ حَلِيمًا، كَرِيمًا، دَيِّنًا، خَيَّرًا، يُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَيُحَكِّمُهُمْ فِي بِلَادِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ اجْتَمَعُوا، فَتَمَنَّى أَحَدُهُمْ أَلْفَ دِينَارٍ يَتَّجِرُ بِهَا، وَتَمَنَّى الْآخَرُ عَمَلًا يَعْمَلُ فِيهِ لِأَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَمَنَّى الْآخَرُ زَوْجَتَهُ النَّفْزَاوِيَّةَ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ، وَلَهَا الْحُكْمُ فِي بِلَادِهِ، فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَأَحْضَرَهُمْ، وَأَعْطَى مُتَمَنِّيَ الْمَالِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَاسْتَعْمَلَ الْآخَرَ،

وَقَالَ لِلَّذِي تَمَنَّى زَوْجَتَهُ: يَا جَاهِلُ! مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا الَّذِي لَا تَصِلُ إِلَيْهِ؟ ثُمَّ أَرْسَلَهُ إِلَيْهَا، فَتَرَكَتْهُ فِي خَيْمَةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تَحْمِلُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَعَامًا وَاحِدًا، ثُمَّ أَحْضَرَتْهُ وَقَالَتْ لَهُ: مَا أَكَلْتَ هَذِهِ الْأَيَّامَ؟ قَالَ: طَعَامًا وَاحِدًا، فَقَالَتْ: كُلُّ النِّسَاءِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَأَمَرَتْ لَهُ بِمَالٍ وَكُسْوَةٍ وَأَطْلَقَتْهُ. ذِكْرُ قَتْلِ فَخْرِ الْمُلْكِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ فَخْرُ الْمُلْكِ أَبُو الْمُظَفَّرُ عَلِيُّ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَكَانَ أَكْبَرَ أَوْلَادِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وِزَارَتَهُ لِلسُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَلَمَّا فَارَقَ وِزَارَتَهُ قَصَدَ نَيْسَابُورَ، وَأَقَامَ عِنْدَ الْمَلِكِ سَنْجَرَ بْنِ مَلِكْشَاهْ، وَوَزَرَ لَهُ، وَأَصْبَحَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ صَائِمًا، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ يَقُولُ: عَجَّلْ إِلَيْنَا، وَلْيَكُنْ إِفْطَارُكَ عِنْدَنَا، وَقَدِ اشْتَغَلَ فِكْرِي بِهِ، وَلَا مَحِيدَ عَنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ! وَقَالُوا لَهُ: يَحْمِيكَ اللَّهُ، وَالصَّوَابُ أَنْ لَا تَخْرُجَ الْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ مِنْ دَارِكَ، فَأَقَامَ يَوْمَهُ يُصَلِّي، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ. فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ خَرَجَ مِنَ الدَّارِ الَّتِي كَانَ بِهَا يُرِيدُ دَارَ النِّسَاءِ، فَسَمِعَ صِيَاحَ مُتَظَلِّمٍ، شَدِيدَ الْحُرْقَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: ذَهَبَ الْمُسْلِمُونَ، فَلَمْ يَبْقَ مَنْ يَكْشِفُ مَظْلَمَةً، وَلَا يَأْخُذُ بِيَدِ مَلْهُوفٍ! فَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ، رَحْمَةً لَهُ، فَحَضَرَ فَقَالَ: مَا حَالُكَ؟ فَدَفَعَ إِلَيْهِ رُقْعَةً، فَبَيْنَمَا فَخْرُ الْمُلْكِ يَتَأَمَّلُهَا إِذْ ضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ فَقَضَى عَلَيْهِ، فَمَاتَ، فَحُمِلَ الْبَاطِنِيُّ إِلَى سَنْجَرَ، فَقَرَّرَهُ، فَأَقَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ كَذِبًا، وَقَالَ: إِنَّهُمْ وَضَعُونِي عَلَى قَتْلِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُقْتَلَ بِيَدِهِ وَسِعَايَتِهِ، فَقُتِلَ مَنْ ذَكَرَ، وَكَانَ مَكْذُوبًا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قُتِلَ الْبَاطِنِيُّ بَعْدَهُمْ، وَكَانَ عُمْرُ فَخْرِ الْمُلْكِ سِتًّا وَسِتِّينَ سَنَةً. ذِكْرُ مُلْكِ صَدَقَةَ بْنِ مَزْيَدٍ تِكْرِيتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، تَسَلَّمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ مَزْيَدٍ قَلْعَةَ تِكْرِيتَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ لَبَنِي مُقْنٍ الْعُقَيْلِيِّينَ، وَكَانَتْ إِلَى آخِرِ سَنَةِ

سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ بِيَدِ رَافِعِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُقْنٍ، فَمَاتَ، وَوَلِيَهَا ابْنُ أَخِيهِ أَبُو مَنَعَةَ خَمِيسُ بْنُ تَغْلِبَ بْنِ حَمَّادٍ، وَوَجَدَ بِهَا خَمْسَمِائَةِ أَلْفَ دِينَارٍ سِوَى الْمَصَاغِ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَوَلِيَهَا وَلَدُهُ أَبُو غَشَّامٍ. فَلَمَّا كَانَ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَثَبَ عَلَيْهِ عِيسَى فَحَبَسَهُ، وَمَلَكَ الْقَلْعَةَ وَالْأَمْوَالَ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِ طُغْرُلْبَكُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ صَالَحَهُ عَلَى بَعْضِ الْمَالِ فَرَحَلَ عَنْهُ. وَخَافَتْ زَوْجَتُهُ أَمِيرَةُ، بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَعُودَ أَبُو غَشَّامٍ، فَيَمْلِكُ الْقَلْعَةَ، فَقَتَلَتْهُ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ فِي الْحَبْسِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَاسْتَنَابَتْ فِي الْقَلْعَةِ أَبَا الْغَنَائِمِ بْنَ الْمَحْلَبَانِ، فَسَلَّمَهَا إِلَى أَصْحَابِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَكَ، فَسَارَتْ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَقَتَلَهَا ابْنُ أَبِي غَشَّامٍ بِأَبِيهِ، وَأَخَذَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشٍ مَالَهَا، وَرَدَّ طُغْرُلْبَكُ أَمْرَ الْقَلْعَةِ إِلَى إِنْسَانٍ يُعْرَفُ بِأَبِي الْعَبَّاسِ الرَّازِيِّ، فَمَاتَ بِهَا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَمَلَكَهَا الْمِهْرَبَاطُ، وَهُوَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خُشْنَامٍ مِنْ بَلَدِ الثَّغْرِ، فَأَقَامَ بِهَا إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَمَاتَ، وَوَلِيَهَا ابْنُهُ سَنَتَيْنِ، وَأَخَذَتْهَا مِنْهُ تَرْكَانُ خَاتُونْ، وَوَلِيَهَا لَهَا كُوهْرَائِينُ. ثُمَّ مَلَكَهَا بَعْدَ وَفَاةِ مَلِكْشَاهْ قَسِيمُ الدَّوْلَةِ آقَسَنْقَرُ، صَاحِبُ حَلَبَ، فَلَمَّا قُتِلَ صَارَتْ لِلْأَمِيرِ كُمُشْتَكِينَ الْجَانِدَارُ، فَجَعَلَ فِيهَا رَجُلًا يُعْرَفُ بِأَبِي الْمُصَارِعِ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى كُوهْرَائِينَ إِقْطَاعًا، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْهُ مَجْدُ الْمُلْكِ الْبَلَاسَانِيُّ، فَوَلَّى فِيهَا كَيْقُبَاذَ بْنَ هَزَارْسَبَ الدَّيْلَمِيَّ، فَأَقَامَ بِهَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَظَلَمَ أَهْلَهَا، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِ سُقْمَانُ بْنُ أُرْتُقَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَنَهَبَهَا، كَانَ كَيْقُبَاذُ يَنْهَبُهَا لَيْلًا، وَسُقْمَانُ يَنْهَبُهَا نَهَارًا. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ بَرْكِيَارُقَ أَقْطَعَهَا لِلْأَمِيرِ آقَسَنْقَرَ الْبُرْسُقِيِّ، شِحْنَةِ بَغْدَاذَ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَحَصَرَهَا مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى سَبْعَةِ أَشْهُرٍ، حَتَّى ضَاقَ عَلَى كَيْقُبَاذَ الْأَمْرُ، فَرَاسَلَ صَدَقَةَ بْنَ مَزْيَدٍ لِيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي صَفَرٍ هَذِهِ السَّنَةَ وَتَسَلَّمَهَا مِنْهُ، وَانْحَدَرَ الْبُرْسُقِيُّ وَلَمْ يَمْلِكْهَا. وَمَاتَ كَيْقُبَاذُ بَعْدَ نُزُولِهِ مِنَ الْقَلْعَةِ بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ سِتِّينَ سَنَةً، وَاسْتَنَابَ صَدَقَةُ بِهَا وَرَّامَ بْنَ أَبِي فِرَاسِ بْنِ وَرَّامٍ، وَكَانَ كَيْقُبَاذُ يُنْسَبُ إِلَى الْبَاطِنِيَّةِ، وَكَانَ مَوْتُهُ مِنْ سَعَادَةِ صَدَقَةَ، فَإِنَّهُ لَوْ أَقَامَ عِنْدَهُ لَعَرَّضَ صَدَقَةَ لِظُنُونِ النَّاسِ فِي اعْتِقَادِهِ وَمَذْهَبِهِ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عُبَادَةَ وَخَفَاجَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، كَانَتْ حَرْبٌ بَيْنَ عُبَادَةَ وَخَفَاجَةَ، فَظَفِرَتْ عُبَادَةُ، وَأَخَذَتْ بِثَأْرِهَا مِنْ خَفَاجَةَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سَيْفَ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ أَرْسَلَ وَلَدَهُ بَدْرَانَ فِي جَيْشٍ إِلَى طَرَفِ بِلَادِهِ مِمَّا يَلِي الْبَطِيحَةَ لِيَحْمِيَهَا مِنْ خَفَاجَةَ لِأَنَّهُمْ يُؤْذُونَ أَهْلَ تِلْكَ النَّوَاحِي، فَقَرُبُوا مِنْهُ، وَتَهَدَّدُوا أَهْلَ الْبِلَادِ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ يَشْكُو مِنْهُمْ، وَيُعَرِّفُهُ حَالَهُمْ، فَأَحْضَرَ عُبَادَةَ، وَكَانَتْ خَفَاجَةُ قَدْ فَعَلَتْ بِهِمُ الْعَامَ الْمَاضِي مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا حَضَرُوا عِنْدَهُ قَالَ لَهُمْ لِيَتَجَهَّزُوا مَعَ عَسْكَرِهِ، لِيَأْخُذُوا بِثَأْرِهِمْ مِنْ خَفَاجَةَ، فَسَارُوا فِي مُقَدَّمِ عَسْكَرِهِ، فَأَدْرَكُوا حِلَّةً مِنْ خَفَاجَةَ مِنْ بَنِي كُلَيْبٍ لَيْلًا، وَهُمْ غَارُّونَ، لَمْ يَشْعُرُوا بِهِمْ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالَتْ عُبَادَةُ: نَحْنُ أَصْحَابٌ لِدُيُونٍ، فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ عُبَادَةُ، فَقَاتَلُوهُمْ، وَصَبَرَتْ خَفَاجَةُ، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي الْقِتَالِ إِذْ سُمِعَ طَبْلُ الْجَيْشِ، فَانْهَزَمُوا، وَقَتَلَتْ مِنْهُمْ عُبَادَةُ جَمَاعَةً، وَكَانَ فِيهِمْ عَشَرَةٌ مِنْ وُجُوهِهِمْ، وَتَرَكُوا حَرَمَهُمْ، فَأَمَرَ صَدَقَةُ بِحِرَاسَتِهِنَّ وَحِمَايَتِهِنَّ، وَأَمْرَ الْعَسْكَرِ أَنْ يُؤْثِرُوا عُبَادَةَ بِمَا غَنِمُوهُ مِنْ أَمْوَالِ خَفَاجَةَ، خَلَفًا لَهُمْ عَمَّا أُخِذَ مِنْهُمْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي. وَأَصَابَ خَفَاجَةَ مِنْ مُفَارَقَةِ بِلَادِهَا، وَنَهْبِ أَمْوَالِهَا، وَقَتْلِ رِجَالِهَا، أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَانْتَزَحَتْ إِلَى نَوَاحِي الْبَصْرَةِ، وَأَقَامَتْ عُبَادَةُ فِي بِلَادِ خَفَاجَةَ. وَلَمَّا انْهَزَمَتْ خَفَاجَةُ وَتَفَرَّقَتْ وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهَا، جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ إِلَى الْأَمِيرِ صَدَقَةَ، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّكَ سَبَيْتَنَا، وَسَلَبْتَنَا قُوَّتَنَا، وَغَرَّبْتَنَا، وَأَضَعْتَ حُرْمَتَنَا، قَابَلَكَ اللَّهُ فِي نَفْسِكَ، وَجَعَلَ صُورَةَ أَهْلِكَ كَصُورَتِنَا، فَكَظَمَ الْغَيْظَ وَاحْتَمَلَ لَهَا ذَلِكَ، وَأَعْطَاهَا أَرْبَعِينَ جَمَلًا، وَلَمْ يَمْضِ غَيْرُ قَلِيلٍ حَتَّى قَابَلَ اللَّهُ صَدَقَةَ فِي نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ، فَإِنَّ دُعَاءَ الْمَلْهُوفِ عِنْدَ اللَّهِ بِمَكَانٍ.

ذِكْرُ مَسِيرِ جَاوْلِي سَقَاوُوا إِلَى الْمَوْصِلِ وَأَسْرِ صَاحِبِهَا جَكَرْمِشَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، أَقْطَعَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدَ جَاوْلِي سِقَاوُو الْمُوصِلَ، وَالْأَعْمَالَ الَّتِي بِيَدِ جَكَرْمِشَ، وَكَانَ جَاوْلِي قَبْلَ هَذَا قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي بَيْنَ خُوزِسْتَانَ وَفَارِسَ، وَأَقَامَ بِهَا سِنِينَ، وَعَمَّرَ قِلَاعَهَا وَحَصَّنَهَا، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا، وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَجَدَعَ أُنُوفَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ. فَلَمَّا تَمَكَّنَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ مِنَ السَّلْطَنَةِ خَافَهُ جَاوْلِي، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَيْهِ الْأَمِيرَ مَوْدُودَ بْنَ أَلْتُونْتِكِينَ، فَتَحَصَّنَ مِنْهُ جَاوْلِي، وَحَصَرَهُ مَوْدُودُ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، فَأَرْسَلَ جَاوْلِي إِلَى السُّلْطَانِ: إِنَّنِي لَا أَنْزِلُ إِلَى مَوْدُودٍ، فَإِنْ أَرْسَلْتَ غَيْرَهُ نَزَلْتُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ خَاتَمَهُ مَعَ أَمِيرٍ آخَرَ، فَنَزَلَ جَاوْلِي، وَحَضَرَ الْخِدْمَةَ بأَصْبَهَانَ، فَرَأَى مِنَ السُّلْطَانِ مَا يُحِبُّ، وَأَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْفِرِنْجِ لِيَأْخُذَ الْبِلَادَ مِنْهُمْ، وَأَقْطَعَهُ الْمَوْصِلَ وَدِيَارَ بَكْرٍ وَالْجَزِيرَةَ كُلَّهَا. وَكَانَ جَكَرْمِشُ لَمَّا عَادَ مِنْ عِنْدِ السُّلْطَانِ إِلَى بِلَادِهِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَدَ مِنْ نَفْسِهِ الْخِدْمَةَ، وَحَمْلَ الْمَالِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِبِلَادِهِ لَمْ يَفِ بِمَا قَالَ، وَتَثَاقَلَ فِي الْخِدْمَةِ وَحَمْلِ الْمَالِ، فَأَقْطَعَ بِلَادَهُ لِجَاوْلِي، فَجَاءَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَوَّلِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَجَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى الْبَوَازِيجِ، فَمَلَكَهَا وَنَهَبَهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، بَعْدَ أَنْ أَمَّنَ أَهْلَهَا، وَحَلَفَ لَهُمْ أَنَّهُ يَحْمِيهِمْ، فَلَمَّا مَلَكَهَا سَارَ إِلَى إِرَبْلَ. وَأَمَّا جَكَرْمِشُ فَلَمَّا بَلَغَهُ مَسِيرُهُ إِلَى بِلَادِهِ كَتَبَ فِي جَمِيعِ الْعَسَاكِرِ، فَأَتَاهُ كِتَابُ أَبِي الْهَيْجَاءِ بْنِ مُوسَكَ الْكُرْدِيِّ الْهَذَبَانِيِّ، صَاحِبِ إِرَبْلَ، يَذْكُرُ اسْتِيلَاءَ جَاوْلِي عَلَى الْبَوَازِيجِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنْ لَمْ تُعَجِّلِ الْمَجِيءَ لِنَجْتَمِعَ عَلَيْهِ وَنَمْنَعَهُ، وَإِلَّا اضْطُرِرْتُ إِلَى مُوَافَقَتِهِ وَالْمَصِيرِ مَعَهُ، فَبَادَرَ جَكَرْمِشُ وَعَبَرَ إِلَى شَرْقِيِّ دِجْلَةَ، وَسَارَ إِلَى عَسْكَرِ الْمَوْصِلِ قَبْلَ اجْتِمَاعِ عَسَاكِرِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو الْهَيْجَاءِ عَسْكَرَهُ مَعَ أَوْلَادِهِ، فَاجْتَمَعُوا بِقَرْيَةِ بَاكَلْبَا مِنْ أَعْمَالِ إِرَبْلَ.

وَوَافَاهُمْ جَاوْلِي وَهُوَ فِي أَلْفِ فَارِسٍ، وَكَانَ جَكَرْمِشُ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَلَا يَشُكُّ أَنَّهُ يَأْخُذُ جَاوْلِي بِالْيَدِ، فَلَمَّا اصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ حَمَلَ جَاوْلِي مِنَ الْقَلْبِ عَلَى قَلْبِ جَكَرْمِشَ فَانْهَزَمَ مَنْ فِيهِ، وَبَقِيَ جَكَرْمِشُ وَحْدَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْهَزِيمَةِ لِفَالِجٍ كَانَ بِهِ، فَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَرْكَبَ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ فِي مِحَفَّةٍ، فَلَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ قَاتَلَ عَنْهُ رِكَابِيٌّ أَسْوَدُ قِتَالًا عَظِيمًا، فَقُتِلَ، وَقَاتَلَ مَعَهُ وَاحِدٌ مِنْ أَوْلَادِ الْمَلِكِ قَارُوتَ بِكْ بْنِ دَاوُدَ، اسْمُهُ أَحْمَدُ، فَقَاتَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَطُعِنَ فَجُرِحَ وَانْهَزَمَ، فَمَاتَ بِالْمَوْصِلِ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَصْحَابُ جَاوْلِي عَلَى الْوُصُولِ إِلَى جَكَرْمِشَ، حَتَّى قُتِلَ الرِّكَابِيُّ الْأَسْوَدُ فَحِينَئِذٍ أَخَذُوهُ أَسِيرًا وَأَحْضَرُوهُ عِنْدَ جَاوْلِي، فَأَمَرَ بِحِفْظِهِ وَحِرَاسَتِهِ. وَكَانَتْ عَسَاكِرُ جَكَرْمِشَ الَّتِي اسْتَدْعَاهَا، قَدْ وَصَلَتْ إِلَى الْمَوْصِلِ بَعْدَ مَسِيرِهِ بِيَوْمَيْنِ، فَسَارُوا جَرَائِدَ لِيُدْرِكُوا الْحَرْبَ، فَلَقِيَهُمُ الْمُنْهَزِمُونَ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا. ذِكْرُ حَصْرِ جَاوْلِي سَقَاوُو الْمَوْصِلَ وَمَوْتِ جَكَرْمِشَ لَمَّا انْهَزَمَ الْعَسْكَرُ، وَأُسِرَ جَكَرْمِشُ، وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَأَقْعَدُوا فِي الْأَمْرِ زِنْكِي بْنَ جَكَرْمِشَ، وَهُوَ صَبِيٌّ عَمْرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَخَطَبُوا لَهُ، وَأَحْضَرُوا أَعْيَانَ الْبَلَدِ، وَالْتَمَسُوا مِنْهُمُ الْمُسَاعَدَةَ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ. وَكَانَ مُسْتَحْفِظُ الْقَلْعَةِ مَمْلُوكًا لِجَكَرْمِشَ اسْمُهُ غَزْغَلِي، فَقَامَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامَ الْمُرْضِيَ، وَفَرَّقَ الْأَمْوَالَ الَّتِي جَمَعَهَا جَكَرْمِشُ، وَالْخُيُولَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ عَلَى الْجُنْدِ، وَكَاتَبَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ، وَقِلْجَ أَرْسِلَانَ، وَالْبُرْسُقِيَّ، شِحْنَةَ بَغْدَاذَ، بِالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهِمْ، وَمَنْعِ جَاوْلِي مِنْهُمْ، وَوَعَدُوا كُلًّا مِنْهُمْ أَنْ يُسَلِّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ. فَأَمَّا صَدَقَةُ فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَرَأَى طَاعَةَ السُّلْطَانِ، وَأَمَّا الْبُرْسُقِيُّ وَقِلْجُ أَرْسِلَانَ فَنَذْكُرُ حَالَهُمَا. ثُمَّ إِنَّ جَاوْلِي حَصَرَ الْمَوْصِلَ، وَمَعَهُ كَرْمَاوِيُّ بْنُ خُرَاسَانَ التُّرْكُمَانِيُّ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَأَمَرَ أَنْ يُحْمَلَ جَكَرْمِشُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى بَغْلٍ وَيُنَادِي أَصْحَابَهُ بِالْمَوْصِلِ لِيُسَلِّمُوا الْبَلَدَ وَيُخَلِّصُوا صَاحِبَهُمْ مِمَّا هُوَ فِيهِ، وَيَأْمُرُهُمْ هُوَ بِذَلِكَ، فَلَا

يَسْمَعُونَ مِنْهُ، وَكَانَ يَسْجُنُهُ فِي جُبٍّ، وَيُوَكِّلُ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ لِئَلَّا يُسْرَقَ، فَأُخْرِجَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ مَيِّتًا، وَعَمْرُهُ نَحْوَ سِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ شَأْنُهُ قَدْ عَلَا، وَمَنْزِلَتُهُ قَدْ عَظُمَتْ، وَكَانَ قَدْ شَيَّدَ سُورَ الْمَوْصِلِ وَقَوَّاهُ، وَبَنَى عَلَيْهَا فَصِيلًا، وَحَفَرَ خَنْدَقَهَا، وَحَصَّنَهَا غَايَةَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَكَانَ مَعَ جَكَرْمِشَ رَجُلٌ مِنْ أَعْيَانِ الْمَوْصِلِ يُقَالُ لَهُ أَبُو طَالِبِ بْنُ كُسَيْرَاتٍ، وَبَنُو كُسَيْرَاتٍ إِلَى الْآنِ بِالْمَوْصِلِ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِهَا، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ قَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ جَكَرْمِشَ، وَارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أُمُورِهِ، وَحَضَرَ مَعَهُ الْحَرْبَ، فَلَمَّا أُسِرَ جَكَرْمِشُ هَرَبَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى إِرْبَلَ، وَكَانَ أَوْلَادُ أَبِي الْهَيْجَاءِ، صَاحِبِ إِرْبَلَ، قَدْ حَضَرُوا الْحَرْبَ مَعَ جَكَرْمِشَ، وَأَسَرَهُمْ جَاوْلِي، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ يَطْلُبُ ابْنَ كُسَيْرَاتٍ، فَأَطْلَقَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَيْهِ، فَأَطْلَقَ جَاوْلِي ابْنَ أَبِي الْهَيْجَاءِ، فَلَمَّا حَضَرَ ابْنُ كُسَيْرَاتٍ عِنْدَ جَاوْلِي ضَمِنَ لَهُ فَتْحَ الْمَوْصِلِ وَبِلَادِ جَكَرْمِشَ، وَتَحْصِيلَ الْأَمْوَالِ، فَاعْتَقَلَهُ اعْتِقَالًا جَمِيلًا. وَكَانَ قَاضِي الْمَوْصِلِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ وَدْعَانَ عَدُوًّا لِأَبِي طَالِبٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى جَاوْلِي يَقُولُ لَهُ: إِنْ قَتَلْتَ أَبَا طَالِبٍ سَلَّمْتُ الْمَوْصِلَ إِلَيْكَ، فَقَتَلَهُ وَأَرْسَلَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، فَأَظْهَرَ الشَّمَاتَةَ بِهِ، وَأَخَذَ كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِ وَوَدَائِعِهِ، فَثَارَ بِهِ الْأَتْرَاكُ غَضَبًا لِأَبِي طَالِبٍ وَلِتَفَرُّدِهِ بِمَا أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِ، فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَهْرٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ رَأَيْنَا كَثِيرًا، وَسَمِعْنَا مَا لَا نُحْصِيهِ مِنْ قُرْبِ وَفَاةِ أَحَدِ الْمُتَعَادِيَيْنِ بَعْدَ صَاحِبِهِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ مَلِكِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ والْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَحْشَةٌ مُسْتَحْكِمَةٌ بَيْنَ مَلِكِ الرُّومِ، صَاحِبِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَبَيْنَ بِيمُنْدَ الْفِرِنْجيِّ، فَسَارَ بِيمُنْدُ إِلَى بَلَدِ مَلِكِ الرُّومِ وَنَهَبَهُ، وَعَزَمَ عَلَى قَصْدِهِ، فَأَرْسَلَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى الْمَلِكِ قِلْجِ أَرْسِلَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ، صَاحِبِ قُونِيَةَ وَأَقْصَرَا وَغَيْرِهِمَا مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ، يَسْتَنْجِدُهُ، فَأَمَدَّهُ بِجَمْعٍ مِنْ عَسْكَرِهِ، فَقَوِيَ بِهِمْ، وَتَوَجَّهَ إِلَى بِيمُنْدَ، فَالْتَقَوْا وَتَصَافُّوا وَاقْتَتَلُوا، وَصَبَرَ الْفِرِنْجُ بِشَجَاعَتِهِمْ، وَصَبَرَ الرُّومُ وَمَنْ مَعَهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ، وَدَامَتِ الْحَرْبُ، ثُمَّ أَجْلَتِ الْوَقْعَةُ عَنْ هَزِيمَةِ الْفِرِنْجِ، وَأَتَى الْقَتْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، وَأُسِرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَالَّذِينَ سَلِمُوا عَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ بِالشَّامِ، وَعَادَ عَسْكَرُ قِلْجِ أَرْسِلَانَ إِلَى بِلَادِهِمْ

عَازِمِينَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى صَاحِبِهِمْ بِدِيَارِ الْجَزِيرَةِ، فَأَتَاهُمْ خَبَرُ قَتْلِهِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَتَرَكُوا الْحَرَكَةَ وَأَقَامُوا. ذِكْرُ مُلْكِ قِلْجِ أَرْسِلَانَ الْمَوْصِلَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْحَابَ جَكَرْمِشَ كَتَبُوا إِلَى الْأَمِيرِ صَدَقَةَ، وَقَسِيمِ الدَّوْلَةِ الْبُرْسُقِيِّ، وَالْمَلِكِ قِلْجِ أَرْسِلَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشَ السَّلْجُوقِيِّ، صَاحِبِ بِلَادِ الرُّومِ، يَسْتَدْعُونَ كُلًّا مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ لِيُسَلِّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ، فَأَمَّا صَدَقَةُ فَامْتَنَعَ، وَرَأَى طَاعَةَ السُّلْطَانِ، وَأَمَّا قُلْجُ أَرْسِلَانُ فَإِنَّهُ سَارَ فِي عَسَاكِرِهِ فَلَمَّا سَمِعَ جَاوْلِي سَقَاوُو بِوُصُولِهِ إِلَى نَصِيبِينَ رَحَلَ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَأَمَّا الْبُرْسُقِيُّ فَإِنَّهُ كَانَ شِحْنَةَ بَغْدَاذَ، فَسَارَ مِنْهَا إِلَى الْمَوْصِلِ، فَوَصَلَهَا بَعْدَ رَحِيلِ جَاوْلِي عَنْهَا، فَنَزَلَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَحَدٌ إِلَيْهِ، وَلَا أَرْسَلُوا إِلَيْهِ كَلِمَةً وَاحِدَةً، فَعَادَ فِي بَاقِي يَوْمِهِ. ثُمَّ إِنَّ قِلْجَ أَرْسِلَانَ لَمَّا وَصَلَ إِلَى نَصِيبِينَ أَقَامَ بِهَا حَتَّى كَثُرَ جَمْعُهُ، فَلَمَّا سَمِعَ جَاوْلِي بِقُرْبِهِ رَحَلَ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَى سِنْجَارَ، وَأَوْدَعَ رَحْلَهُ بِهَا، وَاتَّصَلَ بِهِ الْأَمِيرُ إِيلْغَازِي بْنُ أُرْتُقَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ عَسْكَرِ جَكَرْمِشَ، فَصَارَ مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ فَارِسٍ، فَأَتَاهُ كِتَابُ الْمَلِكِ رِضْوَانَ يَسْتَدْعِيهِ إِلَى الشَّامِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ الْفِرِنْجَ قَدْ عَجَزَ مَنْ بِالشَّامِ عَنْ مَنْعِهِمْ، فَسَارَ إِلَى الرَّحْبَةِ. وَأَرْسَلَ أَهْلُ الْمَوْصِلِ وَعَسْكَرُ جَكَرْمِشَ إِلَى قِلْجِ أَرْسِلَانَ، وَهُوَ بِنَصِيبِينَ، فَاسْتَحْلَفُوهُ لَهُمْ، فَحَلَفَ، وَاسْتَحْلَفَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ لَهُ وَالْمُنَاصَحَةِ، وَسَارَ مَعَهُمْ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَمَلَكَهَا فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَنَزَلَ بِالْمُعَرَّقَةِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ وَلَدُ جَكَرْمِشَ وَأَصْحَابُهُ، فَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَجَلَسَ عَلَى التَّخْتِ، وأَسْقَطَ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ بَعْدَ الْخَلِيفَةِ، وَأَحْسَنَ إِلَى الْعَسْكَرِ، وَأَخَذَ الْقَلْعَةَ مِنْ غَزْغَلِي، مَمْلُوكِ جَكَرْمِشَ، وَجَعَلَ لَهُ فِيهَا دَزْدَارًا، وَرَفَعَ الرُّسُومَ الْمُحْدَثَةَ فِي الظُّلْمِ، وَعَدَلَ فِي النَّاسِ وَتَأَلَّفَهُمْ، وَقَالَ: مَنْ سَعَى إِلَيَّ بِأَحَدٍ قَتَلْتُهُ، فَلَمْ يَسْعَ أَحَدٌ بِأَحَدٍ، وَأَقَرَّ الْقَاضِيَ

أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ الشَّهْرَزُورِيِّ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْمَوْصِلِ، وَجَعَلَ الرِّئَاسَةَ لِأَبِي بَرَكَاتٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَمِيسٍ، وَهُوَ وَالِدُ شَيْخِنَا أَبِي الرَّبِيعِ سُلَيْمَانَ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ قِلْجِ أَرْسِلَانَ الْأَمِيرُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَنَّالَ التُّرْكُمَانِيُّ، صَاحِبُ آمِدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَبْقَ التُّرْكُمَانِيُّ، صَاحِبُ حِصْنِ زِيَادٍ، وَهُوَ خَرْتَبِرْتُ. فَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَنَّالَ فَكَانَ سَبَبُ مُلْكِهِ لِمَدِينَةِ آمِدَ أَنَّ تَاجَ الدَّوْلَةِ تُتُشَ، حِينَ مَلَكَ دِيَارَ بَكْرٍ، سَلَّمَهَا إِلَيْهِ، فَبَقِيَتْ بِيَدِهِ، وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ جَبْقَ فَكَانَ سَبَبُ مُلْكِهِ لِحِصْنِ زِيَادٍ أَنَّ هَذَا الْحِصْنَ كَانَ بِيَدِ الْفَلَادْرُوسِ الرُّومِيِّ، تُرْجُمَانِ مَلِكِ الرُّومِ، وَكَانَتِ الرُّهَا وَأَنْطَاكِيَةُ مِنْ أَعْمَالِهِ، فَلَمَّا مَلَكَ سُلَيْمَانُ بْنُ قُتُلْمِشَ، وَالِدُ قِلْجِ أَرْسِلَانَ هَذَا أَنْطَاكِيَةَ، وَمَلَكَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ دِيَارَ بَكْرٍ، ضَعُفَ الْفَلَادْرُوسُ عَنْ إِقَامَةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ حِصْنُ زِيَادٍ مِنَ الْمِيرَةِ وَالْإِقَامَةِ، فَأَخَذَهُ جَبْقُ، وَأَسْلَمَ الْفَلَادْرُوسُ عَلَى يَدِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَأَمَّرَهُ عَلَى الرُّهَا، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ وَأَخَذَهَا الْأَمِيرُ بَزَّانُ بَعْدَهُ. وَكَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ حِصْنِ زِيَادٍ حِصْنٌ آخَرُ بِيَدِ إِنْسَانٍ مِنَ الرُّومِ اسْمُهُ إِفْرِنْجِيُّ، وَكَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَيُكْثِرُ قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ جَبْقُ هَدِيَّةً، وَخَطَبَ إِلَيْهِ مَوَدَّتَهُ، وَأَنْ يُعِينَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَكَانَ جَبْقُ يُعِينُ إِفْرِنْجِيَّ عَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إِفْرِنْجِيُّ يُعِينَ جَبْقَ، فَلَمَّا وَثَقَ كُلُّ وَاحِدٍ بِصَاحِبِهِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ جَبْقُ: إِنِّي أُرِيدُ قَصْدَ بَعْضِ الْأَمَاكِنِ، وَطَلَبَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ أَصْحَابَهُ، فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَارُوا مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ تَقَدَّمَ بِكَتِفِهِمْ، وَحَمَلَهُمْ إِلَى قَلْعَةِ إِفْرِنْجِيَّ، وَقَالَ لِأَهْلِيهِمْ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تُسَلِّمُوا إِلَيَّ إِفْرِنْجِيَّ لَأَضْرِبَنَّ أَعْنَاقَهُمْ، وَلَآخُذَنَّ الْحِصْنَ عَنْوَةً، وَلَأَقْتُلَنَّكُمْ عَلَى دَمٍ وَاحِدٍ. فَفَتَحُوا لَهُ الْحِصْنَ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ إِفْرِنْجِيَّ، فَسَلَخَهُ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُ وَسِلَاحَهُ، وَكَانَ عَظِيمًا، وَمَاتَ جَبْقُ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ. ذِكْرُ قَتْلِ قِلْجِ أَرْسِلَانَ وَمُلْكِ جَاوْلِي الْمَوْصِلِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قِلْجِ أَرْسِلَانَ لَمَّا وَصَلَ إِلَى نَصِيبِينَ سَارَ جَاوْلِي عَنِ الْمَوْصِلِ إِلَى

سِنْجَارَ، ثُمَّ إِلَى الرَّحْبَةِ، فَوَصَلَهَا فِي رَجَبٍ، وَحَصَرَهَا إِلَى الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانَ صَاحِبُهَا يُعْرَفُ بِمُحَمَّدِ بْنِ السَّبَّاقِ، وَهُوَ مَنْ بَنِي شَيْبَانَ، رَتَّبَهُ بِهَا الْمَلِكُ دُقَاقُ لَمَّا فَتَحَهَا، وَأَخَذَ وَلَدَهُ رَهِينَةً، وَحَمَلَهُ مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَرْسَلَ هَذَا الشَّيْبَانِيُّ قَوْمًا سَرَقُوا وَلَدَهُ وَحَمَلُوهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ خَلَعَ الطَّاعَةَ لِلدِّمَشْقِيِّينَ، وَخَطَبَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِقِلْجِ أَرْسِلَانَ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا جَاوْلِي وَحَصَرَهَا، أَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ رِضْوَانَ يُعَرِّفُهُ أَنَّهُ عَلَى الِاجْتِمَاعِ بِهِ وَمُسَاعَدَتِهِ عَلَى مَنْ يُحَارِبُهُ، وَيَشْرُطُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا تَسَلَّمَ الْبِلَادَ سَارَ مَعَهُ لِيَكْشِفَ الْفِرِنْجَ عَنْ بِلَادِهِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُمَا حَضَرَ عِنْدَهُ رِضْوَانُ، فَاشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأُمُورُ. وَاتَّفَقَ جَمَاعَةٌ كَانُوا بِأَحَدِ الْأَبْرَاجِ، وَأَرْسَلُوا إِلَى جَاوْلِي، وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى حِفْظِهِمْ وَحِرَاسَتِهِمْ، وَأَمَرُوهُ أَنْ يَقْصِدَ الْبُرْجَ الَّذِي هُمْ فِيهِ عِنْدَ انْتِصَافِ اللَّيْلِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَرَفَعَ مَنْ فِي الْبُرْجِ أَصْحَابَهُ إِلَيْهِمْ فِي الْحِبَالِ، فَضَرَبُوا بُوقَاتِهِمْ وَطُبُولَهُمْ، فَخُذِلَ مَنْ فِي الْبَلَدِ، وَدَخَلَ أَصْحَابُ جَاوْلِي فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَنَهَبُوهُ إِلَى الظُّهْرِ، ثُمَّ أَمَرَ بِرَفْعِ النَّهْبِ، وَنَزَلَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ الشَّيْبَانِيُّ صَاحِبُ الْبَلَدِ، وَأَطَاعَهُ، وَصَارَ مَعَهُ. ثُمَّ إِنَّ قِلْجَ أَرْسِلَانَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ الْمَوْصِلِ سَارَ عَنْهَا إِلَى جَاوْلِي سَقَاوُو لِيُحَارِبَهُ، وَجَعَلَ ابْنَهُ مَلِكْشَاهْ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ، وَعُمْرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَعَهُ أَمِيرٌ يُدَبِّرُهُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَكَانَتْ عِدَّةُ عَسْكَرِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ بِالْعُدَّةِ الْكَامِلَةِ وَالْخَيْلِ الْجَيِّدَةِ. وَسَمِعَ الْعَسْكَرُ بِقُوَّةِ جَاوْلِي، فَاخْتَلَفُوا، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ خَالَفَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَنَّالَ، صَاحِبُ آمِدَ، فَإِنَّهُ فَارَقَ خِيَامَهُ وَأَثْقَالَهُ وَعَادَ مِنَ الْخَابُورِ إِلَى بَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ، وَعَمِلَ قِلْجُ أَرْسِلَانُ عَلَى الْمُطَاوَلَةِ لَمَّا بَلَغَهُ مِنْ قُوَّةِ جَاوْلِي وَكَثْرَةِ جُمُوعِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى بِلَادِهِ يَطْلُبُ عَسْكَرَهُ لِأَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ مَلِكِ الرُّومِ نَجْدَةً لَهُ عَلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْخَابُورِ بَلَغَتْ عِدَّتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ. وَكَانَ مَعَ جَاوْلِي أَرْبَعَةُ آلَافٍ، مِنْ جُمْلَتِهِمُ الْمَلِكُ رِضْوَانُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ عَسْكَرِهِ، إِلَّا أَنَّ شُجْعَانَهُ أَكْثَرُ، وَاغْتَنَمَ جَاوْلِي قِلَّةَ عَسْكَرِ قِلْجِ أَرْسِلَانَ، فَقَاتَلَهُ قَبْلَ وُصُولِ عَسَاكِرِهِ إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَحَمَلَ قِلْجُ أَرْسِلَانَ عَلَى الْقَوْمِ بِنَفْسِهِ، حَتَّى خَالَطَهُمْ، فَضَرَبَ يَدَ صَاحِبِ الْعَلَمِ فَأَبَانَهَا، وَوَصَلَ إِلَى جَاوْلِي بِنَفْسِهِ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ،

فَقَطَعَ الْكُزَاغَنْدَ وَلَمْ يَصِلْ إِلَى بَدَنِهِ، وَحَمَلَ أَصْحَابُ جَاوْلِي عَلَى أَصْحَابِهِ فَهَزَمُوهُمْ، وَاسْتَبَاحُوا ثَقَلَهُمْ وَسَوَادَهُمْ. فَلَمَّا رَأَى قِلْجُ أَرْسِلَانَ انْهِزَامَ عَسْكَرِهِ عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ أُسِرَ فُعِلَ بِهِ فِعْلُ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ نَازَعَ السُّلْطَانَ فِي بِلَادِهِ، وَاسْمَ السَّلْطَنَةِ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْخَابُورِ، وَحَمَى نَفْسَهُ، مِنْ أَصْحَابِ جَاوْلِي بِالنُّشَّابِ، فَانْحَدَرَ بِهِ الْفَرَسُ إِلَى مَاءٍ عَمِيقٍ فَغَرِقَ، وَظَهَرَ بَعْدَ عِدَّةِ أَيَّامٍ فَدُفِنَ بِالشَّمْسَانِيَّةِ وَهِيَ مِنْ قُرَى الْخَابُورِ. وَسَارَ جَاوْلِي إِلَى الْمَوْصِلِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا فَتَحَ أَهْلُهَا لَهُ بَابَهَا، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مَنْ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ قِلْجِ أَرْسِلَانَ مِنْ مَنْعِهِمْ، وَنَزَلَ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَأُخِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ جَكَرْمِشَ الَّذِينَ حَضَرُوا الْوَقْعَةَ مَعَ قِلْجِ أَرْسِلَانَ إِلَى جِهَةٍ، فَلَمَّا مَلَكَ جَاوْلِي الْمَوْصِلَ أَعَادَ خُطْبَةَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَصَادَرَ جَمَاعَةَ مَنْ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ جَكَرْمِشَ، وَسَارَ إِلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَبِهَا حَبَشِيُّ بْنُ جَكَرْمِشَ، وَمَعَهُ أَمِيرٌ مِنْ غِلْمَانِ أَبِيهِ اسْمُهُ غَزْغَلِي، فَحَصَرَهُ مُدَّةً، ثُمَّ إِنَّهُمْ صَالَحُوهُ، وَحَمَلُوا إِلَيْهِ سِتَّةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَغَيْرَهَا مِنَ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ، وَرَحَلَ عَنْهُمْ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَأَرْسَلَ مَلِكْشَاهْ بْنَ قِلْجِ أَرْسِلَانَ إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ. ذِكْرُ أَحْوَالِ الْبَاطِنِيَّةِ وَقَتْلِ ابْنِ عَطَّاشٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ الْقَلْعَةَ الَّتِي كَانَ الْبَاطِنِيَّةُ مَلَكُوهَا بِالْقُرْبِ مِنْ أَصْبَهَانَ، وَاسْمُهَا شَاهْ دَزْ، وَقُتِلَ صَاحِبُهَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَطَّاشٍ، وَوَلَدُهُ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْقَلْعَةُ قَدْ بَنَاهَا مَلِكْشَاهْ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا بَعْدَهُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَطَّاشٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ اتَّصَلَ بِدَزْدَارٍ كَانَ لَهَا، فَلَمَّا مَاتَ اسْتَوْلَى أَحْمَدُ عَلَيْهَا، وَكَانَ الْبَاطِنِيَّةُ بِأَصْبَهَانَ قَدْ أَلْبَسُوهُ تَاجًا، وَجَمَعُوا لَهُ أَمْوَالًا، وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ لِتَقَدُّمِ أَبِيهِ

عَبْدَ الْمَلِكِ فِي مَذْهَبِهِمْ، فَإِنَّهُ كَانَ أَدِيبًا بَلِيغًا، حَسَنَ الْخَطِّ، سَرِيعَ الْبَدِيهَةِ، عَفِيفًا، وَابْتُلِيَ بِحُبِّ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَكَانَ ابْنُهُ أَحْمَدُ هَذَا جَاهِلًا لَا يَعْرِفُ شَيْئًا، وَقِيلَ لِابْنِ الصَّبَّاحِ، صَاحِبِ قَلْعَةِ أَلَمَوْتَ: لِمَاذَا تُعَظِّمُ ابْنَ عَطَّاشٍ مَعَ جَهْلِهِ؟ قَالَ: لِمَكَانِ أَبِيهِ، لِأَنَّهُ كَانَ أُسْتَاذِي. وَصَارَ لِابْنِ عَطَّاشٍ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَبَأْسٌ شَدِيدٌ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ بِالْقَلْعَةِ، فَكَانَ يُرْسِلُ أَصْحَابَهُ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ مَنْ قَدَرُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا لَا يُمْكِنُ إِحْصَاؤُهُمْ، وَجَعَلُوا لَهُ عَلَى الْقُرَى السُّلْطَانِيَّةِ وَأَمَّلَاكِ النَّاسِ ضَرَائِبَ يَأْخُذُونَهَا لِيَكَفُّوا عَنْهَا الْأَذَى، فَتَعَذَّرَ بِذَلِكَ انْتِفَاعُ السُّلْطَانِ بِقُرَاهُ، وَالنَّاسُ بِأَمْلَاكِهِمْ، وَتَمَشَّى لَهُمُ الْأَمْرُ بِالْخُلْفِ الْوَاقِعِ بَيْنَ السُّلْطَانَيْنِ بَرْكِيَارُقَ وَمُحَمَّدٍ. فَلَمَّا صَفَتِ السَّلْطَنَةُ لِمُحَمَّدٍ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مُنَازِعٌ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَمْرٌ أَهَمَّ مِنْ قَصْدِ الْبَاطِنِيَّةِ وَحَرْبِهِمْ، وَالِانْتِصَافِ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ جَوْرِهِمْ وَعَسْفِهِمْ، فَرَأَى الْبِدَايَةَ بِقَلْعَةِ أَصْبَهَانَ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ، لِأَنَّ الْأَذَى بِهَا أَكْثَرُ، وَهِيَ مُتَسَلِّطَةٌ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ فَحَاصَرَهُمْ فِي سَادِسِ شَعْبَانَ. وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ أَوَّلَ رَجَبٍ، فَسَاءَ ذَلِكَ مَنْ يَتَعَصَّبُ لَهُمْ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَأَرْجَفُوا أَنَّ قِلْجَ أَرْسِلَانَ بْنَ سُلَيْمَانَ قَدْ وَرَدَ بَغْدَاذَ وَمَلَكَهَا، وَافْتَعَلُوا فِي ذَلِكَ مُكَاتَبَاتٍ، ثُمَّ أَظْهَرُوا أَنَّ خَلَلًا قَدْ تَجَدَّدَ بِخُرَاسَانَ، فَتَوَقَّفَ السُّلْطَانُ لِتَحْقِيقِ الْأَمْرِ، فَلَمَّا ظَهَرَ بُطْلَانُهُ عَزَمَ عَزِيمَةَ مِثْلِهِ، وَقَصَدَ حَرْبَهُمْ، وَصَعِدَ جَبَلًا يُقَابِلُ الْقَلْعَةَ مِنْ غَرْبِيِّهَا، وَنُصِبَ لَهُ التَّخْتُ فِي أَعْلَاهُ، وَاجْتَمَعَ لَهُ مِنْ أَصْبَهَانَ وَسَوَادِهَا لِحَرْبِهِمُ الْأُمَمُ الْعَظِيمَةُ لِلذُّحُولِ الَّتِي يُطَالِبُونَهُمْ بِهَا. وَأَحَاطُوا بِجَبَلِ الْقَلْعَةِ وَدُورُهُ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، وَرَتَّبَ الْأُمَرَاءَ لِقِتَالِهِمْ، فَكَانَ يُقَاتِلُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ أَمِيرٌ، فَضَاقَ الْأَمْرُ بِهِمْ، وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَيْهِمْ، وَتَعَذَّرَتْ عِنْدَهُمُ الْأَقْوَاتُ. فَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ كَتَبُوا فَتْوَى فِيهَا: مَا يَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ فِي

قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَإِنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُونَ فِي الْإِمَامِ: هَلْ يَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ مُهَادَنَتُهُمْ وَمُوَادَعَتُهُمْ، وَأَنْ يَقْبَلَ طَاعَتَهُمْ، وَيَحْرُسَهُمْ مِنْ كُلِّ أَذًى؟ فَأَجَابَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ، فَجُمِعُوا لِلْمُنَاظَرَةِ، وَمَعَهُمْ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّمَنْجَانِيُّ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَالَ، بِمَحْضَرٍ مِنَ النَّاسِ، يَجِبُ قِتَالُهُمْ، وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ بِمَكَانِهِمْ، وَلَا يَنْفَعُهُمُ التَّلَفُّظُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَإِنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا عَنْ إِمَامِكُمْ، إِذَا أَبَاحَ لَكُمْ مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ، أَوْ حَظَرَ عَلَيْكُمْ مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ أَتَقْبَلُونَ أَمْرَهُ؟ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ نَعَمْ، وَحِينَئِذٍ تُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ. وَطَالَتِ الْمُنَاظَرَةُ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ الْبَاطِنِيَّةَ سَأَلُوا السُّلْطَانَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يُنَاظِرُهُمْ، وَعَيَّنُوا عَلَى أَشْخَاصٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو الْعَلَاءِ صَاعِدُ بْنُ يَحْيَى، شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ بأَصْبَهَانَ، وَقَاضِيهَا، وَغَيْرُهُ، فَصَعِدُوا إِلَيْهِمْ وَنَاظَرُوهُمْ، وَعَادُوا كَمَا صَعِدُوا. وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُمُ التَّعَلُّلَ وَالْمُطَاوَلَةَ، فَلَجَّ حِينَئِذٍ السُّلْطَانُ فِي حَصْرِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا عَيْنَ الْمُحَاقَّةِ، أَذْعَنُوا إِلَى تَسْلِيمِ الْقَلْعَةِ عَلَى أَنْ يُعْطَوْا عِوَضًا عَنْهَا قَلْعَةَ خَالِنْجَانَ، وَهِيَ عَلَى سَبْعَةِ فَرَاسِخَ مِنْ أَصْبَهَانَ، وَقَالُوا: إِنَّا نَخَافُ عَلَى دِمَائِنَا وَأَمْوَالِنَا مِنَ الْعَامَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَكَانٍ نَحْتَمِي بِهِ مِنْهُمْ، فَأُشِيرَ عَلَى السُّلْطَانِ بِإِجَابَتِهِمْ إِلَى مَا طَلَبُوا، فَسَأَلُوا أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ إِلَى النَّوْرُوزِ لِيَرْحَلُوا إِلَى خَالِنْجَانَ وَيُسَلِّمُوا قَلْعَتَهُمْ، وَشَرَطُوا أَنْ لَا يَسْمَعَ قَوْلَ مُتَنَصِّحٍ فِيهِمْ، وَإِنْ قَالَ أَحَدٌ عَنْهُمْ شَيْئًا سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّ مَا أَتَاهُ مِنْهُمْ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ، وَطَلَبُوا أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِقَامَةِ مَا يَكْفِيهِمْ يَوْمًا بِيَوْمٍ، فَأُجِيبُوا إِلَيْهِ فِي كُلِّ هَذَا، وَقَصْدُهُمُ الْمُطَاوَلَةُ انْتِظَارًا لَفَتْقٍ أَوَحَادَثٍ يَتَجَدَّدُ. وَرَتَّبَ لَهُمْ وَزِيرُ السُّلْطَانِ سَعْدُ الْمُلْكِ مَا يُحْمَلُ إِلَيْهِمْ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ، وَجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فَجَعَلُوا هُمْ يُرْسِلُونَ، وَيَبْتَاعُونَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ مَا يَجْمَعُونَهُ لِيَمْتَنِعُوا فِي قَلْعَتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ وَضَعُوا مِنْ أَصْحَابِهِمْ مَنْ يَقْتُلُ أَمِيرًا كَانَ يُبَالِغُ فِي قِتَالِهِمْ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ وَجَرَحُوهُ، وَسَلِمَ مِنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِإِخْرَابِ قَلْعَةِ

خَالِنْجَانَ، وَجَدَّدَ الْحِصَارَ عَلَيْهِمْ، فَطَلَبُوا أَنْ يَنْزِلَ بَعْضُهُمْ، وَيُرْسِلَ السُّلْطَانُ مَعَهُمْ مَنْ يَحْمِيهِمْ إِلَى أَنْ يَصِلُوا إِلَى قَلْعَةِ النَّاظِرِ بِأَرَّجَانَ، وَهِيَ لَهُمْ، وَيَنْزِلُ بَعْضُهُمْ، وَيُرْسِلُ مَعَهُمْ مَنْ يُوَصِّلُهُمْ إِلَى طَبَسَ، وَأَنْ يُقِيمَ الْبَقِيَّةُ مِنْهُمْ فِي ضِرْسٍ مِنَ الْقَلْعَةِ، إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يُخْبِرُهُمْ بِوُصُولِ أَصْحَابِهِمْ، فَيَنْزِلُونَ حِينَئِذٍ، وَيُرْسِلُ مَعَهُمْ مَنْ يُوَصِّلُهُمْ إِلَى ابْنِ الصَّبَّاحِ بِقَلْعَةِ أَلَمَوْتَ، فَأَجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ، فَنَزَلَ مِنْهُمْ إِلَى النَّاظِرِ، وَإِلَى طَبَسَ، وَسَارُوا، وَتَسَلَّمَ السُّلْطَانُ الْقَلْعَةَ وَخَرَّبَهَا. ثُمَّ إِنَّ الَّذِينَ سَارُوا إِلَى قَلْعَةِ النَّاظِرِ وَطَبَسَ وَصَلَ مِنْهُمْ مَنْ أَخْبَرَ ابْنَ عَطَّاشٍ بِوُصُولِهِمْ، فَلَمْ يُسَلِّمِ السِّنَّ الَّذِي بَقِيَ بِيَدِهِ، وَرَأَى السُّلْطَانُ مِنْهُ الْغَدْرَ، وَالْعَوْدَ عَنِ الَّذِي قَرَّرَهُ، فَأَمَرَ بِالزَّحْفِ إِلَيْهِ، فَزَحَفَ النَّاسُ عَامَّةً ثَانِيَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانَ قَدْ قَلَّ عِنْدَهُ مَنْ يَمْنَعُ وَيُقَاتِلُ، فَظَهَرَ مِنْهُمْ صَبْرٌ عَظِيمٌ، وَشُجَاعَةٌ زَائِدَةٌ، وَكَانَ قَدِ اسْتَأْمَنَ إِلَى السُّلْطَانِ إِنْسَانٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي أَدُلُّكُمْ عَلَى عَوْرَةٍ لَهُمْ، فَأَتَى بِهِمْ إِلَى جَانِبٍ لِذَلِكَ السِّنِّ لَهُمْ لَا يُرَامُ، فَقَالَ لَهُمْ: اصْعَدُوا مِنْ هَاهُنَا، فَقِيلَ إِنَّهُمْ قَدْ ضَبَطُوا هَذَا الْمَكَانَ وَشَحَنُوهُ بِالرِّجَالِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَرَوْنَ أَسْلِحَةٌ وَكُزَاغَنْدَاتٌ قَدْ جَعَلُوهَا كَهَيْئَةِ الرِّجَالِ لِقِلَّتِهِمْ عِنْدَهُمْ. وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ بَقِيَ ثَمَانِينَ رَجُلًا، فَزَحَفَ النَّاسُ مِنْ هُنَاكَ، فَصَعِدُوا مِنْهُ وَمَلَكُوا الْمَوْضِعَ، وَقُتِلَ أَكْثَرُ الْبَاطِنِيَّةِ، وَاخْتَلَطَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مَعَ مَنْ دَخَلَ، فَخَرَجُوا مَعَهُمْ، وَأَمَّا ابْنُ عَطَّاشٍ فَإِنَّهُ أُخِذَ أَسِيرًا، فَتُرِكَ أُسْبُوعًا، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَشُهِّرَ فِي جَمِيعِ الْبَلَدِ، وَسُلِخَ جِلْدُهُ، فَتَجَلَّدَ حَتَّى مَاتَ، وَحُشِيَ جِلْدُهُ تِبْنًا، وَقُتِلَ وَلَدُهُ، وَحُمِلَ رَأْسَاهُمَا إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَلْقَتْ زَوْجَتُهُ نَفْسَهَا مِنْ رَأْسِ الْقَلْعَةِ فَهَلَكَتْ، وَكَانَ مَعَهَا جَوَاهِرُ نَفِيسَةٌ لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهَا، فَهَلَكَتْ أَيْضًا وَضَاعَتْ، وَكَانَتْ مُدَّةُ الْبَلْوَى بِابْنِ عَطَّاشٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. ذِكْرُ الْخُلْفِ بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ وَمُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ صَاحِبِ الْبَطِيحَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اخْتَلَفَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَزْيَدٍ، وَمُهَذَّبُ الدَّوْلَةِ السَّعِيدُ بْنُ أَبِي

الْجَبْرِ، صَاحِبُ الْبَطِيحَةِ، وَانْضَافَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي الْجَبْرِ إِلَى صَدَقَةَ، وَأَظْهَرَ مُعَادَاةَ ابْنِ عَمِّهِ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ صَدَقَةَ لَمَّا أَقْطَعَهُ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ مَدِينَةَ وَاسِطَ ضَمِنَهَا مِنْهُ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ، وَاسْتَنَابَ فِي الْأَعْمَالِ أَوْلَادَهُ وَأَصْحَابَهُ، فَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ، وَفَرَّطُوا فِيهَا، وَفَرَّقُوهَا، فَلَمَّا انْقَضَتِ السَّنَةُ طَالَبَهُ صَدَقَةُ بِالْمَالِ، وَحَبَسَهُ، ثُمَّ سَعَى فِي خَلَاصِهِ بَدْرَانُ بْنُ صَدَقَةَ، وَهُوَ صِهْرُ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَبْسِ وَأَعَادَهُ إِلَى بَلَدِهِ الْبَطِيحَةِ وَضَمِنَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي الْجَبْرِ وَاسِطَ، فَانْحَلَّ عَلَى مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ كَثِيرٌ مِنْ أَمْرِهِ، فَآلَ الْأَمْرُ إِلَى الِاخْتِلَافِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ، فَإِنَّ الْمُصْطَنَعَ إِسْمَاعِيلَ، جَدَّ حَمَّادٍ، وَالْمُخْتَصَّ مُحَمَّدًا، وَالِدَ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، أَخَوَانِ، وَهُمَا ابْنَا أَبِي الْجَبْرِ، وَكَانَتْ إِلَيْهِمَا رِئَاسَةُ أَهْلِهِمَا وَجَمَاعَتِهِمَا، فَهَلَكَ الْمُصْطَنَعُ، وَقَامَ ابْنُهُ أَبُو السَّيِّدِ الْمُظَفَّرُ وَالِدُ حَمَّادٍ مَقَامَهُ وَهَلَكَ الْمُخْتَصُّ مُحَمَّدٌ، وَقَامَ ابْنُهُ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ مَقَامَهُ، وَصَارَا يَتَنَازَعَانِ ابْنَ الْهَيْثَمِ، صَاحِبَ الْبَطِيحَةِ، وَيُقَاتِلَانِهِ إِلَى أَنْ أَخَذَهُ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ، أَيَّامَ كُوهْرَائِينَ، وَسَلَّمَهُ إِلَى كُوهْرَائِينَ، فَحَمَلَهُ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَهَلَكَ فِي طَرِيقِهَا. فَعَظُمَ أَمْرُ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، وَصَيَّرَهُ كُوهَرَائِينُ أَمِيرُ الْبَطِيحَةِ، فَصَارَ ابْنُ عَمِّهِ وَجَمَاعَةٌ تَحْتَ حُكْمِهِ، وَكَانَ حَمَّادٌ شَابًّا فَأَكْرَمَهُ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ، وَزَوَّجَهُ بِنْتًا لَهُ، وَزَادَ فِي إِقْطَاعِهِ، فَكَثُرَ مَالُهُ، فَصَارَ يَحْسُدُ مُهَذِّبَ الدَّوْلَةِ، وَيُضْمِرُ بُغْضَهُ، وَرُبَّمَا ظَهَرَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَكَانَ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ يُدَارِيهِ بِجُهْدِهِ، فَلَمَّا هَلَكَ كُوهَرَائِينُ انْتَقَلَ حَمَّادٌ عَنْ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، وَأَظْهَرَ مَا فِي نَفْسِهِ، فَاجْتَهَدَ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ فِي إِعَادَتِهِ إِلَى مَا كَانَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَسَكَتَ عَنْهُ، فَجَمَعَ النَّفِيسُ بْنُ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ جَمْعًا وَقَصَدَ حَمَّادًا، فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِالْحِلَّةِ، فَأَعَادَهُ صَدَقَةُ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجُنْدِ، فَحَشَدَ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ، فَأَرْسَلَ حَمَّادٌ إِلَى صَدَقَةَ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الْجُنْدِ، فَقَوَّى عَزْمَ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْمُحَارَبَةِ لِئَلَّا يُظَنَّ بِهِ الْعَجْزُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَهْلُهُ بِتَرْكِ الْخُرُوجِ مِنْ مَوْضِعِهِ لِحَصَانَتِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَسَيَّرَ سُفُنَهُ وَأَصْحَابَهُ فِي الْأَنْهُرِ، فَجَعَلَ حَمَّادٌ وَأَخُوهُ لَهُ الْكُمَنَاءَ، وَانْدَفَعُوا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، فَطَمِعَ أَصْحَابُ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ وَتَبِعُوهُمْ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الْكُمَنَاءُ، فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ

إِلَّا مَنْ لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ وَأَسَرَ خَلْقًا كَثِيرًا، فَقَوِيَ طَمَعُ حَمَّادٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى صَدَقَةَ يَسْتَنْجِدُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُقَدَّمَ جَيْشِهِ سَعِيدَ بْنَ حُمَيْدٍ الْعُمَرِيَّ، وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُقَدَّمِينَ، وَجَمَعُوا السُّفُنَ لِيُقَاتِلُوا مُهَذِّبَ الدَّوْلَةِ، فَرَأَوْا أَمْرًا مُحْكَمًا، فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الدُّخُولُ إِلَيْهِ. وَكَانَ حَمَّادٌ بَخِيلًا، وَمُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ جَوَادًا، فَأَرْسَلَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْإِقَامَاتِ الْوَافِرَةَ، وَالصِّلَاتِ الْكَثِيرَةَ، وَاسْتَمَالَهُ، فَمَالَ إِلَيْهِ، وَاجْتَمَعَ بِهِ، وَتَقَرَّرَ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ أَرْسَلَ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ ابْنَهُ النَّفِيسَ إِلَى صَدَقَةَ، فَرَضِيَ عَنْهُ، وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ حَمَّادٍ ابْنِ عَمِّهِمْ، وَعَادُوا إِلَى حَالٍ حَسَنَةٍ مِنَ الِاتِّفَاقِ، وَكَانَ صُلْحُهُمْ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ. ذِكْرُ قَتَلِ وَزِيرِ السُّلْطَانِ وَوِزَارَةِ أَحْمَدَ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ عَلَى وَزِيرِهِ سَعْدِ الْمُلْكِ أَبِي الْمَحَاسِنِ، وَأَخَذَ مَالَهُ، وَصَلَبَهُ عَلَى بَابِ أَصْبَهَانَ، وَصَلَبَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ وَالْمُنْتَمِينَ إِلَيْهِ، أَمَّا الْوَزِيرُ فَنُسِبَ إِلَى خِيَانَةِ السُّلْطَانِ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ فَنُسِبُوا إِلَى اعْتِقَادِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِزَارَتِهِ سَنَتَيْنِ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ فِي ابْتِدَاءِ حَالِهِ يَصْحَبُ تَاجَ الْمُلْكِ أَبَا الْغَنَائِمِ، وَتَعَطَّلَ بَعْدَهُ ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، فَجَعَلَهُ عَلَى دِيوَانِ الِاسْتِيفَاءِ، وَخَدَمَ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا لَمَّا حَصَرَهُ أَخُوهُ السُّلْطَانُ بُرْكِيارُقَ بَأَصْبَهَانَ خِدْمَةً حَسَنَةً، وَلَمَّا فَارَقَهَا مُحَمَّدٌ حَفِظَهَا الْحِفْظَ التَّامَّ، وَقَامَ الْمَقَامَ الْعَظِيمَ، فَاسْتَوْزَرَهُ مُحَمَّدٌ، وَوَسَّعَ لَهُ فِي الْإِقْطَاعِ، وَحَكَّمَهُ فِي دَوْلَتِهِ، ثُمَّ نَكَبَهُ، وَهَذَا آخِرُ خِدْمَةِ الْمُلُوكِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: أَنْعَمُ النَّاسِ عَيْشًا مَنْ لَهُ مَا يَكْفِيهِ، وَزَوْجَةٌ تُرْضِيهِ، وَلَا يَعْرِفُ أَبْوَابَنَا هَذِهِ الْخَبِيثَةَ فَتُؤْذِيَهُ. وَلَمَّا قُبِضَ الْوَزِيرُ اسْتَشَارَ السُّلْطَانُ فِي مَنْ يَجْعَلُهُ وَزِيرًا، فَذُكِرَ لَهُ جَمَاعَةٌ، فَقَالَ السُّلْطَانُ: إِنَّ آبَائِي دَرُّوا عَلَى نِظَامِ الْمُلْكِ الْبَرَكَةَ، وَلَهُمْ عَلَيْهِ الْحَقُّ الْكَثِيرُ، وَأَوْلَادُهُ أَغْذِيَاءُ نِعْمَتِنَا، وَلَا مَعْدِلَ عَنْهُمْ. فَأَمَرَ لِأَبِي نَصْرٍ أَحْمَدَ هَذَا بِالْوِزَارَةِ، وَلُقِّبَ أَلْقَابَ أَبِيهِ: قِوَامُ الدِّينِ، نِظَامُ الْمُلْكِ، صَدْرُ الْإِسْلَامِ. وَكَانَ سَبَبُ قُدُومِهِ إِلَى بَابِ السُّلْطَانِ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى انْقِرَاضَ دَوْلَةِ أَهْلِ بَيْتِهِ لَزِمَ

دَارَهُ بِهَمَذَانَ، فَاتَّفَقَ أَنَّ رَئِيسَ هَمَذَانَ، وَهُوَ الشَّرِيفُ أَبُو هَاشِمٍ، آذَاهُ، فَسَارَ إِلَى السُّلْطَانِ شَاكِيًا مِنْهُ وَمُتَظَلِّمًا، فَقَبَضَ السُّلْطَانُ عَلَى الْوَزِيرِ، وَأَحْمَدَ هَذَا فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ ذَكَرَهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خُلَعَ الْوِزَارَةِ، وَحَكَّمَهُ وَمَكَّنَهُ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَهَذَا مِنَ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، فَإِنَّهُ حَضَرَ شَاكِيًا، فَصَارَ حَاكِمًا. ذِكْرُعِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، عُزِلَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ جَهِيرٍ، وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، فَقَصَدَ دَارَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ (صَدَقَةَ بَبَغْدَاذَ) (مُلْتَجِئًا إِلَيْهَا، وَكَانَتْ مَلْجَأً لِكُلِّ مَلْهُوفٍ) ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ صَدَقَةُ مَنْ أَخَذَهُ إِلَيْهِ إِلَى الْحِلَّةِ، وَكَانَتْ وِزَارَتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِنَقْضِ دَارِهِ الَّتِي بِبَابِ الْعَامَّةِ، وَفِيهَا عِبْرَةٌ، فَإِنَّ أَبَاهُ أَبَا نَصْرِ بْنَ جَهِيرٍ بَنَاهَا بِأَنْقَاضِ أَمْلَاكِ النَّاسِ، وَأَخَذَ بِسَبَبِهَا أَكْثَرَ مَا دَخَلَ فِيهَا، فَخَرِبَتْ عَنْ قَرِيبٍ. وَلَمَّا عُزِلَ اسْتُنِيبَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الدَّامَغَانِيِّ، ثُمَّ تَقَرَّرَتِ الْوِزَارَةُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِمِائَةٍ لِأَبِي الْمَعَالِي هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ فِيهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ، تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ أَبُو الْفَوَارِسِ سُرْخَابُ بْنُ بَدْرِ بْنِ مُهَلْهَلٍ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي الشَّوْكِ الْكُرْدِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَخُيُولٌ لَا تُحْصَى، وَوَلِيَ الْإِمْرَةَ بَعْدَهُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ بَدْرٍ، وَقَامَ مَقَامَهُ، وَبَقِيَتِ الْإِمَارَةُ فِي بَيْتِهِ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو الْفَتْحِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الْحَدَّادُ الْأَصْبَهَانِيُّ ابْنُ أُخْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ مُكْثِرًا مِنَ الْحَدِيثِ، مَشْهُورًا بِالرِّوَايَةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ السَّرَّاجُ الْبَغْدَاذِيُّ فِي صَفَرٍ، وَهُوَ مُكْثِرٌ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ، وَأَشْعَارٌ لَطِيفَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الزَّمَانِ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَبُو مُحَمَّدٍ الشِّيرَازِيُّ، الْفَقِيهُ، وَلِيَ التَّدْرِيسَ بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَاذَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ يَرْوِي الْحَدِيثَ أَيْضًا. وَأَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ الصَّيْرَفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الطُّيُورِيِّ الْبَغْدَاذِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ مُكْثِرًا مِنَ الْحَدِيثِ ثِقَةً صَالِحًا عَابِدًا، وَأَبُو الْكَرَمِ الْمُبَارَكُ بْنُ الْفَاخِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ النَّحْوِيُّ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَالْجَوْهَرِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ إِمَامًا فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ.

ثم دخلت سنة إحدى وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِمِائَة] 501 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ صَدَقَةَ بْنِ مَزْيَدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، قُتِلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ، أَمِيرُ الْعَرَبِ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْحِلَّةَ السَّيْفِيَّةَ بِالْعِرَاقِ، وَكَانَ قَدْ عَظُمَ شَأْنُهُ، وَعَلَا قَدْرُهُ، وَاتَّسَعَ جَاهُهُ، وَاسْتَجَارَ بِهِ صِغَارُ النَّاسِ وَكِبَارُهُمْ، فَأَجَارَهُمْ. وَكَانَ كَثِيرَ الْعِنَايَةِ بِأُمُورِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ،، وَالتَّقْوِيَةِ لِيَدِهِ، وَالشَّدِّ مِنْهُ عَلَى أَخِيهِ بُرْكِيارُقَ، حَتَّى إِنَّهُ جَاهَرَ بُرْكِيارُقَ بِالْعَدَاوَةِ، وَلَمْ يَبْرَحْ عَلَى مُصَافَاةِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَزَادَهُ مُحَمَّدٌ إِقْطَاعًا مِنْ جُمْلَتْهِ مَدِينَةُ وَاسِطَ، وَأَذِنَ لَهُ فِي أَخْذِ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ أَفْسَدَ مَا بَيْنَهُمَا الْعَمِيدُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَلْخِيُّ، وَقَالَ فِي جُمْلَةِ مَا قَالَ عَنْهُ: إِنَّ صَدَقَةَ قَدْ عَظُمَ أَمْرُهُ، وَزَادَ حَالُهُ، وَكَثُرَ إِدْلَالُهُ، وَيَبْسُطُ فِي الدَّوْلَةِ حِمَايَتَهُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَفِرُّ إِلَيْهِ مِنْ عِنْدِ السُّلْطَانِ، وَهَذَا لَا تَحْتَمِلُهُ الْمُلُوكُ لِأَوْلَادِهِمْ، وَلَوْ أَرْسَلْتَ بَعْضَ أَصْحَابِكَ لَمَلَكَ بِلَادَهُ وَأَمْوَالَهُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَدَّى ذَلِكَ حَتَّى طَعَنَ فِي اعْتِقَادِهِ، وَنَسَبَهُ وَأَهْلَ بَلَدِهِ إِلَى مَذْهَبِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَكَذَبَ، وَإِنَّمَا كَانَ مَذْهَبَهُ التَّشَيُّعُ لَا غَيْرَ، وَوَافَقَ أَرْغُونُ السَّعْدِيُّ أَبَا جَعْفَرٍ الْعَمِيدَ وَانْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَدَقَةَ، وَكَانَتْ زَوْجَةُ أَرْغُوَنَ بِالْحِلَّةِ وَأَهْلُهُ، فَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ لَهُ أَيْضًا هُنَاكَ [مِنْ] بَقَايَا خَرَاجٍ بِبَلَدِهِ، فَأَمَرَ صَدَقَةُ أَنْ يَخْلُصَ ذَلِكَ إِلَيْهِ بِأَجْمَعِهِ وَيُسَلَّمَ إِلَى زَوْجَتِهِ.

وَأَمَّا سَبَبُ قَتْلِهِ فَإِنَّ صَدَقَةَ كَانَ، كَمَا ذَكَرْنَا، يَسْتَجِيرُ بِهِ كُلُّ خَائِفٍ مِنْ خَلِيفَةٍ وَسُلْطَانٍ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ قَدْ سَخِطَ عَلَى أَبِي دُلَفَ سُرْخَابَ بْنِ كَيْخَسْرُو، صَاحِبِ سَاوَةَ وَآبَةَ، فَهَرَبَ مِنْهُ وَقَصَدَ صَدَقَةَ فَاسْتَجَارَ بِهِ، فَأَجَارَهُ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ يَطْلُبُ مِنْ صَدَقَةَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَى نُوَّابِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَجَابَ: إِنَّنِي لَا أُمَكِّنُ مِنْهُ بَلْ أُحَامِي عَنْهُ، وَأَقُولُ مَا قَالَهُ أَبُو طَالِبٍ لِقُرَيْشٍ لَمَّا طَلَبُوا مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَنُسْلِمَهُ، حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ ... وَنُذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ وَظَهَرَ مِنْهُ أُمُورٌ أَنْكَرَهَا السُّلْطَانُ، فَتَوَجَّهَ إِلَى الْعِرَاقِ لِيَتَلَافَى هَذَا الْأَمْرَ، فَلَمَّا سَمِعَ صَدَقَةُ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي الَّذِي يَفْعَلُهُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ ابْنُهُ دُبَيْسٌ بِأَنْ يُنْفِذَهُ إِلَى السُّلْطَانِ وَمَعَهُ الْأَمْوَالُ، وَالْخَيْلُ، وَالتُّحَفُ، لِيَسْتَعْطِفَ لَهُ السُّلْطَانَ، وَأَشَارَ سَعِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ، صَاحِبُ جَيْشِ صَدَقَةَ، بِالْمُحَارَبَةِ، وَجَمْعِ الْجُنْدِ، وَتَفْرِيقِ الْمَالِ فِيهِمْ، وَاسْتَطَالَ فِي الْقَوْلِ، فَمَالَ صَدَقَةُ إِلَى قَوْلِهِ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ عِشْرُونَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَثَلَاثُونَ أَلْفَ رَاجِلٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ يُحَذِّرُهُ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ، وَيَنْهَاهُ عَنِ الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَيَعْرِضُ لَهُ تَوَسُّطَ الْحَالِ، فَأَجَابَ صَدَقَةُ: إِنَّنِي عَلَى طَاعَةِ السُّلْطَانِ، لَكِنْ لَا آمَنُ عَلَى نَفْسِي فِي الِاجْتِمَاعِ بِهِ، وَكَانَ الرَّسُولُ بِذَلِكَ عَنِ الْخَلِيفَةِ نَقِيبَ النُّقَبَاءِ عَلِيَّ بْنَ طَرَّادٍ الزَّيْنَبِيَّ. ثُمَّ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ أَقَضَى الْقُضَاةِ أَبَا سَعِيدٍ الْهَرَوِيَّ إِلَى صَدَقَةَ يُطَيِّبُ قَلْبَهُ، وَيُزِيلُ خَوْفَهُ، وَيَأْمُرُهُ بِالِانْبِسَاطِ عَلَى عَادَتِهِ، وَيُعَرِّفُهُ عَزْمَهُ عَلَى قَصْدِ الْفِرِنْجِ، وَيَأْمُرُهُ بِالتَّجَهُّزِ لِلْغُزَاةِ مَعَهُ، فَأَجَابَ: إِنَّ السُّلْطَانَ قَدْ أَفْسَدَ أَصْحَابُهُ قَلْبَهُ عَلَيَّ، وَغَيَّرُوا حَالِي مَعَهُ، وَزَالَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَقِّي مِنَ الْإِنْعَامِ، وَذَكَرَ سَالِفَ خِدْمَتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ، صَاحِبُ جَيْشِهِ: لَمْ يَبْقَ لَنَا فِي صُلْحِ السُّلْطَانِ مَطْمَعٌ، وَلَتَرَوُنَّ خُيُولَنَا بِحُلْوَانَ، وَامْتَنَعَ صَدَقَةُ مِنَ الِاجْتِمَاعِ بِالسُّلْطَانِ. وَوَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَمَعَهُ وَزِيرُهُ نِظَامُ الْمُلْكِ أَحْمَدُ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَسَيَّرَ الْبُرْسُقِيَّ، شِحْنَةَ بَغْدَاذَ، فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى صَرْصَرَ، فَنَزَلُوا عَلَيْهَا.

وَكَانَ وُصُولُ السُّلْطَانِ، جَرِيدَةً، لَا يَبْلُغُ عَسْكَرُهُ أَلْفَيْ فَارِسٍ، فَلَمَّا تَيَقَّنَ بِبَغْدَاذَ مُكَاشَفَةَ صَدَقَةَ، أَرْسَلَ إِلَى الْأُمَرَاءِ يَأْمُرُهُمْ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَالْجِدِّ فِي السَّيْرِ، وَتَعْجِيلِ ذَلِكَ، فَوَرَدُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. ثُمَّ وَصَلَ كِتَابُ صَدَقَةَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، يَذْكُرُ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ مَا يَرْسُمُ لَهُ وَيُقَرِّرُ مِنْ حَالِهِ مَعَ السُّلْطَانِ، وَمَهْمَا أَمَرْتَهُ مِنْ ذَلِكَ امْتَثَلَهُ، فَأَنْفَذَ الْخَلِيفَةُ الْكِتَابَ إِلَى السُّلْطَانِ، فَقَالَ السُّلْطَانُ: أَنَا مُمْتَثِلٌ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْخَلِيفَةُ، وَلَا مُخَالَفَةَ عِنْدِي، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى صَدَقَةَ يُعَرِّفُهُ إِجَابَةَ السُّلْطَانِ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ، وَيَأْمُرُهُ بِإِنْفَاذِ ثِقَتِهِ لِيَسْتَوْثِقَ لَهُ، وَيَحْلِفَ السُّلْطَانُ عَلَى مَا يَقَعُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ. فَعَادَ (صَدَقَةُ عَنْ ذَلِكَ الرَّأْيِ، وَقَالَ: إِذَا رَحَلَ السُّلْطَانُ عَنْ بَغْدَاذَ) أَمْدَدْتُهُ بِالْمَالِ وَالرِّجَالِ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْجِهَادِ، وَأَمَّا الْآنَ وَهُوَ بِبَغْدَاذَ، وَعَسْكَرُهُ بِنَهْرِ الْمَلِكِ، فَمَا عِنْدِي مَالٌ وَلَا غَيْرُهُ، وَإِنَّ جَاوْلِي سَقَّاوُو، وَإِيلْغَازِي بْنَ أُرْتُقَ، قَدْ أَرْسَلَا إِلَيَّ بِالطَّاعَةِ لِي وَالْمُوَافَقَةِ مَعِي عَلَى مُحَارَبَةِ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ، وَمَتَى أَرَدْتُهُمَا وَصَلَا إِلَيَّ (فِي عَسَاكِرِهِمَا. وَوَرَدَ إِلَى) السُّلْطَانِ قِرْوَاشُ بْنُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَكَرْمَاوِي بْنُ خُرَاسَانَ التُّرْكُمَانِيُّ، وَأَبُو عِمْرَانَ فَضْلُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ حَازِمِ بْنِ الْجَرَّاحِ الطَّائِيُّ، وَآبَاؤُهُ كَانُوا أَصْحَابَ الْبَلْقَاءِ وَالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ مِنْهُمْ: حَسَّانُ بْنُ الْمُفَرِّجِ الَّذِي مَدَحَهُ التِّهَامِيُّ، وَكَانَ فَضْلٌ تَارَةً مَعَ الْفِرِنْجِ، وَتَارَةً مَعَ الْمِصْرِيِّينَ، فَلَمَّا رَآهُ طُغْتِكِينُ أَتَابِكُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ طَرَدَهُ مِنَ الشَّامِ، فَلَمَّا طَرَدَهُ الْتَجَأَ إِلَى صَدَقَةَ وَعَاقَدَهُ، فَأَكْرَمَهُ صَدَقَةُ، وَأَهْدَى لَهُ هَدَايَا كَثِيرَةً مِنْهَا سَبْعَةُ آلَافِ دِينَارٍ عَيْنًا. فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ بَيْنَ صَدَقَةَ وَالسُّلْطَانِ سَارَ فِي الطَّلَائِعِ، ثُمَّ هَرَبَ إِلَى السُّلْطَانِ، فَلَمَّا وَصَلَ خَلَعَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، وَأَنْزَلَهُ بِدَارِ صَدَقَةَ بِبَغْدَاذَ، فَلَمَّا سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى قِتَالِ صَدَقَةَ اسْتَأْذَنَهُ فَضْلٌ فِي إِتْيَانِ الْبَرِّيَّةِ لِيَمْنَعَ صَدَقَةَ مِنَ الْهَرَبِ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ، فَأَذِنَ لَهُ، فَعَبَرَ بِالْأَنْبَارِ وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ. وَأَنْفَذَ السُّلْطَانُ فِي جُمَادَى الْأُولَى إِلَى وَاسِطَ الْأَمِيرَ مُحَمَّدَ بْنَ بُوقَا التُّرْكُمَانِيَّ، فَأَخْرَجَ عَنْهَا نَائِبَ صَدَقَةَ، وَأَمِنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، إِلَّا أَصْحَابَ صَدَقَةَ، فَتَفَرَّقُوا، وَلَمْ يُنْهَبْ

أَحَدٌ، وَأَنْفَذَ خَيْلَهُ إِلَى بَلَدِ قَوْسَانَ، وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ صَدَقَةَ، فَنَهَبَهُ أَقْبَحَ نَهْبٍ، وَأَقَامَ عِدَّةَ أَيَّامٍ، فَأَرْسَلَ صَدَقَةُ إِلَيْهِ ثَابِتَ بْنَ سُلْطَانٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ صَدَقَةَ، وَمَعَهُ عَسْكَرٌ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا خَرَجَ مِنْهَا الْأَتْرَاكُ، وَأَقَامَ ثَابِتٌ بِهَا، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ دِجْلَةُ. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ بُوقَا عَبَّرَ جَمَاعَةً مِنَ الْجُنْدِ ارْتَضَاهُمْ، وَعَرَفَ شَجَاعَتَهُمْ، فَوَقَفُوا عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ عَلَى نَهْرٍ سَالِمٍ، يَكُونُ ارْتِفَاعُهُ نَحْوَ خَمْسِينَ ذِرَاعًا، فَقَصَدَهُمْ ثَابِتٌ وَعَسْكَرُهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْرَبُوا التُّرْكَ مِنَ النُّشَّابِ، وَالْمَدَدُ يَأْتِيهِمْ مِنِ ابْنِ بُوقَا، وَجُرِحَ ثَابِتٌ فِي وَجْهِهِ، وَكَثُرَ الْجِرَاحُ فِي أَصْحَابِهِ، فَانْهَزَمَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَتَبِعَهُمُ الْأَتْرَاكُ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ، وَأَسَرُوا، وَنَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ التُّرْكِ مَدِينَةَ وَاسِطَ، وَاخْتَلَطَ بِهِمْ رَجَّالَةُ ثَابِتٍ، فَنَهَبَتْ مَعَهُمْ، فَسَمِعَ ابْنُ بُوقَا الْخَبَرَ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ وَمَنَعَهُمْ، وَقَدْ نَهَبُوا بَعْضَ الْبَلَدِ، وَنَادَى فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ، وَأَقْطَعَ السُّلْطَانُ، أَوَاخِرَ جُمَادَى الْأُولَى، مَدِينَةَ وَاسِطَ لِقَسِيمَ الدَّوْلَةِ الْبُرْسُقِيِّ وَأَمَرَ ابْنَ بُوقَا بِقَصْدِ بَلَدِ صَدَقَةَ وَنَهْبِهِ، فَنَهَبُوا فِيهِ مَا لَا يُحَدُّ. وَأَمَّا السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ فَإِنَّهُ سَارَ عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى الزَّعْفَرَانِيَّةِ، ثَانِيَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ مَجْدَ الدِّينِ بْنَ الْمُطَّلِبِ يَأْمُرُهُ بِالتَّوَقُّفِ، وَتَرْكِ الْعَجَلَةِ خَوْفًا عَلَى الرَّعِيَّةِ مِنَ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ، وَأَشَارَ قَاضِي أَصْبَهَانَ بِذَلِكَ، وَاتِّبَاعِ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ، فَأَجَابَ السُّلْطَانُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى صَدَقَةَ نَقِيبَ النُّقَبَاءِ عَلِيَّ بْنَ طَرَّادٍ، وَجَمَالَ الدَّوْلَةِ مُخْتَصًّا الْخَادِمَ، فَسَارُوا إِلَى صَدَقَةَ فَأَبْلَغَاهُ رِسَالَةَ الْخَلِيفَةِ يَأْمُرُهُ بِطَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَيَنْهَاهُ عَنِ الْمُخَالَفَةِ، فَاعْتَذَرَ صَدَقَةُ، وَقَالَ: مَا خَالَفْتُ الطَّاعَةَ، وَلَا قَطَعْتُ الْخُطْبَةَ فِي بَلَدِي. وَجَهَّزَ ابْنَهُ دُبَيْسًا لِيَسِيرَ مَعَهُمَا إِلَى السُّلْطَانِ. (فَبَيْنَمَا الرُّسُلُ) وَصَدَقَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، إِذْ وَرَدَ الْخَبَرُ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ قَدْ عَبَرُوا مِنْ مَطِيرَابَاذَ، وَأَنَّ الْحَرْبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَصْحَابِ صَدَقَةَ قَائِمَةٌ عَلَى سَاقٍ، فَتَجَلَّدَ صَدَقَةُ لِأَجْلِ الرُّسُلِ، وَهُوَ يَشْتَكِي الرُّكُوبَ إِلَى أَصْحَابِهِ خَوْفًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الرُّسُلُ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ يُنْكِرُونَهُ لِأَنَّهُمْ قَدْ تَقَدَّمُوا إِلَى الْعَسْكَرِ، عِنْدَ عُبُورِهِمْ عَلَيْهِمْ، أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى حَرْبٍ، حَتَّى نَعُودَ، فَإِنَّ الصُّلْحَ قَدْ قَارَبَ. فَقَالَ صَدَقَةُ لِلرَّسُولِ: كَيْفَ أَثِقُ أُرْسِلُ وَلَدِيَ الْآنَ وَكَيْفَ آمَنُ عَلَيْهِ، وَقَدْ جَرَى مَا تَرَوْنَ؟ فَإِنْ

تَكَفَّلْتُمْ بِرَدِّهِ إِلَيَّ أَنَفَذْتُهُ. فَلَمْ يَتَجَاسَرُوا عَلَى كَفَالَتِهِ، فَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَعْتَذِرُ عَنْ إِنْفَاذِ وَلَدِهِ بِمَا جَرَى. وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ الْوَقْعَةِ أَنَّ عَسْكَرَ السُّلْطَانِ لَمَّا رَأَوُا الرُّسُلَ اعْتَقَدُوا وُقُوعَ الصُّلْحِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الرَّأْيُ أَنَّنَا نَنْهَبُ شَيْئًا قَبْلَ الصُّلْحِ، فَأَجَابَ الْبَعْضُ وَامْتَنَعَ الْبَعْضُ، فَعَبَرَ مَنْ أَجَابَ النَّهْرَ، وَلَمْ يَتَأَخَّرْ مَنْ لَمْ يُجِبْ لِئَلَّا يُنْسَبَ إِلَى خَوَرٍ وَجُبْنٍ، وَلِئَلَّا يَتِمَّ عَلَى مَنْ عَبَرَ وَهَنٌ، فَيَكُونَ عَارُهُ وَأَذَاهُ عَلَيْهِمْ، فَعَبَرُوا بَعْدَهُمْ أَيْضًا، فَأَتَاهُمْ أَصْحَابُ صَدَقَةَ وَقَاتَلُوهُمْ، فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْأَتْرَاكِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ، وَكَثِيرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَغَرِقَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ: الْأَمِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ يَاغِي سِيَّانَ الَّذِي كَانَ أَبُوهُ صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ، وَكَانَ عُمُرُهُ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ مُحِبًّا (لِلْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ) ، وَبَنَى بِإِقْطَاعِهِ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ عِدَّةَ مَدَارِسَ. وَلَمْ يَجْسُرِ الْأَتْرَاكُ عَلَى أَنْ يُعَرِّفُوا السُّلْطَانَ بِمَا أُخِذَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالدَّوَابِّ خَوْفًا مِنْهُ، حَيْثُ فَعَلُوا ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَطَمِعَ الْعَرَبُ بِهَذِهِ الْهَزِيمَةِ، وَظَهَرَ مِنْهُمُ الْفَخْرُ وَالتِّيهُ وَالطَّمَعُ، وَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ بَاعُوا كُلَّ أَسِيرٍ بِدِينَارٍ، وَأَنَّ ثَلَاثَةً بَاعُوا أَسِيرًا بِخَمْسَةِ قَرَارِيطَ وَأَكَلُوا بِهَا خُبْزًا وَهَرِيسَةً، وَجَعَلُوا يُنَادُونَ: مَنْ يَتَغَدَّى بِأَسِيرٍ، وَيَتَعَشَّى بِآخَرَ؟ وَظَهَرَ مِنَ الْأَتْرَاكِ اضْطِرَابٌ عَظِيمٌ. وَأَعَادَ الْخَلِيفَةُ مُكَاتَبَةَ صَدَقَةَ بِتَحْرِيرِ أَمْرِ الصُّلْحِ، فَأَجَابَ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ، وَكَتَبَ صَدَقَةُ أَيْضًا إِلَى السُّلْطَانِ يَعْتَذِرُ مِمَّا نُقِلَ عَنْهُ، وَمِنَ الْحَرْبِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَبَيْنَ الْأَتْرَاكِ، وَأَنَّ جُنْدَ السُّلْطَانِ (عَبَرَتْ إِلَى) أَصْحَابِهِ، فَمَنَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرِ الْحَرْبَ، وَلَمْ يَنْزِعْ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، وَلَا قَطَعَ خُطْبَتَهُ مِنْ بَلَدِهِ. وَلَمْ يَكُنْ صَدَقَةُ كَاتَبَهُ قَبْلَ هَذَا الْكِتَابِ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ نَقِيبَ النُّقَبَاءِ، وَأَبَا سَعْدٍ الْهَرَوِيَّ إِلَى صَدَقَةَ، (فَقَصَدَ السُّلْطَانَ أَوَّلًا، وَأَخَذَ يَدَهُ بِالْأَمَانِ لِمَنْ يَقْصِدُهُ مَنْ أُقَارِبِ صَدَقَةَ، فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى صَدَقَةَ) وَقَالَا لَهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ: إِنَّ إِصْلَاحَ قَلْبِ السُّلْطَانِ

مَوْقُوفٌ عَلَى إِطْلَاقِ الْأَسْرَى، وَرَدِّ جَمِيعِ مَا أُخِذَ مِنَ الْعَسْكَرِ الْمُنْهَزِمِ، فَأَجَابَ أَوَّلًا بِالْخُضُوعِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ قَدَرْتُ عَلَى الرَّحِيلِ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ السُّلْطَانِ فَعَلْتُ، لَكِنَّ وَرَائِي مِنْ ظَهْرِي، وَظَهْرِ أَبِي وَجَدِّي، ثَلَاثَمِائَةِ امْرَأَةٍ، وَلَا يَحْمِلُهُنَّ مَكَانٌ، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّنِي إِذَا جِئْتُ السُّلْطَانَ مُسْتَسْلِمًا قَبِلَنِي وَاسْتَخْدَمَنِي لَفَعَلْتُ، لَكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ لَا يُقِيلُ عَثْرَتِي، وَلَا يَعْفُو عَنْ زَلَّتِي. وَأَمَّا مَا نُهِبَ فَإِنَّ الْخَلْقَ كَثِيرٌ، وَعِنْدِي مَنْ لَا أَعْرِفُهُ، وَقَدْ نَهَبُوا وَدَخَلُوا الْبَرَّ، فَلَا طَاقَةَ لِي عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ السُّلْطَانُ لَا يُعَارِضُنِي فِيمَا فِي يَدِي، وَلَا فِيمَنْ أَجَرْتُهُ، وَأَنْ يُقِرَّ سُرْخَابَ بْنَ كَيْخَسْرُو عَلَى إِقْطَاعِهِ بِسَاوَةَ، وَأَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى ابْنِ بُوقَا بِإِعَادَةِ مَا نُهِبَ مِنْ بِلَادِي، وَأَنْ يَخْرُجَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ يُحَلِّفُهُ بِمَا أَثِقُ بِهِ مِنَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَحِينَئِذٍ أَخْدِمُ بِالْمَالِ، وَأَدُوسُ بِسَاطَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَعَادُوا بِهَذَا، وَمَعَهُمْ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ مَعْرُوفٍ، رَسُولُ صَدَقَةَ، فَرَدَّهُمُ الْخَلِيفَةُ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ مَعَهُمْ قَاضِيَ أَصْبَهَانَ أَبَا إِسْمَاعِيلَ، فَأَمَّا أَبُو إِسْمَاعِيلَ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، وَعَادَ مِنَ الطَّرِيقِ، وَأَصَرَّ صَدَقَةُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. فَحِينَئِذٍ سَارَ السُّلْطَانُ، ثَامِنَ رَجَبٍ، مِنَ الزَّعْفَرَانِيَّةِ، وَسَارَ صَدَقَةُ فِي عَسَاكِرِهِ إِلَى قَرْيَةِ مَطَرٍ، وَأَمَرَ جُنْدَهُ بِلُبْسِ السِّلَاحِ، وَاسْتَأْمَنَ ثَابِتَ بْنَ السُّلْطَانِ بْنِ دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ صَدَقَةَ، إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ يَحْسُدُ صَدَقَةَ، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَنَّهُ كَانَ بِوَاسِطَ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَوَعَدَهُ الْإِقْطَاعَ. وَوَرَدَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَى السُّلْطَانِ مِنْهُمْ: بَنُو بُرْسُقَ، وَعَلَاءُ الدَّوْلَةِ أَبُو كَالِيجَارَ كَرْشَاسِبُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ فَرَامَرْزَ (أَبِي جَعْفَرِ بْنِ كَاكَاوَيْهِ وَآبَاؤُهُ كَانُوا أَصْحَابَ أَصْبَهَانَ، وَفَرَامَرْزَ) هُوَ الَّذِي سَلَّمَهَا إِلَى طُغْرَلْبَكْ، وَقُتِلَ أَبُوهُ مَعَ تُتُشَ. وَعَبَرَ عَسْكَرُ السُّلْطَانِ دِجْلَةَ، وَلَمْ يَعْبُرْ هُوَ، فَصَارُوا مَعَ صَدَقَةَ عَلَى أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، بَيْنَهُمَا نَهَرٌ، وَالْتَقَوْا تَاسِعَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَكَانَتِ الرِّيحُ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ، فَلَمَّا الْتَقَوْا صَارَتْ فِي ظُهُورِهِمْ، وَفِي وُجُوهِ أَصْحَابِ صَدَقَةَ، ثُمَّ إِنَّ الْأَتْرَاكَ رَمَوْا بِالنُّشَّابِ، فَكَانَ يَخْرُجُ فِي كُلِّ رَشْقَةٍ عَشْرَةُ آلَافِ نَشَّابَةٍ، فَلَمْ يَقَعْ سَهْمٌ إِلَّا فِي فَرَسٍ أَوْ فَارِسٍ، وَكَانَ أَصْحَابُ صَدَقَةَ كُلَّمَا حَمَلُوا مَنَعَهُمُ النَّهْرُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْأَتْرَاكِ وَالنُّشَّابُ، وَمَنْ عَبَرَ مِنْهُمْ لَمْ يَرْجِعْ، وَتَقَاعَدَتْ عُبَادَةُ وَخَفَاجَةُ، وَجَعَلَ صَدَقَةُ يُنَادِي: يَا آلَ خُزَيْمَةَ، يَا آلَ

نَاشِرَةَ، يَا آلَ عَوْفٍ، وَوَعَدَ الْأَكْرَادَ بِكُلِّ جَمِيلٍ لِمَا ظَهَرَ مِنْ شَجَاعَتِهِمْ، وَكَانَ رَاكِبًا عَلَى فَرَسِهِ الْمَهْلُوبِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِثْلُهُ، فَجُرِحَ الْفَرَسُ ثَلَاثَ جِرَاحَاتٍ وَأَخَذَهُ الْأَمِيرُ أَحْمَدَيْلُ بَعْدَ قَتْلِ صَدَقَةَ، فَسَيَّرَهُ إِلَى بَغْدَاذَ فِي سَفِينَةٍ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ. وَكَانَ لِصَدَقَةَ فَرَسٌ آخَرُ قَدْ رَكِبَهُ حَاجِبُهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ تُفَّاحَةَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ وَقَدْ غَشُوا صَدَقَةَ هَرَبَ عَلَيْهِ، فَنَادَاهُ صَدَقَةُ، فَلَمْ يُجِبْهُ، وَحَمَلَ صَدَقَةُ عَلَى الْأَتْرَاكِ، وَضَرَبَهُ غُلَامٌ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِهِ فَشَوَّهَهُ، وَجَعَلَ يَقُولُ: أَنَا مَلِكُ الْعَرَبِ، أَنَا صَدَقَةُ! فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فِي ظَهْرِهِ، وَأَدْرَكَهُ غُلَامٌ اسْمُهُ بَزْغَشُ، كَانَ أَشَلَّ، فَتَعَلَّقَ بِهِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، وَجَذَبَهُ عَنْ فَرَسِهِ، فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ هُوَ وَالْغُلَامُ، فَعَرَفَهُ صَدَقَةُ، فَقَالَ: يَا بَزْغَشُ ارْفُقْ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ رَأْسَهُ وَحَمْلَهُ إِلَى الْبُرْسُقِيِّ، فَحَمَلَهُ إِلَى السُّلْطَانِ، فَلَمَّا رَآهُ عَانَقَهُ، وَأَمَرَ لِبَزْغَشَ بِصِلَةٍ. وَبَقِيَ صَدَقَةُ طَرِيحًا إِلَى أَنْ سَارَ السُّلْطَانُ، فَدَفَنَهُ إِنْسَانٌ مِنَ الْمَدَائِنِ. وَكَانَ عُمُرُهُ تِسْعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَحُمِلُ رَأْسُهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فِيهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَقُتِلَ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ خَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ رَجُلًا، وَأُسِرَ ابْنُهُ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ، وَسُرْخَابُ بْنُ كَيْخَسْرُو الدَّيْلَمِيُّ الَّذِي كَانَتْ هَذِهِ الْحَرْبُ بِسَبَبِهِ، فَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ، فَطَلَبَ الْأَمَانَ، فَقَالَ: قَدْ عَاهَدْتُ اللَّهَ أَنَّنِي لَا أَقْتُلُ أَسِيرًا، فَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْكَ أَنَّكَ بَاطِنِيٌّ قَتَلْتُكَ، وَأُسِرَ سَعِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْعُمَرِيُّ، صَاحِبُ جَيْشِ صَدَقَةَ، وَهَرَبَ بَدْرَانُ بْنُ صَدَقَةَ إِلَى الْحِلَّةِ، فَأَخَذَ مِنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ مَا أَمْكَنَهُ، وَسَيَّرَ أُمَّهُ وَنِسَاءَهُ إِلَى الْبَطِيحَةِ إِلَى مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْجَبْرِ، وَكَانَ بَدْرَانُ صِهْرَ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ عَلَى ابْنَتِهِ، وَنَهَبَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَكَانَ لَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمَنْسُوبَةِ الْخَطِّ شَيْءٌ كَثِيرٌ، أُلُوفٌ مُجَلَّدَاتٌ، وَكَانَ يُحْسِنُ يَقْرَأُ، وَلَا يَكْتُبُ، وَكَانَ جَوَادًا، حَلِيمًا، صَدُوقًا، كَثِيرَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، مَا بَرِحَ مَلْجَأً

لِكُلِّ مَلْهُوفٍ، يَلْقَى مَنْ يَقْصِدُهُ بِالْبِرِّ وَالتَّفَضُّلِ، وَيَبْسُطُ قَاصِدِيهِ، وَيَزُورُهُمْ، وَكَانَ عَادِلًا، وَالرَّعَايَا مَعَهُ فِي أَمْنٍ وَدَعَةٍ، وَكَانَ عَفِيفًا لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَلَا تَسَرَّى عَلَيْهَا، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِ هَذَا؟ وَلَمْ يُصَادِرْ أَحَدًا مِنْ نُوَّابِهِ، وَلَا أَخْذَهُمْ بِإِسَاءَةٍ قَدِيمَةٍ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُودِعُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي خِزَانَتِهِ، وَيُدِلُّونَ عَلَيْهِ إِدْلَالَ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ، وَلَمْ يُسْمَعْ بِرَعِيَّةٍ أَحَبَّتْ أَمِيرَهَا كَحُبِّ رَعِيَّتِهِ لَهُ. وَكَانَ مُتَوَاضِعًا، مُحْتَمِلًا، يَحْفَظُ الْأَشْعَارَ، وَيُبَادِرُ إِلَى النَّادِرَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، لَقَدْ كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الدُّنْيَا. وَعَادَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَى الْحِلَّةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْبَطِيحَةِ أَمَانًا لِزَوْجَةِ صَدَقَةَ، وَأَمَرَهَا بِالظُّهُورِ فَأَصْعَدَتْ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَطْلَقَ السُّلْطَانُ ابْنَهَا دُبَيْسًا، وَأَنْفَذَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى لِقَائِهَا، فَلَمَّا لَقِيَهَا ابْنُهَا بَكَيَا بُكَاءً شَدِيدًا، وَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى بَغْدَاذَ أَحْضَرَهَا السُّلْطَانُ، وَاعْتَذَرَ مِنْ قَتْلِ زَوْجِهَا، وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّهُ حُمِلَ إِلَيَّ حَتَّى كُنْتُ أَفْعَلُ مَعَهُ مَا يَعْجَبُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْجَمِيلِ وَالْإِحْسَانِ، لَكِنَّ الْأَقْدَارَ غَلَبَتْنِي. وَاسْتَحْلَفَ ابْنَهَا دُبَيْسًا أَنَّهُ لَا يَسْعَى بِفَسَادٍ. ذِكْرُ وَفَاةِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ يَحْيَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، تُوُفِّيَ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسٍ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَ شَهْمًا، شُجَاعًا، ذَكِيًّا، لَهُ مَعْرِفَةٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ حَلِيمًا، كَثِيرَ الْعَفْوِ عَنِ الْجَرَائِمِ الْعَظِيمَةِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ أَنَّهُ وَقَعَتْ حَرْبٌ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ، وَهُمْ عَدِيٌّ، وَرَيَاحٌ، فَقُتِلَ رَجُلٌ مِنْ رَيَاحٍ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا، وَأَهْدَرُوا دَمَهُ، وَكَانَ صُلْحُهُمْ مَا يَضُرُّ بِهِ وَبِبِلَادِهِ، فَقَالَ أَبْيَاتًا يُحَرِّضُ عَلَى الطَّلَبِ بِدَمِهِ، وَهِيَ: مَتَّى كَانَتْ دِمَاؤُكُمْ تُطِلُّ ... أَمَا فِيكُمْ بِثَأْرٍ مُسْتَقِلُّ أَغَانِمُ ثُمَّ سَالِمُ إِنْ فَشِلْتُمْ ... فَمَا كَانَتْ أَوَائِلُكُمْ تَذِلُّ

وَنِمْتُمْ عَنْ طِلَابِ الثَّأْرِ حَتَّى كَأَنَّ الْعِزَّ فِيكُمْ مُضْمَحِلٌّ ... وَمَا كَسَّرْتُمُ فِيهِ الْعَوَالِي وَلَا بِيضٌ تُفَلُّ، وَلَا تُسَلُّ فَعَمَدَ إِخْوَةُ الْمَقْتُولِ فَقَتَلُوا أَمِيرًا مِنْ عَدِيٍّ، وَاشْتَدَّ بَيْنَهُمُ الْقِتَالُ، وَكَثُرَتِ الْقَتْلَى، حَتَّى أَخْرَجُوا بَنِي عَدِيٍّ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ. قِيلَ: إِنَّهُ اشْتَرَى جَارِيَةً بِثَمَنٍ كَثِيرٍ، فَبَلَغَهُ أَنَّ مَوْلَاهَا الَّذِي بَاعَهَا ذَهَبَ عَقْلُهُ وَأَسِفَ عَلَى فِرَاقِهَا، فَأَحْضَرَهُ تَمِيمٌ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ، وَأَرْسَلَ الْجَارِيَةَ إِلَى دَارِهِ، وَمَعَهَا الْكِسْوَاتُ، وَالْأَوَانِي الْفِضَّةُ، وَغَيْرُهَا، وَمِنَ الطِّيبِ، وَغَيْرِهِ، شَيْءٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ أَمَرَ مَوْلَاهَا بِالِانْصِرَافِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى دَارِهِ وَرَآهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَقَعَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ سُرُورِهِ، ثُمَّ أَفَاقَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَخَذَ الثَّمَنَ، وَجَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهَا، وَحَمَلَهُ إِلَى دَارِ تَمِيمٍ، فَانْتَهَرَهُ، وَأَمَرَهُ بِإِعَادَةِ جَمِيعِ ذَلِكَ إِلَى دَارِهِ. وَكَانَ لَهُ فِي الْبِلَادِ أَصْحَابُ أَخْبَارٍ يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَرْزَاقًا سَنِيَّةً لِيُطَالِعُوهُ بِأَحْوَالِ أَصْحَابِهِ لِئَلَّا يَظْلِمُوا النَّاسَ، فَكَانَ بِالْقَيْرَوَانِ تَاجِرٌ لَهُ مَالٌ وَثَرْوَةٌ، فَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ التُّجَّارُ تَمِيمًا، وَدَعَوْا لَهُ، وَذَلِكَ التَّاجِرُ حَاضِرٌ، فَتَرَحَّمَ عَلَى أَبِيهِ الْمُعِزِّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى تَمِيمٍ، فَأَحْضَرَهُ إِلَى قَصْرِهِ وَسَأَلَهُ: هَلْ ظَلَمْتُكَ؟ فَقَالَ: لَا! قَالَ: فَهَلْ ظَلَمَكَ بَعْضُ أَصْحَابِي؟ قَالَ: لَا! قَالَ: فَلِمَ أَطْلَقْتَ لِسَانَكَ أَمْسِ بِذَمِّي؟ فَسَكَتَ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يُقَالَ شَرِهَ فِي مَالِهِ لَقَتَلْتُكَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَصُفِعَ فِي حَضْرَتِهِ قَلِيلًا، ثُمَّ أَطْلَقَهُ فَخَرَجَ، وَأَصْحَابُهُ يَنْتَظِرُونَهُ، فَسَأَلُوهُ عَنْ خَبَرِهِ، فَقَالَ: أَسْرَارُ الْمُلُوكِ لَا تُذَاعُ، فَصَارَتْ بِإِفْرِيقِيَّةَ مَثَلًا. وَلَمَّا تُوُفِّيَ كَانَ عُمُرُهُ تِسْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَخَلَّفَ مِنَ الذُّكُورِ مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ، وَمِنَ الْبَنَاتِ سِتِّينَ بِنْتًا، وَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ يَحْيَى بْنُ تَمِيمٍ، وَكَانَتْ وِلَادَتُهُ بِالْمَهْدِيَّةِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ عُمُرُهُ حِينَ وُلِّيَ ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَلَمَّا وُلِّيَ فَرَّقَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي الرَّعِيَّةِ.

ذِكْرُ مُلْكِ يَحْيَى قَلْعَةَ قُلَيْبِيَّةَ لَمَّا مَلَكَ يَحْيَى بْنُ تَمِيمٍ بَعْدَ أَبِيهِ، جَرَّدَ عَسْكَرًا كَثِيفًا إِلَى قَلْعَةِ قُلَيْبِيَّةَ، وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ قِلَاعِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا، وَحَصَرَهَا حِصَارًا شَدِيدًا، وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى فَتَحَهَا وَحَصَّنَهَا، وَكَانَ أَبُوهُ تَمِيمٌ قَدْ رَامَ فَتْحَهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَزَلْ مُظَفَّرًا، مَنْصُورًا، لَمْ يُهْزَمْ لَهُ جَيْشٌ. ذِكْرُ قُدُومِ ابْنِ عَمَّارٍ بَغْدَاذَ مُسْتَنْفِرًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَرَدَ الْقَاضِي فَخْرُ الْمُلْكِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ عَمَّارٍ، صَاحِبُ طَرَابُلُسَ الشَّامِ، إِلَى بَغْدَاذَ، قَاصِدًا بَابَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، مُسْتَنْفِرًا عَلَى الْفِرِنْجِ، طَالِبًا تَسْيِيرَ الْعَسَاكِرِ لِإِزَاحَتِهِمْ، وَالَّذِي حَثَّهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا طَالَ حَصْرُ الْفِرِنْجِ لِمَدِينَةِ طَرَابُلُسَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَقْوَاتُ وَقَلَّتْ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ، بِمِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ مِنْ جَزِيرَةِ قُبْرُسَ، وَأَنْطَاكِيَةَ، وَجَزَائِرِ الْبَنَادِقَةِ، فَاشْتَدَّتْ قُلُوبُهُمْ وَقَوُوا عَلَى حِفْظِ الْبَلَدِ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا اسْتَسْلَمُوا. فَلَمَّا بَلَغَ فَخْرَ الْمُلْكِ انْتِظَامُ الْأُمُورِ لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ وَزَوَالُ كُلِّ مُخَالِفٍ رَأَى لِنَفْسِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ قَصْدَهُ وَالِانْتِصَارَ بِهِ، فَاسْتَنَابَ بِطَرَابُلُسَ ابْنَ عَمِّهِ ذَا الْمَنَاقِبِ، وَأَمَرَ بِالْمُقَامِ بِهَا، وَرَتَّبَ مَعَهُ الْأَجْنَادَ بَرًّا وَبَحْرًا، وَأَعْطَاهُمْ جَامِكِيَّةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ سَلَفًا، وَجَعَلَ كُلَّ مَوْضِعٍ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِحِفْظِهِ، بِحَيْثُ إِنَّ ابْنَ عَمِّهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَظْهَرَ ابْنُ عَمِّهِ الْخِلَافَ لَهُ، وَالْعِصْيَانَ عَلَيْهِ، وَنَادَى بِشِعَارِ الْمِصْرِيِّينَ، فَلَمَّا عَرَفَ فَخْرُ الْمُلْكِ ذَلِكَ كَتَبَ إِلَى أَصْحَابِهِ يَأْمُرُهُمْ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَحَمْلِهِ إِلَى حِصْنِ الْخَوَابِيِّ، فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ. وَكَانَ ابْنُ عَمَّارٍ قَدِ اسْتَصْحَبَ مَعَهُ الْهَدَايَا مَا لَمْ يُوجَدْ عِنْدَ مَلِكٍ مِثْلِهِ مِنَ الْأَعْلَاقِ النَّفِيسَةِ، وَالْأَشْيَاءِ الْغَرِيبَةِ، وَالْخَيْلِ الرَّائِقَةِ، فَلَمَّا وَصَلَهَا لَقِيَهُ عَسْكَرُهَا، وَطُغْتِكِينُ أَتَابِكُ، وَخَيَّمَ عَلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَسَأَلَهُ طُغْتِكِينُ الدُّخُولَ إِلَيْهِ، فَدَخَلَ يَوْمًا وَاحِدًا إِلَى الطَّعَامِ، وَأَدْخَلَهُ حَمَّامَهُ، وَسَارَ عَنْهَا وَمَعَهُ وَلَدُ طُغْتِكِينَ يُشَيِّعُهُ.

فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ أَمَرَ السُّلْطَانُ الْأُمَرَاءَ كَافَّةً بِتَلَقِّيهِ وَإِكْرَامِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ شَبَّارَتَهُ وَفِيهَا دَسْتُهُ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ لِيَرْكَبَ فِيهَا، فَلَمَّا نَزَلَ إِلَيْهَا قَعَدَ بَيْنَ يَدَيْ مَوْضِعِ السُّلْطَانِ، فَقَالَ لَهُ مَنْ بِهَا مِنْ خَوَاصِّ السُّلْطَانِ: قَدْ أُمِرْنَا أَنْ يَكُونَ جُلُوسُكَ فِي دَسْتِ السُّلْطَانِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى السُّلْطَانِ أَجْلَسَهُ، وَأَكْرَمَهُ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِحَدِيثِهِ. وَسَيَّرَ الْخَلِيفَةُ خَوَاصَّهُ، وَجَمَاعَةَ أَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ، فَلَقُوهُ، وَأَنْزَلَهُ الْخَلِيفَةُ وَأَجْرَى عَلَيْهِ الْجِرَايَةَ الْعَظِيمَةَ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا فَعَلَ السُّلْطَانُ، وَفَعَلَ مَعَهُ مَا لَمْ يَفْعَلْ مَعَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ مَعَهُمْ أَمْثَالِهِ، وَهَذَا جَمِيعُهُ ثَمَرَةُ الْجِهَادِ فِي الدُّنْيَا، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ. وَلَمَّا اجْتَمَعَ بِالسُّلْطَانِ قَدَّمَ هَدِيَّتَهُ، وَسَأَلَ السُّلْطَانَ عَنْ حَالِهِ، وَمَا يُعَانِيهِ فِي مُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ، وَيُقَاسِيهِ مِنْ رُكُوبِ الْخُطُوبِ فِي قِتَالِهِمْ، فَذَكَرَ لَهُ حَالَهُ، وَقُوَّةَ عَدُّوِهِ، وَطُولَ حَصْرِهِ، وَطَلَبَ النَّجْدَةَ، وَضَمِنَ أَنَّهُ إِذَا سُيِّرَتِ الْعَسَاكِرُ مَعَهُ أَوْصَلَ إِلَيْهِمْ جَمِيعَ مَا يَلْتَمِسُونَهُ، فَوَعَدَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ، وَحَضَرَ دَارَ الْخِلَافَةِ، وَذَكَرَ أَيْضًا نَحْوًا مِمَّا ذَكَرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَحَمَلَ هَدِيَّةً جَمِيلَةً نَفِيسَةً، وَأَقَامَ إِلَى أَنْ رَحَلَ السُّلْطَانُ عَنْ بَغْدَاذَ فِي شَوَّالٍ، فَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ بِالنَّهْرَوَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِلَى الْأَمِيرِ حُسَيْنِ بْنِ أَتَابِكَ قَتْلُغْ تِكِينَ لِيُسَيِّرَ مَعَهُ الْعَسَاكِرَ الَّتِي سَيَّرَهَا إِلَى الْمَوْصِلِ مَعَ الْأَمِيرِ مَوْدُودٍ لِقِتَالِ جَاوْلِي سَقَّاوُو، لِيَمْضُوا مَعَهُ إِلَى الشَّامِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ خِلَعًا نَفِيسَةً، وَأَعْطَاهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَوَدَّعَهُ، وَسَارَ وَمَعَهُ الْأَمِيرُ حُسَيْنٌ فَلَمْ يَجِدْ ذَلِكَ نَفْعًا، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ إِنَّ فَخْرَ الْمُلْكِ بْنَ عَمَّارٍ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ مُنْتَصَفَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، وَتَوَجَّهَ مِنْهَا مَعَ عَسْكَرٍ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى جَبَلَةَ، فَدَخَلَهَا وَأَطَاعَهُ أَهْلُهَا.

وَأَمَّا أَهْلُ طَرَابُلُسَ، فَإِنَّهُمْ رَاسَلُوا الْأَفْضَلَ أَمِيرَ الْجُيُوشِ بِمِصْرَ يَلْتَمِسُونَ مِنْهُ وَالِيًا يَكُونُ عِنْدَهُمْ، وَمَعَهُ الْمِيرَةُ فِي الْبَحْرِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ شَرَفَ الدَّوْلَةِ بْنَ أَبِي الطَّيِّبِ وَالِيًا، وَمَعَهُ الْغَلَّةُ وَغَيْرُهَا مِمَّا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبِلَادُ فِي الْحِصَارِ، فَلَمَّا صَارَ فِيهَا قَبَضَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ ابْنِ عَمَّارٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَخَذَ مَا وَجَدَهُ مِنْ ذَخَائِرِهِ وَآلَاتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَحُمِلَ الْجَمِيعُ إِلَى مِصْرَ فِي الْبَحْرِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، أَطْلَقَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ الضَّرَائِبَ وَالْمُكُوسَ، وَدَارَ الْبَيْعِ، وَالِاجْتَيَازَاتِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُنَاسِبُهُ بِالْعِرَاقِ، وَكُتِبَتْ بِهِ الْأَلْوَاحُ، وَجُعِلَتْ فِي الْأَسْوَاقِ. وَفِيهَا، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وُلِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الرُّطَبِيِّ الْحِسْبَةَ بِبَغْدَاذَ. وَفِيهِ أَيْضًا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ مَجْدَ الدِّينِ بْنَ الْمُطَّلِبِ بِرِسَالَةٍ مِنَ السُّلْطَانِ بِذَلِكَ، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَى الْوِزَارَةِ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ، وَشَرَّطَهُ عَلَيْهِ شُرُوطًا مِنْهَا: الْعَدْلُ وَحُسْنُ السِّيرَةِ، وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَفِيهَا عَادَ أَصْبَهْبَذُ صَبَاوَةَ مِنْ دِمَشْقَ، وَكَانَ هَرَبَ عِنْدَ قَتْلِ إِيَازَ، فَلَمَّا قَدِمَ أَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ، وَأَقْطَعُهُ رَحْبَةَ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ. وَفِيهَا، سَابِعَ شَوَّالٍ، خَرَجَ السُّلْطَانُ إِلَى ظَاهِرِ بَغْدَاذَ، عَازِمًا عَلَى الْعَوْدِ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَكَانَ مُقَامُهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا.

وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، احْتَرَقَتْ خَرَابَةُ ابْنِ جَرْدَةَ، فَهَلَكَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَمَّا الْأَمْتِعَةُ، وَالْأَمْوَالُ، وَأَثَاثُ الْبُيُوتِ، فَهَلَكَ مَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَخَلَصَ خَلْقٌ بِنَقْبٍ نَقَبُوهُ فِي سُورِ الْمَحَلَّةِ إِلَى مَقْبَرَةِ بَابِ أَبْرَزَ، وَكَانَ بِهَا جَمَاعَةٌ بِهَا مِنَ الْيَهُودِ، فَلَمْ يَنْقُلُوا شَيْئًا لِتَمَسُّكِهِمْ بِسَبْتِهِمْ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ قَدْ عَبَرُوا إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ لِلْفُرْجَةِ، عَلَى عَادَتِهِمْ فِي السَّبْتِ الَّذِي يَلِي الْعِيدَ، فَعَادُوا فَوَجَدُوا بُيُوتَهُمْ قَدْ خَرِبَتْ، وَأَهْلَهَا قَدِ احْتَرَقُوا، وَأَمْوَالَهُمْ قَدْ هَلَكَتْ. ثُمَّ تَبِعَ حَرِيقٌ فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ مِنْهَا: دَرْبُ الْقَيَّارِ، وَقَرَاحُ ابْنُ رَزِينٍ، فَارْتَاعَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَبَطَّلُوا مَعَايِشَهُمْ، وَأَقَامُوا لَيْلًا وَنَهَارًا يَحْرُسُونَ بُيُوتَهُمْ فِي الدُّرُوبِ، وَعَلَى السُّطُوحِ، وَجَعَلُوا عِنْدَهُمُ الْمَاءَ الْمُعَدَّ لِإِطْفَاءِ النَّارِ، فَظَهَرَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَرِيقِ أَنَّ جَارِيَةً أَحَبَّتْ رَجُلًا، فَوَافَقَتْهُ عَلَى الْمَبِيتِ عِنْدَهَا فِي دَارِ مَوْلَاهَا سِرًّا، وَأَعَدَّتْ لَهُ مَا يَسْرِقُهُ إِذَا خَرَجَ، وَيَأْخُذُهَا هِيَ أَيْضًا مَعَهُ، فَلَمَّا أَخَذَهَا طَرَحَا النَّارَ فِي الدَّارِ، فَخَرَجَا، فَأَظْهَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، وَعَجَّلَ الْفَضِيحَةَ لَهُمَا، فَأُخِذَا وَحُبِسَا. وَفِيهَا جَمَعَ بَغْدُوِينُ مَلِكُ الْفِرِنْجِ عَسْكَرَهُ وَقَصَدَ مَدِينَةَ صُورَ وَحَصَرَهَا، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ حِصْنٍ عِنْدَهَا، عَلَى تَلِّ الْمَعْشُوقَةِ، وَأَقَامَ شَهْرًا مُحَاصِرًا لَهَا، فَصَانَعَهُ وَالِيهَا عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَأَخَذَهَا وَرَحَلَ عَنِ الْمَدِينَةِ. وَقَصَدَ مَدِينَةَ صَيْدَا، فَحَصَرَهَا بَرًّا وَبَحْرًا وَنَصَبَ عَلَيْهَا الْبُرْجَ الْخَشَبَ، وَوَصَلَ الْأُسْطُولُ الْمِصْرِيُّ فِي الدَّفْعِ عَنْهَا، وَالْحِمَايَةِ لِمَنْ فِيهَا، فَقَاتَلَهُمْ أُسْطُولُ الْفِرِنْجِ، فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، فَاتَّصَلَ بِالْفِرِنْجِ مَسِيرُ عَسْكَرِ دِمَشْقَ نَجْدَةً لَأَهِلِ صَيْدَا، فَرَحَلُوا عَنْهَا بِغَيْرِ فَائِدَةٍ.

وَفِيهَا ظَهَرَ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ لَهُ ذَوَائِبُ، فَبَقِيَ لَيَالِيَ كَثِيرَةً ثُمَّ غَابَ. الْوَفَيَاتُ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيَّاسِ بْنِ مَهْدِيٍّ أَبُو إِسْحَاقَ الْقُشَيْرِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ مِنَ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ وَغَيْرِهِ. وَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَبُو سَعِيدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ الْمُحَدِّثُ، كَانَ يَقْرَأُ الْحَدِيثَ لِلْغُرَبَاءِ، قَرَأَ صَحِيحَ مُسْلِمٍ عَلَى عَبْدِ الْغَافِرِ الْفَارِسِيِّ عِشْرِينَ مَرَّةً.

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ] 502 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مَوْدُودٍ وَعَسْكَرِ السُّلْطَانِ عَلَى الْمُوصِلِ وَوِلَايَةِ مَوْدُودٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، اسْتَوْلَى مَوْدُودٌ، وَالْعَسْكَرُ الَّذِي أَرْسَلَهُ السُّلْطَانُ مَعَهُ، عَلَى مَدِينَةِ الْمَوْصِلِ، وَأَخَذُوهَا مِنْ أَصْحَابِ جَاوْلِي سَقَّاوُو، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ اسْتِيلَاءَ جَاوْلِي عَلَيْهَا، وَمَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَكَرْمِشَ وَالْمَلِكِ قَلْج أَرْسِلَانَ، وَهَلَاكَهِمَا عَلَى يَدِهِ، وَصَارَ مَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَسْكَرُ الْكَثِيرُ، وَالْعُدَّةُ التَّامَّةُ، وَالْأَمْوَالُ الْكَثِيرَةُ، وَكَانَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ قَدْ جَعَلَ إِلَيْهِ وِلَايَةَ كُلِّ بَلَدٍ يَفْتَحُهُ، فَاسْتَوْلَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ وَالْأَمْوَالِ. وَكَانَ سَبَبُ أَخْذِ الْبِلَادِ مِنْهُ: أَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَعَلَى الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ مِنْهَا، لَمْ يَحْمِلْ إِلَى السُّلْطَانِ مِنْهَا شَيْئًا، فَلَمَّا وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ، لِقَصْدِ بِلَادِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ، أَرْسَلَ إِلَى جَاوْلِي يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ بِالْعَسَاكِرِ، وَكَرَّرَ الرُّسُلَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَحْضُرْ، وَغَالَطَ فِي الِانْحِدَارِ إِلَيْهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِذَلِكَ، حَتَّى كَاتَبَ صَدَقَةَ، وَأَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ مَعَهُ، وَمُسَاعِدَهُ عَلَى حَرْبِ السُّلْطَانِ، وَأَطْمَعَهُ فِي الْخِلَافِ وَالْعِصْيَانِ. فَلَمَّا فَرَغَ السُّلْطَانُ مِنْ أَمْرِ صَدَقَةَ، وَقَتَلَهُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، تَقَدَّمَ إِلَى الْأُمَرَاءِ بَنِي بُرْسُقَ، وَسَكْمَانَ الْقُطْبِيِّ، وَمَوْدُودِ بْنِ أَلْتُونْتِكِينَ، وَآقْسُنْقُرَ الْبُرْسُقِيِّ، وَنَصْرِ ابْنِ مُهَلْهَلِ بْنِ

أَبِي الشَّوْكِ الْكُرْدِيِّ، وَأَبِي الْهَيْجَاءِ، صَاحِبِ إِرْبَلَ، بِالْمَسِيرِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَبِلَادِ جَاوْلِي، وَأَخْذِهَا مِنْهُ، فَتَوَجَّهُوا نَحْوَ الْمَوْصِلِ، فَوَجَدُوا جَاوْلِي عَاصِيًا قَدْ شَيَّدَ سُورَ الْمَوْصِلِ، وَأَحْكَمَ مَا بَنَاهُ جَكَرْمِشُ، وَأَعَدَّ الْمِيرَةَ وَالْأَقْوَاتِ وَالْآلَاتِ، وَاسْتَظْهَرَ عَلَى الْأَعْيَانِ بِالْمَوْصِلِ، فَحَبَسَهُمْ، وَأَخْرَجَ مِنْ أَحْدَاثِهَا مَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفًا، وَنَادَى: مَتَى اجْتَمَعَ عَامِّيَّانِ عَلَى الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْأَمْرِ قَتَلَهَمَا، وَخَرَجَ عَنِ الْبَلَدِ، وَنَهَبَ السَّوَادَ. وَتَرَكَ بِالْبَلَدِ زَوْجَتَهُ ابْنَةَ بُرْسُقَ، وَأَسْكَنَهَا الْقَلْعَةَ، وَمَعَهَا أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ فَارِسٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ، سِوَى غَيْرِهِمْ، وَسِوَى الرَّجَّالَةِ، وَنَزَلَ الْعَسْكَرُ عَلَيْهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِمِائَةٍ، وَصَادَرَتْ زَوْجَتُهُ مَنْ بَقِيَ بِالْبَلَدِ، وَعَسَفَتْ نِسَاءَ الْخَارِجِينَ عَنْهُ، وَبَالَغَتْ فِي الِاحْتِرَازِ عَلَيْهِمْ، فَأَوْحَشَهُمْ ذَلِكَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الِانْحِرَافِ عَنْهَا، وَقُوتِلَ أَهْلُ الْبَلَدِ قِتَالًا مُتَتَابِعًا، فَتَمَادَى الْحِصَارُ بِأَهْلِهَا مِنْ خَارِجٍ، وَالظُّلْمُ مِنْ دَاخِلٍ إِلَى آخِرِ الْمُحَرَّمِ، وَالْجُنْدُ بِهَا يَمْنَعُونَ عَامِّيًّا مِنَ الْقُرْبِ مِنَ السُّورِ. فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ، اتَّفَقَ نَفَرٌ مِنَ الْجَصَّاصِينَ - وَمُقَدَّمُهُمْ جَصَّاصٌ يُعْرَفُ بِالسَّعْدِيِّ - عَلَى تَسْلِيمِ الْبَلَدِ، وَتَحَالَفُوا عَلَى التَّسَاعُدِ، وَأَتَوْا وَقْتَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَالنَّاسُ بِالْجَامِعِ، وَصَعِدُوا بُرْجًا، وَأَغْلَقُوا أَبْوَابَهُ، وَقَتَلُوا مَنْ بِهِ مِنَ الْجُنْدِ، وَكَانُوا نِيَامًا، فَلَمْ يَشْعُرُوا بِشَيْءٍ، حَتَّى قُتِلُوا، وَأَخَذُوا سِلَاحَهُمْ، وَأَلْقَوْهُمْ إِلَى الْأَرْضِ، وَمَلَكُوا بُرْجًا آخَرَ. وَوَقَعَتِ الصَّيْحَةُ، وَقَصَدَهُمْ مِائَتَا فَارِسٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَرَمَوْهُمْ بِالنُّشَّابِ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَ، وَيُنَادُونَ بِشِعَارِ السُّلْطَانِ، فَزَحَفَ عَسْكَرُ السُّلْطَانِ إِلَيْهِمْ، وَدَخَلُوا الْبَلَدَ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ، وَمَلَكُوهُ، وَدَخَلَهُ الْأَمِيرُ مَوْدُودٌ، وَنُودِيَ بِالسُّكُونِ وَالْأَمْنِ، وَأَنْ يَعُودَ النَّاسُ إِلَى دُورِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ، وَأَقَامَتْ زَوْجَةُ جَاوْلِي بِالْقَلْعَةِ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَرَاسَلَتِ الْأَمِيرَ مَوْدُودًا فِي أَنْ يُفْرِجَ لَهَا عَنْ طَرِيقِهَا، وَأَنْ يَحْلِفَ لَهَا عَلَى الصِّيَانَةِ وَالْحِرَاسَةِ، فَحَلَفَ، وَخَرَجَتْ إِلَى أَخِيهَا بُرْسُقَ بْنِ بُرْسُقَ، وَمَعَهَا أَمْوَالُهَا وَمَا اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ وَوَلِيَ مَوْدُودٌ الْمَوْصِلَ وَمَا يَنْضَافُ إِلَيْهَا.

ذِكْرُ حَالِ جَاوْلِي مُدَّةَ الْحِصَارِ وَأَمَّا جَاوْلِي فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ عَسْكَرُ السُّلْطَانِ، وَحَصَرَهَا، سَارَ عَنْهَا، وَأَخَذَ مَعَهُ الْقُمَّصَ، صَاحِبَ الرُّهَا، الَّذِي كَانَ قَدْ أَسَرَهُ سَقْمَانُ وَأَخَذَهُ مِنْهُ جَكَرْمِشُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى نَصِيبِينَ، وَهِيَ حِينَئِذٍ لِلْأَمِيرِ إِيلْغَازِي بْنِ أُرْتُقَ، وَرَاسَلَهُ وَسَأَلَهُ الِاجْتِمَاعَ بِهِ، وَاسْتَدْعَاهُ إِلَى مُعَاضَدَتِهِ، وَأَنْ يَكُونَا يَدًا وَاحِدَةً، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ خَوْفَهُمَا مِنَ السُّلْطَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَهُمَا عَلَى الِاحْتِمَاءِ مِنْهُ. فَلَمْ يُجِبْهُ إِيلْغَازِي إِلَى ذَلِكَ، وَرَحَلَ عَنْ نَصِبِينَ، وَرَتَّبَ بِهَا وَلَدَهُ، وَأَمَرَهُ بِحِفْظِهَا مِنْ جَاوْلِي، وَأَنْ يُقَاتِلَهُ إِنْ قَصَدَهُ، وَسَارَ إِلَى مَارِدِينَ. فَلَمَّا سَمِعَ جَاوْلِي ذَلِكَ عَدَلَ عَنْ نَصِيبِينَ، وَقَصَدَ دَارَا وَأَرْسَلَ إِلَى إِيلْغَازِي ثَانِيًا فِي الْمَعَانِي، وَسَارَ بَعْدَ الرَّسُولِ، فَبَيْنَمَا رَسُولُهُ عِنْدَ إِيلْغَازِي بِمَارِدِينَ، لَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَجَاوْلِي مَعَهُ فِي الْقَلْعَةِ وَحْدَهُ، وَقَصَدَ أَنْ يَتَأَلَّفَهُ وَيَسْتَمِيلَهُ، فَلَمَّا رَآهُ إِيلْغَازِي قَامَ إِلَيْهِ، وَخَدَمَهُ، وَلَمَّا رَأَى جَاوْلِي مُحْسِنًا لِلظَّنِّ فِيهِ، غَيْرَ مُسْتَشْعِرٍ مِنْهُ، لَمْ يَجِدْ إِلَى دَفْعِهِ سَبِيلًا، فَنَزَلَ مَعَهُ، وَعَسْكَرَا بِظَاهِرِ نَصِبِينَ، وَسَارَا مِنْهَا إِلَى سِنْجَارَ، وَحَاصَرَاهَا مُدَّةً، فَلَمْ يُجِبْهُمَا صَاحِبُهَا إِلَى صُلْحٍ فَتَرَكَاهُ وَسَارَا نَحْوَ الرَّحْبَةِ، وَإِيلْغَازِي يُظْهِرُ لِجَاوْلِي الْمُسَاعَدَةَ، وَيُبْطِنُ الْخِلَافَ، وَيَنْتَظِرُ فُرْصَةً لِيَنْصَرِفَ عَنْهُ، فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى عَرَبَانَ، مِنَ الْخَابُورِ، هَرَبَ إِيلْغَازِي لَيْلًا وَقَصَدَ نَصِيبِينَ. ذِكْرُ إِطْلَاقِ جَاوْلِي لِلْقُمُّصِ الْفِرِنْجِيِّ لَمَّا هَرَبَ إِيلْغَازِي مِنْ جَاوْلِي سَارَ جَاوْلِي إِلَى الرَّحْبَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَاكِسِينَ أَطْلَقَ الْقُمَّصَ الْفِرِنْجِيَّ، الَّذِي كَانَ أَسِيرًا بِالْمَوْصِلِ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ، وَاسْمَهُ بَرْدَوِيلُ، وَكَانَ صَاحِبَ الرُّهَا وَسَرُوجَ وَغَيْرِهِمَا، وَبَقِيَ فِي الْحَبْسِ إِلَى الْآنِ، وَبَذَلَ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ، فَلَمْ يُطْلَقْ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ أَطْلَقَهُ جَاوْلِي، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَكَانَ مُقَامُهُ فِي السِّجْنِ مَا يُقَارِبُ خَمْسَ سِنِينَ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ بِمَالٍ، وَأَنْ يُطْلِقَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فِي سِجْنِهِ، وَأَنْ يَنْصُرَهُ مَتَى أَرَادَ ذَلِكَ مِنْهُ بِنَفْسِهِ وَعَسْكَرِهِ وَمَالِهِ. فَلَمَّا اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ سَيَّرَ الْقُمَّصَ إِلَى قَلْعَةِ جَعْبَرَ، وَسَلَّمَهُ إِلَى صَاحِبِهِمَا سَالِمِ بْنِ

مَالِكٍ، حَتَّى وَرَدَ عَلَيْهِ ابْنُ خَالَتِهِ جُوسْلِينُ، وَهُوَ مِنْ فُرْسَانِ الْفِرِنْجِ وَشُجْعَانِهَا، وَهُوَ صَاحِبُ تَلِّ بَاشِرَ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ أُسِرَ مَعَ الْقُمَّصِ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ، فَفَدَى نَفْسَهُ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا وَصَلَ جُوسْلِينَ إِلَى قَلْعَةِ جَعْبَرَ أَقَامَ رَهِينَةً عِوَضَ الْقُمَّصِ، وَأُطْلِقَ الْقُمَّصُ، وَسَارَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَأَخَذَ جَاوْلِي جُوسْلِينَ مِنْ قَلْعَةِ جَعْبَرَ فَأَطْلَقَهُ، وَأَخَذَ عِوَضَهُ أَخَا زَوْجَتِهِ، وَأَخَا زَوْجَةِ الْقُمَّصِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى الْقُمَّصِ لِيَقْوَى بِهِ، وَلِيُحِثَّهُ عَلَى إِطْلَاقِ الْأَسْرَى، وَإِنْفَاذِ الْمَالِ وَمَا ضَمِنَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ جُوسْلِينُ إِلَى مَنْبِجَ أَغَارَ عَلَيْهَا وَنَهَبَهَا، وَكَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ جَاوْلِي، فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَنَسَبُوهُ إِلَى الْغَدْرِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَدِينَةَ لَيْسَتْ لَكُمْ. ذِكْرُ مَا جَرَى بَيْنَ هَذَا الْقُمَّصِ وَبَيْنَ صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ لَمَّا أُطْلِقَ الْقُمَّصُ وَسَارَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ أَعْطَاهُ طَنْكَرِي صَاحِبُهَا ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَخَيْلًا، وَثِيَابًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَانَ طَنْكَرِي قَدْ أَخَذَ الرُّهَا مِنْ أَصْحَابِ الْقُمَّصِ حِينَ أُسِرَ، فَخَاطَبَهُ الْآنَ فِي رَدِّهَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى تَلِّ بَاشِرَ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ جُوسْلِينُ، وَقَدْ أَطْلَقَهُ جَاوْلِي، سَرَّهُ ذَلِكَ، وَفَرِحَ بِهِ. وَسَارَ إِلَيْهِمَا طَنْكَرِي، صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، بِعَسَاكِرِهِ لِيُحَارِبَهُمَا، قَبْلَ أَنْ يَقْوَى أَمْرُهُمَا، وَيَجْمَعَا عَسْكَرًا، وَيَلْحَقَ بِهِمَا جَاوْلِي وَيُنْجِدَهُمَا، فَكَانُوا يَقْتَتِلُونَ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنَ الْقِتَالِ اجْتَمَعُوا وَأَكَلَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ وَتَحَادَثُوا. وَأَطْلَقَ الْقُمَّصَ مِنَ الْأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِائَةً وَسِتِّينَ أَسِيرًا كُلُّهُمْ مِنْ سَوَادِ حَلَبَ، وَكَسَاهُمْ وَسَيَّرَهُمْ. وَعَادَ طَنْكَرِي إِلَى أَنْطَاكِيَةَ مِنْ غَيْرِ فَصْلِ حَالٍ فِي مَعْنَى الرُّهَا، فَسَارَ الْقُمَّصُ وَجُوسْلِينُ وَأَغَارَا عَلَى حُصُونِ طَنْكَرِي صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ، وَالْتَجَآ إِلَى وِلَايَةِ كَوَاسِيلَ، وَهُوَ رَجُلٌ أَرْمِنِيٌّ وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ صَاحِبُ رَعْبَانَ، وَكَيْسُومَ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْقِلَاعِ، شَمَالِيِّ حَلَبَ، فَأَنْجَدَ الْقُمَّصَ بِأَلْفِ فَارِسٍ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ، وَأَلْفَيْ رَاجِلٍ، فَقَصَدَهُمْ طَنْكَرِي، فَتَنَازَعُوا فِي أَمْرِ الرُّهَا، فَتَوَسَّطَ بَيْنَهُمُ

الْبِطْرَكُ الَّذِي لَهُمْ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ كَالْإِمَامِ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ، لَا يُخَالَفُ أَمْرُهُ، وَشَهِدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَطَارِنَةِ وَالْقِسِّيسِينَ: أَنَّ بَيْمُنْدَ خَالَ طَنْكَرِي قَالَ لَهُ، لَمَّا أَرَادَ رُكُوبَ الْبَحْرِ، وَالْعَوْدَ إِلَى بِلَادِهِ، لِيُعِيدَ الرُّهَا إِلَى الْقُمَّصِ، إِذَا خَلَصَ مِنَ الْأَسْرِ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ طَنْكَرِي تَاسِعَ صَفَرٍ، وَعَبَرَ الْقُمَّصُ الْفُرَاتَ، لِيُسَلِّمَ إِلَى أَصْحَابِ جَاوْلِي الْمَالَ، وَالْأَسْرَى، فَأَطْلَقَ فِي طَرِيقِهِ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْأَسْرَى مِنْ حَرَّانَ وَغَيْرِهَا. وَكَانَ بِسَرُوجَ ثَلَاثُمِائَةِ مُسْلِمٍ ضَعْفَى، فَعَمَّرَ أَصْحَابُ جَاوْلِي مَسَاجِدَهُمْ، وَكَانَ رَئِيسُ سَرُوجَ مُسْلِمًا قَدِ ارْتَدَّ، فَسَمِعَهُ أَصْحَابُ جَاوْلِي يَقُولُ فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا شَنِيعًا، فَضَرَبُوهُ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفِرِنْجِ بِسَبَبِهِ نِزَاعٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلْقُمُّصِ، فَقَالَ: هَذَا لَا يَصْلُحُ لَنَا وَلَا لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلَهُ. ذِكْرُ حَالِ جَاوْلِي بَعْدَ إِطْلَاقِ الْقُمَّصِ لَمَّا أَطْلَقَ جَاوْلِي الْقُمَّصَ بِمَاكِسِينَ سَارَ إِلَى الرَّحْبَةِ، فَأَتَاهُ أَبُو النَّجْمِ بَدْرَانُ، وَأَبُو كَامِلٍ مَنْصُورٌ، ابْنَا سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ، وَكَانَا، بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِمَا بِقَلْعَةِ جَعْبَرَ، عِنْدَ سَالِمِ بْنِ مَالِكٍ، فَتَعَاهَدُوا عَلَى الْمُسَاعَدَةِ وَالْمُعَاضَدَةِ، وَوَعَدَهُمَا أَنَّهُ يَسِيرُ مَعَهُمَا إِلَى الْحِلَّةِ، وَعَزَمُوا أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهِمْ بِكْتَاشَ بْنَ تَكْشَ بْنِ أَلْب أَرْسِلَانَ. فَوَصَلَ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ عَلَى هَذَا الْعَزْمِ، أَصْبَهْبَذُ صَبَاوَةَ، وَكَانَ قَدْ قَصَدَ السُّلْطَانَ فَأَقْطَعَهُ الرَّحْبَةَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، فَاجْتَمَعَ بِجَاوْلِي، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ الشَّامَ، فَإِنَّ بِلَادَهُ خَالِيَةٌ مِنَ الْأَجْنَادِ، وَالْفِرِنْجُ قَدِ اسْتَوْلَوْا عَلَى كَثِيرٍ مِنْهَا، وَعَرَّفَهُ أَنَّهُ مَتَى قَصَدَ الْعِرَاقَ، وَالسُّلْطَانُ بِهَا، أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، لَمْ يَأْمَنْ شَرًّا يَصِلُ إِلَيْهِ. فَقَبِلَ قَوْلَهُ، وَأَصْعَدَ عَنِ الرَّحْبَةِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ رُسُلُ سَالِمِ بْنِ مَالِكٍ، صَاحِبِ قَلْعَةِ جَعْبَرَ، يَسْتَغِيثُ بِهِ مِنْ بَنِي نُمَيْرٍ، وَكَانَتِ الرَّقَّةُ بِيَدِ وَلَدِهِ عَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ، فَوَثَبَ جَوْشَنُ النُّمَيْرِيُّ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي نُمَيْرٍ، فَقَتَلَ عَلِيًّا وَمَلَكَ الرَّقَّةَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَلِكَ رِضْوَانَ، فَسَارَ مِنْ حَلَبَ إِلَى صِفِّينَ، فَصَادَفَ تِسْعِينَ رَجُلًا مِنَ الْفِرِنْجِ مَعَهُمْ مَالٌ مِنْ فِدْيَةِ الْقُمَّصِ، صَاحِبِ الرُّهَا، قَدْ سَيَّرَهُ إِلَى جَاوْلِي، فَأَخَذَهُ،

وَأَسَرَ عَدَدًا مِنْهُمْ، وَأَتَى الرَّقَّةَ، فَصَالَحَهُ بَنُو نُمَيْرٍ عَلَى مَالٍ، فَرَحَلَ عَنْهُمْ إِلَى حَلَبَ فَاسْتَنْجَدَ سَالِمُ بْنُ مَالِكٍ جَاوْلِي، وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْحَلَ إِلَى الرَّقَّةِ وَيَأْخُذَهَا، وَوَعَدَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. فَقَصْدَ الرَّقَّةَ، وَحَصَرَهَا سَبْعِينَ يَوْمًا، فَضَمِنَ لَهُ بَنُو نُمَيْرٍ مَالًا وَخَيْلًا، فَأَرْسَلَ إِلَى سَالِمٍ: إِنَّنِي فِي أَمْرٍ أَهَمَّ مِنْ هَذَا، وَأَنَا بِإِزَاءِ عَدُوٍّ، وَيَجِبُ التَّشَاغُلُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَا عَازِمٌ عَلَى الِانْحِدَارِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَإِنْ تَمَّ أَمْرِي فَالرَّقَّةُ وَغَيْرُهَا لَكَ، وَلَا أَشْتَغِلُ عَنْ هَذَا الْمُهِمِّ بِحِصَارِ خَمْسَةِ نَفَرٍ مِنْ بَنِي نُمَيْرٍ. وَوَصَلَ إِلَى جَاوْلِي الْأَمِيرُ حُسَيْنُ بْنُ أَتَابِكَ قَتْلُغْ تِكِينَ، وَكَانَ أَبُوهُ أَتَابِكَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَقَتَلَهُ، وَتَقَدَّمَ وَلَدُهُ هَذَا عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَاخْتُصَّ بِهِ، فَسَيَّرَهُ السُّلْطَانُ مَعَ فَخْرِ الْمُلْكِ بْنِ عَمَّارٍ لِيُصْلِحَ الْحَالَ مَعَ جَاوْلِي، وَيَأْمُرَ الْعَسَاكِرَ بِالْمَسِيرِ مَعَ ابْنِ عَمَّارٍ إِلَى جِهَادِ الْكُفَّارِ، فَحَضَرَ عِنْدَ جَاوْلِي، وَأَمَرَ بِتَسْلِيمِ الْبِلَادِ وَطَيَّبَ قَلْبَهُ عَنِ السُّلْطَانِ، وَضَمِنَ الْجَمِيلَ، إِذَا سَلَّمَ الْبِلَادَ، وَأَظْهَرَ الطَّاعَةَ وَالْعُبُودِيَّةَ، فَقَالَ جَاوْلِي: أَنَا مَمْلُوكُ السُّلْطَانِ، وَفِي طَاعَتِهِ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ مَالًا وَثِيَابًا لَهَا مِقْدَارٌ جَلِيلٌ، وَقَالَ لَهُ: سِرْ إِلَى الْمَوْصِلِ وَرَحِّلِ الْعَسْكَرَ عَنْهَا، فَإِنِّي أُرْسِلُ مَعَكَ مَنْ يُسَلِّمُ وَلَدِي إِلَيْكَ رَهِينَةً، وَيُنْفِذُ السُّلْطَانُ إِلَيْهَا مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهَا وَجِبَايَةَ أَمْوَالِهَا، فَفَعَلَ حُسَيْنٌ ذَلِكَ، وَسَارَ وَمَعَهُ صَاحِبُ جَاوْلِي، فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى الْعَسْكَرِ الَّذِي عَلَى الْمَوْصِلِ، وَكَانُوا لَمْ يَفْتَحُوهَا بَعْدُ، أَمَرَهُمْ حُسَيْنٌ بِالرَّحِيلِ، فَكُلُّهُمْ أَجَابَ، إِلَّا الْأَمِيرُ مَوْدُودٌ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا أَرْحَلُ إِلَّا بِأَمْرِ السُّلْطَانِ، وَقَبَضَ عَلَى صَاحِبِ جَاوْلِي، وَأَقَامَ عَلَى الْمَوْصِلِ، حَتَّى فَتَحَهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَعَادَ حُسَيْنُ بْنُ قَتْلُغْ تِكِينَ إِلَى السُّلْطَانِ، فَأَحْسَنَ النِّيَابَةَ عَنْ جَاوْلِي عِنْدَهُ، وَسَارَ جَاوْلِي إِلَى مَدِينَةِ بَالِسَ، فَوَصَلَهَا ثَالِثَ عَشَرَ صَفَرٍ، فَاحْتَمَى أَهْلُهَا مِنْهُ، وَهَرَبَ مَنْ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ وَصَاحِبِ حَلْبَ، فَحَصَرَهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَمَلَكَهَا بَعْدَ أَنْ نَقَبَ بُرْجًا مَنْ أَبْرَاجِهَا، فَوَقَعَ عَلَى النَّقَّابِينَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَمَلَكَ الْبَلَدَ، وَصَلَبَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِهِ عِنْدَ النَّقْبِ، وَأَحْضَرَ الْقَاضِيَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ إِلْيَاسَ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ صَالِحًا، وَنَهَبَ الْبَلَدَ وَأَخَذَ مِنْهُ مَالًا كَثِيرًا.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ جَاوْلِي وَالْفِرِنْجِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، كَانَ الْمُصَافُّ بَيْنَ جَاوْلِي سَقَّاوُو وَبَيْنَ طَنْكَرِي الْفِرِنْجِيِّ، صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ رِضْوَانَ كَتَبَ إِلَى طَنْكَرِي، صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ، يُعَرِّفُهُ مَا هُوَ جَاوْلِي عَلَيْهِ مِنَ الْغَدْرِ، وَالْمَكْرِ، وَالْخِدَاعِ، وَيُحَذِّرُهُ مِنْهُ، وَيُعْلِمُهُ أَنَّهُ عَلَى قَصْدِ حَلَبَ، وَأَنَّهُ إِنْ مَلَكَهَا لَا يَبْقَى لِلْفِرِنْجِ مَعَهُ بِالشَّامِ مُقَامٌ، وَطَلَبَ مِنْهُ النُّصْرَةَ وَالِاتِّفَاقَ عَلَى مَنْعِهِ. فَأَجَابَهُ طَنْكَرِي إِلَى مَنْعِهِ وَبَرَزَ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رِضْوَانُ سِتَّمِائَةِ فَارِسٍ، فَلَمَّا سَمِعَ جَاوْلِي الْخَبَرَ أَرْسَلَ إِلَى الْقُمَّصِ، صَاحِبِ الرُّهَا، يَسْتَدْعِيهِ إِلَى مُسَاعَدَتِهِ، وَأَطْلَقَ لَهُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْمُفَادَاةِ، فَسَارَ إِلَى جَاوْلِي فَلِحَقَ بِهِ، وَهُوَ عَلَى مَنْبِجَ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، بِأَنَّ الْمَوْصِلَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا السُّلْطَانُ، وَمَلَكُوا خَزَائِنَهُ وَأَمْوَالَهُ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَفَارَقَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ أَتَابِكُ زِنْكِيُّ بْنُ آقْسُنْقُرَ، وَبِكْتَاشُ النَّهَاوَنْدِيُّ، وَبَقِيَ جَاوْلِي فِي أَلْفِ فَارِسٍ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الْمُطَّوِّعَةِ، فَنَزَلَ بِتَلِّ بَاشِرَ. وَقَارِبَهُمْ طَنْكَرِي، وَهُوَ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَسِتِّمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ، سِوَى الرَّجَّالَةِ، فَجَعَلَ جَاوْلِي فِي مَيْمَنَتِهِ الْأَمِيرَ أَقْسَيَانَ، وَالْأَمِيرَ أَلْتُونْتَاشَ الْأَبَرِّيَّ، وَغَيْرَهُمَا، وَفِي الْمَيْسَرَةِ الْأَمِيرَ بَدْرَانَ بْنَ صَدَقَةَ، وَأَصْبَهْبَذَ صَبَاوَةَ، وَسُنْقُرَ دِرَازَ، وَفِي الْقَلْبِ الْقُمَّصَ بَغْدُوِينَ، وَجُوسْلِينَ الْفِرِنْجِيِّينَ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ، فَحَمَلَ أَصْحَابُ أَنْطَاكِيَةَ عَلَى الْقُمَّصِ، صَاحِبِ الرُّهَا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَأَزَاحَ طَنْكَرِي الْقَلْبَ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَحَمَلَتْ مَيْسَرَةُ جَاوْلِي عَلَى رَجَّالَةِ صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ، فَقَتَلَتْ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ هَزِيمَةِ صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ، فَحِينَئِذٍ عَمَدَ أَصْحَابُ جَاوْلِي إِلَى جَنَائِبِ الْقُمَّصِ، وَجُوسْلِينَ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْفِرِنْجِ، فَرَكِبُوهَا وَانْهَزَمُوا، فَمَضَى جَاوْلِي وَرَاءَهُمْ لِيَرُدَّهُمْ، فَلَمْ يَرْجِعُوا، وَكَانَتْ طَاعَتُهُ قَدْ زَالَتْ عَنْهُمْ حِينَ أُخِذَتِ الْمَوْصِلُ مِنْهُ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لَا يَعُودُونَ مَعَهُ أَهَمَّتْهُ نَفْسُهُ، وَخَافَ مِنَ الْمُقَامِ، فَانْهَزَمَ، وَانْهَزَمَ بَاقِي عَسْكَرِهِ.

فَأَمَّا أَصْبَهْبَذُ صَبَاوَةَ فَسَارَ نَحْوَ الشَّامِ، وَأَمَّا بَدْرَانُ بْنُ صَدَقَةَ فَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ جَعْبَرَ، وَأَمَّا ابْنُ جَكَرْمِشُ فَقَصَدَ جَزِيرَةَ ابْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا جَاوْلِي فَقَصَدَ الرَّحْبَةَ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَنَهَبَ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ أَمْوَالَهُمْ وَأَثْقَالَهُمْ، وَعَظُمَ الْبَلَاءُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَهَرَبَ الْقُمَّصُ وَجُوسْلِينُ إِلَى تَلِّ بَاشِرَ وَالْتَجَأَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَفَعَلَا مَعَهُمُ الْجَمِيلَ، وَدَاوَيَا الْجَرْحَى وَكَسَوَا الْعُرَاةَ، وَسَيَّرَاهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ. ذِكْرُ عَوْدِ جَاوْلِي إِلَى السُّلْطَانِ لَمَّا انْهَزَمَ جَاوْلِي سَقَّاوُو قَصَدَ الرَّحْبَةَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا بَاتَ دُونَهَا فِي عِدَّةِ فَوَارِسَ، فَاتَّفَقَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِ الْأَمِيرِ مَوْدُودٍ، الَّذِينَ أَخَذُوا الْمَوْصِلَ مِنْهُ، أَغَارُوا عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ يُجَاوِرُونَ الرَّحْبَةَ فَقَارَبُوا جَاوْلِي وَلَا يَشْعُرُونَ بِهِ، وَلَوْ عَلِمُوا لَأَخَذُوهُ. فَلَمَّا رَأَى الْحَالَ كَذَلِكَ، عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُقِيمَ بِالْجَزِيرَةِ، وَلَا بِالشَّامِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ يَحْفَظُ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَيُدَاوِي بِهِ مَرَضَهُ، غَيْرَ قَصْدِ بَابِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ عَنْ رَغْبَةٍ وَاخْتِيَارٍ، وَكَانَ وَاثِقًا بِالْأَمِيرِ حُسَيْنِ بْنِ قَتْلُغْتِكِينَ، فَرَحَلَ مِنْ مَكَانِهِ وَهُوَ خَائِفٌ حَذِرٌ، قَدْ أَخْفَى شَخْصَهُ وَكَتَمَ أَمْرَهُ، وَسَارَ إِلَى عَسْكَرِ السُّلْطَانِ، وَكَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ أَصْبَهَانَ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ مَكَانِهِ لِجِدِّهِ فِي السَّيْرِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْمُعَسْكَرَ قَصَدَ الْأَمِيرَ حُسَيْنًا، فَحَمَلَهُ إِلَى السُّلْطَانِ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ وَكَفَنُهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَأَمَّنَهُ، وَأَتَاهُ الْأُمَرَاءُ يُهَنُّونَهُ بِذَلِكَ، وَطَلَبَ مِنْهُ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ بِكْتَاشُ بْنُ تَكْشَ، فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ، فَاعْتَقَلَهُ بَأَصْبَهَانَ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ طُغْتِكِينَ وَالْفِرِنْجِ وَالْهُدْنَةِ بَعْدَهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ طُغْتِكِينَ أَتَابِكَ وَالْفِرِنْجِ وَسَبَبُهَا أَنَّ طُغْتِكِينَ سَارَ إِلَى طَبَرِيَّةَ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهَا ابْنُ أُخْتِ بَغْدُوِينَ الْفِرِنْجِيِّ، مَلِكِ الْقُدْسِ، فَتَحَارَبَا وَاقْتَتَلَا، وَكَانَ طُغْتِكِينُ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَكَثِيرٍ مِنَ الرَّجَّالَةِ وَكَانَ ابْنُ أُخْتِ مَلِكِ الْفِرِنْجِ فِي أَرْبَعِمِائَةِ فَارِسٍ، وَأَلْفَيْ رَاجِلٍ.

فَلَمَّا اشْتَدَّ الْقَتْلُ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، فَتَرَجَّلَ طُغْتِكِينُ، وَنَادَى بِالْمُسْلِمِينَ، وَشَجَّعَهُمْ فَعَادُوا الْحَرْبَ، وَكَسَرُوا الْفِرِنْجَ، وَأَسَرُوا ابْنَ أُخْتِ الْمَلِكِ، وَحُمِلَ إِلَى طُغْتِكِينَ، فَعَرَضَ طُغْتِكِينُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَامْتَنَعَ مِنْهُ، وَبَذَلَ فِي فِدَاءِ نَفْسِهِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَإِطْلَاقَ خَمْسِمِائَةِ أَسِيرٍ، فَلَمْ يَقْنَعْ طُغْتِكِينُ مِنْهُ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا لَمْ يُجِبْ قَتَلَهُ بِيَدِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ الْأَسْرَى، ثُمَّ اصْطَلَحَ طُغْتِكِينُ وَبَغْدُوِينُ مَلِكَ الْفِرِنْجِ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَوْلَا هَذِهِ الْهُدْنَةُ لَكَانَ الْفِرِنْجُ بَلَغُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بَعْدَ الْهَزِيمَةِ الْآتِي ذِكْرُهَا، أَمْرًا عَظِيمًا. ذِكْرُ انْهِزَامِ طُغْتِكِينُ مِنَ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، انْهَزَمَ أَتَابِكُ طُغْتِكِينُ مِنَ الْفِرِنْجِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حِصْنَ عِرْقَةَ، وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ طَرَابُلُسَ، كَانَ بِيَدِ غُلَامٍ لِلْقَاضِي فَخْرِ الْمُلْكِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ عَمَّارٍ، صَاحِبِ طَرَابُلُسَ، وَهُوَ مِنَ الْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ، فَعَصَى عَلَى مَوْلَاهُ، فَضَاقَ بِهِ الْقُوتُ، وَانْقَطَعَتْ عَنْهُ الْمِيرَةُ، لِطُولِ مُكْثِ الْفِرِنْجِ فِي نَوَاحِيهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَتَابِكَ طُغْتِكِينَ، صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَقَالَ لَهُ: أَرْسِلْ مَنْ يَتَسَلَّمُ هَذَا الْحِصْنَ مِنِّي، قَدْ عَجَزْتُ عَنْ حِفْظِهِ، وَلَأَنْ يَأْخُذَهُ الْمُسْلِمُونَ خَيْرٌ لِي دُنْيَا وَآخِرَةً مِنْ أَنْ يَأْخُذَهُ الْفِرِنْجُ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ طُغْتِكِينُ صَاحِبًا لَهُ اسْمُهُ إِسْرَائِيلُ، فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ، فَتَسَلَّمَ الْحِصْنَ، فَلَمَّا نَزَلَ غُلَامُ ابْنِ عَمَّارٍ مِنْهُ رَمَاهُ إِسْرَائِيلُ فِي الْأَخْلَاطِ، بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ قَصْدُهُ بِذَلِكَ أَنْ لَا يُطْلِعَ أَتَابِكَ طُغْتِكِينَ عَلَى مَا خَلَّفَهُ بِالْقَلْعَةِ مِنَ الْمَالِ. وَأَرَادَ طُغْتِكِينُ قَصْدَ الْحِصْنِ لِلِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، وَتَقْوِيَتِهِ بِالْعَسَاكِرِ، وَالْأَقْوَاتِ، وَآلَاتِ الْحَرْبِ، فَنَزَلَ الْغَيْثُ وَالثَّلْجُ مُدَّةَ شَهْرَيْنِ، لَيْلًا وَنَهَارًا، فَمَنَعَهُ، فَلَمَّا زَالَ ذَلِكَ سَارَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَفَتَحَ حُصُونًا لِلْفِرِنْجِ مِنْهَا حِصْنُ الْأَكَمَةِ. فَلَمَّا سَمِعَ السَّرَدَانِيُّ الْفِرِنْجِيُّ بِمَجِيءِ طُغْتِكِينَ، وَهُوَ عَلَى حِصَارِ طَرَابُلُسَ، تَوَجَّهَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ،

فَلَمَّا أَشْرَفَ أَوَائِلُ أَصْحَابِهِ عَلَى عَسْكَرِ طُغْتِكِينَ انْهَزَمُوا وَخَلَّوْا ثِقَلَهُمْ وَرِحَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ لِلْفِرِنْجِ، فَغَنِمُوا، وَقَوُوا بِهِ، وَزَادَ فِي تَجَمُّلِهِمْ. وَوَصَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى حِمْصَ، عَلَى أَقْبَحِ حَالٍ مِنَ التَّقَطُّعِ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ لِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ حَرْبٌ، وَقَصَدَ السَّرَدَانِيُّ إِلَى عِرْقَةَ، فَلَمَّا نَازَلَهَا طَلَبَ مَنْ كَانَ بِهَا الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَتَسَلَّمَ الْحِصْنَ، فَلَمَّا خَرَجَ مَنْ فِيهِ قَبَضَ عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ: لَا أُطْلِقُهُ إِلَّا بِإِطْلَاقِ فُلَانٍ، وَهُوَ أَسِيرٌ كَانَ بِدِمَشْقَ مِنَ الْفِرِنْجِ، مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ، فَفُودِيَ بِهِ وَأُطْلِقَا مَعًا. وَلَمَّا وَصَلَ طُغْتِكِينُ إِلَى دِمَشْقَ، بَعْدَ الْهَزِيمَةِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَلِكُ الْقُدْسِ يَقُولُ لَهُ: لَا تَظُنَّ أَنَّنِي أَنْقُضُ الْهُدْنَةَ لِلَّذِي تَمَّ عَلَيْكَ مِنَ الْهَزِيمَةِ، فَالْمُلُوكُ يَنَالُهُمْ أَكْثَرُ مِمَّا نَالَكَ، ثُمَّ تَعُودُ أُمُورُهُمْ إِلَى الِانْتِظَامِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَكَانَ طُغْتِكِينُ خَائِفًا أَنْ يَقْصِدَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْكَسْرَةِ فَيَنَالَ مِنْ بَلَدِهِ كُلَّ مَا أَرَادَ. ذِكْرُ صُلْحِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ بِبَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ، اصْطَلَحَ عَامَّةُ بَغْدَاذَ السَّنَةُ وَالشِّيعَةُ، وَكَانَ الشَّرُّ مِنْهُمْ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ، وَقَدِ اجْتَهَدَ الْخُلَفَاءُ، وَالسَّلَاطِينُ، وَالشِّحَنُ فِي إِصْلَاحِ الْحَالِ، فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، إِلَى أَنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَكَانَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا لَمَّا قَتَلَ مَلِكَ الْعَرَبِ صَدَقَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، خَافَ الشِّيعَةُ بِبَغْدَاذَ - أَهْلُ الْكَرْخِ وَغَيْرُهُمْ - لِأَنَّ صَدَقَةَ كَانَ يَتَشَيَّعُ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، فَشَنَّعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ نَالَهُمْ غَمٌّ وَهَمٌّ لِقَتْلِهِ، فَخَافَ الشِّيعَةُ، وَأَغْضَوْا عَلَى سَمَاعِ هَذَا، وَلَمْ يَزَالُوا خَائِفِينَ إِلَى شَعْبَانَ، فَلَمَّا دَخَلَ شَعْبَانُ تَجَهَّزَ السُّنَّةُ لِزِيَارَةِ قَبْرِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانُوا قَدْ تَرَكُوا ذَلِكَ سِنِينَ كَثِيرَةً وَمُنِعُوا مِنْهُ لِتَنْقَطِعَ الْفِتَنُ الْحَادِثَةُ بِسَبَبِهِ. فَلَمَّا تَجَهَّزُوا لِلْمَسِيرِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا طَرِيقَهُمْ فِي الْكَرْخِ، فَأَظْهَرُوا ذَلِكَ،

فَاتَّفَقَ رَأْيُ أَهْلِ الْكَرْخِ عَلَى تَرْكِ مُعَارَضَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَهُمْ، فَصَارَتِ السُّنَّةُ تُسَيِّرُ أَهْلَ كُلِّ مَحَلَّةٍ مُنْفَرِدِينَ، وَمَعَهُمْ مِنَ الزِّينَةِ وَالسِّلَاحِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَجَاءَ أَهْلُ بَابِ الْمَرَاتِبِ، وَمَعَهُمْ فِيلٌ قَدْ عُمِلَ مِنْ خَشَبٍ، وَعَلَيْهِ الرِّجَالُ بِالسِّلَاحِ، وَقَصَدُوا جَمِيعُهُمُ الْكَرْخَ لِيَعْبُرُوا فِيهِ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ أَهْلُهُ بِالْبَخُورِ وَالطِّيبِ وَالْمَاءِ الْمُبَرَّدِ، وَالسِّلَاحِ الْكَثِيرِ، وَأَظْهَرُوا بِهِمُ السُّرُورَ وَشَيَّعُوهُمْ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الْمَحَلَّةِ. وَخَرَجَ الشِّيعَةُ، لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْهُ، إِلَى مَشْهَدِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ، فَلَمْ يَعْتَرِضْهُمْ أَحَدٌ مِنَ السُّنَّةِ، فَعَجِبَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَلَمَّا عَادُوا مِنْ زِيَارَةِ مُصْعَبٍ لَقِيَهُمْ أَهْلُ الْكَرْخِ بِالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ أَهْلَ بَابِ الْمَرَاتِبِ انْكَسَرَ فِيلُهُمُ عِنْدَ قَنْطَرَةِ بَابِ حَرْبٍ، فَقَرَأَ لَهُمْ قَوْمٌ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ مَنْصُورُ بْنُ صَدَقَةَ بْنِ مَزْيَدٍ إِلَى بَابِ السُّلْطَانِ، فَتَقَبَّلَهُ وَأَكْرَمَهُ، وَكَانَ قَدْ هَرَبَ، بَعْدَ قَتْلِ وَالِدِهِ، إِلَى الْآنِ، وَالْتَحَقَ أَخُوهُ بَدْرَانُ بْنُ صَدَقَةَ بِالْأَمِيرِ مَوْدُودٍ الَّذِي أَقْطَعُهُ السُّلْطَانُ الْمَوْصِلَ، فَأَكْرَمَهُ، وَأَحْسَنَ صُحْبَتَهُ. وَفِيهَا، فِي نِيسَانَ، زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً، وَتَقَطَّعَتِ الطُّرُقُ، وَغَرِقَتِ الْغَلَّاتُ الشِّتْوِيَّةُ وَالصَّيْفِيَّةُ، وَحَدَثَ غَلَاءٌ عَظِيمٌ بِالْعِرَاقِ، بَلَغَتْ كَارَةُ الدَّقِيقِ الْخُشْكَارِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ إِمَامِيَّةٍ، وَعُدِمَ الْخُبْزُ رَأْسًا، وَأَكَلَ النَّاسُ التَّمْرَ وَالْبَاقِلَّاءَ الْخَضْرَاءَ، وَأَمَّا أَهْلُ السَّوَادِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَأْكُلُوا جَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَنِصْفَ شَوَّالٍ، سِوَى الْحَشِيشِ وَالتُّوتِ. وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، عُزِلَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ أَبُو الْمَعَالِي هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَوَزَرَ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي نَصْرِ بْنِ جَهِيرٍ. وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، تَزَوَّجَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ ابْنَةَ السُّلْطَانِ مُلْكِشَاهْ، وَهِيَ أُخْتُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ الَّذِي خَطَبَ النِّكَاحَ الْقَاضِي أَبُو الْعَلَاءِ صَاعِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ، الْحَنَفِيُّ، وَكَانَ الْمُتَوَلِّي لِقَبُولِ الْعَقْدِ نِظَامُ الْمُلْكِ أَحْمَدُ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ،

وَزِيرُ السُّلْطَانِ، بِوَكَالَةٍ مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ الصَّدَاقُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَنُثِرَتِ الْجَوَاهِرُ وَالدَّنَانِيرُ، وَكَانَ الْعَقْدُ بَأَصْبَهَانَ. وَفِيهَا تَوَلَّى مُجَاهِدُ الدِّينِ بَهْرُوزَ شِحْنَكِيَّةَ بَغْدَاذَ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا كَانَ قَبَضَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، صَاحِبِ الْمَخْزَنِ، وَعَلَى أَبِي الْفَرَجِ بْنِ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَاعْتَقَلَهُمَا عِنْدَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُمَا الْآنَ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِمَا مَالًا يَحْمِلَانِهِ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ مُجَاهِدُ الدِّينِ بَهْرُوزَ لِقَبْضِ الْمَالِ، وَأَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِعِمَارَةِ دَارِ الْمَمْلَكَةِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَعَمَّرَ الدَّارَ، وَأَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ، فَلَمَّا قَدِمَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ وَلَّاهُ شِحْنَكِيَّةَ الْعِرَاقِ جَمِيعِهِ، وَخَلَعَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْعُمَرِيِّ، صَاحِبِ جَيْشِ صَدَقَةَ، وَوَلَّاهُ الْحِلَّةِ السَّيْفِيَّةَ، وَكَانَ صَارِمًا، حَازِمًا، ذَا رَأْيٍ وَجَلَدٍ. وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ، مَلَكَ الْأَمِيرُ سُكْمَانُ الْقُطْبِيُّ، صَاحِبُ خِلَاطَ، مَدِينَةَ مَيَّافَارِقِينَ بِالْأَمَانِ، بَعْدَ أَنْ حَصَرَهَا وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا عِدَّةَ شُهُورٍ، فَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ بِهَا، وَاشْتَدَّ الْجُوعُ بِأَهْلِهَا فَسَلَّمُوهَا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، قُتِلَ قَاضِي أَصْبَهَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْخَطِيبِيُّ بِهَمَذَانَ، وَكَانَ قَدْ تَجَرَّدَ، فِي أَمْرِ الْبَاطِنِيَّةِ، تَجَرُّدًا عَظِيمًا، وَصَارَ يَلْبَسُ دِرْعًا حَذَرًا مِنْهُمْ، وَيَحْتَاطُ، وَيَحْتَرِزُ، فَقَصَدَهُ إِنْسَانٌ عَجَمِيٌّ، يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَدَخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ فَقَتَلَهُ. وَقُتِلَ صَاعِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو الْعَلَاءِ قَاضِي نَيْسَابُورَ، يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ، قَتَلَهُ بَاطِنِيٌّ، وَقُتِلَ الْبَاطِنِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ قَفْلٌ عَظِيمٌ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى مِصْرَ، فَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى مَلِكِ

الْفِرِنْجِ، فَسَارَ إِلَيْهِ وَعَارَضَهُ فِي الْبَرِّ، وَأَخَذَ كُلَّ مَنْ فِيهِ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَمَنْ سَلِمَ أَخَذَهُ الْعَرَبُ. وَفِيهَا، فِي فِصْحِ النَّصَارَى، ثَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ فِي حِصْنِ شَيْزَرَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهِ فِي مِائَةِ رَجُلٍ، فَمَلَكُوهُ، وَأَخْرَجُوا مَنْ كَانَ فِيهِ، وَأَغْلَقُوا بَابَهُ وَصَعِدُوا إِلَى الْقَلْعَةِ فَمَلَكُوهَا، وَكَانَ أَصْحَابُهَا بَنُو مُنْقِذٍ قَدْ نَزَلُوا مِنْهَا لِمُشَاهَدَةِ عِيدِ النَّصَارَى، وَكَانُوا قَدْ أَحْسَنُوا، إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَفْسَدُوا، كُلَّ الْإِحْسَانِ، فَبَادَرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْبَاشُورَةَ، فَأَصْعَدَهُمُ النِّسَاءُ فِي الْحِبَالِ مِنَ الطَّاقَاتِ، وَصَارُوا مَعَهُمْ، وَأَدْرَكَهُمُ الْأُمَرَاءُ بَنُو مُنْقِذٍ، أَصْحَابُ الْحِصْنِ، فَصَعِدُوا إِلَيْهِمْ، فَكَبَّرُوا عَلَيْهِمْ وَقَاتَلُوهُمْ، فَانْخَذَلَ الْبَاطِنِيَّةُ، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَقُتِلَ مَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِمْ فِي الْبَلَدِ. وَفِيهَا وَصَلَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ غُرَبَاءُ، فَكَتَبُوا إِلَى أَمِيرِهَا يَحْيَى بْنِ تَمِيمٍ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ الْكِيمْيَاءَ، فَأَحْضَرَهُمْ عِنْدَهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا شَيْئًا يَرَاهُ مِنْ صِنَاعَتِهِمْ، فَقَالُوا: نَعْمَلُ النَّقْرَةَ، فَأَحْضَرَ لَهُمْ مَا طَلَبُوا مِنْ آلَةٍ وَغَيْرِهَا، وَقَعَدَ مَعَهُمْ هُوَ وَالشَّرِيفُ أَبُو الْحَسَنِ، وَقَائِدُ جَيْشِهِ وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ، وَكَانَا يَخْتَصَّانِ بِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْكِيمَاوِيَّةُ الْمَكَانَ خَالِيًا مِنْ جَمْعٍ ثَارُوا بِهِمْ، فَضَرَبَ أَحَدُهُمْ يَحْيَى بْنَ تَمِيمٍ عَلَى رَأْسِهِ، فَوَقَعَتِ السِّكِّينُ فِي عِمَامَتِهِ فَلَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا، وَرَفَسَهُ يَحْيَى فَأَلْقَاهُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَدَخَلَ يَحْيَى بَابًا وَأَغْلَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَضَرَبَ الثَّانِي الشَّرِيفَ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ الْقَائِدُ إِبْرَاهِيمُ السَّيْفَ فَقَاتَلَ الْكِيمَاوِيَّةَ، وَوَقَعَ الصَّوْتُ، فَدَخَلَ أَصْحَابُ الْأَمِيرِ يَحْيَى فَقَتَلُوا

الْكِيمَاوِيَّةَ، وَكَانَ زِيُّهُمْ زِيَّ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ، فُقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ عَلَى مِثْلِ زِيِّهِمْ، وَقِيلَ لِلْأَمِيرِ يَحْيَى: إِنَّ هَؤُلَاءِ رَآهُمْ بَعْضُ النَّاسِ عِنْدَ الْمُقَدَّمِ بْنِ خَلِيفَةَ، وَاتَّفَقَ أَنَّ الْأَمِيرَ أَبَا الْفُتُوحِ بْنَ تَمِيمٍ، أَخَا يَحْيَى، وَصَلَ تِلْكَ السَّاعَةَ إِلَى الْقَصْرِ فِي أَصْحَابِهِ وَقَدْ لَبِسُوا السِّلَاحَ، فَمُنِعَ مِنَ الدُّخُولِ، فَثَبَتَ عِنْدَ الْأَمِيرِ يَحْيَى أَنَّ ذَلِكَ بِوَضْعٍ مِنْهُمَا، فَأَحْضَرَ الْمُقَدَّمَ بْنَ خَلِيفَةَ، وَأَمَرَ أَوْلَادَ أَخِيهِ فَقَتَلُوهُ قِصَاصًا، لِأَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُمْ، وَأَخْرَجَ الْأَمِيرَ أَبَا الْفُتُوحِ وَزَوْجَتَهُ بَلَارَةَ بِنْتَ الْقَاسِمِ بْنِ تَمِيمٍ، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّهِ، وَوَكَّلَ بِهِمَا فِي قَصْرِ زِيَادٍ بَيْنَ الْمَهْدِيَّةِ وَسَفَاقِسَ، فَبَقِيَ هُنَاكَ إِلَى أَنْ مَاتَ يَحْيَى، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَلِيٌّ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَسَيَّرَ أَبَا الْفُتُوحِ وَزَوْجَتَهُ بَلَارَةَ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ فِي الْبَحْرِ، فَوَصَلَا إِلَى إِسْكَنْدَرِيَّةَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، قُتِلَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو الْمَحَاسِنِ الرُّويَانِيُّ الطَّبَرِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، مَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ حَافِظًا لِلْمَذْهَبِ، وَيَقُولُ: لَوِ احْتَرَقَتْ كُتُبُ الشَّافِعِيِّ لَأَمْلَيْتُهَا مِنْ قَلْبِي. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ الْخَطِيبُ أَبُو زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ التَّبْرِيزِيُّ، الشَّيْبَانِيُّ، اللُّغَوِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَهُ شِعْرٌ لَيْسَ بِالْجَيِّدِ. وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، تُوُفِّيَ السَّيِّدُ أَبُو هَاشِمٍ زَيْدٌ الْحُسَيْنِيُّ، الْعَلَوِيُّ، رَئِيسُ هَمَذَانَ، وَكَانَ نَافِذَ الْحُكْمِ، مَاضِيَ الْأَمْرِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ رِئَاسَتِهِ لَهَا سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَجَدُّهُ لِأُمِّهِ الصَّاحِبُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبَّادٍ، وَكَانَ عَظِيمَ الْمَالِ جِدًّا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعَ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ لَمْ يَبِعْ لِأَجْلِهَا مِلْكًا وَلَا

اسْتَدَانَ دِينَارًا، وَأَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، عِدَّةَ شُهُورٍ، فِي جَمِيعِ مَا يُرِيدُهُ، وَكَانَ قَلِيلَ الْمَعْرُوفِ. وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ أَبُو الْفَوَارِسِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَازِنُ، الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ بِجَوْدَةِ الْخَطِّ، وَلَهُ شِعْرٌ مِنْهُ: عَنَّتِ الدُّنْيَا لِطَالِبِهَا ... وَاسْتَرَاحَ الزَّاهِدُ الْفَطِنُ عَرَفَ الدُّنْيَا، فَلَمْ يَرَهَا ... وَسِوَاهُ حَظُّهُ الْفِتَنُ كُلُّ مَلْكٍ نَالَ زُخْرُفَهَا ... حَظُّهُ مِمَّا حَوَى كَفَنُ يَقْتَنِي مَالًا، وَيَتْرُكُهُ ... فِي كِلَا الْحَالَيْنِ مُفْتَتَنُ أَمَلِي كَوْنِي عَلَى ثِقَةٍ ... مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ مُرْتَهَنُ أَكْرَهُ الدُّنْيَا، وَكَيْفَ بِهَا ... وَالَّذِي تَسْخُو بِهِ وَسَنٌ لَمْ تَدُمْ قَبْلِي عَلَى أَحَدٍ ... فَلِمَاذَا الْهَمُّ وَالْحَزَنُ؟ وَقِيلَ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَدْ ذُكِرَ هُنَاكَ.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِمِائَةٍ] 503 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ طَرَابُلُسَ وَبَيْرُوتَ مِنَ الشَّامِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، حَادِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، مَلَكَ الْفِرِنْجُ طَرَابُلُسَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ طَرَابُلُسَ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ فِي حُكْمِ صَاحِبِ مِصْرَ وَنَائِبِهِ فِيهَا، وَالْمَدَدُ يَأْتِي إِلَيْهَا مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِمِائَةٍ. فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ، أَوَّلَ شَعْبَانَ، وَصَلَ أُسْطُولٌ كَبِيرٌ مِنْ بَلَدِ الْفِرِنْجِ فِي الْبَحْرِ، وَمُقَدَّمُهُمْ قُمُّصٌ كَبِيرٌ اسْمُهُ رِيمُنْدَ بْنُ صَنْجِيلَ وَمَرَاكِبُهُ مَشْحُونَةٌ بِالرِّجَالِ، وَالسِّلَاحِ، وَالْمِيرَةِ، فَنَزَلَ عَلَى طَرَابُلُسَ، وَكَانَ نَازِلًا عَلَيْهَا قَبْلَهُ السُّرْدَانِيُّ ابْنُ أُخْتِ صَنْجِيلَ، وَلَيْسَ بِابْنِ أُخْتِ رِيمُنْدَ هَذَا، بَلْ هُوَ قُمُّصٌ آخَرُ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا فِتْنَةٌ أَدَّتْ إِلَى الشَّرِّ وَالْقِتَالِ، فَوَصَلَ طَنْكَرِي صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ إِلَيْهَا، مَعُونَةً لِلسُّرْدَانِيِّ، وَوَصَلَ الْمَلِكُ بَغْدُوِينُ، صَاحِبُ الْقُدْسِ، فِي عَسْكَرِهِ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، وَنَزَلَ الْفِرِنْجُ جَمِيعُهُمْ عَلَى طَرَابُلُسَ، وَشَرَعُوا فِي قِتَالِهَا، وَمُضَايَقَةِ أَهْلِهَا، مِنْ أَوَّلِ شَعْبَانَ، وَأَلْصَقُوا أَبْرَاجَهُمْ بِسُورِهَا، فَلَمَّا رَأَى الْجُنْدُ وَأَهْلُ الْبَلَدِ ذَلِكَ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَذَلَّتْ نُفُوسُهُمْ، وَزَادَهُمْ ضَعْفًا تَأَخُّرُ الْأُسْطُولِ الْمِصْرِيِّ عَنْهُمْ بِالْمِيرَةِ وَالنَّجْدَةِ. وَكَانَ سَبَبُ تَأَخُّرِهِ: أَنَّهُ فُرِّغَ مِنْهُ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَسَارَ، فَرَدَّتْهُ الرِّيحُ، فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمُ الْوُصُولُ إِلَى طَرَابُلُسَ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا. وَمَدَّ الْفِرِنْجُ الْقِتَالَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَبْرَاجِ وَالزَّحْفِ، فَهَجَمُوا عَلَى الْبَلَدِ وَمَلَكُوهُ عَنْوَةً وَقَهْرًا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ، وَنَهَبُوا مَا فِيهَا،

وَأَسَرُوا الرِّجَالَ، وَسَبَوُا النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَغَنِمُوا مِنْ أَهْلِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالْأَمْتِعَةِ، وَكُتُبِ دُورِ الْعِلْمِ الْمَوْقُوفَةِ، مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُحْصَى، فَإِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا مَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْبِلَادِ أَمْوَالًا وَتِجَارَةً، وَسَلَّمَ الْوَالِي الَّذِي كَانَ بِهَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ جُنْدِهَا كَانُوا الْتَمَسُوا الْأَمَانَ قَبْلَ فَتْحِهَا، فَوَصَلُوا إِلَى دِمَشْقَ، وَعَاقَبَ الْفِرِنْجُ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَأُخِذَتْ دَفَائِنُهُمْ وَذَخَائِرُهُمْ فِي مَكَامِنِهِمْ. ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ جَبَلَةَ وَبَانْيَاسَ لَمَّا فَرَغَ الْفِرِنْجُ مِنْ طَرَابُلُسَ سَارَ طَنْكَرِي، صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، إِلَى بَانْيَاسَ، وَحَصَرَهَا، وَافْتَتَحَهَا، وَأَمَّنَ أَهْلَهَا، وَنَزَلَ مَدِينَةَ جَبَلَةَ، وَفِيهَا فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ عَمَّارٍ، الَّذِي كَانَ صَاحِبَ طَرَابُلُسَ، وَكَانَ الْقُوتُ فِيهَا قَلِيلًا، فَقَاتَلَهَا إِلَى أَنْ مَلَكَهَا فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ بِالْأَمَانِ، وَخَرَجَ فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ عَمَّارٍ سَالِمًا. وَوَصَلَ عُقَيْبَ مَلِكِ طَرَابُلُسَ، الْأُسْطُولُ الْمِصْرِيُّ بِالرِّجَالِ، وَالْمَالِ، وَالْغِلَالِ، وَغَيْرِهَا، مَا يَكْفِيهِمْ سَنَةً، فَوَصَلَ إِلَى صُورَ بَعْدَ أَخْذِهَا بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ لِلْقَضَاءِ النَّازِلِ بِأَهْلِهَا، وَفُرِّقَتِ الْغِلَالُ الَّتِي فِيهِ وَالذَّخَائِرُ فِي الْجِهَاتِ الْمُنْفَذَةِ إِلَيْهَا: صُورَ، وَصَيْدَا، وَبَيْرُوتَ. وَأَمَّا فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ عَمَّارٍ فَإِنَّهُ قَصَدَ شَيْزَرَ، فَأَكْرَمَهُ صَاحِبُهَا الْأَمِيرُ سُلْطَانُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُنْقِذٍ الْكِنَانِيُّ، وَاحْتَرَمَهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَنْزَلَهُ طُغْتِكِينُ صَاحِبُهَا، وَأَجْزَلَ لَهُ فِي الْحَمْلِ وَالْعَطِيَّةِ، وَأَقْطَعَهُ أَعْمَالَ الزَّبَدَانِيِّ، وَهُوَ

عَمَلٌ كَبِيرٌ مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ مُحَمَّدْ خَانْ وَسَاغَرْبِكْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ سَاغَرْبِكْ وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَغَيْرِهِمْ وَقَصَدَ أَعْمَالَ مُحَمَّدْ خَانْ بِسَمَرْقَنْدَ وَغَيْرِهَا، فَأَرْسَلَ مُحَمَّدْ خَانْ إِلَى سَنْجَرَ يَسْتَنْجِدُهُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْجُنُودَ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ أَيْضًا كَثِيرٌ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَسَارَ إِلَى سَاغَرْبِكْ فَالْتَقَوْا بِنَوَاحِي الْخَشَبِ وَاقْتَتَلُوا فَانْهَزَمَ سَاغَرْبِكْ وَعَسَاكِرُهُ وَأَخَذَتِ السُّيُوفُ مِنْهُمْ مَأْخَذَهَا وَكَثُرَ الْأَسْرُ فِيهِمْ وَالنَّهْبُ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ حَرْبِهِمْ وَأَمِنَ خَانْ مِنْ شَرِّ سَاغَرْبِكْ عَادَ الْعَسْكَرُ السَّنْجَرِيُّ إِلَى خُرَاسَانَ فَعَبَرُوا النَّهْرَ إِلَى بَلْخَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، سَيَّرَ السُّلْطَانُ وَزِيرَهُ نِظَامَ الْمُلْكِ أَحْمَدَ بْنَ نِظَامِ الْمُلْكِ إِلَى قَلْعَةِ أَلْمُوتَ لِقِتَالِ الْحَسَنِ بْنِ الصَّبَّاحِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَحَصَرُوهُمْ، وَهَجَمَ الشِّتَاءُ عَلَيْهِمْ فَعَادُوا وَلَمْ يَبْلُغُوا مِنْهُ غَرَضًا. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، قَدِمَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ، عَادَ عَنْهَا فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ أَيْضًا. وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، تَوَجَّهَ الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ إِلَى الْجَامِعِ، فَوَثَبَ بِهِ الْبَاطِنِيَّةُ فَضَرَبُوهُ بِالسَّكَاكِينِ، وَجُرِحَ فِي رَقَبَتِهِ، فَبَقِيَ مَرِيضًا مُدَّةً، ثُمَّ بَرَأَ، وَأُخِذَ الْبَاطِنِيُّ الَّذِي جَرَحَهُ فَسُقِيَ الْخَمْرَ حَتَّى سَكِرَ، ثُمَّ سُئِلَ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَأَقَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ بِمَسْجِدِ الْمَأْمُونِيَّةِ، فَأُخِذُوا وَقُتِلُوا.

وَفِيهَا عُزِلَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ أَبُو الْمَعَالِي بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ الزَّعِيمُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ جَهِيرٍ، فَخَرَجَ ابْنُ الْمُطَّلِبِ مِنْ دَارِ الْخَلِيفَةِ مُسْتَتِرًا هُوَ وَأَوْلَادُهُ وَاسْتَجَارَ بِدَارِ السُّلْطَانِ. وَفِيهَا جَهَّزَ يَحْيَى بْنُ تَمِيمٍ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، خَمْسَةَ عَشَرَ شِينِيًّا وَسَيَّرَهَا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَلَقِيَهَا أُسْطُولُ الرُّومِ، وَهُوَ كَبِيرٌ، فَقَاتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا سِتَّ قِطَعٍ مِنْ شَوَانِي الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَنْهَزِمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَحْيَى جَيْشٌ فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ. وَسَيَّرَ ابْنَهُ أَبَا الْفُتُوحِ إِلَى مَدِينَةِ سَفَاقِسَ وَالِيًا عَلَيْهَا، فَثَارَ بِهِ أَهْلُهَا، فَنَهَبُوا قَصْرَهُ، وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَحْيَى يُعْمِلُ الْحِيلَةَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى فَرَّقَ كَلِمَتَهُمْ، وَبَدَّدَ شَمْلَهُمْ، وَمَلَكَ رِقَابَهُمْ فَسَجَنَهُمْ، وَعَفَا عَنْ دِمَائِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالَ، صَاحِبُ آمِدَ، وَكَانَ قَبِيحَ السِّيرَةِ، مَشْهُورًا بِالظُّلْمِ، فَجَلَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا لِجَوْرِهِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ، وَكَانَ أَصْلَحَ حَالًا مِنْهُ. وَفِيهَا، فِي ثَامِنِ ذِي الْقَعْدَةِ، ظَهَرَ فِي السَّمَاءِ كَوْكَبٌ مِنَ الشَّرْقِ لَهُ ذُؤَابَةٌ مُمْتَدَّةٌ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَبَقِيَ يَطْلُعُ إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ غَابَ.

ثم دخلت سنة أربع وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ] 504 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ مَدِينَةَ صَيْدَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، مَلَكَ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ صَيْدَا، مِنْ سَاحِلِ الشَّامِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُ وَصَلَ فِي الْبَحْرِ إِلَى الشَّامِ سِتُّونَ مَرْكِبًا لِلْفِرِنْجِ مَشْحُونَةً بِالرِّجَالِ وَالذَّخَائِرِ مَعَ بَعْضِ مُلُوكِهِمْ لِيَحُجَّ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، وَلِيَغْزُوَ بِزَعْمِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَاجْتَمَعَ بِهِ بَغْدُوِينُ مَلِكُ الْقُدْسِ، وَتَقَرَّرَتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقْصِدُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ، فَرَحَلُوا مِنَ الْقُدْسِ، وَنَزَلُوا مَدِينَةَ صَيْدَا ثَالِثَ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَضَايَقُوهَا بَرًّا وَبَحْرًا. وَكَانَ الْأُسْطُولُ الْمِصْرِيُّ مُقِيمًا عَلَى صُورَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِنْجَادِ صَيْدَا، فَعَمِلَ الْفِرِنْجُ بُرْجًا مِنَ الْخَشَبِ، وَأَحْكَمُوهُ، وَجَعَلُوا عَلَيْهِ مَا يَمْنَعُ النَّارَ عَنْهُ وَالْحِجَارَةَ، وَزَحَفُوا بِهِ، فَلَمَّا عَايَنَ أَهْلُ صَيْدَا ذَلِكَ ضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ، وَأَشْفَقُوا أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَهْلَ بَيْرُوتَ، فَأَرْسَلُوا قَاضِيَهَا وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِهَا إِلَى الْفِرِنْجِ، وَطَلَبُوا مَنْ مَلِكِهِمُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْعَسْكَرِ الَّذِي عِنْدَهُمْ، وَمَنْ أَرَادَ الْمُقَامَ بِهَا عِنْدَهُمْ أَمَّنُوهُ، وَمَنْ أَرَادَ الْمَسِيرَ عَنْهُمْ لَمْ يَمْنَعُوهُ، وَحَلَفَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَخَرَجَ الْمَوَالِي، وَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِ الْبَلَدِ، فِي الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى إِلَى دِمَشْقَ، وَأَقَامَ بِالْبَلَدِ خَلْقٌ كَثِيرٌ تَحْتَ الْأَمَانِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ الْحِصَارِ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَرَحَلَ بَغْدُوِينُ عَنْهَا إِلَى الْقُدْسِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى صَيْدَا، بَعْدَ مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، فَقَرَّرَ عَلَى

الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَقَامُوا بِهَا عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَأَفْقَرَهُمْ، وَاسْتَغْرَقَ أَمْوَالَهُمْ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى عَسْقَلَانَ كَانَتْ عَسْقَلَانُ لِلْعَلَوِيِّينَ الْمِصْرِيِّينَ، ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ الْآمِرَ بِأَحْكَامِ اللَّهِ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا إِنْسَانًا يُعْرَفُ بِشَمْسِ الْخِلَافَةِ، فَرَاسَلَ بَغْدُوِينُ مَلِكَ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ، وَهَادَنَهُ، وَأَهْدَى إِلَيْهِ مَالًا وَعُرُوضًا، فَامْتَنَعَ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْمِصْرِيِّينَ عَلَيْهِ. إِلَّا فِيمَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ مُجَاهَرَةٍ بِذَلِكَ. فَوَصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ إِلَى الْآمِرِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ، صَاحِبِ مِصْرَ، وَإِلَى وَزِيرِهِ الْأَفْضَلِ، أَمِيرِ الْجُيُوشِ، فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمَا، وَجَهَّزَا عَسْكَرًا وَسَيَّرَاهُ إِلَى عَسْقَلَانَ مَعَ قَائِدٍ كَبِيرٍ مِنْ قُوَّادِهِ، وَأَظْهَرَا أَنَّهُ يُرِيدُ الْغَزَاةَ، وَنَفَذَا إِلَى الْقَائِدِ سِرًّا أَنْ يَقْبِضَ عَلَى شَمْسِ الْخِلَافَةِ إِذَا حَضَرَ عِنْدَهُمْ، وَيُقِيمَ هُوَ عِوَضَهُ بِعَسْقَلَانَ أَمِيرًا. فَسَارَ الْعَسْكَرُ، فَعَرَفَ شَمْسُ الْخِلَافَةِ الْحَالَ، فَامْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ عِنْدَ الْعَسْكَرِ الْمِصْرِيِّ، وَجَاهَرَ بِالْعِصْيَانِ، وَأَخْرَجَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ عَسْكَرِ مِصْرَ خَوْفًا مِنْهُمْ. فَلَمَّا عَرَفَ الْأَفْضَلُ ذَلِكَ خَافَ أَنْ يُسَلِّمَ عَسْقَلَانَ إِلَى الْفِرِنْجِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَطَيَّبَ قَلْبَهُ، وَسَكَّنَهُ. وَأَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَأَعَادَ عَلَيْهِ إِقْطَاعَهُ بِمِصْرَ. ثُمَّ إِنَّ شَمْسَ الْخِلَافَةِ خَافَ أَهْلَ عَسْقَلَانَ، فَأَحْضَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْأَرْمَنِ وَاتَّخَذَهُمْ جُنْدًا، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ إِلَى آخِرِ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَأَنْكَرَ الْأَمْرَ أَهْلُ الْبَلَدِ، فَوَثَبَ بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَعْيَانِهِ، وَهُوَ رَاكِبٌ، فَجَرَحُوهُ، فَانْهَزَمَ مِنْهُمْ إِلَى دَارِهِ، فَتَبِعُوهُ وَقَتَلُوهُ، وَنَهَبُوا دَارَهُ وَجَمِيعَ مَا فِيهَا، وَنَهَبُوا بَعْضَ دُورِ غَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ، وَأَرْسَلُوا إِلَى مِصْرَ بِجَلِيَّةِ الْحَالِ إِلَى الْآمِرِ وَالْأَفْضَلِ، فَسُرَّا بِذَلِكَ، وَأَحْسَنَا إِلَى الْوَاصِلِينَ بِالْبِشَارَةِ، وَأَرْسَلَا إِلَيْهِ وَالِيًا يُقِيمُ بِهَا، وَيَسْتَعْمِلُ مَعَ أَهْلِ الْبَلَدِ الْإِحْسَانَ وَحُسْنَ السِّيرَةِ، فَتَمَّ ذَلِكَ، وَزَالَ مَا كَانُوا يَخَافُونَهُ.

ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ حِصْنَ الْأَثَارِبِ وَغَيْرَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ عَسَاكِرَهُ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَحَشَدَ الْفَارِسَ وَالرَّاجِلَ، وَسَارَ نَحْوَ حِصْنِ الْأَثَارِبِ، وَهُوَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَدِينَةِ حَلَبَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ فَرَاسِخَ، وَحَصَرَهُ، وَمَنَعَ عَنْهُ الْمِيرَةَ، فَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى مَنْ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَنَقَبُوا بِالْقَلْعَةِ نَقْبًا، قَصَدُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهُ إِلَى خَيْمَةِ صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ فَيَقْتُلُوهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ وَقَرُبُوا مِنْ خَيْمَتِهِ اسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ صَبِيٌّ أَرْمِنِيٌّ، فَعَرَّفَهُ الْحَالَ، فَاحْتَاطَ، وَاحْتَرَزَ مِنْهُمْ، وَجَدَّ فِي قِتَالِهِمْ، حَتَّى مَلَكَ الْحِصْنَ قَهْرًا وَعَنْوَةً، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهِ أَلْفَيْ رَجُلٍ، وَسَبَى وَأَسَرَ الْبَاقِينَ. ثُمَّ سَارَ إِلَى حِصْنِ زَرْدَنَا، فَحَصَرَهُ، فَفَتَحَهُ، وَفَعَلَ بِأَهْلِهِ مِثْلَ الْأَثَارِبِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ مَنْبِجَ بِذَلِكَ فَارَقُوهَا خَوْفًا مِنَ الْفِرِنْجِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ بَالِسَ، وَقَصَدَ الْفِرِنْجُ الْبَلَدَيْنَ فَرَأَوْهُمَا وَلَيْسَ بِهِمَا أَنِيسٌ، فَعَادُوا عَنْهُمَا. وَسَارَ عَسْكَرٌ مِنَ الْفِرِنْجِ إِلَى مَدِينَةِ صَيْدَا، فَطَلَبَ أَهْلُهَا مِنْهُمُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنُوهُمْ وَتَسَلَّمُوا الْبَلَدَ، فَعَظُمَ خَوْفُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، وَأَيْقَنُوا بِاسْتِيلَاءِ الْفِرِنْجِ عَلَى سَائِرِ الشَّامِ لِعَدَمِ الْحَامِي لَهُ وَالْمَانِعِ عَنْهُ، فَشَرَعَ أَصْحَابُ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالشَّامِ فِي الْهُدْنَةِ مَعَهُمْ، فَامْتَنَعَ الْفِرِنْجُ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَّا عَلَى قَطِيعَةٍ يَأْخُذُونَهَا إِلَى مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، فَصَالَحَهُمُ الْمَلِكُ رِضْوَانُ، صَاحِبُ حَلَبَ، عَلَى اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْخُيُولِ وَالثِّيَابِ، وَصَالَحَهُمْ صَاحِبُ صُورَ عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَصَالَحَهُمُ ابْنُ مُنْقِذٍ، صَاحِبُ شَيْزَرَ، عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَصَالَحَهُمْ عَلِيٌّ الْكُرْدِيُّ صَاحِبُ حَمَاةَ عَلَى أَلْفَيْ دِينَارٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ الْهُدْنَةِ إِلَى وَقْتِ إِدْرَاكِ الْغَلَّةِ وَحَصَادِهَا. ثُمَّ إِنَّ مَرَاكِبَ أَقْلَعَتْ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ، فِيهَا التُّجَّارُ وَمَعَهُمُ الْأَمْتِعَةُ الْكَثِيرَةُ، فَوَقَعَ عَلَيْهِمْ مَرَاكِبُ الْفِرِنْجِ، فَأَخَذُوهَا، وَغَنِمُوا مَا مَعَ التُّجَّارِ، وَأَسَرُوهُمْ، فَسَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ حَلَبَ إِلَى بَغْدَاذَ، مُسْتَنْفِرِينَ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَلَمَّا وَرَدُوا بَغْدَاذَ اجْتَمَعَ مَعَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ

مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ فَقَصَدُوا جَامِعَ السُّلْطَانِ، وَاسْتَغَاثُوا، وَمُنِعُوا مِنَ الصَّلَاةِ، وَكَسَرُوا الْمِنْبَرَ، فَوَعَدَهُمُ السُّلْطَانُ بِإِنْفَاذِ الْعَسَاكِرِ لِلْجِهَادِ، وَسَيَّرَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ مِنْبَرًا إِلَى جَامِعِ السُّلْطَانِ. فَلَمَّا كَانَ الْجُمُعَةُ الثَّانِيَةُ قَصَدُوا جَامِعَ الْقَصْرِ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَمَعَهُمْ أَهْلُ بَغْدَاذَ، فَمَنَعَهُمْ حَاجِبُ الْبَابِ مِنَ الدُّخُولِ، فَغَلَبُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَدَخَلُوا الْجَامِعَ، وَكَسَرُوا شُبَّاكَ الْمَقْصُورَةِ، وَهَجَمُوا عَلَى الْمِنْبَرِ فَكَسَرُوهُ، وَبَطَلَتِ الْجُمُعَةُ أَيْضًا، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى السُّلْطَانِ فِي الْمَعْنَى يَأْمُرُهُ بِالِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْفَتْقِ وَرَتْقِهِ، فَتَقَدَّمَ حِينَئِذٍ إِلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ بِالْمَسِيرِ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَالتَّجَهُّزِ لِلْجِهَادِ، وَسَيَّرَ وَلَدَهُ الْمَلِكُ مَسْعُودًا مَعَ الْأَمِيرِ مَوْدُودٍ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَتَقَدَّمُوا إِلَى الْمَوْصِلِ لِيَلْحَقَ بِهِمُ الْأُمَرَاءُ وَيَسِيرُوا إِلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ، وَانْقَضَتِ السَّنَةُ، وَسَارُوا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ نِظَامُ الْمُلْكِ أَحْمَدُ مِنْ وِزَارَةِ السُّلْطَانِ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ الْخَطِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمَيْبُذِيُّ. وَفِيهَا وَرَدَ رَسُولُ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى السُّلْطَانِ يَسْتَنْفِرُهُ عَلَى الْفِرِنْجِ، وَيَحُثُّهُ عَلَى قِتَالِهِمْ وَدَفْعِهِمْ عَنِ الْبِلَادِ، وَكَانَ وُصُولُهُ قَبْلَ وُصُولِ أَهْلِ حَلَبَ، وَكَانَ أَهْلُ حَلَبَ يَقُولُونَ لِلسُّلْطَانِ: أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مَلِكُ الرُّومِ أَكْثَرَ حَمِيَّةً مِنْكَ لِلْإِسْلَامِ، حَتَّى قَدْ أَرْسَلَ إِلَيْكَ فِي جِهَادِهِمْ! وَفِيهَا، فِي رَمَضَانَ، زُفَّتِ ابْنَةُ السُّلْطَانِ مُلْكِشَاهْ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَزُيَّنَتْ بَغْدَاذُ

وَغُلِّقَتْ، وَكَانَ بِهَا فَرْحَةٌ عَظِيمَةٌ لَمْ يُشَاهِدِ النَّاسُ مِثْلَهَا. وَفِيهَا هَبَّتْ بِمِصْرَ رِيحٌ سَوْدَاءُ أَظْلَمَتْ بِهَا الدُّنْيَا، وَأَخَذَتْ بِأَنْفَاسِ النَّاسِ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَفْتَحَ عَيْنَيْهِ، وَمَنْ فَتَحَهُمَا لَا يُبْصِرُ يَدَهُ، وَنَزَلَ عَلَى النَّاسِ رَمْلٌ، وَيَئِسَ النَّاسُ مِنَ الْحَيَاةِ، وَأَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ، ثُمَّ تَجَلَّى قَلِيلًا، وَعَادَ إِلَى الصَّفْوَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ إِلَى بَعْدَ الْمَغْرِبِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسُ الطَّبَرِيُّ وَاسْمُهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيِّ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ فِي النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَاذَ، وَتُوُفِّيَ بِهَا، وَدُفِنَ عِنْدَ تُرْبَةِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ. وَدَرَّسَ بَعْدَهُ فِي النِّظَامِيَّةِ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحُسَيْنِ إِدْرِيسُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ عَلِيٍّ الرَّمْلِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَهْلِ الرَّمَلَةِ بِفِلَسْطِينَ، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْفَتْحِ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيِّ، وَعَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَدَخَلَ خُرَاسَانَ، وَوَلِيَ التَّدْرِيسَ بِسَمَرْقَنْدَ، فَتُوُفِّيَ بِهَا.

ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِمِائَة] 505 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مُسِيرِ الْعَسَاكِرِ إِلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ الَّتِي أَمَرَهَا السُّلْطَانُ بِالْمَسِيرِ إِلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ، فَكَانُوا: الْأَمِيرَ مَوْدُودًا صَاحِبَ الْمَوْصِلِ، وَالْأَمِيرَ سُكْمَانَ الْقُطْبِيَّ، صَاحِبَ تِبْرِيزَ وَبَعْضِ دِيَارِ بَكْرٍ، وَالْأَمِيرَيْنِ إِيلْبَكِي وَزِنْكِيَّ ابْنَيْ بُرْسُقَ، وَلَهُمَا هَمَذَانُ وَمَا جَاوَرَهَا، وَالْأَمِيرَ أَحْمَدَيْلَ، وَلَهُ مَرَاغَةُ، وَكُوتِبَ الْأَمِيرُ أَبُو الْهَيْجَاءِ، صَاحِبُ إِرْبَلَ، وَالْأَمِيرُ إِيلْغَازِي، صَاحِبُ مَارِدِينَ، وَالْأُمَرَاءُ الْبَكْجِيَّةُ، بِاللَّحَاقِ بِالْمَلِكِ مَسْعُودٍ، وَمَوْدُودٍ، فَاجْتَمَعُوا، مَا عَدَا الْأَمِيرَ إِيلْغَازِي فَإِنَّهُ سَيَّرَ وَلَدَهُ إِيَّازَ وَأَقَامَ هُوَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا سَارُوا إِلَى بَلَدِ سِنْجَارَ، فَفَتَحُوا عِدَّةَ حُصُونٍ لِلْفِرِنْجِ، وَقُتِلَ مَنْ بِهَا مِنْهُمْ، وَحَصَرُوا مَدِينَةَ الرُّهَا مُدَّةً، ثُمَّ رَحَلُوا عَنْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْلِكُوهَا. وَكَانَ سَبَبُ رَحِيلِهِمْ عَنْهَا أَنَّ الْفِرِنْجَ اجْتَمَعَتْ جَمِيعُهَا، فَارِسُهَا وَرَاجِلُهَا، وَسَارُوا إِلَى الْفُرَاتِ لِيَعْبُرُوهُ لِيَمْنَعُوا الرُّهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْفُرَاتِ بَلَغَهُمْ كَثْرَةُ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَأَقَامُوا عَلَى الْفُرَاتِ، فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ رَحَلُوا عَنِ الرُّهَا إِلَى حَرَّانَ لِيَطْمَعَ الْفِرِنْجُ وَيَعْبُرُوا الْفُرَاتَ إِلَيْهِمْ وَيُقَاتِلُوهُمْ، فَلَمَّا رَحَلُوا عَنْهَا جَاءَ الْفِرِنْجُ، وَمَعَهُمُ الْمِيرَةُ وَالذَّخَائِرُ، إِلَى الرُّهَا، فَجَعَلُوا فِيهَا كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الْمِيرَةِ، وَقَدْ أَشْرَفَتْ عَلَى أَنْ تُؤْخَذَ، وَأَخَذُوا كُلَّ مَنْ فِيهِ عَجْزٌ وَضَعْفٌ

وَفَقْرٌ، وَعَادُوا إِلَى الْفُرَاتِ فَعَبَرُوهُ إِلَى الْجَانِبِ الشَّامِيِّ، وَطَرَقُوا أَعْمَالَ حَلَبَ، فَأَفْسَدُوا مَا فِيهَا، وَنَهَبُوهَا، وَقَتَلُوا فِيهَا وَأَسَرُوا، وَسَبَوْا خَلْقًا كَثِيرًا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ لَمَّا عَبَرُوا إِلَى الْجَزِيرَةِ خَرَجَ الْمَلِكُ رِضْوَانُ، صَاحِبُ حَلَبَ، إِلَى مَا أَخَذَهُ الْفِرِنْجُ مِنْ أَعْمَالِهَا، فَاسْتَعَادَ بَعْضَهُ، وَنَهَبَ مِنْهُمْ وَقَتَلَ، فَلَمَّا عَادُوا وَعَبَرُوا الْفُرَاتَ فَعَلُوا بِأَعْمَالِهِ مَا فَعَلُوا. وَأَمَّا الْعَسْكَرُ السُّلْطَانِيُّ فَلَمَّا سَمِعُوا بِعَوْدِ الْفِرِنْجِ وَعُبُورِهِمُ الْفُرَاتَ، رَحَلُوا إِلَى الرُّهَا وَحَصَرُوهَا، فَرَأَوْا أَمْرًا مُحْكَمًا، قَدْ قَوِيَتْ نُفُوسُ أَهْلِهَا بِالذَّخَائِرِ الَّتِي تُرِكَتْ عِنْدَهُمْ، وَبِكَثْرَةِ الْمُقَاتِلِينَ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَجِدُوا فِيهَا مَطْمَعًا، فَرَحَلُوا عَنْهَا، وَعَبَرُوا الْفُرَاتَ، فَحَصَرُوا قَلْعَةَ تَلِّ بَاشِرَ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَرَحَلُوا عَنْهَا وَلَمْ يَبْلُغُوا غَرَضًا. وَوَصَلُوا إِلَى حَلَبَ، فَأَغْلَقَ الْمَلِكُ رِضْوَانُ أَبْوَابَ الْبَلَدِ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ بِهِمْ، ثُمَّ مَرِضَ هُنَاكَ الْأَمِيرُ سُكْمَانُ الْقُطْبِيُّ، فَعَادَ مَرِيضًا، فَتُوُفِّيَ فِي بَالِسَ، فَجَعَلَهُ أَصْحَابُهُ فِي تَابُوتٍ، وَحَمَلُوهُ عَائِدِينَ إِلَى بِلَادِهِ، فَقَصَدَهُمْ إِيلْغَازِي لِيَأْخُذَهُمْ، وَيَغْنَمَ مَا مَعَهُمْ، فَجَعَلُوا تَابُوتَهُ فِي الْقَلْبِ، وَقَاتَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَانْهَزَمَ إِيلْغَازِي، وَغَنِمُوا مَا مَعَهُ، وَسَارُوا إِلَى بِلَادِهِمْ. وَلَمَّا أَغْلَقَ الْمَلِكُ رِضْوَانُ أَبْوَابَ حَلَبَ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ بِالْعَسَاكِرِ السُّلْطَانِيَّةِ، رَحَلُوا إِلَى مَعَرَّةِ النُّعْمَانِ، وَاجْتَمَعَ بِهِمْ طُغْتِكِينُ، صَاحِبُ دِمَشْقَ، وَنَزَلَ عَلَى الْأَمِيرِ مَوْدُودٍ، فَاطَّلَعَ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى نِيَّاتٍ فَاسِدَةٍ فِي حَقِّهِ، فَخَافَ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ دِمَشْقُ، فَشَرَعَ فِي مُهَادَنَةِ الْفِرِنْجِ سِرًّا وَكَانُوا قَدْ نَكَلُوا عَنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ، وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ. وَكَانَ سَبَبُ تَفَرُّقِهِمْ أَنَّ الْأَمِيرَ بُرْسُقَ بْنَ بُرْسُقَ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْأُمَرَاءِ كَانَ بِهِ نِقْرِسٌ، فَهُوَ يُحْمَلُ فِي مِحَفَّةٍ، وَمَاتَ سُكْمَانُ الْقُطْبِيُّ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَرَادَ الْأَمِيرُ أَحْمَدَيْلُ صَاحِبُ مَرَاغَةَ الْعَوْدَ، لِيَطْلُبَ مِنَ السُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ مَا كَانَ لِسُكْمَانَ مِنَ

الْبِلَادِ، وَأَتَابِكَ طُغْتِكِينَ، صَاحِبِ دِمَشْقَ، خَافَ الْأُمَرَاءَ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمْ يَنْصَحْهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ حَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْدُودٍ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، مَوَدَّةٌ وَصَدَاقَةٌ، فَتَفَرَّقُوا لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَبَقِيَ مَوْدُودٌ وَطُغْتِكِينُ بِالْمَعَرَّةِ، فَسَارُوا مِنْهَا، وَنَزَلُوا عَلَى نَهْرِ الْعَاصِي. وَلَمَّا سَمِعَ الْفِرِنْجُ بِتَفَرُّقِ عَسَاكِرِ الْإِسْلَامِ طَمِعُوا، وَكَانُوا قَدِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ، بَعْدَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّبَايُنِ، وَسَارُوا إِلَى أَفَامِيَةَ، فَسَمِعَ بِهِمُ السُّلْطَانُ بْنُ مُنْقِذٍ، صَاحِبُ شَيْزَرَ، فَسَارَ إِلَى مَوْدُودٍ وَطُغْتِكِينَ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِمَا أَمْرَ الْفِرِنْجِ، وَحَرَّضَهُمَا عَلَى الْجِهَادِ، فَرَحَلُوا إِلَى شَيْزَرَ، وَنَزَلُوا عَلَيْهَا، وَنَزَلَ الْفِرِنْجُ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ، فَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ عَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ الْمِيرَةَ، وَلَزُّوهُمْ بِالْقِتَالِ، وَالْفِرِنْجُ يَحْفَظُونَ نُفُوسَهُمْ، وَلَا يُعْطُونَ مَصَافًّا، فَلَمَّا رَأَوْا قُوَّةَ الْمُسْلِمِينَ عَادُوا إِلَى أَفَامِيَةَ وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَتَخَطَّفُوا مَنْ أَدْرَكُوهُ فِي سَاقَتِهِمْ وَعَادُوا إِلَى شَيْزَرَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. ذِكْرُ حَصْرِ الْفِرِنْجِ مَدِينَةِ صُورَ لَمَّا تَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ اجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ عَلَى قَصْدِ مَدِينَةِ صُورَ وَحَصْرِهَا، فَسَارُوا إِلَى الْمَلِكِ بَغْدُوِينَ، صَاحِبِ الْقُدْسِ، وَحَشَدُوا، وَجَمَعُوا، وَنَازَلُوهَا وَحَاصَرُوهَا فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَعَمِلُوا عَلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَبْرَاجِ خَشَبٍ، عُلُوُّ الْبُرْجِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَفِي كُلِّ بُرْجٍ أَلْفٌ رَجُلٍ، وَنَصَبُوا عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَأَلْصَقُوا أَحَدَهَا إِلَى سُورِ الْبَلَدِ، وَأَخْلَوْهُ مِنَ الرِّجَالِ. وَكَانَتْ صُورُ لِلْآمِرِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ وَنَائِبُهُ بِهَا عِزُّ الْمُلْكِ الْأَعَزُّ، فَأَحْضَرَ أَهْلَ الْبَلَدِ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِي حِيلَةٍ يَدْفَعُونَ بِهَا شَرَّ الْأَبْرَاجِ عَنْهُمْ، فَقَامَ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ طَرَابُلُسَ وَضَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ إِحْرَاقَهَا، وَأَخَذَ مَعَهُ أَلْفَ رَجُلٍ بِالسِّلَاحِ التَّامِّ، وَمَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ حُزْمَةُ حَطَبٍ، فَقَاتَلُوا الْفِرِنْجَ إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَى الْبُرْجِ الْمُلْتَصِقِ بِالْمَدِينَةِ، فَأَلْقَى الْحَطَبَ مِنْ جِهَاتِهِ، وَأَلْقَى فِيهَا النَّارَ، ثُمَّ خَافَ أَنْ يَشْتَغِلَ الْفِرِنْجُ الَّذِينَ فِي الْبُرْجِ بِإِطْفَاءِ

النَّارِ، وَيَتَخَلَّصُوا، فَرَمَاهُمْ بِجُرَبٍ كَانَ قَدْ أَعَدَّهَا، مَمْلُوءَةٍ مِنَ الْعُذْرَةِ، فَلَمَّا سَقَطَتْ عَلَيْهِمُ اشْتَغَلُوا بِهَا وَبِمَا نَالَهُمْ مِنْ سُوءِ الرَّائِحَةِ وَالتَّلْوِيثِ، فَتَمَكَّنَتِ النَّارُ مِنْهُ، فَهَلَكَ كُلُّ مَنْ بِهِ، إِلَّا الْقَلِيلَ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكَلَالِيبِ، ثُمَّ أُخِذَ سِلَالُ الْعِنَبِ الْكِبَارُ، وَتُرِكَ فِيهَا الْحَطَبُ الَّذِي قَدْ سَقَاهُ بِالنِّفْطِ وَالزِّفْتِ، وَالْكِتَّانِ، وَالْكِبْرِيتِ، وَرَمَاهُمْ بِسَبْعِينَ سَلَّةً، وَأَحْرَقَ الْبُرْجَيْنِ الْآخَرَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ صُورَ حَفَرُوا سَرَادِيبَ تَحْتَ الْأَرْضِ لِيَسْقُطَ فِيهَا الْفِرِنْجُ إِذَا زَحَفُوا إِلَيْهِمْ، وَلِيَنْخَسِفَ بُرْجٌ إِنْ عَمِلُوهُ وَسَيَّرُوهُ إِلَيْهِمْ، فَاسْتَأْمَنَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْفِرِنْجِ، وَأَعْلَمُوهُمْ بِمَا عَمِلُوهُ، فَحَذِرُوا مِنْهَا. وَأَرْسَلَ أَهْلُ الْبَلَدِ إِلَى أَتَابِكَ طُغْتِكِينَ، صَاحِبِ دِمَشْقَ، يَسْتَنْجِدُونَهُ، وَيَطْلُبُونَهُ لِيُسَلِّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ، فَسَارَ فِي عَسَاكِرِهِ إِلَى نَوَاحِي بَانْيَاسَ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ نَجْدَةً مِائَتَيْ فَارِسٍ، فَدَخَلُوا الْبَلَدَ، فَامْتَنَعَ مَنْ فِيهِ بِهِمْ، وَاشْتَدَّ قِتَالُ الْفِرِنْجِ خَوْفًا مِنِ اتِّصَالِ النَّجَدَاتِ، فَفَنِيَ نُشَّابُ الْأَتْرَاكِ، فَقَاتَلُوا بِالْخَشَبِ، وَفَنِيَ النِّفْطُ، فَظَفِرُوا بِسِرْبٍ تَحْتَ الْأَرْضِ فِيهِ نِفْطٌ لَا يُعْلَمُ مَنْ خَزَّنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عِزَّ الْمُلْكِ، صَاحِبَ صُورَ، أَرْسَلَ الْأَمْوَالَ إِلَى طُغْتِكِينَ لِيُكْثِرَ مِنَ الرِّجَالِ، وَيَقْصِدَهُمْ لِيَمْلِكَ الْبَلَدَ، فَأَرْسَلَ طُغْتِكِينُ طَائِرًا فِيهِ رُقْعَةٌ لِيُعْلِمَهُ وَصُولَ الْمَالِ، وَيَأْمُرَهُ أَنْ يُقِيمَ مَرْكِبًا بِمَكَانٍ ذَكَرَهُ لِتَجِيءَ الرِّجَالُ إِلَيْهِ، فَسَقَطَ الطَّائِرُ عَلَى مَرْكِبِ الْفِرِنْجِ، فَأَخَذَهُ رَجُلَانِ: مُسْلِمٌ وَفِرِنْجِيٌّ، فَقَالَ الْفِرِنْجِيُّ: نُطْلِقُهُ لَعَلَّ فِيهِ فَرَجًا لَهُمْ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُ الْمُسْلِمُ، وَحَمَلَهُ إِلَى الْمَلِكِ بَغْدُوِينَ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ سَيَّرَ مَرْكِبًا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي ذَكَرَهُ طُغْتِكِينُ، وَفِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اسْتَأْمَنُوا إِلَيْهِ مِنْ صُورَ، فَوَصَلَ إِلَيْهِمُ الْعَسْكَرُ، فَكَلَّمُوهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَلَمْ يُنْكِرُوهُمْ، وَرَكِبُوا مَعَهُمْ، فَأَخَذُوهُمْ أَسْرَى، وَحَمَلُوهُمْ إِلَى الْفِرِنْجِ، فَقَتَلُوهُمْ وَطَمِعُوا فِي أَهْلِ صُورَ، فَكَانَ طُغْتِكِينُ يُغِيرُ عَلَى أَعْمَالِ الْفِرِنْجِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهَا، وَقَصَدَ حِصْنَ الْحَبِيسَ فِي السَّوَادِ، مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ، وَهُوَ لِلْفِرِنْجِ،

فَحَصَرَهُ، وَمَلَكَهُ بِالسَّيْفِ، وَقَتَلَ كُلَّ مَنْ فِيهِ، وَعَادَ إِلَى الْفِرِنْجِ الَّذِينَ عَلَى صُورَ. وَكَانَ يَقْطَعُ الْمِيرَةَ عَنْهُمْ فِي الْبَرِّ، فَأَحْضَرُوهَا فِي الْبَحْرِ، وَخَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَخْرُجُوا إِلَيْهِ، فَسَارَ إِلَى صَيْدَا، وَأَغَارَ عَلَى ظَاهِرِهَا، فَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْبَحْرِيَّةِ، وَأَحْرَقَ نَحْوَ عِشْرِينَ مَرْكِبًا عَلَى السَّاحِلِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُوَاصِلُ أَهْلَ صُورَ بِالْكُتُبِ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّبْرِ وَالْفِرِنْجُ يُلَازِمُونَ قِتَالَهُمْ، وَقَاتَلَ أَهْلُ صُورَ قِتَالَ مَنْ أَيِسَ مِنَ الْحَيَاةِ، فَدَامَ الْقِتَالُ إِلَى أَوَانِ إِدْرَاكِ الْغَلَّاتِ، فَخَافَ الْفِرِنْجُ أَنَّ طُغْتِكِينَ يَسْتَوْلِي عَلَى غَلَّاتِ بِلَادِهِمْ، فَسَارُوا عَنِ الْبَلَدِ، عَاشِرَ شَوَّالٍ، إِلَى عَكَّةَ، وَعَادَ عَسْكَرُ طُغْتِكِينَ إِلَيْهِ، وَأَعْطَاهُمْ أَهْلُ صُورَ الْأَمْوَالَ وَغَيْرَهَا، ثُمَّ أَصْلَحُوا مَا تَشَعَّثَ مِنْ سُورِهَا وَخَنْدَقِهَا، وَكَانَ الْفِرِنْجُ قَدْ طَمَّوْهُ. ذِكْرُ انْهِزَامِ الْفِرِنْجِ بِالْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ أَذْفُونْشُ الْفِرِنْجِيُّ، صَاحِبُ طُلَيْطِلَةَ بِالْأَنْدَلُسِ، إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِهَا، يَطْلُبُ مِلْكَهَا، وَالِاسْتِيلَاءَ عَلَيْهَا، وَجَمَعَ وَحَشَدَ فَأَكْثَرَ، وَكَانَ قَدْ قَوِيَ طَمَعُهُ فِيهَا بِسَبَبِ مَوْتِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ، فَسَمِعَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ الْخَبَرَ، فَسَارَ إِلَيْهِ عَسَاكِرُهُ وَجُمُوعُهُ، فَلَقِيَهُ، فَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَكَانَ الظَّفَرُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ، وَقُتِّلُوا قَتْلًا ذَرِيعًا، وَأُسِرَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَسُبِيَ مِنْهُمْ، وَغُنِمَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِحْصَاءِ، فَخَافَهُ الْفِرِنْجُ، بَعْدَ ذَلِكَ، وَامْتَنَعُوا مِنْ قَصْدِ بِلَادِهِ، وَذُلَّ أَذْفُونْشُ حِينَئِذٍ وَعَلِمَ أَنَّ فِي الْبِلَادِ حَامِيًا لَهَا، وَذَابًّا عَنْهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغَزَالِيُّ، الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ

ثم دخلت سنة ست وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِمِائَة] 506 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، سَارَ مَوْدُودٌ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، إِلَى الرُّهَا، فَنَزَلَ عَلَيْهَا، وَرَعَى عَسْكَرُهُ زُرُوعَهَا، وَرَحَلَ عَنْهَا إِلَى سَرُوجَ، وَفَعَلَ بِهَا كَذَلِكَ وَأَهْمَلَ الْفِرِنْجَ، وَلَمْ يَحْتَرِزْ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَجُوسْلِينُ، صَاحِبُ تَلِّ بَاشِرَ، قَدْ كَبَسَهُمْ، وَكَانَتْ دَوَابُّ الْعَسْكَرِ مُنْتَشِرَةً فِي الْمَرْعَى، فَأَخَذَ الْفِرِنْجُ كَثِيرًا مِنْهَا، وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنَ الْعَسْكَرِ، فَلَمَّا تَأَهَّبَ الْمُسْلِمُونَ لِلِقَائِهِ، عَادَ عَنْهُمْ إِلَى سَرُوجَ. وَفِيهَا رَحَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ مِنْ بَغْدَاذَ، وَكَانَ مُقَامُهُ هَذِهِ الْمَرَّةِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى أَصْبَهَانَ قَبَضَ عَلَى زَيْنِ الْمُلْكِ أَبِي سَعْدٍ الْقُمِّيِّ، وَسَلَّمَهُ إِلَى الْأَمِيرِ كَامْيَارَ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الرَّيِّ أَرْكَبَهُ كَامْيَارُ عَلَى دَابَّةٍ بِمَرْكِبٍ ذَهَبٍ، وَأَظْهَرَ أَنَّ السُّلْطَانَ خَلَعَ عَلَيْهِ عَلَى مَالٍ قَرَّرَهُ عَلَيْهِ، فَحَصَّلَ بِذَلِكَ مَالًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْقُمِّيِّ، ثُمَّ صَلَبَهُ، وَكَانَ سَبَبُ قَبْضِهِ أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ الطَّعْنَ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ. وَفِيهَا كَانَ بِبَغْدَاذَ رَجُلٌ مَغْرِبِيٌّ يَعْمَلُ الْكِيمْيَاءَ، بِزَعْمِهِ، اسْمُهُ أَبُو عَلِيٍّ، فَحُمِلَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ. وَفِيهَا وَرَدَ إِلَى بَغْدَاذَ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ الْهَمَذَانِيُّ، الْوَاعِظُ، وَكَانَ مِنَ الزُّهَّادِ الْعَابِدِينَ، فَوَعَظَ النَّاسَ بِهَا، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مُتَفَقِّهٌ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ السَّقَّاءِ، فَآذَاهُ فِي مَسْأَلَةٍ، وَعَاوَدَهُ، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَإِنِّي أَجِدُ مِنْ كَلَامِكَ رَائِحَةَ الْكُفْرِ، وَلَعَلَّكَ تَمُوتُ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَاتَّفَقَ بَعْدَ مُدَيْدَةٍ أَنَّ ابْنَ السَّقَّاءِ خَرَجَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَتَنَصَّرَ.

وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، سُمِعَ بِبَغْدَاذَ صَوْتُ هَدَّةٍ عَظِيمَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ غَيْمٌ حَتَّى يُظَنُّ أَنَّهُ صَوْتُ رَعْدٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ أَيَّ صَوْتٍ كَانَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ بَسِيلُ الْأَرْمِنِيُّ، صَاحِبُ الدُّرُوبِ، بِبِلَادِ ابْنِ لَاوِنَ، فَسَارَ طَنْكَرِي، صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، أَوَّلَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، إِلَى بِلَادِهِ طَمَعًا أَنْ يَمْلِكَهَا، فَمَرِضَ فِي طَرِيقِهِ، فَعَادَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، فَمَاتَ ثَامِنَ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَمَلَكَهَا بَعْدَهُ ابْنُ أُخْتِهِ سَرْخَالَةَ، وَاسْتَقَامَ الْأَمْرُ فِيهَا، بَعْدَ أَنْ جَرَى بَيْنَ الْفِرِنْجِ خُلْفٌ بِسَبَبِهِ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمُ الْقُسُوسُ وَالرُّهْبَانُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ قَرَاجَةُ، صَاحِبُ حِمْصَ، وَكَانَ ظَالِمًا، وَقَامَ وَلَدُهُ قَرْجَانُ مَكَانَهُ، وَكَانَ مِثْلَهُ فِي قُبْحِ السِّيرَةِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمُعَمَّرُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي عِمَامَةَ الْوَاعِظُ الْبَغْدَاذِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ لَهُ خَاطِرٌ حَادٌّ، وَمُجُونٌ حَسَنٌ، وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى وَعْظِهِ أَخْبَارُ الصَّالِحِينَ. وَتُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ بْنِ عُمَرَ الدَّيْنُورِيُّ، وَالِدُ شَهْدَةَ، وَكَانَ يَرْوِي عَنْ أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ، وَابْنِ الْمَأْمُونِ، وَابْنِ الْمُهْتَدِي، وَابْنِ النُّقُّورِ، وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ مُتَزَهِّدًا.

وَتُوُفِّيَ أَبُو الْعَلَاءِ صَاعِدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ صَاعِدٍ، الْخَطِيبُ النَّيْسَابُورِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ، وَوَلِيَ قَضَاءَ خُوَارَزْمَ، وَكَانَ يَرْوِي الْحَدِيثَ.

ثم دخلت سنة سبع وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ] 507 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ قِتَالِ الْفِرِنْجِ وَانْهِزَامِهِمْ وَقَتْلِ مَوْدُودٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ، وَفِيهِمُ الْأَمِيرُ مَوْدُودُ بْنُ أَلْتُونْتِكِينَ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، وَتَمِيرُكَ، صَاحِبُ سِنْجَارَ، وَالْأَمِيرُ إِيَّازُ بْنُ إِيلْغَازِي، وَطُغْتِكِينُ، صَاحِبُ دِمَشْقَ. وَكَانَ سَبَبُ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَلِكَ الْفِرِنْجِ بَغْدُوِينَ تَابَعَ الْغَارَاتِ عَلَى بَلَدِ دِمَشْقَ، وَنَهَبَهُ وَخَرَّبَهُ، أَوَاخِرَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَانْقَطَعَتِ الْمَوَادُّ عَنْ دِمَشْقَ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ فِيهَا، وَقَلَّتِ الْأَقْوَاتُ، فَأَرْسَلَ طُغْتِكِينُ صَاحِبُهَا إِلَى الْأَمِيرِ مَوْدُودٍ يَشْرَحُ لَهُ الْحَالَ، وَيَسْتَنْجِدُهُ، وَيَحُثُّهُ عَلَى سُرْعَةِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَجَمَعَ عَسْكَرًا، وَسَارَ فَعَبَرَ الْفُرَاتَ آخِرَ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَخَافَهُ الْفِرِنْجُ. وَسَمِعَ طُغْتِكِينُ خَبَرَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ، وَلَقِيَهُ بِسَلَمِيَّةَ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى قَصْدِ بَغْدُوِينَ، مَلِكِ الْقُدْسِ، فَسَارُوا إِلَى الْأُرْدُنِّ، فَنَزَلَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ الْأُقْحُوَانَةِ وَنَزَلَ الْفِرِنْجُ مَعَ

مَلِكِهِمْ بَغْدُوِينَ وَجُوسْلِينَ، صَاحِبِ جَيْشِهِمْ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُقَدَّمَيْنِ، وَالْفُرْسَانِ الْمَشْهُورِينَ، وَدَخَلُوا بِلَادَ الْفِرِنْجِ مَعَ مَوْدُودٍ، وَجَمَعَ الْفِرِنْجُ، فَالْتَقَوْا عِنْدَ طَبَرِيَّةَ ثَالِثَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ انْهَزَمُوا، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ وَالْأَسْرُ، وَمِمَّنْ أُسِرَ مَلِكُهُمْ بَغْدُوِينُ، فَلَمْ يُعْرَفْ، فَأَخَذَ سِلَاحَهُ وَأُطْلِقَ فَنَجَا، وَغَرِقَ مِنْهُمْ فِي بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ وَنَهْرِ الْأُرْدُنِّ كَثِيرٌ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ أَمْوَالَهُمْ وَسِلَاحَهُمْ، وَوَصَلَ الْفِرِنْجُ إِلَى مَضِيقٍ دُونَ طَبَرِيَّةَ، فَلَقِيَهُمْ عَسْكَرُ طَرَابُلُسَ وَأَنْطَاكِيَةَ، فَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ بِهِمْ، وَعَاوَدُوا الْحَرْبَ، فَأَحَاطَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَصَعِدَ الْفِرِنْجُ إِلَى جَبَلٍ غَرْبَ طَبَرِيَّةَ، فَأَقَامُوا بِهِ سِتَّةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَالْمُسْلِمُونَ بِإِزَائِهِمْ يَرْمُونَهُمْ بِالنُّشَّابِ فَيُصِيبُونَ مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُمْ، وَمَنَعُوا الْمِيرَةَ عَنْهُمْ لَعَلَّهُمْ يَخْرُجُونَ إِلَى قِتَالِهِمْ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَسَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى بَيْسَانَ، وَنَهَبُوا بِلَادَ الْفِرِنْجِ بَيْنَ عَكًّا إِلَى الْقُدْسِ، وَخَرَّبُوهَا، وَقَتَلُوا مَنْ ظَفِرُوا بِهِ مِنَ النَّصَارَى، وَانْقَطَعَتِ الْمَادَّةُ عَنْهُمْ لِبُعْدِهِمْ عَنْ بِلَادِهِمْ، فَعَادُوا وَنَزَلُوا بِمَرْجِ الصُّفَّرِ. وَأَذِنَ الْأَمِيرُ مَوْدُودٌ لِلْعَسَاكِرِ فِي الْعَوْدِ وَالِاسْتِرَاحَةِ، ثُمَّ الِاجْتِمَاعِ فِي الرَّبِيعِ لِمُعَاوَدَةِ الْغَزَاةِ، وَبَقِيَ فِي خَوَاصِّهِ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لِيُقِيمَ عِنْدَ طُغْتِكِينَ إِلَى الرَّبِيعِ، فَدَخَلَ الْجَامِعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، لِيُصَلِّيَ فِيهِ وَطُغْتِكِينُ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الصَّلَاةِ، وَخَرَجَ إِلَى صَحْنِ الْجَامِعِ، وَيَدُهُ فِي يَدِ طُغْتِكِينَ، وَثَبَ عَلَيْهِ بَاطِنِيٌّ فَضَرَبَهُ فَجَرَحَهُ أَرْبَعَ جِرَاحَاتٍ وَقُتِلَ الْبَاطِنِيُّ، وَأُخِذَ رَأْسُهُ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ، فَأُحْرِقَ. وَكَانَ صَائِمًا، فَحُمِلَ إِلَى دَارِ طُغْتِكِينَ، وَاجْتَهَدَ بِهِ لِيُفْطِرَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: لَا لَقِيتُ اللَّهَ إِلَّا صَائِمًا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقِيلَ إِنَّ الْبَاطِنِيَّةَ بِالشَّامِ خَافُوهُ وَقَتَلُوهُ، وَقِيلَ بَلْ خَافَهُ طُغْتِكِينُ فَوَضَعَ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ. وَكَانَ خَيِّرًا، عَادِلًا، كَثِيرَ الْخَيْرِ. حَدَّثَنِي وَالِدِي قَالَ: كَتَبَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ إِلَى طُغْتِكِينَ، بَعْدَ قَتْلِ مَوْدُودٍ، كِتَابًا مِنْ فُصُولِهِ: أَنَّ أُمَّةً قَتَلَتْ عَمِيدَهَا. يَوْمَ عِيدِهَا. فِي بَيْتِ مَعْبُودِهَا. لَحَقِيقٌ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُبِيدَهَا.

وَلَمَّا قُتِلَ تَسَلَّمَ تَمِيرُكَ، صَاحِبُ سِنْجَارَ، مَا مَعَهُ مِنَ الْخَزَائِنِ وَالسِّلَاحِ وَحَمَلَهَا إِلَى السُّلْطَانِ، وَدُفِنَ مَوْدُودٌ بِدِمَشْقَ فِي تُرْبَةِ دِقَاقٍ صَاحَبَهَا، وَحُمِلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَدُفِنَ فِي جِوَارِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى أَصْبَهَانَ. ذِكْرُ الْخُلْفِ بَيْنَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ وَمُحَمَّدْ خَانْ وَالصُّلْحِ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَ الْحَدِيثُ عَنْ سَنْجَرَ: أَنَّ مُحَمَّدْ خَانَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ قَدْ مَدَّ يَدَهُ إِلَى أَمْوَالِ الرَّعَايَا، وَظَلَمَهُمْ ظُلْمًا كَثِيرًا، وَأَنَّهُ خَرَّبَ الْبِلَادَ بِظُلْمِهِ وَشَرِّهِ، وَأَنَّهُ قَدْ صَارَ يَسْتَخِفُّ بِأَوَامِرِ سَنْجَرَ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، فَتَجَهَّزَ سَنْجَرُ وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ يُرِيدُ قَصْدَهُ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَخَافَ مُحَمَّدْ خَانْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَمِيرِ قُمَاجَ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَمِيرٍ مَعَ سَنْجَرَ، يَسْأَلُهُ أَنْ يُصْلِحَ الْحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَنْجَرَ، وَأَرْسَلَ أَيْضًا إِلَى خُوَارَزْمِشَاهْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَسَأَلَهُمَا فِي إِرْضَاءِ السُّلْطَانِ عَنْهُ، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ أَخْطَأَ، فَأَجَابَ سَنْجَرُ إِلَى صُلْحِهِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُ وَيَطَأَ بِسَاطَهُ، فَأَرْسَلَ مُحَمَّدْ خَانْ يَذْكُرُ خَوْفَهُ لِسُوءِ صَنِيعِهِ، وَلَكِنَّهُ يَحْضُرُ الْخِدْمَةَ، وَيَخْدِمُ السُّلْطَانَ، وَبَيْنَهُمَا نَهْرُ جَيْحُونَ، ثُمَّ يُعَاوِدُ بَعْدَ ذَلِكَ الْحُضُورَ عِنْدَهُ، وَالدُّخُولَ إِلَيْهِ، فَحَسَّنُوا الْإِجَابَةَ إِلَى ذَلِكَ، وَالِاشْتِغَالَ بِغَيْرِهِ، فَامْتَنَعَ، ثُمَّ أَجَابَ. وَكَانَ سَنْجَرُ عَلَى شَاطِئِ جَيْحُونَ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَجَاءَ مُحَمَّدْ خَانْ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَتَرَجَّلَ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَسَنْجَرُ رَاكِبٌ، وَعَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى خِيَامِهِ، وَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَهُمَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ قَفَلٌ عَظِيمٌ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى مِصْرَ، فَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى بَغْدُوِينَ مَلِكِ الْفِرِنْجِ، فَسَارَ إِلَيْهِ، وَعَارَضَهُ فِي الْبَرِّ، فَأَخَذَهُمْ أَجْمَعِينَ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَمَنْ سَلِمَ أَخَذَهُ الْعَرَبُ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَهِيرٍ، وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ الرَّبِيبُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ الْوَزِيرِ أَبِي شُجَاعٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ وَزِيرِ السُّلْطَانِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمَلِكُ رِضْوَانُ مُحَمَّدٌ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشُ بْنُ أَلْب أَرْسِلَانَ، صَاحِبُ حَلَبَ، وَقَامَ بَعْدَهُ بِحَلَبَ ابْنُهُ أَلْب أَرْسِلَانَ الْأَخْرَسُ، وَعُمُرُهُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ أُمُورُ رِضْوَانَ غَيْرَ مَحْمُودَةٍ: قَتَلَ أَخَوَيْهِ أَبَا طَالِبٍ وَبُهْرَامَ، وَكَانَ يَسْتَعِينُ بِالْبَاطِنِيَّةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِ لِقِلَّةِ دِينِهِ، وَلَمَّا مَلَكَ الْأَخْرَسُ اسْتَوْلَى عَلَى الْأُمُورِ لُؤْلُؤٌ الْخَادِمُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَخْرَسِ مَعَهُ إِلَّا اسْمُ السَّلْطَنَةِ، وَمَعْنَاهُ لِلُؤْلُؤٍ، وَلَمْ يَكُنْ أَلْب أَرْسِلَانَ أَخْرَسَ، وَإِنَّمَا فِي لِسَانِهِ حُبْسَةٌ وَتَمْتَمَةٌ، وَأُمُّهُ بِنْتُ بَاغِي سِيَّانَ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ، وَقَتَلَ الْأَخْرَسُ أَخَوَيْنِ لَهُ أَحَدُهُمَا اسْمُهُ مُلْكِشَاهْ، وَهُوَ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَاسْمُ الْآخَرِ مُبَارَكْشَاهْ، وَهُوَ مِنْ أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ فَعَلَ مِثْلَهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ قُتِلَ وَلَدَاهُ، مُكَافَأَةً لِمَا اعْتَمَدَهُ مَعَ أَخَوَيْهِ. وَكَانَ الْبَاطِنِيَّةُ قَدْ كَثُرُوا بِحَلَبَ فِي أَيَّامِهِ، حَتَّى خَافَهُمُ ابْنُ بَدِيعٍ رَئِيسُهَا، وَأَعْيَانُ أَهْلِهَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ قَالَ ابْنُ بَدِيعٍ لِأَلْب أَرْسِلَانَ فِي قَتْلِهِمْ وَالْإِيقَاعِ بِهِمْ، فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَبَضَ عَلَى مُقَدَّمِهِمْ أَبِي طَاهِرٍ الصَّائِغِ، وَعَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ، فَقَتَلَ أَبَا طَاهِرٍ وَجَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِهِمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَ الْبَاقِينَ وَأَطْلَقَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَدَ الْفِرِنْجَ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ بِبَغْدَاذَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَدْرَانَ الْحُلْوَانِيُّ الزَّاهِدُ، مُنْتَصَفَ جُمَادَى الْأُولَى، رَوَى الْحَدِيثَ عَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيِّ، وَأَبِي طَالِبٍ الْعُشَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَمِنْ آخِرِهِمْ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الطُّوسِيِّ، خَطِيبُ الْمَوْصِلِ. وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ الْإِمَامُ

ابْنُ الْإِمَامِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ بِمَدِينَةِ بَيْهَقَ، وَلِوَالِدِهِ تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ. وَشُجَاعُ بْنُ أَبِي شُجَاعٍ فَارِسِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ فَارِسٍ أَبُو غَالِبٍ الذُّهْلِيُّ الْحَافِظُ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَأَبِي الْقَاسِمِ، وَابْنِ الْمُهْتَدِي وَالْجَوْهَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَالْأَدِيبُ أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَبْيُورْدِيُّ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، وَلَهُ دِيوَانٌ حَسَنٌ، وَمِنْ شِعْرِهِ: تَنَكَّرَ لِي دَهْرِي، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّنِي ... أَعَزُّ، وَأَحْدَاثُ الزَّمَانِ تَهُونُ وَظَلَّ يُرِينِي الْخَطْبَ كَيْفَ اعْتِدَاؤُهُ ... وَبِتُّ أُرِيهِ الصَّبْرَ كَيْفَ يَكُونُ وَلَهُ أَيْضًا: رَكِبْتُ طَرْفِي، فَأَذْرَى دَمْعَهُ أَسَفًا ... عِنْدَ انْصِرَافِيَ مِنْهُمْ، مُضْمِرَ الْيَاسِ وَقَالَ: حَتَّامَ تُؤْذِينِي، فَإِنْ سَنَحَتْ ... حَوَائِجٌ لَكَ، فَارْكَبْنِي إِلَى النَّاسِ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِأَصْبَهَانَ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ الْأُمَوِيِّ وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُمَرَ الشَّاشِيُّ، الْإِمَامُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، فِي شَوَّالٍ، مَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ الْخَطِيبَ، وَأَبَا يَعْلَى بْنَ الْفَرَّاءِ، وَغَيْرَهُمَا، وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْكَازَرُونِيِّ بِدِيَارِ بَكْرٍ، وَعَلَى أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ بِبَغْدَاذَ، وَعَلَى أَبِي نَصْرِ بْنِ الصَّبَّاغِ

وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو نَصْرٍ الْمُؤْتَمَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ السَّاجِيُّ، الْحَافِظُ الْمَقْدِسِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ مُكْثِرًا مِنَ الْحَدِيثِ، وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ، وَكَانَ ثِقَةً.

ثم دخلت سنة ثمان وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِمِائَةٍ] 508 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مَسِيرِ آقْسُنْقُرَ الْبُرْسُقِيِّ إِلَى الشَّامِ لِحَرْبِ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ الْأَمِيرَ آقْسُنْقُرَ الْبُرْسُقِيَّ إِلَى الْمَوْصِلِ وَأَعْمَالِهَا، وَالِيًا عَلَيْهَا، لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ مَوْدُودٍ، وَسَيَّرَ مَعَهُ وَلَدَهُ الْمَلِكَ مَسْعُودًا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ الْفِرِنْجِ، وَكَتَبَ إِلَى سَائِرِ الْأُمَرَاءِ بِطَاعَتِهِ، فَوَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَاتَّصَلَتْ بِهِ عَسَاكِرُهَا، وَفِيهِمْ عِمَادُ الدِّينِ زِنْكِيُّ بْنُ آقْسُنْقُرَ، الَّذِي مَلَكَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ الْمَوْصِلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ لَهُ شَجَاعَةٌ فِي الْغَايَةِ. وَاتَّصَلَ بِهِ أَيْضًا تَمِيرُكُ صَاحِبُ سَنْجَارَ وَغَيْرِهِمَا، فَسَارَ الْبُرْسُقِيُّ إِلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، فَسَلَّمَا إِلَيْهِ نَائِبَ مَوْدُودٍ بِهَا، وَسَارَ مَعَهُ إِلَى مَارِدِينَ، فَنَازَلَهَا الْبُرْسُقِيُّ، حَتَّى أَذْعَنَ لَهُ إِيلْغَازِي صَاحِبُهَا، وَسَيَّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا مَعَ وَلَدِهِ إِيَّازَ، فَسَارَ عَنْهُ الْبُرْسُقِيُّ إِلَى الرُّهَا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ، فَنَازَلَهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَقَاتَلَهَا، وَصَبَرَ لَهُ الْفِرِنْجُ، وَأَصَابُوا مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ غِرَّةً، فَأَخَذُوا مِنْهُمْ تِسْعَةَ رِجَالٍ وَصَلَبُوهُمْ عَلَى سُورِهَا، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ حِينَئِذٍ، وَحَمِيَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَاتَلُوا، فَقَتَلُوا مِنَ الْفِرِنْجِ خَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ أَعْيَانِهِمْ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا شَهْرَيْنِ وَأَيَّامًا. وَضَاقَتِ الْمِيرَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَرَحَلُوا مِنَ الرُّهَا إِلَى سُمَيْسَاطَ، بَعْدَ أَنْ خَرَّبُوا بَلَدَ سَرُوجَ وَبَلَدَ سُمَيْسَاطَ وَأَطَاعَهُ صَاحِبُ مَرْعَشَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَى شَحْنَانَ، فَقَبَضَ عَلَى إِيَّازَ بْنِ إِيلْغَازِي، حَيْثُ لَمْ يَحُضَّ أَبُوهُ، وَنَهَبَ سَوَادَ مَارِدِينَ.

وَلَمَّا بَلَغَ طُغْتِكِينَ الْخَبَرُ عَادَ إِلَى حِمْصَ، وَأَرْسَلَ فِي إِطْلَاقِهِ، فَامْتَنَعَ قُرْجَانُ، وَحَلَفَ: إِنْ لَمْ يَعُدْ طُغْتِكِينُ لَنَقْتُلَنَّ إِيلْغَازِي، فَأَرْسَلَ إِلَى طُغْتِكِينَ: إِنَّ الْمُلَاجَّةَ تُؤْذِينِي، وَتَسْفِكُ دَمِي، وَالْمَصْلَحَةُ عَوْدُكَ إِلَى دِمَشْقَ، فَعَادَ. وَانْتَظَرَ قُرْجَانُ وُصُولَ الْعَسَاكِرِ السُّلْطَانِيَّةِ، فَتَأَخَّرَتْ عَنْهُ، فَخَافَ أَنْ يَنْخَدِعَ أَصْحَابُهُ لِطُغْتِكِينَ، وَيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ حِمْصَ، فَعَدَلَ إِلَى الصُّلْحِ مَعَ إِيلْغَازِي عَلَى أَنْ يُطْلِقَهُ، وَيَأْخُذَ ابْنَهُ إِيَّازَ رَهِينَةً، وَيُصَاهِرَهُ، وَيَمْنَعَهُ مِنْ طُغْتِكِينَ وَغَيْرِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَطْلَقَهُ، وَتَحَالَفَا، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ ابْنَهُ إِيَّازَ، وَسَارَ عَنْ حِمْصَ إِلَى حَلَبَ، وَجَمَعَ التُّرْكُمَانَ، وَعَادَ إِلَى حِمْصَ، وَطَالَبَ بِوَلَدِهِ إِيَّازَ، وَحَصَرَ قُرْجَانَ إِلَى أَنْ وَصَلَتِ الْعَسَاكِرُ السُّلْطَانِيَّةُ، فَعَادَ إِيلْغَازِي عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ وَفَاةِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ وَمُلْكِ ابْنِهِ وَمَا كَانَ مِنْهُ مَعَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، تُوُفِّيَ الْمَلِكُ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ أَبُو سَعْدٍ مَسْعُودُ بْنُ أَبِي الْمُظَفَّرِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي سَعْدٍ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتُكِينَ، صَاحِبُ غَزْنَةَ، بِهَا، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَرْسِلَانْشَاهْ، وَأُمُّهُ سَلْجُوقِيَّةٌ، وَهِيَ أُخْتُ السُّلْطَانِ أَلْب أَرْسِلَانَ بْنِ دَاوُدَ، فَقَبَضَ عَلَى إِخْوَانِهِ وَسَجَنَهُمْ، وَهَرَبَ أَخٌ لَهُ اسْمُهُ بَهْرَامُ إِلَى خُرَاسَانَ، فَوَصَلَ إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ بْنِ مُلْكِشَاهْ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَرْسِلَانَشَاهْ فِي مَعْنَاهُ، فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَلَا أَصْغَى إِلَى قَوْلِهِ، فَتَجَهَّزَ سَنْجَرُ لِلْمَسِيرِ إِلَى غَزْنَةَ، وَإِقَامَةِ بَهْرَامْشَاهْ فِي الْمُلْكِ. فَأَرْسَلَ أَرْسِلَانْشَاهْ إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ يَشْكُو مِنْ أَخِيهِ سَنْجَرَ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى أَخِيهِ سَنْجَرَ يَأْمُرُهُ بِمُصَالَحَةِ أَرْسِلَانْشَاهْ، وَتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: إِنْ رَأَيْتَ أَخِي وَقَدْ قَصَدَهُمْ، وَسَارَ نَحْوَهُمْ، أَوْ قَارَبَ أَنْ يَسِيرَ، فَلَا تَمْنَعْهُ، وَلَا تُبْلِغْهُ الرِّسَالَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَفُتُّ فِي عَضُدِهِ وَيُوهِنُهُ، وَلَا يَعُودُ، وَلَأَنْ يَمْلِكَ أَخِي الدُّنْيَا أَحَبُّ إِلَيَّ. فَوَصَلَ الرَّسُولُ إِلَى سَنْجَرَ، وَقَدْ جَهَّزَ الْعَسَاكِرَ إِلَى غَزْنَةَ، وَجَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ الْأَمِيرَ أُنَرَ، مُتَقَدِّمَ عَسْكَرِهِ، وَمَعَهُ الْمَلِكَ بَهْرَامْشَاهْ، فَسَارُوا حَتَّى بَلَغُوا بُسْتَ، وَاتَّصَلَ بِهِمْ فِيهَا أَبُو الْفَضْلِ نَصْرُ بْنُ خَلَفٍ، صَاحِبُ سِجِسْتَانَ.

ذِكْرُ طَاعَةِ صَاحِبِ مَرْعَشَ وَغَيْرِهَا الْبُرْسُقِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ بَعْضُ جُنُودِ الْفِرِنْجِ، وَيُعْرَفُ بِكَوَاسِيلَ، وَهُوَ صَاحِبُ مَرْعَشَ، وَكَيْسُومَ، وَرَعْبَانَ وَغَيْرِهَا، فَاسْتَوْلَتْ زَوْجَتُهُ عَلَى الْمَمْلَكَةِ، وَتَحَصَّنَتْ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَأَحْسَنَتْ إِلَى الْأَجْنَادِ، وَرَاسَلَتْ آقْسُنْقُرَ الْبُرْسُقِيَّ، وَهُوَ عَلَى الرُّهَا، وَاسْتَدْعَتْ مِنْهُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ لِتُطِيعَهُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا الْأَمِيرَ سُنْقُرَ دَزْدَارَ، صَاحِبَ الْخَابُورِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا أَكْرَمَتْهُ، وَحَمَلَتْ إِلَيْهِ مَالًا كَثِيرًا. وَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَهَا إِذْ جَاءَ جَمْعٌ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَوَاقَعُوا أَصْحَابَهُ، وَهُمْ نَحْوُ مِائَةِ فَارِسٍ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا ظَفِرَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْفِرِنْجِ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ أَكْثَرَهُمْ وَعَادَ سُنْقُرُ دَزْدَارَ، وَقَدْ أَصْحَبَتْهُ الْهَدَايَا لِلْمَلِكِ مَسْعُودٍ وَالْبُرْسُقِيِّ، وَأَذْعَنَتْ بِالطَّاعَةِ، وَلَمَّا عَرَفَ الْفِرِنْجُ ذَلِكَ عَادَ كَثِيرٌ مِمَّنْ عِنْدَهَا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْبُرْسُقِيِّ، وَإِيلْغَازِي وَأَسْرِ إِيلْغَازِي لَمَّا قَبَضَ الْبُرْسُقِيُّ عَلَى إِيَّازَ بْنِ إِيلْغَازِي سَارَ إِلَى حِصْنِ كِيفَا، وَصَاحِبُهَا الْأَمِيرُ رُكْنُ الدَّوْلَةِ دَاوُدُ ابْنُ أَخِيهِ سُقْمَانَ، فَاسْتَنْجَدَهُ، فَسَارَ مَعَهُ فِي عَسْكَرِهِ وَأَحْضَرَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ التُّرْكُمَانِ، وَسَارَا إِلَى الْبُرْسُقِيِّ، فَلَقِيَهُ، أَوَاخِرَ السَّنَةِ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا صَبَرُوا فِيهِ، فَانْهَزَمَ الْبُرْسُقِيُّ وَعَسْكَرُهُ، وَخُلِّصَ إِيَّازُ بْنُ إِيلْغَازِي مِنَ الْأُسَرِ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَيْهِ يَتَهَدَّدُهُ، فَخَافَهُ، وَسَارَ إِلَى الشَّامِ إِلَى حَمِيِّهِ طُغْتِكِينَ، صَاحِبِ دِمَشْقَ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ أَيَّامًا. وَكَانَ طُغْتِكِينُ أَيْضًا قَدِ اسْتَوْحَشَ مِنَ السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ نَسَبَ إِلَيْهِ قَتْلَ مَوْدُودٍ، فَاتَّفَقَا عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَى الْفِرِنْجِ، وَالِاحْتِمَاءِ بِهِمْ، فَرَاسَلَا صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ، وَحَالَفَاهُ، فَحَضَرَ عِنْدَهُمَا عَلَى بُحَيْرَةِ قَدَسَ، عِنْدَ حِمْصَ، وَجَدَّدُوا الْعُهُودَ، وَعَادَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَعَادَ طُغْتِكِينُ إِلَى دِمَشْقَ وَسَارَ إِيلْغَازِي إِلَى الرَّسْتَنِ عَلَى عَزْمِ قَصْدِ دِيَارِ بَكْرٍ، وَجَمْعِ التُّرْكُمَانِ وَالْعَوْدِ، فَنَزَلَ بِالرَّسْتَنِ لِيَسْتَرِيحَ، فَقَصَدَهُ الْأَمِيرُ قُرْجَانُ بْنُ قُرَاجَةَ صَاحِبُ حِمْصَ، وَقَدْ تَفَرَّقَ عَنْ إِيلْغَازِي أَصْحَابُهُ، فَظَفَرَ بِهِ قُرْجَانُ وَأَسَرَهُ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ خَوَاصِّهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، وَيَسْأَلُهُ تَعْجِيلَ إِنْفَاذِ الْعَسَاكِرِ لِئَلَّا يَغْلِبَهُ طُغْتِكِينُ عَلَى إِيلْغَازِي.

وَسَمِعَ أَرْسِلَانْشَاهُ الْخَبَرَ، فَسَيَّرَ جَيْشًا كَثِيفًا، فَهَزَمَاهُ، وَنَهَبَاهُ وَعَادَ مَنْ سَلِمَ إِلَى غَزْنَةَ عَلَى أَسْوَأِ حَالٍ فَخَضَعَ حِينَئِذٍ أَرْسِلَانْشَاهْ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْأَمِيرِ أُنَرَ يَضْمَنُ لَهُ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ لِيَعُودَ عَنْهُ، وَيُحَسِّنُ لِلْمَلِكِ سَنْجَرَ الْعَوْدَةَ عَنْهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ. وَتَجَهَّزَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ، بَعْدَ أُنَرَ، لِلْمَسِيرِ بِنَفْسِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَرْسِلَانْشَاهُ امْرَأَةَ عَمِّهِ نَصْرٍ تَسْأَلُهُ الصَّفْحَ وَالْعَوْدَ عَنْ قَصْدِهِ، وَهِيَ أُخْتُ الْمَلِكِ سَنْجَرَ مِنَ السُّلْطَانِ بُرْكِيارُقَ، وَكَانَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ أَبُو سَعْدٍ قَدْ قَتَلَ زَوْجَهَا، وَمَنَعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ عَنْ غَزْنَةَ وَتَزَوَّجَهَا، فَسَيَّرَهَا الْآنَ أَرْسِلَانْشَاهْ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى أَخِيهِ أَوْصَلَتْ مَا مَعَهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْهَدَايَا، وَكَانَ مَعَهَا مِائَتَا أَلْفِ دِينَارٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَطَلَبَ مِنْ سَنْجَرَ أَنْ يُسَلِّمَ أَخَاهُ بَهْرَامَ إِلَيْهِ. وَكَانَتْ مُوغَرَةَ الصَّدْرِ مِنْ أَرْسِلَانْشَاهْ، فَهَوَّنَتْ أَمْرَهُ عَلَى سَنْجَرَ، وَأَطْمَعَتْهُ فِي الْبِلَادِ، وَسَهَّلَتِ الْأَمْرَ عَلَيْهِ، وَذَكَرَتْ لَهُ مَا فَعَلَ بِإِخْوَانِهِ، وَكَانَ قَتَلَ بَعْضًا وَكَحَلَ بَعْضًا مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ مِنْهُمْ عَنِ الطَّاعَةِ. فَسَارَ الْمَلِكُ سَنْجَرُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بُسْتَ أَرْسَلَ خَادِمًا مِنْ خَوَاصِّهِ إِلَى أَرْسِلَانْشَاهْ فِي رِسَالَةٍ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْقِلَاعِ، فَسَارَ حِينَئِذٍ سَنْجَرُ مُجِدًّا، فَلَمَّا سَمِعَ مِنْهُ أَطْلَقَ الرَّسُولَ، وَوَصَلَ سَنْجَرُ إِلَى غَزْنَةَ، وَوَقَعَ بَيْنَهُمَا الْمَصَافُّ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ غَزْنَةَ، بِصَحْرَاءَ شَهْرَابَاذَ، وَكَانَ أَرْسِلَانْشَاهْ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَخَلْقٍ كَثِيرٍ مِنَ الرَّجَّالَةِ، وَمَعَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ فِيلًا، عَلَى كُلِّ فِيلٍ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ، فَحَمَلَتِ الْفِيَلَةُ عَلَى الْقَلْبِ، وَفِيهِ سَنْجَرُ، فَكَانَ مَنْ فِيهِ يَنْهَزِمُونَ، فَقَالَ سَنْجَرُ لِغِلْمَانِهِ الْأَتْرَاكِ لِيَرْمُوهَا بِالنُّشَّابِ، فَتَقَدَّمَ ثَلَاثَةُ آلَافِ غُلَامٍ، فَرَمَوُا الْفِيَلَةَ رَشْقًا وَاحِدًا جَمِيعًا، فَقَتَلُوا مِنْهَا عِدَّةً، فَعَدَلَتِ الْفِيَلَةُ عَنِ الْقَلْبِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ، وَبِهَا أَبُو الْفَضْلِ صَاحِبُ سِجِسْتَانَ، وَجَالَتْ عَلَيْهِمْ، فَضَعُفَ مَنْ فِي الْمَيْسَرَةِ، فَشَجَّعَهُمْ أَبُو الْفَضْلِ، وَخَوَّفَهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ مَعَ دِيَارِهِمْ، وَتَرَجَّلَ عَنْ فَرَسِهِ بِنَفْسِهِ، وَقَصَدَ كَبِيرَ الْفِيَلَةِ، وَمُتَقَدَّمُهَا، وَدَخَلَ تَحْتَهَا فَشَقَّ بَطْنَهَا، وَقَتَلَ فِيلَيْنِ آخَرَيْنِ. وَرَأَى الْأَمِيرُ أُنَرُ، وَهُوَ فِي الْمَيْمَنَةِ، مَا فِي الْمَيْسَرَةِ مِنَ الْحَرْبِ، فَخَافَ عَلَيْهَا، فَحَمَلَ مِنْ وَرَاءِ عَسْكَرِ غَزْنَةَ، وَقَصَدَ الْمَيْسَرَةَ وَاخْتَلَطَ بِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ، فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْغَزْنَوِيَّةِ، وَكَانَ رُكَّابُ الْفِيَلَةِ قَدْ شَدُّوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهَا بِالسَّلَاسِلِ، فَلَمَّا عَضَّتْهُمُ الْحَرْبُ، وَعَمِلَ فِيهِمُ السَّيْفُ، أَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ، فَبَقُوا مُعَلَّقِينَ عَلَيْهَا.

وَدَخَلَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ غَزْنَةَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَمَعَهُ بُهْرَامْشَاهْ. فَأَمَّا الْقَلْعَةُ الْكَبِيرَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَلَدِ تِسْعَةُ فَرَاسِخَ، وَهِيَ عَظِيمَةٌ، فَلَا مَطْمَعَ فِيهَا، وَلَا طَرِيقَ عَلَيْهَا. وَكَانَ أَرْسِلَانْشَاهْ قَدْ سَجَنَ فِيهَا أَخَاهُ طَاهِرًا الْخَازِنَ، وَهُوَ صَاحِبُ بُهْرَامْشَاهْ، وَاعْتَقَلَ بِهَا أَيْضًا زَوْجَةَ بُهْرَامْشَاهْ، فَلَمَّا انْهَزَمَ أَرْسِلَانْشَاهِ اسْتَمَالَ أَخُوهُ طَاهِرٌ الْمُسْتَحْفِظَ بِهَا، فَبَذَلَ لَهُ وَلِلْأَجْنَادِ الزِّيَادَاتِ، فَسَلَّمُوا الْقَلْعَةَ إِلَى الْمَلِكِ سَنْجَرَ. وَأَمَّا قَلْعَةُ الْبَلَدِ فَإِنَّ أَرْسِلَانْشَاهْ كَانَ اعْتَقَلَ بِهَا رَسُولَ سَنْجَرَ، فَلَمَّا أَطْلَقَهُ بَقِيَ غِلْمَانُهُ بِهَا، فَسَلَّمُوا الْقَلْعَةَ أَيْضًا بِغَيْرِ قِتَالٍ. وَكَانَ قَدْ تَقَرَّرَ بَيْنَ بُهْرَامْشَاهْ وَبَيْنَ سَنْجَرَ أَنْ يَجْلِسَ بُهْرَامُ عَلَى سَرِيرِ جَدِّهِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتُكِينَ وَحْدَهُ، وَأَنْ تَكُونَ الْخُطْبَةُ بَغَزْنَةَ لِلْخَلِيفَةِ، السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَلِلْمَلِكِ سَنْجَرَ، وَبَعْدَهُمْ لِبُهْرَامْشَاهْ. فَلَمَّا دَخَلُوا غَزْنَةَ كَانَ سَنْجَرُ رَاكِبًا، وَبُهْرَامْشَاهْ بَيْنَ يَدَيْهِ رَاجِلًا، حَتَّى جَاءَ السَّرِيرُ، فَصَعِدَ بُهْرَامْشَاهْ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَرَجَعَ سَنْجَرُ، وَكَانَ يَخْطُبُ لَهُ بِالْمُلْكِ، وَلِبُهْرَامْشَاهْ بِالسُّلْطَانِ عَلَى عَادَةِ آبَائِهِ، فَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يُسْمَعُ بِهِ. وَحَصَلَ لِأَصْحَابِ سَنْجَرَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُحْصَى مِنَ السُّلْطَانِ وَالرَّعَايَا، وَكَانَ فِي دُورٍ لِمُلُوكِهَا عِدَّةُ دُورٍ عَلَى حِيطَانِهَا أَلْوَاحُ الْفِضَّةِ، وَسَوَاقِي الْمِيَاهِ إِلَى الْبَسَاتِينِ مِنَ الْفِضَّةِ أَيْضًا، فَقُلِعَ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرُهُ، وَنُهِبَ، فَلَمَّا سَمِعَ سَنْجَرُ مَا يَفْعَلُ مَنَعَ عَنْهُ بِجَهْدِهِ، وَصَلَبَ جَمَاعَةً حَتَّى كَفَّ النَّاسُ. وَفِي جُمْلَةِ مَا حَصَلَ لِلْمَلِكِ سَنْجَرَ خَمْسَةُ تِيجَانَ قَيِّمَةٍ أَحَدُهَا تَزِيدُ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةِ قِطْعَةٍ مُصَاغَةٍ مُرَصَّعَةٍ، وَسَبْعَةَ عَشَرَ سَرِيرًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَأَقَامَ بِغَزْنَةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، حَتَّى اسْتَقَرَّ بُهْرَامْشَاهْ، وَعَادَ نَحْوَ خُرَاسَانَ، لَمْ يُخْطَبْ بِغَزْنَةَ لِسَلْجُوقِيٍّ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ، حَتَّى إِنَّ السُّلْطَانَ مُلْكِشَاهْ مَعَ تَمَكُّنِهِ وَكَثْرَةِ مُلْكِهِ لَمْ يَطْمَعْ فِيهِ، وَكَانَ كُلَّمَا رَامَ ذَلِكَ مَنَعَ مِنْهُ نِظَامَ الْمُلْكِ. وَأَمَّا أَرْسِلَانْشَاهْ فَإِنَّهُ لَمَّا انْهَزَمَ قَصَدَ هِنْدُوسَتَانَ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، فَقَوِيَتْ

شَوْكَتُهُ، فَلَمَّا عَادَ سَنْجَرُ إِلَى خُرَاسَانَ تَوَجَّهَ إِلَى غَزْنَةَ، فَلَمَّا عَرَفَ بُهْرَامْشَاهْ قَصْدَهُ إِيَّاهُ تَوَجَّهَ إِلَى بَامْيَانَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ سَنْجَرَ يُعْلِمَهُ الْحَالَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَسْكَرًا. وَأَقَامَ أَرْسِلَانْشَاهْ بِغَزْنَةَ شَهْرًا وَاحِدًا، وَسَارَ يَطْلُبُ أَخَاهُ بُهْرَامْشَاهْ، فَبَلَغَهُ وُصُولُ عَسْكَرِ سَنْجَرَ، فَانْهَزَمَ بِغَيْرِ قِتَالٍ لِلْخَوْفِ الَّذِي قَدْ بَاشَرَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ، وَلَحِقَ بِجِبَالِ أُوغَنَانَ، فَسَارَ أَخُوهُ بُهْرَامْشَاهْ وَعَسْكَرَ سَنْجَرُ فِي أَثَرِهِ، وَخَرَّبُوا الْبِلَادَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِهَا يَتَهَدَّدُونَهُمْ، فَسَلَّمُوهُ بَعْدَ الْمُضَايَقَةِ، فَأَخَذَهُ مُتَقَدِّمُ جَيْشِ الْمَلِكِ سَنْجَرَ، وَأَرَادَ حَمْلَهُ إِلَى صَاحِبِهِ، فَخَافَ بُهْرَامْشَاهْ مِنْ ذَلِكَ، فَبَذَلَ لَهُ مَالًا، فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ، فَخَنَقَهُ وَدَفَنَهُ بِتُرْبَةِ أَبِيهِ بِغَزْنَةَ، وَكَانَ عُمُرُهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ أَحْسَنَ إِخْوَانِهِ صُورَةً، وَكَانَ قَتْلُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ هَاهُنَا لِتَتَّصِلَ الْحَادِثَةُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، كَانَتْ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ بِدِيَارِ الْجَزِيرَةِ، وَالشَّامِ، وَغَيْرِهَا، فَخَرَّبَتْ كَثِيرًا مِنَ الرُّهَا، وَحَرَّانَ، وَسُمَيْسَاطَ، وَبَالِسَ وَغَيْرِهَا، وَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ تَحْتَ الْهَدْمِ. وَفِيهَا قُتِلَ تَاجُ الدَّوْلَةِ أَلْب أَرْسِلَانَ بْنُ رِضْوَانَ، صَاحِبُ حَلَبَ، قَتَلَهُ غِلْمَانٌ بِقَلْعَةِ حَلَبَ، وَأَقَامُوا بَعْدَهُ أَخَاهُ سُلْطَانَ شَاهْ بْنَ رِضْوَانَ، وَكَانَ الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ لُؤْلُؤٌ الْخَادِمُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّرِيفُ النَّسِيبُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَبَّاسِ الْحَسَنِيُّ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، بِدِمَشْقَ.

ثم دخلت سنة تسع وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ] 509 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ انْهِزَامِ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ مِنَ الْفِرِنْجِ قَدْ ذَكَرْنَا مَا كَانَ مِنْ عِصْيَانِ إِيلْغَازِي وَطُغْتِكِينَ عَلَى السُّلْطَانِ، وَقُوَّةِ الْفِرِنْجِ، فَلَمَّا اتَّصَلَ ذَلِكَ بِالسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ جَهَّزَ عَسْكَرًا كَثِيرًا، وَجَعَلَ مُقَدَّمَهُمُ الْأَمِيرَ بُرْسُقَ بْنَ بُرْسُقَ، صَاحِبَ هَمَذَانَ، وَمَعَهُ الْأَمِيرَ جُيُوشْ بِكْ وَالْأَمِيرَ كَيْدَغْدِي، وَعَسَاكِرَ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْبِدَايَةِ بِقِتَالِ إِيلْغَازِي وَطُغْتِكِينَ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْهَا قَصَدُوا بِلَادَ الْفِرِنْجِ، وَقَاتَلُوهُمْ، وَحَصَرُوا بِلَادَهُمْ. فَسَارُوا فِي رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ عَسْكَرًا كَثِيرَ الْعُدَّةِ، وَعَبَرُوا الْفُرَاتَ، آخِرَ السَّنَةِ، عِنْدَ الرَّقَّةِ، فَلَمَّا قَارَبُوا حَلَبَ رَاسَلُوا الْمُتَوَلِّيَ لِأَمْرِهَا لُؤْلُؤًا الْخَادِمَ، وَمُقَدَّمَ عَسْكَرِهَا الْمَعْرُوفَ بِشَمْسِ الْخَوَاصِّ، يَأْمُرُونَهُمَا بِتَسْلِيمِ حَلَبَ، وَعَرَضُوا عَلَيْهِمَا كُتُبَ السُّلْطَانِ بِذَلِكَ، فَغَالَطَا فِي الْجَوَابِ، وَأَرْسَلَا إِلَى إِيلْغَازِي وَطُغْتِكِينَ يَسْتَنْجِدَانِهِمَا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَدَخَلَا حَلَبَ، فَامْتَنَعَ مَنْ بِهَا حِينَئِذٍ عَنْ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ، وَأَظْهَرُوا الْعِصْيَانَ. فَسَارَ الْأَمِيرُ بُرْسُقُ بْنُ بُرْسُقَ إِلَى مَدِينَةِ حَمَاةَ، وَهِيَ فِي طَاعَةِ طُغْتِكِينَ، وَبِهَا ثِقْلُهُ، فَحَصَرَهَا، وَفَتَحَهَا عَنْوَةً، وَنَهَبَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَسَلَّمَهَا إِلَى الْأَمِيرِ قُرْجَانَ، صَاحِبِ حِمْصَ. وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ أَمَرَ أَنْ يُسَلَّمَ إِلَيْهِ كُلُّ بَلَدٍ يَفْتَحُونَهُ، فَلَمَّا رَأَى الْأُمَرَاءُ ذَلِكَ فَشِلُوا وَضَعُفَتْ نِيَّاتُهُمْ فِي الْقِتَالِ، بِحَيْثُ تُؤْخَذُ الْبِلَادُ وَتُسَلَّمُ إِلَى قُرْجَانَ، فَلَمَّا سَلَّمُوا

حَمَاةَ إِلَى قُرْجَانَ سَلَّمَ إِلَيْهِمْ إِيَّازُ بْنُ إِيلْغَازِي، وَكَانَ قَدْ سَارَ إِيلْغَازِي، وَطُغْتِكِينُ، وَشَمْسُ الْخَوَاصِّ، إِلَى أَنْطَاكِيَةَ وَاسْتَجَارُوا بِصَاحِبِهَا رُوجِيلَ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُسَاعِدَهُمْ عَلَى حِفْظِ مَدِينَةِ حَمَاةَ وَلَمْ يَكُنْ بَلَغَهُمْ فَتْحُهَا. وَوَصَلَ إِلَيْهِمْ بِأَنْطَاكِيَةَ بَغْدُوِينُ، صَاحِبُ الْقُدْسِ، وَصَاحِبُ طَرَابُلُسَ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ شَيَاطِينِ الْفِرِنْجِ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى تَرْكِ اللِّقَاءِ لِكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا إِنَّهُمْ عِنْدَ هُجُومِ الشِّتَاءِ يَتَفَرَّقُونَ، وَاجْتَمَعُوا بِقَلْعَةِ أَفَامِيَةَ، وَأَقَامُوا نَحْوَ شَهْرَيْنِ، فَلَمَّا انْتَصَفَ أَيْلُولُ، وَرَأَوْا عَزْمَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُقَامِ، تَفَرَّقُوا فَعَادَ إِيلْغَازِي إِلَى مَارِدِينَ، وَطُغْتِكِينُ إِلَى دِمَشْقَ، وَالْفِرِنْجُ إِلَى بِلَادِهِمْ. وَكَانَتْ أَفَامِيَةُ وَكَفَرْطَابُ لِلْفِرِنْجِ، فَقَصَدَ الْمُسْلِمُونَ كَفَرْطَابَ وَحَصَرُوهَا، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْحَصْرُ عَلَى الْفِرِنْجِ، وَرَأَوُا الْهَلَاكَ، قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَحْرَقُوا أَمْوَالَهُمْ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْبَلَدَ عَنْوَةً وَقَهْرًا، وَأَسَرُوا صَاحِبَهُ، وَقَتَلُوا مَنْ بَقِيَ فِيهِ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَسَارُوا إِلَى قَلْعَةِ أَفَامِيَةَ، فَرَأَوْهَا حَصِينَةً، فَعَادُوا عَنْهَا إِلَى الْمَعَرَّةِ، وَهِيَ لِلْفِرِنْجِ أَيْضًا، وَفَارَقَهُمُ الْأَمِيرُ جُيُوشْ بِكْ إِلَى وَادِي بَزَاعَةَ فَمَلَكَهُ. وَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ عَنِ الْمَعَرَّةِ إِلَى حَلَبَ، وَتَقَدَّمَهُمْ ثِقَلُهُمْ، وَدَوَابُّهُمْ، عَلَى جَارِي الْعَادَةِ، وَالْعَسَاكِرُ فِي أَثَرِهِ مُتَلَاحِقَةٌ، وَهُمْ آمِنُونَ لَا يَظُنُّونَ أَحَدًا يَقْدَمُ عَلَى الْقُرْبِ مِنْهُمْ. وَكَانَ رُوجِيلُ، صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، لَمَّا بَلَغَهُ حَصْرُ كَفَرْطَابَ، سَارَ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ وَأَلْفَيْ رَاجِلٍ لِلْمَنْعِ، فَوَصَلَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي ضُرِبَتْ فِيهِ خِيَامُ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى عِلْمٍ بِهَا، فَرَآهَا خَالِيَةً مِنَ الرِّجَالِ الْمُقَاتِلَةِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِلُوا إِلَيْهَا، فَنَهَبَ جَمِيعَ مَا هُنَاكَ، وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنَ السُّوقِيَّةِ، وَغِلْمَانِ الْعَسْكَرِ، وَوَصَلَتِ الْعَسَاكِرُ مُتَفَرِّقَةً، فَكَانَ الْفِرِنْجُ يَقْتُلُونَ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ. وَوَصَلَ الْأَمِيرُ بُرْسُقُ فِي نَحْوِ مِائَةِ فَارِسٍ، فَرَأَى الْحَالَ وَصَعِدَ تَلًّا هُنَاكَ، وَمَعَهُ أَخُوهُ زِنْكِيٌّ، وَأَحَاطَ بِهِمْ مِنَ السُّوقِيَّةِ وَالْغِلْمَانِ، وَاحْتَمَوْا بِهِمْ، وَمَنَعُوا الْأَمِيرَ بُرْسُقَ مِنَ النُّزُولِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَخُوهُ وَمَنْ مَعَهُ بِالنُّزُولِ وَالنَّجَاةِ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ، بَلْ أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَكُونُ فِدَاءَ الْمُسْلِمِينَ، فَغَلَبُوهُ عَلَى رَأْيِهِ، فَنَجَا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، فَتَبِعَهُمُ الْفِرِنْجُ نَحْوَ فَرْسَخٍ، ثُمَّ عَادُوا وَتَمَّمُوا الْغَنِيمَةَ وَالْقَتْلَ، وَأَحْرَقُوا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ. وَتَفَرَّقَ الْعَسْكَرُ، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ جِهَةً.

وَلَمَّا سَمِعَ الْمُوَكَّلُونَ بِالْأَسْرَى الْمَأْخُوذِينَ مِنْ كَفَرْطَابَ ذَلِكَ قَتَلُوهُمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْمُوَكَّلُ بِإِيَّازَ بْنِ إِيلْغَازِي قَتَلَهُ أَيْضًا، وَخَافَ أَهْلُ حَلَبَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي بِالشَّامِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرْجُونَ النَّصْرَ مِنْ جِهَةِ هَذَا الْعَسْكَرِ، فَأَتَاهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحِسَابِ، وَعَادَتِ الْعَسَاكِرُ عَنْهُمْ إِلَى بِلَادِهَا. وَأَمَّا بُرْسُقُ وَأَخُوهُ زِنْكِيٌّ فَإِنَّهُمَا تُوُفِّيَا فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ بُرْسُقُ خَيِّرًا، دَيِّنًا، وَقَدْ نَدِمَ عَلَى الْهَزِيمَةِ، وَهُوَ يَتَجَهَّزُ لِلْعَوْدِ إِلَى الْغَزَاةِ، فَأَتَاهُ أَجَلُهُ. ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ رَفَنِيَّةَ وَأَخْذِهَا مِنْهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، مَلَكَ الْفِرِنْجُ رَفَنِيَّةَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَهِيَ لِطُغْتِكِينَ، صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَقَوَّوْهَا بِالرِّجَالِ وَالذَّخَائِرِ، وَبَالَغُوا فِي تَحْصِينِهَا، فَاهْتَمَّ طُغْتِكِينُ لِذَلِكَ، وَقَوِيَ عَزْمُهُ عَلَى قَصْدِ بِلَادِ الْفِرِنْجِ بِالنَّهْبِ لَهَا وَالتَّخْرِيبِ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ رَفَنِيَّةَ بِخُلُوِّهَا مِنْ عَسْكَرٍ يَمْنَعُ عَنْهَا، وَلَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا الْفِرِنْجُ الَّذِينَ رَتَّبُوا لِحِفْظِهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا جَرِيدَةً، فَلَمْ يَشْعُرْ مَنْ بِهَا إِلَّا وَقَدْ هَجَمَ عَلَيْهِمُ الْبَلَدَ فَدَخَلَهُ عَنْوَةً وَقَهَرًا، وَأَخَذَ كُلَّ مَنْ فِيهِ مِنَ الْفِرِنْجِ أَسِيرًا، فَقَتَلَ الْبَعْضَ، وَتَرَكَ الْبَعْضَ وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ سَوَادِهِمْ، وَكُرَاعِهِمْ، وَذَخَائِرِهِمْ مَا امْتَلَأَتْ مِنْهُ أَيْدِيهِمْ، وَعَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ سَالِمِينَ. ذِكْرُ وَفَاةِ يَحْيَى بْنِ تَمِيمٍ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ عَلِيٍّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ يَحْيَى بْنُ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ يَوْمَ عِيدِ الْأَضْحَى، فَجْأَةً، وَكَانَ مُنَجِّمٌ قَدْ قَالَ لَهُ فِي مُنَسْتِيرَ مَوْلِدِهِ إِنَّ عَلَيْهِ قَطْعًا فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَلَا يَرْكَبُ، فَلَمْ يَرَكَبْ، وَخَرَجَ أَوْلَادُهُ، وَأَهْلُ دَوْلَتِهِ إِلَى الْمُصَلَّى، فَلَمَّا انْقَضَتِ الصَّلَاةُ

حَضَرُوا عِنْدَهُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ وَتَهْنِئَتِهِ، وَقَرَأَ الْقُرَّاءُ، وَأَنْشَدَ الشُّعَرَاءُ، وَانْصَرَفُوا إِلَى الطَّعَامِ، فَقَامَ يَحْيَى مِنْ بَابٍ آخَرَ لِيَحْضُرَ مَعَهُمْ عَلَى الطَّعَامِ، فَلَمْ يَمْشِ غَيْرَ ثَلَاثِ خُطًا حَتَّى وَقَعَ مَيِّتًا، وَكَانَ وَلَدُهُ عَلِيٌّ بِمَدِينَةِ سَفَاقِسَ، فَأُحْضِرَ وَعُقِدَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ وَدُفِنَ يَحْيَى بِالْقَصْرِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى التُّرْبَةِ بِمُنَسْتِيرَ، وَكَانَ عُمُرُهُ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَخَلَّفَ ثَلَاثِينَ وَلَدًا، فَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدِيسَ الصَّقَلِّيُّ يَرْثِيهِ وَيُهَنِّئُ ابْنَهُ عَلِيًّا بِالْمُلْكِ: مَا أُغْمِدَ الْعَضْبُ إِلَّا جُرِّدَ الذَّكَرُ ... وَلَا اخْتَفَى قَمَرٌ حَتَّى بَدَا قَمَرُ بِمَوْتِ يَحْيَى أُمِيتَ النَّاسُ كُلُّهُمُ ... حَتَّى إِذَا مَا عَلِيٌّ جَاءَهُمْ نُشِرُوا إِنْ يُبْعَثُوا بِسُرُورٍ مِنْ تَمَلُّكِهِ ... فَمِنْ مَنِّيَةِ يَحْيَى بِالْأَسَى قُبِرُوا أَوْفَى عَلِيٌّ، فَسِنُّ الْمُلْكِ ضَاحِكَةٌ ... وَعَيْنُهَا مِنْ أَبِيهِ دَمْعُهَا هَمِرُ شُقَّتْ جُيُوبُ الْمَعَالِي بِالْأَسَى فَبَكَتْ ... فِي كُلِّ أُفْقٍ عَلَيْهِ الْأَنْجُمُ الزُّهُرُ وَقَلَّ لِابْنِ تَمِيمٍ حُزْنُ مَا دَهَمَا ... فَكُلُّ حُزْنٍ عَظِيمٍ فِيهِ مُحْتَقَرُ قَامَ الدَّلِيلُ وَيَحْيَى لَا حَيَاةَ لَهُ ... إِنَّ الْمَنِيَّةَ لَا تُبْقِي، وَلَا تَذَرُ وَكَانَ يَحْيَى عَادِلًا فِي رَعِيَّتِهِ، ضَابِطًا لِأُمُورِ دَوْلَتِهِ، مُدَبِّرًا لِجَمِيعِ أَحْوَالِهِ، رَحِيمًا بِالضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، يُكْثِرُ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ، وَيُقَرِّبُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَخْبَارِ، وَأَيَّامِ النَّاسِ، وَالطِّبِّ، وَكَانَ حَسَنَ الْوَجْهِ، أَشْهَلَ الْعَيْنِ، إِلَى الطُّولِ مَا هُوَ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّ عَلِيٌّ فِي الْمُلْكِ جَهَّزَ أُسْطُولًا إِلَى جَزِيرَةِ جِرْبَةَ، وَسَبَبَهُ أَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، وَيَأْخُذُونَ التُّجَّارَ، فَحَصَرَهَا، وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ فِيهَا فَدَخَلُوا تَحْتَ طَاعَتِهِ، وَالْتَزَمُوا تَرْكَ الْفَسَادِ، وَضَمِنُوا إِصْلَاحَ الطَّرِيقِ، وَكَفَّ عَنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، وَصَلُحَ أَمْرُ الْبَحْرِ، وَأَمِنَ الْمُسَافِرُونَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، قَدِمَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ بَغْدَاذَ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ أَتَابِكُ

طُغْتِكِينُ، صَاحِبُ دِمَشْقَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَسَأَلَ الرِّضَا عَنْهُ، فَرَضِيَ عَنْهُ السُّلْطَانُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَرَدَّهُ إِلَى دِمَشْقَ. وَفِيهَا أَمَرَ الْإِمَامُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ بِبَيْعِ الْبَدْرِيَّةِ وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى بَدْرٍ غُلَامِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ دُورِ الْخُلَفَاءِ، وَكَانَ يَنْزِلُهَا الرَّاضِي بِاللَّهِ، ثُمَّ تَهَدَّمَتْ وَصَارَتْ تَلًّا، فَأَمَرَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ أَنْ يُسَوَّرَ عَلَيْهَا سُورٌ، لِأَنَّهَا مَعَ الدَّارِ الْإِمَامِيَّةِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ أَمَرَ بِبَيْعِهَا، فَبِيعَتْ، وَعَمَّرَهَا النَّاسُ. وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْعَامَّةِ، وَسَبَبُهَا أَنَّ النَّاسَ لَمَّا عَادُوا مِنْ زِيَارَةِ مُصْعَبٍ اخْتَصَمُوا عَلَى مَنْ يَدْخُلُ أَوَّلًا، فَاقْتَتَلُوا، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَعَادَتِ الْفِتَنُ بَيْنَ أَهْلِ الْمَحَالِّ كَمَا كَانَتْ، ثُمَّ سَكَنَتْ. وَفِيهَا أَقْطَعَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ الْمَوْصِلَ وَمَا كَانَ بِيَدِ آقْسُنْقُرَ الْبُرْسُقِيِّ لِلْأَمِيرِ جُيُوشْ بِكْ، وَسَيَّرَ وَلَدَهُ الْمَلِكَ مَسْعُودًا، وَأَقَامَ الْبُرْسُقِيُّ بِالرَّحْبَةِ، وَهِيَ إِقْطَاعُهُ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَلَّةَ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْوَاعِظُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَحَثَّ بِبَغْدَاذَ وَغَيْرِهَا. وَهْبَةُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ بْنِ مُوسَى السَّقَطِيُّ، أَبُو الْبَرَكَاتِ، لَهُ رِحْلَةٌ، وَلَهُ تَصَانِيفُ، وَكَانَ أَدِيبًا.

ثم دخلت سنة عشر وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ] 510 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ أَحْمَدَيْلَ بْنِ وَهْسُوذَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَوَّلَ الْمُحَرَّمِ، حَضَرَ أَتَابِكُ طُغْتِكِينُ، صَاحِبُ دِمَشْقَ، دَارَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ بِبَغْدَاذَ، وَحَضَرَ جَمَاعَةُ الْأُمَرَاءِ، وَمَعَهُمْ أَحْمَدَيْلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ وَهْسُوذَانَ الرَّوَادِيُّ، الْكُرْدِيُّ، صَاحِبُ مَرَاغَةَ وَغَيْرِهَا مِنْ أَذْرَبِيجَانَ، وَهُوَ جَالِسٌ إِلَى جَانِبِ طُغْتِكِينَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مُتَظَلِّمٌ، وَبِيَدِهِ رُقْعَةٌ، وَهُوَ يَبْكِي، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يُوصِلَهَا إِلَى السُّلْطَانِ، فَأَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ، فَضَرَبَهُ الرَّجُلُ بِسِكِّينٍ، فَجَذَبَهُ أَحْمَدَيْلُ وَتَرَكَهُ تَحْتَهُ، فَوَثَبَ رَفِيقٌ لِلْبَاطِنِيِّ وَضَرَبَ أَحْمَدَيْلَ سِكِّينًا أُخْرَى، فَأَخَذَتْهُمَا السُّيُوفُ، وَأَقْبَلَ رَفِيقٌ لَهُمَا وَضَرَبَ أَحْمَدَيْلَ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ إِقْدَامِهِ بَعْدَ قَتْلِ صَاحِبَيْهِ، وَظَنَّ طُغْتِكِينُ وَالْحَاضِرُونَ أَنَّ طُغْتِكِينَ كَانَ الْمَقْصُودَ بِالْقَتْلِ، وَأَنَّهُ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ، فَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُمْ بَاطِنِيَّةٌ زَالَ هَذَا الْوَهْمُ. ذِكْرُ وَفَاةِ جَاوْلِي سَقَّاوُو وَحَالِ بِلَادِ فَارِسَ مَعَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ جَاوْلِي سَقَّاوُو، كَانَ السُّلْطَانُ بِبَغْدَاذَ عَازِمًا عَلَى الْمُقَامِ بِهَا، فَاضْطَرَّ إِلَى الْمَسِيرِ إِلَى أَصْبَهَانَ لِيَكُونَ قَرِيبًا مِنْ فَارِسَ، لِئَلَّا تَخْتَلِفَ عَلَيْهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا حَالَ جَاوْلِي بِالْمَوْصِلِ إِلَى أَنْ مُلِكَتْ مِنْهُ وَأَخَذَهَا السُّلْطَانُ، فَلَمَّا قَصَدَ السُّلْطَانَ وَرَضِيَ عَنْهُ أَقْطَعَهُ بِلَادَ فَارِسَ، فَسَارَ جَاوْلِي إِلَيْهَا، وَمَعَهُ وَلَدُ السُّلْطَانِ جَغْرِي، وَهُوَ طِفْلٌ لَهُ مِنَ الْعُمُرِ سَنَتَانِ، وَأَمَرَهُ بِإِصْلَاحِهَا، وَقَمْعِ الْمُفْسِدِينَ بِهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَأَوَّلُ مَا اعْتَمَدَهُ فِيهَا

أَنَّهُ لَمْ يَتَوَسَّطْ بِلَادَ الْأَمِيرِ بَلْدَجِي، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ مَمَالِيكِ السُّلْطَانِ مُلْكِشَاهْ، وَمِنْ جُمْلَةِ بِلَادِهِ كَلِيلُ وَسِرْمَاهُ، وَكَانَ مُتَمَكِّنًا بِتِلْكَ الْبِلَادِ. وَرَاسَلَهُ جَاوْلِي لِيَحْضُرَ خِدْمَةَ جَغْرِي، وَلَدِ السُّلْطَانِ، وَعَلَّمَ جَغْرِي أَنْ يَقُولَ بِالْفَارِسِيَّةِ خُذُوهُ، فَلَمَّا دَخَلَ بَلْدَجِي قَالَ جَغْرِي، عَلَى عَادَتِهِ: خُذُوهُ، فَأَخَذَهُ وَقُتِلَ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُ. وَكَانَ لِبَلْدَجِي، مِنْ جُمْلَةِ حُصُونِهِ، قَلْعَةُ إِصْطَخْرَ، وَهِيَ مِنْ أَمْنَعِ الْقِلَاعِ وَأَحْصَنِهَا، وَكَانَ بِهَا أَهْلُهُ وَذَخَائِرُهُ، وَقَدِ اسْتَنَابَ فِي حِفْظِهَا وَزِيرًا لَهُ يُعْرَفُ بِالْجُهْرُمِيُّ، فَعَصَى عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَ إِلَيْهِ أَهْلَهُ وَبَعْضَ الْمَالِ، وَلَمْ تَزَلْ فِي يَدِ الْجُهْرُمِيِّ حَتَّى وَصَلَ جَاوْلِي إِلَى فَارِسَ فَأَخَذَهَا مِنْهُ، وَجَعَلَ فِيهَا أَمْوَالَهُ. وَكَانَ بِفَارِسَ جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ الشُّوَانِكَارَةِ، وَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ، وَمُقَدَّمُهُمُ الْحَسَنُ بْنُ الْمُبَارِزِ، الْمَعْرُوفُ بِخَسْرُو، وَلَهُ فَسَا وَغَيْرُهَا، فَرَاسَلَهُ جَاوْلِي لِيَحْضُرَ خِدْمَةَ جَغْرِي، فَأَجَابَ: إِنَّنِي عَبْدُ السُّلْطَانِ، وَفِي طَاعَتِهِ فَأَمَّا الْحُضُورُ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، لِأَنَّنِي قَدْ عَرَفْتُ عَادَتَكَ مَعَ بَلْدَجِي وَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّنِي أَحْمِلُ إِلَى السُّلْطَانِ مَا يُؤْثِرُهُ. فَلَمَّا سَمِعَ جَاوْلِي جَوَابَهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا مُقَامَ لَهُ بِفَارِسَ مَعَهُ، فَأَظْهَرَ الْعَوْدَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَحَمَلَ أَثْقَالَهُ عَلَى الدَّوَابِّ، وَسَارَ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ السُّلْطَانَ، وَرَجَعَ الرَّسُولُ إِلَى خَسْرُو فَأَخْبَرَهُ، فَاغْتَرَّ وَقَعَدَ لِلشَّرَابِ، وَأَمِنَ. وَأَمَّا جَاوْلِي فَإِنَّهُ عَادَ مِنَ الطَّرِيقِ إِلَى خَسْرُو جَرِيدَةً فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ مَخْمُورٌ نَائِمٌ، فَكَبَسَهُ، فَأَنْبَهَهُ أَخُوهُ فَضَلُّوهُ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ، فَصَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْبَارِدَ، فَأَفَاقَ، وَرَكِبَ مِنْ وَقْتِهِ وَانْهَزَمَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، وَنَهَبَ جَاوْلِي ثِقْلَهُ وَأَمْوَالَهُ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِي أَصْحَابِهِ، وَنَجَا خَسْرُو إِلَى حِصْنِهِ، وَهُوَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا أُنْجُ. وَسَارَ جَاوْلِي إِلَى مَدِينَةِ فَسَا فَتَسَلَّمَهَا، وَنَهَبَ كَثِيرًا مِنْ بِلَادِ فَارِسَ مِنْهَا جَهْرَمٌ، وَسَارَ إِلَى خَسْرُو وَحَصَرَهُ مُدَّةً، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَرَأَى مِنِ امْتِنَاعِ حِصْنِهِ وَقُوَّتِهِ، وَكَثْرَةِ ذَخَائِرِهِ مَا عَلِمَ مَعَهُ أَنَّ الْمُدَّةَ تَطُولُ عَلَيْهِ، فَصَالَحَهُ لِيَشْتَغِلَ بِبَاقِي بِلَادِ فَارِسَ، وَرَحَلَ

عَنْهُ إِلَى شِيرَازَ، فَأَقَامَ بِهَا، ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى كَازَرُونَ فَمَلَكَهَا، وَحَصَرَ أَبَا سَعْدٍ مُحَمَّدَ بْنَ مِمَّا فِي قَلْعَتِهِ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا سَنَتَيْنِ صَيْفًا وَشِتَاءً، فَرَاسَلَهُ جَاوْلِي فِي الصُّلْحِ، فَقَتَلَ الرَّسُولَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قَوْمًا مِنَ الصُّوفِيَّةِ، فَأَطْعَمَهُمُ الْهَرِيسَةَ وَالْقَطَائِفَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَخُيِّطَتْ أَدْبَارُهُمْ وَأُلْقُوا فِي الشَّمْسِ فَهَلَكُوا، ثُمَّ نَفِدَ مَا عِنْدَ أَبِي سَعْدٍ، فَطَلَبَ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ، وَتَسَلَّمَ الْحِصْنَ. ثُمَّ إِنَّ جَاوْلِي أَسَاءَ مُعَامَلَتَهُ، فَهَرَبَ، فَقَبَضَ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَبَثَّ الرِّجَالَ فِي أَثَرِهِ، فَرَأَى بَعْضُهُمْ زِنْجِيًّا يَحْمِلُ شَيْئًا، فَقَالَ: مَا مَعَكَ؟ فَقَالَ: زَادِي فَفَتَّشَهُ، فَرَأَى دَجَاجًا، وَحَلْوَاءَ السُّكَّرِ، فَقَالَ: مَا هَذَا مِنْ طَعَامِكَ! فَضَرَبَهُ، فَأَقَرَّ عَلَى أَبِي سَعْدٍ، وَأَنَّهُ يَحْمِلُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَقَصَدُوهُ، وَهُوَ فِي شِعْبِ جَبَلٍ، فَأَخَذَهُ الْجُنْدِيُّ وَحَمَلَهُ إِلَى جَاوْلِي فَقَتَلَهُ. وَسَارَ إِلَى دَارَابْجِرْدَ، وَصَاحِبُهَا اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ، فَهَرَبَ صَاحِبُهَا مِنْهُ إِلَى كَرْمَانَ خَوْفًا مِنْهُ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ كَرِمَانَ صِهْرٌ، وَهُوَ أَرْسِلَانْشَاهْ بْنُ كِرْمَانْشَاهْ بْنِ أَرْسِلَانَ بِكْ بْنِ قَارُوتَ، فَقَالَ لَهُ: لَوْ تَعَاضَدْنَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْنَا جَاوْلِي، وَطَلَبَ مِنْهُ النَّجْدَةَ. وَسَارَ جَاوْلِي بَعْدَ هَرَبِهِ مِنْهُ إِلَى حِصَارِ رَتِيلَ رِنَنَهْ، يَعْنِي مَضِيقَ رِنَنَهْ، وَهُوَ مَوْضِعٌ لَمْ يُؤْخَذْ قَهْرًا قَطُّ، لِأَنَّهُ وَادٍ نَحْوُ فَرْسَخَيْنِ، وَفِي صَدْرِهِ قَلْعَةٌ مَنِيعَةٌ عَلَى جَبَلٍ عَالٍ، وَأَهْلُ دَارَابْجِرْدَ يَتَحَصَّنُونَ بِهِ إِذَا خَافُوا، فَأَقَامُوا بِهِ، وَحَفِظُوا أَعْلَاهُ. فَلَمَّا رَأَى جَاوْلِي حَصَانَتَهُ سَارَ يَطْلُبُ الْبَرِّيَّةَ نَحْوَ كَرْمَانَ، كَاتِمًا أَمْرَهُ، ثُمَّ رَجَعَ مِنْ طَرِيقِ كَرْمَانَ إِلَى دَارَابْجِرْدَ، مُظْهِرًا أَنَّهُ مِنْ عَسْكَرِ الْمَلِكِ أَرْسِلَانْشَاهْ، صَاحِبِ كَرْمَانَ، فَلَمْ يَشُكَّ أَهْلُ الْحِصْنِ أَنَّهُمْ مَدَدٌ لَهُمْ مَعَ صَاحِبِهِمْ، فَأَظْهَرُوا السُّرُورَ، وَأَذِنُوا لَهُ دُخُولَ الْمَضِيقِ، فَلَمَّا دَخَلَهُ وَضَعَ السَّيْفَ فِيمَنْ هُنَاكَ، فَلَمْ يَنْجُ غَيْرُ الْقَلِيلِ، وَنَهَبَ أَمْوَالَ أَهْلِ دَارَابْجِرْدَ وَعَادَ إِلَى مَكَانِهِ، وَرَاسَلَ خَسْرُو يُعْلِمَهُ أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى كَرْمَانَ، وَيَدْعُوهُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ مُوَافَقَتِهِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ طَائِعًا، وَسَارَ مَعَهُ إِلَى كَرْمَانَ، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِهَا الْقَاضِي أَبَا طَاهِرٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ قَاضِيَ شِيرَازَ، يَأْمُرُهُ بِإِعَادَةِ الشُّوانْكَارَةِ لِأَنَّهُمْ رَعِيَّةُ السُّلْطَانِ، يَقُولُ: إِنَّهُ مَتَى أَعَادَهَمْ عَادَ عَنْ قَصْدِ بِلَادِهِ، وَإِلَّا قَصَدَهُ، فَأَعَادَ صَاحِبُ كَرْمَانَ جَوَابَ الرِّسَالَةِ يَتَضَمَّنُ الشَّفَاعَةَ فِيهِمْ، حَيْثُ اسْتَجَارُوا بِهِ.

وَلَمَّا وَصَلَ الرَّسُولُ إِلَى جَاوْلِي أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَجْزَلَ لَهُ الْعَطَاءَ، وَأَفْسَدَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَجَعَلَهُ عَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ، وَقَرَّرَ مَعَهُ إِعَادَةَ عَسْكَرِ كَرْمَانَ لِيَدْخُلَ الْبِلَادَ وَهُمْ غَارُّونَ، فَلَمَّا عَادَ الرَّسُولُ وَبَلَّغَ السِّيرَجَانَ، وَبِهَا عَسَاكِرُ صَاحِبِ كَرْمَانَ، وَوَزِيرُهُ مُقَدَّمُ الْجَيْشِ، أَعْلَمَ الْوَزِيرَ مَا عَلَيْهِ جَاوْلِي مِنَ الْمُقَارَبَةِ، وَأَنَّهُ يُفَارِقُ مَا كَرِهُوهُ، وَأَكْثَرَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَقَالَ: لَكِنَّهُ مُسْتَوْحِشٌ مِنِ اجْتِمَاعِ الْعَسَاكِرِ بِالسِّيرَجَانِ، وَإِنَّ أَعْدَاءَ جَاوْلِي طَمِعُوا فِيهِ بِهَذَا الْعَسْكَرِ، وَالرَّأْيُ أَنْ تُعَادَ الْعَسَاكِرُ إِلَى بِلَادِهَا. فَعَادَ الْوَزِيرُ وَالْعَسَاكِرُ، وَخَلَتِ السِّيرَجَانُ، سَارَ جَاوْلِي فِي أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَزَلَ بِفَرَجَ، وَهِيَ الْحَدُّ بَيْنَ فَارِسَ وَكَرْمَانَ، فَحَاصَرَهَا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مَلِكَ كَرْمَانَ أَحْضَرَ الرَّسُولَ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ إِعَادَةَ الْعَسْكَرِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ. وَكَانَ مَعَ الرَّسُولِ فَرَّاشٌ لِجَاوْلِي لِيَعُودَ إِلَيْهِ بِالْأَخْبَارِ، فَارْتَابَ بِهِ الْوَزِيرُ فَعَاقَبَهُ، فَأَقَرَّ عَلَى الرَّسُولِ، فَصُلِبَ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُ، وَصُلِبَ الْفَرَّاشُ، وَنَدَبَ الْعَسَاكِرَ إِلَى الْمَسِيرِ إِلَى جَاوْلِي، فَسَارُوا فِي سِتَّةِ آلَافِ فَارِسٍ. وَكَانَتِ الْوِلَايَةُ هِيَ الْحَدَّ بَيْنَ فَارِسَ وَكَرْمَانَ بِيَدِ إِنْسَانٍ يُسَمَّى مُوسَى، وَكَانَ ذَا رَأْيٍ وَمَكْرٍ، فَاجْتَمَعَ بِالْعَسْكَرِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ الْجَادَّةِ الْمَسْلُوكَةِ، وَقَالَ: إِنَّ جَاوْلِي مُحْتَاطٌ مِنْهَا، وَسَلَكَ بِهِمْ طَرِيقًا غَيْرَ مَسْلُوكَةٍ، بَيْنَ جِبَالٍ وَمَضَايِقَ. وَكَانَ جَاوْلِي يُحَاصِرُ فَرَجَ، وَقَدْ ضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهَا، وَهُوَ يُدْمِنَ الشُّرْبَ، فَسَيَّرَ أَمِيرًا مِنْ عَسْكَرِهِ لِيَلْقَى الْعَسْكَرَ الْمُنْفَذَ مِنْ كَرْمَانَ، فَسَارَ الْأَمِيرُ، فَلَمْ يَرَ أَحَدًا، فَظَنَّ أَنَّهُمْ قَدْ عَادُوا، فَرَجَعَ إِلَى جَاوْلِي وَقَالَ: إِنَّ الْعَسْكَرَ كَانَ قَلِيلًا، فَعَادَ خَوْفًا مِنَّا، فَاطْمَأَنَّ حِينَئِذٍ جَاوْلِي، وَأَدْمَنَ شُرْبَ الْخَمْرِ. وَوَصَلَ عَسْكَرُ كَرْمَانَ إِلَيْهِ لَيْلًا، وَهُوَ سَكْرَانُ، نَائِمٌ، فَأَيْقَظَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَأَخْبَرَهُ، فَقَطَعَ لِسَانَهُ، فَأَتَاهُ غَيْرُهُ وَأَيْقَظَهُ وَعَرَّفَهُ الْحَالَ، فَاسْتَيْقَظَ وَرَكِبَ وَانْهَزَمَ، وَقَدْ تَفَرَّقَ عَسْكَرُهُ مُنْهَزِمِينَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ وَأَسَرَ كَثِيرًا، وَأَدْرَكَهُ خَسْرُو وَابْنُ أَبِي سَعْدٍ الَّذِي قَتَلَ جَاوْلِي أَبَاهُ، فَسَارَا مَعَهُ فِي أَصْحَابِهِمَا، فَالْتَفَتَ، فَلَمْ يَرَ مَعَهُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ الْأَتْرَاكِ، فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ، فَقَالَا لَهُ: إِنَّا لَا نَغْدِرُ بِكَ، وَلَنْ تَرَى مِنَّا إِلَّا الْخَيْرَ وَالسَّلَامَةَ، وَسَارَا مَعَهُ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَدِينَةِ فَسَا، وَاتَّصَلَ بِهِ الْمُنْهَزِمُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَطْلَقَ صَاحِبُ كَرْمَانَ الْأَسْرَى وَجَهَّزَهُمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِمِائَةٍ.

وَبَيْنَمَا جَاوْلِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ لِيُعَاوِدَ كَرْمَانَ، وَيَأْخُذُ بِثَأْرِهِ، تُوُفِّيَ الْمَلِكُ جَغْرِي بْنُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَعُمُرُهُ خَمْسُ سِنِينَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَفَتَّ ذَلِكَ فِي عَضُدِهِ، فَأَرْسَلَ مَلِكُ كَرْمَانَ رَسُولًا إِلَى السُّلْطَانِ، وَهُوَ بِبَغْدَاذَ، يَطْلُبُ مِنْهُ مَنْعَ جَاوْلِي عَنْهُ، فَأَجَابَهُ السُّلْطَانُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِرْضَاءِ جَاوْلِي وَتَسْلِيمِ فَرَجٍ إِلَيْهِ، فَعَادَ الرَّسُولُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَتُوِفِّيَ جَاوْلِي، فَأَمِنُوا مَا كَانُوا يَخَافُونَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ السُّلْطَانُ سَارَ عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى أَصْبَهَانَ، خَوْفًا عَلَى فَارِسَ مِنْ صَاحِبِ كَرْمَانَ. ذِكْرُ فَتْحِ جَبَلَ وَسْلَاتَ وَتُونُسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ عَسْكَرُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى، صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ مَدِينَةَ تُونُسَ وَبِهَا أَحْمَدُ بْنُ خُرَاسَانَ، وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهَا، فَصَالَحَهُ عَلَى مَا أَرَادَ. وَفِيهَا فَتَحَ أَيْضًا جَبَلَ وَسْلَاتَ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ، وَهُوَ جَبَلٌ مَنِيعٌ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُهُ، طُولَ الدَّهْرِ يَفْتِكُونَ بِالنَّاسِ، وَيَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، فَلَمَّا اسْتَمَرَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ سَيَّرَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، فَكَانَ أَهْلُ الْجَبَلِ يَنْزِلُونَ إِلَى الْجَيْشِ، وَيُقَاتِلُونَ أَشَدَّ قِتَالٍ، فَعَمِلَ قَائِدُ الْجَيْشِ الْحِيلَةِ فِي الصُّعُودِ إِلَى الْجَبَلِ مِنْ شِعْبٍ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَظُنُّ أَنَّهُ يُصْعَدُ مِنْهُ، فَلَمَّا صَارَ فِي أَعْلَاهُ، فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، ثَارَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْجَبَلِ، فَصَبَرَ لَهُمْ، وَقَاتَلَهُمْ فِيمَنْ مَعَهُ أَشَدَّ قِتَالٍ، وَتَتَابَعَ الْجَيْشُ فِي الصُّعُودِ إِلَيْهِ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ الْجَبَلِ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَمَى نَفْسَهُ فَتَكَسَّرَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْلَتَ، وَاحْتَمَى جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ بِقَصْرٍ فِي الْجَبَلِ، فَلَمَّا أَحَاطَ بِهِمُ الْجَيْشُ طَلَبُوا أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يُصْلِحُ حَالَهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةً مِنَ الْعَرَبِ وَالْجُنْدِ، فَثَارَ بِهِمْ أُولَئِكَ بِالسِّلَاحِ، فَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ، وَطَلَعَ الْبَاقُونَ إِلَى أَعْلَى الْقَصْرِ، وَنَادَوْا أَصْحَابَهُمْ مِنَ الْجَيْشِ، فَأَتَوْهُمْ وَقَاتَلُوهُمْ: بَعْضُهُمْ مِنْ أَعْلَى الْقَصْرِ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ أَسْفَلِهِ، فَأَلْقَى مِنْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْجَبَلِ أَيْدِيَهُمْ، فَقُتِلُوا كُلُّهُمْ.

ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِطُوسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي عَاشُورَاءَ، كَانَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِطُوسَ، فِي مَشْهَدِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَسَبَبُهَا: أَنَّ عَلَوِيًّا خَاصَمَ فِي الْمَشْهَدِ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، بَعْضَ فُقَهَاءِ طُوسَ، فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى مُضَارَبَةٍ، وَانْقَطَعَتِ الْفِتْنَةُ، ثُمَّ اسْتَعَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِحِزْبِهِ، فَثَارَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ حَضَرَهَا جَمِيعُ أَهْلِ طُوسَ، وَأَحَاطُوا بِالْمَشْهَدِ وَخَرَّبُوهُ، وَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوا، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ جَمَاعَةٌ وَنُهِبَتْ أَمْوَالٌ جَمَّةٌ، وَافْتَرَقُوا. وَتَرَكَ أَهْلُ الْمَشْهَدِ الْخُطْبَةَ أَيَّامَ الْجُمُعَاتِ فِيهِ، فَبَنَى عَلَيْهِ عَضُدَ الدِّينِ فَرَامَرْزُ بْنُ عَلِيٍّ سُورًا مَنِيعًا يَحْتَمِي بِهِ مَنْ بِالْمَشْهَدِ عَلَى مَنْ يُرِيدُهُ بِسُوءٍ، وَكَانَ بِنَاؤُهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتِ النَّارُ فِي الْحَظَائِرِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَاذَ، فَاحْتَرَقَتِ الْأَخْشَابُ الَّتِي بِهَا، وَاتَّصَلَ الْحَرِيقُ إِلَى دَرْبِ السِّلْسِلَةِ، وَتَطَايَرَ الشَّرَرُ إِلَى بَابِ الْمَرَاتِبِ، فَاحْتَرَقَتْ مِنْهُ عِدَّةُ دُورٍ، وَاحْتَرَقَتْ خِزَانَةُ كُتُبِ النِّظَامِيَّةِ، وَسَلِمَتِ الْكُتُبُ، لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ لَمَّا أَحَسُّوا بِالنَّارِ نَقَلُوهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بُهْلُولٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَنْدَلُسِيُّ، السَّرْقُسْطِيُّ، وَكَانَ فَقِيهًا، فَاضِلًا، وَرَدَ الْعِرَاقَ نَحْوَ سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ، سَارَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَسَكَنَ مَرْوَ الرُّوذِ، فَمَاتَ بِهَا، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ: وَمُهَفْهَفٌ يَخْتَالُ فِي أَبْرَادِهِ ... مَرَحَ الْقَضِيبِ اللَّدْنِ تَحْتَ الْبَارِحِ أَبْصَرْتُ فِي مِرْآةِ فِكْرَيَ خَدَّهُ ... فَحَكَيْتُ فِعْلَ جُفُونِهِ بِجَوَارِحِي

مَا كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ فِعْلَ تَوَهُّمِي يَقْوَى تَعَدِّيهِ، فَيَجْرَحُ جَارِحِي ... لَا غَرْوَ إِنْ جَرَحَ التَّوَهُّمُ خَدَّهُ فَالسِّحْرُ يَعْمَلُ فِي الْبَعِيدِ النَّازِحِ وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بَيَانَ الرَّزَّازُ، وَمَوْلِدُهُ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ مَخْلَدٍ، وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ بِشْرَانَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ السَّمْعَانِيُّ، رَئِيسُ الشَّافِعِيَّةِ، بِمَرْوَ، وَمُوَلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ فِيهِ، لَهُ فِيهِ أَمَالٍ حَسَنَةٌ، وَتَكَلَّمَ عَلَى الْحَدِيثِ، فَأَحْسَنَ مَا شَاءَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَحْفُوظُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْكَلْوَذَانِيُّ أَبُو الْخَطَّابِ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَتَفْقَّهَ عَلَى أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ.

ثم دخلت سنة إحدى عشرة وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَة] 511 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ وَمُلْكِ ابْنِهِ مَحْمُودٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدُ بْنُ مُلْكِشَاهْ بْنِ أَلْب أَرْسِلَانَ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ مَرَضِهِ فِي شَعْبَانَ، وَانْقَطَعَ عَنِ الرُّكُوبِ، وَتَزَايَدَ مَرَضُهُ، وَدَامَ، وَأُرْجِفَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عِيدِ النَّحْرِ حَضَرَ السُّلْطَانُ، وَحَضَرَ وَلَدُهُ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ عَلَى السِّمَاطِ، فَنَبَّهَهُ النَّاسُ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ تَكَلَّفَ الْقُعُودَ لَهُمْ، بَيْنَ يَدَيْهِ سِمَاطٌ كَبِيرٌ فَأَكَلُوا وَخَرَجُوا. فَلَمَّا انْتَصَفَ ذُو الْحِجَّةِ أَيِسَ مِنْ نَفْسِهِ، فَأَحْضَرَ وَلَدَهُ مَحْمُودًا، وَقَبَّلَهُ، وَبَكَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ وَيَجْلِسَ عَلَى تَخْتِ السَّلْطَنَةِ، وَيَنْظُرَ فِي أُمُورِ النَّاسِ، وَعُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ قَدْ زَادَ عَلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَقَالَ لِوَالِدِهِ: إِنَّهُ يَوْمٌ غَيْرُ مُبَارَكٍ، يَعْنِي مِنْ طَرِيقِ النُّجُومِ، فَقَالَ: صَدَقْتَ، وَلَكِنْ عَلَى أَبِيكَ، وَأَمَّا عَلَيْكَ فَمُبَارَكٌ بِالسَّلْطَنَةِ. فَخَرَجَ وَجَلَسَ عَلَى التَّخْتِ بِالتَّاجِ وَالسُّوَارَيْنِ. وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ أُحْضِرَ الْأُمَرَاءُ وَأُعْلِمُوا بِوَفَاتِهِ، وَقُرِئَتْ وَصِيَّتُهُ إِلَى وَلَدِهِ مَحْمُودٍ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَفِي الْجُمُعَةِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ خُطِبَ لِمَحْمُودٍ بِالسَّلْطَنَةِ. وَكَانَ مَوْلِدُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ ثَامِنَ عَشَرَ شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ عُمُرُهُ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ، وَأَوَّلُ مَا دُعِيَ لَهُ بِالسَّلْطَنَةِ بِبَغْدَاذَ، فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقُطِعَتْ خُطْبَتُهُ عِدَّةَ دَفَعَاتٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَقِيَ مِنَ الْمَشَاقِّ وَالْأَخْطَارِ مَا لَا حَدَّ لَهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَخُوهُ بُرْكِيارُقُ صَفَتْ

لَهُ السَّلْطَنَةُ، وَعَظُمَتْ هَيْبَتُهُ، وَكَثُرَتْ جُيُوشُهُ وَأَمْوَالُهُ وَكَانَ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ كَانَ عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، شُجَاعًا، فَمِنْ عَدْلِهِ أَنَّهُ اشْتَرَى مَمَالِيكَ مِنْ بَعْضِ التُّجَّارِ، وَأَحَالَهُمْ بِالثَّمَنِ عَلَى عَامِلِ خُوزِسْتَانَ، فَأَعْطَاهُمُ الْبَعْضَ، وَمَطَلَ بِالْبَاقِي، فَحَضَرُوا مَجْلِسَ الْحُكْمِ، وَأَخَذُوا مَعَهُمْ غِلْمَانَ الْقَاضِي، فَلَمَّا رَآهُمُ السُّلْطَانُ قَالَ لِحَاجِبِهِ: انْظُرْ مَا حَالُ هَؤُلَاءِ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَالِهِمْ، فَقَالُوا: لَنَا خَصْمٌ يَحْضُرُ مَعَنَا مَجْلِسَ الْحُكْمِ، فَقَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالُوا: السُّلْطَانُ، وَذَكَرُوا قِصَّتَهُمْ، فَأَعْلَمَهُ ذَلِكَ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وَأَكْرَهَ، وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ الْعَامِلِ، وَأَمَرَهُ بِإِيصَالِ أَمْوَالِهِمْ، وَالْجَعْلِ الثَّقِيلِ، وَنَكَّلَ بِهِ حَتَّى يَمْتَنِعَ غَيْرُهُ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: لَقَدْ نَدِمْتُ عَظِيمًا حَيْثُ لَمْ أَحْضُرْ مَعَهُمْ مَجْلِسَ الْحُكْمِ، فَيَقْتَدِيَ بِي غَيْرِي، وَلَا يَمْتَنِعَ أَحَدٌ عَنِ الْحُضُورِ فِيهِ وَأَدَاءِ الْحَقِّ. فَمِنْ عَدْلِهِ: أَنَّهُ لَهُ خَازِنٌ يُعْرَفُ بِأَبِي الْقَزْوِينِيِّ قَتَلَهُ الْبَاطِنِيَّةُ، فَلَمَّا قُتِلَ أَمَرَ بِعَرْضِ الْخِزَانَةِ، فَعُرِضَ عَلَيْهِ فِيهَا دُرْجٌ فِيهِ جَوْهَرٌ كَثِيرٌ نَفِيسٌ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْجَوْهَرَ عَرَضَهُ عَلَيَّ، مُنْذُ أَيَّامٍ، وَهُوَ فِي مُلْكِ أَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَهُ إِلَى خَادِمٍ لِيَحْفَظَهُ وَيَنْظُرَ مَنْ أَصْحَابُهُ فَيُسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، وَكَانُوا تُجَّارًا غُرَبَاءَ، وَقَدْ تَيَقَّنُوا ذَهَابَهُ وَأَيِسُوا مِنْهُ فَسَكَتُوا فَأَحْضَرَهُمْ وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ. وَمِنْ عَدْلِهِ: أَنَّهُ أَطْلَقَ الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَلَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ فِعْلٌ قَبِيحٌ، وَعَلِمَ الْأُمَرَاءُ سِيرَتَهُ، فَلَمْ يَقْدَمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى الظُّلْمِ، وَكَفُّوا عَنْهُ. وَمِنْ مَحَاسِنِ أَعْمَالِهِ مَا فَعَلَهُ مَعَ الْبَاطِنِيَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ حَالِ الْبَاطِنِيَّةِ أَيَّامَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَا اعْتَمَدَهُ مِنْ حَصْرِ قِلَاعِهِمْ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَاهُنَا زِيَادَةَ اهْتِمَامِهِ بِأَمْرِهِمْ، فَإِنَّهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لَمَّا عَلِمَ أَنَّ مَصَالِحَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ مَنُوطَةٌ بِمَحْوِ آثَارِهِمْ، وَإِخْرَابِ دِيَارِهِمْ، وَمُلْكِ حُصُونِهِمْ وَقِلَاعِهِمْ، جَعَلَ قَصْدَهُمْ دَأْبَهُ.

وَكَانَ، فِي أَيَّامِهِ، الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ، وَالْقَيِّمُ بِأَمْرِهِمُ الْحَسَنَ بْنَ الصَّبَّاحِ الرَّازِيَّ، صَاحِبَ قَلْعَةِ أَلَمُوتَ، وَكَانَتْ أَيَّامُهُ قَدْ طَالَتْ، وَلَهُ مُنْذُ مَلَكَ قَلْعَةَ أَلَمُوتَ مَا يُقَارِبُ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ الْمُجَاوِرُونَ لَهُ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ مِنْ كَثْرَةِ غَزَاتِهِ عَلَيْهِمْ وَقَتْلِهِ وَأَسْرِ رِجَالِهِمْ، وَسَبْيِ نِسَائِهِمْ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ الْعَسَاكِرَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَعَادَتْ مِنْ غَيْرِ بُلُوغِ غَرَضٍ. فَلَمَّا أُعْضِلَ دَاؤُهُ نَدَبَ لِقِتَالِهِ الْأَمِيرَ أَنُوشْتِكِينَ شِيرِكِيرَ، صَاحِبَ آبَّةَ، وَسَاوَةَ، وَغَيْرِهِمَا، فَمَلَكَ مِنْهُمْ عِدَّةَ قِلَاعٍ مِنْهَا قَلْعَةُ كَلَامَ، مَلَكَهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ مُقَدَّمُهَا يُعْرَفُ بِعَلِيِّ بْنِ مُوسَى، فَأَمَّنَهُ وَمَنْ مَعَهُ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى أَلَمُوتَ، وَمَلَكَ مِنْهُمْ أَيْضًا قَلْعَةَ بِيرَةَ، وَهِيَ عَلَى سَبْعَةِ فَرَاسِخَ مِنْ قَزْوِينَ، وَأَمَّنَهُمْ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى أَلَمُوتَ أَيْضًا. وَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ أَلَمُوتَ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَأَمَدَّهُ السُّلْطَانُ بِعِدَّةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَحَصَرَهُمْ، وَكَانَ هُوَ، مِنْ بَيْنِهِمْ، صَاحِبَ الْقَرِيحَةِ وَالْبَصِيرَةِ فِي قِتَالِهِمْ، مَعَ جَوْدَةِ رَأْيٍ وَشَجَاعَةٍ، فَبَنَى عَلَيْهَا مَسَاكِنَ يَسْكُنُهَا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَعَيَّنَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ أَشْهُرًا يُقِيمُونَهَا، فَكَانُوا يُنِيبُونَ، وَيَحْضُرُونَ، وَهُوَ مُلَازِمُ الْحِصَارِ، وَكَانَ السُّلْطَانُ يَنْقُلُ إِلَيْهِ الْمِيرَةَ، وَالذَّخَائِرَ، وَالرِّجَالَ، فَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى الْبَاطِنِيَّةِ، وَعَدِمَتْ عِنْدَهُمُ الْأَقْوَاتُ وَغَيْرُهَا، فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ نَزَّلُوا نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ مُسْتَأْمَنِينَ، وَسَأَلُوا أَنْ يُفْرَجَ لَهُمْ وَلِرِجَالِهِمْ عَنِ الطَّرِيقِ، وَيُؤَمَّنُوا، فَلَمْ يُجَابُوا إِلَى ذَلِكَ، وَأَعَادَهُمْ إِلَى الْقَلْعَةِ، قَصْدًا لِيَمُوتَ الْجَمِيعُ جُوعًا. وَكَانَ ابْنُ الصَّبَّاحِ يُجْرِي لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فِي الْيَوْمِ، رَغِيفًا، وَثَلَاثَ جَوَزَاتٍ، فَلَمَّا بَلَغَ بِهِمُ الْأَمْرَ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، بَلَغَهُمْ مَوْتُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَطَابَتْ قُلُوبُهُمْ، وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْعَسْكَرِ الْمُحَاصِرِ لَهُمْ بَعْدَهُمْ بِيَوْمٍ، وَعَزَمُوا عَلَى الرَّحِيلِ، فَقَالَ شِيرِكِيرُ: إِنْ رَحَلْنَا عَنْهُمْ وَشَاعَ الْأَمْرُ، نَزَلُوا إِلَيْنَا، وَأَخَذُوا مَا أَعْدَدْنَا مِنَ الْأَقْوَاتِ وَالذَّخَائِرِ، وَالرَّأْيُ أَنْ نُقِيمَ عَلَى قَلْعَتِهِمْ حَتَّى نَفْتَحَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُقَامُ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُقَامٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يَنْفُذُ مِنَّا ثِقَلُنَا وَمَا أَعْدَدْنَاهُ وَنَحْرِقُ مَا نَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهِ لِئَلَّا يَأْخُذَهُ الْعَدُوُّ. فَلَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ عَلِمُوا صِدْقَهُ، فَتَعَاهَدُوا عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاجْتِمَاعِ، فَلَمَّا أَمْسَوْا

رَحَلُوا مِنْ غَيْرِ مُشَاوِرَةٍ، وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ شِيرِكِيرَ، وَنَزَلَ إِلَيْهِ الْبَاطِنِيَّةُ مِنَ الْقَلْعَةِ، فَدَافَعَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ وَحَمَى مَنْ تَخَلَّفَ مِنْ سُوقَةِ الْعَسْكَرِ وَأَتْبَاعِهِ، وَلَحِقَ بِالْعَسْكَرِ، فَلَمَّا فَارَقَ الْقَلْعَةَ غَنِمَ الْبَاطِنِيَّةُ مَا تَخَلَّفَ عِنْدَهُمْ. ذِكْرُ حِصَارِ قَابِسَ وَالْمَهْدِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، أُسْطُولًا فِي الْبَحْرِ إِلَى مَدِينَةِ قَابِسَ، وَحَصَرَهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهَا رَافِعَ بْنَ مَكَّنَ الدَّهْمَانِيَّ أَنْشَأَ مَرْكِبًا بِسَاحِلِهَا لِيَحْمِلَ التُّجَّارَ فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ ذَلِكَ آخَرَ أَيَّامِ الْأَمِيرِ يَحْيَى، فَلَمْ يُنْكِرْ يَحْيَى ذَلِكَ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ فِي الْمُدَارَاةِ، فَلَمَّا وَلِيَ عَلِيٌّ الْأَمْرَ، بَعْدَ أَبِيهِ، أَنِفَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ أَنْ يُنَاوِئَنِي فِي إِجْرَاءِ الْمَرَاكِبِ فِي الْبَحْرِ بِالتُّجَّارِ، فَلَمَّا خَافَ رَافِعٌ أَنْ يَمْنَعَهُ عَلِيٌّ الْتَجَأَ إِلَى اللَّعِينِ رَجَّارَ مَلِكِ الْفِرِنْجِ بِصِقِلِّيَةَ، وَاعْتَضَدَ بِهِ، فَوَعَدَهُ رَجَّارُ أَنْ يَنْصُرَهُ وَيُعِينَهُ عَلَى إِجْرَاءِ مَرْكِبِهِ فِي الْبَحْرِ، وَأَنْفَذَ فِي الْحَالِ أُسْطُولًا إِلَى قَابِسَ، فَاجْتَازُوا بِالْمَهْدِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ تَحَقَّقَ عَلِيٌّ اتِّفَاقَهُمَا، وَكَانَ يُكَذِّبُهُ. فَلَمَّا جَازَ أُسْطُولُ رَجَّارَ بِالْمَهْدِيَّةِ أَخْرَجَ عَلِيٌّ أُسْطُولَهُ فِي أَثَرِهِ، فَتَوَافَى الْجَمِيعُ إِلَى قَابِسَ، فَلَمَّا رَأَى صَاحِبُهَا أُسْطُولَ الْفِرِنْجِ وَالْمُسْلِمِينَ لَمْ يُخْرِجْ مَرْكِبَهُ، فَعَادَ أُسْطُولُ الْفِرِنْجِ، وَبَقِيَ أُسْطُولُ عَلِيٍّ يَحْصُرُ رَافِعًا بِقَابِسَ مُضَيِّقًا عَلَيْهَا. ثُمَّ عَادُوا إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، وَتَمَادَى رَافِعٌ فِي الْمُخَالَفَةِ لِعَلِيٍّ، وَجَمَعَ قَبَائِلَ الْعَرَبِ، وَسَارَ بِهِمْ، حَتَّى نَزَلَ عَلَى الْمَهْدِيَّةِ مُحَاصِرًا لَهَا وَخَادَعَ عَلَّيًا، وَقَالَ: إِنَّنِي إِنَّمَا جِئْتُ لِلدُّخُولِ فِي الطَّاعَةِ، وَطَلَبَ مَنْ يَسْعَى فِي الصُّلْحِ، وَأَفْعَالُهُ تُكَذِّبُ أَقْوَالَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ عَنْ ذَلِكَ بِحَرْفٍ، وَأَخْرَجَ الْعَسَاكِرَ، وَحَمَلُوا عَلَى رَافِعٍ وَمَنْ مَعَهُ حَمْلَةً مُنْكِرَةً، فَأَلْحَقُوهُمْ بِالْبُيُوتِ، وَوَصَلَ الْعَسْكَرُ إِلَى الْبُيُوتِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ النِّسَاءُ صِحْنَ، وَوَلْوَلْنَ، فَغَارَتِ الْعَرَبُ، وَعَاوَدَتِ الْقِتَالَ وَاشْتَدَّ حِينَئِذٍ الْأَمْرُ إِلَى الْمَغْرِبِ، ثُمَّ افْتَرَقُوا، وَقَدْ قُتِلَ مِنْ عَسْكَرِ رَافِعٍ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ جُنْدِ عَلِيٍّ غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجَّالَةِ. ثُمَّ خَرَجَ عَسْكَرُ عَلِيٍّ مَرَّةً أُخْرَى، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ مِنَ الْقِتَالِ الْأَوَّلِ، كَانَ الظُّهُورُ فِيهِ

لِعَسْكَرِ عَلِيٍّ، فَلَمَّا رَأَى رَافِعٌ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمْ رَحَلَ عَنِ الْمَهْدِيَّةِ لَيْلًا إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَمَنَعَهُ أَهْلُهَا مِنْ دُخُولِهَا، فَقَاتَلَهُمْ أَيَّامًا قَلَائِلَ، ثُمَّ دَخَلَهَا، فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ إِلَيْهِ عَسْكَرًا مِنَ الْمَهْدِيَّةِ، فَحَصَرُوهُ فِيهَا إِلَى أَنْ خَرَجَ عَنْهَا، وَعَادَ إِلَى قَابِسَ، ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ إِفْرِيقِيَّةَ، مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، سَأَلُوا عَلِيًّا فِي الصُّلْحِ، فَامْتَنَعَ، ثُمَّ أَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، وَتَعَاهَدَ عَلَيْهِ. ذِكْرُ الْوَحْشَةِ بَيْنَ رَجَّارَ وَالْأَمِيرِ عَلِيٍّ كَانَ رَجَّارُ، صَاحِبُ صِقِلِّيَةَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمِيرِ عَلِيٍّ، صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، مَوَدَّةٌ وَكِيدَةٌ، إِلَى أَنْ أَعَانَ رَافِعًا كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ، فَاسْتَوْحَشَ كُلُّ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ خَاطَبَهُ رَجَّارُ بِمَا لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُمْ بِهِ، فَتَأَكَّدَتِ الْوَحْشَةُ، فَأَرْسَلَ رَجَّارُ رِسَالَةً فِيهَا خُشُونَةٌ، فَاحْتَرَزَ عَلِيٌّ مِنْهُ، وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ الْأُسْطُولِ، وَإِعْدَادِ الْأُهْبَةِ لِلِّقَاءِ الْعَدُوِّ، وَكَاتَبَ الْمُرَابِطِينَ بِمُرَّاكِشَ فِي الِاجْتِمَاعِ مَعَهُ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى صِقِلِّيَةَ، فَكَفَّ رَجَّارُ عَمَّا كَانَ يَعْتَمِدُهُ. ذِكْرُ قَتْلِ صَاحِبِ حَلْبَ وَاسْتِيلَاءِ إِيلْغَازِي عَلَيْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ لُؤْلُؤٌ الْخَادِمُ، وَكَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى قَلْعَةِ حَلَبَ وَأَعْمَالِهَا، بَعْدَ وَفَاةِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ، وَوَلِيَ أَتَابِكِيَّةَ وَلَدُهُ أَلْب أَرْسِلَانَ، فَلَمَّا مَاتَ أَقَامَ بَعْدَهُ فِي الْمُلْكِ سُلْطَانْشَاهْ بْنُ رِضْوَانَ، وَحَكَمَ فِي دَوْلَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ حُكْمِهِ فِي دَوْلَةِ أَخِيهِ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ سَارَ مِنْهَا إِلَى قَلْعَةِ جَعْبَرَ لِيَجْتَمِعَ بِالْأَمِيرِ سَالِمِ بْنِ مَالِكٍ صَاحِبِهَا، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ قَلْعَةِ نَادِرَ نَزَلَ يُرِيقُ الْمَاءَ، فَقَصَدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْأَتْرَاكِ، وَصَاحُوا: أَرْنَبَ، أَرْنَبَ! وَأَوْهَمُوا أَنَّهُمْ يَتَصَيَّدُونَ، وَرَمَوْهُ بِالنُّشَّابِ، فَقُتِلَ، فَلَمَّا هَلَكَ نَهَبُوا خِزَانَتَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ حَلَبَ، فَاسْتَعَادُوا مَا أَخَذُوهُ. وَوَلِيَ أَتَابِكِيَّةَ سُلْطَانْشَاهْ بْنُ رِضْوَانَ شَمْسُ الْخَوَاصِّ يَارُو قَتَّاشُ، فَبَقِيَ شَهْرًا، وَعَزَلُوهُ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ أَبُو الْمَعَالِي بْنُ الْمِلْحِيِّ الدِّمَشْقِيُّ، ثُمَّ عَزَلُوهُ وَصَادَرُوهُ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ قَتْلِ لُؤْلُؤٍ أَنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ سُلْطَانْشَاهْ، كَمَا قُتِلَ أَخَاهُ أَلْب أَرْسِلَانَ قَبْلَهُ، فَفَطِنَ بِهِ أَصْحَابُ سُلْطَانْشَاهْ، فَقَتَلُوهُ، وَقِيلَ كَانَ قَتْلُهُ سَنَةَ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ حَلَبَ خَافُوا مِنَ الْفِرِنْجِ، فَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَى نَجْمِ الدِّينِ إِيلْغَازِي، فَلَمَّا تَسَلَّمَهُ لَمْ يَجِدْ فِيهِ مَالًا، وَلَا ذَخِيرَةً، لِأَنَّ الْخَادِمَ كَانَ قَدْ فَرَّقَ الْجَمِيعَ، وَكَانَ الْمَلِكُ رِضْوَانُ قَدْ جَمَعَ فَأَكْثَرَ، فَرَزَقَهُ اللَّهُ غَيْرَ أَوْلَادِهِ، فَلَمَّا رَأَى إِيلْغَازِي خُلُوَّ الْبَلَدِ مِنَ الْأَمْوَالِ صَادَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْخَدَمِ بِمَالٍ صَانَعَ بِهِ الْفِرِنْجَ، وَهَادَنَهُمْ مُدَّةً يَسِيرَةً تَكُونُ بِمِقْدَارِ مَسِيرِهِ إِلَى مَارِدِينَ، وَجَمْعِ الْعَسَاكِرِ وَالْعَوْدِ، فَلَمَّا تَمَّتِ الْهُدْنَةُ سَارَ إِلَى مَارِدِينَ، عَلَى هَذَا الْعَزْمِ، وَاسْتَخْلَفَ بِحَلَبَ ابْنَهُ حُسَامَ الدِّينِ تَمَرْتَاشَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ، انْخَسَفَ الْقَمَرُ انْخِسَافًا كُلِّيًّا. وَفِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ هَجَمَ الْفِرِنْجُ عَلَى رَبْضِ حُمَاةَ مِنَ الشَّامِ، وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةِ رَجُلٍ وَعَادُوا. وَفِيهَا، فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، كَانَتْ زَلْزَلَةٌ بِالْعِرَاقِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ وَخَرِبَتْ بِبَغْدَاذَ دُورٌ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَحْمَدُ الْعَرَبِيُّ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، لَهُ كَرَامَاتٌ وَقَبْرُهُ يُزَارُ بِهَا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَبْهَانَ الْكَاتِبُ، وَعُمُرُهُ مِائَةُ سَنَةٍ، وَكَانَ عَالِيَ الْإِسْنَادِ، رَوَى عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَاذَانَ وَغَيْرِهِ، وَالْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو عَبْدُ اللَّهِ الشَّقَّاقُ الْفَرَضِيُّ، الْحَاسِبُ، وَكَانَ

وَاحِدَ عَصْرِهِ فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُهْتَدِي وَغَيْرِهِ. وَفِيهَا مَاتَ الْكُزَايِكْسُ مَلِكُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ يُوحَنَّا وَسَلَكَ سِيرَتَهُ. وَفِيهَا مَاتَ دُوقَسُ أَنْطَاكِيَةَ، وَكَفَى اللَّهُ شَرَّهُ.

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَة] 512 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بِالْعِرَاقِ وَوِلَايَةِ الْبُرْسُقِيِّ شَحْنَكِيَّةَ بَغْدَاذَ لَمَّا تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مَحْمُودٌ، وَدَبَّرَ دَوْلَتَهُ الْوَزِيرُ الرَّبِيبُ أَبُو مَنْصُورٍ، أَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ يَطْلُبُ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ بِبَغْدَاذَ، فَخُطِبَ لَهُ فِي الْجُمُعَةِ ثَالِثَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَكَانَ شِحْنَةُ بَغْدَاذَ بَهْرُوزَ. ثُمَّ إِنَّ الْأَمِيرَ دُبَيْسَ بْنَ صَدَقَةَ كَانَ عِنْدَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، مُذْ قُتِلَ وَالِدُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَقْطَعَهُ إِقْطَاعًا كَثِيرًا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ خَاطَبَ السُّلْطَانَ مَحْمُودًا فِي الْعَوْدِ إِلَى بَلَدِهِ الْحِلَّةِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَعَادَ إِلَيْهَا فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْأَكْرَادِ، وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ آقْسُنْقُرُ الْبُرْسُقِيُّ مُقِيمًا بِالرَّحْبَةِ، وَهِيَ إِقْطَاعُهُ، وَلَيْسَ بِيَدِهِ مِنَ الْوِلَايَاتِ شَيْءٌ، فَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا ابْنَهُ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودًا، وَسَارَ إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، قَبْلَ مَوْتِهِ، عَازِمًا عَلَى مُخَاطَبَتِهِ فِي زِيَادَةِ إِقْطَاعِهِ، فَبَلَغَهُ وَفَاةُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى بَغْدَاذَ. وَسَمِعَ مُجَاهِدُ الدِّينِ بَهْرُوزُ بِقُرْبِهِ مِنْ بَغْدَاذَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَمْنَعُهُ مِنْ دُخُولِهَا، فَسَارَ إِلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَلَقِيَهُ تَوْقِيعُ السُّلْطَانِ بِوِلَايَةِ شِحْنَكِيَّةَ بَغْدَاذَ، وَهُوَ بِحُلْوَانَ، وَعُزِلَ بَهْرُوزَ. وَكَانَ الْأُمَرَاءُ عِنْدَ السُّلْطَانِ يُرِيدُونَ الْبُرْسُقِيَّ، وَيَتَعَصَّبُونَ لَهُ، وَيَكْرَهُونَ مُجَاهِدَ الدِّينِ بَهْرُوزَ، وَيَحْسُدُونَهُ لِلْقُرْبِ الَّذِي كَانَ لَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ وَخَافُوا أَنْ يَزْدَادَ تَقَدُّمًا عِنْدَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ وَحُكْمًا. فَلَمَّا وَلِيَ الْبُرْسُقِيُّ شِحْنَكِيَّةَ بَغْدَاذَ هَرَبَ بَهْرُوزَ إِلَى تِكْرِيتَ، وَكَانَتْ لَهُ.

ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ وَلَّى شِحْنَكِيَّةَ بَغْدَاذَ الْأَمِيرَ مَنْكُوبَرْسَ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَقَدْ حَكَمَ فِي دَوْلَةِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَلَمَّا أُعْطِيَ الشِّحْنَكِيَّةَ سَيَّرَ إِلَيْهَا رَبِيبَهُ الْأَمِيرَ حُسَيْنَ بْنَ أَزْبَكَ، أَحَدَ الْأُمَرَاءِ الْأَتْرَاكِ، وَهُوَ صَاحِبُ أَسَدَابَاذَ، لِيَنُوبَ عَنْهُ بِبَغْدَاذَ وَالْعِرَاقَ، وَفَارَقَ السُّلْطَانُ مِنْ بَابِ هَمَذَانَ، وَاتَّصَلَ بِهِ جَمَاعَةُ الْأُمَرَاءِ الْبَكَجِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ الْبُرْسُقِيُّ خَاطَبَ الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَظْهِرَ بِاللَّهِ لِيَأْمُرَهُ بِالتَّوَقُّفِ إِلَى أَنْ يُكَاتِبَ السُّلْطَانَ، وَيَفْعَلَ مَا يَرُدُّ بِهِ الْأَمْرَ عَلَيْهِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ، فَأَجَابَ: إِنْ يَرْسُمِ الْخَلِيفَةُ بِالْعَوْدِ عُدْتُ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ بَغْدَاذَ. فَجَمَعَ الْبُرْسُقِيُّ أَصْحَابَهُ وَسَارَ إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ أَخٌ لِحُسَيْنٍ، وَانْهَزَمَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَعَادُوا إِلَى عَسْكَرِ السُّلْطَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، قَبْلَ وَفَاةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ بِأَيَّامٍ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَادِسَ عَشَرَ شَهْرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، تُوُفِّيَ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَانَ مَرَضُهُ التَّرَاقِيَ، وَكَانَ عُمُرُهُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ، وَخِلَافَتُهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَوَزَرَ لَهُ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ جَهِيرٍ، وَسَدِيدُ الْمُلْكِ أَبُو الْمَعَالِي الْمُفَضَّلُ بْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَزَعِيمُ الرُّؤَسَاءِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ جَهِيرٍ، وَمَجْدُ الدِّينَ أَبُو الْمَعَالِي هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَنِظَامُ الدِّينِ أَبُو مَنْصُورٍ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَنَابَ عَنِ الْوِزَارَةِ أَمِينُ الدَّوْلَةِ أَبُو سَعْدِ بْنُ الْمُوصَلَايَا، وَقَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الدَّامَغَانِيِّ، وَمَضَى، فِي أَيَّامٍ، ثَلَاثَةُ سَلَاطِينَ خَطَبَ لَهُمْ بِالْحَضْرَةِ، وَهُمْ: تَاجُ الدَّوْلَةِ تِتْشُ بْنُ أَلْب أَرْسِلَانَ، وَالسُّلْطَانُ بُرْكِيارُقُ وَمُحَمَّدُ ابْنَا مُلْكِشَاهْ. وَمِنْ غَرِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّهُ لَمَّا تُوَفِّيَ السُّلْطَانُ أَلْب أَرْسِلَانَ تُوُفِّيَ بَعْدَهُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مُلْكِشَاهْ تُوُفِّيَ بَعْدَهُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ تُوُفِّيَ بَعْدَهُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ.

ذِكْرُ بَعْضِ أَخْلَاقِهِ وَسِيرَتِهِ كَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، يُحِبُّ اصْطِنَاعَ النَّاسِ، وَيَفْعَلُ الْخَيْرَ، وَيُسَارِعُ إِلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْمَثُوبَاتِ، مَشْكُورَ الْمَسَاعِي لَا يَرُدُّ مُكْرُمَةً تُطْلَبُ مِنْهُ. وَكَانَ كَثِيرَ الْوُثُوقِ بِمَنْ يُوَلِّيهِ، غَيْرَ مُصْغٍ إِلَى سَاعٍ، وَلَا مُلْتَفِتٍ إِلَى قَوْلِهِ، وَلَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ تَلَوُّنٌ، وَانْحِلَالُ عَزْمٍ، بِأَقْوَالِ أَصْحَابِ الْأَغْرَاضِ. وَكَانَتْ أَيَّامُهُ أَيَّامَ سُرُورٍ لِلرَّعِيَّةِ، فَكَأَنَّهَا مِنْ حُسْنِهَا أَعْيَادٌ، وَكَانَ إِذَا بَلَغَهُ ذَلِكَ فَرِحَ بِهِ وَسَرَّهُ، وَإِذَا تَعَرَّضَ سُلْطَانٌ أَوْ نَائِبٌ لَهُ لِأَذَى أَحَدٍ بَالَغَ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ وَالزَّجْرِ عَنْهُ. وَكَانَ حَسَنَ الْخَطِّ، جَيِّدَ التَّوْقِيعَاتِ، لَا يُقَارِبُهُ فِيهَا أَحَدٌ، يَدُلُّ عَلَى فَضْلٍ غَزِيرٍ، وَعِلْمٍ وَاسِعٍ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ صَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا، وَدُفِنَ فِي حُجْرَةٍ لَهُ كَانَ يَأْلَفُهَا. وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ: أَذَابَ حَرُّ الْهَوَى فِي الْقَلْبِ مَا جَمَدَا ... لَمَّا مَدَدْتُ إِلَى رَسْمِ الْوَدَاعِ يَدَا وَكَيْفَ أَسْلُكُ نَهْجَ الِاصْطِبَارِ وَقَدْ أَرَى ... طَرَائِقَ فِي مَهْوَى الْهَوَى قِدَدَا قَدْ أَخْلَفَ الْوَعْدَ بَدْرٌ قَدْ شُغِفْتُ بِهِ مِنْ ... بَعْدِ مَا قَدْ وَفَى دَهْرِي بِمَا وَعَدَا إِنْ كُنْتُ أَنْقُضُ عَهْدَ الْحُبِّ فِي خَلَدِي ... مِنْ بَعْدِ هَذَا، فَلَا عَايَنْتُهُ أَبَدَا ذِكْرُ خِلَافَةِ الْإِمَامِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ لَمَّا تُوُفِّيَ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ بُويِعَ وَلَدُهُ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ أَبُو الْمَنْصُورِ الْفَضْلُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدٍ قَدْ خُطِبَ لَهُ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَبَايَعَهُ أَخَوَاهُ ابْنَا الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، وَهُمَا أَبُو عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ، وَأَبُو طَالِبٍ الْعَبَّاسُ،

وَعُمُومَتُهُ بَنُو الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَالْقُضَاةِ، وَالْأَئِمَّةِ، وَالْأَعْيَانِ. وَكَانَ الْمُتَوَلِّيَ الْبَيْعَةَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيُّ، وَكَانَ نَائِبًا عَنِ الْوِزَارَةِ، فَأَقَرَّهُ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَأْخُذِ الْبَيْعَةَ قَاضٍ غَيْرُ هَذَا، وَأَحْمَدُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ لِلْوَاثِقِ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُ أَخَذَهَا لِلْوَاثِقِ بِاللَّهِ وَالْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ أَخَذَهَا لِلْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ. ثُمَّ إِنَّ الْمُسْتَرْشِدَ عَزَلَ قَاضِيَ الْقُضَاةِ عَنْ نِيَابَةِ الْوِزَارَةِ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا شُجَاعٍ مُحَمَّدَ بْنَ الرَّبِيبِ أَبِي مَنْصُورٍ، وَزِيرَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَكَانَ وَالِدُهُ خَطَبَ فِي مَعْنَى وَلَدِهِ، حَتَّى اسْتَوْزَرَ، وَقَبَضَ عَلَى صَاحِبِ الْمَخْزَنِ أَبِي طَاهِرٍ يُوسُفَ بْنِ أَحْمَدَ الْحُزِّيِّ. ذِكْرُ هَرَبِ الْأَمِيرِ أَبِي الْحَسَنِ أَخِي الْمُسْتَرْشِدِ وَعَوْدِهِ لَمَّا اشْتَغَلَ النَّاسُ بِبَيْعَةِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ، رَكِبَ أَخُوهُ الْأَمِيرُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ سَفِينَةً، وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، وَانْحَدَرَ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ بِالْحِلَّةِ، فَكَرَّمَهُ دُبَيْسٌ، وَعَلِمَ مِنْهُ وَفَاةَ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، وَأَقَامَ لَهُ الْإِقَامَاتِ الْكَثِيرَةَ، فَلَمَّا عَلِمَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ خَبَرَهُ أَهَمَّهُ ذَلِكَ وَأَقْلَقَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى دُبَيْسٍ يَطْلُبُ مِنْهُ إِعَادَتَهُ، فَأَجَابَ بِأَنَّنِي عَبْدُ الْخَلِيفَةِ، وَوَاقِفٌ عِنْدَ أَمْرِهِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدَ اسْتَذَمَّ بِي، وَدَخَلَ مَنْزِلِي، فَلَا أُكْرِهُهُ عَلَى أَمْرٍ أَبَدًا. وَكَانَ الرَّسُولُ نَقِيبَ النُّقَبَاءِ شَرَفِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ طَرَّادٍ الزَّيْنَبِيِّ، فَقَصَدَ الْأَمِيرَ أَبَا الْحَسَنِ، وَتَحَدَّثَ مَعَهُ فِي عَوْدِهِ، وَضَمِنَ لَهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ فَأَجَابَ إِلَى الْعَوْدِ، وَقَالَ: إِنَّنِي لَمْ أُفَارِقْ أَخِي لِشَرٍّ أُرِيدُهُ، وَإِنَّمَا الْخَوْفُ حَمَلَنِي عَلَى مُفَارَقَتِهِ، فَإِذَا أَمَّنَنِي قَصَدْتُهُ. وَتَكَفَّلَ دُبَيْسٌ بِإِصْلَاحِ الْحَالِ بِنَفْسِهِ، وَالْمَسِيرِ مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَعَادَ النَّقِيبُ وَأَعْلَمَ الْخَلِيفَةَ الْحَالَ، فَأَجَابَ إِلَى مَا طَلَبَهُ مِنْهُ. ثُمَّ حَدَثَ مِنْ أَمْرِ الْبُرْسُقِيِّ وَدُبَيْسٍ وَمَنْكُوبُرْسَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَتَأَخَّرَ الْحَالُ. وَأَقَامَ الْأَمِيرُ أَبُو الْحَسَنِ عِنْدَ دُبَيْسٍ إِلَى ثَانِيَ عَشَرَ صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ سَارَ عَنِ الْحِلَّةِ إِلَى وَاسِطَ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ وَقَوِيَ الْإِرْجَافُ بِقُوَّتِهِ، وَمَلَكَ مَدِينَةَ وَاسِطَ، وَخِيفَ جَانِبُهُ، فَتَقَدَّمَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ بِالْخُطْبَةِ لِوَلِيِّ عَهْدِهِ وَلَدِهِ أَبِي

جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَعُمُرُهُ حِينَئِذٍ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، فَخَطَبَ لَهُ ثَانِيَ رَبِيعٍ الْآخِرِ بِبَغْدَاذَ، وَكَتَبَ إِلَى الْبِلَادِ بِالْخُطْبَةِ لَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى دُبَيْسٍ فِي مَعْنَى الْأَمِيرِ أَبِي الْحَسَنِ، وَأَنَّهُ الْآنَ قَدْ فَارَقَ جِوَارَهُ، وَمَدَّ يَدَهُ إِلَى بِلَادِ الْخَلِيفَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَأَمَرَهُ بِقَصْدِهِ وَمُعَاجَلَتِهِ قَبْلَ قُوَّتِهِ، فَأَرْسَلَ دُبَيْسٌ الْعَسَاكِرَ عَلَيْهِ، فَفَارَقَ وَاسِطَ، وَقَدْ تَحَيَّرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَضَّلُوا الطَّرِيقَ، وَوَصَلَتْ عَسَاكِرُ دُبَيْسٍ، فَصَادَفُوهُمْ عِنْدَ الصُّلْحِ، فَنَهَبُوا أَثْقَالَهُ، وَهَرَبَ الْأَكْرَادُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَالْأَتْرَاكُ، وَعَادَ الْبَاقُونَ إِلَى دُبَيْسٍ. وَبَقِيَ الْأَمِيرُ أَبُو الْحَسَنِ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُوَ عَطْشَانُ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ خَمْسَةُ فَرَاسِخَ، وَكَانَ الزَّمَانُ قَيْظًا، فَأَيْقَنَ بِالتَّلَفِ، وَتَبِعَهُ بَدَوِيَّانِ، فَأَرَادَ الْهَرَبَ مِنْهُمَا، فَلَمْ يَقْدِرْ، فَأَخَذَاهُ، وَقَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ، فَسَقَيَاهُ، وَحَمَلَاهُ إِلَى دُبَيْسٍ، فَسَيَّرَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَحَمَلَهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ، بَعْدَ أَنْ بَذَلَ لَهُ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَحُمِلَ إِلَى الدَّارِ الْعَزِيزَةِ، وَكَانَ بَيْنَ خُرُوجِهِ عَنْهَا وَعَوْدِهِ إِلَيْهَا أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا. وَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ قَبَّلَ قَدَمَهُ، وَقَبَّلَهُ الْمُسْتَرْشِدُ، وَبَكَيَا، وَأَنْزَلَهُ دَارًا حَسَنَةً كَانَ هُوَ يُسْكُنُهَا قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ الْخِلَعَ، وَالتُّحَفَ الْكَثِيرَةَ، وَطَيَّبَ نَفْسَهُ وَأَمَّنَهُ. ذِكْرُ مَسِيرِ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ وَجُيُوشْ بِكْ إِلَى الْعِرَاقِ وَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْبُرْسُقِيِّ وَدُبَيْسٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، بَرَزَ الْبُرْسُقِيُّ، وَنَزَلَ بِأَسْفَلِ الرَّقَّةِ فِي عَسْكَرِهِ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ عَلَى قَصْدِ الْحِلَّةِ وَإِجْلَاءِ دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ عَنْهَا. وَجَمَعَ دُبَيْسٌ جُمُوعًا كَثِيرَةً مِنَ الْعَرَبِ وَالْأَكْرَادِ، وَفَرَّقَ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ وَالسِّلَاحَ. وَكَانَ الْمَلِكُ مَسْعُودُ بْنُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ بِالْمَوْصِلِ مَعَ أَتَابِكِهِ أَيْ أَبَّهَ جُيُوشْ بِكْ، فَأَشَارَ عَلَيْهِمَا جَمَاعَةٌ مِمَّنْ عِنْدَهُمَا بِقَصْدِ الْعِرَاقِ فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ دُونَهُ فَسَارَا فِي جُيُوشٍ كَثِيرَةٍ، وَمَعَ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ وَزِيرُهُ فَخْرُ الْمُلْكِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ عَمَّارٍ، صَاحِبُ طَرَابُلُسَ، وَقَسِيمُ الدَّوْلَةِ زِنْكِيُّ بْنُ آقْسُنْقُرَ جَدُّ مُلُوكِنَا الْآنَ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَ مِنَ الشَّجَاعَةِ فِي الْغَايَةِ، وَمَعَهُمْ أَيْضًا صَاحِبُ سَنَجَارُ، وَأَبُو الْهَيْجَاءِ، صَاحِبُ إِرْبَلَ، وَكَرَبَاوِيُّ بْنُ خُرَاسَانَ التُّرْكُمَانِيُّ، صَاحِبُ الْبَوَازِيجِ. فَلَمَّا عَلِمَ الْبُرْسُقِيُّ قُرْبَهُمْ خَافَهُمْ.

وَكَانَ الْبُرْسُقِيُّ قَدِيمًا قَدْ جَعَلَهُ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ أَتَابِكَ وَلَدِهِ مَسْعُودٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنَّمَا كَانَ خَوْفُهُ مِنْ جُيُوشْ بِكْ، فَلَمَّا قَارَبُوا بَغْدَاذَ سَارَ إِلَيْهِمْ لِيُقَاتِلَهُمْ وَيَصُدَّهُمْ، فَلَمَّا عَلِمَ مَسْعُودٌ وَجُيُوشْ بِكْ ذَلِكَ أَرْسَلَا إِلَيْهِ الْأَمِيرَ كَرَبَاوِيَّ فِي الصُّلْحِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا جَاءُوا نَجْدَةً لَهُ عَلَى دُبَيْسٍ، وَاصْطَلَحُوا، وَتَعَاهَدُوا، وَاجْتَمَعُوا. وَوَصَلَ مَسْعُودٌ إِلَى بَغْدَاذَ، وَنَزَلَ بِدَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَوَصَلَهُمُ الْخَبَرُ بِوُصُولِ الْأَمِيرِ عِمَادِ الدِّينِ مَنْكُبَرْسَ، الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ، فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ فَسَارَ الْبُرْسُقِيُّ عَنْ بَغْدَاذَ نَحْوَهُ لِيُحَارِبَهُ وَيَمْنَعَهُ عَنْهَا، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِ مَنْكُبَرْسُ قَصَدَ النُّعْمَانِيَّةَ، وَعَبَرَ دِجْلَةَ هُنَاكَ، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَدُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ. وَكَانَ دُبَيْسٌ قَدْ خَافَ مِنَ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ الْبُرْسُقِيِّ، فَبَنَى أَمْرَهُ عَلَى الْمُحَاجَزَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ، فَأَهْدَى لِمَسْعُودٍ هَدِيَّةً حَسَنَةً، وَلِلْبُرْسُقِيِّ، وَجُيُوشْ بِكْ، فَلَمَّا وَصَلَهُ خَبَرُ وَصُولِ مَنْكُبَرْسَ رَاسَلَهُ، وَاسْتَمَالَهُ، وَاسْتَحْلَفَهُ، وَاتَّفَقَا عَلَى التَّعَاضُدِ وَالتَّنَاصُرِ، وَاجْتَمَعَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوِيَ بِصَاحِبِهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا سَارَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ، وَالْبُرْسُقِيُّ، وَجُيُوشْ بِكْ، وَمَنْ مَعَهُمْ، إِلَى الْمَدَائِنِ لِلِقَاءِ دُبَيْسٍ وَمَنْكُبَرْسَ، فَلَمَّا وَصَلُوا الْمَدَائِنَ أَتَتْهُمُ الْأَخْبَارُ بِكَثْرَةِ الْجَمْعِ مَعَهُمَا، فَعَادَ الْبُرْسُقِيُّ، وَالْمَلِكُ مَسْعُودٌ، وَعَبَرَا نَهَرَ صَرْصَرَ، وَحَفِظَا الْمَخَاضَاتِ عَلَيْهِ، وَنَهَبَتِ الطَّائِفَتَانِ السَّوَادَ نَهْبًا فَاحِشًا: نَهْرَ الْمَلِكِ، وَنَهْرَ صَرْصَرَ، وَنَهْرَ عِيسَى، وَبَعْضَ دُجَيْلَ، وَاسْتَبَاحُوا النِّسَاءَ. فَأَرْسَلَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ إِلَى الْمَلِكِ مَسْعُودٍ وَالْبُرْسُقِيِّ يُنْكِرُ هَذِهِ الْحَالَ، وَيَأْمُرُهُمَا بِحَقْنِ الدِّمَاءِ، وَتَرْكِ الْفَسَادِ، وَيَأْمُرُ بِالْمُوَادَعَةِ وَالْمُصَالَحَةِ، وَكَانَ الرُّسُلُ: سَدِيدَ الدَّوْلَةِ بْنَ الْأَنْبَارِيِّ، وَالْإِمَامَ الْأَسْعَدَ الْمِيهَنِيَّ، مُدَرِّسَ النِّظَامِيَّةِ، فَأَنْكَرَ الْبُرْسُقِيُّ أَنْ يَكُونَ جَرَى مِنْهُمَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَجَابَ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَوَصَلَ مَنْ أَخْبَرَهُ أَنْ مَنْكُبَرْسَ وَدُبَيْسًا قَدْ جَهَّزَا ثَلَاثَةَ آلَافِ فَارِسٍ مَعَ مَنْصُورٍ أَخِي دُبَيْسٍ، وَالْأَمِيرِ حُسَيْنِ بْنِ أَزْبِكَ، رَبِيبِ مَنْكُبَرْسَ، وَسَيَّرُوهُمْ، وَعَبَرُوا عِنْدَ دَرْزِيجَانَ لِيَقْطَعُوا مَخَاضَةَ عِنْدَ دَيَالَى إِلَى بَغْدَاذَ، لِخُلُوِّهَا مِنْ عَسْكَرٍ يَحْمِيهَا وَيَمْنَعُ عَنْهَا. فَعَادَ الْبُرْسُقِيُّ إِلَى بَغْدَاذَ، وَعَبَرَ الْجِسْرَ لِئَلَّا يَخَافَ النَّاسُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا الْخَبَرَ وَخَلَّفَ ابْنَهُ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودًا عَلَى عَسْكَرِهِ بِصَرْصَرَ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ عِمَادَ الدِّينِ زِنْكِيَّ بْنَ آقْسُنْقُرَ، فَوَصَلَ إِلَى دَيَالَى، وَمَنَعَ عَسْكَرَ مَنْكُبَرْسَ مِنَ الْعُبُورِ، فَأَقَامَ يَوْمَيْنِ،

فَأَتَاهُ كِتَابُ ابْنِهِ عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودٍ يُخْبِرُهُ أَنَّ الصُّلْحَ قَدِ اسْتَقَرَّ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَانْكَسَرَ نَشَاطُهُ، حَيْثُ جَرَى هَذَا الْأَمْرُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَعَادَ نَحْوَ بَغْدَاذَ، وَعَبَرَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَعَبَرَ مَنْصُورٌ وَحُسَيْنٌ فَسَارَا فِي عَسْكَرِهِمَا خَلْفَهُ، فَوَصَلَا بَغْدَاذَ عِنْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، فَنَزَلَا عِنْدَ جَامِعِ السُّلْطَانِ. وَسَارَ الْبُرْسُقِيُّ إِلَى الْمَلِكِ مَسْعُودٍ فَأَخَذَ بَرَكَهُ وَمَالَهُ وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ فَخَيَّمَ عِنْدَ الْقَنْطَرَةِ الْعَتِيقَةِ، وَأَصْعَدَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ، وَجُيُوشْ بِكْ، فَنَزَلَا عِنْدَ الْبِيمَارِسْتَانِ، وَأَصْعَدَ دُبَيْسٌ وَمَنْكُبَرْسُ فَخَيَّمَا تَحْتَ الرَّقَّةِ، وَأَقَامَ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ الْبُرْسُقِيِّ عِنْدَ مَنْكُبَرْسَ مُنْفَرِدًا عَنْ أَبِيهِ. وَكَانَ سَبَبُ هَذَا الصُّلْحِ أَنَّ جُيُوشْ بِكْ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ لَهُ وَلِلْمَلِكِ مَسْعُودٍ، فَوَصَلَ كِتَابُ الرَّسُولِ مِنَ الْعَسْكَرِ يَذْكُرُ أَنَّهُ لَقِيَ مِنَ السُّلْطَانِ إِحْسَانًا كَثِيرًا، وَأَنَّهُ أَقْطَعَهُمَا أَذْرَبِيجَانَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ رَحِيلُهُمَا إِلَى بَغْدَاذَ اعْتَقَدَ أَنَّهُمَا قَدْ عَصَيَا عَلَيْهِ، فَعَادَ عَمَّا كَانَ اسْتَقِرَّ، وَيَقُولُ إِنَّ السُّلْطَانَ قَدْ جَهَّزَ عَسْكَرًا إِلَى الْمَوْصِلِ، فَوَقَعَ الْكِتَابُ بِيَدِ مَنْكُبَرْسَ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى جُيُوشْ بِكْ، وَضَمِنَ لَهُ إِصْلَاحَ السُّلْطَانِ لَهُ وَلِلْمَلِكِ مَسْعُودٍ، وَكَانَ مَنْكُبَرْسَ مُتَزَوِّجًا بِأُمِّ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ، وَاسْمُهَا سَرْجَهَانَ، وَكَانَ يُؤْثِرُ مَصْلَحَتَهُ لِذَلِكَ وَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ، وَخَافَا مِنَ الْبُرْسُقِيِّ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ، فَاتَّفَقَا عَلَى إِرْسَالِ الْعَسْكَرِ دَرْزِيجَانَ لِيَنْفُذَ فِي مُقَابَلَتِهِ الْبُرْسُقِيُّ لِيَخْلُوَ الْعَسْكَرُ مِنْهُ، وَيَقَعَ الِاتِّفَاقُ، فَكَانَ الْأَمْرُ فِي مَسِيرِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَكَانَ الْبُرْسُقِيُّ مَحْبُوبًا لَدَى أَهْلِ بَغْدَاذَ لِحُسْنِ سِيرَتِهِ فِيهِمْ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ وَوَصَلُوا إِلَى بَغْدَاذَ، تَفَرَّقَ عَنِ الْبُرْسُقِيِّ أَصْحَابُهُ وَجُمُوعُهُ، وَبَطَلَ مَا كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ التَّغَلُّبِ عَلَى الْعِرَاقِ بِغَيْرِ أَمْرِ السُّلْطَانِ، وَسَارَ عَنِ الْعِرَاقِ إِلَى الْمَلِكِ مَسْعُودٍ، فَأَقَامَ مَعَهُ، وَاسْتَقَرَّ مَنْكُبَرْسَ فِي شِحْنَكِيَّةَ بَغْدَاذَ، وَوَدَّعَهُ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ، وَعَادَ إِلَى الْحِلَّةِ، بَعْدَ أَنْ طَالَبَ بِدَارِ أَبِيهِ بِدَرْبِ فَيْرُوزَ وَكَانَتْ قَدْ دَخَلَتْ فِي جَامِعِ الْقَصْرِ بِبَغْدَاذَ، فَصُولِحَ عَنْهَا بِمَالٍ. وَأَقَامَ مَنْكُبَرْسَ بِبَغْدَاذَ يَظْلِمُ، وَيَعْسِفُ الرَّعِيَّةَ، وَيُصَادِرُهُمْ، فَاخْتَفَى أَرْبَابُ

الْأَمْوَالِ، وَانْتَقَلَ جَمَاعَةٌ إِلَى حَرِيمِ دَارِ الْخِلَافَةِ خَوْفًا مِنْهُ، وَبَطَلَتْ مَعَايِشُ النَّاسِ، وَأَكْثَرَ أَصْحَابُهُ الْفَسَادَ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَهْلِ بَغْدَاذَ زُفَّتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ تَزَوَّجَهَا، فَعَلِمَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَنْكُبَرْسَ، فَأَتَاهُ وَكَسَرَ الْبَابَ وَجَرَحَ الزَّوْجَ عِدَّةَ جِرَاحَاتٍ، وَابْتَنَى بِزَوْجَتِهِ، فَكَثُرَ الدُّعَاءُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَاسْتَغَاثَ النَّاسُ لِهَذِهِ الْحَالِ، وَأَغْلَقُوا الْأَسْوَاقَ، فَأُخِذَ الْجُنْدِيُّ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ فَاعْتُقِلَ أَيَّامًا ثُمَّ أُطْلِقَ. وَسَمِعَ السُّلْطَانُ بِمَا يَفْعَلُهُ مَنْكُبَرْسُ بِبَغْدَاذَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْتَدْعِيهِ، وَيَحُثُّهُ عَلَى اللُّحُوقِ بِهِ، وَهُوَ يُغَالِطُ وَيُدَافِعُ، وَكُلَّمَا طَلَبَهُ السُّلْطَانُ لَجَّ فِي جَمْعِ الْأَمْوَالِ وَالْمُصَادَرَاتِ. فَلَمَّا عَلِمَ أَهْلُ بَغْدَاذَ تَغَيَّرَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ، وَاسْتَدْعَاهُ إِيَّاهُ طَمِعُوا فِيهِ، فَسَارَ حِينَئِذٍ مَنْكُبَرْسُ عَنْهُمْ خَوْفًا أَنْ يَثُورُوا بِهِ، وَكَفَى النَّاسَ شَرَّهُ وَظَهَرَ مَنْ كَانَ مُسْتَتِرًا. ذِكْرُ وَفَاةِ مَلِكِ الْفِرِنْجِ وَمَا كَانَ بَيْنَ الْفِرِنْجِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ تُوُفِّيَ بَغْدُوِينُ مَلِكُ الْقُدْسِ وَكَانَ قَدْ سَارَ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ فِي جَمْعِ الْفِرِنْجِ، قَاصِدًا مُلْكَهَا وَالتَّغَلُّبَ عَلَيْهَا وَقَوِيَ طَمَعُهُ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَبَلَغَ مَقَابِلَ تَنِّيسَ، وَسَبَحَ فِي النِّيلِ، فَانْتَقَضَ جُرْحٌ كَانَ بِهِ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِالْمَوْتِ عَادَ إِلَى الْقُدْسِ، فَمَاتَ، وَوَصَّى بِبِلَادِهِ لِلْقُمَّصِ صَاحِبِ الرُّهَا، وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَسَرَهُ جَكَرْمِشُ، وَأَطْلَقَهُ جَاوْلِي سَقَّاوُو، وَاتَّفَقَ أَنَّ هَذَا الْقُمَّصَ كَانَ قَدْ سَارَ إِلَى الْقُدْسِ يَزُورُ بِيعَةَ قُمَامَةَ، فَلَمَّا وَصَّى إِلَيْهِ بِالْمُلْكِ قَبِلَهُ، وَاجْتَمَعَ لَهُ الْقُدْسُ وَالرُّهَا. وَكَانَ أَتَابِكُ طُغْتِكِينُ قَدْ سَارَ عَنْ دِمَشْقَ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ، فَنَزَلَ بَيْنَ دَيْرِ أَيُّوبَ وَكَفْرِ بَصَلٍ بِالْيَرْمُوكِ، فَخَفِيَتْ عَنْهُ وَفَاةُ بَغْدُوِينَ، حَتَّى سَمِعَ الْخَبَرَ بَعْدَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَبَيْنَهُمْ نَحْوُ يَوْمَيْنِ، فَأَتَتْهُ رُسُلُ مَلِكِ الْفِرِنْجِ يَطْلُبُ الْمُهَادَنَةَ، فَاقْتَرَحَ عَلَيْهِ طُغْتِكِينُ تَرْكَ الْمُنَاصَفَةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ مِنْ جَبَلِ عَوْفٍ، وَالْحَنَّانَةِ، وَالصَّلْتِ، وَالْغَوْرِ، فَلَمْ يُجِبْ

إِلَى ذَلِكَ، وَأَظْهَرَ الْقُوَّةَ، فَسَارَ طُغْتِكِينُ إِلَى طَبَرِيَّةَ فَنَهَبَهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَسَارَ مِنْهَا نَحْوَ عَسْقَلَانَ. وَكَانَتْ لِلْمِصْرِيِّينَ وَبِهَا عَسَاكِرُهُمْ، وَكَانُوا قَدْ سَيَّرُوهَا لَمَّا عَادَ مَلَكُ الْقُدْسِ الْمُتَوَفَّى عَنْ مِصْرَ، وَكَانُوا سَبْعَةَ آلَافِ فَارِسٍ، فَاجْتَمَعَ بِهِمْ طُغْتِكِينُ، وَأَعْلَمَهُ الْمُقْدَّمُ عَلَيْهِمْ أَنَّ صَاحَبَهُمْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ رَأْيِ طُغْتِكِينَ، وَالتَّصَرُّفِ عَلَى مَا يَحْكُمُ بِهِ، فَأَقَامُوا بِعَسْقَلَانَ نَحْوَ شَهْرَيْنِ، وَلَمْ يُؤَثِّرُوا فِي الْفِرِنْجِ أَثَرًا، فَعَادَ طُغْتِكِينُ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَتَاهُ الصَّرِيخُ بِأَنَّ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَارِسًا مِنَ الْفِرِنْجِ أَخَذُوا حِصْنًا مِنْ أَعْمَالِهِ يُعْرَفُ بِالْحَبْسِ، يُعْرَفُ بِحِصْنِ جَلْدَكَ، سَلَّمَهُ إِلَيْهِمُ الْمُسْتَحْفِظُ بِهِ وَقَصَدُوا أَذَرِعَاتَ فَنَهَبُوهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ تَاجُ الْمُلُوكِ بُورِيُّ بْنُ طُغْتِكِينَ، فَانْحَازُوا عَنْهُ إِلَى جَبَلٍ هُنَاكَ، فَنَازَلَهُمْ، فَأَتَاهُ أَبُوهُ وَنَهَاهُ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَطَمِعَ فِيهِمْ فَلَمَّا أَيِسَ الْفِرِنْجُ قَاتَلُوا قِتَالَ مُسْتَقْتِلٍ، فَنَزَلُوا مِنَ الْجَبَلِ وَحَمَلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَمْلَةً صَادِقَةً هَزَمُوهُمْ بِهَا، وَأَسَرُوا وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَعَادَ الْفَلُّ إِلَى دِمَشْقَ عَلَى أَسْوَأِ حَالٍ. فَسَارَ طُغْتِكِينُ إِلَى حَلَبَ، وَبِهَا إِيلْغَازِي، فَاسْتَنْجَدَهُ، وَطَلَبَ مِنْهُ التَّعَاضُدَ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَوَعَدَهُ بِالْمَسِيرِ مَعَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ بِحَلَبَ أَتَاهُ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْفِرِنْجَ قَصَدُوا حَوْرَانَ مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ، فَنَهَبُوا وَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَعَادُوا، فَاتَّفَقَ رَأْيُ طُغْتِكِينَ وَإِيلْغَازِي عَلَى عَوْدِ طُغْتِكِينَ إِلَى دِمَشْقَ، وَحِمَايَةِ بِلَادِهِ، وَعَوْدِ إِيلْغَازِي إِلَى مَارِدِينَ، وَجَمْعِ الْعَسَاكِرِ، وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى حَرْبِ الْفِرِنْجِ فَصَالَحَ إِيلْغَازِي مَنْ يَلِيهُ مِنَ الْفِرِنْجِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَعَبَرَ إِلَى مَارِدِينَ لِجَمْعِ الْعَسَاكِرِ، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْقَطَعَ الْغَيْثُ، وَعَدِمَتِ الْغَلَّاتُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَ أَشَدُّهُ بِالْعِرَاقِ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ، وَأَجْلَى أَهْلُ السَّوَادِ، وَتَقَوَّتَ النَّاسُ بِالنُّخَالَةِ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى أَهْلِ بَغْدَاذَ بِمَا كَانَ يَفْعَلُهُ مَنْكُبَرْسُ بِهِمْ. وَفِيهَا أَسْقَطَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ مِنَ الْإِقْطَاعِ الْمُخْتَصِّ بِهِ كُلَّ جَوْرٍ، وَأَمَرَ أَنْ لَا يُؤْخَذَ إِلَّا مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ الْقَدِيمَةُ، وَأَطْلَقَ ضَمَانَ غَزْلِ الذَّهَبِ، وَكَانَ صُنَّاعُ السِّقْلَاطُونِ، وَالْمُمَزَّجِ، وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَعْمَلُ مِنْهُ، يَلْقَوْنَ شِدَّةً مِنَ الْعُمَّالِ عَلَيْهَا، وَأَذًى عَظِيمًا.

وَفِيهَا تَأَخَّرَ مَسِيرُ الْحَجَّاجِ تَأَخُّرًا أُرْجِفَ بِسَبَبِهِ بِانْقِطَاعِ الْحَجِّ مِنَ الْعِرَاقِ فَرَتَّبَ الْخَلِيفَةُ الْأَمِيرَ نَظَرَ، خَادِمَ أَمِيرِ الْجُيُوشِ يُمْنَ، وَوَلَّاهُ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ أَمِيرُ الْجُيُوشِ، وَأَعْطَاهُ مِنَ الْمَالِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي طَرِيقِهِ، وَسَيَّرَهُ، فَأَدْرَكُوا الْحَجَّ وَظَهَرَتْ كِفَايَةُ نَظَرَ. وَفِيهَا وَصَلَ مَرْكِبَانِ كَبِيرَانِ فِيهِمَا قُوَّةٌ وَنَجْدَةٌ لِلْفِرِنْجِ بِالشَّامِ، فَغَرِقَا، وَكَانَ النَّاسُ قَدْ خَافُوا مِمَّنْ فِيهِمَا. وَفِيهَا وَصَلَ رَسُولُ إِيلْغَازِي، صَاحِبُ حَلْبَ وَمَارِدِينَ، إِلَى بَغْدَاذَ يَسْتَنْفِرُ عَلَى الْفِرِنْجِ، وَيَذْكُرُ مَا فَعَلُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي الدِّيَارِ الْجَزَرِيَّةِ، وَأَنَّهُمْ مَلَكُوا قَلْعَةً عِنْدَ الرُّهَا، وَقَتَلُوا أَمِيرَهَا ابْنَ عُطَيْرٍ، فَسُيِّرَتِ الْكُتُبُ بِذَلِكَ إِلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ. وَفِيهَا نُقِلَ الْمُسْتَظْهِرُ إِلَى الرُّصَافَةِ، وَجَمِيعُ مَنْ كَانَ مَدْفُونًا بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَفِيهِمْ جَدَّةُ الْمُسْتَظْهِرِ أُمُّ الْمُقْتَدِي، وَكَانَتْ وَفَاتُهَا بَعْدَ الْمُسْتَظْهِرِ، وَرَأَتِ الْبَطْنَ الرَّابِعَ مِنْ أَوْلَادِهَا. وَفِيهَا كَثُرَ أَمْرُ الْعَيَّارِينِ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَاذَ، فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ نَائِبُ الشِّحْنَةِ فِي خَمْسِينَ غُلَامًا أَتْرَاكًا، فَقَاتَلَهُمْ، فَانْهَزَمَ مِنْهُمْ، ثُمَّ عَبَرَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْغَدِ فِي مِائَتَيْ غُلَامٍ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِمْ، وَنَهَبَ الْعَيَّارُونَ يَوْمَئِذٍ قُطُفْتَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، تُوُفِّيَ أَبُو الْفَضْلِ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْفَضْلِ الْأَنْصَارِيُّ مِنْ وَلَدِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ بَلَدِ بُخَارَى، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، حَافِظًا لِلْمَذْهَبِ. وَتُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الزَّيْنَبِيُّ، نَقِيبُ النُّقَبَاءِ بِبَغْدَاذَ، فِي صَفَرٍ، وَاسْتَقَالَ مِنَ النِّقَابَةِ، فَوَلِيَهَا أَخُوهُ طَرَّادٌ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَرَوَى الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ.

وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مَنْدَهِ الْأَصْبَهَانِيُّ، الْمُحَدِّثُ الْمَشْهُورُ مِنْ بَيْتِ الْحَدِيثِ، وَلَهُ فِيهِ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ الْخَازِنِ، وَكَانَ أَدِيبًا، ظَرِيفًا، لَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ، وَقَدْ قَصَدَ زِيَارَةَ صَدِيقٍ لَهُ، فَلَمْ يَرَهُ، فَأَدْخَلَهُ غِلْمَانُهُ إِلَى بُسْتَانٍ فِي الدَّارِ، وَحَمَّامٍ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ: وَافَيْتُ مَنْزِلَهُ، فَلَمْ أَرَ صَاحِبًا ... إِلَّا تَلَقَّانِي بِوَجْهٍ ضَاحِكِ وَالْبِشْرُ فِي وَجْهِ الْغُلَامِ نَتِيجَةٌ ... لِمُقَدِّمَاتِ ضِيَاءِ وَجْهِ الْمَالِكِ وَدَخَلْتُ جَنَّتَهُ، وَزُرْتُ جَحِيمَهُ ... فَشَكَرْتُ رِضْوَانًا وَرَأْفَةَ مَالِكِ

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 513 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ عِصْيَانِ الْمَلِكِ طُغْرَلَ عَلَى أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ كَانَ الْمَلِكُ طُغْرَلُ بْنُ مُحَمَّدٍ لَمَّا تُوَفِّيَ وَالِدُهُ بِقَلْعَةِ سَرْجَهَانَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فِي الْمُحَرَّمِ، وَأَقْطَعَهُ وَالِدُهُ، سَنَةَ أَرْبَعٍ، سَاوَةَ وَآوَةَ وَزَنْجَانَ، وَجَعَلَ أَتَابِكَهُ الْأَمِيرَ شِيرِكِيرَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حِصَارِ قِلَاعِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَازْدَادَ مُلْكُ طُغْرَلَ بِمَا فَتَحَهُ شِيرِكِيرُ مِنْ قِلَاعِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ الْأَمِيرُ كُنْتَغْدِي لِيَكُونَ أَتَابِكًا لَهُ، وَمُدَبِّرًا لِأَمْرِهِ، وَيَحْمِلَهُ إِلَيْهِ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ حَسَّنَ لَهُ مُخَالَفَةَ أَخِيهِ، وَتَرْكِ الْمَجِيءِ إِلَيْهِ، وَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ. وَسَمِعَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ الْخَبَرَ، فَأَرْسَلَ شَرَفَ الدِّينِ أَنُوشُرْوَانَ بْنَ خَالِدٍ، وَمَعَهُ خِلَعٌ، وَتُحَفٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَوَعَدَهُ أَخَاهُ بِإِقْطَاعٍ كَثِيرٍ، زِيَادَةً عَلَى مَا لَهُ، إِذَا قَصَدَهُ، وَاجْتَمَعَ بِهِ، فَلَمْ تَقَعِ الْإِجَابَةُ إِلَى الِاجْتِمَاعِ، وَأَجَابَ كُنْتَغْدِي بِأَنَّنَا فِي طَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَأَيَّ جِهَةٍ أَرَادَ قَصَدْنَاهَا، وَمَعَنَا مِنَ الْعَسَاكِرِ مَا نُقَاوِمُ بِهَا مَنْ يَرْسُمُ بِقَصْدِهِ. فَبَيْنَمَا الْخَوْضُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ رَكِبَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ مِنْ بَابِ هَمَذَانَ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، جَرِيدَةً فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَكَتَمَ مَقْصِدَهُ، وَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَكْبِسَ أَخَاهُ، وَالْأَمِيرَ كُنْتَغْدِي، فَرَأَى أَحَدُ خَوَاصِّهِ تُرْكِيًّا مِنْ أَصْحَابِ الْمَلِكِ طُغْرَلَ، فَأَعْلَمَ السُّلْطَانَ بِهِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، فَعَلِمَ رَفِيقٌ كَانَ مَعَهُ الْحَالَ، فَسَارَ عِشْرِينَ فَرْسَخًا فِي لَيْلَةٍ، وَوَصَلَ إِلَى الْأَمِيرِ كُنْتَغْدِي، وَهُوَ سَكْرَانُ، فَأَيْقَظَهُ بَعْدَ جُهْدٍ، وَأَعْلَمَهُ الْحَالَ، فَقَصَدَ الْمَلِكَ طُغْرَلَ، فَعَرَّفَهُ ذَلِكَ، وَأَخَذَ مُتَخَفِّيًا، وَقَصَدَ قَلْعَةَ سَمِيرَانَ فَضَلَّا عَنِ الطَّرِيقِ إِلَى قَلْعَةِ

سَرَجَهَانَ، وَكَانَا قَدْ فَارَقَاهَا وَجَمَعَا الْعَسَاكِرَ، وَكَانَ ضَلَالُهُمَا هِدَايَةً لَهُمَا إِلَى السَّلَامَةِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ مَحْمُودًا جَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى سَمِيرَانَ، وَقَالَ: إِنَّهَا حِصْنُهُمَا الَّذِي فِيهِ الذَّخَائِرُ وَالْأَمْوَالُ،، وَإِذَا عَلِمَا بِوُصُولِهِ إِلَيْهِمَا، فَرُبَّمَا صَادَفَهُمَا فِي الطَّرِيقِ، فَسَلِمَا مِنْهُ بِمَا ظَنَّاهُ عَطَبًا لَهُمَا. وَوَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى الْعَسْكَرِ، فَكَبَسَهُ وَنَهَبَهُ، وَأَخَذَ مِنْ خِزَانَةِ أَخِيهِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَذَلِكَ الْمَالُ الَّذِي أَنْفَذَهُ لَهُ، وَأَقَامَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بِزَنْجَانَ، وَتَوَجَّهَ مِنْهَا إِلَى الرَّيِّ، وَنَزَلَ طُغْرَلُ مِنْ سَرْجَهَانَ، وَلَحِقَ هُوَ وَكُنْتَغْدِي بِكَنْجَةَ وَقَصَدَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَتَمَكَّنَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ مَحْمُودٍ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ سَنْجَرَ وَالسُّلْطَانِ مَحْمُودٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، كَانَتْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ سَنْجَرَ وَابْنِ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ سِيَاقَةَ ذَلِكَ: قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مَسِيرَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ إِلَى غَزْنَةَ، وَفَتْحَهَا وَمَا كَانَ مِنْهُ فِيهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ وَفَاةُ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَجُلُوسُ وَلَدِهِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ فِي السَّلْطَنَةِ وَهُوَ زَوْجُ ابْنَةِ سَنْجَرَ، لَحِقَهُ حُزْنٌ عَظِيمٌ لِمَوْتِ أَخِيهِ، وَأَظْهَرَ مِنَ الْجَزَعِ وَالْحُزْنِ مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَجَلَسَ لِلْعَزَاءِ عَلَى الرَّمَادِ، وَأَغْلَقَ الْبَلَدَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْخُطَبَاءِ بِذِكْرِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ بِمَحَاسِنِ أَعْمَالِهِ مِنْ قِتَالِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَإِطْلَاقِ الْمُكُوسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَانَ سَنْجَرُ يُلَقَّبُ بِنَاصِرِ الدِّينِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَخُوهُ مُحَمَّدٌ تَلَقَّبَ بِمُعِزِّ الدِّينِ، وَهُوَ لَقَبُ أَبِيهِ مُلْكِشَاهْ، وَعَزَمَ عَلَى قَصْدِ بَلَدِ الْجِبَالِ وَالْعِرَاقِ وَمَا بِيَدِ مَحْمُودِ ابْنِ أَخِيهِ، فَنَدِمَ عَلَى قَتْلِ وَزِيرِهِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ فَخْرِ الْمُلْكِ أَبِي الْمُظَفَّرِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ وَحَّشَ الْأُمَرَاءَ، وَاسْتَخَفَّ بِهِمْ، فَأَبْغَضُوهُ وَكَرِهُوهُ، وَشَكَوْا مِنْهُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَهُوَ بِغَزْنَةَ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يُؤْثِرُ قَتْلَهُ، وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ فِعْلُ ذَلِكَ بِغَزْنَةَ. وَكَانَ سَنْجَرُ قَدْ تَغَيَّرَ عَلَى وَزِيرِهِ لِأَسْبَابٍ مِنْهَا: أَنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ بِقَصْدِ غَزْنَةَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بُسْتَ أَرْسَلَ أَرْسِلَانْشَاهْ صَاحِبُهَا إِلَى الْوَزِيرِ، وَضَمِنَ لَهُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ لِيَثْنِيَ سَنْجَرَ عَنْ قَصْدِهِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمُصَالَحَتِهِ، وَالْعَوْدِ عَنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ غَزْنَةَ أَمْوَالًا جَلِيلَةً عَظِيمَةَ الْمِقْدَارِ. وَمِنْهَا: مَا ذُكِرَ مِنْ إِيحَاشِهِ الْأُمَرَاءَ وَغَيْرِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ. فَلَمَّا عَادَ إِلَى بَلْخَ قَبَضَ عَلَيْهِ، وَقَتَلَهُ وَأَخَذَ مَالَهُ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَمْوَالِ مَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَالَّذِي وُجِدَ لَهُ مِنَ الْعَيْنِ أَلْفَا أَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمَّا قَتَلَهُ اسْتَوْزَرَ بَعْدَهُ شِهَابَ الْإِسْلَامِ عَبْدَ الرَّزَّاقِ بْنَ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْفَقِيهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ مَنْزِلَةُ ابْنِ فَخْرِ الْمُلْكِ عِنْدَ النَّاسِ فِي عُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ. فَلَمَّا اتَّصَلَ بِهِ وَفَاةُ أَخِيهِ نَدِمَ عَلَى قَتْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَبْلُغُ بِهِ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَالْمُلْكِ مَا لَا يَبْلُغُهُ بِكَثْرَةِ الْعَسَاكِرِ لِمَيْلِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَمَحَلِّهِ عِنْدَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ مَحْمُودًا أَرْسَلَ إِلَى عَمِّهِ سَنْجَرَ شَرَفَ الدِّينِ أَنُوشُرْوَانَ بْنَ خَالِدٍ وَفَخْرَ الدِّينِ طُغَايَرْكَ بْنِ الْيَزَنِ، وَمَعَهُمَا الْهَدَايَا وَالتُّحَفُ، وَبَذَلَ لَهُ النُّزُولَ عَنْ مَازَنْدَرَانَ، وَحَمْلَ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ كُلَّ سَنَةٍ، فَوَصَلَا إِلَيْهِ وَأَبْلَغَاهُ الرِّسَالَةَ، فَتَجَهَّزَ لِيَسِيرَ إِلَى الرَّيِّ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ شَرَفُ الدِّينِ أَنُوشُرْوَانُ بِتَرْكِ الْقِتَالِ وَالْحَرْبِ، فَكَانَ جَوَابُهُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ وَلَدَ أَخِي صَبِيٌّ، وَقَدْ تَحَكَّمَ عَلَيْهِ وَزِيرُهُ وَالْحَاجِبُ عَلَيٌّ. فَلَمَّا سَمِعَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بِمَسِيرِ عَمِّهِ نَحْوِهِ، وَوُصُولِ الْأَمِيرِ أُنَرَ فِي مُقَدِّمَتِهِ إِلَى جُرْجَانَ، تَقَدَّمَ إِلَى الْأَمِيرِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ، وَهُوَ أَمِيرٌ حَاجِبُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَبَعْدَهُ صَارَ أَمِيرٌ حَاجِبَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، بِالْمَسِيرِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ جَمْعًا كَثِيرًا مِنَ الْعَسَاكِرِ وَالْأُمَرَاءِ، فَاجْتَمَعُوا فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَسَارُوا إِلَى أَنْ قَارَبُوا مُقَدِّمَةَ سَنْجَرَ الَّتِي عَلَيْهَا الْأَمِيرُ أُنَرُ، فَرَاسَلَهُ الْأَمِيرُ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ يُعَرِّفُهُ وَصِيَّةَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ بِتَعْظِيمِ سَنْجَرَ وَالرُّجُوعِ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَالْقَبُولِ مِنْهُ، وَأَنَّهُ ظَنَّ أَنْ سَنْجَرَ يَحْفَظُ السَّلْطَنَةَ عَلَى وَلَدِهِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَأَخَذَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ الْعُهُودَ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُخَالِفَهُ، وَحَيْثُ جِئْتُمْ إِلَى بِلَادِنَا لَا نَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَلَا نُغْضِي عَلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ مَعَكَ خَمْسَةَ آلَافِ فَارِسٍ، فَأَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكَ أَقَلَّ مِنْهُمْ لِتَعْلَمَ أَنَّكُمْ لَا تُقَاوِمُونَنَا، وَلَا تَقْوَوْنَ بِنَا. فَلَمَّا سَمِعَ الْأَمِيرُ أُنَرُ ذَلِكَ عَادَ عَنْ جُرْجَانَ وَلَحِقَهُ بَعْضُ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَأَخَذُوا قِطْعَةً مِنْ سَوَادِهِ، وَأَسَرُوا عِدَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ.

وَكَانَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ قَدْ وَصَلَ إِلَى الرَّيِّ، وَهُوَ بِهَا، وَعَادَ الْأَمِيرُ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ إِلَيْهِ، فَشَكَرَهُ عَلَى فِعْلِهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَعَلَى عَسْكَرِهِ الَّذِينَ مَعَهُ. وَأُشِيرَ عَلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ بِمُلَازَمَةِ الرَّيِّ، وَالْمُقَامِ بِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ عَسَاكِرَ خُرَاسَانَ إِذَا عَلِمُوا بِمُقَامِكَ فِيهَا لَا يُفَارِقُونَ حُدُودَهُمْ، وَلَا يَتَعَدَّوْنَ وِلَايَتَهُمْ. فَلَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ وَضَجِرَ مِنَ الْمُقَامِ، وَسَارَ إِلَى جُرْجَانَ. وَوَصَلَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ وَالْأَمِيرُ مَنْكُبَرْسُ مِنَ الْعِرَاقِ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَالْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ صَدَقَةَ أَخُو دُبَيْسٍ، وَالْأُمَرَاءُ الْبَكْجِيَّةُ، وَغَيْرُهُمْ، وَسَارَ مَحْمُودٌ إِلَى هَمَذَانَ، وَتُوُفِّيَ بِهَا وَزِيرُهُ الرَّبِيبُ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا طَالِبٍ السُّمِيرَمِيَّ، وَبَلَّغَهُ وُصُولَ عَمِّهِ سَنْجَرَ إِلَى الرَّيِّ، فَسَارَ نَحْوَهُ قَاصِدًا قِتَالَهُ، فَالْتَقَيَا بِالْقُرْبِ مِنْ سَاوَةَ ثَانِيَ جُمَادَى الْأُولَى مِنَ السَّنَةِ، وَكَانَ عَسْكَرُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ قَدْ عَرَفُوا الْمَفَازَةَ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْ عَسْكَرِ سَنْجَرَ، هِيَ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ، فَسَبَقُوهُمْ إِلَى الْمَاءِ وَمَلَكُوهُ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ الْعَسْكَرُ الْخُرَاسَانِيُّ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا، وَمَعَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فِيلًا اسْمُ كَبِيرِهَا بَاذْهُو، وَمِنَ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ: وَلَدُ الْأَمِيرِ أَبِي الْفَضْلِ، صَاحِبُ سِجِسْتَانَ، وَخَوَارَزْمُشَاهْ مُحَمَّدٌ، وَالْأَمِيرُ أُنَرُ، وَالْأَمِيرُ قُمَاجُ، وَاتَّصَلَ بِهِ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ كَرَشَاسِفُ بْنُ فَرَامَرْزَ بْنِ كَاكَوَيْهِ، صَاحِبُ يَزْدَ، وَهُوَ صِهْرُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ وَسَنْجَرَ عَلَى أُخْتِهِمَا، وَكَانَ أَخَصَّ النَّاسِ بِالسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا تَوَلَّى السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ تَأَخَّرَ عَنْهُ، فَأَقْطَعَ بَلَدَهُ لِقُرَاجَةَ السَّاقِي الَّذِي صَارَ صَاحِبَ بِلَادِ فَارِسٍ، فَسَارَ حِينَئِذٍ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى سَنْجَرَ، وَهُوَ مِنْ مُلُوكِ الدَّيْلَمِ، وَعَرَّفَ سَنْجَرَ الْأَحْوَالَ، وَالطَّرِيقَ إِلَى قَصْدِ الْبِلَادِ، وَمَا فَعَلَهُ الْأُمَرَاءُ مِنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنِ اخْتِلَافِ الْأَهْوَاءِ وَحَسَّنَ قَصْدَ الْبِلَادِ. وَكَانَ عَسْكَرُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَمِنَ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ: الْأَمِيرُ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ، أَمِيرٌ حَاجِبٌ، وَالْأَمِيرُ مَنْكُبَرْسُ، وَأَتَابِكُهُ غَزْغَلِي، وَبَنُو بُرْسُقَ، وَسُنْقُرُ الْبُخَارِيُّ، وَقُرَاجَةُ السَّاقِي، وَمَعَهُ تِسْعُمِائَةِ حِمْلٍ مِنَ السِّلَاحِ. وَاسْتَهَانَ عَسْكَرُ مَحْمُودٍ بِعَسْكَرِ عَمِّهِ بِكَثْرَتِهِمْ وَشَجَاعَتِهِمْ، وَكَثْرَةِ خَيْلِهِمْ، فَلَمَّا الْتَقَوْا ضَعُفَتْ نُفُوسُ الْخُرَاسَانِيَّةِ لِمَا رَأَوْا لِهَذَا الْعَسْكَرِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ فَانْهَزَمَتْ مَيْمَنَةُ سَنْجَرَ وَمَيْسَرَتُهُ، وَاخْتَلَطَ أَصْحَابُهُ، وَاضْطَرَبَ أَمْرُهُمْ، وَسَارُوا مُنْهَزِمِينَ لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَنُهِبَ مِنْ أَثْقَالِهِمْ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَقَتَلَ أَهْلُ السَّوَادِ كَثِيرًا مِنْهُمْ.

وَوَقَفَ سَنْجَرُ بَيْنَ الْفِيَلَةِ فِي جَمْعٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَبِإِزَائِهِ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ، وَمَعَهُ أَتَابِكُهُ غَزْغَلِي، فَأَلْجَأَتْ سَنْجَرَ الضَّرُورَةُ، عِنْدَ تَعَاظُمِ الْخَطْبِ عَلَيْهِ، أَنْ يُقَدِّمَ الْفِيَلَةَ لِلْحَرْبِ، وَكَانَ مَنْ بَقِيَ مَعَهُ قَدْ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْهَزِيمَةِ، فَقَالَ: إِمَّا النَّصْرُ أَوِ الْقَتْلُ، وَأَمَّا الْهَزِيمَةُ فَلَا. فَلَمَّا تَقَدَّمَتِ الْفِيَلَةُ، وَرَآهَا خَيْلُ مَحْمُودٍ، تَرَاجَعَتْ بِأَصْحَابِهَا عَلَى أَعْقَابِهَا، فَأَشْفَقَ سَنْجَرُ عَلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا تُفْزِعُوا الصَّبِيَّ بِحَمَلَاتِ الْفِيَلَةِ، فَكَفُّوهَا عَنْهُمْ، وَانْهَزَمَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْقَلْبِ، وَأُسِرَ أَتَابِكُهُ غَزْغَلِي، فَكَانَ يُكَاتِبُ السُّلْطَانَ، وَيَعِدُهُ أَنَّهُ يَحْمِلُ إِلَيْهِ ابْنَ أَخِيهِ، فَعَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَاعْتَذَرَ بِالْعَجْزِ، فَقَتَلَهُ، وَكَانَ ظَالِمًا قَدْ بَلَغَ فِي ظُلْمِ أَهْلِ هَمَذَانَ، فَعَجَّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ. وَلَمَّا تَمَّ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ لِلسُّلْطَانِ سَنْجَرَ أَرْسَلَ مَنْ أَعَادَ الْمُنْهَزِمِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَيْهِ وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَاذَ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَأَرْسَلَ الْأَمِيرُ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ إِلَى الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ فِي الْخُطْبَةِ لِلسُّلْطَانِ سَنْجَرَ، فَخَطَبَ لَهُ فِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ. وَأَمَّا السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ فَإِنَّهُ سَارَ مِنَ الْكَسْرَةِ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَمَعَهُ وَزِيرُهُ أَبُو طَالِبٍ السُّمِيرَمِيُّ، وَالْأَمِيرُ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ، وَقُرَاجَةُ. وَأَمَّا سَنْجَرُ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى هَمَذَانَ، فَرَأَى قِلَّةَ عَسْكَرِهِ، وَاجْتِمَاعَ الْعَسَاكِرِ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ، فَرَاسَلَهُ فِي الصُّلْحِ، وَكَانَتْ وَالِدَتُهُ تُشِيرُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَتَقُولُ: قَدِ اسْتَوْلَيْتَ عَلَى غَزْنَةَ وَأَعْمَالِهَا، وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَمَلَكْتَ مَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَقَرَّرْتَ الْجَمْعَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَاجْعَلْ وَلَدَ أَخِيكَ كَأَحَدِهِمْ. وَكَانَتْ وَالِدَةُ سَنْجَرَ هِيَ جَدَّةَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَأَجَابَ إِلَى قَوْلِهَا، ثُمَّ كَثُرَتِ الْعَسَاكِرُ عِنْدَ سَنْجَرَ مِنْهُمُ الْبُرْسُقِيُّ، وَكَانَ عِنْدَ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ بِأَذْرَبِيجَانَ مِنْ حِينِ خُرُوجِهِ عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، فَقَوِيَ بِهِمْ. فَعَادَ الرَّسُولُ وَأَبْلَغَهُ عَنِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ أَنَّهُمْ لَا يُصَالِحُونَهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَلَمْ يُجِبْ إِلَى ذَلِكَ، وَسَارَ مِنْ هَمَذَانَ إِلَى كَرَجَ، وَأَعَادَ مُرَاسَلَةَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ فِي الصُّلْحِ، وَوَعَدَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا، وَتَحَالَفَا عَلَيْهِ. وَسَارَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ إِلَى عَمِّهِ سَنْجَرَ فِي شَعْبَانَ، فَنَزَلَ عَلَى جَدَّتِهِ وَالِدَةِ سَنْجَرَ، وَأَكْرَمَهُ عَمُّهُ، وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ، وَحَمَلَ لَهُ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ هَدِيَّةً عَظِيمَةً، فَقَبِلَهَا ظَاهِرًا، وَرَدَّهَا بَاطِنًا، وَلَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ سِوَى خَمْسَةِ أَفْرَاسٍ عَرَبِيَّةٍ وَكَتَبَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ إِلَى سَائِرِ

الْأَعْمَالِ الَّتِي بِيَدِهِ كَخُرَاسَانَ وَغَزْنَةَ، وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ، بِأَنْ يُخْطَبَ لِلسُّلْطَانِ مَحْمُودٍ بَعْدَهُ، وَكَتَبَ إِلَى بَغْدَاذَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَعَادَ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا أَخَذَ مِنَ الْبِلَادِ سِوَى الرَّيِّ، وَقَصَدَ بِأَخْذِهَا أَنْ تَكُونَ لَهُ فِي هَذِهِ الدِّيَارِ لِئَلَّا يُحَدِّثَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ نَفْسَهُ بِالْخُرُوجِ. ذِكْرُ غَزَاةِ إِيلْغَازِي بِلَادَ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْفِرِنْجُ مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَى نَوَاحِي حَلَبَ، فَمَلَكُوا بُزَاعَةَ وَغَيْرَهَا، وَخَرَّبُوا بَلَدَ حَلَبَ وَنَازَلُوهَا، وَلَمْ يَكُنْ بِحَلَبَ مِنَ الذَّخَائِرِ مَا يَكْفِيهَا شَهْرًا وَاحِدًا، وَخَافَهُمْ أَهْلُهَا خَوْفًا شَدِيدًا، وَلَوْ مُكِّنُوا مِنَ الْقِتَالِ لَمْ يَبْقَ بِهَا أَحَدٌ، لَكِنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَصَانَعَ الْفِرِنْجُ أَهْلَ حَلَبَ عَلَى أَنْ يُقَاسِمُوهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمُ الَّتِي بِبَابِ حَلَبَ. فَأَرْسَلَ أَهْلُ الْبَلَدِ إِلَى بَغْدَاذَ يَسْتَغِيثُونَ، وَيَطْلُبُونَ النَّجْدَةَ، فَلَمْ يُغَاثُوا. وَكَانَ الْأَمِيرُ إِيلْغَازِي، صَاحِبُ حَلْبَ، بِبَلَدِ مَارِدِينَ يَجْمَعُ الْعَسَاكِرَ وَالْمُتَطَوِّعَةَ لِلْغَزَاةِ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ نَحْوُ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَكَانَ مَعَهُ أُسَامَةُ بْنُ الْمُبَارَكِ بْنِ شِبْلٍ الْكِلَابِيُّ، وَالْأَمِيرُ طُغَانُ أَرْسِلَانَ بْنُ الْمَكْرِ، صَاحِبُ بَدْلِيسَ وَأَرْزَنَ، وَسَارَ بِهِمْ إِلَى الشَّامِ، عَازِمًا عَلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ. فَلَمَّا عَلِمَ الْفِرِنْجُ قُوَّةَ عَزْمِهِمْ عَلَى لِقَائِهِمْ، وَكَانُوا ثَلَاثَةَ آلَافِ فَارِسٍ وَتِسْعَةَ آلَافِ رَاجِلٍ، سَارُوا فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنَ الْأَثَارِبِ، بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ تَلُّ عِفْرِينَ، بَيْنَ جِبَالٍ لَيْسَ لَهَا طَرِيقٌ إِلَّا مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ قُتِلَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشٍ. وَظَنَّ الْفِرِنْجُ أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْلُكُ إِلَيْهِمْ لِضِيقِ الطَّرِيقِ، فَأَخْلَدُوا إِلَى الْمُطَاوَلَةِ وَكَانَتْ عَادَةً لَهُمْ، إِذَا رَأَوْا قُوَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَاسَلُوا إِيلْغَازِي يَقُولُونَ لَهُ: لَا تُتْعِبْ نَفْسَكَ بِالْمَسِيرِ إِلَيْنَا، فَنَحْنُ وَاصِلُونَ إِلَيْكَ، فَأَعْلَمَ أَصْحَابَهُ بِمَا قَالُوهُ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُ، فَأَشَارُوا بِالرُّكُوبِ مِنْ وَقْتِهِ، وَقَصْدِهِمْ فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَدَخَلَ النَّاسُ مِنَ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ تَعْتَقِدِ الْفِرِنْجُ أَنَّ أَحَدًا يَقْدَمُ عَلَيْهِمْ، لِصُعُوبَةِ الْمَسْلَكِ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ

يَشْعُرُوا إِلَّا وَأَوَائِلُ الْمُسْلِمِينَ قَدْ غَشِيَتْهُمْ، فَحَمَلَ الْفِرِنْجُ حَمْلَةً مُنْكِرَةً، فَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، فَلَقُوا بَاقِيَ الْعَسْكَرِ مُتَتَابِعَةً، فَعَادُوا مَعَهُمْ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ، وَأَحَاطُوا بِالْفِرِنْجِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ مِنْ سَائِرِ نَوَاحِيهِمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ غَيْرُ نَفَرٍ يَسِيرٍ، وَقُتِلَ الْجَمِيعُ، وَأُسِرُوا. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْأَسْرَى نَيِّفٌ وَسَبْعُونَ فَارِسًا مِنْ مُقَدَّمِيهِمْ، وَحُمِلُوا إِلَى حَلَبَ، فَبَذَلُوا فِي نُفُوسِهِمْ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمُ الْغَنَائِمَ الْكَثِيرَةَ. وَأَمَّا سِيرِجَالُ، صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، فَإِنَّهُ قُتِلَ وَحُمِلَ رَأْسُهُ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ مُنْتَصَفَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَمِمَّا مُدِحَ بِهِ إِيلْغَازِي فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ قَوْلُ الْعَظِيمِيِّ: قُلْ مَا تَشَاءُ، فَقَوْلُكَ الْمَقْبُولُ ... وَعَلَيْكَ بَعْدُ الْخَالِقِ التَّعْوِيلُ وَاسْتَبْشَرَ الْقُرْآنُ حِينَ نَصَرْتَهُ ... وَبَكَى لِفَقْدِ رِجَالِهِ الْإِنْجِيلُ ثُمَّ تَجَمَّعَ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ مَعَ غَيْرِهِمْ، فَلَقِيَهُمْ إِيلْغَازِي أَيْضًا، فَهَزَمَهُمْ، وَفَتَحَ مِنْهُمْ حِصْنَ الْأَثَارِبِ، وَزَرْدَنَا، وَعَادَ إِلَى حَلَبَ، وَقَرَّرَ أَمْرَهَا، وَأَصْلَحَ حَالَهَا، ثُمَّ عَبَرَ الْفُرَاتَ إِلَى مَارِدِينَ. ذِكْرُ وَقْعَةٍ أُخْرَى مَعَ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ جُوسُلِينُ، صَاحِبُ تَلِّ بَاشِرَ، فِي جَمْعٍ مِنَ الْفِرِنْجِ نَحْوِ مِائَتَيْ فَارِسٍ، مِنْ طَبَرِيَّةَ، فَكَبَسَ طَائِفَةً مِنْ طَيٍّ يُعْرَفُونَ بِبَنِي خَالِدٍ، فَأَخَذَهُمْ، وَأَخَذَ غَنَائِمَهُمْ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ بَقِيَّةِ قَوْمِهِمْ مِنْ بَنِي رَبِيعَةَ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ مِنْ وَرَاءِ الْحَزْنِ، بِوَادِي السُّلَالَةِ، بَيْنَ دِمَشْقَ وَطَبَرِّيَةَ، فَقَدَّمَ جُوسُلِينُ مِائَةً وَخَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَسَارَ هُوَ فِي

خَمْسِينَ فَارِسًا عَلَى طَرِيقٍ آخَرَ وَوَاعَدَهُمُ الصُّبْحَ لِيَكْبِسُوا بَنِي رَبِيعَةَ، فَوَصَلَهُمُ الْخَبَرُ بِذَلِكَ، فَأَرَادُوا الرَّحِيلَ، فَمَنَعَهُمْ أَمِيرٌ مِنْ بَنِي رَبِيعَةَ، وَكَانُوا فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَارِسًا، فَوَصَلَهُمُ الْمِائَةُ وَخَمْسُونَ مِنَ الْفِرِنْجِ، مُعْتَقِدِينَ أَنَّ جُوسُلِينُ قَدْ سَبَقَهُمْ، أَوْ سَيُدْرِكُهُمْ، فَضَّلَ الطَّرِيقَ، وَتَسَاوَتِ الْعِدَّتَانِ، فَاقْتَتَلُوا، وَطَعَنَتِ الْعَرَبُ خُيُولَهُمْ، فَجَعَلُوا أَكْثَرَهُمْ رَجَّالَةً، وَظَهَرَ مِنْ أَمِيرِهِمْ شَجَاعَةٌ، وَحُسْنُ تَدْبِيرٍ، وَجَوْدَةُ رَأْيٍ، فَقُتِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ سَبْعُونَ، وَأُسِرَ اثْنَا عَشَرَ مِنْ مُقَدَّمِيهِمْ، بَذَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي فِدَاءِ نَفْسِهِ مَالًا جَزِيلًا وَعِدَّةً مِنَ الْأَسْرَى. وَأَمَّا جُوسُلِينُ فَإِنَّهُ ضَلَّ فِي الطَّرِيقِ، وَبَلَغَهُ خَبَرُ الْوَقْعَةِ، فَسَارَ إِلَى طَرَابُلُسَ، فَجَمَعَ بِهَا جَمْعًا، وَأَسْرَى إِلَى عَسْقَلَانَ، فَأَغَارَ عَلَى بَلَدِهَا، فَهَزَمَهُ الْمُسْلِمُونَ هُنَاكَ، فَعَادَ مَفْلُولًا. ذِكْرُ قَتْلِ مَنْكُوبَرْسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الْأَمِيرُ مَنْكُوبَرْسُ الَّذِي كَانَ شِحْنَةَ بَغْدَاذَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَالُهُ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ: أَنَّهُ انْهَزَمَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَنَهْبَ عِدَّةَ مَوَاضِعَ مِنْ طَرِيقِ خُرَاسَانَ، وَأَرَادَ دُخُولَ بَغْدَاذَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ مَنْ مَنَعَهُ، فَعَادَ وَقَدِ اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَ السُّلْطَانَيْنِ سَنْجَرَ وَمَحْمُودٍ، فَقَصَدَ السُّلْطَانُ سَنْجَرَ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ سَيْفٌ وَكَفَنٌ، فَقَالَ لَهُ: أَنَا لَا أُؤَاخِذُ أَحَدًا، وَسَلَّمَهُ إِلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَقَالَ: هَذَا مَمْلُوكُكَ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا تُرِيدُ! فَأَخَذَهُ. وَكَانَ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ غَيْظٌ شَدِيدٌ لِأَسْبَابٍ مِنْهَا: أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ أَخَذَ سَرِّيَّتَهُ، وَالِدَةَ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ، قَهْرًا، قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَمِنْهَا: جُرْأَتُهُ عَلَيْهِ، وَاسْتِبْدَادُهُ بِالْأُمُورِ دُونَهُ، وَمَسِيرُهُ إِلَى شِحْنَكِيَّةَ بَغْدَاذَ، وَالسُّلْطَانُ كَارِهٌ لِذَلِكَ لَكِنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِ، وَمِنْهَا: مَا فَعَلَهُ بِالْعِرَاقِ مِنَ الظُّلْمِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَتَلَهُ صَبْرًا، وَأَرَاحَ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ مِنْ شَرِّهِ. ذِكْرُ قَتْلِ الْأَمِيرِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا قُتِلَ الْأَمِيرُ ابْنُ عُمَرَ، حَاجِبُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ قَدْ

صَارَ أَكْبَرَ أَمِيرٍ مَعَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَانْقَادَتِ الْعَسَاكِرُ لَهُ، فَحَسَدَهُ الْأُمَرَاءُ، وَأَفْسَدُوا حَالَهُ مَعَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَحَسَّنُوا لَهُ قَتْلَهُ، فَعَلِمَ، فَهَرَبَ إِلَى قَلْعَةِ بَرْجِينَ، وَهِيَ بَيْنَ بُرُوجِرْدَ وَكَرَجَ، وَكَانَ بِهَا أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَسَارَ مِنْهَا فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ إِلَى خُوزِسْتَانَ، وَكَانَتْ بِيَدِ أَقَبُورِي بْنِ بُرْسُقَ، وَابْنَيْ أَخَوَيْهِ: أَرْغِلِي بْنِ يَلْبَكِي، وَهِنْدُو بْنِ زِنْكِيٍّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَخَذَ عُهُودَهُمْ بِأَمَانِهِ وَحِمَايَتِهِ. فَلَمَّا سَارَ إِلَيْهِمْ أَرْسَلُوا عَسْكَرًا مَنَعُوهُ مِنْ قَصْدِهِمْ، فَلَقُوهُ عَلَى سِتَّةِ فَرَاسِخَ مِنْ تَسْتُرَ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَوَقَفَ بِهِ فَرَسُهُ، فَانْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهِ، فَتَشَبَّثَ ذَيْلُهُ بِسَرْجِهِ الْأَوَّلِ، فَأَزَالَهُ، فَعَاوَدَ التَّعَلُّقَ، فَأَبْطَأَ، فَأَدْرَكُوهُ وَأَسَرُوهُ، وَكَاتَبُوا السُّلْطَانَ مَحْمُودًا فِي أَمْرِهِ فَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَيْهِ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْمُرَابِطِينَ وَأَهْلِ قُرْطُبَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، كَانَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ عَسْكَرِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ وَبَيْنَ أَهْلِ قُرْطُبَةَ. وَسَبَبَهَا: أَنَّ أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَبَا بَكْرٍ يَحْيَى بْنَ رَوَّادٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَضْحَى خَرَجَ النَّاسُ مُتَفَرِّجِينَ، فَمَدَّ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ أَبِي بَكْرٍ يَدَهُ إِلَى امْرَأَةٍ فَأَمْسَكَهَا، فَاسْتَغَاثَتْ بِالْمُسْلِمِينَ، فَأَغَاثُوهَا، فَوَقَعَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَأَهْلِ الْبَلَدِ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ، وَدَامَتْ جَمِيعَ النَّهَارِ، وَالْحَرْبُ بَيْنَهُمْ قَائِمَةٌ عَلَى سَاقٍ، فَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ، فَتَفَرَّقُوا، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْأَمِيرِ أَبِي بَكْرٍ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَالْأَعْيَانُ، فَقَالُوا: الْمَصْلَحَةُ أَنْ تَقْتُلَ وَاحِدًا مِنَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ أَثَارُوا الْفِتْنَةَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَغَضِبَ مِنْهُ، وَأَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ، وَأَظْهَرَ السِّلَاحَ وَالْعُدَدَ يُرِيدُ قِتَالَ أَهْلِ الْبَلَدِ، فَرَكِبَ الْفُقَهَاءُ وَالْأَعْيَانُ وَالشُّبَّانُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَقَاتَلُوهُ فَهَزَمُوهُ، وَتَحَصَّنَ بِالْقَصْرِ، فَحَصَرُوهُ، وَتَسَلَّقُوا إِلَيْهِ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ بَعْدَ مَشَقَّةٍ وَتَعَبٍ، فَنَهَبُوا الْقَصْرَ، وَأَحْرَقُوا جَمِيعَ دُورِ الْمُرَابِطِينَ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْبَلَدِ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ. وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِأَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَاسْتَعْظَمَهُ، وَجَمَّعَ الْعَسَاكِرَ مِنْ صَنْهَاجَةَ، وَزَنَاتَةَ، وَالْبَرْبَرِ، وَغَيْرِهِمْ، فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنْهُمْ جَمْعٌ عَظِيمٌ، فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَحَصَرَ مَدِينَةَ قُرْطُبَةَ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا قِتَالَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَحْمِيَ دَمَهُ وَحَرِيمَهُ وَمَالَهُ، فَلَمَّا رَأَى أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ شِدَّةَ قِتَالِهِمْ دَخَلَ السُّفَرَاءُ بَيْنَهُمْ، وَسَعَوْا فِي

الصُّلْحِ فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُغَرِّمَ أَهْلَ قُرْطُبَةَ الْمُرَابِطِينَ مَا نَهَبُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَادَ عَنْ قِتَالِهِمْ. ذِكْرُ مُلْكِ عَلِيِّ بْنِ سُكْمَانَ الْبَصْرَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى عَلِيُّ بْنُ سُكْمَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا كَانَ قَدْ أَقْطَعَ الْبَصْرَةَ الْأَمِيرَ آفَسُنْقُرَ الْبُخَارِيَّ، فَاسْتَخْلَفَ بِهَا نَائِبًا يُعْرَفُ بِسُنْقُرَ الْبَيَاتِيِّ، فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ إِلَى حَدِّ أَنَّ الْمَاءَ بِالْبَصْرَةِ مِلْحٌ، فَأَقَامَ سُفُنًا وَجِرَارًا لِلضُّعَفَاءِ وَالسَّابِلَةِ، تَحْمِلُ لَهُمُ الْمَاءَ الْعَذْبَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ عَزَمَ هَذَا الْأَمِيرُ سُنْقُرُ عَلَى الْقَبْضِ عَلَى أَمِيرٍ اسْمُهُ غَزْغِلِي، مُقَدَّمِ الْأَتْرَاكِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَلَى الْبَصْرَةِ عِدَّةَ سِنِينَ، عَلَى أَمِيرٍ آخَرَ اسْمُهُ سُنْقُرُ أَلْبْ، وَهُوَ مُقَدَّمُ الْأَتْرَاكِ الْبَلْدَقِيَّةِ، فَاجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَقَبَضَاهُ وَقَيَّدَاهُ، وَأَخَذَا الْقَلْعَةَ وَمَا وَجَدَاهُ لَهُ. ثُمَّ إِنَّ سُنْقُرَ أَلْبْ أَرَادَ قَتْلَهُ، فَمَنَعَهُ غَزْغِلِي، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، فَلَمَّا قَتَلَهُ وَثَبَ غَزْغِلِي عَلَى سُنْقُرَ أَلْبْ فَقَتَلَهُ، وَنَادَى فِي النَّاسِ بِالسُّكُونِ، فَاطْمَأَنُّوا. وَكَانَ أَمِيرُ الْحَاجِّ مِنَ الْبَصْرَةِ هَذِهِ السَّنَةَ، أَمِيرٌ اسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ سُكْمَانَ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الْبَلْدَقِيَّةِ، وَكَانَ فِي نَفْسِ غَزْغِلِي عَلَيْهِ حِقْدٌ، حَيْثُ تَمَّ الْحَجُّ عَلَى يَدِهِ، وَلِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَأْخُذَ بِثَأْرِ سُنْقُرَ أَلْبْ، إِذْ هُوَ مُقَدَّمُ الْبَلْدَقِيَّةِ، فَأَرْسَلَ غَزْغِلِي إِلَى عَرَبِ الْبَرِيَّةِ يَأْمُرُهُمْ بِقَصْدِ الْحُجَّاجِ وَنَهْبِهِمْ، فَطَمِعُوا بِذَلِكَ، وَقَصَدُوا الْحُجَّاجَ فَقَاتَلُوهُمْ، وَحَمَاهُمُ ابْنُ سُكْمَانَ، وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا، وَجَعَلَ يُقَاتِلُهُمْ وَهُوَ سَائِرٌ نَحْوَ الْبَصْرَةِ إِلَى أَنْ بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَصْرَةِ يَوْمَانِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ غَزْغِلِي يَمْنَعُهُ مِنْ قَصْدِ الْبَصْرَةِ، فَقَصَدَ الْعَوْنِيُّ، أَسْفَلَ دِجْلَةَ، هَذَا وَالْعَرَبُ يُقَاتِلُونَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْعَوْنِيِّ حَمَلَ عَلَى الْعَرَبِ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَهَزَمَهُمْ. وَسَارَ غَزْغِلِي إِلَى عَلِيِّ بْنِ سُكْمَانَ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ، وَكَانَ عَلِيٌّ فِي قِلَّةٍ، فَتَحَارَبَا، وَاقْتَتَلَتِ الطَّائِفَتَانِ، فَأَصَابَتْ فَرَسَ غَزْغِلِي نُشَّابَةٌ فَسَقَطَ وَقُتِلَ، وَسَارَ عَلِيٌّ إِلَى الْبَصْرَةِ فَدَخَلَهَا، وَمَلَكَ الْقَلْعَةَ، وَأَقَرَّ عُمَّالَ آفُسُنْقُرَ الْبُخَارِيِّ وَنُوَّابَهُ، وَكَاتَبَهُ بِالطَّاعَةِ، وَكَانَ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ بِالْبَصْرَةِ، فَلَمْ يُجِبْهُ آقْسُنْقُرُ إِلَى ذَلِكَ، فَطَرَدَ حِينَئِذٍ

نُوَّابَ آقْسُنْقُرَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبَلَدِ، وَتَصَرَّفَ تَصَرُّفَ الْأَصْحَابِ، مُسْتَبِدًّا، وَاسْتَقَرَّ فِيهِ، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ إِلَى سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَسَيَّرَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ الْأَمِيرَ آقْسُنْقُرَ الْبُخَارِيَّ فِي عَسْكَرٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَأَخَذَهَا مِنْ عَلِيِّ بْنِ سُكْمَانَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِإِعَادَةِ مُجَاهِدِ الدِّينِ بَهْرُوزَ شِحْنَكِيَّةَ الْعِرَاقِ، كَانَ نَائِبَ دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ، فَعُزِلَ عَنْهَا. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ الْوَزِيرُ رَبِيبُ الدَّوْلَةِ، وَزِيرُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ الْكَمَالُ السُّمِيرَمِيُّ، وَكَانَ وَلَدَ رَبِيبِ الدَّوْلَةِ، وَزِيرِ الْمُسْتَرْشِدِ فَعُزِلَ، وَاسْتُعْمِلَ بَعْدَهُ عَمِيدُ الدُّوَلِهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ صَدَقَةَ، وَلُقِّبَ جَلَالَ الدِّينِ، وَهَذَا الْوَزِيرُ هُوَ عَمُّ الْوَزِيرِ جَلَالِ الدِّينِ أَبِي الرِّضَا صَدَقَةَ، الَّذِي وَزَرَ لِلرَّاشِدِ، وَالْأَتَابِكِ زِنْكِيٍّ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَفِيهَا ظَهَرَ قَبْرُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَقَبْرَا وَلَدَيْهِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بِالْقُرْبِ مِنَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَرَآهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَمْ تَبْلَ أَجْسَادُهُمْ، وَعِنْدَهُمْ فِي الْمَغَارَةِ قَنَادِيلُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، هَكَذَا ذَكَرَهُ حَمْزَةُ بْنُ أَسَدٍ التَّمِيمِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّامَغَانِيُّ، وَمَوْلِدُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِبَابِ الطَّاقِ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سِتٌّ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ وَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ الْأَكْمَلُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ ثَالِثَ صَفَرٍ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا هُدِمَ تَاجُ الْخَلِيفَةِ عَلَى دِجْلَةَ لِلْخَوْفِ مِنِ انْهِدَامِهِ، هَذَا التَّاجُ بَنَاهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُكْتَفِي بَعْدَ سَنَةِ تِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيهَا تَأَخَّرَ الْحَجُّ، فَاسْتَغَاثَ النَّاسُ، وَأَرَادُوا كَسْرَ الْمِنْبَرِ بِجَامِعِ الْقَصْرِ فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ لِيُسَاعِدَ الْأَمِيرَ نَظَرَ عَلَى تَسْيِيرِ الْحُجَّاجِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ خُرُوجُهُمْ مِنْ بَغْدَاذَ ثَانِيَ عَشَرِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَتَوَالَتْ عَلَيْهِمُ الْأَمْطَارُ إِلَى الْكُوفَةِ. وَفِيهَا أَرْسَلَ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ الْقَاضِيَ أَبَا جَعْفَرٍ عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ أَحْمَدَ الثَّقَفِيَّ، قَاضِي الْكُوفَةِ، إِلَى إِيلْغَازِي بْنِ أَرْتَقَ بِمَارِدِينَ، يَخْطُبُ ابْنَتَهُ، فَزَوَّجَهَا مِنْهُ إِيلْغَازِي، وَحَمَلَهَا الثَّقَفِيُّ مَعَهُ إِلَى الْحِلَّةِ، وَاجْتَازَ بِالْمَوْصِلِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، تُوُفِّيَ أَبُو الْوَفَا عَلِيُّ بْنُ عَقِيلِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، شَيْخُ الْحَنَابِلَةِ، فِي وَقْتِهِ، بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ حَسَنَ الْمُنَاظَرَةِ، سَرِيعَ الْخَاطِرِ، وَكَانَ قَدِ اشْتَغَلَ بِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي حَدَاثَتِهِ عَلَى أَبِي الْوَلِيدِ، فَأَرَادَ الْحَنَابِلَةُ قَتْلَهُ، فَاسْتَجَارَ بِبَابِ الْمَرَاتِبِ عِدَّةَ سِنِينَ، ثُمَّ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنَ الظُّهُورِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتُ مِنْ جُمَلْتِهَا كِتَابُ الْفُنُونِ.

ثم دخلت سنة أربع عشرة وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 514 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ عِصْيَانِ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ عَلَى أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ وَالْحَرْبِ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، كَانَ الْمَصَافُّ بَيْنَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ وَأَخِيهِ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ، وَمَسْعُودٌ حِينَئِذٍ لَهُ الْمَوْصِلُ وَأَذْرَبِيجَانُ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ دُبَيْسَ بْنَ صَدَقَةَ كَانَ يُكَاتِبُ جُيُوشْ بِكْ أَتَابِكَ مَسْعُودٍ، يَحُثُّهُ عَلَى طَلَبِ السَّلْطَنَةِ لِلْمَلِكِ مَسْعُودٍ، وَيَعِدُهُ الْمُسَاعَدَةَ، وَكَانَ غَرَضُهُ أَنْ يَخْتَلِفُوا فَيَنَالَ مِنَ الْجَاهِ وَعُلُوِّ الْمُنَزَّلَةِ مَا نَالَهُ أَبُوهُ بِاخْتِلَافِ السُّلْطَانَيْنِ بُرْكِيارُقَ وَمُحَمَّدٍ ابْنَيْ مُلْكِشَاهْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَكَانَ قَسِيمُ الدَّوْلَةِ الْبُرْسُقِيُّ، أَتَابِكُ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ، قَدْ فَارَقَ شِحْنَكِيَّةَ بَغْدَاذَ، وَقَدْ أَقْطَعَهُ مَسْعُودٌ مَرَاغَةَ، مُضَافَةً إِلَى الرَّحْبَةِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ دُبَيْسٍ عَدَاوَةٌ مَحْكَمَةٌ، فَكَاتَبَ دُبَيْسٌ جُيُوشْ بِكْ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِقَبْضِ الْبُرْسُقِيِّ، وَيَنْسُبُهُ إِلَى الْمَيْلِ إِلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَبَذَلَ لَهُ مَالًا كَثِيرًا عَلَى قَبْضِهِ، فَعَلِمَ الْبُرْسُقِيُّ ذَلِكَ، فَفَارَقَهُمْ إِلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَأَكْرَمَهُ وَأَعْلَى مَحِلَّهُ وَزَادَ فِي تَقْدِيمِهِ. وَاتَّصَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ الطُّغْرَائِيُّ بِالْمَلِكِ مَسْعُودٍ، فَكَانَ وَلَدُهُ أَبُو الْمُؤَيِّدِ، مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي إِسْمَاعِيلَ، يَكْتُبُ الطُّغْرَاءَ مَعَ الْمَلِكِ، فَلَمَّا وَصَلَ وَالِدُهُ اسْتَوْزَرَهُ مَسْعُودٌ، بَعْدَ أَنْ عَزَلَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ عَمَّارٍ، صَاحِبَ طَرَابُلُسَ، سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ بِبَابِ خُوَيٍّ، فَحَسَّنَ مَا كَانَ دُبَيْسٌ يُكَاتِبُ بِهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ وَالْخُرُوجِ عَنْ طَاعَتِهِ.

وَظَهَرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَبَلَغَ السُّلْطَانَ مَحْمُودًا الْخَبَرُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ يُخَوِّفُهُمْ إِنْ خَالَفُوهُ، وَيَعِدْهُمُ الْإِحْسَانُ إِنْ قَامُوا عَلَى طَاعَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ، فَلَمْ يُصْغُوا إِلَى قَوْلِهِ، وَأَظْهَرُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَمَا يُسِرُّونَهُ، وَخَطَبُوا لِلْمَلِكِ مَسْعُودٍ بِالسَّلْطَنَةِ، وَضَرَبُوا لَهُ النُّوَبَ الْخَمْسَ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى تَفَرُّقٍ مِنْ عَسَاكِرِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَقَوِيَ طَمَعُهُمْ، وَأَسْرَعُوا السَّيْرَ إِلَيْهِ لِيَلْقَوْهُ وَهُوَ مُخَفَّفٌ مِنَ الْعَسَاكِرِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَسَارَ أَيْضًا إِلَيْهِمْ، فَالْتَقَوْا عِنْدَ عَقَبَةِ أَسَدَابَاذَ، مُنْتَصَفَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَاقْتَتَلُوا مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ. وَكَانَ الْبُرْسُقِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَأَبْلَى يَوْمَئِذٍ بَلَاءً حَسَنًا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ، آخِرَ النَّهَارِ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ وَمُقَدَّمِيهِمْ، وَأُسِرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ وَزِيرُ مَسْعُودٍ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِقَتْلِهِ، وَقَالَ: قَدْ ثَبَتَ عِنْدِي فَسَادُ دِينِهِ وَاعْتِقَادِهِ، فَكَانَتْ وِزَارَتُهُ سَنَةً وَشَهْرًا، وَقَدْ جَاوَزَ سِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ حَسَنَ الْكِتَابَةِ وَالشِّعْرِ، يَمِيلُ إِلَى صَنْعَةِ الْكِيمْيَاءِ، وَلَهُ فِيهَا تَصَانِيفُ قَدْ ضَيَّعَتْ مِنَ النَّاسِ أَمْوَالًا لَا تُحْصَى. وَأَمَّا الْمَلِكُ مَسْعُودٌ فَإِنَّهُ لَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَتَفَرَّقُوا قَصَدَ جَبَلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَقْعَةِ اثْنَا عَشَرَ فَرْسَخًا، فَاخْتَفَى فِيهِ وَمَعَهُ غِلْمَانٌ صِغَارٌ، فَأَرْسَلَ رِكَابِيَّهُ عُثْمَانَ إِلَى أَخِيهِ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَسَارَ إِلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ وَأَعْلَمَهُ حَالَ أَخِيهِ مَسْعُودٍ، فَرَقَّ لَهُ وَبَذَلَ لَهُ الْأَمَانَ، وَأَمَرَ آقْسُنْقُرَ الْبُرْسُقِيَّ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ، وَتَطْبِيبِ قَلْبِهِ، وَإِعْلَامِهِ بِعَفْوِهِ عَنْهُ، وَإِحْضَارِهِ، فَكَانَ مَسْعُودٌ بَعْدَ أَنْ أُرْسِلَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ قَدْ وَصَلَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ إِلَيْهِ، وَحَسَّنَ لَهُ اللَّحَاقَ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَتْ لَهُ، وَمَعَهَا أَذْرَبِيجَانُ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمُكَاتَبَةِ دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ لِيَجْتَمِعَ بِهِ، وَيَكْثُرَ جَمْعُهُ، وَيُعَاوِدَ طَلَبَ السَّلْطَنَةِ، فَسَارَ مَعَهُ مِنْ مَكَانِهِ. وَوَصَلَ الْبُرْسُقِيُّ فَلَمْ يَرَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِمَسِيرِهِ، فَسَارَ فِي أَثَرِهِ، وَعَزَمَ عَلَى طَلَبِهِ وَلَوْ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَجَدَّ فِي السَّيْرِ، فَأَدْرَكَهُ عَلَى ثَلَاثِينَ فَرْسَخًا مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ، وَعَرَّفَهُ عَفْوَ أَخِيهِ عَنْهُ، وَضَمِنَ لَهُ مَا أَرَادَ، وَأَعَادَهُ إِلَى الْعَسْكَرِ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ الْعَسَاكِرَ بِاسْتِقْبَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَأَمَرَ السُّلْطَانُ أَنْ يَنْزِلَ عِنْدَ وَالِدَتِهِ، وَجَلَسَ لَهُ، وَأَحْضَرَهُ، وَاعْتَنَقَا، وَبَكَيَا، وَانْعَطَفَ عَلَيْهِ مَحْمُودٌ، وَوَفَى لَهُ بِمَا بَذَلَهُ، وَخَلَطَهُ بِنَفْسِهِ فِي كُلِّ

أَفْعَالِهِ، فَعُدَّ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ مَحْمُودٍ، وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ بِالسَّلْطَنَةِ لِمَسْعُودٍ بِأَذْرَبِيجَانَ، وَبَلَدِ الْمَوْصِلِ، وَالْجَزِيرَةِ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَأَمَّا أَتَابِكُهُ جُيُوشْ بِكْ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى عَقَبَةِ أَسَادَابَاذَ، وَانْتَظَرَ الْمَلِكَ مَسْعُودًا، فَلَمْ يَرَهُ، وَانْتَظَرَهُ بِمَكَانٍ آخَرَ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَيِسَ مِنْهُ سَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا، وَجَمَعَ الْغَلَّاتِ مِنَ السَّوَادِ إِلَيْهَا، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ عَسْكَرُهُ، فَلَمَّا سَمِعَ بِمَا فَعَلَهُ السُّلْطَانُ مَعَ أَخِيهِ، وَأَنَّهُ عِنْدَهُ، عَلِمَ أَنَّهُ لَا مُقَامَ لَهُ عَلَى هَذَا الْحَالِ، فَسَارَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ الصَّيْدَ، فَوَصَلَ إِلَى الزَّابِ، وَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: إِنَّنِي قَدْ عَزَمْتُ عَلَى قَصْدِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَأُخَاطِرُ بِنَفْسِي، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَوَصَلَ وَهُوَ بِهَمَذَانَ، وَدَخَلَ إِلَيْهِ، فَطَيَّبَ قَلْبَهُ وَأَمَّنَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا دُبَيْسٌ فَإِنَّهُ كَانَ بِالْعِرَاقِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ انْهِزَامِ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ نَهَبَ الْبِلَادَ وَخَرَّبَهَا، وَفَعَلَ فِيهَا الْأَفَاعِيلَ الْقَبِيحَةَ، إِلَى أَنْ أَتَاهُ رَسُولُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَطَيَّبَ قَلْبَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ. ذِكْرُ حَالِ دُبَيْسٍ وَمَا كَانَ مِنْهُ لَمَّا كَانَ مِنْهُ بِبَغْدَاذَ وَسَوَادِهَا مِنَ النَّهْبِ وَالْقَتْلِ وَالْفَسَادِ مَا لَمْ يَجْرِ مِثْلُهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ رِسَالَةً يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَيَأْمُرُهُ بِالْكَفِّ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ وَطَيَّبَ قَلْبَهُ، وَأَمَرَهُ بِمَنْعِ أَصْحَابِهِ عَنِ الْفَسَادِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَسَارَ بِنَفْسِهِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَضَرَبَ سُرَادِقَهُ بِإِزَاءِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَأَظْهَرَ الضَّغَائِنَ الَّتِي فِي نَفْسِهِ، وَكَيْفَ طِيفَ بِرَأْسِ أَبِيهِ، وَتَهَدَّدَ الْخَلِيفَةُ، وَقَالَ: إِنَّكَ أَرْسَلْتَ تَسْتَدْعِي السُّلْطَانَ، فَإِنْ أَعَدْتُمُوهُ، وَإِلَّا فَعَلْتُ وَصَنَعْتُ. فَأُعِيدَ جَوَابُ رِسَالَتِهِ: أَنَّ عَوْدَ السُّلْطَانِ، وَقَدْ سَارَ عَنْ هَمَذَانَ، غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلَكِنَّا نُصْلِحُ حَالَكَ مَعَهُ. وَكَانَ الرَّسُولُ شَيْخَ الشُّيُوخِ إِسْمَاعِيلَ، فَكَفَّ عَلَى أَنْ تَسِيرَ الرُّسُلُ فِي الِاتِّفَاقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ، وَعَادَ عَنْ بَغْدَاذَ فِي رَجَبٍ. وَوَصَلَ السُّلْطَانُ فِي رَجَبٍ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَرْسَلَ دُبَيْسٌ زَوْجَتَهُ ابْنَةَ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ إِلَيْهِ، وَمَعَهَا مَالٌ كَثِيرٌ، وَهَدِيَّةٌ نَفِيسَةٌ، وَسَأَلَ الصَّفْحَ عَنْهُ فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ عَلَى

قَاعِدَةٍ امْتُنِعَ مِنْهَا، وَلَزِمَ لَجَاجَهُ، وَنَهَبَ جَشِيرًا لِلسُّلْطَانِ. فَسَارَ السُّلْطَانُ عَنْ بَغْدَاذَ، فِي شَوَّالٍ، إِلَى قَصْدِ دُبَيْسٍ بِالْحِلَّةِ، وَاسْتَصْحَبَ أَلْفَ سَفِينَةٍ لِيَعْبُرَ فِيهَا، فَلَمَّا عَلِمَ دُبَيْسٌ مَسِيرَ السُّلْطَانِ أَرْسَلَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُ، وَكَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُغَالِطَهُ لِيَتَجَهَّزَ، فَأَرْسَلَ نِسَاءَهُ إِلَى الْبَطِيحَةِ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُ وَسَارَ عَنِ الْحِلَّةِ، بَعْدَ أَنْ نَهَبَهَا، إِلَى إِيلْغَازِي مُلْتَجِئًا إِلَيْهِ، وَوَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى الْحِلَّةِ، فَلَمْ يَرَ أَحَدًا، فَبَاتَ بِهَا لَيْلَةً وَاحِدَةً وَعَادَ. وَأَقَامَ دُبَيْسٌ عِنْدَ إِيلْغَازِي، وَتَرَدَّدَ مَعَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ أَخَاهُ مَنْصُورًا فِي جَيْشٍ مِنْ قَلْعَةِ جَعْبَرَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَنَظَرَ الْحِلَّةَ، وَالْكُوفَةَ، وَانْحَدَرَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى يَرْنَقْشَ الزَّكْوِيِّ يَسْأَلُهُ أَنْ يُصْلِحَ حَالَهُ مَعَ السُّلْطَانِ، فَلَمْ يَتِمَّ أَمْرُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ دُبَيْسٍ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، وَيَدْعُوهُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَسَارَ مِنْ قَلْعَةِ جَعْبَرَ إِلَى الْحِلَّةِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَدَخَلَهَا وَمَلَكَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ يَعْتَذِرُ، وَيَعِدُ مِنْ نَفْسِهِ الطَّاعَةَ، فَلَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ. وَسُيِّرَتْ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرُ، فَلَمَّا قَارَبُوهُ فَارَقَ الْحِلَّةَ، وَدَخَلَ إِلَى الْأَزْبَرِ، وَهُوَ نَهْرُ سِنْدَادَ، وَوَصَلَ الْعَسْكَرُ إِلَيْهَا وَهِيَ فَارِغَةٌ قَدْ أُجْلِيَ أَهْلُهَا عَنْهَا وَلَيْسَ بِهَا إِقَامَةٌ فَكَانَتِ الْمِيرَةُ تُنْقَلُ مِنْ بَغْدَاذَ، وَكَانَ مُقَدَّمَ الْعَسْكَرِ سَعْدُ الدَّوْلَةِ يَرْنَقْشَ الزَّكْوِيُّ، فَتَرَكَ بِالْحِلَّةِ خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ، وَبِالْكُوفَةِ جَمَاعَةً أُخْرَى تَحَفَظُ الطَّرِيقَ عَلَى دُبَيْسٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَسْكَرِ وَاسِطَ يَحْفَظُ طَرِيقَ الْبَطِيحَةِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَعَبَرَ عَسْكَرُ السُّلْطَانِ إِلَى دُبَيْسٍ، فَبَقِيَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ نَهْرٌ يُخَاضُ فِيهِ مَوَاضِعُ، فَتَرَاسَلَ يَرْنَقْشُ وَدُبَيْسٌ، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُرْسِلَ دُبَيْسٌ أَخَاهُ مَنْصُورًا رَهِينَةً، وَيُلَازِمَ الطَّاعَةَ، فَفَعَلَ، وَعَادَ الْعَسْكَرُ إِلَى بَغْدَاذَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ. ذِكْرُ خُرُوجِ الْكُرْجِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَمُلْكِ تِفْلِيسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْكُرْجُ، وَهُمُ الْخَزَرُ، إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا قَدِيمًا يُغِيرُونَ، فَامْتَنَعُوا أَيَّامَ السُّلْطَانِ مُلْكِشَاهْ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ

السَّنَةُ خَرَجُوا وَمَعَهُمْ قُفْجَاقُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ فَتَكَاتَبَ الْأُمَرَاءُ الْمُجَاوِرُونَ لِبِلَادِهِمْ، وَاجْتَمَعُوا، مِنْهُمُ: الْأَمِيرُ إِيلْغَازِي وَدُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ، وَكَانَ عِنْدَهُ، وَالْمَلِكُ طُغْرَلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَتَابِكُهُ كُنْتَغْدِي، وَكَانَ لِطُغْرَلَ بَلَدُ أَرَّانَ، وَنَقْجُوَانُ إِلَى أَرَسَ، فَاجْتَمَعُوا وَسَارُوا إِلَى الْكُرْجِ، فَلَمَّا قَارَبُوا تِفْلِيسَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ يَبْلُغُونَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا الْتَقَوْا وَاصْطَفَّتِ الطَّائِفَتَانِ لِلْقِتَالِ، فَخَرَجَ مِنَ الْقُفْجَاقِ مِائَتَا رَجُلٍ، فَظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ مُسْتَأْمَنُونَ، فَلَمْ يَحْتَرِزُوا مِنْهُمْ، وَدَخَلُوا بَيْنَهُمْ، وَرَمَوْا بِالنُّشَّابِ، فَاضْطَرَبَ صَفُّ الْمُسْلِمِينَ، فَظَنَّ مَنْ بَعُدَ أَنَّهَا هَزِيمَةٌ، فَانْهَزَمُوا، وَتَبِعَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا مُنْهَزِمِينَ، وَلِشِدَّةِ الزِّحَامِ صَدَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَقُتِلَ مِنْهُمْ عَالَمٌ عَظِيمٌ. وَتَبِعَهُمُ الْكُفَّارُ عَشَرَةَ فَرَاسِخَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، فَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَأَسَرُوا أَرْبَعَةَ آلَافِ رَجُلٍ، وَنَجَا الْمَلِكُ طُغْرَلُ، وَإِيلْغَازِي، وَدُبَيْسٌ، وَعَادَ الْكُرْجُ فَنَهَبُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ، وَحَصَرُوا مَدِينَةَ تَفْلِيسَ، وَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ لِمَنْ بِهَا، وَعَظُمَ الْأَمْرُ، وَتَفَاقَمَ الْخَطْبُ عَلَى أَهْلِهَا، وَدَامَ الْحِصَارُ إِلَى سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ فَمَلَكُوهَا عَنْوَةً. وَكَانَ أَهْلُهَا لَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَاكِ قَدْ أَرْسَلُوا قَاضِيَهَا وَخَطِيبَهَا إِلَى الْكُرْجِ فِي طَلَبِ الْأَمَانِ، فَلَمْ تُصْغِ الْكُرْجُ إِلَيْهِمَا فَأَخْرَقُوا بِهِمَا، وَدَخَلُوا الْبَلَدَ قَهْرًا وَغَلَبَةً، وَاسْتَبَاحُوهُ وَنَهَبُوهُ، وَوَصَلَ الْمُسْتَنْفِرُونَ مِنْهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ مُسْتَصْرَخِينَ وَمُسْتَنْصِرِينَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَبَلَغَهُمْ أَنَّ السُّلْطَانَ مَحْمُودًا بِهَمَذَانَ، فَقَصَدُوهُ وَاسْتَغَاثُوا بِهِ، فَسَارَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَأَقَامَ بِمَدِينَةِ تِبْرِيزَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَأَنْفَذَ عَسْكَرًا إِلَى الْكُرْجِ، وَسَيَرِدُ ذِكْرُ مَا كَانَ مِنْهُمْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ غَزَوَاتِ إِيلْغَازِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ خِلَعًا مَعَ سَدِيدِ الدَّوْلَةِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ لِنَجْمِ الدِّينِ إِيلْغَازِي، وَشَكَرَهُ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مِنْ غَزْوِ الْفِرِنْجِ، وَيَأْمُرُهُ بِإِبْعَادِ دُبَيْسٍ عَنْهُ، وَسَارَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ عَمَّارٍ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ طَرَابُلُسَ، مَعَ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ إِلَى إِيلْغَازِي لِيُقِيمَ عِنْدَهُ، يَعْبُرُ الْأَوْقَاتَ بِمَا يُنْعِمُ بِهِ عَلَيْهِ، فَاعْتَذَرَ عَنْ إِبْعَادِ دُبَيْسٍ، وَوَعَدَ بِهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى

الْفِرِنْجِ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ لَهُمْ جَمْعًا، فَالْتَقَوْا بِمَوْضِعٍ اسْمُهُ ذَاتُ الْبَقْلِ مِنْ أَعْمَالِ حَلَبَ، فَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَكَانَ الظَّفَرُ لَهُ. ثُمَّ اجْتَمَعَ إِيلْغَازِي وَأَتَابِكُ طُغْتِكِينُ، صَاحِبُ دِمَشْقَ، وَحَصَرُوا الْفِرِنْجَ فِي مَعَرَّةِ قِنَّسْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ أَشَارَ أَتَابِكُ طُغْتِكِينُ بِالْإِفْرَاجِ عَنْهُمْ، كَيْلَا يَحْمِلَهُمُ الْخَوْفُ عَلَى أَنْ يَسْتَقْتِلُوا وَيَخْرُجُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَرُبَّمَا ظَفِرُوا، وَكَانَ أَكْثَرَ خَوْفِهِ مِنْ دُبُرِ خَيْلِ التُّرْكُمَانِ، وَجَوْدَةِ خَيْلِ الْفِرِنْجِ، فَأَفْرَجَ لَهُمْ إِيلْغَازِي، فَسَارُوا عَنْ مَكَانِهِمْ وَتَخَلَّصُوا، وَكَانَ إِيلْغَازِي لَا يُطِيلُ الْمُقَامَ فِي بَلَدِ الْفِرِنْجِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ التُّرْكُمَانَ لِلطَّمَعِ، فَيَحْضُرُ أَحَدُهُمْ وَمَعَهُ جِرَابٌ فِيهِ دَقِيقٌ، وَشَاةٌ، وَيَعُدُّ السَّاعَاتِ لِغَنِيمَةٍ يَتَعَجَّلُهَا، وَيَعُودُ، فَإِذَا طَالَ مُقَامُهُمْ تَفَرَّقُوا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا يُفَرِّقُهَا فِيهِمْ. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ أَمْرِ مُحَمَّدِ بْنِ تُومَرْتَ وَعَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَمُلْكِهِمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِ الْمَهْدِيِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تُومَرْتَ الْعَلَوِيِّ، الْحَسَنِيِّ، وَقَبِيلَتُهُ مِنَ الْمَصَامِدَةِ، تُعْرَفُ بِهَرْغَةَ فِي جَبَلِ السُّوسِ، مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، نَزَلُوا بِهِ لَمَّا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ مَعَ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ، وَنَذْكُرُ أَمْرَهُ وَأَمْرَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ هَذِهِ السَّنَةَ إِلَى أَنْ فَرَغَ مِنْ مُلْكِ الْمَغْرِبِ لِنُتْبِعَ بَعْضَ الْحَادِثَةِ بَعْضًا. وَكَانَ ابْنُ تُومَرْتَ قَدْ رَحَلَ فِي شَبِيبَتِهِ إِلَى بِلَادِ الشَّرْقِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَكَانَ فَقِيهًا، فَاضِلًا، عَالِمًا بِالشَّرِيعَةِ، حَافِظًا لِلْحَدِيثِ، عَارِفًا بِأُصُولَيِ الدِّينِ وَالْفِقْهِ، مُتَحَقِّقًا بِعِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ وَرِعًا، نَاسِكًا، وَوَصَلَ فِي سَفَرِهِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَاجْتَمَعَ بِالْغَزَالِيِّ، وَإِلْكِيَا، وَاجْتَمَعَ بِأَبِي بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيِّ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَقِيلَ إِنَّهُ جَرَى لَهُ حَدِيثٌ مَعَ الْغَزَالِيِّ فِيمَا فَعَلَهُ بِالْمَغْرِبِ مِنَ التَّمَلُّكِ، فَقَالَ لَهُ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ هَذَا لَا يَتَمَشَّى فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، وَلَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ لِأَمْثَالِنَا. كَذَا قَالَ بَعْضُ مُؤَرِّخِي الْمَغْرِبِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِ، فَحَجَّ مِنْ هُنَاكَ وَعَادَ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَلَمَّا رَكِبَ الْبَحْرَ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، مُغْرِبًا، غَيَّرَ الْمُنْكَرَ فِي الْمَرْكِبِ، وَأَلْزَمَ مَنْ بِهِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، وَسُلْطَانُهَا حِينَئِذٍ يَحْيَى بْنُ تَمِيمٍ، سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَنَزَلَ بِمَسْجِدٍ قِبْلِيِّ مَسْجِدِ السَّبْتِ، وَلَيْسَ لَهُ سِوَى

رَكْوَةٌ، وَعَصًا، وَتَسَامَعَ بِهِ أَهْلُ الْبَلَدِ، فَقَصَدُوهُ يَقْرَءُونَ عَلَيْهِ أَنْوَاعَ الْعُلُومِ، وَكَانَ إِذَا مَرَّ بِهِ مُنْكَرٌ غَيَّرَهُ وَأَزَالَهُ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ أَحْضَرَهُ الْأَمِيرُ يَحْيَى مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فَلَمَّا رَأَى سَمْتَهُ وَسَمِعَ كَلَامَهُ أَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ، وَسَأَلَهُ الدُّعَاءَ. وَرَحَلَ عَنِ الْمَدِينَةِ وَأَقَامَ بِالْمُنَسْتِيرِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّالِحِينَ، مُدَّةً وَسَارَ إِلَى بِجَايَةَ فَفَعَلَ فِيهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا إِلَى قَرْيَةٍ بِالْقُرْبِ مِنْهَا اسْمُهَا مَلَّالَةُ، فَلَقِيَهُ بِهَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَلِيٍّ، فَرَأَى فِيهِ مِنَ النَّجَابَةِ وَالنَّهْضَةِ مَا تَفَرَّسَ فِيهِ التَّقَدُّمَ، وَالْقِيَامَ بِالْأَمْرِ، فَسَأَلَهُ عَنِ اسْمِهِ وَقَبِيلَتِهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ مِنْ قِيسِ عَيْلَانَ، ثُمَّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَقَالَ ابْنُ تُومَرْتَ: هَذَا الَّذِي بَشَّرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ هَذَا الدِّينَ، فِي آخِرِ الزَّمَانِ، بِرَجُلٍ مِنْ قِيسٍ، فَقِيلَ: مِنْ أَيِّ قَيْسٍ؟ فَقَالَ: مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ» . فَاسْتَبْشَرَ بِعَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَسُرَّ بِلِقَائِهِ، وَكَانَ مَوْلِدُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ فِي مَدِينَةِ تَاجَرَةَ، مِنْ أَعْمَالِ تِلِمْسَانَ، وَهُوَ مِنْ عَائِذٍ، قَبِيلٌ مِنْ كَوْمَرَةَ، نَزَلُوا بِذَلِكَ الْإِقْلِيمِ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. وَلَمْ يَزَلِ الْمَهْدِيُّ مُلَازِمًا لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى مُرَّاكِشَ دَارِ مَمْلَكَةِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ يُوسُفَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ تَاشَفِينَ، فَرَأَى فِيهَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ أَكْثَرَ مِمَّا عَايَنَهُ فِي طَرِيقِهِ، فَزَادَ فِي أَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، وَحَسُنَتْ ظُنُونُ النَّاسِ فِيهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ فِي طَرِيقِهِ، إِذْ رَأَى أُخْتَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْكِبِهَا، وَمَعَهَا مِنَ الْجَوَارِي الْحِسَانِ عِدَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَهُنَّ مُسْفِرَاتٌ، وَكَانَتْ هَذِهِ عَادَةَ الْمُلَثَّمِينَ يُسْفِرُ نِسَاؤُهُمْ عَنْ وُجُوهِهِنَّ، وَيَتَلَثَّمُ الرِّجَالُ، فَحِينَ رَأَى النِّسَاءَ كَذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَيْهِنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِسَتْرِ وُجُوهِهِنَّ وَضَرَبَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ دَوَابَّهُنَّ، فَسَقَطَتْ أُخْتُ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دَابَّتِهَا، فَرُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ، فَأَحْضَرَهُ، وَأَحْضَرَ الْفُقَهَاءَ لِيُنَاظِرَهُ، فَأَخَذَ يَعِظُهُ وَيُخَوِّفُهُ، فَبَكَى أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ أَنْ يُنَاظِرَهُ الْفُقَهَاءُ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَقُومُ لَهُ لِقُوَّةِ أَدِلَّتِهِ فِي الَّذِي فَعَلَهُ. وَكَانَ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُ وُزَرَائِهِ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ وُهَيْبٍ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ لَا يُرِيدُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، إِنَّمَا يُرِيدُ إِثَارَةَ فِتْنَةٍ، وَالْغَلَبَةَ عَلَى بَعْضِ النَّوَاحِي، فَاقْتُلْهُ وَقَلِّدْنِي دَمَهُ. فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ فَاحْبِسْهُ، وَخَلِّدْهُ فِي السِّجْنِ، وَإِلَّا أَثَارَ شَرًّا لَا يُمْكِنُ تَلَافِيهِ. فَأَرَادَ حَبْسَهُ، فَمَنَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَكَابِرِ الْمُلَثَّمِينَ يُسَمَّى بَيَانَ بْنَ عُثْمَانَ فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مُرَّاكِشَ، فَسَارَ إِلَى

أَغْمَاتَ، وَلَحِقَ بِالْجَبَلِ، فَسَارَ فِيهِ، حَتَّى الْتَحَقَ بِالسُّوسِ الَّذِي فِيهِ قَبِيلَةُ هَرْغَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمَصَامِدَةِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشَرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَأَتَوْهُ، وَاجْتَمَعُوا حَوْلَهُ. وَتَسَامَعَ بِهِ أَهْلُ تِلْكَ النَّوَاحِي، فَوَفَدُوا عَلَيْهِ، وَحَضَرَ أَعْيَانُهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَجَعَلَ يَعِظُهُمْ، وَيُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَمَا غَيَّرَ مِنْهَا، وَمَا حَدَثَ مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ طَاعَةُ دَوْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الدُّوَلِ لِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ، بَلِ الْوَاجِبُ قِتَالُهُمْ، وَمَنْعُهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ، فَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ نَحْوَ سَنَةٍ، وَتَابَعَتْهُ هَرْغَةُ قَبِيلَتُهُ، وَسَمَّى أَتْبَاعَهُ الْمُوَحِّدِينَ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَ بِالْمَهْدِيِّ الَّذِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا، وَأَنَّ مَكَانَهُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَغْرِبُ الْأَقْصَى، فَقَامَ إِلَيْهِ عَشَرَةُ رِجَالٍ، أَحَدُهُمْ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، فَقَالُوا: لَا يُوجَدُ هَذَا إِلَّا فِيكَ فَأَنْتَ الْمَهْدِيُّ، فَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ. فَانْتَهَى خَبَرُهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، فَجَهَّزَ جَيْشًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَسَيَّرَهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَرُبُوا مِنَ الْجَبَلِ الَّذِي هُوَ فِيهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَنِي، وَأَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ، فَالرَّأْيُ أَنْ أَخْرُجَ بِنَفْسِي إِلَى غَيْرِ هَذِهِ الْبِلَادِ لِتَسْلَمُوا أَنْتُمْ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ تُوفَيَانَ مِنْ مَشَايِخِ هَرْغَةَ: هَلْ تَخَافُ شَيْئًا مِنَ السَّمَاءِ؟ فَقَالَ: لَا، بَلْ مِنَ السَّمَاءِ تُنْصَرُونَ، فَقَالَ ابْنُ تُوَفَيَانَ: فَلْيَأْتِنَا كُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ. وَوَافَقَهُ جَمِيعُ قَبِيلَتِهِ، فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: أَبْشِرُوا بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِهَذِهِ الشِّرْذِمَةِ، وَبَعْدَ قَلِيلٍ تَسْتَأْصِلُونَ دَوْلَتَهُمْ، وَتَرِثُونَ أَرْضَهُمْ، فَنَزَلُوا مِنَ الْجَبَلِ، وَلَقُوا جَيْشَ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، فَهَزَمُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَسْلَابَهُمْ، وَقَوِيَ ظَنُّهُمْ فِي صِدْقِ الْمَهْدِيِّ، حَيْثُ ظَفِرُوا، كَمَا ذَكَرَ لَهُمْ. وَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ أَفْوَاجُ الْقَبَائِلِ، مِنَ الْحِلَلِ الَّتِي حَوْلَهُ، شَرْقًا وَغَرْبًا، وَبَايَعُوهُ، وَأَطَاعَتْهُ قَبِيلَةُ هَنْتَاتَةُ، وَهِيَ مِنْ أَقْوَى الْقَبَائِلِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِمْ، وَأَتَاهُ رُسُلُ أَهْلِ تِينِ مَلَّلَ بِطَاعَتِهِمْ، وَطَلَبُوهُ إِلَيْهِمْ، فَتَوَجَّهَ إِلَى جَبَلِ تِينِ مَلَّلَ وَاسْتَوْطَنَهُ، وَأَلَّفَ لَهُمْ كِتَابًا فِي التَّوْحِيدِ، وَكِتَابًا فِي الْعَقِيدَةِ، وَنَهَجَ لَهُمْ طَرِيقَ الْأَدَبِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْقَصِيرِ مِنَ الثِّيَابِ، الْقَلِيلِ الثَّمَنِ، وَهُوَ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهِمْ، وَإِخْرَاجِ الْأَشْرَارِ مِنْ بَيْنٍ أَظْهُرِهِمْ. وَأَقَامَ بِتِينِ مَلَّلَ وَبَنَى لَهُ مَسْجِدًا خَارِجَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ الصَّلَوَاتِ هُوَ

وَجَمْعٌ مِمَّنْ مَعَهُ عِنْدَهُ، وَيَدْخُلُ الْبَلَدَ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَلَمَّا رَأَى كَثْرَةَ أَهْلِ الْجَبَلِ، وَحَصَانَةَ الْمَدِينَةِ، خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا بِغَيْرِ سِلَاحٍ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ عِدَّةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ، فَخَرَجُوا عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَارُّونَ فَقَتَلُوهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَقَتَلَ فِيهَا وَأَكْثَرَ، وَسَبَى الْحَرِيمَ، وَنَهَبَ الْأَمْوَالَ، فَكَانَ عِدَّةُ الْقَتْلَى خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَسَّمَ الْمَسَاكِنَ وَالْأَرْضَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَبَنَى عَلَى الْمَدِينَةِ سُورًا، وَقَلْعَةً عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ عَالٍ. وَفِي جَبَلِ تِينِ مَلَّلَ أَنْهَارٌ جَارِيَةٌ، وَأَشْجَارٌ، وَزُرُوعٌ، وَالطَّرِيقُ إِلَيْهِ صَعُبٌ، فَلَا جَبَلَ أَحْصَنُ مِنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا خَافَ أَهْلَ تِينِ مَلَّلَ نَظَرَ، فَرَأَى كَثِيرًا مِنْ أَوْلَادِهِمْ شُقْرًا زُرْقًا، وَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الْآبَاءِ السُّمْرَةُ، وَكَانَ لِأَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ عِدَّةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْمَمَالِيكِ الْفِرِنْجِ وَالرُّومِ، وَيَغْلِبُ عَلَى أَلْوَانِهِمُ الشُّقْرَةُ، وَكَانُوا يَصَعِدُونَ الْجَبَلَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، وَيَأْخُذُونَ مَا لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُقَرَّرَةِ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ، فَكَانُوا يَسْكُنُونَ بُيُوتَ أَهْلِهِ، وَيُخْرِجُونَ أَصْحَابَهَا مِنْهَا، فَلَمَّا رَأَى الْمَهْدِيُّ أَوْلَادَهُمْ سَأَلَهُمْ: مَا لِي أَرَاكُمْ سُمْرَ الْأَلْوَانِ، وَأَرَى أَوْلَادَكُمْ شُقْرًا، زُرْقًا؟ فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُمْ مَعَ مَمَالِيكِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَبَّحَ الصَّبْرَ عَلَى هَذَا، وَأَزْرَى عَلَيْهِمْ، وَعَظَّمَ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: فَكَيْفَ الْحِيلَةُ فِي الْخَلَاصِ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ لَنَا بِهِمْ قُوَّةٌ؟ فَقَالَ: إِذَا حَضَرُوا عِنْدَكُمْ فِي الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ، وَتَفَرَّقُوا فِي مَسَاكِنِهِمْ، فَلْيَقُمْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ إِلَى نَزِيلِهِ فَيَقْتُلَهُ، وَاحْفَظُوا جَبَلَكُمْ، فَإِنَّهُ لَا يُرَامُ وَلَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ. فَصَبَرُوا حَتَّى حَضَرَ أُولَئِكَ الْعَبِيدُ، فَقَتَلُوهُمْ عَلَى مَا قَرَّرَ لَهُمُ الْمَهْدِيُّ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ خَافُوا عَلَى نُفُوسِهِمْ مِنْ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، فَامْتَنَعُوا فِي الْجَبَلِ، وَسَدُّوا مَا فِيهِ مِنْ طَرِيقٍ يُسْلَكُ إِلَيْهِمْ، فَقَوِيَتْ نَفْسُ الْمَهْدِيِّ بِذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا قَوِيًّا، فَحَصَرُوهُمْ فِي الْجَبَلِ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ، وَمَنَعُوا عَنْهُمُ الْمِيرَةَ، فَقَلَّتْ عِنْدَ أَصْحَابِ الْمَهْدِيِّ الْأَقْوَاتُ، حَتَّى صَارَ الْخُبْزُ مَعْدُومًا عِنْدَهُمْ، وَكَانَ يُطْبَخُ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الْحَسَاءِ مَا يَكْفِيهِمْ، فَكَانَ قُوتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَغْمِسَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ الْحَسَاءِ وَيُخْرِجَهَا، فَمَا عَلَقَ عَلَيْهَا قَنَعَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَاجْتَمَعَ أَعْيَانُ أَهْلِ تِينِ مَلَّلَ، وَأَرَادُوا إِصْلَاحَ الْحَالِ مَعَ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ الْمَهْدِيَّ بْنَ تُومَرْتَ، وَكَانَ مَعَهُ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَنْشَرِيشِيُّ، يُظْهِرُ الْبَلَهَ،

وَعَدَمَ الْمَعْرِفَةِ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، وَبُزَاقُهُ يَجْرِي عَلَى صَدْرِهِ، وَهُوَ كَأَنَّهُ مَعْتُوهٌ، وَمَعَ هَذَا فَالْمَهْدِيُّ يُقَرِّبُهُ، وَيُكْرِمُهُ، وَيَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ سِرًّا فِي هَذَا الرَّجُلِ سَوْفَ يَظْهَرُ. وَكَانَ الْوَنْشَرِيشِيُّ يَلْزَمُ الِاشْتِغَالَ بِالْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ فِي السِّرِّ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَخَافَ الْمَهْدِيُّ مِنْ أَهْلِ الْجَبَلِ، خَرَجَ يَوْمًا لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَرَأَى إِلَى جَانِبِ مِحْرَابِهِ إِنْسَانًا حَسَنَ الثِّيَابِ، طَيِّبَ الرِّيحِ، فَأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ، وَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَنْشَرِيشِيُّ! فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ: إِنَّ أَمْرَكَ لَعَجَبٌ! ثُمَّ صَلَّى، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ نَادَى فِي النَّاسِ فَحَضَرُوا، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَزْعُمُ أَنَّهُ الْوَنْشَرِيشِيُّ، فَانْظُرُوهُ، وَتَحَقَّقُوا أَمْرَهُ، فَلَمَّا أَضَاءَ النَّهَارُ عَرَفُوهُ، فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ: مَا قِصَّتُكَ؟ قَالَ: إِنَّنِي أَتَانِيَ اللَّيْلَةَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَغَسَلَ قَلْبِي، وَعَلَّمَنِي اللَّهُ الْقُرْآنَ، وَالْمُوَطَّأَ، وَغَيْرَهُ مِنَ الْعُلُومِ وَالْأَحَادِيثِ. فَبَكَى الْمَهْدِيُّ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: نَحْنُ نَمْتَحِنُكَ، فَقَالَ: افْعَلْ. وَابْتَدَأَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ قِرَاءَةً حَسَنَةً مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ سُئِلَ، وَكَذَلِكَ الْمُوَطَّأَ، وَغَيْرَهُ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتَعْظَمُوهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَانِي نُورًا أَعْرِفُ بِهِ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَآمُرُكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا أَهْلَ النَّارِ، وَتَتْرُكُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَلَائِكَةً إِلَى الْبِئْرِ الَّتِي فِي الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ يَشْهَدُونَ بِصِدْقِي. فَسَارَ الْمَهْدِيُّ، وَالنَّاسُ مَعَهُ وَهُمْ يَبْكُونَ، إِلَى تِلْكَ الْبِئْرِ، وَصَلَّى الْمَهْدِيُّ عِنْدَ رَأْسِهَا، وَقَالَ: يَا مَلَائِكَةَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْوَنْشَرِيشِيَّ قَدْ زَعَمَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَالَ مَنْ بِهَا: صَدَقَ! وَكَانَ قَدْ وَضَعَ فِيهَا رِجَالًا يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ فَلَمَّا قِيلَ ذَلِكَ مِنَ الْبِئْرِ، قَالَ الْمَهْدِيُّ: إِنَّ هَذِهِ مُطَهَّرَةٌ مُقَدَّسَةٌ قَدْ نَزَلَ إِلَيْهَا الْمَلَائِكَةُ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ تُطَمَّ لِئَلَّا يَقَعَ فِيهَا نَجَاسَةٌ، أَوْ مَا لَا يَجُوزُ، فَأَلْقَوْا فِيهَا مِنَ الْحِجَارَةِ وَالتُّرَابِ مَا طَمَّهَا، ثُمَّ نَادَى فِي أَهْلِ الْجَبَلِ بِالْحُضُورِ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَحَضَرُوا لِلتَّمْيِيزِ، فَكَانَ الْوَنْشَرِيشِيُّ يَعْمِدُ إِلَى الرَّجُلِ الَّذِي يَخَافُ نَاحِيَتَهُ، فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُلْقَى مِنَ الْجَبَلِ مَقْتُولًا، وَإِلَى الشَّابِّ الْغِرِّ، وَمَنْ لَا يَخْشَى، فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُتْرَكُ عَلَى يَمِينِهِ، فَكَانَ عِدَّةُ الْقَتْلَى سَبْعِينَ أَلْفًا فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَصْحَابِهِ وَاسْتَقَامَ أَمْرُهُ.

هَكَذَا سَمِعْتُ جَمَاعَةً مِنْ فُضَلَاءِ الْمَغَارِبَةِ يَذْكُرُونَ فِي التَّمْيِيزِ، وَسَمِعْتُ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ ابْنَ تُومَرْتَ لَمَّا رَأَى كَثْرَةَ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ فِي أَهْلِ الْجَبَلِ، أَحْضَرَ شُيُوخَ الْقَبَائِلِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ لَا يَصِحُّ لَكُمْ دِينٌ، وَلَا يَقْوَى إِلَّا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِخْرَاجِ الْمُفْسِدِ مِنْ بَيْنِكُمْ، فَابْحَثُوا عَنْ كُلِّ مَنْ عِنْدَكُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، فَانْهُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنِ انْتَهَوْا، وَإِلَّا فَاكْتُبُوا أَسْمَاءَهُمْ وَارْفَعُوهَا إِلَيَّ لِأَنْظُرَ فِي أَمْرِهِمْ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَكَتَبُوا لَهُ أَسْمَاءَهُمْ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَثَالِثَةً، ثُمَّ جَمَعَ الْمَكْتُوبَاتِ فَأَخَذَ مِنْهَا مَا تَكَرَّرَ مِنَ الْأَسْمَاءِ فَأَثْبَتَهَا عِنْدَهُ، ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ قَاطِبَةً، وَرَفَعَ الْأَسْمَاءَ الَّتِي كَتَبَهَا، وَدَفَعَهَا إِلَى الْوَنْشَرِيشِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالْبَشِيرِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْرِضَ الْقَبَائِلَ، وَيَجْعَلَ أُولَئِكَ الْمُفْسِدِينَ فِي جِهَةِ الشِّمَالِ، وَمَنْ عَدَاهُمْ فِي جِهَةِ الْيَمِينِ فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَمَرَ أَنْ يُكَتَّفَ مَنْ عَلَى شِمَالِ الْوَنْشَرِيشِيِّ، فَكُتِّفُوا، وَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ أَشْقِيَاءُ قَدْ وَجَبَ قَتْلُهُمْ، وَأَمَرَ كُلَّ قَبِيلَةٍ أَنْ يَقْتُلُوا أَشْقِيَاءَهُمْ، فَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ فَكَانَ يَوْمَ التَّمْيِيزِ. وَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ تُومَرْتَ مِنَ التَّمْيِيزِ، رَأَى أَصْحَابَهُ الْبَاقِينَ عَلَى نِيَّاتٍ صَادِقَةٍ، وَقُلُوبٍ مُتَّفِقَةٍ عَلَى طَاعَتِهِ، فَجَهَّزَ مِنْهُمْ جَيْشًا وَسَيَّرَهُمْ إِلَى جِبَالِ أَغْمَاتَ، وَبِهَا جَمْعٌ مِنَ الْمُرَابِطِينَ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ تُومَرْتَ، وَكَانَ أَمِيرَهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَنْشَرِيشِيُّ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، وَجُرِحَ عُمَرُ الْهِنْتَانِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِهِ، وَسَكَنَ حِسُّهُ وَنَبْضُهُ، فَقَالُوا: مَاتَ! فَقَالَ الْوَنْشَرِيشِيُّ: أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَلَا يَمُوتُ حَتَّى يَمْلِكَ الْبِلَادَ. فَبَعْدَ سَاعَةٍ فَتَحَ عَيْنَيْهِ، وَعَادَتْ قُوَّتُهُ إِلَيْهِ، فَافْتَتَنُوا بِهِ، وَعَادُوا مُنْهَزِمِينَ إِلَى ابْنِ تُومَرْتَ، فَوَعَظَهُمْ، وَشَكَرَهُمْ عَلَى صَبْرِهِمْ. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ بَعْدَهَا يُرْسِلُ السَّرَايَا فِي أَطْرَافِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا رَأَوْا عَسْكَرًا تَعَلَّقُوا بِالْجَبَلِ فَأَمِنُوا. وَكَانَ الْمَهْدِيُّ قَدْ رَتَّبَ أَصْحَابَهُ مَرَاتِبَ، فَالْأُولَى يُسَمَّوْنَ أَيْتَ عَشَرَةٍ يَعْنِي أَهْلَ عَشَرَةٍ، وَأَوَّلُهُمْ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، ثُمَّ أَبُو حَفْصٍ الْهِنْتَاتِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَهُمْ أَشْرَفُ أَصْحَابِهِ، وَأَهْلُ الثِّقَةِ عِنْدَهُ، السَّابِقُونَ إِلَى مُتَابَعَتِهِ، وَالثَّانِيَةُ: أَيْتَ خَمْسِينَ، يَعْنِي أَهْلَ خَمْسِينَ، وَهُمْ دُونَ تِلْكَ الطَّبَقَةِ، وَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ، وَالثَّالِثَةُ: أَيْتَ سَبْعِينَ، يَعْنِي أَهْلَ سَبْعِينَ، وَهُمْ دُونَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَسُمِّيَ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ وَالدَّاخِلِينَ فِي طَاعَتِهِ مُوَحِّدِينَ، فَإِذَا ذُكِرَ الْمُوَحِّدُونَ فِي أَخْبَارِهِمْ فَإِنَّمَا يُعْنَى أَصْحَابُهُ وَأَصْحَابُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بَعْدَهُ.

وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُ ابْنِ تُومَرْتَ يَعْلُو إِلَى سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَجَهَّزَ الْمَهْدِيُّ جَيْشًا كَثِيفًا يَبْلُغُونَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، أَكْثَرُهُمْ رَجَّالَةٌ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ الْوَنْشَرِيشِيَّ، وَسَيَّرَ مَعَهُمْ عَبْدَ الْمُؤْمِنِ، فَنَزَلُوا وَسَارُوا إِلَى مُرَّاكِشَ فَحَصَرُوهَا، وَضَيَّقُوا عَلَيْهَا، وَبِهَا أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ، فَبَقِيَ الْحِصَارُ عَلَيْهَا عِشْرِينَ يَوْمًا، فَأَرْسَلَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مُتَوَلِّي سِجِلْمَاسَةَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْضُرَ وَمَعَهُ الْجُيُوشُ، فَجَمَعَ كَثِيرًا، وَسَارَ، فَلَمَّا قَارَبَ عَسْكَرَ الْمَهْدِيِّ خَرَجَ أَهْلُ مُرَّاكِشَ مِنْ غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي أَقْبَلَ مِنْهَا، فَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي أَصْحَابِ الْمَهْدِيِّ، فَقُتِلَ الْوَنْشَرِيشِيُّ أَمِيرُهُمْ، فَاجْتَمَعُوا إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَجَعَلُوهُ أَمِيرًا عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَزَلِ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ عَامَّةَ النَّهَارِ، وَصَلَّى عَبْدُ الْمُؤْمِنِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، وَلَمْ تُصَلَّ بِالْمَغْرِبِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى الْمَصَامِدَةُ كَثْرَةَ الْمُرَابِطِينَ، وَقُوَّتَهُمْ، أَسْنَدُوا ظُهُورَهُمْ إِلَى بُسْتَانٍ كَبِيرٍ هُنَاكَ، وَالْبُسْتَانُ يُسَمَّى عِنْدَهُمُ الْبُحَيْرَةُ، فَلِهَذَا قِيلَ وَقْعَةُ الْبُحَيْرَةِ، وَعَامُ الْبُحَيْرَةِ، وَصَارُوا يُقَاتِلُونَ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى أَنْ أَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْمَصَامِدَةِ أَكْثَرُهُمْ، وَحِينَ قُتِلَ الْوَنْشَرِيشِيُّ دَفَنَهُ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ فَطَلَبَهُ الْمَصَامِدَةُ، فَلَمْ يَرَوْهُ فِي الْقَتْلَى فَقَالُوا: رَفَعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَلَمَّا جَنَّهُمُ اللَّيْلُ سَارَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ وَمَنْ سَلِمَ مِنَ الْقَتْلِ إِلَى الْجَبَلِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَهْدِيِّ وَوِلَايَةِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ لَمَّا سَيَّرَ الْجَيْشَ إِلَى حِصَارِ مُرَّاكِشَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ الْهَزِيمَةِ اشْتَدَّ مَرَضُهُ، وَسَأَلَ عَنْ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَقِيلَ: هُوَ سَالِمٌ، فَقَالَ: مَا مَاتَ أَحَدٌ، الْأَمْرُ قَائِمٌ، وَهُوَ الَّذِي يَفْتَحُ الْبِلَادَ. وَوَصَّى أَصْحَابَهُ بِاتِّبَاعِهِ، وَتَقْدِيمِهِ، وَتَسْلِيمِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، وَالِانْقِيَادِ لَهُ، وَلَقَّبَهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ مَاتَ الْمَهْدِيُّ، وَكَانَ عُمُرُهُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ وِلَايَتِهِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَعَادَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ إِلَى تِينِ مَلَّلَ، وَأَقَامَ بِهَا يَتَأَلَّفُ الْقُلُوبَ، وَيُحْسِنُ إِلَى النَّاسِ، وَكَانَ جَوَادًا مِقْدَامًا فِي الْحُرُوبِ، ثَابِتًا فِي الْهَزَاهِزِ، إِلَى أَنْ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَتَجَهَّزَ وَسَارَ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ، وَجَعَلَ يَمْشِي مَعَ الْجَبَلِ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى تَادَلَةَ، فَمَانَعَهُ أَهْلُهَا، وَقَاتَلُوهُ، فَقَهَرَهُمْ، وَفَتَحَهَا وَسَائِرَ الْبِلَادِ

الَّتِي تَلِيهَا وَمَشَى فِي الْجِبَالِ يَفْتَحُ مَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ، وَأَطَاعَتْهُ صَنْهَاجَةُ الْجَبَلِ. وَكَانَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ قَدْ جَعَلَ وَلِيَّ عَهْدِهِ ابْنَهُ سَيْرَ، فَمَاتَ، فَأَحْضَرَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ ابْنَهُ تَاشَفِينَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ جَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَجَعَلَ مَعَهُ جَيْشًا، وَصَارَ يَمْشِي فِي الصَّحْرَاءِ قُبَالَةَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ فِي الْجِبَالِ. وَفِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ كَانَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ فِي النَّوَاظِرِ، وَهُوَ جَبَلٌ عَالٍ مُشْرِفٌ، وَتَاشَفِينُ فِي الْوَطْأَةِ، وَكَانَ يَخْرُجُ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ قَوْمٌ يَتَرَامَوْنَ وَيَتَطَارَدُونَ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا لِقَاءٌ، وَيُسَمَّى عَامَ النَّوَاظِرِ. وَفِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ تَوَجَّهَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، مَعَ الْجَبَلِ، فِي الشَّعْرَاءِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى جَبَلِ كَرْنَاطَةَ، فَنَزَلَ فِي أَرْضٍ صُلْبَةٍ، بَيْنَ شَجَرٍ، وَنَزَلَ تَاشَفِينُ قُبَالَتَهُ، فِي الْوَطْأَةِ فِي أَرْضٍ لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَكَانَ الْفَصْلُ شَاتِيًا، فَتَوَالَتِ الْأَمْطَارُ أَيَّامًا كَثِيرَةً لَا تُقْلِعُ، فَصَارَتِ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا تَاشَفِينُ وَأَصْحَابُهُ كَثِيرَةَ الْوَحْلِ، تَسُوخُ فِيهَا قَوَائِمُ الْخَيْلِ إِلَى صُدُورِهَا، وَيَعْجِزُ الرَّجُلُ عَنِ الْمَشْيِ فِيهَا، وَتَقَطَّعَتِ الطُّرُقُ عَنْهُمْ، فَأَوْقَدُوا رِمَاحَهُمْ، وَقَرَابِيسَ سُرُوجِهِمْ، وَهَلَكُوا جُوعًا وَبَرْدًا وَسُوءَ حَالٍ. وَكَانَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ وَأَصْحَابُهُ فِي أَرْضٍ خَشِنَةٍ صُلْبَةٍ فِي الْجَبَلِ، لَا يُبَالُونَ بِشَيْءٍ، وَالْمِيرَةُ مُتَّصِلَةٌ إِلَيْهِمْ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ سَيَّرَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ جَيْشًا إِلَى وَجْرَةَ مِنْ أَعْمَالِ تِلِمْسَانَ، وَمُقَدَّمُهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ رِقْوٍ، وَهُوَ مِنْ أَيْتَ خَمْسِينَ، فَبَلَغَ خَبَرُهُمْ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ فَانُّوا، مُتَوَلِّي تِلِمْسَانَ، فَخَرَجَ فِي جَيْشٍ مِنَ الْمُلَثَّمِينَ، فَالْتَقَوْا بِمَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِخَنْدَقِ الْخَمْرِ، فَهَزَمَهُمْ جَيْشُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَقُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَغَنِمُوا مَا مَعَهُمْ وَرَجَعُوا، فَتَوَجَّهَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بِجَمِيعِ جَيْشِهِ إِلَى غَمَارَةَ، فَأَطَاعُوهُ قَبِيلَةٌ بَعْدَ قَبِيلَةٍ، وَأَقَامَ عِنْدَهُمْ مُدَّةً. وَمَا بَرِحَ يَمْشِي فِي الْجِبَالِ، وَتَاشَفِينُ يُحَاذِيهِ فِي الصَّحَارِي، فَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَتُوُفِّيَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ بِمُرَّاكِشَ وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ تَاشَفِينُ، فَقَوِيَ طَمَعُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ فِي الْبِلَادِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلِ الصَّحْرَاءَ. وَفِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ تَوَجَّهَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ إِلَى تِلِمْسَانَ، فَنَازَلَهَا، وَضَرَبَ خِيَامَهُ فِي

جَبَلٍ بِأَعْلَاهَا، وَنَزَلَ تَاشَفِينُ عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْبَلَدِ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ مُنَاوَشَةٌ، فَبَقُوا كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَرَحَلَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ عَنْهَا إِلَى جَبَلِ تَاجِرَةَ، وَوَجَّهَ جَيْشًا مَعَ عُمَرَ الْهِنْتَاتِيِّ إِلَى مَدِينَةِ وَهْرَانَ، فَهَاجَمَهَا بَغْتَةً، وَحَصَّلَ هُوَ وَجَيْشُهُ فِيهَا، فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ فَسَارَ إِلَيْهَا، فَخَرَجَ مِنْهَا عُمَرُ، وَنَزَلَ تَاشَفِينُ بِظَاهِرِ وَهْرَانَ، عَلَى الْبَحْرِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَجَاءَتْ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْهُ، وَهِيَ لَيْلَةٌ يُعَظِّمُهَا أَهْلُ الْمَغْرِبِ، وَبِظَاهِرِ وَهْرَانَ رَبْوَةٌ مُطِلَّةٌ عَلَى الْبَحْرِ، وَبِأَعْلَاهَا ثَنِيَّةٌ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْمُتَعَبِّدُونَ وَهُوَ مَوْضِعٌ مُعَظَّمٌ عِنْدَهُمْ، فَسَارَ إِلَيْهِ تَاشَفِينُ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مُتَخَفِّيًا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إِلَّا النَّفَرُ الَّذِينَ مَعَهُ، وَقَصَدَ التَّبَرُّكَ بِحُضُورِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَعَ أُولَئِكَ الْجَمَاعَةِ الصَّالِحِينَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى عُمَرَ بْنِ يَحْيَى الْهَنْتَاتِيِّ، فَسَارَ لِوَقْتِهِ بِجَمِيعِ عَسْكَرِهِ إِلَى ذَلِكَ الْمُتَعَبَّدِ، وَأَحَاطُوا بِهِ، وَمَلَكُوا الرَّبْوَةَ، فَلَمَّا خَافَ تَاشَفِينُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَأْخُذُوهُ رَكِبَ فَرَسَهُ وَحَمَلَ عَلَيْهِ إِلَى جِهَةِ الْبَحْرِ، فَسَقَطَ مِنْ جُرُفٍ عَالٍ عَلَى الْحِجَارَةِ فَهَلَكَ، وَرُفِعَتْ جُثَّتُهُ عَلَى خَشَبَةٍ، وَقُتِلَ كُلُّ مَنْ كَانَ مَعَهُ. وَقِيلَ إِنَّ تَاشَفِينَ قَصَدَ حِصْنًا هُنَاكَ عَلَى رَابِيَةٍ، وَلَهُ فِيهِ بُسْتَانٌ كَبِيرٌ فِيهِ مِنْ كُلِّ الثِّمَارِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ عُمَرَ الْهِنْتَاتِيَّ، مُقَدَّمَ عَسْكَرِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، سَيَّرَ سَرِيَّةً إِلَى الْحِصْنِ، يُعْلِمُهُمْ بِضِعْفِ مَنْ فِيهِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنْ تَاشَفِينَ فِيهِ، فَأَلْقَوُا النَّارَ فِي بَابِهِ فَاحْتَرَقَ، فَأَرَادَ تَاشَفِينُ الْهَرَبَ، فَرَكِبَ فَرَسَهُ، فَوَثَبَ الْفَرَسُ مِنْ دَاخِلِ الْحِصْنِ إِلَى خَارِجِ السُّورِ، فَسَقَطَ فِي النَّارِ، فَأُخِذَ تَاشَفِينُ، فَاعْتَرَفَ، فَأَرَادُوا حَمْلَهُ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَمَاتَ فِي الْحَالِ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ كَانَتْ قَدِ انْدَقَّتْ، فَصُلِبَ، وَقُتِلَ كُلُّ مَنْ مَعَهُ، وَتَفَرَّقَ عَسْكَرُهُ وَلَمْ يَعُدْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ. وَمَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ إِسْحَاقُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ. وَلَمَّا قُتِلَ تَاشَفِينُ أَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِالْخَبَرِ، فَجَاءَ مِنْ تَاجِرَةَ فِي يَوْمِهِ بِجَمِيعِ عَسْكَرِهِ، وَتَفَرَّقَ عَسْكَرُ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، وَاحْتَمَى بَعْضُهُمْ بِمَدِينَةِ وَهْرَانَ، فَلَمَّا وَصَلَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ دَخَلَهَا بِالسَّيْفِ، وَقَتَلَ فِيهَا مَا لَا يُحْصَى. ثُمَّ سَارَ إِلَى تِلِمْسَانَ، وَهُمَا مَدِينَتَانِ بَيْنَهُمَا شَوْطُ فَرَسٍ، إِحْدَاهُمَا تَاهَرْتُ، وَبِهَا عَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأُخْرَى أَقَادِيرُ، وَهِيَ بِنَاءٌ قَدِيمٌ، فَامْتَنَعَتْ أَقَادِيرُ، وَغَلَّقَتْ أَبْوَابَهَا، وَتَأَهَّبَ أَهْلُهَا لِلْقِتَالِ. وَأَمَّا تَاهَرْتُ، فَكَانَ فِيهَا يَحْيَى بْنُ الصَّحْرَاوِيَّةِ، فَهَرَبَ مِنْهَا بِعَسْكَرِهِ إِلَى مَدِينَةِ

فَاسَ، وَجَاءَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ إِلَيْهَا، فَدَخَلَهَا لَمَّا فَرَّ مِنْهَا الْعَسْكَرُ، وَلَقِيَهُ أَهْلُهَا بِالْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَدَخَلَهَا عَسْكَرُهُ، وَرَتَّبَ أَمْرَهَا، وَرَحَلَ عَنْهَا، وَجَعَلَ عَلَى أَقَادِيرَ جَيْشًا يَحْصُرُهَا، وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ فَاسَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ فَنَزَلَ عَلَى جَبَلٍ مُطِلٍّ عَلَيْهَا، وَحَصَرَهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَفِيهَا يَحْيَى بْنُ الصَّحْرَاوِيَّةِ، وَعَسْكَرُهُ الَّذِينَ فَرُّوا مِنْ تِلِمْسَانَ، فَلَمَّا طَالَ مُقَامُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ عَمَدَ إِلَى نَهْرٍ يَدْخُلُ الْبَلَدَ فَسَكَّرَهُ بِالْأَخْشَابِ وَالتُّرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَنَعَهُ مِنَ دُخُولِ الْبَلَدِ، وَصَارَ بُحَيْرَةً تَسِيرُ فِيهَا السُّفُنُ، ثُمَّ هَدَمَ السَّكْرَ، فَجَاءَ الْمَاءُ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَخَرَّبَ سُورَ الْبَلَدِ، وَكُلَّ مَا يُجَاوِرُ النَّهْرَ مِنَ الْبَلَدِ، وَأَرَادَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَدْخُلَ الْبَلَدَ فَقَاتَلَهُ أَهْلُهُ خَارِجَ السُّورِ، فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ مَا قَدَّرَهُ مِنْ دُخُولِهِ. وَكَانَ بِفَاسَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِيَارٍ الْجِيَانِيُّ عَامِلًا عَلَيْهَا، وَعَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِهَا، فَاتَّفَقَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ، وَكَاتَبُوا عَبْدَ الْمُؤْمِنِ فِي طَلَبِ الْأَمَانِ لِأَهْلِ فَاسَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ، فَفَتَحُوا لَهُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَدَخَلَهَا عَسْكَرُهُ، وَهَرَبَ يَحْيَى بْنُ الصَّحْرَاوِيَّةِ، وَكَانَ فَتْحُهَا آخِرَ سِنَةِ أَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَارَ إِلَى طَنْجَةَ وَرَتَّبَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ أَمْرَ مَدِينَةِ فَاسَ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ فِي أَهْلِهَا: مَنْ تَرَكَ عِنْدَهُ سِلَاحًا وَعِدَّةَ قِتَالٍ حَلَّ دَمُهُ، فَحَمَلَ كُلُّ مَنْ فِي الْبَلَدِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ السِّلَاحِ إِلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مِنْهُمْ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِكْنَاسَةَ، فَفَعَلَ بِأَهْلِهَا مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَتَلَ مَنْ بِهَا مِنَ الْفُرْسَانِ وَالْأَجْنَادِ. وَأَمَّا الْعَسْكَرُ الَّذِي كَانَ عَلَى تِلِمْسَانَ فَإِنَّهُمْ قَاتَلُوا أَهْلَهَا، وَنَصَبُوا الْمَجَانِيقَ، وَأَبْرَاجَ الْخَشَبِ، وَزَحَفُوا بِالدَّبَّابَاتِ، وَكَانَ الْمُقَدَّمُ عَلَى أَهْلِهَا الْفَقِيهَ عُثْمَانَ، فَدَامَ الْحِصَارُ نَحْوَ سَنَةٍ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ وَرَاسَلُوا الْمُوَحِّدِينَ أَصْحَابَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، بِغَيْرِ عِلْمِ الْفَقِيهِ عُثْمَانَ، وَأَدْخَلُوهُمُ الْبَلَدَ، فَلَمْ يَشْعُرْ أَهْلُهُ إِلَّا وَالسَّيْفُ يَأْخُذُهُمْ، فَقُتِلَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ، وَسُبِيَتِ الذُّرِّيَّةُ وَالْحَرِيمُ، وَنُهِبَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصَى، وَمِنَ الْجَوَاهِرِ مَا لَا تُحَدُّ قِيمَتُهُ، وَمَنْ لَمْ يُقْتَلْ بِيعَ بِأَوْكَسِ الْأَثْمَانِ، وَكَانَ عِدَّةُ الْقَتْلَى مِائَةَ أَلْفِ قَتِيلٍ، وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمُؤْمِنِ هُوَ الَّذِي حَصَرَ تِلِمْسَانَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى فَاسَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسَيَّرَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ سَرِيَّةً إِلَى مِكْنَاسَةَ، فَحَصَرُوهَا مُدَّةً، ثُمَّ سَلَّمَهَا إِلَيْهِمْ أَهْلُهَا بِالْأَمَانِ فَوَفَوْا لَهُمْ. وَسَارَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مِنْ فَاسَ إِلَى مَدِينَةِ سَلَا فَفَتَحَهَا، وَحَضَرَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ سَبْتَةَ، فَدَخَلُوا فِي طَاعَتِهِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى بَذْلِ الْأَمَانِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. ذِكْرُ مُلْكِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ مَدِينَةَ مُرَّاكِشَ لَمَّا فَرَغَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مِنْ فَاسَ، وَتِلْكَ النَّوَاحِي، سَارَ إِلَى مُرَّاكِشَ، وَهِيَ كُرْسِيُّ مَمْلَكَةِ الْمُلَثَّمِينَ، وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْمُدُنِ وَأَعْظَمِهَا، وَكَانَ صَاحِبُهَا حِينَئِذٍ إِسْحَاقَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ، وَهُوَ صَبِيٌّ، فَنَازَلَهَا، وَكَانَ نُزُولُهُ عَلَيْهَا سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَضَرَبَ خِيَامَهُ فِي غَرْبِيِّهَا عَلَى جَبَلٍ صَغِيرٍ، وَبَنَى عَلَيْهِ مَدِينَةً لَهُ وَلِعَسْكَرِهِ، وَبَنَى بِهَا جَامِعًا وَبَنَى لَهُ بِنَاءً عَالِيًا يُشْرِفُ مِنْهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَيَرَى أَحْوَالَ أَهْلِهَا، وَأَحْوَالَ الْمُقَاتِلِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَاتَلَهَا قِتَالًا كَثِيرًا، وَأَقَامَ عَلَيْهَا أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، فَكَانَ مَنْ بِهَا مِنَ الْمُرَابِطِينَ يَخْرُجُونَ يُقَاتِلُونَهُمْ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَاشْتَدَّ الْجُوعُ عَلَى أَهْلِهِ، وَتَعَذَّرَتِ الْأَقْوَاتُ عِنْدَهُمْ. ثُمَّ زَحَفَ إِلَيْهِمْ يَوْمًا، وَجَعَلَ لَهُمْ كَمِينًا، وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا سَمِعْتُمْ صَوْتَ الطَّبْلِ فَاخْرُجُوا، وَجَلَسَ هُوَ بِأَعْلَى الْمِنْظَرَةِ الَّتِي بَنَاهَا يُشَاهِدُ الْقِتَالَ، وَتَقَدَّمَ عَسْكَرُهُ، وَقَاتَلُوا، وَصَبَرُوا، ثُمَّ إِنَّهُمُ انْهَزَمُوا لِأَهْلِ مُرَّاكِشَ لِيَتْبَعُوهُمْ إِلَى الْكَمِينِ الَّذِي لَهُمْ، فَتَبِعَهُمُ الْمُلَثَّمُونَ إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَى مَدِينَةِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَهَدَمُوا أَكْثَرَ سُورِهَا، وَصَاحَتِ الْمَصَامِدَةُ بِعَبْدِ الْمُؤْمِنِ لِيَأْمُرَ بِضَرْبِ الطَّبْلِ لِيَخْرُجَ الْكَمِينُ، فَقَالَ لَهُمُ: اصْبِرُوا حَتَّى يَخْرُجَ كُلُّ طَامِعٍ فِي الْبَلَدِ، فَلَمَّا خَرَجَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ أَمَرَ بِالطَّبْلِ فَضُرِبَ وَخَرَجَ الْكَمِينُ عَلَيْهِمْ، وَرَجَعَ الْمَصَامِدَةُ الْمُنْهَزِمِينَ إِلَى الْمُلَثَّمِينَ، فَقَتَلُوا كَيْفَ شَاءُوا، وَعَادَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْمُلَثَّمِينَ، فَمَاتَ فِي زَحْمَةِ الْأَبْوَابِ مَا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَكَانَ شُيُوخُ الْمُلَثَّمِينَ يُدَبِّرُونَ دَوْلَةَ إِسْحَاقَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ لِصِغَرِ سِنِّهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ إِنْسَانًا مَنْ جُمْلَتِهِمْ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ خَرَجَ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ مُسْتَأْمِنًا وَأَطْلَعَهُ

عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ، فَقَوِيَ الطَّمَعُ فِيهِمْ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ، وَنُصِبَ عَلَيْهِمُ الْمَنْجَنِيقَاتُ وَالْأَبْرَاجُ، وَفَنِيَتْ أَقْوَاتُهُمْ، وَأَكَلُوا دَوَابَّهُمْ، وَمَاتَ مِنَ الْعَامَّةِ بِالْجُوعِ مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ، فَأَنْتَنَ الْبَلَدُ مِنْ رِيحِ الْمَوْتَى. وَكَانَ بِمُرَّاكِشَ جَيْشٌ مِنَ الْفِرِنْجِ كَانَ الْمُرَابِطُونَ قَدِ اسْتَنْجَدُوا بِهِمْ، فَجَاءُوا إِلَيْهِمْ نَجْدَةً، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ رَاسَلُوا عَبْدَ الْمُؤْمِنِ يَسْأَلُونَ الْأَمَانَ فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ، فَفَتَحُوا لَهُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْبَلَدِ يُقَالُ لَهُ بَابُ أَغْمَاتَ، فَدَخَلَتْ عَسَاكِرُهُ بِالسَّيْفِ، وَمَلَكُوا الْمَدِينَةَ عَنْوَةً، وَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوا، وَوَصَلُوا إِلَى دَارِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخْرَجُوا الْأَمِيرَ إِسْحَاقَ وَجَمِيعَ مَنْ مَعَهُ مِنْ أُمَرَاءِ الْمُرَابِطِينَ فَقُتِلُوا، وَجَعَلَ إِسْحَاقُ يَرْتَعِدُ رَغْبَةً فِي الْبَقَاءِ، وَيَدْعُو لِعَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَيَبْكِي فَقَامَ إِلَيْهِ سَيْرُ بْنُ الْحَاجِّ، وَكَانَ إِلَى جَانِبِهِ مَكْتُوفًا فَبَزَقَ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ: تَبْكِي عَلَى أَبِيكَ وَأُمِّكَ؟ اصْبِرْ صَبْرَ الرِّجَالِ، فَهَذَا رَجُلٌ لَا يَخَافُ اللَّهَ وَلَا يَدِينُ بِدِينٍ. فَقَامَ الْمُوَحِّدُونَ إِلَيْهِ بِالْخَشَبِ فَضَرَبُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَعْرُوفِينَ بِالشَّجَاعَةِ، وَقُدِّمَ إِسْحَاقُ عَلَى صِغَرِ سِنِّهِ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِ الْمُرَابِطِينَ وَبِهِ انْقَرَضَتْ دَوْلَتُهُمْ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِمْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَوَلِيَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ: يُوسُفُ وَعَلِيٌّ وَتَاشَفِينُ وَإِسْحَاقُ. وَلَمَّا فَتَحَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مُرَّاكِشَ أَقَامَ بِهَا، وَاسْتَوْطَنَهَا وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ. وَلَمَّا قَتَلَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَهْلِ مُرَّاكِشَ فَأَكْثَرَ فِيهِمُ الْقَتْلَ اخْتَفَى مِنْ أَهْلِهَا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ أَمَرَ فَنُودِيَ بِأَمَانِ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِهَا، فَخَرَجُوا، فَأَرَادَ أَصْحَابُهُ الْمَصَامِدَةُ قَتْلَهُمْ، فَمَنَعَهُمْ، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ صُنَّاعٌ، وَأَهْلُ الْأَسْوَاقِ مَنْ نَنْتَفِعُ بِهِ، فَتُرِكُوا، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْقَتْلَى مِنَ الْبَلَدِ، فَأَخْرَجُوهُمْ، وَبَنَى بِالْقَصْرِ جَامِعًا كَبِيرًا، وَزَخْرَفَهُ فَأَحْسَنَ عَمَلَهُ، وَأَمَرَ بِهَدْمِ الْجَامِعِ الَّذِي بَنَاهُ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ يُوسُفُ بْنُ تَاشَفِينَ. وَلَقَدْ أَسَاءَ يُوسُفُ بْنُ تَاشَفِينَ فِي فِعْلِهِ بِالْمُعْتَمِدِ بْنِ عَبَّادٍ، وَارْتَكَبَ بِسَجْنِهِ عَلَى الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ أَقْبَحَ مَرْكَبٍ، فَلَا جَرَمَ سَلَّطَ اللَّهُ [عَلَيْهِ فِي عِقَابِهِ] مَنْ أَرْبَى فِي الْأَخْذِ عَلَيْهِ وَزَادَ، فَتَبَارَكَ الْحَيُّ الدَّائِمُ الْمَلِكُ، الَّذِي لَا يَزُولُ مُلْكُهُ، وَهَذِهِ سُنَّةُ الدُّنْيَا، فَأُفٍّ لَهَا، ثُمَّ أُفٍّ، نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَخْتِمَ أَعْمَالَنَا بِالْحُسْنَى، وَيَجْعَلَ خَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ نَلْقَاهُ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ.

ذِكْرُ ظَفَرِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِدَكَّالَةَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ سَارَ بَعْضُ الْمُرَابِطِينَ مِنَ الْمُلَثَّمِينَ إِلَى دَكَّالَةَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ قَبَائِلُهَا، وَصَارُوا يُغِيرُونَ عَلَى أَعْمَالِ مُرَّاكِشَ، وَعَبْدُ الْمُؤْمِنِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ سَارَ إِلَيْهِمْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَلَمَّا سَمِعَتْ دْكَّالَةُ بِذَلِكَ انْحَشَرُوا كُلُّهُمْ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فِي مِائَتَيْ أَلْفِ رَاجِلٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَكَانُوا مَوْصُوفِينَ بِالشَّجَاعَةِ. وَكَانَ مَعَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْجُيُوشِ مَا يَخْرُجُ عَنِ الْحَصْرِ، وَكَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ دَكَّالَةُ كَثِيرَ الْحَجَرِ وَالْحُزُونَةِ، فَكَمَّنُوا فِيهِ كُمَنَاءَ لِيَخْرُجُوا عَلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ إِذَا سَلَكَهُ، فَمِنَ الِاتِّفَاقِ الْحَسَنِ لَهُ أَنَّهُ قَصَدَهُمْ مِنْ غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي فِيهَا الْكُمَنَاءُ، فَانْحَلَّ عَلَيْهِمْ مَا قَدَرُوهُ، وَفَارَقُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، فَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ، فَدَخَلُوا الْبَحْرَ، فَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَغُنِمَتْ إِبِلُهُمْ وَأَغْنَامُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَسُبِيَتْ نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ، فَبِيعَتِ الْجَارِيَةُ الْحَسْنَاءُ بِدَارِهِمَ يَسِيرَةٍ، وَعَادَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ إِلَى مُرَّاكِشَ مُظَفَّرًا مَنْصُورًا، وَثَبَتَ مُلْكُهُ، وَخَافَهُ النَّاسُ فِي جَمِيعِ الْمَغْرِبِ، وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالطَّاعَةِ. ذِكْرُ حَصْرِ مَدِينَةِ كُتِنْدَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، يَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، خَرَجَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ بِالْأَنْدَلُسِ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ رُدْمِيرَ، فَسَارَ حَتَّى انْتَهَى كُتِنْدَةَ، وَهِيَ بِالْقُرْبِ مِنْ مُرْسِيَةَ، فِي شَرْقِ الْأَنْدَلُسِ، فَحَصَرَهَا، وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا، وَكَانَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ حِينَئِذٍ بِقُرْطُبَةَ، وَمَعَهُ جَيْشٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْأَجْنَادِ الْمُتَطَوِّعَةِ، فَسَيَّرَهُمْ إِلَى ابْنِ رُدْمِيرَ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ الْقِتَالِ، وَهَزَمَهُمُ ابْنُ رُدْمِيرَ هَزِيمَةً مُنْكَرَةً، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ فِيمَنْ قُتِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْفَرَّاءِ، قَاضِي الْمَرِيَّةِ، وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَالزُّهَّادِ فِي الدُّنْيَا الْعَادِلِينَ فِي الْقَضَاءِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كُسِرَ بَلْكُ بْنُ أُرْتُقَ عَفْرَاسُ الرُّومِيُّ، وَقُتِلَ مِنَ الرُّومِ خَمْسَةُ آلَافِ رَجُلٍ عَلَى قَلْعَةِ سَرْمَانَ مِنْ بَلَدِ انْدُكَانَ! وَأُسِرَ عَفْرَاسُ وَكَثِيرٌ مِنْ عَسْكَرِهِ.

وَفِيهَا أَغَارَ جُوسُلِينُ الْفِرِنْجِيُّ، صَاحِبُ الرُّهَا، عَلَى جُيُوشِ الْعَرَبِ وَالتُّرْكُمَانِ، وَكَانُوا نَازِلِينَ بِصِفِّينَ، غَرْبِيَّ الْفُرَاتِ، وَغَنِمَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَخَيْلِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَلَمَّا عَادَ خَرَّبَ بُزَاعَةَ. وَفِيهَا تَسَلَّمَ أَتَابِكُ طُغْتِكِينُ، صَاحِبُ دِمَشْقَ، مَدِينَةَ تَدْمُرَ وَالشَّقِيفِ. وَفِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ الْأَمِيرَ جُيُوشَ بِكْ بِالْمَسِيرِ إِلَى حَرْبِ أَخِيهِ طُغْرَلَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَسَمِعَ طُغْرَلُ وَأَتَابِكُهُ كُنْتَغْدِي ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَى كَنْجَةَ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ الْعَسْكَرِ، وَلَمْ يَجْرِ قِتَالٌ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ خَالِصَةُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْبَرَكَاتِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ السَّيْبِيِّ، صَاحِبُ الْمَخْزَنِ بِبَغْدَاذَ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ الْكَمَالُ أَبُو الْفُتُوحِ حَمْزَةُ بْنُ طَلْحَةَ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَقْشَلَامِ، وَالِدِ عَلَمِ الدِّينِ الْكَاتِبِ الْمَعْرُوفِ. وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا تُوُفِّيَ أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ هَوَازِنَ الْقُشَيْرِيُّ، الْإِمَامُ، وَكَانَ أَخَذَ الْعِلْمَ مِنْ قَرَابَتِهِ، وَالطَّرِيقَةَ أَيْضًا ثُمَّ اسْتَفَادَ أَيْضًا مِنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ. سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ جَمَاعَةٍ، وَرَوَاهُ، وَكَانَ حَسَنَ الْوَعْظِ، وَسَرِيعَ الْخَاطِرِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ جَلَسَ النَّاسُ فِي الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ لِلْعَزَاءِ بِهِ، حَتَّى فِي بَغْدَاذَ بِرِبَاطِ شَيْخِ الشُّيُوخِ.

ثم دخلت سنة خمس عشرة وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَة] 515 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ إِقْطَاعِ الْبُرْسُقِيِّ الْمَوْصِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ أَقْطَعَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ وَأَعْمَالَهَا، وَمَا يَنْضَافُ إِلَيْهَا، كَالْجَزِيرَةِ، وَسَنَجَارَ، وَغَيْرِهِمَا، الْأَمِيرَ آقْسُنْقُرَ الْبُرْسُقِيَّ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُ كَانَ فِي خِدْمَةِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، نَاصِحًا لَهُ، مُلَازِمًا لَهُ فِي حُرُوبِهِ كُلِّهَا، وَكَانَ لَهُ الْأَثَرُ الْحَسَنُ فِي الْحَرْبِ الْمَذْكُورَةِ بَيْنَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ وَأَخِيهِ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ الَّذِي أَحْضَرَ الْمَلِكَ مَسْعُودًا عِنْدَ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عِنْدَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَلَمَّا حَضَرَ جُيُوشْ بِكْ عِنْدَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ وَبَقِيَتِ الْمَوْصِلُ بِغَيْرِ أَمِيرٍ وَلَّى عَلَيْهَا الْبُرْسُقِيَّ، وَتَقَدَّمَ إِلَى سَائِرِ الْأُمَرَاءِ بِطَاعَتِهِ، وَأَمَرَ بِمُجَاهِدَةٍ الْفِرِنْجِ وَأَخْذِ الْبِلَادِ مِنْهُمْ، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ وَمَلَكَهَا، وَأَقَامَ يُدَبِّرُ أُمُورَهَا، وَيُصْلِحُ أَحْوَالَهَا. ذِكْرُ وَفَاةِ الْأَمِيرِ عَلِيٍّ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ الْحَسَنِ إِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى بْنِ تَمِيمٍ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِالْمَهْدِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حُرُوبِهِ وَأَعْمَالِهِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عُلُوِّ هِمَّتِهِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِيَ الْمُلْكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ، بِعَهْدِ أَبِيهِ، وَقَامَ بِأَمْرِ دَوْلَتِهِ

صَنْدَلُ الْخُصِّيُّ، لِأَنَّهُ كَانَ عُمُرُهُ حِينَئِذٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً لَا يَسْتَقِلُّ بِتَدْبِيرِ الْمُلْكِ، فَقَامَ صَنْدَلُ فِي الْحِفْظِ وَالِاحْتِيَاطِ، فَلَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ حَتَّى تُوُفِّيَ، فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَقُوَّادِهِ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَقُولُ: أَنَا الْمُقَدَّمُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَبِيَدِيَ الْحَلُّ وَالشَّدُّ، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ إِلَى أَنْ فَوَّضَ أُمُورَ دَوْلَتِهِ إِلَى قَائِدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِيهِ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَزِيزٍ مُوَفَّقٌ، فَصَلُحَتِ الْأُمُورُ. ذِكْرُ قَتْلِ أَمِيرِ الْجُيُوشِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، قُتِلَ أَمِيرُ الْجُيُوشِ الْأَفْضَلُ بْنُ بَدْرٍ الْجَمَالِيُّ، وَهُوَ صَاحِبُ الْأَمْرِ وَالْحُكْمِ بِمِصْرَ، وَكَانَ رَكِبَ إِلَى خِزَانَةِ السِّلَاحِ لِيُفَرِّقَهُ عَلَى الْأَجْنَادِ، عَلَى جَارِي الْعَادَةِ فِي الْأَعْيَادِ، فَسَارَ مَعَهُ عَالَمٌ كَثِيرٌ مِنَ الرَّجَّالَةِ وَالْخَيَّالَةِ، فَتَأَذَّى بِالْغُبَارِ، فَأَمَرَ بِالْبُعْدِ عَنْهُ، وَسَارَ مُنْفَرِدًا، مَعَهُ رَجُلَانِ، فَصَادَفَهُ رَجُلَانِ بِسُوقِ الصَّيَاقِلَةِ، فَضَرَبَاهُ بِالسَّكَاكِينِ فَجَرَحَاهُ، وَجَاءَ الثَّالِثُ مِنْ وَرَائِهِ، فَضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ فِي خَاصِرَتِهِ، فَسَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَرَجَعَ أَصْحَابُهُ فَقَتَلُوا الثَّلَاثَةَ، وَحَمَلُوهُ إِلَى دَارِ الْأَفْضَلِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ، وَتَوَجَّعَ لَهُ، وَسَأَلَ عَنِ الْأَمْوَالِ، فَقَالَ: أَمَّا الظَّاهِرُ مِنْهَا فَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ أُسَامَةَ الْكَاتِبُ يَعْرِفُهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ حَلَبَ، وَتَوَلَّى أَبُوهُ قَضَاءَ الْقَاهِرَةِ، وَأَمَّا الْبَاطِنُ فَابْنُ الْبَطَائِحِيِّ يَعْرِفُهُ، فَقَالَا: صَدَقَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْأَفْضَلُ نُقِلَ مِنْ أَمْوَالِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَبَقِيَ الْخَلِيفَةُ فِي دَارِهِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَالْكَاتِبُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالدَّوَابُّ تَحْمِلُ وَتَنْقُلُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَوُجِدَ لَهُ مِنَ الْأَعْلَاقِ النَّفِيسَةِ، وَالْأَشْيَاءِ الْغَرِيبَةِ الْقَلِيلَةِ الْوُجُودِ، مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ، وَاعْتُقِلَ أَوْلَادُهُ، وَكَانَ عُمُرُهُ سَبْعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ بَعْدَ أَبِيهِ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَمِنْهَا: آخِرُ أَيَّامِ الْمُسْتَنْصِرِ، وَجَمِيعِ أَيَّامِ الْمُسْتَعْلِي، إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ أَيَّامِ الْآمِرِ. وَكَانَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ يَكْرَهُونَهُ لِأَسْبَابٍ مِنْهَا: تَضْيِيقُهُ عَلَى إِمَامِهِمْ، وَتَرْكُهُ مَا يَجِبُ عِنْدَهُمْ سُلُوكُهُ مَعَهُمْ، وَمِنْهَا: تَرْكُ مُعَارَضَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَالنَّهْيُ عَنْ مُعَارَضَتِهِمْ، وَإِذْنُهُ لِلنَّاسِ فِي إِظْهَارِ مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَالْمُنَاظَرَةِ عَلَيْهَا، فَكَثُرَ الْغُرَبَاءُ بِبِلَادِ مِصْرَ.

وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، عَادِلًا، حُكِيَ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ، وَظَهَرَ الظُّلْمُ بَعْدَهُ، اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ وَاسْتَغَاثُوا بِالْخَلِيفَةِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُمْ لَعَنُوا الْأَفْضَلَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ لَعْنِهِمْ إِيَّاهُ، فَقَالُوا: إِنَّهُ عَدَلَ، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، فَفَارَقْنَا بِلَادَنَا وَأَوْطَانَنَا، وَقَصَدْنَا بَلَدَهُ لِعَدْلِهِ، فَقَدْ أَصَابَنَا بَعْدَهُ هَذَا الظُّلْمُ، فَهُوَ كَانَ سَبَبَ ظُلْمِنَا. فَأَحْسَنَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ. وَمِنْهَا أَنَّ صَاحِبَهُ الْآمِرَ بِأَحْكَامِ اللَّهِ، صَاحِبَ مِصْرَ، وَضَعَ مِنْهُ، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، فَفَسَدَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا، فَأَرَادَ الْآمِرُ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُهُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ قَصْرَهُ لِلسَّلَامِ، أَوْ فِي أَيَّامِ الْأَعْيَادِ، فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ عَمِّهِ أَبُو الْمَيْمُونِ عَبْدُ الْمَجِيدِ، وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ بِمِصْرَ، وَقَالَ لَهُ: فِي هَذَا الْفِعْلِ شَنَاعَةٌ وَسُوءُ سُمْعَةٍ، لِأَنَّهُ قَدْ خَدَمَ دَوْلَتَنَا هُوَ وَأَبُوهُ خَمْسِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَعْلَمِ النَّاسُ مِنْهُمَا إِلَّا النُّصْحَ لَنَا، وَالْمَحَبَّةَ لِدَوْلَتِنَا، وَقَدْ سَارَ ذَلِكَ فِي أَقْطَارِ الْبِلَادِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ مِنَّا هَذِهِ الْمُكَافَأَةُ الشَّنِيعَةُ، وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ وَأَنْ نُقِيمَ غَيْرَهُ مَكَانَهُ وَنَعْتَمِدَ عَلَيْهِ فِي مَنْصِبِهِ، مُتَمَكِّنٌ مِثْلُهُ، أَوْ مَا يُقَارِبُهُ، فَيَخَافَ أَنْ نَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ فِعْلِنَا بِهَذَا، فَيَحْذَرَ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْنَا خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْنَا كَانَ خَائِفًا مُسْتَعِدًّا لِلِامْتِنَاعِ، وَفِي هَذَا الْفِعْلِ مِنْهُمْ مَا يُسْقِطُ الْمَنْزِلَةَ، وَالرَّأْيُ أَنْ تُرَاسِلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْبَطَائِحِيِّ، فَإِنَّهُ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِ الْأَفْضَلِ، وَالْمُطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ، وَتَعِدُهُ أَنْ تُوَلِّيَهُ مَنْصِبَهُ، وَتَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُدَبِّرَ الْأَمْرَ فِي قَتْلِهِ لِمَنْ يُقَاتِلُهُ، إِذَا رَكِبَ، فَإِذَا ظَفِرْنَا بِمَنْ قَتَلَهُ قَتَلْنَاهُ، وَأَظْهَرْنَا الطَّلَبَ بِدَمِهِ، وَالْحُزْنَ عَلَيْهِ، فَنَبْلُغُ غَرَضَنَا، وَيَزُولُ عَنَّا قُبْحُ الْأُحْدُوثَةِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَقُتِلَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَمَّا قُتِلَ وَلِيَ بَعْدَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْبَطَائِحِيِّ الْأَمْرَ، وَلُقِّبَ الْمَأْمُونَ، وَتَحَكَّمَ فِي الدَّوْلَةِ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ حَاكِمًا فِي الْبِلَادِ إِلَى سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَصُلِبَ كَمَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِصْيَانِ سُلَيْمَانَ بْنِ إِيلْغَازِي عَلَى أَبِيهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى سُلَيْمَانُ بْنُ إِيلْغَازِيبْنِ أُرْتُقَ عَلَى أَبِيهِ بِحَلَبَ، وَقَدْ جَاوَزَ عُمُرُهُ عِشْرِينَ سَنَةً، حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ عِنْدِهِ، فَسَمِعَ وَالِدُهُ الْخَبَرَ، فَسَارَ مُجِدًّا

لِوَقْتِهِ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ سُلَيْمَانُ حَتَّى هَجَمَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ مُعْتَذِرًا، فَأَمْسَكَ عَنْهُ، وَقَبَضَ عَلَى مَنْ كَانَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، مِنْهُمْ: أَمِيرٌ كَانَ قَدِ الْتَقَطَهُ أُرْتُقُ، وَالِدُ إِيلْغَازِي، وَرَبَّاهُ، اسْمُهُ نَاصِرٌ، فَقَلَّعَ عَيْنَيْهِ، وَقَطَعَ لِسَانَهُ، وَمِنْهُمْ: إِنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ حَمَاةَ مِنْ بَيْتِ قَرْنَاصَ، كَانَ قَدْ قَدَّمَهُ إِيلْغَازِي عَلَى أَهْلِ حَلَبَ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ الرِّئَاسَةَ، فَجَازَاهُ بِذَلِكَ، وَقَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَسَمَلَ عَيْنَيْهِ، فَمَاتَ. وَأَحْضَرَ وَلَدَهُ، وَهُوَ سَكْرَانُ، فَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَمَنَعَتْهُ رِقَّةُ الْوَالِدِ، فَاسْتَبْقَاهُ، فَهَرَبَ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَرْسَلَ طُغْتِكِينُ يَشْفَعُ فِيهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَنَابَ بِحَلْبَ سُلَيْمَانَ ابْنَ أَخِيهِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أُرْتُقَ، وَلَقَّبَهُ بَدْرَ الدَّوْلَةِ، وَعَادَ إِلَى مَارِدِينَ. ذِكْرُ إِقْطَاعِ مَيَّافَارِقِينَ إِيلْغَازِي فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَقْطَعَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ مَدِينَةَ مَيَّافَارِقِينَ لِلْأَمِيرِ إِيلْغَازِي وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرْسَلَ وَلَدَهُ حُسَامَ الدِّينِ تَمَرْتَاشَ، وَعُمُرُهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، إِلَى السُّلْطَانِ لِيَشْفَعَ فِي دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ، وَيَبْذُلَ عَنْهُ الطَّاعَةَ، وَحَمْلَ الْأَمْوَالِ، وَالْخَيْلَ، وَغَيْرَهَا، وَأَنْ يَضْمَنَ الْحِلَّةَ كُلَّ يَوْمٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَفَرَسٍ، وَكَانَ الْمُتَحَدِّثَ عَنْهُ الْقَاضِيَ بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ الشَّهْرَزُورِيِّ، فَتَرَدَّدَ الْخِطَابُ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْفَصِلْ حَالٌ، فَلَمَّا أَرَادَ الْعَوْدَ أَقْطَعَ السُّلْطَانُ أَبَاهُ مَدِينَةَ مَيَّافَارِقِينَ، وَكَانَتْ مَعَ الْأَمِيرِ سُكْمَانَ، صَاحِبِ خِلَاطَ، فَتَسَلَّمَهَا إِيلْغَازِي، وَبَقِيَتْ فِي يَدِهِ، وَيَدِ أَوْلَادِهِ، إِلَى أَنْ مَلَكَهَا صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ حَصْرِ بَلْكَ بْنِ بَهْرَامَ الرُّهَا وَأَسْرِ صَاحِبِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ بَلْكُ بْنُ بَهْرَامَ، وَلَدُ أَخِي إِيلْغَازِي، إِلَى مَدِينَةِ الرُّهَا، فَحَصَرَهَا وَبِهَا الْفِرِنْجُ، بَقِيَ عَلَى حَصْرِهَا مُدَّةً فَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا، فَرَحَلَ عَنْهَا، فَجَاءَهُ إِنْسَانٌ تُرْكُمَانِيٌّ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ جُوسُلِينَ، صَاحِبَ الرُّهَا وَسَرُوجَ، قَدْ جَمَعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى كَبْسِهِ، وَكَانَ قَدْ تَفَرَّقَ عَنْ بَلْكَ أَصْحَابُهُ، وَبَقِيَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ فَارِسٍ، فَوَقَفَ مُسْتَعِدًّا لِقِتَالِهِمْ.

وَأَقْبَلَ الْفِرِنْجُ، فَمِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْفِرِنْجَ وَصَلُوا إِلَى أَرْضٍ قَدْ نَضَبَ عَنْهَا الْمَاءُ، فَصَارَتْ وَحْلًا وَغَاصَتْ خُيُولُهُمْ فِيهِ فَلَمْ تَتَمَكَّنْ، مَعَ ثِقَلِ السِّلَاحِ وَالْفُرْسَانِ، مِنَ الْإِسْرَاعِ وَالْجَرْيِ، فَرَمَاهُمْ أَصْحَابُ بَلْكَ بِالنُّشَّابِ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَأُسِرَ جُوسُلِينُ، وَجُعِلَ فِي جِلْدِ جَمَلٍ، وَخُيِّطَ عَلَيْهِ، وَطُلِبَ مِنْهُ أَنْ يُسَلِّمَ الرُّهَا، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَبَذَلَ فِي فِدَاءِ نَفْسِهِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَأَسْرَى كَثِيرَةً، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَحَمَلَهُ إِلَى قَلْعَةِ خَرْتَبِرْتَ فَسَجَنَهُ بِهَا، وَأُسِرَ ابْنُ خَالَتِهِ، وَاسْمُهُ كُلْيَامُ، وَكَانَ مِنْ شَيَاطِينِ الْكُفَّارِ، وَأُسِرَ أَيْضًا جَمَاعَةٌ مِنْ فُرْسَانِهِ الْمَشْهُورِينَ، فَسَجَنَهُمْ مَعَهُ. [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَتْ جَدَّةُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ لِأَبِيهِ، وَهِيَ وَالِدَةُ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَكَانَتْ تُرْكِيَّةً تُعْرَفُ بِخَاتُونَ السَّفَرِيَّةِ، وَكَانَ مَوْتُهَا بِمَرْوَ فَجَلَسَ مَحْمُودٌ بِبَغْدَاذَ لِلْعَزَاءِ بِهَا، وَكَانَ عَزَاءً لَمْ يُشَاهِدْ مِثْلَهُ النَّاسُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْخَطِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمَيْبُذِيُّ بِبِلَادِ فَارِسَ، وَهُوَ فِي وِزَارَةِ الْمَلِكِ سُلْجُوقَ ابْنِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ قَدِيمًا وَزَرَ لِلسُّلْطَانَيْنِ بُرْكِيارُقَ وَمُحَمَّدٍ، وَكَانَ جَوَادًا حَلِيمًا، سَمِعَ أَنَّ الْأَبْيَوَرْدِيَّ هَجَاهُ، فَلَمَّا سَمِعَ الْهَجْوَ مَضَّهُ، فَعَضَّ عَلَى إِبْهَامِهِ، وَصَفَحَ عَنْهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَوَصَلَهُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشِّهَابُ أَبُو الْمَحَاسِنِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَزِيرُ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي نِظَامِ الْمُلْكِ، وَكَانَ يَتَفَقَّهُ قَدِيمًا عَلَى إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيِّ فَكَانَ يُفْتِي وَيُوَقِّعُ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ أَبُو طَاهِرٍ سَعْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْقُمِّيُّ، وَتُوُفِّيَ بَعْدَ شُهُورٍ، فَوَزَرَ بَعْدَهُ عُثْمَانُ الْقُمِّيُّ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، أَوْقَعَ أَتَابِكُ طُغْتِكِينُ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ وَأَسَرَ وَأَرْسَلَ مِنَ الْأَسْرَى وَالْغَنِيمَةِ لِلسُّلْطَانِ وَلِلْخَلِيفَةِ. وَفِيهَا تَضَعْضَعَ الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ مِنَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، زَادَهُ اللَّهُ شَرَفًا، مِنْ زَلْزَلَةٍ، وَانْهَدَمَ

بَعْضُهُ، وَتَشَعَّثَ بَعْضُ حَرَمِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَشَعَّثَ غَيْرُهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَ بِالْمَوْصِلِ كَثِيرٌ مِنْهَا. وَفِيهَا احْتَرَقَتْ دَارُ السُّلْطَانِ، كَانَ قَدْ بَنَاهَا مُجَاهِدُ الدِّينِ بَهْرُوزَ لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَفَرَغَتْ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِيَسِيرٍ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ احْتَرَقَتْ. وَسَبَبُ الْحَرِيقِ أَنَّ جَارِيَةً كَانَتْ تَخَضَّبَتْ لَيْلًا، فَأَسْنَدَتْ شَمْعَةً إِلَى الْخَيْشِ فَاحْتَرَقَ، وَعَلِقَتِ النَّارُ مِنْهُ فِي الدَّارِ، وَاحْتَرَقَ فِيهَا مِنْ زَوْجَةِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ بِنْتِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ مَا لَا حَدَّ لَهُ مِنَ الْجَوَاهِرِ، وَالْحُلَى، وَالْفُرُشِ، وَالثِّيَابِ، وَأُقِيمَ الْغَسَّالُونَ يُخَلِّصُونَ الذَّهَبَ، وَمَا أَمْكَنَ تَخْلِيصُهُ، وَكَانَ الْجَوْهَرُ جَمِيعُهُ قَدْ هَلَكَ إِلَّا الْيَاقُوتَ الْأَحْمَرَ. وَتَرَكَ السُّلْطَانُ الدَّارَ لَمْ تُجَدَّدْ عِمَارَتُهَا، وَتَطَيَّرَ مِنْهَا، لِأَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَتَمَتَّعْ بِهَا، ثُمَّ احْتَرَقَ فِيهَا مِنْ أَمْوَالِهِمُ الشَّيْءُ الْعَظِيمُ، وَاحْتَرَقَ قَبْلَهَا بِأُسْبُوعٍ جَامِعُ أَصْبَهَانَ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْجَوَامِعِ وَأَحْسَنِهَا، أَحْرَقَهُ قَوْمٌ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ لَيْلًا وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ عَزَمَ عَلَى أَخْذِ حَقِّ الْبَيْعِ، وَتَجْدِيدِ الْمُكُوسِ بِالْعِرَاقِ، بِإِشَارَةِ الْوَزِيرِ السُّمِيرَمِيِّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَتَجَدَّدَ مِنْ هَذَيْنِ الْحَرِيقَيْنِ مَا هَالَهُ، وَاتَّعَظَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، انْقَضَّ كَوْكَبٌ عِشَاءً، وَصَارَ لَهُ نُورٌ عَظِيمٌ، وَتَفَرَّقَ مِنْهُ أَعْمِدَةٌ عِنْدَ انْقِضَاضِهِ، وَسُمِعَ عِنْدَ ذَلِكَ صَوْتُ هَدَّةٍ عَظِيمَةٍ كَالزَّلْزَلَةِ. وَفِيهَا ظَهَرَ بِمَكَّةَ إِنْسَانٌ عَلَوِيُّ، وَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَنَازَعَ أَمِيرَ مَكَّةَ ابْنَ أَبِي هَاشِمٍ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَخْطِفَ لِنَفْسِهِ، فَعَادَ ابْنُ أَبِي هَاشِمٍ وَظَفِرَ بِهِ، وَنَفَاهُ عَنِ الْحِجَازِ إِلَى الْبَحْرِينِ، وَكَانَ هَذَا الْعَلَوِيُّ مِنْ فُقَهَاءِ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَاذَ. وَفِيهَا أَلْزَمَ السُّلْطَانُ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِبَغْدَاذَ بِالْغِيَارِ، فَجَرَى فِيهِ مُرَاجَعَاتٌ انْتَهَتْ إِلَى أَنْ قُرِّرَ عَلَيْهِمْ لِلسُّلْطَانِ عِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَلِلْخَلِيفَةِ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ.

وَفِيهَا حَضَرَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ وَأَخُوهُ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ، مِنْهُمْ: وَزِيرُهُ أَبُو طَالِبٍ السُّمِيرَمِيُّ، وَشَمْسُ الْمُلْكِ عُثْمَانُ بْنُ نِظَامٍ، وَالْوَزِيرُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَامِدٍ الْمُسْتَوْفِي، وَعَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ. وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَهُوَ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ مِنْ كَانُونَ الثَّانِي، سَقَطَ بِالْعِرَاقِ جَمِيعِهِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى تِكْرِيتَ ثَلْجٌ كَثِيرٌ، وَبَقِيَ عَلَى الْأَرْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَسُمْكُهُ ذِرَاعٌ وَهَلَكَتْ أَشْجَارُ النَّارِنْجِ، وَالْأُتْرُجِّ، وَاللَّيْمُونِ، فَقَالَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: يَا صُدُورَ الزَّمَانِ لَيْسَ بِوَفْرٍ ... مَا رَأَيْنَاهُ فِي نَوَاحِي الْعِرَاقِ إِنَّمَا عَمَّ ظُلْمُكُمْ سَائِرَ الْخَلْقِ ، فَشَابَتْ ذَوَائِبُ الْآفَاقِ وَفِيهَا هَبَّتْ بِمِصْرَ رِيحٌ سَوْدَاءُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَأَهْلَكَتْ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْحَرِيرِيُّ، صَاحِبُ الْمَقَامَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَهَزَارَسْبُ بْنُ عِوَضٍ الْهَرَوِيُّ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ كَثِيرًا.

ثم دخلت سنة ست عشرة وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 516 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ طَاعَةِ الْمَلِكِ طُغْرَلَ لِأَخِيهِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَطَاعَ الْمَلِكُ طُغْرَلُ أَخَاهُ السُّلْطَانَ مَحْمُودًا، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَصَدَ أَذْرَبِيجَانَ فِي السَّنَةِ الْخَالِيَةِ لِيَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا، وَكَانَ أَتَابِكُهُ كُنْتَغْدِي يُحَسِّنُ لَهُ ذَلِكَ، وَيُقَوِّيهِ عَلَيْهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ مَرِضَ، وَتُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَكَانَ الْأَمِيرُ آقْسُنْقُرُ الْأَحْمَدَيْلِيُّ، صَاحِبُ مَرَاغَةَ، عِنْدَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ بِبَغْدَاذَ، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْمُضِيِّ إِلَى إِقْطَاعِهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا سَارَ عَنِ السُّلْطَانِ ظَنَّ أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ كُنْتَغْدِي مِنَ الْمَلِكِ طُغْرَلَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، وَاجْتَمَعَ بِهِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمُكَاشَفَةِ لِأَخِيهِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَقَالَ لَهُ: إِذَا وَصَلْتَ إِلَى مَرَاغَةَ اتَّصَلَ بِكَ عَشَرَةُ آلَافِ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ. فَسَارَ مَعَهُ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى أَرْدَبِيلَ أُغْلِقَتْ أَبْوَابُهَا دُونَهُمْ، فَسَارُوا عَنْهَا إِلَى قَرِيبِ تِبْرِيزَ، فَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ أَنَّ السُّلْطَانَ مَحْمُودًا سَيَّرَ الْأَمِيرَ جُيُوشْ بِكْ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَأَقْطَعَهُ الْبِلَادَ، وَأَنَّهُ نَزَلَ مَرَاغَةَ فِي عَسْكَرٍ كَثِيفٍ مِنْ عِنْدِ السُّلْطَانِ. فَلَمَّا تَيَقَّنُوا ذَلِكَ عَدَلُوا ذَلِكَ إِلَى خُوَنْجَ، وَانْتَقَضَ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا فِيهِ، وَرَاسَلُوا الْأَمِيرَ شِيرِكِيرَ الَّذِي كَانَ أَتَابِكَ طُغْرَلَ، أَيَّامَ أَبِيهِ، يَدْعُونَهُ إِلَى إِنْجَادِهِمْ، وَقَدْ كَانَ كُنْتَغْدِي قَبَضَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ السُّلْطَانُ سَنْجَرَ، فَعَادَ إِلَى إِقْطَاعِهِ، أَبْهَرَ، وَزَنْجَانَ، وَكَاتَبُوهُ فَأَجَابَهُمْ، وَاتَّصَلَ بِهِمْ، وَسَارَ مَعَهُمْ إِلَى أَبْهَرَ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُمْ مَا أَرَادُوا، فَرَاسَلُوا السُّلْطَانَ بِالطَّاعَةِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ أَوَّلَ هَذِهِ السَّنَةِ، وَتَمَّتْ.

ذِكْرُ حَالِ دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ وَمَا كَانَ مِنْهُ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ حَالَ دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ، وَصُلْحَهُ عَلَى يَدِ يَرْنَقُشَ الزَّكْوِيِّ، وَمُقَامَهُ بِالْحِلَّةِ، وَعَوْدَ يَرْنَقُشَ إِلَى السُّلْطَانِ وَمَعَهُ مَنْصُورُ بْنُ صَدَقَةَ، أَخُو دُبَيْسٍ، وَوَلَدُهُ، رَهِينَةً، فَلَمَّا عَلِمَ الْخَلِيفَةُ بِذَلِكَ لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَرَاسَلَ السُّلْطَانَ مَحْمُودًا فِي إِبْعَادِ دُبَيْسٍ عَنِ الْعِرَاقِ إِلَى بَعْضِ النَّوَاحِي. وَتَرَدَّدَ الْخِطَابُ فِي ذَلِكَ، وَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى هَمَذَانَ، فَأَعَادَ الْخَلِيفَةُ الشَّكْوَى مِنْ دُبَيْسٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يُطَالِبُ النَّاسَ بِحُقُوقِهِ، مِنْهَا قَتْلُ أَبِيهِ، وَأَشَارَ أَنْ يَحْضُرَ السُّلْطَانُ آقْسُنْقُرُ الْبُرْسُقِيُّ مِنَ الْمَوْصِلِ، وَيُوَلِّيَهُ شِحْنَكِيَّةَبَغْدَاذَ وَالْعِرَاقِ، وَيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِ دُبَيْسٍ، فَفَعَلَ السُّلْطَانُ ذَلِكَ، وَأَحْضَرَ الْبُرْسُقِيَّ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ زَوَّجَهُ وَالِدَةَ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ، وَجَعَلَهُ شِحْنَةَ بَغْدَاذَ وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ دُبَيْسٍ إِنْ تَعَرَّضَ الْبِلَادَ. وَسَارَ السُّلْطَانُ عَنْ بَغْدَاذَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مُقَامُهُ بِبَغْدَاذَ سَنَةً وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَلَمَّا فَارَقَ بَغْدَاذَ وَالْعِرَاقَ تَظَاهَرَ دُبَيْسٌ بِأُمُورٍ تَأَثَّرَ بِهَا الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْبُرْسُقِيِّ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ، وَإِزْعَاجِهِ عَنِ الْحِلَّةِ، فَأَرْسَلَ الْبُرْسُقِيُّ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَأَحْضَرَ عَسَاكِرَهُ، وَسَارَ إِلَى الْحِلَّةِ، وَأَقْبَلَ دُبَيْسٌ نَحْوَهُ، فَالْتَقَوْا عِنْدَ نَهْرِ بَشِيرٍ، شَرْقِيَّ الْفُرَاتِ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْبُرْسُقِيِّ. وَكَانَ سَبَبُ الْهَزِيمَةِ أَنَّهُ رَأَى فِي مَيْسَرَتِهِ خَلَلًا، وَبِهَا الْأُمَرَاءُ الْبَكْجِيَّةُ، فَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ خَيْمَتِهِ، وَأَنْ تُنْصَبَ عِنْدَ الْمَيْسَرَةِ، لِيُقَوِّيَ قُلُوبَ مَنْ بِهَا، فَلَمَّا رَأَوُا الْخَيْمَةَ وَقَدْ سَقَطَتْ ظَنُّوهَا عَنْ هَزِيمَةٍ، فَانْهَزَمُوا، وَتَبِعَهُمُ النَّاسُ وَالْبُرْسُقِيُّ. وَقِيلَ: بَلْ أُعْطِيَ رُقْعَةً فِيهَا: إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ، مِنْهُمْ إِسْمَاعِيلُ الْبَكْجِيُّ، يُرِيدُونَ الْفَتْكَ بِهِ، فَانْهَزَمَ، وَتَبِعَهُ الْعَسْكَرُ، وَدَخَلَ بَغْدَاذَ ثَانِيَ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْعَسْكَرِ نَصْرُ بْنُ النَّفِيسِ بْنِ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ أَحْمَدِ بْنِ أَبِي الْجَبْرِ، وَكَانَ نَاظِرًا بِالْبَطِيحَةِ لِرَيْحَانَ مَحْكَوَيْهِ، خَادِمِ السُّلْطَانِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ إِقْطَاعِهِ، وَحَضَرَ أَيْضًا الْمُظَفَّرُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي الْجَبْرِ، وَبَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ شَدِيدَةٌ، فَالْتَقَيَا عِنْدَ الِانْهِزَامِ بِسَابَاطِ نَهَرِ مَلِكٍ، فَقَتَلَهُ الْمُظَفَّرُ وَمَضَى إِلَى وَاسِطَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى الْبَطِيحَةِ، وَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا وَكَاتَبَ دُبَيْسًا وَأَطَاعَهُ.

وَأَمَّا دُبَيْسٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْرِضْ لِنَهْرِ مَلِكٍ، وَلَا غَيْرِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ أَنَّهُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَخَذَ الْبُرْسُقِيَّ وَجَمِيعَ مَنْ مَعَهُ، وَسَأَلَ أَنْ يَخْرُجَ النَّاظِرُ إِلَى الْقُرَى الَّتِي لِخَاصِّ الْخَلِيفَةِ لِقَبْضِ دَخْلِهَا. وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ فِي حُزَيْرَانَ، وَحَمَى الْبَلَدَ، فَأَحْمَدَ الْخَلِيفَةُ فِعْلَهُ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ أَنْ يَقْبِضَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ عَلَى وَزِيرِهِ جَلَالِ الدِّينِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ صَدَقَةَ لِيَعُودَ إِلَى الطَّاعَةِ، فَقُبِضَ عَلَى الْوَزِيرِ، وَنُهِبَتْ دَارُهُ وَدُورُ أَصْحَابِهِ وَالْمُنْتَمِينَ إِلَيْهِ، وَهَرَبَ ابْنُ أَخِيهِ جَلَالُ الدِّينِ أَبُو الرِّضَا إِلَى الْمَوْصِلِ. وَلَمَّا سَمِعَ السُّلْطَانُ خَبَرَ الْوَاقِعَةِ قَبَضَ عَلَى مَنْصُورِ بْنِ صَدَقَةَ، أَخِي دُبَيْسٍ، وَوَلَدِهِ، وَرَفَعَهُمَا إِلَى قَلْعَةِ بُرْحِينَ وَهِيَ تُجَاوِرُ كَرَجَ. ثُمَّ إِنَّ دُبَيْسًا أَمَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى أَقْطَاعِهِمْ بِوَاسِطَ، فَسَارُوا إِلَيْهَا، فَمَنَعَهُمْ أَتْرَاكُ وَاسِطَ، فَجَهَّزَ دُبَيْسٌ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا مُقَدَّمُهُمْ مُهَلْهَلُ ابْنُ أَبِي الْعَسْكَرِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُظَفَّرِ بْنِ الْجَبْرِ بِالْبَطِيحَةِ لِيَتَّفِقَ مَعَ مُهَلْهَلٍ وَيُسَاعِدَهُ عَلَى قِتَالِ الْوَاسِطِيِّينَ، فَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْوَاقِعَةُ تَاسِعَ رَجَبٍ، وَأَرْسَلَ الْوَاسِطِيُّونَ إِلَى الْبُرْسُقِيِّ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْمَدَدَ، فَأَمَدَّهُمْ بِجَيْشٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَعَجَّلَ مُهَلْهَلٌ فِي عَسْكَرِ دُبَيْسٍ، وَلَمْ يَنْتَظِرِ الْمُظَفَّرَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ بِمُفْرَدِهِ يَنَالُ مِنْهُمْ مَا أَرَادَ، وَيَنْفَرِدُ بِالْفَتْحِ، فَالْتَقَى هُوَ وَالْوَاسِطِيُّونَ، ثَامِنَ رَجَبٍ، فَانْهَزَمَ مُهَلْهَلٌ وَعَسْكَرُهُ، وَظَفِرَ الْوَاسِطِيُّونَ، وَأُخِذَ مُهَلْهَلٌ أَسِيرًا وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْعَسْكَرِ، وَقُتِلَ مَا يَزِيدُ عَلَى أَلْفِ قَتِيلٍ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْوَاسِطِيِّينَ غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الْمُظَفَّرُ بْنُ أَبِي الْجَبْرِ فَإِنَّهُ أَصْعَدَ مِنَ الْبَطِيحَةِ وَنَهَبَ وَأَفْسَدَ، وَجَرَى مِنْ أَصْحَابِهِ الْقَبِيحُ، فَلَمَّا قَارَبَ وَاسِطًا سَمِعَ بِالْهَزِيمَةِ، فَعَادَ مُنْحَدِرًا. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا أَخَذَ الْعَسْكَرُ الْوَاسِطِيُّ مِنْ مُهَلْهَلٍ تَذْكِرَةٌ بِخَطِّ دُبَيْسٍ يَأْمُرُهُ فِيهَا بِقَبْضِ الْمُظَفَّرِ بْنِ أَبِي الْجَبْرِ وَمُطَالَبَتِهِ بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ أَخَذَهَا مِنَ الْبَطِيحَةِ، فَأَرْسَلُوا الْخَطَّ إِلَى الْمُظَفَّرِ، وَقَالُوا: هَذَا خَطُّ الَّذِي تَخْتَارُهُ، فَلَمَّا جَرَى عَلَى أَصْحَابِ دُبَيْسٍ مِنَ الْوَاسِطِيِّينَ مَا ذَكَرْنَاهُ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدِهِ فِي الشَّرِّ، وَبَلَغَهُ أَنَّ السُّلْطَانَ كَحَلَ أَخَاهُ، فَجَزَّ شَعْرَهُ، وَلَبِسَ السَّوَادَ، وَنَهَبَ الْبِلَادَ، وَأَخَذَ كُلَّ مَا لِلْخَلِيفَةِ بِنَهْرِ الْمَلِكِ، فَأَجْلَى النَّاسَ إِلَى بَغْدَاذَ.

وَسَارَ عَسْكَرُ وَاسِطَ إِلَى النُّعْمَانِيَّةَ، فَأَجْلَوْا عَنْهَا عَسْكَرَ دُبَيْسٍ وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَجَرَى بَيْنَهُمْ هُنَاكَ وَقْعَةٌ كَانَ الظَّفَرُ فِيهَا لِلْوَاسِطِيِّينَ، وَتَقَدَّمَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْبُرْسُقِيِّ بِالتَّبْرِيزِ إِلَى حَرْبِ دُبَيْسٍ، فَبَرَزَ فِي رَمَضَانَ، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ قَتْلِ السُّمِيرَمِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الْوَزِيرُ الْكَمَالُ أَبُو طَالِبٍ السُّمِيرَمِيُّ، وَزِيرُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، سَلْخَ صَفَرَ، وَكَانَ قَدْ بَرَزَ مَعَ السُّلْطَانِ لِيَسِيرَ إِلَى هَمَذَانَ، فَدَخَلَ إِلَى الْحَمَّامِ، وَخَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ الرَّجَّالَةُ وَالْخَيَّالَةُ، وَهُوَ فِي مَوْكِبٍ عَظِيمٍ، فَاجْتَازَ بِسُوقِ الْمَدْرَسَةِ الَّتِي بَنَاهَا خُمَارَتِكِينُ التُّتُشِيُّ، وَاجْتَازَ فِي مَنْفَذٍ ضَيِّقٍ فِيهِ حَظَائِرُ الشَّوْكِ، فَتَقَدَّمَ أَصْحَابُهُ لِضِيقِ الْمَوْضِعِ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ بَاطِنِيٌّ وَضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ، فَوَقَعَتْ فِي الْبَغْلَةِ، وَهَرَبَ إِلَى دِجْلَةَ، وَتَبِعَهُ الْغِلْمَانُ، فَخَلَا الْمَوْضِعُ، فَظَهَرَ رَجُلٌ آخَرُ فَضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ فِي خَاصِرَتِهِ، وَجَذَبَهُ عَنِ الْبَغْلَةِ إِلَى الْأَرْضِ وَضَرَبَهُ عِدَّةَ ضَرَبَاتٍ. وَعَادَ أَصْحَابُ الْوَزِيرِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلَانِ بَاطِنِيَّانِ، فَانْهَزَمَ مِنْهُمَا، ثُمَّ عَادُوا وَقَدْ ذُبِحَ الْوَزِيرُ مِثْلَ الشَّاةِ، فَحُمِلَ قَتِيلًا وَبِهِ نَيِّفٌ وَثَلَاثُونَ جِرَاحَةً، وَقُتِلَ قَاتِلُوهُ. وَلَمَّا كَانَ فِي الْحَمَّامِ كَانَ الْمُنَجِّمُونَ يَأْخُذُونَ لَهُ الطَّالِعَ لِيَخْرُجَ فَقَالُوا: هَذَا وَقْتٌ جَيِّدٌ، وَإِنْ تَأَخَّرْتَ يَفُتْ طَالِعُ السَّعْدِ، فَأَسْرَجَ وَرَكِبَ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامًا، فَمَنَعُوهُ لِأَجْلِ الطَّالِعِ، فَقُتِلَ وَلَمْ يَنْفَعْهُ قَوْلُهُمْ. وَكَانَتْ وِزَارَتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ، وَانْتُهِبَ مَالُهُ، وَأَخَذَ السُّلْطَانُ خِزَانَتَهُ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ شَمْسُ الْمُلْكِ، وَكَانَتْ زَوْجَةُ السُّمِيرَمِيِّ قَدْ خَرَجَتْ هَذَا الْيَوْمَ فِي مَوْكِبٍ كَبِيرٍ، مَعَهَا نَحْوُ مِائَةِ جَارِيَةِ، وَجَمْعٌ مِنَ الْخَدَمِ، وَالْجَمِيعُ بِمَرَاكِبِ الذَّهَبِ، فَلَمَّا سَمِعْنَ بِقَتْلِهِ عُدْنَ حَافِيَاتٍ حَاسِرَاتٍ، وَقَدْ تَبَدَّلْنَ بِالْعِزِّ هَوَانًا، وَبِالْمَسَرَّةِ أَحْزَانًا. فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ. وَكَانَ السُّمِيرَمِيُّ ظَالِمًا، كَثِيرَ الْمُصَادَرَةِ لِلنَّاسِ، سَيِّءَ السِّيرَةِ، فَلَمَّا قُتِلَ أَطْلَقَ السُّلْطَانُ مَا كَانَ جَدَّدَهُ مِنَ الْمُكُوسِ، وَمَا وَضَعَهُ عَلَى التُّجَّارِ وَالْبَاعَةِ.

ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى ابْنِ صَدَقَةَ وَزِيرِ الْخَلِيفَةِ وَنِيَابَةِ عَلِيِّ بْنِ طَرَّادٍ فِي جُمَادَى الْأُولَى قَبَضَ الْخَلِيفَةُ عَلَى وَزِيرِهِ جَلَالِ الدِّينِ بْنِ صَدَقَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلُ، وَأُقِيمَ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ شَرَفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ طَرَّادٍ الزَّيْنَبِيُّ فِي نِيَابَةِ الْوِزَارَةِ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ فِي مَعْنَى الْوِزَارَةِ نِظَامَ الْمُلْكِ أَبِي نَصْرٍ أَحْمَدَ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَكَانَ أَخُو شَمْسِ الْمُلْكِ عُثْمَانُ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ وَزِيرَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتُوزِرَ فِي شَعْبَانَ. وَكَانَ قَدْ وَزَرَ لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ عُزِلَ، وَلَزِمَ دَارًا اسْتَجَدَّهَا بِبَغْدَاذَ إِلَى الْآنِ. فَلَمَّا خُلِعَ عَلَى نِظَامِ الْمُلْكِ، وَجَلَسَ فِي الدِّيوَانِ، طَلَبَ أَنْ يَخْرُجَ ابْنُ صَدَقَةَ عَنْ بَغْدَاذَ، فَلَمَّا عَلِمَ ابْنُ صَدَقَةَ ذَلِكَ طَلَبَ مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى حَدِيثَةَ عَانَةَ لِيَكُونَ عِنْدَ الْأَمِيرِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُهَارِشَ، فَأُجِيبَ إِلَى مَا طَلَبَ. وَسَارَ إِلَى الْحَدِيثَةِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ إِنْسَانٌ مِنْ مُفْسِدِي التُّرْكُمَانِ يُقَالُ لَهُ يُونُسُ الْحَرَامِيُّ، فَأَسَرَهُ وَنَهَبَ أَصْحَابَهُ، فَخَافَ الْوَزِيرُ أَنْ يَعْلَمَ دُبَيْسٌ فَأَرْسَلَ إِلَى يُونُسَ وَبَذَلَ لَهُ مَالًا يَأْخُذُهُ مِنْهُ لِلْعَدَاوَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا، فَقَرَّرَ أَمْرَهُ مَعَ يُونُسَ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ يُعَجِّلُ مِنْهَا ثَلَاثَمِائَةٍ، وَيُؤَخِّرُ الْبَاقِيَ إِلَى أَنْ يُرْسِلَهُ مِنَ الْحَدِيثَةِ. وَرَاسَلَ عَامِلَ بَلَدِ الْفُرَاتِ فِي تَخْلِيصِهِ، وَإِنْفَاذِ مَنْ يَضْمَنُ الْبَاقِيَ عَلَيْهِ، فَأَعْمَلَ الْعَامِلُ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ، فَأَحْضَرَ إِنْسَانًا فَلَّاحًا وَأَلْبَسَهُ ثِيَابًا فَاخِرَةً وَطَيْلَسَانًا، وَأَرْكَبَهُ وَسَيَّرَ مَعَهُ غِلْمَانًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى يُونُسَ وَيَدَّعِيَ أَنَّهُ قَاضِي بَلَدِ الْفُرَاتِ، وَيَضْمَنَ الْوَزِيرُ مِنْهُ مَا بَقِيَ مِنَ الْمَالِ، فَسَارَ السَّوَادِيُّ إِلَى يُونُسَ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَ الْوَزِيرِ وَيُونُسَ احْتَرَمَاهُ، وَضَمِنَ السَّوَادِيُّ الْوَزِيرَ مِنْهُ، وَقَالَ لَهُ: أُقِيمُ عِنْدَكَ إِلَى أَنْ يَصِلَ الْمَالُ مَعَ صَاحِبٍ لَكَ تُنْفِذُهُ مَعَ الْوَزِيرِ، فَاعْتَقَدَ يُونُسُ صِدْقَ ذَلِكَ وَأَطْلَقَ الْوَزِيرَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْحَدِيثَةَ قَبَضَ عَلَى مَنْ مَعَهُ مِنْهُمْ، فَأَطْلَقَ يُونُسُ ذَلِكَ السَّوَادِيَّ، وَالْمَالَ الَّذِي أَخَذَهُ، حَتَّى أَطْلَقَ الْوَزِيرُ أَصْحَابَهُ، وَعَلِمَ الْحِيَلَ الَّتِي تَمَّتْ عَلَيْهِ. وَلَمَّا سَارَ الْوَزِيرُ مِنْ عِنْدِ يُونُسَ لَقِيَ إِنْسَانًا أَنْكَرَهُ، فَأَخَذَهُ، فَرَأَى مَعَهُ كِتَابًا مِنْ

دُبَيْسٍ إِلَى يُونُسَ يَبْذُلُ سِتَّةَ آلَافِ دِينَارٍ لِيُسَلِّمَ الْوَزِيرَ إِلَيْهِ، وَكَانَ خَلَاصُهُ مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ. ذِكْرُ قَتْلِ جُيُوشْ بِكْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ جُيُوشْ بِكِ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْمَوْصِلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا خُرُوجَهُ عَلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَعَوْدَهُ إِلَى خِدْمَتِهِ، فَلَمَّا رَضِيَ عَنْهُ أَقْطَعَهُ أَذْرَبِيجَانَ وَجَهِلَهُ مُقَدَّمُ عَسْكَرِهِ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ مُنَافَرَةٌ وَمُنَازَعَاتٌ، فَأَغْرَوْا بِهِ السُّلْطَانَ، فَقَتَلَهُ فِي رَمَضَانَ عَلَى بَابِ تِبْرِيزَ. وَكَانَ تُرْكِيًّا مِنْ مَمَالِيكِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، وَلَمَّا وَلِيَ الْمَوْصِلَ وَالْجَزِيرَةَ كَانَ الْأَكْرَادُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ قَدِ انْتَشَرُوا، وَكَثُرَ فَسَادُهُمْ، وَكَثُرَتْ قِلَاعُهُمْ، وَالنَّاسُ مَعَهُمْ فِي ضِيقٍ، وَالطَّرِيقُ خَائِفَةٌ، فَقَصَدَهُمْ، وَحَصَرَ قِلَاعَهُمْ، وَفَتَحَ كَثِيرًا مِنْهَا بِبَلَدِ الْهَكَّارِيَّةِ، وَبَلَدِ الزَّوْزَانِ، وَبَلَدِ الْبَشْنَوِيَّةِ وَخَافَهُ الْأَكْرَادُ، وَتَوَلَّى قَصْدَهُمْ بِنَفْسِهِ، فَهَرَبُوا مِنْهُ فِي الْجِبَالِ وَالشِّعَابِ وَالْمَضَايِقِ، وَأَمِنَتِ الطُّرُقُ، وَانْتَشَرَ النَّاسُ وَاطْمَأَنُّوا، وَبَقِيَ الْأَكْرَادُ لَا يَجْسُرُونَ أَنْ يَحْمِلُوا السِّلَاحَ لِهَيْبَتِهِ. ذِكْرُوَفَاةِ إِيلْغَازِي وَأَحْوَالِ حَلَبَ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، تُوُفِّيَ إِيلْغَازِي بْنُ أُرْتُقَ بِمَيَّافَارِقِينَ، وَمَلَكَ ابْنُهُ حُسَامُ الدِّينِ تَمَرْتَاشُ قَلْعَةَ مَارِدِينَ، وَمَلَكَ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ مَيَّافَارِقِينَ، وَكَانَ بِحَلَبَ ابْنُ أَخِيهِ بَدْرُ الدُّوَلَةِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أُرْتُقَ، فَبَقِيَ بِهَا إِلَى أَنْ أَخَذَهَا ابْنُ عَمِّهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَقْطَعَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ الْأَمِيرَ آقْسُنْقُرَ الْبُرْسُقِيَّ مَدِينَةَ وَاسِطَ وَأَعْمَالَهَا، مُضَافًا إِلَى وِلَايَةِ الْمَوْصِلِ وَغَيْرِهَا مِمَّا بِيَدِهِ، وَشِحْنَكِيَّةَ الْعِرَاقِ، فَلَمَّا أَقْطَعَهَا الْبُرْسُقِيُّ سَيَّرَ إِلَيْهَا

عِمَادَ الدِّينِ زِنْكِيَّ بْنَ آقْسُنْقُرَ الَّذِي كَانَ وَالِدُهُ صَاحِبَ حَلَبَ، وَأَمَرَهُ بِحِمَايَتِهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي شَعْبَانَ وَوَلِيَهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَخْبَارَ زِنْكِيٍّ فِي كِتَابِ الْبَاهِرِ فِي ذِكْرِ مُلْكِهِ وَمُلْكِ أَوْلَادِهِ الَّذِينَ هُمْ مُلُوكُنَا الْآنَ، فَيُنْظَرُ مِنْهُ. وَفِيهَا ظَهَرَ مَعْدِنُ نُحَاسٍ بِدِيَارِ بَكْرٍ قَرِيبًا مِنْ قَلْعَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَفِيهَا زَادَ الْفُرَاتُ زِيَادَةً عَظِيمَةً لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهَا، فَدَخَلَ الْمَاءُ إِلَى رَبَضِ قَلْعَةِ جَعْبَرَ، وَكَانَ الْفُرَاتُ، حِينَئِذٍ، بِالْقُرْبِ مِنْهَا، فَغَرِقَ أَكْثَرُ دُورِهِ وَمَسَاكِنِهِ، وَحَمَلَ فَرَسًا مِنَ الرَّبَضِ وَأَلْقَاهُ مِنْ فَوْقِ السُّورِ إِلَى الْفُرَاتِ. وَفِيهَا بُنِيَتْ مَدْرَسَةٌ بِحَلْبَ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَفِيهَا تُوُفِّيَتِ ابْنَةُ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ زَوْجُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ. وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، قَدِمَ إِلَى بَغْدَاذَ الْبُرْهَانُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْغَزْنَوِيُّ وَعَقَدَ مَجْلِسَ الْوَعْظِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ، وَوَرَدَ بَعْدَهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ يَعْلَى الْعَلَوِيُّ، وَنَزَلَ رِبَاطَ شَيْخِ الشُّيُوخِ، فَوَعَظَ فِي جَامِعِ الْقَصْرِ، وَالتَّاجِيَّةِ، وَرِبَاطِ سَعَادَةٍ، وَصَارَ لَهُ قَبُولٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَحَصَلَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ مُوَافَقَتَهُمْ. وَوَرَدَ بَعْدَهُ أَبُو الْفُتُوحِ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَنَزَلَ بِرِبَاطِ شَيْخِ الشُّيُوخِ أَيْضًا، وَوَعَظَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَفِي النِّظَامِيَّةِ، وَأَظْهَرَ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ، فَصَارَ لَهُ قَبُولٌ كَثِيرٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَحَضَرَ مَجْلِسَهُ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ رِبَاطَ الْأُرْجُوَنِيَّةِ، وَالِدَةِ الْمُقْتَدِي بِاللَّهِ، بِدَرْبِ زَاخِي. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ، أَخُو أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، وَمَوْلِدُهُ بِدِمَشْقَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَنَشَأَ بِبَغْدَاذَ، وَسَمِعَ الصَّرِيفِينِيَّ وَابْنَ النُّقُورِ وَغَيْرَهُمَا، وَسَافَرَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ حَافِظًا لِلْحَدِيثِ عَالِمًا بِهِ.

وَفِي ذِي الْحِجَّةِ تُوُفِّيَ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَبُو طَالِبٍ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْبَرْمَكِيَّ، وَالْجَوْهَرِيَّ، وَالْعُشَارِيَّ، وَكَانَ ثِقَةً، حَافِظًا لِلْحَدِيثِ.

ثم دخلت سنة سبع عشرة وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 517 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مَسِيرِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ لِحَرْبِ دُبَيْسٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ، وَبَيْنَ دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ دُبَيْسًا أَطْلَقَ عَفِيفًا خَادِمَ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ مَأْسُورًا عِنْدَهُ، وَحَمَّلَهُ رِسَالَةً فِيهَا تَهْدِيدٌ لِلْخَلِيفَةِ بِإِرْسَالِ الْبُرْسُقِيِّ إِلَى قِتَالِهِ، وَتَقْوِيَتِهِ بِالْمَالِ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ كَحَلَ أَخَاهُ، وَبَالَغَ فِي الْوَعِيدِ، وَلَبِسَ السَّوَادَ، وَجَزَّ شَعْرَهُ، وَحَلَفَ لَيَنْهَبَنَّ بَغْدَاذَ، وَيُخَرِّبَهَا، فَاغْتَاظَ الْخَلِيفَةُ لِهَذِهِ الرِّسَالَةِ، وَغَضِبَ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْبُرْسُقِيِّ بِالتَّبْرِيزِ إِلَى حَرْبِ دُبَيْسٍ، فَبَرَزَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَتَجَهَّزَ الْخَلِيفَةُ، وَبَرَزَ مِنْ بَغْدَاذَ، وَاسْتَدْعَى الْعَسَاكِرَ، فَأَتَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مُهَارِشَ، صَاحِبُ الْحَدِيثَةِ، فِي عُقَيْلٍ، وَأَتَاهُ قِرْوَاشُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَغَيْرُهُمَا، وَأَرْسَلَ دُبَيْسًا إِلَى نَهْرِ مَلِكٍ فَنَهْبَ، وَعَمِلَ أَصْحَابُهُ كُلَّ عَظِيمٍ مِنَ الْفَسَادِ فَوَصَلَ أَهْلُهُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ فَنُودِيَ بِبَغْدَاذَ: لَا يَتَخَلَّفُ مِنَ الْأَجْنَادِ أَحَدٌ، وَمَنْ أَحَبَّ الْجُنْدِيَّةَ مِنَ الْعَامَّةِ فَلْيَحْضُرْ، فَجَاءَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَفَرَّقَ فِيهِمُ الْأَمْوَالَ وَالسِّلَاحَ. فَلَمَّا عَلِمَ دُبَيْسٌ الْحَالَ كَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْتَعْطِفُهُ وَيَسْأَلُهُ الرِّضَا عَنْهُ، فَلَمْ يُجِبْ إِلَى ذَلِكَ، وَأُخْرِجَتْ خِيَامُ الْخَلِيفَةِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَنَادَى أَهْلُ بَغْدَاذَ: النَّفِيرَ النَّفِيرَ، الْغَزَاةَ الْغَزَاةَ! وَكَثُرَ الضَّجِيجُ مِنَ النَّاسِ، وَخَرَجَ مِنْهُمْ عَالَمٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَبَرَزَ الْخَلِيفَةُ رَابِعَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَعَبَرَ دِجْلَةَ، وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ أَسْوَدٌ، وَعِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَطَرْحَةٌ، وَعَلَى كَتِفِهِ الْبُرْدَةُ، وَفِي يَدِهِ الْقَضِيبُ، وَفِي وَسَطِهِ مِنْطَقَةُ حَدِيدٍ صِينِيِّ، وَنَزَلَ الْخِيَامَ وَمَعَهُ وَزِيرُ نِظَامِ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ نِظَامِ

الْمُلْكِ، وَنَقِيبُ الطَّالِبِيِّينَ، وَنَقِيبُ النُّقَبَاءِ عَلِيُّ بْنُ طَرَّادٍ، وَشَيْخُ الشُّيُوخِ صَدْرُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأَعْيَانِ. وَكَانَ الْبُرْسُقِيُّ قَدْ نَزَلَ بِقَرْيَةِ جِهَارِ طَاقَ، وَمَعَهُ عَسْكَرُهُ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ خُرُوجُ الْخَلِيفَةِ عَنْ بَغْدَاذَ عَادُوا إِلَى خِدْمَتِهِ، فَلَمَّا رَأَوُا الشِّمْسَةَ تَرَجَّلُوا بِأَجْمَعِهِمْ، وَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بِالْبُعْدِ مِنْهُ. وَدَخَلَتْ هَذِهِ السَّنَةُ، فَنَزَلَ الْخَلِيفَةُ، مُسْتَهَلَّ الْمُحَرَّمِ، بِالْحَدِيثَةِ، بِنَهْرِ الْمَلِكِ، وَاسْتَدْعَى الْبُرْسُقِيَّ وَالْأُمَرَاءَ، وَاسْتَحْلَفَهُمْ عَلَى الْمُنَاصَحَةِ فِي الْحَرْبِ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى النَّيْلِ، وَنَزَلُوا بِالْمُبَارَكَةِ، وَعَبَّأَ الْبُرْسُقِيُّ أَصْحَابَهُ، وَوَقَفَ الْخَلِيفَةُ مِنْ وَرَاءِ الْجَمِيعِ فِي خَاصَّتِهِ، وَجَعَلَ دُبَيْسٌ أَصْحَابَهُ صَفًّا وَاحِدًا، مَيْمَنَةً، وَمَيْسَرَةً، وَقَلْبًا، وَجَعَلَ الرَّجَّالَةَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَيَّالَةِ بِالسِّلَاحِ، وَكَانَ قَدْ وَعَدَ أَصْحَابَهُ بِنَهْبِ بَغْدَاذَ، وَسَبْيِ النِّسَاءِ، فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ بَادَرَ أَصْحَابُ دُبَيْسٍ، وَبَيْنَ أَيْدِيهِمِ الْإِمَاءُ يَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ، وَالْمَخَانِيثُ بِالْمَلَاهِي، وَلَمْ يُرَ فِي عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ غَيْرُ قَارِئٍ، وَمُسَبِّحٍ، وَدَاعٍ، فَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ. وَكَانَ مَعَ أَعْلَامِ الْخَلِيفَةِ الْأَمِيرُ كَرَبَاوِيُّ بْنُ خُرَاسَانَ، وَفِي السَّاقَةِ سُلَيْمَانُ بْنُ مُهَارِشَ، وَفِي مَيْمَنَةِ عَسْكَرِ الْبُرْسُقِيِّ الْأَمِيرُ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِلْيَاسَ مَعَ الْأُمَرَاءِ الْبَكْجِيَّةِ، فَحَمَلَ عَنْتَرُ بْنُ أَبِي الْعَسْكَرِ فِي طَائِفَةٍ مِنْ عَسْكَرِ دُبَيْسٍ عَلَى مَيْمَنَةِ الْبُرْسُقِيِّ، فَتَرَاجَعَتْ عَلَى أَعْقَابِهَا، وَقُتِلَ ابْنُ أَخٍ لِلْأَمِيرِ أَبِي بَكْرٍ الْبَكْجِيِّ، وَعَادَ عَنْتَرٌ وَحَمَلَ حَمْلَةً ثَانِيَةً عَلَى هَذِهِ الْمَيْمَنَةِ، فَكَانَ حَالُهَا فِي الرُّجُوعِ عَلَى أَعْقَابِهَا كَحَالِهَا الْأَوَّلِ، فَلَمَّا رَأَى عَسْكَرُ وَاسِطَ ذَلِكَ، وَمُقَدَّمُهُمُ الشَّهِيدُ عِمَادُ الدِّينِ زِنْكِيُّ بْنُ آقْسُنْقُرَ، حَمَلَ وَهُمْ مَعَهُ عَلَى عَنْتَرٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَتَوْهُمْ مِنْ ظُهُورِهِمْ فَبَقِيَ عَنْتَرٌ فِي الْوَسَطِ، وَعِمَادُ الدِّينِ وَعَسْكَرُ وَاسِطَ مِنْ وَرَائِهِ، وَالْأُمَرَاءُ الْبَكْجِيَّةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأُسِرَ عَنْتَرٌ، وَأُسِرَ مَعَهُ بُرَيْكُ بْنُ زَائِدَةَ وَجَمِيعُ مَنْ مَعَهُمَا وَلَمْ يُفْلِتْ أَحَدٌ. وَكَانَ الْبُرْسُقِيُّ وَاقِفًا عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَكَانَ الْأَمِيرُ آقْ بُورِيُّ فِي الْكَمِينِ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ، فَلَمَّا اخْتَلَطَ النَّاسُ خَرَجَ الْكَمِينُ عَلَى عَسْكَرِ دُبَيْسٍ، فَانْهَزَمُوا جَمِيعُهُمْ وَأَلْقَوْا نُفُوسَهُمْ فِي الْمَاءِ، فَغَرِقَ مِنْهُمْ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ. وَلَمَّا رَأَى الْخَلِيفَةُ اشْتِدَادَ الْحَرْبِ جَرَّدَ سَيْفَهُ وَكَبَّرَ وَتَقَدَّمَ إِلَى الْحَرْبِ، فَلَمَّا انْهَزَمَ عَسْكَرُ دُبَيْسٍ وَحُمِلَتِ الْأَسْرَى إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَنْ تُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ صَبْرًا. وَكَانَ عَسْكَرُ دُبَيْسٍ عَشَرَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ رَاجِلٍ، وَعَسْكَرُ الْبُرْسُقِيِّ ثَمَانِيَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَخَمْسَةِ آلَافِ رَاجِلٍ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ أَصْحَابِ الْخَلِيفَةِ غَيْرُ عِشْرِينَ

فَارِسًا، وَحَصَلَ نِسَاءُ دُبَيْسٍ وَسَرَارِيِّهِ تَحْتَ الْأَسْرِ سِوَى بِنْتِ إِيلْغَازِي،، وَبِنْتِ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ فَإِنَّهُ كَانَ تَرَكَهُمَا فِي الْمَشْهَدِ. وَعَادَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَدَخَلَهَا يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَلَمَّا عَادَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَاذَ ثَارَ الْعَامَّةُ بِهَا، وَنَهَبُوا مَشْهَدَ بَابِ التِّبْنِ، وَقَلَعُوا أَبْوَابَهُ، فَأَنْكَرَ الْخَلِيفَةُ ذَلِكَ، وَأَمَرَ نَظَرَ أَمِيرَ الْحَاجِّ بِالرُّكُوبِ إِلَى الْمَشْهَدِ، وَتَأْدِيبِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَأَخْذِ مَا نُهِبَ، فَفَعَلَ وَأَعَادَ الْبَعْضَ وَخَفِيَ الْبَاقِي عَلَيْهِ. وَأَمَّا دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ فَإِنَّهُ لَمَّا انْهَزَمَ بِفَرَسِهِ وَسِلَاحِهِ، وَأَدْرَكَتْهُ الْخَيْلُ فَفَاتَهَا وَعَبَرَ الْفُرَاتَ، فَرَأَتْهُ امْرَأَةٌ عَجُوزٌ وَقَدْ عَبَرَ، فَقَالَتْ لَهُ: دُبَيْرٌ جِئْتَ؟ فَقَالَ: دُبَيْرٌ مَنْ لَمْ يَجِئْ. وَاخْتَفَى خَبَرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأُرْجِفَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ، ثُمَّ ظَهَرَ أَمْرُهُ أَنَّهُ قَصَدَ غُزَيَّةَ مِنْ عَرَبِ نَجْدٍ، فَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُحَالِفُوهُ، فَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا: إِنَّا نُسْخِطُ الْخَلِيفَةَ وَالسُّلْطَانَ، فَرَحَلَ إِلَى الْمُنْتَفَقِ، وَاتَّفَقَ مَعَهُمْ عَلَى قَصْدِ الْبَصْرَةِ وَأَخْذِهَا، فَسَارُوا إِلَيْهَا وَدَخَلُوهَا، وَنَهَبُوا أَهْلَهَا، وَقُتِلَ الْأَمِيرُ سَخْتُ كُمَانُ مُقَدَّمُ عَسْكَرِهَا، وَأُجْلِيَ أَهْلُهَا. فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْبُرْسُقِيِّ يُعَاتِبُهُ عَلَى إِهْمَالِهِ أَمْرِ دُبَيْسٍ، حَتَّى تَمَّ لَهُ مِنْ أَمْرِ الْبَصْرَةِ مَا أَخَرَبَهَا، فَتَجَهَّزَ الْبُرْسُقِيُّ لِلِانْحِدَارِ إِلَيْهِ، فَسَمِعَ دُبَيْسٌ ذَلِكَ، فَفَارَقَ الْبَصْرَةَ، وَسَارَ عَلَى الْبَرِّ إِلَى قَلْعَةِ جَعْبَرَ، وَالْتَحَقَ بِالْفِرِنْجِ، وَحَضَرَ مَعَهُمْ حِصَارَ حَلَبَ، وَأَطْمَعَهُمْ فِي أَخْذِهَا، فَلَمْ يَظْفَرُوا بِهَا، فَعَادُوا عَنْهَا، ثُمَّ فَارَقَهُمْ وَالْتَحَقَ بِالْمَلِكِ طُغْرَلَ ابْنِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَأَقَامَ مَعَهُ، وَحَسَّنَ لَهُ قَصْدَ الْعِرَاقِ، وَسَنَذْكُرُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ حِصْنَ الْأَثَارِبِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، مَلَكَ الْفِرِنْجُ حِصْنَ الْأَثَارِبِ، مِنْ أَعْمَالِ حَلَبَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَكْثَرُوا قَصْدَ حَلَبَ وَأَعْمَالِهَا بِالْإِغَارَةِ، وَالتَّخْرِيبِ، وَالتَّحْرِيقِ، وَكَانَ بِحَلْبَ حِينَئِذٍ بَدْرُ الدَّوْلَةِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أُرْتُقَ، وَهُوَ صَاحِبُهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِالْفِرِنْجِ قُوَّةٌ، وَخَافَهُمْ، فَهَادَنَهُمْ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْأَثَارِبَ وَيَكُفُّوا

عَنْ بِلَادِهِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَتَسَلَّمُوا الْحِصْنَ، وَتَمَّتِ الْهُدْنَةُ بَيْنَهُمْ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُ الرَّعِيَّةِ بِأَعْمَالِ حَلَبَ، وَجُلِبَتْ إِلَيْهِمُ الْأَقْوَاتُ وَغَيْرُهَا، وَلَمْ تَزَلِ الْأَثَارِبُ بِأَيْدِي الْفِرِنْجِ إِلَى أَنْ مَلَكَهَا أَتَابِكُ زِنْكِيُّ بْنُ آقْسُنْقُرَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مُلْكِ بَلْكَ حَرَّانَ وَحَلَبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، مَلَكَ بَلْكُ بْنُ بَهْرَامَ مَدِينَةَ حَرَّانَ، وَكَانَ قَدْ حَصَرَهَا، فَلَمَّا مَلَكَهَا سَارَ مِنْهَا إِلَى مَدِينَةِ حَلَبَ. وَسَبَبُ مَسِيرِهِ إِلَيْهَا: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ صَاحِبَهَا بَدْرَ الدَّوْلَةِ قَدْ سَلَّمَ قَلْعَةَ الْأَثَارِبِ إِلَى الْفِرِنْجِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَعَلِمَ عَجْزَهُ عَنْ حِفْظِ بِلَادِهِ، فَقَوِيَ طَمَعُهُ فِي مُلْكِهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا، وَنَازَلَهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَضَايَقَهَا، وَمَنَعَ الْمِيرَةَ عَنْهَا، وَأَحْرَقَ زُرُوعَهَا، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ ابْنُ عَمِّهِ الْبَلَدَ وَالْقَلْعَةَ بِالْأَمَانِ، غِرَّةَ جُمَادَى الْأُولَى مِنَ السَّنَةِ، وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ الْمَلِكِ رِضْوَانَ، وَبَقِيَ مَالِكًا لَهَا إِلَى أَنْ قُتِلَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْفِرِنْجِ وَالْمُسْلِمِينَ بِإِفْرِيقِيَّةَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمِيرَ عَلِيَّ بْنَ يَحْيَى، صَاحِبَ إِفْرِيقِيَةَ، لَمَّا اسْتَوْحَشَ مِنْ رُجَّارَ صَاحِبِ صِقِلِّيَةَ، جَدَّدَ الْأُسْطُولَ الَّذِي لَهُ، وَكَثَّرَ عَدَدَهُ، وَكَاتَبَ أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ عَلِيَّ بْنَ يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ بِمُرَّاكِشَ بِالِاجْتِمَاعِ مَعَهُ عَلَى قَصْدِ جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ، فَلَمَّا عَلِمَ رُجَّارُ ذَلِكَ كَفَّ عَنْ بَعْضِ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ. فَاتَّفَقَ أَنَّ عَلِيًّا مَاتَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَوَلِيَ ابْنُهُ الْحَسَنُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ سَيَّرَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ أُسْطُولًا، فَفَتَحُوا نُقُوطَرَةَ بِسَاحِلِ بِلَادِ قِلَّوْرِيَةَ، فَلَمْ يَشُكَّ رُجَّارُ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ سَبَبَ ذَلِكَ، فَجَدَّ فِي تَعْمِيرِ الشَّوَانِي وَالْمَرَاكِبِ، وَحَشَدَ فَأَكْثَرَ، وَمَنَعَ مِنَ السَّفَرِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْغَرْبِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ، قِيلَ: كَانَ ثَلَاثَمِائَةِ قِطْعَةٍ، فَلَمَّا انْقَطَعَتِ الطَّرِيقُ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ تَوَقَّعَ الْأَمِيرُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ خُرُوجَ الْعَدُوِّ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، فَأَمَرَ بِاتِّخَاذِ الْعُدَدِ،، وَتَجْدِيدِ الْأَسْوَارِ، وَجَمَعَ الْمُقَاتِلَةَ، فَأَتَاهُ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ وَمِنَ الْعَرَبِ جَمْعٌ كَثِيرٌ.

فَلَمَّا كَانَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ سَارَ الْأُسْطُولُ الْفِرِنْجِيُّ فِي ثَلَاثِمِائَةِ قِطْعَةٍ، فِيهَا أَلْفُ فَرَسٍ وَفَرَسٌ وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا سَارُوا مِنْ مَرْسَى عَلِيٍّ فَرَّقَتْهُمُ الرِّيحُ، وَغَرِقَ مِنْهُمْ مَرَاكِبُ كَثِيرَةٌ، وَنَازَلَ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ جَزِيرَةَ قَوْصَرَةَ فَفَتَحُوهَا، وَقَتَلُوا مَنْ بِهَا، وَسَبَوْا وَغَنِمُوا، وَسَارُوا عَنْهَا، فَوَصَلُوا إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَنَازَلُوا الْحِصْنَ الْمَعْرُوفَ بِالدِّيمَاسِ أَوَاخِرَ جُمَادَى الْأُولَى، فَقَاتَلَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا هُنَاكَ وَالدِّيمَاسُ حِصْنٌ مَنِيعٌ، فِي وَسَطِهِ حِصْنٌ آخَرُ، وَهُوَ مُشْرِفٌ عَلَى الْبَحْرِ. وَسَيَّرَ الْحَسَنُ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْجُمُوعِ إِلَى الْفِرِنْجِ، وَأَقَامَ هُوَ بِالْمَهْدِيَّةِ فِي جَمْعٍ آخَرَ يَحْفَظُهَا، وَأَخْذَ الْفِرِنْجُ حِصْنَ الدِّيمَاسِ، وَجُنُودُ الْمُسْلِمِينَ مُحِيطَةٌ بِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ لَيَالٍ اشْتَدَّ الْقِتَالُ عَلَى الْحِصْنِ الدَّاخِلِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ صَاحَ الْمُسْلِمُونَ صَيْحَةً عَظِيمَةً ارْتَجَّتْ لَهَا الْأَرْضُ، وَكَبَّرُوا، فَوَقَعَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِ الْفِرِنْجِ، فَلَمْ يَشُكُّوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَهْجُمُونَ عَلَيْهِمْ، فَبَادَرُوا إِلَى شَوَانِيهِمْ، وَقَتَلُوا بِأَيْدِيهِمْ كَثِيرًا مِنْ خُيُولِهِمْ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا أَرْبَعَمِائَةِ فَرَسٍ، وَلَمْ يَسْلَمْ مَعَهُمْ غَيْرُ فَرَسٍ وَاحِدٍ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعَ مَا تَخَلَّفَ عَنِ الْفِرِنْجِ، وَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الطُّلُوعِ إِلَى الْمَرَاكِبِ. فَلَمَّا صَعِدَ الْفِرِنْجُ إِلَى مَرَاكِبِهِمْ أَقَامُوا بِهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى النُّزُولِ إِلَى الْأَرْضِ، فَلَمَّا أَيِسُوا مِنْ خَلَاصِ أَصْحَابِهِمُ الَّذِينَ فِي الدِّيمَاسِ سَارُوا وَالْمُسْلِمُونَ يُكَبِّرُونَ عَلَيْهِمْ وَيَصِيحُونَ بِهِمْ، وَأَقَامَتْ عَسَاكِرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حِصْنِ الدِّيمَاسِ فِي أُمَمٍ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، فَحَصَرُوهُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ فَتْحُهُ لِحَصَانَتِهِ وَقُوَّتِهِ، فَلَمَّا عُدِمَ الْمَاءُ عَلَى مَنْ بِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَضَجِرُوا مِنْ مُوَاصَلَةِ الْقِتَالِ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَتَحُوا بَابَ الْحِصْنِ وَخَرَجُوا، فَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ مُنْتَصَفَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنَ السَّنَةِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ إِقَامَتِهِمْ فِي الْحِصْنِ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَلَمَّا رَجَعَ الْفِرِنْجُ مَقْهُورِينَ أَرْسَلَ الْأَمِيرُ الْحَسَنُ الْبُشْرَى إِلَى سَائِرِ الْبِلَادِ، وَقَالَ الشُّعَرَاءُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ فَأَكْثَرُوا، تَرَكْنَا ذَلِكَ خَوْفَ التَّطْوِيلِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْفِرِنْجِ عَلَى خَرْتَبِرْتَ وَأَخْذِهَا مِنْهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، اسْتَوْلَى الْفِرِنْجُ عَلَى خَرْتَبِرْتَ مِنْ بِلَادِ دِيَارِ بَكْرٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ بَلْكَ بْنَ بَهْرَامَ بْنِ أُرْتُقَ كَانَ صَاحِبَ خَرْتَبِرْتَ فَحَصَرَ قَلْعَةَ كَرْكَرَ، وَهِيَ تُقَارِبُ خَرْتَبِرْتَ، فَسَمِعَ الْفِرِنْجُ بِالشَّامِ الْخَبَرَ، فَسَارَ بَغْدُوِينُ مَلِكُ الْفِرِنْجِ فِي

جُمُوعِهِ إِلَيْهِ لِيُرَحِّلَهُ عَنْهَا، خَوْفًا أَنْ يَقْوَى بِمُلْكِهَا، فَلَمَّا سَمِعَ بَلْكُ بِقُرْبِهِ مِنْهُ رَحَلَ إِلَيْهِ، وَالْتَقَيَا فِي صَفَرٍ، وَاقْتَتَلَا، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ، وَأُسِرَ مَلِكُهُمْ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ فُرْسَانِهِمْ، وَسَجَنَهُمْ بِقَلْعَةِ خَرْتَبِرْتَ، وَكَانَ بِالْقَلْعَةِ أَيْضًا جُوسُلِينُ، صَاحِبُ الرُّهَا، وَغَيْرُهُ مِنْ مُقَدَّمِي الْفِرِنْجِ كَانَ قَدْ أَسَرَهُمْ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَارَ بَلْكُ عَنْ خَرْتَبِرْتَ إِلَى حَرَّانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَمَلَكَهَا، فَأَعْمَلَ الْفِرِنْجُ الْحِيلَةَ بِاسْتِمَالَةِ بَعْضِ الْجُنْدِ، فَظَهَرُوا وَمَلَكُوا الْقَلْعَةَ. فَأَمَّا الْمَلِكُ بَغْدُوِينُ فَإِنَّهُ اتَّخَذَ اللَّيْلَ جَمَلًا وَمَضَى إِلَى بِلَادِهِ، وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِبَلْكَ صَاحِبِهَا، فَعَادَ فِي عَسَاكِرِهِ إِلَيْهَا وَحَصَرَهَا، وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِالْقَلْعَةِ، وَاسْتَعَادَهَا مِنَ الْفِرِنْجِ، وَجَعَلَ فِيهَا مِنَ الْجُنْدِ مَنْ يَحْفَظُهَا، وَعَادَ عَنْهَا. ذِكْرُ قَتْلِ وَزِيرِ السُّلْطَانِ وَعَوْدِ بْنِ صَدَقَةَ إِلَى وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ عَلَى وَزِيرِهِ شَمْسِ الْمُلْكِ عُثْمَانَ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ وَقَتَلَهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَمَّا أَشَارَ عَلَى السُّلْطَانِ بِالْعَوْدِ عَنْ حَرْبِ الْكُرْجِ، وَخَالَفَهُ، وَكَانَتِ الْخِيَرَةُ فِي مُخَالَفَتِهِ، تَغَيَّرَ عَلَيْهِ، وَذَكَرَهُ أَعْدَاؤُهُ بِالسُّوءِ، وَنَبَّهُوا عَلَى تَهَوُّرِهِ، وَقِلَّةِ تَحْصِيلِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِمَصَالِحِ الدَّوْلَةِ، فَفَسَدَ رَأْيُ السُّلْطَانِ فِيهِ. ثُمَّ إِنَّ الشِّهَابَ أَبَا الْمَحَاسِنِ، وَزِيرَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، كَانَ قَدْ تُوُفِّيَ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي نِظَامِ الْمُلْكِ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ أَبُو طَاهِرٍ الْقُمِّيُّ، وَهُوَ عَدُوٌّ لِلْبَيْتِ النِّظَامِيِّ، فَسَعَى مَعَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، حَتَّى أَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ يَأْمُرُهُ بِالْقَبْضِ عَلَى وَزِيرِهِ شَمْسِ الْمُلْكِ، فَصَادَفَ وُصُولَ الرَّسُولِ وَهُوَ مُتَغَيِّرٌ عَلَيْهِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَهُ إِلَى طَغَايَرْكَ، فَبَعَثَهُ إِلَى خَلْخَالَ، فَحَبَسَهُ فِيهَا. ثُمَّ إِنَّ أَبَا نَصْرٍ الْمُسْتَوْفِيَ، الْمُلَقَّبَ بِالْعَزِيزِ، قَالَ لِلسُّلْطَانِ مَحْمُودٍ: لَا نَأْمَنُ أَنْ يُرْسِلَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ يَطْلُبُ الْوَزِيرَ، وَمَتَى اتَّصَلَ بِهِ لَا نَأْمَنُ شَرًّا يَحْدُثُ مِنْهُ. وَكَانَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِقَتْلِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ السَّيَّافُ لِيَقْتُلَهُ قَالَ: أَمْهِلْنِي حَتَّى

أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَفَعَلَ، فَلَمَّا صَلَّى جَعَلَ يَرْتَعِدُ، وَقَالَ لِلسَّيَّافِ: سَيْفِي أَجْوَدُ مِنْ سَيْفِكَ، فَاقْتُلْنِي بِهِ وَلَا تُعَذِّبْنِي، فَقُتِلَ ثَانِيَ جُمَادَى الْآخِرَةِ. فَلَمَّا سَمِعَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ ذَلِكَ عَزَلَ أَخَاهُ نِظَامَ الدِّينِ أَحْمَدَ مِنْ وِزَارَتِهِ، وَأَعَادَ جَلَالَ الدِّينِ أَبَا عَلِيِّ بْنِ صَدَقَةَ إِلَى الْوِزَارَةِ، وَأَقَامَ نِظَامَ الدِّينِ بِالْمُثَمَّنَةِ الَّتِي فِي الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَاذَ. وَأَمَّا الْعَزِيزُ الْمُسْتَوْفِي فَإِنَّهُ لَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ حَتَّى قُتِلَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، جَزَاءً لِسَعْيِهِ فِي قَتْلِ الْوَزِيرِ. ذِكْرِ ظَفَرِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ بِالْكُرْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّتْ نِكَايَةُ الْكُرْجِ فِي بَلَدِ الْإِسْلَامِ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ، لَا سِيَّمَا أَهْلُ دَرْبَنْدَ شِرْوَانَ، فَسَارَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ إِلَى السُّلْطَانِ وَشَكَوْا إِلَيْهِ مَا يَلْقَوْنَ مِنْهُمْ، وَأَعْلَمُوهُ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ عَنْ حِفْظِ بِلَادِهِمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَالْكُرْجُ قَدْ وَصَلُوا إِلَى شَمَاخِي، فَنَزَلَ السُّلْطَانُ فِي بُسْتَانٍ هُنَاكَ، وَتَقَدَّمَ الْكُرْجُ إِلَيْهِ، فَخَافَهُمُ الْعَسْكَرُ خَوْفًا شَدِيدًا. وَأَشَارَ الْوَزِيرُ شَمَّسُ الْمُلْكِ عُثْمَانُ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ عَلَى السُّلْطَانِ بِالْعَوْدِ مِنْ هُنَاكَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ شِرْوَانَ بِذَلِكَ قَصَدُوا السُّلْطَانَ وَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ نُقَاتِلُ مَا دُمْتَ عِنْدَنَا، وَإِنْ تَأَخَّرْتَ عَنَّا ضَعُفَتْ نُفُوسُ الْمُسْلِمِينَ وَهَلَكُوا، فَقَبِلَ قَوْلَهُمْ، وَأَقَامَ بِمَكَانِهِ. وَبَاتَ الْعَسْكَرُ عَلَى وَجَلٍ عَظِيمٍ، وَهُمْ بِنِيَّةِ الْمَصَافِّ، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ بِفَرَجٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَلْقَى بَيْنَ الْكُرْجِ وَقُفْجَاقَ اخْتِلَافًا وَعَدَاوَةً، فَاقْتَتَلُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَرَحَلُوا شِبْهَ الْمُنْهَزِمِينَ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَأَقَامَ السُّلْطَانُ بِشِرْوَانَ مُدَّةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى هَمَذَانَ فَوَصَلَهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمَغَارِبَةِ وَعَسْكَرِ مِصْرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ لَوَاتَةَ مِنَ الْغَرْبِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ، فَأَفْسَدُوا فِيهَا وَنَهَبُوهَا، وَعَمِلُوا أَعْمَالًا شَنِيعَةً، فَجَمَعَ الْمَأْمُونُ بْنُ الْبَطَائِحِيِّ، الَّذِي وَزَرَ بِمِصْرَ بَعْدَ الْأَفْضَلِ، عَسْكَرَ مِصْرَ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَقَرَّرَ

عَلَيْهِمْ خَرْجًا مَعْلُومًا كُلَّ سَنَةٍ يَقُومُونَ بِهِ، وَعَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَعَادَ الْمَأْمُونُ إِلَى مِصْرَ مُظَفَّرًا مَنْصُورًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، أَمَرَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ بِبِنَاءِ سُورِ بَغْدَاذَ، وَأَنْ يُجْبَى مَا يَخْرُجُ عَلَيْهِ مِنَ الْبَلَدِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، وَجُمِعَ مِنْ ذَلِكَ مَالٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا عَلِمَ الْخَلِيفَةُ كَرَاهَةَ النَّاسِ لِذَلِكَ أَمَرَ بِإِعَادَةِ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ، فَسُرُّوا بِذَلِكَ، وَكَثُرَ الدُّعَاءُ لَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْوَزِيرَ أَحْمَدَ بْنَ نِظَامِ الْمُلْكِ بَذَلَ مِنْ مَالِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقَالَ: نُقَسِّطُ الْبَاقِيَ عَلَى أَرْبَابِ الدَّوْلَةِ. وَكَانَ أَهْلُ بَغْدَاذَ يَعْمَلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ فِيهِ، وَكَانُوا يَتَنَاوَبُونَ الْعَمَلَ: يَعْمَلُ أَهْلُ كُلِّ مَحَلَّةٍ مُنْفَرِدِينَ بِالطُّبُولِ وَالزُّمُورِ، وَزَيَّنُوا الْبَلَدَ، وَعَمِلُوا فِيهِ الْقِبَابَ. وَفِيهَا عُزِلَ نَقِيبُ الْعَلَوِيِّينَ، وَهُدِمَتْ دَارُ عَلِيِّ بْنِ أَفْلَحَ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ يُكْرِمُهُ، فَظَهَرَ أَنَّهُمَا عَيْنٌ لِدُبَيْسٍ يُطَالِعَانِهِ بِالْأَخْبَارِ، وَجَعَلَ الْخَلِيفَةُ نِقَابَةَ الْعَلَوِيِّينَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ طَرَّادٍ، نَقِيبِ الْعَبَّاسِيِّينَ. وَفِيهَا جَمَعَ الْأَمِيرُ بَلْكُ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَى غَزَاةٍ بِالشَّامِ، فَلَقِيَهُ الْفِرِنْجُ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ وَأُسِرَ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ مُقَدَّمِيهِمْ وَرَجَّالَتِهِمْ. وَفِيهَا كَانَ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ غَلَاءٌ شَدِيدٌ، وَكَانَ أَكْثَرُهُ بِالْعِرَاقِ، فَبَلَغَ ثَمَنُ كَارَةِ الدَّقِيقِ الْخُشْكَارِ سِتَّةَ دَنَانِيرَ وَعَشَرَةَ قَرَارِيطَ، وَتَبِعَ ذَلِكَ مَوْتُ كَثِيرٍ، وَأَمْرَاضٌ زَائِدَةٌ هَلَكَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، تُوُفِّيَ قَاسِمُ بْنُ أَبِي هَاشِمٍ الْعَلَوِيُّ الْحَسَنِيُّ أَمِيرُ مَكَّةَ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو فُلَيْتَةَ، وَكَانَ أَعْدَلَ مِنْهُ، وَأَحْسَنَ السِّيرَةِ، فَأَسْقَطَ الْمُكُوسَ، وَأَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو نُعَيْمِ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْحَدَّادُ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الْمُحَدِّثِينَ، سَافَرَ الْكَثِيرَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ وَفِيهَا سَارَ طُغْتِكِينُ، صَاحِبُ دِمَشْقَ، إِلَى حِمْصَ، فَهَجَمَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَنَهَبَهَا وَأَحْرَقَ كَثِيرًا مِنْهَا وَحَصَرَهَا، وَصَاحِبُهَا قُرْجَانُ بِالْقَلْعَةِ، فَاسْتَمَدَّ صَاحِبُهَا طُغَانُ أَرْسِلَانَ، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَعَادَ طُغْتِكِينُ إِلَى دِمَشْقَ. وَفِيهَا لَقِيَ أُسْطُولُ مِصْرَ أُسْطُولَ الْبَنَادِقَةِ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَاقْتَتَلُوا، وَكَانَ الظَّفَرُ لِلْبَنَادِقَةِ، وَأُخِذَ مِنْ أُسْطُولِ مِصْرَ عِدَّةُ قِطَعٍ، وَعَادَ الْبَاقِي سَالِمًا. وَفِيهَا سَارَ الْأَمِيرُ مَحْمُودُ بْنُ قُرَاجَةَ، صَاحِبُ حَمَاةَ، إِلَى حِصْنِ أَفَامِيَةَ فَهَجَمَ عَلَى الرَّبَضِ بَغْتَةً، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ مِنَ الْقَلْعَةِ فِي يَدِهِ، فَاشْتَدَّ أَلَمُهُ، فَعَادَ إِلَى حَمَاةَ، وَقَلَعَ الزُّجَّ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ عُمِلَتْ عَلَيْهِ، فَمَاتَ مِنْهُ، وَاسْتَرَاحَ أَهْلُ عَمَلِهِ مِنْ ظُلْمِهِ وَجَوْرِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ طُغْتِكِينُ، صَاحِبُ دِمَشْقَ، الْخَبَرَ سَيَّرَ إِلَى حَمَاةَ عَسْكَرًا، فَمَلَكَهَا وَصَارَتْ فِي جُمْلَةِ بِلَادِهِ، وَرَتَّبَ فِيهَا وَالِيًا وَعَسْكَرًا لِحِمَايَتِهَا.

ثم دخلت سنة ثماني عشرة وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 518 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ بَلْكَ بْنِ بَهْرَامَ بْنِ أُرْتُقَ وَمُلْكِ تَمَرْتَاشَ حَلَبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، قَبَضَ بَلْكُ بْنُ بَهْرَامَ بْنِ أُرْتُقَ، صَاحِبُ حَلَبَ، عَلَى الْأَمِيرِ حَسَّانَ الْبَعْلَبَكِّيِّ، صَاحِبِ مَنْبِجَ، وَسَارَ إِلَيْهَا فَحَصَرَهَا، فَمَلَكَ الْمَدِينَةَ، وَحَصَرَ الْقَلْعَةَ، فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ، فَسَارَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهِ لِيُرَحِّلُوهُ عَنْهَا لِئَلَّا يَقْوَى بِأَخْذِهَا، فَلَمَّا قَارَبُوهُ تَرَكَ عَلَى الْقَلْعَةِ مَنْ يَحْصُرُهَا، وَسَارَ فِي بَاقِي عَسْكَرِهِ إِلَى الْفِرِنْجِ، فَلَقِيَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ، فَكَسَرَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَعَادَ إِلَى مَنْبِجَ فَحَصَرَهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ يُقَاتِلُ مَنْ بِهَا أَتَاهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ، لَا يُدْرَى مَنْ رَمَاهُ، وَاضْطَرَبَ عَسْكَرُهُ وَتَفَرَّقُوا، وَخَلَصَ حَسَّانُ مِنَ الْحَبْسِ، فَكَانَ حُسَامُ الدِّينِ تَمَرْتَاشُ بْنُ إِيلْغَازِي بْنِ أُرْتُقَ مَعَ ابْنِ عَمِّهِ بَلْكَ، فَحَمَلَهُ مَقْتُولًا إِلَى ظَاهِرِ حَلَبَ، وَتَسَلَّمَهَا فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَزَالَ الْحِصَارُ عَنْ قَلْعَةِ مَنْبِجَ، وَعَادَ إِلَيْهَا صَاحِبُهَا حَسَّانُ، وَاسْتَقَرَّ تَمَرْتَاشُ بِحَلَبَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا. ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ فِيهَا نَائِبًا لَهُ يَثِقُ بِهِ، وَرَتَّبَ عِنْدَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ جُنْدٍ وَغَيْرِهِمْ وَعَادَ إِلَى مَارِدِينَ، لِأَنَّهُ رَأَى الشَّامَ كَثِيرَةَ الْحَرْبِ مَعَ الْفِرِنْجِ، وَكَانَ رَجُلًا يُحِبُّ الدَّعَةَ وَالرَّفَاهَةَ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى مَارِدِينَ أُخِذَتْ حَلَبُ مِنْهُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ مَدِينَةَ صُورَ بِالشَّامِ كَانَتْ مَدِينَةُ صُورَ لِلْخُلَفَاءِ الْعَلَوِيِّينَ بِمِصْرَ، وَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَكَانَ بِهَا وَالٍ مِنْ جِهَةِ الْأَفْضَلِ أَمِيرِ الْجُيُوشِ، وَزِيرِ الْآمِرِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ، يُلَقَّبُ عِزَّ الْمُلْكِ، وَكَانَ الْفِرِنْجُ قَدْ حَصَرُوهَا، وَضَيَّقُوا عَلَيْهَا، وَنَهَبُوا بَلَدَهَا غَيْرَ مَرَّةٍ، فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ سِتٍّ تَجَهَّزَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ لِيَسِيرَ إِلَى صُورَ، فَخَافَهُمْ أَهْلُ صُورَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى أَتَابِكَ طُغْتِكِينَ، صَاحِبِ دِمَشْقَ، يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أَمِيرًا مِنْ عِنْدِهِ يَتَوَلَّاهُمْ وَيَحْمِيهِمْ، وَيَكُونُ الْبَلَدُ لَهُ، وَقَالُوا لَهُ: إِنْ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا وَالِيًا، وَعَسْكَرًا، وَإِلَّا سَلَّمْنَا الْبَلَدَ إِلَى الْفِرِنْجِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا، وَجَعَلَ عِنْدَهُمْ وَالِيًا اسْمُهُ مَسْعُودٌ، وَكَانَ شَهْمًا، شُجَاعًا، عَارِفًا بِالْحَرْبِ وَمَكَايِدِهَا، وَأَمَدَّهُ بِعَسْكَرٍ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ مِيرَةً وَمَالًا فَرَّقَهُ فِيهِمْ. وَطَابَتْ نُفُوسُ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَلَمْ تُغَيَّرِ الْخُطْبَةُ لِلْآمِرِ، صَاحِبِ مِصْرَ، وَلَا السِّكَّةُ، وَكَتَبَ إِلَى الْأَفْضَلِ بِمِصْرَ يُعَرِّفُهُ صُورَةَ الْحَالِ، وَيَقُولُ: مَتَى وَصَلَ إِلَيْهَا مِنْ مِصْرَ مَنْ يَتَوَلَّاهَا، وَيَذُبُّ عَنْهَا، سَلَّمْتُهَا إِلَيْهِ، وَيَطْلُبُ أَنَّ الْأُسْطُولَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهَا بِالرِّجَالِ وَالْقُوَّةِ. فَشَكَرَهُ الْأَفْضَلُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَوَّبَ رَأْيَهُ فِيمَا فَعَلَهُ، وَجَهَّزَ أُسْطُولًا، وَسَيَّرَهُ إِلَى صُورَ، فَاسْتَقَامَتْ أَحْوَالُ أَهْلِهَا. وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، بَعْدَ قَتْلِ الْأَفْضَلِ، فَسُيِّرَ إِلَيْهَا أُسْطُولٌ، عَلَى جَارِي الْعَادَةِ، وَأَمَرُوا الْمُقَدَّمَ عَلَى الْأُسْطُولِ أَنْ يُعْمِلَ الْحِيلَةَ عَلَى الْأَمِيرِ مَسْعُودٍ الْوَالِي بِصُورَ مِنْ قِبَلِ طُغْتِكِينَ، وَيَقْبِضَ عَلَيْهِ، وَيَتَسَلَّمَ الْبَلَدَ مِنْهُ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ أَهْلَ صُورَ أَكْثَرُوا الشَّكْوَى مِنْهُ إِلَى الْآمِرِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ، صَاحِبِ مِصْرَ، بِمَا يَعْتَمِدُهُ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ، وَالْإِضْرَارِ بِهِمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَسَارَ الْأُسْطُولُ فَأَرْسَى عِنْدَ صُورَ، فَخَرَجَ مَسْعُودٌ إِلَيْهِ لِلسَّلَامِ عَلَى الْمُقَدَّمِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا صَعِدَ إِلَى الْمَرْكِبِ الَّذِي فِيهِ الْمُقَدَّمِ اعْتَقَلَهُ، وَنَزَلَ الْبَلَدَ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَعَادَ الْأُسْطُولُ إِلَى مِصْرَ، وَفِيهِ الْأَمِيرُ مَسْعُودٌ، فَأُكْرِمَ وَأُحْسِنَ إِلَيْهِ، وَأُعِيدَ إِلَى دِمَشْقَ. وَأَمَّا الْوَالِي مِنْ قِبَلِ الْمِصْرِيِّينَ فَإِنَّهُ طَيَّبَ قُلُوبَ النَّاسِ، وَرَاسَلَ طُغْتِكِينَ يَخْدُمُهُ بِالدُّعَاءِ وَالِاعْتِضَادِ، وَأَنَّ سَبَبَ مَا فَعَلَ هُوَ شَكْوَى أَهْلِ صُورَ مِنْ مَسْعُودٍ، فَأَحْسَنَ طُغْتِكِينُ الْجَوَابَ، وَبَذَلَ مِنْ نَفْسِهِ الْمُسَاعَدَةَ.

وَلَمَّا سَمِعَ الْفِرِنْجُ بِانْصِرَافِ مَسْعُودٍ عَنْ صُورَ قَوِيَ طَمَعُهُمْ فِيهَا، وَحَدَّثُوا نُفُوسَهُمْ بِمُلْكِهَا، وَشَرَعُوا فِي الْجَمْعِ وَالتَّأَهُّبِ لِلنُّزُولِ عَلَيْهَا وَحَصْرِهَا، فَسَمِعَ الْوَالِي بِهَا لِلْمِصْرِيِّينَ الْخَبَرَ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا قُوَّةَ لَهُ، وَلَا طَاقَةَ عَلَى دَفْعِ الْفِرِنْجِ عَنْهَا، لِقِلَّةِ مَنْ بِهَا مِنَ الْجُنْدِ وَالْمِيرَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْآمِرِ بِذَلِكَ، فَرَأَى أَنْ يَرُدَّ وِلَايَةَ صُورَ إِلَى طُغْتِكِينَ، صَاحِبِ دِمَشْقَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَمَلَكَ صُورَ، وَرَتَّبَ بِهَا مِنَ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ مَا ظَنَّ فِيهِ كِفَايَةً. وَسَارَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهِمْ وَنَازَلُوهُمْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ، وَلَازَمُوا الْقِتَالَ، فَقَلَّتِ الْأَقْوَاتُ، وَسَئِمَ مَنْ بِهَا الْقِتَالَ، وَضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ، وَسَارَ طُغْتِكِينُ إِلَى بَانْيَاسَ لِيَقْرُبَ مِنْهُمْ، وَيَذُبَّ عَنِ الْبَلَدِ، وَلَعَلَّ الْفِرِنْجَ إِذَا رَأَوْا قُرْبَهُ مِنْهُمْ رَحَلُوا، فَلَمْ يَتَحَرَّكُوا، وَلَزِمُوا الْحِصَارَ، فَأَرْسَلَ طُغْتِكِينُ إِلَى مِصْرَ يَسْتَنْجِدُهُمْ، فَلَمْ يُنْجِدُوهُ، وَتَمَادَتِ الْأَيَّامُ، وَأَشْرَفَ أَهْلُهَا عَلَى الْهَلَاكِ، فَرَاسَلَ حِينَئِذٍ طُغْتِكِينُ، صَاحِبُ دِمَشْقَ، وَقَرَّرَ الْأَمْرَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْمَدِينَةَ إِلَيْهِمْ، وَيُمَكِّنُوا مَنْ بِهَا مِنَ الْجُنْدِ وَالرَّعِيَّةِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا بِمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَرِحَالِهِمْ وَغَيْرِهَا، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْبَلَدِ، وَمَلَكَهُ الْفِرِنْجُ، وَفَارَقَهُ أَهْلُهُ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، وَحَمَلُوا مَا أَطَاقُوا، وَتَرَكُوا مَا عَجَزُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَعْرِضِ الْفِرِنْجُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الضَّعِيفُ عَجَزَ عَنِ الْحَرَكَةِ. وَمَلَكَ الْفِرِنْجُ الْبَلَدَ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنَ السَّنَةِ، وَكَانَ فَتْحُهُ وَهَنًا عَظِيمًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ مِنْ أَحْصِنِ الْبِلَادِ وَأَمْنَعِهَا، فَاللَّهُ يُعِيدُهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيُقِرُّ أَعْيُنَ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِهِ، بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ. ذِكْرُ عَزْلِ الْبُرْسُقِيِّ عَنْ شِحْنَكِيَّةِ الْعِرَاقِ وَوِلَايَةِ يَرْنَقْشَ الزَّكْوِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ الْبُرْسُقِيُّ عَنْ شِحْنَكِيَّةِ الْعِرَاقِ، وَوَلِيَهَا سَعْدُ الدَّوْلَةِ يَرْنَقْشُ الزَّكْوِيُّ.

وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ الْبُرْسُقِيَّ نَفَرَ عَنْهُ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ يَلْتَمِسُ مِنْهُ أَنْ يَعْزِلَ الْبُرْسُقِيَّ عَنِ الْعِرَاقِ وَيُعِيدَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَأَجَابَهُ السُّلْطَانُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْبُرْسُقِيِّ يَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَالِاشْتِغَالِ بِجِهَادِ الْفِرِنْجِ، فَلَمَّا عَلِمَ الْبُرْسُقِيُّ الْخَبَرَ شَرَعَ فِي جِبَايَةِ الْأَمْوَالِ، وَوَصَلَ نَائِبُ يَرْنَقْشَ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْبُرْسُقِيُّ الْأَمْرَ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ وَلَدًا لَهُ صَغِيرًا مَعَ أُمِّهِ إِلَى الْبُرْسُقِيِّ لِيَكُونَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ الصَّغِيرُ إِلَى الْعِرَاقِ خَرَجَتِ الْعَسَاكِرُ وَالْمَوَاكِبُ إِلَى لِقَائِهِ، وَحُمِلَتْ لَهُ الْإِقَامَاتُ، وَكَانَ يَوْمُ دُخُولِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَتَسَلَّمَهُ الْبُرْسُقِيُّ وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَهُوَ وَوَالِدَتُهُ مَعَهُ. وَلَمَّا سَارَ الْبُرْسُقِيُّ إِلَى الْمَوْصِلِ كَانَ عِمَادُ الدِّينِ زِنْكِيُّ بْنُ آقْسُنْقُرَ بِالْبَصْرَةِ قَدْ سَيَّرَهُ الْبُرْسُقِيُّ إِلَيْهَا لِيَحْمِيَهَا، فَظَهَرَ مِنْ حِمَايَتِهِ لَهَا مَا عَجِبَ مِنْهُ النَّاسُ، وَلَمْ يَزَلْ يَقْصِدُ الْعَرَبَ وَيُقَاتِلُهُمْ فِي حِلَلِهِمْ، حَتَّى أَبْعَدُوا إِلَى الْبَرِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْبُرْسُقِيُّ يَأْمُرُهُ بِاللِّحَاقِ بِهِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: قَدْ ضَجِرْنَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ: كُلَّ يَوْمٍ لِلْمَوْصِلِ أَمِيرٌ جَدِيدٌ، وَنُرِيدُ نَخْدُمُهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَسِيرَ إِلَى السُّلْطَانِ فَأَكُونَ مَعَهُ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ بِأَصْبَهَانَ فَأَكْرَمَهُ، وَأَقْطَعَهُ الْبَصْرَةَ وَأَعَادَهُ إِلَيْهَا. ذِكْرُ مُلْكِ الْبُرْسُقِيِّ مَدِينَةَ حَلَبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، مَلَكَ آقْسُنْقُرُ مَدِينَةَ حَلَبَ وَقَلْعَتَهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ الْفِرِنْجَ لَمَّا مَلَكُوا مَدِينَةَ صُورَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، طَمِعُوا، وَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَتَيَقَّنُوا الِاسْتِيلَاءَ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَاسْتَكْثَرُوا مِنَ الْجُمُوعِ، ثُمَّ وَصَلَ إِلَيْهِمْ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ، صَاحِبُ الْحِلَّةِ، فَأَطْمَعَهُمْ طَمَعًا ثَانِيًا، لَا سِيَّمَا فِي حَلَبَ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَهْلَهَا شِيعَةٌ، وَهُمْ يَمِيلُونَ إِلَيَّ لِأَجْلِ الْمَذْهَبِ، فَمَتَى رَأَوْنِي سَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَيَّ. وَبَذَلَ لَهُمْ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ بُذُولًا كَثِيرَةً، وَقَالَ: إِنَّنِي أَكُونُ هَاهُنَا نَائِبًا عَنْكُمْ وَمُطِيعًا لَكُمْ. فَسَارُوا مَعَهُ إِلَيْهَا وَحَصَرُوهَا، وَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَوَطَّنُوا نُفُوسَهُمْ عَلَى الْمُقَامِ الطَّوِيلِ وَأَنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَهَا حَتَّى يَمْلِكُوهَا، وَبَنَوُا الْبُيُوتَ لِأَجْلِ الْبَرْدِ وَالْحَرِّ. فَلَمَّا رَأَى أَهْلُهَا ذَلِكَ ضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ، وَخَافُوا الْهَلَاكَ، وَظَهَرَ لَهُمْ مِنْ صَاحِبِهِمْ تَمَرْتَاشَ الْوَهَنُ وَالْعَجْزُ، وَقَلَّتِ الْأَقْوَاتُ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا دُفِعُوا إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، أَعْمَلُوا الرَّأْيَ فِي طَرِيقٍ يَتَخَلَّصُونَ بِهِ، فَرَأَوْا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ غَيْرُ الْبُرْسُقِيِّ،

صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَسْتَنْجِدُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ الْمَجِيءَ إِلَيْهِمْ لِيُسَلِّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ. فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَقَصَدَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ بِالْبَلَدِ، وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ، يَقُولُ: إِنَّنِي لَا أَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْكُمْ، وَالْفِرِنْجُ يُقَاتِلُونَكُمْ، إِلَّا إِذَا سَلَّمْتُمُ الْقَلْعَةَ إِلَى نُوَّابِي، وَصَارَ أَصْحَابِي فِيهَا، فَإِنَّنِي لَا أَدْرِي مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا أَنَا لَقِيتُ الْفِرِنْجَ، فَإِنِ انْهَزَمْنَا مِنْهُمْ وَلَيْسَتْ حَلَبُ بِيَدِ أَصْحَابِي حَتَّى أَحْتَمِيَ أَنَا وَعَسْكَرِي بِهَا، لَمْ يَبْقَ مِنَّا أَحَدٌ، وَحِينَئِذٍ تُؤْخَذُ حَلَبُ وَغَيْرُهَا. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَسَلَّمُوا الْقَلْعَةَ إِلَى نُوَّابِهِ، فَلَمَّا اسْتَقَرُّوا فِيهَا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، سَارَ فِي الْعَسَاكِرِ الَّتِي مَعَهُ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهَا رَحَلَ الْفِرِنْجُ عَنْهَا، وَهُوَ يَرَاهُمْ، فَأَرَادَ مَنْ فِي مُقَدِّمَةِ عَسْكَرِهِ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِمْ، فَمَنَعَهُمْ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَقَالَ: قَدْ كُفِينَا شَرَّهُمْ، وَحَفَظْنَا بَلَدَنَا مِنْهُمْ، وَالْمَصْلَحَةُ تَرْكُهُمْ حَتَّى يَتَقَرَّرَ أَمْرُ حَلَبَ وَنُصْلِحُ حَالَهَا وَنُكْثِرُ ذَخَائِرَهَا، ثُمَّ حِينَئِذٍ نَقْصِدُهُمْ وَنُقَاتِلُهُمْ. فَلَمَّا رَحَلَ الْفِرِنْجُ خَرَجَ أَهْلُ حَلَبَ وَلَقُوهُ، وَفَرِحُوا بِهِ، وَأَقَامَ عِنْدَهُمْ حَتَّى أَصْلَحَ الْأُمُورَ وَقَرَّرَهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْقَطَعَتِ الْأَمْطَارُ فِي الْعِرَاقِ، وَالْمَوْصِلِ، وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ، وَالشَّامِ وَدِيَارِ بَكْرٍ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ، فَقَلَّتِ الْأَقْوَاتُ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَدَامَ إِلَى سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَفِيهَا وَصَلَ مَنْصُورُ بْنُ صَدَقَةَ أَخُو دُبَيْسٍ إِلَى بَغْدَاذَ تَحْتَ الِاسْتِظْهَارِ، فَمَرِضَ بِهَا، فَأَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ الْأَطِبَّاءَ وَأَمَرَهُمْ بِمُعَالَجَتِهِ، وَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ، وَجُعِلَ فِي حُجْرَةٍ، وَأُدْخِلَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهِ. وَفِيهَا سَارَ دُبَيْسٌ مِنَ الشَّامِ، بَعْدَ رَحِيلِهِ عَنْ حَلَبَ، وَقَصَدَ الْمَلِكَ طُغْرَلَ، فَأَغْرَاهُ بِالْخَلِيفَةِ، وَأَطْمَعَهُ فِي الْعِرَاقِ، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهَا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ، مُقَدَّمُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، صَاحِبُ أَلَمُوتَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا يُعْلَمُ بِهِ مَحَلُّهُ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ.

وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ دَاوُدُ مَلِكُ الْأَبْخَازِ، وَشَمْسُ الدَّوْلَةِ بْنُ نَجْمِ الدِّينِ إِيلْغَازِي. وَفِيهَا ثَارَ أَهْلُ آمِدَ بِمَنْ فِيهَا مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَكَانُوا قَدْ كَثُرُوا، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ نَحْوَ سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ، فَضَعُفَ أَمْرُهُمْ بِهَا بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقِ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الزَّعْفَرَانِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْخَطِيبِ الْبَغْدَاذِيِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بُرْهَانَ أَبُو الْفَتْحِ، الْفَقِيهُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَمَّامِيِّ لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ حَمَّامِيًّا، وَكَانَ حَنْبَلِيًّا، تَفَقَّهَ عَلَى ابْنِ عُقَيْلٍ، ثُمَّ صَارَ شَافِعِيًّا، وَتَفَقَّهَ عَلَى الْغَزَالِيِّ وَالشَّاشِيِّ.

ثم دخلت سنة تسع عشرة وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 519 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ وُصُولِ الْمَلِكِ طُغْرَلَ وَدُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ إِلَى الْعِرَاقِ وَعَوْدِهِمَا عَنْهُ قَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَ دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ إِلَى الْمَلِكِ طُغْرَلَ مِنَ الشَّامِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ لَقِيَهُ، وَأَكْرَمَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَعْيَانِ خَوَاصِّهِ وَأُمَرَائِهِ، فَحَسَّنَ لَهُ دُبَيْسٌ قَصْدَ الْعِرَاقِ، وَهَوَّنَ أَمْرَهُ عَلَيْهِ، وَضَمِنَ لَهُ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ، فَسَارَ مَعَهُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَوَصَلُوا دَقُوقَا فِي عَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ. فَكَتَبَ مُجَاهِدُ الدَّيْنِ بَهْرُوزُ مِنْ تَكْرِيتَ يُخْبِرُ الْخَلِيفَةَ خَبَرَهُمَا، فَتَجَهَّزَ لِلْمَسِيرِ وَمَنْعِهِمَا، وَأَمَرَ يَرْنَقْشَ الزَّكْوِيَّ، شِحْنَةَ الْعِرَاقِ، أَنْ يَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِلْحَرْبِ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، وَالْأُمَرَاءَ الْبَكْجِيَّةَ، وَغَيْرَهُمْ، فَبَلَغَتْ عِدَّةُ الْعَسَاكِرِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا سِوَى الرَّجَّالَةِ وَأَهْلِ بَغْدَاذَ، وَفَرَّقَ السِّلَاحَ. وَبَرَزَ خَامِسَ صَفَرٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ أَرْبَابُ الدَّوْلَةِ رَجَّالَةٌ، وَخَرَجَ مِنْ بَابِ النَّصْرِ، وَكَانَ قَدْ أَمَرَ بِفَتْحِهِ تِلْكَ الْأَيَّامِ، وَسَمَّاهُ بَابَ النَّصْرِ، وَنَزَلَ صَحْرَاءَ الشَّمَّاسِيَّةِ، وَنَزَلَ يَرْنَقْشُ عِنْدَ السَّبِّيِّ، ثُمَّ سَارَ فَنَزَلَ الْخَالِصَ تَاسِعَ صَفَرٍ. فَلَمَّا سَمِعَ طُغْرَلُ بِخُرُوجِ الْخَلِيفَةِ عَدَلَ إِلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ فِي النَّهْبِ وَالْفَسَادِ، وَنَزَلَ هُوَ رِبَاطَ جَلُولَاءَ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ جَلَالُ الدِّينِ بْنُ صَدَقَةَ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ، فَنَزَلَ الدَّسْكَرَةَ وَتَوَجَّهَ طُغْرَلُ وَدُبَيْسٌ إِلَى الْهَارُونِيَّةِ وَسَارَ الْخَلِيفَةُ فَنَزَلَ بِالدَّسْكَرَةِ هُوَ وَالْوَزِيرُ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَ دُبَيْسٍ وَطُغْرَلَ أَنْ يَسِيرًا حَتَّى يَعْبُرَا دَيَالَى وَتَامَرَّا، وَيَقْطَعَا جِسْرَ النَّهْرَوَانِ، وَيُقِيمَ دُبَيْسٌ لِيَحْفَظَ الْمَعَابِرَ، وَيَتَقَدَّمَ طُغْرَلُ إِلَى بَغْدَاذَ فَيَمْلِكَهَا وَيَنْهَبَهَا، فَسَارَا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، فَعَبَرَا تَامَرَّا، وَنَزَلَ طُغْرَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَيَالَى. وَسَارَ دُبَيْسٌ عَلَى أَنْ يَلْحَقَهُ طُغْرَلُ، فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَلِكَ طُغْرَلَ لَحِقَهُ حُمَّى شَدِيدَةٌ، وَنَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَطَرِ مَا لَمْ يُشَاهِدُوا مِثْلَهُ، وَزَادَتِ الْمِيَاهُ وَجَاءَتِ السُّيُولُ

وَالْخَلِيفَةُ بِالدَّسْكَرَةِ، وَسَارَ دُبَيْسٌ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَقَصَدَ مَعَرَّةَ النَّهْرَوَانِ وَهُوَ تَعْبَانُ سَهْرَانُ، وَقَدْ لَقِيَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْمَطَرِ وَالْبَلَلِ مَا آذَاهُمْ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ طُغْرَلَ وَأَصْحَابَهُ يَلْحَقُونَهُمْ، فَتَأَخَّرُوا لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَنَزَلُوا جِيَاعًا قَدْ نَالَهُمُ الْبَرْدُ، وَإِذَا قَدْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثُونَ جَمَلًا تَحْمِلُ الثِّيَابَ الْمَخِيطَةَ، وَالْعَمَائِمَ، وَالْأَقْبِيَةَ، وَالْقَلَانِسَ، وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَلْبُوسِ، وَتَحْمِلُ أَيْضًا أَنْوَاعَ الْأَطْعِمَةِ الْمَصْنُوعَةِ، قَدْ حُمِلَتْ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَخَذَ دُبَيْسٌ الْجَمِيعَ، فَلَبِسُوا الثِّيَابَ الْجُدُدَ، وَنَزَعُوا الثِّيَابَ النَّدِيَّةَ، وَأَكَلُوا الطَّعَامَ، وَنَامُوا فِي الشَّمْسِ مِمَّا نَالَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ أَهْلَ بَغْدَاذَ، فَلَبِسُوا السِّلَاحَ، وَبَقُوا يَحْرُسُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَالْعَسْكَرِ الَّذِينَ مَعَهُ أَنَّ دُبَيْسًا قَدْ مَلَكَ بَغْدَاذَ، فَرَحَلَ مِنَ الدَّسْكَرَةِ، وَوَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْعَسْكَرِ إِلَى النَّهْرَوَانَ، وَتَرَكُوا أَثْقَالَهُمْ مُلْقَاةً بِالطَّرِيقِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا أَحَدٌ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَطَفَ بِهِمْ بِحُمَّى الْمَلِكِ طُغْرَلَ وَتَأَخُّرِهِ لَكَانَ قَدْ هَلَكَ الْعَسْكَرُ، وَالْخَلِيفَةُ أَيْضًا، وَأُخِذُوا، وَكَانَتِ السَّوَاقِي مَمْلُوءَةً بِالْوَحْلِ وَالْمَاءِ مِنَ السَّيْلِ، فَتَمَزَّقُوا، وَلَوْ لَحِقَهُمْ مِائَةُ فَارِسٍ لَهَلَكُوا. وَوَصَلَتْ رَايَاتُ الْخَلِيفَةِ، وَدُبَيْسٌ وَأَصْحَابُهُ نِيَامٌ، وَتَقَدَّمَ الْخَلِيفَةُ، وَأَشْرَفَ عَلَى دَيَالَى، وَدُبَيْسٌ نَازِلٌ غَرْبَ النَّهْرَوَانِ وَالْجِسْرُ مَمْدُودٌ شَرْقَ النَّهْرَوَانِ، فَلَمَّا أَبْصَرَ دُبَيْسٌ شَمْسَةَ الْخَلِيفَةِ قَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ وَقَالَ: أَنَا الْعَبْدُ الْمَطْرُودُ، فَلْيَعْفُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ عَبْدِهِ. فَرَقَّ الْخَلِيفَةُ لَهُ، وَهَمَّ بِصُلْحِهِ، حَتَّى وَصَلَ الْوَزِيرُ ابْنُ صَدَقَةَ فَثَنَاهُ عَنْ رَأْيِهِ، وَرَكِبَ دُبَيْسٌ، وَوَقَفَ بِإِزَاءِ عَسْكَرِ يَرْنَقْشَ الزَّكْوِيِّ يُحَادِثُهُمْ وَيَتَمَاجَنُ مَعَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ الْوَزِيرُ الرَّجَّالَةَ فَعَبَرُوا لِيَمُدُّوا الْجِسْرَ آخِرَ النَّهَارِ، فَسَارَ حِينَئِذٍ دُبَيْسٌ عَائِدًا إِلَى الْمَلِكِ طُغْرَلَ، وَسَيَّرَ الْخَلِيفَةُ عَسْكَرًا مَعَ الْوَزِيرِ فِي أَثَرِهِ، عَادَ إِلَى بَغْدَاذَ فَدَخَلَهَا، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ طُغْرَلَ وَدُبَيْسًا عَادَا وَسَارَا إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، فَاجْتَازَا بِهَمَذَانَ، فَقَسَّطَا عَلَى أَهْلِهَا مَالًا كَثِيرًا، وَأَخَذَاهُ وَغَابَا فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ، فَبَلَغَ خَبَرُهُمُ السُّلْطَانَ مَحْمُودًا، فَجَدَّ السَّيْرَ إِلَيْهِمْ، فَانْهَزَمُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَتَبِعَتْهُمُ الْعَسَاكِرُ، فَدَخَلُوا خُرَاسَانَ إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَشَكَوْا إِلَيْهِ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَيَرْنَقْشَ الزَّكْوِيِّ.

ذِكْرُ فَتْحِ الْبُرْسُقِيِّ كَفَرْطَابَ مِنَ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ الْبُرْسُقِيُّ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَى الشَّامِ، وَقَصَدَ كَفَرْطَابَ وَحَصَرَهَا، فَمَلَكَهَا مِنَ الْفِرِنْجِ، وَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ عَزَازَ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ حَلَبَ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ، وَصَاحِبُهَا جُوسُلِينُ، فَحَصَرَهَا، فَاجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ، فَارِسُهَا وَرَاجِلُهَا، وَقَصَدُوهُ لِيُرَحِّلُوهُ عَنْهَا، فَلَقِيَهُمْ وَضَرَبَ مَعَهُمْ مَصَافًّا، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا صَبَرُوا كُلُّهُمْ فِيهِ، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ وَأُسِرَ كَثِيرٌ. وَكَانَ عَدَدُ الْقَتْلَى أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ قَتِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَادَ مُنْهَزِمًا إِلَى حَلَبَ، فَخَلَّفَ بِهَا ابْنَهُ مَسْعُودًا، وَعَبَرَ الْفُرَاتَ إِلَى الْمَوْصِلِ لِيَجْمَعَ الْعَسَاكِرَ وَيُعَاوِدَ الْقِتَالَ، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ قَتْلِ الْمَأْمُونِ بْنِ الْبَطَائِحِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَمَضَانَ، قَبَضَ الْآمِرُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ مِصْرَ، عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْبَطَائِحِيِّ، الْمُلَقَّبِ بِالْمَأْمُونِ، وَصَلَبَهُ وَإِخْوَتَهُ. وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مِنْ جَوَاسِيسِ الْأَفْضَلِ بِالْعِرَاقِ، فَمَاتَ وَلَمْ يُخَلِّفْ شَيْئًا، فَتَزَوَّجَتْ أُمُّهُ وَتَرَكَتْهُ فَقِيرًا، فَاتَّصَلَ بِإِنْسَانٍ يَتَعَلَّمُ الْبِنَاءَ بِمِصْرَ ثُمَّ صَارَ يَحْمِلُ الْأَمْتِعَةَ بِالسُّوقِ الْكَبِيرِ، فَدَخَلَ مَعَ الْحَمَّالِينَ إِلَى دَارِ الْأَفْضَلِ أَمِيرِ الْجُيُوشِ، مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَرَآهُ الْأَفْضَلُ خَفِيفًا رَشِيقًا، حَسَنَ الْحَرَكَةِ، حُلْوَ الْكَلَامِ، فَأَعْجَبَهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ هُوَ ابْنُ فُلَانٍ، فَاسْتَخْدَمَهُ مَعَ الْفَرَّاشِينَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عِنْدَهُ، وَكَبُرَتْ مَنْزِلَتُهُ، وَعَلَتْ حَالَتُهُ، حَتَّى صَارَ وَزِيرًا. وَكَانَ كَرِيمًا، وَاسِعَ الصَّدْرِ، قَتَّالًا، سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ، وَكَانَ شَدِيدَ التَّحَرُّزِ، كَثِيرَ التَّطَلُّعِ إِلَى أَحْوَالِ النَّاسِ مِنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ: مِصْرَ، وَالشَّامِ، وَالْعِرَاقِ، وَكَثُرَ الْغَمَّازُونَ فِي أَيَّامِهِ. وَأَمَّا سَبَبُ قَتْلِهِ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ الْأَمِيرَ جَعْفَرًا أَخَا الْآمِرِ لِيَقْتُلَ الْآمِرَ وَيَجْعَلَهُ

خَلِيفَةً، وَتَقَرَّرَتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، وَكَانَ خِصِّيصًا بِالْآمِرِ، قَرِيبًا مِنْهُ، وَقَدْ نَالَهُ مِنَ الْوَزِيرِ أَذًى وَاطِّرَاحٌ، فَحَضَرَ عِنْدَ الْآمِرِ وَأَعْلَمَهُ الْحَالَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَصَلَبَهُ، وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ قَابَلَ الْإِحْسَانَ بِالْإِسَاءَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ سَالِمُ بْنُ مَالِكٍ، صَاحِبُ قَلْعَةِ جَعْبَرَ، وَتُعْرَفُ قَدِيمًا بِقَلْعَةِ دَوْسَرَ. وَفِيهَا قُتِلَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ الْهَرَوِيُّ بِهَمَذَانَ، قَتَلَهُ الْبَاطِنِيَّةُ، وَكَانَ قَدْ مَضَى إِلَى خُرَاسَانَ فِي رِسَالَةِ الْخَلِيفَةِ إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، فَعَادَ فَقُتِلَ، وَكَانَ ذَا مُرُوءَةٍ غَزِيرَةٍ، وَتَقَدُّمٍ كَثِيرٍ فِي الدَّوْلَةِ السَّلْجُوقِيَّةِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ هِلَالُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ بِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ، مُؤَذِّنِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو سَعْدٍ، طَافَ الْبِلَادَ، وَسَمِعَ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِسَمَرْقَنْدَ.

ثم دخلت سنة عشرين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 520 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ حَرْبِ الْفِرِنْجِ وَالْمُسْلِمِينَ بِالْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَظُمَ شَأْنُ ابْنِ رُدْمِيرَ الْفِرِنْجِيِّ بِالْأَنْدَلُسِ، وَاسْتَطَالَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَخَرَجَ فِي عَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَجَاسَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَخَاضَهَا، حَتَّى وَصَلَ إِلَى قَرِيبِ قُرْطُبَةَ، وَأَكْثَرَ النَّهْبَ وَالسَّبْيَ وَالْقَتْلَ، فَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ زَائِدِ الْحَدِّ فِي الْكَثْرَةِ، وَقَصَدُوهُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِمْ طَاقَةٌ، فَتَحَصَّنَ مِنْهُمْ فِي حِصْنٍ مَنِيعٍ لَهُ اسْمُهُ أَرْنِيسُولُ، فَحَصَرُوهُ، وَكَسَبَهُمْ لَيْلًا، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ. ذِكْرُ قَصْدِ بِلَادِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ بِخُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْوَزِيرُ الْمُخْتَصُّ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ، وَزِيرُ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، بِغَزْوِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَقَتْلِهِمْ أَيْنَ كَانُوا، وَحَيْثُمَا ظُفِرَ بِهِمْ، وَنَهْبِ أَمْوَالِهِمْ، وَسَبْيِ حَرِيمِهِمْ، وَجَهَّزَ جَيْشًا إِلَى طُرَيْثِيثَ، وَهِيَ لَهُمْ، وَجَيْشًا إِلَى بَيْهَقَ مِنْ أَعْمَالِ نَيْسَابُورَ، وَكَانَ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ قَرْيَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِهِمُ اسْمُهَا طَرَّزُ، وَمُقَدَّمُهُمْ بِهَا إِنْسَانٌ اسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ سَمِينَ. وَسَيَّرَ إِلَى كُلِّ طَرَفٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ جَمْعًا مِنَ الْجُنْدِ، وَوَصَّاهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ لَقُوهُ مِنْهُمْ، فَقَصَدَ كُلُّ طَائِفَةٍ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي سُيِّرَتْ إِلَيْهَا. فَأَمَّا الْقَرْيَةُ الَّتِي بِأَعْمَالِ بَيْهَقَ

فَقَصَدَهَا الْعَسْكَرُ، فَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ بِهَا، وَهَرَبَ مُقَدَّمُهُمْ، وَصَعِدَ مَنَارَةَ الْمَسْجِدِ وَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْهَا فَهَلَكَ، وَكَذَلِكَ الْعَسْكَرُ الْمُنْفَذُ إِلَى طُرَيْثِيثَ قَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا فَأَكْثَرُوا، وَغَنِمُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَعَادُوا. ذِكْرُ مُلْكِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ قَلْعَةَ بَانْيَاسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَظُمَ أَمَرُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ بِالشَّامِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَمَلَكُوا بَانْيَاسَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَهْرَامَ ابْنَ أُخْتِ الْأَسْدَابَاذِيِّ، لَمَّا قُتِلَ خَالُهُ بِبَغْدَاذَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، هَرَبَ إِلَى الشَّامِ، وَصَارَ دَاعِيَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ فِيهِ، وَكَانَ يَتَرَدَّدُ فِي الْبِلَادِ، وَيَدْعُو أَوْبَاشَ النَّاسِ وَطُغَامَهُمْ إِلَى مَذْهَبِهِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ مِنْهُمْ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ، إِلَّا أَنَّهُ يُخْفِي شَخْصَهُ فَلَا يُعْرَفُ، وَأَقَامَ بِحَلَبَ مُدَّةً، وَنَفَرَ إِلَى إِيلْغَازِي صَاحِبِهَا. وَأَرَادَ إِيلْغَازِي أَنْ يَعْتَضِدَ بِهِ لِاتِّقَاءِ النَّاسِ شَرَّهُ وَشَرَّ أَصْحَابِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ كُلَّ مَنْ خَالَفَهُمْ، وَقَصَدَ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِهِمْ، وَأَشَارَ إِيلْغَازِي عَلَى طُغْتِكِينَ، صَاحِبِ دِمَشْقَ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ عِنْدَهُ لِهَذَا السَّبَبِ، فَقَبِلَ رَأْيَهُ، وَأَخَذَهُ إِلَيْهِ، فَأَظْهَرَ حِينَئِذٍ شَخْصَهُ، وَأَعْلَنَ دَعْوَتَهُ، فَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ مِنْ كُلِّ مَنْ يُرِيدُ الشَّرَّ وَالْفَسَادَ، وَأَعَانَهُ الْوَزِيرُ أَبُو طَاهِرِ بْنُ سَعْدٍ الْمَرْغِينَانِيُّ قَصْدًا لِلِاعْتِضَادِ بِهِ عَلَى مَا يُرِيدُ، فَعَظُمَ شَرُّهُ وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ، وَصَارَ أَتْبَاعُهُ أَضْعَافَ مَا كَانُوا، فَلَوْلَا أَنَّ عَامَّةَ دِمَشْقَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ مَذَاهِبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنَّهُمْ يُشَدِّدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَمَلَكَ الْبَلَدَ. ثُمَّ إِنَّ بَهْرَامَ رَأَى مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ فَظَاظَةً وَغِلْظَةً عَلَيْهِ، فَخَافَ عَادِيَتَهُمْ، فَطَلَبَ مِنْ طُغْتِكِينَ حِصْنًا يَأْوِي إِلَيْهِ هُوَ وَمِنِ اتَّبَعَهُ، فَأَشَارَ الْوَزِيرُ بِتَسْلِيمِ قَلْعَةِ بَانْيَاسَ إِلَيْهِ، فَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَارَ إِلَيْهَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَعَظُمَ حِينَئِذٍ خَطْبُهُ، وَجَلَتِ الْمِحْنَةُ بِظُهُورِهِ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلِ السُّنَّةِ وَالسِّتْرِ وَالسَّلَامَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَنْطِقُوا بِحَرْفٍ وَاحِدٍ، خَوْفًا مِنْ سُلْطَانِهِمْ أَوَّلًا، وَمِنْ شَرِّ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ ثَانِيًا، فَلَمْ يَقْدَمْ أَحَدٌ عَلَى إِنْكَارِ هَذِهِ الْحَالِ، فَانْتَظَرُوا بِهِمُ الدَّوَائِرَ.

ذِكْرُ قَتْلِ الْبُرْسُقِيِّ وَمُلْكِ ابْنِهِ عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَامِنَ ذِي الْقَعْدَةِ، قُتِلَ قَسِيمُ الدَّوْلَةِ آقْسُنْقُرُ الْبُرْسُقِيُّ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، بِمَدِينَةِ الْمَوْصِلِ، قَتَلَتْهُ الْبَاطِنِيَّةُ يَوْمَ جُمُعَةٍ بِالْجَامِعِ، وَكَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ مَعَ الْعَامَّةِ، وَكَانَ قَدْ رَأَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي مَنَامِهِ أَنَّ عِدَّةً مِنَ الْكِلَابِ ثَارَتْ بِهِ، فَقَتَلَ بَعْضَهَا، وَنَالَ مِنْهُ الْبَاقِي مَا آذَاهُ، فَقَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِتَرْكِ الْخُرُوجِ مِنْ دَارِهِ عِدَّةَ أَيَّامٍ، فَقَالَ: لَا أَتْرُكُ الْجُمُعَةَ لِشَيْءٍ أَبَدًا، فَغَلَبُوا عَلَى رَأْيِهِ، وَمَنَعُوهُ مِنْ قَصْدِ الْجُمُعَةِ، فَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَخَذَ الْمُصْحَفَ يَقْرَأُ فِيهِ، فَأَوَّلَ مَا رَأَى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] ، فَرَكِبَ إِلَى الْجَامِعِ عَلَى عَادَتِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ بِضْعَةَ عَشَرَ نَفْسًا عِدَّةَ الْكِلَابِ الَّتِي رَآهَا، فَجَرَحُوهُ بِالسَّكَاكِينِ، فَجَرَحَ هُوَ بِيَدِهِ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً، وَقُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ مَمْلُوكًا تُرْكِيًّا، خَيِّرًا، يُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالصَّالِحِينَ، وَيَرَى الْعَدْلَ وَيَفْعَلُهُ، وَكَانَ مِنْ خَيْرِ الْوُلَاةِ يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَيُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مُتَهَجِّدًا. حَكَى لِي وَالِدِي، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَنْ بَعْضِ مَنْ كَانَ يَخْدُمُهُ قَالَ: كُنْتُ فَرَّاشًا مَعَهُ، فَكَانَ يُصَلِّي كُلَّ لَيْلَةٍ كَثِيرًا، وَكَانَ يَتَوَضَّأُ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَسْتَعِينُ بِأَحَدٍ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ لَيَالِي الشِّتَاءِ بِالْمَوْصِلِ، وَقَدْ قَامَ مِنْ فِرَاشِهِ، وَعَلَيْهِ فَرَجِيَّةٌ صَغِيرَةٌ وَبْرٌ، وَبِيَدِهِ إِبْرِيقٌ، فَمَشَى نَحْوَ دِجْلَةَ لِيَأْخُذَ مَاءً، فَمَنَعَنِي الْبَرْدُ مِنَ الْقِيَامِ، ثُمَّ إِنَّنِي خِفْتُهُ، فَقُمْتُ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ لِآخُذَ الْإِبْرِيقَ مِنْهُ، فَمَنَعَنِي وَقَالَ: يَا مِسْكِينُ! ارْجِعْ إِلَى مَكَانِكَ، فَإِنَّهُ بَرْدٌ، فَاجْتَهَدْتُ لِآخُذَ الْإِبْرِيقَ، فَلَمْ يُعْطِنِي، وَرَدَّنِي إِلَى مَكَانِي ثُمَّ تَوَضَّأَ وَقَامَ يُصَلِّي. وَلَمَّا قُتِلَ كَانَ ابْنُهُ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودٌ بِحَلَبَ يَحْفَظُهَا مِنَ الْفِرِنْجِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ أَبِيهِ بِالْخَبَرِ، فَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَدَخَلَهَا أَوَّلَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَحْسَنَ إِلَى أَصْحَابِ أَبِيهِ بِهَا، وَأَقَرَّ وَزِيرَهُ الْمُؤَيِّدَ أَبَا غَالِبِ بْنَ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَلَى وِزَارَتِهِ، وَأَطَاعَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْأَجْنَادُ، وَانْحَدَرَ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَعَادَهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بِلَادِ أَبِيهِ.

وَوَقَعَ الْبَحْثُ عَنْ حَالِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَالِاسْتِقْصَاءُ عَنْ أَخْبَارِهِمْ، فَقِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِسُونَ إِلَى إِسْكَافٍ بِدَرْبِ إِيلِيَا، فَأُحْضِرَ وَوُعِدَ الْإِحْسَانُ إِنْ أَقَرَّ، فَلَمْ يُقِرَّ، فَهُدِّدَ بِالْقَتْلِ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ وَرَدُوا مِنْ سِنِينَ لِقَتْلِهِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْهُ إِلَى الْآنِ، فَقُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَذَكَرُهُ، وَرُجِمَ بِالْحِجَارَةِ فَمَاتَ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ أَرْسَلَ إِلَى عِزِّ الدِّينِ بْنِ الْبُرْسُقِيِّ يُخْبِرُهُ بِقَتْلِ وَالِدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْخَبَرُ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَهُ الْفِرِنْجُ قَبْلَهُ لِشِدَّةِ عِنَايَتِهِمْ بِمَعْرِفَةِ الْأَحْوَالِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِزُّ الدِّينِ فِي الْوِلَايَةِ قَبَضَ عَلَى الْأَمِيرِ بَابَكْرِ بْنِ مِيكَائِيلَ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُسَلِّمَ ابْنَ أَخِيهِ قَلْعَةَ إِرْبَلَ إِلَى الْأَمِيرِ فَضْلٍ وَأَبِي عَلِيٍّ، ابْنَيْ أَبِي الْهَيْجَاءِ، وَكَانَ ابْنُ أَخِيهِ قَدْ أَخَذَهَا مِنْهُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَرَاسَلَ ابْنَ أَخِيهِ، فَسَلَّمَ إِرْبَلَ إِلَى الْمَذْكُورَيْنِ. ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ وَالسُّلْطَانِ مَحْمُودٍ كَانَ قَدْ جَرَى بَيْنَ يَرْنَقْشَ الزَّكْوِيِّ، شِحْنَةِ بَغْدَاذَ، وَبَيْنَ نُوَّابِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ نُفْرَةٌ تَهَدَّدَهُ الْخَلِيفَةُ فِيهَا، فَخَافَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَسَارَ عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَشَكَا إِلَيْهِ، وَحَذَّرَهُ جَانِبَ الْخَلِيفَةِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ قَادَ الْعَسَاكِرَ، وَلَقِيَ الْحُرُوبَ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ، وَمَتَى لَمْ تُعَاجِلْهُ بِقَصْدِ الْعِرَاقِ وَدُخُولِ بَغْدَاذَ، ازْدَادَ قُوَّةً وَجَمْعًا، وَمَنْعَهُ عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَا هُوَ الْآنَ بِيَدِهِ. فَتَوَجَّهَ السُّلْطَانُ نَحْوَ الْعِرَاقِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يُعَرِّفُهُ مَا هِيَ الْبِلَادُ وَأَهْلُهَا عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْوَهَنِ، بِسَبَبِ دُبَيْسٍ، وَإِفْسَادِ عَسْكَرِهِ فِيهَا، وَأَنَّ الْغَلَاءَ قَدِ اشْتَدَّ بِالنَّاسِ لِعَدَمِ الْغَلَّاتِ وَالْأَقْوَاتِ، لِهَرَبِ الْأُكْرَةِ عَنْ بِلَادِهِمْ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ هَذِهِ الدَّفْعَةَ إِلَى أَنْ يَنْصَلِحَ حَالُ الْبِلَادِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهَا، فَلَا مَانِعَ لَهُ عَنْهَا، وَبَذَلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ مَالًا كَثِيرًا. فَلَمَّا سَمِعَ السُّلْطَانُ هَذِهِ الرِّسَالَةَ قَوِيَ عِنْدَهُ مَا قَرَّرَهُ الزَّكْوِيُّ، وَأَبَى أَنْ يُجِيبَ إِلَى التَّأَخُّرِ، وَصَمَّمَ الْعَزْمَ وَسَارَ إِلَيْهَا مُجِدًّا. فَلَمَّا بَلَغَ الْخَلِيفَةَ الْخَبَرُ عَبَرَ هُوَ وَأَهْلُهُ وَحُرَمُهُ

وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، مُظْهِرًا لِلْغَضَبِ وَالِانْتِزَاحِ عَنْ بَغْدَاذَ إِنْ قَصَدَهَا السُّلْطَانُ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ دَارِهِ بَكَى النَّاسُ جَمِيعُهُمْ بُكَاءً عَظِيمًا لَمْ يُشَاهَدْ مِثْلُهُ. فَلَمَّا عَلِمَ السُّلْطَانُ ذَلِكَ اشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَبَلَغَ مِنْهُ كُلَّ مَبْلَغٍ، فَأَرْسَلَ يَسْتَعْطِفُ الْخَلِيفَةَ، وَيَسْأَلُهُ الْعَوْدَ إِلَى دَارِهِ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَوْدِكَ هَذِهِ الدَّفْعَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ هَلْكَى بِشِدَّةِ الْغَلَاءِ، وَخَرَابِ الْبِلَادِ، وَأَنَّهُ لَا يَرَى فِي دِينِهِ أَنْ يَزْدَادَ مَا بِهِمْ، وَهُوَ يُشَاهِدُهُمْ، فَإِنْ عَادَ السُّلْطَانُ، وَإِلَّا رَحَلَ هُوَ عَنِ الْعِرَاقِ لِئَلَّا يُشَاهِدَ مَا يَلْقَى النَّاسُ بِمَجِيءِ الْعَسَاكِرِ. فَغَضِبَ السُّلْطَانُ لِقَوْلِهِ، وَرَحَلَ نَحْوَ بَغْدَاذَ، وَأَقَامَ الْخَلِيفَةُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَلَمَّا حَضَرَ عِيدُ الْأَضْحَى خَطَبَ النَّاسَ، وَصَلَّى بِهِمْ، فَبَكَى النَّاسُ لِخُطْبَتِهِ، وَأَرْسَلَ عَفِيفًا الْخَادِمِ، وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّهِ، فِي عَسْكَرٍ إِلَى وَاسِطَ لِيَمْنَعَ عَنْهَا نُوَّابَ السُّلْطَانِ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَيْهِ عِمَادَ الدِّينِ زِنْكِيَّ بْنَ آقْسُنْقُرَ، وَكَانَ لَهُ حِينَئِذٍ الْبَصْرَةُ، وَقَدْ فَارَقَ الْبُرْسُقِيَّ، وَاتَّصَلَ بِالسُّلْطَانِ، فَأَقْطَعَهُ الْبَصْرَةَ. فَلَمَّا وُصَلَ عَفِيفٌ إِلَى وَاسِطَ سَارَ إِلَيْهِ عِمَادُ الدِّينِ، فَنَزَلَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَكَانَ عَفِيفٌ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عِمَادُ الدِّينِ يُحَذِّرُهُ الْقِتَالَ، وَيَأْمُرُهُ بِالِانْتِزَاحِ عَنْهُمْ، فَأَبَى وَلَمْ يَفْعَلْ، فَعَبَرَ إِلَيْهِ عِمَادُ الدِّينِ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ عَفِيفٍ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأُسِرَ مِثْلُهُمْ، وَتَغَافَلَ عَنْ عَفِيفٍ حَتَّى نَجَا لِمَوَدَّةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ جَمَعَ السُّفُنَ جَمِيعَهَا إِلَيْهِ، وَسَدَّ أَبْوَابَ دَارِ الْخِلَافَةِ سِوَى بَابِ النُّوبِيِّ، وَأَمَرَ حَاجِبَ الْبَابِ ابْنَ الصَّاحِبِ بِالْمُقَامِ فِيهِ لِحِفْظِ الدَّارِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ حَوَاشِي الْخَلِيفَةِ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ سِوَاهُ. وَوَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ فِي الْعِشْرِينِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَنَزَلَ بِبَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ، وَدَخَلَ بَعْضُ عَسْكَرِهِ إِلَى بَغْدَاذَ وَنَزَلُوا فِي دُورِ النَّاسِ، فَشَكَا النَّاسُ ذَلِكَ إِلَى السُّلْطَانِ، فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ، وَبَقِيَ فِيهَا مَنْ لَهُ دَارٌ، وَبَقِيَ السُّلْطَانُ يُرَاسِلُ الْخَلِيفَةَ بِالْعَوْدِ، وَيَطْلُبُ الصُّلْحَ، وَهُوَ يَمْتَنِعُ. وَكَانَ يَجْرِي بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ مُنَاوَشَةٌ، وَالْعَامَّةُ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ يَسُبُّونَ السُّلْطَانَ أَفْحَشَ سَبٍّ. ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنْ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ دَخَلُوا دَارَ الْخِلَافَةِ، وَنَهَبُوا التَّاجَ،

وَحُجَرَ الْخَلِيفَةِ، أَوَّلَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَضَجَّ أَهْلُ بَغْدَاذَ مِنْ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعُوا وَنَادَوُا الْغُزَاةَ، فَأَقْبَلُوا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَلَمَّا رَآهُمُ الْخَلِيفَةُ خَرَجَ مِنَ السُّرَادِقِ وَالشِّمْسَةُ عَلَى رَأْسِهِ، وَالْوَزِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ الْكُوسَاتِ وَالْبُوقَاتِ، وَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا آلَ هَاشِمٍ! وَأَمَرَ بِتَقْدِيمِ السُّفُنِ، وَنَصَبَ الْجِسْرَ وَعَبَرَ النَّاسُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَكَانَ لَهُ فِي الدَّارِ أَلْفُ رَجُلٍ مُخْتَفِينَ فِي السَّرَادِيبِ، فَظَهَرُوا، وَعَسْكَرُ السُّلْطَانِ مُشْتَغِلُونَ بِالنَّهْبِ، فَأُسِرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَنَهَبَ الْعَامَّةُ دَارَ وَزِيرِ السُّلْطَانِ، وَدُورَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَدَارَ عَزِيزِ الدِّينِ الْمُسْتَوْفِي، وَدَارَ الْحَكِيمِ أَوْحَدِ الزَّمَانِ الطَّبِيبِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي الدُّرُوبِ. ثُمَّ عَبَرَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ مِنْ أَهْلِ بَغْدَاذَ وَالسَّوَادِ، وَأَمَرَ بِحَفْرِ الْخَنَادِقِ، فَحُفِرَتْ بِاللَّيْلِ، وَحَفِظُوا بَغْدَاذَ مِنْ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ، وَوَقَعَ الْغَلَاءُ عِنْدَ الْعَسْكَرِ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الْقِتَالُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَيْهِمْ عِنْدَ أَبْوَابِ الْبَلَدِ وَعَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، وَعَزَمَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ عَلَى أَنْ يَكْبِسُوا عَسْكَرَ السُّلْطَانِ، فَغَدَرَ بِهِمُ الْأَمِيرُ أَبُو الْهَيْجَاءِ الْكُرْدِيُّ، صَاحِبُ إِرْبَلَ، وَخَرَجَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْقِتَالَ، فَالْتَحَقَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ بِالسُّلْطَانِ. وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ بِوَاسِطَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْضُرَ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَمَعَهُ الْمُقَاتِلَةُ فِي السُّفُنِ، وَعَلَى الدَّوَابِّ فِي الْبَرِّ، فَجَمَعَ كَلَّ سَفِينَةٍ فِي الْبَصْرَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَشَحَنَهَا بِالرِّجَالِ الْمُقَاتِلَةِ، وَأَكْثَرَ مِنَ السِّلَاحِ، وَأَصْعَدَ، فَلَمَّا قَارَبَ بَغْدَاذَ أَمَرَ كُلَّ مَنْ مَعَهُ فِي السُّفُنِ وَفِي الْبَرِّ بِلُبْسِ السِّلَاحِ، وَإِظْهَارِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْجَلَدِ وَالنَّهْضَةِ، فَسَارَتِ السُّفُنُ فِي الْمَاءِ، وَالْعَسْكَرُ فِي الْبَرِّ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ قَدِ انْتَشَرُوا وَمَلَأُوا الْأَرْضَ بَرًّا وَبَحْرًا، فَرَأَى النَّاسُ مَنْظَرًا عَجِيبًا، كَبُرَ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَمَلَأَ صُدُورَهُمْ، وَرَكِبَ السُّلْطَانُ وَالْعَسْكَرُ إِلَى لِقَائِهِمْ، فَنَظَرُوا إِلَى مَا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ، وَعَظُمَ عِمَادُ الدِّينِ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى قِتَالِ بَغْدَاذَ حِينَئِذٍ، وَالْجِدِّ فِي ذَلِكَ فِي الْبَرِّ وَالْمَاءِ. فَلَمَّا رَأَى الْإِمَامُ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ الْأَمْرَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَخُرُوجَ الْأَمِيرِ أَبِي الْهَيْجَاءِ مِنْ عِنْدِهِ، أَجَابَ إِلَى الصُّلْحِ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، فَاصْطَلَحَا، وَاعْتَذَرَ السُّلْطَانُ مِمَّا جَرَى، وَكَانَ حَلِيمًا يَسْمَعُ سَبَّهُ بِأُذُنِهِ فَلَا يُعَاقِبُ عَلَيْهِ، وَعَفَا عَنْ أَهْلِ بَغْدَاذَ جَمِيعِهِمْ. وَكَانَ أَعْدَاءُ الْخَلِيفَةِ يُشِيرُونَ عَلَى السُّلْطَانِ بِإِحْرَاقِ بَغْدَاذَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: لَا تُسَاوِي الدُّنْيَا فِعْلُ مِثْلِ هَذَا. وَأَقَامَ بِبَغْدَاذَ إِلَى رَابِعِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَحَمَلَ الْخَلِيفَةُ مِنَ الْمَالِ إِلَيْهِ كَمَا اسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَيْهِ، وَأَهْدَى لَهُ

سِلَاحًا وَخَيْلًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَمَرِضَ السُّلْطَانُ بِبَغْدَاذَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ بِمُفَارَقَتِهَا، فَرَحَلَ إِلَى هَمَذَانَ، فَلَمَّا وَصَلَهَا عُوفِيَ. ذِكْرُ مَصَافٍّ بَيْنَ طُغْتِكِينَ أَتَابِكَ وَالْفِرِنْجِ بِالشَّامِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ وَمُلُوكُهَا وَقَمَامِصَتُهَا وَكُنُودُهَا وَسَارُوا إِلَى نَوَاحِي دِمَشْقَ فَنَزَلُوا بِمَرْجِ الصُّفَّرِ عِنْدَ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا سَقْبَا بِالْقُرْبِ مِنْ دِمَشْقَ، فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاشْتَدَّ خَوْفُهُمْ، وَكَاتَبَ طُغْتِكِينُ أَتَابِكُ صَاحِبُهَا أُمَرَاءَ التُّرْكُمَانِ مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ وَغَيْرِهَا وَجَمَعَهُمْ وَكَانَ قَدْ سَارَ عَنْ دِمَشْقَ إِلَى جِهَةِ الْفِرِنْجِ وَاسْتَخْلَفَ بِهَا ابْنَهُ تَاجَ الْمُلُوكِ بُورِيَّ فَكَانَ بِهَا، كُلَّمَا جَاءَتْ طَائِفَةٌ أَحْسَنَ ضِيَافَتَهُمْ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى أَبِيهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا سَارَ بِهِمْ طُغْتِكِينُ إِلَى الْفِرِنْجِ فَالْتَقَوْا أَوَاخِرَ ذِي الْحِجَّةِ وَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَسَقَطَ طُغْتِكِينُ عَنْ فَرَسِهِ، فَظَنَّ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ قُتِلَ، فَانْهَزَمُوا وَرَكِبَ طُغْتِكِينُ فَرَسَهُ وَلَحِقَهُمْ وَتَبِعَهُمُ الْفِرِنْجُ وَبَقِيَ التُّرْكُمَانُ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَلْحَقُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْهَزِيمَةِ فَتَخَلَّفُوا، فَلَمَّا رَأَوْا فُرْسَانَ الْفِرِنْجِ قَدْ تَبِعُوا الْمُنْهَزِمِينَ وَأَنَّ مُعَسْكَرَهُمْ وَرَاجِلَهُمْ لَيْسَ لَهُ مَانِعٌ وَلَا حَامٍ حَمَلُوا عَلَى الرَّجَّالَةِ فَقَتَلُوهُمْ وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ، وَنَهَبُوا مُعَسْكَرَ الْفِرِنْجِ وَخِيَامَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَجَمِيعَ مَا مَعَهُمْ وَفِي جُمْلَتِهِ كَنِيسَةٌ وَفِيهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ مَا لَا يَقُومُ كَثْرَةً فَنَهَبُوا ذَلِكَ جَمِيعَهُ وَعَادُوا إِلَى دِمَشْقَ سَالِمِينَ لَمْ يُعْدَمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَمَّا رَجَعَ الْفِرِنْجُ مِنْ أَثَرِ الْمُنْهَزِمِينَ وَرَأَوْا رَجَّالَتَهُمْ قَتْلَى وَأَمْوَالَهُمْ مَنْهُوبَةً تَمُّوا مُنْهَزِمِينَ لَا يَلْوِي الْأَخُ عَلَى أَخِيهِ، وَكَانَ هَذَا مِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ طَائِفَتَيْنِ تَنْهَزِمَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبَتِهَا! ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ الْفِرِنْجُ رَفَنِيَّةَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَهِيَ بَيْدِ الْمُسْلِمِينَ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهَا فَمَلَكُوهَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْفَتْحِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغَزَالِيُّ، الْوَاعِظُ، وَهُوَ أَخُو

الْإِمَامِ أَبِي حَامِدٍ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ ذَمَّهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: رِوَايَتُهُ فِي وَعْظِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُ يَقْدَحُ فِيهِ بِهَذَا، وَتَصَانِيفُهُ هُوَ وَوَعْظُهُ مَحْشُوٌّ بِهِ، مَمْلُوءَةٌ مِنْهُ، نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَنَا مِنَ الْوَقِيعَةِ فِي النَّاسِ، ثُمَّ يَا لَيْتَ شِعْرِي أَمَا كَانَ لِلْغَزَالِيِّ حَسَنَةٌ تُذْكَرُ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَسَاوِئِ الَّتِي نَسَبَهَا إِلَيْهِ لِئَلَّا يُنْسَبَ إِلَى الْهَوَى وَالْغَرَضِ؟

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] 521 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ وِلَايَةِ الشَّهِيدِ أَتَابَكْ زَنْكِي شِحْنَكِيَّةَ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، أَسْنَدَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ شِحْنَكِيَّةَ الْعِرَاقِ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي بْنِ آقَسُنْقَرَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ عِمَادَ الدِّينِ لَمَّا أُصْعِدَ مِنْ وَاسِطَ فِي التَّجَمُّلِ وَالْجَمْعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَقَامَ فِي حِفْظِ وَاسِطَ وَالْبَصْرَةِ وَتِلْكَ النَّوَاحِي الْقِيَامَ الَّذِي عَجَزَ غَيْرُهُ عَنْهُ، عَظُمَ فِي صَدْرِ السُّلْطَانِ وَصُدُورِ أُمَرَائِهِ، فَلَمَّا عَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى الْمَسِيرِ عَنْ بَغْدَاذَ نَظَرَ فِيمَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَلِيَ شِحْنَكِيَّةَ الْعِرَاقِ وَيَأْمَنُ مَعَهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ، فَاعْتَبَرَ أُمَرَاءَهُ وَأَعْيَانَ دَوْلَتِهِ، فَلَمْ يَرَ فِيهِمْ مَنْ يَقُومُ فِي هَذَا الْأَمْرِ مَقَامَ عِمَادِ الدِّينِ، فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ فَكُلٌّ أَشَارَ بِهِ وَقَالُوا: لَا نَقْدِرُ عَلَى رَقْعِ هَذَا الْخَرْقِ، وَإِعَادَةِ نَامُوسِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ، وَلَا تَقْوَى نَفْسُ أَحَدٍ عَلَى رُكُوبِ هَذَا الْخَطَرِ غَيْرُ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي. فَوَافَقَ مَا عِنْدَهُ، فَأَسْنَدَ إِلَيْهِ الْوِلَايَةَ، وَفَوَّضَهَا [إِلَيْهِ] مُضَافَةً إِلَى مَا لَهُ مِنَ الْأَقْطَاعِ، وَسَارَ عَنْ بَغْدَاذَ وَقَدِ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ مِنْ جِهَةِ الْعِرَاقِ، فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّ. ذِكْرُ عَوْدِ السُّلْطَانِ عَنْ بَغْدَاذَ، وَوِزَارَةِ أَنُوشِرْوَانَ بْنِ خَالِدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي عَاشِرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، سَارَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ عَنْ بَغْدَاذَ، بَعْدَ

تَقْرِيرِ الْقَوَاعِدِ بِهَا، وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ حَمَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْخِلَعَ، وَالدَّوَابَّ الْكَثِيرَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ وَسَارَ. وَلَمَّا أَبْعَدَ عَنْ بَغْدَاذَ قَبَضَ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ الْقَاسِمِ الْأَنْسَابَاذِيِّ فِي رَجَبٍ ; لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ بِمُمَالَأَةِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ لِقِيَامِهِ فِي أَمْرِهِ، وَإِتْمَامِ الصُّلْحِ مَقَامًا ظَهَرَ أَثَرُهُ، فَسَعَى بِهِ أَعْدَاؤُهُ، فَلَمَّا قَبَضَ عَلَيْهِ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ فَأَحْضَرَ شَرَفَ الدِّينِ أَنُوشِرْوَانَ بْنَ خَالِدٍ، وَكَانَ مُقِيمًا بِهَا، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ جَاءَتْهُ الْهَدَايَا مِنْ كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَسَارَ عَنْ بَغْدَاذَ خَامِسَ شَعْبَانَ، فَوَصَلَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَهُوَ بِأَصْبَهَانَ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلَعَ الْوِزَارَةِ، وَبَقِيَ فِيهَا نَحْوَ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ اسْتَعْفَى مِنْهَا، وَعَزَلَ نَفْسَهُ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَأَمَّا الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ فَإِنَّهُ بَقِيَ مَقْبُوضًا إِلَى أَنْ خَرَجَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ إِلَى الرَّيِّ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَبْسِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَأَعَادَهُ إِلَى وِزَارَةِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَهِيَ الْوِزَارَةُ الثَّانِيَةُ. ذِكْرُ وَفَاةِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ الْبُرْسُقِيِّ، وَوِلَايَةِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي الْمَوْصِلَ وَأَعْمَالَهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ الْبُرْسُقِيِّ، وَهُوَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِمَدِينَةِ الرَّحْبَةِ، وَسَبَبُ مَسِيرِهِ إِلَيْهَا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَامَتْ أُمُورُهُ فِي وِلَايَتِهِ، وَرَاسَلَ السُّلْطَانَ مَحْمُودًا، وَخَطَبَ لَهُ وِلَايَةَ مَا كَانَ أَبُوهُ يَتَوَلَّاهُ مِنَ الْمَوْصِلِ وَغَيْرِهَا، أَجَابَ السُّلْطَانَ إِلَى مَا طَلَبَ، فَرَتَّبَ الْأُمُورَ وَقَرَّرَهَا، فَكَثُرَ جُنْدُهُ، وَكَانَ شُجَاعًا شَهْمًا، فَطَمِعَ فِي التَّغَلُّبِ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ، فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ، وَسَارَ إِلَى الشَّامِ يُرِيدُ قَصْدَ دِمَشْقَ، فَابْتَدَأَ بِالرَّحَبَةِ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا وَنَازَلَهَا، وَقَامَ يُحَاصِرُهَا، فَأَخَذَهُ مَرَضٌ حَادٌّ وَهُوَ مُحَاصِرٌ لَهَا، فَتَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ، وَمَاتَ بَعْدَ سَاعَةٍ، فَنَدِمَ مَنْ بِهَا عَلَى تَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ. وَلَمَّا مَاتَ بَقِيَ مَطْرُوحًا عَلَى بِسَاطٍ لَمْ يُدْفَنْ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ عَسَاكِرُهُ، وَنَهَبَ بَعْضُهُمْ

بَعْضًا، فَشُغِلُوا عَنْهُ، ثُمَّ دُفِنَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَامَ بَعْدَهُ أَخٌ لَهُ صَغِيرٌ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ مَمْلُوكٌ لِلْبُرْسُقِيِّ يُعْرَفُ بِالْجَاوِلِيِّ، وَدَبَّرَ أَمْرَ الصَّبِيِّ، وَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ يَطْلُبُ أَنْ يُقَرِّرَ الْبِلَادَ عَلَى وَلَدِ الْبُرْسُقِيِّ، وَبَذَلَ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ عَلَى ذَلِكَ. وَكَانَ الرَّسُولَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْقَاضِي بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْقَاسِمِ الشَّهْرَزُورِيُّ، وَصَلَاحُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ أَمِيرُ حَاجِبِ الْبُرْسُقِيِّ، فَحَضَرَا دَرَكَاهَ السُّلْطَانَ لِيُخَاطِبَا فِي ذَلِكَ، وَكَانَا يَخَافَانِ جَاوِلِي، وَلَا يَرْضَيَانِ بِطَاعَتِهِ وَالتَّصَرُّفِ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ، فَاجْتَمَعَ صَلَاحُ الدِّينِ، وَنَصِيرُ الدِّينِ جَقَرُ الَّذِي صَارَ نَائِبًا عَنْ أَتَابَكْ عِمَادِ الدِّينِ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا مُصَاهَرَةٌ، وَذَكَرَ لَهُ صَلَاحُ الدِّينِ مَا وَرَدَ فِيهِ، وَأَفْشَى إِلَيْهِ سِرَّهُ، فَخَوَّفَهُ نَصِيرُ الدِّينِ مِنْ جَاوِلِي، وَقَبَّحَ عِنْدَهُ طَاعَتَهُ، وَقَرَّرَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَبْقَاهُ وَأَمْثَالَهُ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِمْ، وَمَتَى أُجِيبَ إِلَى مَطْلُوبِهِ لَا يُبْقِي عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَتَحَدَّثَ مَعَهُ فِي الْمُخَاطَبَةِ فِي وِلَايَةِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي، وَضَمِنَ لَهُ الْوِلَايَاتِ وَالْأَقْطَاعَ الْكَثِيرَةَ، وَكَذَلِكَ لِلْقَاضِي بَهَاءِ الدِّينِ الشَّهْرَزُورِيِّ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَحْضَرَهُ مَعَهُ عِنْدَ الْقَاضِي بَهَاءِ الدِّينِ، وَخَاطَبَاهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَضَمِنَا لَهُ كُلَّ مَا أَرَادَهُ، فَوَافَقَهُمَا عَلَى مَا طَلَبَا، وَرَكِبَ هُوَ وَصَلَاحُ الدِّينِ إِلَى دَارِ الْوَزِيرِ، وَهُوَ حِينَئِذٍ شَرَفُ الدِّينِ أَنُوشِرْوَانَ بْنُ خَالِدٍ، وَقَالَا لَهُ: قَدْ عَلِمْتَ أَنْتَ وَالسُّلْطَانُ أَنَّ دِيَارَ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ قَدْ تَمَكَّنَ الْفِرِنْجُ مِنْهَا، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ بِهَا، فَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَكْثَرِهَا، وَقَدْ أَصْبَحَتْ وِلَايَتُهُمْ مِنْ حُدُودِ مَارِدِينَ إِلَى عَرِيشِ مِصْرَ، مَا عَدَا الْبِلَادَ الْبَاقِيَةَ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كَانَ الْبُرْسُقِيُّ مَعَ شَجَاعَتِهِ وَتَجْرِيبِهِ وَانْقِيَادِ الْعَسَاكِرِ إِلَيْهِ، يَكُفُّ بَعْضَ عَادِيَتِهِمْ وَشَرِّهِمْ، فَمُذْ قُتِلَ ازْدَادَ طَمَعُهُمْ، وَهَذَا وَلَدُهُ طِفْلٌ صَغِيرٌ، وَلَا بُدَّ لِلْبِلَادِ مِنْ رَجُلٍ شَهْمٍ شُجَاعٍ، ذِي رَأْيٍ وَتَجْرِبَةٍ، يَذُبُّ عَنْهَا وَيَحْفَظُهَا وَيَحْمِي حَوْزَتَهَا، وَقَدْ أَنْهَيْنَا الْحَالَ لِئَلَّا يَجْرِيَ خَلَلٌ أَوْ وَهْنٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَيُخْتَصُّ اللَّوْمُ بِنَا، وَيُقَالُ: أَلَا أَنْهَيْتُمْ إِلَيْنَا جَلِيَّةَ الْحَالِ؟ . فَرَفَعَ الْوَزِيرُ قَوْلَهُمَا إِلَى السُّلْطَانِ، فَاسْتَحْسَنَهُ، وَشَكَرَهُمَا عَلَيْهِ، وَأَحْضَرَهُمَا

وَاسْتَشَارَهُمَا فِيمَنْ يَصْلُحُ لِلْوِلَايَةِ، فَذَكَرَا جَمَاعَةً، مِنْهُمْ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي، وَبَذَلَا عَنْهُ تَقَرُّبًا إِلَى خِزَانَةِ السُّلْطَانِ مَالًا جَلِيلًا، فَأَجَابَ السُّلْطَانُ إِلَى تَوْلِيَتِهِ، لِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ كِفَايَتِهِ لِمَا يَلِيهِ، فَأَحْضَرَهُ وَوَلَّاهُ الْبِلَادَ كُلَّهَا، وَكَتَبَ مَنْشُورَهُ بِهَا. وَسَارَ فَبَدَأَ بِالْبَوَازِيجِ لِيَمْلِكَهَا وَيَتَقَوَّى بِهَا، وَيَجْعَلَهَا ظَهْرَهُ ; لِأَنَّهُ خَافَ مِنْ جَاوِلِي أَنَّهُ رُبَّمَا صَدَّهُ عَنِ الْبِلَادِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْبَوَازِيجَ سَارَ عَنْهَا إِلَى الْمَوْصِلِ. فَلَمَّا سَمِعَ جَاوِلِي بِقُرْبِهِ مِنَ الْبَلَدِ خَرَجَ إِلَى تَلَقِّيهِ وَمَعَهُ جَمِيعُ الْعَسْكَرِ، فَلَمَّا رَآهُ جَاوِلِي نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَادَ فِي خِدْمَتِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَدَخَلَهَا فِي رَمَضَانَ، وَأَقْطَعَ جَاوِلِي الرَّحْبَةَ وَسَيَّرَهُ إِلَيْهَا، وَأَقَامَ بِالْمَوْصِلِ يُصْلِحُ أُمُورَهَا، وَيُقَرِّرُ قَوَاعِدَهَا، فَوَلَّى نَصِيرَ الدِّينِ دَزْدَارِيَّةَ الْقَلْعَةِ بِالْمَوْصِلِ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ سَائِرَ دَزْدَارِيَّةِ الْقِلَاعِ، وَجَعَلَ صَلَاحَ الدِّينِ مُحَمَّدًا أَمِيرَ حَاجِبٍ، وَبَهَاءَ الدِّينِ قَاضِيَ قُضَاةِ بِلَادِهِ جَمِيعِهَا، وَزَادَهُ أَمْلَاكًا، وَأَقْطَاعًا، وَاحْتِرَامًا، وَكَانَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ الْمَوْصِلِ سَارَ عَنْهَا إِلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَبِهَا مَمَالِيكُ الْبُرْسُقِيِّ، فَامْتَنَعُوا عَنْهُ، فَحَصَرَهُمْ وَرَاسَلَهُمْ، وَبَذَلَ لَهُمُ الْبُذُولَ الْكَثِيرَةَ إِنْ سَلَّمُوا، فَلَمْ يُجِيبُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَجَدَّ فِي قِتَالِهِمْ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَلَدِ دِجْلَةُ، فَأَمَرَ النَّاسَ، فَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ لِيَعْبُرُوهُ إِلَى الْبَلَدِ، فَفَعَلُوا، وَعَبَرَ بَعْضُهُمْ سِبَاحَةً، وَبَعْضُهُمْ فِي السُّفُنِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْأَكْلَاكِ، وَتَكَاثَرُوا عَلَى أَهْلِ الْجَزِيرَةِ، وَكَانُوا قَدْ خَرَجُوا عَنِ الْبَلَدِ إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ الْجَزِيرَةِ وَدِجْلَةَ تُعْرَفُ بِالزَّلَّاقَةِ، لِيَمْنَعُوا مَنْ يُرِيدُ عُبُورَ دِجْلَةَ، فَلَمَّا عَبَرَ الْعَسْكَرُ إِلَيْهِمْ قَاتَلُوهُمْ، وَمَانَعُوهُمْ، فَتَكَاثَرَ عَسْكَرُ عِمَادِ الدِّينِ عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَدَخَلُوهُ، وَتَحَصَّنُوا بِأَسْوَارِهِ، وَاسْتَوْلَى عِمَادُ الدِّينِ عَلَى الزَّلَّاقَةِ، فَلَمَّا رَأَى مَنْ بِالْبَلَدِ ذَلِكَ ضَعُفُوا، وَوَهَنُوا، وَأَيْقَنُوا أَنَّ الْبَلَدَ يُمْلَكُ سِلْمًا أَوْ عَنْوَةً، فَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ هُوَ أَيْضًا مَعَ عَسْكَرِهِ بِالزَّلَّاقَةِ، فَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ، فَدَخَلَهُ هُوَ وَعَسْكَرُهُ. ثُمَّ إِنَّ دِجْلَةَ زَادَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ زِيَادَةً عَظِيمَةً لَحِقَتْ سُورَ الْبَلَدِ، وَصَارَتِ الزَّلَّاقَةُ مَاءً، فَلَوْ أَقَامَ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَغَرِقَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ

ذَلِكَ أَيْقَنُوا بِسَعَادَتِهِ، وَأَيْقَنُوا أَنَّ أَمْرًا هَذَا بِدَايَتُهُ لَعَظِيمٌ. ثُمَّ سَارَ عَنِ الْجَزِيرَةِ إِلَى نَصِيبِينَ، وَكَانَتْ لِحُسَامِ الدِّينِ تَمْرُتَاشَ صَاحِبِ مَارِدِينَ، فَلَمَّا نَازَلَهَا سَارَ حُسَامُ الدِّينِ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ دَاوُدَ بْنِ سَقْمَانَ بْنِ أَرْتَقَ، وَهُوَ صَاحِبُ حِصْنِ كِيفَا وَغَيْرِهَا، فَاسْتَنْجَدَهُ عَلَى أَتَابَكْ زَنْكِي، فَوَعَدَ النَّجْدَةَ بِنَفْسِهِ، وَجَمَعَ عَسْكَرَهُ، وَعَادَ تَمْرُتَاشُ إِلَى مَارِدِينَ، وَأَرْسَلَ رِقَاعًا عَلَى أَجْنِحَةِ الطُّيُورِ إِلَى نَصِيبِينَ يَعْرِفُ مَنْ بِهَا مِنَ الْعَسْكَرِ أَنَّهُ وَابْنَ عَمِّهِ سَائِرَانِ فِي الْعَسْكَرِ الْكَثِيرِ إِلَيْهِمْ، وَإِزَاحَةِ عِمَادِ الدِّينِ عَنْهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِحِفْظِ الْبَلَدِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ. فَبَيْنَمَا أَتَالِكُ فِي خَيْمَتِهِ إِذْ سَقَطَ طَائِرٌ عَلَى خَيْمَةٍ تُقَابِلُهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَصِيدَ، فَرَأَى فِيهِ رُقْعَةً، فَقَرَأَهَا، وَعَرَفَ مَا فِيهَا، فَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ غَيْرَهَا، يَقُولُ فِيهَا: إِنَّنِي قَصَدْتُ ابْنَ عَمِّي رُكْنَ الدَّوْلَةِ، وَقَدْ وَعَدَنِي النُّصْرَةَ وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، وَمَا يَتَأَخَّرُ عَنِ الْوُصُولِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَيَأْمُرُهُمْ بِحِفْظِ الْبَلَدِ هَذِهِ الْمُدَّةَ إِلَى أَنْ يَصِلُوا، وَجَعَلَهَا فِي الطَّائِرِ وَأَرْسَلَهُ، فَدَخَلَ نَصِيبِينَ، فَلَمَّا وَقَفَ مَنْ بِهَا عَلَى الرُّقْعَةِ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَحْفَظُوا الْبَلَدَ هَذِهِ الْمُدَّةَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى الشَّهِيدِ وَصَالَحُوهُ، وَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ، فَبَطَلَ عَلَى تَمْرُتَاشَ وَدَاوُدَ مَا كَانَا عَزَمَا عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ مَا يُسْمَعُ. فَلَمَّا مَلَكَ نَصِيبِينَ سَارَ عَنْهَا إِلَى سِنْجَارَ، فَامْتَنَعَ مَنْ بِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ صَالَحُوهُ، وَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ، وَسَيَّرَ مِنْهَا الشِّحَنَ إِلَى الْخَابُورِ، فَمَلَكَهُ جَمِيعَهُ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حَرَّانَ وَهِيَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتِ الرُّهَا وَسَرُوجُ وَالْبِيرَةُ وَتِلْكَ النَّوَاحِي جَمِيعُهَا لِلْفِرِنْجِ، وَأَهْلُ حَرَّانَ مَعَهُمْ فِي ضُرٍّ عَظِيمٍ، وَضِيقٍ شَدِيدٍ ; لِخُلُوِّ الْبِلَادِ مِنْ حَامٍ يَذُبُّ عَنْهَا، وَسُلْطَانٍ يَمْنَعُهَا، فَلَمَّا قَارَبَ حَرَّانَ خَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ وَأَطَاعُوهُ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا مَلَكَهَا أَرْسَلَ إِلَى جُوسْلِينْ صَاحِبِ الرُّهَا وَتِلْكِ الْبِلَادِ، وَرَاسَلَهُ وَهَادَنَهُ مُدَّةً يَسِيرَةً، وَكَانَ غَرَضُهُ أَنْ يَتَفَرَّغَ لِإِصْلَاحِ الْبِلَادِ، وَتَجْنِيدِ الْأَجْنَادِ، وَكَانَ أَهَمُّ الْأُمُورِ إِلَيْهِ أَنْ يَعْبُرَ الْفُرَاتَ إِلَى الشَّامِ، وَيَمْلِكَ مَدِينَةَ حَلَبَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، فَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ، وَأَمِنَ النَّاسُ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مُلْكَ حَلَبَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ

فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مُعِينُ الْمَلِكِ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ، وَزِيرُ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، قَتَلَتْهُ الْبَاطِنِيَّةُ، وَكَانَ لَهُ فِي قِتَالِهِمْ آثَارٌ حَسَنَةٌ، وَنِيَّةٌ صَالِحَةٌ، فَرَزَقَهُ اللَّهُ الشَّهَادَةَ. وَفِيهَا وَلَّى السُّلْطَانُ شِحْنَكِيَّةَ بَغْدَاذَ مُجَاهِدَ الدِّينِ بَهْرُوزَ لَمَّا سَارَ أَتَابَكْ زَنْكِي إِلَى الْمَوْصِلِ. وَفِيهَا رُتِّبَ الْحَسَنُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي تَدْرِيسِ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَاذَ. وَفِيهَا أَوْقَعَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ بِالْبَاطِنِيَّةِ فِي أَلَمُوتَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، قِيلَ: كَانُوا يَزِيدُونَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ نَفْسٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَتُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ أَبُو الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْفَاعُوسِ، الْحَنْبَلِيُّ، بِبَغْدَاذَ، فِي شَوَّالٍ، وَكَانَ صَالِحًا. وَفِي شَوَّالٍ تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الْهَمَذَانِيُّ الْفَرَضِيُّ، صَاحِبُ " التَّارِيخِ ".

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] (522) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ مُلْكٍ أَتَابَكْ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي مَدِينَةَ حَلَبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَوَّلَ مُحَرَّمٍ، مَلَكَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بْنُ آقَسُنْقَرَ مَدِينَةَ حَلَبَ وَقَلْعَتَهَا، وَنَحْنُ نَذْكُرُ كَيْفَ كَانَ سَبَبُ مُلْكِهَا، فَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا مُلْكَ الْبُرْسُقِيِّ لِمَدِينَةِ حَلَبَ، وَقَلْعَتِهَا سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ [وَخَمْسِمَائَةٍ] وَاسْتِخْلَافَهُ بِهَا ابْنَهُ مَسْعُودًا، وَلَمَّا قُتِلَ الْبُرْسُقِيُّ سَارَ مَسْعُودٌ عَنْهَا إِلَى الْمَوْصِلِ وَمَلَكَهَا، وَاسْتَنَابَ بِحَلَبَ أَمِيرًا اسْمُهُ قُومَانُ، ثُمَّ إِنَّهُ وَلَّى عَلَيْهَا أَمِيرًا اسْمُهُ قُتْلُغْ أَبَهْ، وَسَيَّرَهُ بِتَوْقِيعٍ إِلَى قُومَانَ لِتَسْلِيمِهَا، فَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَ عِزِّ الدِّينِ عَلَامَةٌ لَمْ أَرَهَا وَلَا أُسَلِّمْ إِلَّا بِهَا، وَكَانَتِ الْعَلَامَةُ بَيْنَهُمَا صُورَةَ غَزَالٍ، وَكَانَ مَسْعُودُ بْنُ الْبُرْسُقِيِّ حَسَنَ التَّصْوِيرِ، فَعَادَ قُتْلُغْ أَبَهْ إِلَى مَسْعُودٍ وَهُوَ يُحَاصِرُ الرَّحْبَةَ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ، فَعَادَ إِلَى حَلَبَ مُسْرِعًا. وَعَرَفَ النَّاسُ مَوْتَهُ، فَسَلَّمَ الرَّئِيسُ فَضَائِلُ بْنُ بَدِيعٍ الْبَلَدَ، وَأَطَاعَهُ الْمُقَدِّمُونَ بِهِ، وَاسْتَنْزَلُوا قُومَانَ مِنَ الْقَلْعَةِ بَعْدَ أَنْ صَحَّ عِنْدَهُ وَفَاةُ صَاحِبِهِ مَسْعُودٍ، وَأَعْطَوْهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَتَسَلَّمَ قُتْلُغُ الْقَلْعَةَ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ [وَخَمْسِمَائَةٍ] ، فَظَهَرَ مِنْهُ بَعْدَ أَيَّامٍ جَوْرٌ شَدِيدٌ، وَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَمَدَّ يَدَهُ إِلَى أَمْوَالِ النَّاسِ لَا سِيَّمَا التَّرِكَاتِ فَإِنَّهُ أَخَذَهَا، وَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ الْأَشْرَارُ، فَنَفَرَتْ قُلُوبُ النَّاسِ مِنْهُ. وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ بَدْرُ الدَّوْلَةِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أُرْتُقَ الَّذِي كَانَ قَدِيمًا صَاحِبَهَا، فَأَطَاعَهُ أَهْلُهَا، وَقَامُوا لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ ثَانِيَ شَوَّالٍ فَقَبَضُوا عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ بِالْبَلَدِ

مِنْ أَصْحَابِ قُتْلُغْ أَبَهْ، وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يَشْرَبُونَ فِي الْبَلَدِ صُبْحَةَ الْعِيدِ، وَزَحَفُوا إِلَى الْقَلْعَةِ، فَتَحَصَّنَ قُتْلُغْ أَبَهْ فِيهَا بِمَنْ مَعَهُ، فَحَصَرُوهُ، وَوَصَلَ إِلَى حَلَبَ حَسَّانُ صَاحِبُ مَنْبَجَ وَحَسَنُ صَاحِبُ بُزَاعَةَ ; لِإِصْلَاحِ الْأَمْرِ فَلَمْ يَنْصَلِحْ. وَسَمِعَ الْفِرِنْجُ بِذَلِكَ، فَتَقَدَّمَ جُوسْلِينْ بِعَسْكَرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَصُونِعَ بِمَالٍ، فَعَادَ عَنْهَا، ثُمَّ وَصَلَ بَعْدَهُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَّةَ فِي جَمْعٍ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَخَنْدَقَ الْحَلَبِيُّونَ حَوْلَ الْقَلْعَةِ، فَمُنِعَ الدَّاخِلُ وَالْخَارِجُ إِلَيْهَا مِنْ ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَأَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى الْخَطَرِ الْعَظِيمِ إِلَى مُنْتَصَفِ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ. وَكَانَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ قَدْ مَلَكَ الْمَوْصِلَ وَالْجَزِيرَةَ، فَسَيَّرَ إِلَى حَلَبَ الْأَمِيرَ سُنْقُرَ دِرَازْ، وَالْأَمِيرَ حَسَنْ قَرَاقُوشْ، وَهُمَا مِنْ أَكَابِرَ أُمَرَاءَ الْبُرْسُقِيِّ، وَقَدْ صَارُوا مَعَهُ فِي عَسْكَرٍ قَوِيٍّ، وَمَعَهُ التَّوْقِيعُ مِنَ السُّلْطَانِ بِالْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ، فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ أَنْ يَسِيرَ بَدْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَقُتْلُغْ أَبَهْ إِلَى الْمَوْصِلِ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ، فَسَارُوا إِلَيْهِ، وَأَقَامَ حَسَنْ قَرَاقُوشْ بِحَلَبَ وَالِيًا عَلَيْهَا وِلَايَةً مُسْتَعَارَةً، فَلَمَّا وَصَلَ بَدْرُ الدَّوْلَةِ وَقُتْلُغْ أَبَهْ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَرُدَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا إِلَى حَلَبَ، وَسَيَّرَ حَاجِبَهُ صَلَاحَ الدِّينِ مُحَمَّدًا الْيَاغِسْيَانِيَّ إِلَيْهَا فِي عَسْكَرٍ، فَصَعِدَ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَرَتَّبَ الْأُمُورَ، وَجَعَلَ فِيهَا وَالِيًا. وَسَارَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي إِلَى الشَّامِ فِي جُيُوشِهِ وَعَسَاكِرِهِ، فَمَلَكَ فِي طَرِيقِهِ مَدِينَةَ مَنْبِجَ وَبُزَاعَةَ، وَخَرَجَ أَهْلُ حَلَبَ إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْهُ، وَاسْتَبْشَرُوا بِقُدُومِهِ، وَدَخَلَ الْبَلَدَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ، وَرَتَّبَ أُمُورَهُ، وَأَقْطَعُ أَعْمَالَهُ الْأَجْنَادَ وَالْأُمَرَاءَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الَّذِي أَرَادَهُ قَبَضَ عَلَى قُتْلُغْ أَبَهْ، وَسَلَّمَهُ إِلَى ابْنِ بَدِيعٍ، فَكَحَلَهُ بِدَارِهِ بِحَلَبَ، فَمَاتَ قُتْلُغْ أَبَهْ، وَاسْتَوْحَشَ ابْنُ بَدِيعٍ، فَهَرَبَ إِلَى قَلْعَةِ جَعْبَرَ، وَاسْتَجَارَ بِصَاحِبِهَا فَأَجَارَهُ. وَجَعَلَ عِمَادُ الدِّينِ فِي رِئَاسَةِ حَلَبَ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمُلْكِ أَتَابِكْ بِبِلَادِ الشَّامِ، (لَمَلَكَهَا الْفِرِنْجُ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْصُرُونَ بَعْضَ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، وَإِذَا) عَلِمَ ظَهِيرُ الدِّينِ طُغْتِكِينْ بِذَلِكَ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ، وَقَصَدَ بِلَادَهُمْ وَحَصَرَهَا، وَأَغَارَ عَلَيْهَا، فَيَضْطَرُّ الْفِرِنْجُ إِلَى الرَّحِيلِ لِدَفْعِهِ عَنْ بِلَادِهِمْ، فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ تُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ، فَخَلَا لَهُمُ الشَّامُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ مِنْ رَجُلٍ يَقُومُ

بِنُصْرَةِ أَهْلِهِ، فَلَطَفَ اللَّهُ بِالْمُسْلِمِينَ بِوِلَايَةِ عِمَادِ الدِّينِ، فَفَعَلَ بِالْفِرِنْجِ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ قُدُومِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ إِلَى الرَّيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الرَّيِّ فِي جَيْشٍ كَبِيرٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ دُبَيْسَ بْنَ صَدَقَةَ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ هُوَ وَالْمَلِكُ طُغْرُلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، لَمْ يَزَلْ يُطْمِعُهُ فِي الْعِرَاقِ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ قَصْدَهُ، وَيُلْقِي فِي نَفْسِهِ أَنَّ الْمُسْتَرْشِدَ بِاللَّهِ وَالسُّلْطَانَ مَحْمُودًا مُتَّفِقَانِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَجَابَهُ إِلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَمَّا سَارُوا وَصَلَ إِلَى الرَّيِّ، وَكَانَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بِهَمَذَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ لِيَنْظُرَ هَلْ هُوَ عَلَى طَاعَتِهِ أَمْ قَدْ تَغَيَّرَ عَلَى مَا زَعَمَ دُبَيْسٌ، فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ بَادَرَ إِلَى الْمَسِيرِ إِلَى عَمِّهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ أَمَرَ الْعَسْكَرَ جَمِيعَهُ بِلِقَائِهِ، وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى التَّخْتِ، وَبَالَغَ فِي إِكْرَامِهِ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ إِلَى مُنْتَصَفِ ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ إِلَى خُرَاسَانَ، وَسَلَّمَ دُبَيْسًا إِلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَوَصَّاهُ بِإِكْرَامِهِ وَإِعَادَتِهِ إِلَى بَلَدِهِ، وَرَجَعَ مَحْمُودٌ إِلَى هَمَذَانَ وَدُبَيْسٌ مَعَهُ، ثُمَّ سَارَا إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَمَّا قَارَبَا بَغْدَاذَ خَرَجَ الْوَزِيرُ إِلَى لِقَائِهِ، وَكَانَ قُدُومُهُ تَاسِعَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ [وَخَمْسِمَائَةٍ] . وَكَانَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْسَابَاذِيُّ قَدْ قَبَضَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِالسُّلْطَانِ سَنْجَرَ أَمَرَ بِإِطْلَاقِهِ فَأَطْلَقَهُ، وَقَرَّرَهُ سَنْجَرُ فِي وِزَارَةِ ابْنَتِهِ الَّتِي زَوَّجَهَا بِالسُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَلَمَّا وَصَلَ مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ أَعَادَهُ مَحْمُودٌ إِلَى وِزَارَتِهِ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَهِيَ وِزَارَتُهُ الثَّانِيَةُ. ذِكْرُ عِدَّةَ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَامِنَ صَفَرٍ تُوُفِّيَ أَتَابَكْ طُغْتِكِينْ صَاحِبُ دِمَشْقَ، وَهُوَ مَمْلُوكُ

الْمَلِكِ تُتُشِ بْنِ أَلْبْ أَرْسِلَانْ، وَكَانَ عَاقِلًا خَيَّرَا، كَثِيرَ الْغَزَوَاتِ وَالْجِهَادِ لِلْفِرِنْجِ، حَسَنَ السِّيرَةِ فِي رَعِيَّتِهِ، مُؤْثِرًا لِلْعَدْلِ فِيهِمْ، وَكَانَ لَقَبُهُ ظَهِيرَ الدِّينِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ تَاجُ الْمُلُوكِ بُورِي وَهُوَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ، بِوَصِيَّةٍ مِنْ وَالِدِهِ لَهُ بِالْمُلْكِ، وَأَقَرَّ وَزِيرُ أَبِيهِ أَبُو عَلِيٍّ طَاهِرُ بْنُ سَعْدٍ الْمَزْدُقَانِيُّ عَلَى وِزَارَتِهِ. وَفِيهَا فِي مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ، تُوُفِّيَ الْوَزِيرُ جَلَالُ الدِّينِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ صَدَقَةَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، جَمِيلَ الطَّرِيقَةِ، مُتَوَاضِعًا، مُحِبًّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ، مُكْرِمًا لَهُمْ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ فِي مَدْحِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ: وَجَدْتُ الْوَرَى كَالْمَاءِ طَعْمًا وَرِقَّةً ... وَأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ زُلَالُهُ وَصَوَّرْتُ مَعْنَى الْعَقْلِ شَخْصًا مُصَوَّرًا ... وَأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِثَالُهُ وَلَوْلَا طَرِيقُ الدِّينِ وَالشَّرْعِ وَالتُّقَى ... لَقُلْتُ مِنَ الْإِعْظَامِ جَلَّ جَلَالُهُ وَأُقِيمَ فِي النِّيَابَةِ بَعْدَهُ شَرَفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيُّ، ثُمَّ جُعِلَ وَزِيرًا، وَخُلِعَ عَلَيْهِ آخِرَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ [وَخَمْسِمَائَةٍ] ، وَلَمْ يَزِرْ لِلْخُلَفَاءِ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ هَاشِمِيٌّ غَيْرُهُ. وَفِيهَا هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ اسْوَدَّتْ لَهَا الْآفَاقُ، وَجَاءَتْ بِتُرَابٍ أَحْمَرَ يُشْبِهُ الرَّمْلَ، وَظَهَرَ فِي السَّمَاءِ أَعْمِدَةٌ كَأَنَّهَا نَارٌ، فَخَافَ النَّاسُ وَعَدَلُوا إِلَى الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ، فَانْكَشَفَ عَنْهُمْ مَا يَخَافُونَهُ.

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] (523) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ قُدُومِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ إِلَى بَغْدَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بَغْدَاذَ بَعْدَ عَوْدِهِ مِنْ عِنْدِ عَمِّهِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، لِيُصْلِحَ حَالَهُ مَعَ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ، فَتَأَخَّرَ دُبَيْسٌ عَنِ السُّلْطَانِ، ثُمَّ دَخَلَ بَغْدَاذَ، وَنَزَلَ بِدَارِ السُّلْطَانِ، وَاسْتَرْضَى عَنْهُ الْخَلِيفَةَ، فَامْتَنَعَ الْخَلِيفَةُ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى أَنْ يُوَلَّى دُبَيْسٌ شَيْئًا مِنِ الْبِلَادِ، وَبَذَلَ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ لِذَلِكَ. وَعَلِمَ أَتَابَكْ زَنْكِي أَنَّ السُّلْطَانَ يُرِيدُ أَنْ يُوَلِّيَ دُبَيْسًا الْمَوْصِلَ، فَبَذَلَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَحَضَرَ بِنَفْسِهِ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ إِلَّا وَهُوَ عِنْدَ السِّتْرِ، وَحَمَلَ مَعَهُ الْهَدَايَا الْجَلِيلَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَ السُّلْطَانِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَعَادَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ. وَخَرَجَ السُّلْطَانُ يَتَصَيَّدُ، فَعَمِلَ لَهُ شَيْخٌ الْمَزْرَفَةِ دَعْوَةً عَظِيمَةً امْتَارَ مِنْهَا جَمِيعُ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ، وَأَدْخَلَهُ إِلَى حَمَّامٍ فِي دَارِهِ، وَجَعَلَ فِيهِ عِوَضَ الْمَاءِ مَاءَ الْوَرْدِ، فَأَقَامَ السُّلْطَانُ إِلَى رُبْعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَسَارَ عَنْهَا إِلَى هَمَذَانَ، وَجَعَلَ بَهْرُوزَ عَلَى شِحْنَكِيَّةِ بَغْدَاذَ، وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ الْحِلَّةُ أَيْضًا.

ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ دُبَيْسٌ بِالْعِرَاقِ وَعَوْدَ السُّلْطَانِ إِلَى بَغْدَاذَ لَمَّا رَحَلَ السُّلْطَانُ إِلَى هَمَذَانَ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ، وَهِيَ ابْنَةُ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُعْنَى بِأَمْرِ دُبَيْسٍ وَتُدَافُعُ عَنْهُ، فَلَمَّا مَاتَتِ انْحَلَّ أَمْرُ دُبَيْسٍ. ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا، فَأَخَذَ دُبَيْسٌ ابْنًا لَهُ صَغِيرًا وَقَصَدَ الْعِرَاقَ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ بِذَلِكَ جَنَّدَ الْأَجْنَادَ وَحَشَدَ، وَكَانَ بَهْرُوزُ بِالْحِلَّةِ، فَهَرَبَ مِنْهَا، فَدَخَلَهَا دُبَيْسٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا سَمِعَ السُّلْطَانُ الْخَبَرَ عَنْ دُبَيْسٍ أَحْضَرَ الْأَمِيرَيْنِ قَزَلَ وَالْأَحْمَدِيلِيَّ، وَقَالَ: أَنْتُمَا ضَمِنْتُمَا دُبَيْسًا مِنِّي، وَأُرِيدُهُ مِنْكُمَا. فَسَارَ الْأَحْمَدِيلِيُّ إِلَى الْعِرَاقِ إِلَى دُبَيْسٍ، لِيَكُفَّ شَرَّهُ عَنِ الْبِلَادِ، وَيُحْضِرَهُ إِلَى السُّلْطَانِ، فَلَمَّا سَمِعَ دُبَيْسٌ الْخَبَرَ أَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْتَعْطِفُهُ، وَيَقُولُ: إِنْ رَضِيتَ عَنِّي فَأَنَا أَرُدُّ أَضْعَافَ مَا أَخَذْتُ، وَأَكُونُ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ، فَتَرَدَّدَ الرُّسُلُ وَدُبَيْسٌ يَجَمْعُ الْأَمْوَالَ وَالرِّجَالِ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ عَشَرَةُ آلَافِ فَارِسٍ، وَكَانَ قَدْ وَصَلَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ، وَوَصَلَ الْأَحْمَدِيلِيُّ بَغْدَاذَ فِي شَوَّالٍ، وَسَارَ فِي أَثَرٍ دُبَيْسٍ. ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ سَارَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَمَّا سَمِعَ دُبَيْسٌ بِذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ هَدَايَا جَلِيلَةَ الْمِقْدَارِ، وَبَذَلَ ثَلَاثَمِائَةِ حِصَانٍ مُنَعَّلَةً بِالذَّهَبِ، وَمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ ; لِيَرْضَى عَنْهُ السُّلْطَانُ وَالْخَلِيفَةُ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَوَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَلَقِيَهُ الْوَزِيرُ الزَّيْنَبِيُّ وَأَرْبَابُ الْمَنَاصِبِ، فَلَمَّا تَيَقَّنَ دُبَيْسٌ وُصُولَهُ رَحَلَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، وَقَصَدَ الْبَصْرَةَ، وَأَخَذَ مِنْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَمَا لِلْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ هُنَاكَ مِنَ الدَّخْلِ، فَسَيَّرَ السُّلْطَانُ إِثْرَهُ عَشَرَةَ آلَافِ فَارِسٍ، فَفَارَقَ الْبَصْرَةَ وَدَخَلَ الْبَرِّيَّةَ. ذِكْرُ قَتْلِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ بِدِمَشْقَ قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ قَتْلَ إِبْرَاهِيمَ الْأَسْدَابَاذِيِّ بِبَغْدَاذَ، وَهَرَبَ ابْنِ أُخْتِهِ بَهْرَامَ إِلَى الشَّامِ، وَمُلْكَهُ قَلْعَةَ بَانِيَاسَ، وَمَسِيرَهُ إِلَيْهَا، وَلَمَّا فَارَقَ دِمَشْقَ أَقَامَ لَهُ بِهَا خَلِيفَةً يَدْعُو النَّاسَ إِلَى مَذْهَبِهِ، فَكَثُرُوا وَانْتَشَرُوا، وَمَلَكَ هُوَ عِدَّةَ حُصُونٍ مِنِ الْجِبَالِ مِنْهَا الْقَدْمُوسُ

وَغَيْرُهُ، وَكَانَ بِوَادِي التَّيْمِ مِنْ أَعْمَالِ بَعْلَبَكَّ أَصْحَابُ مَذَاهِبٍ مُخْتَلِفَةٍ مَنِ النَّصِيرِيَّةِ، وَالدُّرْزِيَّةِ وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَمِيرُهُمُ اسْمُهُ الضَّحَّاكُ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ بَهْرَامُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ [وَخَمْسِمَائَةٍ] ، وَحَصَرَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الضَّحَّاكُ فِي أَلْفِ رَجُلٍ، وَكَبَسَ عَسْكَرَ بَهْرَامَ فَوَضَعَ السَّيْفَ فِيهِمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً كَثِيرَةً، وَقُتِلَ بَهْرَامُ، وَانْهَزَمَ مَنْ سَلِمَ، وَعَادُوا إِلَى بَانِيَاسَ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ. وَكَانَ بَهْرَامُ قَدِ اسْتَخْلَفَ فِي بَانِيَاسَ رَجُلًا مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ اسْمُهُ إِسْمَاعِيلُ، فَقَامَ مَقَامَهُ، وَجَمَعَ شَمْلَ مَنْ عَادَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، وَبَثَّ دُعَاتَهُ فِي الْبِلَادِ، وَعَاضَدَهُ الْمَزْدُقَانِيُّ أَيْضًا، وَقَوَّى نَفْسَهُ عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الِامْتِعَاضِ بِهَذِهِ الْحَادِثَةِ وَالْهَمِّ بِسَبَبِهَا. ثُمَّ إِنَّ الْمَزْدُقَانِيَّ أَقَامَ بِدِمَشْقَ عِوَضَ بَهْرَامَ إِنْسَانًا اسْمُهُ أَبُو الْوَفَاءِ، فَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَعَلَا شَأْنُهُ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، وَقَامَ بِدِمَشْقَ، فَصَارَ الْمُسْتَوْلِي عَلَى مَنْ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَحُكْمُهُ أَكْثَرَ مِنْ حُكْمِ صَاحِبِهَا تَاجِ الْمُلُوكِ. ثُمَّ إِنَّ الْمَزْدُقَانِيَّ رَاسَلَ الْفِرِنْجَ لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ مَدِينَةَ دِمَشْقَ، وَيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ مَدِينَةً صُورَ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَتَقَرَّرَ بَيْنَهُمُ الْمِيعَادُ يَوْمَ جُمُعَةٍ ذَكَرُوهُ، وَقَرَّرَ الْمَزْدُقَانِيُّ مَعَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةَ أَنْ يَحْتَاطُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ (بِأَبْوَابِ الْجَامِعِ، فَلَا يُمَكِّنُوا أَحَدًا مِنَ الْخُرُوجِ) مِنْهُ ;لِيَجِيءَ الْفِرِنْجُ وَيَمْلِكُوا الْبِلَادَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ تَاجَ الْمُلُوكِ صَاحِبَ دِمَشْقَ، فَاسْتَدْعَى الْمَزْدُقَانِيَّ إِلَيْهِ فَحَضَرَ وَخَلَا مَعَهُ، فَقَتَلَهُ تَاجُ الْمُلُوكِ، وَعَلَّقَ رَأَّسَهُ عَلَى بَابِ الْقَلْعَةِ، وَنَادَى فِي الْبَلَدِ بِقَتْلِ الْبَاطِنِيَّةِ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سِتَّةُ آلَافِ نَفْسٍ، وَكَانَ ذَلِكَ مُنْتَصَفَ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُمْ، وَرَدَّ عَلَى الْكَافِرِينَ كَيْدَهُمْ. وَلَمَّا تَمَّتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ بِدِمَشْقَ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيَّةَ خَافَ إِسْمَاعِيلُ وَالِي بَانِيَاسَ أَنْ يَثُورَ بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ النَّاسُ فَيَهْلَكُوا، فَرَاسَلَ الْفِرِنْجَ، وَبَذَلَ لَهُمْ تَسْلِيمَ بَانِيَاسَ إِلَيْهِمْ وَالِانْتِقَالَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَأَجَابُوهُ، فَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ إِلَيْهِمْ، وَانْتَقَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَلَقُوا شِدَّةً وَذِلَّةً وَهَوَانًا، وَتُوُفِّيَ إِسْمَاعِيلُ أَوَائِلَ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ [وَخَمْسِمَائَةٍ] ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ شَرَّهُمْ.

ذِكْرُ حَصْرِ الْفِرِنْجِ دِمَشْقَ وَانْهِزَامِهِمْ لَمَّا بَلَغَ الْفِرِنْجَ قَتْلُ الْمَزْدُقَانِيِّ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ بِدِمَشْقَ عَظُمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَتَأَسَّفُوا عَلَى دِمَشْقَ حَيْثُ لَمْ يَتِمْ لَهُمْ مُلْكُهَا، وَعَمَّتْهُمُ الْمُصِيبَةُ، فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ: صَاحِبُ الْقُدْسِ، وَصَاحِبُ أَنْطَاكِيَّةَ، وَصَاحِبُ طَرَابُلُسَ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْفِرِنْجِ وَقَمَامِصَتُهُمْ، وَمَنْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ فِي الْبَحْرِ لِلتِّجَارَةِ وَالزِّيَارَةِ، فَاجْتَمَعُوا فِي خَلْقٍ عَظِيمٍ نَحْوَ أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَأَمَّا الرَّاجِلُ فَلَا يُحْصَى، وَسَارُوا إِلَى دِمَشْقَ لِيَحْصُرُوهَا. وَلَمَّا سَمِعَ تَاجُ الْمُلُوكِ بِذَلِكَ جَمَعَ الْعَرَبَ، وَالتُّرْكُمَانَ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُمْ ثَمَانِيَةُ آلَافِ فَارِسٍ، وَوَصَلَ الْفِرِنْجُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَنَازَلُوا الْبَلَدَ، وَأَرْسَلُوا إِلَى أَعْمَالِ دِمَشْقَ لِجَمْعِ الْمِيرَةِ وَالْإِغَارَةِ عَلَى الْبِلَادِ، فَلَمَّا سَمِعَ تَاجُ الْمُلُوكِ أَنَّ جَمْعًا كَثِيرًا قَدْ سَارُوا إِلَى حَوْرَانَ لِنَهْبِهِ وَإِحْضَارِ الْمِيرَةِ، سَيَّرَ أَمِيرًا مِنْ أُمَرَائِهِ يُعْرَفُ بِشَمْسِ الْخَوَاصِّ فِي جَمْعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ خُرُوجُهُمْ فِي لَيْلَةٍ شَاتِيَةٍ كَثِيرَةِ الْمَطَرِ، وَلَقُوا الْفِرِنْجَ مِنَ الْغَدِ، فَوَاقَعُوهُمْ وَاقْتَتَلُوا، وَصَبَرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَظَفِرَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ وَقَتَلُوهُمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ غَيْرُ مُقَدِّمِهِمْ وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، وَأَخَذُوا مَا مَعَهُمْ وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ دَابَّةٍ مُوقِرَةٍ وَثَلَاثَمِائَةِ أَسِيرٍ، وَعَادُوا إِلَى دِمَشْقَ لَمْ يَمْسَسْهُمْ قَرْحٌ. فَلَمَّا عَلِمَ مَنْ عَلَيْهَا مِنَ الْفِرِنْجِ ذَلِكَ أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَرَحَلُوا عَنْهَا شِبْهَ الْمُنْهَزِمِينَ، وَأَحْرَقُوا مَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ حَمْلُهُ مِنْ سِلَاحٍ وَمِيرَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَالْمَطَرُ شَدِيدٌ وَالْبَرَدُ عَظِيمٌ، يَقْتُلُونَ كُلَّ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ، فَكَثُرَ الْقَتْلَى مِنْهُمْ، وَكَانَ نُزُولُهُمْ وَرَحِيلُهُمْ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. ذِكْرُ مُلْكِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي مَدِينَةَ حَمَاةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بْنُ آقَسُنْقَرَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ مَدِينَةَ حَمَاةَ.

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَبَرَ الْفُرَاتَ إِلَى الشَّامِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ جِهَادَ الْفِرِنْجِ، وَأَرْسَلَ إِلَى تَاجِ الْمُلُوكِ بُورِي بْنُ طُغْتِكِينَ صَاحِبِ دِمَشْقَ يَسْتَنْجِدُهُ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ الْمَعُونَةَ عَلَى جِهَادِهِمْ، فَأَجَابَ إِلَى الْمُرَادِ، وَأَرْسَلَ مَنْ أَخَذَ لَهُ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ، فَلَمَّا وَصَلَتِ التَّوْثِقَةُ جَرَّدَ عَسْكَرًا مِنْ دِمَشْقَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِهِ سُونَجَ وَهُوَ بِمَدِينَةِ حَمَاةَ، يَأْمُرُهُ بِالنُّزُولِ إِلَى الْعَسْكَرِ وَالْمَسِيرِ مَعَهُمْ إِلَى زَنْكِي، فَسَارُوا جَمِيعُهُمْ فَوَصَلُوا إِلَيْهِ، فَأَكْرَمَهُمْ، وَأَحْسَنَ لِقَاءَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ أَيَّامًا. ثُمَّ إِنَّهُ غَدَرَ بِهِمْ، فَقَبَضَ عَلَى سُونَجَ وَلَدِ تَاجِ الْمُلُوكِ وَعَلَى جَمَاعَةِ الْأُمَرَاءِ الْمُقَدَّمِينَ، وَنَهَبَ خِيَامَهُمْ وَمَا فِيهَا مِنَ الْكُرَاعِ، وَاعْتَقَلَهُمْ بِحَلَبَ، وَهَرَبَ مَنْ سِوَاهُمْ، وَسَارَ مِنْ يَوْمِهِ إِلَى حَمَاةَ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا وَهِيَ خَالِيَةً مِنَ الْجُنْدِ الْحُمَاةِ الذَّابِّينَ، فَمَلَكَهَا وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَرَحَلَ عَنْهَا إِلَى حِمْصَ، وَكَانَ صَاحِبُهَا قَرْجَانُ بْنُ قُرَاجَةَ مَعَهُ فِي عَسْكَرِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْغَدْرِ بِوَلَدِ تَاجِ الْمُلُوكِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَنَزَلَ عَلَى حِمْصَ وَحَصَرَهَا، وَطَلَبَ مِنْ قَرْجَانَ صَاحَبِهَا أَنْ يَأْمُرَ نُوَّابَهُ وَوَلَدَهُ الَّذِينَ فِيهَا بِتَسْلِيمِهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ بِالتَّسْلِيمِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَلَا الْتَفَتُوا إِلَى قَوْلِهِ، فَأَقَامَ عَلَيْهَا مُحَاصِرًا لَهَا، وَمُقَاتِلًا لِمَنْ فِيهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُلْكِهَا، فَرَحَلَ عَنْهَا عَائِدًا إِلَى الْمَوْصِلِ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ سُونَجَ بْنَ تَاجِ الْمُلُوكِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ الدِّمَشْقِيِّينَ. وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ فِي إِطْلَاقِهِمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَاجِ الْمُلُوكِ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى خَمْسِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَجَابَ تَاجُ الْمُلُوكِ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْتَظِمْ بَيْنَهُمْ أَمْرٌ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ بَيْمُنْدُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَّةَ حِصْنَ الْقَدْمُوسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا وَثَبَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ عَلَى عَبْدِ اللَّطِيفِ بْنِ الْخُجَنْدِيِّ رَئِيسِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَصْبَهَانَ، فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ ذَا رِئَاسَةٍ عَظِيمَةٍ وَتَحَكُّمٍ كَثِيرٍ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَتْحِ أَسْعَدُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ الْمِيهَنِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَاذَ، وَلَهُ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْخِلَافِ، وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيِّ، وَكَانَ لَهُ قَبُولٌ عَظِيمٌ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ وَسَائِرِ النَّاسِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَمْزَةُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّرِيفُ الْعَلَوِيُّ الْحَسَنِيُّ، النَّيْسَابُورِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَرَوَاهُ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَجَمَعَ مَعَ شَرَفِ النَّسَبِ شَرَفَ النَّفْسِ وَالتَّقْوَى، وَكَانَ زَيْدِيَّ الْمَذْهَبِ.

ثم دخلت سنة أربع وعشرين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] 524 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ مَدِينَةَ سَمَرْقَنْدَ مِنْ مُحَمَّدْ خَانْ، وَمُلْكِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدْ خَانَ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، مَلَكَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ مَدِينَةَ سَمَرْقَنْدَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ رَتَّبَ فِيهَا لَمَّا مَلَكَهَا أَوَّلًا أَرْسِلَانْ خَانْ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ بَغْرَاخَانْ دَاوُدَ، فَأَصَابَهُ فَالِجٌ فَاسْتَنَابَ ابْنًا لَهُ يُعْرَفُ بِنَصْرِخَانْ، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، وَكَانَ بِسَمَرْقَنْدَ إِنْسَانٌ عَلَوِيٌّ فَقِيهٌ مُدَرِّسٌ، إِلَيْهِ الْحَلُّ وَالْعَقْدُ وَالْحُكْمُ فِي الْبَلَدِ، فَاتَّفَقَ هُوَ وَرَئِيسُ الْبَلَدِ عَلَى قَتْلِ نَصْرِخَانْ، فَقَتَلَاهُ لَيْلًا، وَكَانَ أَبُوهُ مُحَمَّدْ خَانْ غَائِبًا، فَعَظُمَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ، وَكَانَ لَهُ ابْنٌ آخَرُ غَائِبٌ فِي بِلَادِ تُرْكِسْتَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَاسْتَدْعَاهُ، فَلَمَّا قَارَبَ سَمَرْقَنْدَ خَرَجَ الْعَلَوِيُّ وَرَئِيسُ الْبَلَدِ إِلَى اسْتِقْبَالِهِ، فَقَتَلَ الْعَلَوِيَّ فِي الْحَالِ، وَقَبَضَ عَلَى الرَّئِيسِ. وَكَانَ وَالِدُهُ أَرْسِلَانْ خَانْ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ رَسُولًا يَسْتَدْعِيهِ ; ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ابْنَهُ لَا يَتِمُّ أَمْرُهُ مَعَ الْعَلَوِيِّ وَالرَّئِيسِ، فَتَجَهَّزَ سَنْجَرُ، وَسَارَ يُرِيدُ سَمَرْقَنْدَ، فَلَمَّا ظَفِرَ ابْنُ أَرْسِلَانْ خَانْ بِهِمَا نَدَمَ عَلَى اسْتِدْعَائِهِ السُّلْطَانَ سَنْجَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يُعَرِّفُهُ أَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِالْعَلَوِيِّ وَالرَّئِيسِ، وَأَنَّهُ وَابْنَهُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَيَسْأَلُهُ الْعَوْدَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَغَضِبَ سَنْجَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَقَامَ أَيَّامًا، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الصَّيْدِ إِذْ رَأَى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فِي السِّلَاحِ التَّامِّ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ وَعَاقَبَهُمْ، فَأَقَرُّوا أَنَّ مُحَمَّدْ خَانْ أَرْسَلَهُمْ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَتَلَهُمْ ثُمَّ سَارَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ فَمَلَكَهَا عَنْوَةً، وَنَهَبَ بَعْضَهَا وَمُنِعَ مِنَ الْبَاقِي، وَتَحَصَّنَ مِنْهُ مُحَمَّدْ خَانْ بِبَعْضِ تِلْكَ الْحُصُونِ، فَاسْتَنْزَلَهُ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ بِأَمَانٍ بَعْدَ مُدَّةٍ، فَلَمَّا نَزَلَ إِلَيْهِ أَكْرَمَهُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى ابْنَتِهِ زَوْجَةِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، فَبَقِيَ عِنْدَهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ. وَأَقَامَ سَنْجَرُ بِسَمَرْقَنْدَ مُدَّةً حَتَّى أَخَذَ الْمَالَ وَالسِّلَاحَ وَالْخَزَائِنَ، وَسَلَّمَ الْبَلَدَ إِلَى

الْأَمِيرِ حَسَنْ تِكِينْ، وَعَادَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَلَمْ يَلْبَثْ حَسَنْ تِكِينْ أَنْ مَاتَ، فَمَلَّكَ سَنْجَرُ بَعْدَهُ عَلَيْهَا مَحْمُودَ بْنَ خَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقِيلَ إِنَّ السَّبَبَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَسَيَرِدُ ذِكْرُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ لِلْحَاجَةِ إِلَى ذِكْرِهِ هُنَاكَ. ذِكْرُ فَتْحِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي حِصْنَ الْأَثَارِبِ وَهَزِيمَةِ الْفِرِنْجِ لَمَّا فَرَغَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي مِنْ أَمْرِ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ - حَلَبَ وَأَعْمَالِهَا - وَلَمَّا مَلَكَهُ وَقَرَّرَ قَوَاعِدَهُ، عَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ لِيَسْتَرِيحَ عَسْكَرُهُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالتَّجَهُّزِ لِلْغُزَاةِ، فَتَجَهَّزُوا وَأَعَدُّوا وَاسْتَعَدُّوا، وَعَادَ إِلَى الشَّامِ وَقَصَدَ حَلَبَ، فَقَوِيَ عَزْمُهُ عَلَى قَصْدِ حِصْنِ الْأَثَارِبِ وَمُحَاصَرَتِهِ ; لِشِدَّةِ ضَرَرِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا الْحِصْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَلَبَ نَحْوُ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَنْطَاكِيَّةَ، وَكَانَ مَنْ بِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ يُقَاسِمُونَ حَلَبَ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِهَا الْغَرْبِيَّةِ، حَتَّى عَلَى رَحَىً لِأَهْلِ حَلَبَ بِظَاهِرِ بَابِ الْجِنَانِ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَلَدِ عَرْضُ الطَّرِيقِ، وَكَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ مَعَهُمْ فِي ضُرٍّ شَدِيدٍ وَضِيقٍ، كُلَّ يَوْمٍ قَدْ أَغَارُوا عَلَيْهِمْ وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ. فَلَمَّا رَأَى الشَّهِيدُ هَذِهِ الْحَالَ صَمَّمَ الْعَزْمَ عَلَى حَصْرِ هَذَا الْحِصْنِ، فَسَارَ إِلَيْهِ وَنَازَلَهُ. فَلَمَّا عَلِمَ الْفِرِنْجُ بِذَلِكَ جَمَعُوا فَارِسَهُمْ وَرَاجِلَهُمْ، وَعَلِمُوا أَنَّ هَذِهِ وَقْعَةٌ لَهَا مَا بَعْدَهَا، فَحَشَدُوا وَجَمَعُوا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ طَاقَتِهِمْ شَيْئًا إِلَّا اسْتَنْفَدُوهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ أَمْرِهِمْ سَارُوا نَحْوَهُ، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِيمَا يَفْعَلُ، وَكُلٌّ أَشَارَ بِالْعَوْدِ عَنِ الْحِصْنِ، فَإِنَّ لِقَاءَ الْفِرِنْجِ فِي بِلَادِهِمْ خَطَرٌ لَا يُدْرَى عَلَى أَيِ شَيْءٍ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْفِرِنْجَ مَتَّى رَأَوْنَا قَدْ عُدْنَا مِنْ أَيْدِيهِمْ طَمِعُوا وَسَارُوا فِي أَثَرِنَا، وَخَرَّبُوا بِلَادَنَا، وَلَا بُدَ مِنْ لِقَائِهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ. ثُمَّ تَرَكَ الْحِصْنَ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ، فَالْتَقَوْا وَاصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ، وَصَبَرَ كُلُّ فَرِيقٍ لِخَصْمِهِ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَظَفِرُوا

وَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَوَقَعَ كَثِيرٌ مِنْ فُرْسَانِهِمْ فِي الْأَسْرِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَتَقَدَّمَ عِمَادُ الدِّينِ إِلَى عَسْكَرِهِ بِالْإِنْجَازِ، وَقَالَ: هَذَا أَوَّلُ مَصَافٍّ عَمِلْنَاهُ مَعَهُمْ، فَلْنُذِقْهُمْ مِنْ بَأْسِنَا مَا يَبْقَى رُعْبُهُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ، وَلَقَدِ اجْتَزْتُ بِتِلْكَ الْأَرْضِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ لَيْلًا، فَقِيلَ لِي: إِنَّ كَثِيرًا مِنِ الْعِظَامِ بَاقٍ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ. فَلَمَّا فَرَغَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ظَفَرِهِمْ عَادُوا إِلَى الْحِصْنِ فَتَسَلَّمُوهُ عَنْوَةً، وَقَتَلُوا وَأَسَرُوا كُلَّ مَنْ فِيهِ، وَأَخْرَبَهُ عِمَادُ الدِّينِ وَجَعَلَهُ دَكًّا، وَبَقِيَ إِلَى الْآنَ خَرَابًا، ثُمَّ سَارَ مِنْهُ إِلَى قَلْعَةِ حَارِمٍ، وَهِيَ بِالْقُرْبِ مِنْ أَنْطَاكِيَّةَ، فَحَصَرَهَا وَهِيَ أَيْضًا لِلْفِرِنْجِ، فَبَذَلَ لَهُ أَهْلُهَا نِصْفَ دَخْلِ بَلَدِ حَارِمٍ وَهَادَنُوهُ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَعَادَ عَنْهُمْ وَقَدِ اسْتَدَارَ الْمُسْلِمُونَ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَضَعُفَتْ قُوَى الْكَافِرِينَ، وَعَلِمُوا أَنَّ الْبِلَادَ قَدْ جَاءَهَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابٍ، وَصَارَ قُصَارَاهُمْ حِفْظَ مَا بِأَيْدِيهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَدْ طَمِعُوا فِي مُلْكِ الْجَمِيعِ. ذِكْرُ مُلْكِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي أَيْضًا مَدِينَةَ سَرْجِي وَدَارًا لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ الْأَثَارِبِ وَتِلْكَ النَّوَاحِي عَادَ إِلَى دِيَارِ الْجَزِيرَةِ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ عَنْ حُسَامِ الدِّينْ تَمْرُتَاشَ بْنِ إِيلْغَازِي صَاحِبِ مَارِدِينَ، وَابْنِ عَمِّهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ دَاوُدَ بْنِ سَقْمَانَ صَاحِبِ حِصْنِ كِيفَا، قَوَارِصَ، فَعَادَ إِلَيْهِمْ وَحَصَرَ مَدِينَةَ سَرْجِي، وَهِيَ بَيْنَ مَارِدِينَ وَنَصِيبِينَ، فَاجْتَمَعَ حُسَامُ الدِّينِ وَرُكْنُ الدَّوْلَةِ وَصَاحِبُ آمِدَ وَغَيْرُهُمْ، وَجَمَعُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ التُّرْكُمَانِ بَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَسَارُوا إِلَيْهِ، فَتَصَافُّوا بِتِلْكَ النَّوَاحِي، فَهَزَمَهُمْ عِمَادُ الدِّينِ وَمَلَكَ سَرْجِي. فَحَكَى لِي وَالِدِي قَالَ: لَمَّا انْهَزَمَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ دَاوُدُ قَصَدَ بَلَدَ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ وَنَهَبَهُ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ، فَسَارَ نَحْوَ الْجَزِيرَةِ، وَأَرَادَ دُخُولَ بَلَدٍ دَاوُدَ، ثُمَّ عَادَ لِضِيقِ مَسَالِكِهِ وَخُشُونَةِ الْجِبَالِ الَّتِي فِي الطَّرِيقِ، وَسَارَ إِلَى

دَارَا فَمَلَكَهَا، وَهِيَ مِنِ الْقِلَاعِ فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْآمِرِ، وَخِلَافَةِ الْحَافِظِ الْعَلَوِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَانِي ذِي الْقَعْدَةِ، قُتِلَ الْآمِرُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْمُسْتَعْلِي الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ مِصْرَ، خَرَجَ إِلَى مُنْتَزَهٍ لَهُ، فَلَمَّا عَادَ وَثَبَ عَلَيْهِ الْبَاطِنِيَّةُ فَقَتَلُوهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ سَيِّئَ السِّيرَةِ فِي رَعِيَّتِهِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَعُمْرُهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ وَلَدِ الْمَهْدِيِّ عُبَيْدِ اللَّهِ الَّذِي ظَهَرَ بِسِجِلْمَاسَةَ وَبَنَى الْمَهْدِيَّةَ بِإِفْرِيقِيَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا الْعَاشِرُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْعَلَوِيِّينَ مِنْ أَوْلَادِ الْمَهْدِيِّ أَيْضًا. وَلَمَّا قُتِلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَهُ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُ عَمِّهِ الْمَيْمُونُ عَبْدُ الْمَجِيدِ ابْنُ الْأَمِيرِ الْقَاسِمِ بْنِ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ، وَلَمْ يُبَايَعْ بِالْخِلَافَةِ وَإِنَّمَا بُويِعَ لَهُ لِيَنْظُرَ فِي الْأَمْرِ نِيَابَةً، حَتَّى يُكْشَفَ عَنْ حَمْلٍ إِنْ كَانَ لِلْآمِرِ فَتَكُونُ الْخِلَافَةُ فِيهِ، وَيَكُونُ هُوَ نَائِبًا عَنْهُ. وَمَوْلِدُ الْحَافِظِ بِعَسْقَلَانَ، لِأَنَّ أَبَاهُ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ إِلَيْهَا فِي الشِّدَّةِ فَأَقَامَ بِهَا، فَوُلِدَ ابْنَهُ عَبْدُ الْمَجِيدِ هُنَاكَ، وَلَمَّا وَلِيَ اسْتَوْزَرَ أَبَا عَلِيٍّ أَحْمَدَ بْنَ الْأَفْضَلِ بْنِ بَدْرٍ الْجَمَالِيِّ، وَاسْتَبَدَّ بِالْأَمْرِ، وَتَغَلَّبَ عَلَى الْحَافِظِ وَحَجَرَ عَلَيْهِ، وَأَوْدَعَهُ فِي خِزَانَةٍ، وَلَا يَدْخُلُ إِلَيْهِ إِلَّا مَنْ يُرِيدُهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَبَقِيَ الْحَافِظُ لَهُ اسْمٌ لَا مَعْنًى تَحْتَهُ، وَنَقَلَ أَبُو عَلِيٍّ كُلَّ مَا كَانَ فِي الْقَصْرِ إِلَى دَارِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ قُتِلَ أَبُو عَلِيٍّ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ [وَخَمْسِمَائَةٍ] فَاسْتَقَامَتْ أُمُورُ الْحَافِظِ، وَحَكَمَ فِي دَوْلَتِهِ، وَتَمَكَّنَ مِنْ وِلَايَتِهِ وَبِلَادِهِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَتِ الْخَاتُونُ ابْنَةُ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَهِيَ زَوْجَةُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ. وَفِيهَا قُتِلَ بَيْمُنْدُ الْفِرِنْجِيُّ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَّةَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ نَصِيرُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ بْنَ نِظَامِ الْمُلْكِ فِي شَعْبَانَ بِبَغْدَاذَ، وَوَقَعَ الْحَرِيقُ فِي دَارِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَفِي حَظَائِرَ الْحَطَبِ وَالسُّوقِ التُّتُشِيِّ، فَذَهَبَ مِنَ النَّاسِ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ. وَفِيهَا وَزَرَ الرَّئِيسُ أَبُو الذُّوَادِ الْمُفَرِّجُ بْنُ الْحَسَنِ بْنُ الصُّوفِيِّ لِصَاحِبِ دِمَشْقَ تَاجِ الْمُلُوكِ. وَفِيهَا كَانَ الرَّصْدُ بِالدَّارِ السُّلْطَانِيَّةِ شَرْقَيْ بَغْدَاذَ، تَوَلَّاهُ الْبَدِيعُ الْإِصْطِرْلَابِيُّ، وَلَمْ يَتِمَّ. وَفِيهَا بِبَغْدَاذَ عَقَارِبُ طَيَّارَةٌ ذَوَاتُ شَوْكَتَيْنِ، فَنَالَ النَّاسَ مِنْهَا خَوْفٌ شَدِيدٌ وَأَذًى عَظِيمٌ. وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، خَرَجَ الْمَلِكُ مَسْعُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُرَاسَانَ، وَكَانَ عِنْدَ عَمِّهِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَوَصَلَ إِلَى سَاوَةَ، وَوَقَعَ الْإِرْجَافُ أَنَّ عَزْمَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ قَوِيٌّ، وَأَنَّ عَمَّهُ سَنْجَرَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَاسْتَشْعَرَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ، وَسَارَ

عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى هَمَذَانَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى كَرْمَانْشَاهَانَ وَصَلَ إِلَيْهِ أَخُوهُ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ وَخَدَمَهُ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْإِرْجَافِ أَثَرٌ، فَأَقْطَعُهُ السُّلْطَانُ مَدِينَةً كَنْجَةَ وَأَعْمَالَهَا وَسَيَّرَهُ إِلَيْهَا. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، بِالْعِرَاقِ، وَبَلَدِ الْجَبَلِ، وَالْمَوْصِلِ، وَالْجَزِيرَةِ، فَخَرَّبَتْ كَثِيرًا. وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ قَلْعَةَ أَلَمَوْتَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو إِسْحَاقَ الْغَزِّيُّ مِنْ أَهْلِ غَزَّةَ، مَدِينَةٍ بِفِلَسْطِينَ مِنَ الشَّامِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهُوَ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمُجِيدِينَ، فَمِنْ قَوْلِهِ مِنْ قَصِيدَةٍ يَصِفُ فِيهَا الْأَتْرَاكَ: فِي فِتْيَةٍ مِنْ جُيُوشِ التُّرْكِ مَا تَرَكَتْ ... لِلرَّعْدِ كَرَّاتُهُمْ صَوْتًا وَلَا صِيتًا قَوْمٌ إِذَا قُوبِلُوا كَانُوا مَلَائِكَةً ... حُسْنًا وَإِنْ قُوتِلُوا كَانُوا عَفَارِيَتَا وَلَهُ فِي الزُّهْدِ: إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ مَتَاعٌ ... وَالسَّفِيهُ الْغَوِيُّ مَنْ يَصْطَفِيهَا مَا مَضَى فَاتَ وَالْمُؤَمَّلُ غَيْبٌ ... وَلَكَ السَّاعَةُ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا

وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّبَّاسُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّحْوِيُّ الشَّاعِرُ، الْمَعْرُوفُ بِالْبَارِعِ، أَخُو أَبِي الْكَرَمِ بْنِ فَاخِرٍ النَّحْوِيِّ لِأُمِّهِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَلَهُ شِعْرٌ مَلِيحٌ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ: رُدِّي عَلَيَّ الْكَرَى ثُمَّ اهْجُرِي سَكَنِي ... فَقَدْ قَنَعْتُ بِطَيْفٍ مِنْكِ فِي الْوَسَنِ لَا تَحْسَبِي النَّوْمَ قَدْ أَوْشَكْتُ أَطْلُبُهُ ... إِلَّا رَجَاءَ خَيَالٍ مِنْكِ يُؤْنِسُنِي تَرَكْتِنِي وَالْهَوَى فَرْدًا أُغَالِبُهُ ... وَنَامَ لَيْلُكِ عَنْ هَمٍّ يُؤَرِّقُنِي وَهِيَ طَوِيلَةٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَا بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو سَعْدٍ الْمِهْرَانِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ مُحَدِّثًا حَافِظًا صَالِحًا.

ثم دخلت سنة خمس وعشرين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] (525) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ أَسْرِ دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ وَتَسْلِيمِهِ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ، أَسَرَ تَاجُ الْمُلُوكِ بُورِي بْنُ طُغْتِكِينَ صَاحِبُ دِمَشْقَ، الْأَمِيرَ دُبَيْسَ بْنَ صَدَقَةَ صَاحِبَ الْحِلَّةِ، وَسُلَّمَهُ إِلَى أَتَابَكِ الشَّهِيدِ زَنْكِي بْنِ آقَسُنْقَرَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا فَارَقَ الْبَصْرَةَ - عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ - جَاءَهُ قَاصِدٌ مِنَ الشَّامِ مِنْ صَرْخَدَ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهَا ; لِأَنَّ صَاحِبَهَا كَانَ خَصِيًّا، فَتُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ، وَخَلَّفَ جَارِيَةً سُرِّيَّةً لَهُ، فَاسْتَوْلَتْ عَلَى الْقَلْعَةِ وَمَا فِيهَا، وَعَلِمَتْ أَنَّهَا لَا يَتِمُّ لَهَا ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ تَتَّصِلَ بِرَجُلٍ لَهُ قُوَّةٌ وَنَجْدَةٌ، فَوُصِفَ لَهَا دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ وَكَثْرَةُ عَشِيرَتِهِ، وَذُكِرَ لَهَا حَالَهُ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ بِالْعِرَاقِ، فَأَرْسَلَتْ تَدْعُوهُ إِلَى صَرْخَدَ لِتَتَزَوَّجَ بِهِ، وَتُسَلِّمَ الْقَلْعَةَ وَمَا فِيهَا مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ إِلَيْهِ. فَأَخَذَ الْأَدِلَّاءِ مَعَهُ، وَسَارَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ، فَضَلَّ بِهِ الْأَدِلَّاءُ بِنَوَاحِي دِمَشْقَ، فَنَزَلَ بِنَاسٍ مِنْ كَلْبٍ شَرْقِيَّ الْغُوطَةِ، فَأَخَذُوهُ وَحَمَلُوهُ إِلَى تَاجِ الْمُلُوكِ صَاحِبِ دِمَشْقَ، فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ. وَسَمِعَ أَتَابَكْ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي الْخَبَرَ، وَكَانَ دُبَيْسٌ يَقَعُ فِيهِ وَيَنَالُ مِنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى تَاجِ الْمُلُوكِ يَطْلُبُ مِنْهُ دُبَيْسًا لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ وَيُطْلِقَ وَلَدَهُ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْمَأْسُورِينَ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ وَحَصَرَهَا وَخَرَّبَهَا، وَنَهَبَ بَلَدَهَا، فَأَجَابَ تَاجُ الْمُلُوكِ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ أَتَابَكْ سُونَجَ بْنَ تَاجِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءَ الَّذِينَ مَعَهُ، وَأَرْسَلَ تَاجُ الْمُلُوكِ دُبَيْسًا، فَأَيْقَنَ دُبَيْسٌ بِالْهَلَاكِ، فَفَعَلَ زَنْكِي مَعَهُ خِلَافَ مَا

ظَنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَحَمَلَ لَهُ الْأَقْوَاتَ وَالسِّلَاحَ وَالدَّوَابَّ وَسَائِرَ أَمْتِعَةِ الْخَزَائِنِ، وَقَدَّمَهُ حَتَّى عَلَى نَفْسِهِ، وَفَعَلَ مَعَهُ مَا يَفْعَلُ أَكَابِرُ الْمُلُوكِ. وَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ بِقَبْضِهِ بِدِمَشْقَ أَرْسَلَ سَدِيدَ الدَّوْلَةِ بْنَ الْأَنْبَارِيِّ وَأَبَا بَكْرِ بْنَ بِشْرٍ الْجَزَرِيَّ مِنْ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ إِلَى تَاجِ الْمُلُوكِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُسَلِّمَ دُبَيْسًا إِلَيْهِ لِمَا كَانَ مُتَحَقَّقًا بِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْخَلِيفَةِ، فَسَمِعَ سَدِيدُ الدَّوْلَةِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِتَسَلُّمِهِ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ، فَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ وَلَمْ يَرْجِعْ، وَذَمَّ أَتَابَكْ زَنْكِي بِدِمَشْقَ وَاسْتَخَفَّ بِهِ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ عِمَادَ الدِّينِ، فَأَرْسَلَ إِلَى طَرِيقِهِ مَنْ يَأْخُذُهُ إِذَا عَادَ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ دِمَشْقَ قَبَضُوا عَلَيْهِ وَعَلَى ابْنِ بِشْرٍ، وَحَمَلُوهُمَا إِلَيْهِ، فَأَمَّا ابْنُ بِشْرٍ فَأَهَانَهُ وَجَرَى فِي حَقِّهِ مَكْرُوهٌ، وَأَمَّا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فَسَجَنَهُ. ثُمَّ إِنَّ الْمُسْتَرْشِدَ بِاللَّهِ شَفَعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ، وَلَمْ يَزَلْ دُبَيْسٌ مَعَ زَنْكِي حَتَّى انْحَدَرَ مَعَهُ إِلَى الْعِرَاقِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ وَفَاةِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ وَمُلْكِ ابْنِهِ دُوَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالٍ تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مَحْمُودُ ابْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ بِهَمَذَانَ، وَكَانَ قَبْلَ مَرَضِهِ قَدْ خَافَ وَزِيرُهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْسَابَاذِيُّ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَأَعْيَانِ الدَّوْلَةِ، وَمِنْهُمْ: عَزِيزُ الدِّينِ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ حَامِدٍ الْمُسْتَوْفِي، وَالْأَمِيرُ أَنُوشْتُكِينَ الْمَعْرُوفُ بِشِيرْكِيرْ، وَوَلَدُهُ عُمَرُ، وَهُوَ أَمِيرُ حَاجِبِ السُّلْطَانِ، وَغَيْرُهُمْ، فَأَمَّا عَزِيزُ الدِّينِ فَأَرْسَلَهُ مَقْبُوضًا عَلَيْهِ إِلَى مُجَاهِدِ الدِّينِ بَهْرُوزَ بِتَكْرِيتَ، ثُمَّ قُتِلَ بِهَا، وَأَمَّا شِيرْكِيرْ وَوَلَدُهُ فَقُتِلَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ مَرِضَ وَتُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ، وَأُقْعِدَ وَلَدَهُ دُوَادُ فِي السَّلْطَنَةِ بِاتِّفَاقٍ مِنَ الْوَزِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ، وَأَتَابَكِهِ آقَسُنْقَرَ الْأَحْمَدِيلِيِّ، وَخُطِبَ لَهُ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْجَبَلِ وَأَذْرَبِيجَانَ، وَوَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِهَمَذَانَ وَسَائِرِ بِلَادِ الْجَبَلِ، ثُمَّ سَكَنَتْ، فَلَمَّا اطْمَأَنَّ النَّاسُ وَسَكَنُوا سَارَ الْوَزِيرُ بِأَمْوَالِهِ إِلَى الرَّيِّ، فَأَمِنَ فِيهَا حَيْثُ هِيَ لِلسُّلْطَانِ سَنْجَرَ. وَكَانَ عُمْرُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ لَمَّا تُوُفِّيَ نَحْوَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ

لِلسَّلْطَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا عَاقِلًا، يَسْمَعُ مَا يَكْرَهُ وَلَا يُعَاقِبُ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ، قَلِيلَ الطَّمَعِ فِي أَمْوَالِ الرَّعَايَا عَفِيفًا عَنْهَا، كَافًّا لِأَصْحَابِهِ عَنِ التَّطَرُّقِ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَ الْبَاطِنِيَّةُ بِتَاجِ الْمُلُوكِ بُورِي بْنِ طُغْتِكِينَ صَاحِبِ دِمَشْقَ، فَجَرَحُوهُ جُرْحَيْنِ، فَبَرَأَ أَحَدُهُمَا، وَتَنَسَّرَ الْآخَرُ، وَبَقِيَ فِيهِ أَلَمُهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَجْلِسُ لِلنَّاسِ وَيَرْكَبُ مَعَهُمْ عَلَى ضَعْفٍ فِيهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ أَخُو الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ فِي رَجَبٍ. وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ سَلْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْوَاعِظُ مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَاذَ، وَأَصْلُهُ مِنَ الزَّوَزَانِ. وَالْخَطِيبُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الطُّوسِيِّ، خَطِيبُ الْمَوْصِلِ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَحَمَّادُ بْنُ مُسْلِمٍ الدَّبَّاسُ الرَّحْبِيُّ الزَّاهِدُ الْمَشْهُورُ، صَاحِبُ الْكِرْمَاتِ، وَسَمِعَ

الْحَدِيثَ، لَهُ أَصْحَابٌ وَتَلَامِذَةٌ كَثِيرُونَ سَارُوا، وَرَأَيْتُ الشَّيْخَ أَبَا الْفَرَجِ بْنَ الْجَوْزِيِّ قَدْ ذَمَّهُ وَثَلَبَهُ، وَلِهَذَا الشَّيْخِ أُسْوَةٌ بِغَيْرِهِ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ قَدْ صَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ تَلْبِيسَ إِبْلِيسَ لَمْ يُبْقِ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ سَادَةِ الْمُسْلِمِينَ وَصَالِحِيهِمْ. وَهِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الْحُصَيْنِ الشَّيْبَانِيُّ الْكَاتِبُ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، سَمِعَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ الْمُهَذَّبِ، وَأَبَا طَالِبِ بْنَ غَيْلَانَ، وَغَيْرَهُمَا، وَهُوَ رَاوِي " مُسْنَدِ " أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْغَيْلَانِيَّاتِ " وَغَيْرِهِمَا. وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو غَالِبٍ الْمَاوَرْدِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ بِالْبَصْرَةِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَرَوَى سُنَنَ أَبِي دُوَادَ السِّجِسْتَانَيِّ، وَكَانَ صَالِحًا.

ثم دخلت سنة ست وعشرين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] (526) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي عَلِيٍّ وَزِيرِ الْحَافِظِ، وَوِزَارَةِ يَانِسَ وَمَوْتِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ قُتِلَ الْأَفْضَلُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْأَفْضَلِ بْنِ بَدْرٍ الْجَمَالِيُّ وَزِيرُ الْحَافِظِ لِدِينِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ. وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ قَدْ حَجَرَ عَلَى الْحَافِظِ، وَمَنَعَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ، قَلِيلٍ أَوْ جَلِيلٍ، وَأَخَذَ مَا فِي قَصْرِ الْخِلَافَةِ إِلَى دَارِهِ، وَأَسْقَطَ مِنَ الدُّعَاءِ ذِكْرَ إِسْمَاعِيلَ الَّذِي هُوَ جَدُّهُمْ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ، وَأَسْقَطَ مِنَ الْأَذَانِ حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَلَمْ يَخْطُبْ لِلْحَافِظِ، وَأَمَرَ الْخُطَبَاءَ أَنْ يَخْطُبُوا لَهُ بِأَلْقَابٍ كَتَبَهَا لَهُمْ، وَهِيَ: السَّيِّدُ الْأَفْضَلُ الْأَجَلُّ، سَيِّدُ مَمَالِيكِ أَرْبَابِ الدُّوَلِ، وَالْمُحَامِي عَنْ حَوْزَةِ الدِّينِ، وَنَاشِرُ جَنَاحِ الْعَدْلِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْأَقْرَبِينَ وَالْأَبْعَدِينَ، نَاصِرُ إِمَامِ الْحَقِّ فِي حَالَتَيْ غَيْبَتِهِ وَحُضُورِهِ، وَالْقَائِمُ بِنُصْرَتِهِ بِمَاضِي سَيْفِهِ وَصَائِبِ رَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ، أَمِينُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَهَادِي الْقُضَاةِ إِلَى اتِّبَاعِ شَرْعِ الْحَقِّ وَاعْتِمَادِهِ، وَمُرْشِدُ دُعَاةِ الْمُؤْمِنِينَ بِوَاضِحِ بَيَانِهِ وَإِرْشَادِهِ، مَوْلَى النِّعَمِ، وَرَافِعُ الْجَوْرِ عَنِ الْأُمَمِ، وَمَالِكُ فَضِيلَتَيِ السَّيْفِ وَالْقَلَمِ، أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدُ السَّيِّدُ الْأَجَلُّ الْأَفْضَلُ، شَاهِنْشَاهْ أَمِيرُ الْجُيُوشِ. وَكَانَ إِمَامِيَّ الْمَذْهَبِ، يُكْثِرُ ذَمَّ الْآمِرِ، وَالتَّنَاقُصَ بِهِ، فَنَفَرَتْ مِنْهُ شِيعَةُ الْعَلَوِيِّينَ وَمَمَالِيكُهُمْ وَكَرِهُوهُ، وَعَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَخَرَجَ فِي الْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى الْمَيْدَانِ يَلْعَبُ بِالْكُرَةِ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَكَمَنَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مَمْلُوكٌ فِرِنْجِيٌّ كَانَ لِلْحَافِظِ، فَخَرَجُوا عَلَيْهِ، فَحَمَلَ الْفِرِنْجِيُّ عَلَيْهِ، فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ، وَحَزُّوا رَأَسَهُ، وَخَرَجَ الْحَافِظُ مِنَ الْخِزَانَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَنَهَبَ النَّاسُ دَارَ أَبِي عَلِيٍّ، وَأُخِذَ مِنْهَا مَا لَا

يُحْصَى، وَرَكِبَ النَّاسُ وَالْحَافِظُ إِلَى دَارِهِ، فَأَخَذَ مَا بَقِيَ فِيهَا، وَحَمَلَهُ إِلَى الْقَصْرِ. وَبُويِعَ يَوْمَئِذٍ الْحَافِظُ بِالْخِلَافَةِ، وَكَانَ قَدْ بُويِعَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَأَنْ يَكُونَ كَافِلًا لِحَمْلٍ إِنْ كَانَ لِلْآمِرِ، فَلَمَّا بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ اسْتَوْزَرَ أَبَا الْفَتْحِ يَانِسَ الْحَافِظِيَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ، وَلُقِّبَ أَمِيرَ الْجُيُوشِ، وَكَانَ عَظِيمَ الْهَيْبَةِ، بَعِيدَ الْغَوْرِ، كَثِيرَ الشَّرِّ، فَخَافَهُ الْحَافِظُ عَلَى نَفْسِهِ، وَتَخَيَّلَ مِنْهُ يَانِسَ فَاحْتَاطَ، وَلَمْ يَأْكُلْ عِنْدَهُ شَيْئًا وَلَا شَرِبَ، فَاحْتَالَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ بِأَنْ وَضَعَ لَهُ فَرَّاشُهُ فِي بَيْتِ الطَّهَارَةِ مَاءً مَسْمُومًا فَاغْتَسَلَ بِهِ، فَوَقَعَ الدُّودُ فِي سُفْلِهِ، وَقِيلَ لَهُ: مَتَى قُمْتَ مِنْ مَكَانِكَ هَلَكْتَ، فَكَانَ يُعَالَجُ بِأَنْ يُجْعَلَ اللَّحْمُ الطَّرِيُّ فِي الْمَحَلِّ، فَيَعْلَقُ بِهِ الدُّودُ فَيَخْرُجُ وَيُجْعَلُ عِوَضَهُ، فَقَارَبَ الشِّفَاءَ، فَقِيلَ لِلْحَافِظِ: إِنَّهُ قَدْ صَلُحَ، وَإِنْ تَحَرَّكَ هَلَكَ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ الْحَافِظُ كَأَنَّهُ يَعُودُهُ، فَقَامَ لَهُ وَمَشَى إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ، وَقَعَدَ الْحَافِظُ عِنْدَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَتُوُفِّيَ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَلَمَّا مَاتَ يَانِسَ اسْتَوْزَرَ الْحَافِظُ ابْنَهُ حَسَنًا، وَخَطَبَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَسَيَرِدُ ذِكْرُ قَتْلِهِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ [وَخَمْسِمَائَةٍ] . وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ أَلْقَابَ أَبِي عَلِيٍّ تَعَجُّبًا مِنْهَا وَمِنْ حَمَاقَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَإِنَّ وَزِيرَ صَاحِبِ مِصْرَ وَحْدَهَا إِذَا كَانَ هَكَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَزِيرُ السَّلَاطِينِ السَّلْجُوقِيَّةِ كَنِظَامِ الْمُلْكِ وَغَيْرِهِ، يَدَّعُونَ الرُّبُوبِيَّةَ، عَلَى أَنَّ تُرْبَةَ مِصْرَ هَكَذَا تُوَلِّدُ، أَلَا تَرَى إِلَى فِرْعَوْنَ يَقُولُ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] وَإِلَى أَشْيَاءَ أُخَرَ لَا نُطِيلُ ذِكْرَهَا. ذِكْرُ حَالِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، وَالْمَلِكَيْنِ سَلْجُوقْشَاهْ وَدَاوُدَ، وَاسْتِقْرَارِ السَّلْطَنَةِ بِالْعِرَاقِ لِمَسْعُودٍ لَمَّا تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مَحْمُودُ ابْنُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَخُطِبَ بِبِلَادِ الْجَبَلِ وَأَذْرَبِيجَانَ لِوَلَدِهِ الْمَلِكِ دَاوُدَ - عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ - سَارَ الْمَلِكُ دَاوُدُ مِنْ هَمَذَانَ فِي ذِي

الْقَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسِينَ وَعِشْرِينَ [وَخَمْسِمَائَةٍ] إِلَى زَنْجَانَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ أَنَّ عَمَّهُ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا قَدْ سَارَ مِنْ جُرْجَانَ، وَوَصَلَ إِلَى تَبْرِيزَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، فَسَارَ الْمَلِكُ دَاوُدُ إِلَيْهِ وَحَصَرَهُ بِهَا، وَجَرَى بَيْنَهُمَا قِتَالٌ إِلَى سَلْخِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ [وَخَمْسِمَائَةٍ] ثُمَّ اصْطَلَحَا. وَتَأَخَّرَ الْمَلِكُ دَاوُدُ مَرْحَلَةً، وَخَرَجَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ مِنْ تَبْرِيزَ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ، وَسَارَ إِلَى هَمَذَانَ، وَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الْخُطْبَةَ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَتْ رُسُلُ الْمَلِكِ دَاوُدَ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي طَلَبِ الْخُطْبَةِ، فَأَجَابَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْخُطْبَةِ إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، مَنْ أَرَادَ خَطَبَ لَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانُ سَنْجَرُ أَنْ لَا يَأْذَنَ لِأَحَدٍ فِي الْخُطْبَةِ ;فَإِنَّ الْخُطْبَةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لَهُ وَحْدَهُ، فَوَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ مَوْقِعًا حَسَنًا. ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا كَاتَبَ عِمَادَ الدِّينِ زَنْكِي صَاحِبَ الْمَوْصِلِ وَغَيْرِهَا يَسْتَنْجِدُهُ، وَيَطْلُبُ مُسَاعَدَتَهُ، فَوَعَدَهُ النَّصْرَ، فَقَوِيَتْ بِذَلِكَ نَفْسُ مَسْعُودٍ عَلَى طَلَبِ السَّلْطَنَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ سَلْجُوقْشَاهَ ابْنَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ سَارَ أَتَابَكُهُ قُرَاجَةُ السَّاقِي صَاحِبُ فَارِسَ وَخُوزِسْتَانَ، فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ إِلَى بَغْدَاذَ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا قَبْلَ وُصُولِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، وَنَزَلَ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، وَأَكْرَمَهُ الْخَلِيفَةُ وَاسْتَحْلَفَهُ لِنَفْسِهِ. ثُمَّ وَصَلَ رَسُولُ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ يَطْلُبُ الْخُطْبَةَ، وَيَتَهَدَّدُ إِنْ مُنِعَهَا، فَلَمْ يُجَبْ إِلَى مَا طَلَبَهُ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ عَبَّاسِيَّةَ الْخَالِصِ، وَبَرَزَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ وَعَسْكَرُ سَلْجُوقْشَاهْ وَقُرَاجَةَ السَّاقِي نَحْوَ مَسْعُودٍ إِلَى أَنْ يَفْرَغَ مِنْ حَرْبِ أَتَابَكْ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي، وَسَارَ يَوْمًا وَلَيْلَةً إِلَى الْمَعْشُوقِ، وَوَاقَعَ عِمَادَ الدِّينِ زَنْكِي فَهَزَمَهُ، وَأَسَرَ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَسَارَ زَنْكِي مُنْهَزِمًا إِلَى تَكْرِيتَ، فَعَبَرَ فِيهَا دِجْلَةَ، وَكَانَ الدَّزْدَارَ بِهَا حِينَئِذٍ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ، فَأَقَامَ لَهُ الْمَعَابِرَ، فَلَمَّا عَبَرَ أَمِنَ الطَّلَبَ، وَسَارَ إِلَى بِلَادِهِ لِإِصْلَاحِ حَالِهِ وَحَالِ رِجَالِهِ، وَهَذَا الْفِعْلُ مِنْ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ كَانَ سَبَبًا لِاتِّصَالِهِ بِهِ وَالْمَصِيرِ

فِي جُمْلَتِهِ، حَتَّى آلَ بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى مُلْكِ مِصْرَ وَالشَّامِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَأَمَّا السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ فَإِنَّهُ سَارَ مِنَ الْعَبَّاسِيَّةِ إِلَى الْمَلَكِيَّةِ، وَوَقَعَتِ الطَّلَائِعُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَمْ تَزَلِ الْمُنَاوَشَةُ تَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ سَلْجُوقْشَاهْ يَوْمَيْنِ. وَأَرْسَلَ سَلْجُوقْشَاهْ إِلَى قُرَاجَةَ يَسْتَحِثُّهُ عَلَى الْمُبَادَرَةِ، فَعَادَ سَرِيعًا، وَعَبَرَ دِجْلَةَ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَلَمَّا عَلِمَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ بِانْهِزَامِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي رَجَعَ إِلَى وَرَائِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعَرِّفُهُ وُصُولَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ إِلَى الرَّيِّ، وَأَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى قَصْدِ الْخَلِيفَةِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ نَتَّفِقَ عَلَى قِتَالِهِ وَدَفْعِهِ عَنِ الْعِرَاقِ، وَيَكُونُ الْعِرَاقُ لِوَكِيلِ الْخَلِيفَةِ، فَأَنَا مُوَافِقٌ عَلَى ذَلِكَ. فَأَعَادَ الْخَلِيفَةُ الْجَوَابَ يَسْتَوْقِفُهُ. وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ فِي الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعِرَاقُ لِوَكِيلِ الْخَلِيفَةِ، وَتَكُونَ السَّلْطَنَةُ لِمَسْعُودٍ، وَيَكُونُ سَلْجُوقْشَاهْ وَلِيَّ عَهْدِهِ، وَتَحَالَفُوا عَلَى ذَلِكَ، وَعَادَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ إِلَى بَغْدَاذَ، فَنَزَلَ بِدَارِ السُّلْطَانِ، وَنَزَلَ سَلْجُوقْشَاهْ فِي دَارٍ الشِّحْنَكِيَّةِ، وَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي جُمَادَى الْأُولَى. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَعَمِّهِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ لَمَّا تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ سَارَ سَنْجَرُ إِلَى بِلَادِ الْجِبَالِ وَمَعَهُ الْمَلِكُ طُغْرُلُ ابْنُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ عِنْدَهُ قَدْ لَازَمَهُ، فَوَصَلَ إِلَى الرَّيِّ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى هَمَذَانَ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ وَالسُّلْطَانِ مَسْعُودٍ بِوُصُولِهِ إِلَى هَمَذَانَ، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قِتَالِهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ مَعَهُمْ، وَتَجَهَّزَ الْخَلِيفَةُ، فَتَقَدَّمَ قُرَاجَةُ السَّاقِي وَالسُّلْطَانُ مَسْعُودٌ وَسَلْجُوقْشَاهْ نَحْوَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَتَأَخَّرَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ عَنِ الْمَسِيرِ مَعَهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى قُرَاجَةَ، وَأَلْزَمَهُ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَخَافُ مِنْ سَنْجَرَ آجِلًا أَنَا أَفْعَلُهُ عَاجِلًا. فَبَرَزَ حِينَئِذٍ وَسَارَ عَلَى تَرَيُّثٍ وَتَوَقُّفٍ إِلَى أَنْ بَلَغَ إِلَى خَانِقِينَ وَأَقَامَ بِهَا. وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ سَنْجَرَ مِنِ الْعِرَاقِ جَمِيعِهِ، وَوَصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِوُصُولِ عِمَادِ الدِّينِ

زَنْكِي، وَدُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ إِلَى قُرَيْبِ بَغْدَاذَ، فَأَمَّا دُبَيْسٌ فَإِنَّهُ ذُكِرَ أَنَّ السُّلْطَانَ سَنْجَرَ أَقْطَعَهُ الْحِلَّةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ يَضْرَعُ، وَيَسْأَلُ الرِّضَا عَنْهُ، فَامْتَنَعَ مِنْ إِجَابَتِهِ إِلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي فَإِنَّهُ ذُكِرَ أَنَّ السُّلْطَانَ سَنْجَرَ قَدْ أَعْطَاهُ شِحْنَكِيَّةِ بَغْدَاذَ، فَعَادَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَمَرَ أَهْلَهَا بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْمُدَافِعَةِ عَنْهَا، وَجَنَّدَ أَجْنَادًا جَعَلَهُمْ مَعَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا وَصَلَ إِلَى دَادْمَرْجَ، فَلَقِيَهُمْ طَلَائِعُ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ فَتَأَخَّرَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ إِلَى كَرْمَانْشَاهَانَ، وَنَزَلَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ فِي أَسَدَابَاذَ فِي مِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ، فَسَارَ مَسْعُودٌ وَأَخُوهُ سَلْجُوقْشَاهْ إِلَى جَبَلَيْنِ يُقَالُ لَهُمَا: كَاوٍ، وَمَاهِي، فَنَزَلَا بَيْنَهُمَا، وَنَزَلَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ كِنْكَوْرَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِانْحِرَافِهِمْ أَسْرَعَ فِي طَلَبِهِمْ، فَرَجَعُوا إِلَى وَرَائِهِمْ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَالْتَقَى الْعَسْكَرَانِ بِعَوْلَانَ، عِنْدَ الدِّينَوَرِ، وَكَانَ مَسْعُودٌ يُدَافِعُ الْحَرْبَ انْتِظَارًا لِقُدُومِ الْمُسْتَرْشِدِ، فَلَمَّا نَازَلَهُ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ الْمَصَافِّ، وَجَعَلَ سَنْجَرُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ طُغْرُلَ ابْنَ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ وَقَمَاجَ وَأَمِيرَ أَمِيرَانَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ خُوَارَزْمُ شَاهْ أَتْسَزَ بْنَ مُحَمَّدٍ مَعَ جَمْعٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَجَعَلَ مَسْعُودٌ عَلَى مَيْمَنَتِهِ قُرَاجَةَ السَّاقِي وَالْأَمِيرَ قَزَلَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ يَرَنْقَشُ بَازْدَارْ وَيُوسُفُ جَاوُوشُ، وَغَيْرُهُمَا، وَكَانَ قَزَلُ قَدْ وَاطَأَ سَنْجَرَ عَلَى الِانْهِزَامِ. وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ وَقَامَتْ عَلَى سَاقٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، فَحَمَلَ قُرَاجَةُ السَّاقِي عَلَى الْقَلْبِ وَفِيهِ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ مِنْ شُجْعَانِ الْعَسْكَرِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْفِيَلَةُ، فَلَمَّا حَمَلَ قُرَاجَةُ عَلَى الْقَلْبِ رَجَعَ الْمَلِكُ طُغْرُلُ وَخُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى وَرَاءِ ظَهْرِهِ، فَصَارَ قُرَاجَةُ فِي الْوَسَطِ فَقَاتَلَ إِلَى أَنْ جُرِحَ عِدَّةَ جِرَاحَاتٍ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأُخِذَ هُوَ أَسِيرًا وَبِهِ جِرَاحَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَلَمَّا رَأَى السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ ذَلِكَ انْهَزَمَ وَسَلِمَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ، وَقُتِلَ يُوسُفُ جَاوُوشُ، وَحُسَيْنُ أَزْبِكُ، وَهُمَا مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ ثَامِنَ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فَلَمَّا تَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى مَسْعُودٍ نَزَلَ سَنْجَرُ، وَأَحْضَرَ قُرَاجَةَ، فَلَمَّا حَضَرَ قُرَاجَةُ سَبَّهُ وَقَالَ لَهُ: يَا مُفْسِدُ أَيَّ شَيْءٍ تَرْجُو بِقِتَالِي؟ قَالَ: كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَقْتُلَكَ وَأُقِيمَ

سُلْطَانًا أَحْكُمُ عَلَيْهِ. فَقَتَلَهُ صَبْرًا، وَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ يَسْتَدْعِيهِ فَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ خُونْجَ، فَلَمَّا رَآهُ قَبَّلَهُ وَأَكْرَمَهُ وَعَاتَبَهُ عَلَى الْعِصْيَانِ عَلَيْهِ وَمُخَالَفَتِهِ، وَأَعَادَهُ إِلَى كَنْجَةَ، وَأَجْلَسَ الْمَلِكُ طُغْرُلَ ابْنَ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ فِي السَّلْطَنَةِ، وَخَطَبَ لَهُ جَمِيعَ الْبِلَادِ، وَجَعَلَ فِي وِزَارَتِهِ أَبَا الْقَاسِمِ الْأَنْسَابَاذِيَّ وَزِيرَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَعَادَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَوَصَلَ إِلَى نَيْسَابُورَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ [وَخَمْسِمَائَةٍ] . وَأَمَّا الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ فَكَانَ مِنْهُ مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ مَسِيرِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي إِلَى بَغْدَاذَ وَانْهِزَامِهِ لَمَّا سَارَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ مِنْ بَغْدَاذَ وَبَلَغَهُ انْهِزَامُ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، عَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِوُصُولِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي إِلَى بَغْدَاذَ، وَمَعَهُ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ، وَكَانَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ قَدْ كَاتَبَهُمَا وَأَمَرَهُمَا بِقَصْدِ الْعِرَاقِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا عَلِمَ الْخَلِيفَةُ بِذَلِكَ أَسْرَعَ الْعَوْدَ إِلَيْهَا، وَعَبَرَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَسَارَ فَنَزَلَ بِالْعَبَّاسِيَّةِ، وَنَزَلَ عِمَادُ الدِّينِ بِالْمَنَارِيَّةِ مِنْ دُجَيْلٍ، وَالْتَقَيَا بِحِصْنِ الْبَرَامِكَةِ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، فَابْتَدَأَ زَنْكِي فَحَمَلَ عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَلِيفَةِ، وَبِهَا جَمَالُ الدَّوْلَةِ إِقْبَالُ، فَانْهَزَمُوا مِنْهُ، وَحَمَلَ نَظَرُ الْخَادِمِ مِنْ مَيْسَرَةِ الْخَلِيفَةِ عَلَى مَيْمَنَةِ عِمَادِ الدِّينِ وَدُبَيْسٍ، وَحَمَلَ الْخَلِيفَةُ بِنَفْسِهِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَانْهَزَمَ دُبَيْسٌ، وَأَرَادَ عِمَادُ الدِّينِ الصَّبْرَ فَرَأَى النَّاسَ قَدْ تَفَرَّقُوا عَنْهُ فَانْهَزَمَ أَيْضًا، وَقُتِلَ مِنَ الْعَسْكَرِ جَمَاعَةٌ وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ، وَبَاتَ الْخَلِيفَةُ هُنَاكَ لَيْلَتَهُ، وَعَادَ مِنَ الْغَدِ إِلَى بِغَدَاذَ.

ذِكْرُ حَالِ دُبَيْسٍ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ وَفِيهَا عَادَ دُبَيْسٌ بَعْدَ انْهِزَامِهِ الْمَذْكُورِ يَلُوذُ بِبِلَادِ الْحِلَّةِ وَتِلْكَ النَّوَاحِي، وَجَمَعَ جَمْعًا، وَكَانَتْ تِلْكَ الْوِلَايَةُ بِيَدِ إِقْبَالٍ الْمُسْتَرْشِدِيِّ، فَأُمِدَّ بِعَسْكَرٍ مِنْ بَغْدَاذَ، فَالْتَقَى هُوَ وَدُبَيْسٌ فَانْهَزَمَ دُبَيْسٌ وَاخْتَفَى فِي أَجَمَةٍ هُنَاكَ، وَبَقِيَ ثَلَاثَةً لَمْ يَطْعَمْ شَيْئًا، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا، حَتَّى أَخْرَجَهُ جَمَّاسٌ عَلَى ظَهْرِهِ. ثُمَّ جَمَعَ وَقَصَدَ وَاسِطَ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ عَسْكَرُهَا، وَبُخْتِيَارُ، وَشَاقُّ، وَابْنُ أَبِي الْجَبْرِ، لَمْ يَزَلْ فِيهَا إِلَى أَنْ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ [وَخَمْسِمَائَةٍ] ، فَنَفَذَ إِلَيْهِمْ يَرَنْقَشُ بَازْدَارُ وَإِقْبَالٌ الْخَادِمُ الْمُسْتَرْشِدِيُّ فِي عَسْكَرٍ، فَاقْتَتَلُوا فِي الْمَاءِ وَالْبَرِّ، فَانْهَزَمَ الْوَاسِطِيُّونَ وَدُبَيْسٌ، وَأُسِرَ بُخْتِيَارُ، وَشَاقُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ. ذِكْرُ وَفَاةِ تَاجِ الْمُلُوكِ صَاحِبِ دِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَجَبٍ، تُوُفِّيَ تَاجُ الْمُلُوكِ بُورِي بْنُ طُغْتِكِينَ، صَاحِبُ دِمَشْقَ، وَسَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّ الْجُرْحَ الَّذِي كَانَ بِهِ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ - وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ - اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْآنَ وَأَضْعَفَهُ، وَأَسْقَطَ قُوَّتَهُ، فَتُوُفِّيَ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَوَصَّى بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ لِوَلَدِهِ شَمْسِ الْمُلُوكِ إِسْمَاعِيلَ، وَوَصَّى بِمَدِينَةِ بَعْلَبَكَّ وَأَعْمَالِهَا لِوَلَدِهِ شَمْسِ الدَّوْلَةِ مُحَمَّدٍ. وَكَانَ بُورِي كَثِيرَ الْجِهَادِ، شُجَاعًا مِقْدَامًا، سَدَّ مَسَدَّ أَبِيهِ وَفَاقَ عَلَيْهِ، وَكَانَ مُمَدَّحًا، أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مَدَائِحَهُ لَاسِيَّمَا ابْنُ الْخَيَّاطِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ شَمْسُ الْمُلُوكِ، وَقَامَ بِتَدْبِيرِ الْأَمْرِ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحَاجِبُ يُوسُفُ بْنُ فَيْرُوزَ شِحْنَةُ دِمَشْقَ، وَهُوَ حَاجِبُ أَبِيهِ، اعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَابْتَدَأَ أَمْرَهُ بِالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، فَكَثُرَ الدُّعَاءُ لَهُ وَالْقُصَّادُ عَلَيْهِ.

ذِكْرُ مُلْكِ شَمْسِ الْمُلُوكِ حِصْنَ اللَّبْوَةِ وَحِصْنَ رَاسٍ وَحَصْرِهِ بَعْلَبَكَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ شَمْسُ الْمُلُوكِ إِسْمَاعِيلُ صَاحِبُ دِمَشْقَ حِصْنَ اللَّبْوَةِ وَحِصْنَ رَاسٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا كَانَا لِأَبِيهِ تَاجِ الْمُلُوكِ، وَفِي كُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحْفِظٌ يَحْفَظُهُ، فَلَمَّا مَلَكَ شَمْسُ الْمُلُوكِ بَلَغَهُ أَنَّ أَخَاهُ شَمْسَ الدَّوْلَةِ مُحَمَّدًا صَاحِبَ بَعْلَبَكَّ قَدْ رَاسَلَهُمَا وَاسْتَمَالَهُمَا إِلَيْهِ، فَسَلَّمَا الْحِصْنَيْنِ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ فِيهِمَا مِنَ الْجُنْدِ مَا يَكْفِيهِمَا، فَلَمْ يُظْهِرْ بِذَلِكَ أَثَرًا بَلْ رَاسَلَ أَخَاهُ بِلُطْفٍ يُقَبِّحُ هَذِهِ الْحَالَ، وَيَطْلُبُ أَنْ يُعِيدَهُمَا إِلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَأَغْضَى عَلَى ذَلِكَ، وَتَجَهَّزَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلِمَ أَحَدًا. وَسَارَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ آخِرَ ذِي الْقَعْدَةِ، فَطَلَبَ جِهَةَ الشَّمَالِ، ثُمَّ عَادَ مُغَرِّبًا، فَلَمْ يَشْعُرْ مَنْ بِحِصْنِ اللَّبْوَةِ إِلَّا وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ وَزَحَفَ لِوَقْتِهِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ نَصْبِ مَنْجَنِيقٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ فَبَذَلَهُ لَهُمْ، وَتَسَلَّمَ الْحِصْنَ مِنْ يَوْمِهِ، وَسَارَ مِنْ آخَرَ النَّهَارِ إِلَى حِصْنِ رَاسٍ، فَبَغَتَهُمْ، وَجَرَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى تِلْكَ الْقَضِيَّةِ وَتَسَلَّمَهُ، وَجَعَلَ فِيهِمَا مَنْ يَحْفَظُهُمَا. ثُمَّ رَحَلَ إِلَى بَعْلَبَكَّ وَحَصَرَهَا وَفِيهَا أَخُوهُ شَمْسُ الدَّوْلَةِ مُحَمَّدٌ، وَقَدِ اسْتَعَدَّ وَجَمَعَ فِي الْحِصْنِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ رِجَالٍ وَذَخَائِرَ، فَحَصَرَهُمْ شَمْسُ الْمُلُوكِ، وَزَحَفَ فِي الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، وَقَاتَلَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ عَلَى السُّورِ، ثُمَّ زَحَفَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، فَمَلَكَ الْبَلَدَ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ وَقَتْلَى كَثِيرَةٍ، وَبَقِيَ الْحِصْنُ فَقَاتَلَهُ وَفِيهِ أَخُوهُ، وَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ، وَلَازَمَ الْقِتَالَ، فَلَمَّا رَأَى أَخُوهُ شَمْسُ الدَّوْلَةِ شِدَّةَ الْأَمْرِ أَرْسَلَ يَبْذُلُ الطَّاعَةَ، وَيَسْأَلُ أَنْ يُقَرَّ عَلَى مَا بِيَدِهِ، وَجَعَلَهُ أَبُوهُ بِاسْمِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ، وَأَقَرَّ عَلَيْهِ بَعْلَبَكَّ وَأَعْمَالَهَا، وَتَحَالَفُوا، وَعَادَ شَمْسُ الْمُلُوكِ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدِ اسْتَقَامَتْ لَهُ الْأُمُورُ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ السُّلْطَانِ طُغْرُلَ وَالْمَلِكِ دَاوُدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَمَضَانَ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْمَلِكِ طُغْرُلَ، وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيهِ الْمَلِكِ دَاوُدَ بْنِ مَحْمُودٍ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ السُّلْطَانَ سَنْجَرَ أَجْلَسَ الْمَلِكَ طُغْرُلَ فِي السَّلْطَنَةِ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - وَعَادَ إِلَى خُرَاسَانَ ; لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ صَاحِبَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ أَحْمَدَ خَانْ قَدْ عَصَى عَلَيْهِ، فَبَادَرَ إِلَى الْعَوْدِ لِتَلَافِي ذَلِكَ الْخَرْقِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى خُرَاسَانَ عَصَى الْمَلِكُ دَاوُدُ عَلَى عَمِّهِ طُغْرُلَ وَخَالَفَهُ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ بِأَذْرَبِيجَانَ وَبِلَادِ كَنْجَةَ، وَسَارَ إِلَى هَمَذَانَ، فَنَزَلَ مُسْتَهَلَّ رَمَضَانَ عِنْدَ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: وَهْمَانَ بِقُرْبِ هَمَذَانَ. وَخَرَجَ إِلَيْهِ طُغْرُلُ، وَعَبَّأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابَهُ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً، وَكَانَ عَلَى مَيْمَنَةِ السُّلْطَانِ طُغْرُلَ ابْنُ بُرْسُقَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ قَزَلُ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ قَرَاسُنْقُرُ، وَكَانَ عَلَى مَيْمَنَةِ دَاوُدَ يَرَنْقَشُ الزَّكَوِيُّ وَلَمْ يُقَاتِلْ، فَلَمَّا رَأَى التُّرْكُمَانُ ذَلِكَ نَهَبُوا خِيَمَهُ وَبِرَكَهُ جَمِيعَهُ، وَوَقَعَ الْخُلْفُ فِي عَسْكَرِ دَاوُدَ، فَلَمَّا رَأَى أَتَابَكُهُ آقَسُنْقَرُ الْأَحْمَدِيلِيُّ ذَلِكَ وَلَّى هَرَبًا، وَتَبِعَهُ النَّاسُ فِي الْهَزِيمَةِ، وَقَبَضَ طُغْرُلُ عَلَى يَرَنْقَشَ الزَّكَوِيِّ وَعَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ. وَأَمَّا الْمَلِكُ دَاوُدُ فَإِنَّهُ لَمَّا انْهَزَمَ بَقِيَ مُتَحَيِّرًا إِلَى أَوَائِلَ ذِي الْقَعْدَةِ، فَقَدِمَ بَغْدَاذَ وَمَعَهُ أَتَابَكُهُ آقَسُنْقَرُ الْأَحْمَدِيلِيُّ، فَأَكْرَمَهُ الْخَلِيفَةُ، وَأَنْزَلَهُ بِدَارِ السُّلْطَانِ، وَكَانَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ بِكَنْجَةَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِانْهِزَامِ الْمَلِكِ دَاوُدَ تَوَجَّهَ نَحْوَ بَغْدَاذَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ عَلَى وَزِيرِهِ شَرَفِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيِّ، وَاسْتَوْزَرَ أَنُوشِرْوَانَ بْنَ خَالِدٍ بَعْدَ أَنِ امْتَنَعَ وَسَأَلَ الْإِقَالَةَ.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَامِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو نَصْرٍ مُسْتَوْفِي السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ الْمُلَقَّبُ بِالْعَزِيزِ بِقَلْعَةِ تَكْرِيتَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَبَبُ ذَلِكَ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ [وَخَمْسِمَائَةٍ] . وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي يَعْلَى بْنَ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيُّ، مَوْلِدُهُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْخَطِيبِ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُهْتَدِي، وَغَيْرِهِمَا، وَتَفَقَّهَ، قَتَلَهُ أَصْحَابُهُ غِيلَةً وَأَخَذُوا مَالَهُ. وَفِي جُمَادَى الْأُولَى تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنَ كَادِشَ أَبُو الْعِزِّ الْعُكْبَرِيُّ، وَكَانَ مُحَدِّثًا مُكْثِرًا. وَتُوُفِّيَ فِيهَا أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُظَفَّرِ بْنِ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَكَانَ أَدِيبًا وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ مَا كَتَبَهُ إِلَى جَلَالِ الدِّينِ بْنِ صَدَقَةَ الْوَزِيرِ: أَمَوْلَانَا جَلَالَ الدِّينِ يَا مَنْ أُذَكِّرُهُ بِخِدْمَتِيَ الْقَدِيمَهْ أَلَمْ تَكُ قَدْ عَزَمْتَ عَلَى اصْطِنَاعِي فَمَاذَا صَدَّ عَنْ تِلْكَ الْعَزِيمَهْ

ثم دخلت سنة سبع وعشرين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] (527) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ شَمْسِ الْمُلُوكِ بَانِيَاسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ مَلَكَ شَمْسُ الْمُلُوكِ صَاحِبُ دِمَشْقَ حِصْنَ بَانِيَاسَ مِنَ الْفِرِنْجِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ اسْتَضْعَفُوهُ وَطَمِعُوا فِيهِ، وَعَزَمُوا عَلَى نَقْضِ الْهُدْنَةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ، فَتَعَرَّضُوا إِلَى أَمْوَالِ جَمَاعَةٍ مِنْ تُجَّارِ دِمَشْقَ بِمَدِينَةِ بَيْرُوتَ وَأَخَذُوهَا، فَشَكَا التُّجَّارُ إِلَى شَمْسِ الْمُلُوكِ، فَرَاسَلَ فِي إِعَادَةٍ مَا أَخَذُوهُ، وَكَرَّرَ الْقَوْلَ فِيهِ، فَلَمْ يَرُدُّوا شَيْئًا، فَحَمَلَتْهُ الْأَنَفَةُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْغَيْظُ عَلَى أَنْ جَمَعَ عَسْكَرَهُ وَتَأَهَّبَ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ أَيْنَ يُرِيدُ. ثُمَّ سَارَ وَسَبَقَ خَبَرَهُ أَوَاخِرَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَنَزَلَ عَلَى بَانِيَاسَ أَوَّلَ صَفَرٍ، وَقَاتَلَهَا لِسَاعَتِهِ، وَزَحَفَ إِلَيْهَا زَحْفًا مُتَتَابِعًا، وَكَانُوا غَيْرَ مُتَأَهِّبِينَ، وَلَيْسَ فِيهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَقَرُبَ مِنْ سُورِ الْمَدِينَةِ، وَتَرَجَّلَ بِنَفْسِهِ، وَتَبِعَهُ النَّاسُ مِنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، وَوَصَلُوا إِلَى السُّورِ، فَنَقَبُوهُ وَدَخَلُوا الْبَلَدَ عَنْوَةً، وَالْتَجَأَ مَنْ كَانَ مِنْ جُنْدِ الْفِرِنْجِ إِلَى الْحِصْنِ، وَتَحَصَّنُوا بِهِ، فَقُتِلَ مِنَ الْبَلَدِ كَثِيرٌ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَأُسِرَ كَثِيرٌ، وَنُهِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَقَاتَلَ الْقَلْعَةَ قِتَالًا شَدِيدًا لَيْلًا وَنَهَارًا، فَمَلَكَهَا رَابِعَ صَفَرٍ

بِالْأَمَانِ، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ فَوَصَلَهَا سَادِسَهُ. وَأَمَّا الْفِرِنْجُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا نُزُولَهُ عَلَى بَانِيَاسَ شَرَعُوا يَجْمَعُونَ عَسْكَرًا يَسِيرُونَ بِهِ إِلَيْهِ، فَأَتَاهُمْ خَبَرُ فَتْحِهَا، فَبَطَلَ مَا كَانُوا فِيهِ. ذِكْرُ حَرْبٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرَ، سَارَ مَلِكٌ الْفِرِنْجِ صَاحِبُ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ فِي خَيَّالَتِهِ إِلَى أَطْرَافِ أَعْمَالِ حَلَبَ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ أَسْوَارُ النَّائِبُ بِحَلَبَ فِي مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ، فَاقْتَتَلُوا عِنْدَ قِنَّسْرِينَ، فَقُتِلَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى حَلَبَ، وَتَرَدَّدَ مَلِكٌ الْفِرِنْجِ فِي أَعْمَالِ حَلَبَ، فَعَادَ أَسْوَارُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَوَقَعَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْأَسْرَ، فَعَادَ مَنْ سَلِمَ مُنْهَزِمًا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَانْجَبَرَ ذَلِكَ الْمُصَابُ بِهَذَا الظَّفَرِ، وَدَخَلَ أَسْوَارُ حَلَبَ، وَمَعَهُ الْأَسْرَى وَرُءُوسُ الْقَتْلَى، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. ثُمَّ إِنَّ طَائِفَةً مِنَ الْفِرِنْجِ مِنَ الرُّهَا قَصَدُوا أَعْمَالَ حَلَبَ لِلْغَارَةِ عَلَيْهَا، فَسَمِعَ بِهِمْ أَسْوَارُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ هُوَ وَالْأَمِيرُ حَسَّانُ الْبَعْلَبَكِّيُّ، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ، وَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ فِي بَلَدِ الشَّمَالِ، وَأَسَرُوا مَنْ لَمْ يُقْتَلْ، وَرَجَعُوا إِلَى حَلَبَ سَالِمِينَ. ذِكْرُ عَوْدِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ إِلَى السَّلْطَنَةِ وَانْهِزَامِ الْمَلِكِ طُغْرُلَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ انْهِزَامِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ مِنْ عَمِّهِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ وَعَوْدِهِ إِلَى كَنْجَةَ،

وَوِلَايَةِ الْمَلِكِ طُغْرُلَ السَّلْطَنَةَ، وَأَنَّهُ تَحَارَبَ هُوَ وَالْمَلِكُ دَاوُدُ ابْنُ أَخِيهِ مَحْمُودٍ، وَانْهِزَامِ دَاوُدَ وَدُخُولِهِ بَغْدَاذَ، فَلَمَّا بَلَغَ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا انْهِزَامُ دَاوُدَ وَقَصْدُهُ بَغْدَاذَ، سَارَ هُوَ إِلَى بَغْدَاذَ أَيْضًا، فَلَمَّا قَارَبَهَا لَقِيَهُ دَاوُدُ وَتَرَجَّلَ لَهُ، وَخَدَمَهُ، وَدَخَلَا بَغْدَاذَ. وَنَزَلَ مَسْعُودٌ بِدَارِ السَّلْطَنَةِ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَخَاطَبَ فِي الْخُطْبَةِ لَهُ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَخُطِبَ لَهُ وَلِدَاوُدَ بَعْدَهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمَا، وَدَخَلَا إِلَى الْخَلِيفَةِ فَأَكْرَمَهُمَا، وَرُفِعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى مَسِيرِ مَسْعُودٍ وَدَاوُدَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَأَنْ يُرْسِلَ الْخَلِيفَةُ مَعَهُمَا عَسْكَرًا، فَسَارُوا فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى مَرَاغَةَ حَمَلَ آقَسُنْقَرُ الْأَحْمَدِيلِيُّ مَالًا كَثِيرًا، وَإِقَامَةً عَظِيمَةً، وَمَلَكَ مَسْعُودٌ سَائِرَ بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ، وَانْهَزَمَ مَنْ بِهَا مَنِ الْأُمَرَاءِ مِثْلَ قَرَاسُنْقُرَ وَغَيْرِهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَتَحَصَّنَ مِنْهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِمَدِينَةِ أَرْدَبِيلَ، فَقَصَدَهُمْ وَحَصَرَهُمْ بِهَا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ. ثُمَّ سَارَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَمَذَانَ لِمُحَارَبَةِ أَخِيهِ الْمَلِكِ طُغْرُلَ، فَلَمَّا سَمِعَ طُغْرُلُ بِقُرْبِهِ بَرَزَ إِلَى لِقَائِهِ، فَاقْتَتَلُوا إِلَى الظُّهْرِ، ثُمَّ انْهَزَمَ طُغْرُلُ، وَقَصَدَ الرَّيَّ، وَاسْتَوْلَى السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ عَلَى هَمَذَانَ فِي شَعْبَانَ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ مَسْعُودٌ بِهَمَذَانَ قُتِلَ آقَسُنْقَرُ الْأَحْمَدِيلِيُّ، قَتَلَهُ الْبَاطِنِيَّةُ، فَقِيلَ إِنَّ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا وَضَعَ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ. ثُمَّ إِنَّ طُغْرُلَ لَمَّا بَلَغَ قُمَّ عَادَ إِلَى أَصْبَهَانَ وَدَخَلَهَا وَأَرَادَ التَّحَصُّنَ بِهَا فَسَارَ إِلَيْهِ أَخُوهُ مَسْعُودٌ لِيُحَاصِرَهُ بِهَا، فَرَأَى طُغْرُلُ أَنَّ أَهْلَ أَصْبَهَانَ لَا يُطَاوِعُونَهُ عَلَى الْحِصَارِ، فَرَحَلَ عَنْهُمْ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ، وَاسْتَوْلَى مَسْعُودٌ عَلَى أَصْبَهَانَ، وَفَرِحَ أَهْلُهَا بِهِ، وَسَارَ مِنْ أَصْبَهَانَ نَحْوَ فَارِسَ يَقْتَصُّ أَثَرَ أَخِيهِ طُغْرُلَ، فَوَصَلَ إِلَى مَوْضِعٍ بِقُرْبِ الْبَيْضَاءِ، فَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءَ أَخِيهِ مَعَهُ أَرْبَعُمِائَةِ فَارِسٍ فَأَمَّنَهُ، فَخَافَ طُغْرُلُ مِنْ عَسْكَرِهِ أَنْ يَنْحَازُوا إِلَى أَخِيهِ، فَانْهَزَمَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَقَصَدَ الرَّيَّ فِي رَمَضَانَ، وَقُتِلَ وَزِيرُهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْسَابَاذِيُّ فِي الطَّرِيقِ فِي شَوَّالٍ، قَتَلَهُ غِلْمَانُ الْأَمِيرِ شِيرْكِيرَ الَّذِي سَعَى فِي قَتْلِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَسَارَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ يَتْبَعُهُ، فَلَحِقَهُ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: ذَكْرَاوَرُ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا

الْمَصَافُّ هُنَاكَ، فَلَمَّا اشْتَبَكَتِ الْحَرْبُ انْهَزَمَ الْمَلِكُ طُغْرُلُ، فَوَقَعَ عَسْكَرُهُ فِي أَرْضٍ قَدْ نَضَبَ عَنْهَا الْمَاءُ وَهِيَ وَحْلٌ، فَأُسِرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْهُمُ الْحَاجِبُ تُنْكُرُ، وَابْنُ بُغْرَا، فَأَطْلَقَهُمُ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ، وَلَمْ يُقْتَلْ فِي هَذَا الْمَصَافِّ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ، وَرَجَعَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ إِلَى هَمَذَانَ. ذِكْرُ حَصْرِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ الْمَوْصِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ (527) حَصَرَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَصْدِ الشَّهِيدِ زَنْكِي بَغْدَادَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، فَلَمَّا كَانَ الْآنُ قَصَدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ السَّلْجُوقِيَّةِ بَابَ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ، وَصَارُوا مَعَهُ فَقَوِيَ بِهِمْ. وَاشْتَغَلَ السَّلَاطِينُ السَّلْجُوقِيَّةُ بِالْخُلْفِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمْ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الشَّيْخَ بَهَاءَ الدِّينِ أَبَا الْفُتُوحِ الْإِسْفَرَايِينِيَّ الْوَاعِظَ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي بِرِسَالَةٍ فِيهَا خُشُونَةٌ، وَزَادَهَا أَبُو الْفُتُوحِ زِيَادَةً ثِقَةً بِقُوَّةِ الْخَلِيفَةِ وَنَامُوسِ الْخِلَافَةِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي، وَأَهَانَهُ وَلَقِيَهُ بِمَا يَكْرَهُ، فَأَرْسَلَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ إِلَى السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ الَّذِي جَرَى مِنْ زَنْكِي، وَيُعْلِمُهُ أَنَّهُ عَلَى قَصْدِ الْمَوْصِلِ وَحَصْرِهَا، وَتَمَادَتِ الْأَيَّامَ إِلَى شَعْبَانَ، فَسَارَ عَنْ بَغْدَادَ فِي النِّصْفِ مِنْهُ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ. فَلَمَّا قَارَبَ الْمَوْصِلَ فَارَقَهَا أَتَابَكْ زَنْكِي فِي بَعْضِ عَسْكَرِهِ، وَتَرَكَ الْبَاقِيَ بِهَا مَعَ نَائِبِهِ نَصِيرِ الدِّينِ جَقَرَ دُزْدَارْهَا وَالْحَاكِمِ فِي دَوْلَتِهِ وَأَمَرَهُمْ بِحِفْظِهَا، وَنَازَلَهَا الْخَلِيفَةُ وَقَاتَلَهَا وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهَا، وَأَمَّا عِمَادُ الدِّينِ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى سِنْجَارَ وَكَانَ يَرْكَبُ كُلَّ لَيْلَةٍ وَيَقْطَعُ الْمِيرَةَ عَنِ الْعَسْكَرِ، وَمَتَى ظَفِرَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَسْكَرِ أَخَذَهُ وَنَكَّلَ بِهِ. وَضَاقَتِ الْأُمُورُ بِالْعَسْكَرِ أَيْضًا، وَتَوَاطَأَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجَصَّاصِينَ بِالْمَوْصِلِ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَلَدِ، فَسُعِيَ بِهِمْ فَأُخِذُوا وَصُلِبُوا.

وَبَقِيَ الْحِصَارُ عَلَى الْمَوْصِلِ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَظْفَرْ مِنْهَا بِشَيْءٍ، وَلَا بَلَغَهُ عَمَّنْ بِهَا وَهَنٌ وَلَا قِلَّةُ مِيرَةٍ وَقُوتٍ، فَرَحَلَ عَنْهَا عَائِدًا إِلَى بَغْدَادَ، فَقِيلَ: إِنَّ نَظَرَ الْخَادِمِ وَصَلَ إِلَيْهِ عَسْكَرُ السُّلْطَانِ، وَأَبْلَغَهُ عَنِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ مَا أَوْجَبَ مَسِيرَهُ، وَعَوْدِهِ إِلَى بَغْدَادَ، وَقِيلَ: بَلْ بَلَغَهُ أَنَّ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا عَزَمَ عَلَى قَصْدِ الْعِرَاقِ فَعَادَ بِالْجُمْلَةِ، وَأَنَّهُ رَحَلَ عَنْهَا مُنْحَدِرًا فِي شَبَّارَةِ فِي دِجْلَةَ فَوَصَلَ إِلَى بَغْدَادَ يَوْمَ عَرَفَةَ. ذِكْرُ مُلْكِ شَمْسِ الْمُلُوكِ مَدِينَةَ حَمَاةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا فِي شَوَّالٍ، مَلَكَ شَمْسُ الْمُلُوكِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ تَاجِ الْمُلُوكِ صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ حَمَاةَ وَقَلْعَتَهَا، وَهِيَ لِأَتَابَكِ زَنْكِي بْنِ آقَسُنْقَرَ أَخَذَهَا مِنْ تَاجِ الْمُلُوكِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَمَّا مَلَكَ شَمْسُ الْمُلُوكِ قَلْعَةَ بَانِيسَ أَقَامَ بِدِمَشْقَ إِلَى شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى حَمَاةَ فِي الْعُشْرِ الْأَخِيرِ مِنْهُ. وَسَبَبُ طَمَعِهِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْمُسْتَرْشِدَ بِاللَّهِ يُرِيدُ [أَنْ] يَحْصُرُ الْمَوْصِلَ فَطَمِعَ، وَكَانَ الْوَالِي بِحَمَاةَ قَدْ سَمِعَ الْخَبَرَ فَتَحَصَّنَ وَاسْتَكْثَرَ مِنَ الرِّجَالِ وَالذَّخَائِرِ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ شَمْسِ الْمُلُوكِ إِلَّا وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِتَرْكِ قَصْدِهَا; لِقُوَّةِ صَاحِبِهَا، فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ، وَسَارَ إِلَيْهَا وَحَصَرَ الْمَدِينَةَ، وَقَاتَلَ مَنْ بِهَا يَوْمَ الْعِيدِ، وَزَحَفَ إِلَيْهَا مِنْ وَقْتِهِ، فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ وَقَاتَلُوهُ، فَعَادَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ بَكَّرَ إِلَيْهِمْ وَزَحَفَ إِلَى الْبَلَدِ مِنْ جَوَانِبِهِ، فَمَلَكَهُ قَهْرًا وَعَنْوَةً، وَطَلَبَ مَنْ بِهِ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ وَحَصَرَ الْقَلْعَةَ، وَلَمْ تَكُنْ فِي الْحَصَانَةِ وَالْعُلُوِّ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، فَإِنَّ تَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ ابْنَ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ قَطَعَ جَبَلَهَا وَعَمِلَهَا هَكَذَا فِي سِنِينَ كَثِيرَةٍ، فَلَمَّا حَصَرَهَا عَجَزَ الْوَالِي بِهَا عَنْ حِفْظِهَا فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَعَلَى مَا بِهَا مِنْ ذَخَائِرَ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى قَلْعَةِ شَيْزَرَ وَبِهَا صَاحِبُهَا مِنْ بَنِي

مُنْقِذٍ، فَحَصَرَهَا وَنَهَبَ بَلَدَهَا، فَرَاسَلَهُ صَاحِبُهَا، وَصَانَعَهُ بِمَالٍ حَمَلَهُ إِلَيْهِ، فَعَادَ عَنْهُ إِلَى دِمَشْقَ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ. ذِكْرُ هَزِيمَةِ صَاحِبِ طَرَابُلُسَ الْفِرِنْجِيِّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبَرَ إِلَى الشَّامِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ، وَأَغَارُوا عَلَى بِلَادِ طَرَابُلُسَ، وَغَنِمُوا وَقَتَلُوا كَثِيرًا، فَخَرَجَ الْقُمَّصُ صَاحِبُ طَرَابُلُسَ فِي جُمُوعِهِ، فَانْزَاحَ التُّرْكُمَانُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَتَبِعَهُمْ فَعَادُوا إِلَيْهِ، وَقَاتَلُوهُ فَهَزَمُوهُ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِي عَسْكَرِهِ، وَمَضَى هُوَ وَمَنْ سَلِمَ مَعَهُ إِلَى قَلْعَةِ بَعْرِينَ، فَتَحَصَّنُوا فِيهَا، وَامْتَنَعُوا عَلَى التُّرْكُمَانِ، فَحَصَرَهُمُ التُّرْكُمَانُ فِيهَا. فَلَمَّا طَالَ الْحِصَارُ عَلَيْهِمْ نَزَلَ صَاحِبُ طَرَابُلُسَ، وَمَعَهُ عِشْرُونَ فَارِسًا مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ سِرًّا فَنَجَوْا وَسَارُوا إِلَى طَرَابُلُسَ، وَتَرَكَ الْبَاقِينَ فِي بَعْرِينَ يَحْفَظُونَهَا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى طَرَابُلُسَ كَاتَبَ جَمِيعَ الْفِرِنْجِ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَتَوَجَّهَ بِهِمْ نَحْوَ التُّرْكُمَانِ لِيُرَحِّلَهُمْ عَنْ بَعْرِينَ، فَلَمَّا سَمِعَ التُّرْكُمَانُ بِذَلِكَ قَصَدُوهُمْ وَالْتَقُوهُمْ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأَشْرَفَ الْفِرِنْجُ عَلَى الْهَزِيمَةِ، فَحَمَلُوا نُفُوسَهُمْ، وَرَجَعُوا عَلَى حَامِيَةٍ إِلَى رَفَنِيَةَ فَتَعَذَّرَ عَلَى التُّرْكُمَانِ اللَّحَاقُ بِهِمْ إِلَى وَسَطِ بِلَادِهِمْ فَعَادُوا عَنْهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَرَى الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ بِالشَّامِ حِصْنَ الْقَدْمُوسِ مِنْ صَاحِبِهِ ابْنِ عَمْرُونَ، وَصَعِدُوا إِلَيْهِ، وَقَامُوا بِحَرْبِ مَنْ يُجَاوِرُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجِ، وَكَانُوا

كُلُّهُمْ يَكْرَهُونَ مُجَاوَرَتَهُمْ. وَفِيهَا وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ فَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَمْ تَجْرِ لَهُمْ بِذَلِكَ عَادَةٌ قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ جَمَاعَةٌ. وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ أَغَارَ الْأَمِيرُ أَسْوَارُ مُقَدَّمُ عَسْكَرِ زَنْكِي بِحَلَبَ عَلَى وِلَايَةِ تَلِ بَاشَرَ فَغَنِمَ الْكَثِيرَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْفِرِنْجُ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ فَقَاتَلُوهُ، فَظَفِرَ بِهِمْ وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَكَانَ عِدَّةُ الْقَتْلَى نَحْوَ أَلْفِ قَتِيلٍ، وَعَادَ سَالِمًا. وَفِيهَا - تَاسِعَ رَبِيعٍ الْآخَرِ - وَثَبَ عَلَى شَمْسِ الْمُلُوكِ صَاحِبِ دِمَشْقَ بَعْضُ مَمَالِيكِ جَدِّهِ طُغْدِكِينَ، فَضَرَبَهُ بِسَيْفٍ فَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ شَيْئًا، وَتَكَاثَرَ عَلَيْهِ مَمَالِيكُ شَمْسِ الْمُلُوكِ فَأَخَذُوهُ، وَقَرَّرَ مَا الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى مَا فَعَلَ فَقَالَ: أَرَدْتُ إِرَاحَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّكَ وَظُلْمِكَ، وَلَمْ يَزَلْ يُضْرَبُ حَتَّى أَقَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ وَضَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَتَلَهُمْ شَمْسُ الْمُلُوكِ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ، وَقَتَلَ مَعَهُمْ أَخَاهُ سُونَجَ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، وَنَفَرُوا عَنْهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَفَاءِ الْفَارِسِيُّ، وَكَانَ لَهُ جِنَازَةٌ مَشْهُودَةٌ حَضَرَهَا أَعْيَانُ بَغْدَادَ. وَفِيهَا - فِي رَجَبٍ - تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَخْلَدٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرُّطَبِيِّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ قَاضِي الْكَرْخِ، وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي

نَصْرِ بْنِ الصَّبَّاغِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنَ الْخَلِيفَةِ يُؤَدِّبُ أَوْلَادَهُ. وَتُوُفِّيَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الزَّاغُونِيِّ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الْوَاعِظُ، وَكَانَ ذَا فُنُونٍ، تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ. وَتُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ يَعْلَى بْنِ عِوَضِ بْنَ الْقَاسِمِ الْهَرَوِيُّ الْعَلَوِيُّ، كَانَ وَاعِظًا، وَلَهُ بِخُرَاسَانَ قَبُولٌ كَثِيرٌ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعُثْمَانِيُّ الدِّيبَاجِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَوْلَادِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعُثْمَانِيِّ الدِّيبَاجِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَوْلَادِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. وَكَانَ مُحَمَّدٌ يُلَقَّبُ بِالدِّيبَاجِ لِحُسْنِهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ مِنْ أَهْلٍ نَابُلُسَ، وَكَانَ مُغَالِيًا فِي مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ، وَكَانَ يَعِظُ. تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو فُلَيْتَةَ أَمِيرُ مَكَّةَ، وَوَلِيَ الْإِمَارَةَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْقَاسِمُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْعَزِيزُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّرِيفُ الْعَلَوِيُّ الْحُسَيْنِيُّ فُجْأَةً بِنَيْسَابُورَ. وَكَانَ جَدُّهُ نَقِيبَ النُّقَبَاءِ بِخُرَاسَانَ. وَعُرِضَ عَلَى الْعَزِيزِ هَذَا نِقَابَةُ الْعَلَوِيِّينَ بِنَيْسَابُورَ فَامْتَنَعَ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ وِزَارَةُ السُّلْطَانِ فَامْتَنَعَ، وَلَزِمَ الِانْقِطَاعَ وَالِاشْتِغَالَ بِأَمْرِ آخِرَتِهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ قَاضِي قُضَاةِ خُرَاسَانَ أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ صَاعِدٍ، وَكَانَ خَيِّرًا صَالِحًا.

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] (528) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ شَمْسِ الْمُلُوكِ شَقِيفَ تِيرُونَ وَنَهْبِهِ بَلَدَ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ سَارَ شَمْسُ الْمُلُوكِ إِسْمَاعِيلُ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى شَقِيفِ تِيرُونَ وَهُوَ فِي الْجَبَلِ الْمُطِلِّ عَلَى بَيْرُوتَ وَصَيْدَا، وَكَانَ بِيَدِ الضَّحَّاكِ بْنِ جَنْدَلٍ رَئِيسِ وَادِي الْتَّيْمِ، قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ وَامْتَنَعَ بِهِ، فَتَحَامَاهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْفِرِنْجُ، يَحْتَمِي عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ بِالْأُخْرَى، فَسَارَ شَمْسُ الْمُلُوكِ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَخَذَهُ مِنْهُ فِي الْمُحَرَّمِ، وَعَظُمَ أَخْذُهُ عَلَى الْفِرِنْجِ ; لِأَنَّ الضَّحَّاكَ كَانَ لَا يَتَعَرَّضُ لِشَيْءٍ مِنْ بِلَادِهِمُ الْمُجَاوِرَةِ لَهُ، فَخَافُوا شَمْسَ الْمُلُوكِ، فَشَرَعُوا فِي جَمْعِ عَسَاكِرِهِمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ سَارُوا إِلَى بَلَدِ حَوْرَانَ، فَخَرَّبُوا أُمَّهَاتِ الْبَلَدِ، وَنَهَبُوا مَا أَمْكَنَهُمْ نَهْبَهُ نُهْبَةً عَظِيمَةً. وَكَانَ شَمْسُ الْمُلُوكِ، لَمَّا رَآهُمْ يَجْتَمِعُونَ جَمَعَ هُوَ أَيْضًا، وَحَشَدَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ وَغَيْرِهِمْ، فَنَزَلَ بِإِزَاءِ الْفِرِنْجِ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ مُنَاوَشَةٌ عِدَّةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ إِنَّ شَمْسَ الْمُلُوكِ نَهَضَ بِبَعْضِ عَسْكَرِهِ، وَجَعَلَ الْبَاقِيَ قُبَالَةً الْفِرِنْجِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَقَصَدَ بِلَادَهُمْ طَبَرِيَّةَ، وَالنَّاصِرَةَ، وَعَكَّا وَمَا يُجَاوِرُهَا مِنِ الْبِلَادِ، فَنَهَبُ وَخَرَّبَ وَأَحْرَقَ وَأَهْلَكَ أَكْثَرَ الْبِلَادِ وَسَبَى النِّسَاءَ وَالذُّرِّيَّةَ، وَامْتَلَأَتْ أَيْدِي مَنْ مَعَهُ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالْفِرِنْجِ، فَانْزَعَجُوا، وَرَحَلُوا فِي الْحَالِ لَا يَلْوِي أَخٌ عَلَى أَخِيهِ، وَطَلَبُوا بِلَادَهُمْ. وَأَمَّا شَمْسُ الْمُلُوكِ فَإِنَّهُ عَادَ إِلَى عَسْكَرِهِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكَهُ الْفِرِنْجُ،

فَوَصَلَ سَالِمًا، وَوَصَلَ الْفِرِنْجُ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَرَأَوْهَا خَرَابًا فَفَتَّ فِي أَعَضَادِهِمْ وَتَفَرَّقُوا، وَرَاسَلُوا فِي تَجْدِيدِ الْهُدْنَةِ فَتَمَّ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ لِلسَّنَةِ. ذِكْرُ عَوْدِ الْمَلِكِ طُغْرُلَ إِلَى الْجَبَلِ وَانْهِزَامِ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ الْمَلِكُ طُغْرُلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ مَلِكُ بِلَادِ الْجَبَلِ جَمِيعِهَا، وَأَجْلَى عَنْهَا أَخَاهُ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَسْعُودًا لَمَّا عَادَ مِنْ حَرْبِ أَخِيهِ بَلَغَهُ عِصْيَانُ دَاوُدَ ابْنِ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ بِأَذْرَبِيجَانَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، وَحَصَرَهُ بِقَلْعَةِ رُوئِينَ دَزْ، وَكَانَ قَدْ تَحَصَّنَ بِهَا، وَاشْتَغَلَ بِحَصْرِهِ، فَجَمَعَ الْمَلِكُ طُغْرُلُ الْعَسَاكِرَ، وَمَالَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، وَلَمْ يَزَلْ يَفْتَحُ الْبِلَادَ، فَكَثُرَتْ عَسَاكِرُهُ، وَقَصَدَ مَسْعُودًا، فَلَمَّا قَارَبَ قَزْوِينَ سَارَ مَسْعُودٌ نَحْوَهُ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْعَسْكَرَانِ فَارَقَ مَسْعُودًا مِنْ أُمَرَائِهِ مَنْ كَانَ قَدِ اسْتَمَالَهُ طُغْرُلُ فَبَقِيَ فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَوَلَّى مُنْهَزِمًا أَوَاخِرَ رَمَضَانَ. وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ فِي الْقُدُومِ [إِلَى] بَغْدَادَ، فَأَذِنَ لَهُ، وَكَانَ نَائِبَهُ بِأَصْفَهَانَ أُلْبُقْشُ السِّلَاحِيُّ، وَمَعَهُ الْمَلِكُ سَلْجُوقْشَاهْ، فَلَمَّا سَمِعَ بِانْهِزَامِ مَسْعُودٍ قَصَدَ بَغْدَادَ أَيْضًا، فَنَزَلَ سَلْجُوقْشَاهْ بِدَارِ السُّلْطَانِ، فَأَكْرَمَهُ الْخَلِيفَةُ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، ثُمَّ قَصَدَ مَسْعُودٌ بَغْدَادَ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ رُكَّابُ جِمَالٍ ;لِعَدَمٍ مَا يَرْكَبُونَهُ، وَلَقِيَ فِي طَرِيقَهِ شِدَّةً، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الدَّوَابَّ، وَالْخِيَامَ، وَالْآلَاتِ، وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالثِّيَابِ، فَدَخَلَ الدَّارَ السُّلْطَانِيَّةَ بِبَغْدَادَ مُنْتَصَفَ شَوَّالٍ، وَأَقَامَ طُغْرُلُ بِهَمَذَانَ. ذِكْرُ حَصْرِ أَتَابَكْ زَنْكِي آمِدَ، وَالْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَاوُدَ، وَمُلْكِ زَنْكِي قَلْعَةَ الصُّورِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَ أَتَابَكْ زَنْكِي صَاحِبُ الْمَوْصِلِ وَتَمُرْتَاشُ صَاحِبُ مَارِدِينَ،

وَقَصَدَا مَدِينَةَ آمِدَ فَحَصَرَاهَا، فَأَرْسَلَ صَاحِبُهَا إِلَى دَاوُدَ بْنِ سَقْمَانَ بْنِ أُرْتُقَ صَاحِبِ حِصْنِ كِيفَا يَسْتَنْجِدُهُ، فَجَمَعَ مَنْ أَمْكَنَهُ جَمْعَهُ، وَسَارَ نَحْوَ آمِدَ لِيُرَحِّلَهُمَا عَنْهَا، فَالْتَقَوْا عَلَى بَابِ آمِدَ، وَتَصَافُّوا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فَانْهَزَمَ دَاوُدُ، وَعَادَ مَفْلُولًا، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ عَسْكَرِهِ. وَأَقَامَ زَنْكِي وَتَمُرْتَاشُ عَلَى آمِدَ مُحَاصِرِينَ لَهَا، وَقَطَّعَا الشَّجَرَ، وَشَعَّثَا الْبَلَدَ، وَعَادَا عَنْهَا مِنْ غَيْرِ بُلُوغِ غَرَضٍ، فَقَصَدَ زَنْكِي قَلْعَةَ الصُّورَ مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ، وَحَصَرَهَا وَضَايَقَهَا، فَمَلَكَهَا فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَاتَّصَلَ بِهِ ضِيَاءُ الدِّينِ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْكَفْرَتُوثِيِّ زَنْكِي، وَكَانَ حَسَنَ الطَّرِيقَةِ، عَظِيمَ الرِّئَاسَةِ وَالْكِفَايَةِ، مُحِبًّا لِلْخَيْرِ وَأَهْلِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ زَنْكِي قِلَاعَ الْأَكْرَادِ الْحُمَيْدِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي عَلَى جَمِيعِ قِلَاعِ الْأَكْرَادِ الْحُمَيْدِيَّةِ، مِنْهَا قَلْعَةُ الْعَقْرِ وَقَلْعَةُ شُوشَ، وَغَيْرُهُمَا. وَكَانَ لَمَّا مَلَكَ الْمَوْصِلَ أَقَرَّ صَاحِبَهَا الْأَمِيرَ عِيسَى الْحُمَيْدِيَّ عَلَى وِلَايَتِهَا وَأَعْمَالِهَا، وَلَمْ يَعْتَرِضْهُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا هُوَ بِيَدِهِ، فَلَمَّا حَصَرَ الْمُسْتَرْشِدُ الْمَوْصِلَ حَضَرَ عِيسَى هَذَا عِنْدَهُ، وَجَمَعَ الْأَكْرَادَ عِنْدَهُ فَأَكْثَرَ، فَلَمَّا رَحَلَ الْمُسْتَرْشِدُ عَنِ الْمَوْصِلِ أَمَرَ زَنْكِي أَنْ تُحْصَرَ قِلَاعُهُمْ فَحُصِرَتْ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَقُوتِلَتْ قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى أَنْ مُلِكَتْ هَذِهِ السَّنَةَ، فَاطْمَأَنَّ إِذًا أَهْلُ سَوَادِ الْمَوْصِلِ الْمُجَاوِرُونَ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مَعَهُمْ فِي ضَائِقَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ نَهْبِ أَمْوَالِهِمْ، وَخَرَابِ الْبِلَادِ. ذِكْرُ مُلْكِ قِلَاعِ الْهَكَّارِيَّةِ وَكَوَاشَى وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْأَكْرَادِ مِمَّنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَحْوَالِهِمْ أَنَّ أَتَابَكْ زَنْكِي لَمَّا

مَلَكَ قِلَاعَ الْحُمَيْدِيَّةِ وَأَجْلَاهُمْ عَنْهَا خَافَ أَبُو الْهَيْجَاءِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَاحِبُ قَلْعَةِ آشِبَ وَالْجَزِيرَةِ وَنُوشَى، فَأَرْسَلَ إِلَى أَتَابَكْ زَنْكِي مَنِ اسْتَحْلَفَهُ لَهُ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ مَالًا، وَحَضَرَ عِنْدَ زَنْكِي بِالْمَوْصِلِ فَبَقِيَ مُدَّةً ثُمَّ مَاتَ، فَدُفِنَ بِتَلِّ تَوْبَةَ. وَلَمَّا سَارَ عْنَ آشِبَ إِلَى الْمَوْصِلِ أَخْرَجَ وَلَدَهُ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي الْهَيْجَاءِ مِنْهَا ; خَوْفًا أَنَّ يَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا، وَأَعْطَاهُ قَلْعَةَ نُوشَى، وَأَحْمَدُ هَذَا هُوَ وَالِدُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفِ بِالْمَشْطُوبِ، مِنْ أَكَابِرَ أُمَرَاءَ صَلَاحِ الدِّينِ بْنِ أَيُّوبَ بِالشَّامِ. وَلَمَّا أَخْرَجَهُ أَبُوهُ مَنْ آشِبَ اسْتَنَابَ بِهَا كُرْدِيًّا يُقَالُ لَهُ: بَاوُ الْأَرْجِيُّ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو الْهَيْجَاءِ سَارَ وَلَدُهُ أَحْمَدُ بْنُ نُوشَى إِلَى آشِبَ لِيَمْلِكَهَا، فَمَنَعَهُ بَاوُ وَأَرَادَ حِفْظَهَا لِوَلَدٍ صَغِيرٍ لِأَبِي الْهَيْجَاءِ اسْمُهُ عَلِيٌّ، فَسَارَ زَنْكِي بِعَسْكَرِهِ فَنَزَلَ عَلَى آشِبَ وَمَلَكَهَا. وَسَبَبُ مَلْكِهَا أَنَّ أَهْلَهَا نَزَلُوا كُلُّهُمْ إِلَى الْقِتَالِ، فَتَرَكَهُمْ زَنْكِي حَتَّى قَارَبُوهُ، وَاسْتَجَرَّهُمْ حَتَّى أَبْعَدُوا عَنِ الْقَلْعَةِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِمْ فَانْهَزَمُوا، فَوَضَعَ السَّيْفَ فِيهِمْ، فَأَكْثَرَ الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ، وَمَلَكَ زَنْكِي الْقَلْعَةَ فِي الْحَالِ، وَأَحْضَرَ جَمَاعَةً مِنْ مُقَدِّمِي الْأَكْرَادِ فِيهِمْ بَاوُ فَقَتَلَهُمْ، وَعَادَ عَنْهَا إِلَى الْمَوْصِلِ، ثُمَّ سَارَ عَنْهَا، فَفِي غَيْبَتِهِ أَرْسَلَ نَصِيرَ الدِّينِ جَقَرَ نَائِبَ زَنْكِي، وَخَرَّبَ آشِبَ وَخَلَّى كُهَيْجَةَ وَنُوشَى وَقَلْعَةَ الْجَلَّابِ وَهِيَ قَلْعَةُ الْعِمَادِيَّةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى قَلْعَةِ الشَّعْبَانِيِّ، وَفَرَحٍ، وَكُوشِرَ، وَالزَّعْفَرَانِ، وَأَلْقَى، وَنِيرُوَّةَ، وَهِيَ حُصُونٌ الْمِهْرَانِيَّةِ، فَحَصَرَهَا فَمَلَكَ الْجَمِيعَ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُ الْجَبَلِ وَالزُّوزَانِ، وَأَمِنَتِ الرَّعَايَا مِنَ الْأَكْرَادِ. وَأَمَّا بَاقِي قِلَاعِ الْهَكَّارِيَّةِ جَلَّ صُورَ، وَهَرُورُ، وَالْمَلَاسِي، وَمَابَرْمَا، وَيَابُوخَا، وَبَاكِزَا، وَنِسْبَاسُ، فَإِنَّ قُرَاجَةَ صَاحِبَ الْعِمَادِيَّةِ فَتَحَهَا مِنْ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ بَعْدَ قَتْلِ زَنْكِي، وَقُرَاجَةُ هَذَا كَانَ أَمِيرًا قَدْ أَقْطَعَهُ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيٌّ بَلَدَ الْهَكَّارِيَّةِ بَعْدَ قَتْلِ زَنْكِي، وَلَمْ أَعْلَمْ تَارِيخَ فَتْحِ هَذِهِ الْقِلَاعِ ;فَلِهَذَا ذَكَرْتُهُ هَاهُنَا. وَحَكَى غَيْرَ هَذَا بَعْضُ فُضَلَاءِ الْأَكْرَادِ، وَخَالَفَ فِيهِ فَقَالَ: إِنَّ زَنْكِي لَمَّا فَتَحَ قَلْعَةَ آشِبَ وَخَرَّبَهَا، وَبَنَى قَلْعَةَ الْعِمَادِيَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْهَكَّارِيَّةِ إِلَّا صَاحِبُ جَلَّ صُورَا، وَصَاحِبُ هَرُورَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا شَوْكَةٌ يُخَافُ مِنْهَا، عَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَخَافَهُ أَصْحَابُ الْقِلَاعِ الْجَبَلِيَّةِ، فَاتُّفِقَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِيسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ صَاحِبَ الرَّبِيَّةِ، وَأَلْقَى، وَفَرَحٍ،

وَغَيْرِهَا تُوُفِّيَ، وَمَلَكَهَا بَعْدَهُ وَلَدُهُ عَلِيٌّ، وَكَانَتْ وَالِدَتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ الْحَسَنِ أُخْتُ إِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى - وَهُمَا مِنَ الْأُمَرَاءِ - مَعَ زَنْكِي، وَكَانَا بِالْمَوْصِلِ، فَأَرْسَلَهَا وَلَدُهَا عَلِيٌّ إِلَى أَخَوَيْهَا، وَطَلَبَا لَهُ الْأَمَانَ مِنْ زَنْكِي، وَحَلَّفَاهُ لَهُ فَفَعَلَ، وَنَزَلَ إِلَى خِدْمَةِ زَنْكِي، وَأَقَرَّهُ عَلَى قِلَاعِهِ، وَاشْتَغَلَ زَنْكِي بِفَتْحِ قِلَاعِ الْهَكَّارِيَّةِ، وَكَانَ الشَّعْبَانِيُّ بِيَدِ أَمِيرٍ مِنَ الْمِهْرَانِيَّةِ اسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ، فَأَخْذَهُ مِنْهُ، وَقَرَّبَهُ مِنْهُ لِكِبَرِهِ وَقِلَّةِ أَعْمَالِهِ. وَكَانَ نَصِيرُ الدِّينِ جَقَرَ يَكْرَهُ عَلِيًّا صَاحِبَ الرَّبِيَّةِ، وَغَيْرِهَا، فَحَسَّنَ لِزَنْكِي الْقَبْضَ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، ثُمَّ نَدِمَ زَنْكِي عَلَى قَبْضِهِ فَأَرْسَلَ إِلَى نَصِيرِ الدِّينِ أَنْ يُطْلِقَهُ فَرَآهُ قَدْ مَاتَ، قِيلَ إِنَّ نَصِيرَ الدِّينِ قَتَلَهُ. ثُمَّ أَرْسَلَ الْعَسْكَرُ إِلَى قَلْعَةِ الرَّبِيَّةِ فَنَازَلُوهَا بَغْتَةً، فَمَلَكُوهَا فِي سَاعَةٍ، وَأَسَرُوا كُلَّ مَنْ بِهَا مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ وَأَخَوَاتِهِ، وَكَانَتْ وَالِدَةُ عَلِيٍّ خَدِيجَةُ غَائِبَةً فَلَمْ تُوجَدْ، فَلَمَّا سَمِعَ زَنْكِي الْخَبَرَ بِفَتْحِ الرَّبِيَّةِ سَرَّهُ، وَأَمَرَ أَنْ تَسِيرَ الْعَسَاكِرُ إِلَى بَاقِي الْقِلَاعِ الَّتِي لَعَلِيٍّ، فَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ فَحَصَرُوهَا، فَرَأَوْهَا مَنِيعَةً، فَرَاسَلَهُمْ زَنْكِي، وَوَعَدَهُمُ الْإِحْسَانَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى التَّسْلِيمِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يُطْلِقَ كُلَّ مَنْ فِي السِّجْنِ مِنْهُمْ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُسَلِّمُوا أَيْضًا قَلْعَةَ كَوَاشَى، فَمَضَتْ خَدِيجَةُ وَالِدَةُ عَلِيٍّ إِلَى صَاحِبِ كَوَاشَى، وَاسْمُهُ خَوْلُ وَهْرُونَ، وَهُوَ مِنَ الْمِهْرَانِيَّةِ، فَسَأَلَتْهُ النُّزُولَ عَنْ كَوَاشَى، فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ، وَتَسَلَّمَ زَنْكِي الْقِلَاعَ، وَأَطْلَقَ الْأَسْرَى، فَلَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِ هَذَا، فَقَالَ: يَنْزِلُ مِنْ مِثْلِ كَوَاشَى لِقَوْلِ امْرَأَةٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ النَّاسِ مُرُوءَةً لَا يَرُدُّ مَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ النَّاسِ عَقْلًا، وَاسْتَقَامَتْ وِلَايَةُ الْجِبَالِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْقَعَ الدَّانِشْمَنْدُ صَاحِبُ مَلَطْيَةَ بِالْفِرِنْجِ الَّذِينَ بِالشَّامِ، فَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَأَسَرَ كَثِيرًا، وَفِيهَا اصْطَلَحَ الْخَلِيفَةُ وَأَتَابَكْ زَنْكِي، وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عُزِلَ شَرَفُ الدِّينِ أَنُوشِرْوَانُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ وِزَارَةِ

الْخَلِيفَةِ، وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ أَمُّ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ، وَفِيهَا سَيَّرَ الْمُسْتَرْشِدُ عَسْكَرًا إِلَى تَكْرِيتَ فَحَصَرُوا مُجَاهِدَ الدِّينِ بَهْرُوزَ فَصَانَعَ عَنْهَا بِمَالٍ فَعَادُوا عَنْهُ. وَفِيهَا اجْتَمَعَ جَمْعٌ مِنَ الْعَسَاكِرِ السَّنْجَرِيَّةِ مَعَ الْأَمِيرِ أَرْغَشَ، وَحَصَرُوا قَلْعَةَ كَرْدَكُوهَ بِخُرَاسَانَ، وَهِيَ لِلْإِسْمَاعِيلِيَّةَ، وَضَيَّقُوا عَلَى أَهْلِهَا، وَطَالَ حَصْرُهَا، وَعَدِمَتْ عِنْدَهُمُ الْأَقْوَاتُ، فَأَصَابَ أَهْلَهَا تَشَنُّجٌ، وَكُزَازٌ، وَعَجْزَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنِ الْقِيَامِ فَضْلًا عَنِ الْقِتَالِ، فَلَمَّا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْفَتْحِ رَحَلَ الْأَمِيرُ أَرْغَشُ، فَقِيلَ: إِنَّهُمْ حَمَلُوا إِلَيْهِ مَالًا كَثِيرًا، وَأَعْلَاقًا نَفِيسَةً، فَرَحَلَ عَنْهُمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ سُلَيْمَانُ بْنُ مُهَارِشٍ الْعُقَيْلِيُّ أَمِيرُ بَنِي عُقَيْلٍ، وَوَلِيَ الْإِمَارَةَ بَعْدَهُ أَوْلَادُهُ مَعَ صِغَرِ سِنِّهِمْ، وَطِيفَ بِهِمْ فِي بَغْدَادَ رِعَايَةً لِحَقِّ جَدِّهِمْ مُهَارِشٍ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ عِنْدَهُ فِي الْحَدِيثَةِ لَمَّا فَعَلَ بِهِ الْبَسَاسِيرِيُّ مَا ذَكَرْنَا. وَفِيهَا فِي الْمُحَرَّمِ تُوُفِّيَ الْفَقِيهُ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ فَرْهُونَ الشَّافِعِيُّ الْفَارِقِيُّ، وَمَوْلِدُهُ بِمَيَّافَارِقِينَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَتَفَقَّهَ بِهَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْكَازَرُونِيِّ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْكَازَرُونِيُّ انْحَدَرَ إِلَى بَغْدَادَ، وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَأَبِي نَصْرٍ الصَّبَّاغِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِوَاسِطَ، وَكَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا، لَا يُوَارِي وَلَا يُحَابِي أَحَدًا فِي الْحُكْمِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ [اللَّهِ] بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ

الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِيهِ وَأَفْتَى وَنَاظَرَ، وَكَانَ يَعِظُ، وَيُكْثِرُ فِي كَلَامِهِ مِنَ التَّجَانُسِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَيْنَ الْقُدُودُ الْعَالِيَةُ، وَالْخُدُودُ الْوَرْدِيَّةُ، مُلِئَتْ بِهَا وَاللَّهِ الْعَالِيَةُ وَالْوَرْدِيَّةُ، وَهُمَا مَقْبَرَتَانِ بِنَهَرِ الْمُعَلَّى. وَمِنْ شِعْرِهِ: الدَّمْعُ دَمًا يَسِيلُ مِنْ أَجْفَانِي ... إِنْ عِشْتُ مَعَ الْبُكَا فَمَا أَجْفَانِي سِجْنِي شَجَنِي وَهَمَّنِي سَمَّانِي ... الْعَاذِلُ بِالْمَلَامِ قَدْ سَمَّانِي وَالذِّكْرُ لَهُمْ يَزِيدُ فِي أَشْجَانِي ... وَالنَّوْحُ مَعَ الْحَمَامِ قَدْ أَشْجَانِي ضَاقَتْ بِبُعَادِ مُنْيَتِي أَعْطَانِي ... وَالْبَيْنُ يَدَ الْهُمُومِ قَدْ أَعْطَانِي وَفِيهَا تُوُفِّيَ ابْنُ أَبِي الصَّلْتِ الشَّاعِرُ، وَمِنْ شِعْرِهِ يَذُمُّ ثَقِيلًا: لِي صَدِيقٌ عَجِبْتُ كَيْفَ ... اسْتَطَاعَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ تُقِلُّهْ أَنَا أَرْعَاهُ مُكْرِمًا وَبِقَلْبِي مِنْهُ ... مَا يَنْسِفُ الْجِبَالَ أَقِلُّهْ هُوَ مِثْلُ الْمَشِيبِ أَكْرَهُ رُؤْيَا ... هُ وَلَكِنْ أَصُونُهُ وَأُجِلُّهْ وَلَهُ أَيْضًا: سَادَ صِغَارُ النَّاسِ فِي عَصْرِنَا ... لَا دَامَ مِنْ عَصْرٍ وَلَا كَانَا كَالدَّسْتِ مَهْمَا هَمَّ أَنْ يَنْقَضِيَ ... صَارَ بِهِ الْبَيْذَقُ فِرْزَانَا وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَبُو رَشِيدٍ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، مِنْ أَهْلٍ طَبَرِسْتَانَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ أَيْضًا وَرَوَاهُ، وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا، أَقَامَ بِجَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ سِنِينَ مُنْفَرِدًا يَعْبُدُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَعَادَ إِلَى آمِلَ فَتُوُفِّيَ فِيهَا وَقَبَرُهُ يُزَارُ.

ثم دخلت سنة تسع وعشرين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] (529) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَلِكِ طُغْرُلَ، وَمُلْكِ مَسْعُودٍ بَلَدَ الْجَبَلِ قَدْ ذَكَرْنَا قُدُومَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ إِلَى بَغْدَادَ مُنْهَزِمًا مِنْ أَخِيهِ الْمَلِكِ طُغْرُلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَغْدَادَ أَكْرَمَهُ الْخَلِيفَةُ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِثْلُهُ، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى هَمَذَانَ، وَجَمْعِ الْعَسَاكِرِ، وَمُنَازَعَةِ أَخِيهِ طُغْرُلَ فِي السَّلْطَنَةِ وَالْبِلَادِ، وَمَسْعُودٌ يَعُدُّ وَيُدَافِعُ الْأَيَّامَ، وَالْخَلِيفَةُ يَحُثُّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَوَعَدَهُ أَنْ يَسِيرَ مَعَهُ بِنَفْسِهِ، وَأَمَرَ أَنْ تَبْرُزَ خِيَامُهُ إِلَى بَابِ الْخَلِيفَةِ. وَكَانَ قَدِ اتَّصَلَ الْأَمِيرُ الْبَقْشُ السِّلَاحِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ بِالْخَلِيفَةِ، وَطَلَبُوا خِدْمَتَهُ فَاسْتَخْدَمَهُمْ، وَاتَّفَقَ مَعَهُمْ. وَاتَّفَقَ أَنَّ إِنْسَانًا أُخِذَ فَوُجِدَ مَعَهُ مُلَطِّفَاتٌ مِنْ طُغْرُلَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءِ وَخَاتَمُهُ بِالْإِقْطَاعِ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى الْخَلِيفَةُ ذَلِكَ قَبَضَ عَلَى أَمِيرٍ مِنْهُمُ اسْمُهُ أَغْلَبَكَّ، وَنَهَبَ مَالَهُ، فَاسْتَشْعَرَ غَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَ الْخَلِيفَةِ فَهَرَبُوا إِلَى عَسْكَرِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى مَسْعُودٍ فِي إِعَادَتِهِمْ إِلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَاحْتَجَّ بِأَشْيَاءَ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْخَلِيفَةِ، وَحَدَثَ بَيْنَهُمَا وَحْشَةٌ أَوْجَبَتْ تَأَخُّرَهُ عَنِ الْمَسِيرِ مَعَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يُلْزِمُهُ بِالْمَسِيرِ مَعَهُ أَمْرًا جَزْمًا، فَبَيْنَمَا الْأَمْرُ عَلَى هَذَا إِذْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِوَفَاةِ أَخِيهِ طُغْرُلَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِمَائَةٍ فِي الْمُحَرَّمِ، وَكَانَ خَيِّرًا عَاقِلًا عَادِلًا قَرِيبًا إِلَى الرَّعِيَّةِ مُحْسِنًا إِلَيْهَا، وَكَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ قَدْ خَرَجَ مِنْ دَارِهِ يُرِيدُ السَّفَرَ إِلَى أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، فَدَعَا لَهُ النَّاسُ، فَقَالَ: ادْعُوَا بِخَيْرِنَا لِلْمُسْلِمِينَ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى مَسْعُودٍ سَارَ مِنْ سَاعَتِهِ نَحْوَ هَمَذَانَ، وَأَقْبَلَتِ الْعَسَاكِرُ جَمِيعُهَا إِلَيْهِ، وَاسْتَوْزَرَ شَرَفَ الدِّينِ أَنُوشِرْوَانَ بْنَ خَالِدٍ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ فِي

صُحْبَتِهِ هُوَ وَأَهْلُهُ، وَوَصَلَ مَسْعُودٌ إِلَى هَمَذَانَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَأَطَاعَتْهُ الْبِلَادُ جَمِيعُهَا وَأَهْلُهَا. ذِكْرُ قَتْلِ شَمْسِ الْمُلُوكِ، وَمُلْكِ أَخِيهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، قُتِلَ شَمْسُ الْمُلُوكِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ تَاجِ الْمُلُوكِ بُورِي بْنِ طُغْدِكِينَ صَاحِبُ دِمَشْقَ، وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ رَكِبَ طَرِيقًا شَنِيعًا مِنَ الظُّلْمِ وَمُصَادَرَاتِ الْعُمَّالِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَعْمَالِ الْبَلَدِ، وَبَالَغَ فِي الْعُقُوبَاتِ لِاسْتِخْرَاجِ الْأَمْوَالِ، وَظَهَرَ مِنْهُ بُخْلٌ زَائِدٌ وَدَنَاءَةٌ نَفْسٍ بِحَيْثُ أَنَّهُ لَا يَأْنَفُ مِنْ أَخْذِ الشَّيْءِ الْحَقِيرِ بِالْعُدْوَانِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَكَرِهَهُ أَهْلُهُ وَأَصْحَابُهُ وَرَعِيَّتُهُ. ثُمَّ ظَهَرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَاتَبَ عِمَادَ الدِّينِ زَنْكِي يُسَلِّمُ إِلَيْهِ دِمَشْقَ، وَيُحِثُّهُ عَلَى سُرْعَةِ الْوُصُولِ، وَأَخْلَى الْمَدِينَةَ مِنَ الذَّخَائِرِ، وَنَقَلَ الْجَمِيعَ إِلَى صَرْخَدَ، وَتَابَعَ الرُّسُلَ إِلَى زَنْكِي يَحُثُّهُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ وَيَقُولُ لَهُ: إِنْ أَهْمَلْتَ الْمَجِيءَ سَلَّمْتُهَا إِلَى الْفِرِنْجِ، فَسَارَ زَنْكِي، فَظَهَرَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ فِي دِمَشْقَ، فَامْتَعَضَ أَصْحَابُ أَبِيهِ وَجَدِّهِ لِذَلِكَ وَأَقْلَقَهُمْ، وَأَنْهَوُا الْحَالَ لِوَالِدَتِهِ فَسَاءَهَا، وَأَشْفَقَتْ مِنْهُ، وَوَعَدَتْهُمْ بِالرَّاحَةِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ. ثُمَّ إِنَّهَا ارْتَقَبَتِ الْفُرْصَةَ فِي الْخَلْوَةِ مِنْ غِلْمَانِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ عَلَى ذَلِكَ أَمَرَتْ غِلْمَانَهَا بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ، وَأَمَرَتْ بِإِلْقَائِهِ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الدَّارِ لِيُشَاهِدَهُ غِلْمَانُهُ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَتِيلًا سُرُّوا لِمَصْرَعِهِ وَبِالرَّاحَةِ مِنْ شَرِّهِ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ سَابِعَ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِمَائَةٍ، وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ وَالِدَهُ كَانَ لَهُ حَاجِبٌ اسْمُهُ يُوسُفُ بْنُ فَيْرُوزَ، وَكَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ حَاكِمًا فِي دَوْلَتِهِ ثُمَّ فِي دَوْلَةِ شَمْسِ الْمُلُوكِ بَعْدَهُ، فَاتُّهِمَ بِأُمِّ شَمْسِ الْمُلُوكِ، وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَهَمَّ بِقَتْلِ يُوسُفَ فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى تَدْمُرَ وَتَحَصَّنَ بِهَا، وَأَظْهَرَ الطَّاعَةَ لِشَمْسِ الْمُلُوكِ، فَأَرَادَ قَتْلَ أُمَّهُ، فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَقَتَلَهُ خَوْفًا مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَمَّا قُتِلَ مَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ تَاجِ الْمُلُوكِ بُورِي، وَجَلَسَ فِي مَنْصِبِهِ، وَحَلَفَ لَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَاسْتَقَرَّ فِي الْمُلْكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ حَصْرِ أَتَابَكْ زَنْكِي دِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ أَتَابَكْ زَنْكِي دِمَشْقَ، وَكَانَ نُزُولُهُ عَلَيْهَا أَوَّلَ جُمَادَى الْأُولَى، وَسَبَبُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِرْسَالِ شَمْسِ الْمُلُوكِ صَاحِبَهُ إِلَيْهِ، وَاسْتِدْعَائِهِ لِيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَصَلَتْ كُتُبُهُ، وَرُسُلُهُ بِذَلِكَ سَارَ إِلَيْهَا، فَقُتِلَ شَمْسُ الْمُلُوكِ قَبْلَ وُصُولِهِ، وَلَمَّا عَبَرَ الْفُرَاتَ أَرْسَلَ رُسُلًا فِي تَقْرِيرِ قَوَاعِدِ التَّسْلِيمِ، فَرَأَوُا الْأَمْرَ قَدْ فَاتَ إِلَّا أَنَّهُمْ أُكْرِمُوا وَأُحْسِنَ إِلَيْهِمْ، وَأُعِيدُوا بِأَجْمَلِ جَوَابٍ، وَعَرَفَ زَنْكِي قَتْلَ شَمْسِ الْمُلُوكِ، وَأَنَّ الْقَوَاعِدَ عِنْدَهُمْ مُسْتَقِرَّةٌ لِشِهَابِ الدِّينِ، وَالْكَلِمَةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى طَاعَتِهِ، فَلَمْ يَحْفَلْ زَنْكِي بِهَذَا الْجَوَابِ، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ فَنَازَلَهَا، وَأَجْفَلَ أَهْلُ السَّوَادِ إِلَى دِمَشْقَ، وَاجْتَمَعُوا فِيهَا عَلَى مُحَارَبَتِهِ. وَنَزَلَ أَوَّلًا شَمَالَيْهَا ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مَيْدَانِ الْحِصَارِ، وَزَحَفَ وَقَاتَلَ، فَرَأَى قُوَّةً ظَاهِرَةً، وَشُجَاعَةً عَظِيمَةً، وَاتِّفَاقًا تَامًّا عَلَى مُحَارَبَتِهِ، وَقَامَ مُعِينُ الدِّينِ أُنُزُ مَمْلُوكُ جَدِّهِ طُغْدِكِينَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ بِدِمَشْقَ قِيَامًا مَشْهُودًا، وَظَهَرَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِأُمُورِ الْحِصَارِ وَالْقِتَالِ وَكِفَايَتِهِ مَا لَمْ يُرَ وَمَا كَانَ سَبَبُ تَقَدُّمِهِ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى الْأُمُورِ بِأَسْرِهَا، عَلَى مَا نَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَاصِرُهَا، وَصَلَ رَسُولُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ، وَهُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ بِشْرٍ الْجَزَرِيُّ مِنْ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ يَخْلَعُ لِأَتَابَكْ زَنْكِي، وَيَأْمُرُهُ بِمُصَالَحَةِ صَاحِبِ دِمَشْقَ

الْمَلِكِ أَلْبْ أَرْسِلَانْ مَحْمُودٍ الَّذِي مَعَ أَتَابَكْ زَنْكِي، فَرَحَلَ عَنْهَا لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنَ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ. ذِكْرُ قَتْلِ حَسَنِ بْنِ الْحَافِظِ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ أَنَّ الْحَافِظَ لِدِينِ اللَّهِ صَاحِبَ مِصْرَ اسْتَوْزَرَ ابْنَهُ حَسَنًا، وَخَطَبَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، فَبَقِيَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، وَمَاتَ مَسْمُومًا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ الْحَافِظَ - وَكَانَ جَرِيئًا عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ - وَكَانَ فِي نَفْسِ الْحَافِظِ عَلَى الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ أَعَانُوا أَبَا عَلِيِّ بْنَ الْأَفْضَلِ حِقْدٌ، وَيُرِيدُ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، فَأَمَرَ ابْنَهُ حَسَنًا بِذَلِكَ، فَتَغَلَّبَ عَلَى الْأَمْرِ جَمِيعِهِ وَاسْتَبَدَّ بِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِأَبِيهِ مَعَهُ حُكْمٌ، وَقَتَلَ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَمِنْ أَعْيَانِ الْبِلَادِ أَيْضًا، حَتَّى إِنَّهُ قَتَلَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعِينَ أَمِيرًا. فَلَمَّا رَأَى أَبُوهُ تَغَلُّبَهُ عَلَيْهِ أَخْرَجَ لَهُ خَادِمًا مِنْ خَدَمِ الْقَصْرِ الْأَكَابِرِ، فَجَمَعَ الْجُمُوعَ، وَحَشَدَ مِنَ الرَّجَّالَةِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْبَلَدِ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِمْ حَسَنٌ جَمَاعَةً مِنْ خَوَاصِّهِ وَأَصْحَابِهِ، فَقَاتَلُوهُمْ فَانْهَزَمَ الْخَادِمُ، وَقُتِلَ مِنَ الرَّجَّالَةِ الَّذِينَ مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَعَبَرَ الْبَاقُونَ إِلَى بَرِ الْجَزِيرَةِ، فَاسْتَكَانَ الْحَافِظُ، فَصَبَرَ تَحْتَ الْحَجْرِ. ثُمَّ إِنَّ الْبَاقِينَ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ اجْتَمَعُوا، وَاتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ حَسَنٍ، وَأَرْسَلُوا إِلَى أَبِيهِ الْحَافِظِ، وَقَالُوا لَهُ: إِمَّا أَنَّكَ تُسَلِّمُ ابْنَكَ إِلَيْنَا لِنَقْتُلَهُ أَوْ نَقْتُلَكُمَا جَمِيعًا، فَاسْتَدْعَى وَلَدَهُ إِلَيْهِ وَاحْتَاطَ عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْأُمَرَاءِ بِذَلِكَ، فَقَالُوا: لَا نَرْضَى إِلَّا بِقَتْلِهِ. فَرَأَى أَنَّهُ إِنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ طَمِعُوا فِيهِ، وَلَيْسَ إِلَى إِبْقَائِهِ سَبِيلٌ، فَأَحْضَرَ طَبِيبَيْنِ كَانَا لَهُ، أَحَدَهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخِرُ يَهُودِيٌّ، فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: نُرِيدُ سُمًّا نَسْقِيهِ لِهَذَا الْوَلَدِ لِيَمُوتَ وَنُخَلُصَ مِنْ هَذِهِ الْحَادِثَةِ. فَقَالَ: أَنَا لَا أَعْرِفُ غَيْرَ النُّقُوعِ وَمَاءِ الشَّعِيرِ وَمَا شَاكَلَ هَذَا مِنَ الْأَوْدِيَةِ. فَقَالَ: أَنَا أُرِيدُ مَا أَخْلُصُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ. فَقَالَ لَهُ: لَا أَعْرِفُ شَيْئًا، فَأَحْضَرَ الطَّبِيبَ الْمُسْلِمَ وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَصَنَعَ لَهُ شَيْئًا، فَسَقَاهُ الْوَلَدَ فَمَاتَ لِوَقْتِهِ، فَأَرْسَلَ

الْحَافِظُ إِلَى الْجُنْدِ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُ قَدْ مَاتَ. فَقَالُوا: نُرِيدُ [أَنْ] نَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَأَحْضَرَ بَعْضَهُمْ عِنْدَهُ فَرَأَوْهُ، وَظَنُّوهُ قَدْ عَمِلَ حِيلَةً، فَجَرَحُوا أَسَافِلَ رِجْلَيْهِ فَلَمْ يَجْرِ مِنْهَا دَمٌ، فَعَلِمُوا مَوْتَهُ، وَخَرَجُوا. وَدُفِنَ حَسَنٌ، وَأَحْضَرَ الْحَافِظُ الطَّبِيبَ الْمُسْلِمَ، وَقَالَ لَهُ: يَنْبَغِي أَنْ تَخْرُجَ مِنْ عِنْدِنَا مِنَ الْقَصْرِ، وَجَمِيعُ مَا لَكَ مِنِ الْإِنْعَامِ وَالْجَامِكِيَّةِ بَاقٍ عَلَيْكَ، وَأَحْضَرَ الْيَهُودِيَّ وَزَادَهُ وَقَالَ لَهُ: أَعْلَمُ أَنَّكَ تَعْرِفُ مَا طَلَبْتُهُ مِنْكَ، وَلَكِنَّكَ عَاقِلٌ فَتُقِيمُ فِي الْقَصْرِ عِنْدَنَا. وَكَانَ حَسَنٌ سَيِّئَ السِّيرَةِ ظَالِمًا، جَرِيئًا عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، فَهَجَاهُ الشُّعَرَاءُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَ الْمُعْتَمِدُ بْنُ الْأَنْصَارِيِّ صَاحِبُ التَّرَسُّلِ الْمَشْهُورِ: لَمْ تَأْتِ يَا حَسَنٌ بَيْنَ الْوَرَى حَسَنَا ... وَلَمْ تَرَ الْحَقَّ فِي دُنْيَا وَلَا دِينِ قَتْلُ النُّفُوسِ بِلَا جُرْمٍ وَلَا سَبَبٍ ... وَالْجَوْرُ فِي أَخْذِ أَمْوَالِ الْمَسَاكِينِ لَقَدْ جَمَعْتَ بِلَا عِلْمٍ وَلَا أَدَبٍ ... تِيهَ الْمُلُوكِ وَأَخْلَاقَ الْمَجَانِينِ وَقِيلَ: إِنَّ الْحَافِظَ لَمَّا رَأَى ابْنَهُ تَغَلَّبَ عَلَى الْمُلْكِ وَضَعَ عَلَيْهِ مَنْ سَقَاهُ السُّمَّ فَمَاتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا مَاتَ حَسَنٌ اسْتَوْزَرَ الْحَافِظُ الْأَمِيرَ تَاجَ الدَّوْلَةِ بَهْرَامَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَتَحَكَّمَ، وَاسْتَعْمَلَ الْأَرْمَنَ عَلَى النَّاسِ، فَاسْتَذَلُّوا الْمُسْلِمِينَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مَسِيرِ الْمُسْتَرْشِدِ إِلَى حَرْبِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَانْهِزَامِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا لَمَّا سَافَرَ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى هَمَذَانَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ طُغْرُلَ وَمَلَكَهَا - فَارَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ مِنْهُمْ يَرَنْقُشُ بَازْدَارْ،

وَقَزَلُ آخُرَ، وَسُنْقُرُ الْخُمَارْتَكِينُ وَالِي هَمَذَانَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ طَغَايَرَكَ، وَغَيْرُهُمْ، خَائِفِينَ مِنْهُ مُسْتَوْحِشِينَ، وَمَعَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَانْضَافَ إِلَيْهِمْ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ. وَأَرْسَلُوا إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمَانَ لِيَحَضُرُوا خِدْمَتَهُ، فَقِيلَ: إِنَّهَا مَكِيدَةٌ لِأَنَّ دُبَيْسًا مَعَهُمْ، وَسَارُوا نَحْوَ خُوزِسْتَانَ، وَاتَّفَقُوا مَعَ بُرْسُقَ بْنِ بُرْسُقَ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ سَدِيدَ الدَّوْلَةِ بْنَ الْأَنْبَارِيِّ بِتَوْقِيعَاتٍ إِلَى الْأُمَرَاءِ الْمَذْكُورِينَ بِتَطْيِيبِ نُفُوسِهِمْ، وَالْأَمْرِ بِحُضُورِهِمْ. وَكَانَ الْأُمَرَاءُ الْمَذْكُورُونَ قَدْ عَزَمُوا عَلَى قَبْضِ دُبَيْسٍ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِحَمْلِهِ إِلَيْهِ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَهَرَبَ إِلَى السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ. وَسَارَ الْأُمَرَاءُ إِلَى بَغْدَادَ فِي رَجَبٍ، فَأَكْرَمَهُمُ الْخَلِيفَةُ، وَحَمَلَ إِلَيْهِمِ الْإِقَامَاتِ وَالْخِلَعِ، وَقُطِعَتْ خُطَبُ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ مِنْ بَغْدَادَ، وَبَرَزَ الْخَلِيفَةُ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ عَلَى عَزْمِ الْمَسِيرِ إِلَى قِتَالِ مَسْعُودٍ، وَأَقَامَ فِي الشَّفِيعِيِّ، فَعَصَى عَلَيْهِ بَكْبَهُ صَاحِبُ الْبَصْرَةِ فَهَرَبَ إِلَيْهَا، فَرَاسَلَهُ وَبَذَلَ لَهُ الْأَمَانَ فَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ. وَتَرَيَّثَ الْخَلِيفَةُ عَنِ الْمَسِيرِ، وَهَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءُ يُحَسِّنُونَ لَهُ الرَّحِيلَ، وَيُسَهِّلُونَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ، وَيُضَعِّفُونَ عِنْدَهُ أَمْرَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، فَسَيَّرَ مُقَدِّمَتَهُ إِلَى حُلْوَانَ فَنَهَبُوا الْبِلَادَ وَأَفْسَدُوا، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ شَيْئًا، ثُمَّ سَارَ الْخَلِيفَةُ ثَامِنَ شَعْبَانَ، وَلَحِقَ بِهِ فِي الطَّرِيقِ الْأَمِيرُ بُرْسُقُ بْنُ بُرْسُقَ فَبَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ سَبْعَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَتَخَلَّفَ بِالْعِرَاقِ مَعَ إِقْبَالٍ خَادِمِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ ثَلَاثَةُ آلَافِ فَارِسٍ. وَكَانَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ بِهَمَذَانَ فِي نَحْوِ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ، وَكَانَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ يُكَاتِبُونَ الْخَلِيفَةَ، وَيَبْذُلُونَ لَهُ الطَّاعَةَ، فَتَرَيَّثَ فِي طَرِيقِهِ، فَاسْتَصْلَحَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ أَكْثَرَهُمْ حَتَّى صَارُوا فِي نَحْوِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَتَسَلَّلَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ حَتَّى بَقِيَ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، وَأَرْسَلَ أَتَابَكْ زَنْكِي نَجْدَةً فَلَمْ تَلْحَقْ.

وَأَرْسَلَ الْمَلِكُ دَاوُدُ ابْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ وَهُوَ بِأَذْرَبِيجَانَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُشِيرُ بِالْمَيْلِ إِلَى الدِّينَوَرِ لِيَحْضُرَ بِنَفْسِهِ وَعَسْكَرِهِ، فَلَمْ يَفْعَلِ الْمُسْتَرْشِدُ ذَلِكَ، وَسَارَ حَتَّى بَلَغَ دَايْمَرْجَ، وَعَبَّأَ أَصْحَابَهُ، فَجَعَلَ فِي الْمَيْمَنَةِ يَرَنْقَشَ بَازْدَارْ وَنُورَ الدَّوْلَةِ سَنُقُرَ، وَقَزَلَ آخُرَ، وَبُرْسُقَ بْنَ بُرْسُقَ، وَجَعَلَ فِي الْمَسِيرِةِ جَاوِلِي وَبُرْسُقَ شَرَابَ سَلَارَ، وَأَغْلَبَكَّ الَّذِي كَانَ الْخَلِيفَةُ قَدْ قَبَضَ عَلَيْهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ مَحْبِسِهِ. وَلَمَّا بَلَغَ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا خَبَرُهُمْ سَارَ إِلَيْهِمْ مُجِدًّا، فَوَاقَعَهُمْ بِدَايْمَرْجَ عَاشِرَ رَمَضَانَ، وَانْحَازَتْ مَيْسَرَةُ الْخَلِيفَةِ مُخَامِرَةً عَلَيْهِ إِلَى السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ فَصَارَتْ مَعَهُ، وَاقْتَتَلَتْ مَيْمَنَتُهُ وَمَيْسَرَةُ السُّلْطَانِ قِتَالًا ضَعِيفًا، وَدَارَ بِهِ عَسْكَرُ السُّلْطَانِ وَهُوَ ثَابِتٌ لَمْ يَتَحَرَّكْ مِنْ مَكَانِهِ، وَانْهَزَمَ عَسْكَرُهُ، وَأُخِذَ هُوَ أَسِيرًا، وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمُ الْوَزِيرُ شَرَفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنِ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيُّ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ، وَصَاحِبُ الْمَخْزَنِ ابْنُ طَلْحَةَ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَالْخُطَبَاءُ، وَالْفُقَهَاءُ، وَالشُّهُودُ، وَغَيْرُهُمْ، وَأُنْزِلَ الْخَلِيفَةُ فِي خَيْمَةٍ، وَغَنِمُوا مَا فِي مُعَسْكَرِهِ وَكَانَ كَثِيرًا، فَحُمِلَ الْوَزِيرُ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَصَاحِبُ الْمَخْزَنِ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأَكَابِرِ إِلَى قَلْعَةِ سَرْجَهَانَ، وَبَاعُوا الْبَاقِينَ بِالثَّمَنِ الطَّفِيفِ، وَلَمْ يُقْتَلْ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ أَحَدٌ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ مَا يُحْكَى. وَعَادَ السُّلْطَانُ إِلَى هَمَذَانَ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ: مَنْ تَبِعْنَا إِلَى هَمَذَانَ مِنَ الْبَغْدَادَيِّينَ قَتَلْنَاهُ، فَرَجَعَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَى أَقْبَحِ حَالَةٍ لَا يَعْرِفُونَ طَرِيقًا، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَا يَحْمِلُهُمْ، وَسَيَّرَ السُّلْطَانُ الْأَمِيرَ بِكْ أَبَهَ الْمَحْمُودِيَّ إِلَى بَغْدَادَ شِحْنَةً فَوَصَلَهَا سَلْخَ رَمَضَانَ وَمَعَهُ عَبِيدٌ، فَقَبَضُوا جَمِيعَ أَمْلَاكِ الْخَلِيفَةِ، وَأَخَذُوا غَلَّاتِهَا. وَثَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ عَامَّةِ بَغْدَادَ، فَكَسَرُوا الْمِنْبَرَ وَالشُّبَّاكَ، وَمَنَعُوا مِنَ الْخُطْبَةِ، وَخَرَجُوا إِلَى الْأَسْوَاقِ يَحْثُونَ التُّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَيَبْكُونَ وَيَصِيحُونَ، وَخَرَجَتِ النِّسَاءُ حَاسِرَاتٍ فِي الْأَسْوَاقِ يَلْطُمْنَ، وَاقْتَتَلَ أَصْحَابُ الشِّحْنَةِ، وَعَامَّةُ بَغْدَادَ، فَقُتِلَ مِنَ الْعَامَّةِ مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ قَتِيلًا، وَهَرَبَ الْوَالِي وَحَاجِبُ الْبَابِ. وَأَمَّا السُّلْطَانُ فَإِنَّهُ سَارَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَمَذَانَ إِلَى مَرَاغَةَ لِقِتَالِ الْمَلِكِ دَاوُدَ ابْنِ

أَخِيهِ مَحْمُودٍ، وَكَانَ قَدْ عَصَى عَلَيْهِ، فَنَزَلَ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ مَرَاغَةَ وَالْمُسْتَرْشِدُ مَعَهُ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ فِي الصُّلْحِ، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. ذِكْرُ قَتْلِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ وَخِلَافَةِ الرَّاشِدِ بِاللَّهِ لَمَّا قَبَضَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ - عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ - أَنْزَلَهُ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ فِي خَيْمَةٍ، وَوَكَّلَ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ، وَقَامَ بِمَا يَجِبُ مِنِ الْخِدْمَةِ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا فِي الصُّلْحِ وَتَقْرِيرِ الْقَوَاعِدِ عَلَى مَالٍ يُؤْدِّيهِ الْخَلِيفَةُ وَأَنْ لَا يَعُودَ يَجْمَعُ الْعَسَاكِرَ، وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِ، فَأَجَابَ السُّلْطَانُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْكَبَ الْخَلِيفَةَ، وَحَمَلَ الْغَاشِيَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى بَغْدَادَ. فَوَصَلَ الْخَبَرُ أَنَّ الْأَمِيرَ قَرَّانَ خُوَانْ قَدْ قَدَّمَ رَسُولًا مِنَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، فَتَأَخَّرَ مَسِيرُ الْمُسْتَرْشِدِ لِذَلِكَ، وَخَرَجَ النَّاسُ وَالسُّلْطَانُ مَسْعُودٌ إِلَى لِقَائِهِ، وَفَارَقَ الْخَلِيفَةُ بَعْضَ مَنْ كَانَ مُوَكَّلًا بِهِ، وَكَانَتْ خَيْمَتُهُ مُنْفَرِدَةً عَنِ الْعَسْكَرِ، فَقَصَدَهُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَجَرَحُوهُ مَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ جِرَاحَةً، وَمَثَّلُوا بِهِ فَجَدَعُوا أَنْفَهُ وَأُذُنَيْهِ، وَتَرَكُوهُ عُرْيَانًا، وَقُتِلَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سُكَيْنَةَ، وَكَانَ قَتْلُهُ يَوْمَ الْخَمِيسَ سَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى بَابِ مَرَاغَةَ، وَبَقِيَ حَتَّى دَفَنَهُ أَهْلُ مَرَاغَةَ. وَأَمَّا الْبَاطِنِيَّةُ فَقُتِلَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ، وَقِيلَ: بَلْ قُتِلُوا جَمِيعُهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ عُمْرُهُ لَمَّا قُتِلَ ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَبْعَ عَشْرَةِ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَأُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، كَثِيرَ الْإِقْدَامِ، بَعِيدَ الْهِمَّةِ، وَأَخْبَارُهُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا حَسَنَ الْخَطِّ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ خَطَّهُ فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ، وَرَأَيْتُ أَجْوِبَتَهُ عَلَى الرِّقَاعِ مِنْ أَحْسَنِ مَا يُكْتَبُ وَأَفْصَحِهِ.

وَلَمَّا قُتِلَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ بُويِعَ وَلَدُهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، وَلُقِّبَ الرَّاشِدَ بِاللَّهِ، وَكَانَ الْمُسْتَرْشِدُ قَدْ بَايَعَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ فِي حَيَاتِهِ، وَجُدِّدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ بَعْدَ قَتْلِهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَتَبَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ إِلَى بِكْ أَبَهَ الشِّحْنَةَ بِبَغْدَادَ فَبَايَعَ لَهُ، وَحَضَرَ النَّاسُ الْبَيْعَةَ، وَحَضَرَ بَيْعَتَهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا مِنْ أَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ، وَبَايَعَ لَهُ الشَّيْخُ أَبُو النَّجِيبِ، وَوَعَظَهُ، وَبَالَغَ فِي الْمَوْعِظَةِ. وَأَمَّا جَمَالُ الدَّوْلَةِ إِقْبَالٌ فَإِنَّهُ كَانَ بِبَغْدَادَ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَلَمَّا جَرَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ عَبَرَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَأَصْعَدَ إِلَى تَكْرِيتَ، وَرَاسَلَ مُجَاهِدَ الدِّينِ بَهْرُوزَ وَحَلَّفَهُ، وَصَعِدَ إِلَيْهِ بِالْقَلْعَةِ. ذِكْرُ مَسِيرِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ إِلَى غَزْنَةَ، وَعَوْدِهِ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَارَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى غَزْنَةَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ نُقِلَ إِلَيْهِ عَنْ صَاحِبِهَا بَهْرَامْ شَاهْ أَنَّهُ تَغَيَّرَ عَنْ طَاعَتِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ مَدَّ يَدَهُ إِلَى ظُلْمِ الرَّعَايَا وَاغْتِصَابِ أَمْوَالِهِمْ. وَكَانَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ هُوَ الَّذِي مَلَكَ غَزْنَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِمَائَةٍ، فَلَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ الْمُزْعِجَةَ سَارَ إِلَى غَزْنَةَ لِيَأْخُذَهَا أَوْ يُصْلِحَهُ، فَلَمَّا سَلَكَ الطَّرِيقَ وَأَبْعَدَ أَدْرَكَهُمْ شِتَاءٌ شَدِيدُ الْبَرْدَ، كَثِيرُ الثَّلْجَ، وَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمُ الْأَقْوَاتُ وَالْعَلُوفَاتُ، فَشَكَا الْعَسْكَرُ إِلَى السُّلْطَانِ ذَلِكَ، وَذَكَرُوا لَهُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضِّيقِ، وَتَعَذَّرَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهُ غَيْرَ التَّقَدُّمِ أَمَامَهُ، فَلَمَّا قَارَبَ غَزْنَةَ أَرْسَلَ بَهْرَامْ شَاهْ رُسُلًا يَضْرَعَ إِلَى سَنْجَرَ، وَيَسْأَلَ الصَّفْحَ عَنْ جُرْمِهِ، وَالْعَفْوَ عَنْ ذَنْبِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ سَنْجَرُ الْمُقَرَّبَ جَوْهَرًا الْخَادِمَ - وَهُوَ أَكْبَرُ أَمِيرٍ عِنْدَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ أَقِطَاعِهِ مَدِينَةَ الرَّيِّ - فِي جَوَابِ رِسَالَتِهِ يُجِيبُهُ عَنِ الْعَفْوِ عَنْهُ إِنْ حَضَرَ عِنْدَهُ، وَعَادَ إِلَى طَاعَتِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَهْرَامْ شَاهْ أَجَابَهُ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَحَمَلَ الْمَالَ وَالْحُضُورَ بِنَفْسِهِ فِي خِدْمَتِهِ، وَأَظْهَرَ مِنَ

الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ لِمَا يَحْكُمُ بِهِ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ شَيْئًا كَثِيرًا. وَعَادَ الْمُقَرَّبُ جَوْهَرٌ وَمَعَهُ بَهْرَامْ شَاهْ إِلَى سَنْجَرَ، فَسَبَقَهُ الْمُقَرَّبُ إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَأَعْلَمَهُ بِوُصُولِ بَهْرَامْ شَاهْ، وَأَنَّهُ بُكْرَةَ غَدٍ يَكُونُ عِنْدَهُ، وَعَادَ الْمُقَرَّبُ إِلَى بَهْرَامْ شَاهْ لِيَجِيءَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَكِبَ سَنْجَرُ مِنَ الْغَدِ فِي مَوْكِبِهِ لِتَلَقِّيهِ، وَتَقَدَّمَ بَهْرَامْ شَاهْ وَمَعَهُ الْمُقَرَّبُ إِلَى سَنْجَرَ، فَلَمَّا عَايَنَ مَوْكِبَ سَنْجَرَ وَالْجُتْرُ عَلَى رَأْسِهِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ عَائِدًا، فَأَمْسَكَ الْمُقَرَّبُ عَنَانَهُ، وَقَبَّحَ فِعْلَهُ، وَخَوَّفَهُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَرْجِعْ، وَوَلَّى هَارِبًا، وَلَمْ يُصَدِّقْ بِنَجَاتِهِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ سَنْجَرَ يَأْخُذُهُ، وَيَمْلِكُ بَلَدَهُ، وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَخَوَاصِّهِ، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى غَزْنَةَ، وَسَارَ سَنْجَرُ إِلَى غَزْنَةَ فَدَخَلَهَا، وَمَلَكَهَا، وَاحْتَوَى عَلَى مَا فِيهَا، وَجَبَى أَمْوَالَهَا، وَكَتَبَ إِلَى بَهْرَامْ شَاهْ كِتَابًا يَلُومُهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ، وَيَحْلِفُ لَهُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ سُوءًا، وَلَا لَهُ فِي بَلَدِهِ مَطْمَعٌ، وَلَا هُوَ مِمَّنْ يُكَدِّرُ صَنِيعَتَهُ، وَتُعْقَبُ حَسَنَتُهُ مَعَهُ بِسَيِّئَةٍ، وَإِنَّمَا قَصَدَهُ لِإِصْلَاحِهِ، فَأَعَادَ بَهْرَامْ شَاهَ الْجَوَابَ يَعْتَذِرُ وَيَتَنَصَّلُ، وَيَقُولُ: إِنَّ الْخَوْفَ مَنَعَهُ مِنَ الْحُضُورِ، وَلَا لَوْمَ عَلَى مَنْ خَافَ مِثْلَ السُّلْطَانِ، وَيَضْرَعُ فِي عَوْدِهِ إِلَى الْإِحْسَانِ، فَأَجَابَهُ سَنْجَرُ إِلَى إِعَادَةِ بَلَدِهِ إِلَيْهِ، وَفَارَقَ غَزْنَةَ عَائِدًا إِلَى بِلَادِهِ، فَوَصَلَ إِلَى بَلَخٍ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ غَزْنَةَ لِبَهْرَامْ شَاهْ، وَرَجَعَ إِلَيْهَا مَالِكًا لَهَا وَمُسْتَوْلِيًا عَلَيْهَا. ذِكْرُ قَتْلِ دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ بِالتَّارِيخِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ دُبَيْسَ بْنَ صَدَقَةَ عَلَى بَابِ سُرَادِقِهِ بِظَاهِرِ خُوَنْجَ، أَمَرَ غُلَامًا أَرْمِينِيًّا بِقَتْلِهِ، فَوَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَنْكُتُ الْأَرْضَ بِإِصْبَعِهِ، فَضَرَبَ رَقَبَتَهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَكَانَ ابْنُهُ صَدَقَةُ بِالْحِلَّةِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ عَسْكَرُ أَبِيهِ وَمَمَالِيكُهُ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ قَتْلَغْ تِكِينْ، وَأَمَرَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ بِكْ أَبَهْ أَنْ يَأْخُذَ الْحِلَّةِ، فَسَارَ بَعْضُ عَسْكَرِهِ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَأَقَامُوا مُدَّةً يَنْتَظِرُونَ لِحَاقَ بِكْ أَبَهْ بِهِمْ فَلَمْ يَسِرْ إِلَيْهِمْ جُبْنًا وَعَجْزًا عَنْ قَصْدِ الْحِلَّةِ لِكَثْرَةِ الْعَسْكَرِ بِهَا مَعَ صَدَقَةَ. وَبَقِيَ صَدَقَةُ بِالْحِلَّةِ إِلَى أَنْ قَدِمَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ إِلَى بَغْدَادَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ فَقَصَدَهُ

وَأَصْلَحَ حَالَهُ مَعَهُ، وَلَزِمَ خِدْمَتَهُ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ تَقَعُ كَثِيرًا، وَهِيَ قُرْبُ مَوْتِ الْمُتَعَادِيَيْنِ، فَإِنَّ دُبَيْسًا كَانَ يُعَادِي الْمُسْتَرْشِدَ بِاللَّهِ وَيَكْرَهُ خِلَافَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّ السَّلَاطِينَ إِنَّمَا كَانُوا يُبْقُونَ عَلَيْهِ لِيَجْعَلُوهُ عُدَّةً لِمُقَاوَمَةِ الْمُسْتَرْشِدِ، فَلَمَّا زَالَ السَّبَبُ زَالَ الْمُسَبَّبُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ. ذِكْرُ حَصْرِ عَسْكَرِ يَحْيَى الْمَهْدِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ يَحْيَى بْنُ الْعَزِيزِ بْنِ حَمَّادٍ صَاحِبُ بِجَايَةَ عَسْكَرًا لِيَحْصُرُوا الْمَهْدِيَّةَ، وَبِهَا صَاحِبُهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَسَنَ أَحَبَّ مَيْمُونَ بْنَ زِيَادٍ أَمِيرَ طَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَزَادَهُ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ، فَحَسَدَهُ الْعَرَبُ، فَسَارَ أُمَرَاؤُهَا إِلَى يَحْيَى بْنِ الْعَزِيزِ بِأَوْلَادِهِمْ، وَجَعَلُوهُمْ رَهَائِنَ عِنْدَهُ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُمْ عَسْكَرًا لِيَمْلِكُوا لَهُ الْمَهْدِيَّةَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَهُوَ مُتَبَاطِئٌ. فَاتُّفِقَ أَنَّهُ وَصَلَهُ كُتُبٌ مِنْ بَعْضِ مَشَايِخِ الْمَهْدِيَّةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَوَثِقَ بِمَا أَتَاهُ، وَسَيَّرَ عَسْكَرًا كَثِيفًا عَلَيْهِمْ، وَقَائِدًا كَبِيرًا مِنْ فُقَهَاءَ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ: مُطَرِّفُ بْنُ حَمْدُونَ. وَكَانَ يَحْيَى هَذَا هُوَ وَآبَاؤُهُ يَحْسُدُونَ أَوْلَادَ الْمَنْصُورِ أَبِي الْحَسَنِ هَذَا، فَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ الْفَارِسُ وَالرَّاجِلُ، وَمَعَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ جَمْعٌ كَثِيرٌ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْمَهْدِيَّةِ وَحَصَرُوهَا بَرًّا وَبَحْرًا. وَكَانَ مُطَرِّفٌ يُظْهِرُ التَّقَشُّفَ وَالتَّوَرُّعَ عَنِ الدِّمَاءِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَتَيْتُ الْآنَ لِأَتَسَلَّمَ الْبَلَدَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَخَابَ ظَنُّهُ، فَبَقِيَ أَيَّامًا لَا يُقَاتِلُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَاشَرُوا الْقِتَالَ فَظَهَرَ أَهْلُ الْمَهْدِيَّةِ عَلَيْهِمْ وَأَثَّرُوا فِيهِمْ، وَتَوَالَى الْقِتَالُ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ الظَّفَرُ لِأَهْلِ الْبَلَدِ، وَقُتِلَ مِنَ الْخَارِجِينَ جَمٌّ غَفِيرٌ. وَجَمَعَ مُطَرِّفٌ عَسْكَرَهُ وَزَحَفَ بَرًّا وَبَحْرًا لَمَّا يَئِسَ مِنَ التَّسْلِيمِ، وَقَاتَلَ أَشَدَّ قِتَالٍ، فَمَلَكَتْ شَوَانِيهِ شَاطِئَ الْبَحْرِ، وَقَرَّبُوا مِنَ السُّورِ، فَاشْتَدَّ الْأَمْرُ فَأَمَرَ الْحَسَنُ بِفَتْحِ الْبَابِ مِنَ الشَّاطِئِ، وَخَرَجَ أَوَّلَ النَّاسِ، وَحَمَلَ هُوَ وَمِنْ مَعَهُ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: أَنَا الْحَسَنُ! فَلَمَّا سَمِعَ مَنْ يُقَاتِلُهُ دَعْوَاهُ سَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَانْهَزَمُوا عَنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ الْحَسَنُ

شَوَانِيهِ تِلْكَ السَّاعَةَ مِنِ الْمِينَاءِ، فَأُخِذَ مِنْ تِلْكَ الشَّوَانِي أَرْبَعُ قِطَعٍ، وَهُزِمَ الْبَاقِي. ثُمَّ وَصَلَتْهُ نَجْدَةٌ مِنْ رَجَارَ الْفِرِنْجِيِّ صَاحِبِ صِقِلِّيَةَ فِي الْبَحْرِ فِي عِشْرِينَ قِطْعَةً، فَحُصِرَتْ شَوَانِي صَاحِبِ بِجَايَةَ، فَأَمَرَهُمُ الْحَسَنُ بِإِطْلَاقِهَا فَأَطْلَقُوهَا، ثُمَّ وَصَلَ مَيْمُونُ بْنُ زِيَادٍ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْعَرَبِ لِنُصْرَةِ الْحَسَنِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مُطَرِّفٌ، وَأَنَّ النَّجَدَاتِ تَأْتِي الْحَسَنَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمْ، فَرَحَلَ عَنِ الْمَهْدِيَّةِ خَائِبًا، وَأَقَامَ رَجَارُ الْفِرِنْجِيُّ مُظْهِرًا لِلْحَسَنِ أَنَّهُ مُهَادَنُهُ وَمُوَافِقُهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعْمُرُ الشَّوَانِيَ وَيُكَثِّرُ عَدَدَهَا. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْفِرِنْجِ عَلَى جَزِيرَةِ جَرْبَةَ كَانَتْ جَزِيرَةُ جَرْبَةَ مِنْ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ قَدِ اسْتَوَتْ فِي كَثْرَةِ عِمَارَتِهَا وَخَيْرَاتِهَا، غَيْرَ أَنَّ أَهْلَهَا طَغَوْا فَلَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ طَاعَةِ سُلْطَانٍ، وَيُعْرَفُونَ بِالْفَسَادِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، فَخَرَجَ إِلَيْهَا جَمْعٌ مِنَ الْفِرِنْجِ أَهْلِ صِقِلِّيَةَ فِي أُسْطُولٍ كَثِيرٍ وَجَمٍّ غَفِيرٍ، فِيهِ مِنْ مَشْهُورِي فُرْسَانِ الْفِرِنْجِ جَمَاعَةٌ، فَنَزَلُوا بِسَاحَتِهَا وَأَدَارُوا الْمَرَاكِبَ بِجِهَاتِهَا. وَاجْتَمَعَ أَهْلُهَا، وَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَوَقَعَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ، فَثَبَتَ أَهْلُ جَرْبَةَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ بِشْرٌ كَثِيرٌ، فَانْهَزَمُوا وَمَلَكَ الْفِرِنْجُ الْجَزِيرَةَ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهَا وَسَبَوْا نِسَاءَهَا وَأَطْفَالَهَا، وَهَلَكَ أَكْثَرُ رِجَالِهَا، وَمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَمَانًاِ مِنْ رَجَارَ مَلِكِ صِقِلِّيَةَ، وَافْتَكُّوا أَسْرَاهُمْ وَسَبْيَهُمْ وَحَرِيمَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ. ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ حِصْنَ رُوطَةَ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اصْطَلَحَ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ بْنِ هُودٍ وَالسُّلَيْطِينُ الْفِرِنْجِيُّ صَاحِبُ طُلَيْطُلَةَ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ. وَكَانَ السُّلَيْطِينُ قَدْ أَدْمَنَ غَزْوَ بِلَادِ الْمُسْتَنْصِرِ وَقِتَالَهُ حَتَّى ضَعُفَ الْمُسْتَنْصِرُ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ لِقِلَّةِ جُنُودِهِ وَكَثْرَةِ الْفِرِنْجِ، فَرَأَى أَنْ يُصَالِحَهُ مُدَّةً يَسْتَرِيحُ فِيهَا هُوَ وَجُنُودُهُ، وَيَعْتَدُّونَ لِلْمُعَاوَدَةِ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ، فَاسْتَقَرَّ

الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْمُسْتَنْصِرُ إِلَى السُّلَيْطِينِ حِصْنَ رُوطَةَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، وَهُوَ مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ وَأَعْظَمِهَا، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ وَاصْطَلَحُوا، وَتَسَلَّمَ مِنْهُ الْفِرِنْجُ الْحِصْنَ، وَفَعَلَ الْمُسْتَنْصِرُ فِعْلَةً لَمْ يَفْعَلْهَا قَبْلَهُ أَحَدٌ. ذِكْرُ حَصْرِ ابْنِ رُدْمِيرَ مَدِينَةَ أَفْرَاغَةَ وَهَزِيمَتِهِ وَمَوْتِهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ ابْنُ رُدْمِيرَ الْفِرِنْجِيُّ مَدِينَةَ أَفْرَاغَةَ مِنْ شَرْقِ الْأَنْدَلُسِ. وَكَانَ الْأَمِيرُ يُوسُفُ بْنُ تَاشْفِينَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ بِمَدِينَةِ قُرْطُبَةَ، فَجَهَّزَ الزُّبَيْرَ بْنَ عَمْرٍو اللَّمْتُونِيَّ وَالِي قُرْطُبَةَ وَمَعَهُ أَلْفَا فَارِسٍ، وَسَيَّرَ مَعَهُ مِيرَةً كَثِيرَةً إِلَى أَفْرَاغَةَ. وَكَانَ يَحْيَى بْنُ غَانِيَةَ الْأَمِيرُ الْمَشْهُورُ أَمِيرَ مُرْسِيَةَ وَبَلَنْسِيَةَ مِنْ شَرْقِ الْأَنْدَلُسِ، وَوَالِي أَمْرِهَا لِأَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ، فَتَجَهَّزَ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ صَاحِبَ مَدِينَةِ لَارِدَةَ، فَتَجَهَّزَ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، فَاجْتَمَعُوا وَحَمَلُوا الْمِيرَةَ، وَسَارُوا حَتَّى أَشْرَفُوا عَلَى مَدِينَةِ أَفَرَاغَةَ، وَجَعَلَ الزُّبَيْرُ الْمِيرَةَ أَمَامَهُ وَابْنَ غَانِيَةَ أَمَامَ الْمِيرَةِ، وَابْنَ عِيَاضٍ أَمَامَ ابْنِ غَانِيَةَ، وَكَانَ شُجَاعًا بَطَلًا، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَنْ مَعَهُ. وَكَانَ ابْنُ رُدْمِيرَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ، فَاحْتَقَرَ جَمِيعَ الْوَاصِلِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: اخْرُجُوا وَخُذُوا هَذِهِ الْهَدِيَّةَ الَّتِي أَرْسَلَهَا الْمُسْلِمُونَ إِلَيْكُمْ، وَأَدْرَكَهُ الْعُجْبُ، وَنَفَّذَ قِطْعَةً كَبِيرَةً مِنْ جَيْشِهِ. فَلَمَّا قَرُبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَمَلَ عَلَيْهِمُ ابْنُ عِيَاضٍ وَكَسَرَهُمْ، وَرَدَّ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقَتَلَ فِيهِمْ، وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ، وَجَاءَ ابْنُ رُدْمِيرَ بِنَفْسِهِ وَعَسَاكِرُهُ جَمِيعُهَا مُدْلِينَ بِكَثْرَتِهِمْ وَشَجَاعَتِهِمْ، فَحَمَلَ ابْنُ غَانِيَةَ وَابْنُ عِيَاضٍ فِي صُدُورِهِمْ، وَاسْتَحَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ، وَعَظُمَ الْقِتَالُ، فَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْفِرِنْجِ، وَخَرَجَ فِي الْحَالِ أَهْلُ أَفَرَاغَةَ ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ، إِلَى خِيَامِ الْفِرِنْجِ فَاشْتَغَلَ الرِّجَالُ بِقَتْلِ مَنْ وَجَدُوا فِي الْمُخَيَّمِ، وَاشْتَغَلَ النِّسَاءُ بِالنَّهْبِ، فَحُمِلَ جَمِيعُ مَا فِي الْمُخَيَّمِ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ قُوتٍ، وَعُدَدٍ، وَآلَاتٍ، وَسِلَاحٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَبَيْنَمَا الْمُسْلِمُونَ وَالْفِرِنْجُ فِي الْقِتَالِ إِذْ وَصَلَ إِلَيْهِمُ الزُّبَيْرُ فِي عَسْكَرِهِ فَانْهَزَمَ ابْنُ رُدْمِيرَ وَوَلَّى هَارِبًا، وَاسْتَوْلَى الْقَتْلُ عَلَى جَمِيعِ عَسْكَرِهِ فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَلِحَقِ ابْنُ رُدْمِيرَ بِمَدِينَةِ سَرَقُسْطَةَ، فَلَمَّا رَأَى مَا قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَاتَ مَفْجُوعًا بَعْدَ

عِشْرِينَ يَوْمًا مِنَ الْهَزِيمَةِ، وَكَانَ أَشَدَّ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ بَأْسًا، وَأَكْثَرَهُمْ تَجَرُّدًا لِحَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْظَمَهُمْ صَبْرًا، كَانَ يَنَامُ عَلَى طَارِقَتِهِ بِغَيْرِ وِطَاءٍ، وَقِيلَ لَهُ: هَلَّا تَسَرَّيْتَ مِنْ بَنَاتِ أَكَابِرِ الْمُسْلِمِينَ اللَّاتِي سَبَيْتَ؟ فَقَالَ: الرَّجُلُ الْمُحَارِبُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَاشِرَ الرِّجَالَ لَا النِّسَاءَ، وَأَرَاحَ اللَّهُ مِنْهُ، وَكَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالٍ، زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ بِالْعِرَاقِ وَالْمَوْصِلِ وَبِلَادِ الْجَبَلِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَتِ الزَّلْزَلَةُ شَدِيدَةً، وَهَلَكَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثم دخلت سنة ثلاثين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] 530 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسْكَرِ الرَّاشِدِ وَعَسْكَرِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ يَرَنْقَشُ الزَّكَوِيُّ مِنْ عِنْدِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ يُطَالِبُ الْخَلِيفَةَ بِمَا كَانَ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَى الْمُسْتَرْشِدِ مِنَ الْمَالِ، وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَذَكَرَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عِنْدَهُ، وَأَنَّ الْمَالَ جَمِيعَهُ كَانَ مَعَ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ، فَنُهِبَ فِي الْهَزِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ. ثُمَّ بَلَغَ الرَّاشِدَ بِاللَّهِ أَنَّ يَرَنْقَشَ يُرِيدُ الْهُجُومَ عَلَى دَارِ الْخِلَافَةِ وَتَفْتِيشَهَا لِأَخْذِ الْمَالِ، فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ لِمَنْعِ دَارِهِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ كُجَّ أَبَهْ، وَأَعَادَ عِمَارَةَ السُّورِ. فَلَمَّا عَلِمَ يَرَنْقَشُ بِذَلِكَ اتَّفَقَ هُوَ وَبِكْ أَبَهْ شِحْنَةُ بَغْدَادَ، وَهُوَ مِنْ أُمَرَاءِ السُّلْطَانِ - عَلَى أَنْ يَهْجُمُوا عَلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّاشِدَ بِاللَّهِ فَاسْتَعَدَّ لِمَنْعِهِمْ، وَرَكِبَ يَرَنْقَشُ وَمَعَهُ الْعَسْكَرُ السُّلْطَانِيُّ، وَالْأُمَرَاءُ الْبَكَجِيَّةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَكَرَ فِي نَحْوِ خَمْسَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَلَقِيَهُمْ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ وَمُتَقَدِّمُهُمْ كُجُّ أَبَهْ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَسَاعَدَ الْعَامَّةُ عَسْكَرَ الْخَلِيفَةِ عَلَى قِتَالِ الْعَسْكَرِ السُّلْطَانِيِّ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ إِلَى دَارِ السُّلْطَانِ، فَلَمَّا جَنَّهُمُ اللَّيْلُ سَارُوا إِلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ، ثُمَّ انْحَدَرَ بِكْ أَبَهْ إِلَى وَاسِطَ، وَسَارَ يَرَنْقَشُ إِلَى الْبَنْدَنِيجِينَ، وَنَهَبَ أَهْلُ بَغْدَادَ دَارَ السُّلْطَانِ. ذِكْرُ اجْتِمَاعِ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ عَلَى حَرْبِ مَسْعُودٍ بِبَغْدَادَ وَخُرُوجِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَأَصْحَابِ الْأَطْرَافِ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ

السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، فَسَارَ الْمَلِكُ دَاوُدُ ابْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ فِي عَسْكَرِ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى بَغْدَادَ، فَوَصَلَهَا رَابِعَ صَفَرٍ، وَنَزَلَ بِدَارِ السُّلْطَانِ، وَوَصَلَ أَتَابَكْ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بَعْدَهُ مِنَ الْمَوْصِلِ، وَوَصَلَ يَرَنْقَشُ بَازْدَارْ صَاحِبُ قَزْوِينَ وَغَيْرِهَا، وَالْبَقْشُ الْكَبِيرُ صَاحِبُ أَصْفَهَانَ، وَصَدَقَةُ بْنُ دُبَيْسٍ صَاحِبُ الْحِلَّةِ، وَمَعَهُ عَنْتَرُ بْنُ أَبِي الْعَسْكَرِ الْجَاوَانِيُّ يُدَبِّرُهُ، وَيُتَمِّمُ نَقْصَ صِبَاهُ، وَابْنُ بُرْسُقَ، وَابْنُ الْأَحْمَدِيلِيِّ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنْ عَسْكَرِ بَغْدَادَ كُجُّ أَبَهْ، وَالطِّرِنْطَايُ وَغَيْرُهُمَا، وَجَعَلَ الْمَلِكُ دَاوُدُ فِي شِحْنَكِيَّةِ بَغْدَادَ يَرَنْقَشَ بَازْدَارْ، وَقَبَضَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ بِاللَّهِ عَلَى نَاصِحِ الدَّوْلَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنِ بْنِ جَهِيرٍ أُسْتَاذِ الدَّارِ، وَهُوَ كَانَ السَّبَبَ فِي وِلَايَتِهِ، وَعَلَى جَمَالِ الدَّوْلَةِ إِقْبَالٍ الْمُسْتَرْشَدِيِّ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ إِلَيْهِ مِنْ تَكْرِيتَ، وَعَلَى غَيْرِهِمَا مِنْ أَعْيَانِ دَوْلَتِهِ، فَتَغَيَّرَتْ نِيَّاتُ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ وَخَافُوهُ. فَأَمَّا جَمَالُ الدَّوْلَةِ فَإِنَّ أَتَابَكْ زَنْكِي شَفَعَ فِيهِ شَفَاعَةً تَحْتَهَا إِلْزَامٌ، فَأُطْلِقَ وَصَارَ إِلَيْهِ وَنَزَلَ عِنْدَهُ. وَخَرَجَ مَوْكِبُ الْخَلِيفَةِ مَعَ وَزِيرِهِ جَلَالِ الدِّينِ أَبِي الرِّضَا بْنِ صَدَقَةَ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ لِتَهْنِئَتِهِ بِالْقُدُومِ، فَأَقَامَ الْوَزِيرُ عِنْدَهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَعَادَ الْمَوْكِبُ بِغَيْرِ وَزِيرٍ، وَأَرْسَلَ زَنْكِي مَنْ حَرَسَ دَارَ الْوَزِيرِ مِنَ النَّهْبِ، ثُمَّ أَصْلَحَ حَالَهُ مَعَ الْخَلِيفَةِ، وَأَعَادَهُ إِلَى وِزَارَتِهِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا عَبَرَ عَلَيْهِ قَاضِي الْقُضَاةِ الزَّيْنَبِيُّ، وَسَارَ مَعَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ جَدَّ فِي عِمَارَةِ السُّورِ، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ دَاوُدُ مَنْ قَلَعَ أَبْوَابَهُ، وَأَخْرَبَ قِطْعَةً مِنْهُ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ بِبَغْدَادَ، وَنَقَلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، وَخُطِبَ لِلْمَلِكِ دَاوُدَ، وَجَرَتِ الْأَيْمَانُ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالْمَلِكِ دَاوُدَ وَعِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى أَتَابَكْ زَنْكِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ لِيُنْفِقَهَا. وَوَصَلَ الْمَلِكُ سَلْجُوقْشَاهْ إِلَى وَاسِطَ فَدَخَلَهَا، وَقَبَضَ عَلَى الْأَمِيرِ بِكْ أَبَهْ، وَنَهَبَ

مَالَهُ، وَانْحَدَرَ أَتَابَكْ زَنْكِي إِلَيْهِ لِدَفْعِهِ عَنْهَا، وَاصْطَلَحَا، وَعَادَ زَنْكِي إِلَى بَغْدَادَ، وَعَبْرَ إِلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ، وَحَثَّ عَلَى جَمْعِ الْعَسَاكِرِ لِلِقَاءِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ. وَسَارَ الْمَلِكُ دَاوُدُ نَحْوَ طَرِيقِ خُرَاسَانَ أَيْضًا، فَنَهَبَ الْعَسْكَرُ الْبِلَادَ وَأَفْسَدُوا، وَوَصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِمَسِيرِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ إِلَى بَغْدَادَ لِقَتَالِ الْمَلِكِ، وَفَارَقَ الْمَلِكُ دَاوُدُ وَأَتَابَكْ زَنْكِي، فَعَادَ أَتَابَكْ زَنْكِي إِلَى بَغْدَادَ، وَفَارَقَ الْمَلِكَ دَاوُدَ، وَأَظْهَرَ لَهُ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى مَرَاغَةَ إِذَا فَارَقَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ هَمَذَانَ، فَبَرَزَ الرَّاشِدُ بِاللَّهِ إِلَى ظَاهِرِ بَغْدَادَ أَوَّلَ رَمَضَانَ، وَسَارَ إِلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ، ثُمَّ عَادَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَنَزَلَ عِنْدَ جَامِعِ السُّلْطَانِ، ثُمَّ دَخَلَ إِلَى بَغْدَادَ خَامِسَ رَمَضَانَ، وَأَرْسَلَ إِلَى دَاوُدَ وَسَائِرِ الْأُمَرَاءِ يَأْمُرُهُمْ بِالْعَوْدِ إِلَى بَغْدَادَ، فَعَادُوا وَنَزَلُوا فِي الْخِيَامِ، وَعَزَمُوا عَلَى قِتَالِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ مِنْ دَاخِلِ سُورِ بَغْدَادَ. وَوَصَلَتْ رُسُلُ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ يَبْذُلُ مِنْ نَفْسِهِ الطَّاعَةَ وَالْمُوَافَقَةَ لِلْخَلِيفَةِ، وَالتَّهْدِيدَ لِمَنِ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ، فَعَرَضَ الْخَلِيفَةُ الرِّسَالَةَ عَلَيْهِمْ فَكُلُّهُمْ رَأَى قِتَالَهُ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: وَأَنَا أَيْضًا مَعَكُمْ (عَلَى ذَلِكَ) . ذِكْرُ مُلْكِ شِهَابِ الدِّينِ حِمْصَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تَسَلَّمَ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودٌ صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ حِمْصَ وَقَلْعَتَهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَهَا أَوْلَادَ الْأَمِيرِ خَيْرَخَانْ بْنِ قُرَاجَا، وَالْوَالِي بِهَا مِنْ قَبَلِهِمْ، ضَجِرُوا مِنْ كَثْرَةِ تَعَرُّضِ عَسْكَرِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي إِلَيْهَا وَإِلَى أَعْمَالِهَا، وَتَضْيِيقِهِمْ عَلَى مَنْ بِهَا مِنْ جُنْدِيٍّ وَعَامِّيٍّ، فَرَاسَلُوا شِهَابَ الدِّينِ فِي أَنْ يُسَلِّمُوهَا إِلَيْهِ وَيُعْطِيَهُمْ عِوَضًا عَنْهَا تَدْمُرَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَسَارَ إِلَيْهَا، وَتَسَلَّمَهَا مِنْهُمْ فِي التَّارِيخِ الْمَذْكُورِ، وَسَلَّمَ إِلَيْهَا تَدْمُرَ، وَأَقْطَعَ حِمْصَ مَمْلُوكَ جَدِّهِ مُعِينَ الدِّينِ أُنُزَ، وَجَعَلَ فِيهَا نَائِبًا عَنْهُ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ وَعَادَ مِنْهَا إِلَى دِمَشْقَ. فَلَمَّا رَأَى عَسْكَرُ زَنْكِي الَّذِينَ بِحَلَبَ وَحَمَاةَ خُرُوجَ حِمْصَ عَنْ أَيْدِيهِمْ تَابَعُوا

الْغَارَاتِ إِلَى بَلَدِهَا، وَالنَّهْبَ لَهُ، وَالِاسْتِيلَاءَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُ، فَجَرَى بَيْنَهُمْ عِدَّةُ وَقَائِعَ، وَأَرْسَلَ شِهَابُ الدِّينِ إِلَى زَنْكِي فِي الْمَعْنَى، وَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ، وَكَفَّ كُلٌّ مِنْهُمْ عَنْ صَاحِبِهِ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِدِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِدِمَشْقَ بَيْنَ صَاحِبِهَا وَالْجُنْدِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاجِبَ يُوسُفَ بْنَ فَيْرُوزَ كَانَ أَكْبَرَ حَاجِبٍ عِنْدَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ خَافَ أَخَاهُ شَمْسَ الْمُلُوكِ وَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى تَدْمُرَ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ سَأَلَ أَنْ يَحْضُرَ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَانَ يَخَافُ جَمَاعَةَ الْمَمَالِيكِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ وَعَامَلَهُمْ أَقْبَحَ مُعَامَلَةٍ، فَكُلُّهُمْ عَلَيْهِ حَنِقٌ، لَا سِيَّمَا فِي الْحَادِثَةِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا شَمْسُ الْمُلُوكِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، فَإِنَّهُ أَشَارَ بِقَتْلِ جَمَاعَةٍ أَبْرِيَاءَ وَبِقَتْلِ سُونَجَ بْنِ تَاجِ الْمُلُوكِ، فَصَارُوا كُلُّهُمْ أَعْدَاءً مُبْغِضِينَ. فَلَمَّا طَلَبَ الْآنَ الْحُضُورَ إِلَى دِمَشْقَ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ. فَأَنْكَرَ جَمَاعَةُ الْأُمَرَاءِ وَالْمَمَالِيكُ قُرْبَهُ، وَخَافُوهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مِثْلَ فِعْلِهِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَوَصَّلُ مَعَهُمْ حَتَّى حَلَفَ لَهُمْ وَاسْتَحْلَفَهُمْ، وَشَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَتَوَلَّى مِنَ الْأُمُورِ شَيْئًا. ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ يُدْخِلُ نَفْسَهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَاتَّفَقَ أَعْدَاؤُهُ عَلَى قَتْلِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ شَمْسِ الْمُلُوكِ فِي الْمَيْدَانِ، وَإِلَى جَانِبِهِ أَمِيرٌ اسْمُهُ بَزَاوُشُ يُحَادِثُهُ، إِذْ ضَرَبَهُ بَزَاوُشُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، فَحُمِلَ وَدُفِنَ عِنْدَ تُرْبَةِ وَالِدِهِ بِالْعَقِيبَةِ. ثُمَّ إِنَّ بَزَاوُشَ وَالْمَمَالِيكَ خَافُوا شَمْسَ الْمُلُوكِ، فَلَمْ يَدْخُلُوا الْبَلَدَ، وَنَزَلُوا بِظَاهِرِهِ، وَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ قَوَاعِدَ اسْتَطَالُوا فِيهَا، فَأَجَابَهُمْ إِلَى الْبَعْضِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى بَعْلَبَكَّ وَبِهَا شَمْسُ الدَّوْلَةِ مُحَمَّدُ بْنُ تَاجِ الْمُلُوكِ صَاحِبُهَا، فَصَارُوا مَعَهُ، فَالْتَحَقَ بِهِمْ كَثِيرٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ وَغَيْرِهِمْ، وَشَرَعُوا فِي الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ، وَاقْتَضَتِ الْحَالُ مُرَاسَلَتَهُمْ وَمُلَاطَفَتَهُمْ وَإِجَابَتَهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا، وَاسْتَقَرَّتِ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ، وَحَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمْ لِصَاحِبِهِ، فَعَادُوا إِلَى ظَاهِرِ دِمَشْقَ وَلَمْ يَدْخُلُوا الْبَلَدَ.

وَخَرَجَ شِهَابُ الدِّينِ صَاحِبُ دِمَشْقَ إِلَيْهِمْ، وَاجْتَمَعَ بِهِمْ، وَتَجَدَّدَتِ الْأَيْمَانُ، وَصَارَ بَزَاوُشُ مُقَدَّمَ الْعَسْكَرِ، وَإِلَيْهِ الْحَلُّ وَالْعَقْدُ، وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ، وَزَالَ الْخُلْفُ وَدَخَلُوا الْبَلَدَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ غَزَاةِ الْعَسْكَرِ الْأَتَابَكِيِّ لِبِلَادِ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ، اجْتَمَعَتْ عَسَاكِرُ أَتَابَكْ زَنْكِي صَاحِبُ حَلَبَ وَحَمَاةَ مَعَ الْأَمِيرِ أَسْوَارَ نَائِبِهِ بِحَلَبَ، وَقَصَدُوا بَلَدَ الْفِرِنْجِ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْهُمْ، وَقَصَدُوا أَعْمَالَ اللَّاذِقِيَّةِ بَغْتَةً، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَهْلُهَا مِنَ الِانْتِقَالِ عَنْهَا وَالِاحْتِرَازِ، فَنَهَبُوا مِنْهَا مَا يَزِيدُ عَنِ الْوَصْفِ، وَقَتَلُوا وَأَسَرُوا، وَفَعَلُوا فِي بَلَدِ الْفِرِنْجِ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ بِهِمْ غَيْرُهُمْ. وَكَانَ الْأَسْرَى سَبْعَةَ آلَافِ أَسِيرٍ مَا بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ، وَمِائَةِ أَلْفِ رَأْسٍ مِنَ الدَّوَابِّ مَا بَيْنَ فَرَسٍ وَبَغْلٍ وَحِمَارٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ، وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَقْمِشَةِ وَالْعَيْنِ، وَالْحُلِيِّ فَيَخْرُجُ عَنِ الْحَدِّ، وَأَخْرَبُوا بَلَدَ اللَّاذِقِيَّةِ وَمَا جَاوَرَهَا، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلُ، وَخَرَجُوا إِلَى شَيْزَرَ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ سَالِمِينَ مُنْتَصَفَ رَجَبٍ، فَامْتَلَأَ الشَّامُ مِنَ الْأُسَارَى وَالدَّوَابِّ (وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا عَظِيمًا) وَلَمْ يَقْدِرِ الْفِرِنْجُ عَلَى شَيْءٍ يَفْعَلُونَهُ مُقَابِلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ عَجْزًا وَوَهْنًا. ذِكْرُ وُصُولِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ إِلَى الْعِرَاقِ، وَتَفَرُّقِ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ، وَمَسِيرِ الرَّاشِدِ بِاللَّهِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَخَلْعِهِ لَمَّا بَلَغَ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا اجْتِمَاعُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ عَلَى خِلَافِهِ

وَالْخُطْبَةِ لِلْمَلِكِ دَاوُدَ ابْنِ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، جَمَعَ الْعَسَاكِرِ، وَسَارَ إِلَى بَغْدَادَ، فَنَزَلَ بِالْمَالِكِيَّةِ، فَسَارَ بَعْضُ الْعَسْكَرِ حَتَّى شَارَفُوا عَسْكَرَهُ وَطَارَدُوهُمْ، وَكَانَ فِي الْجَمَاعَةِ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيٌّ أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَتَابَكِ زَنْكِي ثُمَّ عَادُوا، وَوَصَلَ السُّلْطَانُ فَنَزَلَ عَلَى بَغْدَادَ وَحَصَرَهَا وَجَمِيعُ الْعَسَاكِرِ فِيهَا. وَثَارَ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ وَسَائِرِ مِحَالِّهَا، وَأَفْسَدُوا، وَنَهَبُوا، وَقَتَلُوا، حَتَّى إِنَّهُ وَصَلَ صَاحِبٌ لِأَتَابَكِ زَنْكِي وَمَعَهُ كُتُبٌ، فَخَرَجُوا عَلَيْهِ، وَأَخَذُوهَا مِنْهُ، وَقَتَلُوهُ، فَحَضَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَالِّ عِنْدَ الْأَتَابَكِ زَنْكِي، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِنَهْبِ الْمَحَالِّ الْغَرْبِيَّةِ، فَلَيْسَ فِيهَا غَيْرُ عَيَّارٍ وَمُفْسِدٍ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِنَهْبِ الْحَرِيمِ الطَّاهِرِي، فَأُخِذَ مِنْهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الشَّيْءُ الْكَثِيرُ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَيَّارِينَ [كَثُرُوا] فِيهِ وَأَخَذُوا أَمْوَالَ النَّاسِ. وَنَهَبَتِ الْعَسَاكِرُ غَيْرَ الْحَرِيمِ مِنَ الْمَحَالِّ، وَحَصَرَهُمُ السُّلْطَانُ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ يَوْمًا فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِمْ، فَعَادَ إِلَى النَّهْرَوَانِ عَازِمًا عَلَى الْعَوْدِ إِلَى هَمَذَانَ، فَوَصَلَهُ طِرِنْطَايُ صَاحِبُ وَاسِطَ وَمَعَهُ سُفُنٌ كَثِيرَةٌ، فَعَادَ إِلَيْهَا، وَعَبَرَ فِيهَا إِلَى غَرْبِي دِجْلَةَ، وَأَرَادَ الْعَسْكَرُ الْبَغْدَادَيُّ مَنْعَهُ، فَسَبَقَهُمْ إِلَى الْعُبُورِ، وَاخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ، فَعَادَ الْمَلِكُ دَاوُدُ إِلَى بِلَادِهِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَتَفَرَّقَ الْأُمَرَاءُ. وَكَانَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ فَعَبَرَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ بِاللَّهِ، وَسَارَ مَعَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ بِمُفَارَقَةِ الْخَلِيفَةِ وَزَنْكِي بَغْدَادَ سَارَ إِلَيْهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا، وَمَنَعَ أَصْحَابَهُ مِنَ الْأَذَى وَالنَّهْبِ. وَكَانَ وُصُولُهُ مُنْتَصَفَ ذِي الْقَعْدَةِ، فَسَكَنَ النَّاسُ وَاطْمَأَنُّوا بَعْدَ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ، وَأَمَرَ فَجَمَعَ الْقُضَاةَ وَالشُّهُودَ وَالْفُقَهَاءَ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْيَمِينَ الَّتِي حَلَفَ بِهَا الرَّاشِدُ بِاللَّهِ لِمَسْعُودٍ، وَفِيهَا بِخَطِّ يَدِهِ: إِنِّي مَتَى جَنَّدْتُ أَوْ خَرَجْتُ أَوْ لَقِيتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ بِالسَّيْفِ، فَقَدْ خَلَعْتُ نَفْسِي مِنَ الْأَمْرِ، فَأَفْتَوْا بِخُرُوجِهِ مِنِ الْخِلَافَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، (وَسَنَذْكُرُهُ فِي خِلَافَةِ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ) . وَكَانَ الْوَزِيرُ شَرَفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ طِرَادٍ، وَصَاحِبُ الْمَخْزَنِ كَمَالُ الدَّيْنِ

بْنُ الْبَقْشَلَامِيِّ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ قَدْ حَضَرُوا مَعَ السُّلْطَانِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَهُ مُذْ أَسَرَهُمْ مِعَ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ، فَقَدَحُوا فِي الرَّاشِدِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ أَصْحَابِ الْمَنَاصِبِ بِبَغْدَادَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَمِّهِ، فَتَقَدَّمَ السُّلْطَانُ بِخَلْعِهِ وَإِقَامَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ، فَخُلِعَ وَقُطِعَتْ خُطْبَتُهُ فِي بَغْدَادَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَسَائِرِ الْبِلَادِ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، وَأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَتَلَهُ الْبَاطِنِيَّةُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ لَمَّا قُطِعَتْ خُطْبَةُ الرَّاشِدِ بِاللَّهِ اسْتَشَارَ السُّلْطَانُ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ بَغْدَادَ مِنْهُمُ الْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ طِرَادٍ، وَصَاحِبُ الْمَخْزَنِ، وَغَيْرُهُمَا - فِيمَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ. فَقَالَ الْوَزِيرُ: أَحَدُ عُمُومَةِ الرَّاشِدِ، وَهُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ. قَالَ: مَنْ هُوَ، قَالَ: مَنْ لَا أَقْدِرُ أَنْ أُفْصِحَ بِاسْمِهِ؛ لِئَلَّا يُقْتَلَ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِعَمَلِ مَحْضَرٍ فِي خَلْعِ الرَّاشِدِ، فَعَمِلُوا مَحْضَرًا ذَكَرُوا فِيهِ مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَأَشْيَاءَ تَقْدَحُ فِي الْإِمَامَةِ، ثُمَّ كَتَبُوا فَتْوَى: مَا يَقُولُ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، هَلْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ أَمْ لَا؟ فَأَفْتَوْا أَنَّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ أَحْضَرُوا الْقَاضِيَ أَبَا طَاهِرِ بْنَ الْكَرْخِيِّ، فَشَهِدُوا عِنْدَهُ بِذَلِكَ، فَحَكَمَ بِفِسْقِهِ وَخَلْعِهِ، وَحَكَمَ بَعْدَهُ غَيْرُهُ، وَلَمْ يَكُنْ قَاضِي الْقُضَاةِ حَاضِرًا لِيَحْكُمَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ أَتَابَكْ زَنْكِي بِالْمَوْصِلِ. ثُمَّ إِنَّ شَرَفَ الدِّينِ الْوَزِيرَ ذَكَرَ لِلسُّلْطَانِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنَ، وَقِيلَ: مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ - وَدِينَهُ، وَعَقْلَهُ، وَعِفَّتَهُ، وَلِينَ جَانِبِهِ، فَحَضَرَ السُّلْطَانُ دَارَ الْخِلَافَةِ وَمَعَهُ الْوَزِيرُ شَرَفُ الدِّينِ الزَّيْنَبِيُّ، وَصَاحِبُ الْمَخْزَنِ ابْنُ الْبَقْشَلَامِيِّ، وَغَيْرُهُمَا، وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ الْأَمِيرِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يَسْكُنُ فِيهِ، فَأُحْضِرَ، وَأُجْلِسَ فِي الْمُثَمَّنَةِ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَيْهِ وَالْوَزِيرُ شَرَفُ الدِّينِ، وَتَحَالَفَا، وَقَرَّرَ الْوَزِيرُ الْقَوَاعِدَ بَيْنَهُمَا، وَخَرَجَ السُّلْطَانُ مِنْ عِنْدِهِ، وَحَضَرَ الْأُمَرَاءُ وَأَرْبَابُ الْمَنَاصِبِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْفُقَهَاءُ، وَبَايَعُوا ثَامِنَ عَشَرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَلُقِّبَ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ.

قِيلَ: سَبَبُ اللَّقَبِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَصِيرُ إِلَيْكَ، فَاقْتَفِ بِي. فَلُقِّبَ بِذَلِكَ. وَلَمَّا اسْتَخْلَفَ سُيِّرَتِ الْكُتُبُ الْحُكْمِيَّةُ بِخِلَافَتِهِ إِلَى سَائِرِ الْأَمْصَارِ، وَاسْتَوْزَرَ شَرَفَ الدِّينِ عَلِيَّ بْنَ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيَّ فَأُرْسِلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَأَحْضَرَ قَاضِيَ الْقُضَاةِ أَبَا الْقَاسِمِ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ الزَّيْنَبِيَّ عَمَّ الْوَزِيرِ، وَأَعَادَهُ إِلَى مَنْصِبِهِ، وَقَرَّرَ كَمَالَ الدَّيْنِ حَمْزَةَ بْنَ طَلْحَةَ عَلَى مَنْصِبِهِ صَاحِبَ الْمَخْزَنِ، وَجَرَتِ الْأُمُورُ عَلَى أَحْسَنِ نِظَامٍ. وَبَلَغَنِي أَنَّ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا أَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ فِي تَقْرِيرِ إِقْطَاعٍ يَكُونُ لِخَاصَّتِهِ، فَكَانَ جَوَابُهُ: إِنَّ فِي الدَّارِ ثَمَانِينَ بَغْلًا تَنْقُلُ الْمَاءَ مِنْ دِجْلَةَ، فَلْيَنْظُرُ السُّلْطَانُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ شُرْبِ هَذَا الْمَاءِ وَيَقُومُ بِهِ، فَتَقَرَّرَتِ الْقَاعِدَةُ عَلَى أَنْ يُجْعَلَ لَهُ مَا كَانَ لِلْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ. وَقَالَ السُّلْطَانُ لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُهُ: لَقَدْ جَعَلْنَا فِي الْخِلَافَةِ رَجُلًا عَظِيمًا نَسْأَلُ. وَالْمُقْتَفِي عَمُّ الرَّاشِدِ هُوَ وَالْمُسْتَرْشِدُ ابْنَا الْمُسْتَظْهِرِ، وَلِيَا الْخِلَافَةَ، وَكَذَلِكَ السَّفَّاحُ وَالْمَنْصُورُ أَخَوَانِ، وَكَذَلِكَ الْمَهْدِيُّ وَالرَّشِيدُ أَخَوَانِ، وَكَذَلِكَ الْوَاثِقُ وَالْمُتَوَكِّلُ أَخَوَانِ، وَأَمَّا ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ وُلُّوا الْخِلَافَةَ فَالْأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ وَالْمُعْتَصِمُ أَوْلَادُ الرَّشِيدِ، وَالْمُكْتَفِي وَالْمُقْتَدِرُ وَالْقَاهِرُ بَنُو الْمُعْتَضِدِ، وَالرَّاضِي وَالْمُتَّقِي وَالْمُطِيعُ بَنُو الْمُقْتَدِرِ، وَأَمَّا أَرْبَعَةُ إِخْوَةٍ وُلُّوهَا فَالْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ وَيَزِيدُ وَهِشَامٌ بَنُو عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لَا يُعْرَفُ غَيْرُهُمْ. وَحِينَ اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ لِلْمُقْتَفِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ الرَّاشِدُ بِاللَّهِ رَسُولًا مِنَ الْمَوْصِلِ مَعَ رَسُولِ أَتَابَكْ زَنْكِي، فَأَمَّا رَسُولُ الرَّاشِدِ فَلَمْ تُسْمَعْ رِسَالَتُهُ، وَأَمَّا رَسُولُ أَتَابَكْ زَنْكِي

فَكَانَ كَمَالُ الدَّيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّهْرَزُورِيُّ، فَأُحْضِرَ فِي الدِّيوَانِ، وَسُمِعَتْ رِسَالَتُهُ، وَحَكَى لِي وَالِدِي عَنْهُ قَالَ: لَمَّا حَضَرْتُ الدِّيوَانَ قِيلَ لِي: تُبَايِعُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقُلْتُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَنَا فِي الْمَوْصِلِ وَلَهُ فِي أَعْنَاقِ الْخَلْقِ بَيْعَةٌ مُتَقَدِّمَةٌ. وَطَالَ الْكَلَامُ، وَعُدْتُ إِلَى مَنْزِلِي. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ عَجُوزٌ سِرًّا وَاجْتَمَعَتْ بِي، وَأَبْلَغَتْنِي رِسَالَةً عَنِ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ مَضْمُونُهَا عِتَابِي عَلَى مَا قُلْتُهُ وَاسْتِنْزَالِي عَنْهُ. فَقُلْتُ: غَدًا أَخْدِمُ خِدْمَةً يَظْهَرُ أَثَرُهَا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أُحْضِرْتُ الدِّيوَانَ، وَقِيلَ لِي فِي مَعْنَى الْبَيْعَةِ، فَقُلْتُ: أَنَا رَجُلٌ فَقِيهٌ قَاضٍ، وَلَا يَجُوزُ لِي أَنْ أُبَايِعَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدِي خَلْعُ الْمُتَقَدِّمِ. فَأَحْضَرُوا الشُّهُودَ، وَشَهِدُوا عِنْدِي فِي الدِّيوَانِ بِمَا أَوْجَبَ خَلْعَهُ، فَقُلْتُ: هَذَا ثَابِتٌ لَا كَلَامَ فِيهِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ لَنَا فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ مِنْ نَصِيبٍ؛ لِأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ حَصَلَ لَهُ خِلَافَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَالسُّلْطَانِ، فَقَدِ اسْتَرَاحَ مِمَّنْ كَانَ يَقْصِدُهُ، وَنَحْنُ بِأَيِّ شَيْءٍ نَعُودُ؟ فَرُفِعَ الْأَمْرُ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَمَرَ أَنْ يُعْطَى أَتَابَكْ زَنْكِي صَرِيفِينَ، وَدَرْبَ هَرْوَنَ، وَحَرْبَى مُلْكَا، وَهِيَ مِنْ خَاصِّ الْخَلِيفَةِ، وَيُزَادُ فِي أَلْقَابِهِ، وَقَالَ: هَذِهِ قَاعِدَةٌ لَمْ يُسْمَحْ بِهَا لِأَحَدٍ مِنْ زُعَمَاءِ الْأَطْرَافِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ نَصِيبٌ فِي خَاصِّ الْخَلِيفَةِ. فَبَايَعْتُ وَعُدْتُ مَقْضِيَّ الْحَوَائِجِ قَدْ حَصَلَ لِي جُمْلَةٌ صَالِحَةٌ مِنَ الْمَالِ وَالتُّحَفِ. وَكَانَتْ بَيْعَةً، وَخُطِبَ لِلْمُقْتَفِي فِي الْمَوْصِلِ فِي رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ، وَلَمَّا عَادَ كَمَالُ الدَّيْنِ بْنُ الشَّهْرَزُورِيِّ سُيِّرَ عَلَى يَدِهِ الْمُحْضَرُ الَّذِي عَمِلَ بِخَلْعِ الرَّاشِدِ، فَحَكَمَ بِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ الزَّيْنَبِيُّ بِالْمَوْصِلِ (وَكَانَ عِنْدَ أَتَابَكْ زَنْكِي) . ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ وَزِيرَهُ شَرَفَ الدِّينِ أَنُوشِرْوَانَ بْنَ خَالِدٍ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ، وَأَقَامَ بِدَارِهِ مَعْزُولًا، وَوَزَرَ بَعْدَهُ كَمَالُ الدَّيْنِ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ سَلَمَةَ الدَّرْكَزِينِيُّ، وَهُوَ مِنْ خُرَاسَانَ.

وَفِيهَا ثَارَ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْعَسَاكِرِ بِهَا، وَقَتَلُوا فِي الْبَلَدِ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ ظَاهِرًا، وَكَثُرَ الشَّرُّ، فَقَصَدَ الشِّحْنَةُ شَارِعَ دَارِ الرَّقِيقِ، وَطَلَبَ الْعَيَّارِينَ، فَثَارَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَحَالِّ الْغَرْبِيَّةِ، فَقَاتَلَهُمْ، وَأَحْرَقَ الشَّارِعَ، فَاحْتَرَقَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَنَقَلَ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ إِلَى الْحَرِيمِ الطَّاهِرِيِّ، فَدَخَلَهُ الشِّحْنَةُ، وَنَهَبَ مِنْهُ مَالًا كَثِيرًا. ثُمَّ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِبَغْدَادَ بَيْنَ أَهْلِ بَابِ الْأَزَجِ وَبَيْنَ أَهْلِ الْمَأْمُونِيَّةِ، وَقُتِلَ بَيْنِهِمْ جَمَاعَةٌ ثُمَّ اصْطَلَحُوا. وَفِيهَا سَارَ قَرَاسُنْقُرُ فِي عَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ فِي طَلَبِ الْمَلِكِ دَاوُدَ ابْنِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَأَقَامَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ بِبَغْدَادَ، وَلَمْ يَزَلْ قَرَاسُنْقُرُ يَطْلُبُ دَاوُدَ حَتَّى أَدْرَكَهُ عِنْدَ مَرَاغَةَ، فَالْتَقَيَا وَتَصَافَّا، وَاقْتَتَلَ الْعَسْكَرَانِ قِتَالًا عَظِيمًا، فَانْهَزَمَ دَاوُدُ، وَأَقَامَ قَرَاسُنْقُرُ بِأَذْرَبِيجَانَ، وَأَمَّا دَاوُدُ فَإِنَّهُ قَصَدَ خُوزِسْتَانَ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ هُنَاكَ عَسَاكِرُ كَثِيرَةٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ وَغَيْرِهِمْ، بَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ نَحْوُ عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَقَصَدَ تُسْتَرَ وَحَاصَرَهَا، وَكَانَ عَمُّهُ الْمَلِكُ سَلْجُوقْشَاهُ ابْنُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ بِوَاسِطَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ يَسْتَنْجِدُهُ، فَأَمَدَّهُ بِالْعَسَاكِرِ، فَسَارَ إِلَى دَاوُدَ وَهُوَ يُحَاصِرُ تُسْتَرَ، فَتَصَافَّا، فَانْهَزَمَ سَلْجُوقْشَاهْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ حَمُّوَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُوَيْنِيُّ، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ الْمَشْهُورِينَ، وَلَهُ كَرَامَاتٌ كَثِيرَةٌ وَرِوَايَةُ الْحَدِيثِ. وَتُوُفِّيَ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَبِيبٍ الْعَامِرِيُّ الصُّوفِيُّ مُصَنِّفُ شَرْحِ الشِّهَابِ، وَأَنْشَدَ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ:

هَا قَدْ مَدَدْتُ يَدِي إِلَيْكَ فَرُدَّهَا ... بِالْفَضْلِ لَا بِشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ وَتُوُفِّيَ أَيْضًا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ أَحْمَدَ الْفُرَاوِيُّ الصَّاعِدِيُّ، رَاوِي صَحِيحِ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ الْفَارِسِيِّ، وَطَرِيقُهُ الْيَوْمَ أَعْلَى الطُّرُقِ، وَإِلَيْهِ الرِّحْلَةُ مِنَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَكَانَ فَقِيهًا مُنَاظِرًا ظَرِيفًا، يَخْدِمُ الْغُرَبَاءَ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ يُقَالُ: الْفُرَاوِيُّ أَلْفُ رَاوٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] (531) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ تَفَرُّقِ الْعَسَاكِرِ عَنِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ أَذِنَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ لِلْعَسَاكِرِ الَّتِي عِنْدَهُ بِبَغْدَادَ بِالْعَوْدِ إِلَى بِلَادِهِمْ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ الرَّاشِدَ بِاللَّهِ قَدْ فَارَقَ أَتَابَكْ زَنْكِي مِنَ الْمَوْصِلِ، فَإِنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِالْعَسَاكِرِ عِنْدَهُ خَوْفًا أَنْ يَنْحَدِرَ بِهِ إِلَى الْعِرَاقِ فَيَمْلِكَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَأْذَنَ لِلْأَمِيرِ صَدَقَةَ بْنِ دُبَيْسٍ، صَاحِبِ الْحِلَّةِ، زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ تَمَسُّكًا بِهِ. وَقَدِمَ عَلَى السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ حَارَبُوهُ مَعَ الْمَلِكِ دَاوُدَ مِنْهُمُ الْبَقْشُ السِّلَاحِيُّ، وَبُرْسُقُ بْنُ بُرْسُقَ صَاحِبُ تُسْتَرَ، وَسُنْقُرُ الْخُمَارَتْكِينُ شِحْنَةُ هَمَذَانَ، فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَمَّنَهُمْ، وَوَلَّى الْبَقْشَ شِحْنَكِيَّةَ بَغْدَادَ، فَعَسَفَ النَّاسَ وَظَلْمَهُمْ. وَكَانَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ بَعْدَ تَفَرُّقِ الْعَسَاكِرِ عَنْهُ قَدْ بَقِيَ مَعَهُ أَلْفُ فَارِسٍ. وَتَزَوَّجَ الْخَلِيفَةُ فَاطِمَةَ خَاتُونَ أُخْتَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ فِي رَجَبٍ، وَالصَّدَاقُ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ الْوَكِيلُ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ عَلِيُّ بْنُ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيُّ، وَالْوَكِيلُ عَنِ السُّلْطَانِ وَزِيرُهُ كَمَالُ الدَّرْكَزِينِيُّ، وَوَثِقَ السُّلْطَانُ حَيْثُ صَارَ الْخَلِيفَةُ وَصَدَقَةُ بْنُ دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ صِهْرَيْهِ، وَحَيْثُ سَارَ الرَّاشِدُ بِاللَّهِ مِنْ عِنْدِ زَنْكِي الْأَتَابَكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ عَزْلِ بَهْرَامَ عَنْ وِزَارَةِ الْحَافِظِ، وَوِزَارَةِ رِضْوَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى الْأُولَى، هَرَبَ تَاجُ الدَّوْلَةِ بَهْرَامُ وَزِيرُ الْحَافِظِ لِدِينِ

اللَّهِ الْعَلَوِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَوْزَرَهُ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِهِ حَسَنٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا أَرْمَنِيًّا، فَتَمَكَّنَ فِي الْبِلَادِ، وَاسْتَعْمَلَ الْأَرْمَنَ، وَعَزَلَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِيهِمْ، وَأَهَانَهُمْ هُوَ وَالْأَرْمَنُ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ، وَطَمِعُوا فِيهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ مِصْرَ مَنْ أَنِفَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا رِضْوَانُ بْنُ الرَّيْحَيْنِيِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا سَاءَهُ ذَلِكَ وَأَقْلَقَهُ جَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا، وَقَصَدَ الْقَاهِرَةَ، فَسَمِعَ بِهِ بَهْرَامُ، فَهَرَبَ إِلَى الصَّعِيدِ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ وَلَا قِتَالٍ، وَقَصَدَ مَدِينَةَ أَسْوَانَ، فَمَنَعَهُ وَالِيهَا مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهَا وَقَاتَلَهُ، فَقَتَلَ السُّودَانُ مِنَ الْأَرْمَنِ كَثِيرًا، فَلَمَّا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى أَسْوَانَ أَرْسَلَ [إِلَى] الْحَافِظِ يَطْلُبُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ، فَعَادَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، فَسُجِنَ بِالْقَصْرِ، فَبَقِيَ مُدَّةً، ثُمَّ تَرَهَّبَ وَخَرَجَ مِنَ الْحَبْسِ. وَأَمَّا رِضْوَانٌ فَإِنَّهُ وَزَرَ لِلْحَافِظِ وَلُقِّبَ بِالْمَلِكِ الْأَفْضَلِ، وَهُوَ أَوَّلُ وَزِيرٍ لِلْمِصْرِيِّينَ لُقِّبَ بِالْمَلِكِ، ثُمَّ فَسَدَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَافِظِ، فَعَمِلَ الْحَافِظُ فِي إِخْرَاجِهِ، فَثَارَ النَّاسُ عَلَيْهِ مُنْتَصَفَ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ، وَهَرَبَ مِنْ دَارِهِ وَتَرَكَهَا بِمَا فِيهَا، فَنَهَبَ النَّاسُ (مِنْهَا) مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُحْصَى، وَرَكِبَ الْحَافِظُ فَسَكَنَ النَّاسُ، وَنَقَلَ مَا بَقِيَ فِي دَارِ رِضْوَانَ إِلَى قَصْرِهِ. وَأَمَّا رِضْوَانُ فَإِنَّهُ سَارَ يُرِيدُ الشَّامَ يَسْتَنْجِدُ الْأَتْرَاكَ وَيَسْتَنْصِرُهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْحَافِظُ الْأَمِيرُ ابْنُ مَصَّالٍ لِيَرُدَّهُ بِالْأَمَانِ وَالْعَهْدِ أَنَّهُ لَا يُؤْذِيهِ، فَرَجَعَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، فَحَبَسَهُ الْحَافِظُ عِنْدَهُ فِي الْقَصْرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى الشَّامِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَصَدَ صَرْخَدَ فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَنَزَلَ عَلَى صَاحِبِهَا أَمِينِ الدَّوْلَةِ كَمُشْتَكِينَ فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ. ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ وَمَعَهُ عَسْكَرٌ، فَقَاتَلَ الْمِصْرِيِّينَ عِنْدَ بَابِ النَّصْرِ وَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً كَثِيرَةً، وَأَقَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ كَثِيرٌ

مِمَّنْ مَعَهُ، فَعَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى الشَّامِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْحَافِظُ الْأَمِيرُ ابْنُ مَصَّالٍ فَرَدَّهُ، وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي الْقَصْرِ، وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِيَالِهِ، فَأَقَامَ فِي الْقَصْرِ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ [وَخَمْسِمَائَةٍ] ، فَنَقَبَ الْحَبْسَ وَخَرَجَ مِنْهُ، وَقَدْ أُعِدَّتْ لَهُ خَيْلٌ، فَهَرَبَ عَلَيْهَا، وَعَبَرَ النِّيلَ إِلَى الْجِيزَةِ فَحَشَدَ وَجَمَعَ الْمَغَارِبَةَ وَغَيْرَهُمْ، وَعَادَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، فَقَاتَلَ الْمِصْرِيِّينَ عِنْدَ جَامِعِ ابْنِ طُولُونَ وَهَزَمَهُمْ، وَدَخَلَ الْقَاهِرَةَ فَنَزَلَ عِنْدَ جَامِعِ الْأَقْمَرِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْحَافِظِ يَطْلُبُ مِنْهُ مَالًا لِيُفَرِّقَهُ عَلَى عَادَتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا وَزَّرُوا وَزِيرًا أَرْسَلُوا إِلَيْهِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ لِيُفَرِّقَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْحَافِظُ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَقَسَّمَهَا، وَكَثُرَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَطَلَبَ زِيَادَةً، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ أُخْرَى فَفَرَّقَهَا، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، وَخَفُّوا عِنْدَهُ، فَإِذَا الصَّوْتُ قَدْ وَقَعَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ السُّودَانِ وَضْعَهُمُ الْحَافِظُ عَلَيْهِ، فَحَمَلُوا عَلَى غِلْمَانِهِ فَقَاتَلُوهُمْ، فَقَامَ يَرْكَبُ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَرَسًا لِيَرْكَبَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ رُكُوبَهُ ضَرَبَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى الْحَافِظِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى زَوْجَتِهِ، فَوُضِعَ فِي حِجْرِهَا، فَأَلْقَتْهُ، وَقَالَتْ: هَكَذَا يَكُونُ الرِّجَالُ، وَلَمْ يَسْتَوْزِرِ الْحَافِظُ بَعْدَهُ أَحَدًا، وَبَاشَرَ الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ. ذِكْرُ فَتْحِ الْمُسْلِمِينَ حِصْنَ وَادِي ابْنِ الْأَحْمَرِ مَنِ الْفِرِنْجِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَجَبٍ سَارَ عَسْكَرُ دِمَشْقَ مَعَ مُقَدِّمِهِمُ الْأَمِيرِ بَزَاوُشَ إِلَى طَرَابُلُسَ الشَّامِ فَاجْتَمَعَ مَعَهُ مِنَ الْغُزَاةِ الْمُتَطَوِّعَةُ وَالتُّرْكُمَانِ أَيْضًا خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا سَمِعَ الْقُمُّصُ صَاحِبُهَا بِقُرْبِهِمْ مِنْ وِلَايَتِهِ سَارَ إِلَيْهِمْ فِي جُمُوعِهِ وَحُشُودِهِ، فَقَاتَلَهُمْ، وَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ، وَعَادُوا إِلَى طَرَابُلُسَ عَلَى صُورَةٍ سَيِّئَةٍ قَدْ قُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ فُرْسَانِهِمْ وَشُجْعَانِهِمْ، فَنَهَبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْكَثِيرَ، وَحَصَرُوا حِصْنَ وَادِي ابْنِ الْأَحْمَرِ فَمَلَكُوهُ

عَنْوَةً، وَنَهَبُوا مَا فِيهِ، وَقَتَلُوا الْمُقَاتِلَةَ، وَسَبَوُا الْحَرِيمَ وَالذَّرِّيَّةَ، وَأَسَرُوا الرِّجَالَ فَاشْتَرَوْا أَنْفُسَهُمْ بِمَالٍ جَلِيلٍ، وَعَادُوا إِلَى دِمَشْقَ سَالِمِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ حِصَارِ زَنْكِي مَدِينَةَ حِمْصَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ، سَارَ أَتَابَكْ زَنْكِي إِلَى مَدِينَةِ حِمْصَ، وَقَدِمَ إِلَيْهَا صَلَاحُ الدِّينِ مُحَمَّدُ الْيَاغِيسَايِنِيُّ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَمِيرٍ مَعَهُ، وَكَانَ ذَا مَكْرٍ وَحِيَلٍ، أَرْسَلَهُ لِيَتَوَصَّلَ مَعَ مَنْ فِيهَا لِيُسَلِّمُوهَا إِلَيْهِ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا وَفِيهَا مُعِينُ الدِّينِ أُنُزُ وَهُوَ الْوَالِي عَلَيْهَا وَالْحَاكِمُ فِيهَا، وَهُوَ أَيْضًا أَكْبَرُ أَمِيرٍ بِدِمَشْقَ وَحِمْصَ، أَقْطَاعُهُ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، فَلَمْ يَنْفُذْ فِيهِ مَكْرُهُ، فَوَصَلَ حِينَئِذٍ زَنْكِي إِلَيْهَا، وَحَصَرَهَا، وَعَاوَدَ مُرَاسَلَةَ أُنُزَ فِي التَّسْلِيمِ غَيْرَ مَرَّةٍ، تَارَةً بِالْوَعْدِ وَتَارَةً بِالْوَعِيدِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهَا مِلْكُ صَاحِبِهِ شِهَابِ الدِّينِ، وَأَنَّهَا بِيَدِهِ أَمَانَةٌ، وَلَا يُسَلِّمُهَا إِلَّا عَنْ غَلَبَةٍ، فَأَقَامَ عَلَيْهَا إِلَى الْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ وَرَحَلَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ بُلُوغِ غَرَضٍ إِلَى بَعْرِينَ (فَحَصَرَهَا) وَكَانَ مِنْهُ وَمِنَ الْفِرِنْجِ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مُلْكِ زَنْكِي قَلْعَةَ بَعْرِينَ وَهَزِيمَةِ الْفِرِنْجِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالٍ سَارَ أَتَابَكْ زَنْكِي مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَى الشَّامِ، وَحَصَرَ قَلْعَةَ بَعْرِينَ، وَهِيَ تُقَارِبُ مَدِينَةَ حَمَاةَ، وَهِيَ مِنْ أَمْنَعِ مَعَاقِلِ الْفِرِنْجِ، وَأَحْصَنِهَا، فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهَا قَاتَلَهَا وَزَحَفَ إِلَيْهَا، فَجَمَعَ الْفِرِنْجُ فَارِسَهُمْ وَرَاجِلَهُمْ، وَسَارُوا فِي قَضِّهِمْ وَقَضِيضِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ وَقَمَامِصَتِهِمْ وَكُنُودِهِمْ إِلَى أَتَابَكْ زَنْكِي لِيُرَحِّلُوهُ عَنْ بَعْرِينَ، فَلَمْ يَرْحَلْ، وَصَبَرَ لَهُمْ إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَيْهِ، فَلَقِيَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ، وَصَبَرَ

الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ أَجْلَتِ الْوَقْعَةُ عَنْ هَزِيمَةِ الْفِرِنْجِ، وَأَخَذَتْهُمْ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَاحْتَمَى مُلُوكُهُمْ، وَفُرْسَانُهُمْ بِحِصْنِ بَعْرِينَ لِقُرْبِهِ مِنْهُمْ، فَحَصَرَهُمْ زَنْكِي فِيهِ، وَمَنَعَ عَنْهُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْأَخْبَارَ، فَكَانَ مَنْ بِهِ مِنْهُمْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ بِلَادِهِمْ لِشِدَّةِ ضَبْطِ الطَّرْقِ وَهَيْبَتِهِ عَلَى جُنْدِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْقُسُوسَ وَالرُّهْبَانَ دَخَلُوا بِلَادَ الرُّومِ وَبِلَادَ الْفِرِنْجِ وَمَا وَالَاهَا مُسْتَنْفِرِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْلَمُوهُمْ أَنَّ زَنْكِي إِنْ أَخَذَ قَلْعَةَ بَعْرِينَ وَمِنْ فِيهَا مِنَ الْفِرِنْجِ مَلَكَ جَمِيعَ بِلَادِهِمْ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ لَهُمْ هِمَّةٌ إِلَّا قَصْدُ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَحِينَئِذٍ اجْتَمَعَتِ النَّصْرَانِيَّةُ، وَسَارُوا عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ، وَقَصَدُوا الشَّامَ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَا نَذْكُرُهُ. وَأَمَّا زَنْكِي فَإِنَّهُ جَدَّ فِي قِتَالِ الْفِرِنْجِ فَصَبَرُوا، وَقَلَّتْ عَلَيْهِمُ الذَّخِيرَةُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَحَدًا يَقُومُ عَلَيْهِمْ، بَلْ كَانُوا يَتَوَقَّعُونَ مُلْكَ بَاقِي الشَّامِ، فَلَمَّا قَلَّتِ الذَّخِيرَةُ أَكَلُوا دَوَابَّهُمْ، وَأَذْعَنُوا بِالتَّسْلِيمِ لِيُؤَمِّنَهُمْ وَيَتْرُكَهُمْ يَعُودُونَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِاجْتِمَاعِ مَنْ بَقِيَ الْفِرِنْجُ، وَوُصُولِ مَنْ قَرُبَ إِلَيْهِمْ، أَعْطَى لِمَنْ فِي الْحِصْنِ الْأَمَانَ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ يَحْمِلُونَهَا إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ فَأَطْلَقَهُمْ، فَخَرَجُوا وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا فَارَقُوهُ بَلَغَهُمُ اجْتِمَاعُ مَنِ اجْتَمَعَ بِسَبَبِهِمْ، فَنَدِمُوا عَلَى التَّسْلِيمِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ، وَكَانَ لَا يَصِلُهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْأَخْبَارِ أَلْبَتَّةَ؛ فَلِهَذَا سَلَّمُوا. وَكَانَ زَنْكِي فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ عَلَيْهِمْ قَدْ فَتَحَ الْمَعَرَّةَ وَكَفْرَطَابَ مِنَ الْفِرِنْجِ فَكَانَ أَهْلُهُمَا وَأَهْلُ سَائِرِ الْوِلَايَاتِ الَّتِي بَيْنَ حَلَبَ وَحَمَاةَ مَعَ أَهْلِ بَعْرِينَ فِي الْخِزْيِ؛ لِأَنَّ الْحَرْبَ بَيْنَهُمْ قَائِمَةٌ عَلَى سَاقٍ، وَالنَّهْبُ وَالْقَتْلُ لَا يَزَالُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا مَلَكَهَا أَمِنَ النَّاسُ، وَعَمِرَتِ الْبِلَادُ، وَعَظُمَ دَخَلُهَا، وَكَانَ فَتْحًا مُبِينًا، وَمَنْ رَآهُ عَلِمَ صِحَّةَ قَوْلِي. وَمِنْ أَحْسَنِ الْأَعْمَالِ وَأَعْدَلِهَا مَا عَمِلَهُ زَنْكِي مَعَ أَهْلِ الْمَعَرَّةِ، فَإِنَّ الْفِرِنْجَ لَمَّا مَلَكُوا الْمَعَرَّةَ كَانُوا قَدْ أَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَمْلَاكَهُمْ، فَلَمَّا فَتَحَهَا زَنْكِي الْآنَ حَضَرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِهَا وَمَعَهُمْ أَعْقَابُ مَنْ هَلَكَ، وَطَلَبُوا أَمْلَاكَهُمْ، فَطَلَبَ مِنْهُمْ كُتُبَهَا، فَقَالُوا: إِنَّ

الْفِرِنْجَ أَخَذُوا كُلَّ مَا لَنَا، وَالْكُتُبَ الَّتِي لِلْأَمْلَاكِ فِيهَا. فَقَالَ: اطْلُبُوا دَفَاتِرَ حَلَبَ، وَكُلَّ مَنْ عَلَيْهِ خَرَاجٌ عَلَى مِلْكٍ يُسَلِّمُ إِلَيْهِ، فَفَعَلُوا ذَاكَ، وَأَعَادَ عَلَى النَّاسِ أَمْلَاكَهُمْ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَفْعَالِ وَأَعْدَلِهَا. ذِكْرُ خُرُوجِ مَلِكِ الرُّومِ مِنْ بِلَادِهِ إِلَى الشَّامِ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْفِرِنْجَ أَرْسَلُوا إِلَى مَلِكِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ يَسْتَصْرِخُونَ بِهِ، وَيُعَرِّفُونَهُ مَا فَعَلَهُ زَنْكِي فِيهِمْ، وَيَحُثُّونَهُ عَلَى لَحَاقِ الْبِلَادِ قَبْلَ أَنْ تُمْلَكَ وَلَا يَنْفَعَهُ حِينَئِذٍ الْمَجِيءُ، فَتَجَهَّزَ وَسَارَ مُجِدًّا، فَابْتَدَأَ وَرَكِبَ الْبَحْرَ وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ أَنْطَالِيَّةَ، وَهِيَ لَهُ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَأَرْسَى فِيهَا، وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ وُصُولَ الْمَرَاكِبِ الَّتِي فِيهَا أَثْقَالُهُ وَسِلَاحُهُ، فَلَمَّا وَصَلَتْ سَارَ عَنْهَا إِلَى مَدِينَةِ نِيقِيَّةَ وَحَصَرَهَا، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى مَالٍ يُؤَدُّونَهُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: بَلْ مَلَكَهَا وَسَارَ عَنْهَا إِلَى مَدِينَةِ أَدَنَةَ وَمَدِينَةِ الْمِصِّيصَةِ، وَهُمَا بِيَدِ ابْنِ لِيُونَ الْأَرْمَنِيِّ صَاحِبِ قِلَاعِ الدُّرُوبِ فَحَصَرَهُمَا وَمَلَكَهُمَا. وَرَحَلَ إِلَى عَيْنِ زَرْبَةَ فَمَلَكَهَا عَنْوَةً، وَمَلَكَ تَلَّ حَمْدُونَ، وَحَمَلَ أَهْلَهُ إِلَى جَزِيرَةِ قُبْرُسَ، وَعَبَرَ مِينَاءَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فَحَصَرَ مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَّةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا وَبِهَا صَاحِبُهَا الْفِرِنْجِيُّ رِيمُنْدْ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، فَتَصَالَحَا وَرَحَلَ عَنْهَا إِلَى بُغْرَاصَ، وَدَخَلَ مِنْهَا بَلَدَ ابْنِ لِيُونَ الْأَرْمَنِيِّ، فَبَذَلَ لَهُ ابْنُ لِيُونَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً وَدَخَلَ فِي طَاعَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ أَيَارَ، ظَهَرَ بِالشَّامِ سَحَابٌ أَسْوَدُ أَظْلَمَتْ لَهُ الدُّنْيَا، وَصَارَ الْجَوُّ كَاللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، ثُمَّ طَلَعَ بَعْدَ ذَلِكَ سَحَابٌ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ نَارٌ أَضَاءَتْ لَهُ الدُّنْيَا، وَهَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ أَلْقَتْ كَثِيرًا مِنَ الشَّجَرِ، وَكَانَ أَشَدُّ ذَلِكَ بِحَوْرَانَ وَدِمَشْقَ، وَجَاءَ بَعْدَهُ مَطَرٌ شَدِيدٌ وَبَرَدٌ كِبَارٌ. وَفِيهَا عَادَ مُؤَيَّدُ الدِّينِ أَبُو الْفَوَارِسِ الْمُسَيَّبُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصُّوفِيِّ - مِنْ صَرْخَدَ إِلَى دِمَشْقَ. وَكَانَ قَدْ أُخْرِجَ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى صَرْخَدَ، فَبَقُوا فِيهَا إِلَى الْآنَ وَعَادُوا، وَوَلِيَ أَبُو الْفَوَارِسِ الرِّئَاسَةَ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ مَحْبُوبًا عِنْدَ أَهْلِهَا، وَتَمَكَّنَ تَمَكُّنًا عَظِيمًا، وَكَانَ ذَا رِئَاسَةٍ عَظِيمَةٍ وَمُرُوءَةٍ ظَاهِرَةٍ. وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ بِبَغْدَادَ، وَكَثُرَ الْمَوْتُ فُجْأَةً بِأَصْفَهَانَ وَهَمَذَانَ. وَفِيهَا سَارَ أَتَابَكْ زَنْكِي إِلَى دَقُوقَا وَمَلَكَهَا بَعْدَ أَنْ قَاتَلَ عَلَى قَلْعَتِهَا قِتَالًا شَدِيدًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْخُجَنْدِيُّ رَئِيسُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَصْفَهَانَ، وَتَفَقَّهَ عَلَى وَالِدِهِ بِالنِّظَامِيَّةِ بِأَصْفَهَانَ. وَتُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْحَرِيرِيُّ، وَمَوْلِدُهُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ زَوْجِ الْحُرَّةِ. وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرِ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ زَوْجِ الْحُرَّةِ أَيْضًا، وَكَانَتْ وَفَاةُ الْخَطِيبِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] (532) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ أَتَابَكْ زَنْكِي حِمْصَ وَغَيْرَهَا مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ وَصَلَ أَتَابَكْ زَنْكِي إِلَى حَمَاةَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى بِقَاعِ بَعْلَبَكَّ، فَمَلَكَ حِصْنَ الْمَجْدَلِ وَكَانَ لِصَاحِبِ دِمَشْقَ، وَرَاسَلَهُ مُسْتَحْفِظُ بَانِيَاسَ وَأَطَاعَهُ وَهُوَ أَيْضًا لِصَاحِبِ دِمَشْقَ، وَسَارَ إِلَى حِمْصَ فَحَصَرَهَا وَأَدَامَ قِتَالَهَا، فَلَمَّا نَازَلَ مَلِكُ الرُّومِ حَلَبَ رَحَلَ عَنْهَا إِلَى سَلَمِيَّةَ، فَلَمَّا انْجَلَتْ حَادِثَةُ الرُّومِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَاوَدَ مُنَازَلَةَ حِمْصَ، وَأَرْسَلَ إِلَى شِهَابِ الدِّينِ صَاحِبِ دِمَشْقَ يَخْطُبُ إِلَيْهِ أُمَّهُ لِيَتَزَوَّجَهَا، وَاسْمُهَا زُمُرُّدُ خَاتُونَ ابْنَةُ جَاوِلِي، وَهِيَ الَّتِي قَتَلَتِ ابْنَهَا شَمْسَ الْمُلُوكِ، وَهِيَ الَّتِي بَنَتِ الْمَدْرَسَةَ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ الْمُطِلَّةَ عَلَى وَادِي شَقْرَا وَنَهَرِ بَرَدَى، فَتَزَوَّجَهَا وَتَسَلَّمَ حِمْصَ مَعَ قَلْعَتِهَا. وَحُمِلَتِ الْخَاتُونُ إِلَيْهِ فِي رَمَضَانَ، وَإِنَّمَا حَمْلَهُ عَلَى التَّزَوُّجِ بِهَا مَا رَأَى مِنْ تَحَكُّمِهَا فِي دِمَشْقَ، فَظَنَّ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَلَدَ بِالِاتِّصَالِ بِهَا، فَلَمَّا تَزَوَّجَهَا خَابَ أَمَلُهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ عَلَى شَيْءٍ فَأَعْرَضَ عَنْهَا. ذِكْرُ وُصُولِ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى الشَّامِ وَمُلْكِهِ بُزَاعَةَ، وَمَا فَعَلَهُ بِالْمُسْلِمِينَ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ خُرُوجَ مَلِكِ الرُّومِ مِنْ بِلَادِهِ، وَاشْتِغَالِهِ

بِالْفِرِنْجِ وَابْنِ لِيُونَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَصَلَ إِلَى الشَّامِ، وَخَافَهُ النَّاسُ خَوْفًا عَظِيمًا، وَقَصَدَ بُزَاعَةَ فَحَصَرَهَا، وَهِيَ مَدِينَةٌ لَطِيفَةٌ عَلَى سِتَّةِ فَرَاسِخَ مِنْ حَلَبَ، فَمَضَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ حَلَبَ إِلَى أَتَابَكْ زَنْكِي، وَهُوَ يُحَاصِرُ حِمْصَ، فَاسْتَغَاثُوا بِهِ وَاسْتَنْصَرُوهُ، فَسَيَّرَ مَعَهُمْ كَثِيرًا مِنَ الْعَسَاكِرِ، فَدَخَلُوا إِلَى حَلَبَ لِيَمْنَعُوهَا مِنَ الرُّومِ إِنْ حَصَرُوهَا. ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ الرُّومِ قَاتِلَ بُزَاعَةَ وَنَصَبَ عَلَيْهَا مَنْجَنِيقَاتٍ، وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهَا، فَمَلَكَهَا بِالْأَمَانِ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، ثُمَّ غَدَرَ بِأَهْلِهَا فَقَتَلَ مِنْهُمْ وَأَسَرَ وَسَبَى. وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ جُرِحَ فِيهَا مَنْ أَهْلِهَا خَمْسَةَ آلَافٍ وَثَمَانِمِائَةِ نَفْسٍ، وَتَنَصَّرَ قَاضِيهَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِهَا نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةِ نَفْسٍ. وَأَقَامَ الرُّومُ بَعْدَ مَلْكِهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ يَتَطَلَّبُونَ مَنِ اخْتَفَى، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ جَمْعًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ النَّاحِيَةِ قَدْ نَزَلُوا إِلَى الْمَغَارَاتِ، فَدَخَّنُوا عَلَيْهِمْ، وَهَلَكُوا فِي الْمَغَاوِرِ. ثُمَّ رَحَلُوا إِلَى حَلَبَ فَنَزَلُوا عَلَى فَرِيقٍ، وَمَعَهُمُ الْفِرِنْجُ الَّذِينَ بِسَاحِلِ الشَّامِ، وَزَحَفُوا إِلَى حَلَبَ مِنَ الْغَدِ فِي خَيْلِهِمْ، وَرَجِلِهِمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَحْدَاثُ حَلَبَ، فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ مِنَ الرُّومِ وَجُرِحَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقُتِلَ بِطْرِيقٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ عِنْدَهُمْ، وَعَادُوا خَاسِرِينَ، وَأَقَامُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَرَوْا فِيهَا طَمَعًا، فَرَحَلُوا إِلَى قَلْعَةِ الْأَثَارِبِ، فَخَافَ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَهَرَبُوا عَنْهَا تَاسِعَ شَعْبَانَ، فَمَلَكَهَا الرُّومُ وَتَرَكُوا فِيهَا سَبَايَا بُزَاعَةَ وَالْأَسْرَى، وَمَعَهُمْ جَمْعٌ مِنَ الرُّومِ يَحْفَظُونَهُمْ وَيَحْمُونَ الْقَلْعَةَ، وَسَارُوا، فَلَمَّا سَمِعَ الْأَمِيرُ أَسْوَارُ بِحَلَبَ ذَلِكَ رَحَلَ فِيمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى الْأَثَارِبِ، فَأَوْقَعَ بِمَنْ فِيهَا مِنَ الرُّومِ فَقَتَلَهُمْ، وَخَلَّصَ الْأَسْرَى وَالسَّبْيَ وَعَادَ إِلَى حَلَبَ. وَأَمَّا عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي فَإِنَّهُ فَارِقَ حِمْصَ، وَسَارَ إِلَى سَلَمِيَّةَ فَنَازَلَهَا، وَعَبَرَ ثِقَلُهُ الْفُرَاتَ إِلَى الرَّقَّةِ، وَأَقَامَ جَرِيدَةً لِيَتْبَعَ الرُّومَ وَيَقْطَعَ عَنْهُمُ الْمِيرَةَ.

وَأَمَّا الرُّومُ فَإِنَّهُمْ قَصَدُوا قَلْعَةَ شَيْزَرَ، فَإِنَّهَا مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ، وَإِنَّمَا قَصَدُوهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لِزَنْكِي، فَلَا يَكُونُ لَهُ فِي حِفْظِهَا الِاهْتِمَامُ الْعَظِيمُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ لِلْأَمِيرِ أَبِي الْعَسَاكِرِ سُلْطَانِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مِقْلَدِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُنْقِذِ الْكِنَانِيِّ، فَنَازَلُوهَا وَحَصَرُوهَا، وَنَصَبُوا عَلَيْهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَنْجَنِيقًا، فَأَرْسَلَ صَاحِبُهَا إِلَى زَنْكِي يَسْتَنْجِدُهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَ عَلَى نَهَرِ الْعَاصِي بِالْقُرْبِ مِنْهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمَاةَ، وَكَانَ يَرْكَبُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَسِيرُ إِلَى شَيْزَرَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ، وَيَقِفُونَ بِحَيْثُ يَرَاهُمُ الرُّومُ، وَيُرْسِلُ السَّرَايَا فَتَأْخُذُ مَنْ ظَفِرَتْ بِهِ مِنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ مَلِكُ الرُّومِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكُمْ قَدْ تَحَصَّنْتُمْ مِنِّي بِهَذِهِ الْجِبَالِ، فَانْزِلُوا مِنْهَا إِلَى الصَّحْرَاءِ حَتَّى نَلْتَقِيَ، فَإِنْ ظَفِرَتْ بِكُمْ أَرَحْتُ الْمُسْلِمِينَ مِنْكُمْ، وَإِنْ ظَفِرْتُمِ اسْتَرَحْتُمْ وَأَخَذْتُمْ شَيْزَرَ وَغَيْرَهَا. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِمْ قُوَّةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ يُرْهِبُهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ وَأَشْبَاهِهِ، فَأَشَارَ فِرِنْجُ الشَّامِ عَلَى مَلِكِ الرُّومِ بِمُصَافَّتِهِ، وَهَوَّنُوا أَمْرَهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: أَتَظُنُّونَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَّا مَا تَرَوْنَ؟ إِنَّمَا هُوَ يُرِيدُ أَنْ تَلْقَوْهُ فَيَجِيئُهُ مِنْ نَجَدَاتِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَا حَدَّ لَهُ. وَكَانَ زَنْكِي يُرْسِلُ أَيْضًا إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يُوهِمُهُ بِأَنَّ فِرِنْجَ الشَّامِ خَائِفُونَ مِنْهُ، فَلَوْ فَارَقَ مَكَانَهُ لَتَخَلَّوْا عَنْهُ، وَيُرْسِلُ إِلَى فِرِنْجِ الشَّامِ يُخَوِّفُهُمْ مِنْ مَلِكِ الرُّومِ وَيَقُولُ لَهُمْ: إِنْ مَلَكَ بِالشَّامِ حِصْنًا وَاحِدًا مَلَكَ بِلَادَكُمْ جَمِيعًا، فَاسْتَشْعَرَ كُلٌّ مِنْ صَاحِبِهِ، فَرَحَلَ مَلِكُ الرُّومِ عَنْهَا فِي رَمَضَانَ، وَكَانَ مَقَامُهُ عَلَيْهَا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَتَرَكَ الْمَجَانِيقَ وَآلَاتِ الْحِصَارِ بِحَالِهَا، فَسَارَ أَتَابَكْ [زَنْكِي] يَتْبَعُ سَاقَهُ الْعَسْكَرُ، فَظَفِرَ بِكَثِيرٍ مِمَّنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ، وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا تَرَكُوهُ. وَلَمَّا كَانَ الْفِرِنْجُ عَلَى بُزَاعَةَ أَرْسَلَ زَنْكِي الْقَاضِي كَمَالَ الدِّينِ أَبَا الْفَضْلِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ الشَّهْرَزُورِيَّ إِلَى السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ يَسْتَنْجِدُهُ وَيَطْلُبُ الْعَسَاكِرَ، فَمَضَى إِلَى بَغْدَادَ، وَأَنْهَى الْحَالَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَعَرَّفَهُ عَاقِبَةَ الْإِهْمَالِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّومِ إِلَّا أَنْ يَمْلِكُوا حَلَبَ وَيَنْحَدِرُوا مَعَ الْفُرَاتِ إِلَى بَغْدَادَ، فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ حَرَكَةً، فَوَضَعَ إِنْسَانًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمَ جُمْعَةٍ، فَمَضَى إِلَى جَامِعِ الْقَصْرِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ رُنُودِ الْعَجَمِ، وَأَمَرَ أَنْ يَثُورَ بِهِمْ إِذَا صَعِدَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَرَ وَيَصِيحُ وَيَصِيحُوا مَعَهُ:

وَاإِسْلَامَاهُ، وَادِينَ مُحَمَّدَاهُ، وَيَشُقُّ ثِيَابَهُ، وَيَرْمِي عِمَامَتَهُ مِنْ رَأْسِهِ، وَيَخْرُجُ إِلَى دَارِ السُّلْطَانِ وَالنَّاسُ مَعَهُ يَسْتَغِيثُونَ كَذَلِكَ، وَوَضَعَ إِنْسَانًا آخَرَ يَفْعَلُ بِجَامِعِ السُّلْطَانِ مِثْلَهُ. فَلَمَّا صَعِدَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَرَ قَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَلَطَمَ رَأَسَهُ، وَأَلْقَى عِمَامَتَهُ، وَشَقَّ ثَوْبَهُ وَأُولَئِكَ مَعَهُ، وَصَاحُوا، فَبَكَى النَّاسُ، وَتَرَكُوا الصَّلَاةَ، وَلَعَنُوا السُّلْطَانَ، وَسَارُوا مِنَ الْجَامِعِ يَتَّبِعُونَ الشَّيْخَ إِلَى دَارِ السُّلْطَانِ، فَوَجَدُوا النَّاسَ فِي جَامِعِ السُّلْطَانِ كَذَلِكَ، وَأَحَاطَ النَّاسُ بِدَارِ السُّلْطَانِ يَسْتَغِيثُونَ وَيَبْكُونَ، فَخَافَ السُّلْطَانُ فَقَالَ: أَحْضِرُوا إِلَيَّ ابْنَ الشَّهْرَزُورِيِّ فَأُحْضِرَ، فَقَالَ كَمَالُ الدَّيْنِ: لَقَدْ خِفْتُ مِنْهُ مِمَّا رَأَيْتُ، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ قَالَ لِي: أَيَّ فِتْنَةٍ أَثَرْتَ؟ فَقُلْتُ: مَا فَعَلْتُ شَيْئًا، أَنَا كُنْتُ فِي بَيْتِي، وَإِنَّمَا النَّاسُ يَغَارُونَ لِلدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، وَيَخَافُونَ عَاقِبَةَ هَذَا التَّوَانِي، فَقَالَ: اخْرُجْ إِلَى النَّاسِ فَفَرِّقْهُمْ عَنَّا، وَاحْضُرْ غَدًا، وَاخْتَرْ مِنَ الْعَسْكَرِ مَنْ تُرِيدُ، فَفَرَّقْتُ النَّاسَ، وَعَرَّفْتُهُمْ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ تَجْهِيزِ الْعَسَاكِرِ، وَحَضَرْتُ مِنَ الْغَدِ إِلَى الدِّيوَانِ، فَجَهَّزُوا لِي طَائِفَةً عَظِيمَةً مِنَ الْجَيْشِ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى نَصِيرِ الدِّينِ بِالْمَوْصِلِ أُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، وَأُخَوِّفُهُ مِنَ الْعَسْكَرِ إِنْ طَرَقُوا الْبِلَادَ، فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا، فَأَعَادَ الْجَوَابَ يَقُولُ: الْبِلَادُ لَا شَكَّ مَأْخُوذَةٌ، فَلَأَنْ يَأْخُذَهَا الْمُسْلِمُونَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَأْخُذَهَا الْكَافِرُونَ. فَشَرَعْنَا فِي التَّحْمِيلِ لِلرَّحِيلِ، وَإِذْ قَدْ وَصَلَنِي كِتَابُ أَتَابَكْ زَنْكِي مِنَ الشَّامِ يُخْبِرُ بِرَحِيلِ مَلِكِ الرُّومِ، وَيَأْمُرُنِي بِأَنْ لَا أَسْتَصْحِبَ مِنَ الْعَسْكَرِ أَحَدًا، فَعَرَّفْتُ السُّلْطَانَ ذَلِكَ فَقَالَ: الْعَسْكَرُ قَدْ تَجَهَّزَ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْغَزَاةِ إِلَى الشَّامِ، فَبَعْدَ الْجُهْدِ وَبَذْلِ الْخِدْمَةِ الْعَظِيمَةِ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ أَعَادَ الْعَسْكَرَ. وَلَمَّا عَادَ مَلِكُ الرُّومِ عَنْ شَيْزَرَ مَدَحَ الشُّعَرَاءُ أَتَابَكْ زَنْكِي وَأَكْثَرُوا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْمُسْلِمُ بْنُ خَضِرِ بْنِ قُسَيْمٍ الْحَمَوِيُّ مِنْ قَصِيدَةٍ أَوَّلُهَا: بِعَزْمِكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ الْعَظِيمُ ... تَذِلُّ لَكَ الصِّعَابُ وَتَسْتَقِيمُ وَمِنْهَا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ كَلْبَ الرُّومِ لَمَّا ... تَبَيَّنَ أَنَّهُ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ فَجَاءَ يُطَبِّقُ الْفَلَوَاتِ خَيْلًا ... كَأَنَّ الْجَحْفَلَ اللَّيْلُ الْبَهِيمُ

وَقَدْ نَزَلَ الزَّمَانُ عَلَى رِضَاهُ وَدَانَ لِخَطْبِهِ الْخَطْبُ الْعَظِيمُ ... فَحِينَ رَمَيْتَهُ بِكَ فِي خَمِيسٍ تَيَقَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُومُ ... وَأَبْصَرَ فِي الْمَفَاضَةِ مِنْكَ جَيْشًا فَأَحْرَبَ لَا يَسِيرُ وَلَا يُقِيمُ ... كَأَنَّكَ فِي الْعَجَاجِ شِهَابُ نُورٍ تَوَقَّدَ وَهْوَ شَيْطَانٌ رَجِيمُ ... أَرَادَ بَقَاءَ مُهْجَتِهِ فَوَلَّى وَلَيْسَ سِوَى الْحِمَامِ لَهُ حَمِيمُ وَهِيَ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ، وَمِنْ عَجِيبِ مَا يُحْكَى أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ لَمَّا عَزَمَ عَلَى حَصْرِ شَيْزَرَ سَمِعَ مَنْ بِهَا ذَلِكَ، فَقَالَ الْأَمِيرُ مُرْشِدُ بْنُ عَلِيٍّ أَخُو صَاحِبِهَا وَهُوَ يَفْتَحُ مُصْحَفًا: اللَّهُمَّ بِحَقِّ مَنْ أَنْزَلْتَهُ عَلَيْهِ إِنْ قَضَيْتَ بِمَجِيءِ مَلِكِ الرُّومِ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ! فَتُوُفِّيَ بَعْدَ أَيَّامٍ. ذِكْرُ حَرْبٍ بَيْنَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَالْمَلِكِ دَاوُدَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ لَمَّا فَارَقَ الرَّاشِدُ بِاللَّهِ أَتَابَكْ زَنْكِي مِنَ الْمَوْصِلِ سَارَ نَحْوَ أَذْرَبِيجَانَ، فَوَصَلَ مَرَاغَةَ، وَكَانَ الْأَمِيرُ مَنْكُبِرْسُ صَاحِبُ فَارِسَ، وَنَائِبُهُ بِخُوزِسْتَانَ الْأَمِيرُ بُوزَابَةُ، وَالْأَمِيرُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ طَغَايَرْكُ صَاحِبُ خَلْخَالَ، وَالْمَلِكُ دَاوُدُ ابْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، مُسْتَشْعِرِينَ مِنَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، خَائِفِينَ مِنْهُ، فَتَجَمَّعُوا، وَوَافَقُوا الرَّاشِدَ عَلَى الِاجْتِمَاعِ مَعَهُمْ لِتَكُونَ أَيْدِيهِمْ وَاحِدَةً، وَيَرُدُّوهُ إِلَى الْخِلَافَةِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهُمْ. وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَهُوَ بِبَغْدَادَ بِاجْتِمَاعِهِمْ، فَسَارَ عَنْهَا فِي شَعْبَانَ

نَحْوَهُمْ، فَالْتَقَوْا بِبَنْجَنِ كِشْتَ، فَاقْتَتَلُوا فَهَزَمَهُمُ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ، وَأَخَذَ الْأَمِيرَ مَنْكُبِرْسَ أَسِيرًا، فَقُتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا، وَتَفَرَّقَ عَسْكَرُ مَسْعُودٍ فِي النَّهْبِ وَاتِّبَاعِ الْمُنْهَزِمِينَ. وَكَانَ بُوزَابَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ طَغَايَرْكُ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَرَأَيَا السُّلْطَانَ مَسْعُودًا وَقَدْ تَفَرَّقَ عَسْكَرُهُ عَنْهُ، فَحَمَلَا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي قِلَّةٍ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا وَانْهَزَمَ، وَقَبَضَ بُوزَابَةُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، مِنْهُمْ: صَدَقَةُ بْنُ دُبَيْسٍ صَاحِبُ الْحِلَّةِ، وَمِنْهُمْ وَلَدُ أَتَابَكْ قَرَاسُنْقُرَ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ، وَعَنْتَرُ بْنُ أَبِي الْعَسْكَرِ، وَغَيْرُهُمْ، وَتَرْكَهُمْ عِنْدَهُ. فَلَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ صَاحِبِهِ مَنْكُبِرْسَ قَتَلَهُمْ أَجْمَعِينَ، وَصَارَ الْعَسْكَرَانِ مَهْزُومَيْنِ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْجَبِ الِاتِّفَاقِ. وَقَصَدَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ أَذْرَبِيجَانَ، وَقَصَدَ الْمَلِكُ دَاوُدُ هَمَذَانَ، وَوَصَلَ إِلَيْهَا الرَّاشِدُ بَعْدَ الْوَقْعَةِ فَاخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْجَمَاعَةِ، فَبَعْضُهُمْ أَشَارَ بِقَصْدِ الْعِرَاقِ وَالتَّغَلُّبِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهُمْ أَشَارَ بِاتِّبَاعِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ لِلْفَرَاغِ مِنْهُ، فَإِنَّ مَا بَعْدَهُ يَهُونُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ بَوَازَبَةُ أَكْبَرُ الْجَمَاعَةِ، فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ، وَكَانَ غَرَضُهُ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ وَأَخْذِهَا بَعْدَ قَتْلِ صَاحِبِهَا مَنْكُبِرْسَ قَبْلَ أَنْ يَمْتَنِعَ مَنْ بِهَا عَلَيْهِ، فَبَطَلَ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا فِيهِ، وَسَارَ إِلَيْهَا مَلِكُهَا، وَصَارَتْ لَهُ مَعَ خُوزِسْتَانَ. وَسَارَ سَلْجُوقْشَاهَ ابْنُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ إِلَى بَغْدَادَ لِيَمْلِكَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْبَقْشُ الشِّحْنَةُ بِهَا، وَنَظَرُ الْخَادِمِ أَمِيرُ الْحَاجِّ، وَقَاتَلُوهُ وَمَنَعُوهُ، وَكَانَ عَاجِزًا مُسْتَضْعَفًا، وَلَمَّا قُتِلَ صَدَقَةُ بْنُ دُبَيْسٍ أَقَرَّ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ الْحِلَّةَ عَلَى أَخِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ دُبَيْسٍ، وَجَعَلَ مَعَهُ مُهَلْهَلَ بْنَ أَبِي الْعَسْكَرِ أَخَا عَنْتَرٍ الْمَقْتُولِ يُدَبِّرُ أَمْرَهُ. وَلَمَّا كَانَ الْبَقْشُ شِحْنَةُ بَغْدَادَ يُقَاتِلُ سَلْجُوقْشَاهْ ثَارَ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَقَتَلُوا الرِّجَالَ، وَزَادَ أَمْرُهُمْ حَتَّى كَانُوا يَقْصِدُونَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ ظَاهِرًا، وَيَأْخُذُونَ مِنْهُمْ مَا يُرِيدُونَ، وَيَحْمِلُونَ الْأَمْتِعَةَ عَلَى رُءُوسِ الْحَمَّالِينَ، فَلَمَّا عَادَ الشِّحْنَةُ قَتَلَ مِنْهُمْ وَصَلَبَ، وَغَلَّتِ الْأَسْعَارُ، وَكَثُرَ الظُّلْمُ مِنْهُ، وَأَخَذَ الْمَسْتُورِينَ بِحُجَّةِ الْعَيَّارِينَ، فَجَلَا النَّاسُ عَنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَغَيْرِهَا مِنِ الْبِلَادِ.

ذِكْرُ قَتْلِ الرَّاشِدِ بِاللَّهِ لَمَّا وَصَلَ الرَّاشِدُ بِاللَّهِ إِلَى هَمَذَانَ وَبِهَا الْمَلِكُ دَاوُدُ وَبَوَازَبَةُ، وَمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْعَسَاكِرِ بَعْدَ انْهِزَامِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، وَتَفَرُّقِ الْعَسَاكِرِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، سَارَ الرَّاشِدُ بِاللَّهِ إِلَى خُوزِسْتَانَ مَعَ الْمَلِكِ دَاوُدَ، وَمَعَهُمَا خُوَارَزْمُ شَاهْ، فَقَارَبَا الْحُوَيْزَةَ، فَسَارَ مَسْعُودٌ إِلَى بَغْدَادَ لِيَمْنَعَهُمْ عَنِ الْعِرَاقِ، فَعَادَ الْمَلِكُ دَاوُدُ إِلَى فَارِسَ، وَعَادَ خُوَارَزْمُ شَاهْ إِلَى بِلَادِهِ، وَبَقِيَ الرَّاشِدُ وَحْدَهُ، فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ عَسَاكِرِ الْعَجَمِ سَارَ إِلَى أَصْفَهَانَ. فَلَمَّا كَانَ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ رَمَضَانَ وَثَبَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي خِدْمَتِهِ، فَقَتَلُوهُ وَهُوَ يُرِيدُ الْقَيْلُولَةَ، وَكَانَ فِي أَعْقَابِ مَرَضٍ وَقَدْ بَرِئَ مِنْهُ، وَدُفِنَ بِظَاهِرِ أَصْفَهَانَ بِشَهْرِسْتَانَ، فَرَكِبَ مَنْ مَعَهُ فَقَتَلُوا الْبَاطِنِيَّةَ. وَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَادَ جَلَسُوا لِلْعَزَاءِ بِهِ فِي بَيْتِ النُّوبَةِ يَوْمًا وَاحِدًا، وَكَانَ أَبْيَضَ أَشْقَرَ حَسَنَ اللَّوْنِ مَلِيحَ الصُّورَةِ، مَهِيبًا شَدِيدَ الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ: النَّاسُ يَقُولُونَ إِنَّ كُلَّ سَادِسٍ يَقُومُ بِأَمْرِ النَّاسِ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُخْلَعَ، وَرُبَّمَا قُتِلَ، قَالَ: فَتَأَمَّلْتُ ذَلِكَ، فَرَأَيْتُهُ كَمَا قِيلَ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ قَامَ بِأَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَالْحَسَنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَخُلِعَ، ثُمَّ مُعَاوِيَةُ وَيَزِيدُ ابْنُهُ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ، وَمَرْوَانُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَخُلِعَ وَقُتِلَ، ثُمَّ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأَخُوهُ سُلَيْمَانُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَيَزِيدُ وَهِشَامُ ابْنَا عَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَخُلِعَ وَقُتِلَ، ثُمَّ لَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرُ بَنِي أُمَيَّةَ، ثُمَّ وَلِيَ السَّفَّاحُ، وَالْمَنْصُورُ، وَالْمَهْدِيُّ، وَالْهَادِي، وَالرَّشِيدُ، وَالْأَمِينُ فَخُلِعَ وَقُتِلَ، وَالْمَأْمُونُ وَالْمُعْتَصِمُ، وَالْوَاثِقُ، وَالْمُتَوَكِّلُ، وَالْمُنْتَصِرُ، وَالْمُسْتَعِينُ فَخُلِعَ وَقُتِلَ، وَالْمُعْتَزُّ، وَالْمُهْتَدِي، وَالْمُعْتَمِدُ، وَالْمُعْتَضِدُ، وَالْمُكْتَفِي فَخُلِعَ ثُمَّ رُدَّ، ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ الْقَاهِرُ، وَالرَّاضِي، وَالْمُتَّقِي، وَالْمُسْتَكْفِي، وَالْمُطِيعُ، وَالطَّائِعُ فَخُلِعَ، ثُمَّ الْقَادِرُ، وَالْقَائِمُ، وَالْمُقْتَدِي، وَالْمُسْتَظْهِرُ، وَالْمُسْتَرْشِدُ وَالرَّاشِدُ، فَخُلِعَ وَقُتِلَ.

قُلْتُ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَةَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ كَانَتْ قَبْلَ الْبَيْعَةِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَكَوْنُهُ جَعَلَهُ بَعْدَهُ لَا وَجْهَ لَهُ، وَالصُّولِيُّ إِنَّمَا ذَكَرَ إِلَى أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَمَنْ بَعْدَهُ ذَكَرَهُ غَيْرُهُ. ذِكْرُ حَالِ ابْنِ بَكْرَانَ الْعَيَّارِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ عَظُمَ أَمْرُ ابْنِ بَكْرَانَ الْعَيَّارِ بِالْعِرَاقِ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، وَصَارَ يَرْكَبُ ظَاهِرًا فِي جَمْعٍ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَخَافَهُ الشَّرِيفُ أَبُو الْكَرَمِ الْوَالِي بِبَغْدَادَ، فَأَمَرَ أَبَا الْقَاسِمِ ابْنَ أَخِيهِ حَامِي بَابِ الْأَزَجِ أَنْ يَشْتَدَّ عَلَيْهِ لِيَأْمَنَ شَرَّهُ. وَكَانَ ابْنُ بَكْرَانَ يُكْثِرُ الْمَقَامَ بِالسَّوَادِ، وَمَعَهُ رَفِيقٌ لَهُ يُعْرَفُ بِابْنِ الْبَزَّازِ، فَانْتَهَى أَمْرُهُمَا إِلَى أَنَّهُمَا أَرَادَا أَنْ يَضْرِبَا بِاسْمِهِمَا سِكَّةً فِي الْأَنْبَارِ، فَأَرْسَلَ الشِّحْنَةُ وَالْوَزِيرُ شَرَفُ الدِّينِ الزَّيْنَبِيُّ إِلَى الْوَالِي أَبِي الْكَرَمِ، وَقَالَا: إِمَّا أَنْ تَقْتُلَ ابْنَ بَكْرَانَ، وَإِمَّا أَنْ نَقْتُلَكَ، فَأَحْضَرَ ابْنَ أَخِيهِ وَعَرَّفَهُ مَا جَرَى، وَقَالَ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَخْتَارَنِي وَنَفْسَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَخْتَارَ ابْنَ بَكْرَانَ، فَقَالَ: أَنَا أَقْتُلُهُ، وَكَانَ لِابْنِ بَكْرَانَ عَادَةً، يَجِيءُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي إِلَى ابْنِ أَخِي أَبِي الْكَرَمِ، فَيُقِيمُ فِي دَارِهِ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهُ، فَلَمَّا جَاءَ عَلَى عَادَتِهِ وَشَرِبَ، أَخَذَ أَبُو الْقَاسِمِ سِلَاحَهُ وَوَثَبَ بِهِ فَقَتَلَهُ، وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ، ثُمَّ أُخِذَ بَعْدَهُ بِيَسِيرٍ رَفِيقَهُ ابْنَ الْبَزَّازِ، وَصُلِبَ، وَقُتِلَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَرَامِيَّةِ، فَسَكَنَ النَّاسُ وَاطْمَأَنُّوا، وَهَدَأَتِ الْفِتْنَةُ. ذِكْرُ قَتْلِ الْوَزِيرِ الدَّرْكَزِينِيِّ، وَوِزَارَةِ الْخَازِنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ عَلَى وَزِيرِهِ الْعِمَادِ أَبِي الْبَرَكَاتِ بْنِ سَلَمَةَ الدَّرْكَزِينِيِّ، وَاسْتَوْزَرَ بَعْدَهُ كَمَالَ الدَّيْنِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ الْخَازِنِ، وَكَانَ الْكَمَالُ شَهْمًا شُجَاعًا، عَادِلًا نَافِذَ الْحُكْمِ، حَسَنُ السِّيرَةِ، أَزَالَ الْمُكُوسَ وَرَفَعَ الْمَظَالِمَ،

وَكَانَ يُقِيمُ مَئُونَةَ السُّلْطَانِ وَوَظَائِفِهِ، وَجَمَعَ لَهُ خَزَائِنَ كَثِيرَةً، وَكَشَفَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً كَانَتْ مَسْتُورَةً يُخَانْ فِيهَا وَيُسْرَقُ، فَثَقُلَ عَلَى الْمُتَصَرِّفِينَ وَأَرْبَابِ الْأَعْمَالِ، فَأَوْقَعُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمَرَاءِ، لَا سِيَّمَا قَرَاسُنْقُرَ صَاحِبَ أَذْرَبِيجَانَ، فَإِنَّهُ فَارَقَ السُّلْطَانَ، وَأَرْسَلَ يَقُولُ: إِمَّا أَنْ تُنْقِذَ رَأْسَ الْوَزِيرِ وَإِلَّا خَدَمْنَا سُلْطَانًا آخَرَ. فَأَشَارَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْأُمَرَاءِ بِقَتْلِهِ، وَحَذَّرُوهُ فِتْنَةً لَا تَتَلَافَى، فَقَتَلَهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ، وَأَرْسَلَ رَأْسَهُ إِلَى قَرَاسُنْقُرَ فَرَضِيَ. وَكَانَتْ وِزَارَتُهُ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ قَتْلُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ. وَوَزَرَ بَعْدَهُ أَبُو الْعِزِّ طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبُرُوجِرْدِيُّ وَزِيرُ قَرَاسُنْقُرَ، وَلُقِّبَ عَزَّ الْمُلْكِ، وَضَاقَتِ الْأُمُورُ عَلَى السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، وَاسْتَقْطَعَ الْأُمَرَاءُ الْبِلَادَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ مِنِ الْبِلَادِ أَلْبَتَّةَ إِلَّا اسْمُ السَّلْطَنَةِ لَا غَيْرَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ حُسَامُ الدِّينِ تَمُرْتَاشُ إِيلْغَازِي صَاحِبُ مَارِدِينَ قَلْعَةَ الْهَتَّاخِ مِنْ بِلَادِ دِيَارِ بَكْرٍ، أَخَذَهَا مِنْ بَعْضِ بَنِي مَرْوَانَ الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكَ دِيَارِ بَكْرٍ جَمِيعِهَا، وَهَذَا آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لَهُ وِلَايَةٌ، فَسُبْحَانَ الْحَيِّ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَزُولُ مُلْكُهُ، وَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ النَّقْصُ وَلَا التَّغْيِيرُ. وَفِيهَا انْقَطَعَتْ كِسْوَةُ الْكَعْبَةِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَقَامَ بِكِسْوَتِهَا رَامَشْتُ التَّاجِرُ الْفَارِسِيُّ، كَسَاهَا مِنَ الثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ بِكُلِّ مَا وُجِدَ إِلَيْهِ سَبِيلٌ، فَبَلَغَ ثَمَنُ الْكُسْوَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ مِصْرِيَّةٍ، وَهُوَ مِنَ التُّجَّارِ الْمُسَافِرِينَ إِلَى الْهِنْدِ كَثِيرُ الْمَالِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ زُبَيْدَةُ خَاتُونُ ابْنَةُ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارْقَ زَوْجُ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، وَتَزَوَّجَ بَعْدَهَا سُفْرَى ابْنَةَ دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ قَاوَرْتَ، وَهُوَ مِنَ

الْبَيْتِ السَّلْجُوقِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَزَالُ يُعَاقِرُ الْخَمْرَ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلِهَذَا سَقَطَ اسْمُهُ، وَذِكْرُهُ. وَفِيهَا قَتَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ ابْنَ الْبَقْشِ السِّلَاحِيَّ شِحْنَةَ بَغْدَادَ، وَكَانَ قَدْ ظَلَمَ النَّاسَ وَعَسَفَهُمْ، وَفَعَلَ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ غَيْرُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَسَيَّرَهُ إِلَى تَكْرِيتَ، فَسَجَنَهُ بِهَا عِنْدَ مُجَاهِدِ الدِّينِ بَهْرُوزَ، ثُمَّ أَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَلَمَّا أَرَادُوا قَتْلَهُ أَلْقَى بِنَفْسِهِ فِي دِجْلَةَ فَغَرِقَ، فَأُخِذَ رَأْسُهُ، وَحُمِلَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَجَعَلَ السُّلْطَانُ شِحْنَةَ الْعِرَاقِ مُجَاهِدَ الدِّينِ بَهْرُوزَ، فَعَمِلَ أَعْمَالًا صَالِحَةً مِنْهَا: أَنَّهُ عَمِلَ مُسَنَّاةَ النَّهْرَوَانِ وَأَشْبَاهَهَا، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ كَثِيرَ الْإِحْسَانِ. وَفِيهَا دَرَّسَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ الرَّزَّازِ بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ. وَأَرْسَلَ إِلَى أَتَابَكْ زَنْكِي فِي إِطْلَاقِ قَاضِي الْقُضَاةِ الزَّيْنَبِيِّ فَأُطْلِقَ، وَانْحَدَرَ إِلَى بَغْدَادَ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ، وَأَقَرَّهُ عَلَى مَنْصِبِهِ. وَفِيهَا كَانَ بِخُرْسَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ طَالَتْ مُدَّتُهُ وَعَظُمَ أَمْرُهُ، حَتَّى أَكَلَ النَّاسُ الْكِلَابَ وَالسَّنَانِيرَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الدَّوَابِّ، وَتَفَرَّقَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْبِلَادِ مِنَ الْجُوعِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ طُغَانُ أَرْسِلَانْ صَاحِبُ بِدْلِيسَ وَأَرْزَنَ مِنْ دِيَارِ بِكْرٍ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ فَرْنِي، وَاسْتَقَامَ لَهُ الْأَمْرُ. وَفِيهَا فِي شَهْرِ صَفَرٍ، جَاءَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالشَّامِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَدِيَارِ بَكْرٍ، وَالْمَوْصِلِ، وَالْعِرَاقِ، وَغَيْرِهَا مِنِ الْبِلَادِ، فَخَرَّبَتْ كَثِيرًا مِنْهَا، وَهَلَكَ تَحْتَ الْهَدْمِ عَالَمٌ كَثِيرٌ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ (أَحْمَدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ) أَبِي الْفَتْحِ الدِّينَوَرِيِّ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ يَنْشُدُ كَثِيرًا هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: تَمَنَّيْتَ أَنْ تُمْسِيَ فَقِيهًا مُنَاظِرًا ... بِغَيْرِ عَيَاءٍ وَالْجُنُونُ فُنُونُ وَلَيْسَ اكْتِسَابُ الْمَالِ دُونَ مَشَقَّةٍ ... تَلَقَّيْتَهَا فَالْعِلْمُ كَيْفَ يَكُونُ وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ فَقِيهًا مُحَدِّثًا، سَمِعَ الْحَدِيثَ بِكَرْخَ وَأَصْفَهَانَ وَهَمَذَانَ وَغَيْرِهَا. وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْعَلَاءِ صَاعِدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ صَاعِدٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الْقَاضِي أَبِي سَعِيدٍ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِنَيْسَابُورَ بَعْدَ أَبِي سَعِيدٍ.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] (533) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ وَخُوَارِزْمَ شَاهْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ سَارَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ بْنُ مَلِكْشَاهْ إِلَى خُوَارَزْمَ مُحَارِبًا لِخُوَارِزْمَ شَاهْ أُتْسِزَ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنْ سَنْجَرَ بَلَغَهُ أَنَّ أُتْسِزَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالِامْتِنَاعِ عَلَيْهِ وَتَرْكِ الْخِدْمَةِ لَهُ، وَأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ ظَهَرَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأُمَرَائِهِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ قَصَدَهُ، وَأَخَذَ خُوَارَزْمَ مِنْهُ، فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ، فَلَقِيَهُ مُقَابِلًا، وَعَبَّأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَسَاكِرَهُ وَأَصْحَابَهُ فَاقْتَتَلُوا، فَلَمْ يَكُنْ لِلْخُوَارَزْمِيَّةِ قُوَّةٌ بِالسُّلْطَانِ، فَلَمْ يَثْبُتُوا وَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْقَتْلَى وَلَدٌ لِخُوَارِزْمَ شَاهْ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ أَبَوْهُ حُزْنًا عَظِيمًا، وَوَجَدَ وَجْدًا شَدِيدًا. وَمَلَكَ سَنْجَرُ خُوَارَزْمَ، وَأَقْطَعُهَا غِيَاثَ الدِّينِ سُلَيْمَانُ شَاهْ وَلَدَ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ، وَرَتَّبَ لَهُ وَزِيرًا وَأَتَابَكْ وَحَاجِبًا، وَقَرَّرَ قَوَاعِدَهُ، وَعَادَ إِلَى مَرْوٍ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمَّا فَارَقَ خُوَارَزْمَ عَائِدًا انْتَهَزَ خُوَارَزْمُ شَاهَ الْفُرْصَةَ فَرَجَعَ إِلَيْهَا، وَكَانَ أَهْلُهَا يَكْرَهُونَ الْعَسْكَرَ السَّنْجَرِيَّ، وَيُؤْثِرُونَ عَوْدَةَ خُوَارَزْمَ شَاهْ، فَلَمَّا عَادَ أَعَانُوهُ عَلَى مُلْكِ الْبَلَدِ، فَفَارَقَهُمْ سُلَيْمَانُ شَاهْ وَمَنْ مَعَهُ، وَرَجَعَ إِلَى عَمِّهِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَفَسَدَ الْحَالُ بَيْنَ سَنْجَرَ وَخُوَارِزْمَ شَاهْ، وَاخْتَلَفَا بَعْدَ الِاتِّفَاقِ، فَفَعَلَ خُوَارَزْمُ شَاهْ فِي خُرَاسَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ذِكْرُ قَتْلِ مَحْمُودٍ صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَمُلْكِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالٍ قُتِلَ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ تَاجِ الْمُلُوكِ بُورِي بْنِ طُغْدِكِينَ صَاحِبُ دِمَشْقَ عَلَى فِرَاشِهِ غِيلَةً، قَتَلَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ غِلْمَانِهِ، هُمْ خَوَاصُّهُ وَأَقْرَبُ النَّاسِ مِنْهُ فِي خَلْوَتِهِ وَجَلَوْتِهِ، وَكَانُوا يَنَامُونَ عِنْدَهُ لَيْلًا، فَقَتَلُوهُ، وَخَرَجُوا مِنَ الْقَلْعَةِ وَهَرَبُوا، فَنَجَا أَحَدُهُمْ وَأُخِذَ الْآخَرَانِ فَصُلِبَا. وَكَتَبَ مَنْ بِدِمَشْقَ إِلَى أَخِيهِ جَمَالِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ بُورِي صَاحِبِ بَعْلَبَكَّ وَهُوَ بِهَا بِصُورَةِ الْحَالِ، وَاسْتَدْعَوْهُ لِيَمْلِكَ بَعْدَ أَخِيهِ، فَحَضَرَ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، فَلَمَّا دَخَلَ الْبَلَدَ جَلَسَ لِلْعَزَاءِ بِأَخِيهِ، وَحَلَفَ لَهُ الْجُنْدُ وَأَعْيَانُ الرَّعِيَّةِ، وَسَكَنَ النَّاسُ، وَفَوَّضَ أَمْرَ دَوْلَتِهِ إِلَى مُعِينِ الدِّينِ أُنُزَ مَمْلُوكِ جَدِّهِ، وَزَادَ فِي عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ، وَصَارَ هُوَ الْجُمْلَةُ وَالتَّفْصِيلُ، وَكَانَ أُنُزُ خَيِّرًا عَاقِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ، فَجَرَتِ الْأُمُورُ عِنْدَهُ عَلَى أَحْسَنِ نِظَامٍ. ذِكْرُ مُلْكِ زَنْكِي بَعْلَبَكَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَارَ عِمَادُ الدِّينِ أَتَابَكْ زَنْكِي بْنُ آقَسُنْقُرَ إِلَى بَعْلَبَكَّ، فَحَصَرُهَا ثُمَّ مَلَكَهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنْ مَحْمُودًا صَاحِبَ دِمَشْقَ لَمَّا قُتِلَ كَانَتْ وَالِدَتُهُ زُمُرُّدُ خَاتُّونُ عِنْدَ أَتَابَكْ زَنْكِي بِحَلَبَ قَدْ تَزَوَّجَهَا، فَوَجَدَتْ لِقَتْلِ وَلَدِهَا وَجْدًا شَدِيدًا، وَحَزِنَتْ عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَتْ إِلَى زَنْكِي وَهُوَ بِدِيَارِ الْجَزِيرَةِ تُعَرِّفُهُ الْحَادِثَةَ، وَتَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَقْصِدَ دِمَشْقَ وَيَطْلُبَ بِثَأْرِ وَلَدِهَا. فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى هَذِهِ الرِّسَالَةِ بَادَرَ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَلَا تَرَيُّثٍ، وَسَارَ مُجِدًّا لِيَجْعَلَ ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى مُلْكِ الْبَلَدِ، وَعَبَرَ الْفُرَاتَ عَازِمًا عَلَى قَصْدِ دِمَشْقَ، فَاحْتَاطَ مَنْ بِهَا وَاسْتَعَدُّوا، وَاسْتَكْثَرُوا مِنَ الذَّخَائِرِ، وَلَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ إِلَّا وَبَذَلُوا الْجُهْدَ فِي تَحْصِيلِهِ، وَأَقَامُوا

يَنْتَظِرُونَ وُصُولَهُ إِلَيْهِمْ، فَتَرَكَهُمْ وَسَارَ إِلَى بَعْلَبَكَّ. وَقِيلَ: كَانَ السَّبَبُ فِي مِلْكِهَا أَنَّهَا كَانَتْ لِمُعِينِ الدِّينِ أُنُزَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَانَ لَهُ جَارِيَةٌ يَهْوَاهَا، فَلَمَّا تَزَوَّجَ أَمَّ جَمَالِ الدِّينِ سَيَّرَهَا إِلَى بَعْلَبَكَّ، فَلَمَّا سَارَ زَنْكِي إِلَى الشَّامِ عَازِمًا عَلَى قَصْدِ دِمَشْقَ سَيَّرَ إِلَى أُنُزَ يَبْذُلُ لَهُ الْبُذُولَ الْعَظِيمَةَ لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِ دِمَشْقَ فَلَمْ يَفْعَلْ. وَسَارَ أَتَابَكْ إِلَى بَعْلَبَكَّ فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ فَنَازَلَهَا فِي عَسَاكِرِهِ، وَضَيَّقَ عَلَيْهَا، وَجَدَّ فِي مُحَارَبَتِهَا، وَنَصَبَ عَلَيْهَا مِنَ الْمِنْجَنِيقَاتِ أَرْبَعَةَ عَشْرَةَ عَدَدًا تَرْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا، فَأَشْرَفَ مَنْ بِهَا عَلَى الْهَلَاكِ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ الْمَدِينَةَ، وَبَقِيَتِ الْقَلْعَةُ وَبِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ شُجْعَانِ الْأَتْرَاكِ، فَقَاتَلَهُمْ، فَلَمَّا أَيِسُوا مِنْ مُعِينٍ وَنَصِيرٍ طَلَبُوا الْأَمَانَ فَأَمَنَّهُمْ، فَسَلَّمُوا إِلَيْهِ الْقَلْعَةَ، فَلَمَّا نَزَلُوا مِنْهَا وَمَلَكَهَا غَدَرَ بِهِمْ وَأَمَرَ بِصَلْبِهِمْ فَصُلِبُوا، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَاسْتَقْبَحَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ، وَاسْتَعْظَمُوهُ، وَخَافَهُ غَيْرُهُمْ، وَحَذِرُوهُ لَا سِيَّمَا أَهْلَ دِمَشْقَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ مَلَكَنَا لَفَعَلَ بِنَا مِثْلَ فِعْلِهِ بِهَؤُلَاءِ، فَازْدَادُوا نُفُورًا، وَجِدًّا فِي مُحَارَبَتِهِ. وَلَمَّا مَلَكَ زَنْكِي بَعْلَبَكَّ أَخَذَ الْجَارِيَةَ الَّتِي كَانَتْ لِمُعِينِ الدِّينِ أُنُزَ بِهَا، فَتَزَوَّجَهَا بِحَلَبَ، فَلَمْ تَزَلْ بِهَا إِلَى أَنْ قُتِلَ، فَسَيَّرَهَا ابْنُهُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ إِلَى مُعِينِ الدِّينِ أُنُزَ، وَهِيَ كَانَتْ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ فِي الْمَوَدَّةِ بَيْنَ نُورِ الدِّينِ وَبَيْنَ أُنُزَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ قَرَاسُنْقُرَ عَلَى بِلَادِ فَارِسَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ أَتَابَكْ قَرَاسُنْقُرُ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ عَسَاكِرَ كَثِيرَةً وَحَشَدَ، وَسَارَ طَالِبًا بِثَأْرِ أَبِيهِ الَّذِي قَتَلَهُ بُوزَابَةُ فِي الْمَصَافِّ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ، فَلَمَّا قَارَبَ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَطْلُبُ مِنْهُ قَتْلَ وَزِيرِهِ الْكَمَالِ، فَقَتَلَهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا قُتِلَ سَارَ قَرَاسُنْقُرُ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا تَحَصَّنُ بُوزَابَةُ مِنْهُ فِي الْقَلْعَةِ الْبَيْضَاءِ، وَوَطِئَ

قَرَاسُنْقُرُ الْبِلَادَ، وَتَصَرَّفَ فِيهَا وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا دَافِعٌ وَلَا مَانِعٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ الْمَقَامُ، وَمَلَكَ [الْمُدُنَ] الَّتِي فِي فَارِسَ، فَسَلَّمَ الْبِلَادَ إِلَى الْمَلِكِ سَلْجُوقْشَاهَ ابْنِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَقَالَ لَهُ: هَذِهِ الْبِلَادُ لَكَ فَامْلِكِ الْبَاقِي، وَعَادَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، فَنَزَلَ حِينَئِذٍ بُوزَابَةُ مِنَ الْقَلْعَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ [وَخَمْسِمَائَةٍ] ، وَهَزَمَ سَلْجُوقْشَاهْ وَمَلَكَ الْبِلَادَ، وَأَسَرَ سَلْجُوقْشَاهْ وَسَجَنَهُ فِي قَلْعَةٍ بِفَارِسَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرٍ تُوُفِّيَ الْوَزِيرُ شَرَفُ الدِّينِ أَنُوشِرْوَانُ بْنُ خَالِدٍ مَعْزُولًا بِبَغْدَادَ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ فَمَنْ دُونَهُ، وَدُفِنَ فِي دَارِهِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَدُفِنَ فِي مَشْهَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَ فِيهِ تَشَيُّعٌ، وَهُوَ كَانَ السَّبَبُ فِي عَمَلِ " الْمَقَامَاتِ الْحَرِيرِيَّةِ "، وَكَانَ رَجُلًا عَاقِلًا شَهْمًا، دَيِّنًا خَيِّرًا، وَزَرَ لِلْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ، وَلِلسُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَلِلسُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، وَكَانَ يَسْتَقِيلُ مِنِ الْوِزَارَةِ فَيُجَابُ إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ يُخْطَبُ إِلَيْهَا فَيُجِيبُ كَارِهًا. وَفِيهَا قَدِمَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ بَغْدَادَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً، وَصَارَ يُشَتِّي بِالْعِرَاقِ، وَيُصَيِّفُ بِالْجِبَالِ، وَلَمَّا قَدِمَهَا أَزَالَ الْمُكُوسَ، وَكَتَبَ الْأَلْوَاحَ بِإِزَالَتِهَا، وَوُضِعَتْ عَلَى أَبْوَابِ الْجَوَامِعِ وَفِي الْأَسْوَاقِ، وَتَقَدَّمَ أَنْ لَا يَنْزِلُ جُنْدِيٌّ فِي دَارِ عَامِّيٍّ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ إِلَّا بِإِذْنٍ، فَكَثُرَ الدُّعَاءُ لَهُ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ الْكَمَالَ الْخَازِنَ وَزِيرَ السُّلْطَانِ. وَفِيهَا فِي صَفَرٍ، كَانَتْ زَلَازِلُ كَثِيرَةٌ هَائِلَةٌ بِالشَّامِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَكَثِيرٍ مِنِ الْبِلَادِ، وَكَانَ أَشَدُّهَا بِالشَّامِ، وَكَانَتْ مُتَوَالِيَةً عِدَّةَ لَيَالٍ، كُلَّ لَيْلَةٍ عِدَّةُ دَفَعَاتٍ، فَخَرِبَ كَثِيرٌ مِنِ الْبِلَادِ لَا سِيَّمَا حَلَبَ، فَإِنَّ أَهْلَهَا لَمَّا كَثُرَتْ عَلَيْهِمْ فَارَقُوا بُيُوتَهُمْ، وَخَرَجُوا [إِلَى] الصَّحْرَاءِ، وَعَدُّوا لَيْلَةً وَاحِدَةً جَاءَتْهُمْ ثَمَانِينَ مَرَّةً، وَلَمْ تَزَلْ بِالشَّامِ تَتَعَاهَدُهُمْ مِنْ رَابِعِ

صَفَرٍ إِلَى التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْهُ، وَكَانَ مَعَهَا صَوْتٌ وَهَزَّةٌ شَدِيدَةٌ. وَفِيهَا أَغَارَ الْفِرِنْجُ عَلَى أَعْمَالِ بَانِيَاسَ، فَسَارَ عَسْكَرُ دِمَشْقَ فِي أَثَرِهِمْ، فَلَمْ يُدْرِكُوهُمْ، فَعَادُوا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ الشَّحَّامِيُّ النَّيْسَابُورِي بِهَا، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ، مُكْثِرًا عَالِيَ الْإِسْنَادِ. وَتُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَغْدَادَيُّ بِهَا، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَسَدِيُّ الْبُخَارِيُّ، كَانَ قَاضِيَ بُخَارَى، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَوْلَادِ الْأَئِمَّةِ حَسَنَ السِّيرَةِ. وَتُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ اللَّفْتُوَانِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ بِأَصْفَهَانَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ بِأَصْفَهَانَ، وَبَغْدَادَ، وَغَيْرِهِمَا.

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] (534) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ حِصَارِ أَتَابَكْ زَنْكِي دِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ أَتَابَكْ زَنْكِي دِمَشْقَ مَرَّتَيْنِ، فَأَمَّا الْمَرَّةُ الْأُولَى فَإِنَّهُ سَارَ إِلَيْهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ بَعْلَبَكَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مَنْ أَمْرِهَا، وَتَقْرِيرِ قَوَاعِدِهَا، وَإِصْلَاحِ مَا تَشَعَّثَ مِنْهَا، لِيَحْصُرَهَا، فَنَزَلَ بِالْبِقَاعِ، وَأَرْسَلَ إِلَى جَمَالِ الدِّينِ صَاحِبِهَا يَبْذُلُ لَهُ بَلَدًا يَقْتَرِحُهُ لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِ دِمَشْقَ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ فَرَحَلَ، وَقَصَدَ دِمَشْقَ، فَنَزَلَ عَلَى دَارَيَّا ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَالْتَقَتِ الطَّلَائِعُ، وَاقْتَتَلُوا، وَكَانَ الظَّفَرُ لِعَسْكَرِ زَنْكِي، وَعَادَ الدِّمَشْقِيُّونَ مُنْهَزِمِينَ، فَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. ثُمَّ تَقَدَّمَ زَنْكِي إِلَى دِمَشْقَ، فَنَزَلَ هُنَاكَ، وَلَقِيَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ جُنْدِ دِمَشْقَ وَأَحْدَاثِهَا، وَرَجَّالَةِ الْغُوطَةِ، فَقَاتَلُوهُ، فَانْهَزَمَ الدِّمَشْقِيُّونَ، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ، فَقَتَلَ فِيهِمْ وَأَكْثَرَ، وَأَسَرَ كَذَلِكَ، وَمَنْ سَلِمَ عَادَ جَرِيحًا. وَأَشْرَفَ الْبَلَدُ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى أَنْ يُمْلَكَ، لَكِنْ عَادَ زَنْكِي عَنِ الْقِتَالِ، وَأَمْسَكَ عَنْهُ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَتَابَعَ الرُّسُلَ إِلَى صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَبَذَلَ لَهُ بَعْلَبَكَّ وَحِمْصَ وَغَيْرَهُمَا مِمَّا يَخْتَارُهُ مِنِ الْبِلَادِ، فَمَالَ إِلَى التَّسْلِيمِ، وَامْتَنَعَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَخَوَّفُوهُ عَاقِبَةَ فِعْلِهِ، وَأَنْ يَغْدِرَ بِهِ كَمَا غَدَرَ بِأَهْلِ بَعْلَبَكَّ، فَلَمَّا لَمْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِ عَاوَدَ الْقِتَالَ وَالزَّحْفَ. ثُمَّ إِنَّ جَمَالَ الدِّينِ صَاحِبَ دِمَشْقَ مَرِضَ وَمَاتَ ثَامِنِ شَعْبَانَ، وَطَمِعَ زَنْكِي حِينَئِذٍ فِي الْبَلَدِ، وَزَحَفَ إِلَيْهِ زَحْفًا شَدِيدًا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ رُبَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْمُقَدَّمِينَ وَالْأُمَرَاءِ خِلَافٌ فَيَبْلُغُ غَرَضَهُ، وَكَانَ مَا أَمَّلَهُ بَعِيدًا، فَلَمَّا مَاتَ جَمَالُ الدِّينِ وَلِيَ بَعْدَهُ مُجِيرُ الدِّينِ أَبَقُ وَلَدُهُ، وَتَوَلَّى تَدْبِيرَ دَوْلَتِهِ مُعِينُ الدِّينِ أُنُزُ، فَلَمْ يَظْهَرْ لِمَوْتِ أَبِيهِ أَثَرٌ مَعَ أَنَّ عَدُوَّهُمْ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا رَأَى أُنُزُ أَنَّ زَنْكِي لَا يُفَارِقُهُمْ وَلَا يَزُولُ عَنْ حَصْرِهِمْ، رَاسَلَ الْفِرِنْجَ، وَاسْتَدْعَاهُمْ إِلَى نُصْرَتِهِ، وَأَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى مَنْعِ زَنْكِي عَنْ دِمَشْقَ، وَبَذَلَ لَهُمْ

بَذُولًا مَنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يَحْصُرَ بَانِيَاسَ وَيَأْخُذَهَا وَيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِمْ، وَخَوَّفَهُمْ مِنْ زَنْكِي إِنْ مَلَكَ دِمَشْقَ، فَعَلِمُوا صِحَّةَ قَوْلِهِ إِنَّهُ إِنْ مَلَكَهَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَعَهُ بِالشَّامِ مَقَامٌ، فَاجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ، وَعَزَمُوا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى دِمَشْقَ لِيَجْتَمِعُوا مَعَ صَاحِبِهَا وَعَسْكَرِهَا عَلَى قِتَالِ زَنْكِي، فَحِينَ عَلِمَ زَنْكِي بِذَلِكَ سَارَ إِلَى حَوْرَانَ خَامِسَ رَمَضَانَ، عَازِمًا عَلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعُوا بِالدِّمَشْقِيِّينَ، فَلَمَّا سَمِعَ الْفِرِنْجُ خَبَرَهُ لَمْ يُفَارِقُوا بِلَادَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ كَذَلِكَ عَادَ إِلَى حَصْرِ دِمَشْقَ، [وَنَزَلَ] بِعَذْرَا شَمَالَيْهَا سَادِسَ شَوَّالٍ، فَأَحْرَقَ عِدَّةَ قُرًى مِنَ الْمَرْجِ، وَالْغُوطَةِ، وَرَحَلَ عَائِدًا إِلَى بِلَادِهِ. وَوَصَلَ الْفِرِنْجُ إِلَى دِمَشْقَ، وَاجْتَمَعُوا بِصَاحِبِهَا، وَقَدْ رَحَلَ زَنْكِي، فَعَادُوا، فَسَارَ مُعِينُ الدِّينِ أُنُزُ إِلَى بَانِيَاسَ فِي عَسْكَرِ دِمَشْقَ وَهِيَ فِي طَاعَةِ زَنْكِي، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، لِيَحْصُرَهَا وَيُسَلِّمَهَا إِلَى الْفِرِنْجِ، وَكَانَ وَالِيهَا قَدْ سَارَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْهَا فِي جَمْعِ جَمْعِهِ إِلَى مَدِينَةِ صُورَ لِلْإِغَارَةِ عَلَى بِلَادِهَا، فَصَادَفَهُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَّةَ وَهُوَ قَاصِدٌ إِلَى دِمَشْقَ نَجْدَةً لِصَاحِبِهَا عَلَى زَنْكِي، فَاقْتَتَلَا فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَخَذُوا وَالِيَ بَانِيَاسَ فَقُتِلَ، وَنَجَا مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ إِلَى بَانِيَاسَ، وَجَمَعُوا مَعَهُمْ كَثِيرًا مِنِ الْبِقَاعِ وَغَيْرَهَا، وَحَفِظُوا الْقَلْعَةَ، فَنَازَلَهَا مُعِينُ الدِّينِ فَقَاتَلَهُمْ وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، وَمَعَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَأَخَذَهَا وَسَلَّمَهَا إِلَى الْفِرِنْجِ. وَأَمَّا الْحَصْرُ الثَّانِي لِدِمَشْقَ، فَإِنَّ أَتَابَكْ لَمَّا سَمِعَ الْخَبَرَ بِحَصْرِ بَانِيَاسَ عَادَ إِلَى بَعْلَبَكَّ لِيَدْفَعَ عَنْهَا مَنْ يَحْصُرُهَا، فَأَقَامَ هُنَاكَ. فَلَمَّا عَادَ عَسْكَرُ دِمَشْقَ بَعْدَ أَنْ مَلَكُوهَا وَسَلَّمُوهَا إِلَى الْفِرِنْجِ، فَرَّقَ أَتَابَكْ زَنْكِي عَسْكَرَهُ عَلَى الْإِغَارَةِ عَلَى حَوْرَانَ وَأَعْمَالِ دِمَشْقَ، وَسَارَ هُوَ جَرِيدَةً مَعَ خَوَاصِّهِ، فَنَازَلَ دِمَشْقَ سَحَرًا، وَلَا يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ وَرَأَوْا عَسْكَرَهُ خَافُوا، وَارْتَجَّ الْبَلَدُ، وَاجْتَمَعَ الْعَسْكَرُ وَالْعَامَّةُ عَلَى السُّورِ، وَفُتِحَتِ الْأَبْوَابُ، وَخَرَجَ الْجُنْدُ وَالرَّجَّالَةُ فَقَاتَلُوهُ، فَلَمْ يُمْكِنْ زَنْكِي عَسْكَرُهُ مِنِ الْإِقْدَامِ فِي الْقِتَالِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ عَسْكَرِهِ كَانُوا قَدْ تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ لِلنَّهْبِ وَالتَّخْرِيبِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ دِمَشْقَ لِئَلَّا يَخْرُجَ مِنْهَا عَسْكَرٌ إِلَى عَسْكَرِهِ وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ، فَلَمَّا اقْتَتَلُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ قُتِلَ بَيْنَهُمْ جَمَاعَةٌ ثُمَّ أَحْجَمَ زَنْكِي عَنْهُمْ، وَعَادَ إِلَى خِيَامِهِ، وَرَحَلَ إِلَى مَرْجِ رَاهِطٍ، وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ عَوْدَةَ عَسْكَرِهِ، فَعَادُوا إِلَيْهِ وَقَدْ مَلَأُوا أَيْدِيَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ ; لِأَنَّهُمْ طَرَقُوا الْبِلَادَ

وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ رَحَلَ بِهِمْ عَائِدًا إِلَى بِلَادِهِمْ. ذِكْرُ مُلْكِ زَنْكِي شَهْرَزُورَ وَأَعْمَالَهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ أَتَابَكْ زَنْكِي شَهْرَزُورَ وَأَعْمَالَهَا، وَمَا يُجَاوِرُهَا مِنَ الْحُصُونِ، وَكَانَتْ بِيَدِ قُفْجَاقَ بْنِ أَرْسِلَانْ تَاشَ التُّرْكُمَانِيِّ، وَكَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا عَلَى قَاصِي التُّرْكُمَانِ وَدَانِيهِمْ، وَكَلِمَتُهُ لَا تُخَالَفُ، يَرَوْنَ طَاعَتَهُ فَرْضًا، فَتَحَامَى الْمُلُوكُ قَصْدَهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِوِلَايَتِهِ لِهَذَا؛ وَلِأَنَّهَا مَنِيعَةٌ كَثِيرَةُ الْمَضَايِقِ، فَعَظُمَ شَأْنُهُ وَازْدَادَ جَمْعُهُ، وَأَتَاهُ التُّرْكُمَانُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ سَيَّرَ إِلَيْهِ أَتَابَكْ زَنْكِي عَسْكَرًا، فَجَمَعَ أَصْحَابَهُ وَلَقِيَهُمْ، فَتَصَافُّوا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ قُفْجَاقُ، وَاسْتُبِيحَ عَسْكَرُهُ، وَسَارَ الْجَيْشُ الْأَتَابَكِيُّ [فِي أَعْقَابِهِمْ فَحَصَرُوا الْحُصُونَ وَالْقِلَاعَ فَمَلَكُوهَا جَمِيعَهَا، وَبَذَلُوا الْأَمَانَ لِقُفْجَاقَ، فَصَارَ إِلَيْهِمْ وَانْخَرَطَ فِي سِلْكِ الْعَسَاكِرِ] وَلَمْ يَزَلْ هُوَ، وَبَنُوهُ فِي خِدْمَةِ الْبَيْتِ الْأَتَابَكِيِّ عَلَى أَحْسَنَ قَضِيَّةٍ إِلَى بَعْدَ سَنَةِ سِتِّمِائَةٍ بِقَلِيلٍ، وَفَارَقُوهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَرَى بَيْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ وَبَيْنَ الْوَزِيرِ شَرَفِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيِّ مُنَافَرَةٌ، وَسَبَبُهَا أَنَّ الْوَزِيرَ كَانَ يَعْتَرِضُ الْخَلِيفَةَ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ، فَنَفَرَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ، فَغَضِبَ الْوَزِيرُ، ثُمَّ خَافَ فَقَصَدَ دَارَ السُّلْطَانِ فِي سَمِيرِيَّةَ وَقْتَ الظُّهْرِ، وَدَخَلَ إِلَيْهَا وَاحْتَمَى بِهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ فِي الْعَوْدِ إِلَى مَنْصِبِهِ فَامْتَنَعَ، وَكَانَتِ الْكُتُبُ تَصْدُرُ بِاسْمِهِ، وَاسْتُنِيبَ قَاضِي الْقُضَاةِ الزَّيْنَبِيَّ وَهُوَ ابْنُ

عَمِّ الْوَزِيرِ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى السُّلْطَانِ رُسُلًا فِي مَعْنَى الْوَزِيرِ، فَأَرْخَصَ لَهُ السُّلْطَانُ فِي عَزْلِهِ، فَحِينَئِذٍ أَسْقَطَ اسْمَهُ مِنَ الْكُتُبِ، وَأَقَامَ بِدَارِ السُّلْطَانِ، ثُمَّ عَزَلَ الزَّيْنَبِيَّ مِنَ النِّيَابَةِ، وَنَابَ سَدِيدُ الدَّوْلَةِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَفِيهَا قُتِلَ الْمُقَرَّبُ جَوْهَرٌ، وَهُوَ مِنْ خَدَمِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَكَانَ قَدْ حَكَمَ فِي دَوْلَتِهِ جَمِيعِهَا، وَمِنْ جُمْلَةِ أَقْطَاعِهِ الرَّيُّ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَمَالِيكِهِ عَبَّاسٌ صَاحِبُ الرَّيِّ، وَكَانَ سَائِرُ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ يَخْدِمُونَهُ وَيَقِفُونَ بِبَابِهِ، وَكَانَ قَتْلُهُ بِيَدِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَقَفَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِزِيِّ النِّسَاءِ، وَاسْتَغَثْنَ بِهِ، فَوَقَفَ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ فَقَتَلُوهُ، فَلَمَّا قُتِلَ جَمَعَ صَاحِبُهُ عَبَّاسٌ الْعَسَاكِرَ، وَقَصَدَ الْبَاطِنِيَّةَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ وَأَكْثَرَ، وَفَعَلَ بِهِمْ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ غَيْرُهُ، وَلَمْ يَزَلْ يَغْزُوهُمْ وَيَقْتُلُ فِيهِمْ وَيُخَرِّبُ بِلَادَهُمْ إِلَى أَنْ مَاتَ. وَفِيهَا زُلْزِلَتْ كَنْجَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ أَعْمَالِ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانَ إِلَّا أَنَّ أَشَدَّهَا كَانَ بِكَنْجَةَ، فَخَرِبَ مِنْهَا الْكَثِيرُ، وَهَلَكَ عَالَمٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً. قِيلَ: كَانَ الْهَلْكَى مِائَتَيْ أَلْفٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْهَلْكَى ابْنَانِ لِقَرَاسُنْقُرَ صَاحِبِ الْبِلَادِ، وَتَهَدَّمَتْ قَلْعَةٌ هُنَاكَ لِمُجَاهِدِ الدِّينِ بَهْرُوزَ، وَذَهَبَ لَهُ فِيهَا مِنَ الذَّخَائِرِ وَالْأَمْوَالِ شَيْءٌ عَظِيمٌ.

وَفِيهَا شَرَعَ مُجَاهِدُ الدِّينِ بَهْرُوزَ فِي عَمَلِ النَّهْرَوَانَاتِ: سَكَرَ سِكْرًا عَظِيمًا يَرُدُّ الْمَاءَ إِلَى مَجْرَاهُ الْأَوَّلِ، وَحَفَرَ مَجْرَى الْمَاءِ الْقَدِيمِ، وَخَرَقَ إِلَيْهِ مَجْرَاةً تَأْخُذُ مِنْ دِيَالَى ثُمَّ اسْتَحَالَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَجَرَى الْمَاءُ نَاحِيَةً مِنَ السِّكْرِ، وَبَقِيَ السِّكْرُ فِي الْبِئْرِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ لِرَدِّهِ إِلَى مَجْرَاهُ عِنْدَ السِّكْرِ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا. وَفِيهَا انْقَطَعَ الْغَيْثُ بِبَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ، وَلَمْ يَجِئْ غَيْرَ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي آذَارَ، ثُمَّ انْقَطَعَ وَوَقَعَ الْغَلَاءُ، وَعَدِمَتِ الْأَقْوَاتُ بِالْعِرَاقِ. وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ دَخَلَ الْخَلِيفَةُ بِفَاطِمَةَ خَاتُونَ بِنْتِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، وَكَانَ يَوْمَ حَمَلَهَا إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ يَوْمًا مَشْهُودًا، أُغْلِقَتْ بَغْدَادُ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَزُيِّنَتْ وَتَزَوَّجَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ بِابْنَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ وَعَقَدَ عَلَيْهَا، وَاسْتَقَرَّ أَنْ

يَتَأَخَّرَ زِفَافُهَا خَمْسَ سِنِينَ لِصِغَرِهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ يَحْيَى ابْنُ قَاضِي دِمَشْقَ الْمَعْرُوفُ بِالزَّكِيِّ.

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] (535) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ مَسِيرِ جَهَارْدَانْكِي إِلَى الْعِرَاقِ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ الْأَمِيرَ إِسْمَاعِيلَ الْمَعْرُوفَ بِجَهَارْدَانْكِي، وَالْبَقْشَ كُونْ خَرْ، بِالْمَسِيرِ إِلَى خُوزِسْتَانَ وَفَارِسَ وَأَخْذِهِمَا مَنْ بُوزَابَةَ، وَأَطْلَقَ لَهُمَا نَفَقَةً عَلَى بَغْدَادَ، فَسَارَا فِيمَنْ مَعَهُمَا إِلَى بَغْدَادَ، فَمَنَعَهُمْ مُجَاهِدُ الدِّينِ بَهْرُوزَ مِنْ دُخُولِهَا فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمَعَابِرِ فَخَسَفَهَا وَغَرَّقَهَا، وَجَدَّ فِي عِمَارَةِ السُّورِ، وَسَدَّ بَابَ الظَّفَرِيَّةِ وَبَابَ كَلْوَاذَى، وَأَغْلَقَ بَاقِيَ الْأَبْوَابِ، وَعَلَّقَ عَلَيْهَا السِّلَاحَ وَضَرَبَ الْخِيَامَ لِلْمُقَاتِلَةِ. فَلَمَّا عَلِمَا بِذَلِكَ عَبَرَا بِصَرْصَرَ، وَقَصَدَا الْحِلَّةِ، فَمُنِعَا مِنْهَا، فَقَصَدَا وَاسِطَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا الْأَمِيرُ طِرِنْطَايُ وَتَقَاتَلُوا، فَانْهَزَمَ طِرِنْطَايُ، وَدَخَلُوا وَاسِطَ فَنَهَبُوهَا وَنَهَبُوا بَلَدَ فُرْسَانَ، وَالنُّعْمَانِيَّةِ، وَانْضَمَّ طِرِنْطَايُ إِلَى حَمَّادِ بْنِ أَبِي الْخَيْرِ صَاحِبِ الْبَطِيحَةِ، وَوَافَقَهُمْ عَسْكَرُ الْبَصْرَةِ، وَفَارَقَ إِسْمَاعِيلَ وَالْبَقْشَ بَعْضُ عَسْكَرِهِمَا، وَصَارُوا مَعَ طِرِنْطَايِ فَضَعُفَ أُولَئِكَ، فَسَارَ إِلَى تُسْتَرَ، وَاسْتَشْفَعَ إِسْمَاعِيلُ إِلَى السُّلْطَانِ فَعَفَا عَنْهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ رَسُولٌ مِنَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَمَعَهُ بُرْدَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ - وَالْقَضِيبُ، وَكَانَا قَدْ أُخِذَا مِنَ الْمُسْتَرْشِدِ، فَأَعَادَهُمَا الْآنَ إِلَى الْمُقْتَفِي. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَتَابَكْ قَرَاسُنْقُرُ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانِيَّةَ بِمَدِينَةِ أَرْدَبِيلَ، وَكَانَ مَرَضَهُ السُّلُّ وَطَالَ بِهِ، وَكَانَ مِنْ مَمَالِيكِ الْمَلِكِ طُغْرُلَ، وَسُلِّمَتْ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانِيَّةَ إِلَى الْأَمِيرِ جَاوِلِي الطُّغْرُلِيِّ. وَكَانَ قَرَاسُنْقُرُ عَلَا شَأْنُهُ عَلَى سُلْطَانِهِ، وَخَافَهُ السُّلْطَانُ. وَفِيهَا كَانَ بَيْنَ أَتَابَكْ زَنْكِي وَبَيْنَ دَاوُدَ سَقْمَانَ بْنِ أَرْتَقَ صَاحِبِ حِصْنِ كِيفَا حَرْبٌ شَدِيدَةٌ، وَانْهَزَمَ دَاوُدُ بْنُ سَقْمَانَ، وَمَلَكَ زَنْكِي مِنْ بِلَادِهِ قَلْعَةَ بَهْمَرْدَ، وَأَدْرَكَهُ الشِّتَاءُ فَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ. وَفِيهَا مَلَكَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ حِصْنَ مَصْيَاتَ بِالشَّامِ، وَكَانَ وَالِيهِ مَمْلُوكًا لِبَنِي مُنْقِذٍ أَصْحَابِ شَيْزَرَ، فَاحْتَالُوا عَلَيْهِ وَمَكَرُوا بِهِ حَتَّى صَعِدُوا إِلَيْهِ وَقَتَلُوهُ، وَمَلَكُوا الْحِصْنَ وَهُوَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى الْآنِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَدِيدُ الدَّوْلَةِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَاسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ نِظَامَ الدِّينِ أَبَا

نَصْرٍ الْمُظَفَّرَ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جَهِيرٍ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ أُسْتَاذَ الدَّارِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَرَنْقَشُ بَازْدَارْ صَاحِبُ قَزْوِينَ. وَفِيهَا فِي رَجَبٍ ظَفَرَ ابْنُ الدَّانِشْمَنْدِ صَاحِبُ مَلَطْيَةَ وَغَيْرِهَا مِنْ تِلْكَ النَّوَاحِي بِجَمْعٍ مِنَ الرُّومِ فَقَتَلَهُمْ، وَغَنِمَ مَا مَعَهُمْ. وَفِيهَا فِي رَمَضَانَ سَارَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ إِلَى عَسْقَلَانَ لِيُغِيرُوا عَلَى أَعْمَالِهَا، وَهِيَ لِصَاحِبِ مِصْرَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْعَسْكَرُ الَّذِي بِعَسْقَلَانَ فَقَاتَلَهُمْ، فَظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَتَلُوا مِنَ الْفِرِنْجِ كَثِيرًا، فَعَادُوا مُنْهَزِمِينَ. وَفِيهَا بُنِيَتِ الْمَدْرَسَةُ الْكَمَالِيَّةُ بِبَغْدَادَ، بَنَاهَا كَمَالُ الدَّيْنِ أَبُو الْفُتُوحِ بْنُ طَلْحَةَ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ، وَلَمَّا فَرَغَتْ دَرَّسَ فِيهَا الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْخَلِّ، وَحَضَرَهُ أَرْبَابُ الْمَنَاصِبِ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي رَجَبٍ مَاتَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْأَنْصَارِيُّ قَاضِي الْمَارَسْتَانِ عَنْ نَيِّفٍ وَتِسْعِينَ سَنَةٍ، وَلَهُ الْإِسْنَادُ الْعَالِي فِي الْحَدِيثِ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْمَنْطِقِ، وَالْحِسَابِ، وَالْهَيْئَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ عُلُومِ الْأَوَائِلِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ فِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي طَالِبٍ الْعُشَارِيِّ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيِّ وَغَيْرَهِمْ. وَتُوُفِّيَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْفَهَانِيُّ

عَاشِرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْمَشْهُورَةُ. وَتُوُفِّيَ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو يَعْقُوبَ الْهَمَذَانَيُّ مِنْ أَهْلِ بُرُوجِرْدَ، وَسَكَنَ مَرْوَ، وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَرَوَى الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِالرِّيَاضَاتِ، وَالْمُجَاهِدَاتِ، وَوَعَظَ بِبَغْدَادَ، فَقَامَ إِلَيْهِ مُتَفَقِّهٌ يُقَالُ لَهُ ابْنُ السَّقَّاءِ وَسَأَلَهُ، وَآذَاهُ فِي السُّؤَالِ، فَقَالَ: اسْكُتْ، إِنِّي أَشُمُّ مِنْكَ رِيحَ الْكُفْرِ! فَسَافَرَ الرَّجُلُ إِلَى بَلَدِ الرُّومِ وَتَنَصَّرَ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَفْلَحَ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ.

ثم دخلت سنة ست وثلاثين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] (536) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ انْهِزَامِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ مِنَ الْأَتْرَاكِ الْخِطَا، وَمُلْكِهِمْ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ قَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُ التَّوَارِيخِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ أَقَاوِيلَ نَحْنُ نَذْكُرُهَا جَمِيعَهَا لِلْخُرُوجِ مَنْ عُهْدَتِهَا، فَنَقُولُ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ انْهَزَمَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ مِنَ التُّرْكِ الْكُفَّارِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سَنْجَرَ كَانَ قَتَلَ ابْنًا لِخُوَارِزْمَ شَاهْ أُتْسِزَ بْنِ مُحَمَّدٍ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ - فَبَعَثَ خُوَارَزْمُ شَاهْ إِلَى الْخِطَا وَهُمْ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، يُطْمِعُهُمْ فِي الْبِلَادِ، وَيُرَوِّجُ عَلَيْهِمْ أَمْرَهَا وَتَزَوَّجَ إِلَيْهِمْ، وَحَثَّهُمْ عَلَى قَصْدِ مَمْلَكَةِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، فَسَارُوا فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ سَنْجَرُ فِي عَسَاكِرِهِ، فَالْتَقَوْا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، وَانْهَزَمَ سَنْجَرُ فِي جَمِيعِ عَسَاكِرِهِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفِ قَتِيلٍ، مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا كُلُّهُمْ صَاحِبُ عِمَامَةٍ، وَأَرْبَعَةُ آلَافِ امْرَأَةٍ، وَأُسِرَتْ زَوْجَةُ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَتَمَّ سَنْجَرُ مُنْهَزِمًا إِلَى تِرْمِذَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى بَلْخَ. وَلَمَّا انْهَزَمَ سَنْجَرُ قَصَدَ خُوَارَزْمُ شَاهْ مَدِينَةَ مَرْوَ، فَدَخَلَهَا مُرَاغَمَةً لِلسُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَقَتَّلَ بِهَا، وَقَبَضَ عَلَى أَبِي الْفَضْلِ الْكِرْمَانِيِّ الْفَقِيهِ الْحَنَفِيِّ وَعَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ. وَلَمْ يَزَلِ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ مَسْعُودًا إِلَى وَقْتِنَا هَذَا، لَمْ تَنْهَزِمْ لَهُ رَايَةٌ، وَلَمَّا تَمَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْهَزِيمَةُ أَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، وَأَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي الرَّيِّ وَمَا يَجْرِي مَعَهَا عَلَى قَاعِدَةِ أَبِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا فِيهَا بِعَسَاكِرِهِ بِحَيْثُ إِنْ دَعَتْ حَاجَةٌ اسْتَدْعَاهُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْهَزِيمَةِ، فَوَصَلَ عَبَّاسٌ صَاحِبُ الرَّيِّ إِلَى بَغْدَادَ

بِعَسَاكِرِهِ، وَخَدَمَ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا خِدْمَةً عَظِيمَةً، وَسَارَ السُّلْطَانُ إِلَى الرَّيِّ امْتِثَالًا لِأَمْرِ عَمِّهِ سَنْجَرَ. وَقِيلَ: إِنَّ بِلَادَ تُرْكِسْتَانَ، وَهِيَ كَاشْغَرُ، وَبَلَاسَاغُونَ، وَخَتْنُ، وَطِرَازُ، وَغَيْرُهَا مِمَّا يُجَاوِرُهَا مِنْ بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ كَانَتْ بِيَدِ الْمُلُوكِ الْخَانِيَّةِ الْأَتْرَاكِ، وَهُمْ مُسْلِمُونَ مِنْ نَسْلِ أَفْرَاسْيَابَ التُّرْكِيِّ، إِلَّا أَنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ. وَكَانَ سَبَبُ إِسْلَامِ جَدِّهِمُ الْأَوَّلِ وَاسْمُهُ سَبْقُ قُرَاخَاقَانُ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ رَجُلًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَقَالَ بِالتُّرْكِيَّةِ مَا مَعْنَاهُ: أَسْلِمْ تَسْلَمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَسْلَمَ فِي مَنَامِهِ، وَأَصْبَحَ فَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ، فَلَمَّا مَاتَ قَامَ مَقَامَهُ ابْنُهُ مُوسَى بْنُ سَبْقَ، وَلَمْ يَزَلِ الْمُلْكُ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ فِي أَوْلَادِهِ إِلَى أَرْسِلَانْ خَانْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ بَغْرَاخَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُلَقَّبِ بِطِمْغَاجْ خَانْ بْنِ إِيلَكَ الْمُلَقَّبِ بِنَصْرِ أَرْسِلَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ سَبْقَ، فَخَرَجَ عَلَى قَدْرَخَانْ فَانْتَزَعَ الْمُلْكَ مِنْهُ، فَقَتَلَ سَنْجَرُ قَدْرَخَانْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَعَادَ الْمُلْكَ إِلَى أَرْسِلَانْ خَانْ، وَثَبَّتَ قَدَمَهُ. وَخَرَجَ خَوَارِجُ، فَاسْتَصْرَخَ السُّلْطَانَ سَنْجَرَ، فَنَصَرَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى مُلْكِهِ أَيْضًا. وَكَانَ مِنْ جُنْدِهِ نَوْعٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ يُقَالُ لَهُمُ الْقَارْغَلِيَّةُ، وَالْأَتْرَاكُ الْغُزِّيَّةُ الَّذِينَ نَهَبُوا خُرَاسَانَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهُمْ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُقَالُ لَهُمْ أَجَقٌ، وَأَمِيرُهُمْ طُوطَى بْنُ دَادْبِكَ، وَنَوْعٌ يُقَالُ لَهُمْ بَرْقٌ، وَأَمِيرُهُمْ قَرْعُوتُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، فَحَسَّنَ الشَّرِيفُ الْأَشْرَفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شُجَاعٍ الْعَلَوِيِّ السَّمَرْقَنْدِيِّ لِوَلَدِ أَرْسِلَانْ خَانَ الْمَعْرُوفِ بِنَصْرِ خَانْ طَلَبَ الْمُلْكِ مِنْ أَبِيهِ وَأَطْمَعَهُ، فَسَمِعَ مُحَمَّدْ خَانَ الْخَبَرَ، فَقَتَلَ الِابْنَ وَالشَّرِيفَ الْأَشْرَفَ. وَجَرَتْ بَيْنَ أَرْسِلَانْ خَانْ، وَبَيْنَ جُنْدِهِ الْقَارْغَلِيَّةِ وَحْشَةٌ دَعَتْهُمْ إِلَى الْعِصْيَانِ عَلَيْهِ وَانْتِزَاعِ الْمُلْكِ مِنْهُ، فَعَاوَدَ الِاسْتِغَاثَةَ بِالسُّلْطَانِ سَنْجَرَ، فَعَبَرَ جَيْحُونَ بِعَسَاكِرِهِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا مُصَاهَرَةٌ، فَوَصَلَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، وَهَرَبَ الْقَارِغَلِيَّةُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ.

وَاتُّفِقَ أَنَّ السُّلْطَانَ سَنْجَرَ خَرَجَ إِلَى الصَّيْدِ، فَرَأَى خَيَّالَةً، فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ، فَأَقَرُّوا بِأَنْ أَرْسِلَانْ خَانْ وَضْعَهُمْ عَلَى قَتْلِهِ، فَعَادَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، فَحَصَرَ أَرْسِلَانْ خَانْ بِالْقَلْعَةِ فَمَلَكَهَا، وَأَخَذَهُ أَسِيرًا، وَسَيَّرَهُ إِلَى بَلْخَ فَمَاتَ بِهَا، وَقِيلَ بَلْ غَدَرَ بِهِ سَنْجَرُ، وَاسْتَضْعَفَهُ، فَمَلَكَ الْبَلَدَ مِنْهُ، فَأَشَاعَ عَنْهُ ذَلِكَ. فَلَمَّا مَلَكَ سَمَرْقَنْدَ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا بَعْدَهُ قِلِجَ طَمْغَاجُ أَبَا الْمَعَالِي الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْمَعْرُوفُ بِحَسَنْ تِكِينُ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ بَيْتِ الْخَانِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ أَرْسِلَانْ خَانَ اطَّرَحَهُ، فَلَمَّا وَلِيَ سَمَرْقَنْدَ لَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ، فَمَاتَ عَنْ قَلِيلٍ، فَأَقَامَ سَنْجَرُ مَقَامَهُ الْمَلِكَ مَحْمُودَ بْنَ أَرْسِلَانْ خَانْ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ بَغْرَاخَانْ، وَهُوَ ابْنُ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ سَنْجَرُ سَمَرْقَنْدَ، وَكَانَ مَحْمُودٌ هَذَا ابْنُ أُخْتِ سَنْجَرَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ قَدْ وَصَلَ الْأَعْوَرُ الصِّينِيُّ إِلَى حُدُودِ كَاشْغَرَ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، فَاسْتَعَدَّ لَهُ صَاحِبُ كَاشْغَرَ وَهُوَ الْخَانْ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَجَمَعَ جُنُودَهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَالْتَقَوْا فَاقْتَتَلُوا، وَانْهَزَمَ الْأَعْوَرُ الصِّينِيُّ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَاتَ فَقَامَ مَقَامَهُ كُوخَانْ الصِّينِيُّ. وَكُوبِلْسَانُ الصِّينِ لَقَبٌ لِأَعْظَمِ مُلُوكِهِمْ، وَخَانْ لَقَبُ الْمُلُوكِ التُّرْكِ فَمَعْنَاهُ أَعْظَمُ الْمُلُوكِ، وَكَانَ يَلْبَسُ لُبْسَةَ مُلُوكِهِمْ مِنَ الْمِقْنَعَةِ وَالْخِمَارِ، وَكَانَ مَانَوِيَّ الْمَذْهَبِ. وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الصِّينِ إِلَى تُرْكِسْتَانَ انْضَافَ إِلَيْهِ الْأَتْرَاكُ الْخِطَا، وَكَانُوا قَدْ خَرَجُوا قَبْلَهُ مِنَ الصِّينِ، وَهُمْ فِي خِدْمَةِ الْخَانِيَةِ أَصْحَابِ تُرْكِسْتَانَ. وَكَانَ أَرْسِلَانْ خَانْ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ يُسَيِّرُ كُلَّ سَنَةٍ عَشْرَةَ آلَافِ خَرْكَاةٍ، وَيُنْزِلُهُمْ عَلَى الدُّرُوبِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّينِ، يَمْنَعُونَ أَحَدًا مِنَ الْمُلُوكِ أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَى بِلَادِهِ، وَكَانَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ جِرَايَاتٌ وَإِقْطَاعَاتٌ، فَاتُّفِقَ أَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ السِّنِينَ، فَمَنَعَهُمْ عَنْ نِسَائِهِمْ لِئَلَّا يَتَوَالَدُوا، فَعَظُمَ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَعْرِفُوا وَجْهًا يَقْصِدُونَهُ، وَتَحَيَّرُوا، فَاتُّفِقَ أَنَّهُ اجْتَازَ بِهِمْ قَفَلٌ عَظِيمٌ فِيهِ الْأَمْوَالُ الْكَثِيرَةُ وَالْأَمْتِعَةُ النَّفْسِيَّةُ، فَأَخَذُوهُ وَأَحْضَرُوا التُّجَّارَ، وَقَالُوا لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَمْوَالَكُمْ فَتُعَرِّفُونَا بَلَدًا كَثِيرَ الْمَرْعَى فَسِيحًا، يَسَعُنَا وَمَعَنَا أَمْوَالُنَا، فَاتَّفَقَ رَأْيُ التُّجَّارِ عَلَى بَلَدِ بِلَاسَاغُونَ فَوَصَفُوهُ لَهُمْ، فَأَعَادُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَأَخَذُوا الْمُوَكَّلِينَ بِهِمْ لِمَنْعِهِمْ عَنْ نِسَائِهِمْ وَكَتَّفُوهُمْ، وَأَخَذُوا نِسَاءَهُمْ، وَسَارُوا إِلَى بِلَاسَاغُونَ، وَكَانَ أَرْسِلَانْ خَانْ يَغْزُوهُمْ، وَيُكْثِرُ جِهَادَهُمْ فَخَافُوهُ خَوْفًا عَظِيمًا.

فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَخَرَجَ كُوخَانْ الصِّينِيُّ انْضَافُوا إِلَيْهِ أَيْضًا، فَعَظُمَ شَأْنُهُمْ، وَتَضَاعَفَ جَمْعُهُمْ، وَمَلَكُوا بِلَادَ تُرْكِسْتَانَ، وَكَانُوا إِذَا مَلَكُوا الْمَدِينَةَ لَا يُغَيِّرُونَ عَلَى أَهْلِهَا شَيْئًا، بَلْ يَأْخُذُونَ مَنْ كُلِّ بَيْتٍ دِينَارًا مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ وَغَيْرَهَا مِنَ الْقُرَى، وَأَمَّا الْمُزْدَرَعَاتُ وَغَيْرُ ذَلِكَ فَلِأَهْلِهِ، وَكُلُّ مَنْ أَطَاعَهُمْ مِنَ الْمُلُوكِ شَدَّ فِي وَسَطِهِ شِبْهَ لَوْحٍ فِضَّةٍ، فَتِلْكَ عَلَامَةُ مَنْ أَطَاعَهُمْ. ثُمَّ سَارُوا إِلَى بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ الْخَاقَانُ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُدُودِ خَجَنْدَةَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الْخَاقَانُ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعَادَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، فَعَظُمَ الْخَطْبُ عَلَى أَهْلِهَا، وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ، وَانْتَظَرُوا الْبَلَاءَ صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَكَذَلِكَ أَهْلُ بُخَارَى وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَأَرْسَلَ الْخَاقَانُ مَحْمُودٌ إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ يَسْتَمِدُّهُ وَيُنْهِي إِلَيْهِ مَا لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ، وَيَحُثُّهُ عَلَى نُصْرَتِهِمْ، فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ مُلُوكُ خُرَاسَانَ: صَاحِبُ سِجِسْتَانَ، وَالْغَوْرِ، وَمَلِكُ غَزْنَةَ، وَمَلِكُ مَازَنْدَرَانَ، وَغَيْرُهُمْ، فَاجْتَمَعَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ، وَبَقِيَ الْعَرْضُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَسَارَ سَنْجَرُ إِلَى لِقَاءِ التُّرْكِ، فَعَبَرَ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدْ خَانْ مِنَ الْأَتْرَاكِ الْقَارْغَلِيَّةِ، فَقَصَدَهُمْ سَنْجَرُ، فَالْتَجَأُوا إِلَى كُوخَانْ الصِّينِيِّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَقَامَ سَنْجَرُ بِسَمَرْقَنْدَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ كُوخَانْ كِتَابًا يَتَضَمَّنُ الشَّفَاعَةَ فِي الْأَتْرَاكِ الْقَارْغَلِيَّةِ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ فَلَمْ يُشَفِّعْهُ فِيهِمْ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيَتَهَدَّدُهُ إِنْ لَمْ يُجِبْ إِلَيْهِ، وَيَتَوَعَّدُهُ بِكَثْرَةِ عَسَاكِرِهِ، وَوَصَفَهُمْ وَبَالَغَ فِي قِتَالِهِمْ بِأَنْوَاعِ السِّلَاحِ حَتَّى قَالَ: وَإِنَّهُمْ يَشُقُّونَ الشَّعْرَ بِسِهَامِهِمْ، فَلَمْ يَرْضَ هَذَا الْكِتَابَ وَزِيرُهُ طَاهِرُ بْنُ فَخْرِ الْمُلْكِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ فَلَمْ يُصْغِ إِلَيْهِ، وَسَيَّرَ الْكِتَابَ، فَلَمَّا قُرِئَ الْكِتَابُ عَلَى كُوخَانْ أَمَرَ بِنَتْفِ لِحْيَةِ الرَّسُولِ، وَأَعْطَاهُ إِبْرَةً، وَكَلَّفَهُ شَقَّ شَعْرَةٍ مِنْ لِحْيَتِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: كَيْفَ يَشُقُّ غَيْرُكَ شَعْرَةً بِسَهْمٍ وَأَنْتَ عَاجِزٌ عَنْ شَقِّهَا بِإِبْرَةٍ؟ . وَاسْتَعَدَّ كُوخَانْ لِلْحَرْبِ، وَعِنْدَهُ جُنُودُ التُّرْكِ وَالصِّينِ وَالْخِطَا وَغَيْرِهِمْ،

وَقَصَدَ السُّلْطَانَ سَنْجَرَ، فَالْتَقَى الْعَسْكَرَانِ، وَكَانَا كَالْبَحْرَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ قَطَوَانُ، وَطَافَ بِهِمْ كُوخَانْ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إِلَى وَادٍ يُقَالُ لَهُ دَرْغَمُ، وَكَانَ عَلَى مَيْمَنَةِ سَنْجَرَ الْأَمِيرُ قُمَاجُ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ مَلِكُ سِجِسْتَانَ، وَالْأَثْقَالُ وَرَاءَهُمْ، فَاقْتَتَلُوا خَامِسَ صَفَرٍ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ. وَكَانَتِ الْأَتْرَاكُ الْقَارْغَلِيَّةُ الَّذِينَ هَرَبُوا مِنْ سَنْجَرَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ قِتَالًا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ أَحْسَنَ قِتَالًا مَنْ صَاحِبِ سِجِسْتَانَ، فَأَجْلَتِ الْحَرْبُ عَنْ هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ مَا لَا يُحْصَى مِنْ كَثْرَتِهِمْ، وَاشْتَمَلَ وَادِي دَرْغَمٍ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى، وَمَضَى السُّلْطَانُ سَنْجَرُ مُنْهَزِمًا، وَأُسِرَ صَاحِبُ سِجِسْتَانَ، وَالْأَمِيرُ قُمَاجُ، وَزَوْجَةُ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ وَهِيَ ابْنَةُ أَرْسِلَانْ خَانْ، فَأَطْلَقَهُمُ الْكُفَّارُ، وَمِمَّنْ قُتِلَ الْحُسَامُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَازَّةَ الْبُخَارِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ الْمَشْهُورُ. وَلَمْ يَكُنْ فِي الْإِسْلَامِ وَقْعَةٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ وَلَا أَكْثَرُ مِمَّنْ قُتِلَ فِيهَا بِخُرَاسَانَ. وَاسْتَقَرَّتْ دَوْلَةُ الْخِطَا وَالتُّرْكِ وَالْكُفَّارِ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَبَقِيَ كُوخَانْ إِلَى رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ فَمَاتَ فِيهِ، وَكَانَ جَمِيلًا، حَسَنَ الصُّورَةِ، لَا يَلْبَسُ إِلَّا الْحَرِيرَ الصِّينِيَّ، لَهُ هَيْبَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يُسَلِّطْ أَمِيرًا عَلَى أَقْطَاعٍ بَلْ كَانَ يُعْطِيهِمْ مِنْ عِنْدِهِ وَيَقُولُ: مَتَّى أَخَذُوا الْأَقْطَاعَ ظَلَمُوا، وَكَانَ لَا يُقَدِّمُ أَمِيرًا عَلَى أَكْثَرِ مِنْ مِائَةِ فَارِسٍ حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى الْعِصْيَانِ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنِ الظُّلْمِ، وَيَنْهَى عَنِ السُّكْرِ وَيُعَاقِبُ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْهَى عَنِ الزِّنَا وَلَا يُقَبِّحُهُ. وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنَةٌ لَهُ فَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَمَلَكَ بَعْدَهَا أُمُّهَا زَوْجَةُ كُوخَانْ وَابْنَةُ عَمِّهِ، وَبَقِيَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ بِيَدِ الْخِطَا إِلَى أَنْ أَخْذَهُ مِنْهُمْ عَلَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدُ خُوَارَزْمُ شَاهْ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ خُوَارَزْمُ شَاهْ بِخُرَاسَانَ قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ قَصْدَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ خُوَارَزْمَ، وَأَخْذَهَا مِنْ خُوَارَزْمَ شَاهْ أُتْسِزَ وَعَوْدَهُ إِلَيْهَا، وَقَتْلَ وَلَدِ خُوَارَزْمَ شَاهْ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي رَاسَلَ الْخِطَا، وَأَطْمَعَهُمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا لَقِيَهُمُ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ، وَعَادَ مُنْهَزِمًا سَارَ خُوَارَزْمُ شَاهْ إِلَى خُرَاسَانَ، فَقَصَدَ سَرَخْسَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا لَقِيَهُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الزِّيَادَيُّ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الزُّهْدِ وَالْعِلْمِ، فَأَكْرَمَهُ خُوَارَزْمُ شَاهْ إِكْرَامًا عَظِيمًا، وَرَحَلَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى مَرْوَ الشَّاهْجَانُ، فَقَصَدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْبَاخَرْزِيُّ، وَشَفَعَ فِي أَهْلِ مَرْوَ، وَسَأَلَ أَلَّا يَتَعَرَّضَ لَهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَنَزَلَ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَاسْتَدْعَى أَبَا الْفَضْلِ الْكِرْمَانِيَّ الْفَقِيهَ وَأَعْيَانَ أَهْلِهَا، فَثَارَ عَامَّةُ مَرْوَ، وَقَتَلُوا بَعْضَ أَهْلِ خُوَارَزْمَ شَاهْ، وَأَخْرَجُوا أَصْحَابَهُ مِنَ الْبَلَدِ، وَأَغْلَقُوا أَبْوَابَهُ، وَاسْتَعَدُّوا لِلِامْتِنَاعِ، فَقَاتَلَهُمْ خُوَارَزْمُ شَاهْ، وَدَخَلَ مَدِينَةَ مَرْوَ سَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ، وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا. وَمِمَّنْ قَتَلَ: إِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَزِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَرْسِلَانْ، وَكَانَ ذَا فُنُونٍ كَثِيرَةٍ مِنِ الْعِلْمِ، وَقَتَلَ الشَّرِيفَ عَلِيَّ بْنَ إِسْحَاقَ الْمُوسَوِيَّ، وَكَانَ رَأْسَ فِتْنَةٍ وَمُلَقِّحَ شَرٍّ، وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِهَا وَعَادَ إِلَى خُوَارَزْمَ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ عُلَمَاءَ كَثِيرِينَ مِنْ أَهْلِهَا مِنْهُمْ: أَبُو الْفَضْلِ الْكِرْمَانِيُّ، وَأَبُو مَنْصُورٍ الْعَبَّادِيُّ، وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَرْسَابَنْدِيُّ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْخِرَقِيُّ الْفَيْلَسُوفُ، وَغَيْرُهُمْ. ثُمَّ سَارَ فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَائِهَا وَعُلَمَائِهَا

وَزُهَّادِهَا، وَسَأَلُوهُ أَنْ لَا يَفْعَلُ بِأَهْلِ نَيْسَابُورَ مَا فَعَلَ بِأَهْلِ مَرْوَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ لَكِنَّهُ اسْتَقْصَى فِي الْبَحْثِ عَنْ أَمْوَالِ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ فَأَخَذَهَا، وَقَطَعَ خُطْبَةَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ أَوَّلَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَخَطَبُوا لَهُ، فَلَمَّا تَرَكَ الْخَطِيبُ ذِكْرَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَذَكَرَ خُوَارَزْمُ شَاهْ صَاحَ النَّاسُ وَثَارُوا، وَكَادَتِ الْفِتْنَةُ تَثُورُ وَالشَّرُّ يَعُودُ جَدِيدًا، وَإِنَّمَا مَنَعَ النَّاسَ مِنْ ذَلِكَ ذَوُو الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ؛ نَظَرًا فِي الْعَاقِبَةِ، فَقُطِعَتْ إِلَى أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ، ثُمَّ أُعِيدَتْ خُطْبَةُ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ. ثُمَّ سَيَّرَ خُوَارَزْمُ شَاهْ جَيْشًا إِلَى أَعْمَالِ بَيْهَقَ، فَأَقَامُوا بِهَا يُقَاتِلُونَ أَهْلَهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ سَارَ عَنْهَا ذَلِكَ الْجَيْشُ يَنْهَبُونَ الْبِلَادَ، وَعَمِلُوا بِخُرَاسَانَ أَعْمَالًا عَظِيمَةً، وَمَنَعَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ مِنْ مُقَاتَلَةِ أُتْسِزَ خُوَارَزْمَ شَاهْ خَوْفًا مِنْ قُوَّةِ الْخِطَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَمُجَاوَرَتِهِمْ خُوَارَزْمَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ أَتَابَكْ زَنْكِي بْنُ آقَسُنْقُرَ مَدِينَةَ الْحَدِيثَةِ، وَنَقَلَ مَنْ كَانَ بِهَا مِنْ آلِ مِهْرَاشَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَرَتَّبَ أَصْحَابَهُ فِيهَا. وَفِيهَا خُطِبَ لِزَنْكِي أَيْضًا بِمَدِينَةِ آمِدَ، وَصَارَ صَاحِبُهَا فِي طَاعَتِهِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِدَاوُدَ عَلَى قِتَالِ زَنْكِي، فَلَمَّا رَأَى قُوَّةَ زَنْكِي صَارَ مَعَهُ. وَفِيهَا عُزِلَ مُجَاهِدُ الدِّينِ بَهْرُوزَ عَنْ شِحْنَكِيَّةِ بَغْدَادَ، وَوَلِيَهَا قَزَلُ أَمِيرٌ آخَرَ، وَهُوَ مِنْ مَمَالِيكِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَكَانَ لَهُ بُرُوجِرْدُ وَالْبَصْرَةُ، فَأُضِيفَ إِلَيْهِ شِحْنَكِيَّةُ بَغْدَادَ، ثُمَّ وَصَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ إِلَى بَغْدَادَ، فَرَأَى مِنْ تَبَسُّطِ الْعَيَّارِينَ وَفَسَادِهِمْ مَا سَاءَهُ، فَأَعَادَ بَهْرُوزَ إِلَى الشِّحْنَكِيَّةِ، فَتَابَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَنْتَفِعِ النَّاسُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْوَزِيرِ وَأَخَا امْرَأَةِ السُّلْطَانِ كَانَا يُقَاسِمَانِ الْعَيَّارِينَ، فَلَمْ يَقْدِرْ بَهْرُوزُ عَلَى مَنْعِهِمْ.

وَفِيهَا تَوَلَّى عَبْدُ الرَّحْمَنِ طَغَايَرْكُ حَجَبَةَ السُّلْطَانِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْمَمْلَكَةِ، وَعَزَلَ الْأَمِيرَ تَتَرَ الطُّغْرُلِيَّ عَنْهَا، وَآلَ أَمْرُهُ إِلَى أَنْ يَمْشِيَ فِي رِكَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ السُّهَاوِيُّ مُقَدَّمُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَأَحْرَقَهُ وَلَدُ عَبَّاسٍ صَاحِبِ الرَّيِّ فِي تَابُوتِهِ. وَفِيهَا حَجَّ كَمَالُ الدَّيْنِ بْنُ طَلْحَةَ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ، وَعَادَ وَقَدْ لَبِسَ ثِيَابَ الصُّوفِيَّةِ، وَتَخَلَّى عَنْ جَمِيعِ مَا كَانَ فِيهِ، وَأَقَامَ فِي دَارِهِ مَرْعِيَّ الْجَانِبِ مَحْرُوسَ الْقَاعِدَةِ. وَفِيهَا وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَادَ وَكَانَ الْوَزِيرُ الزَّيْنَبِيُّ بِدَارِ السُّلْطَانِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَسَأَلَ السُّلْطَانَ أَنْ يُشَفَّعَ فِيهِ لِيَرُدَّهُ الْخَلِيفَةُ إِلَى دَارِهِ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ وَزِيرَهُ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ وَمَعَهُ الْوَزِيرُ شَرَفُ الدِّينِ الزَّيْنَبِيُّ، وَشَفَعَ فِي أَنْ يَعُودَ إِلَى دَارِهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَأُعِيدَ أَخُوهُ إِلَى نِقَابَةِ النُّقَبَاءِ، فَلَزِمَ الْوَزِيرُ دَارَهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا إِلَّا إِلَى الْجَامِعِ. وَفِيهَا أَغَارَ عَسْكَرُ أَتَابَكْ زَنْكِي مِنْ حَلَبَ عَلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ، فَنَهَبُوا وَأَحْرَقُوا، وَظَفِرُوا بِسَرِيَّةِ الْفِرِنْجِ، فَقَتَلُوا فِيهِمْ وَأَكْثَرُوا، فَكَانَ عِدَّةُ الْقَتْلَى سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ. وَفِيهَا أَفْسَدَ بَنُو خَفَاجَةَ بِالْعِرَاقِ، فَسَيَّرَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ سَرِيَّةً إِلَيْهِمْ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَنَهَبُوا حُلَّتَهُمْ، وَقَتَلُوا مَنْ ظَفِرُوا بِهِ مِنْهُمْ وَعَادُوا سَالِمِينَ. وَفِيهَا سَيَّرَ رَجَارُ الْفِرِنْجِيُّ صَاحِبُ صِقِلِّيَةَ أُسْطُولًا إِلَى أَطْرَافِ إِفْرِيقِيَّةِ، فَأَخَذُوا مَرَاكِبَ سُيِّرَتْ مِنْ مِصْرَ إِلَى الْحَسَنِ صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَغَدَرَ بِالْحَسَنِ، ثُمَّ رَاسَلَهُ

الْحَسَنُ وَجَدَّدَ الْهُدْنَةَ لِأَجْلِ حَمْلِ الْغَلَّاتِ مِنْ صِقِلِّيَةَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْغَلَاءَ كَانَ فِيهَا شَدِيدًا، وَالْمَوْتُ كَثِيرًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْحَنْبَلِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، وَكَانَ عَالِمًا صَالِحًا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ ضِيَاءُ الدِّينِ أَبُو سَعِيدِ بْنِ الْكَفَرْتُوثِيِّ وَزِيرُ أَتَابَكْ زَنْكِي، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ فِي وِزَارَتِهِ، كَرِيمًا رَئِيسًا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ طَاوُسٍ إِمَامُ الْجَامِعِ بِدِمَشْقَ فِي الْحَرَمِ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا فَاضِلًا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي الْأَشْعَثِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، وُلِدَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ مُكْثِرًا مِنَ الْحَدِيثِ.

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] (537) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ أَتَابَكْ زَنْكِي قَلْعَةَ آشِبَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْهَكَّارِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ أَتَابَكْ زَنْكِي جَيْشًا إِلَى قَلْعَةِ آشِبَ، وَكَانَتْ أَعْظَمَ حُصُونِ الْأَكْرَادِ الْهَكَّارِيَّةِ وَأَمْنَعَهَا، وَبِهَا أَمْوَالُهُمْ وَأَهْلُهُمْ، فَحَصَرُوهَا وَضَيَّقُوا عَلَى مَنْ بِهَا فَمَلَكُوهَا، فَأَمَرَ بِإِخْرَابِهَا وَبِنَاءِ الْقَلْعَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْعِمَادِيَّةِ عِوَضًا عَنْهَا، وَكَانَتْ هَذِهِ الْعِمَادِيَّةُ حِصْنًا عَظِيمًا مِنْ حُصُونِهِمْ، فَخَرَّبُوهُ لِكِبَرِهِ لِأَنَّهُ كَبِيرٌ جِدًّا، وَكَانُوا يَعْجِزُونَ عَنْ حِفْظِهِ، فَخُرِّبَتِ الْآنَ آشِبَ، وَعُمِّرَتِ الْعِمَادِيَّةُ، وَإِنَّمَا سَمِّيَتِ الْعِمَادِيَّةَ نِسْبَةً إِلَى لَقَبِهِ، وَكَانَ نَصِيرُ الدِّينِ جَقَرُ نَائِبُهُ بِالْمَوْصِلِ قَدْ فَتَحَ أَكْثَرَ الْقِلَاعِ الْجَبَلِيَّةِ. ذِكْرُ حَصْرِ الْفِرِنْجِ طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَتْ مَرَاكِبُ الْفِرِنْجِ مِنْ صِقِلِّيَةَ إِلَى طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ فَحَصَرُوهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَهَا فِي أَيَّامِ الْأَمِيرِ الْحَسَنِ صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، لَمْ يُدْخِلُوا يَدًا فِي طَاعَتِهِ، وَلَمْ يَزَالُوا مُخَالِفِينَ مُشَاقِّينَ لَهُ، قَدْ قَدَّمُوا عَلَيْهِمْ مِنْ بَنِي مَطْرُوحٍ مَشَايِخَ يُدَبِّرُونَ أَمْرَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ مَلِكُ صِقِلِّيَةَ كَذَلِكَ جَهَّزَ إِلَيْهِمْ فِي الْبَحْرِ، فَوَصَلُوا إِلَيْهِمْ تَاسِعَ ذِي الْحِجَّةِ، فَنَازَلُوا الْبَلَدَ وَقَاتَلُوهُ، وَعَلَّقُوا الْكَلَالِيبَ فِي سُورِهِ، وَنَقَبُوهُ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ وَصَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ نَجْدَةً لِأَهْلِ الْبَلَدِ، فَقَوِيَ أَهْلُ طَرَابُلُسَ

بِهِمْ، فَخَرَجُوا إِلَى الْأُسْطُولِيَّةِ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةً مُنْكِرَةً، فَانْهَزَمُوا هَزِيمَةً فَاحِشَةً، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَلَحِقَ الْبَاقُونَ بِالْأُسْطُولِ وَتَرَكُوا الْأَسْلِحَةَ وَالْأَثْقَالَ وَالدَّوَابَّ، فَنَهَبَهَا الْعَرَبُ وَأَهْلُ الْبَلَدِ. وَرَجَعَ الْفِرِنْجُ إِلَى صِقِلِّيَةَ، فَجَدَّدُوا أَسْلِحَتَهُمْ، وَعَادُوا إِلَى الْمَغْرِبِ، فَوَصَلُوا إِلَى جَيْجَلَ، فَلَمَّا رَآهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ هَرَبُوا مِنْهُ إِلَى الْبَرَارِي وَالْجِبَالِ، فَدَخَلَهَا الْفِرِنْجُ وَسَبَوْا مَنْ أَدْرَكُوا فِيهَا، وَهَدَمُوهَا وَأَحْرَقُوا الْقَصْرَ الَّذِي بَنَاهُ يَحْيَى بْنُ الْعَزِيزِ بْنِ حَمَّادٍ لِلنُّزْهَةِ، ثُمَّ عَادُوا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ حَسَنٌ أَمِيرُ الْأُمَرَاءِ عَلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ بِخُرَاسَانَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ دَانِشْمَنْدَ صَاحِبُ مَلَطْيَةَ وَالثَّغْرِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِهِ الْمَلِكُ مَسْعُودُ بْنُ قِلِجَ أَرْسِلَانْ صَاحِبُ قُونِيَّةَ، وَهُوَ مِنَ السَّلْجُوقِيَّةِ. وَفِيهَا خَرَجَ مِنَ الرُّومِ عَسْكَرٌ كَثِيرٌ إِلَى الشَّامِ، فَحَصَرُوا الْفِرِنْجَ بِأَنْطَاكِيَّةَ، فَخَرَجَ صَاحِبُهَا وَاجْتَمَعَ بِمَلِكِ الرُّومِ، وَأَصْلَحَ حَالَهُ مَعَهُ، وَعَادَ إِلَى مَدِينَةِ أَنْطَاكِيَّةَ، وَمَاتَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ الرُّومِ بَعْدَ أَنْ صَالَحَ صَاحِبَ أَنْطَاكِيَّةَ سَارَ إِلَى طَرَابُلُسَ، فَحَصَرَهَا ثُمَّ سَارَ عَنْهَا. وَفِيهَا قَبَضَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ عَلَى الْأَمِيرِ تُرْشُكَ وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْخَلِيفَةِ، وَمِمَّنْ رُبِّيَ عِنْدَهُ وَفِي دَارِهِ، فَسَاءَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ السُّلْطَانُ حِفْظًا لِقَلْبِ الْخَلِيفَةِ. وَفِيهَا كَانَ بِمِصْرَ وَبَاءٌ عَظِيمٌ، فَهَلَكَ فِيهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْبِلَادِ.

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] 538 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ صُلْحِ الشَّهِيدِ وَالسُّلْطَانِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ إِلَى بَغْدَادَ عَلَى عَادَتِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، وَتَجَهَّزَ لِقَصْدِ أَتَابَكْ زَنْكِي، وَكَانَ حَقَدَ عَلَيْهِ حِقْدًا شَدِيدًا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ الْخَارِجِينَ عَلَى السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ كَانُوا يَخْرُجُونَ عَلَيْهِ - عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ - فَكَانَ يَنْسِبُ ذَلِكَ إِلَى أَتَابَكْ زَنْكِي، وَيَقُولُ: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي سَعَى فِيهِ وَأَشَارَ بِهِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ كَانُوا يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ، فَكَانَ أَتَابَكْ زَنْكِي لَا شَكَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَخْلُوَ السُّلْطَانُ فَيَتَمَكَّنَ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ، فَلَمَّا تَفَرَّغَ السُّلْطَانُ هَذِهِ السَّنَةَ جَمَعَ الْعَسَاكِرَ لِيَسِيرَ إِلَى بِلَادِهِ، فَسَيَّرَ أَتَابَكْ يَسْتَعْطِفُهُ وَيَسْتَمِيلُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْأَنْبَارِيِّ فِي تَقْرِيرِ الْقَوَاعِدِ، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ يَحْمِلُهَا إِلَى السُّلْطَانِ لِيَعُودَ عَنْهُ، فَحَمَلَ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ أَكْثَرُهَا عُرُوضٌ، ثُمَّ تَنَقَّلَتِ الْأَحْوَالُ بِالسُّلْطَانِ إِلَى أَنِ احْتَاجَ إِلَى مُدَارَاةِ أَتَابَكْ، وَأَطْلَقَ لَهُ الْبَاقِيَ اسْتِمَالَةً لَهُ، وَحِفْظًا لِقَلْبِهِ، وَكَانَ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ فِي قُعُودِ السُّلْطَانِ عَنْهُ مَا يَعْمَلُهُ مِنْ حَصَانَةِ بِلَادِهِ وَكَثْرَةِ عَسَاكِرِهِ وَأَمْوَالِهِ. وَمِنْ جَيِّدِ الرَّأْيِ مَا فَعَلَهُ الشَّهِيدُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ وَلَدُهُ الْأَكْبَرُ سَيْفُ الدِّينِ غَازِي لَا يَزَالُ عِنْدَ السُّلْطَانِ سَفَرًا، وَحَضَرًا بِأَمْرِ وَالِدِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْآنَ يَأْمُرُهُ بِالْهَرَبِ مِنْ عِنْدِ السُّلْطَانِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَأَرْسَلَ إِلَى نَائِبِهِ بِهَا نَصِيرِ الدِّينِ جَقَرَ يَقُولَ لَهُ

لِيَمْنَعَهُ عَنِ الدُّخُولِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَهَرَبَ غَازِي. وَبَلَغَ الْخَبَرُ وَالِدَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ بِهِ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ رَسُولًا إِلَى السُّلْطَانِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ وَلَدِي هَرَبَ خَوْفًا مِنَ السُّلْطَانِ لَمَّا رَأَى تَغَيُّرَهُ عَلَيَّ، وَقَدْ أَعَدْتُهُ إِلَى الْخِدْمَةِ، وَلَمْ أَجْتَمِعْ بِهِ، فَإِنَّهُ مَمْلُوكُكَ، وَالْبِلَادُ لَكَ، فَحَلَّ ذَلِكَ مِنَ السُّلْطَانِ مَحَلًّا عَظِيمًا. ذِكْرُ مُلْكِ أَتَابَكْ بَعْضَ دِيَارِ بَكْرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ أَتَابَكْ زَنْكِي إِلَى دِيَارِ بَكْرٍ فَفَتَحَ مِنْهَا عِدَّةَ بِلَادٍ وَحُصُونٍ، فَمِنْ ذَلِكَ: مَدِينَةُ طَنْزَةُ، وَمَدِينَةُ أَسْعِرْدُ، وَمَدِينَةُ حِيزَانُ، وَحِصْنُ الرُّوقِ، وَحِصْنُ قِطْلِيسَ، وَحِصْنُ نَاتَاسَا، وَحِصْنُ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْ شُهْرَةَ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ، وَأَخَذَ أَيْضًا مِنْ بَلَدِ مَارِدِينَ مِمَّا هُوَ بِيَدِ الْفِرِنْجِ حِمْلِينَ، وَالْمُوَزَّرَ، وَتَلَّ مَوْزَنَ، وَغَيْرَهَا مِنْ حُصُونِ جُوسْلِينْ، وَرَتَّبَ أُمُورَ الْجَمِيعِ، وَجَعَلَ فِيهَا مِنَ الْأَجْنَادِ مَنْ يَحْفَظُهَا، وَقَصَدَ مَدِينَةَ آمِدَ، وَحَانِي فَحَصَرَهُمَا، وَأَقَامَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ مُصْلِحًا لِمَا فَتَحَهُ، وَمُحَاصِرًا لِمَا لَمْ يَفْتَحْهُ. ذِكْرُ أَمْرِ الْعَيَّارِينَ بِبَغْدَادَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ زَادَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ وَكَثُرُوا؛ لِأَمْنِهِمْ مِنَ الطَّلَبِ بِسَبَبِ ابْنِ الْوَزِيرِ

وَابْنِ قَارُوتَ أَخِي زَوْجَةِ السُّلْطَانِ ; لِأَنَّهُمَا كَانَ لَهُمَا نَصِيبٌ فِي الَّذِي يَأْخُذُهُ الْعَيَّارُونَ. وَكَانَ النَّائِبُ فِي شِحْنَكِيَّةِ بَغْدَادَ يَوْمَئِذٍ مَمْلُوكٌ اسْمُهُ إِيلْدِكْزُ، وَكَانَ صَارِمًا مِقْدَامًا ظَالِمًا، فَحَمَلَهُ الْإِقْدَامُ إِلَى أَنْ حَضَرَ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَقَالَ لَهُ السُّلْطَانُ: إِنَّ السِّيَاسَةَ قَاصِرَةٌ، وَالنَّاسُ قَدْ هَلَكُوا، فَقَالَ: يَا سُلْطَانَ الْعَالَمِ، إِذَا كَانَ عَقِيدُ الْعَيَّارِينَ وَلَدَ وَزِيرِكَ وَأَخَا امْرَأَتِكَ، فَأَيُّ قُدْرَةٍ لِي عَلَى الْمُفْسِدِينَ؟ وَشَرَحَ لَهُ الْحَالَ، فَقَالَ لَهُ: السَّاعَةَ تَخْرُجُ وَتَكْبِسُ عَلَيْهِمَا أَيْنَ كَانَا وَتَصْلُبُهُمَا، فَإِنْ فَعَلْتَ وَإِلَّا صَلَبْتُكَ، فَأَخَذَ خَاتَمَهُ، وَخَرَجَ فَكَبَسَ عَلَى ابْنِ الْوَزِيرِ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَأَخَذَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ، وَكَبَسَ عَلَى ابْنِ قَارُوتَ فَأَخْذَهُ وَصَلَبَهُ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ وَهَرَبَ ابْنُ الْوَزِيرِ، وَشَاعَ فِي النَّاسِ الْأَمْرُ، وِرُثِيَ ابْنُ قَارُوتَ مَصْلُوبًا، فَهَرَبَ أَكْثَرُ الْعَيَّارِينَ، وَقُبِضَ عَلَى مَنْ أَقَامَ، وَكَفَى النَّاسَ شَرَّهُمْ. ذِكْرُ حَصْرِ سَنْجَرَ خُوَارَزْمَ وَصُلْحِهِ مَعَ خُوَارَزْمَ شَاهْ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ [وَخَمْسِمَائَةٍ] مَسِيرَ سَنْجَرَ إِلَى خُوَارَزْمَ وَمُلْكِهِ لَهَا، وَعَوْدَ أُتْسِزَ خُوَارَزْمَ شَاهْ إِلَيْهَا وَأَخْذَهَا، وَمَا كَانَ مِنْهُ بِخُرَاسَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ إِلَى خُوَارَزْمَ، فَجَمَعَ خُوَارَزْمُ شَاهْ عَسَاكِرَهُ، وَتَحَصَّنَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا لِقِتَالٍ، لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَقْوَى لِسَنْجَرَ. وَكَانَ الْقِتَالُ يَجْرِي بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ وَرَاءِ السُّورِ، فَاتُّفِقَ [فِي] يَوْمٍ مِنْ بَعْضِ الْأَيَّامِ أَنْ هَجَمَ أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ سَنْجَرَ اسْمُهُ سُنْقُرُ عَلَى الْبَلَدِ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ وَدَخَلَهُ، وَدَخَلَ أَمِيرٌ آخَرُ اسْمُهُ مِثْقَالٌ التَّاجِيُّ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ مُلْكِهِ قَهْرًا وَعَنْوَةً، وَانْصَرَفَ مِثْقَالٌ عَنِ الْبَلَدِ حَسَدًا لِسُنْقُرَ، فَقَوِيَ عَلَيْهِ خُوَارَزْمُ شَاهْ أُتْسِزُ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْبَلَدِ، وَبَقِيَ سُنْقُرُ وَحْدَهُ، وَاشْتَدَّ فِي حِفْظِهِ، فَلَمَّا رَأَى السُّلْطَانُ قُوَّةَ الْبَلَدِ، وَامْتِنَاعَهُ عَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى مَرْوَ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ مِنْ غَيْرِ قَاعِدَةٍ تَسْتَقِرُّ بَيْنَهُمَا، فَاتُّفِقَ أَنْ

خُوَارَزْمَ شَاهْ أَرْسَلَ رُسُلًا يَبْذُلُ الْمَالَ وَالطَّاعَةَ وَالْخِدْمَةَ، وَيَعُودُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الِانْقِيَادِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَاصْطَلَحَا، وَعَادَ سَنْجَرُ إِلَى مَرْوَ، وَأَقَامَ خُوَارَزْمُ شَاهْ بِخُوَارَزْمَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ أَتَابَكُ زَنْكِي عَسْكَرًا إِلَى مَدِينَةِ عَانَةَ مِنْ أَعْمَالِ الْفُرَاتِ فَمَلَكُوهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ أَبُو الْبَرَكَاتِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ بْنِ أَحْمَدَ الْأَنْمَاطِيُّ، الْحَافِظُ بِبَغْدَادَ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْفُتُوحِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ الْوَاعِظُ، مِنْ أَهْلِ إِسْفَرَايِينَ مِنْ خُرَاسَانَ، وَأَقَامَ مُدَّةً بِبَغْدَادَ يَعِظُ، وَسَارَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَمَاتَ بِبِسْطَامَ، وَكَانَ إِمَامًا فَاضِلًا صَالِحًا، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ الْغَزْنَوِيِّ تَحَاسُدٌ، فَلَمَّا مَاتَ حَضَرَ الْغَزْنَوِيُّ عَزَاءَهُ بِبَغْدَادَ، وَبَكَى وَأَكْثَرَ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي الْفُتُوحِ الْغَزْنَوِيِّ كَلَامًا أَغْلَظَ لَهُ فِيهِ، فَلَمَّا قَامَ الْغَزْنَوِيُّ لَامَهُ بَعْضُ تَلَامِذَتِهِ عَلَى حُضُورِ الْعَزَاءِ وَكَثْرَةِ الْبُكَاءِ، وَقَالَ لَهُ: كُنْتَ مُهَاجِرًا لِهَذَا الرَّجُلِ، فَلَمَّا مَاتَ حَضَرْتَ عَزَاءَهُ، وَأَكْثَرْتَ

الْبُكَاءَ وَأَظْهَرْتَ الْحُزْنَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَبْكِي عَلَى نَفْسِي، كَانَ يُقَالُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَمَنْ يُعْدَمُ النَّظِيرَ أَيْقَنَ بِالرَّحِيلِ، وَأَنْشَدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: ذَهَبَ الْمُبَرِّدُ وَانْقَضَتْ أَيَّامُهُ ... وَسَيَنْقَضِي بَعْدَ الْمُبَرِّدِ ثَعْلَبُ بَيْتٌ مِنَ الْآدَابِ أَصْبَحَ نِصْفُهُ ... خَرِبًا وَبَاقٍ نِصْفُهُ فَسَيَخْرَبُ فَتَزَوَّدُوا مِنْ ثَعْلَبٍ فَبِمِثْلِ مَا ... شَرِبَ الْمُبَرِّدُ عَنْ قَلِيلٍ يَشْرَبُ أُوصِيكُمُ أَنْ تَكْتُبُوا أَنْفَاسَهُ ... إِنْ كَانَتِ الْأَنْفَاسُ مِمَّا يُكْتَبُ وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْوَزِيرُ شَرَفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيُّ، فِي رَمَضَانَ، مَعْزُولًا، وَدُفِنَ بِدَارِهِ بِبَابِ الْأَزَجِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الْحَرْبِيَّةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ النَّحْوِيُّ الْمُفَسِّرُ، وَزَمَخْشَرُ: إِحْدَى قُرَى خُوَارَزْمَ.

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] (539) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ فَتْحِ الرُّهَا وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ مِمَّا كَانَ بِيَدِ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَادِسَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَتَحَ أَتَابَكُ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بْنُ آقْسُنْقُرْ مَدِينَةَ الرُّهَا مِنَ الْفِرِنْجِ، وَفَتَحَ غَيْرَهَا مِنْ حُصُونِهِمْ بِالْجَزِيرَةِ أَيْضًا، وَكَانَ ضَرَرُهُمْ قَدْ عَمَّ بِلَادَ الْجَزِيرَةِ، وَشَرُّهُمْ قَدِ اسْتَطَارَ فِيهَا، وَوَصَلَتْ غَارَاتُهُمْ إِلَى أَدَانِيهَا وَأَقَاصِيهَا، وَبَلَغَتْ آمِدَ، وَنَصِيبِينَ وَرَأْسَ عَيْنٍ، وَالرَّقَّةَ. وَكَانَتْ مَمْلَكَتُهُمْ بِهَذِهِ الدِّيَارِ مِنْ قَرِيبِ مَارِدِينَ إِلَى الْفُرَاتِ مِثْلَ الرُّهَا، وَسَرُوجَ، وَالْبِيرَةِ، وَسِنِّ ابْنِ عُطَيْرٍ، وَحِمْلِينَ، وَالْمُوَزَّرِ، وَالْقَرَّادِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَعْمَالُ مَعَ غَيْرِهَا مِمَّا هُوَ غَرْبُ الْفُرَاتِ لِجُوسْلِينَ، وَكَانَ صَاحِبَ رَأْيِ الْفِرِنْجِ وَالْمُقَدَّمَ عَلَى عَسَاكِرِهِمْ، لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالْمَكْرِ. وَكَانَ أَتَابَكُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَتَى قَصَدَ حَصْرَهَا اجْتَمَعَ فِيهَا مِنَ الْفِرِنْجِ مَنْ يَمْنَعُهَا، فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مُلْكُهَا لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَصَانَةِ، فَاشْتَغَلَ بِدِيَارِ بَكْرٍ لِيُوهِمَ الْفِرِنْجَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَفَرِّغٍ لِقَصْدِ بِلَادِهِمْ. فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى تَرْكِ الْمُلُوكِ الْأَرْتَقِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ مُلُوكِ دِيَارِ بَكْرٍ، حَيْثُ إِنَّهُ مُحَارِبٌ لَهُمْ، اطْمَأَنُّوا، وَفَارَقَ جُوسْلِينُ الرُّهَا وَعَبَرَ الْفُرَاتَ إِلَى بِلَادِ الْغَرْبِيَّةِ، فَجَاءَتْ عُيُونُ أَتَابَكَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَتْهُ فَنَادَى فِي الْعَسْكَرِ بِالرَّحِيلِ، وَأَنْ لَا يَتَخَلَّفَ عَنِ الرُّهَا أَحَدٌ مِنْ غَدِ يَوْمِهِ، وَجَمَعَ الْأُمَرَاءَ عِنْدَهُ، وَقَالَ: قَدِّمُوا الطَّعَامَ ; وَقَالَ: لَا يَأْكُلُ مَعِي عَلَى مَائِدَتِي هَذِهِ إِلَّا مَنْ يَطْعَنُ غَدًا مَعِي عَلَى بَابِ

الرُّهَا، فَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَيْهِ غَيْرُ (أَمِيرٍ) وَاحِدٍ وَصَبِيٍّ لَا يُعْرَفُ، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ إِقْدَامِهِ وَشَجَاعَتِهِ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُسَاوَاتِهِ فِي الْحَرْبِ. فَقَالَ الْأَمِيرُ لِذَلِكَ الصَّبِيِّ: مَا أَنْتَ فِي هَذَا الْمَقَامِ؟ فَقَالَ أَتَابَكُ: دَعْهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي أَرَى وَجْهًا لَا يَتَخَلَّفُ عَنِّي. وَسَارَ وَالْعَسَاكِرُ مَعَهُ، وَوَصَلَ إِلَى الرُّهَا، وَكَانَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ حَمَلَ عَلَى الْفِرِنْجِ وَمَعَهُ ذَلِكَ الصَّبِيُّ، وَحَمَلَ فَارِسٌ مِنْ خَيَّالَةِ الْفِرِنْجِ عَلَى أَتَابَكَ عَرْضًا، فَاعْتَرَضَهُ ذَلِكَ الْأَمِيرُ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ، وَسَلِمَ الشَّهِيدُ، وَنَازَلَ الْبَلَدَ، وَقَاتَلَهُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَزَحَفَ إِلَيْهِ عِدَّةَ دَفَعَاتِ، وَقَدَّمَ النَّقَّابِينَ فَنَقَبُوا سُورَ الْبَلَدِ، وَلَجَّ فِي قِتَالِهِ خَوْفًا مِنِ اجْتِمَاعِ الْفِرِنْجِ وَالْمَسِيرِ إِلَيْهِ وَاسْتِنْقَاذِ الْبَلَدِ مِنْهُ، فَسَقَطَتِ الْبَدَنَةُ الَّتِي نَقَبَهَا النَّقَّابُونَ، [وَأَخَذَ] الْبَلَدَ عَنْوَةً وَقَهْرًا، وَحَصَرَ قَلْعَتَهُ فَمَلَكَهَا أَيْضًا، وَنَهَبَ النَّاسُ الْأَمْوَالَ وَسَبَوُا الذُّرِّيَّةَ وَقَتَلُوا الرِّجَالَ. فَلَمَّا رَأَى أَتَابَكُ الْبَلَدَ أَعْجَبَهُ، وَرَأَى أَنَّ تَخْرِيبَ مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ فِي السِّيَاسَةِ، فَأَمَرَ فَنُودِيَ فِي الْعَسَاكِرِ بِرَدِّ مَنْ أَخَذُوهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ إِلَى بُيُوتِهِمْ، وَإِعَادَةِ مَا غَنِمُوهُ مِنْ أَثَاثِهِمْ وَأَمْتِعَتِهِمْ، فَرَدُّوا الْجَمِيعَ عَنْ آخِرِهِ لَمْ يُفْقَدْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، إِلَّا الشَّاذَّ النَّادِرَ الَّذِي أُخِذَ، وَفَارَقَ (مَنْ أَخَذَهُ) الْعَسْكَرَ، فَعَادَ الْبَلَدُ إِلَى حَالَهِ الْأَوَّلِ، وَجَعَلَ فِيهِ عَسْكَرًا يَحْفَظُهُ، وَتَسَلَّمَ مَدِينَةَ سَرُوجَ وَسَائِرَ الْأَمَاكِنِ الَّتِي كَانَتْ بِيَدِ الْفِرِنْجِ شَرْقِيَّ الْفُرَاتِ، مَا عَدَا الْبِيرَةِ، فَإِنَّهَا حَصِينَةٌ مَنِيعَةٌ وَعَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَحَصَرَهَا، وَكَانُوا قَدْ أَكْثَرُوا مِيرَتَهَا وَرِجَالَهَا، فَبَقِيَ عَلَى حِصَارِهَا إِلَى أَنْ رَحَلَ عَنْهَا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ بِالْأَنْسَابِ وَالتَّوَارِيخِ قَالَ: كَانَ صَاحِبُ جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ قَدْ

أَرْسَلَ سَرِيَّةً فِي الْبَحْرِ إِلَى طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ وَتِلْكَ الْأَعْمَالِ، فَنَهَبُوا وَقَتَلُوا ; وَكَانَ بِصِقِلِّيَةَ إِنْسَانٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، وَكَانَ صَاحِبُ صِقِلِّيَةَ يُكْرِمُهُ وَيَحْتَرِمُهُ، وَيَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ، وَيُقَدِّمُهُ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْقُسُوسِ وَالرُّهْبَانِ ; وَكَانَ أَهْلُ وِلَايَتِهِ يَقُولُونَ إِنَّهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا السَّبَبِ. فَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ كَانَ جَالِسًا فِي مَنْظَرَةٍ لَهُ تُشْرِفُ عَلَى الْبَحْرِ، وَإِذْ قَدْ أَقْبَلَ مَرْكِبٌ لَطِيفٌ، وَأَخْبَرَهُ مَنْ فِيهِ أَنَّ عَسْكَرَهُ دَخَلُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ، وَغَنِمُوا وَقَتَلُوا وَظَفِرُوا ; وَكَانَ الْمُسْلِمُ إِلَى جَانِبِهِ وَقَدْ أَغْفَى، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: يَا فُلَانُ! أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: لَا! قَالَ: إِنَّهُمْ يُخْبِرُونَ بِكَذَا وَكَذَا. أَيْنَ كَانَ مُحَمَّدٌ عَنْ تِلْكَ الْبِلَادِ وَأَهْلِهَا؟ فَقَالَ لَهُ: كَانَ قَدْ غُلِبَ عَنْهُمْ، وَشَهِدَ فَتْحَ الرُّهَا، وَقَدْ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ الْآنَ ; فَضَحِكَ مِنْهُ مَنْ هُنَاكَ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَقَالَ الْمَلِكُ: لَا تَضْحِكُوا، فَوَاللَّهِ مَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ ; فَبَعْدَ أَيَّامٍ وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ مِنْ فِرِنْجِ الشَّامِ بِفَتْحِهَا. وَحَكَى لِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ أَنَّ إِنْسَانًا صَالِحًا رَأَى الشَّهِيدَ فِي مَنَامِهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي بِفَتْحِ الرُّهَا. ذِكْرُ قَتْلِ نَصِيرِ الدِّينِ جَقْرَ وَوِلَايَةِ زَيْنِ الدِّينِ عَلِيٍّ كُوجَكَ قَلْعَةَ الْمَوْصِلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْقِعْدَةِ، قُتِلَ نَصِيرُ الدِّينِ جَقْرُ نَائِبُ أَتَابَكَ زَنْكِي بِالْمَوْصِلِ وَالْأَعْمَالِ جَمِيعِهَا الَّتِي شَرْقَ الْفُرَاتِ. وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ الْمَلِكَ أَلْبَ أَرْسَلَانَ الْمَعْرُوفَ بِالْخَفَاجِيِّ، وَلَدَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، كَانَ عِنْدَ أَتَابَكَ الشَّهِيدِ، وَكَانَ يُظْهِرُ لِلْخُلَفَاءِ وَالسُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِ الْأَطْرَافِ أَنَّ هَذِهِ الْبِلَادَ لِهَذَا الْمَلِكِ، وَأَنَا نَائِبُهُ فِيهَا، وَكَانَ يَنْتَظِرُ وَفَاةَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ لِيُخْطَبَ لَهُ بِالسَّلْطَنَةِ، وَيَمَلِكَ الْبِلَادَ بِاسْمِهِ، وَكَانَ هَذَا الْمَلِكُ بِالْمَوْصِلِ، هَذِهِ السَّنَةَ، وَنَصِيرُ الدِّينِ يَقْصِدُهُ كُلَّ يَوْمٍ لِيَقُومَ بِخِدْمَةٍ إِنْ عَرَضَتْ لَهُ، فَحَسَّنَ لَهُ بَعْضُ الْمُفْسِدِينَ طَلَبَ الْمَلِكِ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ قَتَلْتَ نَصِيرَ الدِّينِ مَلَكْتَ الْمَوْصِلَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَلَا يَبْقَى مَعَ أَتَابَكَ زَنْكِي فَارِسٌ وَاحِدٌ. فَوَقَعَ هَذَا مِنْهُ مَوْقِعًا حَسَنًا وَظَنَّهُ صِدْقًا، فَلَمَّا دَخَلَ نَصِيرُ الدِّينِ إِلَيْهِ وَثَبَ عَلَيْهِ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَجْنَادِ أَتَابَكَ وَمَمَالِيكِهِ فَقَتَلُوهُ، وَأَلْقَوْا بِرَأْسِهِ إِلَى أَصْحَابِهِ

ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ أَصْحَابَهُ يَتَفَرَّقُونَ وَيَخْرُجُ الْمَلِكُ وَيَمْلِكُ الْبَلَدَ. وَكَانَ الْأَمْرُ خِلَافَ مَا ظَنُّوهُ، فَإِنَّ أَصْحَابَهُ وَأَصْحَابَ أَتَابَكَ الَّذِينَ فِي خِدْمَتِهِ لَمَّا رَأَوْا رَأْسَهُ قَاتَلُوا مَنْ بِالدَّارِ مَعَ الْمَلِكِ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُمُ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ، وَكَانَتْ دَوْلَةُ أَتَابَكَ مَمْلُوءَةً بِالرِّجَالِ وَالْأَجْلَادِ ذَوِي الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ، ثُمَّ دَخَلَ إِلَيْهِ الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ الشَّهْرَزُورِيِّ وَلَمْ يَزَلْ بِهِ يَخْدَعُهُ، وَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُ حِينَ رَآهُ مُنْزَعِجًا: يَا مَوْلَانَا، لِمَ تَحْرَدُ مِنْ هَذَا الْكَلْبِ؟ هَذَا وَأُسْتَاذُهُ مَمَالِيكُكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرَاحَنَا مِنْهُ وَمِنْ صَاحِبِهِ عَلَى يَدِكَ، وَمَا الَّذِي يُقْعِدُكَ فِي هَذِهِ الدَّارِ؟ قُمْ لِتَصْعَدَ الْقَلْعَةَ وَتَأْخُذَ الْأَمْوَالَ وَالسِّلَاحَ وَتَمْلِكَ الْبَلَدَ وَتَجْمَعَ الْجُنْدَ، وَلَيْسَ دُونَ الْبِلَادِ بَعْدَ الْمَوْصِلِ مَانِعٌ. فَقَامَ مَعَهُ وَرَكِبَ الْقَلْعَةَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا أَرَادَ مَنْ بِهَا مِنَ النَّقِيبِ وَالْأَجْنَادِ الْقِتَالَ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ تَاجُ الدِّينِ وَقَالَ لَهُمْ: افْتَحُوا الْبَابَ وَتَسَلَّمُوهُ، وَافْعَلُوا بِهِ مَا أَرَدْتُمْ. فَفَتَحُوا الْبَابَ وَدَخَلَ الْمَلِكُ وَالْقَاضِي إِلَيْهَا وَمَعَهُمَا مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَصِيرِ الدِّينِ، فَسُجِنُوا وَنَزَلَ الْقَاضِي. وَبَلَغَ الْخَبَرُ أَتَابَكَ زَنْكِي وَهُوَ يُحَاصِرُ قَلْعَةَ الْبِيرَةِ، وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى مُلْكِهَا، فَخَافَ أَنْ تَخْتَلِفَ الْبِلَادُ الشَّرْقِيَّةُ بَعْدَ قَتْلِ نَصِيرِ الدِّينِ، فَفَارَقَ الْبِيرَةِ وَأَرْسَلَ زَيْنَ الدِّينِ عَلِيَّ بْنَ بُكْتِكِينَ إِلَى قَلْعَةِ الْمَوْصِلِ وَالِيًا عَلَى مَا كَانَ نَصِيرُ الدِّينِ يَتَوَلَّاهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ عَلَى وَزِيرِهِ الْبَرُوجُرْدِيِّ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ الْمَرْزُبَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَسُلِّمَ إِلَيْهِ الْبَرُوجُرْدِيُّ، فَاسْتَخْرَجَ أَمْوَالَهُ، وَمَاتَ مَقْبُوضًا. وَفِيهَا كَانَ أَتَابَكُ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي يُحَاصِرُ الْبِيرَةَ، وَهِيَ لِلْفِرِنْجِ شَرْقِيَّ الْفُرَاتِ بَعْدَ مُلْكِ الرُّهَا، وَهِيَ مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ، وَضَيَّقَ عَلَيْهَا وَقَارَبَ أَنْ يَفْتَحَهَا، فَجَاءَهُ خَبَرُ قَتْلِ نَصِيرِ الدِّينِ نَائِبِهِ بِالْمَوْصِلِ، فَرَحَلَ عَنْهَا، وَأَرْسَلَ نَائِبًا إِلَى الْمَوْصِلِ، وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ

الْخَبَرَ، فَخَافَ مَنْ بِالْبِيرَةِ مِنَ الْفِرِنْجِ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِمْ، وَكَانُوا يَخَافُونَهُ خَوْفًا شَدِيدًا، فَأَرْسَلُوا إِلَى نَجْمِ الدِّينِ صَاحِبِ مَارِدِينَ وَسَلَّمُوهَا لَهُ، فَمَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ. وَفِيهَا خَرَجَ أُسْطُولُ الْفِرِنْجِ مِنْ صِقِلِّيَةَ إِلَى سَاحِلِ إِفْرِيقِيَّةَ وَالْغَرْبِ، فَفَتَحُوا مَدِينَةَ بَرْشَكَ، وَقَتَلُوا أَهْلَهَا، وَسَبَوْا حَرِيمَهُمْ وَبَاعُوهُ بِصِقِلِّيَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ تَاشْفِينَ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ صَاحِبُ الْغَرْبِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعِ سِنِينَ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ أَخُوهُ، وَضَعُفَ أَمْرُ الْمُلَثَّمِينَ، وَقَوِيَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ ظَهَرَ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ لَهُ ذَنَبٌ مِنْ جَانِبِ الْمَشْرِقِ، وَبَقِيَ إِلَى نِصْفِ ذِي الْقِعْدَةِ، ثُمَّ غَابَ، ثُمَّ طَلَعَ مِنْ جَانِبِ الْغَرْبِ، فَقِيلَ: هُوَ هُوَ، وَقِيلَ بَلْ غَيْرُهُ. وَفِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْأَمِيرِ هَاشِمِ بْنِ فُلَيْتَةَ بْنِ الْقَاسِمِ الْعَلَوِيِّ الْحُسَيْنِيِّ، أَمِيرِ مَكَّةَ، وَالْأَمِيرِ نَظَرِ الْخَادِمِ أَمِيرِ الْحَاجِّ، فَنَهَبَ أَصْحَابَ هَاشِمٍ الْحُجَّاجَ وَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ يَطُوفُونَ وَيُصَلُّونَ، وَلَمْ يَرْقُبُوا فِيهِمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

حَمْدُوَيْهِ أَبُو الْمَعَالِي الْمَرْوَزِيُّ بِمَرْوَ، وَسَافَرَ الْكَثِيرَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَبَنَى بِمَرْوَ رِبَاطًا، وَوَقَفَ فِيهِ كُتُبًا كَثِيرَةً، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْعِبَادَةِ. وَتُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَيْرُونَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمُقْرِي، وَمَوْلِدُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى عَنِ الْجَوْهَرِيِّ بِالْإِجَازَةِ، وَتُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَبُو مَنْصُورٍ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرَّزَّازِ، مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَتَفَقَّهَ عَلَى الْغَزَالِيِّ وَالشَّامِيِّ، وَدُفِنَ فِي تُرْبَةِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ.

ثم دخلت سنة أربعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] (540) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ اتِّفَاقِ بُوزَابَةَ وَعَبَّاسٍ عَلَى مُنَازَعَةِ السُّلْطَانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ بُوزَابَةُ صَاحِبُ فَارِسَ وَخُوزِسْتَانَ، وَعَسَاكِرُهُ إِلَى قَاشَانَ، وَمَعَهُ الْمَلِكُ مُحَمَّدٌ [ابْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَاتَّصَلَ بِهِمُ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ شَاهْ] ابْنُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَاجْتَمَعَ بُوزَابَةُ وَالْأَمِيرُ عَبَّاسٌ صَاحِبُ الرَّيِّ، وَاتَّفَقَا عَلَى الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، وَمَلَكَا كَثِيرًا مِنْ بِلَادِهِ. وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَيْهِ وَهُوَ بِبَغْدَادَ وَمَعَهُ الْأَمِيرُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ طَغَايُرْكُ، وَهُوَ أَمِيرُ حَاجِبٍ، حَاكِمٌ فِي الدَّوْلَةِ، وَكَانَ مَيْلُهُ إِلَيْهِمَا، فَسَارَ السُّلْطَانُ فِي رَمَضَانَ عَنْ بَغْدَادَ، وَنَزَلَ بِهَا الْأَمِيرُ مُهَلْهِلٌ، وَنَظَرٌ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ غِلْمَانِ بَهْرُوزَ ; وَسَارَ السُّلْطَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مَعَهُ، فَتَقَارَبَ الْعَسْكَرَانِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمَصَافُّ، فَلَحِقَ سُلَيْمَانُ شَاهْ بِأَخِيهِ مَسْعُودٍ، وَشَرَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي تَقْرِيرِ الصُّلْحِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي أَرَادُوهَا، وَأُضِيفَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِلَايَةُ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانِيَّةَ إِلَى مَا بِيَدِهِ، وَصَارَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ دَارَسْتَ وَزِيرَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ وَزِيرُ بُوزَابَةَ، فَصَارَ السُّلْطَانُ مَعَهُمْ تَحْتَ الْحَجْرِ، وَأَبْعَدُوا بِكْ أَرْسَلَانَ بْنَ بَلَنْكَرِي الْمَعْرُوفَ بِخَاصٍّ بِكْ، وَهُوَ مُلَازِمُ السُّلْطَانِ وَتَرْبِيَتُهُ، وَصَارَ فِي خِدْمَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِيَحْقِنَ دَمَهُ، وَصَارَ الْجَمَاعَةُ فِي خِدْمَةِ السُّلْطَانِ صُورَةً لَا مَعْنَى تَحْتَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ عَلِيِّ بْنِ دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ عَلَى الْحِلَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ عَلَيُّ بْنُ دُبَيْسٍ إِلَى الْحِلَّةِ هَارِبًا، فَمَلَكَهَا ; وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ لَمَّا أَرَادَ الرَّحِيلَ مِنْ بَغْدَادَ أَشَارَ عَلَيْهِ مُهَلْهِلٌ أَنْ يَحْبِسَ عَلِيَّ بْنَ دُبَيْسٍ بِقَلْعَةِ

تَكْرِيتَ، فَعَلِمَ ذَلِكَ، فَهَرَبَ فِي جَمَاعَةٍ يَسِيرَةٍ نَحْوِ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَمَضَى إِلَى الْأَزِيزِ، وَجَمَعَ بَنِي أَسَدٍ وَغَيْرَهُمْ، وَسَارَ إِلَى الْحِلَّةِ وَبِهَا أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ دُبَيْسٍ، فَقَاتَلَهُ، فَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ، وَمَلَكَ عَلِيٌّ الْحِلَّةَ. وَاسْتَهَانَ السُّلْطَانُ أَمْرَهُ أَوَّلًا، فَاسْتَحْفَلَ وَضَمَّ إِلَيْهِ جَمْعًا مِنْ غِلْمَانِهِ وَغِلْمَانِ أَبِيهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَعَسَاكِرِهِمْ، وَكَثُرَ جَمْعُهُمْ، فَسَارَ إِلَيْهِ مُهَلْهِلٌ فَيَمَنْ مَعَهُ فِي بَغْدَادَ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَضَرَبُوا مَعَهُ مَصَافًّا، فَكَسْرَهُمْ وَعَادُوا مُنْهَزِمِينَ إِلَى بَغْدَادَ. وَكَانَ أَهْلُهَا يَتَعَصَّبُونَ لِعَلِيِّ بْنِ دُبَيْسٍ، وَكَانُوا يَصِيحُونَ، إِذَا رَكِبَ مُهَلْهِلٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَا عَلِيُّ! كُلْهُ. وَكَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِحَيْثُ امْتَنَعَ مُهَلْهِلٌ مِنَ الرُّكُوبِ. وَمَدَّ عَلِيٌّ يَدَهُ فِي أَقْطَاعِ الْأُمَرَاءِ بِالْحِلَّةِ، وَتَصَرَّفَ فِيهَا، وَصَارَ شِحْنَةُ بَغْدَادَ وَمَنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ مِنْهُ، وَجَمَعَ الْخَلِيفَةُ جَمَاعَةً، وَجَعَلَهُمْ عَلَى السُّورِ لِحِفْظِهِ، وَرَاسَلَ عَلِيًّا، فَأَعَادَ الْجَوَابَ بِأَنَّنِي الْعَبْدُ الْمُطِيعُ، مَهْمَا رُسِمَ لِي فَعَلْتُ ; فَسَكَنَ النَّاسُ، وَوَصَلَتِ الْأَخْبَارُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا تَفَرَّقَ خُصُومُهُ عَنْهُ، فَازْدَادَ سُكُونُ النَّاسِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ قَايْمَازُ الْأُرْجُوَانِيُّ صَاحِبُ أَمِيرِ الْحَاجِّ نَظَرٍ وَاحْتَجَّ نَظَرٌ بِأَنَّ بَرْكَهُ نُهِبَ فِي كَسْرَةِ الْحِلَّةِ، وَأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمِيرِ مَكَّةَ مِنَ الْحُرُوبِ مَا لَا يُمْكِنُهُ مَعَهُ الْحَجُّ. وَفِيهَا اتَّصَلَ بِالْخَلِيفَةِ عَنْ أَخِيهِ أَبِي طَالِبٍ مَا كَرِهَهُ، فَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَاحْتَاطَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ. وَفِيهَا مَلَكَ الْفِرِنْجُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ مَدِينَةَ شَنْتَرِينَ، وَبَاجَةَ، وَمَارِدَةَ، وَأَشْبُونَةَ، وَسَائِرَ الْمَعَاقِلِ الْمُجَاوِرَةَ لَهَا مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ فَاخْتَلَفُوا، فَطَمِعَ

الْعَدُوُّ، وَأَخَذَ هَذِهِ الْمُدُنَ، وَقَوِيَ بِهَا قُوَّةً تَمَكَّنَ مَعَهَا، وَتَيَقَّنَ مُلْكَ سَائِرِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْأَنْدَلُسِ، فَخَيَّبَ اللَّهُ ظَنَّهُ، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ. وَفِيهَا سَارَ أُسْطُولُ الْفِرِنْجِ مِنْ صِقِلِّيَةَ، فَفَتَحُوا جَزِيرَةَ قَرْقَنَةَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ، فَقَتَلُوا رِجَالَهَا، وَسَبَوْا حَرِيمَهُمْ، فَأَرْسَلَ الْحَسَنُ صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ إِلَى رُجَّارَ مَلِكِ صِقِلِّيَةَ يُذَكِّرُهُ الْعُهُودَ الَّتِي بَيْنَهُمْ، فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُطِيعِينَ لَهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوفِّيَ مُجَاهِدُ الدِّينِ بَهْرُوزُ الْغِيَاثِيُّ، وَكَانَ حَاكِمًا بِالْعِرَاقِ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَيَرَنْقَشُ الزَّكَوِيُّ، صَاحِبُ أَصْفَهَانَ، وَكَانَ أَيْضًا شِحْنَةً بِالْعِرَاقِ، وَهُوَ خَادِمٌ أَرْمَنِيٌّ لِبَعْضِ التُّجَّارِ. وَتُوُفِّيَ الْأَمِيرُ إِيلْدِكْزُ شِحْنَةُ بَغْدَادَ. وَالشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ مَوْهُوبُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْخَضِرِ الْجَوَالِيقِيُّ اللُّغَوِيُّ، وَمَوْلِدُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَخَذَ اللُّغَةَ عَنْ أَبِي زَكَرِيَّاءَ التَّبْرِيزِيِّ، وَكَانَ يَؤُمُّ بِالْمُقْتَفِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَتُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَرَوَى الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ عَلَى سِيرَةِ السَّلَفِ، كَثِيرَ الِاتِّبَاعِ لِلسُّنَّةِ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ.

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] (541) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الْفِرِنْجُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ ; وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ رُجَّارَ مَلِكَ صِقِلِّيَةَ جَهَّزَ أُسْطُولًا كَثِيرًا وَسَيَّرَهُ إِلَى طَرَابُلُسَ، فَأَحَاطُوا بِهَا بَرًّا وَبَحْرًا، ثَالِثَ الْمُحَرَّمِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُهَا وَأَنْشَبُوا الْقِتَالَ، فَدَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ سَمِعَ الْفِرِنْجُ بِالْمَدِينَةِ ضَجَّةً عَظِيمَةً، وَخَلَتِ الْأَسْوَارُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ طَرَابُلُسَ كَانُوا قَبْلَ وَصُولِ الْفِرِنْجِ بِأَيَّامٍ يَسِيرَةٍ قَدِ اخْتَلَفُوا، فَأَخْرَجَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَنِي مَطْرُوحٍ، وَقَدَّمُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنَ الْمُلَثَّمِينَ قَدِمَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَوَلَّوْهُ أَمْرَهُمْ، فَلَمَّا نَازَلَهُمُ الْفِرِنْجُ أَعَادَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى بَنِي مَطْرُوحٍ، فَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَخَلَتِ الْأَسْوَارُ، فَانْتَهَزَ الْفِرِنْجُ الْفُرْصَةَ وَنَصَبُوا السَّلَالِمَ، وَصَعِدُوا عَلَى السُّورِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ فَمَلَكَتِ الْفِرِنْجُ الْمَدِينَةَ عَنْوَةً بِالسَّيْفِ، فَسَفَكُوا دِمَاءَ أَهْلِهَا وَسَبَوْا نِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَهَرَبَ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْهَرَبِ، وَالْتَجَأَ إِلَى الْبَرْبَرِ وَالْعَرَبِ، فَنُودِيَ بِالْأَمَانِ فِي النَّاسِ كَافَّةً، فَرَجَعَ كُلُّ مَنْ فَرَّ مِنْهَا. وَأَقَامَ الْفِرِنْجُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ حَتَّى حَصَّنُوا أَسْوَارَهَا وَحَفَرُوا خَنْدَقَهَا، وَلَمَّا عَادُوا أَخَذُوا رَهَائِنَ أَهْلِهَا وَمَعَهُمْ بَنُو مَطْرُوحٍ وَالْمُلَثَّمُ، ثُمَّ أَعَادُوا رَهَائِنَهُمْ، وَوَلَّوْا عَلَيْهَا رَجُلًا مِنْ بَنِي مَطْرُوحٍ، وَتَرَكُوا رَهَائِنَهُ وَحْدَهُ، وَاسْتَقَامَتْ أُمُورُ الْمَدِينَةِ، وَأُلْزِمَ أَهْلُ صِقِلِّيَةَ وَالرُّومُ بِالسَّفَرِ إِلَيْهَا، فَانْعَمَرَتْ سَرِيعًا وَحَسُنَ حَالُهَا.

ذِكْرُ حَصْرِ زَنْكِي حِصْنَيْ جَعْبَرَ وَفَنَكَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ أَتَابَكُ زَنْكِي إِلَى حِصْنِ جَعْبَرَ، وَهُوَ مُطِلٌّ عَلَى الْفُرَاتِ، وَكَانَ بِيَدِ سَالِمِ بْنِ مَالِكٍ الْعُقَيْلِيِّ سَلَّمَهُ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ إِلَى أَبِيهِ لَمَّا أَخَذَ مِنْهُ حَلَبَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، فَحَصَرَهُ وَسَيَّرَ جَيْشًا إِلَى قَلْعَةِ فَنَكَ، وَهِيَ تُجَاوِرُ جَزِيرَةَ ابْنِ عُمَرَ، بَيْنَهُمَا فَرْسَخَانِ، فَحَصَرَهُمَا أَيْضًا، وَصَاحِبُهَا حِينَئِذٍ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدَّيْنِ الْكُرْدِيُّ الْبَشْنَوِيُّ. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ فِي وَسَطِ بِلَادِهِ مَا هُوَ مُلْكُ غَيْرِهِ، حَزْمًا وَاحْتِيَاطًا، فَنَازَلَ قَلْعَةَ جَعْبَرَ وَحَصَرَهَا، وَقَاتَلَهُ مَنْ بِهَا، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِهَا، مَعَ الْأَمِيرِ حَسَّانٍ الْمَنْبِجِيِّ لِمَوَدَّةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا، فِي مَعْنَى تَسْلِيمِهِمَا، وَقَالَ لَهُ: تَضْمَنُ عَنِّي الْإِقْطَاعَ الْكَثِيرَ وَالْمَالَ الْجَزِيلَ، فَإِنْ أَجَابَ إِلَى التَّسْلِيمِ، وَإِلَّا فَقُلْ لَهُ: وَاللَّهِ لَأُقِيمَنَّ عَلَيْكَ إِلَى أَنْ أَمْلِكَهَا عَنْوَةً، ثُمَّ لَا أُبْقِي عَلَيْكَ، وَمَنِ الَّذِي يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَصَعِدَ إِلَيْهِ حَسَّانٌ، وَأَدَّى إِلَيْهِ الرِّسَالَةَ، وَوَعَدَهُ، وَبَذَلَ لَهُ مَا قِيلَ لَهُ، فَامْتَنَعَ مِنَ التَّسْلِيمِ، فَقَالَ لَهُ حَسَّانٌ: فَهُوَ يَقُولُ لَكَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقَالَ: يَمْنَعُنِي مِنْهُ الَّذِي مَنَعَكَ مِنَ الْأَمِيرِ بَلْكَ. فَعَادَ حَسَّانٌ وَأَخْبَرَ الشَّهِيدَ بِامْتِنَاعِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ هَذَا، فَقُتِلَ أَتَابَكُ بَعْدَ أَيَّامٍ. وَكَانَتْ قِصَّةُ حَسَّانٍ مَعَ بَلْكَ ابْنِ (أَخِي) إِيلْغَازِي أَنَّ حَسَّانًا كَانَ صَاحِبَ مَنْبِجَ، فَحَصَرَهُ بَلْكُ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ (يُقَاتِلُهُ، جَاءَهُ) سَهْمٌ لَا يُعْرَفُ مَنْ رَمَاهُ فَقَتَلَهُ، وَخَلُصَ حَسَّانٌ مِنَ الْحَصْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ الِاتِّفَاقِ الْحَسَنِ. وَلَمَّا قُتِلَ أَتَابَكُ زَنْكِي حَلَّ الْعَسْكَرُ الَّذِينَ كَانُوا يُحَاصِرُونَ قَلْعَةَ فَنَكَ عَنْهَا، وَهِيَ بَيْدِ أَعْقَابِ صَاحِبِهَا إِلَى الْآنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَذْكُرُونَ أَنَّ لَهُمْ بِهَا نَحْوَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَلَهُمْ

مَقْصِدٌ، وَفِيهِمْ وَفَاءٌ وَعَصَبِيَّةٌ، يَأْخُذُونَ بِيَدِ كُلِّ مَنْ يَلْتَجِئُ إِلَيْهِمْ وَيَقْصِدُهُمْ، وَلَا يُسَلِّمُونَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ. ذِكْرُ قَتْلِ أَتَابَكَ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي وَشَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، قُتِلَ أَتَابَكُ الشَّهِيدُ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بْنُ آقْسُنْقُرْ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ وَالشَّامِ، وَهُوَ يُحَاصِرُ قَلْعَةَ جَعْبَرَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، قَتَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ مَمَالِيكِهِ لَيْلًا غِيلَةً، وَهَرَبُوا إِلَى قَلْعَةِ جَعْبَرَ، فَصَاحَ مَنْ بِهَا إِلَى الْعَسْكَرِ يُعْلِمُونَهُمْ بِقَتْلِهِ، وَأَظْهَرُوا الْفَرَحَ، فَدَخَلَ أَصْحَابُهُ، فَأَدْرَكُوهُ وَبِهِ رَمَقٌ. حَدَّثَنِي وَالِدِي عَنْ بَعْضِ خَوَاصِّهِ، قَالَ: دَخَلْتُ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ وَهُوَ حَيٌّ، فَحِينَ رَآنِي ظَنَّ أَنِّي أُرِيدُ قَتْلَهُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَسْتَعْطِفُنِي، فَوَقَعْتُ مِنْ هَيْبَتِهِ، فَقُلْتُ: يَا مَوْلَايَ مَنْ فَعَلَ بِكَ هَذَا؟ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ، وَفَاضَتْ نَفْسُهُ لِوَقْتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ: وَكَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ، أَسْمَرَ اللَّوْنِ، مَلِيحَ الْعَيْنَيْنِ، قَدْ وَخَطَهُ الشَّيْبُ، وَكَانَ قَدْ زَادَ عُمْرُهُ عَلَى سِتِّينَ سَنَةً ; لِأَنَّهُ كَانَ لَمَّا قُتِلَ وَالِدُهُ صَغِيرًا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، وَلَمَّا قُتِلَ دُفِنَ بِالرَّقَّةِ. وَكَانَ شَدِيدَ الْهَيْبَةِ عَلَى عَسْكَرِهِ وَرَعِيَّتِهِ، عَظِيمَ السِّيَاسَةِ، لَا يَقْدِرُ الْقَوِيُّ عَلَى ظُلْمِ الضَّعِيفِ، وَكَانَتِ الْبِلَادُ، قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا خَرَابًا مِنَ الظُّلْمِ، وَتَنَقُّلِ الْوُلَاةِ، وَمُجَاوَرَةِ الْفِرِنْجِ، فَعَمَّرَهَا، وَامْتَلَأَتْ أَهْلًا وَسُكَّانًا. حَكَى لِي وَالِدِي قَالَ: رَأَيْتُ الْمَوْصِلَ وَأَكْثَرُهَا خَرَابٌ، بِحَيْثُ يَقِفُ الْإِنْسَانُ قُرَيْبَ مَحَلَّةِ الطَّبَّالِبِينَ وَيَرَى الْجَامِعَ الْعَتِيقَ، وَالْعَرَصَةَ، وَدَارَ السُّلْطَانِ، لَيْسَ بَيْنَ ذَلِكَ عِمَارَةٌ ; وَكَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ إِلَى الْجَامِعِ الْعَتِيقِ إِلَّا وَمَعَهُ مَنْ يَحْمِيهِ، لِبُعْدِهِ عَنْ

الْعِمَارَةِ، وَهُوَ الْآنَ فِي وَسَطِ الْعِمَارَةِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْبِقَاعِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا أَرْضٌ بِرَاحٌ، وَحَدَّثَنِي أَيْضًا أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى الْجَزِيرَةِ فِي الشِّتَاءِ، فَدَخَلَ الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ الدُّبَيْسِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَائِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ أَقْطَاعِهِ مَدِينَةَ دَقُوقَا، وَنَزَلَ فِي دَارِ إِنْسَانٍ يَهُودِيٍّ، فَاسْتَغَاثَ الْيَهُودِيُّ إِلَى أَتَابَكَ، وَأَنْهَى حَالَهُ إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَى الدُّبَيْسِيِّ فَتَأَخَّرَ، وَدَخَلَ الْبَلَدَ وَأَخْرَجَ بَرْكَهُ وَخِيَامَهُ. قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ غِلْمَانَهُ يَنْصِبُونَ خِيَامَهُ فِي الْوَحْلِ، وَقَدْ جَعَلُوا عَلَى الْأَرْضِ تِبْنًا يَقِيهِمُ الطِّينَ، وَخَرَجَ فَنَزَلَهَا، وَكَانَتْ سِيَاسَتُهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ. وَكَانَتِ الْمَوْصِلُ مِنْ أَقَلِ بِلَادِ اللَّهِ فَاكِهَةً، فَصَارَتْ فِي أَيَّامِهِ، وَمَا بَعْدَهَا، مَنْ أَكْثَرِ الْبِلَادِ فَوَاكِهَ وَرَيَاحِينَ وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَكَانَ أَيْضًا شَدِيدَ الْغَيْرَةِ وَلَا سِيَّمَا عَلَى نِسَاءِ الْأَجْنَادِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنْ لَمْ نَحْفَظْ نِسَاءَ الْأَجْنَادِ بِالْهَيْبَةِ، وَإِلَّا فَسَدْنَ لِكَثْرَةِ غَيْبَةِ أَزْوَاجِهِنَّ فِي الْأَسْفَارِ. وَكَانَ أَشْجَعَ خَلْقِ اللَّهِ، أَمَّا قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَ فَيَكْفِيهِ أَنَّهُ حَضَرَ مَعَ الْأَمِيرِ مَوْدُودٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ مَدِينَةَ طَبَرِيَّةَ، وَهِيَ لِلْفِرِنْجِ، فَوَصَلَتْ طَعْنَتُهُ بَابَ الْبَلَدِ وَأَثَّرَ فِيهِ، وَحَمَلَ أَيْضًا عَلَى قَلْعَةِ عُقَرَ الْحُمَيْدِيَّةِ، وَهِيَ عَلَى جَبَلٍ عَالٍ، فَوَصَلَتْ طَعْنَتُهُ إِلَى سُورِهَا، إِلَى أَشْيَاءَ أُخَرَ. وَأَمَّا بَعْدَ الْمُلْكِ فَقَدْ كَانَ الْأَعْدَاءُ مُحْدِقِينَ بِبِلَادِهِ، وَكُلُّهُمْ يَقْصِدُهَا، وَيُرِيدُ أَخْذَهَا، وَهُوَ لَا يَقْنَعُ بِحِفْظِهَا، حَتَّى إِنَّهُ لَا يَنْقَضِي عَلَيْهِ عَامٌ إِلَّا وَيَفْتَحُ مِنْ بِلَادِهِمْ. فَقَدْ كَانَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ مُجَاوِرَهُ فِي نَاحِيَةِ تَكْرِيتَ، وَقَصَدَ الْمَوْصِلَ وَحَصَرَهَا، ثُمَّ إِلَى جَانِبِهِ، مِنْ نَاحِيَةِ شَهْرَزُورَ وَتِلْكَ النَّاحِيَةِ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ ; ثُمَّ ابْنُ سُقْمَانَ صَاحِبُ خِلَاطَ ; ثُمَّ دَاوُدُ بْنُ سُقْمَانَ صَاحِبُ حِصْنِ كِيفَا ; ثُمَّ صَاحِبُ آمِدَ وَمَارِدِينَ ; ثُمَّ الْفِرِنْجُ مِنْ مُجَاوَرَةِ مَارِدِينَ إِلَى دِمَشْقَ ; ثُمَّ أَصْحَابُ دِمَشْقَ، فَهَذِهِ الْوِلَايَاتُ قَدْ أَحَاطَتْ بِوِلَايَتِهِ مِنْ كُلِّ جِهَاتِهَا، فَهُوَ يَقْصِدُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً، وَيَأْخُذُ مِنْ هَذَا وَيُصَانِعُ هَذَا، إِلَى أَنْ مَلَكَ مِنْ كُلِّ مَنْ يَلِيَهُ طَرَفًا مِنْ بِلَادِهِ، وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى أَخْبَارِهِ فِي كِتَابِ " الْبَاهِرِ " فِي

تَارِيخِ دَوْلَتِهِ وَدَوْلَةِ أَوْلَادِهِ، فَيُطْلَبُ مِنْ هُنَاكَ. ذِكْرُ مُلْكِ وَلَدَيْهِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِي وَنُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ لَمَّا قُتِلَ أَتَابَكُ زَنْكِي أَخَذَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ وَلَدُهُ خَاتَمَهُ مِنْ يَدِهِ، وَكَانَ حَاضِرًا مَعَهُ وَسَارَ إِلَى حَلَبَ فَمَلَكَهَا. وَكَانَ حِينَئِذٍ يَتَوَلَّى دِيوَانَ زَنْكِي، وَيَحْكُمُ فِي دَوْلَتِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْعَمَائِمِ جَمَالُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْحُكْمِ، وَمَعَهُ أَمِيرُ حَاجِبٍ صَلَاحُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ الْيَاغِيسْيَانِيُّ، فَاتَّفَقَا عَلَى حِفْظِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ مَعَ الشَّهِيدِ أَتَابَكَ الْمَلِكُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ ابْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَرَكِبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَأَجْمَعَتِ الْعَسَاكِرُ عَلَيْهِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ جَمَالُ الدِّينِ، وَصَلَاحُ الدِّينِ، وَحَسَّنَا لَهُ الِاشْتِغَالَ بِالشُّرْبِ وَالْمُغَنِّيَاتِ وَالْجَوَارِي، وَأَدْخَلَاهُ الرَّقَّةَ، فَبَقِيَ بِهَا أَيَّامًا لَا يَظْهَرُ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَاكِسِينَ، فَدَخَلَهَا، وَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، وَجَمَالُ الدِّينِ يُحَلِّفُ الْأُمَرَاءَ لِسَيْفِ الدِّينِ غَازِي بْنِ أَتَابَكَ زَنْكِي، وَيُسَيِّرُهُمْ [إِلَى] الْمَوْصِلِ. ثُمَّ سَارَ مِنْ مَاكِسِينَ إِلَى سِنْجَارَ، وَكَانَ سَيْفُ الدِّينِ قَدْ وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى سِنْجَارَ أَرْسَلَ جَمَالُ الدِّينِ إِلَى الدَّزْدَارِ يَقُولُ لَهُ لِيُرْسِلَ إِلَى وَلَدِ السُّلْطَانِ يَقُولُ لَهُ: إِنِّي مَمْلُوكُكَ، وَلَكِنِّي تَبَعُ الْمَوْصِلِ، فَمَتَى مَلَكْتَهَا سَلَّمْتُ إِلَيْكَ سِنْجَارَ. فَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَأَخَذَهُ جَمَالُ الدِّينِ وَقَصَدَ بِهِ مَدِينَةَ بَلْدَ، وَقَدْ بَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ الْقَلِيلُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِعُبُورِ دِجْلَةَ فَعَبَرَهَا إِلَى الشَّرْقِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ. وَكَانَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِي بِمَدِينَةِ شَهْرَزُورَ، وَهِيَ إِقْطَاعُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيٌّ كُوجَكُ نَائِبُ أَبِيهِ بِالْمَوْصِلِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَحَضَرَ قَبْلَ وُصُولِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا عَلِمَ جَمَالُ الدِّينِ بِوُصُولِ سَيْفِ الدِّينِ إِلَى الْمَوْصِلِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يُعَرِّفُهُ قِلَّةَ مَنْ مَعَ الْمَلِكِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بَعْضَ عَسْكَرِهِ، فَقَبَضُوا عَلَيْهِ، وَحُبِسَ فِي قَلْعَةِ الْمَوْصِلِ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ سَيْفِ الدِّينِ [فِي] الْبِلَادِ، وَبَقِيَ أَخُوهُ نُورُ الدِّينِ بِحَلَبَ وَهِيَ لَهُ، وَسَارَ إِلَيْهِ صَلَاحُ الدِّينِ

الْيَاغِيسْيَانِيُّ يُدَبِّرُ أَمْرَهُ وَيَقُومُ بِحِفْظِ دَوْلَتِهِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا شَرْحَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ فِي " التَّارِيخِ الْبَاهِرِ فِي الدَّوْلَةِ الْأَتَابَكِيَّةِ ". ذِكْرُ عِصْيَانِ الرُّهَا لَمَّا قُتِلَ أَتَابَكُ كَانَ جُوسْلِينُ الْفِرِنْجِيُّ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الرُّهَا فِي وِلَايَتِهِ، وَهِيَ تَلُّ بَاشِرَ وَمَا يُجَاوِرُهَا، فَرَاسَلَ أَهْلَ الرُّهَا، وَعَامَّتُهُمْ مِنَ الْأَرْمَنِ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى الْعِصْيَانِ، وَالِامْتِنَاعِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَتَسْلِيمِ الْبَلَدِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَوَاعَدَهُمْ يَوْمًا يَصِلُ إِلَيْهِمْ فِيهِ، وَسَارَ فِي عَسَاكِرِهِ إِلَى الرُّهَا، وَمَلَكَ الْبَلَدَ، وَامْتَنَعَتِ الْقَلْعَةُ عَلَيْهِ بِمَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَاتَلَهُمْ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي، وَهُوَ بِحَلَبَ، فَسَارَ مُجِدًّا إِلَيْهَا فِي عَسْكَرِهِ، فَلَمَّا قَارَبَهَا خَرَجَ جُوسْلِينُ هَارِبًا عَائِدًا إِلَى بَلَدِهِ، وَدَخَلَ نُورُ الدِّينِ الْمَدِينَةَ، وَنَهَبَهَا حِينَئِذٍ، وَسَبَى أَهْلَهَا. وَفِي هَذِهِ الدُّفْعَةِ نُهِبَتْ وَخَلَتْ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَمْ يَبْقَ بِهَا مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّهَا نُهِبَتْ لَمَّا فَتَحَهَا الشَّهِيدُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى سَيْفِ الدِّينِ غَازِي بِعِصْيَانِ الرُّهَا، فَسَيَّرَ الْعَسَاكِرَ إِلَيْهَا، فَسَمِعُوا بِمُلْكِ نُورِ الدِّينِ الْبَلَدَ وَاسْتِبَاحَتِهِ، وَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، فَعَادُوا. وَمِنْ أَعْجَبِ مَا يُحْكَى أَنَّ زَيْنَ الدِّينِ عَلِيًّا، الَّذِي كَانَ نَائِبَ الشَّهِيدِ وَأَوْلَادِهِ بِقَلْعَةِ الْمَوْصِلِ، جَاءَهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَهَا نُورُ الدِّينِ مِنْ هَذَا الْفَتْحِ، وَفِي الْجُمْلَةِ جَارِيَةٌ، فَلَمَّا دَخَلَ إِلَيْهَا، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا وَقَدِ اغْتَسَلَ، قَالَ لِمَنْ عِنْدُهُ: تَعْلَمُونَ مَا جَرَى لِي فِي يَوْمِنَا هَذَا؟ قَالُوا: لَا! قَالَ: لَمَّا فَتَحْنَا الرُّهَا مَعَ الشَّهِيدِ وَقَعَ فِي يَدِي مِنَ النَّهْبِ جَارِيَةٌ رَائِقَةٌ أَعْجَبَنِي حُسْنُهَا، وَمَالَ قَلْبِي إِلَيْهَا، فَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ أَمَرَ الشَّهِيدُ فَنُودِيَ بَرَدِّ السَّبْيِ وَالْمَالِ الْمَنْهُوبِ، وَكَانَ مَهِيبًا مَخُوفًا، فَرَدَدْتُهَا وَقَلْبِي مُتَعَلِّقٌ بِهَا، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ جَاءَتْنِي هَدِيَّةُ نُورِ الدِّينِ وَفِيهَا عِدَّةُ جَوَارٍ مِنْهُنَّ تِلْكَ الْجَارِيَةِ، فَوَطِئْتُهَا

خَوْفًا أَنْ يَقَعَ رَدُّ تِلْكَ الدُّفْعَةِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ عَلَى جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ جَيْشًا إِلَى جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ، فَمَلَكُوا مَا فِيهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الْمُؤْمِنِ لَمَّا كَانَ يُحَاصِرُ مَرَّاكُشَ جَاءَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْأَنْدَلُسِ مِنْهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدِينَ، وَمَعَهُمْ مَكْتُوبٌ يَتَضَمَّنُ بَيْعَةَ أَهْلِ الْبِلَادِ الَّتِي هُمْ فِيهَا لِعَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَدُخُولَهُمْ فِي زُمْرَةِ أَصْحَابِهِ الْمُوَحِّدِينَ، وَإِقَامَتَهُمْ لِأَمْرِهِ، فَقَبِلَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَشَكَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَطَيَّبَ قُلُوبَهُمْ، وَطَلَبُوا مِنْهُ النُّصْرَةَ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَجَهَّزَ جَيْشًا كَثِيفًا وَسَيَّرَهُ مَعَهُمْ، وَعَمَّرَ أُسْطُولًا وَسَيَّرَهُ فِي الْبَحْرِ، فَسَارَ الْأُسْطُولُ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَقَصَدُوا مَدِينَةَ إِشْبِيلِيَّةَ، وَصَعِدُوا فِي نَهْرِهَا، وَبِهَا جَيْشٌ مِنَ الْمُلَثَّمِينَ، فَحَصَرُوهَا بَرًّا وَبَحْرًا وَمَلَكُوهَا عَنْوَةً، وَقُتِلَ فِيهَا جَمَاعَةٌ وَأَمِنَ النَّاسُ فَسَكَنُوا، وَاسْتَوْلَتِ الْعَسَاكِرُ عَلَى الْبِلَادِ، وَكَانَ لِعَبْدِ الْمُؤْمِنِ (مَنْ بِهَا) . ذِكْرُ قَتْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ طَغَايُرْكَ وَعَبَّاسٍ صَاحِبِ الرَّيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ أَمِيرَ حَاجِبٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ طَغَايُرْكَ، وَهُوَ صَاحِبُ خَلْخَالَ وَبَعْضِ أَذْرَبِيجَانَ وَالْحَاكِمُ فِي دَوْلَةِ السُّلْطَانِ، وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ مَعَهُ حُكْمٌ. وَكَانَ سَبَبَ قَتْلِهِ أَنَّ السُّلْطَانَ لَمَّا ضَيَّقَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَقِيَ مَعَهُ شِبْهَ الْأَسِيرِ، لَيْسَ لَهُ فِي الْبِلَادِ حُكْمٌ، حَتَّى إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَصَدَ غُلَامًا كَانَ لِلسُّلْطَانِ، وَهُوَ بِكْ أَرْسَلَانُ، الْمَعْرُوفُ بِخَاصِّ بِكْ بْنِ بَلَنْكَرِي، وَقَدْ رَبَّاهُ السُّلْطَانُ وَقَرَّبَهُ فَأَبْعَدَهُ عَنْهُ، وَصَارَ لَا يَرَاهُ، وَكَانَ فِي [خَاصِّ] بِكْ عَقْلٌ وَتَدْبِيرٌ وَجَوْدَةُ قَرِيحَةٍ، وَتَوَصَّلَ لِمَا يُرِيدُ أَنْ

يَفْعَلَهُ، فَجَمَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْعَسَاكِرَ، وَخَاصُّ بِكْ فِيهِمْ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَاسْتَدْعَى خَاصُّ بِكْ جَمَاعَةَ مَنْ يَثِقُ بِهِمْ، وَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ خَافَ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ، إِلَّا رَجُلًا اسْمُهُ زَنْكِي، وَكَانَ جَانْدَارًا، فَإِنَّهُ بَذَلَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَبْدَأَهُ بِالْقَتْلِ، وَوَافَقَ خَاصَّ بِكْ عَلَى الْقِيَامِ فِي الْأَمْرِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَبَيْنَمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي مَوْكِبِهِ ضَرَبَهُ زَنْكِي الْجَانْدَارُ بِمِقْرَعَةِ حَدِيدٍ كَانَتْ فِي يَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ، فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَجْهَزَ عَلَيْهِ خَاصُّ بِكْ، وَأَعَانَهُ عَلَى حِمَايَةِ زَنْكِي وَالْقَائِمِينَ مَعَهُ مَنْ كَانَ وَاطَأَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ قَتْلُهُ بِظَاهِرِ جَنْزَةَ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ بِبَغْدَادَ، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ عَبَّاسٌ صَاحِبُ الرَّيِّ، وَعَسْكَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَامْتَعَضَ مِنْهُ، فَدَارَاهُ السُّلْطَانُ وَلَطَفَ بِهِ، وَاسْتَدْعَى الْأَمِيرَ الْبَقْشَ كُونْ خَرْ مِنَ اللِّحْفِ وَتَتَرَ الَّذِي كَانَ حَاجِبًا، فَلَمَّا قَوِيَ بِهِمَا أَحْضَرَ عَبَّاسًا إِلَيْهِ فِي دَارِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ إِلَيْهِ مَنَعَ أَصْحَابَهُ مِنَ الدُّخُولِ مَعَهُ، وَعَدَلُوا بِهِ إِلَى حُجْرَةٍ، وَقَالُوا لَهُ: اخْلَعِ الزَّرَدِيَّةَ ; فَقَالَ: إِنَّ لِي مَعَ السُّلْطَانِ أَيْمَانًا وَعُهُودًا ; فَلَكَمُوهُ، وَخَرَجَ لَهُ غِلْمَانٌ أُعِدُّوا لِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ تَشَاهَدَ وَخَلَعَ الزَّرَدِيَّةَ وَأَلْقَاهَا، وَضَرَبُوهُ بِالسُّيُوفِ، وَاحْتَزُّوا رَأَسَهُ وَأَلْقَوْهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ أَلْقَوْا جَسَدَهُ، وَنُهِبَ رَحْلُهُ وَخِيَمُهُ وَانْزَعَجَ الْبَلَدُ لِذَلِكَ. وَكَانَ عَبَّاسٌ مِنْ غِلْمَانِ مَحْمُودٍ حَسَنَ السِّيرَةِ، عَادِلًا فِي رَعِيَّتِهِ، كَثِيرَ الْجِهَادِ لِلْبَاطِنِيَّةِ، قَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَبَنَى مِنْ رُءُوسِهِمْ مَنَارَةً بِالرَّيِّ، وَحَصَرَ قَلْعَةَ أَلَمُوتَ، وَدَخَلَ إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ فَأَلْقَى فِيهَا النَّارَ فَأَحْرَقَ كُلَّ مَنْ فِيهَا مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمَّا قُتِلَ [دُفِنَ] بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، ثُمَّ أَرْسَلَتِ ابْنَتُهُ فَحَمَلَتْهُ إِلَى الرَّيِّ فَدَفَنَتْهُ هُنَاكَ، وَكَانَ مَقْتَلُهُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ. وَمِنَ الِاتِّفَاقِ الْعَجِيبِ أَنَّ الْعِبَادِيَّ كَانَ يَعِظُ يَوْمًا، فَحَضَرَهُ عَبَّاسٌ، فَأَسْمَعَ بَعْضَ أَهْلِ الْمَجْلِسِ وَرَمَى بِنَفْسِهِ نَحْوَ الْأَمِيرِ عَبَّاسٍ، فَضَرَبَهُ أَصْحَابُهُ وَمَنَعُوهُ خَوْفًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ شَدِيدَ احْتِرَاسٍ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ لَا يَزَالُ لَابِسًا الزَّرَدِيَّةَ لَا تُفَارِقُهُ الْغِلْمَانُ الْأَجْلَادُ، فَقَالَ لَهُ الْعِبَادِيُّ: يَا أَمِيرُ، إِلَامَ هَذَا الِاحْتِرَازُ! وَاللَّهِ لَئِنْ قُضِيَ عَلَيْكَ بِأَمْرٍ لَتَحُلَّنَّ أَنْتَ بِيَدِكَ أَزْرَارَ الزَّرَدِيَّةِ فَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ فِيكَ.

وَكَانَ كَمَا قَالَ، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ اسْتَوْزَرَ ابْنَ دَارَسْتَ وَزِيرَ بُوزَابَةَ، [كَارِهًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَعَزَلَهُ الْآنَ لِأَنَّهُ اخْتَارَ الْعَزْلَ وَالْعَوْدَ إِلَى صَاحِبِهِ بُوزَابَةَ] فَلَمَّا عَزَلَهُ قَرَّرَ مَعَهُ أَنْ يُصْلِحَ لَهُ بُوزَابَةَ، وَيُزِيلَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الِاسْتِشْعَارِ بِسَبَبِ قَتْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَبَّاسٍ، فَسَارَ الْوَزِيرُ وَهُوَ لَا يَعْتَقِدُ النَّجَاةَ، فَوَصَلَ إِلَى بُوزَابَةَ وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَبَسَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ أَخَاهُ سُلَيْمَانَ شَاهْ بِقَلْعَةِ تَكْرِيتَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ جَاوُلِيُّ الطُّغْرُلِيُّ صَاحِبُ أَرَّانِيَّةَ وَبَعْضِ أَذْرَبِيجَانَ، وَكَانَ قَدْ تَحَرَّكَ لِلْعِصْيَانِ، وَكَانَ مَوْتُهُ فَجْأَةً مَدَّ قَوْسًا فَنَزَفَ دَمًا فَمَاتَ. [الْوَفَيَاتُ] وَتُوُفِّيَ شَيْخُ الشُّيُوخِ صَدْرُ الدِّينُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي سَعْدٍ الصُّوفِيُّ، مَاتَ بِبَغْدَادَ، وَدُفِنَ بِظَاهِرِ رِبَاطِ الزَّوْزَنِيِّ بِبَابِ الْبَصْرَةِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَامَ فِي مَنْصِبِهِ وَلَدُهُ صَدْرُ الدِّينِ شَيْخُ الشُّيُوخِ عَبْدُ الرَّحِيمِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيُّ أَخُو شَرَفِ الدِّينِ الْوَزِيرِ. [ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ] وَفِيهَا وَلِيَ مَسْعُودُ بْنُ بِلَالٍ شِحْنَكِيَّةَ بَغْدَادَ، وَسَارَ السُّلْطَانُ عَنْهَا. وَفِيهَا كَانَ بِالْعِرَاقِ جَرَادٌ كَثِيرٌ أَمْحَلَ أَكْثَرَ الْبِلَادِ. وَفِيهَا وَرَدَ الْعِبَادِيُّ الْوَاعِظُ رَسُولًا مِنَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَوَعَظَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ لَهُ قَبُولٌ بِهَا، وَحَضَرَ مَجْلِسَهُ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ فَمَنْ دُونَهُ، وَأَمَّا الْعَامَّةُ

فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتْرُكُونَ أَشْغَالَهُمْ لِحُضُورِ مَجْلِسِهِ وَالْمُسَابَقَةِ إِلَيْهِ. وَفِيهَا بَعْدَ قَتْلِ الشَّهِيدِ زَنْكِي بْنِ آقْسُنْقُرْ قَصَدَ صَاحِبُ دِمَشْقَ حِصْنَ بَعْلَبَكَّ وَحَصَرَهُ، وَكَانَ بِهِ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ بْنُ شَاذِي مُسْتَحْفِظًا لَهَا، فَخَافَ أَنَّ أَوْلَادَ زَنْكِي لَا يُمْكِنُهُمْ إِنْجَادُهُ بِالْعَاجِلِ، فَصَالَحَهُ وَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ إِلَيْهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ إِقْطَاعًا وَمَالًا، وَمَلَّكَهُ عِدَّةَ قُرًى مِنْ بَلَدِ دِمَشْقَ، وَانْتَقَلَ أَيُّوبُ إِلَى دِمَشْقَ فَسَكَنَهَا وَأَقَامَ بِهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْرِي ابْنُ بِنْتِ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ، وَمَوْلِدُهُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ مُقْرِئًا نَحْوِيًّا مُحَدِّثًا، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي الْقِرَاءَاتِ.

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] (542) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ بُوزَابَةَ لَمَّا اتَّصَلَ بِالْأَمِيرِ بُوَزَابَةَ قَتْلُ عَبَّاسٍ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ مِنْ فَارِسَ وَخُوزِسْتَانَ، وَسَارَ إِلَى أَصْفَهَانَ فَحَصَرَهَا، وَسَيَّرَ عَسْكَرًا آخَرَ إِلَى هَمَذَانَ، وَعَسْكَرًا ثَالِثًا إِلَى قَلْعَةِ الْمَاهِكِي مِنْ بَلَدِ اللِّحْفِ، فَأَمَّا عَسْكَرُهُ الَّذِي بِالْمَاهِكِي فَإِنَّهُ سَارَ إِلَيْهِمُ الْأَمِيرُ الْبَقْشُ كُونْ خَرْ، فَدَفَعَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِ وَكَانَتْ أَقْطَاعَهُ، ثُمَّ إِنَّ بُوزَابَةَ سَارَ عَنْ أَصْفَهَانَ يَطْلُبُ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا، فَرَاسَلَهُ السُّلْطَانُ فِي الصُّلْحِ، فَلَمْ يُجِبْ إِلَيْهِ، وَسَارَ مُجِدًّا فَالْتَقَيَا بِمَرَجِ قُرَاتِكِينَ، وَتَصَافَّا، فَاقْتَتَلَ الْعَسْكَرَانِ، فَانْهَزَمَتْ مَيْمَنَةُ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَمَيْسَرَتُهُ، وَاقْتَتَلَ الْقَلْبَانِ أَشَدَّ قِتَالٍ وَأَعْظَمَهُ، صَبَرَ فِيهِ الْفَرِيقَانِ، وَدَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمَا، فَسَقَطَ بُوزَابَةُ عَنْ فَرَسِهِ بِسَهْمٍ أَصَابَهُ، وَقِيلَ بَلْ عَثَرَ بِهِ الْفَرَسُ فَأُخِذَ أَسِيرًا وَحُمِلَ إِلَى السُّلْطَانِ فَقُتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ لَمَّا أُخِذَ هُوَ أَسِيرًا. وَبَلَغَتْ هَزِيمَةُ الْعَسْكَرِ السُّلْطَانِيِّ مِنَ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ إِلَى هَمَذَانَ، وَقُتِلَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَرْبُ مِنْ أَعْظَمِ الْحُرُوبِ الْكَائِنَةِ بَيْنَ الْأَعَاجِمِ. ذِكْرُ طَاعَةِ أَهْلِ قَابِسَ لِلْفِرِنْجِ وَغَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا كَانَ صَاحِبُ مَدِينَةِ قَابِسَ، قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ، إِنْسَانًا اسْمُهُ رَشِيدٌ، فَتُوُفِّيَ وَخَلَفَ

أَوْلَادًا، فَعَمَدَ مَوْلًى لَهُ اسْمُهُ يُوسُفُ إِلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ، فَوَلَّاهُ الْأَمْرَ، وَأَخْرَجَ وَلَدَهُ الْكَبِيرَ وَاسْمُهُ مَعْمَرٌ، وَاسْتَوْلَى يُوسُفُ عَلَى الْبَلَدِ، وَحَكَمَ عَلَى مُحَمَّدٍ لِصِغَرِ سِنِّهِ. وَجَرَى مِنْهُ أَشْيَاءُ مِنَ التَّعَرُّضِ إِلَى حُرَمِ سَيِّدِهِ، وَالْعُهْدَةُ عَلَى نَاقِلِهِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهِنَّ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي قُرَّةَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى إِخْوَتِهَا تَشْكُو إِلَيْهِمْ مَا هِيَ فِيهِ، فَجَاءَ إِخْوَتُهَا لِأَخْذِهَا فَمَنَعَهُمْ، وَقَالَ: هَذِهِ حُرْمَةُ مَوْلَاي ; وَلَمْ يُسَلِّمْهَا، فَسَارَ بَنُو قُرَّةَ وَمَعْمَرُ بْنُ رَشِيدٍ إِلَى الْحَسَنِ صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَشَكَوَا إِلَيْهِ مَا يَفْعَلُ يُوسُفُ، فَكَاتَبَهُ الْحَسَنُ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يُجِبْ إِلَيْهِ، وَقَالَ: لَئِنْ لَمْ يَكُفَّ الْحَسَنُ عَنِّي وَإِلَّا سَلَّمْتُ قَابِسَ إِلَى صَاحِبِ صِقِلِّيَةَ، فَجَهَّزَ الْحَسَنُ الْعَسْكَرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ يُوسُفُ بِذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَى رُجَّارَ الْفِرِنْجِيِّ، صَاحِبِ صِقِلِّيَةَ، وَبَذَلَ لَهُ الطَّاعَةَ، وَقَالَ لَهُ: أُرِيدَ مِنْكَ خِلْعَةً وَعَهْدًا بِوِلَايَةِ قَابِسَ لِأَكُونَ نَائِبًا عَنْكَ كَمَا فَعَلْتَ مَعَ بَنِي مَطْرُوحٍ فِي طَرَابُلُسَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ رُجَّارُ الْخِلْعَةَ وَالْعَهْدَ، فَلَبِسَهَا، وَقُرِئَ الْعَهْدُ بِمَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ. فَجَدَّ حِينَئِذٍ الْحَسَنُ فِي تَجْهِيزِ الْعَسْكَرِ إِلَى قَابِسَ، فَسَارُوا إِلَيْهَا وَنَازَلُوهَا وَحَصَرُوهَا، فَثَارَ أَهْلُ الْبَلَدِ بِيُوسُفَ لِمَا اعْتَمَدَهُ مِنْ طَاعَةِ الْفِرِنْجِ، وَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَى عَسْكَرَ الْحَسَنِ، وَتَحَصَّنَ يُوسُفُ فِي الْقَصْرِ، فَقَاتَلُوهُ حَتَّى فَتَحُوهُ، وَأُخِذَ يُوسُفُ أَسِيرًا، فَتَوَلَّى عَذَابَهُ مَعْمَرُ بْنُ رَشِيدٍ وَبَنُو قُرَّةَ، فَقَطَعُوا ذَكَرَهُ وَجَعَلُوهُ فِي فَمِهِ وَعُذِّبَ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَوَلِيَ مَعْمَرٌ قَابِسَ مَكَانَ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ، وَأَخَذَ بَنُو قُرَّةَ أُخْتَهُمْ، وَهَرَبَ عِيسَى أَخُو يُوسُفَ وَوَلَدُ يُوسُفَ وَقَصَدُوا رُجَّارَ، صَاحِبَ صِقِلِّيَةَ، فَاسْتَجَارُوا بِهِ وَشَكَوْا إِلَيْهِ مَا لَقُوا مِنَ الْحَسَنِ، فَغَضِبَ لِذَلِكَ، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ فَتْحِ الْمَهْدِيَّةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ حَادِثَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَاطَ الْعَاقِلُ مِنْ مِثْلِهَا كَانَ يُوسُفُ هَذَا صَاحِبَ قَابِسَ قَدْ أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى رُجَّارَ بِصِقِلِّيَةَ، فَاجْتَمَعَ هُوَ وَرَسُولُ الْحَسَنِ صَاحِبِ الْمَهْدِيَّةِ عِنْدَهُ، فَجَرَى بَيْنَ الرَّسُولَيْنِ مُنَاظَرَةٌ، فَذَكَرَ رَسُولُ يُوسُفَ الْحَسَنَ وَمَا نَالَ مِنْهُ، وَذَمَّهُ، ثُمَّ إِنَّهُمَا عَادَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَرَكِبَا الْبَحْرَ كُلُّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَرْكَبِهِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ الْحَسَنِ رُقْعَةً إِلَى صَاحِبِهِ عَلَى جَنَاحِ طَائِرٍ يُخْبِرُ بِمَا كَانَ مِنْ رَسُولِ يُوسُفَ، فَسَيَّرَ الْحَسَنُ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْبَحْرِ، فَأَخَذُوا رَسُولَ يُوسُفَ وَأَحْضَرُوهُ عِنْدَ الْحَسَنِ، فَسَبَّهُ وَقَالَ: مَلَّكْتَ الْفِرِنْجَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ وَطَوَّلْتَ لِسَانَكَ بِذَمِّي! ثُمَّ أَرْكَبَهُ جَمَلًا وَعَلَى رَأْسِهِ طُرْطُورٌ بِجَلَاجِلَ وَطِيفَ بِهِ فِي الْبَلَدِ، وَنُودِيَ عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ سَعَى أَنْ يُمَلِّكَ الْفِرِنْجَ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا تَوَسَّطَ الْمَهْدِيَّةَ ثَارَ بِهِ الْعَامَّةُ فَقَتَلُوهُ بِالْحِجَارَةِ. ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ الْمَرِيَّةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى الْأُولَى، حَصَرَ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ الْمَرِيَّةِ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهَا بَرًّا وَبَحْرًا، فَمَلَكُوهَا عَنْوَةً، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ بِهَا وَالنَّهْبَ، وَمَلَكُوا أَيْضًا مَدِينَةَ بَيَّاسَةَ وَوِلَايَةَ جَيَّانَ، وَكُلُّهَا بِالْأَنْدَلُسِ، ثُمَّ اسْتَعَادَهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مُلْكِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي عِدَّةَ مَوَاضِعَ مِنْ بَلَدِ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي صَاحِبُ حَلَبَ بَلَدَ الْفِرِنْجِ، فَفَتَحَ مِنْهُ مَدِينَةَ أَرْتَاحَ بِالسَّيْفِ وَنَهَبَهَا، وَحِصْنَ مَابُولَةَ، وَبُصْرَفُونَ وَكَفَرْلَاثَا. وَكَانَ الْفِرِنْجُ بَعْدَ قَتْلِ وَالِدِهِ زَنْكِي قَدْ طَمِعُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ بَعْدَهُ يَسْتَرِدُّونَ مَا أَخَذَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا مِنْ نُورِ الدِّينِ هَذَا الْجِدَّ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ عَلِمُوا أَنَّ مَا أَمَّلُوهُ بِعِيدٌ. ذِكْرُ أَخْذِ الْحِلَّةِ مِنْ عَلِيِّ بْنِ دُبَيْسٍ وَعَوْدِهِ إِلَيْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَ فَسَادُ أَصْحَابِ عَلِيِّ بْنِ دُبَيْسٍ بِالْحِلَّةِ وَمَا جَاوَرَهَا، وَكَثُرَتِ الشَّكَاوَى مِنْهُ، فَأَقْطَعَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ الْحِلَّةَ لِلْأَمِيرِ سَلَارْكُرْدَ، فَسَارَ إِلَيْهَا مِنْ هَمَذَانَ وَمَعَهُ عَسْكَرٌ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ عَسْكَرِ بَغْدَادَ، وَقَصَدُوا الْحِلَّةَ، فَجَمَعَ عَلِيٌّ عَسْكَرَهُ وَحَشَدَ، وَالتَقَى الْعَسْكَرَانِ بِمُطَيْرَابَاذَ، فَانْهَزَمَ عَلِيٌّ، وَمَلَكَ سَلَارْكُرْدُ الْحِلَّةَ، وَاحْتَاطَ عَلَى أَهْلِ عَلِيٍّ وَرَجَعَتِ الْعَسَاكِرُ، وَأَقَامَ هُوَ بِالْحِلَّةِ فِي مَمَالِيكِهِ وَأَصْحَابِهِ،

وَسَارَ عَلِيُّ بْنُ دُبَيْسٍ فَلَحِقَ بِالْبَقْشِ كُونْ خَرْ، وَكَانَ بِأَقْطَاعِهِ، فِي اللِّحْفِ، مُتَجَنِّيًا عَلَى السُّلْطَانِ، فَاسْتَنْجَدَهُ، فَسَارَ مَعَهُ إِلَى وَاسِطَ، وَاتَّفَقَ هُوَ وَالطُرْنَطَاي، وَقَصَدُوا الْحِلَّةَ فَاسْتَنْفَذُوهَا مِنْ سَلَارْكُرْدَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَفَارَقَهَا سَلَارْكُرْدُ وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، خُطِبَ لِلْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ يُوسُفَ بْنِ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ. وَفِيهَا وَلِيَ عَوْنُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ هُبَيْرَةَ كِتَابَةَ الزِّمَامِ بِبَغْدَادَ، وَوَلِيَ زَعِيمُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ الْمَخْزِنَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، مَاتَ أَبُو الْقَاسِمِ طَاهِرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْخَيْرِ الْمِيهِنِيُّ شَيْخُ رِبَاطِ الْبِسْطَامِيِّ بِبَغْدَادَ. وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ تُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ خَاتُونْ بِنْتُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ زَوْجَةُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ. وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا مَاتَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْمُسْلِمَةِ، ابْنُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَكَانَ قَدْ تَصَوَّفَ، وَجَعَلَ دَارَهُ الَّتِي فِي الْقَصْرِ رِبَاطًا لِلصُّوفِيَّةِ. وَفِيهَا سَارَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِي بْنُ زَنْكِي إِلَى قَلْعَةِ دَارَا، فَمَلَكَهَا وَغَيْرَهَا مِنْ بَلَدِ مَارِدِينَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَارِدِينَ وَحَصَرَهَا وَخَرَّبَ بَلَدَهَا وَنَهَبَهُ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَتَابَكَ زَنْكِي لَمَّا قُتِلَ تَطَاوَلَ صَاحِبُ مَارِدِينَ وَصَاحِبُ الْحِصْنِ إِلَى مَا كَانَ قَدْ فَتَحَهُ مِنْ بِلَادِهِمَا فَأَخَذَاهُ، فَلَمَّا مَلَكَ سَيْفُ الدِّينِ وَتَمَكَّنَ سَارَ إِلَى مَارِدِينَ وَحَصَرَهَا، وَفَعَلَ بِبَلَدِهَا الْأَفَاعِيلَ الْعَظِيمَةَ، فَلَمَّا رَأَى صَاحِبُهَا، وَهُوَ حِينَئِذٍ

حُسَامُ الدِّينِ تِمِرْتَاشُ، مَا يُفْعَلُ فِي بَلَدِهِ قَالَ: كُنَّا نَشْكُو مِنْ أَتَابَكَ الشَّهِيدِ، وَأَيْنَ أَيَّامُهُ؟ لَقَدْ كَانَتْ أَعْيَادًا. قَدْ حَصَرَنَا غَيْرَ مَرَّةٍ، فَلَمْ يَأْخُذْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ عَسْكَرِهِ مِخْلَاةَ تِبْنٍ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَلَا تَعَدَّى هُوَ وَعَسْكَرُهُ حَاصِلَ السُّلْطَانِ، وَأَرَى هَذَا يَنْهَبُ الْبِلَادَ وَيُخَرِّبُهَا. ثُمَّ رَاسَلَهُ وَصَالَحَهُ، وَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ، وَرَحَلَ سَيْفُ الدِّينِ عَنْهُ وَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَجُهِّزَتِ ابْنَةُ حُسَامِ الدِّينِ وَسُيِّرَتْ إِلَيْهِ، فَوَصَلَتْ وَهُوَ مَرِيضٌ قَدْ أَشَفَى عَلَى الْمَوْتِ، فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَبَقِيَتْ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَمَلَكَ قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودٌ، فَتَزَوَّجَهَا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهَا اشْتَدَّ الْغَلَاءُ بِإِفْرِيقِيَّةَ وَدَامَتْ أَيَّامُهُ، فَإِنَّ أَوَّلَهُ كَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى أَهْلِ الْبِلَادِ حَتَّى أَكَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَصَدَ أَهْلُ الْبَوَادِي الْمُدُنَ مِنَ الْجُوعِ، فَأَغْلَقَهَا أَهْلُهَا دُونَهُمْ، وَتَبِعَهُ وَبَاءٌ وَمَوْتٌ كَثِيرٌ، حَتَّى خَلَتِ الْبِلَادُ. وَكَانَ أَهْلُ الْبَيْتِ لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَسَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى صِقِلِّيَةَ فِي طَلَبِ الْقُوتِ، وَلَقُوا أَمْرًا عَظِيمًا.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] (543) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ مَدِينَةَ الْمَهْدِيَّةِ بِإِفْرِيقِيَّةَ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ مَسِيرَ أَهْلِ يُوسُفَ، وَصَاحِبِ قَابِسَ، إِلَى رُجَّارَ، مَلِكِ صِقِلِّيَةَ، وَاسْتِغَاثَتَهُمْ بِهِ، فَغَضِبَ لِذَلِكَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ الصَّنْهَاجِيِّ، صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، صُلْحٌ وَعُهُودٌ إِلَى مُدَّةِ سَنَتَيْنِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ فَاتَهُ فَتْحُ الْبِلَادِ فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ، وَكَانَتِ الشِّدَّةُ دَوَامَ الْغَلَاءِ فِي جَمِيعِ الْمَغْرِبِ مِنْ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ أَشَدُّ ذَلِكَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، فَإِنَّ النَّاسَ فَارَقُوا الْبِلَادَ وَالْقُرَى، وَدَخَلَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى مَدِينَةِ صِقِلِّيَةَ، وَأَكَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَثُرَ الْمَوْتُ فِي النَّاسِ، فَاغْتَنَمَ رُجَّارُ هَذِهِ الشِّدَّةَ، فَعَمَّرَ الْأُسْطُولَ، وَأَكْثَرَ مِنْهُ، فَبَلَغَ نَحْوَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ شِينِيًّا مَمْلُوءَةً رِجَالًا وَسِلَاحًا وَقُوتًا. وَسَارَ الْأُسْطُولُ عَنْ صِقِلِّيَةَ، وَوَصَلَ إِلَى جَزِيرَةِ قَوْصَرَةَ، وَهِيَ بَيْنَ الْمَهْدِيَّةِ وَصِقِلِّيَةَ، فَصَادَفُوا بِهَا مَرْكَبًا وَصَلَ مِنَ الْمَهْدِيَّةِ، فَأُخِذَ أَهْلُهُ وَأُحْضِرُوا بَيْنَ يَدَيْ جُرْجِي مُقَدَّمِ الْأُسْطُولِ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَالِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَوَجَدَ فِي الْمَرْكَبِ قَفَصَ حَمَامٍ، فَسَأَلَهُمْ هَلْ أَرْسَلُوا مِنْهَا، فَحَلَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُرْسِلُوا مِنْهَا شَيْئًا، فَأَمَرَ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ الْحَمَّامُ صُحْبَتَهُ أَنْ يَكْتُبَ بِخَطِّهِ: إِنَّنَا لَمَّا وَصَلْنَا جَزِيرَةَ قَوْصَرَةَ وَجَدْنَا بِهَا مَرَاكِبَ مِنْ صِقِلِّيَةَ، فَسَأَلْنَاهُمْ عَنِ الْأُسْطُولِ الْمَخْذُولِ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ أَقْلَعَ إِلَى جَزَائِرِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.

وَأَطْلَقَ الْحَمَامَ فَوَصَلَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، فَسُرَّ الْأَمِيرُ الْحَسَنُ وَالنَّاسُ ; وَأَرَادَ جُرْجِي بِذَلِكَ أَنْ يَصِلَ بَغْتَةً، ثُمَّ سَارَ، وَقُدِّرَ وُصُولُهُمْ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ وَقْتَ السَّحَرِ لِيُحِيطَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ أَهْلُهَا، فَلَوْ تَمَّ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا هَائِلَةً عَكَسَتْهُمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَّا بِالْمَقَاذِيفِ، فَطَلَعَ النَّهَارُ ثَانِيَ صَفَرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبْلَ وُصُولِهِمْ، فَرَآهُمُ النَّاسُ، فَلَمَّا رَأَى جُرْجِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْخَدِيعَةَ فَاتَتْهُ، أَرْسَلَ إِلَى الْأَمِيرِ الْحَسَنِ يَقُولُ: إِنَّمَا جِئْتُ بِهَذَا الْأُسْطُولِ طَالِبًا بِثَأْرِ مُحَمَّدِ بْنِ رَشِيدٍ صَاحِبِ قَابِسَ وَرَدِّهِ إِلَيْهَا، وَأَمَّا أَنْتَ فَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ عُهُودٌ وَمِيثَاقٌ إِلَى مُدَّةٍ، وَنُرِيدُ مِنْكَ عَسْكَرًا يَكُونُ مَعَنَا. فَجَمَعَ الْحَسَنُ النَّاسَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأَعْيَانِ وَشَاوَرَهُمْ، فَقَالُوا: نُقَاتِلُ عَدُوَّنَا، فَإِنَّ بَلَدَنَا حَصِينٌ. فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يَنْزِلَ إِلَى الْبَرِّ وَيَحْصُرَنَا بَرًّا وَبَحْرًا، وَيَحُولَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمِيرَةِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا يَقُوتُنَا شَهْرًا، فَنُؤْخَذَ قَهْرًا. وَأَنَا أَرَى سَلَامَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَسْرِ وَالْقَتْلِ خَيْرًا مِنَ الْمُلْكِ، وَقَدْ طَلَبَ مِنِّي عَسْكَرًا إِلَى قَابِسَ، فَإِذَا فَعَلْتُ فَمَا يَحِلُّ لِي مَعُونَةُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا امْتَنَعْتُ يَقُولُ: انْتَقَضَ مَا بَيْنَنَا مِنَ الصُّلْحِ، وَلَيْسَ يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يُثَبِّطَنَا حَتَّى يَحُولَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَرِّ، وَلَيْسَ لَنَا بِقِتَالِهِ طَاقَةٌ، وَالرَّأْيُ أَنْ نَخْرُجَ بِالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَنَتْرُكَ الْبَلَدَ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ كَفِعْلِنَا فَلْيُبَادِرْ مَعَنَا. وَأَمَرَ فِي الْحَالِ بِالرَّحِيلِ، وَأَخَذَ مَعَهُ مَنْ حَضَرَهُ وَمَا خَفَّ حَمْلُهُ، وَخَرَجَ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ بِأَهْلِيهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَمَا خَفَّ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَثَاثِهِمْ، وَمِنَ النَّاسِ مَنِ اخْتَفَى عِنْدَ النَّصَارَى وَفِي الْكَنَائِسِ، وَبَقِيَ الْأُسْطُولُ فِي الْبَحْرِ تَمْنَعُهُ الرِّيحُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ إِلَى ثُلُثَيِ النَّهَارِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْبَلَدِ مِمَّنْ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ أَحَدٌ، فَوَصَلَ الْفِرِنْجُ وَدَخَلُوا الْبَلَدَ بِغَيْرِ مَانِعٍ وَلَا دَافِعٍ، وَدَخَلَ جُرْجِي الْقَصْرَ فَوَجَدَهُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَأْخُذِ الْحَسَنُ مِنْهُ إِلَّا مَا خَفَّتْ مِنْ ذَخَائِرِ الْمُلُوكِ، وَفِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ حَظَايَاهُ، وَرَأَى الْخَزَائِنَ مَمْلُوءَةً مِنَ الذَّخَائِرِ النَّفِيسَةِ وَكُلِّ شَيْءٍ غَرِيبٍ يَقِلُّ وُجُودُ مِثْلِهِ، فَخَتَمَ عَلَيْهِ، وَجَمَعَ سَرَارِيَ الْحَسَنِ فِي قَصْرِهِ. وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ مَلَكَ مِنْهُمْ مِنْ زِيرِي بْنِ مُنَادٍ إِلَى الْحَسَنِ تِسْعَةَ مُلُوكٍ، وَمُدَّةُ

وِلَايَتِهِمْ مِائَتَا سَنَةٍ وَثَمَانِي سَنَوَاتٍ، مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ; وَكَانَ بَعْضُ الْقُوَّادِ قَدْ أَرْسَلَهُ الْحَسَنُ إِلَى رُجَّارَ بِرِسَالَةٍ، فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ مِنْهُ أَمَانًا، فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمْ، وَلَمَّا مَلَكَ الْمَدِينَةَ نُهِبَتْ مِقْدَارَ سَاعَتَيْنِ، وَنُودِيَ بِالْأَمَانِ، فَخَرَجَ مَنْ كَانَ مُسْتَخْفِيًا، وَأَصْبَحَ جُرْجِي مِنَ الْغَدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ قَرُبَ مِنَ الْعَرَبِ، فَدَخَلُوا إِلَيْهِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَأَعْطَاهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَأَرْسَلَ مِنْ جُنْدِ الْمَهْدِيَّةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا بِهَا جَمَاعَةً، وَمَعَهُمْ أَمَانٌ لِأَهْلِ الْمَهْدِيَّةِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْهَا، وَدَوَابَّ يَحْمِلُونَ الْأَطْفَالَ وَالنِّسَاءَ، وَكَانُوا قَدْ أَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَاكِ مِنَ الْجُوعِ، وَلَهُمْ بِالْمَهْدِيَّةِ خَبَايَا وَوَدَائِعُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمُ الْأَمَانُ رَجَعُوا، فَلَمْ تَمْضِ جُمْعَةٌ حَتَّى رَجَعَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْبَلَدِ. وَأَمَّا الْحَسَنُ فَإِنَّهُ سَارَ بِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا غَيْرَ الْإِنَاثِ وَخَوَاصِّ خَدَمِهِ، قَاصِدًا إِلَى مُحْرِزِ بْنِ زِيَادٍ، وَهُوَ بِالْمُعَلَّقَةِ، فَلَقِيَهُ فِي طَرِيقِهِ أَمِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ يُسَمَّى حَسَنَ بْنَ ثَعْلَبٍ، فَطَلَبَ مِنْهُ مَالًا انْكَسَرَ لَهُ فِي دِيوَانِهِ، فَلَمْ يُمْكِنِ الْحَسَنَ إِخْرَاجُ مَالٍ لِئَلَّا يُؤْخَذَ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ وَلَدَهُ يَحْيَى رَهِينَةً وَسَارَ، فَوَصَلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إِلَى مُحْرِزٍ، وَكَانَ الْحَسَنُ قَدْ فَضَّلَهُ عَلَى جَمِيعِ الْعَرَبِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَوَصَلَهُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمَالِ، فَلَقِيَهُ مُحْرِزٌ لِقَاءً جَمِيلًا، وَتَوَجَّعَ لِمَا حَلَّ بِهِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ شُهُورًا، وَالْحَسَنُ كَارِهٌ لِلْإِقَامَةِ، فَأَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْحَافِظِ الْعَلَوِيِّ، وَاشْتَرَى مَرْكَبًا لِسَفَرِهِ، فَسَمِعَ جُرْجِي الْفِرِنْجِيُّ، فَجَهَّزَ شَوَانِيَ لِيَأْخُذَهُ، فَعَادَ الْحَسَنُ عَنْ ذَلِكَ، وَعَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِالْمَغْرِبِ، فَأَرْسَلَ كِبَارَ أَوْلَادِهِ يَحْيَى وَتَمِيمًا وَعَلِيًّا إِلَى يَحْيَى بْنِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي حَمَّادٍ، وَهُمَا أَوْلَادُ عَمٍّ، يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَتَجْدِيدِ الْعَهْدِ بِهِ، وَالْمَسِيرِ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَأَذِنَ لَهُ يَحْيَى، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَصَلَ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِ يَحْيَى، وَسَيَّرَهُ إِلَى جَزِيرَةِ بَنِي مَزْغَنَّاي هُوَ وَأَوْلَادُهُ وَوَكَّلَ بِهِ مَنْ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ، فَبَقُوا كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَلَكَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بِجَايَةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا حَالَهُ هُنَاكَ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّ جُرْجِي بِالْمَهْدِيَّةِ سَيَّرَ أُسْطُولًا، بَعْدَ أُسْبُوعٍ، إِلَى مَدِينَةِ سَفَاقُسَ، وَسَيَّرَ أُسْطُولًا آخَرَ إِلَى مَدِينَةِ سُوسَةَ، فَأَمَّا سُوسَةُ فَإِنَّ أَهْلَهَا لَمَّا سَمِعُوا خَبَرَ الْمَهْدِيَّةِ، وَكَانَ

وَالِيَهَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْأَمِيرُ، فَخَرَجَ إِلَى أَبِيهِ، وَخَرَجَ النَّاسُ لِخُرُوجِهِ، فَدَخَلَهَا الْفِرِنْجُ بِلَا قِتَالٍ ثَانِي عَشَرَ صَفَرٍ ; وَأَمَّا سَفَاقُسُ فَإِنَّ أَهْلَهَا أَتَاهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَامْتَنَعُوا بِهِمْ، فَقَاتَلَهُمُ الْفِرِنْجُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْبَلَدِ، فَأَظْهَرَ الْفِرِنْجُ الْهَزِيمَةَ، وَتَبِعَهُمُ النَّاسُ حَتَّى أُبْعِدُوا عَنِ الْبَلَدِ، ثُمَّ عَطَفُوا عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَ قَوْمٌ إِلَى الْبَلَدِ وَقَوْمٌ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَدَخَلَ الْفِرِنْجُ الْبَلَدَ فَمَلَكُوهُ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ وَقَتْلَى كَثِيرَةٍ، وَأَسْرِ مَنْ بَقِيَ مِنَ الرِّجَالِ وَسَبْيِ الْحَرِيمِ، وَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ، ثُمَّ نُودِيَ بِالْأَمَانِ، فَعَادَ أَهْلُهَا إِلَيْهَا، وَافْتَكُّوا حُرَمَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، وَرُفِقَ بِهِمْ وَبِأَهْلِ سُوسَةَ وَالْمَهْدِيَّةِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ وَصَلَتْ كُتُبٌ مِنْ رُجَّارَ لِجَمِيعِ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ بِالْأَمَانِ وَالْمَوَاعِيدِ الْحَسَنَةِ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ أَحْوَالُ الْبِلَادِ سَارَ جُرْجِي فِي أُسْطُولٍ إِلَى قَلْعَةِ إِقْلِيبِيَةَ، وَهِيَ قَلْعَةٌ حَصِينَةٌ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا سَمِعَتْهُ الْعَرَبُ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهَا، وَنَزَلَ إِلَيْهِمُ الْفِرِنْجُ، فَاقْتَتَلُوا فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَرَجَعُوا خَاسِرِينَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، وَصَارَ لِلْفِرِنْجِ مِنْ طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ إِلَى قُرَيْبِ تُونِسَ، وَمِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى دُونِ الْقَيْرَوَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ حَصْرِ الْفِرِنْجِ دِمَشْقَ وَمَا فَعَلَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِي بْنُ زَنْكِي فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مَلِكُ الْأَلْمَانِ مِنْ بِلَادِهِ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ وَجَمْعٍ عَظِيمٍ مَنِ الْفِرِنْجِ عَازِمًا عَلَى قَصْدِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ لَا يَشُكُّ فِي مُلْكِهَا بِأَيْسَرِ قِتَالٍ لِكَثْرَةِ جُمُوعِهِ، وَتَوَفُّرِ أَمْوَالِهِ وَعُدَدِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الشَّامِ قَصَدَهُ مَنْ بِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ وَخَدَمُوهُ، وَامْتَثَلُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، فَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ لِيَحْصُرَهَا وَيَمْلِكَهَا بِزَعْمِهِ، فَسَارُوا مَعَهُ وَنَازَلُوهَا وَحَصَرُوهَا، وَكَانَ صَاحِبَهَا مُجِيرُ الدِّينِ أَبَقُ بْنُ بُورِي بْنِ طُغْدِكِينَ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ فِي الْبَلَدِ لِمُعِينِ الدِّينِ أُنُرَ مَمْلُوكِ جَدِّهِ طُغْدِكِينَ، وَهُوَ الَّذِي أَقَامَ مُجِيرَ الدِّينِ ; وَكَانَ مُعِينُ الدِّينِ عَاقِلًا، وَعَادِلًا، خَيِّرًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَحَفِظَ الْبَلَدَ. وَأَقَامَ الْفِرِنْجُ يُحَاصِرُونَهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ زَحَفُوا سَادِسَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِفَارِسِهِمْ وَرَاجِلِهِمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْبَلَدِ وَالْعَسْكَرُ فَقَاتَلُوهُمْ، وَصَبَرُوا لَهُمْ، وَفِيمَنْ خَرَجَ

لِلْقِتَالِ الْفَقِيهُ حُجَّةُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ دِي نَاسٍ الْفَنْدَلَاوِيُّ الْمَغْرِبِيُّ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَقِيهًا عَالِمًا، فَلَمَّا رَآهُ مُعِينُ الدِّينِ، وَهُوَ رَاجِلٌ، قَصَدَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: يَا شَيْخُ، أَنْتَ مَعْذُورٌ لِكِبَرِ سِنِّكَ، وَنَحْنُ نَقُومُ بِالذَّبِّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَعُودَ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَالَ لَهُ: قَدْ بِعْتُ وَاشْتَرَى مِنِّي، فَوَاللَّهِ لَا أَقَلْتُهُ وَلَا اسْتَقَلْتُهُ، فَعَنَى قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] . وَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ عِنْدَ النَّيْرَبِ نَحْوَ نِصْفِ فَرْسَخٍ عَنْ دِمَشْقَ. وَقَوِيَ الْفِرِنْجُ وَضَعُفَ الْمُسْلِمُونَ، فَتَقَدَّمَ مَلِكُ الْأَلْمَانِ حَتَّى نَزَلَ بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ، فَأَيْقَنَ النَّاسُ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَلَدَ. وَكَانَ مُعِينُ الدِّينِ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى سَيْفِ الدِّينِ غَازِي بْنِ أَتَابَكَ زَنْكِي يَدْعُوهُ إِلَى نُصْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَفِّ الْعَدُوِّ عَنْهُمْ، فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَى الشَّامِ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ أَخَاهُ نُورَ الدِّينِ مَحْمُودًا مِنْ حَلَبَ، فَنَزَلُوا بِمَدِينَةِ حِمْصَ، وَأَرْسَلَ إِلَى مُعِينِ الدِّينِ يَقُولُ لَهُ: قَدْ حَضَرْتُ وَمَعِي كُلُّ مَنْ يَحْمِلُ السِّلَاحَ فِي بِلَادِي، فَأُرِيدُ أَنْ يَكُونَ نُوَّابِي بِمَدِينَةِ دِمَشْقَ لِأَحْضُرَ وَأَلْقَى الْفِرِنْجَ، فَإِنِ انْهَزَمْتُ دَخَلْتُ أَنَا وَعَسْكَرِي الْبَلَدَ وَاحْتَمَيْنَا بِهِ، وَإِنْ ظَفِرْتُ فَالْبَلَدُ لَكُمْ لَا أُنَازِعُكُمْ فِيهِ. فَأَرْسَلَ إِلَى الْفِرِنْجِ يَتَهَدَّدُهُمْ إِنْ لَمْ يَرْحَلُوا عَنِ الْبَلَدِ، فَكَفَّ الْفِرِنْجُ عَنِ الْقِتَالِ خَوْفًا مِنْ كَثْرَةِ الْجِرَاحِ، وَرُبَّمَا اضْطُرُّوا إِلَى قِتَالِ سَيْفِ الدِّينِ، فَأَبْقَوْا عَلَى نُفُوسِهِمْ، فَقَوِيَ أَهْلُ الْبَلَدِ عَلَى حِفْظِهِ، وَاسْتَرَاحُوا مِنْ لُزُومِ الْحَرْبِ، وَأَرْسَلَ مُعِينُ الدِّينِ إِلَى الْفِرِنْجِ الْغُرَبَاءِ: إِنَّ مَلِكَ الْمَشْرِقِ قَدْ حَضَرَ، فَإِنْ رَحَلْتُمْ، وَإِلَّا سَلَّمْتُ الْبَلَدَ إِلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ تَنْدَمُونَ ; وَأَرْسَلَ إِلَى فِرِنْجِ الشَّامِ يَقُولُ لَهُمْ: بِأَيِّ عَقْلٍ تُسَاعِدُونَ هَؤُلَاءِ عَلَيْنَا، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ إِنْ مَلَكُوا دِمَشْقَ أَخَذُوا مَا بِأَيْدِيكُمْ مِنَ الْبِلَادِ السَّاحِلِيَّةِ، وَأَمَّا أَنَا فَإِنْ رَأَيْتُ الضَّعْفَ عَنْ حِفْظِ الْبَلَدِ سَلَّمْتُهُ إِلَى سَيْفِ الدِّينِ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَلِكُ دِمَشْقَ لَا يَبْقَى لَكُمْ مَعَهُ مُقَامٌ فِي الشَّامِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى التَّخَلِّي عَنْ مَلِكِ الْأَلْمَانِ، وَبَذَلَ لَهُمْ تَسْلِيمَ حِصْنِ بَانْيَاسَ إِلَيْهِمْ. وَاجْتَمَعَ السَّاحِلِيَّةُ بِمَلِكِ الْأَلْمَانِ، وَخَوَّفُوهُ مِنْ سَيْفِ الدِّينِ وَكَثْرَةِ عَسَاكِرِهِ وَتَتَابُعِ

الْأَمْدَادِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا أَخَذَ دِمَشْقَ وَتَضْعُفُ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى رَحَلَ عَنِ الْبَلَدِ، وَتَسَلَّمُوا قَلْعَةَ بَانْيَاسَ، وَعَادَ الْفِرِنْجُ الْأَلْمَانِيَّةُ إِلَى بِلَادِهِمْ مِنْ وَرَاءِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ شَرَّهُمْ. وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِ دِمَشْقَ: أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ حَكَى لَهُ أَنَّهُ رَأَى الْفَنْدَلَاوِيَّ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ: وَأَيْنَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي، وَأَنَا فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ. ذِكْرُ مُلْكِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي حِصْنَ الْعُرَيْمَةِ لَمَّا سَارَ الْفِرِنْجُ عَنْ دِمَشْقَ رَحَلَ نُورُ الدِّينِ إِلَى حِصْنِ الْعُرَيْمَةِ، وَهُوَ لِلْفِرِنْجِ، فَمَلَكَهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَلِكَ الْأَلْمَانِ لَمَّا خَرَجَ إِلَى الشَّامِ كَانَ مَعَهُ وَلَدُ الْفُنْشِ، وَهُوَ مِنْ أَوْلَادِ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ، وَكَانَ جَدُّهُ هُوَ الَّذِي أَخَذَ طَرَابُلُسَ الشَّامِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذَ حِصْنَ الْعُرَيْمَةِ وَتَمَلَّكَهُ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَخْذَ طَرَابُلُسَ مِنَ الْقُمَّصِ، فَأَرْسَلَ الْقُمَّصُ إِلَى نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ، وَقَدِ اجْتَمَعَ هُوَ وَمُعِينُ الدِّينِ أُنُرُ بِبَعْلَبَكَّ، يَقُولُ لَهُ وَلِمُعِينِ الدِّينِ لِيَقْصِدَا حِصْنَ الْعُرَيْمَةِ وَيَمْلِكَاهُ مِنْ وَلَدِ الْفُنْشِ، فَسَارَا إِلَيْهِ مُجِدِّينَ فِي عَسَاكِرِهِمَا، وَأَرْسَلَا إِلَى سَيْفِ الدِّينِ وَهُوَ بِحِمْصَ يَسْتَنْجِدَانِهِ، فَأَمَدَّهُمَا بِعَسْكَرٍ كَثِيرٍ مَعَ الْأَمِيرِ عِزِّ الدِّينِ أَبِي بَكْرٍ الدُّبَيْسِيِّ، صَاحِبِ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهَا، فَنَازَلُوا الْحِصْنَ وَحَصَرُوهُ، وَبِهِ ابْنُ الْفُنْشِ، فَحَمَاهُ وَامْتَنَعَ بِهِ، فَزَحَفَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَتَقَدَّمَ

إِلَيْهِ النَّقَّابُونَ فَنَقَبُوا السُّورَ، فَاسْتَسْلَمَ حِينَئِذٍ مَنْ بِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَمَلَكَهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَخَذُوا كُلَّ مَنْ بِهِ مِنْ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ وَصَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ، وَفِيهِمُ ابْنُ الْفُنْشِ، وَأَخْرَبُوا الْحِصْنَ وَعَادُوا إِلَى سَيْفِ الدِّينِ. وَكَانَ مَثَلُ ابْنِ الْفُنْشِ كَمَا قِيلَ: خَرَجَتِ النَّعَامَةُ تَطْلُبُ قَرْنَيْنِ فَعَادَتْ بِغَيْرِ أُذُنَيْنِ. ذِكْرُ الْخُلْفِ بَيْنَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَوُصُولِهِمْ إِلَى بَغْدَادَ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ بِالْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَارَقَ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا جَمَاعَةٌ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَهُمْ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ: إِيلْدَكْزُ الْمَسْعُودِيُّ، صَاحِبُ كَنْجَةَ وَأَرَّانِيَّةَ، وَقَيْصَرُ، وَمِنَ الْجَبَلِ: الْبَقْشُ كُونْ خَرْ، وَتَتَرُ الْحَاجِبُ، وَهُوَ مِنْ مَمَالِيكِ مَسْعُودٍ أَيْضًا، وَطُرْنَطَايُّ الْمَحْمُودِيُّ شِحْنَةُ وَاسِطَ، وَالدَّكْزُ، وَقَرْقُوبُ وَابْنُ طَغَايُرْكَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَيْلَ السُّلْطَانِ إِلَى خَاصِّ بِكْ وَاطِّرَاحَهُ لَهُمْ، فَخَافُوا أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مِثْلَ فِعْلِهِ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَبَّاسٍ، وَبُوزَابَةَ، فَفَارَقُوهُ وَسَارُوا نَحْوَ الْعِرَاقِ، فَلَمَّا بَلَغُوا حُلْوَانَ خَافَ النَّاسُ بِبَغْدَادَ وَأَعْمَالِ الْعِرَاقِ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ، وَتَقَدَّمَ الْإِمَامُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ بِإِصْلَاحِ السُّورِ وَتَرْمِيمِهِ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ بِالْعِبَادِيِّ الْوَاعِظِ، فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى قَوْلِهِ، وَوَصَلُوا إِلَى بَغْدَادَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَالْمَلِكُ مُحَمَّدٌ ابْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ مَعَهُمْ، وَنَزَلُوا بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَفَارَقَ مَسْعُودُ بِلَالٍ شِحْنَةُ بَغْدَادَ الْبَلَدَ خَوْفًا مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَسَارَ إِلَى تَكْرِيتَ وَكَانَتْ لَهُ، فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى أَهْلِ بَغْدَادَ، وَوَصَلَ إِلَيْهِمْ عَلِيُّ بْنُ دُبَيْسٍ صَاحِبُ الْحِلَّةِ، فَنَزَلَ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَجَنَّدَ الْخَلِيفَةُ أَجْنَادًا يَحْتَمِي بِهِمْ. وَوَقَعَ الْقِتَالُ بَيْنَ الْأُمَرَاءِ وَبَيْنَ عَامَّةِ بَغْدَادَ وَمَنْ بِهَا مِنَ الْعَسْكَرِ، وَاقْتَتَلُوا عِدَّةَ دَفَعَاتٍ، فَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ انْهَزَمَ الْأُمَرَاءُ الْأَعَاجِمُ مِنْ عَامَّةِ بَغْدَادَ مَكْرًا وَخَدِيعَةً، وَتَبِعَهُمُ الْعَامَّةُ، فَلَمَّا أُبْعِدُوا عَادُوا عَلَيْهِمْ وَصَارَ بَعْضُ الْعَسْكَرِ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ

فَقُتِلَ مِنَ الْعَامَّةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَلَمْ يُبْقُوا عَلَى صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ، وَفَتَكُوا فِيهِمْ، فَأُصِيبَ أَهْلُ بَغْدَادَ بِمَا لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِهِ، وَكَثُرَ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى وَأُسِرَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَقُتِلَ الْبَعْضُ وَشُهِّرَ الْبَعْضُ، وَدَفَنَ النَّاسُ مَنْ عَرَفُوا، وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ تُرِكَ طَرِيحًا بِالصَّحْرَاءِ، وَتَفَرَّقَ الْعَسْكَرُ فِي الْمَحَالِّ الْغَرْبِيَّةِ، فَأَخَذُوا مِنْ أَهْلِهَا الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ، وَنَهَبُوا بَلَدَ دُجَيْلٍ وَغَيْرَهُ، وَأَخَذُوا النِّسَاءَ وَالْوِلْدَانَ. ثُمَّ إِنَّ الْأُمَرَاءَ اجْتَمَعُوا وَنَزَلُوا مُقَابِلَ التَّاجِ، وَقَبَّلُوا الْأَرْضَ وَاعْتَذَرُوا، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخَلِيفَةِ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، وَعَادُوا إِلَى خِيَامِهِمْ، وَرَحَلُوا إِلَى النَّهْرَوَانِ، فَنَهَبُوا الْبِلَادَ، وَأَفْسَدُوا فِيهَا، وَعَادَ مَسْعُودْ بِلَالْ شِحْنَةُ بَغْدَادَ مِنْ تَكْرِيتَ إِلَى بَغْدَادَ. ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءَ تَفَرَّقُوا وَفَارَقُوا الْعِرَاقَ، وَتُوُفِّيَ الْأَمِيرُ قَيْصَرُ بِأَذْرَبِيجَانَ، هَذَا كُلُّهُ وَالسُّلْطَانُ مَسْعُودٌ مُقِيمٌ بِبَلَدِ الْجَبَلِ، وَالرُّسُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمِّهِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ مُتَّصِلَةٌ ; وَكَانَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَلُومُهُ عَلَى تَقْدِيمِ خَاصِّ بِكْ، وَيَأْمُرُهُ بِإِبْعَادِهِ، وَيَتَهَدَّدُهُ بِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَسَيَقْصِدُهُ وَيُزِيلُهُ عَنِ السَّلْطَنَةِ ; وَهُوَ يُغَالِطُ وَلَا يَفْعَلُ، فَسَارَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ إِلَى الرَّيِّ، فَلَمَّا عَلِمَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ بِوُصُولِهِ سَارَ إِلَيْهِ وَتَرَضَّاهُ، وَاسْتَنْزَلَهُ عَمَّا فِي نَفْسِهِ فَسَكَنَ. وَكَانَ اجْتِمَاعُهُمَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ انْهِزَامِ الْفِرِنْجِ بِيَغْرَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَزَمَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي الْفِرِنْجَ بِمَكَانٍ اسْمُهُ يَغْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَكَانُوا قَدْ تَجَمَّعُوا لِيَقْصِدُوا أَعْمَالَ حَلَبَ لِيُغِيرُوا عَلَيْهَا، فَعَلِمَ بِهِمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي عَسْكَرِهِ، فَالْتَقَوْا بِيَغْرَى وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَأَجْلَتِ الْمَعْرَكَةُ عَنِ انْهِزَامِ الْفِرِنْجِ، وَقَتْلِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَأَسْرِ جَمَاعَةٍ مِنْ مُقَدَّمِيهِمْ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعِ إِلَّا

الْقَلِيلُ، وَأَرْسَلَ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْأَسَارَى إِلَى أَخِيهِ سَيْفِ الدِّينِ وَإِلَى الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ وَإِلَى السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ. وَفِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ يَقُولُ ابْنُ الْقَيْسَرَانِيِّ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي أَوَّلُهَا: يَا لَيْتَ أَنَّ الصَّدَّ مَصْدُودُ ... أَوْ لَا، فَلَيْتَ النَّوْمَ مَرْدُودُ وَمِنْهَا فِي ذِكْرِ نُورِ الدِّينِ: وَكَيْفَ لَا نُثْنِي عَلَى عَيْشِنَا الْ ... مَحْمُودِ وَالسُّلْطَانُ مَحْمُودُ وَصَارِمُ الْإِسْلَامِ لَا يَنْثَنِي ... إِلَّا وَشِلْوُ الْكُفْرِ مَقْدُودُ مَكَارِمُ لَمْ تَكُ مَوْجُودَةً ... إِلَّا وَنُورُ الدِّينِ مَوْجُودُ وَكَمْ لَهُ مِنْ وَقْعَةٍ يَوْمُهَا ... عِنْدَ الْمُلُوكِ الْكُفْرِ، مَشْهُودُ ذِكْرُ مُلْكِ الْغُورِيَّةِ غَزْنَةَ وُعَوْدِهِمْ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَصَدَ سُورِي بْنُ الْحُسَيْنِ مَلِكُ الْغُورِ مَدِينَةَ غَزْنَةَ فَمَلَكَهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَخَاهُ مَلِكَ الْغُورِيَّةِ [قَبْلَهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ كَانَ قَدْ صَاهَرَ بَهْرَامْ شَاهْ مَسْعُودَ بْنَ] إِبْرَاهِيمَ، صَاحِبَ غَزْنَةَ، وَهُوَ مِنْ بَيْتِ سُبُكْتِكِينَ، فَعَظُمَ شَأْنُهُ بِالْمُصَاهَرَةِ، وَعَلَتْ هِمَّتُهُ، فَجَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً وَسَارَ إِلَى غَزْنَةَ لِيَمْلِكَهَا. وَقِيلَ: إِنَّمَا مُظْهِرًا الْخِدْمَةَ وَالزِّيَارَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ الْمَكْرَ وَالْغَدْرَ، فَعَلِمَ بِهِ بَهْرَامْ شَاهْ، فَأَخَذَهُ وَسَجَنَهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ، فَعَظُمَ قَتْلُهُ عَلَى الْغُورِيَّةِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْأَخْذُ بِثَأْرِهِ. وَلَمَّا قُتِلَ مَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ سَامُ بْنُ الْحُسَيْنِ، فَمَاتَ بِالْجُدَرِيِّ ; وَمَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ الْمَلِكُ سُورِي بْنُ الْحُسَيْنِ بِلَادَ الْغُورِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَتَمَكَّنَ فِي مُلْكِهِ، فَجَمَعَ عَسْكَرَهُ مِنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ وَسَارَ إِلَى غَزْنَةَ طَالِبًا بِثَأْرِ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ، وَقَاصِدًا مَلِكَ غَزْنَةَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا مَلَكَهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَفَارَقَهَا بَهْرَامْ شَاهْ إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ، وَجَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ وَعَلَى

مُقَدِّمَتِهِ السَّلَارُ الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْعَلَوِيُّ أَمِيرُ هِنْدُوسْتَانَ. وَكَانَ عَسْكَرُ غَزْنَةَ، الَّذِينَ أَقَامُوا مَعَ سُورِي الْغُورِيِّ وَخَدَمُوهُ، قُلُوبُهُمْ مَعَ بَهْرَامْ شَاهْ، وَإِنَّمَا هُمْ بِظَوَاهِرِهِمْ مَعَ سُورِي، فَلَمَّا الْتَقَى سُورِي وَبَهْرَامْ شَاهْ رَجَعَ عَسْكَرُ غَزْنَةَ إِلَى بَهْرَامْ شَاهْ، وَصَارُوا مَعَهُ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ سُورِي مَلِكَ الْغُورِيَّةِ. وَمَلَكَ بَهْرَامْ شَاهْ غَزْنَةَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، وَصُلِبَ الْمَلِكُ سُورِي (مَعَ) السَّيِّدِ الْمَاهِيَانِيِّ فِي الْمُحَرَّمِ أَيْضًا مِنَ السَّنَةِ. وَكَانَ سُورِي أَحَدَ الْأَجْوَادِ، لَهُ الْكَرَمُ الْغَزِيرُ، وَالْمُرُوءَةُ الْعَظِيمَةُ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَرْمِي الدَّرَاهِمَ فِي الْمَقَالِيعِ إِلَى الْفُقَرَاءِ لِتَقَعَ بِيَدِ مَنْ يَتَّفِقُ لَهُ. ثُمَّ عَاوَدَ الْغُورِيَّةُ وَمَلَكُوهَا، وَخَرَّبُوهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] وَذَكَرْنَا هُنَاكَ ابْتِدَاءَ دَوْلَةِ الْغُورِيَّةِ ; لِأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَظُمَ مَحَلُّهُمْ، وَفَارَقُوا الْجِبَالَ، وَقَصَدُوا خُرَاسَانَ، وَعَلَا شَأْنُهُمْ، وَفِي بَعْضِ الْخُلْفِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ مُدُنًا مِنَ الْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الْفِرِنْجُ بِالْأَنْدَلُسِ مَدِينَةَ طَرْطُوشَةَ، وَمَلَكُوا مَعَهَا جَمِيعَ قِلَاعِهَا، وَحُصُونَ لَارِدَةَ وَأَفْرَاغَةَ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الْجِهَاتِ شَيْءٌ إِلَّا وَاسْتَوْلَى الْفِرِنْجُ عَلَى جَمِيعِهِ لِاخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَهُمْ، وَبَقِيَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى الْآنِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ الْمُبَارَكُ بْنُ الْكَامِلِ بْنِ أَبِي غَالِبٍ الْبَغْدَادِيُّ

الْمَعْرُوفُ أَبُوهُ بِالْخَفَّافِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مُفِيدَ بَغْدَادَ. [ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ] وَفِيهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِالْعِرَاقِ وَتَعَذَّرَتِ الْأَقْوَاتُ بِسَبَبِ الْعَسْكَرِ الْوَارِدِ، وَقَدِمَ أَهْلُ السَّوَادِ إِلَى بَغْدَادَ مُنْهَزِمِينَ قَدْ أُخِذَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَهَلَكُوا جُوعًا وَعُرْيًا ; وَكَذَلِكَ أَيْضًا كَانَ الْغَلَاءُ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ: خُرَاسَانَ، وَبِلَادِ الْجَبَلِ، وَأَصْفَهَانَ، وَدِيَارِ فَارِسَ، وَالْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ، وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَكَانَ أَشَدَّ غَلَاءً بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْغَيْثِ، وَدُخُولِ الْعَدُوِّ إِلَيْهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَبْهَانَ الْغَنَوِيُّ الرَّقِّيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَصَحِبَ الْغَزَالِيَّ، وَالشَّاشِيَّ، وَرَوَى " الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ " لِلْحُمَيْدِيِّ عَنْ مُصَنَّفِهِ. وَفِيهَا، فِي ذِي الْقِعْدَةِ، تُوُفِّيَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ، الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ إِمَامُ خُرَاسَانَ.

ثم دخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] (544) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِي بْنِ أَتَابَكَ زَنْكِي وَبَعْضِ سِيرَتِهِ وَمُلْكِ أَخِيهِ قُطْبِ الدِّينِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِي بْنُ أَتَابَكَ زَنْكِي صَاحِبُ الْمَوْصِلِ بِهَا بِمَرَضٍ حَادٍّ، وَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ أَرْسَلَ إِلَى بَغْدَادَ وَاسْتَدْعَى أَوْحَدَ الزَّمَانِ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، فَرَأَى شِدَّةَ مَرَضِهِ، فَعَالَجَهُ، فَلَمْ يَنْجَعْ فِيهِ الدَّوَاءُ، وَتُوُفِّيَ أَوَاخِرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَشَهْرًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا ; وَكَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ وَالشَّبَابِ، وَكَانَتْ وِلَادَتُهُ سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ، وَدُفِنَ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي بَنَاهَا بِالْمَوْصِلِ، وَخَلَّفَ وَلَدًا ذَكَرًا، فَرَبَّاهُ عَمُّهُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ، وَأَحْسَنَ تَرْبِيَتَهُ، وَزَوَّجَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودٍ، فَلَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ وَتُوُفِّيَ فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ، فَانْقَرَضَ عِقْبُهُ. وَكَانَ كَرِيمًا شُجَاعًا عَاقِلًا، وَكَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ لِعَسْكَرِهِ طَعَامًا كَثِيرًا مَرَّتَيْنِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَأَمَّا الَّذِي بُكْرَةً فَيَكُونُ مِائَةَ رَأْسِ غَنَمٍ جَيِّدَةٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حُمِلَ عَلَى رَأْسِهِ السَّنْجَقُ، وَأَمَرَ الْأَجْنَادَ أَلَّا يَرْكَبُوا إِلَّا بِالسَّيْفِ فِي أَوْسَاطِهِمْ وَالدَّبُّوسُ تَحْتَ رُكَبِهِمْ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ اقْتَدَى بِهِ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ. بَنَى الْمَدْرَسَةَ الْأَتَابَكِيَّةَ الْعَتِيقَةَ بِالْمَوْصِلِ، وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ الْمَدَارِسِ، وَوَقَفَهَا عَلَى الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَبَنَى رِبَاطًا

لِلصُّوفِيَّةِ بِالْمَوْصِلِ أَيْضًا عَلَى بَابِ الْمَشْرَعَةِ، وَلَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ لِيَفْعَلَ مَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَكَانَ عَظِيمَ الْهِمَّةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ كَرَمِهِ أَنَّهُ قَصَدَهُ شِهَابُ الدِّينِ الْحَيْصَ بَيْصَ وَامْتَدَحَهُ بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي أَوَّلُهَا: إِلَامَ يَرَاكَ الْمَجْدُ فِي زِيِّ شَاعِرٍ ... وَقَدْ نَحَلَتْ شَوْقًا فَرُوعُ الْمَنَابِرِ فَوَصَلَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ عَيْنًا سِوَى الْخِلَعِ وَغَيْرِهَا. وَلَمَّا تُوُفِّيَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِي كَانَ أَخُوهُ قُطْبُ الدِّينِ مُقِيمًا بِالْمَوْصِلِ، فَاتَّفَقَ جَمَالُ الدِّينِ الْوَزِيرُ وَزَيْنُ الدِّينِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْجَيْشِ عَلَى تَمْلِيكِهِ، فَأَحْضَرُوهُ، وَاسْتَحْلَفُوهُ، وَحَلَفُوا لَهُ، وَأَرْكَبُوهُ إِلَى دَارِ السَّلْطَنَةِ، وَزَيْنُ الدِّينِ فِي رِكَابِهِ، وَأَطَاعَهُ جَمِيعُ بِلَادِ سَيْفِ الدِّينِ كَالْمَوْصِلِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَالشَّامِ. وَلَمَّا مُلِّكَ تَزَوَّجَ الْخَاتُّونَ ابْنَةَ حُسَامِ الدِّينِ تِمِرْتَاشَ الَّتِي كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا أَخُوهُ سَيْفُ الدِّينِ وَتُوفِّيَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَهِيَ أَمُّ أَوْلَادِ قُطْبِ الدِّينِ: سَيْفِ الدِّينِ، وَعِزِّ الدِّينِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَوْلَادِهِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ نُورِ الدِّينِ عَلَى سِنْجَارَ لَمَّا مَلَكَ قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودٌ الْمَوْصِلَ بَعْدَ أَخِيهِ سَيْفِ الدِّينَ غَازِي كَانَ أَخُوهُ الْأَكْبَرُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ بِالشَّامِ، وَلَهُ حَلَبُ وَحَمَاةُ، فَكَاتَبَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَطَلَبُوهُ، وَفِيمَنْ كَاتَبَهُ الْمُقَدَّمُ عَبْدُ الْمَلِكِ وَالِدُ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ حِينَئِذٍ مُسْتَحْفِظًا بِسِنْجَارَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْتَدْعِيهِ لِيَتَسَلَّمَ سِنْجَارَ، فَسَارَ جَرِيدَةً فِي سَبْعِينَ فَارِسًا مِنْ أُمَرَاءِ دَوْلَتِهِ، فَوَصَلَ إِلَى مَاكِسِينَ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ قَدْ سَبَقَ أَصْحَابَهُ. وَكَانَ يَوْمًا شَدِيدَ الْمَطَرِ، فَلَمْ يَعْرِفْهُمُ الَّذِي يَحْفَظُ الْبَابَ، فَأَخْبَرَ الشِّحْنَةَ أَنْ نَفَرًا مِنَ التُّرْكُمَانِ الْمُتَجَنِّدِينَ قَدْ دَخَلُوا الْبَلَدَ، فَلَمْ يَسْتَتِمَّ كَلَامَهُ حَتَّى دَخَلَ نُورُ الدِّينِ الدَّارَ عَلَى الشِّحْنَةِ، فَقَامَ إِلَيْهِ وَقَبَّلَ يَدَهُ، وَلَحِقَ بِهِ بَاقِي أَصْحَابِهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى سِنْجَارَ،

فَوَصَلَهَا وَلَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ رِكَابِيٍّ وَسِلَاحِ دَارٍ، وَنَزَلَ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ. وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُقَدَّمِ يُعْلِمُهُ بِوُصُولِهِ، فَرَآهُ الرَّسُولُ وَقَدْ سَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَتَرَكَ وَلَدَهُ شَمْسَ الدِّينِ مُحَمَّدًا بِالْقَلْعَةِ، فَأَعْلَمَهُ بِمَسِيرِ وَالِدِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَأَقَامَ مَنْ لَحِقَ أَبَاهُ بِالطَّرِيقِ، فَأَعْلَمَهُ بِوُصُولِ نُورِ الدِّينِ، فَعَادَ إِلَى سِنْجَارَ فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، فَدَخَلَهَا نُورُ الدِّينِ، وَأَرْسَلَ إِلَى فَخْرِ الدِّينِ قُرَّا أَرْسَلَانَ صَاحِبِ الْحِصْنِ، يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ لِمَوَدَّةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا، فَوَصَلَ إِلَيْهِ فِي عَسْكَرِهِ ; فَلَمَّا سَمِعَ أَتَابَكُ قُطْبُ الدِّينِ، وَجَمَالُ الدِّينِ، وَزَيْنُ الدِّينِ بِالْمَوْصِلِ بِذَلِكَ جَمَعُوا عَسَاكِرَهُمْ وَسَارُوا نَحْوَ سِنْجَارَ، فَوَصَلُوا إِلَى تَلِّ يَعْفَرَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَازِمِينَ عَلَى قَصْدِهِ بِسِنْجَارَ، فَقَالَ لَهُمْ جَمَالُ الدِّينِ: لَيْسَ مِنَ الرَّأْيِ مَحَاقَّتُهُ وَقِتَالُهُ، فَإِنَّنَا نَحْنُ قَدْ عَظَّمْنَا مَحَلَّهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَمَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنَ الْغُزَاةِ، وَجَعَلْنَا أَنْفُسَنَا دُونَهُ، وَهُوَ يُظْهِرُ لِلْفِرِنْجِ تَعْظِيمًا وَأَنَّهُ تَبَعُنَا ; وَلَا يَزَالُ يَقُولُ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ كَمَا يَجِبُ، وَإِلَّا سَلَّمْتُ الْبِلَادَ إِلَى صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَحِينَئِذٍ يَفْعَلُ بِكُمْ وَيَصْنَعُ، فَإِذَا لَقِينَاهُ، فَإِنْ هَزَمْنَاهُ طَمِعَ السُّلْطَانُ فِينَا، وَيَقُولُ: هَذَا الَّذِي كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ وَيَحْتَمُونَ بِهِ أَضْعَفُ مِنْهُمْ، وَقَدْ هَزَمُوهُ ; وَإِنْ هُوَ هَزَمَنَا طَمِعَ فِيهِ الْفِرِنْجُ، وَيَقُولُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَانَ يَحْتَمِي بِهِمْ أَضْعَفُ مِنْهُ، وَقَدْ هَزَمَهُمْ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ ابْنُ أَتَابَكَ الْكَبِيرِ. وَأَشَارَ بِالصُّلْحِ، وَسَارَ هُوَ إِلَيْهِ فَاصْطَلَحَ، وَسَلَّمَ سِنْجَارَ إِلَى أَخِيهِ قُطْبِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ مَدِينَةَ حِمْصَ وَالرَّحْبَةَ بِأَرْضِ الشَّامِ وَبَقِيَ الشَّامُ لَهُ، وَدِيَارُ الْجَزِيرَةِ لِأَخِيهِ، وَاتَّفَقَا، وَعَادَ نُورُ الدِّينِ إِلَى الشَّامِ، وَأَخَذَ مَعَهُ مَا كَانَ قَدِ ادَّخَرَهُ أَبُوهُ أَتَابَكُ الشَّهِيدُ فِيهَا مِنَ الْخَزَائِنِ، وَكَانَتْ كَثِيرَةً جِدًّا. ذِكْرُ وَفَاةِ الْحَافِظِ وَوِلَايَةِ الظَّافِرِ [وَوِزَارَةِ] ابْنِ السَّلَارِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ الْحَافِظُ لِدِينِ اللَّهِ عَبْدُ الْمَجِيدِ ابْنُ

الْأَمِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ ابْنِ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ الْعَلَوِيِّ، صَاحِبُ مِصْرَ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عِشْرِينَ سَنَةً إِلَّا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَعُمْرُهُ نَحْوٌ مِنْ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَزَلْ فِي جَمِيعِهَا مَحْكُومًا عَلَيْهِ، يَحْكُمُ عَلَيْهِ وُزَرَاؤُهُ، حَتَّى إِنَّهُ جَعَلَ ابْنَهُ حَسَنًا وَزِيرًا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ، فَحَكَمَ عَلَيْهِ وَاسْتَبَدَّ الْأَمْرُ دُونَهُ، وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ دَوْلَتِهِ وَصَادَرَ كَثِيرًا، فَلَمَّا رَأَى الْحَافِظُ ذَلِكَ سَقَاهُ فَمَاتَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَلَمْ يَلِ الْأَمْرَ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ الْمِصْرِيِّينَ مَنْ أَبَوْهُ غَيْرُ خَلِيفَةٍ غَيْرَ الْحَافِظِ الْعَاضِدِ، وَسَيَرِدُ ذِكْرُ نَسَبِ الْعَاضِدِ، وَوَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ بِمِصْرَ ابْنُهُ الظَّافِرُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو مَنْصُورٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الْحَافِظُ، وَاسْتَوْزَرَ ابْنَ مَصَّالٍ، فَبَقِيَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُدَبِّرُ الْأُمُورَ، فَقَصَدَهُ الْعَادِلُ بْنُ السَّلَارِ مِنْ ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَنَازَعَهُ فِي الْوِزَارَةِ، وَكَانَ ابْنُ مَصَّالٍ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْقَاهِرَةِ فِي طَلَبِ بَعْضِ الْمُفْسِدِينَ مِنَ السُّودَانِ، فَخَلَفَهُ الْعَادِلُ بِالْقَاهِرَةِ وَصَارَ وَزِيرًا. وَسَيَّرَ عَبَّاسَ بْنَ أَبِي الْفُتُوحِ بْنِ يَحْيَى بْنِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ الصَّنْهَاجِيَّ فِي عَسْكَرٍ وَهُوَ رَبِيبُ الْعَادِلِ، إِلَى ابْنِ مَصَّالٍ، فَظَفِرَ بِهِ وَقَتَلَهُ، وَعَادَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَاسْتَقَرَّ الْعَادِلُ وَتَمَكَّنَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْخَلِيفَةِ مَعَهُ حُكْمٌ. وَأَمَّا سَبَبُ وُصُولِ الْعَبَّاسِ إِلَى مِصْرَ، فَإِنَّ جَدَّهُ يَحْيَى أَخْرَجَ أَبَاهُ أَبَا الْفُتُوحِ مِنَ الْمَهْدِيَّةِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ يَحْيَى، وَوَلِيَ بَعْدَهُ بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ ابْنُهُ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى بْنِ تَمِيمِ [بْنِ يَحْيَى صَاحِبُ] إِفْرِيقِيَّةَ، أَخْرَجَ أَخَاهُ أَبَا الْفُتُوحِ بْنَ يَحْيَى وَالِدَ عَبَّاسٍ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَسَارَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ بَلَّارَةُ ابْنَةُ الْقَاسِمِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، وَوَلَدُهُ عَبَّاسٌ هَذَا وَهُوَ صَغِيرٌ يَرْضَعُ ; وَنَزَلَ أَبُو الْفُتُوحِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَأُكْرِمَ، وَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً يَسِيرَةً، وَتُوفِّيَ وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ امْرَأَتُهُ بَلَّارَةَ بِالْعَادِلِ بْنَ السَّلَارِ. وَشَبَّ الْعَبَّاسُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ الْحَافِظِ، حَتَّى وَلِيَ الْوِزَارَةَ بَعْدَ الْعَادِلِ ; فَإِنَّ الْعَادِلَ قُتِلَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] . قِيلَ: وَضَعَ عَلَيْهِ عَبَّاسٌ مَنْ قَتَلَهُ،

فَلَمَّا قُتِلَ وَلِيَ الْوِزَارَةَ بَعْدَهُ، وَتَمَكَّنَ فِيهَا، وَكَانَ جَلْدًا حَازِمًا، وَمَعَ هَذَا فَفِي أَيَّامِهِ أَخَذَ الْفِرِنْجُ عَسْقَلَانَ، وَاشْتَدَّ وَهَنُ الدَّوْلَةِ بِذَلِكَ ; وَفِي أَيَّامِهِ أَخَذَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ دِمَشْقَ مِنْ مُجِيرِ الدِّينِ أَبَقَ، وَصَارَ الْأَمْرُ بَعْدَ هَذَا إِلَى أَنْ أُخِذَتْ مِصْرُ مِنْهُمْ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عَوْدَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، عَادَ الْبَقْشُ كُونْ خَرْ، وَالطُرْنَطَايُّ، وَابْنُ دُبَيْسٍ، وَمَعَهُمْ مَلِكْشَاهْ ابْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ إِلَى الْعِرَاقِ، وَرَاسَلُوا الْخَلِيفَةَ فِي الْخُطْبَةِ لِمَلِكْشَاهْ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، وَحَصَّنَ بَغْدَادَ، وَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، فَوَعَدَهُ بِالْوُصُولِ إِلَى بَغْدَادَ، فَلَمْ يَحْضُرْ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُصُولِ عَمِّهِ السُّلْطَانِ سَنْجَرُ إِلَى الرَّيِّ فِي مَعْنَى خَاصِّ بِكْ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الرَّيِّ سَارَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ، وَلَقِيَهُ وَاسْتَرْضَاهُ، فَرَضِيَ عَنْهُ ; فَلَمَّا عَلِمَ الْبَقْشُ بِمُرَاسَلَةِ الْخَلِيفَةِ إِلَى مَسْعُودٍ نَهَبَ النَّهْرَوَانَ، وَقَبَضَ عَلَى الْأَمِيرِ عَلِيِّ بْنِ دُبَيْسٍ فِي رَمَضَانَ، فَلَمَّا عَلِمَ الطُّرْنَطَايُّ بِذَلِكَ هَرَبَ إِلَى النُّعْمَانِيَّةِ. وَوَصَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ إِلَى بَغْدَادَ مُنْتَصَفَ شَوَّالٍ، وَرَحَلَ الْبَقْشُ كُونْ خَرْ مِنَ النَّهْرَوَانِ، وَأَطْلَقَ عَلِيَّ بْنَ دُبَيْسٍ، فَلَمَّا وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَادَ قَصَدَهُ عَلِيٌّ، وَأَلْقَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاعْتَذَرَ، فَرَضِيَ عَنْهُ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ هَذِهِ الْحَادِثَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَذَكَرَ أَيْضًا مِثْلَهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، فَظَنَّهَا حَادِثَتَيْنِ، وَأَنَا أَظُنُّهَا وَاحِدَةً وَلَكِنَّا تَبِعْنَاهُ فِي ذَلِكَ وَنَبَّهْنَا عَلَيْهِ. ذِكْرُ قَتْلِ الْبِرِنْسِ صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ وَهَزِيمَةِ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي بِلَادَ الْفِرِنْجِ مِنْ نَاحِيَةِ أَنْطَاكِيَةَ،

وَقَصَدَ حِصْنَ حَارِمَ، وَهُوَ لِلْفِرِنْجِ، فَحَصَرَهُ وَخَرَّبَ رَبَضَهُ، وَنَهَبَ سَوَادَهُ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى حِصْنِ إِنَّبَ فَحَصَرَهُ أَيْضًا، فَاجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ مَعَ الْبِرِنْسِ صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ وَحَارِمَ وَتِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَسَارُوا إِلَى نُورِ الدِّينِ لِيُرَحِّلُوهُ عَنْ إِنَّبَ، فَلَقِيَهُمْ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا. وَبَاشَرَ نُورُ الدِّينِ الْقِتَالَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَأُسِرَ مِثْلُهُمْ. وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ الْبِرِنْسُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، وَكَانَ عَاتِيًا مَنْ عُتَاةِ الْفِرِنْجِ، وَعَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ، وَلَمَّا قُتِلَ الْبِرِنْسُ مُلِّكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ بِيمُنْدُ، وَهُوَ طِفْلٌ، فَتَزَوَّجَتْ أُمُهُ بِبِرِنْسَ آخَرَ لِيُدَبِّرَ الْبَلَدَ إِلَى أَنْ يَكْبُرَ ابْنُهَا، وَأَقَامَ مَعَهَا بِأَنْطَاكِيَةَ. ثُمَّ إِنَّ نُورَ الدِّينِ غَزَاهُمْ غَزْوَةً أُخْرَى، فَاجْتَمَعُوا وَلَقُوهُ، فَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ فِيهِمْ وَأَسَرَ، وَكَانَ فِيمَنْ أُسِرَ الْبِرِنْسُ الثَّانِي زَوْجُ أُمِّ بِيمُنْدَ، فَتَمَكَّنَ حِينَئِذٍ بِيمُنْدُ بِأَنْطَاكِيَةَ ; وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مَدِيحَ نُورِ الدِّينِ وَتَهْنِئَتَهُ بِهَذَا الظَّفَرِ، فَإِنَّ قَتْلَ الْبِرِنْسِ كَانَ عَظِيمًا عِنْدَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَمِمَّنْ قَالَ فِيهِ الْقَيْسَرَانِيُّ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا: هَذِي الْعَزَائِمُ لَا مَا تَدَّعِي الْقُضُبُ ... وَذِي الْمَكَارِمُ لَا مَا قَالَتِ الْكُتُبُ وَهَذِهِ الْهِمَمُ اللَّاتِي مَتَى خُطِبَتْ ... تَعَثَّرَتْ خَلْفَهَا الْأَشْعَارُ وَالْخُطَبُ صَافَحْتَ يَا ابْنَ عِمَادِ الدِّينِ ذُرْوَتَهَا ... بِرَاحَةٍ لِلْمَسَاعِي دُونَهَا تَعَبُ مَا زَالَ جَدُّكَ يَبْنِي كُلَّ شَاهِقَةٍ ... حَتَّى بَنَى قُبَّةً أَوْتَادُهَا الشُّهُبُ

أَغْرَتْ سُيُوفُكَ بِالْإِفْرِنْجِ رَاجِفَةً ... فُؤَادُ رُومِيَّةَ الْكُبْرَى لَهَا يَجِبُ ضَرَبْتَ كَبْشَهُمْ مِنْهَا بِقَاصِمَةٍ ... أَوْدَى بِهَا الصُّلْبُ وَانْحَطَّتْ بِهَا الصُّلُبُ طَهَّرْتَ أَرْضَ الْأَعَادِي مِنْ دِمَائِهِمُ ... طَهَارَةَ كُلِّ سَيْفٍ عِنْدَهَا جُنُبُ ذِكْرُ الْخُلْفِ بَيْنَ صَاحِبِ صِقِلِّيَةَ وَمَلِكِ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اخْتَلَفَ رُجَّارُ الْفِرِنْجِيُّ صَاحِبُ صِقِلِّيَةَ وَمَلِكُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَجَرَى بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ دَامَتْ عِدَّةَ سِنِينَ، فَاشْتَغَلَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَلَكَ رُجَّارُ جَمِيعَ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ. وَكَانَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمُ بَرًّا وَبَحْرًا، وَالظَّفَرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِصَاحِبِ صِقِلِّيَةَ، حَتَّى إِنْ أُسْطُولَهُ، فِي بَعْضِ السِّنِينَ وَصَلَ إِلَى مَدِينَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَدَخَلَ فَمَ الْمِينَاءِ، وَأَخَذُوا عِدَّةَ شَوَانٍ مِنَ الرُّومِ، وَأَسَرُوا جَمْعًا مِنْهُمْ ; وَرَمَى الْفِرِنْجُ طَاقَاتِ قَصْرِ الْمَلِكِ بِالنُّشَّابِ، وَكَانَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا بِالرُّومِ وَالْمُسْلِمِينَ جُرْجِي وَزِيرُ صَاحِبِ صِقِلِّيَةَ، فَمَرِضَ عِدَّةَ أَمْرَاضٍ مِنْهَا الْبَوَاسِيرُ وَالْحَصَا، وَمَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ، وَاسْتَرَاحَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ وَفَسَادِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ صَاحِبِ صِقِلِّيَةَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ بَعْدَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زَلْزَلَةً عَظِيمَةً، فَقِيلَ إِنَّ جَبَلًا مُقَابِلَ حُلْوَانَ سَاخَ فِي الْأَرْضِ. وَفِيهَا وَلِيَ أَبُو الْمُظَفَّرِ يَحْيَى بْنُ هُبَيْرَةَ وِزَارَةَ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَانَ قَبْلَ

ذَلِكَ صَاحِبَ دِيوَانِ الزِّمَامِ، وَظَهَرَ لَهُ كِفَايَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ نُزُولِ الْعَسَاكِرِ بِظَاهِرِ بَغْدَادَ، وَحُسْنُ قِيَامٍ فِي رَدِّهِمْ، فَرَغِبَ الْخَلِيفَةُ فِيهِ، فَاسْتَوْزَرَهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، وَكَانَ الْقَمَرُ عَلَى تَرْبِيعِ زُحَلَ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ أَخَّرْتَ لُبْسَ الْخِلْعَةِ لِهَذِهِ التَّرْبِيعَاتِ؟ فَقَالَ: وَأَيُّ سَعَادَةٍ أَكْبَرُ مِنْ وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ؟ وَلَبِسَهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي الْمُحَرَّمِ تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةُ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الزَّيْنَبِيُّ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الدَّامَغَانِيُّ. وَفِيهَا فِي الْمُحَرَّمِ رَخُصَتِ الْأَسْعَارُ بِالْعِرَاقِ، وَكَثُرَتِ الْخَيْرَاتُ، وَخَرَجَ أَهْلُ السَّوَادِ إِلَى قُرَاهُمْ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ نَظَرٌ أَمِيرُ الْحَاجِّ، وَكَانَ قَدْ سَارَ بِالْحَاجِّ إِلَى الْحِلَّةِ، فَمَرِضَ وَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْحَاجِّ قَايْمَازَ الْأُرْجُوَانِيَّ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ مَرِيضًا، فَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَكَانَ خَصِيًّا عَاقِلًا خَيِّرًا، لَهُ مَعْرُوفٌ كَثِيرٌ، وَصَدَقَاتٌ وَافِرَةٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ الَّذِي كَانَ وَزِيرَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ وَالْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ رَافِعِ بْنِ خَلِيفَةَ الشَّيْبَانِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ خُرَاسَانَ، وَلَهُ مِائَةٌ وَسَبْعُ سِنِينَ شَمْسِيَّةٌ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُعِينُ الدِّينِ أُنُرُ نَائِبُ أَبَقَ صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَهُوَ كَانَ الْحَاكِمَ وَالْأَمْرُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبَقُ صُورَةَ أَمِيرٍ لَا مَعْنَى تَحْتَهَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَرَّجَانِيُّ أَبُو بَكْرٍ قَاضِي تُسْتَرَ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَلَمَّا بَلَوْتُ النَّاسَ أَطْلُبُ عِنْدَهُمْ ... أَخَا ثِقَةٍ عِنْدَ اعْتِرَاضِ الشَّدَائِدِ تَطَلَّعْتُ فِي حَالَيْ رَخَاءٍ وَشِدَّةٍ ... وَنَادَيْتُ فِي الْأَحْيَاءِ هَلْ مِنْ مُسَاعِدِ؟ فَلَمْ أَرَ فِيمَا سَاءَنِي غَيْرَ شَامِتٍ ... وَلَمْ أَرَ فِيمَا سَرَّنِي غَيْرَ حَاسِدِ تَمَتَّعْتُمَا يَا نَاظِرَيَّ بِنَظْرَةٍ ... وَأَوْرَدْتُمَا قَلْبِي أَمَرَّ الْمَوَارِدِ أَعَيْنَيَّ كُفَّا عَنْ فُؤَادِي فَإِنَّهُ ... مِنَ الْبَغْيِ سَعْيُ اثْنَيْنِ فِي قَتْلِ وَاحِدِ وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عِيسَى بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى الْبَزَّازُ وَكَانَ ظَرِيفًا، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، كَتَبَ إِلَيْهِ صَدِيقٌ لَهُ رُقْعَةً وَزَادَ فِي خِطَابِهِ فَأَجَابَهُ: قَدْ زِدْتَّنِي فِي الْخِطَابِ حَتَّى ... خَشِيتُ نَقْصًا مِنَ الزِّيَادِهْ فَاجْعَلْ خِطَابِي خِطَابَ ... مِثْلِي وَلَا تُغَيِّرْ عَلَيَّ عَادَهْ

ثم دخلت سنة خمس وأربعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] (545) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ أَخْذِ الْعَرَبِ الْحُجَّاجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ خَرَجَ الْعَرَبُ، زَعْبٌ وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا، عَلَى الْحُجَّاجِ بِالْغُرَابِيِّ، بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَأَخَذُوهُمْ وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ نَظَرًا أَمِيرَ الْحَاجِّ [لَمَّا عَادَ مِنَ الْحِلَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَسَارَ عَلَى الْحَاجِّ] قَايْمَازُ الْأُرْجُوَانِيُّ، وَكَانَ حَدَثًا غِرًّا، سَارَ بِهِمْ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا رَأَى أَمِيرُ مَكَّةَ قَايْمَازَ اسْتَصْغَرَهُ، وَطَمِعَ فِي الْحَاجِّ، وَتَلَطَّفَ قَايْمَازُ الْحَالَ مَعَهُ إِلَى أَنْ عَادُوا. فَلَمَّا سَارَ عَنْ مَكَّةَ سَمِعَ بِاجْتِمَاعِ الْعَرَبِ، فَقَالَ لِلْحَاجِّ: الْمَصْلَحَةُ أَنْ لَا نَمْضِيَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَضَجَّ الْعَجَمُ وَتَهَدَّدُوهُ بِالشَّكْوَى مِنْهُ إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، فَقَالَ لَهُمْ: فَأَعْطُوا الْعَرَبَ مَالًا نَسْتَكْفِ بِهِ شَرَّهُمْ! فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى الْغُرَابِيِّ، وَهُوَ مَنْزِلٌ يُخْرَجُ إِلَيْهِ مِنْ مَضِيقٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَوَقَفُوا عَلَى فَمِ مَضِيقٍ، وَقَاتَلَهُمْ قَايْمَازُ وَمَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَى عَجْزَهُ أَخَذَ لِنَفْسِهِ أَمَانًا، وَظَفِرُوا بِالْحُجَّاجِ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ وَجَمِيعَ مَا مَعَهُمْ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْبَرِّ، وَهَلَكَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَلَمْ يَسْلَمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَوَصَلَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَتَحَمَّلُوا مِنْهَا إِلَى الْبِلَادِ، وَأَقَامَ بَعْضُهُمْ مَعَ الْعَرَبِ حَتَّى تَوَصَّلَ إِلَى الْبِلَادِ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى انْتَصَرَ لِلْحَاجِّ مِنْ زَعْبٍ، فَلَمْ يَزَالُوا فِي نَقْصٍ وَذِلَّةٍ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ شَابًّا مِنْهُمْ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَجَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهُ مُفَاوَضَةٌ قُلْتُ لَهُ فِيهَا: إِنَّنِي وَاللَّهِ كُنْتُ أَمِيلُ إِلَيْكَ حَتَّى سَمِعْتُ أَنَّكَ مِنْ زَعْبٍ، فَنَفَرْتُ وَخِفْتُ شَرَّكَ.

فَقَالَ: وَلِمَ؟ فَقُلْتُ: بِسَبَبِ أَخْذِكُمُ الْحَاجَّ. فَقَالَ لِي: أَنَا لَمْ أُدْرِكْ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَكَيْفَ رَأَيْتَ اللَّهَ صَنَعَ بِنَا؟ وَاللَّهِ مَا أَفْلَحْنَا، وَلَا نَجَحْنَا، قَلَّ الْعَدَدُ وَطَمِعَ الْعَدُوُّ فِينَا. ذِكْرُ فَتْحِ حِصْنِ فَامِيَّا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ ابْنُ الشَّهِيدِ زَنْكِي حِصْنَ فَامِيَّا مِنَ الْفِرِنْجِ، وَهُوَ مُجَاوِرُ شَيْزَرَ وَحَمَاةَ، عَلَى تَلٍّ عَالٍ مِنْ أَحْصَنِ الْقِلَاعِ وَأَمْنَعِهَا، فَسَارَ نُورُ الدِّينِ إِلَيْهِ وَحَصَرَهُ وَبِهِ الْفِرِنْجُ، وَقَاتَلَهُمْ وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهِ مِنْهُمْ، فَاجْتَمَعَ مَنْ بِالشَّامِ مِنَ الْفِرِنْجِ وَسَارُوا نَحْوَهُ لِيُرَحِّلُوهُ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَصِلُوا إِلَّا وَقَدْ مَلَكَهُ، وَمَلَأَهُ ذَخَائِرَ وَسِلَاحًا وَرِجَالًا وَجَمِيعَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَسِيرُ الْفِرِنْجِ إِلَيْهِ رَحَلَ عَنْهُ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ أَمْرِ الْحِصْنِ وَسَارَ إِلَيْهِمْ يَطْلُبُهُمْ، فَحِينَ رَأَوْا أَنَّ الْحِصْنَ قَدْ مُلِكَ وَقُوَّةَ عَزْمِ نُورِ الدِّينِ عَلَى لِقَائِهِمْ عَدَلُوا عَنْ طَرِيقِهِ، وَدَخَلُوا بِلَادَهُمْ وَرَاسَلُوهُ فِي الْمُهَادَنَةِ، وَعَادَ سَالِمًا مُظَفَّرًا. وَمَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ وَذَكَرُوا هَذَا الْفَتْحَ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ مُنِيرٍ مِنْ قَصِيدَةٍ أَوَّلُهَا: أَسْنَى الْمَمَالِكِ مَا أَطَلْتَ مَنَارَهَا ... وَجَعَلْتَ مُرْهَفَةَ الدِّسَارِ دِسَارَهَا وَأَحَقُّ مَنْ مَلَكَ الْبِلَادَ وَأَهْلَهَا ... رَؤُفٌ تَكَنَّفَ عَدْلُهُ أَقْطَارَهَا وَمِنْهَا فِي وَصْفِ الْحِصْنِ: أَدْرَكْتَ ثَأْرَكَ فِي الْبُغَاةِ وَكُنْتَ يَا ... مُخْتَارَ أَمَةِ أَحْمَدٍ مُخْتَارَهَا طَابَتْ نُجُومُكَ فَوْقَهَا، وَلَرُبَّمَا ... بَاتَتْ تَنَافَثُهَا النُّجُومُ سِرَارَهَا عَارِيَّةُ الزَّمَنِ الْمُعِيرِ شِمَالُهَا ... مِنْكَ الْمُعِيرَةُ وَاسْتَرَدَّ مُعَارَهَا

أَمْسَتْ مَعَ الشِّعَرَى الْعُبُورِ وَأَصْبَحَتْ ... شَعْرَاءَ تَسْتَغِلِي الْفُحُولُ شِوَارَهَا وَهِيَ طَوِيلَةٌ. ذِكْرُ حَصْرِ الْفِرِنْجِ قُرْطُبَةَ وَرَحِيلِهُمْ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ السُّلَيْطِينُ، وَهُوَ الْأَذْفُونْشُ، وَهُوَ مَلِكُ طُلَيْطِلَةَ وَأَعْمَالِهَا، وَهُوَ مِنْ مُلُوكِ الْجَلَالِقَةِ نَوْعٍ مِنَ الْفِرِنْجِ، فِي أَرْبَعِينَ أَلْفَ فَارِسٍ إِلَى مَدِينَةِ قُرْطُبَةَ، فَحَصَرَهَا، وَهِيَ فِي ضَعْفٍ وَغَلَاءٍ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ بِمَرَّاكُشَ، فَجَهَّزَ عَسْكَرًا كَثِيرًا، وَجَعَلَ مُقَدَّمَهُمْ أَبَا زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى بْنَ يَرْمُوزَ وَنَفَّذَهُمْ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَلَمَّا قَرُبُوا مِنْهَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَلْقَوْا عَسْكَرَ السُّلَيْطِيِنِ فِي الْوِطَاءِ، وَأَرَادُوا الِاجْتِمَاعَ بِأَهْلِ قُرْطُبَةَ لِيَمْنَعُوهَا لِخَطَرِ الْعَاقِبَةِ بَعْدَ الْقِتَالِ، فَسَلَكُوا الْجِبَالَ الْوَعِرَةَ، وَالْمَضَايِقَ الْمُتَشَعِّبَةَ، فَسَارُوا نَحْوَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا فِي الْوَعْرِ فِي مَسَافَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فِي السَّهْلِ، فَوَصَلُوا إِلَى جَبَلٍ مُطِلٍّ عَلَى قُرْطُبَةَ، فَلَمَّا رَآهُمُ السُّلَيْطِيِنُ وَتَحَقَّقَ أَمْرَهُمْ رَحَلَ عَنْ قُرْطُبَةَ. وَكَانَ [فِيهَا] الْقَائِدُ أَبُو الْغَمْرِ السَّائِبُ مِنْ وَلَدِ الْقَائِدِ ابْنِ غَلْبُونَ، وَهُوَ مِنْ أَبْطَالِ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ وَأُمَرَائِهَا، فَلَمَّا رَحَلَ الْفِرِنْجُ خَرَجَ مِنْهَا لِوَقْتِهِ وَصَعِدَ إِلَى ابْنِ يَرْمُوزَ، وَقَالَ لَهُ: انْزِلُوا عَاجِلًا وَادْخُلُوا الْبَلَدَ ; فَفَعَلُوا، وَبَاتُوا فِيهَا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا مِنَ الْغَدِ رَأَوْا عَسْكَرَ السُّلَيْطِينِ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ الَّذِي كَانَ فِيهِ عَسْكَرُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو الْغَمْرِ: هَذَا الَّذِي خِفْتُهُ عَلَيْكُمْ لِأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ السُّلَيْطِينَ مَا أَقْلَعَ إِلَّا طَالِبًا لَكُمْ، فَإِنَّ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ إِلَى الْجَبَلِ طَرِيقًا سَهْلَةً، وَلَوْ لَحِقَكُمْ هُنَاكَ لَنَالَ مُرَادَهُ مِنْكُمْ وَمِنْ قُرْطُبَةَ ; فَلَمَّا رَأَى السُّلَيْطِينُ أَنَّهُمْ قَدْ فَاتُوهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ طَمَعٌ فِي قُرْطُبَةَ ; فَرَحَلَ عَائِدًا إِلَى بِلَادِهِ، وَكَانَ حَصْرُهُ لِقُرْطُبَةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرُ مُلْكِ الْغُورِيَّةِ هَرَاةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مَلِكُ الْغُورِ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ مِنْ بِلَادِ الْغُورِ إِلَى هَرَاةَ فَحَصَرَهَا، وَكَانَ أَهْلُهَا قَدْ كَاتَبُوهُ، وَطَلَبُوا أَنْ يُسَلِّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ هَرَبًا مِنْ ظُلْمِ الْأَتْرَاكِ لَهُمْ، وَزَالَ هَيْبَةُ السَّلْطَنَةِ عَنْهُمْ، فَامْتَنَعَ أَهْلُ هَرَاةَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَيْهِ وَسَلَّمُوا الْبَلَدَ وَأَطَاعُوهُ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ، وَغَمَرَهُمْ بِالْعَدْلِ، وَأَظْهَرَ طَاعَةَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَالْقِيَامَ عَلَى الْوَفَاءِ لَهُ، وَالِانْقِيَادَ إِلَيْهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ عَلَاءُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ مَسْعُودٍ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِ طُرَيْثِيثَ الَّتِي بِيَدِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، بِإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ لِلْخَلِيفَةِ، وَلُبْسِ السَّوَادِ، فَفَعَلَ الْخَطِيبُ ذَلِكَ، فَثَارَ بِهِ عَمُّهُ وَأَقَارِبُهُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وَقَاتَلُوهُ، وَكَسَرُوا الْمِنْبَرَ وَقَتَلُوا الْخَطِيبَ. وَكَانَ فِعْلُ عَلَاءِ الدِّينِ هَذَا لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مُسْلِمًا، فَلَمَّا تَغَلَّبَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ عَلَى طُرَيْثِيثَ أَظْهَرَ مُوَافَقَتَهُمْ، وَأَبْطَنَ اعْتِقَادَ الشَّرِيعَةِ، وَكَانَ يُنَاظِرُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَازْدَادَ تَقَدُّمًا بِطُرَيْثِيثَ، وَجَرَتْ أُمُورُهَا بِإِرَادَتِهِ ; فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى أَنْ يُغَسِّلَهُ فَقِيهٌ شَافِعِيٌّ، وَأَوْصَى إِلَى ابْنِهِ عَلَاءِ الدِّينِ إِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُعِيدَ فِيهَا إِظْهَارَ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ فَعَلَ. فَلَمَّا رَأَى مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً فَعَلَهُ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ. وَفِيهَا كَثُرَ الْمَرَضُ بِالْعِرَاقِ لَا سِيَّمَا بِبَغْدَادَ، وَكَثُرَ الْمَوْتُ أَيْضًا فِيهَا، فَفَارَقَهَا السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ عَلِيُّ بْنُ دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ صَاحِبُ الْحِلَّةِ بِأَسْدَابَادَ، وَاتَّهَمَ طَبِيبَهُ مُحَمَّدَ بْنَ صَالِحٍ الْمُوَاطَأَةَ عَلَيْهِ، فَمَاتَ الطَّبِيبُ بَعْدَهُ بِقَرِيبٍ. وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ صَاحِبُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ أَبَا جَعْفَرِ بْنَ أَبِي أَحْمَدَ الْأَنْدَلُسِيَّ، وَكَانَ مَأْسُورًا عِنْدَهُ، فَوُصِفَ لَهُ بِالْعَقْلِ وَجَوْدَةِ الْكِتَابَةِ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَبْسِ وَاسْتَوْزَرَهُ، وَهُوَ أَوَّلُ وَزِيرٍ كَانَ لِلْمُوَحِّدِينَ.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، جَلَسَ يُوسُفُ الدِّمَشْقِيُّ مُدَرِّسًا فِي النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ جُلُوسُهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ، فَمُنِعَ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ، مِنْ دُخُولِ الْجَامِعِ، فَصَلَّى فِي جَامِعِ السُّلْطَانِ، وَمُنِعَ مِنَ التَّدْرِيسِ، فَتَقَدَّمَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي النَّجِيبِ بِأَنْ يُدَرِّسَ فِيهَا، فَامْتَنَعَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ فَاسْتَخْرَجَ السُّلْطَانُ إِذْنَ الْخَلِيفَةِ فِي ذَلِكَ، فَدَرَّسَ مُنْتَصَفَ الْمُحَرَّمِ مِنَ السَّنَةِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مِهْرَانَ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى الْهَرَّاسِيِّ، وَوَلِيَ قَضَاءَ نَصِيبِينَ، ثُمَّ تَرَكَ الْقَضَاءَ وَتَزَهَّدَ، فَأَقَامَ بِجَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى جَبَلٍ بِبَلَدِ الْحِصْنِ، فِي زَاوِيَةٍ، وَكَانَ لَهُ كَرَامَاتٌ ظَاهِرَةٌ. وَفِيهَا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ ذِي النُّونِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الشُّغْرِيُّ أَبُو الْمَفَاخِرِ النَّيْسَابُورِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ فَقِيهًا أَدِيبًا دَائِمَ الْأَشْغَالِ، يَعِظُ النَّاسَ، وَكَانَ مِمَّا يُنْشِدُ: مَاتَ الْكِرَامُ وَوَلَّوْا وَانْقَضَوْا وَمَضَوْا ... وَمَاتَ مِنْ بَعْدِهِمْ تِلْكَ الْكَرَامَاتُ وَخَلَّفُونِي فِي قَوْمٍ ذَوِي سَفَهٍ ... لَوْ أَبْصَرُوا طَيْفَ ضَيْفٍ فِي الْكَرَى مَاتُوا

ثم دخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] (546) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ انْهِزَامِ نُورِ الدِّينِ مِنْ جُوسْلِينَ وَأَسْرِ جُوسْلِينَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ عَسْكَرَهُ وَسَارَ إِلَى بِلَادِ جُوسْلِينَ الْفِرِنْجِيِّ، وَهِيَ شَمَالِيَّ حَلَبَ، مِنْهَا تَلُّ بَاشِرَ، وَعَيْنُ تَابَ، وَإِعْزَازُ، وَغَيْرُهَا، وَعَزَمَ عَلَى مُحَاصَرَتِهَا وَأَخْذِهَا، وَكَانَ جُوسْلِينَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَارِسَ الْفِرِنْجِ غَيْرَ مُدَافَعٍ، قَدْ جَمَعَ الشَّجَاعَةَ وَالرَّأْيَ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ جَمَعَ الْفِرِنْجَ فَأَكْثَرَ، وَسَارَ نَحْوَ نُورِ الدِّينِ فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ وَأُسِرَ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ أُسِرَ سِلَاحُ دَارِ نُورِ الدِّينِ، فَأَخَذَهُ جُوسْلِينَ، وَمَعَهُ سِلَاحُ نُورِ الدِّينِ، فَسَيَّرَهُ إِلَى الْمَلِكِ مَسْعُودِ بْنِ قُلْجَ أَرَسْلَانَ صَاحِبِ قُونِيَّةَ، وَأَقْصَرَا، وَقَالَ لَهُ: هَذَا سِلَاحُ زَوْجِ ابْنَتِكَ، وَسَيَأْتِيكَ بَعْدَهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ. فَلَمَّا عَلِمَ نُورُ الدِّينِ الْحَالَ عَظُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَأَعْمَلَ الْحِيلَةَ [عَلَى] جُوسْلِينَ، وَهَجَرَ الرَّاحَةَ لِيَأْخُذَ بِثَأْرِهِ، وَأَحْضَرَ جَمَاعَةً مِنْ أُمَرَاءِ التُّرْكُمَانِ، وَبَذَلَ لَهُمُ الرَّغَائِبَ إِنْ هُمْ ظَفِرُوا بِجُوسْلِينَ وَسَلَّمُوهُ إِلَيْهِ إِمَّا قَتِيلًا أَوْ أَسِيرًا ; لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ مَتَى قَصَدَهُ بِنَفْسِهِ احْتَمَى بِمَجْمُوعِهِ وَحُصُونِهِ، فَجَعَلَ التُّرْكُمَانُ عَلَيْهِ الْعُيُونَ، فَخَرَجَ مُتَصَيِّدًا، فَلَحِقَتْ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَظَفِرُوا بِهِ، فَصَانَعَهُمْ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِمْ، فَأَجَابُوهُ إِلَى إِطْلَاقِهِ إِذَا حَضَرَ الْمَالُ، فَأَرْسَلَ فِي إِحْضَارِهِ، فَمَضَى بَعْضُهُمْ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ الدَّايَةِ، نَائِبِ نُورِ

الدِّينِ بِحَلَبَ، فَأَعْلَمَهُ الْحَالَ، فَسَيَّرَ عَسْكَرًا مَعَهُ، فَكَبَسُوا أُولَئِكَ التُّرْكُمَانَ وَجُوسْلِينُ مَعَهُمْ، فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا وَأَحْضَرُوهُ عِنْدَهُ، وَكَانَ أَسْرُهُ مِنْ أَعْظَمِ الْفُتُوحِ ; لِأَنَّهُ كَانَ شَيْطَانًا عَاتِيًا، شَدِيدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، قَاسِيَ الْقَلْبِ، وَأُصِيبَتِ النَّصْرَانِيَّةُ كَافَّةً بِأَسْرِهِ. وَلَمَّا أُسِرَ سَارَ نُورُ الدِّينِ إِلَى قِلَاعِهِ فَمَلَكَهَا، وَهِيَ تَلُّ بَاشِرَ، وَعَيْنُ تَابَ، وَإِعْزَازُ، وَتَلُّ خَالِدٍ، وَقُورَسُ، وَالرَّاوَنْدَانُ، وَبُرْجُ الرَّصَاصِ، وَحِصْنُ الْبَارَّةِ، وَكَفَرْسُودُ، وَكَفَرْلَاثَا، وَدُلُوكُ، وَمَرْعَشُ، وَنَهْرُ الْجَوْزِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِهِ، (فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ يَرِدُ تَفْصِيلُهَا) . وَكَانَ نُورُ الدِّينِ كُلَّمَا فَتَحَ مِنْهَا حِصْنًا نَقَلَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْحُصُونُ، خَوْفًا مِنْ نَكْسَةٍ تَلْحَقُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَتَكُونُ بِلَادُهُمْ غَيْرَ مُحْتَاجَةٍ إِلَى مَا يَمْنَعُهَا مِنَ الْعَدُوِّ، وَمَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ، فَمِمَّنْ قَالَ فِيهِ الْقَيْسَرَانِيُّ مِنْ قَصِيدَةٍ فِي ذِكْرِ جُوسْلِينَ: كَمَا أَهْدَتِ الْأَقْدَارُ لِلْقُمَّصِ أَسْرَهُ ... وَأُسْعِدَ قَرْنُ مَنْ حَوَاهُ لَكَ الْأَسْرُ طَغَى وَبَغَى عَدْوًا عَلَى غُلَوَائِهِ ... فَأَوْبَقَهُ الْكُفْرَانُ عَدْوَاهُ وَالْكُفْرُ وَأَمْسَتْ عِزَازٌ كَاسْمِهَا بِكَ عَزَّةً ... تَشُقُّ عَلَى النِّسْرَيْنِ لَوْ أَنَّهَا وَكْرُ فَسِرْ وَامَلَإِ الدُّنْيَا ضِيَاءً وَبَهْجَةً ... فَبِالْأُفُقِ الدَّاجِي إِلَى ذَا السَّنَا فَقْرُ كَأَنِّي بِهَذَا الْعَزْمِ لَا فُلَّ حَدُّهُ ... وَأَقْصَاهُ بِالْأَقْصَى وَقَدْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَقَدْ أَصْبَحَ الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ طَاهِرًا ... وَلَيْسَ سِوَى جَارِي الدِّمَاءِ لَهُ طُهْرُ

ذِكْرُ حَصْرِ غَرْنَاطَةَ وَالْمَرِيَّةِ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ جَيْشًا كَثِيفًا، نَحْوَ عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، إِلَى الْأَنْدَلُسِ مَعَ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْهِنْتَاتِيِّ، وَسَيَّرَ مَعَهُمْ نِسَاءَهُمْ، (فَكُنَّ يَسِرْنَ مُفْرَدَاتٍ) عَلَيْهِنَّ الْبَرَانِسُ السُّودُ، لَيْسَ مَعَهُنَّ غَيْرُ الْخَدَمِ، (وَمَتَى قُرُبَ مِنْهُنَّ رَجُلٌ ضُرِبَ بِالسِّيَاطِ) . فَلَمَّا قَطَعُوا الْخَلِيجَ سَارُوا إِلَى غَرْنَاطَةَ وَبِهَا جَمْعٌ مِنَ الْمُرَابِطِينَ، فَحَصَرَهَا عُمَرُ وَعَسْكَرُهُ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهَا، فَجَاءَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ مِلْحَانَ، صَاحِبُ مَدِينَةِ وَادِي آشَ وَأَعْمَالِهَا، بِجَمَاعَتِهِ، وَوَحَّدُوا، وَصَارُوا مَعَهُ، وَأَتَاهُمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَمْشَكَ صِهْرُ ابْنِ مَرْدَنِيشَ، صَاحِبِ جَيَّانَ، وَأَصْحَابُهُ، وَوَحَّدُوا، وَصَارُوا أَيْضًا مَعَهُ، فَكَثُرَ جَيْشُهُ، وَحَرَّضُوهُ عَلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى ابْنِ مَرْدَنِيشَ، مَلِكِ بِلَادِ شَرْقِ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، لِيَبْغَتَهُ بِالْحِصَارِ قَبْلَ أَنْ يَتَجَهَّزَ. فَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ مَرْدَنِيشَ ذَلِكَ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلِكِ بَرْشِلُونَةَ، مِنْ بِلَادِ الْفِرِنْجِ، يُخْبِرُهُ، وَيَسْتَنْجِدُهُ، وَيَسْتَحِثُّهُ، عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْفِرِنْجِيُّ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَسَارَ عَسْكَرُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَوَصَلُوا إِلَى حَمَّةِ بَلْقُوَارَةَ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مُرْسِيَّةَ، الَّتِي هِيَ مَقَرُّ ابْنِ مَرْدَنِيشَ مَرْحَلَةٌ، فَسَمِعُوا بِوُصُولِ الْفِرِنْجِ، فَرَجَعَ وَحَصَرَ مَدِينَةَ الْمَرِيَّةِ، وَهِيَ لِلْفِرِنْجِ، عِدَّةَ شُهُورٍ، فَاشْتَدَّ الْغَلَاءُ فِي الْعَسْكَرِ، وَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ، فَرَحَلُوا عَنْهَا وَعَادُوا إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ فَأَقَامُوا بِهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، تُوُفِّيَ الْعِبَادِيُّ الْوَاعِظُ، وَاسْمُهُ الْمُظَفَّرُ ابْنُ أَرْدَشِيرَ، بِخُوزِسْتَانَ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ قَدْ سَيَّرَهُ فِي رِسَالَةٍ إِلَى الْمَلِكِ

مُحَمَّدٍ ابْنِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَدْرٍ الْحُوَيْزِيِّ، فَتُوفِّيَ هُنَاكَ وَجَلَسَ وَلَدُهُ بِبَغْدَادَ لِلْعَزَاءِ، وَأُقِيمَ بِحَاجِبٍ مِنَ الدِّيوَانِ الْعَزِيزِ. وَكَانَ يَجْلِسُ وَيَعِظُ وَيَذْكُرُ وَالِدَهُ وَيَبْكِي هُوَ وَالنَّاسُ كَافَّةً، وَنُقِلَ الْعِبَادِيُّ إِلَى بَغْدَادَ وَدُفِنَ بِالشُّوَنِيزَى، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الشَّيْرَوِيِّ، وَزَاهِرٍ الشَّحَّامِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَرَوَاهُ. وَفِيهَا انْفَجَرَ بَثْقُ النَّهْرَوَانِ الَّذِي أَتَمَّهُ بَهْرُوزُ بِكَثْرَةِ الزِّيَادَةِ فِي تَامِرَّا وَإِهْمَالِ أَمْرِهَا، حَتَّى عَظُمَ ذَلِكَ وَتَضَرَّرَ بِهِ النَّاسُ. وَفِيهَا سَارَ الْأَمِيرُ قُجُقُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ إِلَى طُرَيْثِيثَ بِخُرَاسَانَ، وَأَغَارَ عَلَى بِلَادِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ فَنَهَبَ، وَسَبَى، وَخَرَّبَ، وَأَحْرَقَ الْمَسَاكِنَ، وَفَعَلَ بِهِمْ أَفَاعِيلَ عَظِيمَةً وَعَادَ سَالِمًا.

ثم دخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] (547) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مَلْكِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِجَايَةَ وَمُلْكِ بَنِي حَمَّادٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى بِجَايَةَ وَمَلَكَهَا، وَمَلَكَ جَمِيعَ مَمَالِكِ بَنِي حَمَّادٍ. وَكَانَ لَمَّا أَرَادَ قَصْدَهَا سَارَ مِنْ مَرَّاكُشَ إِلَى سَبْتَةَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً يُعَمِّرُ الْأُسْطُولَ، وَيَجْمَعُ الْعَسَاكِرَ الْقَرِيبَةَ مِنْهُ. وَأَمَّا مَا هُوَ عَلَى طَرِيقِهِ (إِلَى بِجَايَةَ مِنَ الْبِلَادِ) ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ لِيَتَجَهَّزُوا وَيَكُونُوا عَلَى الْحَرَكَةِ أَيَّ وَقْتٍ طَلَبَهُمْ، وَالنَّاسُ يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْعُبُورَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، فَأَرْسَلَ فِي قَطْعِ السَّابِلَةِ عَنْ بِلَادِ شَرْقِ الْمَغْرِبِ بَرًّا وَبَحْرًا. وَسَارَ مِنْ سَبْتَةَ فِي صَفَرَ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ وَطَوَى الْمَرَاحِلَ، وَالْعَسَاكِرُ تَلْقَاهُ فِي طَرِيقِهِ، فَلَمْ يَشْعُرْ أَهْلُ بِجَايَةَ إِلَّا وَهُوَ فِي أَعْمَالِهَا، وَكَانَ مَلِكُهَا يَحْيَى بْنُ الْعَزِيزِ بْنِ حَمَّادٍ آخِرَ مَلُّوكِ بَنِي حَمَّادٍ، وَكَانَ مُولَعًا بِالصَّيْدِ وَاللَّهْوِ لَا يَنْظُرُ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ مَمْلَكَتِهِ، قَدْ حَكَمَ فِيهَا بَنُو حَمْدُونَ، فَلَمَّا اتَّصَلَ الْخَبَرُ بِمَيْمُونَ بْنِ حَمْدُونَ جَمَعَ الْعَسْكَرَ وَسَارَ عَنْ بِجَايَةَ نَحْوَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَلَقِيَهُمْ مُقَدِّمَتُهُ، وَهُوَ يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ بِجَايَةَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَدَخَلَتْ مُقَدِّمَةُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِجَايَةَ قَبْلَ وَصُولِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِيَوْمَيْنِ، وَتَفَرَّقَ جَمِيعُ عَسْكَرِ يَحْيَى بْنِ الْعَزِيزِ، وَهَرَبُوا بَرًّا وَبَحْرًا، وَتَحَصَّنَ يَحْيَى بِقَلْعَةِ قُسَنْطِينَةِ الْهَوَاءِ، وَهَرَبَ أَخَوَاهُ الْحَارِثُ، وَعَبْدُ اللَّهِ إِلَى صِقِلِّيَةَ، وَدَخْلَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بِجَايَةَ، وَمَلَكَ جَمِيعَ بِلَادِ ابْنِ الْعَزِيزِ بِغَيْرِ قِتَالٍ.

ثُمَّ إِنَّ يَحْيَى نَزَلَ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِالْأَمَانِ فَأَمَّنَهُ، وَكَانَ يَحْيَى قَدْ فَرِحَ لَمَّا أُخِذَتْ بِلَادُ إِفْرِيقِيَّةَ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَرَحًا ظَهَرَ عَلَيْهِ، فَكَانَ يَذُمُّهُ، وَيَذْكُرُ مَعَايِبَهُ، فَلَمْ تَطُلِ الْمُدَّةُ حَتَّى أُخِذَتْ بِلَادُهُ، وَوَصَلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ فِي جَزَائِرِ بَنِي مَزَغَنَّانَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] سَبَبَ مَصِيرِهِ إِلَيْهَا، وَاجْتَمَعَا عِنْدَهُ، فَأَرْسَلَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ يَحْيَى بْنَ الْعَزِيزِ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَأَقَامَ بِهَا، وَأَجْرَى عَلَيْهِ شَيْئًا كَثِيرًا. وَأَمَّا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَلْزَمَهُ صُحْبَتَهُ، وَأَعْلَى مَرْتَبَتَهُ، فَلَزِمَهُ إِلَى أَنْ فَتَحَ عَبْدُ الْمُؤْمِنَ الْمَهْدِيَّةَ فَجَعَلَهُ فِيهَا، وَأَمَرَ وَالِيَهَا أَنْ يَقْتَدِيَ بِرَأْيِهِ وَيَرْجِعَ إِلَى قَوْلِهِ. وَلَمَّا فَتَحَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بِجَايَةَ لَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَى مَالِ أَهْلِهَا وَلَا غَيْرِهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَنِي حَمْدُونَ اسْتَأْمَنُوا فَوَفَّى بِأَمَانِهِ. ذِكْرُ ظَفَرِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِصِنْهَاجَةَ لَمَّا مَلَكَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بِجَايَةَ تَجَمَّعَتْ صِنْهَاجَةُ فِي أُمَمٍ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَتَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ اسْمُهُ أَبُو قَصَبَةَ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُمْ مِنْ كُتَامَةَ وَلُوَاتَةَ وَغَيْرِهِمَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَصَدُوا حَرْبَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا كَثِيرًا، وَمُقَدَّمُهُمْ أَبُو سَعِيدٍ يَخْلُفُ، وَهُوَ مِنَ الْخَمْسِينَ، فَالْتَقَوْا فِي عُرْضِ الْجَبَلِ شَرْقِيَّ بِجَايَةَ، فَانْهَزَمَ أَبُو قَصَبَةَ وَقُتِلَ أَكْثَرُ مَنْ مَعَهُ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَسُبِيَتْ نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيهِمْ. وَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ صِنْهَاجَةَ سَارُوا إِلَى قَلْعَةِ بَنِي حَمَّادٍ، وَهِيَ مِنْ أَحْصَنِ الْقِلَاعِ وَأَعْلَاهَا لَا تُرَامُ، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ شَاهِقٍ يَكَادُ الطَّرْفُ لَا يُحَقِّقُهَا لِعُلُوِّهَا، وَلَكِنَّ الْقَدَرَ إِذَا جَاءَ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ مَعْقِلٌ وَلَا جُيُوشٌ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُهَا عَسَاكِرَ الْمُوَحِّدِينَ هَرَبُوا مِنْهَا فِي رَءُوسِ الْجِبَالِ، وَمُلِكَتِ الْقَلْعَةُ، وَأُخِذَ جَمِيعُ مَا فِيهَا مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ وَحُمِلَ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ فَقَسَّمَهُ.

ذِكْرُ وَفَاةِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَمُلْكِ مَلِكْشَاهْ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوَّلَ رَجَبٍ تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مَسْعُودُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ بِهَمَذَانَ، وَكَانَ مَرَضُهُ حُمَّى حَادَّةً نَحْوَ أُسْبُوعٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَمَاتَ مَعَهُ سَعَادَةُ الْبَيْتِ السَّلْجُوقِيِّ، فَلَمْ يَقُمْ لَهُ بَعْدَهُ رَايَةٌ وَلَا يُعْتَدُّ بِهَا وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا: فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، كَثِيرَ الْمِزَاحِ وَالِانْبِسَاطِ مَعَ النَّاسِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَتَابَكَ زَنْكِي، صَاحِبَ الْمَوْصِلِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْقَاضِيَ كَمَالَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ الشَّهْرَزُورِيَّ فِي رِسَالَةٍ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ وَأَقَامَ مَعَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَوَقَفَ يَوْمًا عَلَى خَيْمَةِ الْوَزِيرِ، حَتَّى قَارَبَ أَذَانُ الْمَغْرِبِ، فَعَادَ إِلَى خَيْمَتِهِ، فَأَذَّنَ الْمَغْرِبُ وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ، فَرَأَى إِنْسَانًا فَقِيهًا فِي خَيْمَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ، فَصَلَّى مَعَهُ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ سَأَلَهُ كَمَالُ الدَّيْنِ مِنْ أَيْنَ هُوَ؟ فَقَالَ: أَنَا قَاضِي مَدِينَةِ كَذَا. فَقَالَ لَهُ كَمَالُ الدِّينِ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ، قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَهُوَ أَنَا وَأَنْتَ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَبْوَابَ هَؤُلَاءِ الظَّلَمَةِ وَلَا يَرَاهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ وَأُحْضِرَ كَمَالُ الدَّيْنِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَرَآهُ ضَحِكَ وَقَالَ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ. فَقَالَ كَمَالُ الدَّيْنِ: نَعَمْ يَا مَوْلَانَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ صَدَقْتَ، مَا أَسْعَدَ مَنْ لَا يَرَانَا وَلَا نَرَاهُ! ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُقْضَى حَاجَتُهُ وَأَعَادَهُ مِنْ يَوْمِهِ. وَكَانَ كَرِيمًا عَفِيفًا عَنِ الْأَمْوَالِ الَّتِي لِلرَّعَايَا، حَسَنَ السِّيرَةِ فِيهِمْ، مِنْ أَصْلَحِ السَّلَاطِينِ سِيرَةً وَأَلْيَنِهِمْ عَرِيكَةً، سَهْلَ الْأَخْلَاقِ لَطِيفًا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ اجْتَازَ يَوْمًا فِي بَعْضِ أَطْرَافِ بَغْدَادِ، فَسَمِعَ امْرَأَةً تَقُولُ لِأُخْرَى: تَعَالَيِ انْظُرِي إِلَى السُّلْطَانِ، فَوَقَفَ وَقَالَ: حَتَّى تَجِيءَ هَذِهِ السِّتُّ تَنْظُرُ إِلَيْنَا. وَلَهُ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ وَمَنَاقِبُ جَمَّةٌ، وَكَانَ عَهِدَ إِلَى مَلِكْشَاهِ ابْنِ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ خَطَبَ لَهُ الْأَمِيرُ خَاصُّ بِكْ بْنُ بَلَنْكَرِي بِالسَّلْطَنَةِ، وَرَتَّبَ الْأُمُورَ، وَقَرَّرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَذْعَنَ لَهُ جَمِيعُ الْعَسْكَرِ بِالطَّاعَةِ.

وَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَادَ بِمَوْتِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ هَرَبَ الشِّحْنَةُ بِهَا، وَهُوَ مَسْعُودُ بِلَالٍ إِلَى تَكْرِيتَ، وَاسْتَظْهَرَ الْخَلِيفَةَ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى دَارِهِ، وَدَوْرِ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ بِبَغْدَادَ، وَأَخَذَ كُلَّ مَا لَهُمْ فِيهَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَحْضَرَهَا بِالدِّيوَانِ، وَجَمَعَ الْخَلِيفَةُ الرِّجَالَ وَالْعَسَاكِرَ وَأَكْثَرَ التَّجْنِيدَ، وَتَقَدَّمَ بِإِرَاقَةِ الْخُمُورِ مِنْ مَسَاكِنِ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ، وَوُجِدَ فِي دَارِ مَسْعُودِ بِلَالٍ شِحْنَةِ بَغْدَادَ كَثِيرٌ مِنَ الْخَمْرِ، فَأُرِيقُ، وَلَمْ يَكُنِ النَّاسُ يَظُنُّونَ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ بَعْدَ الْحَجِّ، وَقُبِضَ عَلَى الْمُؤَيَّدِ الْأَلُوسِيِّ الشَّاعِرِ، وَعَلَى الْحَيْصَ بَيْصَ الشَّاعِرِ، ثُمَّ أُطْلِقَ الْحَيْصَ بَيْصَ، وَأُعِيدَ عَلَيْهِ مَا أُخِذَ مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ مَلِكْشَاهْ سَيَّرَ سَلَارْكُرْدَ فِي عَسْكَرٍ إِلَى الْحِلَّةِ، فَدَخَلَهَا، فَسَارَ إِلَيْهِ مَسْعُودُ بِلَالٍ، شِحْنَةُ بَغْدَادَ، وَأَظْهَرَ لَهُ الِاتِّفَاقَ مَعَهُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا قَبْضَ عَلَيْهِ مَسْعُودُ بِلَالٍ وَغَرَّقَهُ، وَاسْتَبَدَّ بِالْحِلَّةِ، فَلَمَّا عَلِمَ الْخَلِيفَةُ ذَلِكَ جَهَّزَ الْعَسَاكِرَ إِلَيْهِ مَعَ الْوَزِيرِ عَوْنِ الدِّينِ بْنِ هُبَيْرَةَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَارَبُوا الْحِلَّةَ عَبَرَ مَسْعُودُ بِلَالٍ الْفُرَاتَ إِلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ، فَانْهَزَمَ مِنْ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ، وَنَادَى أَهْلُ الْحِلَّةِ بِشِعَارِ الْخَلِيفَةِ، فَلَمْ يَدْخُلْهَا، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، فَعَادَ [إِلَى] تَكْرِيتَ، وَمَلَكَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ الْحِلَّةِ، وَسَيَّرَ الْوَزِيرُ عَسْكَرًا إِلَى وَاسِطَ، فَمَلَكُوهُمَا. ثُمَّ إِنَّ عَسَاكِرَ السُّلْطَانِ وَصَلَتْ إِلَى وَاسِطَ، فَفَارَقَهَا عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْخَلِيفَةُ ذَلِكَ تَجَهَّزَ بِنَفْسِهِ، وَسَارَ عَنْ بَغْدَادَ إِلَى وَاسِطَ، فَفَارَقَهَا الْعَسْكَرُ السُّلْطَانِيُّ، وَمَلَكَهَا الْخَلِيفَةُ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى الْحِلَّةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ، فَوَصَلَهَا تَاسِعَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ثُمَّ إِنَّ خَاصَّ بِكْ بْنَ بَلَنْكَرِي قَبَضَ عَلَى الْمَلِكِ مَلِكْشَاهِ الَّذِي خُطِبَ لَهُ بِالسَّلْطَنَةِ بَعْدَ مَسْعُودٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ الْمَلِكِ مُحَمَّدٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] وَهُوَ بِخُوزِسْتَانَ يَسْتَدْعِيهِ، وَكَانَ قَصْدُهُ أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُ فَيَقْبِضَهُ وَيَخْطُبَ لِنَفْسِهِ بِالسَّلْطَنَةِ، فَسَارَ الْمَلِكُ مُحَمَّدٌ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَصَلَ أَجْلَسَهُ عَلَى تَخْتِ السَّلْطَنَةِ أَوَائِلَ صَفَرٍ، وَخَطَبَ لَهُ بِالسَّلْطَنَةِ، وَخَدَمَهُ، وَبَالَغَ فِي خِدْمَتِهِ، وَحَمَلَ لَهُ هَدَايَا عَظِيمَةً جَلِيلَةَ الْمِقْدَارِ. ثُمَّ إِنَّهُ دَخَلَ إِلَى الْمَلِكِ مُحَمَّدٍ ثَانِي يَوْمِ وُصُولِهِ، فَقَتَلَهُ مُحَمَّدٌ، وَقَتَلَ مَعَهُ زَنْكِي

الْجَانْدَارَ، وَأَلْقَى بِرَأْسَيْهِمَا، فَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُمَا، وَلَمْ يَنْتَطِحْ فِيهَا عَنْزَانِ. وَكَانَ أَيْدُغْدِي التُّرْكُمَانِيُّ الْمَعْرُوفُ بِشَمْلَةَ مَعَ خَاصِّ بِكْ، فَنَهَاهُ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى الْمَلِكِ مُحَمَّدٍ، فَلَمْ يَنْتَهِ، فَقُتِلَ، وَنَجَا شَمْلَةُ، فَنَهَبَ جَشِيرَ الْمَلِكِ مُحَمَّدٍ، وَمَضَى طَالِبًا خُوزِسْتَانَ، وَأَخَذَ مُحَمَّدٌ مِنْ أَمْوَالِ خَاصِّ بِكْ كَثِيرًا، وَاسْتَقَرَّ مُحَمَّدٌ فِي السَّلْطَنَةِ وَتَمَكَّنَ، وَبَقِيَ خَاصٌّ بِكْ مُلْقًى حَتَّى أَكَلَتْهُ الْكِلَابُ، وَكَانَ صَبِيًّا تُرْكُمَانِيًّا اتَّصَلَ بِالسُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، فَتَقَدَّمَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَرَاءِ وَكَانَ هَذَا خَاتِمَةَ أَمْرِهِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ وَبَيْنَ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَجَمَّعَتِ الْفِرِنْجُ، وَحَشَدَتِ الْفَارِسَ وَالرَّاجِلَ، وَسَارُوا نَحْوَ نُورِ الدِّينِ، وَهُوَ بِبِلَادِ جُوسْلِينَ، لِيَمْنَعُوهُ عَنْ مُلْكِهَا، فَوَصَلُوا إِلَيْهِ وَهُوَ بِدُلُوكَ، فَلَمَّا قَرُبُوا مِنْهُ رَجَعَ إِلَيْهِمْ وَلَقِيَهُمْ، وَجَرَى الْمَصَافُّ بَيْنَهُمْ عِنْدَ دُلُوكَ، وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ انْهَزَمَ الْفِرِنْجُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ وَأُسِرَ كَثِيرٌ، وَعَادَ نُورُ الدِّينِ إِلَى دُلُوكَ، فَمَلَكَهَا وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَمِمَّا قِيلَ فِي ذَلِكَ: أَعَدْتَ بِعَصْرِكَ هَذَا الْأَنِي ... قِ فَتُوحَ النَّبِيِّ وَأَعْصَارَهَا فَوَاطَأْتَ يَا حَبَّذَا " أُحُدَيْهَا " ... وَأَسْرَرْتَ مِنْ " بَدْرٍ " أَبْدَارَهَا وَكَانَ مُهَاجِرُهَا تَابِعِي ... كَ وَأَنْصَارُ رَأْيِكَ أَنْصَارَهَا فَجَدَّدَتْ إِسْلَامَ " سَلْمَانِهَا " ... وَعَمَّرَ جَدُّكَ عَمَّارَهَا وَمَا يَوْمُ " إِنِّبَ " إِلَّا كَذَا ... كَ بَلْ طَالَ بِالْبُوعِ أَشْبَارَهَا صَدَمْتَ " عَرِيمَتَهَا " صَدْمَةً ... أَذَابَتْ مَعَ الْمَاءِ أَحْجَارَهَا وَفِي " تَلِّ بَاشِرَ " بَاشَرْتَهُمْ ... بِزَحْفٍ تَسَوَّرَ أَسْوَارَهَا وَإِنْ دَالَكَتْهُمْ " دُلُوكُ " فَقَدَ ... شَدَّدْتَ فَصَدَّقْتَ أَخْبَارَهَا

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ سَنْجَرَ وَالْغُورِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ بَيْنَ السُّلْطَانِ [سَنْجَرَ] وَبَيْنَ الْغُورِيَّةِ حَرْبٌ، وَكَانَتْ دَوْلَتُهُمْ أَوَّلَ مَا قَدْ ظَهَرَتْ، وَأَوَّلَ مَنْ مَلَكَ مِنْهُمْ رَجُلٌ اسْمُهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحُسَيْنِ مَلِكِ جِبَالِ الْغُورِ وَمَدِينَةِ فَيْرُوزَكُوهْ، وَهِيَ تُقَارِبُ أَعْمَالَ غَزْنَةَ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَتَلَقَّبَ بِعَلَاءِ الدِّينِ، وَتَعَرَّضَ إِلَى أَعْمَالٍ ; ثُمَّ جَمَعَ جَيْشًا عَظِيمًا، وَقَصَدَ هَرَاةَ مُحَاصِرًا لَهَا، فَنَهَبَ عَسْكَرُهُ نَابَ، وَأَوْبَةَ، وَمَارْبَادَ مِنْ هَرَاةَ وَالرُّوذِ، وَسَارَ إِلَى بَلْخَ وَحَصَرَهَا، فَقَاتَلَهُ الْأَمِيرُ قَمَاجُ، وَمَعَهُ جَمْعٌ مِنَ الْغُزِّ، فَغَدَرُوا بِهِ، وَصَارُوا مَعَ الْغُورِيِّ فَمَلَكَ بَلْخَ، فَلَمَّا سَمِعَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ بِذَلِكَ سَارَ إِلَيْهِ لِيَمْنَعَهُ، فَثَبَتَ لَهُ عَلَاءُ الدِّينِ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الْغُورِيَّةُ، وَأُسِرَ عَلَاءُ الدِّينِ، وَقُتِلَ مِنَ الْغُورِيَّةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، لَا سِيَّمَا الرَّجَّالَةُ، وَأَحْضَرَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ عَلَاءَ الدِّينِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: يَا حُسَيْنُ لَوْ ظَفِرْتَ بِي مَا كُنْتَ تَفْعَلُ بِي؟ فَأَخْرَجَ لَهُ قَيْدَ فِضَّةٍ وَقَالَ: كُنْتُ أُقَيِّدُكَ بِهَذَا وَأَحْمِلُكَ إِلَى فَيْرُوزَكُوهْ ; فَخَلَعَ عَلَيْهِ سَنْجَرُ وَرَدَّهُ إِلَى فَيْرُوزَكُوهْ فَبَقِيَ بِهَا مُدَّةً. ثُمَّ إِنَّهُ قَصَدَ غَزْنَةَ وَمَلَكَهَا حِينَئِذٍ بَهْرَامْ شَاهْ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهَا بَيْنَ يَدَيْ عَلَاءِ الدِّينِ، بَلْ فَارَقَهَا إِلَى مَدِينَةِ كَرْمَانَ، وَهِيَ مَدِينَةٌ بَيْنَ غَزْنَةَ وَالْهِنْدِ، وَسُكَّانُهَا قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمْ أَبْغَانُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِالْوِلَايَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِكَرْمَانَ. فَلَمَّا فَارَقَ بَهْرَامْ شَاهْ غَزْنَةَ مَلَكَهَا عَلَاءُ الدِّينِ الْغُورِيُّ، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ [فِي أَهْلِهَا] وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ أَخَاهُ سَيْفَ الدِّينِ سُورِي، وَأَجْلَسَهُ عَلَى تَخْتِ الْمَمْلَكَةِ، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ وَلِأَخِيهِ سَيْفِ الدِّينِ بَعْدَهُ. ثُمَّ عَادَ عَلَاءُ الدِّينِ إِلَى بَلَدِ الْغُورِ، وَأَمَرَ أَخَاهُ أَنْ يَخْلَعَ عَلَى أَعْيَانِ الْبَلَدِ خِلَعًا نَفِيسَةً، وَيَصِلَهُمْ بِصِلَاتٍ سَنِيَّةٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَأَحْسَنَ [إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا] جَاءَ الشِّتَاءُ، وَوَقَعَ الثَّلْجُ، وَعَلِمَ أَهْلُ غَزْنَةَ أَنَّ الطَّرِيقَ قَدِ انْقَطَعَ إِلَيْهِمْ [كَاتَبُوا بَهْرَامْ شَاهْ الَّذِي كَانَ

صَاحِبَهَا، وَاسْتَدْعَوْهُ إِلَيْهِمْ] ، فَسَارَ نَحْوَهُمْ فِي عَسْكَرِهِ، فَلَمَّا قَارَبَ الْبَلَدَ ثَارَ أَهْلُهُ عَلَى سَيْفِ الدِّينِ فَأَخَذُوهُ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَكَانَ الْعَلَوِيُّونَ هُمُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا أَسْرَهُ، وَانْهَزَمَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ نَجَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أُخِذَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ سَوَّدُوا وَجْهَ سَيْفِ الدِّينِ، وَأَرْكَبُوهُ بَقَرَةً، وَطَافُوا بِهِ الْبَلَدَ، ثُمَّ صَلَبُوهُ، وَقَالُوا فِيهِ أَشْعَارًا يَهْجُونَهُ بِهَا وَغَنَّى بِهَا حَتَّى النِّسَاءُ. فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى أَخِيهِ عَلَاءِ الدِّينِ الْحُسَيْنِ قَالَ شِعْرًا مَعْنَاهُ: إِنْ لَمْ أَقْلَعْ غَزْنَةَ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَسْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ الْحُسَيْنِ. ثُمَّ تُوُفِّيَ بَهْرَامْ شَاهْ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ خُسْرُوشَاهْ، وَتَجَهَّزَ عَلَاءُ الدِّينِ الْحُسَيْنُ وَسَارَ إِلَى غَزْنَةَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى خُسْرُوشَاهْ سَارَ عَنْهَا إِلَى لَهَاوُورَ، وَمَلَكَهَا عَلَاءُ الدِّينِ، وَنَهَبَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَخَذَ الْعَلَوِيِّينَ الَّذِينَ أَسَرُوا أَخَاهُ فَأَلْقَاهُمْ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَخَرَّبَ الْمَحَلَّةَ الَّتِي صُلِبَ فِيهَا أَخُوهُ، وَأَخَذَ النِّسَاءَ اللَّوَاتِي قِيلَ عَنْهُنَّ إِنَّهُنَّ كُنْ يُغَنِّينَ بِهِجَاءِ أَخِيهِ وَالْغُورِيَّةِ، فَأَدْخَلَهُنَّ حَمَّامًا وَمَنَعَهُنَّ مِنَ الْخُرُوجِ حَتَّى مِتْنَ فِيهِ. وَأَقَامَ بِغَزْنَةَ حَتَّى أَصْلَحَهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى فَيْرُوزَكُوهْ، وَنَقَلَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ غَزْنَةَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَحَمَّلَهُمُ الْمَخَالِيَ مَمْلُوءَةً تُرَابًا، فَبَنَى بِهِ قَلْعَةً فِي فَيْرُوزَكُوهْ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ إِلَى الْآنِ، وَتَلَقَّبَ بِالسُّلْطَانِ الْمُعَظَّمِ وَحَمَلَ الْجَتْرَ عَلَى عَادَةِ السَّلَاطِينِ السَّلْجُوقِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ، وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِهَذَا فِي بَعْضِ الْأَمْرِ، وَكُلًّا سَمِعْنَاهُ وَرَأَيْنَاهُ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ، فَلِهَذَا ذَكَرْنَا الْأَمْرَيْنِ، وَأَقَامَ الْحُسَيْنُ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةً، وَاسْتَعْمَلَ ابْنَيْ أَخِيهِ، وَهُمَا غِيَاثُ الدِّينِ، وَشِهَابُ الدِّينِ. ذِكْرُ مُلْكِ غِيَاثِ الدِّينِ وَشِهَابِ الدِّينِ الْغُورِيَّيْنِ لَمَّا قَوِيَ أَمْرُ عَمِّهِمَا عَلَاءِ الدِّينِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحُسَيْنِ اسْتَعْمَلَ الْعُمَّالَ وَالْأُمَرَاءَ

عَلَى الْبِلَادِ، وَكَانَ ابْنَا أَخِيهِ، وَهُمَا غِيَاثُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ سَامٍ، وَشِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ سَامٍ، فِيمَنِ اسْتُعْمِلَ عَلَى بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْغُورِ اسْمُهُ سَنْجَةُ، وَكَانَ غِيَاثُ الدِّينِ يُلَقَّبُ حِينَئِذٍ شَمْسَ الدِّينِ، وَيُلَقَّبُ الْآخَرُ شِهَابَ الدِّينِ، فَلَمَّا اسْتَعْمَلَهَا أَحْسَنَا السِّيرَةَ فِي عَمَلِهِمَا وَعَدَلَا، وَبَذَلَا الْأَمْوَالَ فَمَالَ النَّاسُ إِلَيْهِمَا، وَانْتَشَرَ ذِكْرُهُمَا، فَسَعَى بِهِمَا مَنْ يَحْسُدُهُمَا إِلَى عَمِّهِمَا عَلَاءِ الدِّينِ، وَقَالَ: إِنَّهُمَا يُرِيدَانِ الْوُثُوبَ بِكَ، وَقَتْلَكَ، وَالِاسْتِيلَاءَ عَلَى الْمُلْكِ ; فَأَرْسَلَ عَمُّهُمَا يَسْتَدْعِيهِمَا إِلَيْهِ، فَامْتَنَعَا وَكَانَا قَدْ بَلَغَهُمَا الْخَبَرُ، فَلَمَّا امْتَنَعَا عَلَيْهِ جَهَّزَ إِلَيْهِمَا عَسْكَرًا مَعَ قَائِدٍ يُسَمَّى خُرُوشَ الْغَوْرِيَّ، فَلَمَّا الْتَقَوُا انْهَزَمَ خُرُوشُ وَمَنْ مَعَهُ، وَأُسِرَ هُوَ وَأَبْقَيَا عَلَيْهِ، وَأَحْسَنَا إِلَيْهِ، وَخَلَعَا عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَا عِصْيَانَ عَمِّهِمَا وَقَطَعَا خُطْبَتَهُ ; فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِمَا عَلَاءُ الدِّينِ، وَسَارُوا هُمَا أَيْضًا إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ عَلَاءُ الدِّينِ وَأُخِذَ أَسِيرًا وَانْهَزَمَ عَسْكَرُهُ، فَنَادَى فِيهِمُ ابْنَا أَخِيهِ بِالْأَمَانِ فَأُحْضِرَ عَمُّهُمَا وَأَجْلَسَاهُ عَلَى التَّخْتِ، وَوَقَفَا فِي خِدْمَتِهِ، فَبَكَى عَلَاءُ الدِّينِ وَقَالَ: هَذَانِ صَبِيَّانِ قَدْ فَعَلَا مَا لَوْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا لَمْ أَفْعَلْهُ، ثُمَّ أَحْضَرَ عَمُّهُمَا الْقَاضِيَ فِي الْحَالِ، وَزَوَّجَ غِيَاثَ الدِّينِ بِنْتًا لَهُ، وَجَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ، وَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَاتَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ غِيَاثُ الدِّينِ بَعْدَهُ وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ فِي الْغُورِ وَغَزْنَةَ بِالْمُلْكِ، وَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَلَكَ الْغُزُّ غَزْنَةَ بَعْدَ مَوْتِ عَلَاءِ الدِّينِ، طَمِعُوا فِيهَا بِمَوْتِهِ، وَبَقِيَتْ بِأَيْدِيهِمْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً يَصُبُّونَ عَلَى أَهْلِهَا الْعَذَابَ، وَيُتَابِعُونَ الظُّلْمَ كَعَادَتِهِمْ [فِي] كُلِّ بَلْدَةٍ مَلَكُوهَا، وَلَوْ أَنَّهُمْ لَمَّا مَلَكُوا أَحْسَنُوا السِّيرَةَ فِي الرَّعَايَا لَدَامَ مُلْكُهُمْ ; فَلَمْ يَزَلِ الْغُزُّ بِغَزْنَةَ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَغِيَاثُ الدِّينِ يُقَوِّي أَمْرَهُ، وَيُحْسِنُ السِّيرَةَ، وَالنَّاسُ يَمِيلُونَ إِلَيْهِ وَيَقْصِدُونَهُ. ذِكْرُ مُلْكِ غِيَاثِ الدِّينِ غَزْنَةَ وَمَا جَاوَرَهَا مِنَ الْبِلَادِ لَمَّا قَوِيَ أَمْرُ غِيَاثِ الدِّينِ جَهَّزَ جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ أَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ إِلَى غَزْنَةَ، فِيهِ أَصْنَافُ الْغُورِيَّةِ، وَالْخَلْجِ، وَالْخُرَاسَانِيَّةِ، فَسَارُوا إِلَيْهَا، فَلَقِيَهُمُ الْغُزُّ

وَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَ الْغُورِيَّةُ، وَثَبَتَ شِهَابُ الدِّينِ وَسَارَ الْغُزُّ خَلْفَ الْمُنْهَزِمِينَ فَعَطَفَ شِهَابُ الدِّينِ فِيمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ عَلَى صَاحِبِ عَلَمِهِمْ فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ الْعَلَمَ، وَتَرَكَهُ عَلَى حَالِهِ، فَتَرَاجَعَ الْغُزُّ، وَلَمْ يَكُونُوا عَلِمُوا بِمَا كَانَ مِنْ شِهَابِ الدِّينِ، فَجَاءُوا يَطْلُبُونَ عَلَمَهُمْ، فَكُلَّمَا جَاءَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ قَتَلَهُمْ، فَأَتَى عَلَى أَكْثَرِهِمْ، وَدَخَلَ غَزْنَةَ وَتَسَلَّمَهَا وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا وَأَفَاضَ الْعَدْلَ. وَسَارَ مِنْ غَزْنَةَ إِلَى كَرْمَانَ وَشَنَوْرَانَ فَمَلَكَهُمَا، ثُمَّ تَعَدَّى إِلَى مَاءِ السِّنْدِ، وَعَمِلَ عَلَى الْعُبُورِ إِلَى بَلَدِ الْهِنْدِ، وَقَصَدَ لَهَاوُورَ، وَبِهَا يَوْمَئِذٍ خُسْرُوشَاهِ ابْنُ بَهْرَامْ شَاهْ الْمُقَدَّمُ ذِكْرُ وَالِدِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ خُسْرُوشَاهْ بِذَلِكَ سَارَ فَيَمَنْ مَعَهُ إِلَى مَاءِ السِّنْدِ، فَمَنَعَهُ مِنَ الْعُبُورِ، فَرَجَعَ عَنْهُ وَقَصَدَ خَرْشَابُورَ فَمَلَكَهَا وَمَا يَلِيهَا مِنْ جِبَالِ الْهِنْدِ، وَأَعْمَالِ الْأَبْغَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ مُلْكِ شِهَابِ الدِّينِ لَهَاوُورَ لَمَّا مَلَكَ شِهَابُ الدِّينِ جِبَالَ الْهِنْدِ قَوِيَ أَمْرُهُ وَجَنَانُهُ، وَعَظُمَتْ هَيْبَتُهُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، وَأَحَبُّوهُ لِحُسْنِ سِيرَتِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ الشِّتَاءُ، وَأَقْبَلَ الرَّبِيعُ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، سَارَ نَحْوَ لَهَاوُورَ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ، وَحَشْدٍ كَثِيرٍ مِنْ خُرَاسَانَ وَالْغُورِ وَغَيْرِهِمَا، فَعَبَرَ إِلَى لَهَاوُورَ وَحَصَرَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِهَا خُسْرُوشَاهْ وَإِلَى أَهْلِهَا يَتَهَدَّدُهُمْ إِنْ مَنَعُوهُ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ لَا يَزُولُ حَتَّى يَمْلِكَ الْبَلَدَ، وَبَذَلَ لِخُسْرُوشَاهْ الْأَمَانَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَمِنَ الْإِقْطَاعِ مَا أَرَادَ، وَأَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ بِابْنِ خُسْرُوشَاهْ عَلَى أَنْ يَطَأَ بِسَاطَهُ وَيَخْطُبَ لِأَخِيهِ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، وَأَقَامَ شِهَابُ الدِّينِ مُحَاصِرًا لَهُ، مُضَيِّقًا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْبَلَدِ وَالْعَسْكَرُ ذَلِكَ ضَعُفَتْ نِيَّاتُهُمْ فِي نُصْرَةِ صَاحِبِهِمْ، فَخَذَلُوهُ، فَأَرْسَلَ لَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَاضِيَ الْبَلَدِ وَالْخَطِيبَ يَطْلُبَانِ لَهُ الْأَمَانَ، فَأَجَابَهُ شِهَابُ الدِّينِ إِلَى ذَلِكَ وَحَلَفَ لَهُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَدَخَلَ الْغُورِيَّةُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَقِيَ كَذَلِكَ شَهْرَيْنِ مُكَرَّمًا عِنْدَ شِهَابِ الدِّينِ، فَوَرَدَ رَسُولٌ مِنْ غِيَاثِ الدِّينِ إِلَى شِهَابِ الدِّينِ يَأْمُرُهُ بِإِنْفَاذِ خُسْرُوشَاهْ إِلَيْهِ.

ذِكْرُ انْقِرَاضِ دَوْلَةِ سُبُكْتِكِينَ لَمَّا أَنْفَذَ غِيَاثُ الدِّينِ إِلَى أَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ يَطْلُبُ إِنْفَاذَ خُسْرُوشَاهْ إِلَيْهِ أَمَرَهُ شِهَابُ الدِّينِ بِالتَّجَهُّزِ وَالْمَسِيرِ، فَقَالَ: أَنَا لَا أَعْرِفُ أَخَاكَ، وَلَا لِي حَدِيثٌ إِلَّا مَعَكَ، وَلَا يَمِينٌ إِلَّا فِي عُنُقِكَ، فَمَنَّاهُ وَطَيَّبَ قَلْبَهُ، وَجَهَّزَهُ وَسَيَّرَهُ وَسَيَّرَ مَعَهُ وَلَدَهُ، وَأَصْحَبَهُمَا جَيْشًا يَحْفَظُونَهُمَا، فَسَارَا كَارِهَيْنِ ; فَلَمَّا بَلَغَا فَرْشَابُورَ خَرَجَ أَهْلُهَا إِلَيْهِمَا يَبْكُونَ وَيَدْعُونَ لَهُمَا، فَزَجَرَهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِهِمَا، وَقَالُوا: سُلْطَانٌ يَزُورُ سُلْطَانًا آخَرَ، لِأَيِّ شَيْءٍ تَبْكُونَ؟ وَضَرَبُوهُمْ فَعَادُوا، وَخَرَجَ وَلَدُ خَطِيبِهَا إِلَى خُسْرُوشَاهْ عَنْ أَبِيهِ مُتَوَجِّعًا لَهُ، قَالَ: فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ أَعْلَمْتُهُ رِسَالَةَ أَبِي، وَقُلْتُ: إِنَّهُ قَدِ اعْتَزَلَ الْخَطَابَةَ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى خِدْمَةِ غَيْرِكُمْ. فَقَالَ لِي: سَلِّمْ عَلَيْهِ. وَأَعْطَانِي فَرَجِيَّةً فُوَطًا وَمُصَلًّى مِنْ عَمَلِ الصُّوفِيَّةِ، وَقَالَ: هَذِهِ تَذْكِرَةُ أَبِيهِ عِنْدَ أَبِي، فَسَلِّمْهَا إِلَيْهِ وَقُلْ لَهُ: دُرْ مَعَ الدَّهْرِ كَيْفَمَا دَارَ ; وَأَنْشَدَ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ: وَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أَمَّ مَالِكٍ ... وَلَكِنْ أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ قَالَ: فَانْصَرَفْتُ إِلَى أَبِي وَعَرَّفْتُهُ الْحَالَ، فَبَكَى، وَقَالَ: قَدْ أَيْقَنَ الرَّجُلُ بِالْهَلَاكِ ; ثُمَّ رَحَلُوا. فَلَمَّا بَلَغُوا بَلَدَ الْغُورِ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِمَا غِيَاثُ الدِّينِ بَلْ أَمَرَ بِهِمَا فَرُفِعَا إِلَى بَعْضِ الْقِلَاعِ، فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِمَا. وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِ آلِ سُبُكْتِكِينَ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ دَوْلَتِهِمْ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَتَكُونُ مُدَّةُ وِلَايَتِهِمْ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً تَقْرِيبًا. وَكَانَ مُلُوكُهُمْ مِنْ أَحْسَنِ الْمُلُوكِ سِيرَةً، وَلَاسِيَّمَا جَدُّهُ مَحْمُودٌ، فَإِنَّ آثَارَهُ فِي الْجِهَادِ مَعْرُوفَةٌ، وَأَعْمَالَهُ لِلْآخِرَةِ مَشْهُورَةٌ: لَوْ كَانَ يَقْعُدُ فَوْقَ الشَّمْسِ مِنْ كَرَمٍ ... قَوْمٌ بِأَوَّلِهِمْ أَوْ مَجْدِهِمْ قَعَدُوا فَتَبَارَكَ الَّذِي لَا يَزُولُ مُلْكُهُ، وَلَا تُغَيِّرُهُ الدُّهُورُ، فَأُفٍّ لِهَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ، كَيْفَ تَفْعَلُ هَذَا بِأَبْنَائِهَا، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْشِفَ عَنْ قُلُوبِنَا حَتَّى نَرَاهَا بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ، وَأَنْ يُقْبِلَ بِنَا إِلَيْهِ، وَأَنْ يَشْغَلَنَا بِهِ عَمَّا سِوَاهُ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ. هَكَذَا ذَكَرَ بَعْضُ فُضَلَاءِ خُرَاسَانَ أَنَّ خُسْرُوشَاهْ آخِرُ مُلُوكِ آلِ سُبُكْتِكِينَ، وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي الْمُلْكِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مَلِكْشَاهْ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي سَنَةِ

تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَبِالْجُمْلَةِ فَابْتِدَاءُ دَوْلَةِ الْغُورِيَّةِ عِنْدِي فِيهِ خُلْفٌ لَوْ يَنْكَشِفُ الْحَقُّ فَأُصْلِحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ الْخُطْبَةِ لِغِيَاثِ الدِّينِ بِالسَّلْطَنَةِ لَمَّا اسْتَقَرَّ مُلْكُهُمْ بِلَهَاوُورَ وَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَتُهُمْ وَكَثُرَتْ عَسَاكِرُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ كَتَبَ غِيَاثُ الدِّينِ إِلَى أَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ بِإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ لَهُ بِالسَّلْطَنَةِ، وَتَلَقَّبَ بِأَلْقَابِ السَّلَاطِينِ، كَانَ لَقَبُهُ شَمْسَ الدِّينِ، فَتَلَقَّبَ غِيَاثَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مُعِينَ الْإِسْلَامِ، قَسِيمَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ; وَلَقَّبَ أَخَاهُ مُعِزَّ الدِّينِ، فَفَعَلَ شِهَابُ الدِّينِ ذَلِكَ وَخَطَبَ لَهُ بِالسَّلْطَنَةِ. ذِكْرُ مُلْكِ غِيَاثِ الدِّينِ هَرَاةَ وَغَيْرَهَا مِنْ خُرَاسَانَ لَمَّا فَرَغَ شِهَابُ الدِّينِ مِنْ إِصْلَاحِ أَمْرِ لَهَاوُورَ وَتَقْرِيرِ قَوَاعِدِهَا، سَارَ إِلَى أَخِيهِ غِيَاثِ الدِّينِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ بِهِ اسْتَقَرَّ رَأْيُهُمَا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى خُرَاسَانَ وَقَصَدَ مَدِينَةَ هَرَاةَ وَمُحَاصَرَتَهَا، فَسَارَا فِي الْعَسَاكِرِ الْكَثِيرَةِ إِلَيْهَا، وَكَانَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ السَنْجَرِيَّةِ، فَنَازَلَا الْبَلَدَ وَحَصَرَاهُ، وَضَيَّقَا عَلَى مَنْ بِهِ، فَاسْتَسْلَمُوا إِلَيْهِمَا، وَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ مِنْهُمَا، فَأَجَابَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَأَمَّنَاهُمْ، فَتَسَلَّمَا الْبَلَدَ، وَأَخْرَجَا مَنْ فِيهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ السَنْجَرِيَّةِ، وَاسْتَنَابَ فِيهِ غِيَاثُ الدِّينِ خَزْنَكَ الْغَوْرِيَّ، وَسَارَ غِيَاثُ الدِّينِ وَأَخُوهُ إِلَى فُوشَنْجَ فَمَلَكَاهَا، ثُمَّ إِلَى بَاذَغِيسَ وَكَالِينَ وَبَيْوَارَ فَمَلَكَاهَا أَيْضًا، وَتَسَلَّمَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ غِيَاثُ الدِّينِ، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي الْبِلَادِ، وَرَجَعَ إِلَى فَيْرُوزَكُوهْ، وَرَجَعَ شِهَابُ الدِّينِ إِلَى غَزْنَةَ. (وَكَانَ) يَنْبَغِي أَنَّ حَوَادِثَ الْغُورِيَّةِ تُذْكَرُ فِي السِّنِينَ، وَإِنَّمَا جَمَعْنَاهَا لِيَتْلُوَ

بَعْضُهَا بَعْضًا ; وَلِأَنَّ فِيهِ مَا لَمْ يُعَرَفْ تَارِيخُهُ فَتَرَكْنَاهُ بِحَالِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ شِهَابِ الدِّينِ مَدِينَةَ آجُرَةَ مِنْ بَلَدِ الْهِنْدِ لَمَّا رَجَعَ شِهَابُ الدِّينِ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى غَزْنَةَ أَقَامَ بِهَا حَتَّى أَرَاحَ وَاسْتَرَاحَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ، ثُمَّ سَارَ إِلَى بَلَدِ الْهِنْدِ، فَحَاصَرَ مَدِينَةَ آجُرَةَ، وَبِهَا مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْهِنْدِ، فَلَمْ يَظْفَرْ مِنْهُ بِطَائِلٍ، وَكَانَ لِلْهِنْدِيِّ زَوْجَةٌ غَالِبَةٌ عَلَى أَمْرِهِ، فَرَاسَلَهَا شِهَابُ الدِّينِ أَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا، فَأَعَادَتِ الْجَوَابَ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لَهُ، وَأَنَّ لَهَا ابْنَةً جَمِيلَةً تُزَوِّجُهُ إِيَّاهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا يُجِيبُهَا إِلَى التَّزَوُّجِ بِابْنَتِهَا، فَسَقَتْ زَوْجَهَا سُمًّا فَمَاتَ وَسَلَّمَتِ الْبَلَدَ إِلَيْهِ. فَلَمَّا تَسَلَّمَهُ أَخَذَ الصَّبِيَّةَ فَأَسْلَمَتْ، وَتَزَوَّجَهَا، وَحَمَلَهَا إِلَى غَزْنَةَ وَأَجْرَى عَلَيْهَا الْجِرَايَاتِ الْوَافِرَةَ، وَوَكَّلَ بِهَا مَنْ عَلَّمَهَا الْقُرْآنَ، وَتَشَاغَلَ عَنْهَا، فَتُوُفِّيَتْ وَالِدَتُهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ هِيَ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ، وَلَمْ يَرَهَا وَلَمْ يَقْرَبْهَا، فَبَنَى لَهَا مَشْهَدًا وَدَفَنَهَا فِيهِ، وَأَهْلُ غَزْنَةَ يَزُورُونَ قَبْرَهَا. ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِ الْهِنْدِ، فَذَلَّ لَهُ صِعَابُهَا، وَتَيَسَّرَ لَهُ فَتْحُ الْكَثِيرِ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَدَوَّخَ مُلُوكَهُمْ، وَبَلَغَ مِنْهُمْ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ. ذِكْرُ ظَفَرِ الْهِنْدِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَمَّا اشْتَدَّتْ نِكَايَةُ شِهَابِ الدِّينِ فِي بِلَادِ الْهِنْدِ وَإِثْخَانُهُ فِي أَهْلِهَا وَاسْتِيلَاؤُهُ عَلَيْهَا، اجْتَمَعَ مُلُوكُهُمْ وَتَآمَرُوا بَيْنَهُمْ، وَوَبَّخَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى الِاجْتِمَاعِ وَالتَّعَاضُدِ عَلَى حَرْبِهِ، فَجَمَعُوا عَسَاكِرَهُمْ وَحَشَدُوا، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِمُ الْهُنُودُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ، وَجَاءُوا بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِمْ، وَكَانَ الْحَاكِمُ عَلَى جَمِيعِ الْمُلُوكِ الْمُجْتَمِعِينَ امْرَأَةً هِيَ مِنْ أَكْبَرِ مُلُوكِهِمْ. فَلَمَّا سَمِعَ بِاجْتِمَاعِهِمْ وَمَسِيرِهِمْ إِلَيْهِ تَقَدَّمَ هُوَ أَيْضًا إِلَيْهِمْ فِي عَسْكَرٍ عَظِيمٍ مِنَ الْغُورِيَّةِ وَالْخَلْجِ وَالْخُرَاسَانِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ كَثِيرُ قَتَّالٍ حَتَّى انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَرَكِبَهُمُ الْهُنُودُ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَأَثْخَنُوا فِيهِمْ، وَأَصَابَ شِهَابَ

الدِّينِ ضَرْبَةٌ بَطَلَتْ مِنْهَا يَدُهُ الْيُسْرَى، وَضَرْبَةٌ أُخْرَى عَلَى رَأْسِهِ سَقَطَ مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ، وَحَجَزَ اللَّيْلُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَأَحَسَّ شِهَابُ الدِّينِ بِجَمَاعَةٍ مِنْ غِلْمَانِهِ الْأَتْرَاكِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَهُمْ يَطْلُبُونَهُ فِي الْقَتْلَى وَيَبْكُونَ، وَقَدْ رَجَعَ الْهُنُودُ إِلَى وَرَائِهِمْ، وَكَلَّمَهُمْ وَهُوَ عَلَى مَا بِهِ مِنَ الْجَهْدِ، فَجَاءُوا إِلَيْهِ مُسْرِعِينَ، وَحَمَلُوهُ عَلَى رُءُوسِهِمْ رَجَّالَةً يَتَنَاوَبُونَ حَمْلَهُ، حَتَّى بَلَغُوا مَدِينَةَ آجُرَةَ مَعَ الصَّبَاحِ. وَشَاعَ خَبَرُ سَلَامَتِهِ فِي النَّاسِ، فَجَاءُوا إِلَيْهِ يُهَنِّئُونَهُ مِنْ أَقْطَارِ الْبِلَادِ، فَأَوَّلُ مَا عَمِلَ أَنَّهُ أَخَذَ أُمَرَاءَ الْغُورِيَّةِ الَّذِينَ انْهَزَمُوا عَنْهُ وَأَسْلَمُوهُ، فَمَلَأَ مَخَالِيَ خَيْلِهِمْ شَعِيرًا، وَحَلَفَ لَئِنْ لَمْ يَأْكُلُوهُ لَيَضْرِبَنَّ أَعْنَاقَهُمْ، فَأَكَلُوهُ ضَرُورَةً. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى أَخِيهِ غِيَاثِ الدِّينِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَلُومُهُ عَلَى عَجَلَتِهِ وَإِقْدَامِهِ وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ جَيْشًا عَظِيمًا. ذِكْرُ ظَفَرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْهِنْدِ لَمَّا سَلِمَ شِهَابُ الدِّينِ وَعَادَ إِلَى آجِرَةَ، وَأَتَاهُ الْمَدَدُ مِنْ أَخِيهِ غِيَاثِ الدِّينِ، عَادَ الْهُنُودُ فَجَدَّدُوا سِلَاحَهُمْ، وَوَفَّرُوا جَمْعَهُمْ، وَأَقَامُوا عِوَضَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَسَارَتْ مَلِكَتُهُمْ وَهُمْ مَعَهَا فِي عَدَدٍ يَضِيقُ عَنْهُ الْفَضَاءُ، فَرَاسَلَهَا شِهَابُ الدِّينِ يَخْدَعُهَا بِأَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا، فَلَمْ تُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَتْ: إِمَّا الْحَرْبُ، وَإِمَّا أَنْ تُسَلِّمَ بِلَادَ الْهِنْدِ وَتَعُودَ إِلَى غَزْنَةَ، فَأَجَابَهَا إِلَى الْعَوْدِ إِلَى غَزْنَةَ، وَأَنَّهُ يَسْتَأْذِنُ أَخَاهُ غِيَاثَ الدِّينِ؛ فَعَلَ ذَلِكَ مَكْرًا وَخَدِيعَةً. وَكَانَ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ نَهْرٌ، وَقَدْ حَفِظَ الْهُنُودُ الْمَخَاضَاتُ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [أَنْ] يَجُوزَهُ، وَأَقَامُوا يَنْتَظِرُونَ مَا يَكُونُ مِنْ جَوَابِ غِيَاثِ الدِّينِ بِزَعْمِهِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ وَصَلَ إِنْسَانٌ هِنْدِيٌّ إِلَى شِهَابِ الدِّينِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ يَعْرِفُ مَخَاضًا قَرِيبًا مِنْ عَسْكَرِ الْهُنُودِ، وَطَلَبَ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ جَيْشًا يُعَبِّرُهُمُ الْمَخَاضَ، وَيَكْبِسُونَ الْهُنُودَ وَهُمْ غَارُّونَ غَافِلُونَ، فَخَافَ شِهَابُ الدِّينِ أَنْ تَكُونَ خَدِيعَةً وَمَكْرًا، فَأَقَامَ لَهُ ضُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ آجُرَةَ وَالْمُولْتَانِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ جَيْشًا كَثِيفًا، وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ الْأَمِيرَ الْحُسَيْنَ بْنَ خَرْمِيلَ الْغَوْرِيَّ، وَهُوَ الَّذِي صَارَ بَعْدُ صَاحِبَ هَرَاةَ، وَكَانَ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالرَّأْيِ بِالْمَنْزِلَةِ الْمَشْهُورَةِ.

فَسَارَ الْجَيْشُ مَعَ الْهِنْدِيِّ، فَعَبَرُوا النَّهْرَ، فَلَمْ يَشْعُرِ الْهُنُودُ إِلَّا وَقَدْ خَالَطَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيهِمْ، فَاشْتَغَلَ الْمُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ الْمَخَاضَاتِ، فَعَبَرَ شِهَابُ الدِّينِ وَبَاقِي الْعَسَاكِرِ، وَأَحَاطُوا بِالْهُنُودِ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَنَادَوْا بِشِعَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَنْجُ مِنَ الْهُنُودِ إِلَّا مَنْ عَجَزَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ قَتْلِهِ وَأَسْرِهِ، وَقُتِلَتْ مَلِكَتُهُمْ، وَتَمَكَّنَ شِهَابُ الدِّينِ بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ، وَأَمِنَ مَعَرَّةَ فَسَادِهِمْ، وَالْتَزَمُوا لَهُ بِالْأَمْوَالِ وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ الرَّهَائِنَ وَصَالَحُوهُ وَأَقْطَعَ مَمْلُوكَهُ قُطْبَ الدِّينِ أَيْبَكَ مَدِينَةَ دَهْلِي، وَهِيَ كُرْسِيُّ الْمَمَالِكِ الَّتِي فَتَحَهَا مِنَ الْهِنْدِ، فَأَرْسَلَ عَسْكَرًا مِنَ الْخَلِيجِ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ بَخْتَيَارَ، فَمَلَكُوا مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ مَوَاضِعَ مَا وَصَلَ إِلَيْهَا مُسْلِمٌ قَبْلَهُ، حَتَّى قَارَبُوا حُدُودَ الصِّينِ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ. وَقَدْ حَدَّثَنِي صَدِيقٌ لِي مِنَ التُّجَّارِ بِوَقْعَتَيْنِ تُشْبِهَانِ هَاتَيْنِ الْوَقْعَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَبَيْنَهُمَا بَعْضُ الْخِلَافِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ يَعْقُوبُ الْكَاتِبُ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ يَسْكُنُ بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، وَحَضَرَ مُتَوَلِّي الْمَتْرُوكَاتِ وَخَتَمَ عَلَى الْغُرْفَةِ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا بِالْمَدْرَسَةِ، فَثَارَ الْفُقَهَاءُ وَضَرَبُوا الْمُتَوَلِّيَ وَأَخَذُوا التَّرِكَةَ، وَهَذِهِ عَادَتُهُمْ فِيمَنْ يَمُوتُ بِهَا وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ، فَقَبَضَ حَاجِبُ الْبَابِ عَلَى رَجُلَيْنِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَعَاقَبَهُمَا، وَحَبَسَهُمَا، فَأَغْلَقَ الْفُقَهَاءُ الْمَدْرَسَةَ، وَأَلْقَوْا كُرْسِيَّ الْوُعَّاظِ فِي الطَّرِيقِ، وَصَعِدُوا سَطْحَ الْمَدْرَسَةِ لَيْلًا، وَاسْتَغَاثُوا، وَتَرَكُوا الْأَدَبَ. وَكَانَ حِينَئِذٍ مُدَرِّسُهُمُ الشَّيْخَ أَبَا النَّجِيبِ، فَجَاءَ وَأَلْقَى نَفْسَهُ تَحْتَ التَّاجِ يَعْتَذِرُ، فَعُفِيَ عَنْهُ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ حُسَامُ الدِّينِ تِمِرْتَاشُ صَاحِبُ مَارِدِينَ وَمَيَّافَارِقِينَ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ ابْنُهُ نَجْمُ الدِّينِ أَلْبِي. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ يُوسُفَ الْأَرْمَوِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمُحَدِّثُ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْأَسْعَدِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْقُشَيْرِيُّ فِي شَوَّالٍ، وَهُوَ شَيْخُ شُيُوخِ خُرَاسَانَ. وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، بَاضَ دِيكٌ بِبَغْدَادَ بَيْضَةً، وَبَاضَ بَازِيٌّ بَيْضَتَيْنِ، وَبَاضَتْ نَعَامَةٌ لَا ذَكَرَ مَعَهَا بَيْضَةً.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] (548) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ انْهِزَامِ سَنْجَرَ مِنَ الْغُزِّ وَنَهْبِهِمْ خُرَاسَانَ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، انْهَزَمَ السُّلْطَانُ سَنْجَرَ مِنَ الْأَتْرَاكِ الْغُزِّ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ التُّرْكِ مُسْلِمُونَ، كَانُوا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَلَمَّا مَلَكَ الْخَطَا أَخْرَجُوهُمْ مِنْهُ، كَمَا ذَكَرْنَا، فَقَصَدُوا خُرَاسَانَ، وَكَانُوا خَلْقًا كَثِيرًا فَأَقَامُوا بِنَوَاحِي بَلْخَ يَرْعَوْنَ فِي مَرَاعِيهَا، وَكَانَ لَهُمْ أُمَرَاءُ اسْمُ أَحَدِهِمْ دِينَارٌ، وَالْآخَرُ بُخْتِيَارُ، وَالْآخَرُ طَوْطَى، وَالْآخَرُ أَرْسَلَانَ، وَالْآخَرُ جَغَرُ، وَالْآخَرُ مَحْمُودٌ، فَأَرَادَ الْأَمِيرُ قَمَاجُ، وَهُوَ مُقْطِعُ بَلْخَ، إِبْعَادَهُمْ، فَصَانَعُوهُ بِشَيْءٍ بَذَلُوهُ لَهُ، فَعَادَ عَنْهُمْ، فَأَقَامُوا عَلَى حَالَةٍ حَسَنَةٍ لَا يُؤْذُونَ أَحَدًا، وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ. ثُمَّ إِنَّ قَمَاجَ عَاوَدَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالِانْتِقَالِ عَنْ بَلَدِهِ، فَامْتَنَعُوا، وَانْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ مِنْ طَوَائِفِ التُّرْكِ، فَسَارَ قَمَاجُ إِلَيْهِمْ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَجَاءَ إِلَيْهِ أُمَرَاؤُهُمْ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ، وَيَتْرُكَهُمْ فِي مَرَاعِيهِمْ، وَيُعْطُونَهُ مِنْ كُلِّ بَيْتٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فِضَّةٍ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِي الِانْتِزَاحِ عَنْ بَلَدِهِ، فَعَادُوا عَنْهُ، وَاجْتَمَعُوا وَقَاتَلُوهُ، فَانْهَزَمَ قَمَاجُ وَنَهَبُوا مَالَهُ وَمَالَ عَسْكَرِهِ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِي الْعَسْكَرِ وَالرَّعَايَا، وَاسْتَرَقُّوا النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَعَمِلُوا كُلَّ عَظِيمَةٍ، وَقَتَلُوا الْفُقَهَاءَ وَخَرَّبُوا الْمَدَارِسَ. وَانْتَهَتِ الْهَزِيمَةُ بِقَمَاجَ إِلَى مَرْوَ، وَبِهَا السُّلْطَانُ سَنْجَرُ، فَأَعْلَمَهُ الْحَالَ، فَرَاسَلَهُمْ سَنْجَرُ يَتَهَدَّدُهُمْ، فَأَمَرَهُمْ بِمُفَارَقَةِ بِلَادِهِ، فَاعْتَذَرُوا، وَبَذَلُوا بَذْلًا كَثِيرًا لِيَكُفَّ عَنْهُمْ

وَيَتْرُكَهُمْ فِي مَرَاعِيهِمْ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ مِنْ أَطْرَافِ الْبِلَادِ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ، وَقَصَدَهُمْ وَوَقَعَ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ، فَانْهَزَمَتْ عَسَاكِرُ سَنْجَرَ، وَانْهَزَمَ هُوَ أَيْضًا، وَتَبِعَهُمُ الْغُزُّ قَتْلًا وَأَسْرًا، فَصَارَ قَتْلَى الْعَسْكَرِ كَالتِّلَالِ، وَقُتِلَ عَلَاءُ الدِّينِ قَمَاجَ، وَأُسِرَ [السُّلْطَانُ سَنْجَرُ وَأُسِرَ] مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، [فَأَمَّا الْأُمَرَاءُ] فَضَرَبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَأَمَّا السُّلْطَانُ سَنْجَرُ، فَإِنَّ أُمَرَاءَ الْغُزِّ اجْتَمَعُوا، وَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالُوا: نَحْنُ عَبِيدُكَ لَا نَخْرُجُ عَنْ طَاعَتِكَ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ لَمْ تُرِدْ قِتَالَنَا وَإِنَّمَا حُمِلْتَ عَلَيْهِ، فَأَنْتَ السُّلْطَانُ وَنَحْنُ الْعَبِيدُ ; فَمَضَى عَلَى ذَلِكَ شَهْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَدَخَلُوا مَعَهُ إِلَى مَرْوَ وَهِيَ كُرْسِيُّ مُلْكِ خُرَاسَانَ، وَطَلَبَهَا مِنْهُ بُخْتِيَارُ إِقْطَاعًا، فَقَالَ السُّلْطَانُ: هَذِهِ دَارُ الْمُلْكِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِقْطَاعًا لِأَحَدٍ. فَضَحِكُوا مِنْهُ وَحَبَقَ لَهُ بُخْتِيَارُ بِفَمِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَزَلَ عَنْ سَرِيرِ الْمُلْكِ وَدَخَلَ خَانَكَانِ مَرْوَ وَتَابَ عَنِ الْمُلْكِ. وَاسْتَوْلَى الْغُزُّ عَلَى الْبِلَادِ، وَظَهَرَ مِنْهُمْ مِنَ الْجَوْرِ مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَوَلَّوْا عَلَى نَيْسَابُورَ وَالِيًا، فَسَقَطَ عَلَى النَّاسِ كَثِيرًا وَعَسَفَهُمْ وَضَرَبَهُمْ، وَعَلَّقَ فِي الْأَسْوَاقِ ثَلَاثَ غَرَائِرَ، وَقَالَ: أُرِيدُ مَلْءَ هَذِهِ ذَهَبًا ; فَثَارَ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ فَقَتَلُوهُ وَمَنْ مَعَهُ، فَرَكِبَ الْغُزُّ وَدَخَلُوا نَيْسَابُورَ وَنَهَبُوهَا مُجْحِفًا، وَجَعَلُوهَا قَاعًا صَفْصَفًا، وَقَتَلُوا الْكِبَارَ وَالصِّغَارَ وَأَحْرَقُوهَا، وَقَتَلُوا الْقُضَاةَ وَالْعُلَمَاءَ فِي الْبِلَادِ كُلِّهَا، فَمِمَّنْ [قُتِلَ] الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَرْسَابَنْدِيُّ، وَالْقَاضِي عَلِيُّ بْنُ مَسْعُودٍ، وَالشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى. وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ فِي مَرَاثِي مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، فَمِمَّنْ قَالَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكَاتِبُ: مَضَى الَّذِي كَانَ يُجْنَى الدُّرُّ مِنْ فِيهِ ... يَسِيلُ بِالْفَضْلِ وَالْإِفْضَالِ وَادِيهِ مَضَى ابْنُ يَحْيَى الَّذِي قَدْ كَانَ صَوْبَ ... حَيًا لِأَبْرَ شَهْرَ وَمِصْبَاحًا لِدَاجِيهِ خَلَا خُرَاسَانُ مِنْ عِلْمٍ وَمِنْ وَرَعٍ ... لَمَّا نَعَاهُ إِلَى الْآفَاقِ نَاعِيهِ لَمَّا أَمَاتُوهُ مَاتَ الدِّينُ وَا أَسَفًا ... مَنْ ذَا الَّذِي بَعْدَ مُحْيِي الدِّينِ يُحْيِيهِ

وَيَتَعَذَّرُ وَصْفُ مَا جَرَى مِنْهُمْ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ خُرَاسَانَ شَيْءٌ لَمْ تَنْهَبْهُ الْغُزُّ غَيْرَ هَرَاةَ وَدِهِسْتَانَ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ حَصِينَةً فَامْتَنَعَتْ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مُؤَرِّخِي خُرَاسَانَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ مَا فِيهِ زِيَادَةُ وُضُوحٍ، وَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْغُزَّ قَوْمٌ انْتَقَلُوا مِنْ نَوَاحِي الثَّغْرِ مِنْ أَقَاصِي التُّرْكِ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي أَيَّامِ الْمَهْدِيِّ، وَأَسْلَمُوا، وَاسْتَنْصَرَ بِهِمُ الْمُقَنَّعُ صَاحِبُ الْمَخَارِيقِ وَالشَّعْبَذَةِ، حَتَّى تَمَّ أَمْرُهُ، فَلَمَّا سَارَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَيْهِ خَذَلَهُ هَؤُلَاءِ الْغُزُّ وَأَسْلَمُوهُ، وَهَذِهِ عَادَتُهُمْ فِي كُلِّ دَوْلَةٍ كَانُوا فِيهَا ; وَفَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ مَعَ الْمُلُوكِ الْخَاقَانِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ الْأَتْرَاكَ الْقَارَغْلِيَّةَ قَمَعُوهُمْ، وَطَرَدُوهُمْ عَنْ أَوْطَانِهِمْ، فَدَعَاهُمُ الْأَمِيرُ زَنْكِي بْنُ خَلِيفَةَ الشَّيْبَانِيُّ الْمُسْتَوْلِي عَلَى حُدُودِ طَخَارِسْتَانَ إِلَيْهِ، وَأَنْزَلَهُمْ بِلَادَهُ، وَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمِيرِ قَمَاجَ عَدَاوَةٌ أَحْكَمَتْهَا الْأَيَّامُ لِلْمُجَاوَرَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ أَنْ يَعْلُوَ عَلَى الْآخَرِ وَيَحْكُمَ عَلَيْهِ، فَتَقَوَّى بِهِمْ زَنْكِي، وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى بَلْخَ لِمُحَارَبَةِ قَمَاجَ، فَكَاتَبَهُمْ قَمَاجُ، فَمَالُوا إِلَيْهِ، وَخَذَلُوا زَنْكِي عِنْدَ الْحَرْبِ، فَأُخِذَ زَنْكِي وَابْنُهُ أَسِيرَيْنِ، فَقَتَلَ قَمَاجُ ابْنَ زَنْكِي، وَجَعَلَ يُطْعِمُ أَبَاهُ لَحْمَهُ، ثُمَّ قَتَلَ الْأَبَ أَيْضًا، وَأَقْطَعَ قَمَاجُ الْغُزَّ مَوَاضِعَ، وَأَبَاحَهُمْ مَرَاعِيَ بِلَادِهِ. فَلَمَّا قَامَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْغُورِيُّ بِغَزْنَةَ وَقَصَدَ بَلْخَ خَرَجَ إِلَيْهِ قَمَاجُ وَعَسَاكِرُهُ وَمَعَهُ الْغُزُّ، فَفَارَقَهُ الْغُزُّ وَانْضَمُّوا إِلَى الْغَوْرِيِّ حَتَّى مَلَكَ مَدِينَةَ بَلْخَ، فَسَارَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ إِلَى بَلْخَ، فَفَارَقَهَا الْغَوْرِيُّ بَعْدَ قِتَالٍ انْهَزَمَ مِنْهُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ لِعَجْزِهِ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ، فَرَدَّهُ إِلَى غَزْنَةَ. وَبَقِيَ الْغُزُّ بِنَوَاحِي طَخَارِسْتَانَ وَفِي نَفْسِ قَمَاجَ مِنْهُمُ الْغَيْظُ الْعَظِيمُ لِمَا فَعَلُوهُ مَعَهُ، فَأَرَادَ صَرْفَهُمْ عَنْ بِلَادِهِ، فَتَجَمَّعُوا، وَانْضَمَّ إِلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنَ التُّرْكِ، وَقَدَّمُوا عَلَيْهِمْ أَرْسَلَانَ بُوقَا التُّرْكِيَّ، فَجَمَعَ قَمَاجُ عَسْكَرَهُ وَلَقِيَهُمْ فَاقْتَتَلُوا يَوْمًا كَامِلًا إِلَى اللَّيْلِ، فَانْهَزَمَ قَمَاجُ وَعَسْكَرُهُ، وَأُسِرَ هُوَ وَابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَتَلُوهُمَا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى نَوَاحِي بَلْخَ، وَعَاثُوا فِيهَا وَأَفْسَدُوا بِالنَّهْبِ وَالْقَتْلِ وَالسَّلْبِ.

وَبَلَغَ السُّلْطَانَ سَنْجَرَ الْخَبَرُ، فَجَمْعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَرَاسَلُوهُ يَعْتَذِرُونَ وَيَتَنَصَّلُونَ، فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُمْ، وَوَصَلَ إِلَيْهِمْ مُقَدِّمَةُ السُّلْطَانِ، وَفِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ قَمَاجَ الْمَقْتُولِ، وَالْمُؤَيَّدُ أَيْ أَبَهْ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَوَصَلَ بَعْدَهُمُ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ، فَالْتَقَاهُ الْغُزُّ بَعْدَ أَنْ أَرْسَلُوا يَعْتَذِرُونَ وَيَبْذُلُونَ الْأَمْوَالَ وَالطَّاعَةَ وَالِانْقِيَادَ إِلَى كُلِّ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ سَنْجَرُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَلَقُوهُ وَقَاتَلُوهُ وَصَبَرُوا لَهُ، وَدَامَ قِتَالُهُمْ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ سَنْجَرَ، وَهُوَ مَعَهُمْ، فَتَوَجَّهُوا إِلَى بَلْخَ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ، وَتَبِعَهُمُ الْغُزُّ، وَاقْتَتَلُوا مَرَّةً ثَانِيَةً، فَانْهَزَمَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ أَيْضًا، وَمَضَى مُنْهَزِمًا إِلَى مَرْوَ فِي صَفَرٍ مِنَ السَّنَةِ، فَقَصَدَ الْغُزُّ إِلَيْهَا، فَلَمَّا سَمِعَ الْعَسْكَرُ الْخُرَاسَانِيُّ بِقُرْبِهِمْ مِنْهُمْ أَجْفَلُوا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ هَارِبِينَ لِمَا دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْ خَوْفِهِمْ وَالرُّعْبِ مِنْهُمْ، فَلَمَّا فَارَقَهَا السُّلْطَانُ وَالْعَسْكَرُ دَخَلَهَا الْغُزُّ وَنَهَبُوهَا أَفْحَشَ نَهْبٍ وَأَقْبَحَهُ، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنَ السَّنَةِ، وَقُتِلَ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا وَأَعْيَانِهَا، مِنْهُمْ قَاضِي الْقُضَاةِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَرْسَابَنْدِيُّ، وَالْقَاضِي عَلِيُّ بْنُ مَسْعُودٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَلَمَّا خَرَجَ سَنْجَرُ مِنْ مَرْوَ قَصَدَ إِنْدِرَابَةَ وَأَخَذَهُ الْغُزُّ أَسِيرًا، وَأَجْلَسُوهُ عَلَى تَخْتِ السَّلْطَنَةِ عَلَى عَادَتِهِ، وَقَامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَذَلُوا لَهُ طَاعَةً، ثُمَّ عَاوَدُوا الْغَارَةَ عَلَى مَرْوَ فِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ، فَمَنَعَهُمْ أَهْلُهَا، وَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا بَذَلُوا فِيهِ جُهْدَهُمْ وَطَاقَتَهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ عَجَزُوا، فَاسْتَسْلَمُوا إِلَيْهِمْ، فَنَهَبُوهَا أَقْبَحَ مِنَ النَّهْبِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَتْرُكُوا بِهَا شَيْئًا. وَكَانَ قَدْ فَارَقَ سَنْجَرَ جَمِيعُ أُمَرَاءِ خُرَاسَانَ وَوَزِيرُهُ طَاهِرُ بْنُ فَخْرِ الْمُلْكِ ابْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ غَيْرُ نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ خَوَاصِّهِ وَخَدَمِهِ ; فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى نَيْسَابُورَ أَحْضَرُوا الْمَلِكَ سُلَيْمَانَ شَاهْ ابْنَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَوَصَلَ إِلَى نَيْسَابُورَ تَاسِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنَ السَّنَةِ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَخَطَبُوا لَهُ بِالسَّلْطَنَةِ، وَسَارَ فِي هَذَا الشَّهْرِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ السُّلْطَانِيِّ إِلَى طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْغُزِّ، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ كَثِيرًا، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ إِلَى أُمَرَائِهِمُ الْغُزِّيَّةِ فَاجْتَمَعُوا مَعَهُمْ. وَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ عَلَى الْمَلِكِ سُلَيْمَانَ شَاهْ سَارُوا إِلَى مَرْوَ يَطْلُبُونَ الْغُزَّ، فَبَرَزَ الْغُزُّ إِلَيْهِمْ، فَسَاعَةَ رَآهُمُ الْعَسْكَرُ الْخُرَاسَانِيُّ انْهَزَمُوا وَوَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ،

وَقَصَدُوا نَيْسَابُورَ، وَتَبِعَهُمُ الْغُزُّ، فَمَرُّوا بِطُوسَ، وَهِيَ مَعْدِنُ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ، فَنَهَبُوهَا، وَسَبَوْا نِسَاءَهَا، وَقَتَلُوا رِجَالَهَا، وَخَرَّبُوا مَسَاجِدَهَا وَمَسَاكِنَ أَهْلِهَا، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ جَمِيعِ وِلَايَةِ طُوسَ إِلَّا الْبَلَدُ الَّذِي فِيهِ مَشْهَدُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَى، وَمَوَاضِعُ أُخَرُ يَسِيرَةٌ لَهَا أَسْوَارٌ. وَمِمَّنْ قُتِلَ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِهَا إِمَامُهَا مُحَمَّدٌ الْمَارْشِكِيُّ، وَنَقِيبُ الْعَلَوِيِّينَ بِهَا عَلِيٌّ الْمُوسَوِيُّ، وَخَطِيبُهَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْمُحْسِنِ، وَشَيْخُ شُيُوخِهَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَفْنَوْا مَنْ بِهَا مِنَ الشُّيُوخِ الصَّالِحِينَ. وَسَارُوا مِنْهَا إِلَى نَيْسَابُورَ، فَوَصَلُوا إِلَيْهَا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، وَلَمْ يَجِدُوا دُونَهَا مَانِعًا وَلَا مُدَافِعًا، فَنَهَبُوهَا نَهْبًا ذَرِيعًا، وَقَتَلُوا أَهْلَهَا، فَأَكْثَرُوا حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُمْ لَمْ يُبْقُوا بِهَا أَحَدًا، حَتَّى إِنَّهُ أُحْصِيَ فِي مَحَلَّتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ قَتِيلٍ مِنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَسَبَوْا نِسَاءَهَا وَأَطْفَالَهَا، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، وَبَقِيَ الْقَتْلَى فِي الدُّرُوبِ كَالتِّلَالِ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، وَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا بِالْجَامِعِ الْمَنِيعِيِّ وَتَحَصَّنُوا بِهِ، فَحَصَرَهُمُ الْغُزُّ فَعَجَزَ أَهْلُ نَيْسَابُورَ عَنْ مَنْعِهِمْ، فَدَخَلَ الْغُزُّ إِلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَكَانُوا يَطْلُبُونَ مِنَ الرَّجُلِ الْمَالَ، فَإِذَا أَعْطَاهُمُ الرَّجُلُ مَالَهُ قَتَلُوهُ، وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الَّذِي لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ مِثْلُهُ، كَانَ رِحْلَةُ النَّاسِ مِنْ أَقْصَى الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ إِلَيْهِ، وَرَثَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَيْهَقِيُّ فَقَالَ: يَا سَافِكًا دَمَ عَالِمٍ مُتَبَحِّرٍ قَدْ ... طَارَ فِي أَقْصَى الْمَمَالِكِ صِيتُهُ بِاللَّهِ قُلْ لِي يَا ظَلُومُ وَلَا تَخَفْ ... مَنْ كَانَ يُحْيِي الدِّينَ كَيْفَ تُمِيتُهُ وَمِنْهُمُ الزَّاهِدُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْأَكَّافُ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْكَاتِبُ سِبْطُ الْقُشَيْرِيِّ، وَأَبُو الْبَرَكَاتِ الْفُرَاوِيُّ، وَالْإِمَامُ عَلِيٌّ الصَّبَّاغُ الْمُتَكَلِّمُ، وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَامِدٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الْمُلْقَابَاذِيُّ وَالْقَاضِي صَاعِدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَاعِدٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الرَّازِيُّ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالزُّهَّادِ وَالصَّالِحِينَ، وَأَحْرَقُوا مَا بِهَا مِنْ خَزَائِنِ الْكُتُبِ وَلَمْ يَسْلَمْ إِلَّا بَعْضُهَا.

وَحَصَرُوا شَارِسْتَانَ، وَهِيَ مَنِيعَةٌ، فَأَحَاطُوا بِهَا، وَقَاتَلَهُمْ مَنْ فَوْقَ سُورِهَا، وَقَصَدُوا جُوَيْنَ فَنَهَبُوهَا، وَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ بَحْرَابَاذَ مِنْ أَعْمَالِ جُوَيْنَ، وَبَذَلُوا نُفُوسَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى، وَحَمَوْا بَيْضَتَهُمْ وَالْبَاقِي أَتَى النَّهْبُ وَالْقَتْلُ عَلَيْهِ ; ثُمَّ قَصَدُوا أَسْفَرَايِينَ فَنَهَبُوهَا وَخَرَّبُوهَا، وَقَتَّلُوا فِي أَهْلِهَا فَأَكْثَرُوا. وَمِمَّنْ قُتِلَ عَبْدُ الرَّشِيدِ الْأَشْعَثِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ دَوْلَةِ السُّلْطَانِ، فَتَرَكَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ وَطَلَبِ الْآخِرَةِ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْفَنْدَرُوجِيُّ، وَكَانَ مِنْ ذَوِي الْفَضَائِلِ لَا سِيَّمَا فِي عِلْمِ الْأَدَبِ. وَلَمَّا فَرَغَ الْغُزُّ مِنْ جُوَيْنَ وَأَسْفَرَايِينَ عَاوَدُوا نَيْسَابُورَ، فَنَهَبُوا مَا بَقِيَ فِيهَا بَعْدَ النَّهْبِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ قَدْ لَحِقَ بِشَهْرَسْتَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا، فَحَصَرَهُمُ الْغُزُّ وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَنَهَبُوا مَا كَانَ فِيهَا لِأَهْلِهَا وَلِأَهْلِ نَيْسَابُورَ، وَنَهَبُوا الْحُرَمَ وَالْأَطْفَالَ، وَفَعَلُوا مَا لَمْ يَفْعَلْهُ الْكُفَّارُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ الْعَيَّارُونَ أَيْضًا يَنْهَبُونَ نَيْسَابُورَ أَشَدَّ مِنْ نَهْبِ الْغُزِّ وَيَفْعَلُونَ أَقْبَحَ مِنْ فِعْلِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ أَمْرَ الْمَلِكِ سُلَيْمَانَ شَاهْ ضَعُفَ، وَكَانَ قَبِيحَ السِّيرَةِ سَيِّئَ التَّدْبِيرِ، وَإِنَّ وَزِيرَهُ طَاهِرَ بْنَ فَخْرِ الْمُلْكِ ابْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] فَضَعُفَ أَمْرُهُ، وَاسْتَوْزَرَ سُلَيْمَانُ شَاهْ بَعْدَهُ ابْنَهُ نِظَامَ الْمُلْكِ أَبَا عَلِيٍّ الْحَسَنَ بْنَ طَاهِرٍ، وَانْحَلَّ أَمْرُ دَوْلَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَفَارَقَ خُرَاسَانَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] وَعَادَ إِلَى جُرْجَانَ، فَاجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ وَرَاسَلُوا الْخَانْ مَحْمُودَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ بُغْرَاخَانْ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَخَطَبُوا لَهُ عَلَى مَنَابِرِ خُرَاسَانَ وَاسْتَدْعَوْهُ إِلَيْهِمْ، فَمَلَّكُوهُ أُمُورَهُمْ، وَانْقَادُوا لَهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى الْغُزِّ وَهُمْ يُحَاصِرُونَ هَرَاةَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ كَانَ الظَّفَرُ فِي أَكْثَرِهَا لِلُغُزِّ، وَرَحَلُوا فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَةِ خَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ عَلَى هَرَاةَ إِلَى مَرْوَ وَعَاوَدُوا الْمُصَادَرَةَ لِأَهْلِهَا. وَسَارَ خَاقَانُ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَى نَيْسَابُورَ وَقَدْ غَلَبَ عَلَيْهَا الْمُؤَيَّدُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَرَاسَلَ الْغُزَّ فِي الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحُوا فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ خَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ،

هُدْنَةً عَلَى دَخَنٍ، وَسَيَرِدُ بَاقِي أَخْبَارِهِمْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ. ذِكْرُ مُلْكِ الْمُؤَيَّدِ نَيْسَابُورَ وَغَيْرَهَا كَانَ لِلسُّلْطَانِ سَنْجَرَ مَمْلُوكٌ اسْمُهُ أَيْ أَبَهْ، وَلَقَبُهُ الْمُؤَيَّدُ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ تَقَدَّمَ، وَعَلَا شَأْنُهُ، وَأَطَاعَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى نَيْسَابُورَ، وَطُوسَ، وَنَسَا، وَأَبِيوَرْدَ، وَشَهْرَسْتَانَ وَالدَّامَغَانِ، وَأَزَاحَ الْغُزَّ عَنِ الْجَمِيعِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، وَعَدَلَ فِي الرَّعِيَّةِ، وَاسْتَمَالَ النَّاسَ، وَوَفَّرَ الْخَرَاجَ عَلَى أَهْلِهِ، وَبَالَغَ فِي مُرَاعَاةِ أَرْبَابِ الْبُيُوتِ، فَاسْتَقَرَّتِ الْبِلَادُ لَهُ، وَدَانَتْ لَهُ الرَّعِيَّةُ لِحُسْنِ سِيرَتِهِ، وَعِظَمِ شَأْنِهِ، وَكَثُرَتْ جُمُوعُهُ، فَرَاسَلَهُ خَاقَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي تَسْلِيمِ الْبِلَادِ وَالْحُضُورِ عِنْدَهُ، فَامْتَنَعَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ، حَتَّى اسْتَقَرَّ عَلَى الْمُؤَيَّدِ مَالٌ يَحْمِلُهُ إِلَى الْمَلِكِ مَحْمُودٍ، فَكَفَّ عَنْهُ مَحْمُودٌ، وَأَقَامَ الْمُؤَيَّدُ بِالْبِلَادِ هُوَ وَالْمَلِكُ مَحْمُودٌ. ذِكْرُ مُلْكِ إِينَانْجَ الرَّيَّ كَانَ إِينَانْجُ أَحَدَ مَمَالِيكِ سَنْجَرَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ فِتْنَةِ الْغُزِّ مَا ذَكَرْنَاهُ هَرَبَ مِنْ خُرَاسَانَ، وَوَصَلَ إِلَى الرَّيِّ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَأَقَامَ بِهَا، فَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ شَاهْ بْنِ مَحْمُودِ شَاهْ بْنِ مَحْمُودٍ صَاحِبِ هَمَذَانَ، وَأَصْفَهَانَ، وَغَيْرِهِمَا، خَدَمَهُ وَهَدَايَا فَأَرْضَاهُ بِهَا، وَأَظْهَرَ لَهُ الطَّاعَةَ، وَبَقِيَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ الْمَلِكُ مَحْمُودٌ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَعَلَى عِدَّةِ بِلَادٍ تُجَاوِرُ الرَّيَّ، فَمَلَكَهَا، فَعَظُمَ أَمْرُهُ، وَعَلَا شَأْنُهُ، وَصَارَتْ عَسَاكِرُهُ عَشَرَةَ آلَافِ فَارِسٍ. فَلَمَّا مَلَكَ سُلَيْمَانُ شَاهْ هَمَذَانَ، (عَلَى مَا نَذْكُرُهُ) ، حَضَرَ عِنْدَهُ، وَأَطَاعَهُ لِأُنْسِهِ بِهِ. كَانَ أَيَّامَ مُقَامِ سُلَيْمَانَ شَاهْ بِخُرَاسَانَ، فَتَقَوَّى أَمْرُهُ بِذَلِكَ.

ذِكْرُ قَتْلِ ابْنِ السَّلَارِ وَزِيرِ الظَّافِرِ، وَوِزَارَةِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ، قُتِلَ الْعَادِلُ بْنُ السَّلَارِ وَزِيرُ الظَّافِرِ بِاللَّهِ ; قَتَلَهُ رَبِيبُهُ عَبَّاسُ بْنُ أَبِي الْفُتُوحِ بْنِ يَحْيَى الصَّنْهَاجِيُّ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْأَمِيرُ أُسَامَةُ بْنُ مُنْقِذٍ، وَوَافَقَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الظَّافِرُ بِاللَّهِ، فَأَمَرَ وَلَدَهُ نَصْرًا، فَدَخَلَ عَلَى الْعَادِلِ وَهُوَ عِنْدَ جَدَّتِهِ أَمِّ عَبَّاسٍ، فَقَتَلَهُ وَوَلِيَ الْوِزَارَةَ (بَعْدَهُ رَبِيبُهُ) عَبَّاسٌ. وَكَانَ عَبَّاسٌ قَدْ قَدِمَ مِنَ الْمَغْرِبِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ إِلَى مِصْرَ، وَتَعَلَّمَ الْخِيَاطَةَ، وَكَانَ خَيَّاطًا حَسَنًا، فَلَمَّا تَزَوَّجَ ابْنُ السَّلَارِ بِأُمِّهِ أَحَبَّهُ، وَأَحْسَنَ تَرْبِيَتَهُ، فَجَازَاهُ بِأَنْ قَتَلَهُ وَوَلِيَ بَعْدَهُ. وَكَانَتِ الْوِزَارَةُ فِي مِصْرَ لِمَنْ غَلَبَ، وَالْخُلَفَاءُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، وَالْوُزَرَاءُ كَالْمُتَمَلِّكِينَ، وَقَلَّ أَنْ وَلِيَهَا أَحَدٌ بَعْدَ الْأَفْضَلِ إِلَّا بِحَرْبٍ وَقَتْلٍ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ ذَكَرْنَاهُمْ فِي تَرَاجِمَ مُفْرَدَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَعَسَاكِرِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرٍ، كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ عَسْكَرِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَالْعَرَبِ عِنْدَ مَدِينَةِ سَطِيفَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ، وَهُمْ بَنُو هِلَالٍ وَالْأَبْتَحِ وَعَدِيٍّ وَرِيَاحٍ وَزُعْبٍ، وَغَيْرُهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، لَمَّا مَلَكَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بِلَادَ بَنِي حَمَّادٍ اجْتَمَعُوا مِنْ أَرْضِ طَرَابُلُسَ إِلَى أَقْصَى الْمَغْرِبِ، وَقَالُوا: إِنْ جَاوَرْنَا عَبْدَ الْمُؤْمِنِ أَجْلَانَا مِنَ الْمَغْرِبِ، وَلَيْسَ الرَّأْيُ إِلَّا إِلْقَاءَ الْجِدِّ مَعَهُ، وَإِخْرَاجَهُ مِنَ الْبِلَادِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ.

وَتَحَالَفُوا عَلَى التَّعَاوُنِ وَالتَّضَافُرِ، وَأَنْ لَا يَخُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَعَزَمُوا عَلَى لِقَائِهِ بِالرِّجَالِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ لِيُقَاتِلُوا قِتَالَ الْحَرِيمِ. وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالْمَلِكِ رُجَّارَ الْفِرِنْجِيِّ، صَاحِبِ صِقِلِّيَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الْعَرَبِ، وَهُمْ مُحْرِزُ بْنُ زِيَادٍ، وَجُبَارَةُ بْنُ كَامِلٍ، وَحَسَنُ بْنُ ثَعْلَبٍ، وَعِيسَى بْنُ حَسَنٍ وَغَيْرُهُمْ، يَحُثُّهُمْ عَلَى لِقَاءِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ خَمْسَةَ آلَافِ فَارِسٍ مِنَ الْفِرِنْجِ يُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ عَلَى شَرْطِ أَنْ يُرْسِلُوا إِلَيْهِ الرَّهَائِنَ ; فَشَكَرُوهُ وَقَالُوا: مَا بِنَا حَاجَةٌ إِلَى نَجْدَتِهِ، وَلَا نَسْتَعِينُ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ. وَسَارُوا فِي عَدَدٍ لَا يُحْصَى، وَكَانَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ قَدْ رَحَلَ مِنْ بِجَايَةَ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُهُمْ جَهَّزَ جَيْشًا مِنَ الْمُوَحِّدِينَ يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ الْهَنْتَانِيَّ، وَسَعْدَ اللَّهِ بْنَ يَحْيَى، وَكَانَ الْعَرَبُ أَضْعَافَهُمْ، فَاسْتَجَرَّهُمُ الْمُوَحِّدُونَ، وَتَبِعَهُمُ الْعَرَبُ إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَى أَرْضِ سَطِيفَ، بَيْنَ جِبَالٍ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ عَسْكَرُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَجَاءَهُ وَالْعَرَبُ عَلَى غَيْرِ أُهْبَةٍ، وَالتَقَى الْجَمْعَانِ، وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ وَأَعْظَمَهُ، فَانْجَلَتِ الْمَعْرَكَةُ عَنِ انْهِزَامِ الْعَرَبِ وَنُصْرَةِ الْمُوَحِّدِينَ. وَتَرَكَ الْعَرَبُ جَمِيعَ مَا لَهُمْ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ وَأَثَاثٍ وَنَعَمٍ، فَأَخَذَ الْمُوَحِّدُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَعَادَ الْجَيْشُ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِجَمِيعِهِ، فَقَسَّمَ جَمِيعَ الْأَمْوَالِ عَلَى عَسْكَرِهِ، وَتَرَكَ النِّسَاءَ وَالْأَوْلَادَ تَحْتَ الِاحْتِيَاطِ، وَوَكَّلَ بِهِمْ مِنَ الْخَدَمِ الْخِصْيَانِ مَنْ يَخْدُمُهُمْ وَيَقُومُ بِحَوَائِجِهِمْ، وَأَمَرَ بِصِيَانَتِهِمْ، فَلَمَّا وَصَلُوا مَعَهُ إِلَى مَرَّاكُشَ أَنْزَلَهُمْ فِي الْمَسَاكِنِ الْفَسِيحَةِ، وَأَجْرَى لَهُمُ النَّفَقَاتِ الْوَاسِعَةَ، وَأَمَرَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ ابْنَهُ مُحَمَّدًا أَنْ يُكَاتِبَ أُمَرَاءَ الْعَرَبِ، وَيُعْلِمَهُمْ أَنَّ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ تَحْتَ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ أَبُوهُ ذَلِكَ جَمِيعَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ بَذَلَ لَهُمُ الْأَمَانَ وَالْكَرَامَةَ. فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُ مُحَمَّدٍ إِلَى الْعَرَبِ سَارَعُوا إِلَى الْمَسِيرِ إِلَى مَرَّاكُشَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا أَعْطَاهُمْ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَعْطَاهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، فَاسْتَرَقَّ قُلُوبَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَقَامُوا عِنْدَهُ، وَكَانَ بِهِمْ حَفِيًّا، وَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى

وِلَايَةِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ لِلْعَهْدِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] . ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ مَدِينَةَ بُونَةَ وَمَوْتِ رُجَّارَ وَمُلْكِ ابْنِهِ غُلْيَالِمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ أُسْطُولُ رُجَّارَ مَلِكِ الْفِرِنْجِ بِصِقِلِّيَةَ إِلَى مَدِينَةِ بُونَةَ، وَكَانَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ فَتَاهُ فِيلِبَ الْمَهْدَوِيَّ فَحَصَرَهَا وَاسْتَعَانَ بِالْعَرَبِ عَلَيْهَا، فَأَخَذُوهَا فِي رَجَبٍ، وَسَبَى أَهْلَهَا، وَمَلَكَ مَا فِيهَا، غَيْرَ أَنَّهُ أَغْضَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ، حَتَّى خَرَجُوا بِأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إِلَى الْقُرَى، فَأَقَامَ بِهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَعَادَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ وَبَعْضُ الْأَسْرَى مَعَهُ، وَعَادَ إِلَى صِقِلِّيَةَ فَقَبَضَ رُجَّارُ عَلَيْهِ لِمَا اعْتَمَدَهُ مِنَ الرِّفْقِ بِالْمُسْلِمِينَ فِي بُونَةَ. وَكَانَ فِيلِبُ، يُقَالُ إِنَّهُ وَجَمِيعُ فِتْيَانِهِ مُسْلِمُونَ، يَكْتُمُونَهُ ذَلِكَ، وَشَهِدُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَصُومُ مَعَ الْمَلِكِ، وَأَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَجَمَعَ رُجَّارُ الْأَسَاقِفَةَ وَالْقُسُوسَ وَالْفُرْسَانَ، فَحَكَمُوا بِأَنْ يُحْرَقَ، فَأُحْرِقَ فِي رَمَضَانَ، وَهَذَا أَوَّلُ وَهَنٍ دَخَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِصِقِلِّيَةَ. وَلَمْ يُمْهِلِ اللَّهُ رُجَّارَ بَعْدَهُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى [مَاتَ] فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ، وَكَانَ مَرَضُهُ الْخَوَانِيقَ، وَكَانَ عُمْرُهُ قَرِيبَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَكَانَ مُلْكُهُ نَحْوَ سِتِّينَ سَنَةً ; وَلَمَّا مَاتَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ غُلْيَالِمُ، وَكَانَ فَاسِدَ التَّدْبِيرِ سَيِّئَ التَّصْوِيرِ، فَاسْتَوْزَرَ مَايُو الْبُرْصَانِيَّ، فَأَسَاءَ التَّدْبِيرَ، فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ حُصُونٌ مِنْ جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ، وَبِلَادِ قَلُّورِيَّةَ، وَتَعَدَّى الْأَمْرُ إِلَى إِفْرِيقِيَةَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ وَفَاةِ بَهْرَامْ شَاهْ صَاحِبِ غَزْنَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَجَبٍ تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ بَهْرَامْ شَاهْ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ صَاحِبُ غَزْنَةَ بِهَا، وَقَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ نِظَامُ الدِّينِ خُسْرُوشَاهْ، وَكَانَتْ وِلَايَةُ بَهْرَامْ شَاهْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، جَمِيلَ الطَّرِيقَةِ، مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ، مُكْرِمًا لَهُمْ، بَاذِلًا لَهُمُ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ، جَامِعًا لِلْكُتُبِ تُقْرَأُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَفْهَمُ مَضْمُونَهَا ; وَلَمَّا مَاتَ مَلَكَ وَلَدُهُ خُسْرُوشَاهْ.

ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ مَدِينَةَ عَسْقَلَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الْفِرِنْجُ بِالشَّامِ مَدِينَةَ عَسْقَلَانَ، وَكَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ مَمْلَكَةِ الظَّافِرِ بِاللَّهِ الْعَلَوِيِّ الْمِصْرِيِّ، وَكَانَ الْفِرِنْجُ كُلَّ سَنَةٍ يَقْصِدُونَهَا وَيَحْصُرُونَهَا، فَلَا يَجِدُونَ إِلَى مُلْكِهَا سَبِيلًا، وَكَانَ الْوُزَرَاءُ بِمِصْرَ لَهُمُ الْحُكْمُ فِي الْبِلَادِ، وَالْخُلَفَاءُ مَعَهُمُ اسْمٌ لَا مَعْنَى تَحْتَهُ، وَكَانَ الْوُزَرَاءُ كُلَّ سَنَةٍ يُرْسِلُونَ إِلَيْهَا مِنَ الذَّخَائِرِ وَالْأَسْلِحَةِ وَالْأَمْوَالِ وَالرِّجَالِ مَنْ يَقُومُ بِحِفْظِهَا. فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ ابْنُ السَّلَارِ الْوَزِيرُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاخْتَلَفَتِ الْأَهْوَاءُ فِي مِصْرَ، وَوَلِيَ عَبَّاسٌ الْوِزَارَةَ، وَإِلَى أَنِ اسْتَقَرَّتْ قَاعِدَةٌ، اغْتَنَمَ الْفِرِنْجُ اشْتِغَالَهُمْ عَنْ عَسْقَلَانَ، فَاجْتَمَعُوا وَحَصَرُوهَا، فَصَبَرَ أَهْلُهَا، وَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، حَتَّى إِنَّهُمْ بَعْضَ الْأَيَّامِ قَاتَلُوا خَارِجَ السُّورِ، وَرَدُّوا الْفِرِنْجَ إِلَى خِيَامِهِمْ مَقْهُورِينَ، وَتَبِعَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ إِلَيْهَا فَأَيِسَ حِينَئِذٍ الْفِرِنْجُ مِنْ مُلْكِهِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى عَزْمِ الرَّحِيلِ إِذْ قَدْ أَتَاهُمُ الْخَبَرُ أَنَّ الْخُلْفَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَ أَهْلِهِ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى، فَصَبَرُوا، وَكَانَ سَبَبَ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّهُمْ لَمَّا عَادُوا عَنْ قِتَالِ الْفِرِنْجِ قَاهِرِينَ مَنْصُورِينَ، ادَّعَى كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ أَنَّ النُّصْرَةَ مِنْ جِهَتِهِمْ كَانَتْ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ رَدُّوا الْفِرِنْجَ خَاسِرِينَ، فَعَظُمَ الْخِصَامُ بَيْنَهُمْ إِلَى أَنْ قُتِلَ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَتِيلٌ، وَاشْتَدَّ الْخَطْبُ حِينَئِذٍ، وَتَفَاقَمَ الشَّرُّ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى، فَطَمِعَ الْفِرِنْجُ، وَزَحَفُوا إِلَيْهِ وَقَاتَلُوا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجِدُوا مَنْ يَمْنَعُهُمْ فَمَلَكُوهُ. ذِكْرُ حَصْرِ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ تَكْرِيتَ وَعَوْدِهِمْ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ عَسْكَرًا إِلَى تَكْرِيتَ لِيَحْصُرُوهَا،

وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ مُقَدَّمًا عَلَيْهِمْ أَبَا الْبَدْرِ ابْنَ الْوَزِيرِ عَوْنِ الدِّينِ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَتُرْشَكَ، وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْخَلِيفَةِ، وَغَيْرَهُمَا، فَجَرَى بَيْنَ أَبِي الْبَدْرِ وَتُرْشَكَ مُنَافَرَةٌ أَوْجَبَتْ أَنْ كَتَبَ ابْنُ الْوَزِيرِ يَشْكُو مِنْ تُرْشَكَ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِالْقَبْضِ عَلَى تُرْشَكَ، فَعَرَفَ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَسْعُودِ بِلَالٍ، صَاحِبِ تَكْرِيتَ، وَصَالَحَهُ وَقَبَضَ عَلَى ابْنِ الْوَزِيرِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَسَلَّمَهُمْ إِلَى مَسْعُودِ بِلَالٍ، [فَانْهَزَمَ الْعَسْكَرُ وَغَرِقَ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَسَارَ مَسْعُودُ بِلَالٍ] وَتُرْشَكُ مِنْ تَكْرِيتَ إِلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ فَنَهَبَا وَأَفْسَدَا، فَسَارَ الْمُقْتَفِي عَنْ بَغْدَادَ لِدَفْعِهِمَا، فَهَرَبَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَقَصَدَ تَكْرِيتَ، فَحَصَرَهَا أَيَّامًا وَجَرَى لَهُ مَعَ أَهْلِهَا حُرُوبٌ مِنْ وَرَاءِ السُّورِ، فَقُتِلَ مِنَ الْعَسْكَرِ جَمَاعَةٌ بِالنُّشَّابِ، فَعَادَ الْخَلِيفَةُ عَنْهَا، وَلَمْ يَمْلِكْهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَتْ مَرَاكِبُ مِنْ صِقِلِّيَةَ، فِيهَا جَمْعٌ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَنَهَبُوا مَدِينَةَ تِنِّيسَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ. وَفِيهَا كَانَ بَيْنَ الْكُرْجِ بِأَرْمِينِيَّةَ وَبَيْنَ صُلَيْقٍ، صَاحِبِ أَرْزَنَ الرُّومِ، مَصَافٌّ وَحَرْبٌ شَدِيدَةٌ، وَانْهَزَمَ صَلِيقٌ وَأَسَرَهُ الْكُرْجُ ثُمَّ أَطْلَقُوهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي غَالِبٍ الْوَرَّاقُ - الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الطَّلَّايَةِ - الزَّاهِدُ الْبَغْدَادِيُّ بِهَا، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَلَهُ حَدِيثٌ وَرِوَايَةٌ.

وَتُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَهْلٍ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْكَرُوخِيُّ الْهَرَوِيُّ، رَاوِي " جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ "، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي ذِي الْحِجَّةِ.

ثم دخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] (549) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ الظَّافِرِ وَخِلَافَةِ ابْنِهِ الْفَائِزِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ، قُتِلَ الظَّافِرُ بِاللَّهِ أَبُو الْمَنْصُورِ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ الْحَافِظِ لِدِينِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الْعَلَوِيُّ صَاحِبُ مِصْرَ. وَكَانَ سَبَبَ قَتْلِهِ أَنَّ وَزِيرَهُ عَبَّاسًا كَانَ لَهُ وَلَدٌ اسْمُهُ نَصْرٌ، فَأَحَبَّهُ الظَّافِرُ، وَجَعَلَهُ مِنْ نُدَمَائِهِ وَأَحْبَابِهِ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِرَاقِهِمْ سَاعَةً وَاحِدَةً، فَاتَّفَقَ أَنْ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ مُؤَيَّدُ الدَّوْلَةِ الْأَمِيرُ أُسَامَةُ بْنُ مُنْقِذٍ الْكِنَانِيُّ فِي وِزَارَةِ ابْنِ السَّلَارِ، وَاتَّصَلَ بِعَبَّاسٍ، فَحَسَّنَ لَهُ قَتْلَ الْعَادِلِ بْنِ السَّلَارِ زَوْجِ أُمِّهِ، فَقَتَلَهُ، وَوَلَّاهُ الظَّافِرُ الْوِزَارَةَ، فَاسْتَبَدَّ بِالْأَمْرِ، وَتَمَّ لَهُ ذَلِكَ. وَعَلِمَ الْأُمَرَاءُ وَالْأَجْنَادُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ ابْنِ مُنْقِذٍ، فَعَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَخَلَا بِعَبَّاسٍ وَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا أَسْمَعُ مِنْ قَبِيحِ الْقَوْلِ؟ قَالَ: وَمَا ذَلِكَ؟ قَالَ: النَّاسُ يَزْعُمُونَ أَنَّ الظَّافِرَ يَفْعَلُ بِابْنِكَ نَصْرٍ ; وَ (كَانَ) نَصْرٌ خِصِّيصًا بِالظَّافِرِ، وَكَانَ مُلَازِمًا لَهُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَكَانَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ صُورَةً، وَكَانَ الظَّافِرُ يُتَّهَمُ بِهِ، فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ وَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: كَيْفَ الْحِيلَةُ؟ قَالَ: تَقْتُلُهُ فَيَذْهَبَ عَنْكَ الْعَارُ، فَذَكَرَ الْحَالَ لِوَلَدِهِ نَصْرٍ، فَاتَّفَقَا عَلَى قَتْلِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الظَّافِرَ أَقْطَعَ نَصْرَ بْنَ عَبَّاسٍ قَرْيَةَ قَلْيُوبَ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ قُرَى مِصْرَ، فَيَدْخُلُ إِلَيْهِ مُؤَيَّدُ الدَّوْلَةِ بْنُ مُنْقِذٍ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِيهِ عَبَّاسٍ. قَالَ لَهُ نَصْرٌ: قَدْ أَقْطَعَنِي مَوْلَانَا قَرْيَةَ قَلْيُوبَ. فَقَالَ لَهُ مُؤَيَّدُ الدَّوْلَةِ: مَا هِيَ فِي مَهْرِكَ بِكَثِيرٍ ; فَعَظُمَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِيهِ، وَأَنِفَ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ، وَشَرَعَ فِي قَتْلِ الظَّافِرِ بِأَمْرِ أَبِيهِ، فَحَضَرَ نَصَرٌ عِنْدَ الظَّافِرِ وَقَالَ

لَهُ: أَشْتَهِي أَنْ تَجِيءَ إِلَى دَارِي لِدَعْوَةٍ صَنَعْتُهَا، وَلَا تُكْثِرْ مِنَ الْجَمْعِ، فَمَشَى مَعَهُ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنَ الْخَدَمِ لَيْلًا، فَلَمَّا دَخَلَ الدَّارَ قَتَلَهُ وَقَتَلَ مَنْ مَعَهُ، وَأَفْلَتَ خَادِمٌ صَغِيرٌ اخْتَبَأَ فَلَمْ يَرَوْهُ، وَدَفَنَ الْقَتْلَى فِي دَارِهِ. وَأَخْبَرَ أَبَاهُ عَبَّاسًا الْخَبَرَ، فَبَكَّرَ إِلَى الْقَصْرِ، وَطَلَبَ مِنَ الْخَدَمِ الْخَصِّيصِينَ بِخِدْمَةِ الظَّافِرِ أَنْ يَطْلُبُوا لَهُ إِذْنًا فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ لِأَمْرٍ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ رَأْيَهُ فِيهِ. فَقَالُوا: إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْقَصْرِ. فَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْهُ. وَكَانَ غَرَضُهُ أَنْ يَنْفِيَ التُّهْمَةَ عَنْهُ بِقَتْلِهِ، وَأَنْ يَقْتُلَ مَنْ بِالْقَصْرِ مِمَّنْ يَخَافُ أَنْ يُنَازِعَهُ فِيمَنْ يُقِيمُهُ فِي الْخِلَافَةِ ; فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِمْ عَجَزُوا عَنْ إِحْضَارِهِ. فَبَيْنَمَا هُمْ يَطْلُبُونَهُ حَائِرِينَ دَهِشِينَ لَا يَدْرُونَ مَا الْخَبَرُ إِذْ وَصَلَ إِلَيْهِمُ الْخَادِمُ الصَّغِيرُ الَّذِي شَاهَدَ قَتْلَهُ، وَقَدْ هَرَبَ مِنْ دَارِ عَبَّاسٍ عِنْدَ غَفْلَتِهِمْ عَنْهُ، وَأَخْبَرَهُمْ بِقَتْلِ الظَّافِرِ، فَخَرَجُوا إِلَى عَبَّاسٍ، وَقَالُوا لَهُ: سَلْ وَلَدَكَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ أَيْنَ هُوَ ; لِأَنَّهُمَا خَرَجَا جَمِيعًا. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَعْتَبِرَ الْقَصْرَ لِئَلَّا يَكُونَ قَدِ اغْتَالَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ ; فَاسْتَعْرَضَ الْقَصْرَ، فَقَتَلَ أَخَوَيْنِ لِلظَّافِرِ، وَهُمَا يُوسُفُ وَجِبْرِيلُ، وَأَجْلَسَ الْفَائِزَ بِنَصْرِ اللَّهِ أَبَا الْقَاسِمِ عِيسَى ابْنَ الظَّافِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ إِسْمَاعِيلَ ثَانِي يَوْمٍ قُتِلَ أَبُوهُ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسُ سِنِينَ، فَحَمَلَهُ عَبَّاسٌ عَلَى كَتِفِهِ، وَأَجْلَسَهُ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ، وَبَايَعَ لَهُ النَّاسُ، وَأَخَذَ عَبَّاسٌ مِنَ الْقَصْرِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْأَعْلَاقِ النَّفِيسَةِ مَا أَرَادَ، وَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ إِلَّا مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. ذِكْرُ وِزَارَةِ الصَّالِحِ طَلَائِعِ بْنِ رُزَيِّكَ كَانَ السَّبَبُ فِي وِزَارَةِ الصَّالِحِ طَلَائِعِ بْنِ رُزَيِّكَ أَنَّ عَبَّاسًا، لَمَّا قَتَلَ الظَّافِرَ وَأَقَامَ الْفَائِزَ، ظَنَّ أَنَّ الْأَمْرَ يَتِمُّ لَهُ عَلَى مَا يُرِيدُهُ، فَكَانَ الْحَالُ خِلَافَ مَا اعْتَقَدَهُ، فَإِنَّ الْكَلِمَةَ اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ، وَثَارَ بِهِ الْجُنْدُ وَالسُّودَانُ، وَصَارَ إِذَا أَمَرَ بِالْأَمْرِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ وَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ، فَأَرْسَلَ مَنْ بِالْقَصْرِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْخَدَمِ إِلَى الصَّالِحِ طَلَائِعِ بْنِ زُرَيِّكَ يَسْتَغِيثُونَ بِهِ، وَأَرْسَلُوا شُعُورَهُمْ طَيَّ الْكُتُبِ ; وَكَانَ فِي مُنْيَةِ بَنِي حَصِيبٍ وَالِيًا عَلَيْهَا وَعَلَى أَعْمَالِهَا،

وَلَيْسَتْ مِنَ الْأَعْمَالِ الْجَلِيلَةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ أَقْرَبَ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ فِيهِ شَهَامَةٌ، فَجَمَعَ لِيَقْصِدَ عَبَّاسًا، وَسَارَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ عَبَّاسٌ ذَلِكَ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ نَحْوَ الشَّامِ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تُحْصَى كَثْرَةً، وَالتُّحَفِ وَالْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تُوجَدُ إِلَّا هُنَاكَ مِمَّا كَانَ أَخَذَهَ مِنَ الْقَصْرِ. فَلَمَّا سَارَ وَقَعَ بِهِ الْفِرِنْجُ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا مَعَهُ فَتَقَوَّوْا بِهِ. وَسَارَ الصَّالِحُ فَدَخَلَ الْقَاهِرَةَ بِأَعْلَامٍ سُودٍ وَثِيَابٍ سُودٍ حُزْنًا عَلَى الظَّافِرِ، وَالشُّعُورُ الَّتِي أُرْسِلَتْ إِلَيْهِ مِنَ الْقَصْرِ عَلَى رُءُوسِ رِمَاحٍ، وَكَانَ هَذَا مِنَ الْفَأْلِ الْعَجِيبِ، فَإِنَّ الْأَعْلَامَ السُّودَ الْعَبَّاسِيَّةَ دَخَلَتْهَا وَأَزَالَتِ الْأَعْلَامَ الْعَلَوِيَّةَ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَلَمَّا دَخَلَ الصَّالِحُ الْقَاهِرَةَ خُلِعَ عَلَيْهِ خِلَعُ الْوِزَارَةِ، وَاسْتَقَرَّ فِي الْأَمْرِ، وَأَحْضَرَ الْخَادِمَ الَّذِي شَاهَدَ قَتْلَ الظَّافِرِ، فَأَرَاهُ مَوْضِعَ دَفْنِهِ، فَأَخْرَجَهُ وَنَقَلَهُ إِلَى مَقَابِرِهِمْ بِالْقَصْرِ. وَلَمَّا قَتَلَ الْفِرِنْجُ عَبَّاسًا أَسَرُوا ابْنَهُ، فَأَرْسَلَ الصَّالِحُ إِلَى الْفِرِنْجِ وَبَذَلَ لَهُمْ مَالًا وَأَخَذَهُ مِنْهُمْ، فَسَارَ مِنَ الشَّامِ مَعَ أَصْحَابِ الصَّالِحِ، فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً إِلَى أَنْ رَأَى الْقَاهِرَةَ فَأَنْشَدَ: بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَبَادَنَا ... صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالْجُدُودُ الْعَوَاثِرُ وَأُدْخِلَ الْقَصْرَ، فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ، فَإِنَّهُ قُتِلَ، وَصُلِبَ عَلَى بَابِ زُوَيْلَةَ، وَاسْتَقْصَى الصَّالِحُ بُيُوتَ الْكِبَارِ وَالْأَعْيَانِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَأَهْلَكَ أَهْلَهَا وَأَبْعَدَهُمْ عَنْ دِيَارِهِمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَلَكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَفَرَّقَ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَغَيْرِهِمَا ; فَعَلَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْهُمْ أَنْ يَثُورُوا عَلَيْهِ وَيُنَازِعُوهُ فِي الْوِزَارَةِ ; وَكَانَ ابْنُ مُنْقِذٍ قَدْ هَرَبَ مَعَ عَبَّاسٍ، فَلَمَّا قُتِلَ هَرَبَ إِلَى الشَّامِ.

ذِكْرُ حَصْرِ تَكْرِيتَ وَوَقْعَةِ بِكَمْزَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ رَسُولًا إِلَى وَالِي تَكْرِيتَ، بِسَبَبِ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَأْسُورِينَ، وَهُمُ ابْنُ الْوَزِيرِ وَغَيْرُهُ، فَقَبَضُوا عَلَى الرَّسُولِ، فَسَيَّرَ الْخَلِيفَةُ عَسْكَرًا إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ أَهْلُ تَكْرِيتَ، فَقَاتَلُوا الْعَسْكَرَ وَمَنَعُوهُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى الْبَلَدِ، فَسَارَ الْخَلِيفَةُ بِنَفْسِهِ مُسْتَهَلَّ صَفَرٍ فَنَزَلَ عَلَى الْبَلَدِ، فَهَرَبَ أَهْلُهُ، فَدَخَلَ الْعَسْكَرُ فَشَعَّثُوا وَنَهَبُوا بَعْضَهُ، وَنَصَبَ عَلَى الْقَلْعَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَنْجَنِيقًا، فَسَقَطَ مِنْ أَسْوَارِهَا بُرْجٌ وَبَقِيَ الْحَصْرُ كَذَلِكَ إِلَى الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِالْقِتَالِ وَالزَّحْفِ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَكَثُرَ الْقَتْلَى، وَلَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا غَرَضًا، فَرَحَلَ عَائِدًا إِلَى بَغْدَادَ، فَدَخَلَهَا آخِرَ الشَّهْرِ، ثُمَّ أَمَرَ الْوَزِيرَ عَوْنَ الدِّينِ بْنَ هُبَيْرَةَ بِالْعَوْدِ إِلَى مُحَاصَرَتِهَا، وَالِاسْتِعْدَادِ، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْآلَاتِ لِلْحِصَارِ، فَسَارَ إِلَيْهَا سَابِعَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَنَازَلَهَا وَضَيَّقَ عَلَيْهَا، فَوَصَلَ الْخَبَرُ بِأَنَّ مَسْعُودَ بِلَالٍ وَصَلَ إِلَى شَهْرَابَانَ وَمَعَهُ الْبَقْشُ كُونْ خَرْ وَتُرْشَكُ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ وَنَهَبُوا الْبِلَادَ، فَعَادَ الْوَزِيرُ إِلَى بَغْدَادَ. وَكَانَ سَبَبَ وُصُولِ هَذَا الْعَسْكَرِ أَنَّهُمْ حَثُّوا الْمَلِكَ مُحَمَّدًا ابْنَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ عَلَى قَصْدِ الْعِرَاقِ، فَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ ذَلِكَ، فَسَيَّرَ هَذَا الْعَسْكَرَ، وَانْضَافَ إِلَيْهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ، فَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ مَسْعُودُ بِلَالٍ إِلَى تَكْرِيتَ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْمَلِكَ أَرْسَلَانَ ابْنَ السُّلْطَانِ طُغْرُلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ مَحْبُوسًا بِتَكْرِيتَ، وَقَالَ: هَذَا السُّلْطَانُ نُقَاتِلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِزَاءِ الْخَلِيفَةِ. وَالْتَقَى الْعَسْكَرَانِ عِنْدَ بِكَمْزَا بِالْقُرْبِ مِنْ بَعْقُوبَا، وَدَامَ بَيْنَهُمُ الْمُنَاوَشَةُ وَالْمُحَارَبَةُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ إِنَّهُمُ الْتَقَوْا آخِرَ رَجَبٍ فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَتْ مَيْمَنَةُ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ وَبَعْضُ الْقَلْبِ، حَتَّى بَلَغَتِ الْهَزِيمَةُ بَغْدَادَ، وَنُهِبَتْ خَزَائِنُهُ، وَقُتِلَ خَازِنُهُ، فَحَمَلَ الْخَلِيفَةُ بِنَفْسِهِ هُوَ وَوَلِيُّ عَهْدِهِ وَصَاحَ: يَا آلَ هَاشِمٍ! كَذَبَ الشَّيْطَانُ ; وَقَرَأَ: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب: 25] ،

وَحَمَلَ بَاقِي الْعَسْكَرِ مَعَهُ فَانْهَزَمَ مَسْعُودٌ وَالْبَقْشُ وَجَمِيعُ مَنْ مَعَهُمْ، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ، وَظَفَرَ الْخَلِيفَةُ بِهِمْ، وَغَنَمَ عَسْكَرُهُ جَمِيعَ مَالِ التُّرْكُمَانِ مِنْ دَوَابَّ وَغَنَمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَبِيعَ كُلُّ كَبْشٍ بِدَانَقٍ ; وَكَانُوا قَدْ حَضَرُوا بِنِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَخَرَكَاهَاتِهِمْ وَجَمِيعِ مَالِهِمْ، فَأُخِذَ جَمِيعُهُ، وَنُودِيَ: مَنْ أَخَذَ مِنْ أَوْلَادِ التُّرْكُمَانِ وَنِسَائِهِمْ شَيْئًا فَلْيَرُدَّهُ ; فَرَدُّوهُ، فَأَخَذَ الْبَقْشُ كُونْ خَرْ الْمَلِكَ أَرْسَلَانَ، وَانْهَزَمَ إِلَى بَلَدِ اللِّحْفِ وَقَلْعَةِ الْمَاهِكِي. وَفِي هَذِهِ الْحَرْبِ غَدَرَ بَنُو عَوْفٍ مِنْ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ، وَلَحِقُوا بِالْعَجَمِ، وَمَضَى هِنْدِيٌّ الْكُرْدِيُّ أَيْضًا مَعَهُمْ. وَكَانَ الْمَلِكُ مُحَمَّدٌ قَدْ أَرْسَلَ عَسْكَرًا مَعَ خَاصِّ بِكْ بْنِ آقْسُنْقُرْ نَجْدَةً لِكُونْ خَرْ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الرَّاذَانِ بَلَغَهُمْ خَبَرُ الْهَزِيمَةِ فَعَادُوا، وَرَجَعَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا أَوَائِلَ شَعْبَانَ، فَوَصَلَهُ الْخَبَرُ أَنَّ مَسْعُودَ بِلَالٍ وَتُرْشَكُ قَصْدَا مَدِينَةَ وَاسِطَ فَنَهَبَا وَخَرَّبَا، فَسَيَّرَ الْخَلِيفَةُ الْوَزِيرَ ابْنَ هُبَيْرَةَ فِي عَسْكَرٍ خَامِسَ عَشَرَ شَعْبَانَ، فَانْهَزَمَ الْعَجَمُ فَلَقِيَهُمْ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ، وَنَهَبَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَعَادُوا إِلَى بَغْدَادَ، فَلُقِّبَ الْوَزِيرُ سُلْطَانُ الْعِرَاقِ مَلِكَ الْجُيُوشِ. وَسَيَّرَ الْخَلِيفَةُ عَسْكَرًا إِلَى بَلَدِ اللِّحْفِ فَأَخَذَهُ وَصَارَ فِي جُمْلَتِهِ، وَأَمَّا الْمَلِكُ أَلْبُ أَرْسَلَانْ بْنُ طُغْرُلَ فَإِنَّ الْبَقْشُ أَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى بَلَدِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ مُحَمَّدٌ يَقُولُ لَهُ لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ وَأَرْسَلَانُ مَعَهُ، فَمَاتَ الْبَقْشُ كُونْ خَرْ فِي رَمَضَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَبَقِيَ أَرْسَلَانُ مَعَ ابْنِ الْبَقْشِ، وَحَسَنٍ الْجَانْدَارِ، فَحَمَلَاهُ [إِلَى] الْجَبَلِ، فَخَافَ الْمَلِكُ مُحَمَّدٌ أَنْ يَصِلَ أَرْسَلَانُ إِلَى زَوْجِ أُمِّهِ إِيلْدِكْزَ فَيَجْعَلَهُ ذَرِيعَةً إِلَى قَصْدِ الْبِلَادِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ حَذَرُهُ، وَاتَّصَلَ أَرْسَلَانُ بِإِيلْدِكْزَ زَوْجِ أُمِّهِ فَصَارَ مَعَهُ، وَهُوَ أَخُو الْبَهْلَوَانِ بْنِ إِيلْدِكْزَ لِأُمِّهِ، وَطُغْرُلُ الَّذِي قَتَلَهُ خَوَارَزْمُ شَاهْ وَلَدُ أَرْسَلَانَ هَذَا، وَكَانَ طُغْرُلُ آخِرَ السَّلْجُوقِيَّةِ.

ذِكْرُ مُلْكِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ مَدِينَةَ دِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرٍ مَلَكَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي بْنِ آقْسُنْقُرْ مَدِينَةَ دِمَشْقَ، وَأَخَذَهَا مِنْ صَاحِبِهَا مُجِيرِ الدِّينِ أَبَقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بُورِي بْنِ طُغْتِكِينَ أَتَابَكَ. وَكَانَ سَبَبَ جِدِّهِ فِي مُلْكِهَا أَنَّ الْفِرِنْجَ لَمَّا مَلَكُوا فِي الْعَامِ الْمَاضِي مَدِينَةَ عَسْقَلَانَ لَمْ يَكُنْ لِنُورِ الدِّينِ طَرِيقٌ إِلَى إِزْعَاجِهِمْ عَنْهَا لِاعْتِرَاضِ دِمَشْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَسْقَلَانَ، فَلَمَّا مَلَكَ الْفِرِنْجُ عَسْقَلَانَ طَمِعُوا فِي دِمَشْقَ، حَتَّى إِنَّهُمُ اسْتَعْرَضُوا كُلَّ مَنْ بِهَا مِنْ مَمْلُوكٍ وَجَارِيَةٍ مِنَ النَّصَارَى، فَمَنْ أَرَادَ الْمُقَامَ بِهَا تَرَكُوهُ، وَمَنْ أَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى وَطَنِهِ أَخَذُوهُ قَهْرًا شَاءَ صَاحِبُهُ أَمْ أَبَى. وَكَانَ لَهُمْ عَلَى أَهْلِهَا كُلَّ سَنَةٍ قَطِيعَةٌ يَأْخُذُونَهَا مِنْهُمْ، فَكَانَ رُسُلُهُمْ يَدْخُلُونَ الْبَلَدَ وَيَأْخُذُونَهَا مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَأَى نُورُ الدِّينِ ذَلِكَ خَافَ أَنْ يَمْلِكَهَا الْفِرِنْجُ فَلَا يَبْقَى حِينَئِذٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِ مُقَامٌ، فَأَعْمَلَ الْحِيلَةَ فِي أَخْذِهَا حَيْثُ عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ قُوَّةً ; لِأَنَّ صَاحِبَهَا مَتَى رَأَى غَلَبَهُ رَاسَلَ الْفِرِنْجَ وَاسْتَعَانَ بِهِمْ، فَأَعَانُوهُ لِئَلَّا يَمْلِكَهَا مَنْ يَقْوَى بِهَا عَلَى قِتَالِهِمْ، فَرَاسَلَ مُجِيرَ الدِّينِ صَاحِبَهَا وَاسْتَمَالَهُ، وَوَاصَلَهُ بِالْهَدَايَا، وَأَظْهَرَ لَهُ الْمَوَدَّةَ حَتَّى وَثِقَ بِهِ فَكَانَ نُورُ الدِّينِ يَقُولُ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ: إِنَّ فُلَانًا قَدْ كَاتَبَنِي فِي تَسْلِيمِ دِمَشْقَ، يَعْنِي بَعْضَ أُمَرَاءِ مُجِيرِ الدِّينِ، فَكَانَ يُبْعِدُ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ، وَيَأْخُذُ أَقْطَاعَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ أَحَدٌ قَدَّمَ أَمِيرًا يُقَالُ لَهُ عَطَا بْنُ حَفَّاظٍ السُّلَمِيُّ الْخَادِمُ، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَ دَوْلَتِهِ، فَكَانَ نُورُ الدِّينِ لَا يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنْ أَخْذِ دِمَشْقَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ مُجِيرُ الدِّينِ وَقَتَلَهُ، فَسَارَ نُورُ الدِّينِ حِينَئِذٍ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَانَ قَدْ كَاتَبَ مَنْ بِهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ وَاسْتَمَالَهُمْ، فَوَعَدَهُ بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا حَصَرَ نُورُ الدِّينِ الْبَلَدَ أَرْسَلَ مُجِيرُ الدِّينِ إِلَى الْفِرِنْجِ يَبْذُلُ لَهُمُ الْأَمْوَالَ وَتَسْلِيمَ قَلْعَةِ بَعْلَبَكَّ إِلَيْهِمْ لِيُنْجِدُوهُ وَيُرَحِّلُوا نُورَ الدِّينِ عَنْهُ، فَشَرَعُوا فِي جَمْعِ فَارِسِهِمْ وَرَاجِلِهِمْ لِيُرَحِّلُوا نُورَ الدِّينِ عَنِ الْبَلَدِ، فَإِلَى أَنِ اجْتَمَعَ لَهُمْ مَا يُرِيدُونَ تَسَلَّمَ نُورُ الدِّينِ الْبَلَدَ، فَعَادُوا بِخُفَّيْ حُنَيْنٍ.

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ تَسْلِيمِ دِمَشْقَ فَإِنَّهُ لَمَّا حَصَرَهَا ثَارَ الْأَحْدَاثُ الَّذِينَ رَاسَلَهُمْ، فَسَلَّمُوا إِلَيْهِ الْبَلَدَ مِنَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ وَمَلَكَهُ، وَحَصَرَ مُجِيرَ الدِّينِ فِي الْقَلْعَةِ، وَرَاسَلَهُ فِي تَسْلِيمِهَا وَبَذَلَ لَهُ إِقْطَاعًا مِنْ جُمْلَتِهِ مَدِينَةُ حِمْصَ، فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ وَسَارَ إِلَى حِمْصَ، ثُمَّ إِنَّهُ رَاسَلَ أَهْلَ دِمَشْقَ لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ، فَعَلِمَ نُورُ الدِّينِ ذَلِكَ فَخَافَهُ، فَأَخَذَ مِنْهُ حِمْصَ ; وَأَعْطَاهُ عِوَضًا عَنْهَا بَالَسَ، فَلَمْ يَرْضَهَا، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ وَابْتَنَى بِهَا دَارًا بِالْقُرْبِ مِنَ النِّظَامِيَّةِ، وَتُوُفِّيَ بِهَا. ذِكْرُ قَصْدِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ خُرَاسَانَ وَالظَّفَرِ بِهِمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، اجْتَمَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ مِنْ قُهِسْتَانَ، بَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ سَبْعَةَ آلَافِ رَجُلٍ مَا بَيْنَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، وَسَارُوا يُرِيدُونَ خُرَاسَانَ لِاشْتِغَالِ عَسَاكِرِهَا بِالْغُزِّ، وَقَصَدُوا أَعْمَالَ خَوَافَ وَمَا يُجَاوِرُهَا، فَلَقِيَهُمُ الْأَمِيرُ فَرْخَشَاهْ بْنُ مَحْمُودٍ الْكَاسَانِيُّ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ حَشَمِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمْ، فَتَرَكَهُمْ وَسَارَ عَنْهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْأَمِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ أُنُرَ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ خُرَاسَانَ وَأَشْجَعِهِمْ، يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْمَسِيرَ إِلَيْهِمْ بِعَسْكَرِهِ وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ لِيَجْتَمِعُوا عَلَيْهِمْ وَيُقَاتِلُوهُمْ. فَسَارَ مُحَمَّدُ بْنُ أُنُرَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَاجْتَمَعُوا هُمْ وَفَرْخَشَاهْ، وَوَاقَعُوا الْإِسْمَاعِيلِيَّةَ وَقَاتَلُوهُمْ، وَطَالَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ نَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ وَانْهَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَهَلَكَ أَعْيَانُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ: بَعْضُهُمْ قُتِلَ، وَبَعْضُهُمْ أُسِرَ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ الشَّرِيدُ، وَخَلَتْ قِلَاعُهُمْ وَحُصُونُهُمْ مِنْ حَامٍ وَمَانِعٍ، فَلَوْلَا اشْتِغَالُ الْعَسَاكِرِ بِالْغُزِّ لَكَانُوا

مَلَكُوهَا بِغَيْرِ تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ، وَأَرَاحُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لِلَّهِ أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ. ذِكْرُ مُلْكِ نُورِ الدِّينِ تَلَّ بَاشِرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَوِ الَّتِي بَعْدَهَا، مَلَكَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي قَلْعَةَ تَلِّ بَاشِرَ، وَهِيَ شَمَالِيَّ حَلَبَ مِنْ أَمْنَعِ الْقِلَاعِ. وَسَبَبُ مُلْكِهَا أَنَّ الْفِرِنْجَ لَمَّا رَأَوْا مُلْكَ نُورِ الدِّينِ دِمَشْقَ خَافُوهُ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ يَقْوَى عَلَيْهِمْ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِصَافِ مِنْهُ، لِمَا كَانُوا يَرَوْنَ مِنْهُ قَبْلَ مُلْكِهَا، فَرَاسَلَهُ مَنْ بِهَذِهِ الْقَلْعَةِ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَبَذَلُوا لَهُ تَسْلِيمَهَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمُ الْأَمِيرَ حَسَّانًا الْمَنْبِجِيَّ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَائِهِ، وَكَانَ إِقْطَاعُهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ مَدِينَةَ مَنْبِجَ، وَهِيَ تُقَارِبُ تَلَّ بَاشِرَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهَا وَيَتَسَلَّمَهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا وَتَسَلَّمَهَا مِنْهُمْ، وَحَصَّنَهَا وَرَفَعَ إِلَيْهَا مِنَ الذَّخَائِرِ مَا يَكْفِيهَا سِنِينَ كَثِيرَةً. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ أُسْتَاذُ الدَّارِ أَبُو الْفُتُوحِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ ابْنِ الْمُظَفَّرِ ابْنِ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَكَانَ لَهُ صَدَقَاتٌ، وَمَعْرُوفٌ كَثِيرٌ، وَمُجَالَسَةٌ لِلْفُقَرَاءِ. وَلَمَّا مَاتَ وَلَّى الْخَلِيفَةُ ابْنَهُ الْأَكْبَرَ عَضُدَ الدِّينِ أَبَا الْفَرَجِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ مَا كَانَ إِلَى أَبِيهِ. وَتُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَكَّافُ النَّيْسَابُورِيُّ. كَانَ زَاهِدًا، عَابِدًا، فَقِيهًا، مُنَاظِرًا، وَكَانَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ يَزُورُهُ وَيَتَبَرَّكُ بِدُعَائِهِ، وَكَانَ رُبَّمَا حَجَبَهُ فَلَا يُمَكِّنُهُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ ثِقَةُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَيْنِيُّ، وَكَانَ يَخْدِمُ أَبَا نَصْرٍ أَحْمَدَ بْنَ الْفَرَجِ الْأَبَرِّيَّ، فَرَبَّاهُ حَتَّى قِيلَ: " ابْنُ الْأَبَرِّيِّ "، وَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ شُهْدَةَ الْكَاتِبَةَ، فَقَرَّبَهُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ، وَوَكَّلَهُ فَبَنَى مَدْرَسَةً بِبَابِ الْأَزَجِ.

ثم دخلت سنة خمسين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَة] (550) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ [ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ إِلَى دَقُوقَا فَحَصَرَهَا، وَقَاتَلَ مَنْ بِهَا، ثُمَّ رَحَلَ عَنْهَا لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَسْكَرَ الْمَوْصِلِ قَدْ تَجَهَّزُوا لِلْمَسِيرِ لِمَنْعِهِ عَنْهَا، فَرَحَلَ وَلَمْ يَبْلُغْ غَرَضًا. وَفِيهَا اسْتَوْلَى شَمْلَةُ التُّرْكُمَانِيُّ عَلَى خُوزِسْتَانَ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا مِنَ التُّرْكُمَانِ، وَسَارَ يُرِيدُ خُوزِسْتَانَ، وَصَاحِبُهُ حِينَئِذٍ مَلِكْشَاهْ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَسَيَّرَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ عَسْكَرًا، فَلَقِيَهُمْ شَمْلَةُ فِي رَجَبٍ، وَقَاتَلَهُمْ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ، وَأُسِرَ وُجُوهُهُمْ، ثُمَّ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَطْلَقَهُمْ، وَأَرْسَلَ يَعْتَذِرُ، فَقُبِلَ عُذْرُهُ، وَسَارَ إِلَى خُوزِسْتَانَ فَمَلَكَهَا وَأَزَاحَ عَنْهَا مَلِكْشَاهْ ابْنَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ. وَفِيهَا سَارَ الْغُزُّ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَمَلَكُوهَا بِالسَّيْفِ، فَدَخَلُوهَا وَقَتَلُوا (مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الْفَقِيهَ الشَّافِعِيَّ وَ) نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَكَانَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ لَهُ اسْمُ السَّلْطَنَةِ، وَهُوَ مُعْتَقَلٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، حَتَّى إِنَّهُ أَرَادَ كَثِيرًا مِنَ الْأَيَّامِ أَنْ يَرْكَبَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَحْمِلُ سِلَاحَهُ، فَشَدَّهُ عَلَى وَسَطِهِ وَرَكِبَ. وَكَانَ إِذَا قُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ يَدَّخِرُ مِنْهُ مَا يَأْكُلُهُ وَقْتًا آخَرَ، خَوْفًا مِنِ انْقِطَاعِهِ عَنْهُ، لِتَقْصِيرِهِمْ فِي وَاجِبِهِ، وَلِأَنَّهُمْ لَيْسَ هَذَا مِمَّا يَعْرِفُونَهُ.

وَفِيهَا وَثَبَ قُسُوسُ الْأَرْمَنِ بِمَدِينَةِ آنِي فَأَخَذُوهَا مِنَ الْأَمِيرِ شَدَّادٍ، وَسَلَّمُوهَا إِلَى أَخِيهِ فَضْلُونَ. وَفِيهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ، قَتَلَ الْأَتْرَاكُ الْقَارَغْلِيَّةُ طُمْغَاجْ خَانْ بْنَ مُحَمَّدٍ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَأَلْقَوْهُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَنَسَبُوهُ إِلَى أَشْيَاءَ قَبِيحَةٍ ; وَكَانَ مُدَّةَ مُلْكِهِ مُسْتَضْعَفًا غَيْرَ مَهِيبٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ الْحَافِظُ الْأَدِيبُ وَكَانَ مَشْهُورًا بِالْفَضْلِ، وَكَانَ شَافِعِيًّا، وَصَارَ حَنْبَلِيًّا مُغَالِيًا، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فِي شَعْبَانَ، وَكَانَ مَوْتُهُ أَيْضًا فِي شَعْبَانَ. وَفِيهَا كَانَ بِالْعِرَاقِ وَمَا جَاوَرَهُ مِنَ الْبِلَادِ زَلْزَلَةٌ كَبِيرَةٌ فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ النَّحْوِيُّ الْمَوْصَلِيُّ، وَكَانَ فَاضِلًا خَيِّرًا. وَتَاجُ الدِّينِ أَبُو طَاهِرٍ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ الشَّهْرَزُورِيُّ، قَاضِي جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ.

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] (551) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ عِصْيَانِ الْجَزَائِرِ وَإِفْرِيقِيَّةَ عَلَى مَلِكِ الْفِرِنْجِ بِصِقِلِّيَةَ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ مَوْتَ رُجَّارَ مَلِكِ صِقِلِّيَةَ وَمُلْكَ وَلَدِهِ غُلْيَالِمَ، وَأَنَّهُ كَانَ فَاسِدَ التَّدْبِيرِ، فَخَرَجَ مِنْ حُكْمِهِ عِدَّةٌ مِنْ حُصُونِ صِقِلِّيَةَ. فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ قَوِيَ طَمَعُ النَّاسِ فِيهِ، فَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ جَزِيرَةُ جَرْبَةَ وَجَزِيرَةُ قَرْقَنَّةَ، وَأَظْهَرُوا الْخِلَافَ عَلَيْهِ، وَخَالَفَ عَلَيْهِ أَهْلُ إِفْرِيقِيَّةَ، فَأَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْخِلَافَ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْفُرِّيَانِيُّ بِمَدِينَةِ سَفَاقُسَ، وَكَانَ رُجَّارُ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا، لَمَّا فَتَحَهَا أَبَاهُ أَبَا الْحَسَنِ، وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ، فَأَظْهَرَ الْعَجْزَ وَالضَّعْفَ وَقَالَ: اسْتَعْمِلْ وَلَدِي ; فَاسْتَعْمَلَهُ، وَأَخَذَ أَبَاهُ رَهِينَةً إِلَى صِقِلِّيَةَ. فَلَمَّا أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَيْهَا قَالَ لِوَلَدِهِ عُمَرَ: إِنَّنِي كَبِيرُ السِّنِّ، وَقَدْ قَارَبَ أَجَلِي، فَمَتَى أَمْكَنَتْكَ الْفُرْصَةُ فِي الْخِلَافِ عَلَى الْعَدُوِّ فَافْعَلْ، وَلَا تُرَاقِبْهُمْ، وَلَا تَنْظُرْ فِي أَنَّنِي أُقْتَلُ وَاحْسَبْ أَنِّي قَدْ مُتُّ ; فَلَمَّا وَجَدَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ دَعَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْخِلَافِ وَقَالَ: يَطْلُعُ جَمَاعَةٌ مِنْكُمْ إِلَى السُّورِ، وَجَمَاعَةٌ يَقْصِدُونَ مَسَاكِنَ الْفِرِنْجِ وَالنَّصَارَى جَمِيعِهِمْ، وَيَقْتُلُونَهُمْ كُلَّهُمْ. فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ سَيِّدَنَا الشَّيْخَ وَالدَكَ نَخَافُ عَلَيْهِ. قَالَ: هُوَ أَمَرَنِي بِهَذَا، وَإِذَا قُتِلَ بِالشَّيْخِ أُلُوفٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ فَمَا مَاتَ ; فَلَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ حَتَّى قَتَلُوا

الْفِرِنْجَ عَنْ آخِرِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. ثُمَّ اتَّبَعَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مَطْرُوحٍ بِطَرَابُلُسَ وَبَعْدَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ رَشِيدٍ بِقَابِسَ، وَسَارَ عَسْكَرُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ إِلَى بُونَةَ فَمَلَكَهَا وَخَرَجَ جَمِيعُ إِفْرِيقِيَّةَ عَنْ حُكْمِ الْفِرِنْجِ مَا عَدَا الْمَهْدِيَّةَ وَسْوَسَةَ. وَأَرْسَلَ عُمَرُ بْنُ [أَبِي] الْحُسَيْنِ إِلَى زَوِيلَةَ، وَهِيَ مَدِينَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَهْدِيَّةِ نَحْوُ مَيْدَانٍ، يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْوُثُوبِ عَلَى مَنْ مَعَهُمْ فِيهَا مِنَ النَّصَارَى، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَقِدَمَ عَرَبُ الْبِلَادِ إِلَى زَوِيلَةَ، فَأَعَانُوا أَهْلَهَا عَلَى مَنْ بِالْمَهْدِيَّةِ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَقَطَعُوا الْمِيرَةَ عَنِ الْمَهْدِيَّةِ. فَلَمَّا اتَّصَلَ الْخَبَرُ بِغُلْيَالِمَ مَلِكِ صِقِلِّيَةَ أَحْضَرَ أَبَا الْحُسَيْنِ وَعَرَّفَهُ مَا عَمِلَ ابْنُهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَيَأْمُرَهُ بِالْعَوْدِ إِلَى طَاعَتِهِ، وَيُخَوِّفَهُ عَاقِبَةَ فِعْلِهِ، فَقَالَ: مَنْ قَدِمَ عَلَى هَذَا لَا يَرْجِعُ بِكِتَابٍ، فَأَرْسَلَ مَلِكُ صِقِلِّيَةَ إِلَيْهِ رَسُولًا يَتَهَدَّدُهُ، وَيَأْمُرُهُ بِتَرْكِ مَا ارْتَكَبَهُ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُ عُمَرُ مِنْ دُخُولِ الْبَلَدِ يَوْمَهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ خَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ جَمِيعُهُمْ وَمَعَهُمْ جِنَازَةٌ، وَالرَّسُولُ يُشَاهِدُهُمْ، فَدَفَنُوهَا وَعَادُوا، وَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى الرَّسُولِ يَقُولُ لَهُ: هَذَا أَبِي قَدْ دَفَنْتُهُ، وَقَدْ جَلَسْتُ لِلْعَزَاءِ بِهِ، فَاصْنَعُوا بِهِ مَا أَرَدْتُمْ. فَعَادَ الرَّسُولُ إِلَى غُلْيَالِمَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ عُمَرُ بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ، فَأَخَذَ أَبَاهُ وَصَلَبَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى مَاتَ. وَأَمَّا أَهْلُ زَوِيلَةَ فَإِنَّهُمْ كَثُرَ جَمْعُهُمْ بِالْعَرَبِ وَأَهْلِ سَفَاقُسَ وَغَيْرِهِمْ، فَحَصَرُوا الْمَهْدِيَّةَ وَضَيَّقُوا عَلَيْهَا، وَكَانَتِ الْأَقْوَاتُ بِالْمَهْدِيَّةِ قَلِيلَةً، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ صَاحِبُ صِقِلِّيَةَ عَشْرِينَ شِينِيًّا فِيهَا الرِّجَالُ وَالسِّلَاحُ، فَدَخَلُوا الْبَلَدَ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الْعَرَبِ وَبَذَلُوا

لَهُمْ مَالًا لِيَنْهَزِمُوا، وَخَرَجُوا مِنَ الْغَدِ، فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَأَهْلُ زَوِيلَةَ، فَانْهَزَمَتِ الْعَرَبُ، وَبَقِيَ أَهْلُ زَوِيلَةَ وَأَهْلُ سَفَاقُسَ يُقَاتِلُونَ الْفِرِنْجَ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَأَحَاطَ بِهِمُ الْفِرِنْجُ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ سَفَاقُسَ وَرَكِبُوا فِي الْبَحْرِ فَنَجَوْا، وَبَقِيَ أَهْلُ زَوِيلَةَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْفِرِنْجُ فَانْهَزَمُوا إِلَى زَوِيلَةَ، فَوَجَدُوا أَبْوَابَهَا مُغْلَقَةً، فَقَاتَلُوا تَحْتَ السُّورِ، وَصَبَرُوا حَتَّى قُتِلَ أَكْثَرُهُمْ وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا الْقَلِيلُ فَتَفَرَّقُوا، وَمَضَى بَعْضُهُمْ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ. فَلَمَّا قُتِلُوا هَرَبَ مَنْ بِهَا مِنَ الْحُرَمِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ فِي الْبَرِّ، وَلَمْ يُعَرِّجُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَدَخَلَ الْفِرِنْجُ زَوِيلَةَ فَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوا فِيهَا مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَاسْتَقَرَّ الْفِرِنْجُ بِالْمَهْدِيَّةِ إِلَى أَنْ أَخَذَهَا مِنْهُمْ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى سُلَيْمَانَ شَاهْ وَحَبْسِهِ بِالْمَوْصِلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيٌّ كُوجَكُ نَائِبُ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِي بْنِ آقْسُنْقُرْ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، عَلَى الْمَلِكِ سُلَيْمَانَ شَاهِ ابْنِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ شَاهْ عِنْدَ عَمِّهِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ قَدِيمًا، وَقَدْ جَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ، وَخَطَبَ لَهُ فِي مَنَابِر خُرَاسَانَ، فَلَمَّا جَرَى لِسَنْجَرَ مَعَ الْغُزِّ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَتَقَدَّمَ عَلَى عَسْكَرِ خُرَاسَانَ، وَضَعُفُوا عَنِ الْغُزِّ، مَضَى إِلَى خَوَارَزْمَ شَاهْ فَزَوَّجَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ أَقْسِيسَ، ثُمَّ بَلَغَهُ عَنْهُ مَا كَرِهَهُ فَأَبْعَدَهُ، فَجَاءَ إِلَى أَصْفَهَانَ فَمَنَعَهُ شِحْنَتُهَا مِنَ الدُّخُولِ، فَمَضَى إِلَى قَاشَانَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ شَاهْ ابْنُ أَخِيهِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَسْكَرًا أَبْعَدُوهُ عَنْهَا، فَسَارَ إِلَى خُوزِسْتَانَ، فَمَنَعَهُ مَلِكْشَاهْ عَنْهَا، فَقَصَدَ اللِّحْفَ وَنَزَلَ الْبَنْدَيْجِينِ، وَأَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي يُعْلِمُهُ بِوُصُولِهِ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، إِلَى أَنِ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ يُرْسِلَ زَوْجَتَهُ تَكُونُ رَهِينَةً، فَأَرْسَلَهَا إِلَى بَغْدَادَ وَمَعَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْجَوَارِي وَالْأَتْبَاعِ، وَقَالَ: قَدْ أَرْسَلْتُ هَؤُلَاءِ رَهَائِنَ، فَإِنْ أَذِنَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي دُخُولَ بَغْدَادَ فَعَلْتُ وَإِلَّا رَجَعْتُ.

فَأَكْرَمَ الْخَلِيفَةُ زَوْجَتَهُ وَمَنْ مَعَهَا، وَأَذِنَ فِي الْقُدُومِ وَمَعَهُ عَسْكَرٌ خَفِيفٌ يَبْلُغُونَ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، فَخَرَجَ وَلَدُ الْوَزِيرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ يَلْتَقِيهِ، وَمَعَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ وَالنَّقِيبَانِ، وَلَمْ يَتَرَجَّلْ لَهُ ابْنُ الْوَزِيرِ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ وَعَلَى رَأْسِهِ الشِّمْسَةُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ إِلَى أَنْ دَخَلَ الْمُحَرَّمُ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ فَأُحْضِرَ فِيهِ سُلَيْمَانُ شَاهْ إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ، وَأُحْضِرَ قَاضِي الْقُضَاةِ وَالشُّهُودُ وَأَعْيَانُ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَحَلَفَ لِلْخَلِيفَةِ عَلَى النُّصْحِ وَالْمُوَافَقَةِ وَلُزُومِ الطَّاعَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ إِلَى الْعِرَاقِ بِحَالٍ. فَلَمَّا حَلَفَ خُطِبَ لَهُ بِبَغْدَادَ وَلُقِّبَ أَلْقَابَ أَبِيهِ غِيَاثِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَبَاقِي أَلْقَابِهِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ خِلَعُ السَّلْطَنَةِ، وَسُيِّرَ مَعَهُ مِنْ عَسْكَرِ بَغْدَادَ ثَلَاثَةُ آلَافِ فَارِسٍ، وَجُعِلَ الْأَمِيرُ قُوَيْدَانُ صَاحِبُ الْحِلَّةِ أَمِيرَ حَاجِبٍ مَعَهُ، وَسَارَ نَحْوَ بِلَادِ الْجَبَلِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَسَارَ الْخَلِيفَةُ إِلَى حُلْوَانَ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَلِكْشَاهِ ابْنِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ أَخِي السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ صَاحِبِ هَمَذَانَ وَغَيْرِهَا يَدْعُوهُ إِلَى مُوَافَقَتِهِ، فَقَدِمَ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ، فَحَلَفَ كُلُّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ وَجُعِلَ مَلِكْشَاهْ وَلِيَ عَهْدِ سُلَيْمَانَ شَاهْ، وَقَوَّاهُمَا الْخَلِيفَةُ بِالْمَالِ وَالْأَسْلِحَةِ وَغَيْرِهَا، فَسَارُوا وَاجْتَمَعُوا هُمْ وَإِيلْدِكْزُ، فَصَارُوا فِي جَمْعٍ كَبِيرٍ. فَلَمَّا سَمِعَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ خَبَرَهُمْ أَرْسَلَ إِلَى قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَنَائِبِهِ زَيْنِ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْهُمَا الْمُسَاعَدَةَ وَالْمُعَاضَدَةَ، وَيَبْذُلُ لَهُمَا الْبَذُولَ الْكَثِيرَةَ إِنْ ظَفِرَ، فَأَجَابَاهُ إِلَى ذَلِكَ وَوَافَقَا، فَقَوِيَتْ نَفْسُهُ وَسَارَ إِلَى لِقَاءِ سُلَيْمَانْ شَاهْ وَمَنِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مِنْ عَسَاكِرِهِ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَانْهَزَمَ سُلَيْمَانُ شَاهْ وَمَنْ مَعَهُ، وَتَشَتَّتَ الْعَسْكَرُ وَوَصَلَ مِنْ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ - وَكَانُوا ثَلَاثَةَ آلَافِ رَجُلٍ - نَحْوٌ مِنْ خَمْسِينَ رَجُلًا، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا

أُخِذَتْ خُيُولُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَتَشَتَّتُوا، وَجَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ. وَفَارَقَ سَلِيمَانُ شَاهْ إِيلْدِكْزَ وَسَارَ نَحْوَ بَغْدَادَ عَلَى شَهْرَزَوْرَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيٌّ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ عَسْكَرِ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ بِشَهْرَزَوْرَ الْأَمِيرُ بَزَّانُ مُقْطِعًا لَهَا مِنْ جِهَةِ زَيْنِ الدِّينِ، فَخَرَجَ زَيْنُ الدِّينِ وَسَارَ، فَوَقَفَا عَلَى طَرِيقِ سُلَيْمَانَ شَاهْ، فَأَخَذَاهُ أَسِيرًا، وَحَمَلَهُ زَيْنُ الدِّينِ إِلَى قَلْعَةِ الْمَوْصِلِ وَحَبَسَهُ بِهَا مُكَرَّمًا مُحْتَرَمًا، إِلَى أَنْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمَّا قُبِضَ سُلَيْمَانُ شَاهْ أَرْسَلَ زَيْنُ الدِّينِ إِلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، وَوَعَدَهُ الْمُعَاضَدَةَ عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُهُ مِنْهُ. ذِكْرُ حَصْرِ نُورِ الدِّينِ قَلْعَةَ حَارِمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ الزَّنْكِي إِلَى قَلْعَةِ حَارِمَ، وَهِيَ لِلْفِرِنْجِ، ثُمَّ لِبَيْمُنْدَ، صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ، وَهِيَ تُقَارِبُ أَنْطَاكِيَةَ مِنْ شَرْقِيِّهَا، وَحَصَرَهَا وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا، وَهِيَ قَلْعَةٌ مَنِيعَةٌ فِي نُحُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَاجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ مَنْ قُرْبٍ مِنْهَا وَمِنْ بُعْدٍ، وَسَارُوا نَحْوَهُ لِيُرَحِّلُوهُ عَنْهَا. وَكَانَ بِالْحِصْنِ شَيْطَانٌ مِنْ شَيَاطِينِهِمْ يَعْرِفُونَ عَقْلَهُ وَيَرْجِعُونَ إِلَى رَأْيِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَقُولُ: إِنَّنَا نَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ الْقَلْعَةِ، وَلَيْسَ بِنَا ضَعْفٌ، فَلَا تُخَاطِرُوا أَنْتُمْ بِاللِّقَاءِ، فَإِنَّهُ إِنْ هَزَمَكُمْ أَخَذَهَا وَغَيْرَهَا، وَالرَّأْيُ مُطَاوَلَتُهُ ; فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ وَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُ نِصْفَ أَعْمَالِ حَارِمَ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ، وَرَحَلَ عَنْهُمْ، فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:

أَلْبَسْتَ دِينَ مُحَمَّدٍ يَا نُورَهُ ... عِزًّا لَهُ فَوْقَ السُّهَا أُسَادُ مَا زِلْتَ تَشْمَلُهُ بِمَيَّادِ الْقَنَا ... حَتَّى تَثَقَّفَ عُودُهُ الْمَيَّادُ لَمْ يَبْقَ مُذْ أَرْهَفْتَ عَزْمَكَ دُونَهُ عَدَدٌ يُرَاعُ بِهِ، وَلَا اسْتِعْدَادُ ... إِنَّ الْمَنَابِرَ لَوْ تُطِيقُ تَكَلُّمًا حَمِدَتْكَ عَنْ خُطَبَائِهَا الْأَعْوَادُ ... مُلْقٍ بِأَطْرَافِ الْقَرِيحَةِ كَلْكَلًا طَرَفَاهُ ضَرْبٌ صَادِقٌ وَجِلَادُ ... حَامُوا فَلَمَّا عَايَنُوا خَوْضَ الرَّدَى حَامَوْا فَرَائِسَ كَيْدِهِمْ أَوْ كَادُوا ... وَرَأَى " الْبِرِنْسُ " وَقَدْ تَبَرْنَسَ ذِلَّةً حَزْمًا لِحَارِمَ وَالْمَصَادُ مَصَادُ ... مَنْ مُنْكِرٌ أَنْ يَنْسِفَ السَّيْلُ الرُّبَى وَأَبُوهُ ذَاكَ الْعَارِضُ الْمَدَّادُ ... أَوْ أَنْ يُعِيدَ الشَّمْسَ كَاسِفَةَ السَّنَا نَارٌ لَهَا ذَاكَ الشِّهَابُ زِنَادُ ... لَا يَنْفَعُ الْآبَاءَ مَا سَمَكُوا مِنَ الْ عَلْيَاءِ حَتَّى يُرْفَعَ الْأَوْلَادُ وَهِيَ طَوِيلَةٌ.

ذِكْرُ وَفَاةِ خَوَارَزْمَ شَاهْ أَتْسِزَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُلُوكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَاسِعَ جُمَادَى الْآخِرَةِ تُوُفِّيَ خَوَارَزْمُ شَاهْ أَتْسِزُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَنُوشِتِكِينَ، وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُ فَالِجٌ، فَتَعَالَجَ مِنْهُ فَلَمْ يَبْرَأْ، فَاسْتَعْمَلَ أَدْوِيَةً شَدِيدَةَ الْحَرَارَةِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَطِبَّاءِ، فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، فَتُوُفِّيَ. وَكَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَوْتِ: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ - هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29] ، وَكَانَتْ وِلَادَتُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَرْسَلَانُ، فَقَتَلَ نَفَرًا مِنْ أَعْمَامِهِ، وَسَمَلَ أَخًا لَهُ فَمَاتَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقِيلَ بَلْ قَتَلَ نَفْسَهُ. وَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَكَانَ قَدْ هَرَبَ مِنْ أَسْرِ الْغُزِّ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ، فَكَتَبَ لَهُ مَنْشُورًا بِوِلَايَةِ خَوَارَزْمَ، وَسَيَّرَ الْخِلَعَ لَهُ فِي رَمَضَانَ، فَبَقِيَ فِي وِلَايَتِهِ سَاكِنًا آمِنًا. وَكَانَ أَتْسِزُ حَسَنَ السِّيرَةِ، كَافًّا عَنْ أَمْوَالِ رَعِيَّتِهِ، مُنْصِفًا لَهُمْ مَحْبُوبًا إِلَيْهِمْ ; مُؤْثِرًا لِلْإِحْسَانِ وَالْخَيْرِ إِلَيْهِمْ ; وَكَانَ الرَّعِيَّةُ مَعَهُ بَيْنَ أَمْنٍ غَامِرٍ وَعَدْلٍ شَامِلٍ. وَفِي سَابِعَ عَشَرَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ تُوُفِّيَ أَبُو الْفَوَارِسِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَرْسَلَانْ شَاهْ مَلِكُ كَرْمَانَ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ سَلْجُوقْشَاهْ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمَلِكُ مَسْعُودُ بْنُ قُلْجَ أَرْسَلَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَتَلْمِشَ صَاحِبُ قُونِيَّةَ وَمَا يُجَاوِرُهَا مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ قَلْجُ أَرْسَلَانَ. ذِكْرُ هَرَبِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ مَنِ الْغُزِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَمَضَانَ هَرَبَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ بْنُ مَلِكْشَاهْ مِنْ أَسْرِ الْغُزِّ هُوَ

وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ، وَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ تِرْمِذَ، وَاسْتَظْهَرَ بِهَا عَلَى الْغُزِّ، وَكَانَ خَوَارَزْمُ شَاهْ أَتْسِزُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَنُوشِتِكِينَ، وَالْخَاقَانُ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ، يَقْصِدَانِ الْغُزَّ فَيُقَاتِلَانِهِمْ فِيمَنْ مَعَهُمَا، فَكَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ سِجَالًا، وَغَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْغُزِّ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْ خُرَاسَانَ، فَهُوَ يَأْكُلُ دَخْلَهَا، لَا رَأْسَ لَهُمْ يَجْمَعُهُمْ. وَسَارَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ مِنْ تِرْمِذَ إِلَى جَيْحُونَ يُرِيدُ الْعُبُورَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَاتَّفَقَ أَنَّ مُقَدَّمَ الْأَتْرَاكِ الْقَارَغْلِيَّةِ، اسْمُهُ عَلِيٌّ بِكْ تُوُفِّيَ، وَكَانَ أَشَدَّ شَيْءٍ [عَلَى] السُّلْطَانِ سَنْجَرَ وَعَلَى غَيْرِهِ، كَثِيرَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ وَإِثَارَةِ الْفِتَنِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَقْبَلَتِ الْقَارَغْلِيَّةُ إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ مِنْ أَقَاصِي الْبِلَادِ وَأَدَانِيهَا، وَعَادَ إِلَى دَارِ مُلْكِهِ بِمَرْوَ فِي رَمَضَانَ ; فَكَانَتْ مُدَّةُ أَسْرِهِ مَعَ الْغُزِّ مِنْ سَادِسِ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ إِلَى رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. ذِكْرُ الْبَيْعَةِ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِوِلَايَةِ عَهْدِ أَبِيهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بِالْبَيْعَةِ لِوَلَدِهِ مُحَمَّدٍ بِوِلَايَةِ عَهْدِهِ، وَكَانَ الشَّرْطُ وَالْقَاعِدَةُ بَيْنَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ عُمَرَ هِنْتَاتِيٍّ أَنْ يَلِيَ عُمَرُ الْأَمْرَ بَعْدَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ ; فَلَمَّا تَمَكَّنَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْمُلْكِ وَكَثُرَ أَوْلَادُهُ أَحَبَّ أَنْ يَنْقُلَ الْمُلْكَ إِلَيْهِمْ، فَأَحْضَرَ أُمَرَاءَ الْعَرَبِ مِنْ هِلَالٍ وَرُعْبَةَ وَعَبْدِيٍّ وَغَيْرِهِمْ إِلَيْهِ وَوَصَلَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَوَضَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ لِيَطْلُبُوا مِنْ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَيَقُولُوا لَهُ: نُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا وَلِيَ عَهْدٍ مِنْ وَلَدِكَ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ بَعْدَكَ ; فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِكْرَامًا لِعُمَرَ هِنْتَاتِيٍّ لِعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ فِي الْمُوَحِّدِينَ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْأَمْرَ لِأَبِي حَفْصٍ عُمَرَ ; فَلَمَّا عَلِمَ عُمَرُ ذَلِكَ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَحَضَرَ عِنْدَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَأَجَابَ إِلَى خَلْعِ نَفْسِهِ، فَحِينَئِذٍ بُويِعَ لِمُحَمَّدٍ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَكَتَبَ إِلَى جَمِيعِ بِلَادِهِ بِذَلِكَ، وَخُطِبَ لَهُ فِيهَا جَمِيعِهَا، فَأَخْرَجَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ فِي

ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا. ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ أَوْلَادَهُ عَلَى الْبِلَادِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ أَوْلَادَهُ عَلَى الْبِلَادِ، فَاسْتَعْمَلَ وَلَدَهُ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ اللَّهِ عَلَى بِجَايَةَ وَأَعْمَالِهَا ; وَاسْتَعْمَلَ ابْنَهُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيًّا عَلَى فَاسَ وَأَعْمَالِهَا ; وَاسْتَعْمَلَ ابْنَهُ أَبَا حَفْصٍ عُمَرَ عَلَى مَدِينَةِ تِلْمِسَانَ وَأَعْمَالِهَا، وَوَلَّى ابْنَهُ أَبَا سَعِيدٍ سَبْتَةَ وَالْجَزِيرَةَ الْخَضْرَاءَ وَمَالِقَةَ ; وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ. وَلَقَدْ سَلَكَ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ طَرِيقًا عَجِيبًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْبِلَادِ شُيُوخَ الْمُوَحِّدِينَ الْمَشْهُورِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ تُومَرْتَ، وَكَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْزِلَهُمْ، فَأَخَذَ أَوْلَادَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ عِنْدَهُ يَشْتَغِلُونَ فِي الْعُلُومِ، فَلَمَّا مَهَرُوا فِيهَا وَصَارُوا يُقْتَدَى بِهِمْ قَالَ لِآبَائِهِمْ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَكُونُوا عِنْدِي أَسْتَعِينُ بِكُمْ عَلَى مَا أَنَا بِصَدَدِهِ، وَيَكُونُ أَوْلَادُكُمْ فِي الْأَعْمَالِ (لِأَنَّهُمْ عُلَمَاءُ فُقَهَاءُ) ; فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ وَهُمْ فَرِحُونَ مَسْرُورُونَ، (فَوَلَّى أَوْلَادَهُمْ) ثُمَّ وَضَعَ عَلَيْهِمْ بَعْضَهُمْ مِمَّنْ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي أَرَى أَمْرًا عَظِيمًا قَدْ فَعَلْتُمُوهُ ; فَارَقْتُمْ فِيهِ الْحَزْمَ وَالْأَدَبَ. فَقَالُوا: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: أَوْلَادُكُمْ فِي الْأَعْمَالِ، وَأَوْلَادُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَحُسْنِ السِّيَاسَةِ، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَنْظُرَ فِي هَذَا فَتَسْقُطَ مَنْزِلَتُكُمْ عِنْدَهُ، فَعَلِمُوا صِدْقَ الْقَائِلِ، فَحَضَرُوا عِنْدَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَقَالُوا: نُحِبُّ أَنْ تَسْتَعْمِلَ عَلَى الْبِلَادِ السَّادَةَ أَوْلَادَكَ. فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ بِسُؤَالِهِمْ. ذِكْرُ حَصْرِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ بَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، حَصَرَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ بَغْدَادَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدَ بْنَ مَحْمُودٍ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ بِبَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ، فَامْتَنَعَ الْخَلِيفَةُ مِنْ إِجَابَتِهِ إِلَى ذَلِكَ، فَسَارَ مِنْ هَمَذَانَ فِي عَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ نَحْوَ الْعِرَاقِ، وَوَعَدَهُ أَتَابَكُ قُطْبُ الدِّينِ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، وَنَائِبُهُ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيٌّ بِإِرْسَالِ

الْعَسَاكِرِ إِلَيْهِ نَجْدَةً لَهُ عَلَى حَصْرِ بَغْدَادَ، فَقَدِمَ الْعِرَاقَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، وَاضْطَّرَبَ النَّاسُ بِبَغْدَادَ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ يَجْمَعُ الْعَسَاكِرَ فَأَقْبَلَ خَطْلَبُرْسُ مِنْ وَاسِطَ وَعَصَى أَرْغَشُ، صَاحِبُ الْبَصْرَةِ، وَأَخَذَ وَاسِطَ، وَرَحَلَ مُهَلْهِلٌ إِلَى الْحِلَّةِ فَأَخَذَهَا، وَاهْتَمَّ الْخَلِيفَةُ وَعَوْنُ الدِّينِ بْنُ هُبَيْرَةَ بِأَمْرِ الْحِصَارِ، وَجَمَعَ جَمِيعَ السُّفُنِ وَقَطَعَ الْجِسْرَ وَجَعَلَ الْجَمِيعَ تَحْتَ التَّاجِ، وَنُودِيَ مُنْتَصَفَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، أَنْ لَا يُقِيمَ أَحَدٌ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَأَجْفَلَ النَّاسُ وَأَهْلُ السَّوَادِ، وَنُقِلَتِ الْأَمْوَالُ إِلَى حَرِيمِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَخَرَّبَ الْخَلِيفَةُ قَصْرَ عِيسَى وَالْمُرَبَّعَةَ وَالْقُرَيَّةَ وَالْمُسْتَجِدَّةَ وَالنَّجْمِيَّ، وَنَهَبَ أَصْحَابُهُ مَا وَجَدُوا، وَخَرَّبَ أَصْحَابُ مُحَمَّدِ شَاهْ نَهْرَ الْقَلَّابِينَ، وَالتُّوثَةَ، وَشَارِعَ ابْنِ رِزْقِ اللَّهِ وَبَابَ الْمَيْدَانِ وَقُطُفْتَا. وَأَمَّا أَهْلُ الْكَرْخِ وَأَهْلُ بَابِ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُمْ خَرَجُوا إِلَى عَسْكَرِ مُحَمَّدٍ، وَكَسَبُوا مَعَهُمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً. وَعَبَرَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ فَوْقَ حَرْبَى إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَنُهِبَتْ أُوَانَا، وَاتَّصَلَ بِهِ زَيْنُ الدِّينِ هُنَاكَ، وَسَارُوا، فَنَزَلَ مُحَمَّدُ شَاهْ عِنْدَ الرَّمْلَةِ، وَفَرَّقَ الْخَلِيفَةُ السِّلَاحَ عَلَى الْجُنْدِ وَالْعَامَّةِ، وَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ وَالْعَرَّادَاتِ. فَلَمَّا كَانَ فِي الْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ رَكِبَ عَسْكَرُ مُحَمَّدِ شَاهْ وَزَيْنِ الدِّينِ عَلِيٍّ، وَوَقَفُوا عِنْدَ الرَّقَّةِ، وَرَمَوْا بِالنُّشَّابِ إِلَى نَاحِيَةِ التَّاجِ، فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ عَامَّةُ بَغْدَادَ فَقَاتَلُوهُمْ، وَرَمَوْهُمْ بِالنِّفْطِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ جَرَى بَيْنَهُمْ عِدَّةُ حُرُوبٍ. وَفِي ثَالِثِ صَفَرٍ عَاوَدُوا الْقِتَالَ، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، وَعَبَرَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ سِبَاحَةً وَفِي السُّفُنِ، فَقُتِلُوا ; وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَلَمْ تَزَلِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ كُلَّ وَقْتٍ، وَعُمِلَ الْجِسْرُ عَلَى دِجْلَةَ وَعَبَرَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعَسْكَرِ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَصَارَ الْقِتَالُ فِي الْجَانِبَيْنِ، وَبَقِيَ زَيْنُ الدِّينِ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ فَنُودِيَ: كُلُّ مَنْ جُرِحَ فَلَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، فَكَانَ كُلَّمَا جُرِحَ إِنْسَانٌ يَحْضُرُ عِنْدَ الْوَزِيرِ فَيُعْطِيهِ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ، فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ الْعَامَّةِ جُرِحَ جُرْحًا لَيْسَ بِكَبِيرٍ،

فَحَضَرَ يَطْلُبُ الدَّنَانِيرَ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: لَيْسَ هَذَا الْجُرْحُ بِشَيْءٍ، فَعَاوَدَ الْقِتَالَ، فَضُرِبَ، فَانْشَقَّ جَوْفُهُ وَخَرَجَ شَيْءٌ مِنْ شَحْمِهِ، فَحُمِلَ إِلَى الْوَزِيرِ فَقَالَ: يَا مَوْلَانَا الْوَزِيرُ أَيُرْضِيكَ هَذَا؟ فَضَحِكَ مِنْهُ، وَأَضْعَفَ لَهُ، وَرَتَّبَ لَهُ مَنْ يُعَالِجُ جِرَاحَتَهُ إِلَى أَنْ بَرِئَ. وَتَعَذَّرَتِ الْأَقْوَاتُ فِي الْعَسْكَرِ إِلَّا أَنَّ اللَّحْمَ وَالْفَوَاكِهَ وَالْخُضَرَ كَثِيرَةٌ، وَكَانَتِ الْغَلَّاتُ بِبَغْدَادَ كَثِيرَةً ; لِأَنَّ الْوَزِيرَ كَانَ يُفَرِّقُهَا فِي الْجُنْدِ عِوَضَ الدَّنَانِيرِ فَيَبِيعُونَهَا، فَلَمْ تَزَلِ الْأَسْعَارُ عِنْدَهُمْ رَخِيصَةً، إِلَّا أَنَّ اللَّحْمَ وَالْفَاكِهَةَ وَالْخُضَرَ قَلِيلَةٌ عِنْدَهُمْ. وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَى أَهْلِ بَغْدَادَ لِانْقِطَاعِ الْمَوَادِّ عَنْهُمْ وَعَدَمِ الْمَعِيشَةِ لِأَهْلِهَا ; وَكَانَ زَيْنُ الدِّينِ وَعَسْكَرُ الْمَوْصِلِ غَيْرَ مُجِدِّينَ فِي الْقِتَالِ لِأَجْلِ الْخَلِيفَةِ وَالْمُسْلِمِينَ ; وَقِيلَ لِأَنَّ نُورَ الدِّينِ مَحْمُودَ بْنَ زَنْكِي، وَهُوَ أَخُو قُطْبِ الدِّينِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ الْأَكْبَرِ، أَرْسَلَ إِلَى زَيْنِ الدِّينِ يَلُومُهُ عَلَى قِتَالِ الْخَلِيفَةِ، فَفَتَرَ وَأَقْصَرَ. (وَلَمْ تَزَلِ الْحَرْبُ فِي أَكْثَرِ الْأَيَّامِ) ، وَعَمِلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ أَرْبَعَمِائَةٍ سُلَّمٍ لِيَصْعَدَ الرِّجَالُ فِيهَا إِلَى السُّورِ. وَزَحَفُوا، وَقَاتَلُوا، فَفَتَحَ أَهْلُ بَغْدَادَ أَبْوَابَ الْبَلَدِ وَقَالُوا: أَيُّ حَاجَةٍ بِكُمْ إِلَى السَّلَالِيمِ؟ هَذِهِ الْأَبْوَابُ مُفَتَّحَةٌ فَادْخُلُوا مِنْهَا ; فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْرَبُوهَا. فَبَيْنَمَا الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ أَنَّ أَخَاهُ مَلِكْشَاهْ وَإِيلْدِكْزَ صَاحِبَ بِلَادِ أَرَّانَ، وَمَعَهُ الْمَلِكُ أَرْسَلَانُ ابْنُ الْمَلِكِ طُغْرُلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ابْنُ امْرَأَةِ إِيلْدِكْزَ، قَدْ دَخَلُوا هَمَذَانَ وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَأَخَذُوا أَهْلَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَ مُحَمَّدِ شَاهْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَلَمَّا سَمِعَ مُحَمَّدُ شَاهْ ذَلِكَ جَدَّ فِي الْقِتَالِ لَعَلَّهُ يَبْلُغُ غَرَضًا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ وَرَحَلَ عَنْهَا نَحْوَ هَمَذَانَ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَعَادَ زَيْنُ الدِّينِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَتَفَرَّقَ ذَلِكَ الْجَمْعُ عَلَى عَزْمِ الْعَوْدِ إِذَا فَرَغَ مُحَمَّدُ شَاهْ مِنْ إِصْلَاحِ بِلَادِهِ، فَلَمْ يَعُودُوا يَجْتَمِعُونَ ; وَفِي كَثْرَةِ حُرُوبِهِمْ لَمْ يُقْتَلْ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ، وَإِنَّمَا الْجِرَاحُ كَانَتْ كَثِيرَةً، وَلَمَّا سَارُوا نَهَبُوا بَعْقُوبَا وَغَيْرَهَا مِنْ طَرِيقِ خُرَاسَانَ.

وَلَمَّا رَحَلَ الْعَسْكَرُ مِنْ بَغْدَادَ أَصَابَ أَهْلَهَا أَمْرَاضٌ شَدِيدَةٌ حَادَّةٌ، وَمَوْتٌ كَثِيرٌ لِلشِّدَّةِ الَّتِي مَرَّتْ بِهِمْ ; وَأَمَّا مَلِكْشَاهْ وَإِيلْدِكْزُ وَمَنْ مَعَهُمَا فَإِنَّهُمْ سَارُوا مِنْ هَمَذَانَ إِلَى الرَّيِّ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ إِينَانْجُ شِحْنَتُهَا وَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمُوهُ، فَأَنْفَذَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ الْأَمِيرَ سُقْمُسَ بْنَ قَيْمَازَ الْحَرَّامِيَّ فِي عَسْكَرٍ نَجْدَةً لِإِينَانْجَ، فَسَارَ سُقْمُسُ، وَكَانَ إِيلْدِكْزُ وَمَلِكْشَاهْ وَمَنْ مَعَهُمَا قَدْ عَادُوا مِنَ الرَّيِّ يُرِيدُونَ مُحَاصَرَةَ الْخَلِيفَةِ، فَلَقِيَهُمْ سُقْمُسُ وَقَاتَلَهُمْ، فَهَزَمُوهُ وَنَهَبُوا عَسْكَرَهُ وَأَثْقَالَهُمْ، فَاحْتَاجَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ إِلَى الْإِسْرَاعِ، فَسَارَ، فَلَمَّا بَلَغَ حُلْوَانَ بَلَغَهُ أَنَّ إِيلْدِكْزَ بِالدِّينَوَرِ، وَأَتَاهُ رَسُولٌ مِنْ نَائِبِهِ إِينَانْجَ أَنَّهُ دَخَلَ هَمَذَانَ، وَأَعَادَ الْخُطْبَةَ لَهُ فِيهَا، فَقَوِيَتْ نَفْسُهُ وَهَرَبَ شَمْلَةُ، صَاحِبُ خُوزِسْتَانَ إِلَى بِلَادِهِ، وَتَفَرَّقَ أَكْثَرُ جَمْعِ إِيلْدِكْزَ وَمَلِكْشَاهْ، وَبَقِيَا فِي خَمْسَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَعَادَا إِلَى بِلَادِهِمَا شِبْهَ الْهَارِبِ. وَلَمَّا رَحَلَ مُحَمَّدُ شَاهْ إِلَى هَمَذَانَ أَرَادَ التَّجَهُّزَ لِقَصْدِ بِلَادِ إِيلْدِكْزَ، فَابْتَدَأَ بِهِ مَرَضُ السُّلِّ، وَبَقِيَ بِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، أُطْلِقَ أَبُو الْبَدْرِ ابْنُ الْوَزِيرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ مِنْ حَبْسِ تَكْرِيتَ ; وَلَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ خَرَجَ أَخُوهُ وَالْمَوْكِبُ يَتَلَقَّوْنَهُ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَكَانَ مُقَامُهُ فِي الْحَبْسِ يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ. وَفِيهَا احْتَرَقَتْ بَغْدَادُ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَكَثُرَ الْحَرِيقُ بِهَا، وَاحْتَرَقَ دَرْبُ فِرَاشَا، وَدَرْبُ الدَّوَابِّ، وَدَرْبُ اللَّبَّانِ، وَخَرَابَةُ ابْنِ جَرْدَةَ، وَالظَّفَرِيَّةُ، وَالْخَاتُونِيَّةُ، وَدَارُ

الْخِلَافَةِ، وَبَابُ الْأَزَجِ، وَسُوقُ السُّلْطَانِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ قَصَدَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ طَبَسَ بِخُرَاسَانَ، فَأَوْقَعُوا بِهَا وَقْعَةً عَظِيمَةً، وَأَسَرُوا جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ دَوْلَةِ السُّلْطَانِ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ وَقَتَّلُوا فِيهِمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي ذِي الْقِعْدَةِ تُوُفِّيَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْمَعَالِي الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرَّزَّازِ بِنَيْسَابُورَ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الْأَفَاضِلِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ مُرِيدُ الدَّيْنِ بْنُ نِيسَانَ رَئِيسُ آمِدَ وَالْحَاكِمُ فِيهَا عَلَى صَاحِبِهَا، وَوَلِيَ مَا كَانَ إِلَيْهِ بَعْدَهُ ابْنُهُ كَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ. وَتُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْغَزْنَوِيُّ، الْوَاعِظُ الْمَشْهُورُ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ قَدِمَ إِلَيْهَا سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ لَهُ قَبُولٌ عَظِيمٌ عِنْدَ السَّلَاطِينِ وَالْعَامَّةِ وَالْخُلَفَاءِ إِلَّا أَنَّ الْمُقْتَفِيَ أَعْرَضَ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ لِإِقْبَالِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ. وَتُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْخَلِّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَكَانَ يَؤُمُّ بِالْخَلِيفَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَتُوُفِّيَ ابْنُ الْآمِدِيِّ الشَّاعِرُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّيْلِ مِنْ أَعْيَانِ الشُّعَرَاءِ فِي طَبَقَةِ الْغَزِّيِّ وَالْأَرَّجَانِيِّ، وَكَانَ عُمْرُهُ قَدْ زَادَ عَلَى تِسْعِينَ سَنَةً. وَفِيهَا قُتِلَ مُظَفَّرُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي الْخَيْرِ صَاحِبُ الْبَطِيحَةِ، قَتَلَهُ نَفِيسُ بْنُ فَضْلِ

بْنِ أَبِي الْخَيْرِ فِي الْحَمَّامِ، وَوَلِيَ ابْنُهُ بَعْدَهُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْوَأْوَاءُ الْحَلَبِيُّ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ. وَفِيهَا فِي رَمَضَانَ تُوُفِّيَ الْحَكِيمُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبُخَارِيُّ بِأَسْفَرَايِينَ، وَكَانَ صَاحِبَ مَعْرِفَةٍ بِعُلُومِ الْحُكَمَاءِ الْأَوَائِلِ.

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] (552) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ الزَّلَازِلِ بِالشَّامِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَجَبٍ، كَانَ بِالشَّامِ زَلَازِلُ كَثِيرَةٌ قَوِيَّةٌ خَرَّبَتْ كَثِيرًا مِنَ الْبِلَادِ، وَهَلَكَ فِيهَا مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً، فَخَرِبَ مِنْهَا بِالْمَرَّةِ حَمَاةُ، وَشَيْزَرُ، وَكَفَرْطَابَ، وَالْمَعَرَّةُ، وَأَفَامِيَةُ، وَحِصْنُ الْأَكْرَادِ، وَعِرْقَةُ، وَاللَّاذِقِيَّةُ، وَطَرَابُلُسُ، وَأَنْطَاكِيَةُ. وَأَمَّا مَا لَمْ يَكْثُرْ فِيهِ الْخَرَابُ وَلَكِنْ خَرِبَ أَكْثَرُهُ فَجَمِيعُ الشَّامِ،، وَتَهَدَّمَتْ أَسْوَارُ الْبِلَادِ وَالْقِلَاعِ، فَقَامَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ الْمُرْضِي، وَخَافَ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْفِرِنْجِ حَيْثُ خَرِبَتِ الْأَسْوَارُ، فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَأَقَامَ بِأَطْرَافِ بِلَادِهِ يُغِيرُ عَلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ وَيَعْمَلُ الْأَسْوَارَ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ جَمِيعِ أَسْوَارِ الْبِلَادِ. وَأَمَّا كَثْرَةُ الْقَتْلَى، فَيَكْفِي فِيهِ أَنَّ مُعَلِّمًا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ مَدِينَةُ حَمَاةَ، ذُكِرَ أَنَّهُ فَارَقَ الْمَكْتَبَ لِمُهِمٍّ عَرَضَ لَهُ فَجَاءَتِ الزَّلْزَلَةُ فَخَرَّبَتِ الْبَلَدَ، وَسَقَطَ الْمَكْتَبُ عَلَى الصِّبْيَانِ جَمِيعِهِمْ. قَالَ الْمُعَلِّمُ: فَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَسْأَلُ عَنْ صَبِيٍّ كَانَ لَهُ.

ذِكْرُ مُلْكِ نُورِ الدِّينِ حِصْنَ شَيْزَرَ نَبْتَدِئُ بِذِكْرِ هَذَا الْحِصْنِ، وَلِمَنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي، فَنَقُولُ: هَذَا الْحِصْنُ قَرِيبٌ مِنْ حَمَاةَ، بَيْنَهُمَا نِصْفُ نَهَارٍ، وَهُوَ عَلَى جَبَلٍ عَالٍ مَنِيعٍ لَا يُسْلَكُ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ. وَكَانَ لِآلِ مُنْقِذٍ الْكِنَانِيِّينَ يَتَوَارَثُونَهُ مِنْ أَيَّامِ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسَ إِلَى أَنِ انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى أَبِي الْمُرْهَفِ نَصْرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْمُقَلَّدِ بَعْدَ أَبِيهِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيٍّ، فَبَقِيَ (بِيَدِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ شُجَاعًا كَرِيمًا ; فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ اسْتَخْلَفَ أَخَاهُ أَبَا سَلَامَةَ مُرْشِدَ بْنَ عَلِيٍّ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا وَلِيتُهُ وَلَأَخْرُجَنَّ مِنَ الدُّنْيَا كَمَا دَخَلْتُهَا. وَكَانَ عَالِمًا بِالْقُرْآنِ وَالْأَدَبِ، وَهُوَ وَالِدُ مُؤَيَّدِ الدَّوْلَةِ أُسَامَةَ بْنِ مُنْقِذٍ، فَوَلَّاهَا أَخَاهُ الْأَصْغَرَ سُلْطَانَ بْنَ عَلِيٍّ، وَاصْطَحَبَا أَجْمَلَ صُحْبَةٍ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ، فَأَوْلَدَ مُرْشِدٌ عِدَّةَ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ، وَكَبِرُوا وَسَادُوا، مِنْهُمْ: عِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ، وَمُؤَيَّدُ الدَّوْلَةِ أُسَامَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يُولَدْ لِأَخِيهِ سُلْطَانٍ وَلَدٌ ذَكَرٌ إِلَى أَنْ كَبِرَ فَجَاءَهُ أَوْلَادٌ ذُكُورٌ، فَحَسَدَ أَخَاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَخَافَ أَوْلَادَ أَخِيهِ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَسَعَى بَيْنَهُمُ الْمُفْسِدُونَ فَغَيَّرُوا كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى أَخِيهِ، فَكَتَبَ سُلْطَانٌ إِلَى أَخِيهِ مُرْشِدٍ أَبْيَاتِ شِعْرٍ يُعَاتِبُهُ عَلَى أَشْيَاءَ بَلَغَتْهُ عَنْهُ، فَأَجَابَهُ بِشِعْرٍ فِي مَعْنَاهُ رَأَيْتُ إِثْبَاتَ مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَهِيَ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ: ظَلُومٌ أَبَتْ فِي الظُّلْمِ إِلَّا تَمَادِيَا ... وَفِي الصَّدِّ وَالْهِجْرَانِ إِلَّا تَنَاهَيَا شَكَتْ هَجْرَنَا وَالذَّنْبُ فِي ذَاكَ ذَنْبُهَا ... فَيَا عَجَبًا مِنْ ظَالِمٍ جَاءَ شَاكِيًا وَطَاوَعَتِ الْوَاشِينَ فِيَّ وَطَالَمَا ... عَصَيْتُ عَذُولًا فِي هَوَاهَا وَوَاشِيَا وَمَالَ بِهَا تِيهُ الْجَمَالِ إِلَى الْقِلَى ... وَهَيْهَاتَ أَنْ أُمْسِيَ لَهَا الدَّهْرَ قَالِيَا وَلَا نَاسِيًا مَا أَوْدَعَتْ مِنْ عُهُودِهَا ... وَإِنْ هِيَ أَبْدَتْ جَفْوَةً وَتَنَاسِيَا وَلَمَّا أَتَانِي مِنْ قَرِيضِكَ جَوْهَرٌ ... جَمَعْتَ الْمَعَالِيَ فِيهِ لِي وَالْمُعَانَيَا وَكُنْتُ هَجَرْتُ الشِّعْرَ حِينًا لِأَنَّهُ ... تَوَلَّى بِرُغْمِي حِينَ وَلَّى شَبَابِيَا

وَأَيْنَ مِنَ السِّتِّينَ لَفْظٌ مُفَوَّقٌ إِذَا رُمْتُ أَدْنَى الْقَوْلِ مِنْهُ عَصَانِيَا ... وَقُلْتُ أَخِي يَرْعَى بَنِيَّ وَأُسْرَتِي وَيَحْفَظُ عَهْدِي فِيهِمُ وَذِمَامِيَا ... وَيَجْزِيهِمُ مَا لَمْ أُكَلِّفْهُ فِعْلَهُ لِنَفْسِي فَقَدْ أَعْدَدْتُهُ مِنْ تُرَاثِيَا ... فَمَا لَكَ لَمَّا أَنْ حَنَى الدَّهْرُ صُعْدَتِي وَثَلَّمَ مِنِّي صَارِمًا كَانَ مَاضِيَا ... تَنَكَّرْتَ حَتَّى صَارَ بِرُّكَ قَسْوَةً وَقُرْبُكَ مِنْهُمُ جَفْوَةً وَتَنَابِيَا ... وَأَصْبَحْتُ صِفْرَ الْكَفِّ مِمَّا رَجَوْتُهُ أَرَى الْيَأْسَ قَدْ عَفَّى سَبِيلَ رَجَائِيَا ... عَلَى أَنَّنِي مَا حُلْتُ عَمَّا عَهِدْتُهُ وَلَا غَيَّرَتْ هَذِي السُّنُونُ وِدَادِيَا ... فَلَا غَرْوَ عِنْدَ الْحَادِثَاتِ فَإِنَّنِي أَرَاكَ يَمِينِي وَالْأَنَامَ شِمَالِيَا ... تَحِلُّ بِهَا عَذْرَاءُ لَوْ قُرِنَتْ بِهَا نُجُومُ السَّمَاءِ لَمْ تُعَدَّ دَرَارِيَا ... تَحَلَّتْ بِدُرٍّ مِنْ صِفَاتِكَ زَانَهَا كَمَا زَانَ مَنْظُومُ اللَّآلِي الْغَوَانِيَا ... وَعِشْ بَانِيًا لِلْمَجْدِ مَا كَانَ وَاهِيًا مُشِيدًا مِنَ الْإِحْسَانِ مَا كَانَ هَاوِيَا وَكَانَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا فِيهِ تَمَاسُكٌ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ مُرْشِدٌ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ قَلَبَ أَخُوهُ لِأَوْلَادِهِ ظَهْرَ الْمِجَنِّ، وَبَادَأَهُمْ بِمَا يَسُوؤُهُمْ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ شَيْزَرَ، فَتَفَرَّقُوا وَقَصَدَ أَكْثَرُهُمْ نُورَ الدِّينِ، وَشَكَوْا إِلَيْهِ مَا لَقُوا مِنْ عَمِّهِمْ، فَغَاظَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ قَصْدُهُ وَالْأَخْذُ بِثَأْرِهِمْ وَإِعَادَتُهُمْ إِلَى وَطَنِهِمْ لِاشْتِغَالِهِ بِجِهَادِ الْفِرِنْجِ، وَلِخَوْفِهِ أَنْ يُسَلِّمَ شَيْزَرَ إِلَى الْفِرِنْجِ. ثُمَّ تُوُفِّيَ سُلْطَانٌ وَبَقِيَ بَعْدَهُ أَوْلَادُهُ، فَبَلَغَ نُورَ الدِّينِ عَنْهُمْ مُرَاسَلَةُ الْفِرِنْجِ فَاشْتَدَّ حَنَقُهُ عَلَيْهِمْ، وَانْتَظَرَ فُرْصَةً تُمَكِّنُهُ، فَلَمَّا خَرِبَتِ الْقَلْعَةُ هَذِهِ السَّنَةَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الزَّلْزَلَةِ لَمْ يَنْجُ مِنْ بَنِي مُنْقِذِ الَّذِينِ بِهَا أَحَدٌ. وَسَبَبُ هَلَاكِهِمْ أَجْمَعِينَ أَنَّ صَاحِبَهَا مِنْهُمْ كَانَ قَدْ خَتَنَ وَلَدًا لَهُ، وَعَمِلَ دَعْوَةً لِلنَّاسِ، وَأَحْضَرَ جَمِيعَ بَنِي مُنْقِذٍ عِنْدَهُ فِي دَارِهِ، وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ يُحِبُّهُ، وَيَكَادُ لَا يُفَارِقُهُ، وَإِذَا كَانَ فِي مَجْلِسٍ أُقِيمَ الْفُرْسُ عَلَى بَابِهِ. وَكَانَ الْمُهْرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى بَابِ الدَّارِ فَجَاءَتِ الزَّلْزَلَةُ، فَقَامَ النَّاسُ لِيُخْرِجُوا مِنَ الدَّارِ، فَلَمَّا وَصَلُوا مُجْفِلِينَ إِلَى الْبَابِ

لِيَخْرُجُوا مِنَ الدَّارِ رَمَحَ الْفَرَسُ رَجُلًا كَانَ أَوَّلَهُمْ فَقَتَلَهُ، وَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الْخُرُوجِ، فَسَقَطَتِ الدَّارُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ، وَخَرِبَتِ الْقَلْعَةُ وَسَقَطَ سُورُهَا وَكُلُّ بِنَاءٍ فِيهَا، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهَا إِلَّا الشَّرِيدُ، فَبَادَرَ إِلَيْهَا بَعْضُ أُمَرَائِهِ، وَكَانَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، فَمَلَكَهَا وَتَسَلَّمَهَا نُورُ الدِّينِ مِنْهُ، فَمَلَكَهَا وَعَمَّرَ أَسْوَارَهَا وَدُورَهَا، وَأَعَادَهَا جَدِيدَةً. ذِكْرُ وَفَاةِ الدُّبَيْسِيِّ صَاحِبِ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ وَاسْتِيلَاءِ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودٍ عَلَى الْجَزِيرَةِ كَانَتِ الْجَزِيرَةُ لِأَتَابَكَ زَنْكِي، فَلَمَّا قُتِلَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] أَقْطَعَهَا ابْنَهُ سَيْفُ الدِّينِ غَازِي لِلْأَمِيرِ أَبِي بَكْرٍ الدُّبَيْسِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ وَالِدِهِ، فَبَقِيَتْ بِيَدِهِ إِلَى الْآنَ، وَتَمَكَّنَ مِنْهَا وَصَارَ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ عَلَى قُطْبِ الدِّينِ أَخْذُهَا مِنْهُ، فَمَاتَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَلَمْ يُخَلِّفْ وَلَدًا، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا مَمْلُوكٌ لَهُ اسْمُهُ غُلْبَكُ، وَأَطَاعَهُ جُنْدُهَا، فَحَصَرَهُمْ مَوْدُودٌ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تَسَلَّمَهَا مِنْ غُلْبَكَ فِي صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، وَأَعْطَاهُ عِوَضَهَا إِقْطَاعًا كَثِيرًا. ذِكْرُ وَفَاةِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ بْنُ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبَ أَرْسَلَانَ، أَبُو الْحَرْثِ، أَصَابَهُ قُولَنْجُ، ثُمَّ بَعْدَهُ إِسْهَالٌ، فَمَاتَ مِنْهُ وَمَوْلِدُهُ سِنْجَارُ، مِنْ دِيَارِ الْجَزِيرَةِ، فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَكَنَ خُرَاسَانَ، وَاسْتَوْطَنَ مَدِينَةَ مَرْوَ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ مَعَ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ بِالْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، فَعَهِدَ إِلَى مُحَمَّدٍ بِالسَّلْطَنَةِ وَجَعَلَ سَنْجَرَ وَلِيَّ عَهْدٍ. فَلَمَّا مَاتَ مُحَمَّدٌ، خُوطِبَ سَنْجَرُ بِالسُّلْطَانِ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُهُ، وَأَطَاعَهُ السَّلَاطِينُ وَخُطِبَ لَهُ عَلَى أَكْثَرِ مَنَابِرِ الْإِسْلَامِ بِالسَّلْطَنَةِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ قَبْلَهَا يُخَاطَبُ بِالْمُلْكِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُ عَالِيًا وَجَدُّهُ مُتَرَاقِيًا إِلَى أَنْ أَسَرَهُ الْغُزُّ عَلَى مَا

ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُ خُلِّصَ بَعْدَ مُدَّةٍ وَجُمِعَ إِلَيْهِ أَطْرَافُهُ بِمَرْوَ، وَكَادَ يَعُودُ إِلَيْهِ مُلْكُهُ، فَأَدْرَكَهُ أَجَلُهُ. وَكَانَ مَهِيبًا كَرِيمًا رَفِيقًا بِالرَّعِيَّةِ، وَكَانَتِ الْبِلَادُ فِي زَمَانِهِ آمِنَةً. وَلَمَّا مَاتَ دُفِنَ فِي قُبَّةٍ بَنَاهَا لِنَفْسِهِ سَمَّاهَا دَارَ الْآخِرَةِ ; وَلَمَّا وَصَلَ خَبَرُ مَوْتِهِ إِلَى بَغْدَادَ قُطِعَتْ خُطْبَتُهُ، وَلَمْ يُجْلَسْ لَهُ فِي الدِّيوَانِ لِلْعَزَاءِ. وَلَمَّا حَضَرَ السُّلْطَانَ سَنْجَرَ الْمَوْتُ اسْتَخْلَفَ عَلَى خُرَاسَانَ الْمَلِكَ مَحْمُودَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ بَغْرَاخَانَ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، فَأَقَامَ بِهَا خَائِفًا مِنَ الْغُزِّ، فَقَصَدَ جُرْجَانَ يَسْتَظْهِرُ بِهَا، وَعَادَ الْغُزُّ إِلَى مَرْوَ وَخُرَاسَانَ، وَاجْتَمَعَ طَائِفَةٌ مِنْ عَسَاكِرِ خُرَاسَانَ عَلَى أَيْ أَبَهْ الْمُؤَيَّدِ، فَاسْتَوْلَى عَلَى طَرَفٍ مِنْ خُرَاسَانَ، وَبَقِيَتْ خُرَاسَانُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَالِ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] . وَأَرْسَلَ الْغُزُّ إِلَى الْمَلِكِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُمْ لِيُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَثِقْ بِهِمْ، وَخَافَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَرْسَلَ ابْنَهُ إِلَيْهِمْ فَأَطَاعُوهُ مُدَيْدَةً ثُمَّ لَحِقَ بِهِمُ الْمَلِكُ مَحْمُودٌ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] . ذِكْرُ مُلْكِ الْمُسْلِمِينَ مَدِينَةَ الْمَرِيَّةِ وَانْقِرَاضِ دَوْلَةِ الْمُلَثَّمِينَ بِالْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْقَرَضَتْ دَوْلَةُ الْمُلَثَّمِينَ بِالْأَنْدَلُسِ، وَمَلَكَ أَصْحَابُ عَبْدِ الْمُؤْمِنَ الْمَرِيَّةَ مِنَ الْفِرِنْجِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الْمُؤْمِنِ لَمَّا اسْتَعْمَلَ ابْنَهُ أَبَا سَعِيدٍ عَلَى الْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ وَمَالِقَةَ عَبَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَحْرَ إِلَى مَالِقَةَ، وَاتَّخَذَهَا دَارًا، وَكَاتَبَهُ مَيْمُونُ بْنُ بَدْرٍ اللَّمْتُونِيُّ صَاحِبُ غَرْنَاطَةَ، أَنْ يُوَحِّدَ وَيُسَلِّمَ إِلَيْهِ غَرْنَاطَةَ، فَقَبِلَ أَبُو سَعِيدٍ ذَلِكَ مِنْهُ وَتَسَلَّمَ غَرْنَاطَةَ، فَسَارَ مَيْمُونٌ إِلَى مَالِقَةَ بِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، فَتَلَقَّاهُ أَبُو سَعِيدٍ، وَأَكْرَمَهُ، وَوَجَّهَهُ إِلَى مَرَّاكُشَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ وَانْقَرَضَتْ دَوْلَةُ الْمُلَثَّمِينَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلَّا جَزِيرَةُ مَيُورْقَةَ (مَعَ حَمْوِ بْنِ غَانِيَةَ) .

فَلَمَّا مَلَكَ أَبُو سَعِيدٍ غَرْنَاطَةَ جَمَعَ الْجُيُوشَ وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ الْمَرِيَّةِ، وَهِيَ بِأَيْدِي الْفِرِنْجِ، أَخَذُوهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَلَمَّا نَازَلَهَا وَافَاهُ الْأُسْطُولُ مِنْ سَبْتَةَ وَفِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَحَصَرُوا الْمَرِيَّةَ بَرًّا وَبَحْرًا، وَجَاءَ الْفِرِنْجُ إِلَى حِصْنِهَا، فَحَصَرَهُمْ فِيهَا وَنَزَلَ عَسْكَرُهُ عَلَى الْجَبَلِ الْمُشْرِفِ عَلَيْهَا، وَبَنَى أَبُو سَعِيدٍ سُورًا عَلَى الْجَبَلِ الْمَذْكُورِ إِلَى الْبَحْرِ، وَعَمِلَ عَلَيْهِ خَنْدَقًا، فَصَارَتِ الْمَدِينَةُ وَالْحِصْنُ الَّذِي فِيهِ الْفِرِنْجُ مَحْصُورَيْنِ بِهَذَا السُّورِ وَالْخَنْدَقِ، وَلَا يُمْكِنُ مَنْ يُنْجِدُهُمَا أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمَا، فَجَمَعَ الْأَذْفُونْشُ مَلِكُ الْفِرِنْجِ بِالْأَنْدَلُسِ، الْمَعْرُوفُ بِالسُّلَيْطَيْنِ، فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مَرْدَنِيشَ فِي سِتَّةِ آلَافِ فَارِسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَامُوا الْوُصُولَ إِلَى مَدِينَةِ الْمَرِيَّةِ وَدَفْعَ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا، فَلَمْ يُطِيقُوا ذَلِكَ، فَرَجَعَ السُّلَيْطِينُ وَابْنُ مَرْدَنِيشَ خَائِبَيْنِ، فَمَاتَ السُّلَيْطِينُ فِي عَوْدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى طُلَيْطِلَةَ. وَتَمَادَى الْحِصَارُ عَلَى الْمَرِيَّةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَضَاقَتِ الْمِيرَةُ، وَقَلَّتِ الْأَقْوَاتُ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ لِيُسَلِّمُوا الْحِصْنَ، فَأَجَابَهُمْ أَبُو سَعِيدٍ إِلَيْهِ وَأَمَّنَهُمْ، وَتَسَلَّمَ الْحِصْنَ، وَرَحَلَ الْفِرِنْجُ فِي الْبَحْرِ عَائِدِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ فَكَانَ مُلْكُهُمُ الْمَرِيَّةَ مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ. ذِكْرُ غَزْوِ صَاحِبِ طَبَرِسْتَانَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ رُسْتُمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَهْرَيَارَ عَسْكَرَهُ، وَسَارَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدًا جِهَةَ مَقْصِدِهِ سَلَكَ الْمَضَايِقَ، وَجَدَّ السَّيْرَ إِلَى بَلَدِ أَلَمُوتِ، وَهِيَ لِلْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَأَغَارَ عَلَيْهَا وَأَحْرَقَ الْقُرَى وَالسَّوَادَ، وَقَتَلَ فَأَكْثَرَ، وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ، وَسَبَى نِسَاءَهُمْ، وَاسْتَرَقَّ أَبْنَاءَهُمْ فَبَاعَهُمْ فِي السُّوقِ وَعَادَ سَالِمًا غَانِمًا، وَانْخَذَلَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ، وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَهْنِ مَا لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِهِ، وَخُرِّبَ مِنْ بِلَادِهِمْ مَا لَا يُعَمَّرُ فِي السِّنِينَ الْكَثِيرَةِ.

ذِكْرُ أَخْذِ حُجَّاجِ خُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَارَ حُجَّاجُ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا رَحَلُوا عَنْ بِسِطَامَ أَغَارَ عَلَيْهِمْ جَمْعٌ مِنَ الْجُنْدِ الْخُرَاسَانِيَّةِ قَدْ قَصَدُوا طَبَرِسْتَانَ، فَأَخَذُوا مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ، وَقَتَلُوا نَفَرًا مِنْهُمْ، وَسَلِمَ الْبَاقُونَ وَسَارُوا مِنْ مَوْضِعِهِمْ. فَبَيْنَمَا هُمْ سَائِرُونَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ، فَقَاتَلَهُمُ الْحُجَّاجُ قِتَالًا عَظِيمًا، وَصَبَرُوا صَبْرًا عَظِيمًا، فَقُتِلَ أَمِيرُهُمْ، فَانْخَذَلُوا، وَأَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، وَاسْتَسْلَمُوا وَطَلَبُوا الْأَمَانَ، وَأَلْقَوْا أَسْلِحَتَهُمْ مُسْتَأْمِنِينَ، فَأَخَذَهُمُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ وَقَتَلُوهُمْ، وَلَمْ يُبْقُوا مِنْهُمْ إِلَّا شِرْذِمَةً يَسِيرَةً ; وَقُتِلَ فِيهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ وَالصُّلَحَاءِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَكَانَتْ مُصِيبَةً عَظِيمَةً عَمَّتْ بِلَادَ الْإِسْلَامِ، وَخَصَّتْ خُرَاسَانَ، وَلَمْ يَبْقَ بَلَدٌ إِلَّا وَفِيهِ الْمَأْتَمُ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ طَافَ شَيْخٌ فِي الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى يُنَادِي: يَا مُسْلِمُونَ، يَا حُجَّاجُ، ذَهَبَ الْمَلَاحِدَةُ، وَأَنَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، فَمَنْ أَرَادَ الْمَاءَ سَقَيْتُهُ ; فَمَنْ كَلَّمَهُ قَتَلَهُ وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ، فَهَلَكُوا جَمِيعُهُمْ إِلَّا مَنْ سَلِمَ وَوَلَّى هَارِبًا ; وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُؤَيَّدِ وَالْأَمِيرِ إِيثَاقَ قَدْ ذَكَرْنَا تَقَدُّمَ الْأَمِيرِ الْمُؤَيَّدِ أَيْ أَبَهْ مَمْلُوكِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَتَقَدُّمَهُ عَلَى عَسَاكِرِ خُرَاسَانَ، فَحَسَدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْهُمُ الْأَمِيرُ إِيثَاقُ، وَهُوَ مِنَ الْأُمَرَاءِ السَنْجَرِيَّةِ، وَانْحَرَفَ عَنْهُ، وَكَانَ تَارَةً يَقْصِدُ خَوَارَزْمَ شَاهْ، وَتَارَةً شَاهْ مَازَنْدَرَانَ، وَتَارَةً يُظْهِرُ الْمُوَافَقَةَ لِلْمُؤَيَّدِ، وَيُبْطِنُ الْمُخَالَفَةَ. فَلَمَّا كَانَ الْآنَ فَارَقَ مَازَنْدَرَانَ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافِ فَارِسٍ، قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ كُلُّ مَنْ يُرِيدُ الْغَارَةَ عَلَى الْبِلَادِ، وَكُلُّ مُنْحَرِفٍ عَنِ الْمُؤَيَّدِ، وَقَصَدَ خُرَاسَانَ وَأَقَامَ بِنَوَاحِي نَسَا وَأَبِيوَرْدَ، لَا يُظْهِرُ الْمُخَالَفَةَ لِلْمُؤَيَّدِ بَلْ يُرَاسِلُهُ بِالْمُوَافَقَةِ وَالْمُعَاضَدَةِ لَهُ، وَيُبْطِنُ ضِدَّهَا. وَانْتَقَلَ الْمُؤَيَّدُ مِنَ الْمُكَاتَبَةِ إِلَى الْمُكَافَحَةِ، وَسَارَ إِلَيْهِ جَرِيدَةً، فَأَغَارَ عَلَيْهِ وَأَوْقَعَ

بِهِ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ جُمُوعُهُ وَنَجَا بِحُشَاشَةِ نَفْسِهِ، وَغَنِمَ الْمُؤَيَّدُ وَعَسْكَرُهُ كُلَّ مَا لِإِيثَاقَ، وَمَضَى مُنْهَزِمًا إِلَى مَازَنْدَرَانَ ; وَكَانَ مَلِكُهَا رُسْتُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخٍ لَهُ اسْمُهُ عَلِيٌّ تَنَازُعٌ عَلَى الْمُلْكِ، وَقَدْ قَوِيَ رُسْتُمُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِيثَاقُ إِلَى مَازَنْدَرَانَ قَتَلَ عَلِيًّا وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى أَخِيهِ رُسْتُمَ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى رُسْتُمَ، وَاشْتَدَّ وَاسْتَشَاطَ غَضَبًا، وَقَالَ: آكُلُ لَحْمِي وَلَا أُطْعِمُهُ غَيْرِي. وَلَمْ يَزَلْ إِيثَاقُ يَتَرَدَّدُ فِي خُرَاسَانَ بِالنَّهْبِ وَالْغَارَةِ، لَا سِيَّمَا مَدِينَةَ أَسْفَرَايِينَ فَإِنَّهُ أَكْثَرَ مِنْ قَصْدِهَا حَتَّى خَرِبَتْ، فَرَاسَلَهُ السُّلْطَانُ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْمُؤَيَّدُ يَدْعُوَانِهِ إِلَى الْمُوَافَقَةِ، فَامْتَنَعَ، فَسَارَا إِلَيْهِ فِي الْعَسَاكِرِ، فَلَمَّا قَارَبَاهُ أَتَاهُمَا كَثِيرٌ مِنْ عَسْكَرِهِ، فَمَضَى مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمَا إِلَى طَبَرِسْتَانَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] فَتَبِعَاهُ فِي عَسَاكِرِهِمَا، فَأَرْسَلَ شَاهْ مَازَنْدَرَانَ يَطْلُبُ الصُّلْحَ، فَأَجَابَاهُ وَاصْطَلَحُوا، وَحَمَلَ شَاهْ مَازَنْدَرَانَ أَمْوَالًا جَلِيلَةً وَهَدَايَا نَفِيسَةً، وَسَيَّرَ إِيثَاقُ ابْنَهُ رَهِينَةً فَعَادَا عَنْهُ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُؤَيَّدِ وَسُنْقُرَ الْعَزِيزِيِّ كَانَ سُنْقُرُ الْعَزِيزِيُّ مِنْ أُمَرَاءِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَمِمَّنْ يُنَاوِئُ أَيْضًا الْمُؤَيَّدَ أَيْ أَبَهْ، فَلَمَّا اشْتَغَلَ الْمُؤَيَّدُ بِحَرْبِ إِيثَاقَ سَارَ سُنْقُرُ مِنْ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدٍ إِلَى هَرَاةَ وَدَخَلَهَا وَبِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَتَحَصَّنَ بِهَا، فَأُشِيرَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَعْتَضِدَ بِالْمَلِكِ الْحُسَيْنِ مَلِكِ الْغُورِيَّةِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَاسْتَبَدَّ بِنَفْسِهِ مُنْفِرَدًا لِأَنَّهُ رَأَى اخْتِلَافَ الْأُمَرَاءِ عَلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَطَمِعَ وَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْقُوَّةِ، فَقَصَدَهُ الْمُؤَيَّدُ إِلَى هَرَاةَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا قَاتَلَ مَنْ بِهَا شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ، ثُمَّ إِنَّ الْأَتْرَاكَ مَالُوا إِلَى الْمُؤَيَّدِ وَأَطَاعُوهُ، وَانْقَطَعَ خَبَرُ سُنْقُرَ الْعَزِيزِيِّ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَمْ يُعْلَمْ مَا كَانَ مِنْهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ سَقَطَ مِنْ فَرَسِهِ فَمَاتَ، وَقِيلَ: بَلِ اغْتَالَهُ الْأَتْرَاكُ فَقَتَلُوهُ. وَتَقَدَّمَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ إِلَى وِلَايَةِ هَرَاةَ فِي عَسَاكِرِهِ وَجُنُودِهِ، وَالْتَحَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ عَسْكَرِ سُنْقُرَ بِالْأَمِيرِ إِيثَاقَ، وَأَغَارُوا عَلَى طُوسَ وَقُرَاهَا، فَبَطَلَتِ الزُّرُوعُ وَالْحَرْثُ، وَاسْتَوْلَى الْخَرَابُ عَلَى الْبِلَادِ، وَعَمَّتِ الْفِتَنُ أَطْرَافَ خُرَاسَانَ، وَأَصَابَتْهُمُ الْعَيْنُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَيَّامَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ وَآمَنِهِ، وَهَذَا دَأْبُ الدُّنْيَا لَا يَصْفُو نَعِيمُهَا

وَخَيْرُهَا مِنْ كَدَرٍ وَشَوَائِبَ وَآفَاتٍ، وَقَلَّمَا يَخْلُصُ شَرُّهَا مِنْ خَيْرٍ، نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُحْسِنَ لَنَا الْعُقْبَى بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ نُورِ الدِّينِ بَعْلَبَكَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ بَعْلَبَكَّ وَقَلْعَتَهَا، وَكَانَتْ بِيَدِ إِنْسَانٍ يُقَالُ لَهُ ضَحَّاكٌ الْبِقَاعِيُّ ; مَنْسُوبٌ إِلَى بِقَاعِ بَعْلَبَكَّ، وَكَانَ قَدْ وَلَّاهُ إِيَّاهَا صَاحِبُ دِمَشْقَ ; فَلَمَّا مَلَكَ نُورُ الدِّينِ دِمَشْقَ امْتَنَعَ ضَحَّاكٌ بِهَا، فَلَمْ يُمْكِنْ نُورَ الدِّينِ مُحَاصَرَتُهُ لِقُرْبِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَتَلَطَّفَ الْحَالَ مَعَهُ إِلَى الْآنَ، فَمَلَكَهَا وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَلَعَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ بَابَ الْكَعْبَةِ، وَعَمِلَ عِوَضَهُ بَابًا مُصَفَّحًا بِالنُّقْرَةِ الْمُذَهَّبَةِ، وَعَمِلَ لِنَفْسِهِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ تَابُوتًا يُدْفَنُ فِيهِ إِذَا مَاتَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّطِيفِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ أَبُو بَكْرٍ الْخُجَنْدِيُّ رَئِيسُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِأَصْفَهَانَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ بِهَا مِنْ أَبِي عَلِيٍّ الْحَدَّادِ، وَكَانَ صَدْرًا مُقَدَّمًا عِنْدَ السَّلَاطِينِ، وَكَانَ ذَا حِشْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَجَاهٍ عَرِيضٍ. وَوَقَعَتْ لِمَوْتِهِ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِأَصْفَهَانَ وَقُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. [الْغَلَاءُ بِخُرَاسَانَ] وَفِيهَا كَانَ بِخُرَاسَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ أُكِلَتْ فِيهِ سَائِرُ الدَّوَابِّ، حَتَّى النَّاسِ، وَكَانَ بِنَيْسَابُورَ طَبَّاخٌ، فَذَبَحَ إِنْسَانًا عَلَوِيًّا وَطَبَخَهُ، وَبَاعَهُ فِي الطَّبِيخِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ

ذَلِكَ، فَقُتِلَ، وَأَسْفَرَ الْغَلَاءُ، وَصَلَحَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ بُخْتِيَارَ بْنِ عَلِيٍّ الْمَانْدَائِيُّ الْوَاسِطِيُّ قَاضِيهَا، وَكَانَ فَقِيهًا عَالِمًا. وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ تُوُفِّيَ الْقَاضِي بُرْهَانُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ مَنْصُورُ بْنُ أَبِي سَعْدٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ أَحْمَدَ الصَّاعِدِيُّ قَاضِي نَيْسَابُورَ، وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] (553) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ سُنْقُرَ وَأَرْغَشَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ سُنْقُرَ الْهَمَذَانِيِّ وَأَرْغَشَ الْمُسْتَرْشِدِيِّ، وَسَبَبُهَا أَنَّ سُنْقُرَ الْهَمَذَانِيَّ كَانَ قَدْ نَهَبَ سَوَادَ بَغْدَادَ بِطَرِيقِ خُرَاسَانَ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، فَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ جُمَادَى الْأُولَى، بِنَفْسِهِ يَطْلُبُهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَلَدِ اللِّحْفِ قَالَ لَهُ الْأَمِيرُ خُطْلُبْرُسُ: أَنَا أَكْفِيكَ هَذَا الْمُهِمَّ ; وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُنْقُرَ مَوَدَّةٌ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ وَتَلَاقَيَا وَجَرَى بَيْنَهُمَا عِتَابٌ طَوِيلٌ لِأَجْلِ خُرُوجِهِ عَنْ طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ، فَأَجَابَ سُنْقُرُ إِلَى الطَّاعَةِ، وَعَادَ خُطْلُبْرُسُ وَأَصْلَحَ حَالَهُ مَعَ الْخَلِيفَةِ وَأَقْطَعَهُ بَلَدَ اللِّحْفِ لَهُ وَلِلْأَمِيرِ أَرَغَشَ الْمُسْتَرْشِدِيِّ. فَلَمَّا تَوَجَّهَا إِلَى اللِّحْفِ جَرَى بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ، فَأَرَادَ سُنْقُرُ قَبْضَ أَرَغَشَ، فَرَآهُ مُحْتَرِزًا، فَتَحَارَبَا، وَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَغَدَرَ بِأَرْغَشَ أَصْحَابُهُ، فَعَادَ مُنْهَزِمًا إِلَى بَغْدَادَ، وَانْفَرَدَ سُنْقُرُ بِبَلَدِ اللِّحْفِ وَخَطَبَ فِيهِ لِلْمَلِكِ مُحَمَّدٍ، فَسَيَّرَ مِنْ بَغْدَادَ عَسْكَرًا لِقِتَالِهِ مُقَدَّمُهُمْ خُطْلُبْرُسُ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا حَرْبٌ شَدِيدَةٌ انْهَزَمَ فِي آخِرِهَا سُنْقُرُ، وَقُتِلَتْ رِجَالُهُ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُ الَّتِي [فِي] الْعَسْكَرِ، وَسَارَ هُوَ إِلَى قَلْعَةِ الْمَاهِكِي وَأَخَذَ مَا كَانَ فِيهَا، وَاسْتَخْلَفَ فِيهَا بَعْضَ غِلْمَانِهِ، وَسَارَ هُوَ إِلَى هَمَذَانَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ الْمَلِكُ مُحَمَّدُ شَاهْ، فَعَادَ إِلَى قَلْعَةِ الْمَاهِكِي وَأَقَامَ بِهَا. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ شَمْلَةَ وَقَايْمَازَ السُّلْطَانِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا كَانَ قِتَالٌ بَيْنَ شَمْلَةَ صَاحِبِ خُوزِسْتَانَ، وَمَعَهُ ابْنُ (مَكْلِيَّةَ وَبَيْنَ قَايْمَازَ السُّلْطَانِيِّ) فِي نَاحِيَةِ بَادْرَايَا، فَجَمَعَا عَسْكَرَهُمَا وَسَارَا إِلَيْهِ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ

بِذَلِكَ وَهُوَ يَشْرَبُ، فَلَمْ يَحْفُلْ بِذَلِكَ، وَرَكِبَ إِلَيْهِمْ فِي نَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ، وَكَانَ مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ وَاخْتَلَطَ بِهِمْ، فَأَحْدَقُوا بِهِ، وَقَاتَلَ أَشَدَّ قِتَالٍ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَأُخِذَ هُوَ أَسِيرًا، فَتَسَلَّمُهُ إِنْسَانٌ تُرْكُمَانِيٌّ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَمٌ ; لِأَنَّهُ قَتَلَ ابْنًا لِلتُّرْكُمَانِيِّ، فَقَتَلَهُ بِابْنِهِ وَأَرْسَلَ بِرَأْسِهِ إِلَى مُحَمَّدِ شَاهْ. وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ عَسْكَرًا لِيُقَاتِلَ شَمْلَةَ وَمَنْ مَعَهُ، فَانْزَاحُوا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَلَحِقُوا بِالْمَلِكِ مَلِكْشَاهْ بِخُوزِسْتَانَ فَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالْبَرْدِ. ذِكْرُ مُعَاوَدَةِ الْغُزِّ الْفِتْنَةَ بِخُرَاسَانَ كَانَ الْأَتْرَاكُ الْغُزِّيَّةُ قَدْ أَقَامُوا بِبَلْخَ وَاسْتَوْطَنُوهَا، وَتَرَكُوا النَّهْبَ وَالْقَتْلَ بِبِلَادِ خُرَاسَانَ، وَاتَّفَقَتِ الْكَلِمَةُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ السُّلْطَانِ خَاقَانَ مَحْمُودِ بْنِ أَرْسَلَانَ، وَكَانَ الْمُتَوَلِّيَ لِأُمُورِ دَوْلَتِهِ الْمُؤَيَّدُ أَيْ أَبَهْ، وَعَنْ رَأْيِهِ يُصْدِرُ مَحْمُودٌ. فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ فِي شَعْبَانَ سَارَ الْغُزُّ مِنْ بَلْخَ إِلَى مَرْوَ، وَكَانَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بِسَرْخَسَ فِي الْعَسَاكِرِ، فَسَارَ الْمُؤَيَّدُ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَيْهِمْ، فَأَوْقَعَ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ، وَظَفِرَ بِهِمْ، وَلَمْ يَزَلْ يَتْبَعُهُمْ إِلَى أَنْ دَخَلُوا إِلَى مَرْوَ أَوَائِلَ رَمَضَانَ، وَغَنِمَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَقَتَلَ كَثِيرًا وَعَادَ إِلَى سَرْخَسَ، فَاتَّفَقَ هُوَ وَالسُّلْطَانُ مَحْمُودٌ عَلَى قَصْدِ الْغُزِّ وَقِتَالِهِمْ، فَجَمَعَا الْعَسَاكِرَ وَحَشَدَا، وَسَارَا إِلَى الْغُزِّ، فَالْتَقَوْا سَادِسَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ طَالَ مَدَاهَا، فَبَقُوا يَقْتَتِلُونَ [مِنْ] يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ تَاسِعِ شَوَّالٍ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ مِنْ لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، تَوَاقَعُوا عِدَّةَ وَقْعَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ رَاحَةٌ، وَلَا نُزُولٌ، إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ ; انْهَزَمَ الْغُزُّ فِيهَا ثَلَاثَ دَفْعَاتٍ، وَعَادُوا إِلَى الْحَرْبِ. فَلَمَّا أَسْفَرَ الصُّبْحُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ انْكَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنْ هَزِيمَةِ عَسَاكِرِ خُرَاسَانَ وَتَفَرُّقِهِمْ فِي الْبِلَادِ، وَظَفِرَ الْغُزُّ بِهِمْ، وَقَتَلُوا فَأَكْثَرُوا فِيهِمْ، وَأَمَّا الْجَرْحَى وَالْأَسْرَى فَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.

وَعَادَ الْمُؤَيَّدُ وَمَنْ سَلِمَ مَعَهُ إِلَى طُوسَ، فَاسْتَوْلَى الْغُزُّ عَلَى مَرْوَ، وَأَحْسَنُوا السِّيرَةَ، وَأَكْرَمُوا الْعُلَمَاءَ وَالْأَئِمَّةَ مِثْلَ تَاجِ الدِّينِ أَبِي سَعِيدٍ السَّمْعَانِيِّ، وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ عَلِيٍّ الْبَلْخِيِّ وَغَيْرِهِمَا ; وَأَغَارُوا عَلَى سَرْخَسَ، وَخُرِّبَتِ الْقُرَى، وَجَلَا أَهْلُهَا، وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ سَرْخَسَ نَحْوُ عَشَرَةِ آلَافِ قَتِيلٍ، وَنَهَبُوا طُوسَ أَيْضًا وَقَتَلُوا أَهْلَهَا إِلَّا الْقَلِيلَ وَعَادُوا إِلَى مَرْوَ. وَأَمَّا السُّلْطَانُ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَانُ وَالْعَسَاكِرُ الَّتِي مَعَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْمُقَامِ بِخُرَاسَانَ مِنَ الْغُزِّ، فَسَارُوا إِلَى جُرْجَانَ يَنْتَظِرُونَ مَا يَكُونُ مِنَ الْغُزِّ ; فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ أَرْسَلَ الْغُزُّ إِلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُمْ لِيُمَلِّكُوهُ أَمْرَهُمْ، فَلَمْ يَثِقْ بِهِمْ وَخَافَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يُرْسِلَ ابْنَهُ جَلَالَ الدِّينِ مُحَمَّدًا إِلَيْهِمْ لِيُمَلِّكُوهُ أَمْرَهُمْ، وَيَصْدُرُوا عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فِي قَلِيلِ الْأُمُورِ وَكَثِيرِهَا، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ وَاحْتَاطَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ لِوَلَدِهِ بِالْعَهْدِ وَالْمَوَاثِيقِ، وَتَقْرِيرِ الْقَوَاعِدِ، ثُمَّ سَيَّرَهُ مِنْ جُرْجَانَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَلَمَّا سَمِعَ الْأُمَرَاءُ الْغُزِّيَّةُ بِقُدُومِهِ سَارُوا مِنْ مَرْوَ إِلَى طَرِيقِهِ، فَالْتَقُوهُ بِنَيْسَابُورَ، وَأَكْرَمُوهُ وَعَظَّمُوهُ، وَدَخَلَ نَيْسَابُورَ، وَاتَّصَلَتْ بِهِ الْعَسَاكِرُ الْغُزِّيَّةُ، وَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ مُحْمُودًا سَارَ مِنْ جُرْجَانَ إِلَى خُرَاسَانَ فِي الْجُيُوشِ الَّتِي مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ السَنْجَرِيَّةِ، وَتَخَلَّفَ عَنْهُ الْمُؤَيَّدُ أَيْ أَبَهْ، فَوَصَلَ إِلَى حُدُودِ نَسَا وَأَبِيوَرْدَ، وَأَقْطَعَ نَسَا لِأَمِيرٍ اسْمُهُ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ النَّسَوِيُّ، فَقَامَ فِي حِفْظِهَا الْمَقَامَ الْمَرْضِيَّ، وَمَنَعَ عَنْهَا أَيْدِي الْمُفْسِدِينَ، وَأَقَامَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بِظَاهِرِ نَسَا حَتَّى جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنَ السَّنَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْغُزُّ بِنَيْسَابُورَ هَذِهِ السَّنَةَ أَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِ طُوسَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْمُوَافَقَةِ، فَامْتَنَعَ أَهْلُ رَايِكَانَ مِنْ إِجَابَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ، وَاغْتَرُّوا بِسُورِ بَلَدِهِمْ وَبِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْعُدَّةِ الْوَافِرَةِ وَالذَّخَائِرِ الْكَثِيرَةِ، فَقَصَدَهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْغُزِّ

وَحَصَرُوهُمْ، وَمَلَكُوا الْبَلَدَ، وَقَتَلُوا فِيهِمْ وَنَهَبُوا وَأَكْثَرُوا، ثُمَّ عَادُوا إِلَى نَيْسَابُورَ، وَسَارُوا مَعَ جَلَالِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ ابْنِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ الْخَانِ إِلَى بَيْهَقَ، وَحَصَرُوا سَابَزَوَارَ سَابِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَامْتَنَعَ أَهْلُهَا عَلَيْهِمْ وَقَامَ بِأَمْرِهِمُ النَّقِيبُ عِمَادُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْعَلَوِيُّ الْحُسَيْنِيُّ، نَقِيبُ الْعَلَوِيِّينَ، وَاجْتَمَعُوا مَعَهُ، وَرَجَعُوا إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَوَقَفُوا عِنْدَ إِشَارَتِهِ، فَامْتَنَعُوا عَلَى الْغُزِّ، وَحَفِظُوا الْبَلَدَ مِنْهُمْ، وَصَبَرُوا عَلَى الْقِتَالِ. فَلَمَّا رَأَى الْغُزُّ امْتِنَاعَهُمْ عَلَيْهِمْ وَقُوَّتَهُمْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ يَطْلُبُونَ الصُّلْحَ، فَاصْطَلَحُوا، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ أَهْلِ سَابَزَوَارَ فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَرَحَلَ الْمَلِكُ جَلَالُ الدِّينِ وَالُغُزُّ عَنْ سَابَزَوَارَ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَارُوا إِلَى نَسَا وَأَبِيوَرْدَ. ذِكْرُ أَسْرِ الْمُؤَيَّدِ وَخَلَاصِهِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُؤَيَّدَ أَيْ أَبَهْ تَخَلَّفَ عَنِ السُّلْطَانِ رُكْنِ [الدِّينِ] مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِجُرْجَانَ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ سَارَ مِنْ جُرْجَانَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَنَزَلَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى خُبُوشَانَ، اسْمُهَا زَانَكُ، وَبِهَا حِصْنٌ، فَسَمِعَ الْغُزُّ بِوُصُولِهِ إِلَى زَانَكَ، فَسَارُوا إِلَيْهِ وَحَصَرُوهُ فِيهِ، فَخَرَجَ مِنْهُ هَارِبًا، فَرَآهُ وَاحِدٌ مِنَ الْغُزِّ، فَأَخَذَهُ، فَوَعَدَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ إِنْ أَطْلَقَهُ، فَقَالَ الْغُزِيُّ: وَأَيْنَ الْمَالُ؟ فَقَالَ: هُوَ مُودَعٌ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْجِبَالِ. فَسَارَ هُوَ وَالْغُزِّيُّ، فَوَصَلَا إِلَى جِدَارِ قَرْيَةٍ فِيهَا بَسَاتِينُ وَعُيُونٌ، فَقَالَ لِلْفَارِسِ: الْمَالُ هَا هُنَا ; وَصَعِدَ الْجِدَارَ وَنَزَلَ مِنْ ظَهْرِهِ وَمَضَى هَارِبًا، فَرَأَى الْغُزَّ قَدْ مَلَئُوا الْأَرْضَ، فَدَخَلَ قَرْيَةً، فَعَرَفَهُ طَحَّانٌ فِيهَا، فَأَعْلَمَ زَعِيمَ الْقَرْيَةِ بِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ مَرْكَبًا، فَأَتَاهُ بِمَا أَرَادَ، وَأَعَانَهُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ وَقَوِيَ أَمْرُهُ وَعَادَ إِلَى حَالِهِ، وَأَحْسَنَ إِلَى الطَّحَّانِ، وَبَالَغَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ.

ذِكْرُ اجْتِمَاعِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ مَعَ الْغُزِّ وَعَوْدِهِمْ إِلَى نَيْسَابُورَ لَمَّا عَادَ الْغُزُّ وَمَعَهُمُ الْمَلِكُ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودٍ الْخَانُ إِلَى نَسَا وَأَبِيوَرْدَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، خَرَجَ وَالِدُهُ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ الْخَانُ، وَكَانَ هُنَاكَ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْخُرَاسَانِيَّةِ، فَاجْتَمَعَ بِهِمْ وَاتَّفَقَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى طَاعَتِهِ، وَأَرَادَ عِمَارَةَ الْبِلَادِ وَحِفْظَهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا سَارُوا إِلَى نَيْسَابُورَ، وَبِهَا الْمُؤَيَّدُ أَيْ أَبَهْ، فِي شَعْبَانَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِقُرْبِهِمْ مِنْهُ رَحَلَ عَنْهَا إِلَى خَوَافَ فِي السَّادِسَ عَشَرَ مِنْهُ، وَوَصَلُوا إِلَيْهَا فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ وَنَزَلُوا فِيهِ، وَخَافَهُمُ النَّاسُ خَوْفًا عَظِيمًا، فَلَمْ يَفْعَلُوا بِهِمْ شَيْئًا، وَسَارُوا عَنْهَا فِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ إِلَى سَرْخَسَ وَمَرْوَ، وَكَانَ بِهَا الْفَقِيهُ الْمُؤَيَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمُوَفَّقِيُّ، رَئِيسُ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَهُ بَيْتٌ قَدِيمٌ، وَهُوَ مِنْ أَحْفَادِ الْإِمَامِ أَبِي سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيِّ، وَلَهُ مُصَاهَرَةٌ إِلَى بَيْتِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ، وَهُوَ الْمُقَدَّمُ فِي الْبَلَدِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ، وَلَهُ مِنَ الْأَتْبَاعِ مَا لَا يُحْصَى. فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ قَتَلَ إِنْسَانًا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، اسْمُهُ أَبُو الْفُتُوحِ الْفُسْتُقَانِيُّ، خَطَأً، وَأَبُو الْفُتُوحِ هَذَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِنَقِيبِ الْعَلَوِيِّينَ بِنَيْسَابُورَ، وَهُوَ ذُخْرُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحُسَيْنِيُّ، وَكَانَ هَذَا النَّقِيبُ هُوَ الْحَاكِمَ هَذِهِ الْمُدَّةَ بِنَيْسَابُورَ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ وَأَرْسَلَ إِلَى الْفَقِيهِ الْمُؤَيَّدِ يَطْلُبُ مِنْهُ الْقَاتِلَ لِيَقْتَصَّ مِنْهُ، وَيَتَهَدَّدُهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَامْتَنَعَ الْمُؤَيَّدُ مِنْ تَسْلِيمِهِ، وَقَالَ: لَا مَدْخَلَ لَكَ مَعَ أَصْحَابِنَا، إِنَّمَا حُكْمُكَ عَلَى الطَّائِفَةِ الْعَلَوِيِّينَ، فَجَمَعَ النَّقِيبُ أَصْحَابَهُ وَمَنْ يَتْبَعُهُ وَقَصَدَ الشَّافِعِيَّةَ، فَاجْتَمَعُوا لَهُ وَقَاتَلُوهُ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ ثُمَّ إِنَّ النَّقِيبَ أَحْرَقَ سُوقَ الْعَطَّارِينَ، وَأَحْرَقُوا سِكَّةَ مُعَاذٍ، وَسِكَّةَ بَاغْ ظَاهِرْ، وَدَارَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ، وَكَانَ الْفَقِيهُ الْمُؤَيَّدُ الشَّافِعِيُّ بِهَا لِلصِّهْرِ الَّذِي بَيْنَهُمْ. وَعَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَجَمَعَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُؤَيَّدُ الْفَقِيهُ جُمُوعًا مَنْ طُوسَ، وَأَسْفَرَايِينَ وَجُوَيْنَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَتَلُوا وَاحِدًا مِنْ أَتْبَاعِ النَّقِيبِ زَيْدٍ يُعْرَفُ بِابْنِ الْحَاجِّيِّ الْأُشْنَانِيِّ، فَأَهَمَّ الْعَلَوِيَّةَ وَمَنْ مَعَهُمْ، فَاقْتَتَلُوا ثَامِنَ عَشَرَ شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، وَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، وَأُحْرِقَتِ الْمَدَارِسُ وَالْأَسْوَاقُ

وَالْمَسَاجِدُ وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الشَّافِعِيَّةِ، فَالْتَجَأَ الْمُؤَيَّدُ إِلَى قَلْعَةِ فَرْخَكَ، وَقَصُرَ بَاعُ الشَّافِعِيَّةِ عَنِ الْقِتَالِ، ثُمَّ انْتَقَلَ الْمُؤَيَّدُ إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى طُوسَ، وَبَطَلَتْ دُرُوسُ الشَّافِعِيَّةِ بِنَيْسَابُورَ، وَخَرِبَ الْبَلَدُ وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِ. ذِكْرُ حَصْرِ صَاحِبِ خَتْلَانَ تِرْمِذَ وَعَوْدِهِ وَمَوْتِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَجَبٍ سَارَ الْمَلِكُ أَبُو شُجَاعٍ فَرْخَشَاهْ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِ بَهْرَامْ جُورَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَيَّامَ كِسْرَى أَبَرْوِيزَ، إِلَى تِرْمِذَ وَحَصَرَهَا. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي طَاعَةِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ. فَلَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِ الْغُزُّ طَلَبَهُ لِيَحْضُرَ مَعَهُ حَرْبَهُ لَهُمْ، فَجَمَعَ عَسْكَرَهُ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ وَاصِلٌ (فَيَمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ إِلَيْهِ) ، وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ مَا يَكُونُ مِنْهُ، فَإِنْ ظَفِرَ حَضَرَ، وَقَالَ لَهُ: سَبَقْتَنِي بِالْحَرْبِ ; وَإِنْ كَانَ الظَّفَرُ لِلْغُزِّ قَالَ: إِنَّمَا تَأَخَّرْتُ مَحَبَّةَ وَإِرَادَةَ أَنْ تَمْلِكُوا ; فَلَمَّا انْهَزَمَ سَنْجَرُ، وَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ، بَقِيَ إِلَى الْآنَ، فَسَارَ إِلَى تِرْمِذَ لِيَحْصُرَهَا، فَجَمَعَ صَاحِبُهَا فَيْرُوزَشَاهْ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ قَمَاجَ عَسْكَرَهُ، وَلَقِيَهُ لِيَمْنَعَهُ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ فَيْرُوزَشَاهْ، وَمَضَى مُنْهَزِمًا لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ، فَأَصَابَهُ فِي الطَّرِيقِ قُولَنْجُ فَمَاتَ مِنْهُ. ذِكْرُ عَوْدِ الْمُؤَيَّدِ إِلَى نَيْسَابُورَ وَتَخْرِيبِ مَا بَقِيَ مِنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ الْمُؤَيَّدُ أَيْ أَبَهْ إِلَى نَيْسَابُورَ فِي عَسَاكِرِهِ وَمَعَهُ الْإِمَامُ الْمُؤَيَّدُ الْمُوَفَّقِيُّ الشَّافِعِيُّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذُخْرِ الدِّينِ نَقِيبِ الْعَلَوِيِّينَ وَخُرُوجِهِ مِنْ نَيْسَابُورَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْهَا صَارَ مَعَ الْمُؤَيَّدِ وَحَضَرَ مَعَهُ حِصَارَ نَيْسَابُورَ، وَتَحَصَّنَ النَّقِيبُ الْعَلَوِيُّ بِشَارِسْتَانَ وَاشْتَدَّ الْخَطْبُ، وَطَالَتِ الْحَرْبُ، وَسُفِكَتِ الدِّمَاءُ وَهُتِكَتِ الْأَسْتَارُ وَخَرَّبُوا مَا بَقِيَ مِنْ نَيْسَابُورَ مِنَ الدُّورِ وَغَيْرِهَا، وَبَالَغَ الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ فِي الِانْتِقَامِ فَخَرَّبُوا الْمَدْرَسَةَ الصَّنْدَلِيَّةَ لِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَخَرَّبُوا غَيْرَهَا وَحَصَرُوا

قُهُنْدُزَ، وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ اسْتَأْصَلَتْ نَيْسَابُورَ، ثُمَّ رَحَلَ الْمُؤَيَّدُ أَيْ أَبَهْ عَنْهَا إِلَى بَيْهَقَ فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ; كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَوَادِثُ الْغُزِّيَّةُ الْوَاقِعَةُ فِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ مَذْكُورَةً فِي سَنَتِهَا، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَاهَا هَاهُنَا وَذَكَرْنَاهَا هَاهُنَا لِيَتْلُوَ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَكُونَ أَحْسَنَ لِسِيَاقَتِهَا. ذِكْرُ مُلْكِ مَلِكْشَاهْ خُوزِسْتَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ مَلِكْشَاهْ ابْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ بَلَدَ خُوزِسْتَانَ وَأَخَذَهُ مِنْ شَمْلَةَ التُّرْكُمَانِيِّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ مُحَمَّدًا ابْنَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ لَمَّا عَادَ مِنْ حِصَارِ بَغْدَادَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، مَرِضَ وَبَقِيَ مَرِيضًا بِهَمَذَانَ، وَمَضَى أَخُوهُ مَلِكْشَاهْ إِلَى قُمَّ وَقَاشَانَ وَمَا وَالَاهَا، فَنَهَبَهَا جَمِيعَهَا، وَصَادَرَ أَهْلَهَا وَجَمَعَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً ; فَرَاسَلَهُ أَخُوهُ مُحَمَّدُ شَاهْ يَأْمُرُهُ بِالْكَفِّ عَنْ ذَلِكَ لِيَجْعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ فِي الْمُلْكِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَمَضَى إِلَى أَصْفَهَانَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى ابْنِ الْخُجَنْدِيِّ وَأَعْيَانِ الْبَلَدِ فِي تَسْلِيمِ الْبَلَدِ إِلَيْهِ، فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: لِأَخِيكَ فِي رِقَابِنَا يَمِينٌ، وَلَا نَغْدِرُ بِهِ، فَحِينَئِذٍ شَرَعَ مَلِكْشَاهْ فِي الْفَسَادِ وَالْمُصَادَرَةِ لِأَهْلِ الْقُرَى. فَلَمَّا سَمِعَ مُحَمَّدُ شَاهْ الْخَبَرَ سَارَ عَنْ هَمَذَانَ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ كُرْدُ بَازُوهْ الْخَادِمُ، فَتَفَرَّقَتْ جُمُوعُ مَلِكْشَاهْ فَانْهَزَمَ إِلَى بَغْدَادَ، فَلَمْ يَتْبَعْهُ مُحَمَّدُ شَاهْ لِمَرَضِهِ، فَنَزَلَ مَلِكْشَاهْ عِنْدَ قَرْمَسِينَ، فَلَحِقَ بِهِ قُوَيْدَانُ، وَكَانَ قَدْ فَارَقَ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ، وَاتَّفَقَ مَعَ سُنْقُرَ الْهَمَذَانِيِّ، فَلَحِقَ كِلَاهُمَا بِهِ، وَحَسَّنَا لَهُ قَصْدَ بَغْدَادَ، فَسَارَ عَنْ بَلَدِ خُوزِسْتَانَ إِلَى وَاسِطَ، وَنَزَلَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَهُمْ عَلَى غَايَةِ الضُّرِّ مِنَ الْجُوعِ وَالْبَرْدِ، فَنَهَبُوا الْقُرَى نَهْبًا فَاحِشًا، فَفُتِحَ بَثْقٌ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ فَغَرِقَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، وَنَجَا مَلِكْشَاهْ وَمَنْ سَلِمَ مَعَهُ، وَسَارُوا إِلَى خُوزِسْتَانَ، فَمَنَعَهُ شَمْلَةُ مِنَ الْعُبُورِ، فَرَاسَلَهُ لِيُمَكِّنَهُ مِنَ الْعُبُورِ إِلَى أَخِيهِ

الْمَلِكِ مُحَمَّدِ شَاهْ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَاتَبَ حِينَئِذٍ الْأَكْرَادَ الْكُرَّ الَّذِينَ هُنَاكَ، وَاسْتَدْعَاهُمْ إِلَيْهِ، فَفَرِحُوا بِهِ، وَنَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْجِبَالِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأَطَاعُوهُ، فَرَحَلَ وَنَزَلَ عَلَى كَرْخَايَا، وَطَلَبَ مِنْ شَمْلَةَ الْحَرْبَ، فَأَلَانَ لَهُ شَمْلَةُ الْقَوْلَ، وَقَالَ: أَنَا أَخْطُبُ لَكَ وَأَكُونُ مَعَكَ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، فَاضْطُرَّ شَمْلَةُ إِلَى الْحَرْبِ، فَجَمَعَ عَسْكَرَهُ وَقَصَدَهُ، فَلَقِيَهُ مَلِكْشَاهْ وَمَعَهُ سُنْقُرُ الْهَمَذَانِيُّ وَقُوَيْدَانُ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ شَمْلَةُ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَصَعِدَ إِلَى قَلْعَتِهِ دُنْدَرْزِينُ وَمَلَكَ مَلِكْشَاهْ الْبِلَادَ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ، وَتَوَجَّهَ إِلَى أَرْضِ فَارِسَ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ التُّرْكُمَانِ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ بِخُرَاسَانَ كَانَ بِنُوَاحِي قُهِسْتَانَ طَائِفَةٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ جَمْعٌ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةَ مِنْ قِلَاعِهِمْ، وَهُمْ أَلْفٌ وَسَبْعُمِائَةٍ، فَأَوْقَعُوا بِالتُّرْكُمَانِ، فَلَمْ يَجِدُوا الرِّجَالَ، وَكَانُوا قَدْ فَارَقُوا بُيُوتَهُمْ، فَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَأَخَذُوا النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَأَحْرَقُوا مَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى حَمْلِهِ. وَعَادَ التُّرْكُمَانُ فَرَأَوْا مَا فُعِلَ بِهِمْ، فَتَبِعُوا أَثَرَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَأَدْرَكُوهُمْ وَهُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنِيمَةَ، فَكَبَّرُوا وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ، وَوَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ، فَقَتَلُوهُمْ كَيْفَ شَاءُوا، فَانْهَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ وَتَبِعَهُمُ التُّرْكُمَانُ حَتَّى أَفْنَوْهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا، وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا تِسْعَةُ رِجَالٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَ فَسَادُ التُّرْكُمَانِ أَصْحَابِ بُرْجُمَ الْإِيوَائِيِّ بِالْجَبَلِ، فَسُيِّرَ إِلَيْهِمْ مِنْ بَغْدَادَ عَسْكَرٌ مُقَدَّمُهُمْ مُنْكُبْرُسُ الْمُسْتَرْشَدِيُّ، فَلَمَّا قَارَبَهُمُ اجْتَمَعَ التُّرْكُمَانُ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا هُمْ وَمُنْكُبْرُسُ، فَانْهَزَمَ التُّرْكُمَانُ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ، وَأُسِرَ بَعْضٌ، وَحُمِلَتِ الرُّءُوسُ وَالْأَسَارَى إِلَى بَغْدَادَ.

وَفِيهَا حَجَّ النَّاسُ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَاهُمُ الْخَبَرُ أَنَّ الْعَرَبَ قَدِ اجْتَمَعَتْ لِتَأْخُذَهُمْ، فَتَرَكُوا الطَّرِيقَ وَسَلَكُوا طَرِيقَ خَيْبَرَ، فَوَجَدُوا مَشَقَّةً شَدِيدَةً، وَنَجَوْا مِنَ الْعَرَبِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ نَصْرُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْعَطَّارُ أَبُو الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيُّ، وَمَوْلِدُهُ بِحَرَّانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ وَكَثُرَ مَالُهُ وَصَدَقَاتُهُ أَيْضًا، كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ; وَهُوَ وَالِدُ ظَهِيرِ الدِّينِ الَّذِي حَكَمَ فِي دَوْلَةِ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْوَقْتِ عَبْدُ الْأَوَّلِ بْنُ عِيسَى بْنِ شُعَيْبٍ السَّجْزِيُّ بِبَغْدَادَ، وَهُوَ سَجْزِيُّ الْأَصْلِ، هَرَوِيُّ الْمَنْشَأِ، وَكَانَ قَدِمَ إِلَى بَغْدَادَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ يُرِيدُ الْحَجَّ، فَسَمَّعَ النَّاسُ بِهَا عَلَيْهِ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ ; وَكَانَ عَالِيَ الْإِسْنَادِ، فَتَأَخَّرَ لِذَلِكَ مِنَ الْحَجِّ، فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ فَمَاتَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَحْيَى بْنُ سَلَامَةَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو الْفَضْلِ الْحَصْكَفِيُّ الْأَدِيبُ بِمَيَّافَارِقِينَ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ وَرَسَائِلُ جَيِّدَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَكَانَ يَتَشَيَّعُ ; وَمَوْلِدُهُ بِطَنْزَةَ، فَمِنْ شِعْرِهِ: وَخَلِيعٌ بِتُّ أَعْذُلُهُ ... وَيَرَى عَذْلِي مِنَ الْعَبَثِ قُلْتُ إِنَّ الْخَمْرَ مَخْبَثَةٌ ... قَالَ حَاشَاهَا مِنَ الْخَبَثِ قُلْتُ فَالْأَرْفَاثُ تَتْبَعُهَا ... قَالَ طِيبُ الْعَيْشِ فِي الرَّفَثِ

قُلْتُ مِنْهَا الْقَيْءُ قَالَ أَجَلْ شُرِّفَتْ عَنْ مَخْرَجِ الْحَدَثِ ... وَسَأَسْلُوهَا، فَقُلْتُ مَتَى؟ قَالَ: عِنْدَ الْكَوْنِ فِي الْجَدَثِ

ثم دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 554 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. ذِكْرُ مُلْكِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ مَدِينَةَ الْمَهْدِيَّةِ مِنَ الْفِرِنْجِ وَمُلْكِهِ جَمِيعَ إِفْرِيقِيَّةَ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ مُلْكَ الْفِرِنْجِ مَدِينَةَ الْمَهْدِيَّةِ مِنْ صَاحِبِهَا الْحَسَنِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ الصِّنْهَاجِيِّ، وَذَكَرْنَا أَيْضًا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ مَا فَعَلَهُ الْفِرِنْجُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي زَوِيلَةَ الْمَدِينَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْمَهْدِيَّةِ مِنَ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ، فَلَمَّا قَتَلَهُمُ الْفِرِنْجُ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ، هَرَبَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَقَصَدُوا عَبْدَ الْمُؤْمِنِ صَاحِبَ الْمَغْرِبِ، وَهُوَ بِمَرَّاكُشَ، يَسْتَجِيرُونَهُ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ أَكْرَمَهُمْ، وَأَخْبَرُوهُ بِمَا جَرَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي مُلُوكِ الْإِسْلَامِ مَنْ يُقْصَدُ سِوَاهُ، وَلَا يَكْشِفُ هَذَا الْكَرْبَ غَيْرُهُ، فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، وَأَطْرَقَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: أَبْشِرُوا، لَأَنْصُرَنَّكُمْ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ. وَأَمَرَ بِإِنْزَالِهِمْ وَأَطْلَقَ لَهُمْ أَلْفَيْ دِينَارٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِعَمَلِ الرَّوَايَا وَالْقِرَبِ وَالْحِيَاضِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرُ فِي السَّفَرِ، وَكَتَبَ إِلَى جَمِيعِ نُوَّابِهِ فِي الْغَرْبِ، وَكَانَ قَدْ مَلَكَ إِلَى قَرِيبِ تُونُسَ، يَأْمُرُهُمْ بِحِفْظِ جَمِيعِ مَا يَتَحَصَّلُ مِنَ الْغَلَّاتِ، وَأَنْ يُتْرَكَ فِي سُنْبُلِهِ، وَيُخَزَّنَ فِي مَوَاضِعِهِ، وَأَنْ يَحْفِرُوا الْآبَارَ فِي الطُّرُقِ، فَفَعَلُوا جَمِيعَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَجَمَعُوا الْغَلَّاتِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَنَقَلُوهَا إِلَى الْمَنَازِلِ، وَطَيَّنُوا عَلَيْهَا، فَصَارَتْ كَأَنَّهَا تِلَالٌ. فَلَمَّا كَانَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ عَنْ مَرَّاكُشَ، وَكَانَ أَكْثَرُ أَسْفَارِهِ فِي صَفَرَ، فَسَارَ يَطْلُبُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَاجْتَمَعَ مِنَ الْعَسَاكِرِ مِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَمِنَ الْأَتْبَاعِ وَالسُّوقَةِ

أَمْثَالُهُمْ، وَبَلَغَ مِنْ حِفْظِهِ لِعَسَاكِرِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَمْشُونَ بَيْنَ الزُّرُوعِ فَلَا تَتَأَذَّى بِهِمْ سُنْبُلَةٌ، وَإِذَا نَزَلُوا صَلُّوا جَمِيعُهُمْ مَعَ إِمَامٍ وَاحِدٍ بِتَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، لَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ الصِّنْهَاجِيَّ، الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْمَهْدِيَّةِ وَإِفْرِيقِيَّةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ مَصِيرِهِ عِنْدَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَلَمْ يَزَلْ يَسِيرُ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى مَدِينَةِ تُونُسَ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنَ السَّنَةِ، (وَبِهَا صَاحِبُهَا أَحْمَدُ بْنُ خُرَاسَانَ) ، وَأَقْبَلَ أُسْطُولُهُ فِي الْبَحْرِ فِي سَبْعِينَ شِينِيًّا وَطَرِيدَةً وَشَلَنْدَى، فَلَمَّا نَازَلَهَا أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِهَا يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، فَامْتَنَعُوا، فَقَاتَلَهُمْ مِنَ الْغَدِ أَشَدَّ قِتَالٍ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَخْذُهَا، وَدُخُولُ الْأُسْطُولِ إِلَيْهَا، فَجَاءَتْ رِيحٌ عَاصِفٌ، مَنَعَتِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ دُخُولِ الْبَلَدِ، فَرَجَعُوا لِيُبَاكِرُوا الْقِتَالَ وَيَمْلِكُوهُ. فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ نَزَلَ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِهَا إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ يَسْأَلُونَهُ الْأَمَانَ لِأَهْلِ بَلَدِهِمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى الْأَمَانِ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِمُبَادَرَتِهِمْ إِلَى الطَّاعَةِ، وَأَمَّا مَا عَدَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، فَيُؤَمِّنُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ، وَيُقَاسِمُهُمْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ نِصْفَيْنِ، وَأَنْ يَخْرُجَ صَاحِبُ الْبَلَدِ هُوَ وَأَهْلُهُ، فَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ، وَتَسَلَّمَ الْبَلَدَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ يَمْنَعُ الْعَسْكَرَ مِنَ الدُّخُولِ، وَأَرْسَلَ أُمَنَاءَهُ لِيُقَاسِمُوا النَّاسَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَعَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى مَنْ بِهَا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَنْ أَسْلَمَ سَلِمَ، وَمَنِ امْتَنَعَ قُتِلَ، وَأَقَامَ أَهْلُ تُونُسَ بِهَا بِأُجْرَةٍ تُؤْخَذُ عَنْ نِصْفِ مَسَاكِنِهِمْ.

وَسَارَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مِنْهَا إِلَى الْمَهْدِيَّةِ وَالْأُسْطُولُ يُحَاذِيهِ فِي الْبَحْرِ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا ثَامِنَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَكَانَ حِينَئِذٍ بِالْمَهْدِيَّةِ أَوْلَادُ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ وَأَبْطَالُ الْفُرْسَانِ، وَقَدْ أَخْلَوْا زَوِيلَةَ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَهْدِيَّةِ غَلْوَةُ سَهْمٍ، فَدَخَلَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ زَوِيلَةَ، وَامْتَلَأَتْ بِالْعَسَاكِرِ وَالسُّوقَةِ، فَصَارَتْ مَدِينَةً مَعْمُورَةً فِي سَاعَةٍ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْعَسْكَرِ نَزَلَ بِظَاهِرِهَا، وَانْضَافَ إِلَيْهِ مِنْ صِنْهَاجَةَ وَالْعَرَبِ وَأَهْلِ الْبِلَادِ مَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِحْصَاءِ، وَأَقْبَلُوا يُقَاتِلُونَ الْمَهْدِيَّةَ مَعَ الْأَيَّامِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا ; لِحَصَانَتِهَا، وَقُوَّةِ سُورِهَا، وَضِيقِ مَوْضِعِ الْقِتَالِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْبَحْرَ دَائِرٌ بِأَكْثَرِهَا، فَكَأَنَّهَا كَفٌّ فِي الْبَحْرِ، وَزَنْدُهَا مُتَّصِلٌ بِالْبَرِّ. وَكَانَتِ الْفِرِنْجُ تَخْرُجُ شُجْعَانُهُمْ إِلَى أَطْرَافِ الْعَسْكَرِ، فَتَنَالُ مِنْهُ وَتَعُودُ سَرِيعًا، فَأَمَرَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ أَنْ يُبْنَى سُورٌ مِنْ غَرْبِ الْمَدِينَةِ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ، وَأَحَاطَ الْأُسْطُولَ بِهَا فِي الْبَحْرِ، وَرَكِبَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ فِي شِينِيٍّ، وَمَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الَّذِي كَانَ صَاحِبَهَا، وَطَافَ بِهَا فِي الْبَحْرِ، فَهَالَهُ مَا رَأَى مِنْ حَصَانَتِهَا، وَعَلِمَ أَنَّهَا لَا تُفْتَحُ بَرًّا وَلَا بَحْرًا، وَلَيْسَ لَهَا إِلَّا الْمُطَاوَلَةُ، وَقَالَ لِلْحَسَنِ: كَيْفَ نَزَلْتَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْحِصْنِ؟ فَقَالَ: لِقِلَّةِ مَنْ يُوثَقُ بِهِ. وَعَدَمِ الْقُوتِ، وَحُكْمِ الْقَدَرِ. فَقَالَ: صَدَقْتَ! وَعَادَ مِنَ الْبَحْرِ، وَأَمَرَ بِجَمْعِ الْغَلَّاتِ وَالْأَقْوَاتِ وَتَرْكِ الْقِتَالِ، فَلَمْ يَمْضِ غَيْرُ قَلِيلٍ حَتَّى صَارَ فِي الْعَسْكَرِ كَالْجَبَلَيْنِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، فَكَانَ مَنْ يَصِلُ إِلَى الْعَسْكَرِ مِنْ بَعِيدٍ يَقُولُونَ: مَتَى حَدَثَتْ هَذِهِ الْجِبَالُ هَا هُنَا؟ فَيُقَالُ لَهُمْ: هِيَ حِنْطَةٌ وَشَعِيرٌ، فَيَعْجَبُونَ مِنْ ذَلِكَ. وَتَمَادَى الْحِصَارُ، وَفِي مُدَّتِهِ أَطَاعَ سَفَاقُسُ عَبْدَ الْمُؤْمِنِ، وَكَذَلِكَ مَدِينَةُ طَرَابُلُسَ، وَجِبَالُ نَفُوسَةَ، وَقُصُورُ إِفْرِيقِيَّةَ وَمَا وَالَاهَا، وَفَتَحَ مَدِينَةَ قَابِسَ بِالسَّيْفِ، وَسَيَّرَ ابْنَهُ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ اللَّهِ فِي جَيْشٍ فَفَتَحَ بِلَادًا، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ مَدِينَةِ قَفْصَةَ لَمَّا رَأَوْا

تَمَكُّنَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ أَجْمَعُوا عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى طَاعَتِهِ، وَتَسْلِيمِ الْمَدِينَةِ إِلَيْهِ، فَتَوَجَّهَ صَاحِبُهَا يَحْيَى بْنُ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِهَا، وَقَصَدُوا عَبْدَ الْمُؤْمِنِ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُ حَاجِبُهُ بِهِمْ قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ: قَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْكَ، لَيْسَ هَؤُلَاءِ أَهْلَ قَفْصَةَ، فَقَالَ لَهُ: لَمْ يُشْتَبَهْ عَلَيَّ، قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَالْمَهْدِيُّ يَقُولُ: إِنَّ أَصْحَابَنَا يَقْطَعُونَ أَشْجَارَهَا، وَيَهْدِمُونَ أَسْوَارَهَا، وَمَعَ هَذَا فَنَقْبَلُ مِنْهُمْ وَنَكُفُّ عَنْهُمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمَدَحَهُ شَاعِرٌ مِنْهُمْ بِقَصِيدَةٍ أَوَّلُهَا: مَا هَزَّ عِطْفَيِهِ بَيْنَ الْبِيضِ وَالْأَسَلِ ... مِثْلُ الْخَلِيفَةِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيِّ فَوَصَلَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ. وَلَمَّا كَانَ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ جَاءَ أُسْطُولُ صَاحِبِ صِقِلِّيَةَ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ شِينِيًّا غَيْرِ الطَّرَائِدِ، وَكَانَ قُدُومُهُ مِنْ جَزِيرَةٍ يَابِسَةٍ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ وَقَدْ سَبَى أَهْلَهَا وَأَسَرَهُمْ وَحَمَلَهُمْ مَعَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَلِكُ الْفِرِنْجِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَجِيءِ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، فَقَدِمُوا فِي التَّارِيخِ، فَلَمَّا قَارَبُوا الْمَهْدِيَّةَ حَطُّوا شُرُعَهُمْ لِيَدْخُلُوا الْمِينَاءَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أُسْطُولُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَرَكِبَ الْعَسْكَرُ جَمِيعُهُ، وَوَقَفُوا عَلَى جَانِبِ الْبَحْرِ، فَاسْتَعْظَمَ الْفِرِنْجُ مَا رَأَوْهُ مِنْ كَثْرَةِ الْعَسَاكِرِ، وَدَخَلَ الرُّعْبُ قُلُوبَهُمْ، وَبَقِيَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ يُمَرِّغُ وَجْهَهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَبْكِي وَيَدْعُو لِلْمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ، وَاقْتَتَلُوا فِي الْبَحْرِ، فَانْهَزَمَتْ شَوَانِي الْفِرِنْجِ، وَأَعَادُوا الْقُلُوعَ، وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذُوا مِنْهُمْ سَبْعَ شَوَانٍ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُمْ قُلُوعٌ لَأَخَذُوا أَكْثَرَهَا، وَكَانَ أَمْرًا عَجِيبًا، وَفَتْحًا قَرِيبًا.

وَعَادَ أُسْطُولُ الْمُسْلِمِينَ مُظَفَّرًا مَنْصُورًا، وَفَرَّقَ فِيهِمْ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ الْأَمْوَالَ، وَيَئِسَ أَهْلُ الْمَهْدِيَّةِ حِينَئِذٍ مِنَ النَّجْدَةِ، وَصَبَرُوا عَلَى الْحِصَارِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِلَى آخِرِ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ، فَنَزَلَ حِينَئِذٍ مِنْ فُرْسَانِ الْفِرِنْجِ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ عَشَرَةٌ، وَسَأَلُوا الْأَمَانَ لِمَنْ فِيهَا مِنَ الْفِرِنْجِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِيَخْرُجُوا مِنْهَا وَيَعُودُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَكَانَ قُوتُهُمْ قَدْ فَنِيَ حَتَّى أَكَلُوا الْخَيْلَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ، وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمْ يُجِيبُوا، وَلَمْ يَزَالُوا يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ أَيَّامًا وَاسْتَعْطَفُوهُ بِالْكَلَامِ اللَّيِّنِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَّنَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ سُفُنًا، فَرَكِبُوا فِيهَا وَسَارُوا، وَكَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً، فَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ وَلَمْ يَصِلْ مِنْهُمْ إِلَى صِقِلِّيَةَ إِلَّا النَّفَرُ الْيَسِيرُ. وَكَانَ صَاحِبُ صِقِلِّيَةَ قَدْ قَالَ: إِنْ قَتَلَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ أَصْحَابَنَا بِالْمَهْدِيَّةِ قَتَلْنَا الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ بِجَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ، وَأَخَذْنَا حُرَمَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَهْلَكَ اللَّهُ الْفِرِنْجَ غَرَقًا، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِمُ الْمَهْدِيَّةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَدَخَلَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ الْمَهْدِيَّةَ بُكْرَةَ عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةِ، وَسَمَّاهَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ سَنَةَ الْأَخْمَاسِ، وَأَقَامَ بِالْمَهْدِيَّةِ عِشْرِينَ يَوْمًا، فَرَتَّبَ أَحْوَالَهَا، وَأَصْلَحَ مَا انْثَلَمَ مِنْ سُورِهَا، وَنَقَلَ إِلَيْهَا الذَّخَائِرَ مِنَ الْأَقْوَاتِ وَالرِّجَالِ وَالْعُدَدِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا بَعْضَ أَصْحَابِهِ، وَجَعَلَ مَعَهُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ الَّذِي كَانَ صَاحِبَهَا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِرَأْيِهِ فِي أَفْعَالِهِ، وَأَقْطَعَ الْحَسَنَ بِهَا أَقْطَاعًا، وَأَعْطَاهُ دُورًا نَفِيسَةً يَسْكُنُهَا، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِأَوْلَادِهِ، وَرَحَلَ مِنَ الْمَهْدِيَّةِ أَوَّلَ صَفَرَ مِنَ السَّنَةِ إِلَى بِلَادِ الْغَرْبِ.

ذِكْرُ إِيقَاعِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِالْعَرَبِ لَمَّا فَرَغَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَمْرِ الْمَهْدِيَّةِ وَأَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى الْغَرْبِ جَمَعَ أُمَرَاءَ الْعَرَبِ مِنْ بَنِي رِيَاحٍ الَّذِينَ كَانُوا بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْنَا نُصْرَةُ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدِ اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ بِالْأَنْدَلُسِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَمَا يُقَاتِلُهُمْ أَحَدٌ مِثْلُكُمْ، فَبِكُمْ فُتِحَتِ الْبِلَادُ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، وَبِكُمْ يُدْفَعُ عَنْهَا الْعَدُوُّ الْآنَ، وَنُرِيدُ مِنْكُمْ عَشَرَةَ آلَافِ فَارِسٍ مِنْ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَجَابُوا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَحَلَّفَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَبِالْمُصْحَفِ، فَحَلَفُوا، وَمَشَوْا مَعَهُ إِلَى مَضِيقِ جَبَلِ زَغْوَانَ. وَكَانَ مِنْهُمْ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ بْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ مِنْ أُمَرَائِهِمْ وَرُءُوسِ الْقَبَائِلِ فِيهَا، فَجَاءَ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِاللَّيْلِ وَقَالَ لَهُ سِرًّا: إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ كَرِهَتِ الْمَسِيرَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَقَالُوا: مَا غَرَضُهُ إِلَّا إِخْرَاجُنَا مِنْ بِلَادِنَا، وَإِنَّهُمْ لَا يُفُونَ بِمَا حَلَفُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَأْخُذُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، الْغَادِرَ. فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ هَرَبُوا إِلَى عَشَائِرِهِمْ، وَدَخَلُوا الْبَرَّ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا يُوسُفُ بْنُ مَالِكٍ، فَسَمَّاهُ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ يُوسُفَ الصَّادِقَ. وَلَمْ يُحْدِثْ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ فِي أَمْرِهِمْ شَيْئًا، وَسَارَ مَغْرِبًا يَحُثُّ السَّيْرَ حَتَّى قَرُبَ مِنَ الْقُسَنْطِينَةِ، فَنَزَلَ فِي مَوْضِعٍ مُخْصِبٍ يُقَالُ لَهُ: وَادِي النِّسَاءِ، وَالْفَصْلُ رَبِيعٌ، وَالْكَلَأُ مُسْتَحْسَنٌ، فَأَقَامَ بِهِ، وَضَبَطَ الطُّرُقَ، فَلَا يَسِيرُ مِنَ الْعَسْكَرِ أَحَدٌ أَلْبَتَّةَ، وَدَامَ ذَلِكَ عِشْرِينَ يَوْمًا، فَبَقِيَ النَّاسُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ لَا يَعْرِفُونَ لِهَذَا الْعَسْكَرِ خَبَرًا مَعَ كَثْرَتِهِ وَعِظَمِهِ، وَيَقُولُونَ: مَا أَزْعَجَهُ إِلَّا خَبَرٌ وَصَلَهُ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، فَحَثَّ لِأَجْلِهِ السَّيْرَ، فَعَادَتِ الْعَرَبُ الَّذِينَ جَفَلُوا مِنْهُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ إِلَى الْبِلَادِ لَمَّا أَمِنُوا جَانِبَهُ، وَسَكَنُوا الْبِلَادَ الَّتِي أَلِفُوهَا، وَاسْتَقَرُّوا فِي الْبِلَادِ.

فَلَمَّا عَلِمَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بِرُجُوعِهِمْ جَهَّزَ إِلَيْهِمْ وَلَدَيْهِ أَبَا مُحَمَّدٍ وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ مِنْ أَعْيَانِ الْمُوَحِّدِينَ وَشُجْعَانِهِمْ، فَجَدُّوا السَّيْرَ، وَقَطَعُوا الْمَفَاوِزَ، فَمَا شَعَرَ الْعَرَبُ إِلَّا وَالْجَيْشُ قَدْ أَقْبَلَ بَغْتَةً مِنْ وَرَائِهِمْ، مِنْ جِهَةِ الصَّحْرَاءِ، لِيَمْنَعَهُمُ الدُّخُولَ إِنْ رَامُوا ذَلِكَ. وَكَانُوا قَدْ نَزَلُوا جَنُوبًا مِنَ الْقَيْرَوَانِ عِنْدَ جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جَبَلُ الْقَرْنِ، وَهُمْ زُهَاءُ ثَمَانِينَ أَلْفَ بَيْتٍ، وَالْمَشَاهِيرُ مِنْ مُقَدَّمِيهِمْ: أَبُو مَحْفُوظٍ مُحْرِزُ بْنُ زَيَّادٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ زِمَامٍ، وَجُبَارَةُ بْنُ كَامِلٍ وَغَيْرُهُمْ، فَلَمَّا أَطَلَّتْ عَسَاكِرُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ عَلَيْهِمُ اضْطَرَبُوا، وَاخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ، فَفَرَّ مَسْعُودٌ وَجُبَارَةُ بْنُ كَامِلٍ وَمَنْ مَعَهُمَا مِنْ عَشَائِرِهِمَا، وَثَبَتَ مُحْرِزُ بْنُ زَيَّادٍ، وَأَمَرَهُمْ بِالثَّبَاتِ وَالْقِتَالِ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، فَثَبَتَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ جُمْهُورِ الْعَرَبِ، فَنَاجَزَهُمُ الْمُوَحِّدُونَ الْقِتَالَ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنَ السَّنَةِ، وَثَبَتَ الْجَمْعَانِ، وَاشْتَدَّ الْعِرَاكُ بَيْنَهُمْ وَكَثُرَ الْقَتْلُ، فَاتَّفَقَ أَنَّ مُحْرِزَ بْنَ زَيَّادٍ قُتِلَ، وَرُفِعَ رَأْسُهُ عَلَى رُمْحٍ، فَانْهَزَمَتْ جُمُوعُ الْعَرَبِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَأَسْلَمُوا الْبُيُوتَ وَالْحَرِيمَ وَالْأَوْلَادَ وَالْأَمْوَالَ، وَحُمِلَ جَمِيعُ ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ بِذَلِكَ الْمَنْزِلِ، فَأَمَرَ بِحِفْظِ النِّسَاءِ الْعَرَبِيَّاتِ الصَّرَائِحِ، وَحَمَلَهُنَّ مَعَهُ تَحْتَ الْحِفْظِ وَالْبِرِّ وَالصِّيَانَةِ إِلَى بِلَادِ الْغَرْبِ، وَفَعَلَ مَعَهُنَّ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي حَرِيمِ الْأَبْثَجِ. ثُمَّ أَقْبَلَتْ إِلَيْهِ وُفُودُ رِيَاحٍ مُهَاجِرِينَ فِي طَلَبِ حَرِيمِهِمْ كَمَا فَعَلَ الْأَبْثَجُ، فَأَجْمَلَ الصَّنِيعَ لَهُمْ، وَرَدَّ الْحَرِيمَ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا صَارَ عِنْدَهُ، وَتَحْتَ حُكْمِهِ، وَهُوَ يَخْفِضُ لَهُمُ الْجَنَاحَ وَيَبْذُلُ فِيهِمُ الْإِحْسَانَ، ثُمَّ إِنَّهُ جَهَّزَهُمْ إِلَى ثُغُورِ الْأَنْدَلُسِ عَلَى الشَّرْطِ الْأَوَّلِ، وَجُمِعَتْ عِظَامُ الْعَرَبِ الْمَقْتُولِينَ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ عِنْدَ جَبَلِ الْقَرْنِ، فَبَقِيَتْ دَهْرًا طَوِيلًا كَالتَّلِّ الْعَظِيمِ يَلُوحُ لِلنَّاظِرِينَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَبَقِيَتْ إِفْرِيقِيَّةُ مَعَ نُوَّابِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ آمِنَةً سَاكِنَةً لَمْ يَبْقَ فِيهَا مِنْ أُمَرَاءِ الْعَرَبِ خَارِجًا عَنْ طَاعَتِهِ إِلَّا مَسْعُودُ بْنُ زِمَامٍ، وَطَائِفَتُهُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ. ذِكْرُ غَرَقِ بَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَامِنِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، كَثُرَتِ الزِّيَادَةُ فِي دِجْلَةَ، وَخَرَقَ الْقُورَجُ فَوْقَ

بَغْدَادَ، وَأَقْبَلَ الْمَدُّ إِلَى الْبَلَدِ، فَامْتَلَأَتِ الصَّحَارِي وَخَنْدَقَ الْبَلَدَ، وَأَفْسَدَ الْمَاءُ السُّورَ، فَفَتَحَ فِيهِ فَتْحَةً يَوْمَ السَّبْتِ تَاسِعَ عَشَرَ الشَّهْرَ، فَوَقَعَ بَعْضُ السُّورِ عَلَيْهَا، فَسَدَّهَا، ثُمَّ فَتَحَ الْمَاءُ فَتْحَةً أُخْرَى، وَأَهْمَلُوهَا ظَنًّا أَنَّهَا تُنَفِّسُ عَنِ السُّورِ لِئَلَّا يَقَعَ، فَغَلَبَ الْمَاءُ، وَتَعَذَّرَ سَدُّهُ، فَغَرِقَ قَرَاحُ ظَفَرَ، وَالْأَجَمَةُ، وَالْمُخْتَارَةُ، وَالْمُقْتَدِيَّةُ، وَدَرْبُ الْقَبَّارِ، وَخَرَابَةُ ابْنِ جُرْدَةَ، وَالرَّيَّانُ، وَقَرَاحُ الْقَاضِي، وَبَعْضُ الْقَطِيعَةِ، وَبَعْضُ بَابِ الْأَزَجِ، وَبَعْضُ الْمَأْمُونِيَّةِ، وَقَرَاحُ أَبِي الشَّحْمِ، وَبَعْضُ قَرَاحِ ابْنِ رَزِينٍ، وَبَعْضُ الظَّفَرِيَّةِ. وَدَبَّ الْمَاءُ تَحْتَ الْأَرْضِ إِلَى أَمَاكِنَ، فَوَقَعَتْ، وَأَخَذَ النَّاسُ يَعْبُرُونَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَبَلَغَتِ الْمَعْبَرَةُ عِدَّةَ دَنَانِيرَ، وَلَمْ يَكُنْ يُقْدَرُ عَلَيْهَا، ثُمَّ نَقَصَ الْمَاءُ وَتَهَدَّمَ السُّورُ، وَبَقِيَ الْمَاءُ الَّذِي دَاخِلُ السُّورِ يَدِبُّ فِي الْمَحَالِّ الَّتِي لَمْ يَرْكَبْهَا الْمَاءُ، فَكَثُرَ الْخَرَابُ، وَبَقِيَتِ الْمَحَالُّ لَا تُعْرَفُ إِنَّمَا هِيَ تِلُولٌ، فَأَخَذَ النَّاسُ حُدُودَ دُورِهِمْ بِالتَّخْمِينِ. وَأَمَّا الْجَانِبُ الْغَرْبِيُّ فَغَرِقَتْ فِيهِ مَقْبَرَةُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَقَابِرِ، وَانْخَسَفَتِ الْقُبُورُ، وَخَرَجَ الْمَوْتَى عَلَى رَأْسِ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ الْمَشْهَدُ وَالْحَرْبِيَّةُ، وَكَانَ أَمْرًا عَظِيمًا. ذِكْرُ عَوْدِ سُنْقُرِ الْهَمَذَانِيِّ إِلَى اللِّحْفِ وَانْهِزَامِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ سُنْقُرُ الْهَمَذَانِيُّ إِلَى إِقْطَاعِهِ، وَهُوَ قَلْعَةُ الْمَاهِكِيِّ وَبَلَدِ اللِّحْفِ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ قَدْ أَقْطَعَهُ لِلْأَمِيرِ قَايْمَازَ الْعَمِيدِيِّ، وَمَعَهُ أَرْبَعُمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ سُنْقُرُ يَقُولُ لَهُ: ارْحَلْ عَنْ بَلَدِي، فَامْتَنَعَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، وَجَرَى بَيْنَهُمَا قِتَالٌ شَدِيدٌ انْهَزَمَ فِيهِ الْعَمِيدِيُّ، وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ بِأَسْوَأِ حَالٍ. فَبَرَزَ الْخَلِيفَةُ، وَسَارَ فِي عَسَاكِرِهِ إِلَى سُنْقُرَ، فَوَصَلَ إِلَى النُّعْمَانِيَّةِ وَسَيَّرَ الْعَسَاكِرَ مَعَ تُرْشَكَ وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ، وَمَضَى تُرْشَكُ نَحْوَ سُنْقُرَ الْهَمَذَانِيِّ، فَتَوَغَّلَ سُنْقُرُ فِي الْجِبَالِ هَارِبًا، وَنَهَبَ تُرْشَكُ مَا وَجَدَ لَهُ وَلِعَسْكَرِهِ مِنْ مَالٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَسَرَ

وَزِيرَهُ، وَقَتَلَ مَنْ رَأَى مِنْ أَصْحَابِهِ، وَنَزَلَ عَلَى الْمَاهِكِيِّ وَحَصَرَهَا أَيَّامًا، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْبَنْدَنِيجَيْنِ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَغْدَادَ بِالْبِشَارَةِ. وَأَمَّا سُنْقُرُ فَإِنَّهُ لَحِقَ بِمَلِكْشَاهْ فَاسْتَنْجَدَهُ، فَسَيَّرَ مَعَهُ خَمْسَ مِائَةِ فَارِسٍ، فَعَادَ، وَنَزَلَ عَلَى قَلْعَةٍ هُنَاكَ، وَأَفْسَدَ أَصْحَابُهُ فِي الْبِلَادِ، وَأَرْسَلَ تُرْشَكُ [إِلَى] بَغْدَادَ يَطْلُبُ نَجْدَةً، فَجَاءَتْهُ، فَأَرَادَ سُنْقُرُ أَنْ يَكْبِسَ تُرْشَكَ، فَعَرَفَ ذَلِكَ، فَاحْتَرَزَ، فَعَدَلَ سُنْقُرُ إِلَى الْمُخَادَعَةِ، فَأَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى تُرْشَكَ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُصْلِحَ حَالَهُ مَعَ الْخَلِيفَةِ، فَاحْتَبَسَ تُرْشَكُ الرَّسُولَ عِنْدَهُ وَرَكِبَ فِيمَنْ خَفَّ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَكَبَسَ سُنْقُرَ لَيْلًا، فَانْهَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَغَنِمَ تُرْشَكُ أَمْوَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ وَكُلَّ مَا لَهُمْ وَنَجَا سُنْقُرُ جَرِيحًا. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ عَامَّةِ إِسْتِرَابَاذَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ فِي إِسْتِرَابَاذَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْعَلَوِيِّينَ وَمَنْ يَتْبَعُهُمْ مِنَ الشِّيعَةِ وَبَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ الْإِمَامَ مُحَمَّدًا الْهَرَوِيَّ وَصَلَ إِلَى إسْتِرَابَاذَ، فَعَقَدَ مَجْلِسَ الْوَعْظِ، وَكَانَ قَاضِيهَا أَبُو نَصْرٍ سَعْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ النُّعَيْمِيُّ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ أَيْضًا، فَثَارَ الْعَلَوِيُّونَ وَمَنْ يَتْبَعُهُمْ مِنَ الشِّيعَةِ بِالشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ يَتْبَعُهُمْ بِإِسْتِرَابَاذَ، وَوَقَعَتْ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ انْتَصَرَ فِيهَا الْعَلَوِيُّونَ، فَقُتِلَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ جَمَاعَةٌ، وَضُرِبَ الْقَاضِي، وَنُهِبَتْ دَارُهُ وَدُورُ مَنْ مَعَهُ، وَجَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْأُمُورِ الشَّنِيعَةِ مَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ. فَسَمِعَ شَاهْ مَازَنْدَرَانَ الْخَبَرَ فَاسْتَعْظَمَهُ، وَأَنْكَرَ عَلَى الْعَلَوِيِّينَ فِعْلَهُمْ، وَبَالَغَ فِي الْإِنْكَارِ مَعَ أَنَّهُ شَدِيدُ التَّشَيُّعِ، وَقَطَعَ عَنْهُمْ جِرَايَاتٍ كَانَتْ لَهُمْ، وَوَضَعَ الْجِبَايَاتِ وَالْمُصَادَرَاتِ عَلَى الْعَامَّةِ، فَتَفَرَّقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَعَادَ الْقَاضِي إِلَى مَنْصِبِهِ وَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَلِكِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدٍ،

وَهُوَ الَّذِي حَاصَرَ بَغْدَادَ طَالِبًا السَّلْطَنَةَ وَعَادَ عَنْهَا، فَأَصَابَهُ سُلٌّ، وَطَالَ بِهِ، فَمَاتَ بِبَابِ هَمَذَانَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَمَرَ الْعَسَاكِرَ فَرَكِبَتْ، وَأَحْضَرَ أَمْوَالَهُ وَجَوَاهِرَهُ وَحَظَايَاهُ وَمَمَالِيكَهُ، فَنَظَرَ إِلَى الْجَمِيعِ مِنْ طَيَّارَةٍ تُشْرِفُ عَلَى مَا تَحْتَهَا، فَلَمَّا رَآهُ بَكَى وَقَالَ: هَذِهِ الْعَسَاكِرُ وَالْأَمْوَالُ وَالْمَمَالِيكُ وَالسَّرَارِيُّ مَا أَرَى يَدْفَعُونَ عَنِّي مِقْدَارَ ذَرَّةٍ، وَلَا يَزِيدُونَ فِي أَجَلِي لَحْظَةً، وَأَمَرَ بِالْجَمِيعِ فَرُفِعَ بَعْدَ أَنْ فَرَّقَ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا. وَكَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا عَاقِلًا كَثِيرَ التَّأَنِّي فِي أُمُورِهِ، وَكَانَ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ، فَسَلَّمَهُ إِلَى آقَنَسْقَرَ الْأَحْمَدِيلِيِّ، وَقَالَ لَهُ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ الْعَسَاكِرَ لَا تُطِيعُ مِثْلَ هَذَا الطِّفْلِ، وَهُوَ وَدِيعَةٌ عِنْدَكَ، فَارْحَلْ بِهِ إِلَى بِلَادِكَ. فَرَحَلَ إِلَى مَرَاغَةَ، فَلَمَّا مَاتَ اخْتَلَفَتِ الْأُمَرَاءُ، فَطَائِفَةٌ طَلَبُوا مَلِكْشَاهْ أَخَاهُ، وَطَائِفَةٌ طَلَبُوا سُلَيْمَانَ شَاهْ، وَهُمُ الْأَكْثَرُ، وَطَائِفَةٌ طَلَبُوا أَرْسِلَان الَّذِي مَعَ إِيلْدِكْزَ، فَأَمَّا مَلِكْشَاهْ فَإِنَّهُ سَارَ مِنْ خُوزَسْتَانَ، وَمَعَهُ دَكْلَا صَاحِبُ فَارِسَ، وَشُمْلَةُ التُّرْكُمَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا، فَوَصَلَ إِلَى أَصْفَهَانَ، فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ ابْنُ الْخُجَنْدِيِّ، وَجَمَعَ لَهُ مَالًا أَنْفَقَهُ عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْعَسَاكِرِ بِهَمَذَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ لِعَدَمِ الِاتِّفَاقِ بَيْنَهُمْ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانَ يُرِيدُ سُلَيْمَانَ شَاهْ. ذِكْرُ أَخْذِ حَرَّانَ مِنْ نُورِ الدِّينِ وَعَوْدِهَا إِلَيْهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرِضَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي، صَاحِبُ حَلَبَ، مَرَضًا شَدِيدًا وَأُرْجِفَ بِمَوْتِهِ، وَكَانَ بِقَلْعَةِ حَلَبَ، وَمَعَهُ أَخُوهُ الْأَصْغَرُ أَمِيرُ أَمِيرَانَ، فَجَمَعَ النَّاسَ، وَحَصَرَ الْقَلْعَةَ. وَكَانَ شِيرِكُوهْ، وَهُوَ أَكْبَرُ أُمَرَائِهِ، بِحِمْصَ، فَبَلَغَهُ خَبَرُ مَوْتِهِ، فَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ لِيَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا وَبِهَا أَخُوهُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَيُّوبُ ذَلِكَ، وَقَالَ: أَهْلَكْتَنَا! وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ تَعُودَ إِلَى حَلَبَ، فَإِنْ كَانَ نُورُ الدِّينِ حَيًّا خَدَمْتَهُ فِي (هَذَا) الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّا فِي دِمَشْقَ نَفْعَلُ مَا نُرِيدُ مِنْ مُلْكِهَا، فَعَادَ إِلَى حَلَبَ

مُجِدًّا، وَصَعِدَ الْقَلْعَةَ، وَأَجْلَسَ نُورَ الدِّينِ فِي شُبَّاكٍ يَرَاهُ النَّاسُ، وَكَلَّمَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ حَيًّا تَفَرَّقُوا عَنْ أَخِيهِ أَمِيرِ أَمِيرَانَ، فَسَارَ إِلَى حَرَّانَ فَمَلَكَهَا. فَلَمَّا عُوفِيَ نُورُ الدِّينِ قَصَدَ حَرَّانَ لِيُخَلِّصَهَا، فَهَرَبَ أَخُوهُ مِنْهُ، وَتَرَكَ أَوْلَادَهُ بَحَرَّانَ فِي الْقَلْعَةِ، فَمَلَكَهَا نُورُ الدِّينِ، وَسَلَّمَهَا إِلَى زَيْنِ الدِّينِ عَلِيٍّ نَائِبِ أَخِيهِ قُطْبِ [الدِّينِ] ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، ثُمَّ سَارَ نُورُ الدِّينِ بَعْدَ أَخْذِ حَرَّانَ إِلَى الرَّقَّةِ، وَبِهَا أَوْلَادُ أَمِيرَكَ الْجَانْدَارِ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ، وَقَدْ تُوُفِّيَ وَبَقِيَ أَوْلَادُهُ، فَنَازَلَهَا، فَشَفَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ فِيهِمْ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَلَّا شَفَعْتُمْ فِي أَوْلَادِ أَخِي لَمَّا أُخِذَتْ مِنْهُمْ حَرَّانُ، وَكَانَتِ الشَّفَاعَةُ فِيهِمْ مِنْ أَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إِلَيَّ! فَلَمْ يُشَفِّعْهُمْ وَأَخَذَهَا مِنْهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرِضَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ، وَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، وَعُوفِيَ، فَضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ بِبَغْدَادَ، وَفُرِّقَتِ الصَّدَقَاتُ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَمِنْ أَرْبَابِ الدَّوْلَةِ، وَغُلِقَ الْبَلَدُ أُسْبُوعًا. وَفِيهَا عَادَ تُرْشَكُ إِلَى بَغْدَادَ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ أَلْقَى نَفْسَهُ تَحْتَ التَّاجِ وَمَعَهُ سَيْفٌ وَكَفَنٌ، وَكَانَ قَدْ عَصَى عَلَى الْخَلِيفَةِ وَالْتَحَقَ بِالْعَجَمِ، فَعَادَ الْآنَ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي دُخُولِ دَارِ الْخِلَافَةِ وَأُعْطِيَ مَالًا. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، أَرْسَلَ مُحَمَّدُ (بْنُ أُنُزَ) صَاحِبُ قُهِسْتَانَ عَسْكَرًا إِلَى بَلَدِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ لِيَأْخُذَ مِنْهُمُ الْخَرَاجَ الَّذِي عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَ عَلَيْهِمُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ مِنَ الْجِبَالِ، فَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنَ الْعَسْكَرِ، وَأَسَرُوا الْأَمِيرَ الَّذِي كَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِمُ اسْمُهُ قَيْبَةُ، وَهُوَ صِهْرُ

ابْنِ أُنُزَ، فَبَقِيَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا عِدَّةَ شُهُورٍ، حَتَّى زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ رَئِيسِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ، وَخُلِّصَ مِنَ الْأَسْرِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ شَرَفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ مَنْصُورُ بْنُ أَبِي سَعْدٍ الصَّاعِدِيُّ قَاضِي نَيْسَابُورَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِالرَّيِّ، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ الْقَاضِي حَنَفِيًّا أَيْضًا.

ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 555 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مَسِيرِ سُلَيْمَانَ شَاهْ إِلَى هَمَذَانَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ سُلَيْمَانُ شَاهْ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَى هَمَذَانَ لِيَتَوَلَّى السَّلْطَنَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَبَبُ قَبْضِهِ وَأَخْذِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ. وَسَبَبُ مَسِيِرِهِ إِلَيْهَا أَنَّ الْمَلِكَ مُحَمَّدَ بْنَ السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ لَمَّا مَاتَ أَرْسَلَ أَكَابِرَ الْأُمَرَاءِ مِنْ هَمَذَانَ إِلَى أَتَابِكَ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِي، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، يَطْلُبُونَ مِنْهُ إِرْسَالَ الْمَلِكِ سُلَيْمَانَ شَاهْ ابْنِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ إِلَيْهِمْ ; لِيُوَلُّوهُ السَّلْطَنَةَ، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُمْ أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ شَاهْ سُلْطَانًا وَقُطْبُ الدِّينِ أَتَابِكَهُ، وَجَمَالُ الدِّينِ وَزِيرَ قُطْبِ الدِّينِ وَزِيرًا لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ شَاهْ، وَزَيْنُ الدِّينِ عَلِيٌّ أَمِيرَ الْعَسَاكِرِ الْمَوْصِلِيَّةِ مُقَدَّمَ جَيْشِ سُلَيْمَانَ شَاهْ، وَتَحَالَفُوا عَلَى هَذَا، وَجَهَّزَ سُلَيْمَانَ شَاهْ بِالْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ وَالْبِرَكِ وَالدَّوَابِّ وَالْآلَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَصْلُحُ لِلسَّلَاطِينِ، وَسَارَ وَمَعَهُ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيٌّ فِي عَسْكَرِ الْمَوْصِلِ إِلَى هَمَذَانَ. فَلَمَّا قَارَبُوا بِلَادَ الْجَبَلِ أَقْبَلَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَيْهِمْ أَرْسَالًا، كُلُّ يَوْمٍ يَلْقَاهُ طَائِفَةٌ وَأَمِيرٌ، فَاجْتَمَعَ مَعَ سُلَيْمَانَ شَاهْ عَسْكَرٌ عَظِيمٌ، فَخَافَهُمْ زَيْنُ الدِّينِ عَلَى نَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ رَأَى مِنْ تَسَلُّطِهِمْ عَلَى السُّلْطَانِ وَاطِّرَاحِهِمْ لِلْأَدَبِ مَعَهُ مَا أَوْجَبَ الْخَوْفَ مِنْهُ، فَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَحِينَ عَادَ عَنْهُ لَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرُهُ، وَلَمْ يَتِمَّ لَهُ مَا أَرَادَهُ، وَقَبَضَ الْعَسْكَرُ عَلَيْهِ بِبَابِ هَمَذَانَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، وَخَطَبُوا لِأَرْسِلَان شَاهْ ابْنِ الْمَلِكِ طُغْرُلَ، وَهُوَ الَّذِي تَزَوَّجَ إِيلْدَكْزُ بِأُمِّهِ، وَسَيُذْكَرُ مَشْرُوحًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ذِكْرُ وَفَاةِ الْفَائِزِ وَوِلَايَةِ الْعَاضِدِ الْعَلَوِيِّينِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرَ، تُوُفِّيَ الْفَائِزُ بِنَصْرِ اللَّهِ أَبُو الْقَاسِمِ عِيسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ الظَّافِرُ، صَاحِبُ مِصْرَ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سِتَّ سِنِينَ وَنَحْوَ شَهْرَيْنِ، وَكَانَ لَهُ لَمَّا وَلِيَ خَمْسُ سِنِينَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَمَّا مَاتَ دَخَلَ الصَّالِحُ بْنُ رُزَّيْكَ الْقَصْرَ، وَاسْتَدْعَى خَادِمًا كَبِيرًا، وَقَالَ لَهُ: مَنْ هَا هُنَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ؟ فَقَالَ: هَا هُنَا جَمَاعَةٌ، وَذَكَرَ أَسْمَاءَهُمْ، وَذَكَرَ لَهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا كَبِيرَ السِّنِّ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ سِرًّا: لَا يَكُونُ عَبَّاسٌ أَحْزَمَ مِنْكَ حَيْثُ اخْتَارَ الصَّغِيرَ وَتَرَكَ الْكِبَارَ وَاسْتَبَدَّ بِالْأَمْرِ، فَأَعَادَ الصَّالِحُ الرَّجُلَ إِلَى مَوْضِعِهِ، وَأَمَرَ حِينَئِذٍ بِإِحْضَارِ الْعَاضِدِ لِدِينِ اللَّهِ أَبِي مُحَمَّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْحَافِظِ، وَلَمْ يَكُنْ أَبُوهُ خَلِيفَةً، وَكَانَ الْعَاضِدُ ذَلِكَ الْوَقْتَ مُرَاهِقًا قَارَبَ الْبُلُوغَ، فَبَايَعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَزَوَّجَهُ الصَّالِحُ ابْنَتَهُ، وَنَقَلَ مَعَهَا مِنَ الْجِهَازِ مَا لَا يُسْمَعُ بِمِثْلِهِ، وَعَاشَتْ بَعْدَ مَوْتِ الْعَاضِدِ وَخُرُوجِ الْأَمْرِ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ إِلَى الْأَتْرَاكِ وَتَزَوَّجَتْ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ وَشَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِعِلَّةِ التَّرَاقِي، وَكَانَ مَوْلِدُهُ ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ تُدْعَى يَاعِي، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَوَافَقَ أَبَاهُ الْمُسْتَظْهِرَ بِاللَّهِ فِي عِلَّةِ التَّرَاقِي وَمَاتَا جَمِيعًا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَكَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ مِنَ الرِّجَالِ ذَوِي الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ الْكَثِيرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَبَدَّ بِالْعِرَاقِ مُنْفَرِدًا عَنْ سُلْطَانٍ يَكُونُ مَعَهُ مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ الدَّيْلَمِ إِلَى الْآنِ،

وَأَوَّلُ خَلِيفَةٍ تَمَكَّنَ مِنَ الْخِلَافَةِ وَحَكَمَ عَلَى عَسْكَرِهِ وَأَصْحَابِهِ مِنْ حِينِ تَحَكُّمِ الْمَمَالِيكِ عَلَى الْخُلَفَاءِ مِنْ عَهْدِ الْمُسْتَنْصِرِ إِلَى الْآنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَضِدُ، وَكَانَ شُجَاعًا مِقْدَامًا مُبَاشِرًا لِلْحُرُوبِ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ يَبْذُلُ الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ لِأَصْحَابِ الْأَخْبَارِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ حَتَّى كَانَ لَا يَفُوتُهُ مِنْهَا شَيْءٌ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ الْمُسْتَنْجِدُ بِاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْمُهُ يُوسُفُ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ تُدْعَى طَاوُسَ، بَعْدَ مَوْتِ وَالِدِهِ، وَكَانَ لِلْمُقْتَفِي حَظِيَّةٌ، وَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ أَبِي عَلِيٍّ، فَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُ الْمُقْتَفِي وَأَيِسَتْ مِنْهُ أَرْسَلَتْ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَبَذَلَتْ لَهُمُ الْإِقْطَاعَاتِ الْكَثِيرَةَ وَالْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ لِيُسَاعِدُوهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ وَلَدُهَا الْأَمِيرُ أَبُو عَلِيٍّ خَلِيفَةً، قَالُوا: كَيْفَ الْحِيلَةُ مَعَ وَلِيِّ الْعَهْدِ؟ فَقَالَتْ: إِذَا دَخَلَ عَلَى وَالِدِهِ قَبَضْتُ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَبِيهِ كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالُوا: لَا بُدَّ لَنَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَرْبَابِ الدَّوْلَةِ، فَوَقَعَ اخْتِيَارُهُمْ عَلَى أَبِي الْمَعَالِي ابْنِ إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيِّ، فَدَعَوْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ وَزِيرًا، فَبَذَلُوا لَهُ مَا طَلَبَ. فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُمْ وَعَلِمَتْ أُمُّ أَبِي عَلِيٍّ أَحْضَرَتْ عِدَّةً مِنَ الْجَوَارِي وَأَعْطَتْهُنَّ السَّكَاكِينَ، وَأَمَرَتْهُنَّ بِقَتْلِ وَلِيِّ الْعَهْدِ الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ. وَكَانَ لَهُ خَصِيٌّ صَغِيرٌ يُرْسِلُهُ كُلَّ وَقْتٍ يَتَعَرَّفُ أَخْبَارَ وَالِدِهِ، فَرَأَى الْجَوَارِيَ بِأَيْدِيهِنَّ السَّكَاكِينُ، وَرَأَى بِيَدِ أَبِي عَلِيٍّ وَأُمِّهِ سَيْفَيْنِ، فَعَادَ إِلَى الْمُسْتَنْجِدِ فَأَخْبَرَهُ، وَأَرْسَلَتْ هِيَ إِلَى الْمُسْتَنْجِدِ تَقُولُ لَهُ إِنْ وَالِدَهُ قَدْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ لِيَحْضُرَ وَيُشَاهِدَهُ، فَاسْتَدْعَى أُسْتَاذَ الدَّارِ عَضُدَ الدِّينِ وَأَخَذَهُ مَعَهُ وَجَمَاعَةً مِنَ الْفَرَّاشِينَ، وَدَخَلَ الدَّارَ وَقَدْ لَبِسَ الدِّرْعَ وَأَخَذَ بِيَدِهِ السَّيْفَ، فَلَمَّا دَخَلَ ثَارَ بِهِ الْجَوَارِي، فَضَرَبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَجَرَحَهَا، وَكَذَلِكَ أُخْرَى، فَصَاحَ، وَدَخَلَ أُسْتَاذُ الدَّارِ وَمَعَهُ الْفَرَّاشُونَ، فَهَرَبَ الْجَوَارِي، وَأَخَذَ أَخَاهُ أَبَا عَلِيٍّ وَأُمَّهُ فَسَجَنَهُمَا، وَأَخَذَ الْجَوَارِيَ فَقَتَلَ مِنْهُنَّ، وَغَرَّقَ مِنْهُنَّ، وَدَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ جَلَسَ لِلْبَيْعَةِ، فَبَايَعَهُ أَهْلُهُ وَأَقَارِبُهُ، وَأَوَّلُهُمْ عَمُّهُ أَبُو

طَالِبٍ، ثُمَّ أَخُوهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُقْتَفِي، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنَ الْمُسْتَنْجِدِ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ، وَأَرْبَابُ الدَّوْلَةِ وَالْعُلَمَاءُ، وَخُطِبَ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَنُثِرَتِ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ. حَكَى عَنْهُ الْوَزِيرُ عَوْنُ الدِّينِ بْنُ هُبَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْمَنَامِ مُنْذُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَالَ لِي: يَبْقَى أَبُوكَ فِي الْخِلَافَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَكَانَ كَمَا قَالَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُهُ قَبْلَ مَوْتِ أَبِي الْمُقْتَفِي بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَدَخَلَ بِي فِي بَابٍ كَبِيرٍ، ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى رَأْسِ جَبَلٍ، وَصَلَّى بِي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَلْبَسَنِي قَمِيصًا، ثُمَّ قَالَ لِي: قُلْ " «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ» "، وَذَكَرَ دُعَاءَ الْقُنُوتِ. وَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ أَقَرَّ ابْنَ هُبَيْرَةَ عَلَى وَزَرَاتِهِ وَأَصْحَابَ الْوِلَايَاتِ عَلَى وِلَايَاتِهِمْ، وَأَزَالَ الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ، وَقَبَضَ عَلَى الْقَاضِي ابْنِ الْمُرَخَّمِ وَقَالَ: وَكَانَ بِئْسَ الْحَاكِمُ، وَأَخَذَ مِنْهُ مَالًا كَثِيرًا، وَأُخِذَتْ كُتُبُهُ فَأُحْرِقَ مِنْهَا فِي الرَّحْبَةِ مَا كَانَ مِنْ عُلُومِ الْفَلَاسِفَةِ، فَكَانَ مِنْهَا: كِتَابُ " الشِّفَاءِ " لِابْنِ سِينَا، وَكِتَابُ " إِخْوَانِ الصَّفَا "، وَمَا شَاكَلَهُمَا، وَقَدَّمَ عَضُدَ الدِّينِ بْنَ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَكَانَ أُسْتَاذُ الدَّارِ يُمَكِّنُهُ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْوَزِيرِ أَنْ يَقُومَ لَهُ، وَعَزَلَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ الدَّامَغَانِيَّ، وَرَتَّبَ مَكَانَهُ أَبَا جَعْفَرٍ عَبْدَ الْوَاحِدِ الثَّقَفِيَّ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسْكَرِ خُوَارَزْمَ وَالْأَتْرَاكِ الْبَرَزِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَارَ طَائِفَةٌ مِنْ عَسْكَرِ خُوَارَزْمَ إِلَى أَجْحَهْ، وَهَجَمُوا عَلَى يَغْمُرْخَانْ بْنِ أَوْدَكَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَتْرَاكِ الْبَرَزِيَّةِ، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ، فَانْهَزَمَ يَغْمُرْخَانْ، وَقَصَدَ السُّلْطَانَ مَحْمُودَ بْنَ مُحَمَّدِ الْخَانْ [وَالْأَتْرَاكَ الْغُزِّيَّةَ الَّذِينَ مَعَهُ وَتَوَسَّلَ إِلَيْهِمْ بِالْقَرَابَةِ، وَظَنَّ يَغْمُرْخَانْ] أَنَّ اخْتِيَارَ الدِّينِ إِيثَاقَ هُوَ الَّذِي هَيَّجَ الْخُوَارَزْمِيَّةَ عَلَيْهِ، فَطَلَبَ مِنَ الْغُزِّ إِنْجَادَهُ.

ذِكْرُ أَحْوَالِ الْمُؤَيَّدِ بِخُرَاسَانَ هَذِهِ السَّنَةَ قَدْ ذَكَرْنَا ثَلَاثَ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسَمِائَةٍ] عَوْدَ الْمُؤَيَّدِ " أَيْ أَبَهْ " إِلَى نَيْسَابُورَ، وَتَمَكُّنَهُ مِنْهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَرَأَى الْمُؤَيَّدُ تَحَكُّمَهُ فِي نَيْسَابُورَ وَتَمَكُّنَهُ فِي دَوْلَتِهِ، وَكَثْرَةَ جُنْدِهِ وَعَسْكَرِهِ، أَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي الرَّعِيَّةِ، لَا سِيَّمَا أَهْلِ نَيْسَابُورَ، فَإِنَّهُ جَبَرَهُمْ وَبَالَغَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَشَرَعَ فِي إِصْلَاحِ أَعْمَالِهَا وَوِلَايَاتِهَا، فَسَيَّرَ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ إِلَى نَاحِيَةِ أَسْقِيلَ، وَكَانَ بِهَا جَمْعٌ قَدْ تَمَرَّدُوا وَأَكْثَرُوا الْعَيْثَ وَالْفَسَادَ فِي الْبِلَادِ، وَطَالَ تَمَادِيهِمْ فِي طُغْيَانِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْمُؤَيَّدُ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَرْكِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ وَمُعَاوَدَةِ الطَّاعَةِ وَالصَّلَاحِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَلَمْ يَرْجِعُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ سَرِيَّةً كَثِيرَةً، فَقَاتَلُوهُمْ، وَأَذَاقُوهُمْ عَاقِبَةَ مَا صَنَعُوا، فَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَخَرَّبُوا حِصْنَهُمْ. وَسَارَ الْمُؤَيَّدُ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى بَيْهَقَ، فَوَصَلَهَا رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنَ السَّنَةِ، وَقَصَدَ مِنْهَا حِصْنَ خُسْرُوجَرْدَ، وَهُوَ حِصْنٌ مَنِيعٌ بَنَاهَ كَيْخَسْرُو الْمَلِكُ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ قَتْلِ أَفْرَاسْيَابَ، وَفِيهِ رِجَالٌ شُجْعَانٌ، فَامْتَنَعُوا عَلَى الْمُؤَيَّدِ، فَحَصَرَهُمْ وَنَصَبَ عَلَيْهِمُ الْمَجَانِيقَ، وَجَدَّ فِي الْقِتَالِ، فَصَبَرَ أَهْلُ الْحِصْنِ حَتَّى نَفَذَ صَبْرُهُمْ، ثُمَّ مَلَكَ الْمُؤَيَّدُ الْقَلْعَةَ وَأَخْرَجَ كُلَّ مَنْ فِيهَا [وَرَتَّبَ فِيهَا] مَنْ يَحْفَظُهَا، وَعَادَ مِنْهَا إِلَى نَيْسَابُورَ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنَ السَّنَةِ. ثُمَّ سَارَ إِلَى هَرَاةَ، فَلَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا غَرَضًا، فَعَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَقَصَدَ مَدِينَةَ كُنْدُرَ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ طُرَيْثِيثَ، وَقَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا رَجُلٌ اسْمُهُ أَحْمَدُ كَانَ خُرْبَنْدَةَ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الرِّنُودِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالْمُفْسِدِينَ، فَخَرَّبُوا كَثِيرًا مِنَ الْبِلَادِ، وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ، وَغَنِمُوا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصَى. وَعَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ بِهِمْ عَلَى خُرَاسَانَ، وَزَادَ الْبَلَاءُ، فَقَصَدَهُمُ الْمُؤَيَّدُ، فَتَحَصَّنُوا بِالْحِصْنِ الَّذِي لَهُمْ، فَقُوتِلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، وَنَصَبَ عَلَيْهِمُ الْعَرَّادَاتِ وَالْمَنْجَنِيقَاتِ، فَأَذْعَنَ هَذَا الْخُرْبَنْدَةُ أَحْمَدُ إِلَى طَاعَةِ الْمُؤَيَّدِ وَالِانْخِرَاطِ فِي سِلْكِ أَصْحَابِهِ وَأَشْيَاعِهِ، فَقَبِلَهُ أَحْسَنَ قَبُولٍ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ.

ثُمَّ إِنَّهُ عَصَى عَلَى الْمُؤَيَّدِ، وَتَحَصَّنَ بِحِصْنِهِ، فَأَخَذَهُ الْمُؤَيَّدُ مِنْهُ قَهْرًا وَعَنْوَةً، وَقَيَّدَهُ، وَاحْتَاطَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَتَلَهُ وَأَرَاحَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ وَمِنْ شَرِّهِ وَفَسَادِهِ. وَقَصَدَ الْمُؤَيَّدُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَاحِيَةَ بَيْهَقَ عَازِمًا عَلَى قِتَالِهِمْ لِخُرُوجِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِ، فَلَمَّا قَارَبَهَا أَتَاهُ زَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا وَدَعَاهُ إِلَى الْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَالْحِلْمِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، وَوَعَظَهُ وَذَكَّرُهُ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ وَرَحَلَ عَنْهُمْ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ رُكْنُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدِ الْخَانْ إِلَى الْمُؤَيَّدِ بِتَقْرِيرِ نَيْسَابُورَ وَطُوسَ وَأَعْمَالِهَا عَلَيْهِ، وَرَدَّ الْحُكْمَ فِيهَا إِلَيْهِ، فَعَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ رَابِعَ ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِمَا تَقَرَّرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلِكِ مَحْمُودِ وَبَيْنَ الْغُزِّ مِنْ إِبْقَاءِ نَيْسَابُورَ عَلَيْهِ لِيَزُولَ الْخُلْفُ وَالْفِتَنُ عَنِ النَّاسِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ وَيَغْمُرْخَانْ لَمَّا قَصَدَ يَغْمُرْخَانِ الْغُزَّ وَتَوَسَّلَ إِلَيْهِمْ لِيَنْصُرُوهُ عَلَى إِيثَاقَ لِظَنِّهِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَسَّنَ لِلْخَوَارِزْمِيَّةِ قَصْدَهُ، أَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَسَارُوا مَعَهُ عَلَى طَرِيقِ نَسَا وَأَبِيوَرْدَ، وَوَصَلُوا إِلَى الْأَمِيرِ إِيثَاقَ فَلَمْ يَجِدْ لِنَفْسِهِ بِهِمْ قُوَّةً، فَاسْتَنْجَدَ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ، فَجَاءَهُ وَمَعَهُ مِنَ الْأَكْرَادِ وَالدَّيْلَمِ وَالْأَتْرَاكِ وَالتُّرْكُمَانِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ نَوَاحِي أَبَسْكُونَ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَاقْتَتَلُوا وَدَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَانْهَزَمَ الْأَتْرَاكُ الْغُزِّيَّةُ وَالْبَرْزِيَّةُ مِنْ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَيَعُودُونَ. وَكَانَ عَلَى مَيْمَنَةِ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ الْأَمِيرُ إِيثَاقُ، فَحَمَلَتِ الْأَتْرَاكُ الْغُزِّيَّةُ عَلَيْهِ لَمَّا أَيِسُوا مِنَ الظَّفَرِ بِقَلْبِ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ، فَانْهَزَمَ إِيثَاقُ وَتَبِعَهُ بَاقِي الْعَسْكَرِ، وَوَصَلَ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ إِلَى سَارِيَةٍ، وَقُتِلَ مِنْ عَسْكَرِهِ أَكْثَرُهُمْ. وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ التُّجَّارِ كَفَّنَ وَدَفَنَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَتْلَى سَبْعَةَ آلَافِ رَجُلٍ. وَأَمَّا إِيثَاقُ فَإِنَّهُ قَصَدَ فِي هَرَبِهِ خُوَارَزْمَ وَأَقَامَ بِهَا، وَسَارَ الْغُزُّ مِنَ الْمَعْرَكَةِ إِلَى دِهِسْتَانَ، وَكَانَ الْحَرْبُ قَرِيبًا مِنْهَا، فَنَقَبُوا سُورَهَا، وَأَوْقَعُوا بِأَهْلِهَا وَنَهَبُوهُمْ أَوَائِلَ سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَبَعْدَ أَنْ خَرَّبُوا جُرْجَانَ وَفَرَّقُوا أَهْلَهَا فِي الْبِلَادِ وَعَادُوا إِلَى خُرَاسَانَ.

ذِكْرُ وَفَاةِ خُسْرُوشَاهْ صَاحِبِ غَزْنَةَ وَمُلْكِ ابْنِهِ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبَ، تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ خُسْرُوشَاهْ بْنُ بَهْرَام شَاهْ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، صَاحِبُ غَزْنَةَ، وَكَانَ عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ فِي رَعِيَّتِهِ، مُحِبًّا لِلْخَيْرِ وَأَهْلِهِ، مُقَرَّبًا لِلْعُلَمَاءِ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِمْ، وَكَانَ مُلْكُهُ تِسْعَ سِنِينَ. [وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مَلِكْشَاهْ] فَلَمَّا مَلَكَ نَزَلَ عَلَاءُ الدِّينِ الْحُسَيْنُ، مَلِكُ الْغُورِ، إِلَى غَزْنَةَ فَحَصَرَهَا، وَكَانَ الشِّتَاءُ شَدِيدًا وَالثَّلْجُ كَثِيرًا، فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْمَقَامُ عَلَيْهَا، فَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ فِي صَفَرَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] . ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ إِيثَاقَ وَبَغْرَاتْكِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، مُنْتَصَفَ شَعْبَانَ، كَانَ بَيْنَ الْأَمِيرِ إِيثَاقَ وَالْأَمِيرِ بَغْرَاتْكِينَ بِرَغْشَ الْجَرْكَانِيِّ حَرْبٌ، وَكَانَ إِيثَاقُ قَدْ سَارَ بَغْرَاتْكِينَ فِي آخِرِ أَعْمَالِ جُوَيْنَ، فَنَهَبُهُ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُ وَكُلَّ مَا لَهُ، وَكَانَ ذَا نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَأَمْوَالٍ جَسِيمَةٍ، فَانْهَزَمَ بَغْرَاتْكِينُ عَنْهَا وَخَلَّاهَا، فَافْتَتَحَهَا إِيثَاقُ وَاسْتَغْنَى بِهَا، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ بِسَبَبِهَا، وَكَثُرَتْ جُمُوعُهُ، وَقَصَدَهُ النَّاسُ، وَأَمَّا بَغْرَاتْكِينُ فَإِنَّهُ رَاسَلَ الْمُؤَيَّدَ صَاحِبَ نَيْسَابُورَ، وَصَارَ فِي جُمْلَتِهِ وَمَعْدُودًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَتَلَقَّاهُ الْمُؤَيَّدُ بِالْقَبُولِ. ذِكْرُ وَفَاةِ مَلِكْشَاهْ بْنِ مَحْمُودٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ مَلِكْشَاهْ ابْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْب

أَرْسِلَان بِأَصْفَهَانَ مَسْمُومًا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ جَمْعُهُ بِأَصْفَهَانَ أَرْسَلَ إِلَى بَغْدَادَ، وَطَلَبَ أَنْ يَقْطَعُوا خُطْبَةَ عَمِّهِ سُلَيْمَانَ شَاهْ، وَيَخْطُبُوا لَهُ، وَيُعِيدُوا الْقَوَاعِدَ بِالْعِرَاقِ إِلَى مَا كَانَتْ أَوَّلًا، وَإِلَّا قَصَدَهُمْ، فَوَضَعَ الْوَزِيرُ عَوْنُ الدِّينِ بْنُ هُبَيْرَةِ خَصِيًّا كَانَ خِصِّيصًا بِهِ، يُقَالُ لَهُ: أَغْلَبُكُ الْكَوْهَرَايِينِيُّ. فَمَضَى إِلَى بِلَادِ الْعَجَمِ، وَاشْتَرَى جَارِيَةً مِنْ قَاضِي هَمَذَانَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَبَاعَهَا مِنْ مَلِكْشَاهْ، وَكَانَ قَدْ وَضَعَهَا عَلَى سَمِّهِ وَوَعَدَهَا أُمُورًا عَظِيمَةً، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، وَسَمَّتْهُ فِي لَحْمٍ مَشْوِيٍّ، فَأَصْبَحَ مَيِّتًا، وَجَاءَ الطَّبِيبُ إِلَى دَكْلَا وَشُمْلَةَ، فَعَرَّفَهُمَا أَنَّهُ مَسْمُومٌ، فَعَرَفُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْجَارِيَةِ، فَأُخِذَتْ، وَضُرِبَتْ، وَأَقَرَّتْ. وَهَرَبَ أَغْلَبُكُ، وَوَصَلَ إِلَى بَغْدَادَ، وَوَفَّى لَهُ الْوَزِيرُ بِجَمِيعِ مَا اسْتَقَرَّ الْحَالُ عَلَيْهِ. وَلَمَّا مَاتَ أَخْرَجَ أَهْلُ أَصْفَهَانَ أَصْحَابَهُ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَخَطَبُوا لِسُلَيْمَانَ شَاهْ وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَعَادَ شُمْلَةُ إِلَى خُوزَسْتَانَ، فَأَخَذَ مَا كَانَ مَلِكْشَاهْ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ مِنْهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ أَسَدُ الدِّينِ شِيرِكُوهْ بْنُ شَاذِي مُقَدَّمُ جُيُوشِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي صَاحِبِ الشَّامِ، وَشِيرِكُوهْ هَذَا هُوَ الَّذِي مَلَكَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ. وَسَيَرِدُ ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهَا أَرْسَلَ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيٌّ نَائِبُ قُطْبِ الدِّينِ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، رَسُولًا إِلَى الْمُسْتَنْجِدِ يَعْتَذِرُ مِمَّا جَنَاهُ مِنْ مُسَاعَدَةِ مُحَمَّد شَاهْ فِي حِصَارِ بَغْدَادَ، وَيَطْلُبُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الْحَجِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يُوسُفَ الدِّمَشْقِيَّ، مُدَرِّسَ النِّظَامِيَّةِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ قَتَلَمِشَّ يُطَيِّبَانِ قَلْبَهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ وَيُعَرِّفَانِهِ الْإِذْنَ فِي الْحَجِّ، فَحَجَّ وَدَخَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَكْرَمَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ قَايْمَازُ الْأُرْجُوَانِيُّ أَمِيرُ الْحَاجِّ، سَقَطَ عَنِ الْفَرَسِ وَهُوَ يَلْعَبُ بِالْأُكْرَةِ،

فَسَالَ مُخُّهُ مِنْ مَنْخَرَيْهِ وَأُذُنَيْهِ فَمَاتَ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزَّبِيدِيُّ، مِنْ أَهْلِ زَبِيدَ مَدِينَةٍ بِالْيَمَنِ مَشْهُورَةٍ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ نَحْوِيًّا وَاعِظًا، وَصَحِبَهُ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ مُدَّةً، وَكَانَ مَوْتُهُ بِبَغْدَادَ.

ثم دخلت سنة ست وخمسين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 556 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، خَرَجَ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ مِنْ دَارِهِ إِلَى الدِّيوَانِ، وَالْغِلْمَانِ يَطْرُقُونَ لَهُ، وَأَرَادُوا أَنْ يَرِدُوا بَابَ الْمَدْرَسَةِ الْكَمَالِيَّةِ بِدَارِ الْخَلِيفَةِ، فَمَنَعَهُمُ الْفُقَهَاءُ وَضَرَبُوهُمْ بِالْآجُرِّ، فَشَهَرَ أَصْحَابَ الْوَزِيرِ السُّيُوفَ وَأَرَادُوا ضَرْبَهُمْ، فَمَنَعَهُمُ الْوَزِيرُ، وَمَضَى إِلَى الدِّيوَانِ، فَكَتَبَ الْفُقَهَاءُ مُطَالَعَةً يَشْكُونَ أَصْحَابَ الْوَزِيرِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِضَرْبِ الْفُقَهَاءِ وَتَأْدِيبِهِمْ وَنَفْيِهِمْ مِنَ الدَّارِ، فَمَضَى أُسْتَاذُ الدَّارِ وَعَاقَبَهُمْ هُنَاكَ، وَاخْتَفَى مُدَرِّسُهُمُ الشَّيْخُ أَبُو طَالِبٍ، ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ أَعْطَى كُلَّ فَقِيرٍ دِينَارًا، وَاسْتَحَلَّ مِنْهُمْ، وَأَعَادَهُمْ إِلَى الْمَدْرَسَةِ وَظَهَرَ مُدَرِّسُهُمْ. ذِكْرُ قَتْلِ تُرْشَكَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ قَصَدَ جَمْعٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ إِلَى الْبَنْدَنِيجِينَ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِتَجْهِيزِ عَسْكَرٍ إِلَيْهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ مُقَدِّمُهُمِ الْأَمِيرُ تُرْشَكُ، وَكَانَ فِي أَقْطَاعِهِ بَلَدُ اللِّحْفِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يَسْتَدْعِيهِ، فَامْتَنَعَ مِنَ الْمَجِيءِ إِلَى بَغْدَادَ، وَقَالَ: يَحْضُرُ الْعَسْكَرُ، فَأَنَا أُقَاتِلُ بِهِمْ، وَكَانَ عَازِمًا عَلَى الْغَدْرِ، فَجَهَّزَ الْعَسْكَرَ وَسَارُوا إِلَيْهِ، وَفِيهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِتُرْشَكَ قَتَلُوهُ، وَأَرْسَلُوا رَأْسَهُ إِلَى بَغْدَادَ، وَكَانَ قَتَلَ مَمْلُوكًا لِلْخَلِيفَةِ، فَدَعَا أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ، وَقِيلَ لَهُمْ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدِ اقْتَصَّ لِأَبِيكُمْ مِمَّنْ قَتَلَهُ. ذِكْرُ قَتْلِ سُلَيْمَانَ شَاهْ وَالْخُطْبَةِ لِأَرْسِلَانْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، قُتِلَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ شَاهِ ابْنُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ

مَلِكْشَاهْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ تَهَوُّرٌ وَخُرَقٌ، وَبَلَغَ بِهِ شُرْبُ الْخَمْرِ حَتَّى إِنَّهُ شَرِبَهَا فِي رَمَضَانَ نَهَارًا، وَكَانَ يَجْمَعُ الْمَسَاخِرَ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْأُمَرَاءِ، فَأَهْمَلَ الْعَسْكَرُ أَمْرَهُ، وَصَارُوا لَا يَحْضُرُونَ بَابَهُ، وَكَانَ قَدْ رَدَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ إِلَى شَرَفِ الدِّينِ كُرْدَبَازُو الْخَادِمِ، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ الْخَدَمِ السَّلْجُوقِيَّةِ يَرْجِعُ إِلَى دِينٍ وَعَقْلٍ وَحُسْنِ تَدْبِيرٍ، فَكَانَ الْأُمَرَاءُ يَشْكُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ يُسَكِّنُهُمْ. فَاتُّفِقَ أَنَّهُ شَرِبَ يَوْمًا بِظَاهِرِ هَمَذَانَ فِي الْكُشْكِ فَحَضَرَ عِنْدَهُ كُرْدَبَازُو، فَلَامَهُ عَلَى فِعْلِهِ، فَأَمَرَ سُلَيْمَانُ شَاهْ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمَسَاخِرَةِ فَعَبَثُوا بِكُرْدَبَازُو، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ كَشَفَ لَهُ سَوْءَتَهُ، فَخَرَجَ مُغْضَبًا، فَلَمَّا صَحَا سُلَيْمَانُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَعْتَذِرُ، فَقَبِلَ عُذْرَهُ، إِلَّا أَنَّهُ تَجَنَّبَ الْحُضُورَ عِنْدَهُ، فَكَتَبَ سُلَيْمَانُ إِلَى إِينَانْجَ صَاحِبِ الرَّيِّ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُنْجِدَهُ عَلَى كُرْدَبَازُو، فَوَصَلَ الرَّسُولُ وَإِينَانْجُ مَرِيضٌ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ يَقُولُ: إِذَا أَفَقْتُ مِنْ مَرَضِي حَضَرْتَ عِنْدَكَ بِعِسْكَرِي، فَبَلَغَ كُرْدَبَازُو، فَازْدَادَ اسْتِيحَاشًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ يَوْمًا يَطْلُبُهُ، فَقَالَ: إِذَا جَاءَ إِينَانْجُ حَضَرْتُ، وَأَحْضَرَ الْأُمَرَاءَ وَاسْتَحْلَفَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ، وَكَانُوا كَارِهِينَ لِسُلَيْمَانَ، فَحَلَفُوا لَهُ، فَأَوَّلُ مَا عَمِلَ أَنْ قَتَلَ الْمَسَاخِرَةَ الَّذِينَ لِسُلَيْمَانَ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ صِيَانَةً لِمُلْكِكَ، ثُمَّ اصْطَلَحَا، وَعَمِلَ كُرْدَبَازُو دَعْوَةً عَظِيمَةً حَضَرَهَا السُّلْطَانُ وَالْأُمَرَاءُ، فَلَمَّا صَارَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ شَاهْ فِي دَارِهِ قَبَضَ عَلَيْهِ كُرْدَبَازُو وَعَلَى وَزِيرِهِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَحْمُودِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْحَامِدِيِّ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ، فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَقَتَلَ وَزِيرَهُ وَخَوَاصَّهُ، وَحَبَسَ سُلَيْمَانَ شَاهْ فِي قَلْعَةٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ خَنَقَهُ، وَقِيلَ بَلْ حَبَسَهُ فِي دَارِ مَجْدِ الدِّينِ الْعَلَوِيِّ رَئِيسِ هَمَذَانَ، وَفِيهَا قُتِلَ، وَقِيلَ بَلْ سُقِيَ سُمًّا فَمَاتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَرْسَلَ إِلَى إِيلْدِكْزَ، صَاحِبِ أَرَّانَ وَأَكْثَرِ بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ، يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ لِيَخْطُبَ لِلْمَلِكِ أَرْسِلَان شَاهْ الَّذِي مَعَهُ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى إِينَانْجَ صَاحِبِ الرَّيِّ، فَسَارَ يَنْهَبُ الْبِلَادَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى هَمَذَانَ، فَتَحَصَّنَ كُرْدَبَازُو، فَطَلَبَ مِنْهُ إِينَانْجُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَصَافًّا، فَقَالَ:

أَنَا لَا أُحَارِبُكَ حَتَّى يَصِلَ الْأَتَابِكُ الْأَعْظَمُ إِيلْدِكْزُ. [وَسَارَ إِيلْدِكْزُ] فِي عَسَاكِرِهِ جَمِيعِهَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَمَعَهُ أَرْسِلَان شَاهْ بْنُ طُغْرُلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ، فَوَصَلَ إِلَى هَمَذَانَ، فَلَقِيَهُمْ كُرْدَبَازُو، وَأَنْزَلَهُ دَارَ الْمَمْلَكَةِ، وَخَطَبَ لَأَرْسِلَان شَاهْ بِالسَّلْطَنَةِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَكَانَ إِيلْدِكْزُ قَدْ تَزَوَّجَ بِأُمِّ أَرْسِلَان شَاهْ، وَهِيَ أُمُّ الْبَهْلَوَانِ بْنِ إِيلْدِكْزَ، وَكَانَ إِيلْدِكْزُ أَتَابِكَهُ، وَالْبَهْلَوَانُ حَاجِبَهُ، وَهُوَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ، وَكَانَ إِيلْدِكْزُ هَذَا أَحَدَ مَمَالِيكِ السُّلْطَانِ مَسْعُودِ وَاشْتَرَاهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ، فَلَمَّا مَلَكَ أَقْطَعَهُ أَرَّانَ وَبَعْضَ أَذْرَبِيجَانَ، وَاتَّفَقَ الْحُرُوبُ وَالِاخْتِلَافُ، فَلَمْ يَحْضُرْ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنَ السَّلَاطِينِ السَّلْجُوقِيَّةِ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَتَزَوَّجَ بِأُمِّ الْمَلِكِ أَرْسِلَان شَاهْ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا مِنْهُمُ الْبَهْلَوَانُ مُحَمَّدٌ، وَقُزْلُ أَرْسِلَان عُثْمَانُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ انْتِقَالِ أَرْسِلَان شَاهْ إِلَيْهِ، وَبَقِيَ عِنْدَهُ إِلَى الْآنِ، فَلَمَّا خَطَبَ لَهُ بِهَمَذَانَ أَرْسَلَ إِيلْدِكْزُ إِلَى بَغْدَادَ يَطْلُبُ الْخُطْبَةَ لِأَرْسِلَان شَاهْ أَيْضًا، وَأَنْ تُعَادَ الْقَوَاعِدُ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَيَّامَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، فَأُهِينَ رَسُولُهُ وَأُعِيدَ إِلَيْهِ عَلَى أَقْبَحِ حَالَةٍ، وَأَمَّا إِينَانْجُ صَاحِبُ الرَّيِّ فَإِنَّ إِيلْدِكْزَ رَاسَلَهُ وَلَاطَفَهُ فَاصْطَلَحَا وَتَحَالَفَا عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَتَزَوَّجَ الْبَهْلَوَانُ بْنُ إِيلْدِكْزَ بِابْنَةِ إِينَانْجَ وَنُقِلَتْ إِلَيْهِ بِهَمَذَانَ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ ابْنِ آقَنَسْقَرَ وَعَسْكَرِ إِيلْدِكْزَ لَمَّا اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَ إِيلْدِكْزَ وَإِينَانْجَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ آقَنَسْقَرَ الْأَحْمَدِيلِيِّ، صَاحِبِ مَرَاغَةَ، يَدْعُوهُ إِلَى الْحُضُورِ فِي خِدْمَةِ السُّلْطَانِ أَرْسِلَان شَاهْ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنْ كَفَفْتُمْ عَنِّي، وَإِلَّا فَعِنْدِي سُلْطَانٌ، وَكَانَ عِنْدَهُ وَلَدُ مُحَمَّد شَاهْ بْنِ مَحْمُودٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَانَ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ قَدْ كَاتَبَهُ يُطْمِعُهُ فِي الْخُطْبَةِ لِوَلَدِ مَحْمُود شَاهْ، فَجَهَّزَ إِيلْدِكْزُ عَسْكَرًا مَعَ وَلَدِهِ الْبُهْلُولِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ (إِلَى ابْنِ) آقَنَسْقَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى شَاهْ أَرْمَنْ، صَاحِبِ خِلَاطَ، وَحَالَفَهُ، وَصَارَا يَدًا وَاحِدَةً، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ شَاهْ أَرْمَنْ عَسْكَرًا كَثِيرًا، وَاعْتَذَرَ عَنْ تَأَخُّرِهِ بِنَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ فِي ثَغْرٍ لَا يُمْكِنُهُ مُفَارَقَتَهُ، فَقَوِيَ بِهِمُ ابْنُ آقَنَسْقَرَ، وَكَثُرَ

جَمْعُهُ، وَسَارَ نَحْوَ الْبَهْلَوَانِ، فَالْتَقَيَا عَلَى نَهْرِ أَسْبِيرُودَ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَانْهَزَمَ الْبَهْلَوَانُ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَوَصَلَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ إِلَى هَمَذَانَ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ، وَاسْتَأْمَنَ أَكْثَرَ أَصْحَابِهِ إِلَى (ابْنِ) آقَنَسْقَرَ، وَعَادَ إِلَى بَلَدِهِ مَنْصُورًا. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ إِيلْدِكْزَ وَإِينَانْجَ لَمَّا مَاتَ مَلِكْشَاهْ ابْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، أَخَذَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ابْنَهُ مَحْمُودًا وَانْصَرَفُوا بِهِ نَحْوَ بِلَادِ فَارِسَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ صَاحِبُهَا زَنْكِي بْنُ دَكْلَا السَّلْغَرِيُّ، فَأَخَذَهُ مِنْهُمْ وَتَرَكَهُ فِي قَلْعَةِ إِصْطَخْرَ، فَلَمَّا مَلَكَ إِيلْدِكْزُ وَالسُّلْطَانُ أَرْسِلَان شَاهْ الَّذِي مَعَهُ الْبِلَادَ، وَأَرْسَلَ إِيلْدِكْزُ إِلَى بَغْدَادَ يَطْلُبُ الْخُطْبَةَ لِلسُّلْطَانِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، شَرَعَ الْوَزِيرُ عَوْنُ الدِّينِ أَبُو الْمُظَفَّرِ يَحْيَى بْنُ هُبَيْرَةَ، وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، فِي إِثَارَةِ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ عَلَيْهِ، وَرَاسَلَ الْأَحْمَدِيلِيَّ، وَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَاتَبَ زَنْكِي بْنَ دَكْلَا صَاحِبَ بِلَادِ فَارِسَ يَبْذُلُ لَهُ أَنْ يَخْطُبَ لِلْمَلِكِ الَّذِي عِنْدَهُ، وَهُوَ ابْنُ مَلِكْشَاهْ، وَعَلَّقَ الْخُطْبَةَ لَهُ بِظَفَرِهِ بِإِيلْدِكْزَ، فَخَطَبَ ابْنُ دَكْلَا لِلْمَلِكِ الَّذِي عِنْدَهُ وَأَنْزَلَهُ مِنَ الْقَلْعَةِ، وَضَرَبَ الطَّبْلَ عَلَى بَابِهِ خَمْسَ نُوَبٍ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَكَاتَبَ إِينَانْجَ صَاحِبَ الرَّيِّ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُوَافَقَةَ. وَسَمِعَ إِيلْدِكْزُ الْخَبَرَ، فَحَشَدَ وَجَمَعَ، وَكَثُرَ عَسْكَرُهُ وَجُمُوعُهُ فَكَانَتْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَسَارَ إِلَى أَصْفَهَانَ يُرِيدُ بِلَادَ فَارِسَ، وَأَرْسَلَ إِلَى زَنْكِي بْنِ دَكْلَا يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُوَافَقَةَ [عَلَى] أَنْ يَعَوْدَ يَخْطُبُ لِأَرْسِلَان شَاهْ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ قَدْ أَقْطَعَنِي بِلَادَهُ وَأَنَا سَائِرٌ إِلَيْهِ، فَرَحَلَ إِيلْدِكْزُ، وَبَلَغَهُ أَنَّ جَشِيرًا لِأَرْسِلَانْ بُوقَا، وَهُوَ أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ زَنْكِي، وَفِي أَقْطَاعِهِ أَرَّجَانَ، بِالْقُرْبِ مِنْهُ، فَأَنْفَذَ سَرِيَّةً لِلْغَارَةِ عَلَيْهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ أَرْسِلَان بُوقَا عَزَمَ عَلَى تَغْيِيرِ الْخَيْلِ الَّتِي مَعَهُ لِضَعْفِهَا، وَأَخَذَ عِوَضَهَا مِنْ ذَلِكَ الْجَشِيرِ، فَسَارَ فِي عَسْكَرِهِ إِلَى الْجَشِيرِ، فَصَادَفَ الْعَسْكَرَ الَّذِي سَيَّرَهُ إِيلْدِكْزُ لِأَخْذِ دَوَابِّهِ، فَقَاتَلَهُمْ وَأَخَذَهُمْ وَقَتَلَهُمْ، وَأَرْسَلَ الرُّءُوسَ إِلَى صَاحِبِهِ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى بَغْدَادَ، وَطَلَبَ الْمَدَدَ، فَوُعِدَ بِذَلِكَ.

وَكَانَ الْوَزِيرُ عَوْنُ الدِّينِ أَيْضًا قَدْ كَاتَبَ الْأُمَرَاءَ الَّذِينَ مَعَ إِيلْدِكْزَ يُوَبِّخُهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ، وَيُضَعِّفُ رَأْيَهُمْ، وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى مُسَاعِدِهِ زَنْكِي ابْنِ دَكْلَا وَإِينَانْجَ، وَكَانَ إِينَانْجُ قَدْ بَرَزَ مِنَ الرَّيِّ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ آقَنَسْقَرَ الْأَحْمَدَيْلِيُّ خَمْسَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَهَرَبَ ابْنُ الْبَازَدَارِ، صَاحِبُ قَزْوِينَ، وَابْنُ طُغُيْرَكَ وَغَيْرُهُمَا، فَلَحِقُوا بِإِينَانْجَ وَهُوَ فِي صَحْرَاءِ سَاوَةَ. وَأَمَّا إِيلْدِكْزُ فَإِنَّهُ اسْتَشَارَ نُصَحَاءَهُ، فَأَشَارُوا بِقَصْدِ إِينَانْجَ لِأَنَّهُ أَهَمُّ، فَرَحَلَ إِلَيْهِ، وَنَهَبَ زَنْكِي بْنُ دَكْلَا سُهَيْرِمَ وَغَيْرَهَا، فَرَدَّ إِيلْدِكْزُ إِلَيْهِ أَمِيرًا فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ لِحِفْظِ الْبِلَادِ. فَسَارَ زَنْكِي إِلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ إِيلْدِكْزَ إِلَيْهِ، فَتَجَلَّدَ لِذَلِكَ وَأَرْسَلَ يَطْلُبُ عَسَاكِرَ أَذْرَبِيجَانَ، فَجَاءَتْهُ مَعَ وَلَدِهِ قُزْلِ أَرْسِلَان. وَسَيَّرَ زَنْكِي بْنُ دَكْلَا عَسْكَرًا كَثِيرًا إِلَى إِينَانْجَ، وَاعْتَذَرَ عَنِ الْحُضُورِ بِنَفْسِهِ عِنْدَهُ لِخَوْفِهِ عَلَى بِلَادِهِ مِنْ شُمْلَةَ، صَاحِبِ خُوزَسْتَانَ، فَسَارَ إِيلْدِكْزُ إِلَى إِينَانْجَ وَتَدَانَى الْعَسْكَرَانِ، فَالْتَقَوْا تَاسِعَ شَعْبَانَ وَجَرَى بَيْنَهُمْ حَرْبٌ عَظِيمَةٌ أَجْلَتْ عَنْ هَزِيمَةِ إِينَانْجَ، فَانْهَزَمَ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ وَقُتِلَتْ رِجَالُهُ وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُ، وَدَخَلَ الرَّيَّ، وَتَحَصَّنَ فِي قَلْعَةِ طَبْرَكَ، وَحَصَرَ إِيلْدِكْزُ الرَّيَّ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الصُّلْحِ، وَاقْتَرَحَ إِينَانْجُ اقْتِرَاحَاتٍ، فَأَجَابَهُ إِيلْدِكْزُ إِلَيْهَا، وَأَعْطَاهُ جَرْبَاذَقَانَ وَغَيْرَهَا، وَعَادَ إِيلْدِكْزُ إِلَى هَمَذَانَ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَتَأَخَّرَ هَذِهِ الْحَادِثَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ لِتَتْبَعَ أَخَوَاتِهَا. ذِكْرُ وَفَاةِ مَلَكِ الْغُورِ وَمُلْكِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، تُوُفِّيَ الْمَلِكُ عَلَاءُ الدِّينِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْغُورِيُّ مَلِكُ الْغُورِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ عَنْ غَزْنَةَ، وَكَانَ عَادِلًا مِنْ أَحْسَنِ الْمُلُوكِ سِيرَةً فِي رَعِيَّتِهِ، وَلَمَّا مَاتَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ سَيْفُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ، وَأَطَاعَهُ النَّاسُ، وَأَحَبُّوهُ، وَكَانَ قَدْ صَارَ فِي بِلَادِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ دُعَاةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُمْ، فَأُخْرِجُوا مِنْ تِلْكَ الدِّيَارِ

جَمِيعِهَا، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَرَاسَلَ الْمُلُوكَ وَهَادَاهُمْ، وَاسْتَمَالَ الْمُؤَيَّدَ أَيْ أَبَهْ، صَاحِبَ نَيْسَابُورَ، وَطَلَبَ مُوَافَقَتَهُ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِنَيْسَابُورَ وَتَخْرِيبِهَا كَانَ أَهْلُ الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ بِنَيْسَابُورَ قَدْ طَمِعُوا فِي نَهْبِ الْأَمْوَالِ وَتَخْرِيبِ الْبُيُوتِ، وَفِعْلِ مَا أَرَادُوا، فَإِذَا نَهَبُوا لَمْ يَنْتَهُوا، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ تَقَدَّمَ الْمُؤَيَّدُ أَيْ أَبَهْ بِقَبْضِ أَعْيَانِ نَيْسَابُورَ، مِنْهُمْ نَقِيبُ الْعَلَوِيِّينَ أَبُو الْقَاسِمِ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحُسَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَحَبَسَهُمْ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، وَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ أَطْعَمْتُمُ الرُّنُودَ وَالْمُفْسِدِينَ حَتَّى فَعَلُوا هَذِهِ الْفِعَالَ، وَلَوْ أَرَدْتُمْ مَنْعَهُمْ لَامْتَنَعُوا. وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ جَمَاعَةً، فَخُرِّبَتْ نَيْسَابُورُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا خُرِّبَ مَسْجِدُ عُقَيْلٍ، كَانَ مَجْمَعًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَفِيهِ خَزَائِنُ الْكُتُبِ الْمَوْقُوفَةُ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَنَافِعِ نَيْسَابُورَ، وَخَرَّبَ أَيْضًا مِنْ مَدَارِسِ الْحَنَفِيَّةِ ثَمَانِيَ مَدَارِسَ، وَمِنْ مَدَارِسِ الشَّافِعِيَّةِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَدْرَسَةً، وَأَحْرَقَ خَمْسَ خَزَائِنَ لِلْكُتُبِ، وَنَهَبَ سَبْعَ خَزَائِنَ كُتُبٍ وَبِيعَتْ بِأَبْخَسِ الْأَثْمَانِ، هَذَا مَا أَمْكَنَ إِحْصَاؤُهُ سِوَى مَا لَمْ يُذْكُرْ. ذِكْرُ خَلْعِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ وَنَهْبِ طُوسَ وَغَيْرِهَا مِنْ خُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، قَصَدَ السُّلْطَانُ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدِ الْخَانْ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَلَكَ خُرَاسَانَ بَعْدَهُ، فَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ الْمُؤَيَّدُ صَاحِبُ نَيْسَابُورَ بَشَاذِيَاخَ، وَكَانَ الْغُزُّ مَعَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَدَامَتِ الْحَرْبُ إِلَى آخِرِ شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. ثُمَّ إِنَّ مَحْمُودًا أَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ دُخُولَ الْحَمَّامِ، فَدَخَلَ إِلَى شَهْرَسْتَانَ، آخِرَ شَعْبَانَ، كَالْهَارِبِ مَنَّ الْغُزِّ، وَأَقَامُوا عَلَى نَيْسَابُورَ إِلَى آخِرِ شَوَّالٍ، ثُمَّ عَادُوا رَاجِعِينَ، فَعَاثُوا فِي الْقُرَى وَنَهَبُوهَا، وَنَهَبُوا طُوسَ نَهْبًا فَاحِشًا، وَحَضَرُوا الْمَشْهَدَ الَّذِي لِعَلِيِّ بْنِ

مُوسَى، وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِمَّنْ فِيهِ وَنَهَبُوهُمْ، وَلَمْ يَعْرِضُوا لِلْقُبَّةِ الَّتِي فِيهَا الْقَبْرُ. فَلَمَّا دَخَلَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ إِلَى نَيْسَابُورَ أَمْهَلَهُ الْمُؤَيَّدُ إِلَى أَنْ دَخَلَ رَمَضَانُ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَأَخَذَهُ وَكَحَّلَهُ وَأَعْمَاهُ، وَأَخَذَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْأَعْلَاقِ النَّفِيسَةِ، وَكَانَ يُخْفِيهَا خَوْفًا عَلَيْهَا مِنَ الْغُزِّ، لَمَّا كَانَ مَعَهُمْ، وَقَطَعَ الْمُؤَيَّدُ خُطْبَتَهُ مِنْ نَيْسَابُورَ وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ فِي تَصَرُّفِهِ، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ، بَعْدَ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ، وَأَخَذَ ابْنَهُ جَلَالَ الدِّينِ مُحَمَّدًا الَّذِي كَانَ مَلَّكَهُ الْغُزُّ أَمْرَهُمْ قَبْلَ أَبِيهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ، وَسَمَلَهُ أَيْضًا، وَسَجَنَهُمَا، وَمَعَهُمَا جَوَارِيهِمَا وَحَشَمُهُمَا، وَبَقِيَا فِيهَا فَلَمْ تُطِلْ أَيَّامُهُمَا، وَمَاتَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ، ثُمَّ مَاتَ ابْنُهُ بَعْدَهُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِهِ لِمَوْتِ أَبِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ عِمَارَةِ شَاذِيَاخِ نَيْسَابُورَ كَانَتْ شَاذِيَاخُ قَدْ بَنَاهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، لَمَّا كَانَ أَمِيرًا عَلَى خُرَاسَانَ لِلْمَأْمُونِ، وَسَبَبُ عِمَارَتِهَا أَنَّهُ رَأَى امْرَأَةً جَمِيلَةً تَقُودُ فَرَسًا تُرِيدُ سَقْيَهُ، فَسَأَلَهَا عَنْ زَوْجِهَا، فَأَخْبَرَتْهُ بِهِ، فَأَحْضَرَهُ، وَقَالَ لَهُ: خِدْمَةُ الْخُيُولِ بِالرِّجَالِ أَشْبَهُ، فَلِمَ تَقْعُدْ أَنْتَ فِي دَارِكَ وَتُرْسِلِ امْرَأَتَكَ مَعَ فَرَسِكَ؟ فَبَكَى الرَّجُلَ، وَقَالَ لَهُ: ظُلْمُكَ يَحْمِلُنَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ تُنْزِلُ الْجُنْدَ مَعَنَا فِي دُورِنَا، فَإِنْ خَرَجْتُ أَنَا وَزَوْجَتِي بَقِيَ الْبَيْتُ فَارِغًا، فَيَأْخُذُ الْجُنْدِيُّ مَا لَنَا فِيهِ، وَإِنْ سَقَيْتُ أَنَا الْفَرَسَ فَلَا آمَنُ عَلَى زَوْجَتِي مِنَ الْجُنْدِيِّ، فَرَأَيْتُ أَنْ أُقِيمَ فِي الْبَيْتِ وَتَخْدِمُ زَوْجَتِي الْفَرَسَ. فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَخَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ لِوَقْتِهِ، وَنَزَلَ فِي الْخِيَامِ، وَأَمَرَ الْجُنْدَ، فَخَرَجُوا مِنْ دُورِ النَّاسِ، وَبَنَى شَاذِيَاخَ دَارًا لَهُ وَلِجُنْدِهِ وَسَكَنَهَا وَهُمْ مَعَهُ، ثُمَّ إِنَّهَا دُثِرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ أَيَّامُ السُّلْطَانِ أَلْب أَرْسِلَان، ذُكِرَتْ لَهُ هَذِهِ الْقِصَّةُ فَأَمَرَ بِتَجْدِيدِهَا، ثُمَّ إِنَّهَا تَشَعَّثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ وَخُرِّبَتْ نَيْسَابُورُ، وَلَمْ يُمْكِنْ حِفْظُهَا، وَالْغُزُّ تَطْرُقُ الْبِلَادَ وَتَنْهَبُهَا، أَمَرَ الْمُؤَيَّدُ حِينَئِذٍ بِعَمَلِ سُورِهَا، وَسَدِّ ثُلَمِهِ وَسُكْنَاهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَسَكَنَهَا هُوَ وَالنَّاسُ وَخُرِّبَتْ حِينَئِذٍ نَيْسَابُورُ كُلَّ خَرَابٍ، وَلَمْ يَبْقَ بِهَا أَنِيسٌ. ذِكْرُ قَتْلِ الصَّالِحِ بْنِ رُزَّيْكَ وَوِزَارَةِ ابْنِهِ رُزَّيْكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، قُتِلَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ أَبُو الْغَارَاتِ طَلَائِعُ بْنُ

رُزَّيْكَ الْأَرْمَنِيُّ، وَزِيرُ الْعَاضِدِ الْعَلَوِيِّ، صَاحِبِ مِصْرَ، وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ تَحَكَّمَ فِي الدَّوْلَةِ التَّحَكُّمَ الْعَظِيمَ، وَاسْتَبَدَّ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ إِلَيْهِ، لِصِغَرِ الْعَاضِدِ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَلَّاهُ، وَوَتَرَ النَّاسَ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ كَثِيرًا مِنْ أَعْيَانِهِمْ وَفَرَّقَهُمْ فِي الْبِلَادِ لِيَأْمَنَ وُثُوبَهُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنَ الْعَاضِدِ فَعَادَاهُ أَيْضًا الْحُرُمُ مِنَ الْقَصْرِ، فَأَرْسَلَتْ عَمَّةُ الْعَاضِدِ الْأَمْوَالَ إِلَى أُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَدَعَتْهُمْ إِلَى قَتْلِهِ. وَكَانَ أَشَدَّهُمْ فِي ذَلِكَ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الرَّاعِي، فَوَقَفُوا لَهُ فِي دِهْلِيزِ الْقَصْرِ، فَلَمَّا دَخَلَ ضَرَبُوهُ بِالسَّكَاكِينِ عَلَى دَهَشٍ [مِنْهُ] ، فَجَرَحُوهُ جِرَاحَاتٍ مُهْلِكَةً، إِلَّا أَنَّهُ حُمِلَ إِلَى دَارِهِ وَفِيهِ حَيَاةٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْعَاضِدِ يُعَاتِبُهُ عَلَى الرِّضَى بِقَتْلِهِ مَعَ أَثَرِهِ فِي خِلَافَتِهِ، فَأَقْسَمَ الْعَاضِدُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ بَرِيئًا، فَسَلِّمْ عَمَّتَكَ إِلَيَّ حَتَّى أَنْتَقِمَ مِنْهَا، فَأَمَرَ بِأَخْذِهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَأَخَذَهَا قَهْرًا، وَأُحْضِرَتْ عِنْدَهُ، فَقَتَلَهَا، وَوَصَّى بِالْوِزَارَةِ لِابْنِهِ رُزَّيْكَ، وَلُقِّبَ الْعَادِلُ، فَانْتَقَلَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ. وَلِلصَّالِحِ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ بَلِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَى فَضْلٍ غَزِيرٍ، فَمِنْهَا فِي الِافْتِخَارِ: أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَدُومَ لَنَا الدَّهْرُ ... وَيَخْدِمَنَا فِي مُلْكِنَا الْعِزُّ وَالنَّصْرُ عَلِمْنَا بِأَنَّ الْمَالَ تَفْنَى أَلُوفُهُ ... وَيَبْقَى لَنَا مِنْ بَعْدِهِ الْأَجْرُ وَالذِّكْرُ خَلَطْنَا النَّدَى بِالْبَأْسِ حَتَّى كَأَنَّنَا ... سَحَابٌ لَدَيْهِ الْبَرْقُ وَالرَّعْدُ وَالْقَطْرُ قِرَانَا إِذَا رُحْنَا إِلَى الْحَرْبِ مَرَّةً ... يَرَانَا وَمِنْ أَضْيَافِنَا الذِّئْبُ وَالنَّسْرُ كَمَا أَنَّنَا فِي السِّلْمِ نَبْذُلُ جُودَنَا ... وَيَرْتَعُ فِي إِنْعَامِنَا الْعَبْدُ وَالْحُرُّ وَهِيَ طَوِيلَةٌ. وَكَانَ الصَّالِحُ كَرِيمًا فِيهِ أَدَبٌ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، وَكَانَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَهُ إِنْفَاقٌ،

وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمُ الْعَطَاءَ الْكَثِيرَ، بَلَغَهُ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ الدَّهَّانِ النَّحْوِيَّ الْبَغْدَادِيَّ الْمُقَيَّمَ بِالْمَوْصِلِ قَدْ شَرَحَ بَيْتًا مِنْ شِعْرِهِ وَهُوَ هَذَا: تَجَنَّبَ سَمْعِي مَا يَقُولُ الْعَوَاذِلُ ... وَأَصْبَحَ لِي شُغْلٌ مِنَ الْغَزْوِ شَاغِلٌ فَجَهَّزَ إِلَيْهِ هَدِيَّةً سَنِّيَّةً لِيُرْسِلَهَا إِلَيْهِ، فَقُتِلَ قَبْلَ إِرْسَالِهَا. وَبَلَغَهُ أَيْضًا أَنَّ إِنْسَانًا مِنْ أَعْيَانِ الْمَوْصِلِ قَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ بِمَكَّةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ كِتَابًا يَشْكُرُهُ وَمَعَهُ هَدِيَّةٌ. وَكَانَ الصَّالِحُ إِمَامِيًّا لَمْ يَكُنْ عَلَى مَذْهَبِ الْعَلَوِيِّينَ الْمِصْرِيِّينَ، وَلَمَّا وَلِيَ الْعَاضِدُ الْخِلَافَةَ، سَمِعَ الصَّالِحُ ضَجَّةً عَظِيمَةً، فَقَالَ: مَا الْخَبَرُ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِالْخَلِيفَةِ، فَقَالَ: كَأَنِّي بِهَؤُلَاءِ الْجَهَلَةِ وَهُمْ يَقُولُونَ مَا مَاتَ الْأَوَّلُ حَتَّى اسْتَخْلَفَ هَذَا، وَمَا عَلِمُوا أَنَّنِي كُنْتُ مِنْ سَاعَةٍ أَسْتَعْرِضُهُمُ اسْتِعْرَاضَ الْغَنَمِ. قَالَ عُمَارَةُ: دَخَلْتُ إِلَى الصَّالِحِ قَبْلَ قَتْلِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَنَاوَلَنِي قِرْطَاسًا فِيهِ بَيْتَانِ مِنْ شِعْرِهِ وَهُمَا: نَحْنُ فِي غَفْلَةٍ وَنَوْمٍ وَلِلَمَوْ ... تِ عُيُونٌ يَقْظَانَةٌ لَا تَنَامُ قَدْ رَحَلْنَا إِلَى الْحِمَامِ سِنِينًا ... لَيْتَ شِعْرِي مَتَى يَكُونُ الْحِمَامُ فَكَانَ آخِرَ عَهْدِي بِهِ. وَقَالَ عُمَارَةُ أَيْضًا: وَمِنْ عَجِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّنِي أَنْشَدْتُ ابْنَهُ قَصِيدَةً أَقُولُ فِيهَا: أَبُوكَ الذِي تَسْطُو اللَّيَالِي بِحَدِّهِ ... وَأَنْتَ يَمِينٌ إِنْ سَطَا وَشِمَالُ لِرُتْبَتِهِ الْعُظْمَى وَإِنْ طَالَ عُمْرُهُ ... إِلَيْكَ مَصِيرٌ وَاجِبٌ وَمَنَالُ تُخَالِسُكَ اللَّحْظَ الْمَصُونَ وَدُونَهَا ... حِجَابٌ شَرِيفٌ لَا انْقَضَا وَحِجَالُ

فَانْتَقَلَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَعَسْكَرِ بَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، اجْتَمَعَتْ خَفَاجَةُ إِلَى الْحِلَّةِ وَالْكُوفَةِ، وَطَالَبُوا بِرُسُومِهِمْ مِنَ الطَّعَامِ وَالتَّمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَنَعَهُمْ أَمِيرُ الْحَاجِّ أَرْغَشُ، وَهُوَ مُقْطَعٌ الْكُوفَةَ، وَوَافَقَهُ عَلَى مَنْعِهِ الْأَمِيرُ قَيْصَرُ شِحْنَةُ الْحِلَّةِ، وَهُمَا مِنْ مَمَالِيكِ الْخَلِيفَةِ، فَأَفْسَدَتْ خَفَاجَةُ، وَنَهَبُوا سَوَادَ الْكُوفَةِ وَالْحِلَّةِ، فَأَسْرَى إِلَيْهِمُ الْأَمِيرَ قَيْصَرَ، شِحْنَةَ الْحِلَّةِ، فِي مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ فَارِسًا، وَخَرَجَ إِلَيْهِ أَرْغَشُ فِي عَسْكَرٍ وَسِلَاحٍ، فَانْتَزَحَتْ خَفَاجَةُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَتَبِعَهُمُ الْعَسْكَرُ إِلَى رَحْبَةِ الشَّامِ، فَأَرْسَلَ خَفَاجَةُ يَعْتَذِرُونَ وَيَقُولُونَ: قَدْ قَنِعْنَا بِلَبَنِ الْإِبِلِ وَخُبْزِ الشَّعِيرِ، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَنَا رُسُومَنَا، وَطَلَبُوا الصُّلْحَ فَلَمْ يُجِبْهُمْ أَرَغْشُ وَقَيْصَرُ. وَكَانَ قَدِ اجْتَمَعَ مَعَ خَفَاجَةَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَتَصَافُّوا وَاقْتَتَلُوا، وَأَرْسَلَتِ الْعَرَبُ طَائِفَةً إِلَى خِيَامِ الْعَسْكَرِ وَرِحَالِهِمْ فَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا، وَحَمَلَ الْعَرَبُ حَمْلَةً مُنْكَرَةً، فَانْهَزَمَ الْعَسْكَرُ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَقُتِلَ الْأَمِيرُ قَيْصَرُ، وَأُسِرَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى، وَجُرِحَ أَمِيرُ الْحَاجِّ جِرَاحَةً شَدِيدَةً، وَدَخَلَ الرَّحْبَةَ، فَحَمَاهُ شَيْخُهَا وَأَخَذَ لَهُ الْأَمَانَ وَسَيَّرَهُ إِلَى بَغْدَادَ، وَمَنْ نَجَا مَاتَ عَطَشًا فِي الْبَرِّيَّةِ. وَكَانَ إِمَاءُ الْعَرَبِ يَخْرُجْنَ بِالْمَاءِ يَسْقِينَ الْجَرْحَى، فَإِذَا طَلَبَهُ مِنْهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْعَسْكَرِ أَجْهَزْنَ عَلَيْهِ، وَكَثُرَ النَّوْحُ وَالْبُكَاءُ بِبَغْدَادَ عَلَى الْقَتْلَى، وَتَجَهَّزَ الْوَزِيرُ عَوْنُ الدِّينِ بْنُ هُبَيْرَةَ وَالْعَسَاكِرُ مَعَهُ، فَخَرَجَ فِي طَلَبِ خَفَاجَةَ، فَدَخَلُوا الْبَرَّ وَخَرَجُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، وَلَمَّا دَخَلُوا الْبَرَّ عَادَ الْوَزِيرُ إِلَى بَغْدَادَ، وَأَرْسَلَ بَنُو خَفَاجَةَ يَعْتَذِرُونَ، وَيَقُولُونَ: بُغِيَ عَلَيْنَا، وَفَارَقْنَا الْبِلَادَ، فَتَبِعُونَا وَاضْطُرِرْنَا إِلَى الْقِتَالِ، وَسَأَلُوا الْعَفْوَ عَنْهُمْ، فَأَجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ. ذِكْرُ حَصْرِ الْمُؤَيَّدِ شَارِسَتَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ الْمُؤَيَّدُ أَيْ أَبَهْ مَدِينَةَ شَارِسَتَانَ قُرْبَ نَيْسَابُورَ، وَقَاتَلَهُ

أَهْلُهَا، وَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ وَالْعَرَّادَاتِ، فَصَبَرَ أَهْلُهَا خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْمُؤَيَّدِ، وَكَانَ مَعَهُ جَلَالُ الدِّينِ الْمُؤَيَّدُ الْمُوَفَّقِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، فَبَيْنَمَا هُوَ رَاكِبٌ إِذْ وَصَلَ إِلَيْهِ حَجَرُ مَنْجَنِيقٍ فَقَتَلَهُ خَامِسَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنَ السَّنَةِ، وَتَعَدَّى الْحَجَرُ مِنْهُ إِلَى شَيْخٍ مِنْ شُيُوخِ بَيْهَقَ، فَقَتَلَهُ، فَعَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ بِقَتْلِ جَلَالِ الدِّينِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، خُصُوصًا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَكَانَ فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا قُتِلَ. وَدَامَ الْحِصَارُ إِلَى شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَنَزَلَ خَوَاجِكِيُّ صَاحِبُهَا بَعْدَمَا كَثُرَ الْقَتْلُ، وَدَامَ الْحَصْرُ، وَكَانَ لِهَذِهِ الْقَلْعَةِ ثَلَاثَةُ رُؤَسَاءَ هُمْ أَرْبَابُ النَّهْيِ وَالْأَمْرِ، وَهُمُ الَّذِينَ حَفِظُوهَا وَقَاتَلُوا عَنْهَا، أَحَدُهُمْ خَوَاجِكِيُّ هَذَا، وَالثَّانِي دَاعِي بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ أَخِي حَرْبٍ الْعَلَوِيُّ، وَالثَّالِثُ الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْعَلَوِيُّ الْفَارِسِيُّ، فَنَزَلُوا كُلُّهُمْ أَيْضًا إِلَى الْمُؤَيَّدِ أَيْ أَبَهْ، فَيِمَنَ مَعَهُمْ مِنْ أَشْيَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ. فَأَمَّا خَوَاجِكِيُّ فَإِنَّهُ أَثْبَتَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَتَلَ زَوْجَتَهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَأَخَذَ مَالَهَا، فَقُتِلَ بِهَا وَمَلَكَ الْمُؤَيَّدُ شَارِسَتَانُ، وَصَفَتْ لَهُ، فَنَهَبَهَا عَسْكَرُهُ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا سَبَوْهَا. ذِكْرُ مُلْكِ الْكَرَجِ مَدِينَةَ آنِي فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، اجْتَمَعَتِ الْكَرَجُ مَعَ مَلِكِهِمْ، وَسَارُوا إِلَى مَدِينَةِ آنِي مِنْ بِلَادِ أَرَّانَ، وَمَلَكُوهَا، وَقَتَلُوا فِيهَا خَلْقًا كَثِيرًا، فَانْتُدِبَ لَهُمْ شَاهْ أَرْمَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَكْمَانَ صَاحِبُ خِلَاطَ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَلَقُوهُ، وَقَاتَلُوهُ، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، وَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَأُسِرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَعَادَ شَاهْ أَرْمَنُ مَهْزُومًا لَمْ يَرْجِعْ مَعَهُ غَيْرُ أَرْبَعِ مِائَةِ فَارِسٍ مِنْ عَسْكَرِهِ. ذِكْرُ وِلَايَةِ عِيسَى مَكَّةَ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَانَ أَمِيرُ مَكَّةَ، هَذِهِ السَّنَةَ، قَاسِمُ بْنُ فُلَيْتَةَ بْنِ قَاسِمِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ الْعَلَوِيُّ الْحَسَنِيُّ، فَلَمَّا سَمِعَ بِقُرْبِ الْحُجَّاجِ مِنْ مَكَّةَ صَادَرَ الْمُجَاوِرِينَ وَأَعْيَانَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَخَذَ كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَهَرَبَ مِنْ مَكَّةَ خَوْفًا مِنْ أَمِيرِ الْحَاجِّ أَرْغَشَ. وَكَانَ قَدْ حَجَّ هَذِهِ السَّنَةَ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ بَكْتَكِينَ، صَاحِبُ جَيْشِ الْمَوْصِلِ،

وَمَعَهُ طَائِفَةٌ صَالِحَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَلَمَّا وَصَلَ أَمِيرُ الْحَاجِّ إِلَى مَكَّةَ رَتَّبَ مَكَانَ قَاسِمِ بْنِ فُلَيْتَةَ عَمَّهُ عِيسَى بْنَ قَاسِمِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ إِنَّ قَاسِمَ بْنَ فُلَيْتَةَ جَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا مِنَ الْعَرَبِ أَطْمَعَهُمْ فِي مَالٍ لَهُ بِمَكَّةَ، فَاتَّبَعُوهُ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَيْهَا، فَلَمَّا سَمِعَ عَمُّهُ عِيسَى فَارَقَهَا، وَدَخَلَهَا قَاسِمٌ فَأَقَامَ بِهَا أَمِيرًا أَيَّامًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يُوصِلُهُ إِلَى الْعَرَبِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَتَلَ قَائِدًا كَانَ مَعَهُ أَحْسَنَ سِيرَةً، فَتَغَيَّرَتْ نِيَّاتُ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ، وَكَاتَبُوا عَمَّهُ عِيسَى، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَهَرَبَ وَصَعِدَ جَبَلَ أَبِي قُبَيْسَ، فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَأَخَذَهُ أَصْحَابُ عِيسَى، وَقَتَلُوهُ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ قَتْلُهُ، فَأَخَذَهُ وَغَسَّلَهُ وَدَفَنَهُ بِالْمُعَلَّى عِنْدَ أَبِيهِ فُلَيْتَةَ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِعِيسَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، صَاحِبُ الْمَغْرِبِ، إِلَى جَبَلِ طَارِقٍ، وَهُوَ عَلَى سَاحِلِ الْخَلِيجِ مِمَّا يَلِي الْأَنْدَلُسَ، فَعَبَرَ الْمَجَازَ إِلَيْهِ، وَبَنَى عَلَيْهِ مَدِينَةً حَصِينَةً، وَأَقَامَ بِهَا عِدَّةَ شُهُورٍ، وَعَادَ إِلَى مَرَّاكُشَ. وَفِيهَا فِي الْمُحَرَّمِ، وَرَدَ نَيْسَابُورَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ تُرْكُمَانَ بِلَادِ فَارِسَ وَمَعَهُمْ أَغْنَامٌ كَثِيرَةٌ لِلتِّجَارَةِ، فَبَاعُوهَا، وَأَخَذُوا الثَّمَنَ، وَسَارُوا وَنَزَلُوا عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ طَابِسَ كَنِكْلِي، وَنَامُوا هُنَاكَ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ، وَكَبَسُوهُمْ لَيْلًا، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيهِمْ، فَقَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ، وَغَنِمَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ جَمِيعَ مَا مَعَهُمْ مِنْ مَالٍ وَعَرُوضٍ، وَعَادُوا إِلَى قِلَاعِهِمْ. وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَمْطَارُ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ، وَلَا سِيَّمَا خُرَاسَانَ، فَإِنَّ الْأَمْطَارَ تَوَالَتْ فِيهَا مِنَ الْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ إِلَى مُنْتَصَفِ صَفَرَ لَمْ تَنْقَطِعْ، وَلَا رَأَى النَّاسُ فِيهَا شَمْسًا. وَفِيهَا كَانَ بَيْنَ الْكَرَجِ وَبَيْنَ الْمَلِكِ صَلْتَقَ بْنِ عَلِيٍّ، صَاحِبِ أَرْزَنَ الرُّومِ، قِتَالٌ وَحَرْبٌ انْهَزَمَ فِيهِ صَلْتَقُ وَعَسْكَرُهُ، وَأُسِرَ هُوَ، وَكَانَتْ أُخْتُهُ شَاهْ بَانُوارَ قَدْ تَزَوَّجَهَا شَاهْ أَرْمَنْ سَكْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَكْمَانَ صَاحِبُ خِلَاطَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَلِكِ الْكَرَجِ هَدِيَّةً

جَلِيلَةَ الْمِقْدَارِ، وَطَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يُفَادِيَهَا بِأَخِيهَا، فَأَطْلَقَهُ، فَعَادَ إِلَى مُلْكِهِ. وَفِيهَا قَصَدَ صَاحِبُ صَيْدَا مِنَ الْفِرِنْجِ نُورَ الدِّينِ مَحْمُودٍ، صَاحِبَ الشَّامِ، مُلْتَجِئًا إِلَيْهِ، فَأَمَّنَهُ وَسَيَّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا يَمْنَعُهُ مِنَ الْفِرِنْجِ أَيْضًا، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ فِي الطَّرِيقِ كَمِينٌ لِلْفِرِنْجِ، فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَمَاعَةً وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ. فِيهَا مَلَكَ قُرَّا أَرْسِلَان، صَاحِبُ حِصْنِ كَيْفَا، قَلْعَةَ شَاتَانَ، وَكَانَتْ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَكْرَادِ يُقَالُ لَهُمُ الْجُونِيَّةُ، فَلَمَّا مَلَكَهَا خَرَّبَهَا وَأَضَافَ وِلَايَتَهَا إِلَى حِصْنِ طَالِبٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْكَمَالُ حَمْزَةُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ، كَانَ جَلِيلَ الْقَدْرِ أَيَّامَ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ، وَوَلِيَ الْمُقْتَفِي، وَبَنَى مَدْرَسَةً لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِالْقُرْبِ مِنْ دَارِهِ، ثُمَّ حَجَّ وَعَادَ وَقَدْ لَبِسَ الْفُوَطَ وَزِيَّ الصُّوفِيَّةِ وَتَرَكَ الْأَعْمَالَ، فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِيهِ: يَا عَضُدَ الْإِسْلَامِ يَا مَنْ سَمَتْ ... إِلَى الْعُلَا هِمَّتُهُ الْفَاخِرَهْ كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا، فَلَمْ تَرْضَهَا ... مُلْكًا فَأَخْلَدْتَ إِلَى الْآخِرَهْ وَبَقِيَ مُنْقَطِعًا فِي بَيْتِهِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَزَلْ مُحْتَرَمًا يَغْشَاهُ النَّاسُ كَافَّةً.

ثم دخلت سنة سبع وخمسين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 557 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ فَتْحِ الْمُؤَيَّدِ طُوسَ وَغَيْرَهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرَ، نَازَلَ الْمُؤَيَّدُ أَيْ أَبَهْ أَبَا بَكْرٍ جَانْدَارَ بِقَلْعَةِ وَسْكَرَهْ خُوَيَّ مِنْ طُوسَ وَكَانَ قَدْ تَحَصَّنَ بِهَا، وَهِيَ حَصِينَةٌ مَنِيعَةٌ لَا تُرَامُ، فَقَاتَلَهُ وَأَعَانَهُ أَهْلُ طَوْسَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ لِسُوءِ سِيرَتِهِ فِيهِمْ وَظُلْمِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو بَكْرٍ مُلَازَمَةَ الْمُؤَيَّدِ وَمُوَاصَلَةَ الْقِتَالِ عَلَيْهِ خَضَعَ وَذَلَّ وَاسْتَكَانَ، وَنَزَلَ مِنَ الْقَلْعَةِ بِالْأَمَانِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ مِنْهَا حَبَسَهُ الْمُؤَيَّدُ وَأَمَرَ بِتَقْيِيدِهِ. ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى كُرِسَتَانَ، وَصَاحِبُهَا أَبُو بَكْرٍ فَاخِرٌ، فَنَزَلَ مِنْ قَلْعَتِهِ، وَهِيَ مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ عَالٍ، وَصَارَ فِي طَاعَةِ الْمُؤَيَّدِ، وَدَانَ لَهُ وَوَافَقَهُ، وَسَيَّرَ جَيْشًا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا إِلَى أَسْفَرِايِّينَ، فَتَحَصَّنَ رَئِيسُهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَاجُّ بِالْقَلْعَةِ، وَكَانَ أَبُوهُ كَرِيمَ خُرَاسَانَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَكِنْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا بِئْسَ الْخَلَفُ، فَلَمَّا تَحَصَّنَ أَحَاطَ بِهِ الْعَسْكَرُ الْمُؤَيَّدِيُّ، وَاسْتَنْزَلُوهُ مِنَ الْحِصْنِ، وَحَمَلُوهُ مُقَيَّدًا إِلَى شَاذِيَاخَ وَحُبِسَ بِهَا، وَقِيلَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَمَلَكَ الْمُؤَيَّدُ أَيْضًا قُهُنْدُزَ نَيْسَابُورَ، وَاسْتَدَارَتْ مَمْلَكَةُ الْمُؤَيَّدِ حَوْلَ نَيْسَابُورَ وَعَادَتْ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلُ، إِلَّا أَنَّ أَهْلَهَا انْتَقَلُوا إِلَى شَاذِيَاخَ، وَخُرِّبَتِ الْمَدِينَةُ الْعَتِيقَةُ. وَسَيَّرَ الْمُؤَيَّدُ جَيْشًا إِلَى خَوَافَ، وَبِهَا عَسْكَرٌ مَعَ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ اسْمُهُ أَرْغَشُ، فَكَمَّنَ أَرَغْشُ جَمْعًا فِي تِلْكَ الْمَضَايِقِ وَالْجِبَالِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى عَسْكَرِ الْمُؤَيَّدِ، فَقَاتَلَهُمْ وَطَلَعَ

الْكَمِينُ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْمُؤَيَّدِ وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمْعٌ، وَعَادَ الْبَاقُونَ إِلَى الْمُؤَيَّدِ بِنَيْسَابُورَ. وَسَيَّرَ جَيْشًا إِلَى بُوشَنْجِ هَرَاةَ، وَهِيَ فِي طَاعَةِ الْمَلِكِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْغُورِيِّ، فَحَصَرُوهَا، وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَيْهَا، وَدَامَ الْقِتَالُ وَالزَّحْفُ، فَسَيَّرَ الْمَلِكُ مُحَمَّدُ الْغُورِيُّ جَيْشًا إِلَيْهَا ; لِيَمْنَعَ عَنْهَا، فَلَمَّا قَارَبُوا هَرَاةَ فَارَقَهَا الْعَسْكَرُ الَّذِينَ يَحْصُرُهَا، وَعَادُوا عَنْهَا وَصَفَتْ تِلْكَ الْوِلَايَةُ لِلْغُورِيِّ. ذِكْرُ أَخْذِ ابْنِ مَرْدَنِيشَ غَرْنَاطَةَ مِنْ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَعَوْدِهَا إِلَيْهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ أَهْلُ غَرْنَاطَةَ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَهِيَ لِعَبْدِ الْمُؤْمِنِ، إِلَى الْأَمِيرِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَمَشْكَ صِهْرِ ابْنِ مَرْدَنِيشَ. فَاسْتَدْعُوهُ إِلَيْهِمْ ; لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ الْبَلَدَ، وَكَانَ قَدْ وَحَّدَ، وَصَارَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَفِي طَاعَتِهِ، وَمِمَّنْ يُحَرِّضُهُ عَلَى قَصْدِ ابْنِ مَرْدَنِيشَ. فَفَارَقَ طَاعَةَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَعَادَ إِلَى مُوَافَقَةِ ابْنِ مَرْدَنِيشَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ رُسُلُ أَهْلِ غَرْنَاطَةَ سَارَ مَعَهُمْ إِلَيْهَا، فَدَخَلَهَا وَبِهَا جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَامْتَنَعُوا بِحِصْنِهَا، فَبَلَغَ الْخَبَرُ أَبَا سَعِيدٍ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ بِمَدِينَةِ مَالِقَةَ، فَجَمَعَ الْجَيْشَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ وَتَوَجَّهَ إِلَى غَرْنَاطَةَ لِنُصْرَةِ مَنْ فِيهَا مِنْ أَصْحَابِهِمْ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَمَشْكَ، فَاسْتَنْجَدَ ابْنُ مَرْدَنِيشَ، مَلِكَ الْبِلَادِ بِشَرْقِ الْأَنْدَلُسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَلْفَيْ فَارِسٍ مِنْ أَنْجَادِ أَصْحَابِهِ وَمِنَ الْفِرِنْجِ الَّذِينَ جَنَّدَهُمْ مَعَهُ، فَاجْتَمَعُوا بِضَوَاحِي غَرْنَاطَةَ، فَالْتَقَوْا هُمْ وَمَنْ بِغَرْنَاطَةَ مِنْ عَسْكَرِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ قَبْلَ وُصُولِ أَبِي سَعِيدٍ إِلَيْهِمْ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَقَدِمَ أَبُو سَعِيدٍ، وَاقْتَتَلُوا أَيْضًا، فَانْهَزَمَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَثَبَتَ مَعَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْفُرْسَانِ الْمَشْهُورِينَ، وَالرَّجَّالَةِ الْأَجْلَادِ، حَتَّى قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ وَانْهَزَمَ حِينَئِذٍ أَبُو سَعِيدٍ وَلَحِقَ بِمَالَقَةَ. وَسَمِعَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ الْخَبَرَ، وَكَانَ قَدْ سَارَ إِلَى مَدِينَةِ سَلَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ فِي الْحَالِ ابْنَهُ أَبَا يَعْقُوبَ يُوسُفَ فِي عِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، فِيهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِ الْمُوَحِّدِينَ، فَجَدُّوا الْمَسِيرَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ مَرْدَنِيشَ، فَسَارَ بِنَفْسِهِ وَجَيْشِهِ إِلَى غَرْنَاطَةَ لِيُعِينَ ابْنَ هَمَشْكَ، فَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ بِغَرْنَاطَةَ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَنَزَلَ ابْنُ مَرْدَنِيشَ فِي الشَّرِيعَةِ بِظَاهِرِهَا، وَنَزَلَ الْعَسْكَرُ الَّذِي كَانَ أَمَدَّ بِهِ ابْنَ هَمَشْكَ أَوَّلًا، وَهُمْ أَلْفَا فَارِسٍ، بِظَاهِرِ الْقَلْعَةِ

الْحَمْرَاءِ، وَنَزَلَ ابْنُ هَمَشْكَ بِبَاطِنِ الْقَلْعَةِ الْحَمْرَاءِ فَيْمَنْ مَعَهُ، وَوَصَلَ عَسْكَرُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ إِلَى جَبَلٍ قَرِيبٍ مِنْ غَرْنَاطَةَ، فَأَقَامُوا فِي سَفْحِهِ أَيَّامًا ثُمَّ سَيَّرُوا أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ، فَبَيَّتُوا الْعَسْكَرَ الَّذِي بِظَاهِرِ الْقَلْعَةِ الْحَمْرَاءِ، وَقَاتَلُوهُمْ مِنْ جِهَاتِهِمْ، فَمَا لَحِقُوا يَرْكَبُونَ، فَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ. وَأَقْبَلَ عَسْكَرُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِجُمْلَتِهِ، فَنَزَلُوا بِضَوَاحِي غَرْنَاطَةَ، فَعَلِمَ ابْنُ مَرْدَنِيشَ وَابْنُ هَمَشْكَ أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِمْ، فَفَرُّوا فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَحِقُوا بِبِلَادِهِمْ، وَاسْتَوْلَى الْمُوَحِّدُونَ عَلَى غَرْنَاطَةَ فِي بَاقِي السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَعَادَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مِنْ مَدِينَةِ سَلَا إِلَى مَرَّاكُشَ. ذِكْرُ حَصْرِ نُورِ الدِّينِ حَارِمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي بْنِ آقَنَسْقَرَ، صَاحِبُ الشَّامِ، الْعَسَاكِرَ بِحَلَبَ، وَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ حَارِمَ، وَهِيَ لِلْفِرِنْجِ غَرْبِيَّ حَلَبَ، فَحَصَرَهَا وَجَدَّ فِي قِتَالِهَا، فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ بِحَصَانَتِهَا، وَكَثْرَةِ مَنْ بِهَا مِنْ فُرْسَانِ الْفِرِنْجِ وَرَجَّالَتِهِمْ وَشُجْعَانِهِمْ، فَلَمَّا عَلِمَ الْفِرِنْجُ ذَلِكَ جَمَعُوا فَارِسَهُمْ وَرَاجِلَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ، وَحَشَدُوا، وَاسْتَعَدُّوا، وَسَارُوا نَحْوَهُ ; لِيُرَحِّلُوهُ عَنْهَا، فَلَمَّا قَارَبُوهُ طَلَبَ مِنْهُمُ الْمُصَافَّ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ إِلَيْهِ، وَرَاسَلُوهُ، وَتَلَطَّفُوا الْحَالَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَخْذَ الْحِصْنِ، وَلَا يُجِيبُونَهُ إِلَى الْمُصَافِّ، عَادَ إِلَى بِلَادِهِ. وَمِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ أُسَامَةُ بْنُ مُرْشِدِ بْنِ مُنْقِدِ الْكِنَانِيُّ، وَكَانَ مِنَ الشَّجَاعَةِ فِي الْغَايَةِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى حَلَبَ دَخَلَ إِلَى مَسْجِدِ شِيزَرَ، وَكَانَ قَدْ دَخَلَهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي سَائِرًا إِلَى الْحَجِّ، فَلَمَّا دَخَلَهُ الْآنَ كَتَبَ عَلَى حَائِطِهِ: لَكَ الْحَمْدُ يَا مَوْلَايَ كَمْ لَكَ مِنَّةً ، عَلَيَّ وَفَضْلًا لَا يُحِيطُ بِهِ شُكْرِي

نَزَلْتُ بِهَذَا الْمَسْجِدِ الْعَامَ قَافِلًا ... مِنَ الْغَزْوِ مَوْفُورَ النَّصِيبِ مِنَ الْأَجْرِ وَمِنْهُ رَحَلْتُ الْعِيسَ فِي عَامِيَ الَّذِي ... مَضَى نَحْوَ بَيْتِ اللَّهِ وَالرُّكْنِ وَالْحِجْرِ فَأَدَّيْتُ مَفْرُوضِي وَأَسْقَطْتُ ثِقْلَ مَا ... تَحَمَّلْتُ مِنْ وِزْرِ الشَّبِيبَةِ عَنْ ظَهْرِي ذِكْرُ مُلْكِ الْخَلِيفَةِ قَلْعَةَ الْمَاهِكِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبَ، مَلَكَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَنْجِدُ بِاللَّهِ قَلْعَةَ الْمَاهِكِيِّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سُنْقُرَ الْهَمَذَانِيَّ، صَاحِبَهَا، سَلَّمَهَا إِلَى أَحَدِ مَمَالِيكِهِ وَمَضَى إِلَى هَمَذَانَ، فَضَعُفَ هَذَا الْمَمْلُوكُ عَنْ مُقَاوَمَةِ مَنْ حَوْلَهَا مِنَ التُّرْكُمَانِ وَالْأَكْرَادِ، فَأُشِيرَ عَلَيْهِ بِبَيْعِهَا مِنَ الْخَلِيفَةِ، فَرَاسَلَ فِي ذَلِكَ، فَاسْتَقَرَّتْ [عَلَى] خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ، وَعِدَّةِ مِنَ الْقُرَى، فَسَلَّمَهَا وَتَسَلَّمَ مَا اسْتَقَرَّ لَهُ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ. وَهَذِهِ الْقَلْعَةُ لَمْ تَزَلْ مِنْ أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ بِأَيْدِي التُّرْكُمَانِ وَالْأَكْرَادِ وَإِلَى الْآنِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَرَجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، اجْتَمَعَتِ الْكَرَجُ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ يَبْلُغُونَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَدَخَلُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ، وَقَصَدُوا مَدِينَةَ دُوِينَ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ، فَمَلَكُوهَا وَنَهَبُوهَا، وَقَتَلُوا مَنْ أَهْلِهَا وَسَوَادِهَا نَحْوَ عَشَرَةِ آلَافِ قَتِيلٍ، وَأَخَذُوا النِّسَاءَ سَبَايَا، وَأَسَرُوا كَثِيرًا، وَأَعْرُوا النِّسَاءَ وَقَادُوهُنَّ حُفَاةً عُرَاةً، وَأَحْرَقُوا الْجَوَامِعَ وَالْمَسَاجِدَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى بِلَادِهِمْ أَنْكَرَ نِسَاءُ الْكَرَجِ مَا فَعَلُوا بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقُلْنَ لَهُمْ: قَدْ أَحْوَجْتُمُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنْ يَفْعَلُوا بِنَا مِثْلَ مَا فَعَلْتُمْ بِنِسَائِهِمْ، وَكَسَوْنَهُنَّ. وَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى شَمْسِ الدِّينِ إِيلْدِكْزَ، صَاحِبِ أَذْرَبِيجَانَ وَالْجَبَلِ وَأَصْفَهَانَ، جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَحَشَدَهَا، وَانْضَافَ إِلَيْهِ شَاهْ أَرْمَنْ بْنُ سَكْمَانَ الْقُطْبِيُّ، صَاحِبُ خِلَاطَ، وَابْنُ آقَنَسْقَرَ، صَاحِبُ مَرَاغَةَ وَغَيْرِهَا، فَاجْتَمَعُوا فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ يَزِيدُونَ عَلَى خَمْسِينَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَسَارُوا إِلَى بِلَادِ الْكَرَجِ فِي صَفَرَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] وَنَهَبُوهَا،

وَسَبَوْا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، وَأَسَرُوا الرِّجَالَ، وَلَقِيَهُمُ الْكَرَجُ، وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ صَبَرَ فِيهِ الْفَرِيقَانِ، وَدَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ، وَكَانَ الظَّفَرُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَانْهَزَمَ الْكَرَجُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ وَأُسِرَ كَذَلِكَ. وَكَانَ سَبَبُ الْهَزِيمَةِ أَنَّ بَعْضَ الْكَرَجِ حَضَرَ عِنْدَ إِيلْدِكْزَ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: تُعْطِينِي عَسْكَرًا حَتَّى أَسِيرَ بِهِمْ فِي طَرِيقٍ أَعْرِفُهَا، وَأَجِيءُ إِلَى الْكَرَجِ مِنْ وَرَائِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ! فَاسْتَوْثَقَ مِنْهُ، وَسَيَّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا، وَوَاعَدَهُ يَوْمًا يَصِلُ فِيهِ إِلَى الْكَرَجِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ الْكَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي الْقِتَالِ وَصَلَ ذَلِكَ الْكَرَجِيُّ، الَّذِي أَسْلَمَ وَمَعَهُ الْعَسْكَرُ، وَكَبَّرُوا وَحَمَلُوا عَلَى الْكَرَجِ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَانْهَزَمُوا، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ وَالْأَسْرُ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِحْصَاءِ لِكَثْرَتِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُتَيَقِّنِينَ الظَّفَرَ لِكَثْرَتِهِمْ، فَخَيَّبَ اللَّهُ ظَنَّهُمْ، وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، وَعَادَ الْمُسْلِمُونَ مَنْصُورِينَ قَاهِرِينَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ الْحُجَّاجُ إِلَى مِنًى، وَلَمْ يَتِمَّ الْحَجُّ لِأَكْثَرِ النَّاسِ لِصَدِّهِمْ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، فَمَنْ دَخَلَ يَوْمَ النَّحْرِ مَكَّةَ وَطَافَ وَسَعَى كَمُلَ حَجُّهُ، وَمَنْ تَأَخَّرَ عَنْ ذَلِكَ مُنِعَ دُخُولَ مَكَّةَ لِفِتْنَةٍ جَرَتْ بَيْنَ أَمِيرِ الْحَاجِّ وَأَمِيرِ مَكَّةَ. كَانَ سَبَبُهَا أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ عَبِيدِ مَكَّةَ أَفْسَدُوا فِي الْحَاجِّ بِمِنًى، فَنَفَرَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِ أَمِيرِ الْحَاجِّ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَرَجَعَ مَنْ سَلِمَ إِلَى مَكَّةَ، وَجَمَعُوا جَمْعًا وَأَغَارُوا عَلَى جِمَالِ الْحَاجِّ، وَأَخَذُوا مِنْهَا قَرِيبًا مِنْ أَلْفِ جَمَلٍ، فَنَادَى أَمِيرُ الْحَاجِّ فِي جُنْدِهِ، فَرَكِبُوا بِسِلَاحِهِمْ، وَوَقَعَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَقُتِلَ جَمَاعَةٌ،، وَنُهِبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَاجِّ وَأَهْلِ مَكَّةَ، فَرَجَعَ أَمِيرُ الْحَاجِّ وَلَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ، وَلَمْ يَقُمْ بِالزَّاهِرِ غَيْرَ يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَعَادَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ رَجَّالَةً لِقِلَّةِ الْجِمَالِ، وَلَقُوا شِدَّةً.

وَمِمَّنْ حَجَّ هَذِهِ السَّنَةَ جَدَّتُنَا أُمُّ أَبِينَا، فَفَاتَهَا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ، فَاسْتُفْتِيَ لَهَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْبَرَرِيُّ، فَقَالَ: تَدُومُ عَلَى مَا بَقِيَ عَلَيْهَا مِنْ إِحْرَامِهَا، وَإِنْ أَحَبَّتْ تَفْدِي وَتَحِلُّ مِنْ إِحْرَامِهَا إِلَى قَابِلٍ، وَتَعُودُ إِلَى مَكَّةَ، فَتَطُوفُ وَتَسْعَى، فَتُكْمِلُ الْحَجَّةَ الْأُولَى، ثُمَّ تُحْرِمُ إِحْرَامًا ثَانِيًا، وَتَعُودُ إِلَى عَرَفَاتٍ، فَتَقِفُ وَتَرْمِيَ الْجِمَارَ، وَتَطُوفُ وَتَسْعَى، فَتَصِيرُ لَهَا حَجَّةً ثَانِيَةً، فَبَقِيَتْ عَلَى إِحْرَامِهَا إِلَى قَابِلٍ، وَحَجَّتْ وَفَعَلَتْ كَمَا قَالَ، فَتَمَّ حَجُّهَا الْأَوَّلُ وَالثَّانِي. وَفِيهَا نَزَلَ بِخُرَاسَانَ بَرْدٌ كَثِيرٌ عَظِيمُ الْمِقْدَارِ، أَوَاخِرَ نِيسَانَ، وَكَانَ أَكْثَرُهُ بِجُوَيْنِ وَنَيْسَابُورَ وَمَا وَالَاهُمَا، فَأَهْلَكَ الْغَلَّاتِ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُ مَطَرٌ كَثِيرٌ دَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَقَعَ الْحَرِيقُ بِبَغْدَادَ، احْتَرَقَ سُوقُ الطُّيُورِيِّينَ وَالدُّورُ الَّتِي تَلِيهِ مُقَابِلَهُ إِلَى سُوقِ الصِّفْرِ الْجَدِيدِ، وَالْخَانُ الَّذِي فِي الرَّحْبَةِ، وَدَكَاكِينُ الْبُزُورِيِّينَ وَغَيْرُهَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْكَيَا الصَّبَاحِيُّ، صَاحِبُ أَلَمُوتَ، مُقَدَّمُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَقَامَ ابْنُهُ مَقَامَهُ، فَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ، وَأَعَادَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ الصَّلَوَاتِ وَصِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَرْسَلُوا إِلَى (قَزْوِينَ يَطْلُبُونَ مَنْ يُصَلِّي) بِهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ حُدُودَ الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ. وَفِيهَا، فِي رَجَبَ، دَرَسَ شَرَفُ الدِّينِ يُوسُفُ الدِّمَشْقِيُّ فِي الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ شُجَاعٌ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مُدَرِّسًا بِمَدْرَسَةِ أَبِي حَنِيفَةَ،

وَكَانَ مَوْتُهُ فِي ذِيِ الْقَعْدَةِ. وَفِيهَا، تُوُفِّيَ صَدَقَةُ بْنُ وَزِيرٍ الْوَاعِظُ. وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ الشَّيْخُ عَدِيُّ بْنُ مُسَافِرٍ الزَّاهِدُ الْمُقِيمُ بِبَلَدِ الْهَكَّارِيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ، وَهُوَ مِنَ الشَّامِ، مِنْ بَلَدِ بَعْلَبَكَّ، فَانْتَقَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَتَبِعَهُ أَهْلُ السَّوَادِ وَالْجِبَالِ بِتِلْكَ النَّوَاحِي وَأَطَاعُوهُ، وَحَسَّنُوا الظَّنَّ فِيهِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ جِدًّا.

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 558 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ وِزَارَةِ شَاوُرَ لِلْعَاضِدِ بِمِصْرَ ثُمَّ وِزَارَةِ الضِّرْغَامِ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرَ، وُزِّرَ شَاوُرُ لِلْعَاضِدِ لِدِينِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ [صَاحِبِ مِصْرَ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِ وَوِزَارَتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَخْدِمُ الصَّالِحَ] بْنَ رُزَّيْكَ وَلَزِمَهُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الصَّالِحُ وَوَلَّاهُ الصَّعِيدَ، وَهُوَ أَكْبَرُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْوِزَارَةِ، فَلَمَّا وَلِيَ الصَّعِيدَ ظَهَرَتْ مِنْهُ كِفَايَةٌ عَظِيمَةٌ وَتَقَدُّمٌ زَائِدٌ، وَاسْتَمَالَ الرَّعِيَّةَ وَالْمُقَدَّمِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، فَعَسُرَ أَمْرُهُ عَلَى الصَّالِحِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ عَزْلُهُ، فَاسْتَدَامَ اسْتِعْمَالُهُ ; لِئَلَّا يَخْرُجَ عَنْ طَاعَتِهِ، فَلَمَّا جُرِحَ الصَّالِحُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ وَصِيَّتِهِ لِوَلَدِهِ الْعَادِلِ: إِنَّكَ لَا تُغَيِّرْ عَلَى شَاوُرَ، فَإِنَّنِي أَنَا أَقْوَى مِنْكَ وَقَدْ نَدِمْتُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَلَمْ يُمْكِنِّي عَزْلُهُ، فَلَا تُغَيِّرُوا مَا بِهِ فَيَكُونَ لَكُمْ مِنْهُ مَا تَكْرَهُونَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ الصَّالِحُ مِنْ جِرَاحَتِهِ وَوَلِيَ ابْنُهُ الْعَادِلُ الْوِزَارَةَ حَسَّنَ لَهُ أَهْلُهُ عَزْلَ شَاوُرَ وَاسْتِعْمَالَ بَعْضِهِمْ مَكَانَهُ، وَخَوَّفُوهُ مِنْهُ إِنْ أَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْعَزْلِ، فَجَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً وَسَارَ إِلَى الْقَاهِرَةِ بِهِمْ، فَهَرَبَ مِنْهُ الْعَادِلُ ابْنُ الصَّالِحِ بْنِ رُزَّيْكَ، فَأُخِذَ وَقُتِلَ، فَكَانَتْ مُدَّةَ وِزَارَتِهِ وَوِزَارَةِ أَبِيهِ قَبْلَهُ تِسْعَ سِنِينَ وَشَهْرًا وَأَيَّامًا، وَصَارَ شَاوُرُ وَزِيرًا، وَتُلُقِّبَ بِأَمِيرِ الْجُيُوشِ، وَأَخَذَ أَمْوَالَ بَنِي رُزَّيْكَ وَوَدَائِعَهُمْ وَذَخَائِرَهُمْ، وَأَخَذَ مِنْهُ (أَيْضًا طَيٌّ وَالْكَامِلُ ابْنَا شَاوُرَ) شَيْئًا كَثِيرًا، وَتَفَرَّقَ كَثِيرٌ مِنْهَا، وَجُحِدَ كَثِيرٌ، وَظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ عِنْدَ انْتِقَالِ الدَّوْلَةِ عَنْ شَاوُرَ وَالْمِصْرِيِّينَ إِلَى الْأَتْرَاكِ. ثُمَّ إِنَّ الضِّرْغَامَ جَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَنَازَعَ شَاوُرَ فِي الْوِزَارَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ،

وَظَهَرَ أَمْرُهُ، وَانْهَزَمَ شَاوُرُ مِنْهُ إِلَى الشَّامِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَصَارَ ضِرْغَامُ وَزِيرًا. وَكَانَ هَذِهِ السَّنَةَ ثَلَاثَةُ وُزَرَاءَ: الْعَادِلُ بْنُ رُزَّيْكَ، وَشَاوُرُ، وَضِرْغَامُ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ ضِرْغَامُ مِنَ الْوِزَارَةِ قَتَلَ كَثِيرًا مِنَ الْأُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ لِتَخْلُوا لَهُ الْبِلَادُ مِنْ مُنَازِعٍ، فَضَعُفَتِ الدَّوْلَةُ بِهَذَا حَتَّى خَرَجَتِ الْبِلَادُ عَنْ أَيْدِيهِمْ. ذِكْرُ وَفَاةِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ يُوسُفَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَلِيٍّ، صَاحِبُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَإِفْرِيقِيَّةَ، وَالْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ قَدْ سَارَ مِنْ مَرَّاكُشَ إِلَى سَلَا، فَمَرِضَ بِهَا وَمَاتَ. وَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ جَمَعَ شُيُوخَ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ جَرَّبْتُ ابْنِي مُحَمَّدًا. فَلَمْ أَرَهُ يَصْلُحُ لِهَذَا الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لَهُ ابْنِي يُوسُفُ، وَهُوَ أَوْلَى بِهَا، فَقَدِّمُوهُ لَهَا، وَوَصَّاهُمْ بِهِ، وَبَايَعُوهُ وَدُعِيَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَتَمُوا مَوْتَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَحُمِلَ مِنْ سَلَا فِي مِحَفَّةٍ بِصُورَةِ أَنَّهُ مَرِيضٌ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى مَرَّاكُشَ. وَكَانَ ابْنُهُ أَبُو حَفْصٍ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ حَاجِبًا لِأَبِيهِ، فَبَقِيَ مَعَ أَخِيهِ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ مَعَ أَبِيهِ يَخْرُجُ فَيَقُولُ لِلنَّاسِ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَ بِكَذَا، وَيُوسُفُ [لَمْ] يَقْعُدْ مَقْعَدَ أَبِيهِ إِلَى أَنْ كَمُلَتِ الْمُبَايَعَةُ لَهُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَاسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ الْأُمُورِ لَهُ، ثُمَّ أَظْهَرَ مَوْتَ أَبِيهِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَشُهُورًا، وَكَانَ عَاقِلًا، حَازِمًا، سَدِيدَ الرَّأْيِ، حَسَنَ السِّيَاسَةِ لِلْأُمُورِ، كَثِيرَ الْبَذْلِ لِلْأَمْوَالِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ السَّفْكِ لِدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الذَّنَبِ الصَّغِيرِ.

وَكَانَ يُعَظِّمُ أَمْرَ الدِّينِ وَيُقَوِّيهِ، وَيُلْزِمُ النَّاسَ فِي سَائِرِ بِلَادِهِ بِالصَّلَاةِ، وَمَنْ رُئِيَ وَقْتَ الصَّلَاةِ غَيْرَ مُصَلٍّ قُتِلَ، وَجَمَعَ النَّاسَ بِالْغَرْبِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْفُرُوعِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي الْأُصُولِ، وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى مَجْلِسِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، الْمَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، وَالْكَلَامُ مَعَهُمْ وَلَهُمْ. ذِكْرُ مُلْكِ الْمُؤَيَّدِ أَعْمَالَ قُومَسَ وَالْخُطْبَةِ لِلسُّلْطَانِ أَرْسِلَان بِخُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْمُؤَيَّدُ أَيْ أَبَهْ، صَاحِبُ نَيْسَابُورَ، إِلَى بِلَادِ قُومَسَ، فَمَلَكَ بَسْطَامَ وَدَامِغَانَ، وَاسْتَنَابَ بِقُومَسَ مَمْلُوكَهُ تِنْكِزَ، فَأَقَامَ تِنْكِزُ بِمَدِينَةِ بَسْطَامَ، فَجَرَى بَيْنَ تِنْكِزَ وَبَيْنَ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ اخْتِلَافٌ أَدَّى إِلَى الْحَرْبِ، فَجَمَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَسْكَرَهُ، وَالْتَقَوْا أَوَائِلَ ذِي الْحِجَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ مَازَنْدَرَانْ، وَأُخِذَتْ أَسَلَابُهُمْ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ. وَلَمَّا مَلَكَ الْمُؤَيَّدُ بِلَادَ قُومَسَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ أَرْسِلَان بْنُ طُغْرُلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ خِلَعًا نَفِيسَةً، وَأَلْوِيَةً مَعْقُودَةً، وَهَدِيَّةً جَلِيلَةً، وَأَمَرَهُ أَنْ يَهْتَمَّ بِاسْتِيعَابِ بِلَادِ خُرَاسَانَ وَيَتَوَلَّى ذَلِكَ أَجْمَعَ، وَأَنْ يَخْطُبَ لَهُ، فَلَبِسَ الْمُؤَيَّدُ الْخِلَعَ، فَخَطَبَ لَهُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي هِيَ بِيَدِهِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي هَذَا أَتَابِكَ شَمْسَ الدِّينِ إِيلْدِكْزَ، فَإِنَّهُ كَانَ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ فِي مَمْلَكَةِ أَرْسِلَان، وَلَيْسَ لِأَرْسِلَانْ غَيْرُ الِاسْمِ، وَكَانَ بَيْنَ إِيلْدِكْزَ وَبَيْنَ الْمُؤَيَّدِ مَوَدَّةٌ ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ قَتْلِ الْمُؤَيَّدِ، فَلَمَّا أَطَاعَ الْمُؤَيَّدُ السُّلْطَانَ أَرْسِلَان خَطَبَ لَهُ بِبِلَادِهِ، وَهِيَ بِلَادُ قُومَسَ، وَنَيْسَابُورَ، وَطُوسَ، وَأَعْمَالُ نَيْسَابُورَ جَمِيعُهَا، وَمِنْ نَسَا إِلَى طَبَسَ كَنْكَلِي، وَكَانَ يَخْطُبُ لِنَفْسِهِ بَعْدَ أَرْسِلَان، وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ فِي جُرْجَانَ وَدِهِسْتَانَ لِخُوَارَزْم شَاهْ أَيْل أَرْسِلَان بْنِ أَتْسِزَ، وَبَعْدَهُ لِلْأَمِيرِ إِيثَاقَ، وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ فِي مَرْوَ وَبَلْخَ وَهَرَاةَ وَسَرَخْسَ، وَهَذِهِ الْبِلَادُ بِيَدِ الْغُزِّ، إِلَّا هَرَاةَ فَإِنَّهَا كَانَتْ بِيَدِ الْأَمِيرِ

إِيتِكِينَ، وَهُوَ مُسَالِمٌ لِلْغُزِّ، فَكَانُوا يَخْطُبُونَ لِلسُّلْطَانِ سَنْجَرَ، فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلسُّلْطَانِ السَّعِيدِ الْمُبَارَكِ سَنْجَرَ، وَبَعْدَهُ لِلْأَمِيرِ الَّذِي هُوَ الْحَاكِمُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ. ذِكْرُ قَتْلِ الْغُزِّ مَلِكَ الْغُورِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبَ، قُتِلَ سَيْفُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْغُورِيُّ، مَلِكُ الْغُورِ، قَتَلَهُ الْغُزُّ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَحَشَدَ فَأَكْثَرَ، وَسَارَ مِنْ جِبَالِ الْغُورِ يُرِيدُ الْغُزَّ وَهُمْ بِبَلْخَ، وَاجْتَمَعُوا، وَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ مَلِكَ الْغُورِ خَرَجَ مِنْ مُعَسْكَرِهِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ خَاصَّتِهِ، جَرِيدَةً، فَسَمِعَ بِهِ أُمَرَاءُ الْغُزِّ، فَسَارُوا يَطْلُبُونَهُ مُجِدِّينَ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، فَأَوْقَعُوا بِهِ، فَقَاتَلَهُمْ أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ. فَقُتِلَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، وَأُسِرَ طَائِفَةٌ، وَهَرَبَتْ طَائِفَةٌ، فَلَحِقُوا بِمُعَسْكَرِهِمْ وَعَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ مُنْهَزِمِينَ لَا يَقِفُ الْأَبَ عَلَى ابْنِهِ وَلَا الْأَخُ عَلَى أَخِيهِ، وَتَرَكُوا كُلَّ مَا مَعَهُمْ بِحَالِهِ وَنَجَوْا بِنُفُوسِهِمْ. فَكَانَ عُمُرُ مَلِكِ الْغُورِ لَمَّا قُتِلَ نَحْوَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ، فَمِنْ عَدْلِهِ وَخَوْفِهِ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ أَنَّهُ حَاصَرَ أَهْلَ هَرَاةَ، فَلَمَّا مَلَكَهَا أَرَادَ عَسْكَرُهُ أَنْ يَنْهَبُوهَا، فَنَزَلَ عَلَى دَرْبِ الْمَدِينَةِ، وَأَحْضَرَ الْأَمْوَالَ وَالثِّيَابَ، فَأَعْطَى جَمِيعَ عَسْكَرِهِ مِنْهَا، وَقَالَ: هَذَا خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَنْهَبُوا أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ وَتُسْخِطُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنَّ الْمُلْكَ يَبْقَى عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يَبْقَى عَلَى الظُّلْمِ، وَلَمَّا قُتِلَ عَادَ الْغُزُّ إِلَى بَلْخَ وَمَرْوَ وَقَدْ غَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْعَسْكَرِ الْغَوْرِيِّ لِأَنَّ أَهْلَهُ تَرَكُوهُ وَنَجَوْا. ذِكْرُ انْهِزَامِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ مَنِ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْهَزَمَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي مَنَ الْفِرِنْجِ، تَحْتَ حِصْنِ الْأَكْرَادِ، وَهِيَ الْوَقْعَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْبُقَيْعَةِ، وَسَبَبُهَا أَنَّ نُورَ الدِّينِ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَدَخَلَ بِلَادَ الْفِرِنْجِ وَنَزَلَ فِي الْبُقَيْعَةِ تَحْتَ حِصْنِ الْأَكْرَادِ، مُحَاصِرًا لَهُ وَعَازِمًا عَلَى قَصْدِ طَرَابُلُسَ

وَمُحَاصَرَتِهَا، فَبَيْنَمَا النَّاسُ يَوْمًا فِي خِيَامِهِمْ، وَسَطَ النَّهَارِ، لَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا ظُهُورُ صُلْبَانِ الْفِرِنْجِ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ الَّذِي عَلَيْهِ حِصْنُ الْأَكْرَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ اجْتَمَعُوا وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى كَبْسَةِ الْمُسْلِمِينَ نَهَارًا، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ آمِنِينَ، فَرَكِبُوا مِنْ وَقْتِهِمْ، وَلَمْ يَتَوَقَّفُوا حَتَّى يَجْمَعُوا عَسَاكِرَهُمْ، وَسَارُوا مُجِدِّينَ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ إِلَّا وَقَدْ قَرُبُوا مِنْهُمْ، فَأَرَادُوا مَنْعَهُمْ، فَلَمْ يُطِيقُوا ذَلِكَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى نُورِ الدِّينِ يُعَرِّفُونَهُ الْحَالَ، فَرَهِقَهُمُ الْفِرِنْجُ بِالْحَمْلَةِ، فَلَمْ يَثْبُتِ الْمُسْلِمُونَ، وَعَادُوا يَطْلُبُونَ مُعَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْفِرِنْجُ فِي ظُهُورِهِمْ، فَوَصَلُوا مَعًا إِلَى الْعَسْكَرِ النُّورِيِّ، فَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ، وَأَخْذِ السِّلَاحِ إِلَّا وَقَدْ خَالَطُوهُمْ، فَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ. وَكَانَ أَشَدُّهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الدُّوقُسَ الرُّومِيَّ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ إِلَى السَّاحِلِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الرُّومِ، فَقَاتَلُوا مُحْتَسِبِينَ فِي زَعْمِهِمْ، فَلَمْ يُبْقُوا عَلَى أَحَدٍ، وَقَصَدُوا خَيْمَةَ نُورِ الدِّينِ وَقَدْ رَكِبَ فِيهَا فَرَسَهُ وَنَجَا بِنَفْسِهِ، وَلِسُرْعَتِهِ رَكِبَ الْفَرَسَ وَالشَّبَحَةُ فِي رِجْلِهِ، فَنَزَلَ إِنْسَانٌ كُرْدِيٌّ قَطَعَهَا، فَنَجَا نُورُ الدِّينِ، وَقُتِلَ الْكُرْدِيُّ، فَأَحْسَنَ نُورُ الدِّينِ إِلَى مُخَلَّفِيهِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِمُ الْوُقُوفَ. وَنَزَلَ نُورُ الدِّينِ عَلَى بُحَيْرَةِ قَدَسَ بِالْقُرْبِ مِنْ حِمْصَ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْرَكَةِ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، وَتَلَاحَقَ بِهِ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ مِنَ الرَّأْيِ أَنْ تُقِيمَ هَا هُنَا، فَإِنَّ الْفِرِنْجَ رُبَّمَا حَمَلَهُمُ الطَّمَعُ عَلَى الْمَجِيءِ إِلَيْنَا، فَنُؤْخَذُ وَنَحْنُ عَلَى هَذَا الْحَالِ، فَوَبَّخَهُ وَأَسْكَتَهُ، وَقَالَ: إِذَا كَانَ مَعِي أَلْفُ فَارِسٍ لَقِيتُهُمْ وَلَا أُبَالِي بِهِمْ، وَوَاللَّهِ لَا أَسْتَظِلُّ بِسَقْفٍ حَتَّى آخُذَ بِثَأْرِي وَثَأْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حَلَبَ وَدِمَشْقَ، وَأَحْضَرَ الْأَمْوَالَ وَالثِّيَابَ وَالْخِيَامَ وَالسِّلَاحَ وَالْخَيْلَ، فَأَعْطَى اللِّبَاسَ عِوَضَ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ جَمِيعُهُ بِقَوْلِهِمْ، فَعَادَ الْعَسْكَرُ كَأَنْ لَمْ تُصِبْهُ هَزِيمَةٌ، وَكُلُّ مَنْ قُتِلَ أَعْطَى أَقْطَاعَهُ لِأَوْلَادِهِ. وَأَمَّا الْفِرِنْجُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَازِمِينَ عَلَى قَصْدِ حِمْصَ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ نُزُولُ نُورِ الدِّينِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ قَالُوا: لَمْ يَفْعَلْ هَذَا إِلَّا وَعِنْدَهُ قُوَّةٌ يَمْنَعُنَا بِهَا. وَلَمَّا رَأَى أَصْحَابُ نُورِ الدِّينِ كَثْرَةَ خَرْجِهِ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ لَكَ فِي بِلَادِكَ

إِدْرَارَاتٍ وَصَدَقَاتٍ كَثِيرَةً عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْقُرَّاءِ، وَغَيْرِهِمْ، فَلَوِ اسْتَعَنْتَ [بِهَا] فِي هَذَا الْوَقْتِ لَكَانَ أَصْلَحَ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَا أَرْجُو النَّصْرَ إِلَّا بِأُولَئِكَ، فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ، كَيْفَ أَقْطَعُ صِلَاتِ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَ عَنِّي، وَأَنَا نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِي، بِسِهَامٍ لَا تُخْطِئُ، وَأَصْرِفُهَا إِلَى مَنْ لَا يُقَاتِلُ عَنِّي إِلَّا إِذَا رَآنِي بِسِهَامٍ قَدْ تُصِيبُ وَقَدْ تُخْطِئُ، وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لَهُمْ نَصِيبٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَيْفَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ غَيْرَهُمْ؟ ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ رَاسَلُوا نُورَ الدِّينِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الصُّلْحَ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ، وَتَرَكُوا عِنْدَ حِصْنِ الْأَكْرَادِ مَنْ يَحْمِيهِ وَعَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ. ذِكْرُ إِجْلَاءِ بَنِي أَسَدٍ مِنَ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَنْجِدُ بِاللَّهِ بِإِهْلَاكِ بَنِي أَسَدٍ الْحِلَّةِ الْمَزْيَدِيَّةِ، لِمَا ظَهَرَ مِنْ فَسَادِهِمْ، وَلِمَا كَانَ فِي نَفْسِ الْخَلِيفَةِ مِنْهُمْ مَنْ مُسَاعَدَتِهِمُ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا لَمَّا حَصَرَ بَغْدَادَ، فَأَمَرَ يَزْدَنَ بْنَ قَمَاجَ بِقِتَالِهِمْ وَإِجْلَائِهِمْ مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانُوا مُنْبَسِطِين فِي الْبَطَائِحِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ، فَتَوَجَّهَ يَزْدَنُ إِلَيْهِمْ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَ كَثِيرَةً مِنْ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ مَعْرُوفٍ مُقَدَّمِ الْمُنْتَفَقِ، وَهُوَ بِأَرْضِ الْبَصْرَةِ، فَجَاءَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ، وَحَصَرَهُمْ، وَسَكَّرَ عَنْهُمُ الْمَاءَ، وَصَابَرَهُمْ مُدَّةً، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ يَعْتِبُ عَلَى يَزْدَنَ وَيُعَجِّزُهُ وَيَنْسُبُهُ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ فِي التَّشَيُّعِ، وَكَانَ يَزْدَنُ يَتَشَيَّعُ، فَجَدَّ هُوَ وَابْنُ مَعْرُوفٍ فِي قِتَالِهِمْ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ، وَسَدِّ مَسَالِكِهِمْ فِي الْمَاءِ، فَاسْتَسْلَمُوا حِينَئِذٍ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ آلَافِ قَتِيلٍ، وَنَادَى فِيمَنْ بَقِيَ: مَنْ وُجِدَ بَعْدَ هَذَا فِي الْحِلَّةِ الْمَزْيَدِيَّةِ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بِالْعِرَاقِ مَنْ يُعْرَفُ، وَسُلِّمَتْ بَطَائِحُهُمْ إِلَى ابْنِ مَعْرُوفٍ وَبِلَادُهُمْ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ فِي بَغْدَادَ حَرِيقٌ فِي بَابِ دَرْبِ فَرَاشَا إِلَى مَشْرَعَةِ الصَّبَّاغِينَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي رَجَبَ، تُوُفِّيَ سَدِيدُ الدَّوْلَةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ بِدِيوَانِ الْخِلَافَةِ، وَكَانَ فَاضِلًا أَدِيبًا ذَا تَقَدُّمٍ كَثِيرٍ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ وَالسَّلَاطِينِ، وَخَدَمَ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ إِلَى الْآنِ فِي دِيوَانِ الْخِلَافَةِ، وَعَاشَ حَتَّى قَارَبَ تِسْعِينَ سَنَةً. وَتُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو الْقَاسِمِ الْمَتُّوثِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَهُوَ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ، إِلَّا أَنَّهُ كَثِيرُ الْهَجْوِ، وَمِنْ شِعْرِهِ: يَا مَنْ هَجَرْتِ وَلَا تُبَالِي ... هَلْ تَرْجِعُ دَوْلَةُ الْوِصَالِ هَلْ أَطْمَعُ يَا عَذَابَ قَلْبِي ... أَنْ يَنْعَمَ فِي هَوَاكِ بَالِي الطَّرْفُ كَمَا عَهِدْتِ بَاكٍ ... وَالْجِسْمُ كَمَا تَرَيْنَ بَالِي مَا ضَرَّكِ أَنْ تُعَلِّلِينِي ... فِي الْوَصْلِ بِمَوْعِدِ الْمُحَالِ أَهْوَاكِ وَأَنْتِ حَظُّ غَيْرِي ... يَا قَاتِلَتِي فَمَا احْتِيَالِي وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا.

ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 559 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مَسِيرِ شِيرِكُوهْ وَعَسَاكِرِ نُورِ الدِّينِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ وُعَوْدِهِمْ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى الْأُولَى، سَيَّرَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي عَسْكَرًا كَثِيرًا إِلَى مِصْرَ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ الْأَمِيرَ أَسَدَ الدِّينِ شِيرِكُوهْ بْنَ شَاذِي، وَهُوَ مُقَدَّمُ عَسْكَرِهِ، وَأَكْبَرُ أُمَرَاءِ دَوْلَتِهِ، وَأَشْجَعُهُمْ، وَسَنَذْكُرُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] سَبَبَ اتِّصَالِهِ بِنُورِ الدِّينِ وَعُلُوِّ شَأْنِهِ عِنْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَ سَبَبُ إِرْسَالِ هَذَا الْجَيْشِ أَنَّ شَاوُرَ وَزِيرَ الْعَاضِدِ لِدِينِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ، صَاحِبَ مِصْرَ، نَازَعَهُ فِي الْوِزَارَةِ ضِرْغَامَ، وَغَلَبَ عَلَيْهَا، فَهَرَبَ شَاوُرُ مِنْهُ إِلَى الشَّامِ، مُلْتَجِئًا إِلَى نُورِ الدِّينِ، وَمُسْتَجِيرًا بِهِ، فَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ وُصُولُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ، وَطَلَبَ مِنْهُ إِرْسَالَ الْعَسَاكِرِ مَعَهُ إِلَى مِصْرَ لِيَعُودَ إِلَى مَنْصِبِهِ، وَيَكُونَ لِنُورِ الدِّينِ ثُلُثِ دَخْلِ الْبِلَادِ بَعْدَ إِقْطَاعَاتِ الْعَسَاكِرِ، وَيَكُونَ شِيرِكُوهْ مُقِيمًا بِعَسَاكِرِهِ فِي مِصْرَ، وَيَتَصَرَّفَ هُوَ بِأَمْرِ نُورِ الدِّينِ وَاخْتِيَارِهِ، فَبَقِيَ نُورُ الدِّينِ يُقَدِّمُ إِلَى هَذَا الْغَرَضِ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى، فَتَارَةً يَحْمِلُهُ رِعَايَةً لِقَصْدِ شَاوُرَ بَابَهُ، وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي الْمُلْكِ وَالتَّقَوِّي عَلَى الْفِرِنْجِ، وَتَارَةً يَمْنَعُهُ خَطَرُ الطَّرِيقِ، وَأَنَّ الْفِرِنْجَ فِيهِ، وَتَخَوُّفُ أَنَّ شَاوُرَ إِنِ اسْتَقَرَّتْ قَاعِدَتُهُ رُبَّمَا لَا يَفِي. ثُمَّ قَوَّى عَزْمَهُ عَلَى إِرْسَالِ الْجُيُوشِ، فَتَقَدَّمَ بِتَجْهِيزِهَا وَإِزَاحَةِ عِلَلِهَا، وَكَانَ هَوَى أَسَدِ الدِّينِ فِي ذَلِكَ، وَعِنْدَهُ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ مَا لَا يُبَالِي بِمَخَافَةٍ، فَتَجَهَّزَ، وَسَارُوا جَمِيعًا وَشَاوُرُ فِي صُحْبَتِهِمْ، فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، وَتَقَدَّمَ نُورُ الدِّينِ إِلَى شِيرِكُوهْ أَنْ يُعِيدَ شَاوُرَ إِلَى مَنْصِبِهِ، وَيَنْتَقِمَ لَهُ مِمَّنْ نَازَعَهُ فِيهِ.

وَسَارَ نُورُ الدِّينِ إِلَى طَرَفِ بِلَادِ الْفِرِنْجِ مِمَّا يَلِي دِمَشْقَ بِعَسَاكِرِهِ لِيَمْنَعَ الْفِرِنْجَ مِنَ التَّعَرُّضِ لِأَسَدِ الدِّينِ وَمَنْ مَعَهُ، فَكَانَ قُصَارَى الْفِرِنْجِ حِفْظُ بِلَادِهِمْ مِنْ نُورِ الدِّينِ، وَوَصَلَ أَسَدُ الدِّينِ وَالْعَسَاكِرُ مَعَهُ إِلَى مَدِينَةِ بِلْبِيسَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ نَاصِرُ الدِّينِ أَخُو ضِرْغَامَ بِعَسْكَرِ الْمِصْرِيِّينَ وَلَقِيَهُمْ، فَانْهَزَمَ وَعَادَ إِلَى الْقَاهِرَةِ مَهْزُومًا. وَوَصَلَ أَسَدُ الدِّينِ فَنَزَلَ عَلَى الْقَاهِرَةِ أَوَاخِرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَخَرَجَ ضِرْغَامُ مِنَ الْقَاهِرَةِ سَلْخَ الشَّهْرِ، فَقُتِلَ عِنْدَ مَشْهَدِ السَّيِّدَةِ نَفِيسَةَ، وَبَقِيَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ حُمِلَ وَدُفِنَ فِي الْقَرَافَةِ، وَقُتِلَ أَخُوهُ فَارِسُ الْمُسْلِمِينَ، وَخُلِعَ عَلَى شَاوُرَ مُسْتَهَلَّ رَجَبَ، وَأُعِيدَ إِلَى الْوِزَارَةِ، وَتَمَكَّنَ مِنْهَا، وَأَقَامَ أَسَدُ الدِّينِ بِظَاهِرِ الْقَاهِرَةِ، فَغَدَرَ بِهِ شَاوُرُ، وَعَادَ عَمَّا كَانَ قَرَّرَهُ لِنُورِ الدِّينِ مِنَ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ، وَلْأَسَدِ الدِّينِ أَيْضًا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى الشَّامِ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ بِالِامْتِنَاعِ، وَطَلَبَ مَا كَانَ قَدِ اسْتَقَرَّ بَيْنَهُمْ، فَلَمْ يُجِبْهُ شَاوُرُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَرْسَلَ نُوَّابَهُ، فَتَسَلَّمُوا مَدِينَةَ بِلْبِيسَ، وَحَكَمَ عَلَى الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ، فَأَرْسَلَ شَاوُرُ إِلَى الْفِرِنْجِ يَسْتَمِدُّهُمْ وَيُخَوِّفُهُمْ مِنْ نُورِ الدِّينِ إِنْ مَلَكَ مِصْرَ. وَكَانَ الْفِرِنْجُ قَدْ أَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ إِنْ تَمَّ مُلْكُهُ لَهَا، فَلَمَّا أَرْسَلَ شَاوُرُ يَطْلُبُ مِنْهُمْ أَنْ يُسَاعِدُوهُ عَلَى إِخْرَاجِ أَسَدِ الدِّينِ مِنَ الْبِلَادِ جَاءَهُمْ فَرَجٌ لَمْ يَحْتَسِبُوهُ، وَسَارَعُوا إِلَى تَلْبِيَةِ دَعْوَتِهِ وَنُصْرَتِهِ، وَطَمِعُوا فِي مُلْكِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ بَذَلَ لَهُمْ مَالًا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَيْهِ، وَتَجَهَّزُوا وَسَارُوا، فَلَمَّا بَلَغَ نُورَ الدِّينِ ذَلِكَ سَارَ بِعَسَاكِرِهِ إِلَى أَطْرَافِ بِلَادِهِمْ ; لِيَمْتَنِعُوا عَنِ الْمَسِيرِ، فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ ; لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْخَطَرَ فِي مَقَامِهِمْ، إِذَا مَلَكَ أَسَدُ الدِّينِ مِصْرَ، أَشَدُّ، فَتَرَكُوا فِي بِلَادِهِمْ مَنْ يَحْفَظُهَا، وَسَارَ مَلِكُ الْقُدْسِ فِي الْبَاقِينَ إِلَى مِصْرَ. وَكَانَ قَدْ وَصَلَ إِلَى السَّاحِلِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفِرِنْجِ فِي الْبَحْرِ ; لِزِيَارَةِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَاسْتَعَانَ بِهِمُ الْفِرِنْجُ السَّاحِلِيَّةُ، فَأَعَانُوهُمْ، فَسَارَ بَعْضُهُمْ مَعَهُمْ، وَأَقَامَ بَعْضُهُمْ فِي الْبِلَادِ لِحِفْظِهَا، فَلَمَّا قَارَبَ الْفِرِنْجُ مِصْرَ فَارَقَهَا أَسَدُ الدِّينِ، وَقَصَدَ مَدِينَةَ بِلْبِيسَ، فَأَقَامَ بِهَا هُوَ وَعَسْكَرُهُ، وَجَعَلَهَا لَهُ ظَهْرًا يَتَحَصَّنُ بِهِ، فَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ الْمِصْرِيَّةُ وَالْفِرِنْجُ، وَنَازَلُوا أَسَدَ الدِّينِ شِيرِكُوهْ بِمَدِينَةِ بِلْبِيسَ، وَحَصَرُوهُ بِهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ بِهَا مَعَ أَنَّ سُورَهَا قَصِيرٌ جِدًّا، وَلَيْسَ لَهَا خَنْدَقٌ، وَلَا فَصِيلٌ يَحْمِيهَا، وَهُوَ يُغَادِيهِمُ الْقِتَالَ وُيُرَوِاحَهُمْ، فَلَمْ يَبْلُغُوا مِنْهُ غَرَضًا، وَلَا نَالُوا مِنْهُ شَيْئًا.

فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِهَزِيمَةِ الْفِرِنْجِ عَلَى حَارِمَ وَمُلْكِ نُورِ الدِّينِ حَارِمَ، وَمَسِيرِهِ إِلَى بَانِيَاسَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَحِينَئِذٍ سَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَرَادُوا الْعَوْدَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ ; لِيَحْفَظُوهَا، فَرَاسَلُوا أَسَدَ الدِّينِ فِي الصُّلْحِ وَالْعَوْدِ إِلَى الشَّامِ، وَمُفَارَقَةِ مِصْرَ، وَتَسْلِيمِ مَا بِيَدِهِ مِنْهَا إِلَى الْمِصْرِيِّينَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مَا فَعَلَهُ نُورُ الدِّينِ بِالشَّامِ بِالْفِرِنْجِ، وَلِأَنَّ الْأَقْوَاتَ وَالذَّخَائِرَ قَلَّتْ عَلَيْهِ، وَخَرَجَ مِنْ بِلْبِيسَ فِي ذِي الْحِجَّةِ. فَحَدَّثَنِي مَنْ رَأَى أَسَدَ الدِّينِ حِينَ خَرَجَ مِنْ بِلْبِيسَ، قَالَ: أَخْرَجَ أَصْحَابَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَقِيَ فِي آخِرِهِمْ وَبِيَدِهِ لِتٌّ مِنْ حَدِيدٍ يَحْمِي سَاقَتَهُمْ، وَالْمُسْلِمُونَ وَالْفِرِنْجُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَتَاهُ فِرِنْجِيٌّ مِنَ الْغُرَبَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا تَخَافُ أَنْ يَغْدِرَ بِكَ هَؤُلَاءِ الْمِصْرِيُّونَ وَالْفِرِنْجُ، وَقَدْ أَحَاطُوا بِكَ وَبِأَصْحَابِكَ، وَلَا يَبْقَى لَكُمْ بَقِيَّةٌ؟ فَقَالَ شِيرِكُوهْ: يَا لَيْتَهُمْ فَعَلُوهُ حَتَّى كُنْتَ تَرَى مَا أَفْعَلُهُ، كُنْتُ وَاللَّهِ أَضَعُ السَّيْفَ، فَلَا يُقْتَلُ مِنَّا رَجُلٌ حَتَّى يَقْتُلَ مِنْهُمْ رِجَالًا، وَحِينَئِذٍ يَقْصِدُهُمُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ نُورُ الدِّينِ، وَقَدْ ضَعُفُوا، وَفَنِيَ شُجْعَانُهُمْ، فَنَمْلِكُ بِلَادَهُمْ، وَيَهْلَكُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَاللَّهِ لَوْ أَطَاعَنِي هَؤُلَاءِ لَخَرَجْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، وَلَكِنَّهُمُ امْتَنَعُوا. فَصَلَّبَ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَالَ: كُنَّا نَعْجَبُ مِنْ فِرِنْجِ هَذِهِ الْبِلَادِ وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي صِفَتِكَ وَخَوْفِهِمْ مِنْكَ، وَالْآنَ فَقَدْ عَذَرْنَاهُمْ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وَسَارَ شِيرِكُوهْ إِلَى الشَّامِ، فَوَصَلَ سَالِمًا، وَكَانَ الْفِرِنْجُ قَدْ وَضَعُوا لَهُ عَلَى مَضِيقٍ فِي الطَّرِيقِ رَصْدًا لِيَأْخُذُوهُ أَوْ يَنَالُوا مِنْهُ ظَفَرًا، فَعَلِمَ بِهِمْ فَعَادَ عَنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ، فَفِيهِ يَقُولُ عُمَارَةُ [الْيَمَنِيُّ] : أَخَذْتُمْ عَلَى الْإِفْرَنْجِ كُلَّ ثَنِيَّةٍ ... وَقُلْتُمْ لِأَيْدِي الْخَيْلِ مُرِّي عَلَى مُرِّي لَئِنْ نَصَبُوا فِي الْبَرِّ جِسْرًا فَإِنَّكُمْ ... عَبَرْتُمْ بِبَحْرٍ مِنْ حَدِيدٍ عَلَى الْجِسْرِ وَلَفْظَةُ مُرِّي فِي آخِرِ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ اسْمُ مَلِكِ الْفِرِنْجِ.

ذِكْرُ هَزِيمَةِ الْفِرِنْجِ وَفَتْحِ حَارِمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَتَحَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي قَلْعَةَ حَارِمَ مِنَ الْفِرِنْجِ ; وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ نُورَ الدِّينِ لَمَّا عَادَ مُنْهَزِمًا مِنَ الْبُقَيْعَةِ، تَحْتَ حِصْنِ الْأَكْرَادِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، فَرَّقَ الْأَمْوَالَ وَالسِّلَاحَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآلَاتِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَعَادَ الْعَسْكَرُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُصَابُوا وَأَخَذُوا فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ وَالْأَخْذِ بِثَأْرِهِ. وَاتَّفَقَ مَسِيرُ بَعْضِ الْفِرِنْجِ مَعَ مَلِكِهِمْ إِلَى مِصْرَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَقْصِدَ بِلَادَهُمْ لِيَعُودُوا عَنْ مِصْرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودٍ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ، وَإِلَى فَخْرِ الدِّينِ قُرَا أَرْسِلَان، صَاحِبِ حِصْنِ كَيْفَا، وَإِلَى نَجْمِ الدِّينِ أَلْبِي، صَاحِبِ مَارِدِينَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ يَسْتَنْجِدُهُمْ، فَأَمَّا قُطْبُ الدِّينِ فَإِنَّهُ جَمَعَ عَسْكَرَهُ وَسَارَ مُجِدًّا، وَفِي مُقَدِّمَتِهِ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيٌّ أَمِيرُ جَيْشِهِ، وَأَمَّا فَخْرُ الدِّينِ، صَاحِبُ الْحِصْنِ، فَبَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ نُدَمَاؤُهُ وَخَوَاصُّهُ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ عَزَمْتَ؟ فَقَالَ: عَلَى الْقُعُودِ، فَإِنَّ نُورَ الدِّينِ قَدْ تَحَشَّفَ مِنْ كَثْرَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَهُوَ يُلْقِي نَفْسَهُ وَالنَّاسَ مَعَهُ فِي الْمَهَالِكِ، فَكُلُّهُمْ وَافَقَهُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَمَرَ بِالتَّجَهُّزِ لِلْغُزَاةِ، فَقَالَ لَهُ أُولَئِكَ: مَا عَدَا مِمَّا بَدَا؟ فَارَقْنَاكَ أَمْسِ عَلَى حَالَةٍ، فَنَرَى الْيَوْمَ ضِدَّهَا؟ فَقَالَ: إِنَّ نُورَ الدِّينِ قَدْ سَلَكَ مَعِي طَرِيقًا إِنْ لَمْ أُنْجِدْهُ خَرَجَ أَهْلُ بِلَادِي عَنْ طَاعَتِي، وَأَخْرَجُوا الْبِلَادَ عَنْ يَدِي، فَإِنَّهُ قَدْ كَاتَبَ زُهَّادَهَا وَعُبَّادَهَا وَالْمُنْقَطِعِينَ عَنِ الدُّنْيَا، يَذْكُرُ لَهُمْ مَا لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَمَا نَالَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَيَسْتَمِدُّ مِنْهُمُ الدُّعَاءَ، وَيَطْلُبُ أَنْ يَحُثُّوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْغَزَاةِ، فَقَدْ قَعَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ، وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ وَأَتْبَاعُهُ، وَهُمْ يَقْرَؤُوَنَ كُتُبَ نُورِ الدِّينِ، وَيَبْكُونَ وَيَلْعَنُونَنِي، وَيَدْعُونَ عَلَيَّ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْمَسِيرِ إِلَيْهِ، ثُمَّ تَجَهَّزَ وَسَارَ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا نَجْمُ الدِّينِ فَإِنَّهُ سَيَّرَ عَسْكَرًا، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ سَارَ نَحْوَ حَارِمَ،

فَحَصَرَهَا، وَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَتَابَعَ الزَّحْفَ إِلَيْهَا، فَاجْتَمَعَ مَنْ بَقِيَ بِالسَّاحِلِ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَجَاءُوا فِي حَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِمْ، وَمُلُوكِهِمْ وَفُرْسَانِهِمْ، وَقِسِّيسِيهِمْ، وَرُهْبَانِهِمْ، وَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، وَكَانَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمُ الْبِرِنْسَ بَيْمُنْدَ، صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ، وَقُمَّصُ، صَاحِبُ طَرَابُلُسَ وَأَعْمَالِهَا، وَابْنُ جُوسَلِينَ، وَهُوَ مِنْ مَشَاهِيرِ الْفِرِنْجِ، وَالدُّوكِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ كَبِيرٌ مِنَ الرُّومِ، وَجَمَعُوا الْفَارِسَ وَالرَّاجِلَ، فَلَمَّا قَارَبُوهُ رَحَلَ عَنْ حَارِمَ إِلَى أَرْتَاحَ طَمَعًا أَنْ يَتْبَعُوهُ، فَيَتَمَكَّنَ مِنْهُمْ ; لِبُعْدِهِمْ عَنْ بِلَادِهِمْ إِذَا لَقُوهُ، فَسَارُوا، فَنَزَلُوا عَلَى غَمَّرَ، ثُمَّ عَلِمُوا عَجْزَهُمْ عَنْ لِقَائِهِ، فَعَادُوا إِلَى حَارِمَ، فَلَمَّا عَادُوا تَبِعَهُمْ نُورُ الدِّينِ فِي أَبْطَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَعْبِئَةِ الْحَرْبِ. فَلَمَّا تَقَارَبُوا اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ، فَبَدَأَ الْفِرِنْجُ بِالْحَمْلَةِ عَلَى مَيْمَنَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهَا عَسْكَرُ حَلَبَ وَصَاحِبُ الْحِصْنِ، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ فِيهَا، وَتَبِعَهُمُ الْفِرِنْجُ، فَقِيلَ كَانَتْ تِلْكَ الْهَزِيمَةُ مِنَ الْمَيْمَنَةِ عَلَى اتِّفَاقٍ وَرَأْيٍ دَبَّرُوهُ، وَهُوَ أَنْ يَتْبَعَهُمُ الْفِرِنْجُ فَيَبْعُدُوا عَنْ رَاجِلِهِمْ، فَيَمِيلُ عَلَيْهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالسُّيُوفِ، فَيَقْتُلُوهُمْ، فَإِذَا عَادَ فُرْسَانُهُمْ لَمْ يَلْقُوا رَاجِلًا يَلْجَأُونَ إِلَيْهِ، وَلَا وَزَرًا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ، وَيَعُودُ الْمُنْهَزِمُونَ فِي آثَارِهِمْ، فَيَأْخُذُهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ، فَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا دَبَّرُوهُ: فَإِنَّ الْفِرِنْجَ لَمَّا تَبِعُوا الْمُنْهَزِمِينَ عَطَفَ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيٌّ فِي عَسْكَرِ الْمَوْصِلِ عَلَى رَاجِلِ الْفِرِنْجِ، فَأَفْنَاهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا، وَعَادَ خَيَّالَتُهُمْ، وَلَمْ يُمْعِنُوا فِي الطَّلَبِ خَوْفًا عَلَى رَاجِلِهِمْ، فَعَادَ الْمُنْهَزِمُونَ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمَّا وَصَلَ الْفِرِنْجُ رَأَوْا رِجَالَهُمْ قَتْلَى وَأَسْرَى، فَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا وَبَقُوا فِي الْوَسَطِ قَدْ أَحْدَقَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، وَقَامَتْ عَلَى سَاقٍ، وَكَثُرَ الْقَتْلَى فِي الْفِرِنْجِ، وَتَمَّتْ عَلَيْهِمُ الْهَزِيمَةُ، فَعَدَلَ حِينَئِذٍ الْمُسْلِمُونَ عَنِ الْقَتْلِ إِلَى الْأَسْرِ، فَأَسَرُوا مَا لَا يُحَدُّ، وَفِي جُمْلَةِ الْأَسْرَى صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ وَالْقُمَّصُ، صَاحِبُ طَرَابُلُسَ، وَكَانَ شَيْطَانَ الْفِرِنْجِ، وَأَشُدَّهُمْ شَكِيمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالدَّوْكُ مُقَدَّمُ الرُّومِ، وَابْنُ جُوسَلِينَ، وَكَانَتْ عِدَّةُ الْقَتْلَى تَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ قَتِيلٍ. وَأَشَارَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نُورِ الدِّينِ بِالْمَسِيرِ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ وَتَمَلُّكِهَا لِخُلُوِّهَا مِنْ حَامٍ

يَحْمِيهَا وَمُقَاتِلٍ يَذُبُّ عَنْهَا، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: أَمَّا الْمَدِينَةُ فَأَمْرُهَا سَهْلٌ، وَأَمَّا الْقَلْعَةُ فَمَنِيعَةٌ، وَرُبَّمَا سَلَّمُوهَا إِلَى مَلِكِ الرُّومِ ; لِأَنَّ صَاحِبَهَا ابْنُ أَخِيهِ وَمُجَاوَرَةُ بَيْمُنْدَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُجَاوَرَةِ صَاحِبِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَبَثَّ السَّرَايَا فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ، فَنَهَبُوهَا، وَأَسَرُوا أَهْلَهَا وَقَتَلُوهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ فَادَى بَيْمُنْدَ الْبِرِنْسَ، صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ، بِمَالٍ جَزِيلٍ وَأَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَثِيرَةٍ أَطْلَقَهُمْ. ذِكْرُ مُلْكِ نُورِ الدِّينِ قَلْعَةَ بَانِيَاسَ مِنَ الْفِرِنْجِ أَيْضًا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ قَلْعَةَ بَانِيَاسَ، وَهِيَ بِالْقُرْبِ مِنْ دِمَشْقَ، وَكَانَتْ بِيَدِ الْفِرِنْجِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَلَمَّا فَتَحَ حَارِمَ أَذِنَ لِعَسْكَرِ الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ بَكْرٍ بِالْعَوْدِ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ طَبَرِيَّةَ، فَجَعَلَ مَنْ بَقِيَ مَنَّ الْفِرِنْجِ هِمَّتَهُمْ حِفْظَهَا وَتَقْوِيَتَهَا، فَسَارَ مَحْمُود إِلَى بَانِيَاسَ لِعِلْمِهِ بِقِلَّةِ مَنْ فِيهَا مِنَ الْحُمَاةِ الْمَانِعِينَ عَنْهَا، وَنَازَلَهَا، وَضَيَّقَ عَلَيْهَا وَقَاتَلَهَا، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ عَسْكَرِهِ أَخُوهُ نُصْرَةُ الدِّينِ أَمِيرُ أَمِيرَانِ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَأَذْهَبَ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ نُورُ الدِّينِ قَالَ لَهُ: لَوْ كُشِفَ لَكَ عَنِ الْأَجْرِ الَّذِي أُعِدَّ لَكَ لَتَمَنَّيْتَ ذَهَابَ الْأُخْرَى. وَجَدَّ فِي حِصَارِهَا، فَسَمِعَ الْفِرِنْجُ، فَجَمَعُوا، فَلَمْ تَتَكَامَلْ عُدَّتَهُمْ، حَتَّى فَتَحَهَا، عَلَى أَنَّ الْفِرِنْجَ كَانُوا قَدْ ضَعُفُوا بِقَتْلِ رِجَالِهِمْ بِحَارِمَ وَأَسْرِهِمْ، فَمَلَكَ الْقَلْعَةَ، وَمَلَأَهَا ذَخَائِرَ، وَعُدَّةً، وَرِجَالًا، وَشَاطَرَ الْفِرِنْجَ فِي أَعْمَالِ طَبَرِيَّةَ، وَقَرَّرُوا لَهُ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي لَمْ يُشَاطِرْهُمْ عَلَيْهَا مَالًا فِي كُلِّ سَنَةٍ. وَوَصَلَ خَبَرُ مُلْكِ حَارِمَ وَحَصْرِ بَانِيَاسَ إِلَى الْفِرِنْجِ بِمِصْرَ، فَصَالَحُوا شِيرِكُوهْ، وَعَادُوا لِيُدْرِكُوا بَانِيَاسَ، فَلَمْ يَصِلُوا إِلَّا وَقَدْ مَلَكَهَا، وَلَمَّا عَادَ مِنْهَا إِلَى دِمَشْقَ كَانَ بِيَدِهِ

خَاتَمٌ بِفَصِّ يَاقُوتٍ مِنْ أَحْسَنِ الْجَوْهَرِ، وَكَانَ يُسَمَّى الْجَبَلُ لِكِبَرِهِ وَحُسْنِهِ، فَسَقَطَ مِنْ يَدِهِ فِي شِعَارِي بَانِيَاسَ، وَهِيَ كَثِيرَةُ الْأَشْجَارِ مُلْتَفَّةَ الْأَغْصَانِ، فَلَمَّا أَبْعَدَ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي ضَاعَ فِيهِ عَلِمَ بِهِ، فَأَعَادَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ فِي طَلَبِهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ آخِرَ عَهْدِهِ بِهِ فِيهِ، وَقَالَ: أَظُنُّ هُنَاكَ سَقَطَ، فَعَادُوا إِلَيْهِ، فَوَجَدُوهُ، فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ الشَّامِيِّينَ أَظُنُّهُ ابْنَ مُنِيرٍ يَمْدَحُهُ، وَيُهَنِّئُهُ بِهَذِهِ الْغَزَاةِ، وَيَذْكُرُ الْجَبَلَ الْيَاقُوتَ: إِنْ يَمْتَرِ الشُّكَّاكُ فِيكَ فَإنَّكَ ... الْ مَهْدِيُّ مُطْفِي جَمْرَةَ الدَّجَّالِ فَلِعَوْدَةِ الْجَبَلِ الَّذِي أَظْلَلْتَهُ ... بِالْأَمْسِ بَيْنَ غَيَاطِلٍ وَجِبَالِ لَمْ يُعْطَهَا إِلَّا سُلَيْمَانُ وَقَدْ ... نَبَتَ الرُّبَا بِمُوشَكِ الْإِعْجَالِ رَحْرَحْرَى لِسَرِيرِ مُلْكِكَ إِنَّهُ ... كَسَرِيرِهِ عَنْ كُلِّ حَدٍّ عَالِ فَلَوِ الْبِحَارُ السَّبْعَةُ اسْتَهْوَيْنَهُ ... وَأَمَرْتَهُنَّ قَذَفْنَهُ فِي الْحَالِ وَلَمَّا فَتَحَ الْحِصْنَ كَانَ مَعَهُ وَلَدُ مُعِينِ الدِّينِ أُنُزَ الَّذِي سَلَّمَ بَانِيَاسَ إِلَى الْفِرِنْجِ، فَقَالَ لَهُ: لِلْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْفَتْحِ فَرْحَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَكَ فَرْحَتَانِ، فَقَالَ: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ:

لِأَنَّ الْيَوْمَ بَرَّدَ اللَّهُ جِلْدَ وَالِدَكَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ. ذِكْرُ أَخْذِ الْأَتْرَاكِ غَزْنَةَ مَنْ مَلِكْشَاهْ وَعَوْدِهِ إِلَيْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَصَدَ بِلَادَ غَزْنَةَ الْأَتْرَاكُ الْمَعْرُوفُونَ بِغُزٍّ، وَنَهَبُوهَا، وَخَرَّبُوهَا، وَقَصَدُوا غَزْنَةَ وَبِهَا صَاحِبُهَا مَلِكْشَاهْ بْنُ خُسْرُوشَاهِ الْمَحْمُودِيُّ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمْ، فَفَارَقَهَا وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ لَهَاوُورَ، وَمَلَكَ الْغُزُّ مَدِينَةَ غَزْنَةَ، وَكَانَ الْقَيِّمُ بِأَمْرِهِمْ أَمِيرٌ اسْمُهُ زَنْكِي بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَلِيفَةَ الشَّيْبَانِيُّ، ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَهَا مَلِكْشَاهْ جَمَعَ وَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ، فَفَارَقَهَا زَنْكِي وَعَادَ مَلِكُهَا مَلِكْشَاهْ وَدَخَلَهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَتَمَكَّنَ فِي دَارِ مُلْكِهِ. ذِكْرُ وَفَاةِ جَمَالِ الدِّينِ الْوَزِيرِ وَشَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَزِيرُ قُطْبِ الدِّينِ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فِي شَعْبَانَ مَقْبُوضًا، وَكَانَ قَدْ قُبِضَ عَلَيْهِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، فَبَقِيَ فِي الْحَبْسِ نَحْوَ سَنَةٍ. حَكَى لِي إِنْسَانٌ صُوفِيٌّ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ كَانَ مُخْتَصًّا بِخِدْمَتِهِ فِي الْحَبْسِ، قَالَ: لَمْ يَزَلْ مَشْغُولًا فِي مَحْبِسِهِ بِأَمْرِ آخِرَتِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: كُنْتُ أَخْشَى أَنْ أُنْقَلَ مِنَ الدَّسْتِ إِلَى الْقَبْرِ، فَلَمَّا مَرِضَ قَالَ لِي فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ! إِذَا جَاءَ طَائِرٌ أَبْيَضُ إِلَى الدَّارِ، فَعَرِّفْنِي. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي قَدِ اخْتَلَطَ عَقْلُهُ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَكْثَرَ السُّؤَالَ عَنْهُ، وَإِذَا طَائِرٌ أَبْيَضُ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَدْ سَقَطَ، فَقُلْتُ: جَاءَ الطَّائِرُ، فَاسْتَبْشَرَ، ثُمَّ قَالَ: جَاءَ الْحَقُّ، وَأَقْبَلَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ طَارَ ذَلِكَ الطَّائِرُ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ رَأَى شَيْئًا فِي مَعْنَاهُ.

وَدُفِنَ بِالْمَوْصِلِ عِنْدَ فَتْحِ الْكَرَامِيِّ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، نَحْوَ سَنَةٍ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ حَرَمِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي رِبَاطٍ بَنَاهُ لِنَفْسِهِ هُنَاكَ، وَقَالَ لِأَبِي الْقَاسِمِ: بَيْنِي وَبَيْنَ أَسَدِ الدِّينِ شِيرِكُوهْ عَهْدٌ، مَنْ مَاتَ مِنَّا قَبْلَ صَاحِبِهِ حَمَلَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَدَفَنَهُ بِهَا فِي التُّرْبَةِ الَّتِي عَمِلَهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَامْضِ إِلَيْهِ وَذَكِّرْهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ سَارَ أَبُو الْقَاسِمِ إِلَى شِيرِكُوهْ فِي الْمَعْنَى، فَقَالَ لَهُ شِيرِكُوهْ: كَمْ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أُرِيدَ أُجْرَةَ جَمَلٍ يَحْمِلُهُ وَجَمَلٍ يَحْمِلُنِي وَزَادِي، فَانْتَهَرَهُ، وَقَالَ: مِثْلُ جَمَالِ الدِّينِ يُحْمَلُ هَكَذَا إِلَى مَكَّةَ، وَأَعْطَاهُ مَالًا صَالِحًا ; لِيَحْمِلَ مَعَهُ جَمَاعَةً يَحُجُّونَ عَنْ جَمَالِ الدِّينِ، وَجَمَاعَةً يَقْرَءُونَ عَلَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ تَابُوتِهِ إِذَا حُمِلَ، وَإِذَا نَزَلَ عَنِ الْجَمَلِ، وَإِذَا وَصَلَ إِلَى مَدِينَةٍ يَدْخُلُ أُولَئِكَ الْقُرَّاءُ يُنَادُونَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَيُصَلَّى عَلَيْهِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ يَجْتَازُ بِهَا، وَأَعْطَاهُ أَيْضًا مَالًا لِلصَّدَقَةِ عَنْهُ، فَصُلِّي عَلَيْهِ فِي تَكْرِيتَ، وَبَغْدَادَ، وَالْحِلَّةِ، وَفَيْدَ، وَمَكَّةَ، وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَجْتَمِعُ لَهُ فِي كُلِّ بَلَدٍ مِنَ الْخَلْقِ مَا لَا يُحْصَى، وَلَمَّا أَرَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ بِالْحِلَّةِ صَعِدَ شَابٌّ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ، وَأَنْشَدَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: سَرَى نَعْشُهُ فَوْقَ الرِّقَابِ وَطَالَمَا ... سَرَى جُودُهُ فَوْقَ الرِّكَابِ وَنَائِلُهْ يَمُرُّ عَلَى الْوَادِي فَتُثْنِي رِمَالُهُ ... عَلَيْهِ وَبِالنَّادِي فَتُثْنِي أَرَامِلُهْ فَلَمْ نَرَ بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَطَافُوا بِهِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَصَلُّوا عَلَيْهِ بِالْحَرَمِ الشَّرِيفِ، وَبَيْنَ قَبْرِهِ وَقَبْرِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوَ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا. وَأَمَّا سِيرَتُهُ فَكَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَسْخَى النَّاسِ، وَأَكْثَرَهُمْ بَذْلًا لِلْمَالِ، رَحِيمًا بِالْخَلْقِ، مُتَعَطِّفًا عَلَيْهِمْ، عَادِلًا فِيهِمْ، فَمِنْ أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ: أَنَّهُ جَدَّدَ بِنَاءَ مَسْجِدِ الْخَيْفِ

بِمِنًى، وَغَرِمَ عَلَيْهِ أَمْوَالًا جَسِيمَةً، وَبَنَى الْحِجْرَ بِجَانِبِ الْكَعْبَةِ، وَزَخْرَفَ الْكَعْبَةَ وَذَهَّبَهَا، وَعَمَلَهَا بِالرُّخَامِ، وَلَمَّا أَرَادَ ذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَى الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ هَدِيَّةً جَلِيلَةً، وَطَلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْأَمِيرِ عِيسَى أَمِيرِ مَكَّةَ هَدِيَّةً كَثِيرَةً، وَخِلَعًا سَنِيَّةً، مِنْهَا عِمَامَةٌ مُشْتَرَاهَا ثَلَاثُمِائَةِ دِينَارٍ، حَتَّى مَكَّنَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَعَمَّرَ أَيْضًا الْمَسْجِدَ الَّذِي عَلَى جَبَلِ عَرَفَاتٍ وَالدَّرَجِ الَّتِي يُصْعَدُ فِيهَا إِلَيْهِ، وَكَانَ النَّاسُ يَلْقُونَ شِدَّةً فِي صُعُودِهِمْ، وَعَمِلَ بِعَرَفَاتٍ أَيْضًا مَصَانِعَ لِلْمَاءِ، وَأَجْرَى الْمَاءَ إِلَيْهَا مِنْ نَعْمَانَ فِي طُرُقٍ مَعْمُولَةٍ تَحْتَ الْأَرْضِ، فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَالٌ كَثِيرٌ. وَكَانَ يَجْرِي الْمَاءُ فِي الْمَصَانِعِ كُلَّ سَنَةٍ أَيَّامَ عَرَفَاتٍ، وَبَنَى سُورًا عَلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى فَيْدَ، وَبَنَى لَهَا أَيْضًا فَصِيلًا. وَكَانَ يُخْرِجُ عَلَى بَابِ دَارِهِ، كُلَّ يَوْمٍ، لِلصَّعَالِيكِ وَالْفُقَرَاءِ مِائَةَ دِينَارٍ أَمِيرِيٍّ، هَذَا سِوَى الْإِدْرَارَاتِ وَالتَّعَهُّدَاتِ لِلْأَئِمَّةِ وَالصَّالِحِينَ وَأَرْبَابِ الْبُيُوتَاتِ. وَمِنْ أَبْنِيَتِهِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهَا الْجِسْرُ الَّذِي بَنَاهُ عَلَى دِجْلَةَ عِنْدَ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ بِالْحَجَرِ الْمَنْحُوتِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالْكِلْسِ، فَقُبِضَ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ، وَبَنَى عِنْدَهَا أَيْضًا جِسْرًا كَذَلِكَ عَلَى النَّهْرِ الْمَعْرُوفِ بِالْإِرْبَادِ، وَبَنَى الرُّبُطَ، وَقَصَدَهُ النَّاسُ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَيَكْفِيهِ أَنَّ ابْنَ الْخُجَنْدِيِّ، رَئِيسَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِأَصْفَهَانَ، قَصَدَهُ وَابْنُ الْكَافِي قَاضِي هَمَذَانَ، فَأَخْرَجَ عَلَيْهِمَا مَالًا عَظِيمًا، وَكَانَتْ صَدَقَاتُهُ وَصِلَاتُهُ مِنْ أَقَاصِي خُرَاسَانَ إِلَى حُدُودِ الْيَمَنِ. وَكَانَ يَشْتَرِي الْأَسْرَى كُلَّ سَنَةٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، هَذَا مِنَ الشَّامِ حَسْبُ، سِوَى مَا يَشْتَرِي مِنَ الْكَرَجِ. حَكَى لِي وَالِدِي عَنْهُ قَالَ: كَثِيرًا مَا كُنْتُ أَرَى جَمَالَ الدِّينِ، إِذَا قُدِّمَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ، يَأْخُذُ مِنْهُ وَمِنَ الْحَلْوَى وَيَتْرُكُهُ فِي خُبْزٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَكُنْتُ أَنَا وَمَنْ يَرَاهُ نَظُنُّ أَنَّهُ يَحْمِلُهُ إِلَى أُمِّ وَلَدِهِ عَلِيٍّ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ جَاءَ إِلَى الْجَزِيرَةِ مَعَ قُطْبِ الدِّينِ، وَكُنْتُ

أَتَوَلَّى دِيوَانَهَا، وَحَمَلَ جَارِيَتَهُ أُمَّ وَلَدِهِ إِلَى دَارِي ; لِتَدْخُلَ الْحَمَّامَ، فَبَقِيَتْ فِي الدَّارِ أَيَّامًا، فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ فِي الْخِيَامِ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَعَلَ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ، ثُمَّ تَفَرَّقَ النَّاسُ، فَقُمْتُ، فَقَالَ: اقْعُدْ، فَقَعَدْتُ، فَلَمَّا خَلَا الْمَكَانُ قَالَ لِي: قَدْ آثَرْتُكَ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي، فَإِنَّنِي فِي الْخِيَامِ مَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَفْعَلَ مَا كُنْتُ أَفْعَلُهُ، خُذْ هَذَا الْخُبْزَ، وَاحْمِلْهُ أَنْتَ فِي كُمِّكَ فِي هَذَا الْمَنْدِيلِ، وَاتْرُكِ الْحَمَاقَةَ مِنْ رَأْسِكَ، وَعُدْ إِلَى بَيْتِكَ، فَإِذَا رَأَيْتَ فِي طَرِيقِكَ فَقِيرًا يَقَعُ فِي نَفْسِكَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ، فَاقْعُدْ أَنْتَ بِنَفْسِكَ، وَأَطْعِمْهُ هَذَا الطَّعَامَ، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، وَكَانَ مَعِي جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَفَرَّقْتُهُمْ فِي الطَّرِيقِ ; لِئَلَّا يَرَوْنِي أَفْعَلُ ذَلِكَ، وَبَقِيتُ فِي غِلْمَانِي، فَرَأَيْتُ فِي مَوْضِعٍ إِنْسَانًا أَعْمَى، وَعِنْدَهُ أَوْلَادُهُ وَزَوْجَتُهُ، وَهُمْ مِنَ الْفَقْرِ فِي حَالٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْتُ عَنْ دَابَّتِي إِلَيْهِمْ، وَأَخْرَجْتُ الطَّعَامَ وَأَطْعَمْتُهُمْ إِيَّاهُ، وَقُلْتُ لِلرَّجُلِ: تَجِيءُ غَدًا بُكْرَةً إِلَى دَارِ فُلَانٍ، أَعْنِي دَارِي، وَلَمْ أُعَرِّفْهُ نَفْسِي، فَإِنَّنِي آخُذُ لَكَ مِنْ صَدَقَةِ جَمَالِ الدِّينِ شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبْتُ إِلَيْهِ الْعَصْرَ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: مَا الَّذِي فَعَلْتَ فِي الَّذِي قُلْتُ لَكَ؟ فَأَخَذْتُ أَذْكُرُ لَهُ شَيْئًا يَتَعَلَّقُ بِدَوْلَتِهِمْ، فَقَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ إِنَّمَا أَسْأَلُكَ عَنِ الطَّعَامِ الَّذِي سَلَّمْتُهُ إِلَيْكَ، فَذَكَرْتُ لَهُ الْحَالَ، فَفَرِحَ ثُمَّ قَالَ: بَقِيَ أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ لِلرَّجُلِ يَجِيءُ إِلَيْكَ هُوَ وَأَهْلُهُ، فَتَكْسُوهُمْ وَتُعْطِيهِمْ دَنَانِيرَ، وَتُجْرِي لَهُمْ كُلَّ شَهْرٍ دِينَارًا. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُ لِلرَّجُلِ حَتَّى يَجِيءَ إِلَيَّ، فَازْدَادَ فَرَحًا، وَفَعَلْتُ بِالرَّجُلِ مَا قَالَ: وَلَمْ يَزَلْ يَصِلُ إِلَيْهِ رَسْمُهُ حَتَّى قُبِضَ. وَلَهُ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِثِيَابِهِ مِنْ عَلَى بَدَنِهِ فِي بَعْضِ السِّنِينَ الَّتِي تَعَذَّرَتِ الْأَقْوَاتُ فِيهَا. ذِكْرُ إِجْلَاءِ الْقَارْغَلِّيَّةِ مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ كَانَ خَانْ خَانَانِ الصِّينِيُّ مَلِكُ الْخَطَا قَدْ فَوَّضَ وِلَايَةَ سَمَرْقَنْدَ وَبُخَارَى إِلَى الْخَانْ جَغْرِي خَانْ بْنِ حَسَنِ تَكِينَ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ، قَدِيمِ الْأُبُوَّةِ، فَبَقِيَ فِيهَا مُدَبِّرًا لِأُمُورِهَا، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَلِكُ الْخَطَا بِإِجْلَاءِ الْأَتْرَاكِ الْقَارْغِلِّيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ إِلَى كَاشْغِرَ، وَأَنْ يَتْرُكُوا حَمْلَ السِّلَاحِ، وَيَشْتَغِلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، فَتَقَدَّمَ جَغْرِي خَانْ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَامْتَنَعُوا، فَأَلْزَمَهُمْ وَأَلَحَّ

عَلَيْهِمْ بِالِانْتِقَالِ، فَاجْتَمَعُوا وَصَارَتْ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً، فَكَثُرُوا، وَسَارُوا إِلَى بُخَارَى، فَأَرْسَلَ الْفَقِيهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ بُرْهَانِ الدِّينِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَازَةَ، رَئِيسُ بُخَارَى، إِلَى جَغْرِي خَانْ يُعْلِمُهُ ذَلِكَ وَيَحُثُّهُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ بِعَسَاكِرِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْظُمَ شَرُّهُمْ، وَيَنْهَبُوا الْبِلَادَ. وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَ مَازَةَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ الْكُفَّارَ بِالْأَمْسِ لَمَّا طَرَقُوا هَذِهِ الْبِلَادَ امْتَنَعُوا عَنِ النَّهْبِ وَالْقَتْلِ، وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، غُزَاةٌ، يَقْبُحُ مِنْكُمْ مَدُّ الْأَيْدِي إِلَى الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ، وَأَنَا أَبْذُلُ لَكُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا تَرْضَوْنَ بِهِ لِتَكُفُّوا عَنِ النَّهْبِ وَالْغَارَةِ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ فِي تَقْرِيرِ الْقَاعِدَةِ، وَابْنُ مَازَةَ يُطَاوِلُ بِهِمْ وَيُمَادِي الْأَيَّامَ إِلَى أَنْ وَصَلَ جَغْرِي خَانْ، فَلَمْ يَشْعُرِ الْأَتْرَاكُ الْقَارْغَلِّيَّةُ إِلَّا وَقَدْ دَهَمَهُمْ جَغْرِي خَانْ فِي جُيُوشِهِ بَغْتَةً وَوَضَعَ السَّيْفَ فِيهِمْ. فَانْهَزَمُوا، وَتَفَرَّقُوا، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ وَالنَّهْبُ. وَاخْتَفَى طَائِفَةٌ فِي الْغِيَاضِ وَالْآجَامِ، ثُمَّ ظَفِرَ بِهِمْ أَصْحَابُ جَغْرِي خَانْ فَقَطَعُوا دَابِرَهُمْ، وَدَفَعُوا عَنْ بُخَارَى وَنَوَاحِيهَا ضَرَرَهُمْ، وَخَلَتْ تِلْكَ الْأَرْضُ مِنْهُمْ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ سُنْقُرَ عَلَى الطَّالْقَانِ وَغَرْشِسْتَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى الْأَمِيرُ صَلَاحُ الدِّينِ سُنْقُرُ، وَهُوَ مِنْ مَمَالِيكِ السَّنْجَرِيَّةِ، عَلَى بِلَادِ الطَّالْقَانِ، وَأَغَارَ عَلَى حُدُودِ غَرْشِسْتَانَ، وَتَابَعَ الْغَارَاتِ عَلَيْهَا حَتَّى مَلَكَهَا، فَصَارَتِ الْوِلَايَتَانِ لَهُ وَبِحُكْمِهِ، وَلَهُ فِيهِمَا حُصُونٌ مَنِيعَةٌ، وَقِلَاعٌ حَصِينَةٌ، وَصَالَحَ الْأُمَرَاءَ الْغُزِّيَّةَ، وَحَمَلَ لَهُمُ الْإِتَاوَةَ كُلَّ سَنَةٍ. ذِكْرُ قَتْلِ صَاحِبِ هَرَاةَ كَانَ صَاحِبُ هَرَاةَ الْأَمِيرُ إِيتَكِينُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُزِّ مُهَادَنَةً، فَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلِكُ الْغُورِ مُحَمَّدٌ طَمِعَ فِي بِلَادِهِمْ، فَغَزَاهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَنَهَبَ وَأَغَارَ، فَلَمَّا كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ إِيتِكِينُ جُمُوعَهُ وَسَارَ إِلَى بِلَادِ الْغُورِ، وَسَارُوا إِلَى بَامَيَانَ وَإِلَى وِلَايَةِ بُسْتَ وَالرُّخَّجِ، فَقَاتَلَهُ صَاحِبُهَا طُغْرُلُ تَكِينَ يَرْنَقْشُ الْفَلَكِيُّ مِنْ قِبَلِ الْغُورِيَّةِ، فَظَهَرُوا إِلَى بَامِيَانَ، وَاسْتَوْلَى [عَلَى] بُسْتَ وَالرُّخَجِ فَسَلَّمَهَا إِلَى بَعْضِ أَوْلَادِ مُلُوكِ

الْغُورِ، وَأَمَّا إِيتِكِينُ فَإِنَّهُ تَوَغَّلَ فِي بِلَادِ الْغُورِ، فَأَتَاهُ أَهْلُهَا، وَقَاتَلُوهُ، وَصَدُّوهُ، وَصَدَقُوهُ الْقِتَالَ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُهُ، وَقُتِلَ هُوَ فِي الْمَعْرَكَةِ. ذِكْرُ مُلِكِ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ قُومَسَ وَبَسِطَامًا قَدْ ذَكَرْنَا اسْتِيلَاءَ الْمُؤَيَّدِ صَاحِبِ نَيْسَابُورَ عَلَى قُومَسَ وَبَسِطَامَ وَتِلْكَ الْبِلَادِ، وَأَنَّهُ اسْتَنَابَ بِهَا مَمْلُوكَهُ تِنْكِزَ، فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ جَهَّزَ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ جَيْشًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا لَهُ يُعْرَفُ بِسَابِقِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ، فَسَارَ إِلَى دَامِغَانَ، فَمَلَكَهَا، فَجَمَعَ تِنْكِزُ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ وَسَارَ إِلَيْهِ إِلَى دَامِغَانَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْقَزْوِينِيُّ، فَوَصَلَ إِلَى تِنْكِزَ عَلَى غِرَّةٍ مِنْهُ، فَلَمْ يَشْعُرْ هُوَ وَعَسْكَرُهُ إِلَّا وَقَدْ كَبَسَهُمُ الْقَزْوِينِيُّ وَوَضَعَ السَّيْفَ فِيهِمْ، فَتَفَرَّقُوا وَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، وَاسْتَوْلَى عَسْكَرُ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ، وَعَادَ تِنْكِزُ إِلَى الْمُؤَيَّدِ صَاحِبِ نَيْسَابُورَ. وَاشْتَغَلَ بِالْغَارَةِ عَلَى بَسْطَامَ وَبِلَادِ قُومَسَ. ذِكْرُ عِصْيَانِ غُمَارَةَ بِالْمَغْرِبِ لَمَّا تَحَقَّقَ النَّاسُ مَوْتَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، ثَارَتْ قَبَائِلُ غُمَارَةَ مَعَ مِفْتَاحِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ مُقَدَّمًا كَبِيرًا فِيهِمْ، وَتَبِعُوهُ بِأَجْمَعِهِمْ، وَامْتَنَعُوا فِي جِبَالِهِمْ، وَهِيَ مَعَاقِلُ مَانِعَةٌ، وَهُمْ أُمَمٌ جَمَّةٌ، فَتَجَهَّزَ إِلَيْهِمْ أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَمَعَهُ أَخَوَاهُ عَمْرٌو وَعُثْمَانُ، فِي جَيْشٍ كَبِيرٍ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ وَالْعَرَبِ، وَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِمْ، فَاقْتَتَلُوا سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَانْهَزَمَتْ غُمَارَةُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، وَفِيمَنْ قُتِلَ مِفْتَاحُ بْنُ عَمْرٍو مُقَدَّمُهُمْ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ وَمُقَدَّمِيهِمْ، وَمَلَكُوا بِلَادَهُمْ عَنْوَةً. وَكَانَ هُنَاكَ قَبَائِلُ كَثِيرَةٌ يُرِيدُونَ الْفِتْنَةَ، فَانْتَظَرُوا مَا يَكُونُ مِنْ غُمَارَةَ، فَلَمَّا قُتِلُوا ذَلَّتْ تِلْكَ الْقَبَائِلُ وَانْقَادُوا لِلطَّاعَةِ، وَلَمْ يَبْقَ مُتَحَرِّكٌ لِفِتْنَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، فَسَكَنَتِ الدَّهْمَاءُ فِي جَمِيعِ الْمَغْرِبِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَغَارَ الْأَمِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ أُنُزَ عَلَى بَلَدِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ بِخُرَاسَانَ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ، وَأَسَرَ وَسَبَى وَأَكْثَرَ، وَمَلَأَ أَصْحَابُهُ أَيْدِيَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْفَضْلِ نَصْرُ بْنُ خَلَفٍ مَلِكُ سِجِسْتَانَ، وَعُمُرُهُ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَمُدَّةُ مُلْكِهِ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ، وَكَانَ أَبُو الْفَضْلِ مَلِكًا عَادِلًا عَفِيفًا عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَلَهُ آثَارٌ حَسَنَةٌ فِي نُصْرَةِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ فِي غَيْرِ مَوْقِفٍ. وَفِيهَا خَرَجَ مَلِكُ الرُّومِ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي عَسَاكِرَ لَا تُحْصَى وَقَصَدَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ الَّتِي بِيَدِ قَلْجِ أَرْسِلَان وَابْنِ دَانِشْمَنْدَ، فَاجْتَمَعَ التُّرْكُمَانُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ فِي جَمْعٍ كَبِيرٍ، فَكَانُوا يُغِيرُونَ عَلَى أَطْرَافِ عَسْكَرِهِ لَيْلًا، فَإِذَا أَصْبَحَ لَا يَرَى أَحَدًا. وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الرُّومِ حَتَّى بَلَغَتْ عِدَّةُ الْقَتْلَى عَشَرَاتِ أُلُوفٍ، فَعَادَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَلَمَّا عَادَ مَلَكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ عِدَّةَ حُصُونٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْإِمَامُ عُمَرُ الْخُوَارَزْمِيُّ خَطِيبُ بَلْخَ وَمُفْتِيهَا بِهَا. وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْمَحْمُودِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ وَالْأَشْعَارِ، وَلَهُ مَقَامَاتٌ بِالْفَارِسِيَّةِ عَلَى نَمَطِ مَقَامَاتِ الْحَرِيرِيِّ بِالْعَرَبِيَّةِ.

ثم دخلت سنة ستين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 560 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ وَمُلْكِ ابْنِهِ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَامِنِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ رُسْتُمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَهْرَيَارَ بْنِ قَارِنَ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ كَتَمَ ابْنُهُ عَلَاءُ الدِّينِ الْحَسَنُ مَوْتَهُ أَيَّامًا، حَتَّى اسْتَوْلَى عَلَى سَائِرِ الْحُصُونِ وَالْبِلَادِ، ثُمَّ أَظْهَرَهُ، فَلَمَّا ظَهَرَ خَبَرُ وَفَاتِهِ أَظْهَرَ إِيثَاقُ صَاحِبُ جُرْجَانَ وَدِهِسْتَانَ الْمُنَازَعَةَ لِوَلَدِهِ فِي الْمُلْكِ، وَلَمْ يَرْعَ حَقَّ أَبِيهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَذُبُّ عَنْهُ وَيَحْمِيهِ إِذَا الْتَجَأَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ، وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ مُنَازَعَتِهِ عَلَى شَيْءٍ غَيْرَ سُوءِ السُّمْعَةِ وَقُبْحِ الْأُحْدُوثَةِ. ذِكْرُ حَصْرِ عَسْكَرِ الْمُؤَيَّدِ نَسَا وَرَحِيلِهِمْ عَنْهَا كَانَ الْمُؤَيَّدُ قَدْ سَيَّرَ جَيْشًا إِلَى مَدِينَةِ نَسَا، فَحَصَرُوهَا إِلَى جُمَادَى الْأُولَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَسَيَّرَ خُوَارَزْم شَاهْ أَيْل أَرْسِلَان بْنُ أَتْسِزَ جَيْشًا إِلَى نَسَا، فَلَمَّا قَارَبُوهَا رَحَلَ عَنْهَا عَسْكَرُ الْمُؤَيَّدِ، وَعَادُوا إِلَى نَيْسَابُورَ أَوَاخِرَ جُمَادَى الْأُولَى. وَسَارَ عَسْكَرُ الْمُؤَيَّدِ إِلَى عَسْكَرِ خُوَارَزْمَ، لِأَنَّهُمْ تَوَجَّهُوا إِلَى نَيْسَابُورَ، فَتَقَدَّمَ الْعَسْكَرُ الْمُؤَيَّدِيُّ لِيَرُدَّهُمْ عَنْهَا، فَلَمَّا سَمِعَ الْعَسْكَرُ الْخُوَارَزْمِيُّ بِهِمْ عَادَ عَنْهُمْ، وَصَارَ صَاحِبُ نَسَا فِي طَاعَةِ خُوَارَزْم شَاهْ وَالْخُطْبَةُ لَهُ فِيهَا. وَسَارَ عَسْكَرُ خُوَارَزْمَ إِلَى دِهِسْتَانَ، فَالْتَجَأَ صَاحِبُهَا الْأَمِيرُ إِيثَاقُ إِلَى الْمُؤَيَّدِ،

صَاحِبِ نَيْسَابُورَ، بَعْدَ تَمَكُّنِ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُمَا، فَقَبِلَهُ الْمُؤَيَّدُ وَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا، فَأَقَامُوا عِنْدَهُ حَتَّى دَفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَبَلَدِهِ مِنْ جِهَةِ طَبَرِسْتَانَ. وَأَمَّا دِهِسْتَانُ فَإِنَّ عَسْكَرَ خُوَارَزْمَ غَلَبُوا عَلَيْهَا وَصَارَ لَهُمْ فِيهَا شِحْنَةٌ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْمُؤَيَّدِ عَلَى هَرَاةَ قَدْ ذَكَرْنَا قَتْلَ صَاحِبِ هَرَاةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، فَلَمَّا قُتِلَ تَجَهَّزَ الْأُمَرَاءُ الْغُزِّيَّةُ وَسَارُوا إِلَى هَرَاةَ وَحَصَرُوهَا، وَقَدْ تَوَلَّى أَمْرَهَا إِنْسَانٌ يُلَقَّبُ أَثِيرَ الدِّينِ، وَكَانَ لَهُ مَيْلٌ إِلَى الْغُزِّ، وَهُوَ يُحَارِبُهُمْ ظَاهِرًا، وَيُرَاسِلُهُمْ بَاطِنًا، فَهَلَكَ لِهَذَا السَّبَبِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ هَرَاةَ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُهَا فَقَتَلُوهُ، وَقَامَ مَقَامَهُ أَبُو الْفُتُوحِ عَلِيُّ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ الطُّغْرَائِيُّ، فَأَرْسَلَ أَهْلُهَا إِلَى الْمُؤَيَّدِ أَيْ أَبَهْ، صَاحِبِ نَيْسَابُورَ، بِالطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ مَمْلُوكَهُ سَيْفَ الدِّينِ تِنْكِزَ فِي جَيْشٍ، وَسَيَّرَ جَيْشًا آخَرَ أَغَارُوا عَلَى سَرْخَسَ، وَمَرْوَ، فَأَخَذُوا دَوَابَّ الْغُزِّ وَعَادُوا سَالِمِينَ، فَلَمَّا سَمِعَ الْغُزُّ بِذَلِكَ رَحَلُوا عَنْ هَرَاةَ إِلَى مَرْوَ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ قَلْجِ أَرْسِلَان وَبَيْنَ ابْنِ دَانِشْمَنْدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْمَلِكِ قَلْجِ أَرْسِلَان بْنِ مَسْعُودِ بْنِ قَلْجِ أَرْسِلَان، صَاحِبِ قُونِيَةَ وَمَا يُجَاوِرُهَا مِنْ بَلَدِ الرُّومِ، وَبَيْنَ يَاغِي أَرْسِلَان بْنِ دَانِشْمَنْدَ، صَاحِبِ مَلَطْيَةَ وَمَا يُجَاوِرُهَا مِنْ بَلَدِ الرُّومِ، وَجَرَى بَيْنَهُمَا حَرْبٌ شَدِيدَةٌ. وَسَبَبُهَا أَنْ قَلْجَ أَرْسِلَان تَزَوَّجَ ابْنَةَ الْمَلِكِ صَلِيقَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، فَسُيِّرَتِ الزَّوْجَةُ إِلَى قَلْجِ أَرْسِلَان مَعَ جَهَازٍ كَثِيرٍ لَا يُعْلَمُ قَدْرُهُ، وَأَغَارَ يَاغِي أَرْسِلَان صَاحِبُ مَلَطْيَةَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ الْعَرُوسَ وَمَا مَعَهَا وَأَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِابْنِ أَخِيهِ ذِي النُّونِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دَانِشْمَنْدَ، فَأَمَرَهَا بِالرِّدَّةِ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَفَعَلَتْ ; لِيَنْفَسِخَ النِّكَاحُ مِنْ قَلْجِ أَرْسِلَان، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَزَوَّجَهَا مِنِ ابْنِ أَخِيهِ، فَجَمَعَ قَلْجُ أَرْسِلَان عَسْكَرَهُ وَسَارَ إِلَى ابْنِ دَانِشْمَنْدَ، فَالْتَقَيَا وَاقْتَتَلَا، فَانْهَزَمَ قَلْجُ أَرْسِلَان، وَالْتَجَأَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، وَاسْتَنْصَرَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيرًا، فَمَاتَ يَاغِي أَرْسِلَان بْنُ دَانِشْمَنْدَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، وَمَلَكَ قَلْجُ

أَرْسِلَان بَعْضَ بِلَادِهِ، وَاصْطَلَحَ هُوَ وَالْمَلِكُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دَانِشْمَنْدَ، لِأَنَّهُ مَلَكَ الْبِلَادَ بَعْدَ عَمِّهِ يَاغِي أَرْسِلَان، وَاسْتَوْلَى ذُو النُّونِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دَانِشْمَنْدَ عَلَى مَدِينَةِ قَيْسَارِيَّةَ، وَمَلَكَ شَاهَان شَاهْ بْنُ مَسْعُودٍ أَخُو قَلْجِ أَرْسِلَان عَلَى مَدِينَةِ أَنْكُورِيَّةَ وَاسْتَقَرَّتِ الْقَوَاعِدُ بَيْنَهُمْ وَاتَّفَقُوا. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ نُورِ الدِّينِ وَقَلْجِ أَرْسِلَان فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَحْشَةٌ مُتَأَكَّدَةٌ بَيْنَ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي، صَاحِبِ الشَّامِ، وَبَيْنَ قَلْجِ أَرْسِلَان بْنِ مَسْعُودِ بْنِ قَلْجِ أَرْسِلَان، صَاحِبِ الرُّومِ، أَدَّتْ إِلَى الْحَرْبِ وَالتَّضَاغُنِ، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهَا إِلَى مِصْرَ كَتَبَ الصَّالِحُ بْنُ رُزَّيْكَ، وَزِيرُ صَاحِبِ مِصْرَ، إِلَى قَلْجِ أَرْسِلَان يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَيَأْمُرُهُ بِمُوَافَقَتِهِ، وَكَتَبَ فِيهِ شِعْرًا: نَقُولُ وَلَكِنْ أَيْنَ مَنْ يَتَفَهَّمُ ... وَيَعْلَمُ وَجْهَ الرَّأْيِ وَالرَّأْيُ مُبْهَمُ وَمَا كُلُّ مَنْ قَاسَ الْأُمُورَ وَسَاسَهَا ... يُوَفَّقُ لِلْأَمْرِ الَّذِي هُوَ أَحْزَمُ وَمَا أَحَدٌ فِي الْمُلْكِ يَبْقَى مُخَلَّدًا ... وَمَا أَحَدٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ يَسْلَمُ أَمِنْ بَعْدِ مَا ذَاقَ الْعِدَى طَعْمَ حَرْبِكُمْ [بِفَيْهِمْ وَكَانَتْ] وَهِيَ صَابٌ وَعَلْقَمُ ... رَجَعْتُمْ إِلَى حُكْمِ التَّنَافُسِ بَيْنَكُمْ وَفِيكُمْ مِنَ الشَّحْنَاءِ نَارٌ تُضْرَمُ ... أَمَا عِنْدَكُمْ مَنْ يَتَّقِي اللَّهَ وَحْدَهُ أَمَا فِي رَعَايَاكُمْ مِنَ النَّاسِ مُسْلِمُ ... تَعَالَوْا لَعَلَّ اللَّهَ يَنْصُرُ دِينَهُ إِذَا مَا نَصَرْنَا الدِّينَ نَحْنُ وَأَنْتُمُ ... وَنَنْهَضُ نَحْوَ الْكَافِرِينَ بِعَزْمَةٍ بِأَمْثَالِهَا تُحْوَى الْبِلَادُ وَتُقْسَمُ وَهِيَ أَطْوَلُ مِنْ هَذِهِ، هَكَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذِهِ الْحَادِثَةَ وَأَنَّ الصَّالِحَ أَرْسَلَ بِهَذَا الشِّعْرِ، فَإِنْ كَانَ الشِّعْرُ لِلصَّالِحِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْحَادِثَةُ قَبْلَ هَذَا التَّارِيخِ، لِأَنَّ الصَّالِحَ قُتِلَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] فِي رَمَضَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشِّعْرُ لَهُ فَالْحَادِثَةُ فِي هَذَا التَّارِيخِ، (وَيُحْتَمَلُ) أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّنَافُسُ كَانَ أَيَّامَ الصَّالِحِ (فَكَتَبَ الْأَبِيَّاتِ ثُمَّ) امْتَدَّ إِلَى الْآنِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرَ، وَقَعَ بِأَصْفَهَانَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ صَدْرِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّطِيفِ بْنِ الْخَجَنْدِيِّ وَبَيْنَ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ، بِسَبَبِ التَّعَصُّبِ لِلْمَذَاهِبِ، فَدَامَ الْقِتَالُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةً قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَاحْتَرَقَ وَهُدِمَ كَثِيرٌ مِنَ الدُّورِ وَالْأَسْوَاقِ، ثُمَّ افْتَرَقُوا عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ. وَفِيهَا بَنَى الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ قَلْعَةً بِالْقُرْبِ مِنْ قَزْوِينَ، فَقِيلَ لِشَمْسِ الدِّينِ إِيلْدِكْزَ عَنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِنْكَارٌ لِهَذِهِ الْحَالِ خَوْفًا مِنْ شَرِّهِمْ وَغَائِلَتِهِمْ، فَتَقَدَّمُوا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قَزْوِينَ، فَحَصَرُوهَا، وَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ. وَحَكَى لِي بَعْضُ أَصْدِقَائِنَا بَلْ مَشَايِخِنَا مِنَ الْأَئِمَّةِ الْفُضَلَاءِ، قَالَ: كُنْتُ بِقَزْوِينَ أَشْتَغِلُ بِالْعِلْمِ، وَكَانَ بِهَا إِنْسَانٌ يَقُودُ جَمْعًا كَبِيرًا، وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالشَّجَاعَةِ، وَلَهُ عِصَابَةٌ حَمْرَاءُ، إِذَا قَاتَلَ عَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ، قَالَ: فَكُنْتُ أُحِبُّهُ وَأَشْتَهِي الْجُلُوسَ مَعَهُ، قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ يَوْمًا إِذَا هُوَ يَقُولُ: كَأَنِّي بِالْمَلَاحِدَةِ وَقَدْ قَصَدُوا الْبَلَدَ غَدًا، فَخَرَجْنَا إِلَيْهِمْ وَقَاتَلْنَاهُمْ، فَكُنْتُ أَوَّلَ النَّاسِ وَأَنَا مُتَعَصِّبٌ بِهَذِهِ الْعِصَابَةِ، فَقَتَلْنَاهُمْ، فَلَمْ يُقْتَلْ غَيْرِي، ثُمَّ تَرْجِعُ الْمَلَاحِدَةُ، وَيَرْجِعُ أَهْلُ الْبَلَدِ. قَالَ: فَوَ اللَّهِ لَمَّا كَانَ الْغَدُ إِذْ قَدْ وَقَعَ الصَّوْتُ بِوُصُولِ الْمَلَاحِدَةِ، فَخَرَجَ النَّاسُ، قَالَ: فَذَكَرْتُ قَوْلَ الرَّجُلِ، فَخَرَجْتُ وَاللَّهِ وَلَيْسَ لِي هِمَّةٌ إِلَّا [أَنْ] أَنْظُرَ هَلْ يَصِحُّ مَا قَالَ أَمْ لَا؟ قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا قَلِيلٌ حَتَّى عَادَ النَّاسُ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَيْدِيهِمْ قَتِيلًا بِعِصَابَتِهِ الْحَمْرَاءِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ بَيْنَهُمْ غَيْرُهُ، فَبَقِيتُ مُتَعَجِّبًا مِنْ قَوْلِهِ كَيْفَ صَحَّ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَمِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا الْيَقِينُ؟ وَلَمَّا حَكَى لِي هَذِهِ الْحِكَايَةَ لَمْ أَسْأَلْهُ عَنْ تَارِيخِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، فَلِهَذَا أُثْبِتُهَا هَذِهِ السَّنَةَ عَلَى الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ. وَفِيهَا قَبَضَ الْمُؤَيَّدُ أَيْ أَبَهْ، صَاحِبُ نَيْسَابُورَ، عَلَى وَزِيرِهِ ضِيَاءِ الْمُلْكِ مُحَمَّدِ بْنِ

أَبِي طَالِبٍ سَعْدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ مَحْمُودٍ الرَّازِيِّ وَحَبَسَهُ، وَاسْتَوْزَرَ بَعْدَهُ نَصِيرَ الدِّينِ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدٍ الْمُسْتَوْفِيِّ، وَكَانَ أَيَّامَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ يَتَوَلَّى إِشْرَافَ دِيوَانِهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الدَّوْلَةِ السَّنْجَرِيَّةِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ أَنَّ النَّاسَ حَجُّوا سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَلَقُوا شِدَّةً، وَانْقَطَعَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي فَيْدَ، وَالثَّعْلَبِيَّةِ، وَوَاقِصَةَ، وَغَيْرِهَا، وَهَلَكَ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَمْضِ الْحَاجُّ إِلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَلِشَدَّةِ الْغَلَاءِ فِيهَا، وَعَدَمِ مَا يُقْتَاتُ، وَوَقَعَ الْوَبَاءُ فِي الْبَادِيَةِ وَهَلَكَ مِنْهُمْ عَالَمٌ لَا يُحْصَوْنَ، وَهَلَكَتْ مَوَاشِيهِمْ، وَكَانَتِ الْأَسْعَارُ بِمَكَّةَ غَالِيَةً. وَفِيهَا، فِي صَفَرَ، قَبَضَ الْمُسْتَنْجِدُ بِاللَّهِ عَلَى الْأَمِيرِ تَوْبَةَ بْنِ الْعُقَيْلِيِّ، وَكَانَ قَدْ قَرُبَ مِنْهُ قُرْبًا عَظِيمًا بِحَيْثُ يَخْلُو مَعَهُ، وَأَحَبَّهُ الْمُسْتَنْجِدُ مَحَبَّةً كَثِيرَةً، فَحَسَدَهُ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ، فَوَضَعَ كُتُبَا مِنَ الْعَجَمِ مَعَ قَوْمٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِيُؤْخَذُوا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَأُخِذُوا وَأُحْضِرُوا عِنْدَ الْخَلِيفَةِ، فَأَظْهَرُوا الْكُتُبَ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ الشَّدِيدِ، فَلَمَّا وَقَفَ الْخَلِيفَةُ عَلَيْهَا خَرَجَ إِلَى نَهْرِ الْمَلِكِ يَتَصَيَّدُ، وَكَانَتْ حِلَلُ تَوْبَةَ عَلَى الْفُرَاتِ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، فَأَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَقُبِضَ وَأُدْخِلَ بَغْدَادَ لَيْلًا وَحُبِسَ، فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ، فَلَمْ يُمَتَّعِ الْوَزِيرُ بَعْدَهُ بِالْحَيَاةِ بَلْ مَاتَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ تَوْبَةُ مَنْ أَكْمَلِ الْعَرَبِ مُرُوءَةً وَعَقْلًا وَسَخَاءً وَإِجَازَةً، وَاجْتَمَعَ فِيهِ مِنْ خِلَالِ الْكَمَالِ مَا تَفَرَّقَ فِي النَّاسِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ الشِّهَابُ مَحْمُودُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْحَامِدِيُّ الْهَرَوِيُّ وَزِيرُ السُّلْطَانِ أَرْسِلَان، وَوَزِيرُ أَتَابِكِهِ شَمْسِ الدِّينِ إِيلْدِكْزَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَوْنُ الدِّينِ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ، وَاسْمُهُ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ أَبُو الْمُظَفَّرِ، وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَدُفِنَ

بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي بَنَاهَا لِلْحَنَابِلَةِ بِبَابِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ حَنْبَلِيَّ الْمَذْهَبِ، دَيِّنًا، خَيِّرًا، عَالِمًا يَسْمَعُ حَدِيثَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَهُ فِيهِ التَّصَانِيفُ الْحَسَنَةُ، وَكَانَ ذَا رَأْيٍ سَدِيدٍ، وَنَافَقَ عَلَى الْمُقْتَفِي نِفَاقًا عَظِيمًا، حَتَّى إِنَّ الْمُقْتَفِي كَانَ يَقُولُ: لَمْ يَزِرْ لِبَنِي الْعَبَّاسِ مِثْلُهُ، وَلَمَّا مَاتَ قَبَضَ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَهْلِهِ. وَتُوُفَّيَ بِهَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْبَغْدَادِيُّ بِالْمَوْصِلِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْ قَوْلِهِ: أَفْدِي الَّذِي وَكَّلَنِي حُبُّهُ ... بِطُولِ إِعْلَالٍ وَإِمْرَاضٍ وَلَسْتُ أَدْرِي بَعْدَ ذَا كُلِّهِ ... أَسَاخِطٌ مَوْلَايَ أَمْ رَاضٍ وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ عُمَرُ بْنُ عِكْرِمَةَ بْنِ الْبَرْزِيِّ الشَّافِعِيُّ، (تَفَقَّهَ عَلَى الْفَقِيهِ) إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيِّ، وَكَانَ وَاحِدَ عَصْرِهِ فِي الْفِقْهِ، تَأْتِيهِ الْفَتَاوَى مِنَ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَسَائِرِ الْبِلَادِ، وَهُوَ مِنْ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ.

ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 561 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ فَتْحِ الْمُنَيْطِرَةِ مِنْ بَلَدِ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي حِصْنَ الْمُنَيْطِرَةِ مِنَ الشَّامِ، وَكَانَ بِيَدِ الْفِرِنْجِ، وَلَمْ يَحْشُدْ لَهُ، وَلَا جَمَعَ عَسَاكِرَهُ، وَإِنَّمَا سَارَ إِلَيْهِ جَرِيدَةً عَلَى غِرَّةٍ مِنْهُمْ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنْ جَمَعَ الْعَسَاكِرَ حَذِرُوا وَجَمَعُوا، وَانْتَهَزَ الْفُرْصَةَ وَسَارَ إِلَى الْمُنَيْطِرَةِ وَحَصَرَهُ، وَجَدَّ فِي قِتَالِهِ، فَأَخَذَهُ عَنْوَةً وَقَهْرًا، وَقَتَلَ مَنْ بِهَا وَسَبَى، وَغَنِمَ غَنِيمَةً كَثِيرَةً، فَإِنَّ الَّذِينَ بِهِ كَانُوا آمِنِينَ، فَأَخَذَتْهُمْ خَيْلُ اللَّهِ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَلَمْ يَجْتَمِعِ الْفِرِنْجُ لِدَفْعِهِ إِلَّا وَقَدْ مَلَكَهُ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُ جَرِيدَةٌ فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَسَاكِرِ لَأَسْرَعُوا إِلَيْهِ، إِنَّمَا ظَنُّوهُ أَنَّهُ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ. فَلَمَّا مَلَكَهُ تَفَرَّقُوا وَأَيِسُوا مِنْ رَدِّهِ. ذِكْرُ قَتْلِ خَطَلْبِرْسَ مُقْطَعَ وَاسِطٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ خَطَلْبِرْسُ مُقْطَعُ وَاسِطٍ، قَتَلَهُ ابْنُ أَخِي شُمْلَةَ صَاحِبُ خُوزَسْتَانَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ سَنْكَا، وَهُوَ ابْنُ أَخِي شُمْلَةَ، كَانَ قَدْ صَاهَرَ مُنْكُوبَرْسَ مُقْطَعَ

الْبَصْرَةِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ الْمُسْتَنْجِدَ بِاللَّهِ قَتَلَ مُنْكُوبَرْسَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَلَمَّا قُتِلَ قَصَدَ ابْنَ سَنْكَا الْبَصْرَةَ وَنَهَبَ قُرَاهَا، فَأَرْسَلَ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى كَمُشْتَكِينَ، صَاحِبِ الْبَصْرَةِ، بِمُحَارَبَةِ ابْنِ سَنْكَا، فَقَالَ: أَنَا عَامِلٌ لَسْتُ بِصَاحِبِ جَيْشٍ، يَعْنِي أَنَّهُ ضَامِنٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِقَامَةِ عَسْكَرٍ، فَطَمِعَ ابْنُ سَنْكَا، وَأَصْعَدَ إِلَى وَاسِطٍ، وَنَهَبَ سَوَادَهَا، فَجَمَعَ خَطَلْبِرْسُ مُقْطَعُهَا جَمْعًا وَخَرَجَ إِلَى قِتَالِهِ. وَكَاتَبَ ابْنُ سَنْكَا الْأُمَرَاءَ الَّذِينَ مَعَ خَطَلْبِرْسَ، فَاسْتَمَالَهُمْ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُهُ، فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ ابْنُ سَنْكَا عَلَمَ خَطَلْبِرْسَ، فَنَصَبَهُ، فَلَمَّا رَآهُ أَصْحَابُهُ ظَنُّوهُ بَاقِيًا، فَجَعَلُوا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مَنْ رَجَعَ أَخَذَهُ ابْنُ سَنْكَا، فَقَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْكَرَجُ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ وَأَغَارُوا عَلَى بُلْدَانٍ، حَتَّى بَلَغُوا كِنْجَةَ، فَقَتَلُوا وَأَسَرُوا كَثِيرًا وَنَهَبُوا مَا لَا يُحْصَى. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ رُسْتُمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْفَهَانِيُّ الرُّسْتُمِيُّ، الشَّيْخُ الصَّالِحُ، وَهُوَ مَشْهُورٌ يَرْوِي عَنْ أَحْمَدَ بْنِ خَلَفٍ، وَغَيْرِهِ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، تُوُفِّيَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ أَبِي صَالِحٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجِيلِيُّ الْمُقِيمُ بِبَغْدَادَ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ مِنَ الصَّلَاحِ عَلَى حَالَةٍ كَبِيرَةٍ، وَهُوَ حَنْبَلِيُّ الْمَذْهَبِ، وَمَدْرَسَتُهُ وَرِبَاطُهُ مَشْهُورَانِ بِبَغْدَادَ.

ثم دخلت سنة اثنتين وستين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 562 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ عَوْدِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرِكُوهْ إِلَى مِصْرَ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ مَسِيرَ أَسَدِ الدِّينِ شِيرِكُوهْ إِلَى مِصْرَ، وَمَا كَانَ مِنْهُ، وَقُفُولُهُ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الشَّامِ أَقَامَ عَلَى حَالِهِ فِي خِدْمَةِ نُورِ الدِّينِ إِلَى الْآنِ. وَكَانَ بَعْدَ عَوْدِهِ مِنْهَا لَا يَزَالُ يَتَحَدَّثُ بِهَا وَبِقَصْدِهَا، وَكَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ، فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ تَجَهَّزَ وَسَارَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ فِي جَيْشٍ قَوِيٍّ، وَسَيَّرَ مَعَهُ نُورُ الدِّينِ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَبَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَكَانَ كَارِهًا لِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمَّا رَأَى جِدَّ أَسَدِ الدِّينِ فِي الْمَسِيرِ لَمْ يُمْكِنْهُ إِلَّا أَنْ يُسَيِّرَ مَعَهُ جَمْعًا خَوْفًا مِنْ حَادِثٍ يَتَجَدَّدُ عَلَيْهِمْ، فَيَضْعُفُ الْإِسْلَامَ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ مَعَهُ عَسْكَرُهُ سَارَ إِلَى مِصْرَ عَلَى الْبَرِّ، وَتَرَكَ بِلَادَ الْفِرِنْجِ عَلَى يَمِينِهِ، فَوَصَلَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَقَصَدَ إِطْفِيحَ، وَعَبَرَ النِّيلَ عِنْدَهَا إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَنَزَلَ بِالْجِيزَةِ مُقَابِلَ مِصْرَ، وَتَصَرَّفَ فِي الْبِلَادِ الْغَرْبِيَّةِ، وَحَكَمَ عَلَيْهَا، وَأَقَامَ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ يَوْمًا. وَكَانَ شَاوُرُ لَمَّا بَلَغَهُ مَجِيءُ أَسَدِ الدِّينِ إِلَيْهِمْ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى الْفِرِنْجِ يَسْتَنْجِدُهُمْ، فَأَتَوْهُ عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ، طَمَعًا فِي مُلْكِهَا، وَخَوْفًا أَنْ يَمْلِكَهَا أَسَدُ الدِّينِ فَلَا يَبْقَى لَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ مَقَامٌ مَعَهُ وَمَعَ نُورِ الدِّينِ، فَالرَّجَاءُ يَقُودُهُمْ، وَالْخَوْفُ يَسُوقُهُمْ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى مِصْرَ عَبَرُوا إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَكَانَ أَسَدُ الدِّينِ وَعَسَاكِرُهُ قَدْ سَارُوا إِلَى الصَّعِيدِ، فَبَلَغَ مَكَانًا يُعْرَفُ بِالْبَابَيْنِ، وَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ الْمِصْرِيَّةُ وَالْفِرِنْجُ وَرَاءَهُ، فَأَدْرَكُوهُ بِهَا الْخَامِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ أَرْسَلَ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ وَالْفِرِنْجِ جَوَّاسِينَ، فَعَادُوا إِلَيْهِ، وَأَخْبَرُوهُ بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ، وَجَدِّهِمْ فِي طَلَبِهِ، فَعَزَمَ عَلَى قِتَالِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ خَافَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ تَضْعُفَ نُفُوسُهُمْ عَنِ الثَّبَاتِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْخَطَرِ الَّذِي عَطَبُهُمْ فِيهِ أَقْرَبُ مِنْ سَلَامَتِهِمْ، لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَبُعْدِهِمْ عَنْ أَوْطَانِهِمْ وَبِلَادِهِمْ،

وَخَطَرِ الطَّرِيقِ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَكُلُّهُمْ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِعُبُورِ النِّيلِ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ وَالْعَوْدِ إِلَى الشَّامِ، وَقَالُوا لَهُ: إِنْ نَحْنُ انْهَزَمْنَا، وَهُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، فَإِلَى أَيْنَ نَلْتَجِئُ، وَبِمَنْ نَحْتَمِي، وَكُلُّ مَنْ فِي هَذِهِ الدِّيَارِ مِنْ جُنْدِيٍّ وَعَامِيٍّ وَفَلَّاحٍ عَدُوٌّ لَنَا؟ فَقَامَ أَمِيرٌ مِنْ مَمَالِيكِ نُورِ الدِّينِ يُقَالُ لَهُ شَرَفُ الدِّينِ بَزْغُشُ، صَاحِبُ شَقِيفَ، وَكَانَ شُجَاعًا، وَقَالَ: مَنْ يَخَافُ الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ فَلَا يَخْدِمُ الْمُلُوكَ بَلْ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَاللَّهِ لَئِنْ عُدْنَا إِلَى نُورِ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ وَلَا بَلَاءٍ نُعْذَرُ فِيهِ لِيَأْخُذَنَّ مَا لَنَا مِنْ أَقْطَاعٍ وَجَامِكِيَّةٍ، وَلَيَعُودَنَّ عَلَيْنَا بِجَمِيعِ مَا أَخَذْنَاهُ مُنْذُ خَدَمْنَاهُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَيَقُولُ: تَأْخُذُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ وَتَفِرُّونَ عَنْ عَدُوِّهِمْ، وَتُسَلِّمُونَ مِثْلَ مِصْرَ إِلَى الْكُفَّارِ! وَالْحَقُّ بِيَدِهِ. فَقَالَ أَسَدُ الدِّينِ: هَذَا الرَّأْيُ، وَبِهِ أَعْمَلُ، وَقَالَ ابْنُ أَخِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ مِثْلَهُ، وَكَثُرَ الْمُوَافِقُونَ لَهُمْ، وَاجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى الْقِتَالِ، فَأَقَامَ بِمَكَانِهِ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْمِصْرِيُّونَ وَالْفِرِنْجُ وَهُوَ عَلَى تَعْبِئَةٍ، وَجَعَلَ الْأَثْقَالَ فِي الْقَلْبِ يَتَكَثَّرُ بِهَا، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتْرُكَهَا بِمَكَانٍ آخَرَ فَيَنْهَبُهَا أَهْلُ الْبِلَادِ، وَجَعَلَ صَلَاحُ الدِّينِ فِي الْقَلْبِ، وَقَالَ وَلِمَنْ مَعَهُ: إِنَّ الْمِصْرِيِّينَ وَالْفِرِنْجَ يَجْعَلُونَ حَمْلَتَهُمْ عَلَى الْقَلْبِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنِّي فِيهِ، فَإِذَا حَمَلُوا عَلَيْكُمْ فَلَا تَصْدُقُوهُمُ الْقِتَالَ، وَلَا تُهْلِكُوا نُفُوسَكُمْ، وَانْدَفِعُوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَإِذَا عَادُوا عَنْكُمْ، فَارْجِعُوا فِي أَعْقَابِهِمْ. وَاخْتَارَ هُوَ مِنْ شُجْعَانِ عَسْكَرِهِ جَمْعًا يَثِقُ بِهِمْ وَيَعْرِفُ صَبْرَهُمْ فِي الْحَرْبِ، وَوَقَفَ بِهِمْ فِي الْمَيْمَنَةِ، فَلَمَّا تَقَاتَلَ الطَّائِفَتَانِ فَعَلَ الْفِرِنْجُ مَا ذَكَرَهُ، وَحَمَلُوا عَلَى الْقَلْبِ، فَقَاتَلَهُمْ مَنْ بِهِ قِتَالًا يَسِيرًا، وَانْهَزَمُوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ غَيْرَ مُتَفَرِّقِينَ وَتَبِعَهُمُ الْفِرِنْجُ، فَحَمَلَ حِينَئِذٍ أَسَدُ الدِّينِ فِيمَنْ مَعَهُ عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الَّذِينَ حَمَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجِ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، فَهَزَمَهُمْ، وَوَضَعَ السَّيْفَ فِيهِمْ، فَأَثْخَنَ وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ، فَلَمَّا عَادَ الْفِرِنْجُ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ رَأَوْا عَسْكَرَهُمْ مَهْزُومًا، وَالْأَرْضَ قَفْرًا، فَانْهَزَمُوا أَيْضًا، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْجَبِ مَا يُؤَرَّخُ أَنَّ أَلْفَيْ فَارِسٍ تَهْزِمُ عَسَاكِرَ مِصْرَ وَفِرِنَجَ السَّاحِلِ.

ذِكْرُ مُلْكِ أَسَدِ الدِّينِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ وَعَوْدِهِ إِلَى الشَّامِ لَمَّا انْهَزَمَ الْمِصْرِيُّونَ وَالْفِرِنْجُ مِنْ أَسَدِ الدِّينِ بِالْبَابَيْنِ سَارَ إِلَى ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَجَبَى مَا فِي الْقُرَى عَلَى طَرِيقِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَوَصَلَ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَتَسَلَّمَهَا بِمُسَاعَدَةٍ مِنْ أَهْلِهَا سَلَّمُوهَا إِلَيْهِ، فَاسْتَنَابَ بِهَا صَلَاحَ الدِّينِ ابْنَ أَخِيهِ وَعَادَ إِلَى الصَّعِيدِ، فَمَلَكَهُ، وَجَبَى أَمْوَالَهُ، وَأَقَامَ بِهِ حَتَّى صَامَ رَمَضَانَ. وَأَمَّا الْمِصْرِيُّونَ وَالْفِرِنْجُ فَإِنَّهُمْ عَادُوا وَاجْتَمَعُوا عَلَى الْقَاهِرَةِ، وَأَصْلَحُوا حَالَ عَسَاكِرِهِمْ، وَجَمَعُوا وَسَارُوا إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَحَصَرُوا صَلَاحَ الدِّينِ بِهَا، وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ، وَقَلَّ الطَّعَامُ عَلَى مَنْ بِهَا، فَصَبَرَ أَهْلُهَا عَلَى ذَلِكَ، وَسَارَ أَسَدُ الدِّينِ مِنَ الصَّعِيدِ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ شَاوُرُ قَدْ أَفْسَدَ بَعْضَ مَنْ مَعَهُ مِنَ التُّرْكُمَانِ، فَوَصَلَ رُسُلُ الْفِرِنْجِ وَالْمِصْرِيِّينَ يَطْلُبُونَ الصُّلْحَ، وَبَذَلُوا لَهُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ سِوَى مَا أَخَذَهُ مِنَ الْبِلَادِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَشَرَطَ [عَلَى] الْفِرِنْجِ أَنْ لَا يُقِيمُوا بِالْبِلَادِ، وَلَا يَتَمَلَّكُوا مِنْهَا قَرْيَةً وَاحِدَةً، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ، وَاصْطَلَحُوا وَعَادَ إِلَى الشَّامِ، وَتَسَلَّمَ الْمِصْرِيُّونَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ فِي نِصْفِ شَوَّالٍ، وَوَصَلَ شِيرِكُوهْ إِلَى دِمَشْقَ ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ. وَأَمَّا الْفِرِنْجُ فَإِنَّهُمُ اسْتَقَرَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمِصْرِيِّينَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ بِالْقَاهِرَةِ شِحْنَةٌ، وَتَكُونَ أَبْوَابُهَا بِيَدِ فُرْسَانِهِمْ لِيَمْتَنِعَ نُورُ الدِّينِ مِنْ إِنْفَاذِ عَسْكَرٍ إِلَيْهِمْ، وَيَكُونَ لَهُمْ مِنْ دَخْلِ مِصْرَ كُلَّ سَنَةٍ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ. هَذَا كُلُّهُ اسْتَقَرَّ مَعَ شَاوُرَ، فَإِنَّ الْعَاضِدَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ حُكْمٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ حَجَرَ عَلَيْهِ وَحَجَبَهُ عَنِ الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَعَادَ الْفِرِنْجُ إِلَى بِلَادِهِمْ بِالسَّاحِلِ الشَّامِيِّ، وَتَرَكُوا بِمِصْرَ جَمَاعَةً مِنْ مَشَاهِيرِ فُرْسَانِهِمْ. وَكَانَ الْكَامِلُ شُجَاعُ بْنُ شَاوُرَ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى نُورِ الدِّينِ مَعَ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ يُنْهِي

مَحَبَّتَهُ وَوَلَاءَهُ، وَيَسْأَلُهُ الدُّخُولَ فِي طَاعَتِهِ، وَضَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا وَيَجْمَعَ الْكَلِمَةَ بِمِصْرَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَبَذَلَ مَالًا يَحْمِلُهُ كُلَّ سَنَةٍ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ مَالًا جَزِيلًا، فَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَصَدَ الْفِرِنْجُ مِصْرَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مُلْكِ نُورِ الدِّينِ صَافَيْثَا وَعُرَيْمَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ نُورُ الدِّينِ الْعَسَاكِرَ، فَسَارَ إِلَيْهِ أَخُوهُ قُطْبُ الدِّينِ مِنَ الْمَوْصِلِ وَغَيْرِهِ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى حِمْصَ، فَدَخَلَ نُورُ الدِّينِ بِالْعَسَاكِرِ بِلَادَ الْفِرِنْجِ، فَاجْتَازُوا عَلَى حِصْنِ الْأَكْرَادِ، فَأَغَارُوا وَنَهَبُوا، وَقَصَدُوا عِرْقَةَ، فَنَازَلُوهَا، وَحَصَرُوهَا، وَحَصَرُوا حَلْبَةَ وَأَخَذُوهَا وَخَرَّبُوهَا، وَسَارَتْ عَسَاكِرُ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِمْ يَمِينًا وَشِمَالًا تُغِيرُ وَتُخَرِّبُ الْبِلَادَ، وَفَتَحُوا الْعُرَيْمَةَ وَصَافَيْثَا، وَعَادُوا إِلَى حِمْصَ فَصَامُوا بِهَا رَمَضَانَ. ثُمَّ سَارُوا إِلَى بَانِيَاسَ، وَقَصَدُوا حِصْنَ هُونِينَ، وَهُوَ لِلْفِرِنْجِ أَيْضًا، مِنْ أَمْنَعِ حُصُونِهِمْ وَمَعَاقِلِهِمْ، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ عَنْهُ وَأَحْرَقُوهُ، فَوَصَلَ نُورُ الدِّينِ مِنَ الْغَدِ فَهَدَمَ سُورَهُ جَمِيعَهُ، وَأَرَادَ الدُّخُولَ إِلَى بَيْرُوتَ، فَتَجَدَّدَ فِي الْعَسْكَرِ خُلْفٌ أَوْجَبَ التَّفَرُّقَ، فَعَادَ قُطْبُ الدِّينِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَأَعْطَاهُ نُورُ الدِّينِ مَدِينَةَ الرَّقَّةِ عَلَى الْفُرَاتِ، وَكَانَتْ لَهُ، فَأَخَذَهَا فِي طَرِيقِهِ وَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ. ذِكْرُ قَصْدِ ابْنِ سَنْكَا الْبَصْرَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ ابْنُ سَنْكَا فَقَصَدَ الْبَصْرَةَ، وَنَهَبَ بَلَدَهَا وَخَرَّبَهُ مِنَ الْجِهَةِ الشَّرْقِيَّةِ، وَسَارَ إِلَى مَطَارَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ كَمُشْتَكِينُ، صَاحِبُ الْبَصْرَةِ، وَوَاقَعَهُ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا صَبَرَ فِيهِ الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ انْهَزَمَ كَمُشْتَكِينُ إِلَى وَاسِطٍ، فَاجْتَمَعَ بِشَرَفِ الدِّينِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْبَلَدِيِّ النَّاظِرِ فِيهَا، وَمَعَهُمَا مُقْطِعُهُمَا أَرْغَشُ، وَاتَّصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ ابْنَ سَنْكَا وَاصِلٌ إِلَى وَاسِطٍ، فَخَافَ النَّاسُ مِنْهُ خَوْفًا شَدِيدًا، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا.

ذِكْرُ قَصْدِ شُمْلَةَ الْعِرَاقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ شُمْلَةُ صَاحِبُ خُوزَسْتَانَ إِلَى قَلْعَةِ الْمَاهِكِيِّ، مِنْ أَعْمَالِ بَغْدَادَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ يَطْلُبُ شَيْئًا مِنَ الْبِلَادِ، وَيَشْتَطُّ فِي الطَّلَبِ، فَسَيَّرَ الْخَلِيفَةُ أَكْثَرَ عَسَاكِرِهِ إِلَيْهِ ; لِيَمْنَعُوهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يُوسُفَ الدِّمَشْقِيَّ يَلُومُهُ، وَيُحَذِّرُهُ عَاقِبَةَ فِعْلِهِ، فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ إِيلْدِكْزَ وَالسُّلْطَانَ أَرْسِلَان شَاهْ أَقْطَعَا الْمَلِكَ الَّذِي عِنْدَهُ، وَهُوَ وَلَدُ مَلِكْشَاهْ، الْبَصْرَةَ وَوَاسِطًا وَالْحِلَّةَ، وَعَرَضَ التَّوْقِيعَ بِذَلِكَ، وَقَالَ: أَنَا أَقْنَعُ بِثُلُثِ ذَلِكَ، فَعَادَ الدِّمَشْقِيُّ بِذَلِكَ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بَلَعْنِهِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَجُمِعَتِ الْعَسَاكِرُ وَسُيَّرَتِ إِلَى أَرَغْشَ الْمُسْتَرْشِدِيِّ، وَكَانَ بِالنُّعْمَانِيَّةِ هُوَ وَشَرَفُ الدِّينِ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْبَلَدِيِّ، نَاظِرُ وَاسِطٍ، مُقَابِلَ شُمْلَةَ. ثُمَّ إِنَّ شُمْلَةَ أَرْسَلَ قَلْجَ ابْنَ أَخِيهِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ ; لِقِتَالِ طَائِفَةٍ مِنَ الْأَكْرَادِ، فَرَكِبَ أَرْغَشُ فِي بَعْضِ الْعَسْكَرِ الَّذِي عِنْدَهُ، وَسَارَ إِلَى قَلْجَ، فَحَارَبَهُ، فَأَسَرَ قَلْجَ وَبَعْضَ أَصْحَابِهِ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى بَغْدَادَ، وَبَلَغَ شُمْلَةَ، وَطَلَبَ الصُّلْحَ، فَلَمْ تَقَعِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ أَرْغَشَ سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ بَعْدَ الْوَقْعَةِ، فَمَاتَ وَبَقِيَ شُمْلَةُ مُقِيمًا مُقَابِلَ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ رَحَلَ وَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ سَفَرِهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى غَازِي بْنُ حَسَّانٍ الْمَنْبِجِيُّ عَلَى نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي صَاحِبِ الشَّامِ، وَكَانَ نُورُ الدِّينِ قَدْ أَقْطَعَهُ مَدِينَةَ مَنْبِجٍ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ فِيهَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا، فَحَصَرُوهُ، وَأَخَذُوهَا مِنْهُ، وَأَقْطَعَهَا نُورُ الدِّينِ أَخَاهُ قُطْبَ الدِّينِ يَنَالَ بْنَ حَسَّانٍ، وَكَانَ عَادِلًا، خَيِّرًا، مُحْسِنًا إِلَى الرَّعِيَّةِ، جَمِيلَ السِّيرَةِ، فَبَقِيَ فِيهَا إِلَى أَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ فَخْرُ الدِّينِ قُرَا أَرْسِلَان بْنُ دَاوُدَ بْنِ سَقْمَانَ بْنِ أَرْتَقَ صَاحِبُ حِصْنِ

كَيْفَا وَأَكْثَرِ دِيَارِ بَكْرٍ، وَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ أَرْسَلَ إِلَى نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ، صَاحِبِ الشَّامِ، يَقُولُ لَهُ: بَيْنَنَا صُحْبَةٌ فِي جِهَادِ الْكُفَّارِ أُرِيدُ أَنْ تَرْعَى بِهَا وَلَدِي، ثُمَّ تُوُفِّيَ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ نُورُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ، فَقَامَ نُورُ الدِّينِ الشَّامِيُّ بِنُصْرَتِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ، بِحَيْثُ أَنَّ أَخَاهُ قُطْبَ الدِّينِ مَوْدُودًا، صَاحِبَ الْمَوْصِلِ، أَرَادَ قَصْدَ بِلَادِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَخُوهُ نُورُ الدِّينِ يَمْنَعُهُ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنْ قَصَدْتَهُ أَوْ تَعَرَّضْتَ إِلَى بِلَادِهِ مَنَعْتُكَ قَهْرًا، فَامْتَنَعَ مِنْ قَصْدِهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْدُونَ الْكَاتِبُ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ عَلَى دِيوَانِ الزِّمَامِ، فَقُبِضَ عَلَيْهِ فَمَاتَ مَحْبُوسًا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ قَمَاجُ الْمُسْتَرْشَدِيُّ وَلَدُ الْأَمِيرِ، يَزْدِنْ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ.

ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 563 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ فِرَاقِ زَيْنِ الدِّينِ الْمَوْصِلَ وَتَحَكُّمِ قُطْبِ الدِّينِ فِي الْبِلَادِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَارَقَ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ بَكْتَكِينَ، وَالنَّائِبُ عَنْ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِي، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، خِدْمَةَ صَاحِبِهِ بِالْمَوْصِلِ، وَسَارَ إِلَى إِرْبَلَ، وَكَانَ هُوَ الْحَاكِمَ فِي الدَّوْلَةِ، وَأَكْثَرُ الْبِلَادِ بِيَدِهِ، مِنْهَا إِرْبَلُ، وَفِيهَا بَيْتُهُ وَأَوْلَادُهُ وَخِزَانَتُهُ، وَمِنْهَا شَهْرَزُورُ وَجَمِيعُ الْقِلَاعِ الَّتِي مَعَهَا، وَجَمِيعُ بَلَدِ الْهَكَّارِيِّةِ وَقِلَاعِهِ، مِنْهَا الْعِمَادِيَّةُ وَغَيْرُهَا، وَبَلَدُ الْحَمِيدِيَّةِ، وَتَكْرِيتُ وَسَنَجَارُ وَحَرَّانُ، وَقَلْعَةُ الْمَوْصِلِ هُوَ بِهَا، وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُ طَرَشٌ وَعَمًى أَيْضًا، فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْمَوْصِلِ إِلَى بَيْتِهِ بِإِرْبَلَ سَلَّمَ جَمِيعَ مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنَ الْبِلَادِ إِلَى قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودٍ، وَبَقِيَ مَعَهُ إِرْبَلُ حَسْبُ. وَكَانَ شُجَاعًا، عَاقِلًا، عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، سَلِيمَ الْقَلْبِ، مَيْمُونَ النَّقِيبَةِ، لَمْ يَنْهَزِمْ مِنْ حَرْبٍ قَطُّ، وَكَانَ كَرِيمًا كَثِيرَ الْعَطَاءِ لِلْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ، مَدَحَهُ الْحَيْصُ بَيْصُ بِقَصِيدَةٍ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَنْشُدَهُ قَالَ: أَنَا لَا أَعْرِفُ مَا يَقُولُ، وَلَكِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ شَيْئًا، فَأَمَرَ لَهُ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ وَفَرَسٍ وَخِلْعَةٍ وَثِيَابٍ مَجْمُوعُ ذَلِكَ أَلْفُ دِينَارٍ، وَلَمْ يَزَلْ بِإِرْبَلَ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا بِهَذِهِ السَّنَةِ. وَلَمَّا فَارَقَ زَيْنُ الدِّينِ قَلْعَةَ الْمَوْصِلِ سَلَّمَهَا قُطْبُ الدِّينِ إِلَى فَخْرِ الدِّينِ عَبْدِ الْمَسِيحِ وَحَكَّمَهُ فِي الْبِلَادِ، فَعَمَّرَ الْقَلْعَةَ، وَكَانَتْ خَرَابًا لِأَنَّ زَيْنَ الدِّينِ كَانَ قَلِيلَ الِالْتِفَاتَ إِلَى الْعِمَارَةِ، وَسَارَ عَبْدُ الْمَسِيحِ سِيرَةً سَدِيدَةً وَسِيَاسَةً عَظِيمَةً، وَهُوَ خَصِيٌّ أَبْيَضُ مِنْ مَمَالِيكِ زَنْكِي أَتَابِكَ عِمَادِ الدِّينِ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْبَهْلَوَانِ وَصَاحِبِ مَرَاغَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ آقَنَسْقَرُ الْأَحْمَدَيْلِيُّ، صَاحِبُ مَرَاغَةَ، إِلَى بَغْدَادَ يَسْأَلُ أَنْ يَخْطُبَ لِلْمَلِكِ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ، وَهُوَ وَلَدُ السُّلْطَانِ مُحَمَّد شَاهْ، وَيَبْذُلُ أَنَّهُ لَا يَطَأُ أَرْضَ الْعِرَاقِ، وَلَا يَطْلُبُ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، وَبَذَلَ مَالًا يَحْمِلُهُ إِذَا أُجِيبَ إِلَى مَا الْتَمَسَهُ، فَأُجِيبُ بِتَطْيِيبِ قَلْبِهِ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِيلْدِكْزَ صَاحِبَ الْبِلَادِ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ، وَجَهَّزَ عَسْكَرًا كَثِيفًا، وَجَعَلَ الْمُقَدَّمَ عَلَيْهِمُ ابْنَهُ الْبَهْلَوَانَ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى آقَنَسْقَرَ، فَوَقَعَتْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ أَجْلَتْ عَنْ هَزِيمَةَ آقَنَسْقَرَ وَتَحَصُّنِهِ بِمَرَاغَةَ. وَنَازَلَهُ الْبَهْلَوَانُ بِهَا وَحَصَرَهُ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ. ثُمَّ تَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ، فَاصْطَلَحُوا، وَعَادَ الْبَهْلَوَانُ إِلَى أَبِيهِ بِهَمَذَانَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَنْجِدُ بِاللَّهِ شَرَفَ الدِّينِ أَبَا جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْبَلَدِيِّ، وَكَانَ نَاظِرًا بِوَاسِطٍ أَبَانَ فِي وِلَايَتِهَا عَنْ كِفَايَةٍ عَظِيمَةٍ، فَأَحْضَرَهُ الْخَلِيفَةُ وَاسْتَوْزَرَهُ، وَكَانَ عَضُدُ الدِّينِ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ قَدْ تَحَكَّمَ تَحَكُّمًا عَظِيمًا، فَتَقَدَّمَ الْخَلِيفَةُ إِلَى ابْنِ الْبَلَدِيِّ بِكَفِّ يَدِهِ وَأَيْدِي أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَوَكَّلَ بِتَاجِ الدِّينِ أَخِي أُسْتَاذِ الدَّارِ، وَطَالَبَهُ بِحِسَابِ نَهْرِ الْمَلِكِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَتَوَلَّاهُ مِنْ أَيَّامِ الْمُقْتَفِي، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِغَيْرِهِ، فَحَصَّلَ بِذَلِكَ أَمْوَالًا جَمَّةً، وَخَافَهُ أُسْتَاذُ الدَّارِ عَلَى نَفْسِهِ، فَحَمَلَ مَالًا كَثِيرًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ الْمَرْوَزِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ مُكْثِرًا مِنْ سَمَاعِ الْحَدِيثِ، سَافَرَ فِي طَلَبِهِ، وَسَمِعَ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ غَيْرُهُ، وَرَحَلَ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَخُرَاسَانَ دُفُعَاتٍ، وَدَخَلَ إِلَى بَلَدِ الْجَبَلِ، وَأَصْفَهَانَ، وَالْعِرَاقِ، وَالْمَوْصِلِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَالشَّامِ، وَغَيْرِ

ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ، وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْمَشْهُورَةُ مِنْهَا: " ذَيْلُ تَارِيخِ بَغْدَادَ " وَ " تَارِيخُ مَدِينَةِ مَرْوَ "، وَكِتَابُ " النَّسَبِ "، وَغَيْرُ ذَلِكَ، أَحْسَنَ فِيهَا مَا شَاءَ، وَقَدْ جَمَعَ مَشْيَخَتَهُ فَزَادَتْ عِدَّتُهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ شَيْخٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فَقَطَعَهُ. فَمِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الشَّيْخَ بِبَغْدَادَ وَيَعْبُرُ بِهِ إِلَى فَوْقِ نَهْرِ عِيسَى، فَيَقُولُ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَهَذَا بَارِدٌ جِدًّا، فَإِنَّ الرَّجُلَ سَافَرَ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ حَقًّا، وَسَمِعَ فِي عَامَّةِ بِلَادِهِ مِنْ عَامَّةِ شُيُوخِهِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إِلَى هَذَا التَّلْبِيسِ الْبَارِدِ؟ وَإِنَّمَا ذَنْبُهُ عِنْدَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ شَافِعِيٌّ، وَلَهُ أُسْوَةٌ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ لَمْ يُبْقِ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا مُكَسِّرِي الْحَنَابِلَةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْبَرَكَاتِ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الثَّقَفِيُّ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ يُوسُفُ الدِّمَشْقِيُّ مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بِخُوزَسْتَانَ، وَكَانَ قَدْ سَارَ رَسُولًا إِلَى شُمْلَة. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو النَّجِيبُ الشَّهْرَزُورِيُّ الصُّوفِيُّ الْفَقِيهُ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْمَشْهُورِينَ، وَدُفِنَ بِبَغْدَادَ.

ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 564 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ نُورِ الدِّينِ قَلْعَةَ جَعْبَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي قَلْعَةَ جَعْبَرَ، أَخَذَهَا مِنْ صَاحِبِهَا شِهَابِ الدِّينِ مَالِكِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَالِكِ الْعُقَيْلِيِّ، وَكَانَتْ بِيَدِهِ وَيَدِ آبَائِهِ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ أَيَّامِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَهِيَ مِنْ أَمْنَعِ الْقِلَاعِ وَأَحْصَنِهَا مُطِلَّةٌ عَلَى الْفُرَاتِ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ. وَأَمَّا سَبَبُ مُلْكِهَا، فَإِنَّ صَاحِبَهَا نَزَلَ مِنْهَا يَتَصَيَّدُ، فَأَخَذَهُ بَنُو كِلَابٍ، وَحَمَلُوهُ إِلَى نُورِ الدِّينِ فِي رَجَبَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، فَاعْتَقَلَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَرَغَّبَهُ فِي الْإِقْطَاعِ وَالْمَالِ لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِ الْقَلْعَةَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَعَدَلَ إِلَى الشِّدَّةِ وَالْعُنْفِ، وَتَهَدَّدَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا نُورُ الدِّينِ عَسْكَرًا مُقَدَّمَهُ الْأَمِيرُ فَخَرُّ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الزَّعْفَرَانِيُّ، فَحَصَرَهَا مُدَّةً، فَلَمْ يَظْفَرْ مِنْهَا بِشَيْءٍ، فَأَمَدَّهُمْ بِعَسْكَرٍ آخَرَ، وَجَعَلَ عَلَى الْجَمِيعِ الْأَمِيرَ مَجْدَ الدِّينِ أَبَا بَكْرٍ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الدَّايَةِ، وَهُوَ رَضِيعُ نُورِ الدِّينِ، وَأَكْبَرُ أُمَرَائِهِ، فَحَصَرَهَا أَيْضًا فَلَمْ يَرَ لَهُ فِيهَا مَطْمَعًا، فَسَلَكَ مَعَ صَاحِبِهَا طَرِيقَ اللِّينِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ نُورِ الدِّينِ الْعِوَضَ وَلَا يُخَاطِرُ فِي حِفْظِهَا بِنَفْسِهِ، فَقَبِلَ قَوْلَهُ وَسَلَّمَهَا، فَأَخَذَ عِوَضًا عَنْهَا سَرُوجَ وَأَعْمَالَهَا وَالْمَلَّاحَةَ الَّتِي بَيْنَ بَلَدِ حَلَبَ وَبَابِ بُزَاعَةَ، وَعِشْرِينَ أَلْفِ دِينَارٍ مُعَجَّلَةً، وَهَذَا إِقْطَاعٌ عَظِيمٌ جِدًّا، إِلَّا أَنَّهُ لَا حِصْنَ فِيهِ. وَهَذَا آخِرُ أَمْرِ بَنِي مَالِكٍ بِالْقَلْعَةِ وَلِكُلِّ أَمْرٍ أَمَدٌ وَلِكُلِّ وِلَايَةٍ نِهَايَةٌ، بَلَغَنِي أَنَّهُ قِيلَ

لِصَاحِبِهَا: أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ وَأَحْسَنُ مَقَامًا، سَرُوجُ وَالشَّامُ أَمِ الْقَلْعَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ أَكْثَرُ مَالًا، وَأَمَّا الْعِزُّ فَفَارَقْنَاهُ بِالْقَلْعَةِ. ذِكْرُ مُلْكِ أَسَدِ الدِّينِ مِصْرَ وَقَتْلِ شَاوُرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَارَ أَسَدُ الدِّينِ شِيرِكُوهْ بْنُ شَاذِي إِلَى دِيَارِ مِصْرَ، فَمَلَكَهَا، وَمَعَهُ الْعَسَاكِرُ النُّورِيَّةُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَمَكُّنِ الْفِرِنْجِ مِنَ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُمْ فِي الْقَاهِرَةِ شِحْنَةً، وَتَسَلَّمُوا أَبْوَابَهَا، وَجَعَلُوا لَهُمْ فِيهَا جَمَاعَةً مِنْ شُجْعَانِهِمْ وَأَعْيَانِ فُرْسَانِهِمْ، وَحَكَمُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ حُكْمًا جَائِرًا، وَرَكَبُوهُمْ بِالْأَذَى الْعَظِيمِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، وَأَنَّ الْبِلَادَ لَيْسَ فِيهَا مَنْ يَرُدُّهُمْ، وَأَرْسَلُوا إِلَى مَلِكِ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ، وَهُوَ مُرِّي وَلَمْ يَكُنْ لِلْفِرِنْجِ مُذْ ظَهَرَ بِالشَّامِ مِثْلُهُ شَجَاعَةً وَمَكَرًا وَدَهَاءً، يَسْتَدْعُونَهُ لِيَمْلِكَهَا، وَأَعْلَمُوهُ خُلُوَّهَا مِنْ مُمَانِعٍ، وَهَوَّنُوا أَمْرَهَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ فُرْسَانُ الْفِرِنْجِ وَذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِقَصْدِهَا وَتَمَلُّكِهَا، فَقَالَ لَهُمْ: الرَّأْيُ عِنْدِي أَنَّنَا لَا نَقْصِدُهَا، فَإِنَّهَا طُعْمَةٌ لَنَا وَأَمْوَالُهَا تُسَاقُ إِلَيْنَا، نَتَقَوَّى بِهَا عَلَى نُورِ الدِّينِ، وَإِنْ نَحْنُ قَصَدْنَاهَا ; لِنَمْلِكَهَا فَإِنَّ صَاحِبَهَا وَعَسَاكِرَهُ، وَعَامَّةَ بِلَادِهِ وَفَلَّاحِيهَا، لَا يُسَلِّمُونَهَا إِلَيْنَا، وَيُقَاتِلُونَنَا دُونَهَا، وَيَحْمِلُهُمُ الْخَوْفُ مِنَّا عَلَى تَسْلِيمِهَا إِلَى نُورِ الدِّينِ، وَلَئِنْ أَخَذَهَا نُورُ الدِّينِ وَصَارَ لَهُ فِيهَا مِثْلُ أَسَدِ الدِّينِ، فَهُوَ هَلَاكُ الْفِرِنْجِ وَإِجْلَاؤُهُمْ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا قَوْلَهُ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّهَا لَا مَانِعَ فِيهَا وَلَا حَامِيَ، وَإِلَى أَنْ يَتَجَهَّزَ عَسْكَرُ نُورِ الدِّينِ وَيَسِيرَ إِلَيْهَا، نَكُونُ نَحْنُ قَدْ مَلَكْنَاهَا، وَفَرَغْنَا مِنْ أَمْرِهَا، وَحِينَئِذٍ يَتَمَنَّى نُورُ الدِّينِ مِنَّا السَّلَامَةَ. فَسَارَ مَعَهُمْ عَلَى كُرْهٍ وَشَرَعُوا يَتَجَهَّزُونَ وَيُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَصْدَ مَدِينَةِ حِمْصَ، فَلَمَّا سَمِعَ نُورُ الدِّينِ شَرَعَ أَيْضًا بِجَمْعِ عَسَاكِرِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَجَدَّ

الْفِرِنْجُ فِي السَّيْرِ إِلَى مِصْرَ، فَقَدِمُوهَا، وَنَازَلُوا مَدِينَةَ بِلْبِيسَ، وَمَلَكُوهَا قَهْرًا مُسْتَهَلَّ صَفَرَ، وَنَهَبُوهَا وَقَتَلُوا فِيهَا وَأَسَرُوا وَسَبَوْا. وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْمِصْرِيِّينَ قَدْ كَاتَبُوا الْفِرِنْجَ، وَوَعَدُوهُمُ النُّصْرَةَ عَدَاوَةً مِنْهُمْ لِشَاوُرَ، مِنْهُمُ ابْنُ الْخَيَّاطِ، وَابْنُ فَرْجَلَةَ، فَقَوِيَ جَنَانَ الْفِرِنْجِ، وَسَارُوا مِنْ بِلْبِيسَ إِلَى مِصْرَ، فَنَزَلُوا إِلَى الْقَاهِرَةِ عَاشِرَ صَفَرَ، وَحَصَرُوهَا، فَخَافَ النَّاسُ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِهِمْ كَمَا فَعَلُوا بِأَهْلِ بِلْبِيسَ، فَحَمَلَهُمُ الْخَوْفُ مِنْهُمْ عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَحَفَظُوا الْبَلَدَ، وَقَاتَلُوا دُونَهُ وَبَذَلُوا جُهْدَهُمْ فِي حِفْظِهِ، فَلَوْ أَنَّ الْفِرِنْجَ أَحْسَنُوا السِّيرَةَ فِي بِلْبِيسَ ; لَمَلَكُوا مِصْرَ وَالْقَاهِرَةَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَسَّنَ لَهُمْ مَا فَعَلُوا ; لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا. وَأَمَرَ شَاوُرُ بِإِحْرَاقِ مَدِينَةِ مِصْرَ تَاسِعَ صَفَرَ، وَأَمَرَ أَهْلَهَا بِالِانْتِقَالِ مِنْهَا إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَأَنْ يُنْهَبَ الْبَلَدُ، فَانْتَقَلُوا، وَبَقُوا عَلَى الطُّرُقِ، وَنُهِبَتِ الْمَدِينَةُ، وَافْتَقَرَ أَهْلُهَا، وَذَهَبَتْ أَمْوَالُهُمْ وَنِعْمَتُهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْفِرِنْجِ عَلَيْهِمْ بِيَوْمٍ، خَوْفًا أَنْ يَمْلِكَهَا الْفِرِنْجُ، فَبَقِيَتِ النَّارُ تَحْرِقُهَا أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا. وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْعَاضِدُ إِلَى نُورِ الدِّينِ يَسْتَغِيثُ بِهِ، وَيُعَرِّفَهُ ضَعْفَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دَفْعِ الْفِرِنْجِ، وَأَرْسَلَ فِي الْكُتُبِ شُعُورَ النِّسَاءِ وَقَالَ: هَذِهِ شُعُورُ نِسَائِي مِنْ قَصْرِي يَسْتَغِثْنَ بِكَ ; لِتُنْقِذَهُنَّ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَشَرَعَ فِي تَسْيِيرِ الْجُيُوشِ. وَأَمَّا الْفِرِنْجُ فَإِنَّهُمُ اشْتَدُّوا فِي حِصَارِ الْقَاهِرَةِ وَضَيَّقُوا عَلَى أَهْلِهَا، وَشَاوُرُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِلْأَمْرِ وَالْعَسَاكِرِ وَالْقَتَّالِ، فَضَاقَ بِهِ الْأَمْرُ، وَضَعُفَ عَنْ رَدِّهِمْ، فَأَخَذَ إِلَى إِعْمَالِ الْحِيلَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلِكِ الْفِرِنْجِ يَذْكُرُ لَهُ مَوَدَّتَهُ وَمَحَبَّتَهُ الْقَدِيمَةَ لَهُ، وَأَنَّ هَوَاهُ مَعَهُ ; لِخَوْفِهِ مِنْ نُورِ الدِّينِ وَالْعَاضِدِ، وَإِنَّمَا الْمُسْلِمُونَ لَا يُوَافِقُونَهُ عَلَى التَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، وَيُشِيرُ بِالصُّلْحِ، وَأَخْذِ مَالٍ لِئَلَّا يَتَسَلَّمَ الْبِلَادَ نُورُ الدِّينِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ مِصْرِيَّةٍ، يُعَجِّلُ الْبَعْضَ، وَيُمْهِلُ بِالْبَعْضِ، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَى ذَلِكَ.

وَرَأَى الْفِرِنْجَ أَنَّ الْبِلَادَ قَدِ امْتَنَعَتْ عَلَيْهِمْ، وَرُبَّمَا سُلِّمَتْ إِلَى نُورِ الدِّينِ، فَأَجَابُوا كَارِهِينَ، وَقَالُوا: نَأْخُذُ الْمَالَ، فَنَتَقَوَّى بِهِ، وَنُعَاوِدُ الْبِلَادَ بِقُوَّةٍ لَا نُبَالِي مَعَهَا بِنُورِ الدِّينِ {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] فَعَجَّلَ لَهُمْ شَاوُرُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَسَأَلَهُمُ الرَّحِيلَ عَنْهُ لِيَجْمَعَ لَهُمُ الْمَالَ، فَرَحَلُوا قَرِيبًا، وَجَعَلَ شَاوُرُ يَجْمَعُ لَهُمُ الْمَالَ مِنْ أَهْلِ الْقَاهِرَةِ وَمِصْرَ، فَلَمْ يَتَحَصَّلْ لَهُ إِلَّا قَدْرٌ لَا يَبْلُغُ خَمْسَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَسَبَبُهُ أَنَّ أَهْلَ مِصْرَ كَانُوا قَدِ احْتَرَقَتْ دُورُهُمْ وَمَا فِيهَا، وَمَا سَلِمَ نُهِبَ، وَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْأَقْوَاتِ فَضْلًا عَنِ الْأَقْسَاطِ. وَأَمَّا الْقَاهِرَةُ فَالْأَغْلَبُ عَلَى أَهْلِهَا الْجُنْدُ وَغِلْمَانُهُمْ، فَلِهَذَا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمُ الْأَمْوَالُ، وَهُمْ خِلَالَ هَذَا يُرَاسِلُونَ نُورَ الدِّينِ بِمَا النَّاسُ فِيهِ، وَبَذَلُوا لَهُ ثُلْثَ بِلَادِ مِصْرَ، وَأَنْ يَكُونَ أَسَدُ الدِّينِ مُقِيمًا عِنْدَهُمْ فِي عَسْكَرٍ، وَأَقْطَاعُهُمْ مِنَ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ أَيْضًا خَارِجًا عَنِ الثُّلُثِ الَّذِي لَهُمْ. وَكَانَ نُورُ الدِّينِ لَمَّا وَصَلَهُ كُتُبُ الْعَاضِدِ بِحَلَبَ أَرْسَلَ إِلَى أَسَدِ الدِّينِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ، فَخَرَجَ الْقَاصِدُ فِي طَلَبِهِ، فَلَقِيَهُ عَلَى بَابِ حَلَبَ، وَقَدْ قَدِمَهَا مِنْ حِمْصَ وَكَانَتْ إِقْطَاعَهُ، وَكَانَ سَبَبُ وُصُولِهِ أَنْ كُتُبَ الْمِصْرِيِّينَ وَصَلَتْهُ أَيْضًا فِي الْمَعْنَى، فَسَارَ أَيْضًا إِلَى نُورِ الدِّينِ، وَاجْتَمَعَ بِهِ، وَعَجِبَ نُورُ الدِّينِ مِنْ حُضُورِهِ فِي الْحَالِ، وَسَرَّهُ ذَلِكَ، وَتَفَاءَلَ بِهِ، وَأَمَرَ بِالتَّجْهِيزِ إِلَى مِصْرَ، وَأَعْطَاهُ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ سِوَى الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَسْلِحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَحَكَّمَهُ فِي الْعَسْكَرِ وَالْخَزَائِنِ، وَاخْتَارَ مِنَ الْعَسْكَرِ أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَأَخَذَ الْمَالَ، وَجَمَعَ سِتَّةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَسَارَ هُوَ وَنُورُ الدِّينِ إِلَى دِمَشْقَ فَوَصَلَهَا سَلْخَ صَفَرَ، وَرَحَلَ إِلَى رَأْسِ الْمَاءِ، وَأَعْطَى نُورُ الدِّينِ كُلَّ فَارِسٍ مِمَّنْ مَعَ أَسَدِ الدِّينِ عِشْرِينَ دِينَارًا مَعُونَةً غَيْرَ مَحْسُوبَةٍ مِنْ جَامِكِيَّتِهِ، وَأَضَافَ إِلَى أَسَدِ الدِّينِ جَمَاعَةً أُخْرَى مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْهُمْ: مَمْلُوكُهُ عِزُّ الدِّينِ جُورْدِيكُ، وَعِزُّ الدِّينِ قَلْجُ، وَشَرَفُ الدِّينِ بَزْغَشُ،

وَعَيْنُ الدَّوْلَةِ الْيَارُوقِيُّ، وَقُطْبُ الدِّينِ يَنَالُ بْنُ حَسَّانٍ الْمَنْبِجِيُّ، وَصَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ، أَخِي شِيرِكُوهْ، عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] أَحَبَّ نُورُ الدِّينِ مَسِيرَ صَلَاحِ الدِّينِ، وَفِيهِ ذَهَابُ بَيْتِهِ، وَكَرِهَ صَلَاحُ الدِّينِ الْمَسِيرَ، وَفِيهِ سَعَادَتُهُ وَمُلْكُهُ، وَسَيَرِدُ ذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِ شِيرِكُوهْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَسَارَ أَسَدُ الدِّينِ شِيرِكُوهْ مِنْ رَأْسِ الْمَاءِ مُجِدًّا مُنْتَصَفَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا قَارَبَ مِصْرَ رَحَلَ الْفِرِنْجُ عَنْهَا عَائِدِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ بِخُفَّيْ حُنَيْنٍ خَائِبِينَ مِمَّا أَمَّلُوا، وَسَمِعَ نُورُ الدِّينِ بِعَوْدِهِمْ، فَسَّرَهُ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ الْبَشَائِرِ فِي الْبِلَادِ، وَبَثَّ رُسُلَهُ فِي الْأَفَّاقِ مُبَشِّرِينَ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ كَانَ فَتْحًا جَدِيدًا لِمِصْرَ وَحِفْظًا لِسَائِرِ بِلَادِ الشَّامِ وَغَيْرِهَا. فَأَمَّا أَسَدُ الدِّينِ فَإِنَّهُ وَصَلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ سَابِعَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدَخَلَ إِلَيْهَا، وَاجْتَمَعَ بِالْعَاضِدِ لِدِينِ اللَّهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَعَادَ إِلَى خِيَامِهِ بِالْخِلْعَةِ الْعَاضِدِيَّةِ، وَفَرِحَ بِهِ أَهْلُ مِصْرَ، وَأُجْرِيَتَ عَلَيْهِ وَعَلَى عَسْكَرِهِ الْجِرَايَاتُ الْكَثِيرَةُ، وَالْإِقَامَاتُ الْوَافِرَةُ، وَلَمْ يُمْكِنْ شَاوُرُ الْمَنْعَ عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ رَأَى الْعَسَاكِرَ كَثِيرَةً مَعَ شِيرِكُوهْ وَهَوَى الْعَاضِدِ مَعَهُمْ، فَلَمْ يَتَجَاسَرْ عَلَى إِظْهَارِ مَا فِي نَفْسِهِ، وَشَرَعَ يُمَاطِلُ أَسَدَ الدِّينِ فِي تَقْرِيرِ مَا كَانَ بَذَلَ لِنُورِ الدِّينِ مِنَ الْمَالِ، وَإِقْطَاعِ الْجُنْدِ، وَإِفْرَادِ ثُلُثِ الْبِلَادِ لِنُورِ الدِّينِ، وَهُوَ يَرْكَبُ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى أَسَدِ الدِّينِ، وَيَسِيرُ مَعَهُ، وَيَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120] . ثُمَّ إِنَّهُ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ دَعْوَةً يَدْعُو إِلَيْهَا أَسَدَ الدِّينِ وَالْأُمَرَاءَ الَّذِينَ مَعَهُ، وَيَقْبِضَ عَلَيْهِمْ، وَيَسْتَخْدِمَ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْجُنْدِ، فَيَمْنَعَ بِهِمُ الْبِلَادَ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَنَهَاهُ ابْنُهُ الْكَامِلُ، وَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لَئِنْ عَزَمْتَ عَلَى هَذَا ; لَأُعْرِفَنَّ شِيرِكُوهْ. فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ نَفْعَلْ هَذَا لُنَقْتَلَنَّ جَمِيعًا، فَقَالَ: صَدَقْتَ، وَلَأَنْ نُقْتَلَ وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ وَالْبِلَادُ إِسْلَامِيَّةٌ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ نُقْتَلَ وَقَدْ مَلَكَهَا الْفِرِنْجُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَوْدِ الْفِرِنْجِ إِلَّا أَنْ يَسْمَعُوا بِالْقَبْضِ عَلَى شِيرِكُوهْ، وَحِينَئِذٍ لَوْ مَشَى الْعَاضِدُ إِلَى نُورِ الدِّينِ لَمْ يُرْسِلْ مَعَهُ

فَارِسًا وَاحِدًا، وَيَمْلِكُونَ الْبِلَادَ، فَتَرَكَ مَا كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ. وَلَمَّا رَأَى الْعَسْكَرُ النُّورِيُّ مَطَلَ شَاوُرَ خَافُوا شَرَّهُ، فَاتَّفَقَ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ وَعِزُّ الدِّينِ جُورْدِيكُ وَغَيْرُهُمَا عَلَى قَتْلِ شَاوُرَ، فَأَعْلَمُوا أَسَدَ الدِّينِ، فَنَهَاهُمْ عَنْهُ، فَسَكَتُوا وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْعَزْمِ مِنْ قَتْلِهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ شَاوُرَ قَصَدَ عَسْكَرَ أَسَدِ الدِّينِ عَلَى عَادَتِهِ، فَلَمْ يَجِدْهُ فِي الْخِيَامِ، كَانَ قَدْ مَضَى يَزُورُ قَبْرَ الشَّافِعِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَقِيَهُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ وَجُورْدِيكُ فِي جَمْعٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَخَدَمُوهُ، وَأَعْلَمُوهُ بِأَنْ شِيرِكُوهْ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ: نَمْضِي إِلَيْهِ، فَسَارُوا جَمِيعًا، فَسَايَرَهُ صَلَاحُ الدِّينِ وُجُورَدِيكُ وَأَلْقَيَاهُ إِلَى الْأَرْضِ عَنْ فَرَسِهِ، فَهَرَبَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ، فَأُخِذَ أَسِيرًا، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ قَتْلُهُ بِغَيْرِ أَمْرِ أَسَدِ الدِّينِ، فَتَوَكَّلُوا بِحِفْظِهِ، وَسَيَّرُوا فَأَعْلَمُوا أَسَدَ الدِّينِ الْحَالَ، فَحَضَرَ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ إِلَّا إِتْمَامُ مَا عَمِلُوهُ، وَسَمِعَ الْخَلِيفَةُ الْعَاضِدُ صَاحِبُ مِصْرَ الْخَبَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَسَدِ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْهُ إِنْفَاذَ رَأْسِ شَاوُرَ، وَتَابَعَ الرُّسُلَ بِذَلِكَ، فَقُتِلَ، وَأُرْسِلَ رَأْسُهُ إِلَى الْعَاضِدِ فِي السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ. وَدَخَلَ أَسَدُ الدِّينِ الْقَاهِرَةَ، فَرَأَى مِنِ اجْتِمَاعِ الْخَلْقِ مَا خَافَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي الْعَاضِدَ، يَأْمُرُكُمْ بِنَهْبِ دَارِ شَاوُرَ، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ إِلَيْهَا، فَنَهَبُوهَا، وَقَصَدَ هُوَ قَصْرَ الْعَاضِدِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةَ الْوِازَرَةِ، وَلُقِّبَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ أَمِيرُ الْجُيُوشِ، وَسَارَ بِالْخِلَعِ إِلَى دَارِ الْوِزَارَةِ، وَهِيَ الَّتِي كَانَ فِيهَا شَاوِرُ، فَلَمْ يَرَ فِيهَا مَا يَقْعُدُ عَلَيْهِ، وَاسْتَقَرَّ فِي الْأَمْرِ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَانِعٌ وَلَا مُنَازِعٌ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْأَعْمَالِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَقْطَعَ الْبِلَادَ لِعَسَاكِرِهِ. وَأَمَّا الْكَامِلُ بْنُ شَاوُرَ فَإِنَّهُ لَمَّا قُتِلَ أَبُوهُ دَخَلَ الْقَصْرَ هُوَ وَإِخْوَتُهُ مُعْتَصِمِينَ بِهِ، فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِمْ، فَكَانَ شِيرِكُوهْ يَتَأَسَّفُ عَلَيْهِ كَيْفَ عُدِمَ لِأَنَّهُ بَلَغَهُ مَا كَانَ مِنْهُ مَعَ أَبِيهِ فِي مَنْعِهِ مِنْ قَتْلِ شِيرِكُوهْ، وَكَانَ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنَّهُ بَقِيَ ; لِأُحْسِنَ إِلَيْهِ جَزَاءَ الصَّنِيعَةِ.

ذِكْرُ وَفَاةِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرِكُوهْ لَمَّا ثَبَتَ قَدَمُ أَسَدِ الدِّينِ، وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ مُنَازِعٌ، أَتَاهُ أَجْلُهُ {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] فَتُوُفِّيَ يَوْمَ السَّبْتِ الثَّانِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ. وَأَمَّا ابْتِدَاءُ أَمْرِهِ وَسَبَبُ اتِّصَالِهِ بِنُورِ الدِّينِ، فَإِنَّهُ كَانَ هُوَ وَأَخُوهُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ ابْنَا شَاذِي مِنْ بَلَدِ دُوَيْنَ، وَأَصْلُهُمَا مِنَ الْأَكْرَادِ الرَّوَادِيَّةِ، وَهَذَا النَّسْلُ هُمْ أَشْرَافُ الْأَكْرَادِ، فَقَدِمَا الْعِرَاقَ، وَخَدَمَا مُجَاهِدَ الدِّينِ بَهْرُوزَ شِحْنَةَ بَغْدَادَ، فَرَأَى مِنْ نَجْمِ الدِّينِ عَقْلًا وَرَأَيًا وَافِرًا وَحُسْنِ سِيرَةٍ، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ شِيرِكُوهْ، فَجَعَلَهُ مُسْتَحْفِظًا لِقَلْعَةِ تَكْرِيتَ، وَهِيَ لَهُ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَمَعَهُ أَخُوهُ شِيرِكُوهْ فَلَمَّا انْهَزَمَ أَتَابِكَ الشَّهِيدَ زَنْكِي بْنَ آقْسَنْقَرَ بِالْعِرَاقِ مِنْ قَرَاجَةَ السَّاقِي عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَصَلَ مُنْهَزِمًا إِلَى تَكْرِيتَ، فَخَدَمَهُ نَجْمُ الدِّينِ، وَأَقَامَ لَهُ السُّفُنَ فَعَبَرَ دِجْلَةَ هُنَاكَ، وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ، فَأَحْسَنَ أَيُّوبُ صُحْبَتَهُمْ وَسَيَّرَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ شِيرِكُوهْ قَتَلَ إِنْسَانًا بِتَكْرِيتَ لِمُلَاحَاةٍ جَرَتْ بَيْنَهُمَا، فَأَخْرَجَهُمَا بَهْرُوزُ مِنَ الْقَلْعَةِ، فَسَارَا إِلَى الشَّهِيدِ زَنْكِي، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمَا، وَعَرَفَ لَهُمَا خِدْمَتَهُمَا، وَأَقْطَعَهُمَا إِقْطَاعًا حَسَنًا، فَلَمَّا مَلَكَ قَلْعَةَ بَعْلَبَكَّ جَعَلَ أَيُّوبَ مُسْتَحْفِظًا بِهَا، فَلَمَّا قُتِلَ الشَّهِيدُ حَصَرَ عَسْكَرُ دِمَشْقَ بَعْلَبِكَّ وَهُوَ بِهَا، فَضَاقَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَكَانَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِي بْنُ زَنْكِي مَشْغُولًا عَنْهُ بِإِصْلَاحِ الْبِلَادِ، فَاضْطَرَّ إِلَى تَسْلِيمِهَا إِلَيْهِمْ، فَسَلَّمَهَا عَلَى إِقْطَاعٍ ذَكَرَهُ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَصَارَ مِنْ أَكْبَرِ الْأُمَرَاءِ بِدِمَشْقَ. وَاتَّصَلَ أَخُوهُ أَسَدُ الدِّينِ شِيرِكُوهْ بِنُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بَعْدَ قَتْلِ زَنْكِي، وَكَانَ يَخْدِمُهُ فِي أَيَّامِ وَالِدِهِ، فَقَرَّبَهُ وَقَدَّمَهُ، وَرَأَى مِنْهُ شَجَاعَةً يَعْجِزُ غَيْرُهُ عَنْهَا، فَزَادَهُ حَتَّى صَارَ لَهُ

حِمْصُ وَالرَّحْبَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَجَعَلَهُ مُقَدَّمَ عَسْكَرِهِ، فَلَمَّا أَرَادَ نُورُ الدِّينِ مُلْكَ دِمَشْقَ أَمَرَهُ فَرَاسَلَ أَخَاهُ أَيُّوبَ وَهُوَ بِهَا، وَطَلَبَ مِنْهُ الْمُسَاعَدَةَ عَلَى فَتْحِهَا، فَأَجَابَ إِلَى مَا يُرِيدُ مِنْهُ عَلَى إِقْطَاعٍ ذَكَرَهُ لَهُ وَلِأَخِيهِ، وَقُرًى يَتَمَلَّكَانِهَا، فَأَعْطَاهُمَا مَا طَلَبَا، وَفَتَحَ دِمَشْقَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَوَفَّى لَهُمَا، وَصَارَا أَعْظَمَ أُمَرَاءِ دَوْلَتِهِ. فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُرْسِلَ الْعَسَاكِرَ إِلَى مِصْرَ، لَمْ يُرِدْ لِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ وَالْمَقَامِ الْخَطِيرِ غَيْرَهُ، فَأَرْسَلَهُ، فَفَعَلَ مَا ذَكَرْنَاهُ. ذِكْرُ مُلْكِ صَلَاحِ الدِّينِ مِصْرَ لَمَّا تُوُفِّيَ أَسَدُ الدِّينِ شِيرِكُوهْ كَانَ مَعَهُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ ابْنُ أَخِيهِ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِي قَدْ سَارَ مَعَهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ لِلْمَسِيرِ. حَكَى لِي عَنْهُ بَعْضُ أَصْدِقَائِنَا مِمَّنْ كَانَ قَرِيبًا إِلَيْهِ خِصِّيصًا بِهِ، قَالَ: لَمَّا وَرَدَتْ كُتُبُ الْعَاضِدِ عَلَى نُورِ الدِّينِ يَسْتَغِيثُ بِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَيَطْلُبُ إِرْسَالَ الْعَسَاكِرِ، أَحْضَرَنِي وَأَعْلَمَنِي الْحَالَ، وَقَالَ: تَمْضِي إِلَى عَمِّكِ أَسَدِ الدِّينِ بِحِمْصَ مَعَ رَسُولِي إِلَيْهِ لِيَحْضُرَ، وَتَحُثَّهُ أَنْتَ عَلَى الْإِسْرَاعِ، فَمَا يَحْتَمِلُ الْأَمْرُ التَّأْخِيرَ، فَفَعَلْتُ، وَخَرَجْنَا مِنْ حَلَبَ، فَمَا كُنَّا عَلَى مِيلٍ مِنْ حَلَبَ حَتَّى لَقِينَاهُ قَادِمًا فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَأَمَرَهُ نُورُ الدِّينِ بِالْمَسِيرِ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ نُورُ الدِّينِ ذَلِكَ الْتَفَتَ عَمِّي إِلَيَّ فَقَالَ لِي: تَجَهَّزْ يَا يُوسُفُ! فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ مُلْكَ مِصْرَ مَا سِرْتُ إِلَيْهَا: فَلَقَدْ قَاسَيْتُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَغَيْرِهَا مَا لَا أَنْسَاهُ أَبَدًا، فَقَالَ لِنُورِ الدِّينِ: لَا بُدَّ مِنْ مَسِيِرِهِ مَعِي فَتَأْمُرْ بِهِ، فَأَمَرَنِي نُورُ الدِّينِ، وَأَنَا أَسْتَقِيلُ، وَانْقَضَى الْمَجْلِسُ. وَتَجَهَّزَ أَسَدُ الدِّينِ، وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الْمَسِيرِ، قَالَ لِي نُورُ الدِّينِ: لَا بُدَّ مِنْ مَسِيرِكَ مَعَ عَمِّكَ، فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ الضَّائِقَةَ وَعَدَمَ الْبِرَكَ، فَأَعْطَانِي مَا تَجَهَّزْتُ بِهِ، فَكَأَنَّمَا أُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ، فَسِرْتُ مَعَهُ وَمَلَكَهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ فَمَلَّكَنِيَ اللَّهُ تَعَالَى مَا لَمْ أَكُنْ أَطْمَعُ فِي بَعْضِهِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وِلَايَتِهِ، فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ النُّورِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا بِمِصْرَ طَلَبُوا التَّقَدُّمَ عَلَى الْعَسَاكِرِ، وَوِلَايَةِ الْوِزَارَةِ الْعَاضِدِيَّةِ بَعْدَهُ، مِنْهُمْ: عَيْنُ الدَّوْلَةِ الْيَارُوقِيُّ، وَقُطْبُ الدِّينِ، وَسَيْفُ الدِّينِ الْمَشْطُوبُ الْهَكَّارِيُّ، وَشِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودٌ الْحَارِمِيُّ، وَهُوَ خَالُ صَلَاحِ الدِّينِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يَخْطُبُهَا، وَقَدْ جَمَعَ أَصْحَابَهُ لِيُغَالِبَ عَلَيْهَا،

فَأَرْسَلَ الْعَاضِدُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، فَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَوَلَّاهُ الْوِزَارَةَ بَعْدَ عَمِّهِ. وَكَانَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَهُ قَالُوا لَهُ: لَيْسَ فِي الْجَمَاعَةِ أَضْعَفُ وَلَا أَصْغَرُ سِنًّا مِنْ يُوسُفَ، وَالرَّأْيُ أَنْ يُوَلَّى؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ حُكْمِنَا، ثُمَّ نَضَعُ عَلَى الْعَسَاكِرِ مَنْ يَسْتَمِيلُهُمْ إِلَيْنَا، فَيَصِيرُ عِنْدَنَا مِنَ الْجُنُودِ مَنْ نَمْنَعُ بِهِمُ الْبِلَادَ، ثُمَّ نَأْخُذُ يُوسُفَ أَوْ نُخْرِجُهُ. فَلَمَّا خَلَعَ عَلَيْهِ لَقَبَ الْمَلِكِ النَّاصِرِ لَمْ يُطِعْهُ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْأَمْرَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا خَدَمُوهُ، وَكَانَ الْفَقِيهُ عِيسَى الْهَكَّارِيُّ مَعَهُ، فَسَعَى مَعَ الْمَشْطُوبِ حَتَّى أَمَالَهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مَعَ عَيْنِ الدَّوْلَةِ وَالْحَارِمِيِّ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ قَصَدَ الْحَارِمِيَّ، وَقَالَ: هَذَا صَلَاحُ الدِّينِ هُوَ ابْنُ أُخْتِكَ وَعِزُّهُ وَمُلْكُهُ لَكَ، وَقَدِ اسْتَقَامَ لَهُ الْأَمْرُ، فَلَا تَكُنْ أَوَّلَ مَنْ يَسْعَى فِي إِخْرَجِهِ عَنْهُ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْكَ، فَمَالَ إِلَيْهِ أَيْضًا، ثُمَّ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا بِالْبَاقِينَ، وَكُلُّهُمْ أَطَاعَ غَيْرَ عَيْنِ الدَّوْلَةِ الْيَارُوقِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَنَا لَا أَخْدِمُ يُوسُفَ، وَعَادَ إِلَى نُورِ الدِّينِ بِالشَّامِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَثَبَتَ قَدَمُ صَلَاحِ الدِّينِ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ نَائِبٌ عَنْ نُورِ الدِّينِ. وَكَانَ نُورُ الدِّينِ يُكَاتِبُهُ بِالْأَمِيرِ الْأَسْفَهَسْلَارِ، وَيَكْتُبُ عَلَامَتَهُ عَلَى رَأْسِ الْكِتَابِ تَعْظِيمًا عَنْ أَنْ يَكْتُبَ اسْمَهُ، وَكَانَ لَا يُفْرِدُهُ بِكِتَابٍ بَلْ يَكْتُبُ الْأَمِيرُ الْأَسْفَهَسْلَارُ صَلَاحُ [الدِّينِ] وَجَمِيعُ الْأُمَرَاءِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يَفْعَلُونَ كَذَا. وَاسْتَمَالَ صَلَاحُ الدِّينِ قُلُوبَ النَّاسِ، وَبَذَلَ الْأَمْوَالَ، فَمَالُوا إِلَيْهِ، وَأَحَبُّوهُ، وَضَعُفَ أَمْرُ الْعَاضِدِ، ثُمَّ أَرْسَلَ صَلَاحُ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْ نُورِ الدِّينِ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ إِخْوَتَهُ وَأَهْلَهُ، فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ طَاعَتَهُ وَالْقِيَامَ بِأَمْرِهِ، وَمُسَاعَدَتَهُ، وَكُلُّهُمْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَأَخَذَ إِقْطَاعَاتِ الْأُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، فَأَعْطَاهَا أَهْلَهُ وَالْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ، وَزَادَهُمْ، فَازْدَادُوا لَهُ حُبًّا وَطَاعَةً. قَدِ اعْتَبَرْتُ التَّوَارِيخَ، فَرَأَيْتُ كَثِيرًا مِنَ التَّوَارِيخِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ ضَبْطُهَا، وَرَأَيْتُ كَثِيرًا مِمَّنْ يَبْتَدِئُ الْمُلْكَ تَنْتَقِلُ الدَّوْلَةُ عَنْ صُلْبِهِ إِلَى بَعْضِ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ، مِنْهُمْ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ: مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، أَوَّلُ مَنْ مَلَكَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَنُقِلَ الْمُلْكُ عَنْ

أَعْقَابِهِ إِلَى بَنِي مَرْوَانَ مِنْ بَنِي عَمِّهِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ السَّفَّاحُ أَوَّلُ مَنْ مَلَكَ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ، انْتَقَلَ الْمُلْكُ مِنْ أَعْقَابِهِ إِلَى أَخِيهِ الْمَنْصُورِ، ثُمَّ السَّامَانِيَّةُ أَوَّلُ مَنِ اسْتَبَدَّ مِنْهُمْ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ، فَانْتَقَلَ الْمُلْكُ عَنْهُ إِلَى أَخِيهِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ وَأَعْقَابِهِ، ثُمَّ يَعْقُوبُ الصَّفَّارُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مَلَكَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَانْتَقَلَ الْمُلْكُ إِلَى أَخِيهِ عَمْرٍو وَأَعْقَابِهِ، ثُمَّ عِمَادُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ أَوَّلُ مَنْ مَلَكَ مِنْ أَهْلِهِ انْتَقَلَ الْمُلْكُ عَنْهُ إِلَى أَخَوَيْهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ وَعِزِّ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ خَلَصَ فِي أَعْقَابِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، (وَمُعِزِّ الدَّوْلَةِ) ، ثُمَّ خَلَصَ فِي أَعْقَابِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ الدَّوْلَةِ السَّلْجُوقِيَّةِ أَوَّلُ مَنْ مَلَكَ مِنْهُمْ طُغْرُلْبَكُ انْتَقَلَ الْمُلْكُ إِلَى أَوْلَادِ أَخِيهِ دَاوُدَ، ثُمَّ شِيرِكُوهْ هَذَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ (انْتَقَلَ الْمُلْكُ إِلَى أَعْقَابِ أَخِيهِ أَيُّوبَ، ثُمَّ إِنَّ صَلَاحَ الدِّينِ لَمَّا أَنْشَأَ الدَّوْلَةَ وَعَظَّمَهَا، وَصَارَ كَأَنَّهُ أَوَّلٌ لَهَا، نُقِلَ الْمُلْكُ إِلَى أَعْقَابِ أَخِيهِ الْعَادِلِ، وَلَمْ يَبْقَ بِيَدِ أَعْقَابِهِ غَيْرُ حَلَبَ) . وَهَذِهِ أَعْظَمُ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلَوْلَا خَوْفُ التَّطْوِيلِ لَذَكَرْنَا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَالَّذِي أَظُنُّهُ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَكُونُ أَوَّلَ دَوْلَةٍ يُكْثِرُ، وَيَأْخُذُ الْمُلْكَ وَقُلُوبُ مَنْ كَانَ فِيهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ فَلِهَذَا يَحْرُمُهُ اللَّهُ أَعْقَابَهُ وَمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِهِمْ عُقُوبَةً لَهُ. ذِكْرُ وَقْعَةِ السُّودَانِ بِمِصْرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي أَوَائِلِ ذِي الْقَعْدَةِ قُتِلَ مُؤْتَمَنُ الْخِلَافَةِ، وَهُوَ خَصِيٌّ كَانَ بِقَصْرِ الْعَاضِدِ، إِلَيْهِ الْحُكْمُ فِيهِ، وَالتَّقَدُّمُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ يَحْوِيهِ، فَاتَّفَقَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى مُكَاتَبَةِ الْفِرِنْجِ وَاسْتِدْعَائِهِمْ إِلَى الْبِلَادِ، وَالتَّقَوِّي بِهِمْ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَمَنْ مَعَهُ، وَسَيَّرُوا الْكُتُبَ مَعَ إِنْسَانٍ يَثِقُونَ بِهِ، وَأَقَامُوا يَنْتَظِرُونَ جَوَابَهُ، وَسَارَ ذَلِكَ الْقَاصِدُ إِلَى الْبِئْرِ الْبَيْضَاءِ، فَلَقِيَهُ إِنْسَانٌ تُرْكُمَانِيٌّ، فَرَأَى (مَعَهُ) نَعْلَيْنِ جَدِيدَيْنِ، فَأَخَذَهُمَا مِنْهُ، وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْ كَانَا مِمَّا يَلْبَسُهُ هَذَا الرَّجُلُ (لَكَانَا خَلِقَيْنِ،

فَإِنَّهُ) رَثُّ الْهَيْئَةِ، وَارْتَابَ بِهِ وَبِهِمَا، فَأَتَى بِهِمَا صَلَاحَ الدِّينِ فَفَتَقَهُمَا، فَرَأَى الْكِتَابَ فِيهِمَا، فَقَرَأَهُ وَسَكَتَ عَلَيْهِ. وَكَانَ مَقْصُودُ مُؤْتَمَنِ الْخِلَافَةِ أَنْ يَتَحَرَّكَ الْفِرِنْجُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَيْهَا خَرَجَ صَلَاحُ الدِّينِ فِي الْعَسَاكِرِ إِلَى قِتَالِهِمْ، فَيَثُورُ مُؤْتَمَنُ الْخِلَافَةِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى مُخَلَّفِيهِمْ فَيَقْتُلُونَهُمْ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ بِأَجْمَعِهِمْ يَتَّبِعُونَ صَلَاحَ الدِّينِ، فَيَأْتُونَهُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَالْفِرِنْجُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَلَا يَبْقَى لَهُمْ بَاقِيَةٌ، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ سَأَلَ عَنْ كَاتِبِهِ، فَقِيلَ: رَجُلٌ يَهُودِيٌّ، فَأُحْضِرَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ وَتَقْرِيرِهِ، فَابْتَدَأَ وَأَسْلَمَ، وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَأَخْفَى صَلَاحُ الدِّينِ الْحَالَ. وَاسْتَشْعَرَ مُؤْتَمَنُ الْخِلَافَةِ فَلَازَمَ الْقَصْرَ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ خَوْفًا، وَإِذَا خَرَجَ لَمْ يَبْعُدْ [وَصَلَاحُ الدِّينِ] لَا يُظْهِرُ لَهُ شَيْئًا مِنَ الطَّلَبِ ; لِئَلَّا يُنْكِرَ ذَلِكَ، فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ خَرَجَ مِنَ الْقَصْرِ إِلَى قَرْيَةٍ لَهُ تُعْرَفُ بِالْحِرْقَانِيَّةِ لِلتَّنَزُّهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِ صَلَاحُ الدِّينِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ جَمَاعَةً، فَأَخَذُوهُ، وَقَتَلُوهُ، وَأَتَوْهُ بِرَأْسِهِ، وَعَزَلَ جَمِيعَ الْخَدَمِ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ أَمْرَ قَصْرِ الْخِلَافَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْجَمِيعِ بَهَاءَ الدِّينِ قَرَاقُوشَ، وَهُوَ خَصِيٌّ أَبْيَضُ، وَكَانَ لَا يَجْرِي فِي الْقَصْرِ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ إِلَّا بِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ، فَغَضِبَ السُّودَانُ الَّذِينَ بِمِصْرَ لِقَتْلِ مُؤْتَمَنِ الْخِلَافَةِ حَمِيَّةً، وَلِأَنَّهُ كَانَ يَتَعَصَّبُ لَهُمْ، فَحَشَدُوا وَجَمَعُوا، فَزَادَتْ عُدَّتُهُمْ عَلَى خَمْسِينَ أَلْفًا، وَقَصَدُوا حَرْبَ الْأَجْنَادِ الصَّلَاحِيَّةِ، فَاجْتَمَعَ الْعَسْكَرُ أَيْضًا، وَقَاتَلُوهُمْ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ. وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، فَأَرْسَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى مَحَلَّتِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ بِالْمَنْصُورَةِ، فَأَحْرَقَهَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَحَرَمِهِمْ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِذَلِكَ وَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، فَرَكِبَهُمُ السَّيْفُ، وَأُخِذَتْ عَلَيْهِمْ أَفْوَاهُ السِّكَكِ، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ بَعْدَ أَنْ كَثُرَ فِيهِمُ الْقَتْلُ، فَأُجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ، فَأُخْرِجُوا مِنْ مِصْرَ إِلَى الْجِيزَةِ، فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ شَمْسُ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ أَخُو صَلَاحِ الدِّينِ الْأَكْبَرُ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَأَبَادَهُمْ بِالسَّيْفِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ الشَّرِيدُ، وَكَفَى اللَّهُ تَعَالَى شَرَّهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرُ مُلْكِ شُمْلَةَ فَارِسَ وَإِخْرَاجِهِ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ شُمْلَةُ صَاحِبُ خُوزَسْتَانَ بِلَادَ فَارِسَ، وَأُخْرِجَ عَنْهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ زَنْكِي بْنَ دَكْلَا صَاحِبَهَا أَسَاءَ السِّيرَةَ مَعَ عَسْكَرِهِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى شُمْلَةَ بِخُوزَسْتَانَ وَحَسَّنُوا لَهُ قَصْدَ فَارِسَ، فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَتَجَهَّزَ، وَسَارَ إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ زَنْكِي بْنُ دَكْلَا، وَوَقَعَتْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ خَامَرَ فِيهَا أَصْحَابُ زَنْكِي عَلَيْهِ، فَانْهَزَمَ فِي شِرْذِمَةٍ مِنْ عَسْكَرِهِ، وَنَجَا بِنَفْسِهِ، وَقَصَدَ الْأَكْرَادَ الشُّوَانْكَارَ وَالْتَجَأَ إِلَيْهِمْ، فَأَجَارَهُ صَاحِبُهَا، وَأَحْسَنَ ضِيَافَتَهُ. وَنَزَلَ شُمْلَةُ بِبِلَادِ فَارِسَ فَمَلَكَهَا، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ إِلَى أَهْلِهَا، وَنَهَبَ ابْنُ أَخِيهِ ابْنُ سَنْكَا الْبِلَادَ فَتَغَيَّرَتْ بَوَاطِنِ أَهْلِهَا عَلَيْهِ، وَاجْتَمَعَ إِلَى زَنْكِي بَعْضُ الْعَسْكَرِ الَّذِينَ خَامَرُوا عَلَيْهِ، لَمَّا رَأَوْا مِنْ سُوءِ سِيرَةِ شُمْلَةَ فِيهِمْ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ مَعَ الْأَكْرَادِ الشُّوَانْكَارِ، وَنَزَلَ بِهِمْ إِلَى الْبِلَادِ، وَكَاتَبَ عَسْكَرَهُ، وَوَعَدَهُمِ الْإِحْسَانَ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ، فَقَصَدَ شُمْلَةَ، وَوَاقَعَهُ، فَانْهَزَمَ شُمْلَةُ، وَاسْتَعَادَ زَنْكِي بِلَادَهُ، وَرَجَعَ إِلَى مُلْكِهِ، وَعَادَ شُمْلَةُ إِلَى بِلَادِهِ خُوزَسْتَانَ. ذِكْرُ مُلْكِ إِيلْدِكْزَ الرَّيَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ إِيلْدِكْزُ مَدِينَةَ الرَّيِّ وَالْبِلَادَ الَّتِي كَانَتْ بِيَدِ إِينَانْجَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ إِيلْدِكْزَ كَانَ قَدِ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِينَانْجَ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ إِلَى إِيلْدِكْزَ، فَمَنَعَهُ سَنَتَيْنِ، فَأَرْسَلَ إِيلْدِكْزُ يَطْلُبُ الْمَالَ، فَاعْتَذَرَ بِكَثْرَةِ غِلْمَانِهِ وَحَاشِيَتِهِ، فَتَجَهَّزَ إِيلْدِكْزُ وَقَصَدَ الرَّيَّ، فَالْتَقَاهُ إِينَانْجُ، وَحَارَبَهُ حَرْبًا عَظِيمَةً، فَانْهَزَمَ إِينَانْجُ، وَمَضَى مُنْهَزِمًا، فَتَحَصَّنَ بِقَلْعَةِ طَبْرَكَ، فَحَصَرَهُ إِيلْدِكْزُ فِيهَا وَرَاسَلَ سِرًّا جَمَاعَةً مِنْ مَمَالِيكِهِ، فَأَطْمَعَهُمْ فِي الْإِقْطَاعَاتِ وَالْأَمْوَالِ وَالْإِحْسَانِ الْعَظِيمِ لِيَقْتُلُوا إِينَانْجَ، فَقَتَلُوهُ، وَكَانُوا جَمَاعَةً كَثِيرَةً، وَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَى إِيلْدِكْزَ، فَرَتَّبَ فِيهِ عُمَرَ بْنَ عَلِيٍّ يَاغَ، وَعَادَ إِلَى هَمَذَانَ، وَلَمْ يَفِ لِلْغِلْمَانِ الَّذِينَ قَتَلُوا إِينَانْجَ وَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ بِمَا وَعَدَهُمْ، وَقَالَ: مِثْلَ هَؤُلَاءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُسْتَخْدَمَ، وَأَبْعَدَهُمْ عَنْهُ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، فَسَارَ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي

تَوَلَّى قَتْلَهُ، إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ، فَصَلَبَهُ خُوَارَزْم شَاهْ ; نَكَالًا بِمَا فَعَلَ بِصَاحِبِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ رُئِيَ فِي دَارِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ رَجُلٌ غَرِيبٌ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يَرْكَبُ فِيهِ، وَفِي زَنْدِهِ سِكِّينٌ صَغِيرَةٌ، وَفِي يَدِهِ سِكِّينٌ أُخْرَى كَبِيرَةٌ، فَأَخَذُوهُ وَقَرَّرُوهُ، فَقَالَ: أَنَا مِنْ حَلَبَ، فَحُبِسَ وَعُوقِبَ الْبَوَّابُ، وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيْنَ دَخَلَ. وَفِيهَا قَبَضَ ابْنُ الْبَلَدِيِّ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ السَّيْبِيِّ، وَعَلَى أَخِيهِ الْأَصْغَرِ، وَكَانَا ابْنَيْ عَمَّةِ عَضُدِ الدِّينِ أُسْتَاذِ الدَّارِ، وَكَانَ الْأَصْغَرُ عَامِلَ الْبَيْمَارَسْتَانِ، فَقُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ، قِيلَ كَانَ عِنْدَهُ صُنُجٌ زَائِدَةٌ يَقْبِضُ بِهَا وَتَحْمِلُ إِلَى الدِّيوَانِ بِالصُنُجِ الصَّحِيحَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَحُمِلَ إِلَى الْبِيمَارَسْتَانِ، فَمَاتَ بِهِ، وَكَانَ شَاعِرًا، فَمِنْ شِعْرِهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ: سَلَامٌ عَلَى أَهْلِي وَصَحْبِي وَجُلَّاسِي ... وَمَنْ فِي فُؤَادِي ذِكْرُهُمْ رَاسِبٌ رَاسِي أُعَالِجُ فِيكُمْ كُلَّ هَمٍّ وَلَا أَرَى ... لِدَاءِ هُمُومِي غَيْرَ رُؤْيَتِكُمْ آسِي لَقَدْ أَبْدَتِ الْأَيَّامُ لِي كُلَّ شِدَّةٍ ... تَشِيبُ لَهَا الْأَكْبَادُ فَضْلًا عَنِ الرَّاسِ فَيَا ابْنَةَ عَبْدِ اللَّهِ صَبْرًا عَلَى الَّذِي ... لَقِيتُ فَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ مَالِكِ النَّاسِ فَلَوْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكِ ذُلِّي بَكَيْتِ لِي ... بِدَمْعٍ سَوِيٍّ بِالْمَدَامِعِ رَجَّاسِ أَقُولُ لِقَلْبِي وَالْهُمُومُ تَنُوشُهُ ... وَقَدْ حَدَّثَتْهُ النَّفْسُ بِالضُّرِّ وَالْيَاسِ فَلَوْ هَمَّ طَيْفٌ مِنْ خَيَالِي يَزُورُكُمْ ... لَمَانَعَهُ دُونَ الْمُغَالِقِ حُرَّاسِي وَمَا حَذَرِي إِلَّا عَلَى النَّفْسِ لَا عَلَى سِوَاهَا ... لِأَنِّي حِلْفُ فَقْرٍ وَإِفْلَاسِ [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمُعَمَّرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ رَجَاءٍ أَبُو أَحْمَدُ الْأَصْفَهَانِيُّ الْحَافِظُ، يَرْوِي عَنْ أَصْحَابِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِالْبَادِيَةِ ذَاهِبًا إِلَى الْحَجِّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. وَفِي رَجَبَ مِنْهَا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْفَارِقِيُّ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى النَّاسِ، وَكَانَ أَحَدَ

الزُّهَّادِ، لَهُ كَرَامَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى الْخَاطِرِ، وَكَلَامُهُ مَجْمُوعٌ مَشْهُورٌ. وَفِيهَا مَاتَ جُعَيْفَرٌ الرَّقَّاصُ مِنْ نُدَمَاءِ دَارِ الْخِلَافَةِ. وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْقُرَشِيُّ الدِّمَشْقِيُّ. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ تُوُفِّيَ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْقَاسِمِ الشَّهْرَزُورِيُّ قَاضِي الْمَوْصِلِ، وَوَلَّى ابْنَهُ حُجَّةَ الدِّينِ عَبْدَ الْقَاهِرِ الْقَضَاءَ.

ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 565 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ حَصْرِ الْفِرِنْجِ دِمْيَاطَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرَ، نَزَلَ الْفِرِنْجُ عَلَى مَدِينَةِ دِمْيَاطَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَحَصَرُوهَا، وَكَانَ الْفِرِنْجُ بِالشَّامِ، لَمَّا مَلَكَ أَسَدُ الدِّينِ شِيرِكُوهْ مِصْرَ، قَدْ خَافُوهُ، وَأَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ، وَكَاتَبُوا الْفِرِنْجَ الَّذِينَ بِصِقِلِّيَةَ وَالْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهِمَا يَسْتَمِدُّونَهُمْ وَيُعَرِّفُونَهُمْ مَا تُجِدِّدَ مَنْ مُلْكِ الْأَتْرَاكِ مِصْرَ، وَأَنَّهُمْ خَائِفُونَ عَلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ مِنْهُمْ، فَأَرْسَلُوا جَمَاعَةً مِنَ الْقُسُوسِ وَالرُّهْبَانِ يُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الْحَرَكَةِ، فَأَمَدُّوهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالرِّجَالِ وَالسِّلَاحِ، وَاتَّعَدُوا لِلنُّزُولِ عَلَى دِمْيَاطَ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا، وَيَتَّخِذُونَهَا ظَهْرًا يَمْلِكُونَ بِهِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب: 25] فَإِلَى أَنْ دَخَلُوا كَانَ أَسَدُ الدِّينِ قَدْ مَاتَ وَمَلَكَ صَلَاحُ الدِّينِ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهَا، وَحَصَرُوهَا، وَضَيَّقُوا عَلَى مَنْ بِهَا. فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا صَلَاحُ الدِّينِ الْعَسَاكِرَ فِي النِّيلِ وَحَشَرَ فِيهَا كُلَّ مَنْ عِنْدَهُ، وَأَمَدَّهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ وَالذَّخَائِرِ، وَأَرْسَلَ إِلَى نُورِ الدِّينِ يَشْكُو مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْمَخَافَةِ، وَيَقُولُ: إِنِّي إِنْ تَأَخَّرْتُ عَنْ دِمْيَاطَ مَلَكَهَا الْفِرِنْجُ، وَإِنْ سِرْتُ إِلَيْهَا خَلَّفَنِي الْمِصْرِيُّونَ فِي أَهْلِهَا وَأَمْوَالِهَا بِالشَّرِّ، وَخَرَجُوا عَنْ طَاعَتِي، وَسَارُوا فِي أَثَرِي، وَالْفِرِنْجُ مِنْ أَمَامِي، فَلَا يَبْقَى لَنَا بَاقِيَةٌ. فَسَيَّرَ نُورُ الدِّينِ الْعَسَاكِرَ إِلَيْهِ أَرْسَالًا يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا، ثُمَّ سَارَ هُوَ بِنَفْسِهِ إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ الشَّامِيَّةِ، فَنَهَبَهَا، وَأَغَارَ عَلَيْهَا وَاسْتَبَاحَهَا، فَوَصَلَتِ الْغَارَاتُ إِلَى مَا لَمْ تَكُنْ تَبْلُغُهُ قَبْلُ لِخُلُوِّ الْبِلَادِ مِنْ مَانَعٍ.

فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ تَتَابَعُ الْعَسَاكِرُ إِلَى مِصْرَ، وَدُخُولِ نُورِ الدِّينِ إِلَى بِلَادِهِمْ وَنَهْبِهَا وَتَخْرِيبِهَا، رَجَعُوا خَائِبِينَ لَمْ يَظْفَرُوا بِشَيْءٍ، وَوَجَدُوا بِلَادَهُمْ خَرَابًا، وَأَهْلَهَا بَيْنَ قَتِيلٍ وَأَسِيرٍ، فَكَانُوا مَوْضِعَ الْمَثَلِ: خَرَجَتِ النَّعَامَةُ تَطْلُبُ قَرْنَيْنِ رَجَعَتْ بِلَا أُذُنَيْنِ. وَكَانَتْ مُدَّةُ مَقَامِهِمْ عَلَى دِمْيَاطَ خَمْسِينَ يَوْمًا أَخْرَجَ فِيهَا صَلَاحُ الدِّينِ أَمْوَالًا لَا تُحْصَى، حُكِيَ لِي أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَكْرَمَ مِنَ الْعَاضِدِ، أَرْسَلَ إِلَيَّ مُدَّةً لِمَقَامِ الْفِرِنْجِ عَلَى دِمْيَاطَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ مِصْرِيَّةٍ سِوَى الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا. ذِكْرُ حَصْرِ نُورِ الدِّينِ الْكَرَكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، سَارَ نُورُ الدِّينِ إِلَى بَلَدَ الْفِرِنْجِ، فَحَصَرَ الْكَرَكَ، وَهُوَ مِنْ أَمْنَعِ الْمَعَاقِلِ عَلَى طَرَفِ الْبَرِّ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ أَرْسَلَ إِلَى نُورِ الدِّينِ يَطْلُبُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ وَالِدَهُ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ، فَجَهَّزَهُ نُورُ الدِّينِ، وَسَيَّرَهُ، وَسَيَّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ مِنَ التُّجَّارِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَانْضَافَ إِلَيْهِمْ مَنْ كَانَ لَهُ مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ أُنْسٌ وَصُحْبَةٌ، فَخَافَ نُورُ الدِّينِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَسَارَ فِي عَسَاكِرِهِ إِلَى الْكَرَكِ، فَحَصَرَهُ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَنَصَبَ عَلَيْهِ الْمَجَانِيقَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدْ جَمَعُوا لَهُ، وَسَارُوا إِلَيْهِ، وَقَدْ جَعَلُوا فِي مُقَدِّمَتِهِمْ إِلَيْهِ ابْنَ هَنْفَرِيِّ وَقَرِيبَ بْنَ الرَّقِيقِ، وَهُمَا فَارِسَا الْفِرِنْجِ فِي وَقْتِهِمَا، فَرَحَلَ نُورُ الدِّينِ نَحْوَ هَذَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ لِيَلْقَاهُمَا وَمَنْ مَعَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِقَ بِهَا بَاقِي الْفِرِنْجُ، فَلَمَّا قَارَبَهُمَا رَجَعَا الْقَهْقَرَى، وَاجْتَمَعَا بِبَاقِي الْفِرِنْجِ. وَسَلَكَ نُورُ الدِّينِ وَسَطَ بِلَادِهِمْ يَنْهَبُ وَيَحْرِقُ مَا عَلَى طَرِيقِهِ مِنَ الْقُرَى إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَنَزَلَ عَلَى عَشْتَرَا، وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ حَرَكَةَ الْفِرِنْجِ لِيَلْقَاهُمْ، فَلَمْ

يَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِهِمْ، فَأَقَامَ هُوَ حَتَّى أَتَاهُ خَبَرُ الزَّلْزَلَةِ الْحَادِثَةِ فَرَحَلَ. وَأَمَّا نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ فَإِنَّهُ وَصَلَ إِلَى مِصْرَ سَالِمًا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَخَرَجَ الْعَاضِدُ الْخَلِيفَةُ فَالْتَقَاهُ إِكْرَامًا لَهُ. ذِكْرُ غَزْوَةٍ لِسَرِيَّةٍ نُورِيَّةٍ كَانَ شِهَابُ الدِّينِ إِلْيَاسُ بْنُ إِيلْغَازِي بْنِ أَرْتِقَ، صَاحِبُ قَلْعَةِ الْبِيرَةِ، قَدْ سَارَ فِي عَسْكَرِهِ، وَهُوَ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، إِلَى نُورِ الدِّينِ وَهُوَ بِعَشْتَرَا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قَرْيَةِ اللَّبْوَةِ، وَهِيَ مِنْ عَمَلِ بَعْلَبَكَّ، رَكِبَ مُتَصَيِّدًا، فَصَادَفَ ثَلَاثَمِائَةِ فَارِسٍ مَنَّ الْفِرِنْجِ قَدْ سَارُوا لِلْإِغَارَةِ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ سَابِعَ عَشَرَ شَوَّالًا، فَوَقَعَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ لَا سِيَّمَا الْمُسْلِمُونَ، فَإِنَّ أَلْفَ فَارِسٍ لَا يَصْبِرُونَ لِحَمْلَةِ ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ إِفْرِنْجِيَّةٍ، وَكَثُرَ الْقَتْلَى بَيْنَ الطَّائِفِينَ، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ، وَعَمَّهُمُ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَسَارَ شِهَابُ الدِّينِ بِرُءُوسِ الْقَتْلَى وَبِالْأَسْرَى إِلَى نُورِ الدِّينِ، فَرَكِبَ نُورُ الدِّينِ وَالْعَسْكَرِ، فَلَقُوهُمْ، فَرَأَى نُورُ الدِّينِ فِي الرُّءُوسِ رَأْسَ مُقَدَّمِ الْإِسْبِتَارِ، صَاحِبِ حِصْنِ الْأَكْرَادِ، وَكَانَ مِنَ الشَّجَاعَةِ بِمَحَلٍّ كَبِيرٍ، وَكَانَ شَجًّا فِي حُلُوقِ الْمُسْلِمِينَ. ذِكْرُ الزَّلْزَلَةِ وَمَا فَعَلَتْهُ بِالشَّامِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا، ثَانِيَ عَشَرَ شَوَّالًا، كَانَتْ زَلَازِلُ عَظِيمَةٌ مُتَتَابِعَةٌ هَائِلَةٌ لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهَا، وَعَمَّتْ أَكْثَرَ الْبِلَادِ مِنَ الشَّامِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَالْمَوْصِلِ، وَالْعِرَاقِ، وَغَيْرِهَا

مِنَ الْبِلَادِ، وَأَشَدُّهَا كَانَ بِالشَّامِ، فَخَرَّبَتْ كَثِيرًا مِنْ دِمَشْقَ، وَبَعْلَبَكَّ، وَحِمْصَ، وَحَمَاةَ، وَشَيْزَرَ، وَبُعْرَيْنَ، وَحَلَبَ، وَغَيْرَهَا، وَتَهَدَّمَتْ أَسْوَارُهَا وَقِلَاعُهَا، وَسَقَطَتِ الدُّوُرُ عَلَى أَهْلِهَا، وَهَلَكَ مِنْهُمْ مَا يَخْرُجُ عَنِ الْحَدِّ. فَلَمَّا أَتَاهُ الْخَبَرُ سَارَ إِلَى بَعْلَبَكَّ لِيُعَمِّرَ مَا انْهَدَمَ مِنْ سُورِهَا وَقَلْعَتِهَا، فَلَمَّا وَصَلَهَا أَتَاهُ خَبَرُ بَاقِي الْبِلَادِ، وَخَرَابُ أَسْوَارِهَا وَقِلَاعِهَا، وَخُلُوِّهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَجَعَلَ بِبَعْلَبَكَّ مَنْ يُعَمِّرُهَا وَيَحْمِيهَا وَيَحْفَظُهَا، وَسَارَ إِلَى حِمْصَ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِلَى حَمَاةَ، (ثُمَّ إِلَى بَعْرِينَ) ، وَكَانَ شَدِيدَ الْحَذَرِ عَلَى سَائِرِ الْبِلَادِ مِنَ الْفِرِنْجِ، ثُمَّ أَتَى مَدِينَةَ حَلَبَ، فَرَأَى فِيهَا مِنْ آثَارِ الزَّلْزَلَةِ مَا لَيْسَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ قَدْ أَتَتْ عَلَيْهَا، وَبَلَغَ الرُّعْبُ مِمَّنْ نَجَا كُلَّ مَبْلَغٍ، وَكَانُوا لَا يَقْدِرُونَ [أَنْ] يَأْوُوا [إِلَى] مَسَاكِنِهِمْ خَوْفًا مِنَ الزَّلْزَلَةِ، فَأَقَامَ بِظَاهِرِهَا، وَبَاشَرَ عِمَارَتَهَا بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى أَحْكَمَ أَسْوَارَ الْبِلَادِ وَجَوَامِعَهَا. وَأَمَّا بِلَادُ الْفِرِنْجِ فَإِنَّ الزَّلَازِلَ أَيْضًا عَمِلَتْ بِهَا كَذَلِكَ، فَاشْتَغَلُوا بِعِمَارَةِ بِلَادِهِمْ خَوْفًا مِنْ نُورِ الدِّينِ عَلَيْهَا، فَاشْتَغَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِعِمَارَةِ بِلَادِهِ خَوْفًا مِنَ الْآخَرِ. ذِكْرُ وَفَاةِ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِي وَمُلْكِ ابْنِهِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِي فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، مَاتَ قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودُ بْنُ زَنْكِي، ابْنُ آقَنَسْقَرَ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَ مَرَضُهُ حُمَّى حَادَّةً، وَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ

أَوْصَى بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ لِابْنِهِ الْأَكْبَرِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي، ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى ابْنِهِ الْآخَرِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِي، وَإِنَّمَا صَرَفَ الْمُلْكَ عَنِ ابْنِهِ الْأَكْبَرِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي بْنِ مَوْدُودٍ ; لِأَنَّ الْقَيِّمَ بِأُمُورِ دَوْلَتِهِ، وَالْمُقَدَّمَ فِيهَا، كَانَ خَادِمًا لَهُ يُقَالُ لَهُ فَخْرُ الدِّينِ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَكَانَ يَكْرَهُ عِمَادَ الدِّينِ ; لِأَنَّهُ كَانَ طَوْعَ عَمِّهِ نُورِ الدِّينِ، لِكَثْرَةِ مَقَامِهِ عِنْدَهُ، وَلِأَنَّهُ زَوْجُ ابْنَتِهِ، وَكَانَ نُورُ الدِّينِ يَبْغَضُ عَبْدَ الْمَسِيحِ، فَاتَّفَقَ فَخْرُ الدِّينِ وَخَاتُونُ ابْنَةِ حُسَامِ الدِّينِ تَمَرْتَاشَ بْنِ إِيلْغَازِي، وَهِيَ وَالِدَةُ سَيْفِ الدِّينِ، عَلَى صَرْفِ الْمُلْكِ عَنْ عِمَادِ الدِّينِ إِلَى سَيْفِ الدِّينِ، فَرَحَلَ عِمَادُ الدِّينِ إِلَى عَمِّهِ نُورِ الدِّينِ مُسْتَنْصِرًا بِهِ ; لِيُعِينَهُ عَلَى أَخْذِ الْمُلْكِ لِنَفْسِهِ. وَتُوُفِّيَ قُطْبُ الدِّينِ وَعُمُرُهُ نَحْوَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ مُلْكُهُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفًا، وَكَانَ فَخْرُ الدِّينِ هُوَ الْمُدَبِّرُ لِلْأُمُورِ وَالْحَاكِمُ فِي الدَّوْلَةِ، وَكَانَ قُطْبُ الدِّينِ مِنْ أَحْسَنِ الْمُلُوكِ سِيرَةً، وَأَعَفِّهِمْ عَنْ أَمْوَالِ رَعِيَّتِهِ، مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ، كَثِيرَ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ، مَحْبُوبًا إِلَى كَبِيرِهِمْ وَصَغِيرِهِمْ، عَطُوفًا عَلَى شَرِيفِهِمْ وَوَضِيعِهِمْ، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، حَسَنَ الصُّحْبَةِ لَهُمْ، فَكَأَنَّ الْقَائِلَ أَرَادَهُ بِقَوْلِهِ: خُلُقٌ كَمَاءِ الْمُزْنِ طِيبَ مَذَاقَةٍ ... وَالرَّوْضَةِ الْغَنَّاءِ طِيبَ نَسِيمِ كَالسَّيْفِ لَكِنْ فِيهِ حِلْمٌ وَاسِعٌ ... عَمَّنْ جَنَى وَالسَّيْفُ غَيْرُ حَلِيمِ كَالْغَيْثِ إِلَّا أَنَّ وَابِلَ جُودِهِ ... أَبَدًا وُجُودُ الْغَيْثِ غَيْرُ مُقِيمِ كَالدَّهْرِ إِلَّا أَنَّهُ ذُو رَحْمَةٍ ... وَالدَّهْرُ قَاسِي الْقَلْبِ غَيْرُ رَحِيمِ وَكَانَ سَرِيعَ الِانْفِعَالِ لِلْخَيْرِ، بَطِيئًا عَنِ الشَّرِّ، جَمَّ الْمَنَاقِبِ، قَلِيلَ الْمَعَايِبِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ وَعَنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ. ذِكْرُ حَالَةٍ يَنْبَغِي لِلْمُلُوكِ أَنْ يَحْتَرِزُوا مِنْ مِثْلِهَا حَدَّثَنِي وَالِدِي، رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ: كُنْتُ أَتَوَلَّى جَزِيرَةَ ابْنِ عُمَرَ لِقُطْبِ الدِّينِ، كَمَا عَلِمْتُمْ، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَسِيرٍ أَتَانَا كِتَابٌ مِنَ الدِّيوَانِ بِالْمَوْصِلِ يَأْمُرُونَ بِمِسَاحَةِ جَمِيعِ بَسَاتِينِ الْعَقِيمَةِ، وَهَذِهِ الْعَقِيمَةُ هِيَ قَرْيَةٌ تُحَاذِي الْجَزِيرَةَ بَيْنَهُمَا دِجْلَةُ، وَلَهَا

بَسَاتِينُ كَثِيرَةٌ بَعْضُهَا يُمْسَحُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ شَيْءٌ مَعْلُومٌ، وَبَعْضُهَا عَلَيْهِ خَرَاجٌ، وَبَعْضُهَا مُطْلَقٌ مِنَ الْجَمِيعِ. قَالَ: وَكَانَ لِي فِيهَا مِلْكٌ كَثِيرٌ، فَكُنْتُ أَقُولُ: إِنَّ الْمَصْلَحَةَ أَنْ لَا يُغَيَّرَ عَلَى النَّاسِ شَيْءٌ، وَمَا أَقُولُ هَذَا لِأَجْلِ مِلْكِي، فَإِنَّنِي أَنَا أَمْسَحُ مِلْكِي، وَإِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ يَدُومَ الدُّعَاءُ مِنَ النَّاسِ لِلدَّوْلَةِ، فَجَاءَنِي كِتَابُ النَّائِبِ يَقُولُ: لَا بُدَّ مِنَ الْمِسَاحَةِ، قَالَ: فَأَظْهَرْتُ الْأَمْرَ، وَكَانَ بِهَا قَوْمٌ صَالِحُونَ، لِي بِهِمْ أُنْسٌ، وَبَيْنَنَا مَوَدَّةٌ، فَجَاءَنِي النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَأُولَئِكَ مَعَهُمْ، يَطْلُبُونَ الْمُرَاجَعَةَ، فَأَعْلَمْتُهُمْ أَنَّنِي رَجَعْتُ وَمَا أُجِبْتُ إِلَى ذَلِكَ، فَجَاءَنِي مِنْهُمْ رَجُلَانِ أَعْرِفُ صَلَاحَهُمَا، وَطَلَبَا مِنِّي الْمُعَاوَدَةَ وَمُخَاطَبَةً ثَانِيَةً، فَفَعَلْتُ، فَأَصَرُّوا عَلَى الْمَسْحِ، فَعَرَّفْتُهُمَا الْحَالَ. قَالَ: فَمَا مَضَى إِلَّا عِدَّةُ أَيَّامٍ، وَإِذْ قَدْ جَاءَنِي الرَّجُلَانِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمَا ظَنَنْتُ أَنَّهُمَا جَاءَا يَطْلُبَانِ الْمُعَاوَدَةَ، فَعَجِبْتُ مِنْهُمَا، وَأَخَذْتُ أَعْتَذِرُ إِلَيْهِمَا، فَقَالَا: مَا جِئْنَا إِلَيْكَ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا جِئْنَا نُعَرِّفَكَ أَنَّ حَاجَتَنَا قُضِيَتْ، قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُمَا قَدْ أَرْسَلَا إِلَى الْمَوْصِلِ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَهُمَا، فَقُلْتُ: مَنِ الَّذِي خَاطَبَ فِي هَذَا بِالْمَوْصِلِ؟ فَقَالَا: إِنَّ حَاجَتَنَا قَدْ قُضِيَتْ مِنَ السَّمَاءِ، وَلِكَافَّةِ أَهْلِ الْعَقِيمَةِ. قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّ هَذَا مِمَّا قَدْ حَدَّثَا بِهِ نُفُوسَهُمَا، ثُمَّ قَامَا عَنِّي، لَمْ يَمْضِ غَيْرُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَإِذْ قَدْ جَاءَنَا كِتَابٌ مِنَ الْمَوْصِلِ يَأْمُرُونَ بِإِطْلَاقِ الْمِسَاحَةِ وَالْمُحْبَسِينَ وَالْمُكُوسَ، وَيَأْمُرُونَ بِالصَّدَقَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّ السُّلْطَانَ، يَعْنِي قُطْبَ الدِّينِ، مَرِيضٌ، يَعْنِي عَلَى حَالَةٍ شَدِيدَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ جَاءَنَا الْكِتَابُ بِوَفَاتِهِ، فَعَجِبْتُ مِنْ قَوْلِهِمَا، وَاعْتَقَدْتُهُ كَرَامَةً لَهُمَا، فَصَارَ وَالِدِي بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ إِكْرَامَهُمَا وَاحْتِرَامَهُمَا وَيَزُورُهُمَا. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسَاكِرِ ابْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَابْنِ مَرْدَنِيشَ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مَرْدَنِيشَ، مَلَكَ شَرْقَ الْأَنْدَلُسِ، قَدِ اتَّفَقَ هُوَ وَالْفِرِنْجُ، وَامْتَنَعَ عَلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَابْنِهِ بَعْدَهُ، فَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ، لَا سِيَّمَا بَعْدَ وَفَاةِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ،

فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ جَهَّزَ إِلَيْهِ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْعَسَاكِرَ الْكَثِيرَةَ مَعَ أَخِيهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَجَاسُوا بِلَادَهُ وَخَرَّبُوهَا، وَأَخَذُوا مَدِينَتَيْنِ مِنْ بِلَادِهِ، وَأَخَافُوا عَسَاكِرَهُ وَجُنُودَهُ، وَأَقَامُوا بِبِلَادِهِ مُدَّةً يَنْتَقِلُونَ فِيهَا وَيَجْبُونَ أَمْوَالَهَا. ذِكْرُ وَفَاةِ صَاحِبِ كَرْمَانَ وَالْخُلْفِ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمَلِكُ طُغْرُلُ بْنُ قَاوَرْتَ صَاحِبُ كَرْمَانَ، وَاخْتَلَفَ أَوْلَادُهُ بَهْرَام شَاهْ وَأَرْسِلَان شَاهْ، وَهُوَ الْأَكْبَرُ، وَجَرَى بَيْنَهُمَا قِتَالٌ انْهَزَمَ فِيهِ بَهْرَام شَاهْ وَمَعَهُ أَخٌ لَهُ اسْمُهُ تُرْكَان شَاهْ، فَمَلَكَ الْبِلَادَ أَرْسِلَان شَاهْ، وَمَضَى بَهْرَام شَاهْ إِلَى خُرَاسَانَ، فَدَخَلَ عَلَى الْمُؤَيَّدِ صَاحِبِ نَيْسَابُورَ وَاسْتَنْجَدَهُ، فَأَنْجَدَهُ بِعَسَاكِرَ سَارَ بِهَا إِلَى كَرْمَانَ، فَجَرَى بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ حَرْبٌ ظَفِرَ فِيهَا بَهْرَام شَاهْ، [وَهَرَبَ أَرْسِلَان شَاهْ، فَقَصَدَ أَصْفَهَانَ مُسْتَجِيرًا بِإِيلْدِكْزَ، فَأَنْفَذَ مَعَهُ عَسْكَرًا، وَاسْتَنْقَذُوا الْبِلَادَ مِنْ بَهْرَام شَاهْ وَسَلَّمُوهَا إِلَى أَخِيهِ أَرْسِلَان شَاهْ فَعَادَ] بَهْرَام شَاهْ إِلَى نَيْسَابُورَ مُسْتَجِيرًا بِالْمُؤَيَّدِ صَاحِبِهَا، فَأَقَامَ عِنْدَهُ، فَاتَّفَقَ أَنَّ أَخَاهُ أَرْسِلَان شَاهْ مَاتَ، فَسَارَ إِلَى كَرْمَانَ، فَمَلَكَهَا، وَأَقَامَ بِهَا بِغَيْرِ مُنَازِعٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَتِ الْأَذِيَّةُ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءٍ، وَتَطَرَّقَ بِلَادَ حُلْوَانَ، وَنَهَبَ وَأَفْسَدَ، وَتَطَرَّقَ الْحُجَّاجُ، فَأُنْفِذَ إِلَيْهِ مِنْ بَغْدَادَ عَسْكَرٌ، فَنَازَلُوهُ فِي قِلَاعِهِ، وَضَايَقُوهُ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُ وَأَمْوَالَ أَهْلِهِ، حَتَّى أَذْعَنَ بِالطَّاعَةِ، وَلَا يُعَاوِدُ أَذَى الْحُجَّاجِ وَلَا غَيْرِهِمْ، فَعَادَ الْعَسْكَرُ عَنْهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَجْدُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الدَّايَةِ، وَهُوَ رَضِيعُ نُورِ الدِّينِ، وَكَانَ أَعْظَمَ الْأُمَرَاءِ مَنْزِلَةً عِنْدَهُ، وَلَهُ فِي أَقْطَاعِهِ حَلَبُ وَحَارِمُ وَقَلْعَةُ جَعْبَرَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَدَّ نُورُ الدِّينِ مَا كَانَ لَهُ إِلَى أَخِيهِ شَمْسِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ الدَّايَةِ. وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ شَافِعٍ أَبُو الْفَضْلِ الْجِيلِيُّ بِبَغْدَادَ، وَهُوَ مِنْ مَشْهُورِي الْمُحَدِّثِينَ. الْجِيلِيُّ: بِالْجِيمِ وَالْيَاءُ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ.

ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 566 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، تَاسِعَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، تُوُفِّيَ الْمُسْتَنْجِدُ بِاللَّهِ أَبُو الْمُظَفَّرِ يُوسُفُ بْنُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَاقِي النَّسَبِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ، اسْمُهَا طَاوُسُ، وَقِيلَ نَرْجِسُ، رُومِيَّةٌ، وَمَوْلِدُهُ مُسْتَهَلُّ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرًا وَسِتَّةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ أَسْمَرَ، تَامَّ الْقَامَةِ، طَوِيلَ اللِّحْيَةِ. وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ مَرِضَ وَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، وَكَانَ قَدْ خَافَهُ أُسْتَاذُ الدَّارِ عَضُدُ الدِّينِ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَقُطْبُ الدِّينِ قَايْمَازُ الْمَقْتَفَوِيُّ، وَهُوَ حِينَئِذٍ أَكْبَرُ أَمِيرٍ بِبَغْدَادَ، فَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُ الْخَلِيفَةِ اتَّفَقَا، وَوَضَعَا الطَّبِيبَ عَلَى أَنْ يَصِفَ لَهُ مَا يُؤْذِيهِ، فَوَصَفَ لَهُ دُخُولَ الْحَمَّامِ، فَامْتَنَعَ لِضَعْفِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ دَخَلَ وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَمَاتَ. وَهَكَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِمَّنْ يَعْلَمُ الْحَالَ، وَقِيلَ إِنَّ الْخَلِيفَةَ كَتَبَ إِلَى وَزِيرِهِ مَعَ طَبِيبِهِ ابْنِ صَفِيَّةَ يَأْمُرُهُ بِالْقَبْضِ عَلَى أُسْتَاذِ الدَّارِ وَقُطْبِ الدِّينِ وَصَلْبِهِمَا، فَاجْتَمَعَ ابْنُ صَفِيَّةَ بِأُسْتَاذِ الدَّارِ، وَأَعْطَاهُ خَطَّ الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ لَهُ: تَعُودُ وَتَقُولُ إِنَّنِي أَوْصَلْتُ الْخَطَّ إِلَى الْوَزِيرِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَحْضَرَ أُسْتَاذَ الدَّارِ قُطْبَ الدِّينِ وَيَزْدِنَ وَأَخَاهُ تَنَامِشَ، وَعَرَضَ الْخَطَّ عَلَيْهِمْ، فَاتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ الْخَلِيفَةِ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ يَزْدِنُ وَقَايْمَازُ الْحُمَيْدِيُّ، فَحَمَلَاهُ إِلَى الْحَمَّامِ وَهُوَ يَسْتَغِيثُ وَأَلْقَيَاهُ، وَأَغْلَقَا الْبَابَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَصِيحُ إِلَى أَنْ مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ وَزِيرُهُ حِينَئِذٍ أَبَا جَعْفَرِ بْنَ الْبَلَدِيِّ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ أُسْتَاذِ الدَّارِ عَضُدِ الدِّينِ

عَدَاوَةٌ مُسْتَحْكِمَةٌ، لِأَنَّ الْمُسْتَنْجِدَ بِاللَّهِ كَانَ يَأْمُرُهُ بِأَشْيَاءَ تَتَعَلَّقُ بِهِمَا فَيَفْعَلُهَا، فَكَانَا يَظُنَّانِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْعَى بِهِمَا، فَلَمَّا مَرِضَ الْمُسْتَنْجِدُ وَأُرْجِفَ بِمَوْتِهِ، رَكِبَ الْوَزِيرُ وَمَعَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْأَجْنَادُ وَغَيْرُهُمْ بِالْعُدَّةِ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ عِنْدَهُ خَبَرُ مَوْتِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَضُدُ الدِّينِ يَقُولُ: إِنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ خَفَّ مَا بِهِ مِنَ الْمَرَضِ، وَأَقْبَلَتِ الْعَافِيَةُ، فَخَافَ الْوَزِيرُ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْخِلَافَةِ بِالْجُنْدِ، فَرُبَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَعَادَ إِلَى دَارِهِ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، وَكَانَ عَضُدُ الدِّينِ وَقُطْبُ الدِّينِ قَدِ اسْتَعَدَّا لِلْهَرَبِ لَمَّا رَكِبَ الْوَزِيرُ خَوْفًا مِنْهُ إِنْ دَخَلَ الدَّارَ أَنْ يَأْخُذَهُمَا، فَلَمَّا عَادَ أَغْلَقَ أُسْتَاذُ الدَّارِ أَبْوَابَ الدَّارِ، وَأَظْهَرُوا وَفَاةَ الْمُسْتَنْجِدِ، وَأَحْضَرَ هُوَ وَقُطْبُ الدِّينِ ابْنَهُ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ، وَبَايَعَاهُ بِالْخِلَافَةِ، وَلَقَّبَاهُ الْمُسْتَضِيءَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ شُرُوطًا أَنْ يَكُونَ عَضُدُ الدِّينِ وَزِيرًا، وَابْنُهُ كَمَالُ الدِّينِ أُسْتَاذَ الدَّارِ، وَقُطْبُ الدِّينِ أَمِيرَ الْعَسْكَرِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ. وَلَمْ يَتَوَلَّ الْخِلَافَةَ مَنِ اسْمُهُ الْحَسَنُ إِلَّا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَالْمُسْتَضِيءُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَاتَّفَقَا فِي الْكُنْيَةِ وَالْكَرَمِ، فَبَايَعَهُ أَهْلُ بَيْتِهِ الْخَاصَّةُ يَوْمَ تُوُفِّيَ أَبُوهُ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ مِنَ الْغَدِ فِي التَّاجِ بَيْعَةً عَامَّةً، وَأَظْهَرَ مِنَ الْعَدْلِ أَضْعَافَ مَا عَمِلَ أَبُوهُ، وَفَرَّقَ أَمْوَالًا جَلِيلَةَ الْمِقْدَارِ. وَعَلِمَ الْوَزِيرُ ابْنُ الْبَلَدِيِّ، فَسُقِطَ فِي يَدِهِ وَقَرَعَ سِنَّهُ ; نَدَمًا عَلَى مَا فَرَّطَ فِي عَوْدِهِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ، وَأَتَاهُ مَنْ يَسْتَدْعِيهِ لِلْجُلُوسِ لِلْعَزَاءِ وَالْبَيْعَةِ لِلْمُسْتَضِيءِ، فَمَضَى إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَلَمَّا دَخَلَهَا صُرِفَ إِلَى مَوْضِعٍ وَقُتِلَ وَقُطِّعَ قِطَعًا، وَأُلْقِي فِي دِجْلَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأُخِذَ جَمِيعُ مَا فِي دَارِهِ، فَرَأَيَا فِيهَا خُطُوطَ الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ يَأْمُرُهُ فِيهَا بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمَا، وَخَطَّ الْوَزِيرِ قَدْ رَاجَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَصَرَفَهُ عَنْهُ، فَلَمَّا وَقَفَا عَلَيْهِمَا عَرَفَا بَرَاءَتَهُ مِمَّا كَانَا يَظُنَّانِ فِيهِ، فَنَدِمَا حَيْثُ فَرَّطَا فِي قَتْلِهِ. وَكَانَ الْمُسْتَنْجِدُ بِاللَّهِ مِنْ أَحْسَنِ الْخُلَفَاءِ سِيرَةً مَعَ الرَّعِيَّةِ، عَادِلًا فِيهِمْ، كَثِيرَ الرِّفْقِ بِهِمْ، وَأَطْلَقَ كَثِيرًا مِنَ الْمُكُوسِ، وَلَمْ يَتْرُكْ بِالْعِرَاقِ مِنْهَا شَيْئًا، وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى أَهْلِ الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ وَالسِّعَايَةِ بِالنَّاسِ. بَلَغَنِي أَنَّهُ قَبَضَ عَلَى إِنْسَانٍ كَانَ يَسْعَى بِالنَّاسِ، فَأَطَالَ حَبْسَهُ، فَشَفَعَ فِيهِ بَعْضُ

أَصْحَابِهِ الْمُخْتَصِّينَ بِخِدْمَتِهِ، وَبَذَلَ عَنْهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَقَالَ: أَنَا أُعْطِيكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ وَتُحْضِرُ لِي إِنْسَانًا آخَرَ مِثْلَهُ لِأَكُفَّ شَرَّهُ عَنِ النَّاسِ، وَلَمْ يُطْلِقْهُ، وَرَدَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ عَلَى أَصْحَابِهَا، وَقَبَضَ عَلَى الْقَاضِي ابْنِ الْمُرَخَّمِ، وَأَخَذَ مِنْهُ مَالًا كَثِيرًا، فَأَعَادَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ أَيْضًا، وَكَانَ ابْنُ الْمُرَخَّمِ ظَالِمًا جَائِرًا فِي أَحْكَامِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ نُورِ الدِّينِ الْمَوْصِلَ وَإِقْرَارِ سَيْفِ الدِّينِ عَلَيْهَا لَمَّا بَلَغَ نُورَ الدِّينِ مَحْمُودًا وَفَاةُ أَخِيهِ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودٍ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَمُلْكُ وَلَدِهِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِي الْمَوْصِلَ وَالْبِلَادَ الَّتِي كَانَتْ لِأَبِيهِ، بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَقِيَامُ فَخْرِ الدِّينِ عَبْدِ الْمَسِيحِ بِالْأَمْرِ مَعَهُ، وَتَحَكُّمُهُ عَلَيْهِ، أَنِفَ لِذَلِكَ، وَكَبُرَ لَدَيْهِ، وَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُبْغِضُ فَخْرَ الدِّينِ لِمَا يَبْلُغُهُ عَنْهُ مِنْ خُشُونَةِ سِيَاسَتِهِ، فَقَالَ: أَنَا أَوْلَى بِتَدْبِيرِ أَوْلَادِ أَخِي وَمُلْكِهِمْ، وَسَارَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعَزَاءِ جَرِيدَةً فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَعَبَرَ الْفُرَاتَ، عِنْدَ قَلْعَةِ جَعْبَرَ، مُسْتَهَلَّ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَصَدَ الرَّقَّةَ فَحَصَرَهَا وَأَخَذَهَا. ثُمَّ سَارَ إِلَى الْخَابُورِ فَمَلَكَهُ جَمِيعَهُ، وَمَلَكَ نَصِيبِينَ، وَأَقَامَ بِهَا يَجْمَعُ الْعَسَاكِرَ، فَأَتَاهُ بِهَا نُورُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ قَرَا أَرْسِلَان بْنِ دَاوُدَ، صَاحِبُ حِصْنِ كَيْفَا، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَكَانَ قَدْ تَرَكَ أَكْثَرَ عَسَاكِرِهِ بِالشَّامِ ; لِحِفْظِ ثُغُورِهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ سَارَ إِلَى سَنْجَارَ، فَحَصَرَهَا، وَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَمَلَكَهَا، وَسَلَّمَهَا إِلَى عِمَادِ الدِّينِ ابْنِ أَخِيهِ قُطْبِ الدِّينِ. وَكَانَ قَدْ جَاءَتْهُ كُتُبُ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ بِالْمَوْصِلِ سِرًّا، يَبْذُلُونَ لَهُ الطَّاعَةَ، وَيَحُثُّونَهُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، فَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَأَتَى مَدِينَةَ بَلَدٍ، وَعَبَرَ دِجْلَةَ عِنْدَهَا مَخَاضَةً إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَسَارَ فَنَزَلَ شَرْقَ الْمَوْصِلِ عَلَى حِصْنِ نِينَوَى، وَدِجْلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْصِلِ، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ يَوْمَ نُزُولِهِ سَقَطَ مِنْ سُورِ الْمَوْصِلِ بَدَنَةٌ كَبِيرَةٌ. وَكَانَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِي وَفَخْرُ الدِّينِ قَدْ سَيَّرَا عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودَ بْنَ قُطْبِ الدِّينِ إِلَى أَتَابِكِ شَمْسِ الدِّينِ إِيلْدِكْزَ، صَاحِبِ هَمَذَانَ وَبَلَدِ الْجَبَلِ، وَأَذْرَبِيجَانَ، وَأَصْفَهَانَ، وَالرَّيِّ وَتِلْكَ الْأَعْمَالِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى عَمِّهِ نُورِ الدِّينِ، فَأَرْسَلَ إِيلْدِكْزُ رَسُولًا إِلَى نُورِ

الدِّينِ يَنْهَاهُ عَنِ التَّعَرُّضِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْبِلَادَ لِلسُّلْطَانِ، فَلَا تَقْصِدْهَا، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: قُلْ لِصَاحِبِكَ أَنَا أَصْلَحُ لِأَوْلَادِ أَخِي مِنْكَ، فَلِمَ تُدْخِلْ نَفْسَكَ بَيْنَنَا؟ وَعِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ إِصْلَاحِ بِلَادِهِمْ يَكُونُ الْحَدِيثُ مَعَكَ عَلَى بَابِ هَمَذَانَ، فَإِنَّكَ قَدْ مَلَكْتَ هَذِهِ الْمَمْلَكَةَ الْعَظِيمَةَ، وَأَهْمَلْتَ الثُّغُورَ حَتَّى غَلَبَ الْكَرَجُ عَلَيْهَا، وَقَدْ بُلِيتُ أَنَا، وَلِي مِثْلُ رُبُعِ بِلَادِكَ، بِالْفِرِنْجِ، وَهُمْ أَشْجَعُ الْعَالَمِ، فَأَخَذْتُ مُعْظَمَ بِلَادِهِمْ، وَأَسَرْتُ مُلُوكَهُمْ، وَلَا يَحِلُّ لِيَ السُّكُوتُ عَنْكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا الْقِيَامُ بِحِفْظِ مَا أَهْمَلْتَ وَإِزَالَةُ الظُّلْمِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. فَأَقَامَ نُورُ الدِّينِ عَلَى الْمَوْصِلِ، فَعَزَمَ مَنْ بِهَا مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى مُجَاهَرَةِ فَخْرِ الدِّينِ عَبْدِ الْمَسِيحِ بِالْعِصْيَانِ، وَتَسْلِيمِ الْبَلَدِ إِلَى نُورِ الدِّينِ، فَعَلِمَ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَى نُورِ الدِّينِ فِي تَسْلِيمِ الْبَلَدِ إِلَيْهِ عَلَى أَنْ يُقِرَّهُ بِيَدِ سَيْفِ الدِّينِ، وَيَطْلُبَ لِنَفْسِهِ الْأَمَانَ وَلِمَالِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَشَرَطَ أَنَّ فَخْرَ الدِّينِ يَأْخُذُهُ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ، وَيُعْطِيهِ عِنْدَهُ إِقْطَاعًا يُرْضِيهِ، فَتَسَلَّمَ الْبَلَدَ ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدَخَلَ الْقَلْعَةَ مِنْ بَابِ السِّرِّ ; لِأَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ عِصْيَانُ عَبْدِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مِنْ أَحْصَنِ مَوْضِعٍ فِيهَا، وَلَمَّا مَلَكَهَا أَطْلَقَ مَا بِهَا مِنَ الْمُكُوسِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَبْوَابِ الْمَظَالِمِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِنَصِيبِينَ وَسَنَجَارَ وَالْخَابُورِ، وَهَكَذَا كَانَ جَمِيعُ بِلَادِهِ مِنَ الشَّامِ وَمِصْرَ. وَوَصَلَهُ، وَهُوَ عَلَى الْمَوْصِلِ يُحَاصِرُهَا، خِلْعَةٌ مِنَ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَلَبِسَهَا، وَلَمَّا مَلَكَ الْمَوْصِلَ خَلَعَهَا عَلَى سَيْفِ الدِّينِ ابْنِ أَخِيهِ، وَأَمَرَهُ وَهُوَ بِالْمَوْصِلِ بِعِمَارَةِ الْجَامِعِ النُّورِيِّ، وَرَكِبَ هُوَ بِنَفْسِهِ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَرَآهُ، وَصَعِدَ مَنَارَةَ مَسْجِدِ أَبِي حَاضِرٍ فَأَشْرَفَ مِنْهَا عَلَى مَوْضِعِ الْجَامِعِ، فَأَمَرَ أَنْ يُضَافَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي شَاهَدَهَا مَا يُجَاوِرُهَا مِنَ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ، وَأَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهَا شَيْءٌ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ أَصْحَابِهِ. وَوَلَّى الشَّيْخَ عُمَرَ الْمُلَّا عِمَارَتَهُ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْأَخْيَارِ، فَاشْتَرَى الْأَمْلَاكَ مِنْ أَصْحَابِهَا بِأَوْفَرِ الْأَثْمَانِ، وَعَمَّرَهُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَفَرَغَ مِنْ عِمَارَتِهِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَعَادَ إِلَى الشَّامِ، وَاسْتَنَابَ فِي قَلْعَةِ الْمَوْصِلِ خَصِيًّا كَانَ لَهُ اسْمُهُ كَمُشْتَكِينُ، وَلَقَبُهُ سَعْدُ الدِّينِ، وَأَمَرَ سَيْفَ الدِّينِ أَنْ لَا يَنْفَرِدَ عَنْهُ بِقَلِيلٍ مِنَ الْأُمُورِ وَلَا بِكَثِيرٍ،

وَحَكَّمَهُ [فِي الْبِلَادِ] وَأَقْطَعَ مَدِينَةَ سَنَجَارَ لِعِمَادِ الدِّينِ ابْنِ أَخِيهِ قُطْبِ الدِّينِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّهْرَزُورِيِّ: هَذَا طَرِيقٌ إِلَى أَذًى يَحْصُلُ لِبَيْتِ أَتَابِكِ ; لِأَنَّ عِمَادَ الدِّينِ كَبِيرٌ لَا يَرَى طَاعَةَ سَيْفِ الدِّينِ، [وَسَيْفَ الدِّينِ] هُوَ الْمَلِكُ لَا يَرَى الْإِغْضَاءَ لِعِمَادِ الدِّينِ فَيَحْصُلُ الْخُلْفُ، وَيَطْمَعُ الْأَعْدَاءُ، فَكَانَ كَذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ سَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ مَقَامُ نُورِ الدِّينِ بِالْمَوْصِلِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ فَخْرَ الدِّينِ عَبْدَ الْمَسِيحِ، وَغَيَّرَ اسْمَهُ فَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَأَقْطَعَهُ إِقْطَاعًا كَبِيرًا. ذِكْرُ غَزْوَةِ صَلَاحِ الدِّينِ بِلَادَ الْفِرِنْجِ وَفَتْحِ أَيْلَةَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ أَيْضًا عَنْ مِصْرَ إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ، فَأَغَارَ عَلَى أَعْمَالِ عَسْقَلَانَ وَالرَّمْلَةِ، وَهَجَمَ عَلَى رَبَضِ غَزَّةَ فَنَهَبَهُ، وَأَتَاهُ مَلِكُ الْفِرِنْجِ فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ مُسْرِعِينَ لِرَدِّهِ عَنِ الْبِلَادِ، فَقَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ، وَأَفْلَتَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ بَعْدَ أَنْ أَشْرَفَ أَنْ يُؤْخَذَ أَسِيرًا، وَعَادَ إِلَى مِصْرَ، وَعَمِلَ مَرَاكِبَ مُفَصَّلَةً، وَحَمَلَهَا قِطَعًا عَلَى الْجِمَالِ فِي الْبَرِّ، وَقَصَدَ أَيْلَةَ، فَجَمَعَ قِطَعَ الْمَرَاكِبِ وَأَلْقَاهَا فِي الْبَحْرِ، وَحَصَرَ أَيْلَةَ بَرًّا وَبَحْرًا وَفَتَحَهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَاسْتَبَاحَ أَهْلَهَا وَمَا فِيهَا وَعَادَ إِلَى مِصْرَ. ذِكْرُ مَا اعْتَمَدَهُ صَلَاحُ الدِّينِ بِمِصْرَ هَذِهِ السَّنَةَ كَانَ بِمِصْرَ دَارٌ لِلشِّحْنَةِ تُسَمَّى دَارُ الْمَعُونَةِ يَحْبِسُ فِيهَا مَنْ يُرِيدُ حَبْسَهُ، فَهَدَمَهَا صَلَاحُ الدِّينِ، وَبَنَاهَا مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ، وَأَزَالَ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الظُّلْمِ، وَبَنَى دَارَ

الْعَدْلِ مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، وَعَزَلَ قُضَاةَ الْمِصْرِيِّينَ، وَكَانُوا شِيعَةً، وَأَقَامَ قَاضِيًا شَافِعِيًّا فِي مِصْرَ، فَاسْتَنَابَ الْقُضَاةَ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَرَى تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ ابْنُ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ مَنَازِلَ الْعِزِّ بِمِصْرَ، وَبَنَاهَا مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ. وَفِيهَا أَغَارَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ أَخُو صَلَاحِ الدِّينِ أَيْضًا عَلَى الْأَعْرَابِ الَّذِينَ بِالصَّعِيدِ، وَكَانُوا قَدْ أَفْسَدُوا فِي الْبِلَادِ، وَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ، فَكُفُّوا عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. وَفِيهَا مَاتَ الْقَاضِي ابْنُ الْخَلَّال مِنْ أَعْيَانِ الْكُتَّابِ الْمِصْرِيِّينَ وَفُضَلَائِهِمْ، وَكَانَ صَاحِبَ دِيوَانِ الْإِنْشَاءِ بِهَا. وَفِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ بِبَغْدَادَ فِي دَرْبِ الْمَطْبَخِ، وَفِي خَرَابَةِ ابْنِ جَرْدَةَ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ نَصْرُ بْنُ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، عَمُّ الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ وَحُمُوهُ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ فِي التُّرَبِ بِالرَّصَافَةِ. وَفِيهَا جُعِلَ ظَهِيرُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ نَصْرُ بْنُ الْعَطَّارِ صَاحِبَ الْمَخْزَنِ بِبَغْدَادَ، وَلُقِّبَ ظَهِيرَ الدِّينِ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ طَاشَتِكِينُ الْمُسْتَنْجَدِيُّ، وَكَانَ نِعْمَ الْأَمِيرُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 567 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ إِقَامَةِ الْخُطْبَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ بِمِصْرَ وَانْقِرَاضِ الدَّوْلَةِ الْعَلَوِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ثَانِي جُمُعَةٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ، قُطِعَتْ خُطْبَةُ الْعَاضِدِ لِدِينِ اللَّهِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْإِمَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْحَافِظِ لِدِينِ اللَّهِ أَبِي الْمَيْمُونِ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ أَبِي تَمِيمٍ مَعْدِ بْنِ الظَّاهِرِ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي عَلِيٍّ الْمَنْصُورِ بْنِ الْعَزِيزِ بِاللَّهِ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ نِزَارِ بْنِ الْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ أَبِي تَمِيمٍ مَعْدِ بْنِ الْمَنْصُورِ بِاللَّهِ أَبِي الظَّاهِرِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ بِاللَّهِ أَبِي مُحَمَّدٍ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ الْعَلَوِيِّينَ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِينَ خُطِبَ لَهُمْ بِالْخِلَافَةِ، وَخُوطِبُوا بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَانَ سَبَبُ الْخُطْبَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ بِمِصْرَ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ يُوسُفَ بْنَ أَيُّوبَ لَمَّا ثَبَتَ قَدَمُهُ بِمِصْرَ وَزَالَ الْمُخَالِفُونَ لَهُ، وَضَعُفَ أَمْرُ الْخَلِيفَةِ بِهَا الْعَاضِدِ، وَصَارَ قَصْرُهُ يَحْكُمُ فِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ وَنَائِبُهُ قَرَاقُوشُ، وَهُوَ خَصِيٌّ، كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ الْأَسْدِيَةِ، كُلُّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي يَأْمُرُهُ بِقَطْعِ الْخُطْبَةِ الْعَاضِدِيَّةِ وَإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ الْمُسْتَضِيئِيَّةِ، فَامْتَنَعَ صَلَاحُ الدِّينِ، وَاعْتَذَرَ بِالْخَوْفِ مِنْ قِيَامِ أَهْلِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَيْهِ لِمَيْلِهِمْ إِلَى الْعَلَوِيِّينَ.

وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ يَكْرَهُ قَطْعَ الْخُطْبَةِ لَهُمْ، وَيُرِيدُ بَقَاءَهُمْ خَوْفًا مِنْ نُورِ الدِّينِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَخَافُهُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يَأْخُذُهَا مِنْهُ، فَكَانَ يُرِيدُ [أَنْ] يَكُونَ الْعَاضِدُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَصَدَهُ نُورُ الدِّينِ امْتَنَعَ بِهِ وَبِأَهْلِ مِصْرَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اعْتَذَرَ إِلَى نُورِ الدِّينِ بِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ بِقَطْعِ خُطْبَتِهِ، وَأَلْزَمَهُ إِلْزَامًا لَا فُسْحَةَ لَهُ فِي مُخَالَفَتِهِ، وَكَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ نَائِبُ نُورِ الدِّينِ، وَاتَّفَقَ أَنَّ الْعَاضِدَ مَرِضَ هَذَا الْوَقْتَ مَرَضًا شَدِيدًا، فَلَمَّا عَزَمَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى قَطْعِ خُطْبَتِهِ اسْتَشَارَ أُمَرَاءَهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَشَارَ بِهِ وَلَمْ يُفَكِّرْ فِي الْمِصْرِيِّينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَافَهُمْ إِلَّا أَنَّهُ مَا يُمْكِنُهُ إِلَّا امْتِثَالُ أَمْرِ نُورِ الدِّينِ. وَكَانَ قَدْ دَخَلَ إِلَى مِصْرَ إِنْسَانٌ أَعْجَمِيٌّ يُعْرَفُ بِالْأَمِيرِ الْعَالِمِ، رَأَيْتُهُ أَنَا بِالْمَوْصِلِ، فَلَمَّا رَأَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْإِحْجَامِ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَتَجَاسَرُ [أَنْ] يَخْطُبَ لِلْعَبَّاسِيِّينَ قَالَ: أَنَا أَبْتَدِئُ بِالْخُطْبَةِ لَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ أَوَّلَ جُمُعَةٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ صَعِدَ الْمِنْبَرَ قَبْلَ الْخَطِيبِ، وَدَعَا لِلْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْجُمُعَةُ الثَّانِيَةُ أَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ الْخُطَبَاءَ بِمِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ أَنْ يَقْطَعُوا خُطْبَةَ الْعَاضِدِ وَيَخْطُبُوا لِلْمُسْتَضِيءِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَلَمْ يَنْتَطِحْ فِيهَا عَنْزَانِ، وَكُتِبَ بِذَلِكَ إِلَى سَائِرِ بِلَادِ مِصْرَ، فَفَعَلَ، وَكَانَ الْعَاضِدُ قَدِ اشْتَدَّ مَرَضُهُ فَلَمْ يُعْلِمْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ بِقَطْعِ الْخُطْبَةِ، وَقَالُوا: إِنْ عُوفِيَ فَهُوَ يَعْلَمُ، وَإِنْ تُوُفِّيَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَفْجَعَهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَتُوُفِّيَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِقَطْعِ الْخُطْبَةِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ جَلَسَ صَلَاحُ الدِّينِ لِلْعَزَاءِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى قَصْرِ الْخِلَافَةِ، وَعَلَى جَمِيعِ مَا فِيهِ، فَحَفِظَهُ بَهَاءُ الدِّينِ قَرَاقُوشُ الَّذِي كَانَ قَدْ رَتَّبَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْعَاضِدِ، فَحُمِلَ الْجَمِيعُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، وَكَانَ مِنْ كَثْرَتِهِ يَخْرُجُ عَنِ الْإِحْصَاءِ، وَفِيهِ مِنَ الْأَعْلَاقِ النَّفِيسَةِ وَالْأَشْيَاءِ الْغَرِيبَةِ مَا تَخْلُو الدُّنْيَا عَنْ مِثْلِهِ، وَمِنَ الْجَوَاهِرِ الَّتِي لَمْ تُوجَدُ عِنْدَ أَحَدٍ غَيْرَهُمْ، فَمِنْهُ الْجَبَلُ الْيَاقُوتُ، وَزْنُهُ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ مِثْقَالًا، أَنَا لَا أَشُكُّ، لِأَنَّنِي رَأَيْتُهُ وَوَزَنْتُهُ، وَاللُّؤْلُؤُ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ، وَمِنْهُ النِّصَابُ الزُّمُرُّدُ الَّذِي طُولُهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ فِي عَرْضِ عِقْدٍ كَبِيرٍ، وَوُجِدَ فِيهِ طَبْلٌ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَوْضِعِ الْعَاضِدِ، وَقَدِ احْتَاطُوا عَلَيْهِ بِالْحِفْظِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ ظَنُّوهُ عُمِلَ لِأَجْلِ اللَّعِبِ بِهِ، فَسَخِرُوا

مِنَ الْعَاضِدِ، فَأَخَذَهُ إِنْسَانٌ، فَضَرَبَ بِهِ، فَضَرَّطَ، فَتَضَاحَكُوا مِنْهُ، ثُمَّ آخَرُ كَذَلِكَ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ ضَرَبَ بِهِ ضَرَّطَ، فَأَلْقَاهُ أَحَدُهُمْ، فَكَسَرَهُ، فَإِذَا الطَّبْلُ لِأَجْلِ قُولَنْجَ، فَنَدِمُوا عَلَى كَسْرِهِ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ. وَكَانَ فِيهِ مِنَ الْكُتُبِ النَّفِيسَةِ الْمَعْدُومَةِ الْمِثْلِ مَا لَا يُعَدُّ، فَبَاعَ جَمِيعَ مَا فِيهِ، وَنُقِلَ أَهْلُ الْعَاضِدِ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْقَصْرِ، وَوَكَّلَ بِهِمْ مَنْ يَحْفَظُهُمْ، وَأَخْرَجَ جَمِيعَ مَنْ فِيهِ مِنْ أَمَةٍ وَعَبْدٍ، فَبَاعَ الْبَعْضَ، وَأَعْتَقَ الْبَعْضَ، وَوَهَبَ الْبَعْضَ، وَخَلَى الْقَصْرُ مِنْ سُكَّانِهِ كَأَنْ لَمْ يَغْنَ بِالْأَمْسِ، فَسُبْحَانَ الْحَيِّ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَزُولُ مُلْكُهُ، وَلَا تُغَيِّرُهُ الدُّهُورُ وَلَا يَقْرُبُ النَّقْصُ حِمَاهُ. وَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُ الْعَاضِدِ أَرْسَلَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يَسْتَدْعِيهِ، فَظَنَّ ذَلِكَ خَدِيعَةً، فَلَمْ يَمْضِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ عَلِمَ صِدْقَهُ، فَنَدِمَ عَلَى تَخَلُّفِهِ عَنْهُ، وَكَانَ يَصِفُهُ كَثِيرًا بِالْكَرَمِ، وَلِينِ الْجَانِبِ، وَغَلَبَةِ الْخَيْرِ عَلَى طَبْعِهِ، وَانْقِيَادِهِ، وَكَانَ فِي نَسَبِهِ تِسْعَةُ خُطِبَ لَهُمْ بِالْخِلَافَةِ وَهُمْ: الْحَافِظُ، وَالْمُسْتَنْصِرُ، وَالظَّاهِرُ، وَالْحَاكِمُ، وَالْعَزِيزُ، وَالْمُعِزُّ، وَالْمَنْصُورُ، وَالْقَائِمُ، وَالْمَهْدِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُخْطَبْ لَهُ بِالْخِلَافَةِ: أَبُوهُ يُوسُفُ بْنُ الْحَافِظِ، وَجَدُّ أَبِيهِ، وَهُوَ الْأَمِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسْتَنْصِرِ. وَبَقِيَ مِنْ خُطِبَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ وَلَيْسَ مِنْ آبَائِهِ: الْمُسْتَعْلِي، وَالْآمِرُ، وَالظَّافِرُ، وَالْفَائِزُ. وَجَمِيعُ مَنْ خُطِبَ لَهُ مِنْهُمْ بِالْخِلَافَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ خَلِيفَةً مِنْهُمْ بِإِفْرِيقِيَّةَ: الْمَهْدِيُّ، وَالْقَائِمُ، وَالْمَنْصُورُ، وَالْمُعِزُّ، إِلَى أَنْ سَارَ إِلَى مِصْرَ، وَمِنْهُمْ بِمِصْرَ: الْمُعِزُّ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهَا مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ، وَالْعَزِيزُ، وَالْحَاكِمُ، وَالظَّاهِرُ، وَالْمُسْتَنْصِرُ، وَالْمُسْتَعْلِي، وَالْآمِرُ، وَالْحَافِظُ، وَالظَّافِرُ، وَالْفَائِزُ، وَالْعَاضِدُ، وَجَمِيعُ مُدَّةِ مُلْكِهِمْ مِنْ حِينِ ظَهَرَ الْمَهْدِيُّ بِسِجْلَمَاسَةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ الْعَاضِدُ مِائَتَانِ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً وَشَهْرًا تَقْرِيبًا. وَهَذَا دَأْبُ الدُّنْيَا لَمْ تُعْطِ إِلَّا وَاسْتَرَدَّتْ، وَلَمْ تَحْلُ إِلَّا وَتَمَرَّرَتْ، وَلَمْ تَصْفُ إِلَّا وَتَكَدَّرَتْ، بَلْ صَفْوُهَا لَا يَخْلُو مِنَ الْكَدَرِ، وَكَدَرُهَا قَدْ يَخْلُو مِنَ الصَّفْوِ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى

أَنْ يُقْبِلَ بِقُلُوبِنَا إِلَيْهِ، وَيُرِيَنَا الدُّنْيَا حَقِيقَةً، وَيُزَهِّدَنَا فِيهَا، وَيُرَغِّبَنَا فِي الْآخِرَةِ، إِنَّهُ سُمَيْعُ الدُّعَاءِ قَرِيبٌ مِنَ الْإِجَابَةِ. وَلَمَّا وَصَلَتِ الْبِشَارَةُ إِلَى بَغْدَادَ بِذَلِكَ ضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ بِهَا عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَزُيَّنَتْ بَغْدَادُ وَظَهَرَ مِنَ الْفَرَحِ وَالْجَذَلِ مَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَسُيِّرَتِ الْخِلَعُ مَعَ عِمَادِ الدِّينِ صَنْدَلٍ، وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْخَدَمِ الْمَقْتُفَوِيَّةِ وَالْمُقَدَّمِينَ فِي الدَّوْلَةِ لِنُورِ الدِّينِ وَصَلَاحِ الدِّينِ، فَسَارَ صَنْدَلٌ إِلَى نُورِ الدِّينِ وَأَلْبَسُهُ الْخِلْعَةَ، وَسَيَّرَ الْخِلْعَةَ الَّتِي لِصَلَاحِ الدِّينِ وَلِلْخُطَبَاءِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالْأَعْلَامِ السُّودِ، ثُمَّ إِنَّ صَنْدَلًا هَذَا صَارَ أُسْتَاذَ دَارِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ يَدْرِي الْفِقْهَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ، وَيَعْرِفُ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، وَفِيهِ دِينٌ، وَلَهُ مَعْرُوفٌ كَثِيرٌ، وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ بَغْدَادَ. ذِكْرُ الْوَحْشَةِ بَيْنَ نُورِ الدِّينِ وَصَلَاحِ الدِّينِ بَاطِنًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَرَتْ أُمُورٌ أَوْجَبَتْ أَنْ تَأَثَّرَ نُورُ الدِّينِ مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، وَلَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ يُوسُفَ بْنَ أَيُّوبَ سَارَ عَنْ مِصْرَ فِي صَفَرَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ غَازِيًا، وَنَازَلَ حِصْنَ الشَّوْبَكِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَرَكِ يَوْمٌ، وَحَصَرَهُ، وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَأَدَامَ الْقِتَالَ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ وَاسْتَمْهَلُوهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا سَمِعَ نُورُ الدِّينِ بِمَا فَعَلَهُ صَلَاحُ الدِّينِ سَارَ عَنْ دِمَشْقَ قَاصِدًا بِلَادَ الْفِرِنْجِ أَيْضًا لِيَدْخُلَ إِلَيْهَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَقِيلَ لِصَلَاحِ الدِّينِ: إِنْ دَخَلَ نُورُ الدِّينِ بِلَادَ الْفِرِنْجِ، وَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ: أَنْتَ مِنْ جَانِبٍ وَنُورُ الدِّينِ مِنْ جَانِبٍ، مَلَكَهَا، وَمَتَى زَالَ الْفِرِنْجُ عَنِ الطَّرِيقِ وَأَخَذَ مُلْكَهُمْ لَمْ يَبْقَ بِدِيَارِ مِصْرَ مُقَامٌ مَعَ نُورِ الدِّينِ، وَإِنْ جَاءَ نُورُ الدِّينِ إِلَيْكَ وَأَنْتَ هَا هُنَا، فَلَا بُدَّ لَكَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هُوَ الْمُتَحَكِّمُ فِيكَ بِمَا شَاءَ، إِنْ شَاءَ تَرَكَكَ، وَإِنْ شَاءَ عَزَلَكَ، فَقَدْ لَا تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَلَيْهِ، وَالْمَصْلَحَةُ الرُّجُوعُ إِلَى مِصْرَ. فَرَحَلَ عَنِ الشَّوْبَكِ عَائِدًا إِلَى مِصْرَ، وَلَمْ يَأْخُذْهُ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَكَتَبَ إِلَى نُورِ الدِّينِ يَعْتَذِرُ بِاخْتِلَالِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ لِأُمُورٍ بَلَغَتْهُ عَنْ بَعْضِ شِيعَتِهِ الْعَلَوِيِّينَ، وَأَنَّهُمْ

عَازِمُونَ عَلَى الْوُثُوبِ بِهَا، فَإِنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهَا مِنَ الْبُعْدِ عَنْهَا أَنْ يَقُومَ أَهْلُهَا عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ بِهَا، فَيُخْرِجُوهُمْ وَتَعُودُ مُمْتَنِعَةً، وَأَطَالَ الِاعْتِذَارَ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا نُورُ الدِّينِ مِنْهُ، وَتَغَيَّرَ عَلَيْهِ وَعَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى مِصْرَ وَإِخْرَاجِهِ عَنْهَا. وَظَهَرَ ذَلِكَ فَسَمِعَ صَلَاحُ الدِّينِ الْخَبَرَ، فَجَمَعَ أَهْلَهُ، وَفِيهِمْ أَبُوهُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ، وَخَالُهُ شِهَابُ الدِّينِ الْحَارِمِيُّ، وَمَعَهُمْ سَائِرُ الْأُمَرَاءِ، وَأَعْلَمَهُمْ مَا بَلَغَهُ مِنْ عَزْمِ نُورِ الدِّينِ وَحَرَكَتِهِ إِلَيْهِ، وَاسْتَشَارَهُمْ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَامَ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ ابْنُ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ، فَقَالَ: إِذَا جَاءَنَا قَاتَلْنَاهُ، وَمَنَعْنَاهُ عَنِ الْبِلَادِ، وَوَافَقَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِهِمْ، فَشَتَمَهُمْ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَاسْتَعْظَمَهُ، وَشَتَمَ تَقِيَّ الدِّينِ، وَأَقْعَدَهُ، وَقَالَ لِصَلَاحِ الدِّينِ: أَنَا أَبُوكَ وَهَذَا خَالُكَ شِهَابُ الدِّينِ، وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَحَبَّةً لَكَ مِنْ جَمِيعِ مَنْ تَرَى، وَوَاللَّهِ لَوْ رَأَيْتُ أَنَا وَخَالُكَ هَذَا نُورَ الدِّينِ، لَمْ يُمَكِّنَا إِلَّا أَنْ نُقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَوْ أَمَرَنَا أَنْ نَضْرِبَ عُنُقَكَ بِالسَّيْفِ لَفَعَلْنَا، فَإِذَا كُنَّا نَحْنُ هَكَذَا، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِنَا؟ وَكُلُّ مَنْ تَرَاهُ عِنْدَكَ مِنَ الْأُمَرَاءِ لَوْ رَأَوْا نُورَ الدِّينِ وَحْدَهُ لَمْ يَتَجَاسَرُوا عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى سَرُوجِهِمْ، وَهَذِهِ الْبِلَادُ لَهُ، وَنَحْنُ مَمَالِيكُهُ وَنُوَّابُهُ فِيهَا، فَإِنْ أَرَادَ عَزْلَكَ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَالرَّأْيُ أَنْ تَكْتُبَ كِتَابًا مَعَ نَجَّابٍ تَقُولُ فِيهِ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ الْحَرَكَةَ لِأَجْلِ الْبِلَادِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى هَذَا؟ يُرْسِلُ الْمَوْلَى نَجَّابًا يَضَعُ فِي رَقَبَتِي مِنْدِيلًا وَيَأْخُذُنِي إِلَيْكَ، وَمَا هَا هُنَا مَنْ يَمْتَنِعُ عَلَيْكَ. وَأَقَامَ الْأُمَرَاءُ وَغَيْرُهُمْ، وَتَفَرَّقُوا عَلَى هَذَا، فَلَمَّا خَلَا بِهِ أَيُّوبُ قَالَ لَهُ: بِأَيِّ عَقْلٍ فَعَلْتَ هَذَا؟ أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ نُورَ الدِّينِ إِذَا سَمِعَ عَزَمْنَا عَلَى مَنْعِهِ وَمُحَارَبَتِهِ جَعَلَنَا أَهَمَّ الْوُجُوهِ إِلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ لَا تَقْوَى بِهِ، وَأَمَّا الْآنَ، إِذَا بَلَغَهُ مَا جَرَى وَطَاعَتُنَا لَهُ تَرَكَنَا وَاشْتَغَلَ بِغَيْرِنَا، وَالْأَقْدَارُ تَعْمَلُ عَمَلَهَا، وَوَاللَّهِ لَوْ أَرَادَ نُورُ الدِّينِ قَصَبَةً مِنْ قَصَبِ السُّكَّرِ لَقَاتَلْتُهُ أَنَا عَلَيْهَا حَتَّى أَمْنَعَهُ أَوْ أُقْتَلَ. فَفَعَلَ صَلَاحُ الدِّينِ مَا أَشَارَ بِهِ، فَتَرَكَ نُورُ الدِّينِ قَصْدَهُ وَاشْتَغَلَ بِغَيْرِهِ، فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّهُ أَيُّوبُ، فَتُوُفِّيَ نُورُ الدِّينِ وَلَمْ يَقْصِدْهُ، وَمَلَكَ صَلَاحُ الدِّينِ الْبِلَادَ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْآرَاءِ وَأَجْوَدِهَا.

ذِكْرُ غَزْوَةٍ إِلَى الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ مَرْكَبَانِ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ فَأَرْسَيَا بِمَدِينَةِ لَاذِقِيَّةَ، فَأَخَذَهُمَا الْفِرِنْجُ، وَهُمَا مَمْلُوءَانِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالتُّجَّارِ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نُورِ الدِّينِ هُدْنَةٌ، فَنَكَثُوا وَغَدَرُوا، فَأَرْسَلَ نُورُ الدِّينِ إِلَيْهِمْ فِي الْمَعْنَى وَإِعَادَةِ مَا أَخَذُوهُ مِنْ أَمْوَالِ التُّجَّارِ، فَغَالَطُوهُ، وَاحْتَجُّوا بِأُمُورٍ مِنْهَا أَنَّ الْمَرْكَبَيْنِ كَانَا قَدِ انْكَسَرَا وَدَخَلَهُمَا الْمَاءُ. وَكَانَ الشَّرْطُ أَنَّ كُلَّ مَرْكَبٍ يَنْكَسِرُ وَيَدْخُلُهُ الْمَاءُ يَأْخُذُونَهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ مُغَالَطَتَهُمْ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، وَبَثَّ السَّرَايَا فِي بِلَادِهِمْ بَعْضَهَا نَحْوَ أَنْطَاكِيَةَ، وَبَعْضَهَا نَحْوَ طَرَابُلُسَ، وَحَصَرَ هُوَ حِصْنَ عِرْقَةَ، وَخَرَّبَ رَبَضَهُ، وَأَرْسَلَ طَائِفَةً مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى حِصْنِ صَافِيثَا وَعُرَيْمَةَ، فَأَخَذَهُمَا عَنْوَةً، وَنَهَبَ وَخَرَّبَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَعَادُوا إِلَيْهِ وَهُوَ بِعِرْقَةَ، فَسَارَ فِي الْعَسَاكِرِ جَمِيعِهَا إِلَى أَنْ قَارَبَ طَرَابُلُسَ يَنْهَبُ وَيُخَرِّبُ وَيَحْرِقُ وَيَقْتُلُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سَارُوا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، فَفَعَلُوا فِي وِلَايَتِهَا مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي وِلَايَةِ طَرَابُلُسَ، فَرَاسَلَهُ الْفِرِنْجُ، وَبَذَلُوا إِعَادَةَ مَا أَخَذُوهُ مِنَ الْمَرْكَبَيْنِ، وَتَجْدِيدِ الْهُدْنَةِ مَعَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَأَعَادُوا مَا أَخَذُوا وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَقَدْ خُرِّبَتْ بِلَادُهُمْ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ. ذِكْرُ وَفَاةِ ابْنِ مَرْدَنِيشَ وَمُلْكِ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِلَادَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مَرْدَنِيشَ، صَاحِبُ الْبِلَادِ بِشَرْقِ الْأَنْدَلُسِ، وَهِيَ: مُرْسِيَةُ وَبَلَنْسِيَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَوَصَّى أَوْلَادَهُ أَنْ يَقْصِدُوا بَعْدَ مَوْتِهِ الْأَمِيرَ أَبَا يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، صَاحِبَ الْغَرْبِ وَالْأَنْدَلُسِ، وَتُسَلِّمُوا الْبِلَادَ وَتَدْخُلُوا فِي طَاعَتِهِ، فَلَمَّا مَاتَ قَصَدُوا يَعْقُوبَ، وَكَانَ قَدِ اجْتَازَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ فِي مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ قَبْلَ مَوْتِ ابْنِ مَرْدَنِيشَ، فَحِينَ رَآهُمْ يُوسُفُ فَرِحَ بِهِمْ، وَسَرَّهُ قُدُومَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَسَلَّمَ بِلَادَهُمْ، وَتَزَوَّجَ أُخْتَهُمْ، وَأَكْرَمَهُمْ، وَعَظَّمَ أَمْرَهُمْ، وَوَصَلَهُمْ بِالْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ، وَأَقَامُوا مَعَهُ.

ذِكْرُ عُبُورِ الْخَطَا جَيْحُونَ وَالْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خُوَارَزْم شَاهْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبَرَ الْخَطَا نَهْرَ جَيْحُونَ يُرِيدُونَ خُوَارَزْمَ، فَسَمِعَ صَاحِبُهَا خُوَارَزْم شَاهْ أَرْسِلَان بْنُ أَتْسِزَ، فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَى آمِوِيَّةَ ; لِيُقَاتِلَهُمْ وَيَصُدَّهُمْ، فَمَرِضَ، وَأَقَامَ بِهَا، وَسَيَّرَ بَعْضَ جَيْشِهِ مَعَ أَمِيرٍ كَبِيرٍ إِلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ الْخُوَارَزْمِيُّونَ، وَأُسِرَ مُقَدَّمُهُمْ، وَرَجَعَ بِهِ الْخَطَا إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَعَادَ خُوَارَزْم شَاهْ إِلَى خُوَارَزْمَ مَرِيضًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اتَّخَذَ نُورُ الدِّينِ بِالشَّامِ الْحَمَامَ الْهَوَادِيَّ، وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْمَنَاسِيبُ، وَهِيَ تَطِيرُ مِنَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ إِلَى أَوْكَارِهَا، وَجَعَلَهَا فِي جَمِيعِ بِلَادِهِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اتَّسَعَتْ بِلَادُهُ، وَطَالَتْ مَمْلَكَتُهُ، وَعَرُضَتْ أَكْنَافُهَا، وَتَبَاعَدَتْ أَوَائِلُهَا عَنْ أَوَاخِرِهَا، ثُمَّ إِنَّهَا جَاوَرَتْ بِلَادَ الْفِرِنْجِ، وَكَانُوا رُبَّمَا نَازَلُوا حِصْنًا مِنْ ثُغُورِهِ، فَإِلَى أَنْ يَصِلَ الْخَبَرُ، وَيَسِيرَ إِلَيْهِمْ [يَكُونُونَ] قَدْ بَلَغُوا غَرَضَهُمْ مِنْهُ، فَأَمَرَ بِالْحَمَامِ ; لِيَصِلَ الْخَبَرُ إِلَيْهِ فِي يَوْمِهِ، وَأَجْرَى الْجِرَايَاتِ عَلَى الْمُرَتَّبِينَ لِحِفْظِهَا وَإِقَامَتِهَا، فَحَصَلَ مِنْهَا الرَّاحَةُ الْعَظِيمَةُ، وَالنَّفْعُ الْكَبِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَفِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَضِيءُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَزِيرَهُ عَضُدَ الدِّينِ أَبَا الْفَرَجِ بْنَ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ مُكْرَهًا لِأَنَّ قُطْبَ الدِّينِ قَايْمَازَ أَلْزَمَهُ بِعَزْلِهِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ مُخَالَفَتُهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَشَّابُ اللُّغَوِيُّ، وَكَانَ قَيِّمًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ إِلَى أَنْ مَاتَ. وَفِيهَا مَاتَ الْبُورِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَوَعَظَ، وَكَانَ يَذُمُّ الْحَنَابِلَةَ، وَكَثُرَتْ أَتْبَاعُهُ، فَأَصَابَهُ إِسْهَالٌ، فَمَاتَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ

أَصْحَابِهِ، فَقِيلَ: إِنَّ الْحَنَابِلَةَ أَهْدَوْا لَهُ حَلْوَاءَ فَمَاتَ هُوَ وَكُلُّ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا. وَفِيهَا مَاتَ الْقُرْطُبِيُّ أَبُو بَكْرٍ يَحْيَى بْنُ سَعْدُونَ بْنِ تَمَامٍ الْأَزْدِيُّ، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْقِرَاءَةِ وَالنَّحْوِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ، زَاهِدًا عَابِدًا، انْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ فِي الْمَوْصِلِ، وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاتُهُ.

ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 568 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ خُوَارَزْم شَاهْ أَرْسِلَان وَمُلْكِ وَلَدِهِ سُلْطَان شَاهْ وَبَعْدَهُ وَلَدُهُ الْآخَرُ تُكَشُ وَقَتْلِ الْمُؤَيَّدِ وَمُلْكِ ابْنِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ خُوَارَزْم شَاهْ أَرْسِلَان بْنُ أَتْسِزَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَنُوشْتَكِينَ، قَدْ عَادَ مِنْ قِتَالِ الْخَطَا مَرِيضًا، فَتُوُفِّيَ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ سُلْطَان شَاهْ مَحْمُودٌ، وَدَبَّرَتْ وَالِدَتُهُ الْمَمْلَكَةَ وَالْعَسَاكِرَ. وَكَانَ ابْنُهُ الْأَكْبَرُ عَلَاءُ الدِّينِ تُكَشُ مُقِيمًا فِي الْجُنْدِ قَدْ أَقْطَعُهُ أَبُوهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ أَبِيهِ وَتَوْلِيَةُ أَخِيهِ الصَّغِيرِ أَنِفَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَصَدَ مَلِكَ الْخَطَا، وَاسْتَمَدَّهُ عَلَى أَخِيهِ، وَأَطْمَعَهُ فِي الْأَمْوَالِ وَذَخَائِرِ خُوَارَزْمَ، فَسَيَّرَ مَعَهُ جَيْشًا كَثِيفًا مُقَدَّمُهُمْ قُومَا، فَسَارُوا حَتَّى قَارَبُوا خُوَارَزْمَ، فَخَرَجَ سُلْطَان شَاهْ وَأُمُّهُ إِلَى الْمُؤَيَّدِ، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً جَلِيلَةَ الْمِقْدَارِ، وَوَعَدَهُ أَمْوَالَ خُوَارَزْمَ وَذَخَائِرَهَا، فَاغْتَرَّ بِقَوْلِهِ، وَجَمَعَ جُيُوشَهُ وَسَارَ مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ سُوبَرْنَى، بُلَيْدَةٌ عَلَى عِشْرِينَ فَرْسَخًا مِنْ خُوَارَزْمَ، وَكَانَ تُكَشُ قَدْ عَسْكَرَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ انْهَزَمَ عَسْكَرُ الْمُؤَيَّدِ، وَكُسِرَ الْمُؤَيَّدُ وَأُخِذَ أَسِيرًا، وَجِيءَ بِهِ إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ تُكَشَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا. وَهَرَبَ سُلْطَان شَاهْ، وَأَخَذَ إِلَى دِهِسْتَانَ، فَقَصَدَهُ خُوَارَزْم شَاهْ تُكَشُ، فَافْتَتَحَ الْمَدِينَةَ عَنْوَةً، فَهَرَبَ سُلْطَان شَاهْ وَأُخِذَتْ أُمُّهُ فَقَتَلَهَا تُكَشُ، وَعَادَ إِلَى خُوَارَزْمَ.

وَلَمَّا عَادَ الْمُنْهَزِمُونَ مَنْ عَسْكَرِ الْمُؤَيَّدِ إِلَى نَيْسَابُورَ مَلَّكُوا ابْنَهُ طُغَان شَاهْ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْمُؤَيَّدِ، وَاتَّصَلَ بِهِ سُلْطَان شَاهْ، ثُمَّ سَارَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ مَلِكِ الْغُورِيَّةِ، فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَأَحْسَنَ ضِيَافَتَهُ. وَأَمَّا عَلَاءُ الدِّينِ تُكَشُ، فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ قَدَمُهُ بِخُوَارَزْمَ اتَّصَلَتْ بِهِ رُسُلُ الْخَطَا بِالِاقْتِرَاحَاتِ وَالتَّحَكُّمِ كَعَادَتِهِمْ، فَأَخَذَتْهُ حَمِيَّةُ الْمُلْكِ وَالدِّينِ، وَقَتَلَ أَحَدَ أَقَارِبِ الْمَلِكِ، وَكَانَ قَدْ وَرَدَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ أَرْسَلَهُمْ مَلِكُهُمْ فِي مُطَالَبَةِ خُوَارَزْم شَاهْ بِالْمَالِ، فَأَمَرَ خُوَارَزْم شَاهْ أَعْيَانَ خُوَارَزْمَ، فَقَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَجُلًا مِنَ الْخَطَا، فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَنَبَذُوا إِلَى مَلِكِ الْخَطَا عَهْدَهُ. وَبَلَغَ ذَلِكَ سُلْطَان شَاهْ، فَسَارَ إِلَى مَلِكِ الْخَطَا وَاغْتَنَمَ الْفُرْصَةَ بِهَذِهِ الْحَالِ وَاسْتَنْجَدَهُ عَلَى أَخِيهِ عَلَاءِ الدِّينِ تُكَشَ، وَزَعَمَ لَهُ أَنَّ أَهْلَ خُوَارَزْمَ مَعَهُ يُرِيدُونَهُ، وَيَخْتَارُونَ مُلْكَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ رَأَوْهُ لَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ، فَسَيَّرَ مَعَهُ جَيْشًا كَثِيرًا مِنَ الْخَطَا مَعَ قُومَا أَيْضًا، فَوَصَلُوا إِلَى خُوَارَزْمَ، فَحَصَرُوهَا، فَأَمَرَ خُوَارَزْم شَاهْ عَلَاءُ الدِّينِ بِإِجْرَاءِ مَاءِ جَيْحُونَ عَلَيْهِمْ فَكَادُوا يَغْرَقُونَ، فَرَحَلُوا وَلَمْ يَبْلُغُوا مِنْهَا غَرَضًا، وَلَحِقَهُمُ النَّدَمُ حَيْثُ لَمْ يَنْفَعْهُمْ، وَلَامُوا سُلْطَان شَاهْ وَعَنَّفُوهُ، فَقَالَ لِقُومَا: لَوْ أَرْسَلْتَ مَعِي جَيْشًا إِلَى مَرْوَ لَاسْتَخْلَصْتُهَا مِنْ يَدِ دِينَارٍ الْغُزِّيِّ، وَكَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا مِنْ حِينِ كَانَتْ فِتْنَةُ الْغُزِّ إِلَى الْآنِ، فَسَيَّرَ مَعَهُ جَيْشًا، فَنَزَلَ عَلَى سَرْخَسَ عَلَى غِرَّةٍ مِنْ أَهْلِهَا، وَهَجَمُوا عَلَى الْغُزِّ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، فَلَمْ يَتْرُكُوا بِهَا أَحَدًا مِنْهُمْ، وَأَلْقَى دِينَارٌ مَلِكُهُمْ نَفْسَهُ فِي خَنْدَقِ الْقَلْعَةِ، فَأُخْرِجَ مِنْهُ، وَدَخَلَ الْقَلْعَةَ وَتَحَصَّنَ بِهَا. وَسَارَ سُلْطَان شَاهْ إِلَى مَرْوَ، فَمَلَكَهَا، وَعَادَ الْخَطَا إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَجَعَلَ سُلْطَان شَاهْ دَأْبَهُ قِتَالَ الْغُزِّ وَقَصْدَهُمْ، وَالْقَتْلَ فِيهِمْ، وَالنَّهْبَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا عَجَزَ دِينَارٌ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ أَرْسَلَ إِلَى نَيْسَابُورَ إِلَى طُغَان شَاهْ بْنِ الْمُؤَيَّدِ يَقُولُ لَهُ لِيُرْسِلَ إِلَيْهِ مَنْ يُسَلِّمُ إِلَيْهِ قَلْعَةَ سَرْخَسَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ جَيْشًا مَعَ أَمِيرٍ اسْمُهُ قَرَاقُوشُ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ دِينَارٌ الْقَلْعَةَ وَلَحِقَ بِطُغَان شَاهْ، فَقَصَدَ سُلْطَان شَاهْ سَرْخَسَ، وَحَصَرَ قَلْعَتَهَا، وَبَلَغَ ذَلِكَ طُغَان شَاهْ، فَجَمَعَ جُيُوشَهُ وَقَصَدَ سَرْخَسَ، فَلَمَّا الْتَقَى هُوَ وَسُلْطَان شَاهْ فَرَّ طُغَان شَاهْ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَأَخْلَى قَرَاقُوشُ قَلْعَةَ سَرْخَسَ وَلَحِقَ بِصَاحِبِهِ، وَمَلَكَهَا

سُلْطَان شَاهْ، ثُمَّ أَخَذَ طُوسَ، وَالزَّامَ، وَضَيَّقَ الْأَمْرَ عَلَى طُغَان شَاهْ بِعُلُوِّ هِمَّتِهِ، وَقِلَّةِ قَرَارِهِ، وَحِرْصِهِ عَلَى طَلَبِ الْمُلْكِ. وَكَانَ طُغَان شَاهْ يُحِبُّ الدَّعَةَ وَمُعَاقَرَةَ الْخَمْرِ، فَلَمْ يَزَلِ الْحَالُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَاتَ طُغَانُ شَاهْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ فِي الْمُحَرَّمِ، وَمَلَكَ ابْنُهُ سَنْجَر شَاهْ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ مَمْلُوكُ جَدِّهِ الْمُؤَيَّدِ، اسْمُهُ مَنْكَلِي تَكِينَ، فَتَفَرَّقَ الْأُمَرَاءُ أَنَفَةً مِنْ تَحَكُّمِهِ، وَاتَّصَلَ أَكْثَرُهُمْ بِسُلْطَان شَاهْ، وَسَارَ الْمَلِكُ دِينَارٌ إِلَى كَرْمَانَ، وَمَعَهُ الْغُزُّ، فَمَلَكَهَا. وَأَمَّا مَنْكَلِي تَكِينَ فَإِنَّهُ أَسَاءَ السِّيرَةَ فِي الرَّعِيَّةِ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، وَقَتَلَ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ، فَسَمِعَ خُوَارَزْم شَاهْ بِذَلِكَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَحَصَرَهُ بِنَيْسَابُورَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَحَصَرَهَا شَهْرَيْنِ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا وَعَادَ إِلَى خُوَارَزْمَ، ثُمَّ رَجَعَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَحَصَرَهَا، وَطَلَبُوا مِنْهُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ، فَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ، فَقُتِلَ مَنْكَلِي تَكِينَ وَأَخَذَ سَنْجَر شَاهْ وَأَكْرَمَهُ، وَأَنْزَلَهُ بِخُوَارَزْمَ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى نَيْسَابُورَ يَسْتَمِيلُ أَهْلَهَا لِيَعُودَ إِلَيْهِمْ، فَسَمِعَ بِهِ خُوَارَزْم شَاهْ، فَأَخَذَ سَنْجَر شَاهْ فَسَمَلَهُ، وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِأُمِّهِ وَزَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ، فَمَاتَتْ، فَزَوَّجَهُ بِأُخْتِهِ، وَبَقِيَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. ذَكَرَ هَذَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ " مَشَارِبِ التَّجَارِبِ "، وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالتَّوَارِيخِ هَذِهِ الْحَوَادِثَ مُخَالِفَةً لِهَذَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَعَ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، وَنَحْنُ نُورِدُهَا، فَقَالَ إِنَّ تُكَشَ خُوَارَزْم شَاهْ إِيلْ أَرْسِلَان أَخْرَجَ أَخَاهُ سُلْطَان شَاهْ مِنْ خُوَارَزْمَ، وَكَانَ قَدْ مَلَكَهَا بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، فَجَاءَ إِلَى مَرْوَ، فَمَلَكَهَا وَأَزَاحَ الْغُزَّ عَنْهَا، فَخَرَجُوا أَيَّامًا، ثُمَّ عَادُوا عَلَيْهِ، فَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا، وَانْتَهَبُوا خِزَانَتَهُ، وَقَتَلُوا أَكْثَرَ رِجَالِهِ، فَعَبَرَ إِلَى الْخَطَا، فَاسْتَنْجَدَهُمْ، وَضَمِنَ لَهُمْ مَالًا، وَجَاءَ بِجَيْشٍ عَظِيمٍ، فَأَخْرَجَ الْغُزَّ عَنْ مَرْوَ، وَسَرْخَسَ، وَنَسَا، وَأَبْيُوَرْدَ، وَمَلَكَهَا وَرَدَّ الْخَطَا. فَلَمَّا أُبْعِدُوا كَاتَبَ غِيَاثَ الدِّينِ الْغُورِيَّ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَنْزِلَ عَنْ هَرَاةَ وَبُوشَنْجَ وَبَاذْغِيسَ وَمَا وَالَاهَا، وَيَتَوَعَّدُهُ إِنْ هُوَ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ غِيَاثُ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْهُ إِقَامَةَ الْخُطْبَةِ لَهُ بِمَرْوَ وَسَرْخَسَ وَمَا مَلَكَهُ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا سَمِعَ الرِّسَالَةَ سَارَ عَنْ مَرْوَ وَشَنَّ الْغَارَاتِ عَلَى بَاذْغِيسَ وَبَيْوَارَ وَمَا وَالَاهَا، وَحَصَرَ بُوشَنْجَ وَنَهَبَ

الرَّسَاتِيقَ، وَصَادَرَ الرَّعَايَا، فَلَمَّا سَمِعَ غِيَاثُ الدِّينِ ذَلِكَ لَمْ يَرْضَ لِنَفَسِهِ أَنْ يَسِيرَ هُوَ بَلْ سَيَّرَ مَلِكَ سِجِسْتَانَ، وَكَاتَبَ ابْنَ أُخْتِهِ بَهَاءَ الدِّينِ سَامَ، صَاحِبَ بَامِيَانَ، بِاللَّحَاقِ بِهِ، لِأَنَّ أَخَاهُ شِهَابَ الدِّينِ كَانَ بِالْهِنْدِ، وَالزَّمَانُ شِتَاءٌ، فَجَاءَ بَهَاءُ الدِّينِ ابْنُ أُخْتِ غِيَاثِ الدِّينِ وَمَلِكُ سِجِسْتَانَ وَمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَوَافَقَ ذَلِكَ وُصُولَ سُلْطَان شَاهْ إِلَى هَرَاةَ، فَلَمَّا عَلِمَ بِوُصُولِهِمْ عَادَ إِلَى مَرْوَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ، وَأَحْرَقَ كُلَّ مَا مَرَّ بِهِ مِنَ الْبِلَادِ وَنَهَبَهُ، وَأَقَامَ بِمَرْوَ إِلَى الرَّبِيعِ، وَأَعَادَ مُرَاسَلَةَ غِيَاثِ الدِّينِ فِي الْمَعْنَى، فَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ يُعَرِّفَهُ الْحَالَ، فَنَادَى فِي عَسَاكِرِهِ الرَّحِيلَ لِسَاعَتِهِ، وَعَادَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَأَخُوهُ غِيَاثُ الدِّينِ وَمَلِكُ سِجِسْتَانَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَقَصَدُوا سُلْطَان شَاهْ، فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ، مَنِ الْغُزِّ وَالْمُفْسِدِينَ، وَقَطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَمَنْ عِنْدَهُ طَمَعٌ، خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَنَزَلَ غِيَاثُ الدِّينِ وَمَنْ مَعَهُ فِي الطَّالْقَانِ، وَنَزَلَ سُلْطَان شَاهْ بِمَرْوِ الرُّوذِ، وَتَقَدَّمَ عَسْكَرُ الْغُورِيَّةِ إِلَيْهِ، وَتَوَاعَدُوا لِلْمَصَافِّ. وَبَقُوا كَذَلِكَ شَهْرَيْنِ وَالرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ غِيَاثِ الدِّينِ وَبَيْنَ سُلْطَان شَاهْ، وَشِهَابُ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْ أَخِيهِ غِيَاثِ الدِّينِ الْإِذْنَ فِي الْحَرْبِ، فَلَا يَتْرُكُهُ، وَتَقَرَّرَ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ غِيَاثُ الدِّينِ إِلَى سُلْطَان شَاهْ بُوشَنْجَ وَبَاذْغِيسَ وَقِلَاعَ بِيُوَارَ، وَكَرِهَ ذَلِكَ شِهَابُ الدِّينِ وَبَهَاءُ الدِّينِ سَامُ، صَاحِبُ بَامِيَانَ، إِلَّا أَنَّهُمَا لَمْ يُخَالِفَا غِيَاثَ الدِّينِ، وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ حَضَرَ رَسُولُ سُلْطَان شَاهْ عِنْدَ غِيَاثِ الدِّينِ، وَحَضَرَ الْأُمَرَاءُ ; لِيُكْتَب الْعَهْدُ، فَقَالَ الرَّسُولُ: إِنَّ سُلْطَانَ شَاهْ يَطْلُبُ أَنْ يَحْضُرَ شِهَابُ الدِّينِ وَبَهَاءُ الدِّينِ هَذَا الْأَمْرَ، فَأَرْسَلَ غِيَاثُ الدِّينِ إِلَيْهِمَا، فَأَعَادَا الْجَوَابَ: إِنَّنَا مَمَالِيكُكَ، وَمَهْمَا تَفْعَلْ لَا يُمْكِنْنَا مُخَالَفَتُكَ. فَبَيْنَمَا النَّاسُ مُجْتَمِعُونَ فِي تَحْرِيرِ الْأَمْرِ وَإِذْ قَدْ أَقْبَلَ مَجْدُ الدِّينِ الْعَلَوِيُّ الْهَرَوِيُّ، وَكَانَ خِصِّيصًا بِغِيَاثِ الدِّينِ بِحَيْثُ يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يَخْتَارُ فَلَا يُخَالَفُ، فَجَاءَ الْعَلَوِيُّ وَيَدُهُ فِي يَدِ أَلْب غَازِي ابْنِ أُخْتِ غِيَاثِ الدِّينِ، وَقَدْ كَتَبُوا الْكِتَابَ، وَقَدْ أَحْضَرَ غِيَاثُ الدِّينِ أَخَاهُ شِهَابَ الدِّينِ وَبَهَاءَ الدِّينِ سَامَ مَلِكِ الْبَامِيَانِ، فَجَاءَ الْعَلَوِيُّ كَأَنَّهُ يَسَارُ غِيَاثِ الدِّينِ، وَوَقَفَ فِي وَسَطِ الْحَلْقَةِ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: يَا فُلَانُ! تَقُولُ لِسُلْطَان شَاهْ: قَدْ تَمَّ لَكَ الصُّلْحُ مِنْ جَانِبِ السُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ، وَمِنْ شِهَابِ الدِّينِ، وَبَهَاءِ الدِّينِ، وَيَقُولُ لَكَ الْعَلَوِيُّ خَصْمُكَ: أَنَا وَمَوْلَانَا أَلْب غَازِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ السَّيْفُ، ثُمَّ صَرَخَ صَرْخَةً وَمَزَّقَ ثِيَابَهُ، وَحَثَا التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ وَأَقْبَلَ عَلَى غِيَاثِ الدِّينِ، وَقَالَ لَهُ: هَذَا وَاحِدٌ طَرَدَهُ

أَخُوهُ، وَأَخْرَجَهُ فَرِيدًا وَحِيدًا، لِمَ تَتْرُكْ لَهُ مَا مَلَكْنَاهُ بِأَسْيَافِنَا مِنَ الْغُزِّ وَالْأَتْرَاكِ السَّنْجَرِيَّةِ؟ فَإِذَا سَمِعَ هَذَا عَنَّا يَجِيءُ أَخُوهُ يَطْلُبُ مُنَازَعَتَهُ الْهِنْدَ وَجَمِيعَ مَا بِيَدِكَ، فَحَرَّكَ غِيَاثُ الدِّينِ رَأْسَهُ وَلَمْ يَتَفَوَّهْ بِكَلِمَةٍ، فَقَالَ مَلِكُ سِجِسْتَانَ لِلْعَلَوِيِّ: اتْرُكِ الْأَمْرَ يَنْصَلِحْ. فَلَمَّا لَمْ يَتَكَلَّمْ غِيَاثُ الدِّينِ مَعَ الْعَلَوِيِّ قَالَ شِهَابُ الدِّينِ لِجَاوَوِشِيتِهَ: نَادَوْا فِي الْعَسْكَرِ بِالتَّجَهُّزِ لِلْحَرْبِ، وَالتَّقَدُّمِ إِلَى مَرْوِ الرُّوذِ، وَقَامَ، وَأَنْشَدَ الْعَلَوِيُّ بَيْتًا مِنَ الشِّعْرِ عَجَمِيًّا مَعْنَاهُ: إِنِ الْمَوْتَ تَحْتَ السُّيُوفِ أَسْهَلُ مِنَ الرِّضَى بِالدَّنِيَّةِ، فَرَجَعَ الرَّسُولُ إِلَى سُلْطَان شَاهْ، وَأَعْلَمَهُ الْحَالَ، فَرَتَّبَ عَسَاكِرَهُ لِلْمَصَافِّ، وَالْتَقَى الْفَرِيقَانِ وَاقْتَتَلُوا، فَصَبَرُوا لِلْحَرْبِ، فَانْهَزَمَ سُلْطَان شَاهْ وَعَسْكَرُهُ، وَأُخِذَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ أَسْرَى، فَأَطْلَقَهُمْ غِيَاثُ الدِّينِ، وَدَخَلَ سُلْطَان شَاهْ مَرْوَ فِي عِشْرِينَ فَارِسًا، وَلَحِقَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوُ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ. وَلَمَّا سَمِعَ خُوَارَزْم شَاهْ تُكَشُ بِمَا جَرَى لِأَخِيهِ سَارَ مِنْ خُوَارَزْمَ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ وَأَرْسَلَ إِلَى جَيْحُونَ ثَلَاثَةَ آلَافِ فَارِسٍ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى أَخِيهِ إِنْ أَرَادَ الْخَطَا، وَجَدَّ فِي السَّيْرِ لِيَقْبِضَ عَلَى أَخِيهِ قَبْلَ أَنْ يَقْوَى، فَأَتَتِ الْأَخْبَارُ سُلْطَان شَاهْ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى عُبُورِ جَيْحُونَ إِلَى الْخَطَا، فَسَارَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ وَكَتَبَ إِلَيْهِ يُعْلِمُهُ قَصْدَهُ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَى هَرَاةَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِهِ بِإِكْرَامِهِ وَاحْتِرَامِهِ وَحَمْلِ الْإِقَامَاتِ إِلَيْهِ، فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، وَقَدِمَ عَلَى غِيَاثِ الدِّينِ، وَالْتَقَاهُ، وَأَكْرَمَهُ وَأَنْزَلَهُ مَعَهُ فِي دَارِهِ، وَأَنْزَلَ أَصْحَابُ سُلْطَان شَاهْ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ عِنْدَ مَنْ هُوَ فِي طَبَقَتِهِ، فَأَنْزَلَ الْوَزِيرَ عِنْدَ وَزِيرِهِ وَالْعَارِضَ عِنْدَ عَارَضِهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرَهُمْ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ حَتَّى انْسَلَخَ الشِّتَاءُ، فَأَرْسَلَ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ خُوَارَزْم شَاهْ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ يُذَكِّرُهُ مَا صَنَعَهُ أَخُوهُ سُلْطَان شَاهْ مَعَهُ مِنْ تَخْرِيبِ بِلَادِهِ، وَجَمْعِ الْعَسَاكِرِ عَلَيْهِ، وَيُشِيرُ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَرَدِّهِ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ الرَّسُولَ، وَإِذْ قَدْ أَتَاهُ كِتَابُ نَائِبِهِ بِهَرَاةَ يُخْبِرُهُ أَنَّ كِتَابَ خُوَارَزْم شَاهْ جَاءَهُ يَتَهَدَّدُهُ، فَأَجَابَهُ أَنَّهُ لَا يُظْهِرُ لِخُوَارَزْم شَاهْ أَنَّهُ أَعْلَمَهُ بِالْحَالِ، وَأَحْضَرَ الرَّسُولَ، وَقَالَ لَهُ: تَقُولُ لِعَلَاءِ الدِّينِ: أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّ سُلْطَانَ شَاهْ أَخْرَبَ الْبِلَادَ وَأَرَادَ مُلْكَهَا، فَلَعَمْرِي إِنَّهُ مَلِكٌ وَابْنُ مَلِكٍ، وَلَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ، وَإِذَا أَرَادَ الْمُلْكَ، فَمِثْلُهُ أَرَادَهُ، وَلِلْأُمُورِ مُدَبِّرٌ يُوصِلُهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا، وَقَدِ الْتَجَأَ إِلَيَّ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَنْزَاحَ عَنْ بِلَادِهِ، وَتُعْطِيَهُ نَصِيبَهُ مِمَّا خَلَّفَ أَبُوهُ، وَمِنَ الْأَمْلَاكِ الَّتِي خَلَّفَ، وَالْأَمْوَالِ،

وَأَحْلِفُ لَكُمَا يَمِينًا عَلَى الْمَوَدَّةِ وَالْمُصَافَاةِ، وَتَخْطُبُ لِي بِخُوَارَزْمَ، وَتُزَوِّجُ أَخِي شِهَابَ الدِّينِ بِأُخْتِكَ. فَلَمَّا سَمِعَ خُوَارَزْم شَاهِ الرِّسَالَةَ امْتَعَضَ لِذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ كِتَابًا يَتَهَدَّدُهُ بِقَصْدِ بِلَادِهِ، فَجَهَّزَ غِيَاثُ الدِّينِ الْعَسَاكِرَ مَعَ ابْنِ أُخْتِ أَلْب غَازِي وَصَاحِبِ سِجِسْتَانَ، وَسَيَّرَهُمَا مَعَ سُلْطَان شَاهْ إِلَى خُوَارَزْمَ، وَكَتَبَ إِلَى الْمُؤَيَّدِ صَاحِبِ نَيْسَابُورَ يَسْتَنْجِدُهُ، وَكَانَ قَدْ صَارَ بَيْنَهُمَا مُصَاهَرَةٌ: زَوَّجَ الْمُؤَيَّدُ ابْنَهُ طُغَانَ بِابْنَةِ غِيَاثِ الدِّينِ، فَجَمَعَ الْمُؤَيَّدُ عَسَاكِرَهُ، وَأَقَامَ بِظَاهِرِ نَيْسَابُورَ عَلَى طَرِيقِ خُوَارَزْمَ. وَكَانَ خُوَارَزْم شَاهْ قَدْ سَارَ عَنْ خُوَارَزْمَ إِلَى لِقَاءِ عَسْكَرِ الْغُورِيَّةِ الَّذِينَ مَعَ أَخِيهِ سُلْطَان شَاهْ، وَقَدْ نَزَلُوا بِطَرَفِ الرَّمْلِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي مَسِيرِهِ أَتَاهُ خَبَرُ الْمُؤَيَّدِ أَنَّهُ قَدْ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ، وَأَنَّهُ عَلَى قَصْدِ خُوَارَزْمَ إِذَا فَارَقَهَا، فَسُقِطَ فِي يَدَيْهِ وَعَادَ فَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ، وَعَادَ إِلَى خُوَارَزْمَ، فَأَخَذَ أَمْوَالَهُ وَذَخَائِرَهُ وَعَبَرَ جَيْحُونَ إِلَى الْخَطَا، وَأَخْلَى خُوَارَزْمَ فَوَقَعَ بِهَا خَبْطٌ عَظِيمٌ، فَحَضَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِهَا عِنْدَ أَلْب غَازِي وَسَأَلُوهُ إِرْسَالَ أَمِيرٍ مَعَهُمْ يَضْبُطُ الْبَلَدَ، فَخَافَ أَنْ تَكُونَ مَكِيدَةً، فَلَمْ يَفْعَلْ. فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ تُوُفِّيَ سُلْطَان شَاهْ، سَلْخَ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَكَتَبَ أَلْب غَازِي إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ يُعْلِمُهُ الْخَبَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ، فَرَجَعَ وَمَعَهُ أَصْحَابُ سُلْطَان شَاهْ، فَأَمَرَ غِيَاثُ الدِّينِ بِأَنْ يُسْتَخْدَمُوا، وَأَقْطَعَ الْأَجْنَادَ الْإِقْطَاعَاتِ الْجَيِّدَةِ، وَكُلُّهُمْ قَابَلَ إِحْسَانَهُ بِكُفْرَانٍ، وَسَنَذْكُرُهُ بَاقِي أَخْبَارِهِمْ. وَلَمَّا سَمِعَ خُوَارَزْم شَاهْ تُكَشُ بِوَفَاةِ أَخِيهِ عَادَ إِلَى خُوَارَزْمَ، وَأَرْسَلَ إِلَى سَرْخَسَ وَمَرْوَ شَحْنَاءَ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُ هَرَاةَ عُمَرُ الْمَرْغَنِيُّ جَيْشًا، فَأَخْرَجُوهُمْ، وَقَالَ: حَتَّى نَسْتَأْذِنَ السُّلْطَانَ غِيَاثَ الدِّينِ، وَأَرْسَلَ خُوَارَزْم شَاهْ رَسُولًا إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ يَطْلُبُ الصُّلْحَ وَالْمُصَاهَرَةَ، وَسَيَّرَ مَعَ رَسُولِهِ جَمَاعَةً مِنْ فُقَهَاءِ خُرَاسَانَ وَالْعَلَوِيِّينَ، وَمَعَهُمْ وَجِيهُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودٍ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ غِيَاثَ الدِّينِ شَافِعِيًّا، وَكَانَ لَهُ عِنْدَهُ

مَنْزِلَةٌ كَبِيرَةٌ، فَوَعَظُوهُ، وَخَوَّفُوهُ اللَّهَ تَعَالَى، وَأَعْلَمُوهُ أَنَّ خُوَارَزْم شَاهْ يُرَاسِلُهُمْ وَيَتَهَدَّدُهُمْ بِأَنَّهُ يَجِيءُ بِالْأَتْرَاكِ وَالْخَطَا وَيَسْتَبِيحُ حَرِيمَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَقَالُوا لَهُ: إِمَّا أَنْ تَحْضُرَ أَنْتَ بِنَفْسِكَ، وَتَجْعَلَ مَرْوَ دَارَ مُلْكِكَ، حَتَّى يَنْقَطِعَ طَمَعُ الْكَافِرِينَ عَنِ الْبِلَادِ وَيَأْمَنَ أَهْلُهَا، وَإِمَّا أَنْ تُصَالِحَ خُوَارَزْم شَاهْ، فَأَجَابَ إِلَى الصُّلْحِ وَتَرَكَ مُعَارَضَةَ الْبِلَادِ. فَلَمَّا سَمِعَ مَنْ بِخُرَاسَانَ مِنَ الْغُزِّ بِذَلِكَ طَمِعُوا فِي الْبِلَادِ، فَعَاوَدُوا النَّهْبَ وَالْإِحْرَاقَ وَالتَّخْرِيبَ، فَسَمِعَ خُوَارَزْم شَاهْ فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَحَضَرَ بِخُرَاسَانَ، وَدَخَلَ مَرْوَ وَسَرْخَسَ وَنَسَا وَأَبْيُوَرْدَ وَغَيْرَهَا، وَأَصْلَحَ الْبِلَادَ، وَتَطَرَّقَ إِلَى طُوسَ وَهِيَ لِلْمُؤَيَّدِ صَاحِبِ نَيْسَابُورَ، فَجَمَعَ الْمُؤَيَّدُ جُيُوشَهُ وَسَارَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُؤَيَّدُ بِعَوْدِ خُوَارَزْم شَاهْ طَمِعَ فِيهِ وَتَبِعَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ خُوَارَزْم شَاهْ بِذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَى الْمَنَاهِلِ الَّتِي فِي الْبَرِّيَّةِ فَأَلْقَى فِيهَا الْجِيَفَ وَالتُّرَابَ بِحَيْثُ لَمْ يُمْكِنْ الِانْتِفَاعُ بِهَا. فَلَمَّا تَوَسَّطَ الْمُؤَيَّدُ الْبَرِّيَّةَ طَلَبَ الْمَاءَ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَجَاءَ خُوَارَزْم شَاهْ إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَمَعَهُ الْمَاءُ عَلَى الْجِمَالِ، فَأَحَاطَ بِهِ، فَأَمَّا عَسْكَرُهُ فَاسْتَسْلَمُوا بِأَسْرِهِمْ، وَجِيءَ بِالْمُؤَيَّدِ أَسِيرًا إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ، فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُخَنَّثُ هَذَا فِعَالُ النَّاسِ؟ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَقَتَلَهُ وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى خُوَارَزْمَ. فَلَمَّا قُتِلَ مَلِكُ نَيْسَابُورَ مَلَكَ مَا كَانَ لَهُ ابْنُهُ طُغَان شَاهْ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ قَابِلَ جَمَعَ خُوَارَزْم شَاهْ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَحَاصَرَهَا وَقَاتَلَهَا، فَمَنَعَهُ طُغَان شَاهْ، فَعَادَ عَنْهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ طُغَان شَاهْ، فَقَاتَلَهُ، فَأَسَرَ طُغَان شَاهْ، وَأَخَذَهُ، وَزَوَّجَهُ أُخْتَهُ، وَحَمَلَهُ مَعَهُ إِلَى خُوَارَزْمَ، وَمَلَكَ نَيْسَابُورَ وَجَمِيعَ مَا كَانَ لِطُغَان شَاهْ مِنَ الْمُلْكِ وَعَظُمَ شَأْنُهُ وَقَوِيَ أَمْرُهُ. هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ لَفَعَلْتُ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ قَدَّمَ مَا أَخَّرَهُ الْآخَرُ، فَلِهَذَا أَوْرَدْنَا جَمِيعَ مَا قَالَاهُ، وَلِبُعْدِ الْبِلَادِ عَنَّا لَمْ نَعْلَمْ أَيَّ الْقَوْلَيْنِ أَصَحَّ لِنَذْكُرَهُ وَنَتْرُكَ الْآخَرَ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَتْهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ أَيَّامَ سُلْطَان شَاهْ لَمْ تُطِلْ لَهُ وَلِأَعْقَابِهِ حَتَّى تَتَفَرَّقَ عَلَى السِّنِينَ، فَلِهَذَا أَوْرَدْتُهَا مُتَتَابِعَةً.

ذِكْرُ غَارَةِ الْفِرِنْجِ عَلَى بَلَدِ حَوْرَانَ وَغَارَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَلَدِ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، اجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ وَسَارُوا إِلَى بَلَدِ حَوْرَانَ مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ لِلْغَارَةِ عَلَيْهِ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى نُورِ الدِّينِ وَكَانَ قَدْ بَرَزَ وَنَزَلَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ بِالْكُسْوَةِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ مُجِدًّا، وَقَدِمَ بِجُمُوعِهِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا عَلِمُوا بِقُرْبِهِ مِنْهُمْ دَخَلُوا إِلَى السَّوَادِ، وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ أَيْضًا، وَلَحِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَتَخَطَّفُوا مَنْ فِي سَاقَتِهِمْ وَنَالُوا مِنْهُمْ، وَسَارَ نُورُ الدِّينِ فَنَزَلَ فِي عَشْتَرَا، وَسَيَّرَ مِنْهَا سَرِيَّةً إِلَى أَعْمَالِ طَبَرِيَّةَ، فَشَنُّوا الْغَارَاتِ عَلَيْهَا، فَنَهَبُوا وَسَبَوْا، وَأَحْرَقُوا وَخَرَّبُوا، فَسَمِعَ الْفِرِنْجُ ذَلِكَ، فَرَحَلُوا إِلَيْهِمْ ; لِيَمْنَعُوا عَنْ بَلَدِهِمْ، فَلَمَّا وَصَلُوا كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ فَرَغُوا مِنْ نَهْبِهِمْ وَغَنِيمَتِهِمْ، وَعَادُوا، وَعَبَرُوا النَّهْرَ. وَأَدْرَكَهُمُ الْفِرِنْجُ، فَوَقَفَ مُقَابِلَهُمْ شُجْعَانُ الْمُسْلِمِينَ وَحُمَاتُهُمْ يُقَاتِلُونَهُمْ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، الْفِرِنْجُ يَرُومُونَ أَنْ يَلْحَقُوا الْغَنِيمَةَ فَيَرُدُّوهَا، وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ عَنْهَا لِيَنْجُوَ بِهَا مَنْ قَدْ سَارَ مَعَهَا، فَلَمَّا طَالَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَأَبْعَدَتِ الْغَنِيمَةُ وَسَلِمَتْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَادَ الْفِرِنْجُ وَلَمْ يَقْدِرُوا [أَنْ] يَسْتَرِدُّوا مِنْهَا شَيْئًا. ذِكْرُ مَسِيرِ شَمْسِ الدَّوْلَةِ إِلَى بَلَدِ النُّوبَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، سَارَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ تُورَان شَاهْ بْنُ أَيُّوبَ أَخُو صَلَاحِ الدِّينِ الْأَكْبَرِ مِنْ مِصْرَ إِلَى بَلَدِ النُّوبَةِ، فَوَصَلَ إِلَى أَوَّلِ بِلَادِهِمْ ; لِيَتَغَلَّبَ عَلَيْهِ وَيَتَمَلَّكَهُ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ وَأَهْلَهُ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ نُورَ الدِّينِ كَانَ عَلَى عَزْمِ الدُّخُولِ إِلَى مِصْرَ وَأَخْذِهَا مِنْهُمْ، فَاسْتَقَرَّ الرَّأْيُ بَيْنَهُمْ أَنَّهُمْ يَتَمَلَّكُونَ إِمَّا بِلَادَ النُّوبَةِ أَوْ بِلَادَ الْيَمَنِ، حَتَّى إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ نُورُ الدِّينِ لَقُوهُ وَصَدُّوهُ عَنِ الْبِلَادِ، فَإِنْ قَوُوا عَلَى مَنْعِهِ أَقَامُوا بِمِصْرَ، وَإِنْ عَجَزُوا عَنْ مَنْعِهِ رَكِبُوا الْبَحْرَ وَلَحِقُوا بِالْبِلَادِ الَّتِي قَدِ افْتَتَحُوهَا، فَجَهَّزَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ وَسَارَ إِلَى أَسْوَانَ، وَمِنْهَا إِلَى بَلَدِ النُّوبَةِ، فَنَازَلَ قَلْعَةً اسْمُهَا

أَبْرِيمُ، فَحَصَرَهَا، وَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِقِتَالِ الْعَسْكَرِ الْإِسْلَامِيِّ قُوَّةٌ ; لِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ جُنَّةٌ تَقِيهِمُ السِّهَامَ وَغَيْرَهَا مِنْ آلَةِ الْحَرْبِ، فَسَلَّمُوهَا، فَمَلَكَهَا، وَأَقَامَ بِهَا، وَلَمْ يَرَ لِلْبِلَادِ دَخْلًا يُرْغَبُ فِيهِ وَتُحْتَمَلُ الْمَشَقَّةُ لِأَجْلِهِ، وَقُوتُهُمُ الذُّرَةُ، فَلَمَّا رَأَى عَدَمَ الْحَاصِلِ، وَقَشَفَ الْعَيْشِ مَعَ مُبَاشَرَةِ الْحُرُوبِ وَمُعَانَاةِ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ، تَرَكَهَا وَعَادَ إِلَى مِصْرَ بِمَا غَنِمَ، وَكَانَ عَامَّةُ غَنِيمَتِهِمِ الْعَبِيدَ وَالْجَوَارِيَ. ذِكْرُ ظَفَرٍ لِمُلَيْحِ بْنِ لِيُونَ بِالرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، هَزَمَ مُلَيْحُ بْنُ لِيُونَ الْأَرْمَنِيُّ، صَاحِبُ بِلَادِ الدُّرُوبِ الْمُجَاوِرَةِ لِحَلَبَ، عَسْكَرَ الرُّومِ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ نُورَ الدِّينِ كَانَ قَدِ اسْتَخْدَمَ مُلَيْحًا الْمَذْكُورَ، وَأَقْطَعَهُ إِقْطَاعًا سَنِيًّا، وَكَانَ مُلَازِمَ الْخِدْمَةِ لِنُورِ الدِّينِ، وَمُشَاهِدًا لِحُرُوبِهِ مَعَ الْفِرِنْجِ، وَمُبَاشِرًا لَهَا، وَكَانَ هَذَا مِنْ جَيِّدِ الرَّأْيِ وَصَائِبِهِ، فَإِنَّ نُورَ الدِّينِ لَمَّا قِيلَ لَهُ فِي مَعْنَى اسْتِخْدَامِهِ وَإِعْطَائِهِ الْأَقْطَاعَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ قَالَ: أَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ مِلَّتِهِ، وَأُرِيحُ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِي تَكُونُ بِإِزَائِهِ لِتَمْنَعَهُ مِنَ الْغَارَةِ عَلَى الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُ. وَكَانَ مُلَيْحٌ أَيْضًا يَتَقَوَّى بِنُورِ الدِّينِ عَلَى مَنْ يُجَاوِرُهُ مِنَ الْأَرْمَنِ وَالرُّومِ، وَكَانَتْ مَدِينَةُ أَدِنَةَ وَالْمِصِّيصَةِ وَطَرْسُوسَ بِيَدِ مَلِكِ الرُّومِ، صَاحِبِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَأَخَذَهَا مُلَيْحٌ مِنْهُمْ لِأَنَّهَا تُجَاوِرُ بِلَادَهُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ مَلِكُ الرُّومِ جَيْشًا كَثِيفًا، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ بَعْضَ أَعْيَانِ الْبَطَارِقَةِ مَنْ أَقَارِبِهِ، فَلَقِيَهُمْ مُلَيْحٌ وَمَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ عَسْكَرِ نُورِ الدِّينِ، فَقَاتَلَهُمْ، وَصَدَقَهُمُ الْقِتَالَ، وَصَابَرَهُمْ، فَانْهَزَمَتِ الرُّومُ، وَكَثُرَ فِيهِمُ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ، وَقَوِيَتْ شَوْكَةُ مُلَيْحٍ، وَانْقَطَعَ أَمَلُ الرُّومِ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ.

وَأَرْسَلَ مُلَيْحٌ إِلَى نُورِ الدِّينِ كَثِيرًا مِنْ غَنَائِمِهِمْ وَمِنَ الْأَسْرَى ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ مَشْهُورِيهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ، فَسَيَّرَ نُورُ الدِّينِ بَعْضَ ذَلِكَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَتَبَ يَعْتَدُّ بِهَذَا لِأَنَّ بَعْضَ جُنْدِهِ فَعَلُوهُ. ذِكْرُ وَفَاةِ إِيلْدِكْزَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَتَابِكُ إِيلْدِكْزُ بِهَمَذَانَ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ الْبَهْلَوَانُ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَكَانَ إِيلْدِكْزُ هَذَا مَمْلُوكًا لِلْكَمَالِ السُّمَيْرَمِيِّ، وَزِيرِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَلَمَّا قُتِلَ الْكَمَالُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، صَارَ إِيلْدِكْزُ إِلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَلَمَّا وَلِيَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ السَّلْطَنَةَ وَلَّاهُ أَرَّانِيَّةَ، فَمَضَى إِلَيْهَا، وَلَمْ يَعُدْ يَحْضُرُ عِنْدَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَلَا غَيْرِهِ، ثُمَّ مَلَكَ أَكْثَرَ أَذْرَبِيجَانَ وَبِلَادَ الْجَبَلِ وَهَمَذَانَ وَغَيْرَهَا، وَأَصْفَهَانَ وَالرَّيَّ وَمَا وَالَاهُمَا مِنَ الْبِلَادِ، وَخَطَبَ بِالسَّلْطَنَةِ لِابْنِ امْرَأَتِهِ أَرْسِلَان شَاهْ بْنِ طُغْرُلَ، وَكَانَ عَسْكَرُهُ خَمْسِينَ أَلْفِ فَارِسٍ سِوَى الْأَتْبَاعِ، وَاتَّسَعَ مُلْكُهُ مِنْ بَابِ تَفْلِيسَ إِلَى كَرْمَانَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلسُّلْطَانِ أَرْسِلَان شَاهْ مَعَهُ حُكْمٌ إِنَّمَا كَانَ لَهُ جِرَايَةً تَصِلُ إِلَيْهِ. وَبَلَغَ مَنْ تَحَكُّمِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَرِبَ لَيْلَةً، فَوَهَبَ مَا فِي خِزَانَتِهِ، وَكَانَ كَثِيرًا، فَلَمَّا سَمِعَ إِيلْدِكْزُ بِذَلِكَ اسْتَعَادَهُ جَمِيعَيَهُ، وَقَالَ لَهُ: مَتَى أَخْرَجْتَ الْمَالَ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ، أَخَذْتَهُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، وَظَلَمْتَ الرَّعِيَّةَ. وَكَانَ إِيلْدِكْزُ عَاقِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، يَجْلِسُ بِنَفْسِهِ لِلرَّعِيَّةِ، وَيَسْمَعُ شَكَاوِيهِمْ، وَيُنْصِفُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ.

ذِكْرُ وَصُولِ التُّرْكِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَمُلْكِهِمْ طَرَابُلُسَ وَغَيْرَهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ طَائِفَةٌ مِنَ التُّرْكِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ مَعَ قَرَاقُوشَ مَمْلُوكِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ ابْنِ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ، إِلَى جِبَالِ نَفُوسَةَ، وَاجْتَمَعَ بِهِ مَسْعُودُ بْنُ زِمَامٍ الْمَعْرُوفُ بِمَسْعُودٍ الْبَلَّاطِ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أُمَرَاءِ الْعَرَبِ هُنَاكَ، وَكَانَ خَارِجًا عَنْ طَاعَةِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَأَوْلَادِهِ، فَاتَّفَقَا، وَكَثُرَ جَمْعُهُمَا، وَنَزَلَا عَلَى طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ، فَحَاصَرَاهَا، وَضَيَّقَا عَلَى أَهْلِهَا، ثُمَّ فُتِحَتْ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا قَرَاقُوشُ، وَأَسْكَنَ أَهْلَهُ قَصْرَهَا، وَمَلَكَ كَثِيرًا مِنْ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ مَا خَلَا الْمَهْدِيَّةَ، وَسَفَاقُسَ، وَقَفْصَةَ، وَتُونُسَ وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْقُرَى وَالْمَوَاضِعِ. وَصَارَ مَعَ قَرَاقُوشَ عَسْكَرٌ كَثِيرٌ، فَحَكَمَ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ بِمُسَاعَدَةِ الْعَرَبِ بِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ مِنَ التَّخْرِيبِ وَالنَّهْبِ، وَالْإِفْسَادِ بِقَطْعِ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَجَمَعَ بِهَا أَمْوَالًا عَظِيمَةً، وَجَعَلَهَا بِمَدِينَةِ قَابِسَ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ، وَحَدَّثَتْهُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى جَمِيعِ إِفْرِيقِيَّةَ ; لِبُعْدِ أَبِي يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ صَاحِبِهَا عَنْهَا، وَكَانَ مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ذِكْرُ غَزْوِ ابْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْفِرِنْجَ بِالْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ عَسَاكِرَهُ، وَسَارَ مِنْ إِشْبِيلِيَّةَ إِلَى الْغَزْوِ، فَقَصَدَ بِلَادَ الْفِرِنْجِ، وَنَزَلَ عَلَى مَدِينَةِ وَبْذَةَ، وَهِيَ بِالْقُرْبِ مِنْ طُلَيْطِلَةَ شَرْقًا مِنْهَا، وَحَصَرَهَا، وَاجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ عَلَى ابْنِ الْأَذْفُونْشِ مَلِكِ طُلَيْطِلَةَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَلَمْ يُقْدِمُوا عَلَى لِقَاءِ الْمُسْلِمِينَ. فَاتَّفَقَ أَنَّ الْغَلَاءَ اشْتَدَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ عِنْدَهُمْ، وَهُمْ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَاضْطَرُّوا إِلَى مُفَارَقَةِ بِلَادِ الْفِرِنْجِ، فَعَادُوا إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ.

وَأَقَامَ أَبُو يَعْقُوبَ بِهَا إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يُجَهِّزُ الْعَسَاكِرَ وَيُسَيِّرُهَا إِلَى غَزْوِ بِلَادِ الْفِرِنْجِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَكَانَ فِيهَا عِدَّةُ وَقَائِعَ وَغَزَوَاتٍ ظَهَرَ فِيهَا مِنَ الْعَرَبِ مِنَ الشَّجَاعَةِ مَا لَا يُوصَفُ، وَصَارَ الْفَارِسُ مِنَ الْعَرَبِ يَبْرُزُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَيَطْلُبُ مُبَارَزَةَ الْفَارِسِ الْمَشْهُورِ مَنَ الْفِرِنْجِ، فَلَا يَبْرُزُ إِلَيْهِ أَحَدٌ، ثُمَّ عَادَ أَبُو يَعْقُوبَ إِلَى مَرَّاكُشَ. ذِكْرُ نَهْبِ نَهَاوَنْدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نَهَبَ عَسْكَرُ شُمْلَةَ نَهَاوَنْدَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ شُمْلَةَ كَانَ أَيَّامَ إِيلْدِكْزَ لَا يَزَالُ يَطْلُبُ مِنْهُ نَهَاوَنْدَ ; لِكَوْنِهَا مُجَاوِرَةً بِلَادَهُ، وَيَبْذُلُ فِيهَا الْأَمْوَالَ، فَلَا يُجِيبُهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا مَاتَ إِيلْدِكْزُ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ الْبَهْلَوَانُ، وَسَارَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ لِإِصْلَاحِهَا، أَنْفَذَ شُمْلَةُ ابْنَ أَخِيهِ ابْنَ سَنْكَا لِأَخْذِ نَهَاوَنْدَ، وَبَلَغَ أَهْلَ الْبَلَدِ الْخَبَرُ، فَتَحَصَّنُوا، وَحَصَرَهُمْ، وَقَاتَلَهُمْ وَقَاتَلُوهُ، وَأَفْحَشُوا فِي سَبِّهِ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمْ رَجَعَ إِلَى تُسْتَرَ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْهَا، وَأَرْسَلَ أَهْلُ نَهَاوَنْدَ إِلَى الْبَهْلَوَانِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ نَجْدَةً، فَتَأَخَّرَتْ عَنْهُمْ، فَلَمَّا اطْمَأَنُّوا خَرَجَ ابْنُ سَنْكَا مِنْ تُسْتَرَ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ جَرِيدَةً، وَسَارَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَقَطَعَ أَرْبَعِينَ فَرْسَخًا حَتَّى وَصَلَ إِلَى نَهَاوَنْدَ، وَضَرَبَ الْبُوقَ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْبَهْلَوَانِ، لِأَنَّهُ جَاءَهُمْ مِنْ نَاحِيَتِهِ، فَفَتَحَ أَهْلُ الْبَلَدِ لَهُ الْأَبْوَابَ، فَدَخَلَهُ، فَلَمَّا تَوَسَّطَ قَبَضَ عَلَى الْقَاضِي وَالرُّؤَسَاءِ وَصَلَبَهُمْ، وَنَهَبَ الْبَلَدَ وَأَحْرَقَهُ، وَقَطَعَ أَنْفَ الْوَالِي وَأَطْلَقَهُ، وَتَوَجَّهَ نَحْوَ مَاسَبَذَانَ قَاصِدًا لِلْعِرَاقِ. ذِكْرُ قَصْدِ نُورِ الدِّينِ بِلَادَ قَلْجِ أَرْسِلَان فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي إِلَى مَمْلَكَةِ عِزِّ الدِّينِ قَلْجِ أَرْسِلَان بْنِ مَسْعُودِ بْنِ قَلْجِ أَرْسِلَان، وَهِيَ مَلَطْيَةُ، وَسِيوَاسُ، وَأَقْصَرَا وَغَيْرِهَا، عَازِمًا عَلَى حَرْبِهِ وَأَخْذِ بِلَادِهِ مِنْهُ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ ذَا النُّونِ بْنَ دَانِشْمَنْدَ صَاحِبَ مَلَطْيَةَ وَسِيوَاسَ قَصَدَهُ قَلْجُ

أَرْسِلَان، وَأَخَذَ بِلَادَهُ، وَأَخْرَجَهُ عَنْهَا طَرِيدًا فَرِيدًا، فَسَارَ إِلَى نُورِ الدِّينِ مُسْتَجِيرًا بِهِ، وَمُلْتَجِئًا إِلَيْهِ، فَأَكْرَمَ نُزُلَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَحَمَلَ لَهُ مَا يَلِيقُ أَنْ يُحْمَلَ إِلَى الْمُلُوكِ، وَوَعَدَهُ النُّصْرَةَ وَالسَّعْيَ فِي رَدِّ مُلْكِهِ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى قَلْجِ أَرْسِلَان يَشْفَعُ إِلَيْهِ فِي إِعَادَةِ بِلَادِ ذِي النُّونِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَسَارَ نُورُ الدِّينِ إِلَيْهِ، فَابْتَدَأَ بِكَيْسُونَ، وَبَهَسْنا، وَمَرْعَشَ، وَمَرْزُبَانَ، فَمَلَكَهَا وَمَا بَيْنَهَا، وَكَانَ مُلْكُهُ لِمَرْعَشَ أَوَائِلَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَالْبَاقِي بَعْدَهَا، فَلَمَّا مَلَكَهَا سَيَّرَ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ إِلَى سِيوَاسَ، فَمَلَكُوهَا. وَكَانَ قَلْجُ أَرْسِلَان لَمَّا سَارَ نُورُ الدِّينِ إِلَى بِلَادِهِ قَدْ سَارَ مِنْ طَرَفِهَا الَّذِي يَلِيَ الشَّامَ إِلَى وَسَطِهَا، وَرَاسَلَ نُورَ الدِّينِ يَسْتَعْطِفُهُ، وَيَسْأَلُهُ الصُّلْحَ، فَتَوَقَّفَ نُورُ الدِّينِ عَنْ قَصْدِهِ رَجَاءَ أَنْ يَنْصَلِحَ الْأَمْرُ بِغَيْرِ حَرْبٍ، فَأَتَاهُ عَنِ الْفِرِنْجِ مَا أَزْعَجَهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى الصُّلْحِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْجِدَهُ بِعَسَاكِرَ إِلَى الْغَزَاةِ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مُجَاوِرُ الرُّومِ وَلَا تَغْزُوهُمْ، وَبِلَادُكَ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْغَزَاةِ مَعِي، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَتَبْقَى سِيوَاسُ عَلَى حَالِهَا بِيَدِ نُوَّابِ نُورِ الدِّينِ وَهِيَ لِذِي النُّونِ، فَبَقِيَ الْعَسْكَرُ بِهَا فِي خِدْمَةِ ذِي النُّونِ إِلَى أَنْ مَاتَ نُورُ الدِّينِ، فَلَمَّا مَاتَ رَحَلَ عَسْكَرُهُ عَنْهَا، وَعَادَ قَلْج أَرْسِلَان وَمَلَكَهَا، وَهِيَ بِيَدِ أَوْلَادِهِ إِلَى الْآنِ سَنَةَ عِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ. وَلَمَّا كَانَ نُورُ الدِّينِ فِي هَذِهِ السَّفْرَةِ جَاءَهُ رَسُولُ كَمَالِ الدِّينِ أَبِي الْفَضْلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشَّهْرَزُورِيِّ مِنْ بَغْدَادَ وَمَعَهُ مَنْشُورٌ مِنَ الْخَلِيفَةِ بِالْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ وَبِإِرْبَلَ وَخِلَاطِ الشَّامِ وَبِلَادِ قَلْجِ أَرْسِلَان وَدِيَارِ مِصْرَ.

ذِكْرُ رَحِيلِ صَلَاحِ الدِّينِ مِنْ مِصْرَ إِلَى الْكَرَكِ وَعَوْدِهِ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، رَحَلَ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ مِنْ مِصْرَ بِعَسَاكِرِهَا جَمِيعِهَا إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ يُرِيدُ حَصْرَ الْكَرَكِ، وَالِاجْتِمَاعَ مَعَ نُورِ الدِّينِ عَلَيْهِ، وَالِاتِّفَاقَ عَلَى قَصْدِ بِلَادِ الْفِرِنْجِ مِنْ جِهَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جِهَةٍ بِعَسْكَرِهِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ نُورَ الدِّينِ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ عَوْدَهُ مِنْ بِلَادِ الْفِرِنْجِ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، وَأَرَادَ نُورُ الدِّينِ قَصْدَ مِصْرَ وَأَخْذَهَا مِنْهُ، أَرْسَلَ يَعْتَذِرُ، وَيَعِدُ مِنْ نَفْسِهِ بِالْحَرَكَةِ عَلَى مَا يُقَرِّرُهُ نُورُ الدِّينِ، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ يَخْرُجُ مِنْ مِصْرَ وَيَسِيرُ نُورُ الدِّينِ مِنْ دِمَشْقَ، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ صَاحِبَهُ يُقِيمُ إِلَى أَنْ يَصِلَ الْآخَرُ إِلَيْهِ، وَتَوَاعَدَا عَلَى يَوْمٍ مَعْلُومٍ يَكُونُ وُصُولُهُمَا فِيهِ، فَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْ مِصْرَ لِأَنَّ طَرِيقَهُ أَصْعَبُ وَأَبْعَدُ وَأَشَقُّ، وَوَصَلَ إِلَى الْكَرَكِ وَحَصَرَهُ. وَأَمَّا نُورُ الدِّينِ فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ كِتَابُ صَلَاحِ الدِّينِ بِرَحِيلِهِ مِنْ مِصْرَ فَرَّقَ الْأَمْوَالَ، وَحَصَّلَ الْأَزْوَادَ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَسَارَ إِلَى الْكَرَكِ فَوَصَلَ إِلَى الرَّقِيمِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَرَكِ مَرْحَلَتَانِ. فَلَمَّا سَمِعَ صَلَاحُ الدِّينِ بِقُرْبِهِ خَافَهُ هُوَ وَجَمِيعُ أَهْلِهِ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى مِصْرَ، وَتَرْكِ الْاجْتِمَاعِ بِنُورِ الدِّينِ، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ إِنِ اجْتَمَعَا كَانَ عَزْلُهُ عَلَى نُورِ الدِّينِ سَهْلًا. فَلَمَّا عَادَ أَرْسَلَ الْفَقِيهَ عِيسَى إِلَى نُورِ الدِّينِ يَعْتَذِرُ عَنْ رَحِيلِهِ بِأَنَّهُ كَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ أَبَاهُ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ عَلَى دِيَارِ مِصْرَ، وَأَنَّهُ مَرِيضٌ شَدِيدُ الْمَرَضِ، وَيَخَافُ أَنْ يَحْدُثَ عَلَيْهِ حَادِثُ الْمَوْتِ فَتَخْرُجَ الْبِلَادُ عَنْ أَيْدِيهِمْ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ [مِنَ] التُّحَفِ وَالْهَدَايَا مَا يَجِلُّ عَنِ الْوَصْفِ، فَجَاءَ الرَّسُولُ إِلَى نُورِ الدِّينِ وَأَعْلَمَهُ ذَلِكَ فَعَظُمَ عَلَيْهِ وَعَلِمَ الْمُرَادَ مِنَ الْعَوْدِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ لِلرَّسُولِ تَأَثُّرًا بَلْ قَالَ لَهُ: حِفْظُ مِصْرَ أَهَمُّ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِهَا. وَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى مِصْرَ فَوَجَدَ أَبَاهُ قَدْ قَضَى نَحْبَهُ وَلَحِقَ بِرَبِّهِ، وَرُبَّ كَلِمَةٍ تَقُولُ لِقَائِلِهَا دَعْنِي. وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِ نَجْمِ الدِّينِ أَنَّهُ رَكِبَ يَوْمًا فَرَسًا بِمِصْرَ، فَنَفَرَ بِهِ

الْفَرَسُ نَفْرَةً شَدِيدَةً، فَسَقَطَ عَنْهُ فَحُمِلَ إِلَى قَصْرِهِ وَقِيذًا، وَبَقِيَ أَيَّامًا، وَمَاتَ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ خَيِّرًا، عَاقِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ كَرِيمًا جَوَادًا، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ، وَالْمُجَالَسَةِ لَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِهِ وَابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ أَخِيهِ شِيرِكُوهْ مَا لَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَتِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً كَثِيرَةً أَشْرَفَتْ [بِهَا] بَغْدَادُ عَلَى الْغَرَقِ فِي شَعْبَانَ، وَسَدُّوا أَبْوَابَ الدُّرُوبِ، وَوَصَلَ الْمَاءُ إِلَى قُبَّةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَوَصَلَ إِلَى النِّظَامِيَّةِ وَرِبَاطِ شَيْخِ الشُّيُوخِ، وَاشْتَغَلَ النَّاسُ بِالْعَمَلِ فِي الْقَوْرَجِ، ثُمَّ نَقَصَ وَكَفَى النَّاسَ شَرَّهُ. وَفِيهَا وَقَعَتِ النَّارُ بِبَغْدَادَ مِنْ دَرْبِ بَهْرُوزَ إِلَى بَابِ جَامِعِ الْقَصْرِ، وَمِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْ حَجَرِ النُّحَاسِ إِلَى دَارِ أُمِّ الْخَلِيفَةِ. وَفِيهَا أَغَارَ بَنُو حَزْنٍ مِنْ خَفَاجَةَ عَلَى سَوَادِ الْعِرَاقِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحِمَايَةَ كَانَتْ لَهُمْ لِسَوَادِ الْعِرَاقِ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ يَزْدَنُ مِنَ الْبِلَادِ وَتَسَلَّمَ الْحِلَّةَ أَخَذَهَا مِنْهُمْ، وَجَعَلَهَا لِبَنِي كَعْبٍ مِنْ خَفَاجَةَ، وَأَغَارَ بَنُو حَزْنٍ عَلَى السَّوَادِ، فَسَارَ يَزْدَنُ فِي عَسْكَرٍ وَمَعَهُ الْغَضْبَانُ الْخَفَاجِيُّ، وَهُوَ مِنْ بَنِي كَعْبٍ، لِقِتَالِ بَنِي حَزْنٍ، فَبَيْنَمَا هُمْ سَائِرُونَ لَيْلًا رَمَى بَعْضُ الْجُنْدِ الْغَضْبَانَ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ لِفَسَادِهِ، وَكَانَ فِي السَّوَادِ، فَلَمَّا قُتِلَ عَادَ الْعَسْكَرُ إِلَى بَغْدَادَ وَأُعِيدَتْ خِفَارَةُ السَّوَادِ إِلَى بَنِي حَزْنٍ. وَفِيهَا خَرَجَ بُرْجُمُ الْإِيوَائِيُّ فِي جَمْعٍ مِنَ التُّرْكُمَانِ، [فِي حَيَاةِ إِيلْدِكْزَ] ، وَتَطَرَّقَ أَعْمَالَ هَمَذَانَ، وَنَهَبَ الدِّينَوَرَ، وَاسْتَبَاحَ الْحَرِيمَ.

وَسَمِعَ إِيلْدِكْزُ الْخَبَرَ وَهُوَ بِنَقْجُوَانَ، فَسَارَ مُجِدًّا فِيمَنْ خَفَّ مَعَهُ مِنْ عَسْكَرِهِ، فَقَصَدَهُ، فَهَرَبَ بُرْجُمٌ إِلَى أَنْ قَارَبَ بَغْدَادَ، وَتَبِعَهُ إِيلْدِكْزُ فَظَنَّ الْخَلِيفَةُ أَنَّهَا حِيلَةٌ لِيَصِلَ إِلَى بَغْدَادَ فَجْأَةً، فَشَرَعَ فِي جَمْعِ الْعَسَاكِرِ وَعَمِلَ السُّورَ، فَأَرْسَلَ إِلَى إِيلْدِكْزَ الْخِلَعَ وَالْأَلْقَابَ الْكَبِيرَةَ، فَاعْتَذَرَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا كَفَّ فَسَادِ هَؤُلَاءِ، وَلَمْ يَتَعَدَّ قَنْطَرَةَ خَانِقِينَ وَعَادَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ يَزْدَنُ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ بَغْدَادَ، وَكَانَ يَتَشَيَّعُ، فَوَقَعَ بِسَبَبِهِ فِتْنَةٌ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ بِوَاسِطَ لِأَنَّ الشِّيعَةَ جَلَسُوا لَهُ لِلْعَزَاءِ وَأَظْهَرَ السُّنَّةُ الشَّمَاتَةَ بِهِ فَآلَ الْأَمْرُ إِلَى الْقِتَالِ فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ جَمَاعَةٌ. وَلَمَّا مَاتَ أُقْطِعَ أَخُوهُ تُنَامُشُ مَا كَانَ لِأَخِيهِ وَهُوَ مَدِينَةُ وَاسِطَ، وَلُقِّبَ عَلَاءَ الدِّينِ. وَفِيهَا أَرْسَلَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي رَسُولًا إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ الرَّسُولُ الْقَاضِيَ كَمَالَ الدِّينِ أَبَا الْفَضْلِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الشَّهْرَزُورِيَّ، قَاضِيَ بِلَادِهِ جَمِيعِهَا مَعَ الْوُقُوفِ وَالدِّيوَانِ، وَحَمَّلَهُ رِسَالَةً مَضْمُونُهَا الْخِدْمَةُ لِلدِّيوَانِ، وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ، وَفَتْحِ بِلَادِهِمْ، وَيَطْلُبُ تَقْلِيدًا بِمَا بِيَدِهِ مِنَ الْبِلَادِ، مِصْرَ وَالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ، وَبِمَا فِي طَاعَتِهِ كَدِيَارِ بَكْرٍ وَمَا يُجَاوِرُ ذَلِكَ كَخِلَاطَ وَبِلَادِ قَلَجِ أَرْسِلَانَ، وَأَنْ يُعْطَى مِنَ الْإِقْطَاعِ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ مَا كَانَ لِأَبِيهِ زَنْكِي وَهُوَ: صَرِيفِينُ وَدَرْبُ هَارُونَ، وَالْتَمَسَ أَرْضًا عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ يَبْنِيهَا مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ، وَيُوقِفُ عَلَيْهَا صَرِيفِينَ وَدَرْبَ هَارُونَ، فَأُكْرِمَ كَمَالُ الدِّينِ إِكْرَامًا لَمْ يُكْرَمْ بِهِ رَسُولٌ قَبْلَهُ، وَأُجِيبَ إِلَى مَا الْتَمَسَهُ، فَمَاتَ نُورُ الدِّينِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي بِنَاءِ الْمَدْرَسَةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 569 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ شَمْسِ الدَّوْلَةِ زَبِيدَ وَعَدَنَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ يُوسُفَ بْنَ أَيُّوبَ، صَاحِبَ مِصْرَ، وَأَهْلَهُ كَانُوا يَخَافُونَ مِنْ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودَ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى مِصْرَ فَيَأْخُذَهَا مِنْهُمْ، فَشَرَعُوا فِي تَحْصِيلِ مَمْلَكَةٍ يَقْصِدُونَهَا وَيَتَمَلَّكُونَهَا تَكُونُ عِدَّةً لَهُمْ إِنْ أَخْرَجَهُمْ نُورُ الدِّينِ مِنْ مِصْرَ سَارُوا إِلَيْهَا وَأَقَامُوا بِهَا، فَسَيَّرُوا شَمْسَ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ بْنَ أَيُّوبَ، وَهُوَ أَخُو صَلَاحِ الدِّينِ الْأَكْبَرِ، إِلَى بَلَدِ النُّوبَةِ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَلَمَّا عَادَ إِلَى مِصْرَ اسْتَأْذَنُوا نُورَ الدِّينِ فِي أَنْ يَسِيرَ إِلَى الْيَمَنِ لِقَصْدِ عَبْدِ النَّبِيِّ، صَاحِبِ زَبِيدَ [وَأَخْذِ بَلَدِهِ] لِأَجْلِ قَطْعِ الْخُطْبَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، فَأَذِنَ فِي ذَلِكَ. وَكَانَ بِمِصْرَ شَاعِرٌ اسْمُهُ عُمَارَةُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَكَانَ يُحَسِّنُ لِشَمْسِ الدَّوْلَةِ قَصْدَ الْيَمَنِ، وَيَصِفُ الْبِلَادَ لَهُ، وَيُعَظِّمُ ذَلِكَ فِي عَيْنِهِ، فَزَادَهُ قَوْلُهُ رَغْبَةً فِيهَا، فَشَرَعَ يَتَجَهَّزُ وَيُعِدُّ الْأَزْوَادَ وَالرَّوَايَا وَالسِّلَاحَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْآلَاتِ، وَجَنَّدَ الْأَجْنَادَ، فَجَمَعَ وَحَشَدَ، وَسَارَ عَنْ مِصْرَ مُسْتَهَلَّ رَجَبٍ، فَوَصَلَ إِلَى مَكَّةَ، أَعَزَّهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَمِنْهَا إِلَى زَبِيدَ، وَفِيهَا صَاحِبُهَا الْمُتَغَلِّبُ عَلَيْهَا الْمَعْرُوفُ بِعَبْدِ النَّبِيِّ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهَا رَآهُ أَهْلُهَا، فَاسْتَقَلُّوا مَنْ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ النَّبِيِّ: كَأَنَّكُمْ بِهَؤُلَاءِ وَقَدْ حَمِيَ عَلَيْهِمُ الْحَرُّ فَهَلَكُوا وَمَا هُمْ إِلَّا أَكْلَةُ رَأْسٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ بِعَسْكَرِهِ، فَقَاتَلَهُمْ شَمْسُ الدَّوْلَةِ وَمَنْ مَعَهُ، فَلَمْ يَثْبُتْ أَهْلُ زَبِيدَ وَانْهَزَمُوا، وَوَصَلَ الْمِصْرِيُّونَ إِلَى سُورِ زَبِيدَ، فَلَمْ يَجِدُوا عَلَيْهِ مَنْ يَمْنَعُهُمْ، فَنَصَبُوا السَّلَالِمَ، وَصَعَدُوا السُّورَ، فَمَلَكُوا الْبَلَدَ عَنْوَةً وَنَهَبُوهُ وَأَكْثَرُوا النَّهْبَ،

وَأَخَذُوا عَبْدَ النَّبِيِّ أَسِيرًا وَزَوْجَتَهُ الْمَدْعُوَّةَ بِالْحُرَّةِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً كَثِيرَةَ الصَّدَقَةِ لَا سِيَّمَا إِذَا حَجَّتْ، فَإِنَّ فُقَرَاءَ الْحَاجِّ كَانُوا يَجِدُونَ عِنْدَهَا صَدَقَةً دَارَّةً، وَخَيْرًا كَثِيرًا، وَمَعْرُوفًا عَظِيمًا، [وَسَلَّمَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ عَبْدَ النَّبِيِّ] إِلَى بَعْضِ أُمَرَائِهِ، يُقَالُ لَهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ مُبَارَكُ بْنُ كَامِلٍ مِنْ بَنِي مُنْقِذٍ، أَصْحَابِ شَيْزَرَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْهُ الْأَمْوَالَ، فَأَعْطَاهُ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا، ثُمَّ إِنَّهُ دَلَّهُمْ عَلَى قَبْرٍ كَانَ قَدْ صَنَعَهُ لِوَالِدِهِ، وَبَنَى عَلَيْهِ بِنْيَةً عَظِيمَةً، وَلَهُ هُنَاكَ دَفَائِنُ كَثِيرَةٌ، فَأَعْلَمَهُمْ بِهَا، فَاسْتُخْرِجَتِ الْأَمْوَالُ مِنْ هُنَاكَ وَكَانَتْ جَلِيلَةَ الْمِقْدَارِ، وَأَمَّا الْحُرَّةُ فَإِنَّهَا أَيْضًا كَانَتْ تَدُلُّهُمْ عَلَى وَدَائِعَ لَهَا، فَأَخَذَ مِنْهَا مَالًا كَثِيرًا. وَلَمَّا مَلَكُوا زَبِيدَ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لَهُمْ بِهَا، وَدَانَ أَهْلُهَا، وَأُقِيمَتْ فِيهَا الْخُطْبَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ، أَصْلَحُوا حَالَهَا، وَسَارُوا إِلَى عَدَنَ، وَهِيَ عَلَى الْبَحْرِ، وَلَهَا مَرْسًى عَظِيمٌ، وَهِيَ فُرْضَةُ الْهِنْدِ وَالزِّنْجِ وَالْحَبَشَةِ، وَعُمَانَ وَكِرْمَانَ، وَكِيشَ، وَفَارِسَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهِيَ مِنْ جِهَةِ الْبَرِّ مِنْ أَمْنَعِ الْبِلَادِ وَأَحْصَنِهَا، وَصَاحِبُهَا إِنْسَانٌ اسْمُهُ يَاسِرٌ، فَلَوْ أَقَامَ بِهَا وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا لَعَادُوا خَائِبِينَ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ جَهْلُهُ وَانْقِضَاءُ مُدَّتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ وَمُبَاشَرَةِ قِتَالِهِمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ فَانْهَزَمَ يَاسِرٌ وَمَنْ مَعَهُ، وَسَبَقَهُمْ بَعْضُ عَسْكَرِ شَمْسِ الدَّوْلَةِ، فَدَخَلُوا الْبَلَدَ قَبْلَ أَهْلِهِ، فَمَلَكُوهُ، وَأَخَذُوا صَاحِبَهُ يَاسِرًا أَسِيرًا، وَأَرَادُوا نَهْبَ الْبَلَدِ، فَمَنَعَهُمْ شَمْسُ الدَّوْلَةِ، وَقَالَ: مَا جِئْنَا لِنُخَرِّبَ الْبِلَادَ، وَإِنَّمَا جِئْنَا لِنَمْلِكَهَا وَنُعَمِّرَهَا وَنَنْتَفِعَ بِدَخْلِهَا، فَلَمْ يَنْهَبْ أَحَدٌ مِنْهَا شَيْئًا، فَبَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا وَثَبَتَ مُلْكُهُ وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ. وَلَمَّا مَضَى إِلَى عَدَنَ كَانَ مَعَهُ عَبْدُ النَّبِيِّ صَاحِبُ زَبِيدَ مَأْسُورًا، فَلَمَّا دَخَلَ إِلَى عَدَنَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! كُنْتُ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّنِي أَدْخُلُ إِلَى (عَدَنَ فِي مَوْكِبٍ كَبِيرٍ) فَأَنَا أَنْتَظِرُ ذَلِكَ وَأُسَرُّ بِهِ، وَلَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ أَنَّنِي أَدْخُلُهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. وَلَمَّا فَرَغَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ مِنْ أَمْرِ عَدَنَ عَادَ إِلَى زَبِيدَ، وَحَصَرَ مَا فِي الْجَبَلِ مِنَ الْحُصُونِ، فَمَلَكَ قَلْعَةَ تَعِزَّ، وَهِيَ مِنْ أَحْصَنِ الْقِلَاعِ، وَبِهَا تَكُونُ خَزَائِنُ صَاحِبِ زَبِيدَ، وَمَلَكَ أَيْضًا قَلْعَةَ التَّعْكَرِ وَالْجَنَدِ وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ، وَاسْتَنَابَ بِعَدَنَ عِزَّ

الدِّينِ عُثْمَانَ بْنِ الزَّنْجِيلِيِّ، وَبِزَبِيدَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ مُبَارَكَ بْنَ مُنْقِذٍ، وَجَعَلَ فِي كُلِّ قَلْعَةٍ نَائِبًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَلْقَى مُلْكَهُمْ بِالْيَمَنِ جِرَانَهُ وَدَامَ، وَأَحْسَنَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ إِلَى أَهْلِ الْبِلَادِ، وَاسْتَصْفَى طَاعَتَهُمْ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَعَادَتْ زَبِيدُ إِلَى أَحْسَنِ أَحْوَالِهَا مِنَ الْعِمَارَةِ وَالْأَمْنِ. ذِكْرُ قَتْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ أَرَادُوا الْوُثُوبَ بِصَلَاحِ الدِّينِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَانِي رَمَضَانَ، صَلَبَ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ جَمَاعَةً مِمَّنْ أَرَادُوا الْوُثُوبَ بِهِ بِمِصْرَ مِنْ أَصْحَابِ الْخُلَفَاءِ الْعَلَوِيِّينَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ شِيعَةِ الْعَلَوِيِّينَ مِنْهُمْ عُمَارَةُ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْيَمَنِيُّ الشَّاعِرُ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ الْكَاتِبُ، وَالْقَاضِي الْعُوَيْرِسُ، وَدَاعِي الدُّعَاةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ جُنْدِ الْمِصْرِيِّينَ وَرِجَالَتِهِمُ السُّودَانِ، وَحَاشِيَةِ الْقَصْرِ، وَوَافَقَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ صَلَاحِ الدِّينِ وَجُنْدِهِ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى اسْتِدْعَاءِ الْفِرِنْجِ مِنْ صِقِلِّيَّةَ، وَمِنْ سَاحِلِ الشَّامِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ عَلَى شَيْءٍ بَذَلُوهُ لَهُمْ مِنَ الْمَالِ وَالْبِلَادِ، فَإِذَا قَصَدُوا الْبِلَادَ، فَإِنْ خَرَجَ صَلَاحُ الدِّينِ بِنَفْسِهِ إِلَيْهِمْ ثَارُوا هُمْ فِي الْقَاهِرَةِ وَمِصْرَ وَأَعَادُوا الدَّوْلَةَ الْعَلَوِيَّةَ، وَعَادَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ الَّذِينَ وَافَقُوهُمْ عَنْهُ، فَلَا يَبْقَى لَهُ مَقَامٌ مُقَابِلَ الْفِرِنْجِ، وَإِنْ كَانَ صَلَاحُ الدِّينِ يُقِيمُ وَيُرْسِلُ الْعَسَاكِرَ إِلَيْهِمْ ثَارُوا بِهِ، وَأَخَذُوهُ أَخْذًا بِالْيَدِ لِعَدَمِ النَّاصِرِ لَهُ وَالْمُسَاعِدِ، وَقَالَ لَهُمْ عُمَارَةُ: وَأَنَا قَدْ أَبْعَدْتُ أَخَاهُ إِلَى الْيَمَنِ خَوْفًا أَنْ يَسُدَّ مَسَدَّهُ وَتَجْتَمِعَ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ بَعْدَهُ. وَأَرْسَلُوا إِلَى الْفِرِنْجِ بِصِقِلِّيَّةَ وَالسَّاحِلِ فِي ذَلِكَ، وَتَقَرَّرَتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ

إِلَّا رَحِيلُ الْفِرِنْجِ، وَكَانَ مَنْ لُطْفِ اللَّهِ بِالْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ الْمِصْرِيِّينَ أَدْخَلُوا مَعَهُمْ فِي هَذَا الْأَمِيرَ زَيْنَ الدِّينِ عَلِيَّ بْنَ نَجَا الْوَاعِظَ، الْمَعْرُوفَ بِابْنِ نُجَيَّةَ، وَرَتَّبُوا الْخَلِيفَةَ وَالْوَزِيرَ وَالْحَاجِبَ وَالدَّاعِيَ وَالْقَاضِيَ، إِلَّا أَنَّ بَنِي رُزَّيْكٍ قَالُوا: يَكُونُ الْوَزِيرُ مِنَّا، وَبَنِي شَاوِرٍ قَالُوا: يَكُونُ الْوَزِيرُ مِنَّا، فَلَمَّا عَلِمَ ابْنُ نَجَا الْحَالَ حَضَرَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ، وَأَعْلَمَهُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، فَأَمَرَ بِمُلَازَمَتِهِمْ، وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَمُوَاطَأَتِهِمْ عَلَى مَا يُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلُوهُ، وَتَعْرِيفِهِ مَا يَتَجَدَّدُ أَوَّلًا بِأَوَّلٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَصَارَ يُطَالِعُهُ بِكُلِّ مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ. ثُمَّ وَصَلَ رَسُولٌ مِنْ مَلِكِ الْفِرِنْجِ بِالسَّاحِلِ الشَّامِيِّ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ بِهَدِيَّةٍ وَرِسَالَةٍ، وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ إِلَيْهِ، وَالْبَاطِنِ إِلَى أُولَئِكَ الْجَمَاعَةِ، وَكَانَ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ بَعْضَ النَّصَارَى وَتَأْتِيهِ رُسُلُهُمْ، فَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ مِنْ بِلَادِ الْفِرِنْجِ بِجَلِيَّةِ الْحَالِ، فَوَضَعَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى الرَّسُولِ بَعْضَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنَ النَّصَارَى، وَدَاخَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ الرَّسُولُ بِالْخَبَرِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَقَبَضَ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُقَدَّمِينَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ مِنْهُمْ: عُمَارَةُ وَعَبْدُ الصَّمَدِ وَالْعُوَيْرِسُ وَغَيْرُهُمْ وَصَلَبَهُمْ. وَقِيلَ فِي كَشْفِ أَمْرِهِمْ إِنَّ عَبْدَ الصَّمَدِ الْمَذْكُورَ كَانَ إِذَا لَقِيَ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ الْكَاتِبَ الصَّلَاحِيَّ يَخْدِمُهُ وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِجَهْدِهِ وَطَاقَتِهِ، فَلَقِيَهُ يَوْمًا، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَقَالَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ: مَا هَذَا إِلَّا لِسَبَبٍ. وَخَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَارَ لَهُ بَاطِنٌ مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، فَأَحْضَرَ عَلِيَّ بْنَ نَجَا الْوَاعِظَ وَأَخْبَرَهُ الْحَالَ، وَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ تَكْشِفَ لِي الْأَمْرَ، فَسَعَى فِي كَشْفِهِ فَلَمْ يَرَ لَهُ مِنْ جَانِبِ صَلَاحِ الدِّينِ شَيْئًا، فَعَدَلَ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَكَشَفَ الْحَالَ، وَحَضَرَ عِنْدَ الْقَاضِي الْفَاضِلِ وَأَعْلَمَهُ، فَقَالَ: تَحْضُرُ السَّاعَةَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ وَتُنْهِي الْحَالَ إِلَيْهِ، فَحَضَرَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ وَهُوَ فِي الْجَامِعِ، فَذَكَرَ لَهُ الْحَالَ، فَقَامَ وَأَخَذَ الْجَمَاعَةَ وَقَرَّرَهُمْ، فَأَقَرُّوا، فَأَمَرَ بِصَلْبِهِمْ. وَكَانَ عُمَارَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَاضِلِ عَدَاوَةٌ مِنْ أَيَّامِ الْعَاضِدِ وَقَبْلَهَا، فَلَمَّا أَرَادَ صَلْبَهُ قَامَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ وَخَاطَبَ صَلَاحَ الدِّينِ فِي إِطْلَاقِهِ، وَظَنَّ عُمَارَةُ أَنَّهُ يُحَرِّضُ عَلَى هَلَاكِهِ، فَقَالَ لِصَلَاحِ الدِّينِ: يَا مَوْلَانَا لَا تَسْمَعُ مِنْهُ فِي حَقِّي، فَغَضِبَ الْفَاضِلُ وَخَرَجَ، وَقَالَ صَلَاحُ الدِّينِ لِعُمَارَةَ: إِنَّهُ كَانَ يَشْفَعُ فِيكَ، فَنَدِمَ، ثُمَّ أُخْرِجَ عُمَارَةُ لِيُصْلَبَ، فَطَلَبَ أَنْ

يُمَرَّ بِهِ عَلَى مَجْلِسِ الْفَاضِلِ، فَاجْتَازُوا بِهِ عَلَيْهِ، فَأَغْلَقَ بَابَهُ وَلَمْ يَجْتَمِعْ بِهِ، فَقَالَ عُمَارَةُ: عَبْدُ الرَّحِيمِ قَدِ احْتَجَبْ ... إِنَّ الْخَلَاصَ هُوَ الْعَجَبْ ثُمَّ صُلِبَ هُوَ وَالْجَمَاعَةُ، وَنُودِيَ فِي أَجْنَادِ الْمِصْرِيِّينَ بِالرَّحِيلِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ وَمُفَارَقَتِهَا إِلَى أَقَاصِي الصَّعِيدِ، وَاحْتِيطَ عَلَى مَنْ بِالْقَصْرِ مِنْ سُلَالَةِ الْعَاضِدِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ نَافَقُوا عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ مِنْ جُنْدِهِ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ، وَلَا أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ عَلِمَ بِحَالِهِمْ. وَأَمَّا الْفِرِنْجُ، فَإِنَّ فِرِنْجَ صِقِلِّيَّةَ قَصَدُوا الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِمْ ظُهُورُ الْخَبَرِ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ. وَأَمَّا فِرِنْجُ السَّاحِلِ الشَّامِيِّ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَحَرَّكُوا لِعِلْمِهِمْ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. وَكَانَ عُمَارَةُ شَاعِرًا مُفْلِقًا، فَمِنْ شِعْرِهِ: لَوْ أَنَّ قَلْبِي يَوْمَ كَاظِمَةٍ مَعِي ... لَمَلَكْتُهُ وَكَظَمْتُ فَيْضَ الْأَدْمُعِ قَلْبٌ كَفَاكَ مِنَ الصَّبَابَةِ أَنَّهُ ... لَبَّى نِدَاءَ الظَّاعِنِينَ وَمَا دُعِيَ مَا الْقَلْبُ أَوَّلَ غَادِرٍ فَأَلُومَهُ ... هِيَ شِيمَةُ الْأَيَّامِ مُذْ خُلِقَتْ مَعِي وَمِنَ الظُّنُونِ الْفَاسِدَاتِ تَوَهُّمِي ... بَعْدَ الْيَقِينِ بَقَاءَهُ فِي أَضْلُعِي وَلَهُ أَيْضًا: لِي فِي هَوَى الرَّشَإِ الْعُذْرِيِّ إِعْذَارُ ... لَمْ يَبْقَ لِي مُذْ أَقَرَّ الدَّمْعُ إِنْكَارُ

لِي فِي الْقُدُودِ وَفِي لَثْمِ الْخُدُودِ ... وَفِي ضَمِّ النُّهُودِ لُبَانَاتٌ وَأَوْطَارُ هَذَا اخْتِيَارِي فَوَافِقْ إِنْ رَضِيتَ بِهِ ... أَوْ لَا فَدَعْنِي وَمَا أَهْوَى وَأَخْتَارُ وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ مَشْهُورٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالرِّقَّةِ وَالْمَلَاحَةِ. ذِكْرُ وَفَاةِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي بْنِ آقْسُنْقُرَ، صَاحِبُ الشَّامِ وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ وَمِصْرَ، يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ حَادِيَ عَشَرَ شَوَّالٍ، بِعِلَّةِ الْخَوَانِيقِ، وَدُفِنَ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ، وَنُقِلَ مِنْهَا إِلَى الْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بِدِمَشْقَ، عِنْدَ سُوقِ الْخَوَّاصِينَ. وَمِنْ عَجِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّهُ رَكِبَ ثَانِيَ شَوَّالٍ وَإِلَى جَانِبِهِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ الْأَخْيَارِ، فَقَالَ لَهُ الْأَمِيرُ: سُبْحَانَ مَنْ يَعْلَمُ هَلْ نَجْتَمِعُ هُنَا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ نُورُ الدِّينِ: لَا تَقُلْ هَكَذَا، بَلْ سُبْحَانَ مَنْ يَعْلَمُ هَلْ نَجْتَمِعُ بَعْدَ شَهْرٍ أَمْ لَا؟ فَمَاتَ نُورُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَمَاتَ الْأَمِيرُ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَأُخِذَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا قَالَهُ. وَكَانَ قَدْ شَرَعَ يَتَجَهَّزُ لِلدُّخُولِ إِلَى مِصْرَ لِأَخْذِهَا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ، فَإِنَّهُ رَأَى فُتُورًا فِي غَزْوِ الْفِرِنْجِ مِنْ نَاحِيَتِهِ، وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَمْنَعُ صَلَاحَ الدِّينِ مِنَ الْغَزْوِ الْخَوْفُ مِنْهُ وَمِنَ الِاجْتِمَاعِ بِهِ، فَإِنَّهُ يُؤْثِرُ كَوْنَ الْفِرِنْجِ فِي الطَّرِيقِ لِيَمْتَنِعَ بِهِمْ عَلَى نُورِ الدِّينِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ وَدِيَارِ بَكْرٍ يَطْلُبُ الْعَسَاكِرَ لِلْغَزَاةِ، وَكَانَ عَزْمُهُ أَنْ يَتْرُكَهَا مَعَ ابْنِ أَخِيهِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِي، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ بِالشَّامِ، وَيَسِيرُ هُوَ بِعَسَاكِرِهِ إِلَى مِصْرَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَتَجَهَّزُ لِذَلِكَ أَتَاهُ أَمْرُ اللَّهِ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ. حَكَى لِي طَبِيبٌ يُعْرَفُ بِالطَّبِيبِ الرَّحَبِيِّ وَهُوَ كَانَ يَخْدُمُ نُورَ الدِّينِ، وَهُوَ مَنْ حُذَّاقِ الْأَطِبَّاءِ، قَالَ: اسْتَدْعَانِي نُورُ الدِّينِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ مَعَ غَيْرِي مِنَ

الْأَطِبَّاءِ، فَدَخَلْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ فِي بَيْتٍ صَغِيرٍ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ، وَقَدْ تَمَكَّنَتِ الْخَوَانِيقُ مِنْهُ، وَقَارَبَ الْهَلَاكَ، فَلَا يَكَادُ يُسْمَعُ صَوْتُهُ، وَكَانَ يَخْلُو فِيهِ لِلتَّعَبُّدِ، فَابْتَدَأَ بِهِ الْمَرَضُ، فَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ، فَلَمَّا دَخَلْنَا وَرَأَيْنَا مَا بِهِ قُلْتُ لَهُ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُؤَخِّرَ إِحْضَارَنَا إِلَى أَنَّ يَشْتَدَّ بِكَ الْمَرَضُ الْآنَ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُعَجِّلَ الْانْتِقَالَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى مَكَانٍ فَسِيحٍ مُضِيءٍ، فَلَهُ أَثَرٌ فِي هَذَا الْمَرَضِ. وَشَرَعْنَا فِي عِلَاجِهِ، وَأَشَرْنَا بِالْفَصْدِ، فَقَالَ ابْنُ سِتِّينَ: لَا يُفْتَصَدُ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ، فَعَالَجْنَاهُ بِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَنْجَعْ فِيهِ الدَّوَاءُ، وَعَظُمَ الدَّاءُ، وَمَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ -. وَكَانَ أَسْمَرَ، طَوِيلَ الْقَامَةِ، وَلَيْسَ لَهُ لِحْيَةٌ إِلَّا فِي حَنَكِهِ، وَكَانَ وَاسِعَ الْجَبْهَةِ، حَسَنَ الصُّورَةِ، حُلْوَ الْعَيْنَيْنِ، وَكَانَ قَدِ اتَّسَعَ مُلْكُهُ جِدًّا، وَخُطِبَ لَهُ بِالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَبِالْيَمَنِ لَمَّا دَخَلَهَا شَمْسُ الدَّوْلَةِ بْنُ أَيُّوبَ وَمَلَكَهَا، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمَائَةٍ، وَطَبَّقَ ذِكْرُهُ الْأَرْضَ بِحُسْنِ سِيرَتِهِ وَعَدْلِهِ. وَقَدْ طَالَعْتُ سِيَرَ الْمُلُوكِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَلَمْ أَرَ فِيهَا بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَحْسَنَ مِنْ سِيرَتِهِ، وَلَا أَكْثَرَ تَحَرِّيًا مِنْهُ لِلْعَدْلِ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ " الْبَاهِرِ " مِنْ أَخْبَارِ دَوْلَتِهِمْ، وَلْنَذْكُرْ هَهُنَا نُبْذَةً مُخْتَصَرَةً لَعَلَّ يَقِفُ عَلَيْهَا مَنْ لَهُ حُكْمٌ فَيَقْتَدِي بِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ زُهْدُهُ وَعِبَادَتُهُ وَعِلْمُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَلْبَسُ [وَلَا يَتَصَرَّفُ] فِي الَّذِي يَخُصُّهُ [إِلَّا] مِنْ مِلْكٍ كَانَ لَهُ قَدِ اشْتَرَاهُ مِنْ سَهْمِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَمِنَ الْأَمْوَالِ الْمُرْصَدَةِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَقَدْ شَكَتْ إِلَيْهِ زَوْجَتُهُ مِنَ الضَّائِقَةِ، فَأَعْطَاهَا ثَلَاثَ دَكَاكِينَ فِي حِمْصَ كَانَتْ لَهُ، مِنْهَا يَحْصُلُ لَهُ فِي السَّنَةِ نَحْوُ عِشْرِينَ دِينَارًا، فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْهَا قَالَ: لَيْسَ لِي إِلَّا هَذَا، وَجَمِيعُ مَا بِيَدِي أَنَا فِيهِ خَازِنٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَا أَخُونُهُمْ فِيهِ، وَلَا أَخُوضُ نَارَ جَهَنَّمَ لِأَجْلِكِ. وَكَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا بِاللَّيْلِ، وَلَهُ فِيهِ أَوْرَادٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ كَمَا قِيلَ: جَمَعَ الشَّجَاعَةَ وَالْخُشُوعَ لِرَبِّهِ ... مَا أَحْسَنَ الْمِحْرَابَ فِي الْمِحْرَابِ وَكَانَ عَارِفًا بِالْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، لَيْسَ عِنْدَهُ فِيهِ تَعَصُّبٌ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَأَسْمَعَهُ طَلَبًا لِلْأَجْرِ. وَأَمَّا عَدْلُهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ فِي بِلَادِهِ، عَلَى سِعَتِهَا، مَكْسًا وَلَا عُشْرًا بَلْ أَطْلَقَهَا

جَمِيعَهَا فِي مِصْرَ وَالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ، وَكَانَ يُعَظِّمُ الشَّرِيعَةَ، وَيَقِفُ عِنْدَ أَحْكَامِهَا، وَأَحْضَرَهُ إِنْسَانٌ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَمَضَى مَعَهُ إِلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْقَاضِي كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الشَّهْرَزُورِيِّ يَقُولُ: قَدْ جِئْتُ مُحَاكَمًا، فَاسْلُكْ مَعِيَ مَا تَسْلُكُ مَعَ الْخُصُومِ، وَظَهَرَ الْحَقُّ لَهُ، فَوَهَبَهُ الْخَصْمَ الَّذِي أَحْضَرَهُ، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَتْرُكَ لَهُ مَا يَدَّعِيهِ، إِنَّمَا خِفْتُ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ لِي عَلَى ذَلِكَ الْكِبْرُ وَالْأَنَفَةُ مِنَ الْحُضُورِ إِلَى مَجْلِسِ الشَّرِيعَةِ، فَحَضَرْتُ، ثُمَّ وَهَبْتُهُ مَا يَدَّعِيهِ. وَبَنَى دَارَ الْعَدْلِ فِي بِلَادِهِ، وَكَانَ يَجْلِسُ هُوَ وَالْقَاضِي فِيهَا يُنْصِفُ الْمَظْلُومَ، وَلَوْ أَنَّهُ يَهُودِيٌّ، مِنَ الظَّالِمِ وَلَوْ أَنَّهُ وَلَدُهُ أَوْ أَكْبَرُ أَمِيرٍ عِنْدَهُ. وَأَمَّا شَجَاعَتُهُ، فَإِلَيْهَا النِّهَايَةُ، وَكَانَ فِي الْحَرْبِ يَأْخُذُ قَوْسَيْنِ وَتَرْكَشَيْنِ لِيُقَاتِلَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ الْقُطْبُ النِّشَاوِيُّ الْفَقِيهُ: بِاللَّهِ عَلَيْكَ لَا تُخَاطِرْ بِنَفْسِكَ وَبِالْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ أُصِبْتَ فِي مَعْرَكَةٍ لَا يَبْقَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ إِلَّا أَخَذَهُ السَّيْفُ. فَقَالَ لَهُ نُورُ الدِّينِ: وَمَنْ مَحْمُودٌ حَتَّى يُقَالُ لَهُ هَذَا؟ مِنْ قَبْلِي مَنْ حَفِظَ الْبِلَادَ وَالْإِسْلَامَ؟ ذَلِكَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ مِنَ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّهُ بَنَى أَسْوَارَ مُدُنِ الشَّامِ جَمِيعِهَا وَقِلَاعِهَا، فَمِنْهَا دِمَشْقُ وَحِمْصُ وَحَمَاةُ وَحَلَبُ وَشَيْزَرُ وَبَعْلَبَكُّ وَغَيْرُهَا، وَبَنَى الْمَدَارِسَ الْكَثِيرَةَ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَبَنَى الْجَامِعَ النُّورِيَّ بِالْمَوْصِلِ، وَبَنَى الْبِيمَارِسْتَانَاتِ وَالْخَانَاتِ فِي الطُّرُقِ، وَبَنَى الْخَانَكَاهَاتِ لِلصُّوفِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَوَقَفَ عَلَى الْجَمِيعِ الْوُقُوفَ الْكَثِيرَةَ. سَمِعْتُ أَنَّ حَاصِلَ وَقْفِهِ كُلَّ شَهْرٍ تِسْعَةُ آلَافِ دِينَارٍ صُورِيٍّ. وَكَانَ يُكْرِمُ الْعُلَمَاءَ وَأَهْلَ الدِّينِ وَيُعَظِّمُهُمْ وَيُعْطِيهِمْ وَيَقُومُ إِلَيْهِمْ وَيُجْلِسُهُمْ مَعَهُ، وَيَنْبَسِطُ مَعَهُمْ، وَلَا يَرُدُّ لَهُمْ قَوْلًا، وَيُكَاتِبُهُمْ بِخَطِّ يَدِهِ، وَكَانَ وَقُورًا مَهِيبًا مَعَ تَوَاضُعِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَحَسَنَاتُهُ كَثِيرَةٌ وَمَنَاقِبُهُ غَزِيرَةٌ لَا يَحْتَمِلُهَا هَذَا الْكِتَابُ. ذِكْرُ مُلْكِ وَلَدِهِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ لَمَّا تُوُفِّيَ نُورُ الدِّينِ قَامَ ابْنُهُ الْمَلِكُ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ. وَكَانَ عُمْرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَحَلَفَ لَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْمُقَدَّمُونَ بِدِمَشْقَ، وَأَقَامَ بِهَا، وَأَطَاعَهُ النَّاسُ

بِالشَّامِ وَصَلَاحُ الدِّينِ بِمِصْرَ، وَخَطَبَ لَهُ بِهَا، وَضَرَبَ السَّكَّةَ بِاسْمِهِ، وَتَوَلَّى تَرْبِيَتَهُ الْأَمِيرُ شَمْسُ [الدِّينِ] مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُقَدِّمِ، وَصَارَ مُدَبِّرَ دَوْلَتِهِ. فَقَالَ لَهُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّهْرَزُورِيِّ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ: قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ صَاحِبَ مِصْرَ هُوَ مِنْ مَمَالِيكِ نُورِ الدِّينِ وَنُوَّابِهِ أَصْحَابِ نُورِ الدِّينِ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ نُشَاوِرَهُ فِي الَّذِي نَفْعَلُهُ، وَلَا نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِنَا فَيَخْرُجُ عَنْ طَاعَتِنَا، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْنَا، وَهُوَ أَقْوَى مِنَّا، لِأَنَّهُ قَدِ انْفَرَدَ الْيَوْمَ بِمُلْكِ مِصْرَ، فَلَمْ يُوَافِقْ هَذَا الْقَوْلُ أَغْرَاضَهُمْ، وَخَافُوا أَنْ يَدْخُلَ صَلَاحُ الدِّينِ وَيُخْرِجَهُمْ، فَلَمْ يَمْضِ غَيْرُ قَلِيلٍ حَتَّى وَرَدَتْ كُتُبُ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى الْمَلِكِ الصَّالِحِ يُعَزِّيهِ وَيُهَنِّئُهُ بِالْمُلْكِ، وَأَرْسَلَ دَنَانِيرَ مِصْرِيَّةً عَلَيْهَا اسْمُهُ وَيُعَرِّفُهُ أَنَّ الْخُطْبَةَ وَالطَّاعَةَ لَهُ كَمَا كَانَتْ لِأَبِيهِ. فَلَمَّا سَارَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِي، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، وَمَلَكَ الْبِلَادَ الْجَزَرِيَّةَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، أَرْسَلَ صَلَاحُ الدِّينِ أَيْضًا إِلَى الْمَلِكِ الصَّالِحِ يَعْتِبُهُ حَيْثُ لَمْ يُعْلِمْهُ قَصْدَ سَيْفِ الدِّينِ بِلَادَهُ وَأَخْذَهَا، لِيَحْضُرَ فِي خِدْمَتِهِ وَيَكُفَّ سَيْفَ الدِّينِ، وَكَتَبَ إِلَى كَمَالِ الدِّينِ وَالْأُمَرَاءِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ نُورَ الدِّينِ يَعْلَمُ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ يَقُومُ مَقَامِي، أَوْ يَثِقُ بِهِ مِثْلَ ثِقَتِهِ بِي لَسَلَّمَ إِلَيْهِ مِصْرَ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مَمَالِكِهِ وَوِلَايَاتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَعْجَلْ عَلَيْهِ الْمَوْتُ لَمْ يَعْهَدْ إِلَى أَحَدٍ بِتَرْبِيَةِ وَلَدِهِ وَالْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ غَيْرِي، وَأَرَاكُمْ قَدْ تَفَرَّدْتُّمْ بِمَوْلَايَ وَابْنِ مَوْلَايَ دُونِي، وَسَوْفَ أَصِلُ إِلَى خِدْمَتِهِ، وَأُجَازِي إِنْعَامَ وَالِدِهِ بِخِدْمَةٍ يَظْهَرُ أَثَرُهَا، وَأُجَازِي كُلًّا مِنْكُمْ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِ فِي تَرْكِ الذَّبِّ عَنْ بِلَادِهِ. وَتَمَسَّكَ ابْنُ الْمُقَدَّمِ وَجَمَاعَةُ الْأُمَرَاءِ بِالْمَلِكِ الصَّالِحِ، وَلَمْ يُرْسِلُوهُ إِلَى حَلَبَ، خَوْفًا أَنْ يَغْلِبَهُمْ عَلَيْهِ شَمْسُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ الدَّايَةِ، فَإِنَّهُ أَكْبَرُ الْأُمَرَاءِ النُّورِيَّةِ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ مِنَ الْاتِّصَالِ بِهِ وَالْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ مَرَضٌ لَحِقَهُ، وَكَانَ هُوَ وَإِخْوَتُهُ بِحَلَبَ، وَأَمْرُهَا إِلَيْهِمْ، وَعَسَاكِرُهَا مَعَهُمْ فِي حَيَاةِ نُورِ الدِّينِ وَبَعْدَهُ، وَلَمَّا عَجَزَ عَنِ الْحَرَكَةِ أَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ الصَّالِحِ يَدْعُوهُ إِلَى حَلَبَ لِيَمْنَعَ بِهِ الْبِلَادَ الْجَزَرِيَّةَ مِنْ سَيْفِ الدِّينِ ابْنِ عَمِّهِ قُطْبِ الدِّينِ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُ الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ مَعَهُ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى حَلَبَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. ذِكْرُ مُلْكِ سَيْفِ الدِّينِ الْبِلَادَ الْجَزَرِيَّةَ كَانَ نُورُ الدِّينِ قَبْلَ أَنْ يَمْرَضَ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ، الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ

الْجَزِيرَةِ وَغَيْرِهَا، يَسْتَدْعِي الْعَسَاكِرَ مِنْهَا لِلْغَزَاةِ، وَالْمُرَادُ غَيْرُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَسَارَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِي بْنُ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِي، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، فِي عَسَاكِرِهِ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ الْخَادِمُ سَعْدُ الدِّينِ كَمَشْتَكِينُ الَّذِي كَانَ قَدْ جَعَلَهُ نُورُ الدِّينِ بِقَلْعَةِ الْمَوْصِلِ مَعَ سَيْفِ الدِّينِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِوَفَاةِ نُورِ الدِّينِ، فَأَمَّا سَعْدُ الدِّينِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْمُقَدِّمَةِ، فَهَرَبَ جَرِيدَةً. وَأَمَّا سَيْفُ الدِّينِ فَأَخَذَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ مِنْ بَرْكٍ وَغَيْرِهِ، وَعَادَ إِلَى نَصِيبِينَ فَمَلَكَهَا، وَأَرْسَلَ الشَّحْنَ إِلَى الْخَابُورِ فَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ، وَأَقْطَعَهُ، وَسَارَ هُوَ إِلَى حَرَّانَ فَحَصَرَهَا عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَبِهَا مَمْلُوكٌ لِنُورِ الدِّينِ يُقَالُ لَهُ قَايْمَازُ الْحَرَّانِيُّ، فَامْتَنَعَ بِهَا، وَأَطَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَكُونَ حَرَّانُ لَهُ، وَنَزَلَ إِلَى خِدْمَةِ سَيْفِ الدِّينِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ حَرَّانَ مِنْهُ، وَسَارَ إِلَى الرُّهَا فَحَصَرَهَا وَمَلَكَهَا، وَكَانَ بِهَا خَادِمٌ خَصِيٌّ أَسْوَدٌ لِنُورِ الدِّينِ فَسَلَّمَهَا وَطَلَبَ عِوَضَهَا قَلْعَةَ الزَّعْفَرَانِ مِنْ أَعْمَالِ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، فَأُعْطِيَهَا، ثُمَّ أُخِذَتْ مِنْهُ، ثُمَّ صَارَ إِلَى أَنْ يَسْتَعْطِيَ مَا يَقُوتُهُ. وَسَيَّرَ سَيْفُ الدِّينِ إِلَى الرَّقَّةِ فَمَلَكَهَا، وَكَذَلِكَ سَرُوجٌ، وَاسْتَكْمَلَ مُلْكَ جَمِيعِ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ سِوَى قَلْعَةِ جَعْبَرَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ مَنِيعَةً، وَسِوَى رَأْسِ عَيْنٍ، فَإِنَّهَا كَانَتْ لِقُطْبِ الدِّينِ، صَاحِبِ مَارْدِينَ، وَهُوَ ابْنُ خَالِ سَيْفِ الدِّينِ، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَيْهَا. وَكَانَ شَمْسُ الدِّينِ عَلِيُّ ابْنُ الدَّايَةِ، وَهُوَ أَكْبَرُ الْأُمَرَاءِ النُّورِيَّةِ، بِحَلَبَ مَعَ عَسَاكِرِهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعُبُورِ إِلَى سَيْفِ الدِّينِ لِيَمْنَعَهُ مِنْ أَخْذِ الْبِلَادِ، لِفَالِجٍ كَانَ بِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى دِمَشْقَ يَطْلُبُ الْمَلِكَ الصَّالِحَ، فَلَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَمَّا مَلَكَ سَيْفُ الدِّينِ الدِّيَارَ الْجَزَرِيَّةَ قَالَ لَهُ فَخْرُ الدِّينِ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَكَانَ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ مَنْ سِيوَاسَ بَعْدَ مَوْتِ نُورِ الدِّينِ، وَهُوَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْمَلِكُ بَعْدَ أَبِيهِ قُطْبِ الدِّينِ، فَظَنَّ أَنَّ سَيْفَ الدِّينِ يَرْعَى لَهُ ذَلِكَ، فَلَمْ يَجْنِ ثَمَرَةَ مَا غَرَسَ، وَكَانَ عِنْدَهُ كَبَعْضِ الْأُمَرَاءِ، قَالَ لَهُ: الرَّأْيُ أَنْ تَعْبُرَ إِلَى الشَّامِ فَلَيْسَ بِهِ مَانِعٌ، فَقَالَ لَهُ أَكْبَرُ أُمَرَائِهِ، وَهُوَ أَمِيرٌ يُقَالُ لَهُ عِزُّ الدِّينِ مَحْمُودٌ الْمَعْرُوفُ بِزُلْفِنْدَارَ: قَدْ مَلَكْتَ أَكْثَرَ مَا كَانَ لِأَبِيكَ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ تَعُودَ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ، وَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.

ذِكْرُ حَصْرِ الْفِرِنْجِ بَانِيَاسَ وَعَوْدِهِمْ عَنْهَا لَمَّا مَاتَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ، صَاحِبُ الشَّامِ، اجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ وَسَارُوا إِلَى قَلْعَةِ بَانِيَاسَ مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ فَحَصَرُوهَا، فَجَمَعَ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ بْنُ الْمُقَدَّمِ الْعَسْكَرَ عِنْدَهُ بِدِمَشْقَ، فَخَرَجَ عَنْهَا، فَرَاسَلَهُمْ، وَلَاطَفَهُمْ، ثُمَّ أَغْلَظَ لَهُمْ فِي الْقَوْلِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ أَنْتُمْ صَالَحْتُمُونَا وَعُدْتُمْ عَنْ بَانِيَاسَ، فَنَحْنُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَنُرْسِلُ إِلَى سَيْفِ الدِّينِ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَنُصَالِحُهُ، وَنَسْتَنْجِدُهُ، وَنُرْسِلُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ بِمِصْرَ فَنَسْتَنْجِدُهُ، وَنَقْصُدُ بِلَادَكُمْ مِنْ جِهَاتِهَا كُلِّهَا، وَلَا تَقُومُونَ لَنَا. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِنُورِ الدِّينِ، وَالْآنَ فَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْخَوْفُ، وَإِذَا طَلَبْنَاهُ إِلَى بِلَادِكُمْ فَلَا يَمْتَنِعُ. فَعَلِمُوا صِدْقَهُ، فَصَالَحُوهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ أَخَذُوهُ وَأَسْرَى أُطْلِقُوا لَهُمْ كَانُوا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَتَقَرَّرَتِ الْهُدْنَةُ. فَلَمَّا سَمِعَ صَلَاحُ الدِّينِ بِذَلِكَ أَنْكَرَهُ وَاسْتَعْظَمَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْمَلِكِ الصَّالِحِ وَالْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ يُقَبِّحُ لَهُمْ مَا فَعَلُوهُ وَيَبْذُلُ مِنْ نَفْسِهِ قَصْدَ بِلَادِ الْفِرِنْجِ وَمُقَارَعَتَهُمْ وَإِزْعَاجَهُمْ عَنْ قَصْدِ شَيْءٍ مِنْ بِلَادِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ، وَكَانَ قَصْدُهُ أَنْ يَصِيرَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ لِيَتَمَلَّكَ الْبِلَادَ، وَالْأُمَرَاءُ الشَّامِيُّونَ إِنَّمَا صَالَحُوا الْفِرِنْجَ خَوْفًا مِنْهُ وَمِنْ سَيْفِ الدِّينِ غَازِي، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَخَذَ الْبِلَادَ الْجَزَرِيَّةَ، وَخَافُوا مِنْهُ أَنْ يَعْبُرَ إِلَى الشَّامِ، فَرَأَوْا صُلْحَ الْفِرِنْجِ أَصْلَحَ مِنْ أَنْ يَجِيءَ هَذَا مِنَ الْغَرْبِ، وَهَذَا مِنَ الشَّرْقِ، وَهُمْ مَشْغُولُونَ عَنْ رَدِّهِمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، وَقَعَ الْحَرِيقُ بِبَغْدَادَ فَاحْتَرَقَ أَكْثَرُ الظَّفَرِيَّةِ وَمَوَاضِعَ غَيْرِهَا، وَدَامَ الْحَرِيقُ إِلَى بُكْرَةٍ وَطُفِئَتِ النَّارُ. وَفِيهَا فِي شَعْبَانَ، بَنَى ابْنُ سَنْكَا، وَهُوَ ابْنُ أَخِي شُمْلَةَ صَاحِبِ خُوزِسْتَانَ، قَلْعَةً

بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَاهِكِي لِيَتَقَوَّى بِهَا عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْعَسَاكِرَ مِنْ بَغْدَادَ لِمَنْعِهِ، فَالْتَقَوْا وَحَمَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْمَيْمَنَةِ فَهَزَمَهَا، وَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا عَظِيمًا، وَأُسِرَ ابْنُ أَخِي شُمْلَةَ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى بَغْدَادَ، فَعُلِّقَ بِبَابِ النُّوبِيِّ، وَهُدَمَتِ الْقَلْعَةُ. وَفِيهَا، فِي رَمَضَانَ، تَوَالَتِ الْأَمْطَارُ فِي دِيَارِ بَكْرٍ وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ، فَدَامَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ فِيهَا غَيْرَ مَرَّتَيْنِ، كُلُّ مَرَّةٍ مِقْدَارُ لَحْظَةٍ، وَخُرِّبَتِ الْمَسَاكِنُ وَغَيْرُهَا، وَكَثُرَ الْهَدْمُ، وَمَاتَ تَحْتَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَزَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً، وَكَانَ أَكْثَرُهَا بِبَغْدَادَ، فَإِنَّهَا زَادَتْ عَلَى كُلِّ زِيَادَةٍ تَقَدَّمَتْ مُنْذُ بُنِيَتْ بَغْدَادُ بِذِرَاعٍ وَكَسْرٍ، وَخَافَ النَّاسُ الْغَرَقَ، وَفَارَقُوا الْبَلَدَ، وَأَقَامُوا عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ خَوْفًا مِنَ انْفِتَاحِ الْقَوْرَجِ وَغَيْرِهِ، وَكَانُوا كُلَّمَا انْفَتَحَ مَوْضِعٌ بَادَرُوا بِسَدِّهِ، وَنَبَعَ الْمَاءُ فِي الْبَلَالِيعِ، وَخَرَّبَ كَثِيرًا مِنَ الدُّورِ، وَدَخَلَ الْمَاءُ إِلَى الْبِيمَارِسْتَانَ الْعَضُدِيِّ، وَدَخَلَتِ السُّفُنُ مِنَ الشَّبَابِيكِ الَّتِي لَهُ، فَإِنَّهَا كَانَتْ قَدْ تَعَلَّقَتْ، فَمَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ بِنَقْصِ الْمَاءِ بَعْدَ أَنْ أَشْرَفُوا عَلَى الْغَرَقِ. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، كَانَتِ الْفِتْنَةُ بِبَغْدَادَ بَيْنَ قُطْبِ الدِّينِ قَايْمَازَ وَالْخَلِيفَةِ، وَسَبَبُهَا أَنَّ الْخَلِيفَةَ أَمَرَ بِإِعَادَةِ عَضُدِ الدِّينِ ابْنِ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ إِلَى الْوِزَارَةِ، فَمَنَعَ مِنْهُ قُطْبُ الدِّينِ، وَأَغْلَقَ بَابَ النُّوبِيِّ وَبَابَ الْعَامَّةِ، وَبَقِيَتْ دَارُ الْخَلِيفَةِ كَالْمُحَاصَرَةِ، فَأَجَابَ الْخَلِيفَةُ إِلَى تَرْكِ وَزَارَتِهِ، فَقَالَ قُطْبُ الدِّينِ: لَا أَقْنَعُ إِلَّا بِإِخْرَاجِ عَضُدِ الدِّينِ مِنْ بَغْدَادَ، فَأُمِرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا، فَالْتَجَأَ إِلَى صَدْرِ الدِّينِ شَيْخِ الشُّيُوخِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، فَأَخَذَهُ إِلَى رِبَاطَهِ وَأَجَارَهُ، وَنَقَلَهُ إِلَى دَارِ الْوَزِيرِ بِقَطُفْتَا، فَأَقَامَ بِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَيْتِهِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَفِيهَا سَقَطَ الْأَمِيرُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ ابْنُ الْخَلِيفَةِ - وَهُوَ الَّذِي صَارَ خَلِيفَةً - مِنْ قُبَّةٍ عَالِيَةٍ إِلَى أَرْضِ التَّاجِ وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ اسْمُهُ نَجَاحٌ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ بَعْدَهُ، وَسَلِمَ ابْنُ الْخَلِيفَةِ

وَنَجَاحٌ، فَقِيلَ لِنَجَاحٍ: لِمَ أَلْقَيْتَ نَفْسَكَ؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرِيدُ الْبَقَاءَ بَعْدَ مَوْلَايَ، فَرَعَى لَهُ الْأَمِيرُ أَبُو الْعَبَّاسِ ذَلِكَ، فَلَمَّا صَارَ خَلِيفَةً جَعَلَهُ شَرَابِيًّا، وَصَارَتِ الدَّوْلَةُ جَمِيعُهَا بِحُكْمِهِ، وَلَقِيَهُ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ عِزُّ الدِّينِ، وَبَالَغَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَالتَّقْدِيمِ لَهُ، وَخَدَمَهُ جَمِيعُ الْأُمَرَاءِ بِالْعِرَاقِ وَالْوُزَرَاءِ وَغَيْرُهُمْ. وَفِيهَا، فِي رَمَضَانَ، وَقَعَ بِبَغْدَادَ بَرَدٌ كِبَارٌ مَا رَأَى النَّاسُ مِثْلَهُ، فَهَدَمَ الدُّورَ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرًا مِنَ الْمَوَاشِي، فَوُزِنَتْ بَرَدَةٌ مِنْهَا فَكَانَتْ سَبْعَةَ أَرْطَالٍ، وَكَانَ عَامَّتُهُ كَالنَّارِنْجِ يُكَسِّرُ الْأَغْصَانَ. هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " تَارِيخِهِ "، وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْمُؤَيِّدِ، صَاحِبِ نَيْسَابُورَ، وَبَيْنَ شَاهْ مَازَنْدَرَانَ، قُتِلَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، فَانْهَزَمَ شَاهُ مَازَنْدَرَانَ، وَدَخَلَ الْمُؤَيِّدُ بَلَدَ الدَّيْلَمِ وَخَرَّبَهُ وَفَتَكَ بِأَهْلِهِ وَعَادَ عَنْهُ. وَفِيهَا وَقَعَتْ وَقْعَةٌ كَبِيرَةٌ بَيْنَ أَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ بَابِ الْكَرْخِ، وَسَبَبُهَا أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا زَادَ سَكَرَ أَهْلُ الْكَرْخِ سَكْرًا رَدَّ الْمَاءَ عَنْهُمْ، فَغَرِقَ مَسْجِدٌ فِيهِ شَجَرَةٌ، فَانْقَلَعَتْ، فَصَاحَ أَهْلُ الْكَرْخِ: انْقَلَعَتِ الشَّجَرَةُ، لَعَنَ اللَّهُ الْعَشَرَةَ! فَقَامَتِ الْفِتْنَةُ، فَتَقَدَّمَ الْخَلِيفَةُ إِلَى عَلَاءِ الدِّينِ تَنَامِشَ بِكَفِّهِمْ، فَمَالَ عَلَى أَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ لِأَنَّهُ كَانَ شِيعِيًّا، وَأَرَادَ دُخُولَ الْمَحِلَّةِ، فَمَنَعَهُ أَهْلُهَا، وَأَغْلَقُوا الَأَبْوَابَ وَوَقَفُوا عَلَى السُّورِ، وَأَرَادَ إِحْرَاقَ الْأَبْوَابِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ فَأَنْكَرَهُ أَشَدَّ إِنْكَارٍ وَأَمَرَ بِإِعَادَةِ تَنَامَشَ، فَعَادَ، وَدَامَتِ الْفِتْنَةُ أُسْبُوعًا، ثُمَّ انْفَصَلَ الْحَالُ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ سُلْطَانٍ. وَفِيهَا عَبَرَ مَلِكُ الرُّومِ خَلِيجَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَقَصَدَ بِلَادَ قَلَجِ أَرَسْلَانَ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا حَرْبٌ اسْتَظْهَرَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ، فَلَمَّا رَأَى مَلِكُ الرُّومِ عَجْزَهُ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ، وَقَدْ قُتِلَ مِنْ عَسْكَرِهِ وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، مَاتَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُعَمَّرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ الْحُسَيْنِيُّ نَقِيبُ الْعَلَوِيِّينَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ يُلَقَّبُ الظَّاهِرَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَرَوَاهُ، وَكَانَ حَسَنَةَ أَهْلِ بَغْدَادَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَطَّارِ الْهَمَذَانِيُّ، سَافَرَ الْكَثِيرَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْمُحَدِّثِينَ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ لَهُ قَبُولٌ عَظِيمٌ بِبَلَدِهِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَعِيدُ بْنُ الْمُبَارَكِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الدَّهَانِ النَّحْوِيُّ الْبَغْدَادِيُّ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَ إِمَامًا فِي النَّحْوِ، لَهُ التَّصَانِيفُ الْمَشْهُورَةُ مِنْهَا " الْغُرَّةُ " وَغَيْرُهَا.

ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ] 570 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ ذِكْرُ وُصُولِ أُسْطُولِ صِقِلِّيَّةَ إِلَى مَدِينَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَانْهِزَامِهِ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ ظَفِرَ أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَعَسْكَرِ مِصْرَ بِأُسْطُولِ الْفِرِنْجِ مِنْ صِقِلِّيَّةَ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ [إِرْسَالِ] أَهْلِ مِصْرَ إِلَى مَلِكِ الْفِرِنْجِ بِسَاحِلِ الشَّامِ، وَإِلَى صَاحِبِ صِقِلِّيَّةَ، لِيَقْصِدُوا دِيَارَ مِصْرَ لِيَثُورُوا بِصَلَاحِ الدِّينِ وَيُخْرِجُوهُ مِنْ مِصْرَ، فَجَهَّزَ صَاحِبُ صِقِلِّيَّةَ أُسْطُولًا كَثِيرًا عُدَّتُهُ مِائَتَا شِينِيٍّ تَحْمِلُ الرَّجَّالَةَ، وَسِتُّ وَثَلَاثُونَ طَرِيدَةً تَحْمِلُ الْخَيْلَ، وَسِتَّةُ مَرَاكِبَ كِبَارٍ تَحْمِلُ آلَةَ الْحَرْبِ، وَأَرْبَعُونَ مَرْكَبًا تَحْمِلُ الْأَزْوَادَ، وَفِيهَا مِنَ الرَّاجِلِ خَمْسُونَ أَلْفًا، وَمِنَ الْفُرْسَانِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٌ، مِنْهَا خَمْسُمِائَةُ تَرَكْبَلِيٍّ. وَكَانَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمُ ابْنَ عَمِّ صَاحِبِ صِقِلِّيَّةَ، وَسَيَّرَهُ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ، فَوَصَلُوا إِلَيْهَا فِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ، عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا وَطُمَأْنِينَةٍ، فَخَرَجَ أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِسِلَاحِهِمْ وَعُدَّتِهِمْ لِيَمْنَعُوهُمْ مِنَ النُّزُولِ، وَأَبْعَدُوا عَنِ الْبَلَدِ، فَمَنْعَهُمُ الْوَالِي عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ بِمُلَازَمَةِ السُّورِ، وَنَزَلَ الْفِرِنْجُ إِلَى الْبَرِّ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ وَالْمَنَارَةَ وَتَقَدَّمُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَنَصَبُوا عَلَيْهَا الدَّبَّابَاتِ وَالْمَجَانِيقَ وَقَاتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، وَصَبَرَ لَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَرَأَى الْفِرِنْجُ مِنْ شَجَاعَةِ أَهْلِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَحُسْنِ سِلَاحِهِمْ مَا رَاعَهُمْ. وَسُيِّرَتِ الْكُتُبُ بِالْحَالِ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يَسْتَدْعُونَهُ لِدَفْعِ الْعَدُوِّ عَنْهُمْ، وَدَامَ الْقِتَالُ أَوَّلَ يَوْمٍ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، ثُمَّ عَاوَدَ الْفِرِنْجُ الْقِتَالَ الْيَوْمَ الثَّانِيَ، وَجَدُّوا، وَلَازَمُوا الزَّحْفَ، حَتَّى وَصَلَتِ الدَّبَّابَاتُ إِلَى قُرْبِ السُّورِ، وَوَصَلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنَ الْعَسَاكِرِ

الْإِسْلَامِيَّةِ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي أَقْطَاعِهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَقَوِيَتْ بِهِمْ نُفُوسُ أَهْلِهَا، وَأَحْسَنُوا الْقِتَالَ وَالصَّبْرَ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بَابَ الْبَلَدِ وَخَرَجُوا مِنْهُ عَلَى الْفِرِنْجِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَهُمْ غَارُّونَ، وَكَثُرَ الصِّيَاحُ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ، فَارْتَاعَ الْفِرِنْجُ وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَوَصَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الدَّبَّابَاتِ فَأَحْرَقُوهَا، وَصَبَرُوا لِلْقِتَالِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَيْهِمْ، وَظَهَرَتْ أَمَارَاتُهُ، وَلَمْ يَزَالُوا مُبَاشِرِينَ الْقِتَالَ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، وَدَخَلَ أَهْلُ الْبَلَدِ إِلَيْهِ وَهُمْ فَرِحُونَ مُسْتَبْشِرُونَ بِمَا رَأَوْا مِنْ تَبَاشِيرَ الظَّفَرِ وَقُوَّتِهِمْ، وَفَشَلِ الْفِرِنْجِ وَفُتُورِ حَرْبِهِمْ، وَكَثْرَةِ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ فِي رَجَّالَتِهِمْ. وَأَمَّا صَلَاحُ الدِّينِ فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَهُ الْخَبَرُ سَارَ بِعَسَاكِرِهِ، وَسَيَّرَ مَمْلُوكًا لَهُ وَمَعَهُ ثَلَاثُ جَنَائِبَ لِيَجِدَّ السَّيْرَ عَلَيْهَا إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ يُبَشِّرُ بِوُصُولِهِ، وَسَيَّرَ طَائِفَةً مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى دُمْيَاطَ خَوْفًا عَلَيْهَا، وَاحْتِيَاطًا لَهَا، فَسَارَ ذَلِكَ الْمَمْلُوكُ، فَوَصَلَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ مِنْ يَوْمِهِ وَقْتَ الْعَصْرِ، وَالنَّاسُ قَدْ رَجَعُوا مِنَ الْقِتَالِ، فَنَادَى فِي الْبَلَدِ بِمَجِيءِ صَلَاحِ الدِّينِ وَالْعَسَاكِرِ مُسْرِعِينَ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ ذَلِكَ عَادُوا إِلَى [الْقِتَالِ، وَقَدْ] زَالَ مَا بِهِمْ مِنْ تَعَبٍ وَأَلَمِ الْجِرَاحِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ مَعَهُ، فَهُوَ يُقَاتِلُ قِتَالَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُشَاهَدَ قِتَالُهُ. وَسَمِعَ الْفِرِنْجُ بِقُرْبِ صَلَاحِ الدِّينِ فِي عَسَاكِرِهِ، فَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَازْدَادُوا تَعَبًا وَفُتُورًا، فَهَاجَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ اخْتِلَاطِ الظَّلَامِ، وَوَصَلُوا إِلَى خِيَامِهِمْ فَغَنِمُوهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَسْلِحَةِ الْكَثِيرَةِ وَالتَّحَمُّلَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي رَجَّالَةِ الْفِرِنْجِ، فَهَرَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الْبَحْرِ، وَقَرَّبُوا شَوَانِيَهُمْ إِلَى السَّاحِلِ لِيَرْكَبُوا فِيهَا، فَسَلِمَ بَعْضُهُمْ وَرَكِبَ، وَغَرِقَ بَعْضُهُمْ، وَغَاصَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَاءِ وَخَرَقَ بَعْضَ شَوَانِيِّ الْفِرِنْجِ فَغَرِقَتْ، فَخَافَ الْبَاقُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَوَلَّوْا هَارِبِينَ، وَاحْتَمَى ثَلَاثَمِائَةٌ مِنْ فُرْسَانِ الْفِرِنْجِ عَلَى رَأْسِ تَلٍّ، فَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى بُكْرَةٍ، وَدَامَ الْقِتَالُ إِلَى أَنْ أَضْحَى النَّهَارُ، فَغَلَبَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ وَقَهَرُوهُمْ فَصَارُوا بَيْنَ قَتِيلٍ وَأَسِيرٍ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُمْ وَحَاقَ بِالْكَافِرِينَ مَكْرُهُمْ.

ذِكْرُ خِلَافِ الْكَنْزِ بِصَعِيدِ مِصْرَ وَفِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ الْكَنْزُ بِصَعِيدِ مِصْرَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْ رَعِيَّةِ الْبِلَادِ وَالسُّودَانِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ هُنَاكَ أَمِيرٌ مِنَ الصَّلَاحِيَّةِ فِي أَقْطَاعِهِ، وَهُوَ أَخُو الْأَمِيرِ أَبِي الْهَيْجَاءِ السَّمِينِ، فَقَتَلَهُ الْكَنْزُ، فَعَظُمَ قَتْلُهُ عَلَى أَخِيهِ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْأُمَرَاءِ وَأَشْجَعِهِمْ، فَسَارَ إِلَى قِتَالِ الْكَنْزِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ صَلَاحُ الدِّينِ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَكَثِيرًا مِنَ الْعَسْكَرِ، وَوَصَلُوا إِلَى مَدِينَةِ طَوْدٍ، فَاحْتَمَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَاتَلُوا مَنْ بِهَا، وَظَفِرُوا بِهِمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ كَثِيرًا، وَذُلُّوا بَعْدَ الْعِزِّ وَقُهِرُوا وَاسْتَكَانُوا. ثُمَّ سَارَ الْعَسْكَرُ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ طَوْدٍ إِلَى الْكَنْزِ، وَهُوَ فِي طُغْيَانِهِ يَعْمَهُ، فَقَاتَلُوهُ، فَقُتِلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَمِنَتْ بَعْدَهُ الْبِلَادُ وَاطْمَأَنَّ أَهْلُهَا. ذِكْرُ مُلْكِ صَلَاحِ الدِّينِ دِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، سَلْخَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، مَلَكَ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ مَدِينَةَ دِمَشْقَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ نُورَ الدِّينِ لَمَّا مَاتَ وَمَلَكَ ابْنُهُ الْمَلِكُ الصَّالِحُ بَعْدَهُ كَانَ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ سَعْدُ الدِّينِ كَمُشْتَكِينَ قَدْ هَرَبَ مِنْ سَيْفِ الدِّينِ غَازِي إِلَى حَلَبَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَقَامَ بِهَا عِنْدَ شَمْسِ الدِّينِ ابْنِ الدَّايَةِ، فَلَمَّا اسْتَوْلَى سَيْفُ الدِّينِ عَلَى الْبِلَادِ الْجَزَرِيَّةِ خَافَ ابْنُ الدَّايَةِ أَنْ يُغِيرَ إِلَى حَلَبَ فَيَمْلِكُهَا، فَأَرْسَلَ سَعْدُ الدِّينِ إِلَى دِمَشْقَ لِيَحْضُرَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ وَمَعَهُ الْعَسَاكِرُ إِلَى حَلَبَ، فَلَمَّا قَارَبَ دِمَشْقَ سَيَّرَ إِلَيْهِ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُقَدَّمِ عَسْكَرًا فَنَهَبُوهُ، وَعَادَ مُنْهَزِمًا إِلَى حَلَبَ، فَأَخْلَفَ عَلَيْهِ ابْنُ الدَّايَةِ عِوَضَ مَا أُخِذَ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ الْأُمَرَاءَ الَّذِينَ بِدِمَشْقَ نَظَرُوا فِي الْمَصْلَحَةِ، فَعَلِمُوا أَنَّ مَسِيرَهُ إِلَى حَلَبَ أَصْلَحُ لِلدَّوْلَةِ مِنْ مَقَامِهِ بِدِمَشْقَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّايَةِ يَطْلُبُونَ إِرْسَالَ سَعْدِ الدِّينِ لِيَأْخُذَ الْمَلِكَ الصَّالِحَ، فَجَهَّزَهُ وَسَيَّرَهُ وَعَلَى نَفْسِهَا بِرَاقِشُ تَجْنِي، فَسَارَ إِلَى

دِمَشْقَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَخَذَ الْمَلِكَ الصَّالِحَ وَعَادَ إِلَى حَلَبَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا قَبَضَ سَعِدُ الدِّينِ عَلَى شَمْسِ الدِّينِ ابْنِ الدَّايَةِ وَإِخْوَتِهِ، وَعَلَى رَئِيسِ بْنِ الْخَشَّابِ رَئِيسِ حَلَبَ وَمُقَدَّمِ الْأَحْدَاثِ بِهَا، وَلَوْلَا مَرَضُ شَمْسِ الدِّينِ ابْنِ الدَّايَةِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ. وَاسْتَبَدَّ سَعْدُ الدِّينِ بِتَدْبِيرِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ، فَخَافَهُ ابْنُ الْمُقَدَّمِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ بِدِمَشْقَ وَقَالُوا: إِذَا اسْتَقَرَّ أَمْرُ حَلَبَ أَخَذَ الْمَلِكَ الصَّالِحَ وَسَارَ بِهِ إِلَيْنَا، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِحَلَبَ، وَكَاتَبُوا سَيْفَ الدِّينِ غَازِي صَاحِبَ الْمَوْصِلِ لِيَعْبُرَ الْفُرَاتَ إِلَيْهِمْ لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ دِمَشْقَ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَخَافَ أَنْ تَكُونَ مَكِيدَةً عَلَيْهِ لِيَعْبُرَ الْفُرَاتَ وَيَسِيرَ إِلَى دِمَشْقَ فَيُمْنَعُ عَنْهَا وَيَقْصِدُهُ ابْنُ عَمِّهِ وَعَسْكَرُ حَلَبَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ فَيَهْلَكُ. أَشَارَ عَلَيْهِ بِهَذَا زَلْفِنْدَارُ عِزُّ الدِّينِ، وَالْجَبَانُ يُقَدِّرُ الْبَعِيدَ مِنَ الشَّرِّ قَرِيبًا، وَيَرَى الْجُبْنَ حَزْمًا، كَمَا قَالَ: يَرَى الْجُبَنَاءُ أَنَّ الْجُبْنَ حَزْمٌ ... وَتِلْكَ طَبِيعَةُ الرَّجُلِ الْجَبَانِ فَلَمَّا أَشَارَ عَلَيْهِ بِهَذَا الرَّأْيِ زَلْفِنْدَارُ قَبِلَهُ وَامْتَنَعَ مِنْ قَصْدِ دِمَشْقَ، وَرَاسَلَ سَعْدَ الدِّينِ وَالْمَلِكَ الصَّالِحَ وَصَالَحَهُمَا عَلَى مَا أَخَذَهُ مِنَ الْبِلَادِ، فَلَمَّا امْتَنَعَ عَنِ الْعُبُورِ إِلَى دِمَشْقَ عَظْمَ خَوْفُهُمْ، وَقَالُوا: حَيْثُ صَالَحَهُمْ سَيْفُ الدِّينِ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَانِعٌ عَنِ الْمَسِيرِ إِلَيْنَا، فَكَاتَبُوا حِينَئِذٍ صَلَاحَ الدِّينِ يُوسُفَ بْنَ أَيُّوبَ، صَاحِبَ مِصْرَ، وَاسْتَدْعُوهُ لِيُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ كَبِيرُهُمْ فِي ذَلِكَ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْمُقَدَّمِ، وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مُخَامَرَةَ أَبِيهِ فِي تَسْلِيمِ سِنْجَارَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ. فَلَمَّا وَصَلَتِ الرُّسُلُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ بِذَلِكَ لَمْ يَلْبَثْ، وَسَارَ جَرِيدَةً فِي سَبْعِمِائَةِ فَارِسٍ وَالْفِرِنْجُ فِي طَرِيقِهِ، فَلَمْ يُبَالِ بِهِمْ، فَلَمَّا وَطِئَ أَرْضَ الشَّامِ قَصَدَ بُصْرَى، وَكَانَ [بِهَا] حِينَئِذٍ صَاحِبُهَا وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كَاتَبَهُ، فَخَرَجَ وَلَقِيَهُ، فَلَمَّا رَأَى قِلَّةَ مَنْ مَعَهُ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، وَاجْتَمَعَ بِالْقَاضِي الْفَاضِلِ وَقَالَ: مَا أَرَى مَعَكُمْ عَسْكَرًا، وَهَذَا بَلَدٌ عَظِيمٌ لَا يُقْصَدُ بِمِثْلِ هَذَا الْعَسْكَرِ، وَلَوْ مَنَعَكُمْ مَنْ بِهِ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ أَخَذَكُمْ أَهْلُ السَّوَادِ، فَإِنْ كَانَ مَعَكُمْ مَالٌ سَهُلَ الْأَمْرُ. فَقَالَ: مَعَنَا: مَالٌ كَثِيرٌ يَكُونُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَضَرْبَ صَاحِبُ بُصْرَى عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: هَلَكْتُمْ وَأَهْلَكْتُمُونَا، وَجَمِيعُ مَا كَانَ مَعَهُمْ عَشْرَةُ آلَافِ دِينَارٍ. ثُمَّ سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى دِمَشْقَ فَخَرَجَ كُلُّ مَنْ بِهَا مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَيْهِ، فَلَقُوهُ

وَخَدَمُوهُ، وَدَخْلَ الْبَلَدَ، وَنَزَلَ فِي دَارِ وَالِدِهِ الْمَعْرُوفَةِ بِدَارِ الْعَقِيقِيِّ، وَكَانَتِ الْقَلْعَةُ بِيَدِ خَادِمٍ اسْمُهُ رَيْحَانُ، فَأَحْضَرَ صَلَاحُ الدِّينِ كَمَالَ الدِّينِ بْنَ الشَّهْرَزُورِيَّ وَهُوَ قَاضِي الْبَلَدِ وَالْحَاكِمُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ مِنَ الدِّيوَانِ وَالْوَقْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى رَيْحَانَ لِيُسَلِّمَ الْقَلْعَةَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: أَنَا مَمْلُوكُ الْمَلِكِ الصَّالِحِ، وَمَا جِئْتُ إِلَّا لِأَنْصُرَهُ وَأَخْدِمَهُ، وَأُعِيدُ الْبِلَادَ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَخْطُبُ لَهُ فِي بِلَادِهِ كُلِّهَا، فَصَعِدَ كَمَالُ الدَّيْنِ إِلَى رَيْحَانَ، وَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ حَتَّى سَلَّمَ الْقَلْعَةَ، فَصَعِدَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَيْهَا، وَأَخْذَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَأَخْرَجَهَا وَاتَّسَعَ بِهَا وَثَبَّتَ قَدَمَهُ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا يُظْهِرُ طَاعَةَ الْمَلِكِ الصَّالِحِ، وَيُخَاطِبُهُ بِالْمَمْلُوكِ، وَالْخُطْبَةُ وَالسِّكَّةُ بِاسْمِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ صَلَاحِ الدِّينِ مَدِينَتَيْ حِمْصَ وَحَمَاةَ لَمَّا اسْتَقَرَّ مُلْكُ صَلَاحِ الدِّينِ لِدِمَشْقَ، وَقَرَّرَ أَمْرَهَا، اسْتَخْلَفَ بِهَا أَخَاهُ سَيْفَ الْإِسْلَامِ طُغْدُكِينَ بْنَ أَيُّوبَ، وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ حِمْصَ مُسْتَهَلَّ جُمَادَى الْأُولَى، وَكَانَتْ حِمْصُ وَحَمَاةُ وَقَلْعَةُ بَعْرِينَ وَسَلَمِيَّةَ وَتَلُّ خَالِدٍ وَالرُّهَا مِنْ بَلْدِ الْجَزِيرَةِ فِي أَقَطَاعِ الْأَمِيرِ فَخْرِ الدِّينِ مَسْعُودِ الزَّعْفَرَانِيِّ، فَلَمَّا مَاتَ نُورُ الدِّينِ لَمْ يُمْكِنْهُ الْمَقَامُ بِهَا لِسُوءِ سِيرَتِهِ فِي أَهْلِهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي قِلَاعِ هَذِهِ الْبِلَادِ حُكْمٌ إِنَّمَا فِيهَا وُلَاةٌ لِنُورِ الدِّينِ. وَكَانَ بِقَلْعَةِ حِمْصَ وَالٍ يَحْفَظُهَا، فَلَمَّا نَزَلَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى حِمْصَ، حَادِي عَشَرَ الشَّهْرَ الْمَذْكُورَ، رَاسَلَ مَنْ فِيهَا بِالتَّسْلِيمِ، فَامْتَنَعُوا، فَقَاتَلَهُمْ مِنَ الْغَدِ، فَمَلَكَ الْبَلَدَ وَأَمَّنَ أَهْلَهُ، وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ الْقَلْعَةُ وَبَقِيَتْ مُمْتَنِعَةً إِلَى أَنْ عَادَ مِنْ حَلَبَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَتَرَكَ بِمَدِينَةِ حِمْصَ مَنْ يَحْفَظُهَا، وَيَمْنَعُ مَنْ بِالْقَلْعَةِ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَأَنْ تَصَعَدَ إِلَيْهِمْ مَيْرَةٌ. وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ حَمَاةَ، وَهُوَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ لَا يُظْهِرُ إِلَّا طَاعَةَ الْمَلِكِ الصَّالِحِ بْنِ نُورِ الدِّينِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ لِحِفْظِ بِلَادِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَاسْتِعَادَةِ مَا

أَخَذَهُ سَيْفُ الدِّينِ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ مِنَ الْبِلَادِ الْجَزَرِيَّةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى حَمَاةَ مَلَكَ الْمَدِينَةَ مُسْتَهَلَّ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ بِقَلْعَتِهَا الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ جُورْدِيكُ، وَهُوَ مِنَ الْمَمَالِيكِ النُّورِيَّةِ، فَامْتَنَعَ مِنَ التَّسْلِيمِ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ صَلَاحُ الدِّينِ يُعَرِّفُهُ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَةِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ حِفْظَ بِلَادِهِ عَلَيْهِ، فَاسْتَحْلَفَهُ جُورْدِيكُ عَلَى ذَلِكَ فَحَلِفَ وَسَيَّرَهُ إِلَى حَلَبَ فِي اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ عَلَى طَاعَةِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ، وَفِي إِطْلَاقِ شَمْسِ الدِّينِ عَلِيٍّ وَحَسَنٍ وَعُثْمَانَ أَوْلَادِ الدَّايَةِ مِنَ السِّجْنِ، فَسَارَ جُورْدِيكُ إِلَى حَلَبَ، وَاسْتَخْلَفَ بِقَلْعَةِ حَمَاةَ أَخَاهُ لِيَحْفَظَهَا، فَلَمَّا وَصَلَ جُورْدِيكُ إِلَى حَلَبَ قَبَضَ عَلَيْهِ كَمُشْتَكِينَ وَسَجَنَهُ، فَلَمَّا عَلِمَ أَخُوهُ بِذَلِكَ سَلَّمَ الْقَلْعَةَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ فَمَلَكَهَا. ذِكْرُ حَصْرِ صَلَاحِ الدِّينِ حَلَبَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا وَمُلْكِهِ قَلْعَةَ حِمْصَ وَبَعْلَبَكَّ لَمَّا مَلَكَ صَلَاحُ الدِّينِ حَمَاةَ سَارَ إِلَى حَلَبَ فَحَصَرَهَا ثَالِثَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا، وَرَكِبَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ، وَهُوَ صَبِيٌّ عُمْرُهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَجَمَعَ أَهْلَ حَلَبَ وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمْ إِحْسَانَ أَبِي إِلَيْكُمْ وَمَحَبَّتَهُ لَكُمْ وَسِيرَتَهُ فِيكُمْ، وَأَنَا يَتِيمُكُمْ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الظَّالِمُ الْجَاحِدُ إِحْسَانُ وَالِدِي إِلَيْهِ يَأْخُذُ بَلَدِي وَلَا يُرَاقِبُ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَا الْخَلْقَ، وَقَالَ مِنْ هَذَا كَثِيرًا وَبَكَى فَأَبْكَى النَّاسَ، فَبَذَلُوا لَهُ الْأَمْوَالَ وَالْأَنْفُسَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الْقِتَالِ دُونَهُ، وَالْمَنْعِ عَنْ بَلَدِهِ، وَجَدُّوا فِي الْقِتَالِ، وَفِيهِمْ شَجَاعَةٌ، قَدْ أَلِفُوا الْحَرْبَ وَاعْتَادُوهَا، حَيْثُ كَانَ الْفِرِنْجُ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ، فَكَانُوا يَخْرُجُونَ وَيُقَاتِلُونَ صَلَاحَ الدِّينِ عِنْدَ جَبَلِ جَوْشَنَ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْقُرْبِ مِنَ الْبَلَدِ. وَأَرْسَلَ سَعْدُ الدِّينِ كَمُشْتَكِينُ إِلَى سِنَانَ مُقَدَّمِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَبَذَلَ لَهُ أَمْوَالًا كَثِيرَةً لِيَقْتُلُوا صَلَاحَ الدِّينِ، فَأَرْسَلُوا جَمَاعَةً مِنْهُمْ إِلَى عَسْكَرِهِ، فَلَمَّا وَصَلُوا رَآهُمْ أَمِيرٌ اسْمُهُ

خُمَارْتِكِينُ، صَاحِبُ قَلْعَةِ أَبِي قُبَيْسٍ، فَعَرَفَهُمْ لِأَنَّهُ جَارُهُمْ فِي الْبِلَادِ، كَثِيرُ الْاجْتِمَاعِ بِهِمْ وَالْقِتَالِ لَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ لَهُمْ: مَا الَّذِي أَقْدَمَكُمْ وَفِي أَيِّ شَيْءٍ جِئْتُمْ؟ فَجَرَحُوهُ جِرَاحَاتٍ مُثْخَنَةٍ، وَحَمَلَ أَحَدُهُمْ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ لِيَقْتُلَهُ، فَقُتِلَ دُونَهُ، وَقَاتَلَ الْبَاقُونَ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِّيَّةِ، فَقَتَلُوا جَمَاعَةً ثُمَّ قُتِلُوا. وَبَقِيَ صَلَاحُ الدِّينِ مُحَاصِرًا لِحَلَبَ إِلَى سَلْخِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَرَحَلَ عَنْهَا مُسْتَهَلَّ رَجَبَ، وَسَبَبُ رَحِيلِهِ أَنَّ الْقُمَّصَ رِيمُنْدُ الصَّنْجِيلِيُّ، صَاحِبُ طَرَابُلُسَ، كَانَ قَدْ أَسَرَهُ نُورُ الدِّينِ عَلَى حَارِمٍ سَنَةِ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَبَقِيَ فِي الْحَبْسِ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَطْلَقَهُ سَعْدُ الدِّينِ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ صُورِيَّةٍ وَأَلْفِ أَسِيرٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَلَدِهِ اجْتَمَعَ الْفِرِنْجُ عَلَيْهِ يُهَنِّئُونَهُ بِالسَّلَامَةِ، وَكَانَ عَظِيمًا فِيهِمْ مِنْ أَعْيَانِ شَيَاطِينِهِمْ، فَاتَّفَقَ أَنَّ مُرِّيَّ مَلِكَ الْفِرِنْجِ، لَعَنَهُ اللَّهُ، مَاتَ أَوَّلَ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ أَعْظَمَ مُلُوكِهِمْ شَجَاعَةً وَأَجْوَدَهُمْ رَأْيًا وَمَكْرًا وَمَكِيدَةً، فَلَمَّا تُوُفِّيَ خَلَّفَ ابْنًا مَجْذُومًا عَاجِزًا عَنْ تَدْبِيرِ الْمُلْكِ، فَمَلَّكَهُ الْفِرِنْجُ صُورَةً لَا مَعْنًى تَحْتَهَا، وَتَوَلَّى الْقُمُّصُ رِيمُنْدُ تَدْبِيرَ الْمُلْكِ، وَإِلَيْهِ الْحَلُّ وَالْعَقْدُ، عَنْ أَمْرِهِ يُصْدِرُونَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ بِحَلَبَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَقْصِدَ بَعْضَ الْبِلَادِ الَّتِي بِيَدِ صَلَاحِ الدِّينِ لِيَرْحَلَ عَنْهُمْ، فَسَارَ إِلَى حِمْصَ وَنَازَلَهَا سَابِعَ رَجَبٍ، فَلَمَّا تَجَهَّزَ لِقَصْدِهَا سَمِعَ صَلَاحُ الدِّينِ الْخَبَرَ فَرَحَلَ عَنْ حَلَبَ، فَوَصَلَ إِلَى حَمَاةَ ثَامِنَ رَجَبٍ، بَعْدَ نُزُولِ الْفِرِنْجِ عَلَى حِمْصَ بِيَوْمٍ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى الرَّسْتَنِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْفِرِنْجُ بِقُرْبِهِ رَحَلُوا عَنْ حِمْصَ، وَوَصَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَيْهَا، فَحَصَرَ الْقَلْعَةَ إِلَى أَنْ مَلَكَهَا فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ، فَصَارَ أَكْثَرُ الشَّامِ بِيَدِهِ. وَلَمَّا مَلَكَ حِمْصَ سَارَ مِنْهَا إِلَى بَعْلَبَكَّ، وَبِهَا خَادِمٌ اسْمُهُ يُمْنٌ، وَهُوَ وَالٍ عَلَيْهَا مِنْ أَيَّامِ نُورِ الدِّينِ، فَحَصَرَهَا صَلَاحُ الدِّينِ، فَأَرْسَلَ يُمْنٌ يَطْلُبُ الْأَمَانَ لَهُ وَلِمَنْ عِنْدَهُ،

فَأَمَّنَهُمْ صَلَاحُ الدِّينِ، وَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ رَابِعَ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ. ذِكْرُ حَصْرِ سَيْفِ الدِّينِ أَخَاهُ عِمَادَ الدِّينِ بِسِنْجَارَ لَمَّا مَلَكَ صَلَاحُ الدِّينِ دِمَشْقَ وَحِمْصَ وَحَمَاةَ كَتَبَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُورِ الدِّينِ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِي بْنِ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودِ، يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ، وَيَطْلُبَ أَنْ يَعْبُرَ إِلَيْهِ لِيَقْصِدُوا صَلَاحَ الدِّينِ وَيَأْخُذُوا الْبِلَادَ مِنْهُ، فَجَمَعَ سَيْفُ الدِّينِ عَسَاكِرَهُ، وَكَاتِبَ أَخَاهُ عِمَادَ الدِّينِ زَنْكِي، صَاحِبَ سِنْجَارَ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَنْزِلَ إِلَيْهِ بِعَسَاكِرِهِ لِيَجْتَمِعَا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الشَّامِ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ قَدْ كَاتَبَ عِمَادَ الدِّينِ وَأَطْمَعَهُ فِي الْمُلْكِ لِأَنَّهُ هُوَ الْكَبِيرُ، فَحَمَلَهُ الطَّمَعُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَلَى أَخِيهِ، فَلَمَّا رَأَى سَيْفُ الدِّينِ امْتِنَاعَهُ جَهَّزَ أَخَاهُ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودًا فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ، هُوَ مُعْظَمُ عَسْكَرِهِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى الشَّامِ، وَجَعَلَ الْمُقَدَّمَ عَلَى الْعَسْكَرِ مَعَ أَخِيهِ عِزِّ الدِّينِ مَحْمُودٍ، وَيُلَقَّبُ أَيْضًا زَلْفِنْدَارَ، وَجَعَلَهُ الْمُدَبِّرَ لِلْأَمْرِ، وَسَارَ سَيْفُ الدِّينِ إِلَى سِنْجَارَ فَحَصَرَهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَاتَلَهَا، وَجَدَّ فِي الْقِتَالِ، وَامْتَنَعَ عِمَادُ الدِّينِ بِهَا، وَأَحْسَنَ حِفْظَهَا وَالذَّبَّ عَنْهَا، فَدَامَ الْحِصَارُ عَلَيْهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَاصِرُهَا أَتَاهُ الْخَبَرُ بِانْهِزَامِ عَسْكَرِهِ الَّذِي مَعَ أَخِيهِ عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودٍ مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، فَرَاسَلَ حِينَئِذٍ أَخَاهُ عِمَادَ الدِّينِ، وَصَالَحَهُ عَلَى مَا بِيَدِهِ، وَرَحَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَثَبَتَ قَدَمُ صَلَاحُ الدِّينِ بَعْدَ هَذِهِ الْهَزِيمَةِ، وَخَافَهُ النَّاسُ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيْفِ الدِّينِ (غَازِي فِي الصُّلْحِ) ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ حَالٌ. ذِكْرُ انْهِزَامِ عَسْكَرِ سَيْفِ الدِّينِ مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ وَحَصْرِهِ مَدِينَةَ حَلَبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ عَسْكَرُ سَيْفِ الدِّينِ مَعَ أَخِيهِ عِزِّ الدِّينِ وَعِزِّ الدِّينِ زَلْفِنْدَارَ إِلَى حَلَبَ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُمَا عَسَاكِرُ حَلَبَ، وَسَارُوا كُلُّهُمْ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ لِيُحَارِبُوهُ، فَأَرْسَلَ

صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى سَيْفِ الدِّينِ يَبْذُلُ تَسْلِيمَ حِمْصَ وَحَمَاةَ، وَأَنْ يُقِرَّ بِيَدِهِ مَدِينَةَ دِمَشْقَ، وَهُوَ فِيهَا نَائِبُ الْمَلِكِ الصَّالِحِ، فَلَمْ يُجِبْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِ جَمِيعِ مَا أُخِذَ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ وَالْعَوْدِ إِلَى مِصْرَ. وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ يَجْمَعُ عَسَاكِرَهُ وَيَتَجَهَّزُ لِلْحَرْبِ، فَلَمَّا امْتَنَعَ سَيْفُ الدِّينِ مِنْ إِجَابَتِهِ إِلَى مَا بَذَلَ سَارَ فِي عَسَاكِرِهِ إِلَى عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودٍ وَزَلْفِنْدَارَ، فَالْتَقَوْا تَاسِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ، بِالْقُرْبِ مِنْ مَدِينَةِ حَمَاةَ، بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ قُرُونُ حَمَاةَ، وَكَانَ زَلْفِنْدَارُ جَاهِلًا بِالْحُرُوبِ وَالْقِتَالِ، غَيْرُ عَالِمٍ بِتَدْبِيرِهَا، مَعَ جُبْنٍ فِيهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ رُزِقَ سَعَادَةً وَقَبُولًا مِنْ سَيْفِ الدِّينِ، فَلَمَّا الْتَقَى الْجَمْعَانِ لَمْ يَثْبُتِ الْعَسْكَرُ السَّيْفِيُّ، وَانْهَزَمُوا لَا يَلْوِي أَخٌ عَلَى أَخِيهِ، وَثَبَتَ عِزُّ الدِّينِ أَخُو سَيْفِ الدِّينِ بَعْدَ انْهِزَامِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ ثَبَاتَهُ قَالَ: إِمَّا أَنَّ هَذَا أَشْجَعُ النَّاسِ، أَوْ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْحَرْبَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْحَمْلَةِ عَلَيْهِ، فَحَمَلُوا فَأَزَالُوهُ عَنْ مَوْقِفِهِ، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَيْهِمْ. وَتَبِعَهُمْ صَلَاحُ الدِّينِ وَعَسْكَرُهُ حَتَّى جَاوَزُوا مُعَسْكَرِهِمْ، وَغَنِمُوا مِنْهُمْ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَآلَةً، وَسِلَاحًا عَظِيمًا، وَدَوَابَّ فَارِهَةً، وَعَادُوا بَعْدَ طُولِ الْبِيكَارَ مُسْتَرِيحِينَ، وَعَادَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى حَلَبَ، وَتَبِعَهُمْ صَلَاحُ الدِّينِ، فَنَازَلَهُمْ بِهَا مُحَاصِرًا لَهَا وَمُقَاتِلًا، وَقَطَعَ حِينَئِذٍ خُطْبَةَ الْمَلِكِ الصَّالِحِ بْنِ نُورِ الدِّينِ، وَأَزَالَ اسْمَهُ عَنِ السِّكَّةِ فِي بِلَادِهِ، وَدَامَ مُحَاصِرًا لَهُمْ، فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ رَاسَلُوهُ فِي الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا بِيَدِهِ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ وَلَهُمْ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْهَا، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَانْتَظَمَ الصُّلْحُ وَرَحَلَ عَنْ حَلَبَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَوَّالٍ وَوَصَلَ إِلَى حَمَاةَ، وَوَصَلَتْ إِلَيْهِ بِهَا خِلَعُ الْخَلِيفَةِ مَعَ رَسُولِهِ.

ذِكْرُ مُلْكِ صَلَاحِ الدِّينِ قَلْعَةَ بِعَرِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَوَّالٍ، مَلَكَ صَلَاحُ الدِّينِ قَلْعَةَ بِعَرِينَ مِنَ الشَّامِ، وَكَانَ [صَاحِبُهَا] فَخْرَ الدِّينِ مَسْعُودَ بْنَ الزَّعْفَرَانِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ النُّورِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَى قُوَّةَ صَلَاحِ الدِّينِ نَزَلَ مِنْهَا، وَاتَّصَلَ بِصَلَاحِ الدِّينِ، وَظَنَّ أَنَّهُ يُكْرِمُهُ وَيُشَارِكُهُ فِي مُلْكِهِ، وَلَا يَنْفَرِدُ عَنْهُ بِأَمْرٍ مِثْلُ مَا كَانَ مَعَ نُورِ الدِّينِ، فَلَمْ يَرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَفَارَقَهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ لَهُ مِنْ إِقْطَاعِهِ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي الْأَيَّامِ النُّورِيَّةِ غَيْرُ بِعَرِينَ وَنَائِبِهِ بِهَا، فَلَمَّا صَالَحَ صَلَاحُ الدِّينِ الْمَلِكَ الصَّالِحَ بِحَلَبَ، عَادَ إِلَى حَمَاةَ وَسَارَ مِنْهَا إِلَى بِعَرِينَ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْهَا، فَحَصَرَهَا وَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَأَدَامَ قِتَالَهَا، فَسَلَّمَهَا وَالِيهَا بِالْأَمَانِ، فَلَمَّا مَلَكَهَا عَادَ إِلَى حَمَاةَ، فَأَقْطَعَهَا خَالَهُ شِهَابَ الدِّينِ مَحْمُودَ بْنَ تَكِشَ الْحَارِمِيَّ، وَأَقْطَعَ حِمْصَ نَاصِرَ الدِّينِ مُحَمَّدَ ابْنَ عَمِّهِ شِيرْكُوهْ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى دِمَشْقَ فَدَخَلَهَا أَوَاخِرَ شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ. ذِكْرُ مُلْكِ الْبَهْلَوَانِ مَدِينَةَ تَبْرِيزَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الْبَهْلَوَانُ بْنُ إِيلْدِكْزَ مَدِينَةَ تَبْرِيزَ، وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ بِلَادِ آقْسُنْقُرَ الْأَحْمَدِيلِيِّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَهْلَوَانَ سَارَ إِلَى مَرَاغَةَ وَحَصَرَهَا، وَكَانَ ابْنُ آقْسُنْقُرَ الْأَحْمَدِيلِيُّ صَاحِبُهَا قَدْ مَاتَ، وَوَصَّى بِالْمُلْكِ لِابْنِهِ فَلَكِ الدِّينِ، فَقَصَدَهُ الْبَهْلَوَانُ، وَنَزَلَ عَلَى قَلْعَةِ رُويِينَ دُزْ وَحَصَرَهَا فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ، فَتَرَكَهَا، وَحَصَرَ مَرَاغَةَ، وَسَيَّرَ أَخَاهُ قُزْلَ أَرْسَلَانَ فِي جَيْشٍ إِلَى مَدِينَةِ تَبْرِيزَ فَحَصَرَهَا أَيْضًا. وَكَانَ الْبَهْلَوَانُ يُقَاتِلُ أَهْلَ مَرَاغَةَ، فَظَفِرُوا بِطَائِفَةٍ مِنْ عَسْكَرِهِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِمْ صَدْرُ الدِّينِ قَاضِي مَرَاغَةَ، وَأَطْلَقَهُمْ، فَحَسُنَ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَهْلَوَانِ، وَشَرَعَ الْقَاضِي فِي الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمُوا تَبْرِيزَ إِلَى الْبَهْلَوَانِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَيْهِ، وَحَلِفَ

كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَتَسَلَّمَ الْبَهْلَوَانُ تِبْرِيزُ وَأَعْطَاهَا أَخَاهُ قُزْلَ أَرْسَلَانَ، وَرَحَلَ عَنْ مَرَاغَةَ. ذِكْرُ وَفَاةِ شُمْلَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ شُمْلَةُ التُّرْكُمَانِيُّ، صَاحِبُ خُوزِسْتَانَ، وَكَانَ قَدْ كَثُرَتْ وِلَايَتُهُ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَبَنَى عِدَّةَ حُصُونٍ، وَبَقِيَ كَذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى عِشْرِينَ سَنَةٍ. وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ قَصَدَ بَعْضَ التُّرْكُمَانِ، فَعَلِمُوا بِذَلِكَ، فَاسْتَعَانُوا بِشَمْسِ الدِّينِ الْبَهْلَوَانِ بْنِ إِيلْدِكْزَ، صَاحِبِ عِرَاقِ الْعَجَمِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، فَاقْتَتَلُوا فَأَصَابَ شُمْلَةَ سَهْمٌ، ثُمَّ أُخِذَ أَسِيرًا وَوَلَدُهُ وَابْنُ أَخِيهِ، وَتُوُفِّيَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ، وَهُوَ مِنَ التُّرْكُمَانِ الْأَقْشَرِيَّةِ، وَلَمَّا مَاتَ مَلَكَ ابْنُهُ بَعْدَهُ. ذِكْرُ هَرَبِ قُطْبِ الدِّينِ قَايْمَازَ مِنْ بَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، سَيَّرَ عَلَاءُ الدِّينِ تُنَامُشَ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ، وَهُوَ ابْنُ أَحْمَدَ قُطْبُ الدِّينِ قَايْمَازُ زَوْجُ أُخْتِهِ، عَسْكَرًا إِلَى الْغَرَّافِ، فَنَهَبُوا أَهْلَهُ، وَبَالَغُوا فِي أَذَاهُمْ، فَجَاءَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ إِلَى بَغْدَادَ وَاسْتَغَاثُوا، فَلَمْ يُغَاثُوا لِضَعْفِ الْخَلِيفَةِ مَعَ قَايْمَازَ وَتُنَامُشَ، وَتَحَكُّمِهِمَا عَلَيْهِ، فَقَصَدُوا جَامِعَ الْقَصْرِ وَاسْتَغَاثُوا فِيهِ، وَمَنَعُوا الْخَطِيبَ، وَفَاتَتِ الصَّلَاةُ أَكْثَرَ النَّاسِ، فَأَنْكَرَ الْخَلِيفَةُ مَا جَرَى، فَلَمْ يَلْتَفِتْ قُطْبُ الدِّينِ وَتُنَامُشُ إِلَى مَا فَعَلَ، وَاحْتَقَرُوهُ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يُمْهِلْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِاحْتِقَارِهِمْ وَازْدِرَائِهِمْ أَهْلَهُ. فَلَمَّا كَانَ خَامِسُ ذِي الْقِعْدَةِ قَصَدَ قُطْبُ الدِّينِ قَايْمَازُ أَذَى ظَهِيرِ الدِّينِ بْنِ الْعَطَّارِ، وَكَانَ صَاحِبَ الْمَخْزَنِ، وَهُوَ خَاصُّ الْخَلِيفَةِ، وَلَهُ بِهِ عِنَايَةٌ تَامَّةٌ، فَلَمْ يُرَاعِ الْخَلِيفَةَ فِي صَاحِبِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْتَدْعِيهِ لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ، فَهَرَبَ، فَأَحْرَقَ قُطْبُ الدِّينِ دَارَهُ،

وَحَالِفَ الْأُمَرَاءَ عَلَى الْمُسَاعَدَةِ وَالْمُظَاهَرَةِ لَهُ، وَجَمَعَهُمْ، وَقَصَدَ دَارَ الْخَلِيفَةِ لِعِلْمِهِ أَنَّ ابْنَ الْعَطَّارِ فِيهَا، فَلَمَّا عَلِمَ الْخَلِيفَةُ ذَلِكَ وَرَأَى الْغَلَبَةَ صَعِدَ إِلَى سَطْحِ دَارِهِ وَظَهَرَ لِلْعَامَّةِ وَأَمَرَ خَادِمًا فَصَاحَ وَاسْتَغَاثَ، وَقَالَ لِلْعَامَّةِ: مَالُ قُطْبِ الدِّينِ لَكُمْ وَدَمُهُ لِي، فَقَصَدَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ دَارَ قُطْبِ الدِّينِ لِلنَّهْبِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْمَقَامُ لِضِيقِ الشَّوَارِعِ وَغَلَبَةِ الْعَامَّةِ، فَهَرَبَ مِنْ دَارِهِ مِنْ بَابِ فَتْحِةٍ فِي ظَهْرِهَا لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ عَلَى بَابِهَا، وَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ وَنُهِبَتْ دَارُهُ، وَأُخِذَ مِنْهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُحْصَى، فَرُئِيَ فِيهَا مِنَ التَّنَعُّمِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِثْلُهُ، فَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّ بَيْتَ الطَّهَارَةِ الَّذِي كَانَ لَهُ فِيهِ سِلْسِلَةُ ذَهَبٍ مِنَ السَّقْفِ إِلَى مُحَاذِي وَجْهِ الْقَاعِدِ عَلَى الْخَلَا، وَفِي أَسْفَلِهَا كُرَةٌ كَبِيرَةٌ ذَهَبٌ، مُخْرَّمَةٌ، مَحْشُوَّةٌ بِالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ لِيَشُمَّهَا إِذَا قَعَدَ، فَتَشَبَّثَ بِهَا إِنْسَانٌ وَقَطَعَهَا وَأَخَذَهَا، وَدَخَلَ بَعْضُ الصَّعَالِيكِ فَأَخَذَ عِدَّةَ أَكْيَاسٍ مَمْلُوءَةٍ دَنَانِيرُ. وَكَانَ الْأَقْوِيَاءُ قَدْ وَقَفُوا عَلَى الْبَابِ يَأْخُذُونَ مَا يَخْرُجُ بِهِ النَّاسُ، فَلَمَّا أَخَذَ ذَلِكَ الصُّعْلُوكُ الْأَكْيَاسَ قَصَدَ الْمَطْبَخَ فَأَخَذَ مِنْهُ قِدْرًا مَمْلُوءَةً طَبِيخًا، وَأَلْقَى الْأَكْيَاسَ فِيهَا وَحَمَلَهَا عَلَى رَأْسِهِ وَخَرَجَ بِهَا، وَالنَّاسُ يَضْحَكُونَ مِنْهُ، فَيَقُولُ: أَنَا أُرِيدُ شَيْئًا أُطَعِمُهُ عِيَالِي الْيَوْمَ، فَنَجَا بِمَا مَعَهُ، فَاسْتَغْنَى بَعْدَ ذَلِكَ، فَظَهَرَ الْمَالُ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ نِعْمَةِ قُطْبِ الدِّينِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ. وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ تَبِعَهُ تُنَامُشُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَنُهِبَتْ دُورُهُمْ أَيْضًا، وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأُحْرِقَ أَكْثَرُهَا، وَسَارَ قُطْبُ الدِّينِ إِلَى الْحِلَّةِ وَمَعَهُ الْأُمَرَاءُ، فَسَيَّرَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ صَدْرَ الدِّينِ شَيْخَ الشُّيُوخِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ يَخْدَعُهُ حَتَّى سَارَ عَنِ الْحِلَّةِ إِلَى الْمَوْصِلِ عَلَى الْبَرِّ، فَلَحِقَهُ وَمَنْ مَعَهُ عَطَشٌ عَظِيمٌ فَهَلَكَ أَكْثَرُهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْعَطَشِ. وَمَاتَ قُطْبُ الدِّينِ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ فَحُمِلَ وَدُفِنَ بِظَاهِرِ بَابِ الْعِمَادِيِّ وَقَبْرُهُ مَشْهُورٌ هُنَاكَ. وَهَذَا عَاقِبَةُ عِصْيَانِ الْخَلِيفَةِ، وَكُفْرَانِ الْإِحْسَانِ، وَالظُّلْمِ، وَسُوءِ التَّدْبِيرِ، فَإِنَّهُ ظَلَمَ أَهْلَ الْعِرَاقِ، وَكَفْرَ إِحْسَانَ الْخَلِيفَةِ الَّذِي كَانَ قَدْ غَمَرَهُ، وَلَوْ أَقَامَ بِالْحِلَّةِ وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَعَاوَدَ بَغْدَادَ لَاسْتَوْلَى عَلَى الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا كَانَ، فَإِنَّ عَامَّةَ بَغْدَادَ كَانُوا يُرِيدُونَهُ، وَكَانَ قَوِيَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْبِلَادِ فَأَطَاعُوهُ. وَلَمَّا مَاتَ فِي ذِي الْحِجَّةِ وَصَلَ عَلَاءُ الدِّينِ تُنَامُشُ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَأَقَامَ مُدِيدَةً، ثُمَّ أَمَرَهُ الْخَلِيفَةُ بِالْقُدُومِ إِلَى بَغْدَادَ، فَعَادَ إِلَيْهَا وَبَقِيَ بِهَا إِلَى أَنَّ مَاتَ بِغَيْرِ إِقْطَاعٍ،

وَكَانَ هَذَا آخَرَ أَمْرِهِمْ. وَلَمَّا أَقَامَ قُطْبُ الدِّينِ بِالْحِلَّةِ امْتَنَعَ الْحَاجُّ مِنَ السَّفَرِ، فَتَأَخَّرُوا إِلَى أَنْ رَحَلَ عَنْهَا، فَدَخَلُوا مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى عَرَفَاتٍ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَذَا مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَفَاتَ كَثِيرًا مِنْهُمُ الْحَجُّ. وَلَمَّا هَرَبَ قُطْبُ الدِّينِ خَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى عَضُدِ الدِّينِ الْوَزِيرِ وَأُعِيدَ [إِلَى] الْوِزَارَةِ. قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي قُطْبِ الدِّينِ وَتُنَامُشَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ: إِنْ كُنْتَ مُعْتَبِرًا بِمُلْكٍ زَائِلٍ ... وَحَوَادِثٍ عَنَقِيَّةِ الْإِدْلَاجِ فَدَعِ الْعَجَائِبَ وَالتَّوَارِيخَ الْأُولَى ... وَانْظُرْ إِلَى قَايْمَازَ وَابْنِ قَمَاجِ عَطَفَ الزَّمَانُ عَلَيْهِمَا فَسَقَاهُمَا ... مِنْ كَأْسِهِ صِرْفًا بِغَيْرِ مِزَاجِ فَتَبَدَّلُوا بَعْدَ الْقُصُورِ وَظِلِّهَا ... وَنَعِيمِهَا بِمَهَامِهٍ وَفِجَاجِ فَلْيَحْذَرِ الْبَاقُونَ مِنْ أَمْثَالِهَا ... نَكَبَاتِ دَهْرٍ خَائِنٍ مِزْعَاجِ وَكَانَ قُطْبُ الدِّينِ كَرِيمًا، طَلْقَ الْوَجْهِ، مُحِبًّا لِلْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، كَثِيرَ الْبَذْلِ لِلْمَالِ. وَالَّذِي كَانَ جَرَى مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ تُنَامُشُ وَلَمْ يَكُنْ بِإِرَادَتِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ زَعِيمُ الدِّينِ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ، وَاسْمُهُ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعَمَّرِ بْنِ جَعْفَرَ أَبُو الْفَضْلِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ عِدَّةَ سِنِينَ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فِي الطَّرِيقِ، وَنَابَ عَنِ الْوِزَارَةِ، وَتَنَقَّلَ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ.

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 571 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ انْهِزَامِ سَيْفِ الدِّينِ مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَاشِرَ شَوَّالٍ، كَانَ الْمَصَافُّ بَيْنَ سَيْفِ الدِّينِ غَازِي بْنُ مَوْدُودٍ وَبَيْنَ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ بِتَلِّ السُّلْطَانِ، عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنْ حَلَبَ، وَعَلَى طَرِيقِ حَمَاةَ، وَانْهَزَمَ سَيْفُ الدِّينِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا انْهَزَمَ أَخُوهُ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودٌ مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ فِي الْعَامِ الْمَاضِي وَصَالَحَ سَيْفُ الدِّينِ أَخَاهُ عِمَادَ الدِّينِ صَاحِبَ سِنْجَارَ، عَادَ [إِلَى] الْمَوْصِلِ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ، وَفَرَّقَ فِيهِمُ الْأَمْوَالَ، وَاسْتَنْجَدَ صَاحِبُ حِصْنِ كَيْفَا، وَصَاحِبُ مَارِدِينَ وَغَيْرِهِمَا، فَاجْتَمَعَتْ مَعَهُ عَسَاكِرُ كَثِيرَةٌ بَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ سِتَّةَ آلَافِ فَارِسٍ، فَسَارَ إِلَى نَصِيبِينَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَقَامَ بِهَا فَأَطَالَ الْمَقَامَ حَتَّى انْقَضَى الشِّتَاءُ وَهُوَ مُقِيمٌ، فَضَجِرَ الْعَسْكَرُ وَنَفَذَتْ نَفَقَاتُهُمْ، وَصَارَ الْعَوْدُ إِلَى بُيُوتِهِمْ مَعَ الْهَزِيمَةِ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الظَّفَرِ لِمَا يَتَوَقَّعُونَهُ، إِنْ ظَفِرُوا، مِنْ طُولِ الْمَقَامِ بِالشَّامِ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ. ثُمَّ سَارَ إِلَى حَلَبَ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ سَعِدُ الدِّينِ كُمُشْتَكِينُ الْخَادِمُ، مُدَبِّرُ دَوْلَةِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ، وَمَعَهُ عَسَاكِرُ حَلَبَ، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَسَاكِرِ لِأَنَّهُ كَانَ صَالَحَ الْفِرِنْجَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَدْ سَيَّرَ عَسَاكِرَهُ إِلَى مِصْرَ، فَأَرْسَلَ يَسْتَدْعِيهَا فَلَوْ عَاجَلُوهُ لَبَلَغُوا غَرَضَهُمْ مِنْهُ، لَكِنَّهُمْ تَرَيَّثُوا وَتَأَخَّرُوا عَنْهُ، فَجَاءَتْهُ عَسَاكِرُهُ، فَسَارَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى نَاحِيَةِ حَلَبَ لِيَلْقَى سَيْفَ الدِّينِ، فَالْتَقَى الْعَسْكَرَانِ بِتَلِّ السُّلْطَانِ، وَكَانَ سَيْفُ الدِّينِ قَدْ سَبَقَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ صَلَاحُ [الدِّينِ] كَانَ

وُصُولُهُ الْعَصْرَ، وَقَدْ تَعِبَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَعَطِشُوا، فَأَلْقَوْا نُفُوسَهُمْ إِلَى الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهِمْ حَرَكَةٌ، فَأَشَارَ عَلَى سَيْفِ الدِّينِ جَمَاعَةٌ بِقِتَالِهِمْ وَهُمْ عَلَى هَذَا الْحَالِ، فَقَالَ زَلْفِنْدَارُ: مَا بِنَا هَذِهِ الْحَاجَةُ إِلَى قِتَالِ هَذَا الْخَارِجِيِّ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، غَدًا بُكْرَةً نَأْخُذُهُمْ كُلَّهُمْ، فَتَرَكَ الْقِتَالَ إِلَى الْغَدِ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ، فَجَعَلَ زَلْفِنْدَارُ، وَهُوَ الْمُدَبِّرُ لِلْعَسْكَرِ السَّيْفِيِّ، أَعْلَاهُمْ فِي وَهْدَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، لَا يَرَاهَا إِلَّا مَنْ هُوَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، فَلَمَّا لَمْ يَرَهَا النَّاسُ ظَنُّوا أَنَّ السُّلْطَانَ قَدِ انْهَزَمَ، فَلَمْ يَثْبُتُوا وَانْهَزَمُوا، وَلَمْ يَلْوِ أَخٌ عَلَى أَخِيهِ، وَلَمْ يُقْتَلْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَوَصَلَ سَيْفُ الدِّينِ إِلَى حَلَبَ، وَتَرَكَ بِهَا أَخَاهُ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودًا فِي جَمْعٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَلَمْ يُقِمْ هُوَ، وَعَبَرَ الْفُرَاتَ، وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَهُوَ لَا يُصَدِّقُ أَنَّهُ يَنْجُو. وَظَنَّ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ يَعْبُرُ الْفُرَاتَ وَيَقْصِدُهُ بِالْمَوْصِلِ، فَاسْتَشَارَ وَزِيرَهُ جَلَالَ الدِّينِ وَمُجَاهِدَ الدِّينِ قَايْمَازَ، فِي مُفَارَقَةِ الْمَوْصِلِ وَالِاعْتِصَامِ بِقَلْعَةِ عَقْرَ الْحُمَيْدِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ مُجَاهِدُ الدِّينِ: أَرَأَيْتَ إِنْ مُلِكَتِ الْمَوْصِلُ عَلَيْكَ، أَتَقْدِرُ أَنْ تَمْتَنِعَ بِبَعْضِ أَبْرَاجِ الْفَصِيلِ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: بُرْجٌ فِي الْفَصِيلِ خَيْرٌ مِنَ الْعَقْرِ، وَمَا زَالَ الْمُلُوكُ يَنْهَزِمُونَ وَيُعَاوِدُونَ الْحَرْبَ، وَاتَّفَقَ هُوَ وَالْوَزِيرُ عَلَى شَدِّ أَزْرِهِ، وَتَقْوِيَةِ قَلْبِهِ، فَثَبَتَ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْ زَلْفِنْدَارَ وَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ مَكَانَهُ عَلَى إِمَارَةِ الْجُيُوشِ مُجَاهِدَ الدِّينِ قَايْمَازَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ فِي كِتَابِ " الْبَرْقُ الشَّامِيُّ " فِي تَارِيخِ الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ أَنَّ سَيْفَ الدِّينِ كَانَ عَسْكَرُهُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، إِنَّمَا كَانَ عَلَى التَّحْقِيقِ يَزِيدُ عَلَى سِتَّةِ آلَافِ فَارِسٍ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ، فَإِنَّنِي وَقَفْتُ عَلَى

جَرِيدَةِ الْعَرْضِ، وَتَرْتِيبِ الْعَسْكَرِ لِلْمَصَافِّ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَقَلْبًا وَجَالِيشِيَّةً، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ الْمُتَوَلِّي لِذَلِكَ وَالْكَاتِبُ لَهُ أَخِي مَجْدَ الدِّينِ أَبَا السِّعَادَاتِ الْمُبَارَكَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّمَا قَصَدَ الْعِمَادُ أَنْ يُعَظِّمَ أَمْرَ صَاحِبِهِ بِأَنَّهُ هَزَمَ بِسِتَّةِ آلَافٍ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، ثُمَّ يَا لَيْتَ شِعْرِي كَمْ هِيَ الْمَوْصِلُ وَأَعْمَالُهُاَ إِلَى الْفُرَاتِ حَتَّى يَكُونَ لَهَا وَفِيهَا عِشْرُونَ أَلْفَ فَارِسٍ؟ ذِكْرُ مَا مَلَكَهُ صَلَاحُ الدِّينِ بَعْدَ الْكَسْرَةِ مِنْ بِلَادِ الصَّالِحِ بْنِ نُورِ الدِّينِ لَمَّا انْهَزَمَ سَيْفُ الدِّينِ وَعَسْكَرُهُ وَوَصَلُوا إِلَى حَلَبَ عَادَ سَيْفُ الدِّينِ إِلَى الْمَوْصِلِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَتَرَكَ بِحَلَبَ أَخَاهُ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودًا فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ نَجْدَةً لِلْمَلِكِ الصَّالِحِ، وَأَمَّا صَلَاحُ الدِّينِ فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى أَثْقَالِ الْعَسْكَرِ الْمَوْصِلِيِّ هُوَ وَعَسْكَرُهُ، وَغَنِمُوهَا وَاتَّسَعُوا بِهَا وَقَوُوا، سَارَ إِلَى بُزَاعَةَ فَحَصَرَهَا، وَقَاتَلَهُ مَنْ بِالْقَلْعَةِ، ثُمَّ تَسَلَّمَهَا وَجَعَلَ فِيهَا مَنْ يَحْفَظُهَا، وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ مَنْبَجَ فَحَصَرَهَا آخِرَ شَوَّالٍ، وَبِهَا صَاحِبُهَا قُطْبُ الدِّينِ يَنَّالُ بْنُ حَسَّانَ الْمَنْبَجِيُّ وَكَانَ شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِصَلَاحِ الدِّينِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهِ، وَالْإِطْمَاعِ فِيهِ، وَالطَّعْنِ فِيهِ، فَصَلَاحُ الدِّينِ حَنَقَ عَلَيْهِ مُتَهَدِّدٌ لَهُ، فَأَمَّا الْمَدِينَةُ فَمَلَكَهَا، وَلَمْ تَمْتَنِعْ عَلَيْهِ، وَبَقِيَ الْقَلْعَةُ وَبِهَا صَاحِبُهَا قَدْ جَمَعَ إِلَيْهَا الرِّجَالَ وَالسِّلَاحَ وَالذَّخَائِرَ، فَحَصَرَهُ صَلَاحُ الدِّينِ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ وَزَحَفَ إِلَى الْقَلْعَةِ فَوَصَلَ النَّقَّابُونَ إِلَى السُّورِ فَنَقَبُوهَا وَمَلَكُوهَا عَنْوَةً، وَغَنِمَ الْعَسْكَرُ الصَّلَاحِيُّ كُلُّ مَا فِيهَا، وَأُخِذَ صَاحِبُهَا يَنَّالُ أَسِيرًا، فَأَخَذَ صَلَاحُ الدِّينِ كُلَّ مَالِهِ وَأَصْبَحَ فَقِيرًا لَا يَمْلِكُ نَقِيرًا، ثُمَّ أَطْلَقَهُ صَلَاحُ الدِّينِ فَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَأَقْطَعَهُ سَيْفُ الدِّينِ غَازِي مَدِينَةَ الرَّقَّةِ. وَلَمَّا فَرَغَ صَلَاحُ [الدِّينِ] مِنْ مَنْبَجَ سَارَ إِلَى قَلْعَةِ إِعْزَازَ فَنَازَلَهَا ثَالِثَ ذِي الْقِعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ، وَهِيَ مِنْ أَحْصَنِ الْقِلَاعِ وَأَمْنَعِهَا، فَنَازَلَهَا وَحَصَرَهَا، وَأَحَاطَ بِهَا وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ فِيهَا وَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَقُتِلَ عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَبَيْنَمَا صَلَاحُ الدِّينِ يَوْمًا فِي خَيْمَةٍ لِبَعْضِ أُمَرَائِهِ يُقَالُ لَهُ جَاوْلِي، وَهُوَ مُقَدَّمُ الطَّائِفَةِ الْأَسْدِيَّةِ، إِذْ وَثَبَ عَلَيْهِ بَاطِنِيٌّ فَضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ فِي رَأْسِهِ فَجَرَحَهُ، فَلَوْلَا أَنَّ الْمِغْفَرَ الزَّرَدَ كَانَ تَحْتَ الْقَلَنْسُوَةِ لَقَتَلَهُ، فَأَمْسَكَ صَلَاحُ الدِّينِ يَدَ الْبَاطِنِيَّ بِيَدِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الضَّرْبِ

بِالْكُلِّيَّةِ، إِنَّمَا يَضْرِبُ ضَرْبًا ضَعِيفًا، فَبَقِيَ الْبَاطِنِيُّ يَضْرِبُهُ فِي رَقَبَتِهِ بِالسِّكِّينِ، وَكَانَ عَلَيْهِ كُزَاغَنْدُ فَكَانَتِ الضَّرَبَاتُ تَقَعُ فِي زِيقِ الْكُزَاغَنْدِ فَتَقْطَعُهُ، وَالزَّرَدُ يَمْنَعُهَا مِنَ الْوُصُولِ إِلَى رَقَبَتِهِ لِبُعْدِ أَجْلِهِ، فَجَاءَ أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَائِهِ اسْمُهُ يَازَكْشُ، فَأَمَسَكَ السِّكِّينَ بِكِفَّهِ، فَجَرَحَهُ الْبَاطِنِيُّ، وَلَمْ يُطْلِقْهَا مِنْ يَدِهِ إِلَى أَنْ قَتَلَ الْبَاطِنِيَّ، وَجَاءَ آخَرٌ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ فَقُتِلَ أَيْضًا، وَثَالِثٌ فَقُتِلَ، وَرَكِبَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى خَيْمَتِهِ كَالْمَذْعُورِ لَا يُصَدِّقُ بِنَجَاتِهِ، ثُمَّ اعْتَبَرَ جُنْدَهُ، فَمَنْ أَنْكَرَهُ أَبْعَدَهُ، وَمَنْ عَرَفَهُ أَقَرَّهُ عَلَى خِدْمَتِهِ، وَلَازَمَ حِصَارَ إِعْزَازَ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، كُلَّ يَوْمٍ أَشَدُّ قِتَالًا مِمَّا قَبْلَهُ، وَكَثُرَتِ النُّقُوبُ فِيهَا، فَأَذْعَنَ مَنْ بِهَا، وَسَلَّمُوا الْقَلْعَةَ إِلَيْهِ فَتَسَلَّمَهَا حَادِي عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ. ذِكْرُ حَصْرِ صَلَاحِ الدِّينِ مَدِينَةَ حَلَبَ وَالصُّلْحِ عَلَيْهَا لَمَّا مَلَكَ صَلَاحُ الدِّينِ قَلْعَةَ إِعْزَازَ رَحَلَ إِلَى حَلَبَ فَنَازَلَهَا مُنْتَصَفَ ذِي الْحِجَّةِ وَحَصَرَهَا، وَبِهَا الْمَلِكُ الصَّالِحُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَقَدْ قَامَ الْعَامَّةُ فِي حِفْظِ الْبَلَدِ الْقِيَامَ الْمَرْضِيَّ، بِحَيْثُ إِنَّهُمْ مَنَعُوا صَلَاحَ الدِّينِ مِنَ الْقُرْبِ مِنَ الْبَلَدِ، لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا تَقَدَّمَ لِلْقِتَالِ خَسِرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَثُرَ الْجِرَاحُ فِيهِمْ وَالْقَتْلُ، وَكَانُوا يَخْرُجُونَ وَيُقَاتِلُونَهُ ظَاهِرَ الْبَلَدِ، فَتَرَكَ الْقِتَالَ وَأَخْلَدَ لِلْمُطَاوَلَةِ. وَانْقَضَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَدَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَهُوَ مُحَاصِرٌ لَهَا، ثُمَّ تَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ فِي الصُّلْحِ فِي الْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَوَقَعَتِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، لِأَنَّ أَهْلَ حَلَبَ خَافُوا مِنْ طُولِ الْحِصَارِ، فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا ضَعُفُوا، وَصَلَاحُ

الدِّينِ رَأَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الدُّنُوِّ مِنَ الْبَلَدِ، وَلَا عَلَى قِتَالِ مَنْ بِهِ، فَأَجَابَ أَيْضًا، وَتَقَرَّرَتِ الْقَاعِدَةُ فِي الصُّلْحِ لِلْجَمِيعِ، لِلْمَلِكِ الصَّالِحِ، وَلِسَيْفِ الدِّينِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَلِصَاحِبِ الْحِصْنِ، وَلِصَاحِبِ مَارِدِينَ، وَتَحَالَفُوا وَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ عَوْنًا عَلَى النَّاكِثِ الْغَادِرِ. فَلَمَّا انْفَصَلَ الْأَمْرُ وَتَمَّ الصُّلْحُ رَحَلَ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْ حَلَبَ بَعْدَ أَنْ أَعَادَ قَلْعَةَ إِعْزَازَ إِلَى الْمَلِكِ الصَّالِحِ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ [إِلَى] صَلَاحِ الدِّينِ أُخْتًا لَهُ صَغِيرَةً طِفْلَةً، فَأَكْرَمَهَا صَلَاحُ الدِّينِ وَحَمَلَ لَهَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَالَ لَهَا: مَا تُرِيدِينَ؟ قَالَتْ: أُرِيدُ قَلْعَةَ إِعْزَازَ، وَكَانُوا قَدْ عَلَّمُوهَا ذَلِكَ، فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِمْ، وَرَحَلَ إِلَى بَلَدِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِمَكَّةَ وَعَزْلِ أَمِيرِهَا وَإِقَامَةِ غَيْرِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، كَانَ بِمَكَّةَ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ أَمِيرِ الْحَاجِّ طَاشْتَكِينَ وَبَيْنَ الْأَمِيرِ مُكْثِرِ أَمِيرِ مَكَّةَ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ قَدْ أَمَرَ أَمِيرَ الْحَاجِّ بِعَزْلِ مُكْثِرٍ وَإِقَامَةِ أَخِيهِ دَاوُدَ مَقَامَهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ بَنَى قَلْعَةً عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ، فَلَمَّا سَارَ الْحَاجُّ عَنْ عَرَفَاتٍ لَمْ يَبِيتُوا بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَإِنَّمَا اجْتَازُوا بِهَا، فَلَمْ يَرْمُوا الْجِمَارَ، إِنَّمَا بَعْضُهُمْ رَمَى بَعْضَهَا وَهُوَ سَائِرٌ، وَنَزَلُوا الْأَبْطَحَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَحَارَبُوهَا، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ، وَصَاحَ النَّاسُ: الْغَزَاةُ إِلَى مَكَّةَ، فَهَجَمُوا عَلَيْهَا، فَهَرَبَ أَمِيرُ مَكَّةَ مُكْثِرٌ، فَصَعِدَ إِلَى الْقَلْعَةِ الَّتِي بَنَاهَا عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ فَحَصَرُوهُ بِهَا، فَفَارَقَهَا وَسَارَ عَنْ مَكَّةَ، وَوَلِيَ أَخُوهُ دَاوُدُ الْإِمَارَةَ، وَنَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْحَاجِّ مَكَّةَ وَأَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِ

التُّجَّارِ الْمُقِيمِينَ بِهَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَحْرَقُوا دُورًا كَثِيرَةً. وَمِنْ أَعْجَبِ مَا جَرَى فِيهَا أَنَّ إِنْسَانًا زَرَّاقًا ضَرَبَ دَارًا بِقَارُورَةِ نِفْطٍ فَأَحْرَقَهَا، وَكَانَتْ لِأَيْتَامٍ، فَأَحْرَقَتْ مَا فِيهَا، ثُمَّ أَخَذَ قَارُورَةً أُخْرَى لِيَضْرِبَ بِهَا مَكَانًا آخَرَ، فَأَتَاهُ حَجَرٌ فَأَصَابَ الْقَارُورَةَ فَكَسَرَهَا، فَاحْتَرَقَ هُوَ بِهَا، فَبَقِيَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُعَذَّبُ بِالْحَرِيقِ ثُمَّ مَاتَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ جَمِيعُهَا، وَأَظْلَمَتِ الْأَرْضُ حَتَّى بَقِيَ الْوَقْتُ كَأَنَّهُ لَيْلٌ مُظْلِمٌ، وَظَهَرَتِ الْكَوَاكِبُ، وَكَانَ ذَلِكَ ضَحْوَةَ النَّهَارِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، وَكُنْتُ حِينَئِذٍ صَبِيًّا بِظَاهِرِ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ مَعَ شَيْخٍ لَنَا مِنَ الْعُلَمَاءِ أَقْرَأُ عَلَيْهِ الْحِسَابَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ خِفْتُ خَوْفًا شَدِيدًا، وَتَمَسَّكْتُ بِهِ، فَقَوَّى قَلْبِي، وَكَانَ عَالِمًا بِالنُّجُومِ أَيْضًا، وَقَالَ لِيَ: الْآنَ تَرَى هَذَا جَمِيعَهُ، فَانْصَرَفَ سَرِيعًا. وَفِيهَا وَلَّى الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَضِيءُ بِأَمْرِ اللَّهِ حِجَابَةَ الْبَابِ أَبَا طَالِبٍ نَصْرَ بْنَ عَلِيٍّ النَّاقِدَ، وَكَانَ يُلَقَّبُ فِي صِغَرِهِ قُنْبُرًا، فَصَارُوا يَصِيحُونَ بِهِ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَرْكَبَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَيَمْنَعُوا النَّاسَ، مِنْ ذَلِكَ، فَامْتَنَعُوا، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ الْعِيدِ خَلْعَ عَلَيْهِ لِيَرْكَبَ فِي الْمَوْكِبِ، فَاشْتَرَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ مِنَ الْقَنَابِرِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَعَزَمُوا عَلَى إِرْسَالِهَا فِي الْمَوْكِبِ إِذَا رَأُوُا ابْنَ النَّاقِدِ، فَأُنْهِيَ ذَلِكَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَقِيلَ لَهُ يَصِيرُ الْمَوْكِبُ ضِحْكَةً، فَعَزَلَهُ وَوَلَّى ابْنَ الْمُعْوَجِّ. وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، يَوْمَ الْعِيدِ، وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَبَعْضِ الْأَتْرَاكِ

بِسَبَبِ أَخْذِ جَمَالِ النَّحْرِ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ جَمَاعَةٌ وَنُهِبَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَفَرَّقَ الْخَلِيفَةُ أَمْوَالًا جَلِيلَةً فِيمَنْ نُهِبَ مَالُهُ. وَفِيهَا زُلْزِلَتْ بِلَادُ الْعَجَمِ مِنْ حَدِّ الْعِرَاقِ إِلَى مَا وَرَاءَ الرَّيِّ، وَهَلَكَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَتَهَدَّمَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ كَانَ بِالرَّيِّ وَقَزْوِينَ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، اسْتَوْزَرَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِي، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، جَلَالَ الدِّينِ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ جَمَالِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ، وَكَانَ أَبُوهُ جَمَالُ الدِّينِ وَزِيرَ الْبَيْتِ الْأَتَابِكِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَخْبَارُهُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ بِالْجُودِ وَالْإِفْضَالِ، وَلَمَّا وَلِيَ جَلَالُ الدِّينِ الْوِزَارَةَ ظَهَرَتْ مِنْهُ كِفَايَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ بِقَوَانِينِ الْوِزَارَةِ، وَلَهُ مُكَاتَبَاتٌ وَعُهُودٌ حَسَنَةٌ مُدَوَّنَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَكَانَ جَوَّادًا فَاضِلًا خَيِّرًا، عُمْرُهُ، لَمَّا وَلِيَ الْوِزَارَةَ، خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، اسْتَنَابَ سَيْفُ الدِّينِ أَيْضًا عَنْهُ بِقَلْعَةِ الْمَوْصِلِ مُجَاهِدَ الدِّينِ قَايْمَازَ، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ الْأُمُورَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ [فَوَّضَ] إِلَيْهِ الْأَمْرَ بِمَدِينَةِ إِرْبِلَ وَأَعْمَالِهِاَ، وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ صَالِحِي الْأُمَرَاءِ وَأَرْبَابِ الْمَعْرُوفِ، بَنَى كَثِيرًا مِنَ الْجَوَامِعِ وَالْخَانَاتِ فِي الطُّرُقِ، وَالْقَنَاطِرِ عَلَى الْأَنْهَارِ وَالرُّبُطِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ، وَكَانَ دَائِمَ الصَّدَقَةِ، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ، عَادِلَ السِّيرَةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَفِيهَا قَبَضَ الْخَلِيفَةُ عَلَى عِمَادِ الدِّينِ صَنْدَلِ الْمُقْتَفَوِيِّ، أُسْتَاذِ الدَّارِ، وَرَتَّبَ مَكَانَهُ أَبَا الْفَضْلِ هِبَةَ اللَّهِ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الصَّاحِبِ. وَفِيهَا، فِي رَمَضَانَ، قَدِمَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهُ بْنُ أَيُّوبَ الَّذِي مَلَكَ الْيَمَنَ إِلَى دِمَشْقَ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ أَخَاهُ صَلَاحَ الدِّينِ مَلَكَهَا، حَنَّ إِلَى الْوَطَنِ وَالْأَتْرَابِ فَفَارَقَ الْيَمَنَ وَسَارَ إِلَى الشَّامِ، وَأَرْسَلَ مِنَ الطَّرِيقِ إِلَى أَخِيهِ يُعْلِمُهُ بِوُصُولِهِ، وَكَتَبَ فِي الْكِتَابِ شِعْرًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْمُنَجِّمِ الْمِصْرِيِّ:

وَإِلَى صَلَاحِ الدِّينِ أَشْكُو أَنَّنِي ... مِنْ بَعْدِهِ مُضْنَى الْجَوَانِحِ مُولَعُ جَزِعًا لِبُعْدِ الدَّارِ مِنْهُ وَلَمْ أَكُنْ ... لَوْلَا هَوَاهُ لِبُعْدِ دَارٍ أَجْزَعُ فَلَأَرْكَبَنَّ إِلَيْهِ مَتْنَ عَزَائِمِي ... وَيَخُبُّ بِي رَكْبُ الْغَرَامِ وَيُوسِعُ وَلَأَقْطَعَنَّ مِنَ النَّهَارِ هَوَاجِرًا ... قَلْبُ النَّهَارِ بِحَرِّهَا يَتَقَطَّعُ وَلَأُسْرِيَنَّ اللَّيْلَ لَا يَسْرِي بِهِ ... طَيْفُ الْخَيَالِ وَلَا الْبَرْوَقُ اللُّمَّعُ وَأُقَدِّمَنَّ إِلَيْهِ قَلْبِي مُخْبِرًا ... أَنِّي بِجِسْمِي مِنْ قَرِيبٍ أَتْبَعُ حَتَّى أُشَاهِدَ مِنْهُ أَسْعَدَ طَلْعَةٍ ... مِنْ أُفُقِهَا صُبْحُ السَّعَادَةِ يَطْلُعُ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، بَرَزَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ دِمَشْقَ، وَقَدْ عَظُمَ شَأْنُهُ بِمَا مَلَكَهُ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَبِكَسْرِهِ عَسْكَرَ الْمَوْصِلِ، فَخَافَهُ الْفِرِنْجُ وَغَيْرُهُمْ، وَعَزَمَ عَلَى دُخُولِ بَلَدِهِمْ وَنَهْبِهِ وَالْإِغَارَةِ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَطْلُبُونَ الْهُدْنَةَ مَعَهُ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهَا وَصَالَحَهُمْ، فَأَمْرَ الْعَسَاكِرَ الْمِصْرِيَّةَ بِالْعُوْدِ إِلَى مِصْرَ وَالِاسْتِرَاحَةِ إِلَى أَنْ يُعَاوِدَ طَلَبَهُمْ، وَشَرَّطَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ مَتَى أَرْسَلَ يَسْتَدْعِيهِمْ لَا يَتَأَخَّرُونَ، فَسَارُوا إِلَيْهَا وَأَقَامُوا بِهَا إِلَى أَنِ اسْتَدْعَاهُمْ لِلْحَرْبِ مَعَ سَيْفِ الدِّينِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَسَاكِرَ الْبِطَائِحِيُّ الْمُقْرِئُ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَرَوَاهُ، وَكَانَ نَحْوِيًّا جَيِّدًا. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الرَّزَّازِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْدِقَائِهِ مُكَاتَبَةً وَضَمَّنَهَا شِعْرًا، فَأَجَابَهُ: يَا مَنْ أَيَادِيهِ تُغْنِي مَنْ يُعَدِّدُهَا ... وَلَيْسَ يُحْصِي مَدَاهَا مَنْ لَهَا يَصِفُ عَجَزْتُ عَنْ شُكْرِ مَا أَوْلَيْتَ مِنْ كَرَمٍ ... وَصِرْتُ عَبْدًا وَلِي فِي ذَلِكَ الشَّرَفُ أَهْدَيْتَ مَنْظُومَ شِعْرٍ كُلَّهُ دُرَرٌ ... فَكُلُّ نَاظِمِ عِقْدٍ دُونَهُ يَقِفُ إِذَا أَتَيْتَ بِبَيْتٍ مِنْهُ كَانَ لَنَا ... قَصْرًا وَدُرُّ الْمَعَانِي فَوْقَهُ شُرَفُ وَإِنْ أَتَيْتُ أَنَا بَيْتًا يُنَاقِضُهُ ... أَتَيْتُ لَكِنْ بِبَيْتٍ سَقْفُهُ يَكِفُّ مَا كُنْتُ مِنْهُ وَلَا مِنْ أَهْلِهِ أَبَدًا ... وَإِنَّمَا حِينَ أَدْنُو مِنْهُ أَقْتَطِفُ وَقِيلَ كَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ.

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 572 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ نَهْبِ صَلَاحِ الدِّينِ بَلَدَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ لَمَّا رَحَلَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ حَلَبَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، قَصَدَ بِلَادَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ فِي الْمُحَرَّمِ لِيُقَاتِلَهُمْ بِمَا فَعَلُوهُ بِهِ مِنَ الْوُثُوبِ عَلَيْهِ وَإِرَادَةِ قَتْلِهِ، فَنَهَبَ بَلَدَهُمْ وَخَرَّبَهُ وَأَحْرَقَهُ، وَحَصَرَ قَلْعَةَ مِصْيَافَ، وَهِيَ أَعْظَمُ حُصُونِهِمْ، وَأَحْصَنُ قِلَاعِهِمْ، فَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهَا، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَأَرْسَلَ سِنَانٌ مُقَدَّمُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ إِلَى شِهَابِ الدِّينِ الْحَارِمِيِّ، صَاحِبِ حَمَاةَ وَهُوَ خَالُ صَلَاحِ الدِّينِ، يَسْأَلُهُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَهُمْ وَيُصْلِحُ الْحَالَ وَيَشْفَعُ فِيهِمْ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ قَتَلْنَاكَ وَجَمِيعَ أَهْلِ صَلَاحِ الدِّينِ وَأُمَرَائِهِ، فَحَضَرَ شِهَابٌ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ وَشَفَعَ فِيهِمْ وَسَأَلَ الصَّفْحَ عَنْهُمْ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَصَالَحَهُمْ، وَرَحَلَ عَنْهُمْ. وَكَانَ عَسْكَرُهُ قَدْ مَلُّوا مِنْ طُولِ الْبِيكَارِ، وَقَدِ امْتَلَاتْ أَيْدِيهُمْ مِنْ غَنَائِمِ عَسْكَرِ الْمَوْصِلِ، وَنَهْبِ بَلَدِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَطَلَبُوا الْعَوْدَ إِلَى بِلَادِهِمْ لِلِاسْتِرَاحَةِ، فَأَذِنَ لَهُمْ، وَسَارَ هُوَ إِلَى مِصْرَ مَعَ عَسْكَرِهَا، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ طَالَ عَهْدُهُ عَنْهَا، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْمُضِيُّ إِلَيْهَا فِيمَا تَقَدَّمَ خَوْفًا عَلَى بِلَادِ الشَّامِ، فَلَمَّا انْهَزَمَ سَيْفُ الدِّينِ، وَحَصَرَ هُوَ حَلَبَ، وَمَلَكَ بِلَادَهَا، وَاصْطَلَحُوا، أَمِنَ عَلَى الْبِلَادِ، فَسَارَ إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا أَمَرَ

بِبِنَاءِ سُورٍ عَلَى مِصْرَ فِي الشِّعَارِيِّ وَالْغِيَاضِ وَالْقَاهِرَةِ وَالْقَلْعَةِ الَّتِي عَلَى جَبَلِ الْمُقَطَّمِ، دَوْرُهُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ ذِرَاعٍ وَثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ بِالذِّرَاعِ الْهَاشِمِيِّ، وَلَمْ يَزَلِ الْعَمَلُ فِيهِ إِلَى أَنْ مَاتَ صَلَاحُ الدِّينِ. ذِكْرُ ظَفَرٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْفِرِنْجِ وَلِلْفِرِنْجِ بِالْمُسْلِمِينَ كَانَ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمُقَدَّمِ صَاحِبُ بَعْلَبَكَّ، فَأَتَاهُ خَبَرٌ أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْفِرِنْجِ قَدْ قَصَدُوا الْبِقَاعَ مِنْ أَعْمَالِ بِعْلَبَكَّ، وَأَغَارُوا عَلَيْهَا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَكَمَنَ لَهُمْ فِي الشِّعَارِيِّ وَالْغِيَاضِ، وَأَوْقَعَ بِهِمْ، وَقَتَلَ فِيهِمْ وَأَكْثَرَ، وَأَسَرَ نَحْوَ مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنْهُمْ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ. وَكَانَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهُ أَخُو صَلَاحِ الدِّينِ، وَهُوَ الَّذِي مَلَكَ الْيَمَنَ، قَدْ وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ فِيهَا، فَسَمِعَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْفِرِنْجِ قَدْ خَرَجُوا مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَى أَعْمَالِ دِمَشْقَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَلَقِيَهُمْ [عِنْدَ عَيْنِ الْجَرِّ فِي تِلْكَ الْمُرُوجِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ، وَانْهَزَمَ عَنْهُمْ فَظَفِرُوا] بِجَمْعٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَسَرُوهُمْ، مِنْهُمْ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ بْنُ السَلَّارِ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الْجُنْدِ الدِّمَشْقِيِّينَ، وَاجْتَرَأَ الْفِرِنْجُ بَعْدَهَا، وَانْبَسَطُوا فِي تِلْكَ الْوِلَايَةِ، وَجَبَرُوا الْكَسْرَ الَّذِي نَالَهُ مِنْهُمُ ابْنُ الْمُقَدَّمِ. ذِكْرُ عِصْيَانِ صَاحِبِ شَهْرَزُورَ عَلَى سَيْفِ الدِّينِ وَعَوْدِهِ إِلَى طَاعَتِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى شِهَابُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ بِزَانَ، صَاحِبُ شَهْرَزُورَ، عَلَى سَيْفِ الدِّينِ غَازِي وَكَانَ فِي طَاعَتِهِ وَتَحْتَ حُكْمِهِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُجَاهِدَ الدِّينِ قَايْمَازَ كَانَ مُتَوَلِّيًا مَدِينَةَ إِرْبِلَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ

ابْنِ بِزَانَ عَدَاوَةٌ مَحْكَمَةٌ، فَلَمَّا اسْتَنَابَ سَيْفُ الدِّينِ مُجَاهِدَ الدِّينِ بِالْمَوْصِلِ خَافَ ابْنُ بِزَانَ أَنْ يَنَالَهُ مِنْهُ أَذَىً، فَأَظْهَرَ الِامْتِنَاعَ مِنَ النُّزُولِ إِلَى الْخِدْمَةِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ جَلَالُ الدِّينِ وَزِيرُ سَيْفِ الدِّينِ كِتَابًا يَأْمُرُهُ بِمُعَاوَدَةِ الطَّاعَةِ، وَيُحَذِّرُهُ عَاقِبَةَ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الْكُتُبِ وَأَبْلَغِهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَلَوْلَا خَوْفُ التَّطْوِيلِ لَذَكَرْتُهُ، فَلْيُطْلَبُ مِنْ مُكَاتَبَاتِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابُ وَالرَّسُولُ بَادَرَ إِلَى حُضُورِ الْخِدْمَةِ بِالْمَوْصِلِ وَزَالَ الْخُلْفُ. ذِكْرُ فَرَجٍ بَعْدَ شِدَّةٍ يَتَعَلَّقُ بِالتَّارِيخِ بِالْقُرْبِ مِنْ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ حِصْنٌ مَنِيعٌ مِنْ أَمْنَعِ الْمَعَاقِلِ اسْمُهُ فَنَكُ، وَهُوَ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ عَالٍ، وَهُوَ لِلْأَكْرَادِ الْبَشْنَوِيَّةِ، لَهُ بِأَيْدِيهِمْ نَحْوُ ثَلَاثِمِاِئَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ صَاحِبَهُ هَذِهِ السَّنَةَ أَمِيرٌ مِنْهُمُ اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ، وَلَهُ أَخٌ اسْمُهُ عِيسَى، قَدْ خَرَجَ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَزَالُ يَسْعَى فِي أَخْذِهِ مِنْ أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَطَاعَهُ بَعْضُ بِطَانَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَفَتَحَ بَابَ السِّرِّ لَيْلًا، وَأَصْعَدَ مِنْهُ إِلَى رَأْسِ الْقَلْعَةِ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى، فَقَبَضُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ عِنْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِلَّا نَفَرٌ مِنْ خَوَاصِّهِ، وَهَذِهِ قِلَّةٌ عَلَى صَخْرَةٍ كَبِيرَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَنْ سَائِرِ الْقَلْعَةِ ارْتِفَاعًا كَثِيرًا، وَبِهَا يَسْكُنُ الْأَمِيرُ وَأَهْلُهُ وَخَوَاصُّهُ، وَبَاقِي الْجُنْدِ فِي الْقَلْعَةِ تَحْتَ الْقُلَّةِ، فَلَمَّا قَبَضُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ جَعَلُوهُ فِي خِزَانَةٍ، وَضَرَبَهُ بَعْضُهُمْ بِسَيْفٍ فِي يَدِهِ عَلَى عَاتِقِهِ، فَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، فَلَمَّا جُعِلَ فِي الْخِزَانَةِ وَكَّلَ بِهِ رَجُلَانِ، وَصَعِدَ الْبَاقُونَ إِلَى سَطْحِ الْقُلَّةِ، وَلَا يَشُكُّونَ أَنَّ الْقَلْعَةَ لَهُمْ لَا مَانِعَ عَنْهَا. وَوَصَلَ مِنَ الْغَدِ بُكْرَةً الْأَمِيرُ عِيسَى لِيَتَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ، وَبَيْنَهُمَا دِجْلَةُ وَكَانَتِ امْرَأَةُ الْأَمِيرِ إِبْرَاهِيمَ فِي خِزَانَةٍ أُخْرَى، وَفِيهَا شُبَّاكُ حَدِيدٍ ثَقِيلٍ يُشْرِفُ عَلَى الْقَلْعَةِ، فَجَذَبَتْهُ بِيَدِهَا فَانْقَلَعَ، وَجُنْدُ زَوْجِهَا فِي الْقَلْعَةِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ، فَلَمَّا قَلَعَتِ الشُّبَّاكَ أَرَادَتْ أَنْ تُدْلِيَ حَبْلًا تَرْفَعُ بِهِ الرِّجَالَ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا غَيْرُ ثِيَابٍ خَامٍ، فَوَصَلَتْ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَدَلَّتْهَا إِلَى الْقَلْعَةِ، وَشَدَّتْ طَرَفَيْهَا عِنْدَهَا فِي عُودٍ فَأَصْعَدَتْ إِلَيْهَا عَشَرَةَ رِجَالٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَرَاهُمُ الَّذِينَ عَلَى السَّطْحِ. وَرَأَى الْأَمِيرُ عِيسَى، وَهُوَ عَلَى جَانِبِ دِجْلَةَ، الرِّجَالَ يَصْعَدُونَ، فَصَاحَ هُوَ وَمَنْ

مَعَهُ إِلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ عَلَى السَّطْحِ لِيَحْذَرُوا، وَكَانُوا كُلَّمَا صَاحُوا صَاحَ أَهْلُ الْقَلْعَةِ لِتَخْتَلِفَ الْأَصْوَاتُ فَلَا يَفْهَمُ الَّذِينَ عَلَى السَّطْحِ، فَيَنْزِلُونَ وَيَمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ عِنْدَهَا عَشَرَةُ رِجَالٍ أَرْسَلَتْ مَعَ خَادِمٍ عِنْدَهَا إِلَى زَوْجِهَا قَدَحَ شَرَابٍ وَأَمَرَتْهُ أَنْ يَقْرُبَ مِنْهُ كَأَنَّهُ يَسْقِيهِ الشَّرَابَ وَيُعَرِّفُهُ الْحَالَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَسْقِيَهُ، وَعَرَّفَهُ الْحَالَ، فَقَالَ: ازْدَادُوا مِنَ الرِّجَالِ، فَأَصْعَدَتْ عِشْرِينَ رَجُلًا وَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهَا، فَمَدَّ إِبْرَاهِيمُ يَدَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ الْمُوَكَّلَيْنِ بِهِ، فَأَخَذَ شُعُورَهَمُاَ، وَأَمَرَ الْخَادِمَ بِقَتْلِهِمَا، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَهُ، فَقَتَلَهُمَا بِسِلَاحِهِمَا، فَخَرَجَ وَاجْتَمَعَ بِأَصْحَابِهِ وَأَرَادُوا فَتْحَ الْقَلْعَةِ لِيَصْعَدَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِنَ الْقَلْعَةِ، فَلَمْ يَجِدِ الْمَفَاتِيحَ، وَكَانَتْ مَعَ أُولَئِكَ الرِّجَالِ الَّذِينَ عَلَى السَّطْحِ، فَاضْطَرُّوا إِلَى الصُّعُودِ إِلَى سَطْحِ الْقُلَّةِ لِيَأْخُذُوا أَصْحَابَ عِيسَى، فَعَلِمُوا الْحَالَ، فَجَاءُوا وَوَقَفُوا عَلَى رَأْسِ الْمَمْرَقِ فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ [أَنْ] يَصْعَدَ، فَأَخَذَ بَعْضُ أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ تُرْسًا وَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَحَصَلَ فِي الدَّرَجَةِ، وَصَعَدَ وَقَاتَلَ الْقَوْمَ عَلَى رَأْسِ الْمَمْرَقِ، حَتَّى صَعِدَ أَصْحَابُهُ فَقَتَلُوا الْجَمَاعَةَ وَبَقِيَ مِنْهُمْ رَجُلٌ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ السَّطْحِ، فَنَزَلَ إِلَى أَسْفَلِ الْجَبَلِ فَتَقَطَّعَ. فَلَمَّا رَأَى عِيسَى مَا حَلَّ بِأَصْحَابِهِ عَادَ خَائِبًا مِمَّا أَمَّلَهُ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمِيرُ إِبْرَاهِيمُ فِي قَلْعَتِهِ عَلَى حَالِهِ. ذِكْرُ نَهْبِ الْبَنْدَنِيجِينِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ الْمَلِكُ الَّذِي بِخُوزِسْتَانَ عِنْدَ شُمْلَةَ، وَهُوَ ابْنُ مَلِكْشَاهْ بْنِ مَحْمُودٍ، إِلَى الْبَنْدَنِيجِينِ، فَخَرَّبَهَا وَنَهَبَهَا وَفَتَكَ فِي النَّاسِ، وَسَبَى حَرِيمَهُمْ، وَفَعَلَ كُلَّ قَبِيحٍ. وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَادَ فَخَرَجَ الْوَزِيرُ عَضُدُ الدِّينِ وَعَرَضَ الْعَسْكَرَ، وَوَصَلَ عَسْكَرُ الْحِلَّةَ وَوَاسِطَ مَعَ طَاشْتَكِينَ أَمِيرِ الْحَاجِّ وَغَرْغَلِي، وَسَارُوا نَحْوَ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا سَمِعَ بِوُصُولِهِمْ فَارَقَ مَكَانَهُ وَعَادَ، وَكَانَ مَعَهُ مِنَ التُّرْكُمَانِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَنَهَبَهُمْ عَسْكَرُ بَغْدَادَ، وَرَجَعُوا مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ بِالْعَوْدِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَأُمِرُوا بِالْعُوْدِ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ، فَعَادُوا لِأَوَائِلِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَقَدْ رَجَعَ الْمَلِكُ فَنَهَبَ مِنَ الْبَنْدَنِيجِينِ مَا كَانَ سَلِمَ مِنَ النَّهْبِ الْأَوَّلِ، وَوَقَعَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَلِكِ وَقْعَةٌ. ثُمَّ افْتَرَقُوا، فَمَضَى الْمَلِكُ وَفَارَقَ وِلَايَةَ الْعِرَاقِ وَعَادَ عَسْكَرُ بَغْدَادَ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى الْأُولَى، أُقِيمَتِ الْجُمْعَةُ فِي الْجَامِعِ الَّذِي بَنَاهُ فَخَرُ الدَّوْلَةِ بْنُ الْمُطَّلَبِ بِقِصَرِ الْمَأْمُونِ غَرْبِيَّ بَغْدَادَ. وَفِيهَا أَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ بِبِنَاءِ الْمَدْرَسَةِ الَّتِي عَلَى قَبْرِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمِصْرَ، وَعَمِلَ بِالْقَاهِرَةِ بِيمَارِسْتَانَ، وَوَقَفَ عَلَيْهِمَا الْوُقُوفَ الْعَظِيمَةَ الْكَبِيرَةَ. وَفِيهَا رَأَيْتُ بِالْمَوْصِلِ خَرُوفَيْنِ بِبَطْنٍ وَاحِدٍ وَرَأْسَيْنِ وَرَقَبَتَيْنِ وَظَهْرَيْنِ وَثَمَانِيَ قَوَائِمَ كَأَنَّهُمَا خَرُوفَانِ بِبَطْنٍ وَاحِدٍ، وَجْهُ أَحَدِهِمَا إِلَى وَجْهِ الْآخَرِ، وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ. وَفِيهَا انْقَضَّ كَوْكَبٌ أَضَاءَتْ لَهُ الْأَرْضُ إِضَاءَةً كَثِيرَةً، وَسُمِعَ لَهُ صَوْتٌ عَظِيمٌ وَبَقِيَ أَثَرُهُ فِي السَّمَاءِ مِقْدَارَ سَاعَةٍ وَذَهَبَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ تَاجُ الدِّينِ أَبُو عَلِيِّ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ أَخُو الْوَزِيرِ عَضُدِ الدِّينِ وَزِيرِ الْخَلِيفَةِ. وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ الْقَاضِي كَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ الشَّهْرَزُورِيُّ، قَاضِي دِمَشْقَ وَجَمِيعِ الشَّامِ، وَإِلَيْهِ الْوُقُوفُ بِهَا وَالدِّيوَانُ، وَكَانَ جَوَّادًا فَاضِلًا رَئِيسًا ذَا عَقْلٍ وَمَعْرِفَةٍ فِي تَدْبِيرِ الدُّوَلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ -.

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 573 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ انْهِزَامِ صَلَاحِ الدِّينِ بِالرَّمَلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَوَاخِرَ جُمَادَى الْأُولَى، سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ لِقَصْدِ غَزَاةِ بِلَادِ الْفِرِنْجِ، وَجَمَعَ مَعَهُ عَسَاكِرَ كَثِيرَةً وَجُنُودًا غَزِيرَةً، فَلَمْ يَزَالُوا يَجِدُّونَ السَّيْرَ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى عَسْقَلَانَ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، فَنَهَبُوا وَأَسَرُوا وَقَتَلُوا وَأَحْرَقُوا وَتَفَرَّقُوا فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ مُغِيرِينَ. فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْفِرِنْجَ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ عَسْكَرٌ وَلَا اجْتَمَعَ لَهُمْ مَنْ يَحْمِي الْبِلَادَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، طَمِعُوا، وَانْبَسَطُوا، وَسَارُوا فِي الْأَرْضِ آمِنِينَ مُطَمَئِنِّينَ، وَوَصَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الرَّمْلَةِ، عَازِمًا عَلَى أَنْ يَقْصِدَ بَعْضَ حُصُونِهِمْ لِيَحْصُرَهُ، فَوَصَلَ إِلَى نَهْرٍ، فَازْدَحَمَ النَّاسُ لِلْعُبُورِ، فَلَمْ يَرْعَهُمْ إِلَّا وَالْفِرِنْجُ قَدْ أَشْرَفَتْ عَلَيْهِمْ بِأَطْلَابِهَا وَأَبْطَالِهَا، وَكَانَ مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ بَعْضُ الْعَسْكَرِ، لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ تَفَرَّقُوا فِي طَلَبِ الْغَنِيمَةِ، فَلَمَّا رَآهُمْ وَقَفَ لَهُمْ فِيمَنْ مَعَهُ، وَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنُ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ، فَبَاشَرَ الْقِتَالَ بِنَفْسِهِ بَيْنَ يَدَيْ عَمِّهِ، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةٌ، وَكَذَلِكَ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَكَانَ لِتَقِيِّ الدِّينِ وَلَدٌ اسْمُهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الشَّبَابِ أَوَّلُ مَا تَكَامَلَتْ لِحْيَتُهُ فَأَمَرَهُ أَبُوهُ بِالْحَمْلَةِ عَلَيْهِمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ وَعَادَ سَالِمًا قَدْ أَثَّرَ فِيهِمْ أَثَرًا كَثِيرًا، فَأَمَرَهُ بِالْعَوْدَةِ إِلَيْهِمْ ثَانِيَةً، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَقُتِلَ شَهِيدًا، وَمَضَى حَمِيدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ -. وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ قِتَالًا ذَلِكَ الْيَوْمَ الْفَقِيهُ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَحَمَلَ بَعْضُ الْفِرِنْجِ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ فَقَارَبَهُ حَتَّى كَادَ يَصِلُ إِلَيْهِ، فَقُتِلَ الْفِرِنْجِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَكَاثَرَ الْفِرِنِجُ عَلَيْهِ، فَمَضَى مُنْهَزِمًا، يَسِيرُ قَلِيلًا وَيَقِفُ لِيَلْحَقَهُ الْعَسْكَرُ إِلَى أَنْ دَخَلَ اللَّيْلُ، فَسَلَكَ الْبَرِيَّةَ إِلَى أَنْ مَضَى فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ إِلَى مِصْرَ، وَلَقَوْا

فِي طَرِيقِهِمْ مَشَقَّةً شَدِيدَةً وَقَلَّ عَلَيْهِمُ الْقُوتُ وَالْمَاءُ، وَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنْ دَوَابِّ الْعَسْكَرِ جُوعًا وَعَطَشًا وَسُرْعَةَ سَيْرٍ. وَأَمَّا الْعَسْكَرُ الَّذِي كَانُوا دَخَلُوا بِلَادَ الْفِرِنْجِ فِي الْغَارَةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ ذَهَبَ مَا بَيْنَ قَتِيلٍ وَأَسِيرٍ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أُسِرَ الْفَقِيهُ عِيسَى الْهَكَّارِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الْأَسْدِيَّةِ، وَكَانَ جَمَعَ الْعِلْمَ وَالدِّينَ وَالشَّجَاعَةَ، وَأُسِرَ أَيْضًا أَخُوهُ الظَّهِيرُ، وَكَانَا قَدْ سَارَا مُنْهَزِمَيْنِ فَضَلَّا الطَّرِيقَ، فَأُخِذَا وَمَعَهُمَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِمَا، وَبَقُوا سِنِينَ فِي الْأَسْرِ، فَافْتَدَى صَلَاحُ الدِّينِ الْفَقِيهَ عِيسَى بِسِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَجَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْأَسْرَى. وَوَصَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الْقَاهِرَةِ نِصْفَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَرَأَيْتُ كِتَابًا كَتَبَهُ صَلَاحُ الدِّينِ بِخَطِّ يَدِهِ إِلَى أَخِيهِ شَمْسِ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ وَهُوَ بِدِمَشْقَ، يَذْكُرُ الْوَقْعَةَ وَفِي أَوَّلِهِ: ذَكَّرْتُكَ وَالْخَطِّيُّ يَخْطُرُ بَيْنَنَا ... وَقَدْ نَهَلَتْ مِنَّا الْمُثَقَّفَةُ السُّمْرُ وَيَقُولُ فِيهِ: لَقَدْ أَشْرَفْنَا عَلَى الْهَلَاكِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَمَا أَنْجَانَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُ إِلَّا لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ سُبْحَانَهُ: وَمَا ثَبَتَتْ إِلَّا وَفِي نَفْسِهَا أَمْرُ. ذِكْرُ حَصَرِ الْفِرِنْجِ مَدِينَةَ حَمَاةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، حَصَرَ الْفِرِنْجُ أَيْضًا مَدِينَةَ حَمَاةَ. وَسَبَبُ

ذَلِكَ أَنَّهُ وَصَلَ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى السَّاحِلِ الشَّامِيِّ كُنْدٌ كَبِيرٌ مِنَ الْفِرِنْجِ مِنْ أَكْبَرِ طَوَاغِيتِهِمْ، فَرَأَى صَلَاحَ الدِّينِ بِمِصْرَ قَدْ عَادَ مُنْهَزِمًا، فَاغْتَنَمَ خُلُوَّ الْبِلَادِ، لِأَنَّ شَمْسَ الدَّوْلَةِ بْنَ أَيُّوبَ كَانَ بِدِمَشْقَ يَنُوبُ عَنْ صَلَاحِ الدِّينِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَكَانَ أَيْضًا كَثِيرَ الِانْهِمَاكِ فِي اللَّذَّاتِ مَائِلًا إِلَى الرَّاحَاتِ، فَجَمَعَ ذَلِكَ الْكُنْدُ الْفِرِنْجِيُّ مَنْ بِالشَّامِ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَفَرَّقَ فِيهِمُ الْأَمْوَالَ، وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ حَمَاةَ فَحَصَرَهَا وَبِهَا صَاحِبُهَا شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ الْحَارِمِيُّ، خَالُ صَلَاحِ الدِّينِ، وَهُوَ مَرِيضٌ شَدِيدُ الْمَرَضِ، وَكَانَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ الصَّلَاحِيِّ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، فَدَخَلُوا إِلَيْهَا وَأَعَانُوا مَنْ بِهَا. وَقَاتَلَ الْفِرِنْجُ عَلَى الْبَلَدِ قِتَالًا شَدِيدًا وَهَجَمُوا بَعْضَ الْأَيَّامِ عَلَى طَرَفٍ مِنْهُ، وَكَادُوا يَمْلِكُونَ الْبَلَدَ قَهْرًا وَقَسْرًا، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْبَلَدِ مَعَ الْعَسْكَرِ إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَاسْتَقَلَّ الْمُسْلِمُونَ وَحَامَوْا عَنِ الْأَنْفُسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ، فَأَخْرَجُوا الْفِرِنْجَ مِنَ الْبَلَدِ إِلَى ظَاهِرِهِ، وَدَامَ الْقِتَالُ ظَاهِرَ الْبَلَدِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَقَوِيَتْ نُفُوسُ الْمُسْلِمِينَ حِينَ أَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْبَلَدِ، وَطَمِعُوا فِيهِمْ، وَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الْقَتْلَ، فَرَحَلَ الْفِرِنْجُ حِينَئِذٍ خَائِبِينَ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُمْ، فَسَارُوا إِلَى حَارِمٍ فَحَصَرُوهَا، وَكَانَ مَقَامُهُمْ عَلَى حَمَاةَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ. وَلَمَّا رَحَلَ الْفِرِنْجُ عَنْ حَمَاةَ مَاتَ صَاحِبُهَا شِهَابُ الدِّينِ الْحَارِمِيُّ، وَكَانَ لَهُ ابْنٌ مِنْ أَحْسَنِ الشَّبَابِ مَاتَ قَبْلَهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. ذِكْرُ قَتْلِ كُمُشْتَكِينَ وَحَصْرِ الْفِرِنْجِ حَارِمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ بْنُ نُورِ الدِّينِ عَلَى سَعْدِ الدِّينِ كُمُشْتَكِينَ، وَكَانَ الْمُتَوَلِّي لِأَمْرِ دَوْلَتِهِ وَالْحَاكِمَ فِيهَا، وَسَبَبُ قَبْضِهِ أَنَّهُ كَانَ بِحَلَبَ إِنْسَانٌ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِهَا يُقَالُ لَهُ أَبُو صَالِحِ بْنُ الْعَجَمِيِّ، وَكَانَ مُقْدَّمًا عِنْدَ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ، فَلَمَّا مَاتَ نُورُ الدِّينِ تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي دَوْلَةِ وَلَدِهِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْوَزِيرِ الْكَبِيرِ الْمُتَمَكِّنِ لِكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ بِحَلَبَ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ يَحْسُدُ كُمُشْتَكِينَ انْضَمَّ إِلَى صَالِحٍ،

وَقَوُوا جَنَانَهُ، وَكَثَّرُوا سَوَادَهُ، وَكَانَ عِنْدَهُ إِقْدَامٌ وَجُرْأَةٌ فَصَارَ وَاحِدَ الدَّوْلَةِ بِحَلَبَ، وَمَنْ يَصْدُرُ الْجَمَاعَةُ عَنْ رَأْيِهِ وَأَمْرِهِ. فَبَيْنَمَا هُوَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ فِي الْجَامِعِ وَثَبَ بِهِ الْبَاطِنِيَّةُ فَقَتَلُوهُ وَمَضَى شَهِيدًا، وَتَمَكَّنَ بَعْدَهُ سَعْدُ الدِّينِ وَقَوِيَ حَالُهُ، فَلَمَّا قُتِلَ أَحَالَ الْجَمَاعَةُ قَتْلَهُ عَلَى سَعْدِ الدِّينِ، وَقَالُوا: هُوَ وَضَعَ الْبَاطِنِيَّةَ عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلْمَلِكِ الصَّالِحِ، وَنَسَبُوهُ إِلَى الْعَجْزِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ، وَأَنَّ سَعْدَ الدِّينِ قَدْ تَحَكَّمَ عَلَيْهِ وَاحْتَقَرَهُ وَاسْتَصْغَرَهُ، وَقَتَلَ وَزِيرَهُ، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى قَبَضَ عَلَيْهِ. وَكَانَتْ قَلْعَةُ حَارِمَ لِسَعْدِ الدِّينِ قَدْ أَقْطَعَهُ إِيَّاهَا الْمَلِكُ الصَّالِحُ، فَامْتَنَعَ مَنْ بِهَا بَعْدَ قَبْضِهِ، وَتَحَصَّنُوا فِيهَا، فَسُيِّرَ سَعْدُ الدِّينِ إِلَيْهَا تَحْتَ الِاسْتِظْهَارِ لِيَأْمُرَ أَصْحَابَهُ بِتَسْلِيمِهَا إِلَى الْمَلِكِ الصَّالِحِ، فَأَمْرَهُمْ بِذَلِكَ، فَامْتَنَعُوا، فَعَذَّبَ كُمُشْتَكِينَ وَأَصْحَابُهُ يَرَوْنَهُ وَلَا يَرْحَمُونَهُ، فَمَاتَ فِي الْعَذَابِ، وَأَصَرَّ أَصْحَابُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالْعِصْيَانِ. فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ ذَلِكَ سَارُوا إِلَى حَارِمَ مِنْ حَمَاةَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، عَلَى مَا نُذْكُرُهُ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ، وَأَنَّ الْمَلِكَ الصَّالِحَ صَبِيٌّ قَلِيلُ الْعَسْكَرِ، وَصَلَاحَ الدِّينِ بِمِصْرَ، فَاغْتَنَمُوا هَذِهِ الْفُرْصَةَ وَنَازَلُوهَا وَأَطَالُوا الْمَقَامَ عَلَيْهَا مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَنَصَبُوا عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ وَالسَّلَالِمَ، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ إِلَى أَنْ بَذَلَ لَهُمُ الْمَلِكُ الصَّالِحُ مَالًا، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ صَلَاحَ الدِّينِ وَاصِلٌ إِلَى الشَّامِ، وَرُبَّمَا سَلَّمَ الْقَلْعَةَ مَنْ بِهَا إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ حِينَئِذٍ إِلَى الرَّحِيلِ عَنْهَا، فَلَمَّا رَحَلُوا عَنْهَا سَيَّرَ إِلَيْهَا الْمَلِكُ الصَّالِحُ جَيْشًا فَحَصَرُوهَا، وَقَدْ بَلَغَ الْجَهْدُ مِنْهُمْ بِحِصَارِ الْفِرِنْجِ، وَصَارُوا كَأَنَّهُمْ طَلَائِعُ، وَكَانَ قَدْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِهَا وَجُرِحَ كَثِيرٌ، فَسَلَّمُوا الْقَلْعَةَ إِلَى الْمَلِكِ الصَّالِحِ، فَاسْتَنَابَ بِهَا مَمْلُوكًا كَانَ لِأَبِيهِ اسْمُهُ سَرْخَكُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، خُطِبَ لِلسُّلْطَانِ طُغْرُلَ بْنَ أَرْسَلَانَ بْنِ طُغْرُلَ بْنِ

مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهَ الْمُقِيمِ عِنْدَ إِيلْدِكْزَ بِهَمَذَانَ، وَكَانَ أَبُوهُ أَرْسَلَانُ قَدْ تُوُفِّيَ. وَفِيهَا، سَابِعَ شَوَّالٍ، هَبَّتْ بِبَغْدَادَ رِيحٌ عَظِيمَةٌ، فَزُلْزِلَتِ الْأَرْضُ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ، فَبَقِيَ ذَلِكَ سَاعَةً ثُمَّ انْجَلَتْ، وَقَدْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنَ الدُّورِ، وَمَاتَ فِيهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ. وَفِيهَا، رَابِعَ ذِي الْقِعْدَةِ، قُتِلَ عَضُدُ الدِّينِ أَبُو الْفَرَجِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْمُسْلِمَةِ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ فَعَبَرَ دِجْلَةَ لِيَسِيرَ، وَعَبَرَ مَعَهُ أَرْبَابُ مَنَاصِبَ، وَهُوَ فِي مَوْكِبٍ عَظِيمٍ، وَتَقَدَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ أَنْ لَا يَمْنَعُوا عَنْهُ أَحَدًا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَابِ قُطُفْتَا لَقِيَهُ كَهْلٌ فَقَالَ: أَنَا مَظْلُومٌ، وَتَقَدَّمَ لِيَسْمَعَ الْوَزِيرُ كَلَامَهُ، فَضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ فِي خَاصِرَتِهِ، فَصَاحَ الْوَزِيرُ: قَتَلْتَنِي! وَوَقَعَ مِنَ الدَّابَّةِ، وَسَقَطَتْ عِمَامَتُهُ، فَغَطَّى رَأْسَهُ بِكُمِّهِ، وَضَرَبَ الْبَاطِنِيَّ بِسَيْفٍ، وَعَادَ إِلَى الْوَزِيرِ فَضَرَبَهُ، وَأَقْبَلَ حَاجِبُ الْبَابِ ابْنُ الْمُعْوَجِّ لِيَنْصُرَ الْوَزِيرَ، فَضَرْبَهُ الْبَاطِنِيُّ بِسِكِّينٍ وَقِيلَ بَلْ ضَرَبَهُ رَفِيقٌ كَانَ لِلْبَاطِنِيِّ، ثُمَّ قُتِلَ الْبَاطِنِيُّ وَرَفِيقُهُ، وَكَانَ لَهُمَا رَفِيقٌ ثَالِثٌ، فَصَاحَ وَبِيَدِهِ سِكِّينٌ فَقُتِلَ وَلَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا. وَأَحْرَقُوا ثَلَاثَتَهُمْ وَحُمِلَ الْوَزِيرُ إِلَى دَارٍ لَهُ هُنَاكَ، وَحُمِلَ حَاجِبُ الْبَابِ مَجْرُوحًا إِلَى بَيْتِهِ، فَمَاتَ هُوَ وَالْوَزِيرُ، وَحُمِلَ الْوَزِيرُ فَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ بِمَقْبَرَةِ الرِّبَاطِ عِنْدَ جَامِعِ الْمَنْصُورِ. وَكَانَ الْوَزِيرُ قَدْ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ مُعَانِقُ عُثْمَانَ بْنِ [عَفَّانَ] ، وَحَكَى عَنْهُ وَلَدُهُ أَنَّهُ اغْتَسَلَ قَبْلَ خُرُوجِهِ، وَقَالَ: هَذَا غُسْلُ الْإِسْلَامِ، وَأَنَا مَقْتُولٌ بِلَا شَكٍّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ أَبُوهُ أُسْتَاذَ دَارِ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ، فَلَمَّا مَاتَ وُلِّيَ هُوَ مَكَانَهُ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَاتَ الْمُقْتَفِي، فَأَقَرَّهُ الْمُسْتَنْجِدُ عَلَى ذَلِكَ وَرَفَعَ قَدْرَهُ، فَلَمَّا وُلِّيَ الْمُسْتَضِيءُ اسْتَوْزَرَهُ، وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَلَهُ مَعْرُوفٌ كَثِيرٌ، وَكَانَتْ دَارُهُ مَجْمَعًا لِلْعُلَمَاءِ، وَخُتِمَتْ أَعْمَالُهُ بِالشَّهَادَةِ وَهُوَ عَلَى قَصْدِ الْحَجِّ.

وَفِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ، وَسَبَبُهَا أَنَّهُ حَضَرَ قَوْمٌ مِنْ مُسْلِمِي الْمَدَائِنِ إِلَى بَغْدَادَ، فَشَكُوا مَنْ يَهُودِهَا، وَقَالُوا: لَنَا مَسْجِدٌ نُؤَذِّنُ فِيهِ وَنُصَلِّي، وَهُوَ مُجَاوِرُ الْكَنِيسَةِ، فَقَالَ لَنَا الْيَهُودُ: قَدْ آذَيْتُمُونَا بِكَثْرَةِ الْأَذَانِ، فَقَالَ الْمُؤَذِّنُ: مَا نُبَالِي بِذَلِكَ، فَاخْتَصَمُوا، وَكَانَتْ فِتْنَةٌ اسْتَظْهَرَ فِيهَا الْيَهُودُ، فَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ يَشْكُونَ مِنْهُمْ، فَأَمَرَ ابْنُ الْعَطَّارِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ، بِحَبْسِهِمْ، ثُمَّ أُخْرِجُوا، فَقَصَدُوا جَامِعَ الْقَصْرِ، وَاسْتَغَاثُوا قَبْلَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَخَفَّفَ الْخَطِيبُ الْخُطْبَةَ وَالصَّلَاةَ، فَعَادُوا يَسْتَغِيثُونَ، فَأَتَاهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجُنْدِ وَمَنَعُوهُمْ، فَلَمَّا رَأَى الْعَامَّةُ مَا فُعِلَ بِهِمْ غَضِبُوا نُصْرَةً لِلْإِسْلَامِ، فَاسْتَغَاثُوا، وَقَالُوا أَشْيَاءَ قَبِيحَةً، وَقَلَعُوا طَوَابِيقَ الْجَامِعِ، وَرَجَمُوا الْجُنْدَ فَهَرَبُوا، ثُمَّ قَصَدَ الْعَامَّةُ دَكَاكِينَ الْمُخَلَّطِينَ، لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَهُودٌ، فَنَهَبُوهَا، وَأَرَادَ حَاجِبُ الْبَابِ مَنْعَهُمْ، فَرَجَمُوهُ فَهَرَبَ مِنْهُمْ، وَانْقَلَبَ الْبَلَدُ، وَخَرَّبُوا الْكَنِيسَةَ الَّتِي عِنْدَ دَارِ الْبَسَاسِيرِيِّ، وَأَحْرَقُوا التَّوْرَاةَ فَاخْتَفَى الْيَهُودُ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَنْ تُنْقَضَ الْكَنِيسَةُ الَّتِي بِالْمَدَائِنِ وَتُجْعَلَ مَسْجِدًا، وَنُصِبَ بِالرَّحَبَةِ أَخْشَابٌ لِيُصْلَبَ عَلَيْهَا قَوْمٌ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَظَنَّهَا الْعَامَّةُ نُصِبَتْ تَخْوِيفًا لَهُمْ لِأَجْلِ مَا فَعَلُوا، فَعَلَّقُوا عَلَيْهَا فِي اللَّيْلِ جِرْذَانًا مَيْتَةً، وَأُخْرِجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَبْسِ لُصُوصٌ فَصُلِبُوا عَلَيْهَا. وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، قَبَضَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِي، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، عَلَى وَزِيرِهِ جَلَالِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ جَمَالِ الدِّينِ بِغَيْرِ جُرْمٍ وَلَا عَجْزٍ، وَلَا لِتَقْصِيرٍ، بَلْ لِعَجْزِ سَيْفِ الدِّينِ، فَإِنَّ جَلَالَ الدِّينِ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُجَاهِدِ الدِّينِ قَايْمَازَ مُشَاحَنَةٌ، فَقَالَ مُجَاهِدُ الدِّينِ لِسَيْفِ الدِّينِ: لَابُدَّ مِنْ قَبْضِ الْوَزِيرِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ كَارِهًا لِذَلِكَ، ثُمَّ شَفَعَ ابْنُ نِيسَانَ رَئِيسُ آمِدَ لِصِهْرٍ بَيْنَهُمَا، فَأُخْرِجَ، وَسَارَ إِلَى آمِدَ فَمَرِضَ بِهَا، وَعَادَ إِلَى دُنَيْسِرَ، فَمَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] وَعُمْرُهُ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَحُمِلَ إِلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ فِي الرِّبَاطِ الَّذِي بَنَاهُ بِهَا.

وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ مَحَاسِنِ الدُّنْيَا، جَمَعَ كَرَمًا، وَعِلْمًا، وَدِينًا، وَعِفَّةً، وَحُسْنَ سِيرَةٍ، وَاسْتَحْلَفَهُ سَيْفُ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يَمْضِي إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَمْضِيَ إِلَيْهِ لِلْمَوَدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ جَمَالِ الدِّينِ وَبَيْنَ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ وَأَسَدِ الدِّينِ شِيرِكُوهْ، فَبَلَغَنِي أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ طَلَبَهُ فَلَمْ يَقْصِدْهُ لِلْيَمِينِ. وَفِيهَا اجْتَمَعَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفِرِنْجِ وَقَصَدُوا أَعْمَالَ حِمْصَ فَنَهَبُوهَا وَغَنِمُوا، وَأَسَرُوا وَسَبَوْا، فَسَارَ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ شِيرِكُوهْ، صَاحِبُ حِمْصَ، وَسَبَقَهُمْ وَوَقَفَ عَلَى طَرِيقِهِمْ. وَكَمَنَ لَهُمْ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ خَرَجَ إِلَيْهِمْ هُوَ وَالْكَمِينُ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيهِمْ، فَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُقَدَّمَتِهِمْ، وَمَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ لَمْ يُفْلِتْ إِلَّا وَهُوَ مُثْخَنٌ بِالْجِرَاحِ، وَاسْتَرَدَّ مِنْهُمْ جَمِيعَ مَا غَنِمُوا فَرَدَّهُ عَلَى أَصْحَابِهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، تُوُفِّيَ صَدَقَةُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادُ، الَّذِي ذَيَّلَ " تَارِيخَ ابْنِ الزَّاغُونِيِّ " بِبَغْدَادَ. وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى، تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْمُشَطَّبِ بِبَغْدَادَ.

ثم دخلت سنة أربع وسبعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 574 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ قَصْدِ الْفِرِنْجِ مَدِينَةَ حَمَاةَ أَيْضًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَارَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ إِلَى مَدِينَةِ حَمَاةَ، وَكَثُرَ جَمْعُهُمْ مِنَ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ طَمَعًا فِي النَّهْبِ وَالْغَارَةِ، فَشَنُّوا الْغَارَةَ، وَنَهَبُوا، وَخَرَّبُوا الْقُرَى، وَأَحْرَقُوا، وَأَسَرُوا، وَقَتَلُوا، فَلَمَّا سَمِعَ الْعَسْكَرُ الْمُقِيمُ بِحَمَاةَ سَارُوا إِلَيْهِمْ، وَهُمْ قَلِيلٌ، مُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، وَصَدَقَ الْمُسْلِمُونَ الْقِتَالَ، فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ فِيهِمْ وَاسْتَرَدُّوا مِنْهُمْ مَا غَنِمُوهُ مِنَ السَّوَادِ. وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ قَدْ عَادَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ نَازِلٌ بِظَاهِرِ حِمْصَ. فَحُمِلَتِ الرُّءُوسُ وَالْأَسْرَى وَالْأَسْلَابُ إِلَيْهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْأَسْرَى فَقُتِلُوا. ذِكْرُ عِصْيَانِ ابْنِ الْمُقَدَّمِ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَحَصْرِ بَعْلَبَكَّ وَأَخْذِ الْبَلَدِ مِنْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمُقَدَّمِ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ بِبَعْلَبَكَّ، وَكَانَتْ لَهُ قَدْ سَلَّمَهَا إِلَيْهِ صَلَاحُ الدِّينِ لَمَّا فَتَحَهَا جَزَاءً لَهُ حَيْثُ سَلَّمَ إِلَيْهِ ابْنُ الْمُقَدَّمِ دِمَشْقَ، عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، فَلَمْ تَزَلْ بِيَدِهِ إِلَى الْآنَ، فَطَلَبَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ بْنُ أَيُّوبَ أَخُو صَلَاحِ الدِّينِ مِنْهُ بَعْلَبَكَّ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي طَلَبِهَا لِأَنَّ تَرْبِيَتَهُ وَمَنْشَأَهُ كَانَ بِهَا، وَكَانَ يُحِبُّهَا، وَيَخْتَارُهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَ الْأَكْبَرَ، فَلَمْ يُمْكِنْ صَلَاحَ الدِّينِ مُخَالَفَتُهُ، فَأَمَرَ شَمْسَ الدِّينِ بِتَسْلِيمِهَا إِلَى أَخِيهِ لِيُعَوِّضَهُ عَنْهَا، فَلَمْ يُجِبْ إِلَى ذَلِكَ،

وَذَكَّرَهُ الْعُهُودَ الَّتِي لَهُ، وَمَا اعْتَمَدَهُ مَعَهُ مِنْ تَسْلِيمِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يُصْغِ إِلَيْهِ وَلَجَّ عَلَيْهِ فِي أَخْذِهَا، وَسَارَ ابْنُ الْمُقَدَّمِ إِلَيْهَا، وَاعْتَصَمَ بِهَا فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ صَلَاحُ الدِّينِ، وَحَصَرَهُ بِهَا مُدَّةً، ثُمَّ رَحَلَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْخُذَهَا، وَتَرَكَ عَلَيْهِ عَسْكَرًا يَحْصُرُهُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ الْحِصَارُ أَرْسَلَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يَطْلُبُ الْعِوَضَ عَنْهَا لِيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ فَعَوَّضَهُ عَنْهَا وَسَلَّمَهَا، فَأَقْطَعَهَا صَلَاحُ الدِّينِ أَخَاهُ شَمْسَ الدَّوْلَةِ. ذِكْرُ الْغَلَاءِ وَالْوَبَاءِ الْعَامِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْقَطَعَتِ الْأَمْطَارُ بِالْكُلِّيَّةِ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْبِلَادِ الْعِرَاقِيَّةِ، وَالدِّيَارِ بَكْرِيَّةٍ، وَالْمَوْصِلِ وَبِلَادِ الْجَبَلِ، وَخِلَاطَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاشْتَدَّ الْغَلَاءُ، وَكَانَ عَامًّا فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، فَبِيعَتْ غِرَارَةُ الْحِنْطَةِ بِدِمَشْقَ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ مَكُّوكًا بِالْمَوْصِلِيِّ، بِعِشْرِينَ دِينَارًا صُورِيَّةً عِتْقًا، وَكَانَ الشَّعِيرُ بِالْمَوْصِلِ كُلُّ ثَلَاثَةِ مَكَاكِيٍّ بِدِينَارٍ أَمِيرِيٍّ، وَفِي سَائِرِ الْبِلَادِ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ. وَاسْتَسْقَى النَّاسُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، فَلَمْ يُسْقَوْا، وَتَعَذَّرَتِ الْأَقْوَاتُ وَأَكَلَتِ النَّاسُ الْمَيْتَةَ وَمَا نَاسَبَهَا، وَدَامَ كَذَلِكَ إِلَى آخَرِ سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، ثُمَّ تَبِعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ عَامٌّ أَيْضًا، كَثُرَ فِيهِ الْمَوْتُ، وَكَانَ مَرَضُ النَّاسِ شَيْئًا وَاحِدًا، وَهُوَ السِّرْسَامُ، وَكَانَ النَّاسُ لَا يَلْحَقُونَ يَدْفِنُونَ الْمَوْتَى، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الْبِلَادِ كَانَ أَشَدُّ مِنَ الْبَعْضِ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَحِمَ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ وَالدَّوَابَّ وَأَرْسَلَ الْأَمْطَارَ، وَأَرْخَصَ الْأَسْعَارَ. وَمِنْ عَجِيبِ مَا رَأَيْتُ أَنَّنِي قَصَدْتُ رَجُلًا مِنَ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ بِالْجَزِيرَةِ لِأَسْمَعَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ

[وَخَمْسِمِائَةٍ] ، وَالنَّاسُ فِي أَشَدِّ مَا كَانُوا غَلَاءً وَقُنُوطًا مِنَ الْأَمْطَارِ، وَقَدْ تَوَسَّطَ الرَّبِيعُ وَلَمْ تَجِئْ قَطْرَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ الْمَطَرِ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ وَمَعِيَ جَمَاعَةٌ نَنْتَظِرُ الشَّيْخَ، إِذْ أَقْبَلَ إِنْسَانٌ تُرْكُمَانِيٌّ قَدْ أَثَّرَ عَلَيْهِ الْجُوعُ، وَكَأَنَّهُ قَدْ أُخْرِجَ مَنْ قَبْرٍ، فَبَكَى وَشَكَا الْجُوعَ، فَأَرْسَلَتُ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ خُبْزًا، فَتَأَخَّرَ إِحْضَارُهُ لِعَدَمِهِ، وَهُوَ يَبْكِي وَيَتَمَرَّغُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَشْكُو الْجُوعَ، فَلَمْ يَبْقَ فِينَا إِلَّا مَنْ بَكَى رَحْمَةً لَهُ وَلِلنَّاسِ، فَفِي الْحَالِ تَغَيَّمَتِ السَّمَاءُ وَجَاءَتْ نُقَطٌ مِنَ الْمَطَرِ مُتَفَرِّقَةً، فَضَجَّ النَّاسُ وَاسْتَغَاثُوا، ثُمَّ جَاءَ الْخُبْزُ، فَأَكَلَ التُّرْكُمَانِيُّ بَعْضَهُ، وَأَخَذَ الْبَاقِي وَمَشَى وَاشْتَدَّ الْمَطَرُ وَدَامَ الْمَطَرُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ. ذِكْرُ غَارَاتِ الْفِرِنْجِ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْقِعْدَةِ، اجْتَمَعَ الْفِرِنْجُ وَسَارُوا إِلَى بَلَدِ دِمَشْقَ مَعَ مَلِكِهِمْ، فَأَغَارُوا عَلَى أَعْمَالِهَا فَنَهَبُوهَا وَأَسَرُوا وَقَتَلُوا وَسَبَوْا، فَأَرْسَلَ صَلَاحُ الدِّينِ فَرْخَشَاهْ، وَلَدَ أَخِيهِ، فِي جَمْعٍ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُ أَنَّهُ إِذَا قَارَبَهُمْ يُرْسِلُ إِلَيْهِ يُخْبِرُهُ عَلَى جَنَاحِ طَائِرٍ لِيَسِيرَ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ أَهْلَ الْبَلَدِ بِالِانْتِزَاحِ مِنْ بَيْنِ يَدِيِ الْفِرِنْجِ، فَسَارَ فَرْخَشَاهْ فِي عَسْكَرِهِ يَطْلُبُهُمْ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَالْفِرِنْجُ قَدْ خَالَطُوهُ، فَاضْطَرَّ إِلَى الْقِتَالِ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ، وَأَلْقَى فَرْخَشَاهْ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ، وَغَشِيَ الْحَرْبَ وَلَمْ يَكِلْهَا إِلَى سِوَاهُ، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ وَنُصِرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَقُتِلَ مِنْ مُقَدَّمِيهِمْ جَمَاعَةٌ وَمِنْهُمْ هَنْفَرِي، وَمَا أَدْرَاكَ مَا هَنْفَرِي؟ بِهِ كَانَ يُضْرَبُ الْمَثَلُ فِي الشَّجَاعَةِ وَالرَّأْيِ فِي الْحَرْبِ، وَكَانَ بَلَاءًا صَبَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَرَاحَ اللَّهُ مِنْ شَرِّهِ. وَقُتِلَ غَيْرُهُ مِنْ أَضِرَابِهِ، وَلَمْ يَبْلُغْ عَسْكَرُ فَرْخَشَاهْ أَلْفَ فَارِسٍ. وَفِيهَا أَيْضًا أَغَارَ الْبُرْنُسُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ وَلَاذِقِيَّةَ عَلَى جِشِيرِ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْزَرَ وَأَخَذَهُ.

وَأَغَارَ صَاحِبُ طَرَابُلُسَ عَلَى جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ التُّرْكُمَانِ، فَاحْتَجَفَ أَمْوَالَهُمْ. وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى بَانِيَاسَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَسَيَّرَ وَلَدَ أَخِيهِ تَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ إِلَى حَمَاةَ وَابْنَ عَمِّهِ نَاصِرَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ شِيرِكُوهْ إِلَى مِصْرَ، وَأَمْرَهُمَا بِحِفْظِ الْبِلَادِ، وَحِيَاطَةِ أَطْرَافِهَا مِنَ الْعَدُوِّ - دَمَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى -. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ انْكَسَفَ الْقَمَرُ نَحْوَ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ وَغَابَ مُنْكَسِفًا. وَفِيهَا أَيْضًا، فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ، انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ وَقْتَ الْعَصْرِ، فَغَرَبَتْ مُنْكَسِفَةً. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، تُوُفِّيَ الْحَيْصَ بَيْصَ الشَّاعِرُ، وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ أَبُو الْفَوَارِسِ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَمَدَحَ الْخُلَفَاءَ وَالسَّلَاطِينَ وَالْأَكَابِرَ. وَشِعْرُهُ مَشْهُورٌ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ: كُلَّمَا أَوْسَعْتُ حِلْمِيَ جَاهِلًا ... أَوْسَعَ الْفُحْشُ لَهُ فُحْشُ الْمَقَالِ وَإِذَا شَارِدَةٌ فُهْتُ بِهَا ... سَبَقَتْ مَرَّ النُّعَامَى وَالشَّمَالِ لَا تَلُمْنِي فِي شَقَائِي بِالْعُلَى ... رَغَدُ الْعَيْشِ لِرَبَّاتِ الْحِجَالِ سَيْفُ عِزٍّ زَانَهُ رَوْنَقُهُ ... فَهُوَ بِالطَّبْعِ غَنِيٌّ عَنْ صِقَالِ وَفِي الْمُحَرَّمِ مَاتَتْ شُهْدَةُ بِنْتُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْإِبَرِيِّ الْكَاتِبَةُ، وَسَمِعَتِ الْحَدِيثَ مِنَ السِّرَاجِ وَطَرَّادٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعُمِّرَتْ حَتَّى قَارَبَتْ مِائَةَ سَنَةٍ، وَسَمِعَ عَلَيْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ لِعُلُوِّ إِسْنَادِهَا.

ثم دخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 575 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ تَخْرِيبِ الْحِصْنِ الَّذِي بَنَاهُ الْفِرِنْجُ عِنْدَ مَخَاضَةِ الْأَحْزَانِ كَانَ الْفِرِنْجُ قَدْ بَنَوْا حِصْنًا مَنِيعًا يُقَارِبُ بَانِيَاسَ، عِنْدَ بَيْتِ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمَكَانٍ يُعْرَفُ بِمَخَاضَةِ الْأَحْزَانِ، فَلَمَّا سَمِعَ صَلَاحُ الدِّينِ بِذَلِكَ سَارَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى بَانِيَاسَ، وَأَقَامَ بِهَا، وَبَثَّ الْغَارَاتِ عَلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْحِصْنِ وَحَصَرَهُ لِيُخَرِّبَهُ ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْعَسَاكِرِ، فَلَمَّا نَازَلَ الْحِصْنَ قَاتَلَ مَنْ بِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ، ثُمَّ عَادَ عَنْهُ، فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ لَمْ يُفَارِقْ بَانِيَاسَ بَلْ أَقَامَ بِهَا وَخَيْلُهُ تُغِيرُ عَلَى بِلَادِ الْعَدُوِّ. وَأَرْسَلَ جَمَاعَةً مِنْ عَسْكَرِهِ مَعَ جَالِبِي الْمِيرَةِ، فَلَمْ تَشْعُرْ إِلَّا وَالْفِرِنْجُ مَعَ مَلِكِهِمْ قَدْ خَرَجُوا عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يُعَرِّفُونَهُ الْخَبَرَ [فَسَارَ] فِي الْعَسَاكِرِ مُجِدًّا [حَتَّى] وَافَاهُمْ وَهُمْ فِي الْقِتَالِ، فَقَاتَلَ الْفِرِنْجُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَحَمَلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِدَّةَ حَمَلَاتٍ كَادُوا يُزِيلُونَهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَزَمَ الْمُشْرِكِينَ، وَقُتِلَتْ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ كَثِيرَةٌ، وَنَجَا مَلِكُهُمْ فَرِيدًا، وَأُسِرَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْهُمُ ابْنُ بَيْرُزَانَ صَاحِبُ الرَّمْلَةِ وَنَابُلُسَ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْفِرِنْجِ مَحَلًّا بَعْدَ الْمَلِكِ، وَأَسَرُوا أَيْضًا أَخَا صَاحِبِ جُبَيْلٍ، وَصَاحِبَ طَبَرِيَّةَ، وَمُقْدَّمَ الدَّاوِيَّةِ، وَمُقَدَّمَ الْإِسْبَاتَارِيَّةِ، وَصَاحِبَ جِينِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ مَشَاهِيرِ فُرْسَانِهِمْ وَطَوَاغِيتِهِمْ، فَأَمَّا ابْنُ بَيْرُزَانَ فَإِنَّهُ فَدَى

نَفْسَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ صُورِيَّةٍ، وَإِطْلَاقِ أَلْفِ أَسِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ أَكْثَرُ الْعَمَلِ فِي هَذَا الْيَوْمِ لِعِزِّ الدِّينِ فَرْخَشَاهَ ابْنِ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ، وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ذَكَرْتُ فِي تِلْكَ الْحَالِ بَيْتَيِ الْمُتَنَبِّيَ وَهُمَا: فَإِنْ تَكُنِ الدُّولَاتُ قِسْمًا فَإِنَّهَا ... لِمَنْ يَرِدُ الْمَوْتَ الزُّؤَامَ تَؤُولُ وَمَنْ هَوَّنَ الدُّنْيَا عَلَى النَّفْسِ سَاعَةً ... وَلِلْبِيضِ فِي هَامِ الْكُمَاةِ صَلِيلُ فَهَانَ الْمَوْتُ فِي عَيْنِي، فَأَلْقَيْتُ نَفْسِي إِلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الظَّفَرِ، ثُمَّ عَادَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى بَانِيَاسَ مِنْ مَوْضِعِ الْمَعْرَكَةِ، وَتَجَهَّزَ لِلدُّخُولِ إِلَى ذَلِكَ الْحِصْنِ وَمُحَاصَرَتِهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَأَحَاطَ بِهِ، وَقَوَّى طَمَعَهُ بِالْهَزِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي فَتْحِهِ، وَبَثَّ الْعَسَاكِرَ فِي بَلَدِ الْفِرِنْجِ لِلْإِغَارَةِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَجَمَعُوا مِنَ الْأَخْشَابِ وَالزَّرَجُونِ شَيْئًا كَثِيرًا لِيَجْعَلَهُ مَتَارِسَ لِلْمَجَانِيقِ، فَقَالَ لَهُ جَاوِلِيٌّ الْأَسَدِيُّ، وَهُوَ مُقَدَّمُ الْأَسَدِيَّةِ وَأَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ: الرَّأْيُ أَنَّنَا نُجَرِّبُهُمْ بِالزَّحْفِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَنَذُوقُ قِتَالَ مَنْ بِهِ، وَنَنْظُرُ الْحَالَ مَعَهُمْ، فَإِنِ اسْتَضْعَفْنَاهُمْ، وَإِلَّا فَنَصُبُّ الْمَجَانِيقَ مَا يَفُوتُ. فَقَبِلَ رَأْيَهُ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ بِالزَّحْفِ إِلَيْهِ، وَالْجِدِّ فِي قِتَالِهِ، فَزَحَفُوا وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَعَظُمَ الْأَمْرُ، فَصَعِدَ إِنْسَانٌ مِنَ الْعَامَّةِ بِقَمِيصٍ خَلِقٍ فِي بَاشُورَةِ الْحِصْنِ وَقَاتَلَ عَلَى السُّورِ لَمَّا عَلَاهُ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَضِرَابِهِ، وَلَحِقَ بِهِمُ الْجُنْدُ فَمَلَكُوا الْبَاشُورَةَ، فَصَعِدَ الْفِرِنْجُ حِينَئِذٍ مِنْهَا إِلَى أَسْوَارِ الْحِصْنِ لِيَحْمُوا نُفُوسَهُمْ وَحِصْنَهُمْ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْمَدَدُ. وَكَانَ الْفِرِنْجُ قَدْ جَمَعُوا بِطَبَرِيَّةَ، فَأَلَحَّ الْمُسْلِمُونَ فِي قِتَالِ الْحِصْنِ، خَوْفًا مِنْ وَصُولِ الْفِرِنْجِ إِلَيْهِمْ وَإِزَاحَتِهِمْ عَنْهُ، وَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ، فَأَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ بِالْمَبِيتِ بِالْبَاشُورَةِ إِلَى الْغَدِ، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَصْبَحُوا وَقَدْ نَقَبُوا الْحِصْنَ، وَعَمَّقُوا النَّقْبَ، وَأَشْعَلُوا النِّيرَانَ فِيهِ، وَانْتَظَرُوا سُقُوطَ السُّورِ، فَلَمْ يَسْقُطْ لِعَرْضِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ بِالنُّجَّارِيِّ، يَكُونُ الذِّرَاعُ ذِرَاعًا وَنِصْفًا، فَانْتَظَرُوهُ يَوْمَيْنِ فَلَمْ يَسْقُطْ، فَأَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ بِإِطْفَاءِ النَّارِ الَّتِي فِي النَّقْبِ، فَحُمِلَ الْمَاءُ وَأُلْقِيَ عَلَيْهَا فَطُفِئَتْ، وَعَادَ

النَّقَّابُونَ فَنَقَّبُوا، وَخَرَّقُوا السُّورَ، وَأَلْقَوْا فِيهِ النَّارَ، فَسَقَطَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لَسْتٍّ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْحِصْنَ عَنْوَةً وَأَسَرُوا كُلَّ مَنْ فِيهِ، وَأَطْلَقُوا مَنْ كَانَ بِهِ مَنْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ صَلَاحُ الدِّينِ كَثِيرًا مِنْ أَسْرَى الْفِرِنْجِ، وَأَدْخَلَ الْبَاقِينَ إِلَى دِمَشْقَ، وَأَقَامَ صَلَاحُ الدِّينِ بِمَكَانِهِ حَتَّى هَدَمَ الْحِصْنَ، وَعَفَى أَثَرُهُ، وَأَلْحَقَهُ بِالْأَرْضِ، وَكَانَ قَدْ بَذَلَ الْفِرِنْجُ سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ مِصْرِيَّةٍ لِيَهْدِمُوهُ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَلَمْ يَفْعَلُوا ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ إِذَا بَقِيَ بِنَاؤُهُ تَمَكَّنُوا بِهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْفِرِنْجُ فَاجْتَمَعُوا بِطَبَرِيَّةَ لِيَحْمُوا الْحِصْنَ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِأَخْذِهِ فُتَّ فِي أَعَضَادِهِمْ، فَتَفَرَّقُوا إِلَى بِلَادِهِمْ. وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ فِيهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ صَدِيقِنَا النَّشْوِ بْنِ نَفَّاذَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَلَاكُ الْفِرِنْجِ أَتَى عَاجِلًا ... وَقَدْ آنَ تَكْسِيرُ صُلْبَانِهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَنَا حَتْفُهَا ... لَمَا عَمَّرَتْ بَيْتَ أَحْزَانِهَا وَقَوْلُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّاعَاتِيِّ الدِّمَشْقِيِّ: أَتَسْكُنُ أَوْطَانَ النَّبِيِّينَ عُصْبَةٌ ... تَمِينُ لَدَى أَيْمَانِهَا وَهِيَ تَحْلِفُ نَصَحْتُكُمُ وَالنُّصْحُ لِلدِّينِ وَاجِبٌ ... ذَرُوا بَيْتَ يَعْقُوبَ فَقَدْ جَاءَ يُوسُفُ ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسْكَرِ صَلَاحِ الدِّينِ وَعَسْكَرِ قَلَجِ أَرْسَلَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ عَسْكَرِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ وَمُقَدَّمُهُمْ

ابْنُ أَخِيهِ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ، وَبَيْنَ عَسْكَرِ الْمَلِكِ قَلَجِ أَرْسَلَانَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ قَلَجِ أَرْسَلَانَ، صَاحِبِ بِلَادِ قُونِيَةَ، وَأَقْصَرَا. وَسَبَبُهَا أَنَّ نُورَ الدِّينِ مَحْمُودَ بْنَ زَنْكِي بْنِ آقْسُنْقُرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ قَدْ أَخَذَ قَدِيمًا مِنْ قَلَجِ أَرَسْلَانَ حِصْنَ رَعْبَانَ، وَكَانَ بِيَدِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الْمُقَدَّمِ إِلَى الْآنَ، فَطَمِعَ فِيهِ قَلَجُ أَرْسَلَانَ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَلِكَ الصَّالِحَ بِحَلَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاحِ الدِّينِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ يَحْصُرُهُ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، يُقَالُ: كَانُوا عِشْرِينَ أَلْفًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ صَلَاحُ الدِّينِ تَقِيَّ الدِّينِ فِي أَلْفِ فَارِسٍ، فَوَاقَعَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ، وَأَصْلَحَ حَالَ تِلْكَ الْوِلَايَةِ، وَعَادَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، وَلَمْ يَحْضُرْ مَعَهُ تَخْرِيبُ حِصْنِ الْأَحْزَانِ، فَكَانَ يَفْتَخِرُ وَيَقُولُ: هَزَمْتُ بِأَلْفِ مُقَاتِلٍ عِشْرِينَ أَلْفًا. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَخِلَافَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ثَانِي ذِي الْقِعْدَةِ، تُوُفِّيَ الْإِمَامُ الْمُسْتَضِيءُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ يُوسُفَ الْمُسْتَنْجِدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ أَرْمِنِيَّةٌ تُدْعَى غَضَّةَ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ نَحْوَ تِسْعِ سِنِينَ وَسَبْعَةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ فِي الرَّعِيَّةِ، كَثِيرَ الْبَذْلِ لِلْأَمْوَالِ، غَيْرَ مُبَالَغٍ فِي أَخْذِ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَخْذِهِ، وَكَانَ النَّاسُ مَعَهُ فِي أَمْنٍ عَامٍّ وَإِحْسَانٍ شَامِلٍ، وَطُمَأْنِينَةٍ وَسُكُونٍ، لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ، وَكَانَ حَلِيمًا، قَلِيلَ الْمُعَاقَبَةِ عَلَى الذُّنُوبِ، مُحِبًّا لِلْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ، فَعَاشَ حَمِيدًا وَمَاتَ سَعِيدًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَقَدْ كَانَتْ أَيَّامُهُ كَمَا قِيلَ: كَأَنَّ أَيَّامَهُ مِنْ حُسْنِ سِيرَتِهِ ... مَوَاسِمُ الْحَجِّ وَالْأَعْيَادُ وَالْجُمَعُ وَوَزِرَ لَهُ عَضُدُ الدِّينِ أَبُو الْفَرَجِ بْنِ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ إِلَى أَنْ قُتِلَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ

سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَلَمَّا قُتِلَ حَكَمَ فِي الدَّوْلَةِ ظَهِيرُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ مَنْصُورُ بْنُ نَصْرٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْعَطَّارِ، وَكَانَ خَيِّرًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، كَثِيرَ الْعَطَاءِ، وَتَمَكَّنَ تَمَكُّنًا كَثِيرًا، فَلَمَّا مَاتَ الْمُسْتَضِيءُ شَرَعَ ظَهِيرُ الدِّينِ ابْنُ الْعَطَّارِ فِي أَخْذِ الْبَيْعَةِ لِوَلَدِهِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا تَمَّتِ الْبَيْعَةُ صَارَ الْحَاكِمَ فِي الدَّوْلَةِ أُسْتَاذُ الدَّارِ مَجْدُ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ الصَّاحِبِ. وَفِي سَابِعِ ذِي الْقِعْدَةِ قُبِضَ عَلَى ابْنِ الْعَطَّارِ ظَهِيرِ الدِّينِ، وَوُكِّلَ عَلَيْهِ فِي دَارِهِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى التَّاجِ، وَقُيِّدَ وَوُكِّلَ بِهِ، وَطُلِبَتْ وَدَائِعُهُ وَأَمْوَالُهُ، وَفِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ أُخْرِجَ مَيِّتًا عَلَى رَأْسِ حَمَّالٍ سِرًّا، فَغَمَزَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ، فَثَارَ بِهِ الْعَامَّةُ، فَأَلْقَوْهُ عَنْ رَأْسِ الْحَمَّالِ، وَكَشَفُوا سَوْءَتَهُ وَشَدُّوا فِي ذَكَرِهِ حَبْلًا وَسَحَبُوهُ فِي الْبَلَدِ، وَكَانُوا يَضَعُونَ بِيَدِهِ مِغْرَفَةً يَعْنِي أَنَّهَا قَلَمٌ وَقَدْ غَمَسُوهَا فِي الْعُذْرَةِ وَيَقُولُونَ: وَقِّعْ لَنَا يَا مَوْلَانَا، إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنَ الْأَفْعَالِ الشَّنِيعَةِ، ثُمَّ خُلِّصَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَدُفِنَ. هَذَا فِعْلُهُمْ بِهِ مَعَ حُسْنِ سِيرَتِهِ فِيهِمْ وَكَفِّهِ عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ. وَسُيِّرَتِ الرُّسُلُ إِلَى الْآفَاقِ لِأَخْذِ الْبَيْعَةِ، فَسَيَّرَ صَدَرُ الدِّينِ شَيْخُ الشُّيُوخِ إِلَى الْبَهْلَوَانِ، صَاحِبِ هَمَذَانَ وَأَصْفَهَانَ وَالرَّيِّ وَغَيْرِهَا، فَامْتَنَعَ مِنَ الْبَيْعَةِ، فَرَاجَعَهُ صَدْرُ الدِّينِ، وَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ، حَتَّى أَنَّهُ قَالَ لِعَسْكَرِهِ فِي حَضْرَتِهِ: [لَيْسَ] لِهَذَا عَلَيْكُمْ طَاعَةٌ مَا لَمْ يُبَايِعْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَخْلَعُوهُ مِنَ الْإِمَارَةِ، وَتُقَاتِلُوهُ، فَاضْطَرَّ إِلَى الْبَيْعَةِ وَالْخُطْبَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى رَضِيِّ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ مُدَرِّسَ النِّظَامِيَّةِ إِلَى الْمَوْصِلِ لِأَخْذِ الْبَيْعَةِ، فَبَايَعَ صَاحِبُهَا، وَخَطَبَ لِلْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَبَّتْ رِيحٌ سَوْدَاءٌ مُظْلِمَةٌ بِالدِّيَارِ الْجَزَرِيَّةِ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا، وَعَمَّتْ

أَكْثَرَ الْبِلَادِ مِنَ الظُّهْرِ إِلَى أَنْ مَضَى مِنَ اللَّيْلِ رُبْعُهُ، وَبَقِيَتِ الدُّنْيَا مُظْلِمَةً يَكَادُ الْإِنْسَانُ لَا يُبْصِرُ صَاحِبَهُ، وَكُنْتُ حِينَئِذٍ بِالْمَوْصِلِ، فَصَلَّيْنَا الْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ عَلَى الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ، وَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَى التَّضَرُّعِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَظَنُّوا أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ، فَلَمَّا مَضَى مِقْدَارُ رُبْعِ اللَّيْلِ زَالَ ذَلِكَ الظَّلَامُ وَالْعَتْمَةُ الَّتِي غَطَّتِ السَّمَاءَ، فَنَظَرْنَا فَرَأَيْنَا النُّجُومَ، فَعَلِمْنَا مِقْدَارَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ، لِأَنَّ الظَّلَامَ لَمْ يَزْدَدْ بِدُخُولِ اللَّيْلِ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ يَصِلُ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ يُخْبِرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَفِيهَا، فِي ذِي الْقِعْدَةِ، نَزَلَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ أَخُو صَلَاحِ الدِّينِ عَنْ بَعْلَبَكَّ، وَطَلَبَ عِوَضًا عَنْهَا الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ، فَأَجَابَهُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى ذَلِكَ وَأَقْطَعَ بَعْلَبَكَّ لِعِزِّ الدِّينِ فَرْخْشَاهَ ابْنِ أَخِيهِ، فَسَارَ إِلَيْهَا، وَجَمَعَ أَصْحَابَهُ، وَأَغَارَ عَلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى قَلْعَةِ صَفَدَ، وَهِيَ مُطِلَّةٌ عَلَى طَبَرِيَّةَ، فَسَبَى وَأَسَرَ وَغَنِمَ وَخَرَّبَ وَفَعَلَ فِي الْفِرِنْجِ أَفَاعِيلَ عَظِيمَةً. وَأَمَّا شَمْسُ الدَّوْلَةِ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى مِصْرَ وَأَقَامَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْبِضَ رَجُلًا بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً، فَإِنَّهُ أَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا. وَفِيهَا قَارَبَ الْجَامِعُ الَّذِي بَنَاهُ مُجَاهِدُ الدِّينِ قَايْمَازُ بِظَاهِرِ الْمَوْصِلِ مِنْ جِهَةِ بَابِ الْجِسْرِ الْفَرَاغَ، وَأُقِيمَتْ فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الْجَوَامِعِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصُّوفِيُّ شَيْخُ رِبَاطِ الزَّوْزَنِيِّ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ. وَعَبْدُ الْحَقِّ بْنُ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ يُوسُفَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ، وَهُوَ مِنْ بَيْتِ الْحَدِيثِ. وَالْقَاضِي عُمَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْخَضِرِ أَبُو الْحَسَنِ الدِّمَشْقِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ، وَوَلِيَ قَضَاءَ الْحَرِيمِ. وَعَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الزَّيْدِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَلَهُ وَقْفُ كُتُبٍ كَثِيرَةٍ بِبَغْدَادَ،

وَكَانَ زَاهِدًا، خَيِّرًا، صَالِحًا. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَقَاسِيُّ نَقِيبُ الْعَلَوِيِّينَ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ يُنْشِدُ كَثِيرًا: رُبَّ قَوْمٍ فِي خَلَائِقِهِمْ ... عُرَرٌ قَدْ صُيِّرُوا غُرَرَا سَتَرَ الْمَالُ الْقَبِيحُ لَهُمْ ... سَتَرَى إِنْ زَالَ مَا سَتَرَا وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ سَدِيدِ الدَّوْلَةِ الْأَنْبَارِيِّ، كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ بَعْدَ أَبِيهِ. وَأَبُو الْفُتُوحِ نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّامَغَانِيُّ الْفَقِيهُ، كَانَ مُنَاظِرًا أَحْسَنَ الْمُنَاظَرَةِ، كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ.

ثم دخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 576 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ سَيْفِ الدِّينِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ وَوِلَايَةِ أَخِيهِ عِزِّ الدِّينِ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَالِثَ صَفَرٍ، تُوُفِّيَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِي بْنُ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِي، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ، وَكَانَ مَرَضُهُ السُّلَّ، وَطَالَ بِهِ ثُمَّ أَدْرَكَهُ فِي آخِرِهِ سِرْسَامٌ، وَمَاتَ. وَمِنْ عَجِيبِ مَا يُحْكَى أَنَّ النَّاسَ خَرَجُوا سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ يَسْتَسْقُونَ لِانْقِطَاعِ الْغَيْثِ وَشِدَّةِ الْغَلَاءِ، وَخَرَجَ سَيْفُ الدِّينِ فِي مَوْكِبِهِ، فَثَارَ بِهِ النَّاسُ وَقَصَدُوهُ بِالِاسْتِغَاثَةِ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَدَخَلُوا الْبَلَدَ وَقَصَدُوا مَسَاكِنَ الْخَمَّارِينَ، وَخَرَّبُوا أَبْوَابَهُمْ، وَدَخَلُوهَا، وَنَهَبُوهَا، وَأَرَاقُوا مَا بِهَا مِنْ خُمُورٍ، وَكَسَرُوا الظُّرُوفَ، وَعَمِلُوا مَا لَا يَحِلُّ، فَاسْتَغَاثَ أَصْحَابُ الدُّورِ إِلَى نُوَّابِ السُّلْطَانِ، وَخَصُّوا بِالشَّكْوَى رَجُلًا مِنَ الصَّالِحِينَ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْفَرَجِ الدَّقَّاقُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَدٌ فِي الَّذِي فَعَلَهُ الْعَامَّةُ مِنَ النَّهْبِ، وَمَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ، إِنَّمَا هُوَ أَرَاقَ الْخُمُورَ، وَنَهَى الْعَامَّةَ عَنِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ، فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، فَلَمَّا شَكَا الْخَمَّارُونَ مِنْهُ أُحْضِرَ بِالْقَلْعَةِ، وَضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ، فَسَقَطَتْ عِمَامَتُهُ، فَلَمَّا أُطْلِقَ لِيَنْزِلَ مِنَ الْقَلْعَةِ نَزَلَ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ، فَأَرَادُوا تَغْطِيَتَهُ بِعِمَامَتِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا غَطَّيْتُ رَأْسِي حَتَّى يَنْتَقِمَ اللَّهُ لِي مِمَّنْ ظَلَمَنِي! فَلَمْ يَمْضِ غَيْرُ أَيَّامٍ حَتَّى تُوُفِّيَ الدَّزْدَارُ الَّذِي تَوَلَّى أَذَاهُ، ثُمَّ بِعَقِبِهِ مَرِضَ سَيْفُ الدِّينِ، وَاسْتَمَرَّ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَعَمْرُهُ حِينَئِذٍ نَحْوُ ثَلَاثِينَ سَنَةً. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ، مَلِيحَ الشَّبَابِ، تَامَّ الْقَامَةِ، أَبْيَضَ اللَّوْنِ وَكَانَ عَاقِلًا وَقُورًا، قَلِيلَ الِالْتِفَاتِ إِذَا رَكِبَ وَإِذَا جَلَسَ، عَفِيفًا لَمْ يُذْكَرْ عَنْهُ مَا يُنَافِي الْعِفَّةَ.

وَكَانَ غَيُورًا شَدِيدَ الْغَيْرَةِ لَا يَدْخُلُ دُورَهُ غَيْرُ الْخَدَمِ الصِّغَارِ، فَإِذَا كَبِرَ أَحَدُهُمْ مَنْعَهُ، وَكَانَ لَا يُحِبُّ سَفْكَ الدِّمَاءِ، وَلَا أَخْذَ الْأَمْوَالِ عَلَى شُحٍّ فِيهِ وَجُبْنٍ. وَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ أَرَادَ أَنْ يَعْهَدَ بِالْمُلْكِ لِابْنِهِ مُعِزِّ الدِّينِ سَنْجَرْشَاهْ، وَكَانَ عُمْرُهُ حِينَئِذٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَخَافَ عَلَى الدَّوْلَةِ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ يُوسُفَ بْنَ أَيُّوبَ كَانَ قَدْ تَمَكَّنَ بِالشَّامِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَامْتَنَعَ أَخُوهُ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ مَوْدُودٍ مِنَ الْإِذْعَانِ لِذَلِكَ وَالْإِجَابَةِ إِلَيْهِ، فَأَشَارَ الْأُمَرَاءُ الْأَكَابِرُ وَمُجَاهِدُ الدِّينِ قَايْمَازُ بِأَنْ يَجْعَلَ الْمُلْكَ بَعْدَهُ فِي عِزِّ الدِّينِ أَخِيهِ، لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ وَالشَّجَاعَةِ وَالْعَقْلِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ، وَأَنْ يُعْطِيَ ابْنَيْهِ بَعْضَ الْبِلَادِ، وَيَكُونُ مَرْجِعُهُمَا إِلَى عِزِّ الدِّينِ عَمِّهِمَا وَالْمُتَوَلِّي لِأَمْرِهِمَا مُجَاهِدُ الدِّينِ قَايْمَازُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْمُلْكَ فِي أَخِيهِ، وَأَعْطَى جَزِيرَةَ ابْنِ عُمَرَ وَقِلَاعَهَا لِوَلَدِهِ سَنْجَرْشَاهْ وَقَلْعَةَ عَقْرِ الْحُمَيْدِيَّةِ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ نَاصِرِ الدِّينِ كَسُكَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ سَيْفُ الدِّينِ مَلَكَ بَعْدَهُ الْمَوْصِلَ وَالْبِلَادَ أَخُوهُ عِزُّ الدِّينِ، وَكَانَ الْمُدَبِّرَ لِلدَّوْلَةِ مُجَاهِدُ الدِّينِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ فِي الْجَمِيعِ، وَاسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ وَلَمْ يَخْتَلِفِ اثْنَانِ. ذِكْرُ مَسِيرِ صَلَاحِ الدِّينِ لِحَرْبِ قَلَجِ أَرْسَلَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ مِنَ الشَّامِ إِلَى بِلَادِ قَلَجِ أَرْسَلَانَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ قَلَجِ أَرْسَلَانَ، وَهِيَ مَلَطْيَةَ وَسِيوَاسَ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَقُونِيَةَ لِيُحَارِبَهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ نُورَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ قَرَا أَرْسَلَانَ بْنِ دَاوُدَ، صَاحِبَ حِصْنِ كَيْفَا وَغَيْرِهِ مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ، كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ ابْنَةَ قَلَجِ أَرَسْلَانَ الْمَذْكُورِ، وَبَقِيَتْ عِنْدَهُ مُدَّةً، ثُمَّ إِنَّهُ أَحَبَّ مُغَنِّيَةً، فَتَزَوَّجَهَا، وَمَالَ إِلَيْهَا، وَحَكَمَتْ فِي بِلَادِهِ وَخَزَائِنِهِ، وَأَعْرَضَ عَنِ ابْنَةِ قَلَجِ أَرْسَلَانَ، وَتَرَكَهَا نَسْيًا مَنْسِيًّا، فَبَلَغَ أَبَاهَا الْخَبَرُ، فَعَزَمَ عَلَى قَصْدِ نُورِ الدِّينِ وَأَخْذِ بِلَادِهِ، فَأَرْسَلَ نُورُ الدِّينِ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يَسْتَجِيرُ بِهِ وَيَسْأَلُهُ كَفَّ يَدِ قَلَجِ أَرْسَلَانَ عَنْهُ، فَأَرْسَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى قَلَجِ أَرْسَلَانَ فِي الْمَعْنَى، فَأَعَادَ الْجَوَابَ: إِنَّنِي كُنْتُ قَدْ سَلَّمْتُ إِلَى نُورِ الدِّينِ عِدَّةَ حُصُونٍ مُجَاوِرَةٍ بِلَادَهُ لَمَّا تَزَوَّجَ ابْنَتِي، فَحَيْثُ آلَ الْأَمْرُ إِلَى مَا

تَعْلَمُهُ، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ يُعِيدَ إِلَيَّ مَا أَخَذَهُ مِنِّي. وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ حَالٌ فِيهَا، فَهَادَنَ صَلَاحُ الدِّينِ الْفِرِنْجَ، وَسَارَ فِي عَسَاكِرِهِ، وَكَانَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٌ صَاحِبُ حَلَبَ بِهَا، فَتَرَكَهَا ذَاتَ الْيَسَارِ، وَسَارَ عَلَى تَلِّ بَاشِرَ إِلَى رَعْبَانَ، فَأَتَاهُ بِهَا نُورُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ وَأَقَامَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ قَلَجُ أَرْسَلَانَ بِقُرْبِهِ مِنْهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَكْبَرَ أَمِيرٍ عِنْدَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ فَعَلَ مَعَ ابْنَتِي كَذَا، وَلَا بُدَّ مِنْ قَصْدِ بِلَادِهِ، وَتَعْرِيفِهِ مَحَلَّ نَفْسِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ الرَّسُولُ، وَاجْتَمَعَ بِصَلَاحِ الدِّينِ وَأَدَّى الرِّسَالَةَ، امْتَعَضَ صَلَاحُ الدِّينِ لِذَلِكَ وَاغْتَاظَ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: قُلْ لِصَاحِبِكَ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَئِنْ لَمْ يَرْجِعْ لَأَسِيرَنَّ إِلَى مَلَطْيَةَ وَبَيْنِي وَبَيْنَهَا يَوْمَانِ، وَلَا أَنْزِلُ عَنْ فَرَسِي إِلَّا فِي الْبَلَدِ، ثُمَّ أَقْصِدُ جَمِيعَ بِلَادِهِ وَآخُذُهَا مِنْهُ. فَرَأَى الرَّسُولُ أَمْرًا شَدِيدًا، فَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ، وَكَانَ قَدْ رَأَى الْعَسْكَرَ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالتَّجَمُّلِ، وَكَثْرَةِ السِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُقَارِبُهُ، فَعَلِمَ أَنَّهُ إِنْ قَصَدَهُمْ أَخَذَ بِلَادَهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْغَدِ يَطْلُبُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ، فَأَحْضَرَهُ فَقَالَ لَهُ: أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ شَيْئًا مِنْ عِنْدِي لَيْسَ رِسَالَةً عَنْ صَاحِبِي، وَأُحِبُّ أَنْ تُنْصِفَنِي، فَقَالَ لَهُ: قُلْ! فَقَالَ: يَا مَوْلَانَا مَا هُوَ قَبِيحٌ بِمِثْلِكَ، وَأَنْتَ مِنْ أَعْظَمِ السَّلَاطِينِ وَأَكْبَرِهِمْ شَأْنًا، أَنْ تَسْمَعَ النَّاسُ عَنْكَ أَنَّكَ صَالَحْتَ الْفِرِنْجَ، وَتَرَكْتَ الْغَزْوَ وَمَصَالِحَ الْمَمْلَكَةِ، وَأَعْرَضْتَ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِ صَلَاحٌ لَكَ وَلِرَعِيَّتِكَ وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَجَمَعْتَ الْعَسَاكِرَ مِنْ أَطْرَافِ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ وَالْقَرِيبَةِ، وَخَسِرْتَ أَنْتَ وَعَسَاكِرُكَ الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ لِأَجْلِ قَحْبَةٍ مُغَنِّيَةٍ؟ وَمَا يَكُونُ عُذْرُكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ وَمُلُوكِ الْإِسْلَامِ وَالْعَالَمِ كَافَّةً؟ وَاحْسِبْ أَنَّ أَحَدًا مَا يُوَاجِهُكَ بِهَذَا، أَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ هَكَذَا؟ ثُمَّ احْسِبْ أَنَّ قَلَجَ أَرْسَلَانَ مَاتَ، وَهَذِهِ ابْنَتُهُ قَدْ أَرْسَلَتْنِي إِلَيْكَ تَسْتَجِيرُ بِكَ، وَتَسْأَلُكَ أَنْ تُنْصِفَهَا مِنْ زَوْجِهَا، فَإِنْ فَعَلْتَ، فَهُوَ الظَّنُّ بِكَ أَنْ لَا تَرُدَّهَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ الْحَقُّ بِيَدِكَ، وَإِنَّ الْأَمْرَ لَكَمَا تَقُولُ، وَلَكِنَّ هَذَا الرَّجُلَ دَخَلَ عَلَيَّ وَتَمَسَّكَ بِي وَيَقْبُحُ بِي تَرْكُهُ، لَكِنَّكَ أَنْتَ اجْتَمِعْ بِهِ، وَأَصْلِحِ الْحَالَ بَيْنَكُمْ عَلَى مَا

تُحِبُّونَهُ، وَأَنَا أُعِينُكُمْ عَلَيْهِ، وَأُقَبِّحُ فِعْلَهُ عِنْدَهُ، وَوَعَدَ مِنْ نَفْسِهِ بِكُلِّ جَمِيلٍ، فَاجْتَمَعَ الرَّسُولُ بِصَاحِبِ الْحِصْنِ، وَتَرَدَّدَ الْقَوْلُ بَيْنَهُمْ، فَاسْتَقَرَّ أَنَّ صَاحِبَ الْحِصْنِ يُخْرِجُ الْمُغَنِّيَةَ عَنْهُ بَعْدَ سَنَةٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَفْعَلُ يَنْزِلُ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْ نُصْرَتِهِ، وَيَكُونُ هُوَ وَقَلَجُ أَرْسَلَانَ عَلَيْهِ، وَاصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ وَعَادَ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْهُ إِلَى الشَّامِ، وَعَادَ نُورُ الدِّينِ إِلَى بِلَادِهِ، فَلَمَّا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ أَخْرَجَ نُورُ الدِّينِ الْمُغَنِّيَةَ عَنْهُ، فَتَوَجَّهَتْ إِلَى بَغْدَادَ، وَأَقَامَتْ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَتْ. ذِكْرُ قَصْدِ صَلَاحِ الدِّينِ بَلَدَ ابْنِ لِيُونَ الْأَرْمَنِيِّ وَفِيهَا قَصَدَ صَلَاحُ الدِّينِ بَلَدَ ابْنِ لِيُونَ الْأَرْمَنِيِّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ أَمْرِ قَلَجِ أَرْسَلَانَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ لِيُونَ الْأَرْمَنِيَّ كَانَ قَدِ اسْتَمَالَ قَوْمًا مِنَ التُّرْكُمَانِ وَبَذَلَ لَهُمُ الْأَمَانَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْعَوْا مَوَاشِيَهُمْ فِي بِلَادِهِ. وَهِيَ بِلَادٌ حَصِينَةٌ كُلُّهَا حُصُونٌ مَنِيعَةٌ، وَالدُّخُولُ إِلَيْهَا صَعْبٌ، لِأَنَّهَا مَضَايِقُ وَجِبَالٌ وَعِرَةٌ، ثُمَّ غَدَرَ بِهِمْ وَسَبَى حَرِيمَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، وَأَسَرَ رِجَالَهُمْ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ حَانَ أَجْلُهُ. وَنَزَلَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى النَّهْرِ الْأَسْوَدِ، وَبَثَّ الْغَارَاتِ عَلَى بِلَادِهِ، فَخَافَ ابْنُ لِيُونَ عَلَى حِصْنٍ لَهُ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ أَنْ يُؤْخَذَ فَخَرَّبَهُ وَأَحْرَقَهُ، فَسَمِعَ صَلَاحُ الدِّينِ بِذَلِكَ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ إِلَيْهِ، فَأَدْرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يَنْقُلَ مَا فِيهِ مِنْ ذَخَائِرَ وَأَقْوَاتٍ، فَغَنِمَهَا، وَانْتَفَعَ الْمُسْلِمُونَ بِمَا غَنِمُوهُ، فَأَرْسَلَ ابْنُ لِيُونَ يَبْذُلُ إِطْلَاقَ مِنْ عِنْدَهُ مِنَ الْأَسْرَى وَالسَّبْيِ وَإِعَادَةِ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَنْ يَعُودُوا عَنْ بِلَادِهِ، فَأَجَابَهُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَقَرَّ الْحَالُ، وَأُطْلِقَ الْأَسْرَى وَأُعِيدَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَعَادَ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ.

ذِكْرُ مُلْكِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ مَدِينَةَ قَفْصَةَ بَعْدَ خِلَافِ صَاحِبِهَا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَمَلَكَ قَفْصَةَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهَا عَلِيَّ بْنَ الْمُعِزِّ بْنِ الْمُعْتَزِّ لَمَّا رَأَى دُخُولَ التُّرْكِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَاسْتِيلَاءَهُمْ عَلَى بَعْضِهَا، وَانْقِيَادَ الْعَرَبِ إِلَيْهِمْ، طَمِعَ أَيْضًا فِي الِاسْتِبْدَادِ وَالِانْفِرَادِ عَنْ يُوسُفَ وَكَانَ فِي طَاعَتِهِ، فَأَظْهَرَ مَا فِي نَفْسِهِ وَخَالَفَهُ وَأَظْهَرَ الْعِصْيَانَ، وَوَافَقَهُ أَهْلُ قَفْصَةَ، فَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ أَصْحَابِ أَبِي يَعْقُوبَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَأَرْسَلَ وَالِي بِجَايَةَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ يُخْبِرُهُ بِاضْطِرَابِ أُمُورِ الْبِلَادِ، وَاجْتِمَاعِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى قَرَاقُوشَ التُّرْكِيِّ الَّذِي دَخَلَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ وَمَا جَرَى فِي قَفْصَةَ مِنْ قَتْلِ الْمُوَحِّدِينَ وَمُسَاعَدَةِ أَهْلِ قَفْصَةَ صَاحِبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَشَرَعَ فِي سَدِّ الثُّغُورِ الَّتِي يَخَافُهَا بَعْدَ مَسِيرِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ تَجَهَّزَ الْعَسْكَرُ وَسَارَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، وَنَزَلَ عَلَى مَدِينَةِ قَفْصَةَ وَحَصَرَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَهِيَ بَلْدَةٌ حَصِينَةٌ، وَأَهْلُهَا أَنْجَادٌ، وَقَطَعَ شَجَرَهَا. فَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى صَاحِبِهَا وَأَهْلِهَا، خَرَجَ مِنْهَا مُسْتَخْفِيًا لَمْ يَعْرِفْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ قَفْصَةَ وَلَا مِنْ عَسْكَرِهِ، وَسَارَ إِلَى خَيْمَةِ يُوسُفَ، وَعَرَّفَ حَاجِبَهُ أَنَّهُ قَدْ حَضَرَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يُوسُفَ، فَدَخَلَ الْحَاجِبُ وَأَعْلَمَ يُوسُفَ بِوُصُولِ صَاحِبِ قَفْصَةَ إِلَى بَابِ خَيْمَتِهِ، فَعَجِبَ مِنْهُ كَيْفَ أَقْدَمَ عَلَى الْحُضُورِ عِنْدَهُ بِغَيْرِ عَهْدٍ، وَأَمَرَ بِإِدْخَالِهِ عَلَيْهِ، فَدَخَلَ وَقَبَّلَ يَدَهُ، وَقَالَ: قَدْ حَضَرَتُ أَطْلُبُ عَفْوَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِّي وَعَنْ أَهْلِ بَلَدِي، وَأَنْ يَفْعَلَ مَا هُوَ أَهْلُهُ، وَاعْتَذَرَ، فَرَقَّ لَهُ يُوسُفُ فَعَفَا عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ الْبَلَدِ وَتَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَوَّلَ سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَسَيَّرَ عَلِيَّ بْنَ الْمُعِزِّ صَاحِبَهَا إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَكَانَ فِيهَا مُكَرَّمًا عَزِيزًا، وَأَقْطَعَهُ وِلَايَةً كَبِيرَةً، وَرَتَّبَ يُوسُفُ لِقَفْصَةَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُوَحِّدِينَ، وَحَضَرَ مَسْعُودُ بْنُ زِمَامٍ أَمِيرُ الْعَرَبِ عِنْدَ يُوسُفَ أَيْضًا، فَعَفَا عَنْهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى مَرَّاكُشَ، وَسَارَ يُوسُفُ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، فَأَتَاهُ بِهَا رَسُولُ مَلِكِ الْفِرِنْجِ، صَاحِبِ صِقِلِّيَّةَ،

يَلْتَمِسُ مِنْهُ الصُّلْحَ، فَهَادَنَهُ عَشْرَ سِنِينَ، وَكَانَتْ بِلَادُ إِفْرِيقِيَّةَ مُجْدِبَةً فَتَعَذَّرَ عَلَى الْعَسْكَرِ الْقُوتُ وَعَلْفُ الدَّوَابِّ، فَسَارَ إِلَى الْمَغْرِبِ مُسْرِعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ بْنُ أَيُّوبَ، أَخُو صَلَاحِ الدِّينِ الْأَكْبَرُ، بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَهَا مِنْ أَخِيهِ إِقْطَاعًا، فَأَقَامَ بِهَا فَتُوُفِّيَ، وَكَانَ لَهُ أَكْثَرُ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَنُوَّابُهُ هُنَالِكَ يَحْمِلُونَ إِلَيْهِ الْأَمْوَالَ مِنْ زَبِيدَ، وَعَدَنَ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْبِلَادِ وَالْمَعَاقِلِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَأَسْخَاهُمْ كَفًّا يُخْرِجُ كُلَّ مَا يُحْمَلُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ الْيَمَنِ، وَدَخَلَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَحُكْمُهُ فِي بِلَادِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ وَأَمْوَالِهِ نَافِذٌ، وَمَعَ هَذَا، فَلَمَّا مَاتَ كَانَ عَلَيْهِ نَحْوُ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ مِصْرِيَّةٍ دَيْنًا، فَوَفَّاهَا أَخُوهُ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْهُ لَمَّا دَخَلَ إِلَى مِصْرَ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ وَفَاتِهِ سَارَ إِلَى مِصْرَ فِي شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ، وَاسْتَخْلَفَ بِالشَّامِ عِزَّ الدِّينِ فَرْخَشَاهَ ابْنَ أَخِيهِ شَاهِنْشَاهْ، وَكَانَ عَاقِلًا حَازِمًا شُجَاعًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلْفَةَ الْأَصْفَهَانِيُّ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَكَانَ حَافِظَ الْحَدِيثِ وَعَالِمًا بِهِ سَافَرَ فِي طَلَبِ الْكَثِيرِ. وَتُوُفِّيَ أَيْضًا فِي الْمُحَرَّمِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْعَصَّارِ اللُّغَوِيُّ بِبَغْدَادَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْجَوَالِيقِيِّ.

ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 577 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ غَزَاةٍ إِلَى بَلَدِ الْكَرَكِ مِنَ الشَّامِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ فَرْخَشَاهْ نَائِبُ صَلَاحِ الدِّينِ بِدِمَشْقَ إِلَى أَعْمَالِ كَرَكِ وَنَهَبَهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْبُرُنْسَ أَرْنَاطَ، صَاحِبَ الْكَرَكِ، كَانَ مِنْ شَيَاطِينِ الْفِرِنْجِ وَمَرَدَتِهِمْ، وَأَشَدِّهِمْ عَدَاوَةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَتَجَهَّزَ، وَجَمَعَ عَسْكَرَهُ وَمَنْ أَمْكَنَهُ الْجَمْعُ، وَعَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ فِي الْبَرِّ إِلَى تَيْمَاءَ، وَمِنْهَا إِلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَى تِلْكَ النَّوَاحِي الشَّرِيفَةِ فَسَمِعَ عِزُّ الدِّينِ فَرْخَشَاهْ ذَلِكَ، فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيَّةَ وَسَارَ إِلَى بَلَدِهِ وَنَهَبَهُ وَخَرَّبَهُ، وَعَادَ إِلَى طَرَفِ بِلَادِهِمْ، وَأَقَامَ بِهَا لِيَمْنَعَ الْبُرُنْسَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَامْتَنَعَ بِسَبَبِهِ مِنْ مَقْصِدِهِ، فَلَمَّا طَالَ مَقَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُقَابَلَةِ الْآخَرِ عَلِمَ الْبُرُنْسُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعُودُونَ حَتَّى يُفَرَّقَ جَمْعُهُ، فَفَرَّقَهُمْ وَانْقَطَعَ طَمَعُهُ مِنَ الْحَرَكَةِ، فَعَادَ فَرْخَشَاهْ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ شَرَّ الْكُفَّارِ. ذِكْرُ تَلْبِيسٍ يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَاطَ مِنْ مَثْلِهِ كَانَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ مُبَارَكُ بْنُ كَامِلِ بْنِ مُنْقِذِ الْكِنَانِيُّ يَنُوبُ عَنْ شَمْسِ الدَّوْلَةِ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ بِالْيَمَنِ وَتَحَكَّمَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْبِلَادِ بَعْدَ أَنْ فَارَقَهَا شَمْسُ الدَّوْلَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ هَوَاهُ بِالشَّامِ لِأَنَّهُ وَطَنُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى شَمْسِ الدَّوْلَةِ يَطْلُبُ الْإِذْنَ لَهُ فِي الْمَجِيءِ إِلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي الْمَجِيءِ، فَاسْتَنَابَ بِزَبِيدَ أَخَاهُ حَطَّانَ بْنَ كَامِلِ بْنِ مُنْقِذِ الْكِنَانِيَّ، وَعَادَ إِلَى شَمْسِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ مَعَهُ بِمِصْرَ، فَمَاتَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ، وَبَقِيَ مَعَ

صَلَاحِ الدِّينِ فَقِيلَ عَنْهُ: إِنَّهُ أَخَذَ أَمْوَالَ الْيَمَنِ وَادَّخَرَهَا، وَسَعَى بِهِ أَعْدَاؤُهُ، فَلَمْ يُعَارِضْهُ صَلَاحُ الدِّينِ. فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ وَصَلَاحُ الدِّينِ بِمِصْرَ اصْطَنَعَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ طَعَامًا وَعَمِلَ دَعْوَةً كَبِيرَةً. وَدَعَا إِلَيْهَا أَعْيَانَ الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ بِقَرْيَةٍ تُسَمَّى الْعَدَوِيَّةَ، وَأَرْسَلَ أَصْحَابَهُ يَتَجَهَّزُونَ مِنَ الْبَلَدِ، وَيَشْتَرُونَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا، فَقِيلَ لِصَلَاحِ الدِّينِ إِنَّ ابْنَ مُنْقِذَ يُرِيدُ الْهَرَبَ، وَأَصْحَابَهُ يَتَزَوَّدُونَ لَهُ، وَمَتَى دَخَلَ الْيَمَنَ أَخْرَجَهُ عَنْ طَاعَتِكَ، فَأَرْسَلَ صَلَاحُ الدِّينِ فَأَخْذَهُ وَالنَّاسُ عِنْدَهُ وَحَبَسَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ صَلَاحُ الدِّينِ جَلِيَّةَ الْحَالِ عَلِمَ أَنَّ الْحِيلَةَ تَمَّتْ لِأَعْدَائِهِ فِي قَبْضِهِ، فَخَفَّفَ مَا كَانَ عِنْدَهُ عَلَيْهِ، وَسَهَّلَ أَمْرَهُ وَصَانَعَهُ عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ مِصْرِيَّةٍ، سِوَى مَا لَحِقَهَا مِنَ الْحَمْلِ لِإِخْوَةِ صَلَاحِ الدِّينِ وَأَصْحَابِهِ وَأَطْلَقَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى مَنْزِلَتِهِ، وَكَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا. ذِكْرُ إِرْسَالِ صَلَاحِ الدِّينِ الْعَسَاكِرَ إِلَى الْيَمَنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ جَمَاعَةً مِنْ أُمَرَائِهِ مِنْهُمْ صَارِمُ الدِّينِ قُتْلُغُ أَبَهَ، وَالِي مِصْرَ، إِلَى الْيَمَنِ لِلِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بِهَا بَيْنَ نُوَّابِ أَخِيهِ شَمْسِ الدَّوْلَةِ، وَهُمْ عِزُّ الدِّينِ عُثْمَانُ بْنُ الزَّنْجِيلِيِّ، وَالِي عَدَنَ، وَحِطَّانُ بْنُ مُنْقِذَ [وَالِي] زَبِيدَ وَغَيْرُهُمَا، فَإِنَّهُمْ لَمَّا بَلَغَهُمْ وَفَاةُ صَاحِبِهِمُ اخْتَلَفُوا وَجَرَتْ بَيْنَ عِزِّ الدِّينِ عُثْمَانَ وَبَيْنَ حِطَّانَ حَرْبٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرُومُ أَنْ يَغْلِبَ الْآخَرَ عَلَى مَا بِيَدِهِ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، فَخَافَ صَلَاحُ الدِّينِ أَنْ يَطْمَعَ أَهْلُ الْبِلَادِ فِيهَا بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَأَنْ يُخْرِجُوهُمْ مِنَ الْبِلَادِ، فَأَرْسَلَ هَؤُلَاءِ إِلَيْهَا، وَاسْتَوْلَى قُتْلُغُ أَبَهَ عَلَى زَبِيدَ وَأَزَالَ حِطَّانَ عَنْهَا. ثُمَّ مَاتَ قُتْلُغُ أَبَهَ، فَعَادَ حِطَّانُ إِلَى إِمَارَةِ زَبِيدَ، وَأَطَاعَهُ النَّاسُ لِجُودِهِ وَشَجَاعَتِهِ.

ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ وَمُلْكِ ابْنِ عَمِّهِ عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودٍ مَدِينَةَ حَلَبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبَ، تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ صَاحِبُ حَلَبَ بِهَا، وَعُمْرُهُ نَحْوُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَصَفَ لَهُ الْأَطِبَّاءُ شُرْبَ الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي، فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ حَتَّى أَسْتَفْتِيَ الْفُقَهَاءَ، فَاسْتَفْتَى، فَأَفْتَاهُ فَقِيهٌ مِنْ مُدَرِّسِي الْحَنَفِيَّةِ بِجَوَازِ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقُرْبِ الْأَجَلِ أَيُؤَخِّرُهُ شُرْبُ الْخَمْرِ؟ فَقَالَ [لَهُ] الْفَقِيهُ: لَا! فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا لَقِيتُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَقَدِ اسْتَعْمَلْتُ مَا حَرَّمَهُ عَلَيَّ، وَلَمْ يَشْرَبْهَا. فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ نَفْسِهِ، أَحْضَرَ الْأُمَرَاءَ، وَسَائِرَ الْأَجْنَادِ، وَوَصَّاهُمْ بِتَسْلِيمِ الْبَلَدِ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودِ بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِي، وَاسْتَحْلَفَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ عِمَادَ [الدِّينِ] ابْنَ عَمِّكَ أَيْضًا، وَهُوَ زَوْجُ أُخْتِكَ، وَكَانَ وَالِدُكَ يُحِبُّهُ وَيُؤْثِرُهُ، وَهُوَ تَوَلَّى تَرْبِيَتَهُ، وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ سِنْجَارَ، فَلَوْ أَعْطَيْتَهُ الْبَلَدَ لَكَانَ أَصْلَحَ، وَعِزُّ الدِّينِ لَهُ [مِنَ الْبِلَادِ] مِنَ الْفُرَاتِ إِلَى هَمَذَانَ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى بَلَدِكَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَغِبْ عَنِّي، وَلَكِنْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى عَامَّةِ بِلَادِ الشَّامِ سِوَى مَا بِيَدِي، وَمَتَى سَلَّمْتُ حَلَبَ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ يَعْجَزُ عَنْ حِفْظِهَا وَإِنْ مَلَكَهَا صَلَاحُ الدِّينِ لَمْ يَبْقَ لِأَهْلِنَا مَعَهُ مَقَامٌ، وَإِنْ سَلَّمْتُهَا إِلَى عِزِّ الدِّينِ أَمْكَنَهُ حِفْظُهَا بِكَثْرَةِ عَسَاكِرِهِ وَبِلَادِهِ. فَاسْتَحْسَنُوا قَوْلَهُ وَعَجِبُوا مِنْ جَوْدَةِ فِطْنَتِهِ مَعَ شِدَّةِ مَرَضِهِ وَصِغَرِ سِنِّهِ. ثُمَّ مَاتَ، وَكَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا، عَفِيفَ الْيَدِ وَالْفَرْجِ وَاللِّسَانِ، مُلَازِمًا لِلدِّينِ، لَا

يُعْرَفُ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا يَتَعَاطَاهُ الْمُلُوكُ وَالشَّبَابُ مَنْ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، حَسَنَ السِّيرَةِ فِي رَعِيَّتِهِ عَادِلًا فِيهِمْ. وَلَمَّا قَضَى نَحْبَهُ أَرْسَلَ الْأُمَرَاءُ إِلَى أَتَابِكَ عِزِّ الدِّينِ يَسْتَدْعُونَهُ إِلَى حَلَبَ، فَسَارَ هُوَ وَمُجَاهِدُ الدِّينِ قَايْمَازُ إِلَى الْفُرَاتِ، وَأَرْسَلَ فَأَحْضَرَ الْأُمَرَاءَ عِنْدَهُ مِنْ حَلَبَ، فَحَضَرُوا، وَسَارُوا جَمِيعًا إِلَى حَلَبَ، وَدَخَلَهَا فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ حِينَئِذٍ بِمِصْرَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَزَاحَمَهُمْ عَلَيْهَا وَقَاتَلَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ إِلَيْهَا مِنَ الْفُرَاتِ كَانَ تَقِيُّ الدِّينَ عُمَرُ ابْنُ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ بِمَدِينَةِ مَنْبَجَ، فَسَارَ عَنْهَا هَارِبًا إِلَى حَمَاةَ، وَثَارَ أَهْلُ حَمَاةَ، وَنَادُوا بِشِعَارِ عِزِّ الدِّينِ، فَأَشَارَ عَسْكَرُ حَلَبَ عَلَى عِزِّ الدِّينِ بِقَصْدِ دِمَشْقَ، وَأَطْمَعُوهُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَأَعْلَمُوهُ مَحَبَّةَ أَهْلِهَا لَهُ وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: بَيْنَنَا يَمِينٌ فَلَا نَغْدِرُ بِهِ، وَأَقَامَ بِحَلَبَ عِدَّةَ شُهُورٍ، ثُمَّ سَارَ عَنْهَا إِلَى الرَّقَّةِ.] ذِكْرُ تَسْلِيمِ حَلَبَ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ وَأَخَذِ سِنْجَارَ عِوَضًا عَنْهَا لَمَّا وَصَلَ عِزُّ الدِّينِ إِلَى الرَّقَّةِ جَاءَتْهُ رُسُلُ أَخِيهِ عِمَادِ الدِّينِ، صَاحِبِ سِنْجَارَ، يَطْلُبُ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ حَلَبَ وَيَأْخُذَ عِوَضًا عَنْهَا مَدِينَةَ سِنْجَارَ. فَلَمْ يَجُبْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَجَّ عِمَادُ الدِّينِ، وَقَالَ: إِنْ سَلَّمْتُمْ إِلَيَّ حَلَبَ. وَإِلَّا سَلَّمْتُ أَنَا سِنْجَارَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، فَأَشَارَ حِينَئِذٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ بِتَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ، وَكَانَ أَشَدُّهُمْ فِي ذَلِكَ مُجَاهِدَ الدِّينِ قَايْمَازَ، فَلَمْ يُمْكِنْ عِزَّ الدِّينِ مُخَالَفَتُهُ لِتَمَكُّنِهِ فِي الدَّوْلَةِ، وَكَثْرَةِ عَسَاكِرِهِ وَبِلَادِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَ مُجَاهِدَ الدِّينِ عَلَى ذَلِكَ خَوْفُهُ مِنْ عِزِّ الدِّينِ، لِأَنَّهُ عَظُمَ فِي نَفْسِهِ، وَكَثُرَ مَعَهُ الْعَسْكَرُ. وَكَانَ الْأُمَرَاءُ الْحَلَبِيُّونَ لَا يَلْتَفُّونَ إِلَى مُجَاهِدِ الدِّينِ، وَلَا يَسْلُكُونَ مَعَهُ مِنَ الْأَدَبِ مَا يَفْعَلُهُ عَسْكَرُ الْمَوْصِلِ، فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى تَسْلِيمِ حَلَبَ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ وَأَخْذِ سِنْجَارَ عِوَضًا

عَنْهَا، فَسَارَ عِمَادُ الدِّينِ فَتَسَلَّمَهَا، وَسَلَّمَ سِنْجَارُ إِلَى أَخِيهِ، وَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ. وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ بِمِصْرَ قَدْ بَلَغَهُ خَبَرُ مُلْكِ عِزِّ الدِّينِ حَلَبَ، فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَخَافَ أَنْ يَسِيرَ مِنْهَا إِلَى دِمَشْقَ وَغَيْرِهَا، وَيَمْلُكَ الْجَمِيعَ، وَأَيِسَ مِنْ حَلَبَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ مُلْكِ عِمَادِ الدِّينَ لَهَا بَرَزَ مِنْ يَوْمِهِ وَسَارَ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ مِنَ الْوَهْنِ عَلَى دَوْلَةِ عِزِّ الدِّينِ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ذِكْرُ حَصْرِ صَاحِبِ مَارِدِينَ قَلْعَةِ الْبِيَرَةِ وَمَصِيرِ صَاحِبِهَا مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ كَانَتْ قَلْعَةُ الْبِيَرَةِ، وَهِيَ مُطِلَّةٌ عَلَى الْفُرَاتِ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ، لِشِهَابِ الدِّينِ الْأَرْتَقِيِّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ قُطْبِ الدِّينِ إِيلْغَازِي بْنِ أَلْبِيِّ بْنِ تَمْرِتَاشَ بْنِ إِيلْغَازِي بْنِ أَرْتَقَ صَاحِبِ مَارِدِينَ، وَكَانَ فِي طَاعَةِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي، صَاحِبِ الشَّامِ، فَمَاتَ شِهَابُ الدِّينِ وَمَلَكَ الْقَلْعَةَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ وَصَارَ فِي طَاعَةِ عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ. فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ أَرْسَلَ صَاحِبُ مَارِدِينَ إِلَى عِزِّ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي حَصْرِ الْبِيَرَةِ وَأَخْذِهَا، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَسَارَ فِي عَسْكَرِهِ إِلَى قَلْعَةِ سُمَيْسَاطَ، وَهِيَ لَهُ، وَنَزَلَ بِهَا وَسَيَّرَ الْعَسْكَرَ إِلَى الْبِيَرَةِ، فَحَصَرَهَا، فَلَمْ يَظْفَرْ مِنْهَا بِطَائِلٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَازَمُوا الْحِصَارَ، فَأَرْسَلَ صَاحِبُهَا إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُنْجِدَهُ وَيَرْحَلَ الْعَسْكَرُ الْمَارِدِينِيُّ عَنْهُ، وَيَكُونُ هُوَ فِي خِدْمَتِهِ، كَمَا كَانَ أَبُوهُ فِي خِدْمَةِ نُورِ الدِّينِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى صَاحِبِ مَارِدِينَ يَشْفَعُ فِيهِ، وَيَطْلُبُ أَنْ يَرْحَلَ عَسْكَرُهُ عَنْهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ شَفَاعَتَهُ. وَاشْتَغَلَ صَلَاحُ الدِّينِ بِمَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَلَمَّا رَأَى صَاحِبُ مَارِدِينَ طُولَ مَقَامِ

عَسْكَرِهِ عَلَى الْبِيَرَةِ، وَلَمْ يَبْلُغُوا مِنْهَا غَرَضًا، أَمَرَهُمْ بِالرَّحِيلِ عَنْهَا، وَعَادَ إِلَى مَارِدِينَ، فَسَارَ صَاحِبُهَا إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى عَبَرَ مَعَهُ الْفُرَاتَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَتِ الْمُنْكَرَاتُ بِبَغْدَادَ فَأَقَامَ حَاجِبُ الْبَابِ جَمَاعَةً لِإِرَاقَةِ الْخُمُورِ، وَأَخْذِ الْمُفِسِدَاتِ، فَبَيْنَمَا امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ فِي مَوْضِعٍ، عَلِمَتْ بِمَجِيءِ أَصْحَابِ حَاجِبِ الْبَابِ. فَاضْطَّجَعَتْ، وَأَظْهَرَتْ أَنَّهَا مَرِيضَةٌ، وَارْتَفَعَ أَنِينُهَا، فَرَأَوْهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَرَكُوهَا وَانْصَرَفُوا، فَاجْتَهَدَتْ بَعْدَهُمْ أَنْ تَقُومَ. فَلَمْ تَقْدِرْ، وَجَعَلَتْ تَصِيحُ: الْكَرْبَ الْكَرْبَ، إِلَى أَنْ مَاتَتْ. وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ مَا يُحْكَى. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، عَاشِرُ ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ هُمَامُ الدِّينِ تَتَرُ، صَاحِبُ قَلْعَةِ تَكْرِيتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، كَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ الْأَمِيرَ عِيسَى ابْنَ أَخِي مَوْدُودَ وَحَجَّ، فَتُوُفِّيَ، وَدُفِنَ بِالْمُعَلَّى مَقْبَرَةِ مَكَّةَ. وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ أَبُو الْبَرَكَاتِ النَّحْوِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَنْبَارِيِّ بِبَغْدَادَ، وَلَهُ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ فِي النَّحْوِ، وَكَانَ فَقِيهًا صَالِحًا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مِهْرَانَ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ بِجَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَانَ فَاضِلًا كَثِيرَ الْوَرَعِ.

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 578 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مَسِيرِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى الشَّامِ وَإِغَارَتِهِ عَلَى الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، خَامِسَ الْمُحَرَّمِ، سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، وَمِنْ عَجِيبِ مَا يُحْكَى مِنَ التَّطَيُّرِ أَنَّهُ لَمَّا بَرَزَ مِنَ الْقَاهِرَةِ أَقَامَ بِخَيْمَتِهِ حَتَّى تَجْتَمِعَ الْعَسَاكِرُ وَالنَّاسُ عِنْدَهُ، وَأَعْيَانُ دَوْلَتِهِ وَالْعُلَمَاءُ وَأَرْبَابُ الْآدَابِ، فَمِنْ بَيْنِ مُوَدِّعٍ لَهُ وَسَائِرٍ مَعَهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَقُولُ شَيْئًا فِي الْوَدَاعِ وَالْفِرَاقِ، وَمَا هُمْ بِصَدَدِهِ مِنَ السَّفَرِ، وَفِي الْحَاضِرِينَ مُعَلِّمٌ لِبَعْضِ أَوْلَادِهِ، فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ مِنْ بَيْنِ الْحَاضِرِينَ وَأَنْشَدَ: تَمَتَّعْ مِنْ شَمِيمِ عَرَارِ نَجِدٍ ... فَمَا بَعْدَ الْعَشِيَّةِ مِنْ عَرَارِ فَانْقَبَضَ صَلَاحُ الدِّينِ بَعْدَ انْبِسَاطِهِ وَتَطَيَّرَ، وَتَنَكَّدَ الْمَجْلِسُ عَلَى الْحَاضِرِينَ، فَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا إِلَى أَنْ مَاتَ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ. ثُمَّ سَارَ عَنْ مِصْرَ وَتَبِعَهُ مِنَ التُّجَّارِ وَأَهْلِ الْبِلَادِ، وَمَنْ كَانَ قَصَدَ مِصْرَ مِنَ الشَّامِ بِسَبَبِ الْغَلَاءِ بِالشَّامِ وَغَيْرِهِ، عَالَمٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا سَارَ جَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى أَيْلَةَ فَسَمِعَ أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدْ جَمَعُوا لَهُ لِيُحَارِبُوهُ وَيَصُدُّوهُ عَنِ الْمَسِيرِ، فَلَمَّا قَارَبَ بِلَادَهُمْ فِي الْعَسَاكِرِ الْمُقَاتِلَةِ لَا غَيْرَ، فَشَنَّ الْغَارَاتِ بِأَطْرَافِ بِلَادِهِمْ، وَأَكْثَرَ ذَلِكَ بِبَلَدِ الْكَرَكِ وَالشَّوْبَكِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَا أَقْدَمَ عَلَى الدُّنُوِّ مِنْهُ، ثُمَّ سَارَ فَأَتَى دِمَشْقَ، فَوَصَلَهَا حَادِيَ عَشَرَ صَفَرٍ مِنَ السَّنَةِ.

ذِكْرُ مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ شَقِيفًا مِنَ الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا، فِي صَفَرٍ، فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بِالشَّامِ شَقِيفًا مِنَ الْفِرِنْجِ، يُعْرَفُ بِحَبْسِ جَلْدِكَ، وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ طَبَرِيَّةَ، مُطِلٌّ عَلَى السَّوَادِ. وَسَبَبُ فَتْحِهِ أَنَّ الْفِرِنْجَ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَسِيرُ صَلَاحِ الدِّينِ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ جَمَعُوا لَهُ، وَحَشَدُوا الْفَارِسَ وَالرَّاجِلَ، وَاجْتَمَعُوا بِالْكَرَكِ، بِالْقُرْبِ مِنَ الطَّرِيقِ، لَعَلَّهُمْ يَنْتَهِزُونَ فُرْصَةً، أَوْ يَظْفَرُونَ بِنُصْرَةٍ، وَرُبَّمَا عَاقُوا الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسِيرِ بِأَنْ يَقِفُوا عَلَى بَعْضِ الْمَضَايِقِ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ خَلَتْ بِلَادُهُمْ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ، فَسَمِعَ فَرْخَشَاهَ الْخَبَرَ، فَجَمَعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ عَسَاكِرِ الشَّامِ، ثُمَّ قَصَدَ بِلَادَ الْفِرِنْجِ وَأَغَارَ عَلَيْهَا، وَنَهَبَ دَبُورِيَّةَ وَمَا يُجَاوِرُهَا مِنَ الْقُرَى، وَأَسَرَ الرِّجَالَ وَقَتَلَ فِيهِمْ وَأَكْثَرَ وَسَبَى النِّسَاءَ، وَغَنِمَ الْأَمْوَالَ، وَفَتَحَ مِنْهُمُ الشَّقِيفَ، وَكَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ أَذَىً شَدِيدٌ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِفَتْحِهِ فَرَحًا عَظِيمًا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ بِالْبِشَارَةِ، فَلَقِيَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَفَتَّ ذَلِكَ فِي عَضُدِ الْفِرِنْجِ، وَانْكَسَرَتْ شَوْكَتُهُمْ. ذِكْرُ إِرْسَالِ سَيْفِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَمَنِ وَتُغَلُّبِهِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ أَخَاهُ سَيْفَ الْإِسْلَامِ طُغْدُكِينَ إِلَى بِلَادِ الْيَمَنِ، وَأَمَرَهُ بِتَمَلُّكِهَا وَقَطْعِ الْفِتَنِ بِهَا، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَهَا، وَكَانَ بِهَا حِطَّانُ بْنُ مُنْقِذَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. وَكَتَبَ عِزُّ الدِّينِ عُثْمَانُ الزَّنْجِيلِيُّ مُتَوَلِّي عَدَنَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يُعَرِّفُهُ بِاخْتِلَالِ الْبِلَادِ، وَيُشِيرُ بِإِرْسَالِ بَعْضِ أَهْلِهِ إِلَيْهَا،، لِأَنَّ حِطَّانَ كَانَ قَوِيَ عَلَيْهِ، فَخَافَهُ عُثْمَانُ، فَجَهَّزَ صَلَاحُ الدِّينِ أَخَاهُ سَيْفَ الْإِسْلَامِ وَسَيَّرَهُ إِلَى بِلَادِ الْيَمَنِ، فَوَصَلَ إِلَى

زَبِيدَ، فَخَافَهُ حِطَّانُ بْنُ مُنْقِذٍ وَاسْتَشْعَرَ مِنْهُ، وَتَحَصَّنَ فِي بَعْضِ الْقِلَاعِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ سَيْفُ الْإِسْلَامِ يُؤَمِّنُهُ وَيُهْدِي إِلَيْهِ وَيَتَلَطَّفُهُ حَتَّى نَزَلَ إِلَيْهِ، فَأَحْسَنَ صُحْبَتَهُ، وَاعْتَمَدَ مَعَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَتَوَقَّعُهُ مِنَ الْإِحْسَانِ، فَلَمْ يَثِقْ حِطَّانُ بِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ دُسْتُورًا لِيَقْصِدَ الشَّامَ، فَامْتَنَعَ مِنْ إِجَابَتِهِ إِظْهَارًا لِلرَّغْبَةِ فِي كَوْنِهِ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ حِطَّانُ يُرَاجِعُهُ حَتَّى أَذِنَ لَهُ، فَأَخْرَجَ أَثْقَالَهُ، وَأَمْوَالَهُ، وَدَوَابَّهُ، وَأَهْلَهُ، وَأَصْحَابَهُ، وَكُلَّ مَا لَهُ، وَسَيَّرَ الْجَمِيعَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَخَلَ عَلَى سَيْفِ الْإِسْلَامِ لِيُوَدِّعَهُ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَاسْتَرْجَعَ جَمِيعَ مَالَهُ فَأَخَذَهُ عَنْ آخِرِهِ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، ثُمَّ سَجَنَهُ فِي بَعْضِ الْقِلَاعِ، وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ، فَقِيلَ إِنَّهُ قَتَلَهُ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا أَخَذَ مِنْهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الذَّهَبُ الْعَيْنُ فِي سَبْعِينَ غِلَافًا زَرْدِيَّةً مَمْلُوءَةً عَيْنًا. وَأَمَّا عِزُّ الدِّينِ عُثْمَانُ الزَّنْجِيلِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا سَمِعَ مَا جَرَى عَلَى حِطَّانَ خَافَ فَسَارَ نَحْوَ الشَّامِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، وَسَيَّرَ مُعْظَمَ أَمْوَالِهِ فِي الْبَحْرِ، فَصَادَفَهُمْ مَرَاكِبُ فِيهَا أَصْحَابُ سَيْفِ الْإِسْلَامِ، فَأَخَذُوا كُلَّ مَا لِعِزِّ الدِّينِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا مَا صَحِبَهُ فِي الطَّرِيقِ، وَصَفَتْ زَبِيدُ وَعَدَنُ وَمَا مَعَهُمَا مِنَ الْبِلَادِ لِسَيْفِ الْإِسْلَامِ. ذِكْرُ إِغَارَةِ صَلَاحِ الدِّينِ عَلَى الْغَوْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ بِلَادِ الْفِرِنْجِ لَمَّا وَصَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى دِمَشْقَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، أَقَامَ أَيَّامًا يُرِيحُ وَيَسْتَرِيحُ هُوَ وَجَنْدُهُ، ثُمَّ سَارَ إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَقَصَدَ طَبَرِيَّةَ، فَنَزَلَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَخَيَّمَ فِي الْأُقْحُوَانَةِ مِنَ الْأُرْدُنِّ، وَجَاءَتِ الْفِرِنْجُ بِجُمُوعِهَا فَنَزَلَتْ بِطَبَرِيَّةَ، فَسَيَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ فَرُّخْشَاهَ ابْنَ أَخِيهِ إِلَى بَيْسَانَ، فَدَخَلَهَا قَهْرًا، وَغَنِمَ مَا فِيهَا، وَقَتَلَ وَسَبَى، وَجَحَفَ الْغَوْرَ غَارَةً شَعْوَاءَ، فَعَمَّ أَهْلَهُ قَتْلًا وَأَسْرًا. وَجَاءَتِ الْعَرَبُ فَأَغَارَتْ عَلَى جِينِينَ وَاللَّجُونِ وَتِلْكَ الْوِلَايَةِ، حَتَّى قَارَبُوا مَرْجَ عَكَّا. وَسَارَ الْفِرِنْجُ مِنْ طَبَرِيَّةَ، فَنَزَلُوا تَحْتَ جَبَلِ كَوْكَبَ، فَتَقَدَّمَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَيْهِمْ،

وَأَرْسَلَ الْعَسَاكِرَ عَلَيْهِمْ يَرْمُونَهُمْ بِالنِّشَابِ، فَلَمْ يَبْرَحُوا، وَلَمْ يَتَحَرَّكُوا لِقِتَالٍ، فَأَمَرَ ابْنَيْ أَخِيهِ تَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ وَعِزَّ الدِّينِ فَرُّخْشَاهْ، فَحَمَلَا عَلَى الْفِرِنْجِ فِيمَنْ مَعَهُمَا، فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ انْحَازُوا عَلَى حَامِيَتِهِمْ فَنَزَلُوا غَفْرَبَلَا، فَلَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ مَا قَدْ أَثْخَنَ فِيهِمْ وَفِي بِلَادِهِمْ عَادَ عَنْهُمْ إِلَى دِمَشْقَ. ذِكْرُ حَصْرِ بَيْرُوتَ ثُمَّ إِنَّهُ سَارَ عَنْ دِمَشْقَ إِلَى بَيْرُوتَ، فَنَهَبَ بَلَدَهَا، وَكَانَ قَدْ أَمَرَ الْأُسْطُولَ الْمِصْرِيَّ بِالْمَجِيءِ فِي الْبَحْرِ إِلَيْهَا، فَسَارُوا وَنَازَلُوهَا، وَأَغَارُوا عَلَيْهَا وَعَلَى بَلَدِهَا، وَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ فَوَافَاهُمْ وَنَهَبَ مَا لَمْ يَصِلِ الْأُسْطُولُ إِلَيْهِ، وَحَصَرَهَا عِدَّةَ أَيَّامٍ. وَكَانَ عَازِمًا عَلَى مُلَازَمَتِهَا إِلَى أَنْ يَفْتَحَهَا، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ وَهُوَ عَلَيْهَا أَنَّ الْبَحْرَ قَدْ أَلْقَى بُطْسَةَ لِلْفِرِنْجِ فِيهَا جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنْهُمْ إِلَى دُمْيَاطَ، وَكَانُوا قَدْ خَرَجُوا لِزِيَارَةِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَأَسَرُوا مَنْ بِهَا إِلَى أَنْ غَرِقَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ فَكَانَ عِدَّةُ الْأَسْرَى أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَسَبْعِينَ أَسِيرًا، فَضُرِبَتْ بِذَلِكَ الْبَشَائِرُ. ذِكْرُ عُبُورِ صَلَاحِ الدِّينِ الْفُرَاتَ وَمُلْكِهِ دِيَارَ الْجَزِيرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبَرَ صَلَاحُ الدِّينِ الْفُرَاتَ إِلَى الدِّيَارِ الْجَزَرِيَّةِ وَمَلَكَهَا.

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُظَفَّرَ الدِّينِ كَوْكَبَرِّيَّ بْنَ زَيْنِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ بُكْتُكِينَ وَهُوَ مُقْطَعٌ حَرَّانَ كَانَ قَدْ أَقْطَعَهُ إِيَّاهَا عِزُّ الدِّينِ أَتَابِكُ، الْمَدِينَةَ وَالْقَلْعَةَ، ثِقَةً بِهِ وَاعْتِمَادًا عَلَيْهِ، أَرْسَلَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَهُوَ يُحَاصِرُ بَيْرُوتَ يُعْلِمُهُ أَنَّهُ مَعَهُ مُحِبٌّ لِدَوْلَتِهِ، وَوَعَدَهُ النُّصْرَةَ لَهُ إِذَا عَبَرَ الْفُرَاتَ، وَيُطْمِعَهُ فِي الْبِلَادِ وَيَحُثُّهُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهَا، فَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْ بَيْرُوتَ، وَرُسُلُ مُظَفَّرِ الدِّينِ تَتْرَى إِلَيْهِ يَحُثُّهُ عَلَى الْمَجِيءِ، فَجَدَّ صَلَاحُ الدِّينِ السَّيْرَ مُظْهِرًا أَنَّهُ يُرِيدُ حَصْرَ حَلَبَ سِتْرًا لِلْحَالِ. فَلَمَّا قَارَبَ الْفُرَاتَ سَارَ إِلَيْهِ مُظَفَّرُ الدِّينِ فَعَبَرَ الْفُرَاتَ وَاجْتَمَعَ بِهِ وَعَادَ مَعَهُ فَقَصَدَ الْبِيَرَةَ، وَهِيَ قَلْعَةٌ مَنِيعَةٌ عَلَى الْفُرَاتِ مِنَ الْجَانِبِ الْجَزَرِيِّ، وَكَانَ صَاحِبُهَا قَدْ سَارَ مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ، وَفِي طَاعَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ ذَلِكَ قَبْلُ، فَعَبَرَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ الْفُرَاتَ عَلَى الْجِسْرِ الَّذِي عِنْدَ الْبِيَرَةِ. وَكَانَ عِزُّ الدِّينِ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ وَمُجَاهِدُ الدِّينِ لَمَّا بَلَغَهُمَا وُصُولُ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى الشَّامِ قَدْ جَمَعَا الْعَسْكَرَ وَسَارَا إِلَى نَصِيبِينَ لِيَكُونَا عَلَى أُهْبَةٍ وَاجْتِمَاعٍ لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى حَلَبَ، ثُمَّ تَقَدَّمَا إِلَى دَارَا، فَنَزَلَا عِنْدَهَا، فَجَاءَهُمَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْحِسَابِ، فَلَمَّا بَلَغَهُمَا عُبُورُ صَلَاحِ الدِّينِ الْفُرَاتَ عَادَا إِلَى الْمَوْصِلِ وَأَرْسَلَا إِلَى الرُّهَا عَسْكَرًا يَحْمِيهَا وَيَمْنَعُهَا، فَلَمَّا سَمِعَ صَلَاحُ الدِّينِ ذَلِكَ قَوِيَ طَمَعُهُ فِي الْبِلَادِ، وَلَمَّا عَبَرَ صَلَاحُ الدِّينِ الْفُرَاتَ كَاتَبَ الْمُلُوكَ أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ وَوَعَدَهُمْ، وَبَذَلَ لَهُمُ الْبَذُولَ عَلَى نُصْرَتِهِ، فَأَجَابَهُ نُورُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ قَرَا أَرْسَلَانَ، صَاحِبُ الْحِصْنِ، إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ، لِقَاعِدَةٍ كَانَتِ اسْتَقَرَّتْ بَيْنَهُمَا لَمَّا كَانَ نُورُ الدِّينِ عِنْدَهُ بِالشَّامِ، فَإِنَّهُ اسْتَقَرَّ الْحَالُ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ يَحْصُرُ آمِدَ وَيَمْلِكُهَا، وَيُسَلِّمُهَا إِلَيْهِ. وَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى مَدِينَةِ الرُّهَا، فَحَصَرَهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَقَاتَلَهَا أَشَدَّ قِتَالٍ. فَحَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْجُنْدِ أَنَّهُ عَدَّ فِي غِلَافِ رُمْحٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ خَرْقًا وَقَدْ خَرَقَتْهُ السِّهَامُ. وَوَالَى الزَّحْفَ عَلَيْهَا، وَكَانَ حِينَئِذٍ مُقْطَعُهَا، وَهُوَ الْأَمِيرُ فَخَرُ الدِّينِ مَسْعُودُ

ابْنُ الزَّعْفَرَانِيِّ، فَحَيْثُ رَأَى شِدَّةَ الْقِتَالِ أَذْعَنَ إِلَىالتَّسْلِيمِ، وَطَلَبَ الْأَمَانَ وَسَلَّمَ الْبَلَدَ، وَصَارَ فِي خِدْمَةِ صَلَاحَ الدِّينِ، فَلَمَّا مَلَكَ الْمَدِينَةَ زَحَفَ إِلَى الْقَلْعَةِ، فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ الدِّزْدَارُ الَّذِي بِهَا عَلَى مَالٍ أَخَذَهُ، فَلَمَّا مَلَكَهَا سَلَّمَهَا إِلَى مُظَفَّرِ الدِّينِ مَعَ حَرَّانَ، ثُمَّ سَارَ عَنْهَا، عَلَى حَرَّانَ، إِلَى الرَّقَّةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا كَانَ بِهَا مُقْطَعُهَا قُطْبُ الدِّينِ يَنَّالُ بْنُ حَسَّانَ الْمَنْبَجِيُّ، فَسَارَ عَنْهَا إِلَى عِزِّ الدِّينِ أَتَابِكَ، وَمَلَكَهَا صَلَاحُ الدِّينِ وَسَارَ إِلَى الْخَابُورِ، قَرْقِيسْيَا، وَمَاكِسِينَ وَعُرَايَانَ، فَمَلَكَ جَمِيعَ ذَلِكَ. فَلَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى الْخَابُورِ جَمِيعِهِ سَارَ إِلَى نَصِيبِينَ، فَمَلَكَ الْمَدِينَةَ لِوَقْتِهَا، وَبَقِيَتِ الْقَلْعَةُ، فَحَصَرَهَا عِدَّةَ أَيَّامٍ، فَمَلَكَهَا أَيْضًا، وَأَقَامَ بِهَا لِيُصْلِحَ شَأْنَهَا، ثُمَّ أَقْطَعَهَا أَمِيرًا كَانَ مَعَهُ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْهَيْجَاءِ السَّمِينُ، وَسَارَ عَنْهَا وَمَعَهُ نُورُ الدِّينِ صَاحِبُ الْحِصْنِ. وَأَتَاهُ الْخَبَرُ أَنَّ الْفِرِنْجَ قَصَدُوا دِمَشْقَ، وَنَهَبُوا الْقُرَى، وَوَصَلُوا إِلَى دَارِيَا، وَأَرَادُوا تَخْرِيبَ جَامِعِهَا، فَأَرْسَلَ النَّائِبُ بِدِمَشْقَ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةً مِنَ النَّصَارَى يَقُولُ لَهُمْ: إِذَا خَرَّبْتُمُ الْجَامِعَ جَدَدْنَا عِمَارَتَهُ، وَخَرَّبْنَا كُلَّ بَيْعَةٍ لَكُمْ فِي بِلَادِنَا، وَلَا نَمَكِّنُ أَحَدًا مِنْ عِمَارَتِهَا، فَتَرَكُوهُ، وَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ بِذَلِكَ أَشَارَ عَلَيْهِ مَنْ يَتَعَصَّبُ لِعِزِّ الدِّينِ بِالْعَوْدِ، فَقَالَ: يُخَرِّبُونَ قُرًى وَنَمْلِكُ عِوَضَهَا بِلَادًا، وَنَعُودُ نُعَمِّرُهَا، وَنَقْوَى عَلَى قَصْدِ بِلَادِهِمْ، وَلَمْ يَرْجِعْ فَكَانَ كَمَا قَالَ. ذِكْرُ حَصْرِ صَلَاحِ الدِّينِ الْمَوْصِلَ لَمَّا مَلَكَ صَلَاحُ الدِّينِ نَصِيبِينَ، جَمَعَ أُمَرَاءَهُ وَأَرْبَابَ الْمَشُورَةِ عِنْدَهُ وَاسْتَشَارَهُمْ بِأَيِّ الْبِلَادِ يَبْدَأُ، وَأَيُّهَا يَقْصِدُ، بِالْمَوْصِلِ أَمْ بِسِنْجَارَ أَمْ بِجَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، فَاخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ، فَقَالَ لَهُ مُظَفَّرُ الدِّينِ كَوْكَبَرِّيُّ بْنُ زَيْنِ الدِّينِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُبْدَأَ بِغَيْرِ الْمَوْصِلِ، فَإِنَّهَا فِي أَيْدِينَا لَا مَانِعَ لَهَا، فَإِنَّ عِزَّ الدِّينِ وَمُجَاهِدَ الدِّينِ مَتَى سَمِعَا بِمَسِيرِنَا إِلَيْهَا

تَرَكَاهَا وَسَارَا عَنْهَا إِلَى بَعْضِ الْقِلَاعِ الْجَبَلِيَّةِ. وَوَافَقَهُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ ابْنُ عَمِّهِ شِيرِكُوه، وَكَانَ قَدْ بَذَلَ لِصَلَاحِ الدِّينِ مَالًا كَثِيرًا لِيُقْطِعَهُ الْمَوْصِلَ إِذَا مَلَكَهَا. وَقَدْ أَجَابَهُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى ذَلِكَ، فَأَشَارَ بِهَذَا الرَّأْيِ لِهَوَاهُ، فَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَكَانَ عِزُّ الدِّينِ صَاحِبُهَا وَمُجَاهِدُ الدِّينِ قَدْ جَمَعَا بِالْمَوْصِلِ الْعَسَاكِرَ الْكَثِيرَةَ مَا بَيْنَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، وَأَظْهَرَا مِنَ السِّلَاحِ وَآلَاتِ الْحِصَارِ مَا حَارَتْ لَهُ الْأَبْصَارُ، وَبَذَلَا الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ، وَأَخْرَجَ مُجَاهِدُ الدِّينِ مِنْ مَالِهِ كَثِيرًا، وَاصْطَلَى الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ، فَأَحْسَنَ تَدْبِيرَهَا، وَشَحَنُوا مَا بَقِيَ بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِلَادِ، كَالْجَزِيرَةِ وَسِنْجَارَ وَإِرْبِلَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، بِالرِّجَالِ وَالسِّلَاحِ وَالْأَمْوَالِ. وَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ حَتَّى قَارَبَ الْمَوْصِلَ وَتَرَكَ عَسْكَرَهُ، وَانْفَرَدَ هُوَ وَمُظَفَّرُ الدِّينِ وَابْنُ عَمِّهِ نَاصِرُ الدِّينِ شِيرِكُوهْ، وَمَعَهُمَا نَفَرٌ مِنْ أَعْيَانِ دَوْلَتِهِ، وَقَرُبُوا مِنَ الْبَلَدِ، فَلَمَّا قَرُبُوا رَآهُ وَحَقَّقَهُ، فَرَأَى مَا هَالَهُ وَمَلَأَ صَدْرَهُ وَصُدُورَ أَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُ رَأَى بَلَدًا عَظِيمًا كَبِيرًا، وَرَأَى السُّورَ وَالْفَصِيلَ قَدْ مُلِئَا مِنَ الرِّجَالِ، وَلَيْسَ فِيهِ شُرَّافَةٌ إِلَّا وَعَلَيْهَا رَجُلٌ يُقَاتِلُ سِوَى مَنْ عَلَيْهِ مِنْ عَامَّةِ الْبَلَدِ الْمُتَفَرِّجِينَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ، وَأَنَّهُ يَعُودُ خَائِبًا، فَقَالَ لِنَاصِرِ الدِّينِ ابْنِ عَمِّهِ: إِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْمُعَسْكَرِ فَاحْمِلْ مَا بَذَلْتَ مِنَ الْمَالِ فَنَحْنُ مَعَكَ عَلَى الْقَوْلِ. فَقَالَ نَاصِرُ الدِّينِ: قَدْ رَجَعْتُ عَمَّا بَذَلْتُ مِنَ الْمَالِ، فَإِنَّ هَذَا الْبَلَدَ لَا يُرَامُ. فَقَالَ لَهُ وَلِمُظَفَّرِ الدِّينِ: غَرَّرْتُمَانِي وَأَطْمَعْتُمَانِي فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، وَلَوْ قَصَدْتُ غَيْرَهُ قَبْلَهُ لَكَانَ أَسْهَلَ أَخْذًا بِالِاسْمِ وَالْهَيْبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَنَا وَمَتَى نَازَلْنَاهُ، وَعُدْنَا مِنْهُ، يَنْكَسِرُ نَامُوسُنَا وَيَفُلُّ حَدُّنَا وَشَوْكَتُنَا. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ وَصَبَّحَ الْبَلَدَ، وَكَانَ نُزُولُهُ عَلَيْهِ فِي رَجَبٍ، فَنَازَلَهُ وَضَايَقَهُ، وَنَزَلَ مُحَاذِي بَابَ كِنْدَةَ، وَأَنْزَلَ صَاحِبَ الْحِصْنِ بِبَابِ الْجِسْرِ، وَأَنْزَلَ أَخَاهُ تَاجَ الْمُلُوكِ عِنْدَ الْبَابِ الْعِمَادِيِّ، وَأَنْشَبَ الْقِتَالَ، فَلَمْ يَظْفَرْ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ يَوْمًا بَعْضُ الْعَامَّةِ فَنَالُوا مِنْهُ، وَلَمْ يُمَكِّنْ عِزُّ الدِّينِ وَمُجَاهِدُ الدِّينِ أَحَدًا مِنَ الْعَسْكَرِ [أَنْ] يَخْرُجُوا لِقِتَالٍ بَلْ أُلْزِمُوا الْأَسْوَارَ، ثُمَّ إِنَّ تَقِيَّ الدِّينِ أَشَارَ عَلَى عَمِّهِ صَلَاحِ الدِّينِ بِنَصْبِ مَنْجَنِيقٍ، فَقَالَ: مِثْلُ هَذَا الْبَلَدِ لَا يُنْصَبُ عَلَيْهِ مَنْجَنِيقٌ، وَمَتَى نَصَبْنَاهُ أَخَذُوهُ، وَلَوْ خَرَّبْنَا بُرْجًا وَبَدَنَةٍ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الدُّخُولِ لِلْبَلَدِ وَفِيهِ هَذَا الْخَلْقُ الْكَثِيرُ؟ فَأَلَحَّ تَقِيُّ الدِّينِ وَقَالَ: نُجَرِّبُهُمْ بِهِ، فَنَصَبَ مَنْجَنِيقًا، فَنُصِبَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَلَدِ تِسْعَةُ مَجَانِيقَ، وَخَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَامَّةِ فَأَخَذُوهُ وَجَرَى عِنْدَهُ قِتَالٌ كَثِيرٌ، فَأَخَذَ بَعْضُ الْعَامَّةِ لَالُكَّةً مِنْ رِجْلَيْهِ، فِيهَا الْمَسَامِيرُ الْكَثِيرَةُ، وَرَمَى بِهَا

أَمِيرًا يُقَالُ لَهُ جَاوْلِي الْأَسَدِيُّ، مُقَدَّمُ الْأَسَدِيَّةِ وَكَبِيرُهُمْ، فَأَصَابَ صَدْرَهُ، فَوَجَدَ لِذَلِكَ أَلَمًا شَدِيدًا، وَأَخَذَ اللَّالُكَّةَ وَعَادَ عَنِ الْقِتَالِ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَقَالَ: قَدْ قَاتَلْنَا أَهْلَ الْمَوْصِلِ بِحَمَاقَاتٍ مَا رَأَيْنَا بَعْدُ مِثْلَهَا، وَأَلْقَى الْلَّالُكَّةَ، وَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ يُقَاتِلُ عَلَيْهَا أَنَفَةً حَيْثُ ضُرِبَ بِهَذِهِ. ثُمَّ إِنَّ صَلَاحَ الدِّينِ رَحَلَ مِنْ قُرْبِ الْبَلَدِ، وَنَزَلَ مُتَأَخِّرًا، خَوْفًا مِنَ الْبَيَاتِ، فَإِنَّهُ لِقُرْبِهِ كَانَ لَا يَأْمَنُ ذَلِكَ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَيْضًا أَنَّ مُجَاهِدَ الدِّينِ أَخْرَجَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي جَمَاعَةً مِنْ بَابِ السِّرِّ الَّذِي لِلْقَلْعَةِ، وَمَعَهُمُ الْمَشَاعِلُ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَخْرُجُ مِنَ الْبَابِ وَيَنْزِلُ إِلَى دِجْلَةَ، مِمَّا يَلِي عَيْنَ الْكِبْرِيتِ، وَيُطْفِئُ الْمِشْعَلَ، فَرَأَى الْعَسْكَرُ النَّاسَ يَخْرُجُونَ، فَلَمْ يَشُكُّوا فِي الْكَبْسَةِ، فَحَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الرَّحِيلِ وَالتَّأَخُّرِ لِيَتَعَذَّرَ الْبَيَاتُ عَلَى أَهْلِ الْمَوْصِلِ. وَكَانَ صَدْرُ الدِّينِ شَيْخُ الشُّيُوخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ، قَبْلَ نُزُولِهِ عَلَى الْمَوْصِلِ، وَمَعَهُ بَشِيرُ الْخَادِمُ، وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، فِي الصُّلْحِ، فَأَقَامَا مَعَهُ عَلَى الْمَوْصِلِ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ إِلَى عِزِّ الدِّينِ وَمُجَاهِدِ الدِّينِ فِي الصُّلْحِ، فَطَلَبَ عِزُّ الدِّينِ إِعَادَةَ الْبِلَادِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ، فَأَجَابَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ تُسَلَّمَ إِلَيْهِ حَلَبُ، فَامْتَنَعَ عِزُّ الدِّينِ وَمُجَاهِدُ الدِّينِ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَجَابَ إِلَى تَسْلِيمِ الْبِلَادِ بِشَرْطِ أَنْ يَتْرُكُوا إِنْجَادَ صَاحِبِ حَلَبَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا، وَقَالَ عِزُّ الدِّينِ: هُوَ أَخِي وَلَهُ الْعُهُودُ وَالْمَوَاثِيقُ وَلَا يَسَعُنِي نَكْثُهَا. وَوَصَلَتْ أَيْضًا رُسُلُ قُزْلُ أَرْسَلَانَ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ، وَرُسُلُ شَاهْ أَرْمَنُ صَاحِبُ خِلَاطَ، فِي الْمَعْنَى، فَلَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرٌ وَلَا تَمَّ صُلْحٌ، فَلَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يَنَالُ مِنَ الْمَوْصِلِ غَرَضًا، وَلَا يَحْصُلُ عَلَى غَيْرِ الْعَنَاءِ وَالتَّعَبِ، وَأَنَّ مَنْ بِسِنْجَارَ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْمَوْصِلِيَّةِ يَقْطَعُونَ طَرِيقَ مَنْ يَقْصِدُونَهُ مِنْ عَسَاكِرِهِ وَأَصْحَابِهِ، سَارَ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَيْهَا.

ذِكْرُ مُلْكِهِ مَدِينَةَ سِنْجَارَ لَمَّا سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ عَنِ الْمَوْصِلِ إِلَى سِنْجَارَ، سَيَّرَ مُجَاهِدُ الدِّينِ إِلَيْهَا عَسْكَرًا قُوَّةً لَهَا وَنَجْدَةً، فَسَمِعَ بِهِمْ صَلَاحُ الدِّينِ، فَمَنَعَهُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا، وَأَوْقَعَ بِهِمْ، وَأَخَذَ سِلَاحَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ وَسَارَ إِلَيْهَا وَنَازَلَهَا، وَكَانَ بِهَا شَرَفُ الدِّينِ أَمِيرُ أَمِيرَانَ هَنْدُوا أَخُو عِزِّ الدِّينِ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فِي عَسْكَرٍ مَعَهُ، فَحَصَرَ الْبَلَدَ وَضَايَقَهُ، وَأَلَحَّ فِي قِتَالِهِ، فَكَاتَبَهُ بَعْضُ أُمَرَاءِ الْأَكْرَادِ الَّذِينَ بِهِ مِنَ الزَّرْزَارِيَّةِ، وَخَامَرَ مَعَهُ، وَأَشَارَ بِقَصْدِهِ مِنَ النَّاحِيَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِ الْبَلَدَ، فَطَرَقَهُ صَلَاحُ الدِّينِ لَيْلًا فَسَلَّمَ إِلَيْهِ نَاحِيَتَهُ، فَمَلَكَ الْبَاشُورَةَ لَا غَيْرَ. فَلَمَّا سَمِعَ شَرَفُ الدِّينِ الْخَبَرَ اسْتَكَانَ وَخَضَعَ، وَطَلَبَ الْأَمَانَ، فَأَمِنَ، وَلَوْ قَاتَلَ عَلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ لَأَخْرَجَ الْعَسْكَرَ الصَّلَاحِيَّ عَنْهَا، وَلَوِ امْتَنَعَ بِالْقَلْعَةِ لِحَفِظَهَا وَمَنَعَهَا، وَلَكِنَّهُ عَجَزَ، فَلَمَّا طَلَبَ الْأَمَانَ أَجَابَهُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَيْهِ، فَأَمَّنَهُ وَمَلَكَ الْبَلَدَ. وَسَارَ شَرَفُ الدِّينِ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَاسْتَقَرَّ جَمِيعُ مَا مَلَكَهُ صَلَاحُ الدِّينِ بِمُلْكِ سِنْجَارَ، فَإِنَّهُ كَانَ قَصَدَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ الْمَوَاصِلَةُ إِذَا فَارَقَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَصْنٌ غَيْرُ الرُّهَا، فَلَمَّا مَلَكَ سِنْجَارَ صَارَتْ عَلَى الْجَمِيعِ كَالسُّورِ، وَاسْتَنَابَ بِهَا سَعْدَ الدِّينِ بْنَ مَعِينِ الدِّينِ أَنَزْ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَأَحْسَنِهِمْ صُورَةً وَمَعْنًى. ذِكْرُ عَوْدِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى حَرَّانَ لَمَّا مَلَكَ صَلَاحُ الدِّينِ سِنْجَارَ وَقَرَّرَ قَوَاعِدَهَا سَارَ إِلَى نَصِيبِينَ، فَلَقِيَهُ أَهْلُهَا شَاكِينَ مِنْ أَبِي الْهَيْجَاءِ السَّمِينِ، بَاكِينَ مِنْ ظُلْمِهِ، مُتَأَسِّفِينَ عَلَى دَوْلَةِ عِزِّ الدِّينِ وَعَدْلِهِ فِيهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ ظُلْمَهُ، وَعَزَلَهُ عَنْهُمْ، وَأَخْذَهُ مَعَهُ، وَسَارَ إِلَى حَرَّانَ، وَفَرَّقَ عَسَاكِرَهُ لِيَسْتَرِيحُوا، وَبَقِيَ جَرِيدَةً فِي خَوَاصِّهِ وَثِقَاتِ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَيْهَا أَوَائِلَ ذِي الْقِعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ.

ذِكْرُ اجْتِمَاعِ عِزِّ الدِّينِ وَشَاهْ أَرْمَنَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، اجْتَمَعَ أَتَابِكُ عِزُّ الدِّينِ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، وَشَاهْ أَرْمَنَ صَاحِبُ خِلَاطَ، عَلَى قِتَالِ صَلَاحِ الدِّينِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ رُسُلَ عِزِّ الدِّينِ تَرَدَّدَتْ إِلَى شَاهْ أَرْمَنَ يَسْتَنْجِدُهُ وَيَسْتَنْصِرُهُ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ، فَأَرْسَلَ شَاهْ أَرْمَنَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ عِدَّةَ رُسُلٍ فِي الشَّفَاعَةِ إِلَيْهِ بِالْكَفِّ عَنِ الْمَوْصِلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِعِزِّ الدِّينِ، فَلَمْ يَجُبْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَغَالَطَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَخِيرًا مَمْلُوكَهُ سَيْفَ الدِّينِ بَكْتُمَرَ الَّذِي مَلَكَ خِلَاطَ بَعْدَ شَاهْ أَرْمَنَ، فَأَتَاهُ وَهُوَ يُحَاصِرُ سِنْجَارَ يَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَهَا وَيَرْحَلَ عَنْهَا، وَقَالَ لَهُ: إِنْ رَحَلَ عَنْهَا وَإِلَّا فَتَهَدَّدَهُ بِقَصْدِهِ وَمُحَارَبَتِهِ، فَأَبْلَغَهُ بَكْتُمَرُ الشَّفَاعَةَ، فَسَوَّفَهُ فِي الْجَوَابِ رَجَاءَ أَنْ يَفْتَحَهَا، فَلَمَّا رَأَى بَكْتُمَرُ ذَلِكَ أَبْلَغَهُ الرِّسَالَةَ الثَّانِيَةَ بِالتَّهْدِيدِ، وَفَارَقَهُ غَضْبَانَ، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ خِلْعَةً وَلَا صِلَةً، وَأَخْبَرَ صَاحِبَهُ الْخَبَرَ، وَخَوَّفَهُ عَاقِبَةَ الْإِهْمَالِ وَالتَّوَانِي عَنْ صَلَاحِ الدِّينِ، فَسَارَ شَاهْ أَرْمَنَ مِنْ خِلَاطَ، وَكَانَ مُخَيِّمًا بِظَاهِرِهَا، وَسَارَ إِلَى مَارِدِينَ، وَصَاحِبُهَا حِينَئِذٍ قُطْبُ الدِّينِ بْنُ نَجْمِ الدِّينِ أَلْبِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ شَاهْ أَرْمَنَ، وَابْنُ خَالِ عِزِّ الدِّينِ وَحَمُوهُ، لِأَنَّ عِزَّ الدِّينِ كَانَ قَدْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ قُطْبَ الدِّينِ، وَحَضَرَ مَعَ شَاهْ أَرْمَنَ دَوْلَةُ شَاهْ صَاحِبُ بَدْلِيسَ وَأَرْزَنَ، وَسَارَ أَتَابِكُ عِزُّ الدِّينِ مِنَ الْمَوْصِلِ فِي عَسْكَرِهِ جَرِيدَةً مِنَ الْأَثْقَالِ. وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ قَدْ مَلَكَ سِنْجَارَ، وَسَارَ عَنْهَا إِلَى حَرَّانَ، وَفَرَّقَ عَسَاكِرَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ بِاجْتِمَاعِهِمْ سَيَّرَ إِلَى تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ أَخِيهِ، وَهُوَ بِحَمَاةَ، يَسْتَدْعِيهِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ مُسْرِعًا، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالرَّحِيلِ وَحَذَّرَهُ مِنْهُ آخَرُونَ، وَكَانَ هَوَى صَلَاحِ الدِّينِ فِي الرَّحِيلِ، فَرَحَلَ إِلَى رَأْسِ عَيْنٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِرَحِيلِهِ تَفَرَّقُوا، فَعَادَ شَاهْ أَرْمَنَ إِلَى خِلَاطَ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّنِي أَجْمَعُ الْعَسَاكِرَ وَأَعُودُ، وَرَجَعَ عِزُّ الدِّينِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَأَقَامَ قُطْبُ الدِّينِ بِمَارِدِينَ، وَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ فَنَزَلَ بِحَرْزَمَ تَحْتَ مَارِدِينَ عِدَّةَ أَيَّامٍ.

ذِكْرُ الظَّفَرِ بِالْفِرِنْجِ فِي بَحْرِ عَيْذَابَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَمِلَ الْبُرُنْسُ صَاحِبُ الْكَرَكِ أُسْطُولًا، وَفَرَغَ مِنْهُ بِالْكَرَكِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا جَمْعُ قِطَعِهِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَحَمْلُهَا إِلَى بَحْرِ أَيْلَةَ، وَجَمْعُهَا فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ. وَفَرَغَ مِنْهَا وَشَحَنَهَا بِالْمُقَاتَلَةِ وَسَيَّرَهَا، فَسَارُوا فِي الْبَحْرِ، وَافْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ: فَرِقَّةٌ أَقَامَتْ عَلَى حِصْنِ أَيْلَةَ وَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ يَحْصُرُونَهُ، وَيَمْنَعُ أَهْلَهُ مِنْ وُرُودِ الْمَاءِ، فَنَالَ أَهْلَهُ شِدَّةٌ شَدِيدَةٌ وَضِيقٌ عَظِيمٌ، أَمَّا الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّهُمْ سَارُوا نَحْوَ عَيْذَابَ، وَأَفْسَدُوا فِي السَّوَاحِلِ، وَنَهَبُوا وَأَخَذُوا مَا وَجَدُوا مِنَ الْمَرَاكِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمَنْ فِيهَا مِنَ التُّجَّارِ، وَبَغَتُوا النَّاسَ فِي بِلَادِهِمْ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْهَدُوا بِهَذَا الْبَحْرِ فِرِنْجِيًّا قَطُّ لَا تَاجِرًا وَلَا مُحَارِبًا. وَكَانَ بِمِصْرَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ يَنُوبُ عَنْ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَعَمَّرَ أُسْطُولًا وَسَيَّرَهُ، وَفِيهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمُقَدَّمُهُمْ حُسَامُ الدِّينِ لُؤْلُؤٌ، وَهُوَ مُتَوَلِّي الْأُسْطُولَ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَكَانَ مُظَفَّرًا فِيهِ، شُجَاعًا، كَرِيمًا، فَسَارَ لُؤْلُؤٌ مُجِدًّا فِي طَلَبِهِمْ، فَابْتَدَأَ بِالَّذِينِ عَلَى أَيْلَةَ فَانْقَضَّ عَلَيْهِمِ انْقِضَاضَ الْعُقَابِ عَلَى صَيْدِهَا، فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ، وَأَسَرَ الْبَاقِي، وَسَارَ مِنْ وَقْتِهِ بَعْدَ الظَّفَرِ يَقُصُّ أَثَرَ الَّذِينَ قَصَدُوا عَيْذَابَ، فَلَمْ يَرَهُمْ، وَكَانُوا قَدْ أَغَارُوا عَلَى مَا وَجَدُوهُ بِهَا، وَقَتَلُوا مَنْ لَقَوْهُ عِنْدَهَا، وَسَارُوا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْمَرْسَى لِيَفْعَلُوا كَمَا فَعَلُوا فِيهِ، وَكَانُوا عَازِمِينَ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الْحِجَازِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ - حَرَسَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَأَخْذِ الْحَاجِّ وَمَنْعِهَمْ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَالدُّخُولِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْيَمَنِ. فَلَمَّا وَصَلَ لُؤْلُؤٌ إِلَى عَيْذَابَ وَلَمْ يَرَهُمْ سَارَ يَقْفُو أَثَرَهُمْ، فَبَلَغَ رَابِغَ وَسَاحِلَ الْجَوْزَاءِ وَغَيْرَهُمَا، فَأَدْرَكَهُمْ بِسَاحِلِ الْجَوْزَاءِ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ هُنَاكَ، فَلَمَّا رَأَوُا الْعَطَبَ وَشَاهَدُوا الْهَلَاكَ خَرَجُوا إِلَى الْبَرِّ، وَاعْتَصَمُوا بِبَعْضِ تِلْكَ الشِّعَابِ، فَنَزَلَ لُؤْلُؤٌ مِنْ مَرَاكِبِهِ إِلَيْهِمْ، وَقَاتَلَهُمْ أَشَدَّ قِتَالٍ، وَأَخَذَ خَيْلًا مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ هُنَاكَ، فَرَكِبَهَا، وَقَاتَلَهُمْ فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً، فَظَفِرَ بِهِمْ وَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَأَخَذَ الْبَاقِينَ أَسْرَى، وَأَرْسَلَ بَعْضَهُمْ

إِلَى مِنًى لِيُنْحَرُوا بِهَا عُقُوبَةً لِمَنْ رَامَ إِخَافَةَ حَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَرَمِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَادَ بِالْبَاقِينَ إِلَى مِصْرَ، فَقُتِلُوا جَمِيعُهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، تُوُفِّيَ عِزُّ الدِّينِ فَرُّخْشَاهَ ابْنُ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ، وَكَانَ يَنُوبُ عَنْهُ بِدِمَشْقَ، وَهُوَ ثِقَتُهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَكَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ وَأُمَرَائِهِ، وَكَانَ شُجَاعًا، كَرِيمًا، فَاضِلًا، عَالِمًا بِالْأَدَبِ وَغَيْرِهِ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ مِنْ بَيْنِ أَشْعَارِ الْمُلُوكِ. وَكَانَ ابْتِدَاءُ مَرَضِهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى غَزْوِ الْفِرِنْجِ، فَمَرِضَ، وَعَادَ مَرِيضًا فَمَاتَ، وَوَصَلَ خَبَرُ مَوْتِهِ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، وَقَدْ عَبَرَ الْفُرَاتَ إِلَى الدِّيَارِ الْجَزَرِيَّةِ، فَأَعَادَ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُقَدَّمِ إِلَى دِمَشْقَ لِيَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى عَسْكَرِهَا. وَفِيهَا مَاتَ فَخَرُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْمُظَفَّرِ الْحَسَنُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْمُطَّلِبِ. كَانَ أَبُوهُ وَزِيرَ الْخَلِيفَةِ وَأَخُوهُ أُسْتَاذَ الدَّارِ، فَتَصَوَّفَ هُوَ مِنْ زَمَنِ الصِّبَا، وَبَنَى مَدْرَسَةً وَرِبَاطًا بِبَغْدَادَ عِنْدَ عَقْدِ الْمُصْطَنَعِ، وَبَنَى جَامِعًا بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْهَا. وَفِيهَا تُوُفِّي الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ هَاشِمُ وَلَدُ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الرَّفِيعِيِّ مِنْ سَوَادِ وَاسِطَ، وَكَانَ صَالِحًا ذَا قَبُولٍ عَظِيمٍ عِنْدَ النَّاسِ وَلَهُ مِنَ التَّلَامِذَةِ مَا لَا يُحْصَى.

ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 579 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ صَلَاحِ الدِّينِ آمِدَ وَتَسْلِيمِهَا إِلَى صَاحِبِ الْحِصْنِ قَدْ ذَكَرْنَا نُزُولَ صَلَاحِ الدِّينِ بِحَرْزَمَ، تَحْتَ مَارِدِينَ، فَلَمْ يَرَ لِطَمَعِهِ وَجْهًا، وَسَارَ عَنْهَا إِلَى آمِدَ، عَلَى طَرِيقِ الْبَارِعِيَّةِ، وَكَانَ نُورُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ قَرَا أَرْسَلَانَ يُطَالِبُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِقَصْدِهَا وَأَخْذِهَا وَتَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ، عَلَى مَا اسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُمَا، فَوَصَلَ إِلَى آمِدَ سَابِعَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَنَازَلَهَا، وَأَقَامَ يُحَاصِرُهَا. وَكَانَ الْمُتَوَلِّي لِأَمْرِهَا وَالْحَاكِمُ فِيهَا بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ نِيسَانَ، وَكَانَ صَاحِبُهَا لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَعَ ابْنِ نِيسَانَ، فَلَمَّا نَازَلَهَا صَلَاحُ الدِّينِ أَسَاءَ ابْنُ نِيسَانَ التَّدْبِيرَ، وَلَمْ يُعْطِ النَّاسَ مِنَ الذَّخَائِرِ شَيْئًا، وَلَا فَرَّقَ فِيهِمْ دِينَارًا وَلَا قُوتًا، وَقَالَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ: قَاتِلُوا عَنْ نُفُوسِكُمْ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: لَيْسَ الْعَدُوُّ بِكَافِرٍ حَتَّى يُقَاتِلُوا عَنْ نُفُوسِهِمْ. فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا. وَقَاتَلَهُمْ صَلَاحُ الدِّينِ، وَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ، وَزَحَفَ إِلَيْهَا، وَهِيَ الْغَايَةُ فِي الْحَصَانَةِ وَالْمَنْعَةِ، بِهَا وَبِسُورِهَا يُضْرَبُ الْمَثَلُ، وَابْنُ نِيسَانَ عَلَى حَالِهِ مِنَ الشُّحِّ بِالْمَالِ، وَتَصَرُّفِهِ تَصَرُّفَ مَنْ وَلَّتْ سَعَادَتُهُ وَأَدْبَرَتْ دَوْلَتُهُ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ تَهَاوَنُوا بِالْقِتَالِ، وَجَنَحُوا إِلَى السَّلَامَةِ. وَكَانَتْ أَيَّامُ ابْنِ نِيسَانَ قَدْ طَالَتْ، وَثَقُلَتْ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ لِسُوءِ صَنِيعِهِمْ وَمَلَكَتِهِمْ وَتَضْيِيقِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي مَكَاسِبِهِمْ، فَالنَّاسُ كَارِهُونَ لَهَا، مُحِبُّونَ لِانْقِرَاضِهَا. وَأَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ أَنْ يُكْتَبَ عَلَى السِّهَامِ إِلَى أَهْلِ الْبَلَدِ يَعِدُهُمُ الْخَيْرَ وَالْإِحْسَانَ إِنْ أَطَاعُوهُ، وَيَتَهَدَّدُهُمْ إِنْ قَاتَلُوهُ، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ تَقَاعُدًا وَتَخَاذُلًا، وَأَحَبُّوا مُلْكَهُ وَتَرَكُوا الْقِتَالَ، فَوَصَلَ النَّقَّابُونَ إِلَى السُّورِ، فَنَقَبُوهُ وَعَلَّقُوهُ، فَلَمَّا رَأَى الْجُنْدُ وَأَهْلُ الْبَلَدِ ذَلِكَ طَمِعُوا

فِي ابْنِ نِيسَانَ وَاشْتَطُّوا فِي الْمَطَالِبِ. فَحِينَ صَارَتِ الْحَالُ كَذَلِكَ أَخْرَجَ ابْنُ نِيسَانَ نِسَاءَهُ إِلَى الْقَاضِي الْفَاضِلِ، وَزِيرِ صَلَاحِ الدِّينِ، يَسْأَلُهُ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ الْأَمَانَ وَلْأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَأَنْ يُؤَخِّرَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى يَنْقُلَ مَا لَهُ بِالْبَلَدِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّخَائِرِ، فَسَعَى لَهُ الْفَاضِلُ فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَيْهِ، فَسَلَّمَ الْبَلَدَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنَ الْمُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةَ، وَأَخْرَجَ خِيَمَهُ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَرَامَ نَقْلَ مَالِهِ، فَتَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِزَوَالِ حُكْمِهِ عَنْ أَصْحَابِهِ، وَاطِّرَاحِهِمْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، وَيَسْأَلُهُ مُسَاعَدَتُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَدَّهُ بِالدَّوَابِّ وَالرِّجَالِ، فَنُقِلَ الْبَعْضُ وَسُرِقَ الْبَعْضُ وَانْقَضَتِ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ قَبْلَ الْفَرَاغِ فَمُنِعَ مِنَ الْبَاقِي. وَكَانَتْ أَبْرَاجُ الْمَدِينَةِ مَمْلُوءَةً مِنْ أَنْوَاعِ الذَّخَائِرِ، فَتَرَكَهَا بِحَالِهَا، وَلَوْ أَخْرَجَ الْبَعْضَ مِنْهَا لَحَفِظَ الْبَلَدَ وَسَائِرَ نِعَمِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ، فَلَمَّا تَسَلَّمَهَا صَلَاحُ الدِّينِ سَلَّمَهَا نُورُ الدِّينِ إِلَى صَاحِبِ الْحِصْنِ، فَقِيلَ لَهُ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا: إِنَّ هَذِهِ الْمَدِينَةَ فِيهَا مِنَ الذَّخَائِرِ مَا يَزِيدُ عَلَى أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَلَوْ أَخَذْتَ ذَلِكَ وَأَعْطَيْتَهُ جُنْدَكَ وَأَصْحَابَكَ، وَسَلَّمْتَ الْبَلَدَ إِلَيْهِ فَارِغًا، لَكَانَ رَاضِيًا، فَإِنَّهُ لَا يَطْمَعُ فِي غَيْرِهِ. فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأُعْطِيَهُ الْأَصْلَ وَأَبْخَلُ بِالْفَرْعِ، فَلَمَّا تَسَلَّمَ نُورُ الدِّينِ الْبَلَدَ اصْطَنَعَ دَعْوَةً عَظِيمَةً، وَدَعَا إِلَيْهَا صَلَاحَ الدِّينِ وَأُمَرَاءَهُ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلِ الْبَلَدَ، وَقَدَّمَ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ مِنَ التُّحَفِ وَالْهَدَايَا أَشْيَاءً كَثِيرَةً. ذِكْرُ مُلْكِ صَلَاحِ الدِّينِ تَلَّ خَالِدٍ وَعَيْنَ تَابَ مِنْ أَعْمَالِ الشَّامِ لَمَّا فَرَغَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ أَمْرِ آمِدَ سَارَ إِلَى الشَّامِ، وَقَصَدَ تَلَّ خَالِدٍ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ حَلَبَ، فَحَصَرَهَا وَرَمَاهَا بِالْمَنْجَنِيقِ، فَنَزَلَ أَهْلُهَا وَطَلَبُوا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَتَسَلَّمَهَا فِي الْمُحَرَّمِ أَيْضًا. ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى عَيْنِ تَابَ فَحَصَرَهَا وَبِهَا نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ أَخُو الشَّيْخِ

إِسْمَاعِيلَ الَّذِي كَانَ خَازِنَ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي وَصَاحِبَهُ، وَكَانَ قَدْ سَلَّمَهَا إِلَيْهِ نُورُ الدِّينِ، فَبَقِيَتْ مَعَهُ إِلَى الْآنَ. فَلَمَّا نَازَلَهُ صَلَاحُ الدِّينِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَطْلُبُ أَنْ يُقِرَّ الْحِصْنَ بِيَدِهِ وَيَنْزِلَ إِلَى خِدْمَتِهِ وَيَكُونَ تَحْتَ حُكْمِهِ وَطَاعَتِهِ، فَأَجَابَهُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى ذَلِكَ، وَحَلَفَ لَهُ عَلَيْهِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ، وَصَارَ فِي خِدْمَتِهِ، وَكَانَ أَيْضًا فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. ذِكْرُ وَقْعَتَيْنِ مَعَ الْفِرِنْجِ فِي الْبَحْرِ وَالشَّامِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْعَاشِرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ، سَارَ أُسْطُولُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مِصْرَ فِي الْبَحْرِ، فَلَقُوا بُطْسَةً فِيهَا نَحْوُ ثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْفِرِنْجِ بِالسِّلَاحِ التَّامِّ، وَمَعَهُمُ الْأَمْوَالُ وَالسِّلَاحُ إِلَى فِرِنْجِ السَّاحِلِ، فَقَاتَلُوهُمْ، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، وَكَانَ الظَّفَرُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَخَذُوا الْفِرِنْجَ أَسْرَى، فَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ وَأَبْقَوْا بَعْضَهُمْ أَسْرَى، وَغَنِمُوا مَا مَعَهُمْ وَعَادُوا إِلَى مِصْرَ سَالِمِينَ. وَفِيهَا أَيْضًا سَارَتْ عِصَابَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الْفِرِنْجِ مِنْ نَوَاحِي الدَّارُومِ إِلَى نَوَاحِي مِصْرَ لِيُغِيرُوا وَيَنْهَبُوا، فَسَمِعَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقِ (صَدَرَ) وَأَيْلَةَ، فَانْتَزَحَ الْفِرِنْجُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فَنَزَلُوا بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ الْعُسَيْلَةُ، وَسَبَقُوا الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ، فَأَتَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ عِطَاشٌ قَدْ أَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَاكِ، فَرَأَوُا الْفِرِنْجَ قَدْ مَلَكُوا الْمَاءَ، فَأَنْشَأَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِلُطْفِهِ سَحَابَةً عَظِيمَةً، فَمُطِرُوا مِنْهَا حَتَّى رَوَوْا، وَكَانَ الزَّمَانُ قَيْظًا، وَالْحَرُّ شَدِيدًا فِي بَرٍّ مُهْلِكٍ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَوَثِقُوا بِنَصْرِ اللَّهِ لَهُمْ، وَقَاتَلُوا الْفِرِنْجَ فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ الْفَرِيدُ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مَا مَعَهُمْ مِنْ سِلَاحٍ وَدَوَابَّ، وَعَادُوا مَنْصُورِينَ قَاهِرِينَ بِفَضْلِ اللَّهِ. ذِكْرُ مُلْكِ صَلَاحِ الدِّينِ حَلَبَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ عَيْنِ تَابَ إِلَى حَلَبَ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا فِي الْمُحَرَّمِ أَيْضًا، فِي الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ، وَأَقَامَ بِهِ عِدَّةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى جَبَلِ جَوْشَنَ فَنَزَلَ

بِأَعْلَاهُ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ [أَنْ] يَبْنِيَ مَسَاكِنَ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ وَعَسَاكِرِهِ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا أَيَّامًا وَالْقِتَالُ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ. وَكَانَ صَاحِبُ حَلَبَ عِمَادَ الدِّينِ زَنْكِي بْنَ مَوْدُودَ بْنِ زَنْكِي، وَمَعَهُ الْعَسْكَرُ النُّورِيُّ، وَهُمْ مُجِدُّونَ فِي الْقِتَالِ، فَلَمَّا رَأَى كَثْرَةَ الْخَرْجِ، كَأَنَّهُ شَحَّ بِالْمَالِ، فَحَضَرَ يَوْمًا عِنْدَهُ بَعْضُ أَجْنَادِهِ، وَطَلَبُوا مِنْهُ شَيْئًا، فَاعْتَذَرَ بِقِلَّةِ الْمَالِ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: مَنْ يُرِيدُ [أَنْ] يَحْفَظَ مِثْلَ حَلَبَ يُخْرِجُ الْأَمْوَالَ، وَلَوْ بَاعَ حُلِيَّ نِسَائِهِ، فَمَالَ حِينَئِذٍ إِلَى تَسْلِيمِ حَلَبَ وَأَخْذِ الْعِوَضِ مِنْهَا، وَأَرْسَلَ مَعَ الْأَمِيرِ طَمَّانِ الْيَارُوقِيِّ، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَهَوَاهُ مَعَهُ، فَلِهَذَا أَرْسَلَهُ فَقَرَّرَ قَاعِدَةَ الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ عِمَادُ الدِّينِ حَلَبَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَيَأْخُذَ عِوَضَهَا سِنْجَارَ، وَنَصِيبِينَ، وَالْخَابُورَ، وَالرَّقَّةَ، وَسُرُوجَ، وَجَرَتِ الْيَمِينُ عَلَى ذَلِكَ وَبَاعَهَا بِأَوْكَسِ الْأَثْمَانِ، أَعْطَى حِصْنًا مِثْلَ حَلَبَ، وَأَخَذَ عِوَضَهَا قُرًى وَمَزَارِعَ، فَنَزَلَ عَنْهَا ثَامِنَ عَشَرَ صَفَرٍ، تَسَلَّمَهَا صَلَاحُ الدِّينِ فَعَجِبَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَقَبَّحُوا مَا أَتَى، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ عَامَّةِ حَلَبَ أَحْضَرَ أُجَانَةً وَمَاءً وَنَادَاهُ: أَنْتَ لَا يَصْلُحُ لَكَ الْمُلْكُ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لَكَ أَنْ تَغْسِلَ الثِّيَابَ، وَأَسْمَعُوهُ الْمَكْرُوهَ. وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ صَلَاحِ الدِّينِ بِمُلْكِهَا، وَكَانَ مُزَلْزَلًا، فَثَبَتَ قَدَمُهُ بِتَسْلِيمِهَا وَكَانَ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ. وَسَارَ عِمَادُ الدِّينِ إِلَى الْبِلَادِ الَّتِي أُعْطِيَهَا عِوَضًا عَنْ حَلَبَ فَتَسَلَّمَهَا، وَأَخَذَ صَلَاحُ الدِّينِ حَلَبَ، وَاسْتَقَرَّ الْحَالُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عِمَادَ الدِّينِ يَحْضُرُ فِي خِدْمَةِ صَلَاحِ الدِّينِ بِنَفْسِهِ وَعَسْكَرِهِ، إِذَا اسْتَدْعَاهُ لَا يَحْتَجُّ بِحُجَّةٍ. وَمِنَ الِاتِّفَاقَاتِ الْعَجِيبَةِ أَنَّ مُحْيِيَ الدِّينِ بْنَ الزَّنْكِي، قَاضِيَ دِمَشْقَ، مَدَحَ صَلَاحَ الدِّينِ بِقَصِيدَةٍ مِنْهَا: وَفَتْحُكُمْ حَلَبًا بِالسَّيْفِ فِي صَفَرٍ ... مُبَشِّرٌ بِفُتُوحِ الْقُدْسِ فِي رَجَبِ فَوَافَقَ فَتْحُ الْقُدْسِ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَمِمَّا كَتَبَهُ الْقَاضِي فِي الْمَعْنَى عَنْ صَلَاحِ الدِّينِ: " فَأَعْطَيْنَاهُ عَنْ حَلَبَ كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ صَرْفٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَخَذْنَا فِيهِ الدَّنَانِيرَ وَأَعْطَيْنَاهُ الدَّرَاهِمَ، وَنَزَلْنَا عَنِ الْقُرَى، وَأَحْرَزْنَا الْعَوَاصِمَ ". وَكَتَبَ أَيْضًا: " أَعْطَيْنَاهُ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْيَدِ، يَعْنِي أَنَّهُ مَتَى شَاءَ أَخَذَهُ لِعَدَمِ حَصَانَتِهِ ". وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ عَلَى حَلَبَ تَاجُ الْمُلُوكِ بُورِيٌّ، أَخُو صَلَاحِ الدِّينِ الْأَصْغَرُ، وَكَانَ فَارِسًا شُجَاعًا، كَرِيمًا حَلِيمًا، جَامِعًا لِخِصَالِ الْخَيْرِ، وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، طُعِنَ فِي رُكْبَتِهِ فَانْفَكَّتْ، فَمَاتَ مِنْهَا بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَ عِمَادِ الدِّينِ وَصَلَاحِ الدِّينِ عَلَى تَسْلِيمِ حَلَبَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا صَلَاحُ الدِّينِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الصُّلْحِ حَضَرَ صَلَاحُ الدِّينِ عِنْدَ أَخِيهِ يَعُودُهُ، وَقَالَ لَهُ: هَذِهِ حَلَبُ قَدْ أَخَذْنَاهَا، وَهِيَ لَكَ، فَقَالَ: ذَلِكَ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ. وَوَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتَهَا غَالِيَةً حَيْثُ تَفْقِدُ مِثْلِي. فَبَكَى صَلَاحُ الدِّينِ وَأَبْكَى. وَلَمَّا خَرَجَ عِمَادُ الدِّينِ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، وَقَدْ عَمِلَ لَهُ دَعْوَةً احْتَفَلَ فِيهَا، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي سُرُورٍ إِذْ جَاءَ إِنْسَانٌ فَأَسَرَّ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ بِمَوْتِ أَخِيهِ، فَلَمْ يُظْهِرْ هَلَعًا، وَلَا جَزَعًا، وَأَمَرَ بِتَجْهِيزِهِ سِرًّا، وَلَمْ يَعْلَمْ عِمَادُ الدِّينِ وَمَنْ مَعَهُ فِي الدَّعْوَةِ، وَاحْتَمَلَ الْحُزْنَ وَحْدَهُ لِئَلَّا يَتَنَكَّرَ مَا هُمْ فِيهِ، وَكَانَ هَذَا مِنَ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ. ذِكْرُ فَتْحِ صَلَاحِ الدِّينِ حَارِمَ لَمَّا مَلَكَ صَلَاحُ الدِّينِ حَلَبَ كَانَ بِقَلْعَةِ حَارِمَ وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ حَلَبَ، بَعْضُ الْمَمَالِيكِ النُّورِيَّةِ، اسْمُهُ سَرْخَكُ، وَوَلَّاهُ عَلَيْهَا الْمَلِكُ الصَّالِحُ (عِمَادُ الدِّينِ) ،

فَامْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهَا إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، فَرَاسَلَهُ صَلَاحُ الدِّينِ فِي التَّسْلِيمِ، وَقَالَ لَهُ: اطْلُبْ مِنَ الْإِقْطَاعِ مَا أَرَدْتَ، وَوَعَدَهُ الْإِحْسَانَ، فَاشْتَطَّ فِي الطَّلَبِ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، فَرَاسَلَ الْفِرِنْجَ لِيَحْتَمِيَ بِهِمْ، فَسَمِعَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَجْنَادِ أَنَّهُ يُرَاسِلُ الْفِرِنْجَ، فَخَافُوا أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِمْ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ وَقَبَضُوهُ وَحَبَسُوهُ، وَرَاسَلُوا صَلَاحَ الدِّينِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمَانَ وَالْإِنْعَامَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ الْحِصْنَ فَرَتَّبَ بِهِ دَزْدَارًا بَعْضَ خَوَاصِّهِ. وَأَمَّا بَاقِي قِلَاعِ حَلَبَ، فَإِنَّ صَلَاحَ الدِّينِ أَقَرَّ عَيْنَ تَابَ بِيَدِ صَاحِبِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَقْطَعَ تَلَّ خَالِدٍ لِأَمِيرٍ يُقَالُ لَهُ دَارُومُ الْيَارُوقِيُّ، وَهُوَ صَاحِبُ تَلِّ بَاشِرَ. وَأَمَّا قَلْعَةُ إِعْزَازَ، فَإِنَّ عِمَادَ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ كَانَ قَدْ خَرَّبَهَا، فَأَقْطَعَهَا صَلَاحُ الدِّينِ لِأَمِيرٍ يُقَالُ لَهُ دَلْدِرْمُ سُلَيْمَانُ بْنُ جَنْدَرٍ، فَعَمَّرَهَا. وَأَقَامَ صَلَاحُ الدِّينِ بِحَلَبَ إِلَى أَنْ فَرَغَ مِنْ تَقْرِيرِ قَوَاعِدِهَا وَأَحْوَالِهَا وَدِيوَانِهَا، وَأَقْطَعَ أَعْمَالَهَا، وَأَرْسَلَ مِنْهَا فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ مِنْ جَمِيعِ بِلَادِهِ. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى مُجَاهِدِ الدِّينِ وَمَا حَصَلَ مِنَ الضَّرَرِ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، قَبَضَ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودٌ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، عَلَى نَائِبِهِ مُجَاهِدِ الدِّينِ قَايْمَازَ، وَكَانَ إِلَيْهِ الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ وَاتَّبَعَ فِي ذَلِكَ هَوَى مَنْ أَرَادَ الْمَصْلَحَةَ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَنْظُرْ فِي مَضَرَّةِ صَاحِبِهِ. وَكَانَ الَّذِي أَشَارَ بِذَلِكَ عِزُّ الدِّينِ مَحْمُودُ زَلْفِنْدَارُ، وَشَرَفُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي

الْخَيْرِ الَّذِي كَانَ أَبُوهُ صَاحِبَ الْغَرَّافِ، وَهُمَا مِنْ أَكَابِرَ الْأُمَرَاءِ، فَلَمَّا أَرَادَ الْقَبْضَ عَلَيْهِ لَمْ يُقَدِمْ عَلَى ذَلِكَ لِقُوَّةِ مُجَاهِدِ الدِّينِ، فَأَظْهَرَ أَنَّهُ مَرِيضٌ، وَانْقَطَعَ عَنِ الرُّكُوبِ عِدَّةَ أَيَّامٍ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ مُجَاهِدُ الدِّينِ وَحْدَهُ، وَكَانَ خَصِيًّا لَا يُمْتَنَعُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَبَضَ عَلَيْهِ، وَرَكِبَ لِوَقْتِهِ إِلَى الْقَلْعَةِ، فَاحْتَوَى عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي لِمُجَاهِدِ الدِّينِ وَخَزَائِنِهِ، وَوَلَّى زَلْفِنْدَارَ قَلْعَةَ الْمَوْصِلِ بَعْدَ مُجَاهِدِ الدِّينِ، وَجَعَلَ ابْنَ صَاحِبِ الْغَرَّافِ أَمِيرَ حَاجِبٍ وَحَكَّمَهُمَا فِي دَوْلَتِهِ. وَكَانَ تَحْتَ حُكْمِ مُجَاهِدِ الدِّينِ حِينَئِذٍ إِرْبِلُ وَأَعْمَالُهَا، وَمَعَهُ فِيهَا زَيْنُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ زَيْنِ الدِّينِ عَلَيٍّ، وَهُوَ صَبِيٌّ صَغِيرٌ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْحُكْمِ شَيْءٌ وَالْحُكْمُ وَالْعَسْكَرُ إِلَى مُجَاهِدِ الدِّينِ، وَتَحْتَ حُكْمِهِ أَيْضًا جَزِيرَةُ ابْنِ عُمَرَ، وَهِيَ لِمُعِزِّ الدِّينِ سَنْجُرِ شَاهْ بْنِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِي بْنِ مَوْدُودٍ وَهُوَ أَيْضًا صَبِيٌّ، وَالْحُكْمُ وَالنُّوَّابُ وَالْعَسْكَرُ لِمُجَاهِدِ الدِّينِ، وَبِيَدِهِ أَيْضًا شَهْرَزُورُ وَأَعْمَالُهَا، وَنُوَّابُهُ فِيهَا، وَدَقُوهَا، وَنَائِبُهُ فِيهَا، وَقَلْعَةُ عَقْرِ الْحُمَيْدِيَّةِ، وَنَائِبُهُ فِيهَا، وَلَمْ يَبْقَ لِعِزِّ الدِّينِ مَسْعُودٍ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ صَلَاحُ الدِّينِ [الْبِلَادَ] الْجَزَرِيَّةَ سِوَى الْمَوْصِلِ وَقَلْعَتِهَا بِيَدِ مُجَاهِدِ الدِّينِ، وَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمَلِكُ وَاسْمُهُ لِعِزِّ الدِّينِ، فَلَمَّا قُبِضَ عَلَيْهِ امْتَنَعَ صَاحِبُ إِرْبِلَ مِنْ طَاعَةِ عِزِّ الدِّينِ، وَاسْتَبَدَّ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا صَاحِبُ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى دَقُوقَا فَحَصَرَهَا وَأَخَذَهَا، وَلَمْ يَحْصُلْ لِعِزِّ الدِّينِ مَسْعُودٍ غَيْرُ شَهْرَزُورَ وَالْعَقْرِ، وَصَارَتْ إِرْبِلُ وَالْجَزِيرَةُ أَضَرَّ شَيْءٍ عَلَى صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَأَرْسَلَ صَاحِبُهَا إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ بِالطَّاعَةِ لَهُ، وَالْكَوْنِ فِي خِدْمَتِهِ. وَكَانَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ قَدْ أَرْسَلَ صَدْرَ الدِّينِ شَيْخَ الشُّيُوخِ، وَمَعَهُ بَشِيرٌ الْخَادِمُ الْخَاصُّ، إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ فِي الصُّلْحِ مَعَ عِزِّ الدِّينِ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَسَيَّرَ عِزُّ الدِّينِ مَعَهُ الْقَاضِيَ مُحْيِيَ الدِّينِ أَبَا حَامِدِ بْنَ الشَّهْرَزُورِيِّ فِي الْمَعْنَى، فَأَجَابَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى ذَلِكَ وَقَالَ: لَيْسَ لَكُمْ مَعَ الْجَزِيرَةِ وَإِرْبِلَ حَدِيثٌ، فَامْتَنَعَ مُحْيِي الدِّينِ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: هُمَا لَنَا، فَلَمْ يُجِبْ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الصُّلْحِ إِلَّا بِأَنْ تَكُونَ إِرْبِلُ وَالْجَزِيرَةُ مَعَهُ، فَلَمْ يَتِمَّ أَمْرُهُ، وَقَوِيَ طَمَعُ صَلَاحِ الدِّينِ فِي الْمَوْصِلِ بِقَبْضِ مُجَاهِدِ الدِّينِ، فَلَمَّا رَأَى صَاحِبُ الْمَوْصِلِ الضَّرَرَ بِقَبْضِ مُجَاهِدِ الدِّينِ قَبَضَ عَلَى شَرَفِ الدِّينِ

أَحْمَدَ بْنِ صَاحِبِ الْغَرَّافِ وَزَلْفِنْدَارَ، عُقُوبَةً لَهُمَا، ثُمَّ أَخْرَجَ مُجَاهِدَ الدِّينِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ذِكْرُ غَزْوِ بَيْسَانَ لَمَّا فَرَغَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ أَمْرِ حَلَبَ جَعَلَ فِيهَا وَلَدَهُ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ غَازِيَ، وَهُوَ صَبِيٌّ، وَجَعَلَ مَعَهُ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ يَازِكَجَ، وَكَانَ أَكْبَرَ الْأُمَرَاءِ الْأَسَدِيَّةِ، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ، وَتَجَهَّزَ لِلْغَزْوِ، وَمَعَهُ عَسَاكِرُ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ، وَدِيَارُ بَكْرٍ، وَسَارَ إِلَى بَلَدِ الْفِرِنْجِ، فَعَبَرَ نَهْرَ الْأُرْدُنِّ تَاسِعَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنَ السَّنَةِ، فَرَأَى أَهْلَ تِلْكَ النَّوَاحِي قَدْ فَارَقُوهَا خَوْفًا، فَقَصَدَ بَيْسَانَ فَأَحْرَقَهَا وَخَرَّبَهَا، وَأَغَارَ عَلَى مَا هُنَاكَ، فَاجْتَمَعَ الْفِرِنْجُ، وَجَاءُوا إِلَى قُبَالَتِهِ، فَحِينَ رَأَوْا كَثْرَةَ عَسَاكِرِهِ لَمْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِ، فَأَقَامَ عَلَيْهِمْ، وَقَدِ اسْتَنَدُوا إِلَى جَبَلٍ هُنَاكَ، وَخَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ، فَأَحَاطَ بِهِمْ، وَعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِ تَرْمِيهِمْ بِالسِّهَامِ، وَتُنَاوِشُهُمُ الْقِتَالَ، فَلَمْ يَخْرُجُوا وَأَقَامُوا كَذَلِكَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَعَادَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ سَابِعَ عَشَرَ الشَّهْرِ، لَعَلَّ الْفِرِنْجَ يَطْمَعُونَ وَيَخْرُجُونَ، فَيَسْتَدْرِجُونَهُمْ لِيَبْلُغُوا مِنْهُمْ غَرَضًا، فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ ذَلِكَ لَمْ يُطْمِعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي غَيْرِ السَّلَامَةِ. وَأَغَارَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَوَصَلُوا فِيهَا إِلَى مَا لَمْ يَكُونُوا يَطْمَعُونَ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ وَالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَثُرَتِ الْغَنَائِمُ مَعَهُمْ رَأَوُا الْعَوْدَ إِلَى بِلَادِهِمْ بِمَا غَنِمُوا مَعَ الظَّفَرِ أَوْلَى، فَعَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ عَلَى عَزْمِ الْغَزْوِ. ذِكْرُ غَزْوِ الْكَرَكِ وَمُلْكِ الْعَادِلِ حَلَبَ لَمَّا عَادَ صَلَاحُ الدِّينِ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ غَزْوَةِ بَيْسَانَ تَجَهَّزُوا لِغَزْوِ الْكَرَكِ، فَسَارَ إِلَيْهِ

فِي الْعَسَاكِرِ، وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ الْعَادِلِأَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، وَهُوَ نَائِبُهُ بِمِصْرَ، يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ بِجَمِيعِ الْعَسَاكِرِ إِلَى الْكَرَكِ. وَكَانَ الْعَادِلُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْهُ مَدِينَةَ حَلَبَ وَقَلْعَتَهَا، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَوَصَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الْكَرَكِ فِي رَجَبٍ، وَوَافَاهُ أَخُوهُ الْعَادِلُ فِي الْعَسْكَرِ الْمِصْرِيِّ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَتَمَكَّنَ مِنْ حَصْرِهِ، وَ [صَعِدَ] الْمُسْلِمُونَ إِلَى رَبَضِهِ وَمَلَكَهُ، وَحَصَرَ الْحِصْنَ مِنَ الرَّبَضِ، وَتَحَكَّمَ عَلَيْهِ فِي الْقِتَالِ، وَنَصَبَ عَلَيْهِ سَبْعَةَ مَجَانِيقَ لَا تَزَالُ تَرْمِي بِالْحِجَارَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا. وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ يَظُنُّ أَنَّ الْفِرِنْجَ لَا يُمَكِّنُونَهُ مِنْ حَصْرِ الْكَرَكِ، وَأَنَّهُمْ يَبْذُلُونَ جُهْدَهُمْ فِي رَدِّهِ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَسْتَصْحِبْ مَعَهُ مِنْ آلَاتِ الْحِصَارِ مَا يَكْفِي لِمِثْلِ ذَلِكَ الْحِصْنِ الْعَظِيمِ وَالْمَعْقِلِ الْمَنِيعِ، فَرَحَلَ عَنْهُ مُنْتَصَفَ شَعْبَانَ، وَسَيَّرَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ أَخِيهِ إِلَى مِصْرَ نَائِبًا عَنْهُ لِيَتَوَلَّى مَا كَانَ أَخُوهُ الْعَادِلُ يَتَوَلَّاهُ، وَاسْتَصْحَبَ أَخَاهُ الْعَادِلَ مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ، وَأَعْطَاهُ مَدِينَةَ حَلَبَ وَقَلْعَتَهَا وَأَعْمَالَهَا، وَمَدِينَةَ مَنْبِجَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَسَيَّرَهُ إِلَيْهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ، وَأَحْضَرَ وَلَدَهُ الظَّاهِرَ مِنْهَا إِلَى دِمَشْقَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَ الرِّبَاطُ الَّذِي بَنَتْهُ أُمُّ الْخَلِيفَةِ بِالْمَأْمُونِيَّةِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ مُكْرَمُ بْنُ بَخْتِيَارَ أَبُو الْخَيْرِ الزَّاهِدُ بِبَغْدَادَ. رَوَى الْحَدِيثَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْبُكَاءِ. وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ بَخْتِيَارَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَبْدِ الْمُوَلِّدِ الشَّاعِرُ وَيُعْرَفُ بِالْأَبْلَهِ، فَمِنْ جُمْلَةِ شِعْرِهِ:

أَرَاقَ دَمْعِي لَا بَلْ أَرَاقَ دَمِي ... ظُلْمًا بِظُلْمٍ مِنْ رِيقِهِ الشَّبِمِ ذُو قَامَةٍ كَالْقَضِيبِ نَاضِرَةٍ ... وَنَاظِرٍ مِنْ سَقَامِهِ سَقَمِي حَصَلْتُ مَنْ وَعْدِهِ عَلَى أَصْدَقِ ... الْ وَعْدِ وَمِنْ وَصْلِهِ عَلَى التُّهَمِ

ثم دخلت سنة ثمانين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 580 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ إِطْلَاقِ مُجَاهِدِ الدِّينِ مِنَ الْحَبْسِ وَانْهِزَامِ الْعَجَمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي مُحَرَّمٍ، أَطْلَقَ أَتَابِكُ عِزُّ الدِّينِ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، مُجَاهِدَ الدِّينِ قَايْمَازَ مِنَ الْحَبْسِ بِشَفَاعَةِ شَمْسِ الدِّينِ الْبَهْلَوَانِ، صَاحِبِ هَمَذَانَ وَبِلَادِ الْجَبَلِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى الْبَهْلَوَانِ وَأَخِيهِ قُزْلَ يَسْتَنْجِدُهُمَا عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ، فَسَارَ إِلَى قُزْلَ أَوَّلًا، وَهُوَ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنَ الْمُضِيِّ إِلَى الْبَهْلَوَانِ، وَقَالَ: مَا تَخْتَارُهُ أَنَا أَفْعَلُهُ، وَجَهَّزَ مَعَهُ عَسْكَرًا كَثِيرًا نَحْوَ ثَلَاثَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَسَارُوا نَحْوَ إِرْبِلَ لِيَحْصُرُوهَا، فَلَمَّا قَارَبُوهَا أَفْسَدُوا فِي الْبِلَادِ وَخَرَّبُوهَا، وَنَهَبُوا وَسَبَوْا، وَأَخَذُوا النِّسَاءَ قَهْرًا، وَلَمْ يَقْدِرْ مُجَاهِدُ الدِّينِ عَلَى مَنْعِهِمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ زَيْنُ الدِّينِ يُوسُفُ، صَاحِبُ إِرْبِلَ، فِي عَسْكَرِهِ، فَلَقِيَهُمْ وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ فِي الْقُرَى يَنْهَبُونَ وَيَحْرِقُونَ، فَانْتَهَزَ الْفُرْصَةَ فِيهِمْ بِتَفَرُّقِهِمْ، وَأَلْقَى بِنَفْسِهِ وَعَسْكَرِهِ عَلَى أَوَّلِ مَنْ لَقِيَهُ مِنْهُمْ، فَهَزَمَهُمْ، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَغَنِمَ الْإِرْبِلِيُّونَ أَمْوَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ وَسِلَاحَهُمْ، وَعَادَ الْعَجَمُ إِلَى بِلَادِهِمْ مُنْهَزِمِينَ، وَعَادَ صَاحِبُ إِرْبِلَ إِلَى بَلَدِهِ مُظَفَّرًا غَانِمًا، وَعَادَ مُجَاهِدُ الدِّينِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَكَانَ يَحْكِي: إِنَّنِي مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُ الْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سُوءِ أَفْعَالِ الْعَجَمِ، فَإِنَّنِي رَأَيْتُ مِنْهُمْ مَا لَمْ أَكُنْ أَظُنُّهُ يَفْعَلُهُ مُسْلِمٌ بِمُسْلِمٍ، وَكُنْتُ أَنْهَاهُمْ فَلَا يَسْمَعُونَ، حَتَّى كَانَ مِنَ الْهَزِيمَةِ مَا كَانَ. ذِكْرُ وَفَاةِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ يَعْقُوبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ إِلَى بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَجَازَ الْبَحْرَ إِلَيْهَا فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنْ عَسَاكِرِ الْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُ جَمَعَ وَحَشَدَ الْفَارِسَ وَالرَّاجِلَ، فَلَمَّا عَبَرَ الْخَلِيجَ قَصَدَ غَرْبِيَّ الْبِلَادِ، فَحَصَرَ مَدِينَةَ شَنْتَرِينَ، وَهِيَ لِلْفِرِنْجِ، شَهْرًا،

فَأَصَابَهُ بِهَا مَرَضٌ فَمَاتَ مِنْهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَحُمِلَ فِي تَابُوتٍ إِلَى مَدِينَةِ إِشْبِيلِيَّةَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ. وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَشَهْرًا، وَمَاتَ عَنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ بِالْمُلْكِ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَاتَّفَقَ رَأْيُ قُوَّادِ الْمُوَحِّدِينَ وَأَوْلَادِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ [عَلَى تَمْلِيكِ وَلَدِهِ أَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ] فَمَلَّكُوهُ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَبُوهُ لِئَلَّا يَكُونُوا بِغَيْرِ مَلِكٍ يَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ لِقُرْبِهِمْ مِنَ الْعَدُوِّ، فَقَامَ فِي ذَلِكَ أَحْسَنَ قِيَامٍ، وَأَقَامَ رَايَةَ الْجِهَادِ، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي النَّاسِ. وَكَانَ دَيِّنًا مُقِيمًا لِلْحُدُودِ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، فَاسْتَقَامَتْ لَهُ الدَّوْلَةُ وَانْقَادَتْ إِلَيْهِ بِأَسْرِهَا مَعَ سِعَةِ أَقْطَارِهَا، وَرَتَّبَ ثُغُورَ الْأَنْدَلُسِ وَشَحَنَهَا بِالرِّجَالِ، وَرَتَّبَ الْمُقَاتِلَةَ فِي سَائِرِ بِلَادِهَا، وَأَصْلَحَ أَحْوَالَهَا وَعَادَ إِلَى مُرَّاكِشَ. وَكَانَ أَبُوهُ يُوسُفُ حَسَنَ السِّيرَةِ، وَكَانَ طَرِيقُهُ أَلْيَنَ مِنْ طَرِيقِ أَبِيهِ مَعَ النَّاسِ، يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَيُقَرِّبُهُمْ وَيُشَاوِرُهُمْ، وَهُمْ أَهْلُ خِدْمَتِهِ وَخَاصَّتِهِ. وَأَحَبَّهُ النَّاسُ وَمَالُوا إِلَيْهِ، وَأَطَاعَهُ مِنَ الْبِلَادِ مَا امْتَنَعَ عَلَى أَبِيهِ، وَسَلَكَ فِي جِبَايَةِ الْأَمْوَالِ مَا كَانَ أَبُوهُ يَأْخُذُهُ، وَلَمْ يَتَعَدَّهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَاسْتَقَامَتْ لَهُ الْبِلَادُ بِحُسْنِ فِعْلِهِ مَعَ أَهْلِهَا، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. ذِكْرُ غَزْوِ صَلَاحِ الدِّينِ الْكَرَكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ دِمَشْقَ يُرِيدُ الْغَزْوَ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ، فَأَتَتْهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَمِمَّنْ أَتَاهُ نُورُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ قَرَا أَرْسَلَانَ، صَاحِبُ الْحِصْنِ. وَكَتَبَ إِلَى مِصْرَ لِيَحْضُرَ عَسْكَرُهَا عِنْدَهُ عَلَى الْكَرَكِ، فَنَازَلَ الْكَرَكَ وَحَصَرَهُ، وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهِ، وَأَمَرَ بِنَصْبِ الْمَجَانِيقِ عَلَى رَبَضَهِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَمَلَكَ الْمُسْلِمُونَ الرَّبَضَ، وَبَقِيَ الْحِصْنُ، وَهُوَ وَالرَّبَضُ عَلَى سَطْحِ جَبَلٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا خَنْدَقًا

عَظِيمًا عُمْقُهُ نَحْوُ سِتِّينَ ذِرَاعًا، فَأَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ بِإِلْقَاءِ الْأَحْجَارِ وَالتُّرَابِ فِيهِ لِيَطِمَّهُ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى الدُّنُوِّ مِنْهُ لِكَثْرَةِ الرَّمْيِ عَلَيْهِمْ بِالسِّهَامِ مِنَ الْجُرْخِ وَالْقَوْسِ وَالْأَحْجَارِ مِنَ الْمَجَانِيقِ، فَأَمَرَ أَنْ يُبْنَى بِالْأَخْشَابِ وَاللَّبِنِ مَا يُمَكِّنُ الرِّجَالَ يَمْشُونَ تَحْتَهُ إِلَى الْخَنْدَقِ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنَ السِّهَامِ وَالْأَحْجَارِ، فَفُعِلَ ذَلِكَ، فَصَارُوا يَمْشُونَ تَحْتَ السَّقَائِفِ وَيُلْقُونَ فِي الْخَنْدَقِ مَا يَطِمُّهُ، وَمَجَانِيقُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ ذَلِكَ تَرْمِي الْحِصْنَ لَيْلًا وَنَهَارًا. وَأَرْسَلَ مَنْ فِيهِ مِنَ الْفِرِنْجِ إِلَى مَلِكِهِمْ وَفُرْسَانِهِمْ يَسْتَمِدُّونَهُمْ وَيُعَرِّفُونَهُمْ عَجْزَهُمْ وَضَعْفَهُمْ عَنْ حِفْظِ الْحِصْنِ، فَاجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ عَنْ آخِرِهَا، وَسَارُوا إِلَى نَجْدَتِهِمْ عَجِلِينَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ بِمَسِيرِهِمْ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ رَحَلَ عَنِ الْكَرَكِ إِلَى طَرِيقِهِمْ لِيَلْقَاهُمْ وَيُصَافِفَهُمْ، وَيُعُودَ بَعْدَ أَنْ يَهْزِمَهُمْ إِلَى الْكَرَكِ، فَقَرُبَ مِنْهُمْ وَخَيَّمَ وَنَزَلَ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الدُّنُوُّ مِنْهُمْ لِخُشُونَةِ الْأَرْضِ وَصُعُوبَةِ الْمَسْلَكِ إِلَيْهِمْ وَضِيقِهِ، فَأَقَامَ أَيَّامًا يَنْتَظِرُ خُرُوجَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَبْرَحُوا مِنْهُ خَوْفًا عَلَى نُفُوسِهِمْ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَحَلَ عَنْهُمْ عِدَّةَ فَرَاسِخَ، وَجَعَلَ بِإِزَائِهِمْ مَنْ يُعْلِمُهُ بِمَسِيرِهِمْ، فَسَارُوا لَيْلًا إِلَى الْكَرَكِ، فَلَمَّا عَلِمَ صَلَاحُ الدِّينِ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ حِينَئِذٍ وَلَا يَبْلُغُ غَرَضَهُ، فَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ نَابُلُسَ، وَنَهَبَ كُلَّ مَا عَلَى طَرِيقِهِ مِنَ الْبِلَادِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى نَابُلُسَ أَحْرَقَهَا وَخَرَّبَهَا وَنَهَبَهَا، وَقَتَلَ فِيهَا وَأَسَرَ وَسَبَى فَأَكْثَرَ، وَسَارَ عَنْهَا إِلَى سَبَسْطِيَةَ، وَبِهَا مَشْهَدُ زَكَرِيَّاءَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَبِهَا كَنِيسَةٌ، وَبِهَا جَمَاعَةُ أَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَنْقَذَهُمْ، وَرَحَلَ إِلَى جِينِينَ فَنَهَبَهَا وَخَرَّبَهَا، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ وَنَهَبَ مَا عَلَى طَرِيقِهِ وَخَرَّبَهُ، وَبَثَّ السَّرَايَا فِي طَرِيقِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا يَغْنَمُونَ وَيُخَرِّبُونَ، وَوَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ. ذِكْرُ مُلْكِ الْمُلَثَّمِينَ بِجَابَةَ وَعَوْدِهَا إِلَى أَوْلَادِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ غَانِيَةَ وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الْمُلَثَّمِينَ الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكَ الْمَغْرِبِ، وَهُوَ حِينَئِذٍ صَاحِبُ جَزِيرَةِ مَيُورْقَةَ، إِلَى

بِجَايَةَ فَمَلَكَهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ بِوَفَاةِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ عَمَّرَ أُسْطُولَهُ فَكَانَ عِشْرِينَ قِطْعَةً وَسَارَ فِي جُمُوعِهِ فَأَرْسَى فِي سَاحِلِ بِجَايَةَ، وَخَرَجَتْ خَيْلُهُ وَرِجَالُهُ مِنَ الشَّوَانِيِّ فَكَانُوا نَحْوَ مِائَتَيْ فَارِسٍ مِنَ الْمُلَثَّمِينَ وَأَرْبَعَةِ آلَافِ رَاجِلٍ، فَدَخَلَ مَدِينَةَ بِجَايَةَ بِغَيْرِ قِتَالٍ لِأَنَّهُ اتَّفَقَ أَنَّ وَالِيَهَا سَارَ عَنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ إِلَى مُرَّاكِشَ وَلَمْ يَتْرُكْ فِيهَا جَيْشًا وَلَا مُمَانِعًا لِعَدَمِ عَدُوٍّ يَحْفَظُهَا مِنْهُ، فَجَاءَ الْمُلَثَّمُ وَلَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ أَنَّهُ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، فَأَرْسَى بِهَا وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ بَقَايَا دَوْلَةِ بَنِي حَمَّادٍ وَصَارُوا مَعَهُ فَكَثُرَ جَمْعُهُ بِهِمْ وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ، فَسَمِعَ خَبَرَهُ وَالِي بِجَايَةَ فَعَادَ مِنْ طَرِيقِهِ وَمَعَهُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، فَجَمَعَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْقَبَائِلِ الَّذِينَ فِي تِلْكَ الْجِهَاتِ نَحْوَ أَلْفِ فَارِسٍ، فَسَمِعَ بِهِمُ الْمُلَثَّمُ وَبِقُرْبِهِمْ مِنْهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ وَقَدْ صَارَ مَعَهُ قَدْرُ أَلْفِ فَارِسٍ، وَتَوَاقَفُوا سَاعَةً فَانْضَافَ جَمِيعُ الْجُمُوعِ الَّتِي كَانَتْ مَعَ وَالِي بِجَايَةَ إِلَى الْمُلَثَّمِ، فَانْهَزَمَ حِينَئِذٍ وَالِي بِجَايَةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ وَسَارُوا إِلَى مُرَّاكِشَ، وَعَادَ الْمُلَثَّمُ إِلَى بِجَايَةَ فَجَمَعَ جَيْشَهُ وَخَرَجَ إِلَى أَعْمَالِ بِجَايَةَ فَأَطَاعَهُ جَمِيعُهَا إِلَّا قُسَنْطِينَةَ الْهَوَى فَحَصَرَهَا إِلَى أَنْ جَاءَ جَيْشٌ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ مُرَّاكِشَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ إِلَى بِجَايَةَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَكَانَ بِهَا يَحْيَى وَعَبْدُ اللَّهِ أَخَوَا عَلِيِّ بْنَ إِسْحَاقَ الْمُلَثَّمِ، فَخَرَجَا مِنْهَا هَارِبَيْنِ وَلَحِقَا بِأَخِيهِمَا فَرَحَلَ عَنْ قُسَنْطِينَةَ وَسَارَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ. وَكَانَ سَبَبُ إِرْسَالِ الْجَيْشِ مِنْ مُرَّاكِشَ أَنَّ وَالِيَ بِجَايَةَ وَصَلَ إِلَى يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ صَاحِبِ الْمَغْرِبِ وَعَرَّفَهُ مَا جَرَى بِبِجَايَةَ وَاسْتِيلَاءِ الْمُلَثَّمِينَ عَلَيْهَا، وَخَوْفِهِ عَاقِبَةَ التَّوَانِي، فَجَهَّزَ الْعَسَاكِرَ فِي الْبَرِّ عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ وَجَهَّزَ الْأُسْطُولَ فِي الْبَحْرِ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ وَاسْتَعَادُوهَا. ذِكْرُ وَفَاةِ صَاحِبِ مَارِدِينَ وَمُلْكِ وَلَدِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ قُطْبُ الدِّينِ إِيلْغَازِيُّ بْنُ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ أَلْبِيِّ بْنِ تَمْرِتَاشَ بْنِ إِيلْغَازِيِّ بْنِ أَرْتَقَ صَاحِبُ مَارِدِينَ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ حُسَامُ الدِّينِ بَوْلَقُ أَرْسَلَانَ، وَهُوَ طِفْلٌ وَقَامَ بِتَرْبِيَتِهِ وَتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ نِظَامُ الدِّينِ الْبُقْشُ مَمْلُوكُ أَبِيهِ، وَكَانَ شَاهْ أَرْمَنَ صَاحِبُ خِلَاطَ خَالَ قُطْبِ الدِّينِ فَحَكَمَ فِي دَوْلَتِهِ، وَهُوَ رَتَّبَ الْبُقْشَ مَعَ وَلَدِهِ، وَكَانَ

الْبُقْشُ دَيِّنًا خَيِّرًا عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ حَلِيمًا، فَأَحْسَنَ تَرْبِيَتَهُ وَتَزَوَّجَ أُمَّهُ، فَلَمَّا كَبِرَ الْوَلَدُ لَمْ يُمَكِّنْهُ النِّظَامُ مِنْ مَمْلَكَتِهِ لِخَبْطٍ وَهَوَجٍ فِيهِ، وَكَانَ لِنِظَامِ الدِّينِ هَذَا مَمْلُوكٌ اسْمُهُ لُؤْلُؤٌ قَدْ تَحَكَّمَ فِي دَوْلَتِهِ وَحَكَمَ فِيهَا، فَكَانَ يَحْمِلُ النِّظَامَ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مَعَ الْوَلَدِ، وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَاتَ الْوَلَدُ وَلَهُ أَخٌ أَصْغَرُ مِنْهُ لَقَبُهُ قُطْبُ الدِّينِ، فَرَتَّبَهُ النِّظَامُ فِي الْمُلْكِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْهُ إِلَّا الِاسْمُ، وَالْحُكْمُ إِلَى النِّظَامِ وَلُؤْلُؤٍ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ، فَمَرِضَ النِّظَامُ الْبُقْشُ فَأَتَاهُ قُطْبُ الدِّينِ يَعُودُهُ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ خَرَجَ مَعَهُ لُؤْلُؤٌ وَضَرَبَهُ قُطْبُ الدِّينِ بِسِكِّينٍ مَعَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ إِلَى النِّظَامِ وَبِيَدِهِ السِّكِّينُ فَقَتَلَهُ أَيْضًا، وَخَرَجَ وَحْدَهُ وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ وَأَلْقَى الرَّأْسَيْنِ إِلَى الْأَجْنَادِ، وَكَانُوا كُلُّهُمْ قَدْ أَنْشَأَهُمُ النِّظَامُ وَلُؤْلُؤٌ فَأَذْعَنُوا لَهُ بِالطَّاعَةِ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ أَخْرَجَ مَنْ أَرَادَ وَتَرَكَ مَنْ أَرَادَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى قَلْعَةِ مَارِدِينَ وَأَعْمَالِهَا وَقَلْعَةِ الْبَارِعِيَّةِ وَصُورَ، وَهُوَ إِلَى الْآنَ حَاكِمٌ فِيهَا حَازِمٌ فِي أَفْعَالِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ صَدْرُ الدِّينِ شَيْخُ الشُّيُوخِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ شَيْخِ الشُّيُوخِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ شَيْخِ الشُّيُوخِ أَبِي سَعِيدٍ أَحْمَدَ فِي شَعْبَانَ، وَكَانَ قَدْ سَارَ فِي دِيوَانِ الْخِلَافَةِ رَسُولًا إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَمَعَهُ شِهَابُ الدِّينِ بَشِيرٌ الْخَادِمُ فِي مَعْنَى الصُّلْحِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِزِّ الدِّينِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَوَصَلَا إِلَى دِمَشْقَ وَصَلَاحُ الدِّينِ يَحْصُرُ الْكَرَكَ، فَأَقَامَا إِلَى أَنْ عَادَ فَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي الصُّلْحِ أَمْرٌ، وَمَرِضَا وَطَلَبَا الْعَوْدَةَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِمَا صَلَاحُ الدِّينِ بِالْمَقَامِ إِلَى أَنْ يَصْطَلِحَا، فَلَمْ يَفْعَلَا وَسَارَا فِي الْحَرِّ فَمَاتَ بَشِيرٌ بِالسَّخْنَةِ. وَمَاتَ صَدْرُ الدِّينِ بِالرَّحَبَةِ، وَدُفِنَ بِمَشْهَدِ الْبُوقِ، وَكَانَ وَاحِدَ زَمَانِهِ، قَدْ جَمَعَ

بَيْنَ رِيَاسَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَكَانَ مَلْجَأً لِكُلِّ خَائِفٍ، صَالِحًا، كَرِيمًا، حَلِيمًا، وَلَهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ فِي مَرَضِهِ هَذَا دَوَاءً تَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّطِيفِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّطِيفِ الْخُجَنْدِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، رَئِيسُ أَصْفَهَانَ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِبَابِ هَمَذَانَ وَقَدْ عَادَ مِنَ الْحَجِّ، وَلَهُ شِعْرٌ فَمِنْهُ: بِالْحِمَى دَارٌ سَقَاهَا مَدْمَعِي ... يَا سَقَى اللَّهُ الْحِمَى مِنْ مَرْبَعِ لَيْتَ شِعْرِي وَالْأَمَانِي ضَلَّةٌ ... هَلْ إِلَى وَادِي الْغَضَى مِنْ مَرْجِعِ؟ أَذِنَتْ عَلْوَةُ لِلْوَاشِي بِنَا ... مَا عَلَى عَلْوَةَ لَوْ لَمْ تَسْمَعِ أَوْ تَحَرَّتْ رَشَدًا فِيمَا وَشَى ... أَوْ عَفَتْ عَنِّي فَمَا قَلْبِي مَعِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَة] 581 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ حَصْرِ صَلَاحِ الدِّينِ الْمَوْصِلَ، وَرَحِيلِهِ عَنْهَا لِوَفَاةِ شَاهْ أَرْمَنْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ الْمَوْصِلَ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَكَانَ مَسِيرُهُ مِنْ دِمَشْقَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَوَصَلَ إِلَى حَلَبَ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ خَرَجَتِ السَّنَةُ، وَسَارَ مِنْهَا فَعَبَرَ إِلَى أَرْضِ الْجَزِيرَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ حَرَّانَ قَبَضَ عَلَى مُظَفَّرِ الدِّينِ كَوْكَبْرِيِّ بْنِ زَيْنِ الدِّينِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ مُلْكِهِ الدِّيَارَ الْجَزَرِيَّةِ. وَسَبَبُ قَبْضِهِ عَلَيْهِ أَنَّ مُظَفَّرَ الدِّينِ كَانَ يُرَاسِلُ صَلَاحَ الدِّينِ كُلَّ وَقْتٍ، وَيُشِيرُ عَلَيْهِ بِقَصْدِ الْمَوْصِلِ، وَيُحَسِّنُ لَهُ ذَلِكَ وَيُقَوِّي طَمَعَهُ، حَتَّى إِنَّهُ بَذَلَ لَهُ، إِذَا سَارَ إِلَيْهَا، خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا وَصَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى حَرَّانَ، لَمْ يَفِ لَهُ بِمَا بَذَلَ مِنَ الْمَالِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَوَكَّلَ بِهِ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ. وَأَعَادَ إِلَيْهِ مَدِينَتِي حَرَّانَ وَالرُّهَا، وَكَانَ قَدْ أَخَذَهُمَا مِنْهُ وَإِنَّمَا أَطْلَقَهُ لِأَنَّهُ خَافَ انْحِرَافَ النَّاسِ عَنْهُ بِالْبِلَادِ الْجَزَرِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ عَلِمُوا بِمَا اعْتَمَدَهُ مُظَفَّرُ الدِّينِ مَعَهُ مِنْ تَمْلِيكِهِ الْبِلَادَ فَأَطْلَقَهُ. وَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْ حَرَّانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ عَسَاكِرُ الْحِصْنِ، وَدَارَا، وَمُعِزُّ الدِّينِ سَنْجَرْ شَاهْ، صَاحِبُ الْجَزِيرَةِ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي عِزِّ الدِّينِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ قَدْ فَارَقَ طَاعَةَ عَمِّهِ بَعْدَ قَبْضِ مُجَاهِدِ الدِّينِ، وَسَارَ مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى الْمَوْصِلِ. فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى مَدِينَةِ بَلَدٍ سَيَّرَ أَتَابِكْ عِزُّ الدِّينِ وَالِدَتَهُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَمَعَهَا ابْنَةُ عَمِّهِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زِنْكِيٍّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ النِّسَاءِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الدَّوْلَةِ، يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْمُصَالَحَةَ، وَبَذَلُوا لَهُ الْمُوَافَقَةَ، وَالْإِنْجَادَ بِالْعَسَاكِرِ لِيَعُودَ عَنْهُمْ. وَإِنَّمَا أَرْسَلَهُنَّ لِأَنَّهُ وَكُلَّ مَنْ عِنْدَهُ ظَنُّوا أَنَّهُنَّ إِذَا طَلَبْنَ الشَّامَ أَجَابَهُنَّ إِلَى ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَمَعَهُنَّ ابْنَةُ مَخْدُومِهِ وَوَلِيِّ نِعْمَتِهِ نُورِ الدِّينِ. فَلَمَّا وَصَلْنَ إِلَيْهِ أَنْزَلَهُنَّ، وَأَحْضَرَ أَصْحَابَهُ وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُهُ وَيَقُولُهُ، فَأَشَارَ أَكْثَرُهُمْ بِإِجَابَتِهِنَّ إِلَى مَا طَلَبْنَ مِنْهُ، وَقَالَ لَهُ الْفَقِيهُ عِيسَى وَعَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمَشْطُوبُ، وَهُمَا مِنْ بَلَدِ الْهَكَّارِيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ

الْمَوْصِلِ: مِثْلُ الْمَوْصِلِ لَا يُتْرَكُ لِامْرَأَةٍ، فَإِنَّ عِزَّ الدِّينِ مَا أَرْسَلَهُنَّ إِلَّا وَقَدْ عَجَزَ عَنْ حِفْظِ الْبَلَدِ. وَوَافَقَ ذَلِكَ هَوَاهُ، فَأَعَادَهُنَّ خَائِبَاتٍ، وَاعْتَذَرَ بِأَعْذَارٍ غَيْرِ مَقْبُولَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ إِرْسَالُهُنَّ عَنْ ضَعْفٍ وَوَهْنٍ، إِنَّمَا أَرْسَلَهُنَّ طَلَبًا لِدَفْعِ الشَّرِّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. فَلَمَّا عُدْنَ رَحَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الْمَوْصِلِ وَهُوَ كَالْمُتَيَقِّنِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَلَدَ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَارَبَ الْبَلَدَ نَزَلَ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْهُ، وَامْتَدَّ عَسْكَرُهُ فِي تِلْكَ الصَّحْرَاءِ بِنَوَاحِي الْحِلَّةِ الْمَرَاقِيَّةِ، وَكَانَ يَجْرِي بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ مُنَاوَشَاتٌ بِظَاهِرِ الْبَابِ الْعِمَادِيِّ. وَكُنْتُ إِذْ ذَاكَ بِالْمَوْصِلِ، وَبَذَلَ الْعَامَّةُ نُفُوسَهُمْ غَيْظًا وَحَنَقًا لِرَدِّهِ النِّسَاءَ، فَرَأَى صَلَاحُ الدِّينِ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْسَبُهُ، فَنَدِمَ عَلَى رَدِّهِ النِّسَاءَ نَدَامَةَ الْكُسَعِيِّ، حَيْثُ فَاتَهُ حُسْنُ الذِّكْرِ وَمُلْكُ الْبَلَدِ، وَعَادَ عَلَى الَّذِينَ أَشَارُوا بِرَدِّهِنَّ بِاللَّوْمِ وَالتَّوْبِيخِ. وَجَاءَتْهُ كُتُبُ الْقَاضِي الْفَاضِلِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ هَوًى فِي الْمَوْصِلِ يُقَبِّحُونَ فِعْلَهُ وَيُنْكِرُونَهُ، وَأَتَاهُ وَهُوَ عَلَى الْمَوْصِلِ زَيْنُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ زَيْنِ الدِّينِ صَاحِبُ إِرْبِلَ، فَأَنْزَلَهُ وَمَعَهُ أَخُوهُ مُظَفَّرُ الدِّينِ كَوْكَبْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأُمَرَاءِ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنَ الْمَوْصِلِ. وَسَيَّرَ مِنَ الْمَنْزَلَةِ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ الْمَشْطُوبَ الْهَكَّارِيَّ إِلَى قَلْعَةِ الْجُدَيْدَةِ مِنْ بَلَدِ الْهَكَّارِيَّةِ، فَحَصَرَهَا وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَكْرَادِ وَالْهَكَارِيَّةِ كَثِيرٌ، وَبَقِيَ هُنَاكَ إِلَى أَنْ رَحَلَ صَلَاحُ الدِّينِ عَنِ الْمَوْصِلِ. وَكَانَ عَامَّةُ الْمَوْصِلِ يَعْبُرُونَ دِجْلَةَ فَيُقَاتِلُونَ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنَ الْعَسْكَرِ وَيَعُودُونَ، وَلَمَّا كَانَ صَلَاحُ الدِّينِ يُحَاصِرُ الْمَوْصِلَ بَلَغَ أَتَابِكْ عِزَّ الدِّينِ صَاحِبَهَا أَنَّ نَائِبَهُ بِالْقَلْعَةِ زَلْفَنْدَارَ يُكَاتِبُهُ، فَمَنَعَهُ مِنَ الصُّعُودِ إِلَى الْقَلْعَةِ وَعَادَ يَقْتَدِي بِرَأْيِ مُجَاهِدِ الدِّينِ، وَكَانَ قَدْ أَخْرَجَهُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِ، وَضَبَطَ الْأُمُورَ، وَأَصْلَحَ مَا كَانَ فَسَدَ مِنَ الْأَحْوَالِ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى الصُّلْحِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَحَضَرَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ إِنْسَانٌ بَغْدَادِيٌّ أَقَامَ بِالْمَوْصِلِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى صَلَاحِ

الدِّينِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِقَطْعِ دِجْلَةَ عَنِ الْمَوْصِلِ إِلَى نَاحِيَةِ نِينَوَى، وَقَالَ: إِنَّ دِجْلَةَ إِذَا نُقِلَتْ عَنِ الْمَوْصِلِ عَطِشَ أَهْلُهَا فَمَلَكْنَاهَا بِغَيْرِ قِتَالٍ فَظَنَّ صَلَاحُ الدِّينِ أَنَّ قَوْلَهُ صِدْقٌ، فَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ تَطُولُ، وَالتَّعَبَ يَكْثُرُ، وَلَا فَائِدَةَ وَرَاءَهُ، وَقَبَّحَهُ عِنْدَهُ أَصْحَابُهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ. وَأَقَامَ بِمَكَانِهِ مِنْ أَوَّلِ رَبِيعٍ الْآخَرِ إِلَى أَنْ قَارَبَ آخِرُهُ، ثُمَّ رَحَلَ عَنْهَا إِلَى مَيَّافَارِقِينَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ شَاهْ أَرْمَنْ، صَاحِبَ خِلَاطَ، تُوُفِّيَ بِهَا تَاسِعَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ بِوَفَاتِهِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْهُ فَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ إِلَيْهَا وَتَمَلُّكِهَا، حَيْثُ إِنَّ شَاهْ أَرْمَنْ لَمْ يُخْلِفْ وَلَدًا وَلَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يَمْلِكُ بِلَادَهُ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا قَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا مَمْلُوكٌ لَهُ اسْمُهُ بُكْتُمُرْ وَلَقَبُهُ سَيْفُ الدِّينِ. فَاسْتَشَارَ صَلَاحُ الدِّينِ أُمَرَاءَهُ وَوُزَرَاءَهُ، فَاخْتَلَفُوا، فَأَمَّا مَنْ هَوَاهُ بِالْمَوْصِلِ فَيُشِيرُ بِالْمُقَامِ وَمُلَازِمَةِ الْحِصَارِ لَهَا، وَأَمَّا مَنْ يَكْرَهُ أَذَى الْبَيْتِ الْأَتَابِكِيِّ فَإِنَّهُ أَشَارَ بِالرَّحِيلِ، وَقَالَ: إِنَّ وِلَايَةَ خِلَاطَ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ، وَهِيَ سَائِبَةٌ لَا حَافِظَ لَهَا، وَهَذِهِ لَهَا سُلْطَانٌ يَحْفَظُهَا وَيَذُبُّ عَنْهَا، وَإِذَا مَلَكْنَا تِلْكَ سَهُلَ أَمْرُ هَذِهِ وَغَيْرِهَا، فَتَتَرَدَّدَ فِي أَمْرِهِ. فَاتُّفِقَ أَنَّهُ جَاءَهُ كُتُبُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ خِلَاطَ، مِنْ أَهْلِهَا وَأُمَرَائِهَا، يَسْتَدْعُونَهُ لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ الْبَلَدَ، فَسَارَ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَكَانَتْ مُكَاتَبَةُ مَنْ كَاتَبَهُ خَدِيعَةً وَمَكْرًا، فَإِنَّ شَمْسَ الدِّينِ الْبَهْلَوَانَ بْنَ إِيلْدِكَزْ، صَاحِبَ أَذْرَبِيجَانَ وَهَمَذَانَ وَتِلْكَ الْمَمْلَكَةِ، قَدْ قَصَدَهُمْ لِيَأْخُذَ الْبِلَادَ مِنْهُمْ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ زَوَّجَ شَاهْ أَرْمَنْ، عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ، بِنْتًا لَهُ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى مُلْكِ خِلَاطَ وَأَعْمَالِهَا. فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَسِيرُهُ إِلَيْهِمْ كَاتَبُوا صَلَاحَ الدِّينِ يَسْتَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ لِيُسَلِّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ لِيَدْفَعُوا بِهِ الْبَهْلَوَانَ وَيَدْفَعُوهُ بِالْبَهْلَوَانِ، وَيَبْقَى الْبَلَدُ بِأَيْدِيهِمْ، فَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ وَسَيَّرَ فِي مُقَدِّمَتِهِ ابْنَ عَمِّهِ نَاصِرَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ شِيرِكُوهُ، وَمُظَفَّرَ الدِّينِ بْنَ زَيْنِ الدِّينِ وَغَيْرَهُمَا. فَسَارُوا إِلَى خِلَاطَ، وَنَزَلُوا بِطُوَانَةَ بِالْقُرْبِ مِنْ خِلَاطَ، وَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ، وَأَمَّا الْبَهْلَوَانُ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى خِلَاطَ، وَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْهَا، وَتَرَدَّدَتْ رُسُلُ أَهْلِ خِلَاطَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاحِ الدِّينِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَصْلَحُوا أَمْرَهُمْ مَعَ الْبَهْلَوَانِ، وَصَارُوا مِنْ حِزْبِهِ وَخَطَبُوا لَهُ.

ذِكْرُ وَفَاةِ نُورِ الدِّينِ صَاحِبِ الْحِصْنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ نُورُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ قُرَا أَرْسَلَانَ بْنِ دَاوُدَ، صَاحِبُ الْحِصْنِ وَآمِدَ، لَمَّا كَانَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى الْمَوْصِلِ، وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ، فَمَلَّكَ الْأَكْبَرَ مِنْهُمَا وَاسْمُهُ سُقْمَانُ، وَلَقَبُهُ قُطْبُ الدِّينِ، وَتَوَلَّى تَدْبِيرَ الْأُمُورِ وَزِيرُهُ الْقَوَّامُ بْنُ سُمَاقَا الْأَسْعَرْدِيُّ. وَكَانَ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ قُرَا أَرْسَلَانَ قَدْ سَيَّرَهُ أَخُوهُ نُورُ الدِّينِ فِي عَسَاكِرِهِ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، وَهُوَ يُحَاصِرُ الْمَوْصِلَ، وَهُوَ مَعَهُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ وَفَاةِ أَخِيهِ سَارَ لِيَمْلِكَ الْبِلَادَ بَعْدَهُ لِصِغَرِ أَوْلَادِهِ، فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَى خَرَّتْ بَرَّتْ فَمَلَكَهَا، وَهِيَ بَيَدِ أَوْلَادِهِ إِلَى سَنَةِ عِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ. وَلَمَّا حَصَرَ صَلَاحُ الدِّينِ مَيَّافَارِقِينَ حَضَرَ عِنْدَهُ وَلَدُ نُورِ الدِّينِ فَأَقَرَّهُ عَلَى مُلْكِ أَبِيهِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ آمِدُ، وَكَانُوا خَافُوا أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُمْ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَرَدَّهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُرَاجِعُوهُ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ، وَيَصْدُرُوا عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَرَتَّبَ مَعَهُ أَمِيرًا لَقَبُهُ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِيهِ. ذِكْرُ مُلْكِ صَلَاحِ الدِّينِ مَيَّافَارِقِينَ لَمَّا سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى خِلَاطَ جُعِلَ طَرِيقُهُ عَلَى مَيَّافَارِقِينَ مَطْمَعَ مَلِكِهَا، حَيْثُ كَانَ صَاحِبُهُ قُطْبُ الدِّينِ، صَاحِبُ مَارْدِينَ، قَدْ تُوُفِّيَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ، وَهُوَ طِفْلٌ، وَكَانَ حُكْمُهَا إِلَى شَاهْ أَرْمَنْ، وَعَسْكَرُهُ فِيهَا. فَلَمَّا تُوُفِّيَ طَمِعَ فِي أَخْذِهَا، فَلَمَّا نَازَلَهَا رَآهَا مَشْحُونَةً بِالرِّجَالِ، وَبِهَا زَوْجَةُ قُطْبِ الدِّينِ الْمُتَوَفَّى، وَمَعَهَا بَنَاتٌ لَهَا مِنْهُ، وَهِيَ أُخْتُ نُورِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ، صَاحِبِ الْحِصْنِ، فَأَقَامَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَيْهَا يَحْصُرُهَا مِنْ أَوَّلِ جُمَادَى الْأُولَى. وَكَانَ الْمُقَدَّمُ عَلَى أَجْنَادِهَا أَمِيرًا اسْمُهُ يَرْنُقُشْ، وَلَقَبُهُ أَسَدُ الدِّينِ، وَكَانَ شُجَاعًا شَهْمًا، يَحْفَظُ الْبَلَدَ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ عَلَيْهِ وَنُصِبَتِ الْمَجَانِيقُ

وَالْعَرَادَاتُ، فَلَمْ يَصِلْ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى مَا يُرِيدُ مِنْهَا. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَدَلَ عَنِ الْقُوَّةِ وَالْحَرْبِ إِلَى إِعْمَالِ الْحِيلَةِ، فَرَاسَلَ امْرَأَةَ قُطْبِ الدِّينِ الْمُقِيمَةِ بِالْبَلَدِ يَقُولُ لَهَا: إِنَّ أَسَدَ الدِّينِ يَرْنَقُشْ قَدْ مَالَ إِلَيْنَا فِي تَسْلِيمِ الْبَلَدِ وَنَحْنُ نَرْعَى حَقَّ أَخِيهِ نُورِ الدِّينِ فِيكِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَنُرِيدُ أَنْ يَكُونَ لَكِ فِي هَذَا الْأَمْرِ نَصِيبٌ، وَأَنَا أُزَوِّجُ بَنَاتِكِ بِأَوْلَادِي وَتَكُونُ مَيَّافَارِقِينَ وَغَيْرُهَا لَكِ وَبِحُكْمِكِ. وَوَضَعَ مَنْ أَرْسَلَ إِلَى أَسَدٍ يُعَرِّفُهُ أَنَّ الْخَاتُونَ قَدْ مَالَتْ لِلْمُقَارَبَةِ وَالِانْقِيَادِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَأَنَّ مَنْ بِخِلَاطَ قَدْ كَاتَبُوهُ لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ. وَاتَّفَقَ أَنَّ رَسُولًا وَصَلَهُ مِنْ خِلَاطَ، يَبْذُلُونَ لَهُ الطَّاعَةَ، وَقَالُوا لَهُ مِنَ الِاسْتِدْعَاءِ إِلَيْهِمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ، فَأَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ الرَّسُولَ، فَدَخَلَ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ، وَقَالَ لِأَسَدٍ: أَنْتَ عَمَّنْ تُقَاتِلُ، وَأَنَا قَدْ جِئْتُ فِي تَسْلِيمِ خِلَاطَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ! فَسُقِطَ فِي يَدِهِ، وَضَعُفَتْ نَفْسُهُ. وَأَرْسَلَ يَقْتَرِحُ أَقْطَاعًا وَمَالًا، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَسَلَّمَ الْبَلَدَ سَلْخَ جُمَادَى الْأُولَى، وَعَقَدَ النِّكَاحَ لِبَعْضِ أَوْلَادِهِ عَلَى بَعْضِ بَنَاتِ الْخَاتُونِ، وَأَقَرَّ بِيَدِهَا قَلْعَةَ الْهَتَّاخِ لِتَكُونَ فِيهَا هِيَ وَبَنَاتُهَا. ذِكْرُ عَوْدِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى بَلَدِ الْمَوْصِلِ وَالصُّلْحِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَتَابِكْ عِزِّ الدِّينِ لَمَّا فَرَغَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ أَمْرِ مَيَّافَارِقِينَ، وَأَحْكَمَ قَوَاعِدَهَا، وَقَرَّرَ إِقْطَاعَاتِهَا وَوِلَايَاتِهَا فَوَصَلَ إِلَى كَفْرِ زَمَّارٍ، أَجْمَعَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَسَارَ نَحْوَهَا، وَجَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى نَصِيبِينِ، فَوَصَلَ إِلَى كَفْرِ زَمَّارٍ، وَالزَّمَانُ شِتَاءٌ. فَنَزَلَهَا فِي عَسَاكِرِهِ، وَعَزَمَ عَلَى الْمُقَامِ بِهَا وَإِقْطَاعِ جَمِيعِ بِلَادِ الْمَوْصِلِ، وَأَخْذِ غِلَالِهَا وَدَخْلِهَا، وَإِضْعَافِ الْمَوْصِلِ بِذَلِكَ، إِذْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّغَلُّبُ عَلَيْهَا، وَكَانَ نُزُولُهُ فِي شَعْبَانَ، وَأَقَامَ بِهَا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِزِّ الدِّينِ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَصَارَ مُجَاهِدُ الدِّينِ يُرَاسِلُ وَيَتَقَرَّبُ،

وَكَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا عِنْدَ سَائِرِ الْمُلُوكِ لِمَا عَلِمُوا مِنْ صِحَّتِهِ. فَبَيْنَمَا الرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ فِي الصُّلْحِ، إِذْ مَرِضَ صَلَاحُ الدِّينِ، وَسَارَ مَنْ كَفْرِ زَمَّارٍ عَائِدًا إِلَى حَرَّانَ، فَلَحِقَهُ الرُّسُلُ بِالْإِجَابَةِ إِلَى مَا طَلَبَ، فَتَقَرَّرَ الصُّلْحُ، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْقَاعِدَةُ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ عِزُّ الدِّينِ شَهْرَزُورُ وَأَعْمَالَهَا وَوِلَايَةَ الْقَرَابْلِيِّ، وَجَمِيعَ مَا وَرَاءَ الزَّابِّ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَأَنْ يُخْطَبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ بِلَادِهِ، وَيُضْرَبَ اسْمُهُ عَلَى السِّكَّةِ، فَلَمَّا حَلَفَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ فَحَلَفَ عِزُّ الدِّينِ لَهُ، وَتَسَلَّمُوا الْبِلَادَ الَّتِي اسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَى تَسْمِيَتِهَا. وَوَصَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى حَرَّانَ، فَأَقَامَ بِهَا مَرِيضًا، وَأَمِنَتِ الدُّنْيَا، وَسَكَنَتِ الدَّهْمَاءُ، وَانْحَسَمَتْ مَادَّةُ الْفِتَنِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِتَوَصُّلِ مُجَاهِدِ الدِّينِ قَايْمَازْ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَأَمَّا صَلَاحُ الدِّينِ فَإِنَّهُ طَالَ مَرَضُهُ بِحَرَّانَ، وَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِهِ أَخُوهُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ، وَلَهُ حِينَئِذٍ حَلَبُ، وَوَلَدُهُ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ عُثْمَانُ، وَاشْتَدَّ مَرَضُهُ حَتَّى أَيِسُوا مِنْ عَافِيَتِهِ، فَحَلَفَ النَّاسُ لِأَوْلَادِهِ، وَجَعَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنَ الْبِلَادِ مَعْلُومًا، وَجَعَلَ أَخَاهُ الْعَادِلَ وَصِيًّا عَلَى الْجَمِيعِ، ثُمَّ إِنَّهُ عُوفِيَ وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَلَمَّا كَانَ مَرِيضًا بِحَرَّانَ كَانَ عِنْدَهُ ابْنُ عَمِّهِ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ شِيرِكُوهُ، وَلَهُ مِنَ الْأَقْطَاعِ حِمْصُ وَالرَّحْبَةُ، فَسَارَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى حِمْصَ، فَاجْتَازَ بِحَلَبَ وَأَحْضَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَحْدَاثِهَا وَأَعْطَاهُمْ مَالًا، وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى حِمْصَ رَاسَلَ جَمَاعَةً مِنَ الدِّمَشْقِيِّينَ وَوَاعَدَهُمْ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَلَدِ إِلَيْهِ إِذَا مَاتَ صَلَاحُ الدِّينِ، وَأَقَامَ بِحِمْصَ يَنْتَظَرُ مَوْتَهُ لِيَسِيرَ إِلَى دِمَشْقَ فَيَمْلِكَهَا، فَعُوفِيَ وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ عَلَى جِهَتِهِ. فَلَمْ يَمْضِ غَيْرُ قَلِيلٍ حَتَّى مَاتَ ابْنُ شِيرِكُوهُ لَيْلَةَ عِيدِ الْأَضْحَى فَإِنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ وَأَكْثَرَ مِنْهَا، فَأَصْبَحَ مَيِّتًا، فَذَكَرُوا، وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِمْ، أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ وَضَعَ عَلَيْهِ إِنْسَانًا يُقَالُ لَهُ النَّاصِحُ بْنُ الْعَمِيدِ، وَهُوَ مِنْ دِمَشْقَ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَنَادَمَهُ وَسَقَاهُ سُمًّا. فَلَمَّا أَصْبَحُوا مِنَ الْغَدِ لَمْ يَرَوُا النَّاصِحَ، فَسَأَلُوا عَنْهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ سَارَ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا قَوَّى الظَّنَّ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَعْطَى أَقْطَاعَهُ لِوَلَدِهِ شِيرِكُوهُ، وَعُمُرُهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَخَلَّفَ نَاصِرَ الدِّينِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْخَيْلِ وَالْآلَاتِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَحَضَرَ صَلَاحُ الدِّينِ فِي حِمْصَ وَاسْتَعْرَضَ تَرِكَتَهُ، وَأَخَذَ أَكْثَرَهَا وَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا مَا لَا خَيْرَ فِيهِ.

وَبَلَغَنِي أَنَّ شِيرِكُوهُ بْنَ نَاصِرِ الدِّينِ حَضَرَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ، بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ بِسَنَةٍ، فَقَالَ لَهُ: إِلَى أَيْنَ بَلَغْتَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] فَعَجِبَ صَلَاحُ الدِّينِ وَالْحَاضِرُونَ مِنْ ذَكَائِهِ. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ التُّرْكُمَانِ، وَالْأَكْرَادِ بِدِيَارِ الْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ابْتَدَأَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ التُّرْكُمَانِ وَالْأَكْرَادِ بِدِيَارِ الْجَزِيرَةِ، وَالْمَوْصِلِ، وَدِيَارِ بَكْرٍ، وَخِلَاطَ، وَالشَّامِ، وَشَهْرَزُورَ، وَأَذْرَبِيجَانَ،، وَقُتِلَ فِيهَا مِنَ الْخَلْقِ مَا لَا يُحْصَى، وَدَامَتْ عِدَّةَ سِنِينَ، وَتَقَطَّعَتِ الطُّرُقُ، وَنُهِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَأُرِيقَتِ الدِّمَاءُ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ امْرَأَةً مِنَ التُّرْكُمَانِ تَزَوَّجَتْ بِإِنْسَانٍ تُرْكُمَانِيٍّ، وَاجْتَازُوا فِي طَرِيقِهِمْ بِقَلْعَةٍ مِنَ الزَّوْزَانِ لِلْأَكْرَادِ، فَجَاءَ أَهْلُهَا وَطَلَبُوا مِنَ التُّرْكُمَانِ وَلِيمَةَ الْعُرْسِ، فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ كَلَامٌ صَارُوا مِنْهُ إِلَى الْقِتَالِ، فَنَزَلَ صَاحِبُ تِلْكَ الْقَلْعَةِ فَأَخَذَ الزَّوْجَ فَقَتَلَهُ، فَهَاجَتِ الْفِتْنَةُ، وَقَامَ التُّرْكُمَانُ عَلَى سَاقٍ، وَقَتَلُوا جَمْعًا كَثِيرًا مِنَ الْأَكْرَادِ، وَثَارَ الْأَكْرَادُ فَقَتَلُوا مِنَ التُّرْكُمَانِ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَتَفَاقَمَ الشَّرُّ وَدَامَ. ثُمَّ إِنَّ مُجَاهِدَ الدِّينِ قَايْمَازْ، رَحِمَهُ اللَّهُ، جَمَعَ عِنْدِهِ جَمْعًا مِنْ رُؤَسَاءِ الْأَكْرَادِ وَالتُّرْكُمَانِ، وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، وَأَعْطَاهُمُ الْخِلَعَ وَالثِّيَابَ وَغَيْرَهَا، وَأَخْرَجَ عَلَيْهِمْ مَالًا جَمًّا، فَانْقَطَعَتِ الْفِتْنَةُ وَكَفَى اللَّهُ شَرَّهَا، وَعَادَ النَّاسُ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ وَالْأَمَانِ. ذِكْرُ مُلْكِ الْمُلَثَّمِينَ وَالْعَرَبِ إِفْرِيقِيَةَ وَعَوْدِهَا إِلَى الْمُوَحِّدِينَ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ ثَمَانِينَ مُلْكَ عَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ الْمُلَثَّمِ بِجَايَةَ، وَإِرْسَالَ يَعْقُوبَ بْنِ

يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، صَاحِبِ الْمَغْرِبِ، الْعَسَاكِرَ وَاسْتِعَادَتَهَا، فَسَارَ عَلِيٌّ إِلَى إِفْرِيقِيَةَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا اجْتَمَعَ سُلَيْمٌ وَرِيَاحٌ وَمَنْ هُنَاكَ مِنَ الْعَرَبِ، وَانْضَافَ إِلَيْهِمُ التُّرْكُ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا مِنْ مِصْرَ مَعَ قَرَاقُوشَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وُصُولِهِ إِلَيْهَا. وَدَخَلَ أَيْضًا مِنْ أَتْرَاكِ مِصْرَ مَمْلُوكٌ لِتَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ، اسْمُهُ بَوَزَّابَةُ، فَكَثُرَ جَمْعُهُمْ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ مَبْلَغًا كَثِيرًا وَكُلُّهُمْ كَارِهٌ لِدَوْلَةِ الْمُوَحِّدِينَ. وَاتَّبَعُوا جَمِيعُهُمْ عَلِيَّ بْنَ إِسْحَاقَ الْمُلَثَّمَ، لِأَنَّهُ مِنْ بَيْتِ الْمَمْلَكَةِ وَالرِّيَاسَةِ الْقَدِيمَةِ، وَانْقَادُوا إِلَيْهِ، وَلَقَّبُوهُ بِأَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَصَدُوا بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ فَمَلَكُوهَا جَمِيعَهَا شَرْقًا وَغَرْبًا إِلَّا مَدِينَتَيْ تُونُسَ وَالْمَهْدِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُوَحِّدِينَ أَقَامُوا بِهِمَا، وَحَفِظُوهُمَا عَلَى خَوْفٍ وَضِيقٍ وَشِدَّةٍ. وَانْضَافَ إِلَى الْمُفْسِدِ الْمُلَثَّمِ كُلُّ مُفْسِدٍ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ، وَمَنْ يُرِيدُ الْفِتْنَةَ وَالنَّهْبَ وَالْفَسَادَ وَالشَّرَّ، فَخَرَّبُوا الْبِلَادَ وَالْحُصُونَ وَالْقُرَى، وَهَتَكُوا الْحُرُمَ، وَقَطَّعُوا الْأَشْجَارَ. وَكَانَ الْوَالِي عَلَى إِفْرِيقِيَةَ حِينَئِذٍ عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْهِنْتَانِيُّ وَهُوَ بِمَدِينَةِ تُونُسَ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلِكِ الْمَغْرِبِ يَعْقُوبَ وَهُوَ بِمَرَّاكُشَ يُعْلِمُهُ الْحَالَ، وَقَصَدَ الْمُلَثَّمُ جَزِيرَةَ بَاشَرَا، وَهِيَ بِقُرْبِ تُونُسَ، تَشْتَمِلُ عَلَى قُرًى كَثِيرَةٍ، فَنَازَلَهَا وَأَحَاطَ بِهَا، فَطَلَبَ أَهْلُهَا مِنْهُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ. فَلَمَّا دَخَلَهَا الْعَسْكَرُ نَهَبُوا جَمِيعَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالدَّوَابِّ وَالْغَلَّاتِ، وَسَلَبُوا النَّاسَ حَتَّى أَخَذُوا ثِيَابَهُمْ، وَامْتَدَّتِ الْأَيْدِي إِلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَتَرَكُوهُمْ هَلْكَى، فَقَصَدُوا مَدِينَةَ تُونُسَ، فَأَمَّا الْأَقْوِيَاءُ فَكَانُوا يَخْدُمُونَ وَيَعْمَلُونَ مَا يَقُومُ بِقُوَّتِهِمْ، وَأَمَّا الضُّعَفَاءُ فَكَانُوا يَسْتَعْطُونَ وَيَسْأَلُونَ النَّاسَ، وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصْلُ الشِّتَاءِ، فَأَهْلَكَهُمُ الْبَرْدُ، وَوَقَعَ فِيهِمُ الْوَبَاءُ فَأُحْصِيَ الْمَوْتَى مِنْهُمْ فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، هَذَا مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَمَا الظَّنُّ بِالْبَاقِي؟ وَلَمَّا اسْتَوْلَى الْمُلَثَّمُ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ قَطَعَ خُطْبَةَ أَوْلَادِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَخَطَبَ لِلْإِمَامِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ الْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَطْلُبُ الْخِلَعَ وَالْأَعْلَامَ السُّودَ. وَقَصَدَ

فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] مَدِينَةَ قَفْصَةَ فَحَصَرَهَا، فَأَخْرَجَ أَهْلَهَا الْمُوَحِّدِينَ مِنْ عَسَاكِرِ وَلَدِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَسَلَّمُوهَا إِلَى الْمُلَثَّمِ، فَرَتَّبَ فِيهَا جُنْدًا مِنَ الْمُلَثَّمِينَ وَالْأَتْرَاكِ، وَحَصَّنَهَا بِالرِّجَالِ مَعَ حَصَانَتِهَا فِي الْبِنَاءِ. وَأَمَّا يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَهُ الْخَبَرُ اخْتَارَ مِنْ عَسَاكِرِهِ عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَقَصَدَ قِلَّةَ الْعَسْكَرِ لِقِلَّةِ الْقُوتِ فِي الْبِلَادِ، وَلِمَا جَرَى فِيهَا مِنَ التَّخْرِيبِ وَالْأَذَى، وَسَارَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَوَصَلَ إِلَى مَدِينَةِ تُونُسَ، وَأَرْسَلَ سِتَّةَ آلَافِ فَارِسٍ مَعَ ابْنِ أَخِيهِ، فَسَارُوا إِلَى عَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ الْمُلَثَّمِ لِيُقَاتِلُوهُ، وَكَانَ بِقَفْصَةَ، فَوَافَوْهُ، وَكَانَ مَعَ الْمُوَحِّدِينَ جَمَاعَةٌ مِنَ التُّرْكِ، فَخَامَرُوا عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَ الْمُوَحِّدُونَ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُقَدَّمِيهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ. فَلَمَّا بَلَغَ يَعْقُوبَ الْخَبَرُ أَقَامَ بِمَدِينَةِ تُونُسَ إِلَى نِصْفِ رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ، ثُمَّ خَرَجَ فَيَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ يَطْلُبُ الْمُلَثَّمَ وَالْأَتْرَاكَ، فَوَصَلَ إِلَيْهِمْ، فَالْتَقَوْا بِالْقُرْبِ مِنْ مَدِينَةِ قَابِسٍ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الْمُلَثَّمُ وَمَنْ مَعَهُ، فَأَكْثَرَ الْمُوَحِّدُونَ الْقَتْلَ حَتَّى كَادُوا يُفْنُونَهُمْ، فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَقَصَدُوا الْبَرَّ. وَرَجَعَ يَعْقُوبُ مِنْ يَوْمِهِ إِلَى قَابِسٍ فَفَتَحَهَا، وَأَخَذَ مِنْهَا قَرَاقُوشَ وَأَوْلَادَهُ وَحَمَلَهُمْ إِلَى مَرَّاكُشَ، وَتَوَجَّهَ إِلَى مَدِينَةِ قَفْصَةَ فَحَصَرَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقَطَّعَ أَشْجَارَهَا، وَخَرَّبَ مَا حَوْلَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ التُّرْكُ الَّذِينَ فِيهَا يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَهْلِ الْبَلَدِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ. وَخَرَجَ الْأَتْرَاكُ مِنْهَا سَالِمِينَ، وَسَيَّرَ الْأَتْرَاكَ إِلَى الثُّغُورِ لِمَا رَأَى مِنْ شَجَاعَتِهِمْ وَنِكَايَتِهِمْ فِي الْعَدُوِّ، وَتَسَلَّمَ يَعْقُوبُ الْبَلَدَ، وَقَتَلَ مَنْ فِيهِ مِنَ الْمُلَثَّمِينَ، وَهَدَمَ أَسْوَارَهُ، وَتَرَكَ الْمَدِينَةِ مِثْلَ قَرْيَةٍ، وَظَهَرَ مَا أَنْذَرَ بِهِ الْمَهْدِيُّ بْنُ تُومَرْتَ، فَإِنَّهُ قَالَ إِنَّهَا تُخَرَّبُ أَسْوَارُهَا وَتُقَطَّعُ أَشْجَارُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ. فَلَمَّا فَرَغَ يَعْقُوبُ مِنْ أَمْرِ قَفْصَةَ، وَاسْتَقَامَتْ إِفْرِيقِيَّةُ عَادَ إِلَى مَرَّاكُشَ، وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَيْهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَارَقَ الرَّضِيُّ أَبُو الْخَيْرِ إِسْمَاعِيلُ الْقَزْوِينِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ بَغْدَادَ،

وَكَانَ مُدَرِّسَ النِّظَامِيَّةِ بِهَا، وَعَادَ إِلَى قَزْوِينَ، وَدَرَسَ فِيهَا بَعْدَهُ الشَّيْخُ أَبُو طَالِبٍ الْمُبَارَكُ صَاحِبُ ابْنِ الْخَلِّ، وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ. وَفِيهَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ بِبَغْدَادَ وَبَيْنَ أَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ جُرِحَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَقُتِلَ، ثُمَّ أَصْلَحَ النَّقِيبُ الظَّاهِرُ بَيْنَهُمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْفَقِيهُ مُهَذَّبُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَسْعَدَ الْمَوْصِلِيُّ، وَكَانَ عَالِمًا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَلَهُ نَظْمٌ حَسَنٌ وَنَثْرٌ أَجَادَ فِيهِ، وَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الدُّنْيَا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِحِمْصَ.

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَة] 582 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ نَقْلِ الْعَادِلِ مِنْ حَلَبَ، وَالْمَلِكِ الْعَزِيزِ إِلَى مِصْرَ، وَإِخْرَاجِ الْأَفْضَلِ مِنْ مِصْرَ إِلَى دِمَشْقَ وَإِقْطَاعِهِ إِيَّاهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخْرَجَ صَلَاحُ الدِّينِ وَلَدَهُ الْأَفْضَلَ عَلِيًّا مِنْ مِصْرَ إِلَى دِمَشْقَ، وَأَقْطَعَهَا لَهُ، وَأَخَذَ حَلَبَ مِنْ أَخِيهِ الْعَادِلِ، وَسَيَّرَهُ مَعَ وَلَدِهِ الْعَزِيزِ عُثْمَانَ إِلَى مِصْرَ، وَجَعَلَهُ نَائِبًا عَنْهُ، وَاسْتَدْعَى تَقِيَّ الدِّينِ مِنْهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدِ اسْتَنَابَ تَقِيَّ الدِّينِ بِمِصْرَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَجَعَلَ مَعَهُ وَلَدَهُ الْأَكْبَرَ الْأَفْضَلَ عَلِيًّا، فَأَرْسَلَ تَقِيُّ الدِّينِ يَشْكُو مِنَ الْأَفْضَلِ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ قَدْ عَجَزَ عَنْ جِبَايَةِ الْخَرَاجِ مَعَهُ لِأَنَّهُ كَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا إِذَا أَرَادَ تَقِيُّ الدِّينِ مُعَاقَبَةَ أَحَدٍ مَنَعَهُ. فَأَحْضَرَ وَلَدَهُ الْأَفْضَلَ، وَقَالَ لِتَقِيِّ الدِّينِ: لَا تَحْتَجَّ فِي الْخَرَاجِ وَغَيْرِهِ بِحُجَّةٍ، وَتَغَيَّرَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ إِخْرَاجَ وَلَدِهِ الْأَفْضَلِ لِيَنْفَرِدَ بِمِصْرَ حَتَّى يَمْلَكَهَا إِذَا مَاتَ صَلَاحُ الدِّينِ. فَلَمَّا قَوِيَ هَذَا الْخَاطِرُ عِنْدَهُ أَحْضَرَ أَخَاهُ الْعَادِلَ مِنْ حَلَبَ وَسَيَّرَهُ إِلَى مِصْرَ وَمَعَهُ وَلَدُهُ الْعَزِيزُ عُثْمَانُ، وَاسْتَدْعَى تَقِيَّ الدِّينِ إِلَى الشَّامِ، فَامْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ، وَجَمَعَ الْأَجْنَادَ وَالْعَسَاكِرَ لِيَسِيرَ إِلَى الْمَغْرِبِ، إِلَى مَمْلُوكِهِ قَرَاقُوشَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى جِبَالِ نَفُوسَةَ وَبَرْقَةَ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ يُرَغِّبُهُ فِي تِلْكَ [الْبِلَادِ] ، فَتَجَهَّزَ لِلْمَسِيرِ إِلَيْهِ وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ أَجْنَادَ الْعَسْكَرِ وَأَكْثَرَ مِنْهُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ صَلَاحُ الدِّينِ سَاءَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَمْنَعُهُ لَمْ يُجِبْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: أُرِيدُ أَنْ تَحْضُرَ عِنْدِي لِأُوَدِّعَكَ، وَأُوصِيَكَ بِمَا تَفْعَلُهُ، فَلَمَّا حَضَرَ

عِنْدَهُ مَنَعَهُ، وَزَادَ فِي إِقْطَاعِهِ، فَصَارَ إِقْطَاعُهُ حَمَاةَ، وَمَنْبَجَ، وَالْمَعَرَّةَ، وَكَفْرَ طَابَ، وَمَيَّافَارِقِينَ، وَجَبَلَ جَوْرٍ، بِجَمِيعِ أَعْمَالِهَا. وَكَانَ تَقِيُّ الدِّينِ قَدْ سَيَّرَ فِي مُقَدِّمَتِهِ مَمْلُوكَهُ بِوَزَّابَةَ، فَاتَّصَلَ بِقَرَاقُوشَ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَقَدْ بَلَغَنِي مِنْ خَبِيرٍ بِأَحْوَالِ صَلَاحِ الدِّينِ أَنَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى أَخْذِ حَلَبَ مِنَ الْعَادِلِ، وَإِعَادَةِ تَقِيِّ الدِّينِ إِلَى الشَّامِ، أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ لَمَّا مَرِضَ بِحَرَّانَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، أُرْجِفَ بِمِصْرَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ. فَجَرَى مِنْ تَقِيِّ الدِّينِ حَرَكَاتُ مَنْ يُرِيدُ [أَنَّ] يَسْتَبِدَّ بِالْمُلْكِ، فَلَمَّا عُوفِيَ صَلَاحُ الدِّينِ بَلَغَهُ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ الْفَقِيهَ عِيسَى الْهَكَّارِيَّ، وَكَانَ كَبِيرَ الْقَدْرِ عِنْدَهُ، مُطَاعًا فِي الْجُنْدِ، إِلَى مِصْرَ، وَأَمَرَهُ بِإِخْرَاجِ تَقِيِّ الدِّينِ وَالْمَقَامِ بِمِصْرَ. فَسَارَ مُجِدًّا، فَلَمْ يَشْعُرْ تَقِيُّ الدِّينِ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَ الْفَقِيهُ عِيسَى إِلَى دَارِهِ بِالْقَاهِرَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا، فَطَلَبَ أَنْ يُمْهَلَ إِلَى أَنْ يَتَجَهَّزَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: تُقِيمُ خَارِجَ [الْمَدِينَةِ] وَتَتَجَهَّزُ. فَخَرَجَ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الدُّخُولَ إِلَى الْغَرْبِ، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ، فَلَمَّا سَمِعَ صَلَاحُ الدِّينِ الْخَبَرَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَطْلُبُهُ، فَسَارَ إِلَى الشَّامِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ لِأَنَّهُ كَانَ حَلِيمًا، كَرِيمًا صَبُورًا، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَأَمَّا أَخْذُ حَلَبَ مِنَ الْعَادِلِ، فَإِنَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ جُنْدِهَا أَمِيرٌ كَبِيرٌ اسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ جَنْدَرٍ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاحِ الدِّينِ صُحْبَةٌ قَدِيمَةٌ، قَبْلَ الْمُلْكِ. وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَكَانَ عَاقِلًا ذَا مَكْرٍ وَدَهَاءٍ، فَاتُّفِقَ أَنَّ الْمَلِكَ الْعَادِلَ لَمَّا كَانَ بِحَلَبَ لَمْ يَفْعَلْ مَعَهُ مَا كَانَ يَظُنُّهُ، وَقَدَّمَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ، فَتَأَثَّرَ بِذَلِكَ. فَلَمَّا مَرِضَ صَلَاحُ الدِّينِ، وَعُوفِيَ، سَارَ إِلَى الشَّامِ، فَسَايَرَهُ يَوْمًا سُلَيْمَانُ بْنُ جَنْدَرٍ، فَجَرَى حَدِيثُ مَرَضِهِ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: بِأَيِّ رَأْيٍ كُنْتَ تَظُنُّ أَنَّكَ تَمْضِي إِلَى الصَّيْدِ فَلَا يُخَالِفُونَكَ؟ بِاللَّهِ مَا تَسْتَحِي يَكُونُ الطَّائِرُ أَهْدَى مِنْكَ إِلَى الْمَصْلَحَةِ؟ ! قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ وَهُوَ يَضْحَكُ. قَالَ: إِذَا أَرَادَ الطَّائِرُ أَنْ يَعْمَلَ عُشًّا لِفِرَاخِهِ قَصَدَ أَعَالِيَ الشَّجَرِ لِيَحْمِيَ فِرَاخَهُ، وَأَنْتَ سَلَّمْتَ الْحُصُونَ إِلَى أَهْلِكَ، وَجَعَلْتَ أَوْلَادَكَ عَلَى الْأَرْضِ. هَذِهِ حَلَبُ بِيَدِ أَخِيكَ وَحَمَاةُ بِيَدِ تَقِيِّ الدِّينِ، وَحِمْصُ بِيَدِ ابْنِ شِيرِكُوهُ، وَابْنُكَ الْعَزِيزُ مَعَ تَقِيِّ الدِّينِ بِمِصْرَ يُخْرِجُهُ أَيَّ وَقْتٍ أَرَادَ، وَهَذَا ابْنُكَ الْآخَرُ مَعَ أَخِيكَ فِي خَيْمَةٍ يَفْعَلُ بِهِ مَا أَرَادَ. فَقَالَ لَهُ صَدَقْتَ، وَاكْتُمْ هَذَا الْأَمْرَ، ثُمَّ أَخَذَ حَلَبَ مِنْ أَخِيهِ، وَأَخْرَجَ تَقِيَّ الدِّينِ مِنْ مِصْرَ، ثُمَّ أَعْطَى أَخَاهُ الْعَادِلَ حَرَّانَ وَالرُّهَا وَمَيَّافَارِقِينَ لِيُخْرِجَهُ مِنَ الشَّامِ وَمِصْرَ، لِتَبْقَى لِأَوْلَادِهِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ مَا فَعَلَ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى نَقْلَ

الْمُلْكِ عَنْ أَوْلَادِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْبَهْلَوَانِ وَمُلْكِ أَخِيهِ قُزَلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي أَوَّلِهَا، تُوُفِّيَ الْبَهْلَوَانُ مُحَمَّدُ بْنُ إِيلْدِكْزَ، صَاحِبُ بَلَدِ الْجَبَلِ وَالرَّيِّ وَأَصْفَهَانَ وَأَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانِيَّةَ وَغَيْرِهَا مِنِ الْبِلَادِ، وَكَانَ عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، عَاقِلًا، حَلِيمًا، ذَا سِيَاسَةٍ حَسَنَةٍ لِلْمُلْكِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْبِلَادُ فِي أَيَّامِهِ آمِنَةً وَالرَّعَايَا مُطَمْئِنَةً. فَلَمَّا مَاتَ جَرَى بِأَصْفَهَانَ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْحُرُوبِ وَالْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ وَالنَّهْبِ مَا يَجِلُّ عَنِ الْوَصْفِ، وَكَانَ قَاضِي الْبَلَدِ رَأْسَ الْحَنَفِيَّةِ، وَابْنُ الْخُجَنْدِيِّ رَأْسَ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَانَ بِمَدِينَةِ الرَّيِّ أَيْضًا فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ، وَتَفَرَّقَ أَهْلُهَا، وَقُتِلَ مِنْهُمْ، وَخُرِّبَتِ الْمَدِينَةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْبِلَادِ. وَلَمَّا مَاتَ الْبَهْلَوَانُ مَلَكَ أَخُوهُ قُزَل أَرْسَلَانَ وَاسْمُهُ عُثْمَانُ، وَكَانَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْ بْنُ أَرْسِلَانَ بْنِ طُغْرُلْ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهَ مَعَ الْبَهْلَوَانِ، وَالْخُطْبَةُ لَهُ فِي الْبِلَادِ بِالسَّلْطَنَةِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا الْبِلَادُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْأَمْوَالُ بِحُكْمِ الْبَهْلَوَانِ. فَلَمَّا مَاتَ الْبَهْلَوَانُ خَرَجَ طُغْرُلْ عَنْ حُكْمِ قُزَلَ، وَلَحِقَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْجُنْدِ، فَاسْتَوْلَى عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ، وَجَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُزَلَ حُرُوبٌ نَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ، وَانْحِيَازِ الْقُمُّصُ صَاحِبُ طَرَابُلُسَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ] كَانَ الْقُمُّصُ، صَاحِبُ طَرَابُلُسَ، وَاسْمُهُ رِيمَنْدُ بْنُ رِيمَنْدَ الصَّنْجَيْلِيُّ، قَدْ تَزَوَّجَ بِالْقُومَصَةِ، صَاحِبَةِ طَبَرِيَّةَ، وَانْتَقَلَ إِلَيْهَا، وَأَقَامَ عِنْدَهَا بِطَبَرِيَّةَ. وَمَاتَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ، وَكَانَ مَجْذُومًا، وَأَوْصَى بِالْمُلْكِ إِلَى ابْنِ أُخْتٍ لَهُ، وَكَانَ صَغِيرًا، فَكَفَلَهُ الْقُمُّصُ، وَقَامَ بِسِيَاسَةِ الْمُلْكِ وَتَدْبِيرِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْفِرِنْجِ ذَلِكَ الْوَقْتَ أَكْبَرُ مِنْهُ شَأْنًا، وَلَا أَشْجَعُ رَأْيًا مِنْهُ، فَطَمِعَ فِي الْمُلْكِ بِسَبَبِ هَذَا الصَّغِيرِ، فَاتُّفِقَ أَنَّ الصَّغِيرَ تُوُفِّيَ، فَانْتَقَلَ الْمُلْكُ إِلَى أُمِّهِ، فَبَطَلَ مَا كَانَ الْقُمُّصُ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ [بِهِ] .

ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمَلِكَةَ هَوِيَتْ رَجُلًا مِنَ الْفِرِنْجِ الَّذِينَ قَدِمُوا الشَّامَ مِنَ الْغَرْبِ اسْمُهُ كِي، فَتَزَوَّجَتْهُ، وَنَقَلَتِ الْمُلْكَ إِلَيْهِ، وَجَعَلَتِ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَحْضَرَتِ الْبَطْرَكَ، وَالْقُسُوسَ، وَالرُّهْبَانَ، وَالِاسْبِتَارِيَّةَ، وَالدَّاوِيَّةَ، وَالْبَارُونِيَّةَ، وَأَعْلَمَتْهُمْ أَنَّهَا قَدْ رَدَّتِ الْمُلْكَ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدَتْهُمْ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، فَأَطَاعُوهُ، وَدَانُوا لَهُ. فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْقُمُّصِ، وَسُقِطَ فِي يَدَيْهِ، وَطُولِبَ بِحِسَابِ مَا جَبَى مِنَ الْأَمْوَالِ مُدَّةَ وِلَايَةِ ذَلِكَ الصَّبِيِّ، فَادَّعَى أَنَّهُ أَنْفَقَهُ عَلَيْهِ، وَزَادَهُ ذَلِكَ نُفُورًا، وَجَاهَرَ بِالْمُشَاقَّةِ وَالْمُبَايَنَةِ، وَرَاسَلَ صَلَاحَ الدِّينِ، وَانْتَمَى إِلَيْهِ، وَاعْتَضَدَ بِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْمُسَاعَدَةَ عَلَى بُلُوغِ غَرَضِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ. فَفَرِحَ صَلَاحُ الدِّينِ وَالْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَوَعَدَهُ النُّصْرَةَ، وَالسَّعْيَ لَهُ فِي كُلِّ مَا يُرِيدُ، وَضَمِنَ لَهُ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ مَلِكًا مُسْتَقِلًّا لِلْفِرِنْجِ قَاطِبَةً، وَكَانَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ فُرْسَانِ الْقُمُّصِ أَسْرَى فَأَطْلَقَهُمْ. فَحَلَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَعْظَمَ مَحَلٍّ، وَأَظْهَرَ طَاعَةَ صَلَاحِ الدِّينِ، وَوَافَقَهُ عَلَى مَا فَعَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَاخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ وَتَفَرَّقَ شَمْلُهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِفَتْحِ بِلَادِهِمْ، وَاسْتِنْقَاذِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ مِنْهُمْ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَسَيَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ السَّرَايَا نَاحِيَةَ طَبَرِيَّةَ، فَشَنَّتِ الْغَارَاتِ عَلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ، وَخَرَجَتْ سَالِمَةً غَانِمَةً، فَوَهَنَ الْفِرِنْجُ بِذَلِكَ، وَضَعُفُوا وَتَجَرَّأَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَطَمِعُوا فِيهِمْ. ذِكْرُ غَدْرِ الْبِرِنْسِ أَرْنَاطَ كَانَ الْبِرِنْسُ أَرْنَاطُ، صَاحِبُ الْكَرَكِ، مِنْ أَعْظَمِ الْفِرِنْجِ وَأَخْبَثِهِمْ، وَأَشَدِّهِمْ عَدَاوَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَعْظَمِهِمْ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ ذَلِكَ مِنْهُ قَصَدَهُ بِالْحَصْرِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَبِالْغَارَةِ عَلَى بِلَادِهِ كَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَذَلَّ، وَخَضَعَ، وَطَلَبَ الصُّلْحَ مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَهَادَنَهُ وَتَحَالَفَا، وَتَرَدَّدَتِ الْقَوَافِلُ مِنَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ، وَمِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ. فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ اجْتَازَ بِهِ قَافِلَةٌ عَظِيمَةٌ غَزِيرَةُ الْأَمْوَالِ، كَثِيرَةُ الرِّجَالِ، وَمَعَهَا جَمَاعَةٌ صَالِحَةٌ مِنَ الْأَجْنَادِ، فَغَدَرَ اللَّعِينُ بِهِمْ، وَأَخَذَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ

وَدَوَابَّهُمْ وَسِلَاحَهُمْ، وَأَوْدَعَ السُّجُونَ مَنْ أَسْرَهُ مِنْهُمْ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ صَلَاحُ الدِّينِ يَلُومُهُ، وَيُقَبِّحُ فِعْلَهُ وَغَدْرَهُ، وَيَتَهَدَّدُهُ إِنْ لَمْ يُطْلِقِ الْأَسْرَى وَالْأَمْوَالَ، فَلَمْ يُجِبْ إِلَى ذَلِكَ، وَأَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَنَذَرَ صَلَاحُ الدِّينِ نَذْرًا أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ ظَفَرَ [بِهِ] ، فَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ كَانَ الْمُنَجِّمُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا قَدْ حَكَمُوا أَنَّ هَذِهِ السَّنَةَ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ تَجْتَمِعُ الْكَوَاكِبُ الْخَمْسَةُ فِي بُرْجِ الْمِيزَانِ، وَيَحْدُثُ بِاقْتِرَانِهَا رِيَاحٌ شَدِيدَةٌ، وَتُرَابٌ يُهْلِكُ الْعِبَادَ وَيُخَرِّبُ الْبِلَادَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ هَذِهِ السَّنَةُ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ صِحَّةٌ، وَلَمْ يَهُبَّ مِنَ الرِّيَاحِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، حَتَّى إِنَّ غِلَالَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ تَأَخَّرَ نَجَازُهَا لِعَدَمِ الْهَوَاءِ الَّذِي يَذْرِي بِهِ الْفَلَّاحُونَ، فَأَكْذَبَ اللَّهُ أُحْدُوثَةَ الْمُنَجِّمِينَ وَأَخْزَاهُمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرِّيِّ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ بَرِّيٍّ النَّحْوِيُّ الْمِصْرِيُّ، وَكَانَ إِمَامًا فِي النَّحْوِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 583 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ اتُّفِقَ أَوَّلُ هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَهُوَ يَوْمُ النَّوْرُوزِ السُّلْطَانِيِّ، وَرَابِعَ عَشَرَ آذَارَ سَنَةَ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَثَمَانٍ وَتِسْعِينَ إِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَكَانَ الْقَمَرُ وَالشَّمْسُ فِي الْحَمَلِ، وَاتَّفَقَ أَوَّلُ سَنَةِ الْعَرَبِ، وَأَوَّلُ سَنَةِ الْفُرْسِ الَّتِي جَدَّدُوهَا أَخِيرًا، وَأَوَّلُ سَنَةِ الرُّومِ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي أَوَّلِ الْبُرُوجِ، وَهَذَا يَبْعُدُ وُقُوعُ مِثْلِهِ. ذِكْرُ حَصْرِ صَلَاحِ الدِّينِ الْكَرَكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى جَمِيعِ الْبِلَادِ يَسْتَنْفِرُ النَّاسَ لِلْجِهَادِ، وَكَتَبَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ وَإِرْبِلَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الشَّرْقِ، وَإِلَى مِصْرَ وَسَائِرِ بِلَادِ الشَّامِ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجِهَادِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَيْهِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّجَهُّزِ لَهُ بِغَايَةِ الْإِمْكَانِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ، أَوَاخِرَ الْمُحَرَّمِ، فِي عَسْكَرِهَا الْخَاصِّ، فَسَارَ إِلَى رَأْسِ الْمَاءِ، وَتَلَاحَقَتْ بِهِ الْعَسَاكِرُ الشَّامِيَّةُ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَعَلَ عَلَيْهِمْ وَلَدَهُ الْمَلِكَ الْأَفْضَلَ عَلِيًّا لِيَجْتَمِعَ إِلَيْهِ مَنْ يَرِدُ إِلَيْهِ مِنْهَا، وَسَارَ هُوَ إِلَى بُصْرَى، جَرِيدَةً. وَكَانَ سَبَبُ مَسِيرِهِ وَقَصْدِهِ إِلَيْهَا أَنَّهُ أَتَتْهُ الْأَخْبَارُ أَنَّ الْبِرِنْسَ أَرْنَاطَ، صَاحِبَ الْكَرَكِ، يُرِيدُ أَنْ يَقْصِدَ الْحُجَّاجَ لِيَأْخُذَهُمْ مِنْ طَرِيقِهِمْ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ إِذَا فَرَغَ مِنْ أَخْذِ الْحُجَّاجِ يَرْجِعُ إِلَى طَرِيقِ الْعَسْكَرِ الْمِصْرِيِّ يَصُدُّهُمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، فَسَارَ إِلَى بُصْرَى لِيَمْنَعَ الْبِرِنْسَ أَرْنَاطَ مِنْ طَلَبِ الْحُجَّاجِ، وَيَلْزَمَ بَلَدَهُ خَوْفًا عَلَيْهِ. وَكَانَ مِنَ الْحُجَّاجِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَقَارِبِهِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ لَاجِينَ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَغَيْرُهُ، فَلَمَّا سَمِعَ أَرْنَاطُ بِقُرْبِ صَلَاحِ الدِّينِ مِنْ بَلَدِهِ لَمْ يُفَارِقْهُ، وَانْقَطَعَ

عَمَّا طَمِعَ فِيهِ، فَوَصَلَ الْحُجَّاجُ سَالِمِينَ. فَلَمَّا وَصَلُوا وَفَرَغَ سِرُّهُ مِنْ جِهَتِهِمْ سَارَ إِلَى الْكَرَكِ فَحَصَرَهُ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ وَانْتَظَرَ وُصُولَ الْعَسْكَرِ الْمِصْرِيِّ، فَوَصَلُوا إِلَيْهِ عَلَى الْكَرَكِ، وَبَثَّ سَرَايَاهُ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وِلَايَةِ الْكَرَكِ وَالشَّوْبَكِ وَغَيْرِهِمَا، فَنَهَبُوا وَخَرَّبُوا وَأَحْرَقُوا، وَالْبِرِنْسُ مَحْصُورٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَنْعِ عَنْ بَلَدِهِ. وَسَائِرُ الْفِرِنْجِ قَدْ لَزِمُوا طَرَفَ بِلَادِهِمْ، خَوْفًا مِنَ الْعَسْكَرِ الَّذِي مَعَ وَلَدِهِ الْأَفْضَلِ، فَتَمَكَّنَ مِنَ الْحَصْرِ وَالنَّهْبِ وَالتَّحْرِيقِ وَالتَّخْرِيبِ، هَذَا فِعْلُ صَلَاحِ الدِّينِ. ذِكْرُ الْغَارَةِ عَلَى بَلَدِ عَكَّا أَرْسَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى وَلَدِهِ الْأَفْضَلِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُرْسِلَ قِطْعَةً صَالِحَةً مِنَ الْجَيْشِ إِلَى بَلَدِ عَكَّا يَنْهَبُونَهُ وَيُخَرِّبُونَهُ، فَسَيَّرَ مُظَفَّرَ الدِّينِ كَوْكَبْرِيَّ بْنَ زَيْنِ الدِّينِ، وَهُوَ صَاحِبُ حَرَّانَ وَالرُّهَا، وَأَضَافَ إِلَيْهِ قَايْمَازْ النَّجْمِيَّ وَدِلْدِرْمَ الْيَارُوقِيَّ - وَهُمَا مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ - وَغَيْرَهُمَا فَسَارُوا لَيْلًا، وَصَبَّحُوا صَفُّورِيَّةَ أَوَاخِرَ صَفَرٍ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْفِرِنْجُ فِي جَمْعٍ مِنَ الدَّاوِيَّةِ وَالِاسْبِتَارِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا، فَالْتَقَوْا هُنَاكَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ تَشِيبُ لَهَا الْمَفَارِقُ السُّودُ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَأُسِرَ الْبَاقُونَ، وَفِيمَنْ قُتِلَ مُقَدَّمُ الِاسْبِتَارِيَّةِ، وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ الْفِرِنْجِ الْمَشْهُورِينَ، وَلَهُ الْكِنَايَاتُ الْعَظِيمَةُ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَنَهَبَ الْمُسْلِمُونَ مَا جَاوَرَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ، وَغَنِمُوا وَسَبَوْا، وَعَادُوا سَالِمِينَ، وَكَانَ عَوْدُهُمْ عَلَى طَبَرِيَّةَ، وَبِهَا الْقُمُّصُ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ، فَكَانَ فَتْحًا كَثِيرًا، فَإِنَّ الدَّاوِيَّةَ وَالِاسْبِتَارِيَّةَ هُمْ جَمْرَةُ الْفِرِنْجِ، وَسُيِّرَتِ الْبَشَائِرُ إِلَى الْبِلَادِ بِذَلِكَ.

ذِكْرُ عَوْدِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى عَسْكَرِهِ وَدُخُولِهِ إِلَى الْفِرِنْجِ لَمَّا أَتَتْ صَلَاحَ الدِّينِ الْبِشَارَةُ بِهَزِيمَةِ الِاسْبِتَارِيَّةِ وَالدَّاوِيَّةِ، وَقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَأَسْرِ مَنْ أُسِرَ، عَادَ عَنِ الْكَرَكِ إِلَى الْعَسْكَرِ الَّذِي مَعَ وَلَدِهِ الْمَلِكِ الْأَفْضَلِ، وَقَدْ تَلَاحَقَتْ سَائِرُ الْأَمْدَادِ وَالْعَسَاكِرِ، وَاجْتَمَعَ بِهِمْ، وَسَارُوا جَمِيعًا. وَعَرَضَ الْعَسْكَرَ، فَبَلَغَتْ عِدَّتُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ مِمَّنْ لَهُ الْأَقْطَاعُ وَالْجَامَكِيَّةُ، سِوَى الْمُتَطَوِّعَةِ، فَعَبَّأَ عَسْكَرَهُ قَلْبًا وَجَنَاحَيْنِ، وَمَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَجَالِسِيَّةً وَسَاقَةً، وَعَرَفَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَوْضِعَهُ وَمَوْقَفَهُ، وَأَمَرَهُ بِمُلَازَمَتِهِ. وَسَارَ عَلَى تَعْبِئَةٍ، فَنَزَلَ بِالْأُقْحُوَانَةِ بِقُرْبِ طَبَرِيَّةَ، وَكَانَ الْقُمُّصُ قَدِ انْتَمَى إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَكُتُبُهُ مُتَّصِلَةٌ إِلَيْهِ يَعِدُهُ النُّصْرَةَ، وَيُمَنِّيهِ الْمُعَاضَدَةَ، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا. فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ اجْتِمَاعَ الْعَسَاكِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَتَصْمِيمَ الْعَزْمِ عَلَى قَصْدِ بِلَادِهِمْ، أَرْسَلُوا إِلَى الْقُمُّصِ الْبَطْرَكَ وَالْقُسُوسَ وَالرُّهْبَانَ، وَكَثِيرًا مِنَ الْفُرْسَانِ، فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ انْتِمَاءَهُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، وَقَالُوا لَهُ: لَا شَكَّ أَنَّكَ أَسْلَمْتَ، وَإِلَّا لِمَ تَصْبِرُ عَلَى مَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ أَمْسَ بِالْفِرِنْجِ، يُقَتِّلُونَ الدَّاوِيَّةَ وَالِاسْبِتَارِيَّةَ، وَيَأْسِرُونَهُمْ، وَيَجْتَازُونَ بِهِمْ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ لَا تُنْكِرُ ذَلِكَ وَلَا تَمْنَعُ عَنْهُ. وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ عَسْكَرِ طَبَرِيَّةَ وَطَرَابُلُسَ، وَتَهَدَّدَهُ الْبَطْرَكُ أَنَّهُ يُحَرِّمُهُ، وَيَفْسَخُ نِكَاحَ زَوْجَتِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّهْدِيدِ. فَلَمَّا رَأَى الْقُمُّصُ شِدَّةَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ خَافَ، فَاعْتَذَرَ وَتَنَصَّلَ وَتَابَ، فَقَبِلُوا عُذْرَهُ، وَغَفَرُوا زَلَّتَهُ، وَطَلَبُوا مِنْهُ الْمُوَافَقَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُؤَازَرَةَ عَلَى حِفْظِ بِلَادِهِمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى الْمُصَالَحَةِ وَالِانْضِمَامِ إِلَيْهِمْ، وَالِاجْتِمَاعِ مَعَهُمْ. وَسَارَ مَعَهُمْ إِلَى مَلِكِ الْفِرِنْجِ، وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ بَعْدَ فُرْقَتِهِمْ، وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَجَمَعُوا فَارِسَهُمْ وَرَاجِلَهُمْ، ثُمَّ سَارُوا مَنْ عَكَّا إِلَى صَفُّورِيَّةَ، وَهُمْ يُقَدِّمُونَ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُونَ أُخْرَى، قَدْ مُلِئَتْ قُلُوبُهُمْ رُعْبًا. ذِكْرُ فَتْحِ صَلَاحِ الدِّينِ طَبَرِيَّةَ لَمَّا اجْتَمَعَ الْفِرِنْجُ وَسَارُوا إِلَى صَفُّورِيَّةَ، جَمَعَ صَلَاحُ الدِّينِ أُمَرَاءَهُ وَوُزَرَاءَهُ

وَاسْتَشَارَهُمْ، فَأَشَارَ أَكْثَرُهُمْ عَلَيْهِ بِتَرْكِ اللِّقَاءِ وَأَنْ يُضْعِفَ الْفِرِنْجَ بِشَنِّ الْغَارَاتِ، وَإِخْرَابِ الْوِلَايَاتِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أُمَرَائِهِ: الرَّأْيُ عِنْدِي أَنَّنَا نَجُوسُ بِلَادَهُمْ، وَنَنْهَبُ، وَنُخَرِّبُ، وَنُحَرِّقُ، وَنَسْبِي، فَإِنْ وَقَفَ أَحَدٌ مِنَ الْعَسْكَرِ الْفِرِنْجِ بَيْنَ أَيْدِينَا لَقِينَاهُ، فَإِنَّ النَّاسَ بِالْمَشْرِقِ يَلْعَنُونَنَا وَيَقُولُونَ تَرَكَ قِتَالَ الْكُفَّارِ، وَأَقْبَلُ يُرِيدُ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ، الرَّأْيُ أَنْ نَفْعَلَ فِعْلًا نُعْذَرُ فِيهِ وَنَكُفُّ الْأَلْسِنَةَ عَنَّا. فَقَالَ صَلَاحُ الدِّينِ: الرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ نَلْقَى بِجَمْعِ الْمُسْلِمِينَ جَمْعَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْأُمُورَ لَا تَجْرِي بِحُكْمِ الْإِنْسَانِ، وَلَا نَعْلَمُ قَدْرَ الْبَاقِي مِنْ أَعْمَارِنَا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ نُفَرِّقَ هَذَا الْجَمْعَ إِلَّا بَعْدَ الْجِدِّ بِالْجِهَادِ. ثُمَّ رَحَلَ مِنَ الْأُقْحُوَانَةِ الْيَوْمَ الْخَامِسَ مِنْ نُزُولِهِ بِهَا، وَهُوَ يَوْمُ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَسَارَ حَتَّى خَلَّفَ طَبَرِيَّةَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَصَعِدَ جَبَلَهَا، وَتَقَدَّمَ حَتَّى قَارَبَ الْفِرِنْجَ، فَلَمْ يَرَ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَا فَارَقُوا خِيَامَهُمْ، فَنَزَلَ وَأَمَرَ الْعَسْكَرَ بِالنُّزُولِ. فَلَمَّا جَنَّهُ اللَّيْلُ جَعَلَ فِي مُقَابِلِ الْفِرِنْجِ مَنْ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْقِتَالِ، وَنَزَلَ جَرِيدَةَ إِلَى طَبَرِيَّةَ وَقَاتَلَهَا، وَنَقَبَ بَعْضَ أَبْرَاجِهَا، وَأَخَذَ الْمَدِينَةَ عَنْوَةً فِي لَيْلَةٍ، وَلَجَأَ مَنْ بِهَا إِلَى الْقَلْعَةِ الَّتِي لَهَا، فَامْتَنَعُوا بِهَا، وَفِيهَا صَاحِبَتُهَا، وَمَعَهَا أَوْلَادُهَا، فَنَهَبَ الْمَدِينَةَ وَأَحْرَقَهَا. فَلَمَّا سَمِعَ الْفِرِنْجُ نُزُولَ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى طَبَرِيَّةَ وَمُلْكَهُ الْمَدِينَةَ، وَأَخْذَ مَا فِيهَا، وَإِحْرَاقَهَا، وَإِحْرَاقَ مَا تَخَلَّفَ مِمَّا لَا يُحْمَلُ، اجْتَمَعُوا لِلْمَشُورَةِ، فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِالتَّقَدُّمِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَقِتَالِهِمْ، وَمَنْعِهِمْ عَنْ طَبَرِيَّةَ. فَقَالَ الْقُمُّصُ: إِنَّ طَبَرِيَّةَ لِي وَلِزَوْجَتِي، وَقَدْ فَعَلَ صَلَاحُ الدِّينِ بِالْمَدِينَةِ مَا فَعَلَ، وَبَقِيَ الْقَلْعَةُ، وَفِيهَا زَوْجَتِي، وَقَدْ رَضِيتُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَلْعَةَ وَزَوْجَتِي وَمَا لَنَا بِهَا وَيَعُودَ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَسَاكِرَ الْإِسْلَامِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا الْعَسْكَرِ الَّذِي مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ كَثْرَةً وَقُوَّةً، وَإِذَا أَخَذَ طَبَرِيَّةَ لَا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ بِهَا، فَمَتَى فَارَقَهَا وَعَادَ عَنْهَا أَخَذْنَاهَا، وَإِنْ أَقَامَ بِهَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُقَامِ بِهَا إِلَّا بِجَمِيعِ عَسَاكِرِهِ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الصَّبْرِ طُولَ الزَّمَانِ عَنْ أَوْطَانِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ فَيُضْطَرُّ إِلَى تَرْكِهَا، وَنَفْتَكُّ مَنْ أُسِرَ مِنَّا. فَقَالَ لَهُ بِرِنْسُ أَرْنَاطُ، صَاحِبُ الْكَرَكِ: قَدْ أَطَلْتَ فِي التَّخْوِيفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّكَ تُرِيدُهُمْ، وَتَمِيلُ إِلَيْهِمْ، وَإِلَّا مَا كُنْتَ تَقُولُ هَذَا، وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّهُمْ كَثِيرُونَ، فَإِنَّ النَّارَ لَا يَضُرُّهَا كَثْرَةُ الْحَطَبِ. فَقَالَ: أَنَا وَاحِدٌ مِنْكُمْ إِنْ تَقَدَّمْتُمْ تَقَدَّمْتُ، وَإِنْ تَأَخَّرْتُمْ تَأَخَّرْتُ، وَسَتَرَوْنَ مَا يَكُونُ.

فَقَوِيَ عَزْمُهُمْ عَلَى التَّقَدُّمِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَقِتَالِهِمْ، فَرَحَلُوا مِنْ مُعَسْكَرِهِمُ الَّذِي لَزِمُوهُ، وَقَرُبُوا مِنْ عَسَاكِرِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا سَمِعَ صَلَاحُ الدِّينِ بِذَلِكَ عَادَ عَنْ طَبَرِيَّةَ إِلَى عَسْكَرِهِ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ بِمُحَاصَرَةِ طَبَرِيَّةَ أَنْ يُفَارِقَ الْفِرِنْجُ مَكَانَهُمْ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ قِتَالِهِمْ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ نَزَلُوا عَلَى الْمَاءِ، وَالزَّمَانُ قَيْظٌ شَدِيدُ الْحَرِّ، فَوَجَدَ الْفِرِنْجُ الْعَطَشَ، وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْوُصُولِ إِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا قَدْ أَفْنَوْا مَا هُنَاكَ مِنْ مَاءِ الصَّهَارِيجِ وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الرُّجُوعِ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَقُوا عَلَى حَالِهِمْ إِلَى الْغَدِ، وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَقَدْ أَخَذَ الْعَطَشُ مِنْهُمْ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّهُمْ فِيهِمْ، وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَخَافُونَهُمْ، فَبَاتُوا يُحَرِّضُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَدْ وَجَدُوا رِيحَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَكُلَّمَا رَأَوْا حَالَ الْفِرِنْجِ خِلَافَ عَادَتِهِمْ مِمَّا رَكِبَهُمْ مِنَ الْخِذْلَانِ، زَادَ طَمَعُهُمْ وَجُرْأَتُهُمْ، فَأَكْثَرُوا التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ طُولَ لَيْلَتِهِمْ، وَرَتَّبَ السُّلْطَانُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الْجَالَيْشِيَّةَ، وَفَرَّقَ فِيهِمُ النُّشَّابَ. ذِكْرُ انْهِزَامِ الْفِرِنْجِ بِحِطِّينَ أَصْبَحَ صَلَاحُ الدِّينِ وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَ السَّبْتِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَرَكِبُوا وَتَقَدَّمُوا إِلَى الْفِرِنْجِ، وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، إِلَّا أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدِ اشْتَدَّ بِهِمُ الْعَطَشُ وَانْخَذَلُوا، فَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، وَرَمَى جَالَيْشِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النُّشَّابِ مَا كَانَ كَالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ، فَقَتَلُوا مِنْ خُيُولِ الْفِرِنْجِ كَثِيرًا. هَذَا الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَالْفِرِنْجُ قَدْ جَمَعُوا نُفُوسَهُمْ بِرَاجِلِهِمْ وَهُمْ يُقَاتِلُونَ سَائِرِينَ، نَحْوَ طَبَرِيَّةَ، لَعَلَّهُمْ يَرِدُونَ الْمَاءَ. فَلَمَّا عَلِمَ صَلَاحُ الدِّينِ مَقْصِدَهُمْ صَدَّهُمْ عَنْ مُرَادِهِمْ، وَوَقَفَ بِالْعَسْكَرِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَطَافَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يُحَرِّضُهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ، وَالنَّاسُ يَأْتَمِرُونَ لِقَوْلِهِ، وَيَقِفُونَ عِنْدَ نَهْيِهِ. فَحَمَلَ مَمْلُوكٌ مِنْ مَمَالِيكِهِ الصِّبْيَانِ حَمْلَةً مُنْكَرَةً عَلَى صَفِّ الْفِرِنْجِ، فَقَاتَلَ قِتَالًا عَجِبَ مِنْهُ النَّاسُ. ثُمَّ تَكَاثَرَ الْفِرِنْجُ عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، فَحِينَ قُتِلَ حَمَلَ الْمُسْلِمُونَ حَمْلَةً مُنْكَرَةً فَضَعْضَعُوا الْكُفَّارَ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ كَثِيرًا. فَلَمَّا رَأَى الْقُمُّصُ شِدَّةَ الْأَمْرِ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ، فَاتَّفَقَ هُوَ

وَجَمَاعَتُهُ وَحَمَلُوا عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ، وَكَانَ الْمُقَدَّمُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، تَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ ابْنَ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ، فَلَمَّا رَأَى حَمْلَةَ الْفِرِنْجِ حَمْلَةَ مَكْرُوبٍ، عَلِمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُقُوفِ فِي وُجُوهِهِمْ. فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَفْتَحُوا لَهُمْ طَرِيقًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَفَعَلُوا فَخَرَجَ الْقُمُّصُ وَأَصْحَابُهُ ثُمَّ الْتَأَمَ الصَّفُّ. وَكَانَ بَعْضُ الْمُتَطَوِّعَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدِ أَلْقَى فِي تِلْكَ الْأَرْضِ نَارًا، وَكَانَ الْحَشِيشُ كَثِيرًا فَاحْتَرَقَ، وَكَانَتِ الرِّيحُ عَلَى الْفِرِنْجِ فَحَمَلَتْ حَرَّ النَّارِ وَالدُّخَانَ إِلَيْهِمْ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمُ الْعَطَشُ، وَحَرُّ الزَّمَانِ، وَحَرُّ النَّارِ، وَالدُّخَانُ، وَحَرُّ الْقِتَالِ. فَلَمَّا انْهَزَمَ الْقُمُّصُ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَكَادُوا يَسْتَسْلِمُونَ، ثُمَّ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يُنْجِيهِمْ مِنَ الْمَوْتِ إِلَّا الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، فَحَمَلُوا حَمَلَاتٍ مُتَدَارَكَةً كَادُوا يُزِيلُونَ [بِهَا] الْمُسْلِمِينَ، عَلَى كَثْرَتِهِمْ، عَنْ مَوَاقِفِهِمْ لَوْلَا لُطْفُ اللَّهِ بِهِمْ. إِلَّا أَنَّ الْفِرِنْجَ لَا يَحْمِلُونَ حَمْلَةً فَيَرْجِعُونَ إِلَّا وَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ، فَوَهَنُوا لِذَلِكَ وَهْنًا عَظِيمًا، فَأَحَاطَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ إِحَاطَةَ الدَّائِرَةِ بِقُطْرِهَا، فَارْتَفَعَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْفِرِنْجِ إِلَى تَلٍّ بِنَاحِيَةِ حِطِّينَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَنْصِبُوا خِيَامَهُمْ، وَيَحْمُوا نُفُوسَهُمْ بِهِ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ عَلَيْهِمْ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ، وَمَنَعُوهُمْ عَمَّا أَرَادُوا، وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ نَصْبِ خَيْمَةٍ غَيْرِ خَيْمَةِ مَلِكِهِمْ. وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ صَلِيبَهُمُ الْأَعْظَمَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ صَلِيبَ الصَّلَبُوتِ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّ فِيهِ قِطْعَةً مِنَ الْخَشَبَةِ الَّتِي صُلِبَ عَلَيْهَا الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِزَعْمِهِمْ، فَكَانَ أَخْذُهُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عَلَيْهِمْ، وَأَيْقَنُوا بَعْدَهُ بِالْقَتْلِ وَالْهَلَاكِ. هَذَا وَالْقَتْلُ وَالْأَسْرُ يَعْمَلَانِ فِي فُرْسَانِهِمْ وَرِجَالَتِهِمْ، فَبَقِيَ الْمَلِكُ عَلَى التَّلِّ فِي مِقْدَارِ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَارِسًا مِنَ الْفُرْسَانِ الْمَشْهُورِينَ وَالشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ. فَحُكِيَ لِي عَنِ الْمَلِكِ الْأَفْضَلِ - وَلَدِ صَلَاحِ الدِّينِ - قَالَ: كُنْتُ إِلَى جَانِبِ أَبِي فِي ذَلِكَ الْمَصَافِّ، وَهُوَ أَوَّلُ مَصَافٍّ شَاهَدْتُهُ، فَلَمَّا صَارَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ عَلَى التَّلِّ فِي تِلْكَ الْجَمَاعَةِ حَمَلُوا حَمْلَةً مُنْكَرَةً عَلَى مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَلْحَقُوهُمْ بِوَالِدِي. قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، وَقَدْ عَلَتْهُ كَآبَةٌ، وَارْبَدَّ لَوْنُهُ، وَأَمْسَكَ بِلِحْيَتِهِ، وَتَقَدَّمَ، وَهُوَ يَصِيحُ: كَذَبَ الشَّيْطَانُ، قَالَ: فَعَادَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَرَجَعُوا إِلَى التَّلِّ، فَلَمَّا رَأَيْتُ الْفِرِنْجَ قَدْ عَادُوا، وَالْمُسْلِمُونَ يَتْبَعُونَهُمْ، صِحْتُ مِنْ فَرَحِي: هَزَمْنَاهُمْ! فَعَادَ الْفِرِنْجُ فَحَمَلُوا حَمْلَةً ثَانِيَةً مِثْلَ الْأُولَى حَتَّى أَلْحَقُوا الْمُسْلِمِينَ بِوَالِدِي، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ أَوَّلًا. وَعَطَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَأَلْحَقُوهُمْ بِالتَّلِّ، فَصِحْتُ أَنَا أَيْضًا: هَزَمْنَاهُمْ! فَالْتَفَتَ وَالِدِي إِلَيَّ وَقَالَ: اسْكُتْ! مَا نَهْزِمُهُمْ حَتَّى تَسْقُطَ تِلْكَ الْخَيْمَةُ، قَالَ: فَهُوَ يَقُولُ

لِي، وَإِذَا الْخَيْمَةُ قَدْ سَقَطَتْ، فَنَزَلَ السُّلْطَانُ وَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَبَكَى مِنْ فَرَحِهِ. وَكَانَ سَبَبُ سُقُوطِهَا أَنَّ الْفِرِنْجَ لَمَّا حَمَلُوا تِلْكَ الْحَمَلَاتِ ازْدَادُوا عَطَشًا، وَقَدْ كَانُوا يَرْجُونَ الْخَلَاصَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْحَمَلَاتِ مِمَّا هُمْ فِيهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا إِلَى الْخَلَاصِ طَرِيقًا، نَزَلُوا عَنْ دَوَابِّهِمْ وَجَلَسُوا عَلَى الْأَرْضِ، فَصَعِدَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ، فَأَلْقَوْا خَيْمَةَ الْمَلِكِ، وَأَسَرُوهُمْ عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، وَفِيهِمُ الْمَلِكُ وَأَخُوهُ، وَالْبِرِنْسُ أَرْنَاطُ، صَاحِبُ الْكَرَكِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْفِرِنْجِ أَشَدُّ مِنْهُ عَدَاوَةً لِلْمُسْلِمِينَ. وَأَسَرُوا أَيْضًا صَاحِبَ جُبَيْلٍ، وَابْنَ هَنْفَرِي، وَمُقَدَّمَ الدَّاوِيَّةِ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرِنْجِ شَأْنًا، وَأَسَرُوا أَيْضًا جَمَاعَةً مِنَ الدَّاوِيَّةِ، وَجَمَاعَةً مِنَ الِاسْبِتَارِيَّةِ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ فِيهِمْ، فَكَانَ مَنْ يَرَى الْقَتْلَى لَا يَظُنُّ أَنَّهُمْ أَسَرُوا وَاحِدًا، وَمَنْ يَرَى الْأَسْرَى لَا يَظُنُّ أَنَّهُمْ قَتَلُوا أَحَدًا، وَمَا أُصِيبَ الْفِرِنْجُ، مُنْذُ خَرَجُوا إِلَى السَّاحِلِ، وَهُوَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى الْآنَ، بِمِثْلِ هَذِهِ الْوَقْعَةِ. فَلَمَّا فَرَغَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ نَزَلَ صَلَاحُ الدِّينِ فِي خَيْمَتِهِ، وَأُحْضِرُ مَلِكُ الْفِرِنْجِ عِنْدَهُ، وَبِرِنْسُ صَاحِبُ الْكَرَكِ، وَأَجْلَسَ الْمَلِكَ إِلَى جَانِبِهِ وَقَدْ أَهْلَكَهُ الْعَطَشُ، فَسَقَاهُ مَاءً مَثْلُوجًا، فَشَرِبَ، وَأَعْطَى فَضْلَهُ بِرِنْسَ صَاحِبَ الْكَرَكِ، فَشَرِبَ. فَقَالَ صَلَاحُ الدِّينِ: إِنَّ هَذَا الْمَلْعُونَ لَمْ يَشْرَبِ الْمَاءَ بِإِذْنِي فَيَنَالَ أَمَانِي، ثُمَّ كَلَّمَ الْبِرِنْسَ، وَقَرَعَهُ بِذُنُوبِهِ، وَعَدَّدَ عَلَيْهِ غَدَرَاتِهِ، وَقَامَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَضَرَبَ رَقَبَتَهُ، وَقَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ دَفْعَتَيْنِ أَنْ أَقْتُلَهُ إِنْ ظَفَرْتُ بِهِ: إِحْدَاهُمَا لَمَّا أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَالثَّانِيَةُ لَمَّا أَخَذَ الْقَفَلَ غَدْرًا، فَلَمَّا قَتَلَهُ وَسُحِبَ وَأُخْرِجَ ارْتَعَدَتْ فَرَائِصُ الْمَلِكِ، فَسَكَّنَ جَأْشَهُ وَأَمَّنَهُ. وَأَمَّا الْقُمُّصُ، صَاحِبُ طَرَابُلُسَ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَجَا مِنَ الْمَعْرَكَةِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَصَلَ إِلَى صُورَ، ثُمَّ قَصَدَ طَرَابُلُسَ، وَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا أَيَّامًا قَلَائِلَ حَتَّى مَاتَ غَيْظًا وَحَنَقًا مِمَّا

جَرَى عَلَى الْفِرِنْجِ خَاصَّةً، وَعَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ عَامَّةً. ذِكْرُ عَوْدِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى طَبَرِيَّةَ، وَمُلْكِ قَلْعَتِهَا مَعَ الْمَدِينَةِ لَمَّا فَرَغَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ هَزِيمَةِ الْفِرِنْجِ أَقَامَ بِمَوْضِعِهِ بَاقِيَ يَوْمِهِ، وَأَصْبَحَ يَوْمَ الْأَحَدِ، فَعَادَ إِلَى طَبَرِيَّةَ وَنَازَلَهَا، فَأَرْسَلَتْ صَاحِبَتَهَا تَطْلُبُ الْأَمَانَ لَهَا وَلِأَوْلَادِهَا وَأَصْحَابِهَا وَمَالِهَا، فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ، فَخَرَجَتْ بِالْجَمِيعِ، فَوَفَّى لَهَا، فَسَارَتْ آمِنَةً، ثُمَّ أَمَرَ بِالْمَلِكِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْأَسْرَى فَأُرْسَلُوا إِلَى دِمَشْقَ، وَأَمَرَ بِمَنْ أُسِرَ مِنَ الدَّاوِيَّةِ وَالِاسْبِتَارِيَّةِ أَنْ يُجْمَعُوا لِيَقْتُلَهُمْ. ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ أَسِيرٌ لَا يَسْمَحُ بِهِ لِمَا يَرْجُو مِنْ فِدَائِهِ، فَبَذَلَ فِي كُلِّ أَسِيرٍ مِنْ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ خَمْسِينَ دِينَارًا مِصْرِيَّةً، فَأُحْضِرَ عِنْدَهُ فِي الْحَالِ مِائَتَا أَسِيرٍ مِنْهُمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ. وَإِنَّمَا خَصَّ هَؤُلَاءِ بِالْقَتْلِ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ شَوْكَةً مِنْ جَمِيعِ الْفِرِنْجِ، فَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِمْ، وَكَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ بِدِمَشْقَ لِيَقْتُلَ مَنْ دَخَلَ الْبَلَدَ مِنْهُمْ سَوَاءً كَانَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَلَقَدِ اجْتَزْتُ بِمَوْضِعِ الْوَقْعَةِ بَعْدَهَا بِنَحْوِ سَنَةٍ، فَرَأَيْتُ الْأَرْضَ مَلْأَى مِنْ عِظَامِهِمْ تَبِينُ عَلَى الْبُعْدِ، مِنْهَا الْمُجْتَمِعُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهَا الْمُفْتَرِقُ، هَذَا سِوَى مَا جَحَفَتْهُ السُّيُولُ، وَأَخَذَتْهُ السِّبَاعُ فِي تِلْكَ الْآكَامِ وَالْوِهَادِ. ذِكْرُ فَتْحِ مَدِينَةِ عَكَّا لَمَّا فَرَغَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ طَبَرِيَّةَ سَارَ عَنْهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَوَصَلَ إِلَى عَكَّا يَوْمَ

الْأَرْبِعَاءِ، وَقَدْ صَعِدَ أَهْلُهَا عَلَى سُورِهَا يُظْهِرُونَ الِامْتِنَاعَ وَالْحِفْظَ، فَعَجِبَ هُوَ وَالنَّاسُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ عَسَاكِرَهُمْ مِنْ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ بَيْنَ قَتِيلٍ وَأَسِيرٍ. وَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، إِلَّا أَنَّهُ نَزَلَ يَوْمَهُ، وَرَكِبَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَقَدْ صَمَّمَ عَلَى الزَّحْفِ إِلَى الْبَلَدِ وَقِتَالِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَنْظُرُ مِنْ أَيْنَ يَزْحَفُ وَيُقَاتِلُ إِذْ خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا يَضَّرَّعُونَ، وَيَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَّنَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالظَّعْنِ، فَاخْتَارُوا الرَّحِيلَ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَارُوا عَنْهَا مُتَفَرِّقِينَ، وَحَمَلُوا مَا أَمْكَنَهُمْ حَمْلَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَتَرَكُوا الْبَاقِيَ عَلَى حَالِهِ. وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُسْتَهَلَّ جُمَادَى الْأُولَى، صَلُّوا بِهَا الْجُمُعَةَ فِي جَامِعٍ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا، ثُمَّ جَعَلَهُ الْفِرِنْجُ بَيْعَةً، ثُمَّ جَعَلَهُ صَلَاحٌ جَامِعًا، وَهَذِهِ الْجُمُعَةُ أَوَّلُ جُمُعَةٍ أُقِيمَتْ بِالسَّاحِلِ الشَّامِيِّ بَعْدَ أَنْ مَلَكَهُ الْفِرِنْجُ. وَسَلَّمَ الْبَلَدَ إِلَى وَلَدِهِ الْأَفْضَلِ، وَأَعْطَى جَمِيعَ مَا كَانَ فِيهِ لِلدَّاوِيَّةِ مِنْ أَقْطَاعٍ وَضِيَاعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِلْفَقِيهِ عِيسَى. وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مَا بَقِيَ مِمَّا لَمْ يُطِقِ الْفِرِنْجُ حَمْلُهُ، وَكَانَ مِنْ كَثْرَتِهِ يَعْجِزُ الْإِحْصَاءُ عَنْهُ، فَرَأَوْا فِيهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوْهَرِ وَالسِّقِلَّاطِ، وَالْبُنْدُقِيِّ، وَالشَّكَرِ، وَالسِّلَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَمْتِعَةِ كَثِيرًا، فَإِنَّهَا كَانَتْ مَقْصِدًا لِلتُّجَّارِ الْفِرِنْجِ وَالرُّومِ وَغَيْرِهِمْ، مِنْ أَقْصَى الْبِلَادِ وَأَدْنَاهَا. وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهَا قَدْ خَزَنَهُ التُّجَّارُ، وَسَافَرُوا عَنْهُ لِكَسَادِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَنْقُلُهُ، فَفَرَّقَ صَلَاحُ الدِّينِ وَابْنُهُ الْأَفْضَلُ ذَلِكَ جَمِيعَهُ عَلَى أَصْحَابِهِمَا، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ فَعَلَهُ الْأَفْضَلُ لِأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا بِالْبَلَدِ، وَكَانَتْ شِيمَتُهُ فِي الْكَرَمِ مَعْرُوفَةً. وَأَقَامَ صَلَاحُ الدِّينِ بِعَكَّا عِدَّةَ أَيَّامٍ لِإِصْلَاحِ حَالِهَا، وَتَقْرِيرِ قَوَاعِدِهَا. ذِكْرُ فَتْحِ مَجْدِ لَيَابَةَ لَمَّا هَزَمَ صَلَاحُ الدِّينِ الْفِرِنْجَ أَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ الْعَادِلِ بِمِصْرَ يُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ، وَيَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ مِنْ جِهَةِ مِصْرَ بِمَنْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَمُحَاصَرَةِ مَا يَلِيهِ مِنْهَا، فَسَارَعَ إِلَى ذَلِكَ، وَسَارَ عَنْ مِصْرَ فَنَازَلَ حِصْنَ مَجْدِ لَيَابَةَ وَحَصَرَهُ وَغَنِمَ مَا فِيهِ. وَوَرَدَ كِتَابُهُ بِذَلِكَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، وَكَانَتْ بِشَارَةً كَبِيرَةً. ذِكْرُ فَتْحِ عِدَّةِ حُصُونٍ فِي مُدَّةِ مُقَامِ صَلَاحِ الدِّينِ بِعَكَّا تَفَرَّقَ عَسْكَرُهُ إِلَى النَّاصِرَةِ، وَقَيْسَارِيَّةِ، وَحَيْفَا،

وَصَفُّورِيَّةَ، وَمَعْلَيَا، وَالشَّقِيفِ، وَالْفُولَةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ لِعَكَّا، فَمَلَكُوهَا وَنَهَبُوهَا وَأَسَرُوا رِجَالَهَا، وَسَبُوا نِسَاءَهَا وَأَطْفَالَهَا، وَقَدِمُوا مِنْ ذَلِكَ بِمَا سَدَّ الْفَضَاءَ. وَسَيَّرَ تَقِيَّ الدِّينِ فَنَزَلَ عَلَى تِبْنِينَ لِيَقْطَعَ الْمِيرَةَ عَنْهَا وَعَنْ صُورَ، وَسَيَّرَ حُسَامَ الدِّينِ عُمَرَ بْنَ لَاجِينَ فِي عَسْكَرٍ إِلَى نَابُلُسَ فَأَتَى سَبَسْطِيَةَ وَبِهَا قَبْرُ زَكَرِيَّاءَ، فَأَخَذَهُ مِنْ أَيْدِي النَّصَارَى وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَوَصَلَ إِلَى نَابُلُسَ فَدَخَلَهَا وَحَصَرَ قَلْعَتَهَا وَاسْتَنْزَلَ مَنْ فِيهَا بِالْأَمَانِ، وَتَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ، وَأَقَامَ أَهْلَ الْبَلَدِ بِهِ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. ذِكْرُ فَتْحِ يَافَا لَمَّا خَرَجَ الْعَادِلُ مِنْ مِصْرَ، وَفَتَحَ مَجْدَ لَيَابَةَ، كَمَا ذَكَرْنَا، سَارَ إِلَى مَدِينَةِ يَافَا، وَهِيَ عَلَى السَّاحِلِ، فَحَصَرَهَا وَمَلَكَهَا عَنْوَةً، وَنَهَبَهَا، وَأَسَرَ الرِّجَالَ، وَسَبَى الْحَرِيمَ، وَجَرَى عَلَى أَهْلِهَا مَا لَمْ يَجْرِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ. وَكَانَ عِنْدِي جَارِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَأَنَا بِحَلَبَ، وَمَعَهَا طِفْلٌ عُمُرُهُ نَحْوُ سَنَةٍ، فَسَقَطَ مِنْ يَدِهَا فَانْسَلَخَ وَجْهُهُ، فَكَبَّتَ عَلَيْهِ كَثِيرًا، فَسَكَّنْتُهَا وَأَعْلَمْتُهَا أَنَّهُ لَيْسَ بِوَلَدِهَا مَا يُوجِبُ الْبُكَاءَ، فَقَالَتْ: مَا لَهُ أَبْكِي، إِنَّمَا أَبْكِي لِمَا جَرَى عَلَيْنَا. كَانَ لِي سِتَّةُ إِخْوَةٍ هَلَكُوا جَمِيعُهُمْ، وَزَوْجٌ وَأُخْتَانِ لَا أَعْلَمُ مَا كَانَ مِنْهُمْ. هَذَا مِنِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْبَاقِي بِالنِّسْبَةِ. وَرَأَيْتُ بِحَلَبَ امْرَأَةً فِرِنْجِيَّةً قَدْ جَاءَتْ مَعَ سَيِّدِهَا إِلَى بَابٍ، فَطَرَقَهُ سَيِّدُهَا، فَخَرَجَ صَاحِبُ الْبَيْتِ فَكَلَّمَهُمَا، ثُمَّ أَخْرَجَ امْرَأَةً فِرِنْجِيَّةً، فَحِينَ رَأَتْهَا الْأُخْرَى صَاحَتَا وَاعْتَنَقَتَا، وَهُمَا تَصْرُخَانِ وَتَبْكِيَانِ، وَسَقَطَتَا إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ قَعَدَتَا تَتَحَدَّثَانِ، وَإِذَا هُمَا أُخْتَانِ، وَكَانَ لَهُمَا عِدَّةٌ مِنَ الْأَهْلِ لَيْسَ لَهُمَا عِلْمٌ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ. ذِكْرُ فَتْحِ تِبْنِينَ وَصَيْدَا وَجُبَيْلٍ وَبَيْرُوتَ فَأَمَّا تِبْنِينُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا إِنْفَاذَ صَلَاحِ الدِّينِ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ أَخِيهِ إِلَى تِبْنِينَ، فَلَمَّا وَصَلَهَا نَازَلَهَا، وَأَقَامَ عَلَيْهَا، فَرَأَى حَصْرَهَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِوُصُولِ عَمِّهِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَيْهِ،

فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يُعْلِمُهُ الْحَالَ، وَيَحُثُّهُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَرَحَلَ ثَامِنَ جُمَادَى الْأُولَى، وَنَزَلَ عَلَيْهِ فِي الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْهُ، فَحَصَرَهَا، وَضَايَقَهَا، وَقَاتَلَهَا بِالزَّحْفِ، وَهِيَ مِنَ الْقِلَاعِ الْمَنِيعَةِ عَلَى جَبَلٍ. فَلَمَّا ضَاقَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ وَاشْتَدَّ الْحَصْرُ أَطْلَقُوا مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى مِائَةِ رَجُلٍ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْعَسْكَرَ أَحْضَرَهُمْ صَلَاحُ الدِّينِ وَكَسَاهُمْ، وَأَعْطَاهُمْ نَفَقَةً، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى أَهْلِيهِمْ. وَبَقِيَ الْفِرِنْجُ كَذَلِكَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَسَلَّمُوهَا إِلَيْهِ، وَوَفَّى لَهُمْ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى مَأْمَنِهِمْ. وَأَمَّا صَيْدَا فَإِنَّ صَلَاحَ الدِّينِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ تِبْنِينَ رَحَلَ عَنْهَا إِلَى صَيْدَا، فَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ بِصَرَفَنْدَ فَأَخَذَهَا عَفْوًا بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَسَارَ عَنْهَا إِلَى صَيْدَا، وَهِيَ مِنْ مُدُنِ السَّاحِلِ الْمَعْرُوفَةِ، فَلَمَّا سَمِعَ صَاحِبُهَا بِمَسِيرِهِ نَحْوَهُ سَارَ عَنْهَا وَتَرَكَهَا فَارِغَةً مِنْ مَانَعٍ وَمُدَافِعٍ، فَلَمَّا وَصَلَهَا صَلَاحُ الدِّينِ تَسَلَّمَهَا سَاعَةَ وُصُولِهِ، وَكَانَ مُلْكُهَا حَادِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى. وَأَمَّا بَيْرُوتُ فَهِيَ مِنْ أَحْصَنِ مُدُنِ السَّاحِلِ وَأَنْزَهِهَا وَأَطْيَبِهَا. فَلَمَّا فَتَحَ صَلَاحُ الدِّينِ صَيْدَا سَارَ عَنْهَا مِنْ يَوْمِهِ نَحْوَ بَيْرُوتَ وَوَصَلَ إِلَيْهَا مِنَ الْغَدِ فَرَأَى أَهْلَهَا قَدْ صَعِدُوا عَلَى سُورِهَا وَأَظْهَرُوا الْقُوَّةَ وَالْجَلَدَ وَالْعُدَّةَ وَقَاتَلُوا عَلَى سُورِهَا عِدَّةَ أَيَّامٍ قِتَالًا شَدِيدًا وَاغْتَرُّوا بِحَصَانَةِ الْبَلَدِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى حِفْظِهِ. وَزَحَفَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَبَيْنَمَا الْفِرِنْجُ عَلَى السُّورِ يُقَاتِلُونَ إِذْ سَمِعُوا مِنَ الْبَلَدِ جَلَبَةً عَظِيمَةً وَغَلَبَةً زَائِدَةً، فَأَتَاهُمْ مَنْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْبَلَدَ قَدْ دَخَلَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى قَهْرًا وَغَلَبَةً، فَأَرْسَلُوا يَنْظُرُونَ مَا الْخَبَرُ وَإِذَا لَيْسَ لَهُ صِحَّةٌ، فَأَرَادُوا تَسْكِينَ مَنْ بِهِ فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ السَّوَادِ. فَلَمَّا خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ أَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَتَسَلَّمَهَا فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنَ السَّنَةِ، فَكَانَ مُدَّةُ حَصْرِهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ. وَأَمَّا جُبَيْلٌ فَإِنَّ صَاحِبَهَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْرَى الَّذِينَ سُيِّرُوا إِلَى دِمَشْقَ مَعَ مَلِكِهِمْ فَتَحَدَّثَ مَعَ نَائِبِ صَلَاحِ الدِّينِ بِدِمَشْقَ فِي تَسْلِيمِ جُبَيْلٍ عَلَى شَرْطِ إِطْلَاقِهِ، فَعَرَفَ صَلَاحُ الدِّينِ بِذَلِكَ، فَأَحْضَرَهُ مُقَيَّدًا عِنْدَهُ تَحْتَ الِاسْتِظْهَارِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَكَانَ الْعَسْكَرُ حِينَئِذٍ عَلَى بَيْرُوتَ، فَسَلَّمَ حِصْنَهُ وَأَطْلَقَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِهِ. وَأَطْلَقَهُ صَلَاحُ

الدِّينِ كَمَا شَرَطَ لَهُ، وَكَانَ صَاحِبُ جُبَيْلٍ هَذَا مِنْ أَعْيَانِ الْفِرِنْجِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَالْمَكْرِ وَالشَّرِّ، بِهِ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ عَدُوٌّ أَزْرَقُ، وَكَانَ إِطْلَاقُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوهِنَةِ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. ذِكْرُ خُرُوجِ الْمَرْكِيسِ إِلَى صُورَ لَمَّا انْهَزَمَ الْقُمُّصُ صَاحِبُ طَرَابُلُسَ مِنْ حِطِّينَ إِلَى مَدِينَةِ صُورَ أَقَامَ بِهَا وَهِيَ أَعْظَمُ بِلَادِ السَّاحِلِ حَصَانَةً، وَأَشَدُّهَا امْتِنَاعًا عَلَى مَنْ رَامَهَا، فَلَمَّا رَأَى السُّلْطَانَ قَدْ مَلَكَ تِبْنِينَ وَصَيْدَا وَبَيْرُوتَ، خَافَ أَنْ يَقْصِدَ صَلَاحُ الدِّينِ صُورَ وَهِيَ فَارِغَةٌ مِمَّنْ يُقَاتِلُ فِيهَا وَيَحْمِيهَا وَيَمْنَعُهَا فَلَا يَقْوَى عَلَى حِفْظِهَا، وَتَرْكِهَا وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ طَرَابُلُسَ. فَبَقِيَتْ صُورُ شَاغِرَةً لَا مَانِعَ لَهَا وَلَا عَاصِمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ بَدَأَ بِهَا صَلَاحُ الدِّينِ قَبْلَ تِبْنِينَ وَغَيْرِهَا لَأَخَذَهَا بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ، لَكِنَّهُ اسْتَعْظَمَهَا لِحَصَانَتِهَا فَأَرَادَ أَنْ يُفْرِغَ بَالَهُ مِمَّا يُجَاوِرُهَا مِنْ نَوَاحِيهَا لِيَسْهُلَ أَخْذُهَا، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ حِفْظِهَا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. وَاتُّفِقَ أَنَّ إِنْسَانًا مِنَ الْفِرِنْجِ الَّذِينَ دَاخِلَ الْبَحْرَ يُقَالُ لَهُ الْمَرْكِيسُ، لَعَنَهُ اللَّهُ، خَرَجَ فِي الْبَحْرِ بِمَالٍ كَثِيرٍ لِلزِّيَادَةِ وَالتِّجَارَةِ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِمَا كَانَ مِنَ الْفِرِنْجِ فَأَرْسَى بِعَكَّا، وَقَدْ رَابَهُ مَا رَأَى مِنْ تَرْكِ عَوَائِدِ الْفِرِنْجِ عِنْدَ وُصُولِ الْمَرَاكِبِ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَضَرْبِ الْأَجْرَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا رَأَى أَيْضًا مِنْ زِيِّ أَهْلِ الْبَلَدِ، فَوَقَفَ وَلَمْ يَدْرِ مَا الْخَبَرُ، وَكَانَتِ الرِّيحُ قَدْ رَكَدَتْ. فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ إِلَيْهِ بَعْضَ أَصْحَابِهِ فِي سَفِينَةٍ يُبْصِرُ مَنْ هُوَ وَمَا يُرِيدُ، فَأَتَاهُ الْقَاصِدُ فَسَأَلَهُ الْمَرْكِيسُ عَنِ الْأَخْبَارِ لِمَا أَنْكَرَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِكَسْرَةِ

الْفِرِنْجِ وَأَخْذِ عَكَّا وَغَيْرِهَا، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ صُورَ بِيَدِ الْفِرِنْجِ وَعَسْقَلَانَ وَغَيْرَهَا، وَحَكَى الْأَمْرَ لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْحَرَكَةُ لِعَدَمِ الرِّيحِ، فَرَدَّ الرَّسُولَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ لِيَدْخُلَ الْبَلَدَ بِمَا مَعَهُ مِنْ مَتَاعٍ وَمَالٍ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ. فَرَدَّدَهُ مِرَارًا كُلَّ مَرَّةٍ يَطْلُبُ شَيْئًا لَمْ يَطْلُبْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ انْتِظَارًا لِهُبُوبِ الْهَوَاءِ لِيَسِيرَ بِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي مُرَاجَعَاتِهِ إِذْ هَبَّتِ الرِّيحُ فَسَارَ نَحْوَ صُورَ، وَسَيَّرَ الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ الشَّوَانِيَ فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يُدْرِكُوهُ. فَأَتَى صُورَ وَقَدِ اجْتَمَعَ بِهَا مِنَ الْفِرِنْجِ خَلْقٌ كَثِيرٌ لِأَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ كَانَ كُلَّمَا فَتَحَ مَدِينَةَ عَكَّا وَبَيْرُوتَ وَغَيْرَهُمَا مِمَّا ذَكَرْنَا أَعْطَى أَهْلَهَا الْأَمَانَ، فَسَارُوا كُلُّهُمْ إِلَى صُورَ، وَكَثُرَ الْجَمْعُ بِهَا إِلَّا أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ رَأْسٌ يَجْمَعُهُمْ، وَلَا مُقَدَّمٌ يُقَاتِلُ بِهِمْ، وَلَيْسُوا أَهْلَ الْحَرْبِ، وَهُمْ عَازِمُونَ عَلَى مُرَاسَلَةِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَطَلَبِ الْأَمَانِ وَتَسْلِيمِ الْبَلَدِ إِلَيْهِ. فَأَتَاهُمُ الْمَرْكِيسُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْعَزْمِ، فَرَدَّهُمْ عَنْهُ وَقَوَّى نُفُوسَهُمْ وَضَمِنَ لَهُمْ حِفْظَ الْمَدِينَةِ وَبَذْلَ مَا مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ تَكُونَ الْمَدِينَةُ وَأَعْمَالُهَا لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ فَأَخَذَ أَيْمَانَهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ وَدَبَّرَ أَحْوَالَهُمْ، وَكَانَ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ حَسَنَ التَّدْبِيرِ وَالْحِفْظِ، وَلَهُ شَجَاعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَشَرَعَ فِي تَحْصِينِهَا فَجَدَّدَ حَفْرَ خَنَادِقِهَا وَعَمِلَ أَسْوَارَهَا، وَزَادَ فِي حَصَانَتِهَا وَاتَّفَقَ مَنْ بِهَا عَلَى الْحِفْظِ وَالْقِتَالِ دُونَهَا. ذِكْرُ فَتْحِ عَسْقَلَانَ وَمَا يُجَاوِرُهَا لَمَّا مَلَكَ صَلَاحُ الدِّينِ بَيْرُوتَ وَجُبَيْلَ وَغَيْرَهُمَا، كَانَ أَمْرُ عَسْقَلَانَ وَالْقُدْسِ أَهَمَّ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِهِمَا لِأَسْبَابٍ مِنْهَا أَنَّهُمَا عَلَى طَرِيقِ مِصْرَ، يَقْطَعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الشَّامِ. وَكَانَ يَخْتَارُ أَنْ تَتَّصِلَ الْوِلَايَاتُ لَهُ لِيَسْهُلَ خُرُوجُ الْعَسْكَرِ مِنْهَا وَدُخُولُهُمْ إِلَيْهَا، وَلِمَا فِي فَتْحِ الْقُدْسِ مِنَ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ وَالصِّيتِ الْعَظِيمِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْرَاضِ. فَسَارَ عَنْ بَيْرُوتَ نَحْوَ عَسْقَلَانَ، وَاجْتَمَعَ بِأَخِيهِ الْعَادِلِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ عَسَاكِرِ مِصْرَ، وَنَازَلُوهَا يَوْمَ الْأَحَدِ سَادِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ قَدْ أَحْضَرَ مَلِكَ الْفِرِنْجِ وَمُقَدَّمَ الدَّاوِيَّةِ إِلَيْهِ مِنْ دِمَشْقَ، وَقَالَ لَهُمَا: إِنْ سَلَّمْتُمَا الْبِلَادَ إِلَيَّ فَلَكُمَا الْأَمَانُ، فَأَرْسَلَا إِلَى مَنْ بِعَسْقَلَانَ مِنَ الْفِرِنْجِ يَأْمُرَانِهِمْ بِتَسْلِيمِ الْبَلَدِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا أَمْرَهُمَا وَرَدُّوا عَلَيْهِمَا أَقْبَحَ رَدٍّ، وَجَبَّهُوهُمَا بِمَا يَسُوءُهُمَا. فَلَمَّا رَأَى السُّلْطَانُ ذَلِكَ جَدَّ فِي قِتَالِ الْمَدِينَةِ وَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ عَلَيْهَا، وَزَحَفَ

مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَتَقَدَّمَ النَّقَّابُونَ إِلَى السُّورِ، فَنَالُوا مِنْ بَاشُورَتِهِ شَيْئًا. هَذَا وَمَلِكُهُمْ يُكَرِّرُ الْمُرَاسَلَاتِ إِلَيْهِمْ بِالتَّسْلِيمِ، وَيُشِيرُ عَلَيْهِمْ، وَيَعِدُهُمْ أَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ مِنَ الْأَسْرِ أَضْرَمَ الْبِلَادَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَارًا، وَاسْتَنْجَدَ بِالْفِرِنْجِ مِنَ الْبَحْرِ، وَأَجْلَبَ الْخَيْلَ وَالرَّجْلَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَقَاصِي بِلَادِ الْفِرِنْجِ وَأَدَانِيهَا، وَهُمْ لَا يُجِيبُونَ إِلَى مَا يَقُولُ وَلَا يَسْمَعُونَ مَا يُشِيرُ بِهِ. وَلِمَا رَأَوْا أَنَّهُمْ كُلَّ يَوْمٍ يَزْدَادُونَ ضَعْفًا وَوَهْنًا، وَإِذَا قُتِلَ مِنْهُمُ الرَّجُلُ لَا يَجِدُونَ لَهُ عِوَضًا، وَلَا لَهُمْ نَجْدَةٌ يَنْتَظِرُونَهَا، رَاسَلُوا مَلِكَهُمُ الْمَأْسُورَ فِي تَسْلِيمِ الْبَلَدِ عَلَى شُرُوطٍ اقْتَرَحُوهَا، فَأَجَابَهُمْ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَيْهَا. وَكَانُوا قَتَلُوا فِي الْحِصَارِ أَمِيرًا كَبِيرًا مِنَ الْمِهْرَانِيَّةِ، فَخَافُوا عِنْدَ مُفَارَقَةِ الْبَلَدِ أَنَّ عَشِيرَتَهُ يَقْتُلُونَ مِنْهُمْ بِثَأْرِهِ، فَاحْتَاطُوا فِيمَا اشْتَرَطُوا لِأَنْفُسِهِمْ، فَأُجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ جَمِيعِهِ، وَسَلَّمُوا الْمَدِينَةَ سَلْخَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنَ السَّنَةِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ الْحِصَارِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَسَيَّرَهُمْ صَلَاحُ الدِّينِ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَوَفَّى لَهُمْ بِالْأَمَانِ. ذِكْرُ فَتْحِ الْبِلَادِ وَالْحُصُونِ الْمُجَاوِرَةِ لِعَسْقَلَانَ لَمَّا فَتَحَ صَلَاحُ الدِّينِ عَسْقَلَانَ أَقَامَ بِظَاهِرِهَا، وَبَثَّ السَّرَايَا فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا، فَفَتَحُوا الرَّمْلَةَ، وَالدَّارُومَ، وَغَزَّةَ، وَمَشْهَدَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُبْنَى، وَبَيْتَ لَحْمٍ وَبَيْتَ جِبْرِيلَ، وَالنَّطْرُونَ، وَكُلَّ مَا كَانَ لِلدَّاوِيَّةِ. ذِكْرُ فَتْحِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ لَمَّا فَرَغَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ أَمْرِ عَسْقَلَانَ وَمَا يُجَاوِرُهَا مِنَ الْبِلَادِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى مِصْرَ أَخْرَجَ الْأُسْطُولَ الَّذِي بِهَا فِي جَمْعٍ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَمُقَدَّمُهُمْ حُسَامُ الدِّينِ لُؤْلُؤٌ الْحَاجِبُ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالشَّجَاعَةِ، وَالشَّهَامَةِ، وَيُمْنِ النَّقِيبَةِ. فَأَقَامُوا فِي الْبَحْرِ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْفِرِنْجِ، كُلَّمَا رَأَوْا لَهُمْ مَرْكَبًا غَنِمُوهُ، وَشَانِيًا أَخَذُوهُ، فَحِينَ وَصَلَ الْأُسْطُولُ وَخَلَا سِرُّهُ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ سَارَ عَنْ عَسْقَلَانَ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ. وَكَانَ بِهِ الْبَطْرَكُ الْمُعَظَّمُ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَعْظَمُ شَأْنًا مِنْ مَلِكِهِمْ، وَبِهِ أَيْضًا بَالْيَانُ بْنُ بِيرْزَانَ، صَاحِبُ الرَّمْلَةِ، وَكَانَتْ مَرْتَبَتُهُ عِنْدَهُمْ تُقَارِبُ مَرْتَبَةَ الْمَلِكِ. وَبِهِ أَيْضًا مَنْ خَلُصَ مِنْ فُرْسَانِهِمْ مِنْ حِطِّينَ، وَقَدْ جَمَعُوا وَحَشَدُوا، وَاجْتَمَعَ أَهْلُ تِلْكَ النَّوَاحِي،

عَسْقَلَانَ وَغَيْرِهَا. فَاجْتَمَعَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ، كُلُّهُمْ يَرَى الْمَوْتَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَمْلِكَ الْمُسْلِمُونَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ وَيَأْخُذُوهُ مِنْهُمْ، وَيَرَى أَنَّ بَذْلَ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَوْلَادِهِ بَعْضُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِهِ، وَحَصَّنُوهُ تِلْكَ الْأَيَّامَ بِمَا وَجَدُوا إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَصَعِدُوا عَلَى سُورِهِ بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِمْ، مُجْمِعِينَ عَلَى حِفْظِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ بِجُهْدِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ، مُظْهِرِينَ الْعَزْمَ عَلَى الْمُنَاضَلَةِ دُونَهُ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، وَنَصَبُوا الْمَجَانِيقَ عَلَى أَسْوَارِهِ لِيَمْنَعُوا مَنْ يُرِيدُ الدُّنُوَّ مِنْهُ وَالنُّزُولَ عَلَيْهِ. وَلَمَّا قَرُبَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْهُ تَقَدَّمَ أَمِيرٌ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، غَيْرَ مُحْتَاطٍ وَلَا حَذِرٍ، فَلَقِيَهُ جَمْعٌ مِنَ الْفِرِنْجِ قَدْ خَرَجُوا مِنَ الْقُدْسِ لِيَكُونُوا يَزَكًا، فَقَاتَلُوهُ وَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلُوهُ وَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِمَّنْ مَعَهُ، فَأَهَمَّ الْمُسْلِمِينَ قَتْلُهُ، وَفُجِعُوا بِفَقْدِهِ، وَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْقُدْسِ مُنْتَصَفَ رَجَبٍ. فَلَمَّا نَزَلُوا عَلَيْهِ رَأَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى سُورِهِ مِنَ الرِّجَالِ مَا هَالَهُمْ، وَسَمِعُوا لِأَهْلِهِ مِنَ الْجَلَبَةِ، وَالضَّجِيجِ مِنْ وَسَطِ الْمَدِينَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى كَثْرَةِ الْجَمْعِ، وَبَقِيَ صَلَاحُ الدِّينِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَطُوفُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ لِيَنْظُرَ مِنْ أَيْنَ يُقَاتِلُهُ، لِأَنَّهُ فِي غَايَةِ الْحَصَانَةِ وَالِامْتِنَاعِ، فَلَمْ يَجِدْ عَلَيْهِ مَوْضِعَ قِتَالٍ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ، نَحْوَ بَابِ عَمُودَا، وَكَنِيسَةِ صَهْيُونَ. فَانْتَقَلَ إِلَى هَذِهِ النَّاحِيَةِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ وَنَزَلَهَا، وَنَصَبَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الْمَجَانِيقَ، فَأَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ نَصْبِهَا، وَرَمَى بِهَا. وَنَصَبَ الْفِرِنْجُ عَلَى سُورِ الْبَلَدِ مَجَانِيقَ وَرَمَوْا بِهَا، وَقُوتِلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَرَى ذَلِكَ دِينًا، وَحَتْمًا وَاجِبًا، فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى بَاعِثٍ سُلْطَانِيٍّ بَلْ كَانُوا يَمْنَعُونَ وَلَا يَمْتَنِعُونَ وَيَزْجُرُونَ وَلَا يَنْزَجِرُونَ. وَكَانَ خَيَّالَةُ الْفِرِنْجِ كُلَّ يَوْمٍ يَخْرُجُونَ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ يُقَاتِلُونَ وَيُبَارِزُونَ، فَيُقْتَلُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَمِمَّنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ عِيسَى بْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَكَانَ أَبُوهُ صَاحِبَ قَلْعَةِ جَعْبَرٍ، وَكَانَ يَصْطَلِي الْقِتَالَ بِنَفْسِهِ كُلَّ يَوْمٍ، فَقُتِلَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ مَحْبُوبًا إِلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ مَصْرَعَهُ عَظُمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَأَخَذَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَزَالُوا الْفِرِنْجَ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ فَأَدْخَلُوهُمْ بَلَدَهُمْ، وَوَصَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْخَنْدَقِ، فَجَازُوهُ

وَالْتَصَقُوا إِلَى السُّورِ فَنَقَبُوهُ، وَزَحَفَ الرُّمَاةُ يَحْمُونَهُمْ، وَالْمَجَانِيقُ تُوَالِي الرَّمْيَ لِتَكْشِفَ الْفِرِنْجَ عَنِ الْأَسْوَارِ لِيَتَمَكَّنَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ النَّقْبِ، فَلَمَّا نَقَبُوهُ حَشَوْهُ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ شِدَّةَ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَحَكُّمَ الْمَجَانِيقِ بِالرَّمْيِ الْمُتَدَارِكِ، وَتَمَكُّنَ النَّقَّابِينَ مِنَ النَّقْبِ، وَأَنَّهُمْ قَدْ أَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَاكِ، اجْتَمَعَ مُقَدَّمُوهُمْ يَتَشَاوَرُونَ فِيمَا يَأْتُونَ وَيَذَرُونَ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى طَلَبِ الْأَمَانِ، وَتَسْلِيمِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ. فَأَرْسَلُوا جَمَاعَةً مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ فِي طَلَبِ الْأَمَانِ، فَلَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ امْتَنَعَ مِنْ إِجَابَتِهِمْ، وَقَالَ: لَا أَفْعَلُ بِكُمْ إِلَّا كَمَا فَعَلْتُمْ بِأَهْلِهِ حِينَ مَلَكْتُمُوهُ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَجَزَاءُ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا. فَلَمَّا رَجَعَ الرُّسُلُ خَائِبِينَ مَحْرُومِينَ، أَرْسَلَ بَالْيَانُ بْنُ بِيرْزَانَ وَطَلَبَ لِنَفْسِهِ لِيَحْضُرَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَتَحْرِيرِهِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَرَغِبَ فِي الْأَمَانِ، وَسَأَلَ فِيهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَعْطَفَهُ فَلَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهِ، وَاسْتَرْحَمَهُ فَلَمْ يَرْحَمْهُ. فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ لَهُ: أَيُّهَا السُّلْطَانُ اعْلَمْ أَنَّنَا فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَفْتُرُونَ عَنِ الْقِتَالِ رَجَاءَ الْأَمَانِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّكَ تُجِيبُهُمْ إِلَيْهِ كَمَا أَجَبْتَ غَيْرَهُمْ، وَهُمْ يَكْرَهُونَ الْمَوْتَ وَيَرْغَبُونَ فِي الْحَيَاةِ. فَإِذَا رَأَيْنَا أَنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَوَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَنُحَرِّقُ أَمْوَالَنَا وَأَمْتِعَتَنَا، وَلَا نَتْرُكُكُمْ تَغْنَمُونَ مِنْهَا دِينَارًا وَاحِدًا وَلَا دِرْهَمًا، وَلَا تَسْبُونَ وَتَأْسِرُونَ رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً. وَإِذَا فَرَغْنَا مِنْ ذَلِكَ أَخْرَبْنَا الصَّخْرَةَ وَالْمَسْجِدَ الْأَقْصَى وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْمَوَاضِعِ، ثُمَّ نَقْتُلُ مَنْ عِنْدَنَا مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ خَمْسَةُ آلَافِ أَسِيرٍ، وَلَا نَتْرُكُ لَنَا دَابَّةً وَلَا حَيَوَانًا إِلَّا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكُمْ كُلُّنَا فَقَاتَلْنَاكُمْ قِتَالَ مَنْ يُرِيدُ [أَنْ] يَحْمِيَ دَمَهُ وَنَفْسَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ حَتَّى يَقْتُلَ أَمْثَالَهُ، وَنَمُوتُ أَعِزَّاءَ أَوْ نَظْفَرُ كِرَامًا. فَاسْتَشَارَ صَلَاحُ الدِّينِ أَصْحَابَهُ. فَأَجْمَعُوا عَلَى إِجَابَتِهِمْ إِلَى الْأَمَانِ، وَأَنْ لَا يَخْرُجُوا وَيَحْمِلُوا عَلَى رُكُوبِ مَا لَا يُدْرَى عَاقِبَةُ الْأَمْرِ فِيهِ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ تَنْجَلِي، وَنَحْسَبُ أَنَّهُمْ أُسَارَى بِأَيْدِينَا، فَنَبِيعُهُمْ نُفُوسَهُمْ بِمَا يَسْتَقِرُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَأَجَابَ صَلَاحُ الدِّينِ حِينَئِذٍ إِلَى بَذْلِ الْأَمَانِ لِلْفِرِنْجِ. فَاسْتَقَرَّ أَنْ يَزِنَ الرَّجُلُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَيَزِنَ الطِّفْلُ مِنَ الذُّكُورِ وَالْبَنَاتِ دِينَارَيْنِ، وَتَزِنَ الْمَرْأَةُ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ، فَمَنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَقَدْ نَجَا، وَمَنِ انْقَضَتِ الْأَرْبَعُونَ يَوْمًا عَنْهُ وَلَمْ يُؤَدِّ مَا

عَلَيْهِ فَقَدْ صَارَ مَمْلُوكًا، فَبَذَلَ بَالْيَانُ بْنُ بِيرْزَانَ عَنِ الْفُقَرَاءِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ. وَسُلِّمَتِ الْمَدِينَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَرُفِعَتِ الْأَعْلَامُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَى أَسْوَارِهَا. وَرَتَّبَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى أَبْوَابِ الْبَلَدِ، فِي كُلِّ بَابٍ، أَمِينًا مِنَ الْأُمَرَاءِ لِيَأْخُذُوا مِنْ أَهْلِهِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِمْ، فَاسْتَعْمَلُوا الْخِيَانَةَ، وَلَمْ يُؤَدُّوا فِيهِ أَمَانَةً، وَاقْتَسَمَ الْأُمَنَاءُ الْأَمْوَالَ، وَتَفَرَّقَتْ أَيْدِي سَبًّا، وَلَوْ أُدِّيَتْ فِيهِ الْأَمَانَةُ لَمَلَأَ الْخَزَائِنَ، وَعَمَّ النَّاسَ. فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِ عَلَى الضَّبْطِ سِتُّونَ أَلْفَ رَجُلٍ مَا بَيْنَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ سِوَى مَنْ يَتْبَعُهُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، وَلَا يَعْجَبُ السَّامِعُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْبَلَدَ كَبِيرٌ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ النَّوَاحِي مِنْ عَسْقَلَانَ وَغَيْرِهَا، وَالدَّارُومِ، وَالرَّمْلَةِ، وَغَزَّةَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْقُرَى، بِحَيْثُ امْتَلَأَتِ الطُّرُقُ وَالْكَنَائِسُ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَمْشِيَ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى كَثْرَةِ الْخَلْقِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ وَزَنَ مَا اسْتَقَرَّ مِنَ الْقَطِيعَةِ، وَأَطْلَقَ بَالْيَانُ بْنُ بِيرْزَانَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ وَزَنَ عَنْهُمْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَبَقِيَ بَعْدَ هَذَا جَمِيعِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يُعْطِي، وَأُخِذَ أَسِيرًا سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ آدَمِيٍّ مَا بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ، هَذَا بِالضَّبْطِ وَالْيَقِينِ. ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ رَعِيَّةِ إِقْطَاعِهِ مُقِيمُونَ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَيُطْلِقُهُمْ وَيَأْخُذُ هُوَ قَطِيعَتَهُمْ، وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ يُلْبِسُونَ الْفِرِنْجَ زِيَّ الْجُنْدِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُخْرِجُونَهُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْهُمْ قَطِيعَةً قَرَّرُوهَا، وَاسْتَوْهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ عَدَدًا مِنَ الْفِرِنْجِ، فَوَهَبَهُمْ لَهُمْ، فَأَخَذُوا قَطِيعَتَهُمْ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَصِلْ إِلَى خَزَائِنِهِ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَكَانَ بِالْقُدْسِ بَعْضُ نِسَاءِ الْمُلُوكِ مِنَ الرُّومِ قَدْ تَرَهَّبَتْ وَأَقَامَتْ بِهِ، وَمَعَهَا مِنَ الْحَشَمِ وَالْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَلَهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، فَطَلَبَتِ الْأَمَانَ لِنَفْسِهَا وَمَنْ مَعَهَا، فَأَمَّنَهَا وَسَيَّرَهَا. وَكَذَلِكَ أَيْضًا أَطْلَقَ مَلِكَةَ الْقُدْسِ الَّتِي كَانَ زَوْجُهَا الَّذِي أَسَرَهُ صَلَاحُ الدِّينِ قَدْ مَلَكَ الْفِرِنْجَ بِسَبَبِهَا، وَنِيَابَةً عَنْهَا كَانَ يَقُومُ بِالْمُلْكِ، وَأَطْلَقَ مَالَهَا وَحَشَمَهَا، وَاسْتَأْذَنَتْهُ فِي الْمَصِيرِ إِلَى زَوْجِهَا، وَكَانَ حِينَئِذٍ مَحْبُوسًا بِقَلْعَةِ نَابُلُسَ، فَأَذِنَ لَهَا، فَأَتَتْهُ وَأَقَامَتْ عِنْدَهُ.

وَأَتَتْهُ أَيْضًا امْرَأَةٌ لِلْبِرِنْسِ أَرْنَاطَ صَاحِبِ الْكَرَكِ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ صَلَاحُ الدِّينِ بِيَدِهِ يَوْمَ الْمَصَافِّ بِحِطِّينَ، فَشَفَعَتْ فِي وَلَدٍ لَهَا مَأْسُورٍ، فَقَالَ لَهَا صَلَاحُ الدِّينِ: إِنْ سَلَّمْتِ الْكَرَكَ أَطْلَقْتُهُ، فَسَارَتْ إِلَى الْكَرَكِ، فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهَا الْفِرِنْجُ الَّذِي فِيهِ، وَلَمْ يُسَلِّمُوهُ فَلَمْ يُطْلَقْ وَلَدُهَا، وَلَكِنَّهُ أَطْلَقَ مَا لَهَا وَمَنْ تَبِعَهَا. وَخَرَجَ الْبَطْرَكُ الْكَبِيرُ الَّذِي لِلْفِرِنْجِ، وَمَعَهُ مِنْ أَمْوَالِ الْبِيَعِ مِنْهَا: الصَّخْرَةُ وَالْأَقْصَى، وَقُمَامَةُ وَغَيْرُهَا، مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْمَالِ مِثْلُ ذَلِكَ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ صَلَاحُ الدِّينِ، فَقِيلَ لَهُ لِيَأْخُذَ مَا مَعَهُ يُقَوِّي بِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: لَا أَغْدِرُ بِهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ غَيْرَ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَسَيَّرَ الْجَمِيعَ وَمَعَهُمْ مَنْ يَحْمِيهِمْ إِلَى مَدِينَةِ صُورَ. وَكَانَ عَلَى رَأْسِ قُبَّةِ الصَّخْرَةِ صَلِيبٌ كَبِيرٌ مُذَهَّبٌ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْبَلَدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَسَلَّقَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَعْلَى الْقُبَّةِ لِيَقْلَعُوا الصَّلِيبَ، فَلَمَّا فَعَلُوا وَسَقَطَ صَاحَ النَّاسُ كُلُّهُمْ صَوْتًا وَاحِدًا مِنَ الْبَلَدِ وَمِنْ ظَاهِرِهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْفِرِنْجُ: أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَكَبَّرُوا فَرَحًا، وَأَمَّا الْفِرِنْجُ فَصَاحُوا تَفَجُّعًا وَتَوَجُّعًا، فَسَمِعَ النَّاسُ ضَجَّةً كَادَتِ الْأَرْضُ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ لِعِظَمِهَا وَشِدَّتِهَا. فَلَمَّا مُلِكَ الْبَلَدُ وَفَارَقَهُ الْكُفَّارُ أَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ بِإِعَادَةِ الْأَبْنِيَةِ إِلَى حَالِهَا الْقَدِيمِ، فَإِنَّ الدَّاوِيَّةَ بَنَوْا غَرْبِيَّ الْأَقْصَى أَبْنِيَةً لِيَسْكُنُوهَا، وَعَمِلُوا فِيهَا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ هُرْيٍ وَمُسْتَرَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَدْخَلُوا بَعْضَ الْأَقْصَى فِي أَبْنِيَتِهِمْ فَأُعِيدَ إِلَى الْأَوَّلِ، وَأَمَرَ بِتَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ وَالصَّخْرَةِ مِنَ الْأَقْذَارِ وَالْأَنْجَاسِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَجْمَعَ. وَلَمَّا كَانَ الْجُمُعَةُ الْأُخْرَى، رَابِعَ شَعْبَانَ، صَلَّى الْمُسْلِمُونَ فِيهِ الْجُمُعَةَ، وَمَعَهُمْ صَلَاحُ الدِّينِ، وَصَلَّى فِي قُبَّةِ الصَّخْرَةِ، وَكَانَ الْخَطِيبُ وَالْإِمَامُ مُحْيِي الدِّينِ بْنَ الزَّكِيِّ، قَاضِيَ دِمَشْقَ، ثُمَّ رَتَّبَ فِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ خَطِيبًا وَإِمَامًا بِرَسْمِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَأَمَرَ أَنْ يُعْمَلَ لَهُ مِنْبَرٌ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ نُورَ الدِّينِ مَحْمُودًا كَانَ قَدْ عَمِلَ بِحَلَبَ مِنْبَرًا أَمَرَ الصُّنَّاعَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي تَحْسِينِهِ وَإِتْقَانِهِ، وَقَالَ: هَذَا قَدْ عَمِلْنَاهُ لِيُنْصَبَ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَعَمِلَهُ النَّجَّارُونَ فِي عِدَّةِ سِنِينَ لَمْ يُعْمَلْ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَحُمِلَ مِنْ حَلَبَ وَنُصِبَ بِالْقُدْسِ، وَكَانَ بَيْنَ عَمَلِ الْمِنْبَرِ وَحَمْلِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ نُورِ الدِّينِ، وَحُسْنِ مَقَاصِدِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

وَلَمَّا فَرَغَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ تَقَدَّمَ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَاسْتِنْفَادِ الْوُسْعِ فِي تَحْسِينِهِ وَتَرْصِيفِهِ، وَتَدْقِيقِ نُقُوشِهِ، فَأَحْضَرُوا مِنَ الرُّخَامِ الَّذِي لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ، وَمِنَ الْفَصِّ الْمُذَهَّبِ الْقُسْطَنْطِينِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، قَدِ ادُّخِرَ عَلَى طُولِ السِّنِينَ. فَشَرَعُوا فِي عِمَارَتِهِ، وَمَحَوْا مَا كَانَ فِي تِلْكَ الْأَبْنِيَةِ مِنَ الصُّوَرِ، وَكَانَ الْفِرِنْجُ فَرَشُوا الرُّخَامَ فَوْقَ الصَّخْرَةِ وَغَيَّبُوهَا، فَأَمَرَ بِكَشْفِهَا. وَكَانَ سَبَبُ تَغْطِيَتِهَا بِالْفُرُشِ أَنَّ الْقِسِّيسِينَ بَاعُوا كَثِيرًا مِنْهَا لِلْفِرِنْجِ الْوَارِدِينَ إِلَيْهِمْ مِنْ دَاخِلِ الْبَحْرِ لِلزِّيَارَةِ، فَكَانُوا يَشْتَرُونَهُ بِوَزْنِهِ ذَهَبًا رَجَاءَ بَرَكَتِهَا، وَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا دَخَلَ بِلَادَهُ بِالْيَسِيرِ مِنْهَا بَنَى لَهُ الْكَنِيسَةَ، وَيُجْعَلُ فِي مَذْبَحِهَا، فَخَافَ بَعْضُ مُلُوكِهِمْ أَنْ تَفْنَى، فَأَمَرَ بِهَا فَفُرِشَ فَوْقَهَا حِفْظًا لَهَا. فَلَمَّا كُشِفَتْ نَقَلَ إِلَيْهَا صَلَاحُ الدِّينِ الْمَصَاحِفَ الْحَسَنَةَ، وَالرَّبَعَاتِ الْجَيِّدَةَ، وَرَتَّبَ الْقُرَّاءَ، وَأَدَرَّ عَلَيْهِمُ الْوَظَائِفَ الْكَثِيرَةَ، فَعَادَ الْإِسْلَامُ هُنَاكَ غَضًّا طَرِيًّا، وَهَذِهِ الْمَكْرُمَةُ مِنْ فَتْحِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ لَمْ يَفْعَلْهَا بَعْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، غَيْرُ صَلَاحِ الدِّينِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَفَاهُ ذَلِكَ فَخْرًا وَشَرَفًا. وَأَمَّا الْفِرِنْجُ مِنْ أَهْلِهِ فَإِنَّهُمْ أَقَامُوا، وَشَرَعُوا فِي بَيْعِ مَا لَا يُمْكِنُهُمْ حَمْلُهُ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ وَذَخَائِرِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَمَا لَا يُطِيقُونَ حَمْلَهُ، وَبَاعُوا ذَلِكَ بِأَرْخَصِ الثَّمَنِ، فَاشْتَرَاهُ التُّجَّارُ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ، وَاشْتَرَاهُ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْقُدْسِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنَ الْفِرِنْجِ، فَإِنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنَ الْمُقَامِ فِي مَسَاكِنِهِمْ، وَيَأْخُذَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَاشْتَرَوْا حِينَئِذٍ مِنْ أَمْوَالِ الْفِرِنْجِ. وَتَرَكَ الْفِرِنْجُ أَيْضًا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَمْ يُمْكِنْهُمْ بَيْعُهَا مِنَ الْأَسِرَّةِ وَالصَّنَادِيقِ وَالْبَتِّيَّاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَرَكُوا أَيْضًا مِنَ الرُّخَامِ الَّذِي لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ، مِنَ الْأَسَاطِينِ وَالْأَلْوَاحِ وَالْفَصِّ وَغَيْرِهِ، شَيْئًا كَثِيرًا ثُمَّ سَارُوا.

ذِكْرُ رَحِيلِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى صُورَ وَمُحَاصَرَتِهَا. لَمَّا فَتَحَ صَلَاحُ الدِّينِ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ أَقَامَ بِظَاهِرِهِ إِلَى الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ يُرَتِّبُ أُمُورَ الْبَلَدِ وَأَحْوَالَهُ، وَتَقَدَّمَ بِعَمَلِ الرُّبَطِ وَالْمَدَارِسِ، فَجَعَلَ دَارَ الِاسْبِتَارِ مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحُسْنِ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ الْبَلَدِ سَارَ إِلَى مَدِينَةِ صُورَ، وَكَانَتْ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا مِنَ الْفِرِنْجِ عَالَمٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ صَارَ الْمَرْكِيسُ صَاحِبَهَا وَالْحَاكِمَ فِيهَا، وَقَدْ سَاسَهُمْ أَحْسَنَ سِيَاسَةٍ، وَبَالَغَ فِي تَحْصِينِ الْبَلَدِ. وَوَصَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى عَكَّا، وَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، فَلَمَّا سَمِعَ الْمَرْكِيسُ بِوُصُولِهِ إِلَيْهَا جَدَّ فِي عَمَلِ سُورِ صُورَ وَخَنَادِقِهَا وَتَعْمِيقِهَا، وَوَصَلَهَا مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَصَارَتِ الْمَدِينَةُ كَالْجَزِيرَةِ فِي وَسَطِ الْمَاءِ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا وَلَا الدُّنُوُّ مِنْهَا. ثُمَّ رَحَلَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ عَكَّا، فَوَصَلَ إِلَى صُورَ تَاسِعَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَنَزَلَ عَلَى نَهْرٍ قَرِيبٍ [مِنَ] الْبَلَدِ بِحَيْثُ يَرَاهُ، حَتَّى اجْتَمَعَ النَّاسُ وَتَلَاحَقُوا، وَسَارَ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ. فَنَزَلَ عَلَى تَلٍّ يُقَارِبُ سُورَ الْبَلَدِ، بِحَيْثُ يَرَى الْقِتَالَ، وَقَسَّمَ الْقِتَالَ عَلَى الْعَسْكَرِ كُلُّ جَمْعٍ مِنْهُمْ لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ يُقَاتِلُونَ فِيهِ، بِحَيْثُ يَتَّصِلُ الْقِتَالُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، عَلَى أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُقَاتِلُونَ فِيهِ قَرِيبُ الْمَسَافَةِ، يَكْفِيهِ الْجَمَاعَةُ الْيَسِيرَةُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لِحِفْظِهِ، وَعَلَيْهِ الْخَنَادِقُ الَّتِي قَدْ وَصَلَتْ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ، فَلَا يَكَادُ الطَّيْرُ يَطِيرُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكَفِّ فِي الْبَحْرِ، وَالسَّاعِدَ مُتَّصِلٌ بِالْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِنْ جَانِبَيِ السَّاعِدِ، وَالْقِتَالُ إِنَّمَا هُوَ فِي السَّاعِدِ، فَزَحَفَ الْمُسْلِمُونَ مَرَّةً بِالْمَجَانِيقِ، وَالْعَرَّادَاتِ، وَالْجُرُوخِ، وَالدَّبَّابَاتِ. وَكَانَ أَهْلُ صَلَاحِ الدِّينِ يَتَنَاوَبُونَ الْقِتَالَ مِثْلَ: وَلَدِهِ الْأَفْضَلِ، وَوَلَدِهِ الظَّاهِرِ غَازِي، وَأَخِيهِ الْعَادِلِ بْنِ أَيُّوبَ، وَابْنِ أَخِيهِ تَقِيِّ الدِّينِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمَرَاءِ. وَكَانَ لِلْفِرِنْجِ شَوَانٍ وَحَرَّاقَاتٌ يَرْكَبُونَ فِيهَا فِي الْبَحْرِ، وَيَقِفُونَ مِنْ جَانِبَيِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَاتِلُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ أَهْلَ الْبَلَدِ، فَيَرْمُونَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَانِبِهِمْ بِالْجُرُوخِ، وَيُقَاتِلُونَهُمْ. وَكَانَ ذَلِكَ يَعْظُمُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ يُقَاتِلُونَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَأَصْحَابَ الشَّوَانِي يُقَاتِلُونَهُمْ مِنْ جَانِبَيْهِمْ، فَكَانَتْ سِهَامُهُمْ تَنْفُذُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ لِضِيقِ الْمَوْضِعِ، فَكَثُرَتِ الْجِرَاحَاتُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْقَتْلُ. وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا

مِنَ الدُّنُوِّ إِلَى الْبَلَدِ، فَأَرْسَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الشَّوَانِي الَّتِي جَاءَتْهُ مِنْ مِصْرَ، وَهِيَ عَشْرُ قِطَعٍ، وَكَانَتْ بِعَكَّا، فَأَحْضَرَهَا بِرِجَالِهَا وَمُقَاتِلَتِهَا وَعِدَّتِهَا، وَكَانَتْ فِي الْبَحْرِ تَمْنَعُ شَوَانِيَ أَهْلِ صُورَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَتَمَكَّنَ الْمُسْلِمُونَ حِينَئِذٍ مِنَ الْقُرْبِ مِنَ الْبَلَدِ، وَمِنْ قِتَالِهِ، فَقَاتَلُوهُ بَرًّا وَبَحْرًا وَضَايَقُوهُ حَتَّى كَادُوا يَظْفَرُونَ. فَجَاءَتِ الْأَقْدَارُ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحِسَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ خَمْسَ قِطَعٍ مِنْ شَوَانِي الْمُسْلِمِينَ بَاتَتْ، فِي بَعْضِ تِلْكَ اللَّيَالِي، مُقَابِلَ مِينَاءِ صُورَ لِيُمْنَعُوا مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهُ وَالدُّخُولِ إِلَيْهِ، فَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ يَحْرُسُونَ، وَكَانَ مُقَدَّمُهُمْ عَبْدَ السَّلَامِ الْمَغْرِبِيَّ الْمَوْصُوفَ بِالْحَذَقِ فِي صِنَاعَتِهِ. فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ السَّحَرِ أَمِنُوا فَنَامُوا، فَمَا شَعَرُوا إِلَّا بِشَوَانِي الْفِرِنْجِ قَدْ نَازَلَتْهُمْ وَضَايَقَتْهُمْ، فَأَوْقَعَتْ بِهِمْ، فَقَتَلُوا مَنْ أَرَادُوا قَتْلَهُ، وَأَخَذُوا الْبَاقِينَ بِمَرَاكِبِهِمْ، وَأُدْخِلُوا مِينَاءَ صُورَ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي الْبَرِّ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ، وَرَمَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الشَّوَانِي فِي الْبَحْرِ، فَمِنْهُمْ مَنْ سَبَحَ فَنَجَا، وَمِنْهُمْ مَنْ غَرِقَ. وَتَقَدَّمَ السُّلْطَانُ إِلَى الشَّوَانِي الْبَاقِيَةِ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَيْرُوتَ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِهَا لِقِلَّتِهَا، فَسَارَتْ، فَتَبِعَهَا شَوَانِي الْفِرِنْجِ، فَحِينَ رَأَى مَنْ فِي شَوَانِي الْمُسْلِمِينَ الْفِرِنْجَ مُجِدِّينَ فِي طَلَبِهِمْ أَلْقَوْا نُفُوسَهُمْ فِي شَوَانِيهِمْ إِلَى الْبَرِّ فَنَجَوْا وَتَرَكُوهَا، فَأَخَذَهَا صَلَاحُ الدِّينِ، وَنَقَضَهَا وَعَادَ إِلَى مُقَاتَلَةِ صُورَ فِي الْبَرِّ، وَكَانَ ذَلِكَ قَلِيلَ الْجَدْوَى لِضِيقِ الْمَجَالِ. وَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ خَرَجَ الْفِرِنْجُ فَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَاءِ خَنَادِقِهِمْ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَدَامَ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، كَانَ خُرُوجُهُمْ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ فَارِسٌ كَبِيرٌ مَشْهُورٌ، بَعْدَ أَنْ كَثُرَ الْقِتَالُ وَالْقَتْلُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، لَمَّا سَقَطَ، فَلَمَّا أُسِرَ قُتِلَ، وَبَقَوْا كَذَلِكَ عِدَّةَ أَيَّامٍ. ذِكْرُ الرَّحِيلِ عَنْ صُورَ إِلَى عَكَّا وَتَفْرِيقِ الْعَسَاكِرِ لَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ أَنَّ أَمْرَ صُورَ يَطُولُ رَحَلَ عَنْهَا، وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتُهُ، مَتَى

ثَبَتَ الْبَلَدُ بَيْنَ يَدَيْهِ ضَجَرَ مِنْهُ وَمِنْ حِصَارِهِ فَرَحَلَ عَنْهُ، وَكَانَ هَذِهِ السَّنَةَ لَمْ يَطُلْ مُقَامُهُ عَلَى مَدِينَةٍ بَلْ فَتَحَ الْجَمِيعَ فِي الْأَيَّامِ الْقَرِيبَةِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، بِغَيْرِ تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ. فَلَمَّا رَأَى هُوَ وَأَصْحَابُهُ شِدَّةَ أَمْرِ صُورَ مَلُّوهَا، وَطَلَبُوا الِانْتِقَالَ عَنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ ذَنْبٌ فِي أَمْرِهَا غَيْرَ صَلَاحِ الدِّينِ، فَإِنَّهُ هُوَ جَهَّزَ إِلَيْهَا جُنُودَ الْفِرِنْجِ، وَأَمَدَّهَا بِالرِّجَالِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ أَهْلِ عَكَّا وَعَسْقَلَانَ وَالْقُدْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ. كَانَ يُعْطِيهِمُ الْأَمَانَ وَيُرْسِلُهُمْ إِلَى صُورَ، فَصَارَ فِيهَا مَنْ سَلِمَ مِنْ فُرْسَانِ الْفِرِنْجِ بِالسَّاحِلِ، بِأَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِ التُّجَّارِ وَغَيْرِهِمْ، فَحَفِظُوا الْمَدِينَةَ وَرَاسَلُوا الْفِرِنْجَ دَاخِلَ الْبَحْرِ يَسْتَمِدُّونَهُمْ، فَأَجَابُوهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ لِدَعْوَتِهِمْ، وَوَعْدِهِمْ بِالنُّصْرَةِ، وَأَمَرُوهُمْ بِحِفْظِ صُورَ لِتَكُونَ دَارَ هِجْرَتِهِمْ يَحْتَمُونَ بِهَا وَيَلْجَأُونَ إِلَيْهَا، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ حِرْصًا عَلَى حِفْظِهَا وَالذَّبِّ عَنْهَا. وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا صَارَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْحَزْمَ، وَإِنْ سَاعَدَتْهُ الْأَقْدَارُ، فَلَأَنْ يَعْجِزَ حَازِمًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَظْفَرَ مُفَرِّطًا مُضَيِّعًا لِلْحَزْمِ، وَأَعْذَرُ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ. وَلَمَّا أَرَادَ الرَّحِيلَ اسْتَشَارَ أُمَرَاءَهُ، فَاخْتَلَفُوا، فَجَمَاعَةٌ يَقُولُونَ: الرَّأْيُ أَنْ نَرْحَلَ، فَقَدْ جُرِحَ الرِّجَالُ، وَقُتِلُوا، وَمَلُّوا، وَفَنِيَتِ النَّفَقَاتُ، وَهَذَا الشِّتَاءُ قَدْ حَضَرَ، وَالشَّوْطُ بِطِينٍ، فَنُرِيحُ وَنَسْتَرِيحُ فِي هَذَا الْبَرْدِ، فَإِذَا جَاءَ الرَّبِيعُ اجْتَمَعْنَا وَعَاوَدْنَاهَا وَغَيْرَهَا. وَكَانَ هَذَا قَوْلَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ، وَكَأَنَّهُمْ خَافُوا أَنَّ السُّلْطَانَ يَقْتَرِضُ مِنْهُمْ مَا يُنْفِقُهُ فِي الْعَسْكَرِ إِذَا أَقَامَ لِخُلُوِّ الْخَزَائِنِ وَبُيُوتِ الْأَمْوَالِ مِنَ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُخْرِجُ كُلَّ مَا حُمِلَ إِلَيْهِ مِنْهَا. وَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى: الرَّأْيُ أَنْ نُصَابِرَ الْبَلَدَ وَنُضَايِقَهُ، فَهُوَ الَّذِي يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ مِنْ حُصُونِهِمْ، وَمَتَى أَخَذْنَاهُ مِنْهُمُ انْقَطَعَ طَمَعُ مَنْ دَاخِلِ الْبَحْرِ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَأَخَذْنَا بَاقِيَ الْبِلَادِ صَفْوًا عَفْوًا. فَبَقِيَ صَلَاحُ الدِّينِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الرَّحِيلِ وَالْإِقَامَةِ، فَلَمَّا رَأَى مَنْ يَرَى الرَّحِيلَ إِقَامَتَهُ أَخَلَّ بِمَا رُدَّ إِلَيْهِ مِنَ الْمُحَارَبَةِ وَالرَّمْيِ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَاعْتَذَرُوا بِجِرَاحِ رِجَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ قَدْ أَرْسَلُوا بَعْضَهُمْ لِيُحْضِرُوا نَفَقَاتِهِمْ وَالْعُلُوفَاتِ لِدَوَابِّهِمْ وَالْأَقْوَاتَ لَهُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ، فَصَارُوا مُقِيمِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَاضْطُرَّ إِلَى الرَّحِيلِ، فَرَحَلَ عَنْهَا آخِرَ شَوَّالٍ. وَكَانَ أَوَّلَ كَانُونَ الْأَوَّلِ، إِلَى عَكَّا، فَأَذِنَ لِلْعَسَاكِرِ جَمِيعِهَا بِالْعَوْدِ إِلَى أَوْطَانِهِمْ

وَالِاسْتِرَاحَةِ فِي الشِّتَاءِ، وَالْعَوْدِ فِي الرَّبِيعِ، فَعَادَتْ عَسَاكِرُ الشَّرْقِ وَالْمَوْصِلِ وَغَيْرِهَا، وَعَسَاكِرُ الشَّامِ، وَعَسَاكِرُ مِصْرَ، وَبَقِيَ حَلِقَتُهُ الْخَاصُّ مُقِيمًا بِعَكَّا، فَنَزَلَ بِقَلْعَتِهَا، وَرَدَّ أَمْرَ الْبَلَدِ إِلَى عِزِّ الدِّينِ جُورْدِيكَ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْمَمَالِيكِ النُّورِيَّةِ، جَمَعَ الدِّيَانَةَ، وَالشَّجَاعَةَ، وَحُسْنَ السِّيرَةِ. ذِكْرُ فَتْحِ هُونِينَ لَمَّا فَتَحَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ تِبْنِينَ امْتَنَعَ مَنْ بِهُونِينَ مِنْ تَسْلِيمِهَا، وَهِيَ مِنْ أَحْصَنِ الْقِلَاعِ وَأَمْنَعِهَا، فَلَمْ يَرَ التَّعْرِيجَ عَلَيْهَا وَلَا الِاشْتِغَالَ بِمُحَاصَرَتِهَا، بَلْ سَيَّرَ إِلَيْهَا جَمَاعَةً مِنَ الْعَسْكَرِ وَالْأُمَرَاءِ فَحَصَرُوهَا، وَمَنَعُوا مِنْ حَمْلِ الْمِيرَةِ إِلَيْهَا، وَاشْتَغَلَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ فَتْحِ عَسْقَلَانَ وَالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ يُحَاصِرُ مَدِينَةَ صُورَ أَرْسَلَ مَنْ فِيهَا يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ، فَسَلَّمُوا، وَنَزَلُوا مِنْهَا فَوَفَّى لَهُمْ بِأَمَانِهِمْ. ذِكْرُ حَصْرِ صَفَدَ وَكَوْكَبَ وَالْكَرَكِ لَمَّا سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى عَسْقَلَانَ جَعَلَ عَلَى قَلْعَةِ كَوْكَبَ، وَهِيَ مُطِلَّةٌ عَلَى الْأُرْدُنِّ مَنْ يَحْصُرُهَا، وَيَحْفَظُ الطَّرِيقَ لِلْمُجْتَازِينَ لِئَلَّا يَنْزِلَ مَنْ بِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ يَقْطَعُونَهُ، وَسَيَّرَ طَائِفَةً أُخْرَى مِنَ الْعَسْكَرِ أَيْضًا إِلَى قَلْعَةِ صَفَدَ فَحَصَرُوهَا، وَهِيَ مُطِلَّةٌ عَلَى مَدِينَةِ طَبَرِيَّةَ. وَكَانَ حِصْنُ كَوْكَبَ لِلْإِسْبِتَارِ، وَحِصْنُ صَفَدَ لِلدَّاوِيَّةِ، وَهُمَا قَرِيبَانِ مِنْ حِطِّينَ، مَوْضِعِ الْمَصَافِّ، فَلَجَأَ إِلَيْهَا جَمْعٌ مِمَّنْ سَلِمَ مِنَ الدَّاوِيَّةِ وَالِاسْبِتَارِ فَحَمَوْهُمَا، فَلَمَّا حَصَرَهُمَا الْمُسْلِمُونَ اسْتَرَاحَ النَّاسُ مِنْ شَرِّ مَنْ فِيهِمَا، وَاتَّصَلَتِ الطُّرُقُ حَتَّى كَانَ يَسِيرُ فِيهَا الْمُنْفَرِدُ فَلَا يَخَافُ. وَكَانَ مُقَدَّمُ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يَحْصُرُونَ قَلْعَةَ كَوْكَبَ أَمِيرًا يُقَالُ لَهُ سَيْفُ الدِّينِ، وَهُوَ أَخُو جَاوِلِي الْأَسَدِيِّ، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، يَرْجِعُ إِلَى دِينٍ وَعِبَادَةٍ، فَأَقَامَ عَلَيْهِ إِلَى آخِرِ شَوَّالٍ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَحْرُسُونَ نُوَبًا مُرَتَّبَةً. فَلَمَّا كَانَ آخِرُ لَيْلَةٍ مِنْ شَوَّالٍ غَفَلَ الَّذِي

كَانَتْ نَوْبَتُهُ فِي الْحِرَاسَةِ، وَكَانَ قَدْ صَلَّى وِرْدَهُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَى السَّحَرِ، وَكَانَتْ لَيْلَةً كَثِيرَةَ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ، وَالرِّيحِ وَالْمَطَرِ، فَلَمْ يَشْعُرِ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ نَازِلُونَ إِلَّا وَالْفِرِنْجُ قَدْ خَالَطُوهُمْ بِالسُّيُوفِ، وَوَضَعُوا السِّلَاحَ فِيهِمْ، فَقَتَلُوهُمْ أَجْمَعِينَ، وَأَخَذُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ طَعَامٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِهِ وَعَادُوا إِلَى قَلْعَتِهِمْ، فَقَوُوا بِذَلِكَ قُوَّةً عَظِيمَةً أَمْكَنَتْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا قَلْعَتَهُمْ إِلَى أَنْ أُخِذَتْ أَوَاخِرَ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ بِذَلِكَ، عِنْدَ رَحِيلِهِ عَنْ (صُورَ، فَعَظُمَ) ذَلِكَ عَلَيْهِ، مُضَافًا إِلَى مَا نَالَهُ مِنْ أَخْذِ شَوَانِيهِ وَمَنْ فِيهَا، وَرَحِيلِهِ عَنْ صُورَ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى حِصْنِ كَوْكَبَ الْأَمِيرَ قَايْمَازْ النَّجْمِيَّ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى مِنَ الْأَجْنَادِ، فَحَصَرُوهَا. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِعَرَفَاتٍ وَقَتْلِ ابْنِ الْمُقَدَّمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، يَوْمَ عَرَفَةَ، قُتِلَ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُقَدَّمِ بِعَرَفَاتٍ، وَهُوَ أَكْبَرُ الْأُمَرَاءِ الصَّلَاحِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذَكْرِهِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ طَلَبَ إِذْنًا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ لِيَحُجَّ وَيُحْرِمَ مِنَ الْقُدْسِ، وَيَجْمَعَ فِي سَنَةٍ بَيْنَ الْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَزِيَارَةِ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا بِالشَّامِ مِنْ مَشَاهِدِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَيْنَ زِيَارَةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَجْمَعِينَ، فَأَذِنَ لَهُ. وَكَانَ قَدِ اجْتَمَعَ تِلْكَ السَّنَةَ مِنَ الْحُجَّاجِ بِالشَّامِ الْخَلْقُ الْعَظِيمُ مِنَ الْبِلَادِ: الْعِرَاقِ، وَالْمَوْصِلِ، وَدِيَارِ بَكْرٍ، وَالْجَزِيرَةِ، وَخِلَاطَ، وَبِلَادِ الرُّومِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهَا، لِيَجْمَعُوا بَيْنَ زِيَارَةِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ وَمَكَّةَ، فَجُعِلَ ابْنُ الْمُقَدَّمِ أَمِيرًا عَلَيْهِمْ فَسَارُوا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى عَرَفَاتٍ سَالِمِينَ، وَوَقَفُوا فِي تِلْكَ الْمَشَاعِرِ، وَأَدَّوُا الْوَاجِبَ وَالسُّنَّةَ. فَلَمَّا كَانَ عَشِيَّةُ عَرَفَةَ تَجَهَّزَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لِيَسِيرُوا مِنْ عَرَفَاتٍ، فَأَمَرَ بِضَرْبِ كَوْسَاتِهِ الَّتِي هِيَ أَمَارَةُ الرَّحِيلِ، فَضَرَبَهَا أَصْحَابُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْحَاجِّ الْعِرَاقِيِّ،

وَهُوَ مُجِيرُ الدِّينِ طَاشْ تِكِينُ، يَنْهَاهُ عَنِ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ قَبْلَهُ، وَيَأْمُرُهُ بِكَفِّ أَصْحَابِهِ عَنْ ضَرْبِ كَوْسَاتِهِ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: إِنِّي لَيْسَ لِي مَعَكَ تَعَلُّقٌ، أَنْتَ أَمِيرُ الْحَاجِّ الْعِرَاقِيِّ، وَأَنَا أَمِيرُ الْحَاجِّ الشَّامِيِّ، وَكُلٌّ مِنَّا يَفْعَلُ مَا يَرَاهُ وَيَخْتَارُهُ، وَسَارَ وَلَمْ يَقِفْ، وَلَمْ يَسْمَعْ قَوْلَهُ. فَلَمَّا رَأَى طَاشْ تِكِينُ إِصْرَارَهُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ رَكِبَ فِي أَصْحَابِهِ وَأَجْنَادِهِ، وَتَبِعَهُ مِنْ غَوْغَاءِ الْحَاجِّ الْعِرَاقِيِّ وَبَطَّاطِيهِمْ، وَطَمَّاعَتِهِمُ، الْعَالَمُ الْكَثِيرُ، وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ، وَقَصَدُوا حَاجَّ الشَّامِ مُهَوِّلِينَ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا قَرُبُوا مِنْهُمْ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنَ الضَّبْطِ، وَعَجَزُوا عَنْ تَلَافِيهِ، فَهَجَمَ طَمَّاعَةُ الْعِرَاقِ عَلَى حَاجِّ الشَّامِ وَفَتَكُوا فِيهِمْ، وَقَتَلُوا جَمَاعَةً وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُمْ وَسُبِيَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ نِسَائِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُنَّ رُدِدْنَ عَلَيْهِمْ. وَجُرِحَ ابْنُ الْمُقَدَّمِ عِدَّةَ جِرَاحَاتٍ، وَكَانَ يَكُفُّ أَصْحَابَهُ عَنِ الْقِتَالِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُمْ لَانْتَصَفَ مِنْهُمْ وَزَادَ، لَكِنَّهُ أَخَذَهُ طَاشْ تِكِينْ إِلَى خَيْمَتِهِ، وَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ لِيُمَرِّضَهُ وَيَسْتَدْرِكَ الْفَارِطَ فِي حَقِّهِ، وَسَارُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مَاتَ بِمِنًى، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْمُعَلَّى، وَرُزِقَ الشَّهَادَةَ بَعْدَ الْجِهَادِ، وَشُهُودِ فَتْحِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ قُوَّةِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْ عَلَى قُزَلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَوِيَ أَمْرُ السُّلْطَانِ طُغْرُلْ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَمَلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْبِلَادِ، فَأَرْسَلَ قُزَلُ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْتَنْجِدُهُ، وَيُخَوِّفُهُ مِنْ طُغْرُلْ، وَيَبْذُلُ مِنْ نَفْسِهِ الطَّاعَةَ وَالتَّصَرُّفَ عَلَى مَا يَخْتَارُونَهُ. وَأَرْسَلَ طُغْرُلْ رَسُولًا إِلَى بَغْدَادَ يَقُولُ: أُرِيدُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الدِّيوَانُ بِعِمَارَةِ [دَارِ] السَّلْطَنَةِ لِأَسْكُنَهَا إِذَا وَصَلْتُ، فَأَكْرَمَ رَسُولَ قُزَلَ وَوَعَدَهُ بِالنَّجْدَةِ، وَرَدَّ رَسُولَ السُّلْطَانِ طُغْرُلْ بِغَيْرِ جَوَابٍ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِنَقْضِ دَارِ السَّلْطَنَةِ، فَهُدِمَتْ إِلَى الْأَرْضِ، وَعُفِيَ أَثَرُهَا. ذِكْرُ مُلْكِ شَرْسَتِي مِنَ الْهِنْدِ وَغَيْرِهَا وَانْهِزَامِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهَا فِي آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ شِهَابُ الدِّينِ الْغَوْرِيُّ، مَلِكُ غَزْنَةَ، إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ، وَقَصَدَ بِلَادَ أَجْمِيرْ، وَتَعَرَّفَ بِوِلَايَةِ السَّوَالِكِ، وَاسْمُ مَلِكِهِمْ كُولَةُ، وَكَانَ شُجَاعًا

شَهْمًا، فَلَمَّا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ بِلَادَهُ مَلَكُوا مَدِينَةَ تَبْرَنْدَةَ، وَهِيَ حِصْنٌ مَنِيعٌ عَامِرٌ، وَمَلَكُوا شَرْسَتِي، وَمَلَكُوا كُوَّةَ رَامْ. فَلَمَّا سَمِعَ مَلِكُهُمْ جَمَعَ الْعَسَاكِرَ فَأَكْثَرَ، وَسَارَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَالْتَقَوْا، وَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، وَكَانَ مَعَ الْهِنْدِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فِيلًا، فَلَمَّا اشْتَدَّتِ الْحَرْبُ انْهَزَمَتْ مَيْمَنَةُ الْمُسْلِمِينَ وَمَيْسَرَتُهُمْ، فَقَالَ لِشِهَابِ الدِّينِ بَعْضُ خَوَاصِّهِ: قَدِ انْكَسَرَتِ الْمَيْمَنَةُ وَالْمَيْسَرَةُ، فَانْجُ بِنَفْسِكَ لَا يَهْلِكُ الْمُسْلِمُونَ. فَأَخَذَ شِهَابُ الدِّينِ الرُّمْحَ وَحَمَلَ عَلَى الْهُنُودِ، فَوَصَلَ إِلَى الْفِيَلَةِ، فَطَعَنَ فِيلًا مِنْهَا فِي كَتِفِهِ، وَجُرْحُ الْفِيلِ لَا يَنْدَمِلُ، فَلَمَّا وَصَلَ شِهَابُ الدِّينِ إِلَى الْفِيَلَةِ زَرَقَهُ بَعْضُ الْهُنُودِ بِحَرْبَةٍ، فَوَقَعَتِ الْحَرْبَةُ فِي سَاعِدِهِ، فَنَفَذَتِ الْحَرْبَةُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَوَقَعَ حِينَئِذٍ إِلَى الْأَرْضِ، فَقَاتَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ لِيُخَلِّصُوهُ، وَحَرَصَتِ الْهُنُودُ عَلَى أَخْذِهِ، وَكَانَ عِنْدَهُ حَرْبٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، وَأَخَذَهُ أَصْحَابُهُ فَرَكَّبُوهُ فَرَسَهُ وَعَادُوا بِهِ مُنْهَزِمِينَ. فَلَمْ يَتْبَعْهُمُ الْهُنُودُ، فَلَمَّا أُبْعِدُوا عَنْ مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ بِمِقْدَارِ فَرْسَخٍ أُغْمِيَ عَلَى شِهَابِ الدِّينِ مِنْ كَثْرَةِ خُرُوجِ الدَّمِ، فَحَمَلَهُ الرِّجَالُ عَلَى أَكْتَافِهِمْ فِي مِحَفَّةِ الْيَدِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فَرْسَخًا. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى لَهَاوُورْ أَخَذَ الْأُمَرَاءَ الْغُورِيَّةَ، وَهُمُ الَّذِينَ انْهَزَمُوا وَلَمْ يَثْبُتُوا، وَعَلَّقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلِيقَ شَعِيرٍ، وَقَالَ: أَنْتُمْ دَوَابُّ مَا أَنْتُمْ أُمَرَاءَ! وَسَارَ إِلَى غَزْنَةَ، وَأَمَرَ بَعْضَهُمْ فَمَشَى إِلَيْهَا مَاشِيًا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى غَزْنَةَ أَقَامَ بِهَا لِيَسْتَرِيحَ النَّاسُ، وَنَذْكُرُ مَا فَعَلَهُ بِمَلِكِ الْهِنْدِ الَّذِي هَزَمَهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، قُتِلَ مَجْدُ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ الصَّاحِبِ، وَهُوَ أُسْتَاذُ دَارِ الْخَلِيفَةِ، أَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِقَتْلِهِ، وَكَانَ مُتَحَكِّمًا فِي الدَّوْلَةِ، لَيْسَ لِلْخَلِيفَةِ مَعَهُ حُكْمٌ، وَكَانَ هُوَ الْقَيِّمَ بِالْبَيْعَةِ لَهُ، وَظَهَرَ لَهُ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ، أُخِذَ جَمِيعُهَا، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ عَفِيفًا عَنِ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ الَّذِي سَعَى بِهِ إِنْسَانٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَصَنَائِعِهِ، يُقَالُ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، فَسَعَى بِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَقَبَّحَ آثَارَهُ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ

وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَقَعَ حَرِيقٌ فِي الْحَظَائِرِ بِبَغْدَادَ، وَاحْتَرَقَتْ أَحْطَابٌ كَثِيرَةٌ، وَسَبَبُهُ أَنْ فَقِيهًا بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ كَانَ يَطْبُخُ طَعَامًا يَأْكُلُهُ، فَغَفَلَ عَنِ النَّارِ وَالطَّبِيخِ، فَعَلَقَتِ النَّارُ وَاتَّصَلَتْ إِلَى الْحَظَائِرِ، فَاحْتَرَقَتْ جَمِيعُهَا، وَاحْتَرَقَ دَرْبُ السِّلْسِلَةِ وَغَيْرُهُ مِمَّا يُجَاوِرُهُ. وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ، اسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ أَبَا الْمُظَفَّرِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ يُونُسَ، وَلَقَبُهُ جَلَالُ الدِّينِ، وَمَشَى أَرْبَابُ الدَّوْلَةِ فِي رِكَابِهِ، حَتَّى قَاضِي الْقُضَاةِ، وَكَانَ ابْنُ يُونُسَ مِنْ شُهُودِهِ، وَكَانَ يَمْشِي وَيَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ طُولَ الْعُمُرِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمُغِيثِ بْنُ زُهَيْرٍ الْحَرْبِيُّ بِبَغْدَادَ وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْحَنَابِلَةِ، قَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي فَضَائِلِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَتَى فِيهِ بِالْعَجَائِبِ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الدَّامَغَانِيِّ، وَوَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ لِلْمُقْتَفِي بَعْدَ مَوْتِ الزَّيْنَبِيِّ، ثُمَّ لِلْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ، ثُمَّ عُزِلَ، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَى الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْوَزِيرُ جَلَالُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ جَمَالِ الدِّينِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ وَزِيرُ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَهُوَ الْجَوَادُ ابْنُ الْجَوَادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَخْبَارِهِ وَأَخْبَارِ أَبِيهِ مَا يُعْلَمُ بِهِ مَحَلُّهُمَا، وَحُمِلَ إِلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدُفِنَ بِهَا عِنْدَ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ خَطَّابِ بْنِ ظُفَرَ الشَّيْخِ الصَّالِحِ مِنْ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَانَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ أَرْبَابِ الْكَرَامَاتِ، وَصَحِبْتُهُ أَنَا مُدَّةً، فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ حُسْنَ خُلُقٍ وَسَمْتٍ وَكَرَمٍ وَعِبَادَةٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَفِيهَا وَلَدَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سَوَادِ بَغْدَادَ بِنْتًا لَهَا أَسْنَانٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ نَصْرُ بْنُ فِتْيَانَ بْنِ مَطَرٍ أَبُو الْفَتْحِ بْنِ الْمَنِّيِّ الْفَقِيهِ الْحَنْبَلِيُّ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِثْلُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثم دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 584 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ حَصْرِ صَلَاحِ الدِّينِ كَوْكَبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَفِي الْمُحَرَّمِ، انْحَسَرَ الشِّتَاءُ، فَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ عَكَّا فِيمَنْ تَخَلَّفَ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى قَلْعَةِ كَوْكَبَ، فَحَصَرَهَا، وَنَازَلَهَا، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ مُلْكَهَا سَهْلٌ، وَأَنَّ أَخْذَهَا، وَهُوَ فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، مُتَيَسِّرٌ، فَلَمَّا رَآهَا عَالِيَةً مَنِيعَةً [أَدْرَكَ أَنَّ] الْوُصُولَ إِلَيْهَا مُتَعَذِّرٌ. وَكَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا وَمِنْ صَفَدَ وَالْكَرَكِ الْمُقِيمُ الْمُقْعِدُ، لِأَنَّ الْبِلَادَ السَّاحِلِيَّةَ، مِنْ عَكَّا إِلَى جِهَةِ الْجَنُوبِ، كَانَتْ قَدْ مَلَكَ جَمِيعَهَا مَا عَدَا هَذِهِ الْحُصُونَ، وَكَانَ يَخْتَارُ أَنْ لَا يَبْقَى فِي وَسَطِهَا مَا يَشْغَلُ قَلْبَهُ، وَيُقَسِّمُ هَمَّهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى حِفْظِهِ، وَلِئَلَّا يَنَالَ الرَّعَايَا وَالْمُجْتَازِينَ مِنْهُمُ الضَّرَرُ الْعَظِيمُ. فَلَمَّا حَصَرَ كَوْكَبَ، وَرَآهَا مَنِيعَةً، يُبْطِئُ مُلْكُهَا وَأَخْذُهَا، رَحَلَ عَنْهَا، وَجَعَلَ عَلَيْهَا قَايْمَازْ النَّجْمِيَّ مُسْتَدِيمًا لِحِصَارِهِ. وَكَانَ رَحِيلُهُ عَنْهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَأَتَاهُ رُسُلُ الْمَلِكِ قَلْج أَرَسِلَانَ. وَقُزَل أَرْسِلَانَ وَغَيْرِهِمَا. يُهَنِّئُونَهُ بِالْفَتْحِ وَالظَّفَرِ، وَسَارَ مِنْ كَوْكَبَ إِلَى دِمَشْقَ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِقُدُومِهِ. وَكَتَبَ إِلَى الْبِلَادِ جَمِيعِهَا بِاجْتِمَاعِ الْعَسَاكِرِ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ سَارَ إِلَى السَّاحِلِ. ذِكْرُ رَحِيلِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى بَلَدِ الْفِرِنْجِ لَمَّا أَرَادَ صَلَاحُ الدِّينِ الْمَسِيرَ عَنْ دِمَشْقَ حَضَرَ عِنْدَ الْقَاضِي الْفَاضِلِ مُوَدِّعًا لَهُ

وَمُسْتَشِيرًا. وَكَانَ مَرِيضًا، وَوَدَّعَهُ وَسَارَ عَنْ دِمَشْقَ مُنْتَصَفَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ إِلَى حِمْصَ، فَنَزَلَ عَلَى بُحَيْرَةِ قُدْسَ غَرْبِيَّ حِمْصَ، وَجَاءَتْهُ الْعَسَاكِرُ: فَأَوَّلُ مَنْ أَتَاهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ عِمَادُ الدِّينِ: زِنْكِيُّ بْنُ مَوْدُودٍ بْنِ آقْسَنْقَرَ، صَاحِبُ سِينْجَارَ، وَنَصِيبِينِ، وَالْخَابُورِ، وَتَلَاحَقَتِ الْعَسَاكِرُ مِنَ الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ وَغَيْرِهَا، فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ وَكَثُرَتْ عِنْدَهُ. فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ تَحْتَ حِصْنِ الْأَكْرَادِ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَكُنْتُ مَعَهُ حِينَئِذٍ، فَأَقَامَ يَوْمَيْنِ، وَسَارَ جَرَيْدَةً وَتَرَكَ أَثْقَالَ الْعَسْكَرِ مَوْضِعَهَا تَحْتَ الْحِصْنِ، وَدَخَلَ إِلَى بَلَدِ الْفِرِنْجِ فَأَغَارَ عَلَى صَافِيثَا وَالْعُرَيْمَةِ وَيَحْمُورَ. وَغَيْرِهَا مِنِ الْبِلَادِ وَالْوِلَايَاتِ، وَوَصَلَ إِلَى قُرْبِ طَرَابُلُسَ، وَأَبْصَرَ الْبِلَادَ، وَعَرَفَ مَنْ يَأْتِيهَا، وَأَيْنَ يَسْلُكُ مِنْهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ سَالِمًا. وَقَدْ غَنِمَ الْعَسْكَرُ مِنَ الدَّوَابِّ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مَا لَا حَدَّ لَهُ. وَأَقَامَ تَحْتَ حِصْنِ الْأَكْرَادِ إِلَى آخِرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ. ذِكْرُ فَتْحِ جَبَلَةَ لَمَّا أَقَامَ صَلَاحُ الدِّينِ تَحْتَ حِصْنِ الْأَكْرَادِ، أَتَاهُ قَاضِي جَبَلَةَ، وَهُوَ مَنْصُورُ بْنُ نَبِيلٍ، يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهَا لِيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، وَكَانَ هَذَا الْقَاضِي عِنْدَ بَيْمُنْد، صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ وَجَبَلَةَ، مَسْمُوعَ الْقَوْلِ مَقْبُولَ الْكَلِمَةِ، لَهُ الْحُرْمَةُ الْوَافِرَةُ، وَالْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ، وَهُوَ يَحْكُمُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِجَبَلَةَ وَنَوَاحِيهَا، وَعَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْمُنْدِ. فَحَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ لِلدِّينِ عَلَى قَصْدِ السُّلْطَانِ، وَتَكَفَّلَ لَهُ بِفَتْحِ جَبَلَةَ وَلَاذِقِيَّةَ وَالْبِلَادِ الشَّمَالِيَّةِ، فَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ مَعَهُ رَابِعَ جُمَادَى الْأُولَى، فَنَزَلَ بِأَنْطَرْطُوسَ سَادِسَهُ، فَرَأَى الْفِرِنْجَ قَدْ أَخْلَوُا الْمَدِينَةَ، وَاحْتَمَوْا فِي بُرْجَيْنِ حَصِينَيْنِ، وَاحِدٌ مِنْهُمَا قَلْعَةٌ حَصِينَةٌ وَمَعْقِلٌ مَنِيعٌ، فَخَرَّبَ الْمُسْلِمُونَ دُورَهُمْ وَمَسَاكِنَهُمْ وَسُورَ الْبَلَدِ، وَنَهَبُوا مَا وَجَدُوهُ مِنْ ذَخَائِرِهِمْ. وَكَانَ الدَّاوِيَّةُ بِأَحَدِ الْبُرْجَيْنِ. فَحَصَرَهُمَا صَلَاحُ الدِّينِ فَنَزَلَ إِلَيْهِ مَنْ فِي أَحَدِ الْبُرْجَيْنِ بِأَمَانٍ وَسَلَّمُوهُ. فَأَمَّنَهُمْ، وَخَرَّبَ الْبُرْجَ: وَأَلْقَى حِجَارَتَهُ فِي الْبَحْرِ، وَبَقِيَ الَّذِي فِيهِ الدَّاوِيَّةُ لَمْ يُسَلِّمُوهُ. وَكَانَ مَعَهُمْ مُقَدَّمُهُمُ الَّذِي أَسَرَهُ صَلَاحُ الدِّينِ يَوْمَ الْمَصَافِّ، وَكَانَ قَدْ أَطْلَقَهُ لَمَّا مَلَكَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ فَهُوَ الَّذِي حَفِظَ هَذَا الْحِصْنَ فَخَرَّبَ صَلَاحُ الدِّينِ وِلَايَةَ أَنْطَرْطُوسَ، وَرَحَلَ عَنْهَا وَأَتَى مَرَقِيَّةَ، وَقَدْ أَخْلَاهَا أَهْلُهَا، وَرَحَلُوا عَنْهَا.

وَسَارُوا إِلَى الْمَرْقَبِ، وَهُوَ مِنْ حُصُونِهِمُ الَّتِي لَا تُرَامُ، وَلَا يُحَدِّثُ أَحَدٌ نَفْسَهُ بِمُلْكِهِ لِعُلُوِّهِ وَامْتِنَاعِهِ، وَهُوَ لِلْإِسْبِتَارِ، وَالطَّرِيقُ تَحْتَهُ فَيَكُونُ الْحِصْنُ عَلَى يَمِينِ الْمُجْتَازِ إِلَى جَبَلَةَ، وَالْبَحْرُ عَنْ يَسَارِهِ، وَالطَّرِيقُ مَضِيقٌ لَا يَسْلُكُهُ إِلَّا الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ. فَاتُّفِقَ أَنَّ صَاحِبَ صَقَلِّيَةَ مِنَ الْفِرِنْجِ قَدْ سَيَّرَ نَجْدَةً إِلَى فِرِنْجِ السَّاحِلِ فِي سِتِّينَ قِطْعَةً مِنَ الشَّوَانِي، وَكَانُوا بِطَرَابُلُسَ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِمَسِيرِ صَلَاحِ الدِّينِ جَاءُوا وَوَقَفُوا فِي الْبَحْرِ، تَحْتَ الْمَرْقَبِ، فِي شَوَانِيهِمْ، لِيَمْنَعُوا مَنْ يَجْتَازُ بِالسِّهَامِ. فَلَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ ذَلِكَ أَمَرَ بِالطَّارِقِيَّاتِ وَالْجِفْتِيَّاتِ، فَصُفَّتْ عَلَى الطَّرِيقِ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ مِنْ أَوَّلِ الْمَضِيقِ إِلَى آخِرِهِ وَجَعَلَ وَرَاءَهَا الرُّمَاةَ فَمَنَعُوا الْفِرِنْجَ مِنَ الدُّنُوِّ إِلَيْهِمْ فَاجْتَازَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ آخِرِهِمْ حَتَّى عَبَرُوا الْمَضِيقَ وَوَصَلُوا إِلَى جَبَلَةَ ثَامِنَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى، وَتَسَلَّمَهَا وَقْتَ وُصُولِهِ. وَكَانَ قَاضِيهَا قَدْ سَبَقَ إِلَيْهَا وَدَخَلَ، فَلَمَّا وَصَلَ صَلَاحُ الدِّينِ رَفَعَ أَعْلَامَهُ عَلَى سُورِهَا وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، وَتَحَصَّنَ الْفِرِنْجُ الَّذِينَ كَانُوا بِهَا بِحِصْنِهَا، وَاحْتَمَوْا بِقَلْعَتِهَا، فَمَا زَالَ قَاضِي جَبَلَةَ يُخَوِّفُهُمْ وَيُرَغِّبُهُمْ. حَتَّى اسْتَنْزَلَهُمْ بِشَرْطِ الْأَمَانِ، وَأَنْ يَأْخُذَ رَهَائِنَهُمْ يَكُونُونَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ يُطْلِقَ الْفِرِنْجُ رَهَائِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ جَبَلَةَ. وَكَانَ بَيْمُنْدُ، صَاحِبُهَا، قَدْ أَخَذَ رَهَائِنَ الْقَاضِي وَمُسْلِمِي جَبَلَةَ وَتَرَكَهُمْ عِنْدَهُ بِأَنْطَاكِيَةَ، فَأَخَذَ الْقَاضِي رَهَائِنَ الْفِرِنْجِ فَأَنْزَلَهُمْ عِنْدَهُ حَتَّى أَطْلَقَ بَيْمُنْدُ رَهَائِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَطْلَقَ الْمُسْلِمُونَ رَهَائِنَ الْفِرِنْجِ، وَجَاءَ رُؤَسَاءُ أَهْلِ الْجَبَلِ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ بِطَاعَةِ أَهْلِهِ وَهُوَ مِنْ أَمْنَعِ الْجِبَالِ وَأَشَقِّهَا مَسْلَكًا، وَفِيهِ حِصْنٌ يُعْرَفُ بِبِكْسَرَائِيلَ، بَيْنَ جَبَلَةَ وَمَدِينَةِ حَمَاةَ، فَمَلَكَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَصَارَ الطَّرِيقُ فِي هَذَا الْوَقْتِ عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْعَسْكَرِ. وَكَانَ النَّاسُ يَلْقَوْنَ شِدَّةً فِي سُلُوكِهِ، وَقَرَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ أَحْوَالَ جَبَلَةَ. وَجَعَلَ فِيهَا لِحِفْظِهَا الْأَمِيرَ سَابِقَ الدِّينِ عُثْمَانَ بْنَ الدَّايَةِ. صَاحِبَ شَيْزَرَ. وَسَارَ عَنْهَا.

ذِكْرُ فَتْحِ لَاذِقِيَّةَ لَمَّا فَرَغَ السُّلْطَانُ مِنْ أَمْرِ جَبَلَةَ، سَارَ عَنْهَا إِلَى لَاذِقِيَّةَ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، فَتَرَكَ الْفِرِنْجُ الْمَدِينَةَ لِعَجْزِهِمْ عَنْ حِفْظِهَا، وَصَعِدُوا إِلَى حِصْنَيْنِ لَهَا عَلَى الْجَبَلِ فَامْتَنَعُوا بِهِمَا. فَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْمَدِينَةَ وَحَصَرُوا الْقَلْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ فِيهِمَا الْفِرِنْجُ، وَزَحَفُوا إِلَيْهِمَا، وَنَقَبُوا السُّورَ سِتِّينَ ذِرَاعًا، وَعَلَّقُوهُ وَعَظُمَ الْقِتَالُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَى السُّورِ، فَلَمَّا أَيْقَنَ الْفِرِنْجُ بِالْعَطَبِ، وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ قَاضِي جَبَلَةَ فَخَوَّفَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ صَلَاحُ الدِّينِ، وَرَفَعُوا الْأَعْلَامَ الْإِسْلَامِيَّةَ إِلَى الْحِصْنَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنَ النُّزُولِ عَلَيْهَا. وَكَانَتْ عِمَارَةُ اللَّاذِقِيَّةِ مِنْ أَحْسَنِ الْأَبْنِيَةِ وَأَكْثَرِهَا زَخْرَفَةً مَمْلُوءَةً بِالرُّخَامِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، فَخَرَّبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا، وَنَقَلُوا رُخَامَهَا، وَشَعَّثُوا كَثِيرًا مِنْ بِيَعِهَا الَّتِي قَدْ غُرِمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا الْأَمْوَالُ الْجَلِيلَةُ الْمِقْدَارِ وَسَلَّمَهَا إِلَى ابْنِ أَخِيهِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ، فَعَمَّرَهَا، وَحَصَّنَ قَلْعَتَهَا حَتَّى إِذَا رَآهَا الْيَوْمَ مَنْ رَآهَا قَبْلَ أَنْ يُنْكِرَهَا فَلَا يَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ تِلْكَ ; وَكَانَ عَظِيمَ الْهِمَّةِ فِي تَحْصِينِ الْقِلَاعِ وَالْغَرَامَةِ الْوَافِرَةِ عَلَيْهَا، كَمَا فَعَلَ بِقَلْعَةِ حَمَاةَ. ذِكْرُ حَالِ أُسْطُولِ صَقَلِّيَةَ لَمَّا نَازَلَ صَلَاحُ الدِّينِ لَاذِقِيَّةَ [جَاءَ أُسْطُولُ صَقَلِّيَةَ] الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَوَقَفَ بِإِزَاءِ مِينَاءِ لَاذِقِيَّةَ، فَلَمَّا سَلَّمَهَا الْفِرِنْجُ الَّذِينَ بِهَا إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، عَزَمَ أَهْلُ هَذَا الْأُسْطُولِ عَلَى أَخْذِ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ أَهْلِهَا غَيْظًا وَحَنَقًا. حَيْثُ سَلَّمُوهَا سَرِيعًا، فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ لَاذِقِيَّةَ فَأَقَامُوا: وَبَذَلُوا الْجِزْيَةَ. وَكَانَ سَبَبَ مَقَامِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ مُقَدَّمَ هَذَا الْأُسْطُولِ طَلَبَ مِنَ السُّلْطَانِ الْأَمَانَ، لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ، فَأَمَّنَهُ، وَحَضَرَ [وَقَبَّلَ] الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّكَ سُلْطَانٌ رَحِيمٌ وَكَرِيمٌ، وَقَدْ فَعَلْتَ بِالْفِرِنْجِ مَا فَعَلْتَ فَذَلُّوا فَاتْرُكْهُمْ يَكُونُونَ مَمَالِيكَكَ وَجُنْدَكَ تَفْتَحُ بِهِمُ الْبِلَادَ وَالْمَمَالِكَ. وَتَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِلَادَهُمْ. وَإِلَّا جَاءَكَ مِنَ الْبَحْرِ مَا لَا طَاقَةَ لَكَ بِهِ، فَيَعْظُمَ

عَلَيْكَ الْأَمْرُ وَيَشْتَدَّ الْحَالُ. فَأَجَابَهُ صَلَاحُ الدِّينِ بِنَحْوٍ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ إِظْهَارِ الْقُوَّةِ وَالِاسْتِهَانَةِ بِكُلِّ مَنْ يَجِيءُ مِنَ الْبَحْرِ، وَأَنَّهُمْ إِنْ خَرَجُوا أَذَاقَهُمْ مَا أَذَاقَ أَصْحَابَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، فَصَلَّبَ عَلَى وَجْهِهِ، وَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ. ذِكْرُ فَتْحِ صَهْيُونَ وَعِدَّةٍ مِنَ الْحُصُونِ ثُمَّ رَحَلَ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْ لَاذِقِيَّةَ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَقَصَدَ قَلْعَةَ صَهْيُونَ، وَهِيَ قَلْعَةٌ، مَنِيعَةٌ شَاهِقَةٌ فِي الْهَوَاءِ، صَعْبَةُ الْمُرْتَقَى، عَلَى قَرْنَةِ جَبَلٍ يُطِيفُ بِهَا وَادٍ عَمِيقٌ، فِيهِ ضِيقٌ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، بِحَيْثُ إِنَّ حَجَرَ الْمَنْجَنِيقِ يَصِلُ مِنْهُ إِلَى الْحِصْنِ، إِلَّا أَنَّ الْجَبَلَ مُتَّصِلٌ بِهَا مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ. وَقَدْ عَمِلُوا لَهَا خَنْدَقًا عَمِيقًا لَا يُرَى قَعْرُهُ، وَخَمْسَةَ أَسْوَارٍ مَنِيعَةٍ فَنَزَلَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ الْمُلْتَصِقِ بِهَا وَنَصَبَ عَلَيْهِ الْمَجَانِيقَ وَرَمَاهَا وَتَقَدَّمَ إِلَى وَلَدِهِ الظَّاهِرِ، صَاحِبِ حَلَبَ، فَنَزَلَ عَلَى الْمَكَانِ الضَّيِّقِ مِنَ الْوَادِي، وَنَصَبَ عَلَيْهِ الْمَجَانِيقَ أَيْضًا، فَرَمَى الْحِصْنَ مِنْهُ. وَكَانَ مَعَهُ مِنَ الرَّجَّالَةِ الْحَلَبِيِّينَ كَثِيرٌ، وَهُمْ فِي الشَّجَاعَةِ بِالْمَنْزِلَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَدَامَ رَشْقُ السِّهَامِ مِنْ قِسِيِّ الْيَدِ وَالْجَرْخِ، وَالزُّنْبُورِكِ، وَالزِّيَارِ، فَجُرِحَ أَكْثَرُ مَنْ بِالْحِصْنِ، وَهُمْ يُظْهِرُونَ التَّجَلُّدَ وَالِامْتِنَاعَ. وَزَحَفَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَتَعَلَّقُوا بِقَرْنَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ قَدْ أَغْفَلَ الْفِرِنْجُ إِحْكَامَهَا، فَتَسَلَّقُوا مِنْهَا بَيْنَ الصُّخُورِ، حَتَّى الْتَحَقُوا بِالسُّورِ الْأَوَّلِ فَقَاتَلُوهُمْ عَلَيْهِ حَتَّى مَلَكُوهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَاتَلُوهُمْ عَلَى بَاقِي الْأَسْوَارِ فَمَلَكُوا مِنْهَا ثَلَاثَةً وَغَنِمُوا مَا فِيهَا مِنْ أَبْقَارٍ وَدَوَابَّ وَذَخَائِرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَاحْتَمَى الْفِرِنْجُ بِالْقِلَّةِ الَّتِي لِلْقَلْعَةِ، فَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا، فَنَادَوْا وَطَلَبُوا الْأَمَانَ فَلَمْ يُجِبْهُمْ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَيْهِ، فَقَرَّرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِثْلَ قَطِيعَةِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَتَسَلَّمَ الْحِصْنَ وَسَلَّمَهُ إِلَى أَمِيرٍ يُقَالُ لَهُ نَاصِرُ الدِّينِ مَنْكُوبَرْسُ، صَاحِبِ قَلْعَةِ أَبِي قُبَيْسٍ، فَحَصَّنَهُ وَجَعَلَهُ مِنْ أَحْصَنِ الْحُصُونِ. وَلَمَّا مَلَكَ الْمُسْلِمُونَ صَهْيُونَ تَفَرَّقُوا فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، فَمَلَكُوا حِصْنَ بَلَاطُنُوسْ، وَكَانَ مَنْ بِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ قَدْ هَرَبُوا مِنْهُ وَتَرَكُوهُ خَوْفًا وَرُعْبًا، وَمَلَكَ أَيْضًا

حِصْنَ الْعِيذُو، وَحِصْنَ الْجُمَاهِرَتَيْنِ، فَاتَّسَعَتِ الْمَمْلَكَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ، إِلَّا أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَيْهَا مِنِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى عَقَبَةِ بِكْسَرَائِيلَ شَاقٌّ شَدِيدٌ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ السَّهْلَةَ كَانَتْ غَيْرَ مَسْلُوكَةٍ، لِأَنَّ بَعْضَهَا بِيَدِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَبَعْضَهَا بِيَدِ الْفِرِنْجِ. ذِكْرُ فَتْحِ حِصْنِ بَكَاسَ وَالشُّغْرِ ثُمَّ سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْ صَهْيُونَ ثَالِثَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَوَصَلَ إِلَى قَلْعَةِ بَكَاسَ [فَرَأَى الْفِرِنْجَ قَدْ أَخْلَوْهَا، وَتَحَصَّنُوا بِقَلْعَةِ الشُّغْرِ، فَمَلَكَ قَلْعَةً بَكَاسَ] بِغَيْرِ قِتَالٍ وَتَقَدَّمَ إِلَى قَلْعَةِ الشُّغْرِ وَحَصَرَهَا، وَهِيَ وَبَكَاسَ عَلَى الطَّرِيقِ السَّهْلِ الْمَسْلُوكِ إِلَى لَاذِقِيَّةَ وَجَبَلَةَ وَالْبِلَادِ الَّتِي افْتَتَحَهَا صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ الْإِسْلَامِيَّةِ. فَلَمَّا نَازَلَهَا رَآهَا مَنِيعَةً حَصِينَةً لَا تُرَامُ، وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهَا بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ، إِلَّا أَنَّهُ أَمَرَ بِمُزَاحَفَتِهِمْ وَنَصْبِ مَنْجَنِيقٍ عَلَيْهِمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَرُمِيَ بِالْمَنْجَنِيقِ فَلَمْ يَصِلْ مِنْ أَحْجَارِهِ إِلَى الْقَلْعَةِ شَيْءٌ إِلَّا الْقَلِيلَ الَّذِي لَا يُؤْذِي. فَبَقِيَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ أَيَّامًا لَا يَرَوْنَ فِيهِ طَمَعًا وَأَهْلُهُ غَيْرُ مُهْتَمِّينَ بِالْقِتَالِ لِامْتِنَاعِهِمْ عَنْ ضَرَرٍ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمْ وَبَلَاءٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ. فَبَيْنَمَا صَلَاحُ الدِّينِ جَالِسٌ، وَعِنْدَهُ أَصْحَابُهُ، وَهُمْ فِي ذِكْرِ الْقَلْعَةِ وَإِعْمَالِ الْحِيلَةِ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الْحِصْنُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97] فَقَالَ صَلَاحُ الدِّينِ: أَوْ يَأْتِي إِلَيْهِ بِنَصْرٍ مِنْ عِنْدِهِ وَفَتْحٍ. فَبَيْنَمَا هُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِذْ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فِرِنْجِيٌّ وَنَادَى بِطَلَبِ الْأَمَانِ لِرَسُولٍ يَحْضُرُ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَنَزَلَ رَسُولٌ وَسَأَلَ إِنْظَارَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ

فَإِنْ جَاءَهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ. وَإِلَّا سَلَّمُوا الْقَلْعَةَ بِمَا فِيهَا مِنْ ذَخَائِرَ وَدَوَابَّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ وَأَخَذَ رَهَائِنَهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ سَلَّمُوهَا إِلَيْهِ، وَاتَّفَقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ سَبَبُ اسْتِمْهَالِهِمْ أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا إِلَى الْبَيْمُنْدَ، صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ، وَكَانَ هَذَا الْحِصْنُ لَهُ، يُعَرِّفُونَهُ أَنَّهُمْ مَحْصُورُونَ، وَيَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يُرَحِّلَ عَنْهُمُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ فَعَلَ، وَإِلَّا سَلَّمُوهَا. وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِرُعْبٍ قَذَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِهِمْ، وَإِلَّا فَلَوْ أَقَامُوا الدَّهْرَ الطَّوِيلَ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ، وَلَا بَلَغَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ غَرَضًا فَلَمَّا تَسَلَّمَ صَلَاحُ الدِّينِ الْحِصْنَ سَلَّمَهُ إِلَى أَمِيرٍ يُقَالُ لَهُ قَلْجُ، وَأَمَرَهُ بِعِمَارَتِهِ. وَرَحَلَ عَنْهُ. ذِكْرُ فَتْحِ سَرْمِينِيَّةَ لَمَّا كَانَ صَلَاحُ الدِّينِ مَشْغُولًا بِهَذِهِ الْقِلَاعِ وَالْحُصُونِ، سَيَّرَ وَلَدَهُ الظَّاهِرَ غَازِي صَاحِبَ حَلَبَ، فَحَصَرَ سَرْمِينِيَّةَ، وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا، وَاسْتَنْزَلَهُمْ عَلَى قَطِيعَةٍ قَرَّرَهَا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَنْزَلَهُمْ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْمُقَاطَعَةَ، هَدَمَ الْحِصْنَ وَعَفَى أَثَرَهُ وَعَالِيَ بُنْيَانِهِ. وَكَانَ فِيهِ وَفِي هَذِهِ الْحُصُونِ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ الْجَمُّ الْغَفِيرُ فَأُطْلِقُوا، وَأُعْطُوا كِسْوَةً وَنَفَقَةً، وَكَانَ فَتْحُهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَاتُّفِقَ أَنَّ فَتْحَ هَذِهِ الْمُدُنِ وَالْحُصُونِ جَمِيعِهَا مِنْ جَبَلَةَ إِلَى سَرْمِينِيَّةَ، مَعَ كَثْرَتِهَا، كَانَ فِي سِتِّ جُمَعٍ مَعَ أَنَّهَا فِي أَيْدِي أَشْجَعِ النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ عَدَاوَةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَسُبْحَانَ مَنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُسَهِّلَ الصَّعْبَ فَعَلَ وَهِيَ جَمِيعُهَا مِنْ أَعْمَالِ أَنْطَاكِيَةَ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا سِوَى الْقُصَيْرِ، وَبَغْرَاسَ، وَدَرْبِ سَاكْ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَكَانِهِ. ذِكْرُ فَتْحِ بَرْزَيَةَ لَمَّا دَخَلَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ قَلْعَةِ الشُّغْرِ سَارَ إِلَى قَلْعَةِ بَرْزَيَةَ، وَكَانَتْ قَدْ وُصِفَتْ

لَهُ، وَهِيَ تُقَابِلُ حِصْنَ أَفَامْيَةَ، وَتُنَاصِفُهَا فِي أَعْمَالِهَا وَبَيْنَهُمَا بُحَيْرَةٌ تَجْتَمِعُ مِنْ مَاءِ الْعَاصِي، وَعُيُونٌ تَتَفَجَّرُ مِنْ جَبَلِ بَرْزَيَةَ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ أَهْلُهَا أَضَرَّ شَيْءٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، وَيُبَالِغُونَ فِي الْأَذَى. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا نَزَلَ شَرْقِيَّهَا فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، ثُمَّ رَكِبَ مِنَ الْغَدِ وَطَافَ عَلَيْهَا لِيَنْظُرَ مَوْضِعًا يُقَاتِلُهَا مِنْهُ. فَلَمْ يَجِدْهُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ فَنَصَبَ لَهُ هُنَاكَ [خَيْمَةً] صَغِيرَةً وَنَزَلَ فِيهَا وَمَعَهُ بَعْضُ الْعَسْكَرِ جَرِيدَةً لِضِيقِ الْمَوَاضِعِ. وَهَذِهِ الْقَلْعَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُقَاتَلَ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ الْبَتَّةَ، فَإِنَّهَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَصْعَدَ جَبَلَهَا مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ، وَأَمَّا الْجَانِبُ الشَّرْقِيُّ فَيُمْكِنُ الصُّعُودُ مِنْهُ لَكِنْ لِغَيْرِ مُقَاتِلٍ، لِعُلُوِّهِ وَصُعُوبَتِهِ، وَأَمَّا جِهَةُ الْغَرْبِ فَإِنَّ الْوَادِيَ الْمُطِيفَ بِجَبَلِهَا قَدِ ارْتَفَعَ هُنَاكَ ارْتِفَاعًا كَثِيرًا، حَتَّى قَارَبَ الْقَلْعَةَ، بِحَيْثُ يَصِلُ مِنْهُ حَجَرُ الْمَنْجَنِيقِ وَالسِّهَامُ فَنَزَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَنَصَبُوا عَلَيْهِ الْمَجَانِيقَ، وَنَصَبَ أَهْلُ الْقَلْعَةِ عَلَيْهَا مَنْجَنِيقًا بَطَّلَهَا. وَرَأَيْتُ أَنَا مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ عَالٍ يُشْرِفُ عَلَى الْقَلْعَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَصِلُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَيْهَا، امْرَأَةً تَرْمِي مِنَ الْقَلْعَةِ عَنِ الْمَنْجَنِيقِ، وَهِيَ الَّتِي بَطَّلَتْ مَنْجَنِيقَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ أَنَّ الْمَنْجَنِيقَ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، عَزَمَ عَلَى الزَّحْفِ، وَمُكَاثَرَةِ أَهْلِهَا بِجُمُوعِهِ. فَقَسَّمَ عَسْكَرَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: يَزْحَفُ قِسْمٌ، فَإِذَا تَعِبُوا وَكَلُّوا عَادُوا وَزَحَفَ الْقِسْمُ الثَّانِي، فَإِذَا تَعِبُوا وَضَجَرُوا عَادُوا وَزَحَفَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ، ثُمَّ يَدُورُ الدَّوْرُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَتْعَبَ الْفِرِنْجُ وَيَنْصَبُوا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْكَثْرَةِ مَا يَتَقَسَّمُونَ كَذَلِكَ، فَإِذَا تَعِبُوا وَأُعْيُوا سَلَّمُوا الْقَلْعَةَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، وَهُوَ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، تَقَدَّمَ أَحَدُ الْأَقْسَامِ، وَكَانَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ عِمَادَ الدِّينِ زِنْكِيَّ بْنَ مَوْدُودِ بْنِ زِنْكِيٍّ، صَاحِبَ سِنْجَارَ، وَزَحَفُوا، وَخَرَجَ الْفِرِنْجُ مِنْ حِصْنِهِمْ، فَقَاتَلَهُمْ عَلَى فَصِيلِهِمْ، وَرَمَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِالسِّهَامِ مِنْ وَرَاءِ الْجِفْتِيَّاتِ وَالْجِنْوِيَّاتِ وَالطَّارِقِيَّاتِ، وَمَشَوْا إِلَيْهِمْ حَتَّى قَرُبُوا إِلَى الْجَبَلِ. فَلَمَّا قَارَبُوا الْفِرِنْجَ عَجَزُوا عَنِ الدُّنُوِّ مِنْهُمْ لِخُشُونَةِ الْمُرْتَقَى وَتَسَلُّطِ الْفِرِنْجِ عَلَيْهِمْ، لِعُلُوِّ مَكَانِهِمْ، بِالنُّشَّابِ وَالْحِجَارَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُلْقُونَ الْحِجَارَةَ الْكِبَارَ فَتَتَدَحْرَجُ إِلَى أَسْفَلِ الْجَبَلِ، فَلَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ.

فَلَمَّا تَعِبَ هَذَا الْقِسْمُ انْحَدَرُوا، وَصَعِدَ الْقِسْمُ الثَّانِي، وَكَانُوا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَهُمْ، وَهُمْ حَلِقَةُ صَلَاحِ الدِّينِ الْخَاصُّ، فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَ الزَّمَانُ حَرًّا شَدِيدًا، فَاشْتَدَّ الْكَرْبُ عَلَى النَّاسِ، وَصَلَاحُ الدِّينِ فِي سِلَاحِهِ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وَيُحَرِّضُهُمْ وَكَانَ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ أَخِيهِ كَذَلِكَ، فَقَاتَلُوهُمْ إِلَى قَرِيبِ الظُّهْرِ ثُمَّ تَعِبُوا، وَرَجَعُوا. فَلَمَّا رَآهُمْ صَلَاحُ الدِّينِ قَدْ عَادُوا تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ وَبِيَدِهِ جُمَاقٌ يَرُدُّهُمْ، وَصَاحَ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَهُمْ جُلُوسٌ يَنْتَظِرُونَ نَوْبَتَهُمْ، فَوَثَبُوا مُلَبِّينَ، وَسَاعَدُوا إِخْوَانَهُمْ وَزَحَفُوا مَعَهُمْ، فَجَاءَ الْفِرِنْجَ مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ. وَكَانَ أَصْحَابُ عِمَادِ الدِّينِ قَدِ اسْتَرَاحُوا فَقَامُوا أَيْضًا مَعَهُمْ، فَحِينَئِذٍ اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى الْفِرِنْجِ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، وَكَانُوا قَدِ اشْتَدَّ تَعَبُهُمْ وَنَصَبُهُمْ، فَظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنِ الْقِتَالِ وَضَعْفُهُمْ عَنْ حَمْلِ السِّلَاحِ لِشِدَّةِ الْحَرِّ وَالْقِتَالِ، فَخَالَطَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَعَادَ الْفِرِنْجُ يَدْخُلُونَ الْحِصْنَ، فَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُمْ. وَكَانَ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ فِي الْخِيَامِ شَرْقِيَّ الْحِصْنِ فَرَأَوُا الْفِرِنْجَ قَدْ أَهْمَلُوا ذَلِكَ الْجَانِبَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ فِيهِ مُقَاتِلًا، وَلِيُكْثِرُوا فِي الْجِهَةِ الَّتِي فِيهَا صَلَاحُ الدِّينِ فَصَعِدَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ مِنَ الْعَسْكَرِ فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مَانِعٌ. فَصَعِدُوا أَيْضًا الْحِصْنَ مِنِ الْجِهَةِ الْأُخْرَى فَالْتَقُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ الدَّاخِلِينَ مَعَ الْفِرِنْجِ فَمَلَكُوا الْحِصْنَ عَنْوَةً وَقَهْرًا وَدَخَلَ الْفِرِنْجُ الْقُلَّةَ الَّتِي لِلْحِصْنِ، وَأَحَاطَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ وَأَرَادُوا نَقْبَهَا. وَكَانَ الْفِرِنْجُ قَدْ رَفَعُوا مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ إِلَى سَطْحِ الْقُلَّةِ، وَأَرْجُلُهُمْ فِي الْقُيُودِ وَالْخَشَبِ الْمَنْقُوبِ، فَلَمَّا سَمِعُوا تَكْبِيرَ الْمُسْلِمِينَ فِي نَوَاحِي الْقَلْعَةِ كَبَّرُوا فِي سَطْحِ الْقُلَّةِ، وَظَنَّ الْفِرِنْجُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ صَعِدُوا عَلَى السَّطْحِ فَاسْتَسْلَمُوا، وَأَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى الْأَسْرِ، فَمَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، وَنَهَبُوا مَا فِيهَا، وَأَسَرُوا وَسَبَوْا مَنْ فِيهَا، وَأَخَذُوا صَاحِبَهَا وَأَهْلَهُ، وَأَمْسَتْ خَالِيَةً لَا دِيَارَ بِهَا، وَأَلْقَى الْمُسْلِمُونَ النَّارَ فِي بَعْضِ بُيُوتِهِمْ فَاحْتَرَقَتْ. وَمِنْ أَعْجَبِ مَا يُحْكَى مِنَ السَّلَامَةِ أَنَّنِي رَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا الْحِصْنِ قَدْ جَاءَ مِنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ شَمَالِيَّ الْقَلْعَةِ إِلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَنُوبِيَّ الْقَلْعَةِ. وَهُوَ يَعْدُو فِي الْجَبَلِ عَرْضًا، فَأُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْحِجَارَةُ، وَجَاءَ حَجَرٌ كَبِيرٌ لَوْ نَالَهُ لَبَعَجَهُ. فَنَزَلَ عَلَيْهِ، فَنَادَاهُ النَّاسُ يُحَذِّرُونَهُ، فَالْتَفَتَ يَنْظُرُ مَا الْخَبَرُ. فَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ عَثْرَةٍ، فَاسْتَرْجَعَ النَّاسُ، وَجَاءَ الْحَجَرُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَارَبَهُ وَهُوَ مُنْبَطِحٌ

عَلَى وَجْهِهِ لَقِيَهُ حَجَرٌ آخَرُ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ فَوْقَ الرَّجُلِ، فَضَرَبَهُ الْمُنْحَدَرُ فَارْتَفَعَ عَنِ الْأَرْضِ، وَجَازَ الرَّجُلَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْأَرْضِ مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ لَمْ يَنَلْهُ مِنْهُ أَذًى وَلَا ضَرَرٌ، وَقَامَ يَعْدُو حَتَّى لَحِقَ بِأَصْحَابِهِ فَكَانَ سُقُوطُهُ سَبَبَ نَجَاتِهِ فَتَعِسَتْ أُمُّ الْجَبَانِ. وَأَمَّا صَاحِبُ بَرْزَيَةَ، فَإِنَّهُ أُسِرَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَأَوْلَادُهُ، وَمِنْهُمْ بِنْتٌ لَهُ مَعَهَا زَوْجُهَا، فَتَفَرَّقَهُمُ الْعَسْكَرُ، فَأَرْسَلَ صَلَاحُ الدِّينِ فِي الْوَقْتِ وَبَحَثَ عَنْهُمْ وَاشْتَرَاهُمْ، وَجَمَعَ شَمْلَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا قَارَبَ أَنْطَاكِيَةَ أَطْلَقَهُمْ وَسَيَّرَهُمْ إِلَيْهَا. وَكَانَتِ امْرَأَةُ صَاحِبِ بَرْزَيَةَ أُخْتَ امْرَأَةِ بَيْمُنْدَ صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ، وَكَانَتْ تُرَاسِلُ صَلَاحَ الدِّينِ وَتُهَادِيهِ، وَتُعْلِمُهُ كَثِيرًا عَنِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تُؤَثِّرُ، فَأَطْلَقَ هَؤُلَاءِ لِأَجْلِهَا. ذِكْرُ فَتْحِ دَرْبِ سَاكْ لَمَّا فَتَحَ صَلَاحُ الدِّينِ حِصْنَ بَرْزَيَةَ رَحَلَ عَنْهُ مِنَ الْغَدِ، فَأَتَى جِسْرَ الْحَدِيدِ، وَهُوَ عَلَى الْعَاصِي، بِالْقُرْبِ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ، فَأَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى وَافَاهُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ مِنْ عَسْكَرِهِ ثُمَّ سَارَ عَنْهُ إِلَى قَلْعَةِ دَرْبِ سَاكْ. فَنَزَلَ عَلَيْهَا ثَامِنَ رَجَبٍ، وَهِيَ مِنْ مَعَاقِلِ الدَّاوِيَّةِ الْحَصِينَةِ وَقِلَاعِهِمُ الَّتِي يَدَّخِرُونَهَا لِحِمَايَاتِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الشَّدَائِدِ. فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهَا نَصَبَ الْمَجَانِيقَ، وَتَابَعَ الرَّمْيَ بِالْحِجَارَةِ، فَهَدَمَتْ مِنْ سُورِهَا شَيْئًا يَسِيرًا، فَلَمْ يُبَالِ مَنْ فِيهِ بِذَلِكَ، فَأَمَرَ بِالزَّحْفِ عَلَيْهَا وَمُهَاجَمَتِهَا، فَبَادَرَهَا الْعَسْكَرُ بِالزَّحْفِ وَقَاتَلُوهَا، وَكَشَفُوا الرِّجَالَ عَنْ سُورِهَا، وَتَقَدَّمَ النَّقَّابُونَ فَنَقَبُوا مِنْهَا بُرْجًا وَعَلَّقُوهُ، فَسَقَطَ وَاتَّسَعَ الْمَكَانُ الَّذِي يُرِيدُ الْمُقَاتِلَةُ [أَنْ] يَدْخُلُوا مِنْهُ، وَعَادُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَاكَرُوا الزَّحْفَ مِنَ الْغَدِ. وَكَانَ مَنْ فِيهِ قَدْ أَرْسَلُوا إِلَى صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ يَسْتَنْجِدُونَهُ، فَصَبَرُوا، وَأَظْهَرُوا الْجَلَدَ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ وُصُولَ جَوَابِهِ إِمَّا بِإِنْجَادِهِمْ وَإِزَاحَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ، وَإِمَّا بِالتَّخَلِّي عَنْهُمْ لِيَقُومَ عُذْرُهُمْ فِي التَّسْلِيمِ، فَلَمَّا عَلِمُوا عَجْزَهُ عَنْ نُصْرَتِهِمْ، وَخَافُوا

هُجُومَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا، وَأَخْذَهُمْ بِالسَّيْفِ، وَقَتْلَهُمْ وَأَسْرَهُمْ وَنَهْبَ أَمْوَالِهِمْ، طَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ عَلَى شَرْطِ [أَنْ] لَا يَخْرُجَ أَحَدٌ إِلَّا بِثِيَابِهِ الَّتِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ مَالٍ، وَلَا سِلَاحٍ، وَلَا أَثَاثِ بَيْتٍ، وَلَا دَابَّةٍ، وَلَا شَيْءَ مِمَّا بِهَا، ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ مِنْهُ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَكَانَ فَتْحُهُ تَاسِعَ عَشَرَ. ذِكْرُ فَتْحِ بَغْرَاسَ ثُمَّ سَارَ عَنْ دَرْبِ سَاكْ إِلَى قَلْعَةِ بَغْرَاسَ، فَحَصَرَهَا، بَعْدَ أَنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي حَصْرِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَشَارَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَهَى عَنْهُ وَقَالَ: هُوَ حِصْنٌ حَصِينٌ، وَقَلْعَةٌ مَنِيعَةٌ، وَهُوَ بِالْقُرْبِ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَصْرِهِ وَحَصْرِهَا، وَيَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ الْعَسْكَرِ فِي الْيَزَكِ مُقَابِلَ أَنْطَاكِيَةَ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ قَلَّ الْمُقَاتِلُونَ عَلَيْهَا، وَيَتَعَذَّرُ حِينَئِذٍ الْوُصُولُ إِلَيْهَا. فَاسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى وَسَارَ إِلَيْهَا، وَجَعَلَ أَكْثَرَ عَسْكَرِهِ يَزَكًا مُقَابِلَ أَنْطَاكِيَةَ، يُغِيرُونَ عَلَى أَعْمَالِهَا، وَكَانُوا حَذِرِينَ مِنَ الْخَوْفِ مِنْ أَهْلِهَا، إِنْ غَفَلُوا، لِقُرْبِهِمْ مِنْهَا، وَصَلَاحُ الدِّينِ فِي بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَلَى الْقَلْعَةِ يُقَاتِلُهَا، وَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا شَيْئًا لِعُلُوِّهَا وَارْتِفَاعِهَا. فَغَلَبَ عَلَى الظُّنُونِ تَعَذُّرُ فَتْحِهَا وَتَأَخُّرُ مُلْكِهَا، وَشَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِلَّةُ الْمَاءِ عِنْدَهُمْ، إِلَّا أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ نَصَبَ الْحِيَاضَ، وَأَمَرَ بِحَمْلِ الْمَاءِ إِلَيْهَا. فَخَفَّفَ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ. فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ إِذْ قَدْ فُتِحَ بَابُ الْقَلْعَةِ، وَخَرَجَ مِنْهُ إِنْسَانٌ يَطْلُبُ الْأَمَانَ لِيَحْضُرَ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، فَأُذِنَ لَهُ فِي الْحُضُورِ، فَحَضَرَ، وَطَلَبَ الْأَمَانَ لِمَنْ فِي الْحِصْنِ حَتَّى يُسَلِّمُوهُ إِلَيْهِ بِمَا فِيهِ عَلَى قَاعِدَةِ دَرْبِ سَاكْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا فَعَادَ الرَّسُولُ وَمَعَهُ الْأَعْلَامُ الْإِسْلَامِيَّةُ، فَرُفِعَتْ عَلَى رَأْسِ الْقَلْعَةِ، وَنَزَلَ مَنْ فِيهَا، وَتَسَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ الْقَلْعَةَ بِمَا فِيهَا مِنْ ذَخَائِرَ وَأَمْوَالٍ وَسِلَاحٍ. وَأَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ بِتَخْرِيبِهِ،

فَخُرِّبَ، وَكَانَ ذَلِكَ مَضَرَّةً عَظِيمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ ابْنَ لِيُونَ صَاحِبَ الْأَرْمَنِ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ وِلَايَتِهِ وَهُوَ مُجَاوِرُهُ، فَجَدَّدَ عِمَارَتَهُ وَأَتْقَنَهُ، وَجَعَلَ فِيهِ جَمَاعَةً مِنْ عَسْكَرِهِ يُغِيرُونَ مِنْهُ عَلَى الْبِلَادِ، فَتَأَذَّى بِهِمُ السَّوَادُ الَّذِي بِحَلَبَ، وَهُوَ إِلَى الْآنَ بِأَيْدِيهِمْ. ذِكْرُ الْهُدْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَصَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ لَمَّا فَتَحَ صَلَاحُ الدِّينِ بَغْرَاسَ عَزَمَ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ وَحَصْرِهَا، فَخَافَ الْبَيْمُنْدُ صَاحِبُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَأَشْفَقَ مِنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يَطْلُبُ الْهُدْنَةَ، وَبَذْلَ إِطْلَاقِ كُلِّ أَسِيرٍ عِنْدَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَشَارَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ وَغَيْرِهِمْ، فَأَشَارَ أَكْثَرُهُمْ بِإِجَابَتِهِ إِلَى ذَلِكَ لِيَعُودَ النَّاسُ وَيَسْتَرِيحُوا وَيُجَدِّدُوا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ. وَاصْطَلَحَا ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، أَوَّلُهَا: أَوَّلُ تِشْرِينَ الْأَوَّلِ، وَآخِرُهَا: آخِرُ أَيَارَ، وَسَيَّرَ رَسُولَهُ إِلَى صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ يَسْتَحْلِفُهُ، وَيُطْلِقُ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْأَسْرَى. وَكَانَ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، فِي هَذَا الْوَقْتِ أَعْظَمَ الْفِرِنْجِ شَأْنًا، وَأَكْثَرَهُمْ مُلْكًا، فَإِنَّ الْفِرِنْجَ كَانُوا قَدْ سَلَّمُوا إِلَيْهِ طَرَابُلُسَ، بَعْدَ مَوْتِ الْقُمُّصِ، وَجَمِيعَ أَعْمَالِهَا، مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ لَهُ، لِأَنَّ الْقُمُّصَ لَمْ يُخْلِفْ وَلَدًا، فَلَمَّا سُلِّمَتْ إِلَيْهِ طَرَابُلُسُ جَعَلَ وَلَدَهُ الْأَكْبَرَ فِيهَا نَائِبًا عَنْهُ. وَأَمَّا صَلَاحُ الدِّينِ فَإِنَّهُ عَادَ إِلَى حَلَبَ ثَالِثَ شَعْبَانَ، فَدَخَلَهَا وَسَارَ مِنْهَا إِلَى دِمَشْقَ، وَفَرَّقَ الْعَسَاكِرَ الشَّرْقِيَّةَ، كَعِمَادِ الدِّينِ زِنْكِيِّ بْنِ مَوْدُودٍ صَاحِبِ سِنْجَارَ وَالْخَابُورِ، وَعَسْكَرَ الْمَوْصِلِ، وَغَيْرَهَا، ثُمَّ رَحَلَ مِنْ حَلَبَ إِلَى دِمَشْقَ، وَجَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى قَبْرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَزَارَهُ، وَزَارَ الشَّيْخَ الصَّالِحَ أَبَا زَكَرِيَّا الْمَغْرِبِيَّ وَكَانَ مُقِيمًا هُنَاكَ، وَكَانَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَلَهُ كَرَامَاتٌ ظَاهِرَةٌ. وَكَانَ مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ أَبُو الْفُلَيْتَةِ قَاسِمُ بْنُ الْمُهَنَّا الْعَلَوِيُّ الْحُسَيْنِيُّ وَهُوَ أَمِيرُ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ قَدْ حَضَرَ عِنْدَهُ وَشَهِدَ

مَعَهُ مَشَاهِدَهُ وَفُتُوحَهُ، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ قَدْ تَبَارَكَ بِرُؤْيَتِهِ، وَتَيَمَّنَ بِصُحْبَتِهِ، وَكَانَ يُكْرِمُهُ كَثِيرًا وَيَنْبَسِطُ مَعَهُ، وَيَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ فِي أَعْمَالِهِ كُلِّهَا. وَدَخَلَ دِمَشْقَ أَوَّلَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَأُشِيرَ عَلَيْهِ بِتَفْرِيقِ الْعَسَاكِرِ، فَقَالَ: إِنَّ الْعُمُرَ قَصِيرٌ وَالْأَجَلَ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَقَدْ بَقِيَ بِيَدِ الْفِرِنْجِ هَذِهِ الْحُصُونُ: كَوْكَبُ، وَصَفَدُ، وَالْكَرَكُ، وَغَيْرُهَا وَلَا بُدَّ مِنَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَإِنَّهَا فِي وَسَطِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّ أَهْلِهَا، وَإِنْ أَغْفَلْنَاهُمْ نَدِمْنَا فِيمَا بَعْدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ فَتَحِ الْكَرَكِ وَمَا يُجَاوِرُهُ كَانَ صَلَاحُ الدِّينِ قَدْ جَعَلَ عَلَى الْكَرَكِ عَسْكَرًا يَحْصُرُهُ، فَلَازَمُوا الْحِصَارَ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ، حَتَّى فَنِيَتْ أَزْوَادُ الْفِرِنْجِ وَذَخَائِرُهُمْ، وَأَكَلُوا دَوَابَّهُمْ، وَصَبَرُوا حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلصَّبْرِ مَجَالٌ، فَرَاسَلُوا الْمَلِكَ الْعَادِلَ، أَخَا صَلَاحِ الدِّينِ، وَكَانَ جَعَلَهُ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى قَلْعَةِ الْكَرَكِ، فِي جَمْعٍ مِنَ الْعَسْكَرِ يَحْصُرُهَا، وَيَكُونُ مُطَّلِعًا عَلَى هَذِهِ النَّاحِيَةِ مِنَ الْبِلَادِ لَمَّا أَبْعَدَ هُوَ إِلَى دَرْبِ سَاكْ، وَبَغْرَاسَ. فَوَصَلَتْهُ رُسُلُ الْفِرِنْجِ، مِنَ الْكَرَكِ يَبْذُلُونَ تَسْلِيمَ الْقَلْعَةِ إِلَيْهِ، وَيَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَى مُقَدَّمِ الْعَسْكَرِ الَّذِي يَحْصُرُهَا فِي الْمَعْنَى، فَتَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ مِنْهَا وَأَمَّنَهُمْ. وَتَسَلَّمَ أَيْضًا مَا يُقَارِبُهُ مِنَ الْحُصُونِ كَالشَّوْبَكِ، وَهُرْمُزَ، وَالْوَعِيرَةِ، وَالسَّلْعِ، وَفَرَّغَ الْقَلْبَ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَأَلْقَى الْإِسْلَامَ هُنَاكَ جُرَّانَهُ، وَأَمِنَتْ قُلُوبُ مَنْ فِي ذَلِكَ السَّقْعِ مِنَ الْبِلَادِ، كَالْقُدْسِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مِمَّنْ بِتِلْكَ الْحُصُونِ وَجِلِينَ، وَمِنْ شَرِّهِمْ مُشْفِقِينَ. ذِكْرُ فَتْحِ قَلْعَةِ صَفَدَ لَمَّا وَصَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى دِمَشْقَ، وَأُشِيرَ عَلَيْهِ بِتَفْرِيقِ الْعَسَاكِرِ، وَقَالَ: لَا بُدَّ

مِنَ الْفَرَاغِ مِنْ صَفَدَ وَكَوْكَبَ وَغَيْرِهِمَا، أَقَامَ بِدِمَشْقَ إِلَى مُنْتَصَفِ رَمَضَانَ، وَسَارَ عَنْ دِمَشْقَ إِلَى قَلْعَةِ صَفَدَ فَحَصَرَهَا وَقَاتَلَهَا، وَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَأَدَامَ الرَّمْيَ إِلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا بِالْحِجَارَةِ وَالسِّهَامِ. وَكَانَ أَهْلُهَا قَدْ قَارَبَتْ ذَخَائِرُهُمْ وَأَزْوَادُهُمْ أَنْ تَفْنَى فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُحَاصَرِينَ، فَإِنَّ عَسْكَرَ صَلَاحِ الدِّينِ كَانَ يُحَاصِرُهُمْ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فَلَمَّا رَأَى أَهْلُهُ جِدَّ صَلَاحِ الدِّينِ فِي قِتَالِهِمْ، خَافُوا أَنْ يُقِيمَ إِلَى أَنْ يَفْنَى مَا بَقِيَ مَعَهُمْ مِنْ أَقْوَاتِهِمْ، وَكَانَتْ قَلِيلَةً، وَيَأْخُذَهُمْ عَنْوَةً وَيُهْلِكَهُمْ، أَوْ أَنَّهُمْ يَضْعُفُونَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ قَبْلَ فَنَاءِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْقُوتِ فَيَأْخُذَهُمْ. فَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ وَتَسَلَّمَهَا مِنْهُمْ، فَخَرَجُوا عَنْهَا وَسَارُوا إِلَى مَدِينَةِ صُورَ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ شَرَّهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا وَسَطَ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ. ذِكْرُ فَتْحِ كَوْكَبَ لَمَّا كَانَ صَلَاحُ الدِّينِ يُحَاصِرُ صَفَدَ، اجْتَمَعَ مَنْ بِصُورَ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَقَالُوا: إِنْ فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ قَلْعَةَ صَفَدَ لَمْ تَبْقَ كَوْكَبُ، وَلَوْ أَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْكَوْكَبِ، وَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ طَمَعُنَا مِنْ هَذَا الطَّرَفِ مِنَ الْبِلَادِ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى إِنْفَاذِ نَجْدَةٍ لَهَا سِرًّا مِنْ رِجَالٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَخْرَجُوا مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنْ شُجْعَانِ الْفِرِنْجِ وَأَجْلَادِهِمْ، فَسَارُوا اللَّيْلَ مُسْتَخْفِينَ، وَأَقَامُوا النَّهَارَ مُكْمِنِينَ. فَاتُّفِقَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُحَاصِرُونَ كَوْكَبَ خَرَجَ مُتَصَيِّدًا، فَلَقِيَ رَجُلًا مِنْ تِلْكَ النَّجْدَةِ، فَاسْتَغْرَبَهُ بِتِلْكَ الْأَرْضِ، فَضَرَبَهُ لِيُعْلِمَهُ بِحَالِهِ، وَمَا الَّذِي أَقْدَمَهُ إِلَى هُنَاكَ، فَأَقَرَّ بِالْحَالِ، وَدَلَّهُ عَلَى أَصْحَابِهِ. فَعَادَ الْجُنْدِيُّ الْمُسْلِمُ إِلَى قَايْمَازْ النَّجْمِيِّ، وَهُوَ مُقَدَّمُ ذَلِكَ الْعَسْكَرِ، فَأَعْلَمَهُ الْخَبَرَ، وَالْفِرِنْجِيُّ مَعَهُ، فَرَكِبَ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَدِ اخْتَفَى فِيهِ الْفِرِنْجُ، فَكَبَسَهُمْ، فَأَخَذَهُمْ،

وَتَتَبَّعَهُمْ فِي الشِّعَابِ وَالْكُهُوفِ، فَلَمْ يَفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَكَانَ مَعَهُمْ مُقَدَّمَانِ مِنْ فُرْسَانِ الِاسْبِتَارِ، فَحُمِلَا إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَهُوَ عَلَى صَفَدَ، فَأَحْضَرَهُمَا لِيَقْتُلَهُمَا، وَكَانَتْ عَادَتُهُ قَتْلَ الدَّاوِيَّةِ وَالِاسْبِتَارِيَّةِ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ وَشَجَاعَتِهِمْ، فَلَمَّا أَمَرَ بِقَتْلِهِمَا قَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: مَا أَظُنُّ يَنَالُنَا سُوءٌ وَقَدْ نَظَرْنَا إِلَى طَلْعَتِكَ الْمُبَارَكَةِ وَوَجْهِكَ الصَّبِيحِ. وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَثِيرَ الْعَفْوِ، يَفْعَلُ الِاعْتِذَارُ وَالِاسْتِعْطَافُ فِيهِ، فَيَعْفُوُ وَيَصْفَحُ، فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُمَا لَمْ يَقْتُلْهُمَا، وَأَمَرَ بِهِمَا فَسُجِنَا. وَلَمَّا فَتَحَ صَفَدَ سَارَ عَنْهَا إِلَى كَوْكَبَ وَنَازَلَهَا وَحَصَرَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ بِهَا مِنَ الْفِرِنْجِ يَبْذُلُ لَهُمُ الْأَمَانَ إِنْ سَلَّمُوا، وَيَتَهَدَّدُهُمْ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالنَّهْبِ إِنِ امْتَنَعُوا، فَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَهُ، وَأَصَرُّوا عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَجَدَّ فِي قِتَالِهِمْ، وَنَصَبَ عَلَيْهِمُ الْمَجَانِيقَ، وَتَابَعَ رَمْيَ الْأَحْجَارِ إِلَيْهِمْ، وَزَحَفَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَكَانَتِ الْأَمْطَارُ كَثِيرَةً، لَا تَنْقَطِعُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، فَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْقِتَالِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ، وَطَالَ مَقَامُهُمْ عَلَيْهَا. وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ زَحَفُوا إِلَيْهَا دَفْعَاتٍ مُتَنَاوِبَةٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَوَصَلُوا إِلَى بَاشُورَةِ الْقَلْعَةِ، وَمَعَهُمُ النَّقَّابُونَ وَالرُّمَاةُ يَحْمُونَهُمْ بِالنُّشَّابِ عَنْ قَوْسِ الْيَدِ وَالْجُرُوخِ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُخْرِجَ رَأْسَهُ مِنْ أَعْلَى السُّورِ، فَنَقَبُوا الْبَاشُورَةَ فَسَقَطَتْ، وَتَقَدَّمُوا إِلَى السُّورِ الْأَعْلَى، فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ ذَلِكَ أَذْعَنُوا بِالتَّسْلِيمِ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَتَسَلَّمَ الْحِصْنَ مِنْهُمْ مُنْتَصَفَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى صُورَ، فَوَصَلُوا إِلَيْهَا. وَاجْتَمَعَ بِهَا مِنْ شَيَاطِينِ الْفِرِنْجِ وَشُجْعَانِهِمْ كُلُّ صِنْدِيدٍ، فَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُمْ، وَحَمِيَتْ جَمْرَتُهُمْ، وَتَابَعُوا الرُّسُلَ إِلَى مَنْ بِالْأَنْدَلُسِ وَصَقَلِّيَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ يَسْتَغِيثُونَ وَيَسْتَنْجِدُونَ، وَالْأَمْدَادُ كُلَّ قَلِيلٍ تَأْتِيهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِتَفْرِيطِ صَلَاحِ الدِّينِ فِي إِطْلَاقِ كُلِّ مَنْ حَصَرَهُ، حَتَّى عَضَّ بَنَانَهُ نَدَمًا وَأَسَفًا حَيْثُ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ. وَاجْتَمَعَ لِلْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ كَوْكَبَ وَصَفَدَ مِنْ حَدِّ أَيْلَةَ إِلَى أَقْصَى أَعْمَالِ بَيْرُوتَ، لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُ غَيْرُ مَدِينَةِ صُورَ، وَجَمِيعُ أَعْمَالِ أَنْطَاكْيَةَ سِوَى الْقُصَيْرِ، وَلَمَّا مَلَكَ صَلَاحُ الدِّينِ صَفَدَ سَارَ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَعَيَّدَ فِيهِ عِيدَ الْأَضْحَى، ثُمَّ سَارَ مِنْهُ إِلَى عَكَّا، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى انْسَلَخَتِ السَّنَةُ.

ذِكْرُ ظُهُورِ طَائِفَةٍ مِنَ الشِّيعَةِ بِمِصْرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَ بِالْقَاهِرَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ، عُدَّتُهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، لَيْلًا وَنَادَوْا بِشِعَارِ الْعَلَوِيِّينَ: يَالِعَلِيٍّ، يَالِعَلِيٍّ، وَسَلَكُوا الدُّرُوبَ يُنَادُونَ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ رَعِيَّةَ الْبَلَدِ يُلَبُّونَ دَعْوَتَهُمْ. وَيَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، فَيُعِيدُونَ الدَّوْلَةَ الْعَلَوِيَّةَ، وَيُخْرِجُونَ بَعْضَ مَنْ بِالْقَصْرِ مَحْبُوسًا مِنْهُمْ، وَيَمْلِكُونَ الْبَلَدَ فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ، وَلَا أَعَارَهُمْ سَمْعَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ تَفَرَّقُوا خَائِفِينَ، فَأُخِذُوا، وَكُتِبَ بِذَلِكَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، فَأَهَمَّهُ أَمْرُهُمْ وَأَزْعَجَهُ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ: يَنْبَغِي أَنْ تَفْرَحَ بِذَلِكَ وَلَا تَحْزَنَ وَلَا تَهْتَمَّ، حَيْثُ عَلِمْتَ مِنْ بَوَاطِنِ رَعِيَّتِكَ الْمَحَبَّةَ لَكَ وَالنُّصْحَ، وَتَرْكَ الْمَيْلِ إِلَى عَدُوِّكَ وَلَوْ وَضَعْتَ جَمَاعَةً يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ الْحَالَةِ لِنَعْلَمَ بَوَاطِنَ أَصْحَابِكَ وَرَعِيَّتِكَ، وَخَسِرْتَ الْأَمْوَالَ الْجَلِيلَةَ عَلَيْهِمْ. لَكَانَ قَلِيلًا فَسُرِّيَ عَنْهُ. وَكَانَ هَذَا الْقَاضِي الْفَاضِلُ صَاحِبَ دَوْلَةِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَأَكْبَرَ مَنْ بِهَا، وَسَتَأْتِي مَنَاقِبُهُ عِنْدَ وَفَاتِهِ، مَا تَرَاهُ. ذِكْرُ انْهِزَامِ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ مِنَ السُّلْطَانِ طُغْرُلْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ عَسْكَرًا كَثِيرًا، وَجَعَلَ الْمُقَدَّمَ عَلَيْهِمْ وَزِيرَهُ جَلَالَ الدِّينِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ يُونُسَ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى مُسَاعَدَةِ قُزَلَ، لِيَكُفَّ السُّلْطَانَ طُغْرُلْ عَنِ الْبِلَادِ. فَسَارَ الْعَسْكَرُ ثَالِثَ صَفَرٍ إِلَى أَنْ قَارَبَ هَمَذَانَ، فَلَمْ يَصِلْ قُزْلُ إِلَيْهِمْ، وَأَقْبَلَ طُغْرُلْ إِلَيْهِمْ فِي عَسَاكِرِهِ، فَالْتَقَوْا ثَامِنَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِدَايْ مَرْجَ عِنْدَ هَمَذَانَ، وَاقْتَتَلُوا، فَلَمْ يَثْبُتْ عَسْكَرُ بَغْدَادَ، بَلِ انْهَزَمُوا وَتَفَرَّقُوا، وَثَبَتَ الْوَزِيرُ قَائِمًا، وَمَعَهُ مُصْحَفٌ وَسَيْفٌ، فَأَتَاهُ مِنْ عَسْكَرِ طُغْرُلْ مَنْ أَسَرَهُ، وَأَخَذَ مَا مَعَهُ مِنْ خِزَانَةٍ وَسِلَاحٍ وَدَوَابَّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَادَ الْعَسْكَرُ إِلَى بَغْدَادَ مُتَفَرِّقِينَ.

وَكُنْتُ حِينَئِذٍ بِالشَّامِ فِي عَسْكَرِ صَلَاحِ الدِّينِ يُرِيدُ الْغَزَاةَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ مَعَ النَّجَّابِينَ بِمَسِيرِ الْعَسْكَرِ الْبَغْدَادِيِّ، فَقَالَ: كَأَنَّكُمْ وَقَدْ وَصَلَ الْخَبَرُ بِانْهِزَامِهِمْ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ أَصْحَابِي وَأَهْلِي أَعْرَفُ بِالْحَرْبِ مِنَ الْوَزِيرِ. وَأَطْوَعُ فِي الْعَسْكَرِ مِنْهُ وَمَعَ هَذَا، فَمَا أُرْسِلُ أَحَدًا مِنْهُمْ فِي سِرِيَّةٍ لِلْحَرْبِ إِلَّا وَأَخَافُ عَلَيْهِ وَهَذَا الْوَزِيرُ غَيْرُ عَارِفٍ بِالْحَرْبِ، وَقَرِيبُ الْعَهْدِ بِالْوِلَايَةِ وَلَا يَرَاهُ الْأُمَرَاءُ أَهْلًا أَنْ يُطَاعَ، وَفِي مُقَابَلَةِ سُلْطَانٍ شُجَاعٍ قَدْ بَاشَرَ الْحَرْبَ بِنَفْسِهِ، وَمَنْ مَعَهُ يُطِيعُهُ. وَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَيْهِ بِانْهِزَامِهِمْ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُنْتُ أَخْبَرْتُكُمْ بِكَذَا وَكَذَا، وَقَدْ وَصَلَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ. وَلَمَّا عَادَتْ عَسَاكِرُ بَغْدَادَ مُنْهَزِمَةً قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ الْوَاثِقِ بِاللَّهِ: اتْرُكُونَا مِنْ جَائِحَاتِ الْجَرِيمَهْ ... طَلْعَةً طَلْعَةً تَكُونُ وَخِيَمَهْ بَرَكَاتُ الْوَزِيرِ قَدْ شَمَلَتْنَا ... فَلِهَذَا أُمُورُنَا مُسْتَقِيمَهْ خَرَجَتْ جُنْدُنَا تُرِيدُ خُرَاسَا ... نَ جَمِيعًا بِأُبَّهَاتٍ عَظِيمَهْ بِخُيُولٍ وَعِدَّةٍ وَعَدِيدٍ ... وَسُيُوفٍ مُجَرِّبَاتٍ قَدِيمَهْ وَوَزِيرٍ وَطَاقِ طُنْبٍ وَنَقْشٍ ... وَخُيُولٍ مُعَدَّةٍ لِلْهَزِيمَهْ هُمْ رَأَوْا غُرَّةَ الْعَدُوِّ وَقَدْ أَقْ - ... بَلَ وَلَّوْا وَانْحَلَّ عَقْدُ الْعَزِيمَهْ وَأَتَوْنَا وَلَا بِخُفَّيْ حُنَيْنٍ ... بِوُجُوهٍ سُودٍ قِبَاحٍ دَمِيمَهْ لَوْ رَأَى صَاحِبُ الزَّمَانِ وَلَوْ عَا ... يَنَ أَفْعَالَهُمْ وَقُبْحَ الْجَرِيمَهْ قَابَلَ الْكُلَّ بِالنَّكَالِ وَنَاهِي ... كَ بِهَا سُبَّةً عَلَيْهِمْ مُقِيمَهْ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَتَقَدَّمَ هَذِهِ الْحَادِثَةُ، وَإِنَّمَا أَخَّرْتُهَا لِتَتَبُّعِ الْحَوَادِثِ الْمُتَقَدِّمَةِ بَعْضِهَا بَعْضًا، لِتَعَلُّقِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِالْأُخْرَى.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُوَيْدَةَ التِّكْرِيتِيُّ، كَانَ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ سَلْجُوقَةُ خَاتُونَ بِنْتُ قَلْجَ أَرْسَلَانَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ قَلْج أَرَسْلَانَ زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ زَوْجَةَ نُورِ الدِّينِ، مُحَمَّدِ بْنِ قُرَا أَرْسَلَانَ، صَاحِبِ الْحِصْنِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ عَنْهَا تَزَوَّجَهَا الْخَلِيفَةُ. وَوَجَدَ الْخَلِيفَةُ عَلَيْهَا وَجْدًا عَظِيمًا ظَهَرَ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَبَنَى عَلَى قَبْرِهَا تُرْبَةً بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَإِلَى جَانِبِ التُّرْبَةِ رِبَاطُهُ الْمَشْهُورُ بِالرَّمْلَةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلَاءُ الدِّينِ تَنَامِشُ وَحُمِلَ تَابُوتُهُ إِلَى مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَفِيهَا تُوُفِّيَ خَالِصٌ خَادِمُ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ أَكْبَرَ أَمِيرٍ بِبَغْدَادَ، وَمَاتَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ النَّقُّورِ الْعَدْلُ بِبَغْدَادَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَهُوَ مِنْ بَيْتِ الْحَدِيثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 585 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ فَتْحِ شَقِيفِ أَرْنُوَنَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى شَقِيفِ أَرْنُوَنَ، وَهُوَ مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ، لِيَحْصُرَهُ، فَنَزَلَ صَاحِبُ الشَّقِيفِ، وَهُوَ أَرْنَاطُ صَاحِبُ صَيْدَا، وَكَانَ أَرْنَاطُ هَذَا لَمِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ دَهَاءً وَمَكْرًا، فَدَخَلَ إِلَيْهِ وَاجْتَمَعَ بِهِ، وَأَظْهَرَ لَهُ الطَّاعَةَ وَالْمَوَدَّةَ. وَقَالَ لَهُ: أَنَا مُحِبٌّ لَكَ، وَمُعْتَرِفٌ بِإِحْسَانِكَ، وَأَخَافُ أَنْ يَعْرِفَ الْمَرْكِيسُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَيَنَالَ أَوْلَادِي وَأَهْلِي مِنْهُ أَذًى، فَإِنَّهُمْ عِنْدَهُ، فَأَشْتَهِي أَنْ تُمْهِلَنِي حَتَّى أَتَوَصَّلَ فِي تَخْلِيصِهِمْ مِنْ عِنْدِهِ، وَحِينَئِذٍ أَحْضُرُ أَنَا وَهُمْ عِنْدَكَ، وَنُسَلِّمُ الْحِصْنَ إِلَيْكَ، وَنَكُونُ فِي خِدْمَتِكَ، نَقْنَعُ بِمَا تُعْطِينَا مِنْ إِقْطَاعٍ فَظَنَّ صَلَاحُ الدِّينِ صِدْقَهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ، فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ الشَّقِيفَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَأَقَامَ صَلَاحُ الدِّينِ بِمَرْجِ عُيُونٍ يَنْتَظِرُ الْمِيعَادَ، وَهُوَ قَلِقٌ مُفَكِّرٌ، لِقُرْبِ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْهُدْنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْمُنْدِ، صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ، فَأَمَرَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ أَخِيهِ أَنْ يَسِيرَ فِي مَنْ مَعَهُ مِنْ عَسَاكِرِهِ، وَمَنْ يَأْتِي مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ، وَيَكُونَ مُقَابِلَ أَنْطَاكِيَةَ لِئَلَّا يُغِيرَ صَاحِبُهَا عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْهُدْنَةِ. وَكَانَ أَيْضًا مُنْزَعِجَ الْخَاطِرِ، كَثِيرَ الْهَمِّ، لِمَا بَلَغَهُ مِنِ اجْتِمَاعِ الْفِرِنْجِ بِمَدِينَةِ صُورَ،

وَمَا يَتَّصِلُ بِهِمْ مِنَ الْأَمْدَادِ فِي الْبَحْرِ، وَأَنَّ مَلِكَ الْفِرِنْجِ الَّذِي كَانَ قَدْ أَسَرَهُ صَلَاحُ الدِّينِ وَأَطْلَقَهُ، بَعْدَ فَتْحِ الْقُدْسِ، قَدِ اصْطَلَحَ هُوَ وَالْمَرْكِيسُ، بَعْدَ اخْتِلَافٍ كَانَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي خَلْقٍ، لَا يُحْصَوْنَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ مَدِينَةِ صُورَ إِلَى ظَاهِرِهَا. فَكَانَ هَذَا وَأَشْبَاهُهُ مِمَّا يُزْعِجُهُ، وَيَخَافُ مِنْ تَرْكِ الشَّقِيفِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَالتَّقَدُّمِ إِلَى صُورَ‍ وَفِيهَا الْجُمُوعُ الْمُتَوَافِرَةُ فَتَنْقَطِعُ الْمِيرَةُ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُقِيمٌ عَلَى الْعَهْدِ مَعَ أَرْنَاطَ صَاحِبِ الشَّقِيفِ. وَكَانَ أَرْنَاطُ، فِي مُدَّةِ الْهُدْنَةِ، يَشْتَرِي الْأَقْوَاتَ مِنْ سُوقِ الْعَسْكَرِ وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحَصِّنُ بِهِ شَقِيفَهُ، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ يُحْسِنُ الظَّنَّ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ عَنْهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْمَكْرِ، وَإِنَّ قَصْدَهُ الْمُطَاوَلَةَ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ الْفِرِنْجُ مِنْ صُورَ، وَحِينَئِذٍ يُبْدِي فَضِيحَتَهُ، وَيُظْهِرُ مُخَالَفَتَهُ لَا يَقْبَلُ فِيهِ. فَلَمَّا قَارَبَ انْقِضَاءُ الْهُدْنَةِ تَقَدَّمَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ مُعَسْكَرِهِ إِلَى الْقُرْبِ مِنْ شَقِيفِ أَرْنُونَ وَأَحْضَرَ عِنْدَهُ أَرْنَاطَ، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْأَجَلِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. فَقَالَ لَهُ فِي مَعْنَى تَسْلِيمِ الشَّقِيفِ، فَاعْتَذَرَ بِأَوْلَادِهِ وَأَهْلِهِ، وَأَنَّ الْمَرْكِيسَ يُمَكِّنُهُمْ مِنَ الْمَجِيءِ إِلَيْهِ وَطَلَبَ التَّأْخِيرَ مُدَّةً أُخْرَى. فَحِينَئِذٍ عَلِمَ السُّلْطَانُ مَكْرَهُ وَخِدَاعَهُ، فَأَخَذَهُ وَحَبَسَهُ، وَأَمَرَهُ بِتَسْلِيمِ الشَّقِيفِ، فَطَلَبَ قِسِّيسًا، ذَكَرَهُ، لِيُحَمِّلَهُ رِسَالَةً إِلَى مَنْ بِالشَّقِيفِ لِيُسَلِّمُوهُ، فَأَحْضَرُوهُ عِنْدَهُ، فَسَارَّهُ بِمَا لَمْ يَعْلَمُوا، فَمَضَى ذَلِكَ الْقِسِّيسُ إِلَى الشَّقِيفِ، فَأَظْهَرَ أَهْلُهُ الْعِصْيَانَ، فَسَيَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ أَرْنَاطَ إِلَى دِمَشْقَ وَسَجَنَهُ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الشَّقِيفِ فَحَصَرَهُ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ، عَلَيْهِ مَنْ يَحْفَظُهُ، وَيَمْنَعُ عَنْهُ الذَّخِيرَةَ وَالرِّجَالَ. ذِكْرُ وَقْعَةِ الْيَزَكِ مَعَ الْفِرِنْجِ لَمَّا كَانَ صَلَاحُ الدِّينِ بِمَرْجِ عُيُونٍ، وَعَلَى الشَّقِيفِ، جَاءَتْهُ كُتُبٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ يَزَكًا فِي مُقَابِلِ الْفِرِنْجِ عَلَى صُورَ، يُخْبِرُونَهُ فِيهَا أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى عُبُورِ الْجِسْرِ الَّذِي لِصُورَ، وَعَزَمُوا عَلَى حِصَارِ صَيْدَا، فَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ جَرِيدَةً

فِي شُجْعَانِ أَصْحَابِهِ، سِوَى مَنْ جَعَلَهُ عَلَى الشَّقِيفِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِمْ وَقَدْ فَاتَ الْأَمْرُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدْ فَارَقُوا صُورَ وَسَارُوا عَنْهَا لِمَقْصِدِهِمْ، فَلَقِيَهُمُ الْيَزَكُ عَلَى مَضِيقٍ هُنَاكَ، وَقَاتَلُوهُمْ وَمَنَعُوهُمْ، وَجَرَى لَهُمْ مَعَهُمْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ يَشِيبُ لَهَا الْوَلِيدُ، وَأَسَرُوا مِنَ الْفِرِنْجِ جَمَاعَةً، وَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِنْهُمْ سَبْعَةُ رِجَالٍ مِنْ فُرْسَانِهِمُ الْمَشْهُورِينَ وَجَرَحُوا جَمَاعَةً. وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مَمْلُوكٌ لِصَلَاحِ الدِّينِ كَانَ مِنْ أَشْجَعِ النَّاسِ، فَحَمَلَ وَحْدَهُ عَلَى صَفِّ الْفِرِنْجِ، فَاخْتَلَطَ بِهِمْ، وَضَرَبَهُمْ بِسَيْفِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَتَكَاثَرُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ إِنِ الْفِرِنْجَ عَجَزُوا عَنِ الْوُصُولِ إِلَى صَيْدَا فَعَادُوا إِلَى مَكَانِهِمْ. ذِكْرُ وَقْعَةٍ ثَانِيَةٍ لِلْغُزَاةِ الْمُتَطَوِّعَةِ لَمَّا وَصَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الْيَزَكِ وَقَدْ فَاتَتْهُ تِلْكَ الْوَقْعَةُ أَقَامَ عِنْدَهُمْ فِي خَيْمَةٍ صَغِيرَةٍ، يَنْتَظِرُ عَوْدَةَ الْفِرِنْجِ لِيَنْتَقِمَ مِنْهُمْ، وَيَأْخُذَ بِثَأْرِ مَنْ قَتَلُوهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَرَكِبَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ فِي عِدَّةٍ يَسِيرَةٍ عَلَى أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مُخَيَّمِ الْفِرِنْجِ مِنَ الْجَبَلِ لِيَعْمَلَ بِمُقْتَضَى مَا يُشَاهِدُهُ، وَظَنَّ مَنْ هُنَاكَ مِنْ غُزَاةِ الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ الْمُتَطَوِّعَةِ أَنَّهُ عَلَى قَصْدِ الْمَصَافِّ وَالْحَرْبِ، فَسَارُوا مُجِدِّينَ وَأَوْغَلُوا فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ مُبْعِدِينَ، وَفَارَقُوا الْحَزْمَ، وَخَلَّفُوا السُّلْطَانَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَقَارَبُوا الْفِرِنْجَ. فَأَرْسَلَ صَلَاحُ الدِّينِ عِدَّةً مِنَ الْأُمَرَاءِ يَرُدُّونَهُمْ وَيَحْمُونَهُمْ إِلَى أَنْ يَخْرُجُوا، فَلَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يَقْبَلُوا. وَكَانَ الْفِرِنْجُ قَدِ اعْتَقَدُوا أَنَّ وَرَاءَهُمْ كَمِينًا، فَلَمْ يُقَدِمُوا عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلُوا مَنْ يَنْظُرُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، فَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ أَنَّهُمْ مُنْقَطِعُونَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ وَرَاءَهُمْ مَنْ يُخَافُ، فَحَمَلَتِ الْفِرِنْجُ عَلَيْهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَقَاتَلُوهُمْ فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ أَنَامُوهُمْ، وَقُتِلَ مَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَعْرُوفَيْنِ وَشَقَّ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَالْمُسْلِمِينَ مَا جَرَى عَلَيْهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ بِتَفْرِيطِهِمْ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ تَاسِعَ جُمَادَى الْأُولَى فَلَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ ذَلِكَ انْحَدَرَ مِنَ الْجَبَلِ إِلَيْهِمْ فِي عَسْكَرِهِ، فَحَمَلُوا عَلَى الْفِرِنْجِ فَأَلْقَوْهُمْ إِلَى الْجِسْرِ وَقَدْ أَخَذُوا طَرِيقَهُمْ، فَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ، فَغَرِقَ مِنْهُمْ نَحْوُ مِائَةِ دَارِعٍ سِوَى مَنْ قُتِلَ. وَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى مُصَابَرَتِهِمْ وَمُحَاصَرَتِهِمْ، فَتَسَامَعَ النَّاسُ فَقَصَدُوهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَاجْتَمَعَ مَعَهُ خَلْقٌ

كَثِيرٌ، فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ ذَلِكَ عَادُوا إِلَى مَدِينَةِ صُورَ، فَلَمَّا عَادُوا إِلَيْهَا سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى تِبْنِينَ، ثُمَّ إِلَى عَكَّا يَنْظُرُ حَالَهَا ثُمَّ عَادَ إِلَى الْعَسْكَرِ وَالْمُخَيَّمِ. ذِكْرُ وَقْعَةٍ ثَالِثَةٍ لَمَّا عَادَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الْعَسْكَرِ أَتَاهُ الْخَبَرُ أَنَّ الْفِرِنْجَ يَخْرُجُونَ مِنْ صُورَ لِلِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ، مُتَبَدَّدِينَ، فَكَتَبَ إِلَى مَنْ بِعَكَّا مِنَ الْعَسْكَرِ وَوَاعَدَهُمْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ جُمَادَى الْآخِرَةِ لِيُلَاقُوهُمْ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَرَتَّبَ كُمَنَاءَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ وَاخْتَارَ جَمَاعَةً مِنْ شُجْعَانِ عَسْكَرِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّعَرُّضِ لِلْفِرِنْجِ وَأَمَرَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا حَمَلَ عَلَيْهِمُ الْفِرِنْجُ قَاتِلُوهُمْ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ ثُمَّ تَطَارَدُوا لَهُمْ وَأَرَوْهُمُ الْعَجْزَ عَنْ مُقَاتِلَتِهِمْ فَإِذَا تَبِعَهُمُ الْفِرِنْجُ اسْتَجَرُّوهُمْ إِلَى أَنْ يَجُوزُوا مَوْضِعَ الْكَمِينِ ثُمَّ يَعْطِفُوا عَلَيْهِمْ وَيَخْرُجُ الْكَمِينُ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَخَرَجُوا عَلَى هَذِهِ الْعَزِيمَةِ. فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَالْتَقَتِ الْفِئَتَانِ وَاقْتَتَلُوا أَنِفَ فُرْسَانُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَظَهْرَ عَنْهُمُ اسْمُ الْهَزِيمَةِ فَثَبَتُوا فَقَاتَلُوهُمْ وَصَبَرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَعَظُمَ الْأَمْرُ وَدَامَتِ الْحَرْبُ وَطَالَ عَلَى الْكُمَنَاءِ الِانْتِظَارُ فَخَافُوا عَلَى أَصْحَابِهِمْ فَخَرَجُوا مِنْ مَكَامِنِهِمْ نَحْوَهُمْ مُسْرِعِينَ وَإِلَيْهِمْ قَاصِدِينَ فَأَتَوْهُمْ وَهُمْ فِي شِدَّةِ الْحَرْبِ فَازْدَادَ الْأَمْرُ شِدَّةً عَلَى شِدَّةٍ وَكَانَ فِيهِمْ أَرْبَعَةُ أُمَرَاءَ مِنْ رَبِيعَةَ وَطَيِّءٍ وَكَانُوا يَجْهَلُونَ تِلْكَ الْأَرْضَ فَلَمْ يَسْلُكُوا مَسْلَكَ أَصْحَابِهِمْ فَسَلُكُوا الْوَادِيَ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِمْ إِلَى أَصْحَابِهِمْ وَتَبِعَهُمْ بَعْضُ مَمَالِيكِ صَلَاحِ الدِّينِ فَلَمَّا رَأَوْهُمُ الْفِرِنْجَ بِالْوَادِي عَلِمُوا أَنَّهُمْ جَاهِلُونَ فَأَتَوْهُمْ وَقَاتَلُوهُمْ. وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ فَإِنَّهُ نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَجَلَسَ عَلَى صَخْرَةٍ وَأَخَذَ قَوْسَهُ بِيَدِهِ وَحَمَى نَفْسَهُ وَجَعَلُوا يَرْمُونَهُ بِسِهَامِ الزُّنْبُورَكِ وَهُوَ يَرْمِيهِمْ فَجَرَحَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَجَرَحُوهُ جِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ فَسَقَطَ فَأَتَوْهُ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ فَتَرَكُوهُ وَانْصَرَفُوا وَهُمْ يَحْسَبُونَهُ مَيِّتًا ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ جَاءُوا مِنَ الْغَدِ عَلَى مَوْضِعِهِمْ فَرَأَوُا الْقَتْلَى وَرَأَوُا الْمَمْلُوكَ حَيًّا فَحَمَلُوهُ فِي كِسَاءٍ وَهُوَ يَكَادُ لَا يُعْرَفُ مِنْ كَثْرَةِ الْجِرَاحَاتِ فَأَيِسُوا مِنْ حَيَاتِهِ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ الشَّهَادَةَ وَبَشَّرُوهُ بِالشَّهَادَةِ فَتَرَكُوهُ ثُمَّ عَادُوا إِلَيْهِ فَرَأَوْهُ وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ بِمَشْرُوبٍ فَعُوفِيَ ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحْضُرُ

مَشْهَدًا إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِ الْأَثَرُ الْعَظِيمُ. ذِكْرُ مَسِيرِ الْفِرِنْجِ إِلَى عَكَّا وَمُحَاصَرَتِهَا لَمَّا كَثُرَ جَمْعُ الْفِرِنْجِ بِصُورَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ كَانَ كُلَّمَا فَتَحَ مَدِينَةً أَوْ قَلْعَةً أَعْطَى أَهْلَهَا الْأَمَانَ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَيْهَا بِأَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، اجْتَمَعَ بِهَا مِنْهُمْ عَالَمٌ كَثِيرٌ لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى، وَمِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يَفْنَى عَلَى كَثْرَةِ الْإِنْفَاقِ فِي السِّنِينَ الْكَثِيرَةِ. ثُمَّ إِنَّ الرُّهْبَانَ وَالْقُسُوسَ وَخَلْقًا كَثِيرًا مِنْ مَشْهُورِيهِمْ، وَفُرْسَانِهِمْ لَبِسُوا السَّوَادَ، وَأَظْهَرُوا الْحُزْنَ عَلَى خُرُوجِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَأَخَذَهُمُ الْبَطْرَكُ الَّذِي كَانَ بِالْقُدْسِ، وَدَخَلَ بِهِمْ بِلَادَ الْفِرِنْجِ يَطُوفُهَا بِهِمْ جَمِيعًا، وَيَسْتَنْجِدُونَ أَهْلَهَا، وَيَسْتَجِيرُونَ بِهِمْ، وَيَحُثُّونَهُمْ عَلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ. وَصَوَّرُوا الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَجَعَلُوهُ مَعَ صُورَةِ عَرَبِيٍّ يَضْرِبُهُ، وَقَدْ جَعَلُوا الدِّمَاءَ عَلَى صُورَةِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَالُوا لَهُمْ: هَذَا الْمَسِيحُ يَضْرِبُهُ مُحَمَّدٌ نَبِيُّ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ جَرَحَهُ وَقَتَلَهُ. فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْفِرِنْجِ فَحَشَرُوا وَحَشَدُوا حَتَّى النِّسَاءَ، فَإِنَّهُمْ كَانَ مَعَهُمْ عَلَى عَكَّا عِدَّةٌ مِنَ النِّسَاءِ يُبَارِزْنَ الْأَقْرَانَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْخُرُوجَ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَخْرُجُ عِوَضَهُ أَوْ يُعْطِيهِمْ مَالًا عَلَى قَدْرِ حَالِهِمْ. فَاجْتَمَعَ لَهُمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالْأَمْوَالِ مَا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْإِحْصَاءُ. وَلَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ الْمُقِيمِينَ بِحِصْنِ الْأَكْرَادِ، وَهُوَ مِنْ أَجْنَادِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ سَلَّمُوهُ إِلَى الْفِرِنْجِ قَدِيمًا، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ [مِنْ] مُوَافَقَةِ الْفِرِنْجِ فِي الْغَارَةِ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَالْقِتَالِ مَعَهُمْ، وَالسَّعْيِ مَعَهُمْ، وَكَانَ سَبَبُ اجْتِمَاعِي بِهِ مَا أَذْكُرُهُ سَنَةَ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ لِي هَذَا الرَّجُلُ إِنَّهُ دَخَلَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفِرِنْجِ مِنْ حِصْنِ الْأَكْرَادِ إِلَى الْبِلَادِ الْبَحْرِيَّةِ الَّتِي لِلْفِرِنْجِ وَالرُّومِ فِي أَرْبَعِ شَوَانٍ، يَسْتَنْجِدُونَ قَالَ: فَانْتَهَى بِنَا التَّطْوَافُ إِلَى رُومِيَّةَ الْكُبْرَى، فَخَرَجْنَا مِنْهَا وَقَدْ مَلَأْنَا الشَّوَانِيَ نُقْرَةً. وَحَدَّثَنِي بَعْضُ الْأَسْرَى مِنْهُمْ أَنَّهُ لَهُ وَالِدَةٌ لَيْسَ لَهَا وَلَدٌ سِوَاهُ، وَلَا يَمْلِكُونَ مِنَ

الدُّنْيَا غَيْرَ بَيْتٍ بَاعَتْهُ وَجَهَّزَتْهُ بِثَمَنِهِ، وَسَيَّرَتْهُ لِاسْتِنْقَاذِ بَيْتٍ وَاحِدٍ فَأُخِذَ أَسِيرًا. وَكَانَ عِنْدَ الْفِرِنْجِ مِنَ الْبَاعِثِ الدِّينِيِّ وَالنَّفْسَانِيِّ مَا هَذَا حَدُّهُ، فَخَرَجُوا عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ، بَرًّا وَبَحْرًا، مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَلَوْلَا [أَنَّ] اللَّهَ تَعَالَى لَطَفَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَأَهْلَكَ مَلِكَ الْأَلْمَانِ لَمَّا خَرَجَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ إِلَى الشَّامِ، وَإِلَّا كَانَ يُقَالُ: إِنَّ الشَّامَ وَمِصْرَ كَانَتَا لِلْمُسْلِمِينَ. فَهَذَا كَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِصُورَ تَمَوَّجَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَمَعَهُمُ الْأَمْوَالُ الْعَظِيمَةُ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُمْ بِالْأَقْوَاتِ وَالذَّخَائِرِ، وَالْعُدَدِ وَالرِّجَالِ مِنْ بِلَادِهِمْ. فَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ صُورُ بَاطِنُهَا وَظَاهِرُهَا فَأَرَادُوا قَصْدَ صَيْدَا وَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَعَادُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى قَصْدِ عَكَّا وَمُحَاصَرَتِهَا وَمُصَابَرَتِهَا، فَسَارُوا إِلَيْهَا بِفَارِسِهِمْ وَرَاجِلِهِمْ، وَقَضِّهِمْ وَقَضِيضِهِمْ، وَلَزِمُوا الْبَحْرَ فِي مَسِيرِهِمْ لَا يُفَارِقُونَهُ فِي السَّهْلِ وَالْوَعْرِ، وَالضِّيقِ وَالسَّعَةِ، وَمَرَاكِبُهُمْ تَسِيرُ مُقَابِلَهُمْ فِي الْبَحْرِ فِيهَا سِلَاحُهُمْ وَذَخَائِرُهُمْ، وَلِتَكُونَ عُدَّةً لَهُمْ، إِنْ جَاءَهُمْ مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ رَكِبُوا فِيهَا وَعَادُوا. وَكَانَ رَحِيلُهُمْ ثَامِنَ رَجَبٍ، وَنُزُولُهُمْ عَلَى عَكَّا فِي مُنْتَصَفِهِ، وَلَمَّا كَانُوا سَائِرِينَ كَانَ يَزَكُ الْمُسْلِمِينَ يَتَخَطَّفُونَهُمْ، وَيَأْخُذُونَ الْمُنْفَرِدَ مِنْهُمْ. وَلَمَّا رَحَلُوا جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ بِرَحِيلِهِمْ، فَسَارَ حَتَّى قَارَبَهُمْ، ثُمَّ جَمَعَ أُمَرَاءَهُ وَاسْتَشَارَهُمْ: هَلْ يَكُونُ الْمَسِيرُ مُحَاذَاةَ الْفِرِنْجِ وَمُقَاتَلَتُهُمْ وَهُمْ سَائِرُونَ أَوْ يَكُونُ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكُوهَا؟ فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى احْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ فِي مُسَايَرَتِهِمْ، فَإِنَّ الطَّرِيقَ وَعِرٌ وَضَيِّقٌ وَلَا يَتَهَيَّأُ لَنَا مَا نُرِيدُهُ مِنْهُمْ، وَالرَّأْيُ أَنَّنَا نَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ الْمَهْيَعِ، وَنَجْتَمِعُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ عَكَّا، فَنُفَرِّقُهُمْ وَنُمَزِّقُهُمْ. فَعَلِمَ مَيْلَهُمْ إِلَى الرَّاحَةِ الْمُعَجَّلَةِ، فَوَافَقَهُمْ، وَكَانَ رَأْيُهُ مُسَايَرَتَهُمْ وَمُقَاتَلَتَهُمْ وَهُمْ سَائِرُونَ، وَقَالَ: إِنَّ الْفِرِنْجَ إِذَا نَزَلُوا لَصَقُوا بِالْأَرْضِ، فَلَا يَتَهَيَّأُ لَنَا إِزْعَاجُهُمْ، وَلَا نَيْلُ الْغَرَضِ مِنْهُمْ، وَالرَّأْيُ قِتَالُهُمْ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى عَكَّا، فَخَالَفُوهُ فَتَبِعَهُمْ، وَسَارُوا عَلَى طَرِيقِ كَفْرِ كُنَا فَسَبَقَهُمُ الْفِرِنْجُ. وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ قَدْ جَعَلَ فِي مُقَابِلِ الْفِرِنْجِ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ يُسَايِرُونَهُمْ، وَيُنَاوِشُونَهُمُ الْقِتَالَ، وَيَتَخَطَّفُونَهُمْ، وَلَمْ يَقْدَمِ الْفِرِنْجُ عَلَيْهِمْ مَعَ قِلَّتِهِمْ، فَلَوْ أَنَّ الْعَسَاكِرَ اتَّبَعَتْ رَأْيَ صَلَاحِ الدِّينِ فِي مُسَايَرَتِهِمْ وَمُقَاتَلَتِهِمْ قَبْلَ نُزُولِهِمْ عَلَى عَكَّا لَكَانَ بَلَغَ غَرَضَهُ وَصَدَّهُمْ عَنْهَا، وَلَكِنْ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ. وَلَمَّا وَصَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى عَكَّا رَأَى الْفِرِنْجَ قَدْ نَزَلُوا عَلَيْهَا مِنَ الْبَحْرِ إِلَى

الْبَحْرِ، مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَيْهَا طَرِيقٌ، فَنَزَلَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَيْهِمْ وَضَرَبَ خَيْمَتَهُ عَلَى تَلِّ كَيْسَانَ، وَامْتَدَّتْ مَيْمَنَتُهُ إِلَى تَلِّ الْعِيَاضِيَّةِ وَمَيْسَرَتُهُ إِلَى النَّهْرِ الْجَارِي، وَنَزَلَتِ الْأَثْقَالُ بِصَفُّورِيَّةَ. وَسَيَّرَ الْكُتُبَ إِلَى الْأَطْرَافِ بِاسْتِدْعَاءِ الْعَسَاكِرِ، فَأَتَاهُ عَسْكَرُ الْمَوْصِلِ، وَدِيَارُ بَكْرٍ وَسِنْجَارَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ، وَأَتَاهُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ أَخِيهِ، وَأَتَاهُ مُظَفَّرُ الدِّينِ بْنُ زَيْنِ الدِّينِ، وَهُوَ صَاحِبُ حَرَّانَ وَالرُّهَا. وَكَانَتِ الْأَمْدَادُ تَأْتِي الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَرِّ وَتَأْتِي الْفِرِنْجَ فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُدَّةُ مَقَامِهِمْ عَلَى عَكَّا حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ مَا بَيْنَ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، مِنْهَا الْيَوْمُ الْمَشْهُورُ، وَمِنْهَا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ، وَأَنَا أَذْكُرُ الْأَيَّامَ الْكِبَارَ لِئَلَّا يَطُولَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ مَا عَدَاهَا كَانَ قِتَالًا يَسِيرًا مِنْ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ. وَلَمَّا نَزَلَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، وَلَا إِلَى عَكَّا حَتَّى انْسَلَخَ رَجَبٌ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ مُسْتَهَلَّ شَعْبَانَ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ مَا يُرِيدُ وَبَاتَ النَّاسُ عَلَى تَعْبِئَةٍ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ بَاكَرَهُمُ الْقِتَالَ بِحَدِّهِ وَحَدِيدِهِ، وَاسْتَدَارَ عَلَيْهِمْ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِهِمْ مِنْ بَكْرَةٍ إِلَى الظُّهْرِ، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ صَبْرًا حَارَ لَهُ مَنْ رَآهُ. فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الظُّهْرِ حَمَلَ عَلَيْهِمْ تَقِيُّ الدِّينِ حَمْلَةً مُنْكَرَةً مِنَ الْمَيْمَنَةِ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنْهُمْ، فَأَزَاحَهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَا يَلْوِي أَخٌ عَلَى أَخٍ، وَالْتَجَأُوا إِلَى مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، وَاجْتَمَعُوا بِهِمْ، وَاحْتَمَوْا بِهِمْ، وَأَخْلَوْا نِصْفَ الْبَلَدِ، وَمَلَكَ تَقِيُّ الدِّينِ مَكَانَهُمْ، وَالْتَصَقَ بِالْبَلَدِ، وَصَارَ مَا أَخْلَوْهُ بِيَدِهِ وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْبَلَدَ وَخَرَجُوا مِنْهُ وَاتَّصَلَتِ الطُّرُقُ وَزَالَ الْحَصْرُ عَمَّنْ فِيهِ، وَأَدْخَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَيْهِ مَنْ أَرَادَ مِنَ الرِّجَالِ، وَمَا أَرَادَ مِنَ الذَّخَائِرِ وَالْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَزِمُوا قِتَالَهُمْ إِلَى اللَّيْلِ لَبَلَغُوا مَا أَرَادُوهُ، فَإِنَّ لِلصَّدْمَةِ الْأُولَى رَوْعَةً، لَكِنَّهُمْ لَمَّا نَالُوا مِنْهُمْ هَذَا الْقَدْرَ أَخَلَدُوا إِلَى الرَّاحَةِ، وَتَرَكُوا الْقِتَالَ وَقَالُوا: نُبَاكِرُهُمْ غَدًا، وَنَقْطَعُ دَابِرَهُمْ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ أَدْخَلَهُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى عَكَّا مِنْ جُمْلَةِ الْأُمَرَاءِ حُسَامُ الدِّينِ أَبُو الْهَيْجَاءِ السَّمِينُ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ عَسْكَرِهِ، وَهُوَ مِنَ الْأَكْرَادِ الْحَكَمِيَّةِ مِنْ بَلَدِ إِرْبِلَ، وَقَتَلَ مِنَ الْفِرِنْجِ هَذَا الْيَوْمَ جَمَاعَةً كَبِيرَةً.

ذِكْرُ وَقْعَةٍ أُخْرَى وَوَقْعَةِ الْعَرَبِ ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ نَهَضُوا إِلَى الْفِرِنْجِ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ سَادِسُ، شَعْبَانَ عَازِمِينَ، عَلَى بَذْلِ جُهْدِهِمْ وَاسْتِنْفَاذِ وُسْعِهِمْ فِي اسْتِئْصَالِهِمْ. فَتَقَدَّمُوا عَلَى تَعْبِئَتِهِمْ، فَرَأَوُا الْفِرِنْجَ حَذِرِينَ مُحْتَاطِينَ، قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ بِالْأَمْسِ، وَهُمْ قَدْ حَفِظُوا أَطْرَافَهُمْ وَنَوَاحِيَهُمْ، وَشَرَعُوا فِي حَفْرِ خَنْدَقٍ يَمْنَعُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ فَأَلَحَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يَتَقَدَّمِ الْفِرِنْجُ إِلَيْهِمْ، وَلَا فَارَقُوا مَرَابِضَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ عَادُوا عَنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْعَرَبِ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْفِرِنْجَ تَخْرُجُ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى إِلَى الِاحْتِطَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَشْغَالِهِمْ. فَكَمَنُوا لَهُمْ فِي مَعَاطِفِ النَّهْرِ وَنَوَاحِيهِ سَادِسَ عَشَرَ شَعْبَانَ فَلَمَّا خَرَجَ جَمْعٌ مِنَ الْفِرِنْجِ عَلَى عَادَتِهِمْ حَمَلَتْ عَلَيْهِمُ الْعَرَبُ، فَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ وَغَنِمُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ. وَحَمَلُوا الرُّؤْسَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَعْطَاهُمُ الْخِلَعَ. ذِكْرُ الْوَقْعَةِ الْكُبْرَى عَلَى عَكَّا لَمَّا كَانَ بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ الْمَذْكُورَةِ بَقِيَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، كُلَّ يَوْمٍ يُغَادُونَ الْقِتَالَ مَعَ الْفِرِنْجِ وَيُرَاوِحُونَهُ وَالْفِرِنْجُ لَا يَظْهَرُونَ مِنْ مُعَسْكَرِهِمْ وَلَا يُفَارِقُونَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ اجْتَمَعُوا لِلْمَشُورَةِ، فَقَالُوا: إِنَّ عَسْكَرَ مِصْرَ لَمْ يَحْضُرْ وَالْحَالُ مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ هَكَذَا، فَكَيْفَ يَكُونُ إِذَا حَضَرَ؟ وَالرَّأْيُ أَنَّنَا نَلْقَى الْمُسْلِمِينَ غَدًا لَعَلَّنَا نَظْفَرُ بِهِمْ قَبْلَ اجْتِمَاعِ الْعَسَاكِرِ وَالْأَمْدَادِ إِلَيْهِمْ. وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ عَسْكَرِ صَلَاحِ الدِّينِ غَائِبًا عَنْهُ، بَعْضُهَا مُقَابِلَ أَنْطَاكِيَةَ لِيَرُدُّوا عَادِيَةَ بَيْمُنْدَ صَاحِبِهَا عَنْ أَعْمَالِ حَلَبَ، وَبَعْضُهَا فِي حِمْصَ مُقَابِلَ طَرَابُلُسَ لِتَحْفَظَ ذَلِكَ الثَّغْرَ أَيْضًا، وَعَسْكَرٌ فِي مُقَابِلِ صُورَ لِحِمَايَةِ ذَلِكَ الْبَلَدِ. وَعَسْكَرٌ بِمِصْرَ يَكُونُ بِثَغْرِ دِمْيَاطَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا، وَالَّذِي بَقِيَ مِنْ عَسْكَرِ مِصْرَ كَانُوا لَمْ يَصِلُوا لِطُولِ بِيكَارِهِمْ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، وَكَانَ هَذَا مِمَّا أَطْمَعَ الْفِرِنْجَ فِي الظُّهُورِ إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَادَتِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ يَتَقَدَّمُ إِلَى الْقِتَالِ وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي خَيْمَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ تَوَجَّهَ فِي حَاجَتِهِ مِنْ زِيَارَةِ صَدِيقٍ، وَتَحْصِيلِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ هُوَ

وَأَصْحَابُهُ وَدَوَابُّهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَخَرَجَ الْفِرِنْجُ مِنْ مُعَسْكَرِهِمْ كَأَنَّهُمُ الْجَرَادُ الْمُنْتَشِرُ، يَدِبُّونَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ قَدْ مَلَأُوهَا طُولًا وَعَرْضًا، وَطَلَبُوا مَيْمَنَةَ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهَا تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ ابْنُ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجَ نَحْوَهُ قَاصِدِينَ حَذَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَرُبُوا مِنْهُ تَأَخَّرَ عَنْهُمْ. فَلَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ الْحَالَ وَهُوَ فِي الْقَلْبِ، أَمَدَّ تَقِيَّ الدِّينِ بِرِجَالٍ مِنْ عِنْدِهِ لِيَتَقَوَّى بِهِمْ، وَكَانَ عَسْكَرُ دِيَارِ بَكْرٍ وَبَعْضُ الشَّرْقِيِّينَ فِي جَنَاحِ الْقَلْبِ، فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ قِلَّةَ الرِّجَالِ فِي الْقَلْبِ، وَأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ قَدْ سَارَ نَحْوَ الْمَيْمَنَةِ مَدَدًا لَهُمْ عَطَفُوا عَلَى الْقَلْبِ، فَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. فَانْدَفَعْتِ الْعَسَاكِرُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مُنْهَزِمِينَ، وَثَبَتَ بَعْضُهُمْ، فَاسْتُشْهِدَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ كَالْأَمِيرِ مَجْلِيِّ بْنِ مَرْوَانَ، وَالظَّهِيرِ أَخِي الْفَقِيهِ عِيسَى، وَكَانَ وَالِيَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الشَّجَاعَةِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَكَالْحَاجِبِ خَلِيلِ الْهَكَّارِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الشُّجْعَانِ الصَّابِرِينَ فِي مُوَاطِنِ الْحَرْبِ. وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي الْقَلْبِ مَنْ يَرُدُّهُمْ، فَقَصَدُوا التَّلَّ الَّذِي عَلَيْهِ خَيْمَةُ صَلَاحِ الدِّينِ، فَقَتَلُوا مَنْ مَرُّوا بِهِ، وَنَهَبُوا، وَقَتَلُوا عِنْدَ خَيْمَةِ صَلَاحِ الدِّينِ جَمَاعَةً، مِنْهُمْ شَيْخُنَا جَمَالُ الدِّينِ أَبُو عَلِيِّ بْنِ رَوَاحَةَ الْحَمَوِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَمَا وَرِثَ الشَّهَادَةَ مِنْ بَعِيدٍ، فَإِنَّ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَتَلَهُ الرُّومُ يَوْمَ مُؤْتَةَ، وَهَذَا قَتَلَهُ الْفِرِنْجُ يَوْمَ عَكَّا، وَقَتَلُوا غَيْرَهُ. وَانْحَدَرُوا إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ التَّلِّ، فَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيمَنْ لَقَوْهُ، وَكَانَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْفِرِنْجَ لَمْ يَلْقَوْا خَيْمَةَ صَلَاحِ الدِّينِ، وَلَوْ لَقُوهَا لَعَلِمَ النَّاسُ وُصُولَهُمْ إِلَيْهَا، وَانْهِزَامَ الْعَسَاكِرِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَكَانُوا انْهَزَمُوا أَجْمَعُونَ. ثُمَّ إِنِ الْفِرِنْجَ نَظَرُوا وَرَاءَهُمْ، فَرَأَوْا أَمْدَادَهُمْ قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ، فَرَجَعُوا خَوْفًا أَنْ يَنْقَطِعُوا عَنْ أَصْحَابِهِمْ، وَكَانَ سَبَبُ انْقِطَاعِهِمْ أَنَّ الْمَيْمَنَةَ وَقَفَتْ مُقَابَلِتَهُمْ، فَاحْتَاجَ بَعْضُهُمْ [أَنْ] يَقِفَ مُقَابِلَهَا، وَحَمَلَتْ مَيْسَرَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَاشْتَغَلَ الْمَدَدُ بِقِتَالِ مَنْ بِهَا عَنْ الِاتِّصَالِ بِأَصْحَابِهِمْ، وَعَادُوا إِلَى طَرَفِ خَنَادِقِهِمْ، فَحَمَلَتِ الْمَيْسَرَةُ عَلَى الْفِرِنْجِ الْوَاصِلِينَ إِلَى خَيْمَةِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَصَادَفُوهُمْ وَهُمْ رَاجِعُونَ، فَقَاتَلُوهُمْ، وَثَارَ بِهِمْ غِلْمَانُ الْعَسْكَرِ.

وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ لَمَّا انْهَزَمَ الْقَلْبُ قَدْ تَبِعَهُمْ يُنَادِيهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَرَّةِ، وَمُعَاوَدَةِ الْقِتَالِ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ صَالِحَةٌ، فَحَمَلَ بِهِمْ عَلَى الْفِرِنْجِ مِنْ وَرَاءِ ظُهُورِهِمْ وَهُمْ مَشْغُولُونَ بِقِتَالِ الْمَيْسَرَةِ، فَأَخَذَتْهُمْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَلَمْ يَفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، بَلْ قُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَأُخِذَ الْبَاقُونَ أَسْرَى، وَفِي جُمْلَةِ مَنْ أُسِرَ مُقَدَّمُ الدَّاوِيَّةِ الَّذِي كَانَ قَدْ أَسَرَهُ صَلَاحُ الدِّينِ وَأَطْلَقَهُ، فَلَمَّا ظَفِرَ بِهِ الْآنَ قَتَلَهُ. وَكَانَتْ عِدَّةُ الْقَتْلَى، سِوَى مَنْ كَانَ إِلَى جَانِبِ الْبَحْرِ، فِي عَشَرَةِ آلَافِ قَتِيلٍ، فَأَمَرَ بِهِمْ، فَأُلْقُوا فِي النَّهْرِ الَّذِي يَشْرَبُ الْفِرِنْجُ مِنْهُ وَكَانَ عَامَّةُ الْقَتْلَى مِنْ فُرْسَانِ الْفِرِنْجِ، فَإِنَّ الرَّجَّالَةَ لَمْ يَلْحَقُوهُمْ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْأَسْرَى ثَلَاثُ نِسْوَةٍ فِرِنْجِيَّاتٍ كُنَّ يُقَاتِلْنَ عَلَى الْخَيْلِ، فَلَمَّا أُسِرْنَ، وَأُلْقِي عَنْهُنَّ السِّلَاحُ عُرِفْنَ أَنَّهُنَّ نِسَاءٌ. وَأَمَّا الْمُنْهَزِمُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ مِنْ طَبَرِيَّةَ وَمِنْهُمْ مَنْ جَازَ الْأُرْدُنَّ وَعَادَ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَلَغَ دِمَشْقَ، وَلَوْلَا أَنَّ الْعَسَاكِرَ تَفَرَّقَتْ فِي الْهَزِيمَةِ لَكَانُوا بَلَغُوا مِنَ الْفِرِنْجِ [مِنَ] الِاسْتِئْصَالِ وَالْإِهْلَاكِ مُرَادَهُمْ، عَلَى أَنَّ الْبَاقِينَ بَذَلُوا جُهْدَهُمْ وَجَدُّوا فِي الْقِتَالِ، وَصَمَّمُوا عَلَى الدُّخُولِ مَعَ الْفِرِنْجِ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَفْزَعُونَ مِنْهُمْ، فَجَاءَهُمُ الصَّرِيخُ بِأَنَّ رِحَالَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ قَدْ نُهِبَتْ. وَكَانَ سَبَبُ هَذَا النَّهْبِ أَنَّ النَّاسَ لَمَّا رَأَوُا الْهَزِيمَةَ حَمَلُوا أَثْقَالَهُمْ عَلَى الدَّوَابِّ، فَثَارَ بِهِمْ أَوْبَاشُ الْعَسْكَرِ وَغِلْمَانُهُ فَنَهَبُوهُ وَأَتَوْا عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي عَزْمِ صَلَاحِ الدِّينِ أَنْ يُبَاكِرَهُمُ الْقِتَالَ وَالزَّحْفَ، فَرَأَى اشْتِغَالَ النَّاسِ بِمَا ذَهَبَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَهُمْ يَسْعَوْنَ فِي جَمْعِهَا وَتَحْصِيلِهَا. فَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ بِإِحْضَارِ مَا أُخِذَ، فَأُحْضِرَ مِنْهُ مَا مَلَأَ الْأَرْضَ مِنَ الْمَفَارِشِ وَالْعِيَبِ الْمَمْلُوءَةِ وَالثِّيَابِ وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَرَدَّ الْجَمِيعَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَفَاتَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ مَا أَرَادَ، فَسَكَنَ رَوْعُ الْفِرِنْجِ، وَأَصْلَحُوا شَأْنَ الْبَاقِينَ مِنْهُمْ. ذِكْرُ رَحِيلِ صَلَاحِ الدِّينِ عَنِ الْفِرِنْجِ وَتَمَكُّنِهِمْ مِنْ حَصْرِ عَكَّا لَمَّا قُتِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ ذَلِكَ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ، جَافَتِ الْأَرْضُ مِنْ نَتِنِ رِيحِهِمْ، وَفَسَدَ الْهَوَاءُ وَالْجَوُّ، وَحَدَثَ لِلْأَمْزِجَةِ فَسَادٌ، وَانْحَرَفَ مِزَاجُ صَلَاحِ الدِّينِ، وَحَدَثَ لَهُ قُولَنْجٌ مُبَرِّحٌ كَانَ يَعْتَادُهُ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأُمَرَاءُ وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِالِانْتِقَالِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَتَرْكِ مُضَايَقَةِ الْفِرِنْجِ، وَحَسَّنُوهُ لَهُ. وَقَالُوا: قَدْ ضَيَّقْنَا عَلَى الْفِرِنْجِ، وَلَوْ أَرَادُوا

الِانْفِصَالَ عَنْ مَكَانِهِمْ لَمْ يَقْدِرُوا، وَالرَّأْيُ أَنَّنَا نَبْعُدُ عَنْهُمْ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الرَّحِيلِ وَالْعَوْدِ فَإِنْ رَحَلُوا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ، فَقَدْ كُفِينَا شَرَّهُمْ وَكُفُوا شَرَّنَا، وَإِنْ أَقَامُوا عَاوَدْنَا الْقِتَالَ وَرَجَعْنَا مَعَهُمْ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ مِزَاجَكَ مُنْحَرِفٌ وَالْأَلَمَ شَدِيدٌ، وَلَوْ وَقَعَ إِرْجَافٌ لَهَلَكَ النَّاسُ، وَالرَّأْيُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ الْبُعْدُ عَنْهُمْ. وَوَافَقَهُمُ الْأَطِبَّاءُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ إِلَى مَا يُرِيدُ اللَّهُ يَفْعَلُهُ {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11] ، فَرَحَلُوا إِلَى الْخَرُّوبَةِ رَابِعَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَمَرَ مَنْ بِعَكَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحِفْظِهَا، وَإِغْلَاقِ أَبْوَابِهَا، وَالِاحْتِيَاطِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِسَبَبِ رَحِيلِهِ. فَلَمَّا رَحَلَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ أَمِنَ الْفِرِنْجُ وَانْبَسَطُوا فِي تِلْكَ الْأَرْضِ، وَعَادُوا فَحَصَرُوا عَكَّا، وَأَحَاطُوا بِهَا مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ وَمَرَاكِبُهُمْ أَيْضًا فِي الْبَحْرِ تَحْصُرُهَا، وَشَرَعُوا فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَعَمَلِ السُّورِ مِنَ التُّرَابِ الَّذِي يُخْرِجُونَهُ مِنَ الْخَنْدَقِ، وَجَاءُوا بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحِسَابِ. وَكَانَ الْيَزَكُ كُلَّ يَوْمٍ يُوَافِقُهُمْ، وَهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ، وَلَا يَتَحَرَّكُونَ، إِنَّمَا هُمْ مُهْتَمُّونَ بِعَمَلِ الْخَنْدَقِ وَالسُّورِ عَلَيْهِمْ لِيَتَحَصَّنُوا بِهِ مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، إِنْ عَادَ إِلَى قِتَالِهِمْ، فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ رَأْيُ الْمُشِيرِينَ بِالرَّحِيلِ. وَكَانَ الْيَزَكُ كُلَّ يَوْمٍ يُخْبِرُونَ صَلَاحَ الدِّينِ بِمَا يَصْنَعُ الْفِرِنْجُ، وَيُعَظِّمُونَ الْأَمْرَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِالْمَرَضِ، لَا يَقْدِرُ عَلَى النُّهُوضِ لِلْحَرْبِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يُرْسِلَ الْعَسَاكِرَ جَمِيعَهَا إِلَيْهِمْ لِيَمْنَعَهُمْ مِنَ الْخَنْدَقِ وَالسُّورِ، وَيُقَاتِلُوهُمْ، وَيَتَخَلَّفَ هُوَ عَنْهُمْ، فَقَالَ: إِذَا لَمْ أَحْضُرْ مَعَهُمْ لَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا، وَرُبَّمَا كَانَ مِنَ الشَّرِّ أَضْعَافُ مَا نَرْجُوهُ مِنَ الْخَيْرِ، فَتَأَخَّرَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ عُوفِيَ، فَتَمَكَّنَ الْفِرِنْجُ وَعَمِلُوا مَا أَرَادُوا، وَأَحْكَمُوا أُمُورَهُمْ، وَحَصَّنُوا نُفُوسَهُمْ بِمَا وَجَدُوا إِلَيْهِ السَّبِيلَ، وَكَانَ مَنْ بِعَكَّا يَخْرُجُونَ إِلَيْهِمْ كُلَّ يَوْمٍ، وَيُقَاتِلُونَهُمْ، وَيَنَالُونَ مِنْهُمْ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ.

ذِكْرُ وُصُولِ عَسْكَرِ مِصْرَ وَالْأُسْطُولِ الْمِصْرِيِّ فِي الْبَحْرِ فِي مُنْتَصَفِ شَوَّالٍ وَصَلَتِ الْعَسَاكِرُ الْمِصْرِيَّةُ، وَمُقَدَّمُهَا الْمَلِكُ الْعَادِلُ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ، فَلَمَّا وَصَلَ قَوِيَتْ نُفُوسُ النَّاسِ بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ، وَاشْتَدَّتْ ظُهُورُهُمْ، وَأَحْضَرَ مَعَهُ مِنْ آلَاتِ الْحِصَارِ مِنَ الدَّرَقِ وَالطَّارِقِيَّاتِ وَالنُّشَّابِ وَالْأَقْوَاسِ، شَيْئًا كَثِيرًا. وَمَعَهُمْ مِنَ الرَّجَّالَةِ الْجَمُّ الْغَفِيرُ، وَجَمَعَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنِ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ رَاجِلًا كَثِيرًا، وَهُوَ عَلَى عَزْمِ الزَّحْفِ إِلَيْهِمْ بِالْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ. وَوَصَلَ بَعْدَهُ الْأُسْطُولُ الْمِصْرِيُّ، وَمُقَدَّمُهُ الْأَمِيرُ لُؤْلُؤٌ، وَكَانَ شَهْمًا، شُجَاعًا، مِقْدَامًا، خَبِيرًا بِالْبَحْرِ وَالْقِتَالِ فِيهِ، مَيْمُونَ النَّقِيبَةِ، فَوَصَلَ بَغْتَةً فَوَقَعَ عَلَى بَسْطَةٍ كَبِيرَةٍ لِلْفِرِنْجِ فَغَنِمَهَا، وَأَخَذَ مِنْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَمِيرَةً عَظِيمَةً، فَأَدْخَلَهَا إِلَى عَكَّا، فَسَكَنَتْ نُفُوسُ مَنْ بِهَا بِوُصُولِ الْأُسْطُولِ وَقَوِيَ جَنَانُهُمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، خُطِبَ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ (أَبِي نَصْرٍ) مُحَمَّدِ بْنِ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ بِبَغْدَادَ، وَنُثِرَتِ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ، وَأُرْسِلَ إِلَى الْبِلَادِ فِي إِقَامَةِ الْخُطْبَةِ، فَفُعِلَ ذَلِكَ. وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ، مَلَكَ الْخَلِيفَةُ تِكْرِيتَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهَا، وَهُوَ الْأَمِيرُ عِيسَى، قَتَلَهُ إِخْوَتُهُ، وَمَلَكُوا الْقَلْعَةَ بَعْدَهُ، فَسَيَّرَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا فَحَصَرُوهَا وَتَسَلَّمُوهَا، وَدَخَلَ أَصْحَابُهُ إِلَى بَغْدَادَ فَأُعْطُوا أَقْطَاعًا. وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، فُتِحَ الرِّبَاطُ الَّذِي بَنَاهُ الْخَلِيفَةُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ، وَحَضَرَ الْخَلْقُ الْعَظِيمُ، فَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَمَضَانَ، مَاتَ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَصْرُونَ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ قَاضِيهَا، وَأَضَرَّ وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بَعْدَهُ ابْنُهُ، وَكَانَ الشَّيْخُ مِنْ أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَفِيهَا، فِي ذِي الْقِعْدَةِ، تُوُفِّيَ الْفَقِيهُ ضِيَاءُ الدِّينِ عِيسَى الْهَكَّارِيُّ بِالْخَرُّوبَةِ مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أُمَرَاءِ عَسْكَرِهِ، وَمِنْ قُدَمَاءِ الْأَسَدِيَّةِ، وَكَانَ فَقِيهًا، جُنْدِيًّا، شُجَاعًا، كَرِيمًا، ذَا عَصَبِيَّةٍ وَمُرُوءَةٍ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْبَرْزِيِّ، تَفَقَّهَ عَلَيْهِ بِجَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ اتَّصَلَ بِأَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهُ فَصَارَ إِمَامًا لَهُ، فَرَأَى مِنْ شَجَاعَتِهِ مَا جَعَلَ لَهُ أَقْطَاعًا، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ تَقَدُّمًا عَظِيمًا. وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، تُوُفِّيَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبَانَ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَفْضَلِ الزَّمَانِ، بِمَكَّةَ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَالِمًا مُتَبَحِّرًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، خِلَافَ فِقْهِ مَذْهَبِهِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَالْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ، وَالنُّجُومِ، وَالْهَيْئَةِ، وَالْمَنْطِقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَخَتَمَ أَعْمَالَهُ بِالزُّهْدِ، وَلَبِسَ الْخَشِنَ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ - حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى - مُجَاوِرًا، فَتُوُفِّيَ بِهَا، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صُحْبَةً وَخُلُقًا. وَفِيهَا، فِي ذِي الْقِعْدَةِ، مَاتَ أَبُو طَالِبٍ الْمُبَارَكُ بْنُ الْمُبَارَكِ الْكَرْخِيُّ مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِّ، وَكَانَ صَالِحًا خَيِّرًا لَهُ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ وَالْعَامَّةِ حُرْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَجَاهٌ عَرِيضٌ، وَكَانَ حَسَنَ الْخَطِّ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ.

ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 586 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ وَقْعَةِ الْفِرِنْجِ وَالْيَزَكِ وَعَوْدِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى مُنَازَلَةِ الْفِرِنْجِ قَدْ ذَكَرْنَا رَحِيلَ صَلَاحِ الدِّينِ عَنْ عَكَّا إِلَى الْخَرُّوبَةِ لِمَرَضِهِ، فَلَمَّا بَرَأَ أَقَامَ بِمَكَانِهِ إِلَى أَنْ ذَهَبَ الشِّتَاءُ، وَفِي مُدَّةِ مَقَامِهِ بِالْخَرُّوبَةِ كَانَ يَزَكُهُ وَطَلَائِعُهُ لَا تَنْقَطِعُ عَنِ الْفِرِنْجِ. فَلَمَّا دَخَلَ صَفَرٌ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ سَمِعَ الْفِرِنْجُ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ قَدْ سَارَ لِلصَّيْدِ، وَرَأَى الْعَسْكَرَ الَّذِي فِي الْيَزَكِ عِنْدَهُمْ قَلِيلًا، وَأَنَّ الْوَحْلَ الَّذِي فِي مَرْجِ عَكَّا كَثِيرٌ يُمْنَعُ مِنْ سُلُوكِهِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْجُدَ الْيَزَكَ. فَاغْتَنَمُوا ذَلِكَ، وَخَرَجُوا مِنْ خَنْدَقِهِمْ عَلَى الْيَزَكِ وَقْتَ الْعَصْرِ، فَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَحَمَوْا أَنْفُسَهُمْ بِالنُّشَّابِ، وَأَحْجَمَ الْفِرِنْجُ عَنْهُمْ، حَتَّى فَنِيَ نُشَّابُهُمْ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ، وَعَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يُنْجِيهِمْ إِلَّا الصَّبْرُ وَصِدْقُ الْقِتَالِ، فَقَاتَلُوا قِتَالَ مُسْتَقْتِلٍ إِلَى أَنْ جَاءَ اللَّيْلُ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَعَادَ الْفِرِنْجُ إِلَى خَنْدَقِهِمْ. وَلَمَّا عَادَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الْمُعَسْكَرِ سَمِعَ خَبَرَ الْوَقْعَةِ، فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِهِمْ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ أَنَّ الْفِرِنْجَ عَادُوا إِلَى خَنْدَقِهِمْ، فَأَقَامَ، ثُمَّ إِنَّهُ رَأَى الشِّتَاءَ قَدْ ذَهَبَ، وَجَاءَتْهُ الْعَسَاكِرُ مِنَ الْبِلَادِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُ، دِمَشْقَ وَحِمْصَ وَحَمَاةَ وَغَيْرِهَا. فَتَقَدَّمَ مِنَ الْخَرُّوبَةِ نَحْوَ عَكَّا، فَنَزَلَ بِتَلِّ كَيْسَانَ، وَقَاتَلَ الْفِرِنْجَ كُلَّ يَوْمٍ لِيَشْغَلَهُمْ عَنْ قِتَالِ مَنْ بِعَكَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانُوا يُقَاتِلُونَ الطَّائِفَتَيْنِ وَلَا يَسْأَمُونَ. ذِكْرُ إِحْرَاقِ الْأَبْرَاجِ وَوَقْعَةِ الْأُسْطُولِ كَانَ الْفِرِنْجُ، فِي مُدَّةِ مَقَامِهِمْ عَلَى عَكَّا، قَدْ عَمِلُوا ثَلَاثَةَ أَبْرَاجٍ مِنَ الْخَشَبِ عَالِيَةٍ جِدًّا، طُولُ كُلِّ بُرْجٍ مِنْهَا فِي السَّمَاءِ سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَعَمِلُوا كُلَّ بُرْجٍ مِنْهَا خَمْسَ طَبَقَاتٍ،

كُلُّ طَبَقَةٍ مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَقَدْ جَمَعُوا أَخْشَابَهَا مِنَ الْجَزَائِرِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَبْرَاجِ الْعَظِيمَةِ لَا يَصْلُحُ لَهَا مِنَ الْخَشَبِ إِلَّا الْقَلِيلُ النَّادِرُ، وَغَشَوْهَا بِالْجُلُودِ وَالْخَلِّ وَالطِّينِ وَالْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَمْنَعُ النَّارَ مِنْ إِحْرَاقِهَا، وَأَصْلَحُوا الطُّرُقَ لَهَا، وَقَدَّمُوهَا نَحْوَ مَدِينَةِ عَكَّا مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ، وَزَحَفُوا بِهَا فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَأَشْرَفَتْ عَلَى السُّورِ، وَقَاتَلَ مَنْ بِهَا مَنْ عَلَيْهِ فَانْكَشَفُوا، وَشَرَعُوا فِي طَمِّ خَنْدَقِهَا، فَأَشْرَفَ الْبَلَدُ عَلَى أَنْ يُمْلَكَ عَنْوَةً وَقَهْرًا. فَأَرْسَلَ أَهْلُهُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ إِنْسَانًا سَبَحَ فِي الْبَحْرِ، فَأَعْلَمَهُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضِّيقِ، وَمَا قَدْ أَشْرَفُوا عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِهِمْ وَقَتْلِهِمْ، فَرَكِبَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ وَتَقَدَّمُوا إِلَى الْفِرِنْجِ وَقَاتَلُوهُمْ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ قِتَالًا عَظِيمًا دَائِمًا يَشْغَلُهُمْ عَنْ مُكَاثَرَةِ الْبَلَدِ. فَافْتَرَقَ الْفِرِنْجُ فِرْقَتَيْنِ: فُرْقَةٌ تُقَاتِلُ صَلَاحَ الدِّينِ وَفِرْقَةٌ تُقَاتِلُ أَهْلَ عَكَّا، إِلَّا أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ خَفَّ عَمَّنْ بِالْبَلَدِ، وَدَامَ الْقِتَالُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ، آخِرُهَا الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ مِنَ الشَّهْرِ، وَسَئِمَ الْفَرِيقَانِ الْقِتَالَ، وَمَلُّوا مِنْهُ لِمُلَازَمَتِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ تَيَقَّنُوا اسْتِيلَاءَ الْفِرِنْجِ عَلَى الْبَلَدِ، لِمَا رَأَوْا مِنْ عَجْزِ مَنْ فِيهِ عَنْ دَفْعِ الْأَبْرَاجِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا حِيلَةً إِلَّا وَعَمِلُوهَا، فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَتَابَعُوا رَمْيَ النِّفْطِ الطَّيَّارِ عَلَيْهَا، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا، فَأَيْقَنُوا بِالْبَوَارِ وَالْهَلَاكِ، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ بِنْصِرٍ مِنْ عِنْدِهِ وَإِذْنٍ فِي إِحْرَاقِ الْأَبْرَاجِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ، أَنَّ إِنْسَانًا مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ كَانَ مُولَعًا بِجَمْعِ آلَاتِ النَّفَّاطِينَ، وَتَحْصِيلِ عَقَاقِيرَ تُقَوِّي عَمَلَ النَّارِ فَكَانَ مَنْ يَعْرِفُهُ يَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُنْكِرُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: هَذِهِ حَالَةٌ لَا أُبَاشِرُهَا بِنَفْسِي إِنَّمَا أَشْتَهِي مَعْرِفَتَهَا، وَكَانَ بِعَكَّا لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ اللَّهُ. فَلَمَّا رَأَى الْأَبْرَاجَ قَدْ نُصِبَتْ عَلَى عَكَّا شَرَعَ فِي عَمَلِ مَا يَعْرِفُهُ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْمُقَوِّيَةِ لِلنَّارِ، بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُهَا شَيْءٌ مِنَ الطِّينِ وَالْخَلِّ وَغَيْرِهِمَا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا حَضَرَ عِنْدَ الْأَمِيرِ قَرَاقُوشَ، وَهُوَ مُتَوَلِّي الْأُمُورِ بِعَكَّا وَالْحَاكِمُ فِيهَا، وَقَالَ لَهُ: تَأْمُرُ الْمَنْجَنِيقِيَّ أَنْ يَرْمِيَ فِي الْمَنْجَنِيقِ الْمُحَاذِي لِبُرْجٍ مِنْ هَذِهِ الْأَبْرَاجِ مَا أُعْطِيهِ حَتَّى أُحْرِقَهُ. وَكَانَ عِنْدَ قَرَاقُوشَ مِنَ الْغَيْظِ وَالْخَوْفِ عَلَى الْبَلَدِ وَمَا فِيهِ مَا يَكَادُ يَقْتُلُهُ، فَازْدَادَ

غَيْظًا بِقَوْلِهِ وَحَرِدَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ بَالَغَ أَهْلُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ فِي الرَّمْيِ بِالنِّفْطِ وَغَيْرِهِ فَلَمْ يُفْلِحُوا فَقَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَ: لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ الْفَرَجَ عَلَى يَدِ هَذَا، وَلَا يَضُرُّنَا أَنْ نُوَافِقَهُ عَلَى قَوْلِهِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَ الْمَنْجَنِيقِيَّ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ. فَرَمَى عِدَّةَ قُدُورٍ نِفْطًا وَأَدْوِيَةً لَيْسَ فِيهَا نَارٌ، فَكَانَ الْفِرِنْجُ إِذَا رَأَوُا الْقِدْرَ لَا يُحْرِقُ شَيْئًا يَصِيحُونَ، وَيَرْقُصُونَ، وَيَلْعَبُونَ عَلَى سَطْحِ الْبُرْجِ حَتَّى إِذَا عَلِمَ أَنَّ الَّذِي أَلْقَاهُ قَدْ تَمَكَّنَ مِنَ الْبُرْجِ، أَلْقَى قِدْرًا مَمْلُوءَةٌ وَجَعَلَ فِيهَا النَّارَ فَاشْتَعَلَ الْبُرْجُ، وَأَلْقَى قِدْرًا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً، فَاضْطَرَمَتِ النَّارُ فِي نَوَاحِي الْبُرْجِ، وَأَعْجَلَتْ مَنْ فِي طَبَقَاتِهِ الْخَمْسِ عَنِ الْمَهْرَبِ وَالْخَلَاصِ، فَاحْتَرَقَ هُوَ وَمَنْ فِيهِ، وَكَانَ فِيهِ مِنَ الزَّرْدِيَّاتِ وَالسِّلَاحِ شَيْءٌ كَثِيرٌ. وَكَانَ طَمَعُ الْفِرِنْجِ بِمَا رَأَوْا أَنَّ الْقُدُورَ الْأُولَى لَا تَعْمَلُ شَيْئًا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَتَرْكِ السَّعْيِ فِي الْخَلَاصِ حَتَّى عَجَّلَ اللَّهُ لَهُمُ النَّارَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، فَلَمَّا أَحْرَقَ الْبُرْجَ الْأَوَّلَ انْتَقَلَ إِلَى الثَّانِي، وَقَدْ هَرَبَ مَنْ فِيهِ لِخَوْفِهِمْ، فَأَحْرَقَهُ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ. وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ، وَالْمُسْلِمُونَ يَنْظُرُونَ وَيَفْرَحُونَ، وَقَدْ أَسْفَرَتْ وُجُوهُهُمْ بَعْدَ الْكَآبَةِ فَرْحَةً بِالنَّصْرِ وَخَلَاصِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْقَتْلِ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا وَلَهُ فِي الْبَلَدِ إِمَّا نَسِيبٌ وَإِمَّا صَدِيقٌ. وَحُمِلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ فَبَذَلَ لَهُ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ وَالْإِقْطَاعَ الْكَثِيرَ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ الْحَبَّةَ الْفَرْدَ، وَقَالَ: إِنَّمَا عَمِلْتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا أُرِيدُ الْجَزَاءَ إِلَّا مِنْهُ. وَسُيِّرَتِ الْكُتُبُ إِلَى الْبِلَادِ بِالْبَشَائِرِ. وَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الْعَسَاكِرَ الشَّرْقِيَّةَ. فَأَوَّلُ مَنْ أَتَاهُ عِمَادُ الدِّينِ زِنْكِيُّ بْنُ مَوْدُودِ بْنِ زِنْكِيٍّ، وَهُوَ صَاحِبُ سِنْجَارَ وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ، ثُمَّ أَتَاهُ عَلَاءُ الدِّينِ وَلَدُ عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودِ بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زِنْكِيٍّ، سَيَّرَهُ أَبُوهُ مُقَدَّمًا عَلَى عَسْكَرِهِ وَهُوَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ. ثُمَّ وَصَلَ زَيْنُ الدِّينِ يُوسُفُ صَاحِبُ إِرْبِلَ وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ إِذَا وَصَلَ يَتَقَدَّمُ إِلَى الْفِرِنْجِ بِعَسْكَرِهِ وَيَنْضَمُّ إِلَيْهِ غَيْرُهُمْ، وَيُقَاتِلُونَهُمْ، ثُمَّ يَنْزِلُونَ. وَوَصَلَ الْأُسْطُولُ مِنْ مِصْرَ فَلَمَّا سَمِعَ الْفِرِنْجُ بِقُرْبِهِ مِنْهُمْ جَهَّزُوا إِلَى طَرِيقِهِ أُسْطُولًا لِيَلْقَاهُ وَيُقَاتِلَهُ، فَرَكِبَ صَلَاحُ الدِّينِ فِي الْعَسَاكِرِ جَمِيعِهَا، وَقَاتَلَهُمْ مِنْ جِهَاتِهِمْ لِيَشْتَغِلُوا بِقِتَالِهِ عَنْ قِتَالِ الْأُسْطُولِ ; لِيَتَمَكَّنَ مِنْ دُخُولِ عَكَّا، فَلَمْ يَشْتَغِلُوا عَنْ قَصْدِهِ بِشَيْءٍ، فَكَانَ الْقِتَالُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بَرًّا وَبَحْرًا، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا لَمْ يُؤَرَّخْ مِثْلُهُ. وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْفِرِنْجِ مَرْكِبًا بِمَا فِيهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالسِّلَاحِ، وَأَخَذَ الْفِرِنْجُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْقَتْلَ فِي الْفِرِنْجِ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَوَصَلَ الْأُسْطُولُ الْإِسْلَامِيُّ سَالِمًا.

ذِكْرُ وُصُولِ مَلِكِ الْأَلْمَانِ إِلَى الشَّامِ وَمَوْتِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ مَلِكُ الْأَلْمَانِ مِنْ بِلَادِهِ، وَهُمْ نَوْعٌ مِنَ الْفِرِنْجِ، مِنْ أَكْثَرِهِمْ عَدَدًا، وَأَشَدِّهِمْ بَأْسًا، وَكَانَ قَدْ أَزْعَجَهُ مُلْكُ الْإِسْلَامِ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ، وَأَزَاحَ عِلَّتَهُمْ، وَسَارَ عَنْ بِلَادِهِ وَطَرِيقِهِ عَلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَأَرْسَلَ مَلِكُ الرُّومِ بِهَا إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يُعَرِّفُهُ الْخَبَرَ، وَيَعِدُ أَنَّهُ لَا يُمَكِّنُهُ مِنَ الْعُبُورِ فِي بِلَادِهِ. فَلَمَّا وَصَلَ مَلِكُ الْأَلْمَانِ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ عَجَزَ مَلِكُهَا عَنْ مَنْعِهِ مِنَ الْعُبُورِ لِكَثْرَةِ جُمُوعِهِ، لَكِنَّهُ مَنَعَ عَنْهُمُ الْمِيرَةَ، وَلَمْ يُمَكِّنْ أَحَدًا مِنْ رَعِيَّتِهِ مِنْ حَمْلِ مَا يُرِيدُونَهُ إِلَيْهِمْ، فَضَاقَتْ بِهِمُ الْأَزْوَادُ وَالْأَقْوَاتُ، وَسَارُوا حَتَّى عَبَرُوا خَلِيجَ الْقُسْطَنْطِينِيَّهِ، وَصَارُوا عَلَى أَرْضِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ مَمْلَكَةُ الْمَلِكِ قَلْج أَرْسَلَانَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَتَلْمِشْ بْنِ سَلْجَقْ. فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى أَوَائِلِهَا ثَارَ بِهِمُ التُّرْكُمَانُ الْأُوجْ، فَمَا زَالُوا يُسَايِرُونَهُمْ وَيَقْتُلُونَ مَنِ انْفَرَدَ وَيَسْرِقُونَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً وَالْبَرْدُ يَكُونُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ شَدِيدًا وَالثَّلْجُ مُتَرَاكِمًا، فَأَهْلَكَهُمُ الْبَرْدُ وَالْجُوعُ وَالتُّرْكُمَانُ فَقَلَّ عَدَدُهُمْ. فَلَمَّا قَارَبُوا مَدِينَةَ قُونِيَّةَ خَرَجَ إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ قُطْبُ الدِّينِ مَلِكْشَاهْ بْنُ قَلْج أَرَسَلَانَ لِيَمْنَعَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِمْ قُوَّةٌ، فَعَادَ إِلَى قُونِيَّةَ وَبِهَا أَبُوهُ قَدْ حَجَرَ وَلَدُهُ الْمَذْكُورُ عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَ أَوْلَادُهُ فِي بِلَادِهِ، وَتَغَلَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْهَا. فَلَمَّا عَادَ عَنْهُمْ قُطْبُ الدِّينِ أَسْرَعُوا السَّيْرَ فِي أَثَرِهِ فَنَازَلُوا قُونِيَّةَ، وَأَرْسَلُوا إِلَى قَلْج أَرَسَلَانَ هَدِيَّةً وَقَالُوا لَهُ: مَا قَصَدْنَا بِلَادَكَ وَلَا أَرَدْنَاهَا، وَإِنَّمَا قَصَدْنَا الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَأْذَنَ لِرَعِيَّتِهِ فِي إِخْرَاجِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ قُوتٍ وَغَيْرِهِ، فَأَذِنَ فِي ذَلِكَ، فَأَتَاهُمْ مَا يُرِيدُونَ، فَشَبِعُوا، وَتَزَوَّدُوا، وَسَارُوا. ثُمَّ طَلَبُوا مِنْ قُطْبِ الدِّينِ أَنْ يَأْمُرَ رَعِيَّتَهُ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَأَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةً مِنْ أُمَرَائِهِ رَهَائِنَ، وَكَانَ يَخَافُهُمْ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ أَمِيرًا كَانَ يَكْرَهُهُمْ، فَسَارُوا بِهِمْ مَعَهُمْ وَلَمْ يَمْتَنِعِ اللُّصُوصُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ قَصْدِهِمْ

وَالتَّعَرُّضِ إِلَيْهِمْ فَقَبَضَ مَلِكُ الْأَلْمَانِ عَلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَقَيَّدَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَلَكَ فِي أَسْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَدَى نَفْسَهُ. وَسَارَ مَلِكُ الْأَلْمَانِ حَتَّى أَتَى بِلَادَ الْأَرْمَنِ، وَصَاحِبُهَا لَافُونُ بْنُ اصْطِفَانَةَ بْنِ لِيُونَ، فَأَمَدَّهُمْ بِالْأَقْوَاتِ وَالْعُلُوفَاتِ، وَحَكَّمَهُمْ فِي بِلَادِهِ، وَأَظْهَرَ الطَّاعَةَ لَهُمْ، ثُمَّ سَارُوا نَحْوَ أَنْطَاكِيَةَ، وَكَانَ فِي طَرِيقِهِمْ نَهْرٌ فَنَزَلُوا عِنْدَهُ، وَدَخَلَ مَلِكُهُمْ إِلَيْهِ لِيَغْتَسِلَ فَغَرِقَ فِي مَكَانٍ مِنْهُ لَا يَبْلُغُ الْمَاءُ وَسَطَ الرَّجُلِ وَكَفَى اللَّهُ شَرَّهُ. وَكَانَ مَعَهُ وَلَدٌ لَهُ، فَصَارَ مَلِكًا بَعْدَهُ، وَسَارَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ، فَأَحَبَّ بَعْضُهُمُ الْعَوْدَ إِلَى بِلَادِهِ، فَتَخَلَّفَ عَنْهُ، وَبَعْضُهُمْ مَالَ إِلَى تَمْلِيكِ أَخٍ لَهُ، فَعَادَ أَيْضًا، وَسَارَ فِيمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لَهُ، فَعَرَضَهُمْ وَكَانُوا نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَوَقَعَ فِيهِمُ الْوَبَاءُ وَالْمَوْتُ، فَوَصَلُوا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ وَكَأَنَّهُمْ قَدْ نُبِشُوا مِنَ الْقُبُورِ. فَتَبَرَّمَ بِهِمْ صَاحِبُهَا، وَحَسَّنَ لَهُمُ الْمَسِيرَ إِلَى الْفِرِنْجِ الَّذِينَ عَلَى عَكَّا، فَسَارُوا عَلَى جَبَلَةَ وَلَاذِقِيَّةَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَخَرَجَ أَهْلُ حَلَبَ وَغَيْرِهَا إِلَيْهِمْ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَمَاتَ أَكْثَرُ مِمَّنْ أُخِذَ، فَبَلَغُوا طَرَابُلُسَ، وَأَقَامُوا بِهَا أَيَّامًا فَكَثُرَ فِيهِمُ الْمَوْتُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا نَحْوُ أَلْفِ رَجُلٍ، فَرَكِبُوا فِي الْبَحْرِ إِلَى الْفِرِنْجِ الَّذِينَ عَلَى عَكَّا، وَلَمَّا وَصَلُوا وَرَأَوْا مَا نَالَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ عَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ فَغَرِقَتْ بِهِمُ الْمَرَاكِبُ وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَكَانَ الْمَلِكُ قَلْج أَرَسَلَانَ يُكَاتِبُ صَلَاحَ الدِّينِ بِأَخْبَارِهِمْ، وَيَعِدُهُ أَنَّهُ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعُبُورِ فِي بِلَادِهِ فَلَمَّا عَبَرُوهَا وَخَلَّفُوهَا أَرْسَلَ يَعْتَذِرُ بِالْعَجْزِ عَنْهُمْ، لِأَنَّ أَوْلَادَهُ حَكَمُوا عَلَيْهِ، وَحَجَرُوا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ، وَخَرَجُوا عَنْ طَاعَتِهِ. وَأَمَّا صَلَاحُ الدِّينِ عِنْدَ وُصُولِ الْخَبَرِ بِعُبُورِ مَلِكِ الْأَلْمَانِ، فَإِنَّهُ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ،

فَأَشَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى طَرِيقِهِمْ وَمُحَارَبَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلُوا بِمَنْ عَلَى عَكَّا. فَقَالَ: بَلْ نُقِيمُ إِلَى أَنْ يَقْرُبُوا مِنَّا، وَحِينَئِذٍ نَفْعَلُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَسْتَسْلِمَ مَنْ بِعَكَّا مِنْ عَسَاكِرِنَا لَكِنَّهُ سَيَّرَ بَعْضَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ مِنْهَا عَسْكَرُ حَلَبَ وَجَبَلَةَ وَلَاذِقِيَّةَ وَشَيْزَرَ وَغَيْرُ ذَلِكَ، إِلَى أَعْمَالِ حَلَبَ لِيَكُونُوا فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ يَحْفَظُونَهَا مِنْ عَادِيَتِهِمْ. وَكَانَ حَالُ الْمُسْلِمِينَ. كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10] فَكَفَى اللَّهُ شَرَّهُمْ وَرَدَّ كَيْدَهُمْ فِي نَحْرِهِمْ. وَمِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِمْ أَنَّ بَعْضَ أُمَرَاءِ صَلَاحِ الدِّينِ كَانَ لَهُ بِبَلَدِ الْمَوْصِلِ قَرْيَةٌ وَكَانَ أَخِي، رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَوَلَّاهَا، فَحَصَّلَ دَخْلَهَا مِنْ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَتِبْنٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي بَيْعِ الْغَلَّةِ، فَوَصَلَ كِتَابُهُ يَقُولُ: " لَا تَبِعِ الْحَبَّةَ الْفَرْدَ، وَاسْتَكْثِرْ لَنَا مِنَ التِّبْنِ ". ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَلَ كِتَابُهُ يَقُولُ: تَبِيعُ الطَّعَامَ فَمَا بِنَا حَاجَةٌ إِلَيْهِ، ثُمَّ: إِنْ ذَلِكَ الْأَمِيرَ قَدِمَ الْمَوْصِلَ، فَسَأَلْنَاهُ عَنِ الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْغَلَّةِ، ثُمَّ الْإِذْنِ فِيهَا بَعْدَ مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، فَقَالَ: لَمَّا وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِوُصُولِ مَلِكِ الْأَلْمَانِ أَيْقَنَّا أَنَّنَا لَيْسَ لَنَا بِالشَّامِ مُقَامٌ. فَكَتَبْتُ بِالْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْغَلَّةِ لِتَكُونَ ذَخِيرَةً لَنَا إِذَا جِئْنَا إِلَيْكُمْ، وَلَمَّا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَغْنَى عَنْهَا كَتَبْتُ بِبَيْعِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِثَمَنِهَا. ذِكْرُ وَقْعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجِ عَلَى عَكَّا وَفِيِ هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ خَرَجَتِ الْفِرِنْجُ فَارِسُهَا وَرَاجِلُهَا مِنْ وَرَاءِ خَنَادِقِهِمْ، وَتَقَدَّمُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ كَثِيرٌ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَقَصَدُوا نَحْوَ عَسْكَرِ مِصْرَ، وَمُقَدَّمُهُمُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ، وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ قَدْ رَكِبُوا وَاصْطَفُّوا لِلِقَاءِ الْفِرِنْجِ، فَالْتَقَوْا، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا. فَانْحَازَ الْمِصْرِيُّونَ عَنْهُمْ، وَدَخَلَ الْفِرِنْجُ خِيَامَهُمْ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ فَعَطَفَ الْمِصْرِيُّونَ عَلَيْهِمْ، فَقَاتَلُوهُمْ مِنْ وَسَطِ خِيَامِهِمْ فَأَخْرَجُوهُمْ عَنْهَا. وَتَوَجَّهَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ نَحْوَ خَنَادِقِ الْفِرِنْجِ، فَقَطَعُوا الْمَدَدَ عَنْ أَصْحَابِهِمُ الَّذِينَ خَرَجُوا، وَكَانُوا مُتَّصِلِينَ، كَالنَّمْلِ، فَلَمَّا انْقَطَعَتْ أَمْدَادُهُمْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، وَأَخَذَتْهُمُ السُّيُوفُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، يَزِيدُ عَدَدُ الْقَتْلَى عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ قَتِيلٍ.

وَكَانَتْ عَسَاكِرُ الْمَوْصِلِ قَرِيبَةً مِنْ عَسْكَرِ مِصْرَ، وَكَانَ مُقَدَّمُهُمْ عَلَاءُ الدِّينِ خُرَّمْشَاهْ بْنُ عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَحَمَلُوا أَيْضًا عَلَى الْفِرِنْجِ، وَبَالَغُوا فِي قِتَالِهِمْ، وَنَالُوا مِنْهُمْ نَيْلًا كَثِيرًا، هَذَا جَمِيعُهُ، وَلَمْ يُبَاشِرِ الْقِتَالَ أَحَدٌ مِنَ الْحَلْقَةِ الْخَاصِّ الَّتِي مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمَيْسَرَةِ، وَكَانَ بِهَا عِمَادُ الدِّينِ زِنْكِيٌّ، صَاحِبُ سِنْجَارَ وَعَسْكَرُ إِرْبِلَ وَغَيْرُهُمْ. وَلَمَّا جَرَى عَلَى الْفِرِنْجِ هَذِهِ الْحَادِثَةُ خَمَدَتْ جَمْرَتُهُمْ، وَلَانَتْ عَرِيكَتُهُمْ، وَأَشَارَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ بْمُبَاكَرَتِهِمُ الْقِتَالَ، وَمُنَاجَزَتِهِمْ وَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ، فَاتُّفِقَ أَنَّهُ وَصَلَهُ مِنَ الْغَدِ كِتَابٌ مِنْ حَلَبَ يُخْبَرُ فِيهِ بِمَوْتِ مَلِكِ الْأَلْمَانِ، وَمَا أَصَابَ أَصْحَابَهُ مِنَ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَمَا صَارَ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِ مِنِ الْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ. وَاشْتَغَلَ الْمُسْلِمُونَ بِهَذِهِ الْبُشْرَى وَالْفَرَحِ بِهَا عَنْ قِتَالِ مَنْ بِإِزَائِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ الْفِرِنْجَ إِذَا بَلَغَهُمْ هَذَا الْخَبَرُ ازْدَادُوا وَهْنًا عَلَى وَهْنِهِمْ، وَخَوْفًا عَلَى خَوْفِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَتَتِ الْفِرِنْجَ أَمْدَادٌ فِي الْبَحْرِ مَعَ كَنْدٍ كَبِيرٍ مِنَ الْكُنُودِ الْبَحْرِيَّةِ يُقَالُ لَهُ الْكَنْدُ هَرِي ابْنُ أَخِي مَلِكِ إِفْرَنْسِيسَ لِأَبِيهِ، وَابْنُ أَخِي مَلِكِ إِنْكِلْتَارَ لِأُمِّهِ. وَوَصَلَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ يَفُوقُ الْإِحْصَاءَ، فَوَصَلَ إِلَى الْفِرِنْجِ، فَجَنَّدَ الْأَجْنَادَ، وَبَذَلَ الْأَمْوَالَ فَعَادَتْ نُفُوسُهُمْ فَقَوِيَتْ وَاطْمَأَنَّتْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْأَمْدَادَ وَاصِلَةٌ إِلَيْهِمْ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا، فَتَمَاسَكُوا وَحَفِظُوا مَكَانَهُمْ. ثُمَّ أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ إِلَى لِقَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَقِتَالِهِمْ، فَانْتَقَلَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ مَكَانِهِ إِلَى الْخَرُّوبَةِ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، لِيَسَعَ الْمَجَالُ، وَكَانَتِ الْمَنْزَلَةُ قَدْ أَنْتَنَتْ بِرِيحِ الْقَتْلَى. ثُمَّ إِنَّ الْكَنْدَ هَرِي نَصَبَ مَنْجَنِيقًا وَدَبَّابَاتٍ وَعَرَّادَاتٍ، فَخَرَجَ مَنْ بِعَكَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَخَذُوهَا، وَقَتَلُوا عِنْدَهَا كَثِيرًا مِنَ الْفِرِنْجِ، ثُمَّ إِنَّ الْكَنْدَ هَرِي بَعْدَ أَخْذِ مَجَانِيقِهِ أَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ مَنْجَنِيقًا، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ بِعَكَّا كَانُوا يَمْنَعُونَ مِنْ عَمَلِ سَتَائِرَ يَسْتَتِرُ بِهَا مَنْ يَرْمِي مِنَ الْمَنْجَنِيقِ، فَعَمِلَ تَلًّا مِنْ تُرَابٍ بِالْبُعْدِ مِنَ الْبَلَدِ. ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ كَانُوا يَنْقُلُونَ التَّلَّ إِلَى الْبَلَدِ بِالتَّدْرِيجِ، وَيَسْتَتِرُونَ بِهِ، وَيُقَرِّبُونَهُ إِلَى الْبَلَدِ، فَلَمَّا صَارَ مِنَ الْبَلَدِ بِحَيْثُ يَصِلُ مَنْ عِنْدَهُ حَجْرُ مَنْجَنِيقٍ، نَصَبُوا وَرَاءَهُ مَنْجَنِيقَيْنِ،

وَصَارَ التَّلُّ سُتْرَةً لَهُمَا. وَكَانَتِ الْمِيرَةُ قَدْ قَلَّتْ بِعَكَّا، فَأَرْسَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ يَأْمُرُهُمْ بِإِنْفَاذِ الْأَقْوَاتِ وَاللُّحُومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي الْمَرَاكِبِ إِلَى عَكَّا، فَتَأَخَّرَ إِنْفَاذُهَا، فَسَيَّرَ إِلَى نَائِبِهِ بِمَدِينَةِ بَيْرُوتَ فِي ذَلِكَ، فَسَيَّرَ بُطْسَةً عَظِيمَةً مَمْلُوءَةً مِنْ كُلِّ مَا يُرِيدُونَهُ، وَأَمَرَ مَنْ بِهَا فَلَبِسُوا مَلْبَسَ الْفِرِنْجِ وَتَشَبَّهُوا بِهِمْ وَرَفَعُوا عَلَيْهَا الصُّلْبَانَ. فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى عَكَّا لَمْ يَشُكَّ الْفِرِنْجُ أَنَّهَا لَهُمْ فَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهَا فَلَمَّا حَاذَتْ مِينَاءَ عَكَّا أَدْخَلَهَا مَنْ بِهَا، فَفَرِحَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ، وَانْتَعَشُوا وَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَتَبَلَّغُوا بِمَا فِيهَا إِلَى أَنْ أَتَتْهُمُ الْمِيرَةُ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَخَرَجَتْ مَلِكَةٌ مِنَ الْفِرِنْجِ مِنْ دَاخِلِ الْبَحْرِ فِي نَحْوِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ فَأُخِذَتْ بِنَوَاحِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَأُخِذَ مَنْ مَعَهَا ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ وَصَلَهُمْ كِتَابٌ مِنْ بَابَا، وَهُوَ كَبِيرُهُمُ الَّذِي يَصْدُرُونَ عَنْ أَمْرِهِ، وَقَوْلُهُ عِنْدَهُمْ كَقَوْلِ النَّبِيِّينَ لَا يُخَالَفُ، وَالْمَحْرُومُ عِنْدَهُمْ مَنْ حَرَمَهُ، وَالْمُقَرَّبُ مَنْ قَرَّبَهُ، وَهُوَ صَاحِبُ رُومِيَّةَ الْكُبْرَى، يَأْمُرُهُمْ بِمُلَازَمَةِ مَا هُمْ بِصَدَدِهِ، وَيُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى جَمِيعِ الْفِرِنْجِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى نَجْدَتِهِمْ بَرًّا وَبَحْرًا، وَيُعْلِمُهُمْ بِوُصُولِ الْأَمْدَادِ إِلَيْهِمْ، فَازْدَادُوا قُوَّةً وَطَمَعًا. ذِكْرُ خُرُوجِ الْفِرِنْجِ مِنْ خَنَادِقِهِمْ لَمَّا تَتَابَعَتِ الْأَمْدَادُ إِلَى الْفِرِنْجِ، وَجَنَّدَ لَهُمُ الْكَنْدُ هَرِي جَمْعًا كَثِيرًا بِالْأَمْوَالِ الَّتِي وَصَلَتْ مَعَهُ عَزَمُوا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ خَنَادِقِهِمْ وَمُنَاجَزَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَتَرَكُوا عَلَى عَكَّا مَنْ يَحْصُرُهَا وَيُقَاتِلُ أَهْلَهَا، وَخَرَجُوا حَادِيَ عَشَرَ شَوَّالٍ فِي عَدَدٍ كَالرَّمْلِ كَثْرَةً، وَكَالنَّارِ جَمْرَةً. فَلَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ ذَلِكَ نَقَلَ أَثْقَالَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَيْمُونَ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ عَنْ عَكَّا، وَكَانَ قَدْ عَادَ إِلَيْهِ مَنْ فَرَّقَ مِنْ عَسَاكِرِهِ لَمَّا هَلَكَ مَلِكُ الْأَلْمَانِ، وَلَقِيَ الْفِرِنْجَ عَلَى تَعْبِئَةٍ حَسَنَةٍ. وَكَانَ أَوْلَادُهُ الْأَفْضَلُ عَلِيٌّ، وَالظَّاهِرُ غَازِي، وَالظَّافِرُ [خَضِرٌ] مِمَّا يَلِي الْقَلْبَ، وَأَخُوهُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرٍ فِي الْمَيْمَنَةِ، وَمَعَهُ عَسَاكِرُ مِصْرَ وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ فِي الْمَيْسَرَةِ عِمَادُ الدِّينِ، صَاحِبُ سِنْجَارَ، وَتَقِيُّ الدِّينِ، صَاحِبُ حَمَاةَ، وَمُعِزُّ الدِّينِ سَنْجَرْ شَاهْ صَاحِبُ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أُمَرَائِهِ. وَاتُّفِقَ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ أَخَذَهُ مَغَسٌ كَانَ يَعْتَادُهُ، فَنَصَبَ لَهُ خَيْمَةً صَغِيرَةً عَلَى تَلٍّ مُشْرِفٍ عَلَى الْعَسْكَرِ، وَنَزَلَ

فِيهَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَسَارَ الْفِرِنْجُ، شَرْقِيَّ نَهَرٍ هُنَاكَ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى رَأْسِ النَّهَرِ، فَشَاهَدُوا عَسَاكِرَ الْإِسْلَامِ وَكَثْرَتَهَا، فَارْتَاعُوا لِذَلِكَ، وَلَقِيَهُمُ الْجَالْشِيَّةُ، وَأَمْطَرُوا عَلَيْهِمْ مِنَ السِّهَامِ مَا كَادَ يَسْتُرُ الشَّمْسَ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ تَحَوَّلُوا إِلَى غَرْبِيِّ النَّهَرِ، وَلَزِمَهُمُ الْجَالْشِيَّةُ يُقَاتِلُونَهُمْ، وَالْفِرِنْجُ قَدْ تَجَمَّعُوا، وَلَزِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانَ غَرَضُ الْجَالْشِيَّةِ أَنْ تَحْمِلَ الْفِرِنْجُ عَلَيْهِمْ، فَيَلْقَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَيَلْتَحِمَ الْقِتَالُ، فَيَكُونَ الْفَصْلُ، وَيَسْتَرِيحَ النَّاسُ، وَكَانَ الْفِرِنْجُ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مُفَارَقَةِ خَنَادِقِهِمْ، فَلَزِمُوا مَكَانَهُمْ، وَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ تِلْكَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ عَادُوا نَحْوَ عَكَّا لِيَعْتَصِمُوا بِخَنْدَقِهِمْ، وَالْجَالْشِيَّةُ فِي أَكْتَافِهِمْ يُقَاتِلُونَهُمْ تَارَةً بِالسُّيُوفِ، وَتَارَةً بِالرِّمَاحِ، وَتَارَةً بِالسِّهَامِ، وَكُلَّمَا قُتِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ قَتِيلٌ أَخَذُوهُ مَعَهُمْ لِئَلَّا يَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مَا أَصَابَهُمْ، فَلَوْلَا ذَلِكَ الْأَلَمُ الَّذِي حَدَثَ بِصَلَاحِ الدِّينِ لَكَانَتْ هِيَ الْفَيْصَلَ، وَإِنَّمَا لِلَّهِ أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْفِرِنْجُ خَنْدَقَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَعْدَهَا ظُهُورٌ مِنْهُ، عَادَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى خِيَامِهِمْ، وَقَدْ قَتَلُوا مِنَ الْفِرِنْجِ خَلْقًا كَثِيرًا. وَفِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ أَيْضًا كَمَنَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَعَرَّضَ لِلْفِرِنْجِ جَمَاعَةٌ أُخْرَى، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَرْبَعُمِائَةِ فَارِسٍ، فَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ، وَتَطَاوَلُوا لَهُمْ، وَتَبِعَهُمُ الْفِرِنْجُ حَتَّى جَازُوا الْكَمِينَ، فَخَرَجُوا عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَاشْتَدَّ الْغَلَاءُ عَلَى الْفِرِنْجِ حَتَّى بَلَغَتْ غِرَارَةُ الْحِنْطَةِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ صُورِيٍّ، فَصَبَرُوا عَلَى هَذَا، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَحْمِلُونَ إِلَيْهِمُ الطَّعَامَ مِنَ الْبُلْدَانِ مِنْهُمُ الْأَمِيرُ أُسَامَةُ، مُسْتَحْفِظُ بَيْرُوتَ، كَانَ يَحْمِلُ الطَّعَامَ وَغَيْرَهُ، وَمِنْهُمْ سَيْفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفُ بِالْمَشْطُوبِ، كَانَ يَحْمِلُ مِنْ صَيْدَا أَيْضًا إِلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ مِنْ عَسْقَلَانَ وَغَيْرِهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَهَلَكُوا جُوعًا خُصُوصًا فِي الشِّتَاءِ عِنْدَ انْقِطَاعِ مَرَاكِبِهِمْ عَنْهُمْ لِهَيَاجِ الْبَحْرِ. ذِكْرُ تَسْيِيرِ الْبَدَلِ إِلَى عَكَّا وَالتَّفْرِيطِ فِيهِ حَتَّى أُخِذَتْ لَمَّا هَجَمَ الشِّتَاءُ، وَعَصَفَتِ الرِّيَاحُ، خَافَ الْفِرِنْجُ عَلَى مَرَاكِبِهِمُ الَّتِي عِنْدَهُمْ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي الْمِينَاءِ، فَسَيَّرُوهَا إِلَى بِلَادِهِمْ صُورَ وَالْجَزَائِرِ، فَانْفَتَحَ الطَّرِيقُ إِلَى عَكَّا فِي

الْبَحْرِ، فَأَرْسَلَ أَهْلُهَا إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يَشْكُونَ الضَّجَرَ وَالْمَلَلَ وَالسَّآمَةَ. وَكَانَ بِهَا الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ أَبُو الْهَيْجَاءِ السَّمِينُ مُقَدَّمًا عَلَى جُنْدِهَا، فَأَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ بِإِقَامَةِ الْبَدَلِ وَإِنْفَاذِهِ إِلَيْهَا، وَإِخْرَاجِ مَنْ فِيهَا، وَأَمَرَ أَخَاهُ الْمَلِكَ الْعَادِلَ بِمُبَاشَرَةِ ذَلِكَ، فَانْتَقَلَ إِلَى جَانِبِ الْبَحْرِ، وَنَزَلَ تَحْتَ جَبَلِ حَيْفَا، وَجَمَعَ الْمَرَاكِبَ وَالشَّوَانِيَ، وَكُلَّمَا جَاءَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ سَيَّرَهُمْ إِلَيْهَا. وَأَخْرَجَ عِوَضَهُمْ، فَدَخَلَ إِلَيْهَا عِشْرُونَ أَمِيرًا، وَكَانَ بِهَا سِتُّونَ أَمِيرًا فَكَانَ الَّذِينَ دَخَلُوا قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا، وَأَهْمَلَ نُوَّابُ صَلَاحِ الدِّينِ تَجْنِيدَ الرِّجَالِ وَإِنْفَاذَهُمْ. وَكَانَ عَلَى خِزَانَةِ مَالِهِ قَوْمٌ مِنَ النَّصَارَى، وَكَانُوا إِذَا جَاءَهُمْ جَمَاعَةٌ قَدْ جُنِّدُوا تَعَنَّتُوهُمْ بِأَنْوَاعٍ شَتَّى، تَارَةً بِإِقَامَةِ مَعْرِفَةٍ، وَتَارَةً بِغَيْرِ ذَلِكَ. فَتَفَرَّقَ بِهَذَا السَّبَبِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ تَوَانِي صَلَاحِ الدِّينِ وَوُثُوقُهُ بِنُوَّابِهِ، وَإِهْمَالُ النُّوَّابِ، فَانْحَسَرَ الشِّتَاءُ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَعَادَتْ مَرَاكِبُ الْفِرِنْجِ إِلَى عَكَّا وَانْقَطَعَ الطَّرِيقُ إِلَّا مِنْ سَابِحٍ يَأْتِي بِكِتَابٍ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ دَخَلُوا إِلَى عَكَّا سَيْفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمَشْطُوبُ، وَعِزُّ الدِّينِ أَرْسَلَ مُقَدَّمُ الْأَسَدِيَّةِ بَعْدَ جَاوِلِي وَابْنِ جَاوِلِي، وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ دُخُولُهُمْ عَكَّا أَوَّلَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] . وَكَانَ قَدْ أَشَارَ جَمَاعَةٌ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ بِأَنْ يُرْسِلَ إِلَى مَنْ بِعَكَّا النَّفَقَاتِ الْوَاسِعَةَ، وَالذَّخَائِرَ، وَالْأَقْوَاتَ الْكَثِيرَةَ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْمُقَامِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ جَرَّبُوا وَتَدَرَّبُوا، وَاطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَظَنَّ فِيهِمُ الضَّجَرَ وَالْمَلَلَ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْعَجْزِ وَالْفَشَلِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالضِّدِّ. ذِكْرُ وَفَاةِ زَيْنِ الدِّينِ يُوسُفَ صَاحِبِ إِرْبِلَ، وَمَسِيرِ أَخِيهِ مُظَفَّرِ الدِّينِ إِلَيْهَا كَانَ زَيْنُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ زَيْنِ الدِّينِ عَلِيٌّ، صَاحِبُ إِرْبِلَ، قَدْ حَضَرَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ بِعَسَاكِرِهِ. فَمَرِضَ وَمَاتَ ثَامِنَ عَشَرَ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَذَكَرَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ فِي كِتَابِهِ " الْبَرْقُ الشَّامِيُّ " كَمَا قَالَ: " جِئْنَا إِلَى مُظَفَّرِ الدِّينِ

نُعَزِّيهِ بِأَخِيهِ، وَظَنَنَّا بِهِ الْحُزْنَ، وَلَيْسَ لَهُ أَخٌ غَيْرُهُ، وَلَا وَلَدٌ يَشْغَلُهُ عَنْهُ، فَإِذَا هُوَ فِي شُغُلٍ شَاغِلٍ عَنِ الْعَزَاءِ، مُهْتَمٌّ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى مَا خَلَّفَهُ. وَهُوَ جَالِسٌ فِي خِيَامِ أَخِيهِ الْمُتَوَفَّى، وَقَدْ قَبَضَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أُمَرَائِهِ وَاعْتَقَلَهُمْ، [وَعَجَّلَ عَلَيْهِمْ] ، وَمَا أَغْفَلَهُمْ، مِنْهُمْ بَلْدَاجِيٌّ، صَاحِبُ قَلْعَةِ خُفْتِيذْكَانَ، وَأَرْسَلَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْهُ إِرْبِلَ لِيَنْزِلَ عَنْ حَرَّانَ وَالرُّهَا، فَأَقْطَعَهُ إِيَّاهَا، وَأَضَافَ إِلَيْهَا شَهْرَزُورَ وَأَعْمَالَهَا، وَدَرْبَنْدَ قَرَابِلِيِّ، وَبَنِي قَفْجَاقْ. وَلَمَّا مَاتَ زَيْنُ الدِّينِ كَاتَبَ مَنْ كَانَ بِإِرْبِلَ مُجَاهِدَ الدِّينِ قَايْمَازْ لِهَوَاهُمْ فِيهِ، وَحُسْنِ سِيرَتِهِ فِيهِمْ، وَطَلَبُوهُ إِلَيْهِمْ لِيُمَلِّكُوهُ، فَلَمْ يَجْسُرْ هُوَ وَلَا صَاحِبُهُ عِزُّ الدِّينِ أَتَابِكْ مَسْعُودُ بْنُ مَوْدُودٍ عَلَى ذَلِكَ، خَوْفًا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ. وَكَانَ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ فِي تَرْكِهَا أَنَّ عِزَّ الدِّينِ كَانَ قَدْ قَبَضَ عَلَى مُجَاهِدِ الدِّينِ، فَتَمَكَّنَ زَيْنُ الدِّينِ مِنْ إِرْبِلَ، ثُمَّ إِنَّ عِزَّ الدِّينِ أَخْرَجَ مُجَاهِدَ الدِّينِ مِنَ الْقَبْضِ، وَوَلَّاهُ نِيَابَتَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ أَجْمَعَ. فَلَمَّا وَلَّاهُ النِّيَابَةَ عَنْهُ لَمْ يُمَكِّنْهُ، وَجَعَلَ مَعَهُ إِنْسَانًا كَانَ مِنْ بَعْضِ غِلْمَانِ مُجَاهِدِ الدِّينِ، فَكَانَ يُشَارِكُهُ فِي الْحُكْمِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ مَا يَعْقِدُهُ، فَلَحِقَ فِي مُجَاهِدِ الدِّينِ مِنْ ذَلِكَ غَيْظٌ شَدِيدٌ، فَلَمَّا طَلَبَ إِلَى إِرْبِلَ قَالَ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ: لَا أَفْعَلُ لِئَلَّا يَحْكُمَ فِيهَا فُلَانٌ، وَيَكُفَّ يَدِي عَنْهَا، فَجَاءَ مُظَفَّرُ الدِّينِ إِلَيْهَا وَمَلَكَهَا، وَبَقِيَ غُصَّةً فِي حَلْقِ الْبَيْتِ الْأَتَابِكِيِّ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِسَاغَتِهَا. وَسَنَذْكُرُ مَا اعْتَمَدَهُ مَعَهُمْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ مَدِينَةَ شِلْبَ وَعَوْدِهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ ابْنُ الرَّنْكِ - وَهُوَ مِنْ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ - غَرْبَ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، مَدِينَةَ شِلْبَ وَهِيَ مِنْ كِبَارِ مُدُنِ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَنْدَلُسِ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْأَمِيرِ أَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، صَاحِبِ الْغَرْبِ

وَالْأَنْدَلُسِ فَتَجَهَّزَ فِي الْعَسَاكِرِ الْكَثِيرَةِ وَسَارَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَعَبَرَ الْمَجَازَ، وَسَيَّرَ طَائِفَةً كَثِيرَةً مِنْ عَسْكَرِهِ فِي الْبَحْرِ، وَنَازَلَهَا وَحَصَرَهَا، وَقَاتَلَ مَنْ بِهَا قِتَالًا شَدِيدًا، حَتَّى ذَلُّوا وَسَأَلُوا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَسَلَّمُوا الْبَلَدَ وَعَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ. وَسَيَّرَ جَيْشًا مِنَ الْمُوَحِّدِينَ وَمَعَهُمْ جَمْعٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ، فَفَتَحُوا أَرْبَعَ مُدُنٍ كَانَ الْفِرِنْجُ قَدْ مَلَكُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَفَتَكُوا فِي الْفِرِنْجِ، فَخَافَهُمْ مَلِكُ طُلَيْطِلَةَ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الصُّلْحَ فَصَالَحَهُ خَمْسَ سِنِينَ. وَعَادَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى مَرَّاكُشَ، وَامْتَنَعَ مِنْ هَذِهِ الْهُدْنَةِ طَائِفَةٌ مِنَ الْفِرِنْجِ لَمْ يَرْضَوْهَا، وَلَا أَمْكَنَهُمْ إِظْهَارُ الْخِلَافِ، فَبَقُوا مُتَوَقِّفِينَ حَتَّى دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَتَحَرَّكُوا. وَسَنَذْكُرُ خَبَرَهُمْ هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ غِيَاثِ الدِّينِ وَسُلْطَانِ شَاهْ بِخُرَاسَانَ كَانَ سُلْطَانُ شَاهْ أَخُو خُوَارِزْمِ شَاهْ قَدْ تَعَرَّضَ إِلَى بِلَادِ غِيَاثِ الدِّينِ وَمُعِزِّ الدِّينِ مَلِكَيِ الْغُورِيَّةِ مِنْ خُرَاسَانَ، فَتَجَهَّزَ غِيَاثُ الدِّينِ وَخَرَجَ مِنْ فَيْرُوزْكُوهُ إِلَى خُرَاسَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَبَقِيَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ بِلَادِ الطَّالْقَانِ، وَبَنْجَدَهْ، وَمَرْوَ، وَغَيْرِهَا يُرِيدُ حَرْبَ سُلْطَانِ شَاهْ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، فَجَمَعَ سُلْطَانُ شَاهْ عَسَاكِرَهُ، وَقَصَدَ غِيَاثَ الدِّينِ، فَتَصَافَّا وَاقْتَتَلَا فَانْهَزَمَ سُلْطَانُ شَاهْ، وَأَخَذَ غِيَاثُ الدِّينِ بَعْضَ بِلَادِهِ وَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تَسَلَّمَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ حَدِيثَةَ عَانَةَ، وَكَانَ سَيَّرَ إِلَيْهَا جَيْشًا حَصَرُوهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] فَقَاتَلُوا عَلَيْهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَدَامَ الْحِصَارُ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَقْوَاتُ

سَلَّمُوهَا عَلَى أَقْطَاعٍ عَيَّنُوهَا، وَوَصَلَ صَاحِبُهَا وَأَهْلُهَا إِلَى بَغْدَادَ وَأُعْطُوا أَقْطَاعًا، ثُمَّ تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَاشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ بِهِمْ، حَتَّى رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ بِالسُّؤَالِ، وَبَعْضٌ خَدَمَ النَّاسَ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِهِ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفَى هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ مَسْعُودُ بْنُ النَّادِرِ الصّفَّارُ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مُكْثِرًا مِنَ الْحَدِيثِ، حَسَنَ الْخَطِّ، خَيِّرًا ثِقَةً. وَمِنْهَا تُوُفِّيَ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ الشَّهْرَزُورِيُّ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَ قَاضِيَهَا، وَقَبْلَهَا وَلِيَ قَضَاءَ حَلَبَ وَجَمِيعَ الْأَعْمَالِ بِهَا، وَكَانَ رَئِيسًا جَوَادًا، ذَا مُرُوءَةٍ عَظِيمَةٍ، يَرْجِعُ إِلَى دِينٍ وَأَخْلَاقٍ جَمِيلَةٍ.

ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 587 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ حَصْرِ عِزِّ الدِّينِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ الْجَزِيرَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَارَ أَتَابِكْ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ مَوْدُودِ بْنِ زِنْكِيٍّ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ إِلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، فَحَصَرَهَا، وَكَانَ بِهَا صَاحِبُهَا سَنْجَرْ شَاهْ بْنُ سَيْفِ الدِّينِ غَازِي بْنِ مَوْدُودٍ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي عِزِّ الدِّينِ. وَكَانَ سَبَبُ حَصْرِهِ أَنَّ سَنْجَرْ شَاهْ كَانَ كَثِيرَ الْأَذَى لِعَمِّهِ عِزِّ الدِّينِ، وَالشَّنَاعَةِ عَلَيْهِ وَالْمُرَاسَلَةِ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ فِي حَقِّهِ، تَارَةً يَقُولُ إِنَّهُ يُرِيدُ قَصْدَ بِلَادِكَ، وَتَارَةً يَقُولُ إِنَّهُ يُكَاتِبُ أَعْدَاءَكَ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى قَصْدِكَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُؤْذِيَةِ. وَعِزُّ الدِّينِ يَصْبِرُ مِنْهُ عَلَى مَا يَكْرَهُ لِأُمُورٍ: تَارَةً لِلرَّحِمِ، وَتَارَةً خَوْفًا مِنْ تَسْلِيمِهَا إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ سَارَ صَاحِبُهَا إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، وَهُوَ عَلَى عَكَّا، فِي جُمْلَةِ مَنْ سَارَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ قَلِيلًا، وَطَلَبَ دُسْتُورًا لِلْعَوْدِ إِلَى بَلَدِهِ. فَقَالَ لَهُ صَلَاحُ الدِّينِ: عِنْدَنَا مِنْ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ جَمَاعَةً مِنْهُمْ عِمَادُ الدِّينِ، صَاحِبُ سِنْجَارَ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْكَ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عَمِّكَ عِزُّ الدِّينِ، وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْكَ، وَغَيْرُهُمْ، وَمَتَى فَتَحْتَ هَذَا الْبَابَ اقْتَدَى بِكَ غَيْرُكَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ، وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ. وَكَانَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ يَسْتَغِيثُونَ عَلَى سَنْجَرْ شَاهْ لِأَنَّهُ ظَلَمَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَأَمْلَاكَهُمْ، فَكَانَ يَخَافُهُ لِهَذَا. وَلَمْ يَزَلْ فِي طَلَبِ الْإِذْنِ فِي الْعَوْدِ إِلَى لَيْلَةِ الْفِطْرِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، فَرَكِبَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي السَّحَرِ وَجَاءَ إِلَى خَيْمَةِ صَلَاحِ الدِّينِ وَأَذِنَ لِأَصْحَابِهِ فِي الْمَسِيرِ، فَسَارُوا بِالْأَثْقَالِ، وَبَقِيَ جَرِيدَةٌ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى خَيْمَةِ صَلَاحِ

الدِّينِ أَرْسَلَ يَطْلُبُ الْإِذْنَ عَلَيْهِ، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ قَدْ بَاتَ مَحْمُومًا، وَقَدْ عَرِقَ، فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ مُتَرَدِّدًا عَلَى بَابِ خَيْمَتِهِ إِلَى أَنْ أُذِنَ لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ هَنَّأَهُ بِالْعِيدِ، وَأَكَبَّ عَلَيْهِ يُوَدِّعُهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا عَلِمْنَا بِصِحَّةِ عَزْمِكَ عَلَى الْحَرَكَةِ، فَتَصَبَّرْ عَلَيْنَا حَتَّى نُرْسِلَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، فَمَا يَجُوزُ أَنْ تَنْصَرِفَ عَنَّا، بَعْدَ مَقَامِكَ عِنْدَنَا، عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. فَلَمْ يَرْجِعْ وَوَدَّعَهُ وَانْصَرَفَ. وَكَانَ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ ابْنُ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ قَدْ أَقْبَلُ مِنْ بَلَدِهِ حَمَاةَ فِي عَسْكَرِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ صَلَاحُ الدِّينِ يَأْمُرُهُ بِإِعَادَةِ سَنْجَرْ شَاهْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، فَحَكَى لَهُ عَنْ تَقِيِّ الدِّينِ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ سَنْجَرْ شَاهْ، لَقِيتُهُ بِعَقَبَةِ فِيقَ، فَسَأَلَتُهُ عَنْ سَبَبِ انْصِرَافِهِ، فَغَالَطَنِي. فَقُلْتُ لَهُ: سَمِعْتُ بِالْحَالِ، وَلَا يَلِيقُ أَنْ تَنْصَرِفَ بِغَيْرِ تَشْرِيفِ السُّلْطَانِ وَهَدِيَّتِهِ، فَيَضِيعَ تَعَبُكَ، وَسَأَلَتُهُ الْعُودَ فَلَمْ يُصْغِ إِلَيَّ قَوْلِي، فَكَلَّمَنِي كَأَنَّنِي بَعْضُ [مَمَالِيكِهِ] ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ مِنْهُ قُلْتُ لَهُ: إِنْ رَجَعْتَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَإِلَّا أَعَدْتُكَ كَارِهًا، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَأَخَذَ ذَيْلِي وَقَالَ: قَدْ اسْتَجَرْتُ بِكَ، وَجَعَلَ يَبْكِي، فَعَجِبْتُ مِنْ حَمَاقَتِهِ أَوَّلًا، وَذِلَّتِهِ ثَانِيًا، فَعَادَ مَعِي. فَلَمَّا عَادَ بَقِيَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَكَتَبَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى عِزِّ الدِّينِ أَتَابِكْ يَأْمُرُهُ بِقَصْدِ الْجَزِيرَةِ، وَمُحَاصَرَتِهَا، وَأَخْذِهَا، وَأَنَّهُ يُرْسِلُ إِلَى طَرِيقِ سَنْجَرْ شَاهْ لِيَقْبِضَ عَلَيْهِ إِذَا عَادَ. فَخَافَ عِزُّ الدِّينِ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ مَكِيدَةً لِيُشَنِّعَ عَلَيْهِ بِنَكْثِ الْعَهْدِ، فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ: أُرِيدُ خَطَّكَ بِذَلِكَ وَمَنْشُورًا مِنْكَ بِالْجَزِيرَةِ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنِ انْقَضَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] . وَدَخَلَتْ هَذِهِ السَّنَةُ فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُمَا، فَسَارَ عِزُّ الدِّينِ إِلَى الْجَزِيرَةِ، فَحَصَرَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا آخِرُهَا شَعْبَانُ، وَلَمْ يَمْلِكْهَا بَلِ اسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَنْجَرْ شَاهْ عَلَى يَدِ رَسُولِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَهُ بَعْدَ قَصْدِهَا يَقُولُ: إِنْ صَاحِبَ سِنْجَارَ، وَصَاحِبَ إِرْبِلَ وَغَيْرِهِمَا قَدْ شَفَعَا فِي سَنْجَرْ شَاهْ، فَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّ لِعِزِّ الدِّينِ نِصْفَ أَعْمَالِ الْجَزِيرَةِ، وَلِسَنْجَرْ [شَاهْ] نِصْفَهَا، وَتَكُونُ الْجَزِيرَةُ بِيَدِ سَنْجَرْ شَاهْ مِنْ جُمْلَةِ النِّصْفِ. وَعَادَ عِزُّ الدِّينِ فِي شَعْبَانَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: مَا

قِيلَ لِي عَنْ أَحَدٍ شَيْءٌ مِنَ الشَّرِّ فَرَأَيْتُهُ إِلَّا كَانَ دُونَ مَا يُقَالُ فِيهِ، إِلَّا سَنْجَرْ شَاهْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ لِي عَنْهُ أَشْيَاءُ اسْتَعْظَمْتُهَا، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ صَغُرَ فِي عَيْنِي مَا قِيلَ فِيهِ. ذِكْرُ عُبُورِ تَقِيِّ الدِّينِ الْفُرَاتَ وَمُلْكِهِ حَرَّانَ وَغَيْرِهَا مِنِ الْبِلَادِ الْجَزَرِيَّةِ، وَمِسِيرِهِ إِلَى خِلَاطَ وَمُؤْتَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، سَارَ تَقِيُّ الدِّينِ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْبِلَادِ الْجَزَرِيَّةِ: حَرَّانَ وَالرُّهَا، كَانَ قَدْ أَقْطَعَهُ إِيَّاهَا عَمُّهُ صَلَاحُ الدِّينِ، بَعْدَ أَخْذِهَا مِنْ مُظَفَّرِ الدِّينِ، مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ لَهُ بِالشَّامِ، وَقَرَّرَ مَعَهُ أَنَّهُ يَقْطَعُ الْبِلَادَ لِلْجُنْدِ، وَيَعُودُ وَهُمْ مَعَهُ إِلَيْهِ لِيَتَقَوَّى بِهِمْ عَلَى الْفِرِنْجِ. فَلَمَّا عَبَرَ الْفُرَاتَ، وَأَصْلَحَ حَالَ الْبِلَادِ، سَارَ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ، وَكَانَتْ لَهُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا تَجَدَّدَ لَهُ طَمَعٌ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا، فَقَصَدَ مَدِينَةَ حَانِي مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ، فَحَصَرَهَا وَمَلَكَهَا، وَكَانَ فِي سَبْعِمِائَةِ فَرَسٍ. فَلَمَّا سَمِعَ سَيْفُ الدِّينِ بُكْتُمُرْ - صَاحِبُ خِلَاطَ - بِمُلْكِهِ حَانِي جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعَتْ عَسَاكِرُهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ فَارِسٍ، فَلَمَّا الْتَقَوُا اقْتَتَلُوا فَلَمْ يَثْبُتْ عَسْكَرُ خِلَاطَ لِتَقِيِّ الدِّينِ، بَلِ انْهَزَمُوا وَتَبِعَهُمْ تَقِيُّ الدِّينِ، وَدَخَلَ بِلَادَهُمْ. وَكَانَ بُكْتُمُرْ قَدْ قَبَضَ عَلَى مَجْدِ الدِّينِ بْنِ رَشِيقٍ، وَزِيرِ صَاحِبِهِ شَاهْ أَرْمَنْ، وَسَجَنَهُ فِي قَلْعَةٍ هُنَاكَ، فَلَمَّا انْهَزَمَ كَتَبَ إِلَى مُسْتَحْفِظِ الْقَلْعَةِ يَأْمُرُهُ بِقَتْلِ ابْنِ رَشِيقٍ، فَوَصَلَ الْقَاصِدُ وَتَقِيُّ الدِّينِ قَدْ نَازَلَ الْقَلْعَةَ، فَأَخَذَ الْكِتَابَ، وَمَلَكَ الْقَلْعَةَ، وَأَطْلَقَ ابْنَ رَشِيقٍ، وَسَارَ إِلَى خِلَاطَ فَحَصَرَهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي كَثْرَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ فَلَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا غَرَضًا، فَعَادَ عَنْهَا، وَقَصَدَ مَلَازْكُرْدَ، وَحَصَرَهَا وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهَا، وَطَالَ مُقَامُهُ عَلَيْهَا، [فَلَمَّا ضَاقَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ طَلَبُوا مِنْهُ الْمُهْلَةَ أَيَّامًا ذَكَرُوهَا، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهَا] . وَمَرَضَ تَقِيُّ الدِّينِ، فَمَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ بِيَوْمَيْنِ، وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ عَنْهَا، وَحَمَلَهُ ابْنُهُ وَأَصْحَابُهُ مَيِّتًا إِلَى مَيَّافَارِقِينَ، وَعَادَ بُكْتُمُرْ فَقَوِيَ أَمْرُهُ وَثَبَتَ مُلْكُهُ بَعْدَ أَنْ أَشْرَفَ عَلَى الزَّوَالِ، وَهَذِهِ الْحَادِثَةُ مِنَ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، فَإِنَّ ابْنَ رَشِيقٍ نَجَا مِنَ الْقَتْلِ، وَبُكْتُمُرْ نَجَا مِنْ أَنْ يُؤْخَذَ.

ذِكْرُ وَصُولِ الْفِرِنْجِ مِنَ الْغَرْبِ فِي الْبَحْرِ إِلَى عَكَّا وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَتْ أَمْدَادُ الْفِرِنْجِ فِي الْبَحْرِ إِلَى الْفِرِنْجِ الَّذِينَ عَلَى عَكَّا، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ وَصَلَ مِنْهُمُ الْمَلِكَ فِلِيبْ، مَلِكَ إِفْرِنْسِيسَ، وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ مُلُوكِهِمْ نَسَبًا، وَإِنْ كَانَ مُلْكُهُ لَيْسَ بِالْكَثِيرِ وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَيْهَا ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْكَثْرَةِ الَّتِي ظَنُّوهَا، وَإِنَّمَا كَانَ مَعَهُ سِتُّ بُطَسٍ كِبَارٍ عِظَامٍ، فَقَوِيَتْ بِهِ نُفُوسُ مَنْ كَانَ عَلَى عَكَّا مِنْهُمْ وَلَجُّوا فِي قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فِيهَا. وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى شَفْرَعَمَ، فَكَانَ يَرْكَبُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَقْصِدُ الْفِرِنْجَ لِيَشْغَلَهُمْ بِالْقِتَالِ عَنْ مُزَاحَفَةِ الْبَلَدِ وَأَرْسَلَ إِلَى الْأَمِيرِ أُسَامَةَ، مُسْتَحْفِظِ بَيْرُوتَ، يَأْمُرُهُ بِتَجْهِيزِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الشَّوَانِي وَالْمَرَاكِبِ وَتَشْحِينِهَا بِالْمُقَاتِلَةِ، وَتَسْيِيرِهَا فِي الْبَحْرِ لِيَمْنَعَ الْفِرِنْجَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى عَكَّا، فَفَعَلَ ذَلِكَ. وَسَيَّرَ الشَّوَانِيَ فِي الْبَحْرِ، فَصَادَفَتْ خَمْسَةَ مَرَاكِبَ مَمْلُوءَةً رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ مَلِكِ إِنْكِلْتَارَ الْفِرِنْجِ، كَانَ قَدْ سَيَّرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَأَخَّرَ هُوَ بِجَزِيرَةِ قُبْرُسَ، لِيَمْلِكَهَا، فَأَقْبَلَتْ شَوَانِي الْمُسْلِمِينَ مَعَ مَرَاكِبِ الْفِرِنْجِ، فَاسْتَظْهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَأَخَذُوهُمْ، وَغَنِمُوا مَا مَعَهُمْ مِنْ قُوتٍ وَمَتَاعٍ وَمَالٍ وَأَسَرُوا الرِّجَالَ. وَكَتَبَ أَيْضًا صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى مَنْ بِالْقُرْبِ مِنَ النُّوَّابِ لَهُ يَأْمُرُهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَفَعَلُوا. وَأَمَّا الْفِرِنْجُ الَّذِينَ عَلَى عَكَّا، فَإِنَّهُمْ لَازَمُوا قِتَالَ مَنْ بِهَا وَنَصَبُوا عَلَيْهَا سَبْعَةَ مَجَانِيقَ رَابِعَ جُمَادَى الْأُولَى، [فَلَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ ذَلِكَ تَحَوَّلَ مِنْ شَفْرَعَمَ، وَنَزَلَ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَتْعَبَ كُلُّ الْعَسْكَرِ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْمَجِيءِ إِلَيْهِمْ وَالْعَوْدِ عَنْهُمْ، فَقَرُبَ مِنْهُمْ. وَكَانُوا كُلَّمَا تَحَرَّكُوا لِلْقِتَالِ رَكِبَ وَقَاتَلَهُمْ مِنْ وَرَاءِ خَنْدَقِهِمْ، فَكَانُوا يَشْتَغِلُونَ بِقِتَالِهِمْ، فَيَخِفَّ الْقِتَالُ عَمَّنْ بِالْبَلَدِ. ثُمَّ وَصَلَ مَلِكُ إِنْكِلْتَارَ ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى] . وَكَانَ قَدِ اسْتَوْلَى فِي طَرِيقِهِ عَلَى جَزِيرَةِ قُبْرُسَ، وَأَخَذَهَا مِنَ الرُّومِ، فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا غَدَرَ بِصَاحِبِهَا

وَمَلَكَهَا جَمِيعًا: فَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي مُلْكِهِ وَقُوَّةً لِلْفِرِنْجِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا سَارَ عَنْهَا إِلَى مَنْ عَلَى عَكَّا مِنَ الْفِرِنْجِ فَوَصَلَ إِلَيْهِمْ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ قِطْعَةً كِبَارًا مَمْلُوءَةً رِجَالًا وَأَمْوَالًا فَعَظُمَ بِهِ شَرُّ الْفِرِنْجِ، وَاشْتَدَّتْ نِكَايَتُهُمْ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ رَجُلَ زَمَانِهِ شَجَاعَةً وَمَكْرًا وَجَلَدًا وَصَبْرًا وَبُلِيَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ بِالدَّاهِيَةِ الَّتِي لَا مِثْلَ لَهَا. وَلَمَّا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِوُصُولِهِ أَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ بِتَجْهِيزِ بُطْسَةٍ كَبِيرَةٍ مَمْلُوءَةٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالْعِدَّةِ وَالْقُوتِ، فَجُهِّزَتْ وَسُيِّرَتْ مِنْ بَيْرُوتَ، وَفِيهَا سَبْعُمِائَةِ مُقَاتِلٍ، فَلَقِيَهَا مَلِكُ إِنْكِلْتَارَ مُصَادَفَةً، فَقَاتَلَهَا، وَصَبَرَ مَنْ فِيهَا عَلَى قِتَالِهَا فَلَمَّا أَيِسُوا مِنَ الْخَلَاصِ نَزَلَ مُقَدَّمُ مَنْ بِهَا إِلَى أَسْفَلِهَا، وَهُوَ يَعْقُوبُ الْحَلَبِيُّ مُقَدَّمُ الْجُنْدَارِيَّةِ، يُعْرَفُ بِغُلَامِ ابْنِ شُقَّتَيْنِ، فَخَرَقَهَا خَرْقًا وَاسِعًا لِئَلَّا يَظْفَرَ الْفِرِنْجُ بِمَنْ فِيهَا وَمَا مَعَهُمْ مِنَ الذَّخَائِرِ، فَغَرِقَ جَمِيعُ مَا فِيهَا. وَكَانَتْ عَكَّا مُحْتَاجَةً إِلَى رِجَالٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سَبَبِ نَقْصِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ عَمِلُوا دَبَّابَاتٍ وَزَحَفُوا بِهَا [فَأَحْرَقَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضَهَا وَأَخَذُوا بَعْضَهَا، ثُمَّ عَمِلُوا كِبَاشًا وَزَحَفُوا بِهَا] فَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ وَقَاتَلُوهُمْ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ وَأَخَذُوا تِلْكَ الْكِبَاشَ. فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعَهُ لَا يَنْفَعُهُمْ عَمِلُوا تَلًّا كَبِيرًا مِنَ التُّرَابِ مُسْتَطِيلًا. وَمَا زَالُوا يُقَرِّبُونَهُ إِلَى الْبَلَدِ وَيُقَاتِلُونَ مِنْ وَرَائِهِ لَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْبَلَدِ أَذًى. حَتَّى صَارَ عَلَى نِصْفِ عُلُوِّهِ، فَكَانُوا يَسْتَظِلُّونَ بِهِ، وَيُقَاتِلُونَ مِنْ خَلْفِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ حِيلَةٌ لَا بِالنَّارِ وَلَا بِغَيْرِهَا فَحِينَئِذٍ عَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ عَلَى مَنْ بِعَكَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يُعَرِّفُونَهُ حَالَهُمْ، فَلَمْ يَقْدِرْ لَهُمْ عَلَى نَفْعٍ. ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ عَكَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، سَابِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، اسْتَوْلَى الْفِرِنْجُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - عَلَى مَدِينَةِ عَكَّا، وَكَانَ أَوَّلُ وَهْنٍ دَخَلَ عَلَى مَنْ بِالْبَلَدِ أَنَّ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ الْهَكَّارِيَّ الْمَعْرُوفَ بِالْمَشْطُوبِ، كَانَ فِيهَا، وَمَعَهُ عِدَّةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ كَانَ هُوَ أَمْثَلَهُمْ وَأَكْبَرَهُمْ، خَرَجَ إِلَى مَلِكِ إِفْرَنْسِيسَ وَبَذَلَ لَهُ تَسْلِيمَ الْبَلَدِ بِمَا فِيهِ عَلَى أَنْ يُطْلِقَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فِيهِ، وَيُمَكِّنَهُمْ مِنَ اللَّحَاقِ بِسُلْطَانِهِمْ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَعَادَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ إِلَى الْبَلَدِ، فَوَهَنَ مَنْ فِيهِ، وَضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ، وَتَخَاذَلُوا، وَأَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ. ثُمَّ إِنْ أَمِيرَيْنِ مِمَّنْ كَانَ بِعَكَّا، لَمَّا رَأَوْا مَا فَعَلُوا بِالْمَشْطُوبِ، وَأَنَّ الْفِرِنْجَ لَمْ

يُجِيبُوا إِلَى الْأَمَانِ، اتَّخَذُوا اللَّيْلَ جَمَلًا. وَرَكِبُوا فِي شِينِيٍّ صَغِيرٍ، وَخَرَجُوا سِرًّا مِنْ أَصْحَابِهِمْ. وَلَحِقُوا بِعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ عِزُّ الدِّينِ أَرْسَلُ الْأَسَدِيُّ، وَابْنُ عِزِّ الدِّينِ جَاوِلِي، وَمَعَهُمْ غَيْرُهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ وَرَأَوْا ذَلِكَ ازْدَادُوا وَهْنًا إِلَى وَهْنِهِمْ. وَضَعْفًا إِلَى ضَعْفِهِمْ، وَأَيْقَنُوا بِالْعَطَبِ. ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ أَرْسَلُوا إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ فِي مَعْنَى تَسْلِيمِ الْبَلَدِ فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَالشَّرْطُ بَيْنَهُمْ أَنْ يُطْلِقَ مِنْ أَسْرَاهُمْ بِعَدَدِ مَنْ فِي الْبَلَدِ لِيُطْلِقُوا هُمْ مَنْ بِعَكَّا، وَأَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ صَلِيبَ الصَّلَبُوتِ. فَلَمْ يَقْنَعُوا بِمَا بَذَلَ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ بِعَكَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ عَكَّا يَدًا وَاحِدَةً، وَيَسِيرُوا مَعَ الْبَحْرِ، وَيَحْمِلُوا عَلَى الْعَدُوِّ حَمْلَةً وَاحِدَةً، وَيَتْرُكُوا الْبَلَدَ بِمَا فِيهِ، وَوَعَدَهُمْ أَنَّهُ يَتَقَدَّمُ إِلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الَّتِي يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِعَسَاكِرِهِ، يُقَاتِلُ الْفِرِنْجَ فِيهَا لِيَلْحَقُوا بِهِ، فَشَرَعُوا فِي ذَلِكَ، وَاشْتَغَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِاسْتِصْحَابِ مَا يَمْلِكُهُ، فَمَا فَرَغُوا مِنْ أَشْغَالِهِمْ حَتَّى أَسْفَرَ الصُّبْحُ، فَبَطَلَ مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ لِظُهُورِهِ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا عَجَزَ النَّاسُ، عَنْ حِفْظِ الْبَلَدِ، وَزَحَفَ إِلَيْهِمُ الْفِرِنْجُ بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِمْ، فَظَهَرَ مَنْ بِالْبَلَدِ عَلَى سُورِهِ يُحَرِّكُونَ أَعْلَامَهُمْ لِيَرَاهَا الْمُسْلِمُونَ. وَكَانَتْ هِيَ الْعَلَامَةَ إِذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ، فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ ضَجُّوا بِالْبُكَاءِ وَالْعَوِيلِ، وَحَمَلُوا عَلَى الْفِرِنْجِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنِ الْفِرِنْجَ يَشْتَغِلُونَ عَنِ الَّذِينَ بِعَكَّا، وَصَلَاحُ الدِّينِ يَحُضُّهُمْ وَهُوَ فِي أَوَّلِهِمْ. وَكَانَ الْفِرِنْجُ قَدْ زَحَفُوا مِنْ خَنَادِقِهِمْ وَمَالُوا إِلَى جِهَةِ الْبَلَدِ، فَقَرُبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ خَنَادِقِهِمْ، حَتَّى كَادُوا يَدْخُلُونَهَا عَلَيْهِمْ وَيَضَعُونَ السَّيْفَ فِيهِمْ، فَوَقَعَ الصَّوْتُ فَعَادَ الْفِرِنْجُ وَمَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ، وَتَرَكُوا فِي مُقَابَلَةِ مَنْ بِالْبَلَدِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ. فَلَمَّا رَأَى الْمَشْطُوبُ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعٍ، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ ضُرًّا خَرَجَ إِلَى الْفِرِنْجِ، وَقَرَّرَ مَعَهُمْ تَسْلِيمَ الْبَلَدِ وَخُرُوجَ مَنْ فِيهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَبَذَلَ

لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ مِائَتَيْ أَلْفَ دِينَارٍ وَخَمْسَمِائَةِ أَسِيرٍ مِنَ الْمَعْرُوفِينَ، وَإِعَادَةَ صَلِيبِ الصَّلَبُوتِ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ لِلْمَرْكِيسِ صَاحِبِ صُورَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَحَلَفُوا لَهُ عَلَيْهِ، وَأَنْ تَكُونَ مُدَّةُ تَحْصِيلِ الْمَالِ وَالْأَسْرَى إِلَى شَهْرَيْنِ. فَلَمَّا حَلَفُوا لَهُ سَلَّمَ الْبَلَدَ إِلَيْهِمْ وَدَخَلُوهُ، سِلْمًا فَلَمَّا مَلَكُوهُ غَدَرُوا وَاحْتَاطُوا عَلَى مَنْ فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَحَبَسُوهُمْ، وَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِيَصِلَ إِلَيْهِمْ مَا بُذِلَ لَهُمْ، وَرَاسَلُوا صَلَاحَ الدِّينِ فِي إِرْسَالِ الْمَالِ وَالْأَسْرَى وَالصَّلِيبِ، حَتَّى يُطْلِقُوا مَنْ عِنْدَهُمْ، فَشَرَعَ فِي جَمْعِ الْمَالِ، وَكَانَ هُوَ لَا مَالَ لَهُ، إِنَّمَا يُخْرِجُ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ دَخْلِ الْبِلَادِ أَوَّلًا بِأَوَّلٍ. فَلَمَّا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ جَمَعَ الْأُمَرَاءَ وَاسْتَشَارَهُمْ، فَأَشَارُوا بِأَنْ لَا يُرْسِلَ شَيْئًا حَتَّى يَعُودَ فَيَسْتَحْلِفَهُمْ عَلَى إِطْلَاقِ أَصْحَابِهِ، وَأَنْ يَضْمَنَ الدَّاوِيَّةُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ تَدَيُّنٍ يَرَوْنَ الْوَفَاءَ، فَرَاسَلَهُمْ صَلَاحُ الدِّينِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الدَّاوِيَّةُ: لَا نَحْلِفُ وَلَا نَضْمَنُ لِأَنَّنَا نَخَافُ غَدْرَ مَنْ عِنْدَنَا. وَقَالَ مُلُوكُهُمْ: إِذَا سَلَّمْتُمْ إِلَيْنَا الْمَالَ وَالْأَسْرَى وَالصَّلِيبَ فَلَنَا الْخِيَارُ فِيمَنْ عِنْدَنَا فَحِينَئِذٍ عَلِمَ صَلَاحُ الدِّينِ عَزْمَهُمْ عَلَى الْغَدْرِ، فَلَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِمْ شَيْئًا، وَأَعَادَ الرِّسَالَةَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: نَحْنُ نُسَلِّمُ إِلَيْكُمْ هَذَا الْمَالَ وَالْأَسْرَى وَالصَّلِيبَ، وَنُعْطِيكُمْ رَهْنًا عَلَى الْبَاقِي وَتُطْلِقُونَ أَصْحَابَنَا، وَتَضْمَنُ الدَّاوِيَّةُ الرَّهْنَ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْوَفَاءِ لَهُمْ. فَقَالُوا: لَا نَحْلِفُ، إِنَّمَا تُرْسِلُ إِلَيْنَا الْمِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ الَّتِي حَصَّلْتَ، وَالْأَسْرَى، وَالصَّلِيبَ، وَنَحْنُ نُطْلِقُ مِنْ أَصْحَابِكُمْ مَنْ نُرِيدُ وَنَتْرُكُ مَنْ نُرِيدُ حَتَّى يَجِيءَ بَاقِي الْمَالِ، فَعَلِمَ النَّاسُ حِينَئِذٍ غَدْرَهُمْ، وَإِنَّمَا يُطْلِقُونَ غِلْمَانَ الْعَسْكَرِ وَالْفُقَرَاءَ وَالْأَكْرَادَ وَمَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، وَيُمْسِكُونَ عِنْدَهُمُ الْأُمَرَاءَ وَأَرْبَابَ الْأَمْوَالِ، وَيَطْلُبُونَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ فَلَمْ يُجِبْهُمُ السُّلْطَانُ إِلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعُ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، رَكِبَ الْفِرِنْجُ، وَخَرَجُوا إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ بِالْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ وَقَصَدُوهُمْ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ، فَانْكَشَفُوا عَنْ مَوْقِفِهِمْ، وَإِذَا أَكْثَرُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَتْلَى قَدْ وَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ وَقَتَلُوهُمْ، وَاسْتَبْقَوُا الْأُمَرَاءَ وَالْمُقَدَّمِينَ وَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَقَتَلُوا مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ

سَوَادِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ وَمَنْ لَا مَالَ لَهُ، فَلَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ ذَلِكَ تَصَرَّفَ فِي الْمَالِ الَّذِي كَانَ جَمَعَهُ، وَرَدَّ الْأَسْرَى وَالصَّلِيبَ إِلَى دِمَشْقَ. ذِكْرُ رَحِيلِ الْفِرِنْجِ إِلَى نَاحِيَةِ عَسْقَلَانَ وَتَخْرِيبِهَا لَمَّا فَرَغَ الْفِرِنْجُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - مِنْ إِصْلَاحِ أَمْرِ عَكَّا، بَرَزُوا مِنْهَا فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَسَارُوا مُسْتَهَلَّ شَعْبَانَ نَحْوَ حَيْفَا مَعَ شَاطِئِ الْبَحْرِ لَا يُفَارِقُونَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ صَلَاحُ الدِّينِ بِرَحِيلِهِمْ نَادَى فِي عَسْكَرِهِ بِالرَّحِيلِ فَسَارُوا. وَكَانَ عَلَى الْيَزَكِ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ وَلَدُ صَلَاحِ الدِّينِ، وَمَعَهُ سَيْفُ الدِّينِ إِيَازَكُوشُ وَعِزُّ الدِّينِ جُورْدِيكَ، وَعِدَّةٌ مِنْ شُجْعَانِ الْأُمَرَاءِ، فَضَايَقُوا الْفِرِنْجَ فِي مَسِيرِهِمْ، وَأَرْسَلُوا عَلَيْهِمْ مِنَ السِّهَامِ مَا كَادَ يَحْجُبُ الشَّمْسَ، وَوَقَعُوا عَلَى سَاقَةِ الْفِرِنْجِ، فَقَتَلُوا مِنْهَا جَمَاعَةً، وَأَسَرُوا جَمَاعَةً. وَأَرْسَلَ الْأَفْضَلُ إِلَى وَالِدِهِ يَسْتَمِدُّهُ وَيُعَرِّفُهُ الْحَالَ، فَأَمَرَ الْعَسَاكِرَ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهُمْ مَا رَكِبُوا بِأُهْبَةِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا كَانُوا عَلَى عَزْمِ الْمَسِيرِ لَا غَيْرَ، فَبَطَلَ الْمَدَدُ وَعَادَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتَارِ إِلَى سَاقَةِ الْفِرِنْجِ، فَحَمَاهَا، وَجَمَعَهُمْ، وَسَارُوا حَتَّى أَتَوْا حَيْفَا. فَنَزَلُوا بِهَا. وَنَزَلَ الْمُسْلِمُونَ بِقَيْمُونَ - قَرْيَةٌ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ - وَأَحْضَرَ الْفِرِنْجُ مِنْ عَكَّا عِوَضَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَأُسِرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَعِوَضَ مَا هَلَكَ مِنَ الْخَيْلِ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى قَيْسَارِيَّةَ، وَالْمُسْلِمُونَ يُسَايِرُونَهُمْ وَيَتَخَطَّفُونَ مِنْهُمْ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ فَيَقْتُلُونَهُ، لِأَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ كَانَ قَدْ أَقْسَمَ أَنَّهُ لَا يَظْفَرُ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَتَلَهُ بِمَنْ قَتَلُوا مِمَّنْ كَانَ بِعَكَّا. فَلَمَّا قَارَبُوا قَيْسَارِيَّةَ لَاصَقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ قِتَالٍ، فَنَالُوا مِنْهُمْ نَيْلًا

كَثِيرًا، وَنَزَلَ الْفِرِنْجُ بِهَا، وَبَاتَ الْمُسْلِمُونَ قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا نَزَلُوا خَرَجَ مِنَ الْفِرِنْجِ جَمَاعَةٌ فَأَبْعَدُوا عَنْ جَمَاعَتِهِمْ، فَأَوْقَعَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْيَزَكِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَأَسَرُوا، ثُمَّ سَارُوا مِنْ قَيْسَارِيَّةَ إِلَى أَرْسُوفَ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ سَبَقُوهُمْ إِلَيْهَا، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ مُسَايَرَتُهُمْ لِضِيقِ الطَّرِيقِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهِمْ حَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ حَمْلَةً مُنْكَرَةً وَأَلْحَقُوهُمْ بِالْبَحْرِ، وَدَخَلَهُ بَعْضُهُمْ فَقُتِلَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ. فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ ذَلِكَ اجْتَمَعُوا، وَحَمَلَتِ الْخَيَّالَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْخَيَّالَةِ وَالسُّوقَةِ قَدْ أَلِفُوا الْقِيَامَ وَقْتَ الْحَرْبِ قَرِيبًا مِنَ الْمَعْرَكَةِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ كَانُوا عَلَى حَالِهِمْ، فَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ قُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَالْتَجَأَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى الْقَلْبِ، وَفِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ. فَلَوْ عَلِمَ الْفِرِنْجُ أَنَّهَا هَزِيمَةٌ لَتَبِعُوهُمْ وَاسْتَمَرَّتِ الْهَزِيمَةُ وَهَلَكَ الْمُسْلِمُونَ، لَكِنْ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ شَعَرَةٌ كَثِيرَةُ الشَّجَرِ فَدَخَلُوهَا، وَظَنَّهَا الْفِرِنْجُ مَكِيدَةً، فَعَادُوا، وَزَالَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ ضِيقٍ، وَقُتِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ كَنْدٌ كَبِيرٌ مِنْ طَوَاغِيتِهِمْ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَمْلُوكٌ لِصَلَاحِ الدِّينِ اسْمُهُ أَيَازُ الطَّوِيلُ، وَهُوَ مِنَ الْمَوْصُوفِينَ بِالشَّجَاعَةِ وَالشَّهَامَةِ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ مِثْلُهُ. فَلَمَّا نَزَلَ الْفِرِنْجُ نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ وَأَعِنَّةُ خَيْلِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ سَارَ الْفِرِنْجُ إِلَى يَافَا فَنَزَلُوهَا، وَلَمْ يَكُنْ بِهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَمَلَكُوهَا. وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَرْسُوفَ مِنَ الْهَزِيمَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْهُمْ إِلَى الرَّمْلَةِ، وَاجْتَمَعَ بِأَثْقَالِهِ بِهَا، وَجَمَعَ الْأُمَرَاءَ وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُ فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِتَخْرِيبِ عَسْقَلَانَ. وَقَالُوا لَهُ: قَدْ رَأَيْتَ مَا كَانَ مِنَّا بِالْأَمْسِ، وَإِذَا جَاءَ الْفِرِنْجُ إِلَى عَسْقَلَانَ وَوَقَفْنَا فِي وُجُوهِهِمْ نَصُدُّهُمْ عَنْهَا، فَهُمْ لَا شَكَّ يُقَاتِلُونَنَا لِنَنْزَاحَ عَنْهَا فَيَنْزِلُوا عَلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عُدْنَا إِلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ عَلَى عَكَّا وَيَعْظُمُ الْأَمْرُ عَلَيْنَا، لِأَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ قَوِيَ بِأَخْذِ عَكَّا وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَغَيْرِهَا، وَضَعُفْنَا نَحْنُ بِمَا

خَرَجَ عَنْ أَيْدِينَا، وَلَمْ تَطُلِ الْمُدَّةُ حَتَّى نَسْتَجِدَّ غَيْرَهَا. فَلَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِتَخْرِيبِهَا، وَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى دُخُولِهَا وَحِفْظِهَا فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ إِلَى ذَلِكَ وَقَالُوا: إِنْ أَرَدْتَ حِفْظَهَا فَادْخُلْ أَنْتَ مَعَنَا أَوْ بَعْضُ أَوْلَادِكَ الْكِبَارِ، وَإِلَّا فَمَا يَدْخُلُهَا مِنَّا أَحَدٌ لِئَلَّا يُصِيبَنَا مَا أَصَابَ أَهْلَ عَكَّا، فَلَمَّا رَأَى الْأَمْرَ كَذَلِكَ سَارَ إِلَى عَسْقَلَانَ، وَأَمَرَ بِتَخْرِيبِهَا، فَخُرِّبَتْ تَاسِعَ عَشَرَ شَعْبَانَ، وَأُلْقِيَتْ حِجَارَتُهَا فِي الْبَحْرِ، وَهَلَكَ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّخَائِرِ الَّتِي لِلسُّلْطَانِ وَالرَّعِيَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ، وَعُفِيَ أَثَرُهَا حَتَّى لَا يَبْقَى لِلْفِرِنْجِ فِي قَصْدِهَا مَطْمَعٌ. وَلَمَّا سَمِعَ الْفِرِنْجُ بِتَخْرِيبِهَا أَقَامُوا مَكَانَهُمْ وَلَمْ يَسِيرُوا إِلَيْهَا، وَكَانَ الْمَرْكِيسُ، لَعَنَهُ اللَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْفِرِنْجُ عَكَّا قَدْ أَحَسَّ مِنْ مَلِكِ إِنْكِلْتَارَ الْغَدْرَ بِهِ، فَهَرَبَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى مَدِينَةِ صُورَ، وَهِيَ لَهُ وَبِيَدِهِ، وَكَانَ رَجُلُ الْفِرِنْجِ رَأْيًا وَشَجَاعَةً، وَكُلُّ هَذِهِ الْحُرُوبِ هُوَ أَثَارَهَا. فَلَمَّا خُرِّبَتْ عَسْقَلَانُ أَرْسَلَ إِلَى مَلِكِ إِنْكِلْتَارَ يَقُولُ لَهُ: مِثْلُكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَلِكًا وَيَتَقَدَّمَ عَلَى الْجُيُوشِ، تَسْمَعُ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ قَدْ خَرَّبَ عَسْقَلَانَ، وَتُقِيمُ مَكَانَكَ يَا جَاهِلُ؟ لَمَّا بَلَغَكَ أَنَّهُ قَدْ شَرَعَ فِي تَخْرِيبِهَا كُنْتَ سِرْتَ إِلَيْهِ مُجِدًّا فَرَحَّلْتَهُ وَمَلَكْتَهَا صَفْوًا بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا حِصَارٍ، فَإِنَّهُ مَا خَرَّبَهَا إِلَّا وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ حِفْظِهَا، وَحَقِّ الْمَسِيحِ لَوْ أَنَّنِي مَعَكَ كَانَتْ عَسْقَلَانُ الْيَوْمَ بِأَيْدِينَا لَمْ يُخَرَّبْ مِنْهَا غَيْرُ بُرْجٍ وَاحِدٍ. فَلَمَّا خُرِّبَتْ عَسْقَلَانُ رَحَلَ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْهَا ثَانِيَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَمَضَى إِلَى الرَّمْلَةِ فَخَرَّبَ حِصْنَهَا وَخَرَّبَ كَنِيسَةَ لُدٍّ، وَفِي مُدَّةِ مُقَامِهِ لِتَخْرِيبِ عَسْقَلَانَ كَانَتِ الْعَسَاكِرُ مَعَ الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ تُجَاهَ الْفِرِنْجِ، ثُمَّ سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الْقُدْسِ بَعْدَ تَخْرِيبِ الرَّمْلَةِ، فَاعْتَبَرَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ سِلَاحٍ وَذَخَائِرَ، وَقَرَّرَ قَوَاعِدَهُ وَأَسْبَابَهُ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَعَادَ إِلَى الْمُخَيَّمِ ثَامِنَ رَمَضَانَ. وَفِي هَذِهِ الْأَيَّامِ خَرَجَ مَلِكُ إِنْكِلْتَارَ مِنْ يَافَا. وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الْفِرِنْجِ مِنْ مُعَسْكَرِهِمْ، فَوَقَعَ بِهِ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَادَ مَلِكُ إِنْكِلْتَارَ يُؤْسَرُ، فَفَدَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِنَفْسِهِ، فَتَخَلَّصَ الْمَلِكُ وَأُسِرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ. وَفِيهَا أَيْضًا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْفِرِنْجِ انْتَصَرَ [فِيهَا] الْمُسْلِمُونَ.

ذِكْرُ رَحِيلِ الْفِرِنْجِ إِلَى نَطْرُونَ لِمَا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدْ لَزِمُوا يَافَا وَلَمْ يُفَارِقُوهَا، وَشَرَعُوا فِي عِمَارَتِهَا، رَحَلَ مِنْ مَنْزِلَتِهِ إِلَى النَّطْرُونِ ثَالِثَ عَشَرَ رَمَضَانَ، وَخَيَّمَ بِهِ، فَرَاسَلَهُ مَلِكُ إِنْكِلْتَارَ يَطْلُبُ الْمُهَادَنَةَ، فَكَانَتِ الرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ إِلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ. فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ مَلِكَ إِنْكِلْتَارَ يُزَوِّجُ أُخْتَهُ مِنَ الْعَادِلِ، وَيَكُونُ الْقُدْسُ وَمَا بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، مِنْ بِلَادِ السَّاحِلِ لِلْعَادِلِ، وَتَكُونُ عَكَّا وَمَا بِيَدِ الْفِرِنْجِ مِنِ الْبِلَادِ لِأُخْتِ مَلِكِ إِنْكِلْتَارَ، مُضَافًا إِلَى مَمْلَكَةٍ كَانَتْ لَهَا دَاخِلَ الْبَحْرِ قَدْ وَرِثَتْهَا مِنْ زَوْجِهَا. وَأَنْ يَرْضَى الدَّاوِيَّةُ بِمَا يَقَعُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ، فَعَرَضَ الْعَادِلُ ذَلِكَ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ، فَأَجَابَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا ظَهَرَ الْخَبَرُ اجْتَمَعَ الْقِسِّيسُونَ، وَالْأَسَاقِفَةُ، وَالرُّهْبَانُ إِلَى أُخْتِ مَلِكِ إِنْكِلْتَارَ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهَا فَامْتَنَعَتْ مِنَ الْإِجَابَةِ، وَقِيلَ كَانَ الْمَانِعُ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ الْعَادِلُ وَمَلِكُ إِنْكِلْتَارَ يَجْتَمِعَانِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَتَجَارَيَانِ حَدِيثَ الصُّلْحِ، وَطَلَبَ مِنَ الْعَادِلِ أَنْ يُسْمِعَهُ غِنَاءَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَحْضَرَ لَهُ مُغَنِّيَةً تَضْرِبُ بِالْجُنْكِ، فَغَنَّتْ لَهُ، فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتِمَّ بَيْنَهُمَا صُلْحٌ، وَكَانَ مَلِكُ إِنْكِلْتَارَ يَفْعَلُ ذَلِكَ خَدِيعَةً وَمَكْرًا. ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ أَظْهَرُوا الْعَزْمَ عَلَى قَصْدِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الرَّمْلَةِ، جَرَيْدَةً، وَتَرَكَ الْأَثْقَالَ بِالنَّطْرُونِ، وَقَرُبَ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَبَقِيَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَنْتَظِرُهُمْ، فَلَمْ يَبْرَحُوا، فَكَانَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، مُدَّةَ الْمُقَامِ، عِدَّةُ وَقَعَاتٍ فِي كُلِّهَا يَنْتَصِرُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْفِرِنْجِ. وَعَادَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى النَّطْرُونِ، وَرَحَلَ الْفِرِنْجُ مِنْ يَافَا إِلَى الرَّمْلَةِ ثَالِثَ ذِي الْقِعْدَةِ، عَلَى عَزْمِ قَصْدِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَقَرُبَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَعَظُمَ الْخَطْبُ وَاشْتَدَّ الْحَذَرُ، فَكَانَ كُلَّ سَاعَةٍ يَقَعُ الصَّوْتُ فِي الْعَسْكَرَيْنِ بِالنَّفِيرِ فَلَقُوا مِنْ ذَلِكَ شِدَّةً شَدِيدَةً، وَأَقْبَلَ الشِّتَاءُ، وَحَالَتِ الْأَوْحَالُ وَالْأَمْطَارُ بَيْنَهُمَا. ذِكْرُ مَسِيرِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى الْقُدْسِ لَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ أَنَّ الشِّتَاءَ قَدْ هَجَمَ، وَالْأَمْطَارَ مُتَوَالِيَةٌ مُتَتَابِعَةٌ، وَالنَّاسَ مِنْهَا فِي ضَنْكٍ وَحَرَجٍ، وَمِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَلُبْسِ السِّلَاحِ وَالسَّهَرِ فِي تَعَبٍ دَائِمٍ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ

الْعَسَاكِرِ قَدْ طَالَ بِيكَارُهَا، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْعَوْدِ إِلَى بِلَادِهِمْ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَالْإِرَاحَةِ. وَسَارَ هُوَ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ فِيمَنْ بَقِيَ مَعَهُ، فَنَزَلُوا جَمِيعًا دَاخِلَ الْبَلَدِ فَاسْتَرَاحُوا مِمَّا كَانُوا فِيهِ، وَنَزَلَ هُوَ بِدَارِ الْأَقْسَا مُجَاوِرِ بِيعَةِ قُمَامَةَ، وَقَدِمَ إِلَيْهِ عَسْكَرٌ مِنْ مِصْرَ مُقَدَّمُهُمُ الْأَمِيرُ أَبُو الْهَيْجَاءِ السَّمِينُ، فَقَوِيَتْ نُفُوسُ الْمُسْلِمِينَ بِالْقُدْسِ. وَسَارَ الْفِرِنْجُ مِنَ الرَّمْلَةِ إِلَى النَّطْرُونِ ثَالِثَ ذِي الْحِجَّةِ، عَلَى عَزْمِ قَصْدِ الْقُدْسِ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يَزَكِ الْمُسْلِمِينَ وَقَعَاتٍ، أَسَرَ الْمُسْلِمُونَ فِي وَقْعَةٍ مِنْهَا نَيِّفًا وَخَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ مَشْهُورِي الْفِرِنْجِ وَشُجْعَانِهِمْ، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ لَمَّا دَخَلَ الْقُدْسَ أَمَرَ بِعِمَارَةِ سُورِهِ، وَتَجْدِيدِ مَا رَثَّ مِنْهُ، فَأَحْكَمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي مُلِكَ الْبَلَدُ مِنْهُ، وَأَتْقَنَهُ، وَأَمَرَ بِحَفْرِ خَنْدَقٍ خَارِجَ الْفَصِيلِ، وَسَلَّمَ كُلَّ بُرْجٍ إِلَى أَمِيرٍ يَتَوَلَّى عَمَلَهُ، فَعَمِلَ وَلَدُهُ الْأَفْضَلُ مِنْ نَاحِيَةِ بَابِ عَمُودٍ إِلَى بَابِ الرَّحْمَةِ، وَأَرْسَلَ أَتَابِكْ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودٌ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، جَمَاعَةً مِنَ الْحَصَّاصِينَ، مِمَّنْ لَهُ فِي قَطْعِ الصَّخْرِ الْيَدُ الطُّولَى، فَعَمِلُوا لَهُ هُنَاكَ بُرْجًا وَبَدَنَةً، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأُمَرَاءِ. ثُمَّ إِنَّ الْحِجَارَةَ قَلَّتْ عِنْدَ الْعَتَّالِينَ، فَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ، يَرْكَبُ وَيَنْقُلُ الْحِجَارَةَ بِنَفْسِهِ عَلَى دَابَّتِهِ مِنَ الْأَمْكِنَةِ الْبَعِيدَةِ، فَيَقْتَدِي بِهِ الْعَسْكَرُ فَكَانَ يُجْمَعُ عِنْدَهُ مِنَ الْعَمَّالِينَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ مَا يَعْمَلُونَهُ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ. ذِكْرُ عُودِ الْفِرِنْجِ إِلَى الرَّمْلَةِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَادَ الْفِرِنْجُ إِلَى الرَّمْلَةِ، وَكَانَ سَبَبُ عَوْدِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْقُلُونَ مَا يُرِيدُونَهُ مِنَ السَّاحِلِ، فَلَمَّا أَبْعَدُوا عَنْهُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَخْرُجُونَ عَلَى مَنْ يَجْلِبُ لَهُمُ الْمِيرَةَ فَيَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ وَيَغْنَمُونَ مَا مَعَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ إِنْكِلْتَارَ قَالَ لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْفِرِنْجِ الشَّامِيِّينَ: صَوِّرُوا لِي مَدِينَةَ الْقُدْسِ، فَإِنِّي مَا رَأَيْتُهَا، فَصَوَّرُوهَا لَهُ، فَرَأَى الْوَادِيَ يُحِيطُ بِهَا عَدَا مَوْضِعٍ يَسِيرٍ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ فَسَأَلَ عَنِ الْوَادِي وَعَنْ عُمْقِهِ، فَأُخْبِرَ أَنَّهُ عَمِيقٌ. وَعِرُ الْمَسْلَكِ. فَقَالَ: هَذِهِ مَدِينَةٌ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا مَا دَامَ صَلَاحُ الدِّينِ حَيًّا وَكَلِمَةُ الْمُسْلِمِينَ

مُجْتَمِعَةٌ، لِأَنَّنَا إِنْ نَزَلْنَا فِي الْجَانِبِ الَّذِي يَلِي الْمَدِينَةَ بَقِيَتْ سَائِرُ الْجَوَانِبِ غَيْرَ مَحْصُورَةٍ، فَيَدْخُلُ إِلَيْهِمْ مِنْهَا الرِّجَالُ وَالذَّخَائِرُ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. وَإِنْ نَحْنُ افْتَرَقْنَا فَنَزَلَ بَعْضُنَا مِنْ جَانِبِ الْوَادِي وَبَعْضُنَا مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ. جَمَعَ صَلَاحُ الدِّينِ عَسْكَرَهُ وَوَاقَعَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَلَمْ يُمْكِنِ الطَّائِفَةَ الْأُخْرَى إِنْجَادُ أَصْحَابِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنْ فَارَقُوا مَكَانَهُمْ خَرَجَ مَنْ بِالْبَلَدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَغَنِمُوا مَا فِيهِ، وَإِنْ تَرَكُوا فِيهِ مَنْ يَحْفَظُهُ وَسَارُوا نَحْوَ أَصْحَابِهِمْ، فَإِلَى أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنَ الْوَادِي وَيَلْحَقُوا بِهِمْ يَكُونُ صَلَاحُ الدِّينِ قَدْ فَرَغَ مِنْهُمْ هَذَا سِوَى مَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْنَا مِنْ إِيصَالِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَلُوفَاتِ وَالْأَقْوَاتِ. فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلِمُوا صِدْقَهُ، وَرَأَوْا قِلَّةَ الْمِيرَةِ عِنْدَهُمْ، وَمَا يَجْرِي لِلْجَالِبِينَ لَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْعَوْدِ إِلَى الرَّمْلَةِ، فَعَادُوا خَائِبِينَ خَاسِرِينَ. ذِكْرُ قَتْلِ قُزْلَ أَرَسَلَانَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ قُزَل أَرُسَلَانَ، وَاسْمُهُ عُثْمَانُ بْنُ إِيلْدِكْزَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْبِلَادَ، بَعْدَ وَفَاةِ أَخِيهِ الْبَهْلَوَانِ، مَلِكِ أَرَانَ، وَأَذْرَبِيجَانَ، وَهَمَذَانَ، وَأَصْفَهَانَ، وَالرَّيِّ، وَمَا بَيْنَهَا، وَأَطَاعَهُ صَاحِبُ فَارِسَ وَخُوزِسْتَانَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى السُّلْطَانِ طُغْرُلْ بْنِ أَرْسَلَانَ بْنِ طُغْرُلْ، فَاعْتَقَلَهُ فِي بَعْضِ الْقِلَاعِ، وَدَانَتْ لَهُ الْبِلَادُ. وَفِي آخِرِ أَمْرِهِ سَارَ إِلَى أَصْفَهَانَ، وَالْفِتَنُ بِهَا مُتَّصِلَةٌ مِنْ لَدُنْ تُوُفِّيَ الْبَهْلَوَانُ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَتَعَصَّبَ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ، وَأَخَذَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِهِمْ فَصَلَبَهُمْ، وَعَادَ إِلَى هَمَذَانَ، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ بِالسَّلْطَنَةِ، وَضَرَبَ النُّوَبَ الْخَمْسَ، ثُمَّ إِنَّهُ دَخَلَ لَيْلَةَ قُتِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ لِيَنَامَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ عَلَى فِرَاشِهِ، وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَأَخَذَ أَصْحَابُهُ صَاحِبَ بَابِهِ ظَنًّا وَتَخْمِينًا، وَكَانَ كَرِيمًا حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، يُحِبُّ الْعَدْلَ وَيُؤْثِرُهُ، وَيَرْجِعُ إِلَى حِلْمٍ وَقِلَّةِ عُقُوبَةٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ مُعِزُّ الدِّينِ قَيْصَرْ شَاهْ بْنُ قَلْج أَرَسَلَانَ، صَاحِبُ بِلَادِ الرُّومِ، عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ فِي رَمَضَانَ، وَكَانَ سَبَبُ قُدُومِهِ أَنَّ وَالِدَهُ عِزَّ الدِّينِ قَلْج أَرَسَلَانَ فَرَّقَ مَمْلَكَتَهُ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَأَعْطَى وَلَدَهُ هَذَا مَلَطْيَةَ، وَأَعْطَى وَلَدَهُ قُطْبَ الدِّينِ مُلْكَ شَاهْ

سِيوَاسَ. فَاسْتَوْلَى قُطْبُ الدِّينِ عَلَى أَبِيهِ، وَحَجَرَ عَلَيْهِ، وَأَزَالَ حُكْمَهُ، وَأَلْزَمَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَلَطْيَةَ مِنْ أَخِيهِ هَذَا وَيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، فَخَافَ مُعِزُّ الدِّينِ، فَسَارَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ مُلْتَجِئًا إِلَيْهِ، مُعْتَضِدًا بِهِ، فَأَكْرَمَهُ صَلَاحُ الدِّينِ، وَزَوَّجَهُ بِابْنَةِ أَخِيهِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، فَامْتَنَعَ قُطْبُ الدِّينِ مِنْ قَصْدِهِ، وَعَادَ مُعِزُّ الدِّينِ إِلَى مَلَطْيَةَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ. وَحَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ قَالَ: رَأَيْتُ صَلَاحَ الدِّينِ وَقَدْ رَكِبَ لِيُوَدِّعَ مُعِزَّ الدِّينِ هَذَا، فَتَرَجَّلَ لَهُ مُعِزُّ الدِّينِ، وَتَرَجَّلَ صَلَاحُ الدِّينِ، وَوَدَّعَهُ رَاجِلًا، فَلَمَّا أَرَادَ الرُّكُوبَ عَضَّدَهُ مُعِزُّ الدِّينِ هَذَا، وَأَرْكَبَهُ، وَسَوَّى ثِيَابَهُ عَلَاءُ الدِّينِ خُرَّمْشَاهْ بْنُ عِزِّ الدِّينِ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، قَالَ: فَعَجِبْتُ مِنْ ذَلِكَ، وَقُلْتُ مَا تُبَالِي يَا ابْنَ أَيُّوبَ أَيُّ مَوْتَةٍ تَمُوتُ؟ يُرْكِبُكَ مَلِكٌ سَلْجُوقِيٌّ، وَابْنُ أَتَابِكْ زِنْكِيٌّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ حُسَامُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لَاجِينَ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَعَلَمُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ جُنْدُرْ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ صَلَاحِ الدِّينِ أَيْضًا. وَفِي رَجَبٍ تُوُفِّيَ الصَّفِيُّ بْنُ الْقَابِضِ، وَكَانَ مُتَوَلِّيَ دِمَشْقَ لِصَلَاحِ الدِّينِ، يَحْكُمُ فِي جَمِيعِ بِلَادِهِ.

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 588 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ عِمَارَةِ الْفِرِنْجِ عَسْقَلَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ رَحَلَ الْفِرِنْجُ نَحْوَ عَسْقَلَانَ وَشَرَعُوا فِي عِمَارَتِهَا. وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ بِالْقُدْسِ، فَسَارَ مَلِكُ إِنْكِلْتَارَ، جَرِيدَةً، مِنْ عَسْقَلَانَ إِلَى يَزَكِ الْمُسْلِمِينَ، فَوَاقَعَهُمْ، وَجَرَى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ قِتَالٌ شَدِيدٌ انْتَصَفَ [فِيهِ] بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَفِي مُدَّةِ مُقَامِ صَلَاحِ الدِّينِ بِالْقُدْسِ مَا بَرِحَتْ سَرَايَاهُ تَقْصِدُ الْفِرِنْجَ، فَتَارَةً تُوَاقِعُ طَائِفَةً مِنْهُمْ، وَتَارَةً تَقْطَعُ الْمِيرَةَ عَنْهُمْ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا سَرِيَّةٌ كَانَ مُقَدَّمَهَا فَارِسُ الدِّينِ مَيْمُونٌ الْقَصْرِيُّ، وَهُوَ مِنْ مُقَدَّمِي الْمَمَالِيكِ الصَّلَاحِيَّةِ، خَرَجَ عَلَى قَافِلَةٍ كَبِيرَةٍ لِلْفِرِنْجِ فَأَخَذَهَا وَغَنِمَ مَا فِيهَا. ذِكْرُ قَتْلِ الْمَرْكِيسِ وَمُلْكِ الْكَنْدِ هَرِي فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ثَالِثِ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، قُتِلَ الْمَرْكِيسُ الْفِرِنْجِيُّ - لَعَنَهُ اللَّهُ - صَاحِبُ صُورَ، وَهُوَ أَكْبَرُ شَيَاطِينِ الْفِرِنْجِ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ رَاسَلَ مُقَدَّمَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ [بِالشَّامِ] وَهُوَ سِنَانٌ، وَبَذَلَ لَهُ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ يَقْتُلُ مَلِكَ إِنْكِلْتَارَ، وَإِنْ قَتَلَ الْمَرْكِيسَ فَلَهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ قَتْلُ مَلِكِ إِنْكِلْتَارَ. وَلَمْ يَرَهُ سِنَانٌ مُصْلِحًا لَهُمْ، لِئَلَّا يَخْلُوَ وَجْهُ صَلَاحِ الدِّينِ مَنَ الْفِرِنْجِ وَيَتَفَرَّغَ لَهُمْ، وَشَرِهَ فِي أَخْذِ الْمَالِ فَعَدَلَ إِلَى قَتْلِ الْمَرْكِيسِ، فَأَرْسَلَ، رَجُلَيْنِ فِي زِيِّ الرُّهْبَانِ: وَاتَّصَلَا بِصَاحِبِ صَيْدَا، وَابْنِ بَارْزَانَ، صَاحِبِ الرَّمْلَةِ، وَكَانَا مَعَ

الْمَرْكِيسِ بِصُورَ. فَأَقَامَا مَعَهُمَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ يُظْهِرَانِ الْعِبَادَةَ، فَأَنِسَ بِهِمَا الْمَرْكِيسُ، وَوَثَقَ بِهِمَا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ التَّارِيخِ عَمِلَ الْأُسْقُفُ بِصُورَ دَعْوَةً لِلْمَرْكِيسِ فَحَضَرَهَا، وَأَكَلَ طَعَامَهُ وَشَرِبَ مُدَامَهُ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ الْبَاطِنِيَّانِ الْمَذْكُورَانِ، فَجَرَحَاهُ جِرَاحًا وَثِيقَةً، وَهَرَبَ أَحَدُهُمَا وَدَخَلَ كَنِيسَةً يَخْتَفِي فِيهَا، فَاتُّفِقَ أَنَّ الْمَرْكِيسَ حُمِلَ إِلَيْهَا لِيَشُدَّ جِرَاحَهُ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْبَاطِنِيُّ فَقَتَلَهُ، وَقُتِلَ الْبَاطِنِيَّانِ بَعْدَهُ. وَنَسَبَ الْفِرِنْجُ قَتْلَهُ إِلَى وَضْعٍ مِنْ مَلِكِ إِنْكِلْتَارَ لِيَنْفَرِدَ بِمُلْكِ السَّاحِلِ الشَّامِيِّ، فَلَمَّا قُتِلَ وَلِيَ بَعْدَهُ مَدِينَةَ صُورَ كَنْدٌ مِنَ الْفِرِنْجِ، مِنْ دَاخِلِ الْبَحْرِ يُقَالُ لَهُ الْكَنْدُ هَرِي، وَتَزَوَّجَ بِالْمَلِكَةِ فِي لَيْلَتِهِ، وَدَخَلَ بِهَا وَهِيَ حَامِلٌ، وَلَيْسَ الْحَمْلُ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَمْنَعُ النِّكَاحَ. وَهَذَا الْكَنْدُ هَرِي هُوَ ابْنُ أُخْتِ مَلِكِ إِفْرَنْسِيسَ مِنْ أَبِيهِ، وَابْنُ أُخْتِ مَلِكِ إِنْكِلْتَارَ مِنْ أُمِّهِ، وَمَلَكَ كَنْدُ هَرِي هَذَا بِلَادَ الْفِرِنْجِ بِالسَّاحِلِ بَعْدَ عَوْدِ مَلِكِ إِنْكِلْتَارَ، وَعَاشَ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَسَقَطَ مِنْ سَطْحٍ فَمَاتَ، وَكَانَ عَاقِلًا، كَثِيرَ الْمُدَارَاةِ وَالِاحْتِمَالِ. وَلَمَّا رَحَلَ مَلِكُ إِنْكِلْتَارَ إِلَى بِلَادِهِ أَرْسَلَ كَنْدُ هَرِي هَذَا إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يَسْتَعْطِفُهُ، وَيَسْتَمِيلُهُ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ خِلْعَةً، وَقَالَ: أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لُبْسَ الْقِبَاءِ وَالشُّرْبُوشِ عِنْدَنَا عَيْبٌ، وَأَنَا أَلْبَسُهُمَا مِنْكَ مَحَبَّةٌ لَكَ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ خِلْعَةً سُنِّيَّةً مِنْهَا الْقِبَاءُ وَالشُّرْبُوشُ، فَلَبِسَهُمَا بِعَكَّا.

ذِكْرُ نَهْبِ بَنِي عَامِرٍ الْبَصْرَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، اجْتَمَعَ بَنُو عَامِرٍ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ وَأَمِيرُهُمُ اسْمُهُ عُمَيْرَةُ، وَقَصَدُوا الْبَصْرَةَ، وَكَانَ الْأَمِيرُ بِهَا اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، يَنُوبُ عَنْ مُقْطِعِهَا الْأَمِيرِ طُغْرُلْ، مَمْلُوكِ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، فَوَصَلُوا إِلَيْهَا يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسَ صَفَرٍ فَخَرَجَ، إِلَيْهِمُ الْأَمِيرُ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنْدِ، فَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ بِدَرْبِ الْمَيْدَانِ، بِجَانِبِ الْخُرَيْبَةِ، وَدَامَ الْقِتَالُ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ. فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْلُ ثَلَّمَ الْعَرَبُ فِي السُّورِ عِدَّةَ ثُلَمٍ، وَدَخَلُوا الْبَلَدَ مِنَ الْغَدِ، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى كَثِيرَةٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَنَهَبَتِ الْعَرَبُ الْخَانَاتِ بِالشَّاطِئِ، وَبَعْضَ مَحَالِّ الْبَصْرَةِ، وَعَبَرَ أَهْلُهَا إِلَى شَاطِئِ الْمَلَّاحِينَ، وَفَارَقَ الْعَرَبُ الْبَلَدَ فِي يَوْمِهِمْ وَعَادَ أَهَلُهُ إِلَيْهِ. وَكَانَ سَبَبُ سُرْعَةِ الْعَرَبِ فِي مُفَارَقَةِ الْبَلَدِ أَنَّهُمْ بَلَغَهُمْ أَنَّ خَفَاجَةَ وَالْمُنْتَفِقَ قَدْ قَارَبُوهُمْ، فَسَارُوا إِلَيْهِمْ وَقَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ قِتَالٍ، فَظَفَرَتْ عَامِرٌ وَغَنِمَتْ أَمْوَالَ خَفَاجَةَ وَالْمُنْتَفِقِ، وَعَادُوا إِلَى الْبَصْرَةِ بُكْرَةَ الِاثْنَيْنِ. وَكَانَ الْأَمِيرُ قَدْ جَمَعَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالسَّوَادِ جَمْعًا كَثِيرًا فَلَمَّا عَادَتْ عَامِرٌ قَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَمَنِ اجْتَمَعَ مَعَهُمْ، فَلَمْ يَقُومُوا لِلْعَرَبِ وَانْهَزَمُوا، وَدَخَلَ الْعَرَبُ الْبَصْرَةَ وَنَهَبُوهَا، وَفَارَقَ الْبَصْرَةَ أَهْلُهَا، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُمْ وَجَرَتْ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ، وَنُهِبَتِ الْقَسَامِلُ وَغَيْرُهَا يَوْمَيْنِ. وَفَارَقَهَا الْعَرَبُ وَعَادَ أَهْلُهَا إِلَيْهَا، وَقَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِعَيْنِهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ مَا كَانَ مِنْ مَلِكِ إِنْكِلْتَارَ قِي تَاسِعِ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى الْفِرِنْجُ عَلَى حِصْنِ الدَّارُومِ، فَخَرَّبُوهُ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ وَصَلَاحُ الدِّينِ فِيهِ، فَبَلَغُوا بَيْتَ نَوْبَةَ. وَكَانَ سَبَبُ طَمَعِهِمْ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ فَرَّقَ عَسَاكِرَهُ الشَّرْقِيَّةَ وَغَيْرَهَا لِأَجْلِ الشِّتَاءِ،

وَلِيَسْتَرِيحُوا، وَلِيَحْضُرَ الْبَدَلُ عِوَضُهُمْ - وَسَارَ بَعْضُهُمْ مَعَ وَلَدِهِ الْأَفْضَلِ، وَأَخِيهِ الْعَادِلِ إِلَى الْبِلَادِ الْجَزَرِيَّةِ لِمَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَقِيَ مِنْ حَلْقَتِهِ الْخَاصِّ بَعْضُ الْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ، فَظَنُّوا أَنَّهُمُ يَنَالُونَ غَرَضًا، فَلَمَّا سَمِعَ صَلَاحُ الدِّينِ بِقُرْبِهِمْ مِنْهُ فَرَّقَ أَبْرَاجَ الْبَلَدِ عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَسَارَ الْفِرِنْجُ مِنْ بَيْتِ نَوْبَةَ إِلَى قَلُونِيَةَ، سَلْخَ الشَّهْرِ، وَهِيَ [عَلَى] فَرْسَخَيْنِ مِنَ الْقُدْسِ، فَصَبَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءَ، وَتَابَعُوا إِرْسَالَ السَّرَايَا فَبُلِيَ الْفِرِنْجُ مِنْهُمْ بِمَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ إِذَا نَازَلُوا الْقُدْسَ كَانَ الشَّرُّ إِلَيْهِمْ أَسْرَعَ، وَالتَّسَلُّطُ عَلَيْهِمْ أَمْكَنَ، فَرَجَعُوا الْقَهْقَرَى وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ أَكْتَافَهُمْ بِالرِّمَاحِ وَالسِّهَامِ. وَلَمَّا أَبْعَدَ الْفِرِنْجُ عَنْ يَافَا سَيَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ سَرِيَّةً مِنْ عَسْكَرِهِ إِلَيْهَا، فَقَارَبُوهَا، وَكَمَنُوا عِنْدَهَا، فَاجْتَازَ بِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ فُرْسَانِ الْفِرِنْجِ مَعَ قَافِلَةٍ، فَخَرَجُوا عَلَيْهِمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ، وَأَسَرُوا وَغَنِمُوا، وَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ جُمَادَى الْأُولَى. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْفِرِنْجِ عَلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَفَل فِي تَاسِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ بَلَغَ الْفِرِنْجَ الْخَبَرُ بِوُصُولِ عَسْكَرٍ مِنْ مِصْرَ، وَمَعَهُمْ قَفَلٌ كَبِيرٌ، وَمُقَدَّمُ الْعَسْكَرِ فَلَكُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ، أَخُو الْعَادِلِ لِأُمِّهِ، وَمَعَهُ عِدَّةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَأَسْرَى الْفِرِنْجُ إِلَيْهِمْ فَوَاقَعَهُمْ بِنَوَاحِي الْخَلِيلِ، فَانْهَزَمَ الْجُنْدُ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْمَشْهُورِينَ، إِنَّمَا قُتِلَ مِنَ الْغِلْمَانِ وَالْأَصْحَابِ. وَغَنِمَ الْفِرِنْجُ خِيَامَهُمْ وَآلَاتِهِمْ، وَأَمَّا الْقَفَلُ فَإِنَّهُ أُخِذَ بَعْضُهُ، وَصَعِدَ مَنْ نَجَا جَبَلَ الْخَلِيلِ، فَلَمْ يُقْدِمِ الْفِرِنْجُ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ، وَلَوِ اتَّبَعُوهُمْ نِصْفَ فَرْسَخٍ لَأَتَوْا عَلَيْهِمْ، وَتَمَزَّقَ مَنْ نَجَا مِنَ الْقَفَلِ، وَتَقَطَّعُوا، وَلَقُوا شِدَّةً إِلَى أَنِ اجْتَمَعُوا. حَكَى لِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَكُنَّا قَدْ سَيَّرْنَا مَعَهُ شَيْئًا لِلتِّجَارَةِ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ فِي هَذَا الْقَفَلِ، قَالَ: لَمَّا وَقَعَ الْفِرِنْجُ عَلَيْنَا كُنَّا قَدْ رَفَعْنَا أَحْمَالَنَا لِلسَّيْرِ، فَحَمَلُوا عَلَيْنَا وَأَوْقَعُوا بِنَا، فَضَرَبْتُ أَحْمَالِي وَصَعِدْتُ الْجَبَلَ وَمَعِي عِدَّةُ أَحْمَالٍ لِغَيْرِي. فَلَحِقَنَا قَوْمٌ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَأَخَذُوا الْأَحْمَالَ الَّتِي فِي صُحْبَتِي، وَكُنْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ بِمِقْدَارِ رَمْيَةِ سَهْمٍ، فَلَمْ يَصِلُوا إِلَيَّ، فَنَجَوْتُ بِمَا مَعِي، وَسِرْتُ لَا أَدْرِي أَيْنَ أَقْصِدُ، وَإِذْ قَدْ لَاحَ لِي

بِنَاءٌ كَبِيرٌ عَلَى جَبَلٍ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَقِيلَ لِي: هَذَا الْكَرَكُ فَوَصَلْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ عُدْتُ مِنْهُ إِلَى الْقُدْسِ سَالِمًا. وَسَارَ هَذَا الرَّجُلُ مِنَ الْقُدْسِ سَالِمًا، فَلَمَّا بَلَغَ بُزَاعَةَ، عِنْدَ حَلَبَ، أَخَذَهُ الْحَرَامِيَّةُ فَنَجَا مِنَ الْعَطَبِ، وَهَلَكَ عِنْدَ ظَنِّهِ السَّلَامَةَ. ذِكْرُ سَيْرِ الْأَفْضَلِ وَالْعَادِلِ إِلَى بِلَادِ الْجَزِيرَةِ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَوْتِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ ابْنِ [أَخِي] صَلَاحِ الدِّينِ، وَاسْتِيلَاءِ وَلَدِهِ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ عَلَى بِلَادِ الْجَزِيرَةِ، فَلَمَّا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا أَرْسَلَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يَطْلُبُ تَقْرِيرَهَا عَلَيْهِ، مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ لِأَبِيهِ بِالشَّامِ، فَلَمْ يَرَ صَلَاحُ الدِّينِ أَنَّ مِثْلَ تِلْكَ الْبِلَادِ تُسَلَّمُ إِلَى صَبِيٍّ، فَمَا أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِالِامْتِنَاعِ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ لِاشْتِغَالِهِ بِالْفِرِنْجِ. فَطَلَبَ الْأَفْضَلُ عَلِيُّ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يُقْطِعَهُ مَا كَانَ لِتَقِيِّ الدِّينِ، وَيَنْزِلَ عَنْ دِمَشْقَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهَا، فَسَارَ إِلَى حَلَبَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَكَتَبَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى أَصْحَابِ الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ، مِثْلَ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَصَاحِبِ سِنْجَارَ، وَصَاحِبِ الْجِزْيَةِ، وَصَاحِبِ دِيَارِ بَكْرٍ، وَغَيْرِهَا، يَأْمُرُهُمْ بِإِنْفَاذِ الْعَسَاكِرِ إِلَى وَلَدِهِ الْأَفْضَلِ. فَلَمَّا رَأَى وَلَدُ تَقِيِّ الدِّينِ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا قُوَّةَ لَهُ بِهِمْ، فَرَاسَلَ الْمَلِكَ الْعَادِلَ [أَبَا بَكْرِ بْنَ أَيُّوبَ] عَمَّ أَبِيهِ، يَسْأَلُهُ إِصْلَاحَ حَالِهِ مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ، فَأَنْهَى ذَلِكَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، وَأَصْلَحَ حَالَهُ، وَقَرَّرَ قَاعِدَتَهُ بِأَنْ يُقَرِّرَ لَهُ مَا كَانَ لِأَبِيهِ بِالشَّامِ، وَتُؤْخَذَ مِنْهُ الْبِلَادُ الْجَزَرِيَّةُ، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَى ذَلِكَ. وَأَقْطَعَ صَلَاحُ الدِّينِ الْبِلَادَ الْجَزَرِيَّةَ، وَهِيَ حَرَّانُ، وَالرُّهَا وَسُمَيْسَاطُ، وَمَيَّافَارِقِينَ، وَحَانِي الْعَادِلَ، وَسَيَّرَهُ إِلَى ابْنِ تَقِيِّ الدِّينِ لِيَتَسَلَّمَ مِنْهُ الْبِلَادَ، وَيُسَيِّرَهُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، وَيُعِيدَ الْمَلِكَ الْأَفْضَلَ أَيْنَ أَدْرَكَهُ، فَسَارَ الْعَادِلُ فَلَحِقَ الْأَفْضَلَ بِحَلَبَ، فَأَعَادَهُ إِلَى أَبِيهِ، وَعَبَرَ الْعَادِلُ الْفُرَاتَ، وَتَسَلَّمَ الْبِلَادَ مِنِ ابْنِ تَقِيِّ الدِّينِ، وَجَعَلَ نُوَّابَهُ فِيهَا، وَاسْتَصْحَبَ ابْنَ تَقِيِّ الدِّينِ مَعَهُ، وَعَادَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ بِالْعَسَاكِرِ، وَكَانَ عَوْدُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. ذِكْرُ عَوْدِ الْفِرِنْجِ إِلَى عَكَّا لَمَّا عَادَ الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ فِيمَنْ مَعَهُ، وَعَادَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ، وَابْنُ تَقِيِّ الدِّينِ فِيمَنْ

مَعَهُمَا مِنْ عَسَاكِرِهِمَا، وَلَحِقَتْهُمُ الْعَسَاكِرُ الشَّرْقِيَّةُ، عَسْكَرُ الْمَوْصِلِ وَعَسْكَرُ دِيَارِ بَكْرٍ، وَعَسْكَرُ سِنْجَارَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ بِدِمَشْقَ أَيْقَنَ الْفِرِنْجُ أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهَا، إِذَا فَارَقُوا الْبَحْرَ، فَعَادُوا نَحْوَ عَكَّا يُظْهِرُونَ الْعَزْمَ عَلَى قَصْدِ بَيْرُوتَ وَمُحَاصَرَتِهَا. فَأَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ وَلَدَهُ الْأَفْضَلَ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهَا فِي عَسْكَرِهِ، وَالْعَسَاكِرِ الشَّرْقِيَّةِ جَمِيعِهَا، مُعَارِضًا لِلْفِرِنْجِ فِي مَسِيرِهِمْ نَحْوَهَا فَسَارَ إِلَى مَرْجِ الْعُيُونِ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ مَعَهُ فَأَقَامَ هُنَالِكَ يَنْتَظِرُ مَسِيرَ الْفِرِنْجِ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ أَقَامُوا بِعَكَّا وَلَمْ يُفَارِقُوهَا. ذِكْرُ مُلْكِ صَلَاحِ الدِّينِ يَافَا لَمَّا رَحَلَ الْفِرِنْجُ نَحْوَ عَكَّا كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ عَسْكَرُ حَلَبَ وَغَيْرُهُ، فَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ يَافَا، وَكَانَتْ بِيَدِ الْفِرِنْجِ، فَنَازَلَهَا وَقَاتَلَ مَنْ بِهَا مِنْهُمْ، وَمَلَكَهَا فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ بِالسَّيْفِ عَنْوَةً، وَنَهَبَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَغَنِمُوا مَا فِيهَا، وَقَتَلُوا الْفِرِنْجَ وَأَسَرُوا كَثِيرًا، وَكَانَ بِهَا أَكْثَرُ مَا أَخَذُوهُ مِنْ عَسْكَرِ مِصْرَ وَالْقَفَلِ الَّذِي كَانَ مَعَهُمْ، وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ. وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَمَالِيكِ الصَّلَاحِيَّةِ قَدْ وَقَفُوا عَلَى أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ، وَكُلُّ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجُنْدِ وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْغَنِيمَةِ أَخَذُوهُ مِنْهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ ضَرَبُوهُ وَأَخَذُوا مَا مَعَهُ قَهْرًا، ثُمَّ زَحَفَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَى الْقَلْعَةِ، فَقَاتَلُوا عَلَيْهَا آخِرَ النَّهَارِ، وَكَادُوا يَأْخُذُونَهَا، فَطَلَبَ مَنْ بِالْقَلْعَةِ الْأَمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَخَرَجَ الْبَطْرَكُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَهُمْ، وَمَعَهُ عِدَّةٌ مِنْ أَكَابِرِ الْفِرِنْجِ، فِي ذَلِكَ وَتَرَدَّدُوا، وَكَانَ قَصْدُهُمْ مَنْعَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْقِتَالِ، فَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ، وَوَاعَدُوا الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِلُوا بُكْرَةَ غَدٍ وَيُسَلِّمُوا الْقَلْعَةَ. فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ طَالَبَهُمْ صَلَاحُ الدِّينِ بِالنُّزُولِ عَنِ الْحِصْنِ، فَامْتَنَعُوا، وَإِذَا قَدْ وَصَلَهُمْ نَجْدَةٌ مِنْ عَكَّا، وَأَدْرَكَهُمْ مَلِكُ إِنْكِلْتَارَ، فَأَخْرَجَ مَنْ بِيَافَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَتَاهُ الْمَدَدُ مِنْ عَكَّا وَبَرَزَ إِلَى ظَاهِرِ الْمَدِينَةِ، وَاعْتَرَضَ الْمُسْلِمِينَ وَحْدَهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَوَقَفَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَاسْتَدْعَى طَعَامًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَزَلَ فَأَكَلَ. فَأَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ عَسْكَرَهُ بِالْحَمْلَةِ عَلَيْهِمْ، وَبِالْجِدِّ فِي قِتَالِهِمْ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ بَعْضُ أُمَرَائِهِ يُعْرَفُ بِالْجَنَاحِ، وَهُوَ أَخُو الْمَشْطُوبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْهَكَّارِيِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا صَلَاحَ

الدِّينِ، قُلْ لِمَمَالِيكِكَ الَّذِينَ أَخَذُوا أَمْسَ الْغَنِيمَةَ، وَضَرَبُوا النَّاسَ بِالْحَمَاقَاتِ [أَنْ] يَتَقَدَّمُوا فَيُقَاتِلُوا، إِذَا كَانَ الْقِتَالُ فَنَحْنُ، وَإِذَا كَانَتِ الْغَنِيمَةُ فَلَهُمْ! فَغَضِبَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ كَلَامِهِ وَعَادَ عَنِ الْفِرِنْجِ. وَكَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، حَلِيمًا كَرِيمًا [كَثِيرَ الْعَفْوِ عِنْدَ] الْمَقْدِرَةِ وَنَزَلَ فِي خِيَامِهِ، وَأَقَامَ حَتَّى اجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ، وَجَاءَ إِلَيْهِ ابْنُهُ الْأَفْضَلُ، وَأَخُوهُ الْعَادِلُ، وَعَسَاكِرُ الشَّرْقِ، فَرَحَلَ بِهِمْ إِلَى الرَّمْلَةِ لِيَنْظُرَ مَا يَكُونُ مِنْهُ، وَمِنَ الْفِرِنْجِ، فَلَزِمَ الْفِرِنْجُ يَافَا وَلَمْ يَبْرَحُوا مِنْهَا. ذِكْرُ الْهُدْنَةِ مَعَ الْفِرِنْجِ وَعَوْدِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى دِمَشْقَ فِي الْعِشْرِينَ مِنَ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عُقِدَتِ [الْهُدْنَةُ] بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجِ لِمُدَّةِ ثَلَاثِ سِنِينَ وَثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، أَوَّلُهَا هَذَا التَّارِيخُ، وَافَقَ أَوَّلَ أَيْلُولَ؟ وَكَانَ سَبَبُ الصُّلْحِ أَنَّ مَلِكَ إِنْكِلْتَارَ لَمَّا رَأَى اجْتِمَاعَ الْعَسَاكِرِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مُفَارَقَةُ سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَلَيْسَ بِالسَّاحِلِ لِلْمُسْلِمِينَ بَلَدٌ يَطْمَعُ فِيهِ، وَقَدْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ عَنْ بِلَادِهِ. رَاسَلَ صَلَاحَ الدِّينِ فِي الصُّلْحِ، وَأَظْهَرَ مِنْ ذَلِكَ ضِدَّ مَا كَانَ يُظْهِرُهُ أَوَّلًا، فَلَمْ يُجِبْهُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى مَا طَلَبَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ خَدِيعَةً وَمَكْرًا، وَأَرْسَلَ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمَصَافَّ وَالْحَرْبَ، فَأَعَادَ الْفِرِنْجِيُّ رُسُلَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَنَزَلَ عَنْ تَتِمَّةِ عِمَارَةِ عَسْقَلَانَ، وَ [تَخَلَّى] عَنْ غَزَّةَ وَالدَّارُومِ وَالرَّمْلَةِ. وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَأَشَارَ هُوَ وَجَمَاعَةُ الْأُمَرَاءِ بِالْإِجَابَةِ إِلَى الصُّلْحِ، وَعَرَّفُوهُ مَا عِنْدَ الْعَسْكَرِ مِنَ الضَّجَرِ وَالْمَلَلِ، وَمَا قَدْ هَلَكَ مِنْ أَسْلِحَتِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ، وَنَفِدَ مِنْ نَفَقَاتِهِمْ. وَقَالُوا. إِنَّ هَذَا الْفِرِنْجِيَّ إِنَّمَا طَلَبَ الصُّلْحَ لِيَرْكَبَ الْبَحْرَ وَيَعُودَ إِلَى بِلَادِهِ. فَإِنْ تَأَخَّرَتْ إِجَابَتُهُ إِلَى أَنْ يَجِيءَ الشِّتَاءُ وَيَنْقَطِعَ الرُّكُوبُ فِي الْبَحْرِ نَحْتَاجُ لِلْبَقَاءِ هَا هُنَا سَنَةً أُخْرَى، وَحِينَئِذٍ يَعْظُمُ الضَّرَرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَأَكْثَرُوا الْقَوْلَ لَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَأَجَابَ حِينَئِذٍ إِلَى الصُّلْحِ، فَحَضَرَ رُسُلُ الْفِرِنْجِ وَعَقَدُوا الْهُدْنَةَ، وَتَحَالَفُوا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ حَضَرَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ بَالْيَانُ بْنُ بَارْزَانَ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الرَّمْلَةِ وَنَابُلُسَ. فَلَمَّا حَلَفَ صَلَاحُ الدِّينِ قَالَ لَهُ: اعْلِمْ أَنَّهُ مَا عَمِلَ أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ [مِثْلَ] مَا عَمِلْتُ، وَلَا هَلَكَ مِنَ الْفِرِنْجِ مِثْلَ مَا هَلَكَ مِنْهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ، فَإِنَّنَا أَحْصَيْنَا مَنْ خَرَجَ إِلَيْنَا فِي الْبَحْرِ مِنْ

الْمُقَاتِلَةِ. فَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ مَا عَادَ مِنْهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ مِنْ كُلِّ عَشَرَةٍ وَاحِدٌ، بَعْضُهُمْ قَتَلْتَهُ أَنْتَ، وَبَعْضُهُمْ مَاتَ، وَبَعْضُهُمْ غَرِقَ. وَلَمَّا انْفَصَلَ أَمْرُ الْهُدْنَةِ أَذِنَ صَلَاحُ الدِّينِ لِلْفِرِنْجِ فِي زِيَارَةِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ فَزَارُوهُ، وَتَفَرَّقُوا وَعَادَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ إِلَى بِلَادِهَا، وَأَقَامَ بِالسَّاحِلِ الشَّامِيِّ مَلِكًا عَلَى الْفِرِنْجِ وَالْبِلَادِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ. الْكَنْدُ هَرِي، وَكَانَ خَيِّرَ الطَّبْعِ، قَلِيلَ الشَّرِّ، رَفِيقًا بِالْمُسْلِمِينَ، مُحِبًّا لَهُمْ تَزَوَّجَ بِالْمَلِكَةِ الَّتِي كَانَتْ تَمْلِكُ بِلَادَ الْفِرِنْجِ، قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا صَلَاحُ الدِّينِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا صَلَاحُ الدِّينِ فَإِنَّهُ بَعْدَ تَمَامِ الْهُدْنَةِ سَارَ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَأَمَرَ بِإِحْكَامِ سُورِهِ [وَأَدْخَلَ فِي السُّورِ كَنِيسَةَ صَهْيُونَ، وَكَانَتْ خَارِجَةً عَنْهُ بِمِقْدَارِ رَمْيَتِي سَهْمٍ] ، وَعَمِلَ الْمَدْرَسَةَ وَالرِّبَاطَ وَالْبَيْمَارَسْتَانَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَوَقَّفَ عَلَيْهَا الْوُقُوفَ، وَصَامَ رَمَضَانَ بِالْقُدْسِ، وَعَزَمَ عَلَى الْحَجِّ وَالْإِحْرَامِ مِنْهُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، فَسَارَ عَنْهُ خَامِسَ شَوَّالٍ نَحْوَ دِمَشْقَ، وَاسْتَنَابَ بِالْقُدْسِ أَمِيرًا اسْمُهُ جُورْدِيكْ، وَهُوَ مِنَ الْمَمَالِيكِ النُّورِيَّةِ. وَلَمَّا سَارَ عَنْهُ جَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى الثُّغُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَنَابُلُسَ، وَطَبَرِيَّةَ، وَصَفَدَ، وَتِبْنِينَ، وَقَصَدَ بَيْرُوتَ، وَتَعَهَّدَ هَذِهِ الْبِلَادَ، وَأَمَرَ بِإِحْكَامِهَا. فَلَمَّا كَانَ فِي بَيْرُوتَ أَتَاهُ بَيْمُنْدُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ وَأَعْمَالِهَا، وَاجْتَمَعَ بِهِ وَخَدَمَهُ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ صَلَاحُ الدِّينِ وَعَادَ إِلَى بَلَدِهِ، فَلَمَّا عَادَ رَحَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى دِمَشْقَ، فَدَخَلَهَا فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، وَكَانَ يَوْمُ دُخُولِهِ إِلَيْهَا يَوْمًا مَشْهُودًا، وَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ فَرَحًا عَظِيمًا لِطُولِ غَيْبَتِهِ، وَذَهَابِ الْعَدُوِّ عَنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ. ذِكْرُ وَفَاةِ قَلْج أَرَسَلَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، مُنْتَصَفَ شَعْبَانَ، تُوَفِّي الْمَلِكُ قَلْج أَرْسَلَانَ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ قَلْج أَرْسَلَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَتَلْمِشْ بْنِ سَلْجُوقَ السَّلْجُوقِيُّ بِمَدِينَةِ قُونِيَّةَ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْبِلَادِ قُونِيَّةُ وَأَعْمَالُهَا، وَأَقْصَرَا، وَسِيوَاسَ، وَمَلَطْيَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنِ الْبِلَادِ. وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ نَحْوَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ ذَا سِيَاسَةٍ حَسَنَةٍ، وَهَيْبَةٍ عَظِيمَةٍ، وَعَدْلٍ وَافِرٍ، وَغَزَوَاتٍ

كَثِيرَةٍ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَلَمَّا كَبُرَ فَرَّقَ بِلَادَهُ عَلَى أَوْلَادِهِ، فَاسْتَضْعَفُوهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، وَحَجَرَ عَلَيْهِ وَلَدُهُ قُطْبُ الدِّينِ. وَكَانَ قَلْج أَرَسَلَانَ قَدِ اسْتَنَابَ فِي تَدْبِيرِ مُلْكِهِ رَجُلًا يُعْرَفُ بِاخْتِيَارِ الدِّينِ حَسَنٍ، فَلَمَّا غَلَبَ قُطْبُ الدِّينِ عَلَى الْأَمْرِ قَتَلَ حَسَنًا، ثُمَّ أَخَذَ وَالِدَهُ وَسَارَ بِهِ إِلَى قَيْسَارِيَّةَ لِيَأْخُذَهَا مِنْ أَخِيهِ الَّذِي سَلَّمَهَا إِلَيْهِ أَبُوهُ فَحَصَرَهَا مُدَّةً، فَوَجَدَ وَالِدُهُ قَلْج أَرَسَلَانَ فُرْصَةً فَهَرَبَ وَدَخَلَ، قَيْسَارِيَّةَ وَحْدَهُ. فَلَمَّا عَلِمَ قُطْبُ الدِّينِ ذَلِكَ عَادَ إِلَى قُونِيَّةَ وَأَقْصَرَا فَمَلَكَهُمَا، وَلَمْ يَزَلْ قَلْج أَرَسَلَانَ يَتَحَوَّلُ مِنْ وَلَدٍ إِلَى وَلَدٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَتَبَرَّمُ بِهِ، حَتَّى مَضَى إِلَى وَلَدِهِ غِيَاثِ الدِّينِ كَيْخَسْرُو صَاحِبِ مَدِينَةِ بَرْغَلُوا، فَلَمَّا رَآهُ فَرِحَ بِهِ وَخَدَمَهُ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ. وَسَارَ هُوَ مَعَهُ إِلَى قُونِيَّةَ فَمَلَكَهَا، وَسَارَ إِلَى أَقْصَرَا وَمَعَهُ وَالِدُهُ قَلْج أَرَسَلَانَ، فَحَصَرَهَا، فَمَرِضَ أَبُوهُ، فَعَادَ بِهِ إِلَى قُونِيَّةَ فَتُوُفِّيَ فِيهَا، وَدُفِنَ هُنَاكَ، وَبَقِيَ وَلَدُهُ غِيَاثُ الدِّينِ فِي قُونِيَّةَ مَالِكًا لَهَا حَتَّى أَخَذَهَا مِنْهُ أَخُوهُ رُكْنُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَا يَحْكِيهِ، وَكَانَ قَدْ وَصَلَ تِلْكَ الْبِلَادَ بِغَيْرِ هَذَا، وَنَحْنُ نَذْكُرُهُ، قَالَ: إِنَّ قَلْج أَرَسَلَانَ قَسَّمَ بِلَادَهُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي حَيَاتِهِ. فَسَلَّمَ دُوقَاطَ إِلَى رُكْنِ الدِّينِ سُلَيْمَانَ، وَسَلَّمَ قُونِيَّةَ إِلَى وَلَدِهِ كَيْخَسْرُو غِيَاثِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ أَنْقَرَةَ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى أَنْكَشُورِيَّةَ إِلَى وَلَدِهِ مُحْيِي الدِّينِ، وَسَلَّمَ مَلَطْيَةَ إِلَى وَلَدِهِ مُعِزِّ الدِّينِ قَيْصَرْ شَاهْ وَسَلَّمَ أَبْلُسْتَيْنَ إِلَى وَلَدِهِ مُغِيثِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ قَيْسَارِيَّةَ إِلَى وَلَدِهِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ، وَسَلَّمَ سِيوَاسَ وَأَقْصَرَا إِلَى وَلَدِهِ قُطْبِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ نَكْسَارَ إِلَى وَلَدٍ آخَرَ، وَسَلَّمَ أَمَاسْيَا إِلَى وَلَدِ أَخِيهِ. هَذِهِ أُمَّهَاتُ الْبِلَادِ، وَيَنْضَافُ إِلَى كُلِّ بَلَدٍ مِنْ هَذِهِ مَا يُجَاوِرُهَا مِنِ الْبِلَادِ الصِّغَارِ الَّتِي لَيْسَتْ مِثْلَ هَذِهِ ثُمَّ إِنَّهُ نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ وَأَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ الْجَمِيعَ لِوَلَدِهِ الْأَكْبَرِ قُطْبِ الدِّينِ، وَخَطَبَ لَهُ ابْنَةَ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ، صَاحِبِ مِصْرَ وَالشَّامِ، لِيَقْوَى بِهِ، فَلَمَّا

سَمِعَ بَاقِي أَوْلَادِهِ بِذَلِكَ امْتَنَعُوا عَلَيْهِ، وَخَرَجُوا عَنْ طَاعَتِهِ، وَزَالَ حُكْمُهُ عَنْهُمْ، فَسَارَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الزِّيَارَةِ، فَيُقِيمُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُدَّةً، وَيَنْتَقِلُ إِلَى الْآخَرِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَضَى إِلَى وَلَدِهِ كَيْخَسْرُو، صَاحِبِ قُونِيَّةَ، عَلَى عَادَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَلَقِيَهُ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَلَّمَ قُونِيَّةَ إِلَيْهِ، وَتَصَرَّفَ عَنْ أَمْرِهِ. فَقَالَ لِكَيْخَسْرُو: أُرِيدُ [أَنْ] أَسِيرَ إِلَى وَلَدِي الْمَلْعُونِ مَحْمُودٍ، وَهُوَ صَاحِبُ قَيْسَارِيَّةَ، وَتَجِيءَ أَنْتَ مَعِي لِآخُذَهَا مِنْهُ، فَتَجَهَّزَ وَسَارَ مَعَهُ، وَحَصَرَ مَحْمُودًا بِقَيْسَارِيَّةَ فَمَرِضَ قَلْج أَرَسَلَانَ، وَتُوُفِّيَ عَلَيْهَا، فَعَادَ كَيْخَسْرُو، وَبَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوْلَادِ عَلَى الْبَلَدِ الَّذِي بِيَدِهِ. وَكَانَ قُطْبُ الدِّينِ صَاحِبُ أَقْصَرَا وَسِيوَاسَ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ مِنْ إِحْدَى الْمَدِينَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى يَجْعَلُ طَرِيقَهُ عَلَى قَيْسَارِيَّةَ، وَبِهَا أَخُوهُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ، وَلَيْسَتْ عَلَى طَرِيقِهِ إِنَّمَا كَانَ يَقْصِدُهَا لِيُظْهِرَ الْمَوَدَّةَ لِأَخِيهِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُ، وَفَى نَفْسِهِ الْغَدْرُ، فَكَانَ أَخُوهُ مَحْمُودٌ يَقْصِدُهُ وَيَجْتَمِعُ بِهِ. فَفِي بَعْضِ الْمَرَّاتِ نَزَلَ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ عَلَى عَادَتِهِ، وَحَضَرَ أَخُوهُ مَحْمُودٌ عِنْدَهُ غَيْرَ مُحْتَاطٍ، فَقَتَلَهُ قُطْبُ الدِّينِ، وَأَلْقَى رَأْسَهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَأَرَادَ أَخْذَ الْبَلَدِ فَامْتَنَعَ مَنْ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَخِيهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ سَلَّمُوهُ إِلَيْهِ عَلَى قَاعِدَةٍ اسْتَمَرَّتْ بَيْنَهُمْ. وَكَانَ عِنْدَ مَحْمُودٍ أَمِيرٌ كَبِيرٌ، وَكَانَ يُحَذِّرُهُ مِنْ أَخِيهِ قُطْبِ الدِّينِ (وَيُخَوِّفُهُ، فَلَمْ يُصْغِ إِلَيْهِ وَكَانَ جَوَادًا) ، كَثِيرَ الْخَيْرِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الدَّوْلَةِ عِنْدَ نُورِ الدِّينِ. فَلَمَّا قَتَلَ قُطْبُ الدِّينِ أَخَاهُ قَتَلَ حَسَنًا مَعَهُ، وَأَلْقَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَ كَلْبٌ يَأْكُلُ مِنْ لَحْمِهِ. فَثَارَ النَّاسُ وَقَالُوا: لَا سَمْعًا وَلَا طَاعَةً، هَذَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، وَلَهُ هَا هُنَا مَدْرَسَةٌ، وَتُرْبَةٌ، وَصَدَقَاتٌ دَارَّةٌ، وَأَفْعَالٌ حَسَنَةٌ، لَا نَتْرُكُهُ تَأْكُلُهُ الْكِلَابُ، فَأَمَرَ بِهِ فَدُفِنَ فِي مَدْرَسَتِهِ. وَبَقِيَ أَوْلَادُ قَلْج أَرَسَلَانَ عَلَى حَالِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ قُطْبَ [الدِّينِ] مَرِضَ وَمَاتَ، فَسَارَ أَخُوهُ رُكْنُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ صَاحِبُ دُوقَاطَ إِلَى سِيوَاسَ، وَهِيَ تُجَاوِرُهُ، فَمَلَكَهَا، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى قَيْسَارِيَّةَ وَأَقْصَرَا، ثُمَّ

بَقِيَ مُدَيْدَةً. وَسَارَ إِلَى قُونِيَّةَ وَبِهَا أَخُوهُ غِيَاثُ الدِّينِ، فَحَصَرَهُ بِهَا وَمَلَكَهَا، فَفَارَقَهَا غِيَاثُ الدِّينِ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ إِلَى بَلَدِ الرُّومِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ سَارَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى رُكْنِ الدِّينِ إِلَى نَكْسَارَ وَأَمَاسْيَا فَمَلَكَهَا، وَسَارَ إِلَى مَلَطْيَةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَمَلَكَهَا، وَفَارَقَهَا أَخُوهُ مُعِزُّ الدِّينِ إِلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، وَكَانَ مُعِزُّ الدِّينِ هَذَا تَزَوَّجَ ابْنَةً لِلْعَادِلِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ. وَاجْتَمَعَ لِرُكْنِ الدِّينِ، مُلْكُ جَمِيعِ الْإِخْوَةِ مَا عَدَا أَنَقْرَةَ فَإِنَّهَا مَنِيعَةٌ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا فَجَعَلَ عَلَيْهَا عَسْكَرًا يَحْصُرُهَا صَيْفًا وَشِتَاءً ثَلَاثَ سِنِينَ، فَتَسَلَّمَهَا سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ، وَوَضَعَ عَلَى أَخِيهِ الَّذِي كَانَ بِهَا مَنْ يَقْتُلُهُ إِذَا فَارَقَهَا، فَلَمَّا سَارَ عَنْهَا قُتِلَ. وَتُوُفِّيَ رُكْنُ الدِّينِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، وَلَمْ يَسْمَعْ خَبَرَ قَتْلِ أَخِيهِ بَلْ عَاجَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقَطْعِ رَحِمِهِ. وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذِهِ الْحَادِثَةَ هَا هُنَا لِنُتْبِعَ بَعْضَهَا بَعْضًا وَلِأَنِّي لَمْ أَعْلَمْ تَارِيخَ كُلِّ حَادِثَةٍ مِنْهَا لِأُثْبِتَهَا فِيهِ. ذِكْرُ مُلْكِ شِهَابِ الدِّينِ أَجْمِيرَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْهِنْدِ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] غَزْوَةَ شِهَابِ الدِّينِ الْغُورِيِّ إِلَى بَلَدِ الْهِنْدِ، وَانْهِزَامَهُ وَبَقِيَ إِلَى الْآنَ وَفِي نَفْسِهِ الْحِقْدُ الْعَظِيمُ عَلَى الْجُنْدِ الْغُورِيَّةِ الَّذِينَ انْهَزَمُوا، وَمَا أَلْزَمَهُمْ مِنَ الْهَوَانِ. فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةَ خَرَجَ مِنْ غَزْنَةَ وَقَدْ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ، وَسَارَ مِنْهَا يَطْلُبُ عَدُوَّهُ الْهِنْدِيَّ الَّذِي هَزَمَهُ تِلْكَ النَّوْبَةَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَرْشَاوُورَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ شَيْخٌ مِنَ الْغُورِيَّةِ كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ قَرُبْنَا مِنَ الْعَدُوِّ، وَمَا يَعْلَمُ أَحَدٌ أَيْنَ نَمْضِي، وَلَا مَنْ نَقْصِدُ، وَلَا نَرُدُّ عَلَى الْأُمَرَاءِ سَلَامًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ. فَقَالَ لَهُ السُّلْطَانُ: اعْلَمْ أَنَّنِي مُنْذُ هَزَمَنِي هَذَا الْكَافِرُ مَا نِمْتُ مَعَ زَوْجَتِي، وَلَا غَيَّرْتُ ثِيَابَ الْبَيَاضِ عَنِّي، وَأَنَا سَائِرٌ إِلَى عَدُوِّي، وَمُعْتَمِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى الْغُورِيَّةِ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنْ نَصَرَنِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَنَصَرَ دِينَهُ فَمِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَإِنِ انْهَزَمْنَا فَلَا تَطْلُبُونِي فِيمَنِ انْهَزَمَ، وَلَوْ

هَلَكْتُ تَحْتَ حَوَافِرِ الْخَيْلِ. فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: سَوْفَ تَرَى بَنِي عَمِّكَ مِنَ الْغُورِيَّةِ مَا يَفْعَلُونَ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُكَلِّمَهُمْ وَتَرُدَّ سَلَامَهُمْ. فَفَعَلَ ذَلِكَ وَبَقِيَ أُمَرَاءُ الْغُورِيَّةِ يَتَضَرَّعُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَقُولُونَ سَوْفَ تَرَى مَا نَفْعَلُ. وَسَارَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى مَوْضِعِ الْمَصَافِّ الْأَوَّلِ، وَجَازَهُ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَأَخَذَ عِدَّةَ مَوَاضِعَ مِنْ بِلَادِ الْعَدُوِّ فَلَمَّا سَمِعَ الْهِنْدِيُّ تَجَهَّزَ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ، وَسَارَ يَطْلُبُ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا بَقِيَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مَرْحَلَةٌ عَادَ شِهَابُ الدِّينِ وَرَاءَهُ وَالْكَافِرُ فِي أَعْقَابِهِ أَرْبَعَ مَنَازِلَ. فَأَرْسَلَ الْكَافِرُ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: أَعْطِنِي يَدَكَ، إِنَّكَ تُصَافِفْنِي فِي بَابِ غَزْنَةَ حَتَّى أَجِيءَ وَرَاءَكَ وَإِلَّا فَنَحْنُ مُثْقَلُونَ، وَمِثْلُكَ لَا يَدْخُلُ الْبِلَادَ شِبْهَ اللُّصُوصِ، ثُمَّ يَخْرُجُ هَارِبًا، مَا هَذَا فِعْلَ السَّلَاطِينِ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ: إِنَّنِي لَا أَقْدِرُ عَلَى حَرْبِكَ. وَتَمَّ عَلَى حَالِهِ عَائِدًا إِلَى أَنْ بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَالْكَافِرُ فِي أَثَرِهِ يَتْبَعُهُ، حَتَّى لَحِقَهُ قَرِيبًا مِنْ مَرَنْدَةَ، فَجَهَّزَ [حِينَئِذٍ] شِهَابُ الدِّينِ مِنْ عَسْكَرِهِ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَقَالَ: أُرِيدُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ تَدُورُونَ حَتَّى تَكُونُوا وَرَاءَ عَسْكَرِ الْعَدُوِّ، وَعِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ تَأْتُونَ أَنْتُمْ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَأَنَا مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَطَلَعَ الْفَجْرُ. وَمِنْ عَادَةِ الْهُنُودِ أَنَّهُمْ لَا يَبْرَحُونَ مِنْ مَضَاجِعِهِمْ إِلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا حَمَلَ عَلَيْهِمْ عَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَضُرِبَتِ الْكَوْسَاتُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ مَلِكُ الْهِنْدِ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: مَنْ يَقْدَمُ عَلَيَّ، أَنَا هَذَا؟ وَالْقَتْلُ قَدْ كَثُرَ فِي الْهُنُودِ، وَالنَّصْرُ قَدْ ظَهَرَ لِلْمُسْلِمِينَ. فَلَمَّا رَأَى مَلِكُ الْهِنْدِ ذَلِكَ أَحْضَرَ فَرَسًا لَهُ سَابِقًا، وَرَكِبَ لِيَهْرُبَ، فَقَالَ لَهُ أَعْيَانُ أَصْحَابِهِ: إِنَّكَ حَلَفْتَ لَنَا أَنَّكَ لَا تُخَلِّينَا وَتَهْرُبُ، فَنَزَلَ عَنِ الْفَرَسِ وَرَكِبَ الْفِيلَ وَوَقَفَ مَوْضِعَهُ، وَالْقِتَالُ شَدِيدٌ وَالْقَتْلُ قَدْ كَثُرَ فِي أَصْحَابِهِ، فَانْتَهَى الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِ وَأَخَذُوهُ أَسِيرًا، وَحِينَئِذٍ عَظُمَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ فِي الْهُنُودِ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَأُحْضِرَ الْهِنْدِيُّ بَيْنَ يَدَيْ شِهَابِ الدِّينِ، فَلَمْ يَخْدُمْهُ، فَأَخَذَ بَعْضُ الْحُجَّابِ بِلِحْيَتِهِ، وَجَذَبَهُ إِلَى الْأَرْضِ، حَتَّى أَصَابَهَا جَبِينَهُ، وَأَقْعَدَهُ بَيْنَ يَدَيْ شِهَابِ الدِّينِ، فَقَالَ

لَهُ شِهَابُ الدِّينِ: لَوِ اسْتَأْسَرَتْنِي مَا كُنْتَ تَفْعَلُ بِي؟ فَقَالَ الْكَافِرُ: كُنْتُ اسْتَعْمَلْتُ لَكَ قَيْدًا مِنْ ذَهَبٌ أُقَيِّدُكَ بِهِ. فَقَالَ شِهَابُ الدِّينِ: بَلْ نَحْنُ مَا نَجْعَلُ لَكَ مِنَ الْقَدْرِ مَا نُقَيِّدُكَ. وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْهُنُودِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً وَأَمْتِعَةً عَظِيمَةً، وَفِي جُمْلَةِ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فِيلًا، مِنْ جُمْلَتِهَا الْفِيلُ الَّذِي جَرَحَ شِهَابَ الدِّينِ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ. وَقَالَ مَلِكُ الْهِنْدِ لِشِهَابِ الدِّينِ: إِنْ كُنْتَ طَالِبَ بِلَادٍ، فَمَا بَقِيَ فِيهَا مَنْ يَحْفَظُهَا، وَإِنْ كُنْتَ طَالِبَ مَالٍ، فَعِنْدِي أَمْوَالٌ تُحَمِّلُ أَجْمَالَكَ كُلَّهَا. فَسَارَ شِهَابُ الدِّينِ وَهُوَ مَعَهُ إِلَى الْحِصْنِ الَّذِي لَهُ يُعَوِّلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَجْمِيرُ، فَأَخَذَهُ، وَأَخَذَ جَمِيعَ الْبِلَادِ الَّتِي تُقَارِبُهُ، وَأَقْطَعَ جَمِيعَ الْبِلَادِ لِمَمْلُوكِهِ قُطْبِ الدِّينِ أَيْبَكْ، وَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ، وَقَتَلَ مَلِكَ الْهِنْدِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُبِضَ عَلَى أَمِيرِ الْحَاجِّ طَاشَتِكِينَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ نِعْمَ الْأَمِيرُ، عَادِلًا فِي الْحَاجِّ، رَفِيقًا بِهِمْ، مُحِبًّا لَهُمْ، لَهُ أَوْرَادٌ كَثِيرَةٌ مِنْ صَلَوَاتٍ وَصِيَامٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، لَا جَرَمَ: وُقِفَتْ أَعْمَالُهُ، بَيْنَ يَدَيْهِ فَخُلِّصَ مِنَ السِّجْنِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهَا خَرَجَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْ بِكْ أَرْسَلَانُ بْنُ طُغْرُلْ مِنَ الْحَبْسِ بَعْدَ مَوْتِ قُزَل أَرْسَلَانَ بْنِ إِيلْدِكْزَ وَالْتَقَى هُوَ وَقُتْلُغْ إِينَانْج بْنِ الْبَهْلَوَانِ بْنِ إِيلْدِكْزَ فَانْهَزَمَ إِينَانْجُ إِلَى الرَّيِّ، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، سَنَةَ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي رَجَبٍ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ السَّيِّدُ عَلِيُّ بْنُ الْمُرْتَضَى الْعَلَوِيُّ الْحَنَفِيُّ مُدَرِّسُ جَامِعِ السُّلْطَانِ بِبَغْدَادَ. وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ هِبَةَ اللَّهِ بْنِ الْبُوقِيِّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْوَاسِطِيُّ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْمَذْهَبِ انْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ.

ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَة] 589 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ صَلَاحِ الدِّينِ وَبَعْضِ سِيرَتِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، تُوُفِّيَ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِي، صَاحِبُ مِصْرَ وَالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَغَيْرِهَا مِنِ الْبِلَادِ، بِدِمَشْقَ، وَمَوْلِدُهُ بِتِكْرِيتَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ انْتِقَالِهِمْ مِنْهَا، وَمُلْكِهِمْ مِصْرَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَكَانَ سَبَبُ مَرَضِهِ أَنْ خَرَجَ يَتَلَقَّى الْحَاجَّ، فَعَادَ، وَمَرِضَ مِنْ يَوْمِهِ مَرَضًا حَادًّا، بَقِيَ بِهِ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ وَتُوُفِّيَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ قَبْلَ مَرَضِهِ قَدْ أَحْضَرَ وَلَدَهُ الْأَفْضَلَ عَلِيًّا وَأَخَاهُ الْمَلِكَ الْعَادِلَ أَبَا بَكْرٍ، وَاسْتَشَارَهُمَا فِيمَا يَفْعَلُ، وَقَالَ: قَدْ تَفَرَّغْنَا مِنَ الْفِرِنْجِ، وَلَيْسَ لَنَا فِي هَذِهِ الْبِلَادِ شَاغِلٌ فَأَيُّ جِهَةٍ نَقْصِدُ؟ فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَخُوهُ الْعَادِلُ بِقَصْدِ خِلَاطَ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ وَعَدَهُ، إِذَا أَخَذَهَا، أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ. وَأَشَارَ [عَلَيْهِ] وَلَدُهُ الْأَفْضَلُ بِقَصْدِ بَلَدِ الرُّومِ الَّتِي بِيَدِ أَوْلَادِ قَلْج أَرَسَلَانَ، وَقَالَ: هِيَ أَكْثَرُ بِلَادًا وَعَسْكَرًا وَمَالًا، وَأَسْرَعُ مَأْخَذًا، وَهِيَ أَيْضًا طَرِيقُ الْفِرِنْجِ إِذَا خَرَجُوا عَلَى الْبَرِّ، فَإِذَا مَلَكْنَاهَا مَنَعْنَاهُمْ مِنَ الْعُبُورِ فِيهَا. فَقَالَ: كِلَاكُمَا مُقَصِّرٌ نَاقِصُ الْهِمَّةِ، بَلْ أَقْصِدُ أَنَا بَلَدَ الرُّومِ، وَقَالَ لِأَخِيهِ: تَأْخُذُ أَنْتَ بَعْضَ أَوْلَادِي وَبَعْضَ الْعَسْكَرِ وَتَقْصِدُ خِلَاطَ، فَإِذَا فَرَغْتَ أَنَا مِنْ بَلَدِ الرُّومِ جِئْتُ إِلَيْكُمْ، وَنَدْخُلُ مِنْهَا أَذْرَبِيجَانَ، وَنَتَّصِلُ بِبِلَادِ الْعَجَمِ، فَمَا فِيهَا مَنْ يَمْنَعُ عَنْهَا. ثُمَّ أَذِنَ لِأَخِيهِ الْعَادِلِ فِي الْمُضِيِّ إِلَى الْكَرَكِ، وَكَانَ لَهُ، وَقَالَ لَهُ: تَجَهَّزْ وَاحْضُرْ لِتَسِيرَ، فَلَمَّا سَارَ إِلَى الْكَرَكِ مَرِضَ صَلَاحُ الدِّينِ، وَتُوُفِّيَ قَبْلَ عَوْدِهِ.

وَكَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ كَرِيمًا، حَلِيمًا، حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، مُتَوَاضِعًا، صَبُورًا عَلَى مَا يَكْرَهُ، كَثِيرَ التَّغَافُلِ عَنْ ذُنُوبِ أَصْحَابِهِ، يَسْمَعُ مِنْ أَحَدِهِمْ مَا يَكْرَهُ وَلَا يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ وَلَا يَتَغَيَّرُ عَلَيْهِ. وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا جَالِسًا وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ، فَرَمَى بَعْضُ الْمَمَالِيكِ بَعْضًا بِسَرْمُوزٍ فَأَخْطَأَتْهُ، وَوَصَلَتْ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ فَأَخْطَأَتْهُ، وَوَقَعَتْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، فَالْتَفَتَ إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى يُكَلِّمُ جَلِيسَهُ لِيَتَغَافَلَ عَنْهَا. وَطَلَبَ مَرَّةً الْمَاءَ فَلَمْ يَحْضُرْ، وَعَاوَدَ الطَّلَبَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَحْضُرْ، فَقَالَ: يَا أَصْحَابَنَا، وَاللَّهِ قَدْ قَتَلَنِي الْعَطَشُ! فَأُحْضِرَ الْمَاءُ فَشَرِبَهُ وَلَمْ يُنْكِرِ التَّوَانِيَ فِي إِحْضَارِهِ. وَكَانَ مَرَّةً قَدْ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا أَرْجَفَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، فَلَمَّا بَرِئَ مِنْهُ، وَأُدْخِلَ الْحَمَّامَ كَانَ الْمَاءُ حَارًّا، فَطَلَبَ مَاءً بَارِدًا، فَأَحْضَرَهُ الَّذِي يَخْدُمُهُ، فَسَقَطَ مِنَ الْمَاءِ شَيْءٌ عَلَى الْأَرْضِ، فَنَالَهُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَتَأَلَّمَ لَهُ لِضَعْفِهِ. ثُمَّ طَلَبَ الْبَارِدَ أَيْضًا فَأُحْضِرَ، فَلَمَّا قَارَبَهُ سَقَطَتِ الطَّاسَةُ عَلَى الْأَرْضِ، فَوَقَعَ الْمَاءُ جَمِيعُهُ عَلَيْهِ، فَكَادَ يَهْلِكُ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ لِلْغُلَامِ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي، فَعَرِّفْنِي! فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَسَكَتَ عَنْهُ. وَأَمَّا كَرَمُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْبَذْلِ لَا يَقِفُ فِي شَيْءٍ يُخْرِجُهُ، وَيَكْفِي دَلِيلًا عَلَى كَرَمِهِ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ لَمْ يُخَلِّفْ فِي خَزَائِنِهِ غَيْرَ دِينَارٍ وَاحِدٍ صُورِيٍّ، وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا نَاصِرِيَّةً. وَبَلَغَنِي أَنَّهُ أَخْرَجَ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ كُلَّ عَكَّا قُبَالَةَ الْفِرِنْجِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ دَابَّةٍ مِنْ فَرَسٍ وَبَغْلٍ سِوَى الْجِمَالِ، وَأَمَّا الْعَيْنُ وَالثِّيَابُ وَالسِّلَاحُ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ، وَلَمَّا انْقَرَضَتِ الدَّوْلَةُ الْعَلَوِيَّةُ بِمِصْرَ أَخَذَ مِنْ ذَخَائِرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ مَا يَفُوتُ الْإِحْصَاءَ، فَفَرَّقَهُ جَمِيعَهُ. وَأَمَّا تَوَاضُعُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يَتَكَبَّرْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ يَعِيبُ الْمُلُوكَ الْمُتَكَبِّرِينَ بِذَلِكَ، وَكَانَ يَحْضُرُ عِنْدَهُ الْفُقَرَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ وَيَعْمَلُ لَهُمُ السَّمَاعَ، فَإِذَا قَامَ أَحَدُهُمْ لِرَقْصٍ أَوْ سَمَاعٍ يَقُومُ لَهُ فَلَا يَقْعُدُ حَتَّى يَفْرَغَ الْفَقِيرُ. وَلَمْ يَلْبَسْ شَيْئًا مِمَّا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ، وَكَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَأَسْمَعَهُ، وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ نَادِرًا فِي عَصْرِهِ، كَثِيرَ الْمَحَاسِنِ وَالْأَفْعَالِ الْجَمِيلَةِ، عَظِيمَ

الْجِهَادِ فِي الْكُفَّارِ، وَفُتُوحُهُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَخَلَّفَ سَبْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا. ذِكْرُ حَالِ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ بَعْدَهُ لَمَّا مَاتَ صَلَاحُ الدِّينِ بِدِمَشْقَ كَانَ مَعَهُ بِهَا وَلَدُهُ الْأَكْبَرُ الْأَفْضَلُ نُورُ الدِّينِ عَلِيٌّ، وَكَانَ قَدْ حَلَفَ لَهُ الْعَسَاكِرُ جَمِيعُهَا، غَيْرَ مَرَّةٍ فِي حَيَاتِهِ، فَلَمَّا مَاتَ مَلَكَ دِمَشْقَ، وَالسَّاحِلَ، وَالْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ وَبَعْلَبَكَ، وَصَرْخَدَ، وَبُصْرَى وَبَانْيَاسَ. وَهُونِينَ وَتِبْنِينَ. وَجَمِيعَ الْأَعْمَالِ إِلَى الدَّارُومِ. وَكَانَ وَلَدُهُ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ عُثْمَانُ بِمِصْرَ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ بِهَا. وَكَانَ وَلَدُهُ الظَّاهِرُ غَازِي بِحَلَبَ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَعَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِهَا مِثْلَ: حَارِمٍ، وَتَلِّ بَاشَرْ، وَإِعْزَازَ وَبَرْزَيَةَ، وَدَرْبِ سَاكْ، وَمَنْبَجَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَانَ بِحَمَاةَ مَحْمُودُ بْنُ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ فَأَطَاعَهُ وَصَارَ مَعَهُ. وَكَانَ بِحِمْصَ شِيرِكُوهُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرِكُوهُ، فَأَطَاعَ الْمَلِكَ الْأَفْضَلَ. وَكَانَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ بِالْكَرَكِ قَدْ سَارَ إِلَيْهِ، كَمَا ذَكَرْنَا، فَامْتَنَعَ فِيهِ وَلَمْ يَحْضُرْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِ أَخِيهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ يَسْتَدْعِيهِ لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ فَوَعَدَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ، فَأَعَادَ مُرَاسَلَتَهُ وَخَوَّفَهُ مِنَ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ صَاحِبِ مِصْرَ، وَمِنْ أَتَابِكْ عِزِّ الدِّينِ. صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَارَ عَنْهَا إِلَى بِلَادِ الْعَادِلِ الْجَزَرِيَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَيَقُولُ لَهُ: إِنْ حَضَرْتَ جَهَّزْتُ الْعَسَاكِرَ وَسِرْتُ إِلَى بِلَادِكَ فَحَفِظْتُهَا، وَإِنْ أَقَمْتَ قَصَدَكَ أَخِي الْمَلِكُ الْعَزِيزُ لِمَا بَيْنَكُمَا مِنَ الْعَدَاوَةِ، وَإِذَا مَلَكَ عِزُّ الدِّينِ بِلَادَكَ فَلَيْسَ لَهُ دُونَ الشَّامِ مَانِعٌ. وَقَالَ لِرَسُولِهِ: إِنْ حَضَرَ مَعَكَ وَإِلَّا فَقُلْ لَهُ قَدْ أَمَرَنِي: إِنْ سِرْتَ إِلَيْهِ بِدِمَشْقَ عُدْتُ مَعَكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ أَسِيرُ إِلَى الْمَلِكِ الْعَزِيزِ أُحَالِفُهُ عَلَى مَا يَخْتَارُ. فَلَمَّا حَضَرَ الرَّسُولُ عِنْدَهُ وَعَدَهُ بِالْمَجِيءِ، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ مَعَهُ مِنْهُ غَيْرُ الْوَعْدِ أَبْلَغَهُ مَا قِيلَ لَهُ فِي مَعْنَى مُوَافَقَةِ الْعَزِيزِ، فَحِينَئِذٍ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ، وَجَهَّزَ الْأَفْضَلُ مَعَهُ عَسْكَرًا مِنْ عِنْدِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ حِمْصَ، وَصَاحِبِ حَمَاةَ، وَإِلَى أَخِيهِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ بِحَلَبَ، يَحُثُّهُمْ عَلَى إِنْفَاذِ الْعَسَاكِرِ مَعَ الْعَادِلِ إِلَى الْبِلَادِ الْجَزَرِيَّةِ لِيَمْنَعَهَا مِنْ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَيُخَوِّفَهُمْ إِنْ هُمْ لَمْ يَفْعَلُوا. وَمِمَّا قَالَ لِأَخِيهِ الظَّاهِرِ: قَدْ عَرَفْتَ صُحْبَةَ أَهْلِ الشَّامِ لِبَيْتِ أَتَابِكْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ

مَلَكَ عِزُّ الدِّينِ حَرَّانَ لِيَقُومَنَّ أَهْلُ حَلَبَ عَلَيْكَ وَلَتَخْرُجَنَّ مِنْهَا وَأَنْتَ لَا تَعْقِلُ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِي أَهْلُ دِمَشْقَ. فَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى تَسْيِيرِ الْعَسَاكِرِ مَعَهُ، فَجَهَّزُوا عَسَاكِرَهُمْ وَسَيَّرُوهَا إِلَى الْعَادِلِ وَقَدْ عَبَرَ الْفُرَاتَ، فَعَسْكَرَتْ عَسَاكِرُهُمْ بِنَوَاحِي الرُّهَا بِمَرْجِ الرَّيْحَانِ، وَسَنَذْكُرُ مَا كَانَ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مَسِيرِ أَتَابِكْ عِزِّ الدِّينِ إِلَى بِلَادِ الْعَادِلِ، وَعَوْدِهِ بِسَبَبِ مَرَضِهِ لَمَّا بَلَغَ أَتَابِكْ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودَ بْنَ مَوْدُودِ بْنِ زِنْكِيٍّ - صَاحِبَ الْمَوْصِلِ - وَفَاةُ صَلَاحِ الدِّينِ جَمَعَ أَهْلَ الرَّأْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَفِيهِمْ مُجَاهِدُ الدِّينِ قَايْمَازْ، كَبِيرُ دَوْلَتِهِ، وَالْمُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ مَنْ فِيهَا، وَهُوَ نَائِبُهُ فِيهِمْ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُ: فَسَكَتُوا. فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ - وَهُوَ أَخِي مَجْدِ الدِّينِ أَبُو السِّعَادَاتِ الْمُبَارَكُ -: أَنَا أَرَى أَنَّكَ تَخْرُجُ مُسْرِعًا جَرِيدَةً فِيمَنْ خَفَّ مِنْ أَصْحَابِكَ وَحَلْقَتِكَ الْخَاصِّ، وَتَتَقَدَّمُ إِلَى الْبَاقِينَ بِاللَّحَاقِ بِكَ، وَتُعْطِي مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ مَا يَتَجَهَّزُ بِهِ مَا يُخْرِجُهُ، وَيَلْحَقُ بِكَ إِلَى نَصِيبِينَ. وَتُكَاتِبُ أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ مِثْلَ مُظَفَّرِ الدِّينِ بْنِ زَيْنِ الدِّينِ صَاحِبِ إِرْبِلَ، وَسَنْجَرْ شَاهْ ابْنِ أَخِيكَ صَاحِبِ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَخِيكَ عِمَادِ الدِّينِ صَاحِبِ سِنْجَارَ وَنَصِيبِينَ، تُعَرِّفُهُمْ أَنَّكَ قَدْ سِرْتَ، وَتَطْلُبُ مِنْهُمُ الْمُسَاعَدَةَ، وَتَبْذُلُ لَهُمُ الْيَمِينَ عَلَى مَا يَلْتَمِسُونَهُ، فَمَتَى رَأَوْكَ قَدْ سِرْتَ خَافُوكَ، وَإِنْ أَجَابَكَ أَخُوكَ صَاحِبُ سِنْجَارَ وَنَصِيبِينَ إِلَى الْمُوَافَقَةِ، وَإِلَّا بَدَأْتَ بِنَصِيبِينَ فَأَخَذْتَهَا، وَتَرَكْتَ فِيهَا مَنْ يَحْفَظُهَا، ثُمَّ سِرْتَ نَحْوَ الْخَابُورِ، وَهُوَ لَهُ أَيْضًا فَأَقْطِعْهُ، وَتَرَكْتَ عَسْكَرَهُ مُقَابِلَ أَخِيكَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْحَرَكَةِ إِنْ أَرَادَهَا، أَوْ قَصَدْتَ الرَّقَّةَ فَلَا تَمْنَعُ نَفْسَهَا. وَتَأْتِي حَرَّانَ الرُّهَا، فَلَيْسَ فِيهَا مَنْ يَحْفَظُهَا لَا صَاحِبٌ وَلَا عَسْكَرٌ - وَلَا ذَخِيرَةٌ، فَإِنَّ الْعَادِلَ أَخَذَهُمَا مِنَ ابْنِ تَقِيِّ الدِّينِ وَلَمْ يَقُمْ فِيهِمَا لِيُصْلِحَ حَالَهُمَا. وَكَانَ الْقَوْمُ يَتَّكِلُونَ عَلَى قُوَّتِهِمْ، فَلَمْ يَظُنُّوا هَذَا الْحَادِثَ، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ ذَلِكَ الطَّرَفِ عُدْتَ إِلَى مَنِ امْتَنَعَ مِنْ طَاعَتِكَ فَقَاتَلْتَهُ لَيْسَ وَرَاءَكَ مَا تَخَافُ عَلَيْهِ فَإِنَّ بَلَدَكَ عَظِيمٌ لَا يُبَالِي بِكُلِّ مَنْ وَرَاءَكَ. فَقَالَ مُجَاهِدُ الدِّينِ: الْمَصْلَحَةُ أَنَّنَا نُكَاتِبُ أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ نَأْخُذُ رَأْيَهُمْ فِي

الْحَرَكَةِ نَسْتَمِيلُهُمْ، فَقَالَ لَهُ أَخِي: إِنْ أَشَارُوا بِتَرْكِ الْحَرَكَةِ تَقْبَلُونَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: لَا! قَالَ: إِنَّهُمْ لَا يُشِيرُونَ إِلَّا بِتَرْكِهَا، لِأَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَقْوَى هَذَا السُّلْطَانُ خَوْفًا مِنْهُ، وَكَأَنِّي بِهِمْ يُغَالِطُونَكُمْ مَا دَامَتِ الْبِلَادُ الْجَزَرِيَّةُ فَارِغَةً مِنْ صَاحِبِ عَسْكَرٍ، فَإِذَا جَاءَ إِلَيْهَا مَنْ يَحْفَظُهَا جَاهَرُوكُمْ بِالْعَدَاوَةِ. وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ خَوْفًا مِنْ مُجَاهِدِ الدِّينِ، حَيْثُ رَأَى مَيْلَهُ إِلَى مَا تَكَلَّمَ بِهِ، فَانْفَصَلُوا عَلَى أَنْ يُكَاتِبُوا أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ، فَكَاتَبُوهُمْ فَكُلٌّ أَشَارَ بِتَرْكِ الْحَرَكَةِ إِلَى أَنْ يَنْظُرَ مَا يَكُونُ مِنْ أَوْلَادِ صَلَاحِ الدِّينِ وَعَمِّهِمْ فَتَثَبَّطُوا. ثُمَّ إِنَّ مُجَاهِدَ الدِّينِ كَرَّرَ الْمُرَاسَلَاتِ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ، صَاحِبِ سِنْجَارَ، يَعِدُهُ وَيَسْتَمِيلُهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ جَاءَهُمْ كِتَابُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ مِنَ الْمُنَاخِ بِالْقُرْبِ مِنْ دِمَشْقَ، قَدْ سَارَ عَنْ دِمَشْقَ إِلَى بِلَادِهِ، يَذْكُرُ فِيهِ مَوْتَ أَخِيهِ، وَأَنَّ الْبِلَادَ قَدِ اسْتَقَرَّتْ لِوَلَدِهِ الْمَلِكِ الْأَفْضَلِ، وَالنَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُدَبِّرُ لِدَوْلَةِ الْأَفْضَلِ، وَقَدْ سَيَّرَهُ فِي عَسْكَرٍ جَمٍّ، كَثِيرِ الْعَدَدِ، لِقَصْدِ مَارْدِينَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ صَاحِبَهَا تَعَرَّضَ إِلَى بَعْضِ الْقُرَى الَّتِي لَهُ، وَذَكَرَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَظَنُّوهُ حَقًّا وَأَنَّ قَوْلَهُ لَا رَيْبَ فِيهِ، فَفَتَرُوا عَنِ الْحَرَكَةِ، وَذَلِكَ الرَّأْيِ. فَسَيَّرُوا الْجَوَاسِيسَ، فَأَتَتْهُمُ الْأَخْبَارُ بِأَنَّهُ فِي ظَاهِرِ حَرَّانَ نَحْوٌ مِنْ مِائَتَيْ خَيْمَةٍ لَا غَيْرَ، فَعَادُوا فَتَحَرَّكُوا، فَإِلَى أَنْ تَقَرَّرَتِ الْقَوَاعِدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَاحِبِ سِنْجَارَ، وَصَلَتْهُ الْعَسَاكِرُ الشَّامِيَّةُ الَّتِي سَيَّرَهَا الْأَفْضَلُ وَغَيْرُهُ إِلَى الْعَادِلِ، فَامْتَنَعَ بِهَا وَسَارَ أَتَابِكْ عِزُّ الدِّينِ عَنِ الْمَوْصِلِ إِلَى نَصِيبِينَ، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَأَخُوهُ عِمَادُ الدِّينِ بِهَا، وَسَارُوا عَلَى سِنْجَارَ نَحْوَ الرُّهَا، وَكَانَ الْعَادِلُ قَدْ عَسْكَرَ قَرِيبًا مِنْهَا بِمَرْجِ الرَّيْحَانِ، فَخَافَهُمْ خَوْفًا عَظِيمًا. فَلَمَّا وَصَلَ أَتَابِكْ عِزُّ الدِّينِ إِلَى تَلِّ مَوْزَنٍ مَرِضَ بِالْإِسْهَالِ، فَأَقَامَ عِدَّةَ أَيَّامٍ فَضَعُفَ عَنِ الْحَرَكَةِ، وَكَثُرَ مَجِيءُ الدَّمِ مِنْهُ فَخَافَ الْهَلَاكَ، فَتَرَكَ الْعَسَاكِرَ مَعَ أَخِيهِ عِمَادِ الدِّينِ، وَعَادَ جَرِيدَةً فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَمَعَهُ مُجَاهِدُ الدِّينِ، وَأَخِي - مَجْدُ الدِّينِ -، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى دَنَيْسِرَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الضَّعْفُ، فَأَحْضَرَ أَخِي وَكَتَبَ وَصِيَّةً، ثُمَّ سَارَ فَدَخَلَ الْمَوْصِلَ، وَهُوَ مَرِيضٌ أَوَّلَ رَجَبٍ.

ذِكْرُ وَفَاةِ أَتَابِكْ عِزِّ الدِّينِ وَشَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَتَابِكْ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ مَوْدُودِ بْنِ زِنْكِيِّ بْنِ آقْسُنْقُرَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، بِالْمَوْصِلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَوْدَهُ إِلَيْهَا مَرِيضًا، فَبَقِيَ فِي مَرَضِهِ إِلَى التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، فَتُوُفِّيَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَدُفِنَ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا مُقَابِلَ دَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِغَيْرِهَا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَرُزِقَ خَاتِمَةَ خَيْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَكَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، خَيِّرَ الطَّبْعِ، كَثِيرَ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ، لَا سِيَّمَا إِلَى شُيُوخٍ قَدْ خَدَمُوا أَبَاهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَعَهَّدُهُمْ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَالصِّلَةِ وَالْإِكْرَامِ، وَيَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِمْ، وَيَزُورُ الصَّالِحِينَ، وَيُقَرِّبُهُمْ وَيُشَفِّعُهُمْ. وَكَانَ حَلِيمًا، قَلِيلَ الْمُعَاقَبَةِ، كَثِيرَ الْحَيَاءِ، لَمْ يُكَلِّمْ جَلِيسًا لَهُ إِلَّا وَهُوَ مُطْرِقٌ، وَمَا قَالَ فِي شَيْءٍ يُسْأَلُهُ: لَا، حَيَاءً وَكَرَمَ طَبْعٍ. وَكَانَ قَدْ حَجَّ، وَلَبِسَ بِمَكَّةَ، حَرَسَهَا اللَّهُ، خِرْقَةَ التَّصَوُّفِ: وَكَانَ يَلْبَسُ تِلْكَ الْخِرْقَةَ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَيَخْرُجُ إِلَى مَسْجِدٍ قَدْ بَنَاهُ فِي دَارِهِ، وَيُصَلِّي فِيهِ نَحْوَ ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَكَانَ رَقِيقَ الْقَلْبِ، شَفِيقًا عَلَى الرَّعِيَّةِ. بَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بَعْضَ الْأَيَّامِ: إِنَّنِي سَهِرْتُ اللَّيْلَةَ كَثِيرًا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنِّي سَمِعْتُ صَوْتَ نَائِحَةٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّ وَلَدَ فُلَانٍ قَدْ مَاتَ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ: قَالَ: فَضَاقَ صَدْرِي، وَقُمْتُ مِنْ فِرَاشِي أَدُورُ فِي السَّطْحِ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيَّ الْأَمْرُ أَرْسَلْتُ خَادِمًا إِلَى الْجَانْدَارِيَّةِ، فَأَرْسَلَ مِنْهُمْ وَاحِدًا يَسْتَعْلِمُ الْخَبَرَ، فَعَادَ وَذَكَرَ إِنْسَانًا لَا أَعْرِفُهُ، فَسَكَنَ بَعْضُ مَا عِنْدِي فَنِمْتُ، وَلَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ الَّذِي ظَنَّ أَنَّ ابْنَهُ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِهِ، إِنَّمَا كَانَ مِنْ رَعِيَّتِهِ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَتَأَخَّرَ وَفَاتُهُ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَاهَا لِتَتَبُّعِ أَخْبَارِهِ بَعْضِهَا بَعْضًا. ذِكْرُ قَتْلِ بُكْتُمُرْ صَاحِبِ خِلَاطَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَوَّلَ جُمَادَى الْأُولَى قُتِلَ سَيْفُ الدِّينِ بُكْتُمُرْ، صَاحِبُ خِلَاطَ،

وَكَانَ بَيْنَ قَتْلِهِ وَمَوْتِ صَلَاحِ الدِّينِ شَهْرَانِ، فَإِنَّهُ أَسْرَفَ فِي إِظْهَارِ الشَّمَاتَةِ بِمَوْتِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَلَمْ يُمْهِلْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ صَلَاحِ الدِّينِ فَرِحَ فَرَحًا كَثِيرًا، وَعَمِلَ تَخْتًا جَلَسَ عَلَيْهِ، وَلَقَّبَ نَفْسَهُ بِالسُّلْطَانِ الْمُعَظَّمِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَكَانَ لَقَبُهُ سَيْفَ الدِّينِ، فَغَيَّرَهُ، وَسَمَّى نَفْسَهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ، وَظَهَرَ مِنْهُ اخْتِلَالٌ وَتَخْلِيطٌ، وَتَجَهَّزَ لِيَقْصِدَ مَيَّافَارِقِينَ يَحْصُرُهَا، فَأَدْرَكَتْهُ مَنِيَّتُهُ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ هَزَارَ دِينَارِي، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ مَمَالِيكِ شَاهْ أَرْمَنْ ظَهِيرِ الدِّينِ، كَانَ قَدْ قَوِيَ وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ بُكْتُمُرْ، فَطَمِعَ فِي الْمُلْكِ، فَوَضَعَ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ مَلَكَ بَعْدَهُ هَزَارُ دِينَارِي بِلَادَ خِلَاطَ وَأَعْمَالَهَا. وَكَانَ بُكْتُمُرْ دَيِّنًا، خَيِّرًا، صَالِحًا، كَثِيرَ الْخَيْرِ، وَالصَّلَاحِ، وَالصَّدَقَةِ، مُحِبًّا لِأَهْلِ الدِّينِ، وَالصُّوفِيَّةِ، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، قَرِيبًا مِنْهُمْ، وَمِنْ سَائِرِ رَعِيَّتِهِ، مَحْبُوبًا إِلَيْهِمْ، عَادِلًا فِيهِمْ، وَكَانَ جَوَادًا شُجَاعًا عَادِلًا فِي رَعِيَّتِهِ، حَسَنَ السِّيرَةِ فِيهِمْ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ شَتَّى شِهَابُ الدِّينِ مَلِكُ غَزْنَةَ فِي بَرْشَاوُورَ، وَجَهَّزَ مَمْلُوكَهُ أَيْبَكَ فِي عَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ، فَأَدْخَلَهُ بِلَادَ الْهِنْدِ يَغْنَمُ وَيَسْبِي، وَيَفْتَحُ مِنَ الْبِلَادِ مَا يُمْكِنُهُ، فَدَخَلَهَا وَعَادَ فَخَرَجَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ سَالِمًا، وَقَدْ مَلَأُوا أَيْدِيَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ. وَفِيهَا، فِي رَمَضَانَ، تُوُفِّيَ سُلْطَانُ شَاهْ صَاحِبُ مَرْوَ وَغَيْرِهَا مِنْ خُرَاسَانَ، وَمَلَكَ أَخُوهُ عَلَاءُ الدِّينِ تَكْشُ بِلَادَهُ، وَسَنَذْكُرُهُ سَنَةَ تِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَفِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ بِعِمَارَةِ خِزَانَةِ الْكُتُبِ بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ

بِبَغْدَادَ، وَنَقَلَ إِلَيْهَا مِنَ الْكُتُبِ النَّفِيسَةِ أُلُوفًا لَا يُوجَدُ مِثْلُهَا. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَرَغَ مِنْ عِمَارَةِ الرِّبَاطِ الَّذِي أَمَرَ بِإِنْشَائِهِ الْخَلِيفَةُ أَيْضًا بِالْحَرِيمِ الطَّاهِرِيِّ، غَرْبِيَّ بَغْدَادَ عَلَى دِجْلَةَ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الرُّبُطِ، وَنَقَلَ إِلَيْهِ كُتُبًا كَثِيرَةً مِنْ أَحْسَنِ الْكُتُبَ. وَفِيهَا مَلَكَ الْخَلِيفَةُ قَلْعَةً مِنْ بِلَادِ خُوزِسْتَانَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهَا سُوسَيَانَ بْنَ شَمْلَةَ جَعَلَ فِيهَا دَزْدَارَا، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ مَعَ جُنْدِهَا، فَغَدَرَ بِهِ بَعْضُهُمْ فَقَتَلَهُ، وَنَادَوْا بِشِعَارِ الْخَلِيفَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَمَلَكَهَا. وَفِيهَا انْقَضَّ كَوْكَبَانِ عَظِيمَانِ، وَسُمِعَ صَوْتُ هَدَّةٍ عَظِيمَةٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَغَلَبَ ضَوْءُهُمَا الْقَمَرَ وَضَوْءَ النَّهَارِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ الْأَمِيرُ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ، أَمِيرُ مَكَّةَ، وَمَا زَالَتْ إِمَارَةُ مَكَّةَ تَكُونُ لَهُ تَارَةً، وَلِأَخِيهِ مُكْثِرٍ تَارَةً، إِلَى أَنْ مَاتَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو الرَّشِيدِ الْحَاسِبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَهُ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ فِي رِسَالَةٍ إِلَى الْمَوْصِلِ فَمَاتَ هُنَاكَ.

ثم دخلت سنة تسعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ] 590 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ شِهَابِ الدِّينِ وَمَلِكِ بَنَارِسَ الْهِنْدِيِّ كَانَ شِهَابُ الدِّينِ الْغُورِيُّ، مَلِكُ غَزْنَةَ، قَدْ جَهَّزَ مَمْلُوكَهُ قُطْبَ الدِّينِ أَيْبَكْ، وَسَيَّرَهُ إِلَى بَلَدِ الْهِنْدِ لِلْغُزَاةِ، فَدَخَلَهَا فَقَتَلَ فِيهَا وَسَبَى وَنَهَبَ وَعَادَ. فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ مَلِكُ بَنَارِسَ، وَهُوَ أَكْبَرُ مَلِكٍ فِي الْهِنْدِ، وَوِلَايَتُهُ مِنْ حَدِّ الصِّينِ إِلَى بِلَادِ مَلَاوَا طُولًا، وَمِنَ الْبَحْرِ إِلَى مَسِيرَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ لَهَاوُورَ عَرْضًا، وَهُوَ مَلِكٌ عَظِيمٌ فَعِنْدَهَا جَمَعَ جُيُوشَهُ، وَحَشَرَهَا، وَسَارَ يَطْلُبُ بِلَادَ الْإِسْلَامِ. وَدَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، فَسَارَ شِهَابُ الدِّينِ الْغُورِيُّ، مِنْ غَزْنَةَ بِعَسَاكِرِهِ نَحْوَهُ، فَالْتَقَى الْعَسْكَرَانِ عَلَى مَاجُونَ، وَهُوَ نَهَرٌ كَبِيرٌ يُقَارِبُ دِجْلَةَ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَ مَعَ الْهِنْدِيِّ سَبْعُمِائَةِ فِيلٍ، وَمِنَ الْعَسْكَرِ عَلَى مَا قِيلَ أَلْفُ أَلْفِ رَجُلٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ عَسْكَرِهِ عِدَّةُ أُمَرَاءَ مُسْلِمِينَ، وَكَانُوا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ أَبًّا عَنْ جَدٍّ، مِنْ أَيَّامِ السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، يُلَازِمُونَ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ، وَيُوَاظِبُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَأَفْعَالِ الْخَيْرِ. فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْهُنُودُ اقْتَتَلُوا، فَصَبَرَ الْكُفَّارُ لِكَثْرَتِهِمْ، وَصَبَرَ الْمُسْلِمُونَ لِشَجَاعَتِهِمْ، فَانْهَزَمَ الْكُفَّارُ، وَنُصِرَ الْمُسْلِمُونَ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْهُنُودِ، حَتَّى امْتَلَأَتِ الْأَرْضُ وَجَافَتْ. وَكَانُوا لَا يَأْخُذُونَ إِلَّا الصِّبْيَانَ وَالْجَوَارِيَ وَأَمَّا الرِّجَالُ فَيُقْتَلُونَ، وَأُخِذَ مِنْهُمْ تِسْعُونَ فِيلًا، وَبَاقِي الْفِيَلَةِ قُتِلَ بَعْضُهَا، وَانْهَزَمَ بَعْضُهَا، وَقُتِلَ مَلِكُ الْهِنْدِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ إِلَّا أَنَّهُ كَانَتْ أَسْنَانُهُ قَدْ ضَعُفَتْ أُصُولُهَا، فَأَمْسَكُوهَا بِشَرِيطِ الذَّهَبِ فَبِذَلِكَ عَرَفُوهُ.

فَلَمَّا انْهَزَمَ الْهُنُودُ دَخَلَ شِهَابُ الدِّينِ بِلَادَ بَنَارِسَ، وَحَمَلَ مِنْ خَزَائِنِهَا عَلَى أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ جَمَلٍ، وَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ، وَمَعَهُ الْفِيَلَةُ الَّتِي أَخَذَهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا فِيلٌ أَبْيَضُ. حَدَّثَنِي مَنْ رَآهُ: لَمَّا أُخِذَتِ الْفِيَلَةُ، وَقُدِّمَتْ إِلَى شِهَابِ الدِّينِ، وَأُمِرَتْ بِالْخِدْمَةِ، فَخَدَمَتْ جَمِيعُهَا إِلَّا الْأَبْيَضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْدُمْ، وَلَا يَعْجَبْ أَحَدٌ مِنْ قَوْلِنَا الْفِيَلَةُ تَخْدُمُ فَإِنَّهَا تَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهَا، وَلَقَدْ شَاهَدْتُ فِيلًا بِالْمَوْصِلِ وَفَيَّالُهُ يُحَدِّثُهُ، فَيَفْعَلُ مَا يَقُولُ لَهُ. ذِكْرُ قَتْلِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْ، وَمُلْكِ خُوَارِزْمِ شَاهْ الرَّيَّ، وَوَفَاةِ أَخِيهِ سُلْطَانِ شَاهْ لَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] خُرُوجَ السُّلْطَانِ طُغْرُلْ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بْنِ طُغْرُلْ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبِ أَرُسَلَانَ السَّلْجُوقِيِّ مِنَ الْحَبْسِ، وَمُلْكَهُ هَمَذَانَ وَغَيْرَهَا، وَكَانَ قَدْ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُتْلُغْ إِينَانْج بْنِ الْبَهْلَوَانِ، صَاحِبِ الْبِلَادِ حَرْبٌ، انْهَزَمَ فِيهَا قُتْلُغْ إِينَانْجُ، وَتَحَصَّنَ بِالرَّيِّ. وَسَارَ طُغْرُلْ إِلَى هَمَذَانَ، وَأَرْسَلَ قُتْلُغْ إِينَانْجُ إِلَى خُوَارِزْمِ شَاهْ عَلَاءِ الدِّينِ تُكْشَ يَسْتَنْجِدُهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، فَلَمَّا تَقَارَبَا نَدِمَ قُتْلُغْ إِينَانْجُ عَلَى اسْتِدْعَاءِ خُوَارِزْمِ شَاهْ، وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ فَمَضَى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَتَحَصَّنَ قَلْعَةً لَهُ، فَسَارَ خُوَارِزْمِ شَاهْ إِلَى الرَّيِّ وَمَلَكَهَا. وَحَصَرَ قَلْعَةَ طَبَرْكَ فَفَتَحَهَا فِي يَوْمَيْنِ، وَرَاسَلَهُ طُغْرُلْ، وَاصْطَلَحَا، وَبَقِيَتِ الرَّيُّ فِي يَدِ خُوَارِزْمِ شَاهْ فَرَتَّبَ فِيهَا عَسْكَرًا يَحْفَظُهَا، وَعَادَ إِلَى خُوَارِزْمَ لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَخَاهُ سُلْطَانَ [شَاهْ] قَدْ قَصَدَ خُوَارِزْمَ، فَجَدَّ فِي السَّيْرِ خَوْفًا عَلَيْهَا، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ، وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ أَنَّ أَهْلَ خُوَارِزْمَ مَنَعُوا سُلْطَانَ شَاهْ عَنْهَا، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقُرْبِ مِنْهَا، وَعَادَ عَنْهَا خَائِبًا. فَشَتَّى خُوَارِزْمُ شَاهْ بِخُوَارِزْمَ، فَلَمَّا انْقَضَى الشِّتَاءُ سَارَ إِلَى مَرْوَ لِقَصْدِ أَخِيهِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا فِي الصُّلْحِ. فَبَيْنَمَا هُمْ فِي تَقْرِيرِ الصُّلْحِ وَرَدَ عَلَى خُوَارِزْمِ شَاهْ رَسُولٌ مِنْ مُسْتَحْفِظِ قَلْعَةِ سَرَخْسَ لِأَخِيهِ سُلْطَانِ شَاهْ يَدْعُوهُ لِيُسَلِّمَ الْقَلْعَةَ ; لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْحَشَ مِنْ صَاحِبِهِ سُلْطَانِ شَاهْ، فَسَارَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَيْهِ مُجِدًّا، فَتَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ وَصَارَ مَعَهُ. وَبَلَغَ ذَلِكَ سُلْطَانَ شَاهْ فَفَتَّ فِي عَضُدِهِ، وَتَزَايَدَ كَمَدُهُ، فَمَاتَ سَلْخَ رَمَضَانَ سَنَةَ

تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَلَمَّا سَمِعَ خُوَارِزْمُ شَاهْ بِمَوْتِهِ سَارَ مِنْ سَاعَتِهِ إِلَى مَرْوَ فَتَسَلَّمَهَا، وَتَسَلَّمَ مَمْلَكَةَ أَخِيهِ سُلْطَانِ شَاهْ جَمِيعَهَا وَخَزَائِنَهُ. وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِهِ عَلَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِينَئِذٍ قُطْبَ الدِّينِ، وَهُوَ بِخُوَارِزْمَ، فَأَحْضَرَهُ فَوَلَّاهُ نَيْسَابُورَ، وَوَلَّى ابْنَهُ الْأَكْبَرَ مَلِكْشَاهْ مَرْوَ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ. فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، قَصَدَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْ بَلَدَ الرَّيِّ فَأَغَارَ عَلَى مَنْ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ خُوَارِزْمَ شَاهْ، [فَفَرَّ مِنْهُ قُتْلُغْ إِينَانْجُ بْنُ الْبَهْلَوَانِ، وَأَرْسَلَ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ] يَعْتَذِرُ وَيَسْأَلُ إِنْجَادَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً. وَوَافَقَ ذَلِكَ وُصُولَ رَسُولِ الْخَلِيفَةِ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ يَشْكُو مِنْ طُغْرُلْ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ قَصْدَ بِلَادِهِ وَمَعَهُ مَنْشُورٌ بِإِقْطَاعِهِ الْبِلَادَ، فَسَارَ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى الرَّيِّ، فَتَلْقَاهُ قُتْلُغ إِينَانْجُ وَمَنْ مَعَهُ بِالطَّاعَةِ، وَسَارُوا مَعَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْ بِوُصُولِهِ كَانَتْ عَسَاكِرُهُ مُتَفَرِّقَةً، فَلَمْ يَقِفْ لِيَجْمَعَهَا بَلْ سَارَ إِلَيْهِ فِيمَنْ مَعَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنِ الَّذِي تَفْعَلُهُ لَيْسَ بِرَأْيٍ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ تَجْمَعَ الْعَسَاكِرَ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَكَانَ فِيهِ شَجَاعَةٌ، بَلْ تَمَّمَ مَسِيرَهُ. فَالْتَقَى الْعَسْكَرَانِ بِالْقُرْبِ مِنَ الرَّيِّ، فَحَمَلَ طُغْرُلْ بِنَفْسِهِ وَسَطَ عَسْكَرِ خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَأَحَاطُوا بِهِ وَأَلْقَوْهُ عَنْ فَرَسِهِ، وَقَتَلُوهُ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَحُمِلَ رَأَسُهُ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَسَيَّرَهُ مِنْ يَوْمِهِ إِلَى بَغْدَادَ، فَنُصِبَ بِهَا بِبَابِ النُّوبِيِّ عِدَّةَ أَيَّامٍ. وَسَارَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى هَمَذَانَ، وَمَلَكَ تِلْكَ الْبِلَادَ جَمِيعَهَا، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ قَدْ جَهَّزَ عَسْكَرَ إِلَى نَجْدَةَ خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَسَيَّرَ لَهُ الْخِلَعَ السُّلْطَانِيَّةَ مَعَ وَزِيرِهِ مُؤَيِّدِ الدِّينِ بْنِ الْقَصَّابِ، فَنَزَلَ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ هَمَذَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ خُوَارِزْمُ شَاهْ يَطْلُبُهُ إِلَيْهِ. فَقَالَ مُؤَيِّدُ الدِّينِ: يَنْبَغِي أَنْ تَحْضُرَ أَنْتَ وَتَلْبَسَ الْخِلْعَةَ مِنْ خَيْمَتِي وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ لِخَوَارِزْمَ شَاهْ: إِنَّهَا حِيلَةٌ عَلَيْكَ حَتَّى تَحْضُرَ عِنْدَهُ، وَيَقْبِضَ عَلَيْكَ. فَرَحَلَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَيْهِ قَصْدًا لِأَخْذِهِ فَانْدَفَعَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَالْتَجَأَ إِلَى بَعْضِ الْجِبَالِ، فَامْتَنَعَ بِهِ، فَرَجَعَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى هَمَذَانَ، وَلَمَّا مَلَكَ هَمَذَانَ وَتِلْكَ الْبِلَادَ سَلَّمَهَا إِلَى قُتْلُغ إِينَانْجَ، وَأَقْطَعَ كَثِيرًا مِنْهَا لِمَمَالِيكِهِ، وَجَعَلَ الْمُقَدَّمَ عَلَيْهِمْ مَيَاجِقَ، وَعَادَ إِلَى خُوَارِزْمَ.

ذِكْرُ مَسِيرِ وَزِيرِ الْخَلِيفَةِ إِلَى خُوزِسْتَانَ وَمُلْكِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، خَلَعَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ عَلَى النَّائِبِ فِي الْوِزَارَةِ مُؤَيِّدِ الدِّينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الْقَصَّابِ، خِلَعَ الْوِزَارَةِ، وَحُكِّمَ فِي الْوِلَايَةِ وَبَرَزَ فِي رَمَضَانَ، وَسَارَ إِلَى بِلَادِ خُوزِسْتَانَ ; [وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا قَدْ خَدَمَ فِي خُوزِسْتَانَ] ، وَوَلِيَ الْأَعْمَالَ بِهَا، وَصَارَ لَهُ فِيهَا أَصْحَابٌ وَأَصْدِقَاءُ وَمَعَارِفُ، وَعَرَفَ الْبِلَادَ وَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ يُمْكِنُ الدُّخُولُ إِلَيْهَا وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا وَلِيَ بِبَغْدَادَ نِيَابَةَ الْوِزَارَةِ أَشَارَ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِأَنْ يُرْسِلَهُ فِي عَسْكَرٍ إِلَيْهَا لِيَمْلِكَهَا لَهُ، وَكَانَ عَزْمُهُ أَنَّهُ إِذَا مَلَكَ الْبِلَادَ وَاسْتَقَرَّ فِيهَا أَقَامَ مُظْهِرًا لِلطَّاعَةِ، مُسْتَقِلًّا بِالْحُكْمِ فِيهَا; لِيَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ. فَاتُّفِقَ أَنَّ صَاحِبَهَا ابْنُ شَمْلَةَ تُوُفِّيَ، وَاخْتَلَفَ أَوْلَادُهُ بَعْدَهُ، فَرَاسَلَ بَعْضُهُمْ مُؤَيِّدَ الدِّينِ يَسْتَنْجِدُهُ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الصُّحْبَةِ الْقَدِيمَةِ، فَقَوِيَ الطَّمَعُ فِي الْبِلَادِ، فَجُهِّزَتِ الْعَسَاكِرُ وَسُيِّرَتْ مَعَهُ إِلَى خُوزِسْتَانَ، فَوَصَلَهَا سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِ الْبِلَادِ مُرَاسَلَاتٌ وَمُحَارَبَةٌ عَجَزُوا عَنْهَا، وَمَلَكَ مَدِينَةَ تُسْتَرَ فِي الْمُحَرَّمِ، وَمَلَكَ غَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَمَلَكَ الْقِلَاعَ مِنْهَا: قَلْعَةُ النَّاظِرِ، وَقَلْعَةُ كَاكَرْد، وَقَلْعَةُ لَامُوجَ، وَغَيْرَهَا مِنَ الْحُصُونِ وَالْقِلَاعِ، وَأَنْفَذَ بَنِي شَمْلَةَ أَصْحَابَ بِلَادِ خُوزِسْتَانَ إِلَى بَغْدَادَ، فَوَصَلُوا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. ذِكْرُ حَصْرِ الْعَزِيزِ مَدِينَةَ دِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ عُثْمَانُ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ، وَهُوَ صَاحِبُ مِصْرَ، إِلَى مَدِينَةِ دِمَشْقَ، فَحَصَرَهَا وَبِهَا أَخُوهُ الْأَكْبَرُ الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ عَلِيُّ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ. وَكُنْتُ حِينَئِذٍ بِدِمَشْقَ، فَنَزَلَ بِنَوَاحِي مَيْدَانِ الْحَصَى، فَأَرْسَلَ الْأَفْضَلُ إِلَى عَمِّهِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ. أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، وَهُوَ صَاحِبُ الدِّيَارِ الْجَزَرِيَّةِ، يَسْتَنْجِدُهُ، وَكَانَ الْأَفْضَلُ غَايَةَ الْوَاثِقِ بِهِ وَالْمُعْتَمِدِ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَسَارَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ إِلَى دِمَشْقَ

هُوَ وَالْمَلِكُ الظَّاهِرُ غَازِي بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ - صَاحِبُ حَلَبَ -، وَنَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ تَقِيِّ الدِّينِ - صَاحِبُ حَمَاةَ -، وَأَسَدُ الدِّينِ شِيرْكُوه بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرْكُوهْ - صَاحِبُ حِمْصَ -، وَعَسْكَرُ الْمَوْصِلِ وَغَيْرِهَا، كُلُّ هَؤُلَاءِ اجْتَمَعُوا بِدِمَشْقَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى حِفْظِهَا. عِلْمًا مِنْهُمْ أَنَّ الْعَزِيزَ إِنْ مَلَكَهَا أَخَذَ بِلَادَهُمْ. فَلَمَّا رَأَى الْعَزِيزُ اجْتِمَاعَهُمْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْبَلَدِ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ حِينَئِذٍ فِي الصُّلْحِ، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ وَمَا جَاوَرَهُ مِنْ أَعْمَالِ فِلَسْطِينَ لِلْعَزِيزِ، وَتَبْقَى دِمَشْقُ وَطَبَرِيَّةُ وَأَعْمَالُهَا وَالْغَوْرُ لِلْأَفْضَلِ، عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُعْطِيَ الْأَفْضَلُ أَخَاهُ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ جَبَلَةَ وَلَاذِقِيَّةَ بِالسَّاحِلِ الشَّامِيِّ، وَأَنْ يَكُونَ لِلْعَادِلِ بِمِصْرَ إِقْطَاعُهُ الْأَوَّلُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، وَعَادَ الْعَزِيزُ إِلَى مِصْرَ، وَرَجَعَ كُلُّ وَاحِدٌ مِنَ الْمُلُوكِ إِلَى بَلَدِهِ. ذِكْرُ عَدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ زَلْزَلَةٌ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ، وَسَقَطَتْ مِنْهَا الْجَبَّانَةُ الَّتِي عِنْدَ مَشْهَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِيهَا - فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ - اجْتَمَعَتْ زِعْبٌ وَغَيْرُهَا مِنَ الْعَرَبِ، وَقَصَدُوا مَدِينَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى إِلَيْهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ هَاشِمُ بْنُ قَاسِمٍ - أَخُو أَمِيرِ الْمَدِينَةِ - فَقَاتَلَهُمْ، فَقُتِلَ هَاشِمٌ، وَكَانَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الشَّامِ ; فَلِهَذَا طَمِعَتِ الْعَرَبُ فِيهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ الطَّرَسُوسِيُّ الْحَلَبِيُّ بِهَا، فِي شَعْبَانَ، وَكَانَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَة] 591 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ وَزِيرِ الْخَلِيفَةِ هَمَذَانَ وَغَيْرَهَا مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ قَدْ ذَكَرْنَا مُلْكَ مُؤَيِّدِ الدِّينِ بْنِ الْقَصَّابِ بِلَادَ خُوزِسْتَانَ، فَلَمَّا مَلَكَهَا سَارَ مِنْهَا إِلَى مَيْسَانَ مِنْ أَعْمَالِ خُوزِسْتَانَ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ قُتْلُغُ إِينَانْج بْنُ الْبَهْلَوَانِ، صَاحِبُ الْبِلَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ تَغَلُّبِ خُوَارِزْمَ شَاهْ عَلَيْهَا، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَأَكْرَمُهُ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ. وَكَانَ سَبَبُ مَجِيئِهِ أَنَّهُ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَسْكَرِ خُوَارِزْمَ شَاهْ وَمُقَدَّمِهِمْ مَيَاجِقَ مَصَافٌّ عِنْدَ زَنَجْانَ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ قُتْلُغُ إِينَانْج وَعَسْكَرُهُ، وَقَصَدَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ مُلْتَجَئًا إِلَى مُؤَيِّدِ الدِّينِ الْوَزِيرِ، فَأَعْطَاهُ الْوَزِيرُ الْخَيْلَ وَالْخِيَامَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَرَحَلُوا إِلَى كَرْمَاشَاهَانَ. وَرَحَلَ مِنْهَا إِلَى هَمَذَانَ، وَكَانَ بِهَا وَلَدُ خُوَارِزْمَ شَاهْ وَمَيَاجِقُ وَالْعَسْكَرُ الَّذِي مَعَهُمَا، فَلَمَّا قَارَبَهُمْ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ فَارَقَهَا الْخُوَارِزْمِيُّونَ وَتَوَجَّهُوا إِلَى الرَّيِّ، وَاسْتَوْلَى الْوَزِيرُ عَلَى هَمَذَانَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ رَحَلَ هُوَ وَقُتْلُغُ إِينَانْج خَلْفَهُمْ، فَاسْتَوْلَوْا عَلَى كُلِّ بَلَدٍ جَازَوْا بِهِ مِنْهَا: خَرْقَانُ، وَمَزْدَغَانُ، وَسَاوَةُ، وَآوَةُ، وَسَارُوا إِلَى الرَّيِّ، فَفَارَقَهَا الْخُوَارِزْمِيُّونَ إِلَى خُوَارِ الرَّيِّ، فَسَيَّرَ الْوَزِيرُ خَلْفَهُمْ عَسْكَرًا، فَفَارَقَهَا الْخُوَارِزْمِيُّونَ إِلَى دَامَغَانَ، وَبِسْطَامَ، وَجُرْجَانَ، فَعَادَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ إِلَى الرَّيِّ فَأَقَامُوا بِهَا، فَاتَّفَقَ قُتْلُغُ إِينَانْج وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى الْخِلَافِ عَلَى الْوَزِيرِ وَعَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ،

لِأَنَّهُمْ رَأَوُا الْبِلَادَ قَدْ خَلَتْ مِنْ عَسْكَرِ خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَطَمِعُوا فِيهَا، فَدَخَلُوا الرَّيَّ، فَحَصَرَهَا وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، فَفَارَقَهَا قُتْلُغُ إِينَانْجُ، وَمَلَكَهَا الْوَزِيرُ، وَنَهَبَهَا الْعَسْكَرُ، فَأَمَرَ الْوَزِيرُ بِالنِّدَاءِ بِالْكَفِّ عَنِ النَّهْبِ. وَسَارَ قُتْلُغُ إِينَانْجُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى مَدِينَةِ آوَةَ، وَبِهَا شِحْنَةُ الْوَزِيرِ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِهَا، فَسَارُوا عَنْهَا، وَرَحَلَ الْوَزِيرُ فِي أَثَرِهِمْ نَحْوَ هَمَذَانَ، فَبَلَغَهُ وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ أَنَّ قُتْلُغَ إِينَانْجَ قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ عَسْكَرٌ، وَقَصَدَ مَدِينَةَ كَرَجَ، وَقَدْ نَزَلَ عَلَى دَرَبَنْدَ هُنَاكَ، فَطَلَبَهُمُ الْوَزِيرُ، فَلَمَّا قَارَبَهُمُ الْتَقَوْا، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ قُتْلُغُ إِينَانْجُ وَنَجَا بِنَفْسِهِ، وَرَحَلَ الْوَزِيرُ مِنْ مَوْضِعِ الْمَصَافِّ إِلَى هَمَذَانَ، فَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا، فَأَقَامَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَوَصَلَهُ رَسُولُ خُوَارِزْمَ شَاهْ تُكُشُ، وَكَانَ قَدْ قَصَدَهُمْ مُنْكِرًا أَخْذَهُ الْبِلَادَ مِنْ عَسْكَرِهِ،، وَيَطْلُبُ إِعَادَتَهَا وَتَقْرِيرَ قَوَاعِدِ الصُّلْحِ، فَلَمْ يُجِبِ الْوَزِيرُ إِلَى ذَلِكَ، فَسَارَ خُوَارِزْمُ شَاهْ مُجِدًّا إِلَى هَمَذَانَ. وَكَانَ الْوَزِيرُ مُؤَيِّدُ الدِّينِ [بْنُ] الْقَصَّابِ قَدْ تُوُفِّيَ فِي أَوَائِلِ شَعْبَانَ، فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ مَصَافٌّ، نِصْفَ شَعْبَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الْعَسْكَرَيْنِ، وَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ، وَغَنِمَ الْخُوَارِزْمِيُّونَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَمَلَكَ خُوَارِزْمُ شَاهْ هَمَذَانَ، وَنَبَشَ الْوَزِيرَ مِنْ قَبْرِهِ وَقَطَعَ رَأْسَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى خُوَارِزْمَ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ فِي الْمَعْرَكَةِ، ثُمَّ إِنَّ خُوَارِزْمَ شَاهْ أَتَاهُ مِنْ خُرَاسَانَ مَا أَوْجَبَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا، فَتَرَكَ الْبِلَادَ وَعَادَ إِلَى خُرَاسَانَ. ذِكْرُ غَزْوِ [ابْنِ] عَبْدِ الْمُؤْمِنَ الْفِرِنْجَ بِالْأَنْدَلُسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - فِي شَعْبَانَ - غَزَا أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ صَاحِبُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ وَالْأَنْدَلُسِ، بِلَادَ الْفِرِنْجِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَلْفُنْشَ مَلِكَ الْفِرِنْجِ بِهَا، وَمَقَرُّ مُلْكِهِ مَدِينَةُ طُلَيْطُلَةَ، كَتَبَ إِلَى يَعْقُوبَ كِتَابًا نُسْخَتُهُ: " بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى كُلِّ ذِي عَقْلٍ لَازِبٍ، وَلَا ذِي ذَكَاءٍ ثَاقِبٍ، أَنْتَ أَمِيرُ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ، كَمَا أَنَا أَمِيرُ الْمِلَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَأَنَّكَ

مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا هُمْ عَلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْأَنْدَلُسِ مِنَ التَّخَاذُلِ وَالتَّوَاكُلِ، وَإِهْمَالِ الرَّعِيَّةِ، وَاشْتِمَالِهِمْ عَلَى الرَّاحَاتِ، وَأَنَا أَسُومُهُمُ الْخَسْفَ وَأُخَلِّي الدِّيَارَ، وَأَسْبِي الذَّرَارِيَّ، وَأُمَثِّلُ بِالْكُهُولِ، وَأَقْتُلُ الشَّبَابَ، وَلَا عُذْرَ لَكَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ نُصْرَتِهِمْ، وَقَدْ أَمْكَنَتْكَ يَدُ الْقُدْرَةِ، وَأَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ قِتَالَ عَشَرَةٍ مِنَّا بِوَاحِدٍ مِنْكُمْ. وَالْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ. وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا، فَقَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ قِتَالَ اثْنَيْنِ مِنَّا بِوَاحِدٍ مِنْكُمْ، وَنَحْنُ الْآنُ نُقَاتِلُ عَدَدًا مِنْكُمْ بِوَاحِدٍ مِنَّا. وَلَا تَقْدِرُونَ دِفَاعًا، وَلَا تَسْتَطِيعُونَ امْتِنَاعًا. ثُمَّ حُكِيَ لِي عَنْكَ أَنَّكَ أَخَذْتَ فِي الِاحْتِفَالِ، وَأَشْرَفْتَ عَلَى رَبْوَةِ الْقِتَالِ، وَتُمْطِلُ نَفْسَكَ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، تُقَدِّمُ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى، وَلَا أَدْرِي الْجُبْنُ أَبْطَأَ بِكَ أَمِ التَّكْذِيبُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ؟ . ثُمَّ حُكِيَ لِي عَنْكَ أَنَّكَ لَا تَجِدُ سَبِيلًا لِلْحَرْبِ لَعَلَّكَ مَا يَسُوغُ لَكَ التَّقَحُّمَ فِيهَا، فَهَا أَنَا أَقُولُ لَكَ، مَا فِيهِ الرَّاحَةُ، وَأَعْتَذِرُ عَنْكَ، وَلَكَ أَنْ تُوَافِيَنِي بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ وَالْأَيْمَانِ، وَأَنْ تَتَوَجَّهَ بِجُمْلَةِ مَنْ عِنْدَكَ فِي الْمَرَاكِبِ وَالشَّوَانِي، وَأَجُوزُ إِلَيْكَ بِجُمْلَتِي، وَأُبَارِزُكَ فِي أَعَزِّ الْأَمَاكِنِ عِنْدَكَ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ فَغَنِيمَةٌ عَظِيمَةٌ جَاءَتْ إِلَيْكَ، وَهَدِيَّةٌ مَثُلَتْ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَإِنْ كَانَتْ لِي كَانَتْ يَدِي الْعُلْيَا عَلَيْكَ. وَاسْتَحْقَقْتُ إِمَارَةَ الْمِلَّتَيْنِ، وَالتَّقَدُّمَ عَلَى الْفِئَتَيْنِ، وَاللَّهُ يُسَهِّلُ الْإِرَادَةَ، وَيُوَفِّقُ السَّعَادَةَ بِمَنِّهِ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُهُ ".

فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ كَتَبَ فِي أَعْلَاهُ هَذِهِ الْآيَةَ {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37] وَأَعَادَهُ إِلَيْهِ. وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ الْعَظِيمَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَعَبَرَ الْمَجَازَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ عُبُورِهِ إِلَى الْأَنْدَلُسِ أَنَّ يَعْقُوبَ لَمَّا قَاتَلَ الْفِرِنْجَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] وَصَالَحَهُمْ، بَقِيَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفِرِنْجِ لَمْ تَرْضَ الصُّلْحَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ جَمَعَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ جَمْعًا مِنَ الْفِرِنْجِ، وَخَرَجُوا إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَغَنِمُوا وَأَسَرُوا، وَعَاثُوا فِيهَا عَيْثَا شَدِيدًا، فَانْتَهَى ذَلِكَ إِلَى يَعْقُوبَ، فَجَمَعَ الْعَسَاكِرِ، وَعَبَرَ الْمَجَازَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ فِي جَيْشٍ يَضِيقُ عَنْهُ الْفَضَاءُ، فَسَمِعَتِ الْفِرِنْجُ بِذَلِكَ، فَجَمَعَتْ قَاصِيَهُمْ وَدَانِيَهُمْ، وَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ مُجِدِّينَ عَلَى قِتَالِهِ وَوَاثِقِينَ بِالظَّفَرِ لِكَثْرَتِهِمْ، فَالْتَقَوْا تَاسِعَ شَعْبَانَ، شَمَالِيَّ قُرْطُبَةَ عِنْدَ قَلْعَةِ رِيَاحٍ، بِمَكَانٍ يُعْرَفُ بِمَرْجِ الْحَدِيدِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَانَتِ الدَّائِرَةُ أَوَّلًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ عَادَتْ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَانْهَزَمُوا أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَانْتَصَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] وَكَانَ عَدَدُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ مِائَةَ أَلْفٍ وَسِتَّةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَأُسِرَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ شَيْئًا عَظِيمًا، فَمِنَ الْخِيَامِ مِائَةُ أَلْفٍ وَثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَمِنَ الْخَيْلِ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَمِنَ الْبِغَالِ مِائَةُ أَلْفٍ، وَمِنَ الْحَمِيرِ مِائَةُ أَلْفٍ. وَكَانَ يَعْقُوبُ قَدْ نَادَى فِي عَسْكَرِهِ: مَنْ غَنِمَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ سِوَى السِّلَاحِ، وَأَحْصَى مَا حُمِلَ إِلَيْهِ مِنْهُ، فَكَانَ زِيَادَةً عَلَى سَبْعِينَ أَلْفَ لَبْسٍ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوَ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَلَمَّا انْهَزَمَ الْفِرِنْجُ اتَّبَعَهُمْ أَبُو يُوسُفَ فَرَآهُمْ قَدْ أَخَذُوا قَلْعَةَ رَبَاحٍ، وَسَارُوا

عَنْهَا مِنَ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ، فَمَلَكَهَا وَجَعَلَ فِيهَا وَالِيًا وَجُنْدًا يَحْفَظُونَهَا وَعَادَ إِلَى مَدِينَةِ إِشْبِيلِيَّةَ. وَأَمَّا أَلْفُنْشُ فَإِنَّهُ لَمَّا انْهَزَمَ حَلَقَ رَأَسَهُ، وَنَكَّسَ صَلِيبَهُ، وَرَكِبَ حِمَارًا، وَأَقْسَمَ أَنْ لَا يَرْكَبَ فَرَسًا وَلَا بَغْلًا حَتَّى تُنْصَرَ النَّصْرَانِيَّةُ، فَجَمَعَ جُمُوعًا عَظِيمَةً، وَبَلَغَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَى يَعْقُوبَ، فَأَرْسَلَ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ مُرَّاكِشَ وَغَيْرِهَا يَسْتَنْفِرُ النَّاسَ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ، فَأَتَاهُ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ وَالْمُرْتَزِقِينَ جَمْعٌ عَظِيمٌ، فَالْتَقَوْا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ هَزِيمَةً قَبِيحَةً، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا، وَتَوَجَّهَ إِلَى مَدِينَةِ طُلَيْطِلَةَ فَحَصَرَهَا، وَقَاتَلَهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَطَعَ أَشْجَارَهَا، وَشَنَّ الْغَارَةَ عَلَى مَا حَوْلَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَفَتَحَ فِيهَا عِدَّةَ حُصُونٍ، فَقَتَلَ رِجَالَهَا، وَسَبَى حَرِيمَهَا، وَخَرَّبَ دُورَهَا، وَهَدَمَ أَسْوَارَهَا، فَضَعُفَتِ النَّصْرَانِيَّةُ حِينَئِذٍ، وَعَظُمُ أَمْرُ الْإِسْلَامِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَعَادَ يَعْقُوبُ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ فَأَقَامَ بِهَا. فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، سَارَ عَنْهَا إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ [وَفَعَلَ فِيهَا مِثْلَ فِعْلِهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، فَضَاقَتِ الْأَرْضُ عَلَى الْفِرِنْجِ] ، وَذُلُّوا وَاجْتَمَعَ مُلُوكُهُمْ، وَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ الصُّلْحَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَازِمًا عَلَى الِامْتِنَاعِ، مُرِيدًا لِمُلَازَمَةِ الْجِهَادِ إِلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُمْ، فَأَتَاهُ خَبَرُ عَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ الْمُلَثَّمِ الْمَيُورْقِيِّ أَنَّهُ فَعَلَ بِإِفْرِيقِيَّةَ مَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْأَفَاعِيلِ الشَّنِيعَةِ، فَتَرَكَ عَزْمَهُ، وَصَالَحَهُمْ مُدَّةَ خَمْسِ سِنِينَ، وَعَادَ إِلَى مُرَّاكِشَ آخِرَ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.

ذِكْرُ فِعْلَةِ الْمُلَثَّمِ بِإِفْرِيقِيَّةَ لَمَّا عَبَرَ أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ صَاحِبُ الْمَغْرِبِ إِلَى الْأَنْدَلُسِ - كَمَا ذَكَرْنَا - وَأَقَامَ مُجَاهِدًا ثَلَاثَ سِنِينَ. انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ، فَقَوِيَ طَمَعُ عَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ الْمُلَثَّمِ الْمَيُورْقِيِّ، وَكَانَ بِالْبَرِّيَّةِ مَعَ الْعَرَبِ، فَعَاوَدَ قَصْدَ إِفْرِيقِيَّةَ، فَانْبَثَّ جُنُودُهُ فِي الْبِلَادِ فَخَرَّبُوهَا، وَأَكْثَرُوا الْفَسَادَ فِيهَا، فَمُحِيَتْ آثَارُ تِلْكَ الْبِلَادِ وَتَغَيَّرَتْ، وَصَارَتْ خَالِيَةً مِنَ الْأَنِيسِ خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا. وَأَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى بِجَايَةَ وَمُحَاصَرَتَهَا لِاشْتِغَالِ يَعْقُوبَ بِالْجِهَادِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى بِجَايَةَ سَارَ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى يَعْقُوبَ بِذَلِكَ، فَصَالَحَ الْفِرِنْجَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَادَ إِلَى مُرَّاكِشَ عَازِمًا عَلَى قَصْدِهِ، وَإِخْرَاجِهِ مِنَ الْبِلَادِ، كَمَا فَعَلَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. ذِكْرُ مُلْكِ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ أَصْفَهَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ جَيْشًا وَسَيَّرَهُ إِلَى أَصْفَهَانَ، وَمُقَدَّمُهُمْ سَيْفُ الدِّينِ طُغْرُلْ، مُقْطَعُ بَلَدِ اللِّحْفِ مِنَ الْعِرَاقِ، وَكَانَ بِأَصْفَهَانَ عَسْكَرٌ لِخُوَارِزْمَ شَاهْ مَعَ وَلَدِهِ. وَكَانَ أَهْلُ أَصْفَهَانَ يَكْرَهُونَهُمْ، فَكَاتَبَ صَدْرُ الدِّينِ الْخُجَنْدِيُّ رَئِيسُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَصْفَهَانَ الدِّيوَانَ بِبَغْدَادَ يَبْذُلُ مِنْ نَفْسِهِ تَسْلِيمَ الْبَلَدِ إِلَى مَنْ يَصِلُ الدِّيوَانَ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَكَانَ هُوَ الْحَاكِمُ بِأَصْفَهَانَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِهَا، فَسُيِّرَتِ الْعَسَاكِرُ، فَوَصَلُوا إِلَى أَصْفَهَانَ، وَنَزَلُوا بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَفَارَقَهُ عَسْكَرُ خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَعَادُوا إِلَى خُرَاسَانَ، وَتَبِعَهُمْ بَعْضُ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ، فَتَخَطَّفُوا مِنْهُمْ، وَأَخَذُوا مِنْ سَاقَةِ الْعَسْكَرِ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَدَخَلَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ إِلَى أَصْفَهَانَ وَمَلَكُوهَا. ذِكْرُ ابْتِدَاءِ حَالِ كُوكْجَه وَمُلْكِهِ بَلَدَ الرَّيِّ وَهَمَذَانَ وَغَيْرَهُمَا لَمَّا عَادَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى خُرَاسَانَ، كَمَا ذَكَرْنَا وَاتَّفَقَ الْمَمَالِيكُ الَّذِينَ لِلْبَهْلَوَانِ وَالْأُمَرَاءُ، وَقَدَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كُوكْجَه، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الْمَمَالِيكِ الْبَهْلَوَانِيَّةِ،

وَاسْتَوْلَى عَلَى الرَّيِّ وَمَا جَاوَرَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَسَارُوا إِلَى أَصْفَهَانَ لِإِخْرَاجِ الْخُوَارِزْمِيَّةِ مِنْهَا، فَلَمَّا قَارَبُوهَا سَمِعُوا بِعَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ عِنْدَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَى مَمْلُوكِ الْخَلِيفَةِ سَيْفِ الدِّينِ طُغْرُلْ، يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى خِدْمَةِ الدِّيوَانِ، وَيُظْهِرُ الْعُبُودِيَّةَ، وَإِنَّهُ لَمَّا قَصَدَ أَصْفَهَانَ فِي طَلَبِ الْعَسَاكِرِ الْخُوَارِزْمِيَّةِ، وَحَيْثُ رَآهُمْ فَارَقُوا أَصْفَهَانَ سَارَ فِي طَلَبِهِمْ، فَلَمْ يُدْرِكْهُمْ، وَسَارَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ مِنْ أَصْفَهَانَ إِلَى هَمَذَانَ. وَأَمَّا كُوكْجَه فَإِنَّهُ تَبِعَ الْخُوَارِزْمِيَّةَ إِلَى طَبَسَ - وَهِيَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ - وَعَادَ فَقَصَدَ أَصْفَهَانَ وَمَلَكَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى بَغْدَادَ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الرَّيُّ وَخُوَارُ الرَّيِّ، وَسَاوَةُ، وَقُمُّ، وَقَاجَانُ، وَمَا يَنْضَمُّ إِلَيْهَا إِلَى حَدِّ مَزْدَغَانَ، وَتَكُونُ أَصْفَهَانُ، وَهَمَذَانُ، وَزَنْجَانُ، وَقَزْوِينُ، لِدِيوَانِ الْخَلِيفَةِ. فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَكُتِبَ لَهُ مَنْشُورٌ بِمَا طَلَبَ، وَأُرْسِلَتْ لَهُ الْخِلَعُ، فَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَكَثُرَتْ عَسَاكِرُهُ، وَتَعَظَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ. ذِكْرُ حَصْرِ الْعَزِيزِ دِمَشْقَ ثَانِيَةً وَانْهِزَامِهِ عَنْهَا وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا رَجَعَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ عُثْمَانُ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ مِنْ مِصْرَ فِي عَسَاكِرِهِ إِلَى دِمَشْقَ يُرِيدُ حَصْرَهَا، فَعَادَ عَنْهَا مُنْهَزِمًا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ مَمَالِيكَ أَبِيهِ - وَهُمُ الْمَعْرُوفُونَ بِالصَّلَاحِيَّةِ -: فَخْرُ الدِّينِ جَرْكَسُ، وَسَرَا سُنْقُرُ، وَقَرَاجَا، وَغَيْرُهُمْ، كَانُوا مُنْحَرِفِينَ عَنِ الْأَفْضَلِ عَلِيِّ بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْهُمْ مِثْلَ: مَيْمُونٍ الْقَصْرِيِّ، وَسُنْقُرَ الْكَبِيرِ، وَأَيْبَكْ، وَغَيْرِهِمْ، فَكَانُوا لَا يَزَالُونَ يُخَوِّفُونَ الْعَزِيزَ مِنْ أَخِيهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْأَكْرَادَ وَالْمَمَالِيكَ الْأَسَدِيَّةَ مِنْ عَسْكَرِ مِصْرَ يُرِيدُونَ أَخَاكَ، وَنَخَافُ أَنْ يَمِيلُوا إِلَيْهِ وَيُخْرِجُوكَ مِنَ الْبِلَادِ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ نَأْخُذَ دِمَشْقَ، فَخَرَجَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي وَعَادَ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - فَتَجَهَّزَ هَذِهِ السَّنَةَ لِيَخْرُجَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْأَفْضَلِ، فَسَارَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى عَمِّهِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، فَاجْتَمَعَ بِهِ بِقَلْعَةِ جَعْبَرَ وَدَعَاهُ إِلَى نُصْرَتِهِ، وَسَارَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى حَلَبَ، إِلَى أَخِيهِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ غَازِي، فَاسْتَنْجَدَ بِهِ، وَسَارَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ مِنْ قَلْعَةِ جَعْبَرَ إِلَى دِمَشْقَ، فَسَبَقَ الْأَفْضَلَ إِلَيْهَا، وَدَخَلَهَا، وَكَانَ الْأَفْضَلُ لِثِقَتِهِ بِهِ قَدْ أَمَرَ نُوَّابَهُ بِإِدْخَالِهِ إِلَى الْقَلْعَةِ، ثُمَّ عَادَ الْأَفْضَلُ مِنْ حَلَبَ إِلَى دِمَشْقَ وَوَصَلَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ إِلَى قُرْبِ دِمَشْقَ،

فَأَرْسَلَ مُقَدَّمُ الْأَسَدِيَّةِ وَهُوَ سَيْفُ الدِّينِ أَيَازَكُوشُ وَغَيْرُهُ مِنْهُمْ، وَمِنَ الْأَكْرَادِ أَبُو الْهَيْجَاءِ السَّمِينُ وَغَيْرُهُ، إِلَى الْأَفْضَلِ وَالْعَادِلِ، بِالِانْحِيَازِ إِلَيْهِمَا وَالْكَوْنِ مَعَهُمَا وَيَأْمُرُهُمَا بِالِاتِّفَاقِ عَلَى الْعَزِيزِ وَالْخُرُوجِ مِنْ دِمَشْقَ لِيُسَلِّمُوهُ إِلَيْهِمَا. وَكَانَ سَبَبُ الِانْحِرَافِ عَنِ الْعَزِيزِ وَمَيْلِهِمْ إِلَى الْأَفْضَلِ أَنَّ الْعَزِيزَ لَمَّا مَلَكَ مِصْرَ مَالَ إِلَى الْمَمَالِيكِ النَّاصِرِيَّةِ وَقَدَّمَهُمْ، وَوَثِقَ بِهِمْ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءِ، فَامْتَعَضُوا مِنْ ذَلِكَ، وَمَالُوا إِلَى أَخِيهِ وَأَرْسَلُوا إِلَى الْأَفْضَلِ وَالْعَادِلِ فَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بِحُضُورِ رُسُلِ الْأُمَرَاءِ أَنَّ الْأَفْضَلَ يَمْلِكُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَيُسَلِّمُ دِمَشْقَ إِلَى عَمِّهِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَخَرَجَا مِنْ دِمَشْقَ فَانْحَازَ إِلَيْهِمَا مَنْ ذَكَرْنَا، فَلَمْ يُمْكِنِ الْعَزِيزَ الْمُقَامُ، بَلْ عَادَ مُنْهَزِمًا يَطْوِي الْمَرَاحِلَ خَوْفَ الطَّلَبِ وَلَا يُصَدِّقُ بِالنَّجَاةِ، وَتَسَاقَطَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى مِصْرَ. وَأَمَّا الْعَادِلُ وَالْأَفْضَلُ، فَإِنَّهُمَا أَرْسَلَا إِلَى الْقُدْسِ، وَفِيهِ نَائِبُ الْعَزِيزِ، فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِمَا، وَسَارَا فِيمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْأَسَدِيَّةِ وَالْأَكْرَادِ إِلَى مِصْرَ، فَرَأَى الْعَادِلُ انْضِمَامَ الْعَسَاكِرِ إِلَى الْأَفْضَلِ، وَاجْتِمَاعَهُمْ عَلَيْهِ، فَخَافَ أَنَّهُ يَأْخُذُ مِصْرَ، وَلَا يُسَلِّمُ إِلَيْهِ دِمَشْقَ، فَأَرْسَلَ حِينَئِذٍ سِرًّا إِلَى الْعَزِيزِ يَأْمُرُهُ بِالثَّبَاتِ وَأَنْ يَجْعَلَ بِمَدِينَةِ بِلْبِيسَ مَنْ يَحْفَظُهَا، وَتَكَفَّلَ بِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْأَفْضَلَ وَغَيْرَهُ مِنْ مُقَاتَلَةِ مَنْ بِهَا، فَجَعَلَ الْعَزِيزُ النَّاصِرِيَّةَ وَمُقَدَّمَهُمْ فَخْرَ الدِّينِ جَرْكَسَ بِهَا وَمَعَهُمْ غَيْرُهُمْ، وَوَصَلَ الْعَادِلُ وَالْأَفْضَلُ إِلَى بِلْبِيسَ، فَنَازَلُوا مَنْ بِهَا مِنَ النَّاصِرِيَّةِ، وَأَرَادَ الْأَفْضَلُ مُنَاجَزَتَهُمْ، أَوْ تَرْكَهُمْ بِهَا وَالرَّحِيلَ إِلَى مِصْرَ، فَمَنَعَهُ الْعَادِلُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَقَالَ: هَذِهِ عَسَاكِرُ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا اقْتَتَلُوا فِي الْحَرْبِ فَمَنْ يَرُدُّ الْعَدُوَّ الْكَافِرَ، وَمَا بِهَا حَاجَةٌ إِلَى هَذَا، فَإِنَّ الْبِلَادَ لَكَ وَبِحُكْمِكَ وَمَتَى قَصَدْتَ مِصْرَ وَالْقَاهِرَةَ وَأَخَذْتَهُمَا قَهْرًا زَالَتْ هَيْبَةُ الْبِلَادِ، وَطَمِعَ فِيهَا الْأَعْدَاءُ، وَلَيْسَ فِيهَا مَنْ يَمْنَعُكَ عَنْهَا. وَسَلَكَ مَعَهُ أَمْثَالَ هَذَا، فَطَالَتِ الْأَيَّامُ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْعَزِيزِ سِرًّا يَأْمُرُهُ بِإِرْسَالِ الْقَاضِي الْفَاضِلِ، وَكَانَ مُطَاعًا عِنْدَ الْبَيْتِ الصَّلَاحِيِّ لِعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ وَكَانَتْ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ، فَحَضَرَ عِنْدَهُمَا، وَأَجْرَى ذِكْرَ الصُّلْحِ، وَزَادَ الْقَوْلَ وَنَقَصَ، وَانْفَسَخَتِ الْعَزَائِمُ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْأَفْضَلِ الْقُدْسُ وَجَمِيعُ الْبِلَادِ بِفِلَسْطِينَ وَطَبَرِيَّةَ وَالْأُرْدُنِّ

وَجَمِيعُ مَا بِيَدِهِ، وَيَكُونُ لِلْعَادِلِ إِقْطَاعُهُ الَّذِي كَانَ قَدِيمًا، وَيَكُونُ مُقِيمًا بِمِصْرَ عِنْدَ الْعَزِيزِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَسَدِيَّةَ وَالْأَكْرَادَ لَا يُرِيدُونَ الْعَزِيزَ، فَهُمْ يَجْتَمِعُونَ مَعَهُ، فَلَا يَقْدِرُ الْعَزِيزُ مَنْعَهُ عَمَّا يُرِيدُ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَعَاهَدُوا عَادَ الْأَفْضَلُ إِلَى دِمَشْقَ وَبَقِيَ الْعَادِلُ بِمِصْرَ عِنْدَ الْعَزِيزِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْهُ، وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ بِعَقْدِ الْمُصْطَنَعِ، فَاحْتَرَقَتِ الْمِرْبَعَةُ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَدُكَّانُ ابْنِ الْبَخِيلِ الْهَرَّاسِ، وَقِيلَ كَانَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ دَارِ ابْنِ الْبَخِيلِ.

ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَة] 592 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ شِهَابِ الدِّينِ بَهَنْكَرَ وَغَيْرَهَا مِنْ بَلَدِ الْهِنْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ شِهَابُ الدِّينِ الْغُورِيُّ - صَاحِبُ غَزْنَةَ - إِلَى بَلَدِ الْهِنْدِ، وَحَصَرَ قَلْعَةَ بَهَنْكَرَ، وَهِيَ قَلْعَةٌ عَظِيمَةٌ مَنِيعَةٌ، فَحَصَرَهَا، فَطَلَبَ أَهْلُهَا مِنْهُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِ، فَأَمَّنَهُمْ وَتَسَلَّمَهَا، وَأَقَامَ عِنْدَهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَرَتَّبَ جُنْدَهَا وَأَحْوَالَهَا وَسَارَ عَنْهَا إِلَى قَلْعَةِ كُوَالِيرَ، وَبَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَفِي الطَّرِيقِ نَهْرٌ كَبِيرٌ فَجَازَهُ وَوَصَلَ إِلَى كُوَالِيرَ، وَهِيَ قَلْعَةٌ مَنِيعَةٌ حَصِينَةٌ عَلَى جَبَلٍ عَالٍ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا حَجَرُ مَنْجَنِيقٍ، وَلَا نُشَّابٌ، وَهِيَ كَبِيرَةٌ، فَأَقَامَ عَلَيْهَا صَفَرًا جَمِيعَهُ يُحَاصِرُهَا، فَلَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا غَرَضًا، فَرَاسَلَهُ مَنْ بِهَا فِي الصُّلْحِ فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ عَلَى أَنْ يُقِرَّ الْقَلْعَةَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُونَهُ إِلَيْهِ، فَحَمَلُوا إِلَيْهِ فِيلًا حِمْلُهُ ذَهَبٌ، فَرَحَلَ عَنْهَا إِلَى بِلَادِ آيِ وَسُورٍ، فَأَغَارَ عَلَيْهَا وَنَهَبَهَا، وَسَبَى وَأَسَرَ مَا يَعْجِزُ الْعَادُّ عَنْ حَصْرِهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى غَزْنَةَ سَالِمًا. ذِكْرُ مُلْكِ الْعَادِلِ مَدِينَةَ دِمَشْقَ مِنَ الْأَفْضَلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، مَلَكَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ مَدِينَةَ دِمَشْقَ مِنِ ابْنِ أَخِيهِ الْأَفْضَلِ عَلِيِّ بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ. وَكَانَ أَبْلَغُ الْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ وُثُوقَ الْأَفْضَلِ بِالْعَادِلِ، وَأَنَّهُ بَلَغَ مِنْ وُثُوقِهِ بِهِ أَنَّهُ أَدْخَلَهُ بَلَدَهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ، وَلَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَخُوهُ الظَّاهِرُ غَازِي - صَاحِبُ حَلَبَ - يَقُولُ لَهُ: أَخْرِجْ عَمَّنَا مِنْ بَيْنِنَا فَإِنَّهُ لَا يَجِيءُ عَلَيْنَا مِنْهُ خَيْرٌ، وَنَحْنُ نَدْخُلُ لَكَ تَحْتَ كُلِّ مَا تُرِيدُ، وَأَنَا أَعْرَفُ بِهِ مِنْكَ، وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ عَمِّي مِثْلُ مَا هُوَ عَمُّكَ، وَأَنَا زَوْجُ ابْنَتِهِ،

وَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ لَنَا خَيْرًا لَكُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْكَ. فَقَالَ لَهُ الْأَفْضَلُ: أَنْتَ سَيِّيءُ الظَّنِّ فِي كُلِّ أَحَدٍ، أَيُّ مَصْلَحَةٍ لِعَمِّنَا فِي أَنْ يُؤْذِيَنَا؟ وَنَحْنُ إِذَا اجْتَمَعَتْ كَلِمَتُنَا، وَسَيَّرْنَا مَعَهُ الْعَسَاكِرَ مِنْ عِنْدِنَا كُلِّنَا، مَلَكَ مِنَ الْبِلَادِ أَكْثَرَ مِنْ بِلَادِنَا، وَنَرْبَحُ سُوءَ الذِّكْرِ. وَهَذَا كَانَ أَبْلَغَ الْأَسْبَابِ، وَلَا يَعْلَمُهَا كُلُّ وَاحِدٍ، وَأَمَّا غَيْرُ هَذَا فَقَدَ ذَكَرْنَا مَسِيرَ الْعَادِلِ وَالْأَفْضَلِ إِلَى مِصْرَ وَحِصَارَهُمْ بِلْبِيسَ، وَصُلْحَهُمْ مَعَ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَمُقَامَ الْعَادِلِ مَعَهُ بِمِصْرَ، فَلَمَّا أَقَامَ عِنْدَهُ اسْتَمَالَهُ، وَقَرَّرَ مَعَهُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ وَيَأْخُذُهَا مِنْ أَخِيهِ وَيُسَلِّمُهَا إِلَيْهِ، فَسَارَ مَعَهُ مِنْ مِصْرَ إِلَى دِمَشْقَ، وَحَصَرُوهَا، وَاسْتَمَالُوا أَمِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ الْأَفْضَلِ يُقَالُ لَهُ الْعِزُّ [بْنُ] أَبِي غَالِبٍ الْحِمْصِيُّ، وَكَانَ الْأَفْضَلُ كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَالْوُثُوقِ بِهِ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ دِمَشْقَ يُعْرَفُ بِالْبَابِ الشَّرْقِيِّ لِيَحْفَظَهُ، فَمَالَ إِلَى الْعَزِيزِ وَالْعَادِلِ، وَوَعَدَهُمَا أَنَّهُ يَفْتَحُ لَهُمَا الْبَابَ، وَيَدْخُلُ الْعَسْكَرُ مِنْهُ الْبَلَدَ غِيلَةً، فَفَتَحَهُ الْيَوْمَ السَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَقْتَ الْعَصْرِ، وَأَدْخَلَ الْمَلِكَ الْعَادِلَ مِنْهُ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَشْعُرِ الْأَفْضَلُ إِلَّا وَعَمُّهُ مَعَهُ فِي دِمَشْقَ، وَرَكِبَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ، وَوَقَفَ بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ غَرْبِيَّ دِمَشْقَ. فَلَمَّا رَأَى الْأَفْضَلُ أَنَّ الْبَلَدَ قَدْ مُلِكَ، خَرَجَ إِلَى أَخِيهِ، وَقْتَ الْمَغْرِبِ، وَاجْتَمَعَ بِهِ، وَدَخْلَا كِلَاهُمَا الْبَلَدَ، وَاجْتَمَعَا بِالْعَادِلِ وَقَدْ نَزَلَ فِي دَارِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرْكُوه، وَتَحَادَثُوا، فَاتَّفَقَ الْعَادِلُ وَالْعَزِيزُ عَلَى أَنْ أَوْهَمَا الْأَفْضَلَ أَنَّهُمَا يُبْقِيَانِ عَلَيْهِ الْبَلَدَ خَوْفًا أَنَّهُ رُبَّمَا جَمَعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ وَسَارَ بِهِمَا، وَمَعَهُ الْعَامَّةُ، فَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الْبَلَدِ، لِأَنَّ الْعَادِلَ لَمْ يَكُنْ فِي كَثْرَةٍ، وَعَادَ الْأَفْضَلُ إِلَى الْقَلْعَةِ وَبَاتَ الْعَادِلُ فِي دَارِ شِيرْكُوهْ، وَخَرَجَ الْعَزِيزُ إِلَى الْخِيَمِ فَبَاتَ فِيهَا، وَخَرَجَ الْعَادِلُ مِنَ الْغَدِ إِلَى جَوْسَقِهِ فَأَقَامَ بِهِ، وَعَسَاكِرُهُ فِي الْبَلَدِ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَخْرُجُ الْأَفْضَلُ إِلَيْهِمَا، وَيَجْتَمِعُ بِهِمَا، فَبَقَوْا كَذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ أَرْسَلَا إِلَيْهِ وَأَمَرَاهُ بِمُفَارَقَةِ الْقَلْعَةِ وَتَسْلِيمِ الْبَلَدِ عَلَى قَاعِدَةٍ، أَنْ تُعْطَى قَلْعَةُ صَرْخَدَ لَهُ، وَيُسَلِّمَ جَمِيعَ أَعْمَالِ دِمَشْقَ، فَخَرَجَ الْأَفْضَلُ، وَنَزَلَ فِي جَوْسَقٍ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، غَرْبِيَّ دِمَشْقَ، وَتَسَلَّمَ الْعَزِيزُ الْقَلْعَةَ، وَدَخَلَهَا، وَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، فَجَلَسَ يَوْمًا فِي مَجْلِسِ شَرَابِهِ، فَلَمَّا أَخَذَتْ مِنْهُ الْخَمْرُ وَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَنَّهُ يُعِيدُ الْبَلَدَ إِلَى الْأَفْضَلِ، فَنُقِلَ ذَلِكَ إِلَى الْعَادِلِ فِي وَقْتِهِ، فَحَضَرَ الْمَجْلِسَ فِي سَاعَتِهِ، وَالْعَزِيزُ سَكْرَانُ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى سَلَّمَ الْبَلَدَ إِلَيْهِ، وَخَرَجَ

مِنْهُ، وَعَادَ إِلَى مِصْرَ، وَسَارَ الْأَفْضَلُ إِلَى صَرْخَدَ. وَكَانَ الْعَادِلُ يَذْكُرُ أَنَّ الْأَفْضَلَ سَعَى فِي قَتْلِهِ ; فَلِهَذَا أَخَذَ الْبَلَدَ مِنْهُ، وَكَانَ الْأَفْضَلُ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَتَبَرَّأُ مِنْهُ {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113] ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بِالْعِرَاقِ، وَاسْوَدَّتْ لَهَا الدُّنْيَا، وَوَقَعَ رَمْلٌ أَحْمَرٌ، وَاسْتَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ وَكَبَّرُوا، وَاشْتَعَلَتِ الْأَضْوَاءُ بِالنَّهَارِ. وَفِيهَا قُتِلَ صَدْرُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّطِيفِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْخُجَنْدِيُّ، رَئِيسُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَصْفَهَانَ، قَتَلَهُ فَلَكُ الدِّينِ سُنْقُرُ الطَّوِيلُ، شِحْنَةُ أَصْفَهَانَ بِهَا، وَكَانَ قَدِمَ بَغْدَادَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَاسْتَوْطَنَهَا، وَوَلِيَ النَّظَرَ فِي الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَلَمَّا سَارَ مُؤَيِّدُ الدِّينِ بْنُ الْقَصَّابِ إِلَى خُوزِسْتَانَ سَارَ فِي صُحْبَتِهِ، فَلَمَّا مَلَكَ الْوَزِيرُ أَصْفَهَانَ أَقَامَ ابْنُ الْخُجَنْدِيِّ بِهَا فِي بَيْتِهِ وَمُلْكِهِ وَمَنْصِبِهِ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُنْقُرَ الطَّوِيلِ شِحْنَةِ أَصْفَهَانَ لِلْخَلِيفَةِ مُنَافَرَةٌ فَقَتَلَهُ سُنْقُرُ. وَفِي رَمَضَانَ دَرَّسَ مُجِيرُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ الْمُبَارَكِ الْبَغْدَادِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ. وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا اسْتُنِيبَ نَصِيرُ الدِّينِ نَاصِرُ بْنُ مَهْدِيِّ الْعَلَوِيُّ الرَّازِيُّ فِي الْوَزَارَةِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى بَغْدَادَ لَمَّا مَلَكَ ابْنُ الْقَصَّابِ الرَّيَّ. وَفِيهَا وَلِيَ أَبُو طَالِبٍ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ زِيَادَةَ دِيوَانَ الْإِنْشَاءِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ كَاتِبًا

مُفْلِقًا وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْفَخْرُ مَحْمُودُ بْنُ عَلِيٍّ الْقُوفَانِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ بِالْكُوفَةِ عَائِدًا مِنَ الْحَجِّ وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى. وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْغَنَائِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُعَلِّمِ الشَّاعِرُ الْهُرْثِيُّ، وَالْهُرْثُ: بِضَمِّ الْهَاءِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ ; قَرْيَةٌ مِنْ أَعْمَالِ وَاسِطَ، عَنْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَفِي رَابِعِ شَعْبَانَ مِنْهَا تُوَفِّيَ الْوَزِيرُ مُؤَيِّدُ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَصَّابُ بِهَمَذَانَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ كِفَايَتِهِ وَنَهْضَتِهِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ.

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَة] 593 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ إِرْسَالِ الْأَمِيرِ أَبِي الْهَيْجَاءِ إِلَى هَمَذَانَ وَمَا فَعَلَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، وَصَلَ إِلَى بَغْدَادَ أَمِيرٌ كَبِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ مِصْرَ وَاسْمُهُ أَبُو الْهَيْجَاءِ - وَيُعْرَفُ بِالسَّمِينِ - لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ السِّمَنِ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ مِصْرَ، وَكَانَ فِي إِقْطَاعِهِ أَخِيرًا الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ وَغَيْرُهُ مِمَّا يُجَاوِرُهُ، فَلَمَّا مَلَكَ الْعَزِيزُ وَالْعَادِلُ مَدِينَةَ دِمَشْقَ مِنَ الْأَفْضَلِ أُخِذَ الْقُدْسُ مِنْهُ، فَفَارَقَ الشَّامَ، وَعَبَرَ الْفُرَاتَ إِلَى الْمَوْصِلِ، ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى بَغْدَادَ، لِأَنَّهُ طُلِبَ مِنْ دِيوَانِ الْخِلَافَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا أُكْرِمَ إِكْرَامًا كَثِيرًا، ثُمَّ أُمِرَ بِالتَّجْهِيزِ وَالْمَسِيرِ إِلَى هَمَذَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَسَاكِرِ الْبَغْدَادِيَّةِ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَالْتَقَى عِنْدَهَا بِالْمَلِكِ أُوزْبَكْ بْنِ الْبَهْلَوَانِ وَأَمِيرِ عَلَمَ وَابْنِهِ، وَابْنِ سَطْمَسَ، وَغَيْرِهِمْ، وَهُمْ قَدْ كَاتَبُوا الْخَلِيفَةَ بِالطَّاعَةِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِهِمْ وَثِقُوا بِهِ وَلَمْ يَحْذَرُوهُ، فَقَبَضَ عَلَى أُوزْبَكْ وَابْنِ سَطْمَسَ وَابْنِ قَرَّا بِمُوَافَقَةٍ مِنْ أَمِيرِ عَلَمَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَى بَغْدَادَ، أُنْكِرَتْ هَذِهِ الْحَالُ عَلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ، وَأُمِرَ بِالْإِفْرَاجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَسُيِّرَتْ لَهُمُ الْخِلَعُ مِنْ بَغْدَادَ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، فَلَمْ يَسْكُنُوا بَعْدَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَلَا أَمِنُوا، فَفَارَقُوا أَبَا الْهَيْجَاءِ السَّمِينَ، فَخَافَ الدِّيوَانَ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَيْضًا الْمُقَامُ، فَعَادَ يُرِيدُ إِرْبِلَ لِأَنَّهُ مِنْ بَلَدِهَا هُوَ، فَتُوُفِّيَ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهَا وَهُوَ مِنَ الْأَكْرَادِ الْحَكَمِيَّةِ مِنْ بَلَدِ إِرْبِلَ. ذِكْرُ مُلْكِ الْعَادِلِ يَافَا مِنَ الْفِرِنْجِ وَمُلْكِ الْفِرِنْجِ بَيْرُوتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحَصْرِ الْفِرِنْجِ تِبْنِينَ وَرَحِيلِهِمْ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، مَلَكَ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ مَدِينَةَ يَافَا مِنَ السَّاحِلِ

الشَّامِيِّ، وَهِيَ بَيْدِ الْفِرِنْجِ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ -. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ كَانَ قَدْ مَلَكَهُمُ الْكُنْد هِرِي، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، وَكَانَ الصُّلْحُ قَدِ اسْتَقَرَّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجِ أَيَّامَ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَمَلَكَ أَوْلَادُهُ بَعْدَهُ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - جَدَّدَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ الْهُدْنَةَ مَعَ الْكُنْد هِرِي [مَلِكِ الْفِرِنْجِ] وَزَادَ فِي مُدَّةِ الْهُدْنَةِ، وَبَقِيَ ذَلِكَ إِلَى الْآنِ. وَكَانَ بِمَدِينَةِ بَيْرُوتَ أَمِيرٌ يُعْرَفُ بِأُسَامَةَ، وَهُوَ مُقْطَعُهَا، فَكَانَ يُرْسِلُ الشَّوَانِيَ تَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَاشْتَكَى الْفِرِنْجُ مِنْ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ إِلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ بِدِمَشْقَ، وَإِلَى الْمَلِكِ الْعَزِيزِ بِمِصْرَ، فَلَمْ يَمْنَعَا أُسَامَةَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى مُلُوكِهِمُ الَّذِينَ دَاخَلَ الْبَحْرِ يَشْتَكُونَ إِلَيْهِمْ مَا يَفْعَلُ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، وَيَقُولُونَ: إِنْ لَمْ تَنْجِدُونَا، وَإِلَّا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْبِلَادَ، فَأَمَدَّهُمُ الْفِرِنْجُ بِالْعَسَاكِرِ الْكَثِيرَةِ، وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنْ مَلِكِ الْأَلْمَانِ، وَكَانَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ قِسِّيسٌ يُعْرَفُ بِالْخُنْصِلِيرِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْعَادِلُ بِذَلِكَ، أَرْسَلَ إِلَى الْعَزِيزِ بِمِصْرَ يَطْلُبُ الْعَسَاكِرَ، وَأَرْسَلَ إِلَى دِيَارِ الْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ يَطْلُبُ الْعَسَاكِرَ، فَجَاءَتْهُ الْأَمْدَادُ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى عَيْنِ الْجَالُوتِ، فَأَقَامُوا شَهْرَ رَمَضَانَ وَبَعْضَ شَوَّالٍ، وَرَحَلُوا إِلَى يَافَا، وَمَلَكُوا الْمَدِينَةَ، وَامْتَنَعَ مَنْ بِهَا بِالْقَلْعَةِ الَّتِي لَهَا، فَخَرَّبَ الْمُسْلِمُونَ الْمَدِينَةَ، وَحَصَرُوا الْقَلْعَةَ، فَمَلَكُوهَا عَنْوَةً وَقَهْرًا بِالسَّيْفِ فِي يَوْمِهَا، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَأُخِذَ كُلُّ مَا بِهَا غَنِيمَةً وَأَسْرًا وَسَبْيًا، وَوَصَلَ الْفِرِنْجُ مِنْ عَكَّا إِلَى قَيْسَارِيَةَ، لِيَمْنَعُوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ يَافَا، فَوَصَلَهُمُ الْخَبَرُ بِهَا بِمِلْكِهَا فَعَادُوا. وَكَانَ سَبَبُ تَأَخُّرِهِمْ أَنَّ مَلِكَهُمُ الْكُنْد هِرِي سَقَطَ مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ بِعَكَّا فَمَاتَ، فَاخْتَلَّتْ أَحْوَالُهُمْ فَتَأَخَّرُوا لِذَلِكَ.

وَعَادَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى عَيْنِ الْجَالُوتِ، فَوَصَلَهُمُ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْفِرِنْجَ عَلَى عَزْمِ قَصْدِ بَيْرُوتَ، فَرَحَلَ الْعَادِلُ وَالْعَسْكَرُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلَى مَرْجِ الْعُيُونِ، وَعَزَمَ عَلَى تَخْرِيبِ بَيْرُوتَ، فَسَارَ إِلَيْهَا جَمْعٌ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَهَدَمُوا سُورَ الْمَدِينَةِ سَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَشَرَعُوا تَخْرِيبَ دُورِهَا وَتَخْرِيبَ الْقَلْعَةِ، فَمَنَعَهُمْ أُسَامَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَتَكَفَّلَ بِحِفْظِهَا وَرَحَلَ الْفِرِنْجُ مِنْ عَكَّا إِلَى صَيْدَا، وَعَادَ عَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَيْرُوتَ، فَالْتَقُوا الْفِرِنْجَ بِنَوَاحِي صَيْدَا، وَجَرَى بَيْنَهُمْ مُنَاوَشَةٌ، فَقُتِلَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ، وَحَجَزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، وَسَارَ الْفِرِنْجُ تَاسِعَ ذِي الْحِجَّةِ، فَوَصَلُوا إِلَى بَيْرُوتَ، فَلَمَّا قَارَبُوهَا، وَهَرَبَ مِنْهَا أُسَامَةُ وَجَمِيعُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَمَلَكُوهَا صَفْوًا عَفْوًا بِغَيْرِ حَرْبٍ وَلَا قِتَالٍ، فَكَانَتْ غَنِيمَةً بَارِدَةً، فَأَرْسَلَ الْعَادِلُ إِلَى صَيْدَا مَنْ خَرَّبَ مَا كَانَ بَقِيَ مِنْهَا، فَإِنَّ صَلَاحَ الدِّينِ كَانَ قَدْ خَرَّبَ أَكْثَرَهَا، وَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ إِلَى صُورٍ، فَقَطَعُوا أَشْجَارَهَا، وَخَرَّبُوا مَا لَهَا مِنْ قُرًى وَأَبْرَاجٍ، فَلَقَدْ سَمِعَ الْفِرِنْجُ بِذَلِكَ رَحَلُوا مِنْ بَيْرُوتَ إِلَى صُورٍ، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا. وَنَزَلَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ قَلْعَةِ هُونِينَ وَأَذِنَ لِلْعَسَاكِرِ الشَّرْقِيَّةِ بِالْعَوْدِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ

الْفِرِنْجَ يُقِيمُونَ بِبِلَادِهِمْ، وَأَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ الْعَسَاكِرَ الْمِصْرِيَّةَ دُسْتُورًا بِالْعَوْدِ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ مُنْتَصَفَ الْمُحَرَّمِ، أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدْ نَازَلُوا حِصْنَ تِبْنِينَ، فَسَيَّرَ الْعَادِلُ إِلَيْهِ عَسْكَرَا يَحْمُونَهُ وَيَمْنَعُونَ عَنْهُ، وَرَحَلَ الْفِرِنْجُ مِنْ صُورٍ، وَنَازَلُوا تِبْنِينَ أَوَّلَ صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، وَقَاتَلُوا مَنْ بِهِ، وَجَدُّوا فِي الْقِتَالِ، وَنَقَبُوهُ مِنْ جِهَاتِهِمْ، فَلَمَّا عَلِمَ الْعَادِلُ بِذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَى الْعَزِيزِ بِمِصْرَ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَحْضُرَ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنْ حَضَرْتَ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ حِفْظُ هَذَا الثَّغْرِ، فَسَارَ الْعَزِيزُ مُجِدًّا فِيمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ. وَأَقَامَ مَنْ بِحِصْنِ تِبْنِينَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا النُّقُوبَ قَدْ خَرَّبَتْ تَلَّ الْقَلْعَةِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَمْلِكُوهَا بِالسَّيْفِ، وَنَزَلَ بَعْضُ مِنْ فِيهَا إِلَى الْفِرِنْجِ يَطْلُبُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِيُسَلِّمُوا الْقَلْعَةَ، وَكَانَ الْمَرْجِعُ إِلَى الْقِسِّيسِ الْخُنْصِلِيرِ مِنْ أَصْحَابِ مَلِكِ الْأَلْمَانِ، فَقَالَ لِهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُ الْفِرِنْجِ الَّذِينَ مِنْ سَاحِلِ الشَّامِ: إِنْ سَلَّمْتُمُ الْحِصْنَ أَسْتَأْسَرَكُمْ هَذَا وَقَتَلَكُمْ، فَاحْفَظُوا نُفُوسَكُمْ، فَعَادُوا كَأَنَّهُمْ يُرَاجِعُونَ مَنْ فِي الْقَلْعَةِ لِيُسَلِّمُوا، فَلَمَّا صَعِدُوا إِلَيْهَا أَصَرُّوا عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَقَاتَلُوا قِتَالَ مَنْ يَحْمِي نَفْسَهُ، فَحَمَوْهَا إِلَى أَنْ وَصَلَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ إِلَى عَسْقَلَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْفِرِنْجُ بِوُصُولِهِ وَاجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الْفِرِنْجَ لَيْسَ لَهُمْ مَلِكٌ يَجْمَعُهُمْ، وَأَنَّ أَمْرَهُمْ إِلَى امْرَأَةٍ - وَهِيَ الْمَلِكَةُ - اتَّفَقُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى مَلِكِ قُبْرُسَ وَاسْمُهُ هِيمْرِي، فَأَحْضَرُوهُ، وَهُوَ أَخُو الْمَلِكِ الَّذِي أُسِرَ بِحِطِّينَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَزَوَّجُوهُ بِالْمَلِكَةِ زَوْجَةِ الْكُنْد هِرِي، وَكَانَ رَجُلًا عَاقِلًا يُحِبُّ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ، فَلَمَّا مَلَكَهُمْ، لَمْ يَعُدْ إِلَى الزَّحْفِ عَلَى الْحِصْنِ، وَلَا قَاتَلَهُ. وَاتَّفَقَ وُصُولُ الْعَزِيزِ أَوَّلَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَرَحَلَ هُوَ وَالْعَسَاكِرُ إِلَى جَبَلِ الْخَلِيلِ الَّذِي يُعْرَفُ بِجَبَلِ عَامِلَةَ، فَأَقَامُوا أَيَّامًا، وَالْأَمْطَارُ مُتَدَارِكَةٌ، فَبَقِيَ إِلَى ثَالِثَ عَشْرَ الشَّهْرِ، ثُمَّ سَارَ وَقَارَبَ الْفِرِنْجَ، وَأَرْسَلَ رُمَاةَ النُّشَّابِ، فَرَمَوْهُمْ سَاعَةً وَعَادُوا، وَرَتَّبَ الْعَسَاكِرَ لِيَزْحَفَ إِلَى الْفِرِنْجِ وَيَجِدَّ فِي قِتَالِهِمْ، فَرَحَلُوا إِلَى صُورٍ خَامِسَ عَشْرَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ لَيْلًا، ثُمَّ رَحَلُوا إِلَى عَكَّا، فَسَارَ الْمُسْلِمُونَ فَنَزَلُوا اللُّجُونَ، وَتَرَاسَلُوا فِي الصُّلْحِ، وَتَطَاوَلَ الْأَمْرُ، فَعَادَ الْعَزِيزُ إِلَى مِصْرَ قَبْلَ انْفِصَالِ الْحَالِ.

وَسَبَبُ رَحِيلِهِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَهُمْ مَيْمُونٌ الْقَصْرِيُّ، وَأُسَامَةُ، وَسَرَا سُنْقُرُ، وَالْحَجَّافُ، وَابْنُ الْمَشْطُوبِ، وَغَيْرُهُمْ، قَدْ عَزَمُوا عَلَى الْفَتْكِ بِهِ وَبِفَخْرِ الدِّينِ جَرْكَسَ مُدَبِّرِ دَوْلَتِهِ، وَضَعَهُمُ الْعَادِلُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ سَارَ إِلَى مِصْرَ وَبَقِيَ الْعَادِلُ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِرِنْجِ فِي الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ تَبْقَى بَيْرُوتُ بِيَدِ الْفِرِنْجِ، وَكَانَ الصُّلْحُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] فَلَمَّا انْتَظَمَ الصُّلْحُ وَعَادَ الْعَادِلُ إِلَى دِمَشْقَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى مَارْدِينَ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ، فَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. ذِكْرُ وَفَاةِ سَيْفِ الْإِسْلَامِ وَمُلْكِ وَلَدِهِ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ سَيْفُ الْإِسْلَامِ طُغْتِكِينُ بْنُ أَيُّوبَ، أَخُو صَلَاحِ الدِّينِ وَهُوَ صَاحِبُ الْيَمَنِ، بِزَبِيدَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفَ مَلَكَ. وَكَانَ شَدِيدَ السِّيرَةِ، مُضَيِّقًا عَلَى رَعِيَّتِهِ، يَشْتَرِي أَمْوَالَ التُّجَّارِ لِنَفْسِهِ وَيَبِيعُهَا كَيْفَ شَاءَ. وَأَرَادَ مُلْكَ مَكَّةَ - حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى - فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ إِلَى أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ فِي الْمَعْنَى، فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَجَمَعَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصَى، حَتَّى أَنَّهُ مِنْ كَثْرَتِهِ كَانَ يَسْبِكُ الذَّهَبَ وَيَجْعَلُهُ كَالطَّاحُونِ وَيَدَّخِرُهُ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ إِسْمَاعِيلَ، وَكَانَ أَهْوَجَ، كَثِيرَ التَّخْلِيطِ بِحَيْثُ إِنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ قُرَشِيٌّ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ بِالْخِلَافَةِ، وَتَلَقَّبَ بِالْهَادِي، فَلَمَّا سَمِعَ عَمُّهُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ ذَلِكَ، سَاءَهُ وَأَهَمَّهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَلُومُهُ وَيُوَبِّخُهُ، وَيَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى نَسَبِهِ الصَّحِيحِ، وَبِتَرْكِ مَا ارْتَكَبَهُ مِمَّا يُضْحِكُ النَّاسَ مِنْهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَلَمْ يَرْجِعْ وَبَقِيَ كَذَلِكَ، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَسَاءَ السِّيرَةَ مَعَ أَجْنَادِهِ وَأُمَرَائِهِ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ أَمِيرًا مِنْ مَمَالِيكِ أَبِيهِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ عِمْرَانَ الْبَاقِلَّانِيُّ الْمُقْرِيُّ الْوَاسِطِيُّ بِهَا عَنْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٍ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ الْقَلَانِسِيِّ. وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو طَالِبٍ عَلِيُّ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْبُخَارِيِّ بِبَغْدَادَ وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ فِي مَشْهَدِ بَابِ التِّينِ. وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، تُوُفِّيَ مَلِكْشَاهْ بْنُ خُوَارِزْمَ شَاهْ تُكُشُ بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ جَعَلَهُ فِيهَا، وَأَضَافَ إِلَيْهِ عَسَاكِرَ جَمِيعِ بِلَادِهِ الَّتِي بِخُرَاسَانَ وَجَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ فِي الْمُلْكِ، وَخَلَّفَ وَلَدًا اسْمُهُ هِنْدُوخَانْ، فَلَمَّا مَاتَ، جَعَلَ فِيهَا (أَبُوهُ خُوَارِزْمُ شَاهْ) بَعْدَهُ وَلَدَهُ الْآخَرَ قُطْبَ الدِّينِ مُحَمَّدًا، وَهُوَ الَّذِي مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَكَانَ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ عَدَاوَةٌ مُسْتَحْكِمَةً أَفْضَتْ إِلَى أَنَّ مُحَمَّدًا لَمَّا مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ هَرَبَ هِنْدُوخَانْ بْنُ مَلِكْشَاهْ مِنْهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. [وَفِيهَا تُوُفِّيَ شَيْخُنَا أَبُو الْقَاسِمِ يَعِيشُ بْنُ صَدَقَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْفُرَاتِيُّ الضَّرِيرُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ وَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْهِ، مُدَرِّسًا صَالِحًا كَثِيرَ الصَّلَاحِ، سَمِعْتُ عَلَيْهِ كَثِيرًا وَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْهُ عَجَبًا يَدُلُّ عَلَى دِينِهِ وَإِرَادَتِهِ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنِّي كُنْتُ أُسْمِعُ عَلَيْهِ بِبَغْدَادَ " سُنَنَ " عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ، وَهُوَ كِتَابٌ كَبِيرٌ، وَالْوَقْتُ ضَيِّقٌ لِأَنِّي كُنْتُ مَعَ الْحُجَّاجِ قَدْ عُدْنَا مِنْ مَكَّةَ، حَرَسَهَا اللَّهُ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ نُسْمِعُ عَلَيْهِ مِنْ أَخِي الْأَكْبَرِ مَجْدِ الدِّينِ أَبِي السَّعَادَاتِ، إِذْ قَدْ أَتَاهُ إِنْسَانٌ مِنْ أَعْيَانِ بَغْدَادَ، وَقَالَ لَهُ: قَدْ بَرَزَ الْأَمْرُ لِتَحْضُرَ لِأَمْرِ كَذَا فَقَالَ: أَنَا مَشْغُولٌ بِسَمَاعِ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ، وَوَقْتُهُمْ يَفُوتُ، وَالَّذِي يُرَادُ مِنِّي لَا يَفُوتُ، فَقَالَ: أَنَا لَا أُحْسِنُ أَذْكُرُ هَذَا فِي مُقَابِلِ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ. فَقَالَ: لَا عَلَيْكَ! قُلْ: قَالَ: أَبُو الْقَاسِمِ لَا أَحْضُرُ حَتَّى يَفْرُغَ السَّمَاعُ، فَسَأَلْنَاهُ لِيَمْشِيَ مَعَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَقَالَ: اقْرَأُوا، فَقَرَأْنَا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ حَضَرَ غُلَامٌ لَنَا، وَذَكَرَ أَنَّ أَمِيرَ الْحَاجِّ الْمَوْصِلِيَّ قَدْ رَحَلَ، فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْنَا فَقَالَ: وَلِمَ يَعْظُمُ عَلَيْكُمُ الْعَوْدُ إِلَى

أَهْلِكُمْ وَبَلَدِكُمْ؟ فَقُلْنَا: لِأَجْلِ فَرَاغِ هَذَا الْكِتَابِ. فَقَالَ: إِذَا رَحَلْتُمْ أَسْتَعِيرُ دَابَّةً وَأَرْكَبُهَا، فَأَسِيرُ مَعَكُمْ وَأَنْتُمْ تَقْرَأُونَ، فَإِذَا فَرَغْتُمْ عُدْتُ. فَمَضَى الْغُلَامُ لِيَتَزَوَّدَ، وَنَحْنُ نَقْرَأُ، فَعَادَ وَذَكَرَ أَنَّ الْحُجَّاجَ لَمْ يَرْحَلُوا، فَفَرَغْنَا مِنَ الْكِتَابِ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الدِّينِ الْمَتِينِ يَرُدُّ أَمْرَ الْخَلِيفَةِ وَهُوَ يَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ، وَيُرِيدُ [أَنْ] يَسِيرَ مَعَنَا وَنَحْنُ غُرَبَاءُ لَا يَخَافُنَا وَلَا يَرْجُونَا.

ثم دخلت سنة أربع وتسعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَة] 594 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ عِمَادِ الدِّينِ وَمُلْكِ وَلَدِهِ قُطْبِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ عِمَادُ الدِّينِ زِنْكِي بْنُ مَوْدُودِ بْنِ زِنْكِي بْنِ آقَسُنْقُرْ - صَاحِبُ سِنْجَارَ وَنَصِيبِينَ وَالْخَابُورِ وَالرِّقَّةِ - وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ كَيْفَ مَلَكَهَا سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ قُطْبُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ، وَتَوَلَّى تَدْبِيرَ دَوْلَتِهِ مُجَاهِدُ الدِّينِ يَرَنْقَشْ مَمْلُوكُ أَبِيهِ، وَكَانَ دَيِّنًا خَيِّرًا عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ فِي رَعِيَّتِهِ، عَفِيفًا عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ، مُتَوَاضِعًا يُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَيَحْتَرِمُهُمْ وَيَجْلِسُ مَعَهُمْ وَيَرْجِعُ إِلَى أَقْوَالِهِمْ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ شَدِيدَ التَّعَصُّبِ عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، كَثِيرَ الذَّمِّ لِلشَّافِعِيَّةِ، فَمِنْ تَعَصُّبِهِ أَنَّهُ بَنَى مَدْرَسَةً لِلْحَنَفِيَّةِ بِسِنْجَارَ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَوْلَادِهِ دُونَ الشَّافِعِيَّةِ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَوَّابُ وَالْفَرَّاشُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَشَرَطَ لِلْفُقَهَاءِ طَبِيخًا طُبِخَ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ، وَهَذَا نَظَرٌ حَسَنٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ. ذِكْرُ مُلْكِ نُورِ الدِّينِ نَصِيبِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، سَارَ نُورُ الدِّينِ أَرْسِلَانُ شَاهْ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مَوْدُودٍ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ إِلَى مَدِينَةِ نَصِيبِينَ، فَمَلَكَهَا وَأَخَذَهَا مِنِ ابْنِ عَمِّهِ قُطْبِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَمَّهُ عِمَادَ الدِّينِ كَانَ لَهُ نَصِيبِينُ، فَتَطَاوَلَ نُوَّابُهُ بِهَا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى عِدَّةِ قُرًى مِنْ أَعْمَالٍ بَيْنَ النَّهْرَيْنِ مِنْ وِلَايَةِ الْمَوْصِلِ، وَهِيَ تُجَاوِرُ نَصِيبِينَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ مُجَاهِدَ الدِّينِ قَايْمَازَ الْقَائِمَ بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَةِ نُورِ الدِّينِ بِالْمَوْصِلِ وَأَعْمَالِهَا وَالْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ فِيهَا، فَلَمْ يُعْلِمْ مَخْدُومَهُ نُورَ الدِّينِ بِذَلِكَ، لِمَا عَلِمَ مِنْ قِلَّةِ صَبْرِهِ عَلَى احْتِمَالِ مِثْلِ

هَذَا، وَخَافَ أَنْ يَجْرِيَ خُلْفٌ بَيْنَهُمْ، فَأَرْسَلَ مِنْ عِنْدِهِ رَسُولًا إِلَى عِمَادِ الدِّينِ فِي الْمَعْنَى، وَقَبَّحَ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي فَعَلَهُ النُّوَّابُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَقَالَ: إِنَّنِي مَا أَعْلَمْتُ نُورَ الدِّينِ بِالْحَالِ لِئَلَّا يَخْرُجَ عَنْ يَدِكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَوَالِدِهِ، وَأَخَافُ [أَنْ] يَبْدُوَ مِنْهُ مَا يُخْرِجُ الْأَمْرَ فِيهِ عَنْ يَدِي، فَأَعَادَ الْجَوَابَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا إِلَّا مَا أَمَرْتُهُمْ بِهِ، وَهَذِهِ الْقُرَى مِنْ أَعْمَالِ نَصِيبِينَ. فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، فَلَمْ يَرْجِعْ عِمَادُ الدِّينِ عَنْ أَخْذِهَا، فَحِينَئِذٍ أَعْلَمَ مُجَاهِدُ الدِّينِ نُورَ الدِّينِ بِالْحَالِ، فَأَرْسَلَ نُورُ الدِّينِ رَسُولًا مِنْ مَشَايِخِ دَوْلَتِهِ مِمَّنْ خَدَمَ جَدَّهُمُ الشَّهِيدَ زِنْكِي وَمَنْ بَعْدَهُ، وَحَمَّلَهُ رِسَالَةً فِيهَا بَعْضُ الْخُشُونَةِ، فَمَضَى الرَّسُولُ فَلَحِقَ عِمَادَ الدِّينِ وَقَدْ مَرِضَ، فَلَمَّا سَمِعَ الرِّسَالَةَ لَمْ يَلْتَفِتْ، وَقَالَ: لَا أُعِيدُ مُلْكِي، فَأَشَارَ الرَّسُولُ مَنْ عِنْدَهُ، حَيْثُ هُوَ مِنْ مَشَايِخِ دَوْلَتِهِمْ، بِتَرْكِ اللَّجَاجِ، وَتَسْلِيمِ مَا أَخَذَهُ، وَحَذَّرَهُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ، فَأَغْلَظَ عَلَيْهِ عِمَادُ الدِّينِ الْقَوْلَ، وَعَرَّضَ بِذَمِّ نُورِ الدِّينِ وَاحْتِقَارِهِ، فَعَادَ الرَّسُولُ وَحَكَى لِنُورِ الدِّينِ جَلِيَّةِ الْحَالِ، فَغَضِبَ لِذَلِكَ، وَعَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى نَصِيبِينَ وَأَخْذِهَا مِنْ عَمِّهِ. فَاتُّفِقَ أَنَّ عَمَّهُ مَاتَ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ، فَقَوِيَ طَمَعُهُ، فَمَنَعَهُ مُجَاهِدُ الدِّينِ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ، وَتَجَهَّزَ وَسَارَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا سَمِعَ قُطْبُ الدِّينِ صَاحِبُهَا سَارَ إِلَيْهَا مِنْ سِنْجَارَ فِي عَسْكَرِهِ، وَنَزَلَ عَلَيْهَا لِيَمْنَعَ نُورَ الدِّينِ عَنْهَا، فَوَصَلَ نُورُ الدِّينِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْبَلَدِ وَكَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ، فَجَازَهُ بَعْضُ أُمَرَائِهِ، وَقَاتَلَ مَنْ بِإِزَائِهِ، فَلَمْ يَثْبُتُوا لَهُ، فَعَبَرَ جَمِيعُ الْعَسْكَرِ النُّورِيِّ، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى قُطْبِ الدِّينِ، فَصَعِدَ هُوَ وَنَائِبُهُ مُجَاهِدُ الدِّينِ يَرَنْقَشْ إِلَى قَلْعَةِ نَصِيبِينَ. وَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ، فَخَرَجُوا مِنْهَا هَارِبِينَ إِلَى حَرَّانَ، وَرَاسَلُوا الْمَلِكَ الْعَادِلَ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَيُّوبَ صَاحِبَ حَرَّانَ وَغَيْرِهَا وَهُوَ بِدِمَشْقَ، وَبَذَلُوا لَهُ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ لِيُنْجِدَهُمْ وَيُعِيدَ نَصِيبِينَ إِلَيْهِمْ. وَأَقَامَ نُورُ الدِّينِ بِنَصِيبِينَ مَالِكًا لَهَا، فَتَضَعْضَعَ عَسْكَرُهُ بِكَثْرَةِ الْأَمْرَاضِ، وَعَوَّدَهُمْ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَمَاتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَوَصَلَ الْعَادِلُ إِلَى الدِّيَارِ الْجَزَرِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ فَارَقَ نُورُ الدِّينِ نَصِيبِينَ وَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا فَارَقَهَا تَسَلَّمَهَا قُطْبُ الدِّينِ. وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مِنْ أُمَرَاءِ الْمَوْصِلِ: عِزُّ الدِّينِ جُورْدِيكْ، وَشَمْسُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَفَخْرُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى الْمُهْرَانِيَّانِ، وَمُجَاهِدُ الدِّينِ قَايْمَازُ، وَظَهِيرُ الدِّينِ يُولَقُ ابْنُ بِلِنْكِرِي، وَجَمَالُ الدِّينِ مُحَاسِنُ، وَغَيْرُهُمْ. وَلَمَّا عَادَ نُورُ الدِّينِ إِلَى

الْمَوْصِلِ قَصَدَ الْعَادِلُ قَلْعَةَ مَارْدِينَ فَحَصَرَهَا، وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا - عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مُلْكِ الْغُورِيَّةِ مَدِينَةَ بَلْخَ مِنَ الْخَطَا الْكَفَرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ بَهَاءُ الدِّينِ سَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ غِيَاثِ الدِّينِ [وَشِهَابِ الدِّينِ] صَاحِبَيْ غَزْنَةَ وَغَيْرِهَا وَلَهُ بَامِيَانُ، مَدِينَةُ بَلْخَ، وَكَانَ صَاحِبُهَا تُرْكِيًّا اسْمُهُ أَزْيَهْ، وَكَانَ يَحْمِلُ الْخَرَاجَ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى الْخَطَا، بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَتُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَّةَ، فَسَارَ بَهَاءُ الدِّينِ سَامُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَلَكَهَا، وَتَمَكَّنَ فِيهَا، وَقَطَعَ الْحَمْلَ إِلَى الْخَطَا، وَخَطَبَ لِغِيَاثِ الدِّينِ، وَصَارَتْ مِنْ جُمْلَةِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِي طَاعَةِ الْكَافِرِ. ذِكْرُ انْهِزَامِ الْخَطَا مَنِ الْغُورِيَّةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبَرَ الْخَطَا نَهْرَ جَيْحُونَ إِلَى نَاحِيَةِ خُرَاسَانَ، فَعَاثُوا فِي الْبِلَادِ وَأَفْسَدُوا، فَلَقِيَهُمْ عَسْكَرُ غِيَاثِ الدِّينِ الْغَوْرِيِّ وَقَاتَلَهُمْ فَانْهَزَمَ الْخَطَا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ خُوَارِزْمَ شَاهْ تُكُشَ كَانَ قَدْ سَارَ إِلَى بَلَدِ الرَّيِّ وَهَمَذَانَ وَأَصْفَهَانَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْبِلَادِ وَمَلَكَهَا، وَتَعَرَّضَ إِلَى عَسَاكِرِ الْخَلِيفَةِ، وَأَظْهَرَ طَلَبَ السَّلْطَنَةِ وَالْخُطْبَةِ بِبَغْدَادَ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ مَلِكِ الْغَوْرِ وَغَزْنَةَ [يَأْمُرُهُ] بِقَصْدِ بِلَادِ خُوَارِزْمَ شَاهْ [لِيَعُودَ عَنْ قَصْدِ الْعِرَاقِ، وَكَانَ خُوَارِزْمُ شَاهْ] قَدْ عَادَ إِلَى خُوَارِزْمَ، فَرَاسَلَهُ غِيَاثُ الدِّينِ يُقَبِّحُ لَهُ فِعْلَهُ، وَيَتَهَدَّدُهُ بِقَصْدِ بِلَادِهِ وَأَخْذِهَا، فَأَرْسَلَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى الْخَطَا يَشْكُو إِلَيْهِمْ مِنْ غِيَاثِ الدِّينِ، وَيَقُولُ: إِنْ لَمْ تُدْرِكُوهُ بِإِنْفَاذِ الْعَسَاكِرِ، وَإِلَّا أَخَذَ غِيَاثُ الدِّينِ بِلَادَهُ. كَمَا أَخَذَ مَدِينَةَ بَلْخَ، وَقَصَدَ بَعْدَ ذَلِكَ بِلَادَهُمْ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ مَنْعُهُ، وَيَعْجِزُونَ عَنْهُ، وَيَضْعُفُونَ عَنْ رَدِّهِ عَمَّا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَجَهَّزَ مَلِكُ الْخَطَا جَيْشًا كَثِيفًا، وَجَعَلَ مُقَدَّمَهُمُ الْمَعْرُوفَ بِطَايِنْكُوَا، وَهُوَ كَالْوَزِيرِ لَهُ، فَسَارُوا وَعَبَرُوا جَيْحُونَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً، وَكَانَ شِهَابُ الدِّينِ الْغُورِيُّ أَخُو غِيَاثِ الدِّينِ بِبِلَادِ الْهِنْدِ، وَالْعَسَاكِرُ مَعَهُ، وَغِيَاثُ الدِّينِ بِهِ مِنَ النِّقْرِسِ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْحَرَكَةِ، إِنَّمَا يُحْمَلُ فِي مِحَفَّةٍ، وَالَّذِي يَقُودُ الْجَيْشَ وَيُبَاشِرُ الْحُرُوبَ أَخُوهُ شِهَابُ

الدِّينِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْخَطَا إِلَى جَيْحُونَ، وَسَارَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى طُوسَ، عَازِمًا عَلَى قَصْدِ هَرَاةَ وَمُحَاصَرَتِهَا، وَعَبَرَ الْخَطَا النَّهْرَ، وَوَصَلُوا إِلَى بِلَادِ الْغَوْرِ مِثْلَ: كُرُزْبَانَ وَسُرْقَانَ وَغَيْرِهِمَا، وَقَتَلُوا وَأَسَرُوا وَنَهَبُوا وَسَبَوْا كَثِيرًا لَا يُحْصَى، فَاسْتَغَاثَ النَّاسُ بِغِيَاثِ الدِّينِ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ مَا يَلْقَاهُمْ بِهَا، فَرَاسَلَ الْخَطَا بَهَاءَ الدِّينِ سَامَ مَلِكَ بَامِيَانَ يَأْمُرُونَهُ بِالْإِفْرَاجِ عَنْ بَلْخَ، أَوْ أَنَّهُ يَحْمِلُ مَا كَانَ مَنْ قَبْلَهُ يَحْمِلُهُ مِنَ الْمَالِ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ. وَعَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَا فَعَلَهُ الْخَطَا، فَانْتُدِبَ الْأَمِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرْبَكَ الْغُورِيُّ، وَهُوَ مُقْطَعُ الطَّالْقَانِ مِنْ قِبَلِ غِيَاثِ الدِّينِ، وَكَانَ شُجَاعًا، وَكَاتِبُ الْحُسَيْنِ بْنِ خَرْمِيلَ، وَكَانَ بِقَلْعَةِ كُرْزُبَانَ. وَاجْتَمَعَ مَعَهُمَا الْأَمِيرُ حَرُّوشٌ الْغُورِيُّ، وَسَارُوا بِعَسَاكِرِهِمْ إِلَى الْخَطَا، فَبَيَّتُوهُمْ، وَكَبَسُوهُمْ لَيْلًا، وَمِنْ عَادَةِ الْخَطَا أَنَّهُمْ لَا يُخْرِجُونَ مِنْ خِيَامِهِمْ لَيْلًا، وَلَا يُفَارِقُونَهَا، فَأَتَاهُمْ هَؤُلَاءِ الْغُورِيَّةُ وَقَاتَلُوهُمْ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِي الْخَطَا، وَانْهَزَمَ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ مَنِ الْقَتْلِ، وَأَيْنَ يَنْهَزِمُونَ وَالْعَسْكَرُ الْغُورِيُّ خَلْفَهُمْ، وَجَيْحُونُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ! وَظَنَّ الْخَطَا أَنَّ غِيَاثَ الدِّينِ قَدْ قَصَدَهُمْ فِي عَسَاكِرِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَعَرَفُوا مَنْ قَاتَلَهُمْ وَعَلِمُوا أَنَّ غِيَاثَ الدِّينِ بِمَكَانِهِ، قَوِيَتْ قُلُوبُهُمْ، وَثَبَتُوا [وَاقْتَتَلُوا] عَامَّةَ نَهَارِهِمْ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَلَحِقَتِ الْمُتَطَوِّعَةُ بِالْغُورِيِّينَ، وَأَتَاهُمْ مَدَدٌ مِنْ غِيَاثِ الدِّينِ وَهُمْ فِي الْحَرْبِ، فَثَبَتَ الْمُسْلِمُونَ، وَعَظُمَتْ نِكَايَتُهُمْ فِي الْكُفَّارِ. وَحَمَلَ الْأَمِيرُ حَرُّوشٌ عَلَى قَلْبِ الْخَطَا، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَأَصَابَهُ جِرَاحَةٌ تُوُفِّيَ مِنْهَا، ثُمَّ إِنَّ مَحْمُودَ بْنَ جَرْبَكَ وَابْنَ خَرْمِيلَ حَمَلَا فِي أَصْحَابِهِمَا، وَتَنَادَوْا: لَا يَرْمِ أَحَدٌ بِقَوْسٍ، وَلَا يَطْعَنُ بِرُمْحٍ، وَأَخَذُوا اللُّتُوتَ، وَحَمَلُوا عَلَى الْخَطَا فَهَزَمُوهُمْ وَأَلْحَقُوهُمْ بِجَيْحُونَ، فَمَنْ صَبَرَ قُتِلَ، وَمَنْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ غَرِقَ. وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى مَلِكِ الْخَطَا، فَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ يَقُولُ لَهُ: أَنْتَ قَتَلْتَ رِجَالِي، وَأُرِيدُ عَنْ كُلِّ قَتِيلٍ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَكَانَ الْقَتْلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا،

وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ مَنْ رَدَّهُ إِلَى خُوَارِزْمَ، وَأَلْزَمُوهُ بِالْحُضُورِ عِنْدَهُ، فَأَرْسَلَ حِينَئِذٍ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ يُعَرِّفُهُ حَالَهُ مَعَ الْخَطَا، وَيَشْكُو إِلَيْهِ وَيَسْتَعْطِفُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ يَأْمُرُهُ بِطَاعَةِ الْخَلِيفَةِ، وَإِعَادَةِ مَا أَخَذَهُ الْخَطَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَنْفَصِلْ بَيْنَهُمَا حَالٌ. ذِكْرُ مُلْكِ خُوَارِزْمَ شَاهْ مَدِينَةَ بُخَارَى لَمَّا وَرَدَ رَسُولُ مَلِكِ الْخَطَا عَلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، أَعَادَ الْجَوَابَ: إِنَّ عَسْكَرَكَ إِنَّمَا قَصَدَ انْتِزَاعَ بَلْخَ، وَلَمْ يَأْتُوا إِلَى نُصْرَتِي، وَلَا اجْتَمَعْتُ بِهِمْ، وَلَا أَمَرْتُهُمْ بِالْعُبُورِ، وَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَنَا مُقِيمٌ بِالْمَالِ الْمَطْلُوبِ مِنِّي، وَلَكِنْ حَيْثُ عَجَزْتُمْ أَنْتُمْ عَنِ الْغُورِيَّةِ عُدْتُمْ عَلَيَّ بِهَذَا الْقَوْلِ وَهَذَا الْمَطْلَبِ، وَأَمَّا أَنَا فَقَدَ أَصْلَحَتُ الْغُورِيَّةَ، وَدَخَلْتُ فِي طَاعَتِهِمْ، وَلَا طَاعَةَ لَكُمْ عِنْدِي. فَعَادَ الرَّسُولُ بِالْجَوَابِ، فَجَهَّزَ مَلِكُ الْخَطَا جَيْشًا عَظِيمًا وَسَيَّرَهُ إِلَى خُوَارِزْمَ فَحَصَرُوهَا، فَكَانَ خُوَارِزْمُ شَاهْ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَيَقْتُلُ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَأَتَاهُ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَلَمْ يَزَلْ هَذَا فِعْلَهُ بِهِمْ حَتَّى أَتَى عَلَى أَكْثَرِهِمْ، فَدَخَلَ الْبَاقُونَ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَرَحَلَ خُوَارِزْمُ شَاهْ فِي آثَارِهِمْ، وَقَصَدَ بُخَارَى فَنَازَلَهَا وَحَصَرَهَا، وَامْتَنَعَ أَهْلُهَا مِنْهُ، وَقَاتَلُوهُ مَعَ الْخَطَا، حَتَّى أَنَّهُمْ أَخَذُوا كَلْبًا أَعَوَرًا وَأَلْبَسُوهُ قَبَاءً وَقَلَنْسُوَةً، وَقَالُوا: هَذَا خُوَارِزْمُ شَاهْ، لِأَنَّهُ كَانَ أَعْوَرَ، وَطَافُوا بِهِ عَلَى السُّورِ، ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِي مَنْجَنِيقٍ [إِلَى] الْعَسْكَرِ، وَقَالُوا: هَذَا سُلْطَانُكُمْ. وَكَانَ الْخُوَارِزْمِيُّونَ يَسُبُّونَهُمْ وَيَقُولُونَ: يَا أَجْنَادَ الْكُفَّارِ، أَنْتُمْ قَدِ ارْتَدَدْتُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَزَلْ هَذَا دَأْبُهُمْ حَتَّى مَلَكَ خُوَارِزْمُ شَاهْ الْبَلَدَ، بَعْدَ أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ، عَنْوَةً وَعَفَا عَنْ أَهْلِهِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَفَرَّقَ فِيهِمْ مَالًا كَثِيرًا، وَأَقَامَ بِهِ مُدَّةً وَعَادَ إِلَى خُوَارِزْمَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ زِيَادَةَ، كَاتِبُ

الْإِنْشَاءِ بِدِيوَانِ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا، لَهُ كِتَابَةٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ رَجُلًا عَاقِلًا خَيِّرًا، كَثِيرَ النَّفْعِ لِلنَّاسِ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ. وَفِيهَا حَصَرَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ قَلْعَةَ مَارْدِينَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَقَاتَلَ مَنْ بِهَا، وَكَانَ صَاحِبُهَا حُسَامَ الدِّينِ (يَوْلَقَ) أَرْسِلَانَ بْنَ إِيلِغَازِي بْنِ أَلْبِي بْنِ تِمِرْتَاشْ بْنِ إِيلِغَازِي بْنِ أُرْتُقْ، كُلُّ هَؤُلَاءِ مُلُوكُ مَارْدِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ مَا يُعْلَمُ بِهِ مَحَلُّهُمْ، وَكَانَ صَبِيًّا، وَالْحَاكِمُ فِي بَلَدِهِ وَدَوْلَتِهِ مَمْلُوكُ أَبِيهِ الْعَادِلِ النِّظَامِ يَرَنْقَشَ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ مَعَهُ حُكْمٌ الْبَتَّةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَلَمَّا حَصَرَ الْعَادِلُ مَارْدِينَ وَدَامَ عَلَيْهَا سَلَّمَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِهَا الرَّبَضَ بِمُخَامَرَةٍ بَيْنَهُمْ، فَنَهَبَ الْعَسْكَرُ أَهْلَهُ نَهْبًا قَبِيحًا، وَفَعَلُوا بِهِمْ أَفْعَالًا عَظِيمَةً لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، فَلَمَّا تَسَلَّمَ الرَّبَضَ تَمَكَّنَ مِنْ حَصْرِ الْقَلْعَةِ، وَقَطَعَ الْمِيرَةَ عَنْهَا، وَبَقِيَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ رَحَلَ عَنْهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] عَلَى مَا نَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْقَادِسِيُّ الزَّاهِدُ، الْمُقِيمُ بِبَغْدَادَ، وَالْقَادِسِيَّةُ الَّتِي يُنْسَبُ إِلَيْهَا قَرْيَةٌ بِنَهْرِ عِيسَى مِنْ أَعْمَالِ بَغْدَادَ، وَكَانَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ الْعَامِلِينَ، وَدُفِنَ بِقَرْيَتِهِ. وَأَبُو الْمَجْدِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ النَّاصِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ مُدَرِّسُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مِنْ أَوْلَادِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ ابْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَة] 595 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ وَمُلْكِ أَخِيهِ الْأَفْضَلِ دِيَارَ مِصْرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ عُثْمَانُ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنَ أَيُّوبَ، صَاحِبُ دِيَارِ مِصْرَ، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الصَّيْدِ، فَوَصَلَ إِلَى الْفَيُّومِ مُتَصَيِّدًا. فَرَأَى ذِئْبًا، فَرَكَضَ فَرَسُهُ فِي طَلَبِهِ، فَعَثَرَ الْفَرَسُ فَسَقَطَ عَنْهُ فِي الْأَرْضِ وَلَحِقَتْهُ حُمَّى، فَعَادَ إِلَى الْقَاهِرَةِ مَرِيضًا، فَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، فَلَمَّا مَاتَ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ مَمْلُوكُ وَالِدِهِ فَخْرُ الدِّينِ جَهَارْكَسُ، وَهُوَ الْحَاكِمُ فِي بَلَدِهِ، فَأَحْضَرَ إِنْسَانًا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، وَأَرَاهُ الْعَزِيزَ مَيِّتًا. وَسَيَّرَهُ إِلَى الْعَادِلِ وَهُوَ يُحَاصِرُ مَارْدِينَ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - وَيَسْتَدْعِيهِ لِيُمَلِّكَهُ الْبِلَادَ، فَسَارَ الْقَاصِدُ مُجِدًّا، فَلَمَّا كَانَ بِالشَّامِ رَأَى بَعْضَ أَصْحَابِ الْأَفْضَلِ عَلِيِّ بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَقَالَ لَهُ: قُلْ لِصَاحِبِكَ إِنَّ أَخَاهُ الْعَزِيزَ تُوُفِّيَ، وَلَيْسَ فِي الْبِلَادِ مَنْ يَمْنَعُهَا، فَلْيَسِرْ إِلَيْهَا فَلَيْسَ دُونَهَا مَانِعٌ. وَكَانَ الْأَفْضَلُ مَحْبُوبًا إِلَى النَّاسِ يُرِيدُونَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتِ الْأَفْضَلُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَإِذَا قَدْ وَصَلَهُ رُسُلُ الْأُمَرَاءِ مِنْ مِصْرَ يَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ لِيُمَلِّكُوهُ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ يَازْكَجَ - مُقَدَّمَ الْأَسَدِيَّةِ، وَالْفِرْقَةَ الْأَسَدِيَّةَ وَالْأُمَرَاءَ الْأَكْرَادَ يُرِيدُونَهُ وَيَمِيلُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ الْمَمَالِيكُ النَّاصِرِيَّةُ الَّذِينَ هُمْ مِلْكُ أَبِيهِ يَكْرَهُونَهُ، فَاجْتَمَعَ

سَيْفُ الدِّينِ، - مُقَدَّمُ الْأَسَدِيَّةِ -، وَفَخْرُ الدِّينِ جَهَارْكَسُ - مُقَدَّمُ النَّاصِرِيَّةِ - لِيَتَّفِقُوا عَلَى مَنْ يُوَلُّونَهُ الْمُلْكَ، فَقَالَ فَخْرُ الدِّينِ: نُوَلِّي ابْنَ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ سَيْفُ الدِّينِ: إِنَّهُ طِفْلٌ، وَهَذِهِ الْبِلَادُ ثَغْرُ الْإِسْلَامِ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَيِّمٍ بِالْمُلْكِ يَجْمَعُ الْعَسَاكِرَ، وَيُقَاتِلُ بِهَا، وَالرَّأْيُ أَنَّنَا نَجْعَلُ الْمُلْكَ فِي هَذَا الطِّفْلِ الصَّغِيرِ، وَنَجْعَلُ مَعَهُ بَعْضَ أَوْلَادِ صَلَاحِ الدِّينِ يُدَبِّرُهُ إِلَى أَنْ يَكْبُرَ، فَإِنَّ الْعَسَاكِرَ لَا تُطِيعُ غَيْرَهُمْ، وَلَا تَنْقَادُ لِأَمِيرٍ، فَاتَّفَقَا عَلَى هَذَا، فَقَالَ جَهَارْكَسُ: فَمَنْ يَتَوَلَّى هَذَا؟ فَأَشَارَ يَازْكَجُ بِغَيْرِ الْأَفْضَلِ مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَهَارْكَسَ مُنَازَعَةٌ لِئَلَّا يُتَّهَمَ وَيَنْفَرَ جَهَارْكَسُ عَنْهُ، فَامْتَنَعَ مِنْ وِلَايَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَذْكُرُ مِنْ أَوْلَادِ صَلَاحِ الدِّينِ وَاحِدًا بَعْدَ آخَرَ إِلَى أَنْ ذَكَرَ آخِرَهُمُ الْأَفْضَلُ، فَقَالَ جَهَارْكَسُ: هُوَ بَعِيدٌ عَنَّا، وَكَانَ بِصَرْخَدَ مُقِيمًا فِيهَا مِنْ حِينِ أُخِذَتْ مِنْهُ دِمَشْقُ، فَقَالَ يَازْكَجُ: نُرْسِلُ إِلَيْهِ مَنْ يَطْلُبُهُ مُجِدًّا، فَأَخَذَ جَهَارْكَسُ يُغَالِطُهُ، فَقَالَ يَازْكَجُ: نَمْضِي إِلَى الْقَاضِي الْفَاضِلَ وَنَأْخُذُ رَأْيَهُ، فَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، (وَأَرْسَلَ يَازْكَجُ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، وَيُشِيرُ بِتَمْلِيكِ الْأَفْضَلِ) ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا عِنْدَهُ، وَعَرَّفَاهُ صُورَةَ الْحَالِ، أَشَارَ بِالْأَفْضَلِ، فَأَرْسَلَ يَازْكَجُ فِي الْحَالِ الْقُصَّادَ وَرَاءَهُ، فَسَارَ عَنْ صَرْخَدَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ صَفَرٍ، مُتَنَكِّرًا فِي تِسْعَةَ عَشَرَ نَفْسًا، لِأَنَّ الْبِلَادَ كَانَتْ لِلْعَادِلِ، وَيَضْبُطُ نُوَّابُهُ الطُّرُقَ، لِئَلَّا يَجُوزَ إِلَى مِصْرَ لِيَجِيءَ الْعَادِلُ وَيَمْلِكَهَا. فَلَمَّا قَارَبَ الْأَفْضَلُ الْقُدْسَ، وَقَدْ عَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ، لَقِيَهُ فَارِسَانِ قَدْ أُرْسِلَا إِلَيْهِ مِنَ الْقُدْسِ، فَأَخْبَرَاهُ أَنَّ مَنْ بِالْقُدْسِ قَدْ صَارَ فِي طَاعَتِهِ، وَجَدَّ فِي السَّيْرِ، فَوَصَلَ إِلَى بِلْبِيسَ خَامِسَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلَقِيَهُ إِخْوَتُهُ، وَجَمَاعَةُ الْأُمَرَاءِ الْمِصْرِيَّةُ، وَجَمِيعُ الْأَعْيَانِ، فَاتُّفِقَ أَنَّ أَخَاهُ الْمَلِكَ الْمُؤَيَّدَ مَسْعُودًا صَنَعَ لَهُ طَعَامًا، وَصَنَعَ لَهُ فَخْرُ الدِّينِ مَمْلُوكُ أَبِيهِ طَعَامًا، فَابْتَدَأَ بِطَعَامِ أَخِيهِ لِيَمِينٍ حَلَفَهَا أَخُوهُ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِهِ، فَظَنَّ جَهَارْكَسُ أَنَّهُ فَعَلَ هَذَا انْحِرَافًا عَنْهُ وَسُوءَ اعْتِقَادٍ فِيهِ، فَتَغَيَّرَتْ نِيَّتُهُ، وَعَزَمَ عَلَى الْهَرَبِ، فَحَضَرَ عِنْدَ الْأَفْضَلِ وَقَالَ: إِنَّ طَائِفَةً مِنَ الْعَرَبِ قَدِ اقْتَتَلُوا، وَلَئِنْ لَمْ تَمْضِ إِلَيْهِمْ تُصْلِحْ بَيْنَهُمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى فَسَادٍ، فَأَذِنَ لَهُ الْأَفْضَلُ فِي الْمُضِيِّ إِلَيْهِمْ، فَفَارَقَهُ، وَسَارَ مُجِدًّا حَتَّى وَصَلَ

إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَدَخَلَهُ، وَتَغَلَّبَ عَلَيْهِ، وَلَحِقَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاصِرِيَّةِ مِنْهُمْ قَرَاجَةُ الزِّرَهْ كَشُ، وَسَرَا سُنْقُرُ، وَأَحْضَرُوا عِنْدَهُمْ مَيْمُونًا الْقَصْرِيَّ صَاحِبَ نَابُلُسَ، وَهُوَ أَيْضًا مِنَ الْمَمَالِيكِ النَّاصِرِيَّةِ، فَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ بِهِ، وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى خِلَافِ الْأَفْضَلِ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ وَهُوَ عَلَى مَارْدِينَ يَطْلُبُونَهُ إِلَيْهِمْ لِيَدْخُلُوا مَعَهُ إِلَى مِصْرَ لِيَمْلِكُوهَا، فَلَمْ يَسِرْ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ كَانَتْ أَطْمَاعُهُ قَدْ قَوِيَتْ فِي أَخْذِ مَارْدِينَ، وَقَدْ عَجَزَ مَنْ بِهَا عَنْ حِفْظِهَا،، فَظَنَّ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا، وَالَّذِي يُرِيدُونَهُ مِنْهُ لَا يَفُوتُهُ. وَأَمَّا الْأَفْضَلُ فَإِنَّهُ دَخَلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ سَابِعَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَسَمِعَ بِهَرَبِ جَهَارْكَسَ، فَأَهَمَّهُ ذَلِكَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لِيَعُودُوا إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا بُعْدًا، وَلَحِقَ بِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاصِرِيَّةِ أَيْضًا، فَاسْتَوْحَشَ الْأَفْضَلُ مِنَ الْبَاقِينَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ شُقَيْرَةُ وَأَيْبَكُ فُطَيْسُ، وَأَلْبَكْي الْفَارِسُ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ بَطَلٌ مَشْهُورٌ وَمُقَدَّمٌ مَذْكُورٌ، سِوَى مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُمْ فِي التَّقَدُّمِ وَعُلُوِّ الْقَدْرِ، وَأَقَامَ الْأَفْضَلُ بِالْقَاهِرَةِ وَأَصْلَحَ الْأُمُورَ، وَقَرَّرَ الْقَوَاعِدَ، وَالْمَرْجِعُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ إِلَى سَيْفِ الدِّينِ يَازْكَجَ. ذِكْرُ حَصْرِ الْأَفْضَلِ لِمَدِينَةِ دِمَشْقَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا لَمَّا مَلَكَ الْأَفْضَلُ مِصْرَ، وَاسْتَقَرَّ بِهَا، وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ، اسْتُعْظِمَ اسْمُ الْمَلِكِ لَهُ لِصِغَرِهِ، وَاجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْأَفْضَلِ بِهَا، وَصَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ أَخِيهِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ غَازِي، صَاحِبِ حَلَبَ، وَرُسُلُ ابْنِ عَمِّهِ أَسَدِ الدَّيْنِ شِيرْكُوه بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرْكُوه، صَاحِبِ حِمْصَ، يَحُثَّانِهِ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى دِمَشْقَ، وَاغْتِنَامِ الْفُرْصَةِ بِغَيْبَةِ الْعَادِلِ عَنْهَا، وَبَذَلَا لَهُ الْمُسَاعَدَةَ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالرِّجَالِ، فَبَرَزَ مِنْ مِصْرَ، مُنْتَصَفَ جُمَادَى الْأُولَى مِنَ السَّنَةِ، عَلَى عَزْمِ الْمَسِيرِ إِلَى دِمَشْقَ، وَأَقَامَ بِظَاهِرِ الْقَاهِرَةِ إِلَى ثَالِثِ رَجَبٍ، وَرَحَلَ فِيهِ وَتَعَوَّقَ فِي مَسِيرِهِ، وَلَوْ بَادَرَ وَعَجَّلَ الْمَسِيرَ لِمَلَكَ دِمَشْقَ، لَكِنَّهُ تَأَخَّرَ، فَوَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ ثَالِثَ عَشَرَ شَعْبَانَ، فَنَزَلَ عِنْدَ جِسْرِ الْخَشَبِ عَلَى فَرْسَخٍ وَنِصْفٍ مِنْ دِمَشْقَ، وَكَانَ الْعَادِلُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ نُوَّابَهُ بِدِمَشْقَ يُعَرِّفُونَهُ قَصْدَ الْأَفْضَلِ لَهُمْ، فَفَارَقَ مَارْدِينَ وَخَلَّفَ وَلَدَهُ الْمَلِكَ الْكَامِلَ مُحَمَّدًا فِي جَمِيعِ الْعَسَاكِرِ عَلَى حِصَارِهَا، وَسَارَ جَرِيدَةً فَجَدَّ فِي السَّيْرِ، فَسَبَقَ الْأَفْضَلَ، فَدَخَلَ دِمَشْقَ قَبْلَ الْأَفْضَلِ بِيَوْمَيْنِ.

وَأَمَّا الْأَفْضَلُ فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ إِلَى دِمَشْقَ مِنَ الْغَدِ، وَهُوَ رَابِعَ عَشْرَ شَعْبَانَ، وَدَخَلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِعَيْنِهِ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ مِنْ عَسْكَرِهِ إِلَى عَسْقَلَانَ إِلَى دِمَشْقَ مِنْ بَابِ السَّلَامَةِ، وَسَبَبُ دُخُولِهِمْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَجْنَادِهِ مِمَّنْ بُيُوتُهُمْ مُجَاوِرَةٌ لِلْبَابِ، اجْتَمَعُوا بِالْأَمِيرِ مَجْدِ الدِّينِ أَخِي الْفَقِيهِ عِيسَى الْهَكَّارِيِّ، وَتَحَدَّثُوا مَعَهُ فِي أَنْ يَقْصِدَ هُوَ وَالْعَسْكَرُ بَابَ السَّلَامَةِ لِيَفْتَحُوهُ لَهُمْ، فَأَرَادَ مَجْدُ الدِّينِ أَنْ يَخْتَصَّ، بِفَتْحِ الْبَابِ وَحْدَهُ، فَلَمْ يُعْلِمِ الْأَفْضَلَ، وَلَا أَخْذَ مَعَهُ أَحَدًا مِنَ الْأُمَرَاءِ، بَلْ سَارَ وَحْدَهُ بِمُفْرَدِهِ، وَمَعَهُ نَحْوُ خَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَفُتِحَ لَهُ الْبَابُ، فَدَخَلَهُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَامَّةُ الْبَلَدِ، وَنَادَوْا بِشِعَارِ الْأَفْضَلِ، وَاسْتَسْلَمَ مَنْ بِهِ مِنَ الْجُنْدِ، وَنَزَلُوا عَنِ الْأَسْوَارِ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ، فَكَادَ يَسْتَسْلِمُ، وَتَمَاسَكَ. وَأَمَّا الَّذِينَ دَخَلُوا الْبَلَدَ فَإِنَّهُمْ وَصَلُّوا إِلَى بَابِ الْبَرِيدِ، فَلَقَدْ رَأَى عَسْكَرُ الْعَادِلِ بِدِمَشْقَ قِلَّةَ عَدَدِهِمْ، وَانْقِطَاعَ مَدَدِهِمْ، وَثَبُوا بِهِمْ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْهُ، وَكَانَ الْأَفْضَلُ قَدْ نَصَبَ خَيْمَهً بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ، وَقَارَبَ عَسْكَرُهُ الْبَابَ الْحَدِيدَ - وَهُوَ مِنْ أَبْوَابِ الْقَلْعَةِ - فَقَدَّرَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنْ أُشِيرَ عَلَى الْأَفْضَلِ بِالِانْتِقَالِ إِلَى مَيْدَانِ الْحَصَى، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَقَوِيَتْ نُفُوسُ مَنْ فِيهِ، وَضَعُفَتْ نُفُوسُ الْعَسْكَرِ الْمِصْرِيِّ، ثُمَّ إِنَّ الْأُمَرَاءَ الْأَكْرَادَ مِنْهُمْ تَحَالَفُوا، فَصَارُوا يَدًا وَاحِدَةً يَغْضَبُونَ لِغَضَبِ أَحَدِهِمْ، وَيَرْضَوْنَ لِرِضَى أَحَدِهِمْ، فَظَنَّ الْأَفْضَلُ وَبَاقِي الْأَسَدِيَّةُ أَنَّهُمْ فَعَلُوا بِقَاعِدَةٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الدِّمَشْقِيِّينَ، فَرَحَلُوا مِنْ مَوْضِعِهِمْ، وَتَأَخَّرُوا فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَوَصَلَ أَسَدُ الدِّينِ شِيرْكُوه صَاحِبُ حِمْصَ إِلَى الْأَفْضَلِ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ وَوَصَلَ بَعْدَهُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ صَاحِبُ حَلَبَ، ثَانِيَ عَشْرَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَرَادُوا الزَّحْفَ إِلَى دِمَشْقَ، فَمَنَعَهُمُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ مَكْرًا بِأَخِيهِ وَحَسَدًا لَهُ، وَلَمْ يَشْعُرْ أَخُوهُ الْأَفْضَلُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَلِكُ الْعَادِلُ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى كَثْرَةَ الْعَسَاكِرِ وَتَتَابُعَ الْأَمْدَادَ إِلَى الْأَفْضَلِ عَظُمَ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمَمَالِيكِ النَّاصِرِيَّةِ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ يَسْتَدْعِيهِمْ إِلَيْهِ، فَسَارُوا سَلْخَ شَعْبَانَ، فَوَصَلَ خَبَرُهُمْ إِلَى الْأَفْضَلِ، فَسَيَّرَ أَسَدَ الدِّينِ - صَاحِبَ حِمْصَ - وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى طَرِيقِهِمْ لِيَمْنَعُوهُمْ، فَسَلَكُوا غَيْرَ طَرِيقِهِمْ، فَجَاءَ أُولَئِكَ وَدَخَلُوا دِمَشْقَ خَامِسَ رَمَضَانَ، فَقَوِيَ الْعَادِلُ بِهِمْ قُوَّةً عَظِيمَةً، وَأَيِسَ الْأَفْضَلُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ دِمَشْقَ،

وَخَرَجَ عَسْكَرُ دِمَشْقَ فِي شَوَّالٍ، فَكَبَسُوا الْعَسْكَرَ الْمِصْرِيَّ، فَوَجَدُوهُمْ قَدْ حَذَّرُوهُمْ، فَعَادُوا عَنْهُمْ خَاسِرِينَ. وَأَقَامَ الْعَسْكَرُ عَلَى دِمَشْقَ مَا بَيْنَ قُوَّةٍ وَضَعْفٍ، وَانْتِصَارٍ وَتَخَاذُلٍ، حَتَّى أَرْسَلَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ خَلَفَ وَلَدِهِ الْمَلِكِ الْكَامِلِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ قَدْ رَحَلَ عَنْ مَارْدِينَ - عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ بِحَرَّانَ، فَاسْتَدْعَاهُ إِلَيْهِ بِعَسْكَرِهِ، فَسَارَ عَلَى طَرِيقِ الْبَرِّ، فَدَخَلَ إِلَى دِمَشْقَ ثَانِيَ عَشَرَ صَفَرٍ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَحَلَ الْعَسْكَرُ عَنْ دِمَشْقَ إِلَى ذَيْلِ جَبَلِ الْكُسْوَةِ سَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ، وَاسْتَقَرَّ أَنْ يُقِيمُوا بِحَوْرَانَ حَتَّى يَخْرُجَ الشِّتَاءُ، فَرَحَلُوا إِلَى رَأْسِ الْمَاءِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ شَدِيدٌ الْبَرْدِ، فَتَغَيَّرَ الْعَزْمُ عَنِ الْمُقَامِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَعُودَ كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى بَلَدِهِ، فَعَادَ الظَّاهِرُ صَاحِبُ حَلَبَ، وَأَسَدُ الدِّينِ صَاحِبُ حِمْصَ، إِلَى بِلَادِهِمَا، وَعَادَ الْأَفْضَلُ إِلَى مِصْرَ، فَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ وَفَاةِ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ [السَّنَةَ] ، ثَامِنَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَقِيلَ جُمَادَى الْأُولَى تُوُفِّيَ أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، صَاحِبُ الْمَغْرِبِ وَالْأَنْدَلُسِ بِمَدِينَةٍ سَلَا، وَكَانَ قَدْ سَارَ إِلَيْهَا مِنْ مُرَّاكِشَ، وَكَانَ قَدْ بَنَى مَدِينَةً مُحَاذِيَةً لِسَلَا وَسَمَّاهَا الْمَهْدِيَّةَ، مِنْ أَحْسَنِ الْبِلَادِ وَأَنْزَهِهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا يُشَاهِدُهَا، فَتُوُفِّيَ بِهَا، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ ذَا جِهَادٍ لِلْعَدُوِّ، وَدِينٍ، وَحُسْنِ سِيرَةٍ، وَكَانَ يَتَظَاهَرُ بِمَذْهَبِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَأَعْرَضَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَعَظُمَ أَمْرُ الظَّاهِرِيَّةِ فِي أَيَّامِهِ، وَكَانَ

بِالْمَغْرِبِ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ يُقَالُ لَهُمُ الْجَرْمِيَّةُ، وَمَنْسُوبُونَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَرْمٍ، رَئِيسِ الظَّاهِرِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ مَغْمُورُونَ بِالْمَالِكِيَّةِ. فَفِي أَيَّامِهِ ظَهَرُوا وَانْتَشَرُوا، ثُمَّ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ اسْتَقْضَى الشَّافِعِيَّةُ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ وَمَالَ إِلَيْهِمْ. وَلَمَّا مَاتَ قَامَ ابْنُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ وَلَّاهُ عَهْدَهُ فِي حَيَاتِهِ، فَاسْتَقَامَ الْمُلْكُ وَأَطَاعَهُ النَّاسُ، وَجَهَّزَ جَمْعًا مِنَ الْعَرَبِ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الْأَنْدَلُسِ احْتِيَاطًا مِنَ الْفِرِنْجِ. ذِكْرُ عِصْيَانِ أَهْلِ الْمَهْدِيَّةِ عَلَى يَعْقُوبَ وَطَاعَتِهَا لِوَلَدِهِ مُحَمَّدٍ كَانَ أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ، صَاحِبُ الْمَغْرِبِ، لَمَّا عَادَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَاسْتَعْمَلَ أَبَا سَعِيدٍ عُثْمَانَ، وَأَبَا عَلِيٍّ يُونُسَ بْنَ عُمَرَ ايِنْتِي، وَهَمَا وَأَبُوهُمَا مِنْ أَعْيَانِ الدَّوْلَةِ، فَوَلَّى عُثْمَانَ مَدِينَةَ تُونِسَ، وَوَلَّى أَخَاهُ الْمَهْدِيَّةَ، وَجَعَلَ قَائِدَ الْجَيْشِ بِالْمَهْدِيَّةِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ شُجَاعٌ مَشْهُورٌ، فَعَظُمَتْ نِكَايَتُهُ فِي الْعَرَبِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ يَخَافُهُ. فَاتُّفِقَ أَنَّهُ أَتَاهُ الْخَبَرُ بِأَنَّ طَائِفَةً مِنْ عَوْفٍ نَازِلُونَ بِمَكَانٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، وَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى جَازَهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَائِدًا يَطْلُبُهُمْ، وَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِخُرُوجِهِ إِلَيْهِمْ، فَهَرَبُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَلَقَوْهُ أَمَامَهُمْ، فَهَرَبُوا وَتَرَكُوا الْمَالَ وَالْعِيَالَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، فَأَخَذَ الْجَمِيعَ وَرَجَعَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ وَسَلَّمَ الْعِيَالَ إِلَى الْوَالِي، وَأَخَذَ مِنَ الْأَسْلَابِ وَالْغَنِيمَةِ مَا شَاءَ، وَسَلَّمَ الْبَاقِيَ إِلَى الْوَالِي وَإِلَى الْجُنْدِ. ثُمَّ إِنَّ الْعَرَبَ مِنْ بَنِي عَوْفٍ قَصَدُوا أَبَا سَعِيدِ بْنَ عُمَرَ ايِنْتِي، فَوُحِّدُوا، وَصَارُوا مِنْ حِزْبِ الْمُوَحِّدِينَ، وَاسْتَجَارُوا بِهِ فِي رَدِّ عِيَالِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَأَحْضَرَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْكَرِيمِ، وَأَمَرَهُ بِإِعَادَةِ مَا أَخَذَ لَهُمْ مِنَ النِّعَمِ، فَقَالَ: أَخَذَهُ الْجُنْدُ وَلَا أَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، فَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ، وَأَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ، فَاسْتَمْهَلَهُ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ وَيَسْتَرِدَّ مِنَ الْجُنْدِ مَا يَجِدُهُ عِنْدَهُمْ، وَمَا عُدِمَ مِنْهُ غَرِمَ الْعِوَضَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ، فَأَمْهَلَهُ، فَعَادَ إِلَى

الْمَهْدِيَّةِ وَهُوَ خَائِفٌ، فَلَمَّا وَصَلَهَا جَمَعَ أَصْحَابَهُ وَأَعْلَمَهُمْ مَا كَانَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَحَالَفَهُمْ عَلَى مُوَافَقَتِهِ، فَحَلَفُوا لَهُ، فَقَبْضَ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ يُونُسَ، وَتَغَلَّبَ عَلَى الْمَهْدِيَّةِ وَمَلَكَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ فِي مَعْنَى إِطْلَاقِ أَخِيهِ يُونُسَ، فَأَطْلَقَهُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا أَرْسَلَهَا إِلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ فَرَّقَهَا فِي الْجُنْدِ وَأَطْلَقَ يُونُسَ. وَجَمَعَ أَبُو سَعِيدٍ الْعَسَاكِرَ، وَأَرَادَ قَصْدَهُ وَمُحَاصَرَتَهُ، فَأَرْسَلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ الْمُلَثَّمِ، فَحَالَفَهُ وَاعْتَضَدَ بِهِ، فَامْتَنَعَ أَبُو سَعِيدٍ مِنْ قَصْدِهِ. وَمَاتَ يَعْقُوبُ، وَوَلِيَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، فَسَيَّرَ عَسْكَرًا مَعَ عَمِّهِ فِي الْبَحْرِ، وَعَسْكَرًا آخَرَ فِي الْبَرِّ مَعَ ابْنِ عَمِّهِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي حَفْصِ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَلَمَّا وَصَلَ عَسْكَرُ الْبَحْرِ إِلَى بِجَايَةَ، وَعَسْكَرُ الْبَرِّ إِلَى قُسَنْطِينَةَ الْهَوَى، وَهَرَبَ الْمُلَثَّمُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَوَصْلَ الْأُسْطُولُ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، فَشَكَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ مَا لَقِيَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَالَ: أَنَا عَلَى طَاعَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُحَمَّدٍ، وَلَا أُسَلِّمُهَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ، وَإِنَّمَا أُسَلِّمُهَا إِلَى مَنْ يَصِلُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَرْسَلَ مُحَمَّدٌ مَنْ يَتَسَلَّمُهَا مِنْهُ وَعَادَ إِلَى الطَّاعَةِ. ذِكْرُ رَحِيلِ عَسْكَرِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ عَنْ مَارْدِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ زَالَ الْحِصَارُ عَنْ مَارْدِينَ، وَرَحَلَ عَسْكَرُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ عَنْهَا مَعَ وَلَدِهِ الْمَلِكِ الْكَامِلِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ الْعَادِلَ لَمَّا حَصَرَ مَارْدِينَ عَظُمَ ذَلِكَ عَلَى نُورِ الدِّينِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَغَيْرِهِ مِنْ مُلُوكِ دِيَارِ بَكْرٍ وَالْجَزِيرَةِ، وَخَافُوا إِنْ مَلَكَهَا أَنْ لَا يُبْقِيَ عَلَيْهِمْ، إِلَّا أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ مَنْعِهِ [حَمَلَهُمْ] عَلَى طَاعَتِهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْعَزِيزُ، صَاحِبُ مِصْرَ، وَمَلَكَ الْأَفْضَلُ مِصْرَ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَادِلِ اخْتِلَافٌ، وَأَرْسَلَ أَحَدَ عَسْكَرِ مِصْرَ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى نُورِ الدِّينِ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُلُوكِ يَدْعُوهُمْ إِلَى مُوَافَقَتِهِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا رَحَلَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ عَنْ مَارْدِينَ إِلَى دِمَشْقَ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - بَرَزَ نُورُ الدِّينِ أَرَسِلَانُ شَاه بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مَوْدُودٍ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، عَنْهَا ثَانِيَ شَعْبَانَ، وَسَارَ إِلَى دُنَيْسَرَ فَنَزَلَ عَلَيْهَا، وَوَافَقَهُ ابْنُ عَمِّهِ قُطْبُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ زِنْكِي بْنِ مَوْدُودٍ صَاحِبُ سِنْجَارَ، وَابْنُ عَمِّهِ الْآخَرِ مُعِزُّ الدِّينِ سَنْجَرُ شَاهْ بْنُ

غَازِي بْنِ مَوْدُودٍ صَاحِبُ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ بِدُنَيْسَرَ إِلَى أَنْ عَيَّدُوا عِيدَ الْفِطْرِ، ثُمَّ سَارُوا عَنْهَا سَادِسَ شَوَّالٍ وَنَزَلُوا بِحَرْزَمَ، وَتَقَدَّمَ الْعَسْكَرُ إِلَى تَحْتِ الْجَبَلِ لِيَرْتَادُوا مَوْضِعًا لِلنُّزُولِ. وَكَانَ أَهْلُ مَارْدِينَ قَدْ عُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ عِنْدَهُمْ، وَكَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ فِيهِمْ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ كَانَ لَا يُطِيقُ الْقِيَامَ، فَلَمَّا رَأَى النِّظَامُ، وَهُوَ الْحَاكِمُ فِي دَوْلَةِ صَاحِبِهَا، ذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ الْعَادِلِ فِي تَسْلِيمِ الْقَلْعَةِ إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ ذَكَرَهُ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَتْرُكَهُمْ يَدْخُلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمِيرَةِ مَا يُقَوِّتُهُمْ، حَسْبُ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَتَحَالَفُوا عَلَيْهِ وَرَفَعُوا أَعْلَامَهُمْ إِلَى رَأْسِ الْقَلْعَةِ، وَجَعَلَ وَلَدُ الْعَادِلِ بِبَابِ الْقَلْعَةِ أَمِيرًا لَا يَتْرُكُ شَيْئًا يَدْخُلُهَا مِنَ الْأَطْعِمَةِ إِلَّا مَا يَكْفِيهِمْ يَوْمًا بِيَوْمٍ، فَأَعْطَى مَنْ بِالْقَلْعَةِ ذَلِكَ الْأَمِيرَ شَيْئًا، فَمَكَّنَهُمْ مِنْ إِدْخَالِ الذَّخَائِرِ الْكَثِيرَةِ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ خَبَرُ وُصُولِ نُورِ الدِّينِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَعَزَمُوا عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ عَسْكَرُهُ إِلَى ذَيْلِ جَبَلِ مَارْدِينَ، قَدَّرَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّ الْمَلِكَ الْكَامِلَ بْنَ الْعَادِلِ نَزَلَ بِعَسْكَرٍ مِنْ رَبَضِ مَارْدِينَ إِلَى لِقَاءِ نُورِ الدِّينِ وَقِتَالِهِ، وَلَوْ أَقَامُوا بِالرَّبَضِ لَمْ يُمْكِنْ نُورَ الدِّينِ وَلَا غَيْرَهُ الصُّعُودُ إِلَيْهِمْ، وَلَا إِزَالَتَهُمْ، لَكِنْ نَزَلُوا لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا، فَلَمَّا أَصْحَرُوا مِنَ الْجَبَلِ اقْتَتَلُوا، وَكَانَ مِنْ عَجِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّ قُطْبَ الدِّينِ - صَاحِبَ سِنْجَارَ - قَدْ وَاعَدَ الْعَسْكَرَ الْعَادِلِيَّ أَنْ يَنْهَزِمَ إِذَا الْتَقَوْا، وَلَمْ يُعْلِمْ بِذَلِكَ أَحَدًا مِنَ الْعَسْكَرِ، فَقَدَّرَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ الْعَسْكَرُ الْعَادِلِيُّ وَاصْطَفَّتِ الْعَسَاكِرُ لِلْقِتَالِ أَلْجَأَتْ قُطْبَ الدِّينِ الضَّرُورَةُ بِالزَّحْمَةِ إِلَى أَنْ وَقَفَ فِي سَفْحِ شِعْبِ جَبَلِ مَارْدِينَ لَيْسَ إِلَيْهِ طَرِيقٌ لِلْعَسْكَرِ الْعَادِلِيِّ، وَلَا يَرَى الْحَرْبَ الْوَاقِعَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نُورِ الدِّينِ، فَفَاتَهُ مَا أَرَادَهُ مِنَ الِانْهِزَامِ، فَلَمَّا الْتَقَى الْعَسْكَرَانِ وَاقْتَتَلُوا، وَحَمَلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ نُورُ الدِّينِ بِنَفْسِهِ، وَاصْطَلَى الْحَرْبُ، [فَأَلْقَى] النَّاسُ أَنْفُسَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَانْهَزَمَ الْعَسْكَرُ الْعَادِلِيُّ وَصَعِدُوا فِي الْجَبَلِ إِلَى الرَّبَضِ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، فَحَمَلُوا إِلَى بَيْنِ يَدَيْ نُورِ الدِّينِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَوَعَدَهُمُ الْإِطْلَاقَ إِذَا انْفَصَلُوا، وَلَمْ يَظُنَّ أَنَّ الْمَلِكَ الْكَامِلَ وَمَنْ مَعَهُ يَرْحَلُونَ عَنْ مَارْدِينَ سَرِيعًا، فَجَاءَهُمْ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْحِسَابِ، فَإِنَّ الْمَلِكَ الْكَامِلَ لَمَّا صَعِدَ إِلَى الرَّبَضِ رَأَى أَهْلَ الْقَلْعَةِ قَدْ نَزَلُوا إِلَى الَّذِينَ جَعَلَهُمْ بِالرَّبَضِ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَقَاتَلُوهُمْ وَنَالُوا مِنْهُمْ وَنَهَبُوهُمْ، فَأَلْقَى اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ

الْجَمِيعِ، فَأَعْمَلُوا رَأْيَهُمْ عَلَى مُفَارَقَةِ الرَّبَضِ لَيْلًا، فَرَحَلُوا لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ شَوَّالٍ، وَتَرَكُوا كَثِيرًا مِنْ أَثْقَالِهِمْ وَرِحَالِهِمْ وَمَا أَعَدُّوهُ، فَأَخَذَهُ أَهْلُ الْقَلْعَةِ، وَلَوْ ثَبَتَ الْعَسْكَرُ الْعَادِلِيُّ بِمَكَانِهِ لَمْ يُمَكِّنْ أَحَدًا أَنْ يَقْرَبَ مِنْهُمْ. وَلَمَّا رَحَلُوا نَزَلَ صَاحِبُ مَارْدِينَ حُسَامُ الدِّينِ يَوْلَقُ بْنُ إِيلِغَازِي إِلَى نُورِ الدِّينِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى حِصْنِهِ، وَعَادَ أَتَابِكُ إِلَى دُنَيْسَرَ، وَرَحَلَ عَنْهَا إِلَى رَأْسِ عَيْنٍ عَلَى عَزْمِ قَصْدِ حَرَّانَ وَحَصَرِهَا. فَأَتَاهُ الرَّسُولُ مِنَ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ يَطْلُبُ الْخُطْبَةَ وَالسِّكَّةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَتَغَيَّرَتْ نِيَّةُ نُورِ الدِّينِ، وَفَتَرَ عَزْمُهُ عَنْ نُصْرَتِهِمْ، فَعَزَمَ عَلَى الْعُودِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَهُوَ يُقَدِّمُ إِلَى الْعَرْضِ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى إِذْ أَصَابَهُ مَرَضٌ، فَتَحَقَّقَ عَزْمُ الْعُودِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَعَادَ إِلَيْهَا، وَأَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى الْمَلِكِ الْأَفْضَلِ وَالْمَلِكِ الظَّاهِرِ يَعْتَذِرُ عَنْ عَوْدِهِ بِمَرَضِهِ، فَوَصَلَ الرَّسُولُ ثَانِيَ ذِي الْحِجَّةِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَى دِمَشْقَ. وَكَانَ عَوْدُ نُورِ الدِّينِ مِنْ سَعَادَةِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، فَإِنَّهُ كَانَ هُوَ وَكُلُّ مَنْ عِنْدَهُ يَنْتَظِرُونَ مَا يَجِيءُ مِنْ أَخْبَارِهِ. فَإِنَّ مَنْ بِحَرَّانَ اسْتَسْلَمُوا فَقَدَّرَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّهُ عَادَ، فَلَمَّا عَادَ جَاءَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ إِلَى حَرَّانَ، وَكَانَ قَدْ سَارَ عَنْ مَارْدِينَ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ، فَلَمَّا رَجَعَ نُورُ الدِّينِ سَارَ الْكَامِلُ إِلَى حَرَّانَ، وَسَارَ إِلَى أَبِيهِ بِدِمَشْقَ - عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ -، فَازْدَادَ بِهِ قُوَّةً، وَالْأَفْضَلُ وَمَنْ مَعَهُ ضَعْفًا. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِفَيْرُوزَكُوه مِنْ خُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ فِتْنَةً عَظِيمَةً بِعَسْكَرِ غِيَاثِ الدِّينِ - مَلِكِ الْغَوْرِ وَغَزْنَةَ - وَهُوَ بِفَيْرُوزَكُوه، عَمَّتِ الرَّعِيَّةَ وَالْمُلُوكَ وَالْأُمَرَاءَ، وَسَبَبُهَا أَنَّ الْفَخْرَ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْحُسَيْنِ الرَّازِيَّ، الْإِمَامَ الْمَشْهُورَ، الْفَقِيهَ الشَّافِعِيَّ، كَانَ قَدِمَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ مُفَارِقًا لِبَهَاءِ الدِّينِ سَامَ، صَاحِبِ بَامِيَانَ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ غِيَاثِ الدِّينِ، فَأَكْرَمَهُ غِيَاثُ الدِّينِ، وَاحْتَرَمَهُ، وَبَالَغَ فِي إِكْرَامِهِ، وَبَنَى لَهُ مَدْرَسَةً بِهَرَاةَ بِالْقُرْبِ مِنَ الْجَامِعِ، فَقَصَدَهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْبِلَادِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْكَرَّامِيَّةِ، وَهُمْ كَثِيرُونَ بِهَرَاةَ، وَأَمَّا الْغُورِيَّةُ فَكُلُّهُمْ

كَرَّامِيَّةٌ، وَكَرِهُوهُ، وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ عَلَيْهِ الْمَلِكُ ضِيَاءُ الدِّينِ، وَهُوَ عَمُّ غِيَاثِ الدِّينِ، وَزَوْجُ ابْنَتِهِ، فَاتُّفِقَ أَنْ حَضَرَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عِنْدَ غِيَاثِ الدِّينِ بِفَيْرُوزَكُوه لِلْمُنَاظَرَةِ، وَحَضَرَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ وَالْقَاضِي مَجْدُ الدِّينِ عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عُمَرَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقُدْوَةِ، وَهُوَ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ الْهَيْصَمِيَّةِ، وَلَهُ عِنْدُهُمْ مَحَلٌّ كَبِيرٌ لِزُهْدِهِ وَعِلْمِهِ وَبَيْتِهِ، فَتَكَلَّمَ الرَّازِيُّ. فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ ابْنُ الْقُدْوَةِ، وَطَالَ الْكَلَامُ، فَقَامَ غِيَاثُ الدِّينِ، فَاسْتَطَالَ عَلَيْهِ الْفَخْرُ وَسَبَّهُ وَشَتَمَهُ وَبَالَغَ فِي أَذَاهُ، وَابْنُ الْقُدْوَةِ لَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ لَا يَفْعَلُ مَوْلَانَا إِلَّا وَأَخَذَكَ اللَّهُ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، فَانْفَصَلُوا عَلَى هَذَا. وَقَامَ ضِيَاءُ الدِّينِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَشَكَا إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ، وَذَمَّ الْفَخْرَ، وَنَسَبَهُ إِلَى الزَّنْدَقَةِ وَمَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ، فَلَمْ يُصْغِ غِيَاثٌ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ وَعْظَ ابْنُ عَمِّ الْمَجْدِ بْنِ الْقُدْوَةِ بِالْجَامِعِ، فَلَقَدْ صَعِدَ الْمِنْبَرَ قَالَ: بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53] ، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا لَا نَقُولُ إِلَّا مَا صَحَّ عِنْدَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا عِلْمُ أَرِسْطَاطَالِيسَ وَكُفْرِيَّاتُ ابْنِ سِينَا، وَفَلْسَفَةُ الْفَارَابِيِّ، فَلَا نَعْلَمُهَا، فَلِأَيِّ حَالٍ يُشْتَمُ بِالْأَمْسِ شَيْخٌ مِنْ شُيُوخِ الْإِسْلَامِ يَذُبُّ عَنْ دِينِ اللَّهِ، وَعَنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ! وَبَكَى وَضَجَّ النَّاسُ، وَبَكَى الْكَرَّامِيَّةُ وَاسْتَغَاثُوا، وَأَعَانَهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ بُعْدَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ عَنِ السُّلْطَانِ وَثَارَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَامْتَلَأَ الْبَلَدُ فِتْنَةً، وَكَادُوا يَقْتَتِلُونَ، وَيَجْرِي مَا يَهْلَكُ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ السُّلْطَانَ، فَأَرْسَلَ جَمَاعَةً مِنْ عِنْدِهِ إِلَى النَّاسِ وَسَكَّنَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ بِإِخْرَاجِ الْفَخْرِ مِنْ عِنْدِهِمْ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِالْعَوْدِ إِلَى هَرَاةَ، فَعَادَ إِلَيْهَا. ذِكْرُ مَسِيرِ خُوَارِزْمَ شَاهْ إِلَى الرَّيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَارَ خُوَارِزْمُ شَاهْ عَلَاءُ الدِّينِ تُكُشُ إِلَى الرَّيِّ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْجَبَلِ، لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ نَائِبَهُ بِهَا مَيَاجِقَ قَدْ تَغَيَّرَ عَنْ طَاعَتِهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ،

فَخَافَهُ مَيَاجِقُ، فَجَعَلَ يَفِرُّ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَخُوَارِزْمُ شَاهْ فِي طَلَبِهِ يَدْعُوهُ إِلَى الْحُضُورِ عِنْدَهُ، وَهُوَ يَمْتَنِعُ، فَاسْتَأْمَنَ أَكْثَرَ أَصْحَابِهِ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَهَرَبَ هُوَ، فَحَصَلَ بِقَلْعَةٍ مِنْ أَعْمَالٍ مَازَنْدَرَانَ فَامْتَنَعَ بِهَا، فَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ فِي طَلَبِهِ، فَأُخِذَ مِنْهَا وَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْ خُوَارِزْمَ شَاهْ فَأَمَرَ بِحَبْسِهِ بِشَفَاعَةِ أَخِيهِ أَقْجَةَ. (وَسُيِّرَتِ الْخِلَعُ مِنَ الْخَلِيفَةِ لِخُوَارِزْمَ شَاهْ وَلِوَلَدِهِ قُطْبِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ) ، وَتَقْلِيدِ بِمَا بِيَدِهِ مِنَ الْبِلَادِ، فَلَبِسَ الْخِلْعَةَ، وَاشْتَغَلَ بِقِتَالِ الْمَلَاحِدَةِ، فَافْتَتَحَ قَلْعَةً عَلَى بَابِ قَزْوِينَ تُسَمَّى أَرْسِلَانَ كَشَاه، وَانْتَقَلَ إِلَى حِصَارِ أَلَمُوتَ، فَقُتِلَ عَلَيْهَا صَدْرُ الدِّينُ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَزَّانِ رَئِيسُ الشَّافِعِيَّةِ بِالرَّيِّ، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَهُ تَقَدُّمًا عَظِيمًا، قَتَلَهُ الْمَلَاحِدَةُ، وَعَادَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى خُوَارِزْمَ، فَوَثَبَ الْمَلَاحِدَةُ عَلَى وَزِيرِهِ نِظَامِ الْمُلْكِ مَسْعُودِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَتَلُوهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، فَأَمَرَ تُكُشُ وَلَدَهُ قُطْبَ الدِّينِ بِقَصْدِ الْمَلَاحِدَةِ، فَقَصَدَ قَلْعَةَ تُرْشِيشَ وَهِيَ مِنْ قِلَاعِهِمْ، فَحَصَرَهَا فَأَذْعَنُوا لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَصَالَحُوهُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَفَارَقَهَا، وَإِنَّمَا صَالَحَهُمْ لِأَنَّهُ بَلَغَهُ خَبَرُ مَرَضِ أَبِيهِ، وَكَانُوا يُرَاسِلُونَهُ بِالصُّلْحِ فَلَا يَفْعَلُ، فَلَمَّا سَمِعَ بِمَرَضِ أَبِيهِ لَمْ يَرْحَلْ حَتَّى صَالَحَهُمْ عَلَى الْمَالِ الْمَذْكُورِ وَالطَّاعَةِ وَرَحَلَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ مُجَاهِدُ الدِّينِ قَايْمَازُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَلْعَةِ الْمَوْصِلِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ فِي دَوْلَةِ نُورِ الدِّينِ، وَالْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِيهَا، وَكَانَ ابْتِدَاءُ وِلَايَتِهِ قَلْعَةَ الْمَوْصِلِ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةً، وَوَلِيَ إِرْبَلَ سَنَةَ تِسْعٍ [وَخَمْسِينَ] وَخَمْسِمِائَةٍ، فَلَمَّا مَاتَ زَيْنُ الدِّينِ عَلَاءُ كُوجَكُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] بَقِيَ هُوَ الْحَاكِمُ فِيهَا، وَمَعَهُ مَنْ يَخْتَارُهُ مِنْ أَوْلَادِ زَيْنِ الدِّينِ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعَهُ حُكْمٌ.

وَكَانَ عَاقِلًا، دَيِّنًا، خَيِّرًا، فَاضِلًا، يَعْرِفُ الْفِقْهَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَحْفَظُ مِنَ التَّارِيخِ وَالْأَشْعَارِ وَالْحِكَايَاتِ شَيْئًا كَثِيرًا. وَكَانَ كَثِيرَ الصَّوْمِ، يَصُومُ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ نَحْوَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَهُ أَوْرَادٌ كَثِيرَةٌ حَسَنَةٌ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَيُكْثِرُ الصَّدَقَةَ، وَكَانَ لَهُ فِرَاسَةٌ حَسَنَةٌ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ، وَيَعْرِفُ الْفُقَرَاءَ الْمُسْتَحِقِّينَ وَيَبَرُّهُمْ، وَبَنَى عِدَّةَ جَوَامِعٍ مِنْهَا الْجَامِعُ الَّذِي بِظَاهِرِ الْمَوْصِلِ بِبَابِ الْجِسْرِ، وَبَنَى الرُّبُطَ وَالْمَدَارِسَ وَالْخَانَاتِ فِي الطُّرُقِ، وَلَهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْءٌ كَثِيرٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَقَدْ كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الدُّنْيَا. وَفِيهَا فَارَقَ غِيَاثُ الدِّينِ - صَاحِبُ غَزْنَةَ وَبَعْضِ خُرَاسَانَ - مَذْهَبَ الْكَرَّامِيَّةِ، وَصَارَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ إِنْسَانٌ يُعْرَفُ بِالْفَخْرِ مُبَارَكِ شَاه يَقُولُ الشِّعْرَ بِالْفَارِسِيَّةِ، مُتَفَنِّنًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ، فَأَوْصَلَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ الشَّيْخَ وَحِيدَ الدِّينِ أَبَا الْفَتْحِ مُحَمَّدَ بْنَ مَحْمُودٍ الْمَرْوَرُوذِيَّ الْفَقِيهَ الشَّافِعِيَّ، فَأَوْضَحَ لَهُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، وَبَيَّنَ لَهُ فَسَادَ مَذْهَبِ الْكَرَّامِيَّةِ، فَصَارَ شَافِعِيًّا، وَبَنَى الْمَدَارِسَ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَبَنَى بِغَزْنَةَ مَسْجِدًا لَهُمْ أَيْضًا، وَأَكْثَرَ مُرَاعَاتَهُمْ، فَسَعَى الْكَرَّامِيَّةُ فِي أَذَى وَحِيدِ الدِّينِ، فَلَمْ يُقَدِّرْهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ إِنَّ غِيَاثَ الدِّينِ وَأَخَاهُ شِهَابَ الدِّينِ لَمَّا مَلَكَا فِي خُرَاسَانَ قِيلَ لَهُمَا: إِنَّ النَّاسَ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ يُزْرُونَ عَلَى الْكَرَّامِيَّةِ وَيَحْتَقِرُونَهُمْ، وَالرَّأْيُ أَنْ تُفَارِقُوا مَذَاهِبَهُمْ فَصَارَا شَافِعِيَّيْنِ وَقِيلَ: إِنَّ شِهَابَ الدِّينِ كَانَ حَنَفِيًّا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ يَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ فَضْلَانَ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ إِمَامًا فَاضِلًا، وَدَرَسَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ [مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى] نُجَىٍّ النَّيْسَابُورِيِّ.

ثم دخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَة] 596 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ الْعَادِلِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، حَصْرَ الْأَفْضَلِ وَالظَّاهِرِ وَلَدَيْ صَلَاحِ الدِّينِ دِمَشْقَ، وَرَحِيلَهُمَا إِلَى رَأْسِ الْمَاءِ، عَلَى عَزْمِ الْمُقَامِ بِحَوْرَانَ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الشِّتَاءُ، فَلَمَّا أَقَامُوا بِرَأْسِ الْمَاءِ وَجَدَ الْعَسْكَرُ بَرْدًا شَدِيدًا، لِأَنَّ الْبَرْدَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فِي الصَّيْفِ مَوْجُودٌ، فَكَيْفَ فِي الشِّتَاءِ، فَتَغَيَّرَ الْعَزْمُ عَنِ الْمُقَامِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَعُودَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ إِلَى بَلَدِهِ، وَيَعُودُوا إِلَى الِاجْتِمَاعِ، فَتَفَرَّقُوا تَاسِعَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَعَادَ الظَّاهِرُ وَصَاحِبُ حِمْصَ إِلَى بِلَادِهِمَا، وَسَارَ الْأَفْضَلُ إِلَى مِصْرَ فَوَصَلَ بِلْبِيسَ، فَأَقَامَ بِهَا، وَوَصَلَتْهُ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ عَمَّهُ الْمَلِكَ الْعَادِلَ قَدْ سَارَ مِنْ دِمَشْقَ قَاصِدًا مِصْرَ وَمَعَهُ الْمَمَالِيكُ النَّاصِرِيَّةُ، وَقَدْ حَلَّفُوهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ هُوَ صَاحِبُ الْبِلَادِ، وَهُوَ الْمُدَبِّرُ لِلْمُلْكِ، إِلَى أَنْ يَكْبُرَ، فَسَارُوا عَلَى هَذَا. وَكَانَ عَسْكَرُهُ بِمِصْرَ قَدْ تَفَرَّقَ عَنِ الْأَفْضَلِ مِنَ الْخَشَبِيِّ، فَسَارَ كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى إِقْطَاعِهِ لِيُرْبِعُوا دَوَابَّهُمْ، فَرَامَ الْأَفْضَلُ جَمْعَهُمْ مِنْ أَطْرَافِ الْبِلَادِ، فَأَعْجَلُهُ الْأَمْرُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ مِنْهُمْ إِلَّا طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ مِمَّنْ قَرُبَ إِقْطَاعِهِ، وَوَصَلَ الْعَادِلُ، فَأَشَارَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الْأَفْضَلِ أَنْ يُخَرِّبَ سُورَ بِلْبِيسَ وَيُقِيمَ بِالْقَاهِرَةِ، وَأَشَارَ غَيْرُهُمْ بِالتَّقَدُّمِ إِلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَسَارَ عَنْ بِلْبِيسَ، وَنَزَلَ مَوْضِعًا يُقَالُ لَهُ السَّائِحُ إِلَى طَرَفِ الْبِلَادِ، وَكَانَ لِقَاءُ الْعَادِلِ قَبْلَ دُخُولِ الْبِلَادِ سَابِعَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَانْهَزَمَ الْأَفْضَلُ، وَدَخَلَ الْقَاهِرَةَ لَيْلًا. وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ تُوُفِّيَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَلِيٍّ الْبَيْسَانِيُّ كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ لِصَلَاحِ الدِّينِ وَوَزِيرُهُ، فَحَضَرَ الْأَفْضَلُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَسَارَ الْعَادِلُ فَنَزَلَ عَلَى الْقَاهِرَةِ وَحَصَرَهَا، فَجَمَعَ الْأَفْضَلُ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَاسْتَشَارَهُمْ، فَرَأَى مِنْهُمْ تَخَاذُلًا،

فَأَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى عَمِّهِ فِي الصُّلْحِ وَتَسْلِيمِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ، وَأَخْذِ الْعِوَضِ عَنْهَا، وَطَلَبِ دِمَشْقَ، فَلَمْ يُجِبْهُ الْعَادِلُ، فَنَزَلَ عَنْهَا [إِلَى] حَرَّانَ وَالرُّهَا فَلَمْ يُجِبْهُ، فَنَزَلَ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ وَحَانِي وَجَبَلِ جُورٍ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَتَحَالَفُوا عَلَيْهِ، وَخَرَجَ الْأَفْضَلُ مِنْ مِصْرَ لَيْلَةَ السَّبْتِ ثَامِنَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَاجْتَمَعَ بِالْعَادِلِ، وَسَارَ إِلَى صَرْخَدَ، وَدَخَلَ الْعَادِلُ إِلَى الْقَاهِرَةِ يَوْمَ السَّبْتِ ثَامِنَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ. وَلَمَّا وَصَلَ الْأَفْضَلُ إِلَى صَرْخَدَ أَرْسَلَ مَنْ تَسَلَّمَ مَيَّافَارِقِينَ وَحَانِيَ وَجَبَلَ جُورٍ، فَامْتَنَعَ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ ابْنُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ مِنْ تَسْلِيمِ مَيَّافَارِقِينَ وَسَلَّمَ مَا عَدَاهَا، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَ الْأَفْضَلِ وَالْعَادِلِ فِي ذَلِكَ، وَالْعَادِلُ يَزْعُمُ أَنَّ ابْنَهُ عَصَاهُ، فَأَمْسَكَ عَنِ الْمُرَاسَلَةِ فِي ذَلِكَ لِعِلْمِهِ أَنَّ هَذَا فُعِلَ بِأَمْرِ الْعَادِلِ. وَلَمَّا ثَبَتَتْ قَدَمُ الْعَادِلِ بِمِصْرَ قَطَعَ خُطْبَةَ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ ابْنِ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ، وَحَاقَقَ الْجُنْدَ فِي إِقْطَاعَاتِهِمْ، وَاعْتَرَضَهُمْ فِي أَصْحَابِهِمْ وَمَنْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَسْكَرِ الْمُقَرَّرِ، فَتَغَيَّرَتْ لِذَلِكَ نِيَّاتُهُمْ، فَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ]- إِنْ شَاءَ اللَّهُ -. ذِكْرُ وَفَاةِ خُوَارِزْمَ شَاهْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، تُوُفِّيَ خُوَارِزْمُ شَاهْ تُكُشُ بْنُ أَلْب أَرْسِلَانَ، صَاحِبُ خُوَارِزْمَ وَبَعْضِ خُرَاسَانَ وَالرَّيِّ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ الْجِبَالِيَّةِ، بِشَهْرِسْتَانَةَ بَيْنَ نَيْسَابُورَ وَخُوَارِزْمَ. وَكَانَ قَدْ سَارَ مِنْ خُوَارِزْمَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَكَانَ بِهِ خَوَانِيقُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ بِتَرْكِ الْحَرَكَةِ، فَامْتَنَعَ، وَسَارَ، فَلَمَّا قَارَبَ شَهْرِسْتَانَةَ اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَمَاتَ، وَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ أَرْسَلُوا إِلَى ابْنِهِ قُطْبِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ يَسْتَدْعُونَهُ، وَيُعَرِّفُونَهُ شِدَّةَ مَرَضِ أَبِيهِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَقَدْ مَاتَ أَبُوهُ، فَوَلِيَ الْمُلْكَ بَعْدَهُ، وَلُقِّبَ عَلَاءَ

الدِّينِ، لَقَبَ أَبِيهِ، وَكَانَ لَقَبُهُ قُطْبَ الدِّينِ، وَأَمَرَ فَحُمِلَ أَبُوهُ وَدُفِنَ بِخُوَارِزْمَ (فِي تُرْبَةٍ عَمَلِهَا فِي مَدْرَسَةٍ بَنَاهَا كَبِيرَةٍ عَظِيمَةٍ) ، وَكَانَ عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ، لَهُ مَعْرِفَةٌ حَسَنَةٌ وَعِلْمٌ، يَعْرِفُ الْفِقْهَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَعْرِفُ الْأُصُولَ. وَكَانَ وَلَدُهُ عَلِيٌّ شَاه بِأَصْفَهَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَخُوهُ خُوَارِزْمُ شَاهْ مُحَمَّدٌ يَسْتَدْعِيهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَنَهَبَ أَهْلُ أَصْفَهَانَ خِزَانَتَهُ وَرَحْلَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى أَخِيهِ وَوَلَّاهُ حَرْبَ أَهْلِ خُرَاسَانَ، وَالتَّقَدُّمَ عَلَى جُنْدِهَا، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ نَيْسَابُورَ وَكَانَ هِنْدُوخَانُ [بْنُ] مَلِكْشَاهْ بْنِ خُوَارِزْمَ شَاهْ تُكُشَ يَخَافُ عَمَّهُ مُحَمَّدًا، فَهَرَبَ مِنْهُ، وَنَهَبَ كَثِيرًا مِنْ خَزَائِنِ جَدِّهِ تُكُشَ لَمَّا مَاتَ، وَكَانَ مَعَهُ، وَسَارَ إِلَى مُرْوَ. وَلَمَّا سَمِعَ غِيَاثُ الدِّينِ مَلِكُ غَزْنَةَ بِوَفَاةِ خُوَارِزْمَ شَاهْ أَمَرَ أَنْ لَا تُضْرَبَ نَوْبَتُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَجَلَسَ لِلْعَزَاءِ عَلَى مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْمُحَارَبَةِ، فَعَلَ ذَلِكَ عَقْلًا مِنْهُ وَمُرُوءَةً، ثُمَّ إِنْ هِنْدُوخَانَ جَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا بِخُرَاسَانَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ عَمُّهُ خُوَارِزْمُ شَاهْ مُحَمَّدٌ جَيْشًا مُقَدَّمُهُمْ جُقَرُ التُّرْكِيُّ، فَلَمَّا سَمِعَ هِنْدُوخَانَ بِمَسِيرِهِ هَرَبَ عَنْ خُرَاسَانَ وَسَارَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى عَمِّهِ، فَأَكْرَمَ لِقَاءَهُ وَإِنْزَالَهُ، وَأَقْطَعَهُ، وَوَعَدَهُ النُّصْرَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ، وَدَخَلَ جُقَرُ مَدِينَةَ مُرْوَ، وَبِهَا وَالِدَةُ هِنْدُوخَانَ وَأَوْلَادُهُ، فَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِمْ، وَأَعْلَمَ صَاحِبَهُ، فَأَمَرَهُ بِإِرْسَالِهِمْ إِلَى خُوَارِزْمَ مُكَرَّمِينَ، فَلَمَّا سَمِعَ غِيَاثُ الدِّينِ ذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَرْبَكَ، صَاحِبِ الطَّالْقَانِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يُرْسِلَ [إِلَى] جُقَرَ يَتَهَدَّدُهُ، فَفَعَلَ [ذَلِكَ] وَسَارَ مِنَ الطَّالْقَانِ، فَأَخَذَ مَرْوَ الرُّوذِ، وَالْخَمْسَ قُرَى وَتُسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ بَنَجْ دَهْ، وَأَرْسَلَ إِلَى جُقَرَ يَأْمُرُهُ بِإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ بِمَرْوَ لِغِيَاثِ الدِّينِ، أَوْ يُفَارِقُ الْبَلَدَ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ يَتَهَدَّدُ ابْنَ جَرْبَكَ وَيَتَوَعَّدُهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ أَمَانًا مِنْ غِيَاثِ الدِّينِ لِيَحْضُرَ خِدْمَتَهُ، فَكَتَبَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ بِذَلِكَ، فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ، وَعَلِمَ أَنَّ خُوَارِزْمَ شَاهْ لَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ، فَلِهَذَا طَلَبَ جُقَرُ الِانْحِيَازَ إِلَيْهِ، فَقَوِيَ طَمَعُهُ فِي الْبِلَادِ، وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى خُرَاسَانَ لِيَتَّفِقَا عَلَى أَخْذِ بِلَادِ خُوَارِزْمَ شَاهْ مُحَمَّدٍ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَثَبَ الْمَلَاحِدَةُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ عَلَى نِظَامِ الْمُلْكِ مَسْعُودِ بْنِ عَلِيٍّ، وَزِيرِ خُوَارِزْمَ شَاهْ تُكُشَ، فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ صَالِحًا كَثِيرَ الْخَيْرِ، حَسَنَ السِّيرَةِ، شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، بَنَى لِلشَّافِعِيَّةِ بِمَرْوَ جَامِعًا مُشْرِفًا عَلَى جَامِعِ الْحَنَفِيَّةِ، فَتَعَصَّبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ [بِمَرْوَ] وَهُوَ مُقَدَّمُ الْحَنَابِلَةِ بِهَا، قَدِيمُ الرِّيَاسَةِ، وَجَمَعَ الْأَوْبَاشِ، فَأَحْرَقَهُ. فَأَنْفَذَ خُوَارِزْمُ شَاهْ فَأَحْضَرَ شَيْخَ الْإِسْلَامِ وَجَمَاعَةً مِمَّنْ سَعَى فِي ذَلِكَ، فَأَغْرَمَهُمْ مَالًا كَثِيرًا. وَبَنَى الْوَزِيرُ أَيْضًا مَدْرَسَةً عَظِيمَةً بِخَوَارِزْمَ وَجَامِعًا وَجَعَلَ فِيهَا خِزَانَةَ كُتُبٍ، وَلَهُ آثَارٌ حَسَنَةٌ بِخُرَاسَانَ بَاقِيَةٌ، وَلَمَّا مَاتَ خَلَّفُ وَلَدًا صَغِيرًا، فَاسْتَوْزَرَهُ خُوَارِزْمُ شَاهْ رِعَايَةً لِحَقِّ أَبِيهِ، فَأُشِيرَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْفِيَ، فَأَرْسَلَ يَقَوْلُ: إِنَّنِي صَبِيٌّ لَا أَصْلُحُ لِهَذَا الْمَنْصِبِ الْجَلِيلِ، فَيُوَلِّي السُّلْطَانُ فِيهِ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ إِلَى أَنْ أَكْبُرَ، فَإِنْ كُنْتُ أَصْلُحُ فَأَنَا الْمَمْلُوكُ، فَقَالَ خُوَارِزْمُ شَاهْ: لَسْتُ أُعْفِيكَ، وَأَنَا وَزِيرُكَ، فَكُنْ مُرَاجِعِي فِي الْأُمُورِ، فَإِنَّهُ لَا يَقِفُ مِنْهَا شَيْءٌ. فَاسْتَحْسَنَ النَّاسُ هَذَا، ثُمَّ إِنَّ الصَّبِيَّ لَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ، فَتُوُفِّيَ قَبْلَ خُوَارِزْمَ شَاهْ بِيَسِيرٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ شَيْخُنَا أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ كُلَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ الْمُقِيمُ بِبَغْدَادَ وَلَهُ سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً وَشَهْرَانِ، وَكَانَ عَالِيَ الْإِسْنَادِ فِي الْحَدِيثِ، وَكَانَ ثِقَةً صَحِيحَ السَّمَاعِ. وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْبَيْسَانِيُّ الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ أَحَدٌ أَحْسَنَ كِتَابَةً مِنْهُ، وَدُفِنَ بِظَاهِرِ مِصْرَ بِالْقَرَافَةِ، وَكَانَ دَيِّنًا كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَلَهُ وُقُوفٌ كَثِيرَةٌ عَلَى الصَّدَقَةِ وَفَكِّ الْأُسَارَى، وَكَانَ يُكْثِرُ الْحَجَّ وَالْمُجَاوَرَةَ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ السُّلْطَانِ، وَكَانَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ يُعَظِّمُهُ وَيَحْتَرِمُهُ وَيُكْرِمُهُ، وَيَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ، - رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَة] 597 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ صَاحِبِ حَلَبَ مَنْبِجَ وَغَيْرَهَا مِنَ الشَّامِ وَحَصْرِهِ هُوَ وَأَخُوهُ الْأَفْضَلُ مَدِينَةَ دِمَشْقَ وَعَوْدِهِمَا عَنْهَا قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ مُلْكَ الْعَادِلِ دِيَارَ مِصْرَ، وَقَطْعَهُ خُطْبَةَ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ وَلَدِ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ عُثْمَانَ بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ، وَأَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَرْضَهُ الْأُمَرَاءُ الْمِصْرِيُّونَ، وَخَبُثَتْ نِيَّاتُهُمْ فِي طَاعَتِهِ، فَرَاسَلُوا أَخَوَيْهِ: الظَّاهِرَ بِحَلَبَ، وَالْأَفْضَلَ بِصَرْخَدَ، وَتَكَرَّرَتِ الْمُكَاتَبَاتُ وَالْمُرَاسَلَاتُ بَيْنَهُمْ، يَدْعُونَهُمَا إِلَى قَصْدِ دِمَشْقَ وَحَصْرِهَا لِيَخْرُجَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا خَرَجَ إِلَيْهِمْ [مِنْ] مِصْرَ أَسْلَمُوهُ، وَصَارُوا مَعَهُمَا، فَيَمْلِكَانِ الْبِلَادَ. وَكَثُرَ ذَلِكَ، حَتَّى فَشَا الْخَبَرُ وَاتَّصَلَ بِالْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ النِّيلَ لَمْ يَزِدْ بِمِصْرَ الزِّيَادَةَ الَّتِي تَرْكَبُ الْأَرْضَ لِيَزْرَعَ النَّاسُ، فَكَثُرَ الْغَلَاءُ فَضَعُفَتْ قُوَّةُ الْجُنْدِ، وَكَانَ فَخْرُ الدِّينِ جَرْكَسُ قَدْ فَارَقَ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمَمَالِيكِ النَّاصِرِيَّةِ لِحِصَارِ بَانِيَاسَ لِيَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ بِأَمْرِ الْعَادِلِ، وَكَانَتْ لِأَمِيرٍ كَبِيرٍ تُرْكِيٍّ اسْمُهُ بِشَارَةُ، قَدِ اتَّهَمَهُ الْعَادِلُ، فَأَمَرَ جَرْكَسَ بِذَلِكَ. وَكَانَ أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْعَادِلِ يُعْرَفُ بِأُسَامَةَ قَدْ حَجَّ هَذِهِ السَّنَةَ، فَلَمَّا عَادَ مِنَ الْحَجِّ، وَقَارَبَ صَرْخَدَ، نَزَلَ الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ، فَلَقِيَهُ وَأَكْرَمَهُ، وَدَعَاهُ إِلَى نَفْسِهِ. فَأَجَابَهُ وَحَلَفَ لَهُ، وَعَرَّفَهُ الْأَفْضَلُ جَلِيَّةَ الْحَالِ، وَكَانَ أُسَامَةُ مِنْ بِطَانَةِ الْعَادِلِ، وَإِنَّمَا حَلَفَ لِيَنْكَشِفَ لَهُ الْأَمْرُ، فَلَمَّا فَارَقَ الْأَفْضَلُ أَرْسَلَ إِلَى الْعَادِلِ وَهُوَ بِمِصْرَ، يُعَرِّفُهُ الْخَبَرَ

جَمِيعَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى وَلَدِهِ الَّذِي بِدِمَشْقَ يَأْمُرُهُ بِحَصْرِ الْأَفْضَلِ بَصَرْخَدَ، وَكَتَبَ إِلَى إِيَاسٍ جَرْكَسَ وَمَيْمُونٍ الْقَصْرِيِّ، صَاحِبِ بِلْبِيسَ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ النَّاصِرِيَّةِ يَأْمُرُهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ مَعَ وَلَدِهِ عَلَى حَصْرِ الْأَفْضَلِ. وَسَمِعَ الْأَفْضَلُ الْخَبَرَ، فَسَارَ إِلَى أَخِيهِ الظَّاهِرِ بِحَلَبَ فِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى مِنَ السَّنَةِ، وَوَصَلَ إِلَى حَلَبَ عَاشِرَ الشَّهْرِ، وَكَانَ الظَّاهِرُ قَدْ أَرْسَلَ أَمِيرًا كَبِيرًا مِنْ أُمَرَائِهِ إِلَى عَمِّهِ الْعَادِلِ، فَمَنَعَهُ الْعَادِلُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُكْتَبَ رِسَالَتَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَعَادَ لِوَقْتِهِ، فَتَحَرَّكَ الظَّاهِرُ لِذَلِكَ وَجَمَعَ عَسْكَرَهُ وَقَصَدَ مَنْبِجَ فَمَلَكَهَا لِلسَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ نَجْمٍ وَحَصَرَهَا، فَتَسَلَّمَهَا سَلْخَ رَجَبٍ. وَأَمَّا ابْنُ الْعَادِلِ الْمُقِيمُ بِدِمَشْقَ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى بُصْرَى، وَأَرْسَلَ إِلَى جَرْكَسَ وَمَنْ مَعَهُ - وَهُمْ عَلَى بَانِيَاسَ يَحْصُرُونَهَا - يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ إِلَى ذَلِكَ بَلْ غَالَطُوهُ، فَلَمَّا طَالَ مُقَامُهُ عَلَى بُصْرَى عَادَ إِلَى دِمَشْقَ، وَأَرْسَلَ الْأَمِيرُ أُسَامَةُ إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى مُسَاعَدَتِهِ، فَاتُّفِقَ أَنَّهُ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَلْبَكْي الْفَارِسِ، وَبَعْضِ الْمَمَالِيكِ الْكِبَارِ النَّاصِرِيَّةِ مُنَافَرَةٌ فَأَغْلَظَ لَهُ أَلْبَكْي الْقَوْلَ، وَتَعَدَّى إِلَى الْفِعْلِ بِالْيَدِ وَثَارَ الْعَسْكَرُ جَمِيعُهُ إِلَى أُسَامَةَ، فَاسْتَذَمَّ بِمَيْمُونَ، فَأَمَّنَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى دِمَشْقَ، وَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عِنْدَ الْمَلِكِ الظَّافِرِ خَضِرِ بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَأَنْزَلُوهُ مِنْ صَرْخَدَ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الْمَلِكِ الظَّاهِرِ وَالْأَفْضَلِ يَحُثُّونَهُمَا عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، وَالْمَلِكُ الظَّاهِرُ يَتَرَبَّصُ وَيَتَعَوَّقُ، فَوَصَلَ مِنْ مَنْبِجَ إِلَى حَمَاةَ فِي عِشْرِينَ يَوْمًا، وَأَقَامَ عَلَى حَمَاةَ يَحْصُرُهَا وَبِهَا صَاحِبُهَا نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ تَقِيِّ الدِّينِ إِلَى تَاسِعَ عَشَرَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَاصْطَلَحَا وَحَمَلَ لَهُ ابْنُ تَقِيِّ الدِّينِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ صُورِيَّةٍ، وَسَارُوا مِنْهَا إِلَى حِمْصَ، ثُمَّ سَارُوا مِنْهَا إِلَى دِمَشْقَ عَلَى طَرِيقِ بَعْلَبَكَّ، فَنَزَلُوا عَلَيْهَا عِنْدَ مَسْجِدِ الْقَدَمِ، فَلَمَّا نَزَلُوا عَلَى دِمَشْقَ أَتَاهُمُ الْمَمَالِيكُ النَّاصِرِيَّةُ مَعَ الْمَلِكِ الظَّافِرِ خَضِرِ بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَكَانَتِ الْقَاعِدَةُ اسْتَقَرَّتْ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَأَخِيهِ الْأَفْضَلِ أَنَّهُمْ إِذَا مَلَكُوا دِمَشْقَ تَكُونُ بِيَدِ الْأَفْضَلِ، وَيَسِيرُونَ إِلَى مِصْرَ، فَإِذَا مَلَكُوهَا تَسَلَّمَ الظَّاهِرُ دِمَشْقَ، فَيَبْقَى الشَّامُ جَمِيعُهُ لَهُ، وَتَبْقَى مِصْرُ لِلْأَفْضَلِ، وَسَلَّمَ الْأَفْضَلُ صَرْخَدَ إِلَى زَيْنِ الدِّينِ قَرَاجَةَ مَمْلُوكِ وَالِدِهِ لِيَحَضُرَ فِي خِدْمَتِهِ، وَأَنْزَلَ وَالِدَتَهُ وَأَهْلَهُ

مِنْهَا وَسَيَّرَهُمْ إِلَى حِمْصَ، فَأَقَامُوا عِنْدَ أَسَدِ الدِّينِ شِيرْكُوه صَاحِبِهَا. وَكَانَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ قَدْ سَارَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، فَنَزَلَ [عَلَى] مَدِينَةِ نَابُلُسَ وَسَيَّرَ جَمْعًا مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى دِمَشْقَ لِيَحْفَظَهَا، فَوَصَلُوا قَبْلَ وُصُولِ الظَّاهِرِ وَالْأَفْضَلِ، وَحَضَرَ فَخْرُ الدِّينِ جَرْكَسُ وَغَيْرُهُ مِنَ النَّاصِرِيَّةِ عِنْدَ الظَّاهِرِ، وَزَحَفُوا إِلَى دِمَشْقَ وَقَاتَلُوهَا رَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ عَلَيْهَا، فَالْتَصَقَ الرِّجَالُ بِالسُّورِ، فَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ، فَعَادُوا وَقَدْ قَوِيَ الطَّمَعُ فِي أَخْذِهَا، ثُمَّ زَحَفُوا إِلَيْهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَثَالِثَةً، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُلْكُهَا، لِأَنَّ الْعَسْكَرَ صَعِدَ إِلَى سَطْحِ خَانِ ابْنِ الْمُقَدَّمِ، وَهُوَ مُلَاصِقٌ لِلسُّورِ، فَلَوْ لَمْ يُدْرِكْهُمُ اللَّيْلُ لَمَلَكُوا الْبَلَدَ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ، وَهُمْ عَازِمُونَ عَلَى الزَّحْفِ بُكْرَةً، وَلَيْسَ لَهُمْ عَنِ الْبَلَدِ مَانِعٌ، حَسَدَ الظَّاهِرُ أَخَاهُ الْأَفْضَلَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ تَكُونُ دِمَشْقُ لَهُ وَبِيَدِهِ وَيُسَيِّرُ الْعَسَاكِرَ مَعَهُ إِلَى مِصْرَ. فَقَالَ لَهُ الْأَفْضَلُ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدَتِي وَأَهْلِي - وَهُمْ أَهْلُكَ أَيْضًا - عَلَى الْأَرْضِ، لَيْسَ لَهُمْ مَوْضِعٌ يَأْوُونَ إِلَيْهِ، فَاحْسِبْ أَنَّ هَذَا الْبَلَدَ لَكَ تُعِيرُنَاهُ لِيَسْكُنَهُ أَهْلِي هَذِهِ الْمُدَّةَ إِلَى أَنْ يُمْلَكَ مِصْرُ. فَلَمْ يُجِبْهُ الظَّاهِرُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَجَّ، فَلَمَّا رَأَى الْأَفْضَلُ ذَلِكَ الْحَالَ قَالَ لِلنَّاصِرِيَّةِ وَكُلِّ مَنْ جَاءَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْجُنْدِ: إِنْ كُنْتُمْ جِئْتُمْ إِلَيَّ فَقَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الْعَوْدِ إِلَى الْعَادِلِ، وَإِنْ كُنْتُمْ جِئْتُمْ إِلَى أَخِي الظَّاهِرِ فَأَنْتُمْ وَهُوَ أَخْبَرُ، وَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ يُرِيدُونَ الْأَفْضَلَ، فَقَالُوا: مَا نُرِيدُ سِوَاكَ، وَالْعَادِلُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَخِيكَ، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْعَوْدِ، فَهَرَبَ فَخْرُ الدِّينِ جَرْكَسُ وَزَيْنُ الدِّينِ قَرَاجَةُ الَّذِي أَعْطَاهُ الْأَفْضَلُ صَرْخَدَ، فَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ دِمَشْقَ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَادَ إِلَى إِقْطَاعِهِ، فَلَمَّا انْفَسَخَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ عَادُوا إِلَى تَجْدِيدِ الصُّلْحِ مَعَ الْعَادِلِ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ، وَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلظَّاهِرِ مَنْبِجُ، وَأَفَامِيَةُ وَكَفَرْطَابَ، وَقُرًى مُعَيَّنَةٌ مِنَ الْمَعَرَّةِ، وَيَكُونُ لِلْأَفْضَلِ سُمَيْسَاطُ، وَسَرُوجُ، وَرَأْسُ عَيْنٍ، وَحَمَلِينَ، وَرَحَلُوا عَنْ دِمَشْقَ أَوَّلَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، فَقَصَدَ الْأَفْضَلُ حِمْصَ فَأَقَامَ بِهَا وَسَارَ الظَّاهِرُ إِلَى حَلَبَ، وَوَصَلَ الْعَادِلُ إِلَى دِمَشْقَ تَاسِعَ الْمُحَرَّمِ، وَسَارَ الْأَفْضَلُ إِلَيْهِ مِنْ حِمْصَ، فَاجْتَمَعَ بِهِ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ، وَعَادَ مِنْ عِنْدِهِ

إِلَى حِمْصَ، وَسَارَ مِنْهَا لِيَتَسَلَّمَ سُمَيْسَاطَ، فَتَسَلَّمَهَا، وَتَسَلَّمَ بَاقِيَ مَا اسْتَقَرَّ لَهُ: رَأَسَ عَيْنٍ وَسَرُوجَ وَغَيْرَهُمَا. ذِكْرُ مُلْكِ غِيَاثِ الدِّينِ وَأَخِيهِ مَا كَانَ لِخُوَارِزْمَ شَاهْ بِخُرَاسَانَ قَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَ مُحَمَّدِ بْنِ خَرْمِيلَ مِنَ الطَّالْقَانِ. وَاسْتِيلَاءَهُ عَلَى مَرْوَ الرُّوذِ وَسُؤَالَ جُقَرَ التُّرْكِيِّ نَائِبِ عَلَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ خُوَارِزْمَ شَاهْ بِمَرْوَ أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَةِ عَسْكَرِ غِيَاثِ الدِّينِ، وَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُ ابْنِ خَرْمِيلَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ فِي مَعْنَى جُقَرَ، عَلِمَ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا دَعَاهُ إِلَى الِانْتِمَاءِ إِلَيْهِمْ ضَعْفُ صَاحِبِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَى خُرَاسَانَ، فَسَارَ مِنْ غَزْنَةَ فِي عَسَاكِرِهِ وَجُنُودِهِ وَعُدَّتِهِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَكَانَ بِهَرَاةَ الْأَمِيرُ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْغَنِيُّ نَائِبًا عَنْ غِيَاثِ الدِّينِ، وَكَانَ يَكْرَهُ خُرُوجَ غِيَاثِ الدِّينِ إِلَى خُرَاسَانَ، فَأَحْضَرَهُ غِيَاثُ الدِّينِ وَاسْتَشَارَهُ، فَأَشَارَ بِالْكَفِّ عَنْ قَصْدِهَا، وَتَرْكِ الْمَسِيرِ إِلَيْهَا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَأَرَادَ إِبْعَادَهُ عَنْهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ، وَوَصَلَ شِهَابُ الدِّينِ فِي عَسَاكِرِهِ وَعَسَاكِرِ سِجِسْتَانَ وَغَيْرِهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى مَيْمَنَةَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ بَيْنَ الطَّالْقَانِ وَكُرْزُبَانَ، وَصَلَ إِلَى شِهَابِ الدِّينِ كِتَابُ جُقَرَ مُسْتَحْفِظِ مَرْوَ، يَطْلُبُهُ لِيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَخَاهُ غِيَاثَ الدِّينِ فَأَذِنَ لَهُ، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَخَرَجَ أَهْلُهَا مَعَ الْعَسْكَرِ الْخُوَارِزْمِيِّ وَقَاتَلُوهُ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْحَمْلَةِ عَلَيْهِمْ وَالْجِدِّ فِي قِتَالِهِمْ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ، فَأَدْخَلُوهُمُ الْبَلَدَ، وَزَحَفُوا بِالْفِيَلَةِ إِلَى أَنْ قَارَبُوا السُّورَ، فَطَلَبَ أَهْلُ الْبَلَدِ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ وَكَفَّ النَّاسِ عَنِ التَّعَرُّضِ إِلَيْهِمْ، وَخَرَجَ

جُقَرُ إِلَى شِهَابِ الدِّينِ فَوَعَدَهُ الْجَمِيلَ. ثُمَّ حَضَرَ غِيَاثُ الدِّينِ إِلَى مَرْوَ بَعْدَ فَتْحِهَا، فَأَخَذَ جُقَرَ وَسَيَّرَهُ إِلَى هَرَاةَ مُكَرَّمًا، وَسَلَّمَ مَرْوَ إِلَى هِنْدُوخَانَ بْنِ مَلِكْشَاهْ بْنِ خُوَارِزْمَ شَاهْ تُكُشَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَرَبَهُ مِنْ عَمِّهِ خُوَارِزْمَ شَاهْ مُحَمَّدِ بْنِ تُكُشَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ، وَوَصَّاهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِهَا. ثُمَّ سَارَ غِيَاثُ الدِّينِ إِلَى مَدِينَةِ سَرَخْسَ، فَأَخَذَهَا صُلْحًا، وَسَلَّمَهَا إِلَى الْأَمِيرِ زِنْكِي بْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مِنْ أَوْلَادِ عَمِّهِ وَأَقْطَعَهُ مَعَهَا نَسَا وَأَبِيوَرْدَ، ثُمَّ سَارَ بِالْعَسَاكِرِ إِلَى طُوسَ، فَأَرَادَ الْأَمِيرُ الَّذِي بِهَا أَنْ يَمْتَنِعَ فِيهَا وَلَا يُسَلِّمَهَا، فَأَغْلَقَ بَابَ الْبِلَادِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَبَلَغَ الْخُبْزُ ثَلَاثَةُ أَمْنَاءٍ بِدِينَارٍ رُكْنِيٍّ، فَضَجَّ أَهْلُ الْبَلَدِ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ وَسَيَّرَهُ إِلَى هَرَاةَ، وَلَمَّا مَلَكَهَا أَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ شَاهْ بْنِ خُوَارِزْمَ شَاهْ تُكُشَ، وَهُوَ نَائِبُ أَخِيهِ عَلَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ بِنَيْسَابُورَ، يَأْمُرُهُ بِمُفَارَقَةِ الْبَلَدِ، وَيُحَذِّرُهُ إِنْ أَقَامَ سَطْوَةَ أَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ. وَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ شَاهْ عَسْكَرٌ مِنْ خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَاتَّفَقُوا عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَسْلِيمِ الْبَلَدِ، وَحَصَّنُوهُ، وَخَرَّبُوا مَا بِظَاهِرِهِ مِنَ الْعِمَارَةِ، وَقَطَعُوا الْأَشْجَارَ. وَسَارَ غِيَاثُ الدِّينِ إِلَى نَيْسَابُورَ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا أَوَائِلَ رَجَبٍ، وَتَقَدَّمَ عَسْكَرُ أَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ إِلَى الْقِتَالِ، فَلَمَّا رَأَى غِيَاثُ الدِّينِ ذَلِكَ قَالَ لِوَلَدِهِ مَحْمُودٍ: قَدْ سَبَقَنَا عَسْكَرُ غَزْنَةَ بِفَتْحِ مَرْوَ، وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَفْتَحُوا نَيْسَابُورَ، فَيَحْصُلُونَ بِالِاسْمِ، فَاحْمِلْ إِلَى الْبَلَدِ. وَلَا تَرْجِعْ حَتَّى تَصِلَ إِلَى السُّورِ. فَحَمَلَ، وَحَمَلَ مَعَهُ وُجُوهُ الْغُورِيَّةِ، فَلَمْ يَرُدَّهُمْ أَحَدٌ مِنَ السُّورِ، حَتَّى أَصْعَدُوا عَلَمَ غِيَاثِ الدِّينِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى شِهَابُ الدِّينِ عَلَمَ أَخِيهِ عَلَى السُّورِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: اقْصُدُوا بِنَا هَذِهِ النَّاحِيَةَ وَاصْعَدُوا السُّورَ مِنْ هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ فِيهِ، فَسَقَطَ السُّورُ مُنْهَدِمًا، فَضَجَّ النَّاسُ بِالتَّكْبِيرِ وَذُهِلَ الْخُوَارِزْمِيُّونَ وَأَهْلُ الْبَلَدِ، وَدَخَلَ الْغُورِيَّةُ الْبَلَدَ، وَمَلَكُوهُ عَنْوَةً وَنَهَبُوهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ فَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ: مَنْ نَهَبَ مَالًا أَوْ آذَى أَحَدًا فَدَمُهُ حَلَالٌ، فَأَعَادَ النَّاسُ مَا نَهَبُوهُ عَنْ آخِرِهِ. وَلَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْدِقَائِنَا مِنَ التُّجَّارِ - وَكَانَ بِنَيْسَابُورَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ -: نُهِبَ مِنْ مَتَاعِي شَيْءٌ مِنْ جُمْلَتِهِ سُكَّرٌ، فَلَمَّا سَمِعَ الْعَسْكَرُ النِّدَاءَ رَدُّوا جَمِيعَ مَا أَخَذُوا مِنِّي، وَبَقِيَ لِي بِسَاطٌ وَشَيْءٌ مِنَ السُّكَّرِ، فَرَأَيْتُ السُّكَّرَ مَعَ جَمَاعَةٍ، فَطَلَبْتُهُ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: أَمَّا

السُّكَّرُ فَأَكَلْنَاهُ فَنَسْأَلُكَ أَلَّا يَسْمَعَ أَحَدٌ، وَإِنْ أَرَدْتَ ثَمَنَهُ أَعْطَيْنَاكَ، فَقُلْتُ: أَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنِ الْبِسَاطُ مَعَ أُولَئِكَ، (قَالَ: فَمَشَيْتُ إِلَى بَابِ الْبَلَدِ مَعَ النَّظَّارَةِ، فَرَأَيْتُ الْبِسَاطَ) الَّذِي لِي قَدْ أُلْقِيَ عِنْدَ بَابِ الْبَلَدِ لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ: هَذَا لِي فَطَلَبُوا مِنِّي مَنْ يَشْهَدُ بِهِ، فَأَحْضَرْتُ مَنْ شَهِدَ لِي وَأَخَذْتُهُ. ثُمَّ إِنَّ الْخُوَارِزْمِيِّينَ تَحَصَّنُوا بِالْجَامِعِ، فَأَخْرَجَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ، فَأَخَذَهُمُ الْغُورِيَّةُ وَنَهَبُوا مَالَهُمْ، وَأُخِذَ عَلِيٌّ شَاهْ بْنُ خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَأُحْضِرُ عِنْدَ غِيَاثِ الدِّينِ رَاجِلًا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أَحْضَرَهُ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ فِيهِ، وَحَضَرَتْ دَايَةٌ كَانَتْ لَعَلِيٍّ شَاهْ، وَقَالَتْ لِغِيَاثِ الدِّينِ: أَهَكَذَا يُفْعَلُ بِأَوْلَادِ الْمُلُوكِ؟ فَقَالَ: لَا! بَلْ هَكَذَا، وَأَخَذَ بِيَدِهِ، وَأَقْعَدَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَطَيَّبَ نَفْسَهُ، وَسَيَّرَ جَمَاعَةَ الْأُمَرَاءِ الْخُوَارِزْمِيَّةَ إِلَى هَرَاةَ تَحْتَ الِاسْتِظْهَارِ، وَأَحْضَرَ غِيَاثُ الدِّينِ ابْنَ عَمِّهِ، وَصِهْرَهُ عَلَى ابْنَتِهِ، ضِيَاءَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي عَلِيٍّ الْغُورِيَّ، وَوَلَّاهُ حَرْبَ خُرَاسَانَ وَخَرَاجَهَا، وَلَقَّبَهُ عَلَاءَ الدِّينِ، وَجَعَلَ مَعَهُ وَجُوهَ الْغُورِيَّةِ، وَرَحَلَ إِلَى هَرَاةَ، وَسَلَّمَ عَلِيًّا شَاهْ إِلَى أَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ، وَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِ نَيْسَابُورَ، وَفَرَّقَ فِيهِمْ مَالًا كَثِيرًا. ثُمَّ رَحَلَ بَعْدَهُ شِهَابُ الدِّينِ إِلَى نَاحِيَةِ قُهِسْتَانَ، فَوَصَلَ إِلَى قَرْيَةٍ، فَذُكِرَ لَهُ أَنَّ أَهْلَهَا إِسْمَاعِيلِيَّةٌ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْمُقَاتِلَةِ، وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ، وَسَبِّيِ الذَّرَارِيِّ، وَخَرَّبَ الْقَرْيَةَ فَجَعَلَهَا خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى كَنَابَادَ وَهِيَ مِنَ الْمُدُنِ الَّتِي جَمِيعُ أَهْلِهَا إِسْمَاعِيلِيَّةٌ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا وَحَصَرَهَا، فَأَرْسَلَ صَاحِبُ قُهِسْتَانَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ يَشْكُو أَخَاهُ شِهَابَ الدِّينِ، وَيَقُولُ: بَيْنَنَا عَهْدٌ، فَمَا الَّذِي بَدَا مِنَّا حَتَّى تُحَاصِرَ بَلَدِي؟ وَاشْتَدَّ خَوْفُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ شِهَابِ الدِّينِ، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ لِيَخْرُجُوا مِنْهَا، فَأَمَّنَهُمْ، وَأَخْرَجَهُمْ وَمَلَكَ الْمَدِينَةَ وَسَلَّمَهَا إِلَى بَعْضِ الْغُورِيَّةِ، فَأَقَامَ بِهَا الصَّلَاةَ، وَشِعَارَ الْإِسْلَامِ، وَرَحَلَ شِهَابُ الدِّينِ فَنَزَلَ عَلَى حِصْنٍ آخَرَ لِلْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ أَخِيهِ غِيَاثِ الدِّينِ، فَقَالَ الرَّسُولُ: مَعِي تَقَدُّمٌ مِنَ السُّلْطَانِ، فَلَا يَجْرِي حَرَدٌ إِنْ فَعَلْتُهُ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ لَكَ مَا لَكَ وَلِرَعِيَّتِي، ارْحَلْ، قَالَ: لَا أَرْحَلُ، قَالَ: إِذَنْ أَفْعَلُ مَا أَمَرَنِي قَالَ: افْعَلْ، فَسَلَّ سَيْفَهُ وَقَطَعَ أَطْنَابَ سُرَادِقِ

شِهَابِ الدِّينِ، وَقَالَ: ارْحَلْ بِتَقَدُّمِ السُّلْطَانِ، فَرَحَلَ شِهَابُ الدِّينِ وَالْعَسْكَرُ وَهُوَ كَارِهٌ، وَسَارَ إِلَى بَلَدِ الْهِنْدِ، وَلَمْ يُقِمْ بِغَزْنَةَ غَضَبًا لِمَا فَعَلَهُ أَخُوهُ مَعَهُ ذِكْرُ قَصْدِ نُورِ الدِّينِ بِلَادَ الْعَادِلِ وَالصُّلْحِ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا تَجَهَّزَ نُورُ الدِّينِ أَرْسِلَانُ شَاهْ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَى بِلَادِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ بِالْجَزِيرَةِ: حَرَّانَ وَالرُّهَا ; وَكَانَ سَبَبُ حَرَكَتِهِ أَنَّ الْمَلِكَ الْعَادِلَ لَمَّا مَلَكَ مِصْرَ - عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ -، اتَّفَقَ نُورُ الدِّينِ وَالْمَلِكُ الظَّاهِرُ، صَاحِبُ حَلَبَ وَصَاحِبُ مَارْدِينَ وَغَيْرِهِمَا، عَلَى أَنْ يَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً، مُتَّفِقِينَ عَلَى مَنْعِ الْعَادِلِ عَنْ قَصْدِ أَحَدِهِمْ، فَلَمَّا تَجَدَّدَتْ حَرَكَةُ الْأَفْضَلِ وَالظَّاهِرِ، أَرْسَلَا إِلَى نُورِ الدِّينِ لِيَقْصِدَ الْبِلَادَ الْجَزَرِيَّةَ، فَسَارَ عَنِ الْمَوْصِلِ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَسَارَ مَعَهُ ابْنُ عَمِّهِ قُطْبُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عِمَادِ الدِّينِ زِنْكِي، صَاحِبُ سِنْجَارَ وَنَصِيبِينَ، وَصَاحِبُ مَارْدِينَ، وَوَصَلَ إِلَى رَأْسِ عَيْنٍ، وَكَانَ الزَّمَانُ قَيْظًا، فَكَثُرَثِ الْأَمْرَاضُ فِي عَسْكَرِهِ. وَكَانَ بِحَرَّانَ وَلَدُ الْعَادِلِ يُلَقَّبُ بِالْمَلِكِ الْفَائِزِ وَمَعَهُ عَسْكَرٌ يَحْفَظُ الْبِلَادَ، فَلَمَّا وَصَلَ نُورُ الدِّينِ إِلَى رَأْسِ عَيْنٍ جَاءَتْهُ رُسُلُ الْفَائِزِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ يَطْلُبُونَ الصُّلْحَ وَيَرْغَبُونَ فِيهِ، وَكَانَ نُورُ الدِّينِ قَدْ سَمِعَ بِأَنَّ الصُّلْحَ بَدَأَ يَتِمُّ بَيْنَ الْمَلِكِ الْعَادِلِ وَالْمَلِكِ الظَّاهِرِ وَالْأَفْضَلِ، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ كَثْرَةُ الْأَمْرَاضِ فِي عَسْكَرِهِ، فَأَجَابَ إِلَيْهِ، وَحَلَفَ الْمَلِكُ الْفَائِزُ وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي اسْتَقَرَّتْ، وَحَلَفُوا لَهُ أَنَّهُمْ يُحَلِّفُونَ الْمَلِكَ الْعَادِلَ لَهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ كَانُوا مَعَهُ عَلَيْهِ، وَحَلَفَ هُوَ لِلْمَلِكِ الْعَادِلِ. وَسَارَتِ الرُّسُلُ مِنْ عِنْدِهِ وَمِنْ عِنْدِ وَلَدِهِ فِي طَلَبِ الْيَمِينِ مِنَ الْعَادِلِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، وَحَلَفَ لَهُ، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ، وَأَمِنَتِ الْبِلَادُ، وَعَادَ نُورُ الدِّينِ إِلَى الْمَوْصِلِ فِي

ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ. ذِكْرُ مُلْكِ شِهَابِ الدِّينِ نَهْرَوَالَهْ لَمَّا سَارَ شِهَابُ الدِّينِ مِنْ خُرَاسَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، لَمْ يُقِمْ بِغَزْنَةَ، وَقَصَدَ بِلَادَ الْهِنْدِ، وَأَرْسَلَ مَمْلُوكَهُ قُطْبَ الدِّينِ أَيْبَكَ إِلَى نَهْرَوَالَهْ، فَوَصَلَهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، فَلَقِيَهُ عَسْكَرُ الْهُنُودِ، فَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَهَزَمَهُمْ أَيْبَكُ، وَاسْتَبَاحَ مُعَسْكَرَهُمْ، وَمَا لَهُمْ فِيهِ مِنَ الدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا، وَتَقَدَّمَ إِلَى نَهْرَوَالَهْ فَمَلَكَهَا عَنْوَةً، وَهَرَبَ مَلِكُهَا، فَجَمَعَ وَحَشَدَ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ. وَعَلِمَ شِهَابُ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهَا إِلَّا بِأَنْ يُقِيمَ هُوَ فِيهَا وَيُخَلِّيَهَا مِنْ أَهْلِهَا، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْبَلَدَ عَظِيمٌ، هُوَ أَعْظَمُ بِلَادِ الْهِنْدِ، وَأَكْثَرُهُمْ أَهْلًا، فَصَالَحَ صَاحِبَهَا عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ لَهُ عَاجِلًا وَآجِلًا، وَأَعَادَ عَسَاكِرَهُ عَنْهَا وَسَلَّمَهَا إِلَى صَاحِبِهَا. ذِكْرُ مُلْكِ رُكْنِ الدِّينِ مَلَطْيَةَ مِنْ أَخِيهِ وَأَرْزَنَ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، مَلَكَ رُكْنَ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ قِلْج أَرْسِلَانَ مَدِينَةَ مَلَطْيَةَ، وَكَانَتْ لِأَخِيهِ مُعِزِّ الدِّينِ قَيْصَرَ شَاهْ، فَسَارَ إِلَيْهِ وَحَصَرَهُ أَيَّامًا وَمَلَكَهَا، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى أَرْزَنِ الرُّومِ، وَكَانَتْ لِوَلَدِ الْمَلِكِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صُلْتُقَ، وَهُمْ بَيْتٌ قَدِيمٌ قَدْ مَلَكُوا أَرْزَنَ الرُّومِ هَذِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، فَلَمَّا سَارَ إِلَيْهَا وَقَارَبَهَا خَرَجَ صَاحِبُهَا إِلَيْهِ ثِقَةً بِهِ لِيُقَرِّرَ مَعَهُ الصُّلْحَ عَلَى قَاعِدَةٍ يُؤْثِرُهَا رُكْنُ الدِّينِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَاعْتَقَلَهُ عِنْدَهُ وَأَخَذَ الْبَلَدَ، وَكَانَ هَذَا آخِرَ أَهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ [مَلَكُوا] ، فَتَبَارَكَ اللَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لَا يَزُولُ مُلْكُهُ أَبَدًا سَرْمَدًا. ذِكْرُ وَفَاةِ سُقْمَانَ صَاحِبِ آمِدَ وَمُلْكِ أَخِيهِ مَحْمُودٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ قُطْبُ الدِّينِ سُقْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُرَّا أَرْسِلَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ سُقْمَانَ، صَاحِبُ آمِدَ وَحِصْنِ كِيفَا، سَقَطَ مِنْ سَطْحِ جَوْسَقٍ كَانَ لَهُ بِظَاهِرِ حِصْنِ كِيفَا فَمَاتَ، وَكَانَ شَدِيدَ الْكَرَاهَةِ لِأَخِيهِ هَذَا، وَالنُّفُورِ عَنْهُ، قَدْ أَبْعَدَهُ وَأَنْزَلَهُ حِصْنَ مَنْصُورٍ فِي آخِرِ بِلَادِهِمْ، وَاتَّخَذَ مَمْلُوكًا اسْمُهُ إِيَاسٌ، فَزَوَّجَهُ أُخْتَهُ، وَأَحَبَّهُ حُبًّا شَدِيدًا، وَجَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ تَمَلَّكَ بَعْدَهُ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَتَهَدَّدَ وَزِيرًا كَانَ لِقُطْبِ الدِّينِ، وَغَيْرِهِ مِنْ أُمَرَاءِ الدَّوْلَةِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى أَخِيهِ مَحْمُودٍ يَسْتَدْعُونَهُ، فَسَارَ مُجِدًّا، فَوَصَلَ إِلَى آمِدَ

وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا إِيَاسٌ مَمْلُوكُ أَخِيهِ، فَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَتَسَلَّمَ مَحْمُودٌ الْبِلَادَ جَمِيعَهَا وَمَلَكَهَا، وَحَبَسَ الْمَمْلُوكَ فَبَقِيَ مُدَّةً مَحْبُوسًا، ثُمَّ شَفَعَ لَهُ صَاحِبُ بِلَادِ الرُّومِ، فَأُطْلِقَ مِنَ الْحَبْسِ، وَسَارَ إِلَى الرُّومِ، فَصَارَ أَمِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ الدَّوْلَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّ الْغَلَاءُ بِالْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ لِعَدَمِ زِيَادَةِ النِّيلِ، وَتَعَذَّرَتِ الْأَقْوَاتُ حَتَّى أَكَلَ النَّاسُ الْمَيْتَةَ، وَأَكَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ لَحِقَهُمْ عَلَيْهِ وَبَاءٌ وَمَوْتٌ كَثِيرٌ أَفْنَى النَّاسَ. وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا تَزَلْزَلَتِ الْأَرْضُ بِالْمَوْصِلِ، وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ كُلِّهَا، وَالشَّامِ، وَمِصْرَ وَغَيْرِهَا، فَأَثَّرَتْ فِي الشَّامِ أَثَارًا قَبِيحَةً، وَخَرَّبَتْ كَثِيرًا مِنَ الدُّورِ بِدِمَشْقَ، وَحِمْصَ، وَحَمَاةَ، وَانْخَسَفَتْ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى بُصْرَى، وَأَثَّرَتْ فِي السَّاحِلِ الشَّامِيِّ أَثَرًا كَثِيرًا، فَاسْتَوْلَى الْخَرَابُ عَلَى طَرَابُلُسَ، وَصُورَ، وَعَكَّا، وَنَابُلُسَ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْقِلَاعِ، وَوَصَلَتِ الزَّلْزَلَةُ إِلَى بَلَدِ الرُّومِ، وَكَانَتْ بِالْعِرَاقِ يَسِيرَةً لَمْ تَهْدِمْ دُورًا. وَفِيهَا وُلِدَ بِبَغْدَادَ طِفْلٌ لَهُ رَأْسَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ جَبْهَتَهُ مَفْرُوقَةٌ بِمِقْدَارِ مَا يَدْخُلُ فِيهَا مِيلٌ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، تُوُفِّيَ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلِيُّ بْنُ

الْجَوْزِيِّ الْحَنْبَلِيُّ الْوَاعِظُ بِبَغْدَادَ، وَتَصَانِيفُهُ مَشْهُورَةٌ، وَكَانَ كَثِيرَ الْوَقِيعَةِ فِي النَّاسِ لَا سِيَّمَا فِي الْعُلَمَاءِ الْمُخَالِفِينَ لِمَذْهَبِهِ وَالْمُوَافِقِينَ لَهُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ عِيسَى بْنُ نُصَيْرٍ النُّمَيْرِيُّ الشَّاعِرُ، وَكَانَ حَسَنَ الشِّعْرِ، وَلَهُ أَدَبٌ وَفَضْلٌ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِبَغْدَادَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْعِمَادُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَلَّةَ، أَوَّلُهُ بِاللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهُوَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ، كَتَبَ لِنُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زِنْكِي وَلِصَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانَ كَاتِبًا مُفْلِقًا، قَادِرًا عَلَى الْقَوْلِ. وَفِيهَا جَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْزَةَ الْعَلَوِيُّ الْمُتَغَلِّبُ عَلَى جِبَالِ الْيَمَنِ جُمُوعًا كَثِيرَةً فِيهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَمِنَ الرَّجَّالَةِ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً، وَكَانَ قَدِ انْضَافَ إِلَيْهِ مِنْ جُنْدِ الْمُعِزِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَيْفِ الْإِسْلَامِ طُغْدِكِينُ بْنُ أَيُّوبَ، صَاحِبُ الْيَمَنِ، خَوْفًا مِنْهُ، وَأَيْقَنُوا بِمُلْكِ الْبِلَادِ، وَاقْتَسَمُوهَا، وَخَافَهُمُ ابْنُ سَيْفِ الْإِسْلَامِ خَوْفًا عَظِيمًا، فَاجْتَمَعَ قُوَّادُ عَسْكَرِ ابْنِ حَمْزَةَ لَيْلًا لِيَتَّفِقُوا عَلَى رَأْيٍ يَكُونُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ قَائِدًا فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ صَاعِقَةٌ أَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعَهُمْ، فَأَتَى الْخَبَرُ ابْنَ سَيْفِ الْإِسْلَامِ فِي بَاقِي اللَّيْلَةِ بِذَلِكَ، فَصَارَ إِلَيْهِمْ مُجِدًّا فَأَوْقَعَ بِالْعَسْكَرِ الْمُجْتَمِعِ، فَلَمْ يَثْبُتُوا لَهُ، وَانْهَزَمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَوَضَعَ السَّيْفَ فِيهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ سِتَّةَ آلَافِ قَتِيلٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَثَبَتَ مُلْكُهُ وَاسْتَقَرَّ بِتِلْكَ الْأَرْضِ. وَفِيهَا وَقَعَ فِي بَنِي عَنَزَةَ بِأَرْضِ الشَّرَاةِ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ، وَبَاءٌ عَظِيمٌ، وَكَانُوا يَسْكُنُونَ فِي عِشْرِينَ قَرْيَةً، فَوَقَعَ الْوَبَاءُ فِي ثَمَانِيَ عَشْرَةَ قَرْيَةً، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَكَانَ الْإِنْسَانُ إِذَا قَرُبَ مِنْ تِلْكَ الْقُرَى يَمُوتُ سَاعَةَ مَا يُقَارِبُهَا، فَتَحَامَاهَا النَّاسُ، وَبَقِيَتْ إِبِلُهُمْ وَأَغْنَامُهُمْ لَا مَانِعَ لَهَا، وَأَمَّا الْقَرْيَتَانِ الْأُخْرَيَانِ فَلَمْ يَمُتْ فِيهِمَا أَحَدٌ، وَلَا أَحَسُّوا بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ فِيهِ أُولَئِكَ.

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَة] 598 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ خُوَارِزْمَ شَاهْ مَا كَانَ أَخَذَهَ الْغُورِيَّةُ مِنْ بِلَادِهِ قَدْ ذَكَرْنَا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] مُلْكَ غِيَاثِ الدِّينِ وَأَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ مَا كَانَ لِخُوَارِزْمَ شَاهْ مُحَمَّدِ بْنِ تُكُشَ بِخُرَاسَانَ، وَمَرْوَ، وَنَيْسَابُورَ، وَغَيْرِهَا، وَعَوْدَهُمَا عَنْهَا بَعْدَ أَنْ أَقْطَعَا الْبِلَادَ، وَمَسِيرَ شِهَابِ الدِّينِ إِلَى الْهِنْدِ، فَلَمَّا اتَّصَلَ بِخُوَارِزْمَ شَاهْ عَلَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ تُكُشَ عَوَّدَ الْعَسَاكِرَ الْغُورِيَّةَ عَنْ خُرَاسَانَ، وَدُخُولَ شِهَابِ الدِّينِ الْهِنْدَ، أَرْسَلَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ يُعَاتِبُهُ، وَيَقُولُ: كُنْتُ أَعْتَقِدُ أَنْ تَخْلُفَ عَلَيَّ بَعْدَ أَبِي، وَأَنْ تَنْصُرَنِي عَلَى الْخَطَا، وَتَرُدَّهُمْ عَنْ بِلَادِي، فَحَيْثُ لَمْ تَفْعَلْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا تُؤْذِيَنِي وَتَأْخُذَ بِلَادِي، وَالَّذِي أُرِيدُهُ أَنْ تُعِيدَ مَا أَخَذْتَهُ مِنِّي إِلَيَّ، وَإِلَّا اسْتَنْصَرْتُ عَلَيْكَ بِالْخَطَا وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَتْرَاكِ، إِنْ عَجَزْتُ عَنْ أَخْذِ بِلَادِي، فَإِنَّنِي إِنَّمَا شَغَلَنِي عَنْ مَنْعِكُمْ عَنْهَا الِاشْتِغَالُ بِعَزَاءِ وَالِدِي وَتَقْرِيرُ أَمْرِ بِلَادِي، وَإِلَّا فَمَا أَنَا عَاجِزٌ عَنْكُمْ وَعَنْ أَخْذِ بِلَادِكُمْ بِخُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا، فَغَالَطَهُ غِيَاثُ الدِّينِ فِي الْجَوَابِ لِتَمْتَدَّ الْأَيَّامُ بِالْمُرَاسَلَاتِ، وَيَخْرُجَ أَخُوهُ شِهَابُ الدِّينِ مِنَ الْهِنْدِ بِالْعَسَاكِرِ، فَإِنَّ غِيَاثَ الدِّينِ كَانَ عَاجِزًا بِاسْتِيلَاءِ النِّقْرِسِ عَلَيْهِ. فَلَمَّا وَقَفَ خُوَارِزْمُ شَاهْ عَلَى رِسَالَةِ غِيَاثِ الدِّينِ أَرْسَلَ إِلَى عَلَاءِ الدِّينِ الْغُورِي نَائِبِ غِيَاثِ الدِّينِ بِخُرَاسَانَ، يَأْمُرُهُ بِالرَّحِيلِ عَنْ نَيْسَابُورَ، وَيَتَهَدَّدُهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَكَتَبَ عَلَاءُ الدِّينِ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ بِذَلِكَ، وَيُعَرِّفُهُ مَيْلَ أَهْلِ الْبَلَدِ إِلَى الْخُوَارِزْمِيِّينَ فَأَعَادَ غِيَاثُ الدِّينِ جَوَابَهُ يُقَوِّي قَلْبَهُ، وَيَعِدُهُ النُّصْرَةَ وَالْمَنْعَ عَنْهُ.

وَجَمَعَ خُوَارِزْمُ شَاهْ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ عَنْ خُوَارِزْمَ نِصْفَ ذِي الْحَجِّهِ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَلَمَّا قَارَبَ نَسَا وَأَبِيوَرْدَ هَرَبَ هِنْدُوخَانُ ابْنُ أَخِي مَلِكْشَاهْ مِنْ مَرْوَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ بِفَيْرُوزَكُوه، وَمَلَكَ خُوَارِزْمُ شَاهْ مَدِينَةَ مَرْوَ، وَسَارَ إِلَى نَيْسَابُورَ وَبِهَا عَلَاءُ الدِّينِ، فَحَصَرَهُ، وَقَاتَلَهُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَطَالَ مُقَامُهُ عَلَيْهَا، وَرَاسَلَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي تَسْلِيمِ الْبَلَدِ إِلَيْهِ، وَهُوَ لَا يُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ انْتِظَارًا لِلْمَدَدِ مِنْ غِيَاثِ الدِّينِ، فَبَقِيَ نَحْوَ شَهْرَيْنِ، فَلَمَّا أَبْطَأَ عَنْهُ النَّجْدَةُ أَرْسَلَ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ يَطْلُبُ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْغُورِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ إِلَيْهِمْ بِحَبْسٍ وَلَا غَيْرِهِ مِنَ الْأَذَى، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَحَلَفَ لَهُمْ، وَخَرَجُوا مِنَ الْبَلَدِ وَأَحْسَنَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَيْهِمْ، وَوَصَلَهُمْ بِمَالٍ جَلِيلٍ وَهَدَايَا كَثِيرَةٍ، وَطَلَبَ مِنْ عَلَاءِ الدِّينِ أَنْ يَسْعَى فِي الصُّلْحِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غِيَاثِ الدِّينِ وَأَخِيهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ. وَسَارَ إِلَى هَرَاةَ، وَمِنْهَا إِلَى إِقْطَاعِهِ، وَلَمْ يَمْضِ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ تَجَنِّيًا عَلَيْهِ لِتَأَخُّرِ أَمْدَادِهِ، وَلَمَّا خَرَجَ الْغُورِيَّةُ مِنْ نَيْسَابُورَ أَحْسَنَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ خَرْمِيلَ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أُمَرَائِهِمْ، زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهِ، وَبَالَغَ فِي إِكْرَامِهِ، فَقِيلَ إِنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ اسْتَحْلَفَهُ لِنَفْسِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَهُ بَعْدَ غِيَاثِ الدِّينِ وَأَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ. ثُمَّ سَارَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى سَرَخْسَ، وَبِهَا الْأَمِيرُ زِنْكِي، فَحَصَرَهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَجَرَى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، فَضَاقَتِ الْمِيرَةُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، لَا سِيَّمَا الْحَطَبُ، فَأَرْسَلَ زِنْكِي إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ بَابِ الْبَلَدِ حَتَّى يَخْرُجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَيَتْرُكَ الْبَلَدَ لَهُ، فَرَاسَلَهُ خُوَارِزْمُ شَاهْ فِي الِاجْتِمَاعِ بِهِ لِيُحْسِنَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ مَعَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ وَاحْتَجَّ بِقُرْبِ نَسَبِهِ مِنْ غِيَاثِ الدِّينِ، فَأَبْعَدَ خُوَارِزْمُ شَاهْ عَنْ بَابِ الْبَلَدِ بِعَسَاكِرِهِ، فَخَرَجَ زِنْكِي فَأَخَذَ مِنَ الْغَلَّاتِ وَغَيْرِهَا الَّتِي فِي الْمُعَسْكَرِ مَا أَرَادَ لَا سِيَّمَا مِنَ الْحَطَبِ، وَعَادَ إِلَى الْبَلَدِ وَأَخْرَجَ مِنْهُ مَنْ كَانَ قَدْ ضَاقَ بِهِ الْأَمْرُ، وَكَتَبَ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ: الْعُودُ أَحْمَدُ، فَنَدِمَ حَيْثُ لَمْ يَنْفَعْهُ النَّدَمُ، وَرَحَلَ عَنِ الْبَلَدِ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ يَحْصُرُونَهُ. فَلَمَّا أَبْعَدَ خُوَارِزْمُ شَاهْ سَارَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرْبَكَ مِنَ الطَّالْقَانِ، وَهُوَ مِنْ أُمَرَاءَ الْغُورِيَّةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى زِنْكِي أَمِيرِ سَرَخْسَ يُعَرِّفُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَكْبِسَ الْخُوَارِزْمِيِّينَ لِئَلَّا يَنْزَعِجَ إِذَا سَمِعَ الْغَلَبَةَ، وَسَمِعَ الْخُوَارِزْمِيُّونَ الْخَبَرَ، فَفَارَقُوا سَرَخْسَ، وَخَرَجَ زِنْكِي وَلَقِيَ مُحَمَّدَ بْنَ جَرْبَكَ وَعَسْكَرًا فِي مَرْوِ الرُّوذِ، وَأَخَذَ خَرَاجَهَا وَمَا يُجَاوِرُهَا، فَسَيَّرَ

إِلَيْهِمْ خُوَارِزْمُ شَاهْ عَسْكَرًا مَعَ خَالِهِ، فَلَقِيَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ جَرْبَكَ وَقَاتَلَهُمْ، وَحَمَلَ بَلُتَّ فِي يَدِهِ عَلَى صَاحِبِ عَلَمِ الْخُوَارِزْمِيَّةِ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، وَأَلْقَى عَلَمَهُمْ، وَكَسَرَ كَوْسَاتِهِمْ، فَانْقَطَعَ صَوْتُهَا عَنِ الْعَسْكَرِ، وَلَمْ يَرَوْا أَعْلَامَهُمْ، فَانْهَزَمُوا، وَرَكِبَهُمُ الْغُورِيَّةُ قَتْلًا وَأَسْرًا نَحْوَ فَرْسَخَيْنِ، فَكَانُوا ثَلَاثَةَ آلَافِ فَارِسٍ وَابْنُ جَرْبَكَ فِي تِسْعِ مِائَةِ فَارِسٍ، وَغَنِمَ جَمِيعُ مُعَسْكَرِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ خُوَارِزْمُ شَاهْ ذَلِكَ عَادَ إِلَى خُوَارِزْمَ، وَأَرْسَلَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ فِي الصُّلْحِ، فَأَجَابَهُ عَنْ رِسَالَتِهِ مَعَ أَمِيرٍ كَبِيرٍ مِنَ الْغُورِيَّةِ يُقَالُ لَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْغَنِيُّ، وَمَرْغَنُ مِنْ قُرَى الْغَوْرِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ خُوَارِزْمُ شَاهْ. ذِكْرُ حَصْرِ خُوَارِزْمَ شَاهْ هَرَاةَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا لَمَّا أَرْسَلَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ فِي الصُّلْحِ، وَأَجَابَهُ عَنْ رِسَالَتِهِ مَعَ الْحُسَيْنِ الْمَرْغَنِيِّ مُغَالِطًا، قَبَضَ خُوَارِزْمُ شَاهْ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَسَارَ إِلَى هَرَاةَ لِيُحَاصِرَهَا، فَكَتَبَ الْحُسَيْنُ إِلَى أَخِيهِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْغَنِيِّ أَمِيرِ هَرَاةَ، يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ فَاسْتَعَدَّ لِلْحِصَارِ. وَكَانَ سَبَبُ قَصْدِ خُوَارِزْمَ شَاهْ حِصَارَ هَرَاةَ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَخَوَيْنِ، مِمَّنْ كَانَ يَخْدِمُ مُحَمَّدًا سُلْطَانَ شَاهْ، اتَّصَلَا بِغِيَاثِ الدِّينِ، بَعْدَ وَفَاةِ سُلْطَانَ شَاهْ، فَأَكْرَمَهُمَا غِيَاثِ الدِّينِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمَا، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا الْأَمِيرُ الْحَاجِّيُّ، فَكَاتَبَا خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَأَطْمَعَاهُ فِي الْبَلَدِ، وَضَمِنَا لَهُ تَسْلِيمَهُ إِلَيْهِ فَسَارَ لِذَلِكَ، وَنَازَلَ الْمَدِينَةَ وَحَصَرَهَا، فَسَلَّمَ الْأَمِيرُ عُمَرُ الْمَرْغَنِيُّ أَمِيرُ الْبَلَدِ، مَفَاتِيحَ الْأَبْوَابِ إِلَيْهِمَا، وَجَعَلَهُمَا عَلَى الْقِتَالِ ثِقَةً مِنْهُ بِهِمَا، وَظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمَا عَدُوَّا خُوَارِزْمَ شَاهْ تُكُشَ وَابْنِهِ مُحَمَّدٍ بَعْدَهُ، فَاتُّفِقَ أَنَّ بَعْضَ الْخُوَارِزْمِيَّةِ أَخْبَرَ الْحُسَيْنَ الْمَرْغَنِيَّ الْمَأْسُورَ عِنْدَ خُوَارِزْمَ شَاهْ بِحَالِ الرَّجُلَيْنِ، وَأَنَّهُمَا هُمَا اللَّذَانِ يُدَبِّرَانِ خُوَارِزْمَ شَاهْ وَيَأْمُرَانِهِ بِمَا يَفْعَلُ، فَلَمْ يُصَدِّقْهُ، وَأَتَاهُ بِخَطِّ الْأَمِيرِ الْحَاجِّيِّ، فَأَخَذَهُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى أَخِيهِ عُمَرَ أَمِيرِ هَرَاةَ، فَأَخَذَهُمَا وَاعْتَقَلَهُمَا وَأَخَذَ أَصْحَابَهُمَا.

ثُمَّ إِنَّ أَلْب غَازِي - وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ غِيَاثِ الدِّينِ - جَاءَ فِي عَسْكَرٍ مِنَ الْغُورِيَّةِ، فَنَزَلَ عَلَى خَمْسَةِ فَرَاسِخَ مِنْ هَرَاةَ فَكَانَ يَمْنَعُ الْمِيرَةَ عَنْ عَسْكَرِ خُوَارِزْمَ شَاهْ، ثُمَّ إِنَّ خُوَارِزْمَ شَاهْ سَيَّرَ عَسْكَرًا إِلَى أَعْمَالِ الطَّالْقَانِ لِلْغَارَةِ عَلَيْهَا، فَلَقِيَهُمُ الْحُسَيْنُ بْنُ خَرْمِيلَ فَقَاتَلَهُمْ، فَظَفِرَ بِهِمْ فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَسَارَ غِيَاثُ الدِّينِ عَنْ فَيْرُوزَكُوه إِلَى هَرَاةَ فِي عَسْكَرِهِ، فَنَزَلَ بِرِبَاطٍ رَزِينٍ وَبِالْقُرْبِ مِنْ هَرَاةَ، وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ لِقِلَّةِ عَسْكَرِهِ لِأَنَّ أَكْثَرَ عَسَاكِرِهِ كَانَتْ مَعَ أَخِيهِ بِالْهِنْدِ وَغَزْنَةَ، فَأَقَامَ خُوَارِزْمُ شَاهْ عَلَى هَرَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ لِأَنَّهُ بَلَغَهُ انْهِزَامُ أَصْحَابِهِ بِالطَّالْقَانِ وَقُرْبُ غِيَاثِ الدِّينِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا قُرْبُ أَلْب غَازِي، وَسَمِعَ أَيْضًا أَنَّ شِهَابَ الدِّينِ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْهِنْدِ إِلَى غَزْنَةَ، وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَيْهَا فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَخَافَ أَنْ يَصِلَ بِعَسَاكِرِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ عَلَى الْبَلَدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَمِيرِ هَرَاةَ عُمَرَ الْمَرْغَنِيِّ فِي الصُّلْحِ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ حَمَلَهُ إِلَيْهِ وَارْتَحَلَ عَنِ الْبَلَدِ. وَأَمَّا شِهَابُ الدِّينِ، فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى غَزْنَةَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ بِمَا فَعَلَهُ خُوَارِزْمُ شَاهْ بِخُرَاسَانَ، وَمُلْكُهُ لَهَا، فَسَارَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَوَصَلَ إِلَى بَلْخَ وَمِنْهَا إِلَى بَامِيَانَ ثُمَّ إِلَى مَرْوَ، عَازِمًا عَلَى حَرْبِ خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَكَانَ نَازِلًا هُنَاكَ، فَالْتَقَتْ أَوَائِلُ عَسْكَرَيْهِمَا، وَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ إِنَّ خُوَارِزْمَ شَاهِ ارْتَحَلَ عَنْ مَكَانِهِ شِبْهَ الْمُنْهَزِمِ، وَقَطَعَ الْقَنَاطِرَ، وَقَتَلَ الْأَمِيرَ سَنْجَرَ صَاحِبَ نَيْسَابُورَ ; لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ بِالْمُخَامَرَةِ عَلَيْهِ، وَتَوَجَّهَ شِهَابُ الدِّينِ إِلَى طُوسَ فَأَقَامَ بِهَا تِلْكَ الشَّتْوَةِ عَلَى عَزْمِ الْمَسِيرِ إِلَى خُوَارِزْمَ لِيَحْصُرَهَا، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِوَفَاةِ أَخِيهِ غِيَاثِ الدِّينِ، فَقَصَدَ هَرَاةَ وَتَرَكَ ذَلِكَ الْعَزْمَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَرَّسَ مُجْدُ الدِّينِ أَبُو عَلِيٍّ يَحْيَى بْنُ الرَّبِيعِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.

[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ بَنْفَشَةُ جَارِيَةُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَيْلِ إِلَيْهَا، وَالْمَحَبَّةِ لَهَا، وَكَانَتْ كَثِيرَةَ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّدَقَةِ. وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ الْخَطِيبُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ زَيْدٍ الدَّوْلَعِيُّ خَطِيبُ دِمَشْقَ، وَكَانَ فَقِيهًا شَافِعِيًّا، هُوَ مِنَ الدَّوْلَعِيَّةِ قَرْيَةٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ.

ثم دخلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَة] 599 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ حَصْرِ عَسْكَرِ الْعَادِلِ مَارْدِينَ وَصُلْحِهِ مَعَ صَاحِبِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، سَيَّرَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ صَاحِبُ دِمَشْقَ وَمِصْرَ، عَسْكَرًا مَعَ وَلَدِهِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى إِلَى مَارْدِينَ، فَحَصَرُوهَا، وَشَحَنُوا عَلَى أَعْمَالِهَا، وَانْضَافَ إِلَيْهِ عَسْكَرُ الْمَوْصِلِ وَسِنْجَارَ وَغَيْرِهِمَا، وَنَزَلُوا بِخَرْزَمَ تَحْتَ مَارْدِينَ، وَنَزَلَ عَسْكَرٌ مِنْ قَلْعَةِ الْبَارِعِيِّةِ - وَهِيَ لِصَاحِبِ مَارْدِينَ - يَقْطَعُونَ الْمِيرَةَ عَنِ الْعَسْكَرِ الْعَادِلِيِّ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ الْعَادِلِيِّ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْبَارِعِيَّةِ. وَثَارَ التُّرْكُمَانُ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَأَكْثَرُوا الْفَسَادَ، فَتَعَذَّرَ سُلُوكُ الطَّرِيقِ إِلَّا لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَرْبَابِ السِّلَاحِ، فَسَارَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ الْعَادِلِيِّ إِلَى رَأْسِ عَيْنٍ لِإِصْلَاحِ الطُّرُقِ، وَكَفِّ عَادِيَةِ الْفَسَادِ، وَأَقَامَ وَلَدُ الْعَادِلِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ غَرَضٌ، فَدَخَلَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ غَازِي بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ - صَاحِبُ حَلَبَ - فِي الصُّلْحِ بَيْنَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَمِّهِ الْعَادِلِ فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَ إِلَيْهِ عَلَى قَاعِدَةِ أَنْ يَحْمِلَ لَهُ صَاحِبُ مَارْدِينَ مِائَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَجَاءَ صَرْفُ الدِّينِارِ أَحَدَ عَشَرَ قِيرَاطًا مِنْ أَمِيرِيٍّ، وَيَخْطُبَ لَهُ بِبِلَادِهِ، وَيُضْرَبَ اسْمُهُ عَلَى السِّكَّةِ، وَيَكُونَ عَسْكَرُهُ فِي خِدْمَتِهِ أَيَّ وَقْتٍ طَلَبَهُ، وَأَخَذَ الظَّاهِرُ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ مِنَ النَّقْدِ الْمَذْكُورِ، وَقَرْيَةَ الْقَرَادِيِّ مِنْ أَعْمَالِ شَبَخْتَانَ

فَرَحَلَ وَلَدُ الْعَادِلِ عَنْ مَارْدِينَ. ذِكْرُ وَفَاةِ غِيَاثِ الدِّينِ مَلَكِ الْغَوْرِ وَشَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى الْأُولَى، تُوُفِّيَ غِيَاثُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ سَامَ الْغُورِيُّ، صَاحِبُ غَزْنَةَ وَبَعْضِ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا، وَأُخْفِيَتْ وَفَاتُهُ، وَكَانَ أَخُوهُ شِهَابُ الدِّينِ بِطُوسَ، عَازِمًا عَلَى قَصْدِ خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِوَفَاةِ أَخِيهِ، فَسَارَ إِلَى هَرَاةَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا جَلَسَ لِلْعَزَاءِ بِأَخِيهِ فِي رَجَبٍ، وَأُظْهِرَتْ وَفَاتُهُ حِينَئِذٍ. وَخَلَّفَ غِيَاثُ الدِّينِ مِنَ الْوَلَدِ ابْنًا اسْمُهُ مَحْمُودٌ، لُقِّبَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ غِيَاثَ الدِّينِ. وَسَنُورِدُ مِنْ أَخْبَارِهِ كَثِيرًا. وَلَمَّا سَارَ شِهَابُ الدِّينِ مِنْ طُوسَ اسْتَخْلَفَ بِمَرْوَ الْأَمِيرَ مُحَمَّدَ بْنَ جَرْبَكَ، فَسَارَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْخُوَارِزْمِيَّةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ لَيْلًا، وَبَيَّتَهُمْ، فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَأَنْفَذَ الْأَسْرَى وَالرُّءُوسَ إِلَى هَرَاةَ، فَأَمَرَ شِهَابُ الدِّينِ بِالِاسْتِعْدَادِ لِقَصْدِ خُوَارِزْمَ عَلَى طَرِيقِ الرَّمْلِ، وَجَهَّزَ خُوَارِزْمُ شَاهْ جَيْشًا وَسَيَّرَهُمْ مَعَ بَرْفُورَ التُّرْكِيِّ إِلَى قِتَالِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرْبَكَ، فَسَمِعَ بِهِمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، وَلَقِيَهُمْ عَلَى عَشَرَةِ فَرَاسِخَ مِنْ مَرْوَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، قُتِلَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَانْهَزَمَ الْغُورِيَّةُ، وَدَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرْبَكَ مَرْوَ فِي عَشْرَةِ فِرْسَانٍ، وَجَاءَ الْخُوَارِزْمِيُّونَ فَحَصَرُوهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَضَعُفَ عَنِ الْحِفْظِ، فَأَرْسَلَ فِي طَلَبِ الْأَمَانِ، فَحَلَفُوا لَهُ إِنْ خَرَجَ إِلَيْهِمْ عَلَى حُكْمِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَقْتُلُونَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا كُلَّ مَا مَعَهُ. وَسَمِعَ شِهَابُ الدِّينِ الْخَبَرَ فَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ الصُّلْحُ، وَأَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى غَزْنَةَ فَاسْتَعْمَلَ عَلَى هَرَاةَ ابْنَ أَخِيهِ أَلْب غَازِي، وَفَلَكَ الْمُلْكِ عَلَاءَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي عَلِيٍّ الْغُورِيَّ (عَلَى مَدِينَةِ فَيْرُوزَكُوه) ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ حَرْبَ خُرَاسَانَ وَأَمْرَ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَمْلَكَةِ، وَأَتَاهُ مَحْمُودٌ ابْنُ أَخِيهِ غِيَاثِ

الدِّينِ، فَوَلَّاهُ مَدِينَةَ بُسْتَ، وَأَسْفِزَارَ، وَتِلْكَ النَّاحِيَةَ، وَجَعَلَهُ بِمَعْزِلٍ مِنَ الْمُلْكِ جَمِيعِهِ، وَلَمْ يُحْسِنِ الْخِلَافَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَبِيهِ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِهِ، فَمِنْ جُمْلَةِ فِعْلِهِ أَنَّ غِيَاثَ الدِّينِ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ كَانَتْ مُغَنِّيَةً، فَهَوِيَهَا وَتَزَوَّجَهَا، فَلَمَّا مَاتَ غِيَاثُ الدِّينِ قَبَضَ عَلَيْهَا وَضَرَبَهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا، وَضَرَبَ وَلَدَهَا غِيَاثَ الدِّينِ، وَزَوْجَ أُخْتِهَا، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَأَمْلَاكَهُمْ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى بَلَدِ الْهِنْدِ، فَكَانُوا فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ، وَكَانَتْ قَدْ بَنَتْ مَدْرَسَةً، وَدَفَنَتْ فِيهَا أَبَاهَا وَأُمَّهَا وَأَخَاهَا، فَهَدَمَهَا وَنَبَشَ قُبُورَ الْمَوْتَى، وَرَمَى بِعِظَامِهِمْ مِنْهَا. وَأَمَّا سِيرَةُ غِيَاثِ الدِّينِ وَأَخْلَاقُهُ ; فَإِنَّهُ كَانَ مُظَفَّرًا مَنْصُورًا فِي حُرُوبِهِ، لَمْ تَنْهَزِمْ لَهُ رَايَةٌ قَطُّ، وَكَانَ قَلِيلَ الْمُبَاشَرَةِ لِلْحُرُوبِ. وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ دَهَاءٌ وَمَكْرٌ، وَكَانَ جَوَادًا، حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ وَالْوُقُوفِ بِخُرَاسَانَ. بَنَى الْمَسَاجِدَ وَالْمَدَارِسَ بِخُرَاسَانَ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَبَنَى الْخَانَكَاهَاتِ فِي الطُّرُقِ. وَأَسَقَطُ الْمُكُوسَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَى مَالِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَمَنْ مَاتَ [وَلَا وَارِثَ لَهُ تَصَدَّقَ بِمَا يُخَلِّفُهُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ بَلَدٍ مَعْرُوفٍ وَمَاتَ] بِبَلَدِهِ يُسَلِّمُ مَالَهُ إِلَى أَهْلِ بَلَدِهِ مِنَ التُّجَّارِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُسَلِّمُهُ إِلَى الْقَاضِي، وَيَخْتِمُ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَصِلَ مَنْ يَأْخُذُهُ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ. وَكَانَ إِذَا وَصَلَ إِلَى بَلَدٍ عَمَّ إِحْسَانُهُ أَهْلَهُ وَالْفُقَهَاءَ وَأَهْلَ الْفَضْلِ، يَخْلَعُ عَلَيْهِمْ، وَيَفْرِضُ لَهُمُ الْأُعْطَيَاتِ كُلَّ سَنَةٍ مِنْ خِزَانَتِهِ، وَيُفَرِّقُ الْأَمْوَالَ فِي الْفُقَرَاءِ، وَكَانَ يُرَاعِي كُلَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى حَضْرَتِهِ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ وَالشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ فِيهِ فَضْلٌ غَزِيرٌ، وَأَدَبٌ مَعَ حُسْنِ خَطٍّ وَبَلَاغَةٍ، وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْسَخُ الْمَصَاحِفَ بِخَطِّهِ وَيَقِفُهَا فِي الْمَدَارِسِ الَّتِي بَنَاهَا، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ تَعَصُّبٌ عَلَى مَذْهَبٍ، وَيَقُولُ: التَّعَصُّبُ فِي الْمَذَاهِبِ مِنَ الْمَلِكِ قَبِيحٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، فَهُوَ يَمِيلُ إِلَى الشَّافِعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْمِعَهُمْ فِي غَيْرِهِمْ، وَلَا أَعْطَاهُمْ مَا لَيْسَ لَهُمْ.

ذِكْرُ أَخْذِ الظَّاهِرِ قَلْعَةَ نَجْمٍ مِنْ أَخِيهِ الْأَفْضَلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخَذَ الظَّاهِرُ غَازِي قَلْعَةَ نَجْمٍ مِنْ أَخِيهِ الْأَفْضَلِ، وَكَانَتْ فِي جُمْلَةِ مَا أَخَذَ مِنَ الْعَادِلِ لَمَّا صَالَحَهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السِّنَةَ أَخَذَ الْعَادِلُ مِنَ الْأَفْضَلِ سَرُوجَ وَحَمَلِينَ وَرَأْسَ عَيْنٍ، وَبَقِيَ بِيَدِهِ سُمَيْسَاطُ وَقَلْعَةُ نَجْمٍ، فَأَرْسَلَ الظَّاهِرُ إِلَيْهِ يَطْلُبُ مِنْهُ قَلْعَةَ نَجْمٍ، وَضَمِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ إِلَى عَمِّهِ الْعَادِلِ فِي إِعَادَةِ مَا أَخَذَ مِنْهُ، فَلَمْ يُعْطِهِ، فَتَهَدَّدَهُ بِأَنْ يَكُونَ إِلْبًا عَلَيْهِ، وَلَمْ تَزَلِ الرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ حَتَّى سَلَّمَهَا إِلَيْهِ فِي شَعْبَانَ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعَوِّضَهُ قُرًى أَوْ مَالًا، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَقْبَحِ مَا سُمِعَ عَنْ مَلِكٍ يُزَاحِمُ أَخَاهُ فِي مِثْلِ قَلْعَةِ نَجْمٍ مَعَ خِسَّتِهَا وَحَقَارَتِهَا، وَكَثْرَةِ بِلَادِهِ وَعَدَمِهَا لِأَخِيهِ. وَأَمَّا الْعَادِلُ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَخَذَ سَرُوجَ وَرَأْسَ عَيْنٍ مِنَ الْأَفْضَلِ أَرْسَلَ وَالِدَتَهُ إِلَيْهِ لِتَسْأَلَ فِي رَدِّهِمَا، فَلَمْ يُشَفِّعْهَا وَرَدَّهَا خَائِبَةً، وَلَقَدْ عُوقِبَ الْبَيْتُ الصَّلَاحِيُّ بِمَا فَعَلَهُ أَبُوهُمْ مَعَ الْبَيْتِ الْأَتَابَكِّيِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَصَدَ حِصَارَ الْمَوْصِلِ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ أَرْسَلَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ وَالِدَتَهُ وَابْنَةَ عَمِّهِ نُورِ الدِّينِ إِلَيْهِ يَسْأَلَانِهِ أَنَّ يَعُودَ، فَلَمْ يُشَفِّعْهُمَا، فَجَرَى لِأَوْلَادِهِ هَذَا، وَرُدَّتْ زَوْجَتُهُ خَائِبَةً، كَمَا فَعَلَ. وَلَمَّا رَأَى الْأَفْضَلُ عَمَّهُ وَأَخَاهُ قَدْ أَخَذَا مَا كَانَ بِيَدِهِ أَرْسَلَ إِلَى رُكْنِ الدِّينِ سُلَيْمَانَ بْنِ قِلْج أَرْسِلَانَ - صَاحِبِ مَلَطْيَةَ وَقُونِيَةَ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْبِلَادِ - يَبْذُلُ لَهُ الطَّاعَةَ، وَأَنْ يَكُونَ فِي خِدْمَتِهِ، وَيَخْطُبَ لَهُ بِبَلَدِهِ، وَيَضْرِبَ السِّكَّةَ بِاسْمِهِ، فَأَجَابَهُ رُكْنُ الدِّينِ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ لَهُ خِلْعَةً فَلَبِسَهَا الْأَفْضَلُ، وَخَطَبَ لَهُ بِسُمَيْسَاطَ فِي سَنَةِ سِتِّمِائَةٍ وَصَارَ فِي جُمْلَتِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ الْكُرْجِ مَدِينَةَ دُوِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى الْكُرْجُ عَلَى مَدِينَةِ دُوِينَ، مِنْ أَذْرَبِيجَانَ، وَنَهَبُوهَا، وَاسْتَبَاحُوهَا، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِي أَهْلِهَا، وَكَانَتْ هِيَ وَجَمِيعُ بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ لِلْأَمِيرِ أَبِي

بَكْرِ بْنِ الْبَهْلَوَانِ، وَكَانَ عَلَى عَادَتِهِ مَشْغُولًا بِالشُّرْبِ لَيْلًا وَنَهَارًا، لَا يُفِيقُ، وَلَا يَصْحُو وَلَا يَنْظُرُ فِي أَمْرِ مَمْلَكَتِهِ وَرَعِيَّتِهِ وَجُنْدِهِ، قَدْ أَلْقَى الْجَمِيعَ عَنْ قَلْبِهِ، وَسَلَكَ طَرِيقَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَلَاقَةٌ، وَكَانَ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ قَدْ أَكْثَرَتِ الِاسْتِغَاثَةَ بِهِ، وَإِعْلَامَهُ بِقَصْدِ الْكُرْجِ بِلَادَهُمْ بِالْغَارَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَكَأَنَّهُمْ يُنَادُونَ صَخْرَةً صَمَّاءَ، فَلَمَّا حَصَرَ الْكُرْجُ هَذِهِ السَّنَةَ مَدِينَةَ دُوِينَ، سَارَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ يَسْتَغِيثُونَ، فَلَمْ يُغِثْهُمْ وَخَوَّفَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَائِهِ عَاقِبَةَ إِهْمَالِهِ وَتَوَانِيهِ وَإِصْرَارِهِ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ فَلَمْ يُصْغِ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ عَلَى أَهْلِهَا ضَعُفُوا، وَعَجَزُوا، وَأَخَذَهُمُ الْكُرْجُ عَنْوَةً بِالسَّيْفِ وَفَعَلُوا مَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ إِنَّ الْكُرْجَ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُمْ بِهَا أَحْسَنُوا إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِهَا، فَاللَّهُ - تَعَالَى - يَنْظُرُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيُسَهِّلُ لِثُغُورِهِمْ مَنْ يَحْفَظُهَا وَيَحْمِيهَا، فَإِنَّهَا مُسْتَبَاحَةٌ، لَا سِيَّمَا هَذِهِ النَّاحِيَةِ - فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - فَلَقَدْ بَلَغَنَا مِنْ فِعْلِ الْكُرْجِ بِأَهْلِ دُوِينَ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْأَمْرِ مِمَّا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ الْجُلُودُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحْضَرَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ مُحَمَّدًا وَلَدَ الْعَزِيزِ صَاحِبَ مِصْرَ إِلَى الرُّهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَطَعَ خُطْبَتَهُ مِنْ مِصْرَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ]- كَمَا ذَكَرْنَاهُ - خَافَ شِيعَةَ أَبِيهِ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ، وَيَصِيرَ لَهُ مَعَهُمْ فِتْنَةٌ، فَأَخْرَجَهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ نَقَلَهُ هَذِهِ السَّنَةَ إِلَى الرُّهَا، فَأَقَامَ بِهَا وَمَعَهُ جَمِيعُ إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ وَوَالِدَتُهُ وَمَنْ يَخُصُّهُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، تُوُفِّيَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ. وَهَذَا الَّذِي كَانَ السَّبَبَ فِي أَنْ صَارَ وَحِيدُ الدِّينِ شَافِعِيًّا. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْفُتُوحِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْمُعَمَّرِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْمُسْتَمْلِي بِبَغْدَادَ. وَلَهُ خَطٌّ حَسَنٌ. وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ تُوُفِّيَتْ زُمُرُّدُ خَاتُونْ أُمُّ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، وَأُخْرِجَتْ جِنَازَتُهَا ظَاهِرَةً، وَصَلَّى الْخَلْقُ الْكَثِيرُ عَلَيْهَا، وَدُفِنَتْ فِي التُّرْبَةِ الَّتِي بَنَتْهَا لِنَفْسِهَا، وَكَانَتْ كَثِيرَةَ الْمَعْرُوفِ.

ثم دخلت سنة ستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّمِائَة] 600 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ حِصَارِ خُوَارِزْمَ شَاهْ هَرَاةَ ثَانِيَةً فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَوَّلَ رَجَبٍ، وَصَلَ خُوَارِزْمُ شَاهْ مُحَمَّدٌ إِلَى مَدِينَةِ هَرَاةَ، فَحَصَرَهَا، وَبِهَا أَلْب غَازِي ابْنُ أُخْتِ شِهَابِ الدِّينِ الْغُورِيِّ مَلِكِ غَزْنَةَ، بَعْدَ مُرَاسَلَاتٍ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شِهَابِ الدِّينِ فِي الصُّلْحِ، فَلَمْ يَتِمَّ. وَكَانَ شِهَابُ الدِّينِ قَدْ سَارَ عَنْ غَزْنَةَ إِلَى لَهَاوُورَ عَازِمًا عَلَى غَزْوِ الْهِنْدِ، فَأَقَامَ خُوَارِزْمُ شَاهْ عَلَى حِصَارِ هَرَاةَ إِلَى سَلْخِ شَعْبَانَ. وَكَانَ الْقِتَالُ دَائِمًا، وَالْقَتْلُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ كَثِيرًا، وَمِمَّنْ قُتِلَ رَئِيسُ خُرَاسَانَ، وَكَانَ كَبِيرَ الْقَدْرِ يُقِيمُ بِمَشْهَدِ طُوسَ، وَكَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ خَرْمِيلَ بِكُرْزُبَانَ - وَهِيَ إِقْطَاعُهُ -، فَأَرْسَلَ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ يَقُولُ لَهُ: أَرْسِلْ إِلَيَّ عَسْكَرًا لِنُسَلِّمَ إِلَيْهِمُ الْفِيَلَةَ وَخِزَانَةَ شِهَابِ الدِّينِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَلْفَ فَارِسٍ مِنْ أَعْيَانِ عَسْكَرِهِ إِلَى كُرْزُبَانَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْغَنِيُّ، فَقَتَلُوهُمْ إِلَّا الْقَلِيلَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَسُقِطَ فِي يَدِهِ وَنَدِمَ عَلَى إِنْفَاذِ الْعَسْكَرِ. وَأَرْسَلَ إِلَى أَلْب غَازِي يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ مِنَ الْبَلَدِ وَيَخْدِمَهُ خِدْمَةً سُلْطَانِيَّةً لِيَرْحَلَ عَنْهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَاتُّفِقَ أَنَّ أَلْب غَازِي مَرِضَ وَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَخَافَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَرَضِهِ فَيَمْلِكُ خُوَارِزْمُ شَاه الْبَلَدَ، فَأَجَابَ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ، وَاسْتَحْلَفَهُ عَلَى الصُّلْحِ، وَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً جَلِيلَةً، وَخَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ لِيَخْدِمَهُ، فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ مَيِّتًا، وَلَمْ يَشْعُرْ أَحَدٌ بِذَلِكَ، وَارْتَحَلَ خُوَارِزْمُ شَاهْ عَنِ الْبَلَدِ وَأَحْرَقَ الْمَجَانِيقَ وَسَارَ إِلَى سَرَخْسَ فَأَقَامَ بِهَا.

ذِكْرُ عَوْدِ شِهَابِ الدِّينِ مِنَ الْهِنْدِ وَحَصْرِهِ خُوَارِزْمَ وَانْهِزَامِهِ مِنَ الْخَطَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَمَضَانَ، عَادَ شِهَابُ الدِّينِ الْغُورِيُّ إِلَى خُرَاسَانَ مِنْ قَصْدِ الْهِنْدِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ حَصْرُ خُوَارِزْمَ شَاهْ هَرَاةَ، وَمَوْتُ أَلْب غَازِي نَائِبَهُ بِهَا، فَعَادَ حَنِقًا عَلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَلَمَّا بَلَغَ مَيْمَنْدَ عَدَلَ عَلَى طَرِيقٍ أُخْرَى قَاصِدًا إِلَى خُوَارِزْمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ خُوَارِزْمُ شَاهْ يَقُولُ لَهُ: ارْجِعْ إِلَيَّ لِأُحَارِبَكَ، وَإِلَّا سِرْتُ إِلَى هَرَاةَ، وَمِنْهَا إِلَى غَزْنَةَ. وَكَانَ خُوَارِزْمُ شَاهْ قَدْ سَارَ مِنْ سَرَخْسَ إِلَى مَرْوَ، فَأَقَامَ بِظَاهِرِهَا، فَأَعَادَ إِلَيْهِ شِهَابُ الدِّينِ جَوَابَهُ: لَعَلَّكَ تَنْهَزِمُ كَمَا فَعَلْتَ تِلْكَ الدَّفْعَةَ، لَكِنَّ خُوَارِزْمَ تَجْمَعُنَا، فَفَرَّقَ خُوَارِزْمُ شَاهْ عَسَاكِرَهُ، وَأَحْرَقَ مَا جَمَعَهُ مِنَ الْعَلَفِ، وَرَحَلَ يُسَابِقُ شِهَابَ الدِّينِ إِلَى خُوَارِزْمَ، فَسَبَقَهُ إِلَيْهَا، فَقَطَعَ الطَّرِيقَ وَأَجْرَى الْمِيَاهَ فِيهَا، فَتَعَذَّرَ عَلَى شِهَابِ الدِّينِ سُلُوكُهَا، وَأَقَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُصْلِحُهَا حَتَّى أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إِلَى خُوَارِزْمَ، وَالتَقَى الْعَسْكَرَانِ بِسُوقَرَا، وَمَعْنَاهُ الْمَاءُ الْأَسْوَدُ، فَجَرَى بَيْنَهُمْ قِتَالٌ شَدِيدٌ كَثُرَ الْقَتْلَى فِيهِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَمِمَّنْ قُتِلَ مِنَ الْغُورِيَّةِ الْحُسَيْنُ الْمَرْغَنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأُسِرُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْخُوَارِزْمِيَّةِ. فَأَمَرَ شِهَابُ الدِّينِ بِقَتْلِهِمْ فَقُتِلُوا. وَأَرْسَلَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى الْأَتْرَاكِ الْخَطَا يَسْتَنْجِدُهُمْ، وَهُمْ حِينَئِذٍ أَصْحَابُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَاسْتَعَدُّوا، وَسَارُوا إِلَى بِلَادِ الْغُورِيَّةِ، فَلَمَّا بَلَغَ شِهَابَ الدِّينِ ذَلِكَ عَادَ عَنْ خُوَارِزْمَ، فَلَقِيَ أَوَائِلَهُمْ فِي صَحْرَاءِ أَنْدَخُوِي أَوَّلَ صَفَرٍ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ، فَقَتَلَ فِيهِمْ وَأَسَرَ كَثِيرًا، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي دَهَمَهُ مِنَ الْخَطَا مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمْ، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ هَزِيمَةً قَبِيحَةً، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ انْهَزَمَ الْحُسَيْنُ بْنُ خَرْمِيلَ صَاحِبُ طَالْقَانَ، وَتَبِعَهُ النَّاسُ، وَبَقِيَ شِهَابُ الدِّينِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، وَقَتَلَ بِيَدِهِ أَرْبَعَةَ أَفْيَالٍ لِأَنَّهَا أَعْيَتْ، وَأَخَذَ الْكُفَّارُ فِيلَيْنِ، وَدَخَلَ شِهَابُ الدِّينِ أَنْدَخُوِي فِيمَنَ مَعَهُ، وَحَصَرَهُ الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ فِيلًا آخَرَ، فَفَعَلَ وَخَلُصَ. وَوَقَعَ الْخَبَرُ فِي جَمِيعِ بِلَادِهِ بِأَنَّهُ قَدْ عُدِمَ، وَكَثُرَتِ الْأَرَاجِيفُ بِذَلِكَ، ثُمَّ وَصَلَ إِلَى الطَّالْقَانِ فِي سَبْعَةِ نَفَرٍ، وَقَدْ قُتِلَ أَكْثَرُ عَسْكَرِهِ، وَنُهِبَتْ خَزَائِنُهُ جَمِيعُهَا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ، فَأَخْرَجَ لَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ خَرْمِيلَ صَاحِبُ الطَّالْقَانِ خِيَامًا وَجَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ

إِلَيْهِ، وَسَارَ إِلَى غَزْنَةَ، وَأَخَذَ مَعَهُ الْحُسَيْنَ بْنَ خَرْمِيلَ ; لِأَنَّهُ قِيلَ لَهُ عَنْهُ إِنَّهُ شَدِيدُ الْخَوْفِ لِانْهِزَامِهِ، وَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا سَارَ السُّلْطَانُ هَرَبْتُ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَأَخَذَهُ مَعَهُ، وَجَعَلَهُ أَمِيرَ حَاجِبَ. وَلَمَّا وَقَعَ الْخَبَرُ بِقَتْلِهِ جَمَعَ تَاجُ الدِّينِ أَلْدِزُ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ اشْتَرَاهُ شِهَابُ الدِّينِ، أَصْحَابَهُ وَقَصَدَ قَلْعَةَ غَزْنَةَ لِيَصْعَدَ إِلَيْهَا، فَمَنَعَهُ مُسْتَحْفِظُهَا، فَعَادَ إِلَى دَارِهِ، فَأَقَامَ بِهَا، وَأَفْسَدَ الْخُلْجُ وَسَائِرُ الْمُفْسِدِينَ فِي الْبِلَادِ، وَقَطَعُوا الطُّرُقَ، وَقَتَلُوا كَثِيرًا، فَلَمَّا عَادَ شِهَابُ الدِّينِ إِلَى غَزْنَةَ بَلَغَهُ مَا فَعَلَهُ أَلْدِزُ، فَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَشَفَعَ فِيهِ سَائِرُ الْمَمَالِيكِ، فَأَطْلَقُهُ، ثُمَّ اعْتَذَرَ، وَسَارَ شِهَابُ الدِّينِ فِي الْبِلَادِ، فَقَتَلَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ نَفَرًا كَثِيرًا. وَكَانَ لَهُ أَيْضًا مَمْلُوكٌ آخَرُ اسْمُهُ أَيْبَكُ بَالْ تَرْ، فَسَلِمَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ وَلَحِقَ بِالْهِنْدِ، وَدَخَلَ الْمُولِتَانَ، وَقَتَلَ نَائِبَ السُّلْطَانِ بِهَا وَمَلَكَ الْبَلَدَ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ السُّلْطَانِيَّةَ، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي الرَّعِيَّةِ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، وَقَالَ: قُتِلَ السُّلْطَانُ، وَأَنَا السُّلْطَانُ، وَكَانَ يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُحَسِّنُهُ لَهُ إِنْسَانٌ اسْمُهُ عُمَرُ بْنُ يَزَانَ، وَكَانَ زِنْدِيقًا، فَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ، وَجَمَعَ الْمُفْسِدِينَ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ، فَأَخَافَ الطَّرِيقَ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى شِهَابِ الدِّينِ فَسَارَ إِلَى الْهِنْدِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَسْكَرًا، فَأَخَذُوهُ وَمَعَهُ عُمَرُ بْنُ [يَزَانَ] فَقَتَلَهُمَا أَقْبَحَ قِتْلَةٍ، وَقَتَلَ مَنْ وَافَقَهُمَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ، وَلَمَّا رَآهُمْ قَتْلَى قَرَأَ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] الْآيَةَ، وَأَمَرَ شِهَابُ الدِّينِ فَنُودِيَ فِي جَمِيعِ بِلَادِهِ بِالتَّجَهُّزِ لِقِتَالِ الْخَطَا وَغَزْوِهِمْ وَالْأَخْذِ بِثَأْرِهِمْ. وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ انْهِزَامِهِ أَنَّهُ لَمَّا عَادَ إِلَى الْخَطَا مِنْ خُوَارِزْمَ فَرَّقَ عَسْكَرَهُ فِي الْمَفَازَةِ الَّتِي فِي طَرِيقِهِ لِقِلَّةِ الْمَاءِ، وَكَانَ الْخَطَا قَدْ نَزَلُوا عَلَى طَرِيقِ الْمَفَازَةِ، فَكُلَّمَا خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِهِ طَائِفَةٌ فَتَكُوا فِيهِمْ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَمَنْ سَلِمَ مِنْ عَسْكَرِهِ انْهَزَمَ نَحْوَ الْبِلَادِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ أَحَدٌ يُعْلِمُ الْحَالَ، وَجَاءَ شِهَابُ الدِّينِ فِي سَاقَةِ الْعَسْكَرِ فِي عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ وَلَمْ يَعْلَمِ الْحَالَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْبَرِّيَّةِ لَقِيَهُ الْخَطَا مُسْتَرِيحِينَ، وَهُوَ

وَمَنْ مَعَهُ قَدْ تَعِبُوا وَأُعْيُوا، وَكَانَ الْخَطَا أَضْعَافَ أَصْحَابِهِ، فَقَاتَلَهُمْ عَامَّةَ نَهَارِهِ، وَحَمَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ، وَحَصَرُوهُ فِي أَنْدَخُوِي، فَجَرَى بَيْنَهُمْ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَصَافًّا مِنْهَا مَصَافٌّ وَاحِدٌ كَانَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْغَدِ بُكْرَةً، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ سَيَّرَ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ لَيْلًا سِرًّا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ بُكْرَةً كَأَنَّهُمْ قَدْ أَتَوْهُ مَدَدًا مِنْ بِلَادِهِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ خَافَهُ الْخَطَا، وَقَالَ لَهُمْ صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ وَكَانَ مُسْلِمًا، وَهُوَ فِي طَاعَةِ الْخَطَا، وَقَدْ خَافَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ إِنْ هُمْ ظَفِرُوا بِشِهَابِ الدِّينِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَا تَجِدُونَهُ قَطُّ أَضْعَفَ مِنْهُ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْمَفَازَةِ، وَمَعَ ضَعْفِهِ وَتَعَبِهِ وَقِلَّةِ مَنْ مَعَهُ لَمْ نَظْفَرْ بِهِ، وَالْأَمْدَادُ أَتَتْهُ وَكَأَنَّكُمْ بِعَسَاكِرِهِ، وَقَدْ أَقْبَلَتْ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ، وَحِينَئِذٍ نَطْلُبُ الْخَلَاصَ مِنْهُ فَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَالرَّأْيُ لَنَا الصُّلْحُ مَعَهُ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فِي الصُّلْحِ. وَكَانَ صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ قَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ وَعَرَّفَهُ الْحَالَ سِرًّا، وَأَمَرَهُ بِإِظْهَارِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الصُّلْحِ أَوَّلًا وَالْإِجَابَةِ إِلَيْهِ أَخِيرًا، فَلَمَّا أَتَتْهُ الرُّسُلُ امْتَنَعَ، وَأَظْهَرَ الْقُوَّةَ بِانْتِظَارِ الْأَمْدَادِ، وَطَالَ الْكَلَامُ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ الْخَطَا لَا يَعْبُرُونَ النَّهْرَ إِلَى بِلَادِهِ، وَلَا هُوَ يَعْبُرُهُ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَرَجَعُوا عَنْهُ وَخَلُصَ هُوَ وَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ، وَالْبَاقِي نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ. ذِكْرُ قَتْلِ طَائِفَةٍ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ بِخُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ رَسُولٌ إِلَى شِهَابِ الدِّينِ الْغُورِيِّ مِنْ عِنْدِ مُقَدَّمِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ بِخُرَاسَانَ بِرِسَالَةٍ أَنْكَرَهَا، فَأَمَرَ عَلَاءَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي عَلِيٍّ مُتَوَلِّيَ بِلَادِ الْغَوْرِ بِالْمَسِيرِ فِي عَسَاكِرَ إِلَيْهِمْ وَمُحَاصَرَةِ بِلَادِهِمْ، فَسَارَ فِي عَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ إِلَى قُهِسْتَانَ، وَسَمِعَ بِهِ صَاحِبُ زَوْزَنَ، فَقَصَدَهُ وَصَارَ مَعَهُ وَفَارَقَ خِدْمَةَ خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَنَزَلَ عَلَاءُ الدِّينِ عَلَى مَدِينَةٍ قَايِنَ، وَهِيَ لِلْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَحَصَرَهَا وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا، وَوَصَلَ خَبَرُ قَتْلِ شِهَابِ الدِّينِ - عَلَى مَا نَذْكُرُهُ - فَصَالَحَ أَهْلَهَا عَلَى سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ رُكْنِيَّةٍ، وَرَحَلَ عَنْهُمْ، وَقَصَدَ حِصْنَ كَاخَكَ فَأَخَذَهُ وَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ، وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ، وَرَحَلَ إِلَى هَرَاةَ وَمِنْهَا [إِلَى] فَيْرُوزَكُوه.

ذِكْرُ مُلْكِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مِنَ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، مَلَكَ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مِنَ الرُّومِ وَأَزَالُوا مُلْكَ الرُّومِ عَنْهَا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مِلْكَ الرُّومِ بِهَا تَزَوَّجَ أُخْتَ مَلِكِ إِفْرِنْسِيسَ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ فَرُزِقَ مِنْهَا وَلَدًا ذَكَرًا، ثُمَّ وَثَبَ عَلَى الْمُلْكِ أَخٌ لَهُ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ. وَمَلَكَ الْبَلَدَ مِنْهُ، وَسَمَلَ عَيْنَيْهِ وَسَجَنَهُ، فَهَرَبَ وَلَدُهُ وَمَضَى إِلَى خَالِهِ مُسْتَنْصِرًا بِهِ عَلَى عَمِّهِ. فَاتَّفَقَ ذَلِكَ وَقَدِ اجْتَمَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْفِرِنْجِ لِيَخْرُجُوا إِلَى بِلَادِ الشَّامِ لِاسْتِنْقَاذِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذُوا وَلَدَ الْمَلِكَ مَعَهُمْ، وَجَعَلُوا طَرِيقَهُمْ عَلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ قَصْدًا لِإِصْلَاحِ الْحَالِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَمَعٌ فِي سِوَى ذَلِكَ، فَلَمَّا وَصَلُوا خَرَجَ عَمُّهُ فِي عَسَاكِرِ الرُّومِ مُحَارِبًا لَهُمْ، فَوَقَعَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَانْهَزَمَتِ الرُّومُ، وَدَخَلُوا الْبَلَدَ فَدَخَلَهُ الْفِرِنْجُ مَعَهُمْ، فَهَرَبَ مِلْكُ الرُّومِ إِلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ، وَقِيلَ إِنَّ مِلْكَ الرُّومِ لَمْ يُقَاتِلِ الْفِرِنْجَ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ وَإِنَّمَا حَصَرُوهُ فِيهَا. وَكَانَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مِنَ الرُّومِ مَنْ يُرِيدُ الصَّبِيَّ، فَأَلْقَوُا النَّارَ فِي الْبَلَدِ، فَاشْتَغَلَ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَفَتَحُوا بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ فَدَخَلَهَا الْفِرِنْجُ، وَخَرَجَ مَلِكُهَا هَارِبًا، وَجَعَلَ الْفِرِنْجُ الْمُلْكَ فِي ذَلِكَ الصَّبِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْحُكْمِ شَيْءٌ - وَأَخْرَجُوا أَبَاهُ مِنَ السِّجْنِ - إِنَّمَا الْفِرِنْجُ هُمُ الْحُكَّامُ فِي الْبَلَدِ، فَثَقَّلُوا الْوَطْأَةَ عَلَى أَهْلِهِ، وَطَلَبُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا عَجَزُوا عَنْهَا، وَأَخَذُوا أَمْوَالَ الْبَيْعِ وَمَا فِيهَا مِنْ ذَهَبٍ وَنُقْرَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى مَا عَلَى الصُّلْبَانِ وَمَا هُوَ عَلَى صُورَةِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْحَوَارِيِّينَ، وَمَا عَلَى الْأَنَاجِيلِ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الرُّومِ وَحَمَلُوا مِنْهُ خَطْبًا عَظِيمًا، فَعَمَدُوا إِلَى ذَلِكَ الصَّبِيِّ الْمَلِكِ فَقَتَلُوهُ، وَأَخْرَجُوا الْفِرِنْجَ مِنَ الْبَلَدِ، وَأَغْلَقُوا الْأَبْوَابَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتِّمِائَةٍ، فَأَقَامَ الْفِرِنْجُ بِظَاهِرِهِ مُحَاصِرِينَ لِلرُّومِ، وَقَاتَلُوهُمْ وَلَازَمُوا قِتَالَهُمْ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَكَانَ الرُّومُ قَدْ ضَعُفُوا ضَعْفًا كَثِيرًا، فَأَرْسَلُوا إِلَى السُّلْطَانِ رُكْنِ الدِّينِ سُلَيْمَانَ بْنِ قِلْج أَرْسِلَانَ، صَاحِبِ قُونِيَةَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، يَسْتَنْجِدُونَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا. وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ كَثِيرٌ مِنَ الْفِرِنْجِ، مُقِيمِينَ، يُقَارِبُونَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَلِعِظَمِ الْبَلَدِ لَا يَظْهَرُ أَمْرُهُمْ، فَتَوَاضَعُوا هُمْ وَالْفِرِنْجُ الَّذِينَ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَوَثَبُوا فِيهِ وَأَلْقَوُا النَّارَ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَاحْتَرَقَ نَحْوُ رُبُعِ الْبَلَدِ، وَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ فَدَخَلُوهَا وَوَضَعُوا السَّيْفَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ،

وَفَتَكُوا بِالرُّومِ قَتْلًا وَنَهْبًا، فَأَصْبَحَ الرُّومُ كُلُّهُمْ مَا بَيْنَ قَتِيلٍ أَوْ فَقِيرٍ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَدَخَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الرُّومِ الْكَنِيسَةَ الْعُظْمَى الَّتِي تُدْعَى صُوفِيَا، فَجَاءَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقِسِّيسِينَ وَالْأَسَاقِفَةِ وَالرُّهْبَانِ، بِأَيْدِيهِمُ الْإِنْجِيلُ وَالصَّلِيبُ يَتَوَسَّلُونَ بِهِمَا إِلَى الْفِرِنْجِ لِيُبْقُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ، وَقَتَلُوهُمْ أَجْمَعِينَ وَنَهَبُوا الْكَنِيسَةَ. وَكَانُوا ثَلَاثَةَ مُلُوكٍ: دُوقَسُ الْبَنَادِقَةِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْمَرَاكِبِ الْبَحْرِيَّةِ، وَفِي مَرَاكِبِهِ رَكِبُوا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَهُوَ شَيْخٌ أَعْمَى، إِذَا رَكِبَ تُقَادُ فَرَسُهُ، وَالْآخِرُ يُقَالُ لَهُ الْمَرْكِيسُ، وَهُوَ مُقَدَّمُ الْإِفْرِنْسِيسْ، وَالْآخِرُ يُقَالُ لَهُ كُنْد أُفْلَنْدُ، وَهُوَ أَكْثَرُهُمْ عَدَدًا، فَلَمَّا اسْتَوْلَوْا عَلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ اقْتَرَعُوا عَلَى الْمُلْكِ، فَخَرَجَتِ الْقَرْعَةُ عَلَى كُنْد أُفْلَنْدَ، فَأَعَادُوا الْقُرْعَةَ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً فَخَرَجَتْ عَلَيْهِ، فَمَلَّكُوهُ - وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ -، فَلَمَّا خَرَجَتِ الْقَرْعَةُ عَلَيْهِ مَلَّكُوهُ عَلَيْهَا وَعَلَى مَا يُجَاوِرُهَا، وَتَكُونُ لِدُوقَسَ الْبَنَادِقَةِ الْجَزَائِرُ الْبَحْرِيَّةُ مِثْلَ جَزِيرَةِ أَقْرِيطَشَ وَجَزِيرَةِ رُودِسَ وَغَيْرِهِمَا، وَيَكُونُ لِمَرْكِيسَ الْإِفْرِنْسِيسِ الْبِلَادُ الَّتِي هِيَ شَرْقِيُّ الْخَلِيجِ مِثْلَ أَزْنِيقَ وَلَاذِيقَ، فَلَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ غَيْرُ الَّذِي أَخَذَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَلَمْ يَسْلَمْ مَنْ بِهِ مِنَ الرُّومِ. وَأَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي كَانَتْ لِمَلِكِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ شَرْقِيَّ الْخَلِيجِ الْمُجَاوِرَةُ لِبِلَادِ رُكْنِ الدِّينِ سُلَيْمَانَ قِلْج أَرْسِلَانَ وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَزْنِيقُ وَلَاذِيقُ، فَإِنَّهَا تَغَلَّبَ عَلَيْهَا بِطْرِيقٌ كَبِيرٌ مِنْ بَطَارِقَةِ الرُّومِ اسْمُهُ لَشَكْرِي، وَهِيَ بِيَدِهِ إِلَى الْآنِ. ذِكْرُ انْهِزَامِ نُورِ الدِّينِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْعَادِلِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، انْهَزَمَ نُورُ الدِّينِ أَرْسِلَانُ شَاهْ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْعَادِلِيَّةِ ; وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ نُورَ الدِّينِ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمِّهِ قُطْبِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ زِنْكِي صَاحِبِ سِنْجَارَ وَحْشَةٌ مُسْتَحْكِمَةٌ أَوَّلًا ثُمَّ اتَّفَقَا، وَسَارَ مَعَهُ

إِلَى مَيَّافَارِقِينَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ]- وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ - فَلَمَّا كَانَ الْآنُ أَرْسَلَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ صَاحِبُ مِصْرَ وَدِمَشْقَ وَبِلَادِ الْجَزِيرَةِ إِلَى قُطْبِ الدِّينِ وَاسْتَمَالَهُ، فَمَالَ إِلَيْهِ وَخَطَبَ لَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ نُورُ الدِّينِ ذَلِكَ سَارَ إِلَى مَدِينَةِ نَصِيبِينَ سَلْخَ شَعْبَانَ - وَهِيَ لِقُطْبِ الدِّينِ - فَحَصَرَهَا وَمَلَكَ الْمَدِينَةَ، وَبَقِيَتِ الْقَلْعَةُ فَحَصَرَهَا عِدَّةَ أَيَّامٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَاصِرُهَا وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى أَنْ يَتَسَلَّمَهَا أَتَاهُ الْخَبَرُ أَنَّ مُظَفَّرَ الدِّينِ دُوكْبِرِي بْنَ زَيْنِ الدِّينِ عَلِيٍّ صَاحِبِ إِرْبِلَ قَدْ قَصَدَ أَعْمَالَ الْمَوْصِلِ فَنَهَبَ نِينَوَى، وَأَحْرَقَ غَلَّاتِهَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ نَائِبِهِ الْمُرَتَّبِ بِالْمَوْصِلِ يَحْفَظُهَا، وَسَارَ عَنْ نَصِيبِينَ إِلَى الْمَوْصِلِ عَلَى عَزْمِ الْعُبُورِ إِلَى بَلَدِ إِرْبِلَ وَنَهْبِهِ جَزَاءً بِمَا فَعَلَ صَاحِبُهَا بِبَلَدِهِ، فَوَصَلَ إِلَى مَدِينَةِ بَلَدَ، وَعَادَ مُظَفَّرُ الدِّينِ إِلَى بَلَدِهِ، وَتَحَقَّقَ نُورُ الدِّينِ أَنَّ الَّذِي قِيلَ لَهُ وَقَعَ فِيهِ زِيَادَةٌ، فَسَارَ إِلَى تَلِّ أَعْفَرَ مِنْ بَلَدَ وَحَصَرَهَا، وَأَخَذَهَا وَرَتَّبَ أُمُورُهَا وَأَقَامَ عَلَيْهَا سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَكَانَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ مُوسَى بْنُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ بْنِ أَيُّوبَ قَدْ سَارَ مِنْ مَدِينَةِ حَرَّانَ إِلَى رَأْسِ عَيْنٍ نَجْدَةً لِقُطْبِ الدِّينِ، صَاحِبِ سِنْجَارَ وَنَصِيبِينَ، وَقَدِ اتَّفَقَ هُوَ وَمُظَفَّرُ الدِّينِ، صَاحِبُ إِرْبِلَ، وَصَاحِبُ الْحِصْنِ وَآمِدَ، وَصَاحِبُ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِهِمْ، عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى مَنْعِ نُورِ الدِّينِ مِنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ بِلَادِهِ، وَكُلُّهُمْ خَائِفُونَ مِنْهُ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ الِاجْتِمَاعُ وَهُوَ عَلَى نَصِيبِينَ، فَلَمَّا فَارَقَهَا نُورُ الدِّينِ سَارَ الْأَشْرَفُ إِلَيْهَا، وَأَتَاهُ صَاحِبُ الْحِصْنِ، وَصَاحِبُ الْجَزِيرَةِ وَصَاحِبُ دَارَا، وَسَارُوا عَنْ نَصِيبِينَ نَحْوَ بَلَدِ الْبَقْعَا قَرِيبًا مِنْ بُوشَرَى، وَسَارَ نُورُ الدِّينِ مِنْ تَلِّ أَعْفَرَ إِلَى كَفَرْ زَمَّارْ، وَعَزَمَ عَلَى الْمُطَاوَلَةِ لِيَتَفَرَّقُوا، فَأَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ بَعْضِ مَمَالِيكِهِ، يُسَمَّى جِرْدِيكَ، وَقَدْ أَرْسَلَهُ يَتَجَسَّسُ أَخْبَارَهُمْ، فَيُقَلِّلُهُمْ فِي عَيْنِهِ، وَيُطْمِعُهُ فِيهِمْ، وَيَقُولُ: إِنْ أَذِنْتَ لِي لَقِيتُهُمْ بِمُفْرَدِي، فَسَارَ حِينَئِذٍ نُورِ الدِّينِ إِلَى بُوشَرَى فَوَصَلَ إِلَيْهَا مِنَ الْغَدِ الظُّهْرَ وَقَدْ تَعِبَتْ دَوَابُّهُ وَأَصْحَابُهُ، وَلَقُوا شِدَّةً مِنَ الْحَرِّ، فَنَزَلَ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ أَقَلَّ مِنْ سَاعَةٍ. وَأَتَاهُ الْخَبَرُ أَنَّ عَسَاكِرَ الْخَصْمِ قَدْ رَكِبُوا، فَرَكِبَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَسَارُوا نَحْوَهُمْ فَلَمْ يَرَوْا لَهُمْ أَثَرًا، فَعَادَ إِلَى خِيَامِهِ، وَنَزَلَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ، وَتَفَرَّقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي الْقُرَى

لِتَحْصِيلِ الْعُلُوفَاتِ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فَجَاءَهُ مَنْ أَخْبَرَهُ بِحَرَكَةِ الْخَصْمِ وَقَصْدِهِ، فَرَكِبَ نُورُ الدِّينِ وَعَسْكَرُهُ، وَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِمْ، وَبَيْنَهُمْ نَحْوَ فَرْسَخَيْنِ، فَنَزَلُوا وَقَدِ ازْدَادَ تَعَبُهُمْ، وَالْخَصْمُ مُسْتَرِيحٌ، فَالْتَقَوْا، وَاقْتَتَلُوا فَلَمْ تَطُلِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ حَتَّى انْهَزَمَ عَسْكَرُ نُورِ الدِّينِ، وَانْهَزَمَ هُوَ أَيْضًا، وَطَلَبَ الْمَوْصِلَ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ، وَتَلَاحَقَ النَّاسُ، وَأَتَى الْأَشْرَفُ وَمَنْ مَعَهُ، فَنَزَلُوا فِي كَفَرْ زَمَّارْ، وَنَهَبُوا الْبِلَادَ نَهْبًا عَظِيمًا، وَأَهْلَكُوا مَا لَمْ يَصْلُحْ لَهُمْ وَلَا سِيَّمَا مَدِينَةَ بَلَدَ فَإِنَّهُمْ أَفْحَشُوا فِي نَهْبِهَا. وَمِنْ أَعْجَبِ مَا سَمِعْنَا أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَطْبُخُ، فَرَأَتْ [النَّهْبَ] ، فَأَلْقَتْ سُوَارَيْنِ كَانَا فِي يَدَيْهَا فِي النَّارِ وَهَرَبَتْ، فَجَاءَ بَعْضُ الْجُنْدِ وَنَهَبَ مَا فِي الْبَيْتِ، فَرَأَى فِيهِ بَيْضًا، فَأَخَذَهُ وَجَعَلَهُ فِي النَّارِ لِيَأْكُلَهُ، فَحَكَّهَا، فَرَأَى السُّوَارَيْنِ فِيهَا فَأَخَذَهُمَا. وَطَالَ مُقَامُهُمْ وَالرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ فِي الصُّلْحِ، فَوَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى إِعَادَةِ تَلِّ أَعْفَرَ، وَيَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْأَوْلَى، وَتَوَقَّفَ نُورُ الدِّينِ فِي إِعَادَةِ تَلِّ أَعْفَرَ، فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ سَلَّمَهَا إِلَيْهِمْ، وَاصْطَلَحُوا أَوَائِلَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ، وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ مِنَ الْبِلَادِ. ذِكْرُ خُرُوجِ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ إِلَى بَلَدِ الْإِسْلَامِ وَالصُّلْحِ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ كَثِيرٌ مِنَ الْفِرِنْجِ فِي الْبَحْرِ إِلَى الشَّامِ، وَسَهُلَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ لِمُلْكِهِمْ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَأَرْسَوْا بِعَكَّا، وَعَزَمُوا عَلَى قَصْدِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ - حَرَسَهُ اللَّهُ - وَاسْتِنْقَاذِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا اسْتَرَاحُوا بِعَكَّا سَارُوا فَنَهَبُوا كَثِيرًا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِنَوَاحِي الْأُرْدُنِّ، وَسَبَوْا، وَفَتَكُوا فِي الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ بِدِمَشْقَ، فَأَرْسَلَ فِي جَمْعِ الْعَسَاكِرِ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَسَارَ وَنَزَلَ عِنْدَ الطُّورِ بِالْقُرْبِ مِنْ عَكَّا ; لِمَنْعِ الْفِرِنْجِ مِنْ قَصْدِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَنَزَلَ الْفِرِنْجُ بِمَرَجِ عَكَّا، وَأَغَارُوا عَلَى كَفَرْ كَنَّا، فَأَخَذُوا كُلَّ مَنْ بِهَا وَأَمْوَالَهُمْ، وَالْأُمَرَاءُ يُحِثُّونَ الْعَادِلَ عَلَى قَصْدِ بِلَادِهِمْ وَنَهْبِهَا، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَبَقُوا كَذَلِكَ إِلَى أَنِ انْقَضَتِ

السَّنَةُ، وَذَلِكَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ، فَاصْطَلَحَ هُوَ وَالْفِرِنْجُ عَلَى دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا، وَمَا بِيَدِ الْعَادِلِ مِنَ الشَّامِ، وَنَزَلَ لَهُمْ عَنْ جَمِيعِ الْمُنَاصَفَاتِ فِي الصَّيْدَا وَالرَّمْلَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَعْطَاهُمْ نَاصِرَةَ وَغَيْرَهَا، وَسَارَ نَحْوَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ. فَقَصَدَ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ حَمَاةَ، فَلَقِيَهُمْ صَاحِبُهَا نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ، فَقَاتَلَهُمْ، وَكَانَ فِي قِلَّةٍ، فَهَزَمُوهُ وَتَبِعُوهُ إِلَى الْبَلَدِ، فَخَرَجَ الْعَامَّةُ إِلَى قِتَالِهِمْ، فَقَتَلَ الْفِرِنْجَةُ مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَعَادَ الْفِرِنْجُ. ذِكْرُ قَتْلِ كُوكْجَةَ بِبِلَادِ الْجَبَلِ قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ تَغَلُّبَ كُوكْجَةَ مَمْلُوكِ الْبَهْلَوَانِ عَلَى الرَّيِّ وَهَمَذَانَ، وَبَلَدِ الْجَبَلِ، وَبَقِيَ إِلَى الْآنِ، وَكَانَ قَدِ اصْطَنَعَ مَمْلُوكًا آخَرَ كَانَ لِلْبَهْلَوَانِ، اسْمُهُ إِيدْغِمْشُ، وَقَدَّمَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَوَثِقَ بِهِ، فَجَمَعَ إِيدْغِمْشُ الْجُمُوعَ مِنَ الْمَمَالِيكِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ قَصَدَ كُوكْجَةَ، فَتَصَافَّا، وَاقْتَتَلَ الْفَرِيقَانِ، فَقُتِلَ كُوكْجَةُ فِي الْحَرْبِ، وَاسْتَوْلَى إِيدْغِمْشُ عَلَى الْبِلَادِ، وَأَخَذَ مَعَهُ أُوزْبَكُ بْنُ الْبَهْلَوَانِ، اسْمَ الْمَلِكِ، وَإِيدْغِمْشُ هُوَ الْمُدَبِّرُ لَهُ وَالْقَيِّمُ بِأَمْرِ الْمَمْلَكَةِ، وَكَانَ شَهْمًا، شُجَاعًا، ظَالِمًا، وَكَانَ كُوكْجَةُ عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ. ذِكْرُ وَفَاةِ رُكْنِ الدِّينِ بْنِ قِلْج أَرْسِلَانَ وَمُلْكِ ابْنِهِ بَعْدَهُ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، سَادِسَ ذِي الْقَعْدَةِ، تُوُفِّيَ رُكْنُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ قِلْج أَرْسِلَانَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ قِلْج أَرْسِلَانْ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشَ بْنِ سَلْجُوقَ، صَاحِبُ دِيَارِ الرُّومِ مَا بَيْنَ مَلَطْيَةَ وَقُونِيَةَ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِمَرَضِ الْقُولَنْجِ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ قَبْلَ مَرَضِهِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ قَدْ غَدَرَ بِأَخِيهِ صَاحِبِ أَنْكُورِيَةَ، وَتُسَمَّى أَيْضًا أَنْقِرَةَ - وَهِيَ مَدِينَةٌ مَنِيعَةٌ -، وَكَانَ مُشَاقًّا لِرُكْنِ الدِّينِ، فَحَصَرَهُ عِدَّةَ سِنِينَ حَتَّى ضَعُفَ وَقَلَّتِ الْأَقْوَاتُ عِنْدَهُ، فَأَذْعَنَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى عِوَضٍ يَأْخُذُهُ، فَعَوَّضَهُ قَلْعَةً فِي أَطْرَافِ بَلَدِهِ وَحَلَفَ لَهُ عَلَيْهَا، فَنَزَلَ أَخُوهُ عَنْ مَدِينَةِ أَنْقِرَةَ. وَسَلَّمَهَا وَمَعَهُ وَلَدَانِ لَهُ. فَوَضَعَ رُكْنُ الدِّينِ عَلَيْهِ

مَنْ أَخَذَهُ، وَأَخَذَ أَوْلَادَهُ مَعَهُ، فَقَتَلَهُ فَلَمْ يَمْضِ غَيْرُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ حَتَّى أَصَابَهُ الْقُولَنْجُ فَمَاتَ. وَاجْتَمَعَ النَّاسُ بَعْدَهُ عَلَى وَلَدِهِ قِلْج أَرْسِلَانَ وَكَانَ صَغِيرًا، فَبَقِيَ فِي الْمُلْكِ إِلَى بَعْضِ سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ، وَأُخِذَ مِنْهُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ هُنَاكَ. وَكَانَ رُكْنُ الدِّينِ شَدِيدًا عَلَى الْأَعْدَاءِ، قَيِّمًا بِأَمْرِ الْمُلْكِ، إِلَّا أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَى فَسَادِ الِاعْتِقَادِ، كَانَ يُقَالُ إِنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَذْهَبَهُ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ يُرْمَى بِهَذَا الْمَذْهَبِ يَأْوِي إِلَيْهِ، وَلِهَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْهُ إِحْسَانٌ كَثِيرٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَاقِلًا يُحِبُّ سَتْرَ هَذَا الْمَذْهَبِ لِئَلَّا يَنْفِرَ النَّاسُ عَنْهُ. حُكِيَ لِي عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ إِنْسَانٌ، وَكَانَ يُرْمَى بِالزَّنْدَقَةِ وَمَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ، فَحَضَرَ يَوْمًا عِنْدَهُ فَقِيهٌ، فَتَنَاظَرَا، فَأَظْهَرَ شَيْئًا مِنَ اعْتِقَادِ الْفَلَاسِفَةِ، فَقَامَ الْفَقِيهُ إِلَيْهِ وَلَطَمَهُ وَشَتَمَهُ بِحَضْرَةِ رُكْنِ الدِّينِ، وَرُكْنُ الدِّينِ سَاكِتٌ، وَخَرَجَ الْفَقِيهُ فَقَالَ لِرُكْنِ الدِّينِ: يَجْرِي عَلَيَّ مِثْلُ هَذَا فِي حَضْرَتِكَ وَلَا تُنْكِرُهُ؟ فَقَالَ: لَوْ تَكَلَّمْتُ لَقُتِلْنَا جَمِيعًا، وَلَا يُمْكِنُ إِظْهَارُ مَا تُرِيدُهُ أَنْتَ فَفَارِقْهُ. ذِكْرُ قَتْلِ الْبَاطِنِيَّةِ بِوَاسِطَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الْبَاطِنِيَّةُ بِوَاسِطَ ; وَسَبَبُ كَوْنِهِمْ بِهَا [وَقَتْلِهِمْ] أَنَّهُ وَرَدَ إِلَيْهَا رَجُلٌ يُعْرَفُ بِالزَّكَمِ مُحَمَّدِ بْنِ طَالِبِ بْنِ عُصَيَّةَ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْقَارُوبِ مِنْ قُرَى وَاسِطَ، وَكَانَ بَاطِنِيًّا مُلْحِدًا وَنَزَلَ مُجَاوِرًا لِدَوْرِ بَنِي الْهَرَوِيِّ، وَغَشِيَهُ النَّاسُ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ. وَكَانَ مِمَّنْ يَغْشَاهُ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِحَسَنِ الصَّابُونِيِّ، فَاتُّفِقَ أَنَّهُ اجْتَازَ بِالسُّوَيْقَةِ، فَكَلَّمَهُ رِجْلٌ نَجَّارٌ فِي مَذْهَبِهِمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الصَّابُونِيُّ رَدًّا غَلِيظًا، فَقَامَ إِلَيْهِ النَّجَّارُ وَقَتَلَهُ، وَتَسَامَعَ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَوَثَبُوا وَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوا مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ. وَقَصَدُوا دَارَ ابْنِ عُصَيَّةَ وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَلْقٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَغْلَقُوا الْبَابَ وَصَعِدُوا إِلَى سَطْحِهَا وَمَنَعُوا النَّاسَ عَنْهُمْ، فَصَعِدُوا إِلَيْهِمْ مِنْ بَعْضِ الدُّورِ مِنْ عَلَى السَّطْحِ، وَتَحَصَّنَ مَنْ بَقِيَ فِي الدَّارِ بِإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ وَالْمَمَارِقِ فَكَسَرُوهَا، وَنَزَلُوا فَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوا فِي الدَّارِ وَأَحْرَقُوا، وَقُتِلَ ابْنُ عُصَيَّةَ، وَفُتِحَ الْبَابُ وَهَرَبَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ فَقُتِلُوا،

وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَادَ، وَانْحَدَرَ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو الْبَدْرِ بْنُ أَمْسِينَا الْوَاسِطِيِّ لِإِصْلَاحِ الْحَالِ وَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مَحْمُودٍ عَلَى مِرْبَاطَ وَغَيْرِهَا مِنْ حَضْرَمَوْتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى إِنْسَانٌ اسْمُهُ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِمْيَرِيُّ عَلَى مَدِينَةِ مِرْبَاطَ وَظَفَارَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَإِنَّ ابْتِدَاءَ أَمْرِهِ أَنَّهُ لَهُ مَرْكَبٌ يَكْرِيهِ فِي الْبَحْرِ لِلتُّجَّارِ، ثُمَّ وَزَرَ لِصَاحِبِ مِرْبَاطَ، وَفِيهِ كَرَمٌ وَشَجَاعَةٌ وَحُسْنُ سِيرَةٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ صَاحِبُ مِرْبَاطَ مَلَكَ الْمَدِينَةَ بَعْدَهُ، وَأَطَاعَهُ النَّاسُ مَحَبَّةً لَهُ لِكَرْمِهِ وَسِيرَتِهِ، وَدَامَتْ أَيَّامُهُ بِهَا، فَلَمَّا كَانَ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ خَرَّبَ مِرْبَاطُ وَظَفَارُ، وَبَنَى مَدِينَةً جَدِيدَةً عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ بِالْقُرْبِ مِنْ مِرْبَاطَ، وَعِنْدَهَا عَيْنٌ عَذْبَةٌ كَبِيرَةٌ أَجْرَاهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَعَمِلَ عَلَيْهَا سُورًا وَخَنْدَقًا، وَحَصَّنَهَا وَسَمَّاهَا الْأَحْمَدِيَّةَ، وَكَانَ يُحِبُّ الشِّعْرَ، وَيُكْثِرُ الْجَائِزَةَ عَلَيْهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ أُسْطُولٌ مِنَ الْفِرِنْجِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَنَهَبُوا مَدِينَةَ فُوَّةَ، وَأَقَامُوا خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَسْبُونَ وَيَنْهَبُونَ، وَعَسَاكِرُ مِصْرَ مُقَابِلَهُمْ، بَيْنَهُمُ النَّيْلُ، لَيْسَ لَهُمْ وَصُولٌ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ سُفُنٌ. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةً عَظِيمَةً عَمَّتْ أَكْثَرَ الْبِلَادِ مِصْرَ، وَالشَّامَ، وَالْجَزِيرَةَ، وَبِلَادَ الرُّومِ، وَصِقِلِّيَةَ، وَقُبْرُسَ، وَوَصَلَتْ إِلَى الْمَوْصِلِ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمَا، وَخَرَّبَ مِنْ مَدِينَةِ صُورَ سُورَهَا وَأَثَّرَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشَّامِ. وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ بِرِبَاطِ شَيْخِ الشُّيُوخِ بِبَغْدَادَ وَفِيهِمْ صُوفِيٌّ اسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّارِيُّ مِنْ أَصْحَابِ شَيْخِ الشُّيُوخِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَمَعَهُمْ مُغَنٍّ يُغَنِّي وَيَقُولُ الشِّعْرَ: عُوَيْذِلَتِي أَقْصَرِي ... كَفَى بِمَشِيبِي عَذَلْ شَبَابٌ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ... وَشَيْبٌ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ

وَحَقِّ لَيَالِي الْوِصَالِ أَوَاخِرِهَا وَالْأُوَلْ ... وَصُفْرَةِ لَوْنِ الْمُحِبِّ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْعَذَلْ ... لَئِنْ عَادَ عَيْشِي بِكُمْ حَلَا الْعَيْشُ لِي وَاتَّصَلْ فَتَحَرَّكَ الْجَمَاعَةُ، كَعَادَةِ الصُّوفِيَّةِ فِي السَّمَاعِ، وَطَرِبَ الشَّيْخُ الْمَذْكُورُ، وَتَوَاجَدَ، ثُمَّ سَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَحَرَّكُوهُ فَإِذَا هُوَ مَيِّتٌ، فَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوَفِّيَ أَبُو الْفُتُوحِ أَسْعَدُ بْنُ مَحْمُودٍ الْعِجْلِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، بِأَصْفَهَانَ فِي صِفْرٍ، وَكَانَ إِمَامًا فَاضِلًا. وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا تُوُفِّيَ قَاضِي هَرَاةَ عُمْدَةُ الدِّينِ الْفَضْلُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ صَاعِدٍ السَّاوِيُّ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ صَاعِدٌ.

ثم دخلت سنة إحدى وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّمِائَة] 601 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ كَيْخَسْرُو بْنِ قِلْج أَرْسِلَانْ بِلَادَ الرُّومِ مِنِ ابْنِ أَخِيهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، مَلَكَ غِيَاثُ الدِّينِ كَيْخَسْرُو بْنُ قِلْج أَرْسِلَانَ بِلَادَ الرُّومِ الَّتِي كَانَتْ بِيَدِ أَخِيهِ رُكْنِ الدِّينِ سُلَيْمَانَ وَانْتَقَلَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى ابْنِهِ قِلْج أَرْسِلَانْ بْنِ رُكْنِ الدِّينِ. وَكَانَ سَبَبُ مُلْكِ غِيَاثِ الدِّينِ لَهَا أَنَّ رُكْنَ الدِّينِ كَانَ قَدْ أَخَذَ مَا كَانَ لِأَخِيهِ غِيَاثِ الدِّينِ وَهُوَ مَدِينَةُ قُونِيَةَ، فَهَرَبَ غِيَاثُ الدِّينِ مِنْهُ وَقَصَدَ الشَّامَ إِلَى الْمَلِكِ الظَّاهِرِ غَازِي بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ صَاحِبِ حَلَبَ، فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ قَبُولًا، وَقَصَّرَ بِهِ، فَسَارَ مِنْ عِنْدِهِ، وَتَقَلَّبَ فِي الْبِلَادِ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ مِلْكُ الرُّومِ وَأَقْطَعَهُ وَأَكْرَمَهُ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ، وَتَزَوَّجَ بِابْنَةِ بَعْضِ الْبَطَارِقَةِ الْكِبَارِ. وَكَانَ لِهَذَا الْبِطْرِيقِ قَلْعَةٌ مِنْ عَمَلِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَلَمَّا مَلَكَ الْفِرِنْجُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، هَرَبَ غِيَاثُ الدِّينِ إِلَى حَمِيِّهِ، وَهُوَ بِقَلْعَتِهِ، فَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ وَقَالَ لَهُ: نَشْتَرِكُ فِي هَذِهِ الْقَلْعَةِ، وَنَقْنَعُ بِدَخْلِهَا. فَأَقَامَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا مَاتَ أَخُوهُ سَنَةَ سِتِّمِائَةٍ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - اجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ عَلَى وَلَدِهِ، وَخَالَفَهُمُ الْأَتْرَاكُ الْأَوْجُ، وَهُمْ كَثِيرٌ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَأَنِفَ مِنَ اتِّبَاعِهِمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ لِيُمَلِّكَهُ الْبِلَادَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَوَصَلَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَاجْتَمَعَ بِهِ وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَقَصَدَ مَدِينَةَ قُونِيَةَ لِيَحْصُرَهَا، وَكَانَ وَلَدُ رُكْنِ الدِّينِ وَالْعَسَاكُرُ بِهَا، فَأَخْرَجُوا إِلَيْهِ طَائِفَةً مِنَ الْعَسْكَرِ، فَلَقَوْهُ فَهَزَمُوهُ، فَبَقِيَ حَيْرَانَ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، فَقَصَدَ بَلْدَةً صَغِيرَةً يُقَالُ لَهَا أُوكَرْمَ بِالْقُرْبِ مِنْ قُونِيَةَ.

فَقَدَّرَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّ أَهْلَ مَدِينَةِ أَقْصَرَا وَثَبُوا عَلَى الْوَالِي فَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا وَنَادَوْا بِشِعَارِ غِيَاثِ الدِّينِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ قُونِيَةَ بِمَا فَعَلَهُ أَهْلُ أَقْصَرَا قَالُوا: نَحْنُ أَوْلَى مَنْ فَعَلَ هَذَا، لِأَنَّهُ كَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ فِيهِمْ لَمَّا كَانَ مَالِكَهُمْ، فَنَادَوْا بِاسْمِهِ أَيْضًا، وَأَخْرَجُوا مَنْ عِنْدِهِمْ، وَاسْتَدْعَوْهُ فَحَضَرَ عِنْدَهُمْ، وَمَلَكَ الْمَدِينَةَ وَقَبَضَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ وَمَنْ مَعَهُ، وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، وَجَمَعَ لَهُ الْبِلَادَ جَمِيعَهَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَسُبْحَانَ مَنْ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ! . وَكَانَ أَخُوهُ قَيْصَرُ شَاهِ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ مَلَطْيَةَ، لَمَّا أَخَذَهَا رُكْنُ الدِّينِ مِنْهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، خَرَجَ مِنْهَا، وَقَصَدَ الْمَلِكَ الْعَادِلَ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَيُّوبَ ; لِأَنَّهُ كَانَ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ مُسْتَنْصِرًا بِهِ، فَأَمَرَهُ بِالْمُقَامِ بِمَدِينَةِ الرُّهَا، فَأَقَامَ بِهَا فَلَمَّا سَمِعَ بِمُلْكِ أَخِيهِ غِيَاثِ الدِّينِ سَارَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ قَبُولًا، إِنَّمَا أَعْطَاهُ شَيْئًا وَأَمَرَهُ بِمُفَارَقَةِ الْبِلَادِ، فَعَادَ إِلَى الرُّهَا وَأَقَامَ بِهَا، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مُلْكُ [غِيَاثِ الدِّينِ سَارَ إِلَيْهِ الْأَفْضَلُ صَاحِبُ] سُمَيْسَاطَ، (فَلَقِيَهُ بِمَدِينَةِ قَيْسَارِيَةَ) وَقَصَدَهُ أَيْضًا نِظَامُ الدِّينِ صَاحِبُ خَرْتَ بِرْتَ، وَصَارَ مَعَهُ، فَعَظُمَ شَأْنُهُ وَقَوِيَ أَمْرُهُ. ذِكْرُ حَصْرِ صَاحِبِ آمِدَ خَرْتَ بِرْتَ وَرُجُوعِهِ عَنْهَا كَانَتْ خَرْتَ بِرْتَ لِعِمَادِ الدِّينِ بْنِ قُرَّا أَرْسِلَانَ، فَمَاتَ، وَمَلَكَهَا بَعْدَهُ ابْنُهُ نِظَامُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ، وَالْتَجَأَ إِلَى رُكْنِ الدِّينِ بْنِ قِلْج أَرْسِلَانَ، وَبَعْدَهُ إِلَى أَخِيهِ غِيَاثِ الدِّينِ لِيَمْتَنِعَ بِهِ مِنِ ابْنِ عَمِّهِ نَاصِرِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُرَّا أَرْسِلَانَ، فَامْتَنَعَ بِهِ. وَكَانَ صَاحِبُ آمِدَ مُلْتَجِئًا إِلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَفِي طَاعَتِهِ، وَحَضَرَ مَعَ ابْنِهِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ قِتَالَ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ يَسِيرُ مَعَهُ فِي عَسَاكِرِهِ، وَيَأْخُذُ لَهُ خَرْتَ بِرْتَ، وَإِنَّمَا طَمِعَ فِيهَا بِمَوْتِ رُكْنِ الدِّينِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ هَذِهِ السَّنَةُ طَلَبَ مَا كَانَ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، فَسَارَ مَعَهُ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ وَعَسَاكِرُ دِيَارِ الْجَزِيرَةِ مِنْ سِنْجَارَ، وَجَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْمَوْصِلِ، وَغَيْرِهَا، وَكَانَ نُزُولُهُمْ عَلَيْهَا فِي شَعْبَانَ، وَفِي رَمَضَانَ تَسَلَّمُوا

رَبَضَهَا، وَكَانَ صَاحِبُهَا قَدِ اجْتَمَعَ بِغِيَاثِ الدِّينِ، بَعْدَ أَنْ مَلَكَ الْبِلَادَ الرُّومِيَّةَ، وَصَارَ مَعَهُ فِي طَاعَتِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ صَاحِبُ آمِدَ عَلَى خَرْتَ بِرْتَ خَاطَبَ صَاحِبُهَا غِيَاثَ الدِّينِ يُنْجِدُهُ بِعَسْكَرٍ يُرَحِّلُهُمْ عَنْهُ، فَجَهَّزَ عَسْكَرًا كَثِيرًا عُدْتُهُمْ سِتَّةُ آلَافِ فَارِسٍ، وَسَيَّرَهُمْ [مَعَ] الْمَلِكِ الْأَفْضَلِ عَلِيِّ بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ وَهُوَ صَاحِبُ سُمَيْسَاطَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْعَسْكَرُ إِلَى مَلَطْيَةَ فَارَقَ صَاحِبُ آمِدَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ خَرْتَ بِرْتَ، وَنَزَلُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَحَصَرُوا الْبُحَيْرَةَ الْمَعْرُوفَةَ بِبُحَيْرَةِ سِمْنِينَ وَبِهَا حِصْنَانِ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِ خَرْتَ بِرْتَ، فَحَصَرَهُ وَزَاحَفَهُ، فَفَتَحَهُ ثَانِيَ ذِي الْحِجَّةِ. وَوَصَلَ صَاحِبُ خَرْتَ بِرْتَ مَعَ الْعَسْكَرِ الرُّومِيِّ إِلَى خَرْتَ بِرْتَ، فَرَحَلَ صَاحِبُ آمِدَ عَنِ الْبُحَيْرَةِ وَقَوَّى الْحِصْنَ الَّذِي فَتَحَهُ فِيهَا، فَأَزَاحَ عِلَّتَهُ، وَرَحَلَ إِلَى خَلْفِ مَرْحَلَةٍ وَنَزَلَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ، وَالْعَسْكَرُ الرُّومِيُّ يَطْلُبُ الْبُحَيْرَةَ، وَصَاحِبُ آمِدَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ بَقِيَ الْحِصْنُ بِيَدِ صَاحِبِ آمِدَ، وَانْفَصَلَ الْعَسْكَرَانِ، وَعَادَ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى بِلَادِهِ. ذِكْرُ الْفِتَنِ بِبَغْدَادَ فِي سَابِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ جَرَتْ فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ بَيْنَ أَهْلِ بَابِ الْأَزَجِ وَأَهْلِ الْمَأْمُونِيَّةِ، وَسَبَبُهَا أَنَّ أَهْلَ بَابِ الْأَزَجِ قَتَلُوا سَبْعًا وَأَرَادُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِ، فَمَنَعَهُمْ أَهْلُ الْمَأْمُونِيَّةِ، فَوَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْبُسْتَانِ الْكَبِيرِ، فَجُرِحَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ، وَرَكِبَ صَاحِبُ الْبَابِ لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ، فَجُرِحَ فَرَسُهُ فَعَادَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ سَارَ أَهْلُ الْمَأْمُونِيَّةِ إِلَى أَهْلِ بَابِ الْأَزَجِ، فَوَقَعَتْ بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ شَدِيدَةٌ وَقِتَالٌ بِالسُّيُوفِ وَالنُّشَّابِ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، فَنُهِبَتِ الدُّورُ الْقَرِيبَةُ مِنْهُمْ، وَسَعَى الرُّكْنُ بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ وَيُوسُفُ الْعَقَّابُ فِي تَسْكِينِ النَّاسِ، وَرَكِبَ الْأَتْرَاكُ، فَصَارُوا يَبِيتُونَ تَحْتَ الْمَنْظَرَةِ، فَامْتَنَعَ أَهْلُ الْفِتْنَةِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، فَسَكَنُوا. وَفِي الْعِشْرِينَ مِنْهُ جَرَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ قَطُفْتَا وَالْقَرْيَةِ، مِنْ مَحَالِّ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، بِسَبَبِ قَتْلِ سَبُعٍ أَيْضًا، أَرَادَ أَهْلُ قَطُفْتَا أَنْ يَجْتَمِعُوا وَيَطُوفُوا بِهِ، فَمَنَعَهُمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ أَنْ يَجُوزُوا بِهِ عِنْدَهُمْ، فَاقْتَتَلُوا، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ عِدَّةُ قَتْلَى، فَأُرْسِلَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرٌ مِنَ الدِّيوَانِ لِتَلَافِي الْأَمْرِ وَمَنْعِ النَّاسِ عَنِ الْفِتْنَةِ، فَامْتَنَعُوا.

وَفِي تَاسِعِ رَمَضَانَ كَانَتْ فِتْنَةً بَيْنَ أَهْلِ سُوقِ السُّلْطَانِ وَالْجَعْفَرِيَّةِ، مَنْشَأُهَا أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمَحَلَّتَيْنِ اخْتَصَمَا وَتَوَعَّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْمَحَلَّتَيْنِ وَاقْتَتَلُوا فِي مَقْبَرَةِ الْجَعْفَرِيَّةِ، فَسُيِّرَ إِلَيْهِمْ مِنَ الدِّيوَانِ مَنْ تَلَافَى الْأَمْرَ وَسَكَّنَهُ، فَلَمَّا كَثُرَتِ الْفِتَنُ رُتِّبَ أَمِيرٌ كَبِيرٌ مِنْ مَمَالِيكَ الْخَلِيفَةِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، فَطَافَ فِي الْبَلَدِ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِمَّنْ فِيهِ شُبْهَةٌ، فَسَكَنَ النَّاسُ. ذِكْرُ غَارَةِ الْكُرْجِ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَغَارَتِ الْكُرْجُ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ نَاحِيَةِ أَذْرَبِيجَانَ، فَأَكْثَرُوا الْعَيْثَ وَالْفَسَادَ وَالنَّهْبَ وَالسَّبْيَ، ثُمَّ أَغَارُوا عَلَى نَاحِيَةِ خِلَاطَ مِنْ أَرْمِينِيَّةَ، فَأَوْغَلُوا فِي الْبِلَادِ حَتَّى بَلَغُوا مَلَازَكُرْدَ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَمْنَعُهُمْ، فَجَاسُوا خِلَالَ الْبِلَادِ يَنْهَبُونَ وَيَأْسِرُونَ وَيَسْبُونَ، وَكُلَّمَا [تَقَدَّمُوا] تَأَخَّرَتْ عَسَاكِرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّهُمْ رَجَعُوا، فَاللَّهُ - تَعَالَى - يَنْظُرُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَيُيَسِّرُ لَهُمْ مَنْ يَحْمِي بِلَادَهُمْ، وَيَحْفَظُ ثُغُورَهُمْ، وَيَغْزُو أَعْدَاءَهُمْ. وَفِيهَا أَغَارَتِ الْكُرْجُ [عَلَى] بِلَادِ خِلَاطَ، فَأَتَوْا إِلَى أَرْجِيشَ وَنَوَاحِيهَا، فَنَهَبُوا، وَسَبَوْا، وَخَرَّبُوا الْبِلَادَ، وَسَارُوا إِلَى حِصْنِ التِّينِ، مِنْ أَعْمَالِ خِلَاطَ، وَهُوَ مُجَاوِرُ أَرْزَنَ الرُّومِ، فَجَمَعَ صَاحِبُ خِلَاطَ عَسْكَرَهُ وَسَارَ إِلَى وَلَدِ قِلْج أَرْسِلَانَ، صَاحِبِ أَرْزَنَ الرُّومِ، فَاسْتَنْجَدَهُ عَلَى الْكُرْجِ، فَسَيَّرَ عَسْكَرَهُ جَمِيعَهُ مَعَهُ، فَتَوَجَّهُوا نَحْوَ الْكُرْجِ، فَلَقَوْهُمْ، وَتَصَافُّوا، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَتِ الْكُرْجُ، وَقُتِلَ زَكْرِي الصَّغِيرُ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرَ مُقَدَّمِيهِمْ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ مُقَدَّمُ هَذَا الْعَسْكَرِ مِنَ الْكُرْجِ وَالْمُقَاتِلُ بِهِمْ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرُوا كَذَلِكَ، وَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ أَمِيرِ مَكَّةَ وَأَمِيرِ الْمَدِينَةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَمِيرِ قَتَادَةَ الْحَسَنِيِّ، أَمِيرِ مَكَّةَ، وَبَيْنَ

الْأَمِيرِ سَالِمِ بْنِ قَاسِمٍ الْحُسَيْنِيِّ، أَمِيرِ الْمَدِينَةِ، وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَتِ الْحَرْبُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ قَتَادَةُ قَدْ قَصَدَ الْمَدِينَةَ لِيَحْصُرَهَا وَيَأْخُذَهَا، فَلَقِيَهُ سَالِمٌ بَعْدَ أَنْ قَصَدَ الْحُجْرَةَ - عَلَى سَاكِنِهَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَصَلَّى عِنْدَهَا وَدَعَا وَسَارَ فَلَقِيَهُ، فَانْهَزَمَ قَتَادَةُ، وَتَبِعَهُ سَالِمٌ إِلَى مَكَّةَ فَحَصَرَهُ بِهَا، فَأَرْسَلَ قَتَادَةُ إِلَى مَنْ مَعَ سَالِمٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَأَفْسَدَهُمْ عَلَيْهِ، فَمَالُوا إِلَيْهِ وَحَالَفُوهُ، فَلَمَّا رَأَى سَالِمٌ ذَلِكَ رَحَلَ عَنْهُ عَائِدًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَعَادَ أَمْرُ قَتَادَةَ قَوِيًّا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَابِعَ عَشْرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، قُطِعَتْ خُطْبَةُ وَلِيِّ الْعَهْدِ، وَأُظْهِرَ خَطٌّ قُرِئَ بِدَارِ الْوَزِيرِ نَصِيرِ الدِّينِ نَاصِرِ بْنِ مَهْدِيٍّ الرَّازِيِّ وَإِذَا هُوَ خَطُّ وَلِيِّ الْعَهْدِ الْأَمِيرِ أَبِي نَصْرِ ابْنِ الْخَلِيفَةِ إِلَى أَبِيهِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، يَتَضَمَّنُ الْعَجْزَ عَنِ الْقِيَامِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَيَطْلُبُ الْإِقَالَةَ، وَشَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّهُ خَطُّهُ، وَأَنَّ الْخَلِيفَةَ أَقَالَهُ، وَعُمِلَ بِذَلِكَ مَحْضَرٌ شَهِدَ فِيهِ الْقُضَاةُ وَالْعُدُولُ وَالْفُقَهَاءُ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَدَتِ امْرَأَةٌ بِبَغْدَادَ وَلَدًا لَهُ رَأْسَانِ وَأَرْبَعُ أَرْجُلٍ وَيَدَانِ، وَمَاتَ فِي يَوْمِهِ. وَفِيهَا أَيْضًا وَقَعَ الْحَرِيقُ فِي خِزَانَةِ السِّلَاحِ الَّتِي لِلْخَلِيفَةِ، فَاحْتَرَقَ فِيهَا مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَبَقِيَتِ النَّارُ يَوْمَيْنِ، وَسَارَ ذِكْرُ هَذَا الْحَرِيقِ فِي الْبُلْدَانِ، فَحَمَلَ الْمُلُوكُ مِنَ السِّلَاحِ إِلَى بَغْدَادَ شَيْئًا كَثِيرًا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ الثَّلْجُ بِمَدِينَةِ هَرَاةَ أُسْبُوعًا كَامِلًا، فَلَمَّا سَكَنَ جَاءَ بَعْدَهُ سَيْلٌ مِنَ الْجَبَلِ مِنْ بَابِ سَرَا، خَرَّبَ كَثِيرًا مِنَ الْبَلَدِ، وَرَمَى مِنْ حِصْنِهِ قِطْعَةً عَظِيمَةً، وَجَاءَ بَعْدَهُ بَرَدٌ شَدِيدٌ أَهْلَكَ الثِّمَارَ، فَلَمْ يَكُنْ بِهَا تِلْكَ السَّنَةَ شَيْءٌ إِلَّا الْيَسِيرَ.

وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، خَرَجَ عَسْكَرٌ مِنَ الْغُورِيَّةِ مُقَدَّمُهُمُ الْأَمِيرُ زِنْكِي بْنُ مَسْعُودٍ إِلَى مَدِينَةِ مَرْوَ، فَلَقِيَهُمْ نَائِبُ خُوَارِزْمَ شَاهْ بِمَدِينَةِ سَرَخْسَ، وَهُوَ الْأَمِيرُ جُقَرُ، وَكَمَّنَ لَهُمْ كَمِينًا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ هَزَمَهُمْ، وَأَخَذَ وُجُوهَ الْغُورِيَّةِ أَسْرَى، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَأَخَذَ أَمِيرَهُمْ زِنْكِي أَسِيرًا، فَقُتِلَ صَبْرًا، وَعُلِّقَتْ رُءُسُهُمْ بِمَرْوَ أَيَّامًا. وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، سَارَ الْأَمِيرُ عِمَادُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْغُورِيُّ، صَاحِبُ بَلْخَ، إِلَى مَدِينَةِ تِرْمِذَ، وَهِيَ لِلْأَتْرَاكِ الْخَطَا، فَافْتَتَحَهَا عَنْوَةً، وَجَعَلَ بِهَا وَلَدَهُ الْأَكْبَرَ، وَقَتَلَ مَنْ بِهَا مِنَ الْخَطَا، وَنَقَلَ الْعَلَوِيِّينَ مِنْهَا إِلَى [بَلْخَ] ، وَصَارَتْ تِرْمِذُ دَارَ إِسْلَامٍ، وَهِيَ مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ وَأَقْوَاهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَدْرُ الدِّينِ السِّجْزِيُّ شَيْخُ خَانْكَاه السُّلْطَانِ بِهَرَاةَ. وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدُوسٍ الشَّاعِرُ الْوَاسِطِيُّ، وَهُوَ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمُجِيدِينَ، وَاجْتَمَعْتُ بِهِ بِالْمَوْصِلِ، وَرَدَهَا مَادِحًا لِصَاحِبِهَا نُورِ الدِّينِ أَرْسِلَانَ شَاهْ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُقَدَّمِينَ، وَكَانَ نِعْمَ الرَّجُلِ، حَسَنَ الصُّحْبَةِ وَالْعِشْرَةِ. وَفِيهَا اجْتَمَعَ بِبَغْدَادَ رَجُلَانِ أَعْمَيَانِ عَلَى رَجُلٍ أَعْمَى أَيْضًا، وَقَتَلَاهُ بِمَسْجِدٍ طَمَعًا فِي أَنْ يَأْخُذَا مِنْهُ شَيْئًا، فَلَمْ يَجِدَا مَعَهُ مَا يَأْخُذَانِهِ، وَأَدْرَكَهُمَا الصَّبَاحُ، فَهَرَبَا مِنَ الْخَوْفِ يُرِيدَانِ الْمَوْصِلَ، وَرُؤِيَ الرَّجُلُ مَقْتُولًا، وَلَمْ يُعْلَمْ قَاتِلُهُ، فَاتُّفِقَ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ الشِّحْنَةِ اجْتَازَ مِنَ الْحَرِيمِ فِي خُصُومَةٍ جَرَتْ، فَرَأَى الرَّجُلَيْنِ الضَّرِيرَيْنِ، فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَتَلُوا الْأَعْمَى يَقُولُهُ مَزْحًا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هَذَا وَاللَّهِ قَتَلَهُ، فَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ أَنْتَ قَتَلْتَهُ، فَأُخِذَا إِلَى صَاحِبِ الْبَابِ، فَأَقَرَّا فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا، وَصُلِبَ الْآخَرُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ الَّذِي قَتَلَا فِيهِ الرَّجُلَ.

ثم دخلت سنة اثنتين وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّمِائَة] 602 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِهَرَاةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، ثَارَ الْعَامَّةُ بِهَرَاةَ، وَجَرَتْ فِيهِ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّوقَيْنِ: الْحَدَّادِينَ وَالصَّفَّارِينَ، قُتِلَ فِيهَا جَمَاعَةٌ، وَنُهِبَتِ الْأَمْوَالُ وَخُرِّبَتِ الدِّيَارُ، فَخَرَجَ أَمِيرُ الْبَلَدِ لِيَكُفَّهُمْ، فَضَرَبَهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ بِحَجَرٍ نَالَهُ مِنْهُ أَلَمٌ شَدِيدٌ، وَاجْتَمَعَ الْغَوْغَاءُ عَلَيْهِ، فَرُفِعَ إِلَى الْقَصْرِ الْفَيْرُوزِيِّ، وَاخْتَفَى أَيَّامًا إِلَى أَنْ سَكَنَتِ الْفِتْنَةُ ثُمَّ ظَهَرَ. ذِكْرُ قِتَالِ شِهَابِ الدِّينِ الْغُورِيِّ بَنِي كَوْكَرَ قَدْ ذَكَرْنَا انْهِزَامَ شِهَابِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ سَامَ الْغُورِيِّ صَاحِبِ غَزْنَةَ مِنَ الْخَطَا الْكُفَّارِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ ظَهَرَ بِبِلَادِهِ وَأَنَّهُ عُدِمَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ وَلَمْ يَقِفْ أَصْحَابُهُ لَهُ عَلَى خَبَرٍ، فَلَمَّا اشْتُهِرَ هَذَا الْخَبَرُ ثَارَ الْمُفْسِدُونَ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ، وَكَانَ مِمَّنْ أَفْسَدَ دَانْيَالُ، صَاحِبُ جَبَلِ الْجُودِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَتَابَعَ بَنِي كَوْكَرَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْخَارِجِينَ عَلَيْهِ بَنُو كَوْكَرَ، وَمَسَاكِنُهُمْ فِي جِبَالٍ بَيْنَ لَهَاوُورَ وَالْمُولِتَانِ حَصِينَةٌ مَنِيعَةٌ، وَكَانُوا قَدْ أَطَاعُوا شِهَابَ الدِّينِ، وَحَمَلُوا لَهُ الْخَرَاجَ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ خَبَرُ عُدْمِهِ ثَارُوا فِيمَنْ مَعَهُمْ مِنْ قَبَائِلِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ، وَأَطَاعَهُمْ صَاحِبُ جَبَلِ الْجُودِيِّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْقَاطِنِينَ بِتِلْكَ الْجِبَالِ، وَمَنَعُوا الطَّرِيقَ مِنْ لَهَاوُورَ وَغَيْرِهَا إِلَى غَزْنَةَ. فَلَمَّا فَرَغَ شِهَابُ الدِّينِ مِنْ قَتْلِ مَمْلُوكِهِ أَيْبَكَ بَاكَ - وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ - أَرْسَلَ إِلَى نَائِبِهِ بِلَهَاوُورَ وَالْمُولِتَانِ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ يَأْمُرُهُ بِحَمْلِ الْمَالِ لِسَنَةِ سِتِّمِائَةٍ، وَسَنَةِ

إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ، لِيَتَجَهَّزَ بِهِ لِحَرْبِ الْخَطَا، فَأَجَابَ أَنَّ أَوْلَادَ كَوْكَرَ قَدْ قَطَعُوا الطَّرِيقَ، وَلَا يُمْكِنُهُ إِرْسَالُ الْمَالِ، وَحَضَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ التُّجَّارِ، وَذَكَرُوا أَنَّ قَفَلًا كَبِيرًا أَخَذَهُ أَوْلَادُ كَوْكَرَ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَأَمَرَ شِهَابُ الدِّينِ مَمْلُوكَهُ أَيْبَكَ - مُقَدَّمَ عَسَاكِرِ الْهِنْدِ - أَنْ يُرَاسِلَ بَنِي كَوْكَرَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ وَيَتَهَدَّدُهُمْ إِنْ لَمْ يُجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ كَوْكَرَ: لِأَيِّ مَعْنًى لَمْ يُرْسِلِ السُّلْطَانُ إِلَيْنَا رَسُولًا؟ فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ: وَمَا قَدْرُكُمْ أَنْتُمْ حَتَّى يُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا مَمْلُوكُهُ يُبَصِّرُكُمْ رُشْدَكُمْ، وَيُهَدِّدُكُمْ. فَقَالَ ابْنُ كَوْكَرَ: لَوْ كَانَ شِهَابُ الدِّينِ حَيًّا لَرَاسَلَنَا، وَقَدْ كُنَّا نَدْفَعُ الْأَمْوَالَ إِلَيْهِ، فَحَيْثُ عُدِمَ فَقُلْ لِأَيْبَكَ يَتْرُكُ لَنَا لَهَاوُورَ وَمَا وَالَاهَا، وَفَرْشَابُورَ، وَنَحْنُ نُصَالِحُهُ. فَقَالَ الرَّسُولُ: أَنْفِذْ أَنْتَ جَاسُوسًا تَثِقُ بِهِ فَيَأْتِيكَ بِخَبَرِ شِهَابِ الدِّينِ مِنْ فَرْشَابُورَ، فَلَمْ يُصْغِ إِلَى قَوْلِهِ، فَرَدَّهُ، فَعَادَ وَأَخْبَرَ بِمَا سَمِعَ وَرَأَى، فَأَمَرَ شِهَابُ الدِّينِ مَمْلُوكَهُ قُطْبَ الدِّينِ أَيْبَكَ بِالْعَوْدِ إِلَى بِلَادِهِ، وَجَمْعِ الْعَسَاكِرِ، وَقِتَالِ بَنِي كَوْكَرَ، فَعَادَ إِلَى دَهْلِي، وَأَمَرَ عَسَاكِرَهُ بِالِاسْتِعْدَادِ، فَأَقَامَ شِهَابُ الدِّينِ فِي فَرْشَابُورَ إِلَى نِصْفِ شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَى غَزْنَةَ فَوَصَلَهَا أَوَّلَ رَمَضَانَ، وَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ فِي الْعَسَاكِرِ بِالتَّجَهُّزِ لِقِتَالِ الْخَطَا، وَأَنَّ الْمَسِيرَ يَكُونُ أَوَّلَ شَوَّالٍ، فَتَجَهَّزُوا لِذَلِكَ. فَاتُّفِقَ أَنَّ الشِّكَايَاتِ كَثُرَتْ مِنْ بَنِي كَوْكَرَ وَمَا يَتَعَهَّدُونَهُ مِنْ إِخَافَةِ السُّبُلِ وَأَنَّهُمْ قَدْ أَنْفَذُوا شِحْنَةً إِلَى الْبِلَادِ، وَوَافَقَهُمْ أَكْثَرُ الْهُنُودِ، وَخَرَجُوا مِنْ طَاعَةِ أَمِيرِ لَهَاوُورَ وَالْمُولِتَانِ وَغَيْرِهِمَا. وَوَصَلَ كِتَابُ الْوَالِي يَذْكُرُ مَا قَدْ دَهَمَهُ مِنْهُمْ، وَأَنَّ عُمَّالَهُ قَدْ أَخْرَجَهُمْ بَنُو كَوْكَرَ، وَجَبُوا الْخَرَاجَ، وَأَنَّ ابْنَ كَوْكَرَ مُقَدَّمَهُمْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ لِيَتْرُكَ لَهُ لَهَاوُورَ وَالْبِلَادَ وَالْفِيَلَةَ وَيَقُولُ أَنْ يَحْضُرَ شِهَابٌ وَإِلَّا قَتَلَهُ، وَيَقُولُ: إِنْ لَمْ يَحْضُرِ السُّلْطَانُ شِهَابُ الدِّينِ بِنَفْسِهِ وَمَعَهُ الْعَسَاكِرُ وَإِلَّا خَرَجَتِ الْبِلَادُ مِنْ يَدِهِ. وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِكَثْرَةِ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْجُمُوعِ، وَمَا لَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ، فَتَغَيَّرَ عَزْمُ شِهَابِ الدِّينِ حِينَئِذٍ عَنْ غَزْوِ الْخَطَا، وَأَخْرَجَ خِيَامَهُ وَسَارَ عَنْ غَزْنَةَ خَامِسَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ، فَلَمَّا سَارَ وَأَبْعَدَ انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُ عَنِ النَّاسِ بِغَزْنَةَ وَفَرْشَابُورَ، حَتَّى أَرْجَفَ النَّاسُ بِانْهِزَامِهِ.

وَكَانَ شِهَابُ الدِّينِ لَمَّا سَارَ عَنْ فَرْشَابُورَ أَتَاهُ خَبَرُ ابْنِ كَوْكَرَ أَنَّهُ نَازِلٌ فِي عَسَاكِرِهِ مَا بَيْنَ جَيْلَمَ وَسُودَرَةَ، فَجَدَّ السَّيْرَ إِلَيْهِ، فَدَهَمَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يُقَدَّرُ وُصُولُهُ فِيهِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا يَوْمَ الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى الْعَصْرِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي الْقِتَالِ أَقْبَلَ قُطْبُ الدِّينِ أَيْبَكْ فِي عَسَاكِرِهِ، فَنَادَوْا بِشِعَارِ الْإِسْلَامِ، وَحَمَلُوا حَمْلَةً صَادِقَةً، فَانْهَزَمَ الْكَوْكَرِيَّةُ وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمْ وَقُتِلُوا بِكُلِّ مَكَانٍ، وَقَصَدُوا أَجَمَةً هُنَاكَ، فَاجْتَمَعُوا بِهَا، وَأَضْرَمُوا نَارًا، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: لَا تَتْرُكِ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُونَكَ، ثُمَّ يُلْقِي نَفْسَهُ فِي النَّارِ فَيُلْقِي صَاحِبُهُ نَفْسَهُ بَعْدَهُ فِيهَا، فَعَمَّهُمُ الْفَنَاءُ قَتْلًا وَحَرْقًا، {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 41] . وَكَانَ أَهْلُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ مَعَهُمْ لَمْ يُفَارِقُوهَا، فَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، حَتَّى إِنَّ الْمَمَالِيكَ كَانُوا يُبَاعُونَ كُلُّ خَمْسَةٍ بِدِينَارٍ رُكْنِيٍّ وَنَحْوِهِ، وَهَرَبَ ابْنُ كَوْكَرَ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ إِخْوَتُهُ وَأَهْلُهُ. وَأَمَّا ابْنُ دَانْيَالَ، صَاحِبُ جَبَلِ الْجُودِيِّ، فَإِنَّهُ جَاءَ لَيْلًا إِلَى قُطْبِ الدِّينِ أَيْبَكْ، فَاسْتَجَارَ بِهِ، فَأَجَارَهُ، وَشَفَعَ فِيهِ إِلَى شِهَابِ الدِّينِ، فَشَفَّعَهُ فِيهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ قَلْعَةَ الْجُودِيِّ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُمْ سَارَ نَحْوَ لَهَاوُورَ لِيُأَمِّنَ أَهْلَهَا وَيُسَكِّنَ رَوْعَهُمْ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالرُّجُوعِ إِلَى بِلَادِهِمْ وَالتَّجَهُّزِ لِحَرْبِ بِلَادِ الْخَطَا، وَأَقَامَ شِهَابُ الدِّينِ بِلَهَاوُورَ إِلَى سَادِسَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَعَادَ نَحْوَ غَزْنَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَهَاءِ الدِّينِ سَامَ، صَاحِبِ بَامِيَانَ، لِيَتَجَهَّزَ لِلْمَسِيرِ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، وَيَعْمَلَ جِسْرًا لِيَعْبُرَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ عَلَيْهِ. ذِكْرُ الظَّفَرِ بِالتِّيرَاهِيَّةِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَارِجِينَ الْمُفْسِدِينَ أَيْضًا عَلَى شِهَابِ الدِّينِ التِّيرَاهِيَّةُ، فَإِنَّهُمْ خَرَجُوا إِلَى حُدُودِ سُورَانَ وَمَكْرَهَانَ لِلْغَارَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ نَائِبُ تَاجِ الدِّينِ أَلْدِزَ، مَمْلُوكُ شِهَابِ الدِّينِ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَيُعْرَفُ بِالْحَلْحِي، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَحَمَلَ رُءُوسَ الْمَعْرُوفِينَ فَعُلِّقَتْ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ. وَكَانَتْ فِتْنَةُ هَؤُلَاءِ التِّيرَاهِيَّةِ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ عَظِيمَةً قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَكَانُوا إِذَا

وَقَعَ بِأَيْدِيهِمْ أَسِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَذَّبُوهُ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَكَانَ أَهْلُ فَرْشَابُورَ مَعَهُمْ فِي ضُرٍّ شَدِيدٍ لِأَنَّهُمْ يُحِيطُونَ بِتِلْكَ الْوِلَايَةِ مِنْ جَوَانِبِهَا، لَا سِيَّمَا آخِرَ أَيَّامِ بَيْتِ سُبُكْتِكِينَ، فَإِنَّ الْمُلُوكَ ضَعُفُوا وَقَوِيَ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا يُغِيرُونَ عَلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ، وَكَانُوا كُفَّارًا لَا دِينَ لَهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَلَا مَذْهَبَ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا وُلِدَ لِأَحَدِهِمْ بِنْتٌ وَقَفَ عَلَى بَابِ دَارِهِ وَنَادَى: مَنْ يَتَزَوَّجُ هَذِهِ؟ مَنْ يَقْبَلُهَا؟ فَإِنْ أَجَابَهُ أَحَدٌ تَرَكَهَا وَإِلَّا قَتَلَهَا، وَيَكُونُ لِلْمَرْأَةِ عِدَّةُ أَزْوَاجٍ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمْ عِنْدَهَا جَعَلَ مَدَاسَهُ عَلَى الْبَابِ، فَإِذَا جَاءَ غَيْرُهُ مِنْ أَزْوَاجِهَا وَرَأَى مَدَاسَهُ عَادَ. وَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَسْلَمَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ آخِرَ أَيَّامِ شِهَابِ الدِّينِ الْغُورِيِّ، فَكَفُّوا عَنِ الْبِلَادِ. وَسَبَبُ إِسْلَامِهِمْ أَنَّهُمْ أَسَرُوا إِنْسَانًا مِنْ فَرْشَابُورَ، فَعَذَّبُوهُ فَلَمْ يَمُتْ، وَدَامَتْ أَيَّامُهُ عِنْدَهُمْ، فَأَحْضَرَهُ يَوْمًا مُقَدَّمُهُمْ وَسَأَلَهُ عَنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ: لَوْ حَضَرْتُ أَنَا عِنْدَ شِهَابِ الدِّينِ مَاذَا كَانَ يُعْطِينِي، فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ: كَانَ يُعْطِيكَ الْأَمْوَالَ وَالْأَقْطَاعَ وَيَرُدُّ إِلَيْكَ حُكْمَ جَمِيعِ الْبِلَادِ الَّتِي لَكُمْ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى شِهَابِ الدِّينِ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَأَعَادَهُ وَمَعَهُ رَسُولٌ بِالْخِلَعِ وَالْمَنْشُورِ بِالْأَقْطَاعِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ سَارَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ إِلَى شِهَابِ الدِّينِ، فَأَسْلَمُوا وَعَادُوا، وَكَانَ لِلنَّاسِ بِهِمْ رَاحَةٌ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ وَاخْتَلَفَتِ الْبِلَادُ نَزَلَ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْجِبَالِ، فَلَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ بِهِمْ قُدْرَةٌ لِيَمْنَعُوهُمْ، فَأَفْسَدُوا وَعَمِلُوا مَا ذَكَرْنَاهُ. ذِكْرُ قَتْلِ شِهَابِ الدِّينِ الْغُورِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَعْبَانَ قُتِلَ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ سَامَ الْغُورِيُّ مَلِكُ غَزْنَةَ وَبَعْضِ خُرَاسَانَ بَعْدَ عَوْدِهِ مِنْ لَهَاوُورَ، بِمَنْزِلٍ يُقَالُ لَهُ دُمَيْلٌ، وَقْتَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْكُفَّارِ الْكَوْكَرِيَّةِ لَزِمُوا عَسْكَرَهُ عَازِمِينَ عَلَى قَتْلِهِ، لِمَا فَعَلَ بِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالسَّبْيِ، فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ تَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَكَانَ قَدْ

عَادَ وَمَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحَدُّ، فَإِنَّهُ كَانَ عَازِمًا عَلَى قَصْدِ الْخَطَا، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَتَفْرِيقِ الْمَالِ فِيهِمْ، وَقَدْ أَمَرَ عَسَاكِرَهُ بِالْهِنْدِ بِاللَّحَاقِ بِهِ، وَأَمَرَ عَسَاكِرَهُ الْخُرَاسَانِيَّةَ بِالتَّجَهُّزِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ، فَأَتَاهُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبْ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ مَا جَمَعَ مِنْ مَالٍ وَسِلَاحٍ وَرِجَالٍ، لَكِنْ كَانَ عَلَى نِيَّةٍ صَالِحَةٍ مِنْ قِتَالِ الْكُفَّارِ. فَلَمَّا تَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَبَقِيَ وَحْدَهُ فِي خَرْكَاه، ثَارَ أُولَئِكَ النَّفَرُ، فَقَتَلَ أَحَدُهُمْ بَعْضَ الْحُرَّاسِ بِبَابِ سُرَادِقِ شِهَابِ الدِّينِ، فَلَمَّا قَتَلُوهُ صَاحَ، فَثَارَ أَصْحَابُهُ مِنْ حَوْلِ السُّرَادِقِ لِيَنْظُرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ، فَأَخْلَوْا مَوَاقِفَهُمْ، وَكَثُرَ الزِّحَامُ، فَاغْتَنَمَ الْكَوْكَرِيَّةُ غَفْلَتَهُمْ عَنِ الْحِفْظِ، فَدَخَلُوا عَلَى شِهَابِ الدِّينِ وَهُوَ فِي الْخَرْكَاه، فَضَرَبُوهُ بِالسَّكَاكِينِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ ضَرْبَةً فَقَتَلُوهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، فَوَجَدُوهُ عَلَى مُصَلَّاهُ قَتِيلًا وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَخَذُوا أُولَئِكَ الْكُفَّارَ فَقَتَلُوهُمْ، وَكَانَ فِيهِمُ اثْنَانِ مَخْتُونَانِ. وَقِيلَ إِنَّمَا قَتَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ لِأَنَّهُمْ خَافُوا خُرُوجَهُ إِلَى خُرَاسَانَ، وَكَانَ لَهُ عَسْكَرٌ يُحَاصِرُ بَعْضَ قِلَاعِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. فَلَمَّا قُتِلَ اجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ عِنْدَ وَزِيرِهِ مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ بْنِ خُوجَا سِجِسْتَانَ، فَتَحَالَفُوا عَلَى حِفْظِ الْخِزَانَةِ وَالْمُلْكِ، وَلُزُومِ السَّكِينَةِ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مَنْ يَتَوَلَّاهُ، وَأَجْلَسُوا شِهَابَ الدِّينِ وَخَيَّطُوا جِرَاحَهُ وَجَعَلُوهُ فِي الْمِحَفَّةِ وَسَارُوا بِهِ، وَرَتَّبَ الْوَزِيرُ الْأُمُورَ، وَسَكَّنَ النَّاسَ بِحَيْثُ لَمْ تُرَقْ مِحْجَمَةُ دَمٍ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي أَحَدٍ شَيْءٌ. وَكَانَتِ الْمِحَفَّةُ مَحْفُوفَةً بِالْحَشَمِ، وَالْوَزِيرِ، وَالْعَسْكَرِ، وَالشَّمِسَةِ، عَلَى حَالِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَتَقَدَّمَ الْوَزِيرُ إِلَى أَمِيرِ دَاذَ الْعَسْكَرِ بِإِقَامَةِ السِّيَاسَةِ، وَضَبْطِ الْعَسْكَرِ، وَكَانَتِ الْخِزَانَةُ الَّتِي فِي صُحْبَتِهِ أَلْفَيْ حِمْلٍ وَمِائَتَيْ حِمْلٍ، وَشَغِبَ الْغِلْمَانُ الْأَتْرَاكُ الصِّغَارُ لِيَنْهَبُوا الْمَالَ، فَمَنَعَهُمُ الْوَزِيرُ وَالْأُمَرَاءُ الْكِبَارُ مِنَ الْمَمَالِيكِ، وَهُوَ صُونَجُ صِهْرُ أَلْدِزَ وَغَيْرُهُ، وَأَمَرُوا كُلَّ مَنْ لَهُ إِقْطَاعٌ عِنْدَ قُطْبِ الدِّينِ أَيْبَكَ مَمْلُوكِ شِهَابِ الدِّينِ بِبِلَادِ الْهِنْدِ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ، وَفَرَّقُوا فِيهِمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً فَعَادُوا.

وَسَارَ الْوَزِيرُ وَمَعَهُ مَنْ لَهُ إِقْطَاعٌ وَأَهْلٌ بِغَزْنَةَ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَ غِيَاثِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ غِيَاثِ الدِّينِ أَخِي شِهَابِ الدِّينِ الْأَكْبَرِ، وَبَيْنَ بَهَاءِ الدِّينِ صَاحِبِ بَامِيَانَ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ شِهَابِ الدِّينِ، حُرُوبٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ مَيْلُ الْوَزِيرِ وَالْأَتْرَاكِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ مَحْمُودٍ، وَكَانَ الْأُمَرَاءُ الْغُورِيَّةُ يَمِيلُونَ إِلَى بَهَاءِ الدِّينِ سَامَ، صَاحِبِ بَامِيَانَ، فَأَرْسَلَ كُلُّ طَائِفَةٍ إِلَى مَنْ يَمِيلُونَ إِلَيْهِ يُعَرِّفُونَهُ قَتْلَ شِهَابِ الدِّينِ وَجَلِيَّةَ الْأُمُورِ. وَجَاءَ بَعْضُ الْمُفْسِدِينَ مِنْ أَهْلِ غَزْنَةَ، فَقَالَ لِلْمَمَالِيكِ: إِنَّ فَخْرَ الدِّينِ الرَّازِيَّ قَتَلَ مَوْلَاكُمْ لِأَنَّهُ هُوَ أَوْصَلَ مَنْ قَتَلَهُ، بِوَضْعٍ مِنْ خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَثَارُوا بِهِ لِيَقْتُلُوهُ، فَهَرَبَ، وَقَصَدَ مُؤَيَّدَ الْمُلْكِ الْوَزِيرَ، فَأَعْلَمَهُ الْحَالَ فَسَيَّرَهُ سِرًّا إِلَى مَأْمَنِهِ. وَلَمَّا وَصَلَ الْعَسْكَرُ وَالْوَزِيرُ إِلَى فَرْشَابُورَ اخْتَلَفُوا، فَالْغُورِيَّةُ يَقُولُونَ نَسِيرُ إِلَى غَزْنَةَ عَلَى طَرِيقِ مَكْرَهَانَ، وَكَانَ غَرَضُهُمْ أَنْ يَقْرُبُوا مِنْ بَامِيَانَ لِيَخْرُجَ صَاحِبُهَا بَهَاءُ الدِّينِ سَامُ فَيَمْلِكُ الْخِزَانَةَ، وَقَالَ الْأَتْرَاكُ بَلْ نَسِيرُ عَلَى طَرِيقِ سُورَانَ، وَكَانَ مَقْصُودُهُمْ أَنْ يَكُونُوا قَرِيبًا مِنْ تَاجِ الدِّينِ أَلْدِزَ مَمْلُوكِ شِهَابِ الدِّينِ، وَهُوَ صَاحِبُ كَرْمَانَ - مَدِينَةٍ بَيْنَ غَزْنَةَ وَلَهَاوُورَ، وَلَيْسَتْ بِكَرْمَانَ الَّتِي تُجَاوِرُ بِلَادَ فَارِسَ - لِيَحْفَظَ أَلْدِزُ الْخِزَانَةَ، وَيُرْسِلُوا مِنْ كَرْمَانَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ يَسْتَدْعُونَهُ إِلَى غَزْنَةَ وَيُمَلِّكُونَهُ. وَكَثُرَ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ، حَتَّى كَادُوا يَقْتَتِلُونَ، فَتَوَصَّلَ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ مَعَ الْغُورِيَّةِ حَتَّى أَذِنُوا لَهُ وَلِلْأَتْرَاكِ بِأَخْذِ الْخِزَانَةِ وَالْمِحَفَّةِ الَّتِي فِيهَا شِهَابُ الدِّينِ وَالْمَسِيرِ عَلَى كَرْمَانَ، وَسَارُوا هُمْ عَلَى طَرِيقِ مَكْرَهَانَ، وَلَقِيَ الْوَزِيرُ وَمَنْ مَعَهُ مَشَقَّةً عَظِيمَةً، وَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ فِي تِلْكَ الْجِبَالِ التِّيرَاهِيَّةُ وَأَوْغَانُ وَغَيْرُهُمْ، فَنَالُوا مِنْ أَطْرَافِ الْعَسْكَرِ إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَى كَرْمَانَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ تَاجُ الدِّينِ أَلْدِزُ يَسْتَقْبِلُهُمْ، فَلَمَّا عَايَنَ الْمِحَفَّةَ، وَفِيهَا شِهَابُ الدِّينِ مَيِّتًا، نَزَلَ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ عَلَى عَادَتِهِ فِي حَيَاةِ شِهَابِ الدِّينِ، وَكَشَفَ عَنْهُ، فَلَمَّا رَآهُ مَيِّتًا مَزَّقَ ثِيَابَهُ وَصَاحَ وَبَكَى فَأَبْكَى النَّاسَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ أَلْدِزُ كَانَ أَلْدِزُ مِنْ أَوَّلِ مَمَالِيكِ شِهَابِ الدِّينِ وَأَكْبَرِهِمْ وَأَقْدَمِهِمْ، وَأَكْبَرِهِمْ مَحَلًّا

عِنْدَهُ، بِحَيْثُ إِنَّ أَهْلَ شِهَابِ الدِّينِ كَانُوا يَخْدِمُونَهُ وَيَقْصِدُونَهُ فِي أَشْغَالِهِمْ، فَلَمَّا قُتِلَ صَاحِبُهُ طَمِعَ أَنْ يَمْلِكَ غَزْنَةَ، فَأَوَّلُ مَا عَمِلَ أَنَّهُ سَأَلَ الْوَزِيرَ مُؤَيَّدَ الْمُلْكِ عَنِ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ وَبِالْبَاقِي مَعَهُ، فَأَنْكَرَ الْحَالَ، وَأَسَاءَ أَدَبَهُ فِي الْجَوَابِ، وَقَالَ: إِنَّ الْغُورِيَّةَ قَدْ كَاتَبُوا بَهَاءَ الدِّينِ سَامَ صَاحِبَ بَامِيَانَ لِيُمَلِّكُوهُ غَزْنَةَ، وَقَدْ كَتَبَ إِلَيَّ غِيَاثُ الدِّينِ مَحْمُودٌ، وَهُوَ مَوْلَايَ، يَأْمُرُنِي أَنَّنِي لَا أَتْرُكُ أَحَدًا يَقْرَبُ مِنْ غَزْنَةَ، وَقَدْ جَعَلَنِي نَائِبَهُ فِيهَا وَفِي سَائِرِ الْوِلَايَةِ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا لِأَنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِأَمْرِ خُرَاسَانَ. وَقَالَ لِلْوَزِيرِ: إِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَيْضًا أَنْ أَتَسَلَّمَ الْخِزَانَةَ مِنْكَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِامْتِنَاعِ لِمَيْلِ الْأَتْرَاكِ إِلَيْهِ، فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، وَسَارَ بِالْمِحَفَّةِ وَالْمَمَالِيكِ وَالْوَزِيرِ إِلَى غَزْنَةَ، فَدَفَنَ شِهَابَ الدِّينِ فِي التُّرْبَةِ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا وَدَفَنَ ابْنَتَهُ فِيهَا، وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَيْهَا فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ. ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَةِ شِهَابِ الدِّينِ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شُجَاعًا مِقْدَامًا كَثِيرَ الْغَزْوِ إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ، عَادِلًا فِي رَعِيَّتِهِ، حَسَنَ السِّيرَةِ فِيهِمْ، حَاكِمًا بَيْنَهُمْ بِمَا يُوجِبُهُ الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ، وَكَانَ الْقَاضِي بِغَزْنَةَ يَحْضُرُ دَارَهُ كُلَّ أُسْبُوعٍ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَالِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءَ، وَيَحْضُرُ مَعَهُ أَمِيرُ حَاجِبَ، وَأَمِيرُ دَاذَ، وَصَاحِبُ الْبَرِيدِ. فَيَحْكُمُ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ السُّلْطَانِ يُنَفِّذُونَ أَحْكَامَهُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ، وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُ الْخُصُومِ الْحُضُورَ عِنْدَهُ أَحْضَرَهُ وَسَمِعَ كَلَامَهُ، وَأَمْضَى عَلَيْهِ أَوْ لَهُ، حُكْمَ الشَّرْعِ، فَكَانَتِ الْأُمُورُ جَارِيَةً عَلَى أَحْسَنِ نِظَامٍ. حُكِيَ لِي عَنْهُ أَنَّهُ لَقِيَهُ صَبِيُّ عَلَوِيٌّ عُمْرُهُ نَحْوُ خَمْسِ سِنِينَ فَدَعَا لَهُ، وَقَالَ: لِي خَمْسَةُ أَيَّامٍ مَا أَكَلْتُ شَيْئًا، فَعَادَ مِنَ الرُّكُوبِ لِوَقْتِهِ، وَمَعَهُ الصَّبِيُّ، فَنَزَلَ فِي دَارِهِ وَأَطْعَمَ الْعَلَوِيَّ أَطْيَبَ الطَّعَامِ بِحَضْرَتِهِ، ثُمَّ أَعْطَاهُ مَالًا بَعْدَ أَنْ أَحْضَرَ أَبَاهُ وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ، وَفَرَّقَ فِي سَائِرِ الْعَلَوِيِّينَ مَالًا عَظِيمًا. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّ تَاجِرًا مِنْ مَرَاغَةَ كَانَ بِغَزْنَةَ، وَلَهُ عَلَى بَعْضِ مَمَالِيكِ شِهَابِ الدِّينِ دَيْنٌ مَبْلَغُهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَقُتِلَ الْمَمْلُوكُ فِي حَرْبٍ كَانَتْ لَهُ، فَرَفَعَ التَّاجِرُ حَالَهُ،

فَأَمَرَ بِأَنْ يُقَرَّ إِقْطَاعُ الْمَمْلُوكِ بِيَدِ التَّاجِرِ إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ فَفُعِلَ ذَلِكَ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُحْضِرُ الْعُلَمَاءَ بِحَضْرَتِهِ، فَيَتَكَلَّمُونَ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ يَعِظُ فِي دَارِهِ، فَحَضَرَ يَوْمًا فَوَعَظَ، وَقَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: يَا سُلْطَانُ، لَا سُلْطَانُكَ يَبْقَى وَلَا تَلْبِيسُ الرَّازِيِّ، وَإِنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ! فَبَكَى شِهَابُ الدِّينِ حَتَّى رَحِمَهُ النَّاسُ لِكَثْرَةِ بُكَائِهِ. وَكَانَ رَقِيقَ الْقَلْبِ، وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ مِثْلَ أَخِيهِ. قِيلَ: وَكَانَ حَنَفِيًّا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ مَسِيرِ بَهَاءِ الدِّينِ سَامَ إِلَى غَزْنَةَ وَمَوْتِهِ فَلَمَّا مَلَكَ غِيَاثُ الدِّينِ بَامِيَانَ أَقْطَعَهَا ابْنَ عَمِّهِ شَمْسَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْعُودٍ، وَزَوَّجَهُ أُخْتَهُ، فَأَتَاهُ مِنْهَا وَلَدٌ اسْمُهُ سَامُ، فَبَقِيَ فِيهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْأَكْبَرُ، وَاسْمُهُ عَبَّاسٌ، وَأُمُّهُ تُرْكِيَّةٌ، فَغَضِبَ غِيَاثُ الدِّينِ وَأَخُوهُ شِهَابُ الدِّينِ مِنْ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَا مَنْ أَحْضَرَ عَبَّاسًا عِنْدَهُمَا، فَأَخَذَا الْمُلْكَ مِنْهُ، وَجَعَلَا ابْنَ أُخْتِهِمَا سَامَ مَلِكًا عَلَى بَامِيَانَ، وَتَلَقَّبَ بَهَاءَ الدِّينِ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ وَمَحَلُّهُ، وَجَمَعَ الْأَمْوَالَ لِيَمْلِكَ الْبِلَادَ بَعْدَ خَالَيْهِ، وَأَحَبَّهُ الْغُورِيَّةُ حُبًّا شَدِيدًا وَعَظَّمُوهُ. فَلَمَّا قُتِلَ خَالُهُ شِهَابُ الدِّينِ سَارَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ الْغُورِيَّةِ إِلَى بَهَاءِ الدِّينِ سَامَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُهُ كَتَبَ إِلَى مَنْ بِغَزْنَةَ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْغُورِيَّةِ يَأْمُرُهُمْ بِحِفْظِ الْبَلَدِ، وَيُعَرِّفُهُمْ أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ سَائِرٌ إِلَيْهِمْ. وَكَانَ وَالِي قَلْعَةِ غَزْنَةَ، وَيُعْرَفُ بِأَمِيرِ دَاذَ، قَدْ أَرْسَلَ وَلَدَهُ إِلَى بَهَاءِ الدِّينِ سَامَ يَسْتَدْعِيهِ إِلَى غَزْنَةَ، فَأَعَادَ جَوَابَهُ أَنَّهُ تَجَهَّزَ، وَيَصِلُ إِلَيْهِ، وَيَعِدُهُ الْجَمِيلَ وَالْإِحْسَانَ. وَكَتَبَ بَهَاءُ الدِّينِ إِلَى عَلَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ مَلِكِ الْغَوْرِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ، وَإِلَى غِيَاثِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ غِيَاثِ الدِّينِ، وَإِلَى ابْنِ خَرْمِيلَ وَالِي هَرَاةَ، يَأْمُرُهُمَا بِإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ لَهُ، وَحِفْظِ مَا بِأَيْدِيهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَلَمْ يَظُنَّ أَنَّ أَحَدًا يُخَالِفُهُ، فَأَقَامَ أَهْلُ غَزْنَةَ يَنْتَظِرُونَ وُصُولَهُ، أَوْ وُصُولَ غِيَاثِ الدِّينِ مَحْمُودٍ، وَالْأَتْرَاكِ وَيَقُولُونَ: لَا نَتْرُكُ غَيْرَ ابْنِ سَيِّدِنَا - يَعْنُونَ غِيَاثَ الدِّينِ - يَدْخُلُ غَزْنَةَ. وَالْغُورِيَّةُ يَتَظَاهَرُونَ بِالْمَيْلِ إِلَى بَهَاءِ الدِّينِ وَمَنْعِ غَيْرِهِ، فَسَارَ مِنْ بَامِيَانَ إِلَى غَزْنَةَ

فِي عَسَاكِرِهِ، وَمَعَهُ وَلَدَاهُ عَلَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ وَجَلَالُ الدِّينِ، فَلَمَّا سَارَ عَنْ بَامِيَانَ مَرْحَلَتَيْنِ وَجَدَ صُدَاعًا، فَنَزَلَ يَسْتَرِيحُ، يَنْتَظِرُ خِفَّتَهُ عَنْهُ، فَازْدَادَ الصُّدَاعُ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، فَأَيْقَنَ بِالْمَوْتِ، فَأَحْضَرَ وَلَدَيْهِ، وَعَهِدَ إِلَى عَلَاءِ الدِّينِ، وَأَمَرَهُمَا بِقَصْدِ غَزْنَةَ، وَحِفْظِ مَشَايِخِ الْغُورِيَّةِ، وَضَبْطِ الْمُلْكِ، وَبِالرِّفْقِ بِالرَّعَايَا، وَبَذْلِ الْأَمْوَالِ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُصَالِحَا غِيَاثَ الدِّينِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ خُرَاسَانُ وَبِلَادُ الْغَوْرِ، وَيَكُونُ لَهُمَا غَزْنَةُ وَبِلَادُ الْهِنْدِ. ذِكْرُ مُلْكِ عَلَاءِ الدِّينِ غَزْنَةَ وَأَخْذِهَا مِنْهُ لَمَّا فَرَغَ بَهَاءُ الدِّينِ مِنْ وَصِيَّتِهِ تُوُفِّيَ، فَسَارَ وَلَدَاهُ إِلَى غَزْنَةَ، فَخَرَجَ أُمَرَاءُ الْغُورِيَّةِ وَأَهْلُ الْبَلَدِ فَلَقَوْهُمَا، وَخَرَجَ الْأَتْرَاكُ مَعَهُمْ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُمْ، وَدَخَلُوا الْبَلَدَ وَمَلَّكُوهُ، وَنَزَلَ عَلَاءُ الدِّينِ وَجَلَالُ الدِّينِ دَارَ السَّلْطَنَةِ مُسْتَهَلَّ رَمَضَانَ، وَكَانُوا قَدْ وَصَلُوا فِي ضُرٍّ وَقِلَّةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَأَرَادَ الْأَتْرَاكُ مَنْعَهُمْ، فَنَهَاهُمْ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ وَزِيرُ شِهَابِ الدِّينِ لِقِلَّتِهِمْ، وَلِاشْتِغَالِ غِيَاثِ الدِّينِ بِابْنِ خَرْمِيلَ - وَالِي هَرَاةَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ - فَلَمْ يَرْجِعُوا عَنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّا بِالْقَلْعَةِ، وَنَزَلَا بِدَارِ السُّلْطَانِيَّةِ، رَاسَلَهُمَا الْأَتْرَاكُ بِأَنْ يَخْرُجَا مِنَ الدَّارِ وَإِلَّا قَاتَلُوهُمَا، فَفَرَّقَا فِيهِمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَاسْتَحْلَفَاهُمْ فَحَلَفُوا، وَاسْتَثْنَوْا غِيَاثَ الدِّينِ مَحْمُودًا، وَأَنْفَذَا خِلَعًا إِلَى تَاجِ الدِّينِ أَلْدِزَ - وَهُوَ بِإِقْطَاعِهِ - مَعَ رَسُولٍ، وَطَلَبَاهُ إِلَى طَاعَتِهِمَا، وَوَعَدَاهُ بِالْأَمْوَالِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْإِقْطَاعِ، وَإِمَارَةِ الْجَيْشِ، وَالْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الْمَمَالِكِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَلَقِيَهُ وَقَدْ سَارَ عَنْ كَرْمَانَ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ مِنَ التُّرْكِ وَالْخُلْجِ وَالْغُزِّ وَغَيْرِهِمْ يُرِيدُ غَزْنَةَ، فَأَبْلَغَهُ الرِّسَالَةَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمَا أَنْ يَعُودَا إِلَى بَامِيَانَ، وَفِيهَا كِفَايَةٌ، فَإِنِّي قَدْ أَمَرَنِي مَوْلَايَ غِيَاثُ الدِّينِ أَنْ أَسِيرَ إِلَى غَزْنَةَ وَأَمْنَعَهُمَا عَنْهَا، فَإِنْ عَادَا إِلَى بَلَدِهِمَا، وَإِلَّا فَعَلْتُ بِهِمَا وَبِمَنْ مَعَهُمَا مَا يَكْرَهُونَ. وَرَدَّ مَا مَعَهُمَا مِنَ الْهَدَايَا وَالْخِلَعِ، وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُ أَلْدِز بِهَذَا حِفْظَ بَيْتِ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا طَرِيقًا إِلَى مُلْكِ غَزْنَةَ لِنَفْسِهِ.

فَعَادَ الرَّسُولُ وَأَبْلَغَ عَلَاءَ الدِّينِ رِسَالَةَ أَلْدِزَ، فَأَرْسَلَ وَزِيرَهُ، وَكَانَ قَبْلَهُ وَزِيرَ أَبِيهِ، إِلَى بَامِيَانَ وَبَلْخَ وَتِرْمِذَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِهِمْ، لِيَجْمَعَ الْعَسَاكِرَ وَيَعُودَ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ أَلْدِزُ إِلَى الْأَتْرَاكِ الَّذِينَ بِغَزْنَةَ يُعَرِّفُهُمْ أَنَّ غِيَاثِ الدِّينِ أَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ غَزْنَةَ وَيُخْرِجَ عَلَاءَ الدِّينِ وَأَخَاهُ مِنْهَا، فَحَضَرُوا عِنْدَ ابْنِ وَزِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ، وَطَلَبُوا مِنْهُ سِلَاحًا، فَفَتَحَ خِزَانَةَ السِّلَاحِ، وَهَرَبَ ابْنُ الْوَزِيرِ إِلَى عَلَاءِ الدِّينِ وَقَالَ لَهُ: قَدْ كَانَ كَذَا وَكَذَا، فَلَمْ يَقْدِرْ [أَنْ] يَفْعَلَ شَيْئًا. وَسَمِعَ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ - وَزِيرُ شِهَابِ الدِّينِ - فَرَكِبَ وَأَنْكَرَ عَلَى الْخَازِنِ تَسْلِيمَ الْمَفَاتِيحِ، وَأَمَرَهُ فَاسْتَرَدَّ مَا نَهَبَهُ التُّرْكُ جَمِيعَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ مُطَاعًا فِيهِمْ. وَوَصَلَ أَلْدِزُ إِلَى غَزْنَةَ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ عَلَاءُ الدِّينِ جَمَاعَةً مِنَ الْغُورِيَّةِ وَمِنَ الْأَتْرَاكِ، وَفِيهِمْ صُونَجُ صِهْرُ أَلْدِزَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَيَنْتَظِرَ الْعَسْكَرَ مَعَ وَزِيرِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، وَسَيَّرَ الْعَسَاكِرَ، فَالْتَقَوْا خَامِسَ رَمَضَانَ، فَلَمَّا لَقَوْهُ خَدَمَهُ الْأَتْرَاكُ وَعَادُوا مَعَهُ عَلَى عَسْكَرِ عَلَاءِ الدِّينِ فَقَاتَلُوهُمْ فَهَزَمُوهُمْ وَأَسَرُوا مُقَدَّمَهُمْ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حِرْدَونَ، وَدَخَلَ عَسْكَرُ أَلْدِزَ الْمَدِينَةَ فَنَهَبُوا بُيُوتَ الْغُورِيَّةِ وَالْبَامَانِيَّةِ، وَحَصَرَ أَلْدِزُ الْقَلْعَةَ، فَخَرَجَ جَلَالُ الدِّينِ مِنْهَا فِي عِشْرِينَ فَارِسًا، وَسَارَ عَنْ غَزْنَةَ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ تَسْتَهْزِئُ بِهِ: إِلَى أَيْنَ تَمْضِي؟ خُذِ الْجِتْرَ وَالشَّمْسَةَ مَعَكَ! مَا أَقْبَحَ خُرُوجَ السَّلَاطِينِ هَكَذَا! فَقَالَ لَهَا: إِنَّكِ سَتَرَيْنَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَأَفْعَلُ بِكُمْ مِمَّا تُقِرُّونَ بِهِ بِالسَّلْطَنَةِ لِي. وَكَانَ قَدْ قَالَ لِأَخِيهِ: احْفَظِ الْقَلْعَةَ إِلَى أَنْ آتِيَكَ بِالْعَسَاكِرِ، فَبَقِيَ أَلْدِزُ يُحَاصِرُهَا وَأَرَادَ مَنْ مَعَ أَلْدِزُ نَهْبَ الْبَلَدِ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَأَرْسَلَ إِلَى عَلَاءِ الدِّينِ يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْقَلْعَةِ، وَيَتَهَدَّدُهُ إِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَ إِلَى مُفَارَقَتِهَا وَالْعَوْدِ إِلَى بَلَدِهِ، وَأَرْسَلَ مَنْ حَلَّفَ لَهُ أَلْدِزَ أَنْ لَا يُؤْذِيَهُ، وَلَا يَتَعَرَّضَ لَهُ، وَلَا لِأَحَدٍ مِمَّنْ يَحْلِفُ لَهُ. وَسَارَ عَنْ غَزْنَةَ، فَلَمَّا رَآهُ أَلْدِزُ وَقَدْ نَزَلَ مِنَ الْقَلْعَةِ عَدَلَ إِلَى تُرْبَةِ شِهَابِ الدِّينِ مَوْلَاهُ، وَنَزَلَ إِلَيْهَا، وَنَهَبَ الْأَتْرَاكُ مَا كَانَ مَعَ عَلَاءِ الدِّينِ، وَأَلْقَوْهُ عَنْ فَرَسِهِ، وَأَخَذُوا ثِيَابَهُ، وَتَرَكُوهُ عُرْيَانًا بِسَرَاوِيلِهِ.

فَلَمَّا سَمِعَ أَلْدِزُ ذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِدَوَابَّ وَثِيَابٍ وَمَالٍ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَأَخَذَ مَا لَبِسَهُ وَرَدَّ الْبَاقِيَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَامِيَانَ لَبِسَ ثِيَابَ سَوَادِيٍّ، وَرَكِبَ حِمَارًا، فَأَخْرَجُوا لَهُ مَرَاكِبَ مُلُوكِيَّةً، وَمَلَابِسَ جَمِيلَةً، فَلَمْ يَرْكَبْ وَلَمْ يَلْبَسْ، وَقَالَ: أُرِيدُ [أَنْ] يَرَانِي النَّاسُ وَمَا صَنَعَ بِي أَهْلُ غَزْنَةَ، حَتَّى إِذَا عُدْتُ إِلَيْهَا وَخَرَّبْتُهَا وَنَهَبْتُهَا لَا يَلُومُنِي أَحَدٌ. وَدَخَلَ دَارَ الْإِمَارَةِ وَشَرَعَ فِي جَمْعِ الْعَسَاكِرِ. ذِكْرُ مُلْكِ أَلْدِزَ غَزْنَةَ قَدْ ذَكَرْنَا اسْتِيلَاءَ أَلْدِزَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ صُحْبَةَ شِهَابِ الدِّينِ وَأَخَذَهُ مِنَ الْوَزِيرِ مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ، فَجَمَعَ بِهِ الْعَسَاكِرَ مِنْ أَنْوَاعِ النَّاسِ: الْأَتْرَاكِ وَالْخُلْجِ وَالْغُزِّ وَغَيْرِهِمْ، وَسَارَ إِلَى غَزْنَةَ وَجَرَى لَهُ مَعَ عَلَاءِ الدِّينِ مَا ذَكَرْنَا. فَلَمَّا خَرَجَ عَلَاءُ الدِّينِ مِنْ غَزْنَةَ أَقَامَ أَلْدِزُ بِدَارِهِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ يُظْهِرُ طَاعَةَ غِيَاثِ الدِّينِ. إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرِ الْخَطِيبَ بِالْخُطْبَةِ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَخْطُبُ لِلْخَلِيفَةِ، وَيَتَرَحَّمُ عَلَى شِهَابِ الدِّينِ الشَّهِيدِ حَسْبُ. فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَحْضَرَ مُقَدَّمِي الْغُورِيَّةِ وَالْأَتْرَاكِ، وَذَمَّ مَنْ كَاتَبَ عَلَاءَ الدِّينِ وَأَخَاهُ، وَقَبَضَ عَلَى أَمِيرِ دَاذَ وَالِي غَزْنَةَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، وَهُوَ سَادِسَ عَشَرَ رَمَضَانَ، أَحْضَرَ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ وَالْمُقَدَّمِينَ، وَأَحْضَرَ أَيْضًا رَسُولَ الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الرَّبِيعِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ قَدْ وَرَدَ إِلَى غَزْنَةَ رَسُولًا إِلَى شِهَابِ الدِّينِ، فَقُتِلَ شِهَابُ الدِّينِ وَهُوَ بِغَزْنَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَإِلَى قَاضِي غَزْنَةَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّنِي أُرِيدُ [أَنْ] أَنْتَقِلَ إِلَى دَارِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَأَنْ أُخَاطَبَ بِالْمُلْكِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِكَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنْ تَسْتَقِرَّ أُمُورُ النَّاسِ. فَحَضَرَ عِنْدَهُ فَرَكِبَ أَلْدِزُ وَالنَّاسُ فِي خِدْمَتِهِ، وَعَلَيْهِ ثِيَابُ الْحُزْنِ، وَجَلَسَ فِي الدَّارِ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ فِيهِ شِهَابُ الدِّينِ، فَتَغَيَّرَتْ لِذَلِكَ نِيَّاتُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيعُونَهُ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ الْمُلْكَ لِغِيَاثِ الدِّينِ، فَحَيْثُ رَأَوْهُ يُرِيدُ الِانْفِرَادَ تَغَيَّرُوا عَنْ طَاعَتِهِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ بَكَى غَيْظًا

مِنْ فِعْلِهِ، وَأَقْطَعَ الْإِقْطَاعَاتِ الْكَثِيرَةَ، وَفَرَّقَ الْأَمْوَالَ الْجَلِيلَةَ. وَكَانَ عِنْدَ شِهَابِ الدِّينِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَوْلَادِ مُلُوكِ الْغَوْرِ وَسَمَرْقَنْدَ وَغَيْرِهِمْ، فَأَنِفُوا مِنْ خِدْمَةِ أَلْدِزَ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَقْصِدَ خِدْمَةَ غِيَاثِ الدِّينِ، فَأَذِنَ لَهُمْ وَفَارَقَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ وَإِلَى عَلَاءِ الدِّينِ وَأَخِيهِ صَاحِبَيْ بَامِيَانَ، وَأَرْسَلَ غِيَاثُ الدِّينِ إِلَى أَلْدِزَ يَشْكُرُهُ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ لِإِخْرَاجِ أَوْلَادِ بَهَاءِ الدِّينِ مِنْ غَزْنَةَ، وَسَيَّرَ لَهُ الْخِلَعَ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْخُطْبَةَ وَالسِّكَّةَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَعَادَ الْجَوَابَ فَغَالَطَهُ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُخَاطِبَهُ بِالْمُلْكِ وَأَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ الرِّقِّ لِأَنَّ غِيَاثَ الدِّينِ ابْنَ أَخِي سَيِّدِهِ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ، وَأَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ بِابْنَةِ أَلْدِزَ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ. وَاتُّفِقَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْغُورِيِّينَ، مِنْ عَسْكَرِ صَاحِبِ بَامِيَانَ، أَغَارُوا عَلَى أَعْمَالِ كَرْمَانَ وَسُورَانَ، وَهِيَ أَقْطَاعُ أَلْدِزَ الْقَدِيمَةُ، فَغَنِمُوا، وَقَتَلُوا، فَأَرْسَلَ صِهْرَهُ صُونَجَ فِي عَسْكَرٍ، فَلَقُوا عَسْكَرَ الْبَامِيَانِ فَظَفِرَ بِهِمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ كَثِيرًا، وَأَنْفَذَ رُءُوسَهُمْ إِلَى غَزْنَةَ فَنُصِبَتْ بِهَا. وَأَجْرَى أَلْدِزُ فِي غَزْنَةَ رُسُومَ شِهَابِ الدِّينِ، وَفَرَّقَ فِي أَهْلِهَا أَمْوَالًا جَلِيلَةَ الْمِقْدَارِ، وَأَلْزَمَ مُؤَيَّدَ الْمُلْكِ أَنْ يَكُونَ وَزِيرًا لَهُ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَأَجَابَهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ، فَدَخَلَ عَلَى مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ صَدِيقٌ لَهُ يُهَنِّئُهُ، فَقَالَ: بِمَاذَا تُهَنِّئُنِي؟ مِنْ بَعْدِ رُكُوبِ الْجَوَادِ بِالْحِمَارِ! وَأَنْشَدَ: وَمَنْ رَكِبَ الثَّوْرَ بَعْدَ الْجَوَادِ ... أَنْكَرَ إِطْلَاقَهُ وَالْغَبَبْ بَيْنَا أَلْدِزُ يَأْتِي إِلَى بَابِي أَلْفَ مَرَّةٍ حَتَّى آذَنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ أُصْبِحُ عَلَى بَابِهِ! وَلَوْلَا حِفْظُ النَّفْسِ مَعَ هَؤُلَاءِ الْأَتْرَاكِ لَكَانَ لِي حُكْمٌ آخَرُ. ذِكْرُ حَالِ غِيَاثِ الدِّينِ بَعْدَ قَتْلِ عَمِّهِ وَأَمَّا غِيَاثُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ غِيَاثِ الدِّينِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي إِقْطَاعِهِ، وَهُوَ بُسْتُ وَأَسْفِزَارُ، لَمَّا قُتِلَ عَمُّهُ شِهَابُ الدِّينِ، وَكَانَ الْمَلِكُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ قَدْ وَلَّاهُ شِهَابُ الدِّينِ بِلَادَ الْغَوْرِ وَغَيْرَهَا مِنْ أَرْضِ الرَّاوِنِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُهُ سَارَ إِلَى

فَيْرُوزَكُوه خَوْفًا أَنْ يَسْبِقَهُ إِلَيْهَا غِيَاثُ الدِّينِ فَيَمْلِكَ الْبَلَدَ وَيَأْخُذَ الْخَزَائِنَ الَّتِي بِهَا. وَكَانَ عَلَاءُ الدِّينِ حَسَنَ السِّيرَةِ مِنْ أَكَابِرِ بُيُوتِ الْغُورِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ النَّاسَ كَرِهُوهُ لِمَيْلِهِمْ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ، وَأَنِفَ الْأُمَرَاءُ مِنْ خِدْمَتِهِ مَعَ وُجُودِ وَلَدِ غِيَاثِ الدِّينِ سُلْطَانِهِمْ، وَلِأَنَّهُ كَانَ كَرَّامِيًّا مُغَالِيًا فِي مَذْهَبِهِ، وَأَهْلُ فَيْرُوزَكُوه شَافِعِيَّةٌ، وَأَلْزَمَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْإِقَامَةَ مَثْنًى، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى فَيْرُوزَكُوه أَحْضَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْهُمْ: مُحَمَّدٌ الْمَرْغَنِيُّ وَأَخُوهُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ - وَهُمْ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ -، وَحَلَّفَهُمْ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ عَلَى قِتَالِ خُوَارِزْمَ شَاهْ وَبَهَاءِ الدِّينِ، صَاحِبِ بَامِيَانَ، وَلَمْ يَذْكُرْ غِيَاثُ الدِّينِ احْتِقَارًا لَهُ فَحَلَفُوا لَهُ وَلِوَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَكَانَ غِيَاثُ الدِّينِ بِمَدِينَةِ بُسْتَ لَمْ يَتَحَرَّكْ فِي شَيْءٍ انْتِظَارًا لِمَا يَكُونُ مِنْ صَاحِبِ بَامِيَانَ، لِأَنَّهُمَا كَانَا قَدْ تَعَاهَدَا أَيَّامَ شِهَابِ الدِّينِ أَنْ تَكُونَ خُرَاسَانُ لِغِيَاثِ الدِّينِ وَغَزْنَةُ وَالْهِنْدُ لِبَهَاءِ الدِّينِ، وَكَانَ بَهَاءُ الدِّينِ صَاحِبُ بَامِيَانَ بَعْدَ مَوْتِ شِهَابِ الدِّينِ أَقْوَى مِنْهُ، فَلِهَذَا لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ مَوْتِ بَهَاءِ الدِّينِ جَلَسَ عَلَى التَّخْتِ، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ بِالسَّلْطَنَةِ عَاشِرَ رَمَضَانَ، وَحَلَّفَ الْأُمَرَاءَ الَّذِينَ قَصَدُوهُ، وَهُمْ إِسْمَاعِيلُ الْخُلْجِيُّ، وَسُونَجُ أَمِيرُ أَشْكَارَ، وَزِنْكِي بْنُ خَرْجُومَ، وَحُسَيْنٌ الْغُورِيُّ صَاحِبُ تِكْيَابَاذَ وَغَيْرُهُمْ، وَتَلَقَّبَ بِأَلْقَابِ أَبِيهِ " غِيَاثِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ "، وَكَتَبَ إِلَى عَلَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ وَهُوَ بِفَيْرُوزَكُوه يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ، وَيَسْتَعْطِفُهُ لِيُصْدِرَ عَنْ رَأْيِهِ، وَيُسَلِّمَ مَمْلَكَتَهُ إِلَيْهِ، وَكَتَبَ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ خَرْمِيلَ، وَالِي هَرَاةَ، مِثْلَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَوَعَدَهُ الزِّيَادَةَ فِي الْإِقْطَاعِ. فَأَمَّا عَلَاءُ الدِّينِ فَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْجَوَابِ، وَكَتَبَ إِلَى الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ يَتَهَدَّدُهُمْ، فَرَحَلَ غِيَاثُ الدِّينِ إِلَى فَيْرُوزَكُوه، فَأَرْسَلَ عَلَاءُ الدِّينِ عَسْكَرًا مَعَ وَلَدِهِ، وَفَرَّقَ فِيهِمْ مَالًا كَثِيرًا، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ لِيَمْنَعُوا غِيَاثَ الدِّينِ، فَلَقَوْهُ قَرِيبًا مِنْ فَيْرُوزَكُوه، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ كَشَفَ إِسْمَاعِيلُ الْخُلْجِيُّ الْمِغْفَرَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِذِ الْأَتْرَاكُ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ آبَاءَهُمْ لَمْ يُضَيِّعُوا حَقَّ التَّرْبِيَةِ، وَرَدُّوا ابْنَ مَلِكِ بَامِيَانَ، وَأَنْتُمْ مَشَايِخُ

الْغُورِيَّةِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ وَالِدُ هَذَا السُّلْطَانِ وَرَبَّاكُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْكُمْ كَفَرْتُمُ الْإِحْسَانَ، وَجِئْتُمْ تُقَاتِلُونَ وَلَدَهُ، أَهَذَا فِعْلُ الْأَحْرَارِ؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ الْمَرْغَنِيُّ - وَهُوَ مُقَدَّمُ الْعَسْكَرِ الَّذِينَ يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ -: لَا وَاللَّهِ! ثُمَّ تَرَجَّلَ عَنْ فَرَسِهِ، وَأَلْقَى سِلَاحَهُ، وَقَصَدَ غِيَاثَ الدِّينِ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَكَى بِصَوْتٍ عَالٍ، وَفَعَلَ سَائِرُ الْأُمَرَاءِ كَذَلِكَ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ عَلَاءِ الدِّينِ مَعَ وَلَدِهِ. فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ خَرَجَ عَنْ فَيْرُوزَكُوه هَارِبًا نَحْوَ الْغَوْرِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا أَمْشِي أُجَاوِرُ بِمَكَّةَ فَأَنْفَذَ غِيَاثُ الدِّينِ خَلْفَهُ مَنْ رَدَّهُ إِلَيْهِ، فَأَخَذَهُ وَحَبَسَهُ، وَمَلَكَ فَيْرُوزَكُوه، وَفَرِحَ بِهِ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَقَبَضَ غِيَاثُ الدِّينِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ عَلَاءِ الدِّينِ الْكَرَّامِيَّةِ، وَقَتَلَ بَعْضَهُمْ. وَلَمَّا دَخَلَ غِيَاثُ الدِّينِ فَيْرُوزَكُوه ابْتَدَأَ بِالْجَامِعِ فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى دَارِ أَبِيهِ فَسَكَنَهَا، وَأَعَادَ رُسُومَ أَبِيهِ، وَاسْتَخْدَمَ حَاشِيَتَهُ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَيْرَانِيُّ وَزِيرُ أَبِيهِ، وَاسْتَوْزَرَهُ، وَسَلَكَ طَرِيقَ أَبِيهِ فِي الْإِحْسَانِ وَالْعَدْلِ. وَلَمَّا فَرَغَ غِيَاثُ الدِّينِ مِنْ عَلَاءِ الدِّينِ لَمْ يَكُنْ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا ابْنَ خَرْمِيلَ بِهَرَاةَ وَاجْتِذَابَهُ إِلَى طَاعَتِهِ، فَكَاتَبَهُ وَرَاسَلَهُ وَاتَّخَذَهُ أَبًا، وَاسْتَدْعَاهُ إِلَيْهِ. وَكَانَ ابْنُ خَرْمِيلَ قَدْ بَلَغَهُ مَوْتُ شِهَابِ الدِّينِ ثَامِنَ رَمَضَانَ، فَجَمَعَ أَعْيَانَ النَّاسِ مِنْهُمْ: قَاضِي هَرَاةَ صَاعِدُ بْنُ الْفَضْلِ السَّيَّارِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْخَلَّاقِ بْنِ زِيَادٍ مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بِهَرَاةَ، وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ رَئِيسُ هَرَاةَ، وَنَقِيبُ الْعَلَوِيِّينَ وَمُقَدَّمِي الْمَحَالِّ، وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ بَلَغَنِي وَفَاةُ السُّلْطَانِ شِهَابِ الدِّينِ وَأَنَا فِي نَحْرِ خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَأَخَافُ الْحِصَارَ، وَأُرِيدُ أَنْ تَحْلِفُوا لِي عَلَى الْمُسَاعَدَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ نَازَعَنِي. فَأَجَابَهُ الْقَاضِي وَابْنُ زِيَادٍ: إِنَّنَا نَحْلِفُ عَلَى كُلِّ النَّاسِ إِلَّا وَلَدَ غِيَاثِ الدِّينِ، فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُ غِيَاثِ الدِّينِ خَافَ مَيْلَ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَغَالَطَهُ فِي الْجَوَابِ. وَكَانَ ابْنُ خَرْمِيلَ قَدْ كَاتَبَ خُوَارِزْمَ شَاهْ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ عَسْكَرًا لِيَصِيرَ فِي طَاعَتِهِ وَيَمْتَنِعَ بِهِ عَلَى الْغُورِيَّةِ، فَطَلَبَ مِنْهُ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِنْفَاذَ وَلَدِهِ رَهِينَةً، وَيُرْسِلُ إِلَيْهِ عَسْكَرًا، فَسَيَّرَ وَلَدَهُ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَكَتَبَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى عَسْكَرِهِ الَّذِينَ

بِنَيْسَابُورَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى هَرَاةَ، وَأَنْ يَكُونُوا يَتَصَرَّفُونَ بِأَمْرِ ابْنِ خَرْمِيلَ وَيَمْتَثِلُونَ أَمْرَهُ. هَذَا وَغِيَاثُ الدِّينِ يُتَابِعُ الرُّسُلَ إِلَى ابْنِ خَرْمِيلَ، وَهُوَ يَحْتَجُّ بِشَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ انْتِظَارًا لِعَسْكَرِ خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَلَا يُؤِيسُهُ مِنْ طَاعَتِهِ، وَلَا يَخْطُبُ لَهُ، وَيُطِيعُهُ طَاعَةً غَيْرَ مُسْتَوِيَةٍ. ثُمَّ إِنَّ الْأَمِيرَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي عَلِيٍّ - صَاحِبَ كَالِوِينَ - أَطْلَعَ غِيَاثَ الدِّينِ عَلَى حَالِ ابْنِ خَرْمِيلَ، فَعَزَمَ غِيَاثُ الدِّينِ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى هَرَاةَ، فَثَبَّطَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِانْتِظَارِ آخِرِ أَمْرِهِ وَتَرْكِ مُحَاقَّتِهِ. وَاسْتَشَارَ ابْنُ خَرْمِيلَ النَّاسَ فِي أَمْرِ غِيَاثِ الدِّينِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْخَلَّاقِ بْنِ زِيَادٍ مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بِهَرَاةَ، وَهُوَ مُتَوَلِّي وُقُوفِ خُرَاسَانَ الَّتِي بِيَدِ الْغُورِيَّةِ جَمِيعِهَا: يَنْبَغِي أَنْ تَخْطُبَ لِلسُّلْطَانِ غِيَاثِ الدِّينِ، وَتَتْرُكَ الْمُغَالَطَةَ، [فَأَجَابَهُ] : إِنَّنِي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي فَامْضِ أَنْتَ وَتَوَثَّقْ لِي مِنْهُ. وَكَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُبْعِدَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَمَضَى بِرِسَالَتِهِ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ ابْنُ خَرْمِيلَ بِفِعْلِهِ مِنَ الْغَدْرِ بِهِ وَالْمَيْلِ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَحَثَّهُ عَلَى قَصْدِ هَرَاةَ، وَقَالَ لَهُ: أَنَا أُسَلِّمُهَا إِلَيْكَ سَاعَةَ تَصِلُ إِلَيْهَا، وَوَافَقَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُمْ، وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَتْرُكَ لَهُ حُجَّةً، فَتُرْسِلَ إِلَيْهِ تَقْلِيدًا بِوِلَايَةِ هَرَاةَ فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَيَّرَهُ مَعَ ابْنِ زِيَادٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ. ثُمَّ إِنَّ غِيَاثَ الدِّينِ كَاتَبَ أَمِيرَانَ بْنَ قَيْصَرَ - صَاحِبَ الطَّالْقَانِ - يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ، فَتَوَقَّفَ وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ مَرْوَ لِيَسِيرَ إِلَيْهِ، فَتَوَقَّفَ أَيْضًا، فَقَالَ لَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ: إِنْ لَمْ تُسَلِّمِ الْبَلَدَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ وَتَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ، وَإِلَّا سَلَّمْنَاكَ وَقَيَّدْنَاكَ وَأَرْسَلْنَاكَ إِلَيْهِ، فَاضْطَرَّ إِلَى الْمَجِيءِ إِلَى فَيْرُوزَكُوه. فَخَلَعَ عَلَيْهِ غِيَاثُ الدِّينِ، وَأَقْطَعَهُ إِقْطَاعًا، وَأَقْطَعَ الطَّالْقَانَ سُونْجَ مَمْلُوكَ أَبِيهِ الْمَعْرُوفَ بِأَمِيرِ أَشْكَارَ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ خُوَارِزْمَ شَاهْ عَلَى بِلَادِ الْغُورِيَّةِ بِخُرَاسَانَ قَدْ ذَكَرْنَا مُكَاتَبَةَ الْحُسَيْنِ بْنِ خَرْمِيلَ - وَالِي هَرَاةَ - خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَمُرَاسَلَتَهُ فِي الِانْتِمَاءِ إِلَيْهِ وَالطَّاعَةِ لَهُ، وَتَرْكِ طَاعَةِ الْغُورِيَّةِ، وَخِدَاعَهُ لِغِيَاثِ الدِّينِ، وَمُغَالَطَتَهُ لَهُ بِالْخُطْبَةِ لَهُ وَالطَّاعَةِ، انْتِظَارًا لِوُصُولِ عَسْكَرِ خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَوُصُولِ رَسُولِ غِيَاثِ الدِّينِ وَابْنِ زِيَادٍ بِالْخِلَعِ إِلَى ابْنِ خَرْمِيلَ، فَلَمَّا وَصَلَتِ الْخِلَعُ إِلَيْهِ لَبِسَهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَطَالَبَهُ

رَسُولُ غِيَاثِ الدِّينِ بِالْخُطْبَةِ، فَقَالَ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ نَخْطُبُ لَهُ. فَاتَّفَقَ وَقُرْبَ عَسْكَرِ خُوَارِزْمَ شَاهْ مِنْهُمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قِيلَ لَهُ فِي مَعْنَى الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: نَحْنُ فِي شُغْلٍ أَهَمَّ مِنْهَا بِوُصُولِ هَذَا الْعَدُوِّ، فَطَالَتِ الْمُجَادَلَاتُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهَا، وَوَصَلَ عَسْكَرُ خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَلَقِيَهُمُ ابْنُ خَرْمِيلَ، وَأَنْزَلَهُمْ عَلَى بَابِ الْبَلَدِ، فَقَالُوا لَهُ: قَدْ أَمَرَنَا خُوَارِزْمُ شَاهْ أَنْ لَا نُخَالِفَ لَكَ أَمْرًا، فَشَكَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ كُلَّ يَوْمٍ، وَأَقَامَ لَهُمُ الْوَظَائِفَ الْكَثِيرَةَ. وَأَتَاهُ الْخَبَرُ أَنَّ خُوَارِزْمَ شَاهْ نَزَلَ عَلَى بَلْخَ فَحَاصَرَهَا، فَلَقِيَهُ صَاحِبُهَا، وَقَاتَلَهُ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، فَلَمْ يَنْزِلْ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، فَنَزَلَ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ، فَنَدِمَ ابْنُ خَرْمِيلَ عَلَى طَاعَةِ خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَقَالَ لِخَوَاصِّهِ: لَقَدْ أَخْطَأْنَا حَيْثُ صِرْنَا مَعَ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنَّنِي أَرَاهُ عَاجِزًا. وَشَرَعَ فِي إِعَادَةِ الْعَسْكَرِ، فَقَالَ لِلْأُمَرَاءِ: إِنَّ خُوَارِزْمَ شَاهْ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّنِي عَلَى الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَنَا، وَأَنَا أَتْرُكُ مَا كَانَ لِأَبِيكَ بِخُرَاسَانَ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ تَرْجِعُوا حَتَّى نَنْظُرَ مَا يَكُونُ، فَعَادُوا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْهَدَايَا الْكَثِيرَةَ. وَكَانَ غِيَاثُ الدِّينِ حَيْثُ اتَّصَلَ بِهِ وُصُولُ عَسْكَرِ خُوَارِزْمَ شَاهْ إِلَى هَرَاةَ، فَأَخَذَ إِقْطَاعَ ابْنِ خَرْمِيلَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُرْزُبَانَ، وَأَخَذَ كُلَّ مَا لَهُ بِهَا مِنْ مَالٍ، وَأَوْلَادٍ، وَدَوَابَّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَخَذَ أَصْحَابَهُ فِي الْقُيُودِ، وَأَتَاهُ كُتُبُ مَنْ يَمِيلُ إِلَيْهِ مِنَ الْغُورِيَّةِ يَقُولُونَ لَهُ: إِنْ رَآكَ غِيَاثُ الدِّينِ قَتَلَكَ. وَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ هَرَاةَ بِمَا فَعَلَ غِيَاثُ الدِّينِ بِأَهْلِ ابْنِ خَرْمِيلَ وَمَالِهِ عَزَمُوا عَلَى قَبْضِهِ وَالْمُكَاتَبَةِ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ بِإِنْقَاذِ مَنْ يَتَسَلَّمُ الْبَلَدَ، وَكَتَبَ الْقَاضِي صَاعِدٌ، قَاضِي هَرَاةَ، وَابْنُ زِيَادٍ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ بِذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ خَرْمِيلَ بِمَا فَعَلَهُ غِيَاثُ الدِّينِ بِأَهْلِهِ، وَبِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ أَهِلُ هَرَاةَ، خَافَ أَنْ يُعَاجِلُوهُ بِالْقَبْضِ، فَحَضَرَ عِنْدَ الْقَاضِي، وَأَحْضَرَ أَعْيَانَ الْبَلَدِ، وَأَلَانَ لَهُمُ الْقَوْلَ، وَتَقَرَّبَ إِلَيْهِمْ، وَأَظْهَرَ طَاعَةَ غِيَاثِ الدِّينِ، وَقَالَ: قَدْ رَدَدْتُ عَسْكَرَ خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَأُرِيدُ [أَنْ] أُرْسِلَ رَسُولًا إِلَى غِيَاثِ (الدِّينِ بِطَاعَتِي) ، وَالَّذِي أُوثِرُهُ مِنْكُمْ أَنْ تَكْتُبُوا مَعَهُ كِتَابًا بِطَاعَتِي. فَاسْتَحْسَنُوا قَوْلَهُ وَكَتَبُوا

لَهُ بِمَا طَلَبَ، وَسَيَّرَ رَسُولَهُ إِلَى فَيْرُوزَكُوه، وَأَمَرَهُ، إِذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ، أَنْ يَرْجِعَ عَلَى طَرِيقِ نَيْسَابُورَ وَيَلْحَقَ عَسْكَرَ خُوَارِزْمَ شَاهْ وَيَجِدَّ السَّيْرَ، فَإِذَا لَحِقَهُمْ رَدَّهُمْ إِلَيْهِ. فَفَعَلَ الرَّسُولُ مَا أَمَرَهُ، وَلَحِقَ الْعَسْكَرَ عَلَى يَوْمَيْنِ مِنْ هَرَاةَ، فَأَمَرَهُمْ بِالْعَوْدِ، فَعَادُوا، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنْ سَيْرِ الرَّسُولِ وَصَلُوا إِلَى هَرَاةَ وَالرَّسُولُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَلَقِيَهُمُ ابْنُ خَرْمِيلَ، وَأَدْخَلَهُمُ الْبَلَدَ وَالطُّبُولُ تَضْرِبُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا أَخْذَ ابْنَ زِيَادٍ الْفَقِيهَ فَسَمَلَهُ، وَأَخْرَجَ الْقَاضِيَ صَاعِدًا مِنَ الْبَلَدِ، فَسَارَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ بِفَيْرُوزَكُوه، وَأَخْرَجَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْغُورِيَّةِ، وَكُلَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُهُمْ، وَسَلَّمَ أَبْوَابَ الْبَلَدِ إِلَى الْخُوَارِزْمِيَّةِ. وَأَمَّا غِيَاثُ الدِّينِ فَإِنَّهُ بَرَزَ عَنْ فَيْرُوزَكُوه نَحْوَ هَرَاةَ، وَأَرْسَلَ عَسْكَرًا، فَأَخَذُوا جَشِيرًا كَانَ لِأَهْلِ هَرَاةَ، فَخَرَجَ الْخُوَارِزْمِيَّةُ، فَشَنُّوا الْغَارَةَ عَلَى هَرَاةَ الرُّوذِ وَغَيْرِهَا، فَأَمَرَ غِيَاثُ الدِّينِ عَسْكَرَهُ بِالتَّقَدُّمِ إِلَى هَرَاةَ، وَجَعَلَ الْمُقَدَّمَ عَلَيْهِمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي عَلِيٍّ، وَأَقَامَ هُوَ بِفَيْرُوزَكُوه لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ خُوَارِزْمَ شَاهْ عَلَى بَلْخَ، فَسَارَ الْعَسْكَرُ وَعَلَى يَزَكِهِ الْأَمِيرُ أَمِيرَانُ بْنُ قَيْصَرَ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الطَّالْقَانِ، وَكَانَ مُنْحَرِفًا عَنْ غِيَاثِ الدِّينِ حَيْثُ أَخَذَ مِنْهُ الطَّالْقَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ خَرْمِيلَ يُعَرِّفُهُ أَنَّهُ عَلَى الْيَزَكِ، وَيَأْمُرُهُ بِالْمَجِيءِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ، وَحَلَفَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ. فَسَارَ ابْنُ خَرْمِيلَ فِي عَسْكَرِهِ، فَكَبَسَ عَسْكَرَ غِيَاثِ الدِّينِ، فَلَمْ يَلْحَقُوا يَرْكَبُونَ خُيُولَهُمْ حَتَّى خَالَطُوهُمْ، فَقَتَّلُوا فِيهِمْ، فَكَفَّ ابْنُ خَرْمِيلَ أَصْحَابَهُ عَنِ الْغُورِيَّةِ خَوْفًا أَنْ يَهْلَكُوا، وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ وَأَسَرَ إِسْمَاعِيلَ الْخُلْجِيَّ، وَأَقَامَ بِمَكَانِهِ، وَأَرْسَلَ عَسْكَرَهُ فَشَنُّوا الْغَارَةَ عَلَى الْبِلَادِ بَاذَغِيسَ وَغَيْرِهَا. وَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى غِيَاثِ الدِّينِ، فَعَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى هَرَاةَ بِنَفْسِهِ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ أَنَّ عَلَاءَ الدِّينِ، صَاحِبَ بَامِيَانَ، قَدْ عَادَ إِلَى غَزْنَةَ - عَلَى مَا نَذْكُرُهُ -، فَأَقَامَ يَنْتَظِرُ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ وَمِنْ أَلْدِزَ. وَأَمَّا بَلْخُ فَإِنَّ خُوَارِزْمَ شَاهْ لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ شِهَابِ الدِّينِ أَخْرَجَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْغُورِيِّينَ الَّذِينَ كَانَ أَسَرَهُمْ فِي الْمَصَافِّ عَلَى بَابِ خُوَارِزْمَ، فَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَأَحْسَنَ

إِلَيْهِمْ، وَأَعْطَاهُمُ الْأَمْوَالَ، وَقَالَ: إِنَّ غِيَاثَ الدِّينِ أَخِي، وَلَا فَرْقَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمُ الْمُقَامَ عِنْدِي فَلْيُقِمْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِ فَإِنَّنِي أُسَيِّرُهُ، وَلَوْ أَرَادَ مِنِّي مَهْمَا أَرَادَ نَزَلْتُ لَهُ عَنْهُ. وَعَهِدَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَشِيرٍ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ الْغُورِيَّةِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَقْطَعَهُ اسْتِمَالَةً لِلْغُورِيَّةِ، وَجَعَلَهُ سَفِيرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ بَلْخَ، فَسَيَّرَ أَخَاهُ عَلِيًّا شَاهْ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي عَسْكَرِهِ إِلَى بَلْخَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا خَرَجَ إِلَيْهِ عِمَادُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ الْحَسَنِ الْغُورِيُّ أَمِيرُهَا، فَدَفَعَهُ عَنِ النُّزُولِ عَلَيْهَا، فَنَزَلَ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ عَنْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ خُوَارِزْمَ شَاهْ يُعْلِمُهُ قُوَّتَهُمْ، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَلْخَ خَرَجَ صَاحِبُهَا فَقَاتَلَهُمْ، فَلَمْ يَقْوَ بِهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ، فَنَزَلُوا فَصَارَ يُوقِعُ بِهِمْ لَيْلًا، فَكَانُوا مَعَهُ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ، فَأَقَامَ صَاحِبُ بَلْخَ مُحَاصَرًا، وَهُوَ يَنْتَظِرُ الْمُدَدَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْلَادِ بَهَاءِ الدِّينِ، صَاحِبِ بَامِيَانَ، وَكَانُوا قَدِ اشْتَغَلُوا عَنْهُ بِغَزْنَةَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. فَأَقَامَ خُوَارِزْمُ شَاهْ عَلَى بَلْخَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، كُلَّ يَوْمٍ يَرْكَبُ إِلَى الْحَرْبِ، فَيُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِهِ كَثِيرٌ، وَلَا يَظْفَرُ بِشَيْءٍ فَرَاسَلَ صَاحِبَهَا عِمَادَ الدِّينِ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَشِيرٍ الْغُورِيِّ فِي بَذْلٍ بَذَلَهُ لَهُ لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِ الْبَلَدَ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا أُسَلِّمُ الْبَلَدَ إِلَّا إِلَى أَصْحَابِهِ، فَعَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى هَرَاةَ، فَلَمَّا سَارَ أَصْحَابُهُ أَوْلَادُ بَهَاءِ الدِّينِ، صَاحِبِ بَامِيَانَ، إِلَى غَزْنَةَ، الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ - عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَسَرَهُمْ تَاجُ الدِّينِ أَلْدِزُ، عَادَ عَنْ ذَلِكَ الْعَزْمِ، وَأَرْسَلَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ بَشِيرٍ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ نَائِبِهِ يُعَرِّفُهُ حَالَ أَصْحَابِهِ وَأَسْرَهُمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ، وَلَا لَهُ فِي التَّأَخُّرِ عَنْهُ عُذْرٌ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَزَلْ يَخْدَعُهُ، تَارَةً يُرَغِّبُهُ وَتَارَةً يُرَهِّبُهُ حَتَّى أَجَابَ إِلَى طَاعَةِ خُوَارِزْمَ شَاهْ وَالْخُطْبَةِ لَهُ، وَذِكْرِ اسْمِهِ عَلَى السِّكَّةِ، وَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفِي لِي، فَأَرْسَلَ مَنْ يَسْتَحْلِفُهُ عَلَى مَا أَرَادَ، فَتَمَّ الصُّلْحُ، وَخَرَجَ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَعَادَهُ إِلَى بَلَدِهِ، وَكَانَ سَلْخَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ. ثُمَّ سَارَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى كُرْزُبَانَ لِيُحَاصِرَهَا، وَبِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ، وَأَرْسَلَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ كَانَ قَدْ أَقْطَعَهَا عَمُّكَ لِابْنِ خَرْمِيلَ، فَتَنَزَّلْ عَنْهَا، فَامْتَنَعَ، وَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ السَّيْفُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ خُوَارِزْمُ شَاهْ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَشِيرٍ

فَرَغَّبَهُ، وَآيَسَهُ مِنْ نَجْدَةِ غِيَاثِ الدِّينِ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى نَزَلَ عَنْهَا وَسَلَّمَهَا، وَعَادَ إِلَى فَيْرُوزَكُوه، فَأَمَرَ غِيَاثُ الدِّينِ بِقَتْلِهِ، فَشَفَعَ فِيهِ الْأُمَرَاءُ، فَتَرَكَهُ. وَسَلَّمَ خُوَارِزْمُ شَاهْ كُرْزُبَانَ إِلَى ابْنِ خَرْمِيلَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ، صَاحِبِ بَلْخَ يَطْلُبُهُ إِلَيْهِ، وَيَقُولُ: قَدْ حَضَرَ مُهِمٌّ وَلَا غِنَى عَنْ حُضُورِكَ، فَأَنْتَ الْيَوْمَ مِنْ أَخَصِّ أَوْلِيَائِنَا. فَحَضَرَ عِنْدَهُ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَسَيَّرَهُ إِلَى خُوَارِزْمَ، وَمَضَى هُوَ إِلَى بَلْخَ، فَأَخَذَهَا وَاسْتَنَابَ بِهَا جَعْفَرًا التُّرْكِيَّ. ذِكْرُ مُلْكِ خُوَارِزْمَ شَاهْ تِرْمِذَ وَتَسْلِيمِهَا إِلَى الْخَطَا لَمَّا أَخَذَ خُوَارِزْمُ شَاهْ مَدِينَةَ بَلْخَ سَارَ عَنْهَا إِلَى مَدِينَةِ تِرْمِذَ مُجِدًّا - وَبِهَا وَلَدُ عِمَادِ الدِّينِ كَانَ صَاحِبَ بَلْخَ - فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ بَشِيرٍ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ أَبَاكَ قَدْ صَارَ مِنْ أَخَصِّ أَصْحَابِي وَأَكَابِرِ أُمَرَاءِ دَوْلَتِي، وَقَدْ سَلَّمَ إِلَيَّ بَلْخَ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ لِي مِنْهُ مَا أَنْكَرْتُهُ. فَسَيَّرْتُهُ إِلَى خُوَارِزْمَ مُكَرَّمًا مُحْتَرَمًا، وَأَمَّا أَنْتَ فَتَكُونُ عِنْدِي أَخًا. وَوَعَدَهُ، وَأَقْطَعَهُ الْكَثِيرَ، فَخَدَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، فَرَأَى صَاحِبُهَا أَنَّ خُوَارِزْمَ شَاهْ قَدْ حَصَرَهُ مِنْ جَانِبِ وَالْخُطَا قَدْ حَصَرُوهُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، وَأَصْحَابُهُ قَدْ أَسَرَهُمْ أَلْدِزُ بِغَزْنَةَ، فَضَعُفَتْ نَفْسُهُ وَأَرْسَلَ مَنْ يَسْتَحْلِفُ لَهُ خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَحَلَفَ لَهُ، وَتَسَلَّمَ مِنْهُ تِرْمِذَ وَسَلَّمَهَا إِلَى الْخَطَا. فَلَقَدِ اكْتَسَبَ بِهَا خُوَارِزْمُ شَاهْ سُبَّةً عَظِيمَةً، وَذِكْرًا قَبِيحًا فِي عَاجِلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِلنَّاسِ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، أَنَّهُ إِنَّمَا سَلَّمَهَا إِلَيْهِمْ لِيَتَمَكَنَّ بِذَلِكَ مِنْ مُلْكِ خُرَاسَانَ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِمْ فَيَأْخُذُهَا وَغَيْرَهَا مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ خُرَاسَانَ وَقَصَدَ بِلَادَ الْخَطَا وَأَخَذَهَا وَأَفْنَاهُمْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ خَدِيعَةً وَمَكْرًا - غَفَرَ اللَّهُ لَهُ. ذِكْرُ عَوْدِ أَوْلَادِ صَاحِبِ بَامِيَانَ إِلَى غَزْنَةَ قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ وَصُولَ أَلْدِزَ التُّرْكِيِّ إِلَى غَزْنَةَ، وَإِخْرَاجَهُ عَلَاءَ الدِّينِ وَجَلَالَ الدِّينِ وَلَدَيْ بَهَاءِ الدِّينِ سَامَ - صَاحِبِ بَامِيَانَ - مِنْهَا، بَعْدَ أَنْ مَلَكَهَا، وَأَقَامَ هُوَ فِي غَزْنَةَ مِنْ عَاشِرِ رَمَضَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ إِلَى خَامِسِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ. يُحْسِنُ السِّيرَةَ، وَيَعْدِلُ فِي الرَّعِيَّةِ، وَأَقْطَعَ الْبِلَادَ لِلْأَجْنَادِ، فَبَعْضُهُمْ أَقَامَ، وَبَعْضُهُمْ سَارَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ

بِفَيْرُوزَكُوه، وَبَعْضُهُمْ سَارَ إِلَى عَلَاءِ الدِّينِ - صَاحِبِ بَامِيَانَ - وَلَمْ يَخْطُبْ لِأَحَدٍ، وَلَا لِنَفْسِهِ، وَكَانَ يَعِدُ النَّاسَ بِأَنَّ رَسُولِي عِنْدَ مَوْلَايَ غِيَاثِ الدِّينِ، فَإِذَا عَادَ خَطَبْتُ لَهُ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِقَوْلِهِ. وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَكْرًا وَخَدِيعَةً بِهِمْ وَبِغِيَاثِ الدِّينِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ لَفَارَقَهُ أَكْثَرُ الْأَتْرَاكِ وَسَائِرُ الرَّعَايَا، وَكَانَ حِينَئِذٍ يَضْعُفُ عَنْ مُقَاوَمَةِ صَاحِبِ بَامِيَانَ، فَكَانَ يَسْتَخْدِمُ الْأَتْرَاكَ وَغَيْرَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ وَأَشْبَاهِهِ. فَلَمَّا ظَفِرَ بِصَاحِبِ بَامِيَانَ - عَلَى مَا نَذْكُرُهُ - أَظْهَرَ مَا كَانَ يُضْمِرُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي هَذَا أَتَاهُ الْخَبَرُ بِقُرْبِ عَلَاءِ الدِّينِ وَجَلَالِ الدِّينِ وَلَدَيْ بَهَاءِ الدِّينِ - صَاحِبِ بَامِيَانَ - فِي الْعَسَاكِرِ الْكَثِيرَةِ، وَأَنَّهُمْ قَدْ عَزَمُوا عَلَى نَهْبِ غَزْنَةَ، وَاسْتِبَاحَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ، فَخَافَ النَّاسُ خَوْفًا شَدِيدًا، وَجَهَّزَ أَلْدِزُ كَثِيرًا مِنْ عَسْكَرِهِ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى طَرِيقِهِمْ، فَلَقَوْا أَوَائِلَ الْعَسْكَرِ، فَقُتِلَ مِنَ الْأَتْرَاكِ [جَمَاعَةٌ] ، وَأَدْرَكَهُمُ الْعَسْكَرُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ بِهِمْ، فَانْهَزَمُوا وَتَبِعَهُمْ عَسْكَرُ عَلَاءِ الدِّينِ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، فَوَصَلَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى غَزْنَةَ فَخَرَجَ عَنْهَا أَلْدِزُ مُنْهَزِمًا يَطْلُبُ بَلَدَهُ كَرْمَانَ، فَأَدْرَكَهُ بَعْضُ عَسْكَرِ بَامِيَانَ، نَحْوُ ثَلَاثَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا فَرَدَّهُمْ عَنْهُ، وَأَحْضَرَ مِنْ كَرْمَانَ مَالًا كَثِيرًا وَسِلَاحًا، فَفَرَّقَهُ فِي الْعَسْكَرِ. وَأَمَّا عَلَاءُ الدِّينِ وَأَخُوهُ فَإِنَّهُمَا تَرَكَا غَزْنَةَ لَمْ يَدْخُلَاهَا، وَسَارَا فِي أَثَرِ أَلْدِزَ، فَسَمِعَ بِهِمْ، فَسَارَ عَنْ كَرْمَانَ، فَنَهَبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَمَلْكَ عَلَاءُ الدِّينِ كَرْمَانَ. وَأَمَّنُوا أَهْلَهَا، وَعَزَمُوا عَلَى الْعَوْدِ إِلَى غَزْنَةَ وَنَهْبِهَا، فَسَمِعَ أَهْلُهَا بِذَلِكَ، فَقَصَدُوا الْقَاضِيَ سَعِيدَ بْنَ مَسْعُودٍ وَشَكَوْا إِلَيْهِ حَالَهُمْ، فَمَشَى إِلَى وَزِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ الْمَعْرُوفِ بِالصَّاحِبِ، وَأَخْبَرَهُ بِحَالِ النَّاسِ فَطَيَّبَ قُلُوبَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَثِقُونَ بِهِ أَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى النَّهْبِ، فَاسْتَعَدُّوا، وَضَيَّقُوا أَبْوَابَ الدُّرُوبِ وَالشَّوَارِعِ، وَأَعَدُّوا الْعَرَّادَاتِ وَالْأَحْجَارَ، وَجَاءَتِ التُّجَّارُ مِنَ الْعِرَاقِ، وَالْمَوْصِلِ، وَالشَّامِ، وَغَيْرِهَا، وَشَكَوْا إِلَى أَصْحَابِ السُّلْطَانِ، فَلَمْ يُشْكِهِمْ أَحَدٌ، فَقَصَدُوا دَارَ مَجْدِ الدِّينِ بْنِ الرَّبِيعِ، رَسُولِ الْخَلِيفَةِ، وَاسْتَغَاثُوا بِهِ، فَسَكَّنَهُمْ، وَوَعَدَهُمُ الشَّفَاعَةَ فِيهِمْ وَفِي أَهْلِ الْبَلَدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَمِيرٍ كَبِيرٍ مِنَ الْغُورِيَّةِ يُقَالُ لَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْسَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا يَرْجِعُونَ

إِلَى قَوْلِهِ، يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، وَيَقُولُ لَهُ لِيَكْتُبَ إِلَى عَلَاءِ الدِّينِ وَأَخِيهِ يَتَشَفَّعُ فِي النَّاسِ. فَفَعَلَ، وَبَالَغَ فِي الشَّفَاعَةِ، وَخَوَّفَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ إِنْ أَصَرُّوا عَلَى النَّهْبِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى الْعَفْوِ عَنِ النَّاسِ بَعْدَ مُرَاجَعَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَكَانُوا قَدْ وَعَدُوا مَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْعَسَاكِرِ بِنَهْبِ غَزْنَةَ، فَعَوَّضُوهُمْ مِنَ الْخِزَانَةِ، فَسَكَنَ النَّاسُ، وَعَادَ الْعَسْكَرُ إِلَى غَزْنَةَ أَوَاخِرَ ذِي الْقَعْدَةِ وَمَعَهُمُ الْخِزَانَةُ الَّتِي أَخَذَهَا أَلْدِزُ مِنْ مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ لَمَّا عَادَ وَمَعَهُ شِهَابُ الدِّينِ قَتِيلًا، فَكَانَتْ مَعَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهَا مِنَ الثِّيَابِ وَالْعَيْنِ تِسْعَمِائَةِ حِمْلٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الثِّيَابِ الْمُمَزَّجِ الْمَنْسُوجِ بِالذَّهَبِ، اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ ثَوْبٍ. وَعَزَمَ عَلَاءُ الدِّينِ [أَنْ] يَسْتَوْزِرَ مُؤَيَّدَ الْمُلْكِ، فَسَمِعَ أَخُوهُ جَلَالُ الدِّينِ، فَأَحْضَرَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، عَلَى كَرَاهَةٍ مِنْهُ لِلْخِلْعَةِ، وَاسْتَوْزَرَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ عَلَاءُ الدِّينِ بِذَلِكَ قَبَضَ عَلَى مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ، وَقَيَّدَهُ، وَحَبَسَهُ، فَتَغَيَّرَتْ نِيَّاتُ النَّاسِ، وَاخْتَلَفُوا، ثُمَّ إِنَّ عَلَاءَ الدِّينِ وَجَلَالَ الدِّينِ اقْتَسَمَا الْخِزَانَةَ، وَجَرَى بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُشَاحَنَةِ فِي الْقِسْمَةِ مَا لَا يَجْرِي بَيْنَ التُّجَّارِ، فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَسْتَقِيمُ لَهُمَا حَالٌ لِبُخْلِهِمَا، وَاخْتِلَافِهِمَا، وَنَدِمَ الْأُمَرَاءُ عَلَى مَيْلِهِمْ إِلَيْهِمَا وَتَرْكِهِمْ غِيَاثَ الدِّينِ مَعَ مَا ظَهَرَ مِنْ كَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ. ثُمَّ إِنَّ جَلَالَ الدِّينِ، وَعَمَّهُ عَبَّاسًا سَارَا فِي بَعْضِ الْعَسْكَرِ إِلَى بَامِيَانَ، وَبَقِيَ عَلَاءُ الدِّينِ بِغَزْنَةَ، فَأَسَاءَ وَزِيرُهُ عِمَادُ الْمُلْكِ السِّيرَةَ مَعَ الْأَجْنَادِ وَالرَّعِيَّةِ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُ الْأَتْرَاكِ، حَتَّى أَنَّهُمْ بَاعُوا أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِمْ وَهُنَّ يَبْكِينَ وَيَصْرُخْنَ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِنَّ. ذِكْرُ عَوْدِ أَلْدِزَ إِلَى غَزْنَةَ لَمَّا سَارَ جَلَالُ الدِّينِ عَنْ غَزْنَةَ، وَأَقَامَ بِهَا أَخُوهُ عَلَاءُ الدِّينِ، جَمَعَ أَلْدِزُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَتْرَاكِ عَسْكَرًا كَثِيرًا وَعَادُوا إِلَى غَزْنَةَ، فَوَصَلُوا إِلَى كِلْوَاذَا فَمَلَكُوهَا وَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِنَ الْغُورِيَّةِ، وَوَصَلَ الْمُنْهَزِمُونَ مِنْهَا إِلَى كَرْمَانَ، فَسَارَ أَلْدِزُ إِلَيْهِمْ، وَجَعَلَ عَلَى مُقَدَّمِهِ مَمْلُوكًا كَبِيرًا مِنْ مَمَالِيكِ شِهَابِ الدِّينِ، اسْمُهُ أَيْ دِكْزِ الْتَتَرِ، فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ مِنَ الْخُلْجِ وَالْأَتْرَاكِ وَالْغُزِّ وَالْغُورِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَكَانَ بِكَرْمَانَ عَسْكَرٌ لِعَلَاءِ الدِّينِ مَعَ أَمِيرٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْمُؤَيَّدِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْهُمْ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ سَيْسَ وَهُوَ وَأَبُوهُ مِنْ أَعْيَانِ الْغُورِيَّةِ، وَكَانَا مُشْتَغِلَيْنِ بِاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَالشُّرْبِ، لَا يَفْتُرَانِ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّ عَسْكَرَ الْأَتْرَاكِ قَدْ قَرُبُوا مِنْكُمْ فَلَمْ يَلْتَفِتَا إِلَى ذَلِكَ، وَلَا تَرَكَا مَا كَانَا عَلَيْهِ، فَهَجَمَ عَلَيْهِمْ أَيْ دِكْزُ الْتَتَرِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَتْرَاكِ فَلَمْ يُمْهِلْهُمْ يَرْكَبُونَ خُيُولَهُمْ، فَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ صَبْرًا، وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا مَنْ تَرَكَهُ الْأَتْرَاكُ عَمْدًا. وَلَمَّا وَصَلَ أَلْدِزُ فَرَأَى أُمَرَاءَ الْغُورِيَّةِ كُلَّهُمْ قَتْلَى قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ قَاتَلُونَا؟ فَقَالَ أَيْ دِكْزُ الْتَتَرِ: لَا بَلْ قَتَلْنَاهُمْ صَبْرًا فَلَامَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَوَبَّخَهُ، وَأُحْضِرَ رَأْسُ ابْنِ الْمُؤَيَّدِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ - تَعَالَى -، وَأَمَرَ بِالْمَقْتُولِينَ فَغُسِّلُوا وَدُفِنُوا، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْقَتْلَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ سَيْسَ. وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى غَزْنَةَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَصَلَبَ عَلَاءُ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِالْخَبَرِ، فَتَغَيَّمَتِ السَّمَاءُ، وَجَاءَ مَطَرٌ شَدِيدٌ خَرَّبَ بَعْضَ غَزْنَةَ، وَجَاءَ بَعْدَهُ بَرَدٌ كِبَارٌ مِثْلُ بَيْضِ الدَّجَاجِ، فَضَجَّ النَّاسُ إِلَى عَلَاءِ الدِّينِ بِإِنْزَالِ الْمَصْلُوبِ، فَأَنْزَلَهُ آخِرَ النَّهَارِ فَانْكَشَفَتِ الظُّلْمَةُ، وَسَكَنَ مَا كَانُوا فِيهِ. وَمَلَكَ أَلْدِزُ كَرْمَانَ، وَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا، وَكَانُوا فِي ضُرٍّ شَدِيدٍ مَعَ أُولَئِكَ. وَلَمَّا صَحَّ الْخَبَرُ عِنْدَ عَلَاءِ الدِّينِ أَرْسَلَ وَزِيرَهُ الصَّاحِبَ إِلَى أَخِيهِ جَلَالِ الدِّينِ فِي بَامِيَانَ يُخْبِرُهُ بِحَالِ أَلْدِزَ، وَيَسْتَنْجِدُهُ، وَكَانَ قَدْ أَعَدَّ الْعَسَاكِرَ لِيَسِيرَ إِلَى بَلْخَ يُرْحِلُ عَنْهَا خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَلَمَّا أَتَاهُ هَذَا الْخَبَرُ تَرَكَ بَلْخَ وَسَارَ إِلَى غَزْنَةَ، وَكَانَ أَكْثَرُ عَسْكَرِهِ مِنَ الْغُورِيَّةِ قَدْ فَارَقُوهُ، وَفَارَقُوا أَخَاهُ، وَقَصَدُوا غِيَاثَ الدِّينِ، فَلَمَّا كَانَ أَوَاخِرُ ذِي الْحِجَّةِ وَصَلَ أَلْدِزُ إِلَى غَزْنَةَ، وَنَزَلَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ بِإِزَاءِ قَلْعَةِ غَزْنَةَ، وَحَصَرَ عَلَاءَ الدِّينِ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ قِتَالٌ شَدِيدٌ، وَأَمَرَ أَلْدِزُ فَنُودِيَ فِي الْبَلَدِ بِالْأَمَانِ، وَتَسْكِينِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ وَالْغُورِيَّةِ وَعَسْكَرِ بَامِيَانَ، وَأَقَامَ أَلْدِزُ مُحَاصِرًا لِلْقَلْعَةِ، فَوَصَلَ جَلَالُ الدِّينِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنْ عَسْكَرِ بَامِيَانَ وَغَيْرِهِمْ، فَرَحَلَ أَلْدِزُ إِلَى طَرِيقِهِمْ، وَكَانَ مُقَامُهُ إِلَى أَنْ سَارَ إِلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا سَارَ أَلْدِزُ سَيَّرَ عَلَاءُ الدِّينِ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا أَلْدِزَ مِنْ خَلْفِهِ، وَيَكُونَ أَخُوهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَلَا يَسْلَمُ مِنْ عَسْكَرِهِ أَحَدٌ. فَلَمَّا

خَرَجُوا مِنَ الْقَلْعَةِ سَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْسَ الْغُورِيُّ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ بِفَيْرُوزَكُوه، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ أَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ، وَجَعَلَهُ أَمِيرَ دَاذَ فَيْرُوزَكُوه، وَكَانَ ذَلِكَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ. وَأَمَّا أَلْدِزُ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى طَرِيقِ جَلَالِ الدِّينِ، فَالْتَقَوْا بِقَرْيَةِ بَلَقَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا صَبَرُوا فِيهِ، فَانْهَزَمَ جَلَالُ الدِّينِ وَعَسْكَرُهُ، وَأُخِذَ جَلَالُ الدِّينِ أَسِيرًا، وَأُتِيَ بِهِ إِلَى أَلْدِزَ، فَلَمَّا رَآهُ تَرَجَّلَ وَقَبَّلَ يَدَهُ، وَأَمَرَ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَيْهِ، وَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ وَجَلَالُ الدِّينِ مَعَهُ وَأَلْفُ أَسِيرٍ مِنَ الْبَامِيَانِيَّةِ، وَغَنِمَ أَصْحَابُهُ أَمْوَالَهُمْ. وَلَمَّا عَادَ إِلَى غَزْنَةَ أَرْسَلَ إِلَى عَلَاءِ الدِّينِ يَقُولُ لَهُ لِيُسَلِّمَ الْقَلْعَةَ إِلَيْهِ. وَإِلَّا قَتَلَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْأَسْرَى، فَلَمْ يُسَلِّمْهَا، فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَرْبَعَمِائَةِ أَسِيرٍ بِإِزَاءِ الْقَلْعَةِ، فَلَمَّا رَأَى عَلَاءُ الدِّينِ ذَلِكَ أَرْسَلَ مُؤَيَّدَ الْمُلْكِ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُ أَلْدِزُ، فَلَمَّا خَرَجَ قَبَضَ عَلَيْهِ وَوَكَّلَ بِهِ وَبِأَخِيهِ مَنْ يَحْفَظُهُمَا، وَقَبَضَ عَلَى وَزِيرِهِ عِمَادِ الْمُلْكِ لِسُوءِ سِيرَتِهِ، وَكَانَ هِنْدُوخَانُ بْنُ مَلِكْشَاهْ بْنِ خُوَارِزْمَ شَاهْ تُكُشَ مَعَ عَلَاءِ الدِّينِ بِقَلْعَةِ غَزْنَةَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْهَا قَبَضَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَكَتَبَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ بِالْفَتْحِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْأَعْلَامَ وَبَعْضَ الْأَسْرَى. ذِكْرُ قَصْدِ صَاحِبِ مَرَاغَةَ وَصَاحِبِ إِرْبِلَ أَذْرَبِيجَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اتَّفَقَ صَاحِبُ مَرَاغَةَ - وَهُوَ عَلَاءُ الدِّينِ - هُوَ وَمُظَفَّرُ الدِّينِ كُوكْبِرِي - صَاحِبُ إِرْبِلَ - عَلَى قَصْدِ أَذْرَبِيجَانَ وَأَخْذِهَا مِنْ صَاحِبِهَا أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَهْلَوَانِ، لِاشْتِغَالِهِ بِالشُّرْبِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَتَرْكِهِ النَّظَرَ فِي أَحْوَالِ الْمَمْلَكَةِ، وَحِفْظِ الْعَسَاكِرِ وَالرَّعَايَا، فَسَارَ صَاحِبُ إِرْبِلَ إِلَى مَرَاغَةَ، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَصَاحِبُهَا عَلَاءُ الدِّينِ، وَتَقَدَّمَا نَحْوَ تِبْرِيزَ، فَلَمَّا عَلِمَ صَاحِبُهَا أَبُو بَكْرِ الدِّينِ، أَرْسَلَ إِلَى إِيدْغِمْشَ - صَاحِبِ بِلَادِ الْجَبَلِ، هَمَذَانَ وَأَصْفَهَانَ وَالرَّيِّ وَمَا بَيْنَهَا مِنَ الْبِلَادِ - وَهُوَ مَمْلُوكُ أَبِيهِ الْبَهْلَوَانِ، وَهُوَ فِي طَاعَةِ أَبِي بَكْرٍ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ غَلَبَ عَلَى الْبِلَادِ، فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَنْجِدُهُ، وَيُعَرِّفُهُ الْحَالَ، وَكَانَ حِينَئِذٍ بِبَلَدِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَلَمَّا

أَتَاهُ الْخَبَرُ سَارَ إِلَيْهِ فِي الْعَسَاكِرِ الْكَثِيرَةِ. فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ أَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ إِرْبِلَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّنَا كُنَّا نَسْمَعُ عَنْكَ أَنَّكَ تُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَتُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، فَكُنَّا نَعْتَقِدُ فِيكَ الْخَيْرَ وَالدِّينَ، فَلَمَّا كَانَ الْآنُ ظَهَرَ لَنَا مِنْكَ ضِدَّ ذَلِكَ لِقَصْدِكَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ، وَقِتَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَهْبَ أَمْوَالِهِمْ، وَإِثَارَةَ الْفِتْنَةِ، فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ فَمَا لَكَ عَقْلٌ؛ تَجِيءُ إِلَيْنَا، وَأَنْتَ صَاحِبُ قَرْيَةٍ، وَنَحْنُ لَنَا مِنْ بَابِ خُرَاسَانَ إِلَى خِلَاطَ وَإِلَى إِرْبِلَ، وَاحْسُبْ أَنَّكَ هَزَمْتَ هَذَا، أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ لَهُ مَمَالِيكَ، أَنَا أَحَدُهُمْ؟ ! وَلَوْ أَخَذَ مِنْ كُلِّ قَرْيَةِ شِحْنَةً، أَوْ مِنْ كُلِّ مَدِينَةِ عَشْرَةَ رِجَالٍ، لَاجْتَمَعَ لَهُ أَضْعَافُ عَسْكَرِكَ، فَالْمَصْلَحَةُ أَنَّكَ تَرْجِعُ إِلَى بَلَدِكَ، وَإِنَّمَا أَقُولُ لَكَ هَذَا إِبْقَاءً عَلَيْكَ. ثُمَّ سَارَ نَحْوَهُ عَقِيبَ هَذِهِ الرِّسَالَةِ، فَلَمَّا سَمِعَهَا مُظَفَّرُ الدِّينِ وَبَلَغَهُ مَسِيرُ إِيدْغِمْشَ عَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ، فَاجْتَهَدَ بِهِ صَاحِبُ مَرَاغَةَ لِيُقِيمَ بِمَكَانِهِ، وَيُسَلِّمَ عَسْكَرَهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّنِي قَدْ كَاتَبَنِي جَمِيعُ أُمَرَائِهِ لِيَكُونُوا مَعِي إِذَا قَصَدْتُهُمْ، فَلَمْ يَقْبَلْ مُظَفَّرُ الدِّينِ مِنْ قَوْلِهِ، وَعَادَ إِلَى بَلَدِهِ، وَسَلَكَ الطَّرِيقَ الشَّاقَّةَ، وَالْمَضَايِقَ الصَّعْبَةَ. وَالْعُقَابَ الشَّاهِقَةَ، خَوْفًا مِنَ الطَّلَبِ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَإِيدْغِمْشَ قَصَدَا مَرَاغَةَ وَحَصَرَاهَا، فَصَالَحَهُمَا صَاحِبُهَا عَلَى تَسْلِيمِ قَلْعَةٍ مِنْ حُصُونِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، هِيَ كَانَتْ سَبَبَ الِاخْتِلَافِ، وَأَقْطَعَهُ أَبُو بَكْرٍ مَدِينَتَيْ أُسْتُوَا وَأُرْمِيَةَ وَعَادَ عَنْهُ. ذِكْرُ إِيقَاعِ إِيدْغِمْشَ بِالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ إِيدْغِمْشَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الْمُجَاوِرَةِ لِقَزْوِينَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً كَبِيرَةً، وَنَهَبَ وَسَبَى وَحَصَرَ قِلَاعَهُمْ، فَفَتَحَ مِنْهَا خَمْسَ قِلَاعٍ، وَصَمَّمَ الْعَزْمَ عَلَى حَصْرِ أَلْمُوتَ وَاسْتِئْصَالِ أَهْلِهَا، فَاتَّفَقَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَرَكَةِ صَاحِبِ مَرَاغَةَ

وَصَاحِبِ إِرْبِلَ، وَاسْتَدْعَاهُ الْأَمِيرُ أَبُو بَكْرٍ، فَفَارَقَ بِلَادَهُمْ وَسَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. ذِكْرُ وُصُولِ عَسْكَرٍ مِنْ خُوَارِزْمَ إِلَى بَلَدِ الْجَبَلِ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مِنْ عَسْكَرِ خُوَارِزْمَ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ نَحْوَ عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ بِأَهْلِيهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ إِلَى بَلَدِ الْجَبَلِ، فَوَصَلُوا إِلَى زِنْكَانَ وَكَانَ إِيدْغِمْشُ صَاحِبُهَا مَشْغُولًا مَعَ صَاحِبِ إِرْبِلَ وَصَاحِبِ مَرَاغَةَ، وَاغْتَنَمُوا خُلُوَّ الْبِلَادِ، فَلَمَّا عَادَ مُظَفَّرُ الدِّينِ إِلَى بَلَدِهِ وَانْفَصَلَ الْحَالُ بَيْنَ إِيدْغِمْشَ وَصَاحِبِ مَرَاغَةَ سَارَ إِيدْغِمْشُ، نَحْوَ الْخُوَارِزْمِيَّةِ فَلَقِيَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ ثُمَّ انْهَزَمَ الْخُوَارِزْمِيُّونَ وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ وَأُسِرَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ، وَسُبِيَ سَبَّاؤُهُمْ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَكَانُوا قَدْ أَفْسَدُوا فِي الْبِلَادِ بِالنَّهْبِ وَالْقَتْلِ فَلَقَوْا عَاقِبَةَ فِعْلِهِمْ. ذِكْرُ الْغَارَةِ مِنِ ابْنِ لِيُونَ عَلَى أَعْمَالِ حَلَبَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَوَالَتِ الْغَارَةُ مِنِ ابْنِ لِيُونَ الْأَرْمَنِيِّ، صَاحِبِ الدُّرُوبِ، عَلَى وِلَايَةِ حَلَبَ، فَنَهَبَ وَحَرَقَ، وَأَسَرَ، وَسَبَى ; فَجَمَعَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ غَازِي بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ - صَاحِبُ حَلَبَ - عَسَاكِرَهُ، وَاسْتَنْجَدَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُلُوكِ، فَجَمَعَ كَثِيرًا مِنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، وَسَارَ عَنْ حَلَبَ نَحْوَ ابْنِ لِيُونَ. وَكَانَ ابْنُ لِيُونَ قَدْ نَزَلَ فِي طَرَفِ بِلَادِهِ مِمَّا يَلِي بَلَدَ حَلَبَ، فَلَيْسَ إِلَيْهِ طَرِيقٌ، لِأَنَّ جَمِيعَ بِلَادِهِ لَا طَرِيقَ إِلَيْهَا إِلَّا مِنْ جِبَالٍ وَعْرَةٍ، وَمَضَايِقَ صَعْبَةٍ، فَلَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ عَلَى الدُّخُولِ إِلَيْهَا، لَا سِيَّمَا مِنْ نَاحِيَةِ حَلَبَ، فَإِنَّ الطَّرِيقَ مِنْهَا مُتَعَذَّرٌ جِدًّا، فَنَزَلَ الظَّاهِرُ عَلَى خَمْسَةِ فَرَاسِخَ مِنْ حَلَبَ، وَجَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ جَمَاعَةً مِنْ عَسْكَرِهِ مَعَ أَمِيرٍ كَبِيرٍ مِنْ مَمَالِيكِ أَبِيهِ، يُعْرَفُ بِمَيْمُونٍ الْقَصْرِيِّ، يُنْسَبُ إِلَى قَصْرِ الْخُلَفَاءِ الْعَلَوِيِّينَ بِمِصْرَ، لِأَنَّ أَبَاهُ مِنْهُمْ أَخَذَهُ، فَأَنْفَذَ الظَّاهِرُ مِيرَةً وَسِلَاحًا إِلَى حِصْنٍ لَهُ مُجَاوِرٍ لِبِلَادِ ابْنِ لِيُونَ اسْمُهُ دِرِبْسَاكُ، وَأَنْفَذَ إِلَى مَيْمُونٍ لِيُرْسِلَ طَائِفَةً مِنَ الْعَسْكَرِ الَّذِينَ عِنْدَهُ إِلَى طَرِيقِ هَذِهِ الذَّخِيرَةِ لِيَسِيرُوا مَعَهَا إِلَى دِرِبْسَاكَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَيَّرَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ عَسْكَرِهِ، وَبَقِيَ فِي قِلَّةٍ،

فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى ابْنِ لِيُونَ، فَجَدَّ، فَوَافَاهُ وَهُوَ مُخِفٌّ مِنَ الْعَسْكَرِ فَقَاتَلَهُ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ. فَأَرْسَلَ مَيْمُونٌ إِلَى الظَّاهِرِ يُعْلِمُهُ، وَكَانَ بَعِيدًا عَنْهُ، فَطَالَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَحَمَى مَيْمُونٌ نَفْسَهُ وَأَثْقَالَهُ عَلَى قِلَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةٍ مِنَ الْأَرْمَنِ، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، وَنَالَ الْعَدُوُّ مِنْهُمْ، فَقَتَلَ وَأَسَرَ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ بِالْأَرْمَنِ مِنْ كَثْرَةِ الْقَتْلِ. وَظَفِرَ الْأَرْمَنُ بِأَثْقَالِ الْمُسْلِمِينَ فَغَنِمُوهَا وَسَارُوا بِهَا، فَصَادَفَهُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ سَارُوا مَعَ الذَّخَائِرِ (إِلَى دِرِبْسَاكَ) ، فَلَمْ يَشْعُرُوا بِالْحَالِ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا الْعَدُوُّ قَدْ خَالَطَهُمْ وَوَضَعَ السَّيْفَ فِيهِمْ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، ثُمَّ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا، وَعَادَ الْأَرْمَنُ إِلَى بِلَادِهِمْ بِمَا غَنِمُوا وَاعْتَصَمُوا بِجِبَالِهِمْ وَحُصُونِهِمْ. ذِكْرُ نَهْبِ الْكُرْجِ أَرْمِينِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَصَدَتِ الْكُرْجُ فِي جُمُوعِهَا وِلَايَةَ خِلَاطَ مِنْ أَرْمِينِيَّةَ، وَنَهَبُوا وَقَتَلُوا، وَأَسَرُوا وَسَبَوْا أَهْلَهَا كَثِيرًا وَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ آمِنِينَ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ مِنْ خِلَاطَ مَنْ يَمْنَعُهُمْ، فَبَقَوْا مُتَصَرِّفِينَ فِي النَّهْبِ وَالسَّبْيِ، وَالْبِلَادُ شَاغِرَةٌ لَا مَانِعَ لَهَا، لِأَنَّ صَاحِبَهَا صَبِيٌّ، وَالْمُدَبِّرَ لِدَوْلَتِهِ لَيْسَتْ لَهُ تِلْكَ الطَّاعَةُ عَلَى الْجُنْدِ. فَلَمَّا اشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَى النَّاسِ تَذَامَرُوا، وَحَرَّضَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ الَّتِي بِتِلْكَ الْوِلَايَةِ جَمِيعِهَا، وَانْضَافَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ كَثِيرٌ، فَسَارُوا جَمِيعُهُمْ نَحْوَ الْكُرْجِ وَهُمْ خَائِفُونَ، فَرَأَى بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ الْأَخْيَارِ الشَّيْخَ مُحَمَّدًا الْبُسْتِيَّ، وَهُوَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ، فَقَالَ لَهُ الصُّوفِيُّ: أَرَاكَ هَاهُنَا؟ فَقَالَ: جِئْتُ لِمُسَاعَدَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ. فَاسْتَيْقَظَ فَرِحًا بِمَحَلِّ الْبُسْتِيِّ مِنَ الْإِسْلَامِ،

وَأَتَى إِلَى مُدَبِّرِ الْعَسْكَرِ وَالْقَيِّمِ بِأَمْرِهِ، وَقَصَّ عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ، وَقَوِيَ عَزْمُهُ عَلَى قَصْدِ الْكُرْجِ، وَسَارَ بِالْعَسَاكِرِ إِلَيْهِمْ فَنَزَلَ مَنْزِلًا. فَوَصَلَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى الْكُرْجِ، فَعَزَمُوا عَلَى كَبْسِ الْمُسْلِمِينَ، فَانْتَقَلُوا مِنْ مَوْضِعِهِمْ بِالْوَادِي إِلَى أَعْلَاهُ، فَنَزَلُوا فِيهِ لِيَكْبِسُوا الْمُسْلِمِينَ إِذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ، فَأَتَى الْمُسْلِمِينَ الْخَبَرُ، فَقَصَدُوا الْكُرْجَ وَأَمْسَكُوا عَلَيْهِمْ رَأْسَ الْوَادِي وَأَسْفَلَهُ، وَهُوَ وَادٍ لَيْسَ إِلَيْهِ غَيْرُ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ، فَلَمَّا رَأَى الْكُرْجُ ذَلِكَ أَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ، وَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَطَمِعَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمْ، وَضَايَقُوهُمْ، وَقَاتَلُوهُمْ. فَقَتَلُوا مِنْهُمْ كَثِيرًا، وَأَسَرُوا مِثْلَهُمْ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنَ الْكُرْجِ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَاكِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ طَاشْتِكِينُ مُجِيرُ الدِّينِ، أَمِيرُ الْحَاجِّ. بِتُسْتَرَ وَكَانَ قَدْ وَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ عَلَى جَمِيعِ خُوزِسْتَانَ، وَكَانَ أَمِيرَ الْحَاجِّ سِنِينَ كَثِيرَةً، وَكَانَ خَيِّرًا صَالِحًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، يَتَشَيَّعُ. وَلَمَّا مَاتَ وَلَّى الْخَلِيفَةُ عَلَى خُوزِسْتَانَ مَمْلُوكَهُ سَنْجَرَ، وَهُوَ صِهْرُ طَاشْتِكِينَ زَوْجُ ابْنَتِهِ. [وَفِيهَا قُتِلَ سَنْجَرُ بْنُ مَقْلَدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُهَارِشٍ، أَمِيرُ عِبَادَةَ، بِالْعِرَاقِ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ سَعَى بِأَبِيهِ مَقْلَدٍ إِلَى الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، فَأَمَرَ بِالتَّوْكِيلِ عَلَى أَبِيهِ، (فَبَقِيَ مُدَّةً) ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ الْخَلِيفَةُ، ثُمَّ إِنَّ سَنْجَرَ قَتَلَ أَخًا لَهُ اسْمُهُ. . .

فَأَوْغَرَ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ صُدُورَ أَهْلِهِ وَإِخْوَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ فِي شَعْبَانَ نَزَلَ بِأَرْضِ الْمَعْشُوقِ، وَرَكِبَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ وَمَعَهُ إِخْوَتُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا انْفَرَدَ عَنْ أَصْحَابِهِ ضَرَبَهُ أَخُوهُ عَلِيُّ بْنُ مَقْلَدٍ بِالسَّيْفِ فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، فَنَزَلَ إِخْوَتُهُ إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ. وَفِيهَا تَجَهَّزَ غِيَاثُ الدِّينِ خِسْرُو شَاهْ صَاحِبُ مَدِينَةِ الرُّومِ، إِلَى مَدِينَةِ طَرَابْزُونَ، وَحَصَرَ صَاحِبَهَا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ، فَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَانْقَطَعَتْ لِذَلِكَ الطُّرُقُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَالرُّوسِ، وَقِفْجَاقَ وَغَيْرِهَا، بَرًّا وَبَحْرًا، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَى بِلَادِ غِيَاثِ الدِّينِ، فَدَخَلَ بِذَلِكَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ عَلَى النَّاسِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَّجِرُونَ مَعَهُمْ، وَيَدْخُلُونَ بِلَادَهُمْ. وَيَقْصِدُهُمُ التُّجَّارُ مِنَ الشَّامِ، وَالْعِرَاقِ، وَالْمَوْصِلِ، وَالْجَزِيرَةِ وَغَيْرِهَا، فَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ بِمَدِينَةِ سِيوَاسَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَحَيْثُ لَمْ يَنْفَتِحِ الطَّرِيقُ تَأَذَّوْا أَذًى كَثِيرًا، فَكَانَ السَّعِيدُ مِنْهُمْ مَنْ عَادَ إِلَى رَأْسِ مَالِهِ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَهْلَوَانِ، صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرَانَ بِابْنَةِ مَلِكِ الْكُرْجِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْكُرْجَ تَابَعَتِ الْغَارَاتِ مِنْهُمْ عَلَى بِلَادِهِ لِمَا رَأَوْا مِنْ عَجْزِهِ وَانْهِمَاكِهِ فِي الشُّرْبِ وَاللَّعِبِ وَمَا جَانَسَهُمَا، وَإِعْرَاضِهِ عَنْ تَدْبِيرِ الْمُلْكِ وَحِفْظِ الْبِلَادِ، فَلَمَّا رَأَى هُوَ أَيْضًا ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الْحَمِيَّةِ وَالْأَنَفَةِ مِنْ هَذِهِ الْمَنَاحِسِ، مَا يَتْرُكُ مَا هُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الذَّبِّ عَنِ الْبِلَادِ [بِالسَّيْفِ] ، عَدَلَ إِلَى الذَّبِّ عَنْهَا بِأَيْرِهِ، فَخَطَبَ ابْنَةَ مَلِكِهِمْ، فَتَزَوَّجَهَا، فَكَفَّ الْكُرْجُ عَنِ النَّهْبِ وَالْإِغَارَةِ وَالْقَتْلِ، فَكَانَ كَمَا قِيلَ: أَغْمَدَ سَيْفَهُ، وَسَلَّ أَيْرَهُ. وَفِيهَا حُمِلَ إِلَى إِرْبِلَ خَرُوفٌ وَجْهُهُ صُورَةُ آدَمِيٍّ وَبَدَنُهُ بَدَنُ خَرُوفٍ، وَكَانَ هَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ] . [الْوَفَيَاتَ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَانَدَايُّ الْوَاسِطِيُّ بِهَا. وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ، تُوُفِّيَ فَخْرُ الدِّينِ مُبَارَكُ شَاهْ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَرُوذِيُّ، وَكَانَ حَسَنَ الشِّعْرِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ، وَلَهُ مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ غِيَاثِ الدِّينِ الْكَبِيرِ صَاحِبِ

غَزْنَةَ وَهَرَاةَ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ لَهُ دَارُ ضِيَافَةٍ، فِيهَا كُتُبٌ وَشِطْرَنْجٌ، فَالْعُلَمَاءُ يُطَالِعُونَ الْكُتُبَ، وَالْجُهَّالُ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ. وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعَادَةَ الْفَارِقِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، بِبَغْدَادَ، وَبَقِيَ مُدَّةً طَوِيلَةً مُعِيدًا بِالنِّظَامِيَّةِ، وَصَارَ مُدَرِّسًا بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَحْدَثَتْهَا أُمُّ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، وَكَانَ مَعَ عِلْمِهِ صَالِحًا، طُلِبَ لِلنِّيَابَةِ فِي الْقَضَاءِ بِبَغْدَادَ، فَامْتَنَعَ، فَأُلْزِمُ بِذَلِكَ، فَوَلِيَهُ يَسِيرًا، ثُمَّ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ مَشَى إِلَى جَامِعِ ابْنِ الْمُطَّلِبِ، فَنَزَلَ، وَلَبِسَ مِئْزَرَ صُوفٍ غَلِيظٍ، وَغَيَّرَ ثِيَابَهُ، وَأَمَرَ الْوُكَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ عَنْهُ، وَأَقَامَ بِهِ حَتَّى سَكَنَ الطَّلَبُ عَنْهُ، وَعَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ. وَفِيهَا وَقَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُوسَى الْمَكِّيُّ، الْمُقِيمُ بِمَقْصُورَةِ جَامِعِ السُّلْطَانِ بِبَغْدَادَ، مِنْ سَطْحِ الْجَامِعِ، فَمَاتَ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا كَثِيرَ الْعِبَادَةِ. وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ الْعَفِيفُ أَبُو الْمَكَارِمِ عَرَفَةُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَصْلَا الْبَنْدَنِيجِيُّ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، مُنْقَطِعًا إِلَى الْعِبَادَةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

ثم دخلت سنة ثلاث وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَة] 603 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ عَبَّاسٍ بَامِيَانَ وَعَوْدِهَا إِلَى ابْنِ أَخِيهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ عَبَّاسٌ بَامِيَانَ مِنْ عَلَاءِ الدِّينِ وَجَلَالِ الدِّينِ وَلَدَيْ أَخِيهِ بَهَاءِ الدِّينِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَسْكَرَ بَامِيَانَ لَمَّا انْهَزَمُوا مِنْ أَلْدِزَ، وَعَادُوا إِلَيْهَا، أُخْبِرُوا أَنَّ عَلَاءَ الدِّينِ وَجَلَالَ الدِّينِ أُسِرَا، وَأَنَّ أَلْدِزَ وَمَنْ مَعَهُ غَنِمُوا مَا فِي الْعَسْكَرِ فَأَخَذَ وَزِيرُ أَبِيهِمَا الْمَعْرُوفُ بِالصَّاحِبِ، مِنَ الْأَمْوَالِ كَثِيرًا، وَمِنَ الْجَوَاهِرِ وَغَيْرِهَا مَنِ التُّحَفِ، وَأَخَذَ فِيلًا وَسَارَ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى أَلْدِزَ لِيُسَيِّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا يَسْتَخْلِصُ بِهِ صَاحِبَيْهِ. فَلَمَّا فَارَقَ بَامِيَانَ، وَرَأَى عَمُّهُمَا عَبَّاسٌ خُلُوَّ الْبَلَدِ مِنْهُ وَمِنِ ابْنِ أَخِيهِ، جَمَعَ أَصْحَابَهُ وَقَامَ فِي الْبَلَدِ فَمَلَكَهُ، وَصَعِدَ إِلَى الْقَلْعَةِ فَمَلَكَهَا، وَأَخْرَجَ أَصْحَابَ ابْنَيْ أَخِيهِ عَلَاءِ الدِّينِ وَجَلَالِ الدِّينِ مِنْهَا، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْوَزِيرِ السَّائِرِ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَعَادَ إِلَى بَامِيَانَ، وَجَمَعَ الْجُمُوعَ الْكَثِيرَةَ، وَحَصَرَ عَبَّاسًا فِي الْقَلْعَةِ، وَكَانَ مُطَاعًا فِي جَمِيعِ مَمَالِكِ بَهَاءِ الدِّينِ وَوَلَدَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ مُحَاصِرًا، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يَقُومُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، إِنَّمَا كَانَ مَعَهُ مَا أَخَذَهُ لِيَحْمِلَهُ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ. فَلَمَّا خَلُصَ جَلَالُ الدِّينِ مِنْ أَسْرِ أَلْدِزَ - عَلَى مَا نَذْكُرُهُ - سَارَ إِلَى بَامِيَانَ، فَوَصَلَ إِلَى أَرْصُفَ، وَهِيَ مَدِينَةُ بَامِيَانَ، وَجَاءَ إِلَيْهِ وَزِيرُ أَبِيهِ الصَّاحِبُ، وَاجْتَمَعَ بِهِ، وَسَارُوا إِلَى الْقِلَاعِ، وَرَاسَلُوا عَبَّاسًا الْمُتَغَلِّبَ عَلَيْهَا، وَلَاطَفُوهُ، فَسَلَّمَ الْجَمِيعَ إِلَى جَلَالِ الدِّينِ وَقَالَ: إِنَّمَا حَفِظْتُهَا خَوْفًا أَنْ يَأْخُذَهَا خُوَارِزْمُ شَاهْ، فَاسْتَحْسَنَ فِعْلَهُ، وَعَادَ إِلَى مُلْكِهِ.

ذِكْرُ مُلْكِ خُوَارِزْمَ شَاهِ الطَّالْقَانِ لَمَّا سَلَّمَ خُوَارِزْمُ شَاهْ تِرْمِذَ إِلَى الْخَطَا سَارَ عَنْهَا إِلَى مَيْهَنَةَ وَأَنْدَخُوِي [وَكَتَبَ] إِلَى سُونَجَ أَمِيرِ أَشْكَارَ، نَائِبِ غِيَاثِ الدِّينِ مَحْمُودٍ بِالطَّالْقَانِ، يَسْتَمِيلُهُ، فَعَادَ الرَّسُولُ خَائِبًا لَمْ يُجِبْهُ سُونَجُ إِلَى مَا أَرَادَ مِنْهُ، وَجَمَعَ عَسْكَرَهُ وَخَرَجَ يُحَارِبُ خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَالْتَقَوْا بِالْقُرْبِ مِنَ الطَّالْقَانِ. فَلَمَّا تَقَابَلَ الْعَسْكَرَانِ حَمَلَ سُونَجُ وَحْدَهُ مُجِدًّا حَتَّى قَارَبَ عَسْكَرَ خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَرَمَى سِلَاحَهُ عَنْهُ، وَقَبَّلَ الْأَرْضِ، وَسَأَلَ الْعَفْوَ، فَظَنَّ خُوَارِزْمُ شَاهْ أَنَّهُ سَكْرَانُ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ صَاحٍ ذَمَّهُ وَسَبَّهُ، وَقَالَ: مَنْ يَثِقُ بِهَذَا وَأَشْبَاهِهِ! وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَأَخَذَ مَا بِالطَّالْقَانِ مِنْ مَالٍ وَسِلَاحٍ وَدَوَابَّ وَأَنْفَذَهُ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ مَعَ رَسُولٍ، وَحَمَّلَهُ رِسَالَةً تَتَضَمَّنُ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ وَالْمُلَاطَفَةَ لَهُ، وَاسْتَنَابَ بِالطَّالْقَانِ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، وَسَارَ إِلَى قِلَاعِ كَالُورِينَ وَبِيوَارَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ حُسَامُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ، صَاحِبُ كَالُورِينَ، وَقَاتَلَهُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ خُوَارِزْمُ شَاهْ يَتَهَدَّدُهُ إِنْ لَمْ يُسَلِّمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَمَمْلُوكٌ، وَأَمَّا هَذِهِ الْحُصُونُ فَهِيَ أَمَانَةٌ بِيَدِي، وَلَا أُسَلِّمُهَا إِلَّا إِلَى صَاحِبِهَا، فَاسْتَحْسَنَ خُوَارِزْمُ شَاهْ مِنْهُ هَذَا، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَذَمَّ سُونَجَ. وَلَمَّا بَلَغَ غِيَاثَ الدِّينِ خَبَرُ سُونَجَ، وَتَسْلِيمُهُ الطَّالْقَانَ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ، عَظُمَ عِنْدَهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ، فَسَلَّاهُ أَصْحَابُهُ، وَهَوَّنُوا الْأَمْرَ. وَلَمَّا فَرَغَ خُوَارِزْمُ شَاهْ مِنَ الطَّالْقَانِ سَارَ إِلَى هَرَاةَ، فَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا، وَلَمْ يُمَكِّنِ ابْنُ خَرْمِيلَ أَحَدًا مِنَ الْخُوَارِزْمِيِّينَ أَنْ يَتَطَرَّقَ بِالْأَذَى إِلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا كَانُوا يَجْتَمِعُ مِنْهُمُ الْجَمَاعَةُ بَعْدَ الْجَمَاعَةِ، فَيَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، وَهَذِهِ عَادَةُ الْخُوَارِزْمِيِّينَ. وَوَصَلَ رَسُولُ غِيَاثِ الدِّينِ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ بِالْهَدَايَا، وَرَأَى النَّاسُ عَجَبًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْخُوَارِزْمِيِّينَ لَا يَذْكُرُونَ غِيَاثَ الدِّينِ الْكَبِيرَ وَالِدَ غِيَاثِ الدِّينِ هَذَا، وَلَا يَذْكُرُونَ أَيْضًا شِهَابَ الدِّينِ أَخَاهُ، وَهُمَا حَيَّانِ، إِلَّا بِالْغُورِيِّ، وَصَاحِبِ غَزْنَةَ، وَكَانَ وَزِيرُ

خُوَارِزْمَ شَاهِ الْآنَ، مَعَ عِظَمِ شَأْنِهِ وَقِلَّةِ شَأْنِ غِيَاثِ الدِّينِ هَذَا، لَا يَذْكُرُهُ إِلَّا بِمَوْلَانَا السُّلْطَانُ مَعَ ضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ وَقِلَّةِ بِلَادِهِ. وَأَمَّا ابْنُ خَرْمِيلَ فَإِنَّهُ سَارَ مِنْ هَرَاةَ فِي جَمْعٍ مِنْ عَسْكَرِ خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَنَزَلَ عَلَى أَسْفِزَارَ فِي صَفَرٍ، وَكَانَ صَاحِبُهَا قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ فَحَصَرَهَا وَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ بِهَا يُقْسِمُ بِاللَّهِ لَئِنْ سَلَّمُوهَا أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ، وَإِنِ امْتَنَعُوا أَقَامَ عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ يَأْخُذَهُمْ، فَإِذَا أَخَذَهُمْ قَهْرًا لَا يُبْقِي عَلَى كَبِيرٍ وَلَا صَغِيرٍ، فَخَافُوا، فَسَلَّمُوهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَأَمَّنَهُمْ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَى أَهْلِهَا بِسُوءٍ، فَلَمَّا أَخَذَهَا أَرْسَلَ إِلَى حَرْبِ بْنِ مُحَمَّدٍ - صَاحِبِ سِجِسْتَانَ - يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَةِ خُوَارِزْمَ شَاهْ وَالْخُطْبَةِ لَهُ بِبِلَادِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ غِيَاثُ الدِّينِ قَدْ رَاسَلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ وَالدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ، فَغَالَطَهُ وَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى مَا طَلَبَ. وَلَمَّا كَانَ خُوَارِزْمُ شَاهْ عَلَى هَرَاةَ عَادَ إِلَيْهَا الْقَاضِي صَاعِدُ بْنُ الْفَضْلِ الَّذِي كَانَ ابْنُ خَرْمِيلَ قَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ هَرَاةَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، وَسَارَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ، فَعَادَ الْآنَ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ قَالَ ابْنُ خَرْمِيلَ لِخُوَارِزْمَ شَاهْ: إِنَّ هَذَا يَمِيلُ إِلَى الْغُورِيَّةِ، وَيُرِيدُ دَوْلَتَهُمْ، وَوَقَعَ فِيهِ، فَسَجَنَهُ خُوَارِزْمُ شَاهْ بِقَلْعَةِ زَوْزَنَ، وَوَلَّى الْقَضَاءَ بِهَرَاةَ الصَّفِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدٍ السَرَخْسِيَّ، وَكَانَ يَنُوبُ عَنْ صَاعِدٍ وَابْنِهِ فِي الْقَضَاءِ بِهَرَاةَ. ذِكْرُ حَالِ غِيَاثِ الدِّينِ مَعَ أَلْدِزَ وَأَيْبَكَ لَمَّا عَادَ أَلْدِزُ إِلَى غَزْنَةَ، وَأَسَرَ عَلَاءَ الدِّينِ وَأَخَاهُ جَلَالَ الدِّينِ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - كَتَبَ إِلَيْهِ غِيَاثُ الدِّينِ يُطَالِبُهُ بِالْخُطْبَةِ لَهُ، فَأَجَابَهُ جَوَابَ مُدَافِعٍ، وَكَانَ جَوَابُهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ أَشَدَّ مِنْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَأَعَادَ غِيَاثُ الدِّينِ إِلَيْهِ يَقُولُ: إِمَّا أَنْ تَخْطُبَ لَنَا، وَإِمَّا أَنْ تُعَرِّفَنَا مَا فِي نَفْسِكَ، فَلَمَّا وَصَلَ الرَّسُولُ بِهَذَا أَحْضَرَ خَطِيبَ غَزْنَةَ وَأَمَرَهُ [أَنْ] يَخْطُبَ لِنَفْسِهِ بَعْدَ التَّرَحُّمِ عَلَى شِهَابِ الدِّينِ، فَخَطَبَ لِتَاجِ الدِّينِ أَلْدِزَ بِغَزْنَةَ. فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ ذَلِكَ سَاءَهُمْ، وَتَغَيَّرَتْ نِيَّاتُهُمْ، وَنِيَّاتُ الْأَتْرَاكِ الَّذِينَ مَعَهُ، وَلَمْ يَرَوْهُ أَهْلًا أَنْ يَخْدِمُوهُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُطِيعُونَهُ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ يَنْصُرُ دَوْلَةَ غِيَاثِ الدِّينِ، فَلَمَّا خَطَبَ لَهُ أَرْسَلَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ يَقُولُ لَهُ: بِمَاذَا تَشْتَطُّ عَلَيَّ، وَتَتَحَكَّمُ فِي هَذِهِ الْخِزَانَةِ؟ نَحْنُ جَمَعْنَاهَا بِأَسْيَافِنَا، وَهَذَا الْمُلْكُ قَدْ أَخَذْتَهُ، وَأَنْتَ قَدِ اجْتَمَعَ عِنْدَكَ الَّذِينَ هُمْ

أَسَاسُ الْفِتْنَةِ، وَأَقْطَعْتَهُمُ الْإِقْطَاعَاتِ، وَوَعَدْتَنِي بِأُمُورٍ لَمْ تَقِفْ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَنْتَ أَعْتَقْتَنِي خَطَبْتُ لَكَ وَحَضَرْتُ خِدْمَتَكَ. فَلَمَّا وَصَلَ الرَّسُولُ أَجَابَهُ غِيَاثُ الدِّينِ إِلَى عِتْقِ أَلْدِزَ، بَعْدَ الِامْتِنَاعِ الشَّدِيدِ، وَالْعَزْمِ عَلَى مُصَالَحَةِ خُوَارِزْمَ شَاهْ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَقَصْدِ غَزْنَةَ وَمُحَارَبَتِهِ بِهَا، فَلَمَّا أَجَابَهُ إِلَى الْعِتْقِ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِعِتْقِ قُطْبِ الدِّينِ أَيْبَكَ، مَمْلُوكِ شِهَابِ الدِّينِ وَنَائِبِهِ بِبِلَادِ الْهِنْدِ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ قُبَاءٍ، وَأَلْفَ قَلَنْسُوَةٍ، وَمَنَاطِقَ الذَّهَبِ، وَسُيُوفًا كَثِيرَةً وَجَتْرَيْنِ، وَمِائَةَ رَأْسٍ مِنَ الْخَيْلِ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَسُولًا، فَقَبِلَ أَلْدِزُ الْخِلَعَ، وَرَدَ الْجَتْرَ، وَقَالَ: نَحْنُ عَبِيدٌ وَمَمَالِيكٌ، وَالْجَتْرُ لَهُ أَصْحَابٌ. وَسَارَ رَسُولُ أَيْبَكَ إِلَيْهِ، وَكَانَ بِفَرْشَابُورَ قَدْ ضَبَطَ الْمَمْلَكَةَ وَحَفِظَ الْبِلَادَ، وَمَنَعَ الْمُفْسِدِينَ مِنَ الْفَسَادِ وَالْأَذَى، وَالنَّاسُ مَعَهُ فِي أَمْنٍ، فَلَمَّا قَرُبَ الرَّسُولُ مِنْهُ لَقِيَهُ عَلَى بُعْدٍ، وَتَرَجَّلَ وَقَبَّلَ حَافِرَ الْفَرَسِ، وَلَبِسَ الْخِلْعَةَ، وَقَالَ: أَمَّا الْجَتْرُ فَلَا يَصْلُحُ لِلْمَمَالِيكِ، وَأَمَّا الْعِتْقُ فَمَقْبُولٌ، وَسَوْفَ أُجَازِيهِ بِعُبُودِيَّةٍ الْأَبَدَ. وَأَمَّا خُوَارِزْمُ شَاهْ فَإِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَتَصَاهَرَا، وَيَطْلُبُ مِنْهُ ابْنَ خَرْمِيلَ صَاحِبَ هَرَاةَ إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَسِيرُ مَعَهُ فِي الْعَسَاكِرِ إِلَى غَزْنَةَ. فَإِذَا مَلَكَهَا مِنْ أَلْدِزَ اقْتَسَمُوا الْمَالَ أَثْلَاثًا: ثُلُثٌ لِخُوَارِزْمَ شَاهْ، وَثُلُثٌ لِغِيَاثِ الدِّينِ، وَثُلُثٌ لِلْعَسْكَرِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الصُّلْحُ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ بِمَوْتِ صَاحِبِ مَازَنْدَرَانَ، فَسَارَ عَنْ هَرَاةَ إِلَى مَرْوَ، وَسَمِعَ أَلْدِزُ بِالصُّلْحِ، فَجَزِعَ لِذَلِكَ جَزَعًا عَظِيمًا ظَهَرَ أَثَرُهُ عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: حَمَلَنِي عَلَيْهِ عِصْيَانُكَ وَخِلَافُكَ عَلَيَّ. فَسَارَ أَلْدِزُ إِلَى تِكْيَابَاذَ فَأَخَذَهَا، وَإِلَى بُسْتَ، وَتِلْكَ الْأَعْمَالِ فَمَلَكَهَا، وَقَطَعَ خُطْبَةَ غِيَاثِ الدِّينِ مِنْهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ سِجِسْتَانَ يَأْمُرُهُ بِإِعَادَةِ التَّرَحُّمِ عَلَى شِهَابِ الدِّينِ، وَقَطْعِ خُطْبَةِ خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ خَرْمِيلَ، صَاحِبِ هَرَاةَ، بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَتَهَدَّدَهُمَا بِقَصْدِ بِلَادِهِمَا، فَخَافَهُمَا النَّاسُ.

ثُمَّ إِنَّ أَلْدِزَ أَخْرَجَ جَلَالَ الدِّينِ، صَاحِبَ بَامِيَانَ، مِنْ أَسْرِهِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ خَمْسَةَ آلَافِ فَارِسٍ مَعَ أَيْ دِكْزَ الْتَتَرِ، مَمْلُوكِ شِهَابِ الدِّينِ، إِلَى بَامِيَانَ لِيُعِيدُوهُ إِلَى مُلْكِهِ وَيُزِيلُوا ابْنَ عَمِّهِ عَنْهُ، وَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ، وَسَارَ وَمَعَهُ أَيْ دِكْزُ، فَلَمَّا خَلَا بِهِ وَبَّخَهُ عَلَى لِبْسِهِ خِلْعَةَ أَلْدِزَ وَقَالَ لَهُ: أَنْتُمْ مَا رَضِيتُمْ [أَنْ] تَلْبَسُوا خِلْعَةَ غِيَاثِ الدِّينِ، وَهُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْكُمْ، وَأَشْرَفُ بَيْتًا، تَلْبَسُ خِلْعَةَ هَذَا الْمَأْبُونِ! - يَعْنِي أَلْدِزَ -، وَدَعَاهُ إِلَى الْعَوْدِ مَعَهُ إِلَى غَزْنَةَ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ الْأَتْرَاكَ كُلَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى خِلَافِ أَلْدِزَ. فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَقَالَ أَيْ دِكْزُ: فَإِنَّنِي لَا أَسِيرُ مَعَكَ، وَعَادَ إِلَى كَابُلَ، وَهِيَ إِقْطَاعُهُ، فَلَمَّا وَصَلَ أَيْ دِكْزُ إِلَى كَابُلَ لَقِيَهُ رَسُولٌ مِنْ قُطْبِ الدِّينِ أَيْبَكَ إِلَى أَلْدِزَ يُقَبِّحُ لَهُ فِعْلَهُ، وَيَأْمُرُهُ بِإِقَامَةِ خُطْبَةِ غِيَاثِ الدِّينِ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّهُ قَدْ خَطَبَ لَهُ فِي بِلَادِهِ، وَيَقُولُ لَهُ إِنْ لَمْ يَخْطُبْ لَهُ هُوَ أَيْضًا بِغَزْنَةَ وَيَعُودُ إِلَى طَاعَتِهِ، وَإِلَّا قَصَدَهُ وَحَارَبَهُ. فَلَمَّا عَلِمَ أَيْ دِكْزُ ذَلِكَ قَوِيَتْ نَفْسُهُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَلْدِزَ، وَصَمَّمَ الْعَزْمَ عَلَى قَصْدِ غَزْنَةَ. وَوَصَلَ أَيْضًا رَسُولُ أَيْبَكَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ، وَيُشِيرُ عَلَيْهِ بِإِجَابَةِ خُوَارِزْمَ شَاهْ إِلَى مَا طَلَبَ الْآنَ، وَعِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَمْرِ غَزْنَةَ تَسْهُلُ أُمُورُ خُوَارِزْمَ شَاهْ وَغَيْرِهِ، وَأَنْفَذَ لَهُ ذَهَبًا عَلَيْهِ اسْمُهُ، فَكَتَبَ أَيْ دِكْزُ إِلَى أَيْبَكَ يُعَرِّفُهُ عِصْيَانَ أَلْدِزَ عَلَى غِيَاثِ الدِّينِ وَمَا فَعَلَهُ فِي الْبِلَادِ، وَأَنَّهُ عَلَى عَزْمِ مُشَاقَّةِ أَلْدِزَ، وَهُوَ يَنْتَظِرُ أَمْرَهُ، فَأَعَادَ أَيْبَكُ جَوَابَهُ يَأْمُرُهُ بِقَصْدِ غَزْنَةَ، فَإِنْ حَصَلَتْ لَهُ الْقَلْعَةُ أَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ، وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ الْقَلْعَةُ وَقَصَدَهُ أَلْدِزُ انْحَازَ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ، أَوْ يَعُودُ إِلَى كَابُلَ. فَسَارَ إِلَى غَزْنَةَ، وَكَانَ جَلَالُ الدِّينِ قَدْ كَتَبَ إِلَى أَلْدِزَ يُخْبِرُهُ خَبَرَ أَيْ دِكْزَ وَمَا عَزَمَ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ أَلْدِزُ إِلَى نُوَّابِهِ بِقَلْعَةِ غَزْنَةَ يَأْمُرُهُمْ بِالِاحْتِيَاطِ مِنْهُ، فَوَصَلَهَا أَيْ دِكْزُ أَوَّلَ رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ، وَقَدْ حَذِرُوهُ فَلَمْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِ الْقَلْعَةَ، وَمَنَعُوهُ عَنْهَا، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِنَهْبِ الْبَلَدِ، فَنَهَبُوا عِدَّةَ مَوَاضِعَ مِنْهُ، فَتَوَسَّطَ الْقَاضِيَ الْحَالُّ بِأَنْ سَلَّمَ إِلَيْهِ مِنَ الْخِزَانَةِ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ رُكْنِيَّةٍ، وَأَخَذَ لَهُ مِنَ التُّجَّارِ شَيْئًا آخَرَ، وَخَطَبَ أَيْ دِكْزُ بِغَزْنَةَ لِغِيَاثِ الدِّينِ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ أَلْدِزَ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ. وَكَانَ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ يَنُوبُ عَنْ أَلْدِزَ بِالْقَلْعَةِ، وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى أَلْدِزَ بِوُصُولِ أَيْ

دِكْزَ إِلَى غَزْنَةَ، وَوُصُولِ رَسُولِ أَيْبَكَ إِلَيْهِ، فَفُتَّ فِي عَضُدِهِ، وَخَطَبَ لِغِيَاثِ الدِّينِ فِي تِكْيَابَاذَ، وَأَسْقَطَ اسْمَهُ مِنَ الْخُطْبَةِ، فَخَطَبَ لَهُ، وَرَحَلَ إِلَى غَزْنَةَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا رَحَلَ أَيْ دِكْزُ عَنْهَا إِلَى بَلَدِ الْغَوْرِ، فَأَقَامَ فِي تَمْرَانَ، وَكَتَبَ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ يُخْبِرُهُ بِحَالِهِ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ الْمَالَ الَّذِي أَخَذَهُ مِنَ الْخِزَانَةِ وَمِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ خِلَعًا وَأَعْتَقَهُ، وَخَاطَبَهُ بِمُلْكِ الْأُمَرَاءِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْمَالَ الَّذِي كَانَ أَخَذَهُ مِنَ الْخِزَانَةِ، وَقَالَ لَهُ: أَمَّا مَالُ الْخِزَانَةِ فَقَدْ أَعَدْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَهُ، وَأَمَّا أَمْوَالُ التُّجَّارِ وَأَهْلِ الْبَلَدِ فَقَدْ أَرْسَلْتُهُ (مَعَ رَسُولِي لِيُعَادَ) إِلَى أَرْبَابِهِ لِئَلَّا نَفْتَتِحَ دَوْلَتَنَا بِالظُّلْمِ، وَقَدْ عَوَّضْتُكَ عَنْهُ ضِعْفَهُ. وَأَرْسَلَ أَمْوَالَ النَّاسِ إِلَى غَزْنَةَ، إِلَى قَاضِي غَزْنَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَالَ (الْمُنْفَذَ) عَلَى أَرْبَابِهِ، فَأَنْهَى الْقَاضِي الْحَالُّ إِلَى أَلْدِزَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْخُطْبَةِ لِغِيَاثِ الدِّينِ، وَقَالَ: أَنَا أَسْعَى فِي الْوَصْلَةِ بَيْنَكُمَا وَالصِّهْرِ وَالصُّلْحِ، فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْقَاضِي يَنْهَاهُ عَنِ الْمَجِيءِ إِلَيْهِ، وَقَالَ: لَا تَسْأَلْ فِي عَبْدٍ أَبَقَ قَدْ بَانَ فَسَادُهُ وَاتَّضَحَ عِنَادُهُ، فَأَقَامَ بِغَزْنَةَ هُوَ وَأَلْدُزُ، وَسَيَّرَ غِيَاثُ الدِّينِ عَسْكَرًا إِلَى أَيْ دِكْزَ الْتَتَرِ، فَأَقَامُوا مَعَهُ، وَسَيَّرَ أَلْدِزُ عَسْكَرًا إِلَى رُوَيْنَ كَانَ، وَهِيَ لِغِيَاثِ الدِّينِ، وَقَدْ أَقْطَعَهَا لِبَعْضِ الْأُمَرَاءِ، فَهَجَمُوا عَلَى صَاحِبِهَا، فَنَهَبُوا مَالَهُ، وَأَخَذُوا أَوْلَادَهُ، فَنَجَا وَحْدَهُ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ، فَاقْتَضَى الْحَالُ أَنْ سَارَ غِيَاثُ الدِّينِ إِلَى بُسْتَ وَتِلْكَ الْوِلَايَةِ، فَاسْتَرَدَّهَا وَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا، وَأَطْلَقَ لَهُمْ خَرَاجَ سَنَةٍ لِمَا نَالَهُمْ مِنْ أَلْدِزَ مِنَ الْأَذَى. ذِكْرُ وَفَاةِ صَاحِبِ مَازَنْدَرَانَ وَالْخُلْفِ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ حُسَامُ الدِّينِ (أَرْدِشِيرُ) ، صَاحِبُ مَازَنْدَرَانَ وَخَلَّفَ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ، فَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْأَكْبَرُ، وَأَخْرَجَ أَخَاهُ الْأَوْسَطَ مِنَ الْبِلَادِ، فَقَصَدَ جُرْجَانَ، وَبِهَا الْمَلِكُ عَلِيٌّ شَاهْ بْنُ خُوَارِزْمَ شَاهْ تُكُشَ، أَخُو خُوَارِزْمَ شَاهْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ يَنُوبُ عَنْ أَخِيهِ فِيهَا، فَشَكَا إِلَيْهِ مِمَّا صَنَعَ بِهِ أَخُوهُ، مِنْ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْبِلَادِ، (وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُنْجِدَهُ عَلَيْهِ،

وَيَأْخُذَ لَهُ الْبِلَادَ لِيَكُونَ فِي طَاعَتِهِ) ، فَكَتَبَ عَلِيٌّ شَاهْ إِلَى أَخِيهِ خُوَارِزْمَ شَاهْ فِي ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ مَعَهُ إِلَى مَازَنْدَرَانَ، وَأَخْذِ الْبِلَادِ لَهُ، وَإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ لِخُوَارِزْمَ شَاهْ فِيهَا. فَسَارُوا عَنْ جُرْجَانَ، فَاتُّفِقَ أَنَّ حُسَامَ الدِّينِ، صَاحِبَ مَازَنْدَرَانَ، مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَلَكَ الْبِلَادَ بَعْدَهُ أَخُوهُ الْأَصْغَرُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْقِلَاعِ وَالْأَمْوَالِ، فَدَخَلَ عَلِيٌّ شَاهِ الْبِلَادَ، وَمَعَهُ صَاحِبُ، مَازَنْدَرَانَ، فَنَهَبُوهَا وَخَرَّبُوهَا، وَامْتَنَعَ مِنْهُمُ الْأَخُ الصَّغِيرُ بِالْقِلَاعِ، وَأَقَامَ بِقَلْعَةِ كُورَا، وَهِيَ الَّتِي فِيهَا الْأَمْوَالُ وَالذَّخَائِرُ، وَحَصَرُوهُ فِيهَا بَعْدَ أَنْ مَلَّكُوا أُسَامَةَ الْبِلَادَ مِثْلَ: سَارِيَةَ وَآمُلَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْبِلَادِ وَالْحُصُونِ، وَخُطِبَ لِخُوَارِزْمَ شَاهْ فِيهَا جَمِيعِهَا، فَصَارَتْ فِي طَاعَتِهِ، وَعَادَ عَلِيٌّ شَاهْ إِلَى جُرْجَانَ، وَأَقَامَ ابْنُ مَلْكِ مَازَنْدَرَانَ فِي الْبِلَادِ مَالِكًا لَهَا جَمِيعِهَا، سِوَى الْقَلْعَةِ الَّتِي فِيهَا أَخُوهُ الْأَصْغَرُ، وَهُوَ يُرَاسِلُهُ، وَيَسْتَمِيلُهُ، وَيَسْتَعْطِفُهُ، وَأَخُوهُ لَا يَرُدُّ جَوَابًا، وَلَا يَنْزِلُ عَنْ حِصْنِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ غِيَاثِ الدِّينِ كَيْخَسْرُو مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَالِثَ شَعْبَانَ، مَلَكَ غِيَاثُ الدِّينِ كَيْخَسْرُو، صَاحِبُ قُونِيَةَ وَبَلَدِ الرُّومِ، مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ بِالْأَمَانِ، وَهِيَ لِلرُّومِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ حَصَرَهَا قَبْلَ هَذَا التَّارِيخِ، وَأَطَالَ الْمُقَامَ عَلَيْهَا، وَهَدَمَ عِدَّةَ أَبْرَاجٍ مِنْ سُورِهَا، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا فَتْحُهَا عَنْوَةً، فَأَرْسَلَ مَنْ [بِهَا مِنَ] الرُّومِ إِلَى الْفِرِنْجِ الَّذِينَ بِجَزِيرَةِ قُبْرُسَ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْهَا، فَاسْتَنْجَدُوهُمْ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَئِسَ غِيَاثُ الدِّينِ مِنْهَا، وَرَحَلَ عَنْهَا، وَتَرَكَ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، بِالْجِبَالِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ بِلَادِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِقَطْعِ الْمِيرَةِ مِنْهَا. فَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةً حَتَّى ضَاقَ بِأَهْلِ الْبَلَدِ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، فَطَلَبُوا مِنَ الْفِرِنْجِ الْخُرُوجَ لِدَفْعِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُضَايَقَتِهِمْ، فَظَنَّ الْفِرِنْجُ أَنَّ الرُّومَ يُرِيدُونَ إِخْرَاجَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ بِهَذَا السَّبَبِ، فَوَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَهُمْ، فَاقْتَتَلُوا، فَأَرْسَلَ الرُّومُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَطَلَبُوهُمْ لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِمُ الْبَلَدَ، فَوَصَلُوا إِلَيْهِمْ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ وَدَخَلُوا الْحِصْنَ فَاعْتَصَمُوا بِهِ، فَأَرْسَلَ الْمُسْلِمُونَ يَطْلُبُونَ غِيَاثَ الدِّينِ، وَهُوَ بِمَدِينَةِ قُونِيَةَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ مُجِدًّا فِي طَائِفَةٍ مِنْ عَسْكَرِهِ، فَوَصَلَهَا ثَانِيَ شَعْبَانَ،

وَتَقَرَّرَ الْحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّومِ، وَتَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ (ثَالِثَةً) ، وَحَصَرَ الْحِصْنَ الَّذِي فِيهِ الْفِرِنْجُ، وَتَسَلَّمَهُ، وَقَتَلَ كُلَ مَنْ كَانَ بِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ. ذِكْرُ عَزْلِ وُلِدِ بُكْتُمُرَ صَاحِبِ خِلَاطَ وَمُلْكِ بِلْبَانَ وَمَسِيرِ صَاحِبِ مَارْدِينَ إِلَى خِلَاطَ وَعَوْدِهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ عَسْكَرُ خِلَاطَ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَدِ بُكْتُمُرَ، وَمَلَكَهَا بِلْبَانُ مَمْلُوكُ شَاهْ أَرْمَنَ بْنِ سَكْمَانَ، وَكَتَبَ أَهْلُ خِلَاطَ إِلَى نَاصِرِ الدِّينِ أُرْتُقَ بْنِ إِيلِغَازِي بْنِ الْبِي بْنِ تِمِرْتَاشَ بْنِ إِيلِغَازِي بْنِ أَرْتَقَ يَسْتَدْعُونَهُ إِلَيْهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ وَلَدَ بُكْتُمُرَ كَانَ صَبِيًّا جَاهِلًا، فَقَبَضَ عَلَى الْأَمِيرِ (شُجَاعِ الدِّينِ قُتْلُغَ، مَمْلُوكٍ مِنْ مَمَالِيكِ شَاهْ أَرْمَنَ) ، وَهُوَ كَانَ أَتَابِكَهُ، وَمُدَبِّرَ بِلَادِهِ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ مَعَ الْجُنْدِ وَالرَّعِيَّةِ، فَلَمَّا قَتَلَهُ اخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ مِنَ الْجُنْدِ وَالْعَامَّةِ، وَاشْتَغَلَ هُوَ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَإِدْمَانِ الشُّرْبِ، فَكَاتَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ عَامَّةِ خِلَاطَ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ جُنْدِ نَاصِرِ الدِّينِ، صَاحِبِ مَارْدِينَ، يَسْتَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا كَاتَبُوهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُلُوكِ لِأَنَّ أَبَاهُ قُطْبَ الدِّينِ إِيلِغَازِي كَانَ ابْنَ أُخْتِ شَاهْ أَرْمَنَ بْنِ سَكْمَانَ، وَكَانَ شَاهْ أَرْمَنَ قَدْ حَلَفَ لَهُ النَّاسُ فِي حَيَاتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ، فَلَمَّا تَجَدَّدَتْ بَعْدَهُ هَذِهِ الْحَادِثَةُ تَذَاكَرُوا تِلْكَ الْأَيْمَانَ، وَقَالُوا: نَسْتَدْعِيهِ وَنُمَلِّكُهُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ شَاهْ أَرْمَنَ، فَكَاتَبُوهُ وَطَلَبُوهُ إِلَيْهِمْ. ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ مَمَالِيكِ شَاهْ أَرْمَنَ، اسْمُهُ بِلْبَانُ، وَكَانَ قَدْ جَاهَرَ وَلَدَ بُكْتُمُرَ بِالْعَدَاوَةِ وَالْعِصْيَانِ، سَارَ مِنْ خِلَاطَ إِلَى مَلَازَكُرْدَ وَمَلَكَهَا، وَاجْتَمَعَ الْأَجْنَادُ عَلَيْهِ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَسَارَ إِلَى خِلَاطَ فَحَصَرَهَا، وَاتَّفَقَ وَصُولَ صَاحِبِ مَارْدِينَ إِلَيْهَا، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ، وَيُسَلِّمُونَ إِلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْ خِلَاطَ عِدَّةَ أَيَّامٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِلْبَانُ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ خِلَاطَ قَدِ اتَّهَمُونِي بِالْمَيْلِ إِلَيْكَ، وَهُمْ يَنْفِرُونَ مِنَ الْعَرَبِ، وَالرَّأْيُ أَنَّكَ تَرْحَلُ عَائِدًا مَرْحَلَةً وَاحِدَةً وَتُقِيمُ، فَإِذَا تَسَلَّمَتُ الْبَلَدَ سَلَّمْتُهُ إِلَيْكَ، لِأَنَّنِي لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَمْلِكَهُ أَنَا.

فَفَعَلَ صَاحِبُ مَارْدِينَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَبْعَدَ عَنْ خَلَاطَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: تَعُودُ إِلَى بَلَدِكَ، وَإِلَّا جِئْتُ إِلَيْكَ وَأَوْقَعْتُ بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ. وَكَانَ فِي قِلَّةٍ مِنَ الْجَيْشِ، فَعَادَ إِلَى مَارْدِينَ. وَكَانَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ مُوسَى بْنُ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، صَاحِبُ حَرَّانَ وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ، قَدْ أَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ مَارْدِينَ، لَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يُرِيدُ قَصْدَ خِلَاطَ، يَقُولُ لَهُ: إِنْ سِرْتَ إِلَى خِلَاطَ قَصَدْتُ بَلَدَكَ، وَإِنَّمَا خَافَ أَنْ يَمْلِكَ خِلَاطَ فَيَقْوَى عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا سَارَ إِلَى خِلَاطَ جَمَعَ الْأَشْرَفُ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ إِلَى وِلَايَةِ مَارْدِينَ، فَأَخَذَ دَخْلَهَا، وَأَقَامَ بِدُنَيْسِرَ يَجْبِي الْأَمْوَالَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ عَادَ إِلَى حَرَّانَ، فَكَانَ مَثَلُ صَاحِبِ مَارْدِينَ كَمَا قِيلَ: خَرَجَتِ النَّعَامَةُ تَطْلُبُ قَرْنَيْنِ فَعَادَتْ بِلَا أُذُنَيْنِ. وَأَمَّا بِلْبَانُ فَإِنَّهُ جَمَعَ الْعَسْكَرَ وَحَشَدَ، وَحَصَرَ خِلَاطَ وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا، وَبِهَا وَلَدُ بُكْتُمُرَ، فَجَمَعَ مَنْ عِنْدَهُ بِالْبَلَدِ مِنَ الْأَجْنَادِ وَالْعَامَّةِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا، فَانْهَزَمَ بِلْبَانُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَعَادَ إِلَى الَّذِي بِيَدِهِ مِنَ الْبِلَادِ، وَهُوَ: مَلَازَكُرْدُ وَأَرْجِيشُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْحُصُونِ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرِ، وَاسْتَكْثَرَ مِنْهَا، وَعَاوَدَ حِصَارَ خِلَاطَ وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا، فَاضْطَرَّهُمْ إِلَى خِذْلَانِ وَلَدِ بُكْتُمُرَ لِصِغَرِهِ، وَجَهْلِهِ بِالْمُلْكِ، وَاشْتِغَالِهِ بِلَهْوِهِ وَلَعِبِهِ، ثُمَّ قَبَضُوا عَلَيْهِ فِي الْقَلْعَةِ، وَأَرْسَلُوا إِلَى بِلْبَانَ وَحَلَّفُوهُ عَلَى مَا أَرَادُوا، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ الْبَلَدَ وَابْنَ بُكْتُمُرَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ خِلَاطَ، وَسَجَنَ ابْنَ بُكْتُمُرَ فِي قَلْعَةٍ هُنَاكَ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ، فَسُبْحَانَ مَنْ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ ; بِالْأَمْسِ يَقْصِدُهَا شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ الْبَهْلَوَانُ وَصَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدُهُمَا عَلَيْهَا، وَالْآنَ يَظْهَرُ هَذَا الْمَمْلُوكُ الْعَاجِزُ، الْقَاصِرُ عَنِ الرِّجَالِ وَالْبِلَادِ وَالْأَمْوَالِ، فَيَمْلِكُهَا صَفْوًا عَفْوًا. ثُمَّ إِنَّ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ بْنَ الْعَادِلِ، صَاحِبَ مَيَّافَارِقِينَ، سَارَ نَحْوَ وِلَايَةِ خِلَاطَ وَكَانَ قَدِ اسْتَوْلَى [عَلَى] عِدَّةِ حُصُونٍ مِنْ أَعْمَالِهَا مِنْهَا: حِصْنُ مُوسَى وَمَدِينَتُهُ، فَلَمَّا قَارَبَ خِلَاطَ أَظْهَرَ لَهُ بِلْبَانُ الْعَجْزَ عَنْ مُقَابَلَتِهِ، فَطَمِعَ، وَأَوْغَلَ فِي الْقُرْبِ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ بِلْبَانُ الطَّرِيقَ وَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَّا الْقَلِيلُ وَهُمْ جَرْحَى، وَعَادَ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ.

ذِكْرُ مُلْكِ الْكُرْجِ مَدِينَةَ قُرْسَ وَمَوْتِ مَلِكِ الْكُرْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الْكُرْجُ حِصْنَ قُرْسَ، مِنْ أَعْمَالِ خِلَاطَ، وَكَانُوا قَدْ حَصَرُوهُ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَضَيَّقُوا عَلَى مَنْ فِيهِ، وَأَخَذُوا دَخْلَ الْوِلَايَةِ عِدَّةَ سِنِينَ، وَكُلُّ مَنْ يَتَوَلَّى خِلَاطَ لَا يُنْجِدُهُمْ، وَلَا يَسْعَى فِي رَاحَةٍ تَصِلُ إِلَيْهِمْ. وَكَانَ الْوَالِي بِهَا يُوَاصِلُ رُسُلَهُ فِي طَلَبِ النَّجْدَةِ، وَإِزَاحَةِ مَنْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُرْجِ، فَلَا يُجَابُ لَهُ دُعَاءٌ، فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَرَأَى أَنْ لَا نَاصِرَ لَهُ، صَالَحَ الْكُرْجَ عَلَى تَسْلِيمِ الْقَلْعَةِ عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ وَإِقْطَاعٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ. وَصَارَتْ دَارَ شِرْكٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ دَارَ تَوْحِيدٍ - فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ -، وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُسَهِّلَ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ نَصْرًا مِنْ عِنْدِهِ، فَإِنَّ مُلُوكَ زَمَانِنَا قَدِ اشْتَغَلُوا بِلَهْوِهِمْ وَلَعِبِهِمْ وَظُلْمِهِمْ عَنْ سَدِّ الثُّغُورِ وَحِفْظِ الْبِلَادِ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - نَظَرَ إِلَى قِلَّةِ نَاصِرِ الْإِسْلَامِ، فَتَوَلَّاهُ هُوَ، فَأَمَاتَ مَلِكَةَ الْكُرْجِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَكَفَى اللَّهُ شَرَّهُمْ إِلَى آخِرِ السَّنَةِ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ وَصَاحِبِ لُرُسْتَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَمَضَانَ، سَارَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ مِنْ خُوزِسْتَانَ مَعَ مَمْلُوكِهِ سَنْجَرَ - وَهُوَ كَانَ الْمُتَوَلِّيَ لِتِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَلِيَهَا بَعْدَ مَوْتِ طَاشْتِكِينَ أَمِيرِ الْحَاجِّ، لِأَنَّهُ زَوْجُ ابْنَةِ طَاشْتِكِينَ - إِلَى جِبَالِ لُرُسْتَانَ، وَصَاحِبُهَا يُعْرَفُ بِأَبِي طَاهِرٍ - وَهِيَ جِبَالٌ مَنِيعَةٌ بَيْنَ فَارِسَ وَأَصْبَهَانَ وَخُوزِسْتَانَ - فَقَاتَلُوا أَهْلَهَا وَعَادُوا مُنْهَزِمِينَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَمْلُوكًا لِلْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ اسْمُهُ قُشْتُمُرُ مِنْ أَكَابِرِ مَمَالِيكِهِ كَانَ قَدْ فَارَقَ الْخِدْمَةَ لِتَقْصِيرٍ رَآهُ مِنَ الْوَزِيرِ نَصِيرِ الدِّينِ (الْعَلَوِيِّ الرَّازِيِّ، وَاجْتَازَ بِخُوزِسْتَانَ، وَأَخَذَ مِنْهَا مَا أَمْكَنَهُ) وَلَحِقَ بِأَبِي طَاهِرٍ صَاحِبِ لُرُسْتَانَ، فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو طَاهِرٍ فَقَوِيَ أَمْرُ قُشْتُمُرَ، وَأَطَاعَهُ أَهْلُ تِلْكَ الْوِلَايَةِ. فَأَمَرَ سَنْجَرَ بِجَمْعِ الْعَسَاكِرِ وَقَصْدِهِ وَقِتَالِهِ، فَفَعَلَ سَنْجَرُ مَا أُمِرَ بِهِ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ قُشْتُمُرُ يَعْتَذِرُ، وَيَسْأَلُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ وَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ،

فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ، فَجَمَعَ أَهْلَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَنَزَلَ إِلَى الْعَسْكَرِ، فَلَقِيَهُمْ، فَهَزَمَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ فَارِسَ ابْنِ دَكْلَا وَشَمْسِ الدِّينِ إِيدْغِمْشَ، صَاحِبِ أَصْبَهَانَ وَهَمَذَانَ وَالرَّيِّ، يُعَرِّفُهُمَا الْحَالَ، وَيَقُولُ: إِنَّنِي لَا قُوَّةَ لِي بِعَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ، وَرُبَّمَا أُضِيفَ إِلَيْهِمْ عَسَاكِرُ أُخْرَى مِنْ بَغْدَادَ وَعَادُوا إِلَى حَرْبِي، وَحِينَئِذٍ لَا أَقْدِرُ بِهِمْ، وَطَلَبَ مِنْهُمَا النَّجْدَةَ، وَخَوَّفَهُمَا مِنْ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ إِنْ مَلَكَ تِلْكَ الْجِبَالَ، فَأَجَابَاهُ إِلَى مَا طَلَبَ، فَقَوِيَ جَنَانُهُ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ صَبِيٌّ صَبِيًّا آخَرَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَا يَتَعَاشَرَانِ، وَعُمْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقَارِبُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: السَّاعَةَ أَضْرِبُكَ بِهَذِهِ السِّكِّينِ، يُمَازِحُهُ بِذَلِكَ، وَأَهْوَى نَحْوَهُ بِهَا، فَدَخَلَتْ فِي جَوْفِهِ فَمَاتَ، فَهَرَبَ الْقَاتِلُ ثُمَّ أُخِذَ وَأُمِرَ بِهِ لِيُقْتَلَ، فَلَمَّا أَرَادُوا قَتْلَهُ طَلَبَ دَوَاةً [وَوَرَقَةً] بَيْضَاءَ، وَكَتَبَ فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: قَدِمْتُ عَلَى الْكَرِيمِ بِغَيْرِ زَادٍ ... مِنَ الْأَعْمَالِ بِالْقَلْبِ السَّلِيمِ وَسُوءُ الظَّنِّ أَنْ تَعْتَدَّ زَادًا ... إِذَا كَانَ الْقُدُومُ عَلَى كَرِيمِ وَفِيهَا حَجَّ بُرْهَانُ الدِّينِ صَدْرُ جِهَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَازَّةَ الْبُخَارِيُّ رَأْسُ الْحَنَفِيَّةِ بِبُخَارَى، وَهُوَ كَانَ صَاحِبَهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، يُؤَدِّي الْخَرَاجَ إِلَى الْخَطَا، وَيَنُوبُ عَنْهُمْ فِي الْبَلَدِ، فَلَمَّا حَجَّ لَمْ تُحْمَدْ سِيرَتُهُ فِي الطَّرِيقِ، وَلَمْ يَصْنَعْ مَعْرُوفًا، وَكَانَ قَدْ أُكْرِمَ بِبَغْدَادَ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ بُخَارَى، فَلَمَّا عَادَ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ لِسُوءِ سِيرَتِهِ مَعَ الْحُجَّاجِ، وَسَمَّاهُ الْحُجَّاجُ صَدْرَ جَهَنَّمَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ، مَاتَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَرَمِ مَكِّيُّ بْنُ رَيَّانَ بْنِ شَبَّةَ النَّحْوِيُّ

الْمُقْرِئُ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَ عَارِفًا بِالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْقِرَاءَاتِ، لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ مِثْلُهُ، وَكَانَ ضَرِيرًا، وَكَانَ يَعْرِفُ سِوَى هَذِهِ الْعُلُومِ مِنَ الْفِقْهِ وَالْحِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعْرِفَةً حَسَنَةً، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ وَصَالِحِيهِمْ، كَثِيرَ التَّوَاضُعِ، لَا يَزَالُ النَّاسُ يَشْتَغِلُونَ عَلَيْهِ مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى اللَّيْلِ. [ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ] وَفِيهَا فَارِقَ أَمِيرُ الْحَاجِّ مُظَفَّرُ الدِّينِ سُنْقُرُ مَمْلُوكُ الْخَلِيفَةِ الْمَعْرُوفُ بِوَجْهِ السَّبُعِ الْحَاجَّ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْمَرْجُومُ، وَمَضَى فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الشَّامِ، وَسَارَ الْحَاجُّ وَمَعَهُمُ الْجُنْدُ، فَوَصَلُوا سَالِمِينَ، وَوَصَلَ هُوَ إِلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، فَأَقْطَعَهُ إِقْطَاعًا كَثِيرًا بِمِصْرَ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّمِائَةٍ فِي جُمَادَى الْأُولَى، فَإِنَّهُ لَمَّا قُبِضَ الْوَزِيرُ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الْعَوْدَ، فَأُجِيبَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَصَلَ أَكْرَمَهُ الْخَلِيفَةُ وَأَقْطَعَهُ الْكُوفَةَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ النَّطْرُونِيِّ، فِي مَارَسْتَانَ بَغْدَادَ، وَكَانَ قَدْ مَضَى إِلَى الْمَايُورْقِيِّ فِي رِسَالَةٍ بِإِفْرِيقِيَّةَ، فَحَصَلَ لَهُ مِنْهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ مَغْرِبِيَّةٍ، فَرَّقَهَا جَمِيعَهَا فِي بَلَدِهِ عَلَى مَعَارِفِهِ وَأَصْدِقَائِهِ، وَكَانَ فَاضِلًا خَيِّرًا - نِعْمَ الرَّجُلِ، رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَكَانَ قَيِّمًا بِعِلْمِ الْأَدَبِ، وَأَقَامَ بِالْمَوْصِلِ مُدَّةً، وَاشْتَغَلَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَرَمِ وَاجْتَمَعْتُ بِهِ كَثِيرًا عِنْدَهُ.

ثم دخلت سنة أربع وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّمِائَة] 604 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ خُوَارِزْمَ شَاهْ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَمَا كَانَ بِخُرَاسَانَ مِنَ الْفِتَنِ وَإِصْلَاحِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبَرَ عَلَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ خُوَارِزْمَ شَاهْ نَهْرَ جَيْحُونَ لِقِتَالِ الْخَطَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَطَا كَانُوا قَدْ طَالَتْ أَيَّامُهُمْ بِبِلَادِ تُرْكِسْتَانَ، وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَثَقُلَتْ وَطَأَتُهُمْ عَلَى أَهْلِهَا، وَلَهُمْ فِي كُلِّ مَدِينَةِ نَائِبٌ يَجْبِي إِلَيْهِمُ الْأَمْوَالَ، وَهُمْ يَسْكُنُونَ الْخَرْكَاهَاتِ عَلَى عَادَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكُوا، وَكَانَ مُقَامُهُمْ بِنَوَاحِي أُوزْكَنْدَ، وَبَلَاسَاغُونَ، وَكَاشْغَرَ، وَتِلْكَ النَّوَاحِي، فَاتُّفِقَ أَنَّ سُلْطَانَ سَمَرْقَنْدَ وَبُخَارَى، وَيُلَقَّبُ خَانْ خَانَانْ - يَعْنِي سُلْطَانَ السَّلَاطِينِ -. وَهُوَ مِنْ أَوْلَادِ الْخَانِيَّةِ، عَرِيقُ النَّسَبِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْمُلْكِ، أَنِفَ وَضَجِرَ مِنْ تَحَكُّمِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَرْسَلَ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْكَ بِمَا أَعْطَاكَ مِنْ سِعَةِ الْمُلْكِ وَكَثْرَةِ الْجُنُودِ أَنْ تَسْتَنْقِذَ الْمُسْلِمِينَ وَبِلَادَهُمْ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ، وَتُخَلِّصَهُمْ مِمَّا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ التَّحَكُّمِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَبْشَارِ، وَنَحْنُ نَتَّفِقُ مَعَكَ عَلَى مُحَارَبَةِ الْخَطَا، وَنَحْمِلُ إِلَيْكَ مَا نَحْمِلُهُ إِلَيْهِمْ، وَنَذْكُرُ اسْمَكَ فِي الْخُطْبَةِ وَعَلَى السِّكَّةِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: أَخَافَ أَنَّكُمْ لَا تَفُونَ لِي. فَسَيَّرَ إِلَيْهِ صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ وُجُوهَ أَهْلِ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ، بَعْدَ أَنْ حَلَّفُوا صَاحِبَهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا تَضَمَّنَهُ، وَضَمِنُوا عَنْهُ الصِّدْقَ وَالثَّبَاتَ عَلَى مَا بَذَلَ، وَجَعَلُوا عِنْدَهُ رَهَائِنَ، فَشَرَعَ فِي إِصْلَاحِ أَمْرِ خُرَاسَانَ، وَتَقْرِيرِ قَوَاعِدِهَا، فَوَلَّى أَخَاهُ عَلِيًّا شَاهْ فِي طَبَرِسْتَانَ مُضَافَةٍ إِلَى جُرْجَانَ، وَأَمَرَهُ بِالْحِفْظِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَوَلَّى الْأَمِيرَ كُزْلَكَ خَانْ، وَهُوَ مِنْ أَقَارِبِ أُمِّهِ وَأَعْيَانِ دَوْلَتِهِ، بِنَيْسَابُورَ، وَجَعَلَ مَعَهُ عَسْكَرًا، وَوَلَّى الْأَمِيرَ جُلْدَكَ مَدِينَةَ الْخَامِ، وَوَلَّى الْأَمِيرَ أَمِينَ الدِّينِ أَبَا بَكْرٍ مَدِينَةَ زَوْزَنَ. وَكَانَ أَمِينُ الدِّينِ هَذَا حَمَّالًا، ثُمَّ صَارَ أَكْبَرَ الْأُمَرَاءِ، وَهُوَ الَّذِي مَلَكَ كَرْمَانَ -

عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَقَرَّ الْأَمِيرَ الْحُسَيْنَ عَلَى هَرَاةَ، وَجَعَلَ مَعَهُ فِيهَا أَلْفَ فَارِسٍ مِنَ الْخُوَارِزْمِيَّةِ، وَصَالَحَ غِيَاثَ الدِّينِ مَحْمُودًا عَلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ بِلَادِ الْغَوْرِ، وَكَرْمِسِيرَ وَاسْتَنَابَ فِي مَرْوَ وَسَرَخْسَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ خُرَاسَانَ نُوَّابًا، وَأَمَرَهُمْ بِحُسْنِ السِّيَاسَةِ، وَالْحِفْظِ، وَالِاحْتِيَاطِ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ جَمِيعَهَا، وَسَارَ إِلَى خُوَارِزْمَ، وَتَجَهَّزَ مِنْهَا، وَعَبَرَ جَيْحُونَ، وَاجْتَمَعَ بِسُلْطَانِ سَمَرْقَنْدَ، وَسَمِعَ الْخَطَا، فَحَشَدُوا، وَجَمَعُوا، وَجَاءُوا إِلَيْهِ فَجَرَى بَيْنَهُمْ وَقْعَاتٌ كَثِيرَةٌ وَمُغَاوَرَاتٌ، فَتَارَةً لَهُ وَتَارَةً عَلَيْهِ. ذِكْرُ قَتْلِ ابْنِ خَرْمِيلَ وَحَصْرِ هَرَاةَ ثُمَّ إِنَّ ابْنَ خَرْمِيلَ - صَاحِبَ هَرَاةَ - رَأَى سُوءَ مُعَامَلَةِ عَسْكَرِ خُوَارِزْمَ شَاهْ لِلرَّعِيَّةِ، وَتَعَدِّيهِمْ إِلَى الْأَمْوَالِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ وَحَبَسَهُمْ، وَبَعَثَ رَسُولًا إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ يَعْتَذِرُ، وَيُعَرِّفُهُ مَا صَنَعُوا، فَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ مُحَاقَّتُهُ لِاشْتِغَالِهِ بِقِتَالِ الْخَطَا فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَسْتَحْسِنُ فِعْلَهُ، وَيَأْمُرُهُ بِإِنْفَاذِ الْجُنْدِ الَّذِينَ قَبَضَ عَلَيْهِمْ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّنِي قَدْ أَمَرْتُ عِزَّ الدِّينِ جُلْدَكَ بْنَ طُغْرُلَ - صَاحِبَ الْخَامِ - أَنْ يَكُونَ عِنْدَكَ لِمَا أَعْلَمُهُ مِنْ عَقْلِهِ وَحُسْنِ سِيرَتِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى جُلْدَكَ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى هَرَاةَ، وَأَسَرَّ إِلَيْهِ أَنْ يَحْتَالَ فِي الْقَبْضِ عَلَى حُسَيْنِ بْنِ خَرْمِيلَ وَلَوْ أَوَّلُ سَاعَةٍ يَلْقَاهُ. فَسَارَ جُلْدَكُ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ - وَكَانَ أَبُوهُ طُغْرُلُ أَيَّامَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَالِيًا بِهَرَاةَ، فَهَوَى إِلَيْهَا بِالْأَشْوَاقِ يَخْتَارُهَا عَلَى جَمِيعِ خُرَاسَانَ -، فَلَمَّا قَارَبَ هَرَاةَ أَمَرَ ابْنُ خَرْمِيلَ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ لِتَلَقِّيهِ، وَكَانَ لِلْحُسَيْنِ وَزِيرٌ يُعْرَفُ بِخَوَاجَه الصَّاحِبِ، وَكَانَ كَبِيرًا قَدْ حَنَّكَتْهُ التَّجَارِبُ، فَقَالَ لِابْنِ خَرْمِيلَ: لَا تَخْرُجْ إِلَى لِقَائِهِ وَدَعْهُ يَدْخُلُ إِلَيْكَ مُنْفَرِدًا، فَإِنَّنِي أَخَافُ أَنْ يَغْدِرَ بِكَ، وَأَنْ يَكُونَ خُوَارِزْمُ شَاهْ أَمَرَ بِذَلِكَ. فَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْدَمَ مِثْلُ هَذَا الْأَمِيرِ وَلَا أَلْتَقِيهِ، وَأَخَافُ أَنْ يَضْطَغِنَ ذَلِكَ عَلَيَّ خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَمَا أَظُنُّهُ يَتَجَاسَرُ عَلَيَّ.

فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ بْنُ خَرْمِيلَ، فَلَمَّا بَصُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ تَرَجَّلَ لِلِالْتِقَاءِ وَكَانَ جُلْدَكُ قَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَاخْتَلَطُوا بِهِمَا، وَحَالُوا بَيْنَ ابْنِ خَرْمِيلَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَبَضُوا عَلَيْهِ. فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ وَأَخْبَرُوا الْوَزِيرَ بِالْحَالِ، فَأَمَرَ بِإِغْلَاقِ الْبَابِ وَالطُّلُوعِ إِلَى الْأَسْوَارِ، وَاسْتَعَدَّ لِلْحِصَارِ، وَنَزَلَ جُلْدَكُ عَلَى الْبَلَدِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْوَزِيرِ يَتَهَدَّدُهُ، إِنْ لَمْ يُسَلِّمِ الْبَلَدَ، بِقَتْلِ ابْنِ خَرْمِيلَ، فَنَادَى الْوَزِيرُ بِشِعَارِ غِيَاثِ الدِّينِ مَحْمُودٍ الْغُورِيِّ، وَقَالَ لِجُلْدَكَ: لَا أُسَلِّمُ الْبَلَدَ إِلَيْكَ، وَلَا إِلَى الْغَادِرِ ابْنِ خَرْمِيلَ، وَإِنَّمَا هُوَ لِغِيَاثِ الدِّينِ، وَلِأَبِيهِ قَبْلَهُ. فَقَدَّمُوا ابْنَ خَرْمِيلَ إِلَى السُّورِ، فَخَاطَبَ الْوَزِيرَ، وَأَمَرَهُ بِالتَّسْلِيمِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَقُتِلَ ابْنُ خَرْمِيلَ، وَهَذِهِ عَاقِبَةُ الْغَدْرِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ أَخْبَارِهِ عِنْدَ شِهَابِ الدِّينِ الْغُورِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى غَدْرِهِ، وَكُفْرَانِهِ الْإِحْسَانَ مِمَّنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ. فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ خَرْمِيلَ كَتَبَ جُلْدَكُ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ بِجَلِيَّةِ الْحَالِ، فَأَنْفَذَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى كُزْلَكَ خَانْ - وَالِي نَيْسَابُورَ - وَإِلَى أَمِينِ الدِّينِ أَبِي بَكْرٍ - صَاحِبِ زَوْزَنَ - يَأْمُرُهُمَا بِالْمَسِيرِ إِلَى هَرَاةَ وَحِصَارِهَا وَأَخْذِهَا، فَسَارَا فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَنَزَلُوا عَلَى هَرَاةَ، وَرَاسَلُوا الْوَزِيرَ بِالتَّسْلِيمِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: لَيْسَ لَكُمْ مِنَ الْمَحَلِّ مَا يُسَلِّمُ إِلَيْكُمْ مِثْلَ هَرَاةَ، لَكِنْ إِذَا وَصَلَ السُّلْطَانُ خُوَارِزْمُ شَاهْ سَلَّمْتُهَا إِلَيْهِ. فَقَاتَلُوهُ، وَجَدُّوا فِي قِتَالِهِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. وَكَانَ ابْنُ خَرْمِيلَ قَدْ حَصَّنَ هَرَاةَ، وَعَمِلَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَسْوَارٍ مَحْكَمَةٍ، وَحَفَرَ خَنْدَقَهَا، وَشَحَنَهَا بِالْمِيرَةِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ كُلِّ مَا أَرَادَ قَالَ: بَقِيتُ أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الْمَدِينَةِ شَيْئًا وَاحِدًا، وَهُوَ أَنْ تُسَكَّرَ الْمِيَاهُ الَّتِي لَهَا أَيَّامًا كَثِيرَةً، ثُمَّ تُرْسَلُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَتَخْرِقُ أَسْوَارَهَا. فَلَمَّا حَصَرَهَا هَؤُلَاءِ سَمِعُوا قَوْلَ ابْنِ خَرْمِيلَ، فَسَكَّرُوا الْمِيَاهَ حَتَّى اجْتَمَعَتْ كَثِيرًا، ثُمَّ أَطْلَقُوهَا عَلَى هَرَاةَ فَأَحَاطَتْ بِهَا وَلَمْ تَصِلْ إِلَى السُّورِ لِأَنَّ أَرْضَ الْمَدِينَةِ مُرْتَفِعَةٌ، فَامْتَلَأَ الْخَنْدَقُ مَاءً، وَصَارَ حَوْلَهَا وَحْلًا، فَانْتَقَلَ الْعَسْكَرُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْقِتَالُ لِبُعْدِهِمْ عَنِ الْمَدِينَةِ. وَهَذَا كَانَ قَصْدَ ابْنِ خَرْمِيلَ: أَنْ يَمْتَلِئَ الْخَنْدَقُ مَاءً،

وَيَمْنَعَ الْوَحْلُ مِنَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَقَامُوا مُدَّةً حَتَّى نَشِفَ الْمَاءُ، فَكَانَ قَوْلُ ابْنِ خَرْمِيلَ مِنْ أَحْسَنِ الْحِيَلِ. وَنَعُودُ إِلَى قِتَالِ خُوَارِزْمَ شَاهِ الْخَطَا وَأَسْرِهِ، وَأَمَّا خُوَارِزْمُ شَاهْ فَإِنَّهُ دَامَ الْقِتَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَطَا، فَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ اقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَدَامَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ هَزِيمَةً قَبِيحَةً، وَأُسِرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْرَى خُوَارِزْمُ شَاهْ، وَأُسِرَ مَعَهُ أَمِيرٌ كَبِيرٌ يُقَالُ لَهُ فُلَانُ بْنُ شِهَابِ الدِّينِ [مَسْعُودٍ] أَسَرَهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَوَصَلَتِ الْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ إِلَى خُوَارِزْمَ، وَلَمْ يَرَوُا السُّلْطَانَ مَعَهُمْ، فَأَرْسَلَتِ أُخْتُ كُزْلَكَ خَانْ - صَاحِبِ نَيْسَابُورَ - وَهُوَ يُحَاصِرُ هَرَاةَ، وَأَعْلَمَتْهُ الْحَالَ، فَلَمَّا أَتَاهُ الْخَبَرُ سَارَ عَنْ هَرَاةَ لَيْلًا إِلَى نَيْسَابُورَ، وَأَحَسَّ بِهِ الْأَمِيرُ أَمِينُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ - صَاحِبُ زَوْزَنَ - فَأَرَادَ هُوَ وَمَنْ عِنْدِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ مَنْعَهُ، مَخَافَةَ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ يَطْمَعُ بِسَبَبِهَا أَهْلُ هَرَاةَ فِيهِمْ، فَيَخْرُجُونَ إِلَيْهِمْ فَيَبْلُغُونَ مِنْهُمْ مَا يُرِيدُونَهُ، فَأَمْسَكُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ. وَكَانَ خُوَارِزْمُ شَاهْ قَدْ خَرَّبَ سُورَ نَيْسَابُورَ لَمَّا مَلَكَهَا مِنَ الْغُورِيَّةِ، فَشَرَعَ كُزْلَكَ خَانْ يُعَمِّرُهُ، وَأَدْخَلَ إِلَيْهَا الْمِيرَةَ، وَاسْتَكْثَرَ مِنَ الْجُنْدِ، وَعَزَمَ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى خُرَاسَانَ إِنْ صَحَّ فَقْدُ السُّلْطَانِ. وَبَلَغَ خَبَرُ عَدْمِ السُّلْطَانِ إِلَى أَخِيهِ عَلِيٍّ شَاهْ وَهُوَ بِطَبَرِسْتَانَ، فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ أَخِيهِ وَاسْتَعَدَّ لِطَلَبِ السَّلْطَنَةِ، وَاخْتَلَطَتْ خُرَاسَانُ اخْتِلَاطًا عَظِيمًا. وَأَمَّا السُّلْطَانُ خُوَارِزْمُ شَاهْ فَإِنَّهُ لَمَّا أُسِرَ قَالَ لَهُ ابْنُ شِهَابِ الدِّينِ مَسْعُودٍ: يَجِبُ أَنْ تَدَعَ السَّلْطَنَةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَتَصِيرَ خَادِمًا لَعَلِيٍّ أَحْتَالُ فِي خَلَاصِكَ، فَشَرَعَ يَخْدِمُ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَيُقَدِّمُ لَهُ الطَّعَامَ، وَيُخْلِعَهُ ثِيَابَهُ وَخُفَّهُ، وَيُعَظِّمَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ الَّذِي أَسَرَهُمَا لِابْنِ مَسْعُودٍ: أَرَى هَذَا الرَّجُلَ يُعَظِّمُكَ، فَمَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا فُلَانٌ، وَهَذَا غُلَامِي. فَقَامَ إِلَيْهِ وَأَكْرَمَهُ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ الْقَوْمَ عَرَفُوا بِمَكَانِكَ عِنْدِي لَأَطْلَقْتُكَ، ثُمَّ تَرَكَهُ أَيَّامًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَرْجِعَ الْمُنْهَزِمُونَ، فَلَا يَرَانِي أَهْلِي مَعَهُمْ فَيَظُنُّونَ أَنِّي قُتِلْتُ، فَيَعْمَلُونَ الْعَزَاءَ وَالْمَأْتَمَ، وَتَضِيقُ صُدُورُهُمْ لِذَلِكَ ثُمَّ

يَقْتَسِمُونَ مَالِي فَأَهْلِكُ، وَأُحِبُّ أَنْ تُقَرِّرَ عَلَيَّ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ حَتَّى أَحْمِلَهُ إِلَيْكَ، فَقَرَّرَ عَلَيْهِ مَالًا، وَقَالَ لَهُ: أُرِيدُ أَنْ تَأْمُرَ رَجُلًا عَاقِلًا يَذْهَبُ بِكِتَابِي إِلَى أَهْلِي وَيُخْبِرُهُمْ بِعَافِيَتِي، وَيُحْضِرُ مَعَهُ مَنْ يَحْمِلُ الْمَالَ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَكُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَهْلَنَا، وَلَكِنَّ هَذَا غُلَامِي أَثِقُ بِهِ، وَيُصَدِّقُهُ أَهْلِي فَأَذِنَ لَهُ الْخُطَائِيُّ بِإِنْفَاذِهِ، فَسَيَّرَهُ وَأَرْسَلَ مَعَهُ الْخُطَائِيُّ فَرَسًا، وَعِدَّةً مِنَ الْفُرْسَانِ يَحْمُونَهُ، فَسَارُوا حَتَّى قَارَبُوا خُوَارِزْمَ، وَعَادَ الْفُرْسَانُ عَنْ خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَوَصَلَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى خُوَارِزْمَ، فَاسْتَبْشَرَ بِهِ النَّاسُ وَضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ وَزَيَّنُوا الْبَلَدَ، وَأَتَتْهُ الْأَخْبَارُ بِمَا صَنَعَ كُزْلَكُ بِنَيْسَابُورَ، وَبِمَا صَنَعَ أَخُوهُ عَلِيٌّ شَاهْ بِطَبَرِسْتَانَ. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ خُوَارِزْمُ شَاهْ بِخُرَاسَانَ لَمَّا وَصَلَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى خُوَارِزْمَ أَتَتْهُ الْأَخْبَارُ بِمَا فَعَلَهُ كُزْلَكُ خَانْ وَأَخُوهُ عَلِيٌّ شَاهْ وَغَيْرُهُمَا، فَسَارَ إِلَى خُرَاسَانَ وَتَبِعَتْهُ الْعَسَاكِرُ، فَتَقَطَّعَتْ، وَوَصَلَ هُوَ إِلَيْهَا فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ وَمَعَهُ سِتَّةُ فُرْسَانٍ، وَبَلَغَ كُزْلَكَ خَانْ وُصُولُهُ، فَأَخَذَ أَمْوَالَهُ وَعَسَاكِرَهُ وَهَرَبَ نَحْوَ الْعِرَاقِ، وَبَلَغَ أَخَاهُ عَلِيًّا شَاهْ، فَخَافَهُ، وَسَارَ عَلَى طَرِيقِ قُهِسْتَانَ مُلْتَجِئًا إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ مَحْمُودٍ الْغُورِيِّ، صَاحِبِ فَيْرُوزَكُوه فَتَلَقَّاهُ، وَأَكْرَمَهُ، وَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ. وَأَمَّا خُوَارِزْمُ شَاهْ فَإِنَّهُ دَخَلَ نَيْسَابُورَ، وَأَصْلَحَ أَمْرَهَا، وَجَعَلَ فِيهَا نَائِبًا، وَسَارَ إِلَى هَرَاةَ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا مَعَ عَسْكَرِهِ الَّذِينَ يُحَاصِرُونَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَى أُولَئِكَ الْأُمَرَاءِ، وَوَثِقَ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ صَبَرُوا عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَلَمْ يَتَغَيَّرُوا، وَلَمْ يَبْلُغُوا مِنْ هَرَاةَ غَرَضًا بِحُسْنِ تَدْبِيرِ ذَلِكَ الْوَزِيرِ، فَأَرْسَلَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى الْوَزِيرِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ وَعَدْتَ عَسْكَرِي أَنَّكَ تُسَلِّمُ الْمَدِينَةَ إِذَا حَضَرْتُ، وَقَدْ حَضَرْتُ فَسَلِّمْ. فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ، لِأَنِّي أَعْرِفُ أَنَّكُمْ غَدَّارُونَ، لَا تُبْقُونَ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا أُسَلِّمُ الْبَلَدَ إِلَّا إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ مَحْمُودٍ. فَغَضِبَ خُوَارِزْمُ شَاهْ مِنْ ذَلِكَ، وَزَحَفَ إِلَيْهِ بِعَسَاكِرِهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حِيلَةٌ، فَاتَّفَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ هَرَاةَ وَقَالُوا: هَلَكَ النَّاسُ مِنَ الْجُوعِ وَالْقِلَّةِ، وَقَدْ تَعَطَّلَتْ عَلَيْنَا مَعَايِشُنَا، وَقَدْ مَضَى سَنَةٌ وَشَهْرٌ، وَكَانَ الْوَزِيرُ يَعِدُ بِتَسْلِيمِ الْبَلَدِ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ إِذَا

وَصَلَ إِلَيْهِ، وَقَدْ حَضَرَ خُوَارَزْم شَاهْ وَلَمْ يُسَلِّمْ، وَيَجِبُ أَنْ نَحْتَالَ فِي تَسْلِيمِ الْبَلَدِ، وَالْخَلَاصِ مِنْ هَذِهِ الشِّدَّةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا. فَانْتَهَى ذَلِكَ إِلَى الْوَزِيرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةً مِنْ عَسْكَرِهِ، وَأَمْرَهُمْ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمْ، فَمَضَى الْجُنْدُ إِلَيْهِمْ، فَثَارَتْ فِتْنَةٌ فِي الْبَلَدِ عَظُمَ خَطْبُهَا، فَاحْتَاجَ الْوَزِيرُ إِلَى تَدَارُكِهَا بِنَفْسِهِ، فَمَضَى لِذَلِكَ، فَكَتَبَ مِنَ الْبَلَدِ إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ بِالْخَبَرِ، وَزَحَفَ إِلَى الْبَلَدِ وَأَهْلُهُ مُخْتَلِطُونَ فَخَرَّبُوا بُرْجَيْنِ مِنَ السُّورِ، وَدَخَلُوا الْبَلَدَ فَمَلَكُوهُ، وَقَبَضُوا عَلَى الْوَزِيرِ فَقَتَلَهُ خُوَارَزْم شَاهْ، وَمَلَكَ الْبَلَدَ، وَذَلِكَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَصْلَحَ حَالَهُ، وَسَلَّمَهُ إِلَى خَالِهِ أَمِيرِ مُلْكْ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أُمَرَائِهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِيَدِهِ حَتَّى هَلَكَ خُوَارَزْم شَاهْ. وَأَمَّا ابْنُ شِهَابِ الدِّينِ مَسْعُودٌ فَإِنَّهُ أَقَامَ عِنْدَ الْخَطَا مُدَيْدَةً، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اسْتَأْسَرَهُ يَوْمًا: إِنَّ خُوَارَزْم شَاهْ قَدْ عُدِمَ فَإِيشْ عِنْدَكَ مِنْ خَبَرِهِ؟ فَقَالَ لَهُ: أَمَا تَعْرِفُهُ؟ ! قَالَ: لَا. قَالَ: هُوَ أَسِيرُكَ الَّذِي كَانَ عِنْدَكَ. فَقَالَ: لِمَ لَمْ تُعَرِّفْنِي حَتَّى كُنْتُ أَخْدُمُهُ، وَأَسِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى مَمْلَكَتِهِ؟ قَالَ: خِفْتُكُمْ عَلَيْهِ. فَقَالَ الْخَطَّائِيُّ: سِرْ بِنَا إِلَيْهِ فَسَارَا إِلَيْهِ، فَأَكْرَمَهُمَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمَا، وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ. ذِكْرُ قَتْلِ غِيَاثِ الدِّينِ مَحْمُودٍ لَمَّا سَلَّمَ خُوَارَزْم شَاهْ هَرَاةَ إِلَى خَالِهِ أَمِيرِ مُلْكْ وَسَارَ إِلَى خُوَارَزْمَ، أَمْرَهُ أَنْ يَقْصِدَ غِيَاثَ الدِّينِ مَحْمُودَ بْنَ غِيَاثِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ سَامٍ الْغُورِيَّ، صَاحِبَ الْغُورِ وَفَيْرُوزَكُوهْ، وَأَنْ يَقْبِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ عَلِي شَاهْ بْنِ خُوَارَزْم شَاهْ، وَيَأْخُذَ فَيْرُوزَكُوهْ مِنْ غِيَاثِ الدِّينِ. فَسَارَ أَمِيرُ مُلْكٍ إِلَى فَيْرُوزَكُوهْ ; وَبَلَغَ ذَلِكَ إِلَى مَحْمُودٍ، فَأَرْسَلَ يَبْذُلُ الطَّاعَةَ وَيَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ مَحْمُودٌ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ أَمِيرُ مُلْكْ، وَعَلَى عَلِي شَاهْ أَخُو خُوَارَزْم شَاهْ، فَسَأَلَاهُ أَنْ يَحْمِلَهُمَا إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ لِيَرَى فِيهِمَا رَأْيَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ يُعَرِّفُهُ الْخَبَرَ، فَأَمَرَهُ بِقَتْلِهِمَا، فَقُتِلَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَاسْتَقَامَتْ

خُرَاسَانُ كُلُّهَا لِخُوَارَزْم شَاهْ، وَذَلِكَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّمِائَةٍ أَيْضًا. وَغِيَاثُ الدِّينِ هَذَا هُوَ آخِرُ مُلُوكِ الْغُورِيَّةِ، وَلَقَدْ كَانَتْ دَوْلَتُهُمْ مِنْ أَحْسَنِ الدُّوَلِ سِيرَةً، وَأَعْدَلِهَا وَأَكْثَرِهَا جِهَادًا، وَكَانَ مَحْمُودٌ هَذَا عَادِلًا، حَلِيمًا، كَرِيمًا، مِنْ أَحْسَنِ الْمُلُوكِ سِيرَةً وَأَكْرَمِهِمْ أَخْلَاقًا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عَوْدِ خُوَارَزْم شَاهْ إِلَى الْخَطَا لَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ خُرَاسَانَ لِخُوَارَزْم شَاهْ وَعَبَرَ نَهْرَ جَيْحُونَ، جَمَعَ لَهُ الْخَطَا جَمْعًا عَظِيمًا وَسَارُوا إِلَيْهِ، وَالْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ شَيْخُ دَوْلَتِهِمْ، الْقَائِمُ مَقَامَ الْمَلِكِ فِيهِمْ، الْمَعْرُوفُ بِطَايَنْكُوهْ، وَكَانَ عُمُرُهُ قَدْ جَاوَزَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَلَقِيَ حُرُوبًا كَثِيرَةً، وَكَانَ مُظَفَّرًا، حَسَنَ التَّدْبِيرِ وَالْعَقْلِ، وَاجْتَمَعَ خُوَارَزْم شَاهْ وَصَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ، وَتَصَافَوْا هُمْ وَالْخَطَا سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّمِائَةٍ، فَجَرَتْ حُرُوبٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهَا شِدَّةً وَصَبْرًا، فَانْهَزَمَ الْخَطَا هَزِيمَةً مُنْكَرَةً، وَقُتِلَ مِنْهُمْ وَأُسِرَ خَلْقٌ لَا يُحْصَى. وَكَانَ فِيمَنْ أُسِرَ طَايَنْكُوهْ مُقَدَّمُهُمْ، وَجِيءَ بِهِ إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ، فَأَكْرَمَهُ، وَأَجْلَسَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى خُوَارَزْمَ، ثُمَّ قَصَدَ خُوَارَزْم شَاهْ إِلَى بِلَادِ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ، فَمَلَكَهَا مَدِينَةً مَدِينَةً، وَنَاحِيَةً نَاحِيَةً، حَتَّى بَلَغَ إِلَى مَدِينَةِ أُوزْكَنْدَ، وَجَعَلَ نُوَّابَهُ فِيهَا. وَعَادَ إِلَى خُوَارَزْمَ وَمَعَهُ سُلْطَانُ سَمَرْقَنْدَ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صُورَةً، فَكَانَ أَهْلُ خُوَارَزْمَ يَجْتَمِعُونَ حَتَّى يَنْظُرُوا إِلَيْهِ، فَزَوَّجَهُ خُوَارَزْم شَاهْ بِابْنَتِهِ، وَرَدَّهُ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، وَبَعَثَ مَعَهُ شِحْنَةً يَكُونُ بِسَمَرْقَنْدَ عَلَى مَا كَانَ رَسَمَ الْخَطَا. ذِكْرُ غَدْرِ صَاحِبِ سَمَرْقَنْدَ بِالْخُوَارَزْمِيِّينَ لَمَّا عَادَ صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ إِلَيْهَا، وَمَعَهُ شِحْنَةٌ لِخُوَارَزْم شَاهْ، أَقَامَ مَعَهُ نَحْوَ سَنَةٍ فَرَأَى مِنْ سُوءِ سِيرَةِ الْخُوَارَزْمِيِّينَ وَقُبْحِ مُعَامَلَتِهِمْ، مَا نَدِمَ مَعَهُ عَلَى مُفَارَقَةِ الْخَطَا، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلِكِ الْخَطَا يَدْعُوهُ إِلَى سَمَرْقَنْدَ لِيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، وَيَعُودَ إِلَى طَاعَتِهِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ كُلِّ مَنْ فِي سَمَرْقَنْدَ مِنَ الْخُوَارَزْمِيَّةِ مِمَّنْ سَكَنَهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَأَخَذَ أَصْحَابَ خُوَارَزْم شَاهْ، فَكَانَ يَجْعَلُ الرَّجُلَ مِنْهُمْ قِطْعَتَيْنِ وَيُعَلِّقُهُمْ فِي الْأَسْوَاقِ كَمَا يُعَلِّقُ الْقَصَّابُ اللَّحْمَ وَأَسَاءَ غَايَةَ الْإِسَاءَةِ، وَمَضَى إِلَى الْقَلْعَةِ لِيَقْتُلَ زَوْجَتَهُ ابْنَةَ خُوَارَزْم

شَاهْ، فَأَغْلَقَتِ الْأَبْوَابَ وَوَقَفَتْ بِجَوَارِيهَا تَمْنَعُهُ، وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تَقُولُ: أَنَا امْرَأَةٌ وَقَتْلُ مِثْلِي قَبِيحٌ، وَلَمْ يَكُنْ مِنِّي إِلَيْكَ مَا أَسْتَوْجِبُ بِهِ هَذَا مِنْكَ، وَلَعَلَّ تَرْكِي أَحْمَدُ عَاقِبَةً، فَاتَّقِ اللَّهَ فِيَّ. فَتَرَكَهَا وَوَكَلَ بِهَا مَنْ يَمْنَعُهَا التَّصَرُّفَ فِي نَفْسِهَا. وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ فَقَامَتْ قِيَامَتُهُ، وَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ بِقَتْلِ كُلِّ مَنْ بِخُوَارَزْمَ مِنَ الْغُرَبَاءِ، فَمَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ قَدْ أَتَاهُ النَّاسُ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَرْضَ كُلُّهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، فَنَهَتْهُ أُمُّهُ، فَانْتَهَى. وَأَمَرَ عَسَاكِرَهُ بِالتَّجَهُّزِ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَسَيَّرَهُمْ أَرْسَالًا، كُلَّمَا تَجَهَّزَ جَمَاعَةٌ عَبَرُوا جَيْحُونَ، فَعَبَرَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَى ثُمَّ عَبَرَ هُوَ بِنَفْسِهِ فِي آخِرِهِمْ، وَنَزَلَ عَلَى سَمَرْقَنْدَ، وَأَنْفَذَ إِلَى صَاحِبِهَا يَقُولُ لَهُ: قَدْ فَعَلْتَ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ مُسْلِمٌ، وَاسْتَحْلَلْتَ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَا يَفْعَلُهُ عَاقِلٌ لَا مُسْلِمٌ وَلَا كَافِرٌ وَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، فَاخْرُجْ مِنَ الْبِلَادِ، وَامْضِ حَيْثُ شِئْتَ. فَقَالَ: لَا أَخْرُجُ، وَافْعَلْ مَا بَدَا لَكَ. فَأَمَرَ عَسَاكِرَهُ بِالزَّحْفِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ بِأَنْ يَأْمُرَ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ، إِذَا فَتَحُوا الْبَلَدَ، أَنْ يَقْصِدُوا السِّرْبَ الَّذِي يُسْكُنُهُ التُّجَّارُ فَيَمْنَعُ مِنْ نَهْبِهِ وَالتَّطَرُّقِ إِلَيْهِمْ بِسُوءٍ، فَإِنَّهُمْ غُرَبَاءُ، وَكُلُّهُمْ كَارِهُونَ لِهَذَا الْفِعْلِ. فَأَمَرَ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ بِذَلِكَ وَزَحَفَ، وَنَصَبَ السَّلَالِيمَ عَلَى السُّورِ، فَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ أَخَذُوا الْبَلَدَ، وَأَذِنَ لِعَسْكَرِهِ بِالنَّهْبِ: وَقَتْلِ مَنْ يَجِدُونَهُ مَنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، فَنَهَبَ الْبَلَدَ، وَقَتَلَ أَهْلَهُ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَتَلُوا مِنْهُمْ مِائَتَيْ أَلْفِ إِنْسَانٍ، وَسَلِمَ ذَلِكَ الدَّرْبُ الَّذِي فِيهِ الْغُرَبَاءُ، فَلَمْ يُعْدَمْ مِنْهُمُ الْفَرْدُ وَلَا الْآدَمِيُّ الْوَاحِدُ. ثُمَّ أَمَرَ بِالْكَفِّ عَنِ النَّهْبِ وَالْقَتْلِ، ثُمَّ زَحَفَ إِلَى الْقَلْعَةِ فَرَأَى صَاحِبُهَا مَا مَلَأَ قَلْبَهُ هَيْبَةً وَخَوْفًا، فَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَقَالَ: لَا أَمَانَ لَكَ عِنْدِي فَزَحَفُوا عَلَيْهَا. فَمَسَكُوهَا، وَأَسَرُوا صَاحِبَهَا، وَأَحْضَرُوهُ عِنْدَ خُوَارَزْم شَاهْ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَطَلَبَ الْعَفْوَ، فَلَمْ يَعْفُ عَنْهُ، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ. فَقُتِلَ صَبْرًا، وَقُتِلَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا مِمَّنْ نُسِبَ إِلَى الْخَانِيَّةِ، وَرَتَّبَ فِيهَا وَفِي سَائِرِ الْبِلَادِ نُوَّابَهُ، وَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ مَعَهُ فِي الْبِلَادِ حُكْمٌ.

ذِكْرُ الْوَقْعَةِ الَّتِي أَفْنَتِ الْخَطَا لَمَّا فَعَلَ خُوَارَزْم شَاهْ بِالْخَطَا مَا ذَكَرْنَاهُ مَضَى مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ إِلَى مَلِكِهِمْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْضُرِ الْحَرْبَ فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ وَكَانَ طَائِفَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ التَّتَرِ قَدْ خَرَجُوا مِنْ بِلَادِهِمْ، حُدُودِ الصِّينِ قَدِيمًا، وَنَزَلُوا وَرَاءَ بِلَادِ تُرْكِسْتَانَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخَطَا عَدَاوَةٌ وَحُرُوبٌ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِمَا فَعَلَهُ خُوَارَزْم شَاهْ بِالْخَطَا قَصَدُوهُمْ مَعَ مَلِكِهِمْ كَشْلِي خَانْ. فَلَمَّا رَأَى مَلِكُ الْخَطَا ذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ يَقُولُ لَهُ: أَمَّا مَا كَانَ مِنْكَ مِنْ أَخْذِ بِلَادِنَا وَقَتْلِ رِجَالِنَا فَعَفْوٌ عَنْهُ، وَقَدْ أَتَى مِنْ هَذَا الْعَدُوِّ مَنْ لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ، وَإِنَّهُمْ إِنِ انْتَصَرُوا عَلَيْنَا، وَمَلَكُونَا فَلَا دَافِعَ لَهُمْ عَنْكَ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ تَسِيرَ إِلَيْنَا بِعَسَاكِرِكَ وَتَنْصُرَنَا عَلَى قِتَالِهِمْ، وَنَحْنُ نَحْلِفُ لَكَ أَنَّنَا إِذَا ظَفِرْنَا بِهِمْ لَا نَتَعَرَّضُ إِلَى مَا أَخَذْتَ مِنَ الْبِلَادِ وَنَقْنَعُ بِمَا فِي أَيْدِينَا. وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ كَشْلِي خَانْ مَلِكُ التَّتَرِ يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْخَطَا أَعْدَاؤُكَ وَأَعْدَاءُ آبَائِكَ وَأَعْدَاؤُنَا، فَسَاعِدْنَا عَلَيْهِمْ، وَنَحْلِفُ أَنَّنَا إِذَا انْتَصَرْنَا عَلَيْهِمْ لَا نَقْرَبُ بِلَادَكَ، وَنَقْنَعُ بِالْمَوَاضِعِ الَّتِي يَنْزِلُونَهَا فَأَجَابَ كُلًّا مِنْهُمَا: إِنَّنِي مَعَكَ، وَمُعَاضِدُكَ عَلَى خَصْمِكَ. وَسَارَ بِعَسَاكِرِهِ إِلَى أَنْ نَزَلَ قَرِيبًا مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي تَصَافُّوا فِيهِ، فَلَمْ يُخَالِطْهُمْ مُخَالَطَةً يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَكَانَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَظُنُّ أَنَّهُ مَعَهَا. وَتَوَاقَعَ الْخَطَا وَالتَّتَرُ، فَانْهَزَمَ الْخَطَا هَزِيمَةً عَظِيمَةً، فَمَالَ حِينَئِذٍ خُوَارَزْم شَاهْ، وَجَعَلَ يَقْتُلُ، وَيَأْسِرُ، وَيَنْهَبُ، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا يَنْجُو مِنْهُمْ، فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ مَعَ مِلْكِهِمْ فِي مَوْضِعٍ مِنْ نَوَاحِي التُّرْكِ يُحِيطُ بِهِ جَبَلٌ لَيْسَ إِلَيْهِ طَرِيقٌ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، تَحَصَّنُوا فِيهِ وَانْضَمَّ إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ، وَسَارُوا فِي عَسْكَرِهِ. وَأَنْفَذَ خُوَارَزْم شَاهْ إِلَى كَشْلِي خَانْ مَلِكِ التَّتَرِ يَمُنُّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ حَضَرَ لِمُسَاعَدَتِهِ، وَلَوْلَاهُ لِمَا

تَمَكَّنَ مِنَ الْخَطَا، فَاعْتَرَفَ لَهُ كَشْلِي خَانْ بِذَلِكَ مُدَّةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُقَاسَمَةَ عَلَى بِلَادِ الْخَطَا، وَقَالَ: كَمَا أَنَّنَا اتَّفَقْنَا عَلَى إِبَادَتِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ نَقْتَسِمَ بِلَادَهُمْ. فَقَالَ: لَيْسَ لَكَ عِنْدِي غَيْرُ السَّيْفِ، وَلَسْتُمْ بِأَقْوَى مِنَ الْخَطَا شَوْكَةً، وَلَا أَعَزَّ مُلْكًا، فَإِنْ قَنَعْتَ بِالْمُسَاكَتَةِ، وَإِلَّا سِرْتُ إِلَيْكَ، وَفَعَلْتُ بِكَ شَرًّا مِمَّا فَعَلْتُ بِهِمْ. وَتَجَهَّزَ وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْهُمْ، وَعَلِمَ خُوَارَزْم شَاهْ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ، فَكَانَ يُرَاوِغُهُ، فَإِذَا سَارَ إِلَى مَوْضِعٍ قَصَدَ خُوَارَزْم شَاهْ أَهْلَهُ وَأَثْقَالَهُمْ فَيَنْهَبُهَا، وَإِذَا سَمِعَ أَنَّ طَائِفَةً سَارَتْ عَنْ مَوْطِنِهِمْ سَارَ إِلَيْهَا فَأَوْقَعَ بِهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ كَشْلِي خَانْ يَقُولُ لَهُ: لَيْسَ هَذَا فِعْلُ الْمُلُوكِ هَذَا فِعْلُ اللُّصُوصِ، وَإِلَّا إِنْ كُنْتَ سُلْطَانًا، كَمَا تَقُولُ، فَيَجِبُ أَنْ نَلْتَقِيَ، فَإِمَّا أَنْ تَهْزِمَنِي وَتَمْلِكَ الْبِلَادَ الَّتِي بِيَدِي، وَإِمَّا أَنْ أَفْعَلَ أَنَا بِكَ ذَلِكَ. فَكَانَ يُغَالِطُهُ وَلَا يُجِيبُهُ إِلَى مَا طَلَبَ، لَكِنَّهُ أَمَرَ أَهْلَ الشَّاشِ، وَفَرْغَانَةَ، وَأَسْفِيجَابَ، وَكَاسَانَ، وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْمُدُنِ - الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا أَنْزَهُ مِنْهَا وَلَا أَحْسَنُ عِمَارَةً - بِالْجَلَاءِ مِنْهَا، وَاللِّحَاقِ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ خَرَّبَهَا جَمِيعَهَا خَوْفًا مِنَ التَّتَرِ أَنْ يَمْلِكُوهَا. ثُمَّ اتَّفَقَ خُرُوجُ هَؤُلَاءِ التَّتَرِ الْآخَرِ الَّذِينَ خَرَّبُوا الدُّنْيَا وَمَلِكِهِمْ جَنْكِزْخَانْ النَّهْرَجِيِّ عَلَى كَشْلِي خَانْ مَلِكِ التَّتَرِ الْأَوَّلِ، فَاشْتَغَلَ بِهِمْ كَشْلِي خَانْ عَنْ خُوَارَزْم شَاهْ، فَخَلَا وَجْهُهُ، فَعَبَرَ النَّهْرَ إِلَى خُرَاسَانَ. ذِكْرُ مُلْكِ نَجْمِ الدِّينِ ابْنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ خِلَاطَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الْمَلِكُ الْأَوْحَدُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ ابْنُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ مَدِينَةَ خِلَاطَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بِمَدِينَةِ مَيَّافَارِقِينَ مَعَ أَبِيهِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ مُلْكِ بُلْبَانَ خِلَاطَ مَا ذَكَرْنَاهُ، قَصَدَ هُوَ مَدِينَةَ مُوشَ، وَحَصَرَهَا وَأَخَذَهَا وَأَخَذَ مَعَهَا مَا يُجَاوِرُهَا. وَكَانَ بُلْبَانُ لَمْ تَثْبُتْ قَدَمُهُ حَتَّى يَمْنَعَهُ، فَلَمَّا مَلَكَهَا طَمِعَ فِي خِلَاطَ فَسَارَ إِلَيْهَا فَهَزَمَهُ بُلْبَانُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا. فَعَادَ إِلَى بَلَدِهِ، وَجَمَعَ وَحَشَدَ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ أَبُوهُ جَيْشًا، فَقَصَدَ

خِلَاطَ فَسَارَ إِلَيْهِ بُلْبَانُ فَتَصَافَّا وَاقْتَتَلَا، فَانْهَزَمَ بُلْبَانُ وَتَمَكَّنَ نَجْمُ الدِّينِ مِنَ الْبَلَدِ وَازْدَادَ مِنْهَا. وَدَخَلَ بُلْبَانُ خِلَاطَ وَاعْتَصَمَ بِهَا، وَأَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى مُغِيثِ الدِّينِ طُغْرُل شَاهْ بْنِ قَلْجِ أَرْسِلَان، وَهُوَ صَاحِبُ أَرْزَنِ الرُّومِ، يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى نَجْمِ الدِّينِ، فَحَضَرَ بِنَفْسِهِ وَمَعَهُ عَسْكَرُهُ فَاجْتَمَعَا، وَهَزَمَا نَجْمَ الدِّينِ، وَحَصَرَا مُوشَ، فَأَشْرَفَ الْحِصْنُ عَلَى أَنْ يُمْلَكَ، فَغَدَرَ ابْنُ قَلْجِ أَرْسِلَان بِصَاحِبِ خِلَاطَ وَقَتَلَهُ ; طَمَعًا فِي الْبِلَادِ فَلَمَّا قَتَلَهُ سَارَ إِلَى خِلَاطَ. فَمَنَعَهُ أَهْلُهَا عَنْهَا، فَسَارَ إِلَى مَلَازَكُرْدَ، فَرَدَّهَ أَهْلُهَا أَيْضًا وَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ. فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْبِلَادِ مَطْمَعًا عَادَ إِلَى بَلَدِهِ. فَأَرْسَلَ أَهْلُ خِلَاطَ إِلَى نَجْمِ الدِّينِ يَسْتَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ لِيُمَلِّكُوهُ، فَحَضَرَ عِنْدَهُمْ وَمَلَكَ خِلَاطَ وَأَعْمَالَهَا سِوَى الْيَسِيرِ مِنْهَا، وَكَرِهَ الْمُلُوكُ الْمُجَاوِرُونَ لَهُ مُلْكَهُ لَهَا ; خَوْفًا مِنْ أَبِيهِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا خَافَهُ الْكَرْجُ وَكَرِهُوهُ، فَتَابَعُوا الْغَارَاتِ عَلَى أَعْمَالِ خِلَاطَ وَبِلَادِهَا، وَنَجْمُ الدِّينِ مُقِيمٌ بِخِلَاطَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُفَارَقَتِهَا، فَلَقِيَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ أَذًى شَدِيدًا. وَاعْتَزَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ عَسْكَرِ خِلَاطَ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى حِصْنِ وَانٍ، وَهُوَ مَنْ أَعْظَمِ الْحُصُونِ وَأَمْنَعِهَا، وَعَصَوْا عَلَى نَجْمِ الدِّينِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَمَلَكُوا مَدِينَةَ أَرْجِيشَ، فَأَرْسَلَ نَجْمُ الدِّينِ إِلَى أَبِيهِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَمُدَّهُ بِعَسْكَرٍ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ أَخَاهُ الْمَلِكَ الْأَشْرَفَ مُوسَى بْنَ الْعَادِلِ فِي عَسْكَرٍ، فَاجْتَمَعَا فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ وَحَصَرَا قَلْعَةَ وَانٍ وَبِهَا الْخِلَاطِيَّةُ، وَجَدُّوا فِي قِتَالِهِمْ فَضَعُفَ أُولَئِكَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ فَسَلَّمُوهَا صُلْحًا وَخَرَجُوا مِنْهَا، وَتَسَلَّمَهَا نَجْمُ الدِّينِ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ بِخِلَاطَ وَأَعْمَالِهَا، وَعَادَ أَخُوهُ الْأَشْرَفُ إِلَى بَلَدِهِ حَرَّانَ وَالرُّهَا. ذِكْرُ غَارَاتِ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَ الْفِرِنْجُ الَّذِينَ بِطَرَابُلُسَ وَحِصْنِ الْأَكْرَادِ، وَأَكْثَرُوا الْإِغَارَةَ عَلَى

بَلَدِ حِمْصَ وَوِلَايَاتِهَا، وَنَازَلُوا مَدِينَةَ حِمْصَ، وَكَانَ جَمْعُهُمْ كَثِيرًا، فَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا أَسَدِ الدِّينِ شِيرِكُوهْ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرِكُوهْ بِهِمْ قُوَّةٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِمْ وَمَنْعِهِمْ، فَاسْتَنْجَدَ الظَّاهِرَ غَازِيَ، صَاحِبَ حَلَبَ، وَغَيْرَهُ مِنْ مُلُوكِ الشَّامِ، فَلَمْ يُنْجِدْهُ إِلَّا الظَّاهِرُ، فَإِنَّهُ سَيَّرَ لَهُ عَسْكَرًا أَقَامُوا عِنْدَهُ، وَمَنَعُوا الْفِرِنْجَ عَنْ وِلَايَتِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ الْعَادِلَ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ بِالْعَسَاكِرِ الْكَثِيرَةِ، وَقَصَدَ مَدِينَةَ عَكَّا، فَصَالَحَهُ صَاحِبُهَا الْفِرِنْجِيُّ عَلَى قَاعِدَةٍ اسْتَقَرَّتْ مِنْ إِطْلَاقِ أَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ سَارَ إِلَى حِمْصَ، فَنَزَلَ عَلَى بُحَيْرَةِ قَدَسَ، وَجَاءَتْهُ عَسَاكِرُ الشَّرْقِ وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ، وَدَخَلَ إِلَى بِلَادِ طَرَابُلُسَ، وَحَاصَرَ مَوْضِعًا يُسَمَّى الْقُلَيْعَاتِ، أَخَذَهُ صُلْحًا وَأَطْلَقَ صَاحِبَهُ، وَغَنِمَ مَا فِيهِ مِنْ دَوَابَّ وَسِلَاحٍ، وَخَرَّبَهُ، وَتَقَدَّمَ إِلَى طَرَابُلُسَ فَنَهَبَ، وَأَحْرَقَ وَسَبَى وَغَنِمَ، وَعَادَ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مَقَامِهِ فِي بَلَدِ الْفِرِنْجِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَعَادَ إِلَى بُحَيْرَةِ قُدْسَ. وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِرِنْجِ فِي الصُّلْحِ، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ قَاعِدَةٌ وَدَخَلَ الشِّتَاءُ، وَطَلَبَتِ الْعَسَاكِرُ الشَّرْقِيَّةُ الْعَوْدَ إِلَى بِلَادِهِمْ قَبْلَ الْبَرْدِ الشَّدِيدِ، فَنَزَلَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ بِحِمْصَ عِنْدَ صَاحِبِهَا، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ فَشَتَّى بِهَا، وَعَادَتْ عَسَاكِرُ دِيَارِ الْجَزِيرَةِ إِلَى أَمَاكِنِهَا. وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ مِنْ مِصْرَ بِالْعَسَاكِرِ أَنَّ أَهْلَ قُبْرُسَ مِنَ الْفِرِنْجِ أَخَذُوا عِدَّةَ قِطَعٍ مِنْ أُسْطُولِ مِصْرَ، وَأَسَرُوا مَنْ فِيهَا. فَأَرْسَلَ الْعَادِلُ إِلَى صَاحِبِ عَكَّا فِي رَدِّ مَا أَخَذَ، وَيَقُولُ: نَحْنُ صُلْحٌ فَلِمَ غَدَرْتُمْ بِأَصْحَابِنَا. فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ أَهْلَ قُبْرُسَ لَيْسَ لِي عَلَيْهِمْ حُكْمٌ وَأَنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى الْفِرِنْجِ الَّذِينَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ قُبْرُسَ سَارُوا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ بِسَبَبِ غَلَاءٍ كَانَ عِنْدَهُمْ وَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمُ الْأَقْوَاتُ، وَعَادَ حُكْمُ قُبْرُسَ إِلَى صَاحِبِ عَكَّا، وَأَعَادَ الْعَادِلُ مُرَاسَلَتَهُ فَلَمْ يَنْفَصِلْ حَالٌ، فَخَرَجَ بِالْعَسَاكِرِ، وَفَعَلَ بِعَكَّا مَا ذَكَرْنَا، فَأَجَابَهُ حِينَئِذٍ صَاحِبُهَا إِلَى مَا طَلَبَ وَأَطْلَقَ الْأَسْرَى. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِخِلَاطَ وَقَتْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِهَا لَمَّا تَمَّ مُلْكُ خِلَاطَ وَأَعْمَالِهَا لِلْمَلِكِ الْأَوْحَدِ بْنِ الْعَادِلِ سَارَ عَنْهَا إِلَى مَلَازَكُرْدَ

لِيُقَرِّرَ قَوَاعِدَهَا أَيْضًا، وَيَفْعَلَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ فِيهَا، فَلَمَّا فَارَقَ خِلَاطَ وَثَبَ أَهْلُهَا عَلَى مَنْ بِهَا مِنَ الْعَسْكَرِ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَعَصَوْا، وَحَصَرُوا الْقَلْعَةَ وَبِهَا أَصْحَابُ الْأَوْحَدِ، وَنَادَوْا بِشِعَارِ شَاهْ أَرْمَنَ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، يَعْنُونَ بِذَلِكَ رَدَّ الْمُلْكِ إِلَى أَصْحَابِهِ وَمَمَالِيكِهِ. فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْمَلِكِ الْأَوْحَدِ، فَعَادَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ وَافَاهُ عَسْكَرٌ مِنَ الْجَزِيرَةِ فَقَوِيَ بِهِمْ، وَحَصَرَ خِلَاطَ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُهَا، فَمَالَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ حَسَدًا لِلْآخَرِينَ، فَمَلَكَهَا، وَقَتَلَ بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، وَأَسَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْأَعْيَانِ، فَسَيَّرَهُمْ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ، وَكَانَ كُلَّ يَوْمٍ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ يَقْتَلُ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، فَلَمْ يَسْلَمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَذَلَّ أَهْلُ خِلَاطَ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَتَفَرَّقَتْ كَلِمَةُ الْفِتْيَانِ، وَكَانَ الْحُكْمُ إِلَيْهِمْ، وَكُفِيَ النَّاسُ شَرَّهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ صَارُوا يُقِيمُونَ مَلِكًا وَيَقْتُلُونَ آخَرَ، وَالسَّلْطَنَةُ عِنْدَهُمْ لَا حُكْمَ لَهَا وَإِنَّمَا الْحُكْمُ لَهُمْ وَإِلَيْهِمْ. ذِكْرُ مُلْكِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَهْلَوَانِ مَرَاغَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الْأَمِيرُ نُصْرَةُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَهْلَوَانِ، صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ، مَدِينَةَ مَرَاغَةَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهَا عَلَاءَ الدِّينِ قَرَاسُنْقُرَ مَاتَ هَذِهِ السَّنَةَ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنٌ لَهُ طِفْلٌ، وَقَامَ بِتَدْبِيرِ دَوْلَتِهِ وَتَرْبِيَتِهِ خَادِمٌ كَانَ لِأَبِيهِ، فَعَصَى عَلَيْهِ أَمِيرٌ كَانَ مَعَ أَبِيهِ وَجَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَادِمُ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَقَاتَلَهُمْ ذَلِكَ الْأَمِيرُ، فَانْهَزَمُوا، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ وَلَدِ عَلَاءِ الدِّينِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ حَتَّى تُوُفِّيَ فِي أَوَّلِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَانْقَرَضَ أَهْلُ بَيْتِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ سَارَ نُصْرَةُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ مِنْ تِبْرِيزَ إِلَى مَرَاغَةَ فَمَلَكَهَا وَاسْتَوْلَى عَلَى جَمِيعِ مَمْلَكَةِ آلِ قَرَاسُنْقُرَ مَا عَدَا قَلْعَةَ رُوِينَ دَزْ فَإِنَّهَا اعْتَصَمَ بِهَا الْخَادِمُ، وَعِنْدَهُ الْخَزَائِنُ وَالذَّخَائِرُ، فَامْتَنَعَ بِهَا عَلَى الْأَمِيرِ أَبِي بَكْرٍ.

ذِكْرُ عَزْلِ نَصِيرِ الدِّينِ وَزِيرِ الْخَلِيفَةِ كَانَ نَصِيرُ الدِّينِ نَاصِرُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْعَلَوِيُّ هَذَا مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ مَنْ بَيْتٍ كَبِيرٍ. فَقَدِمَ بَغْدَادَ لَمَّا مَلَكَ مُؤَيَّدُ الدِّينِ بْنُ الْقَصَّابِ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ الرَّيَّ، وَلَقِيَ مِنَ الْخَلِيفَةِ قَبُولًا، فَجَعَلَهُ نَائِبَ الْوِزَارَةِ، ثُمَّ جَعَلَهُ وَزِيرًا وَحَكَّمَهُ وَجَعَلَ ابْنَهُ صَاحِبَ الْمَخْزَنِ. فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عُزِلَ وَأُغْلِقَ بَابُهُ وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ أَنَّهُ أَسَاءَ السِّيرَةَ مَعَ أَكَابِرِ مَمَالِيكِ الْخَلِيفَةِ، فَمِنْهُمْ أَمِيرُ الْحَاجِّ مُظَفَّرُ الدِّينِ سُنْقُرُ الْمَعْرُوفُ بِوَجْهِ السَّبُعِ، فَإِنَّهُ هَرَبَ مِنْ يَدِهِ إِلَى الشَّامِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ، فَارَقَ الْحَاجَّ بِالْمَرْخُومِ، وَأَرْسَلَ يَعْتَذِرُ مِنْ هَرَبِهِ وَيَقُولُ: إِنَّنِي هَرَبْتُ مِنْ يَدِ الْوَزِيرِ ; ثُمَّ أَتْبَعَهُ الْأَمِيرَ جَمَالَ الدِّينِ قُشْتُمُرَ وَهُوَ أَخَصُّ الْمَمَالِيكِ وَآثَرُهُمْ عِنْدَهُ، وَمَضَى إِلَى لُرِسْتَانَ وَأَرْسَلَ يَعْتَذِرُ وَيَقُولُ: إِنَّ الْوَزِيرَ يُرِيدُ أَنْ لَا يُبْقِيَ فِي خِدْمَةِ الْخَلِيفَةِ أَحَدًا مِنْ مَمَالِيكِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَدَّعِيَ الْخِلَافَةَ، وَقَالَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَأَكْثَرُوا وَقَالُوا الشِّعْرَ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: أَلَا مُبْلِغٌ عَنِّي الْخَلِيفَةَ أَحْمَدًا ... تَوَقَّ وُقِيتَ السُّوءَ مَا أَنْتَ صَانِعُ وَزِيرُكُ هَذَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ فِيهِمَا ... فَعَالُكَ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، ضَائِعُ فَإِنْ كَانَ حَقًّا مِنْ سُلَالَةِ أَحْمَدٍ ... فَهَذَا وَزِيرٌ فِي الْخِلَافَةِ طَامِعُ وَإِنْ كَانَ فِيمَا يَدَّعِي غَيْرَ صَادِقٍ ... فَأَضْيَعُ مَا كَانَتْ لَدَيْهِ الصَّنَائِعُ فَعَزَلَهُ، وَقِيلَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ غَيْرُهُ، وَلَمَّا عُزِلَ أَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَقُولُ: إِنَّنِي قَدِمْتُ إِلَى هَاهُنَا وَلَيْسَ لِي دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، وَقَدْ حَصَلَ لِي مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْلَاقِ النَّفِيسَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ ; وَيَسْأَلُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الْجَمِيعُ وَيُفْرَجُ عَنْهُ وَيُمَكَّنُ مِنَ الْمَقَامِ بِالْمَشْهَدِ أُسْوَةً بِبَعْضِ الْعَلَوِيِّينَ.

فَأَجَابَهُ: إِنَّنَا مَا أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ بِشَيْءٍ فَنَوَيْنَا اسْتِعَادَتَهُ مِنْكَ، وَلَوْ كَانَ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا، وَنَفْسُكَ فِي أَمَانِ اللَّهِ وَأَمَانِنَا، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْكَ مَا تَسْتَوْجِبُ بِهِ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ الْأَعْدَاءَ قَدْ أَكْثَرُوا فِيكَ، فَاخْتَرْ لِنَفْسِكِ مَوْضِعًا تَنْتَقِلُ إِلَيْهِ مَوْفُورًا مُحْتَرَمًا. فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ الِاسْتِظْهَارِ مِنْ جَانِبِ الْخَلِيفَةِ لِئَلَّا يَتَمَكَّنَ مِنْهُ الْعَدُوُّ فَتَذْهَبَ نَفْسُهُ، فَفُعِلَ بِهِ ذَلِكَ. وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ قَرِيبًا إِلَى النَّاسِ، حَسَنَ اللِّقَاءِ لَهُمْ وَالِانْبِسَاطِ مَعَهُمْ، عَفِيفًا عَنْ أَمْوَالِهِمْ، غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ، فَلَمَّا قُبِضَ عَادَ أَمِيرُ الْحَاجِّ مِنْ مِصْرَ وَكَانَ فِي الْخِدْمَةِ الْعَادِلِيَّةِ، وَعَادَ أَيْضًا قُشْتُمُرُ، وَأُقِيمَ فِي النِّيَابَةِ فِي الْوِزَارَةِ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو الْبَدْرِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَمْسِينَا الْوَاسِطِيُّ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَحَكِّمًا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ وَقْتَ السَّحَرِ، وَكُنْتُ حِينَئِذٍ بِالْمَوْصِلِ، وَلَمْ تَكُنْ بِهَا شَدِيدَةً، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ مِنْ كَثِيرٍ مِنِ الْبِلَادِ بِأَنَّهَا زُلْزِلَتْ وَلَمْ تَكُنْ بِالْقَوِيَّةِ. وَفِيهَا أَطْلَقَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ جَمِيعَ حَقِّ الْبَيْعِ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْتِعَةِ مِنَ الْمُكُوسِ مِنْ سَائِرِ الْمَبِيعَاتِ، وَكَانَ مَبْلَغًا كَثِيرًا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنْ بِنْتًا لِعِزِّ الدِّينِ نَجَاحٍ شَرَابِيِّ الْخَلِيفَةِ تُوُفِّيَتْ، فَاشْتُرِيَ لَهَا بَقَرٌ لِتُذْبَحَ وَيُتَصُدَّقَ بِلَحْمِهَا عَنْهَا، فَرَفَعُوا فِي حِسَابِ ثَمَنِهَا مَئُونَةَ الْبَقَرِ، فَكَانَتْ كَثِيرَةً، فَوَقَفَ الْخَلِيفَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِإِطْلَاقِ الْمَئُونَةِ جَمِيعِهَا. وَفِيهَا، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، أَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِبِنَاءِ دُورٍ فِي الْمَحَالِّ بِبَغْدَادَ لِيُفْطِرَ فِيهَا الْفُقَرَاءُ، وَسُمِّيَتْ دُورَ الضِّيَافَةِ، يُطْبَخُ فِيهَا اللَّحْمُ الضَّأْنُ، وَالْخُبْزُ الْجَيِّدُ، عَمَلَ ذَلِكَ فِي جَانِبَيْ بَغْدَادَ، وَجَعَلَ فِي كُلِّ دَارٍ مَنْ يُوثِقُ بِأَمَانَتِهِ، وَكَانَ يُعْطِي كُلَّ إِنْسَانٍ قَدَحًا مَمْلُوءًا مِنَ الطَّبِيخِ وَاللَّحْمِ، وَمَنًّا مِنَ الْخُبْزِ، فَكَانَ يُفْطِرُ كُلَّ لَيْلَةٍ عَلَى طَعَامِهِ خَلْقٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً.

وَفِيهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَدَخَلَ الْمَاءُ فِي خَنْدَقِ بَغْدَادَ مِنْ نَاحِيَةِ بَابِ كَلْوَاذَى، فَخِيفَ عَلَى الْبَلَدِ مِنَ الْغَرَقِ، فَاهْتَمَّ الْخَلِيفَةُ بِسَدِّ الْخَنْدَقِ، وَرَكِبَ فَخْرُ الدِّينِ نَائِبُ الْوِزَارَةِ وَعِزُّ الدِّينِ الشَّرَابِيُّ وَوَقَفَا ظَاهِرَ الْبَلَدِ، فَلَمْ يَبْرَحَا حَتَّى سُدَّ الْخَنْدَقُ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ حَنْبَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَرَجِ الْمُكَبِّرُ بِجَامِعِ الرُّصَافَةِ، وَكَانَ عَالِيَ الْإِسْنَادِ، رَوَى عَنِ ابْنِ الْحُصَيْنِ مُسْنَدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَلَهُ إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَقَدِمَ الْمَوْصِلَ، وَحَدَّثَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا.

ثم دخلت سنة خمس وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّمِائَة] 605 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ الْكَرَجِ أَرْجِيشَ وَعَوْدِهِمْ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَتِ الْكَرَجُ فِي جُمُوعِهَا إِلَى وِلَايَةِ خِلَاطَ، وَقَصَدُوا مَدِينَةَ أَرْجِيشَ، فَحَصَرُوهَا وَمَلَكُوهَا عَنْوَةً، وَنَهَبُوا جَمِيعَ مَا بِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَسَرُوا وَسَبَوْا أَهْلَهَا، وَأَحْرَقُوهَا، وَخَرَّبُوهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا أَحَدٌ ; فَأَصْبَحَتْ خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ. وَكَانَ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ، صَاحِبُ أَرْمِينِيَّةَ، بِمَدِينَةِ خِلَاطَ، وَعِنْدَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعَسَاكِرِ، فَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى الْكَرَجِ لِأَسْبَابٍ: مِنْهَا كَثْرَتُهُمْ، وَخَوْفُهُ مِنْ أَهْلِ خِلَاطَ ; لِمَا كَانَ أَسْلَفَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَذَى خَافَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا فَلَا يُمَكَّنُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَيْهَا، فَلَمَّا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى قِتَالِ الْكَرَجِ، عَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ سَالِمِينَ لَمْ يَذْعَرْهُمْ ذَاعِرٌ، وَهَذَا جَمِيعُهُ، وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا شَدِيدًا عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَإِنَّهُ يَسِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ مِمَّا نَذْكُرُهُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ إِلَى سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ. ذِكْرُ قَتْلِ سَنْجَر شَاهْ وَمُلْكِ ابْنِهِ مَحْمُودٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ سَنْجَر شَاهْ بْنُ غَازِي بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِي بْنِ آقْسُنْقُرَ، صَاحِبُ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ نُورِ الدِّينِ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، قَتَلَهُ ابْنُهُ غَازِي ; وَلَقَدْ سَلَكَ ابْنُهُ فِي قَتْلِهِ طَرِيقًا عَجِيبًا يَدُلُّ عَلَى مَكْرٍ وَدَهَاءٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنْ سَنْجَرَ كَانَ سَيِّئَ السِّيرَةِ مَعَ النَّاسِ كُلِّهِمْ مِنَ الرَّعِيَّةِ وَالْجُنْدِ

وَالْحَرِيمِ وَالْأَوْلَادِ، وَبَلَغَ مِنْ قُبْحِ فِعْلِهِ مَعَ أَوْلَادِهِ أَنَّهُ سَيَّرَ ابْنَيْهِ مَحْمُودًا وَمَوْدُودًا إِلَى قَلْعَةِ فَرَحَ مِنْ بَلَدِ الزَّوَزَانِ، وَأَخْرَجَ ابْنَهُ هَذَا إِلَى دَارٍ بِالْمَدِينَةِ أَسْكَنَهُ فِيهَا، وَوَكَّلَ بِهِ مَنْ يَمْنَعُهُ الْخُرُوجَ. وَكَانَتِ الدَّارُ إِلَى جَانِبِ بُسْتَانٍ لِبَعْضِ الرَّعِيَّةِ، فَكَانَ يَدْخُلُ إِلَيْهِ مِنْهَا الْحَيَّاتُ، وَالْعَقَارِبُ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُؤْذِي، فَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ اصْطَادَ حَيَّةً وَسَيَّرَهَا فِي مَنْدِيلٍ إِلَى أَبِيهِ لَعَلَّهُ يَرِقُّ لَهُ، فَلَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهِ، فَأَعْمَلَ الْحِيلَةَ حَتَّى نَزَلَ مِنَ الدَّارِ الَّتِي كَانَ بِهَا وَاخْتَفَى، وَوَضَعَ إِنْسَانًا كَانَ يَخْدِمُهُ، فَخَرَجَ مِنَ الْجَزِيرَةِ، وَقَصَدَ الْمَوْصِلَ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ غَازِي بْنُ سَنْجَرَ، فَلَمَّا سَمِعَ نُورُ الدِّينِ بِقُرْبِهِ مِنْهَا أَرْسَلَ نَفَقَةً، وَثِيَابًا، وَخَيْلًا، وَأَمَرَهُ بِالْعَوْدِ، وَقَالَ: إِنَّ أَبَاكَ يَتَجَنَّى لَنَا الذُّنُوبَ الَّتِي لَمْ نَعْمَلُهَا، وَيُقَبِّحُ ذِكْرَنَا، فَإِذَا صِرْتَ عِنْدَنَا جَعْلَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِلشَّنَاعَاتِ وَالْبَشَاعَاتِ، وَنَقَعُ مَعَهُ فِي صِرَاعٍ لَا يُنَادَى وَلِيَدُهُ ; فَسَارَ إِلَى الشَّامِ. وَأَمَّا غَازِي بْنُ سَنْجَرَ فَإِنَّهُ تَسَلَّقَ إِلَى دَارِ أَبِيهِ، وَاخْتَفَى عِنْدَ بَعْضِ سَرَارِيهِ، وَعَلِمَ بِهِ أَكْثَرُ مَنْ بِالدَّارِ، فَسَتَرَتْ عَلَيْهِ بُغْضًا لِأَبِيهِ، وَتَوَقُّعًا لِلْخَلَاصِ مِنْهُ لِشِدَّتِهِ عَلَيْهِنَّ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ، وَتَرَكَ أَبُوهُ الطَّلَبَ لَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ بِالشَّامِ فَاتَّفَقَ أَنَّ أَبَاهُ، فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، شَرِبَ الْخَمْرَ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ مَعَ نُدَمَائِهِ، فَكَانَ يَقْتَرِحُ عَلَى الْمُغَنِّينَ أَنْ يُغَنُّوا فِي الْفِرَاقِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ، وَيَبْكِي، وَيُظْهِرُ فِي قَوْلِهِ قُرْبَ الْأَجَلِ، وَدُنُوَّ الْمَوْتِ، وَزَوَالَ مَا هُوَ فِيهِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى آخَرِ النَّهَارِ، وَعَادَ إِلَى دَارِهِ، وَسَكِرَ عِنْدَ بَعْضِ حَظَايَاهُ، فَفِي اللَّيْلِ دَخَلَ الْخَلَاءَ ; وَكَانَ ابْنُهُ عِنْدَ تِلْكَ الْحَظِيَّةِ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ دَارَهُ فَضَرَبَهُ بِالسِّكِّينِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ ضَرْبَةً، ثُمَّ ذَبَحَهُ، وَتَرَكَهُ مُلْقًى، وَدَخَلَ الْحَمَّامَ، وَقَعَدَ يَلْعَبُ مَعَ الْجَوَارِي، فَلَوْ فَتَحَ بَابَ الدَّارِ وَأَحْضَرَ الْجُنْدَ وَاسْتَحْلَفَهُمْ لِمُلْكِ الْبَلَدِ، لَكِنَّهُ أَمِنَ وَاطْمَأَنَّ، وَلَمْ يَشُكَّ فِي الْمُلْكِ. فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ الْخَدَمِ الصِّغَارِ خَرَجَ إِلَى الْبَابِ وَأَعْلَمَ أُسْتَاذَ دَارِ سَنْجَرَ الْخَبَرَ،

فَأَحْضَرَ أَعْيَانَ الدَّوْلَةِ وَعَرَّفَهُمْ ذَلِكَ، وَأَغْلَقَ الْأَبْوَابَ عَلَى غَازِي، وَاسْتَحْلَفَ النَّاسَ لِمَحْمُودِ بْنِ سَنْجَر شَاهْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأَحْضَرَهُ مِنْ فَرَحَ وَمَعَهُ أَخُوهُ مَوْدُودٌ، فَلَمَّا حَلَفَ النَّاسُ وَسَكَنُوا فَتَحُوا بَابَ الدَّارِ عَلَى غَازِي، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ لِيَأْخُذُوهُ، فَمَانَعَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَتَلُوهُ وَأَلْقَوْهُ عَلَى بَابِ الدَّارِ، فَأَكَلَتِ الْكِلَابُ بَعْضَ لَحْمِهِ، ثُمَّ دُفِنَ بَاقِيهِ. وَوَصَلَ مَحْمُودٌ إِلَى الْبَلَدِ وَمَلَكَهُ، وَلُقِّبَ بِمُعِزِّ الدِّينِ، لَقَبُ أَبِيهِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَخَذَ كَثِيرًا مِنَ الْجَوَارِي اللَّوَاتِي لِأَبِيهِ فَغَرَّقَهُنَّ فِي دِجْلَةَ. وَلَقَدْ حَدَّثَنِي صَدِيقٌ لَنَا أَنَّهُ رَأَى بِدِجْلَةَ فِي مِقْدَارِ غَلْوَةِ سَهْمٍ سَبْعَ جَوَارٍ مُغَرَّقَاتٍ، مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ قَدْ أُحْرِقَتْ وُجُوهُهُنَّ بِالنَّارِ، فَلَمْ أَعْلَمْ سَبَبَ ذَلِكَ الْحَرِيقِ حَتَّى حَدَّثَتْنِي جَارِيَةٌ اشْتَرَيْتُهَا بِالْمَوْصِلِ مِنْ جَوَارِيهِ، أَنْ مَحْمُودًا كَانَ يَأْخُذُ الْجَارِيَةَ فَيَجْعَلُ وَجْهَهَا فِي النَّارِ، فَإِذَا أَحْتَرَقَتْ أَلْقَاهَا فِي دِجْلَةَ، وَبَاعَ مَنْ لَمْ يُغْرِقْهُ مِنْهُنَّ، فَتَفَرَّقَ أَهْلُ تِلْكَ الدَّارِ أَيْدِي سَبَا. وَكَانَ سَنْجَر شَاهْ قَبِيحَ السِّيرَةِ، ظَالِمًا، غَاشِمًا، كَثِيرَ الْمُخَاتَلَةِ وَالْمُوَارَبَةِ، وَالنَّظَرِ فِي دَقِيقِ الْأُمُورِ وَجَلِيلِهَا، لَا يَمْتَنِعُ مِنْ قَبِيحٍ يَفْعَلُهُ مَعَ رَعِيَّتِهِ وَغَيْرِهِمْ، مَنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْلَاكِ، وَالْقَتْلِ، وَالْإِهَانَةِ، وَسَلَكَ مَعَهُمْ طَرِيقًا وَعْرًا مِنْ قَطْعِ الْأَلْسِنَةِ وَالْأُنُوفِ وَالْآذَانِ، وَأَمَّا اللِّحَى فَإِنَّهُ حَلَقَ مِنْهَا مَا لَا يُحْصَى، وَكَانَ جُلُّ فِكْرِهِ فِي ظُلْمٍ يَفْعَلُهُ. وَبَلَغَ مِنْ شِدَّةِ ظُلْمِهِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا اسْتَدْعَى إِنْسَانًا لِيُحْسِنَ إِلَيْهِ لَا يَصِلُ إِلَّا وَقَدْ قَارَبَ الْمَوْتَ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ ; وَاسْتَعْلَى فِي أَيَّامِهِ السُّفَهَاءُ، وَنَفَقَتْ سُوقُ الْأَشْرَارِ وَالسَّاعِينَ بِالنَّاسِ، فَخَرَبَ الْبَلَدُ، وَتَفَرَّقَ أَهْلُهُ، لَا جَرَمَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَقْرَبَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ قُتِلَ وَلَدُهُ غَازِي، وَبَعْدَ قَلِيلٍ قَتَلَ وَلَدُهُ مَحْمُودٌ أَخَاهُ مَوْدُودًا، وَجَرَى فِي دَارِهِ مِنَ التَّحْرِيقِ وَالتَّغْرِيقِ وَالتَّفْرِيقِ مَا ذَكَرْنَا بَعْضَهُ، وَلَوْ رُمْنَا شَرْحَ قُبْحِ سِيرَتِهِ لَطَالَ، وَاللَّهُ تَعَالَى بِالْمِرْصَادِ لِكُلِّ ظَالِمٍ.

[الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَانِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ وَرَّامُ بْنُ أَبِي فِرَاسٍ الزَّاهِدُ بِالْحِلَّةِ السَّيْفِيَّةِ، وَهُوَ مِنْهَا، وَكَانَ صَالِحًا. وَفِي صَفَرٍ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ مُصَدَّقُ بْنُ شَبِيبٍ النَّحْوِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ وَاسِطَ. وَفِي شَعْبَانَ تُوُفِّيَ الْقَاضِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمِنْدَايِ الْوَاسِطِيُّ، بِهَا، وَكَانَ كَثِيرَ الرِّوَايَةِ لِلْحَدِيثِ، وَلَهُ إِسْنَادٌ عَالٍ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ بِمُسْنَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنِ ابْنِ الْحُصَيْنِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقِوَامُ أَبُو الْفَوَارِسِ نَصْرُ بْنُ نَاصِرِ بْنِ مَكِّيٍّ الْمَدَائِنِيُّ، صَاحِبُ الْمَخْزَنِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ أَدِيبًا، فَاضِلًا، كَامِلَ الْمُرُوءَةِ، يُحِبُّ الْأَدَبَ وَأَهْلَهُ، وَيُحِبُّ الشِّعْرَ، وَيُحْسِنُ الْجَوَائِزَ عَلَيْهِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِيَ بَعْدَهُ أَبُو الْفُتُوحِ الْمُبَارَكُ ابْنُ الْوَزِيرِ عَضُدِ الدِّينِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَأُكْرِمَ، وَأُعْلِيَ مَحَلُّهُ، فَبَقِيَ مُتَوَلِّيًا إِلَى سَابِعِ ذِي الْقَعْدَةِ وَعُزِلَ لِعَجْزِهِ. [ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ] وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِنَيْسَابُورَ وَخُرَاسَانَ، وَكَانَ أَشَدُّهَا بِنَيْسَابُورَ وَخَرَجَ أَهْلُهَا إِلَى الصَّحْرَاءِ أَيَّامًا حَتَّى سَكَنَتْ وَعَادُوا إِلَى مَسَاكِنِهِمْ.

ثم دخلت سنة ست وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّمِائَة] 606 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ الْعَادِلِ الْخَابُورَ وَنَصِيبِينَ وَحَصْرِهِ سِنْجَارَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا وَاتِّفَاقِ نُورِ الدِّينِ أَرَسْلَان شَاهْ وَمُظَفَّرِ الدِّينِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ بَلَدَ الْخَابُورِ وَنَصِيبِينَ، وَحَصَرَ مَدِينَةَ سِنْجَارَ، وَالْجَمِيعَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَزِيرَةِ، وَهُوَ بِيَدِ قُطْبِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ زَنْكِي مَوْدُودٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قُطْبَ الدِّينِ الْمَذْكُورَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ عَمِّهِ نُورِ الدِّينِ أَرَسْلَان شَاهْ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَوْدُودٍ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، عَدَاوَةٌ مُسْتَحْكَمَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّمِائَةٍ حَصَلَتْ مُصَاهَرَةٌ بَيْنَ نُورِ الدِّينِ وَالْعَادِلِ، فَإِنَّ وَلَدًا لِلْعَادِلِ تَزَوَّجَ بِابْنَةٍ لِنُورِ الدِّينِ، وَكَانَ لِنُورِ الدِّينِ وُزَرَاءٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَشْتَغِلَ عَنْهُمْ، فَحَسَّنُوا لَهُ مُرَاسَلَةَ الْعَادِلِ وَالِاتِّفَاقَ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَقْتَسِمَا بِالْبِلَادِ الَّتِي لَقُطْبِ الدِّينِ، وَبِالْوِلَايَةِ الَّتِي لَوَلَدِ سَنْجَر شَاهْ بْنِ غَازِي بْنِ مَوْدُودٍ، وَهِيَ جَزِيرَةُ ابْنِ عُمَرَ وَأَعْمَالِهَا، فَيَكُونُ مُلْكُ قُطْبِ الدِّينِ لِلْعَادِلِ، وَتَكُونُ الْجَزِيرَةُ لِنُورِ الدِّينِ. فَوَافَقَ هَذَا الْقَوْلُ هَوَى نُورِ الدِّينِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْعَادِلِ فِي الْمَعْنَى، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ مُسْتَبْشِرًا وَجَاءَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَرْجُوهُ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ مَتَى مَلَكَ هَذِهِ الْبِلَادَ أَخَذَ الْمَوْصِلَ وَغَيْرَهَا، وَأَطْمَعَ نُورَ الدِّينِ أَيْضًا فِي أَنْ يُعْطِيَ هَذِهِ الْبِلَادَ، إِذَا مَلَكَهَا، لِوَلَدِهِ الَّذِي هُوَ زَوْجُ ابْنَةِ نُورِ الدِّينِ، وَيَكُونُ مُقَامُهُ فِي خِدْمَتِهِ بِالْمَوْصِلِ، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَحَالَفَا عَلَيْهَا فَبَادَرَ الْعَادِلُ إِلَى الْمَسِيرِ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى الْفُرَاتِ فِي عَسَاكِرِهِ، وَقَصَدَ الْخَابُورَ فَأَخَذَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ نُورُ الدِّينِ بِوُصُولِهِ كَأَنَّهُ خَافَ وَاسْتَشْعَرَ، فَأَحْضَرَ مَنْ يَرْجِعُ إِلَى رَأْيِهِمْ

وَقَوْلِهِمْ، وَعَرَّفَهُمْ وَصُولَ الْعَادِلِ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُهُ، فَأَمَّا مَنْ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَسَكَتُوا، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ هَذِهِ الْحَالَ، فَعَظَّمَ الْأَمْرَ، وَأَشَارَ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْحِصَارِ، وَجَمْعِ الرِّجَالِ، وَتَحْصِيلِ الذَّخَائِرِ وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. فَقَالَ نُورُ الدِّينِ: نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ وَخَبَرَّهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ: بِأَيِّ رَأْيٍ تَجِيءُ إِلَى عَدُوٍّ لَكَ هُوَ أَقْوَى مِنْكَ، وَأَكْثَرُ جَمْعًا، وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْكَ مَتَى تَحَرَّكَ لِقَصْدِكَ تَعْلَمُ بِهِ، فَلَا يَصِلُ إِلَّا وَقَدْ فَرَغْتَ مِنْ جَمِيعِ مَا تُرِيدُهُ، تَسْعَى حَتَّى يَصِيرَ قَرِيبًا مِنْكَ، وَيَزْدَادَ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِهِ. ثُمَّ إِنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ بَيْنَكُمَا أَنَّهُ لَهُ يَمْلِكُهُ أَوْلًا بِغَيْرِ تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ، وَتَبْقَى أَنْتَ لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تُفَارِقَ الْمَوْصِلَ إِلَى الْجَزِيرَةِ وَتَحْصُرَهَا وَالْعَادِلُ هَاهُنَا، هَذَا إِنْ وَفَّى لَكَ بِمَا اسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُفَارِقَ الْمَوْصِلَ، وَإِنْ عَادَ إِلَى الشَّامِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُ مُلْكُ خِلَاطَ، وَبَعْضُ دِيَارِ بَكْرٍ، وَدِيَارُ الْجَزِيرَةِ جَمِيعُهَا، وَالْجَمِيعُ بِيَدِ أَوْلَادِهِ مَتَى سِرْتَ عَنِ الْمَوْصِلِ أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا، فَمَا زِدْتَ عَلَى أَنْ آذَيْتَ نَفْسَكَ وَابْنَ عَمِّكَ، وَقَوَّيْتَ عَدُوَّكَ، وَجَعَلْتَهُ شِعَارَكَ، وَقَدْ فَاتَ الْأَمْرُ، وَلَيْسَ يَجُوزُ إِلَّا أَنْ تَقِفَ مَعَهُ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ بَيْنَكُمَا لِئَلَّا يَجْعَلَ لَكَ حُجَّةً وَيَبْتَدِئُ بِكَ. هَذَا وَالْعَادِلُ قَدْ مَلَكَ الْخَابُورَ وَنَصِيبِينَ، وَسَارَ إِلَى سِنْجَارَ فَحَصَرَهَا، وَكَانَ فِي عَزْمِ صَاحِبِهَا قُطْبِ الدِّينِ أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى الْعَادِلِ بِعِوَضٍ يَأْخُذُهُ عَنْهَا، فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ أَمِيرٌ كَانَ مَعَهُ، اسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ يَرْنَقْشَ، مَمْلُوكُ أَبِيهِ زَنْكِي، وَقَامَ بِحِفْظِ الْمَدِينَةِ وَالذَّبِّ عَنْهَا، وَجَهَّزَ نُورُ الدِّينِ عَسْكَرًا مَعَ وَلَدِهِ الْمَلِكِ الْقَاهِرِ لِيَسِيرُوا إِلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ. فَبَيْنَمَا الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ جَاءَهُمْ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي حِسَابٍ، وَهُوَ أَنَّ مُظَفَّرَ الدِّينِ كُوكُبْرِي، صَاحِبَ إِرْبَلَ، أَرْسَلَ وَزِيرَهُ إِلَى نُورِ الدِّينِ يَبْذُلُ مِنْ نَفْسِهِ الْمُسَاعِدَةَ عَلَى مَنْعِ الْعَادِلِ عَنْ سِنْجَارَ، وَأَنَّ الِاتِّفَاقَ مَعَهُ عَلَى مَا يُرِيدُهُ، فَوَصَلَ الرَّسُولُ لَيْلًا، فَوَقَفَ مُقَابِلَ دَارِ نُورِ الدِّينِ وَصَاحَ، فَعَبَّرَ إِلَيْهِ سَفِينَةً عَبَرَ فِيهَا، وَاجْتَمَعَ بِنُورِ الدِّينِ لَيْلًا وَأَبْلَغَهُ الرِّسَالَةَ، فَأَجَابَ نُورُ الدِّينِ إِلَى مَا طَلَبَ مِنَ الْمُوَافَقَةِ، وَحَلَفَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَادَ الْوَزِيرُ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَسَارَ مُظَفَّرُ الدِّينِ، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَنُورُ الدِّينِ، وَنَزَلَا بِعَسَاكِرِهِمَا بِظَاهِرِ الْمَوْصِلِ. وَكَانَ سَبَبُ مَا فَعَلَهُ مُظَفَّرُ الدِّينِ أَنَّ صَاحِبَ سِنْجَارَ أَرْسَلَ وَلَدَهُ إِلَى مُظَفَّرِ الدِّينِ

يَسْتَشْفِعُ بِهِ إِلَى الْعَادِلِ لِيُبْقِيَ عَلَيْهِ سِنْجَارَ، وَكَانَ مُظَفَّرُ الدِّينِ يَظُنُّ أَنَّهُ لَوْ شَفَعَ فِي نِصْفِ مُلْكِ الْعَادِلِ لَشَفَّعَهُ، لِأَثَرِهِ الْجَمِيلِ فِي خِدْمَتِهِ، وَقِيَامِهِ فِي الذَّبِّ عَنْ مُلْكِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ ; فَشَفَعَ إِلَيْهِ فَلَمْ يُشَفِّعْهُ الْعَادِلُ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ بَعْدَ اتِّفَاقِهِ مَعَ نُورِ الدِّينِ لَا يُبَالِي بِمُظَفَّرِ الدِّينِ، فَلَمَّا رَدَّ الْعَادِلُ شَفَاعَتَهُ رَاسَلَ نُورَ الدِّينِ فِي الْمُوَافَقَةِ عَلَيْهِ. وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَاجْتَمَعَ بِنُورِ الدِّينِ، أَرْسَلَا إِلَى الْمَلِكِ الظَّاهِرِ غَازِي بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَهُوَ صَاحِبُ حَلَبَ، وَإِلَى كَيْخَسْرُو بْنِ قَلْجِ أَرَسْلَان، صَاحِبِ بِلَادِ الرُّومِ، بِالِاتِّفَاقِ مَعَهُمَا، فَكِلَاهُمَا أَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، فَتَوَاعَدُوا عَلَى الْحَرَكَةِ وَقَصْدِ بِلَادِ الْعَادِلِ إِنِ امْتَنَعَ مِنَ الصُّلْحِ وَالْإِبْقَاءِ عَلَى صَاحِبِ سِنْجَارَ، وَأَرْسَلَا أَيْضًا إِلَى الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ لِيُرْسِلَ رَسُولًا إِلَى الْعَادِلِ فِي الصُّلْحِ أَيْضًا فَقَوِيَتْ حِينَئِذٍ نَفْسُ صَاحِبِ سِنْجَارَ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَوَصَلَتْ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ بْنُ الضَّحَّاكِ، أُسْتَاذُ الدَّارِ، وَالْأَمِيرُ آقَ بَاشْ، وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ مَمَالِيكِ الْخَلِيفَةِ وَكِبَارِهِمْ، فَوَصَلَا إِلَى الْمَوْصِلِ، وَسَارَا مِنْهَا إِلَى الْعَادِلِ وَهُوَ يُحَاصِرُ سِنْجَارَ، وَكَانَ مِنْ مَعَهُ لَا يُنَاصِحُونَهُ فِي الْقِتَالِ لَا سِيَّمَا أَسُدُ الدَّيْنِ شِيرِكُوهْ، صَاحِبُ حِمْصَ وَالرَّحْبَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُدْخِلُ إِلَيْهَا الْأَغْنَامَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَقْوَاتِ ظَاهِرًا، وَلَا يُقَاتِلُ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ. فَلَمَّا وَصَلَتْ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ إِلَى الْعَادِلِ أَجَابَ أَوَّلًا إِلَى الرَّحِيلِ، ثُمَّ امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَغَالَطَ، وَأَطَالَ الْأَمْرَ لَعَلَّهُ يَبْلُغُ مِنْهَا غَرَضًا، فَلَمْ يَنَلْ مِنْهَا مَا أَمَّلَهُ، وَأَجَابَ إِلَى الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا أَخَذَ وَتَبَقَى سِنْجَارُ لِصَاحِبِهَا. وَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَحَالَفُوا عَلَى هَذَا كُلُّهُمْ، وَعَلَى أَنْ يَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى النَّاكِثِ مِنْهُمْ، وَرَحَلَ الْعَادِلُ عَنْ سِنْجَارَ إِلَى حَرَّانَ، وَعَادَ مُظَفَّرُ الدِّينِ إِلَى إِرْبِلَ، وَبَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُلُوكِ، وَكَانَ مُظَفَّرُ الدِّينِ عِنْدَ مُقَامِهِ بِالْمَوْصِلِ قَدْ زَوَّجَ ابْنَتَيْنِ لَهُ بِوَلَدَيْنِ لِنُورِ الدِّينِ ; وَهَمَا عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودٌ، وَعِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، عُزِلَ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ أَمْسِينَا عَنْ نِيَابَةِ الْوِزَارَةِ لِلْخَلِيفَةِ، وَأُلْزِمَ بَيْتَهُ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الْمَخْزَنِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِظْهَارِ عَلَيْهِ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ نِيَابَةَ الْوِزَارَةِ مَكِينُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَرَزَ الْقُمِّيُّ، كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ، وَلُقِّبَ مُؤَيِّدَ الدِّينِ، وَنُقِلَ إِلَى دَارِ الْوِزَارَةَ مُقَابِلَ بَابِ النُّوبِيِّ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ، تُوُفِّيَ مَجْدُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ الرَّبِيعِ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ فُخْرُ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ خَطِيبِ الرَّيِّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ إِمَامَ الدُّنْيَا فِي عَصْرِهِ، وَبَلَغَنِي أَنَّ مَوْلِدَهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَفِيهَا، سَلْخِ ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ أَخِي مَجْدُ الدِّينِ أَبُو السِّعَادَاتِ الْمُبَارَكُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْكَاتِبُ، مَوْلِدُهُ فِي أَحَدِ الرَّبِيعَيْنِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ عَالِمًا فِي عِدَّةِ عُلُومٍ مُبَرَّزًا فِيهَا، مِنْهَا: الْفِقْهُ، وَالْأُصُولَانِ، وَالنَّحْوُ، وَالْحَدِيثُ، وَاللُّغَةُ، وَلَهُ تَصَانِيفُ مَشْهُورَةٌ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ، وَالنَّحْوِ، وَالْحِسَابِ، وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَلَهُ رَسَائِلُ مُدَوَّنَةٌ، وَكَانَ كَاتِبًا مُفْلِقًا يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ، ذَا دِينٍ مَتِينٍ، وَلُزُومِ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ، فَلَقَدْ كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الزَّمَانِ، وَلَعَلَّ مَنْ يَقِفُ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ يَتَّهِمُنِي فِي قَوْلِي، وَمَنْ عَرَفَهُ مَنْ أَهْلِ عَصْرِنَا يَعْلَمُ أَنِّي مُقَصِّرٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمَجْدُ الْمُطَرَّزِيُّ، النَّحْوِيُّ الْخُوَارَزْمِيُّ، وَكَانَ إِمَامًا فِي النَّحْوِ، لَهُ فِيهِ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمُؤَيَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ الْإِخْوَةِ بِأَصْفَهَانَ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثم دخلت سنة سبع وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّمِائَة] 607 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ عِصْيَانِ سَنْجَرَ مَمْلُوكِ الْخَلِيفَةِ بِخُوزِسْتَانَ وَمَسِيرِ الْعَسَاكِرِ إِلَيْهِ كَانَ قُطْبُ الدِّينِ سَنْجَرُ، مَمْلُوكُ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، قَدْ وَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ خُوزِسْتَانَ بَعْدَ طَاشْتَكِينَ أَمِيرِ الْحَاجِّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا كَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّمِائَةٍ بَدَا مِنْهُ تَغَيُّرٌ عَنِ الطَّاعَةِ فَرُوسِلَ فِي الْقُدُومِ إِلَى بَغْدَادَ، فَغَالَطَ وَلَمْ يَحْضُرْ، وَكَانَ يُظْهِرُ الطَّاعَةَ وَيُبْطِنُ التَّغَلُّبَ عَلَى الْبِلَادِ، فَبَقِيَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِلَى رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَتَقَدَّمَ الْخَلِيفَةُ إِلَى مُؤَيِّدِ الدِّينِ، نَائِبِ الْوِزَارَةِ، وَإِلَى عِزِّ الدِّينِ بْنِ نَجَاحٍ الشَّرَابِيِّ، خَاصِّ الْخَلِيفَةِ، بِالْمَسِيرِ بِالْعَسَاكِرِ إِلَيْهِ بِخُوزِسْتَانَ وَإِخْرَاجِهِ عَنْهَا، فَسَارَا فِي عَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ إِلَى خُوزِسْتَانَ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ سَنْجَرُ قَصْدَهُمْ إِلَيْهِ، فَارَقَ الْبِلَادَ، وَلَحِقَ بِصَاحِبِ شِيرَازَ، وَهُوَ أَتَابِكْ عِزُّ الدِّينِ سَعْدُ بْنُ دَكْلَا مُلْتَجِئًا إِلَيْهِ، فَأَكْرَمَهُ وَقَامَ دُونَهُ. وَوَصَلَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ إِلَى خُوزِسْتَانِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ بِغَيْرِ مُمَانِعَةٍ، فَلَمَّا اسْتَقَرُّوا فِي الْبِلَادِ رَاسَلُوا سَنْجَرَ يَدْعُونَهُ إِلَى الطَّاعَةِ، فَلَمْ يُجِبْ إِلَى ذَلِكَ، فَسَارُوا إِلَى أَرَّجَانَ عَازِمِينَ عَلَى قَصْدِ صَاحِبِ شِيرَازَ، فَأَدْرَكَهُمُ الشِّتَاءُ، فَأَقَامُوا شُهُورًا وَالرُّسُلُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَاحِبِ شِيرَازَ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى تَسْلِيمِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ شَوَّالٌ رَحَلُوا يُرِيدُونَ شِيرَازَ، فَحِينَئِذٍ أَرْسَلَ صَاحِبُهَا إِلَى الْوَزِيرِ وَالشَّرَابِيِّ يَشْفَعُ فِيهِ، وَيَطْلُبُ الْعَهْدَ لَهُ عَلَى أَنْ لَا يُؤْذَى، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ هُوَ وَمَالَهُ وَأَهْلَهُ، فَعَادُوا إِلَى بَغْدَادَ وَسَنْجَرَ مَعَهُمْ تَحْتَ الِاسْتِظْهَارِ، وَوَلَّى الْخَلِيفَةُ بِلَادَ خُوزِسْتَانِ مَمْلُوكَهُ يَاقُوتًا أَمِيرَ الْحَاجِّ.

وَوَصَلَ الْوَزِيرُ إِلَى بَغْدَادَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّمِائَةٍ هُوَ وَالشَّرَابِيُّ وَالْعَسَاكِرُ، وَخَرَجَ أَهْلُ بَغْدَادَ إِلَى تَلَقِّيهِمْ، فَدَخَلُوهَا وَسَنْجَرُ مَعَهُمْ رَاكِبًا عَلَى بَغْلٍ بِإِكَافٍ، وَفِي رِجْلِهِ سِلْسِلَتَانِ، فِي يَدِ كُلِّ جُنْدِيٍّ سِلْسِلَةٌ، وَبَقِيَ مَحْبُوسًا إِلَى أَنْ دَخَلَ صَفَرٌ، فَجُمِعَ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ إِلَى دَارِ مُؤَيِّدِ الدِّينِ نَائِبِ الْوِزَارَةِ، فَأُحْضِرَ سَنْجَرُ وَقُرِّرَ بِأُمُورٍ نُسِبَتْ إِلَيْهِ مُنْكَرَةٍ، فَأَقَرَّ بِهَا، فَقَالَ مُؤَيِّدُ الدِّينِ لِلنَّاسِ: قَدْ عَرَفْتُمْ مَا تَقْتَضِيهِ السِّيَاسَةُ مِنْ عُقُوبَةِ هَذَا الرَّجُلِ، وَقَدْ عَفَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ، وَأَمَرَ بِالْخِلَعِ عَلَيْهِ، فَلَبِسَهَا وَعَادَ إِلَى دَارِهِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ إِنَّ أَتَابِكْ سَعْدًا نَهَبَ مَالَ سَنْجَرَ وَخِزَانَتَهُ وَدَوَابَّهُ، وَكُلَّ مَا لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ، وَسَيَّرَهُمْ، فَلَمَّا وَصَلَ سَنْجَرُ إِلَى الْوَزِيرِ الشَّرَابِيِّ طَلَبُوا الْمَالَ، فَأَرْسَلَ شَيْئًا يَسِيرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ وَفَاةِ نُورِ الدِّينِ أَرَسْلَان شَاهْ وَشَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَوَاخِرَ رَجَبٍ، تُوُفِّيَ نُورُ الدِّينِ أَرَسْلَان شَاهْ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِي بْنِ آقْسُنْقُرَ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ مَرَضُهُ قَدْ طَالَ، وَمِزَاجُهُ قَدْ فَسَدَ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، ذَا سِيَاسَةٍ لِلرَّعَايَا، شَدِيدًا عَلَى أَصْحَابِهِ، فَكَانُوا يَخَافُونَهُ خَوْفًا شَدِيدًا، وَكَانَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ تَعَدِّي بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَكَانَ لَهُ هِمَّةً عَالِيَةً، أَعَادَ نَامُوسَ الْبَيْتِ الْأَتَابِكِيِّ وَجَاهَهُ، وَحُرْمَتَهُ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ قَدْ ذَهَبَتْ وَخَافَهُ الْمُلُوكُ ; وَكَانَ سَرِيعَ الْحَرَكَةِ فِي طَلَبِ الْمُلْكِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَبْرٌ فَلِهَذَا لَمْ يَتَّسِعْ مُلْكُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْفَضِيلَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا رَحَلَ الْكَامِلُ بْنُ الْعَادِلِ عَنْ مَارِدِينِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، عَفَّ عَنْهَا، وَأَبْقَاهَا عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَوْ قَصَدَهَا وَحَصَرَهَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا قُوَّةُ الِامْتِنَاعِ، لِأَنَّ مَنْ كَانُوا بِهَا كَانُوا قَدْ هَلَكُوا وَضَجِرُوا، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ رَمَقٌ، فَأَبْقَاهَا عَلَى صَاحِبِهَا.

وَلَمَّا مَلَكَ اسْتَغَاثَ بِهِ إِنْسَانٌ مِنَ التُّجَّارِ، فَسَأَلَ عَنْ حَالِهِ، فَقِيلَ إِنَّهُ قَدْ أَدْخَلَ قُمَاشَهُ إِلَى الْبَلَدِ لِيَبِيعَهُ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ الْبَيْعُ، وَيُرِيدُ إِخْرَاجَهُ، وَقَدْ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَنْ مَنَعَهُ فَقِيلَ: ضَامِنٌ الْبَزِّ يُرِيدُ مِنْهُ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنَ الْمَكْسِ، وَكَانَ الْقَيِّمُ بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ مُجَاهِدَ الدِّينِ قَايَمَازَ، وَهُوَ إِلَى جَانِبِهِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْعَادَةِ كَيْفَ هِيَ فَقَالَ: إِنِ اشْتَرَطَ صَاحِبُهُ إِخْرَاجَ مَتَاعَهُ مُكِّنَ مِنْ إِخْرَاجِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ لَمْ يُخْرَجْ حَتَّى يُؤْخَذَ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَخْذِهِ. فَقَالَ: وَاللَّهُ إِنَّ هَذِهِ الْعَادَةَ مُدَبَّرَةٌ، إِنْسَانٌ لَا يَبِيعُ مَتَاعَهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَالُهُ؟ فَقَالَ مُجَاهِدُ الدِّينِ: لَا شَكَّ فِي فَسَادِ هَذِهِ الْعَادَةِ. فَقَالَ: إِذَا قُلْنَا أَنَا وَأَنْتَ إِنَّهَا عَادَةٌ فَاسِدَةٌ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَرْكِهَا. وَتَقَدَّمَ بِإِخْرَاجِ مَالِ الرَّجُلِ، وَأَنْ لَا يُؤْخَذَ إِلَّا مِمَّنْ بَاعَ. وَسَمِعْتُ أَخِي مَجْدَ الدِّينِ أَبَا السِّعَادَاتِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ اخْتِصَاصًا بِهِ يَقُولُ: مَا قُلْتُ لَهُ يَوْمًا فِي فِعْلِ خَيْرٍ فَامْتَنَعَ مِنْهُ بَلْ بَادَرَ إِلَيْهِ بِفَرَحٍ وَاسْتِبْشَارٍ، وَاسْتَدْعَى فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَخِي الْمَذْكُورَ، فَرَكِبَ إِلَى دَارِهِ، فَلَمَّا كَانَ بِبَابِ الدَّارِ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ وَبِيَدِهَا رُقْعَةٌ، وَهِيَ تَشْكُو، وَتَطْلُبُ عَرْضَهَا عَلَى نُورِ الدِّينِ، فَأَخَذَهَا، فَلَمَّا دَخَلَ إِلَيْهِ جَارَاهُ فِي مُهِمٍّ لَهُ، فَقَالَ: قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ تَقِفُ عَلَى هَذِهِ الرُّقْعَةِ، وَتَقْضِي شَغْلَ صَاحِبَتِهَا. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا، عَرِّفْنَا إِيشْ فِيهَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّنِي رَأَيْتُ امْرَأَةً بِبَابِ الدَّارِ وَهِيَ مُتَظَلِّمَةٌ، شَاكِيَةٌ. فَقَالَ: نَعَمْ عَرَفْتُ حَالَهَا ثُمَّ انْزَعَجَ فَظَهَرَ مِنْهُ الْغَيْظُ وَالْغَضَبُ، وَعِنْدَهُ رَجُلَانِ هُمَا الْقَيِّمَانِ بِأُمُورِ دَوْلَتِهِ، فَقَالَ لِأَخِيهِ: أَبْصِرْ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ قَدْ دَفَعَتْ مَعَ هَذَيْنِ. هَذِهِ الْمَرْأَةُ كَانَ لَهَا ابْنٌ، وَقَدْ مَاتَ مِنْ مُدَّةٍ فِي الْمَوْصِلِ، وَهُوَ غَرِيبٌ، وَخَلَّفَ قُمَاشًا وَمَمْلُوكَيْنِ، فَاحْتَاطَ نُوَّابُ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْقُمَاشِ، وَأَحْضَرُوا الْمَمْلُوكَيْنِ إِلَيْنَا، فَبَقِيَا عِنْدَنَا نَنْتَظِرُ حُضُورَ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّرِكَةَ لِيَأْخُذَهَا، فَحَضَرَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ وَمَعَهَا كِتَابٌ، حُكْمِي بِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي مَعَ وَلَدِهَا لَهَا، فَتَقَدَّمْنَا بِتَسْلِيمِ مَالِهَا إِلَيْهَا، وَقُلْتُ لِهَذَيْنِ:

اشْتَرِيَا الْمَمْلُوكَيْنِ مِنْهَا، وَأَنْصِفَاهَا فِي الثَّمَنِ، فَعَادَا وَقَالَا: لَمْ يَتِمَّ بَيْنِنَا بَيْعٌ، لِأَنَّهَا طَلَبَتْ ثَمَنًا كَثِيرًا، فَأَمَرْتُهُمَا بِإِعَادَةِ الْمَمْلُوكَيْنِ إِلَيْهَا مِنْ مُدَّةِ شَهْرَيْنِ وَأَكْثَرَ، وَإِلَى الْآنِ مَا عُدْتُ سَمِعْتُ لَهَا حَدِيثًا، وَظَنَنْتُ أَنَّهَا أَخَذَتْ مَالَهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا لَمْ يُسَلِّمَا الْمَمْلُوكَيْنِ إِلَيْهَا، وَقَدِ اسْتَغَاثَتْ بِهِمَا فَلَمْ يُنْصِفَاهَا، فَجَاءَتْ إِلَيْكَ، وَكُلُّ مَنْ رَأَى هَذِهِ الْمَرْأَةَ تَشْكُو وَتَسْتَغِيثُ يَظُنُّ أَنِّي أَنَا مَنَعَتُهَا عَنْ مَالِهَا، فَيَذُمُّنِي، وَيَنْسِبُنِي إِلَى الظُّلْمِ، وَلَيْسَ لِي عِلْمٌ، وَكُلُّ هَذَا فِعْلُ هَذَيْنِ، أَشْتَهِي أَنْ تَتَسَلَّمَ أَنْتَ الْمَمْلُوكَيْنِ، وَتُسَلِّمَهُمَا إِلَيْهَا فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ مَالَهَا وَعَادَتْ شَاكِرَةً دَاعِيَةً، وَلَهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ كَثِيرٌ لَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ. ذِكْرُ وِلَايَةِ ابْنِهِ الْمَلِكِ الْقَاهِرِ لَمَّا حَضَرَ نُورَ الدِّينِ الْمَوْتُ أَمَرَ أَنْ يُرَتَّبَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْمَلِكُ الْقَاهِرُ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودٌ، وَحَلَّفَ لَهُ الْجُنْدَ وَأَعْيَانَ النَّاسِ، وَكَانَ قَدْ عَهِدَ إِلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِمُدَّةٍ، فَجَدَّدَ الْعَهْدَ لَهُ عِنْدَ وَفَاتِهِ، وَأَعْطَى وَلَدَهُ الْأَصْغَرَ عِمَادَ الدِّينِ زَنْكِي قَلْعَةَ عَقْرِ الْحُمَيْدِيَّةِ، وَقَلْعَةَ شُوشَ، وَوِلَايَتَهُمَا، وَسَيَّرَهُ إِلَى الْعَقْرِ. وَأَمَرَ أَنْ يَتَوَلَّى تَدْبِيرَ مَمْلَكَتِهِمَا وَيَقُومَ بِحِفْظِهِمَا، وَالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِمَا، فَأَتَاهُ الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ لُؤْلُؤٌ لَمَّا رَأَى مِنْ عَقْلِهِ وَسِدَادِهِ، وَحُسْنِ سِيَاسَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَكَمَالِ خِلَالِ السِّيَادَةِ فِيهِ، وَكَانَ عُمُرُ الْقَاهِرِ حِينَئِذٍ عَشْرَ سِنِينَ. وَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَأَيِسَ مِنْ نَفْسِهِ أَمَرَهُ الْأَطِبَّاءُ بِالِانْحِدَارِ إِلَى الْحَامَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِعَيْنِ الْقَيَّارَةِ، وَهِيَ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَوْصِلِ، فَانْحَدَرَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ بِهَا رَاحَةً، وَازْدَادَ ضَعْفًا، فَأَخَذَهُ بَدْرُ الدِّينِ وَأَصْعَدَهُ فِي الشَّبَّارَةِ إِلَى الْمَوْصِلِ فَتُوُفِّيَ فِي الطَّرِيقِ لَيْلًا وَمَعَهُ الْمَلَّاحُونَ وَالْأَطِبَّاءُ، بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ سِتْرٌ. وَكَانَ مَعَ بَدْرِ الدِّينِ، عِنْدَ نُورِ الدِّينِ، مَمْلُوكَانِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ نُورُ الدِّينِ قَالَ لَهُمَا: لَا يَسْمَعُ أَحَدٌ بِمَوْتِهِ، وَقَالَ لِلْأَطِبَّاءِ وَالْمَلَّاحِينَ: لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ، فَقَدْ نَامَ السُّلْطَانُ. فَسَكَتُوا، وَوَصَلُوا إِلَى الْمَوْصِلِ فِي اللَّيْلِ، فَأَمَرَ الْأَطِبَّاءَ وَالْمَلَّاحِينَ بِمُفَارَقَةِ الشَّبَّارَةِ ; لِئَلَّا يَرَوْهُ مَيِّتًا، وَأُبْعِدُوا، فَحَمَلَهُ هُوَ وَالْمَمْلُوكَانِ، وَأَدْخَلَهُ الدَّارَ، وَتَرَكَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي

كَانَ فِيهِ وَمَعَهُ الْمَمْلُوكَانِ، وَنَزَّلَ عَلَى بَابِهِ مَنْ يَثِقُ بِهِ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنَ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَقَعَدَ مَعَ النَّاسِ يُمْضِي أُمُورًا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى إِتْمَامِهَا. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ جَمِيعِ مَا يُرِيدُهُ أَظْهَرَ مَوْتَهُ وَقْتَ الْعَصْرِ، وَدُفِنَ لَيْلًا بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا مُقَابِلَ دَارِهِ، وَضَبَطَ الْبَلَدَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ ضَبْطًا جَيِّدًا بِحَيْثُ إِنَّ النَّاسَ فِي اللَّيْلِ لَمْ يَزَالُوا مُتَرَدِّدِينَ لَمْ يَعْدَمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِقْدَارُهُ الْحَبَّةُ الْفَرْدُ، وَاسْتَقَرَّ الْمُلْكُ لِوَلَدِهِ، وَقَامَ بَدْرُ الدِّينِ بِتَدْبِيرِ الدَّوْلَةِ وَالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهَا. ذِكْرُ عَدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، دَرَّسَ الْقَاضِي أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ الْمُفَرِّجِ، قَاضِي تَكْرِيتَ، بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ اسْتُدْعِيَ مِنْ تَكْرِيتَ إِلَيْهَا. وَفِيهَا نَقَصَتْ دِجْلَةُ بِالْعِرَاقِ نَقْصًا كَثِيرًا، حَتَّى كَانَ الْمَاءُ يَجْرِي بِبَغْدَادَ فِي نَحْوِ خَمْسَةِ أَذْرُعٍ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يُكْرَى دِجْلَةُ، فَجَمَعَ الْخَلْقَ الْكَثِيرَ، وَكَانُوا كُلَّمَا حَفَرُوا شَيْئًا عَادَ الرَّمْلُ فَغَطَّاهُ، وَكَانَ النَّاسُ يَخُوضُونَ دِجْلَةَ فَوْقَ بَغْدَادَ، وَهَذَا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَلَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ وَلَدُ الْأَمِيرِ مُجَاهِدِ الدِّينِ يَاقُوتَ أَمِيرِ الْحَاجِّ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ وَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ خُوزِسْتَانَ، وَجَعَلَهُ هُوَ أَمِيرَ الْحَاجِّ، وَجَعَلَ مَعَهُ مَنْ يُدَبِّرُ الْحَاجَّ، لِأَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، تُوُفِّيَ ضِيَاءُ الدِّينِ أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَمِيرُ الْبَغْدَادِيُّ بِبَغْدَادَ، وَهُوَ سَبْطُ صَدْرِ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ شَيْخِ الشُّيُوخِ، وَعُمُرُهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَشُهُورٌ، وَكَانَ صُوفِيًّا، فَقِيهًا، مُحَدِّثًا، سَمِعْنَا مِنْهُ الْكَثِيرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالصَّلَاحِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ شَيْخُنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعَمَّرِ بْنِ طَبَرْزَدَ الْبَغْدَادِيُّ، وَكَانَ عَالِيَ الْإِسْنَادِ.

ثم دخلت سنة ثمان وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّمِائَة] 608 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مَنْكِلِي عَلَى بِلَادِ الْجَبَلِ وَأَصْفَهَانَ وَغَيْرِهَا وَهَرَبِ إِيدَغْمَشَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، قَدِمَ إِيدَغْمَشُ، صَاحِبُ هَمَذَانَ وَأَصْفَهَانَ وَالرَّيِّ وَمَا بَيْنَهَا مِنِ الْبِلَادِ، إِلَى بَغْدَادَ، هَارِبًا مِنْ مَنْكِلِي. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنْ إِيدَغْمَشَ كَانَ قَدْ تَمَكَّنَ فِي الْبِلَادِ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَانْتَشَرَ صِيتُهُ. وَكَثُرَ عَسْكَرُهُ، حَتَّى أَنَّهُ حَصَرَ صَاحِبَهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْبَهْلَوَانِ، صَاحِبَ هَذِهِ الْبِلَادِ: أَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ. فَلَمَّا كَانَ الْآنَ خَرَجَ عَلَيْهِ مَمْلُوكٌ اسْمُهُ مَنْكِلِي، وَنَازَعَهُ فِي الْبِلَادِ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ. وَأَطَاعَهُ الْمَمَالِيكُ الْبَهْلَوَانِيَّةُ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَهَرَبَ مِنْهُ شَمْسُ الدِّينِ إِيدَغْمَشُ إِلَى بَغْدَادَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِالِاحْتِفَالِ لَهُ فِي اللِّقَاءِ فَخَرَجَ النَّاسُ كَافَّةً، وَكَانَ يَوْمُ وُصُولِهِ مَشْهُودًا، ثُمَّ قَدِمَتْ زَوْجَتُهُ فِي رَمَضَانَ فِي مَحْمَلٍ، فَأُكْرِمَتْ وَأُنْزِلَتْ عِنْدَ زَوْجِهَا، وَأَقَامَ بِبَغْدَاذَ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ وَسِتِّمِائَةٍ، فَسَارَ عَنْهَا فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا نَذْكُرُهُ. ذِكْرُ نَهْبِ الْحَاجِّ بِمِنًى وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ نُهِبَ الْحَاجُّ بِمِنًى، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَاطِنِيًّا وَثَبَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْأَمِيرِ قَتَادَةَ، صَاحِبِ مَكَّةَ، فَقَتَلَهُ بِمِنًى ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ قَتَادَةَ، فَلَمَّا سَمِعَ قَتَادَةُ ذَلِكَ جَمَعَ الْأَشْرَافَ وَالْعَرَبَ وَالْعَبِيدَ وَأَهْلَ مَكَّةَ، وَقَصَدُوا الْحَاجَّ، وَنَزَلُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْجَبَلِ،

وَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ وَالنَّبْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ أَمِيرُ الْحَاجِّ وَلَدَ الْأَمِيرِ يَاقُوتَ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ صَبِيٌّ لَا يَعْرِفُ كَيْفَ يَفْعَلُ، فَخَافَ وَتَحَيَّرَ وَتَمَكَّنَ أَمِيرُ مَكَّةَ مَنْ نَهْبِ الْحَاجِّ، فَنَهَبُوا مِنْهُمْ مَنْ كَانَ فِي الْأَطْرَافِ، وَأَقَامُوا عَلَى حَالِهِمْ إِلَى اللَّيْلِ. فَاضْطَرَبَ الْحَاجُّ، وَبَاتُوا بِأَسْوَأِ حَالٍ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ. فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لِأَمِيرِ الْحَاجِّ لِيَنْتَقِلَ بِالْحُجَّاجِ إِلَى مَنْزِلَةِ حُجَّاجِ الشَّامِ، فَأَمَرَ بِالرَّحِيلِ، فَرَفَعُوا أَثْقَالَهُمْ عَلَى الْجِمَالِ وَاشْتَغَلَ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَطَمِعَ الْعَدُوُّ فِيهِمْ. وَتَمَكَّنَ مِنَ النَّهْبِ كَيْفَ أَرَادَ، فَكَانَتِ الْجِمَالُ تُؤْخَذُ بِأَحْمَالِهَا، وَالْتَحَقَ مَنْ سَلِمَ بِحُجَّاجِ الشَّامِ فَاجْتَمَعُوا بِهِمْ، ثُمَّ رَحَلُوا إِلَى الزَّاهِرِ، وَمُنِعُوا مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَدَخَلُوهَا وَتَمَّمُوا حَجَّهُمْ وَعَادُوا. ثُمَّ أَرْسَلَ قَتَادَةُ وَلَدَهُ وَجَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى بَغْدَادَ، فَدَخَلُوهَا وَمَعَهُمُ السُّيُوفُ مَسْلُولَةٌ وَالْأَكْفَانُ، فَقَبَّلُوا الْعَتَبَةَ، وَاعْتَذَرُوا مِمَّا جَرَى عَلَى الْحُجَّاجِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَظْهَرَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ، وَمُقَدَّمُهُمُ الْجَلَالُ بْنُ الصَّبَاحِ، الِانْتِقَالَ عَنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَاسْتِحْلَالِهَا، وَأَمَرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِبِلَادِهِمْ مِنْ خُرَاسَانَ وَالشَّامِ، وَأَرْسَلَ مُقَدَّمُهُمْ رُسُلًا إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَغَيْرِهِ مِنْ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ، يُخْبِرُهُمْ بِذَلِكَ، وَأَرْسَلَ وَالِدَتَهُ إِلَى الْحَجِّ، فَأُكْرِمَتْ بِبَغْدَادَ إِكْرَامًا عَظِيمًا، وَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، سَلْخَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مَنَعَةَ،

الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، بِمَدِينَةِ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ إِمَامًا فَاضِلًا، إِلَيْهِ انْتَهَتْ رِيَاسَةُ الشَّافِعِيَّةِ، لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ مِثْلُهُ، وَكَانَ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، كَثِيرَ التَّجَاوُزِ عَنِ الْفُقَهَاءِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَفَى شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضَائِلِ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْآمِدِيِّ الْوَاسِطِيُّ، قَاضِيهَا، وَكَانَ نَعْمَ الرَّجُلُ. وَفِي شَعْبَانَ تُوُفِّيَ الْمُعِينُ أَبُو الْفُتُوحِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَمِينُ، شَيْخُ الشُّيُوخِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِجَزِيرَةِ كَاسٍ، مَضَى إِلَيْهَا رَسُولًا مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ مِنْ أَصْدِقَائِنَا، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ مُتَأَكَّدَةٌ، وَصُحْبَةٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ - وَلَهُ كِتَابَةٌ حَسَنَةٌ، وَشِعْرٌ جَيِّدٌ وَكَانَ عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَغَيْرِهِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَتَّبَ أَخُوهُ زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ أَبِي أَحْمَدَ، وَكَانَ نَاظِرًا عَلَى الْمَارَسْتَانِ الْعَضُدِيِّ، فَتَرَكَهُ وَاقْتَصَرَ عَلَى الرِّبَاطِ. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ الْكَاتِبُ الْحَسَنُ الْخَطِّ، وَكَانَ يُؤَدِّي طَرِيقَةَ ابْنِ الْبَوَّابِ وَكَانَ فَقِيهًا، حَاسِبًا، مُتَكَلِّمًا. وَتُوُفِّيَ عُمَرُ بْنُ مَسْعُودٍ أَبِي الْعِزِّ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَزَّازُ الْبَغْدَادِيُّ بِهَا، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ، يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الْفُقَرَاءُ كَثِيرًا، وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ. وَتُوُفِّيَ أَيْضًا أَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ حَمْدُونَ الثَّعْلَبِيُّ الْعَدَوِيُّ، وَهُوَ وَلَدُ مُصَنِّفِ التَّذْكِرَةِ، وَكَانَ عَالِمًا.

ثم دخلت سنة تسع وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّمِائَة] 609 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ قُدُومِ ابْنِ مَنْكِلِي بَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ قَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ مَنْكِلِي، الْمُسْتَوْلِي عَلَى بِلَادِ الْجَبَلِ إِلَى بَغْدَادَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ مَنْكِلِي لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِ الْجَبَلِ، وَهَرَبَ إِيدَغْمَشُ صَاحِبُهَا مِنْهَا إِلَى بَغْدَادَ خَافَ أَنْ يُسَاعِدَهُ الْخَلِيفَةُ، وَيُرْسِلَ مَعَهُ الْعَسَاكِرَ فَيَعْظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَمَكَّنَ فِي الْبِلَادِ، فَأَرْسَلَ وَلَدَهُ مُحَمَّدًا وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ فَخَرَجَ النَّاسُ بِبَغْدَادَ عَلَى طَبَقَاتِهِمْ يَلْتَقُونَهُ، وَأُنْزِلَ وَأُكْرِمَ، وَبَقِيَ بِبَغْدَادَ إِلَى أَنَّ قُتِلَ إِيدَغْمَشُ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ، وَأُكْرِمُوا، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى أَبِيهِ. ذِكْرُ عِدَّةَ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ صَاحِبُ مِصْرَ وَالشَّامِ، عَلَى أَمِيرٍ اسْمُهُ أُسَامَةُ، كَانَ لَهُ إِقْطَاعٌ كَثِيرٌ مِنْ جُمْلَتِهِ حِصْنُ كَوْكَبَ مِنْ أَعْمَالِ الْأُرْدُنِّ بِالشَّامِ، وَأَخَذَ مِنْهُ حِصْنَ كَوْكَبَ وَخَرَّبَهُ، وَعَفَّى أَثَرَهُ، وَمِنْ بَعْدِهِ بَنَى حِصْنًا بِالْقُرْبِ مِنْ عَكَّا عَلَى جَبَلٍ يُسَمَّى الطُّورَ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ هُنَاكَ، وَشَحْنَهُ بِالرِّجَالِ وَالذَّخَائِرِ وَالسِّلَاحِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْفَقِيهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي الصَّيْفِ الْيَمَنِيُّ، فَقِيهُ الْحَرَمِ الشَّرِيفِ بِمَكَّةَ.

ثم دخلت سنة عشر وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَسِتِّمِائَة] 610 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ إِيدَغْمَشَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، قُتِلَ إِيدْغَمْشُ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ هَمَذَانَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ ثَمَانٍ أَنَّهُ قَدِمَ إِلَى بَغْدَادَ وَأَقَامَ بِهَا، فَأَنْعَمَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ، وَشَرَّفَهُ بِالْخِلَعِ، وَأَعْطَاهُ الْكُوسَاتِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَسَيَّرَهُ إِلَى هَمَذَانَ، فَسَارَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ عَنْ بَغْدَادَ قَاصِدًا إِلَى هَمَذَانَ، فَوَصَلَ إِلَى بِلَادِ ابْنِ تَرْجَمَ وَاجْتَمَعَا، وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ وُصُولَ عَسَاكِرِ بَغْدَادَ إِلَيْهِ لِيَسِيرَ مَعَهُ عَلَى قَاعِدَةٍ اسْتَقَرَّتْ بَيْنَهُمَا. وَكَانَ الْخَلِيفَةُ قَدْ عَزَلَ سُلَيْمَانَ بْنَ تَرْجَمَ عَنِ الْإِمَارَةِ عَلَى عَشِيرَتِهِ مِنَ التُّرْكُمَانِ الْإِيوَانِيَّةِ، وَوَلَّى أَخَاهُ الْأَصْغَرَ، فَأَرْسَلَ سُلَيْمَانُ إِلَى مَنْكِلِي يُعَرِّفُهُ بِحَالِ إِيدَغْمَشَ، وَمَضَى هُوَ عَلَى وَجْهِهِ، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ، وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى مَنْكِلِي، وَتَفَرَّقَ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْبِلَادِ لَا يَلْوِي أَخٌ عَلَى أَخِيهِ. وَوَصَلَ الْخَبَرُ بِقَتْلِهِ إِلَى بَغْدَادَ، فَعَظُمَ عَلَى الْخَلِيفَةِ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَنْكِلِي يُنْكِرُ عَلَيْهِ مَا فَعَلَ فَأَجَابَ جَوَابًا شَدِيدًا، وَتَمَكَّنَ مِنَ الْبِلَادِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ وَكَثُرَتْ جُمُوعُ عَسَاكِرِهِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو فِرَاسِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ فِرَاسٍ الْحِلِّيُّ، نِيَابَةً

عَنْ أَمِيرِ الْحَاجِّ يَاقُوتَ، وَمُنِعَ ابْنُ يَاقُوتَ عَنِ الْحَجِّ ; لِمَا جَرَى لِلْحَاجِّ فِي وِلَايَتِهِ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ الْحَكِيمُ الْمُهَذَّبُ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هُبَلَ، الطَّبِيبُ الْمَشْهُورُ، كَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالطِّبِّ، رَوَى الْحَدِيثَ، وَكَانَ مُقِيمًا بِالْمَوْصِلِ، وَبِهَا مَاتَ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، وَلَهُ تَصْنِيفٌ حَسَنٌ فِي الطِّبِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الضِّيَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ، الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ، صَاحِبُ ابْنِ الْمَنِّيِّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَيْضًا أَحْمَدُ بْنُ مَسْعُودٍ التُّرْكِسْتَانِيُّ، الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ بِبَغْدَادَ، وَهُوَ مُدَرِّسُ مَشْهِدِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، تُوُفِّيَ مُعِزُّ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي سَعْدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ حَدِيدٍ، الَّذِي كَانَ وَزِيرَ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، وَكَانَ قَدْ أُلْزِمَ بَيْتَهُ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ حُمِلَ تَابُوتُهُ إِلَى مَشْهَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ فِي وِزَارَتِهِ، كَثِيرَ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ لِلنَّاسِ.

ثم دخلت سنة إحدى عشرة وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَة] ذِكْرُ مُلْكِ خُوَارَزْم شَاهْ عَلَاءِ الدِّينِ كَرْمَانَ وَمَكْرَانَ وَالسِّنْدَ هَذِهِ الْحَادِثَةُ لَا أَعْلَمُ الْحَقِيقَةَ أَيَّ سَنَةٍ كَانَتْ، إِنَّمَا هِيَ إِمَّا هَذِهِ السَّنَةَ، أَوْ قَبْلَهَا بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهَا بِقَلِيلٍ، لِأَنَّ الَّذِي أَخْبَرَ بِهَا كَانَ مِنْ أَجْنَادِ الْمَوْصِلِ، وَسَافَرَ إِلَى تِلْكَ الْبِلَادِ وَأَقَامَ بِهَا عِدَّةَ سِنِينَ، وَسَارَ مَعَ الْأَمِيرِ أَبِي بَكْرٍ، الَّذِي فَتَحَ كَرْمَانَ، ثُمَّ عَادَ فَأَخْبَرَنِي بِهَا عَلَى شَكٍّ مِنْ وَقْتِهَا، وَقَدْ حَضَرَهَا فَقَالَ: خُوَارَزْم شَاهْ مُحَمَّدُ بْنُ تُكَشَ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أُمَرَاءِ أَبِيهِ أَمِيرٌ اسْمُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَلَقَبُهُ تَاجُ الدِّينِ. وَكَانَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ جَمَّالًا يَكْرِي الْجِمَالَ فِي الْأَسْفَارِ، ثُمَّ جَاءَتْهُ السَّعَادَةُ، فَاتَّصَلَ بِخُوَارَزْم شَاهْ، وَصَارَ سِيرَوَانَ جِمَالِهِ، فَرَأَى مِنْهُ جَلَدًا وَأَمَانَةً، فَقَدَّمَهُ إِلَى أَنْ صَارَ مِنْ أَعْيَانِ أُمَرَاءِ عَسْكَرِهِ، فَوَلَّاهُ مَدِينَةَ زَوْزَنَ، وَكَانَ عَاقِلًا ذَا رَأْيٍ، وَحَزْمٍ، وَشَجَاعَةٍ، فَتَقَدَّمَ عِنْدَ خُوَارَزْم شَاهْ تَقَدُّمًا كَثِيرًا، فَوَثِقَ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ أُمَرَاءِ دَوْلَتِهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِخُوَارَزْم شَاهْ: إِنْ بِلَادَ كَرْمَانَ مُجَاوِرَةٌ لِبَلَدِي، فَلَوْ أَضَافَ السُّلْطَانُ إِلَيَّ عَسْكَرًا لِمَلَكْتُهَا فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ. فَسَيَّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا كَثِيرًا فَمَضَى إِلَى كَرْمَانَ، وَصَاحِبُهَا اسْمُهُ حَرْبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الَّذِي كَانَ صَاحِبُ سِجِسْتَانَ أَيَّامَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، فَقَاتَلَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ قُوَّةٌ، وَضَعُفَ، فَمَلَكَ أَبُو بَكْرٍ بِلَادَهُ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى نُوَاحِي مَكْرَانَ فَمَلَكَهَا كُلَّهَا إِلَى السِّنْدِ، مِنْ حُدُودِ كَابُلَ، وَسَارَ إِلَى هُرْمُزَ، مَدِينَةً عَلَى سَاحِلِ بَحْرِ مَكْرَانَ، فَأَطَاعَهُ صَاحِبُهَا، وَاسْمُهُ مِلْنَكَ، وَخَطَبَ بِهَا لِخُوَارَزْم شَاهْ، وَحَمَلَ عَنْهَا مَالًا، وَخَطَبَ لَهُ بِقَلْهَاتٍ، وَبَعْضِ عُمَانَ، لِأَنَّ أَصْحَابَهَا كَانُوا يُطِيعُونَ صَاحِبَ هُرْمُزَ.

وَسَبَبُ طَاعَتِهِمْ لَهُ، مَعَ بُعْدِ الشُّقَّةِ، وَالْبَحْرُ يَقْطَعُ بَيْنَهُمْ، أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ لِيَأْمَنَ أَصْحَابُ الْمَرَاكِبِ الَّتِي تَسِيرُ إِلَيْهِمْ عِنْدَهُ، فَإِنَّ هُرْمُزَ مَرْسًى عَظِيمٌ، وَمَجْمَعٌ لِلتُّجَّارِ مِنْ أَقَاصِي الْهِنْدِ وَالصِّينِ وَالْيَمَنِ، وَغَيْرِهَا مِنِ الْبِلَادِ، وَكَانَ بَيْنَ صَاحِبِ هُرْمُزَ وَبَيْنَ صَاحِبِ كِيشَ حُرُوبٌ وَمُغَاوَرَاتٌ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْهَى أَصْحَابَ الْمَرَاكِبِ أَنْ تُرْسِيَ بِبَلَدِ خَصْمِهِ، وَهُمْ كَذَلِكَ إِلَى الْآنِ. وَكَانَ خُوَارَزْم شَاهْ يَصِيفُ بِنَوَاحِي سَمَرْقَنْدَ ; لِأَجَلِ التَّتَرِ أَصْحَابِ كَشْلِي خَانْ، لِئَلَّا يَقْصِدَ بِلَادَهُ، وَكَانَ سَرِيعَ السَّيْرِ، إِذَا قَصَدَ جِهَةً سَبَقَ خَبَرَهُ إِلَيْهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ الشَّحْرِيُّ، وَكَانَ قَدْ وَزَرَ لِشِهَابِ الدِّينِ الْغُورِيِّ، وَلِتَاجِ الدِّينِ أَلْدُزَ بَعْدَهُ وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، جَمِيلَ الِاعْتِقَادِ، مُحْسِنًا إِلَى الْعُلَمَاءِ، وَأَهْلِ الْخَيْرِ وَغَيْرِهِمْ، يَزُورُهُمْ وَيَبَرُّهُمْ، وَيَحْضُرُ الْجُمُعَةَ مَاشِيًا وَحْدَهُ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ بَعْضَ عَسْكَرِ أَلْدُزَ كَرِهُوهُ، وَكَانَ كُلَّ سَنَةٍ يَتَقَدَّمُ إِلَى الْبِلَادِ الْحَارَّةِ بَيْنَ يَدِي أَلْدُزِ. أَوَّلَ الشِّتَاءِ، فَسَارَ هَذِهِ السَّنَةَ كَعَادَتِهِ، فَجَاءَ أَرْبَعُونَ نَفَرًا أَتْرَاكًا وَقَالُوا لَهُ: السُّلْطَانُ يَقُولُ لَكَ تَحْضُرُ جَرِيدَةً فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ لِمُهِمٍّ تَجَدَّدَ ; فَسَارَ مَعَهُمْ جَرِيدَةً فِي عَشَرَةِ مَمَالِيكَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى نَهَوَنْدَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَاءِ السِّنْدِ قَتَلُوهُ وَهَرَبُوا، ثُمَّ إِنَّهُمْ ظَفِرَ بِهِمْ خُوَارَزْم شَاهْ مُحَمَّدٌ فَقَتَلَهُمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي رَجَبٍ تُوُفِّيَ الرُّكْنُ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلِيُّ الْبَغْدَادِيُّ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَ عِدَّةَ وِلَايَاتٍ، وَكَانَ يُتَّهَمُ بِمَذْهَبِ

الْفَلَاسِفَةِ حَتَّى إِنَّهُ رَأَى أَبُوهُ يَوْمًا عَلَيْهِ قَمِيصًا بُخَارِيًّا، فَقَالَ: مَا هَذَا الْقَمِيصُ؟ فَقَالَ: بُخَارِيٌّ. فَقَالَ أَبُوهُ: هَذَا عَجَبٌ! مَا زِلْنَا نَسْمَعُ: مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ، وَأَمَّا كَافِرٌ وَالْبُخَارِيُّ فَمَا سَمِعْنَا. وَأُخِذَتْ كُتُبُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعِدَّةِ سِنِينَ وَأُظْهِرَتْ فِي مَلَإٍ مِنَ النَّاسِ، وَرُئِيَ فِيهَا مِنْ تَبْخِيرِ النُّجُومِ وَمُخَاطَبَةِ زُحَلِ بِالْآلِهِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِيَّاتِ، ثُمَّ أُحْرِقَتْ بِبَابِ الْعَامَّةِ وَحُبِسَ، ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهُ بِشَفَاعَةِ أَبِيهِ وَاسْتُعْمِلَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الزَّاهِدِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ عَالِمًا بِالنِّجُومِ وَاللُّغَةِ. وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْبَلِّ الدُّورِيُّ الْوَاعِظُ، وَدُفِنَ بِرِبَاطٍ عَلَى نَهْرِ عِيسَى، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ الْأَخْضَرِ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَة] 612 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ قَتْلِ مَنْكِلِي وَوِلَايَةِ إِيدَغْمَشَ مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنَ الْمَمَالِكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، انْهَزَمَ مَنْكِلِي، صَاحِبُ هَمَذَانَ وَأَصْفَهَانَ وَالرَّيِّ وَمَا بَيْنَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَمَضَى هَارِبًا، فَقُتِلَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ مَلَكَ الْبِلَادَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَتَلَ إِيدَغْمَشَ، فَأُرْسِلَ إِلَيْهِ مِنَ الدِّيوَانِ الْخَلِيفِيِّ رَسُولٌ يُنْكِرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ أَوْحَشَ الْأَمِيرَ أَوْزَبْكَ بْنَ الْبَهْلَوَانِ، صَاحِبَ أَذْرَبِيجَانَ، وَهُوَ صَاحِبُهُ وَمَخْدُومُهُ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ يُحَرِّضُهُ عَلَى مَنْكِلِي وَيَعِدُهُ النُّصْرَةَ، وَأَرْسَلَ أَيْضًا إِلَى جَلَالِ الدِّينِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، صَاحِبِ قِلَاعِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ بِبِلَادِ الْعَجَمِ، أَلَمَوْتَ وَغَيْرِهَا، يَأْمُرُهُ بِمُسَاعَدَةِ أَوْزَبْكَ عَلَى قِتَالِ مَنْكِلِي، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَوَاعِدُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْخَلِيفَةِ بَعْضُ الْبِلَادِ، وَلِأَوْزَبْكَ بَعْضُهَا، وَيُعْطَى جَلَالُ الدِّينِ بَعْضَهَا، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْقَوَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ جَهَّزَ الْخَلِيفَةُ عَسْكَرًا كَثِيرًا، وَجَعَلَ مُقَدَّمَهُمْ مَمْلُوكَهُ مُظَفَّرَ الدِّينِ سُنْقُرَ، الْمُلَقَّبُ بِوَجْهِ السَّبُعِ، وَأَرْسَلَ إِلَى مُظَفَّرِ الدِّينِ كُوكُبْرِي بْنِ زَيْنِ الدِّينِ عَلِيٍّ كُوجَكَ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ صَاحِبُ إِرْبِلَ وَشَهْرَزُورَ وَأَعْمَالِهَا، يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْضُرَ بِعَسَاكِرِهِ، وَيَكُونُ مُقَدَّمَ الْعَسَاكِرِ جَمِيعِهَا، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ فِي الْحَرْبِ. فَحَضَرَ، وَحَضَرَ مَعَهُ عَسْكَرُ الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ، وَعَسْكَرُ حَلَبَ، فَاجْتَمَعَتْ عَسَاكِرُ كَثِيرَةٌ، وَسَارُوا إِلَى هَمَذَانَ، فَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ كُلُّهَا فَانْزَاحَ مَنْكِلِي مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَتَعَلَّقَ بِالْجِبَالِ، وَتَبِعُوهُ، فَنَزَلُوا بِسَفْحِ جَبَلٍ هُوَ فِي أَعْلَاهُ بِالْقُرْبِ مِنْ مَدِينَةِ كَرَجَ، وَضَاقَتِ الْمِيرَةُ وَالْأَقْوَاتُ عَلَى الْعَسْكَرِ الْخَلِيفِيِّ جَمِيعِهِ وَمَنْ مَعَهُمْ، فَلَوْ أَقَامَ مَنْكِلِي بِمَوْضِعِهِ لَمْ يُمْكِنْهُمُ الْمَقَامُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، لَكِنَّهُ طَمِعَ فَنَزَلَ بِبَعْضِ

عَسْكَرِهِ مِنَ الْجَبَلِ مُقَابِلَ الْأَمِيرِ أَوْزَبْكَ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ أَوْزَبْكُ، وَمَضَى مُنْهَزِمًا، فَعَادَ أَصْحَابُ مَنْكِلِي وَصَعِدُوا الْجَبَلَ، وَعَادَ أَوْزَبْكُ إِلَى خِيَامِهِ، فَطَمِعَ مَنْكِلِي حِينَئِذٍ، وَنَزَلَ مِنَ الْغَدِ فِي جَمِيعِ عَسْكَرِهِ، وَاصْطَفَّتِ الْعَسَاكِرُ لِلْحَرْبِ وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ يَكُونُ فَانْهَزَمَ مَنْكِلِي وَصَعِدَ الْجَبَلَ، فَلَوْ أَقَامَ بِمَكَانِهِ لَمْ يُشِرْ أَحَدٌ عَلَى الصُّعُودِ إِلَيْهِ وَكَانَ قُصَارُهُمُ الْعَوْدَ عَنْهُ، لَكِنَّهُ اتَّخَذَ اللَّيْلَ جَمَلًا، وَفَارَقَ مَوْضِعَهُ وَمَضَى مُنْهَزِمًا، فَتَبِعَهُ نَفَرٌ يَسِيرُ مِنْ عَسْكَرِهِ، وَفَارَقَهُ الْبَاقُونَ وَتَفَرَّقُوا أَيْدِي سَبَا. وَاسْتَوْلَى عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ وَأَوْزَبْكُ عَلَى الْبِلَادِ، فَأَعْطَى جَلَالُ الدِّينِ، مَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، مِنَ الْبِلَادِ مَا كَانَ اسْتَقِرَّ لَهُ، وَأَخَذَ الْبَاقِي أَوْزَبْكُ فَسَلَّمَهُ إِلَى أَغْلَمْشَ مَمْلُوكِ أَخِيهِ، وَكَانَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ عَلَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ وَبَقِيَ عِنْدَهُ، ثُمَّ عَادَ عَنْهُ، وَشَهِدَ الْحَرْبَ وَأَبْلَى فِيهَا، فَوَلَّاهُ أَوْزَبْكُ الْبِلَادَ، وَعَادَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى بِلَادِهِمْ. وَأَمَّا مَنْكِلِي فَإِنَّهُ مَضَى مُنْهَزِمًا إِلَى مَدِينَةِ سَاوَةَ، وَبِهَا شِحْنَةٌ هُوَ صَدِيقٌ لَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الدُّخُولِ إِلَى الْبَلَدِ، فَأَذِنَ لَهُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ فَلَقِيَهُ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَدْخَلَهُ الْبَلَدَ، وَأَنْزَلَهُ فِي دَارِهِ، ثُمَّ أَخَذَ سِلَاحَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يُقَيِّدَهُ وَيُرْسِلَهُ إِلَى أَغْلَمْشَ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ هُوَ وَلَا يُرْسِلَهُ، فَقَتَلَهُ، وَأَرْسَلَ رَأْسَهُ إِلَى أَوْزَبْكَ، وَأَرْسَلَهُ أَوْزَبْكُ إِلَى بَغْدَادَ، وَكَانَ يَوْمُ دُخُولِهَا يَوْمًا مَشْهُودًا إِلَّا أَنَّهُ لَمْ تَتِمَّ الْمَسَرَّةُ لِلْخَلِيفَةِ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ وَصَلَ وَمَاتَ وَلَدُهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَأُعِيدَ وَدُفِنَ. ذِكْرُ وَفَاةِ ابْنِ الْخَلِيفَةِ قِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، تُوُفِّيَ وَلَدُ الْخَلِيفَةِ وَهُوَ الْأَصْغَرُ، وَكَانَ يُلَقَّبُ الْمَلِكَ الْمُعَظَّمَ وَاسْمُهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ، وَكَانَ أَحَبَّ وَلَدَيِ الْخَلِيفَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ رَشَّحَهُ لِوِلَايَةِ الْعَهْدِ بَعْدَهُ، وَعَزَلَ وَلَدَهَ الْأَكْبَرَ عَنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ وَاطَّرَحَهُ لِأَجْلِ هَذَا الْوَلَدِ.

وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ، كَرِيمًا، كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْمَعْرُوفِ حَسَنَ السِّيرَةِ، مَحْبُوبًا إِلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ ; أَنَّهُ أَصَابَهُ إِسْهَالٌ فَتُوُفِّيَ، وَحَزِنَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ حُزْنًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ حَتَّى إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ يَنْهَاهُمْ عَنْ إِنْفَاذِ رَسُولٍ إِلَيْهِ يُعَزِّيهِ بِوَلَدِهِ، وَلَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا، وَلَا سَمِعَ رِسَالَةً، وَانْقَطَعَ، وَخَلَا بِهُمُومِهِ وَأَحْزَانِهِ، وَرُؤِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْجَزَعِ مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ أُخْرِجَ نَهَارًا، وَمَشَى جَمِيعُ النَّاسِ بَيْنَ يَدَيْ تَابُوتِهِ إِلَى تُرْبَةِ جَدَّتِهِ عِنْدَ قَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، فَدُفِنَ عِنْدَهَا، وَلَمَّا أُدْخِلَ التَّابُوتُ أُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ، وَسُمِعَ الصُّرَاخُ الْعَظِيمُ مِنْ دَاخِلِ التُّرْبَةِ فَقِيلَ إِنَّ ذَلِكَ صَوْتُ الْخَلِيفَةِ. وَأَمَّا الْعَامَّةُ بِبَغْدَادَ فَإِنَّهُمْ وَجَدُوا عَلَيْهِ وَجْدًا شَدِيدًا، وَدَامَتِ الْمَنَاحَاتُ عَلَيْهِ فِي أَقْطَارِ بَغْدَادَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلَمْ يَبْقَ بِبَغْدَادَ مَحَلَّةٌ إِلَّا وَفِيهَا النَّوْحُ، وَلَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ إِلَّا وَأَظْهَرَتِ الْحُزْنَ، وَمَا سُمِعَ بِبَغْدَادَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ. وَكَانَ مَوْتُهُ وَقْتَ وُصُولِ رَأْسِ مَنْكِلِي إِلَى بَغْدَادَ، فَإِنَّ الْمَوْكِبَ أُمِرَ بِالْخُرُوجِ إِلَى لِقَاءِ الرَّأْسِ، فَخَرَجَ النَّاسُ كَافَّةً، فَلَمَّا دَخَلُوا بِالرَّأْسِ إِلَى رَأْسِ دَرْبِ حَبِيبٍ وَقَعَ الصَّوْتُ بِمَوْتِ ابْنِ الْخَلِيفَةِ، فَأُعِيدَ الرَّأْسُ وَهَذَا دَأْبُ الدُّنْيَا، لَا يَصْفُو أَبَدًا فَرَحُهَا مِنْ تَرَحٍ، وَقَدْ تَخْلُصُ مَصَائِبُهَا مِنْ شَائِبَةِ الْفَرَحِ. ذِكْرُ مُلْكِ خُوَارَزْم شَاهْ غَزْنَةَ وَأَعْمَالَهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ، مَلَكَ خُوَارَزْم شَاهْ مُحَمَّدُ بْنُ تُكَشَ مَدِينَةَ غَزْنَةَ وَأَعْمَالَهَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ خُوَارَزْم شَاهْ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى عَامَّةِ خُرَاسَانَ، وَمَلَكَ بَامِيَانَ وَغَيْرَهَا، أَرْسَلَ إِلَى تَاجِ الدِّينِ، صَاحِبِ غَزْنَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَخْبَارُهُ حَتَّى مَلَكَهَا، يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَخْطُبَ لَهُ، وَيَضْرِبَ السِّكَّةَ بِاسْمِهِ، وَيُرْسِلَ إِلَيْهِ فِيلًا وَاحِدًا لِيُصَالِحَهُ، وَيُقِرَّ بِيَدِهِ غَزْنَةَ، وَلَا يُعَارِضَهُ فِيهَا، فَأَحْضَرَ الْأُمَرَاءَ وَأَعْيَانَ دَوْلَتِهِ وَاسْتَشَارَهُمْ. وَكَانَ فِيهِمْ أَكْبَرُ أَمِيرٍ اسْمُهُ قَتْلَغُ تَكِينَ، وَهُوَ مِنْ مَمَالِيكِ شِهَابِ الدِّينِ الْغُورِيِّ

أَيْضًا، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فِي دَوْلَةِ أَلْدُزَ، وَهُوَ النَّائِبُ عَنْهُ بِغَزْنَةَ، فَقَالَ: أَرَى أَنْ تَخْطُبَ لَهُ، وَتُعْطِيَهِ مَا طَلَبَ، وَتَسْتَرِيحَ مِنَ الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ، وَلَيْسَ لَنَا بِهَذَا السُّلْطَانِ قُوَّةٌ. فَقَالَ الْجَمَاعَةُ مِثْلَ قَوْلِهِ، فَأَجَابَ إِلَى مَا طُلِبَ مِنْهُ وَخَطَبَ لِخُوَارَزْم شَاهْ، وَضَرَبَ السِّكَّةَ بِاسْمِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فِيلًا، وَأَعَادَ رَسُولَهُ إِلَيْهِ، وَمَضَى إِلَى الصَّيْدِ. فَأَرْسَلَ قِتَلْغُ تَكِينَ وَالِيَ غَزْنَةَ، إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ يَطْلُبُهُ لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِ غَزْنَةَ، فَسَارَ مُجِدًّا، وَسَبَقَ خَبَرَهُ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ قِتَلْغُ تَكِينَ غَزْنَةَ وَقَلْعَتَهَا، فَلَمَّا دَخَلَ إِلَيْهَا قَتَلَ مَنْ بِهَا مِنْ عَسْكَرِ الْغُورِيَّةِ لَا سِيَّمَا الْأَتْرَاكُ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى أَلْدُزَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ قِتَلْغُ تَكِينَ، وَكَيْفَ مَلَكَ الْقَلْعَةَ مَعَ وُجُودِهِ فِيهَا؟ فَقِيلَ: هُوَ الَّذِي أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، فَمَضَى هَارِبًا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى لَهَاوُورَ، وَأَقَامَ خُوَارَزْم شَاهْ بِغَزْنَةَ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهَا أَحْضَرَ قِتَلْغُ تَكِينَ فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ حَالُكَ مَعَ أَلْدُزَ؟ وَكَانَ عَالِمًا بِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ تَكُونَ لَهُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: كِلَانَا مَمَالِيكُ شِهَابِ الدِّينِ، وَلَمْ يَكُنْ أَلْدُزَ يُقِيمُ بِغَزْنَةَ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَشْهُرِ الصَّيْفِ، وَأَنَا الْحَاكِمُ فِيهَا، وَالْمَرْجِعُ إِلَيَّ فِي كُلِّ الْأُمُورِ. فَقَالَ لَهُ خُوَارَزْم شَاهْ: إِذَا كُنْتَ لَا تَرْعَى لِرَفِيقِكَ وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ صُحْبَتَهُ وَإِحْسَانَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالِي أَنَا مَعَكَ، وَمَا الَّذِي تَصْنَعُ مَعَ وَلَدِي إِذَا تَرَكْتُهُ عِنْدَكَ؟ فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ أَمْوَالًا جَمَّةً ; حَمَلَهَا ثَلَاثُونَ دَابَّةً مِنْ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ، وَأَحْضَرَ أَرْبَعَمِائَةِ مَمْلُوكٍ، فَلَمَّا أَخَذَ مَالَهُ قَتَلَهُ وَتَرَكَ وَلَدَهُ جَلَالَ الدِّينِ بِغَزْنَةَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ عَسْكَرِهِ وَأُمَرَائِهِ. وَقِيلَ إِنَّ مُلْكَ خُوَارَزْم شَاهْ غَزْنَةَ كَانَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ أَلْدُزَ عَلَى لَهَاوُورَ وَقَتْلِهِ لَمَّا هَرَبَ أَلْدُزُ مِنْ غَزْنَةَ إِلَى لَهَاوُورَ لَقِيَهُ صَاحِبُهَا نَاصِرُ الدِّينِ قَبَاجَةُ، وَهُوَ مِنْ مَمَالِيكِ شِهَابِ الدِّينِ الْغُورِيِّ أَيْضًا، وَلَهُ مِنَ الْبِلَادِ لَهَاوُورُ، وَمُلْتَانُ وَأُوجَةُ،

وَدَيْبُلُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَمَعَهُ نَحْوُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مَعَ أَلْدُزَ نَحْوُ أَلْفٍ وَخَمْسُمِائَةِ فَارِسٍ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا مَصَافٌّ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَتْ مَيْمَنَةُ أَلْدُزَ وَمَيْسَرَتُهُ، وَأُخِذَتِ الْفِيَلَةُ الَّتِي مَعَهُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ غَيْرُ فِيلَيْنِ مَعَهُ فِي الْقَلْبِ. فَقَالَ الْفَيَّالُ: إِذًا أُخَاطِرُ بِسَعَادَتِكَ، وَأَمَرَ أَحَدَ الْفِيلَيْنِ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى الْعَلَمِ الَّذِي لِقَبَاجَةَ يَأْخُذُهُ، وَأَمَرَ الْفِيلَ الْآخَرَ، الَّذِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَأْخُذَ الْجَتَرَ الَّذِي لَهُ، فَأَخَذَهُ أَيْضًا، وَالْفِيَلَةُ الْمُعَلَّمَةُ تَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهَا، هَذَا رَأَيْنَاهُ، فَحَمَلَ الْفِيلَانِ، وَحَمَلَ مَعَهُمَا أَلْدُزُ فِيمَنْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَكَشَفَ رَأَسَهُ، وَقَالَ بِالْعَجَمِيَّةِ مَا مَعْنَاهُ: إِمَّا مُلْكٌ، وَإِمَّا هُلْكٌ! وَاخْتَلَطَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَفَعَلَ الْفِيلَانِ مَا أَمَرَهُمَا الْفَيَّالُ مِنْ أَخْذِ الْعَلَمِ وَالْجَتَرِ، فَانْهَزَمَ قَبَاجَةُ وَعَسْكَرُهُ، وَمَلَكَ أَلْدُزُ مَدِينَةَ لَهَاوُورَ. ثُمَّ سَارَ إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ لِيَمْلِكَ مَدِينَةَ دَهْلَةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ صَاحِبُ دَهْلَةَ أَمِيرًا اسْمُهُ التِّرْمِشُ، وَلَقَبُهُ شَمْسُ الدِّينِ، وَهُوَ مِنْ مَمَالِيكِ قُطْبِ الدِّينِ أَيْبَكَ، مَمْلُوكِ شِهَابِ الدِّينِ أَيْضًا، كَانَ قَدْ مَلَكَ الْهِنْدَ بَعْدَ سَيِّدِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ التِّرْمِشُ سَارَ إِلَيْهِ فِي عَسَاكِرِهِ كُلِّهَا، فَلَقِيَهُ عِنْدَ مَدِينَةِ سَمَاتَا فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ أَلْدُزُ وَعَسْكَرُهُ، وَأُخِذَ وَقُتِلَ. وَكَانَ أَلْدُزُ مَحْمُودَ السِّيرَةِ فِي وِلَايَتِهِ، كَثِيرَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الرَّعِيَّةِ لَاسِيَّمَا التُّجَّارُ وَالْغُرَبَاءُ، وَمِنْ مَحَاسِنِ أَعْمَالِهِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ، وَلَهُمْ مُعَلِّمٌ يُعَلِّمُهُمْ، فَضَرَبَ الْمُعَلِّمُ أَحَدَهُمْ فَمَاتَ، فَأَحْضَرَهُ أَلْدُزُ وَقَالَ لَهُ: يَا مِسْكِينُ! مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا تَأْدِيبَهُ، فَاتَّفَقَ أَنْ مَاتَ. فَقَالَ: صَدَقْتَ. وَأَعْطَاهُ نَفَقَةً، وَقَالَ لَهُ: تَغِيبُ فَإِنَّ أُمَّهُ لَا تَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ فَرُبَّمَا أَهْلَكَتْكَ وَلَا أَقْدِرُ أَمْنَعُ عَنْكَ. فَلَمَّا سَمِعَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ بِمَوْتِهِ طَلَبَتِ الْأُسْتَاذَ لِتَقْتُلَهُ فَلَمْ تَجِدْهُ، فَسَلِمَ وَكَانَ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا يُحْكَى عَنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ [الْوَفَيَاتُ] فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْوَجِيهُ الْمُبَارَكُ بْنُ أَبِي الْأَزْهَرِ سَعِيدُ بْنُ الدِّهَانِ الْوَاسِطِيُّ النَّحْوِيُّ الضَّرِيرُ، كَانَ نِحْرِيرًا فَاضِلًا، قَرَأَ عَلَى الْكَمَالِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَكَانَ حَنْبَلِيًّا فَصَارَ حَنَفِيًّا ثُمَّ صَارَ شَافِعِيًّا، فَقَالَ فِيهِ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ زَيْدٍ التِّكْرِيتِيُّ: أَلَا مُبْلِغًا عَنِّي الْوَجِيهَ رِسَالَةً ... وَإِنْ كَانَ لَا تُجْدِي لَدَيْهِ الرَّسَائِلُ تَمَذْهَبْتَ لِلنُّعْمَانِ مِنْ بَعْدِ حَنْبَلٍ ... وَفَارَقْتَهُ إِذْ غَوَّرَتْكَ الْمَآكِلُ وَمَا اخْتَرْتَ رَأْيَ الشَّافِعِيِّ تَدَيُّنًا ... وَلَكِنَّمَا تَهْوَى الَّذِي هُوَ حَاصِلُ وَعَمَّا قَلِيلٍ أَنْتَ لَا شَكَّ صَائِرٌ ... إِلَى مَالِكٍ، فَافْطَنْ لِمَا أَنَا قَائِلُ

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَة] 613 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ صَاحِبِ حَلَبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ غَازِي بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ، وَهُوَ صَاحِبُ مَدِينَةِ حَلَبَ وَمَنْبِجَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَكَانَ مَرَضُهُ إِسْهَالًا، وَكَانَ شَدِيدَ السِّيرَةِ، ضَابِطًا لِأُمُورِهِ كُلِّهَا، كَثِيرَ الْجَمْعِ لِلْأَمْوَالِ مِنْ غَيْرِ جِهَاتِهَا الْمُعْتَادَةِ، عَظِيمَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الذَّنْبِ لَا يَرَى الصَّفْحَ، وَلَهُ مَقَصَدٌ يَقْصِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ مِنْ أَطْرَافِ الْبِلَادِ، وَالشُّعَرَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ وَغَيْرِهِمْ، فَيُكْرِمُهُمْ، وَيُجْرِي عَلَيْهِمُ الْجَارِي الْحَسَنَ. وَلَمَّا اشْتَدَّتْ عِلَّتُهُ عَهِدَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ لِوَلَدٍ لَهُ صَغِيرٍ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَلَقَبُهُ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ غِيَاثُ الدِّينِ، عُمُرُهُ ثَلَاثُ سِنِينَ، وَعَدَلَ عَنْ وَلَدٍ كَبِيرٍ ; لِأَنَّ الصَّغِيرَ كَانَتْ أُمُّهُ ابْنَةَ عَمِّهِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، صَاحِبِ مِصْرَ وَدِمَشْقَ وَغَيْرِهِمَا مِنِ الْبِلَادِ، فَعَهِدَ بِالْمُلْكِ لَهُ لِيُبْقِيَ عَمُّهُ الْبِلَادَ عَلَيْهِ، وَلَا يُنَازِعَهُ فِيهَا. وَمِنْ أَعْجَبِ مَا يُحْكَى أَنَّ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ، قَبْلَ مَرَضِهِ، أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى عَمِّهِ الْعَادِلِ بِمِصْرَ، يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَحْلِفَ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ، فَقَالَ الْعَادِلُ: سُبْحَانَ اللَّهُ! أَيُّ حَاجَةٍ إِلَى هَذِهِ الْيَمِينِ؟ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ مِثْلَ بَعْضِ أَوْلَادِي. فَقَالَ الرَّسُولُ: قَدْ طَلَبَ هَذَا وَاخْتَارَهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِجَابَتِهِ إِلَيْهِ. فَقَالَ الْعَادِلُ: كَمْ مِنْ كَبْشٍ فِي الْمَرْعَى وَخَرُوفٌ عِنْدَ الْقَصَّابِ، وَحَلِفَ.

فَاتَّفَقَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ أَنْ تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ وَالرَّسُولُ فِي الطَّرِيقِ، وَلَمَّا عَهِدَ الظَّاهِرُ إِلَى وَلَدِهِ بِالْمُلْكِ جَعَلَ أَتَابِكَهُ وَمُرَبِّيَهُ خَادِمًا رُومِيًّا، اسْمُهُ طُغْرُلْ، وَلَقَبُهُ شِهَابُ الدِّينِ، وَهُوَ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ، كَثِيرُ الصَّدَقَةِ وَالْمَعْرُوفِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ الظَّاهِرُ، أَحْسَنَ شِهَابُ الدِّينِ هَذَا السِّيرَةَ فِي النَّاسِ، وَعَدَلَ فِيهِمْ، وَأَزَالَ كَثِيرًا مِنَ السُّنَنِ الْجَارِيَةِ، وَأَعَادَ أَمْلَاكًا كَانَتْ قَدْ أُخِذَتْ مِنْ أَرْبَابِهَا، وَقَامَ بِتَرْبِيَةِ الطِّفْلِ أَحْسَنَ قِيَامٍ، وَحَفَظَ بِلَادَهَ، وَاسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ بِحُسْنِ سِيرَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَمَلَكَ مَا كَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَى الظَّاهِرِ مُلْكَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ تَلُّ بَاشَرَ، كَانَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَعَرَّضَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلِكُهَا كِيكَاوِشُ، مَلِكُ الرُّومِ - كَمَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - انْتَقَلَتْ إِلَى شِهَابِ الدِّينِ، وَمَا أَقْبَحَ بِالْمُلُوكِ وَأَبْنَاءِ الْمُلُوكِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّجُلُ الْغَرِيبُ الْمُنْفَرِدُ أَحْسَنَ سِيرَةً، وَأَعَفَّ عَنْ أَمْوَالِ الرَّعِيَّةِ، وَأَقْرَبَ إِلَى الْخَيْرِ مِنْهُمْ، وَلَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ فِي وُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَحْسَنَ سِيرَةً مِنْهُ، فَاللَّهُ يُبْقِيهِ، وَيَدْفَعُ عَنْهُ، فَلَقَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ كُلُّ حَسَنٍ وَجَمِيلٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، وَقَعَ بِالْبَصْرَةِ بَرَدٌ كَثِيرٌ، وَهُوَ مَعَ كَثْرَتِهِ عَظِيمُ الْقَدْرِ قِيلَ: كَانَ أَصْغَرُهُ مِثْلَ النَّارَنْجَةِ الْكَبِيرَةِ، وَقِيلَ فِي أَكْبَرِهِ مَا يَسْتَحِي الْإِنْسَانُ أَنْ يَذْكُرَهُ، فَكَسَرَ كَثِيرًا مِنْ رُءُوسِ النَّخِيلِ. وَفِي الْمُحَرَّمِ أَيْضًا سَيَّرَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ وَلَدَيِ ابْنِهِ الْمُعَظَّمِ عَلِيٍّ إِلَى تُسْتَرَ، وَهُمَا الْمُؤَيِّدُ وَالْمُوَفَّقُ، وَسَارَ مَعَهُمَا مُؤَيِّدُ الدِّينِ النَّائِبُ عَنِ الْوِزَارَةِ، وَعِزُّ الدِّينِ الشَّرَابِيُّ، فَأَقَامَا بِهَا يَسِيرًا، ثُمَّ عَادَ الْمُوَفَّقُ مَعَ الْوَزِيرِ وَالشَّرَابِيِّ إِلَى بَغْدَادَ أَوَاخِرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ. وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، هَبَّتْ بِبَغْدَادَ رِيحٌ سَوْدَاءُ شَدِيدَةٌ، كَثِيرَةُ الْغُبَارِ وَالْقَتَامِ، وَأَلْقَتْ

رَمْلًا كَثِيرًا، وَقَلَعَتْ كَثِيرًا مِنَ الشَّجَرِ، فَخَافَ النَّاسُ وَتَضَرَّعُوا، وَدَامَتْ مِنِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَانْكَشَفَتْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ التَّاجُ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الْكِنْدِيُّ أَبُو الْيُمْنِ، الْبَغْدَادِيُّ الْمَوْلِدِ وَالْمَنْشَأِ، انْتَقَلَ إِلَى الشَّامِ، فَأَقَامَ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ إِمَامًا فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَلَهُ الْإِسْنَادُ الْعَالِي فِي الْحَدِيثِ، وَكَانَ ذَا فُنُونٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثم دخلت سنة أربع عشرة وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَة] 614 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ خُوَارَزْم شَاهْ بَلَدَ الْجَبَلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ خُوَارَزْم شَاهْ عَلَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ تُكَشَ إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ فَمَلَكَهَا. وَكَانَ سَبَبُ حَرَكَتِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، أَشْيَاءَ ; أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَظَفِرَ بِالْخَطَا، وَعَظُمَ أَمْرُهُ، وَعَلَا شَأْنُهُ، وَأَطَاعَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ وَمِنْهَا: أَنَّهُ كَانَ يَهْوَى أَنْ يُخْطَبَ لَهُ بِبَغْدَادَ، وَيُلَقَّبَ بِالسُّلْطَانِ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِالضِّدِّ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَجِدُ مِنْ دِيوَانِ الْخِلَافَةِ قَبُولًا ; وَكَانَ سَبِيلُهُ إِذَا وَرَدَ إِلَى بَغْدَادَ أَنْ يُقَدَّمَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ فِي عَسْكَرِهِ مِائَةٌ مِثْلَ الَّذِي يُقَدَّمُ سَبِيلُهُ عَلَيْهِ، فَكَانَ إِذَا سَمِعَ ذَلِكَ يُغْضِبُهُ، وَمِنْهَا: أَنْ أَغْلَمْشَ لَمَّا مَلَكَ بِلَادَ الْجَبَلِ خَطَبَ لَهُ فِيهَا جَمِيعِهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا قَتَلَهُ الْبَاطِنِيَّةُ غَضِبَ لَهُ وَخَرَجَ لِئَلَّا تَخْرُجَ الْبِلَادُ عَنْ طَاعَتِهِ، فَسَارَ مُجِدًّا فِي عَسَاكِرَ تُطَبِّقُ الْأَرْضَ، فَوَصَلَ إِلَى الرَّيِّ فَمَلَكَهَا. وَكَانَ أَتَابِكْ سَعْدُ بْنُ دَكْلَا، صَاحِبُ بِلَادِ فَارِسَ، لَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ أَغْلَمْشَ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ نَحْوَ بِلَادِ الْجَبَلِ طَمَعًا فِي تَمَلُّكِهَا لِخُلُوِّهَا عَنْ حَامٍ وَمُمَانِعٍ، فَوَصَلَ إِلَى أَصْفَهَانَ فَأَطَاعَهُ أَهْلُهَا، وَسَارَ مِنْهَا يُرِيدُ الرَّيَّ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِقُدُومِ خُوَارَزْم شَاهْ، فَلَقِيَهُ مُقَدِّمَةُ خُوَارَزْم شَاهْ، فَظَنَّهَا عَسَاكِرُ تِلْكَ الدِّيَارِ قَدِ اجْتَمَعَتْ لِقِتَالِهِ، وَمَنْعِهِ عَنِ الْبِلَادِ، فَقَاتَلَهُمْ، وَجَدَّ فِي مُحَارَبَتِهِمْ حَتَّى كَادَ يَهْزِمُهُمْ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ قَدْ ظَهَرَ لَهُ جَتَرُ خُوَارَزْم شَاهْ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَأُخْبِرَ بِهِ

فَاسْتَسْلَمَ، وَانْهَزَمَتْ عَسَاكِرُهُ، وَأُخِذَ أَسِيرًا، وَحُمِلَ إِلَى بَيْنِ يَدَيْ خُوَارَزْم شَاهْ، فَأَكْرَمَهُ وَوَعَدَهُ الْإِحْسَانَ وَالْجَمِيلَ، وَأَمَّنَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَاسْتَحْلَفَهُ عَلَى طَاعَتِهِ، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ بَعْضَ الْبِلَادِ إِلَيْهِ، وَيُبْقِيَ بَعْضَهَا، وَأَطْلَقَهُ وَسَيَّرَ مَعَهُ جَيْشًا إِلَى بِلَادِ فَارِسَ ; لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ مَا اسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَيْهِ ; فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى وَلَدِهِ الْأَكْبَرِ رَآهُ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى بِلَادِ فَارِسَ، فَامْتَنَعَ مِنَ التَّسْلِيمِ إِلَى أَبِيهِ. ثُمَّ إِنَّهُ مَلَكَ الْبِلَادَ، كَمَا نَذْكُرُهُ، وَخَطَبَ فِيهَا لِخُوَارَزْم شَاهْ، وَسَارَ خُوَارَزْم شَاهْ إِلَى سَاوَةَ فَمَلَكَهَا، وَأَقْطَعَهَا لِعِمَادِ الْمُلْكِ عَارِضِ جَيْشِهِ، وَهُوَ مَنْ أَهْلِهَا ثُمَّ سَارَ إِلَى قَزْوِينَ وَزَنْجَانَ وَأَبْهَرَ، فَمَلَكَهَا كُلَّهَا بِغَيْرِ مُمَانِعٍ وَلَا مُدَافِعٍ ثُمَّ سَارَ إِلَى هَمَذَانَ فَمَلَكَهَا، وَأَقْطَعَ الْبِلَادَ لِأَصْحَابِهِ، وَمَلَكَ أَصْفَهَانَ، وَكَذَلِكَ قُمَّ وَقَاشَانَ، وَاسْتَوْعَبَ مُلْكَ جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوْزَبْكَ بْنِ الْبَهْلَوَانِ، صَاحِبِ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانَ، بِأَنْ يَخْطُبَ لَهُ أَوْزَبْكُ فِي بِلَادِهِ وَيَدْخُلَ فِي طَاعَتِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ عَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى بَغْدَادَ، فَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَمِيرًا كَبِيرًا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَأَقْطَعَهُ حُلْوَانَ، فَسَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهَا، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِأَمِيرٍ آخَرَ، فَلَمَّا سَارَ عَنْ هَمَذَانَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ سَقَطَ عَلَيْهِمْ مِنَ الثَّلْجِ مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، فَهَلَكَتْ دَوَابُّهُمْ، وَمَاتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَطَمِعَ فِيمَنْ بَقِيَ بَنُو تَرْجَمَ الْأَتْرَاكُ، وَبَنُو هَكَّارَ الْأَكْرَادُ، فَتَخَطَّفُوهُمْ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهُمْ إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ إِلَّا الْيَسِيرُ، فَتَطَيَّرَ خُوَارَزْم شَاهْ مِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَعَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى خُرَاسَانَ خَوْفًا مِنَ التَّتَرِ، لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ يَقْضِي حَاجَتَهُ، وَيَفْرَغُ مِنْ إِرَادَتِهِ فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، فَخَابَ ظَنُّهُ، وَرَأَى الْبِيكَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَوِيلًا، فَعَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ، فَوَلَّى هَمَذَانَ أَمِيرًا مِنْ أَقَارِبِهِ مِنْ جِهَةِ وَالِدَتِهِ، يُقَالُ لَهُ طَائِيسِي، وَجَعَلَ فِي الْبِلَادِ جَمِيعِهَا ابْنَهُ رُكْنَ الدِّينِ، وَجَعَلَ مَعَهُ مُتَوَلِّيًا لِأَمْرِ دَوْلَتِهِ عِمَادَ الْمُلْكِ السَّاوِيَّ، وَكَانَ عَظِيمَ الْقَدْرِ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَحْرِصُ عَلَى قَصْدِ الْعِرَاقِ. وَعَادَ خُوَارَزْم شَاهْ إِلَى خُرَاسَانَ، فَوَصَلَ إِلَى مَرْوَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَارَ مَنْ وَجَّهَهُ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ ; وَلَمَّا قَدِمَ إِلَى نَيْسَابُورَ جَلَسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَأَمَرَ الْخَطِيبَ بِتَرْكِ الْخُطْبَةِ لِلْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ مَاتَ؛

وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَلَمَّا قَدِمَ مَرْوَ قَطَعَ الْخُطْبَةَ بِهَا، وَكَذَلِكَ بِبَلْخَ وَبُخَارَى وَسَرْخَسَ، وَبَقِيَ خُوَارَزْمُ وَسَمَرْقَنْدُ وَهَرَاةُ لَمْ تُقْطَعِ الْخُطْبَةُ فِيهَا إِلَّا عَنْ قَصْدٍ لِتَرْكِهَا، لِأَنَّ الْبِلَادَ كَانَتْ لَا تُعَارَضُ مِنْ أَشْبَاهِ هَذَا، إِنْ أَحَبُّوا خَطَبُوا، وَإِنْ أَرَادُوا قَطَعُوا، فَبَقِيَتْ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ. وَهَذِهِ مِنْ جُمْلَةِ سِعَادَاتِ هَذَا الْبَيْتِ الشَّرِيفِ الْعَبَّاسِيِّ لَمْ يَقْصِدْهُ أَحَدٌ بِأَذًى إِلَّا لَقِيَهُ فِعْلُهُ، وَخُبْثُ نِيَّتِهِ، لَا جَرَمَ لَمْ يُمْهِلْ خُوَارَزْم شَاهْ هَذَا حَتَّى جَرَى لَهُ مَا نَذْكُرُهُ مِمَّا لَمْ يُسْمَعْ، بِمِثْلِهِ فِي الدُّنْيَا قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا. ذِكْرُ مَا جَرَى لِأَتَابِكْ سَعْدٍ مَعَ أَوْلَادِهِ لَمَّا قُتِلَ أَغْلَمْشُ، صَاحِبُ بِلَادِ الْجَبَلِ ; هَمَذَانَ وَأَصْفَهَانَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنِ الْبِلَادِ، جَمَعَ أَتَابِكْ سَعْدُ بْنُ دَكْلَا، صَاحِبُ فَارِسَ، عَسَاكِرَهُ وَسَارَ عَنْ بِلَادِهِ إِلَى أَصْفَهَانَ، فَمَلَكَهَا وَأَطَاعَهُ أَهْلُهَا، فَطَمِعَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، فَسَارَ عَنْ أَصْفَهَانَ إِلَى الرَّيِّ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا لَقِيَ عَسَاكِرَ خُوَارَزْم شَاهْ قَدْ وَصَلَتْ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَعَزَمَ عَلَى مُحَارَبَةِ مُقَدِّمَةِ الْعَسْكَرِ، فَقَاتَلَهَا حَتَّى كَادَ يَهْزِمُهَا، فَظَهَرَتْ عَسَاكِرُ خُوَارَزْم شَاهْ، وَرَأَى الْجَتَرَ، فَسُقِطَ فِي يَدِهِ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ وَقُوَّةُ عَسْكَرِهِ، فَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ، وَأُخِذَ أَتَابِكْ سَعْدٌ أَسِيرًا، وَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْ خُوَارَزْم شَاهْ، فَأَكْرَمَهُ، وَطَيَّبَ نَفْسَهُ، وَوَعَدَهُ الْإِحْسَانَ، وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ، إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى أَصْفَهَانَ، فَسَيَّرَهُ مِنْهَا إِلَى بِلَادِهِ، وَهِيَ تُجَاوِرُهَا، وَسَيَّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا مَعَ أَمِيرٍ كَبِيرٍ لِيَتَسَلَّمَ مِنْهُ مَا كَانَ اسْتَقَرَّ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِخُوَارَزْم شَاهْ بَعْضُ الْبِلَادِ، وَلِأَتَابِكْ سَعْدٍ بَعْضُهَا، وَتَكُونُ الْخُطْبَةُ لِخُوَارَزْم شَاهْ فِي الْبِلَادِ جَمِيعِهَا. وَكَانَ أَتَابِكْ سَعِدٌ قَدِ اسْتَخْلَفَ ابْنًا لَهُ عَلَى الْبِلَادِ، فَلَمَّا سَمِعَ الِابْنُ بِأَسْرِ أَبِيهِ خَطَبَ لِنَفْسِهِ بِالْمَمْلَكَةِ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ أَبِيهِ، فَلَمَّا وَصَلَ أَبُوهُ وَمَعَهُ عَسْكَرُ خُوَارَزْم

شَاهْ امْتَنَعَ الِابْنُ مِنْ تَسْلِيمِ الْبِلَادِ إِلَى أَبِيهِ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، وَخَرَجَ يُقَاتِلُهُ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ انْحَازَتْ عَسَاكِرُ فَارِسَ إِلَى صَاحِبِهِمْ أَتَابِكْ سَعِدٍ، وَتَرَكُوا ابْنَهُ فِي خَاصَّتِهِ، فَحَمَلَ عَلَى أَبِيهِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُوهُ ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَقَالَ لَهُ: أَنَا فُلَانٌ! فَقَالَ: إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَحِينَئِذٍ امْتَنَعَ مِنْهُ وَوَلَّى الِابْنُ مُنْهَزِمًا. وَوَصَلَ أَتَابِكْ سَعِدٌ إِلَى الْبِلَادِ فَدَخَلَهَا مَالِكًا لَهَا وَأُخِذَ ابْنُهُ أَسِيرًا، فَسَجْنَهُ إِلَى الْآنِ، إِلَّا أَنَّنِي سَمِعْتُ الْآنَ، وَهُوَ سَنَةُ عِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، أَنَّهُ قَدْ خَفَّفَ حَبْسَهُ، وَوَسَّعَ عَلَيْهِ. وَلَمَّا عَادَ خُوَارَزْم شَاهْ إِلَى خُرَاسَانَ غَدَرَ سَعْدٌ بِالْأَمِيرِ الَّذِي عِنْدَهُ فَقَتَلَهُ، وَرَجَعَ عَنْ طَاعَةِ خُوَارَزْم شَاهْ، وَاشْتَغَلَ خُوَارَزْم شَاهْ بِالْحَادِثَةِ الْعُظْمَى الَّتِي شَغَلَتْهُ عَنْ هَذَا وَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ انْتَقَمَ لَهُ بِابْنِهِ غِيَاثِ الدِّينِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ عِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، لِأَنَّ سَعْدًا كَفَرَ إِحْسَانَ خُوَارَزْم شَاهْ، وَكُفْرُ الْإِحْسَانِ عَظِيمُ الْعُقُوبَةِ. ذِكْرُ مَدِينَةِ دِمْيَاطَ وَعَوْدِهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ إِلَى آخِرِهَا أَرْبَعُ سِنِينَ غَيْرَ شَهْرٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا هَاهُنَا؛ لِأَنَّ ظُهُورَهُمْ كَانَ فِيهَا وَسُقْنَاهَا سِيَاقَةً مُتَتَابِعَةً لِيَتْلُوَ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَنَقُولُ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَتْ أَمْدَادُ الْفِرِنْجِ فِي الْبَحْرِ مِنْ رُومِيَّةَ الْكُبْرَى وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْفِرِنْجِ فِي الْغَرْبِ وَالشَّمَالِ، إِلَّا أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لَهَا كَانَ صَاحِبَ رُومِيَّةَ، لِأَنَّهُ يَتَنَزَّلُ عِنْدَ الْفِرِنْجِ بِمَنْزِلَةٍ عَظِيمَةٍ، لَا يَرَوْنَ مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ وَلَا الْعُدُولَ عَنْ حُكْمِهِ فِيمَا سَرَّهُمْ وَسَاءَهُمْ، فَجَهَّزَ الْعَسَاكِرَ مِنْ عِنْدِهِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ مُقَدَّمِي الْفِرِنْجِ، وَأَمَرَ غَيْرَهُ مِنْ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ إِمَّا أَنْ يَسِيرَ بِنَفْسِهِ، أَوْ يُرْسِلَ جَيْشًا، فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ فَاجْتَمَعُوا بِعَكَّا مِنْ سَاحِلِ الشَّامِ. وَكَانَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ بِمِصْرَ، فَسَارَ مِنْهَا إِلَى الشَّامِ، فَوَصَلَ إِلَى الرَّمْلَةِ، وَمِنْهَا إِلَى لُدٍّ، وَبَرَزَ الْفِرِنْجُ مَنْ عَكَّا لِيَقْصِدُوهُ، فَسَارَ الْعَادِلُ نَحْوَهُمْ، فَوَصَلَ إِلَى نَابُلُسَ عَازِمًا عَلَى أَنْ يَسْبِقَهُمْ إِلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ مِمَّا يَلِي عَكَّا لِيَحْمِيَهَا مِنْهُمْ،

فَسَارُوا هُمْ فَسَبَقُوهُ، فَنَزَلَ عَلَى بَيْسَانَ مِنَ الْأُرْدُنِّ، فَتَقَدَّمَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهِ فِي شَعْبَانَ عَازِمِينَ عَلَى مُحَارَبَتِهِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، لِأَنَّ الْعَسَاكِرَ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي الْبِلَادِ. فَلَمَّا رَأَى الْعَادِلُ قُرْبَهُمْ مِنْهُ لَمْ يَرَ أَنْ يَلْقَاهُمْ فِي الطَّائِفَةِ الَّتِي مَعَهُ، خَوْفًا مِنْ هَزِيمَةٍ تَكُونُ عَلَيْهِ، وَكَانَ حَازِمًا، كَثِيرَ الْحَذَرِ، فَفَارَقَ بَيْسَانَ نَحْوَ دِمَشْقَ لِيُقِيمَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَيُرْسِلَ إِلَى الْبِلَادِ وَيَجْمَعَ الْعَسَاكِرَ، فَوَصَلَ إِلَى مَرْجِ الصُّفَّرِ فَنَزَلَ فِيهِ. وَكَانَ أَهْلُ بَيْسَانَ، وَتِلْكَ الْأَعْمَالِ، لَمَّا رَأَوُا الْمَلِكَ الْعَادِلَ عِنْدَهُمُ اطْمَأَنُّوا، فَلَمْ يُفَارِقُوا بِلَادَهُمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْفِرِنْجَ لَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَقْدَمُوا سَارَ عَلَى غَفْلَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّجَاةِ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَأَخَذَ الْفِرِنْجُ كُلَّ مَا فِي بَيْسَانَ مِنْ ذَخَائِرَ قَدْ جُمِعَتْ، وَكَانَتْ كَثِيرَةً، وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا، وَنَهَبُوا الْبِلَادَ مِنْ بَيْسَانَ إِلَى بَانِيَاسَ، وَبَثُّوا السَّرَايَا فِي الْقُرَى فَوَصَلَتْ إِلَى خِسْفِينَ وَنَوَى وَأَطْرَافِ الْبِلَادِ، وَنَازَلُوا بَانِيَاسَ، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ عَادُوا عَنْهَا إِلَى مَرْجِ عَكَّا وَمَعَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ وَالسَّبْيِ وَالْأَسْرَى مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً، سِوَى مَا قَتَلُوا، وَأَحْرَقُوا، وَأَهْلَكُوا، فَأَقَامُوا أَيَّامًا اسْتَرَاحُوا خِلَالَهَا. ثُمَّ جَاءُوا إِلَى صُورَ، وَقَصَدُوا بَلَدَ الشَّقِيفِ، وَنَزَلُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَانِيَاسَ مِقْدَارَ فَرْسَخَيْنِ، فَنَهَبُوا الْبِلَادَ: صَيْدَا وَالشَّقِيفَ، وَعَادُوا إِلَى عَكَّا، وَكَانَ هَذَا مِنْ نِصْفِ رَمَضَانَ إِلَى الْعِيدِ، وَالَّذِي سَلِمَ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ كَانَ مُخِفًّا حَتَّى قَدَرَ عَلَى النَّجَاةِ. وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الْعَادِلَ لِمَا سَارَ إِلَى مَرْجِ الصُّفَّرِ رَأَى فِي طَرِيقِهِ رَجُلًا يَحْمِلُ شَيْئًا، وَهُوَ يَمْشِي تَارَةً، وَتَارَةً يَقْعُدُ لِيَسْتَرِيحَ، فَعَدَلَ الْعَادِلُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا شَيْخُ لَا تَعْجَلْ، وَارْفُقْ بِنَفْسِكَ فَعَرَفَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: يَا سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ! أَنْتَ لَا تَعْجَلْ، فَإِنَّا إِذَا رَأَيْنَاكَ قَدْ سِرْتَ إِلَى بِلَادِكِ وَتَرَكْتَنَا مَعَ الْأَعْدَاءِ كَيْفَ لَا نَعْجَلُ! وَبِالْجُمْلَةِ الَّذِي فَعَلَهُ الْعَادِلُ هُوَ الْحَزْمُ وَالْمُصْلِحَةُ لِئَلَّا يُخَاطِرَ بِاللِّقَاءِ عَلَى حَالِ تَفَرُّقٍ مِنَ الْعَسَاكِرِ.

وَلَمَّا نَزَلَ الْعَادِلُ عَلَى مَرْجِ الصُّفَّرِ سَيَّرَ وَلَدَهُ الْمَلِكَ الْمُعَظَّمَ عِيسَى، وَهُوَ صَاحِبُ دِمَشْقَ، فِي قِطْعَةٍ صَالِحَةٍ مِنَ الْجَيْشِ إِلَى نَابُلُسَ لِيَمْنَعَ الْفِرِنْجَ عَنِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ. ذِكْرِ حَصْرِ الْفِرِنْجِ قَلْعَةَ الطُّورِ وَتَخْرِيبِهَا لَمَّا نَزَلَ الْفِرِنْجُ بِمَرْجِ عَكَّا تَجَهَّزُوا، وَأَخَذُوا مَعَهُمْ آلَةَ الْحِصَارِ مِنْ مَجَانِيقَ وَغَيْرِهَا، وَقَصَدُوا قَلْعَةَ الطُّورِ، وَهِيَ قَلْعَةٌ مَنِيعَةٌ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ بِالْقُرْبِ مِنْ عَكَّا كَانَ الْعَادِلُ قَدْ بَنَاهَا عَنْ قَرِيبٍ، فَتَقَدَّمُوا إِلَيْهَا وَحَصَرُوهَا وَزَحَفُوا إِلَيْهَا، وَصَعِدُوا فِي جَبَلِهَا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى سُورِهَا وَكَادُوا يَمْلِكُونَهُ. فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ فِيهَا قَتَلَ بَعْضَ مُلُوكِهِمْ، فَعَادُوا عَنِ الْقَلْعَةِ فَتَرَكُوهَا، وَقَصَدُوا عَكَّا، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُقَامِهِمْ عَلَى الطُّورِ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَلَمَّا فَارَقُوا الطُّورَ أَقَامُوا قَرِيبًا، ثُمَّ سَارُوا فِي الْبَحْرِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَتَوَجَّهَ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ إِلَى قَلْعَةِ الطُّورِ، فَخَرَّبَهَا إِلَى أَنْ أَلْحَقَهَا بِالْأَرْضِ ; لِأَنَّهَا بِالْقُرْبِ مِنْ عَكَّا وَيَتَعَذَّرُ حِفْظُهَا. ذِكْرُ حَصْرِ الْفِرِنْجِ دِمْيَاطَ إِلَى أَنْ مَلَكُوهَا لَمَّا عَادَ الْفِرِنْجُ مِنْ حِصَارِ الطُّورِ أَقَامُوا بَعَكَّا إِلَى أَنْ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَسَارُوا فِي الْبَحْرِ إِلَى دِمْيَاطَ، فَوَصَلُوا فِي صَفَرٍ، فَأَرْسَوْا عَلَى بَرِّ الْجِيزَةِ، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دِمْيَاطَ النِّيلُ، فَإِنَّ بَعْضَ النِّيلِ يَصُبُّ فِي الْبَحْرِ الْمَالِحِ عِنْدَ دِمْيَاطَ، وَقَدْ بُنِيَ فِي النَّيْلِ بُرْجٌ كَبِيرٌ مَنِيعٌ، وَجَعَلُوا فِيهِ سَلَاسِلَ مِنْ حَدِيدٍ غِلَاظٍ، وَمَدُّوهَا فِي النَّيْلِ إِلَى سُورِ دِمْيَاطَ لِتَمْنَعَ الْمَرَاكِبَ الْوَاصِلَةَ فِي الْبَحْرِ الْمَالِحِ أَنَّ تَصْعَدَ فِي النِّيلِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ، وَلَوْلَا هَذَا الْبُرْجُ وَهَذِهِ السَّلَاسِلُ لَكَانَتْ مَرَاكِبُ الْعَدُوِّ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى

مَنْعِهَا عَنْ أَقَاصِي دِيَارِ مِصْرَ وَأَدَانِيهَا. فَلَمَّا نَزَلَ الْفِرِنْجُ عَلَى بَرِّ الْجِيزَةِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دِمْيَاطَ النَّيْلُ، بَنَوْا عَلَيْهِ سُورًا، وَجَعَلُوا خَنْدَقًا يَمْنَعُهُمْ مِمَّنْ يُرِيدُهُمْ، وَشَرَعُوا فِي قِتَالِ مَنْ بِدِمْيَاطَ، وَعَمِلُوا آلَاتٍ، وَمَرَمَّاتٍ، وَأَبْرَاجًا يَزْحَفُونَ بِهَا فِي الْمَرَاكِبِ إِلَى هَذَا الْبُرْجِ لِيُقَاتِلُوهُ وَيَمْلِكُوهُ. وَكَانَ الْبُرْجُ مَشْحُونًا بِالرِّجَالِ، وَقَدْ نَزَلَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ ابْنُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَهُوَ صَاحِبُ دِيَارِ مِصْرَ، بِمَنْزِلَةٍ تُعْرَفُ بِالْعَادِلِيَّةِ، بِالْقُرْبِ مِنْ دِمْيَاطَ، وَالْعَسَاكِرُ مُتَّصِلَةٌ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى دِمْيَاطَ، لِيَمْنَعَ الْعَدُوَّ مِنَ الْعُبُورِ إِلَى أَرْضِهَا. وَأَدَامَ الْفِرِنْجُ قِتَالَ الْبُرْجِ وَتَابَعُوهُ، فَلَمْ يَظْفَرُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَكُسِّرَتْ مَرَمَّاتُهُمْ وَآلَاتُهُمْ، وَمَعَ هَذَا فَهُمْ مُلَازِمُونَ لِقِتَالِهِ، فَبَقُوا كَذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَخْذِهِ ; فَلَمَّا مَلَكُوهُ قَطَعُوا السَّلَاسِلَ لِتَدَخُّلَ مَرَاكِبُهُمْ مِنَ الْبَحْرِ الْمَالِحِ فِي النَّيْلِ وَيَتَحَكَّمُوا فِي الْبَرِّ، فَنَصَبَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ عِوَضَ السَّلَاسِلِ جِسْرًا عَظِيمًا امْتَنَعُوا بِهِ مِنْ سُلُوكِ النِّيلِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَاتَلُوا عَلَيْهِ أَيْضًا قِتَالًا شَدِيدًا، كَثِيرًا مُتَتَابِعًا حَتَّى قَطَعُوهُ، فَلَمَّا قُطِعَ أَخَذَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ عِدَّةَ مَرَاكِبَ كِبَارٍ وَمَلَأَهَا وَخَرَقَهَا وَغَرَّقَهَا فِي النَّيْلِ، فَمَنَعَتِ الْمَرَاكِبَ مِنْ سُلُوكِهِ. فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ ذَلِكَ قَصَدُوا خَلِيجًا هُنَاكَ يُعْرَفُ بَالْأَرْزَقِ، كَانَ النِّيلُ يَجْرِي فِيهِ قَدِيمًا، فَحَفَرُوا ذَلِكَ الْخَلِيجَ وَعَمَّقُوهُ فَوْقَ الْمَرَاكِبِ الَّتِي جُعِلَتْ فِي النِّيلِ، وَأَجْرَوُا الْمَاءَ فِيهِ إِلَى الْبَحْرِ الْمَالِحِ، وَأَصْعَدُوا مَرَاكِبَهُمْ فِيهِ إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ بُورَةُ، عَلَى أَرْضِ الْجِيزَةِ أَيْضًا، مُقَابِلَ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَلِكُ الْكَامِلُ لِيُقَاتِلُوهُ مِنْ هُنَاكَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِلَيْهِ طَرِيقٌ يُقَاتِلُونَهُ فِيهَا، كَانَتْ دِمْيَاطُ تَحْجِزُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَلَمَّا صَارُوا فِي بُورَةَ حَاذُوهُ فَقَاتَلُوهُ فِي الْمَاءِ، وَزَحَفُوا غَيْرَ مَرَّةً، فَلَمْ يَظْفَرُوا بِطَائِلٍ. وَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَى أَهْلِ دِمْيَاطَ شَيْءٌ ; لِأَنَّ الْمِيرَةَ وَالْأَمْدَادَ مُتَّصِلَةٌ بِهِمْ، وَالنِّيلَ يَحْجِزُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفِرِنْجِ، فَهُمْ مُمْتَنِعُونَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ أَذًى، وَأَبْوَابُهَا مُفَتَّحَةٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا مِنَ الْحَصْرِ ضِيقٌ وَلَا ضَرَرٌ. فَاتَّفَقَ، كَمَا يُرِيدُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنَّ الْمَلِكَ الْعَادِلَ تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ - عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فَضَعُفَتْ نُفُوسُ النَّاسِ لِأَنَّهُ

السُّلْطَانُ حَقِيقَةً، وَأَوْلَادُهُ، وَإِنْ كَانُوا مُلُوكًا إِلَّا أَنَّهُمْ بِحُكْمِهِ، وَالْأَمْرُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَلَّكَهُمُ الْبِلَادَ، فَاتَّفَقَ مَوْتُهُ وَالْحَالُ هَكَذَا مِنْ مُقَاتَلَةِ الْعَدُوِّ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأُمَرَاءِ بِمِصْرَ أَمِيرٌ يُقَالُ لَهُ عِمَادُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْمَشْطُوبِ، وَهُوَ مِنَ الْأَكْرَادِ الْهَكَّارِيَّةِ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَمِيرٍ بِمِصْرَ، وَلَهُ لَفِيفٌ كَثِيرٌ، وَجَمِيعُ الْأُمَرَاءِ يَنْقَادُونَ إِلَيْهِ وَيُطِيعُونَهُ لَا سِيَّمَا الْأَكْرَادُ، فَاتَّفَقَ هَذَا الْأَمْرُ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَخْلَعُوا الْمَلِكَ الْكَامِلَ مِنَ الْمُلْكِ، وَيُمَلِّكُوا أَخَاهُ الْمَلِكَ الْفَائِزَ بْنَ الْعَادِلِ لِيَصِيرَ الْحُكْمُ إِلَيْهِمْ عَلَيْهِ وَعَلَى الْبِلَادِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْكَامِلِ، فَفَارَقَ الْمَنْزِلَةَ لَيْلًا جَرِيدَةً، وَسَارَ إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا أَشْمُومُ طَنَّاحَ، فَنَزَلَ عِنْدَهَا، وَأَصْبَحَ الْعَسْكَرُ وَقَدْ فَقَدُوا سُلْطَانَهُمْ، فَرَكِبَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ هَوَاهُ، وَلَمْ يَقِفِ الْأَخُ عَلَى أَخِيهِ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ خِيَامِهِمْ وَذَخَائِرِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَسْلِحَتِهِمْ إِلَّا الْيَسِيرَ الَّذِي يَخِفُّ حِمْلُهُ، وَتَرَكُوا الْبَاقِيَ بِحَالِهِ مِنْ مِيرَةٍ، وَسِلَاحٍ، وَدَوَابَّ، وَخِيَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَحِقُوا بِالْكَامِلِ. وَأَمَّا الْفِرِنْجُ فَإِنَّهُمْ أَصْبَحُوا مِنَ الْغَدِ، فَلَمْ يَرَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدًا عَلَى شَاطِئِ النِّيلِ كَجَارِي عَادَتِهِمْ، فَبَقُوا لَا يَدْرُونَ مَا الْخَبَرُ، وَإِذْ قَدْ أَتَاهُمْ مَنْ أَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَعَبَرُوا حِينَئِذٍ النِّيلَ إِلَى بَرِّ دِمْيَاطَ آمِنِينَ بِغَيْرِ مُنَازِعٍ وَلَا مُمَانِعٍ، وَكَانَ عُبُورُهُمْ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَغَنِمُوا مَا فِي مُعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ عَظِيمًا يُعِجِزُ الْعَادِّينَ. وَكَانَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ يُفَارِقُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَثِقْ بِأَحَدٍ مِنْ عَسْكَرِهِ، وَكَانَ الْفِرِنْجُ مَلَكُوا الْجَمِيعَ بِغَيْرِ تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ، فَاتَّفَقَ مَنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَلِكَ الْمُعَظَّمَ عِيسَى ابْنَ الْمَلِكِ الْعَادِلِ وَصَلَ إِلَى أَخِيهِ الْكَامِلِ بَعْدَ هَذِهِ الْحَرَكَةِ بِيَوْمَيْنِ، وَالنَّاسُ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، فَقَوِيَ بِهِ قَلْبُهُ وَاشْتَدَّ ظَهْرُهُ، وَثَبَتَ جَنَانُهُ، وَأَقَامَ بِمَنْزِلَتِهِ، وَأَخْرَجُوا ابْنَ الْمَشْطُوبَ إِلَى الشَّامِ، فَاتَّصَلَ بِالْمَلِكِ الْأَشْرَفِ وَصَارَ مِنْ جُنْدِهِ. فَلَمَّا عَبَرَ الْفِرِنْجُ إِلَى أَرْضِ دِمْيَاطَ اجْتَمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى اخْتِلَافِ قَبَائِلِهَا، وَنَهَبُوا الْبِلَادَ الْمُجَاوِرَةَ لِدِمْيَاطَ، وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ، وَأَفْسَدُوا، وَبَالَغُوا فِي الْإِفْسَادِ، فَكَانُوا أَشَدَّ

عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَكَانَ أَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى أَهْلِ دِمْيَاطَ أَنَّهَا لَمْ يَكُنْ بِهَا مِنَ الْعَسْكَرِ أَحَدٌ ; لِأَنَّ السُّلْطَانَ وَمِنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ كَانُوا عِنْدَهَا يَمْنَعُونَ الْعَدُوَّ عَنْهَا، فَأَتَتْهُمْ هَذِهِ الْحَرَكَةُ بَغْتَةً، فَلَمْ يَدْخُلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ ابْنِ الْمَشْطُوبِ، لَا جَرَمَ لَمْ يُمْهِلْهُ اللَّهُ، وَأَخَذَهُ أَخْذَةً رَابِيَةً، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَحَاطَ الْفِرِنْجُ بِدِمْيَاطَ، وَقَاتَلُوهَا بَرًّا وَبَحْرًا، وَعَمِلُوا عَلَيْهِمْ خَنْدَقًا يَمْنَعُهُمْ مِمَّنْ يُرِيدُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتُهُمْ، وَأَدَامُوا الْقِتَالَ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى أَهْلِهَا، وَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمُ الْأَقْوَاتُ وَغَيْرُهَا، وَسَئِمُوا الْقِتَالَ وَمُلَازَمَتَهُ، لِأَنَّ الْفِرِنْجَ كَانُوا يَتَنَاوَبُونَ الْقِتَالَ عَلَيْهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ، وَلَيْسَ بِدِمْيَاطَ مِنَ الْكَثْرَةِ مَا يَجْعَلُونَ الْقِتَالَ بَيْنَهُمْ مُنَاوَبَةً، وَمَعَ هَذَا فَقَدَ صَبَرُوا صَبْرًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ وَالْجِرَاحُ وَالْمَوْتُ وَالْأَمْرَاضُ، وَدَامَ الْحِصَارُ عَلَيْهِمْ إِلَى السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَعَجَزَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِهَا عَنِ الْحِفْظِ لِقِلَّتِهِمْ، وَتَعَذُّرِ الْقُوتِ عِنْدَهُمْ، فَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَى الْفِرِنْجِ، فِي هَذَا التَّارِيخِ، بِالْأَمَانِ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ قَوْمٌ وَأَقَامَ آخَرُونَ لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْحَرَكَةِ، فَتَفَرَّقُوا أَيْدِي سَبَا. ذِكْرُ مُلْكِ الْمُسْلِمِينَ دِمْيَاطَ مِنَ الْفِرِنْجِ لَمَّا مَلَكَ الْفِرِنْجُ دِمْيَاطَ أَقَامُوا بِهَا، وَبَثُّوا سَرَايَاهُمْ فِي كُلِّ مَا جَاوَرَهُمْ مِنِ الْبِلَادِ، يَنْهَبُونَ وَيَقْتُلُونَ، فَجَلَا أَهْلُهَا عَنْهَا، وَشَرَعُوا فِي عِمَارَتِهَا وَتَحْصِينِهَا، وَبَالَغُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى إِنَّهَا بَقِيَتْ لَا تُرَامُ. وَأَمَّا الْمَلِكُ الْكَامِلُ فَإِنَّهُ أَقَامَ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ فِي أَطْرَافِ بِلَادِهِ يَحْمِيهَا مِنْهُمْ. وَلَمَّا سَمِعَ الْفِرِنْجُ فِي بِلَادِهِمْ بِفَتْحِ دِمْيَاطَ عَلَى أَصْحَابِهِمْ أَقْبَلُوا إِلَيْهِمْ يُهْرَعُونَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَأَصْبَحَتْ دَارَ هِجْرَتِهِمْ، وَعَادَ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ صَاحِبُ دِمَشْقَ إِلَى الشَّامِ فَخَرَّبَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ كَافَّةً خَافُوا الْفِرِنْجَ، وَأَشْرَفَ الْإِسْلَامُ وَجَمِيعُ أَهْلِهِ وَبِلَادِهِ عَلَى خُطَّةِ خَسَفٍ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا: أَقْبَلَ التَّتَرُ مِنَ

الْمَشْرِقِ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى نَوَاحِي الْعِرَاقِ وَأَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانَ وَغَيْرِهَا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ; وَأَقْبَلَ الْفِرِنْجُ مِنَ الْمَغْرِبِ فَمَلَكُوا مِثْلَ دِمْيَاطَ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، مَعَ عَدَمِ الْحُصُونِ الْمَانِعَةِ بِهَا مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَأَشْرَفَ سَائِرُ الْبِلَادِ بِمِصْرَ وَالشَّامِ عَلَى أَنْ تُمْلَكَ، وَخَافَهُمُ النَّاسُ كَافَّةً، وَصَارُوا يَتَوَقَّعُونَ الْبَلَاءَ صَبَاحًا وَمَسَاءً. وَأَرَادَ أَهْلُ مِصْرَ الْجَلَاءَ عَنْ بِلَادِهِمْ خَوْفًا مِنَ الْعَدُوِّ، {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3] ، وَالْعَدُوُّ قَدْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَلَوْ مَكَّنَهُمُ الْكَامِلُ مِنْ ذَلِكَ لَتَرَكُوا الْبِلَادَ خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا، وَإِنَّمَا مُنِعُوا مِنْهُ فَثَبَتُوا. وَتَابَعَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ كُتُبَهُ إِلَى أَخَوَيْهِ الْمُعَظِّمِ صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَالْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى بْنِ الْعَادِلِ، صَاحِبِ دِيَارِ الْجَزِيرَةِ وَأَرْمِينِيَّةَ وَغَيْرِهِمَا، يَسْتَنْجِدُهُمَا، وَيَحُثُّهُمَا عَلَى الْحُضُورِ بِأَنْفُسِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَيُرْسِلَانِ الْعَسَاكِرَ إِلَيْهِ، فَسَارَ صَاحِبُ دِمَشْقَ إِلَى الْأَشْرَفِ بِنَفْسِهِ بِحَرَّانَ، فَرَآهُ مَشْغُولًا عَنْ إِنْجَادِهِمْ بِمَا دَهَمَهُ مِنِ اخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ، وَزَوَالِ الطَّاعَةِ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ كَانَ يُطِيعُهُ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - عِنْدَ وَفَاةِ الْمَلِكِ الْقَاهِرِ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَلْيُطْلَبْ مِنْ هُنَاكَ ; فَعَذَرَهُ، وَعَادَ عَنْهُ، وَبَقِيَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ مَعَ الْفِرِنْجِ. فَأَمَّا الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ فَزَالَ الْخُلْفُ مِنْ بِلَادِهِ، وَرَجَعَ الْمُلُوكُ الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ إِلَيْهِ، وَاسْتَقَامَتْ لَهُ الْأُمُورُ إِلَى سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَالْمَلِكُ الْكَامِلُ مُقَابِلُ الْفِرِنْجِ. فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ عَلِمَ بِزَوَالِ مَانِعِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ عَنْ إِنْجَادِهِ، فَأَرْسَلَ يَسْتَنْجِدُهُ وَأَخَاهُ، صَاحِبَ دِمَشْقَ، فَسَارَ صَاحِبُ دِمَشْقَ الْمُعَظَّمُ إِلَى الْأَشْرَفِ يَحُثُّهُ عَلَى الْمَسِيرِ، فَفَعَلَ، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ فَيَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَأَمَرَ الْبَاقِينَ بِاللَّحَاقِ بِهِ إِلَى دِمَشْقَ، وَأَقَامَ بِهَا يَنْتَظِرُهُمْ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أُمَرَائِهِ وَخَوَاصِّهِ بِإِنْفَاذِ الْعَسَاكِرِ وَالْعَوْدِ إِلَى بِلَادِهِ خَوْفًا مِنِ اخْتِلَافٍ يَحْدُثُ بَعْدَهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُمْ، وَقَالَ قَدْ خَرَجْتُ لِلْجِهَادِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِتْمَامِ ذَلِكَ الْعَزْمِ، فَسَارَ إِلَى مِصْرَ. وَكَانَ الْفِرِنْجُ قَدْ سَارُوا عَنْ دِمْيَاطَ فِي الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، وَقَصَدُوا الْمَلِكَ الْكَامِلَ،

وَنَزَلُوا مُقَابِلَهُ، بَيْنَهُمَا خَلِيجٌ مِنَ النِّيلِ يُسَمَّى بَحْرَ أَشْمُومَ، وَهُمْ يَرْمُونَ بِالْمَنْجَنِيقِ وَالْجَرْخِ إِلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ تَيَقَّنُوا هُمْ وَكُلُّ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ وَأَمَّا الْأَشْرَفُ فَإِنَّهُ سَارَ حَتَّى وَصَلَ مِصْرَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَخُوهُ الْكَامِلُ بِقُرْبِهِ مِنْهُمْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ، فَلَقِيَهُ، وَاسْتَبْشَرَ هُوَ وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ بِاجْتِمَاعِهِمَا، لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بِذَلِكَ نَصْرًا وَظَفَرًا. وَأَمَّا الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ، صَاحِبُ دِمَشْقَ، فَإِنَّهُ سَارَ أَيْضًا إِلَى دِيَارِ مِصْرَ، وَقَصَدَ دِمْيَاطَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ أَخَوَيْهِ وَعَسْكَرَيْهِمَا قَدْ نَازَلُوهَا، وَقِيلَ بَلْ أُخْبِرَ فِي الطَّرِيقِ أَنِ الْفِرِنْجَ قَدْ تَوَجَّهُوا إِلَى دِمْيَاطَ، فَسَابَقَهُمْ إِلَيْهَا لِيَلْقَاهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَأَخَوَاهُ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا اجْتَمَعَ الْأَشْرَفُ بِالْكَامِلِ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّقَدُّمِ إِلَى خَلِيجٍ مِنَ النِّيلِ يُعْرَفُ بِبَحْرِ الْمَحَلَّةِ، فَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِ، فَقَاتَلُوا الْفِرِنْجَ، وَازْدَادُوا قُرْبًا، وَتَقَدَّمَتْ شَوَانِي الْمُسْلِمِينَ مِنَ النِّيلِ، وَقَاتَلُوا شَوَانِي الْفِرِنْجَ، فَأَخَذُوا مِنْهَا ثَلَاثَ قِطَعٍ بِمَنْ فِيهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَاسْتَبْشَرُوا، وَتَفَاءَلُوا، وَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَاسْتَطَالُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ. هَذَا يَجْرِي وَالرُّسُلُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَهُمْ قِي تَقْرِيرِ قَاعِدَةِ الصُّلْحِ، وَبَذَلَ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ تَسْلِيمَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَعَسْقَلَانَ، وَطَبَرِيَّةَ، وَصَيْدَا، وَجَبَلَةَ، وَاللَّاذِقِيَّةَ، وَجَمِيعَ مَا فَتَحَهُ صَلَاحُ الدِّينِ مِنَ الْفِرِنْجِ بِالسَّاحِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَا عَدَا الْكَرَكَ، لِيُسَلِّمُوا دِمْيَاطَ، فَلَمْ يَرْضَوْا وَطَلَبُوا ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ عِوَضًا عَنْ تَخْرِيبِ الْقُدْسِ لِيَعْمُرُوهُ بِهَا، فَلَمْ يَتِمَّ بَيْنَهُمْ أَمْرٌ وَقَالُوا: لَا بُدَّ مِنَ الْكَرَكِ. فَبَيْنَمَا الْأَمْرُ فِي هَذَا، وَهُمْ يَمْتَنِعُونَ، اضْطَرَّ الْمُسْلِمُونَ إِلَى قِتَالِهِمْ، وَكَانَ الْفِرِنْجُ لِاعْتِدَادِهِمْ بِنُفُوسِهِمْ لَمْ يَسْتَصْحِبُوا مَعَهُمْ مَا يَقُوتُهُمْ عِدَّةَ أَيَّامٍ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْعَسَاكِرَ الْإِسْلَامِيَّةَ لَا تَقُومُ لَهُمْ، وَأَنَّ الْقُرَى وَالسَّوَادَ جَمِيعُهُ يَبْقَى بِأَيْدِيهِمْ، يَأْخُذُونَ مِنْهُ مَا أَرَادُوا مِنِ الْمِيرَةِ، لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ، فَعَبَرَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي عَلَيْهَا الْفِرِنْجُ، فَفَجَّرُوا النِّيلَ، فَرَكِبَ الْمَاءُ أَكْثَرَ تِلْكَ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْفِرِنْجِ جِهَةً

يَسْلُكُونَ مِنْهَا غَيْرَ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فِيهَا ضِيقٌ، فَنَصَبَ الْكَامِلُ حِينَئِذٍ الْجُسُورَ عَلَى النِّيلِ، عِنْدَ أَشْمُومَ، وَعَبَرَتِ الْعَسَاكِرُ عَلَيْهَا، فَمَلَكَ الطَّرِيقَ الَّذِي يَسْلُكُهُ الْفِرِنْجُ إِنْ أَرَادُوا الْعَوْدَ إِلَى دِمْيَاطَ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ خَلَاصٌ. وَاتَّفَقَ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِمْ مَرْكَبٌ كَبِيرٌ لِلْفِرِنْجِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَرَاكِبِ يُسَمَّى مَرَمَّةَ، وَحَوْلَهُ عِدَّةُ حَرَّاقَاتٍ تَحْمِيهِ، وَالْجَمِيعُ مَمْلُوءٌ مِنِ الْمِيرَةِ وَالسِّلَاحِ، وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا شَوَانِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَاتَلُوهُمْ، فَظَفِرُوا بِالْمَرَمَّةِ وَبِمَا مَعَهَا مِنَ الْحَرَّاقَاتِ، أَخَذُوهَا، فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ ذَلِكَ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا الصَّوَابَ بِمُفَارَقَةِ دِمْيَاطَ فِي أَرْضٍ يَجْهَلُونَهَا. هَذَا وَعَسَاكِرُ الْمُسْلِمِينَ مُحِيطَةٌ بِهِمْ يَرْمُونَهُمْ بِالنُّشَّابِ، وَيَحْمِلُونَ عَلَى أَطْرَافِهِمْ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى الْفِرِنْجِ أَحْرَقُوا خِيَامَهُمْ، وَمَجَانِيقَهُمْ، وَأَثْقَالَهُمْ، وَأَرَادُوا الزَّحْفَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَمُقَاتَلَتَهُمْ، لَعَلَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى دِمْيَاطَ، فَرَأَوْا مَا أَمَّلُوهُ بَعِيدًا، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ، لِكَثْرَةِ الْوَحْلِ وَالْمِيَاهِ حَوْلَهُمْ، وَالْوَجْهُ الَّذِي يَقْدِرُونَ عَلَى سُلُوكِهِ قَدْ مَلَكَهُ الْمُسْلِمُونَ. فَلَمَّا تَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ قَدْ أُحِيطَ بِهِمْ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِهِمْ، وَأَنْ مِيرَتَهُمْ قَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ وُصُولُهَا، وَأَنَّ الْمَنَايَا قَدْ كَشَّرَتْ لَهُمْ عَنْ أَنْيَابِهَا، ذَلَّتْ نُفُوسُهُمْ، وَتَكَسَّرَتْ صُلْبَانُهُمْ، وَضَلَّ عَنْهُمْ شَيْطَانُهُمْ، فَرَاسَلُوا الْمَلِكَ الْكَامِلَ وَالْأَشْرَفَ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ لِيُسَلِّمُوا دِمْيَاطَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَبَيْنَمَا الْمُرَاسَلَاتُ مُتَرَدِّدَةٌ إِذْ أَقْبَلَ جَمْعٌ كَبِيرٌ، لَهُمْ رَهْجٌ شَدِيدٌ، وَجَلَبَةٌ عَظِيمَةٌ، مِنْ جِهَةِ دِمْيَاطَ، فَظَنَّهُ الْمُسْلِمُونَ نَجْدَةً أَتَتْ لِلْفِرِنْجِ، فَاسْتَشْعَرُوا، وَإِذَا هُوَ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ، صَاحِبُ دِمَشْقَ، قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى دِمْيَاطَ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَاشْتَدَّتْ ظُهُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَازْدَادَ الْفِرِنْجُ خِذْلَانًا وَوَهْنًا، وَتَمَّمُوا الصُّلْحَ عَلَى تَسْلِيمِ دِمْيَاطَ، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ وَالْأَيْمَانُ سَابِعَ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَانْتَقَلَ مُلُوكُ الْفِرِنْجِ، وَكُنُودُهُمْ، وَقَمَامِصَتُهُمْ إِلَى الْمَلِكِ الْكَامِلِ وَالْأَشْرَفِ رَهَائِنَ عَلَى تَسْلِيمِ دِمْيَاطَ: مَلِكُ عَكَّا، وَنَائِبُ بَابَا صَاحِبِ رُومِيَّةَ، وَكُنْدُ رِيشَ، وَغَيْرُهُمْ، وَعِدَّتُهُمْ عِشْرُونَ مَلِكًا، وَرَاسَلُوا قُسُوسَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ إِلَى دِمْيَاطَ فِي التَّسْلِيمِ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ مَنْ

بِهَا، وَسَلَّمُوهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ تَاسِعَ رَجَبٍ الْمَذْكُورِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لِمَا تَسَلَّمُوهَا وَصَلَتْ لِلْفِرِنْجِ نَجْدَةٌ فِي الْبَحْرِ، فَلَوْ سَبَقُوا الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهَا لَامْتَنَعُوا مِنْ تَسْلِيمِهَا، وَلَكِنْ سَبْقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا، وَلَمْ يَبْقَ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا آحَادٌ، وَتَفَرَّقُوا أَيْدِي سَبَا، بَعْضُهُمْ سَارَ عَنْهَا بِاخْتِيَارِهِ، وَبَعْضُهُمْ مَاتَ، وَبَعْضُهُمْ أَخَذَهُ الْفِرِنْجُ. وَلَمَّا دَخَلَهَا الْمُسْلِمُونَ رَأَوْهَا وَقَدْ حَصَّنَهَا الْفِرِنْجُ تَحْصِينًا عَظِيمًا بِحَيْثُ بَقِيَتْ لَا تُرَامُ، وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهَا، وَأَعَادَ اللَّهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الْحَقَّ إِلَى نِصَابِهِ، وَرَدَّهُ إِلَى أَرْبَابِهِ، وَأَعْطَى الْمُسْلِمِينَ ظَفَرًا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانَتْ غَايَةُ أَمَانِيهِمْ أَنْ يُسَلِّمُوا الْبِلَادَ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ بِالشَّامِ لِيُعِيدُوا دِمْيَاطَ، فَرَزَقَهُمُ اللَّهُ إِعَادَةَ دِمْيَاطَ، وَبَقِيَتِ الْبِلَادُ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى حَالِهَا، فَاللَّهُ الْمَحْمُودُ الْمَشْكُورُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ كَفِّ عَادِيَةِ هَذَا الْعَدُوِّ، وَكَفَاهُمْ شَرُّ التَّتَرِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عَدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، كَانَتْ بِبَغْدَادَ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمَأْمُونِيَّةِ وَبَيْنَ أَهْلِ بَابِ الْأَزَجِ بِسَبَبِ قَتْلِ سَبُعٍ، وَزَادَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ، وَاقْتَتَلُوا، فَجُرِحَ بَيْنَهُمْ كَثِيرٌ، فَحَضَرَ نَائِبُ الْبَابِ وَكَفَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ، وَأَسْمَعُوهُ مَا يَكْرَهُ، فَأُرْسِلَ مِنَ الدِّيوَانِ أَمِيرٌ مِنْ مَمَالِيكِ الْخَلِيفَةِ، فَرَدَّ أَهْلَ كُلِّ مَحَلَّةٍ إِلَى مَحَلَّتِهِمْ، وَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ. وَفِيهَا كَثُرَ الْفَأْرُ بِبَلْدَةِ دُجَيْلٍ مِنْ أَعْمَالِ بَغْدَادَ، فَكَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَجْلِسَ

إِلَّا وَمَعَهُ عَصًا يَرُدُّ الْفَأْرَ عَنْهُ، وَكَانَ يَرَى الْكَثِيرَ مِنْهُ ظَاهِرًا يَتْبَعُ بَعْضَهُ بَعْضًا. وَفِيهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً لَمْ يُشَاهَدْ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ مِثْلُهَا، وَأَشْرَفَتْ بَغْدَادُ عَلَى الْغَرَقِ، فَرَكِب الْوَزِيرُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْأَعْيَانُ كَافَّةً، وَجَمَعُوا الْخَلْقَ الْعَظِيمَ مِنَ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ لِعَمَلِ الْقُورَجِ حَوْلَ الْبَلَدِ، وَقَلِقَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَانْزَعَجُوا، وَعَايَنُوا الْهَلَاكَ، وَأَعَدُّوا السُّفُنَ لِيَنْجُوا فِيهَا، وَظَهَرَ الْخَلِيفَةُ لِلنَّاسِ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْعَمَلِ، وَكَانَ مِمَّا قَالَ لَهُمْ: لَوْ كَانَ يُفْدَى مَا أَرَى بِمَالٍ أَوْ غَيْرِهِ لَفَعَلْتُ، وَلَوْ دُفِعَ بِحَرْبٍ لَفَعَلْتُ، وَلَكِنَّ أَمْرَ اللَّهِ لَا يُرَدُّ. وَنَبَعَ الْمَاءُ مِنَ الْبَلَالِيعِ وَالْآبَارِ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْهُ، وَغَرِقَ مَشْهَدُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضُ الرُّصَافَةِ، وَجَامِعُ الْمَهْدِيِّ، وَقَرْيَةُ الْمَلَكِيَّةِ، وَالْكَشَكُ، وَانْقَطَعَتِ الصَّلَاةُ بِجَامِعِ السُّلْطَانِ. وَأَمَّا الْجَانِبُ الْغَرْبِيُّ، فَتَهَدَّمَ أَكْثَرُ الْقَرْيَةِ، وَنَهْرُ عِيسَى، وَالشَّطِيَّاتُ، وَخُرِّبَتِ الْبَسَاتِينُ، وَمَشْهَدُ بَابِ التِّينِ، وَمَقْبَرَةُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْحَرِيمُ الطَّاهِرِيِّ، وَبَعْضُ بَابِ الْبَصْرَةِ وَالدُّورِ الَّتِي عَلَى نَهْرِ عِيسَى وَأَكْثَرُ مَحَلَّةِ قَطُفْتَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْفَضَائِلِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ أَبِي الْبَرَكَاتِ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ فَضْلِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْخَيْرِ الْمِيهَنِيُّ، الصُّوفِيُّ، أَبُو الْفَضْلِ شَيْخُ رِبَاطِ الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ صَالِحًا مِنْ بَيْتِ التَّصَوُّفِ وَالصَّلَاحِ.

ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَة] 615 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَلِكِ الْقَاهِرِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ نُورِ الدِّينِ وَمَا كَانَ مِنِ الْفِتَنِ بِسَبَبِ مَوْتِهِ إِلَى أَنِ اسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الْقَاهِرُ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ أَرْسَلَان شَاهْ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِي بْنِ آقْسُنْقُرَ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَبْعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ. وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ أَخَذَتْهُ حُمَّى، ثُمَّ فَارَقَتْهُ الْغَدَ، وَبَقِيَ يَوْمَيْنِ مَوْعُوكًا، ثُمَّ عَاوَدَتْهُ الْحُمَّى مَعَ قَيْءٍ كَثِيرٍ، وَكَرْبٍ شَدِيدٍ، وَقَلَقٍ مُتَتَابِعٍ ثُمَّ بَرَدَ بَدَنُهُ، وَعَرِقَ، وَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى وَسَطِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ. وَكَانَ كَرِيمًا، حَلِيمًا، قَلِيلَ الطَّمَعِ فِي أَمْوَالِ الرَّعِيَّةِ، كَافًّا عَنْ أَذًى يُوصِلُهُ إِلَيْهِمْ، مُقْبِلًا عَلَى لَذَّاتِهِ كَأَنَّمَا يَنْهَبُهَا وَيُبَادِرُ بِهَا الْمَوْتَ ; وَكَانَ عِنْدَهُ رِقَّةٌ شَدِيدَةٌ، وَيُكْثِرُ ذِكْرَ الْمَوْتِ. حَكَى لِي بَعْضُ مَنْ كَانَ يُلَازِمُهُ قَالَ: كُنَّا لَيْلَةً، قَبْلَ وَفَاتِهِ بِنِصْفِ شَهْرٍ، عِنْدَهُ، فَقَالَ لِي: قَدْ وَجَدْتُ ضَجَرًا مِنَ الْقُعُودِ، فَقُمْ بِنَا نَتَمَشَّى إِلَى الْبَابِ الْعِمَادِيِّ ; قَالَ: فَقُمْنَا، فَخَرَجَ مِنْ دَارِهِ نَحْوَ الْبَابِ الْعِمَادِيِّ، فَوَصَلَ التُّرْبَةَ الَّتِي عَمِلَهَا لِنَفْسِهِ عِنْدَ دَارِهِ، فَوَقَفَ عِنْدَهَا مُفَكِّرًا لَا يَتَكَلَّمُ، ثُمَّ قَالَ لِي: وَاللَّهِ مَا نَحْنُ فِي شَيْءٍ! أَلَيْسَ

مَصِيرُنَا إِلَى هَاهُنَا، وَنُدْفَنُ تَحْتَ الْأَرْضِ، وَأَطَالَ الْحَدِيثَ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الدَّارِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا نَمْشِيَ إِلَى الْبَابِ الْعِمَادِيِّ؟ فَقَالَ: مَا بَقِيَ عِنْدِي نَشَاطٌ إِلَى هَذَا وَلَا إِلَى غَيْرِهِ، وَدَخَلَ دَارَهُ وَتُوُفِّيَ بَعْدَ أَيَّامٍ. وَأُصِيبَ أَهْلُ بِلَادِهِ بِمَوْتِهِ، وَعَظُمَ عَلَيْهِمْ فَقْدُهُ، وَكَانَ مَحْبُوبًا إِلَيْهِمْ، قَرِيبًا مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَفِي كُلِّ دَارٍ لِأَجْلِهِ رَنَّةٌ وَعَوِيلٌ، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى بِالْمُلْكِ لِوَلَدِهِ الْأَكْبَرِ نُورِ الدِّينِ أَرَسْلَان شَاهْ، وَعُمُرُهُ حِينَئِذٍ نَحْوَ عَشْرِ سِنِينَ، وَجَعَلَ الْوَصِيَّ عَلَيْهِ وَالْمُدَبِّرَ لِدَوْلَتِهِ بِدَرَ الدِّينِ لُؤْلُؤًا، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَتَوَلَّى دَوْلَةَ الْقَاهِرِ وَدَوْلَةَ أَبِيهِ نُورِ الدِّينِ قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا يُعْرَفُ بِهِ مَحَلُّهُ، وَسَيَرِدُ مِنْهَا أَيْضًا مَا يَزِيدُ النَّاظِرَ بَصِيرَةً فِيهِ. فَلَمَّا قَضَى نَحْبَهُ قَامَ بَدْرُ الدِّينِ بِأَمْرِ نُورِ الدِّينِ، وَأَجْلَسَهُ فِي مَمْلَكَةِ أَبِيهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ لَهُ التَّقْلِيدَ وَالتَّشْرِيفَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُلُوكِ، وَأَصْحَابِ الْأَطْرَافِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ، يَطْلُبُ مِنْهُمْ تَجْدِيدَ الْعَهْدِ لِنُورِ الدِّينِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِيهِ، فَلَمْ يُصْبِحْ إِلَّا وَقَدْ فَرَغَ مِنْ كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَجَلَسَ لِلْعَزَاءِ، وَحَلَّفَ الْجُنْدَ وَالرَّعَايَا، وَضَبَطَ الْمَمْلَكَةَ مِنَ التَّزَلْزُلِ وَالتَّغَيُّرِ مَعَ صِغَرِ السُّلْطَانِ وَكَثْرَةِ الطَّامِعِينَ فِي الْمُلْكِ، فَإِنَّهُ كَانَ مَعَهُ فِي الْبَلَدِ أَعْمَامُ أَبِيهِ، وَكَانَ عَمُّهُ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بْنُ أَرْسَلَان شَاهْ بِوِلَايَتِهِ، وَهِيَ قَلْعَةُ عَقْرِ الْحُمَيْدِيَّةِ، يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالْمُلْكِ، لَا يَشُكُّ فِي أَنَّ الْمُلْكَ يَصِيرُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَخِيهِ، فَرَقَعَ بَدَرُ الدِّينِ ذَلِكَ الْخَرْقَ، وَرَتَقَ ذَلِكَ الْفَتْقَ، وَتَابَعَ الْإِحْسَانَ وَالْخِلَعَ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَغَيَّرَ ثِيَابَ الْحِدَادِ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَخُصَّ بِذَلِكَ شَرِيفًا دُونَ مَشْرُوفٍ، وَلَا كَبِيرًا دُونَ صَغِيرٍ، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، وَجَلَسَ لِكَشْفِ ظُلَامَاتِ النَّاسِ، وَإِنْصَافِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ. وَبَعْدَ أَيَّامٍ وَصَلَ التَّقْلِيدُ مِنَ الْخَلِيفَةِ لِنُورِ الدِّينِ بِالْوِلَايَةِ، وَلِبَدْرِ الدِّينِ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ دَوْلَتِهِ، وَالتَّشْرِيفَاتِ لَهُمَا أَيْضًا، وَأَتَتْهُمَا رُسُلُ الْمُلُوكِ بِالتَّعْزِيَةِ، وَبَذْلِ مَا طُلِبَ مِنْهُمْ مَنِ الْعُهُودِ، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَوَاعِدُ لَهُمَا. ذِكْرُ مُلْكِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي قِلَاعَ الْهَكَّارِيَّةِ وَالزَّوْزَانِ قَدْ ذَكَرْنَا عِنْدَ وَفَاةِ نُورِ الدِّينِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّمِائَةٍ أَنَّهُ أَعْطَى وَلَدَهُ الْأَصْغَرَ زَنْكِي

قَلْعَتَيِ الْعَقْرَ وَشُوشَ، وَهَمَّا بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَوْصِلِ فَكَانَ تَارَةً يَكُونُ بِالْمَوْصِلِ، وَتَارَةً بِوِلَايَتِهِ، مُتَجَنِّيًا لِكَثْرَةِ تَلَوُّنِهِ، وَكَانَ بِقَلْعَةِ الْعِمَادِيَّةِ مُسْتَحْفِظٌ مِنْ مَمَالِيكِ جَدِّهِ عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودِ بْنِ مَوْدُودٍ، قِيلَ إِنَّهُ جَرَى لَهُ مَعَ زَنْكِي مُرَاسَلَاتٌ فِي مَعْنَى تَسْلِيمِ الْعِمَادِيَّةِ إِلَيْهِ، فَنَمَى الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَى بَدْرِ الدِّينِ، فَبَادَرَهُ بِالْعَزْلِ مَعَ أَمِيرٍ كَبِيرٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْجُنْدِ لَمْ يُمْكِنْهُ الِامْتِنَاعُ، وَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ إِلَى نَائِبِ بَدْرِ الدِّينِ كَذَلِكَ، وَجَعَلَ بَدْرُ الدِّينِ فِي غَيْرِ الْعِمَادِيَّةِ مِنَ الْقِلَاعِ نُوَّابًا لَهُ. وَكَانَ نُورُ الدِّينِ بْنُ الْقَاهِرِ لَا يَزَالُ مَرِيضًا مِنْ جُرُوحٍ كَانَتْ بِهِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَكَانَ يَبْقَى الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ لَا يَرْكَبُ، وَلَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ فَأَرْسَلَ زَنْكِي إِلَى مَنْ بِالْعِمَادِيَّةِ مِنَ الْجُنْدِ يَقُولُ: إِنَّ ابْنَ أَخِي تُوُفِّيَ، وَيُرِيدُ بَدْرُ الدِّينِ أَنْ يَمْلِكَ الْبِلَادَ، وَأَنَا أَحَقُّ بِمُلْكِ آبَائِي وَأَجْدَادِي، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى اسْتَدْعَاهُ الْجُنْدُ مِنْهَا، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ، ثَامِنَ عَشَرَ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَبَضُوا عَلَى النَّائِبِ الْبَدْرِيِّ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ. فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى بَدْرِ الدِّينِ لَيْلًا فَجَدَّ فِي الْأَمْرِ، وَنَادَى فِي الْعَسْكَرِ لِوَقْتِهِ بِالرَّحِيلِ، فَسَارُوا مُجِدِّينَ إِلَى الْعِمَادِيَّةِ وَبِهَا زَنْكِي لِيَحْصُرُوهُ فِيهَا، فَلَمْ يَطْلُعِ الصُّبْحُ إِلَّا وَقَدْ فَرَغَ مِنْ تَسْيِيرِ الْعَسَاكِرِ، فَسَارُوا إِلَى الْعِمَادِيَّةِ وَحَصَرُوهَا، وَكَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً، وَالْبَرْدُ شَدِيدٌ، وَالثَّلْجُ هُنَاكَ كَثِيرٌ، فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ قِتَالِ مَنْ بِهَا، لَكِنَّهُمْ أَقَامُوا يَحْصُرُونَهَا، وَقَامَ مُظَفَّرُ الدِّينِ كُوكُبْرِي بْنُ زَيْنِ الدِّينِ، صَاحِبُ إِرْبِلَ، فِي نَصْرِ عِمَادِ الدِّينِ، وَتَجَرَّدَ لِمُسَاعَدَتِهِ، فَرَاسَلَهُ بَدْرُ الدِّينِ يُذَكِّرُهُ الْأَيْمَانَ وَالْعُهُودَ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ، وَمِنْهَا قِلَاعُ الْهَكَّارِيَّةِ وَالزَّوْزَانِ بِأَسْمَائِهَا، وَمَتَى تَعَرَّضَ إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، مَنْ كَانَ، مَنَعَهُ بِنَفْسِهِ وَعَسَاكِرِهِ، وَأَعَانَ نُورَ الدِّينِ وَبَدْرَ الدِّينِ عَلَى مَنْعِهِ، وَيُطَالِبُهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا. ثُمَّ نَزَلَ عَنْ هَذَا، وَرَضِيَ مِنْهُ بِالسُّكُوتِ لَا لَهُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَظْهَرَ مُعَاضَدَةَ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي، فَحِينَئِذٍ لَمْ يُمْكِنْ مُكَاثَرَةُ زَنْكِي بِالرِّجَالِ وَالْعَسَاكِرِ لِقُرْبِ

هَذَا الْخَصْمَ مِنَ الْمَوْصِلِ وَأَعْمَالِهَا، إِلَّا أَنَّ الْعَسْكَرَ الْبَدْرِيَّ مُحَاصِرٌ لِلْعِمَادِيَّةِ وَبِهَا زَنْكِي. ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ مِنْ عَسْكَرِ الْمَوْصِلِ، مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ، وَكَانَ شُجَاعًا وَهُوَ جَدِيدُ الْإِمَارَةِ أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ شَجَاعَتَهُ لِيَزْدَادَ بِهَا تَقَدُّمًا، أَشَارَ عَلَى مَنْ هُنَاكَ مِنَ الْعَسْكَرِ بِالتَّقَدُّمِ إِلَيْهَا، وَمُبَاشَرَتِهَا بِالْقِتَالِ، وَكَانُوا قَدْ تَأَخَّرُوا عَنْهَا شَيْئًا يَسِيرًا لِشِدَّةِ الْبَرْدِ وَالثَّلْجِ، فَلَمْ يُوَافِقُوهُ، وَقَبَّحُوا رَأْيَهُ، فَتَرَكَهُمْ وَرَحَلَ مُتَقَدِّمًا إِلَيْهِمْ لَيْلًا، فَاضْطَرُّوا إِلَى اتِّبَاعِهِ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ أَذًى يُصِيبُهُ وَمَنْ مَعَهُ، فَسَارُوا إِلَيْهِ عَلَى غَيْرِ تَعْبِئَةٍ لِضِيقِ الْمَسْلَكِ، وَلِأَنَّهُ أَعْجَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَحُكْمِ الثَّلْجِ عَلَيْهِمْ أَيْضًا. فَسَمِعَ زَنْكِي وَمِنْ مَعَهُ، فَنَزَلُوا، وَلَقُوا أَوَائِلَ النَّاسِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ أَخْبَرُ بِشِعَابِهَا، فَلَمْ يَثْبُتُوا لَهُمْ، وَانْهَزَمُوا وَعَادُوا إِلَى مَنْزِلَتِهِمْ، وَلَمْ يَقِفِ الْعَسْكَرُ عَلَيْهِمْ، فَاضْطَرُّوا إِلَى الْعَوْدِ فَلَمَّا عَادُوا رَاسَلَ زَنْكِي بَاقِي قِلَاعِ الْهَكَّارِيَّةِ وَالزَّوْزَانِ، وَاسْتَدْعَاهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، فَأَجَابُوهُ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ، فَجَعْلَ فِيهَا الْوُلَاةَ، وَتَسَلَّمَهَا وَحَكَمَ فِيهَا. ذِكْرُ اتِّفَاقِ بَدْرِ الدِّينِ مَعَ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ لِمَا رَأَى بَدْرُ الدِّينِ خُرُوجَ الْقِلَاعِ عَنْ يَدِهِ، وَاتِّفَاقَ مُظَفَّرِ الدِّينِ وَعِمَادِ الدِّينِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْفَعْ مَعَهُمَا اللِّينُ وَلَا الشِّدَّةُ، وَأَنَّهُمَا لَا يَزَالَانِ يَسْعَيَانِ فِي أَخْذِ بِلَادِهِ، وَيَتَعَرَّضَانِ إِلَى أَطْرَافِهَا بِالنَّهْبِ وَالْأَذَى، أَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى ابْنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَهُوَ صَاحِبُ دِيَارِ الْجَزِيرَةِ كُلِّهَا، إِلَّا الْقَلِيلَ، وَصَاحِبُ خِلَاطَ وَبِلَادِهَا، يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُوَافَقَةَ وَالْمُعَاضَدَةَ، وَانْتَمَى إِلَيْهِ، وَصَارَ فِي طَاعَتِهِ مُنْخَرِطًا فِي سِلْكِ مُوَافَقَتِهِ، فَأَجَابَهُ الْأَشْرَفُ بِالْقَبُولِ لِذَلِكَ، وَالْفَرَحِ بِهِ وَالِاسْتِبْشَارِ، وَبَذَلَ لَهُ الْمُسَاعَدَةَ وَالْمُعَاضَدَةَ، وَالْمُحَارَبَةَ دُونَهُ، وَاسْتِعَادَةَ مَا أُخِذَ مِنَ الْقِلَاعِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ. وَكَانَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ حِينَئِذٍ بِحَلَبَ، نَازِلًا بِظَاهِرِهَا، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعَرُّضِ كِيكَاوُسَ، مَلِكِ بِلَادِ الرُّومِ الَّتِي بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ، قُونِيَةَ وَغَيْرِهَا، إِلَى أَعْمَالِهَا، وَمُلْكِهِ بَعْضَ قِلَاعِهَا، فَأَرْسَلَ إِلَى مُظَفَّرِ الدِّينِ يُقَبِّحُ هَذِهِ الْحَالَةَ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ تَقَرَّرَتْ بَيْنَ جَمِيعِنَا بِحُضُورِ رُسُلِكِ، وَإِنَّنَا نَكُونُ عَلَى النَّاكِثِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ الْحَقُّ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ مَا أُخِذَ مِنْ بَلَدِ الْمَوْصِلِ لِنَدُومَ عَلَى الْيَمِينِ الَّتِي اسْتَقَرَّتْ بَيْنَنَا، فَإِنِ

امْتَنَعْتَ، وَأَصْرَرْتَ عَلَى مُعَاضَدَةِ زَنْكِي وَنُصْرَتِهِ، فَأَنَا أَجِيءُ بِنَفْسِي وَعَسَاكِرِي، وَأَقْصِدُ بِلَادَكَ وَغَيْرَهَا، وَأَسْتَرِدُّ مَا أَخَذْتُمُوهُ، وَأُعِيدُهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنَّكَ تُوَافِقُ، وَتَعُودُ إِلَى الْحَقِّ ; لِنَجْعَلَ شُغْلَنَا جَمْعَ الْعَسَاكِرِ، وَقَصْدَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَإِجْلَاءِ الْفِرِنْجِ عَنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْظُمَ خَطْبُهُمْ وَيَسْتَطِيرَ شَرُّهُمْ. فَلَمْ تَحْصُلِ الْإِجَابَةُ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ نَاصِرُ الدِّينِ مَحْمُودٌ، صَاحِبُ الْحِصْنِ وَآمِدَ، قَدِ امْتَنَعَ عَنْ مُوَافَقَةِ الْأَشْرَفِ، وَقَصَدَ بَعْضَ بِلَادِهِ وَنَهَبَهَا، وَكَذَلِكَ صَاحَبُ مَارِدِينَ، وَاتَّفَقَا مَعَ مُظَفَّرِ الدِّينِ، فَلَمَّا رَأَى الْأَشْرَفُ ذَلِكَ جَهَّزَ عَسْكَرًا وَسَيَّرَهُ إِلَى نَصِيبِينَ نَجْدَةً لِبَدْرِ الدِّينِ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِمْ. ذِكْرُ انْهِزَامِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي مِنَ الْعَسْكَرِ الْبَدْرِيِّ لَمَّا عَادَ الْعَسْكَرُ الْبَدْرِيُّ مِنْ حِصَارِ الْعِمَادِيَّةِ وَبِهَا زَنْكِي، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، قَوِيَتْ نَفْسُهُ، وَفَارَقَهَا، وَعَادَ إِلَى قَلْعَةِ الْعَقْرِ الَّتِي لَهُ لِيَتَسَلَّطَ عَلَى أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ بِالصَّحْرَاءِ، فَإِنَّ بَلَدَ الْجَبَلِ كَانَ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ، وَأَمَدَّهُ مُظَفَّرُ الدِّينِ بِطَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ. فَلَمَّا اتَّصَلَ الْخَبَرُ بِبَدْرِ الدِّينِ سَيَّرَ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ إِلَى أَطْرَافِ بَلَدِ الْمَوْصِلِ يَحْمُونَهَا، فَأَقَامُوا عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مِنَ الْمَوْصِلِ، ثُمَّ إِنَّهُمُ اتَّفَقُوا بَيْنَهُمْ عَلَى الْمَسِير إِلَى زَنْكِي، وَهُوَ عِنْدَ الْعَقْرِ فِي عَسْكَرِهِ، وَمُحَارَبَتِهِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْخُذُوا أَمْرَ بَدْرِ الدِّينِ بَلْ أَعْلَمُوهُ بِمَسِيرِهِمْ جَرِيدَةً لَيْسَ مَعَهُمْ إِلَّا سِلَاحُهُمْ، وَدَوَابٌّ يُقَاتِلُونَ عَلَيْهَا، فَسَارُوا لَيْلَتَهُمْ، وَصَبَّحُوا زَنْكِي بُكْرَةَ الْأَحَدِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا تَحْتَ الْعَقْرِ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ بَيْنَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى الْعَسْكَرِ الْبَدْرِيِّ، فَانْهَزَمَ عِمَادُ الدِّينِ وَعَسْكَرُهُ، وَسَارَ إِلَى إِرْبِلَ مُنْهَزِمًا، وَعَادَ الْعَسْكَرُ الْبَدْرِيُّ إِلَى مَنْزِلَتِهِ الَّتِي كَانَ بِهَا، وَحَضَرَتِ الرُّسُلُ مِنَ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ وَمِنَ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ فِي تَجْدِيدِ الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحُوا، وَتَحَالَفُوا بِحُضُورِ الرُّسُلِ. ذِكْرُ وَفَاةِ نُورِ الدِّينِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ وَمُلْكِ أَخِيهِ وَلَمَّا تَقَرَّرَ الصُّلْحُ تُوُفِّيَ نُورُ الدِّينِ أَرَسْلَان شَاهْ ابْنُ الْمَلِكِ الْقَاهِرِ صَاحِبُ

الْمَوْصِلِ، وَكَانَ لَا يَزَالُ مَرِيضًا بِعِدَّةِ أَمْرَاضٍ، فَرَتَّبَ بَدْرُ الدِّينِ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ أَخَاهُ نَاصِرَ الدِّينِ مَحْمُودًا، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ نَحْوَ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاهِرِ وَلَدٌ غَيْرَهُ، وَحَلَّفَ لَهُ الْجُنْدَ وَرَكَّبَهُ، فَطَابَتْ نُفُوسُ النَّاسِ ; لِأَنَّ نُورَ الدِّينِ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوبِ لِمَرَضِهِ، فَلَمَّا رَكَّبُوا هَذَا عَلِمُوا أَنَّ لَهُمْ سُلْطَانًا مِنَ الْبَيْتِ الْأَتَابَكِيِّ، فَاسْتَقَرُّوا وَاطْمَأَنُّوا، وَسَكَنَ كَثِيرٌ مِنَ الشَّغَبِ بِسَبَبِهِ. ذِكْرُ انْهِزَامِ بَدْرِ الدِّينِ مِنْ مُظَفَّرِ الدِّينِ لَمَّا تُوُفِّيَ نُورُ الدِّينِ، وَمَلَكَ أَخُوهُ نَاصِرُ الدِّينِ، تَجَدَّدَ لِمُظَفَّرِ الدِّينَ وَلِعِمَادِ الدِّينِ طَمَعٌ لِصِغَرِ سِنِ نَاصِرِ الدِّينِ، فَجَمَعَا الرِّجَالَ وَتَجَهَّزَا لِلْحَرَكَةِ، فَظَهَرَ ذَلِكَ، وَقَصَدَ بَعْضُ أَصْحَابِهِمْ طَرَفَ وِلَايَةِ الْمَوْصِلِ بِالنَّهْبِ وَالْفَسَادِ. وَكَانَ بَدْرُ الدِّينِ قَدْ سَيَّرَ وَلَدَهُ الْأَكْبَرَ فِي جَمْعٍ صَالِحٍ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ بِحَلَبَ، نَجْدَةً لَهُ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ الْفِرِنْجِ بِمِصْرَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ بِلَادَ الْفِرِنْجِ الَّتِي بِسَاحِلِ الشَّامِ يَنْهَبُهَا، وَيُخَرِّبُهَا، لِيَعُودَ بَعْضُ مَنْ بِدِمْيَاطَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَيَخِفَّ الْأَمْرُ عَلَى الْمَلِكِ الْكَامِلِ، صَاحِبِ مِصْرَ، فَلَمَّا رَأَى بَدْرُ الدِّينِ تَحَرُّكَ مُظَفَّرِ الدِّينِ وَعِمَادِ الدِّينِ، وَأَنَّ بَعْضَ عَسْكَرِهِ بِالشَّامِ، أَرْسَلَ إِلَى عَسْكَرِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ الَّذِي بِنَصِيبِينَ يَسْتَدْعِيهِمْ لِيَعْتَضِدَ بِهِمْ، وَكَانَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ مَمْلُوكَ الْأَشْرَفِ، اسْمُهُ أَيْبَكُ، فَسَارُوا إِلَى الْمَوْصِلِ رَابِعَ رَجَبٍ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ. فَلَمَّا رَآهُمْ بَدْرُ الدِّينِ اسْتَقَلَّهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَقَلَّ مِنَ الْعَسْكَرِ الَّذِي لَهُ بِالشَّامِ، أَوْ مِثْلَهُمْ فَأَلَحَّ أَيْبَكُ عَلَى عُبُورِ دِجْلَةَ وَقَصْدِ بِلَادِ إِرْبِلَ، فَمَنَعَهُ بَدْرُ الدِّينِ مِنْ مَثَلِ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ بِالِاسْتِرَاحَةِ، فَنَزَلَ بِظَاهِرِ الْمَوْصِلِ أَيَّامًا، وَأَصَرَّ عَلَى عُبُورِ دِجْلَةَ، فَعَبَرَهَا بَدْرُ الدِّينِ مُوَافَقَةً لَهُ، وَنَزَلُوا عَلَى فَرْسَخٍ مِنَ الْمَوْصِلِ شَرْقِيَّ دِجْلَةَ، فَلَمَّا سَمِعَ مُظَفَّرُ الدِّينَ ذَلِكَ جَمَعَ عَسْكَرَهُ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ وَمَعَهُ زَنْكِي، فَعَبَرَ الزَّابَ وَسَبَقَ خَبَرُهُ، فَسَمِعَ بِهِ بَدْرُ الدِّينِ فَعَبَّأَ أَصْحَابَهُ، وَجَعَلَ أَيْبَكَ فِي الْجَالِشِيَّةِ وَمَعَهُ شُجْعَانَ أَصْحَابِهِ، وَأَكْثَرَ مَعَهُ مِنْهُمْ، بِحَيْثُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَجَعَلَ فِي مَيْسَرَتِهِ أَمِيرًا كَبِيرًا وَطَلَبَ الِانْتِقَالَ عَنْهَا إِلَى الْمَيْمَنَةِ فَنَقَلَهُ. فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْعَشَاءِ الْآخِرَةِ أَعَادَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ الطَّلَبَ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الْمَيْمَنَةِ

إِلَى الْمَيْسَرَةِ، وَالْخَصْمُ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ، فَمَنَعَهُ بَدْرُ الدِّينِ، وَقَالَ مَتَى انْتَقَلْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ فِي هَذَا اللَّيْلِ، رُبَّمَا ظَنَّهُ النَّاسُ هَزِيمَةً فَلَا يَقِفُ أَحَدٌ، فَأَقَامَ بِمَكَانِهِ، وَهُوَ بِجَمْعٍ كَبِيرٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ سَارَ أَيْبَكُ، فَأَمَرَهُ بَدْرُ الدِّينِ بِالْمُقَامِ إِلَى الصُّبْحِ لِقُرْبِ الْعَدُوِّ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَقْبَلْ لِجَهْلِهِ بِالْحَرْبِ، فَاضْطَرَّ النَّاسُ لِاتِّبَاعِهِ، فَتَقَطَّعُوا فِي اللَّيْلِ وَالظُّلْمَةِ وَالْتَقَوْا هُمْ وَالْخَصْمُ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ عَلَى ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ مِنَ الْمَوْصِلِ، فَأَمَّا عِزُّ الدِّينِ فَإِنَّهُ تَيَامَنَ وَالْتَحَقَ بِالْمَيْمَنَةِ وَحَمَلَ فِي اطِّلَابِهِ هُوَ وَالْمَيْمَنَةُ عَلَى مَيْسَرَةِ مُظَفَّرِ الدِّينِ فَهَزَمَهَا وَبِهَا زَنْكِي. وَكَانَ الْأَمِيرُ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَى الْمَيْمَنَةِ قَدْ أَبْعَدَ عَنْهَا، فَلَمْ يُقَاتِلْ، فَلَمَّا رَأَى أَيْبَكَ قَدْ هَزَمَ الْمَيْسَرَةَ تَبِعَهُ وَالْتَحَقَ بِهِ، وَانْهَزَمَتْ مَيْسَرَةُ بَدْرِ الدِّينِ، فَبَقِيَ هُوَ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ مَعَهُ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ مُظَفَّرُ الدِّينِ فِيمَنْ مَعَهُ فِي الْقَلْبِ لَمْ يَتَفَرَّقُوا فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْوُقُوفُ فَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَعَبَرَ دِجْلَةَ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَنَزَلَ مِنْهَا إِلَى الْبَلَدِ، فَلَمَّا رَآهُ النَّاسُ فَرِحُوا بِهِ، وَسَارُوا مَعَهُ، وَقَصَدَ بَابَ الْجِسْرِ، وَالْعَدُوُّ بِإِزَائِهِ، بَيْنَهُمَا دِجْلَةُ، فَنَزَلَ مُظَفَّرُ الدِّينِ فِيمَنْ سَلِمَ مَعَهُ مِنْ عَسْكَرِهِ وَرَاءَ تَلِّ حِصْنِ نِينَوَى، فَأَقَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. فَلَمَّا رَأَى اجْتِمَاعَ الْعَسْكَرِ الْبَدْرِيِّ بِالْمَوْصِلِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُفْقَدْ مِنْهُمْ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ أَنَّ بَدْرَ الدِّينِ يُرِيدُ الْعُبُورَ إِلَيْهِ لَيْلًا بِالْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، عَلَى الْجُسُورِ وَفِي السُّفُنِ، وَيَكْبِسُهُ، رَحَلَ لَيْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضْرِبَ كُوسًا أَوْ بُوقًا، وَعَادُوا نَحْوَ إِرْبِلَ، فَلَمَّا عَبَرُوا الزَّابَ نَزَلُوا، ثُمَّ جَاءَتِ الرُّسُلُ وَسَعَوْا فِي الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ بِيَدِهِ شَيْءٌ هُوَ لَهُ وَتَقَرَّرَتِ الْعُهُودُ وَالْأَيْمَانُ عَلَى ذَلِكَ. ذِكْرُ مُلْكِ عِمَادِ الدِّينِ قَلْعَةَ كَوَاشَى وَمُلْكِ بَدْرِ الدِّينِ تَلَّ يَعْفَرَ وَمُلْكِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ سِنْجَارَ كَوَاشَى هَذِهِ مِنْ أَحْصَنِ قِلَاعِ الْمَوْصِلِ وَأَعْلَاهَا وَأَمْنَعِهَا، وَكَانَ الْجُنْدُ الَّذِينَ بِهَا، لَمَّا رَأَوْا مَا فَعَلَ أَهْلُ الْعِمَادِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّسْلِيمِ إِلَى زَنْكِي وَأَنَّهُمْ قَدْ تَحَكَّمُوا فِي الْقِلَاعِ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، أَحَبُّوا أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، فَأَخْرَجُوا نُوَّابَ بَدْرِ الدِّينِ عَنْهُمْ، وَامْتَنَعُوا بِهَا، وَكَانَتْ رَهَائِنُهُمْ بِالْمَوْصِلِ، وَهُمْ يُظْهِرُونَ طَاعَةَ بَدْرِ الدِّينِ، وَيُبَطِنُونَ الْمُخَالَفَةَ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ فِي عَوْدِهِمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَرَاسَلُوا زَنْكِي

فِي الْمَجِيءِ إِلَيْهِمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَتَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ، وَأَقَامَ عِنْدَهُمْ، فَرُوسِلَ مُظَفَّرُ الدِّينِ يُذَكَّرُ بِالْأَيْمَانِ الْقَرِيبَةِ الْعَهْدِ وَيُطْلَبُ مِنْهُ إِعَادَةَ كَوَاشَى، فَلَمْ تَقَعِ الْإِجَابَةُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ حِينَئِذٍ بَدْرُ الدِّينِ إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ، وَهُوَ بِحَلَبَ، يَسْتَنْجِدُهُ، فَسَارَ وَعَبَرَ الْفُرَاتَ إِلَى حَرَّانَ، وَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ مَنَعَتْهُ مِنْ سُرْعَةِ السَّيْرِ. وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ مُظَفَّرَ الدِّينِ كَانَ يُرَاسِلُ الْمُلُوكَ أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ لِيَسْتَمِيلَهُمْ، وَيُحَسِّنَ لَهُمُ الْخُرُوجَ عَلَى الْأَشْرَفِ، وَيُخَوِّفَهُمْ مِنْهُ، إِنْ خَلَا وَجْهُهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ عِزُّ الدِّينِ كِيكَاوُسُ بْنُ كَيْخِسْرُو بْنِ قَلْجِ أَرَسْلَان، صَاحِبُ بِلَادِ الرُّومِ، وَصَاحِبُ آمِدَ، وَحِصْنِ كِيفَا، وَصَاحِبُ مَارِدِينِ، وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى طَاعَةِ كِيكَاوُسَ، وَخَطَبُوا لَهُ فِي بِلَادِهِمْ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَشْرَفِ عِنْدِ مَنْبِجَ لَمَّا قَصَدَ بِلَادَ حَلَبَ، فَهُوَ مُوغَرُ الصَّدْرِ عَلَيْهِ. فَاتَّفَقَ أَنَّ كِيكَاوُسَ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَكُفِيَ الْأَشْرَفُ وَبَدْرُ الدِّينِ شَرَّهُ، وَلَا جَدَّ إِلَّا مَا أَقْعَصَ عَنْكَ الرِّجَالَ، وَكَانَ مُظَفَّرُ الدِّينِ قَدْ رَاسَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَ الْأَشْرَفِ، وَاسْتَمَالَهُمْ، فَأَجَابُوهُ، مِنْهُمْ: أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمَشْطُوبِ، الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ فَعَلَ عَلَى دِمْيَاطَ مَا فَعَلَ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَمِيرٍ مَعَهُ، وَوَافَقَهُ غَيْرُهُ، مِنْهُمْ: عِزُّ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ بَدْرٍ الْحُمَيْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَفَارَقُوا الْأَشْرَفَ، وَنَزَلُوا بِدُنَيْسِرَ، تَحْتَ مَارِدِينَ، لِيَجْتَمِعُوا مَعَ صَاحِبِ آمِدَ، وَيَمْنَعُوا الْأَشْرَفَ مِنَ الْعُبُورِ إِلَى الْمَوْصِلِ لِمُسَاعَدَةِ بَدْرِ الدِّينِ. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا هُنَاكَ عَادَ صَاحِبُ آمِدَ إِلَى مُوَافَقَةِ الْأَشْرَفِ، وَفَارَقَهُمْ، وَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْأَشْرَفُ مَدِينَةَ حَانِي، وَجَبَلَ جُورَ، وَضَمِنَ لَهُ أَخْذَ دَارَا وَتَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا فَارَقَهُمْ صَاحِبُ آمِدَ انْحَلَّ أَمْرُهُمْ، فَاضْطَرَّ بَعْضُ أُولَئِكَ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى طَاعَةِ الْأَشْرَفِ، وَبَقِيَ ابْنُ الْمَشْطُوبِ وَحْدَهُ، فَسَارَ إِلَى نَصِيبِينَ لِيَسِيرَ إِلَى إِرْبِلَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ شِحْنَةُ نَصِيبِينِ فِيمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْجُنْدِ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ ابْنُ الْمَشْطُوبِ، وَتَفَرَّقَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْجَمْعِ، وَمَضَى مُنْهَزِمًا، فَاجْتَازَ بِطَرَفِ بَلَدِ سِنْجَارَ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ صَاحِبُهَا فَرُّوخ شَاهْ بْنُ زَنْكِي بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِي عَسْكَرًا، فَهَزَمُوهُ وَأَخَذُوهُ أَسِيرًا، وَحَمَلُوهُ إِلَى سِنْجَارَ، وَكَانَ صَاحِبُهَا مُوَافِقًا لِلْأَشْرَفِ وَبَدْرِ الدِّينِ.

فَلَمَّا صَارَ عِنْدَهُ ابْنُ الْمَشْطُوبِ حَسَّنَ عِنْدَهُ مُخَالَفَةَ الْأَشْرَفِ، فَأَجَابِهُ إِلَى ذَلِكَ وَأَطْلَقَهُ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ يُرِيدُ الْفَسَادَ، فَقَصَدُوا الْبَقْعَا مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ، وَنَهَبُوا فِيهَا عِدَّةَ قُرًى، وَعَادُوا إِلَى سِنْجَارَ، ثُمَّ سَارُوا وَهُوَ مَعَهُمْ إِلَى تَلِّ يَعْفَرَ، وَهِيَ لِصَاحِبِ سِنْجَارَ ; لِيَقْصِدُوا بَلَدَ الْمَوْصِلِ وَيَنْهَبُوا فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَلَمَّا سَمِعَ بَدْرُ الدِّينِ بِذَلِكَ سَيَّرَ إِلَيْهِ عَسْكَرًا، فَقَاتَلُوهُمْ، فَمَضَى مُنْهَزِمًا وَصَعِدَ إِلَى تَلِّ يَعْفَرَ. وَاحْتَمَى بِهَا مِنْهُمْ، وَنَازَلُوهُ وَحَصَرُوهُ فِيهَا، فَسَارَ بَدْرُ الدِّينِ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَيْهِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَجَدَّ فِي حَصْرِهِ، وَزَحَفَ إِلَيْهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَمَلَكَهَا سَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخَرَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَخَذَ ابْنُ الْمَشْطُوبِ مَعَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ فَسَجَنَهُ بِهَا، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْهُ الْأَشْرَفُ فَسَجَنَهُ بَحَرَّانَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَلَقَّاهُ اللَّهُ عُقُوبَةَ مَا صَنَعَ بِالْمُسْلِمِينَ بِدِمْيَاطَ. وَأَمَّا الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ فَإِنَّهُ لَمَّا أَطَاعَهُ صَاحِبُ الْحِصْنِ وَآمِدَ. وَتَفَرَّقَ الْأُمَرَاءُ عَنْهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، رَحَلَ مِنَ حَرَّانَ إِلَى دُنَيْسِرَ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا وَاسْتَوْلَى عَلَى بَلَدِ مَارِدِينَ، وَشَحَّنَ عَلَيْهِ، وَأَقْطَعَهُ. وَمَنَعَ الْمِيرَةَ عَنْ مَارِدِينَ، وَحَضَرَ مَعَهُ صَاحِبُ آمِدَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ مَارِدِينَ فِي الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْأَشْرَفُ رَأْسَ عَيْنٍ، وَكَانَ هُوَ قَدْ أَقْطَعَهَا لِصَاحِبِ مَارِدِينَ، وَيَأْخُذَ مِنْهُ أَيْضًا أَلْفَ دِينَارٍ، وَيَأْخُذَ مِنْهُ صَاحِبُ آمِدَ الْمُوَزَّرَ، مِنْ بَلَدِ شَبَخْتَانَ. فَلَمَّا تَمَّ الصُّلْحُ سَارَ الْأَشْرَفُ مِنْ دُنَيْسِرَ إِلَى نَصِيبِينَ يُرِيدُ الْمَوْصِلَ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطَّرِيقِ لَقِيَهُ رُسُلُ صَاحِبِ سِنْجَارَ يَبْذُلُ تَسْلِيمَهَا إِلَيْهِ، وَيَطْلُبُ الْعِوَضَ عَنْهَا مَدِينَةَ الرَّقَّةِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَخْذَ تَلِّ يَعْفَرَ مِنْهُ، فَانْخَلَعَ قَلْبُهُ، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ ثِقَاتِهِ وَنُصَحَاءَهُ خَانُوهُ وَزَادُوهُ رُعْبًا وَخَوْفًا، لِأَنَّهُ تَهَدَّدَهُمْ، فَتَغَدَّوْا بِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَعَشَّى بِهِمْ، وَلِأَنَّهُ قَطَعَ رَحِمَهُ، وَقَتَلَ أَخَاهُ الَّذِي مَلَكَ سِنْجَارَ بَعْدَ أَبِيهِ ; قَتَلَهُ كَمَا نَذْكُرُهُ إِنْ

شَاءَ اللَّهُ، وَمَلَكَهَا، فَلَقَّاهُ اللَّهُ سُوءَ فِعْلِهِ، وَلَمْ يُمَتِّعْهُ بِهَا، فَلَمَّا تَيَقَّنَ رَحِيلَ الْأَشْرَفِ تَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ، فَأَرْسَلَ فِي التَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، فَأَجَابَهُ الْأَشْرَفُ إِلَى الْعِوَضِ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الرَّقَّةَ وَتَسَلَّمَ سِنْجَارَ مُسْتَهَلَّ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَفَارَقَهَا صَاحِبُهَا وَإِخْوَتُهُ بِأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَكَانَ هَذَا آخِرَ مُلُوكِ الْبَيْتِ الْأَتَابِكِيِّ بِسِنْجَارَ، فَسُبْحَانَ الْحَيِّ الدَّائِمِ الَّذِي لَيْسَ لِمُلْكِهِ آخِرٌ. وَكَانَ مُدَّةُ مُلْكِهِمْ لَهَا أَرْبَعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَهَذَا دَأْبُ الدُّنْيَا بِأَبْنَائِهَا، فَتَعْسًا لَهَا مِنْ دَارٍ مَا أَغْدَرَهَا بِأَهْلِهَا! ذِكْرُ وَصُولِ الْأَشْرَفِ إِلَى الْمَوْصِلِ وَالصُّلْحِ مَعَ مُظَفَّرِ الدِّينِ لَمَّا مَلَكَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ سِنْجَارَ سَارَ يُرِيدُ الْمَوْصِلَ لِيَجْتَازَ مِنْهَا، فَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَسَاكِرَهُ، فَكَانَ يَصِلُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ وَصَلَ هُوَ فِي آخِرِهِمْ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى مِنَ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَانَ يَوْمُ وُصُولِهِ مَشْهُودًا، وَأَتَاهُ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ وَمُظَفَّرُ الدِّينِ فِي الصُّلْحِ، وَبَذَلَ تَسْلِيمَ الْقِلَاعِ الْمَأْخُوذَةِ جَمِيعِهَا إِلَى بَدْرِ الدِّينِ، مَا عَدَا قَلْعَةَ الْعِمَادِيَّةِ فَإِنَّهَا تَبْقَى بِيَدِ زَنْكِي، وَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ قَبُولَ هَذَا لِتَزُولَ الْفِتَنُ، وَيَقَعَ الِاشْتِغَالُ بِجِهَادِ الْفِرِنْجِ. وَطَالَ الْحَدِيثُ فِي ذَلِكَ نَحْوَ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ رَحَلَ الْأَشْرَفُ يُرِيدُ مُظَفَّرَ الدِّينِ صَاحِبَ إِرْبِلَ، فَوَصَلَ إِلَى قَرْيَةِ السَّلَامِيَّةِ، بِالْقُرْبِ مِنْ نَهْرِ الزَّابِ، وَكَانَ مُظَفَّرُ الدِّينِ نَازِلًا عَلَيْهِ مِنْ جَانِبِ إِرْبِلَ، فَأَعَادَ الرُّسُلَ، وَكَانَ الْعَسْكَرُ قَدْ طَالَ بَيْكَارُهُ، وَالنَّاسُ قَدْ ضَجِرُوا، وَنَاصِرُ الدِّينِ صَاحِبُ آمِدَ يَمِيلُ إِلَى مُظَفَّرِ الدِّينِ، فَأَشَارَ بِالْإِجَابَةِ إِلَى مَا بَذَلَ، وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَوَقَعَتِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ، وَاصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ، وَجَعَلَ لِتَسْلِيمِهَا أَجَلٌ، وَحُمِلَ زَنْكِي إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ يَكُونُ عِنْدَهُ رَهِينَةً إِلَى حِينِ تَسْلِيمِ الْقِلَاعِ. وَسُلِّمَتْ قَلْعَةُ الْعَقْرِ، وَقَلْعَةُ شُوشَ أَيْضًا، وَهُمَا لِزَنْكِي، إِلَى نُوَّابِ الْأَشْرَفِ رَهْنًا عَلَى تَسْلِيمِ مَا اسْتَقَرَّ مِنَ الْقِلَاعِ، فَإِذَا سُلِّمَتْ أُطْلِقَ زَنْكِي، وَأُعِيدَ عَلَيْهِ قَلْعَةُ الْعَقْرِ، وَقَلْعَةُ شُوشَ، وَحَلَفُوا عَلَى هَذَا، وَسَلَّمَ الْأَشْرَفُ زَنْكِي الْقَلْعَتَيْنِ وَعَادَ إِلَى سِنْجَارَ، وَكَانَ رَحِيلُهُ عَنِ الْمَوْصِلِ ثَانِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَأَرْسَلُوا إِلَى الْقِلَاعِ لِتُسَلَّمَ إِلَى نُوَّابِ بَدْرِ الدِّينِ، فَلَمْ يُسَلَّمْ إِلَيْهِ غَيْرُ قَلْعَةِ جَلَّ صُوَرَا،

مِنْ أَعْمَالِ الْهَكَّارِيَّةِ، وَأَمَّا بَاقِي الْقِلَاعِ فَإِنَّ جُنْدَهَا أَظْهَرُوا الِامْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَضَى الْأَجَلُ وَلَمْ يُسَلَّمْ غَيْرُ جُلَّ صُوَرَا. وَلَزِمَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي لِشِهَابِ الدِّينِ غَازِي ابْنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَخَدَمَهُ، وَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ، فَاسْتَعْطَفَ لَهُ أَخَاهُ الْمَلِكَ الْأَشْرَفَ، فَمَالَ إِلَيْهِ وَأَطْلَقَهُ، وَأَزَالَ نُوَّابَهُ مِنْ قَلْعَةِ الْعَقْرِ وَقَلْعَةِ شُوشَ، وَسَلَّمَهُمَا إِلَيْهِ. وَبَلَغَ بَدْرَ الدِّينِ عَنِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مَيْلٌ إِلَى قَلْعَةِ تَلِّ يَعْفَرَ، وَإِنَّهَا كَانَتْ لِسِنْجَارَ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ، وَطَالَ الْحَدِيثُ فِي ذَلِكَ، فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ بَدْرُ الدِّينِ. ذِكْرُ عَوْدِ قِلَاعِ الْهَكَّارِيَّةِ وَالزَّوْزَانِ إِلَى بَدْرِ الدِّينِ لَمَّا مَلَكَ زَنْكِي قِلَاعَ الْهَكَّارِيَّةِ وَالزَّوْزَانِ لَمْ يَفْعَلْ مَعَ أَهْلِهَا مَا ظَنُّوهُ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْإِنْعَامِ، بَلْ فَعَلَ ضِدَّهُ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ يَبْلُغُهُمْ أَفْعَالُ بَدْرِ الدِّينِ مَعَ جُنْدِهِ وَرَعَايَاهُ وَإِحْسَانُهُ إِلَيْهِمْ، وَبَذْلُهُ الْأَمْوَالَ لَهُمْ، وَكَانُوا يُرِيدُونَ الْعَوْدَ إِلَيْهِ، وَيَمْنَعُهُمُ الْخَوْفُ مِنْهُ لِمَا أَسْلَفُوهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ أَعْلَنُوا بِمَا فَعَلَ مَعَهُمْ فَأَرْسَلُوا إِلَى بَدْرِ الدِّينِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ فِي التَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، وَطَلَبُوا مِنْهُ الْيُمْنَ، وَالْعَفْوَ عَنْهُمْ، وَذَكَرُوا شَيْئًا مِنْ إِقْطَاعٍ يَكُونُ لَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ. وَعَادَ زَنْكِي مِنْ عِنْدِ الْأَشْرَفِ، فَجَمَعَ جُمُوعًا، وَحَصَرَ قَلْعَةَ الْعِمَادِيَّةِ، فَلَمْ يَبْلُغْ مِنْهُمْ غَرَضًا، وَأَعَادُوا مُرَاسَلَةَ بَدْرِ الدِّينِ فِي التَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ فِي الْمَعْنَى، وَبَذَلَ لَهُ قَلْعَةَ جُدَيْدَةَ نَصِيبِينَ، وَوِلَايَةً بَيْنَ النَّهْرَيْنِ لِيَأْذَنَ لَهُ فِي أَخْذِهَا، فَأَذِنَ لَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا كُلَّهَا النُّوَّابَ وَتَسَلَّمُوهَا وَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا، وَرَحَلَ زَنْكِي عَنْهَا، وَوَفَّى لَهُ بَدْرُ الدِّينِ بِمَا بَذَلَهُ لَهُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ جُنْدُ بَاقِي الْقِلَاعِ بِمَا فَعَلُوا وَمَا وَصَلَهُمْ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالزِّيَادَةِ، رَغِبُوا كُلُّهُمْ فِي التَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمُ النُّوَّابَ، وَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ أَهْلِهَا عَلَى طَاعَتِهِ وَالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ الْعَسَاكِرَ اجْتَمَعَتْ مِنَ الشَّامِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَدِيَارِ بَكْرٍ، وَخِلَاطَ،

وَغَيْرِهَا، فِي اسْتِعَادَةِ هَذِهِ الْقِلَاعِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا تَفَرَّقُوا حَضَرَ أَهْلُهَا وَسَأَلُوا أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمْ، فَعَادَتْ صَفْوًا عَفْوًا بِغَيْرِ مِنَّةٍ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ: لَا سَهْلَ إِلَّا مَا جَعَلَتْ سَهْلًا ... وَإِنْ تَشَأْ تَجْعَلْ بِحَزْنٍ وَحْلًا فَتَبَارَكَ اللَّهُ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ذِكْرُ قَصْدِ كِيكَاوُسَ وِلَايَةَ حَلَبَ، وَطَاعَةِ صَاحِبِهَا لِلْأَشْرَفِ، وَانْهِزَامِ كِيكَاوُسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ عِزُّ الدِّينِ كِيكَاوُسُ بْنُ كَيْخِسْرُو مَلِكُ الرُّومِ إِلَى وِلَايَةِ حَلَبَ، قَصْدًا لِلتَّغَلُّبِ عَلَيْهَا، وَمَعَهُ الْأَفْضَلُ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بِحَلَبَ رَجُلَانِ فِيهِمَا شَرٌّ كَثِيرٌ وَسِعَايَةٌ بِالنَّاسِ، فَكَانَا يَنْقُلَانِ إِلَى صَاحِبِهَا الْمَلِكِ الظَّاهِرِ بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَأَوْغَرَا صَدْرَهُ، فَلَقِيَ النَّاسُ مِنْهُمَا شِدَّةً، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الظَّاهِرُ وَوَلِيَ الْأَمْرَ شِهَابُ الدِّينِ طُغْرُلْ أَبْعَدَهُمَا وَغَيْرَهُمَا مِمَّنْ يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِمَا، وَسَدَّ هَذَا الْبَابَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَلَمْ يُطَرِّقْ إِلَيْهِ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ، فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلَانِ كَسَادَ سُوقِهِمَا لَزِمَا بُيُوتَهُمَا، وَثَارَ بِهِمَا النَّاسُ، وَآذُوهُمَا، وَتَهَدَّدُوهُمَا لِمَا كَانَا أَسْلَفَاهُ مِنَ الشَّرِّ فَخَافَا، فَفَارَقَا حَلَبَ، وَقَصْدَا كِيكَاوُسَ فَأَطْمَعَاهُ فِيهَا، وَقَرَّرَا فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ مَتَى قَصَدَهَا لَا تَثْبُتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ يَمْلِكُهَا، وَيَهُونُ عَلَيْهِ مُلْكُ مَا بَعْدَهَا. فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ أَشَارَ عَلَيْهِ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَالُوا لَهُ: لَا يَتِمُّ لَكَ هَذَا إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ مَعَكَ أَحَدٌ مِنْ بَيْتِ أَيُّوبَ لِيَسْهُلَ عَلَى أَهْلِ الْبِلَادِ وَجُنْدِهَا الِانْقِيَادُ إِلَيْهِ ; وَهَذَا الْأَفْضَلُ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ هُوَ فِي طَاعَتِكَ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنَّكَ تَسْتَصْحِبُهُ مَعَكَ، وَتُقَرِّرُ بَيْنَكُمَا قَاعِدَةً فِيمَا تَفْتَحَانِهِ مِنَ الْبِلَادِ، فَمَتَى كَانَ مَعَكَ أَطَاعَكَ النَّاسُ وَسَهُلَ عَلَيْكَ مَا تُرِيدُ. فَأَحْضَرَ الْأَفْضَلَ مِنْ سُمَيْسَاطَ إِلَيْهِ، وَأَكْرَمَهُ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْخَيْلِ وَالْخِيَامِ وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاسْتَتَرَتِ الْقَوَاعِدُ بَيْنَهُمَا أَنْ يَكُونَ مَا يَفْتَحُهُ مِنْ حَلَبَ

وَأَعْمَالِهَا لِلْأَفْضَلِ، وَهُوَ فِي طَاعَةِ كِيكَاوُسَ، وَالْخُطْبَةُ لَهُ فِي ذَلِكَ أَجْمَعَ، ثُمَّ يَقْصِدُونَ دِيَارَ الْجَزِيرَةِ، فَمَا يَفْتَحُونَهُ مِمَّا بِيَدِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مِثْلَ: حَرَّانَ وَالرُّهَا مِنَ الْبِلَادِ الْجَزَرِيَّةِ، تَكُونُ لِكِيكَاوُسَ. وَجَرَتِ الْأَيْمَانُ عَلَى ذَلِكَ، وَجَمَعُوا الْعَسَاكِرَ وَسَارُوا، فَمَلَكُوا قَلْعَةَ رَعْبَانَ، فَتَسَلَّمَهَا الْأَفْضَلُ، فَمَالَ النَّاسُ حِينَئِذٍ إِلَيْهِمَا. ثُمَّ سَارَا إِلَى قَلْعَةِ تَلِّ بَاشِرَ، وَفِيهَا صَاحِبُهَا وَلَدُ بَدْرِ الدِّينِ دَلْدَرْم الْيَارُوقِيُّ. فَحَصَرُوهُ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ وَمَلَكُوهُ مِنْهُ، فَأَخَذَهَا كِيكَاوُسَ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَى الْأَفْضَلِ، فَاسْتَشْعَرَ الْأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَخَافَ أَنَّهُ إِنْ مَلَكَ حَلَبَ يَفْعَلُ بِهِ هَكَذَا، فَلَا يَحْصُلُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَلَعَ بَيْتَهُ لِغَيْرِهِ فَفَتَرَتْ نِيَّتُهُ، وَأَعْرَضَ عَمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا أَهْلُ الْبِلَادِ، فَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْأَفْضَلَ يَمْلِكُهَا فَيَسْهُلَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ، فَلَمَّا رَأَوْا ضِدَّ ذَلِكَ وَقَفُوا. وَأَمَّا شِهَابُ الدِّينِ أَتَابِكْ وَلَدُ الظَّاهِرِ صَاحِبُ حَلَبَ، فَإِنَّهُ مُلَازِمٌ قَلْعَةَ حَلَبَ لَا يَنْزِلُ مِنْهَا، وَلَا يُفَارِقُهَا الْبَتَّةَ، وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتَهُ مُذْ مَاتَ الظَّاهِرُ، خَوْفًا مِنْ ثَائِرٍ يَثُورُ بِهِ، فَلَمَّا حَدَثَ هَذَا الْأَمْرُ خَافَ أَنْ يَحْصُرُوهُ، وَرُبَّمَا سَلَّمَ أَهْلُ الْبَلَدِ وَالْجُنْدُ الْمَدِينَةَ إِلَى الْأَفْضَلِ لِمَيْلِهِمْ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ ابْنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، صَاحِبِ الدِّيَارِ الْجَزَرِيَّةِ وَخِلَاطَ وَغَيْرِهَا، يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ لِتَكُونَ طَاعَتُهُمْ لَهُ، وَيَخْطُبُونَ لَهُ، وَيَجْعَلُ السِّكَّةَ بِاسْمِهِ، وَيَأْخُذُ مِنْ أَعْمَالِ حَلَبَ مَا اخْتَارَ، وَلِأَنَّ وَلَدَ الظَّاهِرِ هُوَ ابْنُ أُخْتِهِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي عَسَاكِرِهِ الَّتِي عِنْدَهُ. وَأَرْسَلَ إِلَى الْبَاقِينَ يَطْلُبُهُمْ إِلَيْهِ، وَسَرَّهُ ذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِهِمْ، وَأَحْضَرَ إِلَيْهِ الْعَرَبَ مِنْ طَيْءٍ وَغَيْرَهُمْ، وَنَزَلَ بِظَاهِرِ حَلَبَ. وَلَمَّا أَخَذَ كِيكَاوُسَ تَلَّ بَاشِرَ كَانَ الْأَفْضَلُ يُشِيرُ بِمُعَاجَلَةِ حَلَبَ قَبْلَ اجْتِمَاعِ الْعَسَاكِرِ بِهَا، وَقَبْلَ أَنْ يَحْتَاطُوا وَيَتَجَهَّزُوا، فَعَادَ عَنْ ذَلِكَ، وَصَارَ يَقُولُ: الرَّأْيُ أَنَّنَا نَقْصِدُ مَنْبِجَ وَغَيْرَهَا لِئَلَّا يَبْقَى لَهُمْ وَرَاءَ ظُهُورِنَا شَيْءٌ، قَصْدًا لِلتَّمَادِي وَمُرُورِ الزَّمَانِ فِي لَا شَيْءَ ; فَتَوَجَّهُوا مِنْ تَلِّ بَاشِرَ إِلَى جِهَةِ مَنْبِجَ، وَتَقَدَّمَ الْأَشْرَفُ نَحْوَهُمْ، وَسَارَتِ الْعَرَبُ فِي مُقَدِّمَتِهِ ; وَكَانَ طَائِفَةٌ مِنْ عَسْكَرِ كِيكَاوُسَ، نَحْوَ أَلْفِ فَارِسٍ، قَدْ سَبَقَتْ مُقَدِّمَتَهُ لَهُ فَالْتَقَوْا هُمْ وَالْعَرَبُ وَمِنْ مَعَهُمْ مِنَ الْعَسْكَرِ الْأَشْرَفِيّ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ كِيكَاوُسَ، وَعَادُوا إِلَيْهِ مُنْهَزِمِينَ، وَأَكْثَرَ الْعَرَبُ الْأَسْرَ مِنْهُمْ وَالنَّهْبَ لِجَوْدَةِ خَيْلِهِمْ وَدَبَرِ خَيْلِ الرُّومِ.

فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ مُنْهَزِمِينَ لَمْ يَثْبُتْ، بَلْ وَلَّى عَلَى أَعْقَابِهِ يَطْوِي الْمَرَاحِلَ إِلَى بِلَادِهِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى أَطْرَافِهَا أَقَامَ. وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا لِأَنَّهُ صَبِيٌّ غِرٌّ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْحَرْبِ، وَإِلَّا فَالْعَسَاكِرُ مَا بَرِحَتْ تَقَعُ مُقَدِّمَاتُهَا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَسَارَ حِينَئِذٍ الْأَشْرَفُ، فَمَلَكَ رَعْبَانَ، وَحَصَرَ تَلَّ بَاشِرَ، وَبِهَا جَمْعٌ مِنْ عَسْكَرِ كِيكَاوُسَ، فَقَاتَلُوهُ حَتَّى غُلِبُوا، فَأُخِذَتِ الْقَلْعَةُ مِنْهُمْ، وَأَطْلَقَهُمُ الْأَشْرَفُ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى كِيكَاوُسَ جَعَلَهُمْ فِي دَارٍ وَأَحْرَقَهَا عَلَيْهِمْ، فَهَلَكُوا فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَاسْتَقْبَحُوهُ، وَاسْتَضْعَفُوهُ، لَا جَرَمَ لَمْ يُمْهِلْهُ اللَّهُ تَعَالَى لِعَدَمِ الرَّحْمَةِ فِي قَلْبِهِ، وَمَاتَ عَقِيبَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ. وَسَلَّمَ الْأَشْرَفُ تَلَّ بَاشِرَ وَغَيْرَهَا مِنْ بَلَدِ حَلَبَ إِلَى شِهَابِ الدِّينِ أَتَابِكْ، صَاحِبِ حَلَبَ، وَكَانَ عَازِمًا عَلَى اتِّبَاعِ كِيكَاوُسَ، وَدُخُولِ بِلَادِهِ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِوَفَاةِ أَبِيهِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، فَاقْتَضَتِ الْمُصْلِحَةُ الْعَوْدَ إِلَى حَلَبَ، لِأَنَّ الْفِرِنْجَ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ السُّلْطَانُ الْعَظِيمُ إِذَا تُوُفِّيَ رُبَّمَا جَرَى خَلَلٌ فِي الْبِلَادِ لَا تُعْرَفُ الْعَاقِبَةُ فِيهِ، فَعَادَ إِلَيْهَا، وَكُفِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَذَى صَاحِبِهِ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ وَمُلْكِ أَوْلَادِهِ بَعْدَهُ تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ سَابِعَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ابْتِدَاءَ دَوْلَتِهِمْ عِنْدَ مُلْكِ عَمِّهِ أَسُدِ الدَّيْنَ شِيرِكُوهْ دِيَارَ مِصْرَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَلَمَّا مَلَكَ أَخُوهُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ دِيَارَ مِصْرَ، بَعْدَ عَمِّهِ، وَسَارَ إِلَى الشَّامِ اسْتَخْلَفَهُ بِمِصْرَ ثِقَةً بِهِ، وَاعْتِمَادًا عَلَيْهِ، وَعِلْمًا بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مَنْ تَوَفُّرِ الْعَقْلِ وَحُسْنِ السِّيرَةِ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَخُوهُ صَلَاحُ الدِّينِ مَلَكَ دِمَشْقَ وَدِيَارَ مِصْرَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَبَقِيَ مَالِكًا لِلْبِلَادِ إِلَى الْآنِ، فَلَمَّا ظَهَرَ الْفِرِنْجُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، قَصَدَ هُوَ مَرْجَ

الصُّفَّرِ، فَلَمَّا سَارَ الْفِرِنْجُ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ انْتَقَلَ هُوَ إِلَى عَالِقِينَ، فَأَقَامَ بِهِ وَمَرِضَ، وَتُوُفِّيَ وَحُمِلَ إِلَى دِمَشْقَ. فَدُفِنَ بِالتُّرْبَةِ الَّتِي لَهُ بِهَا. وَكَانَ عَاقِلًا، ذَا رَأْيٍ سَدِيدٍ، وَمَكْرٍ شَدِيدٍ، وَخَدِيعَةٍ، صَبُورًا حَلِيمًا، ذَا أَنَاةٍ، يَسْمَعُ مَا يَكْرَهُ وَيُغْضِي عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ، كَثِيرَ الْحَرَجِ وَقْتَ الْحَاجَةِ لَا يَقِفُ فِي شَيْءٍ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ فَلَا. وَكَانَ عُمُرُهُ خَمْسًا وَسَبْعِينَ سَنَةً وَشُهُورًا لِأَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَمَلَكَ دِمَشْقَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْأَفْضَلِ ابْنِ أَخِيهِ، وَمَلَكَ مِصْرَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ أَوْ مِنْهُ أَيْضًا. وَمِنْ أَعْجَبِ مَا رَأَيْتُ مِنْ مُنَافَاةِ الطَّوَالِعِ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكِ الْأَفْضَلُ مَمْلَكَةً قَطُّ إِلَّا وَأَخَذَهَا مِنْهُ عَمُّهُ الْعَادِلُ، فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ أَقْطَعَ ابْنَهُ الْأَفْضَلَ حَرَّانَ، وَالرُّهَا، وَمَيَّافَارِقِينَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، بَعْدَ وَفَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى حَلَبَ أَرْسَلَ أَبُوهُ الْمَلِكَ الْعَادِلَ بَعْدَهُ، فَرَدَّهُ مِنْ حَلَبَ، وَأَخَذَ هَذِهِ الْبِلَادَ مِنْهُ. ثُمَّ مَلَكَ الْأَفْضَلُ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ مَدِينَةَ دِمَشْقَ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ، ثُمَّ مَلَكَ مِصْرَ بَعْدَ وَفَاةِ أَخِيهِ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ، فَأَخَذَهَا أَيْضًا مِنْهُ، ثُمَّ مَلَكَ صَرْخَدَ فَأَخَذَهَا مِنْهُ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّنِي رَأَيْتُ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ سَارِيَةً مِنَ الرُّخَامِ مُلْقَاةً فِي بَيْعَةِ صِهْيُونَ، لَيْسَ مِثْلُهَا، فَقَالَ الْقَسُّ الَّذِي بِالْبَيْعَةِ: هَذِهِ كَانَ قَدْ أَخَذَهَا الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ لِيَنْقُلَهَا إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ إِنَّ الْعَادِلَ أَخَذَهَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْضَلِ، طَلَبَهَا مِنْهُ فَأَخَذَهَا. وَهَذَا غَايَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يُحْكَى. وَكَانَ الْعَادِلُ قَدْ قَسَّمَ الْبِلَادَ فِي حَيَاتِهِ بَيْنَ أَوْلَادِهِ. فَجَعَلَ بِمِصْرَ الْمَلِكَ الْكَامِلَ مُحَمَّدًا، وَبِدِمَشْقَ، وَالْقُدْسِ، وَطَبَرِيَّةِ، وَالْأُرْدُنِّ وَالْكَرَكِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحُصُونِ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا، ابْنَهُ الْمُعَظَّمَ عِيسَى، وَجَعَلَ بَعْضَ دِيَارِ الْجَزِيرَةِ وَمَيَّافَارِقِينَ وَخِلَاطَ وَأَعْمَالِهَا لِابْنِهِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى، وَأَعْطَى الرُّهَا لِوَلَدِهِ شِهَابِ الدِّينِ غَازِي، وَأَعْطَى قَلْعَةَ جَعْبَرَ لِوَلَدِهِ الْحَافِظِ أَرْسَلَان شَاهْ ; فَلَمَّا تُوُفِّيَ ثَبَتَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي الْمَمْلَكَةِ الَّتِي أَعْطَاهُ أَبُوهُ،

وَاتَّفَقُوا اتِّفَاقًا حَسَنًا لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَ أَوْلَادِ الْمُلُوكِ بَعْدَ آبَاءِهِمْ، بَلْ كَانُوا كَالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَثِقُ بِالْآخَرِ بِحَيْثُ يَحْضُرُ عِنْدَهُ مُنْفَرِدًا مِنْ عَسْكَرِهِ وَلَا يَخَافُهُ، فَلَا جَرَمَ زَادَ مُلْكُهُمْ، وَرَأَوْا مِنْ نَفَاذِ الْأَمْرِ وَالْحُكْمِ مَا لَمْ يَرَهُ أَبُوهُمْ. وَلَعَمْرِي إِنَّهُمْ نِعْمَ الْمُلُوكُ، فِيهِمُ الْحِلْمُ، وَالْجِهَادُ، وَالذَّبُّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَفِي نَوْبَةِ دِمْيَاطَ كِفَايَةٌ، وَأَمَّا الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ فَلَيْسَ لِلْمَالِ عِنْدَهُ مَحَلٌّ، بَلْ يُمْطِرُهُ مَطَرًا كَثِيرًا لِعِفَّتِهِ عَنْ أَمْوَالِ الرَّعِيَّةِ، دَائِمُ الْإِحْسَانِ، لَا يَسْمَعُ سِعَايَةَ سَاعٍ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، رَحَلَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ بْنُ الْعَادِلِ عَنْ أَرْضِ دِمْيَاطَ، لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى تَمْلِيكِ أَخِيهِ الْفَائِزِ عِوَضَهُ، فَخَافَهُمْ، فَفَارَقَ مَنْزِلَتَهُ، فَانْتَقَلَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهَا، وَحَصَرُوا حِينَئِذٍ دِمْيَاطَ بَرًّا وَبَحْرًا، وَتَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مُسْتَقْصًى سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ شَرَفُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عُلْوَانَ بْنِ مُهَاجِرٍ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ مُدَرِّسًا فِي عِدَّةِ مَدَارِسَ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَ صَالِحًا كَثِيرَ الْخَيْرِ وَالدِّينِ سَلِيمَ الْقَلْبِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عِزُّ الدِّينِ نَجَاحٌ الشَّرَابِيُّ خَاصُّ الْخَلِيفَةِ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَكَانَ الْحَاكِمَ فِي دَوْلَتِهِ، كَثِيرَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْعَصَبِيَّةِ لِلنَّاسِ، وَأَمَّا عَقْلُهُ وَتَدْبِيرُهُ فَإِلَيْهِ كَانَتِ النِّهَايَةُ وَبِهِ يُضْرَبُ الْمَثَلُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ هَارُونَ أَبُو الْحَسَنِ الْحِلِّيُّ، النَّحْوِيُّ، الْمُلَقَّبُ بِالْحُجَّةِ، قَرَأَ عَلَى ابْنِ الْخَشَّابِ وَغَيْرِهِ.

ثم دخلت سنة ست عشرة وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَة] 616 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ كِيكَاوُسَ وَمُلْكِ كَيْقُبَاذَ أَخِيهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الْغَالِبُ عِزُّ الدِّينِ كِيكَاوُسُ بْنُ كَيْخِسْرُو بْنِ قَلْجِ أَرْسِلَانْ، صَاحِبُ قُونِيَةَ، وَأَقْصَرَا وَمَلَطْيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ بَلَدِ الرُّومِ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ، وَحَشَدَ، وَسَارَ إِلَى مَلَطْيَةَ عَلَى قَصْدِ بِلَادِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ لِقَاعِدَةٍ اسْتَقَرَّتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَاصِرِ الدِّينِ، صَاحِبِ آمِدَ، وَمُظَفَّرِ الدِّينِ، صَاحِبِ إِرْبَلَ، وَكَانُوا قَدْ خَطَبُوا لَهُ، وَضَرَبُوا اسْمَهُ عَلَى السِّكَّةِ فِي بِلَادِهِمْ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ وَبَدْرِ الدِّينِ بِالْمَوْصِلِ. فَسَارَ كِيكَاوُسُ إِلَى مَلَطْيَةَ لِيَمْنَعَ الْمَلِكَ الْأَشْرَفَ بِهَا عَنِ الْمَسِيرِ إِلَى الْمَوْصِلِ نَجْدَةً لِصَاحِبِهَا بَدْرِ الدِّينِ، لَعَلَّ مُظَفَّرَ الدِّينِ يَبْلُغُ مِنَ الْمَوْصِلِ غَرَضًا، وَكَانَ قَدْ عَلِقَ بِهِ السُّلُّ، فَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ عَادَ عَنْهَا، فَتُوُفِّيَ وَمَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ كَيْقُبَاذُ، وَكَانَ مَحْبُوسًا، قَدْ حَبَسَهُ أَخُوهُ كِيكَاوُسُ لَمَّا أَخَذَ الْبِلَادَ مِنْهُ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِقَتْلِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ لَمْ يَخْلُفْ وَلَدًا يَصْلُحُ لِلْمُلْكِ لِصِغَرِهِمْ، فَأَخْرَجَ الْجُنْدُ كَيْقُبَاذَ وَمَلَّكُوهُ. وَمَنْ (بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ) . وَقِيلَ بَلْ أَرْسَلَ كِيكَاوُسُ لَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ مِنَ السِّجْنِ، وَوَصَّى لَهُ بِالْمُلْكِ، وَحَلَّفَ النَّاسَ لَهُ، فَلَمَّا مَلَكَ خَالَفَهُ عَمُّهُ صَاحِبُ أَرْزَنِ الرُّومِ، وَخَافَ أَيْضًا مِنَ الرُّومِ الْمُجَاوِرِينَ لِبِلَادِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ وَصَالَحَهُ، وَتَعَاهَدَا عَلَى الْمُصَافَاةِ وَالتَّعَاضُدِ، وَتَصَاهَرَا، وَكُفِيَ الْأَشْرَفُ شَرَّ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَتَفَرَّغَ بَالُهُ لِإِصْلَاحِ مَا بَيْنَ

يَدَيْهِ، وَلَقَدْ صَدَقَ الْقَائِلُ: لَا جَدَّ إِلَّا مَا أَقْعَصَ عَنْكَ الرِّجَالُ، وَكَأَنَّهُ بِقَوْلِهِ أَرَادَ: وَجَدُّكَ طَعَّانٌ بِغَيْرِ سِنَانٍ. وَهَذَا ثَمَرَةُ حُسْنِ النِّيَّةِ، فَإِنَّهُ حَسَنُ النِّيَّةِ لِرَعِيَّتِهِ وَأَصْحَابِهِ، كَافٌّ عَنْ أَذًى يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمْ مِنْهُ، غَيْرُ قَاصِدٍ إِلَى الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ لِبِلَادِهِ بِأَذًى وَمُلْكٍ مَعَ ضَعْفِ أَصْحَابِهَا وَقُوَّتِهِ، لَا جَرَمَ تَأْتِيهِ الْبِلَادُ صَفْوًا عَفْوًا. ذِكْرُ مَوْتِ صَاحِبِ سِنْجَارَ وَمُلْكِ ابْنِهِ ثُمَّ قَتْلِ ابْنِهِ وَمُلْكِ أَخِيهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَامِنَ صَفَرٍ، تُوُفِّيَ قُطْبُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ زَنْكِي بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِي، صَاحِبُ سِنْجَارَ، وَكَانَ كَرِيمًا، حَسَنَ السِّيرَةِ فِي رَعِيَّتِهِ، حَسَنَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ التُّجَّارِ، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَأَمَّا أَصْحَابُهُ فَكَانُوا مَعَهُ فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ يَعُمُّهُمْ بِإِحْسَانِهِ، وَلَا يَخَافُونَ أَذَاهُ، وَكَانَ عَاجِزًا عَنْ حِفْظِ بَلَدِهِ، مُسَلَّمًا الْأُمُورَ إِلَى نُوَّابِهِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عِمَادُ الدِّينِ شَاهِنْشَاهْ، وَرَكِبَ النَّاسُ مَعَهُ، وَبَقِيَ مَالِكًا لِسِنْجَارَ عِدَّةَ شُهُورٍ، وَسَارَ إِلَى تَلِّ أَعْفَرَ وَهِيَ لَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَخُوهُ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَنْكِي، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَقَتَلُوهُ، وَمَلَكَ أَخُوهُ عُمَرُ بَعْدَهُ فَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ سَلَّمَ سِنْجَارَ إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يُمَتَّعْ بِمُلْكِهِ الَّذِي قَطَعَ رَحِمَهُ، وَأَرَاقَ الدَّمَ الْحَرَامَ لِأَجْلِهِ. وَلَمَّا سَلَّمَ سِنْجَارَ أَخَذَ عِوَضَهَا الرَّقَّةَ، ثُمَّ أُخِذَتْ مِنْهُ عَنْ قَرِيبٍ، وَتُوُفِّيَ بَعْدَ أَخْذِهَا مِنْهُ بِقَلِيلٍ. وَعَدِمَ رَوْحَهُ وَشَبَابَهُ. وَهَذِهِ عَاقِبَةُ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ. فَإِنَّ صِلَتَهَا تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ وَقَطِيعَتَهَا تَهْدِمُ الْعُمُرَ. ذِكْرُ إِجْلَاءِ بَنِي مَعْرُوفٍ عَنِ الْبَطَائِحِ وَقَتْلِهِمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، أَمَرَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ الشَّرِيفُ مَعَدًّا مُتَوَلِّيَ بِلَادِ وَاسِطَ، أَنْ يَسِيرَ إِلَى قِتَالِ بَنِي مَعْرُوفٍ، فَتَجَهَّزَ، وَجَمَعَ مَعَهُ مِنَ الرَّجَّالَةِ مِنْ تَكْرِيتَ، وَهِيتَ، وَالْحَدِيثَةِ، وَالْأَنْبَارِ، وَالْحِلَّةِ، وَالْكُوفَةِ، وَوَاسِطَ: وَالْبَصْرَةِ، وَغَيْرِهَا،

خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَمُقَدَّمُهُمْ حِينَئِذٍ مُعَلَّى بْنُ مَعْرُوفٍ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ رَبِيعَةَ. وَكَانَتْ بُيُوتُهُمْ غَرْبِيَّ الْفُرَاتِ تَحْتَ سُورَاءَ، وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنَ الْبَطَائِحِ، وَكَثُرَ فَسَادُهُمْ وَأَذَاهُمْ لِمَا يُقَارِبُهُمْ مِنَ الْقُرَى، وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ، وَأَفْسَدُوا فِي النَّوَاحِي الْمُقَارِبَةِ لِبَطِيحَةِ الْعِرَاقِ، فَشَكَا أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ إِلَى الدِّيوَانِ مِنْهُمْ، فَأَمَرَ مَعَدًّا أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِمْ فِي الْجُمُوعِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَاسْتَعَدَّ بَنُو مَعْرُوفٍ لِقِتَالِهِ، فَاقْتَتَلُوا بِمَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِالْمَقْبُرِ، وَهُوَ تَلٌّ كَبِيرٌ بِالْبَطِيحَةِ بِقُرْبِ الْعِرَاقِ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ انْهَزَمَ بَنُو مَعْرُوفٍ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ وَالْأَسْرُ وَالْغَرَقُ وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَحُمِلَتْ رُءُوسٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْقَتْلَى إِلَى بَغْدَادَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، انْهَزَمَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي مِنْ عَسْكَرِ بَدْرِ الدِّينِ. وَفِيهَا، فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، انْهَزَمَ بَدْرُ الدِّينِ مِنْ مُظَفَّرِ الدِّينِ، صَاحِبِ إِرْبِلَ، وَعَادَ مُظَفَّرُ الدِّينِ إِلَى بَلَدِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ. وَفِيهَا، ثَامِنَ صَفَرٍ، تُوُفِّيَ قُطْبُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ زَنْكِي بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِي، صَاحِبُ سِنْجَارَ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ شَاهِنْشَاهْ. وَفِيهَا، فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، مَلَكَ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ دِمْيَاطَ، وَقَدْ ذُكِرَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ مَشْرُوحًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ افْتِخَارُ الدِّينِ عَبْدُ الْمُطَّلَبِ بْنُ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ، الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ، رَئِيسُ الْحَنَفِيَّةِ بِحَلَبَ، رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ عُمَرَ الْبِسْطَامِيِّ نَزِيلِ بَلْخَ، وَعَنْ أَبِي

سَعْدٍ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْبَقَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعُكْبَرِيُّ، الضَّرِيرُ، النَّحْوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ الْقَاسِمِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيُّ، الْحَافِظُ ابْنُ الْحَافِظِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عَسَاكِرَ، وَكَانَ قَدْ قَصَدَ خُرَاسَانَ وَسَمِعَ بِهَا الْحَدِيثَ فَأَكْثَرَ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ، فَوَقَعَ عَلَى الْقَفَلِ حَرَامِيَّةٌ، فَجُرِحَ، وَبَقِيَ بِبَغْدَادَ، وَتُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَة] 617 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ خُرُوجِ التَّتَرِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ لَقَدْ بَقِيتُ عِدَّةَ سِنِينَ مُعْرِضًا عَنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ اسْتِعْظَامًا لَهَا، كَارِهًا لِذِكْرِهَا، فَأَنَا أُقَدِّمُ إِلَيْهِ رِجْلًا وَأُؤَخِّرُ أُخْرَى، فَمَنِ الَّذِي يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ نَعْيَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ؟ وَمَنِ الَّذِي يَهُونُ عَلَيْهِ ذِكْرُ ذَلِكَ؟ فَيَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي، وَيَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ حُدُوثِهَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، إِلَّا أَنَّنِي حَثَّنِي جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَصْدِقَاءِ عَلَى تَسْطِيرِهَا وَأَنَا مُتَوَقِّفٌ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ لَا يُجْدِي نَفْعًا، فَنَقُولُ: هَذَا الْفِعْلُ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ الْحَادِثَةِ الْعُظْمَى، وَالْمُصِيبَةِ الْكُبْرَى الَّتِي عَقَّتِ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي عَنْ مِثْلِهَا، عَمَّتِ الْخَلَائِقَ، وَخَصَّتِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْعَالَمَ مُذْ خَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آدَمَ، إِلَى الْآنِ، لَمْ يُبْتَلَوْا بِمِثْلِهَا، لَكَانَ صَادِقًا، فَإِنَّ التَّوَارِيخَ لَمْ تَتَضَمَّنْ مَا يُقَارِبُهَا وَلَا مَا يُدَانِيهَا. وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَذْكُرُونَ مِنَ الْحَوَادِثِ مَا فَعَلَهُ بُخْتُ نَصَّرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْقَتْلِ، وَتَخْرِيبِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَمَا الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا خَرَّبَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاعِنُ مِنَ الْبِلَادِ، الَّتِي كَلُّ مَدِينَةٍ مِنْهَا أَضْعَافُ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَمَا بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ قَتَلُوا، فَإِنَّ أَهْلَ مَدِينَةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّنْ قُتِلُوا أَكْثَرُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَعَلَّ الْخَلْقَ لَا يَرَوْنَ مِثْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ إِلَى أَنْ يَنْقَرِضَ الْعَالَمُ، وَتَفْنَى الدُّنْيَا، إِلَّا يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. وَأَمَّا الدَّجَّالُ فَإِنَّهُ يُبْقِي عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ، وَيُهْلِكُ مَنْ خَالَفَهُ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُبْقُوا عَلَى أَحَدٍ، بَلْ قَتَلُوا النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ وَالْأَطْفَالَ، وَشَقُّوا بُطُونَ الْحَوَامِلِ، وَقَتَلُوا الْأَجِنَّةَ، فَإِنَّا

لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ الَّتِي اسْتَطَارَ شَرَرُهَا، وَعَمَّ ضَرَرُهَا، وَسَارَتْ فِي الْبِلَادِ كَالسَّحَابِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَإِنَّ قَوْمًا خَرَجُوا مِنْ أَطْرَافِ الصِّينِ، فَقَصَدُوا بِلَادَ تُرْكِسْتَانَ مِثْلَ كَاشْغَرَ وَبِلَاسَاغُونَ، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهَرِ، مِثْلَ سَمَرْقَنْدَ وَبُخَارَى وَغَيْرِهِمَا، فَيَمْلِكُونَهَا، وَيَفْعَلُونَ بِأَهْلِهَا مَا نَذْكُرُهُ، ثُمَّ تَعْبُرُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى خُرَاسَانَ، فَيَفْرَغُونَ مِنْهَا مُلْكًا، وَتَخْرِيبًا، وَقَتْلًا وَنَهْبًا، ثُمَّ يَتَجَاوَزُونَهَا إِلَى الرَّيِّ، وَهَمَذَانَ، وَبَلَدِ الْجَبَلِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْبِلَادِ إِلَى حَدِّ الْعِرَاقِ، ثُمَّ يَقْصِدُونَ بِلَادَ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانِيَّةَ، وَيُخَرِّبُونَهَا، وَيَقْتُلُونَ أَكْثَرَ أَهْلِهَا، وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا الشَّرِيدُ النَّادِرُ فِي أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ، هَذَا مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ. ثُمَّ لَمَّا فَرَغُوا مِنْ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانِيَّةَ سَارُوا إِلَى دَرْبَنْدَ شِرْوَانَ فَمَلَكُوا مُدُنَهُ، وَلَمْ يَسْلَمْ غَيْرُ الْقَلْعَةِ الَّتِي بِهَا مَلِكُهُمْ، وَعَبَرُوا عِنْدَهَا إِلَى بَلَدِ اللَّانِ، وَاللِّكْزِ، وَمَنْ فِي ذَلِكَ الصُّقْعِ مِنَ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَأَوْسَعُوهُمْ قَتْلًا، وَنَهْبًا، وَتَخْرِيبًا، ثُمَّ قَصَدُوا بِلَادَ قُفْجَاقَ، وَهُمْ مِنْ أَكْثَرِ التُّرْكِ عَدَدًا، فَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ وَقَفَ لَهُمْ، فَهَرَبَ الْبَاقُونَ إِلَى الْغِيَاضِ وَرُءُوسِ الْجِبَالِ، وَفَارَقُوا بِلَادَهُمْ، وَاسْتَوْلَى هَؤُلَاءِ التَّتَرُ عَلَيْهَا، فَعَلُوا هَذَا فِي أَسْرَعِ زَمَانٍ، لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا بِمِقْدَارِ مَسِيرِهِمْ لَا غَيْرَ. وَمَضَى طَائِفَةٌ أُخْرَى غَيْرُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ إِلَى غَزْنَةَ وَأَعْمَالِهَا، وَمَا يُجَاوِرُهَا مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ وَسِجِسْتَانَ وَكَرْمَانَ، فَفَعَلُوا فِيهِ مِثْلَ فِعْلِ هَؤُلَاءِ وَأَشَدَّ. هَذَا مَا لَمْ يُطْرِق الْأَسْمَاعَ مِثْلُهُ، فَإِنَّ الْإِسْكَنْدَرَ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُؤَرِّخُونَ عَلَى أَنَّهُ مَلَكَ الدُّنْيَا لَمْ يَمْلِكْهَا فِي هَذِهِ السُّرْعَةِ، إِنَّمَا مَلَكَهَا فِي نَحْوِ عَشْرِ سِنِينَ، وَلَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا، إِنَّمَا رَضِيَ مِنَ النَّاسِ بِالطَّاعَةِ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ مَلَكُوا أَكْثَرَ الْمَعْمُورِ مِنَ الْأَرْضِ وَأَحْسَنَهُ، وَأَكْثَرَهُ عِمَارَةً وَأَهْلًا، وَأَعْدَلَ أَهْلِ الْأَرْضِ أَخْلَاقًا وَسِيرَةً، فِي نَحْوِ سَنَةٍ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ فِي الْبِلَادِ الَّتِي لَمْ يَطْرُقُوهَا إِلَّا وَهُوَ خَائِفٌ يَتَوَقَّعُهُمْ، وَيَتَرَقَّبُ وُصُولَهُمْ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى مِيرَةٍ وَمَدَدٍ يَأْتِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ مَعَهُمُ الْأَغْنَامُ، وَالْبَقَرُ، وَالْخَيْلُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الدَّوَابِّ، يَأْكُلُونَ لُحُومَهَا لَا غَيْرَ، وَأَمَّا دَوَابُّهُمُ الَّتِي يَرْكَبُونَهَا

فَإِنَّهَا تَحْفِرُ الْأَرْضَ بِحَوَافِرِهَا، وَتَأْكُلُ عُرُوقَ النَّبَاتِ لَا تَعْرِفُ الشَّعِيرَ، فَهُمْ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ خَارِجٍ. وَأَمَّا دِيَانَتُهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا، وَلَا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا، فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ جَمِيعَ الدَّوَابِّ، حَتَّى الْكِلَابَ، وَالْخَنَازِيرَ، وَغَيْرَهَا، وَلَا يَعْرِفُونَ نِكَاحًا بَلِ الْمَرْأَةُ يَأْتِيهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الرِّجَالِ، فَإِذَا جَاءَ الْوَلَدُ لَا يَعْرِفُ أَبَاهُ. وَلَقَدْ بُلِيَ الْإِسْلَامُ وَالْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ بِمَصَائِبَ لَمْ يُبْتَلَ بِهَا أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ، مِنْهَا هَؤُلَاءِ التَّتَرُ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، أَقْبَلُوا مِنَ الْمَشْرِقِ، فَفَعَلُوا الْأَفْعَالَ الَّتِي يَسْتَعْظِمُهَا كُلُّ مَنْ سَمِعَ بِهَا، وَسَتَرَاهَا مَشْرُوحَةً مُتَّصِلَةً، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا خُرُوجُ الْفِرِنْجِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الشَّامِ، وَقَصْدُهُمْ دِيَارَ مِصْرَ، وَمُلْكُهُمْ ثَغْرَ دِمْيَاطَ مِنْهَا، وَأَشْرَفَتْ دِيَارُ مِصْرَ وَالشَّامِ وَغَيْرِهَا عَلَى أَنْ يَمْلِكُوهَا لَوْلَا لُطْفُ اللَّهِ تَعَالَى وَنَصْرُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ. وَمِنْهَا أَنَّ الَّذِي سَلِمَ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ فَالسَّيْفُ بَيْنَهُمْ مَسْلُولٌ، وَالْفِتْنَةُ قَائِمَةٌ عَلَى سَاقٍ: وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمَيْنِ نَصْرًا مِنْ عِنْدِهِ، فَإِنَّ النَّاصِرَ، وَالْمُعِينَ، وَالذَّابَّ، عَنِ الْإِسْلَامِ مَعْدُومٌ، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11] ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ التَّتَرَ إِنَّمَا اسْتَقَامَ لَهُمْ هَذَا الْأَمْرُ لِعَدَمِ الْمَانِعِ. وَسَبَبُ عَدَمِهِ أَنَّ خُوَارَزْمَ شَاهْ مُحَمَّدًا كَانَ قَدْ اسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ، وَقَتَلَ مُلُوكَهَا، وَأَفْنَاهُمْ، وَبَقِيَ هُوَ وَحْدَهُ سُلْطَانَ الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، فَلَمَّا انْهَزَمَ مِنْهُمْ لَمْ يَبْقَ فِي الْبِلَادِ مَنْ يَمْنَعُهُمْ، وَلَا مَنْ يَحْمِيهَا {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمَرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42] ، وَهَذَا حِينَ نَذْكُرُ ابْتِدَاءَ خُرُوجِهِمْ إِلَى الْبِلَادِ. ذِكْرُ خُرُوجِ التَّتَرِ إِلَى تُرْكِسْتَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَمَا فَعَلُوهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ التَّتَرُ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ نَوْعٌ كَثِيرٌ مِنَ التُّرْكِ، وَمَسَاكِنُهُمْ جِبَالُ طَمْغَاجَ مِنْ نَحْوِ الصِّينِ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ مَا يَزِيدُ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ظُهُورِهِمْ أَنَّ مَلِكَهُمْ، وَيُسَمَّى بِجِنْكِزْخَانْ، الْمَعْرُوفِ

بِتَمُرْجِينَ، كَانَ قَدْ فَارَقَ بِلَادَهُ وَسَارَ إِلَى نَوَاحِي تُرْكِسْتَانَ، وَسَيَّرَ جَمَاعَةً مِنَ التُّجَّارِ وَالْأَتْرَاكِ، وَمَعَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النُّقْرَةِ وَالْقُنْدُزِ وَغَيْرِهِمَا، إِلَى بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ سَمَرْقَنْدَ وَبُخَارَى لِيَشْتَرُوا لَهُ ثِيَابًا لِلْكُسْوَةِ، فَوَصَلُوا إِلَى مَدِينَةٍ مِنْ بِلَادِ التُّرْكِ تُسَمَّى أَوَتُرَارَ، وَهِيَ آخِرُ وِلَايَةِ خُوَارَزْم شَاهْ، وَكَانَ لَهُ نَائِبٌ هُنَاكَ، فَلَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنَ التَّتَرِ أَرْسَلَ إِلَى خُوَارَزْم شَاهُ يُعْلِمُهُ بِوُصُولِهِمْ وَيَذْكُرُ لَهُ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ خُوَارَزْم شَاهْ يَأْمُرُهُ بِقَتْلِهِمْ وَأَخْذِ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَإِنْفَاذِهِ إِلَيْهِ، فَقَتْلَهُمْ، وَسَيَّرَ مَا مَعَهُمْ، وَكَانَ شَيْئًا كَثِيرًا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ فَرَّقَهُ عَلَى تُجَّارِ بُخَارَى، وَسَمَرْقَنْدَ، وَأَخَذَ ثَمَنَهُ مِنْهُمْ. وَكَانَ بَعْدَ أَنْ مَلَكَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ مِنَ الْخَطَا قَدْ سَدَّ الطُّرُقَ عَنْ بِلَادِ تُرْكِسْتَانَ وَمَا بَعْدَهَا مِنِ الْبِلَادِ، وَإِنَّ طَائِفَةً مِنَ التَّتَرِ أَيْضًا كَانُوا قَدْ خَرَجُوا قَدِيمًا وَالْبِلَادُ لَلْخَطَا، فَلَمَّا مَلَكَ خُوَارَزْم شَاهْ الْبِلَادَ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ مِنَ الْخَطَا، وَقَتَلَهُمْ، وَاسْتَوْلَى هَؤُلَاءِ التَّتَرُ عَلَى تُرْكِسْتَانَ: كَاشْغَارَ، وَبَلَاسَاغُونَ وَغَيْرِهِمَا، وَصَارُوا يُحَارِبُونَ عَسَاكِرَ خُوَارَزْم شَاهْ، فَلِذَلِكَ مَنَعَ الْمِيرَةَ عَنْهُمْ مِنِ الْكِسْوَاتِ وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ فِي سَبَبِ خُرُوجِهِمْ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُذْكَرُ فِي بُطُونِ الدَّفَاتِرَ: فَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا لَسْتُ أَذْكُرُهُ ... فَظُنَّ خَيْرًا وَلَا تَسْأَلَ عَنِ الْخَبَرِ فَلَمَّا قَتَلَ نَائِبُ خُوَارَزْم شَاهْ أَصْحَابَ جِنْكِزْخَانْ أَرْسَلَ جَوَاسِيسَ إِلَى جِنْكِزْخَانْ لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، وَكَمْ مِقْدَارُ مَا مَعَهُ مِنَ التُّرْكِ، وَمَا يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ، فَمَضَى الْجَوَاسِيسُ، وَسَلَكُوا الْمَفَازَةَ وَالْجِبَالَ الَّتِي عَلَى طَرِيقِهِمْ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَيْهِ، فَعَادُوا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَأَخْبَرُوهُ بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ عَنِ الْإِحْصَاءِ، وَأَنَّهُمْ مَنْ أَصْبِرِ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى الْقِتَالِ لَا يَعْرِفُونَ هَزِيمَةً، وَأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ السِّلَاحِ بِأَيْدِيهِمْ، فَنَدِمَ خُوَارَزْم شَاهْ عَلَى قَتْلِ أَصْحَابِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، وَحَصَلَ عِنْدَهُ فِكْرٌ زَائِدٌ، فَأَحْضَرَ الشِّهَابَ الْخُيُوفِيَّ، وَهُوَ فَقِيهٌ فَاضِلٌ، كَبِيرُ الْمَحَلِّ عِنْدَهُ، لَا يُخَالِفُ مَا يُشِيرُ بِهِ، فَحَضَرَ

عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا بُدَّ مِنَ الْفِكْرِ فِيهِ وَأَخْذِ رَأْيِكَ فِي الَّذِي نَفْعَلُهُ، وَذَاكَ أَنَّهُ قَدْ تَحَرَّكَ إِلَيْنَا خَصْمٌ مِنْ نَاحِيَةِ التُّرْكِ فِي كَثْرَةٍ لَا تُحْصَى. فَقَالَ لَهُ: فِي عَسَاكِرِكَ كَثْرَةٌ وَنُكَاتِبُ الْأَطْرَافَ، وَنَجْمَعُ الْعَسَاكِرَ، وَيَكُونُ النَّفِيرُ عَامًّا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً مُسَاعَدَتُكَ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، ثُمَّ نَذْهَبُ بِجَمِيعِ الْعَسَاكِرِ إِلَى جَانِبِ سَيْحُونَ، وَهُوَ نَهْرٌ كَبِيرٌ يَفْصِلُ بَيْنَ بِلَادِ التُّرْكِ وَبِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَنَكُونُ هُنَاكَ، فَإِذَا جَاءَ الْعَدُوُّ، وَقَدْ سَارَ مَسَافَةً بَعِيدَةً، لَقِينَاهُ وَنَحْنُ مُسْتَرِيحُونَ، وَهُوَ وَعَسَاكِرُهُ قَدْ مَسَّهُمُ النَّصَبُ وَالتَّعَبُ. فَجَمَعَ خُوَارَزْم شَاهْ أُمَرَاءَهُ وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَرْبَابِ الْمَشُورَةِ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَلَمْ يُوَافِقُوهُ عَلَى رَأْيِهِ، بَلْ قَالُوا: الرَّأْيُ أَنْ نَتْرُكَهُمْ يَعْبُرُونَ سَيْحُونَ إِلَيْنَا، وَيَسْلُكُونَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَالْمَضَايِقَ، فَإِنَّهُمْ جَاهِلُونَ بِطُرُقِهِمْ، وَنَحْنُ عَارِفُونَ بِهَا، فَنَقْوَى حِينَئِذٍ عَلَيْهِمْ، وَنُهْلِكُهُمْ فَلَا يَنْجُو مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ وَرَدَ رَسُولٌ مِنْ هَذَا اللَّعِينِ جِنْكِزْخَانْ مَعَهُ جَمَاعَةٌ يَتَهَدَّدُ خُوَارَزْم شَاهْ، وَيَقُولُ: تَقْتُلُونَ أَصْحَابِي وَتُجَّارِي وَتَأْخُذُونَ مَالِي مِنْهُمْ! اسْتَعِدُّوا لِلْحَرْبِ فَإِنِّي وَاصِلٌ إِلَيْكُمْ بِجَمْعٍ لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ. وَكَانَ جِنْكِزْخَانْ قَدْ سَارَ إِلَى تُرْكِسْتَانَ، فَمَلَكَ كَاشْغَارَ، وَبِلَاسَاغُونَ، وَجَمِيعَ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَأَزَالَ عَنْهَا التَّتَرَ الْأُولَى، فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ خَبَرٌ، وَلَا بَقِيَ لَهُمْ، بَلْ بَادُوا كَمَا أَصَابَ الْخَطَا، وَأَرْسَلَ الرِّسَالَةَ الْمَذْكُورَةَ إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ، فَلَمَّا سَمِعَهَا خُوَارَزْم شَاهْ أَمَرَ بِقَتْلِ رَسُولِهِ، فَقُتِلَ، وَأَمَرَ بِحَلْقِ لِحَى الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، وَأَعَادَهُمْ إِلَى صَاحِبِهِمْ جِنْكِزْخَانْ يُخْبِرُونَهُ بِمَا فَعَلَ بِالرَّسُولِ. وَيَقُولُونَ لَهُ: إِنَّ خُوَارَزْم شَاهْ يَقُولُ لَكَ: أَنَا سَائِرٌ إِلَيْكَ وَلَوْ أَنَّكَ فِي آخِرِ الدُّنْيَا، حَتَّى أَنْتَقِمَ، وَأَفْعَلَ بِكَ كَمَا فَعَلْتُ بِأَصْحَابِكَ. وَتَجَهَّزَ خُوَارَزْم شَاهْ، وَسَارَ بَعْدَ الرَّسُولِ مُبَادِرًا لِيَسْبِقَ خَبَرَهُ وَيَكْبِسَهُمْ، فَأَدْمَنَ السَّيْرَ، فَمَضَى، وَقَطَعَ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَوَصَلَ إِلَى بُيُوتِهِمْ، فَلَمْ يَرَ فِيهَا إِلَّا النِّسَاءَ

وَالصِّبْيَانَ وَالْأَثْقَالَ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ وَغَنِمَ الْجَمِيعَ، وَسَبَى النِّسَاءَ وَالذُّرِّيَّةَ. وَكَانَ سَبَبُ غَيْبَةِ الْكُفَّارِ عَنْ بُيُوتِهِمْ أَنَّهُمْ سَارُوا إِلَى مُحَارَبَةِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ التُّرْكِ يُقَالُ لَهُ كِشْلُوخَانْ، فَقَاتَلُوهُ، وَهَزَمُوهُ وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُ وَعَادُوا، فَلَقِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ الْخَبَرُ بِمَا فَعَلَ خُوَارَزْم شَاهْ بِمُخَلَّفِيهِمْ، فَجَدُّوا السَّيْرَ، فَأَدْرَكُوهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ بُيُوتِهِمْ، وَتَصَافُّوا لِلْحَرْبِ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، فَبَقُوا فِي الْحَرْبِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، فَقُتِلَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ مَا لَا يُعَدُّ، وَلَمْ يَنْهَزِمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ. أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّهُمْ صَبَرُوا حَمِيَّةً لِلدِّينِ وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ إِنِ انْهَزَمُوا لَمْ يَبْقَ لِلْمُسْلِمِينَ بَاقِيَةٌ، وَأَنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ لِبُعْدِهِمْ عَنْ بِلَادِهِمْ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَصَبَرُوا لِاسْتِنْقَاذِ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَاشْتَدَّ بِهِمُ الْأَمْرُ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يَنْزِلُ عَنْ فَرَسِهِ وَيُقَاتِلُ قِرْنَهُ رَاجِلًا، وَيَتَضَارَبُونَ بِالسَّكَاكِينِ، وَجَرَى الدَّمُ عَلَى الْأَرْضِ، حَتَّى صَارَتِ الْخَيْلُ تَزْلَقُ مِنْ كَثْرَتِهِ، وَاسْتَنْفَدَ الطَّائِفَتَانِ وُسْعَهُمْ فِي الصَّبْرِ وَالْقِتَالِ. هَذَا الْقِتَالُ جَمِيعُهُ مَعَ ابْنِ جِنْكِزْخَانْ وَلَمْ يَحْضُرْ أَبُوهُ الْوَقْعَةَ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا، فَأُحْصِيَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ فَكَانُوا عِشْرِينَ أَلْفًا، وَأَمَّا مِنَ الْكُفَّارِ فَلَا يُحْصَى مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ افْتَرَقُوا فَنَزَلَ بَعْضُهُمْ مُقَابِلَ بَعْضٍ، فَلَمَّا أَظْلَمَ اللَّيْلُ أَوْقَدَ الْكُفَّارُ نِيرَانَهُمْ وَتَرَكُوهَا بِحَالِهَا وَسَارُوا وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا، كُلٌّ مِنْهُمْ سَئِمَ الْقِتَالَ ; فَأَمَّا الْكُفَّارُ فَعَادُوا إِلَى مَلِكِهِمْ جِنْكِزْخَانْ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَرَجَعُوا إِلَى بُخَارَى فَاسْتَعَدَّ لِلْحِصَارِ لِعِلْمِهِ بِعَجْزِهِ. لِأَنَّ طَائِفَةَ عَسْكَرِهِ لَمْ يَقْدِرْ خُوَارَزْم شَاهْ عَلَى أَنْ يَظْفَرَ بِهِمْ، فَكَيْفَ إِذَا جَاءُوا جَمِيعُهُمْ مَعَ مَلِكِهِمْ؟ فَأَمَرَ أَهْلَ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْحِصَارِ، وَجَمَعَ الذَّخَائِرَ لِلِامْتِنَاعِ، وَجَعَلَ فِي بُخَارَى عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ مِنَ الْعَسْكَرِ يَحْمُونَهَا، وَفِي سَمَرْقَنْدَ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَقَالَ لَهُمْ: احْفَظُوا الْبَلَدَ حَتَّى أَعُودَ إِلَى خُوَارَزْمَ وَخُرَاسَانَ وَأَجْمَعَ الْعَسَاكِرَ وَأَسْتَنْجِدَ بِالْمُسْلِمِينَ وَأَعُودَ إِلَيْكُمْ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ رَحَلَ عَائِدًا إِلَى خُرَاسَانَ فَعَبَرَ جَيْحُونَ، وَنَزَلَ بِالْقُرْبِ مِنْ بَلْخَ فَعَسْكَرَ هُنَاكَ.

وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَإِنَّهُمْ رَحَلُوا بَعْدَ أَنِ اسْتَعَدُّوا يَطْلُبُونَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَوَصَلُوا إِلَى بُخَارَى بَعْدَ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وُصُولِ خُوَارَزْم شَاهْ، وَحَصَرُوهَا، وَقَاتَلُوهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قِتَالًا شَدِيدًا مُتَتَابِعًا فَلَمْ يَكُنْ لِلْعَسْكَرِ الْخُوَارَزْمِيِّ بِهِمْ قُوَّةٌ فَفَارَقُوا الْبَلَدَ عَائِدِينَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَهْلُ الْبَلَدِ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعَسْكَرِ أَحَدٌ ضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ، فَأَرْسَلُوا الْقَاضِيَ، وَهُوَ بَدْرُ الدِّينِ قَاضِي خَانْ لِيَطْلُبَ الْأَمَانَ لِلنَّاسِ، فَأَعْطَوْهُمُ الْأَمَانَ. وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مِنَ الْعَسْكَرِ طَائِفَةٌ لَمْ يُمْكِنْهُمُ الْهَرَبُ مَعَ أَصْحَابِهِمْ. فَاعْتَصَمُوا بِالْقَلْعَةِ، فَلَمَّا أَجَابَهُمْ جِنْكِزْخَانْ إِلَى الْأَمَانِ فُتِحْتَ أَبْوَابُ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ رَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَدَخَلَ الْكُفَّارُ بُخَارَى وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِأَحَدٍ، بَلْ قَالُوا لَهُمْ: كُلُّ مَا هُوَ لِلسُّلْطَانِ عِنْدَكُمْ مِنْ ذَخِيرَةٍ وَغَيْرِهِ أَخْرِجُوهُ إِلَيْنَا، وَسَاعِدُونَا عَلَى قِتَالِ مَنْ بِالْقَلْعَةِ، وَأَظْهَرُوا عِنْدَهُمُ الْعَدْلَ وَحُسْنَ السِّيرَةِ، وَدَخَلَ جِنْكِزْخَانْ بِنَفْسِهِ وَأَحَاطَ بِالْقَلْعَةِ، وَنَادَى فِي الْبَلَدِ بِأَنْ لَا يَتَخَلَّفَ أَحَدٌ وَمَنْ تَخَلَّفَ قُتِلَ، فَحَضَرُوا جَمِيعُهُمْ، فَأَمَرَهُمْ بِطَمِّ الْخَنْدَقِ، فَطَمُّوهُ بِالْأَخْشَابِ وَالتُّرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْمَنَابِرَ وَرَبَعَاتِ الْقُرْآنِ فَيُلْقُونَهَا فِي الْخَنْدَقِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَبِحَقٍّ سَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ صَبُورًا حَلِيمًا، وَإِلَّا كَانَ خَسَفَ بِهِمُ الْأَرْضَ عِنْدَ فِعْلِ مِثْلِ هَذَا. ثُمَّ تَابَعُوا الزَّحْفَ إِلَى الْقَلْعَةِ وَبِهَا نَحْوُ أَرْبَعِ مِائَةِ فَارِسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَذَلُوا جُهْدَهُمْ، وَمَنَعُوا الْقَلْعَةَ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا يُقَاتِلُونَ جَمْعَ الْكُفَّارِ وَأَهْلَ الْبَلَدِ، فَقُتِلَ بَعْضُهُمْ، وَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى زَحَفُوا إِلَيْهِمْ، وَوَصَلَ النَّقَّابُونَ إِلَى سُورِ الْقَلْعَةِ فَنَقَبُوهُ، وَاشْتَدَّ حِينَئِذٍ الْقِتَالُ، وَمَنْ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَرْمُونَ مَا يَجِدُونَ مِنْ حِجَارَةٍ وَنَارٍ وَسِهَامٍ، فَغَضِبَ اللَّعِينُ، وَرَدَّ أَصْحَابَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَبَاكَرَهُمْ مِنَ الْغَدِ، فَجَدُّوا فِي الْقِتَالِ، وَقَدْ تَعِبَ مَنْ بِالْقَلْعَةِ وَنَصَبُوا، وَجَاءَهُمْ مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ، فَقَهَرَهُمُ الْكُفَّارُ وَدَخَلُوا الْقَلْعَةَ، وَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ فِيهَا حَتَّى قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْقَلْعَةِ نَادَى أَنْ يُكْتَبَ لَهُ وُجُوهُ النَّاسِ وَرُؤَسَاؤُهُمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا عُرِضُوا عَلَيْهِ أَمَرَ بِإِحْضَارِهِمْ

فَحَضَرُوا، فَقَالَ: أُرِيدُ مِنْكُمُ النُّقْرَةَ الَّتِي بَاعَكُمْ خُوَارَزْم شَاهْ، فَإِنَّهَا لِي، وَمِنْ أَصْحَابِي أُخِذَتْ، وَهِيَ عِنْدَكُمْ. فَأَحْضَرَ كُلُّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ، فَخَرَجُوا مِنَ الْبَلَدِ مُجَرَّدِينَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، لَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ ثِيَابِهِ الَّتِي عَلَيْهِ، وَدَخَلَ الْكُفَّارُ الْبَلَدَ فَنَهَبُوهُ وَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوا فِيهِ، وَأَحَاطَ بِالْمُسْلِمِينَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقْتَسِمُوهُمْ، فَاقْتَسَمُوهُمْ. وَكَانَ يَوْمًا عَظِيمًا مِنْ كَثْرَةِ الْبُكَاءِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، وَتَفَرَّقُوا أَيْدِي سَبَا، وَتَمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَاقْتَسَمُوا النِّسَاءَ أَيْضًا، وَأَصْبَحَتْ بُخَارَى خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، وَارْتَكَبُوا مِنَ النِّسَاءِ الْعَظِيمَ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ وَيَبْكُونَ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ شَيْئًا مِمَّا نَزَلَ بِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ، وَاخْتَارَ الْمَوْتَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَمِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَاخْتَارَ أَنْ يُقْتَلَ وَلَا يَرَى مَا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ، الْفَقِيهُ الْإِمَامُ رُكْنُ الدِّينِ إِمَامُ زَادَهْ وَوَلَدُهُ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا رَأَيَا مَا يُفْعَلُ بِالْحُرَمِ قَاتَلَا حَتَّى قُتِلَا. وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْقَاضِي صَدْرُ الدِّينِ خَانْ، وَمَنِ اسْتَسْلَمَ أُخِذَ أَسِيرًا، وَأَلْقَوُا النَّارَ فِي الْبَلَدِ، وَالْمَدَارِسِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَعَذَّبُوا النَّاسَ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ فِي طَلَبِ الْمَالِ، ثُمَّ رَحَلُوا نَحْوَ سَمَرْقَنْدَ وَقَدْ تَحَقَّقُوا عَجْزَ خُوَارَزْم شَاهْ عَنْهُمْ، وَهُمْ بِمَكَانِهِ بَيْنَ تِرْمِذَ وَبَلْخَ، وَاسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ مَنْ سَلِمَ مِنْ أَهْلِ بُخَارَى أَسَارَى، فَسَارُوا بِهِمْ مُشَاةً عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ، فَكُلُّ مَنْ أَعْيَا وَعَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ قَتَلُوهُ، فَلَمَّا قَارَبُوا سَمَرْقَنْدَ قَدَّمُوا الْخَيَّالَةَ، وَتَرَكُوا الرَّجَّالَةَ وَالْأَسَارَى وَالْأَثْقَالَ وَرَاءَهُمْ، حَتَّى تَقَدَّمُوا شَيْئًا فَشَيْئًا لِيَكُونَ أَرْعَبَ لِقُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْبَلَدِ سَوَادَهُمُ اسْتَعْظَمُوهُ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي وَصَلَ الْأَسَارَى وَالرَّجَّالَةُ وَالْأَثْقَالُ، وَمَعَ كُلِّ عَشَرَةٍ مِنَ الْأَسَارَى عَلَمٌ، فَظَنَّ أَهْلُ الْبَلَدِ أَنَّ الْجَمِيعَ عَسَاكِرُ مُقَاتِلَةٌ، وَأَحَاطُوا بِالْبَلَدِ وَفِيهِ خَمْسُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ مِنَ الْخُوَارَزْمِيَّةِ، وَأَمَّا عَامَّةُ الْبَلَدِ فَلَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ شُجْعَانُ أَهْلِهِ، وَأَهْلُ الْجَلَدِ وَالْقُوَّةِ رَجَّالَةً، وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمْ مِنَ الْعَسْكَرِ الْخُوَارَزْمِيُّ أَحَدٌ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ خَوْفِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاعِينِ، فَقَاتَلَهُمُ الرَّجَّالَةُ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ فَلَمْ يَزَلِ التَّتَرُ

يَتَأَخَّرُونَ، وَأَهْلُ الْبَلَدِ يَتْبَعُونَهُمْ، وَيَطْمَعُونَ فِيهِمْ، وَكَانَ الْكُفَّارُ قَدْ كَمَّنُوا لَهُمْ كَمِينًا، فَلَمَّا جَاوَزُوا الْكَمِينَ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَلَدِ، وَرَجَعَ الْبَاقُونَ الَّذِينَ أَنْشَبُوا الْقِتَالَ أَوَّلًا، فَبَقُوا فِي الْوَسَطِ، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ شُهَدَاءَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَكَانُوا سَبْعِينَ أَلْفًا عَلَى مَا قِيلَ. فَلَمَّا رَأَى الْبَاقُونَ مِنَ الْجُنْدِ وَالْعَامَّةِ ذَلِكَ ضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ وَأَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ، فَقَالَ الْجُنْدُ، وَكَانُوا أَتْرَاكًا: نَحْنُ مِنْ جِنْسِ هَؤُلَاءِ وَلَا يَقْتُلُونَنَا، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَفَتَحُوا أَبْوَابَ الْبَلَدِ، وَلَمْ يَقْدِرِ الْعَامَّةُ عَلَى مَنْعِهِمْ، وَخَرَجُوا إِلَى الْكُفَّارِ بِأَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَقَالَ لَهُمُ الْكُفَّارُ: ادْفَعُوا إِلَيْنَا سِلَاحَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَدَوَابَّكُمْ وَنَحْنُ نُسَيِّرُكُمْ إِلَى مَأْمَنِكُمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا أَخَذُوا أَسْلِحَتَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ وَضَعُوا السَّيْفَ فِيهِمْ وَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ وَنِسَاءَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ نَادَوْا فِي الْبَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ أَهْلُهُ جَمِيعُهُمْ، وَمَنْ تَأَخَّرَ قَتَلُوهُ، فَخَرَجَ جَمِيعُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَفَعَلُوا مَعَ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ مَعَ أَهْلِ بُخَارَى مِنَ النَّهْبِ، وَالْقَتْلِ، وَالسَّبْيِ، وَالْفَسَادِ، وَدَخَلُوا الْبَلَدَ فَنَهَبُوا مَا فِيهِ، وَأَحْرَقُوا الْجَامِعَ وَتَرَكُوا بَاقِيَ الْبَلَدِ عَلَى حَالِهِ، وَافْتَضُّوا الْأَبْكَارَ، وَعَذَّبُوا النَّاسَ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ فِي طَلَبِ الْمَالِ، وَقَتَلُوا مَنْ لَمْ يَصْلُحْ لِلسَّبْيِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ. وَكَانَ خُوَارَزْم شَاهْ بِمَنْزِلَتِهِ كُلَّمَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ عَسْكَرٌ سَيَّرَهُ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، فَيَرْجِعُونَ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهَا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخِذْلَانِ ; سَيَّرَ عَشَرَةَ آلَافِ فَارِسٍ فَعَادُوا كَالْمُنْهَزِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَسَيَّرَ عِشْرِينَ أَلْفًا فَعَادُوا أَيْضًا. ذِكْرُ مَسِيرِ التَّتَرِ الْكُفَّارِ إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ وَانْهِزَامِهِ وَمَوْتِهِ لَمَّا مَلَكَ الْكُفَّارُ سَمَرْقَنْدَ عَمَدَ جِنْكِزْخَانْ، لَعَنَهُ اللَّهُ، وَسَيَّرَ عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ. وَقَالَ لَهُمُ: اطْلُبُوا خُوَارَزْم شَاهْ أَيْنَ كَانَ، وَلَوْ تَعَلَّقَ بِالسَّمَاءِ، حَتَّى تُدْرِكُوهُ وَتَأْخُذُوهُ. وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ تُسَمِّيهَا التَّتَرُ الْمُغَرِّبَةَ لِأَنَّهَا سَارَتْ نَحْوَ غَرْبِ خُرَاسَانَ لِيَقَعَ الْفَرْقُ

بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنْهُمْ. لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَوْغَلُوا فِي الْبِلَادِ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ جِنْكِزْخَانْ بِالْمَسِيرِ سَارُوا وَقَصَدُوا مَوْضِعًا يُسَمَّى بَنْجَ آبَ، وَمَعْنَاهُ خَمْسَةُ مِيَاهٍ، فَوَصَلُوا إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجِدُوا هُنَاكَ سَفِينَةً، فَعَمِلُوا مِنَ الْخَشَبِ مِثْلَ الْأَحْوَاضِ الْكِبَارِ وَأَلْبَسُوهَا جُلُودَ الْبَقَرِ لِئَلَّا يَدْخُلَهَا الْمَاءُ وَوَضَعُوا فِيهَا سِلَاحَهُمْ وَأَمْتِعَتَهُمْ وَأَلْقَوُا الْخَيْلَ فِي الْمَاءِ. وَأَمْسَكُوا أَذْنَابَهَا، وَتِلْكَ الْحِيَاضُ الَّتِي مِنَ الْخَشَبِ مَشْدُودَةٌ إِلَيْهِمْ. فَكَانَ الْفَرَسُ يَجْذِبُ الرَّجُلَ وَالرَّجُلَ يَجْذِبُ الْحَوْضَ الْمَمْلُوءَ مِنَ السِّلَاحِ وَغَيْرِهِ. فَعَبَرُوا كُلُّهُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَلَمْ يَشْعُرْ خُوَارَزْم شَاهْ إِلَّا وَقَدْ صَارُوا مَعَهُ عَلَى أَرْضٍ وَاحِدَةٍ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ مُلِئُوا مِنْهُمْ رُعْبًا وَخَوْفًا، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَاسَكُونَ بِسَبَبِ أَنَّ نَهْرَ جَيْحُونَ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا عَبَرُوهُ إِلَيْهِمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الثَّبَاتِ، وَلَا عَلَى الْمَسِيرِ مُجْتَمِعِينَ، بَلْ تَفَرَّقُوا أَيْدِي سَبَا، وَطَلَبَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ جِهَةً، وَرَحَلَ خُوَارَزْم شَاهْ لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ فِي نَفَرٍ مِنْ خَاصَّتِهِ، وَقَصَدُوا نَيْسَابُورَ، فَلَمَّا دَخَلَهَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعَسْكَرِ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ حَتَّى وَصَلَ أُولَئِكَ التَّتَرُ إِلَيْهَا. وَكَانُوا لَا يَتَعَرَّضُونَ فِي مَسِيرِهِمْ لِشَيْءٍ لَا بِنَهْبٍ وَلَا قَتْلٍ بَلْ يَجِدُّونَ السَّيْرَ فِي طَلَبِهِ لَا يُمْهِلُونَهُ حَتَّى يَجْمَعَ لَهُمْ، فَلَمَّا سَمِعَ بِقُرْبِهِمْ مِنْهُ رَحَلَ إِلَى مَازَنْدُرَانَ، وَهِيَ لَهُ أَيْضًا، فَرَحَلَ التَّتَرُ الْمُغَرِّبُونَ فِي أَثَرِهِ، وَلَمْ يُعَرِّجُوا عَلَى نَيْسَابُورَ بَلْ تَبِعُوهُ، فَكَانَ كُلَّمَا رَحَلَ عَنْ مَنْزِلَةٍ نَزَلُوهَا، فَوَصَلَ إِلَى مَرْسَى مِنْ بَحْرِ طَبَرِسْتَانَ يُعْرَفُ بِبَابِ سَكُونَ، وَلَهُ هُنَاكَ قَلْعَةٌ فِي الْبَحْرِ، فَلَمَّا نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي السُّفُنِ وَصَلَتِ التَّتَرُ، فَلَمَّا رَأَوْا خُوَارَزْم شَاهْ وَقَدْ دَخَلَ الْبَحْرَ وَقَفُوا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَلَمَّا أَيِسُو مِنْ لَحَاقِ خُوَارَزْم شَاهْ رَجَعُوا فَهُمُ الَّذِينَ قَصَدُوا الرَّيَّ وَمَا بَعْدَهَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. هَكَذَا ذَكَرَ لِي بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِمَّنْ كَانَ بِبُخَارَى وَأَسَرُوهُ مَعَهُمْ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، ثُمَّ نَجَا مِنْهُمْ وَوَصَلَ إِلَيْنَا. وَذَكَرَ غَيْرُهُ مِنَ التُّجَّارِ أَنَّ خُوَارَزْم شَاهْ سَارَ مِنَ مَازَنْدُرَانَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الرَّيِّ ثُمَّ مِنْهَا إِلَى هَمَذَانَ، وَالتَّتَرُ فِي أَثَرِهِ فَفَارَقَ هَمَذَانَ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ،

جَرِيدَةً، لِيَسْتُرَ نَفْسَهُ وَيَكْتُمَ خَبَرَهُ، وَعَادَ إِلَى مَازَنْدُرَانَ وَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ إِلَى هَذِهِ الْقَلْعَةِ. وَكَانَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ الْفَقِيهَ كَانَ حِينَئِذٍ مَأْسُورًا، وَهَؤُلَاءِ التُّجَّارُ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا بِهَمَذَانَ، وَوَصَلَ خُوَارَزْم شَاهْ، ثُمَّ وَصَلَ بَعْدَهُ. مَنْ أَخْبَرَهُ بِوُصُولِ التَّتَرِ، فَفَارَقَ هَمَذَانَ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا هَؤُلَاءِ التُّجَّارُ فَارَقُوهَا، وَوَصَلَ التَّتَرُ إِلَيْهَا بَعْدَهُمْ بِبَعْضِ نَهَارٍ، فَهُمْ يُخْبِرُونَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ ; وَلَمَّا وَصَلَ خُوَارَزْم شَاهْ إِلَى هَذِهِ الْقَلْعَةِ الْمَذْكُورَةِ تُوُفِّيَ فِيهَا. ذِكْرُ صِفَةِ خُوَارَزْم شَاهْ وَشَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ هُوَ عَلَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلَاءِ الدِّينِ تُكَشَ، وَكَانَ مُدَّةُ مُلْكِهِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَشُهُورًا تَقْرِيبًا، وَاتَّسَعَ مُلْكُهُ، وَعَظُمَ مَحَلُّهُ، وَأَطَاعَهُ الْعَالَمُ بِأَسْرِهِ، وَلَمْ يَمْلِكْ بَعْدَ السَّلْجُوقِيَّةِ أَحَدٌ مِثْلَ مُلْكِهِ، فَإِنَّهُ مَلَكَ مِنْ حَدِّ الْعِرَاقِ إِلَى تُرْكِسْتَانَ، وَمَلَكَ بِلَادَ غَزْنَةَ، وَبَعْضَ الْهِنْدِ، وَمَلَكَ سِجِسْتَانَ، وَكَرْمَانَ، وَطَبَرِسْتَانَ، وَجُرْجَانَ، وَبِلَادَ الْجِبَالِ، وَخُرَاسَانَ، وَبَعْضَ فَارِسَ، وَفَعَلَ بِالْخَطَا الْأَفَاعِيلَ الْعَظِيمَةَ، وَمَلَكَ بِلَادَهُمْ. وَكَانَ فَاضِلًا، عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ مُكْرِمًا لِلْعُلَمَاءِ مُحِبًّا لَهُمْ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ، يُكْثِرُ مُجَالَسَتَهُمْ وَمُنَاظَرَاتِهِمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ صَبُورًا عَلَى التَّعَبِ وَإِدْمَانِ السَّيْرِ، غَيْرَ مُتَنَعِّمٍ، وَلَا مُقْبِلٍ عَلَى اللَّذَّاتِ، إِنَّمَا هَمُّهُ فِي الْمُلْكِ وَتَدْبِيرِهِ، وَحِفْظِهِ وَحِفْظِ رَعَايَاهُ، وَكَانَ مُعَظِّمًا لِأَهْلِ الدِّينِ، مُقْبِلًا عَلَيْهِمْ، مُتَبَرِّكًا بِهِمْ. حَكَى لِي بَعْضُ خَدَمِ حُجْرَةِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ عَادَ مِنْ خُرَاسَانَ، قَالَ: وَصَلْتُ إِلَى خُوَارَزْمَ، فَنَزَلْتُ وَدَخَلْتُ الْحَمَّامَ، ثُمَّ قَصَدْتُ بَابَ السُّلْطَانِ عَلَاءِ الدِّينِ، فَحِينَ حَضَرْتُ لَقِيَنِي إِنْسَانٌ، فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَنَا مِنْ خَدَمِ حُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَنِي بِالْجُلُوسِ، وَانْصَرَفَ عَنِّي قَلِيلًا، ثُمَّ عَادَ إِلَيَّ وَأَخَذَنِي وَأَدْخَلَنِي إِلَى دَارِ السُّلْطَانِ، فَتَسَلَّمَنِي مِنْهُ حَاجِبٌ مِنْ حُجَّابِ السُّلْطَانِ،

وَقَالَ لِي: قَدْ أَعْلَمْتُ السُّلْطَانَ خَبَرَكَ فَأَمَرَ بِإِحْضَارِكَ عِنْدَهُ، فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي صَدْرِ إِيوَانٍ كَبِيرٍ، فَحِينَ تَوَسَّطْتُ صَحْنَ الدَّارِ قَامَ قَائِمًا، وَمَشَى إِلَى بَيْنِ يَدَيَّ، فَأَسْرَعْتُ السَّيْرَ فَلَقِيتُهُ فِي وَسَطِ الْإِيوَانِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُقَبِّلَ يَدَهُ، فَمَنَعَنِي، وَاعْتَنَقَنِي، وَجَلَسَ وَأَجْلَسَنِي إِلَى جَانِبِهِ، وَقَالَ لِي: أَنْتَ تَخْدِمُ حُجْرَةَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَأَخَذَ يَدِي، وَأَمَرَّهَا عَلَى وَجْهِهِ، وَسَأَلَنِي عَنْ حَالِنَا وَعَيْشِنَا، وَصِفَةِ الْمَدِينَةِ، وَمِقْدَارِهَا، وَأَطَالَ الْحَدِيثَ مَعِي، فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: لَوْلَا أَنَّنَا عَلَى عَزْمِ السَّفَرِ هَذِهِ السَّاعَةِ لَمَا وَدَّعْتُكَ، إِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نَعْبُرَ جَيْحُونَ إِلَى الْخَطَا، وَهَذَا طَرِيقٌ مُبَارَكٌ حَيْثُ رَأَيْنَا مَنْ يَخْدِمُ حُجْرَةَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وَدَّعَنِي وَأَرْسَلَ إِلَيَّ جُمْلَةً كَثِيرَةً مِنَ النَّفَقَةِ، وَمَضَى، وَكَانَ مِنْهُ وَمِنَ الْخَطَا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَاجْتَمَعَ فِيهِ مَا تَفَرَّقَ فِي غَيْرِهِ مِنْ مُلُوكِ الْعَالَمِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَوْ أَرَدْنَا ذِكْرَ مَنَاقِبِهِ لَطَالَ ذَلِكَ. ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ التَّتَرِ الْمُغَرِّبَةِ عَلَى مَازَنْدُرَانَ لَمَّا أَيِسَ التَّتَرُ الْمُغَرِّبَةُ مِنْ إِدْرَاكِ خُوَارَزْم شَاهْ، عَادُوا فَقَصَدُوا بِلَادَ مَازَنْدُرَانَ فَمَلَكُوهَا فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، مَعَ حَصَانَتِهَا وَصُعُوبَةِ الدُّخُولِ إِلَيْهَا، وَامْتِنَاعِ قِلَاعِهَا، فَإِنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُمْتَنِعَةً قَدِيمَ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ، حَتَّى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا مَلَكُوا بِلَادَ الْأَكَاسِرَةِ جَمِيعَهَا، مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى أَقَاصِي خُرَاسَانَ، بَقِيَتْ أَعْمَالُ مَازَنْدُرَانَ يُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْخَرَاجُ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى دُخُولِ الْبِلَادِ، إِلَى أَنْ مُلِكَتْ أَيَّامَ سُلَيْمَانِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ سَنَةَ تِسْعِينَ، وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاعِينُ مَلَكُوهَا صَفْوًا عَفْوًا لِأَمَرٍ يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا مَلَكُوا بَلَدَ مَازَنْدُرَانَ قَتَلُوا، وَسَبَوْا، وَنَهَبُوا، وَأَحْرَقُوا الْبِلَادَ، وَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَازَنْدُرَانَ سَلَكُوا نَحْوَ الرَّيِّ، فَرَأَوْا قِيَّ الطَّرِيقِ وَالِدَةَ خُوَارَزْم شَاهْ وَنِسَاءَهُ، وَأَمْوَالَهُمْ، وَذَخَائِرَهُمُ الَّتِي لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا مِنَ الْأَعْلَاقِ النَّفِيسَةِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ وَالِدَةَ خُوَارَزْم شَاهْ لَمَّا سَمِعَتْ بِمَا جَرَى عَلَى وَلَدِهَا خَافَتْ، فَفَارَقَتْ خُوَارَزْمَ وَقَصَدَتْ نَحْوَ الرَّيِّ لِتَصِلَ إِلَى أَصْفَهَانَ وَهَمَذَانَ وَبَلَدِ الْجَبَلِ تَمْتَنِعُ فِيهَا، فَصَادَفُوهَا فِي الطَّرِيقِ،

فَأَخَذُوهَا وَمَا مَعَهَا قَبْلَ وُصُولِهِمْ إِلَى الرَّيِّ، فَكَانَ فِيهِ مَا مَلَأَ عُيُونَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ، وَمَا لَمْ يُشَاهِدِ النَّاسُ مِثْلَهُ مِنْ كُلِّ غَرِيبٍ مِنَ الْمَتَاعِ وَنَفِيسٍ مِنَ الْجَوَاهِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَسَيَّرُوا الْجَمِيعَ إِلَى جِنْكِزْخَانْ بِسَمَرْقَنْدَ. ذِكْرُ وَصُولِ التَّتَرِ إِلَى الرَّيِّ وَهَمَذَانَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ وَصْلَ التَّتَرُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، إِلَى الرَّيِّ فِي طَلَبِ خُوَارَزْم شَاهْ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّهُمْ بَلَغَهُمْ أَنَّهُ مَضَى مُنْهَزِمًا مِنْهُمْ نَحْوَ الرَّيِّ، فَجَدُّوا السَّيْرَ فِي أَثَرِهِ، وَقَدِ انْضَافَ إِلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْ عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا مِنَ الْمُفْسِدِينَ مَنْ يُرِيدُ النَّهْبَ وَالشَّرَّ، فَوَصَلُوا إِلَى الرَّيِّ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا، فَلَمْ يَشْعُرُوا بِهِمْ إِلَّا وَقَدْ وَصَلُوا إِلَيْهَا، وَمَلَكُوهَا، وَنَهَبُوهَا، وَسَبَوُا الْحَرِيمَ، وَاسْتَرَقُّوا الْأَطْفَالَ، وَفَعَلُوا الْأَفْعَالَ الَّتِي لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، وَلَمْ يُقِيمُوا، وَمَضَوْا مُسْرِعِينَ فِي طَلَبِ خُوَارَزْم شَاهْ، فَنَهَبُوا فِي طَرِيقِهِمْ كُلَّ مَدِينَةٍ وَقَرْيَةٍ مَرُّوا عَلَيْهَا، وَفَعَلُوا فِي الْجَمِيعِ أَضْعَافَ مَا فَعَلُوا فِي الرَّيِّ، وَأَحْرَقُوا، وَخَرَّبُوا وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، فَلَمْ يُبْقُوا عَلَى شَيْءٍ. وَتَمُّوا عَلَى حَالِهِمْ إِلَى هَمَذَانَ، وَكَانَ خُوَارَزْم شَاهْ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهَا فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَفَارَقَهَا وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ، فَلَا يُدْرَى مَا كَانَ مِنْهُ فِيمَا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. فَلَمَّا قَارَبُوا هَمَذَانَ خَرَجَ رَئِيسُهَا وَمَعَهُ الْحِمَلُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يَطْلُبُ الْأَمَانَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ، فَأَمَّنُوهُمْ، ثُمَّ فَارَقُوهَا وَسَارُوا إِلَى زَنْجَانَ فَفَعَلُوا أَضْعَافَ ذَلِكَ، وَسَارُوا وَوَصَلُوا إِلَى قَزْوِينَ، فَاعْتَصَمَ أَهْلُهَا مِنْهُمْ بِمَدِينَتِهِمْ، فَقَاتَلُوهُ، وَجَدُّوا فِي قِتَالِهِمْ، وَدَخَلُوهَا عَنْوَةً بِالسَّيْفِ، فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَأَهْلُ الْبَلَدِ فِي بَاطِنِهِ، حَتَّى صَارُوا يَقْتَتِلُونَ بِالسَّكَاكِينِ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَا لَا يُحْصَى، ثُمَّ فَارَقُوا قَزْوِينَ، فَعُدَّ الْقَتْلَى مِنْ أَهْلِ قَزْوِينَ، فَزَادُوا عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفِ قَتِيلٍ. ذِكْرُ وَصُولِ التَّتَرِ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ لَمَّا هَجَمَ الشِّتَاءُ عَلَى التَّتَرِ فِي هَمَذَانَ، وَبَلَدِ الْجَبَلِ، رَأَوْا بَرْدًا شَدِيدًا، وَثَلْجًا

مُتَرَاكِمًا، فَسَارُوا إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، فَفَعَلُوا فِي طَرِيقِهِمْ بِالْقُرَى وَالْمُدُنِ الصِّغَارِ مِنَ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُمْ، وَخَرَّبُوا وَأَحْرَقُوا، وَوَصَلُوا إِلَى تِبْرِيزَ وَبِهَا صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ أَوْزَبْكُ بْنُ الْبَهْلَوَانِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، وَلَا حَدَّثَ نَفْسَهُ بِقِتَالِهِمْ لِاشْتِغَالِهِ بِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنْ إِدْمَانِ الشُّرْبِ لَيْلًا وَنَهَارًا لَا يُفِيقُ، وَإِنَّمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَصَالَحَهُمْ عَلَى مَالٍ، وَثِيَابٍ، وَدَوَابَّ، وَحَمَلَ الْجَمِيعَ إِلَيْهِمْ، فَسَارُوا مِنْ عِنْدِهِ يُرِيدُونَ سَاحِلَ الْبَحْرِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ قَلِيلَ الْبَرْدِ، لِيَشْتَوْا عَلَيْهِ وَالْمَرَاعِي بِهِ كَثِيرَةٌ لِأَجْلِ دَوَابِّهِمْ، فَوَصَلُوا إِلَى مُوقَانَ، وَتَطَرَّقُوا فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى بِلَادِ الْكَرَجِ، فَجَاءَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْكَرَجِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَسْكَرِ، نَحْوَ عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَتِ الْكَرَجُ، وَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ. وَأَرْسَلَ الْكَرَجُ إِلَى أَوْزَبْكَ، صَاحِبِ أَذْرَبِيجَانَ، يَطْلُبُونَ مِنْهُ الصُّلْحَ وَالِاتِّفَاقَ مَعَهُمْ عَلَى دَفْعِ التَّتَرِ، فَاصْطَلَحُوا لِيَجْتَمِعُوا إِذَا انْحَسَرَ الشِّتَاءُ، وَكَذَلِكَ أَرْسَلُوا إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ ابْنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، صَاحِبِ خِلَاطَ وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ، يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْمُوَافَقَةَ عَلَيْهِمْ، وَظَنُّوا جَمِيعُهُمْ أَنَّ التَّتَرَ يَصْبِرُونَ فِي الشِّتَاءِ إِلَى الرَّبِيعِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا كَذَلِكَ، بَلْ تَحَرَّكُوا وَسَارُوا نَحْوَ بِلَادِ الْكَرَجِ، وَانْضَافَ إِلَيْهِمْ مَمْلُوكٌ تُرْكِيٌّ مِنْ مَمَالِيكِ أَوْزَبْكَ، اسْمُهُ أَقْوَشُ، وَجَمَعَ أَهْلَ تِلْكَ الْجِبَالِ وَالصَّحْرَاءِ مِنَ التُّرْكُمَانِ وَالْأَكْرَادِ وَغَيْرِهِمْ، فَاجْتَمَعَ، مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَرَاسَلَ التَّتَرَ فِي الِانْضِمَامِ إِلَيْهِمْ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَمَالُوا إِلَيْهِ لِلْجِنْسِيَّةِ، فَاجْتَمَعُوا وَسَارُوا فِي مُقَدِّمَةِ التَّتَرِ إِلَى الْكَرَجِ، فَمَلَكُوا حِصْنًا مِنْ حُصُونِهِمْ وَخَرَّبُوهُ وَنَهَبُوا الْبِلَادَ وَخَرَّبُوهَا، وَقَتَلُوا أَهْلَهَا، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى قُرْبِ تِفْلِيسَ. فَاجْتَمَعَتِ الْكَرَجُ وَخَرَجَتْ بِحَدِّهَا وَحَدِيدِهَا إِلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُمْ أَقْوَشُ أَوَّلًا فِيمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا صَبَرُوا فِيهِ كُلُّهُمْ، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ أَقْوَشَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأَدْرَكَهُمُ التَّتَرُ وَقَدْ تَعِبَ الْكَرَجُ مِنَ الْقِتَالِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ أَيْضًا كَثِيرٌ، فَلَمْ يَثْبُتُوا لِلتَّتَرِ، وَانْهَزَمُوا أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَرَكِبَهُمُ السَّيْفُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَنَهَبُوا مِنَ الْبِلَادِ مَا كَانَ سَلِمَ مِنْهُمْ. وَلَقَدْ جَرَى لِهَؤُلَاءِ التَّتَرِ مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ: طَائِفَةٌ تَخْرُجُ

مِنْ حُدُودِ الصِّينِ لَا تَنْقَضِي عَلَيْهِمْ سَنَةٌ حَتَّى يَصِلَ بَعْضُهُمْ إِلَى بِلَادِ أَرْمِينِيَّةَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَيُجَاوِزُوا الْعِرَاقَ مِنْ نَاحِيَةِ هَمَذَانَ، وَتَاللَّهِ لَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَنَا، إِذَا بَعُدَ الْعَهْدُ، وَيَرَى هَذِهِ الْحَادِثَةَ مَسْطُورَةً يُنْكِرُهَا، وَيَسْتَبْعِدُهَا، وَالْحَقُّ بِيَدِهِ، فَمَتَى اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ أَنَّنَا سَطَّرْنَا نَحْنُ، وَكُلُّ مَنْ جَمَعَ التَّارِيخَ فِي أَزَمَانِنَا هَذِهِ فِي وَقْتٍ كُلُّ مَنْ فِيهِ يَعْلَمُ هَذِهِ الْحَادِثَةَ، اسْتَوَى فِي مَعْرِفَتِهَا الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ لِشُهْرَتِهَا، يَسَّرَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْإِسْلَامِ مَنْ يَحْفَظُهُمْ وَيَحُوطُهُمْ، فَلَقَدْ دُفِعُوا مِنَ الْعَدُوِّ إِلَى عَظِيمٍ، وَمِنَ الْمُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَنْ لَا تَتَعَدَّى هِمَّتُهُ بَطْنَهُ وَفَرْجَهُ، وَلَمْ يَنَلِ الْمُسْلِمِينَ أَذًى وَشِدَّةٌ مُذْ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى هَذَا الْوَقْتِ مِثْلَ مَا دُفِعُوا إِلَيْهِ الْآنَ. هَذَا الْعَدُوُّ الْكَافِرُ التَّتَرُ قَدْ وَطِئُوا بِلَادَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَمَلَكُوهَا وَخَرَّبُوهَا، وَنَاهِيكَ بِهِ سَعَةَ بِلَادٍ، وَتَعَدَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنْهُمُ النَّهْرَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَمَلَكُوهَا وَفَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِلَى الرَّيِّ وَبَلَدِ الْجَبَلِ وَأَذْرَبِيجَانَ، وَقَدِ اتَّصَلُوا بِالْكَرَجِ فَغَلَبُوهُمْ عَلَى بِلَادِهِمْ. وَالْعَدُوُّ الْآخَرُ الْفِرِنْجُ قَدْ ظَهَرُوا مِنْ بِلَادِهِمْ فِي أَقْصَى بِلَادِ الرُّومِ، بَيْنَ الْغَرْبِ وَالشَّمَالِ، وَوَصَلُوا إِلَى مِصْرَ، فَمَلَكُوا مِثْلَ دِمْيَاطَ، وَأَقَامُوا فِيهَا، وَلَمْ يَقْدِرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إِزْعَاجِهِمْ عَنْهَا، وَلَا إِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا، وَبَاقِي دِيَارِ مِصْرَ عَلَى خَطَرٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَمِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّ سُلْطَانَهُمْ خُوَارَزْم شَاهْ مُحَمَّدًا قَدْ عُدِمَ لَا يُعْرَفُ حَقِيقَةُ خَبَرِهِ، فَتَارَةً يُقَالُ مَاتَ عِنْدَ هَمَذَانَ وَأُخْفِي مَوْتُهُ، وَتَارَةً دَخَلَ أَطْرَافَ بِلَادِ فَارِسَ وَمَاتَ هُنَاكَ وَأُخْفِي مَوْتُهُ لِئَلَّا يَقْصِدَهَا التَّتَرُ فِي أَثَرِهِ، وَتَارَةً يُقَالُ عَادَ إِلَى طَبَرِسْتَانَ وَرَكِبَ الْبَحْرَ، فَتُوُفِّيَ فِي جَزِيرَةٍ هُنَاكَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدَ عُدِمَ، ثُمَّ صَحَّ مَوْتُهُ بِبَحْرِ طَبَرِسْتَانَ، وَهَذَا عَظِيمٌ، إِنَّ مِثْلَ خُرَاسَانَ وَعِرَاقِ الْعَجَمِ أَصْبَحَ سَائِبًا لَا مَانِعَ لَهُ، وَلَا سُلْطَانَ يَدْفَعُ عَنْهُ، وَالْعَدُوُّ يَجُوسُ الْبِلَادَ، يَأْخُذُ مَا أَرَادَ وَيَتْرُكُ مَا أَرَادَ، عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُبْقُوا عَلَى مَدِينَةٍ إِلَّا خَرَّبُوا كُلَّ مَا مَرُّوا عَلَيْهِ، وَأَحْرَقُوهُ، وَنَهَبُوهُ، وَمَا لَا يَصْلُحُ لَهُمْ أَحْرَقُوهُ، فَكَانُوا يَجْمَعُونَ الْإِبْرَيْسَمَ تِلَالًا وَيُلْقُونَ فِيهِ النَّارَ. وَكَذَلِكَ غَيَرُهُ مِنَ الْأَمْتِعَةِ. ذِكْرُ مُلْكِ التَّتَرِ مَرَاغَةَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ مَلَكَ التَّتَرُ مَدِينَةَ مَرَاغَةَ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ.

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّنَا ذَكَرْنَا سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ مَا فَعَلَهُ التَّتَرُ بِالْكَرَجِ، وَانْقَضَتْ تِلْكَ السَّنَةُ وَهُمْ فِي بِلَادِ الْكَرَجِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ سَارُوا مِنْ نَاحِيَةِ الْكَرَجِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَوْكَةً قَوِيَّةً، وَمَضَايِقَ تَحْتَاجُ إِلَى قِتَالٍ وَصِرَاعٍ، فَعَدَلُوا عَنْهُمْ، وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتُهُمْ، إِذَا قَصَدُوا مَدِينَةً وَرَأَوْا عِنْدَهَا امْتِنَاعًا عَدَلُوا عَنْهَا، فَوَصَلُوا إِلَى تِبْرِيزَ، وَصَانَعَهُمْ صَاحِبُهَا بِمَالٍ وَثِيَابٍ وَدَوَابَّ، فَسَارُوا عَنْهُ إِلَى مَدِينَةِ مَرَاغَةَ، فَحَصَرُوهَا وَلَيْسَ بِهَا صَاحِبٌ يَمْنَعُهَا، لِأَنَّ صَاحِبَهَا كَانْتَ امْرَأَةً، وَهِيَ مُقِيمَةٌ بِقَلْعَةِ رُوَينْدِزَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» ". فَلَمَّا حَصَرُوهَا قَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا، فَنَصَبُوا عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَزَحَفُوا إِلَيْهَا، وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ إِذَا قَاتَلُوا مَدِينَةً قَدَّمُوا مَنْ مَعَهُمْ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَزْحَفُونَ وَيُقَاتِلُونَ، فَإِنْ عَادُوا قَتَلُوهُمْ، فَكَانُوا يُقَاتِلُونَ كَرْهًا، وَهُمُ الْمَسَاكِينُ، كَمَا قِيلَ: كَالْأَشْقَرِ إِنْ تَقَدَّمَ يُنْحَرْ وَإِنْ تَأَخَّرَ يُعْقَرْ، وَكَانُوا هُمْ يُقَاتِلُونَ وَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ الْقَتْلُ فِي الْمُسْلِمِينَ الْأُسَارَى، وَهُمْ بِنَجْوَةٍ مِنْهُ. فَأَقَامُوا عَلَيْهَا عِدَّةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ مَلَكُوا الْمَدِينَةَ عَنْوَةً وَقَهْرًا رَابِعَ صَفَرٍ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِي أَهْلِهَا، فَقُتِلَ مِنْهُمْ مَا يَخْرُجُ عَنِ الْحَدِّ وَالْإِحْصَاءِ، وَنَهَبُوا كُلَّ مَا يَصْلُحُ لَهُمْ، وَمَا لَا يَصْلُحُ لَهُمْ أَحْرَقُوهُ، وَاخْتَفَى بَعْضُ النَّاسِ مِنْهُمْ، فَكَانُوا يَأْخُذُونَ الْأَسَارَى وَيَقُولُونَ لَهُمْ: نَادُوا فِي الدُّرُوبِ أَنَّ التَّتَرَ قَدْ رَحَلُوا، فَإِذَا نَادَى أُولَئِكَ خَرَجَ مَنِ اخْتَفَى فَيُؤْخَذُ وَيُقْتَلُ. وَبَلَغَنِي أَنَّ امْرَأَةً مِنَ التَّتَرِ دَخَلَتْ دَارًا وَقَتَلَتْ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِهَا وَهُمْ يَظُنُّونَهَا رُجُلًا، فَوَضَعَتِ السِّلَاحَ وَإِذَا هِيَ امْرَأَةٌ، فَقَتَلَهَا رَجُلٌ أَخَذَتْهُ أَسِيرًا، وَسَمِعْتُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِهَا أَنَّ رَجُلًا مِنَ التَّتَرِ دَخَلَ دَرْبًا فِيهِ مَائَةُ رَجُلٍ، فَمَا زَالَ يَقْتُلُهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى أَفْنَاهُمْ، وَلَمْ يَمُدَّ أَحَدٌ يَدَهُ إِلَيْهِ بِسُوءٍ، وَوُضِعَتِ الذِّلَّةُ عَلَى النَّاسِ فَلَا يَدْفَعُونَ عَنْ نُفُوسِهِمْ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنِ الْخِذْلَانِ. ثُمَّ رَحَلُوا عَنْهَا نَحْوَ مَدِينَةِ إِرْبِلَ، وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَيْنَا بِذَلِكَ بِالْمَوْصِلِ، فَخِفْنَا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ هَمَّ بِالْجَلَاءِ خَوْفًا مِنَ السَّيْفِ، وَجَاءَتْ كُتُبُ مُظَفَّرِ الدِّينِ، صَاحِبِ

إِرْبِلَ، إِلَى بَدْرِ الدِّينِ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، يَطْلُبُ مِنْهُ نَجْدَةً مِنَ الْعَسَاكِرِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَمْعًا صَالِحًا مِنْ عَسْكَرِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى طَرَفِ بِلَادِهِ مِنْ جِهَةِ التَّتَرِ، وَيَحْفَظُ الْمَضَايِقَ لِئَلَّا يَجُوزَهَا أَحَدٌ، فَإِنَّهَا جَمِيعَهَا جِبَالٌ وَعِرَةٌ وَمَضَايِقُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَجُوزَهَا إِلَّا الْفَارِسُ بَعْدَ الْفَارِسِ، وَيَمْنَعُهُمْ مِنَ الْجَوَازِ إِلَيْهِ. وَوَصَلَتْ كُتُبُ الْخَلِيفَةِ وَرُسُلُهُ إِلَى الْمَوْصِلِ وَإِلَى مُظَفَّرِ الدِّينِ يَأْمُرُ الْجَمِيعَ بِالِاجْتِمَاعِ مَعَ عَسَاكِرِهِ بِمَدِينَةِ دَقُوقَا لِيَمْنَعُوا التَّتَرَ، فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا عَدَلُوا عَنْ جِبَالِ إِرْبِلَ، لِصُعُوبَتِهَا، إِلَى هَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَيَطْرُقُونَ الْعِرَاقَ، فَسَارَ مُظَفَّرُ الدِّينِ مِنْ إِرْبِلَ فِي صَفَرٍ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ جَمْعٌ مِنْ عَسْكَرِ الْمَوْصِلِ، وَتَبِعَهُمْ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ كَثِيرٌ. وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ أَيْضًا إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ يَأْمُرُهُ بِالْحُضُورِ بِنَفْسِهِ فِي عَسَاكِرِهِ لِيَجْتَمِعَ الْجَمِيعُ عَلَى قَصْدِ التَّتَرِ وَقِتَالِهِمْ، فَاتَّفَقَ أَنَّ الْمَلِكَ الْمُعَظَّمَ ابْنَ الْمَلِكِ الْعَادِلِ وَصَلَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى أَخِيهِ الْأَشْرَفِ وَهُوَ بِحَرَّانَ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى الْفِرِنْجِ الَّذِينَ بِمِصْرَ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ لِيَسِيرُوا كُلُّهُمْ إِلَى مِصْرَ لِيَسْتَنْقِذُوا دِمْيَاطَ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَاعْتَذَرَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِأَخِيهِ، وَقُوَّةِ الْفِرِنْجِ، وَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهَا، وَإِلَّا خَرَجَتْ هِيَ وَغَيْرُهَا، وَشَرَعَ يَتَجَهَّزُ لِلْمَسِيرِ إِلَى الشَّامِ لِيَدْخُلَ مِصْرَ. وَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ اسْتِنْقَاذِ دِمْيَاطَ. فَلَمَّا اجْتَمَعَ مُظَفَّرُ الدِّينِ وَالْعَسَاكِرُ بِدَقُوقَا سَيَّرَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ مَمْلُوكَهُ قُشْتُمُرَ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَمِيرٍ بِالْعِرَاقِ، وَمَعَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فِي نَحْوِ ثَمَانِي مِائَةِ فَارِسٍ، فَاجْتَمَعُوا هُنَاكَ لِيَتَّصِلَ بِهِمْ بَاقِي عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْجَمِيعِ مُظَفَّرَ الدِّينِ، فَلَمَّا رَأَى قِلَّةَ الْعَسْكَرِ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى قَصْدِ التَّتَرِ. وَحَكَى مُظَفَّرُ الدِّينِ قَالَ: لَمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ الْخَلِيفَةُ فِي مَعْنَى قَصْدِ التَّتَرِ قُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْعَدُوَّ قَوِيٌّ، وَلَيْسَ لِي مِنَ الْعَسْكَرِ مَا أَلْقَاهُ بِهِ، فَإِنِ اجْتَمَعَ مَعِي عَشَرَةُ آلَافِ فَارِسٍ اسْتَنْقَذْتُ مَا أُخِذَ مِنَ الْبِلَادِ فَأَمَرَنِي بِالْمَسِيرِ، وَوَعَدَنِي بِوُصُولِ الْعَسْكَرِ، فَلَمَّا سِرْتُ لَمْ يَحْضُرْ عِنْدِي غَيْرُ عَدَدٍ لَمْ يَبْلُغُوا ثَمَانِيَ مِائَةِ طَوَاشِيٍّ، فَأَقَمْتُ، وَمَا رَأَيْتُ الْمُخَاطَرَةَ بِنَفْسِي وَبِالْمُسْلِمِينَ. وَلَمَّا سَمِعَ التَّتَرُ بِاجْتِمَاعِ الْعَسَاكِرِ لَهُمْ رَجَعُوا الْقَهْقَرَى ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْعَسْكَرَ

يَتْبَعُهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَرَوْا أَحَدًا يَطْلُبُهُمْ أَقَامُوا، وَأَقَامَ الْعَسْكَرُ الْإِسْلَامِيُّ عِنْدَ دَقُوقَا، فَلَمَّا لَمْ يَرَوُا الْعَدُوَّ يَقْصِدُهُمْ، وَلَا الْمَدَدَ يَأْتِيهِمْ، تَفَرَّقُوا، وَعَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ. ذِكْرُ مُلْكِ التَّتَرِ هَمَذَانَ وَقَتْلِ أَهْلِهَا لَمَّا تَفَرَّقَ الْعَسْكَرُ الْإِسْلَامِيُّ عَادَ التَّتَرُ إِلَى هَمَذَانَ فَنَزَلُوا بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَكَانَ لَهُمْ بِهَا شِحْنَةٌ يَحْكُمُ فِيهَا، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ لِيَطْلُبَ مِنْ أَهْلِهَا مَالًا وَثِيَابًا، وَكَانُوا قَدْ اسْتَنْفَذُوا أَمْوَالَهُمْ فِي طُولِ الْمُدَّةِ، وَكَانَ رَئِيسُ هَمَذَانَ شَرِيفًا عَلَوِيًّا، وَهُوَ مِنْ بَيْتِ رِئَاسَةٍ قَدِيمَةٍ لِهَذِهِ الْمَدِينَةِ، هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي أُمُورِ أَهْلِ الْبَلَدِ مَعَ التَّتَرِ، وَيُوصِلُ إِلَيْهِمْ مَا يَجْمَعُهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَلَمَّا طَلَبُوا الْآنَ مِنْهُمُ الْمَالَ لَمْ يَجِدْ أَهْلُ هَمَذَانَ مَا يَحْمِلُونَهُ إِلَيْهِمْ، فَحَضَرُوا عِنْدَ الرَّئِيسِ وَمَعَهُ إِنْسَانٌ فَقِيهٌ قَدْ قَامَ فِي اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْكُفَّارِ قِيَامًا مُرْضِيًا، فَقَالُوا لَهُمَا: هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ قَدْ أَفْنَوْا أَمْوَالَنَا، وَلَمْ يَبْقَ لَنَا مَا نُعْطِيهِمْ، وَقَدْ هَلَكْنَا مِنْ أَخْذِهِمْ أَمْوَالَنَا، وَمَا يَفْعَلُهُ النَّائِبُ عَنْهُمْ بِنَا مِنَ الْهَوَانِ. وَكَانُوا قَدْ جَعَلُوا بِهَمَذَانَ شِحْنَةً لَهُمْ يَحْكُمُ فِي أَهْلِهَا بِمَا يَخْتَارُهُ، فَقَالَ الشَّرِيفُ: إِذَا كُنَّا نَعْجِزُ عَنْهُمْ فَكَيْفَ الْحِيلَةُ؟ فَلَيْسَ لَنَا إِلَّا مُصَانَعَتُهُمْ بِالْأَمْوَالِ، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ أَشَدُّ عَلَيْنَا مِنَ الْكُفَّارِ وَأَغْلَظُوا لَهُ فِي الْقَوْلِ، فَقَالَ: أَنَا وَاحِدٌ مِنْكُمْ، فَاصْنَعُوا مَا شِئْتُمْ. فَأَشَارَ الْفَقِيهُ بِإِخْرَاجِ شِحْنَةِ التَّتَرِ مِنَ الْبَلَدِ وَالِامْتِنَاعِ فِيهِ، وَمُقَاتَلَةِ التَّتَرِ ; فَوَثَبَ الْعَامَّةُ عَلَى الشِّحْنَةِ فَقَتَلُوهُ وَامْتَنَعُوا فِي الْبَلَدِ، فَتَقَدَّمَ التَّتَرُ إِلَيْهِمْ وَحَصَرُوهُمْ، وَكَانَتِ الْأَقْوَاتُ مُتَعَذِّرَةً فِي تِلْكَ الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، لِخَرَابِهَا، وَقَتْلِ أَهْلِهَا، وَجَلَاءِ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الطَّعَامِ إِلَّا قَلِيلًا، وَأَمَّا التَّتَرُ فَلَا يُبَالُونَ بِعَدَمِ الْأَقْوَاتِ لِأَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ إِلَّا اللَّحْمَ، وَلَا تَأْكُلُ دَوَابُّهُمْ إِلَّا نَبَاتَ الْأَرْضِ، حَتَّى إِنَّهَا تَحْفِرُ بِحَوَافِرِهَا الْأَرْضَ عَنْ عُرُوقِ النَّبَاتِ فَتَأْكُلُهَا. فَلَمَّا حَصَرُوا هَمَذَانَ قَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا وَالرَّئِيسُ وَالْفَقِيهُ فِي أَوَائِلِهِمْ، فَقُتِلَ مِنَ التَّتَرِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجُرِحَ الْفَقِيهُ عِدَّةَ جِرَاحَاتٍ، وَافْتَرَقُوا، ثُمَّ خَرَجُوا مِنَ الْغَدِ فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ مِنَ الْقِتَالِ الْأَوَّلِ، وَقُتِلَ أَيْضًا مِنَ التَّتَرِ أَكْثَرُ مِنَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَجُرِحَ الْفَقِيهُ أَيْضًا عِدَّةَ جِرَاحَاتٍ وَهُوَ صَابِرٌ، وَأَرَادُوا أَيْضًا الْخُرُوجَ، الْيَوْمَ الثَّالِثَ، فَلَمْ يُطِقِ الْفَقِيهُ الرُّكُوبَ، وَطَلَبَ النَّاسُ الرَّئِيسَ الْعَلَوِيَّ فَلَمْ يَجِدُوهُ، كَانَ قَدْ هَرَبَ فِي سِرْبٍ صَنَعَهُ إِلَى

ظَاهِرِ الْبَلَدِ هُوَ وَأَهْلُهُ إِلَى قَلْعَةٍ هُنَاكَ عَلَى جَبَلٍ عَالٍ فَامْتَنَعَ فِيهَا. فَلَمَّا فَقَدَهُ النَّاسُ بَقُوا حَيَارَى لَا يَدْرُونَ مَا يَصْنَعُونَ، إِلَّا أَنَّهُمُ اجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ إِلَى أَنْ يَمُوتُوا، فَأَقَامُوا فِي الْبَلَدِ وَلَمْ يَخْرُجُوا مِنْهُ. وَكَانَ التَّتَرُ قَدْ عَزَمُوا عَلَى الرَّحِيلِ عَنْهُمْ لِكَثْرَةِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَرَوْا أَحَدًا خَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَلَدِ طَمِعُوا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ضَعْفِ أَهْلِهِ، فَقَصَدُوهُمْ وَقَاتَلُوهُمْ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ بِالسَّيْفِ، وَقَاتَلَهُمُ النَّاسُ فِي الدُّرُوبِ، فَبَطَلَ السِّلَاحُ لِلزَّحْمَةِ، وَاقْتَتَلُوا بِالسَّكَاكِينِ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوِيَ التَّتَرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَفْنَوْهُمْ قَتْلًا، وَلَمْ يَسْلَمْ إِلَّا مَنْ كَانَ عَمِلَ لَهُ نَفَقًا يَخْتَفِي فِيهِ، وَبَقِيَ الْقَتْلُ فِي الْمُسْلِمِينَ عِدَّةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَلْقَوُا النَّارَ فِي الْبَلَدِ فَأَحْرَقُوهُ وَرَحَلُوا عَنْهُ إِلَى مَدِينَةِ أَرْدَوِيلَ. وَقِيلَ كَانَ السَّبَبُ فِي مُلْكِهَا أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ لَمَّا شَكَوْا إِلَى الرَّئِيسِ الشَّرِيفِ مَا يَفْعَلُ بِهِمُ الْكُفَّارُ، أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِمُكَاتَبَةِ الْخَلِيفَةِ لِيُنْفِذَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا مَعَ أَمِيرٍ يَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ، فَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُنْهِي إِلَيْهِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوْفِ وَالذُّلِّ، وَمَا يَرْكَبُهُمْ بِهِ الْعَدُوُّ مِنَ الصَّغَارِ وَالْخِزْيِ، وَيَطْلُبُ نَجْدَةً وَلَوْ أَلْفَ فَارِسٍ مَعَ أَمِيرٍ يُقَاتِلُونَ مَعَهُ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَارَ الْقُصَّادُ بِالْكُتُبِ أَرْسَلَ بَعْضُ مَنْ عَلِمَ بِالْحَالِ إِلَى التَّتَرِ يُعْلِمُهُمْ ذَلِكَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَذُوهُمْ وَأَخَذُوا الْكُتُبَ مِنْهُمْ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الرَّئِيسِ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ الْحَالَ، فَجَحَدَ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ كُتُبَهُ وَكُتُبَ الْجَمَاعَةِ، فَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمُ التَّتَرُ حِينَئِذٍ وَقَاتَلُوهُمْ، وَجَرَى فِي الْقِتَالِ كَمَا ذَكَرْنَا. ذِكْرُ مَسِيرِ التَّتَرِ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ وَمُلْكِهِمْ أَرْدَوِيلَ وَغَيْرِهَا لَمَّا فَرَغَ التَّتَرُ مِنْ هَمَذَانَ سَارُوا إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، فَوَصَلُوا إِلَى أَرْدَوِيلَ فَمَلَكُوهَا، وَقَتَلُوا فِيهَا وَأَكْثَرُوا، وَخَرَّبُوا أَكْثَرَهَا، وَسَارُوا مِنْهَا إِلَى تِبْرِيزَ، وَكَانَ قَدْ قَامَ بِأَمْرِهَا شَمْسُ الدِّينِ الطُّغْرَائِيُّ، وَجَمَعَ كَلِمَةَ أَهْلِهَا، وَقَدْ فَارَقَهَا صَاحِبُهَا أُوزْبَكُ بْنُ الْبَهْلَوَانِ، وَكَانَ أَمِيرًا مُتَخَلِّفًا، لَا يَزَالُ مُنْهَمِكًا فِي الْخَمْرِ لَيْلًا وَنَهَارًا، يَبْقَى الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ لَا يَظْهَرُ، وَإِذَا سَمِعَ هَيْعَةً طَارَ مُجْفِلًا لَهَا، وَلَهُ جَمِيعُ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانَ، وَهُوَ

أَعْجَزُ خَلْقِ اللَّهِ عَنْ حِفْظِ الْبِلَادِ مِنْ عَدُوٍّ يُرِيدُهَا وَيَقْصِدُهَا. فَلَمَّا سَمِعَ بِمَسِيرِ التَّتَرِ مِنْ هَمَذَانَ فَارَقَ هُوَ تِبْرِيزَ وَقَصَدَ نَقْجُوَانَ، وَسَيَّرَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ إِلَى خُوَيٍّ لِيَبْعُدَ عَنْهُمْ، فَقَامَ هَذَا الطُّغْرَائِيُّ بِأَمْرِ الْبَلَدِ، وَجَمَعَ الْكَلِمَةَ، وَقَوَّى نُفُوسَ النَّاسِ عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَحَذَّرَهُمْ عَاقِبَةَ التَّخَاذُلِ وَالتَّوَانِي، وَحَصَّنَ الْبَلَدَ بِجُهْدِهِ وَطَاقَتِهِ، فَلَمَّا قَارَبَهُ التَّتَرُ، وَسَمِعُوا بِمَا أَهْلُ الْبَلَدِ عَلَيْهِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ قَدْ حَصَّنُوا الْمَدِينَةَ، وَأَصْلَحُوا أَسْوَارَهَا وَخَنْدَقَهَا، أَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَالًا وَثِيَابًا، فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرٍ مَعْلُومٍ مِنْ ذَلِكَ، فَسَيَّرُوهُ إِلَيْهِمْ، فَأَخَذُوهُ وَرَحَلُوا إِلَى مَدِينَةِ سَرَاوَ فَنَهَبُوهَا، وَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ فِيهَا. وَرَحَلُوا مِنْهَا إِلَى بَيْلَقَانَ، مِنْ بِلَادِ أَرَّانَ، فَنَهَبُوا كُلَّ مَا مَرُّوا بِهِ مِنَ الْبِلَادِ وَالْقُرَى، وَخَرَّبُوا، وَقَتَلُوا مَنْ ظَفِرُوا بِهِ مِنْ أَهْلِهَا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى بَيْلَقَانَ حَصَرُوهَا، فَاسْتَدْعَى أَهْلُهَا مِنْهُمْ رَسُولًا يُقِرُّونَ مَعَهُ الصُّلْحَ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ رَسُولًا مِنْ أَكَابِرِهِمْ وَمُقَدَّمِيهِمْ، فَقَتَلَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ، فَزَحَفَ التَّتَرُ إِلَيْهِمْ وَقَاتَلُوهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَلَكُوا الْبَلَدَ عَنْوَةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ وَوَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ، فَلَمْ يُبْقُوا عَلَى صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ، وَلَا امْرَأَةٍ، حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَشُقُّونَ بُطُونَ الْحَبَالَى، وَيَقْتُلُونَ الْأَجِنَّةَ، وَكَانُوا يَفْجُرُونَ بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ يَقْتُلُونَهَا، وَكَانَ الْإِنْسَانُ مِنْهُمْ يَدْخُلُ الدَّرْبَ فِيهِ الْجَمَاعَةُ، فَيَقْتُلُهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى يَفْرَغَ مِنَ الْجَمِيعِ لَا يَمُدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِ يَدًا. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْهَا اسْتَقْصَوْا مَا حَوْلَهَا بِالنَّهْبِ وَالتَّخْرِيبِ، وَسَارُوا إِلَى مَدِينَةِ كَنْجَةَ، وَهِيَ أُمُّ بِلَادِ أَرَّانَ، فَعَلِمُوا بِكَثْرَةِ أَهْلِهَا وَشَجَاعَتِهِمْ لِكَثْرَةِ ذُرِّيَّتِهِمْ بِقِتَالِ الْكَرَجِ، وَحَصَانَتِهَا، فَلَمْ يُقْدِمُوا عَلَيْهَا، فَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِهَا يَطْلُبُونَ مِنْهُمُ الْمَالَ وَالثِّيَابَ، فَحَمَلُوا إِلَيْهِمْ مَا طَلَبُوا، فَسَارُوا عَنْهُمْ. ذِكْرُ قَصْدِ التَّتَرِ بِلَادَ الْكَرَجِ لَمَّا فَرَغَ التَّتَرُ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِأَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانَ، بَعْضِهِ بِالْمُلْكِ، وَبَعْضِهِ بِالصُّلْحِ، سَارُوا إِلَى بِلَادِ الْكَرَجِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ أَيْضًا، وَكَانَ الْكَرَجُ قَدْ أَعَدُّوا لَهُمْ، وَاسْتَعَدُّوا، وَسَيَّرُوا جَيْشًا كَثِيرًا إِلَى طَرَفِ بِلَادِهِمْ لِيَمْنَعُوا التَّتَرَ عَنْهَا، فَوَصَلَ إِلَيْهِمُ

التَّتَرُ، فَالْتَقَوْا، فَلَمْ يَثْبُتِ الْكَرَجُ بَلْ وَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، فَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ، فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ. وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُمْ قُتِلَ مِنْهُمْ نَحْوُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَنَهَبُوا مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَخَرَّبُوهَا، وَفَعَلُوا بِهَا مَا هُوَ عَادَتُهُمْ، فَلَمَّا وَصَلَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى تَفْلِيسَ، وَبِهَا مَلِكُهُمْ جَمَعُوا جُمُوعًا أُخْرَى وَسَيَّرَهُمْ إِلَى التَّتَرِ أَيْضًا لِيَمْنَعُوهُمْ مِنْ تَوَسُّطِ بِلَادِهِمْ، فَرَأَوُا التَّتَرَ وَقَدْ دَخَلُوا الْبِلَادَ لَمْ يَمْنَعْهُمْ جَبَلٌ وَلَا مَضِيقٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَوْا فِعْلَهُمْ عَادُوا إِلَى تَفْلِيسَ، فَأَخْلَوُا الْبِلَادَ، فَفَعَلَ التَّتَرُ فِيهَا مَا أَرَادُوا مِنَ النَّهْبِ، وَالْقَتْلِ، وَالتَّخْرِيبِ، وَرَأَوْا بِلَادًا كَثِيرَةَ الْمَضَايِقِ وَالدَّرْبَنْدَاتِ، فَلَمْ يَتَجَاسَرُوا عَلَى الْوُغُولِ فِيهَا، فَعَادُوا عَنْهَا. وَدَاخَلَ الْكَرَجَ مِنْهُمْ خَوْفٌ عَظِيمٌ، حَتَّى سَمِعْتُ عَنْ بَعْضِ أَكَابِرِ الْكَرَجِ، قَدِمَ رَسُولًا، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ التَّتَرَ انْهَزَمُوا وَأُسِرُوا فَلَا تُصَدِّقُوهُ، وَإِذَا حُدِّثْتُمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوا فَصَدِّقُوهُ، فَإِنَّ الْقَوْمَ لَا يَفِرُّونَ أَبَدًا، وَلَقَدْ أَخَذْنَا أَسِيرًا مِنْهُمْ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ الدَّابَّةِ وَضَرَبَ رَأْسَهُ بِالْحَجَرِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَلَمْ يُسَلِّمْ نَفْسَهُ لِلْأَسْرِ. ذِكْرُ وُصُولِهِمْ إِلَى دَرْبَنْدَ شِرَوَانَ وَمَا فَعَلُوهُ فِيهِ لَمَّا عَادَ التَّتَرُ مِنْ بَلَدِ الْكَرَج قَصَدُوا دَرْبَنْدَ شِرَوَانَ، فَحَصَرُوا مَدِينَةَ شَمَاخِي، وَقَاتَلُوا أَهْلَهَا، فَصَبَرُوا عَلَى الْحَصْرِ، ثُمَّ إِنَّ التَّتَرَ صَعَدُوا سُورَهَا بِالسَّلَالِيمِ، وَقِيلَ بَلْ جَمَعُوا كَثِيرًا مِنِ الْجِمَالِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْ قَتْلَى النَّاسِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَأَلْقَوْا بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ، فَصَارَ مِثْلَ التَّلِّ، وَصَعَدُوا عَلَيْهِ فَأَشْرَفُوا عَلَى الْمَدِينَةِ وَقَاتَلُوا أَهْلَهَا، فَصَبَرُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَأَشْرَفُوا عَلَى أَنْ يُؤْخَذُوا، فَقَالُوا: السَّيْفُ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَالصَّبْرُ أَوْلَى بِنَا نَمُوتُ كِرَامًا. فَصَبَرُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَأَنْتَنَتْ تِلْكَ الْجِيَفُ وَانْهَضَمَتْ، فَلَمْ يَبْقَ لِلتَّتَرِ عَلَى السُّورِ اسْتِعْلَاءٌ، وَلَا تَسَلُّطٌ عَلَى الْحَرْبِ، فَعَاوَدُوا الزَّحْفَ وَمُلَازَمَةَ الْقِتَالِ، فَضَجِرَ أَهُلُهَا، وَمَسَّهُمُ التَّعَبُ وَالْكَلَالُ وَالْإِعْيَاءُ، فَضَعُفُوا، فَمَلَكَ التَّتَرُ الْبَلَدَ، وَقَتَلُوا فِيهِ فَأَكْثَرُوا، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ فَاحْتَازُوهَا.

فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْهُ أَرَادُوا عُبُورَ الدَّرْبَنْدَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ، فَأَرْسَلُوا رَسُولًا إِلَى شِرَوَان شَاهْ مَلِكِ دَرْبَنْدَ شِرَوَانَ يَقُولُونَ لَهُ: لِيُرْسِلْ إِلَيْهِمْ رَسُولًا يَسْعَى بَيْنَهُمْ فِي الصُّلْحِ. فَأَرْسَلَ عَشَرَةَ رِجَالٍ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ، فَأَخَذُوا أَحَدَهُمْ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ قَالُوا لِلْبَاقِينَ: إِنْ أَنْتُمْ عَرَّفْتُمُونَا طَرِيقًا نَعْبُرُ فِيهِ فَلَكُمُ الْأَمَانُ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا قَتَلْنَاكُمْ كَمَا قَتَلْنَا هَذَا فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الدَّرْبَنْدَ لَيْسَ فِيهِ طَرِيقٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنْ فِيهِ مَوْضِعٌ هُوَ أَسْهَلُ مَا فِيهِ مِنَ الطُّرُقِ، فَسَارُوا مَعَهُمْ إِلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ، فَعَبَرُوا فِيهِ، وَخَلَّفُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ. ذِكْرُ مَا فَعَلُوهُ بِاللَّانِ وَقُفْجَاقَ لَمَّا عَبَرَ التَّتَرُ دَرْبَنْدَ شِرَوَانَ سَارُوا فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَفِيهَا أُمَمٌ كَثِيرَةٌ مِنْهُمْ: اللَّانُ وَاللِّكْزُ، وَطَوَائِفُ مِنَ التُّرْكِ، فَنَهَبُوا، وَقَتَلُوا مِنَ اللِّكْزِ كَثِيرًا، وَهُمْ مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ، وَأَوْقَعُوا بِمَنْ عَدَاهُمْ، وَمِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَوَصَلُوا إِلَى اللَّانِ، وَهُمْ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ بَلَغَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَحَذِرُوا، وَجَمَعُوا عِنْدَهُمْ جَمْعًا مِنْ قُفْجَاقَ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَلَمْ تَظْفَرْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، فَأَرْسَلَ التَّتَرُ إِلَى قُفْجَاقَ يَقُولُونَ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَهَؤُلَاءِ اللَّانُ لَيْسُوا مِنْكُمْ حَتَّى تَنْصُرُوهُمْ، وَلَا دِينُكُمْ مِثْلُ دِينِهِمْ، وَنَحْنُ نُعَاهِدُكُمْ أَنَّنَا لَا نَتَعَرَّضُ لَكُمْ، وَنَحْمِلُ إِلَيْكُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالثِّيَابِ مَا شِئْتُمْ، وَتَتْرُكُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ عَلَى مَالٍ حَمَلُوهُ، وَثِيَابٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَحَمَلُوا إِلَيْهِمْ مَا اسْتَقَرَّ وَفَارَقَهُمْ قُفْجَاقُ، فَأَوْقَعَ التَّتَرُ بِاللَّانِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَأَكْثَرُوا وَنَهَبُوا، وَسَبَوْا، وَسَارُوا إِلَى قُفْجَاقَ، وَهُمْ آمِنُونَ مُتَفَرِّقُونَ لِمَا اسْتَقَرَّ بَيْنَهُمْ مِنَ الصُّلْحِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا بِهِمْ إِلَّا وَقَدْ طَرَقُوهُمْ، وَدَخَلُوا بِلَادَهُمْ فَأَوْقَعُوا بِهِمُ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَضْعَافَ مَا حَمَلُوا إِلَيْهِمْ. وَسَمِعَ مَنْ كَانَ بَعِيدَ الدَّارِ مِنْ قُفْجَاقَ الْخَبَرَ، فَفَرُّوا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَأَبْعَدُوا، فَبَعْضُهُمُ اعْتَصَمَ بِالْغِيَاضِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْجِبَالِ، وَبَعْضُهُمْ لَحِقَ بِبِلَادِ الرُّوسِ. وَأَقَامَ التَّتَرُ فِي بِلَادِ قُفْجَاقَ، وَهِيَ أَرْضٌ كَثِيرَةُ الْمَرَاعِي فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَفِيهَا أَمَاكِنُ بَارِدَةٌ فِي الصَّيْفِ كَثِيرَةُ الْمَرْعَى، وَأَمَاكِنُ حَارَّةٌ فِي الشِّتَاءِ كَثِيرَةُ الْمَرْعَى،

وَهِيَ غِيَاضٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَوَصَلُوا إِلَى مَدِينَةِ سُودَاقَ، وَهِيَ مَدِينَةُ قُفْجَاقَ الَّتِي مِنْهَا مَادَّتُهُمْ، فَإِنَّهَا عَلَى بَحْرِ الْخَزَرِ، وَالْمَرَاكِبُ تَصِلُ إِلَيْهَا وَفِيهَا الثِّيَابُ، فَيَشْتَرِي قُفْجَاقُ مِنْهُمْ وَيَبِيعُونَ عَلَيْهِمُ الْجَوَارِيَ، وَالْمَمَالِيكَ، وَالْبُرْطَاسِيَّ، وَالْقُنْدُزَ، وَالسِّنْجَابَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي بِلَادِهِمْ، وَبَحْرُ الْخَزَرِ هَذَا هُوَ بَحْرٌ مُتَّصِلٌ بِخَلِيجِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. وَلَمَّا وَصَلَ التَّتَرُ إِلَى سُودَاقَ مَلَكُوهَا، وَتَفَرَّقَ أَهْلُهَا مِنْهَا، فَبَعْضُهُمْ صَعِدَ الْجِبَالَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَبَعْضُهُمْ رَكِبَ الْبَحْرَ وَسَارَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ الَّتِي بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَوْلَادِ قَلْجِ أَرْسِلَان. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ التَّتَرُ بِقُفْجَاقَ وَالرُّوسِ لَمَّا اسْتَوْلَى التَّتَرُ عَلَى أَرْضِ قُفْجَاقَ، وَتَفَرَّقَ قُفْجَاقُ، كَمَا ذَكَرْنَا، سَارَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهُمْ إِلَى بِلَادِ الرُّوسِ، وَهِيَ بِلَادٌ كَثِيرَةٌ، طَوِيلَةٌ عَرِيضَةٌ، تُجَاوِرُهُمْ، وَأَهْلُهَا يَدِينُونَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِمُ اجْتَمَعُوا، كُلُّهُمْ وَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى قِتَالِ التَّتَرِ إِنْ قَصَدُوهُمْ، وَأَقَامَ التَّتَرُ بِأَرْضِ قُفْجَاقَ مُدَّةً، ثُمَّ إِنَّهُمْ سَارُوا سَنَةَ عِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ إِلَى بِلَادِ الرُّوسِ، فَسَمِعَ الرُّوسُ وَقُفْجَاقُ خَبَرَهُمْ، وَكَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِقِتَالِهِمْ، فَسَارُوا إِلَى طَرِيقِ التَّتَرِ لِيَلْقَوْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى بِلَادِهِمْ لِيَمْنَعُوهُمْ عَنْهَا، فَبَلَغَ مَسِيرُهُمْ إِلَى التَّتَرِ، فَعَادُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ رَاجِعِينَ، فَطَمِعَ الرُّوسُ وَقُفْجَاقُ فِيهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ عَادُوا خَوْفًا مِنْهُمْ وَعَجْزًا عَنْ قِتَالِهِمْ، فَجَدُّوا فِي اتِّبَاعِهِمْ، وَلَمْ يَزَلِ التَّتَرُ رَاجِعِينَ، وَأُولَئِكَ يَقْفُونَ أَثَرَهُمْ، اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا. ثُمَّ إِنِ التَّتَرَ عَطَفُوا عَلَى الرُّوسِ وَقُفْجَاقَ، فَلَمْ يَشْعُرُوا بِهِمْ إِلَّا وَقَدْ لَقُوهُمْ عَلَى غِرَّةٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَمِنُوا التَّتَرَ، وَاسْتَشْعَرُوا الْقُدْرَةَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ تَتَكَامَلْ عِدَّتُهُمْ لِلْقِتَالِ إِلَّا وَقَدْ بَلَغَ التَّتَرُ مِنْهُمْ مَبْلَغًا عَظِيمًا، فَصَبَرَ الطَّائِفَتَانِ صَبْرًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ. وَدَامَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ عِدَّةَ أَيَّامٍ ثُمَّ إِنَّ التَّتَرَ ظَفِرُوا وَاسْتَظْهَرُوا، فَانْهَزَمَ قُفْجَاقُ وَالرُّوسُ هَزِيمَةً عَظِيمَةً بَعْدَ أَنْ أَثْخَنَ فِيهِمُ التَّتَرُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْمُنْهَزِمِينَ فَلَمْ يَسْلَمْ

مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَنُهِبَ جَمِيعُ مَا مَعَهُمْ، وَمَنْ سَلِمَ وَصَلَ إِلَى الْبِلَادِ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ لِبُعْدِ الطَّرِيقِ وَالْهَزِيمَةِ، وَتَبِعَهُمُ التَّتَرُ يَقْتُلُونَ وَيَنْهَبُونَ وَيُخَرِّبُونَ الْبِلَادَ حَتَّى خَلَا أَكْثَرُهَا، فَاجْتَمَعَ كَثِيرٌ مِنْ أَعْيَانِ تُجَّارِ الرُّوسِ وَأَغْنِيَائِهِمْ، وَحَمَلُوا مَا يَعِزُّ عَلَيْهِمْ وَسَارُوا يَقْطَعُونَ الْبَحْرَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي عِدَّةِ مَرَاكِبَ، فَلَمَّا قَارَبُوا الْمَرْسَى الَّذِي يُرِيدُونَهُ انْكَسَرَ مَرْكَبٌ مِنْ مَرَاكِبِهِمْ فَغَرِقَ إِلَّا أَنَّ النَّاسَ نَجَوْا وَكَانَتِ الْعَادَةُ جَارِيَةً أَنَّ السُّلْطَانَ لَهُ كُلُّ مَرْكَبٍ يَنْكَسِرُ، فَأَخَذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا وَسَلِمَ بَاقِي الْمَرَاكِبِ وَأَخْبَرَ مَنْ بِهَا بِهَذِهِ الْحَالِ ذِكْرُ عَوْدِ التَّتَرِ مِنْ بِلَادِ الرُّوسِ وَقُفْجَاقَ إِلَى مَلِكِهِمْ لَمَّا فَعَلَ التَّتَرُ بِالرُّوسِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَنَهَبُوا بِلَادَهُمْ عَادُوا عَنْهَا وَقَصَدُوا بِلْغَارَ أَوَاخِرَ سَنَةِ عِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ بِلْغَارَ بِقُرْبِهِمْ مِنْهُمْ كَمَنُوا لَهُمْ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَخَرَجُوا إِلَيْهِمْ، فَلَقُوهُمْ وَاسْتَجَرُّوهُمْ إِلَى أَنْ جَاوَزُوا مَوْضِعَ الْكُمَنَاءِ، فَخَرَجُوا عَلَيْهِمْ مِنْ وَرَاءِ ظُهُورِهِمْ فَبَقُوا فِي الْوَسَطِ وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ مِنْ نَاحِيَةٍ فَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ قِيلَ: كَانُوا نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلَافِ رَجُلٍ فَسَارُوا إِلَى سَقْسِينَ عَائِدِينَ إِلَى مَلِكِهِمْ جِنْكِزْخَانْ، وَخَلَتْ أَرْضُ قُفْجَاقَ مِنْهُمْ فَعَادَ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَكَانَ الطَّرِيقُ مُنْقَطِعًا مُذْ دَخَلَهَا التَّتَرُ، فَلَمْ يَصِلْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْبَرْطَاسِي وَالسِّنْجَابِ وَالْقُنْدُزِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُحْمَلُ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ، فَلَمَّا فَارَقُوهَا عَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَاتَّصَلَتِ الطَّرِيقُ وَحُمِلَتِ الْأَمْتِعَةُ كَمَا كَانَتْ.

هَذِهِ أَخْبَارُ التَّتَرِ الْمُغَرِّبَةِ قَدْ ذَكَرْنَاهَا سِيَاقَةً وَاحِدَةً لِئَلَّا تَنْقَطِعَ. ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ التَّتَرُ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ بَعْدَ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ قَدْ ذَكَرْنَا مَا فَعَلَهُ التَّتَرُ الْمُغَرِّبَةُ الَّتِي سَيَّرَهَا مَلِكُهُمْ جِنْكِزْخَانْ، لَعَنَهُ اللَّهُ، إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ أَمَّا جِنْكِزْخَانْ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ سَيَّرَ هَذِهِ الطَّائِفَةَ إِلَى خُوَارَزْم شَاهْ وَبَلَغَهُ انْهِزَامُ خُوَارَزْم شَاهْ مِنْ خُرَاسَانَ، قَسَّمَ أَصْحَابَهُ عِدَّةَ أَقْسَامٍ، فَسَيَّرَ قِسْمًا مِنْهَا إِلَى بِلَادِ فِرْغَانَةَ لِيَمْلِكُوهَا، وَسَيَّرَ قِسْمًا آخَرَ مِنْهَا إِلَى تِرْمِذَ ; وَسَيَّرَ قِسْمًا مِنْهَا إِلَى كَلَانَةَ، وَهِيَ قَلْعَةٌ حَصِينَةٌ عَلَى جَانِبِ جَيْحُونَ، مَنْ أَحْصَنِ الْقِلَاعِ، وَأَمْنَعِ الْحُصُونِ، فَسَارَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي أُمِرَتْ بِقَصْدِهَا، وَنَازَلَتْهَا، وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهَا، وَفَعَلَتْ مِنَ الْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ، وَالسَّبْيِ، وَالنَّهْبِ، وَالتَّخْرِيبِ، وَأَنْوَاعِ الْفَسَادِ، مِثْلَ مَا فَعَلَ أَصْحَابُهُمْ. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ عَادُوا إِلَى مَلِكِهِمْ جِنْكِزْخَانْ وَهُوَ بِسَمَرْقَنْدَ، فَجَهَّزَ جَيْشًا عَظِيمًا مَعَ أَحَدِ أَوْلَادِهِ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى خُوَارَزْمَ، وَسَيَّرَ جَيْشًا آخَرَ فَعَبَرُوا جَيْحُونَ إِلَى خُرَاسَانَ. ذِكْرُ مُلْكِ التَّتَرِ خُرَاسَانَ لَمَّا سَارَ الْجَيْشُ الْمُنَفَّذُ إِلَى خُرَاسَانَ عَبَرُوا جَيْحُونَ، وَقَصَدُوا مَدِينَةَ بَلْخَ، فَطَلَبَ أَهْلُهَا الْأَمَانَ، فَأَمَّنُوهُمْ، فَسَلَّمَ الْبَلَدَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ بِنَهْبٍ وَلَا قَتْلٍ، بَلْ جَعَلُوا فِيهِ شِحْنَةً، وَسَارُوا وَقَصَدُوا الزُّوزَانَ، وَمِيمَنْدَ، وَأَنْدَخُويَ، وَقَارِيَاتِ، فَمَلَكُوا الْجَمِيعَ وَجَعَلُوا فِيهِ وُلَاةً، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِأَهْلِهَا بِسُوءٍ وَلَا أَذًى، سِوَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُوا الرِّجَالَ لِيُقَاتِلُوا بِهِمْ مَنْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى الطَّالْقَانَ، وَهِيَ وِلَايَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى عِدَّةِ بِلَادٍ، وَفِيهَا قَلْعَةٌ حَصِينَةٌ يُقَالُ لَهَا مَنْصُورْكُوهْ، لَا تُرَامُ عُلُوًّا وَارْتِفَاعًا، وَبِهَا رِجَالٌ يُقَاتِلُونَ، شُجْعَانٌ، فَحَصَرُوهَا مَدَّةَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يُقَاتِلُونَ أَهْلَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا يَظْفَرُونَ مِنْهَا بِشَيْءٍ

فَأَرْسَلُوا إِلَى جِنْكِزْخَانْ يُعَرِّفُونَهُ عَجْزَهُمْ عَنْ مُلْكِ هَذِهِ الْقَلْعَةِ، لِكَثْرَةِ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَلِامْتِنَاعِهَا بِحَصَانَتِهَا، فَسَارَ بِنَفْسِهِ وَبِمَنْ عِنْدَهُ مِنْ جُمُوعِهِ إِلَيْهِمْ، وَحَصَرَهَا، وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَسْرَى، فَأَمَرَهُمْ بِمُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ وَإِلَّا قَتَلَهُمْ، فَقَاتَلُوا مَعَهُ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أُخْرَى، فَقُتِلَ مِنَ التَّتَرِ عَلَيْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا رَأَى مَلِكُهُمْ ذَلِكَ أَمَرَ أَنْ يُجْمَعَ لَهُ مِنَ الْحَطَبِ وَالْأَخْشَابِ مَا أَمْكَنَ جَمْعُهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَصَارُوا يَعْمَلُونَ صَفًّا مِنْ خَشَبٍ وَفَوْقَهُ صَفًّا مِنْ تُرَابٍ، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى صَارَ تَلًّا عَالِيًا يُوَازِي الْقَلْعَةَ، وَصَعِدَ الرَّجَّالَةُ فَوْقَهُ وَنَصَبُوا عَلَيْهِ مَنْجَنِيقًا فَصَارَ يَرْمِي إِلَى وَسَطِ الْقَلْعَةِ وَحَمَلُوا عَلَى التَّتَرِ حَمْلَةً وَاحِدَةً فَسَلِمَ الْخَيَّالَةُ مِنْهُمْ وَنَجَوْا، وَسَلَكُوا تِلْكَ الْجِبَالَ وَالشِّعَابَ. وَأَمَّا الرَّجَّالَةُ فَقُتِلُوا، وَدَخَلَ التَّتَرُ الْقَلْعَةَ، وَسَبَوُا النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَمْتِعَةَ. ثُمَّ إِنَّ جِنْكِزْخَانْ جَمَعَ أَهْلَ الْبِلَادِ الَّذِينَ أَعْطَاهُمُ الْأَمَانَ بِبَلْخَ وَغَيْرِهَا، وَسَيَّرَهُمْ مَعَ بَعْضِ أَوْلَادِهِ إِلَى مَدِينَةِ مَرْوَ، فَوَصَلُوا إِلَيْهَا وَقَدِ اجْتَمَعَ بِهَا مَعَ الْأَعْرَابِ وَالْأَتْرَاكِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ نَجَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَتَيْ أَلْفِ رَجُلٍ، وَهُمْ مُعَسْكِرُونَ بِظَاهِرِ مَرْوَ، وَهُمْ عَازِمُونَ عَلَى لِقَاءِ التَّتَرِ، وَيُحَدِّثُونَ نُفُوسَهُمْ بِالْغَلَبَةِ لَهُمْ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا وَصَلَ التَّتَرُ إِلَيْهِمُ الْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَصَبَرَ الْمُسْلِمُونَ وَأَمَّا التَّتَرُ فَلَا يَعْرِفُونَ الْهَزِيمَةَ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ أُسِرَ، فَقَالَ وَهُوَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ: إِنْ قِيلَ إِنَّ التَّتَرَ يَقْتُلُونَ فَصَدِّقُوا، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمُ انْهَزَمُوا فَلَا تُصَدِّقُوا. فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ صَبْرَ التَّتَرِ وَإِقْدَامَهُمْ، وَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، فَقَتَلَ التَّتَرُ مِنْهُمْ وَأَسَرُوا

الْكَثِيرَ، وَلَمْ يَسْلَمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَسِلَاحُهُمْ، وَدَوَابُّهُمْ، وَأَرْسَلَ التَّتَرُ إِلَى مَا حَوْلَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ يَجْمَعُونَ الرِّجَالَ لِحِصَارِ مَرْوَ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ لَهُمْ مَا أَرَادُوا تَقَدَّمُوا إِلَى مَرْوَ وَحَصَرُوهَا، وَجَدُّوا فِي حَصْرِهَا، وَلَازَمُوا الْقِتَالَ وَكَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ قَدْ ضَعُفُوا بِانْهِزَامِ ذَلِكَ الْعَسْكَرِ، وَكَثْرَةِ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ فِيهِمْ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الْخَامِسُ مِنْ نُزُولِهِمْ أَرْسَلَ التَّتَرُ إِلَى الْأَمِيرِ الَّذِي بِهَا مُتَقَدِّمًا عَلَى مَنْ فِيهَا يَقُولُونَ لَهُ: لَا تُهْلِكْ نَفْسَكَ وَأَهْلَ الْبَلَدِ، وَاخْرُجْ إِلَيْنَا فَنَحْنُ نَجْعَلُكَ أَمِيرَ هَذِهِ الْبَلْدَةِ وَنَرْحَلُ عَنْكَ. فَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ وَلِأَهْلِ الْبَلَدِ، فَأَمَّنَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ ابْنُ جِنْكِزْخَانْ، وَاحْتَرَمَهُ، وَقَالَ لَهُ: أُرِيدُ أَنْ تَعْرِضَ عَلَيَّ أَصْحَابَكَ حَتَّى نَنْظُرَ مَنْ يَصْلُحُ لِخِدْمَتِنَا اسْتَخْدَمْنَاهُ، وَأَعْطَيْنَاهُ إِقْطَاعًا، وَيَكُونُ مَعَنَا. فَلَمَّا حَضَرُوا عِنْدَهُ، وَتَمَكَّنَ مِنْهُمْ، قَبَضَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمِيرِهِمْ، وَكَتَّفُوهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُمْ قَالَ لَهُمْ: اكْتُبُوا إِلَى تُجَّارِ الْبَلَدِ وَرُؤَسَائِهِ، وَأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فِي جَرِيدَةٍ، وَاكْتُبُوا إِلَى أَرْبَابِ الصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفِ فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى، وَاعْرِضُوا ذَلِكَ عَلَيْنَا فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى النُّسَخِ أَمَرَ أَنْ يَخْرُجَ أَهْلُ الْبَلَدِ مِنْهُ بِأَهْلِيهِمْ، فَخَرَجُوا كُلُّهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ أَحَدٌ، فَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيٍّ مِنْ ذَهَبٍ وَأَمَرَ أَنْ يُحْضَرَ أُولَئِكَ الْأَجْنَادُ الَّذِينَ قَبَضَ عَلَيْهِمْ، فَأُحْضِرُوا، وَضُرِبَتْ رِقَابُهُمْ صَبْرًا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ وَيَبْكُونَ. وَأَمَّا الْعَامَّةُ فَإِنَّهُمْ قَسَّمُوا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ وَالْأَمْوَالَ، فَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا مِنْ كَثْرَةِ الصُّرَاخِ وَالْبُكَاءِ وَالْعَوِيلِ، أَخَذُوا أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ فَضَرَبُوهُمْ، وَعَذَّبُوهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ فِي طَلَبِ الْأَمْوَالِ، فَرُبَّمَا مَاتَ أَحَدُهُمْ مِنْ شِدَّةِ الضَّرْبِ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ لَهُ مَا يَفْتَدِي بِهِ نَفْسَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَحْرَقُوا الْبَلَدَ، وَأَحْرَقُوا تُرْبَةَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَنَبَشُوا الْقَبْرَ طَلَبًا لِلْمَالِ، فَبَقُوا كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ أَمَرَ بِقَتْلِ أَهْلِ الْبَلَدِ كَافَّةً، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ عَصَوْا عَلَيْنَا، فَقَتَلُوهُمْ أَجْمَعِينَ ; وَأَمَرَ بِإِحْصَاءِ الْقَتْلَى، فَكَانُوا نَحْوَ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ قَتِيلٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ مِمَّا جَرَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ الْيَوْمَ.

ثُمَّ سَارُوا إِلَى نَيْسَابُورَ فَحَصَرُوهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَبِهَا جَمْعٌ صَالِحٌ مِنَ الْعَسْكَرِ الْإِسْلَامِيِّ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِالتَّتَرِ قُوَّةٌ، فَمَلَكُوا الْمَدِينَةَ، وَأَخْرَجُوا أَهْلَهَا إِلَى الصَّحْرَاءِ فَقَتَلُوهُمْ، وَسَبَوْا حَرِيمَهُمْ، وَعَاقَبُوا مَنِ اتَّهَمُوهُ بِالْمَالِ، كَمَا فَعَلُوا بِمُرْوَ، وَأَقَامُوا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُخَرِّبُونَ، وَيُفَتِّشُونَ الْمَنَازِلَ عَنِ الْأَمْوَالِ. وَكَانُوا لَمَّا قَتَلُوا أَهْلَ مَرْوَ قِيلَ لَهُمْ إِنَّ قَتْلَاهُمْ سَلِمَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، وَنَجَوْا إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَرُوا بِأَهْلِ نَيْسَابُورَ أَنْ تُقْطَعَ رُءُوسُهُمْ لِئَلَّا يَسْلَمَ مِنَ الْقَتْلِ أَحَدٌ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ سَيَّرُوا طَائِفَةً مِنْهُمْ إِلَى طُوسَ، فَفَعَلُوا بِهَا كَذَلِكَ أَيْضًا، وَخَرَّبُوهَا، وَخَرَّبُوا الْمَشْهَدَ الَّذِي فِيهِ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَى، وَالرَّشِيدُ، حَتَّى جَعَلُوا الْجَمِيعَ خَرَابًا. ثُمَّ سَارُوا إِلَى هَرَاةَ، وَهِيَ مِنْ أَحْصَنِ الْبِلَادِ، فَحَصَرُوهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَمَلَكُوهَا وَأَمَّنُوا أَهْلَهَا، وَقَتَلُوا مِنْهُمُ الْبَعْضَ، وَجَعَلُوا عِنْدَ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ شِحْنَةً، وَسَارُوا إِلَى غَزْنَةَ، فَلَقِيَهُمْ جَلَالُ الدِّينِ بْنُ خُوَارَزْم شَاهْ، فَقَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَوَثَبَ أَهْلُ هَرَاةَ عَلَى الشِّحْنَةِ فَقَتَلُوهُ، فَلَمَّا عَادَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَيْهِمْ دَخَلُوا الْبَلَدَ قَهْرًا وَعَنْوَةً، وَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ فِيهِ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ وَسَبَوُا الْحَرِيمَ، وَنَهَبُوا السَّوَادَ خَرَّبُوا الْمَدِينَةَ جَمِيعَهَا وَأَحْرَقُوهَا، وَعَادُوا إِلَى مَلِكِهِمْ جِنْكِزْخَانْ، وَهُوَ بِالطَّالْقَانِ يُرْسِلُ السَّرَايَا إِلَى جَمِيعِ بِلَادِ خُرَاسَانَ فَفَعَلُوا بِهَا كَذَلِكَ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ شَرِّهِمْ وَفَسَادِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَ جَمِيعُ مَا فَعَلُوهُ بِخُرَاسَانَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ. ذِكْرُ مُلْكِهِمْ خُوَارَزْمَ وَتَخْرِيبِهَا أَمَّا الطَّائِفَةُ مِنَ الْجَيْشِ الَّتِي سَيَّرَهَا جِنْكِزْخَانْ إِلَى خُوَارَزْمَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ أَكْثَرُ

السَّرَايَا جَمِيعِهَا لِعِظَمِ الْبَلَدِ، فَسَارُوا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى خُوَارَزْمَ وَفِيهَا عَسْكَرٌ كَبِيرٌ، وَأَهْلُ الْبَلَدِ مَعْرُوفُونَ بِالشَّجَاعَةِ وَالْكَثْرَةِ، فَقَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ قِتَالٍ سَمِعَ بِهِ النَّاسُ، وَدَامَ الْحَصْرُ لَهُمْ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، إِلَّا أَنَّ الْقَتْلَى مِنَ التَّتَرِ كَانُوا أَكْثَرَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانَ يَحْمِيهُمُ السُّورُ. فَأَرْسَلَ التَّتَرُ إِلَى مَلِكِهِمْ جِنْكِزْخَانْ يَطْلُبُونَ الْمَدَدَ، فَأَمَدَّهُمْ بِخَلْقٍ كَثِيرٍ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْبَلَدِ زَحَفُوا زَحْفًا مُتَتَابِعًا، فَمَلَكُوا طَرَفًا مِنْهُ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْبَلَدِ وَقَاتَلُوهُمْ فِي طَرَفِ الْمَوْضِعِ الَّذِي مَلَكُوا، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى إِخْرَاجِهِمْ، وَلَمْ يَزَالُوا يُقَاتِلُونَهُمْ، وَالتَّتَرُ يَمْلِكُونَ مِنْهُمْ مَحَلَّةً بَعْدَ مَحَلَّةٍ، وَكُلَّمَا مَلَكُوا مَحَلَّةً قَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَحَلَّةِ الَّتِي تَلِيهِمْ، فَكَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يُقَاتِلُونَ، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى مَلَكُوا الْبَلَدَ جَمِيعَهُ، وَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ فِيهِ، وَنَهَبُوا كُلَّ مَا فِيهِ ثُمَّ إِنَّهُمْ فَتَحُوا السَّكْرَ الَّذِي يَمْنَعُ مَاءَ جَيْحُونَ عَنِ الْبَلَدِ، فَدَخَلَهُ الْمَاءُ، فَغَرِقَ الْبَلَدُ، جَمِيعُهُ وَتَهَدَّمَتِ الْأَبْنِيَةُ وَبَقِيَ مَوْضِعُهُ مَاءٌ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ أَهْلِهِ أَحَدٌ الْبَتَّةَ، فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْبِلَادِ قَدْ كَانَ يَسْلَمُ بَعْضُ أَهْلِهِ، مِنْهُمْ مَنْ يَخْتَفِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْرُبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْرُجُ ثُمَّ يَسْلَمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْقِي نَفْسَهُ بَيْنَ الْقَتْلَى فَيَنْجُو. وَأَمَّا أَهْلُ خُوَارَزْمَ فَمَنِ اخْتَفَى مِنَ التَّتَرِ غَرَّقَهُ الْمَاءُ أَوْ قَتَلَهُ الْهَدْمُ، فَأَصْبَحَتْ خَرَابًا يَبَابًا كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ وَهَذَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَمِنَ الْخِذْلَانِ بَعْدَ النَّصْرِ، فَلَقَدْ عَمَّتْ هَذِهِ الْمُصِيبَةُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّ الْقَاصِدِينَ مِنَ التُّجَّارِ وَغَيْرِهِمْ كَانُوا كَثِيرًا، مَضَى الْجَمِيعُ تَحْتَ السَّيْفِ.

وَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ خُرَاسَانَ وَخُوَارَزْمَ عَادُوا إِلَى مَلِكِهِمْ بَالطَّالْقَانِ. ذِكْرُ مُلْكِ التَّتَرِ غَزْنَةَ وَبِلَادِ الْغُورِ لَمَّا فَرَغَ التَّتَرُ مِنْ خُرَاسَانَ وَعَادُوا إِلَى مَلِكِهِمْ جَهَّزَ جَيْشًا كَثِيفًا وَسَيَّرَهُ إِلَى غَزْنَةَ وَبِهَا جَلَالُ الدِّينِ بْنُ خُوَارَزْم شَاهْ مَالِكًا لَهَا، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ سَلِمَ مَنْ عَسْكَرِ أَبِيهِ، قِيلَ: كَانُوا سِتِّينَ أَلْفًا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى أَعْمَالِ غَزْنَةَ خَرَجَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ مَعَ ابْنِ خُوَارَزْم شَاهْ إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ بَلْقُ، فَالْتَقَوْا هُنَاكَ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَبَقُوا كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَانْهَزَمَ التَّتَرُ وَقَتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ كَيْفَ شَاءُوا، وَمَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ عَادَ إِلَى مَلِكِهِمْ بِالطَّالْقَانِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ هَرَاةَ بِذَلِكَ ثَارُوا بِالْوَالِي الَّذِي عِنْدَهُمْ لِلتَّتَرِ فَقَتَلُوهُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ جِنْكِزْخَانْ عَسْكَرًا فَمَلَكُوا الْبَلَدَ وَخَرَّبُوهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. فَلَمَّا انْهَزَمَ التَّتَرُ أَرْسَلَ جَلَالُ الدِّينِ رَسُولًا إِلَى جِنْكَزْخَانْ يَقُولُ لَهُ: فِي أَيِّ مَوْضِعٍ تُرِيدُ أَنْ يَكُونَ الْحَرْبُ حَتَّى نَأْتِيَ إِلَيْهِ؟ فَجَهَّزَ جِنْكَزْخَانْ عَسْكَرًا كَثِيرًا، أَكْثَرَ مِنَ الْأَوَّلِ مَعَ بَعْضِ أَوْلَادِهِ، وَسَيَّرَهُ إِلَيْهِ، فَوَصَلَ إِلَى كَابُلَ، فَتَوَجُّهَ الْعَسْكَرُ الْإِسْلَامِيُّ إِلَيْهِمْ، وَتَصَافُّوا هُنَاكَ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ قِتَالٌ عَظِيمٌ، فَانْهَزَمَ الْكُفَّارُ ثَانِيًا، فَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مَا مَعَهُمْ، وَكَانَ عَظِيمًا، وَكَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَاسْتَنْقَذُوهُمْ وَخَلَّصُوهُمْ. ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ جَرَى بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ لِأَجْلِ الْغَنِيمَةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَمِيرًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ سَيْفُ الدِّينِ بُغْرَاقَ، أَصْلُهُ مِنَ الْأَتْرَاكِ الْخُلْجِ، كَانَ شُجَاعًا مِقْدَامًا، ذَا رَأْيٍ فِي الْحَرْبِ وَمَكِيدَةٍ، وَاصْطَلَى الْحَرْبَ مَعَ التَّتَرِ بِنَفْسِهِ، وَقَالَ لِعَسْكَرِ جَلَالِ الدِّينِ: تَأَخَّرُوا أَنْتُمْ فَقَدَ مُلِئْتُمْ مِنْهُمْ رُعْبًا وَهُوَ الَّذِي كَسَرَ التَّتَرَ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَكَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا أَمِيرٌ كَبِيرٌ يُقَالُ لَهُ مُلْكُ خَانْ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُوَارَزْم شَاهْ نَسَبٌ، وَهُوَ صَاحِبُ هَرَاةَ، فَاخْتَلَفَ هَذَانِ الْأَمِيرَانِ فِي الْغَنِيمَةِ، فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ أَخٌ لِبُغْرَاقَ. فَقَالَ بُغْرَاقُ: أَنَا أَهْزِمُ الْكُفَّارَ وَيُقْتَلُ أَخِي لِأَجْلِ هَذَا السُّحْتِ، فَغَضِبَ وَفَارَقَ الْعَسْكَرَ وَسَارَ إِلَى الْهِنْدِ، فَتَبِعَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ ثَلَاثُونَ أَلْفًا كُلُّهُمْ يُرِيدُونَهُ، فَاسْتَعْطَفَهُ جَلَالُ الدِّينِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَسَارَ بِنَفْسِهِ إِلَيْهِ، وَذَكَّرَهُ الْجِهَادَ، وَخَوَّفَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَكَى

بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ، وَسَارَ مُفَارِقًا، فَانْكَسَرَ لِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ وَضَعُفُوا. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ وَرَدَ الْخَبَرُ أَنَّ جِنْكِزَخَانْ قَدْ وَصَلَ فِي جُمُوعِهِ وَجُيُوشِهِ، فَلَمَّا رَأَى جَلَالُ الدِّينِ ضَعْفَ الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِ مَنْ فَارَقَهُمْ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمُقَامِ، سَارَ نَحْوُ بِلَادِ الْهِنْدِ، فَوَصَلَ إِلَى مَاءِ السِّنْدِ، وَهُوَ نَهْرٌ كَبِيرٌ، فَلَمْ يَجِدْ مِنَ السُّفُنِ مَا يَعْبُرُ فِيهِ. وَكَانَ جِنْكِزْخَانْ يَقُصُّ أَثَرَهُ مُسْرِعًا، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ جَلَالُ الدِّينِ مِنَ الْعُبُورِ، حَتَّى أَدْرَكَهُ جِنْكِزْخَانْ فِي التَّتَرِ، فَاضْطَرَّ الْمُسْلِمُونَ حِينَئِذٍ إِلَى الْقِتَالِ وَالصَّبْرِ لِتَعَذُّرِ الْعُبُورِ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ كَالْأَشْقَرِ إِنْ تَأَخَّرَ يُقْتَلْ وَإِنْ تَقَدَّمَ يُعْقَرْ، فَتَصَافُّوا وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، اعْتَرَفُوا كُلُّهُمْ أَنَّ كُلَّ مَا مَضَى مِنَ الْحُرُوبِ كَانَ لَعِبًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْقِتَالِ، فَبَقُوا كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقُتِلَ الْأَمِيرُ مَلِكُ خَانْ الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ الْقَتْلُ فِي الْكُفَّارِ أَكْثَرَ، وَالْجِرَاحُ أَعْظَمُ، فَرَجَعَ الْكُفَّارُ عَنْهُمْ، فَأَبْعَدُوا، وَنَزَلُوا عَلَى بُعْدٍ، فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ لَا مَدَدَ لَهُمْ، وَقَدِ ازْدَادُوا ضَعْفًا بِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَجُرِحَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَا أَصَابَ الْكُفَّارَ مِنْ ذَلِكَ، أَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ السُّفُنَ، فَوَصَلَتْ، وَعَبَرَ الْمُسْلِمُونَ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ عَادَ الْكُفَّارُ إِلَى غَزْنَةَ، وَقَدْ قَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ بِعُبُورِ الْمُسْلِمِينَ الْمَاءَ إِلَى جِهَةِ الْهِنْدِ وَبُعْدِهِمْ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا مَلَكُوهَا لِوَقْتِهَا لِخُلُوِّهَا مِنَ الْعَسَاكِرِ وَالْمُحَامِي، فَقَتَلُوا أَهْلَهَا، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَسَبَوُا الْحَرِيمَ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ، وَخَرَّبُوهَا وَأَحْرَقُوهَا، وَفَعَلُوا بِسَوَادِهَا كَذَلِكَ، وَنَهَبُوا وَقَتَلُوا وَأَحْرَقُوا، فَأَصْبَحَتْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ جَمِيعُهَا خَالِيَةً مِنَ الْأَنِيسِ، خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا كَأَنَّ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ

ذِكْرُ تَسْلِيمِ الْأَشْرَفِ خِلَاطَ إِلَى أَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ غَازِي أَوَاخِرَ هَذِهِ السَّنَةِ أَقْطَعَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ مُوسَى بْنُ الْعَادِلِ مَدِينَةَ خِلَاطَ وَجَمِيعَ الْأَعْمَالِ: أَرْمِينِيَّةَ، وَمَدِينَةِ مَيَّافَارِقِينَ مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ، وَمَدِينَةِ حَانِي، أَخَاهُ، شِهَابَ الدِّينِ غَازِي بْنَ الْعَادِلِ، وَأَخَذَ مِنْهُ، مَدِينَةَ الرُّهَا، وَمَدِينَةَ سُرُوجَ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى خِلَاطَ أَوَّلَ سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَرَجَ لَمَّا قَصَدَ التَّتَرُ بِلَادَهُمْ وَهَزَمُوهُمْ، وَنَهَبُوهَا، وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، أَرْسَلُوا إِلَى أَوْزَبْكَ، صَاحِبِ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانَ، يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْمُهَادَنَةَ وَالْمُوَافَقَةَ عَلَى دَفْعِ التَّتَرِ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَالُوا لِلْجَمِيعِ: إِنْ لَمْ تُوَافِقُونَا عَلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَدَفْعِهِمْ عَنْ بِلَادِنَا، وَتَحْضُرُوا بِنُفُوسِكُمْ وَعَسَاكِرِكُمْ لِهَذَا الْمُهِمِّ، وَإِلَّا صَالَحْنَاهُمْ عَلَيْكُمْ فَوَصَلَتْ رُسُلُهُمْ إِلَى الْأَشْرَفِ، وَهُوَ يَتَجَهَّزُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ: لِأَجْلِ الْفِرِنْجِ، وَكَانُوا عِنْدَهُ أَهَمَّ الْوُجُوهِ، لِأَسْبَابٍ: أَوَّلُهَا أَنَّ الْفِرِنْجَ كَانُوا قَدْ مَلَكُوا دِمْيَاطَ، وَقَدْ أَشْرَفَتِ الدِّيَارُ الْمِصْرِيَّةُ عَلَى أَنْ تُمْلَكَ، فَلَوْ مَلَكُوهَا لَمْ يَبْقَ بِالشَّامِ وَلَا غَيْرِهِ مَعَهُمْ مُلْكٌ لِأَحَدٍ. وَثَانِيهَا أَنَّ الْفِرِنْجَ أَشَدُّ شَكِيمَةً، وَطَالِبُوا مُلْكٍ، فَإِذَا مَلَكُوا قَرْيَةً لَا يُفَارِقُونَهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْجَزُوا عَنْ حِفْظِهَا يَوْمًا وَاحِدًا.

وَثَالِثُهَا أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدْ طَمِعُوا فِي كُرْسِيِّ مَمْلَكَةِ الْبَيْتِ الْعَادِلِيِّ، وَهِيَ مِصْرُ، وَالتَّتَرُ لَمْ يَصِلُوا إِلَيْهَا، وَلَمْ يُجَاوِزُوا شَيْئًا مِنْ بِلَادِهِمْ، وَلَيْسُوا أَيْضًا مِمَّنْ يُرِيدُ الْمُنَازَعَةَ فِي الْمُلْكِ، وَمَا غَرَضُهُمْ إِلَّا النَّهْبُ، وَالْقَتْلُ، وَتَخْرِيبُ الْبِلَادِ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى آخَرَ. فَلَمَّا أَتَاهُ رُسُلُ الْكَرَجِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، أَجَابَهُمْ، يَعْتَذِرُ بِالْمَسِيرِ إِلَى مِصْرَ لِدَفْعِ الْفِرِنْجِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّنِي قَدْ أَقْطَعْتُ وِلَايَةَ خِلَاطَ لِأَخِي، وَسَيَّرْتُهُ إِلَيْهَا لِيَكُونَ بِالْقُرْبِ مِنْكُمْ، وَتَرَكْتُ عِنْدَهُ الْعَسَاكِرَ، فَمَتَى احْتَجْتُمْ إِلَى نُصْرَتِهِ حَضَرَ لِدَفْعِ التَّتَرِ ; وَسَارَ هُوَ إِلَى مِصْرَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، مَلَكَ بَدْرُ الدِّينِ قَلْعَةَ تَلِّ أَعْفَرَ. وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، مَلَكَ الْأَشْرَفُ مَدِينَةَ سِنْجَارَ. وَفِيهَا أَيْضًا وَصَلَ الْمَوْصِلَ، وَأَقَامَ بِظَاهِرِهَا،. ثُمَّ سَارَ يُرِيدُ إِرْبِلَ لِقَصْدِ صَاحِبِهَا، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ فِي الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحُوا فِي شَعْبَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا جَمِيعُهُ مُفَصَّلًا سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ. وَفِيهَا وَصَلَ التَّتَرُ الرَّيَّ فَمَلَكُوهَا وَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ فِيهَا وَنَهَبُوا وَسَارُوا عَنْهَا، فَوَصَلُوا إِلَى هَمَذَانَ، فَلَقِيَهُمْ رَئِيسُهَا بِالطَّاعَةِ وَالْحِمَلِ، فَأَبْقَوْا عَلَى أَهْلِهَا وَسَارُوا إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، فَخَرَّبُوا، وَحَرَقُوا الْبِلَادَ، وَقَتَلُوا، وَسَبَوْا، وَعَمِلُوا مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا مُفَصَّلًا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ نَصِيرُ الدِّينِ نَاصِرُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْعَلَوِيُّ الَّذِي كَانَ وَزِيرَ الْخَلِيفَةِ، وَصُلِّيَ

عَلَيْهِ بِجَامِعِ الْقَصْرِ، وَحَضَرَهُ أَرْبَابُ الدَّوْلَةِ وَدُفِنَ بِالْمَشْهَدِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَدْرُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ حَمُّوَيْهِ الْجُوَيْنِيُّ، شَيْخُ الشُّيُوخِ بِمِصْرَ وَالشَّامِ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِالْمَوْصِلِ وَرَدَهَا رَسُولًا، وَكَانَ فَقِيهًا فَاضِلًا، وَصُوفِيًّا صَالِحًا، مِنْ بَيْتٍ كَبِيرٍ مِنْ خُرَاسَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، كَانَ نِعْمَ الرَّجُلُ. وَفِيهَا عَادَ جَمْعُ بَنِي مَعْرُوفٍ إِلَى مَوَاضِعِهِمْ مِنَ الْبَطِيحَةِ، وَكَانُوا قَدْ سَارُوا إِلَى الْأَجِنَا وَالْقَطِيفِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْمُقَامُ لِكَثْرَةِ أَعْدَائِهِمْ، فَقَصَدُوا شِحْنَةَ الْبَصْرَةِ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُكَاتِبَ الدِّيوَانَ بِبَغْدَادَ بِالرِّضَى عَنْهُمْ، فَكَتَبَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ وَسَيَّرَهُمْ مَعَ أَصْحَابِهِ إِلَى بَغْدَادَ، فَلَمَّا قَارَبُوا وَاسِطَ لَقِيَهُمْ قَاصِدٌ مِنَ الدِّيوَانِ بِقَتْلِهِمْ، فَقُتِلُوا.

ثم دخلت سنة ثماني عشرة وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَة] 618 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ وَفَاةِ قَتَادَةَ أَمِيرِ مَكَّةَ وَمُلْكِ ابْنِهِ الْحَسَنِ وَقَتْلِ أَمِيرِ الْحَاجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ قَتَادَةُ بْنُ إِدْرِيسَ الْعَلَوِيُّ، ثُمَّ الْحَسَنِيُّ، أَمِيرُ مَكَّةَ، حَرَسَهَا اللَّهُ، بِهَا، وَكَانَ عُمُرُهُ نَحْوَ تِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ قَدِ اتَّسَعَتْ مِنْ حُدُودِ الْيَمَنِ إِلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَهُ قَلْعَةُ يَنْبُعَ بِنَوَاحِي الْمَدِينَةِ، وَكَثُرَ عَسْكَرُهُ، وَاسْتَكْثَرَ مِنَ الْمَمَالِيكِ، وَخَافَهُ الْعَرَبُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ خَوْفًا عَظِيمًا. وَكَانَ، فِي أَوَّلِ مُلْكِهِ، لَمَّا مَلَكَ مَكَّةَ، حَرَسَهَا اللَّهُ، حَسَنَ السِّيرَةِ أَزَالَ عَنْهَا الْعَبِيدَ الْمُفْسِدِينَ، وَحَمَى الْبِلَادَ، وَأَحْسَنَ إِلَى الْحُجَّاجِ، وَأَكْرَمَهُمْ، وَبَقِيَ كَذَلِكَ مُدَّةً، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَسَاءَ السِّيرَةَ، وَجَدَّدَ الْمُكُوسَ بِمَكَّةَ، وَفَعَلَ أَفْعَالًا شَنِيعَةً، وَنَهْبَ الْحَاجَّ فِي بَعْضِ السِّنِينَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَمَّا مَاتَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ، وَكَانَ لَهُ ابْنٌ آخَرُ اسْمُهُ رَاجِحٌ، مُقِيمٌ فِي الْعَرَبِ بِظَاهِرِ مَكَّةَ، يُفْسِدُ، وَيُنَازِعُ أَخَاهُ فِي مُلْكِ مَكَّةَ، فَلَمَّا سَارَ حَاجُّ الْعِرَاقِ كَانَ الْأَمِيرُ عَلَيْهِمْ مَمْلُوكًا مِنْ مَمَالِيكِ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ اسْمُهُ أَقْبَاشُ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ مَعَ الْحَاجِّ فِي الطَّرِيقِ، كَثِيرَ الْحِمَايَةِ، فَقَصَدَهُ رَاجِحُ بْنُ قَتَادَةَ، وَبَذَلَ لَهُ وَلِلْخَلِيفَةِ مَالًا لِيُسَاعِدَهُ عَلَى مُلْكِ مَكَّةَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَوَصَلُوا إِلَى مَكَّةَ، وَنَزَلُوا

بِالزَّاهِرِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى مَكَّةَ مُقَاتِلًا لِصَاحِبِهَا حَسَنٍ. وَكَانَ حَسَنٌ قَدْ جَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ وَقَاتَلَهُ، وَتَقَدَّمَ أَمِيرُ الْحَاجِّ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ عَسْكَرِهِ مُنْفَرِدًا، وَصَعِدَ الْجَبَلَ إِدْلَالًا بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدَمُ أَحَدٌ عَلَيْهِ، فَأَحَاطَ بِهِ أَصْحَابُ حَسَنٍ، وَقَتَلُوهُ، وَعَلَّقُوا رَأْسَهُ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَحَاطَ أَصْحَابُ حَسَنٍ بِالْحَاجِّ لِيَنْهَبُوهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ حَسَنٌ عِمَامَتَهُ أَمَانًا لِلْحُجَّاجِ، فَعَادَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يَنْهَبُوا مِنْهُمْ شَيْئًا، وَسَكَنَ النَّاسُ، وَأَذِنَ لَهُمْ حَسَنٌ فِي دُخُولِ مَكَّةَ وَفِعْلِ مَا يُرِيدُونَهُ مِنَ الْحَجِّ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَقَامُوا بِمَكَّةَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَعَادُوا، فَوَصَلُوا إِلَى الْعِرَاقِ سَالِمِينَ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَوَصَلَتْ رُسُلُ حَسَنٍ يَعْتَذِرُونَ، وَيَطْلُبُونَ الْعَفْوَ عَنْهُ، فَأُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ فِي مَوْتِ قَتَادَةَ: إِنَّ ابْنَهُ حَسَنًا خَنَقَهُ فَمَاتَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قَتَادَةَ جَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً وَسَارَ عَنْ مَكَّةَ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ بِوَادِي الْفُرْعِ وَهُوَ مَرِيضٌ، وَسَيَّرَ أَخَاهُ عَلَى الْجَيْشِ وَمَعَهُ ابْنَهُ الْحَسَنَ بْنَ قَتَادَةَ، فَلَمَّا أَبْعَدُوا بَلَغَ الْحَسَنَ أَنَّ عَمَّهُ قَالَ لِبَعْضِ الْجُنْدِ: إِنَّ أَخِي مَرِيضٌ، وَهُوَ مَيِّتٌ لَا مَحَالَةَ وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا لَهُ لِيَكُونَ هُوَ الْأَمِيرَ بَعْدَ أَخِيهِ قَتَادَةَ، فَحَضَرَ الْحَسَنُ عِنْدَ عَمِّهِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَجْنَادِ وَالْمَمَالِيكِ الَّذِينَ لِأَبِيهِ، فَقَالَ الْحَسَنُ لِعَمِّهِ: قَدْ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ: لَمْ أَفْعَلْ فَأَمْرَ حَسَنٌ الْحَاضِرِينَ بِقَتْلِهِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَقَالُوا: أَنْتَ أَمِيرٌ وَهَذَا أَمِيرٌ، وَلَا نَمُدُّ أَيْدِيَنَا إِلَى أَحَدِكُمَا. فَقَالَ لَهُ غُلَامَانِ لِقَتَادَةَ: نَحْنُ عَبِيدُكُ، فَمُرْنَا بِمَا شِئْتَ فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَجْعَلَا عِمَامَةَ عَمِّهِ فِي عُنُقِهِ، فَفَعَلَا، ثُمَّ قَتَلَهُ. فَسَمِعَ قَتَادَةُ الْخَبَرَ، فَبَلَغَ مِنْهُ الْغَيْظُ كُلَّ مَبْلَغٍ، وَحَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ ابْنَهُ، وَكَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَرَضِ، فَكَتَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إِلَى الْحَسَنِ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، وَيَقُولُ لَهُ: ابْدَأْ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَكَ فَعَادَ الْحَسَنُ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا وَصَلَهَا قَصْدَ دَارَ أَبِيهِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَوَجَدَ عَلَى بَابِ الدَّارِ جَمْعًا كَثِيرًا، فَأَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، فَفَارَقُوا الدَّارَ،

وَعَادُوا إِلَى مَسَاكِنِهِمْ، وَدَخَلَ الْحَسَنُ إِلَى أَبِيهِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُوهُ شَتَمَهُ، وَبَالَغَ فِي ذَمِّهِ وَتَهْدِيدِهِ، فَوَثَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ فَخَنَقَهُ لِوَقْتِهِ، وَخَرَجَ إِلَى الْحَرَمِ الشَّرِيفِ، وَأَحْضَرَ الْأَشْرَافَ، وَقَالَ: إِنَّ أَبِي قَدِ اشْتَدَّ مَرَضُهُ، وَقَدْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا لِي أَنْ أَكُونَ أَنَا أَمِيرُكُمْ. فَحَلَفُوا لَهُ ثُمَّ إِنَّهُ أَظْهَرَ تَابُوتًا وَدَفَنَهُ لِيَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهُ مَاتَ، وَكَانَ قَدْ دَفَنَهُ سِرًّا. فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْإِمَارَةُ بِمَكَّةَ لَهُ أَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ الَّذِي بِقَلْعَةِ الْيَنْبُعَ عَلَى لِسَانِ أَبِيهِ يَسْتَدْعِيهِ، وَكَتَمَ مَوْتَ أَبِيهِ عَنْهُ، فَلَمَّا حَضَرَ أَخُوهُ قَتَلَهُ أَيْضًا، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ، وَثَبَتَ قَدَمُهُ، وَفَعَلَ بِأَمِيرِ الْحَاجِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَارْتَكَبَ عَظِيمًا: قَتَلَ أَبَاهُ وَعَمَّهُ وَأَخَاهُ فِي أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ، لَا جَرَمَ لَمْ يُمْهِلْهُ اللَّهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نَزْعَ مُلْكَهُ، وَجَعَلَهُ طَرِيدًا شَرِيدًا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ. وَقِيلَ إِنَّ قَتَادَةَ كَانَ يَقُولُ شِعْرًا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ طُلِبَ لِيَحْضُرَ عِنْدَ أَمِيرِ الْحَاجِّ، كَمَا جَرَتْ عَادَةُ أُمَرَاءِ مَكَّةَ، فَامْتَنَعَ، فَعُوتِبَ مِنْ بَغْدَادَ، فَأَجَابَ بِأَبْيَاتِ شِعْرٍ مِنْهَا: وَلِي كَفُّ ضِرْغَامٍ أَدُلُّ بِبَطْشِهَا ... وَأَشْرِي بِهَا بَيْنَ الْوَرَى وَأَبِيعُ تَظَلُّ مُلُوكُ الْأَرْضِ تَلْثُمُ ظَهْرَهَا ... وَفِي وَسَطِهَا لِلْمُجِدِّينَ رَبِيعُ أَأَجْعَلُهَا تَحْتَ الرَّحَا ثُمَّ أَبْتَغِي ... خَلَاصًا لَهَا؟ إِنِّي إِذًا لِرَقِيعُ ! وَمَا أَنَا إِلَّا الْمِسْكُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ يَضُوعُ، وَأَمَّا عِنْدُكُمْ فَيَضِيعُ ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعَادَ الْمُسْلِمُونَ مَدِينَةَ دِمْيَاطَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مَشْرُوحًا مُفَصَّلًا.

وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، مَلَكَ التَّتَرُ مَرَاغَةَ وَخَرَّبُوهَا وَأَحْرَقُوهَا وَقَتَلُوا أَكْثَرَ أَهْلِهَا، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ وَسَبَوْا حَرِيمَهُمْ. وَسَارَ التَّتَرُ مِنْهَا إِلَى هَمَذَانَ، وَحَاصَرُوهُ، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا وَظَفِرَ بِهَا التَّتَرُ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَا لَا يُحْصَى، وَنَهَبُوا الْبَلَدَ. وَسَارُوا إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، فَأَعَادُوا النَّهْبَ، وَنَهَبُوا مَا بَقِيَ مِنَ الْبِلَادِ، وَلَمْ يَنْهَبُوهُ أَوَّلًا. وَوَصَلُوا إِلَى بَيْلَقَانَ، مِنْ بِلَادِ أَرَّانَ، فَحَصَرُوهَا وَمَلَكُوهَا وَقَتَلُوا أَهْلَهَا حَتَّى كَادُوا يُفْنُونَهُمْ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ، وَسَارُوا إِلَى بِلَادِ الْكَرَجِ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانَ، وَلَقِيَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْكَرَجِ، فَقَاتَلُوهُمْ فَانْهَزَمَ الْكَرَجُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ، وَنُهِبَ أَكْثَرُ بِلَادِهِمْ وَقُتِلَ أَهْلُهَا، وَسَارُوا مِنْ هُنَاكَ إِلَى دَرْبَنْدَ شِرَوَانَ، وَحَصَرُوا مَدِينَةَ شَمَاخِي، وَمُلُوكَهَا، وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا. وَسَارُوا إِلَى بَلَدِ اللَّانَ وَاللِّكْزِ وَمَنْ عِنْدِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَأَوْقَعُوا، وَرَحَلُوا عَنْ قُفْجَاقَ، وَأَجْلَوْهُمْ عَنْهَا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَسَاحُوا فِي تِلْكَ الْأَرْضِ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى بِلَادِ الرُّوسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ جَمِيعِهِ مُسْتَقْصًى، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ هَاهُنَا جُمْلَةً لِيُعْلَمَ الَّذِي كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ حَوَادِثِهِمْ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَدِيقُنَا أَمِينُ الدِّينِ يَاقُوتُ الْكَاتِبُ الْمَوْصِلِيُّ، وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ مَنْ يَكْتُبُ مَا يُقَارِبُهُ، وَلَا مَنْ يُؤَدِّي طَرِيقَةَ ابْنِ الْبَوَّابِ مِثْلُهُ ; وَكَانَ ذَا فَضَائِلَ جَمَّةٍ مِنْ عِلْمِ الْأَدَبِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْخَيْرِ، نِعْمَ الرَّجُلُ، مَشْهُورًا فِي الدُّنْيَا، وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ عَلَيْهِ وَالْمَدْحِ لَهُ، وَلَهُمْ فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ نَظْمًا وَنَثْرًا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ نَجِيبُ الدِّينِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَاسِطِيُّ مِنْ قَصِيدَةٍ يَمْدَحُهُ بِهَا: جَامِعٌ شَارِدَ الْعُلُومِ وَلَوْلَا ... هُ لَكَانَتْ أُمُّ الْفَضَائِلِ ثَكْلَى ذُو يَرَاعٍ تَخَافُ سَطْوَتَهُ الْأُسْ ... دُ وَتَعْنُو لَهُ الْكَتَائِبُ ذُلًّا

وَإِذَا افْتَرَّ ثَغْرُهُ عَنْ سَوَادٍ فِي بَيَاضٍ فَالْبِيضُ وَالسُّمْرُ خَجْلَى ... أَنْتَ بَدْرٌ وَالْكَاتِبُ ابْنُ هِلَالٍ كَأَبِيهِ لَا فَخْرَ فِيمَنْ تَوَلَّى وَمِنْهَا: إِنْ يَكُنْ أَوَّلًا، فَإِنَّكَ بِالتَّفْ ... ضِيلِ أَولَى، لَقَدْ سَبَقْتَ وَصَلَّى وَهِيَ طَوِيلَةٌ، وَالْكَاتِبُ ابْنُ هِلَالٍ هُوَ ابْنُ الْبَوَّابِ الَّذِي هُوَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُعَّرَفَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَلَالُ الدِّينِ الْحَسَنُ، وَهُوَ مِنْ أَوْلَادِ الْحَسَنِ بْنِ الصَّبَاحِ، الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، صَاحِبُ أَلَمَوْتَ وَكَرْدَكُوهْ، وَهُوَ مُقَدَّمُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ، وَوَلِيَ بَعْدُ ابْنُهُ عَلَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ.

ثم دخلت سنة تسع عشرة وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَة] 619 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ خُرُوجِ طَائِفَةٍ مِنْ قُفْجَاقَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ وَمَا فَعَلُوهُ بِالْكَرَجِ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْقُفْجَاقِ وَفَارَقُوا بِلَادَهُمْ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا التَّتَرُ، وَسَارُوا إِلَى دَرْبَنْدَ شِرَوَانَ، وَأَرْسَلُوا إِلَى صَاحِبِهِ وَاسْمُهُ رَشِيدٌ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ التَّتَرَ قَدْ مَلَكُوا بِلَادَنَا، وَنَهَبُوا أَمْوَالَنَا، وَقَدْ قَصَدْنَاكَ لِنُقِيمَ فِي بِلَادِكِ، وَنَحْنُ مَمَالِيكُ لَكَ، وَنَفْتَحُ الْبِلَادَ لَكَ، وَتَكُونُ أَنْتَ سُلْطَانَنَا فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَخَافَهُمْ، فَأَعَادُوا الرِّسَالَةَ إِلَيْهِ: إِنَّنَا نَحْنُ نَرْهَنُ عِنْدَكَ أَوْلَادَنَا وَنِسَاءَنَا عَلَى الطَّاعَةِ وَالْخِدْمَةِ لَكَ، وَالِانْقِيَادِ لِحُكْمِكِ ; فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُمَكِّنَهُمْ لِيَتَزَوَّدُوا مِنْ بَلَدِهِ، تَدْخُلُ عَشْرَةٌ عَشْرَةٌ، فَإِذَا اشْتَرَوْا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فَارْقُوا بِلَادَهُ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَصَارُوا يَدْخُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ، وَيَشْتَرُونَ مَا يُرِيدُونَ، وَيَخْرُجُونَ. ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ كُبَرَائِهِمْ وَالْمُقَدَّمِينَ مِنْهُمْ جَاءَ إِلَى رَشِيدٍ وَقَالَ: إِنَّنِي كُنْتُ فِي خِدْمَةِ السُّلْطَانِ خُوَارَزْم شَاهْ، وَأَنَا مُسْلِمٌ، وَالدِّينُ يَحْمِلُنِي عَلَى نُصْحِكِ، اعْلَمْ أَنَّ قُفْجَاقَ أَعْدَاؤُكُ، وَيُرِيدُونَ الْغَدْرَ بِكَ، فَلَا تُمَكِّنْهُمْ مِنَ الْمُقَامِ بِبِلَادِكَ، فَأَعْطِنِي عَسْكَرًا حَتَّى أُقَاتِلَهُمْ وَأُخْرِجَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ، وَأَعْطَاهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ سِلَاحٍ وَغَيْرِهِ، فَسَارُوا مَعَهُ، فَأَوْقَعُوا بِطَائِفَةٍ مِنْ قُفْجَاقَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَنَهَبَ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَتَحَرَّكْ قُفْجَاقُ لِقِتَالٍ بَلْ قَالُوا: نَحْنُ مَمَالِيكُ الْمَلِكِ شِرْوَان

شَاهْ رَشِيدٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَاتَلْنَا عَسْكَرَهُ، فَلَمَّا عَادَ ذَلِكَ الْمُقَدَّمُ الْقُفْجَاقِيُّ وَمَعَهُ عَسْكَرُ رَشِيدٍ سَالِمِينَ، فَرَحَ بِهِمْ ثُمَّ إِنَّ قُفْجَاقَ فَارَقُوا مَوْضِعَهُمْ، فَسَارُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَالَ ذَلِكَ الْقُفْجَاقِيُّ لِرَشِيدٍ: أُرِيدُ عَسْكَرًا أَتْبَعُهُمْ بِهِ وَأَغْنَمُ مَا مَعَهُمْ فَأَمَرَ لَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ بِمَا أَرَادَ، فَسَارَ يَقْفُو أَثَرَ الْقُفْجَاقَ، فَأَوْقَعَ بِأَوَاخِرِهِمْ، وَغَنِمَ مِنْهُمْ. وَقَصَدَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ قُفْجَاقَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يَبْكُونَ، وَقَدْ جَزُّوا شُعُورَهُمْ، وَمَعَهُمْ تَابُوتٌ، وَهُمْ مُحِيطُونَ بِهِ يَبْكُونَ حَوْلَهُ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ صَدِيقَكَ فَلَانًا قَدْ مَاتَ، وَقَدْ أَوْصَى أَنْ نَحْمِلَهُ إِلَيْكَ فَتَدْفِنَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شِئْتَ، وَنَكُونُ نَحْنُ عِنْدَكَ، فَحَمَلَهُ مَعَهُ وَالَّذِينَ يَبْكُونَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَعَادَ إِلَى شِرَوَان شَاهْ رَشِيدٍ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ الْمَيِّتَ صَدِيقٌ لَهُ وَقَدْ حَمَلَهُ مَعَهُ، وَقَدْ طَلَبَ أَهْلُهُ أَنْ يَكُونُوا عِنْدَهُ فِي خِدْمَتِهِ، فَأَمَرَ أَنْ يَدْخُلُوا الْبَلَدَ، وَأَنْزَلَهُمْ فِيهِ. فَكَانَ أُولَئِكَ الْجَمَاعَةُ يَسِيرُونَ مَعَ ذَلِكَ الْمُقَدَّمِ، وَيَرْكَبُونَ بِرُكُوبِهِ، وَيَصْعَدُونَ مَعَهُ إِلَى الْقَلْعَةِ الَّتِي لِرَشِيدٍ، وَيَقْعُدُونَ عِنْدَهُ، وَيَشْرَبُونَ مَعَهُ هُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، فَأَحَبَّ رَشِيدٌ امْرَأَةَ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ مَيِّتٌ، وَلَمْ يَكُنْ مَاتَ، وَإِنَّمَا فَعَلُوا هَكَذَا مَكِيدَةً حَتَّى دَخَلُوا الْبَلَدَ، وَالَّذِي أَظْهَرُوا مَوْتَهُ مَعَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يَعْرِفُهُ رَشِيدٌ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ مُقَدِّمِي قُفْجَاقَ، فَبَقُوا كَذَلِكَ عِدَّةَ أَيَّامٍ، فَكُلُّ يَوْمٍ يَجِيءُ جَمَاعَةٌ مِنْ قُفْجَاقَ مُتَفَرِّقِينَ، فَاجْتَمَعَ بِالْقَلْعَةِ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَأَرَدُوا قَبْضَ رَشِيدٍ وَمُلْكَ بِلَادِهِ، فَفَطِنَ لِذَلِكَ، فَخَرَجَ عَنِ الْقَلْعَةِ مِنْ بَابِ السِّرِّ، وَهَرَبَ وَمَضَى إِلَى شِرْوَانَ. وَمَلَكَ قُفْجَاقُ وَقَالُوا لِأَهْلِ الْبَلَدِ وَأَعَادُوا بَاقِي أَصْحَابِهِمْ إِلَيْهِمْ وَأَخَذُوا السِّلَاحَ الَّذِي فِي الْبَلَدِ جَمِيعَهُ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي كَانَتْ لِرَشِيدٍ فِي الْقَلْعَةِ، وَرَحَلُوا عَنِ الْقَلْعَةِ، وَقَصَدُوا قِبْلَةَ، وَهِيَ لِلْكَرَجِ، فَنَزَلُوا عَلَيْهَا وَحَصَرُوهَا. فَلَمَّا سَمِعَ رَشِيدٌ بِمُفَارَقَتِهِمُ الْقَلْعَةَ رَجَعَ إِلَيْهَا وَمَلَكَهَا، وَقَتَلَ مَنْ بِهَا مِنْ قُفْجَاقَ، وَلَمْ يَشْعُرِ الْقُفْجَاقُ الَّذِينَ عِنْدَ قِبْلَةَ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلُوا طَائِفَةً مِنْهُمْ إِلَى الْقَلْعَةِ، فَقَتَلَهُمْ رَشِيدٌ أَيْضًا، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْقُفْجَاقِ، فَعَادُوا إِلَى دَرْبَنْدَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي الْقَلْعَةِ طَمَعٌ.

وَكَانَ صَاحِبُ قِبْلَةَ، لَمَّا كَانُوا يَحْصُرُونَهُ، قَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: أَنَا أُرْسِلُ إِلَى مَلِكِ الْكَرَجِ حَتَّى يُرْسِلَ إِلَيْكُمُ الْخِلَعَ وَالْأَمْوَالَ، وَنَجْتَمِعُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ وَنَمْلِكُ الْبِلَادَ، فَكَفُّوا عَنْ نَهْبِ وِلَايَتِهِ أَيَّامًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَدُّوا أَيْدِيَهُمْ بِالنَّهْبِ وَالْفَسَادِ، وَنَهَبُوا بِلَادَ قِبْلَةَ جَمِيعِهَا، وَسَارُوا إِلَى قُرْبِ كَنْجَةَ مِنْ بِلَادِ أَرَّانَ، وَهِيَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلُوا هُنَاكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْأَمِيرُ بِكَنْجَةَ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِأَوْزَبْكَ صَاحِبِ أَذْرَبِيجَانَ، اسْمُهُ كُوشَخْرَةَ، عَسْكَرًا فَمَنَعَهُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى بِلَادِهِ، وَسَيَّرَ رَسُولًا إِلَيْهِمْ يَقُولُ لَهُمْ: غَدَرْتُمْ بِصَاحِبِ شِرْوَانَ وَأَخَذْتُمْ قَلْعَتَهُ، وَغَدَرْتُمْ بِصَاحِبِ قِبْلَةَ وَنَهَبْتُمْ بِلَادَهُ، فَمَا يَثِقُ بِكُمْ أَحَدٌ، فَأَجَابُوا: إِنَّنَا مَا جِئْنَا إِلَّا قَصْدًا لِخِدْمَةِ سُلْطَانِكُمْ، فَمَنَعَنَا شِرْوَان شَاهْ عَنْكُمْ، فَلِهَذَا قَصَدْنَا بِلَادَهُ، وَأَخَذْنَا قَلْعَتَهُ، ثُمَّ تَرَكْنَاهَا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَأَمَّا صَاحِبُ قِبْلَةَ فَهُوَ عَدُوُّكُمْ وَعَدُوُّنَا، وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَكُونَ عِنْدَ الْكَرَجِ لَمَا كُنَّا جَعَلْنَا طَرِيقَنَا عَلَى دَرْبَنْدَ شِرَوَانَ، فَإِنَّهُ أَصْعَبُ وَأَشَقُّ وَأَبْعَدُ، وَكُنَّا جِئْنَا إِلَى بِلَادِهِمْ عَلَى عَادَتِنَا، وَنَحْنُ نُوَجِّهُ الرَّهَائِنَ إِلَيْكُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ كُوشَخْرَةَ هَذَا سَارَ إِلَيْهِمْ، فَسَمِعَ بِهِ قُفْجَاقُ فَرَكِبَ أَمِيرَانِ مِنْهُمْ، هُمَا مُقَدَّمَاهُمْ، فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ وَجَاءُوا إِلَيْهِ وَلَقُوهُ وَخَدَمُوهُ، وَقَالُوا لَهُ: قَدْ أَتَيْنَاكَ جَرِيدَةً فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَدَدِ لِتَعْلَمَ أَنَّنَا مَا قَصَدْنَا إِلَّا الْوَفَاءَ وَالْخِدْمَةَ لِسُلْطَانِكُمْ، فَأَمَرَهُمْ كُوشَخْرَةَ بِالرَّحِيلِ وَالنُّزُولِ عِنْدِ كَنْجَةَ، وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ أَحَدِهِمْ وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِهِ أَوْزَبْكَ يُعَرِّفُهُ حَالَهُمْ، فَأَمَرَ لَهُمْ بِالْخِلَعِ وَالنُّزُولِ بِجَبَلِ كِيلَكُونَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ. وَخَافَهُمُ الْكَرَجُ، فَجَمَعُوا لَهُمْ لِيَكْبِسُوهُمْ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَى كُوشَخْرَةَ أَمِيرِ كَنْجَةَ، فَأَخْبَرَ قُفْجَاقَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْعَوْدِ وَالنُّزُولِ عِنْدِ كَنْجَةَ، فَعَادُوا وَنَزَلُوا عِنْدَهَا، وَسَارَ أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ قُفْجَاقَ فِي جَمْعٍ مِنْهُمْ إِلَى الْكَرَجِ، فَكَبَسَهُمْ، وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَهَزَمَهُمْ، وَغَنِمَ مَا مَعَهُمْ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْأَسْرَ مِنْهُمْ، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَيْهِمْ،

وَرَجَعَ قُفْجَاقُ إِلَى جَبَلِ كِيلَكُونَ، فَنَزَلُوا فِيهِ كَمَا كَانُوا. فَلَمَّا نَزَلُوا أَرَادَ الْأَمِيرُ الْآخَرُ مِنْ أُمَرَاءِ قُفْجَاقَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الْكَرَجِ مِثْلَ مَا فَعَلَ صَاحِبُهُ، فَسَمِعَ كُوشَخْرَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَنْهَاهُ عَنِ الْحَرَكَةِ إِلَى أَنْ يَكْشِفَ لَهُ خَبَرَ الْكَرَجِ، فَلَمْ يَقِفْ، فَسَارَ إِلَى بِلَادِهِمْ فِي طَائِفَتِهِ، وَنَهَبَ وَخَرَّبَ وَأَخَذَ الْغَنَائِمَ، فَسَارَ الْكَرَجُ فِي طَرِيقٍ يَعْرِفُونَهَا وَسَبَقُوهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ قَاتَلُوهُ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ عَلَى غِرَّةٍ وَغَفْلَةٍ، فَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيهِمْ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَاسْتَنْقَذُوا الْغَنَائِمَ مِنْهُ، فَعَادَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى أَقْبَحِ حَالَةٍ، وَقَصَدُوا بَرْذَعَةَ. وَأَرْسَلُوا إِلَى كُوشَخْرَةَ يَطْلُبُونَ أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُمْ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَعَسْكَرِهِ لِيَقْصِدُوا الْكَرَجَ فَيَأْخُذُوا بِثَأْرِهِمْ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَخَافَهُمْ، وَقَالَ: أَنْتُمْ خَالَفْتُمُونِي، وَعَمِلْتُمْ بِرَأْيِكُمْ، فَلَا أُنْجِدُكُمْ بِفَارِسٍ وَاحِدٍ ; فَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ الرَّهَائِنَ الَّذِينَ لَهُمْ، فَلَمْ يُعْطِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا وَأَخَذُوا كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عِوَضًا مِنَ الرَّهَائِنِ، فَثَارَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ، وَقَاتَلُوهُمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً كَثِيرَةً، فَخَافُوا، وَسَارُوا نَحْوِ شِرْوَانَ، وَجَازُوا إِلَى بَلَدِ اللِّكْزِ، فَطَمِعَ النَّاسُ فِيهِمْ ; الْمُسْلِمُونَ وَالْكَرَجُ وَاللِّكْزُ وَغَيْرُهُمْ، فَأَفْنَوْهُمْ قَتْلًا وَنَهْبًا وَأَسْرًا وَسَبْيًا، بِحَيْثُ إِنَّ الْمَمْلُوكَ مِنْهُمْ كَانَ يُبَاعُ فِي دَرْبَنْدَ شِرْوَانَ بِالثَّمَنِ الْبَخْسِ. ذِكْرُ نَهْبِ الْكَرَجِ بَيْلَقَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، سَارَ الْكَرَجُ مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَى بِلَادِ أَرَّانَ وَقَصَدُوا مَدِينَةَ بَيْلَقَانَ، وَكَانَ التَّتَرُ قَدْ خَرَّبُوهَا، وَنَهَبُوهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، فَلَمَّا سَارَ التَّتَرُ إِلَى بِلَادِ قُفْجَاقَ عَادَ مَنْ سَلِمَ مِنْ أَهْلِهَا إِلَيْهَا، وَعَمَّرُوا مَا أَمْكَنَهُمْ عِمَارَتَهُ مِنْ سُورِهَا. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمُ الْكَرَجُ وَدَخَلُوا الْبَلَدَ وَمَلَكُوهُ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ أَلِفُوا مِنَ الْكَرَجِ، أَنَّهُمْ إِذَا ظَفِرُوا بِبَلَدٍ صَانَعُوهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَالِ فَيَعُودُونَ عَنْهُمْ، فَكَانُوا أَحْسَنَ الْأَعْدَاءِ مَقْدِرَةً، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الدُّفْعَةُ ظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ

يَفْعَلُونَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ، فَلَمْ يُبَالِغُوا فِي الِامْتِنَاعِ مِنْهُمْ، وَلَا هَرَبُوا مِنْ بَيْنِ أَيْدِهِمْ، فَلَمَّا مَلَكَ الْكَرَجُ الْمَدِينَةَ وَضَعُوا السَّيْفَ فِي أَهْلِهَا، وَفَعَلُوا مِنَ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ بِهِمُ التَّتَرُ. هَذَا جَمِيعُهُ يَجْرِي، وَصَاحِبُ بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ أَوْزَبْكُ ابْنُ الْبَهْلَوَانِ بِمَدِينَةِ تِبْرِيزَ، وَلَا يَتَحَرَّكُ فِي صَلَاحٍ، وَلَا يَتَّجِهُ لِخَيْرٍ بَلْ قَدْ قَنِعَ بِالْأَكْلِ وَإِدْمَانِ الشُّرْبِ وَالْفَسَادِ، فَقَبَّحَهُ اللَّهُ، وَيَسَّرَ لِلْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُومُ بِنَصْرِهِمْ وَحَفِظَ بِلَادِهِمْ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ بَدْرِ الدِّينِ قَلْعَةَ شُوشَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ بَدْرُ الدِّينِ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، قَلْعَةَ شُوشَ مِنْ أَعْمَالِ الْحُمَيْدِيَّةِ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَوْصِلِ اثْنَا عَشَرَ فَرْسَخًا. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ هِيَ وَقَلْعَةُ الْعَقْرَ مُتَجَاوِرَتَيْنِ لِعِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي بْنِ أَرْسَلَان شَاهْ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْخُلْفِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ سَارَ زَنْكِي إِلَى أَذْرَبِيجَانَ لِيَخْدِمَ صَاحِبَهَا أَوْزَبْكَ بْنَ الْبَهْلَوَانِ، فَاتَّصَلَ بِهِ، وَصَارَ مَعَهُ، وَأَقْطَعَهُ إِقْطَاعَاتٍ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ، فَسَارَ بَدْرُ الدِّينِ إِلَى قَلْعَةِ شُوشَ فَحَاصَرَهَا، وَضَيَّقَ عَلَيْهَا، وَهِيَ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ عَالٍ، فَطَالَ مُقَامُهُ عَلَيْهَا لِحَصَانَتِهَا، فَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَتَرَكَ عَسْكَرَهُ مُحَاصِرًا لَهَا، فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ عَلَى مَنْ بِهَا لَمْ يَرَوْا مَنْ يُرَحِّلُهُ عَنْهُمْ، وَلَا مَنْ يُنْجِدُهُمْ، سَلَّمُوهَا عَلَى قَاعِدَةٍ اسْتَقَرَّتْ بَيْنَهُمْ مِنْ أَقْطَاعٍ وَخِلَعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَتَسَلَّمَهَا نُوَّابُهُ فِي التَّارِيخِ، وَرَتَّبُوا أُمُورَهَا وَعَادُوا إِلَى الْمَوْصِلِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، ظَهَرَ كَوْكَبٌ فِي السَّمَاءِ فِي الشَّرْقِ، كَبِيرٌ لَهُ ذُؤَابَةٌ طَوِيلَةٌ غَلِيظَةٌ، وَكَانَ طُلُوعُهُ وَقْتَ السَّحَرِ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ إِنَّهُ ظَهَرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ فِي الْغَرْبِ مِمَّا يَلِي الشَّمَالَ، فَكَانَ كُلُّ لَيْلَةٍ يَتَقَدَّمُ إِلَى جِهَةِ الْجَنُوبِ نَحْوَ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ، فَلَمْ يَزَلْ يَقْرُبُ مِنَ الْجَنُوبِ حَتَّى صَارَ غَرْبًا مَحْضًا ثُمَّ صَارَ غَرْبًا مَائِلًا إِلَى الْجَنُوبِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ غَرْبًا مِمَّا يَلِي الشَّمَالَ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ ثُمَّ غَابَ. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا تُوُفِّيَ نَاصِرُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدِ قَرَا أَرْسِلَان، صَاحِبُ حِصْنِ كِيفَا وَآمِدَ، وَكَانَ ظَالِمًا قَبِيحَ السِّيرَةِ فِي رَعِيَّتِهِ. قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَتَظَاهَرُ بِمَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ فِي أَنَّ الْأَجْسَادَ لَا تُحْشَرُ ; كَذَبُوا لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَلَمَّا مَاتَ مَلَكَ ابْنُهُ الْمَلِكُ الْمَسْعُودُ.

ثم دخلت سنة عشرين وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَسِتِّمِائَة] 620 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ صَاحِبِ الْيَمَنِ مَكَّةَ، حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْمَلِكُ الْمَسْعُودُ أَتْسُزُ ابْنُ الْمَلِكِ الْكَامِلِ مُحَمَّدٍ، صَاحِبُ مِصْرَ، إِلَى مَكَّةَ، وَصَاحِبُهَا حِينَئِذٍ حَسَنُ بْنُ قَتَادَةَ بْنِ إِدْرِيسَ، الْعَلَوِيُّ الْحَسَنِيُّ، قَدْ مَلَكَهَا بَعْدَ أَبِيهِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَكَانَ حَسَنٌ قَدْ أَسَاءَ إِلَى الْأَشْرَافِ وَالْمَمَالِيكِ الَّذِينَ كَانُوا لِأَبِيهِ وَقَدْ تَفَرَّقُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ غَيْرُ أَخْوَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَوَصْلَ صَاحِبُ الْيَمَنِ إِلَى مَكَّةَ، وَنَهَبَهَا عَسْكَرُهُ إِلَى الْعَصْرِ. فَحَدَّثَنِي بَعْضُ الْمُجَاوِرِينَ الْمُتَأَهِّلِينَ أَنَّهُمْ نَهَبُوهَا حَتَّى أَخَذُوا الثِّيَابَ عَنِ النَّاسِ، وَأَفْقَرُوهُمْ، وَأَمَرَ صَاحِبُ الْيَمَنِ أَنْ يُنْبَشَ قَبْرُ قَتَادَةَ وَيُحْرَقَ، فَنَبَشُوهُ، فَظَهَرَ التَّابُوتُ الَّذِي دَفَنَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَرَوْا فِيهِ شَيْئًا، فَعَلِمُوا حِينَئِذٍ أَنَّ الْحَسَنَ دَفَنَ أَبَاهُ سِرًّا، وَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ فِي التَّابُوتِ شَيْئًا. وَذَاقَ الْحَسَنُ عَاقِبَةَ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَعَجَّلَ اللَّهُ مُقَابَلَتَهُ، وَأَزَالَ عَنْهُ مَا قَتَلَ أَبَاهُ وَأَخَاهُ وَعَمَّهُ لِأَجْلِهِ ; خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ذِكْرُ حَرْبٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَرَجِ بِأَرْمِينِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، سَارَ صَاحِبُ قَلْعَةِ سُرْمَارِي، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ

أَرْمِينِيَّةَ إِلَى خِلَاطَ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي طَاعَةِ صَاحِبِ خِلَاطَ، وَهُوَ حِينَئِذٍ شِهَابُ الدِّينِ غَازِي بْنُ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَاسْتَخْلَفَ بِبَلَدِهِ أَمِيرًا مِنْ أُمَرَائِهِ، فَجَمَعَ هَذَا الْأَمِيرُ جَمْعًا، وَسَارَ إِلَى بِلَادِ الْكَرَجِ، فَنَهَبَ مِنْهَا عِدَّةَ قُرًى وَعَادَ. فَسَمِعَتِ الْكَرَجُ بِذَلِكَ، فَجَمَعَ صَاحِبُ دَوِينَ، وَاسْمُهُ شَلْوَةُ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ الْكَرَجِ، عَسْكَرَهُ وَسَارَ إِلَى سُرْمَارِي فَحَصَرَهَا أَيَّامًا، وَنَهَبَ بَلَدَهَا وَسَوَادَهَا وَرَجَعَ. فَسَمِعَ صَاحِبُ سُرْمَارِي الْخَبَرَ، فَعَادَ إِلَى سُرْمَارِي، فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي الْيَوْمِ الَّذِي رَحَلَ الْكَرَجُ عَنْهَا، فَأَخَذَ عَسْكَرَهُ وَتَبِعَهُمْ، فَأَوْقَعُ بِسَاقَتِهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ وَغَنِمَ، وَاسْتَنْقَذَ بَعْضَ مَا أَخَذُوا مِنْ غَنَائِمِ بِلَادِهِ. ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ دَوِينَ جَمَعَ عَسْكَرَهُ وَسَارَ إِلَى سُرْمَارِي لِيَحْصُرَهَا، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى صَاحِبِهَا بِذَلِكَ، فَحَصَّنَهَا وَجَمَعَ الذَّخَائِرَ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَأَتَاهُ مَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْكَرَج نَزَلُوا بِوَادٍ بَيْنَ دَوِينَ وَسُرْمَارِي، وَهُوَ وَادٍ ضَيِّقٌ، فَسَارَ بِجَمِيعِ عَسْكَرِهِ جَرِيدَةً، وَجَدَّ السَّيْرَ لِيَكْبِسَ الْكَرَجَ. فَوَصَلَ إِلَى الْوَادِي الَّذِي هُمْ فِيهِ وَقْتَ السَّحَرِ، فَفَرَّقَ عَسْكَرَهُ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً مِنْ أَعْلَى الْوَادِي، وَفِرْقَةً مِنْ أَسْفَلِهِ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَافِلُونَ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيهِمْ فَقَتَلُوا وَأَسَرُوا، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْأَسْرَى شَلْوَةُ أَمِيرُ دَوِينَ، فِي جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ مُقَدَّمِيهِمْ، وَمَنْ سَلِمَ مِنَ الْكَرَجِ عَادَ إِلَى بَلَدِهِمْ عَلَى حَالٍ سَيِّئَةٍ. ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ الْكَرَجِ أَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى بْنِ الْعَادِلِ، صَاحِبِ دِيَارِ الْجَزِيرَةِ، وَهُوَ الَّذِي أَعْطَى خِلَاطَ وَأَعْمَالَهَا الْأَمِيرَ شِهَابَ الدِّينِ، يَقُولُ لَهُ: كُنَّا نَظُنُّ أَنَّنَا صُلْحٌ، وَالْآنَ فَقَدْ عَمِلَ صَاحِبُ سُرْمَارِي هَذَا الْعَمَلَ، فَإِنْ كُنَّا عَلَى الصُّلْحِ فَنُرِيدُ إِطْلَاقَ أَصْحَابِنَا مِنَ الْأَسْرِ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ قَدِ انْفَسَخَ بَيْنَنَا فَتُعَرِّفُنَا حَتَّى نُدَبِّرَ أَمْرَنَا. فَأَرْسَلَ الْأَشْرَفُ إِلَى صَاحِبِ سُرْمَارِي يَأْمُرُهُ بِإِطْلَاقِ الْأَسْرَى وَتَجْدِيدِ

الصُّلْحِ مَعَ الْكَرَجِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَاسْتَقَرَّتْ قَاعِدَةُ الصُّلْحِ وَأَطْلَقَ الْأَسْرَى ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ غِيَاثِ الدِّينِ وَبَيْنَ خَالِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، انْهَزَمَ إِيغَانُ طَائِيسِي، وَهُوَ خَالُ غِيَاثِ الدِّينِ بْنِ خُوَارَزْم شَاهْ مُحَمَّدِ بْنِ تُكَشَ، وَغِيَاثُ الدِّينِ هَذَا هُوَ صَاحِبُ بِلَادِ الْجَبَلِ وَالرَّيِّ وَأَصْبَهَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَهُ أَيْضًا بِلَادُ كَرْمَانَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ خَالَهُ إِيغَانَ طَائِيسِي كَانَ مَعَهُ، وَفِي خِدْمَتِهِ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَمِيرٍ مَعَهُ لَا يَصْدُرُ غِيَاثُ الدِّينِ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ، وَالْحُكْمُ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْمَمْلَكَةِ، فَلَمَّا عَظُمَ شَأْنُهُ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمُلْكِ، وَحَسَّنَ لَهُ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَأَطْمَعَهُ فِيهِ، قِيلَ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ النَّاصِرَ لِدِينِ اللَّهِ أَقْطَعَهُ الْبِلَادَ سِرًّا، وَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَوِيَتْ نَفْسُهُ عَلَى الْخِلَافِ، فَاسْتَفْسَدَ جَمَاعَةً مِنَ الْعَسْكَرِ وَاسْتَمَالَهُمْ. فَلَمَّا تَمَّ لَهُ أَمْرُهُ أَظْهَرَ الْخِلَافَ عَلَى غِيَاثِ الدِّينِ، وَخَرَجَ عَنْ طَاعَةِ أَوْزَبْكَ، وَصَارَ فِي الْبِلَادِ يُفْسِدُ، وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَيَنْهَبُ مَا أَمْكَنَهُ مِنَ الْقُرَى وَغَيْرِهَا، وَانْضَافَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعُنْفِ وَالْفَسَادِ، وَمَعَهُ مَمْلُوكٌ آخَرُ اسْمُهُ أَيْبَكُ الشَّامِيُّ، وَسَارُوا جَمِيعُهُمْ إِلَى غِيَاثِ الدِّينِ لِيُقَاتِلُوهُ وَيَمْلِكُوا بِلَادَهُ وَيُخْرِجُوهُ مِنْهَا، فَجَمَعَ غِيَاثُ الدِّينِ عَسْكَرَهُ وَالْتَقَوْا بِنُوَاحِي. . . . . . . . . وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ خَالُ غِيَاثِ الدِّينِ وَمَنْ مَعَهُ، وَقُتِلَ مِنْ عَسْكَرِهِ وَأُسِرَ كَثِيرٌ، وَعَادَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ عَلَى أَقْبَحِ حَالٍ، وَأَقَامَ غِيَاثُ الدِّينِ فِي بِلَادِهِ وَثَبَتَ قَدَمُهُ.

حَادِثَةٌ غَرِيبَةٌ لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهَا كَانَ أَهْلُ الْمَمْلَكَةِ فِي الْكَرَجِ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ غَيْرُ امْرَأَةٍ، وَقَدِ انْتَهَى الْمُلْكُ إِلَيْهَا فَوَلِيَتْهُ، وَقَامَتْ بِالْأَمْرِ فِيهِمْ، وَحَكَمَتْ، فَطَلَبُوا لَهَا رَجُلًا يَتَزَوَّجُهَا وَيَقُومُ بِالْمُلْكِ نِيَابَةً عَنْهَا، وَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مَمْلَكَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْأَمْرِ. وَكَانَ صَاحِبُ أَرْزَنَ الرُّومِ، هَذَا الْوَقْتَ، هُوَ مُغِيثُ الدِّينِ طُغْرُل شَاهْ بْنُ قَلْجِ أَرْسَلَان بْنِ مَسْعُودِ قَلْجِ أَرَسْلَان، وَبَيْتُهُ مَشْهُورٌ مِنْ أَكَابِرِ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ مِنَ الْمُلُوكِ السَّلْجُوقِيَّةِ، وَلَهُ وَلَدٌ كَبِيرٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْكَرَجِ يَطْلُبُ الْمَلِكَةَ لِوَلَدِهِ لِيَتَزَوَّجَهَا، فَامْتَنَعُوا مِنْ إِجَابَتِهِ وَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ هَذَا، لِأَنَّنَا لَا يُمْكِنُنَا أَنْ يَمْلِكَ أَمْرَنَا مُسْلِمٌ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِ ابْنِي يَتَنَصَّرُ وَيَتَزَوَّجُهَا فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ ابْنَهُ فَتَنَصَّرَ وَدَانَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَتَزَوَّجَ الْمَلِكَةَ، وَانْتَقَلَ إِلَيْهَا، وَأَقَامَ عِنْدَ الْكَرَجِ حَاكِمًا فِي بِلَادِهِمْ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخِذْلَانِ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَجْعَلَ خَيْرَ أَعْمَالِنَا آخِرَهَا، وَخَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِيمَهَا، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ نَلْقَاهُ. ثُمَّ كَانَتْ هَذِهِ الْمَلِكَةُ الْكَرَجِيَّةُ تَهْوَى مَمْلُوكًا لَهَا، فَكَانَ زَوْجُهَا يَسْمَعُ عَنْهَا الْقَبَائِحَ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْكَلَامَ لِعَجْزِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَوْمًا دَخَلَ عَلَيْهَا فَرَآهَا نَائِمَةً مَعَ مَمْلُوكِهَا فِي فِرَاشٍ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَوَاجَهَهَا بِالْمَنْعِ مِنْهُ، فَقَالَتْ: إِنْ رَضِيَتْ بِهَذَا، وَإِلَّا أَنْتَ أَخْبَرُ. فَقَالَ: إِنَّنِي لَا أَرْضَى بِهَذَا فَنَقَلَتْهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، وَوَكَّلَتْ بِهِ مَنْ يَمْنَعُهُ مِنَ الْحَرَكَةِ، وَحَجَرَتْ عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَتْ إِلَى بَلَدِ اللَّانِ، وَأَحْضَرَتْ رَجُلَيْنِ كَانَا قَدْ وُصِفَا بِحُسْنِ الصُّورَةِ، فَتَزَوَّجَتْ أَحَدَهُمَا، فَبَقِيَ مَعَهَا يَسِيرًا، ثُمَّ إِنَّهَا فَارَقَتْهُ، وَأَحْضَرَتْ إِنْسَانًا آخَرَ مِنْ كَنْجَةَ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَطَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يَتَنَصَّرَ لِيَتَزَوَّجَهَا، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَقَامَ عَلَيْهَا جَمَاعَةُ الْأُمَرَاءِ، وَمَعَهُمْ إِيوَانِي، وَهُوَ مُقَدَّمُ الْعَسَاكِرِ الْكَرَجِيَّةِ، فَقَالُوا لَهَا قَدْ افْتَضَحْنَا بَيْنَ الْمُلُوكِ بِمَا تَفْعَلِينَ، ثُمَّ تُرِيدِينَ أَنْ يَتَزَوَّجَكِ مُسْلِمٌ، وَهَذَا لَا نُمَكِّنُ مِنْهُ أَبَدًا ; وَالْأَمْرُ بَيْنَهُمْ مُتَرَدِّدٌ وَالرِّجْلُ الْكَنْجِيُّ عِنْدَهُمْ لَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَهِيَ تَهْوَاهُ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الْجَرَادُ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ، وَأَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْغَلَّاتِ وَالْخُضَرِ بِالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ وَدِيَارِ بَكْرٍ وَكَثِيرٍ مِنَ الشَّامِ وَغَيْرِهَا. [الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا فِي رَمَضَانَ تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَسَاكِرَ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، بِهَا، وَكَانَ غَزِيرَ الْعِلْمِ، عَالِمًا بِالْمَذْهَبِ، كَثِيرَ الصَّلَاحِ وَالزُّهْدِ وَالْخَيْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَفِيهَا خَرَجَ الْعَرَبُ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ عَلَى حُجَّاجِ الشَّامِ، وَأَرَادُوا قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَيْهِمْ وَأَخْذَهُمْ، وَكَانَ الْأَمِيرُ عَلَى الْحُجَّاجِ شَرَفَ الدِّينِ يَعْقُوبَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ، أَقَامَ بِالشَّامِ وَتَقَدَّمَ فِيهِ، فَمَنَعَهُمْ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، ثُمَّ صَانَعَهُمْ بِمَالٍ وَثِيَابٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَعْطَى الْجَمِيعَ مِنْ مَالِهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْحُجَّاجِ الدِّرْهَمَ الْفَرْدَ، وَفَعَلَ فِعْلًا جَمِيلًا. وَكَانَ عِنْدَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلُومِ، وَيَرْجِعُ إِلَى دِينٍ مَتِينٍ.

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَة] 621 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ عَوْدِ طَائِفَةٍ مِنَ التَّتَرِ إِلَى الرَّيِّ وَهَمَذَانَ وَغَيْرِهِمَا أَوَّلَ هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ طَائِفَةٌ مِنَ التَّتَرِ مِنْ عِنْدِ مَلِكِهِمْ جِنْكِزْخَانْ، وَهَؤُلَاءِ غَيْرُ الطَّائِفَةِ الْغَرْبِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَخْبَارَهَا قَبْلَ وُصُولِ هَؤُلَاءِ الرَّيَّ ; وَكَانَ مَنْ سَلِمَ مِنْ أَهْلِهَا قَدْ عَادُوا إِلَيْهَا وَعَمَّرُوهَا، فَلَمْ يَشْعُرُوا بِالتَّتَرِ إِلَّا وَقَدْ وَصَلُوا إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَمْتَنِعُوا عَنْهُمْ، فَوَضَعُوا فِي أَهْلِهَا السَّيْفَ وَقَتَلُوهُمْ كَيْفَ شَاءُوا، وَنَهَبُوا الْبَلَدَ وَخَرَّبُوهُ، وَسَارُوا إِلَى سَاوَةَ، فَفَعَلُوا بِهَا كَذَلِكَ ثُمَّ إِلَى قُمَّ وَقَاشَانَ، وَكَانَتَا قَدْ سَلِمَتَا مِنَ التَّتَرِ أَوَّلًا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقْرَبُوهُمَا، وَلَا أَصَابَ أَهْلَهُمَا أَذًى، فَأَتَاهُمَا هَؤُلَاءِ وَمَلَكُوهُمَا، وَقَتَلُوا أَهْلَهُمَا، وَخَرَّبُوهُمَا، وَأَلْحَقُوهُمَا بِغَيْرِهِمَا مِنِ الْبِلَادِ الْخَرَابِ. ثُمَّ سَارُوا فِي الْبِلَادِ يُخَرِّبُونَ وَيَقْتُلُونَ وَيَنْهَبُونَ، ثُمَّ قَصَدُوا هَمَذَانَ، وَكَانَ قَدِ اجْتَمَعَ بِهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ سَلِمَ مِنْ أَهْلِهَا، فَأَبَادُوهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا وَنَهْبًا، وَخَرَّبُوا الْبَلَدَ. وَكَانُوا لَمَّا وَصَلُوا إِلَى الرَّيِّ رَأَوْا بِهَا عَسْكَرًا كَثِيرًا مِنَ الْخُوَارَزْمِيَّةِ، فَكَبَسُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، فَنَزَلُوا بِأَطْرَافِهَا، فَلَمْ يَشْعُرُوا إِلَّا وَالتَّتَرُ أَيْضًا قَدْ كَبَسُوهُمْ وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيهِمْ، فَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، فَوَصَلَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى تِبْرِيزَ وَأَرْسَلُوا إِلَى صَاحِبِهَا أَوْزَبْكَ بْنِ الْبَهْلَوَانِ يَقُولُونَ: إِنْ كُنْتَ مُوَافِقَنَا فَسَلِّمَ إِلَيْنَا مَنْ عِنْدِكَ مِنَ الْخُوَارَزْمِيَّةِ، وَإِلَّا فَعَرَفْنَا أَنَّكَ غَيْرُ مُوَافِقٍ لَنَا، وَلَا فِي طَاعَتِنَا فَعَمَدَ إِلَى مَنْ عِنْدِهِ مِنَ الْخُوَارَزْمِيَّةِ، فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ وَأَسَرَ بَعْضَهُمْ، وَحَمَلَ الْأَسْرَى وَالرُّءُوسَ إِلَى التَّتَرِ، وَأَنْفَذَ مَعَهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ شَيْئًا كَثِيرًا، فَعَادُوا عَنْ بِلَادِهِ نَحْوَ

خُرَاسَانَ، فَعَلُوا هَذَا وَلَيْسُوا فِي كَثْرَةٍ، كَانُوا نَحْوَ سِتَّةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَكَانَ الْخُوَارَزْمِيَّةُ الَّذِينَ انْهَزَمُوا مِنْهُمْ نَحْوَ سِتَّةِ آلَافِ رَاجِلِ، وَعَسْكَرُ أَوْزَبْكَ أَكْثَرُ مِنَ الْجَمِيعِ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ وَلَا الْخُوَارَزْمِيَّةُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْهُمْ. نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُومُ بِنُصْرَتِهِمْ، فَقَدْ دُفِعُوا إِلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ، وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ، وَاسْتِرْقَاقِ الْأَوْلَادِ، وَسَبْيِ الْحَرِيمِ وَقَتْلِهِنَّ، وَتَخْرِيبِ الْبِلَادِ. ذِكْرُ مُلْكِ غِيَاثِ الدِّينِ بِلَادَ فَارِسَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ غِيَاثَ الدِّينِ بْنَ خُوَارَزْم شَاهْ مُحَمَّدٍ كَانَ بِالرَّيِّ، وَلَهُ مَعَهَا أَصْفَهَان وَهَمَذَانُ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْبِلَادِ، وَلَهُ أَيْضًا بِلَادُ كَرْمَانَ، فَلَمَّا هَلَكَ أَبُوهُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَصَلَ التَّتَرُ إِلَى بِلَادِهِ، وَامْتَنَعَ بِأَصْفَهَانَ، وَحَصَرَهُ التَّتَرُ فِيهَا، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا، فَلَمَّا فَارَقَ التَّتَرُ بِلَادَهُ، وَسَارُوا إِلَى بِلَادِ قُفْجَاقَ، عَادَ مَلِكُ الْبِلَادِ وَعَمَّرَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْهَا، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَوَاخِرِ سَنَةِ عِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَجَرَى لَهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَفِي آخِرِ سَنَةِ عِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ سَارَ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ فَلَمْ يَشْعُرْ صَاحِبُهَا، وَهُوَ أَتَابِكْ سَعْدُ بْنُ دَكْلَا، إِلَّا وَقَدْ وَصَلَ غِيَاثُ الدِّينِ إِلَى أَطْرَافِ بِلَادِهِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الِامْتِنَاعِ، فَقَصَدَ قَلْعَةَ إِصْطَخْرَ فَاحْتَمَى بِهَا، وَسَارَ غِيَاثُ الدِّينِ إِلَى مَدِينَةِ شِيرَازَ، وَهِيَ كُرْسِيُّ مَمْلَكَةِ فَارِسَ وَأَكْبَرُهَا وَأَعْظَمُهَا، فَمَلَكَهَا بِغَيْرِ تَعَبٍ أَوَّلَ سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَبَقِيَ غِيَاثُ الدِّينِ بِهَا، وَاسْتَوْلَى عَلَى أَكْثَرِ الْبِلَادِ، وَلَمْ يَبْقَ بِيَدِ سَعْدٍ إِلَّا الْحُصُونُ الْمَنِيعَةُ. فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ عَلَى سَعْدٍ صَالَحَ غِيَاثَ الدِّينِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِسَعْدٍ مِنَ الْبِلَادِ قِسْمٌ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَلِغِيَاثٍ الْبَاقِي، وَأَقَامَ غِيَاثُ الدِّينِ بِشِيرَازَ، وَازْدَادَ إِقَامَةً وَعَزْمًا عَلَى ذَلِكَ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ التَّتَرَ قَدْ عَادُوا إِلَى الرَّيِّ وَالْبِلَادِ الَّتِي لَهُ وَخَرَّبُوهَا.

ذِكْرُ عِصْيَانِ شِهَابِ الدِّينِ غَازِي عَلَى أَخِيهِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ، وَأَخْذِ خِلَاطَ مِنْهُ. كَانَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ مُوسَى بْنُ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ قَدْ أَقْطَعَ أَخَاهُ شِهَابَ الدِّينِ غَازِي مَدِينَةَ خِلَاطَ وَجَمِيعَ أَعْمَالِ أَرْمِينِيَّةَ، وَأَضَافَ إِلَيْهَا مَيَّافَارِقِينَ وَحَانِي وَجَبَلَ جُورٍ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِذَلِكَ حَتَّى جَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي لَهُ جَمِيعِهَا، وَحَلَّفَ لَهُ جَمِيعَ النُّوَّابِ وَالْعَسَاكِرِ فِي الْبِلَادِ. فَلَمَّا سَلَّمَ إِلَيْهِ أَرْمِينِيَّةَ، سَارَ إِلَيْهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى آخِرِ سَنَةِ عِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَأَظْهَرَ مُغَاضَبَةَ أَخِيهِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ، وَالتَّجَنِّيَ عَلَيْهِ وَالْعِصْيَانَ، وَالْخُرُوجَ عَنْ طَاعَتِهِ، فَرَاسَلَهُ الْأَشْرَفُ يَسْتَمِيلُهُ وَيُعَاتِبُهُ عَلَى مَا فَعَلَ، فَلَمْ يَرْعَوِ، وَلَا تَرَكَ مَا هُوَ عَلَيْهِ، بَلْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ، وَاتَّفَقَ هُوَ وَأَخُوهُ الْمُعَظَّمُ عِيسَى صَاحِبُ دِمَشْقَ، وَمُظَفَّرُ الدِّينِ بْنُ زَيْنِ الدِّينِ صَاحِبُ إِرْبِلَ، عَلَى الْخِلَافِ لِلْأَشْرَفِ، وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى مُحَارَبَتِهِ، وَأَظْهَرُوا ذَلِكَ. وَعَلِمَ الْأَشْرَفُ فَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ الْكَامِلِ بِمِصْرَ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، وَكَانَا مُتَّفِقَيْنِ، وَطَلَبَ مِنْهُ نَجْدَةً، فَجَهَّزَ الْعَسَاكِرَ وَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ صَاحِبِ دِمَشْقَ، يَقُولُ لَهُ: إِنْ تَحَرَّكْتَ مِنْ بَلَدِكَ، سِرْتُ إِلَيْهِ وَأَخَذْتُهُ، وَكَانَ قَدْ سَارَ نَحْوَ دِيَارِ الْجَزِيرَةِ لِلْمِيعَادِ الَّذِي بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ رِسَالَةُ أَخِيهِ، وَسَمِعَ بِتَجْهِيزِ الْعَسَاكِرِ، عَادَ إِلَى دِمَشْقَ. وَأَمَّا صَاحِبُ إِرْبِلَ فَإِنَّهُ جَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَكَانَ مِنْهُ مَا نَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا الْأَشْرَفُ فَإِنَّهُ لَمَّا تَيَقَّنَ عِصْيَانَ أَخِيهِ، جَمَعَ الْعَسَاكِرَ مِنَ الشَّامِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَالْمَوْصِلِ، وَسَارَ إِلَى خِلَاطَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهَا، خَافَهُ أَخُوهُ غَازِي، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى أَنْ يَلْقَاهُ مُحَارِبًا، فَفَرَّقَ عَسْكَرَهُ فِي الْبِلَادِ لِيُحَصِّنَهَا، وَانْتَظَرَ أَخُوهُ صَاحِبُ دِمَشْقَ أَنْ يَسِيرَ صَاحِبُ إِرْبِلَ إِلَى مَا يُجَاوِرُهُ مِنَ الْمَوْصِلِ وَسِنْجَارَ، وَأَنْ يَسِيرَ أَخُوهُ إِلَى بِلَادِ الْأَشْرَفِ عِنْدَ الْفُرَاتِ: الرَّقَّةِ، وَحَرَّانَ، وَغَيْرِهِمَا، فَيُضْطَرُّ الْأَشْرَفُ حِينَئِذٍ إِلَى الْعَوْدِ عَنْ خِلَاطَ. فَسَارَ الْأَشْرَفُ إِلَيْهِ، وَقَصَدَ خِلَاطَ، وَكَانَ أَهْلُهَا يُرِيدُونَهُ، وَيَخْتَارُونَ دَوْلَتَهُ لِحُسْنِ

سِيرَتِهِ، كَانَتْ فِيهِمْ، وَسُوءِ سِيرَةِ غَازِي، فَلَمَّا حَصَرَهَا، سَلَّمَهَا أَهْلُهَا إِلَيْهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَبَقِيَ غَازِي فِي الْقَلْعَةِ مُمْتَنِعًا، فَلَمَّا جَنَّهُ اللَّيْلُ، نَزَلَ إِلَى أَخِيهِ مُعْتَذِرًا وَمُتَنَصِّلًا، فَعَاتَبَهُ الْأَشْرَفُ وَأَبْقَى عَلَيْهِ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ عَلَى فِعْلِهِ، لَكِنْ أَخَذَ الْبِلَادَ مِنْهُ وَأَبْقَى عَلَيْهِ مَيَّافَارِقِينَ. ذِكْرُ حِصَارِ صَاحِبِ إِرْبِلَ الْمَوْصِلَ. قَدْ ذَكَرْنَا اتِّفَاقَ مُظَفَّرِ الدِّينِ كُوكُبرِيِّ بْنِ زَيْنِ الدِّينِ عَلَى صَاحِبِ إِرْبِلَ، وَشِهَابِ الدِّينِ غَازِي صَاحِبِ خِلَاطَ، وَالْمُعَظَّمِ عِيسَى صَاحِبِ دِمَشْقَ، عَلَى قَصْدِ بِلَادِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ، فَأَمَّا صَاحِبُ دِمَشْقَ فَإِنَّهُ سَارَ عَنْهَا مَرَاحِلَ يَسِيرَةً وَعَادَ إِلَيْهَا ; لِأَنَّ أَخَاهُ صَاحِبَ مِصْرَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَتَهَدَّدُهُ إِنْ سَارَ عَنْ دِمَشْقَ أَنَّهُ يَقْصِدُهَا وَيَحْصُرُهَا، فَعَادَ. وَأَمَّا غَازِي فَإِنَّهُ اسْتُحْصِرَ فِي خِلَاطَ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا صَاحِبُ إِرْبِلَ فَإِنَّهُ جَمَعَ عَسْكَرَهُ، وَسَارَ إِلَى بَلَدِ الْمَوْصِلِ وَحَصَرَهَا، وَنَازَلَهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْمَلِكَ الْأَشْرَفَ إِذَا سَمِعَ بِنُزُولِهِ عَلَيْهَا، رَحَلَ عَنْ خِلَاطَ، وَيَخْرُجُ غَازِي فِي طَلَبِهِ، فَتَتَخَبَّطُ أَحْوَالُهُ، وَتَقْوَى نَفْسُ صَاحِبِ دِمَشْقَ عَلَى الْمَجِيءِ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا نَازَلَ الْمَوْصِلَ، كَانَ صَاحِبُهَا بَدْرُ الدِّينِ لُؤْلُؤٌ قَدْ أَحْكَمَ أُمُورَهَا مِنِ اسْتِخْدَامِ الْجُنْدِ عَلَى الْأَسْوَارِ، وَإِظْهَارِ آلَةِ الْحِصَارِ، وَإِخْرَاجِ الذَّخَائِرِ. وَإِنَّمَا قَوِيَ طَمَعُ صَاحِبُ إِرْبِلَ عَلَى حَصْرِ الْمَوْصِلِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ عَسْكَرِهَا كَانَ قَدْ سَارَ إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ إِلَى خِلَاطَ، وَقَدْ قَلَّ الْعَسْكَرُ فِيهَا، وَكَانَ الْغَلَاءُ شَدِيدًا فِي الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، وَالسِّعْرُ فِي الْمَوْصِلِ كُلُّ ثَلَاثَةِ مَكَاكِيكَ بِدِينَارٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَقْدَمَ عَلَى حَصْرِهَا، فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهَا أَقَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ رَحَلَ عَنْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَكَانَ سَبَبُ رَحِيلِهِ أَنَّهُ رَأَى امْتِنَاعَ الْبَلَدِ عَلَيْهِ، وَكَثْرَةَ مَنْ فِيهِ، وَعِنْدَهُمْ مِنَ الذَّخَائِرِ مَا يَكْفِيهِمُ الزَّمَانَ الْكَثِيرَ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ خَبَرُ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ أَنَّهُ مَلَكَ خِلَاطَ، فَانْفَسَخَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا كَانَ يُؤَمِّلُهُ مِنْ صَاحِبِهَا وَمِنْ دِمَشْقَ، وَبَقِيَ وَحْدَهُ مُتَلَبِّسًا بِالْأَمْرِ، فَلَمَّا وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، سُقِطَ فِي يَدِهِ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ الصَّوَابَ، فَرَحَلَ

عَائِدًا إِلَى بَلَدِهِ، وَأَقَامَ عَلَى [الزَّابِ] ، وَمُدَّةُ مُقَامِهِ عَلَى الْمَوْصِلِ لَمْ يُقَاتِلْهَا، إِنَّمَا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ يَجِيءُ بَعْضُ الْيَزَكِ الَّذِينَ لَهُ يُقَاتِلُونَ الْبَلَدَ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ بَعْضُ الْفُرْسَانِ، وَبَعْضُ الرَّجَّالَةِ، فَيَجْرِي بَيْنَهُمْ قِتَالٌ لَيْسَ بِالْكَثِيرِ ثُمَّ يَتَفَرَّقُونَ، وَتَرْجِعُ كُلُّ طَائِفَةٍ إِلَى صَاحِبِهَا. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوَّلَ آبَ، جَاءَ بِبَغْدَادَ مَطَرٌ بِرَعْدٍ وَبَرْقٍ، وَجَرَتِ الْمِيَاهُ بِبَابِ الْبَصْرَةِ وَالْحَرْبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ بِالْمُحَوَّلِ، بِحَيْثُ إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَخُوضُونَ فِي الْمَاءِ وَالْوَحْلِ بِالْمُحَوَّلِ. وَفِيهَا سَارَ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ إِلَى بَعْقُوبَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَعَسَفَ أَهْلَهَا، فَنُقِلَ إِلَيْهِ عَنْ إِنْسَانٍ مِنْهَا أَنَّهُ يَسُبُّهُ، فَأَحْضَرَهُ وَأَمَرَ بِمُعَاقَبَتِهِ، وَقَالَ لَهُ: لِمَ تَسُبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: أَنْتُمْ تَسُبُّونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لِأَجْلِ أَخْذِهِمَا فَدَكَ، وَهِيَ عَشْرُ نَخَلَاتٍ لِفَاطِمَةَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - وَأَنْتُمْ تَأْخُذُونَ مِنِّي أَلْفَ نَخْلَةٍ وَلَا أَتَكَلَّمُ؟ فَعَفَا عَنْهُ. وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِوَاسِطَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ عَلَى جَارِي عَادَتِهِمْ. وَفِيهَا قَلَّتِ الْأَمْطَارُ فِي الْبِلَادِ، فَلَمْ يَجِئْ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَى شُبَاطَ، ثُمَّ إِنَّهَا كَانَتْ تَجِيءُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ مَجِيئًا قَرِيبًا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ الرِّيُّ لِلزَّرْعِ، فَجَاءَتِ الْغَلَّاتُ قَلِيلَةً، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهَا الْجَرَادُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ النَّبَاتِ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ عَنْهَا، فَأَكَلَهَا إِلَّا الْقَلِيلَ، وَكَانَ كَثِيرًا خَارِجًا عَنِ الْحَدِّ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ فِي الْعِرَاقِ وَالْمَوْصِلِ، وَسَائِرِ دِيَارِ الْجَزِيرَةِ، وَدِيَارِ بَكْرٍ وَغَيْرِهَا، وَقَلَّتِ الْأَقْوَاتُ، إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ الْغَلَاءِ كَانَ بِالْمَوْصِلِ وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ.

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ] 622 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ حَصْرِ الْكُرْجِ مَدِينَةَ كَنْجَةَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَتِ الْكُرْجُ فِي جُمُوعِهَا إِلَى مَدِينَةِ كَنْجَةَ مِنْ بِلَادِ أَرَّانَ قَصْدًا لِحَصْرِهَا، وَاعْتَدُّوا لَهَا بِمَا أَمْكَنَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ ; لِأَنَّ أَهْلَ كَنْجَةَ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، قَوِيَّةٌ شَوْكَتُهُمْ، وَعِنْدَهُمْ شَجَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ طُولِ مُمَارَسَتِهِمْ لِلْحَرْبِ مَعَ الْكُرْجِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا وَنَازَلُوهَا، قَاتَلُوا أَهْلَهَا عِدَّةَ أَيَّامٍ مِنْ وَرَاءِ السُّورِ، لَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَهْلِهَا أَحَدٌ، ثُمَّ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ خَرَجَ أَهْلُ كَنْجَةَ وَمَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعَسْكَرِ مِنَ الْبَلَدِ، وَقَاتَلُوا الْكُرْجَ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ أَشَدَّ قِتَالٍ وَأَعْظَمَهُ، فَلَمَّا رَأَى الْكُرْجُ ذَلِكَ، عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِالْبَلَدِ، فَرَحَلُوا بَعْدَ أَنْ أَثْخَنَ أَهْلُ كَنْجَةَ فِيهِمْ {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب: 25] . ذِكْرُ وُصُولِ جَلَالِ الدِّينِ بْنِ خُوَارَزْمَ شَاهْ إِلَى خُوزِسْتَانَ وَالْعِرَاقِ. فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ جَلَالُ الدِّينِ بْنُ خُوَارَزْمَ شَاهْ مُحَمَّدُ بْنُ تُكَشَ إِلَى بِلَادِ خُوزِسْتَانَ وَالْعِرَاقِ، وَكَانَ مَجِيئُهُ مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ ; لِأَنَّهُ كَانَ وَصَلَ إِلَيْهَا لَمَّا قَصَدَ التَّتَرُ غَزْنَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ جَمِيعَهُ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمَقَامُ بِبِلَادِ الْهِنْدِ، سَارَ عَنْهَا عَلَى كِرْمَانَ، وَوَصَلَ إِلَى أَصْفَهَانَ وَهِيَ بِيَدِ أَخِيهِ غِيَاثِ الدِّينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَخْبَارُهُ، فَمَلَكَهَا وَسَارَ عَنْهَا إِلَى بِلَادِ فَارِسَ، وَكَانَ أَخُوهُ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى بَعْضِهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَعَادَ مَا كَانَ أَخُوهُ أَخَذَهُ مِنْهَا إِلَى أَتَابِكَ سَعْدٍ صَاحِبِهَا، وَصَالَحَهُ وَسَارَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى خُوزِسْتَانَ، فَحَصَرَ مَدِينَةَ تُسْتَرَ فِي الْمُحَرَّمِ، وَبِهَا الْأَمِيرُ مُظَفَّرُ الدِّينِ الْمَعْرُوفُ بِوَجْهِ

السَّبُعِ، مَمْلُوكُ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، حَافِظًا لَهَا، وَأَمِيرًا عَلَيْهَا، فَحَصَرَهُ جَلَالُ الدِّينِ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَحَفِظَهَا وَجْهُ السَّبُعِ، وَبَالَغَ فِي الْحِفْظِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَتَفَرَّقَ الْخُوَارَزْمِيَّةُ يَنْهَبُونَ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى بَادرَايَا وَبَاكسَايَا وَغَيْرِهِمَا، وَانْحَدَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَاحِيَةِ الْبَصْرَةِ، فَنَهَبُوا هُنَالِكَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ شِحْنَةُ الْبَصْرَةِ، وَهُوَ الْأَمِيرُ مُلْتَكِينُ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَأَوْقَعَ بِهِمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، فَدَامَ الْحِصَارُ نَحْوَ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ رَحَلَ عَنْهَا بَغْتَةً. وَكَانَتْ عَسَاكِرُ الْخَلِيفَةِ، مَعَ مَمْلُوكِهِ جَمَالِ الدِّينِ قُشْتُمُر، بِالْقُرْبِ مِنْهُ، فَلَمَّا رَحَلَ جَلَالُ الدِّينِ لَمْ يَقْدِرِ الْعَسْكَرُ عَلَى مَنْعِهِ، فَسَارَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى بَعْقُوبَا، وَهِيَ قَرْيَةٌ مَشْهُورَةٌ بِطَرِيقِ خُرَاسَانَ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَغْدَادَ نَحْوُ سَبْعَةِ فَرَاسِخَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَادَ تَجَهَّزُوا لِلْحِصَارِ، وَأَصْلَحُوا السِّلَاحَ مِنَ الْجُرُوخِ، وَالْقِسِيِّ وَالنُّشَّابِ، وَالنِّفْطِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَادِ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ إِلَى بَغْدَادَ. وَأَمَّا عَسْكَرُ جَلَالِ الدِّينِ فَنَهَبَ الْبِلَادَ وَأَهْلَكَهَا، وَكَانَ قَدْ وَصَلَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ إِلَى خُوزِسْتَانَ فِي ضُرٍّ شَدِيدٍ وَجُهْدٍ جَهِيدٍ، وَقِلَّةٍ مِنَ الدَّوَابِّ، وَالَّذِي مَعَهُمْ فَهُوَ مِنَ الضَّعْفِ إِلَى حَدٍّ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَغَنِمُوا مِنَ الْبِلَادِ جَمِيعَهَا وَاسْتَغْنَوْا، وَأَكْثَرُوا مِنْ أَخْذِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا. وَسَارَ مِنْ بَعْقُوبَا إِلَى دَقُوقَا فَحَصَرَهَا، فَصَعِدَ أَهْلُهَا إِلَى السُّورِ وَقَاتَلُوهُ، وَسَبُّوهُ، وَأَكْثَرُوا مِنَ التَّكْبِيرِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ، وَجَدَّ فِي قِتَالِهِمْ، فَفَتَحَهَا عَنْوَةً وَقَهْرًا، وَنَهَبَتْهَا عَسَاكِرُهُ، وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، فَهَرَبَ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ. وَلَمَّا كَانَ الْخُوَارَزْمِيُّونَ عَلَى دَقُوقَا، سَارَتْ سَرِيَّةٌ مِنْهُمْ إِلَى الْبَتِّ وَالرَّاذَانِ، فَهَرَبَ أَهْلُهَا إِلَى تَكْرِيتَ، فَتَبِعَهُمُ الْخُوَارِزْمِيَّةُ، فَجَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَسْكَرِ تَكْرِيتَ وَقْعَةٌ شَدِيدَةٌ، فَعَادُوا إِلَى الْعَسْكَرِ. وَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَعْيَانِ أَهْلِ دَقُوقَا وَهُمْ بَنُو يَعْلَى، وَهُمْ أَغْنِيَاءُ، فَنُهِبُوا، وَسَلِمَ

أَحَدُهُمْ، وَمَعَهُ وَلَدَانِ لَهُ، وَشَيْءٌ يَسِيرٌ مِنَ الْمَالِ، فَسَيَّرَ مَا سَلِمَ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ مَعَ الْوَلَدَيْنِ لِيَتَّجِرَ بِمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَيُنْفِقُونَهُ عَلَى نُفُوسِهِمْ، فَمَاتَ أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ بِدِمَشْقَ، وَاحْتَاطَ الْحَاكِمُ عَلَى مَا مَعَهُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَاهُمْ عَلَى حَالَةٍ شَدِيدَةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، يَقُولُ: أُخِذَتِ الْأَمْوَالُ وَالْأَمْلَاكُ، وَقُتِلَ بَعْضُ الْأَهْلِ، وَفَارَقَ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمُ الْوَطَنَ بِهَذَا الْقَدْرِ الْحَقِيرِ، أَرَدْنَا [أَنْ] نَكُفَّ بِهِ وُجُوهَنَا مِنَ السُّؤَالِ، وَنَصُونَ أَنْفُسَنَا، فَقَدْ ذَهَبَ الْوَلَدُ وَالْمَالُ. ثُمَّ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ لِيَأْخُذَ مَا سَلِمَ مَعَ ابْنِهِ الْآخَرِ، فَأَخَذَهُ وَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ شَهْرٍ حَتَّى تُوُفِّيَ، إِنَّ الشَّقِيَّ بِكُلِّ حَبْلٍ يُخْنَقُ. وَأَمَّا جَلَالُ الدِّينِ فَإِنَّهُ لَمَّا فَعَلَ بِأَهْلِ دَقُوقَا مَا فَعَلَ، خَافَهُ أَهْلُ الْبَوَازِيجِ، وَهِيَ لِصَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ إِرْسَالَ شِحْنَةٍ إِلَيْهِمْ يَحْمِيهِمْ، وَبَذَلُوا لَهُ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَحْمِيهِمْ، قِيلَ: كَانَ بَعْضُ أَوْلَادِ جَنْكِزْخَانَ مَلِكِ التَّتَرِ، أَسَرَهُ جَلَالُ الدِّينِ فِي بَعْضِ حُرُوبِهِ مَعَ التَّتَرِ، فَأَكْرَمَهُ، فَحَمَاهُمْ، وَأَقَامَ بِمَكَانِهِ إِلَى أَوَاخِرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَالرُّسُلُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُظَفَّرِ الدِّينِ صَاحِبِ إِرْبِلَ، فَاصْطَلَحُوا، فَسَارَ جَلَالُ الدِّينِ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَفِي مُدَّةِ مُقَامِ جَلَالِ الدِّينِ بِخُوزِسْتَانَ وَالْعِرَاقِ ثَارَتِ الْعَرَبُ بِالْبِلَادِ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، وَيَنْهَبُونَ الْقُرَى، وَيُخِيفُونَ السَّبِيلَ، فَنَالَ الْخَلْقَ مِنْهُمْ أَذًى شَدِيدٌ، وَأَخَذُوا فِي طَرِيقِ الْعِرَاقِ قَفَلَيْنِ عَظِيمَيْنِ كَانَا سَائِرَيْنِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمَا شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَلِكِ الْأَفْضَلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُلُوكِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرٍ، تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ عَلِيُّ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ فَجْأَةً بِقَلْعَةِ سُمَيْسَاطَ، وَكَانَ عُمْرُهُ نَحْوَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ عِنْدَ وَفَاةِ وَالِدِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُلْكَهُ مَدِينَةَ دِمَشْقَ وَالْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، وَغَيْرَهُمَا مِنَ الشَّامِ، وَذَكَرْنَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ أَخْذَ الْجَمِيعِ مِنْهُ، ثُمَّ ذَكَرْنَا سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ مُلْكَهُ دِيَارَ مِصْرَ، وَذَكَرْنَا سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ أَخْذَهَا مِنْهُ، وَانْتَقَلَ إِلَى سُمَيْسَاطَ وَأَقَامَ بِهَا، وَلَمْ يَزَلْ بِهَا إِلَى الْآنَ، فَتُوُفِّيَ بِهَا. وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ مَحَاسِنِ الزَّمَانِ، لَمْ يَكُنْ فِي الْمُلُوكِ مِثْلُهُ، كَانَ خَيِّرًا

عَادِلًا، فَاضِلًا، حَلِيمًا، كَرِيمًا، قَلَّ أَنْ عَاقَبَ عَلَى ذَنْبٍ، وَلَمْ يَمْنَعْ طَالِبًا، كَانَ يَكْتُبُ خَطًّا حَسَنًا، وَكِتَابَةً جَيِّدَةً، وَبِالْجُمْلَةِ، فَاجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ مَا تَفَرَّقَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُلُوكِ، لَا جَرَمَ حُرِمَ الْمُلْكَ وَالدُّنْيَا، وَعَادَاهُ الدَّهْرُ، وَمَاتَ بِمَوْتِهِ كُلُّ فِعْلٍ جَلِيلٍ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَرَأَيْتُ مِنْ كِتَابَتِهِ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، فَمِمَّا بَقِيَ عَلَى خَاطِرِي مِنْهَا أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ لَمَّا أُخِذَتْ دِمَشْقُ مِنْهُ كِتَابًا، مِنْ فُصُولِهِ: وَأَمَّا أَصْحَابُنَا بِدِمَشْقَ فَلَا عِلْمَ لِي بِأَحَدٍ مِنْهُمْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنِّي: أَيُّ صَدِيقٍ سَأَلْتُ عَنْهُ ... فَفِي الْذُّلِّ وَتَحْتَ الْخُمُولِ فِي الْوَطَنِ وَأَيُّ ضِدٍّ سَأَلْتُ حَالَتَهُ ... سَمِعْتُ مَا لَا تُحِبُّهُ أُذُنِي. فَتَرَكْتُ السُّؤَالَ عَنْهُمْ، وَهَذَا غَايَةُ الْجَوْدَةِ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ تَرْكِ السُّؤَالِ وَالصَّاحِبِ. وَلَمَّا مَلَكَ، اخْتَلَفَ أَوْلَادُهُ، وَعَمُّهُمْ قُطْبُ الدِّينِ مُوسَى، وَلَمْ يَقْوَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى الْبَاقِينَ لِيَسْتَبِدَّ بِالْأَمْرِ. [الْوَفَيَاتُ] . وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَاحِبُ أَرْزَنَ الرُّومِ، وَهُوَ مُغِيثُ الدِّينِ طُغْرُلُ بْنُ قَلِجْ أَرْسَلَانَ، وَهُوَ الَّذِي سَيَّرَ وَلَدَهُ إِلَى الْكُرْجِ، وَتَنَصَّرَ وَتَزَوَّجَ مَلِكَةَ الْكُرْجِ، وَلَمَّا مَاتَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ. وَمَاتَ فِيهَا مَلِكُ أَرْزَنْكَانَ. وَتُوُفِّيَ فِيهَا عِزُّ الدِّينِ الْخَضِرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ قُرَا أَرْسِلَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ سُقْمَانَ صَاحِبُ خَرْتَ بِرْتَ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ نُورُ الدِّينِ أَرْتَقْ شَاهْ، وَكَانَ

الْمُدَبِّرُ لِدَوْلَتِهِ وَدَوْلَةِ وَالِدِهِ مُعِينَ الدِّينِ بَدْرَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَغْدَادِيَّ الْأَصْلِ، الْمَوْصِلِيَّ الْمَنْشَأِ. ذِكْرُ خَلْعِ شِرْوَانَ شَاهْ، وَظَفَرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْكُرْجِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَ عَلَى شِرْوَانَ شَاهْ وَلَدُهُ، فَنَزَعَهُ مِنَ الْمُلْكِ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْبِلَادِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ شِرَوَانَ شَاهْ كَانَ سَيِّئَ السِّيرَةِ، كَثِيرَ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ، يَتَعَرَّضُ لِأَمْوَالِ الرَّعَايَا وَأَمْلَاكِهِمْ، وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّهُ كَانَ يَتَعَرَّضُ لِلنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، فَاشْتَدَّتْ وَطْأَتُهُ عَلَى النَّاسِ، فَاتَّفَقَ بَعْضُ الْعَسْكَرِ مَعَ وَلَدِهِ، وَأَخْرَجُوا أَبَاهُ مِنَ الْبِلَادِ، وَمَلَكَ الِابْنُ، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، فَأَحَبَّهُ الْعَسَاكِرُ وَالرَّعِيَّةُ، وَأَرْسَلَ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ يَقُولُ لَهُ: إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَتْرُكَكَ فِي بَعْضِ الْقِلَاعِ وَأُجْرِيَ لَكَ الْجِرَايَاتِ الْكَثِيرَةَ، وَلِكُلِّ مَنْ تُحِبُّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكَ، وَالَّذِي حَمَلَنِي عَلَى مَا فَعَلْتُ مَعَكَ سُوءُ سِيرَتِكَ وَظُلْمُكَ لِأَهْلِ الْبِلَادِ، وَكَرَاهِيَتُهُمْ لَكَ وَلِدَوْلَتِكَ. فَلَمَّا رَأَى الْأَبُ ذَلِكَ، سَارَ إِلَى الْكُرْجِ وَاسْتَنْصَرَ بِهِمْ، وَقَرَّرَ مَعَهُمْ أَنْ يُرْسِلُوا مَعَهُ عَسْكَرًا يُعِيدُونَهُ إِلَى مُلْكِهِ، وَيُعْطِيهِمْ نِصْفَ الْبِلَادِ، فَسَيَّرُوا مَعَهُ عَسْكَرًا كَثِيرًا، فَسَارَ حَتَّى قَارَبَ مَدِينَةَ شِرْوَانَ، فَجَمَعَ وَلَدُهُ الْعَسْكَرَ، وَأَعْلَمَهُمُ الْحَالَ، وَقَالَ: إِنَّ الْكُرْجَ مَتَى حَصَرُونَا، رُبَّمَا ظَفِرُوا بِنَا، وَحِينَئِذٍ لَا يُبْقِي أَبِي عَلَى أَحَدٍ مِنَّا، وَيَأْخُذُ الْكُرْجُ نِصْفَ الْبِلَادِ، وَرُبَّمَا أَخَذُوا الْجَمِيعَ، وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَالرَّأْيُ أَنَّنَا نَسِيرُ إِلَيْهِمْ جَرِيدَةً وَنَلْقَاهُمْ، فَإِنْ ظَفِرْنَا بِهِمْ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِنْ ظَفِرُوا بِنَا فَالْحَصْرُ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ. فَخَرَجَ فِي عَسْكَرِهِ، وَهُمْ قَلِيلٌ نَحْوُ أَلْفِ فَارِسٍ، وَلَقُوا الْكُرْجَ وَهُمْ فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، وَصَبَرَ أَهْلُ شِرْوَانَ، فَانْهَزَمَ الْكُرْجُ، فَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَأُسِرَ كَثِيرٌ، وَمَنْ سَلِمَ عَادَ بِأَسْوَأِ حَالٍ، وَشِرْوَانَ شَاهْ الْمَخْلُوعُ مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُ مُقَدَّمُو الْكُرْجِ: إِنَّنَا لَمْ نَلْقَ بِسَبَبِكَ خَيْرًا، وَلَا نُؤَاخِذُكَ بِمَا كَانَ مِنْكَ، فَلَا تُقِمْ بِبِلَادِنَا، فَفَارَقَهُمْ وَبَقِيَ مُتَرَدِّدًا لَا يَأْوِي إِلَى أَحَدٍ، وَاسْتَقَرَّ وَلَدُهُ فِي الْمُلْكِ، وَأَحْسَنَ إِلَى الْجُنْدِ وَالرَّعِيَّةِ

وَأَعَادَ إِلَى النَّاسِ أَمْلَاكَهُمْ وَمُصَادَرَاتِهِمْ، فَاغْتَبَطُوا بِوِلَايَتِهِ. ذِكْرُ ظَفَرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْكُرْجِ أَيْضًا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا سَارَ جَمْعٌ مِنَ الْكُرْجِ مِنْ تَفْلِيسَ يَقْصِدُونَ أَذْرَبِيجَانَ وَالْبِلَادَ الَّتِي بِيَدِ أُوزْبَكَ، فَنَزَلُوا وَرَاءَ مَضِيقٍ فِي الْجِبَالِ لَا يُسْلَكُ إِلَّا لِلْفَارِسِ بَعْدَ الْفَارِسِ، فَنَزَلُوا آمِنِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اسْتِضْعَافًا لَهُمْ وَاغْتِرَارًا بِحَصَانَةِ مَوْضِعِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَيْهِمْ. وَرَكِبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَقَصَدُوا الْكُرْجَ، فَوَصَلُوا إِلَى ذَلِكَ الْمَضِيقِ، فَجَازُوهُ مُخَاطِرِينَ، فَلَمْ يَشْعُرِ الْكُرْجُ إِلَّا وَقَدْ غَشِيَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَوَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ، فَقَتَلُوهُمْ كَيْفَ شَاءُوا، وَوَلَّى الْبَاقُونَ مُنْهَزِمِينَ لَا يَلْوِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا أَخٌ عَلَى أَخِيهِ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ صَالِحٌ، فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَعَزَمُوا عَلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِهِمْ، وَالْجِدِّ فِي قَصْدِ أَذْرَبِيجَانَ وَاسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ، وَأَخَذُوا يَتَجَهَّزُونَ عَلَى قَدْرِ عَزْمِهِمْ. فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ وَصَلَ إِلَيْهِمُ الْخَبَرُ بِوُصُولِ جَلَالِ الدِّينِ بْنِ خُوَارَزْمَ شَاهْ إِلَى مَرَاغَةَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَتَرَكُوا ذَلِكَ وَأَرْسَلُوا إِلَى أُوزْبَكَ صَاحِبِ أَذْرَبِيجَانَ، يَدْعُونَهُ إِلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى رَدِّ جَلَالِ الدِّينِ، وَقَالُوا: إِنْ لَمْ نَتَّفِقْ نَحْنُ وَأَنْتَ، وَإِلَّا أَخَذَكَ ثُمَّ أَخَذَنَا، فَعَاجَلَهُمْ جَلَالُ الدِّينِ قَبْلَ اتِّفَاقِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ، فَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، تَعَالَى. ذِكْرُ مُلْكِ جَلَالِ الدِّينِ أَذْرَبِيجَانَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى جَلَالُ الدِّينِ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا سَارَ مِنْ دَقُوقَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ، قَصَدَ كُلَّ مَرَاغَةَ فَمَلَكَهَا وَأَقَامَ بِهَا، وَشَرَعَ فِي عِمَارَةِ الْبَلَدِ، فَاسْتَحْسَنَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا، أَتَاهُ الْخَبَرُ أَنَّ الْأَمِيرَ إِيغَانَ طَائِيسِي، وَهُوَ خَالُ أَخِيهِ غِيَاثِ الدِّينِ، قَدْ قَصَدَ هَمَذَانَ قَبْلَ وُصُولِ جَلَالِ الدِّينِ بِيَوْمَيْنِ. وَكَانَ إِيغَانُ طَائِيسِي هَذَا قَدْ جَمَعَ عَسْكَرًا كَثِيرًا يَبْلُغُونَ خَمْسَةَ آلَافِ فَارِسٍ. وَنَهَبَ كَثِيرًا مِنْ أَذْرَبِيجَانَ، وَسَارَ إِلَى الْبَحْرِ مِنْ بَلَدِ أَرَّانَ، فَشَتَّى هُنَالِكَ لِقِلَّةِ الْبَرْدِ،

وَلَمَّا عَادَ إِلَى هَمَذَانَ، نَهَبَ أَذْرَبِيجَانَ أَيْضًا مَرَّةً ثَانِيَةً. وَكَانَ سَبَبُ مَسِيرِهِ إِلَى هَمَذَانَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ النَّاصِرَ لِدِينِ اللَّهِ رَاسَلَهُ وَأَمَرَهُ بِقَصْدِ هَمَذَانَ، وَأَقْطَعَهُ إِيَّاهَا وَغَيْرَهَا، فَسَارَ لِيَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا كَمَا أُمِرَ، فَلَمَّا سَمِعَ جَلَالُ الدِّينِ بِذَلِكَ، سَارَ جَرِيدَةً إِلَيْهِ، فَوَصَلَ إِلَى إِيغَانَ طَائِيسِي لَيْلًا، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ جَعَلَ حَوْلَ عَسْكَرِهِ جَمِيعَ مَا غَنِمُوا مِنْ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانَ مِنْ خَيْلٍ وَبِغَالٍ، وَحَمِيرٍ وَبَقَرٍ، وَغَنَمٍ. فَلَمَّا وَصَلَ جَلَالُ الدِّينِ، أَحَاطَ بِالْجَمِيعِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ عَسْكَرُ إِيغَانَ طَائِيسِي وَرَأَى الْعَسْكَرَ وَالْجَتْرَ الَّذِي يَكُونُ عَلَى رَأْسِ السُّلْطَانِ، عَلِمُوا أَنَّهُ جَلَالُ الدِّينِ، فَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَهُ عِنْدَ دَقُوقَا، فَأَرْسَلَ إِيغَانُ طَائِيسِي زَوْجَتَهُ، وَهِيَ أُخْتُ جَلَالِ الدِّينِ، تَطْلُبُ لَهُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُ وَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ، وَانْضَافَ عَسْكَرُهُ إِلَى عَسْكَرِ جَلَالِ الدِّينِ، وَبَقِيَ إِيغَانُ طَائِيسِي وَحْدَهُ إِلَى أَنْ أَضَافَ إِلَيْهِ جَلَالُ الدِّينِ عَسْكَرًا غَيْرَ عَسْكَرِهِ، وَعَادَ إِلَى مَرَاغَةَ، وَأَعْجَبَهُ الْمُقَامُ بِهَا. وَكَانَ أُوزْبَكُ بْنُ الْبَهْلَوَانِ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانَ، قَدْ سَارَ مِنْ تِبْرِيزَ إِلَى كَنْجَةَ خَوْفًا مِنْ جَلَالِ الدِّينِ، وَأَرْسَلَ جَلَالُ الدِّينِ إِلَى مَنْ فِي تِبْرِيزَ مِنْ وَالٍ وَأَمِيرٍ وَرَئِيسٍ يَطْلُبُ مِنْهُمْ أَنْ يَتَرَدَّدَ عَسْكَرُهُ إِلَيْهِمْ يَمْتَارُونَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ وَأَطَاعُوهُ، فَتَرَدَّدَ الْعَسْكَرُ إِلَيْهَا، وَبَاعُوا وَاشْتَرَوُا الْأَقْوَاتَ وَالْكِسْوَاتِ وَغَيْرَهَا، وَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَى أَمْوَالِ النَّاسِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَأْخُذُ الشَّيْءَ وَيُعْطِي الثَّمَنَ مَا يُرِيدُ، فَشَكَا بَعْضُ أَهْلِ تِبْرِيزَ إِلَى جَلَالِ الدِّينِ مِنْهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ شِحْنَةً يَكُونُ عِنْدَهُمْ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ بِتِبْرِيزَ، وَيَكُفَّ أَيْدِيَ الْجُنْدِ عَنْ أَهْلِهَا، وَمَنْ تَعَدَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ صَلَبَهُ. فَأَقَامَ الشِّحْنَةَ، وَمُنِعَ الْجُنْدُ مِنَ التَّعَدِّي عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَتْ زَوْجَةُ أُوزْبَكَ، وَهِيَ ابْنَةُ السُّلْطَانِ طُغْرُلَ بْنِ أَرْسِلَانَ بْنِ طُغْرُلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ، مُقِيمَةً بِتِبْرِيزَ، وَهِيَ كَانَتِ الْحَاكِمَةَ فِي بِلَادِ زَوْجِهَا، وَهُوَ مَشْغُولٌ بِلَذَّاتِهِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَلَعِبٍ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ تِبْرِيزَ شَكَوْا مِنَ الشِّحْنَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يُكَلِّفُنَا أَكْثَرَ مِنْ طَاقَتِنَا، فَأَمَرَ جَلَالُ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يُعْطَى إِلَّا مَا يُقِيمُ بِهِ لَا غَيْرَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَسَارَ جَلَالُ الدِّينِ إِلَى تِبْرِيزَ وَحَصَرَهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَقَاتَلَ أَهْلُهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَزَحَفَ إِلَيْهَا فَوَصَلَ الْعَسْكَرُ إِلَى

السُّورِ، فَأَذْعَنَ أَهْلُهَا بِالطَّاعَةِ، وَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَذُمُّهُمْ، وَيَقُولُ: قَتَلُوا أَصْحَابَنَا الْمُسْلِمِينَ، وَأَرْسَلُوا رُؤُوسَهُمْ إِلَى التَّتَرِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْحَادِثَةُ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَخَافُوا مِنْهُ لِذَلِكَ، فَلَمَّا طَلَبُوا الْأَمَانَ ذَكَرَ لَهُمْ فِعْلَهُمْ بِأَصْحَابِ أَبِيهِ وَقَتْلَهُمْ، فَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ صَاحِبُهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنَ الْقُدْرَةِ مَا يَمْنَعُونَهُ، فَعَذَرَهُمْ، وَأَمَّنَهُمْ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُؤَمِّنَ زَوْجَةَ أُوزْبَكَ، وَلَا يُعَارِضَهَا فِي الَّذِي لَهَا بِأَذْرَبِيجَانَ، وَهُوَ مَدِينَةُ خُوَيٍّ وَغَيْرُهَا مِنْ مُلْكٍ وَمَالٍ وَغَيْرِهِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ. وَمَلَكَ الْبَلَدَ سَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَسَيَّرَ زَوْجَةَ أُوزْبَكَ إِلَى خُوَيٍّ، وَمَعَهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ، مَعَ رَجُلٍ كَبِيرِ الْقَدْرِ، عَظِيمِ الْمَنْزِلَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِخِدْمَتِهَا، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى خُوَيٍّ عَادُوا عَنْهَا. وَلَمَّا رَحَلَ جَلَالُ الدِّينِ إِلَى تِبْرِيزَ، أَمَرَ أَنْ لَا يَمْنَعُوا عَنْهُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا، فَأَتَاهُ النَّاسُ مُسَلِّمِينَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُحْجَبُوا عَنْهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَبَثَّ فِيهِمُ الْعَدْلَ، وَوَعَدَهُمُ الْإِحْسَانَ وَالزِّيَادَةَ مِنْهُ، وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ رَأَيْتُمْ مَا فَعَلْتُ بِمَرَاغَةَ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْعِمَارَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ خَرَابًا، وَسَتَرَوْنَ كَيْفَ أَصْنَعُ مَعَكُمْ مِنَ الْعَدْلِ فِيكُمْ، وَعِمَارَةِ بِلَادِكُمْ. وَأَقَامَ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَحَضَرَ الْجَامِعَ، فَلَمَّا خَطَبَ الْخَطِيبُ وَدَعَا لِلْخَلِيفَةِ، قَامَ قَائِمًا، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الدُّعَاءِ وَجَلَسَ. وَدَخَلَ إِلَى كُشْكٍ كَانَ أُوزْبَكُ قَدْ عَمَرَهُ، وَأَخْرَجَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ كَثِيرًا، فَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، مُشْرِفٌ عَلَى الْبَسَاتِينِ، فَلَمَّا طَافَ فِيهِ، خَرَجَ مِنْهُ وَقَالَ: هَذَا مَسْكَنُ الْكُسَالَى لَا يَصْلُحُ لَنَا. وَأَقَامَ أَيَّامًا اسْتَوْلَى فِيهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَسَيَّرَ الْجُيُوشَ إِلَى بِلَادِ الْكُرْجِ. ذِكْرُ انْهِزَامِ الْكُرْجِ مِنْ جَلَالِ الدِّينِ. قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ السِّنِينَ مَا كَانَ الْكُرْجُ يَفْعَلُونَهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ: خِلَاطَ، وَأَذْرَبِيجَانَ، وَأَرَّانَ، وَأَرْزَنَ الرُّومِ، وَدَرْبَنَدْ شِرْوَانَ، وَهَذِهِ وِلَايَاتٌ تُجَاوِرُ بِلَادَهُمْ، وَمَا كَانُوا يَسْفِكُونَ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَنْهَبُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمْلِكُونَ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ تَحْتَ الذُّلِّ وَالْخِزْيِ، كُلَّ يَوْمٍ قَدْ أَغَارُوا عَلَيْهِمْ وَقَتَلُوا

فِيهِمْ، وَقَاطَعُوهُمْ عَلَى مَا شَاءُوا مِنَ الْأَمْوَالِ، فَكُنَّا كُلَّمَا سَمِعْنَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، سَأَلْنَا اللَّهَ - تَعَالَى - نَحْنُ وَالْمُسْلِمُونَ، فِي أَنْ يُيَسِّرَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مَنْ يَحْمِيهِمْ وَيَنْصُرُهُمْ، وَيَأْخُذُ بِثَأْرِهِمْ، فَإِنَّ أُوزْبَكَ صَاحِبَ أَذْرَبِيجَانَ مُنْعَكِفٌ عَلَى شَهْوَةِ بَطْنِهِ وَفَرْجِهِ، لَا يُفِيقُ مِنْ سُكْرِهِ، وَإِنْ أَفَاقَ، فَهُوَ مَشْغُولٌ بِالْقِمَارِ بِالْبَيْضِ. وَهَذَا مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُلُوكِ فَعَلَهُ، لَا يَهْتَدِي لِمَصْلَحَةٍ، وَلَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ بِحَيْثُ إِنَّ بِلَادَهُ مَأْخُوذَةٌ، وَعَسَاكِرَهُ طَمَّاعَةٌ، وَرَعِيَّتَهُ قَدْ قَهَرَهَا، وَقَدْ كَانَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ جَمْعًا وَيَتَغَلَّبَ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ فَعَلَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَالِ بُغْدِي، وَأَيْبَكَ الشَّامِيِّ، وإِيغَانَ طَائِيسِي، فَنَظَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - إِلَى أَهْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ الْمَسَاكِينِ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ، فَرَحِمَهُمْ وَيَسَّرَ لَهُمْ جَلَالُ الدِّينِ هَذَا، فَفَعَلَ بِالْكُرْجِ مَا تَرَاهُ، وَانْتَقَمَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، فَنَقُولُ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الْمَصَافُّ بَيْنَ جَلَالِ الدِّينِ بْنِ خُوَارَزْمَ شَاهْ [وَبَيْنَ الْكُرْجِ، فِي شَهْرِ شَعْبَانَ، فَإِنَّ جَلَالَ الدِّينِ] مِنْ حِينِ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ النَّوَاحِي لَا يَزَالُ يَقُولُ: إِنَّنِي أُرِيدُ [أَنْ] أَقْصِدَ بِلَادَ الْكُرْجِ وَأُقَاتِلَهُمْ وَأَمْلِكَ بِلَادَهُمْ، فَلَمَّا مَلَكَ أَذْرَبِيجَانَ، أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يُؤْذِنُهُمْ بِالْحَرْبِ، فَأَجَابُوهُ بِأَنَّنَا قَدْ قَصَدْنَا التَّتَرَ الَّذِينَ فَعَلُوا بِأَبِيكَ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْكَ مُلْكًا، وَأَكْثَرُ عَسْكَرًا، وَأَقْوَى نَفْسًا، مَا تَعْلَمُهُ، وَأَخَذُوا بِلَادَكُمْ، فَلَمْ نُبَالِ بِهِمْ، وَكَانَ قُصَارَاهُمُ السَّلَامَةَ مِنَّا. وَشَرَعُوا يَجْمَعُونَ الْعَسَاكِرَ، فَجَمَعُوا مَا يَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَمَلَكَ مَدِينَةَ دَوِينَ، وَهِيَ لِلْكُرْجِ، كَانُوا قَدْ أَخَذُوهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَيْهِمْ، فَلَقُوهُ وَقَاتَلُوهُ أَشَدَّ قِتَالٍ وَأَعْظَمَهُ، وَصَبَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ لِصَاحِبِهِ، فَانْهَزَمَ الْكُرْجُ، وَأَمَرَ أَنْ يُقْتَلُوا بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَلَا يُبْقُوا عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَالَّذِي تَحَقَّقْنَاهُ أَنَّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَقِيلَ: أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ: الْكُرْجُ جَمِيعُهُمْ قُتِلُوا، وَافْتَرَقُوا، وَأُسِرَ كَثِيرٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ، مِنْ جُمْلَتِهِمْ شِلْوَةُ، فَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَيْهِمْ، وَمَضَى إِيَوَانِي مُنْهَزِمًا، وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْكُرْجِ جَمِيعِهِمْ، وَمَرْجِعُهُمْ إِلَيْهِ، وَمُعَوَّلُهُمْ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ مَلِكٌ، إِنَّمَا الْمَلِكُ امْرَأَةٌ، وَلَقَدْ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ يَقُولُ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» .

فَلَمَّا انْهَزَمَ إِيوَانِي، أَدْرَكَهُ الطَّلَبُ، فَصَعِدَ قَلْعَةً لَهُمْ عَلَى طَرِيقِهِمْ، فَاحْتَمَى فِيهَا، وَجَعَلَ جَلَالُ الدِّينِ عَلَيْهَا مَنْ يَحْصُرُهَا وَيَمْنَعُهُ مِنَ النُّزُولِ، وَفَرَّقَ عَسَاكِرَهُ فِي بِلَادِ الْكُرْجِ، يَنْهَبُونَ وَيَقْتُلُونَ، وَيَسْبُونَ وَيُخَرِّبُونَ الْبِلَادَ، فَلَوْلَا مَا أَتَاهُ مِنْ تِبْرِيزَ مَا أَوْجَبَ عَوْدَهُ، لَمَلَكَ الْبِلَادَ بِغَيْرِ تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ ; لِأَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا قَدْ هَلَكُوا، فَهُمْ بَيْنَ قَتِيلٍ وَأَسِيرٍ وَطَرِيدٍ. ذِكْرُ عَوْدِ جَلَالِ الدِّينِ إِلَى تِبْرِيزَ، وَمُلْكِهِ مَدِينَةَ كَنْجَةَ، وَنِكَاحِهِ زَوْجَةَ أُوزْبَكَ. لَمَّا فَرَغَ جَلَالُ الدِّينِ مِنْ هَزِيمَةِ الْكُرْجِ، وَدَخَلَ الْبِلَادَ وَبَثَّ الْعَسَاكِرَ فِيهَا، أَمَرَهُمْ بِالْمُقَامِ بِهَا مَعَ أَخِيهِ غِيَاثِ الدِّينِ، وَعَادَ إِلَى تِبْرِيزَ. وَسَبَبُ عَوْدِهِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ خَلَّفَ وَزِيرَهُ شَرَفَ الْمُلْكِ فِي تِبْرِيزَ لِيَحْفَظَ الْبَلَدَ، وَيَنْظُرَ فِي مَصَالِحِ الرَّعِيَّةِ، فَبَلَغَهُ عَنْ رَئِيسِ تِبْرِيزَ وَشَمْسِ الدِّينِ الطُّغْرَائِيِّ، وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ مَنْ فِي الْبَلَدِ، وَعَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُقَدَّمِينَ، أَنَّهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا، وَتَحَالَفُوا عَلَى الِامْتِنَاعِ عَلَى جَلَالِ الدِّينِ، وَإِعَادَةِ الْبَلَدِ إِلَى أُوزْبَكَ، وَقَالُوا: إِنَّ جَلَالَ الدِّينِ قَدْ قَصَدَ بِلَادَ الْكُرْجِ، فَإِذَا عَصَيْنَا عَلَيْهِ وَأَحْضَرْنَا أُوزْبَكَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ، يُضْطَرُّ جَلَالُ الدِّينِ إِلَى الْعَوْدِ، فَإِذَا عَادَ تَبِعَهُ الْكُرْجُ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُقَامِ، وَيَجْتَمِعُ أُوزْبَكُ وَالْكُرْجُ وَيَقْصِدُونَهُ، فَيَنْحَلُّ نِظَامُ أَمْرِهِ، وَتَتِمُّ عَلَيْهِ الْهَزِيمَةُ. فَبَنَوْا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنَّ جَلَالَ الدِّينِ يَسِيرُ الْهُوَيْنَا إِلَى بِلَادِ الْكُرْجِ، وَيَتَرَيَّثُ فِي الطَّرِيقِ احْتِيَاطًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، أَتَى الْخَبَرُ إِلَى الْوَزِيرِ، فَأَرْسَلَ إِلَى جَلَالِ الدِّينِ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ وَقَدْ قَارَبَ بِلَادَ الْكُرْجِ، فَلَمْ يُظْهِرْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَسَارَ نَحْوَ الْكُرْجِ مُجِدًّا، فَلَقِيَهُمْ وَهَزَمَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُمْ، قَالَ لِأُمَرَاءِ عَسْكَرِهِ: إِنَّنِي قَدْ بَلَغَنِي مِنَ الْخَبَرِ كَذَا وَكَذَا، فَتُقِيمُونَ أَنْتُمْ فِي الْبِلَادِ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ قَتْلِ مَنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ، وَتَخْرِيبِ مَا أَمْكَنَكُمْ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَإِنَّنِي خِفْتُ أَنْ أُعَرِّفَكُمْ قَبْلَ هَزِيمَةِ الْكُرْجِ ; لِئَلَّا يَلْحَقَكُمْ وَهَنٌ وَخَوْفٌ.

فَأَقَامُوا عَلَى حَالِهِمْ، وَعَادَ هُوَ إِلَى تِبْرِيزَ، وَقَبَضَ عَلَى الرَّئِيسِ وَالطُّغْرَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا، فَأَمَّا الرَّئِيسُ فَأَمَرَ أَنْ يُطَافَ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ مَظْلَمَةٌ فَلْيَأْخُذْهَا مِنْهُ، وَكَانَ ظَالِمًا، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَتَلَهُ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَحُبِسُوا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُمْ وَاسْتَقَامَ لَهُ أَمْرُ الْبَلَدِ، تَزَوَّجَ زَوْجَةَ أُوزْبَكَ ابْنَةَ السُّلْطَانِ طُغْرُلَ، وَإِنَّمَا صَحَّ لَهُ نِكَاحُهَا ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ أُوزْبَكَ أَنَّهُ حَلَفَ بِطَلَاقِهَا أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ مَمْلُوكًا لَهُ اسْمُهُ (. . . . .) ثُمَّ قَتَلَهُ، فَلَمَّا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِهَذِهِ الْيَمِينِ، نَكَحَهَا جَلَالُ الدِّينِ، وَأَقَامَ بِتِبْرِيزَ مُدَّةً، وَسَيَّرَ مِنْهَا جَيْشًا إِلَى مَدِينَةِ كَنْجَةَ فَمَلَكُوهَا، وَفَارَقَهَا أُوزْبَكُ إِلَى قَلْعَةِ كَنْجَةَ فَتَحَصَّنَ فِيهَا. فَبَلَغَنِي أَنَّ عَسَاكِرَ جَلَالِ الدِّينِ تَعَرَّضُوا لِأَعْمَالِ هَذِهِ الْقَلْعَةِ بِالنَّهْبِ وَالْأَخْذِ، فَأَرْسَلَ أُوزْبَكُ إِلَى جَلَالِ الدِّينِ يَشْكُو، وَيَقُولُ: كُنْتُ لَا أَرْضَى بِهَذِهِ الْحَالِ لِبَعْضِ أَصْحَابِي، فَأَنَا أَسْأَلُ أَنْ تَكُفَّ الْأَيْدِيَ الْمُتَطَرِّقَةَ إِلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ عَنْهَا. فَأَرْسَلَ جَلَالُ الدِّينِ إِلَيْهَا مَنْ يَحْمِيهَا مِنَ التَّعَرُّضِ لَهَا مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ. ذِكْرُ وَفَاةِ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ آخِرَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، تُوُفِّيَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُظَفَّرِ يُوسُفَ بْنِ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الذَّخِيرَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْفَضْلِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُوَفَّقِ أَبِي أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُوَفَّقُ خَلِيفَةً، وَإِنَّمَا كَانَ وَلِيَّ عَهْدِ أَخِيهِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ، فَمَاتَ قَبْلَ الْمُعْتَمِدِ، فَصَارَ وَلَدُهُ الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ وَلِيَّ عَهْدِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ.

وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَصِمِ بِاللَّهِ أَبِي إِسْحَاقَ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. نَسَبٌ كَأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى ... نُورًا وَمِنْ فَلَقِ الصَّبَاحِ عَمُودًا. فَكَانَ فِي آبَائِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ خَلِيفَةً، وَهُمْ كُلُّ مَنْ لَهُ لَقَبٌ، وَالْبَاقُونَ غَيْرُ خُلَفَاءَ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ وَلِيَ الْعَهْدَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَائِمِ، وَالْمُوَفَّقُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ، وَأَمَّا بَاقِي الْخُلَفَاءِ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ آبَائِهِ، فَكَانَ السَّفَّاحُ أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ أَخَا الْمَنْصُورِ وَلِيَ قَبْلَهُ، وَكَانَ مُوسَى الْهَادِي أَخَا الرَّشِيدِ وَلِيَ قَبْلَهُ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَأْمُونُ ابْنَا الرَّشِيدِ أَخَوَيِ الْمُعْتَصِمِ وَلِيَا قَبْلَهُ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ الْمُنْتَصِرُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ وَلِيَ بَعْدَهُ. ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَ الْمُنْتَصِرِ بِاللَّهِ الْمُسْتَعِينُ بِاللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ، وَوَلِيَ بَعْدَ الْمُسْتَعِينِ الْمُعْتَزُّ بِاللَّهِ مُحَمَّدٌ، وَقِيلَ طَلْحَةُ، وَهُوَ ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ، وَوَلِيَ بَعْدَ الْمُعْتَزِّ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَاثِقِ، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ، فَالْمُنْتَصِرُ وَالْمُعْتَزُّ وَالْمُعْتَمِدُ إِخْوَةُ الْمُوَفَّقِ، وَالْمُهْتَدِي ابْنُ عَمِّهِ، وَالْمُوَفَّقُ مِنْ أَجْدَادِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ. ثُمَّ وَلِيَ الْمُعْتَضِدُ بَعْدَ الْمُعْتَمِدِ، وَوَلِيَ بَعْدَ الْمُعْتَضِدِ ابْنُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيٌّ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ، وَهُوَ أَخُو الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَوَلِيَ بَعْدَ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَخُوهُ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُعْتَضِدِ، وَوَلِيَ بَعْدَ الْقَاهِرِ الرَّاضِي بِاللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُقْتَدِرِ. ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُقَتَدِرِ، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ [بْنُ] الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ عَلِيِّ بْنِ الْمُعْتَضِدِ، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْكَرِيمِ، فَالْقَاهِرُ وَالرَّاضِي وَالْمُتَّقِي وَالْمُطِيعُ بَنُوهُ، وَالْمُسْتَكْفِي ابْنُ أَخِيهِ الْمُكْتَفِي. [ثُمَّ وَلِيَ] الطَّائِعُ لِلَّهِ بْنُ الْمُقْتَدِرِ، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَ الطَّائِعِ الْقَادِرُ بِاللَّهِ، [وَهُوَ] مِنْ أَجْدَادِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ، [ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ أَبُو مَنْصُورٍ، وَوَلِيَ بَعْدَ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ] ابْنُهُ الرَّاشِدُ أَبُو جَعْفَرٍ، فَالْمُسْتَرْشِدُ أَخُو

الْمُتَّقِي، وَالرَّاشِدُ بِاللَّهِ ابْنُ أَخِيهِ، فَجَمْعُ مَنْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ مِمَّنْ لَيْسَ فِي سِيَاقِ نَسَبِ النَّاصِرِ تِسْعَةَ عَشَرَ خَلِيفَةً. وَكَانَتْ أُمُّ النَّاصِرِ أُمَّ وَلَدٍ، تُرْكِيَّةً، اسْمُهَا زُمُرُّدُ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَعَشْرَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ عُمْرُهُ نَحْوَ سَبْعِينَ سَنَةً تَقْرِيبًا، فَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ أَطْوَلَ مُدَّةً مِنْهُ إِلَّا مَا قِيلَ عَنِ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ الْعَلَوِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ، فَإِنَّهُ وَلِي سِتِّينَ سَنَةً، وَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ وَلَهُ سَبْعُ سِنِينَ، فَلَا تَصِحُّ وِلَايَتُهُ. وَبَقِيَ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ ثَلَاثَ سِنِينَ عَاطِلًا عَنِ الْحَرَكَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ ذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ وَالْأُخْرَى يُبْصِرُ بِهَا إِبْصَارًا ضَعِيفًا، وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ أَصَابَهُ دُوسِنْطَارْيَا عِشْرِينَ يَوْمًا وَمَاتَ. وَوَزَرَ لَهُ عِدَّةُ وُزَرَاءَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَلَمْ يُطْلِقْ فِي طُولِ مَرَضِهِ شَيْئًا كَانَ أَحْدَثَهُ مِنَ الرُّسُومِ الْجَائِرَةِ، وَكَانَ قَبِيحَ السِّيرَةِ، فِي رَعِيَّتِهِ ظَالِمًا، فَخَرَّبَ فِي أَيَّامِهِ الْعِرَاقَ، وَتَفَرَّقَ أَهْلُهُ فِي الْبِلَادِ، وَأَخَذَ أَمْلَاكَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَكَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَضِدَّهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَمِلَ دُورَ الضِّيَافَةِ بِبَغْدَادَ ; لِيُفْطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا فِي رَمَضَانَ، فَبَقِيَتْ مُدَّةً، ثُمَّ قَطَعَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَمِلَ دُورَ الضِّيَافَةِ لِلْحُجَّاجِ، فَبَقِيَتْ مُدَّةً، ثُمَّ بَطَّلَهَا، وَأَطْلَقَ بَعْضَ الْمُكُوسِ الَّتِي جَدَّدَهَا بِبَغْدَادَ خَاصَّةً، ثُمَّ أَعَادَهَا. وَجَعَلَ جُلَّ هَمِّهِ فِي رَمْيِ الْبُنْدُقِ، وَالطُّيُورِ الْمَنَاسِيبِ، وَسَرَاوِيلَاتِ الْفُتُوَّةِ، فَبَطَّلَ الْفُتُوَّةَ فِي الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، إِلَّا مَنْ يَلْبَسُ مِنْهُ سَرَاوِيلَ يُدْعَى إِلَيْهِ، وَلَبِسَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُلُوكِ مِنْهُ سَرَاوِيلَاتِ الْفُتُوَّةِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَنَعَ الطُّيُورَ الْمَنَاسِيبَ لِغَيْرِهِ إِلَّا مَا يُؤْخَذُ مِنْ طُيُورِهِ، وَمَنَعَ الرَّمْيَ بِالْبُنْدُقِ إِلَّا مَنْ يَنْتَمِي إِلَيْهِ، فَأَجَابَهُ النَّاسُ بِالْعِرَاقِ وَغَيْرِهِ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا إِنْسَانًا وَاحِدًا يُقَالُ لَهُ ابْنُ السَّفِتِ مِنْ بَغْدَادَ، فَإِنَّهُ هَرَبَ مِنَ الْعِرَاقِ وَلَحِقَ بِالشَّامِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يُرَغِّبُهُ فِي الْمَالِ الْجَزِيلِ لِيَرْمِيَ عَنْهُ، وَيُنْسَبَ فِي الرَّمْيِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَبَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ أَصْدِقَائِهِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعَ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ، فَقَالَ: يَكْفِينِي فَخْرًا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ إِلَّا يَرْمِي لِلْخَلِيفَةِ، إِلَّا أَنَا. فَكَانَ غَرَامُ الْخَلِيفَةِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ، وَكَانَ سَبَبُ مَا يَنْسُبُهُ الْعَجَمُ إِلَيْهِ صَحِيحًا مِنْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَطْمَعَ التَّتَرَ فِي الْبِلَادِ، وَرَاسَلَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ الطَّامَّةُ

الْكُبْرَى الَّتِي يَصْغُرُ عِنْدَهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَظِيمٍ. ذِكْرُ خِلَافَةِ الظَّاهِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ. قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ الْخُطْبَةَ لِلْأَمِيرِ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ ابْنِ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ فِي الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْبِلَادِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ خَلَعَهُ الْخَلِيفَةُ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْبِلَادِ فِي قَطْعِ الْخُطْبَةِ لَهُ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَمِيلُ إِلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ عَلِيٍّ، فَاتَّفَقَ أَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ تُوُفِّيَ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْخَلِيفَةِ وَلَدٌ غَيْرُ وَلِيِّ الْعَهْدِ، فَاضْطُرَّ إِلَى إِعَادَتِهِ، إِلَّا أَنَّهُ تَحْتَ الِاحْتِيَاطِ وَالْحَجْرِ لَا يَتَصَرَّفُ فِي شَيْءٍ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ، وَلِيَ الْخِلَافَةَ وَأَحْضَرَ النَّاسَ لِأَخْذِ الْبَيْعَةِ، وَتَلَقَّبَ بِالظَّاهِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَنَى أَنَّ أَبَاهُ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ أَرَادُوا صَرْفَ الْأَمْرِ عَنْهُ، فَظَهَرَ وَوَلِيَ الْخِلَافَةَ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا بِسَعْيٍ مِنْ أَحَدٍ. وَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ، أَظْهَرَ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ مَا أَعَادَ بِهِ سُنَّةَ الْعُمَرَيْنِ، فَلَوْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلَهُ لَكَانَ الْقَائِلُ صَادِقًا، فَإِنَّهُ أَعَادَ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ فِي أَيَّامِ أَبِيهِ وَقَبْلَهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَطْلَقَ الْمُكُوسَ فِي الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، وَأَمَرَ بِإِعَادَةِ الْخَرَاجِ الْقَدِيمِ فِي جَمِيعِ الْعِرَاقِ، وَأَنْ يَسْقُطَ جَمِيعُ مَا جَدَّدَهُ أَبُوهُ، وَكَانَ كَثِيرًا لَا يُحْصَى، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَرْيَةَ بَعْقُوبَا كَانَ يُحَصَّلُ مِنْهَا قَدِيمًا نَحْوَ عَشْرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَلَمَّا تَوَلَّى النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ، كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلَّ سَنَةٍ ثَمَانُونَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَحَضَرَ أَهْلُهَا وَاسْتَغَاثُوا، وَذَكَرُوا أَنَّ أَمْلَاكَهُمْ أُخِذَتْ حَتَّى صَارَ يُحَصَّلُ مِنْهَا هَذَا الْمَبْلَغُ، فَأَمَرَ أَنْ يُؤْخَذَ الْخَرَاجُ الْقَدِيمُ وَهُوَ عَشْرَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الْمَبْلَغَ يَصِلُ إِلَى الْمَخْزَنِ، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الْعِوَضُ؟ فَأَقَامَ لَهُمُ الْعِوَضَ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى، فَإِذَا كَانَ الْمُطْلَقُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَمَا الظَّنُّ بِبَاقِي الْبِلَادِ؟ وَمِنْ أَفْعَالِهِ الْجَمِيلَةِ أَنَّهُ أَمَرَ بِأَخْذِ الْخَرَاجِ الْأَوَّلِ مِنْ بَاقِي الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، فَحَضَرَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَذَكَرُوا أَنَّ الْأَمْلَاكَ الَّتِي كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهَا الْخَرَاجُ قَدِيمًا قَدْ يَبِسَ أَكْثَرُ أَشْجَارِهَا وَخُرِّبَتْ، وَمَتَى طُولِبُوا بِالْخَرَاجِ الْأَوَّلِ لَا يَفِي دَخْلُ الْبَاقِي بِالْخَرَاجِ، فَأَمَرَ أَنْ لَا يُؤْخَذَ الْخَرَاجُ إِلَّا مِنْ كُلِّ شَجَرَةٍ سَلِيمَةٍ، وَأَمَّا الذَّاهِبُ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا.

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الْمَخْزَنَ كَانَ لَهُ صَنْجَةُ الذَّهَبِ تَزِيدُ عَلَى صَنْجَةِ الْبَلَدِ نِصْفَ قِيرَاطٍ، يَقْبِضُونَ بِهَا الْمَالَ، وَيُعْطُونَ بِالصَّنْجَةِ الَّتِي لِلْبَلَدِ يَتَعَامَلُ بِهَا النَّاسُ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ فَخَرَجَ خَطُّهُ إِلَى الْوَزِيرِ، وَأَوَّلَهُ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 1] . قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَا وَكَذَا، فَتُعَادُ صَنْجَةُ الْمَخْزَنِ إِلَى الصَّنْجَةِ الَّتِي يَتَعَامَلُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَكَتَبَ بَعْضُ النُّوَّابِ إِلَيْهِ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا مَبْلَغٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ حَسَبْنَاهُ فَكَانَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ يُنْكِرُ عَلَى الْقَائِلِ، وَيَقُولُ: لَوْ أَنَّهُ ثَلَاثُ مِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ يُطْلَقُ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا فَعَلَ فِي إِطْلَاقِ زِيَادَةِ الصَّنْجَةِ الَّتِي لِلدِّيوَانِ، وَهِيَ فِي كُلِّ دِينَارٍ حَبَّةٌ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْقَاضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ عَرَضَ عَلَيْهِ كِتَابًا صَحِيحًا بِمِلْكٍ يُعِيدُهُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، وَأَقَامَ رَجُلًا صَالِحًا فِي وِلَايَةِ الْحَشْرِيِّ وَبَيْتِ الْمَالِ، وَكَانَ الرَّجُلُ حَنْبَلِيًّا، فَقَالَ: إِنَّنِي مِنْ مَذْهَبِي أَنْ أُوَرِّثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَإِنْ أَذِنَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ، وَلِيتُ وَإِلَّا فَلَا. فَقَالَ لَهُ: أَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَاتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَتَّقِ سِوَاهُ. وَمِنْهَا أَنَّ الْعَادَةَ كَانَتْ بِبَغْدَادَ أَنَّ الْحَارِسَ بِكُلِّ دَرْبٍ يُبَكِّرُ، وَيَكْتُبُ مُطَالَعَةً إِلَى الْخَلِيفَةِ بِمَا تَجَدَّدَ فِي دَرْبِهِ مِنَ اجْتِمَاعِ بَعْضِ الْأَصْدِقَاءِ بِبَعْضٍ عَلَى نُزْهَةٍ، أَوْ سَمَاعٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُكْتَبُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، فَكَانَ النَّاسُ مِنْ هَذَا فِي حَجْرٍ عَظِيمٍ، فَلَمَّا وَلِيَ هَذَا الْخَلِيفَةُ - جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا - أَتَتْهُ الْمُطَالَعَاتُ عَلَى الْعَادَةِ، فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا، وَقَالَ: أَيُّ غَرَضٍ لَنَا فِي مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي بُيُوتِهِمْ؟ فَلَا يَكْتُبُ أَحَدٌ إِلَيْنَا إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ دَوْلَتِنَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْعَامَّةَ تَفْسُدُ بِذَلِكَ، وَيَعْظُمُ شَرُّهَا، فَقَالَ: نَحْنُ نَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَهُمْ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ، وَصَلَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ مِنْ وَاسِطَ، وَكَانَ قَدْ سَارَ إِلَيْهَا أَيَّامَ النَّاصِرِ لِتَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ، فَأُصْعِدَ، وَمَعَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَتَبَ مُطَالَعَةً تَتَضَمَّنُ ذِكْرَ مَا مَعَهُ، وَيَسْتَخْرِجُ الْأَمْرَ فِي حَمْلِهِ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ بِأَنْ يُعَادَ إِلَى أَرْبَابِهِ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا إِلَيْهِ، فَأُعِيدُ عَلَيْهِمْ.

وَمِنْهَا أَنَّهُ أَخْرَجَ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي السُّجُونِ، وَأَمَرَ بِإِعَادَةِ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْقَاضِي عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ لِيُعْطِيَهَا عَنْ كُلِّ مَنْ هُوَ مَحْبُوسٌ فِي حَبْسِ الشَّرْعِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ. وَمِنْ حُسْنِ نِيَّتِهِ لِلنَّاسِ أَنَّ الْأَسْعَارَ فِي الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ كَانَتْ غَالِيَةً، فَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ، وَأَطْلَقَ حَمْلَ الْأَطْعِمَةِ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَبِيعَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ الْبَيْعَ لِلْغَلَّةِ، فَحُمِلَ مِنْهَا الْكَثِيرُ الَّذِي لَا يُحْصَى، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ السِّعْرَ قَدْ غَلَا شَيْئًا، وَالْمَصْلَحَةُ الْمَنْعُ مِنْهُ، فَقَالَ: أُولَئِكَ مُسْلِمُونَ، وَهَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ، وَكَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا النَّظَرُ فِي أَمْرِ هَؤُلَاءِ، كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْنَا النَّظَرُ لِأُولَئِكَ. وَأَمَرَ أَنْ يُبَاعَ مِنَ الْأَهْرَاءِ الَّتِي لَهُ طَعَامٌ أَرْخَصُ مِمَّا يَبِيعُ غَيْرُهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ أَوَّلًا، وَكَانَ السِّعْرُ فِي الْمَوْصِلِ لَمَّا وَلِيَ، كُلُّ مَكُّوكٍ بِدِينَارٍ وَثَلَاثَةِ قَرَارِيطَ، فَصَارَ كُلُّ أَرْبَعَةِ مَكَاكِيكَ بِدِينَارٍ فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ، وَكَذَلِكَ بَاقِي الْأَشْيَاءِ مِنَ التَّمْرِ وَالدِّبْسِ، وَالْأَرُزِّ وَالسِّمْسِمِ وَغَيْرِهَا، فَاللَّهُ - تَعَالَى - يُؤَيِّدُهُ وَيَنْصُرُهُ وَيُبْقِيهِ، فَإِنَّهُ غَرِيبٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْفَاسِدِ. وَلَقَدْ سَمِعْتُ عَنْهُ كَلِمَةً أَعْجَبَتْنِي جِدًّا، وَهِيَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي الَّذِي يُخْرِجُهُ وَيُطْلِقُهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَسْمَحُ نَفْسٌ بِبَعْضِهَا، فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا فَتَحْتُ الدُّكَّانَ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَاتْرُكُونِي أَفْعَلُ الْخَيْرَ، فَكَمْ أَعِيشُ؟ وَتَصَدَّقَ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَفَرَّقَ فِي الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ. ذِكْرُ مُلْكِ بَدْرِ الدِّينِ قَلْعَتَيِ الْعِمَادِيَّةِ وَهَرُوزَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ بَدْرُ الدِّينِ قَلْعَةَ الْعِمَادِيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ عِصْيَانِ أَهْلِهَا عَلَيْهِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتَسْلِيمِهَا إِلَى عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي، ثُمَّ عَوْدِهِمْ إِلَى طَاعَةِ بَدْرِ الدِّينِ، وَخِلَافِهِمْ عَلَى عِمَادِ الدِّينِ، فَلَمَّا عَادُوا إِلَى بَدْرِ الدِّينِ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَأَعْطَاهُمُ الْإِقْطَاعَ الْكَثِيرَ، وَمَلَّكَهُمُ الْقُرَى، وَوَصَلَهُمْ بِالْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ وَالْخِلَعِ السَّنِيَّةِ، فَبَقَوْا كَذَلِكَ مُدَّةً يَسِيرَةً. ثُمَّ شَرَعُوا يُرَاسِلُونَ عِمَادَ الدِّينِ زِنْكِي، وَمُظَفَّرَ الدِّينِ صَاحِبَ إِرْبِلَ، وَشِهَابَ الدِّينِ غَازِي بْنِ الْعَادِلِ لَمَّا كَانَ بِخِلَاطَ، وَيَعِدُونَ كُلًّا مِنْهُمْ بِالِانْحِيَازِ إِلَيْهِ وَالطَّاعَةِ لَهُ، وَأَظْهَرُوا مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِبَدْرِ الدِّينِ مَا كَانُوا يُبْطِنُونَهُ، فَكَانُوا لَا يُمَكِّنُونَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرِ الدِّينِ إِلَّا مَنْ يُرِيدُونَهُ، وَيَمْنَعُونَ مَنْ كَرِهُوهُ، فَطَالَ الْأَمْرُ، وَهُوَ

يَحْتَمِلُ فِعْلَهُمْ وَيُدَارِيهِمْ، وَهُمْ لَا يَزْدَادُونَ إِلَّا طَمَعًا وَخُرُوجًا عَنِ الطَّاعَةِ. وَكَانُوا جَمَاعَةً فَاخْتَلَفُوا، فَقَوِيَ بَعْضُهُمْ، وَهُمْ أَوْلَادُ خَوَاجَهْ إِبْرَاهِيمَ وَأَخُوهُ وَمَنْ مَعَهُمْ عَلَى الْبَاقِينَ، فَأَخْرَجُوهُمْ عَنِ الْقَلْعَةِ، وَغَلَبُوا عَلَيْهَا، وَأَصَرُّوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ النِّفَاقِ. فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ، سَارَ بَدْرُ الدِّينِ إِلَيْهِمْ فِي عَسَاكِرِهِ، فَأَتَاهُمْ بَغْتَةً، فَحَصَرَهُمْ وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، وَقَطَعَ الْمِيرَةَ عَنْهُمْ، وَأَقَامَ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ قِطْعَةً مِنَ الْجَيْشِ عَلَى قَلْعَةِ هَرُوزَ يَحْصُرُونَهَا، وَهِيَ مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ وَأَحْصَنِهَا، لَا يُوجَدُ مِثْلُهَا. وَكَانَ أَهْلُهَا أَيْضًا قَدْ سَلَكُوا طَرِيقَ أَهْلِ الْعِمَادِيَّةِ مِنْ عِصْيَانٍ، وَطَاعَةٍ وَمُخَادِعَةٍ، فَأَتَاهُمُ الْعَسْكَرُ وَحَصَرُوهُمْ وَهُمْ فِي قِلَّةٍ مِنَ الذَّخِيرَةِ، فَحَصَرُوهَا أَيَّامًا، فَفَنِيَ مَا فِي الْقَلْعَةِ، فَاضْطُرَّ أَهْلُهَا إِلَى التَّسْلِيمِ، فَسَلَّمُوهَا وَنَزَلُوا مِنْهَا. وَعَادَ الْعَسْكَرُ إِلَى الْعِمَادِيَّةِ، فَأَقَامُوا عَلَيْهَا مَعَ بَدْرِ الدِّينِ، فَبَقِيَ بَدْرُ الدِّينِ بَعْدَ أَخْذِ هَرُوزَ يَسِيرًا، وَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَتَرَكَ الْعَسْكَرَ بِحَالِهِ مَعَ ابْنِهِ أَمِينِ الدِّينِ لُؤْلُؤٍ، فَبَقِيَ الْحِصَارُ إِلَى أَوَّلِ ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَرْسَلُوا يُذْعِنُونَ بِالطَّاعَةِ، وَيَطْلُبُونَ الْعِوَضَ عَنْهَا لِيُسَلِّمُوهَا، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَوَاعِدُ عَلَى الْعِوَضِ مِنْ قَلْعَةٍ يَحْتَمُونَ فِيهَا، وَأَقْطَاعٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ بَدْرُ الدِّينِ إِلَى مَا طَلَبُوا، وَحَضَرَ نُوَّابُهُمْ لِيُحَلِّفُوا بَدْرَ الدِّينِ. فَبَيْنَمَا هُوَ يُرِيدُ أَنْ يَحْلِفَ لَهُمْ وَقَدْ أَحْضَرَ مَنْ يَشْهَدُ الْيَمِينُ، إِذْ قَدْ وَصَلَ طَائِرٌ مِنَ الْعِمَادِيَّةِ وَعَلَى جَنَاحِهِ رُقْعَةٌ مِنْ أَمِينِ الدِّينِ لُؤْلُؤٍ، يُخْبِرُ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَ الْعِمَادِيَّةَ قَهْرًا وَعَنْوَةً، وَأَسَرَ بَنِي خَوَاجَهْ الَّذِينَ كَانُوا تَغَلَّبُوا عَلَيْهِ، فَامْتَنَعَ بَدْرُ الدِّينِ مِنَ الْيَمِينِ. وَأَمَّا سَبَبُ غَلَبَةِ أَمِينِ الدِّينِ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ وَلَّاهُ بَدْرُ الدِّينِ عَلَيْهَا لَمَّا عَادَ أَهْلُهَا إِلَى طَاعَتِهِ، فَبَقِيَ فِيهَا مُدَّةً، وَأَحْسَنَ فِيهِمْ، وَاسْتَمَالَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ لِيَتَقَوَّى بِهِمْ عَلَى الْحَرْبِ لِلَّذِينِ عَصَوْا أَوَّلًا، فَنَمَى الْخَبَرُ إِلَيْهِمْ، فَأَسَاءُوا مُجَاوَرَتَهُ، وَاسْتَقَالُوا مِنْ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ، فَفَارَقَهُمْ إِلَى الْمَوْصِلِ. وَكَانَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اسْتَمَالَهُمْ يُكَاتِبُونَهُ وَيُرَاسِلُونَهُ، فَلَمَّا حَصَرَهُمْ كَانُوا أَيْضًا يُكَاتِبُونَهُ فِي النُّشَّابِ يُخْبِرُونَهُ بِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ أَوْلَادُ خَوَاجَهْ مِنْ إِنْفَاذِ رَسُولٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الذَّخَائِرِ وَغَيْرِهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْكَثْرَةِ إِلَى حَدِّ أَنَّهُمْ يَقْهَرُونَ أُولَئِكَ. فَلَمَّا كَانَ الْآنُ وَاسْتَقَرَّتِ الْقَوَاعِدُ مِنَ التَّسْلِيمِ لَمْ يَذْكُرْ أَوْلَادُ خَوَاجَهْ أَحَدًا مِنْ جُنْدِ

الْقَلْعَةِ فِي نُسْخَةِ الْيَمِينِ بِمَالٍ، وَلَا غَيْرِهِ مِنْ أَمَانٍ وَإِقْطَاعٍ، فَسَخِطُوا هَذِهِ الْحَالَ، وَقَالُوا لَهُمْ: قَدْ حَلَفْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ بِالْحُصُونِ وَالْقُرَى وَالْمَالِ، وَنَحْنُ قَدْ خُرِّبَتْ بُيُوتُنَا لِأَجْلِكُمْ، فَلَمْ تَذْكُرُونَا، فَأَهَانُوهُمْ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ، فَحَضَرَ عِنْدَ أَمِينِ الدِّينِ رَجُلَانِ مِنْهُمْ لَيْلًا، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ جَمْعًا يُصْعِدُونَهُمْ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَيَثِبُونَ بِأُولَئِكَ وَيَأْخُذُونَهُمْ، فَامْتَنَعَ وَقَالَ: أَخَافَ أَنْ لَا يَتِمَّ هَذَا الْأَمْرُ، وَيَفْسُدَ عَلَيْنَا كُلُّ مَا فَعَلْنَاهُ. فَقَالُوا: نَحْنُ نَقْبِضُ عَلَيْهِمْ غَدًا بُكْرَةً، وَتَكُونُ أَنْتَ وَالْعَسْكَرُ عَلَى ظَهْرٍ، فَإِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ بَاسِمِ بَدْرِ الدِّينِ وَشِعَارِهِ، تَصْعَدُونَ إِلَيْنَا، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ. وَرَكِبَ بِنَفْسِهِ بُكْرَةً هُوَ وَالْعَسْكَرُ عَلَى الْعَادَةِ، وَأَمَّا أُولَئِكَ فَإِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا، وَقَبَضُوا عَلَى أَوْلَادِ خَوَاجَهْ وَمَنْ مَعَهُمْ، وَنَادَوْا بِشِعَارِ بَدْرِ الدِّينِ، فَبَيْنَمَا الْعَسْكَرُ قِيَامٌ إِذَا الصَّوْتُ مِنَ الْقَلْعَةِ بَاسِمِ بَدْرِ الدِّينِ، فَصَعِدُوا إِلَيْهَا وَمَلَكُوهَا، وَتَسَلَّمَ أَمِينُ الدِّينِ أَوْلَادَ خَوَاجَهْ فَحَبَسَهُمْ، وَكَتَبَ الرُّقْعَةَ عَلَى جَنَاحِ الطَّائِرِ بِالْحَالِ، وَمَلَكُوا الْقَلْعَةَ صَفْوًا عَفْوًا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَانَ يُرِيدُ [أَنْ] يَغْرَمَ مَالًا جَلِيلًا، وَأَقْطَاعًا كَثِيرَةً، وَحِصْنًا مَنِيعًا، فَتَوَفَّرَ الْجَمِيعُ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ كُلَّ مَا احْتَقَبُوهُ وَادَّخَرُوهُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَيْلَةَ الْأَحَدِ الْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ، زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ بِالْمَوْصِلِ، وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ، وَغَيْرِهَا زَلْزَلَةً مُتَوَسِّطَةً. وَفِيهَا اشْتَدَّ الْغَلَاءُ بِالْمَوْصِلِ، وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ جَمِيعِهَا، فَأَكَلَ النَّاسُ الْمَيْتَةَ، وَالْكِلَابَ وَالسَّنَانِيرَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ كَثِيرَةً. وَلَقَدْ دَخَلْتُ يَوْمًا إِلَى دَارِي، فَرَأَيْتُ الْجَوَارِيَ يَقْطَعْنَ اللَّحْمَ لِيَطْبُخْنَهُ، فَرَأَيْتُ سَنَانِيرَ اسْتَكْثَرْتُهَا فَعَدَدْتُهَا، فَكَانَتِ اثْنَيْ عَشَرَ سِنَّوْرًا، وَرَأَيْتُ اللَّحْمَ فِي هَذَا الْغَلَاءِ فِي الدَّارِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَنْ يَحْفَظُهُ مِنَ السَّنَانِيرِ لِعَدَمِهَا، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمَرَّتَيْنِ كَثِيرٌ. وَغَلَا مَعَ الطَّعَامِ كُلُّ شَيْءٍ فَبِيعَ رِطْلُ الشَّيْرِجِ بِقِيرَاطَيْنِ بَعْدَ أَنْ كَانَ بِنِصْفِ قِيرَاطٍ قَبْلَ الْغَلَاءِ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَكَانَ كُلُّ سِتِّينَ رِطْلًا بِدِينَارٍ.

وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ السِّلْقَ وَالْجَزَرَ وَالشَّلْجَمَ بِيعَ كُلَّ خَمْسِ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ، وَبِيعَ الْبَنَفْسَجُ كُلُّ سِتَّةِ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ، وَبِيعَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كُلُّ سَبْعَةِ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ، وَهَذَا مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ. فَإِنَّ الدُّنْيَا مَا زَالَتْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، إِذَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ، مَتَى جَاءَ الْمَطَرُ رَخُصَتْ، إِلَّا هَذِهِ السَّنَةَ، فَإِنَّ الْأَمْطَارَ مَا زَالَتْ مُتَتَابِعَةً مِنْ أَوَّلِ الشِّتَاءِ إِلَى آخِرِ الرَّبِيعِ، وَكُلَّمَا جَاءَ الْمَطَرُ غَلَتِ الْأَسْعَارُ، وَهَذَا مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، فَبَلَغَتِ الْحِنْطَةُ مَكُّوكًا وَثُلُثًا بِدِينَارٍ وَقِيرَاطٍ، يَكُونُ وَزْنُهُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ رِطْلًا دَقِيقًا بِالْبَغْدَادِيِّ، وَكَانَ الْمِلْحُ مَكُّوكٌ بِدِرْهَمٍ، فَصَارَ الْمَكُّوكُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَكَانَ الْأَرُزُّ مَكُّوكٌ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَصَارَ الْمَكُّوكُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَكَانَ التَّمْرُ كُلُّ أَرْبَعَةِ أَرْطَالٍ وَخَمْسَةُ أَرْطَالٍ بِقِيرَاطٍ، فَصَارَ كُلُّ رِطْلَيْنِ بِقِيرَاطٍ. وَمِنْ عَجِيبِ مَا يُحْكَى أَنَّ السُّكَّرَ النَّادِرَ الْأَسْمَرَ كَانَ كُلُّ رِطْلٍ بِدِرْهَمٍ وَرُبُعٍ، وَكَانَ السُّكَّرُ الْأُبْلُوجُ الْمِصْرِيُّ النَّقِيُّ كُلُّ رِطْلٍ بِدِرْهَمَيْنِ، فَصَارَ السُّكَّرُ الْأَسْمَرُ كُلُّ رِطْلٍ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَالسُّكَّرُ الْأُبْلُوجُ كُلُّ رِطْلٍ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَرُبُعٍ، وَسَبَبُهُ أَنَّ الْأَمْرَاضَ لَمَّا كَثُرَتْ وَاشْتَدَّ الْوَبَاءُ، قَالَتِ النِّسَاءُ: هَذِهِ الْأَمْرَاضُ بَارِدَةٌ، وَالسُّكَّرُ الْأَسْمَرُ حَارٌّ فَيَنْفَعُ مِنْهَا، وَالْأُبْلُوجُ بَارِدٌ يُقَوِّيهَا، وَتَبِعَهُنَّ الْأَطِبَّاءُ اسْتِمَالَةً لِقُلُوبِهِنَّ وَلِجَهْلِهِمْ، فَغَلَا الْأَسْمَرُ بِهَذَا السَّبَبِ، وَهَذَا مِنَ الْجَهْلِ الْمُفْرِطِ. وَمَا زَالَتِ الْأَشْيَاءُ هَكَذَا إِلَى أَوَّلِ الصَّيْفِ، وَاشْتَدَّ الْوَبَاءُ، وَكَثُرَ الْمَوْتُ وَالْمَرَضُ فِي النَّاسِ، فَكَانَ يُحْمَلُ عَلَى النَّعْشِ الْوَاحِدِ عِدَّةٌ مِنَ الْمَوْتَى، فَمِمَّنْ مَاتَ فِيهِ شَيْخُنَا عَبْدُ الْمُحْسِنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَطِيبُ الطُّوسِيُّ، خَطِيبُ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ مِنْ صَالِحِي الْمُسْلِمِينَ، وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَشُهُورًا. وَفِيهَا انْخَسَفَ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ خَامِسَ عَشَرَ صَفَرٍ. وَفِيهَا هَرَبَ أَمِيرُ حَاجِّ الْعِرَاقِ، وَهُوَ حُسَامُ الدِّينِ أَبُو فِرَاسٍ الْحِلِّيُّ الْكُرْدِيُّ الْوَرَّامِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي الشَّيْخِ وَرَّامٍ، كَانَ عَمُّهُ مِنْ صَالِحِي الْمُسْلِمِينَ وَخِيَارِهِمْ مِنْ

أَهْلِ الْحِلَّةِ السَّيْفِيَّةِ، فَارَقَ الْحَاجَّ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَسَارَ إِلَى مِصْرَ. حَكَى لِي بَعْضُ أَصْدِقَائِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى الْهَرَبِ كَثْرَةُ الْخَرْجِ فِي الطَّرِيقِ، وَقِلَّةُ الْمَعُونَةِ مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَلَمَّا فَارَقَ الْحَاجَّ، خَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا مِنَ الْعَرَبِ، فَأَمَّنَ اللَّهُ خَوْفَهُمْ، وَلَمْ يَذْعَرْهُمْ ذَاعِرٌ فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ، وَوَصَلُوا آمِنِينَ، إِلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْجِمَالِ هَلَكَ، أَصَابَهَا غُدَّةٌ عَظِيمَةٌ فَلَمْ يَسْلَمْ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَفِيهَا فِي آبَ، جَاءَ مَطَرٌ شَدِيدٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، وَدَامَ حَتَّى جَرَتِ الْأَوْدِيَةُ، وَامْتَلَأَتِ الطُّرُقْ بِالْوَحْلِ، ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ مِنَ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَالْجَزِيرَةِ وَدِيَارِ بَكْرٍ، أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلُهُ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْنَا بِالْمَوْصِلِ أَحَدٌ إِلَّا وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَطَرَ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ التَّارِيخِ. وَفِيهَا كَانَ فِي الشِّتَاءِ ثَلْجٌ كَثِيرٌ، وَنَزَلْتُ بِالْعِرَاقِ، فَسَمِعْتُ أَنَّهُ نَزَلَ فِي جَمِيعِ الْعِرَاقِ حَتَّى فِي الْبَصْرَةِ، أَمَّا إِلَى وَاسِطَ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَأَمَّا الْبَصْرَةُ فَإِنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَكْثُرْ عِنْدَنَا بِنُزُولِهِ فِيهَا. وَفِيهَا خُرِّبَتْ قَلْعَةُ الزَّعْفَرَانِ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ، وَهِيَ حِصْنٌ مَشْهُورٌ يُعْرَفُ قَدِيمًا بِدَيْرِ الزَّعْفَرَانِ، وَهُوَ عَلَى جَبَلٍ عَالٍ قَرِيبٍ مِنْ فرشَابُورَ. وَفِيهَا أَيْضًا خُرِّبَتْ قَلْعَةُ الْجَدِيدَةِ مِنْ بَلَدِ الْهَكَّارِيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ أَيْضًا، وَأُضِيفَ عَمَلُهَا وَقُرَاهَا إِلَى الْعِمَادِيَّةِ. وَفِيهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ، سَارَ جَلَالُ الدِّينِ بْنُ خُوَارَزْمَ شَاهْ مِنْ تِبْرِيزَ إِلَى بَلَدِ الْكُرْجِ قَاصِدًا لِأَخْذِ بِلَادِهِمْ وَاسْتِئْصَالِهِمْ، وَخَرَجَتِ السَّنَةُ وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ فَعَلَ بِهِمْ شَيْئًا، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا فَعَلَهُ بِهِمْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَفِيهَا ثَالِثَ شُبَاطَ، سَقَطَ بِبَغْدَادَ ثَلْجٌ، وَبَرَدَ الْمَاءُ بَرْدًا شَدِيدًا، وَقَوِيَ الْبَرْدُ حَتَّى مَاتَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ. وَفِيهَا فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ، زَادَتْ دِجلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً، وَاشْتَغَلَ النَّاسُ بِإِصْلَاحِ سَكْرِ الْقُورَجِ، وَخَافُوا، فَبَلَغَتِ الزِّيَادَةُ قَرِيبًا مِنَ الزِّيَادَةِ الْأُولَى، ثُمَّ نَقَصَ الْمَاءُ وَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ.

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ] 623 - ذِكْرُ مُلْكِ جَلَالِ الدِّينِ تِفْلِيسَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَامِنَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَتَحَ جَلَالُ الدِّينِ بْنُ خُوَارَزْمَ شَاهْ مَدِينَةَ تِفْلِيسَ مِنَ الْكُرْجِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَانْهِزَامَهُمْ مِنْهُ، وَعَوْدَهُ إِلَى تِبْرِيزَ بِسَبَبِ الْخُلْفِ الْوَاقِعِ فِيهَا، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ فِي أَذْرَبِيجَانَ، عَادَ إِلَى بَلَدِ الْكُرْجِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ، وَخَرَجَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَدَخَلَتْ هَذِهِ السَّنَةُ، فَقَصَدَ بِلَادَهُمْ، وَقَدْ عَادُوا فَحَشَدُوا وَجَمَعُوا مِنَ الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمُ اللَّانَ وَاللَّكْزَ وَقَفْجَاقَ وَغَيْرَهُمْ، فَاجْتَمَعُوا فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ لَا يُحْصَى، فَطَمِعُوا بِذَلِكَ، وَمَنَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمُ الْأَبَاطِيلَ، وَوَعَدَهُمُ الشَّيْطَانُ الظَّفَرَ، {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120] ، فَلَقِيَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمُ الْكَمِينَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَوَلَّىُ الْكُرْجُ مُنْهَزِمِينَ لَا يَلْوِي الْأَخُ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا الْوَالِدُ عَلَى وَلَدِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ أَهَمَّتُهُ نَفْسُهُ، وَأَخَذَتْهُمْ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الْيَسِيرُ الشَّاذُّ الَّذِي لَا يُعْبَأُ بِهِ، وَأَمَرَ جَلَالُ الدِّينِ عَسْكَرَهُ أَنْ لَا يُبْقُوا عَلَى أَحَدٍ، وَأَنْ يَقْتُلُوا مَنْ وَجَدُوا، فَتَبِعُوا الْمُنْهَزِمِينَ يَقْتُلُونَهُمْ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِقَصْدِ تِفْلِيسَ دَارِ مُلْكِهِمْ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَنْ نَقْتُلَ رِجَالَنَا تَحْتَ الْأَسْوَارِ، إِنَّمَا إِذَا أَفْنَيْتُ الْكُرْجَ، أَخَذْتُ الْبِلَادَ صَفْوًا عَفْوًا. وَلَمْ تَزَلِ الْعَسَاكِرُ تَتْبَعُهُمْ وَتَسْتَقْصِي فِي طَلَبِهِمْ إِلَى أَنْ كَادُوا يُفْنُونَهُمْ، فَحِينَئِذٍ قَصَدَ تِفْلِيسَ وَنَزَلَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَسَارَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَقَصَدَهَا لِيَنْظُرَ إِلَيْهَا، وَيُبْصِرَ مَوَاضِعَ النُّزُولِ عَلَيْهَا، وَكَيْفَ يُقَاتِلُهَا، فَلَمَّا قَارَبَهَا، كَمَنَ أَكْثَرُ الْعَسْكَرِ الَّذِي مَعَهُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهَا فِي نَحْوِ ثَلَاثَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَلَمَّا رَآهُ

مَنْ بِهَا مِنَ الْكُرْجِ، طَمِعُوا فِيهِ لِقِلَّةِ مَنْ مَعَهُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَعَهُمْ، فَظَهَرُوا إِلَيْهِ فَقَاتَلُوهُ، فَتَأَخَّرَ عَنْهُمْ، فَقَوِيَ طَمَعُهُمْ فِيهِ لِقِلَّةِ مَنْ مَعَهُ، فَظَنُّوهُ مُنْهَزِمًا فَتَبِعُوهُ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا الْعَسَاكِرَ، خَرَجُوا عَلَيْهِمْ وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيهِمْ، فَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَخَلُوهَا، وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا نَادَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِهَا بِشِعَارِ الْإِسْلَامِ، وَبَاسِمِ جَلَالِ الدِّينِ، فَأَلْقَى الْكُرْجُ بِأَيْدِيهِمْ وَاسْتَسْلَمُوا ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ قُتِلَ رِجَالُهُمْ فِي الْوَقَعَاتِ الْمَذْكُورَةِ، فَقَلَّ عَدَدُهُمْ، وَمُلِئَتْ قُلُوبُهُمْ خَوْفًا وَرُعْبًا، فَمَلَكَ الْمُسْلِمُونَ الْبَلَدَ عَنْوَةً وَقَهْرًا بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَقُتِلَ كُلُّ مَنْ فِيهِ مِنَ الْكُرْجِ، وَلَمْ يُبْقِ عَلَى كَبِيرٍ وَلَا صَغِيرٍ إِلَّا مَنْ أَذْعَنَ بِالْإِسْلَامِ، وَأَقَرَّ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ أَبْقَى عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ فَتَخَتَّنُوا وَتَرَكَهُمْ. وَنَهَبَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْوَالَ، وَسَبُوا النِّسَاءَ وَاسْتَرَقُّوا الْأَوْلَادَ، وَوَصَلَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِهَا بَعْضُ الْأَذَى مِنْ قَتْلٍ وَنَهْبٍ وَغَيْرِهِ. وَتِفْلِيسُ هَذِهِ مِنْ أَحْصَنِ الْبِلَادِ وَأَمْنَعِهَا، وَهِيَ عَلَى جَانِبَيْ نَهْرِ الْكُرِّ، وَهُوَ نَهْرٌ كَبِيرٌ، وَلَقَدْ جَلَّ هَذَا الْفَتْحُ وَعَظُمَ مَوْقِعُهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْكُرْجَ كَانُوا قَدِ اسْتَطَالُوا عَلَيْهِمْ، وَفَعَلُوا بِهِمْ مَا أَرَادُوا، فَكَانُوا يَقْصِدُونَ أَيَّ بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ أَرَادُوا، فَلَا يَمْنَعُهُمْ عَنْهَا مَانِعٌ، وَلَا يَدْفَعُهُمْ عَنْهَا دَافِعٌ، وَهَكَذَا أَرْزَنُ الرُّومِ، حَتَّى إِنَّ صَاحِبَهَا لَبِسَ خِلْعَةَ مَلِكِ الْكُرْجِ، وَرَفَعَ عَلَى رَأْسِهِ عَلَمًا فِي أَعْلَاهُ صَلِيبٌ، وَتَنَصَّرَ وَلَدُهُ رَغْبَةً فِي نِكَاحِ مَلِكَةِ الْكُرْجِ، وَخَوْفًا مِنْهُمْ لِيَدْفَعَ الشَّرَّ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْقِصَّةُ، وَهَكَذَا دَرْبَنَدْ شِرْوَانَ. وَعَظُمَ أَمْرُهُمْ إِلَى حَدِّ أَنَّ رُكْنَ الدِّينِ بْنَ قَلِجْ أَرْسِلَانَ، صَاحِبَ قُونِيَّةَ وَأَقْصَرَا وَمَلَطْيَةَ وَسَائِرِ بِلَادِ الرُّومِ الَّتِي لِلْمُسْلِمِينَ، جَمَعَ عَسَاكِرَهُ، وَحَشَدَ مَعَهَا غَيْرَهَا فَاسْتَكْثَرَ، وَقَصَدَ أَرْزَنَ الرُّومِ، وَهِيَ لِأَخِيهِ طُغْرُلَ شَاهْ بْنِ قَلِجْ أَرْسِلَانَ، فَأَتَاهُ الْكُرْجُ وَهَزَمُوهُ، وَفَعَلُوا بِهِ وَبِعَسْكَرِهِ كُلَّ عَظِيمٍ، وَكَانَ أَهْلُ دَرْبَنْدَ شِرْوَانَ مَعَهُمْ فِي الضَّنْكِ وَالضِّيقَةِ. وَأَمَّا أَرْمِينِيَّةُ، فَإِنَّ الْكُرْجَ دَخَلُوا مَدِينَةَ أَرْجِيشَ، وَمَلَكُوا قَرْسَ وَغَيْرَهَا، وَحَصَرُوا خِلَاطَ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - مَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَسْرِ إِيوَانِي مُقَدَّمِ عَسَاكِرِ الْكُرْجِ

لَمَلَكُوهَا، فَاضْطُرَّ أَهْلُهَا إِلَى أَنْ بَنَوْا لَهُمْ بَيْعَةً فِي الْقَلْعَةِ يُضْرَبُ فِيهَا النَّاقُوسُ، فَرَحَلُوا عَنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَذِهِ الْحَمْلَةِ. وَلَمْ يَزَلْ هَذَا الثَّغْرُ مِنْ أَعْظَمِ الثُّغُورِ ضَرَرًا عَلَى الْمُجَاوِرِينَ لَهُ مِنَ الْفُرْسِ، قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُمْ، مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْآنَ، وَلَمْ يُقْدِمْ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ هَذَا الْإِقْدَامَ، وَلَا فَعَلَ بِهِمْ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ، فَإِنَّ الْكُرْجَ مَلَكُوا تِفْلِيسَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَالسُّلْطَانُ حِينَئِذٍ مَحْمُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مَلِكْشَاهْ السَّلْجُوقِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ السَّلَاطِينِ مَنْزِلَةً، وَأَوْسَعِهِمْ مَمْلَكَةً، وَأَكْثَرِهِمْ عَسَاكِرَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِمْ عَنْهَا، هَذَا مَعَ سِعَةِ بِلَادِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ الرَّيُّ وَأَعْمَالُهَا، وَبَلَدُ الْجَبَلِ وَأَصْفَهَانُ، وَفَارِسُ وخُوزِسْتَانُ، وَالْعِرَاقُ وَأَذْرَبِيجَانُ، وَأَرَّانُ وَأَرْمِينِيَّةُ، وَدِيَارُ بَكْرٍ وَالْجَزِيرَةُ، وَالْمَوْصِلُ وَالشَّامُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَعَمُهُ السُّلْطَانُ سَنْجَرٌ لَهُ خُرَاسَانُ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَكَانَ أَكْثَرُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِأَيْدِيهِمْ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ مَلَكُوهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ، وَمَلَكَ إِلْدكزُ بَلَدَ الْجَبَلِ وَالرَّيَّ، وَأَصْفَهَانَ وَأَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانَ، وَأَطَاعَهُ صَاحِبُ خِلَاطَ، وَصَاحِبُ فَارِسَ، وَصَاحِبُ خُوزِسْتَانَ، وَجَمَعَ وَحَشَدَ لَهُمْ، وَكَانَ قُصَارَاهُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُمْ، ثُمَّ ابْنُهُ الْبَهْلَوَانُ بَعْدَهُ، وَكَانَتِ الْبِلَادُ فِي أَيَّامِ أُولَئِكَ عَامِرَةً كَثِيرَةَ الْأَمْوَالِ وَالرِّجَالِ، فَلَمْ يُحَدِّثُوا أَنْفُسَهُمْ بِالظَّفَرِ بِهَؤُلَاءِ، حَتَّى جَاءَ هَذَا السُّلْطَانُ وَالْبِلَادُ خَرَابٌ قَدْ أَضْعَفَهَا الْكُرْجُ أَوَّلًا، ثُمَّ اسْتَأْصَلَهَا التَّتَرُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَفَعَلَ بِهِمْ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ، فَسُبْحَانَ مَنْ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا، قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. ذِكْرُ مَسِيرِ مُظَفَّرِ الدِّينِ صَاحِبِ إِرْبِلَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَعَوْدِهِ عَنْهَا. فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، سَارَ مُظَفَّرُ الدِّينِ بْنُ زَيْنِ الدِّينِ صَاحِبُ إِرْبِلَ، إِلَى أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ قَاصِدًا إِلَيْهَا. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَلَالِ الدِّينِ بْنِ خُوَارَزْمَ شَاهْ، وَبَيْنَ الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَبَيْنَ صَاحِبِ آمِدَ، وَبَيْنَ نَاصِرِ الدِّينِ صَاحِبِ مَارِدِينَ، لِيَقْصِدُوا الْبِلَادَ الَّتِي بِيَدِ الْأَشْرَفِ،

وَيَتَغَلَّبُوا عَلَيْهَا، وَيَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ نَصِيبٌ ذَكَرَهُ، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَوَاعِدُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَبَادَرَ مُظَفَّرُ الدِّينِ إِلَى الْمَوْصِلِ. وَأَمَّا جَلَالُ الدِّينِ فَإِنَّهُ سَارَ مِنْ تِفْلِيسَ يُرِيدُ خِلَاطَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ أَنَّ نَائِبَهُ بِبِلَادِ كِرْمَانَ، وَاسْمُهُ " بَلَاقْ حَاجِبَ "، قَدْ عَصَى عَلَيْهِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ الْخَبَرُ بِذَلِكَ، تَرَكَ خِلَاطَ وَلَمْ يَقْصِدْهَا، إِلَّا أَنَّ عَسْكَرَهُ نَهَبَ بَعْضَ بَلَدِهَا وَخَرَّبَ كَثِيرًا مِنْهُ، وَسَارَ مُجِدًّا إِلَى كِرْمَانَ، فَانْفَسَخَ جَمِيعُ مَا كَانُوا عَزَمُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ مُظَفَّرَ الدِّينِ سَارَ مِنْ إِرْبِلَ وَنَزَلَ عَلَى جَانِبِ الزَّابِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْعُبُورُ إِلَى بَلَدِ الْمَوْصِلِ. وَكَانَ بَدْرُ الدِّينِ قَدْ أَرْسَلَ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَى الْأَشْرَفِ وَهُوَ بِالرَّقَّةِ يَسْتَنْجِدُهُ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ الْمَوْصِلَ لِيَدْفَعَ مُظَفَّرَ الدِّينِ، فَسَارَ مِنْهَا إِلَى حَرَّانَ، وَمِنْ حَرَّانَ إِلَى دُنَيْسِرَ، فَخَرَّبَ بَلَدَ مَارِدِينَ وَأَهْلَهُ تَخْرِيبًا وَنَهْبًا. وَأَمَّا الْمُعَظَّمُ صَاحِبُ دِمَشْقَ، فَإِنَّهُ قَصَدَ بَلَدَ حِمْصَ وَحَمَاةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ الْأَشْرَفِ يَقُولُ: إِنْ رَحَلْتَ عَنْ مَارِدِينَ وَحَلَبَ، وَأَنَا عَنْ حِمْصَ وَحَمَاةَ، وَأَرْسَلْتُ إِلَى مُظَفَّرِ الدِّينِ لِيَرْجِعَ عَنْ بَلَدِ الْمَوْصِلِ، فَرَحَلَ الْأَشْرَفُ عَنْ مَارِدِينَ، وَعَادَ كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى بَلَدِهِ، وَخُرِّبَتْ أَعْمَالُ الْمَوْصِلِ، وَأَعْمَالُ مَارِدِينَ بِهَذِهِ الْحَرَكَةِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ قَدْ أَجْحَفَ بِهَا تَتَابُعُ الْغَلَاءِ وَطُولُ مُدَّتِهِ، وَجَلَاءُ أَكْثَرِ أَهْلِهَا، فَأَتَتْهَا هَذِهِ الْحَادِثَةُ فَازْدَادَتْ خَرَابًا عَلَى خَرَابٍ. ذِكْرُ عِصْيَانِ كِرْمَانَ عَلَى جَلَالِ الدِّينِ وَمَسِيرِهِ إِلَيْهَا. فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى جَلَالِ الدِّينِ أَنَّ نَائِبَهُ بِكِرْمَانَ، وَهُوَ أَمِيرٌ كَبِيرٌ اسْمُهُ بَلَاقْ حَاجِبَ، قَدْ عَصَى عَلَيْهِ، وَطَمِعَ فِي الْبِلَادِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَيَسْتَبِدَّ بِهَا لِبُعْدِ جَلَالِ الدِّينِ عَنْهَا، وَاشْتِغَالِهِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْكُرْجِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى التَّتَرِ يُعْرِّفُهُمْ قُوَّةَ جَلَالِ الدِّينِ وَمُلْكَهُ كَثِيرًا مِنَ الْبِلَادِ، وَإِنْ أَخَذَ الْبَاقِي عَظُمَتْ مَمْلَكَتُهُ، وَكَثُرَتْ عَسَاكِرُهُ، وَأَخَذَ مَا بِأَيْدِيكُمْ مِنَ الْبِلَادِ. فَلَمَّا سَمِعَ جَلَالُ الدِّينِ ذَلِكَ كَانَ قَدْ سَارَ يُرِيدُ خِلَاطَ، فَتَرَكَهَا وَسَارَ إِلَى كِرْمَانَ [يَطْوِي الْمَرَاحِلَ، وَأَرْسَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَسُولًا إِلَى صَاحِبِ كِرْمَانِ] ، وَمَعَهُ الْخِلَعُ لِيَطْمَئِنَّ

وَيَأْتِيهِ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاطٍ وَلَا مُسْتَعِدٍّ لِلِامْتِنَاعِ مِنْهُ، فَلَمَّا وَصَلَ الرَّسُولُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مَكِيدَةٌ عَلَيْهِ لِمَا يَعْرِفُهُ مِنْ عَادَتِهِ، فَأَخَذَ مَا يَعِزُّ عَلَيْهِ وَصَعِدَ إِلَى قَلْعَةٍ مَنِيعَةٍ فَتَحَصَّنَ بِهَا، وَجَعَلَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْحُصُونِ يَمْتَنِعُونَ بِهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى جَلَالِ الدِّينِ يَقُولُ: إِنَّنِي أَنَا الْعَبْدُ وَالْمَمْلُوكُ، وَلَمَّا سَمِعْتُ بِمَسِيرِكَ إِلَى هَذِهِ الْبِلَادِ، أَخْلَيْتُهَا لَكَ لِأَنَّهَا بِلَادُكَ، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تُبْقِي عَلَيَّ، لَحَضَرْتُ بَابَكَ، وَلَكِنِّي أَخَافُ هَذَا جَمِيعَهُ، وَالرَّسُولُ يَحْلِفُ (لَهُ) أَنَّ جَلَالَ الدِّينِ بِتِفْلِيسَ، وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى قَوْلِهِ، فَعَادَ الرَّسُولُ، فَعَلِمَ جَلَالُ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَخْذُ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْحُصُونِ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ [أَنْ] يَحْصُرَهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، فَوَقَفَ بِالْقُرْبِ مِنْ أَصْفَهَانَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخِلَعَ، وَأَقَرَّهُ عَلَى وِلَايَتِهِ. فَبَيْنَمَا الرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ إِذْ وَصَلَ رَسُولٌ مِنْ وَزِيرِ جَلَالِ الدِّينِ إِلَيْهِ مِنْ تِفْلِيسَ، يُعَرِّفُهُ أَنَّ عَسْكَرَ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ الَّذِي بِخِلَاطَ قَدْ هَزَمُوا بَعْضَ عَسْكَرِهِ وَأَوْقَعُوا بِهِمْ، وَيَحُثُّهُ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى تِفْلِيسَ، فَعَادَ إِلَيْهَا مُسْرِعًا. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسْكَرِ الْأَشْرَفِ وَعَسْكَرِ جَلَالِ الدِّينِ. لَمَّا سَارَ جَلَالُ الدِّينِ إِلَى كِرْمَانَ، تَرَكَ بِمَدِينَةِ تِفْلِيسَ عَسْكَرًا مَعَ وَزِيرِهِ شَرَفِ الْمُلْكِ، فَقُلْتُ عَلَيْهِمُ الْمِيرَةُ، فَسَارُوا إِلَى أَعْمَالِ أَرْزَنَ الرُّومِ، فَوَصَلُوا إِلَيْهَا وَنَهَبُوهَا، وَسَبُوا النِّسَاءَ، وَأَخَذُوا مِنَ الْغَنَائِمِ شَيْئًا كَثِيرًا لَا يُحْصَى، وَعَادُوا فَكَانَ طَرِيقُهُمْ عَلَى أَطْرَافِ وِلَايَةِ خِلَاطَ، فَسَمِعَ النَّائِبُ عَنِ الْأَشْرَفِ فِي خِلَاطَ. وَهُوَ الْحَاجِبُ حُسَامُ الدِّينِ عَلَى الْمَوْصِلِ، فَجَمَعَ الْعَسْكَرَ وَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ وَاسْتَنْقَذَ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَغَنِمَ كَثِيرًا مِمَّا مَعَهُمْ، وَعَادَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ سَالِمِينَ. فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ، خَافَ وَزِيرُ جَلَالِ الدِّينِ مِنْهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِهِ بِكِرْمَانَ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، وَيَحُثُّهُ عَلَى الْعَوْدِ إِلَيْهِ، وَيُخَوِّفُهُ عَاقِبَةَ التَّوَانِي وَالْإِهْمَالِ، فَرَجَعَ فَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، تَعَالَى.

ذِكْرُ وَفَاةِ الْخَلِيفَةِ الظَّاهِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ، تُوُفِّيَ الْإِمَامُ الظَّاهِرُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَسَبُهُ عِنْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَكَانَتْ خِلَافَتُهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ نِعْمَ الْخَلِيفَةِ، جَمَعَ الْخُشُوعَ مَعَ الْخُضُوعِ لِرَبِّهِ، وَالْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ إِلَى رَعِيَّتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ ذِكْرِ وِلَايَتِهِ الْخِلَافَةَ مِنْ أَفْعَالِهِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلَمْ يَزَلْ كُلَّ يَوْمٍ يَزْدَادُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الرَّعِيَّةِ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَأَحْسَنَ مُنْقَلَبَهُ وَمَثْوَاهُ، فَلَقَدْ جَدَّدَ مِنَ الْعَدْلِ مَا كَانَ دَارِسًا، وَأَذْكَرَ مِنَ الْإِحْسَانِ مَا كَانَ مَنْسِيًّا. وَكَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ أَخْرَجَ تَوْقِيعًا إِلَى الْوَزِيرِ بِخَطِّهِ لِيَقْرَأَهُ عَلَى أَرْبَابِ الدَّوْلَةِ، وَقَالَ الرَّسُولُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ: لَيْسَ غَرَضُنَا أَنْ يُقَالَ بَرَزَ مَرْسُومٌ، أَوْ نُفِّذَ مُنَاكَ، ثُمَّ لَا يَبِينُ لَهُ أَثَرٌ، بَلْ أَنْتُمْ إِلَى إِمَامٍ فَعَّالٍ أَحْوَجُ مِنْكُمْ إِلَى إِمَامٍ قَوَّالٍ، فَقَرَءُوهُ، فَإِذَا فِي أَوَّلِهِ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ: " اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ إِمْهَالُنَا إِهْمَالًا، وَلَا إِغْضَاؤُنَا إِغْفَالًا، وَلَكِنْ لِنَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَقَدْ عَفَوْنَا لَكُمْ مَا سَلَفَ مِنْ إِخْرَابِ الْبِلَادِ، وَتَشْرِيدِ الرَّعَايَا، وَتَقْبِيحِ السُّمْعَةِ، وَإِظْهَارِ الْبَاطِلِ الْجَلِيِّ فِي صُورَةِ الْحَقِّ الْخَفِيِّ حِيلَةً وَمَكِيدَةً، وَتَسْمِيَةِ الِاسْتِئْصَالِ وَالِاجْتِيَاحِ اسْتِيفَاءً وَاسْتِدْرَاكًا لِأَغْرَاضٍ انْتَهَزْتُمْ فُرْصَتَهَا مُخْتَلَسَةً مِنْ بَرَاثِنِ لَيْثٍ بَاسِلٍ، وَأَنْيَابِ أَسَدٍ مَهِيبٍ، تَتَّفِقُونَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنْتُمْ أُمَنَاؤُهُ وَثِقَاتُهُ، فَتُمِيلُونَ رَأْيَهُ إِلَى هَوَاكُمْ، وَتَمْرُجُونَ بَاطِلَكُمْ بِحَقِّهِ، فَيُطِيعُكُمْ وَأَنْتُمْ لَهُ عَاصُونَ، وَيُوَافِقُكُمْ وَأَنْتُمْ لَهُ مُخَالِفُونَ، وَالْآنَ قَدْ بَدَّلَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - بِخَوْفِكُمْ أَمْنًا، وَبِفَقْرِكُمْ غِنًى، وَبِبَاطِلِكُمْ حَقًّا، وَرَزَقَكُمْ سُلْطَانًا يُقِيلُ الْعَثْرَةَ وَيَقْبَلُ الْمَعْذِرَةَ، وَلَا يُؤَاخِذُ إِلَّا مَنْ أَصَرَّ، وَلَا يَنْتَقِمُ إِلَّا مِمَّنِ اسْتَمَرَّ، يَأْمُرُكُمْ بِالْعَدْلِ وَهُوَ يُرِيدُهُ مِنْكُمْ، وَيَنْهَاكُمْ عَنِ الْجَوْرِ وَهُوَ يَكْرَهُهُ لَكُمْ، يَخَافُ اللَّهَ - تَعَالَى، فَيُخَوِّفُكُمْ مَكْرَهُ، وَيَرْجُو اللَّهَ

تَعَالَى، وَيُرَغِّبُكُمْ فِي طَاعَتِهِ، فَإِنْ سَلَكْتُمْ مَسَالِكَ خُلَفَاءِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَأُمَنَائِهِ عَلَى خَلْقِهِ وَإِلَّا هَلَكْتُمْ، وَالسَّلَامُ ". وَلَمَّا تُوُفِّيَ وَجَدُوا فِي بَيْتٍ، فِي دَارِهِ أُلُوفَ رِقَاعٍ كُلُّهَا مَخْتُومَةٌ لَمْ يَفْتَحْهَا، فَقِيلَ لَهُ لِيَفْتَحَهَا، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا، كُلُّهَا سِعَايَاتٌ. وَلَمْ أَزَلْ - عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ - مُذْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ، أَخَافُ عَلَيْهِ قِصَرَ الْمُدَّةِ لِخُبْثِ الزَّمَانِ وَفَسَادِ أَهْلِهِ، وَأَقُولُ لِكَثِيرٍ مِنْ أَصْدِقَائِنَا: وَمَا أَخْوَفَنِي أَنْ تَقْصُرَ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ ; لِأَنَّ زَمَانَنَا وَأَهْلَهُ لَا يَسْتَحِقُّونَ خِلَافَتَهُ، فَكَانَ كَذَلِكَ. ذِكْرُ خِلَافَةِ ابْنِهِ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ. لَمَّا تُوُفِّيَ الظَّاهِرُ بِأَمْرِ اللَّهِ، بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ ابْنُهُ الْأَكْبَرُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، وَلُقِّبَ الْمُسْتَنْصِرَ بِاللَّهِ، وَسَلَكَ فِي الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ سِيرَةَ أَبِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَمَرَ فَنُودِيَ بِبَغْدَادَ بِإِفَاضَةِ الْعَدْلِ، وَإِنَّ مَنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ، أَوْ مَظْلَمَةٌ يُطَالِعُ بِهَا، تُقْضَى حَاجَتُهُ، وَتُكْشَفُ مَظْلَمَتُهُ. فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ جُمُعَةٍ أَتَتْ عَلَى خِلَافَتِهِ، أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي فِيهَا الْخُلَفَاءُ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّ الْمُطْبَقَ الَّذِي يَسْلُكُ فِيهِ إِلَيْهَا خَرَابٌ لَا يُمْكِنُ سُلُوكُهُ، فَرَكِبَ فَرَسًا وَسَارَ إِلَى الْجَامِعِ جَامِعِ الْقَصْرِ، ظَاهِرًا يَرَاهُ النَّاسُ بِقَمِيصٍ أَبْيَضَ وَعِمَامَةٍ بَيْضَاءَ، بِسَكَاكِينَ حَرِيرٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا يَمْشِي مَعَهُ بَلْ أَمَرَ كُلَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالصَّلَاةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَسَارَ هُوَ وَمَعَهُ خَادِمَانِ وَرِكَابْدَارُ لَا غَيْرَ، وَكَذَلِكَ الْجُمُعَةُ الثَّانِيَةُ حَتَّى أُصْلِحَ لَهُ الْمُطْبَقُ. وَكَانَ السِّعْرُ قَدْ تَحَرَّكَ بَعْدَ وَفَاةِ الظَّاهِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَبَلَغَتِ الْكَارَةُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا، فَأَمَرَ أَنْ تُبَاعَ الْغَلَّاتُ الَّتِي لَهُ كُلُّ كَارَةٍ بِثَلَاثَ عَشَرَ قِيرَاطًا، فَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ وَاسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ كَيْقُبَاذَ وَصَاحِبِ آمِدَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ، سَارَ عَلَاءُ الدِّينِ كَيْقُبَاذُ بْنُ كَيْخَسْرُو [بْنِ] قَلِجْ

أَرْسِلَانَ، مَلِكُ بِلَادِ الرُّومِ، إِلَى بِلَادِ الْمَلِكِ الْمَسْعُودِ صَاحِبِ آمِدَ، وَمَلَكَ عِدَّةً مِنْ حُصُونِهِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ اتِّفَاقِ صَاحِبِ آمِدَ مَعَ جَلَالِ الدِّينِ بْنِ خُوَارَزْمَ شَاهْ، وَالْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَغَيْرِهِمَا عَلَى خِلَافِ الْأَشْرَفِ، فَلَمَّا رَأَى الْأَشْرَفُ ذَلِكَ، أَرْسَلَ إِلَى كَيْقُبَاذَ مِلْكِ الرُّومِ، وَكَانَا مُتَّفِقَيْنِ، يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَقْصِدَ بَلَدَ صَاحِبِ آمِدَ وَيُحَارِبَهُ، وَكَانَ الْأَشْرَفُ حِينَئِذٍ عَلَى مَارِدِينَ، فَسَارَ مِلْكُ الرُّومِ إِلَى مَلَطْيَةَ، وَهِيَ لَهُ، فَنَزَلَ عِنْدَهَا، وَسَيَّرَ الْعَسَاكِرَ إِلَى وِلَايَةِ صَاحِبِ آمِدَ، [فَفَتَحُوا حِصْنَ مَنْصُورٍ وَحِصْنَ سمكَارَادَ وَغَيْرَهُمَا، فَلَمَّا رَأَى صَاحِبُ آمِدَ] ذَلِكَ، رَاسَلَ الْأَشْرَفَ، وَعَادَ إِلَى مُوَافَقَتِهِ، فَأَرْسَلَ الْأَشْرَفُ إِلَى كَيْقُبَاذَ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ لَهُ لِيُعِيدَ إِلَى صَاحِبِ آمِدَ مَا أَخَذَ مِنْهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: لَمْ أَكُنْ نَائِبًا لِلْأَشْرَفِ يَأْمُرُنِي وَيَنْهَانِي. فَاتَّفَقَ أَنَّ الْأَشْرَفَ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ لِيُصْلِحَ أَخَاهُ الْمَلِكَ الْمُعَظَّمَ، وَأَمَرَ الْعَسَاكِرَ الَّتِي لَهُ بِدِيَارِ الْجَزِيرَةِ بِمُسَاعَدَةِ صَاحِبِ آمِدَ، إِنْ أَصَرَّ مَلِكُ الرُّومِ عَلَى قَصْدِهِ، فَسَارَتْ عَسَاكِرُ الْأَشْرَفِ إِلَى صَاحِبِ آمِدَ وَقَدْ جَمَعَ عَسْكَرَهُ وَمَنْ بِبِلَادِهِ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْحَرْبِ، وَسَارَ إِلَى عَسْكَرِ مَلِكِ الرُّومِ وَهُمْ يُحَاصِرُونَ قَلْعَةَ الْكختَا بَعْدَ الْهَزِيمَةِ، وَهِيَ مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ وَالْمَعَاقِلِ، فَلَمَّا مَلَكُوهَا عَادُوا إِلَى صَاحِبِهِمْ. ذِكْرُ حَصْرِ جَلَالِ الدِّينِ مَدِينَتَيِ آنِي وَقرسَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَمَضَانَ، عَادَ جَلَالُ الدِّينِ مِنْ كِرْمَانَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ إِلَى تِفْلِيسَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى مَدِينَةِ آنِي، وَهِيَ لِلْكُرْجِ، وَبِهَا إِيوَانِي مُقَدَّمُ عَسَاكِرِ الْكُرْجِ فِيمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْ أَعْيَانِ الْكُرْجِ، [فَحَصَرَهُ وَسَيَّرَ طَائِفَةً مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى مَدِينَةِ قرسَ، وَهِيَ لِلْكُرْجِ] أَيْضًا، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَحْصَنِ الْبِلَادِ وَأَمْنَعِهَا، فَنَازَلَهُمَا وَحَصَرَهُمَا، وَقَاتَلَ مَنْ بِهِمَا، وَنَصَبَ عَلَيْهِمَا الْمَجَانِيقَ، وَجَدَّ فِي الْقِتَالِ عَلَيْهِمَا، وَحَفِظَهُمَا الْكُرْجُ، وَبَالَغُوا فِي الْحِفْظِ وَالِاحْتِيَاطِ لِخَوْفِهِمْ مِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا فَعَلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ بِمَدِينَةِ تِفْلِيسَ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمَا إِلَى أَنْ مَضَى بَعْضُ شَوَّالٍ، ثُمَّ تَرَكَ الْعَسْكَرَ عَلَيْهِمَا يَحْصُرُونَهُمَا وَعَادَ إِلَى تِفْلِيسَ. وَسَارَ مِنْ تِفْلِيسَ مُجِدًّا إِلَى بِلَادٍ أَبْخَازَ وَبَقَايَا الْكُرْجِ، فَأَوْقَعَ بِمَنْ فِيهَا، فَنَهَبَ

وَقَتَلَ وَسَبَى، وَخَرَّبَ الْبِلَادَ وَأَحْرَقَهَا، وَغَنِمَ عَسَاكِرُهُ مَا فِيهَا، وَعَادَ مِنْهَا إِلَى تِفْلِيسَ. ذِكْرُ حَصْرِ جَلَالِ الدِّينِ خِلَاطَ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ جَلَالَ الدِّينِ عَادَ مِنْ مَدِينَةِ آنِي إِلَى تِفْلِيسَ وَدَخَلَ بِلَادَ أَبْخَازَ، وَكَانَ رَحِيلُهُ مَكِيدَةً ; لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّائِبَ عَنِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ، وَهُوَ الْحَاجِبُ حُسَامُ الدِّينِ عَلِيٌّ بِمَدِينَةِ خِلَاطَ قَدِ احْتَاطَ، وَاهْتَمَّ بِالْأَمْرِ وَحَفِظَ الْبَلَدَ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، فَعَادَ إِلَى تِفْلِيسَ لِيَطْمَئِنَّ أَهْلُ خِلَاطَ وَيَتْرُكُوا الِاحْتِيَاطَ وَالِاسْتِظْهَارَ ثُمَّ يَقْصِدُهُمْ بَغْتَةً، فَكَانَتْ غَيْبَتُهُ بِبِلَادِ أَبْخَازَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَعَادَ وَسَارَ مُجِدًّا يَطْوِي الْمَرَاحِلَ عَلَى عَادَتِهِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يُرَاسِلُ نُوَّابَ الْأَشْرَفِ بِالْأَخْبَارِ لَفَجَأَهُمْ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ عِنْدَهُ بَعْضُ ثِقَاتِهِ يُعَرِّفُهُمْ أَخْبَارَهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَيْهِمْ قَبْلَ وُصُولِهِ بِيَوْمَيْنِ. وَوَصَلَ جَلَالُ الدِّينِ فَنَازَلَ مَدِينَةَ ملَازكردَ يَوْمَ السَّبْتِ ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ رَحَلَ عَنْهَا، فَنَازَلَ مَدِينَةَ خِلَاطَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ خَامِسَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ، فَلَمْ يَنْزِلْ حَتَّى زَحَفَ إِلَيْهَا، وَقَاتَلَ أَهْلَهَا قِتَالًا شَدِيدًا، فَوَصَلَ عَسْكَرُهُ سُورَ الْبَلَدِ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى كَثِيرَةٌ، ثُمَّ زَحَفَ إِلَيْهَا مَرَّةً ثَانِيَةً، وَقَاتَلَ أَهْلُ الْبَلَدِ قِتَالًا عَظِيمًا، فَعَظُمَتْ نِكَايَةُ الْعَسْكَرِ فِي أَهْلِ خِلَاطَ، وَوَصَلُوا إِلَى سُورِ الْبَلَدِ، وَدَخَلُوا الرَّبَضَ الَّذِي لَهُ، وَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي النَّهْبِ وَسَبْيِ الْحَرِيمِ. فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ خِلَاطَ ذَلِكَ تَذَامَرُوا، وَحَرَّضَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَعَادُوا إِلَى الْعَسْكَرِ فَقَاتَلُوهُمْ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْبَلَدِ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأَسَرَ الْعَسْكَرُ الْخُوَارَزْمِيُّ مِنْ أُمَرَاءِ خِلَاطَ جَمَاعَةً، وَقُتِلَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، وَتَرَجَّلَ الْحَاجِبُ عَلَيٌّ، وَوَقَفَ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، وَأَبْلَى بَلَاءً عَظِيمًا. ثُمَّ إِنَّ جَلَالَ الدِّينِ اسْتَرَاحَ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَعَاوَدَ الزَّحْفَ مِثْلَ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَقَاتَلُوهُ حَتَّى أَبْعَدُوا عَسْكَرَهُ عَنِ الْبَلَدِ. وَكَانَ أَهْلُ خِلَاطَ مُجِدِّينَ فِي الْقِتَالِ، حَرِيصِينَ عَلَى الْمَنْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لِمَا رَأَوْا مِنْ سُوءِ سِيرَةِ الْخُوَارَزْمِيِّينَ وَنَهْبِهِمُ الْبِلَادَ، وَمَا فِيهِمْ مِنَ الْفَسَادِ، فَهُمْ يُقَاتِلُونَ قِتَالَ مَنْ يَمْنَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَحَرِيمِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ أَقَامَ عَلَيْهَا إِلَى أَنِ اشْتَدَّ الْبَرْدُ

وَنَزَلَ شَيْءٌ مِنَ الثَّلْجِ، فَرَحَلَ عَنْهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ، وَكَانَ سَبَبُ رَحِيلِهِ مَعَ خَوْفِ الثَّلْجِ مَا بَلَغَهُ عَنِ التُّرْكُمَانِ الْإِيوَانِيَّةِ مِنَ الْفَسَادِ بِبِلَادِهِ. ذِكْرُ إِيقَاعِ جَلَالِ الدِّينِ بِالتُّرْكُمَانِ الْإِيوَانِيَّةِ. كَانَ التُّرْكُمَانُ الْإِيوَانِيَّةُ قَدْ تَغَلَّبُوا عَلَى مَدِينَةِ أَسْنَةَ وَأَرْمِيَةَ، مِنْ نَوَاحِي أَذْرَبِيجَانَ، وَأَخَذُوا الْخَرَاجَ مِنْ أَهْلِ خُوَيٍّ لِيَكُفُّوا عَنْهُمْ، وَاغْتَرُّوا بِاشْتِغَالِ جَلَالِ الدِّينِ بِالْكُرْجِ، وَبُعْدِهِمْ بِخِلَاطَ، وَازْدَادَ طَمَعُهُمْ، وَانْبَسَطُوا بِأَذْرَبِيجَانَ يَنْهَبُونَ وَيَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، وَالْأَخْبَارُ تَأْتِي إِلَى خُوَارَزْمَ شَاهْ جَلَالِ الدِّينِ بْنِ خُوَارَزْمَ شَاهْ، وَهُوَ يَتَغَافَلُ عَنْهُمْ لِاشْتِغَالِهِ بِمَا هُوَ الْمُهِمُّ ضِدَّهُ، وَبَلَغَ مِنْ طَمَعِهِمْ أَنَّهُمْ قَطَعُوا الطَّرِيقَ بِالْقُرْبِ مِنْ تِبْرِيزَ، وَأَخَذُوا مِنْ تُجَّارِ أَهْلِهَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمُ اشْتَرَوْا غَنَمًا مِنْ أَرْزَنَ الرُّومِ وَقَصَدُوا بِهَا تِبْرِيزَ، فَلَقِيَهُمُ الْإِيوَانِيَّةُ قَبْلَ وُصُولِهِمْ إِلَى تِبْرِيزَ، فَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا مَعَهُمْ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ عِشْرُونَ أَلْفَ رَأْسِ غَنَمٍ. فَلَمَّا اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ وَعَظُمَ الشَّرُّ، أَرْسَلَتْ زَوْجَةُ جَلَالِ الدِّينِ ابْنَةَ السُّلْطَانِ طُغْرُلَ وَنُوَّابَهُ فِي الْبِلَادِ إِلَيْهِ يَسْتَغِيثُونَ، وَيُعَرِّفُونَهُ أَنَّ الْبِلَادَ قَدْ خَرَّبَهَا الْإِيوَانِيَّةُ، وَلَئِنْ لَمْ يَلْحَقْهَا، وَإِلَّا هَلَكَتْ بِالْمَرَّةِ. فَاتَّفَقَ هَذَا إِلَى خَوْفِ الثَّلْجِ، فَرَحَلَ عَنْ خِلَاطَ، وَجَدَّ السَّيْرَ إِلَى الْإِيوَانِيَّةِ، وَهُمْ آمِنُونَ مُطْمَئِنُّونَ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّ خُوَارَزْمَ شَاهْ عَلَى خِلَاطَ، وَظَنُّوا أَنَّهُ لَا يُفَارِقُهَا، فَلَوْلَا هَذَا الِاعْتِقَادُ لَصَعِدُوا إِلَى جِبَالٍ لَهُمْ مَنِيعَةٍ شَاهِقَةٍ لَا يُرْتَقَى إِلَيْهَا إِلَّا بِمَشَقَّةٍ وَعَنَاءٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا خَافُوا، صَعِدُوا إِلَيْهَا وَامْتَنَعُوا بِهَا، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا وَالْعَسَاكِرُ الْجَلَالِيَّةُ قَدْ أَحَاطَتْ بِهِمْ، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَالنَّهْبَ وَالسَّبْيَ، وَاسْتَرَقُّوا الْحَرِيمَ وَالْأَوْلَادَ، وَأَخَذُوا مِنْ عِنْدِهِمْ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ، فَرَأَوْا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْتِعَةِ الَّتِي أَخَذُوهَا مِنَ التُّجَّارِ بِحَالِهَا فِي الشَّذَوَاتِ، هَذَا سِوَى مَا كَانُوا قَدْ حَلُّوهُ وَفَصَلُوهُ، فَلَمَّا فَرَغَ عَادَ إِلَى تِبْرِيزَ. ذِكْرُ الصُّلْحِ بَيْنَ الْمُعَظَّمِ وَالْأَشْرَفِ. نَبْتَدِئُ بِذِكْرِ سَبَبِ الِاخْتِلَافِ، فَنَقُولُ: لَمَّا تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ

أَيُّوبَ، اتَّفَقَ أَوْلَادُهُ الْمُلُوكُ بَعْدَهُ اتِّفَاقًا حَسَنًا، وَهُمُ: الْمَلِكُ الْكَامِلُ مُحَمَّدٌ صَاحِبُ مِصْرَ، وَالْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ عِيسَى صَاحِبُ دِمَشْقَ، وَالْمَلِكُ الْأَشْرَفُ مُوسَى وَهُوَ صَاحِبُ دِيَارِ الْجَزِيرَةِ وَخِلَاطَ، وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى دَفْعِ الْفِرِنْجِ عَنِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ. وَلَمَّا رَحَلَ الْكَامِلُ عَنْ دِمْيَاطَ لَمَّا كَانَ الْفِرِنْجُ يَحْصُرُونَهَا، صَادَفَهُ أَخُوهُ الْمُعَظَّمُ مِنَ الْغَدِ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ، وَثَبَتَ قَدَمُهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْأَمْرُ عَظِيمًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُفَصَّلًا، ثُمَّ إِنَّهُ عَادَ مِنْ مِصْرَ وَسَارَ إِلَى أَخِيهِ الْأَشْرَفِ بِبِلَادِ الْجَزِيرَةِ مَرَّتَيْنِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى الْفِرِنْجِ، وَيَحُثُّهُ عَلَى مُسَاعَدَةِ أَخِيهِمَا الْكَامِلِ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَخَذَهُ وَسَارَ إِلَى مِصْرَ، وَأَزَالُوا الْفِرِنْجَ عَنِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، فَكَانَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْفِرِنْجِ سَبَبًا لِحِفْظِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَسُرَّ النَّاسُ أَجْمَعُونَ بِذَلِكَ. فَلَمَّا فَارَقَ الْفِرِنْجُ مِصْرَ وَعَادَ كُلٌّ مِنَ الْمُلُوكِ أَوْلَادُ الْعَادِلِ إِلَى بَلَدِهِ، بَقُوا كَذَلِكَ يَسِيرًا، ثُمَّ سَارَ الْأَشْرَفُ إِلَى أَخِيهِ الْكَامِلِ بِمِصْرَ، فَاجْتَازَ بِأَخِيهِ الْمُعَظَّمِ بِدِمَشْقَ، فَلَمْ يَسْتَصْحِبْهُ مَعَهُ، وَأَطَالَ الْمُقَامَ بِمِصْرَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُعَظَّمَ سَاءَهُ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ الْمُعَظَّمَ سَارَ إِلَى مَدِينَةِ حَمَاةَ وَحَصَرَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَخَوَاهُ مِنْ مِصْرَ وَرَحَّلَاهُ عَنْهَا كَارِهًا، فَازْدَادَ نُفُورًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ نُقِلَ إِلَيْهِ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ. ثُمَّ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ النَّاصِرَ لِدِينِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ قَدِ اسْتَوْحَشَ مِنَ الْكَامِلِ لِمَا فَعَلَهُ وَلَدُهُ صَاحِبُ الْيَمَنِ مِنَ الِاسْتِهَانَةِ بِأَمِيرِ الْحَاجِّ الْعِرَاقِيِّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَعَنْ أَخِيهِ الْأَشْرَفِ لِاتِّفَاقِهِمَا، وَقَاطَعَهُمَا وَرَاسَلَ مُظَفَّرُ الدِّينِ كُوكُبرِي بْنُ زَيْنِ الدِّينِ عَلَيٍّ صَاحِبَ إِرْبِلَ، يُعْلِمُهُ بِانْحِرَافِهِ عَنِ الْأَشْرَفِ، وَاسْتَمَالَهُ وَاتَّفَقَا عَلَى مُرَاسَلَةِ الْمُعَظَّمِ، وَتَعْظِيمِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، فَمَالَ إِلَيْهِمَا، وَانْحَرَفَ عَنْ إِخْوَتِهِ. ثُمَّ اتَّفَقَ ظُهُورُ جَلَالِ الدِّينِ وَكَثْرَةُ مُلْكِهِ، فَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى الْأَشْرَفِ بِمُجَاوَرَةِ جَلَالِ الدِّينِ خُوَارَزْمَ شَاهْ وِلَايَةَ خِلَاطَ، وَلِأَنَّ الْمُعَظَّمَ بِدِمَشْقَ يَمْنَعُ عَنْهُ عَسَاكِرَ مِصْرَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ عَسَاكِرُ حَلَبَ وَغَيْرُهَا مِنَ الشَّامِ، فَرَأَى الْأَشْرَفُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى أَخِيهِ الْمُعَظَّمِ بِدِمَشْقَ، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي شَوَّالٍ وَاسْتَمَالَهُ وَأَصْلَحَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ الْكَامِلُ بِذَلِكَ، عَظُمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُمَا رَاسَلَاهُ، وَأَعْلَمَاهُ بِنُزُولِ جَلَالِ الدِّينِ عَلَى خِلَاطَ، وَعَظَّمَا الْأَمْرَ عَلَيْهِ، وَأَعْلَمَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَ تَقْضِي الِاتِّفَاقَ لِعِمَارَةِ الْبَيْتِ الْعَادِلِيِّ، وَانْقَضَتِ السَّنَةُ وَالْأَشْرَفُ بِدِمَشْقَ، وَالنَّاسُ عَلَى مَوَاضِعِهِمْ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَ الشِّتَاءِ مَا يَكُونُ مِنَ الْخُوَارَزْمِيِّينَ

وَسَنَذْكُرُ مَا يَكُونُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْفِرِنْجِ وَالْأَرْمَنِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ الْبِرِنْسُ الْفِرِنْجِيُّ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَقَصَدَ الْأَرْمَنَ الَّذِينَ فِي الدُّرُوبِ بِلَادِ ابْنِ لِيُونَ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ لِيُونَ الْأَرْمَنِيَّ صَاحِبَ الدُّرُوبِ، تُوُفِّيَ قَبْلُ، وَلَمْ يُخَلِّفْ وَلَدًا ذَكَرًا، إِنَّمَا خَلَّفَ بِنْتًا، فَمَلَّكَهَا الْأَرْمَنُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ عَلِمُوا أَنَّ الْمُلْكَ لَا يَقُومُ بِامْرَأَةٍ، فَزَوَّجُوهَا مِنْ وَلَدِ الْبِرِنْسِ، فَتَزَوَّجَهَا وَانْتَقَلَ إِلَى بَلَدِهِمْ، وَاسْتَقَرَّ فِي الْمُلْكِ نَحْوَ سَنَةٍ، ثُمَّ نَدِمُوا عَلَى ذَلِكَ، وَخَافُوا أَنْ يَسْتَوْلِيَ الْفِرِنْجُ عَلَى بِلَادِهِمْ، فَثَارُوا بِابْنِ الْبِرِنْسِ، فَقَبَضُوا عَلَيْهِ وَسَجَنُوهُ، فَأَرْسَلَ أَبُوهُ يَطْلُبُ أَنْ يُطْلَقَ وَيُعَادَ فِي الْمُلْكِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَأَرْسَلَ إِلَى بَابَا مَلِكِ الْفِرِنْجِ بِرُومِيَّةَ الْكُبْرَى يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَصْدِ بِلَادِهِمْ، وَمَلِكُ رُومِيَّةَ هَذَا أَمْرُهُ عِنْدَ الْفِرِنْجِ لَا يُخَالَفُ، فَمَنَعَهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ: إِنَّهُمْ أَهْلُ مِلَّتِنَا، وَلَا يَجُوزُ قَصْدُ بِلَادِهِمْ، فَخَالَفَهُ وَأَرْسَلَ [إِلَى] عَلَاءِ الدِّينِ كَيْقُبَاذَ مَلِكِ قُونِيَّةَ وَمَلَطْيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَصَالَحَهُ، وَوَافَقَهُ عَلَى قَصْدِ بِلَادِ ابْنِ لِيُونَ، وَالِاتِّفَاقِ عَلَى قَصْدِهَا، فَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، وَجَمَعَ الْبِرْنِسُ عَسَاكِرَهُ لِيَسِيرَ إِلَى بِلَادِ الْأَرْمَنِ، فَخَالَفَ عَلَيْهِ الدَّاوِيَّةَ وَالِاسْبِتَارِيَّةَ، وَهُمَا جَمْرَةُ الْفِرِنْجِ، فَقَالُوا: إِنْ مَلَكَ رُومِيَّةَ نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ أَطَاعَهُ غَيْرُهُمْ، فَدَخَلَ أَطْرَافَ بِلَادِ الْأَرْمَنِ، وَهِيَ مَضَايِقُ وَجِبَالٌ وَعِرَةٌ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِ مَا يُرِيدُ. وَأَمَّا كِيكَاوُسُ، فَإِنَّهُ قَصَدَ بِلَادَ الْأَرْمَنِ مِنْ جِهَتِهِ، وَهِيَ أَسْهَلُ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ، فَدَخَلَهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَنَهَبَهَا وَأَحْرَقَهَا، وَحَصَرَ عِدَّةَ حُصُونٍ، فَفَتَحَ أَرْبَعَةَ حُصُونٍ، وَأَدْرَكَهُ الشِّتَاءُ فَعَادَ عَنْهَا. فَلَمَّا سَمِعَ بَابَا مَلِكُ الْفِرِنْجِ بِرُومِيَّةَ، أَرْسَلَ إِلَى الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ قَدْ حَرَمَ الْبِرْنِسَ، فَكَانَ الدَّاوِيَّةُ وَالِاسْبِتَارِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُرْسَانِ لَا يَحْضُرُونَ مَعَهُ، وَلَا يَسْمَعُونَ قَوْلَهُ، وَكَانَ أَهْلُ بِلَادِهِ وَهِيَ إِنْطَاكِيَةُ وَطَرَابُلُسُ، إِذَا جَاءَهُمْ عِيدٌ يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِمْ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ عِيدِهِمْ دَخَلَ الْبَلَدَ. ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى مِلْكِ رُومِيَّةَ يَشْكُو مِنَ الْأَرْمَنِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُطْلِقُوا وَلَدَهُ،

وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي أَنْ يَدْخُلَ بِلَادَهُمْ وَيُحَارِبَهُمْ إِنْ لَمْ يُطْلِقُوا ابْنَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَرْمَنِ يَأْمُرُهُمْ بِإِطْلَاقِ ابْنِهِ وَإِعَادَتِهِ إِلَى الْمُلْكِ، فَإِنْ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدَ أَذِنَ لَهُ فِي قَصْدِ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَتْهُمُ الرِّسَالَةُ لَمْ يُطْلِقُوا وَلَدَهُ، فَجَمَعَ الْبِرْنِسُ وَقَصَدَ بِلَادَ الْأَرْمَنِ، فَأَرْسَلَ الْأَرْمَنُ إِلَى الْأَتَابِكَ شِهَابِ الدِّينِ بِحَلَبَ يَسْتَنْجِدُونَهُ، وَيُخَوِّفُونَهُ مِنَ الْبِرْنِسِ إِنِ اسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِهِمْ ; لِأَنَّهَا تُجَاوِرُ أَعْمَالَ حَلَبَ، فَأَمَدَّهُمْ بِجُنْدٍ وَسِلَاحٍ. فَلَمَّا سَمِعَ الْبِرْنِسُ ذَلِكَ صَمَّمَ الْعَزْمَ عَلَى قَصْدِ بِلَادِهِمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَحَارَبَهُمْ، فَلَمْ يَحْصُلْ عَلَى غَرَضٍ، فَعَادَ عَنْهُمْ. حَدَّثَنِي بِهَذَا رَجُلٌ مِنْ عُقَلَاءِ النَّصَارَى مِمَّنْ دَخَلَ تِلْكَ الْبِلَادَ وَعَرَفَ حَالَهَا، وَسَأَلْتُ غَيْرَهُ، فَعَرَفَ الْبَعْضَ وَأَنْكَرَ الْبَعْضَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْخَسَفَ الْقَمَرُ مَرَّتَيْنِ: أُولَاهُمَا لَيْلَةَ رَابِعَ عَشْرَ صَفَرٍ، وَفِيهَا كَانَتْ أُعْجُوبَةٌ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَوْصِلِ حَامَّةٌ تُعْرَفُ بِعَيْنِ الْقَيَّارَةِ، شَدِيدَةِ الْحَرَارَةِ، تُسَمِّيهَا النَّاسُ عَيْنَ مَيْمُونٍ، وَيَخْرُجُ مَعَ الْمَاءِ قَلِيلٌ مِنَ الْقَارِ. فَكَانَ النَّاسُ يَسْبَحُونَ فِيهَا دَائِمًا فِي الرَّبِيعِ وَالْخَرِيفِ; لِأَنَّهَا تَنْفَعُ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْبَارِدَةِ كَالْفَالِجِ وَغَيْرِهِ نَفْعًا عَظِيمًا، فَكَانَ مَنْ يَسْبَحُ فِيهَا يَجِدُ الْكَرْبَ الشَّدِيدَ مِنْ حَرَارَةِ الْمَاءِ، فَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَرَدَ الْمَاءُ فِيهَا، حَتَّى كَانَ السَّابِحُ فِيهَا يَجِدُ الْبَرْدَ، فَتَرَكُوهَا وَانْتَقَلُوا إِلَى غَيْرِهَا. وَفِيهَا كَثُرَتِ الذِّئَابُ وَالْخَنَازِيرُ وَالْحَيَّاتُ، فَقُتِلَ كَثِيرٌ، فَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ ذِئْبًا دَخَلَ الْمَوْصِلَ فَقُتِلَ فِيهَا، وَحَدَّثَنِي صَدِيقٌ لَنَا، لَهُ بُسْتَانٌ بِظَاهِرِ الْمَوْصِلِ، أَنَّهُ قَتَلَ فِيهِ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، جَمِيعَ الصَّيْفِ حَيَّتَيْنِ، وَقَتَلَ هَذِهِ السَّنَةَ إِلَى أَوَّلِ حُزَيْرَانَ سَبْعَ حَيَّاتٍ لِكَثْرَتِهَا.

وَفِيهَا انْقَطَعَ الْمَطَرُ بِالْمَوْصِلِ وَأَكْثَرِ الْبِلَادِ الْجَزْرِيَّةِ مِنْ خَامِسِ شُبَاطَ إِلَى ثَانِيَ عَشَرَ نِيسَانَ، وَلَمْ يَجْرِ شَيْءٌ يُعْتَدُّ بِهِ، لَكِنَّهُ سَقَطَ الْيَسِيرُ مِنْهُ فِي بَعْضِ الْقُرَى، فَجَاءَتِ الْغَلَّاتُ قَلِيلَةً، ثُمَّ خَرَجَ الْجَرَادُ الْكَثِيرُ، فَازْدَادَ النَّاسُ أَذًى، وَكَانَتِ الْأَسْعَارُ قَدْ صَلَحُتْ شَيْئًا، فَعَادَتْ لِكَثْرَةِ الْجَرَادِ فَغَلَتْ، وَنَزَلَ أَيْضًا فِي أَكْثَرِ الْقُرَى بَرْدٌ كَبِيرٌ، أَهْلَكَ زُرُوعَ أَهْلِهَا وَأَفْسَدَهَا، وَاخْتَلَفَتْ أَقَاوِيلُ النَّاسِ فِي أَكْبَرِهِ، كَانَ وَزْنُ بَرَدَةٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ رِطْلٌ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ أَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَانْقَضَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْغَلَاءُ بَاقٍ وَأَشَدُّهُ بِالْمَوْصِلِ. وَفِيهَا اصْطَادَ صَدِيقٌ لَنَا أَرْنَبًا، فَرَآهُ وَلَهُ أُنْثَيَانِ وَذَكَرٌ وَفَرْجُ أُنْثَى، فَلَمَّا شَقُّوا بَطْنَهَا رَأَوْا فِيهَا حَرِيفَيْنِ، سَمِعْتُ هَذَا مِنْهُ وَمِنْ جَمَاعَةٍ كَانُوا مَعَهُ، وَقَالُوا: مَا زِلْنَا نَسْمَعُ أَنَّ الْأَرْنَبَ يَكُونُ سَنَةً ذَكَرًا وَسَنَةً أُنْثَى، وَلَا نُصَدِّقُ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَيْنَا هَذَا، عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ حَمَلَ وَهُوَ أُنْثَى، وَانْقَضَتِ السَّنَةُ فَصَارَ ذَكَرًا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَإِلَّا فَيَكُونُ فِي الْأَرَانِبِ كَالْخُنْثَى فِي بَنِي آدَمَ، يَكُونُ لِأَحَدِهِمْ فَرْجُ الرَّجُلِ وَفَرْجُ الْأُنْثَى، كَمَا أَنَّ الْأَرْنَبَ تَحِيضُ كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ، فَإِنِّي كُنْتُ بِالْجَزِيرَةِ، وَلَنَا جَارٌ لَهُ بِنْتٌ اسْمُهَا صَفِيَّةُ، فَبَقِيَتْ كَذَلِكَ نَحْوَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَإِذَا قَدْ طَلَعَ لَهَا ذَكَرُ رَجُلٍ، وَنَبَتَتْ لِحْيَتُهُ، فَكَانَ لَهُ فَرْجُ امْرَأَةٍ وَذَكَرُ رَجُلٍ. وَفِيهَا ذَبَحَ إِنْسَانٌ عِنْدَنَا رَأْسَ غَنَمٍ، فَوَجَدَ لَحْمَهُ مُرًّا شَدِيدَ الْمَرَارَةِ، حَتَّى رَأْسَهُ وَأَكَارِعَهُ وَمِعْلَاقَهُ وَجَمِيعَ أَجْزَائِهِ، وَهَذَا مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ.

وَفِيهَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الْخَامِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ ضَحْوَةَ النَّهَارِ، زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ بِالْمَوْصِلِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْعَجَمِيَّةِ، وَكَانَ أَكْثَرُهَا بِشَهْرَزُورَ، فَإِنَّهَا خُرِّبَ أَكْثَرُهَا، وَلَا سِيَّمَا الْقَلْعَةُ، فَإِنَّهَا أَجْحَفَتْ بِهَا، وَخُرِّبَ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ سِتُّ قِلَاعٍ، وَبَقِيَتِ الزَّلْزَلَةُ تَتَرَدَّدُ فِيهَا نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ كَشَفَهَا اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَمَّا الْقُرَى بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ فَخُرِّبَ أَكْثَرَهَا. [الْوَفَيَاتُ] . وَفِيهَا فِي رَجَبٍ، تُوُفِّيَ الْقَاضِي حُجَّةُ الدِّينِ أَبُو مَنْصُورٍ الْمُظَفَّرُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْقَاسِمِ الشَّهْرُزُورِيُّ، قَاضي الْمَوْصِلِ بِهَا، وَكَانَ قَدْ أَضَرَّ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِنَحْوِ سَنَتَيْنِ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْقَضَاءِ، عَفِيفًا، نَزِهًا، ذَا رِئَاسَةٍ كَبِيرَةٍ، وَلَهُ صِلَاتٌ دَارَّةٌ لِلْمُقِيمِ وَالْوَارِدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ، فَلَقَدْ كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يُخَلِّفْ غَيْرَ بِنْتٍ تُوُفِّيَتْ بَعْدَهُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.

ثم دخلت سنة أربع وعشرين وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ] 624 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ دُخُولِ الْكُرْجِ مَدِينَةَ تِفْلِيسَ وَإِحْرَاقِهَا. فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَصَلَ الْكُرْجُ مَدِينَةَ تِفْلِيسَ، وَلَمْ يَكُنْ بِهَا مِنَ الْعَسْكَرِ الْإِسْلَامِيِّ مَنْ يَقُومُ بِحِمَايَتِهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ جَلَالَ الدِّينِ لَمَّا عَادَ مِنْ خِلَاطَ، كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ، وَأَوْقَعَ بِالْإِيوَانِيَّةِ، فَرَّقَ عَسَاكِرَهُ إِلَى الْمَوَاضِعِ الْحَارَّةِ الْكَثِيرَةِ الْمَرْعَى، لِيُشَتُّوا بِهَا، وَكَانَ عَسْكَرُهُ قَدْ أَسَاءُوا السِّيرَةَ فِي رَعِيَّةِ تِفْلِيسَ، وَهُمْ مُسْلِمُونَ، وَعَسَفُوهُمْ، فَكَاتَبُوا الْكُرْجَ يَسْتَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِمْ لِيُمَلِّكُوهُمُ الْبَلَدَ، فَاغْتَنَمَ الْكُرْجُ ذَلِكَ لِمَيْلِ أَهْلِ الْبَلَدِ إِلَيْهِمْ، وَخُلُوِّهِ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَاجْتَمَعُوا، وَكَانُوا بِمَدِينَتَيْ قرسَ وَآنِي وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْحُصُونِ، وَسَارُوا إِلَى تِفْلِيسَ، وَكَانَتْ خَالِيَةً كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ جَلَالَ الدِّينِ اسْتَضْعَفَ الْكُرْجَ لِكَثْرَةِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَظُنَّ فِيهِمْ حَرَكَةً، فَمَلَكُوا الْبَلَدَ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيمَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِهِ، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حِفْظِ الْبَلَدِ مِنْ جَلَالِ الدِّينِ، فَأَحْرَقُوهُ جَمِيعَهُ. وَأَمَّا جَلَالُ الدِّينِ فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ، سَارَ فِيمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ لِيُدْرِكَهُمْ، فَلَمْ يَرَ مِنْهُمْ أَحَدًا، كَانُوا قَدْ فَارَقُوا تِفْلِيسَ لَمَّا أَحْرَقُوهَا. ذِكْرُ نَهْبِ جَلَالِ الدِّينِ بَلَدَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ أَمِيرًا كَبِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ جَلَالِ الدِّينِ، وَكَانَ قَدْ أَقْطَعَهُ جَلَالُ الدِّينِ مَدِينَةَ كَنْجَةَ وَأَعْمَالَهَا، وَكَانَ نِعْمَ الْأَمِيرُ، كَثِيرَ الْخَيْرِ، حَسَنَ السِّيرَةِ،

يُنْكِرُ عَلَى جَلَالِ الدِّينِ مَا يَفْعَلُهُ عَسْكَرُهُ مِنَ النَّهْبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّرِّ. فَلَمَّا قُتِلَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ، عَظُمَ قَتْلُهُ عَلَى جَلَالِ الدِّينِ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَسَارَ فِي عَسَاكِرِهِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، مِنْ حُدُودِ أَلَمُوتَ إِلَى كَرْدَكُوهْ بِخُرَاسَانَ، فَخَرَّبَ الْجَمِيعَ، وَقَتَلَ أَهْلَهَا، وَنَهَبَ الْأَمْوَالَ، وَسَبَى الْحَرِيمَ، وَاسْتَرَقَّ الْأَوْلَادَ، وَقَتَلَ الرِّجَالَ، وَعَمِلَ بِهِمُ الْأَعْمَالَ الْعَظِيمَةَ، وَانْتَقَمَ مِنْهُمْ، وَكَانُوا قَدْ عَظُمَ شَرُّهُمْ وَازْدَادَ ضُرُّهُمْ، وَطَمِعُوا مُذْ خَرَجَ التَّتَرُ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْآنِ، فَكَفَّ عَادِيَّتَهُمْ وَقَمَعَهُمْ، وَلَقَّاهُمُ اللَّهُ مَا عَمِلُوا بِالْمُسْلِمِينَ. ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ جَلَالِ الدِّينِ والتَّتَرِ. لَمَّا فَرَغَ جَلَالُ الدِّينِ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ التَّتَرِ عَظِيمَةً قَدْ بَلَغُوا إِلَى دَامِغَانَ بِالْقُرْبِ مِنَ الرَّيِّ، عَازِمِينَ عَلَى قَصْدِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَحَارَبَهُمْ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَانْهَزَمُوا مِنْهُ، فَأَوْسَعَهُمْ قَتْلًا، وَتَبِعَ الْمُنْهَزِمِينَ عِدَّةَ أَيَّامٍ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ قَدْ أَقَامَ بِنَوَاحِي الرَّيِّ خَوْفًا مِنْ جَمْعٍ آخَرَ لِلتَّتَرِ، إِذْ أَتَاهُ الْخَبَرُ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ وَاصِلُونَ إِلَيْهِ، فَأَقَامَ يَنْتَظِرُهُمْ، وَسَنَذْكُرُ خَبَرَهُمْ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ. ذِكْرُ دُخُولِ الْعَسَاكِرِ الْأَشْرَفِيَّةِ إِلَى أَذْرَيِيجَانَ وَمُلْكِ بَعْضِهَا. فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ، سَارَ الْحَاجِبُ عَلِيٌّ حُسَامُ الدِّينِ، وَهُوَ النَّائِبُ عَنِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ بِخِلَاطَ، وَالْمُقَدَّمِ عَلَى عَسَاكِرِهَا، إِلَى بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ فَيمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سِيرَةَ جَلَالِ الدِّينِ كَانَتْ جَائِرَةً، وَعَسَاكِرُهُ طَامِعَةٌ فِي الرَّعَايَا، وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ ابْنَةُ السُّلْطَانِ طُغْرُلَ السَّلْجُوقِيِّ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ زَوْجَةَ أُوزْبَكَ بْنِ الْبَهْلَوَانِ صَاحِبِ أَذْرَبِيجَانَ، فَتَزَوَّجَهَا جَلَالُ الدِّينِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، وَكَانَتْ مَعَ أُوزْبَكَ تَحْكُمُ فِي الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، لَيْسَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ مَعَهَا حُكْمٌ. فَلَمَّا تَزَوَّجَهَا جَلَالُ الدِّينِ، أَهْمَلَهَا وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَخَافَتْهُ مَعَ مَا حُرِمَتْهُ مِنَ الْحُكْمِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَأَرْسَلَتْ هِيَ وَأَهْلُ خُوَيٍّ إِلَى حُسَامِ الدِّينِ الْحَاجِبِ يَسْتَدْعُونَهُ

لِيُسَلِّمُوا الْبِلَادَ، فَسَارَ وَدَخَلَ الْبِلَادَ بِلَادَ أَذْرَبِيجَانَ، فَمَلَكَ مَدِينَةَ خُوَيٍّ وَمَا يُجَاوِرُهَا مِنَ الْحُصُونِ الَّتِي بِيَدِ امْرَأَةِ جَلَالِ الدِّينِ، وَمَلِكِ مَرَنْدَ، وَكَاتَبَهُ أَهْلُ مَدِينَةِ نقجوَانَ، فَمَضَى إِلَيْهِمْ، فَسَلَّمُوهَا إِلَيْهِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَلَوْ دَامُوا لَمَلَكُوهَا جَمِيعَهَا، وَإِنَّمَا عَادُوا إِلَى خِلَاطَ، وَاسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ زَوْجَةَ جَلَالِ الدِّينِ ابْنَةَ السُّلْطَانِ طُغْرُلَ إِلَى خِلَاطَ، وَسَنَذْكُرُ بَاقِي خَبَرِهِمْ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ [وَسِتِّمِائَةٍ] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُعَظَّمِ صَاحِبِ دِمَشْقَ وَمُلْكِ وَلَدِهِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ عِيسَى ابْنُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَلْخَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانَ مَرَضُهُ دُوسِنْطَارْيَا، وَكَانَ مُلْكُهُ لِمَدِينَةِ دِمَشْقَ، مِنْ حِينِ وَفَاةِ وَالِدِهِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، عَشْرَ سِنِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَكَانَ عَالِمًا بِعِدَّةِ عُلُومٍ، فَاضِلًا فِيهَا، مِنْهَا الْفِقْهُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدِ اشْتَغَلَ بِهِ كَثِيرًا، وَصَارَ مِنَ الْمُتَمَيِّزِينَ فِيهِ، وَمِنْهَا عِلْمُ النَّحْوِ، فَإِنَّهُ اشْتَغَلَ بِهِ أَيْضًا اشْتِغَالًا زَائِدًا، وَصَارَ فِيهِ فَاضِلًا، وَكَذَلِكَ اللُّغَةُ وَغَيْرُهَا، وَكَانَ قَدْ أَمَرَ أَنْ يُجْمَعَ لَهُ كِتَابٌ فِي اللُّغَةِ جَامِعٌ كَبِيرٌ، فِيهِ كِتَابُ " الصِّحَاحِ " لِلْجَوْهَرِيِّ، وَيُضَافُ إِلَيْهِ مَا فَاتَ " الصِّحَاحَ " مِنَ " التَّهْذِيبِ " لِلْأُرْمَوِيِّ، وَ " الْجَمْهَرَةِ " لِابْنِ دُرَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَلِكَ أَيْضًا أَمَرَ بِأَنْ يُرَتَّبَ " مُسْنَدَ " أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَلَى الْأَبْوَابِ، وَيُرَدَّ كُلُّ حَدِيثٍ إِلَى الْبَابِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَعْنَاهُ، مِثَالُهُ: أَنْ يَجْمَعَ أَحَادِيثَ الطَّهَارَةِ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الرَّقَائِقِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْغَزَوَاتِ، فَيَكُونُ كِتَابًا جَامِعًا. وَكَانَ قَدْ سَمِعَ " الْمُسْنَدَ " مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِ ابْنِ الْحُصَيْنِ، وَنَفَقَ الْعِلْمُ فِي سُوقِهِ، وَقَصَدَهُ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْآفَاقِ، فَأَكْرَمَهُمْ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ الْجِرَايَاتِ الْوَافِرَةَ، وَقَرَّبَهُمْ، [وَكَانَ] يُجَالِسُهُمْ، وَيَسْتَفِيدُ مِنْهُمْ وَيُفِيدُهُمْ، وَكَانَ يَرْجِعُ إِلَى عِلْمٍ وَصَبْرٍ عَلَى سَمَاعِ مَا يَكْرَهُ، لَمْ يَسْمَعْ أَحَدٌ مِمَّنْ يَصْحَبُهُ مِنْهُ كَلِمَةً تَسُوءُهُ. وَكَانَ حَسَنَ الِاعْتِقَادِ يَقُولُ كَثِيرًا: إِنَّ اعْتِقَادِي فِي الْأُصُولِ مَا سَطَّرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ

الطَّحَاوِيُّ، وَوَصَّى عِنْدَ مَوْتِهِ بِأَنْ يُكَفَّنَ فِي الْبَيَاضِ، وَلَا يُجْعَلَ فِي أَكْفَانِهِ ثَوْبٌ فِيهِ ذَهَبٌ، وَأَنْ يُدْفَنَ فِي لَحْدٍ، وَلَا يُبْنَى عَلَيْهِ بِنَاءً بَلْ يَكُونُ قَبْرُهُ فِي الصَّحْرَاءِ تَحْتَ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ فِي مَرَضِهِ: لِي عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي أَمْرِ دِمْيَاطَ مَا أَرْجُو أَنْ يَرْحَمَنِي بِهِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ، وَلِي بَعْدَهُ ابْنُهُ دَاوُدُ وَيُلَقَّبُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ، وَكَانَ عُمْرُهُ قَدْ قَارَبَ عِشْرِينَ سَنَةً. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَامَ الْغَلَاءُ فِي دِيَارِ الْجَزِيرَةِ، وَدَامَتِ الْأَسْعَارُ تَزِيدُ قَلِيلًا وَتَنْقُصُ قَلِيلًا، وَانْقَطَعَ الْمَطَرُ جَمِيعَ شُبَاطَ وَعَشْرَةَ أَيَّامٍ مِنْ آذَارَ، فَازْدَادَ الْغَلَاءُ، فَبَلَغَتِ الْحِنْطَةُ كُلَّ مَكُّوكَيْنِ بِدِينَارٍ وَقِيرَاطَيْنِ بِالْمَوْصِلِ، وَالشَّعِيرُ كُلَّ ثَلَاثَةِ مَكَاكِيكَ بِالْمَوْصِلِيِّ بِدِينَارٍ وَقِرَاطَيْنِ أَيْضًا، وَكُلَّ شَيْءٍ بِهَذِهِ السَّنَةِ فِي الْغَلَاءِ. وَفِيهَا فِي الرَّبِيعِ، قَلَّ لَحْمُ الْغَنَمِ بِالْمَوْصِلِ، وَغَلَا سِعْرُهُ، حَتَّى بِيعَ كُلُّ رِطْلِ لَحْمٍ بِالْبَغْدَادِيِّ بِحَبَّتَيْنِ بِالصَّنْجَةِ، وَرُبَّمَا زَادَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ عَلَى هَذَا الثَّمَنِ. وَحَكَى لِي مَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَ الْغَنَمِ بِالْمَوْصِلِ أَنَّهُمْ بَاعُوا يَوْمًا خَرُوفًا وَاحِدًا لَا غَيْرَ، وَفِي بَعْضِهَا خَمْسَةَ أَرْؤُسٍ، وَفِي بَعْضِهَا سِتَّةً، وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ، وَهَذَا مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَلَا رَأَيْنَاهُ فِي جَمِيعِ أَعْمَارِنَا، وَلَا حُكِيَ لَنَا مِثْلُهُ ; لِأَنَّ الرَّبِيعَ مَظِنَّةُ رُخْصِ اللَّحْمِ بِهَا ; لِأَنَّ التُّرْكُمَانَ وَالْأَكْرَادَ وَالْكيلكَانَ يَنْتَقِلُونَ مِنَ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي شَتُوا بِهَا إِلَى الزَّوْزَانِ فَيَبِيعُونَ الْغَنَمَ رَخِيصًا. وَكَانَ اللَّحْمُ كُلَّ سَنَةٍ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلُّ سِتَّةِ أَرْطَالٍ وَسَبْعَةٍ بِقِيرَاطٍ، صَارَ هَذِهِ السَّنَةَ الرِّطْلُ بِحَبَّتَيْنِ. وَفِيهَا عَاشِرَ آذَارَ، وَهُوَ الْعِشْرُونَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَقَطَ الثَّلْجُ بِالْمَوْصِلِ مَرَّتَيْنِ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، فَأَهْلَكَ الْأَزْهَارَ الَّتِي خَرَجَتْ كَزَهْرِ اللَّوْزِ، وَالْمِشْمِشِ، وَالْإِجَّاصِ، وَالسَّفَرْجَلِ وَغَيْرِهَا، وَوَصَلَتِ الْأَخْبَارُ مِنَ الْعِرَاقِ جَمِيعِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، فَهَلَكَتْ بِهِ أَزْهَارُهَا وَالثِّمَارُ، وَهَذَا أَعْجَبُ مِنْ حَالِ دِيَارِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ، فَإِنَّهُ أَشَدُّ حَرًّا مِنْ جَمِيعِهَا.

وَفِيهَا ظَفَرَ جَمْعٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ، كَانُوا بِأَطْرَافِ أَعْمَالِ حَلَبَ، بِفَارِسٍ مَشْهُورٍ مِنَ الْفِرِنْجِ الدَّاوِيَّةِ بِأَنْطَاكِيَةَ فَقَتَلُوهُ، فَعَلِمَ الدَّاوِيَّةُ بِذَلِكَ فَسَارُوا وَكَبَسُوا التُّرْكُمَانَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَأَسَرُوا، وَغَنِمُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَبَلَغَ إِلَى أَتَابِكَ شِهَابِ الدِّينِ الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِ حَلَبَ، فَرَاسَلَ الْفِرِنْجَ، وَتَهَدَّدَهُمْ بِقَصْدِ بِلَادِهِمْ، وَاتَّفَقَ أَنَّ عَسْكَرَ حَلَبَ قَتَلُوا فَارِسَيْنِ كَبِيرَيْنِ مِنَ الدَّاوِيَّةِ أَيْضًا، فَأَذْعَنُوا بِالصُّلْحِ، وَرَدُّوا إِلَى التُّرْكُمَانِ كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ وَأَسْرَاهُمْ. وَفِيهَا فِي رَجَبٍ، اجْتَمَعَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ، وَأَرَادُوا الْإِغَارَةَ عَلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَانَ صَاحِبُ الْجَزِيرَةِ قَدْ قُتِلَ، فَلَمَّا قَصَدُوا بَلَدَ الْجَزِيرَةِ، اجْتَمَعَ أَهْلُ قَرْيَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ بَلَدِ الْجَزِيرَةِ اسْمُهَا سلكونُ، وَلَقُوهُمْ مِنْ ضَحْوَةِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ، وَطَالَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ حَمَلَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ عَلَى الْأَكْرَادِ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا فِيهمْ، وَخَرَجُوا وَنَهَبُوا مَا مَعَهُمْ وَعَادُوا سَالِمِينَ.

ثم دخلت سنة خمس وعشرين وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ] ذِكْرُ الْخُلْفِ بَيْنَ جَلَالِ الدِّينِ وَأَخِيهِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَافَ غِيَاثُ الدِّينِ بْنُ خُوَارَزْمَ شَاهْ، وَهُوَ أَخُو جَلَالِ الدِّينِ (مِنْ أَبِيهِ) [أَخَاهُ] ، وَخَافَهُ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَاسْتَشْعَرُوا مِنْهُ، وَأَرَادُوا الْخَلَاصَ مِنْهُ، فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ خَرَجَتِ التَّتَرُ، وَاشْتَغَلَ بِهِمْ جَلَالُ الدِّينِ، فَهَرَبَ غِيَاثُ الدِّينِ وَمَنْ مَعَهُ، وَقَصَدُوا خُوزِسْتَانَ، وَهِيَ مِنْ بِلَادِ الْخَلِيفَةِ، وَأَرَادُوا الدُّخُولَ فِي طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُمُ النَّائِبُ بِهَا مِنَ الدُّخُولِ إِلَى الْبَلَدِ، مَخَافَةَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ مَكِيدَةً، فَبَقِيَ هُنَاكَ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، فَارَقَ خُوزِسْتَانَ وَقَصَدَ بِلَادَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِمْ، وَاحْتَمَى بِهِمْ وَاسْتَجَارَ بِهِمْ. وَكَانَ جَلَالُ الدِّينِ قَدْ فَرَغَ مِنْ أَمْرِ التَّتَرِ وَعَادَ إِلَى تِبْرِيزَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ وَهُوَ بِالْمَيْدَانِ يَلْعَبُ بِالْكُرَةِ أَنَّ أَخَاهُ قَدْ قَصَدَ أَصْفَهَانَ، فَأَلْقَى الْجُوكَانَ مِنْ يَدِهِ، وَسَارَ مُجِدًّا، فَسَمِعَ أَنَّ أَخَاهُ قَدْ قَصَدَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةَ مُلْتَجِئًا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَقْصِدْ أَصْفَهَانَ، فَعَادَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ لِيَنْهَبَ بِلَادَهُمْ إِنْ لَمْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِ أَخَاهُ، وَأَرْسَلَ يَطْلُبُهُ مِنْ مُقَدَّمِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ يَقُولُ: إِنَّ أَخَاكَ قَدْ قَصَدَنَا، وَهُوَ سُلْطَانٌ ابْنُ سُلْطَانٍ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُسَلِّمَهُ، لَكِنْ نَحْنُ نَتْرُكُهُ عِنْدَنَا، وَلَا نُمَكِّنُهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ بِلَادِكَ، وَنَسْأَلُكَ أَنْ تُشَفِّعَنِي فِيهِ، وَالضَّمَانُ عَلَيْنَا بِمَا قُلْنَا، وَمَتَى كَانَ مِنْهُ مَا تَكْرَهُ فِي بِلَادِكَ، فَبِلَادُنَا حِينَئِذٍ بَيْنَ يَدَيْكَ تَفْعَلُ فِيهَا مَا تَخْتَارُ. فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَحْلَفَهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِذَلِكَ، وَعَادَ عَنْهُمْ وَقَصَدَ خِلَاطَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ جَلَالِ الدِّينِ والتَّتَرِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَاوَدَ التَّتَرُ الْخُرُوجَ إِلَى الرَّيِّ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ جَلَالِ الدِّينِ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، اخْتَلَفَ النَّاسُ عَلَيْنَا فِي عَدَدِهَا، كَانَ أَكْثَرُهَا عَلَيْهِ، وَفِي الْأَخِيرِ كَانَ الظَّفَرُ لَهُ. وَكَانَتْ أَوَّلُ حَرْبٍ بَيْنِهِمْ عَجَائِبَ غَرِيبَةً، وَكَانَ هَؤُلَاءِ التَّتَرُ قَدْ سَخِطَ مَلِكُهُمْ جَنْكِزْخَانُ عَلَى مُقَدَّمِهِمْ، وَأَبْعَدَهُ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ بِلَادِهِ، فَقَصَدَ خُرَاسَانَ، فَرَآهَا خَرَابًا، فَقَصَدَ الرَّيَّ لِيَتَغَلَّبَ عَلَى تِلْكَ النَّوَاحِي وَالْبِلَادِ، فَلَقِيَهُ بِهَا جَلَالُ الدِّينِ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، ثُمَّ انْهَزَمَ جَلَالُ الدِّينِ وَعَادَ ثُمَّ انْهَزَمَ، وَقَصَدَ أَصْفَهَانَ، وَأَقَامَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّيِّ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَمَنْ فِي طَاعَتِهِ، فَكَانَ فِيمَنْ أَتَاهُ صَاحِبُ بِلَادِ فَارِسَ، وَهُوَ ابْنُ أَتَابِكَ سَعْدٍ مَلَكَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَادَ جَلَالُ الدِّينِ إِلَى التَّتَرِ فَلَقِيَهُمْ. فَبَيْنَمَا هُمْ مُصْطَفُّونَ كُلُّ طَائِفَةٍ مُقَابِلُ الْأُخْرَى، انْعَزَلَ غِيَاثُ الدِّينِ أَخُو جَلَالِ الدِّينِ فِيمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى مُفَارَقَةِ جَلَالِ الدِّينِ، وَاعْتَزَلُوا وَقَصَدُوا جِهَةً سَارُوا إِلَيْهَا، فَلَمَّا رَآهُمُ التَّتَرُ قَدْ فَارَقُوا الْعَسْكَرَ، ظَنُّوهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْتُوهُمْ مِنْ وَرَاءِ ظُهُورِهِمْ وَيُقَاتِلُوهُمْ مِنْ جِهَتَيْنِ، فَانْهَزَمَ التَّتَرُ لِهَذَا الظَّنِّ، وَتَبِعَهُمْ صَاحِبُ بِلَادِ فَارِسَ. وَأَمَّا جَلَالُ الدِّينِ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى مُفَارَقَةَ أَخِيهِ إِيَّاهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ، ظَنَّ أَنَّ التَّتَرَ قَدْ رَجَعُوا خَدِيعَةً لِيَسْتَدْرِجُوهُ، فَعَادَ مُنْهَزِمًا، وَلَمْ يَجْسُرْ [أَنْ] يَدْخُلَ أَصْفَهَانَ لِئَلَّا يَحْصُرَهُ التَّتَرُ، فَمَضَى إِلَى سُمَيْرَمَ. وَأَمَّا صَاحِبُ فَارِسَ فَلَمَّا أَبْعَدَ فِي أَثَرِ التَّتَرِ، وَلَمْ يَرَ جَلَالَ الدِّينِ وَلَا عَسْكَرَهُ مَعَهُ، خَافَ التَّتَرَ فَعَادَ عَنْهُمْ. وَأَمَّا التَّتَرُ فَلَمَّا لَمْ يَرَوْا فِي آثَارِهِمْ أَحَدًا يَطْلُبُهُمْ، وَقَفُوا، ثُمَّ عَادُوا إِلَى أَصْفَهَانَ، فَلَمْ يَجِدُوا فِي طَرِيقِهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ، فَوَصَلُوا إِلَى أَصْفَهَانَ فَحَصَرُوهَا، وَأَهْلُهَا يَظُنُّونَ أَنَّ جَلَالَ الدِّينِ قَدْ عُدِمَ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ والتَّتَرُ يَحْصُرُونَهُمْ إِذْ وَصَلَ قَاصِدٌ مِنْ جَلَالِ الدِّينِ إِلَيْهِمْ يُعَرِّفُهُمْ سَلَامَتَهُ، وَيَقُولُ: إِنِّي أَدُورُ حَتَّى يَجْتَمِعَ إِلَيَّ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْعَسْكَرِ وَأَقْصِدُكُمْ، وَنَتَّفِقُ أَنَا وَأَنْتُمْ عَلَى إِزْعَاجِ التَّتَرِ وَتَرْحِيلِهِمْ عَنْكُمْ. فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَسْتَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ، وَيَعِدُونَهُ النُّصْرَةَ وَالْخُرُوجَ مَعَهُ إِلَى عَدُوِّهِ، وَفِيهِمْ شَجَاعَةٌ عَظِيمَةٌ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَاجْتَمَعَ بِهِمْ، وَخَرَجَ أَهْلُ أَصْفَهَانَ مَعَهُ، فَقَاتَلُوا التَّتَرَ، فَانْهَزَمَ التَّتَرُ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَتَبِعَهُمْ جَلَالُ الدِّينِ إِلَى الرَّيِّ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ، فَلَمَّا أُبْعِدُوا عَنِ

الرَّيِّ أَقَامَ بِهَا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ جَنْكِزْخَانَ يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَصْحَابِنَا، إِنَّمَا نَحْنُ أَبْعَدْنَاهُمْ عَنَّا، فَلَمَّا أَمِنَ جَانِبَ جَنْكِزْخَانَ، أَمِنَ وَعَادَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ. ذِكْرُ خُرُوجِ الْفِرِنْجِ إِلَى الشَّامِ وَعِمَارَةِ صَيْدَا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ كَثِيرٌ مِنَ الْفِرِنْجِ مِنْ بِلَادِهِمْ، الَّتِي هِيَ فِي الْغَرْبِ مِنْ صِقَلِّيَةَ وَمَا وَرَاءَهَا مِنَ الْبِلَادِ، إِلَى بِلَادِهِمُ الَّتِي بِالشَّامِ: عَكَّا، وَصُورَ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ سَاحِلِ الشَّامِ، فَكَثُرَ جَمْعُهُمْ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ قَبْلَ هَؤُلَاءِ جَمْعٌ آخَرُ أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ تُمْكِنْهُمُ الْحَرَكَةُ وَالشُّرُوعُ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ لِأَجْلِ أَنَّ مَلِكَهُمُ الَّذِي هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ هُوَ مِلْكُ الْأَلْمَانِ، وَلَقَبُهُ أَنْبرورُ، قِيلَ: مَعْنَاهُ مَلِكُ الْأُمَرَاءِ، وَلِأَنَّ الْمُعَظَّمَ كَانَ حَيًّا، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا مِقْدَامًا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمُعَظَّمُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ وَمَلَكَ دِمَشْقَ، طَمِعَ الْفِرِنْجُ، وَظَهَرُوا مِنْ عَكَّا وَصُورَ وَبَيْرُوتَ إِلَى مَدِينَةِ صَيْدَا، وَكَانَتْ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَسُورُهَا خَرَابٌ، فَعَمَرُوهَا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا. وَإِنَّمَا تَمَّ لَهُمْ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَخْرِيبِ الْحُصُونِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا، تِبْنِينَ، وَهُونِينَ، وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ قَبْلُ مُسْتَقْصًى، فَعَظُمَتْ شَوْكَةُ الْفِرِنْجِ، وَقَوِيَ طَمَعُهُمْ، وَاسْتَوْلَى فِي طَرِيقِهِ عَلَى جَزِيرَةِ قُبْرُسَ، وَمَلَكَهَا، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى عَكَّا، فَارْتَاعَ الْمُسْلِمُونَ لِذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَخْذُلُهُ وَيَنْصُرُ الْمُسْلِمِينَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ، ثُمَّ إِنَّ مَلِكَهُمْ أَنْبرورُ وَصَلَ إِلَى الشَّامِ. ذِكْرُ مُلْكِ كَيْقُبَاذَ أَرْزَنْكَانَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ عَلَاءُ الدِّينِ كَيْقُبَاذُ بْنُ كَيْخَسْرُو بْنِ قَلِجْ أَرْسِلَانَ، وَهُوَ صَاحِبُ قُونِيَّةَ، وَأَقْصَرَا، وَمَلَطْيَةَ، وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، أَرْزَنْكَانَ. وَسَبَبُ مُلْكِهِ إِيَّاهَا أَنَّ صَاحِبَهَا بَهْرَامَ شَاهْ كَانَ قَدْ طَالَ مُلْكُهُ لَهَا، وَجَاوَزَ سِتِّينَ سَنَةً، تُوُفِّيَ وَلَمْ يَزَلْ فِي طَاعَةِ قَلِجْ أَرْسِلَانَ وَأَوْلَادِهِ بَعْدَهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ

عَلَاءُ الدِّينِ دَاوُدُ شَاهْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ كَيْقُبَاذُ يَطْلُبُ مِنْهُ عَسْكَرًا لِيَسِيرَ مَعَهُ إِلَى مَدِينَةِ أَرْزَنَ الرُّومِ لِيَحْصُرَهَا، وَيَكُونَ هُوَ مَعَ الْعَسْكَرِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَارَ فِي عَسْكَرِهِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَصَلَ قَبَضَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ مَدِينَةَ أَرْزَنْكَانَ مِنْهُ، وَلَهُ حِصْنٌ مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ اسْمُهُ كماخُ، وَفِيهِ مُسْتَحْفَظٌ لِدَاوُدَ شَاهْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَلِكُ الرُّومِ يَحْصُرُهُ، فَلَمْ يَقْدِرِ الْعَسْكَرُ عَلَى الْقُرْبِ مِنْهُ لِعُلُوِّهِ وَارْتِفَاعِهِ وَامْتِنَاعِهِ، فَتَهَدَّدَ دَاوُدَ شَاهْ إِنْ لَمْ يُسَلِّمْ كَمَاخَ، فَأَرْسَلَ إِلَى نَائِبِهِ فِي التَّسْلِيمِ، فَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ إِلَى كَيْقُبَاذَ. وَأَرَادَ كَيْقُبَاذُ الْمَسِيرَ إِلَى أَرْزَنَ الرُّومِ لِيَأْخُذَهَا وَبِهَا صَاحِبُهَا ابْنُ عَمِّهِ طُغْرُلَ شَاهْ بْنُ قَلِجْ أَرْسِلَانَ، فَلَمَّا سَمِعَ صَاحِبُهَا بِذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَى الْأَمِيرِ حُسَامِ الدِّينِ عَلَيٍّ، النَّائِبِ عَنِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ بِخِلَاطَ يَسْتَنْجِدُهُ، وَأَظْهَرَ طَاعَةَ الْأَشْرَفِ، فَسَارَ حُسَامُ الدِّينِ فِيمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَهَا مِنَ الشَّامِ وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ خَوْفًا مِنْ مَلِكِ الرُّومِ، خَافُوا أَنَّهُ إِذَا مَلَكَ أَرْزَنَ الرُّومِ يَتَعَدَّى وَيَقْصِدُ خِلَاطَ، فَسَارَ الْحَاجِبُ حُسَامُ الدِّينِ إِلَى الرُّومِ وَمَنَعَ عَنْهَا. وَلَمَّا سَمِعَ كَيْقُبَاذُ بِوُصُولِ الْعَسَاكِرِ إِلَيْهَا لَمْ يُقْدِمْ عَلَى قَصْدِهَا، فَسَارَ مِنْ أَرْزَنْكَانَ إِلَى بِلَادِهِ، وَكَانَ قَدْ أَتَاهُ الْخَبَرُ أَنَّ الرُّومَ الْكُفَّارَ الْمُجَاوِرِينَ لِبِلَادِهِ قَدْ مَلَكُوا مِنْهُ حِصْنًا يُسَمَّى صنوبَ، وَهُوَ مِنْ أَحْصَنِ الْقِلَاعِ، مُطِلٌّ عَلَى الْبَحْرِ السِّيَاهْ بَحْرِ الْخَزَرِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بِلَادِهِ، سَيَّرَ الْعَسْكَرَ إِلَيْهِ وَحَصَرَهُ بَرًّا وَبَحْرًا، فَاسْتَعَادَهُ مِنَ الرُّومِ، وَسَارَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ لِيُشَتِّيَ بِهَا عَلَى عَادَتِهِ. ذِكْرُ خُرُوجِ الْمَلِكُ الْكَامِلِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالٍ، سَارَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ مُحَمَّدُ ابْنُ الْمَلِكُ الْعَادِلِ صَاحِبُ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، فَوَصَلَ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، حَرَسَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَجَعَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ أَبَدًا، ثُمَّ سَارَ عَنْهُ، وَتَوَلَّى بِمَدِينَةِ نَابُلُسَ، وَشَحَّنَ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، وَكَانَتْ مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ، فَلَمَّا سَمِعَ صَاحِبُهَا، وَهُوَ ابْنُ الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ، خَافَ أَنْ يَقْصِدَهُ وَيَأْخُذَ دِمَشْقَ مِنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَمِّهِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ يَسْتَنْجِدُهُ، وَيَطْلُبُهُ لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ بِدِمَشْقَ، فَسَارَ إِلَيْهِ جَرِيدَةً، فَدَخَلَ دِمَشْقَ. فَلَمَّا سَمِعَ الْكَامِلُ بِذَلِكَ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْبَلَدَ مَنِيعٌ، وَقَدْ صَارَ بِهِ مَنْ يَمْنَعُهُ

وَيَحْمِيهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ يَسْتَعْطِفُهُ، وَيُعَرِّفُهُ أَنَّهُ مَا جَاءَ إِلَى دِمَشْقَ إِلَّا طَاعَةً لَهُ، وَمُوَافَقَةً لِأَغْرَاضِهِ، وَالِاتِّفَاقَ مَعَهُ عَلَى مَنْعِ الْفِرِنْجِ عَنِ الْبِلَادِ، فَأَعَادَ الْكَامِلُ الْجَوَابَ يَقُولُ: إِنَّنِي مَا جِئْتُ إِلَى هَذِهِ الْبِلَادِ إِلَّا بِسَبَبِ الْفِرِنْجِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبِلَادِ مَنْ يَمْنَعُهُمْ عَمَّا يُرِيدُونَهُ، وَقَدْ عَمَرُوا صَيْدَا، وَبَعْضَ قَيْسَارِيَّةَ، وَلَمْ يُمْنَعُوا، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ عَمَّنَا السُّلْطَانَ صَلَاحَ الدِّينِ فَتَحَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، فَصَارَ لَنَا بِذَلِكَ الذِّكْرُ الْجَمِيلُ عَلَى تَقَضِّي الْأَعْصَارِ وَمَمَرِّ الْأَيَّامِ، فَإِنْ أَخَذَهُ الْفِرِنْجُ، حَصَلَ لَنَا مِنْ سُوءِ الذِّكْرِ وَقُبْحِ الْأُحْدُوثَةِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ الَّذِي ادَّخَرَهُ عَمُّنَا، وَأَيُّ وَجْهٍ يَبْقَى لَنَا عِنْدَ النَّاسِ وَعِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؟ . ثُمَّ إِنَّهُمْ مَا يَقْنَعُونَ حِينَئِذٍ بِمَا أَخَذُوهُ، وَيَتَعَدَّوْنَ إِلَى غَيْرِهِ، وَحَيْثُ قَدْ حَضَرْتَ أَنْتَ فَأَنَا أَعُودُ إِلَى مِصْرَ، وَاحْفَظْ أَنْتَ الْبِلَادَ، وَلَسْتُ بِالَّذِي يُقَالُ عَنِّي إِنِّي قَاتَلْتُ أَخِي، وَحَصَرْتُهُ، حَاشَا لِلَّهِ تَعَالَى. وَتَأَخَّرَ عَنْ نَابُلُسَ نَحْوَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَنَزَلَ تَلَّ الْعُجُولِ، فَخَافَ الْأَشْرَفُ وَالنَّاسُ قَاطِبَةً بِالشَّامِ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنْ عَادَ، اسْتَوْلَى الْفِرِنْجُ عَلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُجَاوِرُهُ، لَا مَانِعَ دُونَهُ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ، وَسَارَ الْأَشْرَفُ بِنَفْسِهِ إِلَى الْكَامِلِ أَخِيهِ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَكَانَ وُصُولُهُ لَيْلَةَ عِيدِ الْأَضْحَى، وَمَنَعَهُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مِصْرَ، فَأَقَامَا بِمَكَانِهِمَا. ذِكْرُ نَهْبِ جَلَالِ الدِّينِ بِلَادَ أَرْمِينِيَّةَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ جَلَالُ الدِّينِ خُوَارَزْمَ شَاهْ إِلَى بِلَادِ خِلَاطَ، وَتَعَدَّى خِلَاطَ إِلَى صَحْرَاءِ مُوشَ وَجَبَلِ جُورٍ، وَنَهَبَ الْجَمِيعَ، وَسَبَى الْحَرِيمَ، وَاسْتَرَقَّ الْأَوْلَادَ، وَقَتَلَ الرِّجَالَ، وَخَرَّبَ الْقُرَى، وَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ. وَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْبِلَادِ الْجَزْرِيَّةِ: حَرَّانَ، وَسَرُوجَ، وَغَيْرِهِمَا، أَنَّهُ قَدْ جَازَ خِلَاطَ إِلَى جُورٍ، وَأَنَّهُ قَدْ قَرُبَ مِنْهُمْ، خَافَ أَهْلُ الْبِلَادِ أَنْ يَجِيءَ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّ الزَّمَانَ كَانَ شِتَاءً، وَظَنُّوا أَنَّهُ يَقْصِدُ الْجَزِيرَةَ لِيُشَتِّيَ بِهَا، لِأَنَّ الْبَرْدَ بِهَا لَيْسَ بِالشَّدِيدِ، وَعَزَمُوا عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَى الشَّامِ، وَوَصَلَ بَعْضُ أَهْلِ سَرُوجَ إِلَى مَنْبِجَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ أَنَّهُ قَدْ نَهَبَ الْبِلَادَ وَعَادَ، فَأَقَامُوا، وَكَانَ سَبَبُ عَوْدِهِ أَنَّ الثَّلْجَ سَقَطَ

بِبِلَادِ خِلَاطَ كَثِيرًا، لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ، فَأَسْرَعَ الْعَوْدَ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ رَخُصَتِ الْأَسْعَارُ بِدِيَارِ الْجَزِيرَةِ جَمِيعِهَا، وَجَاءَتِ الْغَلَّاتُ الَّتِي لَهُمْ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ جَيِّدًا، إِلَّا أَنَّ الرُّخْصَ لَمْ يبْلُغِ الْأَوَّلَ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْغَلَاءِ، إِنَّمَا صَارَتِ الْحِنْطَةُ كُلَّ خَمْسَةِ مَكَاكِيكَ بِدِينَارٍ، وَالشَّعِيرُ كُلَّ سَبْعَةَ عَشَرَ مَكُّوكًا بِالْمَوْصِلِيِّ بِدِينَارٍ.

ثم دخلت سنة ست وعشرين وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ] 626 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ تَسْلِيمِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ إِلَى الْفِرِنْجِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوَّلَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، تَسَلَّمَ الْفِرِنْجُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ صُلْحًا، أَعَادَهُ اللَّهُ إِلَى الْإِسْلَامِ سَرِيعًا. وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ مِنْ خُرُوجِ الْأَنْبرورِ، مَلِكِ الْفِرِنْجِ فِي الْبَحْرِ مِنْ دَاخِلِ بِلَادِ الْفِرِنْجِ إِلَى سَاحِلِ الشَّامِ، وَكَانَتْ عَسَاكِرُهُ قَدْ سَبَقَتْهُ، وَنَزَلُوا بِالسَّاحِلِ، وَأَفْسَدُوا فِيمَا يُجَاوِرُهُمْ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَضَى إِلَيْهِمْ، وَهُمْ بِمَدِينَةِ صُورٍ، طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْكُنُونَ الْجِبَالَ الْمُجَاوِرَةَ لِمَدِينَةِ صُورٍ وَأَطَاعُوهُمْ، وَصَارُوا مَعَهُمْ، وَقَوِيَ طَمَعُ الْفِرِنْجِ بِمَوْتِ الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ عِيسَى ابْنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، صَاحِبِ دِمَشْقَ. وَلَمَّا وَصَلَ الْأَنْبرورِ إِلَى السَّاحِلِ، نَزَلَ بِمَدِينَةَ عَكَّا، وَكَانَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ابْنُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ صَاحِبُ مِصْرَ، قَدْ خَرَجَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يُرِيدُ الشَّامَ بَعْدَ وَفَاةِ أَخِيهِ الْمُعَظَّمِ، وَهُوَ نَازِلٌ بِتَلِّ الْعُجُولِ، يُرِيدُ أَنْ يَمْلِكَ دِمَشْقَ مِنَ النَّاصِرِ دَاوُدَ ابْنِ أَخِيهِ الْمُعَظَّمِ، وَهُوَ صَاحِبُهَا يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ دَاوُدُ لَمَّا سَمِعَ بِقَصْدِ عَمِّهِ الْمَلِكِ الْكَامِلِ لَهُ، قَدْ أَرْسَلَ إِلَى عَمِّهِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ صَاحِبِ الْبِلَادِ الْجَزْرِيَّةِ، يَسْتَنْجِدُهُ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ الْمُسَاعَدَةَ عَلَى دَفْعِ عَمِّهِ عَنْهُ، فَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْمَلِكِ الْكَامِلِ فِي الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحَا وَاتَّفَقَا، وَسَارَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ إِلَى الْمَلِكِ الْكَامِلِ وَاجْتَمَعَ بِهِ. فَلَمَّا اجْتَمَعَا، تَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَنْبرورِ مَلِكِ الْفِرِنْجِ دَفَعَاتٍ كَثِيرَةً، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَى أَنْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ وَمَعَهُ مَوَاضِعُ يَسِيرَةٌ مِنْ بِلَادِهِ، وَيَكُونُ بَاقِي الْبِلَادِ مِثْلُ الْخَلِيلِ، وَنَابُلُسُ، وَالْغَوْرُ، وَمَلَطْيَةَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ

وَلَا يُسَلَّمُ إِلَى الْفِرِنْجِ إِلَّا الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ وَالْمَوَاضِعُ الَّتِي اسْتَقَرَّتْ مَعَهُ. وَكَانَ سُورُ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ خَرَابًا [قَدْ] خَرَّبَهُ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ، وَقَدْ [ذَكَرْنَا] ذَلِكَ، وَتَسَلَّمَ الْفِرِنْجُ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، وَاسْتَعْظَمَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ وَأَكْبَرُوهُ، وَوَجَدُوا لَهُ مِنَ الْوَهْنِ وَالتَّأَلُّمِ مَا لَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ، يَسَّرَّ اللَّهُ فَتْحَهُ وَعَوْدَهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، آمِينَ. ذِكْرُ مُلْكِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مَدِينَةَ دِمَشْقَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ شَعْبَانَ، مَلَكَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ ابْنُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ مَدِينَةَ دِمَشْقَ مِنَ ابْنِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ دَاوُدَ بْنِ الْمُعَظَّمِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ صَاحِبَ دِمَشْقَ لَمَّا خَافَ مِنْ عَمِّهِ الْمَلِكِ الْكَامِلِ، أَرْسَلَ إِلَى عَمِّهِ الْأَشْرَفِ يَسْتَنْجِدُهُ، وَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى دَفْعِ الْكَامِلِ عَنْهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ الْجَزْرِيَّةِ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ، وَفَرِحَ بِهِ صَاحِبُهَا وَأَهْلُ الْبَلَدِ. وَكَانُوا قَدِ احْتَاطُوا، وَهُمْ يَتَجَهَّزُونَ لِلْحِصَارِ، فَأَمَرَ بِإِزَالَةِ ذَلِكَ، وَتَرْكِ مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ، وَحَلَفَ لِصَاحِبِهَا عَلَى الْمُسَاعَدَةِ وَالْحِفْظِ لَهُ وَلِبِلَادِهِ عَلَيْهِ، وَرَاسَلَ الْمَلِكَ الْكَامِلَ وَاصْطَلَحَا، وَظَنَّ صَاحِبُ دِمَشْقَ أَنَّهُ مَعَهُمَا فِي الصُّلْحِ. وَسَارَ الْأَشْرَفُ إِلَى أَخِيهِ الْكَامِلِ، وَاجْتَمَعَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، يَوْمَ الْعِيدِ، وَسَارَ صَاحِبُ دِمَشْقَ إِلَى بَيْسَانَ وَأَقَامَ بِهَا، وَعَادَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ مِنْ عِنْدِ أَخِيهِ، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَصَاحِبُ دِمَشْقَ، وَلَمْ يَكُنِ الْأَشْرَفُ فِي كَثْرَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ فِي خَيْمَةٍ لَهُمَا، إِذْ قَدْ دَخَلَ عِزُّ الدِّينِ أَيْبَك، مَمْلُوكُ الْمُعَظَّمِ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ دِمَشْقَ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَمِيرٍ مَعَ وَلَدِهِ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ دَاوُدَ: قُمِ اخْرُجْ وَإِلَّا

قُبِضْتَ السَّاعَةَ، فَأَخْرَجَهُ، وَلَمْ يُمْكِنِ الْأَشْرَفُ مَنْعَهُ ; لِأَنَّ أَيْبَكَ كَانَ قَدْ أَرْكَبَ الْعَسْكَرَ الَّذِي لَهُمْ جَمِيعَهُ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنَ الَّذِينَ مَعَ الْأَشْرَفِ، فَخَرَجَ دَاوُدُ وَسَارَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ إِلَى دِمَشْقَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَيْبَكَ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْأَشْرَفَ يُرِيدُ الْقَبْضَ عَلَى صَاحِبِهِ وَأَخْذِ دِمَشْقَ مِنْهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا عَادُوا، وَصَلَتِ الْعَسَاكِرُ مِنَ الْكَامِلِ إِلَى الْأَشْرَفِ، وَسَارَ فَنَازَلَ دِمَشْقَ وَحَصَرَهَا، وَأَقَامَ مُحَاصِرًا لَهَا إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ الْكَامِلُ، فَحِينَئِذٍ اشْتَدَّ الْحِصَارُ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ. وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ الْأُمُورِ عَلَى صَاحِبِهَا أَنَّ الْمَالَ عِنْدَهُ قَلِيلٌ ; لِأَنَّ أَمْوَالَهُ بِالْكَرَكِ، وَلِوُثُوقِهِ بِعَمِّهِ الْأَشْرَفِ لَمْ يُحْضِرْ مِنْهَا شَيْئًا، فَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ بَاعَ حُلِيَّ نِسَائِهِ وَمَلْبُوسَهُنَّ، وَضَاقَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَى عَمِّهِ الْكَامِلِ وَبَذَلَ لَهُ تَسْلِيمَ دِمَشْقَ وَقَلْعَةَ الشَّوْبَكِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ الْكَرَكُ، وَالْغَوْرُ، وَبَيْسَانُ، وَنَابُلُسُ، وَأَنْ يُبْقِيَ عَلَىَ أَيْبَكَ قَلْعَةَ صَرْخَدَ وَأَعْمَالَهَا. وَتَسَلَّمَ الْكَامِلُ دِمَشْقَ، وَجَعَلَ نَائِبَهُ بِالْقَلْعَةِ إِلَى أَنْ سَلَّمَ إِلَيْهِ أَخُوهُ الْأَشْرَفُ حَرَّانَ وَالرُّهَا، وَالرَّقَّةَ وَسَرُوجَ، وَرَأْسَ عَيْنٍ مِنَ الْجَزِيرَةِ، فَلَمَّا تَسَلَّمَ ذَلِكَ، سَلَّمَ قَلْعَةَ دِمَشْقَ إِلَى أَخِيهِ الْأَشْرَفِ، فَدَخَلَهَا وَأَقَامَ بِهَا، وَسَارَ الْكَامِلُ إِلَى الدِّيَارِ الْجَزْرِيَّةِ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنِ اسْتَدْعَى أَخَاهُ الْأَشْرَفَ بِسَبَبِ حَصْرِ جَلَالِ الدِّينِ بْنِ خُوَارَزْمَ شَاهْ مَدِينَةَ خِلَاطَ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ بِالرَّقَّةِ، عَادَ الْكَامِلُ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ، وَأَمَّا الْأَشْرَفُ فَكَانَ مِنْهُ مَا نَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى الْحَاجِبِ عَلَيٍّ وَقَتْلِهِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ مَمْلُوكَهُ عِزَّ الدِّينِ أَيْبَكَ، وَهُوَ أَمِيرٌ كَبِيرٌ فِي دَوْلَتِهِ إِلَى مَدِينَةِ خِلَاطَ، وَأَمَرَهُ بِالْقَبْضِ عَلَى الْحَاجِبِ حُسَامِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ حَمَّادٍ،

وَهُوَ الْمُتَوَلِّي لِبِلَادِ خِلَاطَ وَالْحَاكِمُ فِيهَا مِنْ قِبَلِ الْأَشْرَفِ. وَلَمْ نَعْلَمْ شَيْئًا يُوجِبُ الْقَبْضَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مُشْفِقًا عَلَيْهِ، نَاصِحًا لَهُ، حَافِظًا لِبِلَادِهِ، وَحَسَنَ السِّيرَةِ مَعَ الرَّعِيَّةِ، وَلَقَدْ وَقَفَ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ فِي وَجْهِ خُوَارَزْمَ شَاهْ جَلَالُ الدِّينِ، وَحَفِظَ خِلَاطَ حِفْظًا يَعْجَزُ غَيْرُهُ عَنْهُ، وَكَانَ مُهْتَمًّا بِحِفْظِ بِلَادِهِ، وَذَابًّا عَنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ قَصْدِهِ بِلَادَ جَلَالِ الدِّينِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى بَعْضِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى هِمَّةٍ عَالِيَةٍ، وَشَجَاعَةٍ تَامَّةٍ، وَصَارَ لِصَاحِبِهِ بِهِ مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: بَعْضُ غِلْمَانِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ يُقَاوِمُ خُوَارَزْمَ شَاهْ. وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَثِيرَ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ، لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْ ظُلْمٍ، وَعَمِلَ كَثِيرًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، مِنَ الْخَانَاتِ فِي الطُّرُقِ، وَالْمَسَاجِدِ فِي الْبِلَادِ، وَبَنَى بِخِلَاطَ بِيمَارِسْتَانًا وَجَامِعًا، وَعَمِلَ كَثِيرًا مِنَ الطُّرُقِ، وَأَصْلَحَهَا كَانَ يَشُقُّ سُلُوكَهَا. فَلَمَّا وَصَلَ أَيْبَكُ إِلَى خِلَاطَ، قَبَضَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَتَلَهُ غِيلَةً ; لِأَنَّهُ كَانَ عَدُوَّهُ، وَلَمَّا قُتِلَ ظَهَرَ أَثَرُ كِفَايَتِهِ، فَإِنَّ جَلَالَ الدِّينِ حَصَرَ خِلَاطَ بَعْدَ قَبْضِهِ وَمَلَكَهَا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَمْ يُمْهِلِ اللَّهُ أَيْبَكَ، بَلِ انْتَقَمَ مِنْهُ سَرِيعًا، فَإِنَّ جَلَالَ الدِّينِ أَخَذَ أَيْبَكَ أَسِيرًا لَمَّا مَلَكَ خِلَاطَ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَلَمَّا اصْطَلَحَ الْأَشْرَفُ وَجَلَالُ الدِّينِ أَطْلَقَ الْجَمِيعَ، وَذَكَرَ أَنَّ أَيْبَكَ قُتِلَ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ مَمْلُوكًا لِلْحَاجِبِ عَلَيٍّ كَانَ قَدْ هَرَبَ إِلَى جَلَالِ الدِّينِ، فَلَمَّا أُسِرَ أَيْبَكُ، طَلَبَهُ ذَلِكَ الْمَمْلُوكُ مِنْ جَلَالِ الدِّينِ لِيَقْتُلَهُ بِصَاحِبِهِ الْحَاجِبِ عَلِيٍّ، فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ، وَبَلَغَنِي أَنَّ الْمَلِكَ الْأَشْرَفَ رَأَى فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ الْحَاجِبَ عَلِيًّا قَدْ دَخَلَ إِلَى مَجْلِسٍ فِيهِ أَيْبَكَ، فَأَخَذَ مِنْدِيلًا وَجَعَلَهُ فِي رَقَبَةِ أَيْبَكَ وَأَخَذَهُ وَخَرَجَ، فَأَصْبَحَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ وَقَالَ: قَدْ مَاتَ أَيْبَكُ، فَإِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَذَا وَكَذَا. ذِكْرُ مُلْكِ الْكَامِلِ مَدِينَةَ حَمَاةَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوَاخِرَ شَهْرِ رَمَضَانَ، مَلَكَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ مَدِينَةَ حَمَاةَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ الْمَنْصُورَ مُحَمَّدَ بْنَ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ، وَهُوَ صَاحِبُ حَمَاةَ، تُوُفِّيَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، حَلَفَ الْجُنْدُ وَأَكَابِرُ الْبَلَدِ لِوَلَدِهِ الْأَكْبَرِ، وَيُلَقَّبُ بِالْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ، وَكَانَ قَدْ سَيَّرَهُ أَبُوهُ إِلَى الْمَلِكِ الْكَامِلِ صَاحِبِ مِصْرَ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ

بِابْنَتِهِ، وَكَانَ لِمُحَمَّدٍ وَلَدٌ آخَرُ اسْمُهُ قَلِجْ أَرْسِلَانَ، وَلَقَبُهُ صَلَاحُ الدِّينِ، وَهُوَ بِدِمَشْقَ، فَحَضَرَ إِلَى مَدِينَةِ حَمَاةَ فَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْمَدِينَةِ وَعَلَى قَلْعَتِهَا، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ [الْكَامِلُ] يَأْمُرُهُ أَنْ يُسَلِّمَ الْبَلَدَ إِلَى أَخِيهِ الْأَكْبَرِ، فَإِنَّ أَبَاهُ أَوْصَى لَهُ بِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ صَاحِبِ دِمَشْقَ، فَلَمْ تَقَعِ الْإِجَابَةُ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمُعَظَّمُ، وَخَرَجَ الْكَامِلُ إِلَى الشَّامِ وَمَلَكَ دِمَشْقَ، سَيَّرَ جَيْشًا إِلَى حَمَاةَ فَحَصَرَهَا ثَالِثَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانَ الْمُقَدَّمَ عَلَى هَذَا الْجَيْشِ أَسَدُ الدِّينِ شِيرْكُوهْ صَاحِبُ حِمْصَ، وَأَمِيرٌ كَبِيرٌ مِنْ عَسْكَرِهِ يُقَالُ لَهُ فَخْرُ الدِّينِ عُثْمَانُ، وَمَعَهُمَا وَلَدُ مُحَمَّدِ بْنِ تَقِيِّ الدِّينِ مُحَمَّدٍ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْكَامِلِ، فَبَقِيَ الْحِصَارُ عَلَى الْبَلَدِ عِدَّةَ أَيَّامٍ. وَكَانَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ قَدْ سَارَ عَنْ دِمَشْقَ وَنَزَلَ عَلَى سَلَمِيَّةَ يُرِيدُ الْعُبُورَ إِلَى الْبِلَادِ الْجَزْرِيَّةِ، حَرَّانَ وَغَيْرَهَا، فَلَمَّا نَازَلَهَا قَصَدَهُ صَاحِبُ حَمَاةَ صَلَاحُ الدِّينِ، وَنَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ قَلْعَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ سَبَبٌ إِلَّا أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ صَلَاحَ الدِّينِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أُرِيدُ النُّزُولَ إِلَى الْمَلِكِ الْكَامِلِ، فَقَالُوا لَهُ: لَيْسَ بِالشَّامِ أَحْصَنُ مِنْ قَلْعَتِكَ، وَقَدْ جَمَعْتَ مِنَ الذَّخَائِرِ مَا لَا حَدَّ لَهُ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ تَنْزِلُ إِلَيْهِ؟ لَيْسَ هَذَا بِرَأْيٍ، فَأَصَرَّ عَلَى النُّزُولِ، وَأَصَرُّوا عَلَى مَنْعِهِ، فَقَالَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ: اتْرُكُونِي أَنْزِلُ، وَإِلَّا أَلْقَيْتُ نَفْسِي مِنَ الْقَلْعَةِ، فَحِينَئِذٍ سَكَتُوا عَنْهُ، فَنَزَلَ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، وَوَصَلَ إِلَى الْكَامِلِ، فَاعْتَقَلَهُ إِلَى أَنْ سَلَّمَ مَدِينَةَ حَمَاةَ وَقَلْعَتَهَا إِلَى أَخِيهِ الْأَكْبَرِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ، وَبَقِيَ بِيَدِهِ قَلْعَةُ بَارِينَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ لَهُ، وَكَانَ هُوَ كَالْبَاحِثِ عَنْ حَتْفِهِ بِظِلْفِهِ. ذِكْرُ حَصْرِ جَلَالِ الدِّينِ خِلَاطَ وَمُلْكِهَا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوَائِلَ شَوَّالٍ، حَصَرَ جَلَالُ الدِّينِ خُوَارَزْمُ شَاهْ مَدِينَةَ خِلَاطَ، وَهِيَ لِلْمَلِكِ الْأَشْرَفِ، وَبِهَا عَسْكَرُهُ، فَامْتَنَعُوا بِهَا، وَأَعَانَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ خَوْفًا مِنْ جَلَالِ الدِّينِ لِسُوءِ سِيرَتِهِ، وَأَسْرَفُوا فِي الشَّتْمِ وَالسَّفَهِ، فَأَخَذَهُ اللَّجَاجُ مَعَهُمْ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ الشِّتَاءِ مُحَاصِرًا، وَفَرَّقَ كَثِيرًا مِنْ عَسَاكِرِهِ فِي الْقُرَى وَالْبِلَادِ الْقَرِيبَةِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَكَثْرَةِ الثَّلْجِ، فَإِنَّ خِلَاطَ مِنْ أَشَدِّ الْبِلَادِ بَرْدًا وَأَكْثَرِهَا ثَلْجًا. وَأَبَانَ جَلَالُ الدِّينِ عَنْ عَزْمٍ قَوِيٍّ، وَصَبْرٍ تَحَارُ الْعُقُولُ مِنْهُ، وَنَصَبَ عَلَيْهَا عِدَّةَ مَجَانِيقَ، وَلَمْ يَزَلْ يَرْمِيهَا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى خُرِّبَتْ بَعْضُ سُورِهَا، فَأَعَادَ أَهْلُ الْبَلَدِ

عِمَارَتَهُ، وَلَمْ يَزَلْ مُصَابِرَهُمْ وَمُلَازِمَهُمْ إِلَى أَوَاخِرِ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ [وَسِتِّمِائَةٍ] ، فَزَحَفَ إِلَيْهَا زَحْفًا مُتَتَابِعًا وَمَلَكَهَا عَنْوَةً وَقَهْرًا يَوْمَ الْأَحَدِ الثَّامِنَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، سَلَّمَهَا إِلَيْهِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ غَدْرًا. فَلَمَّا مَلَكَ الْبَلَدَ، صَعِدَ مَنْ فِيهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْقَلْعَةِ الَّتِي لَهَا وَامْتَنَعُوا بِهَا، وَهُوَ مُنَازِلُهُمْ، وَوَضَعَ السَّيْفَ فِي أَهْلِ [الْبَلَدِ] ، وَقَتَلَ مَنْ وَجَدَ بِهِ مِنْهُمْ، وَكَانُوا قَدْ قَلُّوا، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ فَارَقُوهُ خَوْفًا، وَبَعْضَهُمْ خَرَجَ مِنْهُ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ، وَبَعْضَهُمْ مَاتَ مِنَ الْقِلَّةِ وَعَدَمِ الْقُوتِ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي خِلَاطَ أَكَلُوا الْغَنَمَ، ثُمَّ الْبَقَرَ، ثُمَّ الْجَوَامِيسَ، ثُمَّ الْخَيْلَ، ثُمَّ الْحُمُرَ، ثُمَّ الْبِغَالَ وَالْكِلَابَ وَالسَّنَانِيرَ، وَسَمِعْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَصْطَادُونَ الْفَأْرَ وَيَأْكُلُونَهُ، وَصَبَرُوا صَبْرًا لَمْ يَلْحَقْهُمْ فِيهِ أَحَدٌ. وَلَمْ يَمْلِكْ مِنْ بِلَادِ خِلَاطَ غَيْرَهَا، وَمَا سِوَاهَا مِنَ الْبِلَادِ لَمْ يَكُونُوا مَلَكُوهُ، وَخَرَّبُوا خِلَاطَ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهَا، وَمَنْ سَلِمَ هَرَبَ فِي الْبِلَادِ، وَسَبُوا الْحَرِيمَ، وَاسْتَرَقُّوا الْأَوْلَادَ، وَبَاعُوا الْجَمِيعَ، فَتَمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَجَرَى عَلَى أَهْلِهَا مَا لَمْ يَسْمَعْ بِمِثْلِهِ أَحَدٌ، لَا جَرَمَ لَمْ يُمْهِلْهُ اللَّهُ - تَعَالَى، وَجَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْهَزِيمَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ والتَّتَرِ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ قَصَدَ الْفِرِنْجُ حِصْنَ بَارِينَ بِالشَّامِ، وَنَهَبُوا بِلَادَهُ وَأَعْمَالَهُ، وَأَسَرُوا وَسَبُوا، وَمِنْ جُمْلَةِ مَنْ ظَفِرُوا بِهِ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ، فَأَخَذُوا الْجَمِيعَ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا النَّادِرُ الشَّاذُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثم دخلت سنة سبع وعشرين وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ] 627 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ انْهِزَامِ جَلَالِ الدِّينِ مَنْ كَيْقُبَاذَ وَالْأَشْرَفِ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمَ السَّبْتِ الثَّامِنَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، انْهَزَمَ جَلَالُ الدِّينِ بْنُ خُوَارَزْمَ شَاهْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَيْقُبَاذَ بْنِ كَيْخَسْرُو بْنِ قَلِجْ أَرْسِلَانَ صَاحِبِ بِلَادِ الرُّومِ، قُونِيَّةَ، وَأَقْصَرَا، وَسِيوَاسَ، وَمَلَطْيَةَ، وَغَيْرِهَا، وَمِنَ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ، صَاحِبِ دِمَشْقَ وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ وَخِلَاطَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ جَلَالَ الدِّينِ كَانَ قَدْ أَطَاعَهُ صَاحِبُ أَرْزَنَ الرُّومِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ عَلَاءِ الدِّينِ، مَلِكِ الرُّومِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَلِكِ الرُّومِ عَدَاوَةٌ مُسْتَحْكَمَةٌ، وَحَضَرَ صَاحِبُ أَرْزَنَ الرُّومِ عِنْدَ جَلَالِ الدِّينِ عَلَى خِلَاطَ، وَأَعَانَهُ عَلَى حَصْرِهَا، فَخَافَهُمَا عَلَاءُ الدِّينِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ الْكَامِلِ، وَهُوَ حِينَئِذٍ بِحَرَّانَ، يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُحْضِرَ أَخَاهُ الْأَشْرَفَ مِنْ دِمَشْقَ، فَإِنَّهُ كَانَ مُقِيمًا بِهَا بَعْدَ أَنْ مَلَكَهَا، وَتَابَعَ عَلَاءُ الدِّينِ الرُّسُلَ بِذَلِكَ خَوْفًا مِنْ جَلَالِ الدِّينِ، فَأَحْضَرَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ أَخَاهُ الْأَشْرَفَ مِنْ دِمَشْقَ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَرُسُلُ عَلَاءِ الدِّينِ إِلَيْهِمَا مُتَتَابِعَةٌ، يَحُثُّ الْأَشْرَفَ عَلَى الْمَجِيءِ إِلَيْهِ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَصَلَ إِلَى الْكَامِلِ وَالْأَشْرَفِ مِنْ عَلَاءِ الدِّينِ خَمْسَةُ رُسُلٍ، وَيَطْلُبُ مَعَ الْجَمِيعِ وَصُولَ الْأَشْرَفِ إِلَيْهِ وَلَوْ وَحْدَهُ، فَجَمَعَ عَسَاكِرَ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ وَسَارَ إِلَى عَلَاءِ الدِّينِ، فَاجْتَمَعَا بِسِيوَاسَ، وَسَارَا نَحْوَ خِلَاطَ، فَسَمِعَ جَلَالُ الدِّينِ بِهِمَا، فَسَارَ إِلَيْهِمَا مُجِدًّا فِي السَّيْرِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِمَا بِمَكَانٍ يُعْرَفُ بِبَاسِي حِمَارٍ، وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ أَرْزَنْجَانَ، فَالْتَقَوْا هُنَاكَ.

وَكَانَ مَعَ عَلَاءِ الدِّينِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، قِيلَ: كَانُوا عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَكَانَ مَعَ الْأَشْرَفِ نَحْوُ خَمْسَةِ آلَافِ فَارِسٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْجَيِّدَةِ الشُّجْعَانِ، لَهُمُ السِّلَاحُ الْكَثِيرُ، وَالدَّوَابُّ الْفَارِهَةُ مِنَ الْعَرَبِيَّاتِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ جَرَّبَ الْحَرْبَ. وَكَانَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ عَسَاكِرَ حَلَبَ يُقَالُ لَهُ عِزُّ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ مِنَ الْأَكْرَادِ الْهَكَّارِيَّةِ، وَمِنَ الشَّجَاعَةِ فِي الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا، وَلَهُ الْأَوْصَافُ الْجَمِيلَةُ وَالْأَخْلَاقُ الْكَرِيمَةُ. فَلَمَّا الْتَقَوْا، بُهِتَ جَلَالُ الدِّينِ لَمَّا رَأَى مِنْ كَثْرَةِ الْعَسَاكِرِ، وَلَا سِيَّمَا لَمَّا رَأَى عَسْكَرَ الشَّامِ، فَإِنَّهُ شَاهَدَ مِنْ تَجَمُّلِهِمْ، وَسِلَاحِهِمْ، وَدَوَابِّهِمْ مَا مَلَأَ صَدْرَهُ رُعْبًا، فَأَنْشَبَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَلِيٍّ الْقِتَالَ، وَمَعَهُ عَسْكَرُ حَلَبَ، فَلَمْ يَقُمْ لَهُمْ جَلَالُ الدِّينِ وَلَا صَبَرَ، وَمَضَى مُنْهَزِمًا هُوَ وَعَسْكَرُهُ، وَتَمَزَّقُوا لَا يَلْوِي الْأَخُ عَلَى أَخِيهِ، وَعَادُوا إِلَى خِلَاطَ فَاسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ مَنْ فِيهَا مِنْ أَصْحَابِهِمْ، وَعَادُوا إِلَى أَذْرَبِيجَانَ فَنَزَلُوا عِنْدَ مَدِينَةِ خُوَيٍّ، وَلَمْ يَكُونُوا قَدِ اسْتَوْلَوْا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ خِلَاطَ سِوَى خِلَاطَ، وَوَصَلَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ إِلَى خِلَاطَ وَقَدِ اسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ مَنْ فِيهَا فَبَقِيَتْ خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا، خَالِيَةً مِنَ الْأَهْلِ وَالسُّكَّانِ، قَدْ جَرَى عَلَيْهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. ذِكْرُ مُلْكِ عَلَاءِ الدِّينِ أَرْزَنَ الرُّومِ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ صَاحِبَ أَرْزَنَ الرُّومِ كَانَ مَعَ جَلَالِ الدِّينِ عَلَى خِلَاطَ، وَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ، وَشَهِدَ مَعَهُ الْمَصَافَّ الْمَذْكُورَ، فَلَمَّا انْهَزَمَ جَلَالُ الدِّينِ، أَخَذَ صَاحِبَ أَرْزَنَ الرُّومِ أَسِيرًا، فَأُحْضِرَ عِنْدَ عَلَاءِ الدِّينِ كَيْقُبَاذَ ابْنُ عَمِّهِ، فَأَخَذَهُ وَقَصَدَ أَرْزَنَ الرُّومِ، فَسَلَّمَهَا صَاحِبُهَا إِلَيْهِ هِيَ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْقِلَاعِ وَالْخَزَائِنِ وَغَيْرِهَا، فَكَانَ كَمَا قِيلَ: خَرَجَتِ النَّعَامَةُ تَطْلُبُ قَرْنَيْنِ، فَعَادَتْ بِلَا أُذُنَيْنِ. وَهَكَذَا هَذَا الْمِسْكِينُ جَاءَ إِلَى جَلَالِ الدِّينِ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ، فَوَعَدَهُ بِشَيْءٍ مِنْ بِلَادِ عَلَاءِ الدِّينِ، فَأَخَذَ مِنْ مَالِهِ وَمَا بِيَدَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ وَبَقِيَ أَسِيرًا، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ.

ذِكْرُ الصُّلْحِ بَيْنَ الْأَشْرَفِ وَعَلَاءِ الدِّينِ وَبَيْنَ جَلَالِ الدِّينِ. لَمَّا عَادَ الْأَشْرَفُ إِلَى خِلَاطَ، وَمَضَى جَلَالُ الدِّينِ مُنْهَزِمًا إِلَى خُوَيٍّ، تَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، فَاصْطَلَحُوا كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى مَا بِيَدِهِ، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَوَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَحَالَفُوا، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ وَجَرَتِ الْأَيْمَانُ، عَادَ الْأَشْرَفُ إِلَى سِنْجَارَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى دِمَشْقَ، فَأَقَامَ جَلَالُ الدِّينِ بِبِلَادِهِ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى أَنْ خَرَجَ عَلَيْهَا التَّتَرُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مُلْكِ شِهَابِ الدِّينِ غَازِي مَدِينَةَ أَرْزَنَ. كَانَ حُسَامُ الدِّينِ صَاحِبُ مَدِينَةِ أَرْزَنَ مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ لَمْ يَزَلْ مُصَاحِبًا لِلْمَلِكِ الْأَشْرَفِ، مُشَاهِدًا جَمِيعَ حُرُوبِهِ وَحَوَادِثِهِ، وَيُنْفِقُ أَمْوَالَهُ مِنْ طَاعَتِهِ، وَيَبْذُلُ نَفْسَهُ وَعَسَاكِرَهُ فِي مُسَاعَدَتِهِ، فَهُوَ يُعَادِي أَعْدَاءَهُ، وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَهُ. وَمِنْ جُمْلَةِ مُوَافَقَتِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي خِلَاطَ لَمَّا حَصَرَهَا جَلَالُ الدِّينِ، فَأَسَرَهُ جَلَالُ الدِّينِ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَدِينَةَ أَرْزَنَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَذَا مِنْ بَيْتٍ قَدِيمٍ عَرِيقٍ فِي الْمُلْكِ، وَإِنَّهُ وَرِثَ أَرْزَنَ هَذِهِ مِنْ أَسْلَافِهِ، وَكَانَ لَهُمْ سِوَاهَا مِنَ الْبِلَادِ، فَخَرَجَ الْجَمِيعُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَعَطَفَ عَلَيْهِ وَرَقَّ لَهُ، وَأَبْقَى عَلَيْهِ مَدِينَتَهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ أَنَّهُ لَا يُقَاتِلُهُ. فَلَمَّا جَاءَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ وَعَلَاءُ الدِّينِ مُحَارِبِينَ لِجَلَالِ الدِّينِ، لَمْ يَحْضُرْ مَعَهُمْ فِي الْحَرْبِ، فَلَمَّا انْهَزَمَ جَلَالُ الدِّينِ، سَارَ شِهَابُ الدِّينِ غَازِي ابْنُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَهُوَ أَخُو الْأَشْرَفِ، وَلَهُ مَدِينَةُ مَيَّافَارِقِينَ، وَمَدِينَةُ حَانِي، وَهُوَ بِمَدِينَةِ أَرْزَنَ، فَحَصَرَهُ بِهَا، ثُمَّ مَلَكَهَا صُلْحًا، وَعَوَّضَهُ عَنْهَا بِمَدِينَةِ حَانِي مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ. وَحُسَامُ الدِّينِ هَذَا نِعْمَ الرَّجُلُ، حَسَنُ السِّيرَةِ، كَرِيمٌ، جَوَادٌ، لَا يَخْلُو بَابُهُ مِنْ جَمَاعَةٍ يَرِدُونَ إِلَيْهِ يَسْتَمْنِحُونَهُ، وَسِيرَتُهُ جَمِيلَةٌ فِي وِلَايَتِهِ وَرَعِيَّتِهِ، وَهُوَ مِنْ بَيْتٍ قَدِيمٍ يُقَالُ لَهُ بَيْتُ طُغَانَ أَرْسِلَانَ، كَانَ لَهُ مَعَ أَرْزَنَ بَدْلِيسُ وَوَسْطَانُ وَغَيْرُهُمَا، وَيُقَالُ لَهُمْ بَيْتُ الْأَحْدَبِ، وَهَذِهِ الْبِلَادُ مَعَهُمْ مِنْ أَيَّامِ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبِ أَرْسِلَانَ السَّلْجُوقِيِّ، فَأَخَذَ

بُكْتُمُرُ صَاحِبُ خِلَاطَ مِنْهُمْ بَدُلِيسَ، أَخَذَهَا مِنْ عَمِّ حُسَامِ الدِّينِ هَذَا ; لِأَنَّهُ كَانَ مُوَافِقًا لِصَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ، فَقَصَدَهُ بُكْتُمُرُ لِذَلِكَ، وَبَقِيَتْ أَرْزَنُ بِيَدِ هَذَا إِلَى الْآنِ، فَأُخِذَتْ مِنْهُ، وَلِكُلِّ أَوَّلٍ آخِرٌ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا أَوَّلَ لَهُ وَلَا آخِرَ لِبَقَائِهِ. ذِكْرُ مُلْكِ سُونَجَ قَشْيَالُوا قَلْعَةَ رَوَيْنَدْزَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ التُّرْكُمَانِ اسْمُهُ سُونْجُ، وَلَقَبُهُ شَمْسُ الدِّينِ، وَاسْمُ قَبِيلَتِهِ قشيَالُوا، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَقَطَعَ الطَّرِيقَ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَكَانَ بَيْنَ إِرْبِلَ وَهَمَذَانَ، وَهُوَ وَمَنْ مَعَهُ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَدَّى إِلَى قَلْعَةٍ مَنِيعَةٍ اسْمُهَا سَارُو، وَهِيَ لِمُظَفَّرِ الدِّينِ، مِنْ أَعْمَالِ إِرْبِلَ، فَأَخَذَهَا وَقَتَلَ عِنْدَهَا أَمِيرًا كَبِيرًا مِنْ أُمَرَاءَ مُظَفَّرِ الدِّينِ، فَجَمَعَ مُظَفَّرُ الدِّينِ، وَأَرَادَ اسْتِعَادَتَهَا مِنْهُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ لِحَصَانَتِهَا، وَلِكَثْرَةِ الْجُمُوعِ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ، فَاصْطَلَحَا عَلَى تَرْكِ الْقَلْعَةِ بِيَدِهِ. وَكَانَ عَسْكَرٌ لِجَلَالِ الدِّينِ بْنِ خُوَارَزْمَ شَاهْ يَحْصُرُونَ قَلْعَةَ رويندزَ، وَهِيَ مِنْ قِلَاعِ أَذْرَبِيجَانَ، مِنْ أَحْصَنِ الْقِلَاعِ وَأَمْنَعِهَا، لَا يُوجَدُ مِثْلُهَا، وَقَدْ طَالَ الْحِصَارُ عَلَى مَنْ بِهَا فَأَذْعَنُوا بِالتَّسْلِيمِ، فَأَرْسَلَ جَلَالُ الدِّينِ بَعْضَ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ وَثِقَاتِهِ لِيَتَسَلَّمَهَا، وَأَرْسَلَ مَعَهُ الْخِلَعَ وَالْمَالَ لِمَنْ بِهَا، فَلَمَّا صَعِدَ ذَلِكَ الْقَاصِدُ إِلَى الْقَلْعَةِ وَتَسَلَّمَهَا، أَعْطَى بَعْضَ مَنْ بِالْقَلْعَةِ، وَلَمْ يُعْطِ الْبَعْضَ، وَاسْتَذَلَّهُمْ وَطَمِعَ فِيهِمْ حَيْثُ اسْتَوْلَى عَلَى الْحِصْنِ، فَلَمَّا رَأَى مَنْ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا مِنَ الْخِلَعِ وَالْمَالِ مَا فَعَلَ بِهِمْ، أَرْسَلُوا إِلَى سُونْجَ يَطْلُبُونَهُ لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ الْقَلْعَةَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي أَصْحَابِهِ فَسَلَّمُوهَا إِلَيْهِ، فَسُبْحَانَ مَنْ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا سَهَّلَهُ. قَلْعَةُ رُويندزَ هَذِهِ لَمْ تَزَلْ تَتَقَاصَرُ عَنْهَا قُدْرَةُ أَكَابِرِ الْمُلُوكِ وَعُظَمَائِهِمْ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ، وَتُضْرَبُ الْأَمْثَالُ بِحَصَانَتِهَا، لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَنْ يَمْلِكَهَا هَذَا الرَّجُلُ الضَّعِيفُ، سَهَّلَ لَهُ الْأُمُورَ، فَمَلَكَهَا بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا تَعَبٍ، وَأَزَالَ عَنْهَا أَصْحَابَ مِثْلِ جَلَالِ الدِّينِ الَّذِي كُلُّ مُلُوكِ الْأَرْضِ تَهَابُهُ وَتَخَافُهُ، وَكَانَ أَصْحَابُ جَلَالِ الدِّينِ، كَمَا قِيلَ: رُبَّ سَاعٍ لِقَاعِدٍ. فَلَمَّا مَلَكَهَا سُونْجُ، طَمِعَ فِي غَيْرِهَا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ اشْتِغَالِ جَلَالِ الدِّينِ بِمَا أَصَابَهُ

مِنَ الْهَزِيمَةِ وَمَجِيءِ التَّتَرِ، فَنَزَلَ مِنَ الْقَلْعَةِ إِلَى مَرَاغَةَ، وَهِيَ قَرِيبٌ مِنْهَا، فَحَصَرَهَا، فَأَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ مَلِكُ [قَلْعَةِ] رويندزَ أَخُوهُ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْأَخَ الثَّانِيَ نَزَلَ مِنَ الْقَلْعَةِ، وَقَصَدَ أَعْمَالَ تِبْرِيزَ وَنَهَبَهَا، وَعَادَ إِلَى الْقَلْعَةِ لِيَجْعَلَ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ النَّهْبِ وَالْغَنِيمَةِ ذَخِيرَةً خَوْفًا مِنَ التَّتَرِ، وَكَانُوا قَدْ خَرَجُوا، فَصَادَفَهُ طَائِفَةٌ مِنَ التَّتَرِ، فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا مَا مَعَهُ مِنَ النَّهْبِ، وَلَمَّا قُتِلَ مَلَكَ الْقَلْعَةَ ابْنُ أُخْتٍ لَهُ، وَكَانَ هَذَا جَمِيعُهُ فِي مُدَّةِ سَنَتَيْنِ، فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا تَزَالُ تُتْبِعُ فَرْحَةً بِتَرِحَةٍ، وَكُلَّ حَسَنَةٍ بِسَيِّئَةٍ.

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة

[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ] 628 - ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ ذِكْرُ خُرُوجِ التَّتَرِ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ التَّتَرُ مِنْ بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ كَيْفَ مَلَكُوا مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَمَا صَنَعُوهُ بِخُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ مِنَ النَّهْبِ، وَالتَّخْرِيبِ، وَالْقَتْلِ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُمْ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَعَادَتْ بِلَادُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَانْعَمَرَتْ، وَعَمَرُوا مَدِينَةً تُقَارِبُ مَدِينَةَ خُوَارَزْمَ عَظِيمَةً، وَبَقِيَتْ مُدُنُ خُرَاسَانَ خَرَابًا لَا يَجْسُرُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [أَنْ] يَسْكُنَهَا. وَأَمَّا التَّتَرُ فَكَانُوا تُغِيرُ كُلَّ قَلِيلٍ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَنْهَبُونَ مَا يَرَوْنَهُ بِهَا، فَالْبِلَادُ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ إِلَى أَنْ ظَهَرَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ [وَسِتِّمِائَةٍ] ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ جَلَالِ الدِّينِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَبَقُوا كَذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْآنُ، وَانْهَزَمَ جَلَالُ الدِّينِ مِنْ عَلَاءِ الدِّينِ كَيْقُبَاذَ وَمِنَ الْأَشْرَفِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ [وَسِتِّمِائَةٍ] ، أَرْسَلَ مُقَدَّمُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ إِلَى التَّتَرِ يُعَرِّفُهُمْ ضَعْفَ جَلَالِ الدِّينِ بِالْهَزِيمَةِ الْكَائِنَةِ عَلَيْهِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى قَصْدِهِ عُقَيْبَ الضَّعْفِ، وَيَضْمَنُ لَهُمُ الظَّفَرَ بِهِ لِلْوَهْنِ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ. وَكَانَ جَلَالُ الدِّينِ سَيِّئَ السِّيرَةِ، قَبِيحَ التَّدَبُّرِ لِمُلْكِهِ، لَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا مِنَ الْمُلُوكِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُ إِلَّا عَادَاهُ، وَنَازَعَهُ الْمُلْكَ، وَأَسَاءَ مُجَاوَرَتَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا ظَهَرَ فِي أَصْفَهَانَ وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ قَصَدَ خُوزِسْتَانَ، فَحَصَرَ مَدِينَةَ شُشْتَرَ، وَهِيَ لِلْخَلِيفَةِ، وَسَارَ إِلَى دَقُوقَا فَنَهَبَهَا، وَقَتَلَ فِيهَا فَأَكْثَرَ، وَهِيَ لِلْخَلِيفَةِ أَيْضًا. ثُمَّ مَلَكَ أَذْرَبِيجَانَ، وَهِيَ لِأُوزْبَكَ، وَقَصَدَ الْكُرْجَ وَهَزَمَهُمْ وَعَادَاهُمْ، ثُمَّ عَادَى الْمَلِكَ الْأَشْرَفَ صَاحِبَ خِلَاطَ، ثُمَّ عَادَى عَلَاءَ الدِّينِ صَاحِبَ بِلَادِ الرُّومِ، وَعَادَى الْإِسْمَاعِيلِيَّةَ، وَنَهَبَ بِلَادَهُمْ، وَقَتَلَ فِيهِمْ فَأَكْثَرَ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِمْ وَظِيفَةً مِنَ الْمَالِ كُلَّ سَنَةٍ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ، فَكُلٌّ مِنَ الْمُلُوكِ تَخَلَّى عَنْهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِيَدِهِ.

فَلَمَّا وَصَلَتْ كُتُبُ مُقَدَّمِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ إِلَى التَّتَرِ يَسْتَدْعِيهِمْ إِلَى قَصْدِ جَلَالِ الدِّينِ، بَادَرَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَدَخَلُوا بِلَادَهُمْ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى الرَّيِّ وَهَمَذَانَ وَمِمَّا بَيْنَهُمَا مِنَ الْبِلَادِ، ثُمَّ قَصَدُوا أَذْرَبِيجَانَ فَخَرَّبُوا وَنَهَبُوا وَقَتَلُوا مَنْ ظَفِرُوا بِهِ مِنْ أَهْلِهَا، وَجَلَالُ الدِّينِ لَا يُقْدِمُ عَلَى أَنْ يَلْقَاهُمْ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ عَنِ الْبِلَادِ، قَدْ مُلِئَ رُعْبًا وَخَوْفًا، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ عَسْكَرَهُ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، وَخَرَجَ وَزِيرُهُ عَنْ طَاعَتِهِ فِي طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ. وَكَانَ السَّبَبُ غَرِيبًا أَظْهَرَ مِنْ قِلَّةِ عَقْلِ جَلَالِ الدِّينِ مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ خَادِمٌ خَصِيٌّ، وَكَانَ جَلَالُ الدِّينِ يَهْوَاهُ، وَاسْمُهُ قَلِجُ، فَاتَّفَقَ أَنَّ الْخَادِمَ مَاتَ، فَأَظْهَرَ مِنَ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَلَا لِمَجْنُونِ لَيْلَى، وَأَمَرَ الْجُنْدَ وَالْأُمَرَاءَ أَنْ يَمْشُوا فِي جِنَازَتِهِ رَجَّالَةً، وَكَانَ مَوْتُهُ بِمَوْضِعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تِبْرِيزَ عِدَّةُ فَرَاسِخَ، فَمَشَى النَّاسُ رَجَّالَةً، وَمَشَى بَعْضَ الطَّرِيقِ رَاجِلًا، فَأَلْزَمَهُ أُمَرَاؤُهُ وَوَزِيرُهُ بِالرُّكُوبِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى تِبْرِيزَ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، فَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ عَنِ الْبَلَدِ لِتَلَقِّي تَابُوتِ الْخَادِمِ، فَفَعَلُوا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ حَيْثُ لَمْ يُبْعِدُوا، وَلَمْ يُظْهِرُوا مِنَ الْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلُوا، وَأَرَادَ مُعَاقَبَتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَشَفَعَ فِيهِمْ أُمَرَاؤُهُ فَتَرَكَهُمْ. ثُمَّ لَمْ يُدْفَنْ ذَلِكَ الْخَصِيُّ، وَإِنَّمَا يَسْتَصْحِبُهُ مَعَهُ حَيْثُ سَارَ، وَهُوَ يَلْطُمُ وَيَبْكِي، فَامْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَكَانَ إِذَا قُدِّمَ لَهُ طَعَامٌ، يَقُولُ: احْمِلُوا مِنْ هَذَا إِلَى فُلَانٍ، يَعْنِي الْخَادِمَ، وَلَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ [أَنْ] يَقُولَ إِنَّهُ مَاتَ، فَإِنَّهُ قِيلَ لَهُ مَرَّةً إِنَّهُ مَاتَ، فَقَتَلَ الْقَائِلَ لَهُ ذَلِكَ، إِنَّمَا كَانُوا يَحْمِلُونَ إِلَيْهِ الطَّعَامَ، وَيَعُودُونَ فَيَقُولُونَ: إِنَّهُ يُقَبِّلُ الْأَرْضَ وَيَقُولُ: إِنَّنِي الْآنَ أَصْلَحُ مِمَّا كُنْتُ، فَلَحِقَ أُمَرَاءَهُ مِنَ الْغَيْظِ وَالْأَنَفَةِ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ مَا حَمَلَهُمْ عَلَى مُفَارَقَةِ طَاعَتِهِ وَالِانْحِيَازِ عَنْهُ مَعَ وَزِيرِهِ، فَبَقِيَ حَيْرَانَ لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ، وَلَا سِيَّمَا لَمَّا خَرَجَ التَّتَرُ، فَحِينَئِذٍ دَفَنَ الْغُلَامَ الْخَصِيَّ، وَرَاسَلَ الْوَزِيرَ وَاسْتَمَالَهُ وَخَدَعَهُ إِلَى أَنْ حَضَرَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ، بَقِيَ أَيَّامًا وَقَتَلَهُ جَلَالُ الدِّينِ، وَهَذِهِ نَادِرَةٌ غَرِيبَةٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا. ذِكْرُ مُلْكِ التَّتَرِ مَرَاغَةَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ التَّتَرُ مَرَاغَةَ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ، فَامْتَنَعَ أَهْلُهَا، ثُمَّ أَذْعَنَ أَهْلُهَا بِالتَّسْلِيمِ عَلَى أَمَانٍ طَلَبُوهُ، فَبَذَلُوا لَهُمُ الْأَمَانَ، وَتَسَلَّمُوا الْبَلَدَ وَقَتَلُوا فِيهِ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ

يُكْثِرُوا الْقَتْلَ وَجَعَلُوا فِي الْبَلَدِ شِحْنَةً، وَعَظُمَ حِينَئِذٍ شَأْنُ التَّتَرِ، وَاشْتَدَّ خَوْفُ النَّاسِ مِنْهُمْ بِأَذْرَبِيجَانَ، فَاللَّهُ - تَعَالَى - يَنْصُرُ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ نَصْرًا مِنْ عِنْدِهِ، فَمَا نَرَى فِي مُلُوكِ الْإِسْلَامِ مَنْ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الْجِهَادِ، وَلَا فِي نُصْرَةِ الدِّينِ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ عَلَى لَهْوِهِ وَلَعِبِهِ وَظُلْمِ رَعِيَّتِهِ، وَهَذَا أَخْوَفُ عِنْدِي مِنَ الْعَدُوِّ، وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] . ذِكْرُ وُصُولِ جَلَالِ الدِّينِ إِلَى آمِدَ، وَانْهِزَامِهِ عِنْدَهَا، وَمَا كَانَ مِنْهُ. لَمَّا رَأَى جَلَالُ الدِّينِ مَا يَفْعَلُهُ التَّتَرُ فِي بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ، وَأَنَّهُمْ مُقِيمُونَ بِهَا يَقْتُلُونَ وَيَنْهَبُونَ، وَيَأْسِرُونَ وَيُخَرِّبُونَ الْبِلَادَ، وَيَجْبُونَ الْأَمْوَالَ، وَهُمْ عَازِمُونَ عَلَى قَصْدِهِ، وَرَأَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَهْنِ وَالضَّعْفِ، فَارَقَ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى بِلَادِ خِلَاطَ، وَأَرْسَلَ إِلَى النَّائِبِ بِهَا عَنِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ يَقُولُ لَهُ: مَا جِئْنَا لِلْحَرْبِ وَلَا لِلْأَذَى، إِنَّمَا خَوْفُ هَذَا الْعَدُوِّ حَمَلَنَا عَلَى قَصْدِ بِلَادِكُمْ. وَكَانَ عَازِمًا عَلَى أَنْ يَقْصِدَ دِيَارَ بَكْرٍ وَالْجَزِيرَةَ، وَيَقْصِدَ بَابَ الْخَلِيفَةِ يَسْتَنْجِدُهُ وَجَمِيعَ الْمُلُوكِ عَلَى التَّتَرِ، وَيَطْلُبَ مِنْهُمُ الْمُسَاعَدَةَ عَلَى دَفْعِهِمْ، وَيُحَذِّرَهُمْ عَاقِبَةَ إِهْمَالِهِمْ، فَوَصَلَ إِلَى خِلَاطَ، فَبَلَغَهُ أَنَّ التَّتَرَ يَطْلُبُونَهُ، وَهُمْ مُجِدُّونَ فِي أَثَرِهِ، فَسَارَ إِلَى آمِدَ، وَجَعَلَ لَهُ الْيَزَكَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ خَوْفًا مِنَ الْبَيَاتِ، فَجَاءَتْ طَائِفَةٌ مِنَ التَّتَرِ يَقُصُّونَ أَثَرَهُ، فَوَصَلُوا إِلَيْهِ وَهُمْ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي فِيهِ الْيَزَكُ، فَأَوْقَعُوا بِهِ لَيْلًا وَهُوَ بِظَاهِرِ مَدِينَةِ آمِدَ، فَمَضَى مُنْهَزِمًا عَلَى وَجْهِهِ، وَتَفَرَّقَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ وَتَمَزَّقُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَقَصَدَ طَائِفَةٌ مِنْ عَسْكَرِهِ حَرَّانَ، فَأَوْقَعَ بِهِمُ الْأَمِيرُ صَوَابٌ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ عَسْكَرِ الْكَامِلِ بِحَرَّانَ، فَأَخَذُوا مَا مَعَهُمْ مِنْ مَالٍ، وَسِلَاحٍ وَدَوَابَّ، وَقَصَدَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ نَصِيبِينَ وَالْمَوْصِلَ، وَسِنْجَارَ وإِرْبِلَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ، فَتَخَطَّفَهُمُ الْمُلُوكُ وَالرَّعَايَا، وَطَمِعَ فِيهِمْ كُلُّ أَحَدٍ، حَتَّى الْفَلَّاحُ وَالْكُرْدِيُّ، وَالْبَدَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَانْتَقَمَ مِنْهُمْ وَجَازَاهُمْ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَقَبِيحِ فِعْلِهِمْ فِي خِلَاطَ وَغَيْرِهَا، وَبِمَا سَعَوْا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْفَسَادِ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، فَازْدَادَ جَلَالُ الدِّينِ ضَعْفًا إِلَى ضَعْفِهِ، وَوَهْنًا إِلَى وَهْنِهِ بِمَنْ تَفَرَّقَ مِنْ عَسْكَرِهِ، وَبِمَا جَرَى عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا فَعَلَ التَّتَرُ بِهِمْ ذَلِكَ، وَمَضَى مُنْهَزِمًا مِنْهُمْ، دَخَلُوا دِيَارَ بَكْرٍ فِي طَلَبِهِ ; لِأَنَّهُمْ

لَمْ يَعْلَمُوا أَيْنَ قَصَدَ، وَلَا أَيَّ طَرِيقٍ سَلَكَ، فَسُبْحَانَ مَنْ بَدَّلَ أَمْنَهُمْ خَوْفًا، وَعِزَّهُمْ ذُلًّا، وَكَثْرَتَهُمْ قِلَّةً، فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، الْفَعَّالُ لَمَّا يَشَاءُ. ذِكْرُ دُخُولِ التَّتَرِ دِيَارَ بَكْرٍ وَالْجَزِيرَةَ، وَمَا فَعَلُوهُ فِي الْبِلَادِ مِنَ الْفَسَادِ. لَمَّا انْهَزَمَ جَلَالُ الدِّينِ مِنَ التَّتَرِ عَلَى آمِدَ، نَهَبَ التَّتَرُ سَوَادَ آمِدَ وَأَرْزَنَ ومَيَّافَارِقِينَ، وَقَصَدُوا مَدِينَةَ أَسْعَرْدَ، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا، فَبَذَلَ لَهُمُ التَّتَرُ الْأَمَانَ، فَوَثِقُوا مِنْهُمْ وَاسْتَسْلَمُوا، فَلَمَّا تَمَكَّنَ التَّتَرُ مِنْهُمْ، وَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ وَقَتَلُوهُمْ حَتَّى كَادُوا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا مَنِ اخْتَفَى، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. حَكَى لِي بَعْضُ التُّجَّارِ، وَكَانَ قَدْ وَصَلَ آمِدَ، أَنَّهُمْ حَزَرُوا الْقَتْلَى مَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةَ عَشْرَ أَلْفِ قَتِيلٍ، وَكَانَ مَعَ هَذَا التَّاجِرِ جَارِيَةٌ مِنْ أَسْعَرْدَ، فَذَكَرَتْ أَنَّ سَيِّدَهَا خَرَجَ لِيُقَاتِلَ، وَكَانَ لَهُ أُمٌّ، فَمَنَعَتْهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ سِوَاهُ، فَلَمْ يُصْغِ إِلَى قَوْلِهَا، فَمَشَتْ مَعَهُ، فَقُتِلَا جَمِيعًا، وَوَرِثَهَا ابْنُ أَخٍ لِلْأُمِّ، فَبَاعَهَا مِنْ هَذَا التَّاجِرِ، وَذَكَرَتْ مِنْ كَثْرَةِ الْقَتْلَى أَمْرًا عَظِيمًا، وَأَنَّ مُدَّةَ الْحِصَارِ كَانَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ. ثُمَّ سَارُوا مِنْهَا إِلَى مَدِينَةِ طَنْزَةَ فَفَعَلُوا فِيهَا كَذَلِكَ، وَسَارُوا مِنْ طَنْزَةَ إِلَى وَادٍ بِالْقُرْبِ مِنْ طَنْزَةَ يُقَالُ لَهُ وَادِي الْقُرَيْشِيَّةِ، فِيهِ مِيَاهٌ جَارِيَةٌ، وَبَسَاتِينُ كَثِيرَةٌ، وَالطَّرِيقُ إِلَيْهِ ضَيِّقٌ، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْقُرَيْشِيَّةِ فَمَنَعُوهُمْ عَنْهُ، وَامْتَنَعُوا عَلَيْهِمْ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ كَثِيرٌ، فَعَادَ التَّتَرُ وَلَمْ يَبْلُغُوا مِنْهُمْ غَرَضًا، وَسَارُوا فِي الْبِلَادِ لَا مَانِعَ يَمْنَعُهُمْ، وَلَا أَحَدَ يَقِفُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَوَصَلُوا إِلَى مَارِدِينَ فَنَهَبُوا مَا وَجَدُوا مِنْ بَلَدِهَا، وَاحْتَمَى صَاحِبُ مَارِدِينَ وَأَهْلُ دُنَيْسِرَ بِقَلْعَةِ مَارِدِينَ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ جَاوَرَ الْقَلْعَةَ احْتَمَى بِهَا أَيْضًا. ثُمَّ وَصَلُوا إِلَى نَصِيبِينَ الْجَزِيرَةَ، فَأَقَامُوا عَلَيْهَا بَعْضَ نَهَارٍ، وَنَهَبُوا سَوَادَهَا وَقَتَلُوا

مَنْ ظَفِرُوا بِهِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُهَا، فَعَادُوا عَنْهَا، وَمَضَوْا إِلَى بَلَدِ سِنْجَارَ، وَوَصَلُوا إِلَى الْجِبَالِ مِنْ أَعْمَالِ سِنْجَارَ، فَنَهَبُوهَا وَدَخَلُوا إِلَى الْخَابُورِ، فَوَصَلُوا إِلَى عَرَابَانَ، فَنَهَبُوا، وَقَتَلُوا، وَعَادُوا. وَمَضَى طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْمَوْصِلِ، فَوَصَلَ الْقَوْمُ إِلَى قَرْيَةٍ تُسَمَّى الْمُؤْنِسَةَ، وَهِيَ عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنْ نَصِيبِينَ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَوْصِلِ، فَنَهَبُوهَا وَاحْتَمَى أَهْلُهَا وَغَيْرُهُمْ بِخَانٍ فِيهَا، فَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ فِيهِ. وَحُكِيَ لِي عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ: اخْتَفَيْتُ مِنْهُمْ بِبَيْتٍ فِيهِ تِبْنٌ، فَلَمْ يَظْفَرُوا بِي، وَكُنْتُ أَرَاهُمْ مِنْ نَافِذَةٍ فِي الْبَيْتِ، فَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا قَتْلَ إِنْسَانٍ، فَيَقُولُ: لَا بِاللَّهِ، فَيَقْتُلُونَهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الْقَرْيَةِ، وَنَهَبُوا مَا فِيهَا، وَسَبُوا الْحَرِيمَ، رَأَيْتُهُمْ وَهُمْ يَلْعَبُونَ عَلَى الْخَيْلِ، وَيَضْحَكُونَ، وَيُغَنُّونَ بِلُغَتِهِمْ بِقَوْلِ: لَا بِاللَّهِ. وَمَضَى طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى نَصِيبِينَ الرُّومِ، وَهِيَ عَلَى الْفُرَاتِ، وَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ آمِدَ، فَنَهَبُوهَا، وَقَتَلُوا فِيهَا، ثُمَّ عَادُوا إِلَى آمِدَ، ثُمَّ إِلَى بَلَدِ بَدْلِيسَ، فَتَحَصَّنَ أَهْلُهَا بِالْقَلْعَةِ وَبِالْجِبَالِ، فَقَتَلُوا فِيهَا يَسِيرًا، وَأَحْرَقُوا الْمَدِينَةَ. وَحَكَى إِنْسَانٌ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: لَوْ كَانَ عِنْدَنَا خَمْسُ مِائَةِ فَارِسٍ، لَمْ يَسْلَمْ مِنَ التَّتَرِ أَحَدٌ ; لَأَنَّ الطَّرِيقَ ضَيِّقٌ بَيْنَ الْجِبَالِ، وَالْقَلِيلُ يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِ الْكَثِيرِ. ثُمَّ سَارُوا مِنْ بَدْلِيسَ إِلَى خِلَاطَ، فَحَصَرُوا مَدِينَةً مِنْ أَعْمَالِ خِلَاطَ يُقَالُ لَهَا: بَاكْرَى، وَهِيَ مِنْ أَحْصَنِ الْبِلَادِ، فَمَلَكُوهَا عَنْوَةً، وَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ بِهَا، وَقَصَدُوا مَدِينَةَ أَرْجِيشَ مِنْ أَعْمَالِ خِلَاطَ، وَهِيَ مَدِينَةٌ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةٌ، فَفَعَلُوا كَذَلِكَ، وَكَانَ هَذَا فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَلَقَدْ حُكِيَ لِي عَنْهُمْ حِكَايَاتٌ يَكَادُ سَامِعُهَا يُكَذِّبُ بِهَا مِنَ الْخَوْفِ الَّذِي أَلْقَى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي قُلُوبِ النَّاسِ مِنْهُمْ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ الْقَرْيَةَ أَوِ الدَّرْبَ وَبِهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَلَا يَزَالُ يَقْتُلُهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ [أَنْ] يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى ذَلِكَ الْفَارِسِ. وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ إِنْسَانًا مِنْهُمْ أَخَذَ رَجُلًا، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ التَّتَرِيِّ مَا يَقْتُلُهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: ضَعْ رَأْسَكَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا تَبْرَحْ، فَوَضَعَ رَأَسَهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَمَضَى التَّتَرِيُّ فَأَحْضَرَ سَيْفًا وَقَتَلَهُ بِهِ. وَحَكَى لِي رَجُلٌ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَمَعِي سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فِي طَرِيقٍ، فَجَاءَنَا فَارِسٌ

مِنَ التَّتَرِ، وَقَالَ لَنَا حَتَّى يُكَتِّفَ بَعْضُنَا بَعْضًا، فَشَرَعَ أَصْحَابِي يَفْعَلُونَ مَا أَمَرَهُمْ، فَقُلْتُ لَهُمْ: هَذَا وَاحِدٌ فَلِمَ لَا نَقْتُلُهُ وَنَهْرُبُ؟ فَقَالُوا: نَخَافُ. فَقُلْتُ: هَذَا يُرِيدُ قَتْلَكُمُ السَّاعَةَ، فَنَحْنُ نَقْتُلُهُ، فَلَعَلَّ اللَّهَ يُخَلِّصُنَا، فَوَاللَّهِ مَا جَسَرَ أَحَدٌ [أَنْ] يَفْعَلَ، فَأَخَذْتُ سِكِّينًا وَقَتَلْتُهُ وَهَرَبْنَا فَنَجَوْنَا، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ. ذِكْرُ وَصُولِ طَائِفَةٍ مِنَ التَّتَرِ إِلَى إِرْبِلَ وَدَقُوقَا. فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَصَلَ طَائِفَةٌ مِنَ التَّتَرِ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى أَعْمَالِ إِرْبِلَ، فَقَتَلُوا مَنْ عَلَى طَرِيقِهِمْ مِنَ التُّرْكُمَانِ الْإِيوَانِيَّةِ وَالْأَكْرَادِ الْجُوزْقَانِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنْ دَخَلُوا بَلَدَ إِرْبِلَ، فَنَهَبُوا الْقُرَى، وَقَتَلُوا مَنْ ظَفِرُوا بِهِ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَعَمِلُوا الْأَعْمَالَ الشَّنِيعَةَ الَّتِي لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ. وَبَرَزَ مُظَفَّرُ الدِّينِ صَاحِبُ إِرْبِلَ فِي عَسَاكِرِهِ، وَاسْتَمَدَّ عَسَاكِرَ الْمَوْصِلِ فَسَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ عَوْدُ التَّتَرِ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، أَقَامَ فِي بِلَادِهِ [وَلَمْ يَتْبَعْهُمْ] ، فَوَصَلُوا إِلَى بَلَدِ الْكَرْخِينِيِّ، وَبَلَدِ دَقُوقَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَادُوا سَالِمِينَ لَمْ يَذْعَرْهُمْ أَحَدٌ، وَلَا وَقَفَ فِي وُجُوهِهِمْ فَارِسٌ. وَهَذِهِ مَصَائِبُ وَحَوَادِثُ لَمْ يَرَ النَّاسُ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ مَا يُقَارِبُهَا، فَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يَلْطُفُ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُهُمْ، وَيَرُدُّ هَذَا الْعَدُوَّ عَنْهُمْ، وَخَرَجَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَلَمْ نَتَحَقَّقْ لِجَلَالِ الدِّينِ خَبَرًا، وَلَا نَعْلَمُ هَلْ قُتِلَ أَوِ اخْتَفَى، لَمْ يُظْهِرْ نَفْسَهُ خَوْفًا مِنَ التَّتَرِ، أَوْ فَارَقَ الْبِلَادَ إِلَى غَيْرِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذِكْرُ طَاعَةِ أَهْلِ أَذْرَبِيجَانَ لِلتَّتَرِ. فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ أَطَاعَ أَهْلُ بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ جَمِيعِهَا لِلتَّتَرِ، وَحَمَلُوا إِلَيْهِمُ الْأَمْوَالَ وَالثِّيَابَ الْخِطَائِيَّ، وَالْخُوَيِّيَّ، وَالْعِتَابِيَّ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَسَبَبُ طَاعَتِهِمْ أَنَّ جَلَالَ الدِّينِ لَمَّا انْهَزَمَ عَلَى آمِدَ مِنَ التَّتَرِ، وَتَفَرَّقَتْ عَسَاكِرُهُ، وَتَمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَتَخَطَّفَهُمُ النَّاسُ، وَفَعَلَ التَّتَرُ بِدِيَارِ بَكْرٍ وَالْجَزِيرَةِ، وإِرْبِلَ وَخِلَاطَ مَا فَعَلُوا، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ

أَحَدٌ، وَلَا وَقَفَ فِي وُجُوهِهِمْ وَاقِفٌ، وَمُلُوكُ الْإِسْلَامِ مُنْجَحِرُونَ فِي الْأَثْقَابِ، وَانْضَافَ إِلَى هَذَا انْقِطَاعُ أَخْبَارِ جَلَالِ الدِّينِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ خَبَرٌ، وَلَا عَلِمُوا لَهُ حَالَةً، سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَذْعَنُوا لِلتَّتَرِ بِالطَّاعَةِ، وَحَمَلُوا إِلَيْهِمْ مَا طَلَبُوا مِنْهُمْ مَنِ الْأَمْوَالِ وَالثِّيَابِ. مِنْ ذَلِكَ مَدِينَةُ تِبْرِيزَ الَّتِي هِيَ أَصْلُ بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ، وَمَرْجِعُ الْجَمِيعِ إِلَيْهَا وَإِلَى مَنْ بِهَا، فَإِنَّ مَلِكَ التَّتَرِ نَزَلَ فِي عَسَاكِرِهِ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى أَهْلِهَا يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَتَهَدَّدُهُمْ إِنِ امْتَنَعُوا عَلَيْهِ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ الْمَالَ الْكَثِيرَ، وَالتُّحَفَ مِنْ أَنْوَاعِ الثِّيَابِ الْإِبَرَيْسَمِ وَغَيْرِهَا، وَكُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخَمْرَ، وَبَذَلُوا لَهُ الطَّاعَةَ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ يَشْكُرُهُمْ، وَيَطْلُبُ مِنْهُمْ أَنْ يَحْضُرَ مُقَدَّمُوهُمْ عِنْدَهُ، فَقَصَدَهُ قَاضِي الْبَلَدِ وَرَئِيسُهُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِهِ، وَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ شَمْسُ الدِّينِ الطُّغْرَائِيُّ، وَهُوَ الَّذِي يَرْجِعُ الْجَمِيعُ إِلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُظْهِرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا حَضَرُوا عِنْدَهُ، سَأَلَهُمْ عَنِ امْتِنَاعِ الطُّغْرَائِيِّ مِنَ الْحُضُورِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ رَجُلٌ مُنْقَطِعٌ، مَا لَهُ بِالْمُلُوكِ تَعَلُّقٌ، وَنَحْنُ الْأَصْلُ، فَسَكَتَ ثُمَّ طَلَبَ أَنْ يُحْضِرُوا عِنْدَهُ مِنْ صُنَّاعِ الثِّيَابِ الْخِطَائِيِّ وَغَيْرِهَا، لِيُسْتَعْمَلَ لِمَلِكِهِمُ الْأَعْظَمِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ مِنْ أَتْبَاعِ ذَلِكَ الْمَلِكِ، فَأَحْضَرُوا الصُّنَّاعَ، فَاسْتَعْمَلَهُمْ فِي الَّذِي أَرَادُوا، وَوَزَنَ أَهْلَ تِبْرِيزَ الثَّمَنَ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ خَرْكَاةً لِمُلْكِهِ أَيْضًا، فَعَمِلُوا لَهُ خَرْكَاةً لَمْ يُعْمَلْ مِثْلُهَا، وَعَمِلُوا غِشَاءَهَا مِنَ الْأَطْلَسِ الْجَيِّدِ الْمُزَرْكَشِ، وَعَمِلُوا مِنْ دَاخِلِهَا السَّمُّورَ وَالْقُنْدُزَ، فَجَاءَتْ عَلَيْهِمْ بِجُمْلَةٍ كَثِيرَةٍ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ كُلَّ سَنَةٍ، وَتَرَدَّدَتْ رُسُلُهُمْ إِلَى دِيوَانِ الْخِلَافَةِ وَإِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُلُوكِ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَنْصُرُونَ خُوَارَزْمَ شَاهْ. وَلَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى كِتَابٍ وَصَلَ مِنْ تَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، قَبْلَ خُرُوجِ التَّتَرِ، فَلَمَّا وَصَلَ التَّتَرُ إِلَى الرَّيِّ وَأَطَاعَهُمْ أَهْلُهَا، وَسَارُوا إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، سَارَ هُوَ مَعَهُمْ إِلَى تِبْرِيزَ، فَكَتَبَ إِلَى أَصْحَابِهِ بِالْمَوْصِلِ يَقُولُ: إِنَّ الْكَافِرَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - مَا نَقْدِرُ [أَنْ] نَصِفَهُ، وَلَا نَذْكُرَ جُمُوعَهُ حَتَّى لَا تَنْقَطِعَ قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ عَظِيمٌ، وَلَا تَظُنُّوا أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَى نَصِيبِينَ وَالْخَابُورِ، وَالطَّائِفَةَ الْأُخْرَى الَّتِي وَصَلَتْ إِلَى إِرْبِلَ وَدَقُوقَا، كَانَ قَصْدُهُمُ النَّهْبَ، إِنَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَعْلَمُوا هَلْ فِي الْبِلَادِ مَنْ

يَرُدُّهُمْ أَمْ لَا، فَلَمَّا عَادُوا، أَخْبَرُوا مَلِكَهُمْ بِخُلُوِّ الْبِلَادِ مِنْ مَانِعٍ وَمُدَافِعٍ، وَأَنَّ الْبِلَادَ خَالِيَةٌ مِنْ مَلِكٍ وَعَسَاكِرَ، فَقَوِيَ طَمَعُهُمْ، وَهُمْ فِي الرَّبِيعِ يَقْصِدُونَكُمْ، وَمَا يَبْقَى عِنْدَكُمْ مُقَامٌ، إِلَّا إِنْ كَانَ فِي بَلَدِ الْغَرْبِ، فَإِنَّ عَزْمَهُمْ عَلَى قَصْدِ الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، فَانْظُرُوا لِأَنْفُسِكُمْ. هَذَا مَضْمُونُ الْكِتَابِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَأَمَّا جَلَالُ الدِّينِ فَإِلَى آخِرِ سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ [وَسِتِّمِائَةٍ] لَمْ يَظْهَرْ لَهُ خَبَرٌ، وَكَذَلِكَ إِلَى سَلْخِ صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ لَمْ نَقِفْ لَهُ عَلَى حَالٍ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ. فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَلَّتِ الْأَمْطَارُ بِدِيَارِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ، وَلَا سِيَّمَا حَلَبَ وَأَعْمَالَهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ قَلِيلَةً بِالْمَرَّةِ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِالْبِلَادِ، وَكَانَ أَشَدَّهَا غَلَاءً حَلَبُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالشَّدِيدِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ، فَأَخْرَجَ أَتَابِكُ شِهَابُ الدِّينِ، وَهُوَ وَالِي الْأَمْرِ بِحَلَبَ، وَالْمَرْجِعُ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهُوَ الْمُدَبِّرُ لِدَوْلَةِ سُلْطَانِهَا الْمَلِكِ الْعَزِيزِ ابْنِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، وَالْمُرَبِّي لَهُ، مِنَ الْمَالِ وَالْغَلَّاتِ كَثِيرًا، وَتَصَدَّقَ صَدَقَاتٍ دَارَّةً، وَسَاسَ الْبِلَادَ سِيَاسَةً حَسَنَةً بِحَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ لِلْغَلَاءِ أَثَرٌ، فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا. وَفِيهَا بَنَى أَسَدُ الدِّينِ شِيرْكُوهْ، صَاحِبُ حِمْصَ وَالرَّحَبَةِ، قَلْعَةً عِنْدَ سَلَمِيَّةَ، وَسَمَّاهَا سُمَيْمِسَ، وَكَانَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، قَدْ خَدَمَهُ أَسَدُ الدِّينِ، وَنَصَحَ لَهُ، وَلَهُ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي طَاعَتِهِ وَالْمُقَاتَلَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَقْطَعَهُ مَدِينَةَ سَلَمِيَّةَ، فَبَنَى هَذِهِ الْقَلْعَةَ بِالْقُرْبِ مِنْ سَلَمِيَّةِ، وَهِيَ عَلَى تَلٍّ عَالٍ. وَفِيهَا قَصَدَ الْفِرِنْجُ الَّذِينَ بِالشَّامِ مَدِينَةَ جَبَلَةَ، وَهِيَ بَيْنَ جُمْلَةِ الْمُدُنِ الْمُضَافَةِ إِلَى حَلَبَ، وَدَخَلُوا إِلَيْهَا، وَأَخَذُوا مِنْهَا غَنِيمَةً وَأَسْرَى، فَسَيَّرَ أَتَابِكْ شِهَابُ الدِّينِ إِلَيْهِمُ الْعَسَاكِرَ مَعَ أَمِيرٍ كَانَ أُقْطِعَهَا، فَقَاتَلَ الْفِرِنْجَ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ كَثِيرًا، وَاسْتَرَدَّ الْأَسْرَى وَالْغَنِيمَةَ. [الْوَفَيَاتُ] . وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي ابْنُ غَنَائِمِ بْنِ الْعَدِيمِ الْحَلَبِيُّ، الشَّيْخُ الصَّالِحُ، وَكَانَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَالْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ

أَعْبَدُ مِنْهُ، لَكَانَ صَادِقًا، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ شُيُوخِنَا، سَمِعْنَا عَلَيْهِ الْحَدِيثَ، وَانْتَفَعْنَا بِرُؤْيَتِهِ وَكَلَامِهِ. وَفِيهَا أَيْضًا فِي الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ صَدِيقُنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ الْعَجَمِيِّ الْحَلَبِيُّ، وَهُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ مُقَدَّمُو السُّنَّةِ بِحَلَبَ، وَكَانَ رَجُلًا ذَا مُرُوءَةٍ غَزِيرَةٍ، وَخُلُقٍ حَسَنٍ، وَحِلْمٍ وَافِرٍ، وَرِئَاسَةٍ كَثِيرَةٍ، يُحِبُّ إِطْعَامَ الطَّعَامِ، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ مَنْ يَأْكُلُ طَعَامَهُ، وَيَقْبَلُ بِرَّهُ، وَكَانَ يَلْقَى أَضْيَافَهُ بِوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ وَلَا يَقْعُدُ عَنْ إِيصَالِ رَاحَةٍ، وَقَضَاءِ حَاجَةٍ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً.

§1/1